التذييل والتكميل في شرح كتاب التسهيل

أبو حيّان الأندلسي

التذييل والتكميل في شرح كتاب التسهيل ألفه أبو حيان الأندلسي حققه الأستاذ الدكتور حسن هنداوي جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية- فرع القصيم الجزء الأول دار القلم دمشق

مقدمة الشارح

بسم الله الرحمن الرحيم مقدمة الشارح الحمد لله رب العالمين قال شيخنا الأستاذ العالم الأوحد الحافظ العلامة أثير الدين أوحد العلماء العاملين أبو حيان محمد بن يوسف بن علي بن يوسف بن حيان النفزي الأندلسي أيده الله: الحمد لله المتفرد بشريف الاختراع، المتفضل بلطيف الاصطناع، الذي أوجد عالم الإنسان، محفوفًا بمزايا الإحسان، مهيأً لإدراك العلوم، قابلًا للمنقول منها والمفهوم، وجعل من أشرف المعارف، ما تحلى به جنان العارف، من علم النحو الذي هو المرقاة إلى فهم كتابه، والسبيل المؤدية إلى تعرف خطابه، والصلاة والسلام على المنتخب من جرثومة العرب، النامي من دوحة الحسب، السامي من أطهر نسب، محمد صلى الله وسلم عليه، وعلى آله المنتمين إليه، ما تبلج الزهر، وتأرج الزهر، والرضا عن صحبه مقتبسي أنواره،

وملتمسي آثاره، ما أشرقت بالبدر الخضراء، وتشوقت للقطر الغبراء. وبعد فإن كتاب (تسهيل الفوائد) في النحو لبلدينا أبي عبد الله محمد بن عبد الله بن مالك الطائي الجياني مقيم دمشق -رحمه الله- أبدع كتاب في فنه أُلِّف، وأجمع موضوع في الأحكام النحوية صنف، فهو -كما قال مصنفه فيه- جدير بأن يلبي دعوته الألباء، ويجتنب منابذته النجباء. ولما كان مفرط الإيجاز، غريب الاصطلاح، حاشدًا لنوادر المسائل، عرض فيه من الاستعجام، ما أدى إلى التأخر عنه والإحجام، فنبذه الناس بالعراء، واطَّرحوه اطراح واصل للراء، وأصبح حاليه عطلًا، ومعلمه غفلًا، وأنواره لا تتبلج، وأزهاره لا تتأرج، ولاستعصائه قلما قرأه أحد على مؤلفه، ولا تجاسر على إقرائه نحوي بعد موت مصنفه. وكان -رحمه الله- كثيرًا ما يعنى بتحريره، ويولع بتهذيبه وتغييره، فيزيد وينقص، وينقح ويلخص، فنسخت من هذا الكتاب نسخ تنافر مبناها، واختلف لفظها ومعناها، إلى أن عرض له -رحمه الله- أن يشرحه، ويفسره ويوضحه، فغير أكثر ما شرحه، ونظر إليه بعين العناية وتصفحه، وانتهى في شرحه إلى باب "مصادر غير الثلاثي"، وذلك أشف من نصفه، وعاقه عن إكماله محتوم حتفه.

فاستخرجت فص هذا الكتاب مما أودعه في الشرح إلى حيث انتهى، وجمعت على باقي الكتاب نسخًا إليها في الصحة المنتهى؛ لأنها طرزت بخطه، وحررت بين يديه بضبطه، فثقفته حتى استقام مناده، وظفر بمطلوبه منه مرتاده. وأخذت في إقراء هذا/ الكتاب، أنبه حامله، وأنوه خامله، وأفتح مقفله، وأوضح مشكله، وأحيي منه ما كان مواتًا، وأجدد ما عاد رفاتًا. وكان المانع من وضع كتاب يتضمن شرح جميعه وتكميله، واستدراك ما أغفل من الأحكام وتذييله، ومناقشته فيما حرر، والانتقاد لما فيه قرر، ما كان قد تقسم الخاطر من الاشتغال بالاكتساب، المزري بذوي المعارف والأحساب، وأنى يكمل انتحال، لمن توالى عليه أمحال، أو يتحصل إقبال، لمن تقسم منه البال. ومع ذلك فطالما سألني سائلون من أهل مصر والشام في شرح باقيه وتكميله، وانتقاده وتذييله، ليكون ذلك عجالة يحظى بها المستوفز، ويرضى ببلوغ موعودها المستنجز، وتجلو عرائسه في منصة التوضيح، وتبرز نفائسه من التلويح والتصريح. ومما خوطبت به من دمشق المحروسة كلمة، أولها: تبدي، فخلنا وجهه فلق الصبح يلوح لنا من حالك الشعر في جنح ومن آخرها: إليك -أبا حيان- مني تحية يفوق شذاها مسك دارين في النفح بدأت بأمر تمم الله قصده وكمله باليمن منه وبالنجح وسهلت تسهيل الفوائد محسنًا فكن شارحًا صدري بتكملة الشرح

ومما كتب به بعض الأدباء من حماة المحروسة لأخيه بمصر -حرسها الله- ما نصه: "كان جماعة من المحصلين بحماة شرعوا في بحث (تسهيل الفوائد)، فإنه كتاب لم ينسج على منواله، ولم تسمح قريحة بمثاله، غير أنه يصد الناس عنه كونه غير كامل الشرح، ولم يتقدم أحد من فضلاء هذه الصناعة إلى تكميله، فندبني بعض المشتغلين إلى الكتب إلى الإمام أثير الدين لالتماس تجريد نظره الكريم، إلى هذا المرام العظيم، والخطب الجسيم، الذي هو أولى ما صرفت إليه العنايات، واستغرقت في النظر فيه نفائس الأوقات، فإنه غرة في جبهة الزمان، وخال في خد نتائج الأذهان. فالأخ -حفظه الله- يعرفه بأن هذا مقام قد اعترف أبطال هذا الشأن بأنهم عنه في موقف التقصير: لقد نادى لسان العجـ ـز في الجم الغفير بأن لن يصلحوا طرا لذا الأمر الخطير سوى الحبر الإمام الأو حد المولى الأثير أبي حيان ذي الإحسا ن والفضل الغزير فالأخ يقفه على هذه السطور، ويلتمس منه الإجابة إلى تكميل شرح الكتاب المذكور، ولو بمثل تفتح مقفله، وتسم مغفله. انتهى كلام هذ السائل، وما تلطف به من الوسائل. فحين كثر تسألهم، وتعلقت بالإجابة آمالهم، أسعفتهم فيما طلبوا/، وانتدبت لما إليه رغبوا، هذا على حين توالي نوى غربة، وإقامة بدار غربة، وتفريق من الأوداء، وتفويق سهام الأعداء، والتباس

الذهب بالرغام، والتماس الرتب من الطغام، وترقي الجهال إلى مناصب العلماء، وتوقي طعن اللؤماء على الفهماء، واحتياج لمن يؤثر خسيس الرذائل، على نفيس الفضائل، وتقدم ذوي النقائص، على كريم الخصائص، واقتناع بعلالة من بلالة، وسلالة من زلالة، ونغبة من دأماء، وتربة من يهماء، اللهم صبرًا وسترًا، لما اجترحناه وغفرًا. ولما تكمل شرح الخمسين اللذين لم يشرحهما المصنف على المنهج الذي قصدناه، والمنزع الذي أردناه، في كتاب سميناه بـ"التكميل لشرح التسهيل"، كان من بعض المعتنين بهذا العلم تشوف إلى أن أشرح الكتاب كاملًا، ولا أترك منه مكان حلي عاطلًا، ليكون الكتاب كله جاريًا في الشرح على نسق واحد، وحاويًا ما أغفل من الزوائد والفوائد، فالشارح لكلام غيره ليس كالشارح لكلام نفسه، ذلك ينظر إليه بعين الاستدراك والانتقاد، وهذا يشرح كلام نفسه، وله في حسن الاعتقاد. فأخذت الآن في ابتداء الشرح من أول الكتاب، وانتدبت إليه أحق الانتداب، إذ كانت علائق الخمول قد انقطعت، وعوائق الاكتساب قد ارتفعت، فحصل ما فيه نقع غليل، وبرء عليل، وانشراح صدر، وارتفاع قدر، بتيسير ما فيه لمقتنع كفاية، وتفسير كتاب الله آية آية، وذلك بما أتاح الله على

يدي المقر العالي العالمي العادلي السيفي سيف الدين أرغون نائب السلطنة المنصورية الناصرية، أمير إن ذكرت المعارف فهو إمامها، أو أسديت العوارف فهو غمامها، أو فخرت الممالك فهو همامها، أو جلت السوابق فهو أمامها، غيث الورى، ليث الشرى، محيي العدل، مميت الحيف، جامع فضيلتي القلم والسيف، اقتضت له السعادة الإلهية أن خلدت اسمه في هذا التصنيف، وأعظم له من تنويه وتشريه، فمحامده تتلى في تصانيف العلوم بألسنة الأقلام، وذكره مخلد على ممر الليالي والأيام، إذ فضائله النفسانية هي الباعثة على تصانيف العلوم، وفواضله الإحسانية ملقحة الأذهان والفهوم، أشمخ من غمام، وأوقر من

شمام، وأنور من بدر تمام: تيمن بها من غرة نورها الشمس أضاءت دجى الأيام، فارتفع اللبس وألمم بمغنى دولة ناصرية تكنفها الإقبال والنصر والأنس تولى لها التدبير أروع ماجد كثير التوقي، شأنه الجود والبأس ومن يك سيف الدين نائب ملكه ينم وجفون الدهر عن ملكه نعس أمير همام ذو وغى وسياسة تغاير في عليائه الطرف والطرس /إليه انتمت كل المكارم، وانتهت فبالشخص منه يفخر النوع والجنس مغيث نفوس إن عصت، ومفيدها إذا ما أطاعت، فهو يجرح أو يأسو كأن الورى جسم لديك دواؤه وأمرك في تدبيره الروح والنفس لا زال للمعارف يبديها، وللعواطف يسديها، وللمشكلات يشرحها، وللمقفلات يفتحها، وللفضائل يجدد رفاتها، وللفواضل يحيي مواتها، وللممالك يدبرها ويرأبها، ولأشتات الخيرات يجمعها ويشعبها. فدونك - أيها السائل- من هذا الشرح كتابًا غريب المثال، قريب المنال، هبت عليه النفحات اليمانية، واجتمعت فيه المعاني الثمانية، وهي التي يصنف فيها العلماء، ويتطلبها من التأليف الفهماء: معدوم قد اخترع، ومفترق قد جمع، وناقص قد كمل، ومجمل قد فصل، ومسهب قد هذب، ومخلط قد رتب، ومبهم قد عين، وخطأ قد بين. وإذا واجهك من هذا

الشرح محيًا يفوق الشمس حسنًا، وشافهك خطابٌ يروع لفظًا ويروق معنى، فادع الله بالرحمة لمن كشف لك قناع محياه، وأنشقك أريج رياه، وأعلقك بسني الرتب، وأوصلك إلى مقصودك من كثب. ولما علقت ذهب هذا الكتاب على نار الفكر حتى خلص، وكملت بمحسن الصنعة ما كان قد نقص، وذيلت على فص "التسهيل" وشرحه ما قد قلص، سميته بـ"التذييل والتكميل في شرح كتاب التسهيل". ومن الله استمد التأييد والعون، وأسأل العصمة فيما أرومه والصون، لا رب غيره، ولا مرجو إلا خيره.

باب شرح الكلمة والكلام وما يتعلق به

-[ص: باب شرح الكلمة والكلام وما يتعلق به الكلمة لفظ مستقل دال بالوضع تحقيقًا أو تقديرًا أو منوي معه كذلك. وهي اسم وفعل وحرف.]- ش: ذكر المصنف باب شرح الكلمة، ولم يذكر باب حد الكلمة؛ لأن الحد للشيء عسير الوجود، فعدل عن لفظ "حد" إلى لفظ "شرح"، وكلاهما يشترك في كشف المحدود وبيانه، وكان ينبغي أن يبدأ أولًا بشرح "النحو" وبيانه، وحينئذٍ يشرع في شرح ما ذكر؛ لأن الناظر في علم من العلوم لابد له أولًا من معرفته على سبيل الإجمال، ثم بعد ذلك يتعرف ما احتوى عليه ذلك الفن على سبيل التفصيل. وقد كثر ما صنف الناس من الكتب في هذا العلم، وما تعرض أحد منهم لحده إلا القليل، قال صاحب "المستوفي": "النحو صناعة علمية ينظر بها صاحبها في ألفاظ العرب من جهة ما يتألف بحسب استعمالهم ليعرف النسبة بين صيغة النظم وصورة المعنى، فيتوصل بإحداهما إلى الأخرى". وقال صاحب "البسيط":

"النحو هو علم بالتغييرات اللاحقة للكلم ومدلولاتها". وقال/ ابن هشام: "النحو علم بأقيسة تغير ذوات الكلم وأواخرها بالنسبة إلى لغة لسان العرب". وقال صاحب "المباحث": "النحو علم يبحث فيه عن أحوال الكلم العربية إفرادًا وتركيبًا فقط". وقال صاحب "المقرب": "النحو علم مستخرج بالمقاييس المستنبطة من استقراء كلام العرب، الموصلة إلى معرفة أحكام أجزائه التي ائتلف منها". وقال صاحب "البديع": " النحو معرفة أوضاع كلام العرب ذاتًا وحكمًا واصطلاح ألفاظ حدًا ورسمًا". قوله الكلمة لفظ شرع المصنف -رحمه الله- في حد "الكلمة" المصطلح عليها في النحو؛ إذ في اللغة تنطلق على أحد أقسامها من الاسم

والفعل والحرف، وتنطلق على الكلام، نحو ما روى "أصدق كلمة قالها شاعر كلمة لبيد: ألا كل شيء ما خلا الله باطل .......................... " وكقوله تعالى: {وكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ العُلْيَا}، وكقوله -عليه السلام- "الكلمة الطيبة صدقة". ولغة الحجاز "كلمة" على وزن نبقة، ويجوز في "الكلمة" تسكين اللام مع فتح الكاف وكسرها، قيل: وهي لغة تميم. فقوله لفظ جنس يشمل المحدود وغير المحدود، وهكذا شأن الحدود، تبدأ أولًا بالجنس، ثم تأتي بالفصل، لكن المصنف أخذ جنسًا أبعد، وترك جنسًا أقرب، وهو "القول" إذ اللفظ ينطلق على المهمل كـ"ديز" مقلوب "زيد"، و"رفعج" مقلوب "جعفر"، وينطلق على الموضوع، فلو أخذ الجنس الأقرب كان أحسن، فكان ينبغي أن يقول: الكلمة قول. وقال المصنف -رحمه الله- في شرح كلام نفسه: "تصديره بـ"اللفظ"

مخرج للخط ونحوه مما هو كاللفظ في تأدية المعاني" انتهى. وهذا ليس بجيد لأن الجنس في الحد لا يؤتى به للاحتراز، لا يقال في قولهم: "الإنسان حيوان ناطق" إنه احترز بـ"حيوان" مما ليس بحيوان. ولم يتقدم شيء يشمل الخط واللفظ فيحترز بـ"اللفظ" عنه إلا إن اعتقد أن "الكلمة" التي هي المحدود تشمل الخط واللفظ، فهذا في غاية الفساد لأن المحدود ليس من الحد، ولأن "الكلمة" لا تنطلق على الخط لغة، وإنما ذلك "الكلام" ذكروا أنه ينطلق على الخط على ما سيأتي بيانه إن شاء الله. وقد اتبع المصنف في ذلك -رحمه الله- ابن عصفور، فإنه حين حد "الكلام" فقال: "الكلام هو اللفظ" إلى آخر الحد قال: "قولنا" لفظ "احترز به مما يقال له "كلام" لغةً، وليس بلفظ، كالخط والإشارة وما في النفس وما يفهم من حال الشيء". فجعل ابن عصفور ذكر الجنس محترزًا به، ونقله المصنف -رحمه الله- من حد "الكلام" لابن عصفور إلى حده الذي علمه لـ"الكلمة". وقال المصنف في الشرح: "واللفظ أولى بالذكر من اللفظة لأن اللفظ يقع على كل ملفوظ حرفًا كان أو أكثر، وحق اللفظة أن لا تقع إلا على حرف واحد لأن نسبتها من اللفظ نسبة الضربة من الضرب، ولأن إطلاق اللفظ على الكلمة إنما هو من باب إطلاق المصدر على المفعول به/ كقولهم للمخلوق خلق والمنسوج نسج، والمعهود في هذا استعمال المصدر غير المحدود بالتاء، ولذلك قلما يوجد في عبارات المتقدمين "لفظة" بل الموجود في عباراتهم "لفظ" كقول "س"، وأورد ن استعماله "لفظًا" في مواضع. انتهى.

وقال بعض أصحابنا: اللفظ جمع لفظة، وأقل الجمع ثلاثة، وإذا كان هذا صحيحًا بطل أن يؤخذ "لفظ" في حد الكلمة لأنه إنما تحد الماهية، فلا يجعل في حدها ما يدل على أقل الجمع، وهو ثلاثة. ونظير ذلك أن يقال في حد "الإنسان": الإنسان حيوانات نواطق. وهذا لا يجوز. والجواب: أنا لا نسلم أن اللفظ جمع لفظة، ولا أن الضرب جمع ضربة، فيلزم أن يكون أقله ثلاثة، بل الضرب واللفظ ونحوهما مصادر صالحة للقليل والكثير لأنها أسماء أجناس، فيدل ضرب على مطلق الضرب، ولذلك يقول من ضرب مرة واحدة: ضربت ضربًا، فيصدق على المرة الواحدة لفظ ضرب، فإذا أردت التنصيص على المرة الواحدة قلت ضربة بالتاء الدالة على الإفراد نصًا. ولو كان ضرب أو لفظ جمعًا -وأقل ما يقع عليه ثلاثة- لامتنع أن يقول من ضرب مرة واحدة: ضربت ضربًا؛ للتناقض، وإنما يقال ذلك فيما ليس بمصدر، نحو كلمة وكلم ولبنة ولبن ونخلة ونخل وجوزة وجوز. ذكر المصنف -رحمه الله- في هذا أن تجريده من التاء يستغنى به عن تكسير واحده الممتاز بالتاء في الكثرة، فتقول كلم ولبن ونخل وجوز، وجمعه بالألف والتاء استغني به عن تكسيره في القلة، فتقول: كلمات ولبنات ونبقات ونخلات وجوزات. ثم ناقض هذا الكلام، فقال: "الكلم اسم جنس جمعي كالنبق والضرف

واللبن، وأقل ما يتناول ثلاث كلمات". وتبع في ذلك ابن جني، زعم أن اسم الجنس أقل ما يقع على ثلاثة، فلذلك أطلق النحويون الكلم على الاسم والفعل والحرف، قال س: "هذا باب علم ما الكلم من العربية، فالكلم اسم وفعل وحرف"، وقال أبو علي: "ما يأتلف من هذه الكلم الثلاث كان كاملًا مستقلًا" ومن رأى أن اسم الجنس إذا كان بغير تاء كان للكثير، وبالألف والتاء كان للقليل، استعذر على إطلاق الكلم على الاسم والفعل والحرف، وسيأتي ذلك. وقوله مستقل احترز به من بعض اسم نحو الياء من زيدي وتاء مسلمة، وبعض فعل كهمزة أعلم ألف ضارب، فكل منها لفظ دال بالوضع، وليس بكلمة لأنه غير مستقل. هذا شرح المصنف كلامه. واحتيج إلى أن يتحرز بـ"مستقل" من بعض اسم وبعض فعل لأنه أخذ جنسًا بعيدًا، وهو اللفظ، فلو أخذ أقرب منه -وهو القول- لم يحتج إلى التحرز بقوله: "مستقل" لأن بعض اسم وبعض فعل لا يقال له "قول". ولقائل أن يقول: لا أسلم أن الياء في زيدي والهمزة في أعلم ونحوهما لفظ دال بالوضع كما زعم المصنف، بل مجموع اللفظة دل على أن الشخص منسوب لزيد، وكذلك لفظ أعلم أتى معدى؛ لأنه لو كان كل واحد من هذه الأبعاض لفظًا/ دل بالوضع على معنى -وهو النسب والتعدية- لكان باقي اللفظ إما أن يدل على معنى أو لا يدل، لا جائز أن لا يدل لأنه يكون من المهملات، ولا جائز أن يدل لأنه إذا دل فإما أن يكون مدلوله مدلول ذلك البعض أو غيره، لا جائز أن يكون مدلول ذلك البعض لأنه كان يستغنى

بأحدهما عن الآخر، والأمر ليس كذلك، ولا جائز أن يكون غيره لأنه يلزم من ذلك أن تكون الكلمة يدل جزء من أجزائها على جزء من أجزاء معناها، وذلك من خصائص المركبات، ولا يكون ذلك من المفردات، فبطل أن يكون بعض الكلمة لفظًا دالًا بالوضع على معنى، وإذا كان كذلك دل "زيدي" على شيء منسوب لـ"زيد"، ودل "أضحك" على فعل ماضٍ صادر من فاعل ذلك لشخص، ويلزم من هذا الفعل اتصاف المفعول بالضحك فيما مضى، وكذلك تقول في جميع ما ذكره المصنف. وقوله دال بالوضع قال المصنف: "احتراز من اللفظ المهمل كـ"ديز" مقلوب "زيد"، فإنه يدل سامعه على حضور الناطق به غير ذلك دلالة عقلية لا وضعية" انتهى. وهذا الذي ذكر أنه احترز به من المهمل ليس بجيد لن قبل هذا الفصل فصل الاستقلال، واللفظ المهمل لا يدخل تحت قوله: "مستقل" فيحتاج أن يحترز عنه بقوله: "دال بالوضع". وقال غيره: احترز بالوضع مما يدل بالطبع كقول النائم إخ، فإنه يدل على استغراقه في النوم، وعند السعال إح إح، فيفهم منه أذى الصدر، واللفظ المصحف إذا فهم منه معنى، فكل هذا لا يسمى كلمة لأن دلالتها على ذلك المعنى لم تكن بالتواضع. قيل: ودخل تحت قوله: "الوضع" الجمل المسماة بها نحو برق نحره وتأبط شرًا، فبعد التسمية بالجملة هي كلمة لأن جزأها لا يدل على جزء معناها، فكانت مفردة بالوضع.

ويدخل في هذا الحد "الكلام" عند من يرى أن دلالته على معناه وضعية، فإن الكلام لفظ مستقل دال بالوضع. ويخرج عن هذا الحد ما استعمل في غير موضوعه على سبيل المجاز أو النقل، كـ"أسد" المراد به الشجاع، وكـ"أسد" المراد به شخص، فإنه منقول من الحيوان الموضوع له لفظ "أسد"، فإذا استعمل في أحد هذين المعنيين فلا يكون كلمة إذ ذاك لأنه نقص منه قيد الدلالة بالوضع، إذ يصدق عليه -والحالة هذه- أنه لفظ مستقل غير دال بالوضع. وقوله تحقيقًا وتقديرًا مثال التحقيق رجل، فهذا دال على مسماه تحقيقًا، ومثال التقدير أحد جزأي العلم المضاف كامرئ القيس، فمن حيث المدلول هو كلمة واحدة، ومن حيث التركيب هو كلمتان لأن المضاف والمضاف إليه لا يكونان إلا اسمين أو في تقدير اسمين، وتسمية أحد جزأي العلم كلمة هو على طريق المجاز. ولو استغنى عن هذا التقسيم في الدلالة بالوضع إلى التحقيق والتقدير لكان حسنًا، وكان تقل به ألفاظ الحد. وقوله أو منوي معه هذا قسيم لقوله: "لفظ" لأن الكلمة على/ قسمين: ملفوظ لها، ومنوية مع اللفظ، كالفاعل في أفعل، وأفعل، ونفعل، فلو لم يذكر هذا لكان بعض المحدود -وهو ما لا يلفظ به- قد خرج عن الحد، والمعنى: أو غير لفظ منوي مع اللفظ. وقوله كذلك قال المصنف: "أشير بـ"كذلك" إلى الدلالة والاستقلال المنبه عليهما" أي: معنى هذا المنوي مع اللفظ المستقل الدال بالوضع.

وادعاء التركيب في نحو افعل؛ مشكل، وادعاء الإفراد فيه مشكل. أما الأول فلان التركب من عوارض الألفاظ، ويستدعي تقدم وجود ولا وجود، فلو كان وجد تم قرض له حذف لم يشكل. وأما الثاني فلأن افعل مفيد إفادةً المركب، الذي هو الكلام، فلا يمكن دعوى الإفراد فيه. قال المصنف - رحمه الله-: ((واحترز به من الإعراب المنوفي في نحو فتى، فإنه يصدق عليه أنه منوي مع اللفظ المفيد، ولكنه غير مستقل ولا منزل منزلة المستقل، فإن الإعراب بعض الكلمة المعربةً، وإذا لفظ به لم يدخل في مدلولات الكلمةً، فهو بأن لا يدخل حين لا يلفظ به أحق وأولى)) انتهى. وفى قوله: ((فإن الإعراب بعض الكلمة المعربةً، فيه نظر، وذلك أن الإعراب على ما اختاره أكثر متأخري أصحابنا هو معنوي لا لفظي، واللفظ يدل عليه، فإذا كان معنويًا فلا يكون بعض الكلمة المعربةً، وأما على ما اختاره المصنف من أنه لفظي فإنه زائد على ماهية الكلمة، وإذا كان زائدًا على ماهية الكلمة فلا يكون بعض الكلمة لأن بعض الشيء جزء من الشيء، ومحال وجود الماهيةً مع فقد جزء من أجزائها، وقد وجدنا ماهية الكلمة دون إعراب، فدل على أنه ليس بعضًا منها. وجاء في هذا الحد ذكر "أو" مرتين، وقالوا إن الحدود لا يكون فيها ترديد، فلا يؤتي فيها بـ "أو". وقوله وهي اسم وفعل وحرن ذكر النحويون دلائل لحصر الكلمةً في الاسم والفعل والحرف: أحدها: دليل الاستقراء، وهو أن أئمة النحويين المستقرئين علم النحو

تتبعوا ألفاظ العرب، فلم يجدوا غير هذه الثلاثة. الدليل الثاني: أن الكلمةً إما أن تدل على معناها بانفرادها، أو تدل على معناها لا بانفرادها بل بذكر متعلق، وهذا الثاني هو الحرف، والأول إما أن تتعرض ببنيتها لزمان ذلك المعنى، أو لا تتعرض، والثاني هو الاسم، والذي قبله هو الفعل، فلا رابع. الدليل الثالث: قالوا ت المعاني ثلاثة: ذات، وحدث، ورابطة بين الذات والحدث، فالأول الاسم، والثاني الفعل، والثالث، الحرف. وفي هذه الدلائل بحث ونظر، وأجودها الثاني. وذكر المصنف - رحمه الله - دليلًا رابعًا، وهو أن الكلمة إن لم تكن ركنًا للإسناد فهي حرف، وإذ كانت ركنًا فإن قبلت الإسناد بطرفيه فهي اسم، وإلا فهي فعل. وهذا الدليل الذي ذكره راجع إلى الاستقراء، وأيضًا فهو استدلال بالعوارض لا بالذاتيات لأن الإسناد إنما يكون حالة التركب، وإذا ذكرًا دليل الحصر فإنما يكون التردد فيما يكون ذاتيًا لا فيما يكون عارضًا. وأجمع النحويون على أن أقسام الكلمة ثلاثة: اسم بفعل وحرف. وحكي لنا الأستاذ أبو جعفر بن الزبير شيخنا عن صاحبه أبي جعفر بن

صابر، أنه كان يذهب إلى أن ثم رابعًا، وهو الذي نسميه نحن " اسم فعل"، وكان يسميه "خالفة" إذ ليس هو عنده واحدًا من الثلاثةً. حكي لنا ذلك عنه أستاذنا أبو جعفر على سبيل الاستغراب والاستندار لهذه المقالة. وتكلم النحويون على أفراد الاسم والفعل والحرف، وعلى تسمية كل واحد منها بما سمي به، وعلى اشتقاق الاسم، وعلى تقديمه، وتوسيط الفعل، وتأخير الحرف، ولم يتعرض لذلك المصنف. -[ص: والكلام ما تضمن من الكلم إسنادًا مفيدًا مقصودًا بذاته.]- ش: الكلام ينطلق على "المعاني التي تكون في النفس" التي يعبر عنها بالكلام الصناعي، وأنشدوا للأخطل - قيل؛ ولم يثبت في ديوان شعره -: إن الكلام لفي الفؤاد، وإنما جعل اللسان على الفؤاد دليلًا وعلى "التكليم" بخلاف، أهو مصدر كلم على حذف الزوائد أم هو اسم مصدر، وهو قول الأكثرين، قال الشاعر: فإذ تمس ابنة السهمي منا بعيدًا، ما تكلمنا كلامًا

وقال آخر: ألا هل إلى ريا سبيل وساعة تكلمني فيها من الدهر خاليا فأشفي نفسي من تباريح ما بها فإن كلاميها شفاء لما بيا واحتج بما حكي أبو علي: عجبت من كلامك عبد الله، وقل به س في باب الاستثناء، ويعمل الفعل فيه نحو كلمته كلامًا. قالوا وقد جاءت منه مثل، نحو عذبته عذابًا، وسلمت عليه سلامًا، وجوزته جوازًا، وشورته شوارًا: أخجلته. ف "س" والجماعة لا يرون هذه المثل إلا أسماء للمصادر لا أنفسها. قال ابن هشام: وأصل ما جاء من الثلاثي الأصل على مثال دحرج أن يكون مكسور الأول بألف قبل آخره نحو أكرم إكرامًا وضارب ضرابًا وكلم كلامًا، وما جاء على غير هذا فبتعويض، وأصل فعل الفعال نحو كلم كلامًا، وكما قال تعالى: {وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كِذَّاباً}، فيجوز في كلها الفعال والتفعيل، الياء عوض من الحرف المضاعف، ولا حجةً في النصب بعده، فقد يكون به حملًا على المعنى، أو بإضمار ما يدل عليه.

وأما عمل الفعل فيه فلأنه في معنى المصدر كما تقول ضربت كل الضرب وبعض ضرت، وأيما ضرب، وضربته سوطًا وسوطين. وعلى " الخط"، يقولون للرسوم التي بين الدفتين: هذا كلام الله. وعلى "الإشارة" قال بعض الهذليين: أرادت كلامًا، فاتقت من رقيبها فلم يك إلا ومأها بالحواجب أي/: فلم يك الكلام إلا ومأها، أي: إشارتها. وعلى "ما يفهم عن حال الشيء" وإن كان لا يلفظ. وعلى " اللفظ المركب الذي لا يفيده" قالوا: تكلم ساهيًا. وعلى "اللفظ المركب المفيد بغير القصد"، قالوا: تكلم ساهيًا. وعلى "ما" اصطلح عليه النحويون أن يسموه كلامًا". وقد اضطرب كلام ابن عصفور في دلالة "الكلام" على هذه المعاني، فزعم مرةً أن الكلام بالنظر إلى اللغةً لفظ مشترك بين هذه المعاني، وزعم مرةً أن الكلام في أصل اللغةً اسم بما يكلم به عن الجمل، سواء أكانت مفيدةً أو غير مفيدةً، وقد تخرجه العرب عن ذلك، قال: فتستعمله مصدرًا لكلم، وذكر أن المعاني السابقةً يطلق عليها الكلام على جهة المجاز.

وقد اختلف النحويون في إطلاق "الكلام" على الكلام النفساني وعلى ما يعبر به من الجمل، أذلك حقيقةً فيهما على جهة الاشتراك أم حقيقةً في النفساني مجاز في اللساني أم مجاز في اللساني حقيقة في اللساني؟ ثلاثة مذاهب: وظاهر كلام س - رحمه الله - أن الكلام لا يطلق حقيقة إلا على الجمل المفيدة. وذكر المصنف حين ذكر قول س "واعلم أن (قلت) في كلام العرب إنما وقعت على أن يحكى بها ما كان كلامًا لا قولا" قال: عني بالكلام الجمل، وبالقول المفردات، ولا يريد أن القول مخصوص بالمفردات، فإن إطلاقه على الجمل سائغ باتفاق. وقد يمسى الاعتقاد قولًا لأن الاعتقاد لا يفهم إلا بغيره، والقول قد لا يتم معناه إلا بغيره، بخلاف الكلام، فإنه تام المعنى بنفسه، ولذلك أطلق على القرآن "كلام الله"، ولم يطلق عليه "قول الله". وقد شاع إطلاق القول على ما لا يطلق عليه كلام، كقول أبي النجم: قالت له الطير: تقدم راشدًا إنك لا ترجع إلا حامدا وقال آخر: وقالت له العينان: سمعا وطاعة وحدرتا كالدر لما يثقب انتهى كلام المصنف، رحمه الله. وما ذكر من أن "القول" لا يطلق على كلام الله - تعالى - فيه نظر. وما أنشده من قول الشاعر "وقالت له العينان" أنه نسب القول إلى العينين، ولا

يحسن نسبة الكلام للعيون، مخالف، لما نص الناس عليه من آن الإشارة بالعيون تسمى كلامًا كما تسمى قولًا، وقد أنشدنا شاهدًا على ذلك: أرادت كلام ...................... ........................... البيت. وأنشدوا أيضًا: إذا كلمتني بالعيون الفواتر رددت عليها بالدموع البوادر ولاشتهار إطلاق الكلام على الإشارة استعمل ذلك المولدون، قال. حبيب: كلمته بجفون غير ناطقةٍ فكان من رده ما قال حاجبه وأما ما أنشده المصنف - رحمه الله - من قول الشاعر: أشارت بطرف العين خشيه أهلها إشارة محزون، ولم تتكلم /فإنما نفي الشاعر التكلم حقيقة لا الكلام المجازي، فلا تناقض بين قوله: "أشارت" وبين قوله: "ولم تتكلم". وقال بعض أصحابنا: من قال إنه حقيقة في المعنى القائم بالنفس قال: سمعت اللفظ كلامًا لدلالته عليه، كما تقول: سمعت العلم، ونطق بالعلم، وإنما سمع وينطق باللفظ الدال على العلم. ومن قال هو حقيقة في اللفظ وإنما سمي العلم به لأن المعنى أصله، كما سموا العنب خمرا، والشحم طرقًا، وأصل الطرق القوة، لأن القوة تكون عنه، وكما سموا النبات غيثًا. ومن قال بالاشتراك احتج بتكافؤ هذين الاحتمالين، فلم يكن أحدهما أولى، فوجب القول عنده بالاشتراك.

فأما وقوعه على ما تدل عليه الآثار والرسوم والكتابة وغير ذلك فمجاز، لا خلاف فيه، لقول الشاعر: وعظتك أجداث صمت ونعتك ألسنة خفت وتكلمت عن أوجه ... تبلى وعن صور شتت وأرتك قبرك في القبو ... ر، وأنت حي لم تمت قوله الكلام ما تضمن من الكلم هذا جنس يشمل سائر المركبات من الكلام وغيره، ويشمل ما تألف من كلمتين فأكثر. قال المصنف: "فلذلك لم يقل "الكلم المتضمن" لأن الكلم اسم جنس جمعي كالنبق، وأقل ما يتناول ثلاث كلمات" انتهى. وقد قدمناه اختلاف الناس في ذلك. ومن قال إن اسم الجنس إذا كان بغير الهاء كان للكثير استعذر عن إطلاق الكلم على الاسم والفعل والحرف. فقال الأستاذ أبو علي الشلويبن: "أرادوا بها الأجناس، والأجناس لا تنحصر أفرادها". ورد عليه بأن اسم الجنس إنما يقع على ما فوق العشرة من آحاده، وآحاد "الكلمة" هنا إنما هي "الكلمة" التي يراد بها جنس الأسماء، "والكلمة" التي يراد بها جنس الأفعال، و "الكلمة" التي يراد بها جنس الحروف، فـ "الكلم" إذآ لم يقع مما يقع عليه واحده إلا على ثلاثة خاصة.

وقال الأستاذ أبو الحسن ين عصفور: "إنما أوقعت العرب اسم الجنس على ما فوق العشرة، والجمع بالألف والتاء على ما دون ذلك، تفرقةً بين القليل والكثير حتى لا يلبس أحدهما بالآخر، وهذه التفرقة لا تتصور هنا لأن النجم إذا كان جمعًا للكلمة الواقعةً على كل واحد من الأجناس الثلاثة لم يكن لها جمع قليل ولا كثير فيفرق بينهما؛ ألا ترى أنه ليس لـ "الكلم" الذي هو اسم جنس ولا لـ "كلمات" ما يقعان عليه إلا الأجناس الثلاثة خاصة، فلما لم تتصور التفرقة ساغ وقوع اسم الجنس موقع الجمع بالألف والتاء لأن اللبس إذ ذاك قد آمن، وأيضًا فإنك إن جمعت بالألف والتاء فلأن الثلاثة قليل، وإن أتيت باسم الجنس فلان هذه الثلاثة هي جمعت ما يقع عليه "كلم"، كما أنك تقول: التمر أطيب من الزبيب، فتوقع التمر على جميع ما يقع عليه تمر" انتهى كلامه. قال المصنف- رحمه الله -: "وإنما قيل "ما تضمن من الكلم" فصدر الحد بـ "ما" لصلاحيتها للواحد فما فوقه، ثم خرج الواحد بذكر تضمن الإسناد المفيد، فبقي الاثنان فصاعدًا، وهو المراد" انتهى. وتصديره الحد بـ "ما" ليس بجيد لأن "ما" لفظ مشترك، والحدود تصان عن الألفاظ المشتركة، ولو قال "الكلام المتضمن من الكلم" لخلص من لفظ "ما"، ودل على ما أراد من المعنى. ومعنى التضمن هنا الدلالة لا التضمن الذي هو قسيم المطابقة والالتزام. وقوله من الكلم يريد بذلك الكلم الذي هو جمع "كلمة" المصطلح عليه، وهو الاسم والفعل والحرف؛ لأن "الكلم" يطلق في لغة العرب على

"الكلام" قال تعالى: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ} وقال تعالى: {يُحَرِّفُونَ الكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ} , وقال الشاعر: أخشى عذابك إن قدرت ولم ... أعذر, فيؤثر بيننا الكلم وقال آخر: غراء أكمل من يمشي على قدم ... حسنا, وأملح من حاورته الكلما وقال آخر: أخشى فظاظة عم أو جفاء أخ ... وكنت أخشى عليها من أذى الكلم قوله إسنادًا احتراز من المفرد نحو "زيد" ومن مركب لا إسناد فيه نحو: عندك، وخير منك، وغلام زيد، وزيد الخياط إذا كان الخياط صفة، فهذا كله مركب بغير إسناد، فلا يسمى كلامًا. وزعم بعض النحويين أن اللفظة المفردة وجودًا وتقديرًا قد تكون كلامًا إذا قامت تقام الكلام، وبعل عن ذلك "نعم" و "لا"، فإنهما كلامان، وليسا بمركبين. ورد هذا المذهب بأنهما مركبان تقديرًا، والأصل إذا قال: "نعم" في جواب: هل خرج زيد؟ نعم خرج زيد، وفي الجواب ب "لا" لا لم يخرج زيد، وكذلك حيث يجاب بـ "بلى" نحو: ألم تضربي زيدًا؟ فتقول: بلى أي: بلى ضربت زيدًا. والدليل على أن هذا هو الأصل تصريح العرب بذلك

بعد هذه الحروف، قال ذو الرمة: على بابها منْ عندِ رحلي وغاديا تقولُ عجوزٌ مدرجي متروِّحاً أراكَ لها بالبصرة ِ العامَ ثاويا أذو زوجة ٍ بالمصرِ أمْ ذو خصومة لأَكْثِبَة ِ الدَّهْنَا جَمِيعاً وَمَالِيَا فقلتُ لها: لا إنَّ أهلي لجيرة ٌ أُرَاجِعُ فِيهَا يَا ابْنَة َ الْقَوْمِ قَاضِيَا وَمَا كُنْتُ مُذْ أَبْصَرْتِنِي فِي خُصُومَةٍ فقوله بعد " لا " "إن أهلي جيرةً" إلى آخر البيت بمنزلة أن يقول: لست ذا زوجةً بالمصر. وقوله بعد "لا" أيضًا "وما كنت مذ أبصرتني في خصومةً" بمنزلة أن يقول: لا لست ذا خصومة بالمصر. وما ذكروه أن مثل هذا تصرح بالجملة المحذوفة بعد "لا" و "نعم" ليس بتصريح حقيقةً، إنما / ذلك من حيث المعنى لأنه لم يصرح بالجملتين المقدرتين بعد "لا" و "نعم" إنما أتي بما يدل على انتفاء كونه ذا زوجةً وذا خصومةً. ومما يدل على تقدير الجملةً بعد حروف الجواب عمل فعل تلك الجملةً المحذوفةً في تابع وفي حال، نحو قولك: ألم تخرب زيدًا؟ فقول: بلى وعمرًا، فقولك "وعمرًا" معطوف على المحذوف من قولك: بلى ضربت زيدًا وعمرًا، وكذلك قوله تعالى: {أَيَحْسَبُ الْإِنسَانُ أَلَّن نَجْمَعَ عِظَامَهُ (3) بَلَى قَادِرِينَ}، أي: بلى ئجمعها قادرين على أن نسوي بنائه. وكذلك؛ أضربت زيدًا؟ تقول: نعم وعمرًا، التقدير: نعم ضربت زيدًا وعمرًا. وقد حد المصنف الإسناد، فقال: " الإسناد عبارةً عن تعليق خبر بمخبر

عنه، أو طلب بمطلوب منه. وليس بحاصر لأنواع الإسناد لأنه يخرج منه الإنشاء كالنداء والقسم وألفاظ العقود وغير ذلك، فإن ذلك ليس تعليق خبر بمخبر عنه ولا طلب بمطلوب، وقد قسم المصنف الجملة في باب الموصول إلى خيرية وطنية وإنشائية. وقال بعض أصحابنا: الإسناد في اصطلاح النحويين ضم شيء إلى شيء على جهة أن يقع بمجموعهما استقلال فائدةً، آو يكون أصله ذلك. وقد قسم النحويون الكلام إلى خبر وغير خبر، فالخبر جائز ومحال، فالجائز مستقيم وخطأ. وغير الخبر اختلفوا فيه فذهب أبو الحسن إلى أنه الاستخبار، والتمني، والطلب، وهما الأمر والنهي، وهما واحد

عند س والكسائي والفراء وجماعة. وزاد الفراء وابن كيسان الدعاء - وهو النداء - والطلب، وهو المسألة. وزاد قطرب التعجب والعرض والتحضيض. وفي كتاب "الضروري": "الأقاويل المركبة من المفردات تام كاف بنفسه، وهو المسمى كلامًا، وغير تام هو بمنزلة الاسم المفرد نحو: غلام زيد، وزيد العاقل، وهو إنما يقع جزءًا من قول تام أو من تمام قول تام، ويسمى عند قوم تركيب تقييد. والتام جملة خيرية، وهو ما يمكن فيه الصدق والكذب، وجملة لا يمكن ذلك فيها، وهو النداء وطلب الفعل وطلب الترك، فإن كان من رئيس إلى مرؤوس قيل له: آمر أو نهي، أو من مرؤوس إلى رئس قيل له: رغبة، وإن كان إلى الله قيل له: دعاء، كان من مساو إلى مساو خص باسم الطلب، والعرض والتمني والترجي والتحضيض داخلةً في هذا النوع لأنها طلب، والاستفهام بوجه ما داخل أيضًا في الطلب إلا أنه طلب قول لا فعل، وقد جعله قوم على حدته جنسًا داخلًا تحت القول التام الذي لا يصدق ولا يكذب. وكذلك التعجب، جعله قوم أيضًا جنسًا على حدته داخلًا تحت القول الذي لا يصدق ولا يكذب، وجعله قوم داخلًا تحت الخبر لأنه خبر متعجب منها؛ انتهى، وفيه بعض تلخيص. وسنتكلم على ذلك عند ذكر أقسام الكلام إن شاء الله.

وقوله مفيدًا قالوا احترز بالمفيد من المتضمن إسنادًا؛ لكنه غير مفيد، نحو قولهم: النار حارةً، والسماء فوق الأرض، وتكلم/ رجل، فإن هذا - وإن شمي كلامًا في اللغة - لا يسمى كلامًا في اصطلاح النحويين. قال المصنف - رحمه الله -: "وقد صرح س وغيره من أئمة العربية بأن الكلام لا يطلق حقيقةً إلا على الجمل المفيدةً. قال: قال س - رحمه الله - وقد مثل بـ "هذا عبد الله معروفًا": "فـ"هذا" اسم مبتدأ يبنى عليه ما بعده، وهو عبد الله، ولم يكن يكون "هذا" كلامًا حتى يبنى عليه أو على ما قبله". انتهى كلام س - رحمه الله - ولا دليل فيه على دعوى المصنف رحمه الله. والتمثيل بالمفيد لا يدل على اشتراط الإفادة في الكلام، بل ظاهر كلام س - رحمه الله - أنه لا يشترط الإفادة لأنه قال: "ولم يكن ليكون كلامًا حتى يبنى عليه أو يبني على ما قبله " أي: حتى يحصل بينهما إسناد، فيكون مبتدأ وخبرًا، والإسناد أعم من أن يكون مفيدًا أو غير مفيد، وإنما ذكر ذلك س - رحمه الله - احترازًا من المفرد، فإنه لا يسمى كلامًا لأنه لا بناء شيء فيه على شيء ولا إسناد. وكان بعض من عاصرناه يقول: العجب لهؤلاء النحاة، يجيئون لأصدق القضايا، فيجعلونها ليست بكلام، كقولنا: النقيضان لا يجتمعان ولا يرتفعان، والضدان لا يجتمعان وقد يرتفعان، والكل أكثر من الجزء، والواحد نصف الاثنين، ويلزمهم لما شرحوا المفيد إنه الذي يفيد السامع علم ما لم يكن يعلم أن الكلام إذا طرق سمع الإنسان فاستفاد منه شيئًا، نم طرقه ثانيًا، وهو قد علم مضمونه أولًا، أنه لا يكون كلامًا باعتبار المرة الثانيةً

لأنه لم يفده علم ما لم يكن يعلم، فيكون الشيء الواحد كلامًا غير كلام بحسب إفادته السامع، هذا خلف. قال المصنف - رحمه الله - وقد ذكر أن س - رحمه الله - صرح بأن الكلام لا يطلق حقيقةً إلا على الجمل المفيدة: "ومن ذلك قوله - يعني س -: "واعلم أن "قلت" في كلام العرب إنما وقعت على أن يحكى بها ما كان كلاما لا قولًا "، عنى بالكلام الجمل وبالقول المفردات" انتهى. ولا دليل في ذلك على دعوى المصنف على س لأنه أطلق الكلام على الجمل، والجمل أعم من أن تتضمن إسنادًا مفيدًا أو غير مفيد، وما أظن أحدًا يمنع: قال زيد النار حارة، ولا: قال زيد الجزء أقل من الكل. وقوله مقصودًا قال المصنف في شرحه: "احترز بـ "مقصود" من حديث النائم ومحاكاةٍ بعض الطيور للإنسان ومراجعةً الصدى في بعض الأمكنة الخاليةً)) انتهى. اعتبر المصنف - رحمه الله - في حد الكلام هذا الفصل، وهو أن يكون مقصودًا للمتكلم، وكذلك اعتبره الأستاذ أبو الحسن بن عصفور، رحمه الله، ومنه أخذه المصنف لأن من قال في حد الكلام "المفيد بالوضع" اختلفوا في مراده بالوضع، فقال ابن عصفور: "معنى بالوضع بالقصد"، قال: يقال: تكلم ساهيًا ونائمًا، ومعلوم أن الساهي والنائم لم يضعا لفظهما للإفادة، ولا قصداها" فهذا مفيد بغير الوضع. وكان شيخنا الإمام أبو الحسن علي بن محمد بن علي الكتامي

المعروف بابن الضائع - رحمه الله تعالى - يقول: "قول/: المتأخرين إن كلام الساهي والنائم والمجنون مفيد إلا أنه بغير الوضع لا ينبغي أن يقال لأن مثل هذا لا يفيد بوجه، فإذا قال النائم مثلًا: زيد قادم، ووافق ذلك قدوم زيد، فالفائدة لم تحصل من إخباره بوجه، وإنما حملتا من مشاهدة قدوم زيد لا من نفس الإخبار، فهو غلط من قائله، ولا بد، وإنما يمكن هنا أنه تحرز بـ "المفيد بالوضع" مما لا يفيد إلا بالعرض لا بالوضع، وذلك أنك إذا قلت؛ قام غلام زيد، أفاد هذا الكلام مفهومين: أحدهما الإخبار عن غلام زيد بالقيام، وهو هو المعنى الذي وضع له اللفظ. والثاني تملك زيد للغلام، وليس اللفظ موضوعًا له، فإذا م مفيد له بغير وضح، فمن هنا تحرز القائل بالوضع" انتهى. وفهم من كلام الأستاذ أبي الحسن بن الضائع أنه لا يشترط في الإفادة قصد المتكلم إياها، وإنما يشترط فيها أن تكون على هيئة التركيب الموضوع في لسان العرب. وكثير من النحويين لم يعتبروا في حد الكلام سوى التركيب ألإسنادي فقط، ولم يشترطوا الإفادة ولا القصد. وقول المصنف - رحمه الله - "ومحاكاة بعض الطيور للإنسان" ليس بشيء لأنه قد قال في أول الحد "ما تضمن من الكلم إسنادًا مفيدًا" والذي يسمع من محاكاة الطير لم يتضمن من الكلم، فليس الطائر ناطقًا بكلم أصلًا فضلًا عن أن يضمن إسنادا مفيدًا، وإنما هي محاكاة أصوات لا نطق بكلم.

وأما مراجعة الصدى فإنما هو سماع كلامك أنت لا أن ثم كلامًا غير كلامك ولا متكلمًا غيرك، فلا يحتاج أن يحرز منه. وقوله لذاته قال المصنف - رحمه الله - في شرحه؛ "احترز بأن قيل مقصودًا لذاته" عن المقصود لغيره كإسناد الجملة الموصول بها أو المضاف إليها، فإنه إسناد لم يقصد هو ولا ما تضمنه لذاته، بل قصد لغيره، فليس كلامًا، بل هو جزء كلام، وذلك نحو قاموا من قولك: رأيت الذين قاموا، وقمت حين قاموا" انتهى كلامه في شرحه، ولم أر هذا القيد لأحد عن النحويين غيره. ويمكن أن ينازع فيه من وجهين: أحدهما: هذا كلام، ويدل على إطلاق هذا أنه كلام أنهم شرطوا في الصلة أن تكون جملة خبرية، واحترزوا بقولهم: "خبرية" من غير الخبرية كالأمر والنهي والاستفهام والترجي وغير ذلك مما ليس بخبر. وشرحوا الخبرية بأنها التي تحتمل الصدق والكذب، والخبر أحد أقسام الكلام، فثبت بذلك أنها كلام، ولاسيما على مذهب من لا يشترط في الكلام سوى التركيب ألإسنادي. والوجه الثاني: ينازع في أن هذه الجملة تضمنت عن الكلم إسنادًا مفيدًا مقصودًا حتى يحترز بقوله: "لذاته" منها لأن هذه الجملة في الجملة هي كجزء عن الاسم، ولم تنتهض أن تكون عن قبيل الكلمة، بل هي والموصول قبلها كلمة، فإذا قلت: "جاءني الذي قام" فمعناه: جاءني القائم، فهي جزء من المفرد، وأما الجملة المضاف إليها فإنها في تقدير المفرد، فقولك: قمت حين قاموا، معناه: حين قيامهم، فصورتها صورة ما فيه/ إسناد، والمعنى على التركيب التقييدي

وقد حد أصحابنا الكلام بحدود, قال أبو بكر بن طاهر "الكلام مفيد مؤلف عن الكلم". وقال أبو إسحاق بن ملكون: "الكلام ألف من مفرد الكلم"، وأفاد معنى من المعاني التي ألفت الكلم إليها. وقال ابن هشام: الكلام ما قام عن مسند ومسند إليه واستقو بمعناه. وحده الجزولي وتبعه ابن عصفور - بأنه اللفظ المركب المفيد بالوضع" وهذا من أجود ما حذوه به. وقد أورد على كل قيد منها، ولنا الآن نشرح هذا الحد، إلا أنا نذكر ما ذهب إليه الأستاذ أبو بكر بن طلحة من أن هذا الحد الذي حده أصحابنا بالنظر إلى

الاصطلاح فاسد، قال: لأنه غير مانع, إذ قد يدخل تحته ما ليس بكلامك كـ"بعلبك" فإنه لفظ مركب مفيد لمسماه، وإفادته له بالقصد، وهو مع ذلك ليس بكلام. وإصلاح الحد عنده بأن يزاد فيه "الذي يدل جزء من أجزائه على جزء من أجزاء معناه" ليخلص بذلك من "بعلبك" وأمثاله؛ ألا ترى أن قولك "قام زيد" معناه الإخبار بقيام ماضٍ عن شخص معين اسمه زيد، و"قام" الذي هو جزء منه يدل على جزء من ذلك المعنى، وهو القيام الماضي، والجزء الآخر، الذي هو "زيد" يدل على ذلك الشخص المعين الذي اخبر عنه بالقيام الماضي، وليس كذلك " بعلبك"، فإن بعلا على انفراده وبكا على انفراده لا يدل واحد منهما على جزء من معنى بعلبك. قال ابن عصفور: "وهذه الزيادة التي زادها في الحد غير محتاج إليها لأن "بعلبك" وأمثاله غير داخلةً تحته لأنها ليست مفيدةً كما توهم؛ لأن الإفادة لا يعنى بها دلالة اللفظ على معناه، إذ لو عنى بها ذلك لكان "الاثنان أكثر من الواحد" مفيدًا لأن هذه الألفاظ لها معان تدل عليها، وإنما المفيد الذي يحصل منه للمخاطب علم ما لم يكن يعلمه قبل، وذلك لا يصور في "بعلبك" وأمثاله؛ ألا ترى أن المخاطب إذ كان يجهل ما يقع عليه "بعلبك"، لم يعلم إذا سعه منك ما تريد به، وإن كان قد علم ما يقع عليه قبل سماعه منك بقي على علمه، ولم يستجد أمرًا زائدًا، انتهى رد ابن عصفور على ابن طلحة. قال المصنف في شرح هذا الكتاب: "وزاد بعض العلماء في حد الكلام "من ناطق واحد" احترازًا من أن يصطلح رجلان على أن يذكر أحدهما فعلًا أو مبتدأ، ويذكر الآخر فاعل ذلك الفعل أو خبر المبتدأ، فإن مجموع

النطقين مشتمل على ما اشتمل عليه مثله إذا نطق به واحد، وليس بكلام لعدم اتحاد الناطق، لأن الكلام، عمل واحد، فلا يكون عامله إلا واحدًا. ورد ذلك بأن اتحاد الناطق لا يعتبر، كما لا يعتبر اتحاد الكاتب، لو كتب واحد "قام" وآخر "زيد" لسميت تلك كتابةً وخطًا، فكذلك الكلام. ولا يعترض على هذا بعدم ترتب أثر الإقرار في نحو لو قال واحد "لزيد" وقال الآخر: "عندي درهم"؛ لأن ذلك أمر شرعي لا يترتب الأثر إلا على من نطق بجملة الإقرار، فليس من صرح الكلام بالنسبةً إلى كل واحدًا منهما وإن كان كلامًا بالنسبةً إلى تركبه منهما. ورد ذلك أيضًا بأن كل واحد من الناطقين إنما اقتصر على أحد الجزأين اتكالًا على نطق الآخر، فمعناها مستحضر في ذهنه, فمجموع ذلك المعنى والكلمة التي نطق بها كلام، كما يكون كلامًا قول من رأى شبحًا فقال: زيد، أي: هذا زيد. ومما يدل على أن هذا كلام قصة امرئ القيس والتوأم اليشكري "قال أبو عمرو بن العلاء: كان امرؤ القيس ينازع من يدعي الشعر، فنازع التوأم اليشكري، فقال: إن كنت شاعرًا فملط أنصاف ما أقول وأجزها، قال: نعم"

وذكر ما نظمه كل واحد، ومنها: قال امرؤ القيس: كأن هزيزة بوراء غيب .................... فقال التوأم: ................ عشار وله لاقت عشارًا فقال امرؤ القيس: فلما أن دنا بقفا أضاخ ..................... فقال التوأم: ............... ... وهت أعجاز ريقه، فحارا فهذان البيتان كل واحد منهما كلام، وهما من ناطقين، وكل نصف مفتقر إلى الآخر بحيث إنه لا يستقل النصف كلامًا لأن خبر "كان" من قول امرئ القيس هو "عشار" من قول التوأم، وجواب "لما" من قول امرئ القيس هو "وهت" من قول الثوأم. وكذلك قصه جرير والفرزدق حين أنشد عدي بن الرقاع بعض

الملوك قول: تزجي أغن، كأن إبرة روقه ................................. واشتغل ذلك الملك عن سماع بقية البيت، فأمسك عدي عن الإنشاد حتى يسمع الملك، فقال الفرزدق لجرير: ما تراه يقول عدي؟ فقال جرير: يقول: ................................ ... قلم أصاب من الدواة مدادها ثم استمع الملك، فقال عدي: تزجي أغن، كأن إبرة روقه قلم أصاب من الدواة مدادها فتعجب الفرزدق من إتمام جرير البيت على ما أنشده عدي، وما ذلك لا لأن المعنى مستحضر في الذهن. وكذلك قصة زهير مع ابنه كعب في استخباره كعبًا: هل تجيد الشعر؟ فصار زهير يقول بيتًا، ويقول لكعب: أجز، فيأتي ببيت متعلق بالأول مناسب له، حتى نظما أبياتًا. ومثل هذا كله لا يكاد أحد يقول إن هذا ليس بكلام لكونه من ناطقين. وإنما قال المصنف "بعض العلماء" ولم يقل "وزاد بعض النحويين" لأن هذا القول لم ينقل عن نحوي فيما نعلم، وإنما قاله بعض من تكلم في علم الأصول، فلذلك قال: "بعض العلماء" ولم يقل "بعض النحويين"

والمؤتلف كلامًا فعل وفاعل، وفعل ومفعول ما لم يسم فاعله، واسمان مبتدأ وخبر، واسمان ليسا مبتدأ وخبرًا، وذلك تزال وشبهها، واسمان مع حرف نحو: أقائم الزيدان؟ واسمان دون حرف نحو: قائم الزيدان، على مذهب أبي الحسن. واسم وحرف على مذهب أبي علي في النداء، نحو: يا زيد. وحرف وما هو في تقدير الاسم، وهو أما أنك منطلق، بفتح أن، وزعم ابن خروف أنه عن باب "يا زيد" على مذهب أبي علي. ورد عليه بأن "أن" وإن كانت في تقدير مفرد - فإن في الكلام مسندا ومسندًا إليه، وتقع "أن" موقع المفعولين. ومن فعل واسمين في مذهبا جماعة من النحويين، نحو: كان زيد قائمًا؛ لآن/ الاسم لا يستغني عن الخبر: هنا، و"كان" لا تستغني عنهما. ورد بأن "كان" تحذف، ويبقى الكلام تامًا، فهي في هذا كـ "إن"، وكل ما يجوز حذفه ويبقى الكلام مستقلًا بعده لا يعاد من التأليف، ولو ذهبنا إلى هذا لم تنحصر وجوه التأليفات. -[ص: والاسم كلمةً يسند ما لمعناها إلى نفسها أو نظيرها.]- ش: في الاسم لغات: اسم بكسر همزة الوصل وضمها، وسم بكسر السين وضمها، وسما كهدى، فإن كانت هذه مستدلًا عليها بقوله

والله أسماك سما مباركًا فلا حجةً فيه لجواز أن لا يكون مقصورًا، يل تكون حركة الميم حركة إعراب. ومذهب البصريين أنه مشتق من السمو، فالمحذوف منه اللام. ومذهب الكوفيين أنه من الوسم، وهو العلامةً، فالمحذوف منه الفاء. والأول أرجح لقولهم أسميت وسميت وسمي وأسماء، ولو كان على مذهب الكوفيين لقالوا أوسمت ووسمت ووسيم وأوسام وادعاء أن هذه التصاريف كلها من باب القلب لا ضرورةً تدعو إلى ذلك. وحد المصنف الإسناد إنه "عبارة عن تعليق خبر بمخبر عنه، أو طلب بمطلوب منه. وهذا حد ناقص لأنه غير جامع؛ ألا ترى أنه نقصه بعض الإنشاءات، كقولك: بعتك هذا بدرهم، وقول المشتري: اشتريته بدرهم. وكذلك قول القائل لعبده: أنت حر، وقولك: أقسم أو أقسمت لآخرين زيدًا. فهذه كلها ليست تعليق خبر بمخبر عنه ولا طلب بمطلوب منه، وقد تضمنت الإسناد، فليس الإسناد محصورًا فيما ذكره، وإنما حد الإسناد بما حده ليخرج بذلك الإسناد اللفظي، فإنه لا يخص بالاسم، بل يوجد في الفعل، نحو "ضرب: فعل ماضي"، وفي الحرف نحو "في: حرف جر" وفي الجملة نحو "زيد قائم: مبتدأ وخبر". وقوله كلمه جنس يشمل الاسم والفعل والحرف، وهكذا سائر

الحدود، يبدأ أولا بالجنس. قال المصنف: "واحترز بـ "كلمة" من واقع موقع اسم مثل أن ومعموليها"،. وقد رددنا، عليه مثل هذا في قوله في حد الكلمة: "لفظ" أن الأجناس لا تذكر للاحتراز، وأنه اتبع ابن عصفور في ذلك. وقوله: يسند ما لمعناها إلى نفسها معناه سند الحكم الذي هو لمدلول الكلمةً إلى لفظ الكلمة، مثال ذلك: زيد عاقل، أسندت العقل الذي هو لمدلول زيد إلى لفظ زيد، وأجريته عليه، وهو من حيث المعنى لمدلوله؛ لأن المسند إليه العقل إنما هو مدلول زيد لا لفظ زيد. وقيد الإسناد باعتبار المعنى لأنه الخاص بالأسماء، بخلاف الإسناد باعتبار مجرد اللفظ، فإنه عام، واحترز بذلك من الفعل والحرف، فإنه لا يسند ما لمعناهما إلى أنفسهما، فهذا فصل خرج به الفعل والحرف. وقوله: أو نظيرها مثال ذلك صة وفل وسبحان، فهذه لا يصح إسناد ما لمعناها إلى نفسها، وهي أسماء، لكن نظيرها يصح ذلك فيه، ويعني بالنظير ما وافق معنى ونوعًا، فـ "صة" موافق للسكوت، و "فل" قال المصنف: موافق لفلان". وسيأتي إن شاء الله تعالى في باب النداء/ أنه ليس موافقًا له، وأنه موافق لـ "رجل" و "سبحان" موافق لـ "براءةً"، وهذه النظائر يصح أن يسند ما لمعناها إلى أنفسها. وقد عدل المصنف في حد الاسم عما حده به النحويون إلى هذا الحد الذي ذكره، وهذا الذي اختاره غير مختار؛ لأن النحويين حدوا الاسم بالأمور الذاتيات التي هي فيه قبل التركيب، والمصنف حده بأمر عارض له حالة التركيب، وهو خاصةً من خواصه حالة التركيب، وهو الإسناد

المعنوي، وليس هذا شأن الحدود، مع ما في حده من غموض اللفظ والإبهام والترديد والمجاز الذي هو مناف للحد؛ إذ الحد إنما يؤتي به لإيضاح المحدود وبيانه، وصار كل قيد في حده يحتاج إلى شرح طويل، فيحتاج أن يشرح الإسناد والمعنى والنظير، وهذه أمور فيها غموض لا يناسب الحدود والإبهام في قوله: "ما لمعناها"، والترديد في قوله: "أو نظيرها"، والمجاز في قوله: "إلى نفسها"، والكلمة لا يقال لها "نفس" إلا بمجاز. وأحسن ما حد به الاسم أن يقال: "الاسم كلمة دالةً بانفرادها على معنى غير متعرضةً ببنيتها للزمان". فقولنا: "كلمة" جنس يشمل الاسم والفعل والحرف. وقولنا: "دالةً بانفرادها على معنى" احتراز من الحرف، فإنه لا يدل على معناه إلا بضميم: غير متعرضة إلى آخره" احتراز من الفعل. -[ص: والفعل كلمه تسند أبدًا، قابلة لعلامة فرعية المسند إليه.]- ش: ثبت في بعض نسخ هذا الكتاب، وفي بعض نسخ شرحه للمصنف: "الفعل كل كلمة" وهكذا قاله أبو موسى الجزولي في حد الاسم، وفي حد الفعل، وفي حد الحرف. وسمعت الأستاذ الحافظ أبا الحسن علي بن محمد بن محمد الخشني الأبدي؛ يقول ما معناه: "إدخال "كل" في الحدود لا ينبغي لأن كلا إنما تدخل لاختبار الحد هل يطرد وينعكس، فتقول في حد الإنسان: الإنسان حيوان ناطق، فإذا اختبرناه هل يطرد: كل إنسان حيوان ناطق؟ وهل ينعكس: كل حيوان ناطق إنسان؟ فيعلم

بذلك صحة الحد انتهى. ونقول: لا يصح إدخال " كل" في الحد بوجه، وذلك أن كلا هي موضوعةً للعموم، فتدل على أفراد، والمحدود إنما هو شيء واحد متعقل في الذهن لا يصح تكثره ولا تعدده، فناقض هذا المعني معنى "كل". قوله كلمة جنس يشمل الاسم والفعل والحرف. وقوله تسند خرج بذلك الحرف وبعض الأسماء، كياء الضمير في نحو غلامي، والأسماء الملازمة للنداء نحو فل ومكرمان. وقوله أبدًا احتراز من بعض الأسماء التي تسند وقتًا دون وقت، نحو قولك: زيد القائم، ثم تقول: القائم زيد، فزيد قد أسندته في هذا التركب، وأما في التركيب الأول فأسندت إليه القائم. وقوله قابله لعلامة فرعية المسند إليه شرح هذا المصنف بأن هذه العلامة هي تاء التأنيث، وياء المخاطبة، والألف، والواو، والنون. واحترز بقوله: "قابلةً لكذا" من اسم الفعل؛ لأنه يصدق عليه أنه كلمة تسند أبدًا، لكنها لا تقبل تاء التأنيث، في نحو شتان، ويقبلها افترق، ولا يقبل ياء المخاطبة/ في نحو دراك، ويقبلها أدرك، ولا تقل الألف والواو والنون في نحو دراك، ويقبلها أدرك وقد حكم س بفعلية هلم عند من ألحقها الضمائر البارزة بها، وبكونها اسم فعل عند من لم يلحقها. وقد عدل المصنف في حد الفعل عما حد به النحويون إلى هذا

الحد الذي ذكره، كما عمل ذلك في حد الاسم، وحده بأمر عارض للفعل حالة التركيب لا بما هو ذاتي للماهية، مع غموض قوله: "قابله لعلامة فرعية المسند إليه". واختار المصنف في اصطلاح المسند والمسند إليه ما هو جار على أكثر ألسنة النحاة من أن المسند إليه هو المحكوم عليه، والمسند هو المحكوم به. وهذا أحد الاصطلاحات الأربعة. وثانيها أن كلا منهما مسند ومسند إليه، لأن كلا قد أسند إلى الآخر، والآخر أسند إليه. وثالثها أن المسند هو الأول مبتدأ كان أو غيره، والمسند إليه هو الثاني، فقام من قولك: قام زيد، وزيد من قولك: زيد قائم، هو المسند، وزيد وقائم هما مسند إليهما. والرابع عكس هذا، فزيد وقائم في التركيبين هما مسندان، وقام في جملة الفعل، وزيد في جملة المبتدأ، مسند إليهما. وإنما ذكرت هذه الاصطلاحات لأن المصنف ذكر أحد المصطلحات، فيتوهم أنه مصطلح النحويين أجمعين، ولئلا يقف أحد في كلام بعض النحويين على استعماله بعض هذه المصطلحات فيتوهم أنه أخطأ في ذلك. ولكل من هذه الاصطلاحات وجه؛ لأن الإسناد هو الإلصاق والإضافة، تقول: أسندت ظهري إلى الحائط، إذا ألصقته به وأضفته إليه، وهذا المعنى موجود في كل واحد منها؛ لأن كلا منهما قد أسند إلى صاحبه، فقد صار بينهما تساند، ولا مشاحة في الاصطلاح. وأحسن ما حد به الفعل أن يقال: "الفعل كلمة معترضةً ببنيتها لزمان معناها". فقولنا: "كلمة"، جنس يشمل الاسم والفعل والحرف. وقولنا: "متعرضة إلى آخره،" فصل يخرج الاسم والحرف. وقد ذكر خلاف في

دلالة الفعل على الزمان، فقيل: بالذات، واستدل بتغيير البنية بتغيير الزمان. ومنهم من قال: البنية لا تدل على الزمان بذاتها، وإنما تدل على أن الحدث ماضٍ أو غير ماضٍ، فينجر الزمان الماضي مع الحدث الماضي، والزمان غير الماضي مع الحدث غير الماضي. وإلى هذا ذهب أبو الحسين بن الطراوة، وزعم انه مذهب س، واختاره ابن عصفور في بعض تصانيفه، قال: "وهو المرضي عند كثير من النحويين المحققين، انتهى كلامه. والاستدلال في هذه المسألة يطول، ولم يتعرض لذلك المصنف رحمه الله، فيذكر دلائل القولين فيها، وقد أمعن الكلام فيها صاحب كتاب "المباحث" فيطالع في ذلك الكتاب. -[ص: والحرف كلمه لا تقبل إسنادًا وضعيًا بنفسها ولا بنظير.]- ش: كلمة جنس يشمل الاسم والفعل والحرف. وقوله: لا تقبل إسنادًا فصل يخرج الاسم والفعل. ومعنى قوله: "لا تقبل إسنادًا أي: لا تسند ولا يسند إليها، فنفى قبول الإسناد/ بطرفيه. وقوله: وضعيًا احتراز من الإسناد غير الوضعي، فإنه يصلح لكل لفظ. وقوله: لا بنفسها ولا بنظير احتراز من الأسماء اللازمة للنداء، فإنها لا يسند إليها ولا يسند، لكن تقبله بنظير. وهذا الحد الذي ذكره فيه صيغة النفي، وهو قوله: "لا تقبل" فهو عدمي، والعدمي لا يكون في الحد؛ لأن الحد إنما يكون بما تقومت منه

الماهية، والأعدام لا تتقوم منها الماهية؛ لأنها سلوب. وفي هذا الحد تجوز لأنه قال: "ولا بنظير احتراز من الأسماء اللازمة للنداء، فإنها تقبل الإسناد بنظير" وهذا مجاز، لم تقبل هي إسنادًا لا بنفسها ولا بنظير، إنما نظيرها هو الذي قبل الإسناد، فلا ينسب الإسناد إليها يوجه، إنما ينسب إلى نظيرها وقد عدل المصنف في حد الحرف عما حده به النحويون إلى هذا الذي اختاره، كما فعل في حد الاسم وحد الفعل. وأحسن ما قيل في حد الحرف: "الحرف كلمة دالةً على معنى في غيرها فقط". فقولنا: " كلمه" جنس يشمل الاسم والفعل والحرف, وقولنا: "دالةً على معنى في غيرها" احتراز من الاسم والفعل. وقولنا: "فقط" احتراز من أسماء الشرط والاستفهام، فإنها تدل على معنى في غيرها، لكنها مع ذلك تدل على معنى في نفسها. وقد اختلف النحويون في تفسير معنى قولهم: "إن الحرف يدل على معنى في غيره". ويحتاج ذلك إلى دقيق فكر ونظر، فإن قولك كأن ولعل، كل منهما إذا ذكر للعالم بالوضع فهم من كأن التشبيه، ومنس لعل الترجي. وكذلك هل، يفهم منه الاستفهام، وذلك كفهمه من ضرب الفعل الماضي، ومن الكشح أن معناه الحصر، فيحتاج إلى مميز واضح يميز دلالة الحرف من دلالة الاسم والفعل. وحصر المتأخرون، معاني الحروف، فإن منها ما يدل على معنى في الاسم خاصةً، كلام التعريف وحرف النداء، أو في الفعل خاصةً كالسين ونون التوكيد، أو للربط بين اسمين كحرف العطف، أو بين فعلين كحرف العطف وإن الشرطيةً، أو بين جملتين كحرف العطف، أو بين

فعل واسم كحرف الجر، أو لقلب معني جملة تامة ك ((ما)) النافية وهل وهلا، أو لتأكيده نحو إن، أو لزيادة معني في آخر الاسم كألف الندبة والتعجب، أو للإنكار، أو علي آخر الكلمة للتذكر، أو للزيادة المحضة كما في قوله: (فبما رحمة)، أو للجواب ك ((نعم)) و ((لا))، أو لاستفتاح نحو ألا وأما، وللتنبيه نحو ((ها))، وللجواب نحو الفاء في جواب الشرط، ولا واللام في جواب القسم، وللتفسير نحو أي، وللخطاب كالكاف في ذلك وأرأيتك. -[ص: ويعتبر الاسم بندائه، وتنوينه في غير روى، وبتعريفه، وصلاحيته بلا تأويل لإخبار عنه، أو إضافة إليه، أو عود ضمير عليه، أو إبدال اسم صريح منه، وبالإخبار به مع مباشرة الفعل، وبموافقة ثابت الاسمية في لفظ أو معني دون معارض.]- ش: لما بين الاسم والفعل بالحد أراد أن يزيد في البيان، فأخذ يذكر أشياء مما لا يكون إلا في الاسم، وسيذكر ما لا يكون إلا في الفعل. فذكر مما يعتبر به الاسم النداء، وهو أجود من قولهم حرف النداء، لأن ((يا)) قد / تدخل علي الفعل والحرف، نحو: يا حبذا زيد، {يَا لَيْتَنِي كُنتُ مَعَهُمْ}، والنداء يكون فيما لا دليل له علي أسمية إلا النداء نحو يا مكرمان، ويا فل، لأن هذين يختصان بالنداء. قال المصنف: ((واعتبار صحة النداء بأيا وهيا وأي أولي من اعتبارها ب ((يا))، لأن ((يا)) قد كثرت مباشرتها الفعل والحرف نحو: يا حبذا، ويا

ليتني. وإنما اختص الاسم بالنداء لأن المنادي مفعول في المعني، والمفعولية لا يليق إلا بالاسم انتهي. أما ما ذكر من اعتبار صحة النداء بأيا وهيا وأي فليس بجيد، لأن هذه الحروف يقل النداء بها، حتي إنها لم يجئ شئ منها في القرآن ولا في كلام الفصحاء، إلا إن كان بعضها ورد، وإلا في الشعر، فالأولي اعتبار النداء بحرفه المشهور الذي هو ((يا)). وأما دخول ((يا)) علي الفعل والحرف فليست للنداء علي أصح القولين، وإنما هي للتنبيه، ف ((يا)) لفظ يكون للنداء ويكون لمجرد التنبيه. وأما قوله: ((لأن المنادي مفعول في المعني)) فهذا سبقه إليه الجزولي في قوله: ((المنادي مفعول في المعني، والفعل لا يكون مفعولا، فلا يكون منادي)). وظاهر هذا الكلام أن المنادي ليس بمفعول صحيح من جهة اللفظ والمعني. وهذه مسألة خلاف: ذهب الكوفيون - وتبعهم السيرافي وابن كيسان وابن الطراوة - إلي أن المنادي مفعول من جهة المعني فقط. وذهب س والجمهور من البصريين إلي أنه مفعول صحيح من جهة للفظ والمعني. وسيأتي الاستدلال علي ذلك إن شاء الله في باب النداء.

فإن كان المصنف - رحمه - الله وافق الكوفيين هنا فهو فاسد علي ما يبين في النداء إن شاء الله. وأيضا يكون قد ناقض كلامه في باب النداء، قال: (المنادي منصوب لفظا أو تقديرًا بأنادي لازم الإضمار) انتهي. وما سبيله هكذا فهو مفعول صحيح من جهة اللفظ والمعني. وإن كان المصنف هنا وافق س فيكون قد أساء العبارة حيث خصص جانب المفعولية بالمعني دون اللفظ. وقول من قال: ((يختص بالنداء)) أو ((يعتبر بالنداء)) ليس بجيد، لأن المنادي نوع ما من المفعول، فلو قيل: ((يختص أو يعتبر بكونه مفعولا)) لكان أعم، إذ يدخل تحته المنادي وغيره، والمفعولية من خصائص الأسماء. وقوله: وتنوينه قد تكلم المصنف عن التنوين وعلي أقسامه في فصل آخر باب نوني التوكيد، فأغني ذلك عن ذكره وذكر أقسامه هنا. وقوله في غير روى احتزاز من أن يكون التنوين في روى، فإنه إذ ذاك لا يعتبر به الاسم لوجوده في الاسم والفعل والحرف، وقد تكلمنا علي ذلك في مكانه من فصل التنوين، فلا حاجة لذكره هنا. وقوله: وبتعريفه يشمل أنواع التعريف، سواء أكان بأداة كالألف واللام، أو بإضافة نحو معاذ الله، وويح زيد، وكذلك تعريف الإضمار والعلمية والإشارة. وهذا أحسن من قول من قال: ((ينفرد الاسم بدخول الألف واللام عليه)) وكان ينبغي إذ عمم التعريف هنا أن يعمم المفعولية عوض ذكره

النداء، فكان يقول: ويعتبر الاسم بكونه مفعولاً. وقوله: وصلاحيته/ بلا تأويل لإخبارٍ عنه أو إضافة إليه مثال ذلك: زيد قائم، وغلام زيد. واحترز بقوله: ((بلا تأويل)) مما صلح لإخبار ولإضافة وليس باسم, لكنه في تأويل الاسم، نحو قوله تعالي: {سَوَآءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ} وقوله: {وَأَن تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ} وقوله: {وَيَومَ نُسَيِّرُ الجِبَالَ}، تقديره: سواء عليكم دعاؤكم، وصومكم خير لكم، ويوم تسيير الجبال، فقال: ((بلا تأويل)) لأن ذلك مختص بالاسم، وأما إذا كان بتأويل فيوجد في غير الاسم. وكذلك قولهم: ((تسمع بالمعيدي خير من أن تراه)) أي: أن تسمع، بمعنى: سمعُك بالمعيدي. وذهب بعض النحويين إلى أن الفعل قد يجوز الإخبار عنه، واستدل على ذلك بقول بعض العرب ((تسمع بالمعيدي خير من أن تراه))، فأخبر بقوله: ((خير)) عن «تسمع» وهو فعل. وبقوله تعالى: {ثُمَّ بَدَا لَهُم مِّن بَعْدِ مَارَأَوُا الأَيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ} ففاعل (بدا) (ليسجننه) وهو فعل. وبقوله

تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ البَرْقَ}، فـ ((من آياته)) خبر لـ ((يريكم))، وهو فعل، قالوا: لأن المعنى: ومن آياته رؤيتكم البرق. وبقول الشاعر: وما راعني إلا يسير بشرطة ... وعهدي به قينا يفش بكير والصحيح أن الفعل لا يخبر عنه، وظاهر ما استدلوا به الإخبار عن الجملة لا عن الفعل وحده. وظاهر كلام المصنف - رحمه الله - أن الإخبار إذا كان بتأويل يجوز في غير الاسم. وقد مَثَّل هو بما هو في تأويل الاسم مما هو مقرون بحرف مصدري نحو {وَأَن تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ}، ومما هو جملة نحو {سَوَآءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوُهُمْ}. أما ما كان بحرف مصدري فلا نزاع فيه. وأما الإخبار عن الجملة فثلاثة مذاهب: أحدها: أنه لا يجوز ذلك، وإليه ذهب المبرد والفارسي وجمهور البصريين، وصححه بعض أصحابنا.

الثاني: أنه يجوز، وإليه ذهب هشام وثعلب وجماعة من الكوفيين، وأجازوا: يعجبني يقوم زيد، وظهر لي أقام زيد أم عمر. واستدلوا بتلك الدلائل التي سبقت. والثالث: مذهب الفراء وجماعة من النحويين، وهو التفصيل فأجازوا ذلك إذا كانت الجملة في موضع فاعل أو مفعول لم يسم فاعله لفعل من أفعال القلوب والفعل معلق عنها، نحو: ظهر لي أقام زيد أم عمرو، وعلم أقام عبد الله أم بكر. ولا يجيزون: يسرني يخرج عبد الله، فإن جاء ما ظاهره ذلك تأولوه. وقد نسب هذا القول إلي س، وكلام س محتمل. وتأول من منع الإخبار عن الجملة ما ورد مما ظاهره ذلك، فتأولوا (تسمع بالمعيدي)، (وما راعني إلا يسير) علي إرادة أن، التقدير: أن تسمع، وأن تسير، فلما حذف ارتفع الفعل، كقوله: ألا أيهذا الزاجري أحضر الوغي .............. في رواية من رفع. وأولوا (ثم بدا لهم) علي أن الفاعل ضمير يعود علي المصدر المفهوم من الفعل، أي: البداء، كما قال:

لعلك - والموعود حق لقاؤه - بدا لك في تلك القلوص بداء. ونظير ذلك قوله: إذا اكتحلت عيني بعينك مسها ... بخير، وجلي غمرة من فؤاديا /أي: مسها الاكتحال. ويكون (ليسجننه) إذ ذاك جملة مفسرة لذلك الضمير، فلا موضع لها من الإعراب، والعرب قد تفسر المفرد بالجملة، كقوله تعالي: {كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ}. أو في موضع المفعول بفعل مضمر، تقديره: قالوا ليسجننه. أو جوابا لـ (بدا)، لأن أفعال القلوب تضمنها العرب معني القسم، فتتلقي بما يتلقي به القسم. والأحسن عندي أن يكون فاعل (بدا) ضميرا يعود علي المصدر المنسبك من قوله: (إلا أن يسجن)، أو علي المصدر المفهوم من قوله: (لَيُسْجَنَنَّ) ن أو علي المصدر الدال عليه السجن في قوله: {قَالَ رَبِّ السِجْنُ أَحَبَُ إِلَيَّ}، فالتقدير علي هذه الاحتمالات: ثم بدا لهم من بعد ما رأوا الآيات هو، أي: سجنه مقسمين ليسجننه. وأما {ومِن آياتِهِ يُريكُمُ البَرْقَ} فالجار والمجرور متعلق بـ (يريكم)، أي: يريكم البرق من آياته. وقوله: أو عود ضمير عليه مثال ذلك قوله تعالي {وقَالُوا مَهْمَا تَأتِنَا بِهِ

مِنْ آيَةٍ}، وقولهم: ما أحسن زيدًا! فـ ((مهما)) اسم، و (ما) اسم، يعود الضمير في (به) علي (مهما)، وفي أحسن علي (ما)، وقد ذكرنا خلاف بعض النحويين في (مهما) وزعمه أنها حرف في باب عوامل الجزم. وقوله: أو إبدال اسم صريح منه مثال ذلك: كيف أنت أصحيح أم سقيم؟ ف (كيف) اسم لإبدال اسم منها، وهو بدل علي سبيل التفصيل، ولا يبدل اسم إلا من اسم. وذكر المصنف - رحمه الله - هنا أنه إذا أبدل اسم من اسم الاستفهام وجب أن يقترن بالاسم همزة الاستفهام، وكثر المثل في ذلك. ولا حاجة لذكر هذا هنا، إذ قد ذكر ذلك في باب البدل، قال فيه: (ويقرن البدل بهمزة الاستفهام إن تضمن متبوعه معناها). وقوله: وبالإخبار به مع مباشرة الفعل مثال ذلك: كيف كنت؟ والقيام إذا خرجت، ف (كيف) و (إذا) اسمان لأن الإخبار بهما ينفي أن يكون حرفين، لأن الحرف لا يخبر به، و (مباشرة الفعل) تنفي أن يكونا فعلين، فتعينا أن يكونا اسمين. وقوله: وبموافقة ثابت الاسمية في لفظ يعني بذلك أن يوافق في وزن يخص الاسم، نحو وشكان وبطان، إذ لا يوجد فعل علي هذا الوزن. قال المصنف - رحمه الله - في الشرح: ((وانتفت الحرفية بكونهما عمدتين، والحرف لا يكون إلا فضلة)) انتهي. ولا أدري ما معني قوله في وشكان وبطان إنهما عمدتان، وقد تقرر أن العمدة في الاصطلاح هو ما كان مرفوعا كالمبتدأ والفاعل، ولا يصح ذلك في وشكان وبطان لأنه لم يذهب أحد إلى

أنهما في موضع رفع، ومن ذهب إلي أن لأسماء الأفعال موضعا من الإعراب فإنما ذهب إلي أنه نصب، وهذا الذي ذكره من اسمية وشكان وبطان ونحوهما من أسماء الأفعال هو علي مذهب البصريين، وأما الكوفيون فإن ذلك عندهم من قبيل الأفعال، وإن خالفت أوزان الأفعال سواها. وهذا مذكور في شرح باب أسماء الأفعال والأصوات من هذا الكتاب. وإن عني المصنف بالعمدة هنا أنها أحد ركني الإسناد فهو محتمل، لكنه ليس المصطلح، ويلزم منه أن يسمي (قام) من قولك: (قام زيد) عمدة. ويبين أنه أراد هذا - والله أعلم -/ قوله: (والحرف لا يكون إلا فضلة). وقوله: أو معني مثاله (قد) بمعني (حسب)، تقول: قدك درهم، وقط زيد درهم، فهذه قد وافقت حسبا في المعني، وحسب ثابت الاسمية، ف (قد) اسم لذلك، ألا تري أنها أضيفت لما بعدها، والإضافة أيضا بلا تأويل من خواص الاسم. وقوله: بلا معارض احتراز من واو المصاحبة، فإنها بمعني مع، ولا يقال فيها إنها اسم. وكذلك (من) التبعيضية، تقع في بعض المواضع موقع (بعض). لكن واو المصاحبة وقعت صدرا، والاسم الذي هو على حرف

واحد لا يقع صدرا، إنما يكون متصلا بآخر كلمة كتاء الضمير في نحو قمت ويائه في نحو غلامي، وإنما يقع صدرا مما هو علي حرف واحد الحروف كلام الجر وبائه وواو العطف، فلو حكمنا علي واو المصاحبة بالاسمية لخرجت بذلك عن النظير. وكذلك (من) التبعيضية إذا وقعت بعد (إن) كانت هي ومجرورها في موضع خبر (إن)، وما بعدها ينتصب علي أنه اسم (إن)، وإذا وقعت (بعض) كانت هي اسم (إن)، وما بعد (بعض) هو الخبر، فهذا الذي عارض في من، وهو أنه ينعكس الإسناد فيها مع (بعض)، ففي واو المصاحبة عارض عدم النظير, وفي (من) عارض انعكاس الإسناد، فلذلك كانا حرفين، لأنهما - وإن وافقا من حيث المعني ما ثبتت أسميته - فلم يسلما من هذا المعارض الذي ذكرناه. قال المصنف رحمه الله: ((والعلامات اللفظية مرجحة علي العلامات المعنوية، ولذلك حكم علي وشكان وبطآن بالاسمية مع موافقتها في المعني لوشك وبطؤ، وحكم علي (عسي) بالفعلية لاتصالها بضمير الرفع البارز وتاء التأنيث الساكنة، مع موافقتها لعل في المعني)) انتهي كلامه. -[ص: وهو لعين أو معني، اسما أو وصفا.]- ش: الضمير في وهو عائد علي الاسم. ولما فرغ من علاماته التي اختار ذكرها قسمه إلي عين وإلي معني. ويعني بالعين ما كان اسما لذات من الذوات، ولا يدل علي قيد نحو رجل وفرس. ويعني بالمعني ما دل علي غير ذات بلا قيد فيه نحو علم وقيام. فإن دل علي قيد في الذات أو في المعني فهو وصف كعالم وغامض، فعالم وصف لذات، وغامض وصف للمعني، وقد يكون الوصف صالحا للذات وللمعني نحو نافع وضار،

فإنك تقول: رجل نافع, وعلم نافع. ويصلح للعين وللمعني بعض أسماء الضمائر وبعض أسماء الإشارة وبعض الموصولات, نحو: هو وهذا والذي, وبعضها قد يختص بالعين, نحو: هم وهنا والذين. وهذا التقسيم في الاسم إلي العين والمعني هو تقسيم أبي علي في ((الإيضاح)) , وقد اعترضه ابن ملكون بأن العين تطلق علي المعني, قال تعالي: {عِلْمَ اليَقِينِ} , وقال عليه السلام: ((فذلك عين الربا)) , وقال الشاعر: هذا - لعمركم - الصغار بعينه لا أم لي إن كان ذاك ولا أب وهذا ليس بشيء لأن العين مشترك يقع علي الشخص وبمعني الحقيقة, فيكون للشخص وغيره, وهو الواقع في التوكيد نحو عرفت زيدا عينه, وعرفت الحق عينه, وهذا كوقوعه علي ينبوع الماء,/ وعلي الدينار, وعلي السحاب والمطر, وغير ذلك, فمراد المصنف هنا إنما هو الشخص, ولذلك

جعل قسيمه المعنى. وقوله: اسما أو صفة أطلق الاسم ويريد به قسيم الصفة, والاسم المقسم هو قسيم الفعل والحرف, فهما معنيان مختلفان, ولولا الاختلاف في المدلول لما صح أن يقول: الاسم ينقسم إلي اسم وصفة, وقد أطلق النحويون حين حدوا الاسم أنه يدل علي معني في نفسه, فهذا اصطلاح آخر؛ إذ تحت قولهم: ((علي معني في نفسه)) أنه يدل علي عين ومعني, فالمعني الذي في الحد أعم من المعني الذي هو قسيم العين, إذ يطلق علي العين وقسيمه الذي هو المعني, فقد صار في ((المعني)) اصطلاحان كما صار في ((الاسم)) اصطلاحان. وقد قسم بعضهم الاسم إلي فاروق ومفارق ومضاف ومقتض ومشتق, فالفارق نحو رجل وفرس, والمفارق نحو طفل, والمضاف نحو كل وبعض, والمقتضي نحو الشريك والخصم, والمشتق قسمه إلي قسمين: مبني علي فعل نحو كاتب, وغير مبني عليه نحو قولنا الرحمن, هو مشتق من الرحمة, وليس مبنيا عليه. وقال أيضا: ((يسمي الشيئان المختلفان بالاسمين المختلفين, والأشياء الكثيرة بالاسم الواحد, والشيء الواحد بالأسماء المختلفة, نحو السيف والمهند والحسام)). قال: ((والذي نقوله في هذا أن الاسم واحد, وهو ((السيف)) , وما بعده من الألقاب صفات. وقد خالف في ذلك قوم,

فزعموا أنها وإن اختلفت ألفاظها فإنها ترجع إلي معني واحد. وقال آخرون: ليس منها اسم ولا صفة إلا ومعناه غير معني آخر. قالوا: وكذلك الأفعال نحو مضي وذهب وانطلق. وهو مذهب أبي العباس ثعلب. ويسمي المتضادان باسم واحد نحو الجون للأسود والجنون للأبيض. وأنكر ناس هذا المذهب)) انتهي ما لخص من كلامه. وهذا الذي قاله هو المصطلح عليه في علم المنطق وغيره بالمتباين والمترادف والمشترك, وقد ذكر هذه س رحمه الله في أوائل كتابه في ((هذا باب اللفظ للمعاني)). وزعم بعض النحويين أنه ليس في كلام العرب لفظ مشترك لا يعبر عن معناه إلا به, بل ما وجد من المشترك وجد لكل معني من معانيه لفظ يخصه, فالجون يخص أحد معنييه الأسود, والآخر يخصه الأبيض. قال: إلا رائحة, فهي لفظ مشترك, ولا يخص أحد معانيها إلا بالإضافة, نحو رائحة المسك ورائحة البول. وهذا الذي إليه في ((رائحة)) علي تسليم الاشتراك غير صحيح لأن الروائح تنقسم إلي قسمين: طيبة, وغير طيبة, فالطيبة عبرت العرب عنها بالأرج والعرف والتضوع, وغير الطيبة عبر عنها بالنتن والدفر, فقد صار لهذين المعنيين ألفاظ تخصها, وأما ((رائحة)) فإنها في الحقيقة لفظ متواطئ وضع لمطلق ما يشم من طيب وغير طيب, فإذا قلت شممت رائحة لم يدل علي التقييد, وهكذا شأن شأن المطلقات, فلا تدل علي التقييد إلا بما وضع للتقييد كالإضافة, نحو رائحة المسك ورائحة البول, أو بالصفة نحو: رائحة مسكية, أو بالألف واللام/ إن دلت على

معهود, فليست ((رائحة)) علي هذا من المشترك, بل هي من المتواطئ. وإنما أوردنا الكلام في هذا النوع لنبين أن النحويين تكلموا في وضع الألفاظ للمعاني قبل ظهور علم المنطق في الملة الإسلامية وتقسيمهم ما قسموا, وأن علم النحو ليس خاصا بعلم الألفاظ, بل هو نظر في الألفاظ وفي المعاني التي دلت عليها الألفاظ حالة إفرادها وحالة تركيبها, لا كما يظن بعض الجهلة باللسان من أن علم النحو مختص بالألفاظ, حتى حكي لي عن بعض من له اشتغال بالتعليقات أنه قال: النحاة فلاحو أهل علم الأصول. ولو كان له اطلاع وبصيرة بعلم النحو لعلم أن معظم علم الأصول بعض من علم النحو. وقد قسم النحويين الاسم بحسب معناه إلي جوهر كالحيوان, وعرض كالحركة, ومحسوس كالأرض والسواد, ومعقول كالعلم, ومفيد كالإنسان, ولقب كزيد, وتام كالجسم, وناقص كالذي وإذ. -[ص: ويعتبر الفعل بتاء التأنيث الساكنة, ونون التوكيد الشائع, ولزومه مع باء المتكلم نون الوقاية, وباتصاله بضمير الرفع البارز.]- ش: الفعل يشمل المتصرف نحو: قامت هند, والجامد نحو: ليست هند قائمة. وسواء أكانت التاء تلحق لتأنيث الفاعل الشخصي أو الجنسي نحو: نعمت المرأة هند, أو المجازي نحو: بئست المدينة هذه. وقال المصنف في الشرح: ((إنها تميز الفعل متصرفا كان أو غير متصرف ما لم يكن أفعل التعجب)) وهذه عبارة قاصرة, وكان ينبغي أن يقول: ((ما لم يلزم تذكير فاعله)) لتدخل فيه أفعال الاستثناء نحو ما عدا وما خلا وحاشا وليس.

وقوله: ونون التوكيد الشائع تلحق المضارع والأمر علي ما أحكم في بابه. وقد تلحق الماضي اللفظ المستقبل المعني, نحو قول الشاعر: دامن سعدك إن رحمت متيما لولاك لم يك للصبابة جانحا ونحو ما روي في الحديث ((فإنما أدركن واحد منكم الدجال)). فـ ((دامن)) دعاء, والدعاء مستقبل, و ((أدركن)) دخلت عليه إن الشرطية, وهي تخلص الماضي للاستقبال. وقد لحقت أفعل في التعجب, أنشد يعقوب في كتاب ((الألفاظ)) له: ومستبدل من بعد غضبي صريمة فأحر به بطول فقر وأحريا غضبي: علم لمائة من الإبل. واحترز بقوله: الشائع من لحاقها اسم الفاعل علي جهة الشذوذ, نحو قوله أنشده أبو الفتح: أريت إن جاءت به أملودا مرجلا ويلبس البرودا

أقائلن أحضروا الشهودا وقوله: ولزومه مع ياء المتكلم نون الوقاية مثال ذلك ضربني يضربني اضربني. قال المصنف في الشرح: ((فإن كان اتصالها غير لازم لم يستدل به علي الفعلية؛ لأنها تلحق علي سبيل الجواز فعلا وغير فعل, ولا تلحق علي سبيل اللزوم إلا فعلا, وسيأتي بيان ذلك في المضمرات)) انتهي كلامه. وهو مدخول/ لأنا قد وجدنا نون الوقاية تلزم في غير الفعل مع ياء المتكلم, ووجدنا فعلا تتصل به ياء المتكلم, ولا تلزم معه النون, فمثال الأول قولهم: عليكي, ولا يجوز: عليكي, فهذه النون لزمت اسم الفعل في هذا ونحوه. ومثال الثاني فعل التعجب, فإنه نقل أنه لا تلزم نون الوقاية فيه, فتقول: ما أحسنني! وما أكرمني! وهو الأكثر, وما أحسني! وما أكرمي! وعلي هذا الوجه بني بعض الأدباء, فقال: يا حسنة إذ قال ما أحسني ويا لذاك اللفظ ما أعذبه وقوله: وباتصاله بضمير الرفع البارز مثال ذلك ضربت واضربا ويضربون. وبهذا وتاء التأنيث يتميز الفعل من اسم الفعل. وخض ضمير الرفع لأن ضمير النصب يوجد في غير الفعل, وخص البارز لأن المستكن يوجد في غير الفعل, نحو الصفة واسم الفعل.

-[ص: وأقسامه: ماض, وأمر, ومضارع.]- ش: أما تسمية الماضي ماضيا والأمر أمرا فواضحة, وأما المضارع فهو في اللغة المشابه, يقال: فلان يضارع الأسد, أي: يشابهه, ولما شابه الاسم سمي مضارعا, كأنه رضع معه ضرعا واحدا, فالمضارعة من لفظ الضرع. وزعم ابن عصفور أن المضارعة مقلوبة من المضارعة. ولا ضرورة تدعو إلي دعوي القلب لأن اللفظ إذا وجد كامل التصرف فلا يدعي فيه القلب, وأنت تقول: ضارع يضارع مضارعة وهو مضارع ومضارع. وهذه القسمة بالنظر إلي الصيغ لا بالنظر إلي الزمان, وهي قسمته الأولي, لأن بها تميز المبني من المعرب, والمبهم والخاص, وهذه القسمة تقتضي أن كل واحد قسم من فعل, ونسبة كل واحد منها إلي الفعل نسبة واحدة. وعند الكوفيين أن الأمر مقتطع من المضارع, فإذا تكون القسمة ثنائية. وقد زعم بعضهم أن الأصل في الأفعال هو الماضي؛ لأن المضارع تلحقه زوائد علي الماضي,، والأمر قد تلحقه في بعض، فدل ذلك علي أن الماضي هو الأصل. واتبع المصنف س في البداءة بالماضي ثم الأمر ثم المضارع، حيث قال: ((فبنيت لما مضي، ولما يكون ولم يقع، ولما هو كائن لم ينقطع)). وذكر المصنف في شرحه محسنات لترتيب ذكر س لهذا الأفعال على ما ذكر، يوقف عليها منه. والذي يقتضيه الترتيب الوجودي أن يبدأ بالأمر الدال بوضعه على

الاستقبال، ثم بالمضارع لأنه علي ما يقرر يكون للحال ويكون للاستقبال، ثم بالماضي لأنه منتهي الفعل، إذ الفعل يكون معدوما غير مسبوق بوجود، ثم يصير موجودا، ثم يصير معدوما مسبوقا بوجود، ولذلك كان الأمر في كثير من اللغات غير العربية هو الأصل، إذ هو المجرد في تلك اللغات وغيره مزيد فيه علي ما يدل علي كونه ماضيا أو حالًا. والفعل ينقسم بانقسامات غير هذا، منها انقسامه إلي الزمان، وإلي التعدي واللزوم, وإلي التصرف والجمود، وإلي التمام والنقصان، وإلي الخاص والمشترك/، وإلي المفرد والمركب. وفي علم التصريف إلي صحيح ومهموز ومثال وأجوف ولفيف ومنقوص ومضاعف، وغير ذلك من الانقسامات. وقال بعض المصنفين: ((إنه ينقسم إلي معلم وساذج)). قال: ((أما المعلم فالماضي إذا كان مصوغا للمؤنث الغائب مفردا أو مثني، وجميع أصناف المستقبل وما يجري مجراه، أعني النهي. فالعلامات هي التاء في آخر الماضي للمؤنث، وفي أول المستقبل لمن يتوجه إليه الخطاب، سواء أكان واحدا أم كثيرا، مذكرا أم مؤنثا، وللغائب المؤنث مفردا أو مثني. والياء للغيبة مع التذكير كيف اجتمعا، ومع التأنيث مع الجمع، ومع الهمزة للمتكلم. والنون له مع غيره. ثم ما سوى هذه الحروف التي يبني معها الفعل فضمائر إن ميزت فبالعرض، وأما قولهم أكلوني البراغيث فالوجه فيه الإبدال)) انتهي كلامه. ص: فيميز الماضي التاء المذكورة، والأمر معناه ونون التوكيد، والمضارع افتتاحه بهمزة للمتكلم مفردا، أو بنون له عظيما أو مشاركا، أو بتاء

للمخاطب مطلقا، وللغائبة والغائبتين، أو للمذكر الغائب مطلقا والغائبات. ش: لما قسم الفعل بالنسبة إلي تباين الصيغ، وذكر ما يعتبر به الفعل، أخذ يذكر ما تتميز به كل صيغة منها، فبدأ بخاصة الصيغة التي بدأ بها أولا، وهي صيغة الماضي، وتلك الخاصة هي تاء التأنيث الساكنة، وأحال بقوله: ((المذكورة)) عليها، إذ لو لم يقل ((المذكورة)) لورد عليه مثل تاء ((قائمة))، فإنه يصدق عليها أنها تاء التأنيث، لكنها تتحرك بحركة الإعراب، ولا يعترض بها في حالة الوقف علي لغة من يقف عليها ((قائمت)) بالتاء ساكنة لأن الوقف أمر عارض، فلا يعتد به، وتلك لغة لا تعادل الوقوف عليها بالهاء، فلا يعتد بها أيضا. وقوله الماضي يشمل المتصرف والجامد, نحو: ضربت ونعمت وبئست. وعلل المصنف في شرعه كونها لم تدخل فعل الأمر ولا المضارع, فقال: ((للاستغناء عنها بياء المخاطبة, نحو: افعلي, وللاستغناء عنها بتاء المضارعة نحو: هي تفعل, ولأنها ساكنة, فالمضارع يسكن في الجزم, فلو لحقته التقي فيه ساكنان)). وهذه التعاليل هي تعاليل لخصوصيات وضعية, فلا حاجة إليها. وقال في فتح ما قبل التاء: ((إنه لما كان ذلك في الاسم نحو قائمة, كان ذلك في الفعل, وبلحاق هذه التاء يتميز الفعل الماضي من اسم فعله نحو افترق وشتان)). وقوله: والأمر معناه ونون التوكيد أي: ويميز الأمر. ولما كان معني الأمر مشتركا بين فعل الأمر والاسم بمعناه, وكانت نون التوكيد مشتركة بين فعل الأمر والمضارع, وكان مجموع الأمرين خاصا بفعل الأمر, ذكر أنه يتميز به.

وقوله: والمضارع افتتاحه بهمزة للمتكلم مفردا مثاله أضرب, واحترز بقوله: ((للمتكلم)) من نحو أكرم ماضيا, فإنه مفتتح بهمزة, لكنها ليست للمتكلم. وفي عبارة المصنف إبهام وعدم إفصاح بالمعني, وذلك أن قوله: ((للمتكلم)) إما أن يكون متعلقا بقوله: ((افتتاحه)) , أي: افتتاح/ المضارع للمتكلم بهمزة, والمصدر الذي هو ((افتتاحه)) إما أن يكون فاعله المحذوف المتكلم أو غيره, فإن كان المتكلم صار المعني: ويميز المضارع أن يفتتحه المتكلم لمن تكلم بهمزة, وهذا تركيب لا يؤدي معني المضارع الذي هو أضرب. وإن كان غير المتكلم صار المعني: ويميز المضارع أن يفتتحه غير المتكلم لمن تكلم بهمزة, وهذا غير صحيح. وإن كان ((للمتكلم)) متعلقا بغير ((افتتاحه)) فلم يبق إلا أن يكون في موضع الصفة لـ ((همزة)) , فيتعلق بمحذوف, أي: بهمزة كائنة للمتكلم, فالهمزة لا تكون للمتكلم إلا بمجاز فيه بعد, وهو أنه يدل عليه, ولا تدل وحدها عليه في الحقيقة, بل الفعل الذي هي فيه هو الذي يدل, وذلك أنها حرف زائد أدرج في التركيب، فصار غير متميز وحده بالدلالة علي التكلم، وباقي التركيب يدل علي شئ آخر، بل مجموع التركيب دل علي أن الفعل للمتكلم، وهذا فيه غموض، فإن النحويين يقولون في نحو الميم من مدحرج إنها تدل علي اسم الفاعل، وإذا حقق ذلك فالصحيح أن الدلالة إنما هي لمجموع الصيغة. وتحرير العبارة فيه أن يقال: ويميز المضارع أن يفتتحه المتكلم بهمزة يدل الفعل الذي هي فيه علي أن المتكلم أسنده إلي نفسه وحدة ملتبسا به، أو علي أنه سيحدثه. وقوله: مفردا احتراز من المتكلم الذي يشركه غيره في الفعل، وكان ينبغي أن يقول: ((مفردا غير معظم نفسه))، لأنه إن كان المتكلم معظما نفسه

كان مكان الهمزة النون, ولا يغني عن مراعاة هذا القيد الذي زدناه قوله بعد " أو بنون له" عظيماً أو مشاركاً" لأنه يجوز أن يكون للمعظم نفسه حالتان: حالة الهمزة, وحالة بالنون ولم ينقلوا في حالة من يعظم نفسه إلا النون, فمتى لم يعظم نفسه فالهمزة. قوله: أو بنون له عظيماً مثالا قوله تعالى: {وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ}. وانتصب "عظيماً" عل ى الحال كما انتصب "مفرداً" وهما حالان من الضمير الذي في المتكلم, والتقدير: بهمزة تكون لمن تكلم في حال الإفراد, أو بنون لمن تكلم في حال عظمته. قال بعض أصحابنا: "إنما يستعملها المعظم نفسه في الغالب لأن له أتباعاً يذهبون إلى مذهبه, ولذلك أكثر ما توجد في كلام الملوك والعلماء, هي في الحقيقة للمتكلم ومعه غيره, وقد يستعملها وحده من حيث أنزل نفسه منزلة الجماعة تعظيماً لها, فكأنها استعملت للجماعة، إلا أن ذلك مجاز, ويقل" فيها" انتهى. فعلى هذا لا يكون قول المصنف:" عظيما" قسيماً لقوه: "أو مشاركاً". وقوله: أو مشاركاً يعني به المتكلم الذي شاركه غيره في الفعل, فيقول: أنا وزيد نصنع كذا, يعني أنه هو وزيد يشتركان في هذا الفعل ويصح أن يضبط " مشاركاً" بكسر الراء وبفتحها, لأن من شاركك في شيء فقد شاركته فيه. ولا يريد بالمتكلم خصوصية المذكر, بل المؤنث في ذلك كالمذكر فتقول المرأة: أقوم وتقول: أنا وهند نصنع كذا ولا يريد بالمشارك أن يكون مفرداً بل لو شاركه أكثر من واحد كان كما شاركه واحد/ فيقول زيد: أنا والزيدون نفعل كذا, وتقول المرأة: أنا

والهندات نفعل كذا, وكذلك إذا كان المشارك مثنى وقوله: أو بتاء للمخاطب مطلقاً يعني بقوله: "مطلقا" سواء أكان مذكراً أم مؤنثاً مفردا أم مثنى أم مجموعاً نحو: أنت تقوم أنت تقومين أنتما تقومان، أنتم تقومون, أنتن تقمن, وقد يعامل جمع التكسير من المؤنث معاملة المؤنثة المفردة فتقول: يا نساء تقومين كما يقال: يا هند تقومين. وقوله: للغائبة يشمل ظاهرها ومضمرها ما كان تأنيثه حقيقة ومجازاً مثاله: هند تقوم, وهي تقوم, وتنفطر السماء, وهي تنفطر. وقوله: للغائبتين هذا على إطلاقه أيضاً فتقول: الهندان تخرجان كما قال تعالى: {وَوَجَدَ مِن دُونِهِمُ امْرَأتَيْنِ تَذُودَانِ} وكذلك في الغائبتين اللتين تأنيثهما مجازي, نحو العينان تدمعان, فإن كان ضميرا لغائبتين نحو: الهندان هما تخرجان، والعينان هما تدمعان فهل يكون ذلك بالتاء حملاً على ظاهرهما, أو بالياء حملاً على ضمير الغائبين المذكرين للاشتراك في الضمير الذي هو "هما"؟ في ذلك خلاف, وقد دارت هذه المسألة في الأندلس وسئل عنها عبد الله محمد بن أبي العافية أحد أجلاء

أصحاب الأعلم, والأستاذ أبو الحسن علي بن أحمد بن الباش واختلف قولهما، فأجاب ابن أبي العافية بما نصه:" علامة التأنيث ثابتة في المضارع الواقع خبراً عن المبتدأ ضميراً المؤنث, كما كانت تثبت في المظهر لأنه عقيبه, فيجري على ما عاقبه, فمن حيث تقول: الهندان تقومان، فمنه تقول/ هما تقومان كما أنك إذا قلت: هند تقوم, تقول: هي تقوم, ومن حيث تقول: الهندات يقمن فمنه تقول عن يقمن, فالمثنى لقربه من الواحد يحمل عليه, ويرجع حكمه إليه, فغلب فيه معنى التأنيث على لفظ الغيبة, والمجموع لما كان بعيدا عن الواحد حيث كان فيه التكسير الذي لا يسلم بناء الواحد فيه، وللاسم جموع لا تجري على آحاده, غلب لفظ الغيبة فيه على معنى التأنيث, فذكر " انتهى كلامه. وأجاب ابن الباش بما نصه:" لا أعلم في هذه المسألة سماعا من العرب ولا نصا عن أحد من النحويين, والذي يقتضيه القياس عندي أن يقال في الاثنين مع المضارع: هما يقومان, حملا على اللفظ كما يقال في

المذكرين, وفي الماضي: هما قامتا, حملاً على المعنى ودليل ذلك أن حرف المضارعة زائد للمعنى تبنى الكلمة عليه وحرف التأنيث زائد للمعنى مضموم إلى الصدر كما قاله إنه بمنزلة اسم ضم إلى اسم, فالواجب أن يجري حرف المضارعة مجرى سائر ما كان مزيداً في البناء كسائر أخواته, وكالتاء في افتعل والألف في فاعل ونحوهما, فكما يشترك المؤنث مع المذكر في قولك: أنا أفعل ونحن نفعل, وأنتما تفعلان, كذلك يشتركان في قولك: هما يفعلان، وإنما اشتركا في الضمير ليتصل المرتفع بالفعل, كما اشتركا في الضمير المنفصل العائد إليه/ ذلك الضمير المتصل وهو قولك: أنا ونحن وأنتما, فهما في الاشتراك بمنزله أنتما وما ذكر معه. وكذلك يجري الماضي مجرى المضارع إذا اتصلت به علامة الإضمار في قولك: أنا قمت, ونحن قمنا, وأنتما قمتما, لأن س قد شبه هذه العلامات بتاء افتعل, ألا ترى أن بناء قام متغير في قمت وأخواته كما تغير بناء كسب في اكتسب ولذا قال بعضهم: وفي كل حي قد خبط بنعمة ......................... كما تقول أطلب, وفحصت برجلي, كما تقول: اصطلح وفزد في فزت كما تقول ازدجر وازدان. أما التاء في قامت فبمنزلتها في قائمة فيما

ذكرنا, وبمنزلة الألف بعدها في قامتا, لأن الألف هنا لم تغير البناء كالتاء, فيجب أن يقال: هما قامتا, كما يقال: هما قائمتان وتزيد" قائمة" على " قامت" أنه يقال فيها: أنا قائمة, ونحن قائمتان ونحن قائمات وأنتما قائمتان, فيمتنع فيها الحمل على المعنى لامتناع اتصال الضمائر بها التي يتأتى اتصالها بالفعل فإنما يكون الإضمار في اسم الفاعل على حد واحد, وهو ضمير الغائب فأما قولهم في المظهر: الهندان تقومانه, فلك شبهة فيه لأن المظهر اسم مؤنث، وليس بمذكر يشترك معه المؤنث كما تقدم ذكره من الأسماء المضمرة وإذا كان المضمر للمؤنث فهو أيضاً بمنزلة المظهر, تثبت العلامات في فعله متصلة ومنفصلة, لأنه ليس له لفظ مذكر يحمل عليه, فتقول: أنتن تقمن، و؟ أنتن قمتن وهي قامت, وهن قمن, كما تقول: هند قامت والهندات قمن, وقوله تعالى: {وَوَجَدَ مِن دُونِهِمُ امْرَأتَيْنِ تَذُودَانِ}. هما مثال: الهندان تقومان، ولو ثنى ضميرهما لم يكن إلا: فوجدهما يذودان، على ما قررنا وللكلام على هذه المسألة مجال أوسع من هذا وإنما اعتمدنا النكت" انتهى كلامه. والصحيح ما ذهب إليه أبو عبد الله بن أبي العافية من أن الضمير يجري في ذلك مجرى ظاهره, فكما تقول: الهندان تخرجان بالتاء من فوق فكذلك تقول: هما تخرجان وذلك لأن الإضمار يرد الأشياء إلى أصولها, وقد وجد السماع عن العرب في ذلك بالتاء, قال عمر بن أبي ربيعة: أقص على أختي بدء حديثنا وما لي من أن تعلما متأخر لعلهما أن تبغيا لك حاجة وأن ترحبا سربا بما كنت أحصر

فقال: أن تبغيا, وأن ترحبا, بالتاء وقد تقدم لفظ "هما" وهو ضمير الأختين. وكان ينبغي للمصنف أن يزيد:" وللغائب إن حمل على مؤنث" نحو: تجيء كتابي, على معنى الصحيفة, " أو أضيف إلى مؤنث أن تلفظ بذلك المؤنث وأنت تريد المذكر" نحو: تجتمع أهل اليمامة وتذهب بعض أصابعه وقرئ {يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ} , وتنكسر صدر القناة " أو كان فيه علامة تأنيث" نحو تقدم طلحة وتعدل الخليفة وهذا قليل" أو أسند إلى ظاهر الجمع المذكر غير السالم وأردت معنى الجماعة أو إلى ضميرهم أو ضمير غائبات"، نحو: تقوم الزيود وتنكسر/ الأجذاع وتنكسر الجذوع وتخرج الرجال والرجال تخرج والنساء تخرج. فإن كان الظاهر جمع سلامة في المذكر أو ضميراً يعود عليه فمذهب البصريين أنه ولا يجوز إلا بالياء فتقول: يقوم لزيدون، والزيدون يقومون. وأجار الكوفيون: تقوم لزيدون والزيدون تقوم قياسا على جمع التكسير أما قول النابغة: قالت بنو عامر: خالوا بني أسد ... يا بؤس للجهل ضرارا لأقوام فخرج على الضرورة أو على تأويل حذف مضاف, وروعي, التقدير: قالت جماعة بني عامرا. ومحسن ذلك أن " بنون" شبيه بجمع التكسير حيث

هو جمع لم يسلم فيه بناء الواحد، إذ لو سلم لكان ابنون، فلما أشبه جمع التكسير في ذلك عومل معاملته. وإصلاح كلام المصنف أن يقول:" وللغائبة لفظاً أو بتأويل"ليشمل هذه المواضع التي ذكرنا لأن تأنيثها إنما كان بتأويل الغائبة وأنها أجريت في ذلك مجرى الغائبة. وقوله: أو بباء للمذكر الغائب مطلقاً يعني بقوله:"مطلقاً" سواء أكان مفردا أم مثنى أم مجموعا ظاهرا أم مضمرا, نحو: يقوم زيد ويقوم لزيدان ويقوم لزيدون, وزيد يقوم ولزيدان يقومان والزيدون يقومون وقد يقال: لزيدون يقوم, كما يقال: زيد يقوم, وهو قليل جداً فإن كان الجمع لغير عاقل جاز فيه ذلك أيضاً فتقول: الجذوع ينكسر. وقوله: والغائبات أطلق, ويقتضي ذلك أن الياء تكون في المضارع أسند إلى ظاهر أو مضمر عاقل أو غير عاقل, مسلم أو مكسر فتقول: يقوم الهنود {يَكَادُ السَّمَوَاتِ} ويسرع الجمال والهنود يقمن و {السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ} والجمال يسرعن والهندات يخرجن. فإن كان الظاهر جمع سلامة في المؤنث لعاقل نحو الهندات, فمذهب البصريين أنه لا يجوز إلا التاء فتقول: تقوم الهندات ولا يجوز يقوم الهندات كما لا يجوز يقوم هند قاسوا هذا الجمع على مفرده بجامع ما اشتركا فيه من سلامة الواحد فأما {يَكَادُ السَّمَوَاتِ} ونحوه فإن ذلك جائز في مفرده لكون تأنيثه مجازاً فكان ذلك في جمعه وأجاز الكوفيون يقوم الهندات قياساً لجمع السلامة على جمع التكسير. فأما

قوله: فقلت لها: فيئي, فما يستفزني ذوات العيون والبنان المخضب في رواية من رواه بالياء, فخرج على الضرورة أو رعي الموصوف المحذوف أي: فما يستفزني النساء ذوات العيون فيكون إذ ذاك قد أسند إلى جمع التكسير المؤنث نحو يقوم الهنود. وكان ينبغي للمصنف أن يزيد:" وللغائبة إن كانت مضافة إلى مذكر هي بعضه, ويجوز أن تلفظ بالمذكر وأنت تريد المؤنث" نحو: يقطع يد زيد, لأنك تقول: يقطع زيد, وأنت تريد: يد زيد. " أو كانت فصل بينها وبين الفعل بشيء" نحو: يحضر القاضي اليوم امرأة وينفعك اليوم الموعظة وسيأتي/ الكلام على هذا الفصل وإذا كان بـ"إلا" مشبعاً حيث يعرض له المصنف في باب الفاعل إن شاء الله. " أو كانت غير عاقلة إذا حملت على معنى المذكر" نحو ينفع الموعظة لأن الموعظة وعظ في المعنى. واعلم أن حركات هذه الحروف- أعني حروف المضارعة - مع الرباعي الضم, سواء أكان مجرداً نحو يدحرج أم مزيداً يضارب ومع الثلاثي وما زاد على الرباعي الفتح نحو يضرب وينطلق يستخرج, إذا كان مبنياً للفاعل وكان في هذين الفتح لأن الثلاثي كثير في كلامهم وما زاد على الرباعي ثقيل, فاختاروا الفتح للكثير والثقيل لخفة الفتح، واختاروا الضم للقليل لئلا يكثر استعمال القليل لو خففوه قاله أبو سعيد.

وقال المصنف في شرحه ما معناه: إنه ميز المضارع بافتتاحه ببعض حروف " نأتي" وإن كان له ما يتميز به كالسين وسوف ولم لن وكي لأن أحد تلك الحروف لازم لكل مضارع بخلاف السين وما ذكر, ألا ترى أن أهاء وأهلم مضارعان، ولا يقعان في كلام العرب غالباً إلا بعد لا أو لم، والهمزة لازمة لهما, نحو جواب من قيل له: هاء هلم، فيقوم: لا أهاء ولم أهاء ولا أهلم ولم أهلم, ولا تدخل السين وما ذكر معها على هذين المضارعين. وقيد تلك الحروف بما تشعر به احتراز من نحو أكرم وتكرم ونرجس الدواء ويرنا لحيته, فالهمزة والتاء والنون والياء فيها حروف زوائد لكنها لا تدل على معاني حروف المضارعة. -[ص: والأمر مستقبل أبداً والمضارع صالح له وللحال ولو نفى ب"لا" خلافاً لمن خصها بالمستقبل.]- ش: يعني أن صيغة افعل ونحوها مما هو أمر لا تستعمل إلا في الاستقبال فإذا قلت لمن هو ملتبس بالأكل: كل فإنما طلبت منه أن يستديم الأكل, ولم تطلب الأكل لأنه حاصل، الحاصل لا يطلب واستدامة الأكل مستقبلة. وقال المصنف في الشرح:" لما كان الأمر مطلوباً به حصول ما لم يحصل لزم استقباله وأيضا فالفعل يدل على الحدث والزمان المعين وكونه

أمراً أو خبراً زائد على ذلك مطلوب بقاءه إذ لا يمتاز أحد النوعين من الآخر إلا به, والاستقبال لازم للأمرية فلو انتفى بتبدله انتفت الأمرية، بخلاف الخبرية المستفادة من الماضي والمضارع فإنها لا تنتفي بتبدل المضي باستقبال ولا الاستقبال بمضي" انتهى كلامه. وقد وجدنا الفعل الدال على الخبر خرج عن الخبرية إلى غير الخبرية, ألا ترى إلى قولهم في {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ} و {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ} إنه أمر في المعنى فكذلك كان يكون الأمر يخرج من الأمرية إلى معنى الخبرية وقد خرج على ذلك قوله: {فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدّاً} أي: فيمد وقول الشاعر: وكوني بالمكارم ذكريني ................. أي تذكريني ومقتضى تعليله أن كلا من الأمر والخبر لا يخرج عن بابه, إذ لا يتميز أحدهما من الآخر إلا بكونه أمراً أو خبراً وقد بينا أن كلا منهما/ خرج عن بابه, والمرجوع في هذا إلى وضع العرب واستعمالها، فلو استعملت صيغة الأمر في الخبر الذي صيغته ليست مستقبلة بقرينة تدل على ذلك لصاغ لها, كما استعملت صيغة الخبر الماضي في غير الخبر وغير زمانه, وذلك في الدعاء في نحو: غفر الله لك, إنه خرج عن الخبر وعن الزمان الماضي بقرينة استعماله في الدعاء فكذلك كان يسوغ استعمال صيغة الأمر في غير الأمر وفي غير زمانه, وهو الاستقبال لقرينة تدل على ذلك

وقوله: "بخلاف الخبرية المستفادة من الماضي" إلى آخر كلامه، قد بينا أن الخبرية انتفت بتبدل المضي بالاستقبال في الدعاء، ففسد تعليله. وقال قاضي الجماعة أبو الوليد محمد بن أبي القاسم أحمد بن أبي الوليد بن رشد: "وأما الأمر والنهي فالنحويون يقولون فيه إنه فعل مستقبل نحو اضرب، اذهب، ولا تضرب، ولا تذهب، ويقولون إنه مبني السكون. وليس هو في الحقيقة فعلاً؛ لأن الأمر إنما هو استدعاء فعل، والنهي استدعاء ترك فعل، واستدعاء الفعل ليس هو فعلاً إلا مجازاً، كما أن استدعاء الخبر - وهو الاستفهام - ليس خبراً، ولكن لما اشتقوا لفظه من لفظ الفعل سموه فعلاً، ويظهر لك هذا ظهوراً بيناً في أن النهي استدعاء ترك، وترك الفعل ليس بفعل" انتهى. وقوله: والمضارع صالح له وللحال أي: صالح للاستقبال وللحال. وفي المضارع خلاف، ذهب الزجاج إلى أنه مستقبل، وأنكر أن يكون للحال صيغة؛ لأنه لقصره لا يمكن أن يعبر عنه؛ لأنك بقدر ما تنطق بحرف من حروف الفعل صار ماضياً، ولأنه لو عبر عنه في اللغة لكان له صيغة تخصه؛ لأنه ليس من موجود في كلامهم إلا وله لفظ يخصه، وقد يكون له مع ذلك لفظ يشترك فيه مع غيره" وأما أنه لا يكون لشيء لفظ يقع عليه إلا

المشترك فلا يوجد في كلامهم ذلك. ورد الأول بأن النحويين لم يعنوا بالحال الآن الفاصل بين الماضي والمستقبل، وإنما يعنون الماضي غير المنقطع، ففعل الحال ما قارن التعبير عنه وجود جزء من معناه، نحو زيد يكتب، فقارن وجود لفظه لوجود بعض الكتابة لا كلها، وعبر بلفظ يكتب لاتصال الكتابة بعضها ببعض. وقال س في المضارع المراد به الحال: "ولما هو كائن لم ينقطع". ورد الثاني بأنه قد وجد ذلك في كلامهم، وهو لفظ "رائحة"، فإنها تقع على جميع الروائح، ولا اسم لها إلا ذلك اللفظ المشترك. وما رد به ليس بشيء لأنا قد بينا قبل هذا أن "رائحة" ليست من قبيل المشترك، وإنما هي من باب المطلق، فأغنى ذلك عن إعادته. وقد استدلوا على أن يفعل للحال بأنك تقول: يقوم زيد الآن، وذلك في فصيح الكلام، ولا يجوز "سيقوم الآن" إلا قليلاً جداً على سبيل المجاز وتقريب المستقبل من الحال، كقول الشاعر. فإني لست خاذلكم، ولكن ... سأسعى الآن إذ بلغت إناها / فلو كانت "يفعل" للمستقبل ما صلح معها الآن، كما لا يصلح مع "سيفعل". وذهب ابن الطراوة إلى أن المضارع لا يكون إلا للحال حيث وقع

وقد استدل على ذلك بأن العرب لا تخبر بالمستقبل عن المبتدأ إلا إذا كان عاما أو مؤكداً بإن، نحو قوله: وكل أناس سوف تدخل بينهم ... دويهية تصفر منها الأنامل وقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدّاً} وإذا عري من عموم أو تأكيد لم يجز ذلك، لا تقول: زيد سيقوم، ويجوز: زيد يفعل، فدل على أنه حال. قال: وإذا وجد في كلامهم: زيد يقوم غداً، فمعناه: زيد ينوي أو يريد الآن قيامه غداً، كقوله: {فَإِذَا قَرَاتَ الْقُرْآنَ} أي: أردت القراءة. قال: وإنما لم تدخل العرب السين أو سوف على يفعل وتخبر به لأن الإنسان بما هو عاقل لا ينطق إلا بما يتحقق وقوعه، فإذا قال سيفعل زيد كذا فإنه لا يتحقق، فلا تقوله العرب، ولا ورد منه شيء إلا إن كان المخبر لا يخلف وعده ولا كلامه كقول الله تعالى، وكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم وذلك لتحقق ما أخبر به. ورد عليه بأن العرب قالت: زيد سيفعل، والمبتدأ بغير عموم ولا توكيد بإن قال: فلما رأته أمنا هان وجدها ... وقالت: أبونا هكذا سوف يفعل وقال:

قضوا آجالهم، ومضوا، وكانوا ... على وجه، وأنت ستلحقينا وقالت العرب: زيد يقوم غداً، وليس على معنى: ينوي الآن قيامه غداً، قال تعالى: {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَداً}، المعنى على أن النفس ليست تدري ما كسبها غداً؛ ألا ترى أنها تدري ما تنوي كسبه، فإذا المنفي الآن دراية الشيء الذي تكسبه غداً. وذهب الجمهور إلى أن المضارع يكون للحال وللاستقبال، ثم اختلفوا، فقال بعضهم: وضعه لهما هو وضع المشترك كوضع "عين"، وهذا ظاهر مذهب س أنه قال: "وأما الفعل فأمثله أخذت من لفظ أحداث الأسماء، وبنيت لما مضى، ولما يكون ولم يقع، ولما هو كائن لم ينقطع"، ثم أكد ذلك بقوله بعد "فأما بناء ما لم يقع فقولك آمراً اذهب وخبراً نذهب"، ثم قال: "وكذلك بناء ما لم ينقطع وهو كائن إذا أخبرت". فكونه ذكر أنه يبنى لهذا ولهذا دليل على الاشتراك. وكذلك قال المصنف في شرحه، قال: "ولما كان بعض مدلول المضارع المسمى حالاً مستأنف الوجود أشبه المستقبل المحض في استئناف الوجود، فاشتركا في صيغة المضارع اشتراكاً وضعياً؛ لأن إطلاقه على كل واحد منهما لا يتوقف على مسوغ من خارج، بخلاف إطلاق المضارع مراداً به المضي، وإطلاق الماضي مراداً به الاستقبال، فإن ذلك يتوقف على مسوغ من خارج، نحو: لو تقوم أمس لقمت، وإن قمت غداً قمت، فلولا "لو" و "إن" ما ساغ إعمال "تقوم" في

"أمس"، / ولا "قمت" في "غد". انتهى كلامه. وقد ناقضه بما ذكر بعد، وسنين مناقضته إن شاء الله. والقول بالاشتراك مذهب الأكثرين، وقال أبو الوليد بن رشد: "فعل المستقبل والحاضر واحد في لسان العرب، فإذا أرادوا تخليصه للاستقبال أدخلوا عليه السين أو سوف، وإذا أرادوا الحاضر قالوا: يفعل الآن، وهو اسم مبني على افتح، أعني "الآن"، وهو فصل بين الماضي والمستقبل، وليس هناك حاضر إلا بالوضع؛ لأن كل زمان منقسم، و "الآن" ليس بزمان لأنه غير منقسم، لكن الحاضر عند الجمهور هو زمان يحيط به زمان مستقبل وماض قريبان من الحاضر، فسمي ذلك الزمان باسمه لتنزله في الحس منزلة الآن في العقل" انتهى. وقال بعضهم: إنه إذا وقع على الحال كان بحق الأصلية، وإذا وقع على الاستقبال كان بحق الفرعية، وهو مذهب الفارسي، وبه قال أبو بكر بن مسعود أبو ركب من أصحابنا، ولذلك كان عند الفارسي حمله على الحال إذا عدمت القرائن أولى من حمله على الاستقبال. وقد استدل على ذلك في تذكرته بما تقرر في كلام العرب من أن اللفظ إذا صلح للقريب وللبعيد كان القريب أحق به؛ ألا ترى أن العرب تقول: زيد وأنت قمتما، فتغلب المخاطب على الغائب لأنه أقرب إلى المتكلم

منه، وتقول: أنا وأنت قمنا، فتغلب المتكلم على المخاطب لأنه أقرب، فكذلك ينبغي أن يكون "يفعل" بالحال أحق منه بالمستقبل؛ لأنه الحال أقرب من المستقبل. واستدل غيره على ذلك بأنه يخلص للاستقبال بالسين وسوف، والحروف الدالة على المعاني إنما تلحق الفروع لا الأصول، كعلامة التأنيث والتثنية والجمع والتصغير والتعريف وغير ذلك من حروف المعاني. قيل: وهذا ليس بشيء لأن "يفعل" أيضا قد يتخصص بالحرف للحال، نحو إن زيداً ليفعل، فاللام خلصته للحال كما خلصته سوف للاستقبال. وذهب بعضهم إلى عكس هذا المذهب، وهو أنه أصله المستقبل؛ لأنه أسبق الفعلين، فهو أحق بالمثال، وبنت العرب الحال على لفظه لقربه به، وأنه لم ينقض، وهو مذهب الأستاذ أبي بكر بن طاهر. ورد بأنه لا يلزم من سبق المعنى سبقية المثال، وأصل أحوال الفعل أن يكون منتظراً لم يقع، ثم يكون حاصلاً لم يمض، ثم يكون ماضياً منقطعاً. وقد ذكر أبو إسحاق أن أسبق الأمثلة مثال الماضي. واحتج باعتلال المضارع والأمر باعتلال الماضي وهذا - وإن احتمل - لا يلزم لوجود الماضي يعتل باعتلال المضارع، نحو أعديت واستعديت، ولا يشك في أن مضي الفعل آخر أحواله. وقوله: ولو نفي بلا أي: إن المضارع إذا نفي بـ "لا" صلح مع وجودها للحال وللاستقبال. وقوله: خلافاً لمن خصها بالمستقبل يعني أن "لا" إذا دخلت على

المضارع تعين أن يكون مستقبلاً. وهذا الذي اختاره المصنف هو مذهب الأخفش وأبي العباس. وذهب معظم المتأخرين - منهم الزمخشري - إلى أن "لا" تخلص المضارع للاستقبال، وهو ظاهر مذهب س، قال س: "وأما "ما"/ فهي نفي لقوله هو يفعل إذا كان في حال الفعل، فتقول: ما يفعل"، ثم قال: "وتكون "لا" نفياً لقوله يفعل ولم يقع الفعل، فتقول: لا يفعل ". ذكر ذلك في باب عدة ما يكون عليه الكلم. وقال المصنف في شرحه: "والذي غر الزمخشري وغيره من المتأخرين قول س في نفي الفعل: وإذا قال هو يفعل، أي: هو في حال فعل، فإن نفيه ما يفعل، وإذا قال هو يفعل ولم يكن الفعل واقعاً فإن نفيه لا يفعل ". قال: "فاستعمل "ما" في نفي الحال، و "لا" في نفي المستقبل، وهذا لا خلاف في جوازه". انتهى نقله عن س. قال المصنف: "وليس في عبارته - يعني س - ما يمنع من إيقاع غير "ما" موقع "ما"، ولا من إيقاع غير "لا" موقع "لا"، فقد بين في موضع آخر أن "إن" النافية مساوية لـ "ما"، فيلزم من ذلك أن تستعمل لنفي الحال كما تستعمل "ما". وبين أيضاً أن

"لن" لنفي سيفعل، فيلزم من ذلك موافقتها لـ "لا"، ولم يتعرض لذلك في باب نفي الفعل، فلا يوجب ذلك عدم جوازه، فكذلك لا يجب من تخصيص "ما" بنفي الحال امتناع نفيه بغيرها، ولكنه قصد في باب نفي الفعل التنبيه على الأولى في رأيه، والأكثر في الاستعمال". ثم قال: وقد قال س في باب عدة ما يكون عليه الكلم: "وتكون لا ضدًا لنعم". وهذا إشعار بعدم تقييدها في النفي بزمانٍ دون زمان، كما لا تتقيد نَعَمْ، لأن نعم تصديق لما قبلها ماضياً كان أو حاضراً أو مستقبلاً " انتهى كلامه. وقال المصنف أيضاً: "وهو لازم"، يعني كون المضارع إذا نفي بـ "لا" لم يتعين الحكم باستقباله. قال: "وهو لازم لـ "س" وغيره من القدماء لإجماعهم على صحة قول القائل: قاموا لا يكون زيداً، بمعنى إلا زيداً، ومعلوم أن المستثني منشاء للاستثناء، والإنشاء لابد من مقارنة معناه للفظه، ولا يكون هنا استثناء، فمعناه مقارن للفظه، فلو كان النفي بـ "لا" مخَلِّصاً لاستقبال المضارع لم تستعمل العرب "لا يكون" في الاستثناء لمباينته الاستقبال. ومثل هذا الإجماع إجماعهم على إيقاع المضارع المنفي بـ "لا" في مواضع تنافي الاستقبال، نحو: أَتَظُنُّ ذلك كائناً أم لا تظنه؟ ومالك لا تقبل؟ وأراك لا تبالي، وما شأنُك لا تُوافق؟ ومنه قول الشاعر: يرى الحاضر الشاهد المطمئنُّ ... من الأمر ما لا يرى الغائب وقال آخر: إذا حاجة ولتك لا تستطيعها ... فخذ طرفاً من غيرها حين تسبق

وقال آخر: كأن لم يكن بين إذا كان بعده ... تلاق، ولكن لا إخال تلاقيا" انتهى ما أورده المصنف مما ذكر أنه نفي بـ "لا" وليس مستقبلاً. ولا حجة في شيء منه، وذلك أن المدعى هو أن ما صلح للحال والاستقبال، ولا مرجح لأحدهما، إذا نفي بـ "لا" يتخلص للاستقبال، وهذه المواضع التي ذكرها المصنف لم يكن الفعل قبل ذلك صالحاً لهما. أما في الاستثناء فإن قوله: "لا يكون زيداً"أجري مجرى "إلا زيداً"، فجرى هذا الفعل المنفي بـ "لا" مجرى إداة الاستثناء / التي هي إلا، ولذلك أضمر في يكون اسمها مفرداً حتى لا تكثر المخالفة، فهو فعل جرى مجرى إلا، ولم يكن قبل دخول "لا" صالحاً للحال والاستقبال، فلا يورد دليلاً على المخالف. وأما "أتظن ذلك كائناً أم لا تظنه" فقد تقدم قوله: "أتظن"، وهو فعل حال، فجاء قوله: "أم لا تظنه" معادلاً لفعل الحال، فهذه قرينة صرفته عن الاستقبال إلى الحال، فلم يكن صالحاً للحال والاستقبال. وأما قوله: " ما لك لا تقبل؟ " فإن الاستفهام هو في الحال، و "لا تقبل" قيد فيه، وقيد الحال حال. وكذلك "أراك لا تبالي"، فإن "أراك" فعل حال، و "لا تبالي" قيد فيه. وكذلك "يرى الحاضر" فعل حال عامل في "ما لا يرى الغائب"، فكانت صلة "ما" حالاً لأن المعنى عليه. وأما قوله: "إذا حاجة" البيت، فحمله على الحال وهم فاحش؛ لأن "إذا" ظرف لما يستقبل، فـ "ولتك" ماض في اللفظ، وهو مستقبل في المعنى، و "لا تستطيعها" جملة

في موضع نصب على الحال، والعامل فيها "ولتك"، وهو مستقبل المعنى كما قلنا، فـ "لا تستطيعها" جملة مستقبلة، والمعنى: إذا تولى حاجة عنك غير مستطيعها - أي: غير قادر عليها - فخذ طرفاً من غيرها. فقد اتضح بهذا الذي ذكرناه أن "لا" لم تدخل على مضارع صالح للحال والاستقبال، والخلاف إنما هو في هذا. وقال المصنف: "على أن كلام س لو كان صريحاً في أن المضارع المنفي بـ "لا" لا يكون إلا مستقبلاً لم يجز الأخذ به بعد وجود الأدلة القاطعة بخلاف ذلك كما قدمنا" انتهى كلامه. وقد تكلمنا على أدلته القاطعة على زعمه وبينا أنها ليست أدلة. وانظر إلى جسارة هذا الرجل على س، وهو المستقري العربية عن العرب مشافهة أو عمن شافه العرب: وابن اللبون إذا ما لز في قرن ... لم يستطع صولة البزل القناعيس -[ص: ويترجح الحال مع التجريد.]- ش: يقول إنه إذا انتفت عنه القرائن المخلصة للحال والقرائن المخلصة للاستقبال ترجح كونه للحال. وقال المصنف في الشرح: "لما كان للماضي في الوضع صيغة تخصه، وللمستقبل صيغة تخصه، ولم يكن للحال صيغة تخصه، بل أشرك مع المستقبل في المضارع، جعلت دلالته على الحال راجحة عند تجرده من القرائن. ليكون ذلك

جابرًا لما فاته من الاختصاص بصيغة"انتهى كلامه. وكان قد تقدم لنا نقل كلامه أنهما اشتركا في صيغة المضارع اشتراكًا وضعيًا, وذكرنا أنا نبين مناقصيته, وذلك لأن المشترك بالوضع لا يكون إذا تجرد عن القرائن يحمل على أحد محامله بل يبقى مجملًا, فمن حيث ذكر أنه إذا تجرد عن القرائن لا يحمل لا على الحال ولا على الاستقبال, وقد ناقض هذا بقوله:"ويترجح الحال مع التجريد",فإن المشترك لا يترجح إذا تجرد عن القرائن حمله على أحد محامله, لكن المصنف خلط إذا ركب مذهب الفارسي في أنه في الحال أظهر على ظاهر/ مذهب س في أنه مشترك بينهما. ونقص المصنف من المرجحات للحال ما زاد غيره, ويأتي ذكره. -[ص: ويتعين عند الأكثر بمصاحبة "الآن"ي معناه, وبلام الابتداء, ونفيه بـ"ليس"و"ما"و"إن".]- ش: "الآن"ظرف زمان, وسيأتي الكلام عليه في باب الظروف, ومن جعله قرينة تخلص المضارع للحال فيعني إذا استعمل على حقيقته, وأما إذا تجوز فيه, واستعمل تقريبًا, فإنه يصلح مع المستقبل والماضي, نحو قول الله تعالى: {قَالُوا الآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ} {الآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنكُمْ} {الآنَ حَصْحَصَ الحَقُّ} {فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ} - وفعل الأمر مستقبل- {فَمَن يَسْتَمِعِ الآنَ} , وفعل الشرط مستقبل. وينبغي أن يتأول كلام المصنف في قوله:"ويتعين عند الأكثر بمصاحبة

"الآن" على أن يحمل إذا عري عما يخلصه للاستقبال, كمجئيه مع فغل الشرط، فـ"الآن"لا تخلصه للحال، وأما في مثال"يقوم زيد الآن" فهي مسألة خلاف، الأكثرون يقولون إنه متعين للحال إذ قرن بظرف الحال، وبعضهم يجيز أن يكون مستقبلًا مع "الآن". وقوله: وما في معناه هو الحين والساعة وآنفًا، تقول: يخرج زيد الحين أو الساعة، فالألف واللام فيهما للحضور، ويخرج آنفًا، فيتعين حمله على الحال. ومن أجاز أن يراد به الاستقبال مع "الآن" أجازه مع هذه الكلمات. وقوله: وبلام الابتداء يعني أنه تخلص للحال نحو: إن زيدًا ليقوم. قال المصنف."وأما لام الابتداء فمخلصة للحال عند أكثرهم، وليس كما ظنوا، بل جائز أن يراد الاستقبال بالمقرون بها، كقوله تعالى: {وإنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ} و {إنِّي لَيَحْزُنُنِي أَن تَذْهَبُوا بِهِ}، فـ"يحزنن"مقرون بلام الابتداء، وهو مستقبل لأن فاعله الذهاب، والذهاب عند نطق يعقوب-عليه السلام- بيحزن غير موجود، فلو أرد بيحزن الحال لزم سبق معنى الفعل بمعنى الفاعل في الوجود، وهو محال"انتهى كلامه. وليس ما رد به صحيحًا في الاستدلال: لأن من يقول إن لام الابتداء تخلص للحال إنما هو إذا لم يقترن بالفعل قرينه تخلصه للاستقبال، كعمله في الظرف المستقبل، وهو يوم القيامة المنصوب بقوله: (ليحكم).وقد ذكر المصنف أنه يتخلص للاستقبال إذا عمل في الظرف المستقبل نحو: أجيء

إذا جاء زيٌد، فأجيء مستقبٌل لعمله في إذا، فكذلك (ليحكم) لعمله في (يوم القيامة) إذ هو ظرف مستقبل. وأما قوله تعالى: {لَيَحْزُنُنِي أَن تَذْهَبُوا بِهِ} فلا يتعين أن يكون (ليحزنني) مستقبلًا، إذ يحتمل أن يكون في الكلام حذف مضاف، ويكون ذلك المضاف حالًا، فيكون (ليحزنني) حالًا، وتقدير: ليحزنني نيتكم أو قصدكم أن تذهبوا به، فالنية والقصد حال، وهو الفاعل بيحزن، فهو حال رفع ما هو حال، وفعل الحال لا يمتنع أن يعمل في المفعول المستقبل نحو: أنوي الآن أن أجيئك غدًا، ثم حذف المضاف، أقيم المضاف إليه مقامه، ولا يلزم من إعرابه فاعلًا في الصناعة أن لا يكون مفعولًا في المعنى بذلك المحذوف. وقوله: ونفيه بليس وما/ [وإن] فمن النفي بليس والمراد الحال قول الشاعر" فلست-وبيت الله-أرضى بمثلها ولكن من يمشي سيرضى بما ركب وبـ"ما" قوله تعالى: {ومَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي ولا بِكُمْ}. وبـ"إن" {وإنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَم بَعِيدٌ مَّا تُوعَدُونَ}. قال المصنف في الشرح: "والأكثرون على أن النفيس بليس وما وإن قرينٌة مخلصٌة للحال مانعة من إرادة الاستقبال، وليس ذلك بلازم، بل الأكثر أن يكون المنفي بها حالًا، ولا يمتنع كونه مستقبلًا، قال حسان يصف الزبير رضي الله عنهما:

وما مثله فيهم، ولا كان قبله ... وليس يكون الدهر ما دام يذبل وقال آخر: والمرء ساٍع لأمٍر ليس يدركه ... والعيش شٌح وإشفاٌق وتأميل وقال تعالى في استقبال المنفي بـ"ما"و"إن" {قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِن تِلْقَاءِ نَفْسِي إنْ أَتَّبِعُ إلاَّ مَا يُوحَى إلَيَّ}، وقال أبو ذؤيب: أودى بني، وأودعوني حسرة ... عند الرقاد، وعبرٌة ما تقلع وقال الأعشى الباهلي يمدح رسول الله صلى الله عليه وسلم: له نافلاٌت ما يغب نوالها ... وليس عطاء اليوم مانعه غدا وقال رجل من طياء: فإنك إن يعروك من أنت محسٌب ليزداد إلا كان أظفر بالنجح أي: ما ينزل بك من أحسبته بالعطاء، أي: أعطيته عطاًء كافيًا ليزداد على الكفاية إلا كان أظفر بالنجح. فالمنفي بأن هنا مستقبل لا شك في استقباله"انتهى كلامه. وحكي س في القسم: "لئن زرته ما يقبل منك"، وهذا موضع"لا".وحكي "لئن فعلا ما فعل"، وتلا {ولَئِنْ أَتَيْتَ} الآية. والذين قالوا إن هذه الأدوات تخلص للحال إنما هو إذا لم تقترن قرينة

لفظية أو معنوية تخلص للاستقبال، أما إذا اقترنت قرينة تخلصه للاستقبال فلا يقول أحد إنه تخلصه للحال. نص على هذا القيد أصحابنا، وهم الذين يقولون إن هذه تخلص للحال. وقال الأستاذ أبو علي: "ذكر س أنها لنفي الحال، وهي تنفي الماضي أيضًا، وكأنه-والله أعلم-إنما ذكر الأمر الذي تفارق فيه لم ولن، وتختص به، وهو نفي الحال"انتهى. وقد نقص المصنف من القرائن التي ذكرها أصحابنا أنها تخلص للحال: أن يعطف على الحال، أو يعطف الحال عليه، نحو: جاء زيٌد يضحك. فلم يستوف المصنف ما يخلص المضارع للحال/.وقد أهمل المصنف ما يعين المضارع للحال، وهو الإنشاء، تقول: أقسُم لأضربن عمرًا، وأحلف ما خرج زيٌد، وإذا كان يصرف الماضي إلي الحال فلأن يصرف المضارع أولى وأحرى. ولا يمكن أن يكون هذا مستقبلًا؛ لأن الإنشاء هو إيقاع معنى بلفظ يقارنه في الوجود. ص: ويتخلص للاستقبال بظرٍف مستقبل، وبإسناده إلي متوقع، وباقتضائه طلبًا أو وعدًا، أو بمصاحبة ناصٍب أو أداة ترٍج أو إشفاٍق أو مجازاٍة أو"لو"المصدرية أو نون توكيد، أو حرف تنفيس، وهو السين أو سوف أو سف أو سو أو سي.

ش: يشمل قوله: بظرٍف مستقبٍل أن يكون معمولًا للمضارع، نحو: أكرمك إذا جئت، أو مضافًا إليه، نحو: القتال إذا تقوم. ومثال إسناده إلي متوقع قوله: يهولك أن تموت، وأنت ملٍغ ... لما فيه النجاة من العذاب فـ"يهولك"مستقبل لإسناده إلي مستقبل، وهو الموت. ومثال ما تضمن طلبًا {والْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ}، أو وعدًا {يُعَذِّبُ مَن يَشَاءُ ويَرْحَمُ مَن يَشَاءُ}. ومثال مصاحبة نصاب هو أن ولن وإذن وكي في أحد قسميها، وسواء أكان الناصب ظاهرًا نحو {وأَن تَصُومُوا خَيْرٌ لَّكُمْ} أو مقدرًا نحو {لِيُبَيِّنَ لَكُمْ}. وما ذكروه من أن النواصب تخلص للاستقبال هو مذهب س. ويدل على ذلك أنه لا يجوز الجمع بينها وبين السين وسوف إذ أغنى الناصب عنهما. وذكر أبو زيد السهيلي أن بعض المتأخرين خالف س في ذلك،

وألف كتابًا، وأورد حجاجًا على زعمه. ومثال أداة الترجي قوله تعالى: {ابْنِ لِي صَرْحًا لَّعَلِّي أَبْلُغُ الأَسْبَابَ}، وقول الشاعر: فقلت: أعيراني القدوم لعلني أخط به قبرًا لأبيض ماجد ومثال أداة الإشفاق قوله: فأما كيس فنجا، ولكن ... عسى يغتر بي حمٌق لئيم والفرق بين الترجي والإشفاق مذكوٌر في باب إن. ومثال المجازاة {إن يَشَا يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ}، وسواء في ذلك ما يجزم كـ"إن"وما لا يجزم نحو"كيف"، تقول: كيف تصنع أصنع، فكيف معناها الجزاء، ولم تجزم بها العرب. ومثال لو المصدرية {يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ}، قال المصنف في الشرح: "وعلامة المصدرية أن يحسن في موضعها "أن"، واحترز بتقييدها من"لو"الدالة على امتناٍع لامتناع، فإن تلك تؤثر ضد ما تؤثر هذه" انتهى

كلامه. وأثبت المصنف لـ"لو"معنى المصدرية، أكثر النحويين لا يعرفون ذلك، وقد أمعنا الكلام على ذلك في فصل"لو"من هذا الكتاب عندما شرحنا كلام المصنف فيه، وبينا هناك أن الصحيح خلاف ما ذهب إليه المصنف. ومثال حرف التنفيس قوله: {ولَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ}.وذكر حروف التنفيس، والمشهور أنها سوف والسين، وذكر سو، وحكي الكسائي أن ناسًا من أهل الحجاز يقولون: سو تعملون/، وقال الشاعر: فإن أخلك فسو تجدون فقدي وإن أسلم يطب لكم المعاش وزعم بعضهم أن هذا من الحذف الذي جاء في الشعر، وليس بلغة. وذكر سف، وحكاها الكوفيون، وسي، قال: "وهي أغربهن، حكاه صاحب المحكم"، ولا يعرف البصريون إلا سوف والسين، لغتان ليست إحداهما من الأخرى. قال المصنف: "واتفقوا على أن أصل سف وسو وسي سوف،

وزعموا أن السين أصل برأسها غير مفرعة على سوف، لكنها منها كنون التوكيد الخفيفة من نون التوكيد الثقيلة".قال: "وهذا عندي تكلف ودعوى مجردة عن الدليل، وليس كذلك القول بأن نون التوكيد الخفيفة أصل برأسها؛ لأن الذي حمل على ذلك أنا رأينا الخفيفة تنفرد بمعاملة لا تعامل بها الثقيلة، كحذفها عند ملاقاة ساكن، نحو أن تصل قومن باليوم"، تقول: قوم اليوم، وكإبدالها ألفًا في الوقف إذا انفتح ما قبلها نحو (لنسفعًا). ولو كانت مخففة من الثقيلة لكان حذفها بعد الحذف منها إجحافًا، ولما جاز أن تبدل ألفًا؛ لأن إبدال الباقي بعد الحذف تغيير ثان، وذلك إجحاف أيضًا. فلما كان هذا القول مفضيًا إلي هذا المحذور وجب اطراحه، والقول بأن السين فرع سوف لا يفضي إلي مثل ذلك، فوجب قبوله. وأيضًا فقد أجمعنا على أن سف وسو وسي عند من أقبتها فروع سوف، فلتكن السين أيضًا فرعها؛ لأن التخصيص دون مخصص مردود. وهذا التصرف في سوف شبيٌه بالتصرف في أيمن الله، وفي حاشا، وفي أف". انتهى ما لخص من كلام المصنف في شرحه. ومحصوله أنه لم يستدل على الفرعية بشيء، واستطرد من ذلك إلي ادعاء أن النون الخفيفة ليست فرعًا عن الثقيلة، واستدل على ذلك بما ذكر من أنه ثبتت لها أحكام لليست للمثقلة. وهذا لا دليل فيه؛ ألا ترى أن "إن" المخففة من الثقيلة هي فرع عنها بلا خلاف نعمله في ذلك، وقد انفرد بأحكام، منها الإلغاء، ومنها دخول اللام في ثاني جزأي الكلام لزومًا، ومنها دخولها على الأفعال النواسخ، وهذا على ما يقرر في باب إن، ولا يجوز

شيء من ذلك في الثقيلة. وكذلك أن وكأن، هما مخففان من التشديد، ولهما أحكام لا تكون لهما حالة التشديد، وأما أن يكون الحذف في نحو: قوم اليوم، والإبدال في (لنسفعا) إجحافًا فليس كذلك؛ لأن هذا أمر عارض، فاحتمل ذلك فيه كما احتمل حذفها بعد الضمة والكسرة في الوقف في مثل اضرب واضربن، فصار اضربوا واضربي. وقال بعضهم: لو كانت السين فرع سوف كـ "سف" و "سو" لكانت أقل استعمالًا منها؛ لأنها أبعد من الأصل إذ حذفت الواو والفاء، وهما أقرب لقلة الحذف، والأصل أحق بكثرة الاستعمال من الفرع، والفرع الأقرب أحق من الأبعد. ورد هذا التعليل بأنه قد يفوق/ الفرع الأصل كنعم وبئس، إذ أصلهما نعم وبئس، وكأٍب وأٍخ، فاق النقص فيهما القصر، وهو الأصل، فلأن يفوق فرٌع فرعًا أولى. وقال بعضهم: لو كانت السين فرعًا لتساوت مدة التسويف، وهي بسوف أطول، فكل واحدة أصل برأسها. ورد هذا المصنف في الشرح بالسماع والقياس: فالسماع تعاقبهما على المعنى الواحد في وقت واحد في قوله: {وسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ المُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا}، وقوله: {أُوْلَئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْرًا عَظِيمًا}، {كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ}، {كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ}، وقال:

وما حالٌة إلا ستصرف حالها إلي حالٍة أخرى، وسوف تزول وأما القياس فالماضي والمستقبل متقابلان، فكما أن الماضي لا يقصد به إلا مطلق المضي دون تعرض لقرب أو بعد، فكذلك المستقبل. انتهى ملخصًا. وذكر أبو موسى في ملخصات المضارع لاستقبال لام الأمر والدعاء، و"لا" في النهي والدعاء. وذلك مندرج تحت قول المصنف: "وباقتضائه طلبًا". وذكر أيضًا أبو موسى لام القسم نحو: والله ليقوم زيٌد، إلا أن هذا لا يكون في الكلام إلا بنون التوكيد، فأما في الشعر فتجيء اللام وحدها، كما قال: تألي ابن أوٍس حلفه ليردني ... إلي نسوٍة كأنهن مفائد وهذا على مذهب البصريين، وأجاز الكوفيون في الكلام تعاقب اللام والنون. وهذا الذي ذهب إليه أبو موسى في اللام هو مذهب أكثر النحويين. ومنهم من ذهب إلي أنك تقول إذا أقسمت على قيام في الحال: والله ليقوم زيٌد.

ونقص المصنف من القرائن التي تخلص المضارع للاستقبال عطفه على المستقبل، وعطف المستقبل عليه، نحو قولك: سيأكل زيٌد ويشرب، أو يأكل زيٌد وسيشرب. -[ص: وينصرف إلي المضي بلم ولما الجازمة ولو الشرطية غالبًا، وبإذ وربما، وقد في بعض المواضع.]- ش: ظاهر كلام المصنف أن لم ولما يصرفان معنى المضارع إلي لمضي، وهذا مذهب المبرد والأستاذ أبي علي، وأكثر المتأخرين، ذكروا لم ولمّا في القرائن الصارفة معنى المبهم إلي المضي دون لفظه، وأن الأصل يفعل، فدخلتا عليه، وصرفتا معناه إلي المضي، وبقي اللفظ على ما كان عليه. وذهب أبو موسى وغيره إلي أنهما تصرفان لفظه إلي المبهم دون معناه، ونسب هذا المذهب إلي س لأنه جعل"لم" نفسي"فعل"، و"لما"نفي"قد فعل"، "قالوا": "والدليل على ذلك أنك إذا ناقضت من أوجب قيام زيد، فقال: قام زيٌد، قلت: لم يقم زيٌد، وإن قال: قد قام زيٌد، قلت: لما يقم زيٌد، والمناقضة إنما تكون بإدخال أداة النفي على ما أوجبه الذي قصدت مناقضة كلامه. ألا ترى أنه لو قال: زيٌد قائمٌ، فأردت مناقضته،

لقلت: ما زيٌد قائمٌ، فدل ذلك على أن لم ولما دخلتا على الماضي، وغيرتا لفظه، ولما كانت "لما" لنفي قد فعل أجازوا الوقف على لما، فقالوا: قاربت المدينة ولما، أي: لم أدخلها، كما قالوا: لم يقم زيد/ وكأن قد، يريدون: كأن قد قام، قال النابغة: أفد الترحل غير أن ركابنا لما تزل برحالنا، وكأن قد وأيضًا فإن صرف التغيير في لم يقم ولما يقم إلي جانب اللفظ أولى من صرفه إلي المعنى؛ لأن المحافظة على المعنى أول، وليست الألفاظ كذلك لأنها خديمٌة للمعاني". وقد أشار المصنف في الشرح إلي الخلاف في هذه المسألة، وصحح ما اختاره بأن له نظيرًا، وهو ما أجمعوا عليه في المضارع الواقع بعد "لو"، والقول الآخر لا نظير له. وقال المصنف في الشرح: "وقيدت لما بنسبة الجزم إليها لأنها إذا لم تكن جازمة لا يليها فعل مضارع، بل ماضي اللفظ والمعنى إن كانت بمعنى حين، أو ماضي اللفظ مستقبل المعنى إن كانت بمعنى إلا، كقول الشاعر: قالت له: بالله يا ذا البردين لما غنثت نفسًا أو اثنين وأطلقت "لم" تنبيهًا على أنها صارفة إلي المضي أبدًا، ولو لم يكن الفعل بعدها مجزومًا، كقول الشاعر:

لولا فوارس من نعٍم وأسرتهم يوم الصليفاء لو يوفون بالجار فرفع الفعل بعد لم، وهي لغة لقوم"انتهى ما ذكره. ولا يحتاج إلي تقييد لما بقوله: "الجازمة"لأنها لا تدخل على المضارع إلا وهي جازمة، فلو كانت تدخل على المضارع جازمة وغير جازمة، وتكون تصرفه إلي المضي إذا كانت جازمة، لكان ذلك محتاجًا إلي أن تقيد بالجازمة، وأما أن يحترز بذلك من دخولها على الفعل الماضي فلا يصح ذلك؛ إذ التقييد إنما يكون في شيء مشترك، فتأتي به احترازًا من أحد معنيي المشترك. وقوله: ولو الشرطية مثاله قوله تعالى: {ولَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِم مَّا تَرَكَ عَلَيْهَا مِن دَابَّةٍ}، وقول بعضهم: "لو لك أعوي ما عويت"، وقول الشاعر: لو يسمعون كما سمعت كلامها خروا لعزة ركعًا وسجودا وقول الآخر: لو يقوم الفيل أو فياله زل عن مثل مقامي وزحل قال المصنف في الشرح: "وقيدت لو بالشرطة احترازًا من المصدرية"

انتهى. وتقدم لما التنبيه على أن الأصح أن "لو" لا تكون مصدرية، والمصنف يسمى "لو" الامتناعية شرطية، وكذلك سماها أبو موسى في الكراسة. ورد عليه بأنها لو كانت شرطًا خلصته للاستقبال، فدخلت تحت أدوات الجزاء، وإن كانت الامتناعية صرفت معناه إلي المضي كما قال، فليست شرطًا لا في اللفظ لأنها لا تجزم، ولا في المعنى لأن الشرط إنما يكون بالنظر إلي الاستقبال. وهذا قول أصحابنا في "لو"، ولا يسمونها شرطًا لأن الشرط عندهم لا يكون إلا في الاستقبال. وقوله: غالبًا احتراز من ورود "لو" الشرطية بمعنى "إن" نحو قوله: لا يلفك الراجيك إلا مظهرًا ... خلق الكرام ولو تكون عديما /وإذا كانت تقلب معنى الماضي للمستقبل في نحو {فَلَن يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِم مِّلْءُ الأَرْضِ ذَهَبًا} فلأن تقلب معنى المضارع أولى. ويعني بقوله: "غالبًا" أنها إذا دخلت على المضارع كان في الاستعمال صرفه إلي المضي أكثر من صرفه إلي الاستقبال. وقوله: وبإذ مثاله {وإذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ}.

وقوله: وربما مثاله قول الشاعر: ربما تكره النفوس من الأمـ ــر له فرجٌة كحلٌ العقال أي: ربما كرهت. وإنما صرفت معنى المضارع إلي المضي لأنها قبل اقترانها بـ"ما" مستعملة في المضي، فقد استصحب لها ذلك بعد الاقتران، و"ما" للتوكيد، وليست بناقلة من معنى إلي معنى، بخلاف"ما" في "إذما"، فإنها فارقها المضي، وحدث فيها بـ"ما" المجازاة. وهذا الذي ذكرناه من التعليل ملخص من كلام المصنف في الشرح، وهذا الذي ذكره هو الغالب، أعني أنها قبل اقتران "ما" تستعمل في المضي. وقد جاء الفعل مفتتحًا بخرف التنفيس، نحو قوله: فإن أهلك فرب فتى سيبكي علي، مهذٍب، رخص البنان فعلى هذا يجيء بعدها الاستقبال قليلًا، فلا يتعين حمل المضارع بعد "ما" على المضي، بل يكون ذلك راجحًا. فأما قوله تعالى: {رٌبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ} فظاهره أن الفعل الذي بعد (ربما) مستقبل؛ لأن ودادتهم ذلك لا تكون إلا في الآخرة. وخرجه أصحابنا على أن يكون التقدير: ربما ود الذين كفروا، جعل فيه

المستقبل بمنزلة الماضي لصدق الموعود به، ولقصد التقريب لوقوعه، فجعل-وإن كان غير واقع-كأنه واقع مجازًا. والأحسن حمله على القليل من أن"رب"قد يكون الفعل بعدها مستقبلًا؛ لأن في هذا التخريج تكلفًا ظاهرًا؛ إذ مآله إلي أنه عبر بالمستقبل عن ماض، وذلك الماضي مجاز عن المستقبل. وقوله: "وقد"في بعض المواضع قال س في باب عدة ما يكون عليه الكلم: "وأما قد فجواٌب لقوله لما يفعل، فتقول قد فعل". ثم قال: "وتكون قد بمنزلة ربما، قال الهذلي: قد أترك القرن مصفرًا أنامله كأن أثوابه مجت بفرصاد كأنه قال: ربما"هذا نصه. قال المصنف في الشرح: "فإطلاقه- يعني س- القول بأنها منزلة ربما موجب للتسوية بينهما في التقليل والصرف إلي المضي"انتهى. ولو يبين س الجهة التي فيها قد بمنزلة ربما، وعدم التبيين لا يدل على التسوية في الأحكام، بل يستدل بكلام س على نقيض ما فهم منه المصنف، وهو أن"قد"تكون بمنزلة"ربما"في التكثير فقط، ويدل عليه إنشاد البيت؛ لأن الإنسان لا يفخر بشيء يقع منه على سبيل التقليل والندرة، وإنما يفخر بما يقع منه على سبيل الكثرة، فتكون "قد" هنا بمنزلة "ربما" في التكثير، كقول امرئ

القيس: /ويا رب يوم قد لهوت وليلٍة بآنسٍة، كأنها خط تمثال وسيأتي ذكر الخلاف في معنى رب في حروف الجر إن شاء الله. وقد تدخل على المضارع وتخلو من التقليل، وتكون للتحقيق، نحو قوله: {قَدْ نَعْلَمُ إنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ}، وقول الشاعر: وقد تدرك الإنسان رحمة ربه ولو كان تحت الأرض سبعين واديا وقد يكون المضارع بعد خاليًا من التقليل، فتصرفه لمعنى المضي، كقوله تعالى: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وجْهِكَ فِي السَّمَاءِ}. وفي شرح الخفاف لكتاب س ما نصه: "قال الأستاذ أبو علي: إذا كانت بمنزلة ربما فما بعدها ماضٍ من جهة المعنى؛ لأنها إنما تستعمل حينئذ في الافتخار، والافتخار إنما يكون بما قد وقع، وعلى هذا بيت الهذلي، كأنه قال: قد تركت القرن، فوضع المستقبل موضع الماضي"انتهى. وأنشد الأصمعي: أحبب حبيبك حبًا رويدًا فقد لا يعولك أن تصرما أدخل"قد"على المنفي كما أدخلها على الموجب، وإنما يجوز هذا في التي في معنى ربما، ولا تدخل على الماضي، نحو: قد لا قام. ونقص المصنف من القرائن التي تصرف المضارع إلي المضي عطفه

على الماضي، نحو قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الأَرْضُ مُخْضَرَّةً} أي: فأصبحت: وعطف الماضي على المضارع، نحو قول الشاعر: ولقد أمر على اللئيم يسبني فمضيت، ثمت قلت: لا يعنيني أي: ولقد مررت. ووقوع المضارع خبرًا لكان وأخواتها، نحو كان زيٌد يقوم، وأصبح زيٌد يقوم، وأصبح زيٌد يضحك. وإهماله في الظرف الماضي نحو قوله: يجزيه رب العالمين إد جزي جنات عدٍن في العلالي العلا كأنه قال: جزاه رب العالمين إذ جزي، وجعل الوعد بالجزاء جزاًء. وهذا أولى من أن يعتقد في إذا أنها بمنزلة إذا؛ لأن صرف معنى المبهم إلي الماضي لقرينه قد ثبت من كلامهم، ولم يثبت وضع إذ موضع إذا بقاطع. وزعم الأستاذ أبو الحسن بن عصفور أن من القرائن الصارفة معنى المضارع إلي المضي"لما" المحتاجة إلي الجواب، قال: "نحو قولهم: لما قوم زيٌد قام عمرٌو، وقال تعالى: {فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وجَاءَتْهُ البُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ}، أي جادلنا "انتهى.

ولا دليل في هذه الآية على مدعاه؛ لأن لما في الآية اتصل بها الماضي، فليست مطابقة للمثال الذي ذكره من قوله: لما يقوم زيٌد قام عمرٌو، إنما جاء مضارعًا الجواب لا الذي اتصل بلما. على أنه يحتمل أن يكون الجواب محذوفًا، أي: شرع يجادلنا، أو أخذ يجادلنا، وحذف لدلالة المعنى عليه ولطول الكلام. وقد ذكر المصنف فيما تقدم أن"لما"التي لا تجزم لا يليها إلا الماضي لفظًا ومعنى إن/كانت بمعنى حين، أو ماٍض مستقبٌل معنى إن كانت بمعنى إلا. وله اطلاع على اللغة، فإن سمع كلامهم: لما يقوم زيٌد قام عمرٌو، كان ذلك حجة للأستاذ أبي الحسن، وإلا فلا نقيس ما يلي "لما"على جوابها، فنقول: كما جاء جوابها بالمضارع، والمراد به المضي، فكذلك نقول فيما يليها، وقد ذكرنا احتمال حذف الجواب في الآية. -[ص: وينصرف الماضي إلي الحال بالإنشاء، وإلي الاستقبال بالطلب وبالوعد وبالعطف على ما علم استقباله وبالنفي بـ"لا"و"إن"بعد القسم.]- ش: مثال انصراف الماضي إلي الحال بالإنشاء ألفاظ العقود، نحو: زوجتكها، وقبلت، بعتك، واشتريت، وأقسمت لأضربن زيدًا، وخلفت ما زيٌد قائٌم. ومثال الطلب: غفر الله لك، و"اتقى الله امرٌؤ فعل خيرا يثبت عليه"، وعزمت عليك إلا فعلت، ولما فعلت. و"غفر الله"دعاءٌ، و"إلا فعلت"و"لما فعلت"معناه: إلا أن تفعل، ومعنى اتقى: ليتق، فهو طلب بصيغة

الماضي، ولذلك جزم"يثب عليه". ومثال الوعد {إنَّا أَعْطَيْنَاكَ الكَوْثَرَ}، {وأَشْرَقَتِ الأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا}. ومثال العطف على معلوم الاستقبال قوله تعالى: {يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ القِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ}، {يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ}، أي فيوردهم، وفيفزع. ومثال النفي بـ"لا"بعد القسم مثله المصنف في الشرح بقوله: ردوا، فوالله لا ذدناكم أبدًا ... ما دام في مائنا ورٌد لنزال ولا حجة فيه على أن النفي بـ"لا" بعد القسم يصرفه إلى الاستقبال، وإنما انصرف هنا إلى الاستقبال بإعماله في الظرف المستقبل، وهو قوله "أبدًا"، فلو جاء: والله لا قام زيدٌ، كان ذلك الفعل ماضيًا لفظًا ومعنى؛ لأن "لا" ينفى بها الماضي قليلًا. ومثال النفي بـ"إن"بعد القسم قال المصنف في الشرح" قوله تعالى: {إنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَوَاتِ والأَرْضَ أَن تَزُولا ولَئِن زَالَتَا إنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ} أي: والله لئن زالتا ما يمسكهما" انتهى كلامه. وليس انصراف الماضي إلي المستقبل بانتفائه بإن بعد القسم؛ ألا ترى أنك لو قلت: واللهِ إن

قام زيدٌ، بمعنى: ما قام، لم تصرفه إن إلى الاستقبال، بل هو ماضٍ لفظًا ومعنى، وإنما انصرف إلى الاستقبال في الآية لأنه في المعنى معلقٌ على مستقبل، وهو الشرط، لأن (إن أمسكهما) جوابٌ للقسم المحذوف، وجواب الشرط محذوفٌ لدلالة جواب القسم عليه، وجواب الشرط المحذوف مستقبلٌ قطعًا، فكذلك ما دل عليه، وهو جواب القسم. -[ص: ويحتمل المضي والاستقبال بعد همزة التسوية، وحرف التحضيض، وكلما، وحيث، وبكونه صلة، أو صفةً لنكرةٍ عامة.]- ش: مثال ذلك بعد همزة التسوية: سواءٌ علي أقمت أم قعدت، فيحتمل أن يكون المعنى على المضي، ويحتمل أن يكون على الاستقبال، وسواء أكان للفعل معادل بـ "أم" كما مثلنا أم لم يكن، كقولك، سواءٌ علي أي وقت جئتني؛ لأن أيا فيه/ عموم أوقات. فإن كان معادل الماضي بعد"أم"مقرونًا بـ"لم" تعين المضي، نحو قوله تعالى: {سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ}؛ لأن المعادل المنفي ماٍض من حيث المعنى، فوجب مضي الأول. فإن كان المعادل جملة اسمية بقي الاحتمال، كقوله: {سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنتُمْ صَامِتُونَ}. ومثال التخضيض: هلا ضربت زيدًا، إن أردت المضي كان المراد التوبيخ، أو الاستقبال كان المراد الأمر، كقوله: {فَلَوْلا نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَائِفَةٌ}، استدل به على وجوب العمل بخبر الواحد؛ إذ هو بمنزلة لينفر. ومثاله بعد "كلما" {كُلَّ مَا جَاءَ أُمَّةً رَّسُولُهَا كَذَّبُوهُ}، فهذا ماض،

وقوله: {كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ}، فهذا مستقبل. ومثاله بعد "حيث" {ومِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ} المراد به الاستقبال، {فَاتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ} المراد به المضي. ومثال الصلة {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ} المراد به المضي، {إلاَّ الَّذِينَ تَابُوا مِن قَبْلِ أَن تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ} المراد به الاستقبال، وقال الشاعر: وإني لآتيكم تذكر ما مضى من الأمر، واستيجاب ما كان في غد فـ"مضى"ماضٍ لفظًا ومعنى، و"ما كان في غد"ماٍض لفظًا مستقبٌل معني. ومثال الواقع صفة لنكرة عامة قوله: رب رفٍد هرقته ذلك اليو م وأسرى من معشٍر أقتال بهذا للمضي مثله المصنف في الشرح. وهذا ليس بجيد لأن رفدًا ليس بنكرة عامة؛ إذ"رب"على ما ينسب لـ"س"للتقليل، والتقليل ينافي

العموم، ولم يرد الشاعر أن كل رفد هرقه ذلك اليوم، ولا يتعين أن يكون"هرقته"صفة لـ"رفد"؛ إذ يجوز أن يكون هو الجواب العامل في موضع"رب رفٍد"على مذهب من لا يشترط وصف مخفوض رب، وهو الصحيح، وفي الحديث"نضر الله أمرًأ سمع مقالتي فأداها كما سمعها"، بهذا مثله المصنف، فـ"نضر"دعاء لترغيب من أدرك حياته في حفظ ما سمعه منه، فالمعنى: يسمع مقالتي فيؤديها كما يسمعها. وهذه المثل التي مثلنا بها هذه المسائل الست معظم الكلام فيها هو من كلام المنصف في الشرح، وظاهر كلام المصنف أن الاحتمال في هذه المسائل الست هو على سبيل التسوية، والذي يظهر الحمل على المضي لإبقاء اللفظ على موضوعه، وإنما فهم الاستقبال فيما مثل به من خارج، فإذا ورد شيء من هذه المسائل وقفنا فيه مع الظاهر حتى يقوم دليل على أنه ماٍض أريد به الاستقبال.

باب إعراب الصحيح الآخر

-[ص: باب إعراب الصحيح الآخر الإعراب ما جيء به لبيان مقتضي العامل من حركٍة، أو حرٍف، أو سكوٍن، أو حذٍف ]- ش: الإعراب لغًة ينطلق على الإبانة، أعرب الرجل عن حاجته: أبان عنها. وعلى التحسين، أعربت الشيء: حسنته. وعلى التغيير، عربت المعدة، وأعربها الله: غيرها. وقال المهاباذي: يقال: هو مأخوذ من عربت معدته إذا/ فسدت، ومعناه على هذا إزالة الفساد، أي: أزلت عربة، نحو شكاني فأشكيته، أي: أزلت شكايته، وأعتبته: أزلت عتابه، فالهمزة للسلب. وعلى الانتقال، عربت الدابة: جالت في مرعاها، وأعربها صاحبها: أجالها. وأما في الاصطلاح فحده المصنف بما ذكر، وجعل نفس الإعراب هو الحركة أو الحرف أو السكون، أو الحذف الحادث ذلك بالعامل، قال في الشرح: "وهذا المجعول قد يتغير لتغير مدلوله، وهو الأكثر، كالضمة والفتحة والكسرة في نحو: ضرب زيٌد غلام عمرٍو، وقد يلزم للزوم مدلوله كرفع: لا نولك أن تفعل، ولعمرك، وكنصب: سبحان الله، ورويدك، وكجر: الكلاع، وعريط من: ذي الكلاع، وأم عريط". وهذا الذي ذهب إليه المصنف قول طائفة من النحاة، ذهبوا إلى أن

الحركات اللاحقة أواخر المعربات من الأسماء والأفعال هي الإعراب بنفسه؛ لأنه لا شيء يتبين به إعراب المعرب غيرها، وعلى هذا فيكون الإعراب عند هؤلاء لفظيًا. وذهب متأخرو أصحابنا إلي أن الإعراب معنوي، وهو تغير في آخر الكلمة لعامل داخل عليها في الكلام الذي هي فيه، فتكون الحركات هي دلائل الإعراب وعلامات له، وهذا مذهب طائفة، وظاهر قول س، واختبار الأعلم. قالوا: لو كانت هي الإعراب، وحذفت لعلة حكيمة كالوقف وغيره، لوجب أن يكون الاسم أو الفعل غير معرب؛ لأنه لا واسطة بين المعرب والمبني، فإذا وجد أحدهما ارتفع الآخر. وإلي أنه لفظي ذهب أبو الحسن بن خروف والأستاذ أبو علي. قال ابن خروف: "الإعراب صوت يحدثه العامل في آخر الكلمة". وهذا فاسد لأن الإعراب قد يكون بحذف لا بصوت، نحو لم يفعلا، ولم يفعلوا. ولما رأي الأستاذ أبو علي أن الإعراب قد يكون صوتًا وحذفًا قال في حده: "الإعراب حكٌم يحدثه العامل في آخر الكلمة" ليعم جميع ذلك. وهذا الحد منقود من جهة أنه لا يفهم ما أراد؛ إذ قد يمكن أن يحد الإعراب به من مذهبه أن الإعراب تغير؛ لأن التغير حكم يحدثه العامل في آخر الكلمة.

وجعل الإعراب معنويًا لفظيًا أولى من حيث اللفظ؛ لأنا إذا أطلقنا الإعراب المصطلح عليه على التغير، كنا قد خصصناه ببعض التغيرات، ففي ذلك تخصيص له ببعض مطلقاته، وإذا أطلقناه على اللفظي-وهي الحركات أوالحروف أو السكون أو الحذف-كان ذلك نقلًا للفظ بالكلية عن مدلوله اللغوي، وليس المصطلحين نقل اللفظ عن معناه بالكلية. وقال صاحب البسيط: "المختار في رسمه أن نقول: هو قبول الكلمة العوارض الحادثة في آخرها لفظًا أو تقديرًا، المؤثرة عن العوامل المختلفة العمل، المكافئة لها تأثيرًا لفظًا أو تقديرًا". فقوله: "المكافئة لها"أحسن من قولهم: "الداخلة"لأنه يؤذن بخلوها عنه، وبعض المعمولات لا يخلو عن عامل. وقوله: "تأثيرًا أوليًا"ليخرج ما يكون تأثيرًا ثانيًا بسبب التأثير/ الأول، كالكسر لالتقاء الساكنين، وما يلحقه من التغيير بسبب التحريك للإعراب من الانقلاب نحو الكلو رفعًا والكلي جرا. وقال بعض علمائنا: "الإعراب تشكل آخر الاسم بأشكال مختلفة لاختلاف أحوال المعنى المدلول عليه بذلك الاسم"انتهى. وقال ابن خروف أيضًا: "هو وضعك العلامة في آخر لفظًا أو تقديرًا على وفق العامل دليلة على معناه". قال المصنف في شرحه وقد ذكر ما لزم حالة واحدة من الإعراب نحو: لا نولك، وسبحان، ما نصه: "وبهذا الإعراب اللازم يعلم فساد قول من

جعل الإعراب تغيرًا". قال: "وقد اعتذر عن ذلك بوجهين: أحدهما: أن ما لازم وجهًا واحدًا صالح للتغير، فصدق عليه أنه متغير، وعلى الوجه الذي لزمه أنع تغير. ورد هذا بأن ما صلح لمعنى ولم يقم به لا يوصف به حقيقة؛ ألا ترى أن"رجلًا"صالح لأن يبني مع لا، وقبل ذلك لا يسمى مبنيًا، و"خمسة عشر"صالح للإعراب بفك تركيبه، ولا يقال فيه إنه معرب، فكذلك لا ينسب تغير لما لم يقم به في الحال. والثاني: أنه متغير عن الحالة التي كان عليها قبل عقد التركيب، وهي السكون. ورد هذا بأن المبني على حركة مسبوق بأصالة السكون، فقد شارب المعرب في ذلك". وهذا الرد ليس بشيء لأنا لم نقتصر على مطلق التغير، بل تغير في آخر الكلمة بعامل، وتغير المبني على حركة وإن كان مسبوقًا بسكون ليس ذلك بعامل، فلا يشرك المبني المعرب في ذلك، ولما أحس المصنف بهذا الجواب قال: "ولا يخلص من هذا القدح قولهم"لتغير العامل"فإن زيادة ذلك توجب زيادة فساد؛ لأن ذلك يستلزم كون الحال المنتقل عنها حاصلة بعامل، ثم خلفه عامل آخر حال التركيب، وذلك باطل بيقين إذ لا عامل قبل التركيب"انتهى. وقوله: "قولهم لتغير العامل"ليس هذا قولهم فيلزم عنه ما ذكر، ولعله قول بعض مغفليهم، إنما قالوا: للعامل الداخل عليها. وقال المصنف في شرحه ما نصه: "وقال بعضهم: لو كانت الحركات وما يجري مجراها إعرابًا لم تضف إلي الإعراب؛ لأن الشيء لا

يضاف إلى نفسه. وهذا قول صادر عمن لا تأمل له؛ لأن إضافة أحد الاسمين إلي آخر مع توافقهما معنى أو تقاربهما واقٌع في كلامهم بإجماع، وأكثر ذلك فيما يقدر أولهما بعضًا أو نوعًا والثاني كلًا أو جنسًا، وكلا التقديرين في حركات الإعراب صالح، فلم يلزم من استعماله خلاف ما ذكرنا"انتهى كلامه. وقوله: "لأن إضافة أحد الاسمين إلي الآخر مع توافقهما معنى أو تقاربهما واقعة في كلامهم بإجماع"ليس كما ذكر، ولا أجمع النحويون على جواز إضافة أحد الاسمين إلي آخر مع توافقهما، بل المنقول عن البصريين أن ذلك لا يجوز وإن اختلف اللفظان. وقال الكوفيون: يجوز ذلك إذا اختلف اللفظان. وهي مسألة خلاف، ذكرها أبو القاسم عبد الرحمن بن محمد بن أبي سعيد الأنباري، وأبو البقاء العكبري، في كتابيهما في اختلاف النحويين. /قوله: ما جيء به لبيان مقتضى العامل المقتضى هو المطلوب، والعامل هو ما أثر في آخر الكلمة من اسم أو فعل أو حرف، والأصل في أن يكون من الفعل، ثم من الحرف، ثم من الاسم، والأصل تخالفه مع المعمول في النوع، فإن كانا من نوع واحد فلمشابهته ما لا يكون من نوع المعمول، ولا يؤثر العامل أثرين في محل واحد، ولا يجتمع عاملان على معمول واحد إلا في التقدير، نحو: ليس به زيٌد بجباٍن، ولا يمتنع أن يكون له معمولات.

وقوله: من حركٍة هو بيان لإبهام"ما"في قوله: "ما جيء به". والحركات ثلاث: ضمة، وفتحة، وكسرة. وقوله: أو حرٍف هو الواو والألف والياء والنون على مذهب من يرى ذلك. والحركة مع الحرف، لا قبله ولا بعده؛ لأن الحرف يوصف بأنه متحرك كما يوصف بالشدة والجهر، فهي صفة، والصفة لا تتقدم الموصوف ولا تتأخر عنه، إنما توجد معه؛ إ لا تقوم نفسها، ولأن حروف العلة تنقلب إلي غيرها لتحركها، فلو كانت بعدها لم تقلب، ولم تنقلب الألف همزة عند التحرك، ولأنه إن لم تكن الحركة على الحرف كان عاريًا منها، فكان ساكنًا، حتى إنه لو كان ما قبله ساكنًا لزم التقاء الساكنين من غير تحريك. وذهب قوم منهم ابن جني إلي أن الحركة بعد الحرف؛ لأن الحرف المتحرك لم يدغم في مثله، وذلك لحيلولة، ولا حائل إلا الحركة، ولأنك إذا أشبعت الحركة تولد منها حرف، والحرف لا ينشأ عن الحرف، ولا يكون له شركة فيه، فهو عن الحركة، فالحركة بعده. والجواب عن الأول أن عدم الإدغام تارة يكون للحاجز، وتارة يكون للتحصن بالحركة، فلا تكون على عدمه الحيلولة خاصة. وعن الثاني أن حدوث الحرف إنما هو عن الحرف المتصف بالحركة المجانسة للحرف الحادث من حيث هو متحرك بالمجانس بشرط الإشباع؛ لأن الحروف كالموصوفات، وهي الجواهر، والحركات كالأعراض، والأعراض لا تنشئ

الجواهر، وسيأتي ذكر الخلاف في ذلك إن شاء الله تعالى. وقوله: أو سكون أو حذف هكذا يقوله أكثر النحويين، وهذا عندي ليس كذلك، بل يكفي الحذف؛ لأن الحذف على قسمين: حذف حركة نحو يضرب، إذا أدخلت الجازم قلت لم يضرب، فتحذف الحركة. وحذف حرف نحو لم يذهبا، أصله يذهبان، فالحذف يشمل حذف الحركة وحذف الحرف، فلا يجعل ما كان قسماً من الشيء قسيماً له. -[ص: وهو في الاسم أصل لوجوب قبوله بصيغة واحدة معاني مختلفة، والفعل والحرف ليسا كذلك، فبنيا.]- ش: الضمير في "هو" عائد على الإعراب، ذكر أنه أصل في الأسماء، وعلل ذلك بقوله: "لوجوب قبوله بصيغة واحدة معاني مختلفة"، وذلك أن المعاني التي تعتور على الكلمة تارة تكون قبل التركيب وتارة بعد التركيب، فالتي قبله هي التثنية والجمع والتكسير والمبالغة والمفاعلة، ولهذه المعاني صيغ تدل عليها، فلا نحتاج إلى الإعراب. والتي بعد التركيب هي الفاعلية والمفعولية والإضافة، فدل عليها بالإعراب، إذ ليس لهذه المعاني صيغ تدل عليها. وقوله: والفعل والحرف ليسا كذلك أي: ليس كل واحد منهما قابلاً بصيغة واحدة معاني مختلفة. وهذا يمكن أن ينازع / فيه، أما الفعل فسيأتي الكلام عليه عند ذكر الخلاف في هذه المسألة، وأما الحرف فإنا نجد كثيراً من الحروف يكون لمعان كثيرة يفهم منه كل معنى منها حالة التركيب، وذلك نحو "من" فإنها تكون لابتداء الغاية، وللتبعيض، وللتبيين، عند من يرى ذلك،

ولم يعرب شيء منها. وما ذهب إليه المصنف من أن الإعراب أصل في الأسماء لا في الأفعال هو مذهب البصريين، وذهب الكوفيون إلى أن الإعراب أصل في الأفعال، وحكي عن بعض المتأخرين أن الفعل أحق بالإعراب من الاسم؛ لأنه وجد فيه بغير سبب، فهو بذاته، بخلاف الاسم، فهو له لا بذاته، فهو فرع. احتج جمهور أهل البصرة بأن قالوا: الإعراب يفتقر إليه في الأسماء في نحو: ما أحسن زيداً! إذا تعجبت، وما أحسن زيد، إذا نفيت عنه الإحسان، وما أحسن زيد؟ إذا استفهمت، فلولا الإعراب لالتبست هذه المعاني، وحمل ما لا لبس فيه من الأسماء على ما فيه لبس، نحو شرب زيد الماء، كما حمل أعد وتعد ونعد على يعد، ولا كذلك الأفعال؛ لأنه لو زال الإعراب منها ما التبست معانيها. واحتج أبو الحسن بن خروف لما ذهب إليه البصريون بأن أكثر الأسماء معرب، والقليل منها مبني، وأكثر الأفعال مبني، وواحد منها معرب، وهو المضارع بشرطه، والكثرة دليل الأصالة، والقلة دليل الفرعية. وهذا ليس بذلك الدليل؛ إذ تكثر الفروع، وتقل الأصول. واحتج أبو الحسن بن عصفور أيضاً لهم، فقال: الدليل على أنه

أصل في الأسماء فرع في الأفعال أن الأسماء كلها معربة إلا ما أشبه منها مبنياً، والأفعال كلها مبنية إلا ما أشبه منها المعرب، فارتباط الإعراب في الفعل بشبهه بالمعرب دليل على أنه إنما دخله الإعراب من جهة الشبه لا من جهة أنه فعل؛ إذ لو كان الإعراب فيه من جهة أنه فعل لوجب أن يدخل الإعراب جميع الأفعال كلها، وارتباط البناء في الاسم بوجوده مشبهاً لمبني دليل على أن البناء فيه إنما دخله بالشبه للمبني، ولذلك إذا لم يشبه مبنياً على أصله من الإعراب. واحتج أهل الكوفة بأن العلة التي ادعاها البصريون موجبة لكون الإعراب أصلاً في الأسماء، وهو كونه يفتقر إليه في الأسماء في بعض المواضع، هي بعينها موجودة في الأفعال في بعض المواضع، تقول: لا تأكل السمك وتشرب اللبن، فبالجزم نهي عن الفعلين مجتمعين ومفترقين، وبالنصب نهي عن الجمع بينهما، وبالرفع نهي عن الأول وإباحة للثاني. وكذلك لام الأمر ولام كي، و "لا" في النهي و "لا" في النفي، لولا الإعراب لالتبست المعاني. وأجاب البصريون عن ذلك بأن النصب في مسألة "لا تأكل السمك وتشرب اللبن" بإضمار "أن" في المذهب الصحيح، والجزم على إرادة "لا" والرفع على المقطع، فلو أظهرت العوامل المضمرة لكانت دالة على المعاني، ولم يحتج إلى الإعراب، فالإعراب في هذا الباب إنما دل على المعاني لما حذفت العوامل/، وجعلت دليلاً عليها، وذاك فرع، والأصل ما ذكرنا من إظهار العوامل. وليس كذلك: ما أحسن زيداً! لأن الرافع والناصب والخافض لـ "زيد" على كل حال لفظ "أحسن" وأما لام الأمر ولام كي فالفرق بينهما أن لام الأمر تكون ابتداء، ولام كي لابد أن يتقدمها عامل.

وأما "لا" الناهية و "لا" النافية فالفرق بينهما أنه إذا خيف التباس بالنافية أتي بغيرها من حروف النفي نحو "ما" وإنما كان يلزم اللبس لو لم يكن للنفي أداة إلا "لا". وذهب أبو علي قطرب إلى أن الإعراب لم يدخل للفرق بين المعاني، وإنما دخلت الحركات ليفرق بين وصل الاسم والوقف عليه. -[ص: إلا المضارع، فإنه شابه الاسم بجواز شبه ما وجب له، فأعرب ما لم تتصل به نون توكيد أو إناث.]- ش: أخذ المصنف بقول البصريين إن الإعراب أصل في الاسم فرع في الفعل، وخالف في العلة المقتضية لإعراب المضارع، فبين في الشرح أن المضارع تعرض له بعد التركيب معان، ككونه مأموراً به، أو علة، أو معطوفاً، أو مستأنفاً. وهذا هو تعليل الكوفيين في إعراب المضارع. قال: "فهذه تتعاقب على صيغة واحدة، فيفتقر إلى الإعراب، والاسم والمضارع شريكان في قبول المعاني بعد التركيب، فليشتركا في الإعراب، لكن الاسم عند التباس بعض ما يعرض له ببعض ليس له ما يغننيه عن الإعراب؛ لأن معانيه مقصورة عليه، فجعل قبوله لها واجباً. وأما المضارع فعند عروض الإلباس فقد يغني عن الإعراب تقدير اسم مكانه، ففي النهي عنهما تقول في "لا تغن بالجفاء وتمدح عمرا" إذا نهيت عن الفعلين مطلقاً: لا تغن

بالجفاء ومدح عمراً، وفي الجمع بينهما: لا تغن بالجفاء مادحاً عمراً، وفي الاستئناف: لا تعن بالجفاء ولكن مدح زيد". قال: "فقد ظهر بهذا تفاوت ما بين سبب إعراب الاسم وإعراب الفعل في القوة والضعف، فلهذا جعل الاسم أصلاً والمضارع فرعاً". وذهب البصريون إلى أنه أعرب لشبهه بالاسم في الانبهام والاختصاص. وزاد بعضهم دخول لام الابتداء. وعنوا بالإبهام احتمال الصيغة للزمانين المستقبل والحال، كما أنك إذا قلت "رجل" احتمل كل واحد من جنس الرجال. وعنوا بالتخصيص تخليص رجلاً بالألف واللام. وأما دخول اللام فتقول: إن زيداً ليقوم، كما تقول: لقائم، ولا يجوز: لقام. واضطرب في هذه اللام قول أبي علي، فجعلها في الإغفال وجهاً من وجوه الشبه. وبه قال الصيمري. وقال في موضع آخر: "إنما دخلت على المضارع لمشابهته الاسم بالشياع والتخصيص، وبعد أن دخلت قوي الشبه، فأعرب". ولم يذكرها في الإيضاح؛ لأن لام الابتداء خاصة كالإعراب، فيمكن أن تكون معلولة بالإعراب لا علة فيه وهذه العلة والتي قبلها إذا حققتا لا يصح شيء منها، ولتزييف ذلك مكان

غير/ هذا. والذي يظهر أن المعاني التي تعتور على الاسم والفعل مشتركة بينهما، فمنها ما يدخل عليهما قبل التركيب، كالتصغير والجمع في الاسم، وكالمضي والاستقبال في الفعل. ومنها ما يدخل عليهما بعد التركيب، كالفاعلية والمفعولية في الاسم، وكالأمر والنهي والشرط في الفعل، فكما دخل الإعراب الاسم، فكذلك يدخل الفعل. وقد طول المصنف بترجيح ما أبدى من التعليل لإعراب المضارع على ما ذكر غيره مما يوقف عليه في شرحه. والمسألة قليلة الجدوى؛ لأنه خلاف في علة، وأما الحكم فهو أن الإعراب دخل في المضارع كما دخل في الاسم. وقوله: فإنه شابه الاسم بجواز شبه ما وجب له إنما قال: "بجواز شبه" لأن المعاني التي أوجبت للاسم الإعراب ليست المعاني التي جوزت الإعراب للفعل، بل هذه شبه تلك؛ لأن الفاعلية والمفعولية والإضافية لا تكون في الفعل، فلذلك قال: "بجواز شبه ما وجب له"، ولم يقل: بجواز ما وجب له. -[ص: ما لم تتصل به نون توكيد أو إناث]- ش: يعني فأنه لا يعرب، وإنه متى اتصل به نون التوكيد بني. أما نون التوكيد ففي المضارع إذا لحقته ثلاثة مذاهب: البناء مطلقاً، وهو مذهب الأخفش، سواء أكان المضارع مما

اتصل به ألف الجمع أو واوه أو ياء المخاطبة أم لم يتصل به شيء من ذلك. والإعراب مطلقاً، وهو مذهب بعض النحويين. والتفصيل بين أن تتصل بالفعل - فيكون مبنياً - النون، أو لا تتصل به بحجز الضمير بينهما، فيبقى على إعرابه، وهو المشهور والمنصور، وهذا ظاهر قول المصنف لقوله: "ما لم تتصل به"، وقد تكرر له اختيار هذا المذهب في كتبه وفي شروحاته. ومن ذكر من النحويين أنه إذا اتصل به نون التوكيد فإنه مبني بلا خلاف ليس بحافظ لمقالات النحويين، وقد تكلمنا على شيء من هذا في باب نوني التوكيد في كتاب التكميل فأغنى عن إعادته هنا. وتكلم المصنف في شرحه على اختياره أنه إذا لم تتصل بالفعل بقي على إعرابه، بأن المضارع إنما بني مع هذه النون لتركيبه معها وتنزله منزلة صدر المركب من عجزه، وهذا مفقود فيما حجز بينهما حاجز مما ذكر؛ إذ لا تتركب ثلاثة أشياء، فتجعل كشيء واحد، ولرجوع علامة الرفع إذا وقفت على المضارع الذي لحقته الخفيفة مما كان بينهما حاجز، ورد ذلك الحاجز، فتقول إذا وقفت على "هل تفعلن" من قولك: هل تفعلن يا رجال؟ هل تفعلون، برد النون والواو التي للجمع، فلو كان مبنياً لم تختلف حالة وقفه

وحالة وصله. ولا يكون هذا البناء عند لحاق هذه النون للمضارع لكونها من خصائص الأفعال؛ لأنه كان يلزم بناء المجزوم والمقرون بحرف التنفيس والمسند إلى ياء المخاطبة؛ لأنها تختص بالفعل، بل هي أليق بالفعل من جهة أنها ناسبت لفظاً ومعنى، والنون ناسبت لفظاً؛ إذ معناها يصح للاسم، وهو التأكيد. وقد انتهى ما لخصناه من كلام المصنف في الشرح. وأما نون الإناث فذكر المصنف في الشرح أنه مبني على السكون بلا خلاف. وذكر في الاعتلال لبنائه ثلاث علل: إحداها: ما ذهب إليه س من أن يبنى حملاً على الماضي المتصل بها، إذا أصلهما البناء على السكون، فأعرب المضارع للعلة التي تقدمت، وبني الماضي على حركة لشبهه بالمضارع في وقوعه صفة وصلة وحالاً وشرطاً ومسنداً بعد النواسخ، بخلاف الأمر، فكما اشتركا في الخروج عن الأصل كذلك اشتركا في العود إليه بالنون. وقيل: بني لتركيبه معها؛ لأن الفعل والفاعل كالشيء الواحد، وإذا انضم إلى ذلك أن يكون مستحق الاتصال لكونه على حرف واحد تأكد امتزاجه، وهذا يقتضي أن يبنى إذا اتصل به ألف الجمع، أو واوه أو ياؤه، لكن منعه من ذلك شبهه بالمثنى والمجموع، كما منع أنا من البناء شبهها ببعض وكل معنى واستعمالاً. وقيل: بني لنقصان شبهه بالاسم؛ لأن النون لا تلحق الأسماء. انتهى ما لخص من كلامه. وما ذكره المصنف من أنه إذا لحقته نون الإناث مبني على السكون بلا خلاف ليس بصحيح، بل المسألة خلافية:

ذهب ابن درستويه إلى أنه معرب، وتبعه على ذلك السهلي وابن طلحة وطائفة من النحويين. واستدلوا بأن الإعراب قد استحق في المضارع، فلا يعدم إلا بعدم موجبه، وبقاء موجبه دليل على أنه معرب كما كان قبل النون، إلا أنه كان قبل دخول النون ظاهراً، وهو معها مقدر في الحرف الذي كان فيه ظاهراً قالوا: وإنما منع من ظهوره ما عرض فيه من الشبه بالماضي للنون التي لحقته، كما عرض في الأسماء المضافة لياء المتكلم، فالتزم كسر أواخرها لأجل ذلك، وجعل الإعراب فيها مقدراً. وذهب أكثر النحويين المتقدمين والمتأخرين إلى أنه مبني واحتجوا بأنه لما لحقته النون تعارض فيه شبهان، شبه بالاسم من حيث الإبهام والتخصيص، وشبه بالماضي من الوجه الذي ذكره س، وهذا يرده إلى أصله، ويجذبه إلى جنسه، فانبغى أن يغلب عليه هذا لأنه أولى، وإذا غلب حكم هذا فليس إلا البناء لأن البناء أصل الفعل، فأدنى شيء يرده إليه، والإعراب فيه خروج عن الأصل. وأما كلام س فيحتمل وجهين، إلا أن هذا القول الأخير يظهر منه لقوله: "وبني على هذه العلامة"، فظاهر هذا اللفظ البناء ومن وقف مع أنه معرب تكلف في إخراج البناء عما يطلقه عليه النحويون. وكنى س بالعلامة هنا عن السكون. وقال س: "فليس هذا بأبعد فيها - أي: ليس حملها على الماضي فتبنى بأبعد - من يفعل" حين حمل

على الاسم فأعرب، بل وجه دخول الإعراب فيه أبعد من وجه رجوع البناء إليه؛ لأن شبه المضارع بالماضي شبه قوي، حتى إنه هو، وشبهه بالاسم ليس كذلك، إذ الفعل ليس باسم، ولا شك أن استحكام حكم المشبه به في المشبه يكون على قدر الشبه. -[ص: ويمنع إعراب الاسم مناسبة الحرف بلا معارض منها تمكنا.]- ش: قال المصنف في الشرح ماملخصه: الحرف أمكن في البناء - إذ لا/ حرف معرب - من الفعل، إذ منها معرب، وما لا يعرب منه شبيه بالمعرب، أما الماضي فلوقوعه موقع المضارع في مواضع، ولهذا الشبه لم تلحقه هاء السكوت وقفاً، إذ لا تلحق حركة إعرابية ولا شبيهة بها. وأما الأمر فلجريانه مجرى المجزوم في السكون والحذف، ولا يعامل بهذا مبني غيره، بل يسكن كـ "الذي" و "التي". وإذا ثبت أن المبني من الأفعال شبيه بالمعروف ضعف جعل مناسبته سبباً لبناء شيء من الأسماء المبنية، كقول بعضهم في نزال وهيهات: بنيا لأنهما بمعنى انزل وبعد. ويضعف هذا أيضاً أنه كان يلزم بناء سقياً لك، وضرباً زيداً، لأنهما بمعنى الأمر، وإعراب أف وأوه لأنهما بمعنى أتضجر وأتوجع، وهما معربان، فثبت أن بناء أسماء الأفعال لمناسبتها الحروف، وشبهها هو بالحروف الناسخة للابتداء في لزوم معنى الفعل، والاختصاص بالاسم، وكونها عاملة غير معمولة. انتهى ما لخص من كلامه. أما قوله: "ولهذا الشبه لم تلحقه هاء السكوت" فهذه مسألة مختلف فيها

إذا وقفت على الفعل الماضي، نحو قعد، وفيه ثلاثة مذاهب يفرق في الثالث بين أن يكون متعدياً فلا تلحق وبين أن يكون لازماً فتلحق وقد استوفينا الكلام على ذلك في باب الوقف وأما قوله: "وكونها عاملة غير معمولة" فقد كرر ذلك في كتبه، وأن أسماء الأفعال ليست معمولة لشيء فلا محل لها من الإعراب. وكأنه لم يعرف في ذلك خلافاً. وقد ذكرنا في باب أسماء الأفعال من شرح هذا الكتاب الخلاف في ذلك، وأن مذهب س والمازني وأبي علي الدينوري وأبي علي الفارسي في تذكرته أن الأسماء الأفعال منصوبة بأفعال مضمرة وقيل: هي في موضع رفع مبتدأه والضمير الذي رفيها مرفوع بها سد مسد خبر المبتدأ، كما في قولك: أقائم زيد؟ ومذهب الأخفش والفارسي في حلبياته أنها لا موضع لها من الإعراب. وأمعنا الكلام على ذلك، فأغنى عن إعادته هنا. وكلام المصنف يدل على أن سبب البناء واحد، وهو شبه الاسم الحرف، ونص على ذلك في بعض تصانيفه. ونوع وجوه الشبه إلى شبه لفظي، وهو أن يبنى الاسم على حرف واحد أو على حرفين. وإلى شبه

معنوي، كشبه" متى" إن كانت شرطاً ب "إن" من حيث المعنى، أو استفهاماً بالهمزة وغير ذلك من وجوه الشبه عنده. ولا أعلم أحداً سلك هذا المسلك غير هذا المصنف، إلا أن في كتاب البسيط نقلاً عن بعض النحويين أنه ذهب إلى نحو من ذلك في بعض أسماء الأفعال، قال: " بنيت لأن فيها ما وضعه وضع الحروف نحو قدك وهاك، وهي مبنيات فحملت البواقي عليها" وقد رد هذا المذهب بما سنذكره في بابه إن شاء الله. وأما غيره من النحويين فذكروا أسبابً للبناء: منها شبه الحرف، كالمضمر واسم الإشارة والموصول. ووجه الشبه أنها في تأدية معناها مفتقرة إلى غيرها، كما أن الحرف يفتقر إلى غيره في بيان معناه. ومنها تضمن معنى? الحرف، كأسماء الشرط وأسماء الاستفهام. ومنها وقوعه موقع المبني كأسماء الأفعال والمنادى المبني بسبب النداء. ومنها مضارعة ما وقع موقع المبني وهو ما كان معدولاً لمؤنث نحو حذام ورقاش، ضارع نزال، ونزال وقع موقع انزل. ومنها ما خرج عن النظير وهو " أي" الموصول إذا اجتمع فيه شرط البناء، وذلك على مذهب س، نحو ما أنشد سلمه.

أباهل لو أن الرجال تبايعوا على أينا شر قبيلاً وألأم بضم "أينا" التقدير: على الذين هم شر قبيلاً ومنها الإضافة إلى مبني نحو قوله: على حين عاتبت المشيب على الصبا .................... وقوله: لم يمنع الشرب منها غير أن نطقت ............... بفتح حين وغير. والكلام على هذا النوع الأخير يأتي في موضعه من هذا الكتاب أما "على حين" ففي باب الإضافة، وأما " غير أن نطقت" ففي باب الاستثناء إن شاء الله. هذا تقسيم أصحابنا في أسباب البناء. وذهب أبو علي الفارسي إلى أنه لا موجب للبناء إلا الشبه بالحرف أو تضمن معناه، ولا يجوز أن يبني- عنده- اسم لوقوعه موقع اسم مبني، لأن الأسماء ليس أصلها البناء، فلا يحمل عليها غيرها لوقوعها موقعها. ولا يجوز- عنده أيضاً- أن تبنى الأسماء لوقوعها موقع الفعل، لأن الأسماء إذا

أشبهت الأفعال فإنما يحصل فيها أنها تمتع الصرف لا أن تبنى. اعتذر عن بناء الاسم المنادى بأنه وقع موقع ضمير المخاطب، والغالب عليه الحرفية، فكأنه بني لوقوعه موقع الحرف. والدليل على أن الغالب عليه الحرفية أنه إذا كان اسماً كان فيه معنى الخطاب، وذلك هو الذي اختص الحرف بإعطائه، وقد يتجرد لمعنى الحرفية، إلا ترى أنك تقول ضربت فتكون التاء اسماً الأفعال نحو دراك فبينت لتضمنها معنى الحرف، وهو لام الأمر، ألا ترى أن درك في معنى لتدرك وأما شتان ووشكان وسرعان فبنيت - وإن لم تتضمن - لأن الغالب على أسماء الأفعال أن تكون بمعنى الأمر ولا تجيء بمعنى الخبر إلى قليلاً فعوملت معاملة أسماء الأفعال إذا كانت بمعنى الأمر. وأما أي فله أن يأخذ فيها بمذهب الخليل أو يونس، فلا تكون - عنده- مبنية. وأما حذام ويسار وأمثاله فله أن يذهب فيها إلى مذهب ألربعي من أنه بني لتضمنه معنى علامة التأنيث لأن حذام معدول عن حازمة، ويسار معدول عن يسرة. وهذا الذي ذهب إليه أبو علي مذهب شديد التعسف، كثير التكلف، وهو مع ذلك فاسد بدليل بناء الاسم لإضافته إلى مبني، وإن لم يشبه الحرف، ولا تضمن معناه. وكل ما اعتذر عنه فأنه بني فيه على الحمل على

الغالب، وسامح نفسه في ذلك. وكان يتحمل ما قال لو أدى ما فر منه إلى شيء مستحيل ولا يبعد إذا وضعت كلمة أصلها الإعراب موضع كلمة أصلها البناء أن يحكم لها بحكم ما حلت محله. فأما الأسماء المسكنة قبل التركيب/ كحروف الهجاء المسرودة وأسماء العداد إذا قلت: ألف. باء. تاء. ثاء. جيم. إلى آخره، وواحد. اثنان. ثلاثة. أربعة. خمسة، فاختار المصنف أنها مبنية على السكون لشبهها بالحرف، لأنها كلم غير عاملة في شيء ولا معمولة لشيء فأشبهت الحروف المهملة ك "هل" و"لو". وذهب غيره إلى أنها ليست مبنية ولا معربة. أما كونها غير معرب فواضح لأنها لم تركب مع عامل. وأما كونها غير مبنية فلسكون آخرها وصلاً بعد ساكن نحو: قاف سين، وليس في المبنيات ما يكون كذلك. وذهب بعضهم إلى أنها معربة في الحكم لا في اللفظ، ولا يلزم من كونها ليست معربة لفظاً أن لا تكون حكماً ولو لزم ذلك لم يعل في الأفراد فتى ونحوه، لأن سبب الإعلال في مثله فتح ما قبل الآخر مع تحركه أو تقدير تحركه، ولكان الموقوف عليه مبنياً. وكذا المحكي والمتبع. وما ذهب إليه ليس يجبد، لأن المحكي والمتبع والموقوف عليه

مركب مع عامل يطلب الإعراب لفظاً أو حكماً وأما هذه الأسماء فلم تركب مع عامل، فيستحيل أن يتخل فيها الإعراب حكماً وإنما قلنا به في تلك لدخول العامل. وأما فتى فهو مما وضع في أول أحواله متحرك الآخر، فلذلك أعل، وهو قبل التركيب موضوع على حركة أو تقدير الحركة فلذلك انقلبت ياؤه ألفاً لتحركها مع انفتاح ما قبلها. وقوله: بلا معارض احتراز من "أي" فإنها معربة مع مناسبتها للحرف، لأنها إن كانت استفهاماً ناسب معناها معنى الهمزة أو شرطاً ناسب معناها معنى إن أو موصولة فهي مفتقرة افتقار غيرها من الموصولات، والموصولات مبنية غيرها، لكن عارض هذه المناسبة إضافتها لزوماً لفظاً ومعنى أو معنى لا لفظاً فتكون بمعنى "بعض" إن أضيفت إلى معرفة، وبمعنى "كل" إن أضيفت إلى نكرة فغلبت مناسبتها للمعرب على مناسبتها للحرف، لأن هذه المناسبة تدعو إلى ما يستحقه الاسم بالأصالة، وهو الإعراب هذا معنى ما شرح به المصنف قوله: " بلا معارض" مع زيادة بيان قال: " وليثبت بذلك مزية لما له جابر على ما لا جابر له، لأن إلغاء شبه الحرف في "أي" بما فيها من شبه المتمكن كإلغاء عجم "لجام" ونحوه بما فيه من شبه الاسم العربي بقبول الألف واللام والإضافة" انتهى كلامه. وهذا الذي ذهبت إليه المصنف ليس بجيد لأنه يشرك أيا أيضا في هذا المعنى الذي يثبت لها به الإعراب غيرها، وهو مبني وذلك لدن فإنها لازمة الإضافة بل هي أقوى في ذلك لأنها لا تنفك عنها لفظاً وهي بمعنى عند، وعند معربة ولدن مبنية فكان ينبغي أن تعرب لدن كما أعربت أي، إذ قد اشتركا في المعنى الذي أوجب الإعراب لأي. وقوله: والسلامة منها تمكن أي من مناسبة الحرف، وسمى ذلك تمكناً

لأنه تصرف في الكلمة بحركات أو بحروف على من يرى ذلك، بخلاف المبني، فإنه/ فاقد لهذا التصرف. والمتمكن على قسمين: متمكن أمكن وهو الاسم المنصرف، ومتمكن غير أمكن وهو الاسم الذي لا ينصرف وسمي بذلك لأنه نقصه من جهات التمكن شيء واحد، وهو الجر. -[ص: وأنواع الإعراب رفع ونصب وجر وجزم وخص الجر بالاسم لأن عامله لا يستقل فيحمل غيره عليه، بخلاف الرفع والنصب وخص الجزم بالفعل لكونه فيه كالعوض من الجر.]- ش: ذكر المصنف أن أنواع الإعراب أربعة، فالإعراب على هذا جنس، وهذه أنواعه فالذي يدل به على الرفع حركة وحرف عند من يرى ذلك وكذلك الذي يدل به على النصب والجر، والذي يدل به على الجزم هو حذف الحركة أو الحرف عند من يرى ذلك وعدمهما فالجزم هو عدم تلك الحركة أو الحرف. وإذا تقرر هذا بطل أن تكون أنواع الإعراب أربعة، لأن ثلاثة منها ثبوتيات والواحد عدمي لأنه عدم تلك الثبوتيات وما يكون عدمياً لا يشترك في النوعية مع الوجودي، فإذا ليست أنواع الإعراب أربعة، ولذلك قال الكسائي في بعض كتبه: " أواخر الكلم على ثلاثة أحرف، على الرفع والنصب والخفض". وكذلك قال أكثر الكوفيين وتابعهم على ذلك المازني روي عنه أنه قال: " الجزم ليس بإعراب، وإنما هو عدم الإعراب". وقدم المصنف الرفع لأن الكلام لا يستغني عنه، وغيره قد يستغنى

عنه وقدمه مع النصب لاشتراك الاسم والفعل فيهما، فبدأ بالمشترك وقدم الجر لاختصاصه بما هو أصل، وهو الاسم، وأخر الجزم لاختصاصه بما هو فرع، وهو الفعل وهذا كله ترتيب استحساني لا ضروري ولو قدم النصب لكون محله أوسع من الرفع لكان ذلك مناسباً وقد فعل ذلك س فقال: " وهي تجري على ثمانية مجار، على النصب والرفع والجر والجزم والفتح والضم والكسر والوقف" فقدم النصب والفتح على الرفع والضم. ولو قدم الجر لاختصاص الأشرف به، وهو الاسم والجزم لاختصاص الفعل به، ثم ذكر المشترك وهو الرفع لكان لذلك وجه من المناسبة. وقوله: وخص الجر بالاسم. إلى آخره قال المصنف في شرحه لكلامه: " لما كان الاسم في الإعراب أصلاً للفعل كانت عوامله أصلا لعوامله، فقبل رافع الاسم وناصبه أن يفرع عليهما لاستقلالهما بالعمل وعدم تعليقهما بعامل آخر، بخلاف عامل الحر، فإنه غير مستقل لافتقاره إلى ما يتعلق به ولذلك إّا حذف الجار نصب معموله، وإذا عطف على المجرور جاز نصب المعطوف، وربما اختير النصب فشارك المضارع الاسم في الرفع والنصب لقوة عامليهما بالاستقلال وإمكان التفريع عليهما، وضعف عامل الجر لعدم استقلاله عن تفريع غيره عليه، فانفرد به الاسم، وجعل جزم الفعل عوضاً مما فاته من المشاركة في الجر، فانفرد به ليكون لكل واحد من صنفي المعرب ثلاثة أوجه من الإعراب بتعادل، وذلك أن الجزم راجح باستغناء عامله عن تعلق بغيره، والجر/ راجح بكونه ثبوتا بخلاف الجزم، فإنه بحذف حركة أو حرف، فتعادلا بذلك" انتهى كلام المصنف. وهذا التعليل الذي ذكره لاختصاص الجر بالاسم والجزم بالفعل لو كان صحيحاً كان ينبغي أن لا يذكره في هذا الكتاب لأنه كتاب جامع لأكثر أحكام

النحو موضوع لذلك، لم يقصد المؤلف فيه إلى تمثيل حكم ولا لتعليله ولا لدليله السمعي، فذكره لتعليل ذلك ليس بمناسب. وأما طلب العلة لاختصاص كل واحد منهما بما اختص به، فهو شيء قد بحث فيه النحويون، وطولوا في ذلك بما لا فائدة في ذكره، والصواب في ذلك ما حرره بعض أصحابنا، وهو أن التعرض لامتناع الجر من المضارع المعرب، وامتناع الجزم من الأسماء المعربة على الإطلاق تعرض للسؤال عن مبادئ اللغات، والسؤال عن مبادئ اللغات لا سبيل إليه، لأنه يؤدي إلى التسلسل، إلا ترى أن السؤال إذا وضع عن انفراد الأسماء بالخفض والأفعال بالجزم مطلقاً لم يخل أن تريد: لأي شيء لم تجزم الأسماء بجوازم الأفعال أو بعامل من عواملها يعلمه بدل عمله أو مع عمله؟ وكذلك لأي شيء لم تخفض الأفعال بخواض الأسماء أو بعامل من عواملها يعمله بدل عمله أو مع عمله؟ وكيفما فرض السؤال فإنه يلزم مثل ذلك في الرفع والنصب فيقال: لأي شيء لم ترفع الأفعال بروافع الأسماء أو بعامل من عواملها التي لا تعمل الرفع بدل عمله أو يعمله مع عمله؟ ولأي شيء لم تنصب بنواصب الأسماء أو بعامل من عواملها التي لا تعمل النصب بدل عمله أو مع عمله، حتى يعمل الرافع للأفعال بدل رفعه نصباً، أو يعمل مع رفعه نصباً ومثل ذلك السؤال يلزم أيضا في روافع الأسماء ونواصبها،

فكما لا يتعرض لتعليل ذلك أنه سؤال عن مبادئ اللغات لأنه بتقدير أن يكون الأمر على ما سأل عنه يسوغ له السؤال: لم لم يكن الأمر بخلاف ذلك؟ فيؤدي إلى تسلسل السؤال، فكذلك لا ينبغي أن يتعرض لامتناع الخفض من الأفعال والجزم من الأسماء مطلقاً، وإنما ينبغي أن يسأل عما كان يحب قياساً فامتنع. والذي يجب قياساً خفض المضارع إذا أضيفت أليه أسماء الزمان نحو قوله تعالى: {هَذَا يَوْمُ يَنفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ} لأنه فعل معرب وقد دخل عليه عامل خفض ولم يؤثر فيه. وكذلك أيضاً يجب قياساً جزم الأسماء التي لا تنصرف أنها لما أشبهت الفعل فزال منها التنوين والخفض، وجب أن تكون - إذا دخل عليها عامل من عوامل الخفض- دون علامة لزوال علامة الخفض بالشبه، والجزم هو أن يدخل عامل، فلا يحدث علامة، بل يكون ترك العلامة علامة له. فأما الفعل المضارع فلم يؤثر فيه الاسم المضاف إليه لأن الإضافة في المعنى إنما هي للمصدر المفهوم منه، ألا ترى أن قوله: {هَذَا يَوْمُ يَنفَعُ} معناه: يوم نفع الصادقين ودلالة الفعل على المصدر من قبيل دلالة التضمن والعرب لا تخبر عن شيء ولا تضيف إليه إلا إذا أتت في لإخبار أو في الإضافة باللفظ الذي يدل عليه دلالة مطابقة/ فلا تقول: أعجبني السقف تعني الحائط الذي هو عليه أو خشبة منه، فلذلك لم يؤثر الاسم المضاف في الفعل لأنه غير مضاف إليه، من حيث إنه لا يدل على المصدر الذي هو اسم الزمان مضاف إليه في المعنى دلالة مطابقة. وأما الأسماء التي لا تنصرف فلم تبق ساكنة في حال الخفض حتى

يكون ترك العلامة لها علامة للخفض، لأنهم لو فعلوا ذلك لكان إجحافاً بها لما يلزم فيها من حذف شيئين من جهة واحدة، كل واحد منهما لمعنى، وذلك غير موجود في كلامهم فيما ليس له معنى- أعني حذفين أو إعلالين من جهة واحدة- إلا في ضرورة شعر أو نادر كلام إن جاء، فكيف فيما له معنى. وهذا الذي ذهبت إليه من امتناع تعليل الانفراد مطلقاً بل حيث ذكرنا مذهب س، ألا ترى أنه قال في تعليل امتناع الخفض من الأفعال: " لأن المجرور داخل في المضاف إليه ومعاقب للنونين" فلم يعلل امتناع الخفض منها بغير الإضافة لما ذكرنا من أنه يظهر أنه كان يجب أن تخفض في الإضافة خاصة. وأما قول س في تعليل امتناع الجزم من الأسماء " لتمكنها ولحاق التنوين لها" فإنه يعني بذلك الأسماء غير المنصرفة، ومراده: لتمكنها ولحاق التنوين إياها في الأصل، بخلاف الفعل الذي لا حظ له في التمكن ولا في التنوين. وقوله " فإذا ذهب التنوين" يعني بالشبه بالفعل. وقوله: " لم يجمعوا عليه ذهابه وذهاب الحركة" يريد: لما في ذلك من الإجحاف الذي تقدم تبيينه. انتهى. وقد سبق إلى أن مراد س بامتناع الجزم من الأسماء هو في الأسماء التي لا تنصرف أبو نصر النحوي، قال س: " وليس في الأسماء

جزم"، قال أبو نصر: " يريد الأسماء المضارعة للأفعال وهي التي لا تنصرف، وإنما فيها الجزم حين منعت الجر والتنوين كما منعهما الفعل ليكون عوضاً من الجر". قال س: " فإذا ذهب التنوين لم يجمعوا عليه ذهابه وذهاب الحركة". وقال الزجاج: " قال لبعضهم: لم تجزم الأسماء لخفتها ولم تخفض الأفعال لثقلها" وقال عبد الدائم القيرواني: الذي أختاره أنا قول المازني وهو أنه لم يدخل الجزم الأسماء لأنه لا يكون إلا بعوامل يمتنع دخولها على الأسماء من جهة المعنى، نحو لم ولما وحروف المجازاة وشبه ذلك، فلما لم يصح معنى الجازم فيها امتنع دخولها عليها. وكذلك العلة في دخول الخافض على الأفعال هي عدم صحة المعنى. ومما ر يتعقب على المصنف في كلامه قوله في عامل الجر" إنه غير مستقل لافتقاره إلى ما يتعلق به" وليس هذا على الإطلاق: لأن حرف الجر إذا كان زائداً لا يفتقر إلى ما يتعلق به، وكذلك إذا كان غير زائد في نحو: لولاك، ولعل زيد قائم في لغة من خفض. وقوله: " ولذلك إذا حذف

الجار نصب معموله" ليس على الإطلاق بل منه ما يرفع معموله نحو {كَفَى بِاللَّهِ} وما قام من رجل وما زيد بقائم في لغة تميم، فإنك تقول (كفى الله) وما قام رجل، وما زيد قائم. /ص: والإعراب بالحركة والسكون أصلا، وينوب عنه الحرف والحذف. فارفع بضمة وانصب بفتحة، وجر بكسرة، واجزم بسكون إلا في مواضع النيابة. ش: استدل المصنف في الشرح على أن الإعراب بالحركة أصل للإعراب بالحرف، وأن الإعراب بالسكون أصل للإعراب بالحذف بأنه لا يصار إلى غيرها إلا عند تعذرها، ولذلك اشترك الاسم والفعل في الرفع بضمة والنصب بفتحة ولم يشتركا في إعراب بحرف. وكانت أصالة الإعراب في غير الجزم للحركة لأنها أخف وأبين، إذ لا تخفي زيادتها على بنية الكلمة وإدراك المدلول دونها، بخلاف الحرف، فسقوطه في الغالب مخل بمفهوم الكلمة كالتثنية والجمع المذكر المسلم، ولذلك اختلف في المعرب بحرف، هل هو قائم مقام الحركة أم الحركة مقدرة فيه أو فيما قبله. كان السكون في الجزم أصلاً لأن بنية الفعل لا تنقص به، بخلاف حذف آخره، ولذلك قد يستغنى عن حذفه بتقديره ظاهر الحركة قبل الجزم. واستدل بعض أصحابنا على أن أصل الإعراب للحركات بأن أكثر المعربات إنما أعربت بالحركات وإنما أعرب بغيرها ما رفع بالنون لتعذر الحركة فيه والمجزوم لكون العلامات قد استغرقت فجعل ترك العلامة

علامة، ولأن الإعراب زائد على الكلمة والحركات بعض حروف العلة، فالضمة بعض الواو والفتحة بعض الألف، والكسرة بعض الياء، وزيادة بعض أهون من زيادة حرف كامل. وهذا الذي ذكره بعض أصحابنا يدل على خلاف ما قاله المصنف، لأنه ادعى أن الإعراب بالحركة والسكون أصل، وهذا لم يجعل إعراب السكون أصلاً، بل إنما جعل الأصل الإعراب بالحركات بل جعل في المجزوم ترك العلامة علامة. وقول هذا القائل" والحركات بعض حروف العلة" كلام لا تحقيق فيه، بل ليست بعضاً فإن أشبعت الحركات حدثت تلك الحروف، وحدوثها عند الإشباع لا يدل على أن الحركة بعضها. وقوله وينوب عنهما الحرف والحذف هذا فيه لف في الضمير إذ الحرف ينوب عن الحركة على مذهب والحذف ينوب عن السكون، وينوب أيضاً عن الفتحة في الأمثلة الخمسة، وقد سبق لنا الكلام على قوله في أول الباب أو سكون أو حذف" وأوردنا هناك ما أوردناه، وهو وراد هنا. وقوله: فارفع بضمة، وانصب بفتحة، وجر بكسرة هكذا قال غيره من النحويين، وكان القياس على مذهب البصريين أن يقال بدل " ضمة" " رفعة"، وبدل "فتحة" وبدل "كسرة" لأن الضم والفتح والكسر إنما هي للمبني، فينسب ما هو من لفظها إلى المبني، والرفع والنصب والجر للمعرب، فينبغي أن ينسب ما هو من لفظها إلى المعرب لكنهم أطلقوا على

حركات الإعراب ضمة وفتحة وكسرة على سبيل التوسع، لأن اللفظ بالمضموم والمفتوح والمكسور/ كاللفظ بالمرفوع والمنصوب والمجرور. -[ص: وتنوب الفتحة عن الكسرة في جر ما لا ينصرف إلا أن يضاف أو يصحب الألف واللام أو بدلها والكسرة عن الفتحة في نصب أولات والجمع بزيادة ألف وتاء، وإن سمي به فكذلك، والأعرف حينئذ بقاء تنوينه وقد يجعل كأرطاة علماً.]- ش: اختلف النحويون في حركة مالا تنصرف في حالة الجر، وفي حركة المجموع بالألف والتاء المزبدتين، فذهب الجمهور إلى أنهما حركتا إعراب وذهب الأخفش والمبرد إلى أنهما حركتا بناء، وزعما أن هذين الصنفين من الأسماء يعربان في حالين، ويبنيان في حال فما لا ينصرف يعرب في حال الرفع والنصب وينبي في حال الجر، وكذلك الجمع ويعرب في حال الرفع والجر، ويبني في حال النصب. وهذا القول مرغوب عنه لأنه لا يبنى إلا لسبب، وقد تقدم ذكر الأسباب التي للبناء، وهذان النوعان ليس فيهما سبب منها، وأيضاً فلم

نجد اسمًا يعُرب في حالين أو حالة، ويبني في حالة أو حالين. فأما احتياجُخما بأمس، وقولهما إنها تُبني تارة، وتُعرب تارة، وتشبيهُ دينك بأمس، فهو فاسم لأن أمس لا يبني إلا حال تضمنه معني الخرف، وهو لام التعريف، وتضمن معني الحرف من موجبات البناء، ويُعرب إذا لم يتضمنه، وذلك معدوم فيما لا ينصرف وفي ذلك الجمع؛ ألا ترى أن أمس إذا كانت نكرة أو مضافة أو معرفة بلام التعريف هي معربة بالاتفاق، فإن كانت معرفة بغير أداة التعريف، نحو قولك: خرجت أمس، تريد اليوم الذي قبل يومك بليلة، ينبت لتضمنها معني أداة التعريف. قوله: وتنوب الفتحة عن الكسرة في جزء مالا ينصرف امتناع ما لا ينصرف من الكسر اختلف في علته بعد اتفاقهم على أن ما لا ينصرف التنوين، فمن النحويين من قال: لما أشبه الفعل فمنع التنوين منع أيضاً لذلك الشبه الكسرة فشبهه بالفعل اقتضى له ما منعه الفعل، وهو الكسر والتنوين، فلما منع الكسرة جر بالفتحة وحمل المجرور على المنصوب لاشتراكهما في الفضيلة وفي غير ما شيء ولم يحمل الجر على الرفع لتباين ما بينهما إذا المرفوع عمدة والمجرور فضله. ومنهم من قال: لما أشبه الفعل منع التنوين فقط، وامتنع الكسرة لعلة أخرى، وهو أنه جر بالكسرة لتوهم أنه مضاف إلى ياء المتكلم وأنه حذفت من الاسم، واجتزئ بالكسرة عنها، أو توهم أنه مبني على الكسر، أن الكسرة لا تكون إعراباً إلا إن كان في الاسم تنوين أو يعاقبه في الألف واللام أو الإضافة. وإلى هذا ذهب ابن الأنباري، ومال إليه السهيلي

واستحسنه ابن القاسم، ولا يصح إلا على مذهب الكسائي والفراء وأما س فلا يحذف هذه الياء إلا في النداء وإتباعا لخط المصحف أو ضرورة قال ابن الأنباري: فإذا دخلت أل أو أضيف زال اللبس لأنهما لا يجتمعا مع الياء فردت الكسرة. وقوله: إلا أن يضاف أو يصحب بالألف واللام/ إنما جر بالكسرة في هاتين الحالتين لأنه دخله ما عاقب التنوين، والاسم إذا دخله التنوين جر بالكسرة، فكذلك إذا دخله ما عاقبه. ومنهم من قال: السبب في ذلك أنه دخله خاصة من خواص الأسماء، فضعف فيه شبه الفعل فجر بالكسرة وضعف هذا بأنه يدخل عليه حرف الجر ويصغر وينعت وهذه من خواص الأسماء وأجيب بأنه لم يدخل عليه حرف الجر إلا بعد ما تمكن الشبه فيه فلم يعتد به، وبأن التصغير قد يوجد في الأفعال نحو: ما أمليح زيداً! فلم يتمحض لأن يكون من خواص الأسماء، إذ قد وجد في نوع ما من أنواع الأفعال وبأن النعت ليس اتصاله بالمنعوت كاتصال الألف واللام والإضافة، فلذلك لم تعتبر هذه الخواص واعتبرت الألف واللام والإضافة فعاد بهما إلى أصله من الجر بالكسرة.

ويشمل قوله الألف واللام كونها للتعريف نحو قوله تعالى: {كَالأَعْمَى وَالأَصَمِّ} موصول كقول الشاعر: وما أنت باليقظان ناظره إّذا رضيت بما ينسيك ذكر العواقب وزائدة نحو قول الشاعر: رأيت الوليد بن اليزيد مباركاً شديداً بأحناء الخلافة كاهله وقوله: أو بدلها إبدال لام التعريف ميماً هي لغة حمير ومثال دخولها على ما لا ينصرف فجر بالكسرة قول الشاعر: أأن شمت من نجد بريقاً تألقا تكابد ليل امأرمد اعتاد أولقا أراد: ليل الأرمد. وذكر صاحب " المعرب" أنها لغة لطيئ. وإذا أضيف أو دخلته أل فمذهب أبي علي وابن جني أنه يسمى

منجزًا لا منصرفا. ومذهب الزجاج والزجاجي والسيرافي أنه يسمى منصرفاً وهذا مبني على الاختلاف في سبب تسميته منصرفاً وغير منصرف وقوله: والكسرة عن الفتحة في نصب أولات قال تعالى: {وَإِن كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ} وأولات في المؤنث نظير أولو في المذكر، إلا أن أولو يخص العاقل. ولا مفرد لهما من لفظهما قال أبو عبيدة: " أولات واحدها ذات". قال أبو علي: وزنها فعل مثل هدى، العين متحركة ولا تكون ساكنة لانقلاب اللام ولا تنقلب اللام في القياس إلا لفتح ما قبلها، فاللام في أولات كالعين في ذات في انقلابها، لكن حذفت الألف المنقلبة مع الألف والتاء فوزنه فعات/ وصارت محمولة على نظيرتها، وهي ذوات وهما في ذلك جريا للزومهما الإضافة مجرى مالم يتمكن نحو هيهات فيمن كسر، لأن قياس قوله أن تكون من مضاعف الياء، وأن اللام حذفت مع الألف والتاء والأصل هيهات. فإن قيل: لو كانت أولات على فعل لم يقل في جمعه للمذكر ألون وقياسه أن يكون مثل مصطفون؟

فالجواب: أنه لعدم تمكنه أجري مجرى الذوين فكسروا مع الياء، وضموا مع الواو، فكما كسروا الواو في الذورين وكان حقها الفتح لأنه جمع ذوى وقد جاء في المتمكن ومنه قوله: ظعائن من بني الحلاف تأوي إلى خرس نواطق كالفتينا وكقوله: ............. ........... لا فصافص في كبينا حملوا فيه الحركات بعضها على بعض. ويحتمل أن يكون أصله أل، الآخر منه ياء وحذفت للألف والتاء كما حذفت ياء"الذي" في "اللذان". فإن قلت: ليس في الأسماء على فعل؟ فالجواب: أنه يجوز أن يكون ك "ثن" ثم تحركت بالفتح لأجل

الألف، وضمت لأجل الواو في "ألوان" وشمل قوله: والجمع بألف وتاء ما جمع بهما من مذكر كحسامات وحمامات ومن مؤنث كزينبات، وقيد ذلك بقوله: " بزيادة ألف وتاء"ليحترز عن مثل أبيات، فإن التاء فيه أصلية وعن مثل قضاة، لأن الألف فيه منقلبة عن أصل. ونصب هذين بالفتحة مغيرهما من جموع التكسير. وهذا الذي ذكره المصنف من أن الكسرة تنوب عن الفتحة في ذلك هو مذهب البصريين ولا يعرفون غيره، ولا يجيزون الأصل. وجوز الكوفيون نصبه بالفتحة في حال النصب، وحكوا من ذلك: " سمعت لغاتهم" بفتح التاء، وأنشدوا: فلما جلاها بالإيام تحيزت ثباتا، عليها ذلها واكتئابها بنصب تاء ثبات. وقال الرياشي: سمعت بعض العرب يقول- وليس هو بالمعروف-: أخذت أرائهم، بنصب التاء.

"وقال أبو عمرو بن العلاء لأبي خيرة: كيف تقول: حفرت إراتك؟ قال: حفرت إراتك. قال: فكيف: استأصل الله عزقاتهم أو عزقاتهم؟ فقال: استأصل الله عزقاتهم. فلم يعرفها أبو عمرو، وقال: لأن جلدك يا أبا خيرة. يقول أخطأت. قال أحمد بن يحي: هي لغة لم تبلغ أبا عمرو. يقال: وأرت إرة أثرها وأرا: إذا حفرت حفرية تطبخ فيها، وإرات: جمع إرة. قال أبو عثمان: كان أبو عمرو يرده، ويراه لحناً". وقال هشام: حكي الكسائي: سمعت لغاتهم قال: وهذا في الناقص ولا يجوز من هذا شيء عند البصريين، لأنه لا فرق بين الناقص والتام. وحكي الكوفيون: انتزعت علقاتهم وعزقاتهم بكسر التاء وفتحها، فأما انتزعت علقاتهم فهو جمع علقة، يقال لما يض 1 ن به: علقة، ولا يجوز الفتح به عند البصريين. وقال الأصمعي: انتزعت عزقاتهم، بفتح/ التاء وهي واحدة أي: أصل مالهم. وتلخص من هذه النقول أن مذهب البصريين كسر التاء في النصب وجوباً ومذهب الكوفيين جوازاً فقيل مطلقاً وقيل: في الناقص. والسبب في إعراب هذا الجمع في حالة النصب بالكسرة هو أنه مشبه لما

جمع بالواو والنون، فحمل فيه النصب على الجر في الكسرة كما حمل نصب ذلك الجمع على جره في الياء لما تقرر من أن الفروع تحمل على الأصول وأصل هذا الجمع أن يكون للمؤنث السام، كما أصل ذلك الجمع "أن يكون للمذكر السالم. وذهب أبو الحسن بن كيسان إلى أن موجب ذلك هو أنهم أرادوا التفرقة بين جمع السلامة من المؤنث، وبين ما يشبهه في اللفظ وليس بجمع سلامة كأبيات وأموات. وكان الذي حمل فيه النصب على الخفض للفرق جمع المؤنث السالم، ولم يكن جمع التكسير الذي يشبه في اللفظ لأنه لا شبه بين أبيات وأمثاله وبين جمع المذكر السالم، ولا هو فرعه، فحمل عليه لذلك هكذا ذكر بعض أصحابنا عن ابن كيسان. ونقل غيره أن ذلك تعليل الكوفيين، وأن ابن كيسان وافق الجماعة، وأن ما فيه هاء الجمع ضارع التثنية والجمع، فجعل إعرابه على وجهين لئلا يخالفهما. وقوله: وإن سمي به فكذلك أي: فينصب بالكسرة وإن كان قد زال معنى الجمعية منه بكونه صار علماً فتقول فيمن يسمى هندات: هذه هندات، ورأيت هندات ومررت بهندات، كما تقوم إذا كان جمعاً لهند، كما فعلوا ذلك بجمع المذكر السالم إذا سمي به، فإنك تقول لمن يسمى زيدين: قال زيدون، ورأيت زيدين، ومررت بزيدين، كما تقول إذا كان جمعاً لزيد. وقوله: والأعراف حينئذ بقاء تنوينه أي: حين إّذ يسمى به، فيكون علماً يبقى فيه التنوين كما يبقى حين كان جمعاً قال المصنف في الشرح: "ومن العرب من يكتفي بعد التسمية بتقابل الكسرة للياء ويسقط التنوين،

فيقول: هذه عرفات، ورأيت عرفات، ' ومررت بعرفات" وقوله: وقد يجعل كأرطاة علماً قال المصنف في الشرح: " ومنهم - يعني من العرب- من يقول: رأيت عرفات، ومررت بعرفات فيلحق لفظه بلفظ مالا ينصرف. وإلى هذه اللغة الإشارة بقولنا: " وقد يجعل كأرطاة علماً" أي: يجعل كواحد زيد في آخره ألف وتاء كأرطاة وعلقاه وسعلاة" انتهى كلامه. وقد تكلمنا على كلامه هنا في كتاب " التكميل لشرح التسهيل" في " باب التسمية بلفظ كائن ما كان" ونحن نتكلم عليه هنا، إذ الكلام هنا على ذلك أمس، فنقول: ذكر المصنف أن إعرابه إعراب مالا ينصرف لغة، وهو خلاف مذهب البصريين والمنقول عن البصريين أنه إذا سمي بهذا الجمع يجوز فيه وجهان: أحدهما: إعرابه كإعرابه قبل أن يسمى به. والآخر: أن يحذف منه التنوين ويبقى مرفوعا بالضمة منصوباً ومجروراً بالكسرة من غير تنوين في الأحوال/ الثلاثة، ومن ذلك قول

الشاعر: تنورتها من أذرعات وأهلها ... ........................... في رواية من رواه بالكسر دون تنوين. وأجاز الكوفيون الوجه الأول، وأجازوا وجها ثانياً وهو منع الصرف فيضم رفعاً ويفتح نصباً وجراً كما يفعل بفاطمة. قال أصحابنا: ومذهب البصريين صحت به الرواية، ويقتضيه القياس، لأن التاء في هندات بعد التسمية باقية على حكمها، ألا ترى أنها لا تقلب هاء في الوقف، كما كانت لا تقلب قبل التسمية ولو كانت محكوماً لها بحكم فاطمة لقلبت هاء في الوقف، كما تقلب في فاطمة فإذا ثبت أنها محكوم لها بحكم تاء الجمع وجب أن تكون مكسورة نصباً وخفضاً. انتهى. وإذا كان الأمر كذلك فكيف يقول المصنف إن إعرابه إعراب مالا ينصرف لغة؟ وليس للكوفيين دليل في ذلك من سماع ولا أورد عنهم في ذلك شيء، وإنما قالوه بالقياس على فاطمة لما اجتمع فيه التأنيث والعلمية. وقال بعض النحويين ما نصه: " وأجاز الكوفيون فتح هذه التاء إذا سموا بما هي فيه، وأن تفتح في موضع الخفض والنصب في الشعر، وأنشدوا:

تنورتها من أذرعات وأهلها بيثرب، أدنى دارها نظر عالي وفتحها عند البصريين لا يجوز البتة لأنها بمنزلة الياء في مسلمين، وترك التنوين عندهم جائز في الشعر، وإثباته أحسن لأنه بمنزلة النون في مسلمين" انتهى كلامه. فتلخص من هذا النقل أن البصريين لا يجيزون إذا سمي به أن تفتح التاء البتة، وأن الكوفيين جوزوا ذلك في الشعر، وأن البصريين ترك التنوين عندهم جائز في الشعر، وكل هذه الأحكام مخالفة لما قاله المصنف أما فتح التاء حالة الجر فجعله لغة، ولم يذكر أن ذلك لا يجوز على مذهب البصريين، وناهيك من مذهب البصريين، وقد جهله، ولا أن ذلك أجازه الكوفيون في الشعر. وأما حذف التنوين مطلقاً والجر بالكسرة فذكر أن ذلك قول العرب وأنه لغة، وهؤلاء البصريون يجعلون ذلك جائزاً في الشعر. وفي البسيط مال ملخصه: " للعرب فيه عند التسمية مذهبان: الأكثر والأشهر إثبات التنوين، ومعاملته معاملة النكرة. والثاني أن تنل هذه التاء منزلة تاء فاطمة بحذف التنوين، وبفتحها نصباً وجراً وبرفعها رفعاً وأنشدوا للأعشى: تخيرها أخو عانات دهراً ... ورجى نفعها عاماً فعاما وهو قول أبي الحسن. وقال المبرد والزجاج: إذ حذف التنوين وجب الكسر، ولا يجوز الفتح، وأنشدا: تنورتها من أذرعات ........... ................

بالكسر بغير تنوين. وقال الأصمعي: " ترك التنوين مع الكسر خطأ". -[ص: وتنوب الواو عن الضمة، والألف عن/ الفتحة والياء عن الكسرة، فيما أضيف إلى غير ياء المتكلم من أب وأخ وحم غير مماثل قرواً وقراءاً وخطأ وفم بلا ميم، وفي ذي بمعنى صاحب، والتزم نقص هن أعرف من إلحاقه بهن]- ش: لما ذكر المصنف نيابة الحركة عن الحركة أخذ يذكر نيابة الحرف عن الحركة، فذكر أن حروف العلة تنوب فيما أضيف إلى غير ياء المتكلم، فشمل ما أضيف إلى الظاهر والمضمر غير الياء نحو: قام أخو زيد، ورأيت أخاه، ومررت بأخيك. وهذا شرط واحد ذكره، وأهمل شرطين: أحدهما: أن لا يكون شيء منها مصغراً فإنه إذ ذاك لا تنوب فيه الحروف بل تقول: جاء أخي زيد وهذا أبي خالد وحمي جعفر وفويه عمرو. الثاني: أن يكون مفرداً أي: ليس مثنى ولا مجموعاً لأنه إذ ذاك يصير حكمه حكم المثنى والمجموع والعذر للمصنف في إهمال هذين الشرطين هو أنه علق الحكم بعين لفظ أب وأخواته، فإذا صغر أو ثني أو جمع فليس نفس اللفظ المعلق عليه الحكم، وأصحابنا يقولون: مادامت مكبرة مفردة مضافة لغير الياء وقوله: إلى غير ياء المتكلم احتراز من أن تضاف إلى الياء فإنها إذ ذاك تذهب حروف العلة، فتقول: قام أبي وأخي وحمي، سيأتي الكلام على إضافتها إلى الياء في آخر فصل الإضافة إن شاء الله.

وقوله من أب وأخ لا خلاف بين البصريين أن وزنهما فعل بدليل أبوان وأخوان وآباء وإخاء، قال س: " هذا جماع فعل" بدليل إخراج أب على الأصل في قول الشاعر: تقول ابنتي لما رأتني شاحباً: كأنك فينا يا أبات غريب جعله مثل عصا. وزعم الكسائي والفراء أن وزنهما فعل بسكون العين، وأنشد الفراء والكسائي: لأخوين كانا خير أخوين شيمة وأنفعه في حاجة لي أريدها وقال رجل من بني طيئ: ما المرء أخوك إن لم تلفه وزراً ... عند الكريهة معواناً على النوب قال الفراء: استثقلت فيه الواو، فحذفت كما حذفوها من غد. قال: وإنما عربوا الأب والأخ من مكانين، ولم يفعلوا ذلك في غد ويد ودم لأن في أول أب ألفاً والعرب قد تترك الهمزة من أب وأخ، فلما اجتمع عليهما

ذهاب الواو من آخرها والهمزة من أولهما، وبقي الحرف أسماً كرهوا أن يكون اسم على حرف واحد، فذهبوا به إلى مثل ذي وذو وفي وفو. انتهى. وهذا الذي ذهب إليه الفراء فاسد لوجود هذا الإعراب من مكانين على زعمه في حم وهن وليس أولهما همزة. وأما قوله: " إنه معرب من مكانين" فسيأتي ذكر فساده. وأما حم فوزنه فعل عند البصريين، قالوا إحماء. وقال الفراء: الأصل حموا بإسكان الميم. والحم: أبو زوج المرأة وغيره من أقاربه، وهذا المشهور وقد يطلق على أقارب الزوجة. /وقوله: غير مماثل هذا القيد في حم خاصة، فإذا ماثل شيئا من موازنة كان إعرابه بالحركات الظاهرة كإعرابه، فتقول: هذا حموك وحمؤك وحمؤك. وقوله: وفم بلا ميم هو معطوف على قوله: "من أب وأخ وحم" وداخل في قيد ما أضيف إلى غير متكلم، فيشمل ذلك إضافته إلى الظاهر وإلى المضمر غير الياء، فتقول: هذا فو زيد، ورأيت فازيد، ونظرت إلى في زيد، وهذا فوه، ورأيت فاه، ونظرت إلى فيك، قال الشاعر: لعمري لسعد حيث حلت دياره أحب إلينا منك فا فرس حمر وقال:

فوه كشق العصا، لأيا تبينه أصك ما يسمع الأصوات، مصلوم ووزنه عند الخليل وس فعل بدليل جمعه على أفواه كسوط وأسواط. وذهب الفراء إلى أن وزنه فعل بضم الفاء، واستدل ك"س" بقول الفصحاء فم بفتح الفاء حالة التعويض. ونظير هذا استدلال س على أن أبنا مفتوح الفاء بقولهم بنون. وقوله: وفي ذي بمعنى صاحب هذا معطوف على المجرور ب"في" من قوله: " فيما أضيف" لا معطوف على المجرور ب" من" ولذلك كرر "في"، وإنما فعل ذلك لأن "ذا" بمعنى صاحب لا يضاف إلى الضمير مطلقاً، سواء أكان ضمير غائب أو مخاطب أو متكلم، على أن في إضافته إلى المضمر خلافاً س منعه والمبرد أجازه، وقال صاحب البديع: لم يرد مضافاً للضمير إلا مجموعاً وقد جاء مجموعاً غير مضاف: فلا أعني بذلك أسفليكم ولكني أريد به ألذوينا ومن أجاز ذلك قال في الإضافة إلى ياء المتكلم " ذي" كقولهم في.

وسيأتي ذلك مستوفى في باب الإضافة إن شاء الله. واحترز المصنف بقوله: " بمعنى صاحب" من "ذي" التي يشار بها إلى مؤنث ويرد عليه "ذو" الطائية في بعض لغات طيئ، فأنها تعرب فتقول: جاء ذو قام، ورأيت ذا قام، ومررت بذي قام، وليست بمعنى صاحب، وسيأتي ذكرها في الموصولات. ووزن ذي بمعنى صاحب عند س فعل، وأصله ذوي حذفت لامه. ولو سميت به على مذهبه أتممت. ويدل على أن هذا أصله قولهم: " ذواتا" في التثنية فعادت اللام، كما قالوا في تثنية أب: أبوان، ودل ذلك على أن وزنه فعل وهو - عنده- من باب طويت وبه قال أبو الحسن واحتج بهذه الحجة. وقال أبو علي وابن جني: لا يلزم هذا لأنه لما استمر تحريك

العين لحذف اللام لم يعتبر ردها لأنه عارض، فتركوها محركة كما قالوا: غدوي ودموي وقد قال الشاعر: يديان بيضاوان عند محلم ... ........................... والجمهور على أنه فعل على أن النحاس حكي أن من النحويين من جعله فعلا بهذا البيت. وهذا يلزم في مذهب س. وقد احتج أبو العباس في "دم" أنه فعل بقول الشاعر: ....................... /جرى الدميان بالخبر اليقين

والأكثر على أن هذا لا يلزم لما تقدم. وذهب الخليل إلى أن وزنه فعل، وأنه من باب قوة، فأصله ذو مثل قو. وقال ابن كيس: يحتمل الوزنين جميعاً. ومما يعكر على مذهب س في أن أصله ذوي، ثم صار ذوى، ثم حذفت اللام أنهم قالوا: ذوو مال، فلو كان أصل هذه الواو الفتح على ما زعم س لقالوا: ذوو مال كما قالوا: مصطفو زيد، فكانت الألف تسقط لمكان واو الجمع، وينفخ ما قبل الواو ليدل على المحذوف وقوله: والتزام نقص هن أعرف من إلحاقه بهن إما إلحاقه بهن وإعرابه بالواو رفعاً والألف نصباً والياء جراً ففي ذلك خلاف: ذهب الفراء إلى أنه من هذه الأسماء قال الفراء: وأما ما لم يتم في حال، وجاء منقوصاً فقولهم دم ومثله هن وهنة، قال: فهذا لم بجد له في الواحد تماماً. وذهب س إلى أنه من هذه الأسماء قال س: " ومن العرب من يقول هنوك وهناك ومررت بهنيك ويقولون هنوان، فيجريه مجرى الأب" انتهى. ومن حفظ حجة على من لم يحفظ ولما لم يكن ذلك بالمشهور في كلام العرب لم يعده كثير من النحويين منها والمشهور نقصه كما قال الفراء، وفي الحديث" من تعزى بعزاء الجاهلية فأغضوه بهن أبيه لا

تكنوا" ورُوي عن علي رضي الله عنه" من يطل هن أبيه ينطق به"، وقال: رحت وفي رجليك ما فيهما ... وقد بدا هنك من المئزر أراد: هنك، فسكن كما يسكن عضد. ووزن هن أيضا فعل عند البصريين. -[ص: وقد تشدد نونه وخاء أخ وباء أب وقد يقال أخو، وقد يقصر حم وهما أو يلزمها النقص كيد ودم وربما قصرا، أو ضعف دم.]- ش: مثال تشديد نون هن قول عبد بني الحسحاس: ألا ليت شعري هل أبيتن ليلة وهتي جاز بين لهزمني هن وتشديدا خاء أخ- فيكون كفخ- وباء أب ذكره الأزهري، وأنه يقال

في الاشتقاق: استأببت فلاناً بباءين، أي: اتخذته أباً. وقوله: وقد يقال أخو قد ذكرنا الدليل على ذلك فيما أنشد الكسائي والفراء دليلا على أنه وزنه فعل بسكون العين. وقوله: وقد يقصر حم وهما وهذا هو الأصل، لأنه من حيث وزنها فعل كان يلزم القصر فيها، سواء أضيفت أم لم تضف، فتقول: قام حماك وأباك وأخاك وقام أبا وأخا وحماً، وقصر حم مشهور، نص عليه أصحابنا، ومنه قيل للمرأة حماة، وحكاه أبو عبيد عن الأصمعي وأما قصر أب فقال الفراء من العرب من يقول: هذا أباك، بالألف على كل حال وقال: إن أباها وأبا أباها قد بلغا في المجد غايتاها وأما قصر أخ فزعم الفراء أن قصر أخ لم يسمعه كما سمعه في أب وأجاز ذلك هشام، أجاز: جاءني ومررت/ بأخاك وحكي " مكره أخاك لا بطل"، وأنشد المصنف في الشرح مستدلاً على قصر

الأخ: أخاك الذي إن تدعه لملمه يجبك بما تبغي، ويكفك من يبغي وإن تجفه يوماً فليس مكافئاً فيطمع ذا التزوير والوشي أن يصغي ولا دليل فيه لأنه يحتمل أن يكون منصوباً بإضمار فعل، التقدير: ألزم أخاك، وإّذا دخل الدليل الاحتمال سقط به الاستدلال. والضمير في قوله: أو يلزمها النقص عائد على أخ وأب وحم، ويعني بالنقص حذف لاماتها كحذف لام غد وشبهه، فمن نقص أب قول الراجز: يأبه اقتدى عدي في الكرم ومن يشابه أبه فما ظلم وقول الآخر: سوى أبك الأدنى وأن محمداً ... علا كل عال يا بن عم محمد ومن نقص أخ ما حكاه أبو زيد من قولهم: " جاءني أخك". وأجاز الفراء: هذا أبك وأخك. فدل ذلك على أنه لغة لا ضرورة. وأما نقص حم فحكي الفراء أنه يقال: هذا حمك: وأنكر هذه اللغة البصريون قال س في النسب إلى حم: حموي، قال: " ولا يجوز إلا

ذا" ولو جاز أن تقول " هذا حمك" لجاز أن تقول في النسب: حمي، كما تقول إلى يد: يدي ويدوي. فتلخص في أب وأخ وحم القصر والنقص ومصاحبة الحروف حالة الإضافة، وفي أب وأخ التشديد، وفي أخ وحم بناؤه على فعل، وفي حم بناؤه مهموزاً على فعل أو فعل، وفي هن النقص والتشديد ومصاحبة الحروف حالة الإضافة. وترتيب لغات حم في الجودة: مصاحبة الحروف، فالإتمام على فعل بالواو كدلو، فالقصر، والنقص، فالإتمام على فعلٍ بالهمز، فعلى فعل بالهمز، ذكره بعض أصحابنا. وقوله: كيد ودم، وربما قصرا استطرد من ذكر لغات هذه الأسماء إلى ذكر لغة غيرها مما شبهها به، ومن غَلب عليه حُبُّ شيء استغرقه، وليس من الضروري ذكر لغاتِ هذه الأسماء فضلاً عن ذكر ما شبهت به، ولا هو داخل في علم النحو. وأنشد المصنف في الشرح قولَ الشاعر: غفلت، ثم أتت تطلبه ... فإذا هي بعظام ودما وقولَ الراجز: يا رُبَّ سارٍ بات ما توسدا ... إلا ذراع العنس أو كف اليدا ويحتمل هذا البيت أن يكون "اليدا" تثنيةً على لغة من

يثني بالألف مطلقاً، وحذف النون على حد قولهم " بيضك ثنتا وبيضي مائتا" فلا يكون فيه حجة، فيحتاج في إثبات قصر اليد إلى دليل غيره. وقول الآخر: أهان دمك فرغاً بعد عزته ... يا عمرو بغيك إصراراً على الحسد وقولَ الآخر: ............... ... والدم يجري بينهم كالجدول -[ص: وقد تُثَلَّثُ فاء فم منقوصاً أو مقصوراً، أو يضعف مفتوح الفاء أو مضمومها، أو تتبع فاؤه حرف إعرابه في الحركات كما فُعل بفاء مرءٍ وعيني/ امرئ وابنم، ونحوهما فوك وأخواته على الأصح، وربما قيل: "فا" دون إضافة صريحة نصباً، ولا يختص بالضرورة نحو: يصبح ظمآن وفي البحر فمه خلافاً لأبي علي.]- ش: قال أبو جعفر النحاس: حكي الكوفيون في فم لغات لا يعرفها أكثر البصريين. قال أبو عمرو الشيباني: يقال: فم، وفم، وقال الفراء: وفي فم لغات: إعراب الفاء والميم، ورفع الفاء في كل وجه، وفتح الفاء وإعراب الميم. فقول المصنف: " وقد تثلث فاء فم منقوصاً" فالفتح هو

المشهور، وحكى س في تثنيته: فمان، والضم حكاه الشيباني والفراء والكسر حكاه الشيباني. وقوله: أو مقصوراً يعني أنه يقال: فما وفما وفماً ولم يذكر المصنف في شرحه شاهداً إلا على الفتح، قال: " أنشد الفراء: يا حبذا عينا سليمي والفما وحكي ابن الأعرابي في تثنيته: فموان وفميان". وأطلق القول، فدل على أن ذلك لا يختص بالنظم دون النثر وعلى هذا يكون قول الفرزدق: هما نفثا في في من فمويهما ..................... فصيحاً، إذ قد ثبت القصر وتثنيته بقول ابن الأعرابي وقد أجاز ذلك س، أجاز فموان وأنشد بيت الفرزدق ولأبي العباس في هذا البيت قولان: أحدهما: أن قوله: "فمويهما" لحن، لأنه جاءت الميم مع الواو، والميم بدل منها، فالجمع بينهما خطأ. والقول الآخر: أنه جعل الواو بدلا من الهاء لخفائها للين وهذا إنما

قاله أبو العباس لاعتقاده أن الميم ليست من أصل بنية الكلمة، وإنما هي بدل من الواو. قال أبو العباس: تقول في الإفراد فم فاعلم، فتبدل الميم من الواو لأنهما من مخرج واحد. وإنما الميم والباء والواو من الشفة، وكانت الميم أولى بالبدل من الباء لأن الواو من الشفة، ثم تهوي في الفم لما فيها من المد واللين حتى تنقطع عند مخرج الألف، والميم تهوي في الفم حتى تتصل بالخياشيم لما فيها من الغنة والباء لازمة لموضعها" انتهى كلامه. وعلى ثبوت لغة القصر تكون الميم من أصل بنية الكلمة وانقلبت الألف في التثنية واواً وياء اعتباراً لما انقلبت عنه من ياء أو واو. وقوله: أو يضعف مفتوح الفاء أو مضمونها أما التضعيف فحكاه ابن السكيت وأنشد يا ليتها قد خرجت من فمه قال: ولو قيل من فمه لجاز. وأنشد صاحب الترقيص: ألذ ما ضممت عندي ضمه ... كطعم شهد ريقه وفمه

وحكى كراع فم بالضم والتشديد وحكي صاحب " اليواقيت" الفتح والضم والكسر مع التشديد، قال: " والأول أفصح" يعني الفتح، وقال اللحياني: " يقال فم وأفمام" فدل الجمع على أن التشديد لغة ضرورة، إذ كان تفريعاً على مادة المفرد. وخالف ابن جني فقال: " الوجه أن تشديد الميم ليس بلغة" انتهى. واتضح بهذه النقول أنه له مواد أربع: " ف وهـ" وهي التي زعم الأكثرون أنها الأصل، ويدل عليها التصغير والتكسير والاشتقاق، نحو فوية وأفواه وما فاه بكذا وفلان أفوه ومفوه ونحوها. " ف م ي" " ف م و" ويدل عليه: هذا الفما، والتثنية فميان فموان. "ف م م" يدل عليه أفمام وقوله: أو تتبع فاؤه حرف إعرابه في الحركات هذا حكاه الفراء، فتقول: هذا فم ورأيت فماً ونظرت إلى فم.

والأفصح في فم المخفف فتح فاء فم، ثم ضمها ثم كسرها، ثم الإتباع وهي أضعف اللغات، لأن سبب الإتباع إنما هو الإضافة، فإذا زالت الإضافة فينبغي أن يزول الإتباع وكان الضم دون الفتح لأنه يلزم فيه الخروج من ضم إلى كسر حالة جر، ولولا أن الكسرة عارضة لما جاز ذلك. وكان الكسر دون الضم لأنه فيه الخروج من كسر إلى ضم، ولا يوجد البتة لا في اسم ولا فعل، الخروج من ضم إلى كسر، فإنه يوجد في الفعل نحو ضرب. وقوله: كما فعل بفاء مريء لغا ثلاث: إحداها الفتح على كل حال، وبها جاء القرآن قال تعالى: {يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ} والثانية الكسر على كل حال. والثالثة حكاها ابن السكيت وغيره وهي الإتباع بأنه تبع لأن الهمزة قد تخفف، فتقول: مر، فيقع على الراء الإعراب وقرأ الحسن بكسر الميم، يعني في قوله: {بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ} وقرأ ابن

أبي إسحاق (بين المرء) بضم الميم. وقال: ناس من تهامة يجرون الميم، كأنه يكسر الميم إذا انكسرت الهمزة، ويضمها إذا انضمت، ويفتحها إذا انفتحت، كما يقول بعض العرب: هذا فمك، وفي فمك. وقوله: وعيني امرئ وابنم أما امرؤ ففيه لغتان: إحداهما الإتباع كما ذكر المصنف، وهي لغة القرآن، قال تعالى: {إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ}. والثانية فتح الراء في كل حال والإعراب في الهمزة حكاها الفراء، وأنشد: بأبي امرأ والشام بيني وبينه أتتني ببشرى برده ورسائله قال: وأنشد أبو ثروان: أنت امرأ من خيار الناس كلهم ... تعطي الجزيل، وتشري الحمد بالثمن وعلى هذه اللغة جاء التأنيث، قالوا: امرأة وهي الأصل. وحكي الجوهري أن من العرب من يضم الراء على كل حال، فيقول: رأيت امرؤ ومررت بامرؤ. ولا تدخلا أل على امرئ استغنوا بدخولها على مريء. وقال الفراء بعض نويس يقولون: الامرؤ الصالح وإلا مرآة الصالحة فيدخلون اللام على امرئ. وقال أبو علي: " ولعل هذا الذي سمعها منه لم يكن فصيحاً.

لأن قول الأكثر على خلافه" واختلفوا في وزن امرئ: فذهب ألجرمي إلى أن وزنه فعل بفتح العين ولذلك قال: إن سميت به وجمعته بالواو والنون قلت مرؤون، أو جمع تكسير قلت أمراء لأنه على مثال ابن. وذهب أبو بكر/ بن شقير إلى أن وزنه فعل بسكون العين، وقال تعالى: {بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ} ومن قال في النسب مرئي فإنما غيره كما غيرت أشياء كثيرة في النسب. وأما "أبنم" فهو ابن زيدت عليه الميم، وفيه لغتان: إحداهما فتح النون وهي القليلة فتقول جاء أبنم ورأيت ابنماً ومررت بابنم. والثانية إتباع حركة النون لحركة الإعراب في الميم، فإذا ثنيت فتحت النون والميم، تقول ابنمان. ولم تجمعه العرب فتقول ابنمون، وإن كانوا قد جمعوا ابناً فقالوا بنون. ولم يسمع بتأنيثه، وإن كان قد سمع تأنيث ابن نحو ابنة وقال المتلمس: وهل لي أم غيرها إن ذكرتها أبى الله إلا أن أكون لها ابنما قال أبو العباس: " وأتبعوا لأن هذه الميم زيدت على اسم كان مفرداً منها، وكان الإعراب يقع على آخره فلما زدت عليه ميماً عربت الميم إذ كانت طرفاً وأتبعت ما قبلها إذ كانت الميم قد تسقط فيرجع الإعراب" انتهى. وهذا الذي ذكرناه من أن الحركة التي في راء امرئ ونون ابنم إذا وافقت حركة الآخر وهي حركة إتباع لا حركة إعراب هو مذهب البصريين.

وذهب الفراء وغيره من الكوفيين إلى أنها حركة إعراب، وأن الاسم معرب من مكانين، قال يعقوب: يقال: هو امرؤ فيعرب من مكانين من الراء ومن الهمزة، وقال الفراء: وأما ابنم فيعرب من مكانين وكذلك أبوك وأخوك وحموك وفوك وذو مال، هي معربة عندهم من مكانين وسيأتي تبيين ذلك عند ذكرنا المذاهب التي في هذه الأسماء إن شاء الله تعالى وقوله: ونحوهما فوك وأخواته على الأصح يعني أن أباك وأخواته نحو امرئ وابنم في الإتباع، فإذا قلت قام أبوك فأصله أبوك ثم أتبعت حركة الباء لحركة الواو، فقيل أبوك ثم استثقلت الضمة في الواو فحذفت. وإذا قلت مررت بأبيك فأصله يأبوك ثم أتبعت حركة الباء لحركة الواو، فصار بأبوك ثم استثقلت الكسرة في الواو فحذفت، فصار بأبوك، ثم انقلبت الواو ياء لكسرة ما قبلها فصار بأبيك. وإذا قلت رأيت أباك فأصله أبوك، فقيل: تحركت الواو وانفتح ما قبلها، فقلبت ألفاً والأولى أن نقدر أن حركة الباء هي حركة إتباع بعد حذف حركة الأصل لتتوافق الأحوال كلها رفعاً ونصباً وجراً في الإعراب. وهذا الذي ذكر أنه الأصح هو مذهب س وأبي علي

الفارسي وجمهور البصريين وأصحابنا وأتبع في هذه الأسماء ولم يتبعوا في نظيرها مثل عصاك لأن الإعراب كان قد دخل الحرف الذي قبل حرف الإعراب في حال من الأحوال من غير أن يتغير معنى الاسم في الحالين حين قلت: أخ وأب وحم وهن، ولما لزم الإتباع في هذه أتبعوا في فيك وذي مال وإن لم يدخل فيما قبل حرف الإعراب منهما إعراب في حال من الأحوال/ حملاً على أخواتهما، إذ قد استقر من أحكام كلامهم أنه إذا لزم شيء في بعض الباب حمل الباقي عليه كيعد وما حمل عليه. وقوله: على الأصح مما يفسد اختياره أولا أن هذه الحروف هي نفس الإعراب، وأنها نابت عن الحركات فنابت الواو عن الضمة والألف عن الفتحة، والياء عن الكسرة. وهذا الذي اختاره من النيابة وأنها هي الإعراب هو مذهب قطرب والزيادي والزجاجي من البصريين وهشام من الكوفيين في أحد قوليه.

ولم يذكر المصنف في هذا الكتاب غير هذين المذهبين وفي هذه الأسماء عشرة مذاهب: منها هذان المذهبان. والثالث: مذهب المازني وأصحابه واختاره الزجاج، وهو أنها معربة بالحركات التي قبل هذه الحروف وهذه الحروف إشباع. الرابع: مذهب قوم منهم ألربعي، وهو أنها معربة بالحركات التي قبل هذه الحروف وهي حركات منقولة من هذه الحروف. والخامس: مذهب قوم من المتأخرين منهم أبو الحجاج الأعلم وأبو عبد الله بن أبي العافية، وهو أنها معربة بالحركات التي قبل هذه الحروف وليست منقولة بل هي الحركات التي كانت فيها قبل أن تضاف فثبتت الواو في الرفع لأجل الضمة، وانقلبت ياء لأجل الكسرة وألفاً لأجل الفتحة. السادس: مذهب الكسائي والفراء وهو أنها معربة بالحركات والحروف معاً وهو الذي يعنون به أنه إعراب من مكانين. السابع: مذهب ألجرمي وهشام في أحد قوليه وهو أنها معربة

بالتغير والانقلاب حالة النصب والجر، وبعدم ذلك حالة الرفع. الثامن: مذهب أبي زيد السهلي وتلميذه أبي علي الرندي، وهو أن " فاك" و"ذا مال" معربان بحركات مقدرة في الحروف وأن أباك وأخاك وحماك وهناك معربة بالحروف. التاسع: مذهب الأخفش أنها دلائل إعراب. وقال كذلك في المثنى والمجموع على حده. واختلف في تفسير قول الأخفش إنها دلائل إعراب على قولين: فقال أبو إسحاق والسيرافي: المعنى أنها معربة بحركات مقدرة في الحروف التي قبل حروف العلة ومنع من ظهور الحركات في تلك الحروف كون حروف العلة تطلب حركات من جنسها. وقال ابن السراج وابن كيسان: معنى قول الأخفش أنها حروف إعراب ولا إعراب فيها لا ظاهر ولا مقدر فهي دلائل إعراب بهذا التقدير. فعلى هذا الاختلاف في فهم قول الأخفش في المثنى يمكن أن يفسر قوله في هذه الأسماء إنها دلائل إعراب فيكون قولا التفسير مذهبيين، وهما التاسع والعاشر. وقال صاحب البسيط: " قال الأخفش: هي زوائد دوال على الإعراب

كالحركات. وظاهر هذا القول أنها ليست حروفاً للإعراب ولا إعراباً كما قال قطرب. وقال أبو علي وجماعة من أصحابه: هي حروف إعراب ودوال على الإعراب وكأن جمع بين قول/ الأخفش وسيبويه، فحكموا بأنها حروف إعراب وصورها المختلفة تغني عن تقدير الإعراب فهي لامات. والجمع لا يصح، لأن كونها دوال يقتضي كونها زائدة على مذهب الأخفش وكونها حرف إعراب يقتضي كونها غير زائدة " انتهى. فأما المذهب الأول فهو الذي اختاره المصنف أولاً وبدأ به، ونصره في الشرح ب"أن الإعراب إنما جيء به لبيان مقتضى العامل، ولا فائدة في جعل مقدر متنازع فيه دليلاً وإلغاء ظاهر واف بالدلالة المطلوبة، ولا يمنع من ذلك أصالة الحروف لأن الحرف المختلف الهيئات صالح للدلالة، أصلا كان أو زائداً مع أن في جعل الحروف المشار إليها نفس الإعراب مزيد فائدة، وهو كون ذلك توطئة لإعراب المثنى والمجموع على حدة لأنهما فرعان على الواحد وإعرابهما بالحروف لا مندوحة عنه، فإذا سبق مثله في الآحاد أمن من الاستبعاد فلم يحد عن المعتاد" انتهى ما ذكره المصنف. وفيه مناقشات: الأولى: قوله: " ولا فائدة في جعل مقدر متنازع فيه دليلاً" وهذا لا يتم إلا على مذهب من يقول: الإعراب مقدر في الحروف أو فيما قبل الحروف أما على مذهب من يزعم أن هذه الحركات التي قبل هذه الحروف

هي الإعراب -وذلك على مذهب المازني أو ألربعي أو الأعلم - فليس الإعراب مقدراً فقد تساوت هذه المذاهب مع مذهبه في أن الإعراب ظاهر. المناقشة الثانية قوله: " ولا يمنع من ذلك أصالة الحروف إلى آخر تعليله" نعم يمنع من ذلك لأن الحرف الأصلي لا يكون إعرابا لأن الإعراب زائد على أصول الكلمة أو ما نزل منزلة الأصل من زائد والفرض أن هذا الحرف أصل، فتدافعا. وقوله هذا يؤدي إلى مذهب ألجرمي لأن أصل هذه الحروف هو واو وقد ثبت في الرفع ولم ينقلب وانقلب في النصب والجر، وسيأتي فساده. والمناقشة الثالثة قوله: " وإعرابهما بالحروف لا مندوحة عنه" بل عنه مندوحة، وسيأتي ذكر الخلاف في إعراب المثنى والمجموع وأن أكثر النحويين لا يقول إنهما معربان بالحروف. وقد رد أصحابنا هذا المذهب الذي اختاره المصنف وقالوا: هو فاسد لأمرين: أحدهما أن الواو قد ثبتت في هذه الأسماء قبل دخول العامل عليها، فلو كانت إعرابا لم يوجد فيها إلا بعد دخول العامل. وقد تنبه المصنف لهذا حين قال: " ونحوهما فوك وأخواته على الأصح" فقال في الشرح مرجحاً للأصح عنده: " إن من الأسماء السنة ما يعرض استعماله دون عامل، فيكون بالواو، كقولك: أبو جاد هوز، فلو كانت الواو من الأسماء قائمة مقام ضمة الإعراب لساوتها في التوقف على عامل، وفي عدم ذلك دليل على أن الأمر بخلاف ذلك" انتهى قوله. وهو منقود أيضاً لأن الضمة تساوي الواو، ولا

يتوقفان على عامل، حكي النحويون أن العرب إذا تلفظت بأسماء العدد لمجرد العدد، ولم تعن معدودًا، ولا دخل عليها عامل لا في اللفظ ولا في التقدير، أنها تكون مضمومةً/ لكن بشرط أن تعطف على غيرها، أو يعطف غيرها عليها، فيقولون لمجرد العدد بلا عامل: واحد واثنان وثلاثةً وأربعةً، كلها بالضم، فقد ساوت الضمة الواو في ذلك. والأمر الثاني في إفساد هذا المذهب هو أن الإعراب زائد على الكلمة، فيؤدي ذلك إلى بقاء فيك وذي مالٍ على حرف واحد، وهما معربان وصلًا وابتداء، وذلك لا يوجد إلا في شذوذ من الكلام، نحو ما حكي أبو بكر بن مقسم عن أبي العباس أحمد بن يحيى من قولهم: "شربت ما يا فتى"، يريدون: شرب ماء يا فتى. وأما بقاء الاسم المعرب على حرف واحد في الوصل دون الابتداء فيوجد في كلامهم، نحو قولك: "من أب لك" في لغةً من ينقل. وأما المذهب الثاني - وهو مذهب س - فهو الذي صححه المصنف، ورجحه بما سبق ذكره عنه، وبأن أصل الإعراب أن يكون بحركات ظاهرة أو مقدرةً، فإذا أمكن القدير على وجه يوجد معه النظير فلا عدول عنه، وقد أمكن ذلك. وإذا كان التقدير مرعيًا في المقصور والمحكي والمتبع في نحو: جاء الفتى، ومن زيدًا؟ {الْحَمْدُ لِلَّهِ} ووا غلام زيداه، مع عدم ظاهر تابع للمقدر، فهو عند وجوده ذلك أحق بالرعاية.

وأما المذهب الثالث فرده أصحابنا بان الإشباع بابه الشعر، نحو قوله في إشباع الواو: وأنني حيثما يثني الهوى بصري من حيثما سلكوا أدنوا فانظروا وفي إشباع الألف: أعوذ بالله من العقراب الشائلات عقد الأذناب وفي إشباع الياء: يحبك قلبي ما حييت، فإن أمت يحبك عظم في التراب تريب يريد: فأنظر، والعقرب، وترب. وهذه الحروف تكون في هذه الأسماء في فصيح الكلام. وأما المذهب الرابع فرده أصحابنا بأن النقل لا يكون إلا في الوقف

بشرط أن يكون الحرف المنقول إليه الحركة ساكنًا صحيحًا، والمنقول منه صحيحًا، نحو قوله: أنا ابن ماويةً إذ جد النقر يريد النقر. وهذه الأسماء ينطق بها هكذا في الوصل والوقف، وقد فات شرط النقل في الوقف أيضًا. وضعفه المصنف في الشرح بأنه يلزم فيه جعل حرف الإعراب غير آخر والتباس فتحة الإعراب بالفتحة الني تستحقها البنية. وأما المذهب الخامس فهو فاسد لأنه إما أن تكون الحروف لامات الكلمات ردت إليها حالة الإضافة، أو تكون زائدةً نشأت عن الحركات، فإن كانت زائدةً نشأت عن الحركات فهو المذهب الثالث، وقد تبين فساده. وإن كانت لامات الكلمات ردت إليها فيلزم من ذلك جعل الإعراب في عينات الكلمات أو في فاءاتها مع وجود اللامات التي هي حروف الإعراب، أو العينات التي هي محل الإعراب عند فقد اللامات، وذلك/ لا يجوز لأن الإعراب إنما يكون في آخر الكلمة لفظًا أو تقديرًا. وأما المذهب السادس فهو فاسد بما فسد به قول من قال: "الإعراب بالحروف". وأيضًا ففيه خروج عن النظير؛ إذ لا يوجد علامتا إعراب في معرب واحد.

وقال عبد الرحمن بن إسحاق: "معرب من مكانين محال عند البصريين؛ لأنه لو جاز أن يجعل في اسم واحد رفعان لجاز أن يجتمع فيه إعرابان مختلفان، فكما امتنع المختلفان امتنع المتفقان" انتهى كلامه. وإذا بنيت على هذا المذهب من أوى مثل أبوك لقلت: آياك، أو من وأى قلت: ووؤؤك، أو من هوى قلت: هايك. فإن جمعت قلت: ايوك وهيوك ووؤؤك، فيختلف في الأوليين المفرد والجمع، ويتفقان في وؤوك. وإذا ثنيت قلت: هذان آياك، ووؤياكز واختلف الكسائي والفراء في تثنية هايوك، فقال الكسائي: هوياك، وقال الفراء: هاياك. وأما المذهب السابع فرد بأنه يلزم فيه عدم النظير؛ إذ لم يوجد في الأسماء المفردة معتلة الآخر كانت أو صحيحةً ما إعرابه كذلك، وإذا أمكن حمل إعرابها على ما له نظير كان أولى. وبأن عامل الرفع لا يكون أحدث فيها شيئًا، ويكون عدم التأثير إذ ذاك علامةً للرفع، والعدم لا يكون علامة للإعراب. ولما أحسن ابن عصفور بهذا عدل في التثنيةً والجمع إلى قوله:

إن علامة الرفع فيهما بقاء اللفظ على حاله قبل دخوله ليأخذ ذلك ثبوتيًا لا عدميًا. وأما المذهب الثامن فرد كون أبيك وأخيك وحميك وهنيك معربة بالحروف بما رد به الأول. وأما المذهب التاسع - وهو أن بمدر أنها معربة بالحركات المقدرة في الحروف التي قبل حروف العلة - فرد بما زد به المذهب الخامس. وأما المذهب العاشر فهو ظاهر الفساد؛ إذ لا يكون حرف إعراب إلا ويكون فيه الإعراب إما ظاهرًا وإما مقدرًا. وقوله: وربما قيل "فا" دون إضافة صريحةً نصيًا. لا يجوز عند البصريين أن يفرد إلا بالميم لأنه لا يلحقه التنوين، إذ لو لحقه لحذف حرف المد واللين، فكان يكون على حرف واحد، ولا يجوز، وأما ما أنشد الكوفيون للعجاج من قوله: خالط من سلمى خياشيم وفا فتأوله ابن كيسان على أنه إنما جاز ذلك لأنه موضع لا يلحقه التنوين فحذف،: فحذف التنوين، ويقي مفردًا على حرفين، إذ الألف هي المنقلبة عن عين الكلمة، فلم يلزم من ذلك أن يبقى على حرف واحد. وذهب المصنف إلى أنه حذف المضاف، ونوي ثبوته، إذ أرادت خياشيمها وفاها، وهو قول أبي الحسن، فبقي على حاله مع المضاف إليه

المثبت. قال: "ومثله: وداهية من دواهي المنو ... ن، يرهبها الناس، لا فا لها أقحم اللام، وثنوى الإضافة، كقولهم: لا أبا لك" انتهى. وليس مثله لأن "خياشيم وفا"، لم يذكر بعدها ما يضاف إليه رأسًا، فهو مضاف إلى مفقود في اللفظ. وأما "لا فا لها" فليس ثم مضاف إليه محذوف. بل هو الضمير المتصل به لام الجر، وليس التقدير: لا فاها لها، فليس مثله. ويشعر قوله: وربما/ قيل بالتقليل، وهذا لم يسمع منه إلا هذا، وهو من ضرائر الشعر الذي حسنه الوزن وما قبله من عدم الإضافة، ولا يجوز مثل هذا في الكلام. وقوله: خلافًا لأبي علي زعم أبو علي الفارسي أن الميم لا تثبت حالة الإضافة إلا في الشعر. وسأل عيسى بن عمر ذا الرمة; هل تقولون: هذا فو؟ فقال: بل يقولون: قبح الله ذا فا. وهي عربيةً، فاستعملها في الإفراد من غير عوض.

قال المصنف في شرحه: "والصحيح أن ذلك جائز في النظم والنثر، وفي الحديث، الصحيح "لخلوف فم الصائم". وعلى مذهب أبي علي أصحابنا، قالوا: "وقد يعوضون في الضرورة من الواو ميمًا في حال الإضافة، نحو قوله: يصبح عطشان وفي البحر فمه ولذلك لم يجعل فم مفردًا من "فمه" لأن فما استعمل في الفصيح، وفمه لا يكون إلا في الضرورةً، وأيضًا فإن الإفراد قبل الإضافة، فلا يجعل الإفراد منها. قال الأستاذ أبو الحسن بن عصفور: "وأقبح من ذلك في الضرورةً أن تعوض الميم مشددة في حال الإضافة، نحو قوله: يا ليتها قد خرجت من فمه حتى يعود البحر في أسطمه انتهى. فجعل التشديد مع الإضافة من أقبح الضرورات، وليس التشديد كما زعم، بل تقدم لنا أن يعقوب واللحياني نقلا التشديد، وأن اللحياني نقل أنه جمع على أفمام، فعلى هذا التشديد لغة لا ضرورةً.

-[ص: وتنوب النون عن الضمة في فعل اتصل به ألف اثنين أو واو جمع أو ياء مخاطبة، مكسورة بعد الألف غالبًا، مفتوحةً بعد أختيها، وليست دليل الإعراب، خلاف للاخفش.]- ش: يشمل قوله ألف اثنين أن تكون الألف علامة نحو قولك: يقومان الزيدان، أو ضميرًا نحو: الزيدان يقومان. وكذلك قولك: يقومون الزيدون، والزيدون يقومون. وهذا الذي ذكرناه من تقسيم الألف والواو إلى علامة تثنية وجمع وإلى ضمير هو على المشهور، وسيأتي في باب المضمر ذكر الخلاف فيه إن شاء الله. ومثل المصنف في الشرح علامةً الجمع بقوله: "يتعاقبون فيكم ملائكةً بالليل وملائكةً بالنهار"، وردد ذلك في كتبه، فيقول: على لغة "يتعاقبون فيكم"، وهي اللغة التي يسميها النحاة لغة "أكلوني البراغيث" وما مثل به ليس على ما زعم؛ لأن الحديث، رواه مطولًا مجودًا البزار في

مسنده، فقال فيه: "إن لله ملائكة يتعاقبون فيكم، ملائكةً بالليل وملائكةً بالنهار" وفي آخره: "وتركناهم وهم يصلون" فاغفر لهم اللهم يوم الدين". فالواو في "يتعاقبون" ضمير يعود على الملائكة، وارتفع "ملائكةً" على أنه بدل من الواو. واختصر الحديث، مالك، وأصله هذا الحديث المطول المجود. وقوله: مكسورةً بعد الألف الأصل في زيادة هذه النون للإعراب الكسون لأن الحركة زيادةً، فلا ينبغي أن تدعى إلا بدليل، وحركت لالتقاء الساكنين، وكانت الحركةً كسرةً على أصل التقاء الساكتين، أو حملًا على نون التثنية للشبه الذي بينهما. وقوله: غالبًا/ إشارةً إلى فتح بعض العرب إياها، كقراءةً من قرأ {أَتَعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَجَ} بفتح النون. وقوله: مفتوحةً بعد أختيها يعني بعد الواو نحو تفعلون، وبعد الياء نحو تفعلين. وكانت مفتوحةً طلبًا للتخفيف، فلم يكررها على أصل التقاء الساكنين استثقالًا للجمع بين الواو والكرة، أو بين الياء والكرة، أو حملًا على نون الجمع؛ لأن الأفعال فرع عن الأسماء بدليل افتقارها إليها في التركيب، فكما فتحت في زيدون وزيدين فكذلك فتحت في تفعلون وتفعلين. وقوله: وليست دليل الإعراب، خلافًا للأخفش قال المصنف في

الشرح: "زعم الأخفش أن هذه النون ليست إعرابًا، وإنما هي دليل إعراب مقدر قبل ثلاثة الأحرف. قال: "وهو قول ضعيف لأن الإعراب مجتلب للدلالةً على ما يحدث بالعامل، والنون متصفةً بذلك، فادعاء إعراب غيرها مدلول عليه بها مردود لعدم الحاجة إليه والدلالة عليه. وهذا الذي حكاه المصنف عن الأخفش حكاه لنا صاحبنا أبو جعفر أحمد بن عبد النور المالقي صاحي كتاب "رصف المباني في حروف المعاني" عن أبي زيد السهيلي، قال: زعم أبو زيد السهيلي أن الإعراب مقدر في الأحرف التي قبل هذه الأحرف، كما هو مقدر في "غلامي"، وأن شغل تلك الحروف بالحركات المناسبة لهذه الحروف منعها من ظهور الإعراب في تلك الحروف، كما منع الإضافة إلى ياء المتكلم من ظهور الحركة في آخر المضاف لشغل الآخر بالحركةً التي تطلبها ياء المتكلم. قيل له: فما بال هذه النون تثبت في الرفع وتحذف في النصب والجزم؟ فقال ما معناه: إن هذه النون إنما لحقت هذه الأفعال لوقوعها موقع الأسماء، فهي من تمام دخول الرفع في المضاف لقيامه مقام الاسم، فكما قلت: إن زيدًا يقوم، فرفعته لحلوله محل قائم، فكذلك إذا قلت: إن الزيدين يقومان، لحقته هذه النون لحلوله محل قائمان، فإذا لم يحل محل الاسم لم تلحقه النون، فإذا قلت: لم يقوما، أو لن يقوما، لا يتقدر: لن قائمان، ولا:

لم قائمان، فلم تثبت النون لذلك، ولذلك إذا دخل الناصب والجازم في نحو لن يضرب ولم يضرب ذهب الرفع لأنه لا يحل محل الاسم. فعلى مذهبه تكون علامة الرفع في نحو يقومان ضمةً مقدرةً في الميم، وأما في النصب ففتحةً مقدرةً، وأما في الجزم فسكون الميم تقديرًا. وذهب الفارسي إلى أن هذه الأفعال معربةً، ولا حرف إعراب فيها، قال: "لأنه لا يكون حرف الإعراب فيها النون لسقوطها للعامل، وهي حرف صحيح، ولا يكون الضمير لأنه الفاعل، ولأنه ليس في آخر الكلمة، ولا ما قبل الضمائر من اللامات لملازمتها لحركة ما بعدها من الضمائر من ضم وفتح وكسر، وحرف الإعراب لا يلزم الحركةً، فلم يبق إلا أن تكون معربةً، ولا حرف إعراب فيها" وبين قول الفارسي هذا وقول الأخفش مناسبةً، إلا أن الأخفش يقول: إن الإعراب فيها مقدر، فهو أشبه. وفي البسيط: "زعم بعضهم أنها - يعني الألف والواو والياء في المضارع - علامة إعراب بمنزلة الزيدان والزيدون، تدل على التثنية والجمع/ للفاعل. ووجه فساده أن النون إما أن تكون كنون التثنية، ويبطل بحذفها في بعض الأحوال، أو يكون لها حظ في الإعراب، ويبطل لأنه إما أن تكون معربةً من مكانين، ولا يكون لأنه خروج عن الفصاحة واستعمال ما لا يحتاج إليه ولا نظير له، أو كون لها مع من الإعراب؛ لأنها إن كانت علامةً رفع مثلًا فلا تكون الواو موجودةً حينئذ، وبالعكس، ولم تكن" انتهى. وهذا الخلاف المنقول عن الأخفش وعن السهيلي وعن غيرهما يبين وهم من ذكر أنه لا خلاف بين النحويين في أن النون علامة إعراب لا حرف إعراب، وهو الأستاذ أبو الحسن بن عصفور قال: "بدليل حذف الجازم

لها، والجازم لا يحذف حرف الإعراب إذا كان متحركًا، وإنما يحذفه إذا كان ساكنًا، ثم لم يغز، ولم يخش ولم يرم". -[ص: وتحذف جزمًا ونصبًا، ولنون التوكيد، وقد تحذف لنون الوقايةً، أو تدغم فيها، وندر حذفها مفردة في الرفع نظمًا ونثرًا وما جيء به لا لبيان مقتضى العامل من شبه الإعراب، وليس حكايةً أو إتباعًا أو نقلًا أو تخلصًا من مسكونين، فهو بناء، وأنواعه ضم وفتح وكسر ووقف.]- ش: مثال حذفها جزمًا ونصبًا: لم يقوما ولن يقوما. وإنما حمل المنصوب على المجزوم لأن الجزم مختص بالفعل، فحمل المشترك على المختص، ولم يحمل على المشترك، وهو الرفع، كما حمل منصوب المثنى والمجموع على حده على مجروره، قالوا: رأيت الزيدينِ والزيدينَ حملًا على مررت بالزيدينِ وبالزيدينَ. ومثال حذفها لنون الوقاية قول تعالى: {أَتُحَاجُّونَنِي فِي اللَّهِ} في قراءة من حذف النون. وقد اختلف في المحذوفةً، فقيل: هي نون الرفع، وهو مذهب، واختيار المصنف، ورجح ذلك في شرحه إنها قد تحذف دون سبب مع عدم ملاقاتها لنون الوقاية، ولا تحذف نون الوقايةً المتصلةً بفعل محض غير مرفوع بالنون، وحذف ما عهد أولى من حذف ما لم يعهد

حذفه، وأيضًا فنون الرفع نائبةً عن الضمةً، وقد حذفت الضمة تخفيفًا في الفعل في نحو {إِنَّ اللهَ يَامُرُكُمْ} {وَمَا يُشْعِرُكُمْ} في قراءة من سكن، وفي الاسم نحو {وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ} اللام، في قراءة من سكن اللام، وليؤمن بذلك تفضيل الفرع على الأصل، وليؤمن أيضًا حذف نون الوقاية، إذ لا يعرض لها سبب آخر يدعو إلى حذفها، وحذف نون الوقاية أولًا لا يؤمن معه حذف نون الرفع عند الجزم والنصب، ولأن نون الوقاية لو كانت المحذوف لاحتج إلى كسر نون الرفع بعد الواو والياء، وإذا حذفت نون الرفع لم يحتج إلى تغيير ثانٍ. انتهى، وفيه بعض اختصار. وقال س في بعض أبواب نون التوكيد: وتقول: هل تفعلن ذلك؟ فتحذف نون الرفع لأنك ضاعفت النون، وهم يستثقلون التضعيف، فحذفوها إذ كانت تحذف وحدها - يعني في الجزم والنصب - وهم في هذا الموضع أشد استثقالًا للنونات، وقد حذفوا فيما هو أشد س ذلك، بلغنا أن بعض القراء قرأ {أَتُحَاجُّونَنِي}، وكان يقرأ {فَبِمَ تُبَشِّرُونَ}، وهي قراءة أهل

المدينة، استثقالاً للتضعيف/" وقال في: ... فليني "وإنهم مما يحذفون لفظ النون للاستثقال، فإذا حذفوها هنا للتكرير، وهي لا تحذف وحدها، فالتي تحذف وحدها أولى بالحذف". ونقل المصنف أن أكثر المتأخرين ذهب إلى أن المحذوفة نون الوقايةً، وأن الباقية نون الرفع، وهو مذهب الأخفش والمبرد والأخفش الصغير وأبي علي وابن جني، لأنها المتكررةً المستثقلة، ولا تدل على إعراب، فكانت أولى بالحذف. ويمكن أن يستدل له بأن نون الوقاية يجوز حذفها لكثرة الأمثال في نحو إنَّني وكأنَّني، وهذه الحروف إنما لحقها نون الوقاية تشبيهًا بالفعل، فلو لم

يكن يجوز حذفها في بعض جنس الفعل لاجتماع الأمثال لما جاز حذفها في إنَّ وكأنَّ وشبههما، ولكان يلزم من ذلك تفضيل الفرع على الأصل في ذلك. وأيضًا فنون الرفع دخلت لعامل، ونون الوقاية جاءت بغير عامل، فلو كان المحذوف هو نون الرفع للزم من ذلك وجود مؤثر بلا أثر مع إمكانه. وأيضًا فدخول نون الوقاية إنما يضطر إليها حيث لا يكون ثَمَّ ما يمكن أن يقي الفعل من الكسر، وقد أمكن ذلك بنون الرفع، فإنه يحصل بها كونها علامةً للرفع، وكونها تقي الفعل من الكسر، فكان حذف نون الوقاية أولى. ومثال الإدغام فيها قراءة من قرأ {أَتُحَاجُّونِّي} {تَامُرُونِّي} بالتشديد. ومثال ندور حذفها في الرفع نظمًا قول الشاعر: فإنْ يَكُ قوم سرهم ما صنعتم ... ستحتلبوها لاقحًا غير باهل وقال الراجز: أبيت أسري، وتبيتين تدلكي ... وَجْهَكِ بالعنبر والمسك الذكي يريد: ستحتلبونها، وتبيتين تدلكين وأنشد صاحب «البسيط»: ولا تغصبوا الناس أموالهم ... إذا مَلَكتم ولم تغصبوا

على أن "لا تغصبوا" نفيٌ لا نهي، أي: ولا تَغْصِبُون. ومثال ذلك نثرًا قراءة أبي عمرو في رواية من روى ذلك عنه {قَالُوا سَاحِرَانِ تَظَّاهَرَا}، بتشديد الظاء، وأصله تتظاهران، فأدغم التاء في الظاء، وارتفع (ساحران) على أنه خبر مبتدأ محذوف، أي: قالوا أنتما ساحران تظاهرا. وفي الحديث "والذي نفس محمد بيده، لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا"، أصله: لا تدخلون ولا تؤمنون. وحذف هذه النون عند أصحابنا من غير جازم ولا ناصب ولا اجتماع مثلين مخصوص بالشعر إجراء لها مجرى الضمة في ذلك. وقوله: وما جيء به لا لسان مقتضى العامل إلى آخره أراد أن يحصر حركات آخر الكلمة، وكان قد ذكر حركات الإعراب، وهي الضمةً والفتحةً والكسرةً، فذكر أن الحركة تكون للحكاية نحو: من زيدًا؟ ومن زيدٍ؟ لمن قال: رأيت زيدًا، ومررت بزيد. وقد ذكرنا الخلاف في هذه الحركات وأن مذهب الكوفيين أنها/ حركة إعراب، وبينا ذلك في شرح باب الحكاية من هذا الكتاب.

وتكون للإتباع نحو قراءة عن قرأ {الْحَمْدُ لِلَّهِ} بكسر الدال، ومنهم زيد بن علي، وقراءة من قرأ {لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا بضم التاء، أتبع في الأولى الدال للام، وفي الثانية التاء لضمة الجيم. وتكون للنقل نحو قراءة ورش {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ} بفتح الميم، نقل حركة الهمزة إلى الميم، وحذف الهمزة. وتكون للتخلص من ساكنين، نحو قوله تعالى: {مَن يَشَإِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ} حرك الهمزة لأنها ساكنةً قد لقيت اللام ساكنةً، فحركها ليخلص من الجمع بين ساكنين.

وقوله: فهو بناء أي: ما خالف حركة الإعراب، وحركة الحكاية، وحركه الإتباع، وحركة النقل، وحركة التخلص من ساكنين، فهو بناء. فتلخص عن كلامه أن حركات الآخر ست. ونقصتنه حركةً سابعةً، وهى حركة المضاف إلى ياء المتكلم غير مثنى ولا مجموع على حده على مذهب الجمهور، فإنها ليست حركة بناء عندهم، ولا هي من الحركات التي عدها. وقوله: وألقابه ضم وفتح وكشر ووقف وهذه التسمية لألقاب البناء بالضم والفتح والكسر والوقف، ولألقاب الإعراب بالرفع والنصب والجر والجزم هي لـ "س"، ولذلك قال في كتابه: "وإنما ذكرت ثمانية محار لأفرق"، فذكر أنه ذكر ذلك لتفر ق بين ما يحدث بعامل وبين ما وضعت عليه الكلمة فلا يزول. وكثير من النحويين البصريين والكوفيين يقولون: إنها تجري على أربعة مجارٍ، ولا يفرقون في الحركات كما فرق س. وقد غلط أبو عثمان س في قوله: "وهى تجري على ثمانيةً مجار"، قال: لأن المبني لا يتغير، فكيف تكون له مجار" ذكر ذلك عن أبي عثمان أبو يعلى بن أبي زرعة. ولابني كيسان والزجاج وعلي بن سليمان ومحمد بن الوليد كلام في تصحيح كلام س ليس هذا موضعه.

باب إعراب المعتل الآخر

-[ص: باب إعراب المعتل الآخر يظهر الإعراب بالحركة والسكون، أو يقدر في حرفه، وهو آخر المعرب، فإن كان ألفًا قدر فيه غير الجزم، وإن كان ياء أو واوًا تشبهانه قدر فيهما الرفع، وفي الياء الجر. وينوب حذف الثلاثة عن السكون إلا في الضرورةً، فيقدر لأجلها جزمها، ويظهر لأجلها جر الياء ورفعها ورفع الواو، ويقدر لأجلها كثيرًا، وفي السعة قليلًا، نصبهما ورفع الحرف الصحيح وجره، وربما قدر جزم الياء في السعة.]- ش: مثال الظهور المذكور: زيد لم يخرج، ومثال التقدير: قام الفتى، فالضمة مقدرةً فيه. هذه عبارةً أكثر النحويين، يقولون: في التقدير. وقال أبو علي: "والاختلاف الكائن في الموضع" والموضع عند النحويين غيره للمبنى. وقال بعض أصحابنا: الإعراب ملفوظ به ومقدر نحو الملهى؛ لأن الألف منقلبةً عن ياء متحركة، ومنوي نحو حبلى وأرطي لأن ألفهما لم تنقلبا عن شيء، فالإعراب فيهما منوي. وكذلك غلامي؛ لأن تقدير حركة يؤول إلى اجتماع حركتين، ولا يصح، فالإعراب منوي لا مقدر ومعتبر، وهو في موضع الاسم المبني نحو "هذا"، فإذا الإعراب/ ملفوظ به ومقدر ومنوي ومعتبر.

وقوله: فإن كان ألفًا قدر فيه غير الجزم الذي آخره ألف من الأسماء المعربة قدر فيه الرفع والنصب والجر، أو من المضارع المعرب بغير النون قدر فيه الرفع والنصب، مثال الأول: قام الفتى، ورأيت الفتى، ومررت بالفتى، ومثال الثاني: يخشى زيد، ولن يخشى. قوله: وإن كان - يعني حرف الإعراب - ياء أو واوًا يشبهانه في كونهما حرفي مد ولين، قدر فيهما الرفع، [وفي الياء الجر]، نحو: يغزو القاضي، ويرمي إلى الداعي، فالضمة مقدرةً في واو يغزو وياء القاضي وياء يرمي، والكسرةً مقدرةً في ياء الداعي. ودل كلامه هذا على أن المنقوص بقياس - وهو ما آخره ياء قبلها كسرةً لازمةً - تقدر فيه الضمةً والكسرةً، وتظهر الفتحة، نحو {أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ}. وأغفل مسألة من هذا المنقوص تقدر فيها الفتحةً حالة النصب، وهي ما أعرب من مركب إعراب متضايفين وآخر أولهما ياء، وذلك نحو: رأيت معدي كرب، ونزلت قالي قلا، وذلك أن هذا النوع من المركب نقل فيه ثلاثة أوجه: البناء على الفتح، وإعرابه إعراب ما لا ينصرف، وإعرابه إعراب المضاف والمضاف إليه، فعلى هذا الوجه تقدر في "معدي" الفتحة حالة النصب، لا خلاف في ذلك في هذا الوجه، جعلوا الياء فيه كياء دردبيس، فكما لا تأثر هذه الياء للعوامل، كذلك لا تأثر هذه الياء، استصحب فيها حكمها حاله البناء وحاله إعرابه إعراب ما لا ينصرف. وقد تنبه المصنف لذلك في باب منع الصرف، فقال في الفصل الثالث منه: "قد يضاف صدر المركب فيتأثر بالعوامل ما لم يعتل" انتهى. فقوله: "ما لم يعتل" يشمل

أحواله الثلاث من الرفع والنصب والجر، فتقول: قام معدي كرب، ورأيت معدي كرب، ومررت بمعدي كرب. ودل كلام المصنف أيضًا على أن ما آخره ياء تشبه الألف يقدر فيه الرفع، وقد بينا ذلك بنحو يرمي، وهذا كما ذكر، إلا أن في نحو يعيي ويحيي خلافًا، فمذهب الجمهور أنه تقدر فيه الضمةً، وزعم الفراء أن الياء قد تكون في آخر الفعل وما قبلها ساكن، فظهر علامة الرفع فيها إذ ذاك لأن الياء إذا مكن ما قبلها جرت مجرى الحرف الصحيح، وأنشد من ذلك قول الشاعر: وكأنها بين النساء سبيكة ... تمشى سدة بيتها فتعي والصحيح أنه لا يقال تعي، وإنما يقال تعيي، هكذا هو السماع وقياس التصريف، بن جهة أن الفعل إذا كان معتل العين واللام جرت عينه مجرى الحرف الصحيح، فلم تعل، فلا فرق بين الياء التي هي عين الكلمة في تعيي وبين الدال في تجدي، فكما أن الضمة تقدر في ياء تجدي، فكذلك تقدر في ياء تعيي، ولا نقول إنها مثل العين في يقر وذلك أنه يقول إن أصله يعيي، فنقل حركة العين التي هي الياء في يعيي إلى العين التي هي الفاء، فتسكن العين، فيصير نظير يقر، فكما أدغمت الراء في الراء إذ أصله يقرر، فنقلت، فالتقى المثلان والأول ساكن، فوجب الإدغام، فكذلك تدغم الياء الساكنةً في الياء التي هي لام الفعل. والبيت الذي أنشده الفراء لا/ يعرف قائله، بل لعله مصنوع، وإذ ثبت كان شاذًا لا يعتد به. وقد تلخص مما أشار إليه المصنف وقررناه أن الألف والياء اشترك فيهما الاسم والفعل، نحو يخشى الفتى، ويقضي قاضي بلدك، وأن الواو التي

حركةً ما قبلها من جنسها لا تكون إلا في الفعل، نحو تغزو، ولا تكون في الاسم إلا إن كان مبنيًا أو معربًا عرض بطرف الواو فيه، أو كان يستحيل إلي غيره، فإن أدى القياس في معرب غير ما ذكر أو عارض بناء إلى ذلك قلبت الواو ياء، والضمة قبله كسرةً، إلا إن كان منقولًا من لسان العجم أو من الفعل، ففي قلبه وإقراره مذهبان: القلب مذهب البصريين، والإقرار مذهب الكوفيين، وذكرنا توضيح هذا في التصريف. وقوله: وينوب حذف الثلاثةً من السكون يعني بالثلاثة الألف والواو والياء المذكورات، فقول: لم يخش، ولم يغز، ولم يرم. وإنما حذف الجازم هذه الحروف لأنها عاقبت الضمةً، فأجريت في الحذف مجرى ما عاقبته، فكما أن الضمةً تحذف في نحو لم يخرج، فكذلك تحذف هذه الحروف بالجازم، هكذا قرر الشيوخ. ونقول: الذي يقضيه النظر أن هذه الحروف انحذفت عند الجازم لا بالجازم. يدل على أنها لم تحذف للجزم شيئان: أحدهما: أن الجازم لا يحذف إلا ما كان علامة للرفع، وهذه الحروف ليست علامةً للرفع، وإنما علامةً الرفع ضمة مقدرةً فيها. والآخر: أن الإعراب زائد على ماهية الكلمة، والواو والياء في نحو يغزو ويرمي من الحروف الأصلية؛ إذ هما من الغزو والرمي، والألف في نحو يغشى منقلبةً من أصل؛ لأنه من الغشيان، وقد يكون الحرف منقلبًا عن حرف ملحق بأصل، نحو يسلنقي ويغرندي، ماضيهما اسلنقى، واغرندى،

وهما ملحقان باحرنجم، وحرف الجزم لا يحذف الحرف الأصلي ولا الملحق بالأصلي، فكان القياس يقتضي أن يحذف الجازم الضمة المقدرةً في الحروف، لكن يبقى المجزوم بصورة المرفوع لو اقتصر على ذلك، فحذف الجازم الضمةً المقدرةً، وحذفت هذه الحروف لئلا يلتبس المجزوم بالمرفوع، لكون الصورة تكون واحدةً، فلذلك قلنا إن هذه الحروف تحذف عند الجازم لا بالجازم. وفي كتاب س إيماء إلى هذا المعنى. وظاهر قول المصنف: "وينوب حذف الثلاثة عن السكون" أنه متى كان الفعل آخره ياء أو واو أو ألف مطلقًا تحذف هذه الخروف للجازم الذي يدخل عليها. وهذا تحته قسمان: أحدهما: أن لا تكون تلك الحروف بدلًا من همزة. والآخر: أن تكون بدلًا من همزةً. فإن لم تكن بدلًا من همزةً فالحكم كما ذكر. وإن كانت بدلًا من همزةً نحو يقرا في يقرأ ويقري في يُقرئ، ويوضو في يوضؤ. قال بعض أصحابنا: فهذا إما أن يقدر أن الجازم دخل عليه قبل البدل، فسكن الهمزة، ثم أبدلها حرفًا مناسبًا لحركة ما قبلها، فيصير يقرأ المجزوم: يقرا، ويقرئ: يقري، ويؤضؤ: يوضو، كما أبدلت/ في كاس وبئر وبؤس، فقلت: كاس وبير وبؤس، فعلى هذا الإبدال لا يجوز حذف حروف العلةً لأن الجازم قد عمل عمله في حذف الضمةً من الهمزة قبل الإبدال. وإما أنك تبدل قبل أن يدخل الجازم، فقول في يقرآ ويقرئ ويوضؤ: يقرا ويوضو ويقري، فتصير شبيهة بيخشى ويغزو ويرمي، فإذا دخل الجازم حذف هذه الحروف. هذا مذهب الأستاذ أبي الحسن بن عصفور، وظاهر كلام المصنف. وقد رد أصحابنا على ابن عصفور في جواز الحذف، وقالوا: لا يجوز

إلا الإقرار لأن البدل المحض الذي ليس على التسهيل القياس لا يجوز إلا في الضرورة، نص على ذلك س وغيره من النحاةً، وقد ذكر هذا أبو علي في التذكرة والحجة، وابن جني في "المعرب" له، وأفرد له في الخصائص بابًا ذكر فيه أنه لا يجوز إلا في الضرورةً، فما نص عليه س وأصحابه أنه لا يجوز إلا في الضرورة لا يسوى بينه وبين ما اتفق عليه أنه جائز في الكلام فصيح، وما كفى ابن عصفور ما ذكر فيه من جواز الحذف حتى قدمه على الإثبات. وقال أبو عبد الله بن هشام: يقرا ويقري ويوضو صرف الفعل تصريف المعتل على ما حكاه الأخفش من نحو قريت وتوضيت ورفوت، والأصل قرأت وتوضأت ورفأت. وكلتا اللغتين ضعيفةً، فإذا دخل الجازم على المضارع في هذه اللغة لم يجد إلا حرف العلة مسكنًا، فيحذفه كما يحذفه من يرمي ويخشى ويغزو، والإثبات أحسن، وعليه قوله: عجبت من ليلاك وانتيابها من حيث زارتني، ولم أورابها يريد: ولم أورأ بها، أي: لم أشعر بها من ورائي. وعلى الثاني البيت

الذي أنشده ابن عصفور، وهو: جريء متى يظلم يعاقب ظلمه ... سريعًا، وإلا يُبْدَ بالظلم يظلم ولا حجة في هذا البيت الذي ظنه ابن عصفور وابن هشام حجة لأنه ثبتت لغة في بدأ: بدي على وزن بقي، ومضارعه يَبْدَى، فيحتمل أن يكون قوله: "وإلا يبد" من هذه اللغة، فلا تكون إذ ذاك ألفه بدلًا من همزة، وإنما تكون بدلاً عن ياء كألف يبقى. وقال ابن هشام أيضًا: الهمزات هنا لا تبدل حرف علة في رفع ولا نصب إلا إن أدى إلى شيء من ذلك ضرورةُ شعر، فمثل هذا لا يجعل قياسًا مطردًا يعمل عليه، ويُساوى بينه وبين المطرد. فإذا دخل الجازم، وسكنت الهمزة، انقلبت من جنس حركة ما قبلها، فساوت في اللفظ حروف العلة، ولا تحذف حينئذ لأن الجازم قد سكن الآخر قبل، فلو حُذف الآن كان له عملان، وما من عامل يكون له في لفظ واحد عملان. وقال شيخنا الأستاذ أبو الحسن علي بن يوسف الكُتامي الإشبيلي، عُرف بابن الضائع، وهو عن جلة أصحاب الأستاذ أبي علي الشلوين: "ما في آخره همزة فكالحرف الصحيح، جزمه بكون الهمزة، ومن سهل الهمزة/ فأبدلها حرف لين لم يحذف حرف اللين للجزم؛ لأن حكم الهمزة المسهلة حكم الهمزة نفسها مخففةً، فلا يجوز إلا: لم يقرا زيد، بألف ساكنة على لغة من سهل، فأما قوله: "وإلا يبد بالظلم يظلم" فضرورة، ووجهها مراعاة اللفظ بعد التسهيل؛ ألا ترى أن منهم من يدغم رؤيا بعد التسهيل، فيقول رُيَّا، ولا يراعي أصله. أو يكون أبدل الهمزة بدلًا محضًا لا على قياس التسهيل،

وكأنه على لغة من يقول في قرأت: قَرَيْتُ، وهي ضعيفة» انتهى كلامه. ونص ابن عصفور في "شرح (*) المقرب" أن من حذف حروف العلةً في مثل لم يقر، ولم يقرر، ولم يوض، إنما جاء على ما حكام الأخفش من هذه اللغةً، أنهم يبدلون الهمزة حرف علةً محضًا، وليس ذلك بقياس، وهي لغةً ضعيفةً. فكان ينبغي على هذا الذي حكاه وقرره من ضعف هذه اللغة وعدم اطرادها أن لا يبني الحكم عليها في "المقرب"، ولا يبدأ بها على الإثبات، فيشعر بجوازها على الإطلاق. وقوله: إلا في الضرورةً، فهدر لأجلها جزمها يعني أنه تقر هذه الخروف التي هي الواو والياء والألف في الضرورةً، وأنها هي حروف الإعراب. فمثال ما أقرت فيه الواو مع الجازم قوله: هجوت زبان، ثم جئت معتذرا من هجو زبان، لم تهجو، ولم تدع ومثال الياء: ألم يأتيك، والأنباء تنمي ... بما لاقت لبون بني زياد

واختلف النحويون فيما حذفه الجازم، فمنهم من ذهب إلى أن المحذوف هي الضمةً الظاهرةً التي كانت على الواو والياء؛ إذ هما جاءا مضمومين ضمةً ظاهرةً في الشعر، نحو قوله: إذا قلت عل القلب يسلو قيضت هواجس لا تنفك تغريه بالوجد ونحو قوله: فعوضني منها غناي، ولم تكن ... تساوي عندي غير خمس دراهم وانبنى على هذا الخلاف هل يجوز إقران مثل ألف يخشى إذا دخل عليه الجازم في الضرورةً، فمن زعم أن المحذوف هي الضمةً الظاهرةً لم يجز إقران الألف للجازم لأن الألف لا تظهر فيها الضمةً ولا حركةً غيرها. ومن زعم أن المحذوف هي الضمةً المقدرةً أجاز ذلك، وقد استدل مجيز ذلك بقوله: إذا العجوز غضبت فطلق ... ولا ترضاها، ولا تملق فقوله: "ولا ترضاها" نهي، وقد أثبت الألف.

ومن مع ذلك تأول البيت على أن قوله "لأ ترضاها" جملة حالية، أي: فطلقها غير مترض لها، أو الواو للعطف على الاستئناف، أخبر أنك لا ترضاها، أي: وأنت لا ترضاها. وظاهر كلام ابن عصفور في "المقرب" أن إقرار هذه الألف يجوز للضرورةً مع الجازم، والذي نصره أنه لا يجوز، وأن الجازم إذا دخل على ما آخره ألف حذفها، ولا يقرها لا في ضرورةً ولا غيرها، قال: لأن الآلف لا تقبل الحركةً، فلا يجوز/ لذلك إجراء ما هي فيه مجرى الصحيح، وأيضًا فإن الجازم إذ ذاك ليس له ما يحذف إلا الحركةً المقدرة في الألف، وإذا حذفها وجب أن يرجع حرف العلةً إلى أصله، فيقال: لم يخشى؛ لأن انقلابها ألفًا إنما كان لتحركها وانفتاح ما قبلها، وإذا ذهبت الحركة للجزم وجب أن تصح لذهاب الحركة منها، فلما لم يصححوها في حال الجزم دل ذلك على أنهم لم يحذفوا الحركةً المقدرةً. ونقل غيره من النحويين أن لغةً لبعض العرب إقرار هذه الحروف مع الجازم في سعة الكلام، وأن بعضهم لا يقرها مع الجازم إلا في ضرورةً الشعر. وذهب بعض النحويين إلى أن ما ورد في ضرورةً الشعر من نحو "لم تهجو"، و "ألم يأتيك"، و"لا ترضاها"، ليست هذه الحروف فيها هي من نفس الفعل الذي ينبغي حذفها [منه] للجازم، بل هي حروف إشباع تولدت عن الحركات التي قبلها، وأن مثل هذه الأفعال مجزومةً بحذف حروف العلة التي من نفس الفعل.

فأما قوله تعالى: {لَّا تَخَافُ دَرَكًا وَلَا تَخْشَى} فاستدل به بعضهم على جواز إقرار الألف مع الجازم لأنه عنده نهي. وتأوله السيرافي على أنه مجزوم بحذف الألف، وهذه الألف جيء بها لمراعاة الفواصل، كما جاءت في قوله: {الظُّنُونَا} و {السَّبِيلَا} في قراءة من أثبت الألف. وهذا تأويل حسن. وتأوله بعضهم على أنه مرفوع لا مجزوم، وهي جملة استئنافيةً، التقدير: وأتت لا تخشى، أخبر تعالى موسى حين نهاه عن الخوف أنه لا يخشى، فـ "لا" حرف نفي لا حرف نهي. وأما قول الشاعر: وتضحك مني شيخةً عبشميةً ... كأن لم ترى قبلي أسيرًا يمانيا

في رواية من رواه بالألف، فقيل: الألف إشباع، إذ الأصل: كأن لم تر. وتأوله أبو علي الفارسي على أن أصله ترأى في لغة من قال رأى يرأى بإثبات الهمزةً في المضارع، فلما دخل الجازم - وهو حذف الألف، ثم نقل حركة الهمزةً إلى الراء، وأبدل الهمزة ألفًا، كما قالوا في المرأةً والكمأةً: الهمزةً والكمأة، ولم يحذف الهمزة على قياس النقل والتخفيف الكثير في كلامهم. ومن روى "كأن لم تري" فالتاء للخطاب، والتفت من الغيبةً إلى الخطاب، وعلامة الجزم فيه حذف النون إذ أصله ترين. ويجوز في الشعر الجزم بعد [حذف] هذه الحروف تشبيهًا بما لم يحذف منه شيء، تقول: لم يغزه ولم يخش، ولم يرم، فتسكن بعد الحذف لأنك تشبه الكلمةً بعد الحذف بما لم يحذف منه شيء، فكما أنك تجزم يضرب إذا أدخلت عليه الجازم، فكذلك تفعل بتلك، ومن ذلك قول الشاعر: ومن يتق فإن الله معه ورزق الله منتاب وغاد حذف الياء من يتقي، ثم حذف حركةَ القاف.

وقوله: ويظهر لأجلها جر الياء ورفعها ورفع الواو يعني يظهر لأجل الضرورة، ومثال جر الياء قول الشاعر: ويماً يوافيهن الهوى غير ماضي ويومًا ترى منهن غولا تغول وقول الآخر: / كذبتم وبيت الله نبزى محمدًا ولم تختضب سمر العوالي بالدم وقول الآخر: ما إن رأيت، ولا أرى في مدتي كجواري يلعبن بالصحراء وقوله: فلو كنت حرا ذا وفاء جعلتنا لعينيك من دون الغواني مقنعا وقوله: لا بارك الله في الغواني هل يصبحن إلا لهن مطلب ومثال رفعها في الفعل ما أنشدناه قبل من قوله:

................. تساوي عندي غير خمس دراهم ومثال ذلك في الاسم قوله: تراه، وقد فات الرماة، كأنه أمام الكلاب، مصغي الخد أصلم وقوله: وكأن بلق الخيل في حافاته ترمي بهن دوالي الزراع وقول جرير: وعرق الفرزدق شر العروق خبيث الثرى كأبي الأزند ومثال رفع الواو ما أنشدناه قبل من قوله: إذا قلت عل القلب يسلو قيضت. البيت. وقوله: ويقدر لأجلها كثيراً- أي لأجل الضرورة- وفي السعة قليلاً نصبهما، أي نصب الياء والواو. مثال تقدير الفتحة في الياء حالة النصب قول الشاعر:

ومن يعص أطراف الزجاج فإنه يطيع العوالي ركبت كل لهذم وقول الآخر: كأن أيديهن بالقاع القرق أيدي جواز يتعاطين الورق وقول الآخر: ردت عليه أقاصيه ولبده ضرب الوليدة بالمسحاة في الثأد وقول الآخر: ولو أن واش باليمامة داره وداري بأعلى حضرموت اهتدى ليا وقول الآخر: أكاشر أقوامًا حياء، وقد أرى صدورهم باد علي مراضها وقول الآخر: ومن يطيق مذك عند صبوته ومن يقوم لمستور إذا خلعا

وقول الآخر: وكسوت عار لحمه، فتركته جذلان يسحب ذيله ورداءه وتقدير الفتحة في منصوب هذا المنقوص من الضرائر الحسنة عند جمهور النحويين، وزعم أبو حاتم أن ذلك لغة فصيحة. ومثال ذلك في الفعل قول الشاعر، وهو ابن قيس الرقيات: كي لتقضيني رقية ما وعدتني غير مختلس ومثال ذلك في السعة قراءة جعفر الصادق {مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ}. ومثال تقدير النصب في الواو قوله: إذا شئت أن تلهو ببعض حديثها رفعن، وأنزلن القطين المولدا وقوله:

وأن يعرين إن كسي الجواري فتنبو العين عن كرم عجاف وقوله: / أرجو وأمل أن تدنو مودتها وما إخال لدينا منك تنويل وقوله: فعلك أن تنجو من النار إن نجا مصر على صهباء طيبة النشر ومثال ذلك في السعة قراءة من قرأ {أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} بسكون الواو. وما ذهب إليه المصنف هو جنوح إلى مذهب أبي حاتم، وترك جادة ما عليه الجمهور بأن هذا كله من ضرائر الشعر الحسنة. وقوله: ورفع الحرف الصحيح وجره مثال تقدير الرفع فيه قراءة مسلمة بن محارب {وبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ} بإسكان التاء، وحكي أبو زيد {ورُسُلُنَا لَدَيْهِمْ} بإسكان اللام، وحكي أبو عمرو أن لغة تميم تسكين

المرفوع من "يعلمهم "ونحوه. وتسكين المجرور كقراءة أبي عمرو {فَتُوبُوا إلَى بَارِئِكُمْ} وقراءة حمزة {ومَكْرَ السَّيِّئِ}. هذا كلام المصنف في الشرح. ونص أصحابنا على أن هذا من ضرائر الشعر، قالوا: ومن الحذف- يعني في الشعر- تسكين حركة الإعراب إجراء للمنفصل مجرى المتصل، قال الشاعر: رحت وفي رجليك ما فيهما وقد بدا هنك من المئزر وقال الآخر: سيروا بني العم، فالأهواز منزلكم أو نهر تيرى، ولا تعرفكم العرب وقال الآخر: فاليوم أشرب غير مستحقب إثمًا من الله ولا واغل

وقوله: ألا ليت أيري من عظام، وأنه على حرك موقوف يد الدهر أجمعا أجرى "هنك "و "ربغ "مجرى عضد، و"رفك "مجرى فعل لو كان في الكلام، إذ لو كان فيه لجاز تسكينه، و "حرك "مجرى إبل. وذهب المبرد إلى أن هذا لا يجوز لا في الشعر ولا غيره، ويزعم أن الرواية "أسقى"، و "قد بدا ذاك"، و "فلم تعرفكم". وما ذكره من أن الرواية ما ذكر لا يدفع بها ما رواه غيره، فالمصنف فيما ذكره لم يأخذ بقول المبرد الذي منع ذلك البتة، ولا بقول غيره ممن خص ذلك بالشعر، وإذا ثبت نقل أبي عمرو أن ذلك لغة تميم كان ذلك حجة على المذهبين. وقد أغفل المصنف ذكر مسائل تقدر فيها الحركات الثلاث في حرف الإعراب وهو صحيح، وجاء بهذه المسالة التي ذكر أنه يقدر فيها الرفع والجر قليلاً، وفيها الخلاف الذي ذكرناه. فإحدى المسائل: أن يسكن الحرف للإدغام، كقوله تعالى: {وقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ}، {وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى}، {وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا}.

الثانية: الحكاية إذا قلت: من زيداً؟ لمن قال: ضربت زيداً، ومن زيد؟ لمن قال: مررت بزيد، ومن زيد؟ لمن قال: قام زيد، وذلك على مذهب البصريين، وعنهم في حال الرفع خلاف، أهي حركة إعراب أم حركة حكاية، والثاني أصح. الثالثة: المضاف لياء المتكلم، نحو: قام غلامي، ورأيت غلامي، ومررت بغلامي، على أصح الأقوال فيه. وقوله: وربما قدر جزم الياء في السعة، مثل المصنف هذه المسألة/ بقراءة قنبل {إنَّهُ مَن يَتَّقِ ويَصْبِرْ} بإثبات الياء في (يتقي). ولا دليل في هذه القراءة على إثبات هذا الحكم لتقدير الجزم في الياء؛ لأنه لا يتعين (يتقي) هنا أن يكون مجزوماً لعطف (ويصبر) المجزوم عليه؛ لأنه يحتمل أن تكون (من) موصولة، و (يتقي) مرفوع، وهو صلتها، ويكون (ويصبر) معطوفًا على التوهم لا على مجزوم في اللفظ، فكأنه توهم أنه تقدم اسم شرط، وجزم به، وعطف على مجزوم. ومما جاء من جزم خبر الموصول

على توهم أنه اسم شرط قول الشاعر: كذلك الذي يبغي على الناس ظالمًا تصبه على رغم قوارع ما صنع جزم "تصبه "وهو خبر "الذي "، توهم أنه تقدمه اسم شرط، والآية أقرب أن تحمل عليه من هذا البيت لاشتراك الموصول واسم الشرط في لفظ "من "؛ وتباين لفظ "الذي "من اسم الشرط. وقال بعض شيوخنا: هذه قراءة ضعيفة، ويمكن أن تكون (من) موصولة، و (يصبر) سكن تشبيهًا للمنفصل بالمتصل، كقراءة {ويَتَّقْهِ}، وهو أيضاً ضعيف؛ فإن فيه إجراء المنفصل مجرى المتصل، وإسكان حرف الإعراب، وكلاهما ضعيف؛ ألا ترى أن قراءة {بَارِئِكُمْ} بالإسكان ضعيفة.

باب إعراب المثنى والمجموع على حده

-[ص: باب إعراب المثنى والمجموع على حده التثنية: جعل الاسم القابل دليل اثنين متفقين في اللفظ غالباً، وفي المعنى على رأي، بزيادة ألف في آخره رفعاً، وباء مفتوح ما قبلها جرًا ونصبًا، تليهما نون مكسورة، فتحها لغة، وقد تضم، وتسقط للإضافة أو للضرورة أو لتقصير صلة، ولزوم الألف لغة حارثية.]- ش: لما فرغ من إعراب الاسم المفرد وما جرى مجراه، صحيحه ومعتله، والمضارع صحيحه ومعتله، اخذ في إعراب المثنى والمجموع على حده. وقوله: والمجموع على حده أي: على حد المثنى، ومعنى ذلك أنه يسلم فيه الواحد كما يسلم في التثنية، وأنه يلحقه حرف علة ونون كما يلحق المثنى، وأنه يتغير ذلك الحرف في حالة النصب والخفض كما يتغير في المثنى، فلما صار موافقًا له فيما ذكر قيل فيه: مجموع على حد التثنية. وهذه هي عبارة س. قال المصنف في الشرح: "ليس المراد بالجعل وضع الواضع، فيدخل في الحد نحو زكا من الموضوع لأثنين، بل الجعل تصرف الناطق بالاسم على ذلك الوجه "انتهى. وهذا الذي ذكره لولا أنه فسر مراده لكان الظاهر أن يراد بالجعل وضع الواضع، فكان يدخل فيه نحو زوج وزكا. ثم

يحترز بما يأتي بعد ذلك من القيود عن نحو زكًا بقوله: "بزيادة ألف" إلى آخره؛ لأن هذه التثنية المصطلح عليها في باب الإعراب هي من وضع الواضع لا من جعل الجاعل الذي يراد به تصرف الناطق؛ لأن الناطق إنما يتصرف بما ذكر بعد وضع الواضع، وإلا فالناطق ليس له أن يجعل من غير وضع. وقال المصنف في الشرح: "جعل الاسم أولى من /جعل الواحد لأن المجعول مثنى يكون واحدًا كرجل ورجلين، ويكون جمعًا كجمال وجمالين، ويكون اسم جمع كركٍب وركبين، ويكون اسم جنس كغنٍم وغنمين" انتهى. وظاهر هذا الكلام أن التثنية تكون فيما ذكر، وأن ذلك مقيس فيما ذكر؛ إذ أورد تثنية الجمع واسم الجمع واسم الجنس مورد تثنية الواحد، وليس كذلك، بل تثنية الواحد هي المقيسة، وأما الثلاثة فلا تنقاس التثنية فيها: أما الجمع كجمال وجمالين فإنهم نصوا على أن ذلك لا يجوز إلا في ضرورة شعر أو نادر كلام، فمن نادر الكلام ما حكي من قولهم: "لقاحان سوداوان"، ومن ضرورة الشعر قوله: تبقلت في زمن التبقل بين رماحي مالك ونهشل وقوله:

لأصبح الناس أوبادًا، ولم يجدوا عند التفرق في الهيجا جمالين وأما اسم الجمع فإنهم نصوا على أنه لا يجوز تثنيته إلا في ضرورة شعر نحو قوله: وكل رفيقي كل رحل، وإن هما تعاطي القنا قوماهما، أخوان فثنى قومًا. وأما اسم الجنس فإنهم نصوا على أنه لا يجوز تثنيته ما دام على جنسيته، نحو لبٍن وماٍء، إلا أن يتجوز في شيء من ذلك، فيخرج عن الجنسية، ويوقع على بعض الجنس، فيجوز إذ ذاك تثنيته نحو قولك لبنان وماءان، تريد بذلك ضربين من اللبن وضربين من الماء، ولذلك عد أصحابنا من شروط الاسم الذي يثنى أن يكون مفردًا، احترزوا بذلك من المثنى والجمع السالم، فإنه لا يجوز تثنيتهما أصلًا، ومن جمع التكسير لأنه لا يجوز تثنيته بقياس، فإن جاء فضرورة في الشعر، ولا يجوز

استعمال شيء منه في الكلام. وقوله: القابل نبه المصنف على أن من الأسماء غير قابل للتثنية، قال المصنف في الشرح: "كالمثنى والمجموع على حده والذي لا نظير له في الآحاد وأسماء العدد غير مائٍة وألف" انتهى كلامه. ومن شرط في المثنى الإفراد لم يحترز بالقابل من المثنى والمجموع على حده لأنه قد احترز عنهما بالإفراد. وأما المصنف فلما كان عنده أن جمع التكسير واسم الجمع واسم الجنس مما يجوز تثنيته لم يذكر في "القابل" أنه احترز من هذه الثلاثة، وذكر أنه احترز من المثنى والمجموع على حده، وهذا متفق عليه. وذكر أنه احترز أيضًا بـ "القابل" من الجمع الذي لا نظير له في الآحاد نحو مساجد، فهذا لا يثنى عنده، ويثنى جمع التكسير الذي ليس جمعًا لا نظير له في الآحاد، ولذلك خصه بالذكر دون غيره من جموع التكسير. وأما قوله: "وأسماء العدد غير مائٍة وألف" يعني: فإنه يجوز تثنيتهما، فتقول: مائتان وألفان، ولا يجوز ثلاثتان ولا ستتان ولا خمستان، فإن جاء في الشعر من أسماء العدد مثنى غير مائة وألف فضرورة، ولا يجوز استعماله في الكلام، نحو قوله: /فلن تستطيعوا أن تزيلوا الذي رسا لها عند عاٍل فوق سبعين دائم ثنى سبعًا للضرورة، وعنى بذلك سبع السموات وسبع الأرضين. وأجاز أبو الحسن تثنية أسماء العدد. وذلك لا يجوز لأن العرب لم تثن

شيئًا من ذلك إلا ما نص عليه من مائٍة وألٍف في الكلام، وسبعين في الضرورة. وزاد بعض أصحابنا: مما لا يثنى من الأسماء "كل" و"بعض"، وأجمع وجمعاء وأخواتهما، خلافًا للكوفيين في جواز تثنية ذلك، فتقول أجمعان وجمعاوان، وكذلك باقي أخواتهما، وأفعل من وأسماء الأفعال، وثواني نحو أبي بكر وأم بكر علمين، والأسماء المحكية التي هي جمل في الأصل نحو تأبط شرا وبرق نحره، والأسماء المختصة بالنفي نحو أحٍد وعريب، واسم الشرط وإن كان معربًا نحو أي، واسم الجنس ما دام على جنسيته، واسم الجمع، وجمع التكسير إلا في ضرورة كما بيناه، وكل اسم مبني نحو من وما، وحذام في لغة من بني، فأما قولهم منان ومنين فليست الألف والياء علامتي تثنية، وإنما لحقتا للحكاية، يدل على ذلك حذفهما وصلًا، وعلامة التثنية تثبت وصلًا ووقفًا، وأما يا زيدان ولا رجلين لك فإنما وقعت التثنية في حالة الإعراب، ثم طرأ البناء بعد ذلك لدخول حرف النداء ولا. وأما المشارات والموصولات نحو قولك هذان وهذين واللذان واللذين فإنهما عند أكثر النحويين من قبيل غير المثنى حقيقة. وهو الصحيح بدليلين: أحدهما: أن الاسم لا يثنى حتى ينكر، ولذلك تقول الزيدان في تثنية

زيد، فتدخل الألف واللام، وأسماء الإشارة والموصولات لا تفارق التعريف. والثاني: أنهما لو كانا من قبيل المثنى حقيقة لكنت تقول في تثنية الذي: الذيان، كما تقول في تثنية الشجي: الشجيان، وكنت تقول في تثنية هذا: هذيان، كما تقول في موسى: موسيان، ولما رآها بعض النحويين بالألف في الرفع، وبالياء في النصب والجر كالأسماء المثناة حقيقة توهم أنها مثناه حقيقة، وذلك باطل لما ذكرناه. واختلفوا في المركب تركيب المزج إذا أعرب، فمن النحويين من أجاز تثنيته، وهم الكوفيون، ومنهم من منع، وهو الصحيح لشبهه بالمحكي، ولا يحفظ شيء من تثنيته في كلامهم. وقد ذكر المصنف الخلاف في تثنيته في أواخر باب أمثلة الجمع، وكذلك ذكر الخلاف في تثنية نحو سيبويه. وكذلك أيضًا لا تثنى الأسماء الواقعة على ما لا ثاني له في الوجود نحو شمٍس وقمٍر إذا أردت بهما الكوكبين النيرين، ولا الأسماء الجارية مجرى الفعل إذا رفعت الظاهر في اللغة الفصيحة، نحو: مررت برجٍل قائٍم أبواه، ومضروٍب عبداه، ولا يجوز قائمين أبواه، ولا مضروبين عبداه، إلا في لغة "أكلوني البراغيث". وما كان من المصادر قد أزيل عن المصدرية، وأريد به الشخص، نحو زور وفطر وخصم، الأفصح فيه أن لا يثنى، فيقال: هما

زور، وهما خصم. و"أي" في غير أبواب الحكاية لا يثنى إلا في لغة ضعيفة، وأما في باب الحكاية فالأفصح أن يثنى، وقد بين ذلك في بابه. والعلم لا يثنى إلا إن نكر، ولذلك لا تثنى /الكنايات عن الأعلام نحو فلان وفلانة لأنهما لا يقبلان التنكير، فمتى بقي العلم على علميته، وضم إليه آخر، عطف عليه، كما قال الفرزدق: إن الرزية لا رزية مثلها فقدان مثل محمٍد ومحمد ملكان قد خلت المنابر منهما وقع الحمام عليهما بالمرصد يريد محمد بن الحجاج بن يوسف ومحمدًا أخا الحجاج بن يوسف. ومنه قول الحجاج لما بلغه موتهما "إنا لله محمد ومحمد في يوم". وذكر صاحب البديع خلافًا في كيفية تثنية العلم وجمعه، فقال: "منهم من يلحقه الألف واللام عوضًا عما سلبه من التعريف، فيقول الزيدان والزيدون، وهم الأكثر، ومنهم من لا يدخلهما عليه، ويبقيه على حاله قبل التثنية والجمع، فيقول: زيدان وزيدون". وهذا القول الثاني غريب جدًا، لم أقف عليه إلا في هذا الكتاب. وقوله: دليل اثنين احتراز من الجمع المسلم، وخرج بذلك ما لفظه لفظ تثنية، وليس بتثنية في المعنى. قال بعض أصحابنا: وذلك أربعة أنواع: الأول: ما أريد بلفظ التثنية فيه التكثير لا ما يشفع الواحد، نحو حنانيك وهذاذيك، إذ المراد اتصال الحنان والهذ، ومنه قوله تعالى: {ثُمَّ

ارْجِعِ البَصَرَ كَرَّتَيْنِ}، المعنى كرات. والثاني: ما جعل لفظ التثنية فيه لشيء واحد نحو المقصين والجلمين. والثالث: ما كان إلحاق العلامة فيه تأكيدًا لمعنى التثنية، وذلك اثنان واثنتان، معنى التثنية مفهوم من لفظ الاسم دون العلامة، وإنما لحقت تأكيدًا، كما ألحقوا ياءي النسب في قولهم كلابي تأكيدًا لمعنى النسب الذي كان يعطيه كلاب قبل لحاق الياءين. والرابع: أن تلحق علامة التثنية غير ما أريدت تثنيته على القلب، كما قال: كما دحست الثوب في الوعاءين المعنى: كما دحست الثوبين في الوعاء. وقوله: متفقين في اللفظ غالبًا احتراز من أن يختلفا، فإنهما إذا اختلفا في اللفظ لم تجز تثنيتهما، وما ورد من ذلك يحفظ ولا يقاس عليه، والذي ورد من ذلك إنما روعي فيه التغليب، فمن ذلك القمران في الشمس والقمر، قال: أخذنا بآفاق السماء عليكم لنا قمراها والنجوم الطوالع

والعمران في أبي بكر وعمر، قال: ما كان يرضى رسول الله فعلهما والعمران أبو بكر ولا عمر وقال الخوارج: "سنوا بنا سنة العمرين". والأبوان في الأب والأم، وفي الأب والخالة، ومنه قوله تعالى: {ورَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى العَرْشِ}. والأمان في الأم والجدة، قال: نحن ضربنا خالدًا في هامته حتى غدا يعثر في حمالته يا ويح أميه وويح خالته والزهدمان في زهدم وكردم ابني قيس، قال: /جزاني الزهدمان جزاء سوء وكنت المرء أجزى بالكرامة وفي البسيط: والزهدمان لزهدم وقيس ابني حزن. والعمران لعمرو بن حارثة وزيد بن عمرو. والأحوصان للأحوص بن جعفر وعمرو بن الأحوص. والمصعبان: مصعب بن الزبير وابنه. والبجيران: بجير وفراس ابنا عبد الله بن مسلمة. والحران: الحر

وأخوه. والعجاجان في العجاج وابنه رؤبة. وقوله: وفي المعنى على رأي قال المصنف في الشرح: "ونبهت بقولي "وفي المعنى على رأي" على خلاف في المختلفي المعنى كعيٍن ناظرةٍ وعيٍن نابعةٍ، فأكثر المتأخرين على منع تثنية هذا النوع وجمعه، والأصح الجواز لأن أصل التثنية والجمع العطف، وهو في القبيلين جائز باتفاق، والعدول عنه اختصار، وقد أوثر استعماله في أحدهما، فليجز في الآخر قياسًا، وإن خيف لبس أزيل بعد العدول بما أزيل قبله؛ إذ لا فرق بين قولنا: رأيت ضاربًا ضربًا وضاربًا ضريبةً، وبين قولنا: ضاربين ضربًا وضريبة. وممن صرح بإجازة ذلك ابن الأنباري، واحتج بقوله عليه السلام: "الأيدي ثلاث: فيد الله العليا، ويد المعطي، ويد السائل السفلى إلى يوم القيامة". ويؤيد ذلك قوله تعالى: {نَعْبُدُ إلَهَكَ وإلَهَ آبَائِكَ إبْرَاهِيمَ وإسْمَاعِيلَ وإسْحَاقَ}. ومما يؤيد ذلك قولهم: "القلم أحد اللسانين"، و"الخال احد الأبوين"، و"حفظ الطهر أحد اليسارين"، و"الغربة أحد

الشتاتين"، و"اللبن أحد اللحمين"، و"الحمية أحد الموتين". ومن ذلك قول بعض الطائيين: كم ليٍث اعتن لي ذا أشبًل غرثت فكأنني أعظم الليثين إقداما ومثله: وكائن سفكنا نفس نفٍس عزيزة فلم يقض للنفسين من سافٍك ثأر ويمكن أن يكون منه قول الشاعر: يداك كفت إحداهما كل بائٍس وأخراهما كفت أذى كل معتد أراد يد النعمة ويد الجارحة، فالنعمة كفت كل بائس، والجارحة كفت أذى كل معتٍد. ويؤيد ذلك قوله تعالى: {إنَّ اللَّهَ ومَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ}، فإن الواو إما عائدة على المعطوف والمعطوف عليه أو على المعطوف وحده مستغنى بخبره عن خبر المعطوف عليه، فهذا ممتنع لأنه من باب الاستدلال بالثاني على الأول كقول الشاعر: نحن بما عندنا، وأنت بما عندك راٍض، والرأي مختلف وهو ضعيف، وإنما الجيد الاستدلال بالأول، كقوله تعالى: {والْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ والْحَافِظَاتِ}، وصون القرآن عن الوجوه الضعيفة واجب، ولو

سلم استعمال هذا الوجه مع ضعفه لمنع من استعماله هنا تخالف المستدل به والمستدل عليه في المعني، وذلك لا يجوز بإجماع، فتعين عود الواو إلي المعطوف والمعطوف عليه، وكون الصلاة معبرا بها عن حقيقتين مختلفتين /، وهو المطلوب)). انتهي ما استدل به المصنف علي جواز تثنية المتفق لفظا المختلف معني. وأما أصحابنا فذهبوا إلي أنه لا تجوز تثنية ما اختلف معناه وإن اتفق اللفظان، نحو المشتري للكوكب والمشتري لقابل عقد البيع، والعين للعضو الباصر ومنبع الماء، ولذلك لحنوا الحريري في قوله: جاد بالعين حين أعمي هواه عينه، فانثني بلا عينين يريد بالعين الأولي عين المال، وبالثانية العضو الباصر. قالوا: وإنما لم يكتف باتفاق اللفظين حتى ينضاف إلي ذلك الاتفاق من جهة المعني، ولذلك قالت العرب: تبا له وويحا، فأتبعوا إعراب ويح إعراب تب، ولم يرفعوا ويحا علي الابتداء، ويضمروا خبره - وهو ((له)) - للدلالة المتقدمة الذكر عليه؛ لأنهما - وإن اتفقا في اللفظ - لم يتفقا في المعني؛ لأن المذكورة تبيينية، والمحذوفة ليست كذلك، بل هي في موضع الخبر، كما لا يجوز أن يحذف المجرور الواقع في موضع خبر ((ويح)) لدلالة المجرور الملفوظ به

عليه - وإن اتفقا في اللفظ - لعدم اتفاقهما في المعني، فكذلك أيضا لا يجوز حذف أحد الاسمين المتفقين في اللفظ لدلالة الآخر عليه إذا لم يكن بينهما اتفاق من جهة المعني. وقال من ينصر هذا المذهب: اختصار التثنية كاختصار الخبر، فكما جاز: زيد ضارب وعمرو، فحذف خبر ((عمرو)) اكتفاء بخبر ((زيد)) لتوافقهما معني، كذلك جاز أن يقال ((جاء الضاربان)) في المتوافقين معني، وكما لم يجز أن يقال: زيد ضارب ضربا وعمرو، تريد: ضارب ضريبة، فتحذف خبر ((عمرو)) إذا خالفه خبر ((زيد)) معني، وإن وافقه لفظا، كذلك لا يجوز أن يقال: زيد وعمرو ضاربان، مع تخالفهما معني. انتهي. وهذا شبيه بمسألة تبا له وويحا؛ لأن اختلاف مدلول مع اتفاق اللفظ هو كاختلاف الجار والمجرور مع اتفاق اللفظ. وقال المصنف: ((والجواب من وجوه: أحدهما: أن حذف الخبر المخالف معني لم يجز لأنه حذف بلا عوض في اللفظ ولا دليل علي معناه، وأحد مفردي المثني معوض عنه علامة التثنية، ومقدور علي الدلالة عليه بقرينة. والثاني: أن ذكر ((عمرو)) في المثال المذكور يوقع في محذورين: أحدهما توهم المحذوف مماثلا للمذكور، والآخر توهم إلغاء ((عمرو))، والمثني لا يتوهم فيه إلغاء. الثالث: أن التخالف في اللفظ لا بد معه من تخالف المعني، ولم يمنع من التثنية، فأن لا يمنع منها التخالف في المعني مع عدم التخالف في اللفظ أحق وأولي)) انتهي ما أجاب به المصنف.

وقال بعض أصحابنا: فأما قول النابغة الجعدي: يصمم وهو مأثور جراز إذا اجتمعت بقائمه اليدان فيحتمل أن يريد حقيقة اليدين اليمني واليسري، وهو الظاهر، فيجمع يديه بقائمه حين الضرب ليكون أشد مضاء له في الضريبية، فيكون كما قال البراض، وهو أحد فتاك العرب: / جمعت له يدي بنصل سيف أفل فخر كالجذع الصريع ويحتمل: إذا اجتمعت بقائمة اليد اليمني أو اليد اليسري وجد مصمما في الضريبة، أي: إنه يفعل وهو بشمال الضارب مثل ما يفعل وهو بيمينه. ولا يلزم من قوله: ((إذا اجتمعت بقائمة اليدان)) أن يكون اجتماعهما في حين واحد، بدليل أنك تقول: اجتمع الزيدان بعمرو، إذا اجتمع كل واحد منهما به علي انفراد. وإنما ذكر هذين الاحتمالين في هذا لأنه يتوهم أن قوله: ((إذا اجتمعت بقائمه اليدان)) يراد باليدين اليد الجارحة واليد التي يراد بها القدرة كقوله تعالي: {فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَىْءٍ}، فيكون عنده من باب المشترك أو من باب الحقيقة والمجاز. والذي ينبغي أنه لا يجوز تثنية المشترك ولا تثنية الحقيقة والمجاز لقلة ما ورد مما يوهم ذلك، ولاحتمال تأويله، ولا تبني القواعد إلا على جملة

من المستقرآت الجزئية، حتى يغلب علي الظن أن ذلك قانون كلي تبني علي مثله القواعد. وقالوا: إن التثنية أصلها العطف، فهم قد حذفوا الاسم، وجعلوا هذا دليلا عليه، والشيء لا يدل إلا علي ما هو من لفظه، ومحال أن يدل لفظ علي لفظ آخر مخالف لمعناه، إذ لا شعور به أصلا. وقال أبو محمد عبد العزيز بن جمعة بن زيد الموصلي، عرف بالقواس، وهو من نحاة بغداد، في كتابه ((شرح ألفية ابن معط)): ((اختلف في اتحاد الحقيقتين، فمنهم من جوز تثنية مختلفي الحقيقة مطلقا، إما مع تضاد كالجونين للأسود والأبيض، وإما من غير تضاد كالعينين للينبوع والباصرة، قياسا علي تثنية الأعلام؛ لأنه لما لم يطلق لفظ المشترك علي مدلولاته باعتبار معني جامع لما مقول عليها بالتواطؤ كأسماء الأجناس جري مجري العلم في ذلك؛ لأن العلم لم يسم به باعتبار معني جامع، ولما كانت تثنمية جائزة باتفاق كان المشترك كذلك. ومنهم من يشترط اتحادهما وإلا لالتبس الجنسان في الجنسية المتفقين فيها، فإنه إذا قيل القرآن أو العينان كان محتملا للمختلفين والمتفقين، وأما تثنية الأعلام فإنما جاز لأن المفهوم منها إذا حصل في العقل مجردا عن المتشخصات صار حكمها حكم سائر

أسماء الأجناس، كرجل بالنسبة إلي مسماه، وهذا المعني هو الذي سوغ دخول اللام والإضافة عليها، فيقال: الزيدون وزيدوكم، فصحة تثنية الأعلام لصحة تقديرها أجناسا، وامتنع تثنية الأسماء المشتركة لامتناع ذلك فيها)) انتهي. وذهب الأستاذ أو الحسن بن عصفور إلي أنه يجوز تثنية المتفقي اللفظ المختلفين في المعني، لكن يكونان متفقين في المعني الموجب للتسمية، قال: ومثال أن يتفقا في اللفظ، ويختلفا في المعني، ويتفقا في المعني الموجب للتسمية، قولهم الأحمران في الذهب والزعفران، وقولهم: ذهب منه الأطيبان: الشباب والنكاح، والمبدآن في مبدأ الحائط، وهو أساسه، ومبدأ الخط مثلا/، وهو النقطة. قال: ألا تري أن الذهب والزعفران مختلفا المعنيين، وكذلك الشباب والنكاح، والأساس والنقطة. وكرر هذا المعني في كتبه، فذكر أنه لا يجوز التثنية الحقيقية إلا بشرط اتفاق اللفظين والمعنيين أو المعني الموجب للتسمية. وهذا الذي ذهب إليه الأستاذ أبو الحسن ليس كما ذهب إليه؛ لأن قولهم الأحمران في الذهب والزعفران، والأطيبان في الشباب والنكاح، والمبدآن في الأساس والنقطة، هو من باب ما اتفق في اللفظان والمعنيان، ولم يختلف فيه المعنيان؛ لأنك تثنيت أحمر وأحمر، وأطيب وأطيب، ومبدأ ومبدأ، وهذا شيء اتفق فيه اللفظ والمعني، إذ المعني الذي بينهما هو القدر المشترك الذي سمي به كل واحد منهما أحمر وأطيب ومبدأ، وكما تقول: هذا فرس وحمار سابقان، ورجل وامرأة قائمان، ودرهم ودينار نافعان، فيكون هذا تثنية صحيحة، كذلك قلت أحمران وأطيبان ومبدآن. وكأن الأستاذ أبا الحسن قسم اتفاق المعني إلي قسمين: قسم يتفق في الاسمية، وقسم يتفق في الوصفية، فسمي المتفق في الاسمية اتفاقا في المعني، وسمي المتفق في الوصفية اتفاقا في المعني الموجب للتسمية.

وشرط أصحابنا في المثني والمجموع شروطا خمسة: أن يكون مفردا، أي: غير مركب ولا مثني ولا مجموع، معربا، منكرا، متفقا في اللفظ، متفقا في الدلالة. وقوله: بزايدة ألف في آخره رفعا، وياء مفتوح ما قبلها نصبا وجرا قال المصنف في الشرح: ((ليخرج عنه المصدر المجعول لاثنين خبرا أو نعتا نحو هذان رضا، ومررت برجلين رضا)). وقوله: تليهما نون مكسورة مثال ذلك: قام رجلان، ورأيت رجلين، ومررت برجلين. واختلفوا في علة الكسر: فذهب س إلي أن ذلك للفرق بينها وبين نون الجميع. هكذا قاله النحاس عنه. وقال الكسائي: كسرت كما كسرت في دراك. وقال الفراء: اختاروا للنون الكسر لأن الألف التي قبلها قد تكون في معني حركة ولا يمكن من الحركة إلا بالهمز، والواو قد تحرك إلي النصب والياء بغير همز، فألزموا كل جزم جاء بعد ألف ساكنة كأنه ساكن جاء مع متحرك، فخفض الذي بعده كما خفضوا الميم من قوله:

.................... لم تكلم ........................ وكانت الألف كالحركة، وليست الواو والياء كذلك، فلما سكنتا عوملتا معاملة الساكنين. وقال الجزمي: كسرت لالتقاء الساكنين، وهو أحد قولي أبي العباس، زحق الساكنين إذا التقيا أن يحرك أحدهما إلي الكسر. وبهذا التعليل علل أصحابنا كسر نون المثني، ونسب بعضهم هذا لسيبوبه. واختلف النحويون لم كان ذلك، فقال الكوفيون: لأن الخفض أخو الجزم. وذهب س إلي أن أصل هذا في قولهم: اضرب الرجل؛ لأن الفعل لا حظ له في الجر في حال سلامته، فأعطي حركة ليست له. وقال أبو العباس: إنما وجب هذا لأن الضمة والفتحة قد تكونان إعرابا بتنوين وغير تنوين، والكسرة لا تكون إعرابا إلا بتنوين. يعني: أو ما عاقبه من الألف واللام أو الإضافة، / فلما اضطررته إلي حركة جئت بحركة لا تكون في المعرب إلا بتنوين، يعني: أو ما عاقبه. وهذا معني قول من قال إنها حركة لا توهم إعرابا. وما ذكرناه من أن أصل التحريك إذا التقي الساكنان الكسر هو مذهب كافة النحويين إلا الأستاذ أبا علي، فإنه وافق الجماعة إلا إن كان

الساكن الأول ألفاً، فإن أصل التحريك إذ ذاك عنده الفتح إلا أن يمنع من ذلك مانع، وادعي أنه مذهب س. والحجة له وعليه تذكر في غير هذا الموضع. وقوله: فتحها لغة هذا الذي نقله ليس من علم البصريين، بل مذهب البصريين أنه لا يجوز فيها إلا الكسر، وعليه كلام العرب، وبه جاء القرآن. وأجاز الكسائي والفراء فتح نون المثني في حالة النصب والخفض. ونصا علي أن ذلك لا يجوز مع الألف. فقول المصنف: ((فتحها لغة)) منتقد من وجهين: أحدهما أنه لم يحك مذهب البصريين في منع ذلك. والثاني أنه أطلق، وكان ينبغي أن يقيد بحالة النصب والجر مع الياء، وبالمنع مع الألف. وزعم الكسائي أن فتحها مع الياء لغة لبني زياد بن فقعس، وكان لا يزيدك علمهم فصاحة. وقال الفراء: هي لغة لبعض بني أسد، إذا تغيرت الألف إلي الياء في النصب والخفض نصبوا النون، أنشدني بعضهم: علي أحوذيين استقلت عليهما ... فما هي إلا لمحة، فتغيب انتهي. وقال الآخر:

يا رب خال لك من عرينه حج علي قليص جوينه فسوته لا تنقضي شهرينه شهري ربيع وجماديينه وقال ابن كيسان: ((من فتح نون الاثنين في النصب والخفض استخف الفتحة بعد الياء، فأجراها مجري أين وكيف، ولا يجوز عند أحد من الحذاق علمته فتحها مع الألف، وإنشادهم: أعرف منها الأنف والعينانا لا يلتفت إليه لأنه لا يعرف قائله، ولا له وجه)) انتهي. ولو ثبت أنه من لسان العرب لكان له وجيه من القياس؛ لأنها ألف نابت عن الياء؛ لأنها ليست للرفع، بل الكلمة منصوبة، وكان القياس أن يقول: والعينين، فلما نابت عن الياء، واضطر إلي ذلك لأن ما قبله من النظم مفتوح الآخر، عامل هذه الألف معاملة الياء، بخلاف قولك: قام الزيدان، فالألف لم تنب عن الياء لأن الاسم مرفوع. وذكر بعض أصحابنا عن بعض النحويين إجاذة فتحها مع الألف، واستدل بقوله: أعرف منها الأنف والعينان ومنخرين أشبها ظبيانا ورد بأنه لا يعرف قائله.

وقال الأستاذ أبو الحسن بن عصفور: ((ومن العرب من يفتحها مع الألف، إلا أن ذلك لم يجئ إلا في لغة من يجعل التثنية بالألف علي كل حال، ولا يحفظ في هذه اللغة فتحها إلا في حال النصب، وكأنهم أجروا الألف في ذلك مجري الياء، ومن ذلك قول الشاعر: أعرف منها الأنف والعينانا. البيت. وقول الآخر: ألقي عليه المقرم الأونانا)) وقال ابن جني: ((وفتحها بعضهم في الثلاثة حملا للواحد / علي الحالتين لأنهما أكثر، قرأت علي أبي علي في نوادر أبي زيد: أعرف منها الأنف والعينانا ومنخرين أشبها ظبيانا وروينا عن قطرب لامرأة من فقعس: يا رب خال لك من عرينه حج علي قليص جوينه فسوته لا تنقضي شهرينه شهري ربيع وجماديينه)) قال ابن جني: ((وقد حكي أن من العرب من يرفع النون في نحو الزيدان والعمران. وهو من الشذوذ [حيث لا يقاس عليهما غيرهما)) انتهى.

وقوله: وقد تضم حكي الشيباني عن العرب: هما خليلان. ومن ذلك قول فاطمة عليها السلام: ((يا حسنان، يا حسينان))، تريد الحسن والحسين، فغلبت لفظ أحدهما علي الآخر كالعمرين، وأجرت التثنية مجري المفرد. وأنشد أبو عمر المطرز في ((اليواقيت)): يا أبتا أرقني القذان فالنوم لا تطعمه العينان وقال الشيباني: ((ضم نون التثنية لغة)). يعني إذا كانت بالألف، وأما إذا كانت بالياء فلا يجوز الضم، وإنما شبهت بألف غضبان وعثمان، فضمت النون في الرفع كما ضمت تلك النون، وأما مع الياء فلا يجوز، لا تقول: رأيت الزيدين، ولا: مررت بالزيدين. وكان ينبغي أن يقيد ذلك المصنف بالمثني إذا كان بالألف. وقال بعض أصحابنا: ((ومن العرب من يجعل الإعراب في النون إجراء للتثنية مجري المفرد، وذلك قليل جدا، حكي الشيباني عنهم: هذان خليلان)). فظاهر كلام هذا أنك تقول: رأيت الزيدان، بفتح النون، ومررت بالزيدان، بكسرها. وقوله: وتسقط للإضافة أو للضرورة أو لتقصير صلة. أما سقوطها للإضافة فكثير، ومنه {بَلْ بَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ}، وأما للضرورة فقول

الشاعر: هما خطتا إما إسار ومنة وإما دم، والقتل بالحر أجدر وقول الآخر: لنا أعنز لبن ثلاث، فبعضها لأولادنا ثنتا، وما بيننا عنز وقول الآخر: لها متنتان خظاتا كما أكب علي ساعديه النمر يريد: خطتان، وثنتان، وخظاتان. وقال الكسائي وأحمد بن يحي في خظاتا: إنه فعل، وإنما حذفت الألف من خظت لسكونها وسكون التاء، فلما تحركت التاء رجعت الألف. وكون النون في هذه الأبيات حذفت ضرورة هو مذهب البصريين، وأما الكسائي فإنه يجوز عنده حذف هذه النون، ولا يعتد حذفها ضرورة، فيجوز عنده: قام الزيدا، بغير نون، وأنشد: أقول لصاحبي لما بدا لي معالم منهما، وهما نجيا

يريد: نجيان. وزعم الفراء أنه لا شاهد في هذا البيت لأنه يريد به الظرف، أي: حيث ينتجيان نجوة، كقولك: هما قريبا، أي: مكانا قريبا، وكذلك تقدير هذا، أي: وهما مكان انتجاء. ويشهد لمذهب الكسائي ما جاء من كلام العرب مما عزي إلي الحجلة تخاطب القطا ((قطا قطا، بيضك ثنتا، وبيضي مائتا))، أي: ثنتان ومائتان. وينبغي/ أن يقيد قول من أجاز حذف النون للضرورة أو مطلقا بأن لا يكون حذفها يؤدي إلي الالتباس بالواحد، نحو هذان وهاتان؛ لأنك لو حذفت النون لقلت: هذا وهاتا، فكان يلتبس بالمفرد. وأما تقصير الصلة فإنه يشمل صلة الألف واللام وصلة ما ثني من الموصول نحو الذي والتي، فمثال تقصير صلة الألف واللام ما أنشده المصنف علي زعمه: خليلي ما إن أنتما الصادقا هوي إذا خفتما فيه عذولا وواشيا ولا حجة في هذا البيت علي ما زعمه المصنف من أن النون حذفت لتقصير الصلة؛ لأنه يجوز أن تكون حذفت للإضافة، فيكون هوي مخفوضا بإضافة اسم الفاعل إليه؛ لأنه اسم مقصور لا يظهر فيه إعراب، واسم الفاعل إذا كان في صلة الألف واللام، وكان مثني، جاز أن يضاف إلي ما ليس فيه ألف ولام، وإلي ما ليس مضافا إلي ما هما فيه، فتقول: هذان الضاربا

رجل، ورأيت الضاربي رجل، فلو كان بعد ((الصادقا)) اسم يظهر فيه النصب كان فيه حجة علي ما زعم. ومثال الحذف من صلة ما ثني من الذي والتي قول الشاعر: أبني كليب، إن عمي اللذا قتلا الملوك، وفككا الأغلالا وقول الآخر: وحوصاء ورألان الـ لذي دلا علي الحج وقول الآخر: هما اللتا لو ولدت تميم لقيل فخر لهم صميم وحذف النون من تثنية الذي والتي لغة لبني الحارث وبعض ربيعة، والإثبات لغة الحجاز وأسد. وفي حذف النون لتقصير الصلة خلاف: ذهب س والفراء إلى أنه

يجوز حذف النون مطلقا. قال الفراء: إنما جاز ذلك لأنهم وجدوا الواحد لا نون فيه، وقد نصب، فأجروا الاثنين مجري الواحد. وقال الفراء أيضا: إنما جاز ذلك في اللذين لأن الوقف علي الموصول دون صلته لا يكون، فصارت الصلة عوضا من النون، وهم يحذفون مما طال في كلامهم. وذهب أبو العباس إلي أنه لا يجوز حذف النون إلا مع الموصول غير الألف واللام نحو اللذان لطول الاسم، كما تحذف الهاء في قولك: الذي ضربت زيد، ولم يحفظ حذف النون في صلة الألف واللام من لسان العرب في المثني، ولم ينشدوا شاهدا علي ذلك، لكنه قد سمع في الجمع، وقياس المثني علي الجمع قياس جلي، والاحتياط أن لا يقال إلا بسماع من العرب، فإن لكل تركيب خصوصيات وضعية تبطل قياس المختلفي التركيب بعضه علي بعض. ونقص المصنف من مواضع حذف النون أنها تحذف لشبه الإضافة، وذلك في موضعين: أحدهما في قولك: اثنا عشر، واثنتا عشرة. والثاني في قولهم: لا غلامي لك، علي مذهبه، فإنه يزعم أن النون هناك محذوفة لشبه الإضافة، و ((لك)) في موضع الصفة، وسيأتي ذلك في باب ((لا)) إن شاء الله. وقوله: ولزوم الألف لغة حارثية يعني لزوم الألف في الرفع والنصب والجر، فلا تنقلب إلي الياء في النصب/ والجر. وحارثية: نسبة لبني الحارث بن كعب، أجروا المثني مجري الاسم المقصور، قيل: وهو القياس، إلا أن معظم العرب أرادوا التفرقة بين الرفع وغيره، فقلبوا تلك

الألف ياء. ومثال ذلك قول الشاعر: إن أباها وأبا أباها قد بلغا في المجد غايتاها وقول الآخر، وهو هوبرة الحارثي: تزود منا بين أذناه ضربة دعته إلي هابي التراب عقيم وقول الآخر: وأطرق إطراق الشجاع، ولو رأي مضيا لناباه الشجاع لصمما وسمع الأخفش أعرابيا فصيحا من بني الحارث يقول: ضربت يداه، ووضعته علاه، يريد: يديه وعليه. وقال بعض العرب: لو استطعت لأتيتك علي يداي. وقال الراجز: إياك أن تبلي بشعشعان خب الفؤاد مائل اليدان

وحكى الكسائي أن ذلك لغة لبني الحارث بن كعب وزبيد وخثعم وهمدان، وأنشد الكسائي لبعض بني الحارث: فإن بجنبا سحبل ومصيفه مراق دم لن يبرح الدهر ثاويا وقال الشاعر: واها لسلمي، ثم واها واها هي المني لو أننا نلناها يا ليت عيناها لنا وفاها وذكر أبو الخطاب أنها لغة لكنانة. وذكر غيره أنها لغة لبني العنبر وبني الهجيم وبطون من ربيعة. وحكاها أبو زيد، قال في نوادره: ((لغة بني الحارث بن كعب قلب الياء الساكنة إذا انفتح ما قبلها ألفا، يقولون: أخذت الدرهمان، والسلام علاكم)). وحكاها الفراء، قال: بنو الحارث بن كعب يقولون: إن هذان قالا ذاك، ورأيت هذان. وفي البسيط

أنها لغة بكر بن وائل. فهذه طوائف من العرب الفصحاء وافقوا بني الحارث بن كعب في هذه اللغة. وذهب أبو العباس إلي إنكار هذه اللغة، ولا يجيز مثلها في كلام ولا شعر. وهو محجوج بنقل النحاة الثقات عن هؤلاء الطوائف من العرب. وأحسن ما خرج عليه قوله تعالي: {إِنَّ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ} في قراءة من قرأ (هذان) بالألف من قراء السبعة حمله علي هذه اللغة. وذهب أبو الحجاج الأعلم إلي أن نون التثنية تحذف لغير ما ذكر المصنف من الإضافة والضرورة وتقصير الصلة، وذلك هو حذفها لشبه الإضافة، وذلك في قولك لبيك وسعديك ودواليك وهذاذيك، فالكاف عنده ليست ضميرا، وإنما هي حرف خطاب، كما هي في قولهم: أبصرك زيدا، وحذفت النون في لبيك وأمثالها لشبه الإضافة؛ لأن الكاف تطلب الاتصال بالاسم كاتصالها باسم الإشارة نحو: ذاك، والنون تمنع من ذلك، فحذفت لذلك. واستدل الأعلم علي ذلك بأن هذه انتصبت انتصاب المصادر، والعامل فيها أفعال مضمرة، وإذا أضيف المصدر إلي ضمير الخطاب فلا بد أن يكون ذلك الضمير مغايرا لفاعل الفعل الناصب ذلك المصدر؛ إذ فاعل ذلك الفعل هو ضمير المتكلم، فيلزم علي هذا كله أن يكون المصدر مصدرا تشبيهيا، فيصير نحو:/ ضربت ضربك، المعني: ضربا مثل ضربك، ويكون معني هذه المصادر في سعديك: أجبتك إجابة مثل إجابتك، وفي لبيك: ألزم طاعتك مثل لزومك الطاعة، وفي دواليك: تداولنا مثل مداولتك. وليس معني هذه المصادر هذا الذي لزم إذا جعل مصدرا تشبيهيا، وإذا كانت الكاف حرف خطاب استقام المعنى.

وقد رد ما ذهب إليه الأعلم بأن ذلك علي المصدر التشبيهي، ولا يفسد المعني لأنه يكون في سعديك: أجبتك إجابتك لغيرك إذا أجبته، وفي لبيك: ألزم طاعتك لزومك طاعة غيرك، وفي دواليك: تداولنا مداولتك إذا داولت، كما قالوا: دققته دقك بالمنحاز حب الفلفل، المعني: مثل دقك بالمنحاز حب الفلفل إذا دققت. وأما دعواه أن كاف الخطاب شديدة الاتصال بالاسم، والنون تمنعها من ذلك، فحذفت، فباطل بدليل قولهم ذانك وتانك، فالكاف للخطاب، ولم تحذف نون التثنية لها. وذهب أبو الحسن الأخفش وهشام إلي أنه تحذف نون التثنية لغير ما ذكر، وهو لطافة الضمير، فقالا: إذا قلت ضارباك فهذا الضمير منصوب المحل لأن موجب النصب المفعولية، وهي محققة، وموجب الجر الإضافة، وهي غير محققة، إذ لا دليل عليها إلا حذف النون، ولحذفها سبب آخر غير الإضافة، وهو صون الضمير المتصل من وقوعه منفصلا. والذي ذهب إليه س والمحققون هو أن الضمير في موضع جر اعتبارا بالظاهر، ولا ينسب إلي الضمير إعراب لا يكون للظاهر، فحذف النون هو للإضافة لا للطاقة الضمير. ص: وما أعرب إعراب المثني مخالفا لمعناه أو غير صالح للتجريد، وعطف مثله عليه، فملحق به. وكذلك كلا وكلتا مضافين إلي مضمر، ومطلقا علي لغة كنانة. ولا يغني العطف دون شذوذ أو اضطرار، إلا مع قصد

التكثير، أو فصل ظاهر أو مقدر. ش: الذي أعرب إعراب المثني وهو مخالف لمعني التثنية هو ما يراد به التكثير، نحو قوله تعالي: {ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ} المعني: كرات، لأن البصر لا ينقلب خاسئا وهو حسير من كرتين بل بكرات، وكذلك: سبحان الله وحنانيه، أي: حنانا بعد حنان، وقول الراجز: ومهمهين قذفين مرتين قال الفراء: ((مهمه بعد مهمه)). وهذا النوع من المثني يجوز أن يجرد من التثنية، ويعطف عليه مثله، ويكون المعني علي التكثير، ويستغني بالعطف عن التثنية، ومنه: لو عد قبر وقبر كنت أكرمهم ميتا، وأبعدهم عن منزل الذام وقال جرير: إنا أتيناك نبغي منك نافلة من رمل يبرين، إن الخير مطلوب

تخدي بنا نجب أفنى عرائكها خمس وخمس وتأويب وتأويب وقال الأفوه الأودي: إن النجاة إذا ما كنت ذا بصٍر من ساحة الغي إبعاد فإبعاد /وقد يغني في هذا النوع التكرير عن العطف، ومنه قوله تعالى: {كَلاَّ إذَا دُكَّتِ الأَرْضُ دَكًا دَكًا (21) وجَاءَ رَبُّكَ والْمَلَكُ صَفًا صَفًا} أي: دكا بعد دك وصفًا بعد صف. ومن المعرب إعراب المثنى والمراد به الجمع {فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ}، و"البيعان بالخيار"، وقول الشاعر: تلفى الإوزون في أكناف دارتها تمشي، وبين يديها البر منثور أراد: بين أيديها. وقوله: أو غير صالح للتجريد وعطف مثله عليه، هذا ضربان: اسم جنس نحو: كلبتي الحداد، وعلم كالبحرين والدونكين وكنابين: أسماء مواضع. ويلحق بهذا النوع القمران للشمس والقمر، فإنه لا يصلح للتجريد

وعطف مثله عليه، بل يصلح للتجريد وعطف مباينه عليه. ومما أعتيد فيه التجريد، والتثنية فيه مستعارة، قولهم: حواليك والأبهران والأخرمان وعاقلان. وتجريد ذلك: حوال، نحو: وأنا أمشي الدألى حوالكا والأبهر، وهو عرق معروف. والأخرم، وهو موضع. وعاقل، وهو جبل. ومما أعرب كالمثنى، وليس بمثنى لعدم صلاحيته للتجرد، اثنان واثنتان، والمذروان، وهما طرفا الألية، وطرفا القوس، وجانبا الرأس. ومثله: "جاء فلان يضرب أصدريه". ولعمرٍو ومعاوية ابني شرحبيل بن عمرو بن الجون: الجونان، وقول أعرابي: جنبك الله الأمرين -أي: الفقر والعري- وكفاك شر الأجوفين، -أي: البطن والفرج- وأذاقك البردين، أي: الغنى والعافية. ومن هذا قولهم لما هو في وسط شيء: هو في ظهريه وظهرانيه، ولقيته بين الظهرانين، أي: في اليومين أو الثلاثة. وقوله: فملحق به أي: ملحق بالمثنى في إعرابه. وهذا الخبر الذي

هو "فملحق به" هو قوله المبتدأ الذي هو قوله: "وما أعرب إعراب المثنى"، ومعنى هذا الخبر مستفاد من المبتدأ، فلا يجوز أن يكون خبرًا لأنه مفروض أنه أعرب إعراب المثنى، فكيف يخبر عنه بأنه يلحق بالمثنى في الإعراب، فصار قوله هذا نظير ما منعوه من قولهم: سيد الجارية مالكها؛ لأن معنى "مالكها" قد فهم من قوله: سيد الجارية، كذلك هذا قد علم أنه أعرب إعراب المثنى، فكيف يجعل ملحقًا بالمثنى في الإعراب، فإن تخيل للإلحاق معنى غير هذا صح أن يكون خبرًا. وقد انقسم ما أعرب إعراب المثنى، وليس معناه معناه، بالنسبة إلى المدلول إلى قسمين: قسم هو مفرد المعنى، وقسم هو لأكثر من اثنين: فالأول على قسمين: جنس، نحو المقصين والجلمين وكلبتي الحداد والأبهرين وحواليك. وعلم، وهو قسمان: قسم سمي بالمثنى كالبحرين. وقسم سمي بالمفرد، ثم عرضت له التثنية كالأخرمين وعاقلين. والقسم الذي هو لأكثر من اثنين قسمان: قسم مدلوله الكثرة نحو (كرتين) في سورة "تبارك"، وحنانيه. وقسم يراد به الجمع من غير اعتبار الكثرة نحو {فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ}، وقوله: ............... ............... وبين يديها البر منثور فمثل المقصين لا يجرد عن التثنية، والأبهران وحواليك المعتاد تجريده عن التثنية، ولا يعطف عليه لفقدان مثل، والبحران لا يجرد /عن التثنية، والأخرمان وعاقلان يجردان، ولا عطف لفقدان مثل، ومثل (كرتين) يجرد

بعطف وبغير عطف، ونحو (بين أخويكم) و"بين يديها" لا يجرد. وقوله: وكذا كلا وكلتا أي: ألحقا بالمثنى في الإعراب، وهما مفردان في اللفظ مثنيان في المعنى، وهذان مخالفان لما قبلهما لأن مدلولهما مدلول المثنى، وليس مدلول ما قبلهما إلا مدلول المفرد أو مدلول أكثر من اثنين، واعتبار اللفظ في خبرهما وضميرهما أكثر من اعتبار معنى التثنية، قال تعالى: {كِلْتَا الجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا}. وقوله: مضافين إلى مضمر، ومطلقًا على لغة كنانة احترز بقوله: "إلى مضمر" من أن يضافا إلى ظاهر، فإنهما إذا أضيفا إلى ظاهر كانا بالألف مطلقًا، وإذا أضيفا إلى مضمر كانا بالألف في الرفع، وبالياء في النصب والخفض، هذا الحكم المجمع عليه من السماع عن العرب، ولا يجيز البصريون غيره. وحكي الكسائي والفراء أن بعض العرب يجريهما مع المظهر مجراهما مع المضمر، وحكي: رأيت كلي أخويك، وهذه اللغة عزاها الفراء إلى كنانة. وزعم الفراء أنهما قد يضافان إلى مضمر، ويكونان بالألف في كل حال، وأن قول العرب "كلاهما وتمرًا"، كلا في موضع نصب كما كان في

الظاهر، ويتبعه التمر، وأنشد: نعم الفتى عمدت إليه مطيتي بي حين جد بنا المسير كلانا فعلى ما نقل غير البصريين يكون في كلا وكلتا ثلاث لغات: لغة التفرقة بين أن يضافا إلى ظاهر فيكون بالألف، أو إلى مضمر فتنقلب ألفه ياء في حالة النصب والخفض، وإلحاقها بالمقصور مطلقًا سواء أأضيف إلى ظاهر أم مضمر. واختلف النحويون في كلا وكلتا، فذهب البصريون إلى أنهما من قبيل ما هو مفرد في اللفظ مثنى في المعنى كزوج. واستدلوا على ذلك بوجودهما بالألف في حالة النصب والخفض إذا أضيفا إلى الظاهر، ولا يمكن أن يقال إنها جاءت على لغة بني الحارث بن كعب ومن يشركهم في كون المثنى عندهم بالألف دائمًا؛ لأن جميع العرب تستعمل كلا وكلتا إذا أضيفا إلى مظهر بالألف، فلو كان على تلك اللغة لم يتكلم به إلا أهل تلك اللغة. واستدلوا أيضًا بإخبار العرب عنهما إخبار المفرد، نحو قوله تعالى: {كِلْتَا الجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا}، وقال الشاعر:

فغدت كلا الفرجين تحسب أنه مولى المخافة خلفها وأمامها فلم يقل: آتتا، ولا: تحسب أنهما. ولا يعترض على هذا بأنهما قد أخبر عنهما إخبار المثنى في قوله: كلاهما لا يطلعان الكيحا لأن المفرد في اللفظ المثنى في المعنى يجوز أن يحمل على كل من اللفظ ومن المعنى، وقد جمع بينهما الشاعر في قوله: إن المنية والحتوف كلاهما يوفي المنية يرقبان سوادي /ولا يجوز أن يكون الإخبار عنهما إخبار الواحد من باب ما أخبر عن المثنى حقيقة إخبار الواحد، نحو قوله: فكأن في العينين حب قرنفٍل أو سنبلًا، كحلت به، فانهلت لأن هذا ضرورة، ولا يجيء مع ذلك إلا في الشيئين المتلازمين نحو اليدين والعينين، وليس كلا وكلتا من هذا الباب. وذهب الكوفيون إلى أنهما من قبيل المثنى حقيقة. واستدلوا على ذلك بوجودهما في حال الرفع بالألف، وفي حال النصب والخفض

بالياء، فتقول: كلاهما وكلتاهما، وكليهما وكلتيهما، فلما وجدوا حكم التثنية فيهما ومعناها جعلوهما من قبيل المثنى حقيقة. وزعم البغداديون أن كلتا قد نطق لها بمفرد، قال: في كلت رجليها سلامي واحدة كلتاهما قد قرنت بزائدة فليس بصحيح لأن المعنى: في كلتا رجليها، والحذف في كلتا مما حذف فيه بعض الكلمة للضرورة، نحو: درس المنا بمتالٍع فأبان .......................... يريد: المنازل. وفي الإفصاح: "فأما كونه يقلب آخره مع الظاهر فلا أعرف للبصريين اعتذارًا عنه، وكلهم لا يسلمونه، وقد حكاه الثقات منهم، منهم الكسائي والفراء ودريود وجماعة، ولا وجه لرد روايتهم. وكان أبو بكر بن طاهر يقول: هي لغة لقوم يجعلونه مثنى، ولا يقولون كلاهما قام، وإنما يقول هذا من يجعله مفردًا. وكذا كان يقول لنا تلميذه أبو الحسن بن خروف

والأستاذ أبو ذر ومن أدركنا من الشيوخ الذين حملوا عنه" انتهى. وإذا ثبت أنهما من قبيل المفرد لفظًا المثنى معنى فكيف جعلا في حالة الإضافة إلى المضمر بالألف رفعًا وبالياء نصبًا وجرًا؟ وهلا كانا بالألف على كل حال؟ فالجواب أن العرب قلبت الألف فيهما في حال الإضافة إلى المضمر بملازمتهما الإضافة وملازمة اتصال الضمير بهما، وحملتا في القلب على لدى وإلى وعلى؛ ألا ترى أن الألف لا تقلب فيها مع الظاهر، وتقلب مع المضمر. فعلى ما قرره البصريون ليس كلا وكلتا إذا أضيفا إلى مضمر معربين إعراب المثنى؛ لأن القلب في حالة النصب والجر ليس لأجل العامل، إنما هو حملًا على لدى وعلى. والذي اختاره المصنف في الشرح غير مذهب البصريين وغير مذهب الكوفيين؛ لأنه زعم أنهما مفردان في اللفظ مثنيان من حيث المعنى كما قاله البصريون، وأنهما مع كونهما مفردين في اللفظ أعربا إعراب المثنى حين أضيفا إلى المضمر. قال المصنف في الشرح: "وبكونه مفرد اللفظ مثنى المعنى أعرب إعراب المفرد في موضع وإعراب المثنى في موضع، إلا أن آخره معتل، فلم يلق به من إعراب المفرد إلا المقدر، فجعل ذلك له مضافًا إلى ظاهر ليتخلص من اجتماع إعرابي تثنية في شيئين كشيء واحد، وجعل الآخر مضافًا إلى مضمر لأن المحذور فيه مأمون. وقد أجرته كنانة مجرى

المثنى مع الظاهر أيضًا، فيقولون: /جاء كلا أخويك، ومررت بكلي أخويك، ورأيت كلي أخويك. وبهذه اللغة التي رواها الفراء معزوه إلى كنانة يتبين صحة قول من جعل كلا من المعرب بحرف لا بحركة مقدرة، فإن القائل إن كلا معرب بحركة مقدرة يزعم أن انقلاب ألفه ياء مع المضمر هو كانقلاب ألف لدى وإلى وعلى. ولو كان الأمر كما قال لامتنع انقلاب ألفها مع الظاهر في لغة كنانة، كما يمتنع عندهم وعند غيرهم انقلاب ألف لدى وإلى وعلى مع الظاهر، على أن مناسبة كلا للمثنى أقوى من مناسبتها للدي وإلى وعلى، ومراعاة أقوى المناسبتين أولى من مراعاة أضعفهما. وأيضًا فإن تغير ألف كلا حادث عن تغير عامل، وتغير ألف لدى وإلى وعلى حادث بغير تغير عامل، فتباينا، وامتنع أن يلحق أحدهما بالآخر. وكلتا في المؤنث ككلا في المذكر" انتهى ما قرره في الشرح نصرةً لدعواه أن هذا الانقلاب لألف كلا وكلتا مع المضمر، وعلى لغة كنانة مع المظهر والمضمر، كان لأنهما معربان إذ ذاك بالحرف لا بالحركة المقدرة على ما ذهب إليه البصريون. وهذا الذي ذهب إليه المصنف هو شيء مخالف لمذهب البصريين ولمذهب الكوفيين كما ذكرناه. فأما البصريون فإنهم زعموا أن كلا كـ"معًى"، وأن كلتا: فعلى كذكرى، والتاء بدل من لام الكلمة التي في كلا، وهي واو، وألف كلتا للتأنيث، وأنه كان ينبغي أن لا تنقلب الألف فيهما مع المضمر، كما لم

تنقلب ألف "معى" إذا أضيف إلى المضمر، لكن كلا وكلتا لا ينفصلان من الإضافة، فضارعا حروف الجر التي لا تنفصل من الإضافة نحو على ولدى وغلى، وهن مع الظاهر بالألف، ومع المضمر بالياء، فأجري كلا وكلتا مجراهن لأنهما لا ينفصلان من الإضافة، ففرق بينهما وبين ما ينفصل من الإضافة، وكان الفرق في المضمر أولى لأنه فرع. قال س: "وسألت الخليل عمن قال: رأيت كلا أخويك، ومررت بكلا أخويك، ثم قال: مررت بكليهما، ورأيت كليهما، فقال: جعلوها بمنزلة عليك في الجر والنصب". ثم اعتل لم لم يقع هذا في الرفع، فيقال: قام كليهما، فقال: "إنما يستعملان مجرورين أو منصوبين"، أيك تقول: من لديه.، ومن عليه، وقعدت لديه، ونزلت عليه، ولا تقول: يعجبني عليه، ولا: لديه، فلما فارقن كلا في باب الرفع أجري كلا في الرفع على أصله، وخرج في النصب والجر إلى ما ضارعه. وأما الكوفيون فألف كلا وكلتا عندهم ألف تثنية. فقيل لهم: ما بالها جاءت بالألف في النصب والخفض -وهي ألف تثنية- في قولك: رأيت كلا أخويك، ومررت بكلا أخويك؟ فقالوا: شبهت بالواحد إذ لم ينفرد على صحة. والذي يقطع ببطلان مذهب المصنف في دعواه أن كلا وكلتا مفردان في اللفظ كـ"معًى" مثنيان في المعنى، وأنهما أعربا إعراب المثنى، أنهما لو كانا أعربا إعراب المثنى للزم قلب ألفهما حالة التثنية، فتنقلب ألف كلا إلى الواو كما تنقلب ألف عصًا، وتنقلب ألف كلتا كما تنقلب ألف ذكرى، فكنت /تقول: قام الزيدان كلواهما، ورأيت الزيدين كلويهما، ومررت بالزيدين كلويهما، وقامت الهندان كلتياهما، ورأيت الهندين كلتييهما، ومررت

بالهندين كلتيهما. وكذلك يلزم في لغة كنانة لأن إضافتهما إلى ظاهر كإضافتهما إلى المضمر -[ص: ولا يغني العطف دون شذوذ أو اضطرار إلا مع قصد تكثير أو فصل ظاهر أو مقدر.]- ش: ثبت في بعض النسخ" ولا يغني العطف عن التثنية" وفي بعض النسخ: " عن التثنية والجمع" فمثال أغناء العطف عن التثنية لشذوذ أو اضطرار قول الراجز: كأن بين فكها والفك ... فارة مسك ذبحت في سك وقول الآخر: ليث وليث في محل ضنك كلاهما ذو أنف ومحك وقول الآخر:

أنجب عرس ولدا وعرس وقول الآخر: كأن بين خلفها والخلف كشة أفعى في يبيس قف ولولا الضرورة لقال: كأن بين فكيها وليثان وأنجب عرسين ولو وقع مثل هذا في غير شعر لكان شذوذاً. ومثال أغناء العطف عن الجمع قول الشاعر، أنشده الكسائي: كأن حيث يلتقي منه المحل ... من جانبيه وعلان ووعل لولا الضرورة لقال: أو عال ثلاثة، وقد استعمل أبو نواس الحسن بن هانئ هذه الضرورة، فقال: أقمنا بها يوماً ويوماً وثالثاُ ... ويوماً له يوم الترجل خامس لولا الضرورة لقال: أياماً أربعة.

والمراجعة إلى العطف في التثنية والجمع من مراجعة الأصول المتروكة. وقال المصنف في الشرح: " استعمال العطف في موضع الجمع لا سبيل إليه لأنه أشق من استعماله في موضع التثنية بأضعاف كثيرة، ولأن الجمع ليس محدوداً فتذكر آحاده معطوفاً بعضها على بعض كما فعل بالمثنى، فلو كان الجمع مدلولاً عليه ببعض ألفاظ العدد جاز استعمال العطف في موضعه، كقول الشاعر: ولقد شربت ثمانياً وثمانياً وثمان عشرة واثنتين وأربعا وقول الآخر: وردن اثنتين واثنتين وأربعاً يبادرن تغليساً حمال المداهن" وقوله: إلا مع قصد التكثير قال المصنف في الشرح: " قد تقدم بيان الاستغناء بالعطف عن التثنية المقصود بها التكثير" وقوله: أو فصل ظاهر مثاله: مررت بزيد الكريم وزيد البخيل، ولو ثنيت وأخرت الصفتين مفرقتين لجاز. أما الاستغناء به لفصل مقدر فكقول الحجاج وقد نعي له في يوم واحد

محمد أخوه ومحمد ابنه: " سبحان الله، محمد ومحمد في يوم"! وإياهما قصد الفرزدق بقوله: إن الرزية لا رزية مثلها ... لفقدان مثل محمد ومحمد انتهى شرح المصنف. واتضح من هذا الشرح أنه إنما تكلم في التثنية لا في الجمع، إذ لم يتعرض إلى التكثير/ في الجمع ولا إلى الفصل فيه لا الظاهر ولا المقدر. وقال بعض أصحابنا: " إذا استوفت ا|لأسماء الشروط المسوغة للتثنية والجمع لزمت التثنية والجمع، فلا يجوز العطف إلا في موضعين أحدهما: أن تريد الكثرة نحو قوله: لو عد قبر وقبر كان أكرمهم ميتاً وأبعدهم عن منزل الذم ألا ترى أن المعنى على التكثير لا على التثنية بدليل قوله: "أكرمهم" وبدليل أنه مادح والمدح لا يتصور معه الاقتصار على اثنين. ومن ذلك قول الحكم بن المنذر بن الجارود للحرمازي الشاعر لما قال له: ما تريد؟ فقال: مائة. قال له الحكم: بل مائة ومائة ومائة فعطف لما أراد والبالغة والتكثير لأن العرب كثيرا ما تستعمل العطف في موضع التهويل والتكثير قال عز وجل: {أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى * ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى} وقال الشاعر: والبحر يدعو هيقما وهقيما

والآخر: أن تريد التفصيل والتنويع نحو قوله: وكنت كذي رجلتي: رجل صحيحة ... ورجل رمى فيها الزمان فشلت ومن ذلك قول إسماعيل بن أبي الجهم، وقد قال له هشام بن عبد الملك: وما يجبر كسرك ويشفي ضرك؟ قال له إسماعيل: ألف دينار وألف دينار وألف دينار. ثم ذكرا لكل ألف وجهاً يصرفه فيه، ماعدا هذين الموضعين فالتثنية أو الجمع، ولا يجوز العطف إلا في ضرورة" انتهي. وما ذكره من التفصيل والتنويع في قوله: " وكنت كذي رجلين" فإن التثنية حاصلة بقوله: " كذي رجلين" وأما " رجل ورجل" - أعني هذا المعطوف عليه والمعطوف- فليس فيه عدل عن التثنية إلى العطف، إذ لا تجوز التثنية فيهما، إذ قد ثنيا قبل ذلك، وإنما هذا من باب البدل التفصيلي، وإنما جئ برجل ورجل توطئة لذكر صفتيهما، فليس هذا مما عدل فيه إلى العطف من التثنية لأجل التنويع والتفصيل كما زعم. وأما تمثيل المصنف الفصل المقدر بقول الحجاج وقول الفرزدق فليس العدول عن التثنية لأجل الفصل المقدر، وإنما ذلك لأن فات شرط من شروط التثنية، وهو أن يكون المثنى نكرة، لأن الاسم لا يثنى حتى يكون نكرة فلما بقي هذان الاسمان على علميتهما ولم ينكرا، لم تجز التثنية وعلى هذا خرج أصحابنا كلام الحجاج والفرزدق. وقال أبو عبد الله محمد بن هشام الفهري المروي في كتابه

"المقرب" في النحو في باب التثنية: وأصلها العطف وعدلوا عن الأصل إيجازاً ولم يلفظوا به إلا في الشعر ضرورة كقوله: ............. ... فقدانا مثل محمد ومحمد فصار في هذا ثلاثة أقوال: أحدها هذا. والثاني: ما ذهب إليه أكثر أصحابنا أنه امتنع من التثنية لأنه باق على علميته. والثالث: قول المصنف إنه عدل عن التثنية للعطف للفصل المقدر. -[ص: والجمع جعل الاسم القابل دليل ما فوق اثنين، كما سبق بتغيير ظاهر أو مقدر وهو التكسير أو بزيادة في الآخر مقدر انفصالها لغير تعويض، وهو التصحيح]- ش: قال المصنف في الشرح: " المعني به- أي: بالجعل- تجديد/ الناطق حالة للاسم لم يوضع عليها ابتداء، فبذلك تخرج أسماء الجموع ونحوها" انتهى. يعني أن أسماء الجموع إنما هي بالوضع السماعي في كل اسم منها، ليست بجعل الجاعل ولكن المصنف احترز بذلك عن اسم الجمع. ويرد عليه أنه يوجد التكسير بدون جعل الجاعل الاسم القابل إلى آخر ما شرط فيه، وذلك جمع المكسر الذي لم ينطق له بواحد، نحو عباديد وشماطيط ونباذير فإنها جموع تكسير وليس فيها جعل الاسم

القابل دليل ما فوق اثنين، لأن جعل الاسم يستدعي وجود الاسم، ولذلك قال بعض أصحابنا: جمع التكسير هو الاسم الواقع على جماعة إذا كان مبنياً على واحد من لفظه منطوق به أو مقدر وقد تغير فيه بناء ذلك الواحد لفظاً أو نية. وقوله: القابل احتراز مما لا يجمع ومن ذلك كل اسم لا ثاني له في الوجود، والمعرفة التي لا يمكن تنكريها والمنى، والمجموع جمع سلامة، والمجموع جمع تكسير إلا ما شذ، والأسماء المختلفة الألفاظ إلا أن يغلب بعضها على بعض كألاشاعثة في الأشعث وقومه، والمهالبة في المهلب وبنيه، والأسماء المتفقة الألفاظ المختلفة المعاني، نحو أن تقول: رأيت أعيناً، تعني عين الماء والعضو الباصر وعين الميزان، والأسماء المركبة والاسم الجاري مجرى الفعل في رفعه الظاهر في اللغة الفصيحة، فلا يجوز: مررت برجل قائمين آباؤه، ولا: برجل مضربين غلمانه، إلا في لغة " أكلوني البراغيث" ولا جمع ما كان من الأسماء صالحاً لوقوعه على الجمع نحو أفعل من، وكل، والأسماء المختصة بالنفي، ولا الأسماء المستغنى عن جمعها بجمع غيرها، نحو أسماء العدد ماعدا مائة وألفاً. وقوله: دليل ما فوق اثنين يعني أن أقل الجمع ثلاثة، واحترز بذلك مما لفظه لفظ الجمع، وليس بجمع في المعنى وهو على قسمين: أحدهما: معناه التثنية، وهو مقياس في كل شيئين من شيئين، نحو: قطعت رؤوس الكبشين وغير مقياس نحو قولهم: رجل عظيم المناكب، وامرأة عظيمة المآكم وضخمة الأوراك.

والثاني معناه الإفراد، وليس بمقياس، نحو قولهم: شابت مفارقه، وجمل ذو عثانين، وقول الشاعر: يطير الغلام الخف عن صهواته .......................... وكأنه جعل كل جزء من المفرق والعثنون والصهوة مفرقاً وعثنوناً وصهوة على طريق المبالغة في العظم. وقوله: كما سبق إشارة إلى اتفاق اللفظ غالباً والمعنى على رأي والخلاف في جمع المشترك كالخلاف في تثنيته. ومثال ما لم يتفق فيه اللفظ ما قدمناه من قولهم الأشاعثة والمهالبة والخبيبون في خبيب وأصحابه، وخبيب لقب عبد الله بن الزبير، ويروى: قدني من نصر الخبيبين قدي بكسر الباء على أنه جمع لخبيب وأصحابه وبفتحها على أنه تثنية لخبيب ومصعب أخيه، كما قالوا القمران في الشمس والقمر وغلب خبيب على مصعب لأنه كان الخليفة وأخوه مصعب نائب عنه. وقوله: بتغير ظاهر التغيير يكون بزيادة كصنو وصنوان وبنقص كتخمة وتخم، وبتبدل شكل كأسد وأسد وبزيادة / وتبدل شكل كرجل ورجال، وينقص وتبدل شكل كقضيب وقضب، وبزيادة ونقص وتبدل شكل كقضيب وقضبان.

هذا تقسيم المصنف لهذا التغيير ولا تحرير فيه لأن قوله: " بزيادة كصنو وصنوان، وبنقص كتخمة وتخم" هو في التحقيق من زيادة وتبدل شكل، ونقص وتبدل شكل، لأن الحركات التي في الجمع غير الحركات التي في المفرد، ولذلك زعم أصحابنا أن حركات هجان المفرد غير حركات هجان الجمع، وكذلك فلك. ففي التحقيق يكون في تقسيمه تداخلا. وأصل هذا التقسيم للجرمي، قال: هذا التغيير ثلاثة أقسام: قسم فيه زيادة على الواحد كعبد وعباد، وقسم فيه نقص كرغيف ورغف، وقسم لا زيادة ولا نقص به، بل تتغير حركاته كأسد وأسد. واعترضه الأستاذ أبو علي بأنه يقتضي أنه تغير الحركات ليس في الأولين. وليس كذلك، ففي التقسيم تداخل وإصلاحه أن يقال في الثالث: وقسم لا زيادة فيه ولا نقص ثم نقول: وجميع هذه الأقسام لا بد فيه من تغيير الحركات. والباء في قول المصنف "بتغيير" متعلقة بقوله: " دليل ما فوق اثنين"، قال المصنف: " فلا يتناول تغيير نحو مصطفين ومصطفيات، فإن مفرديهما مصطفى ومصطفاة، فقد غيرا إذا جمعا بحذف وقلب، إلا أن تغييرهما ليس هو المشعر بالجمعية بل المشعر بها الزيادة اللاحقة، إذ لو قدر انفرادهما ولا حذف ولا قلب لم تجهل الجمعية ولو قدر العكس لجهلت الجمعية، بخلاف تغيير رجل حين قيل فيه رجال، فإن الجمعية لا تدرك إلا

به" وقوله: أو مقدر مثال ذلك قولهم في جميع هجان: هجان، وفي جمع دلاص: دلاص، وفي جمع فلك: فلك، فالألف التي في هجان ودلاص قد حذفت وعقبتها ألف فعال التي للجمع، فالألف في حالة الإفراد كألف ضناك وكناز، وفي حالة الجمع كألف ظراف وكرام، والحركات كالحركات والحركات التي في فلك حالة الإفراد كالحركات التي في قفل، وفي حالة الجمع كالحركات التي في بدن. قال المصنف: " هذا مذهب س، ودعاه إلى ذلك أنهم قالوا في تثنيته فلكان، فعلم بذلك أنهم لم يقصدوا به كما قصد بجنب ونحوه مما أشرك فيه بين الواحد وغيره حين قالوا: هذا جنب، وهذان جنب، وهؤلاء جنب، فالفارق عنده بين ما يقدر تغييره وبين مالا يقدر تغييره مما لفظه في الإفراد والجمع واحد، وجدان التثنية وعدمها" انتهى. وقد اختار المصنف في باب أمثله الجمع أن فلكاً ونحوه مما استوي مفرده وجمعه في اللفظ- وإن ثني - اسم جمع مستغن عن تقدير

التغيير لا جمع تكسير مقدر تغييره. والذي استدل له أصحابنا على أنها جموع تكسير لا أسماء جوع هو أن العرب عاملتها في التصغير معاملة الجوع، فردوها إلى الواحد، وجموعها بالألف والتاء: فقالوا: دليصات وهجينات وفلكيات، فلولا ذلك لوجب أن يعتقد فيها أنها أسماء جموع، لأن فعالا وفعالاً لم يطرد فيهما أن يجمعا على وزن لفظهما في حالة الإفراد. وبهذا يرد على المصنف في زعمه أنها أسماء جموع لا جموع تكسير، لأن اسم الجمع إذا صغر إنما يصغر على لفظه نحو رجيل وركيب في رجل وركب. وقوله: وهو التكسير يعني أن هذا الجمع الذي ذكره بهذه القيود يسمى جمع تكسير. شبه تغيير المفرد عن بنيته إلى بنية أخرى وإفادته مما يدل عليه المفرد دلالة واحدة ثلاثة فأكثر أو ما أصله ذلك بكسر الإناء الذي تغير شكله، وتفككت أجزاءه وعاد إلى هيئة أخرى، وذلك بخلاف جمع السلامة. وذهب الأستاذ أبو الحسين بن الطراوة إلى الرد على النحويين في زعمهم أنه إنما سمي تكسيرا تشبيها بكسر الإناء لو كان كما زعموا لما قبل فيه تكسير، لأن ذلك مصدر كسر، وفعل للتكثير وهذا التغيير الذي يكون في هذا الجمع قد يكون قليلاً كقولهم: فرس ورد وخيل ورد، ولا يطلق على هذا هذا البناء الذي يراد به المبالغة، ولذلك لا تقول: ذبحت الكبش، وتقول: ذبحت الغنم، لأن في هذا فعلا كثيراً، قلا يصح في ورد أن يقال إنه جمع تكسير، بل لو أرادوا هذا المعنى لقالوا: جمع كسر حتى يعم

التغيير القليل والكثير. قال ابن الطراوة: وإنما اشتقاق التكسير في الجمع من قولهم: بيت كسير، أي: واسع: كأنه لسعته ذو كسور، وكسور جمع كسر وهو الجانب كقوله: وإذا الرياح تناوحت بجوانب البيت الكسير قال: وذلك أن بنية المفرد لما فكت اتسعت لقبول أبنية كثيرة وذلك أن زنداً بناؤه فعل، فلما أزيلت هذه البنية عند إيراد جمعه قبلت جميع الأبنية عدا فعلاً فصارت متسعة قابلة لجميع أبنية الأسماء الثلاثية. قال الأستاذ أبو علي: هذا الذي قاله ابن الطراوة بعيد من جهة المعنى، فاسد من جهة اللفظ وذلك أن العرب لم تقل كسر بمعنى وسع، فكيف يصح أن يقال تكسير؟ والمصادر التي لا أفعال لها قليلة مع كونهم أيضاً لم يقوموا تكسير بمعنى توسيع، فيكون النحويون قد وضعوا لغة. فإن قلت: أليس الاصطلاح وضع لغة لم يستعملها العرب؟ قلت: أكثر الاصطلاحات تنقل ألفاظ اللغة إلى معان تشبه المعاني التي وضعها لها أهل اللغة، ولذلك لا تجد في صناعة النحو لفظاً مخترعاً لم ينطق به أهل اللغة. وأيضا فيكون قول النحويين تسمية بالأكثر إذ أكثر هذه الجموع التغيير فيها كثير، وما اعترض به قليل وإذا كان أهل اللغة والصنائع قد يسمون الأشياء بأوائلها كتسمية كتاب الحماسة والعين وغيرهما وإن كان المسمى ليس بالأكثر، فالتسمية بالأكثر وأولى يقال أيضا لابن

الطراوة: كما سميته تكسيراً تريد التوسيع لأنه عند فكه قبل جميع الأبنية، فسمه تكسيراً بالنسبة إلى قبوله جميع التغييرات، ويكون بناء التكثير فيه لهذا المعنى. تقسيم لبعض أصحابنا في الاسم الواقع على الجمع: لا يخلو من أن يكون له واحد من لفظه منطوق به أو لا يكون. إن لم يكن فإما أن يكون وزنه/ مختصاً بالجموع أو غير مختص. إن اختص وجب أن يعتقد فيه أنه جمعه نحو عباديد وإن لم يختص كان اسم جمع نحو قوم. وإن كان له واحد من لفظه فإما أن يكون وزنه كوزن ذلك الواحد أو لا يكون، فإن لم يكن فإما أن يكون وزنه من أوزان الجموع الخاصة بها، أو من أوزان المفرد الخاصة به، أو من الأوزان المشتركة. فإن كان من أوزان الجموع الخاصة بها فهو جمع لذلك الواحد المنطوق به إن كان ذلك الواحد مطرداً فيه أن يجمع على ذلك الوزن نحو دراهم، وإن كان لم يطرد اعتقد أنه جمع لمفرد من لفظه قياسه أن يجمع على ذلك الوزن، نحو ملامح ولا يجعل جمعاً للمحة ولكن لمفرد على وزن مفعلة نحو ملمحة. وإن كان من أوزان المفرد الخاصة به فاسم جمع نحو رجل ورجلة وصاحب وصحابة. وإن كان وزنه مشتركاً فإما أن يكون جمع ذلك المفرد على ذلك الوزن مطرداً أو. إن كان مطرداً جعل جمعاً له نحو رجل ورجال، وإن لم يطرد كان اسم جمع نحو صاحب وصحابة، لأن فاعلاً لم يطرد جمعه على فعالة. وإن كان وزن الاسم الواقع على الجمع كوزن ذلك المفرد الذي هو من لفظه فإما أن تجوز تثنيته أو لا تجوز، إن لم تحز لم يكن جمع تكسير، بل يجب أن يعتقد فيه أنه مصدر في الأصل أوقع على الجثة فبقى على مفرده في جميع الأحوال إجراء له مجرى ما نقل عنه، نحو زور وعدل. وإن جازت تثنيته فإما أن يكون له وزن من

أوزان الجموع أو لا يكون، إن لم يكن اعتقد أنه اسم جمع نحو حشم، تقول: هو حشم لي، وهما حشمان لي، وهم حشم لي، وإن كان له وزن من أوزانه الجمعية وجب أن يعتقد أنه اسم جمع لعدم اطراد جمع المفرد على لفظه، إلا أن يقوم الدليل على أنه جمع، فيعتقد فيه الجمعية، نحو فلك ودلاص وهجان، فإنها جمع لفلك ودلاص وهجان. وقوله: أو بزيادة في الآخر هذه الزيادة هي الواو والياء والنون والألف والتاء. وقوله: مقدر انفصالها قال المصنف في الشرح: "احتراز من زيادة صنوان فإنها كزيادة في سلامة النظم معها إلا أن زيادة زيدين مقدرة الانفصال لوجهين: أحدهما: أنه نونه تسقط للإضافة. والثاني: أنه لو سمي به، ونسب إليه حذفت المدة والنون وزيادة صنوان ونحوه بخلاف ذلك" انتهى كلامه في شرح هذا. وهو غير محرر ولا محقق لأن الحركات التي في الجمع ليست عين الحركات التي في المفرد، بل هي غيرها، فليس صنوان أصله صنو زيد عليه ألف نون. وقد رد هو - أعني المصنف- على من زعم أن رفع المثنى والمجموع على حده بلا علامة، وأن ترك العلامة علامة، بوجوه: منها قوله: " إنا نقدر مغايرة الألف والواو في نحو: عندي اثنان وعشرون للألف والواو فيهما قبل التركيب، كما نقدر مغايرة الألف والواو والياء في: نعم الزيدان أنتما يا زيدان، ونعم الزيدون أنتم يا زيدون، ومررت برجلين لا رجلين مثلهما". ثم ذكر أمثلة مما يقدر فيه كمغايرة الحركات، ثم قال: " وكما نقدر ضمة فلك في الجمع غير ضمته في الإفراد وياء بخاتي/ مسمى به غير يائه منسوباً إليه، ولذا صرف في النسب". قال: " وأمثال ذلك كثيرة"

وإذا كان المصنف قد قدر مغايرة الحروف على حسب ما وقعت في الأماكن المختلفة. وقدر مغايرة الحركات، فكذلك تقول في هذا إن حركات صنوان الجمع غير حركات صنو المفرد، وإذا كان كذلك فلا يحتاج إلى احتراز بقوله: " مقدر انفصالها" عن الألف والنون في صنوان، لأن الحركات التي لجمع التكسير غير الحركات التي في المفرد، وليس كذلك الجعفرون والهندات ولا يعتقد أن الحركات فيهما حين جمعا غير الحركات التي في المفرد. وقوله: لغير تعويض قال المصنف في الشرح: " احتراز من سنين ونحوه، فإنه جمع تكسير جرى في الإعراب مجرى جمع التصحيح ومعنى التعويض فيه أن واحدة منقوص يستحق أن يجبر بتكسير كما جبر يد ودم حين قيل فيهما: يدي ودمي فزيد آخره زيادتا جمع التصحيح عوضاً من الجبر الفائت بعدم التكسير، لأنهما يجعلانه شبيهاً بفعول لو كسر عليه، ولكون هذا النوع مكسراً في الحكم غير فاؤه غالباً فقيل في سنة: سنون بكسر السين وقد روي ضمها" انتهى كلامه. فأما قوله في سنين: " إنه جمع تكسير جرى في الإعراب مجرى جمع التصحيح" فهذا غريب جداً، لأنه من حيث هو جمع تكسير ينبغي أن يكون إعرابه بالحركات وجعله إياه جمع تكسير يعارض قوله بعد ذلك "فزيد آخره زيادتا جمع التصحيح عوضاً من الجبر الفائت لعدم التكسير" فقد حكم عليه أنه عادم التكسير فكيف يكون جمع تكسير عادماً للتكسير؟ هذا متناقض. ثم قال بعد ذلك: " ولكون هذا النوع مكسراً في الحكم غير فاؤه" فخرج بقوله:

"مكسراً في الحكم" أن يكون جمع تكسير إلا في الحكم، وهذا كله اضطراب في الكلام. وذكر الأستاذ أبو جعفر ابن الأستاذ أبي الحسن بن الباش أن مذهب س أن سنين جمع سنة بالواو والنون كثبين وقلين ورئتين، وهذا شيء قد كثر في الأسماء المحذوفة اللام المؤنثة بالهاء، أعني أن تجمع بالواو والنون، لأن هذه الجمع له مزية وبابه ما يعقل، فجعل في هذا الباب عوضاً من لام الفعل المحذوفة. وذهب بعض أصحابنا إلى أن سنين اسم جمع، وليس بجمع سلامة لتغير لفظ سنة، ولا جمع تكسير لكونه غير مطرد في نظائره نحو هنة وشفة، أترى أنهما لا يجمعان بالواو والنون فهو- وإن كان له واحد من لفظه- اسم جمع كركب في مذهبنا، ألا ترى أنه اسم جمع وإن كان واحده راكباً لكونه لم يطرد أعنى جمع فاعل على فعل. والذي أذهب إليه أن سنيناً وبابه مما شاع فيه هذا الجمع مما لم يكسر أنه جمع سلامة وإن كان قد فاته بعض شروط ما ينقاس فيه جمع السلامة في المذكر، ولا يدل فوات شرط منها على أنها ليست بجمع تصحيح ولذلك لا ينقاس هذا الجمع فيما أشبه سنة لأنه فات شرط من شروط قياسه. وأما تغيير حركة سين سنة إلى الكسر أو الضم فحمل على أخواته مثل ثب وقلة حيث قالوا ثبوت جرياً على أصل الحركة، وثبوت إتباعاً لحركة الثاء

لحركة الباء، ولا يضر ذلك بكونه جمع/ جمع سلامة التصحيح في المذكر، كما لا يضر تغيير بعض الحركات في جفنات وحجرات بفتح الفاء وفتح الجيم وضمها. وقوله: وهو التصحيح يشمل نوعي الجمع في المذكر والمؤنث، ولا يعني بقوله: " بزيادة" أنها زيادة واحدة، لأن المزيد في المذكر واو ونون في الرفع، وياء ونون في الجر والنصب، والمزيد في المؤنث ألف وتاء -[ص: فالمزيد في الرفع واو بعد ضمه، وفي الجر والنصب ياء بعد كسرة، تليهما نون مفتوحة، تكسر ضرورة وتسقط للإضافة أو لضرورة أو لتقصير صلة، وربما سقطت اختياراً قبل لام ساكنة غالباً.]- ش: يعني بقوله: بعد ضمة ظاهرة أو مقدرة فالظاهرة نحو: قام الزيدون والمقدرة في المقصور نحو: قام المصطفون، فالضمة مقدرة في الألف المحذوفة لالتقائها مع الساكن بعدها. وقوله: بعد كسرة يعني أيضا ظاهرة نحو: رأيت الزيدين، ومررت بالزيدين أو مقدرة نحو: رأيت المصطفين ومررت بالمصطفين، فالكسرة مقدرة في الألف المحذوفة. وشمل قوله: " واو بعد ضمة" " وياء بعد كسرة" حلول الضمة والكسرة في آخر الاسم، وحلولها فيما تنزل منزلة الآخر وإن لم يكن آخراً حقيقة، نحو: قام القاضون ورأيت القاضين ومررت بالقاضين، إذ الأصل: قام القاضيون ورأيت القاضيين ومررت بالقاضيين. وقوله: تليهما نون مفتوحة أي: تلي الواو والياء.

وقوله: تكسر ضرورة قال المصنف في الشرح: " كان السكون أحق بها لأنها بمنزلة التنوين في كونها مسبوقة بالإعراب فحركت لالتقاء الساكنين، وكان الفتح أولى لأنه أخف، ولأن توالي الأمثال لازم للكسر بعد الياء وللضم بعد الواو، وذلك في الفتح مأمون، فتعين ومثال كسرها ضرورة قول الشاعر: عرين من عرينه ليس منا ... برئت إلى عرينه من عرين عرفنا جعفر وبني عبيد ... وأنكرنا زعانف آخرين" انتهى. وإنما قال إن السكون أحق بها من قبل أن أصل الحرف السكون، فينبغي أن يحمل على أصله، وأن يدعى أن هذه النون ساكنة في الأصل وأنشد بعض أصحابنا قبل قوله: " عرفنا جعفر" البيت قول جرير: أتوعدني وراء بني رياح ... كذبت لتقصرن يداك دوني عرفنا جعفر وبني رياح ... وأنكرنا زعانف آخرين وقال: " هكذا أنشده أبو عبيدة بكسر النون في " المجاز" له".

وقال بعض النحويين: من العرب من يكسر نون الجميع على الأصل وقال الشاعر: وماذا يدري الشعراء مني ... وقد جاوزت حد الأربعين أخو خمسين، مجتمع أشدي ونجدني مداورة الشؤون وقال الفرزدق: ما سد حي ولا ميت مسدهما ... إلا الخلائف من بعد النبيين وما ذكره المصنف من أن هذا الجمع يكون بالواو في الرفع والياء في الجر النصب ونون/ بعدهما هو الوجه المختار في هذا الجمع. ومن العرب من يجعل الإعراب في النون في جمع المذكر السالم، وينقله من الإعراب بالحروف إلى الإعراب بالحركات في المنقوص وغير المنقوص. فيقول: زيدين وسنين وقنسرين. واختلفوا في ذلك: فذكر الأستاذ أبو جعفر ابن الإمام أبي الحسن بن الباش ما نصه: وللعرب في المجموع بالعلامة مذهبان: أحدهما هذا الذي ذكرناه من الإعراب بالحروف. والآخر نقله من الإعراب بالحروف إلى الإعراب بالحركات. وقال بعض أصحابنا: " ومن العرب من يجعل الإعراب في النون من جمع المذكر السالم إلا أن ذلك لا يحفظ إلا في الشعر". فظاهر هذا

مخالف لما ذكره الأستاذ أبو جعفر، إذ هذا خصه بالشعر، وظاهر قول أبي جعفر أنة مذهب للعرب لا يختص بالشعر، وعلى هذا حمل المبرد الأبيات التي أنشدت قبل بكسر نون الجمع لا على الضرورة. وفي البسيط: " المجموع بالواو والنون ضربان: حقيقي: وهو ما كانت الواو والنون جئ بهما للجمع كزيدون وعمرون. وغير حقيقي: ما لم يكن كذلك نحو بنون لما حذفت منه اللام جمع الواو والنون ليكون عوضاً وحمل عليه أرضون وحمل على أرضين أحرون وإورون. وهذا الجمع غير الحقيق قد تجعل نونه موضع الإعراب، نحو. .............. فإن سنينه ... ........................... ولقد ولدت بنين صدق سادة ................................ و" .................. ...... حد الأربعين وقبل النون الياء. ومن أجاز إثبات الواو هنا قياساً على زيتون فهو بعيد من جهة القياس" انتهى ملخصاً.

فأما قول الشاعر: رب حي عرندس ذي ظلال ... لا يزالون ضاربين القباب فيحتمل تخريجه وجوهاً: أحدها أنه على هذا المذهب من جعل إعرابه بالحركات، ولذلك لم تحذف النون للإضافة. والثاني أن يكون على حذف "ضاربي" أي: ضاربي القباب، وحذف " ضاربي" لدلالة ضاربين عليه، فصار نظير قول الشاعر: رحم الله أعظماً دفنوها ... بسجستان طلحة الطلحات يريد: أعظم طلحة. والثالث ما ذهب إليه أبو علي في تخريجه، وهو أن القباب منصوب بضاربين، ويريد ألقبابي، فألحق الجمع ياء النسبة، ثم حذف إحدى الياءين، ثم أسكن الياء الباقية لما كان الاسم في موضع نصب كما قال: كفى بالناي من أسماء كاف ..................... يريد: كافياً ولما نسب إلى الجمع جعل ياء النسبة غير معتد به،

فلذلك لم يرد القباب إلى المفرد كما جاء في شعر الشماخ: خضرانيات. فلم يرد خضران إلى الواحد. ومن مجيء ياء النسب زائدة في الاسم قول ابن أحمر: كم دون بيتي من تنوفية ... لماعة تنذر فيها النذر وقوله: وتسقطا للإضافة سقوطها للإضافة كثير، كقوله تعالى: {غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ} وقوله: / أو للضرورة مثاله قول الشاعر: لو كنتم منجدي حين استعنتكم ... لم تعدموا ساعداً مني ولا عضدا وقول الشاعر: ولسنا إذا تأبون سلما يمذعني ... لكم غير أنا إن نسالم نسالم وقوله: ولتقصير صلة مثاله في صلة الألف واللام قراءة الحسن وبعض رواة أبي عمرو {وَالْمُقِيمِي الصَّلاةِ} بالنصب في (الصلاة) وقول الشاعر:

الحافظو عورة العشيرة لا ... يأتيهم من ورائهم وكف وقول الآخر: قتلنا ناجياً بقتيل عمرو ... وخير ألطالبي الترة الغشوم أنشده ابن جني بنصب الترة. وأنشد المصنف على جواز حذف النون من " الذين" لتقصير صلة قول الشاعر: وإن الذي حانت يفلج دماءهم ... هم القوم كل القوم يا أم خالد يريد: الذين. وهكذا أنشده غيره. ولا حجة فيه لأنه يحتمل أن يريد بقوله: " الذي" صفة لجمع محذوف يوصف بالذي، كأن قال: وإن الجمع الذي، أو: وإن الحي الذي، فأفرد بالنسبة إلى كون لفظ الجمع أو الحي مفرداً وجمع في قوله: " دماؤهم" حملاً على معنى الجمع أو الحي ومع هذا الاحتمال فلا حجة فيما ذكروه. وقد حالف المصنف قوله هنا إن النون من قوله: " وإن الذي حانت"

حذفت لتقصير الصلة بقوله في باب الموصول في التسهيل، فقال ما نصه: " وإن عني بالذي من يعلم أو شبهه فجمعه الذين مطلقاً ويغني عنه الذي في غير تخصيص كثيراً وفيه للضرورة قليلاً" انتهى. وقال المصنف في شرح هذا الكلام: " إذا لم يقصد بالذي تخصص جاز أن يعبر به عن جمع جملاً على من، قال: {وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ}، فلو لم يرد به الجمع لما أشير إليه بـ"أولئك"، ولا عاد عليه ضمير جمع ومنه {كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ} لأنه ضرب به مثل لجمع. فإن قصد بالذي تخصص فلا بد من " اللذين" في التثنية و"الذين" في الجمع ما لم يضطر شاعر، نحو قوله: أبني كليب إن عمي اللذا ... ........................ وقوله: وإن الذي حانت يفلج دماؤهم ............................. انتهى. وكان قد قدم أيضاً في الاستدلال على حذف النون لتقصير الصلة قوله: أبني كليب إن عمي اللذا ... ......................

فانظر إلى هذا الاضطراب من هذا الرجل! تارة يستدل بحذف النون في التثنية والجمع بهذين البيتين على جواز ذلك في الكلام لتقصير/ صلة، وتارة يزعم أن ذلك لا يجوز إلا في ضرورة الشعر، وتارة يفضل في جواز حذف النون من اللذين فيقول: أن أريد به التخصيص فلا بد من النون، وتارة يطلق الحذف. وقد قدمنا قبل أن حذف النون من التثنية لغة لبني الحارث وبعض ربيعة، وأن الإثبات لغة الحجاز وأسد. والذين نقلوا هذا لم يفصلوا بين أن يراد بالموصول التخصيص أو غير التخصيص. وقوله: وربما سقطت اختياراً قبل لام ساكنة مثال ذلك ما حكاه أبو زيد من قراءة من قرأ {وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ} بنصب الجلالة، ' وما حكاه ابن جني من قراءة من قرأ {إِنَّكُمْ لَذَائِقُوا الْعَذَابِ الأَلِيمِ} بنصب العذاب، وأنشد ابن جني: ومساميح بما ضن به حابسو الـ ... ـأنفس عن سوء الطمع بفتح سين الأنفس وهذا شبيه بقولهم في بني العنبر: بالعنبر وبقولهم في الشعر: م الأشياء في: من الأشياء، وشبهه.

وقوله: غالباً استظهار على حذفها في قراءة الأعمش {وَمَا هُم بِضَآرِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ} قال المصنف: " وهذا في غاية من الشذوذ" ومثله قول الشاعر: ولسنا إذا تأبون سلماً بمذعني ... لكم .................... البيت. وزعم الزمخشري أن حذف النون في قراءة الأعمش من قوله: {بِضَآرِّي بِهِ} لأجل الإضافة إلى (أحد) وفصل بين المضاف والمضاف إليه بالجار والمجرور والذي هو (به) كما قال: هما أخوا في الحرب من لا أخا له .......................... ثم استشكل ذلك لأن أحداً مجرور بمن، فكيف يمكن أن يعتقد فيه أنه مجرور بالإضافة؟ فقال: " فإن قلت: كيف يضاف إلى أحد وهو مجرور بمن؟ قلت: جعل الجار جزءاً من المجرور" انتهى. وهذا التخريج ليس بجيد لأن الفصل بين المضاف والمضاف إليه بالظرف والجار والمجرور من ضرائر الشعر. ولا يمكن أن تكون هذه القراءة من هذا أيضا لأن الذي ادعاه أنه أضيف إليه هو مشغول بعامل آخر، فهو

المؤثر فيه لا الإضافة. وأما جعل حرف الجر جزءا من المجرور فليس بشيء لأنه مؤثر فيه، وجزء الشيء لا يؤثر في الشيء، فلأحسن تخرجه على حذف النون منه تخفيفاً وإن لم يكن اسم الفاعل في صلة الألف واللام، ولحذفها نظير في نظم العرب ونثرها. -[ص: وليس الإعراب انقلاب الألف والواو ياء، ولا مقدراً في الثلاثة ولا مدلولاً بها عليه مقدراً في متلوها، ولا النون عوض من حركة الواحد، ولا من تنوينه ولا منهما، ولا من ينوينين فصاعداً خلافاً لزاعمي ذلك، بل الأحرف الثلاثة إعراب، والنون لرفع توهم الإضافة أو الإفراد.]- ش: اختلف الناس في المثنى: فذهب الزجاج فيما نقل عنه إلى أنه مبني. وذهب الجمهور إلى أنه معرب. وشبهة الزجاج في ذلك أنه عنده تضمن معنى الحرف، فإذا قلت قام الزيدان فأصله قام زيد وزيد، فلما تضمن الاسم معنى الحرف بني كما بني خمسة عشر لتضمنه معنى

الحرف، / إذ أصله خمسة عشرة. وقوله: وليس الإعراب انقلاب والواو ياء يعني انقلابهما في المثنى والمجموع في حالة الجر والنصب، وهذا مذهب ألجرمي، واختيار الأستاذ أبي الحسن بن عصفور ونسبه إلى سيبويه، ونسبه السهلي إلى المازني، قال ابن عصفور: " ذهب كثير من النحويين، منهم س، إلى أنهما معربان بالتغير والانقلاب في النصب والخفض، وبعدمه في الرفع، وذلك أن الأصل قبل دخول العامل زيدان وزيدون، ونظير ذلك اثنان وثلاثون، فإذا دخل عامل الرفع عليهما لم يحدث فيهما شيئاً، وكان ترك العلامة يقوم مقام العلامة، فلما دخل عامل النصب وعامل الخفض قلب الألف ياء والواو ياء، فهذه الحروف هي حروف إعراب، ولا إعراب فيها، لا ظاهر ولا مقدر، بل التغير والانقلاب وعدمه هو الإعراب". وقد رد أبو الفتح على صاحب هذا المذهب بأن قال: " جعل الإعراب في النصب والجر معنى لا لفظاً وفي الرفع لفظاً لا معنى، فحالف بين جهتي الإعراب في اسم واحد، ألا ترى أن القلب معنى لا لفظ، وإنما

اللفظ نفس المقلوب والمقلوب إليه" وما رد به أبو الفتح لا يلزم لأن صاحب هذا المذهب لم يقل إن الإعراب في حال الرفع لفظ فيلزمه اختلاف جهتي الإعراب كما زعم ولكنه أراد أن الواو والألف فيهما في حال الرفع حرفا إعراب، ولا إعراب فيهما، وعدم الإعراب يقوم مقام الإعراب، والتغيير يقوم مقام الإعراب وكذا فهمه المبرد. وقال المصنف في الشرح: " هو- يعني هذا المذهب- مردود بوجوه: أحدها: أن ترك العلامة لو صح جعله علامة للإعراب لكان النصب به أولى، لأن الجر له بالياء وهي به لائقة لمجانسة الكسرة، والرفع له الواو، وهي به لائقة لمجانسة الضمة، وهي أصل الألف في المثنى، فأبدلت ألفاً كما قيل في يوجل: ياجل. وفي يوتعد: يتعد، فلم يبق للنصب إلا مشاركة الجر أو الرفع. الثاني من وجوه الرد: أن القول بذلك يستلزم مخالفة النظائر، إذ ليس في المعربات غير المثنى والمجموع على حده ما ترك العلامة له علامة وما أفضى إلى مخالفة النظائر دون ضرورة فمتروك الثالث: أن الرفع أقوى وجوه الإعراب فالاعتناء به أولى وتخصيصه بجعل علامته عدمية مناف لذلك، فوجب اطرحاه. الرابع: أن تقدير الإعراب إذا أمكن راجح على عدمه بإجماع وقد أمكن فيما نحن بسبيله، فلا عدول عنه، وذلك أنا نقدر مغايرة الألف والواو في نحو" عندي اثنان وعشرون" للألف والواو فيهما قبل التركيب، كما نقدر

مغايرة الألف والواو والياء في نحو: نعم الزيدان أنتما يا زيدان ونعم الزيدون أنتم يا زيدون، ومررت برجلين لا رجلين مثلهما، وكما نقدر ضمة "حيث" مرفوعاً بعد تسمية امرأة به غير ضمته قبل التسمية، وضمة يضربون غير ضمة يضرب، وفتحة يا هند بنت/ عاصم غير فتحة ناد هند بنت عاصم، وكسرة قمت أمس غير كسرة قمت بالأمس، وكما نقدر ضمة فلك في الجمع غير ضمته في الإفراد، وياء بخاتي مسمى به غير يائه منسوباً إليه، ولذلك صرف في النسب وأمثال ذلك كثيرة " انتهى. مارد به المصنف هذا المذهب. وفي كل من وجوه رده مناقشة: أما الأول فإن فيه قوله: " وهي - يعني الواو- أصل في ألف المثنى، فأبدلت ألفاً كما قيل في يوجل ياجل، وفي يوتعد ياتعد" وهذا غير مسلم أن أصل ألف المثنى واو، بل جاءت الألف على الأصل، إذ كان القياس أن يكون بالألف في جميع أحواله كالمقصور الذي زيد في آخره ألف ولي لام الكلمة كألف حبلى وقبعثرى. وأما الثاني فقوله: " إذ ليس في المعربات غير المثنى والمجموع على حده ما ترك العلامة له علامة" فليس كذلك لأن مذهب ألجرمي في الأسماء الستة أنها معربة بالتغير والانقلاب حالة النصب والجر، وبعدم ذلك حالة الرفع، إذ قد ثبت وجود الواو فيها قبل العامل في قولهم: " أبو جاد" فليس في القول بذلك مخالفة النظائر. وأما الثالث فقوله: " وتخصيصه بجعل علامته عدمية مناف لذلك" لا منافاة في ذلك، ولا يعني بالعدم العدم الصرف بل بقاء الألف في المثنى وبقاء الواو في المجموع غير معتدين، فعدم تغيرهما لازم لبقائهما، فالإعراب في الحقيقة هو بقاء اللفظ على حاله عند دخول عامل الرفع، لا أن ثم عدماً

صِرْفًا، وليس هذا كما ذكر من أنه جعلت العلامة للرفع العدم، وإنما تجوز في ذلك. والمقصود بقاء اللفظ عند دخول الرافع على حاله قبل دخولا الرافع، وليس هذا بعدم حقيقة. وأما الرابع فقوله: "وكما نقدر ضمة فلك في الجمع غير ضمته في الإفراد"، فهو لا يقول بهذا الذي رد به؛ لأنه يذهب إلى أن فلكاً لفظ مشترك بين الفرد والجمع، وأن هيئة فلك لهما هيئة واحدة، وإنما يقول بهذا الذي رد غيره في فلك، فقد رد عليه بما لا يصح عنده. وقوله: ولا مقدراً في الثلاثة يعني أن الإعراب هو بحركات مقدرة في الألف، فتقدر فيها الضمة، وفي الواو فتقدر فيها أيضاً الضمة، وفي الياء فتقدر فيها الفتحة والكسرة في النصب والجر. وهذا المذهب هو مذهب الخليل وس، واختاره الأعلم والسهلي. وذلك أن هذه الألف والواو والياء لحقت لمعنى التثنية والجمع آخر الاسم، كما لحقت ألف التأنيث وتاؤه لمعنى التأنيث، وكما لحقت ياء النسب لمعنى النسب، فكما أن هذه حروف إعراب، فما كان منها صحيحاً قبل الإعراب ظاهراً، وما كان

منها معتلاً قدرت فيه الحركات، فكذلك زيادة التثنية والجمع قدر فيها الإعراب لأن الألف لا تقبل الحركة بحال، والياء والواو تستثقل فيهما الحركات، فقدر فيها الإعراب. وقد رد هذا المذهب بوجهين: أحدهما: أنها لو كانت معربة بالحركات المقدرة للزم ظهور الحركة في الجمع حالة النصب لأن الفتحة لا تستثقل في الياء المفتوحة المكسور ما قبلها، فكنت تقول: رأيت الزيدين، كما تقول: رأيت جواريك. والوجه الثاني: أنها لو كانت معربة / بالحركات لوجب أن تكون تثنية المنصوب والمجرور بالألف لتحرك الياء وانفتاح ما قبلها، فيقال: رأيت الزيدان، ومررت بالزيدان. وبالوجه الأول رد المصنف هذا المذهب، قال: "لازمه ظهور الفتحة في نحو: رأيت بنيك؛ لأن ياءه كياء جواريك، مع ما في جواريك من زيادة الثقل، ولما انتفى اللازم - وهو ظهور الفتحة - علم انتفاء الملزوم، وهو تقدير الضمة والكسرة". وما رد به هذا المذهب غير لازم: أما الوجه الأول فإنهم لما حملوا حالة النصب على حالة الجر في التثنية في الياء أجروا الحكم على الياء حكماً واحداً، فكما قدروا الكسرة في الياء حالة الجر كذلك قدروا حالة النصب الفتحة في الياء تحقيقاً للحمل، وإذا كانوا قد قدروا الفتحة في ياء المنقوص حالة الإفراد لمراعاة كونها لا تتحرك في مذهب آخر للعرب، فلأن يقدروا ذلك فيما حمل فيه المنصوب

على المجرور في المثنى بجهة الأولى، وذلك مثل معدي كرب، فإن من أعربه إعراب المتضايقين قال: قام معدي كرب، فيقدر الضمة في الياء، ومررت بمعدي كرب، فيقدر الكسرة في الياء، ورأيت معدي كرب، فيقدر الفتحة في الياء؛ لأن هذه الياء لا تتحرك في لغة من أعربه إعراب ما لا ينصرف، فقال: قام معدي كرب، ورأيت معدي كرب، ومررت بمعدي كرب، بخلاف رأيت قاضي بلدك، فإنه تظهر فيه الفتحة. فإذا كانوا قد قدروا الفتحة في معدي كرب حالة الإضافة في النصب مراعاة لمن سكنها في لغة من منعه الصرف فالأخرى أن لا يحركوها بالفتح في التثنية؛ إذ حملها على حالة الجر أولى من حمل معدي كرب في الإضافة على حالة ما لا ينصرف، ولمراعاة هذه اللغة - أعني لغة ما لا ينصرف - لم يفتحوا الياء في معدي كرب حالة التركيب، وإن كان المعهود في المركب تركيب مزج أن آخر الأول يفتح لكون الثاني تنزل منزلة تاء التأنيث، فكما لا يكون ما قبل تاء التأنيث إلا مفتوحاً فكذلك هذا، وإذا كانوا قد راعوا في لغة التركيب تركيب مزج لغة إعراب ما لا ينصرف مع اختلاف الحدين - أعني البناء والإعراب - فلأن يراعى ذلك في الشيء الواحد بجهة الأولى والأخرى. وأما الوجه الثاني فإن القياس ما ذكر فيه، ولذلك لاحظ هذا القياس بنو الحارث بن كعب ومن وافقهم من العرب، فأقروا المثنى بالألف رفعاً ونصباً وجراً، وأما غيرهم من العرب فإنما قلبوا ليفرقوا بين المثنى وغيره. وقوله: ولا مدلولاً بها عليه مقدراً في متلوها يعني أنك إذا قلت قام الزيدان فعلامة الرفع ضمة مقدرة في الدال منع من ظهورها الألف، والألف دليل على الإعراب، وإذا قلت رأيت الزيدين فعلامة النصب فتحة مقدرة في الدال، وإذا قلت مررت بالزيدين فعلامة الجر فيه كسرة مقدرة في الدال،

ومنع من ظهور الفتحة والكسرة شغل الحرف بالحركة التي اقتضتها الياء، والياء دليل على الإعراب، وكذلك تقول في الجمع. قال المصنف: "وهو قول الأخفش والمبرد". وزاد غيره أنه مذهب المازني والزيادي. وبهذا التفسير الذي فسرنا مذهب الأخفش هذا فسره الزجاج والسيرافي، وفسره أبو علي بأن مذهبه أن هذه الحروف دلائل إعراب، بمعنى أنك إذا رأيتها فكأنك قد رأيت / الإعراب، وزعم أن وجه الخلاف بينه وبين س أنه يزعم - أعني س - أنها حروف إعراب، وأن الأخفش يرى أنها غيره، وأنها دلائل عليه. قال المصنف في الشرح: "وهو مردود أيضاً من ثلاثة أوجه: أحدها: أن الحروف المتجددة للتثنية والجمع مكملة للاسم، إذ هي مزيدة في آخره لمعنى لا يفهم بدونها، كألف التأنيث وتائه وياء النسب، فكما لم يكن ما قبل هذه محلاً للإعراب كذلك لا يكون ما قبل الأحرف الثلاثة محلاً له إذ الإعراب لا يكون إلا آخراً. الثاني: أن الإعراب لو كان مقدراً فيما قبلها لم يحتج إلى تغييرها، كما لم يحتج إلى تغيير بعد الإعراب المقدر قبل ياء المتكلم وفي ألف المقصور. الثالث: أن الإعراب إنما جيء به للدلالة على ما يحدث بالعامل،

والحروف المذكورة محصلة لذلك، فلا عدولا عنها" انتهى. وسيأتي الكلام على المذهب الذي اختاره المصنف إن شاء الله. وقوله: ولا النون عوضاً من حركة الواحد هذا مذهب الزجاج، ذهب إلى أنها عوض من الحركة، ولذلك تثبت مع الألف واللام كما تثبت الحركة، ولم يجز عنده أن تكون عوضاً من التنوين لأن التنوين إنما دخل ليفرق بين الاسم الذي هو باق على أصالته - وهو المنصرف - وبين الاسم الذي لا ينصرف لشبهه للفعل، فّا ثنيت الاسم أو جمعته بعد عن الفعل، ولم يكن شيء منه مشبهاً له، فلم يحتج فيه إلى التنوين الفارق. وإنما حذفت للإضافة لأنها زيادة، والمضاف إليه زيادة في المضاف، فكرهوا زيادتين في آخر الاسم. وفي الإفصاح: " وقال الزجاج: هو بدل من التنوين خاصة؛ لأن تعاقب الآخر في نفسه قد صار عوضاً من الحركة". وقد رد المصنف هذا المذهب بأن "الحروف الثلاثة نائبة عن الحركات، قائمة مقامها في بيان مقتضى العامل، فلا حاجة للتعويض ". وهذا بناء من المصنف على مذهبه في أن هذه الحروف هي الإعراب، وسيأتي فساد هذا المذهب إن شاء الله. وقوله: ولا من تنوينه هذا مذهب ابن كيسان. واستدل على ذلك بأن

الحركة قد عوض منها التغير والانقلاب في النصب والخفض، وفي الرفع قام ترك العلامة مقام العلامة، وأما التنوين فلم يعوض منه شيء، فلذلك كانت النون عوضاً منه، ولذلك حذفت للإضافة كما يحذف التنوين، وثبتت مع الألف واللام لقوتها بالحركة ولبعدها عن موجب الحذف - وهو الألف واللام - لأنها في أوله، والنون في آخره، وليس كذلك المضاف إليه لأنه مباشر النون. ولا ينبغي عنده أن يمتنع من التعويض من التنوين لبعد الاسم عن الفعل بالتثنية والجمع، بدليل أنهم يلحقون الاسم التنوين إذا كسروه أو صغروه وإن كان بذلك يبعد عن الفعل. وقد رد المصنف هذا المذهب بثبوت النون فيما لا تنوين في واحده، نحو يا زيدان، ولا رجلين فيها. ويجاب عن هذا بأن هذا بناء عارض، ولم يدخل حرف النداء ولا "لا" إلا على مثنى قد استحق النون عوضاً من التنوين الذي كان في الواحد، فبقي على حاله وإن كان قد عرض له البناء اعتباراً بأصله لا بما آل إليه من البناء العارض. ورد / هذا المذهب أيضاً بثبوت النون في تثبيته ما لا ينصرف نحو أحمران، وليس في المفرد تنوين فتكون النون عوضاً منه. وقوله: ولا منهما هذا مذهب ابن ولآد وأبي علي، وهو اختيار

ابن طاهر وأبي موسى. واستدل على ذلك بوجود حكم الحركة فيها مع الألف واللام، وحكم التنوين في حال الإضافة، وإنما حكم لها بحكم الحركة مع الألف واللام وبحكم التنوين في حال الإضافة لأن الإضافة في إيجاب الحذف أقوى من الألف واللام كما تقدم. ورد المصنف هذا المذهب بما رد به كونها عوضاً من الحركة وحدها وكونها عوضاً من التنوين وحده، قال: "وإذا لم تكن عوضاً من أحدهما فأن لا تكون عوضاً منهما أحق وأولى". وقوله: ولا من تنوين فصاعداً هذا مذهب أحمد بن يحيى، ذهب إلى أنها عوض من تنوينين فصاعداً، فتكون عوضاً من تنوينين في التثنية، وعوضاً من أكثر في الجمع، وإنما تثبت مع الألف واللام لأنها أقوى من التنوين الواحد، وحذفت في الإضافة لأن الإضافة أقوى في إيجاب الحذف كما تقدم. ورد المصنف هذا المذهب بما رد به كونها عوضاً من تنوين الواحد، قال: "وإذا لم تكن عوضاً من التنوين في الواحد فلأن لا تكون عوضاً من تنوينين فصاعداً أحق وأولى". وقد رد الأستاذ أبو الحسن بن عصفور وغيره من شيوخنا هذه المذاهب بأن هذه النون تثبت في الوقف باتفاق، والحركة والتنوين لا يثبتان في الوقف، فلو كانت النون عوضاً منهما أو من أحدهما لم تثبت لأن العوض يحكم له بحكم ما عوض منه.

وذهب أبو الفتح إلى أن النون قد تكون عوضاً من الحركة والتنوين الذي في المفرد، وذلك فيما فيه حركة وتنوين حالة الإفراد، وقد تكون عوضاً من الحركة فقط إذا كان تثنية ما لا ينصرف نحو أحمران، ومن التنوين فقط نحو عصاً وقاض، ولا عوضاً من واحد منهما نحو حبلى وحبليان وهذان واللذان. قال بعض أصحابنا: وهذا كله تخليط. وذهب الفراء إلى أن النون فارقة بين رفع الاثنين ونصب الواحد؛ لأنك لو قلت: "زيدا" لا لتبس بالواحد المنصوب إذا وقفت عله، ثم حمل سائر التثنية والجمع على ذلك، وحذفت للإضافة لشبهها بالتنوين، ولم تحذف مع الألف واللام لأن الإضافة أقوى في إيجاب الحذف كما تقدم. وهذا الذي ذهب إليه فاسد لأن الوقف عارض، وباب العارض أن لا يعتد به، وأيضاً فإن حمل التثنية على التثنية قد يسوغ، وأما الجمع فباب آخر. ولم يذكر المصنف مذهب الفراء هذا. وهذا الخلاف في النون أهي عوض أو كالعوض هو على أنها ليست نفس التنوين. ومن النحويين من ذهب إلى أن هذه النون هي التنوين نفسه لأن الأصل بعد لحوق العلامة للتثنية أن تنتقل إليه الحركة والتنوين، فامتنعت الحركة

للاعتلال، ولم يمتنع التنوين، ولكنه لزم تحريكه لأجل الساكنين، فثبت نوناً. ولا يرد على هذا المذهب بثبوته في نحو أحمران، والتنوين في مفرده مفقود؛ لأنه لما ثني زال شبه الفعل، فرجع إليه التنوين الذي / كان منع لأجل الشبه، ولا بقولهم هذان واللذان؛ لأنه يمكن ادعاء إعرابهما لأن علة بنائهما شبههما بالحروف، والتثنية تزيل ذلك الشبه، فرجعا إلى الأصل، وهو الإعراب؛ لأن الحروف لا تثنى، ولما أعربا دخلهما التنوين الذي كان ممنوعاً حالة البناء. وكون هذه النون هي التنوين نفسه نقله ابن هشام عن الفراء، قال: ولم يحذفوا ما قبله لذهاب علم التثنية والجمع، فكسروه وفتحوه، وقوي بالحركة فلم يحذف حيث حذف ساكناً إلا في الإضافة لأنه يفصل. وقوله: خلافاً لزاعمي ذلك الإشارة بـ "ذلك" إلى المذاهب التي نفاها في الألف والواو والياء، وفي نون التثنية والجمع، وقد ذكرنا كل قول ومن نسب إليه ذلك القول. وقوله: بل الأحرف الثلاثة لإعراب يعني الألف في نحو الزيدان، والواو في نحو الزيدون، والياء في نحو الزيدين والزيدين. وهذا الذي ذهب إليه المصنف هو مذهب الكوفيين وقطرب، ونسب إلى الزجاج والزجاجي وطائفة من المتأخرين.

وقد رد هذا المذهب بأن الألف والواو ثبتت قبل دخول العامل، قالوا إذا قصدوا مجرد العدد لا الإخبار: واحد. اثنان. عشرون. ثلاثون. أربعون، ولو كانت إعراباً لم توجد إلا بعد دخول العامل. والذي يقطع ببطلان هذا المذهب أن الإعراب هو زائد على الكلمة، وبعدم تقديره لا يختل معنى الكلمة، ولو قدرنا ذهاب هذه الحروف لاختل معنى الكلمة من التثنية والجمع، كما لو قدرنا ذهاب تاء التأنيث وألف التأنيث وياء النسب لاختل مدلول الكلمة الذي جيء بهذه الأشياء لأجلها، فدل ذلك على أنها ليست إعراباً. وبسط هذا أنه قد وقع الاتفاق على أن الإعراب إنما يدخل لمعنى يعتور الكلمة بعد حصولها ببنائها وحركاتها، وأن سقوط الإعراب لا يخل بالكلمة نفسها؛ ألا ترى أن الاسم والمضارع إذا لم يعرب واحد منهما لم يسقط معناه، فالإعراب يدخل ويخرج ومعنى الاسمية في الاسم قائم، وكذلك الفعل أعرب أو لم يعرب دلالته على الحدث والزمان قائمة، وإنما كمل كل شيء من هذه اسماً للتثنية والجمع بأحد هذه الحروف، فمحلها كمحل الألف من أرطى التي كمل بها بناء الاسم وكمحل الألف من حبلى التي كمل بها بناء الاسم ودلالة التأنيث. ويدل على بطلان هذا المذهب أيضاً أنها تسقط هذه الحروف في الترخيم، ولا يسقط في الترخيم إلا ما كان حرف إعراب، فلو كانت إعراباً لسقط ما قبلها لأنها تكون حينئذ كالحركة. وذهب بعض أصحابنا المغاربة إلى أن هذه الحروف لها جهتا اعتبار، فمن حيث الحرف حرف علة هو حرف إعراب، ومن حيث كونه ألفاً أو ياء أو

واواً هو دليل على الإعراب، أو هو الإعراب نفسه. وهذا ليس بشيء لأنها من حيث هي حرف إعراب هو محكوم له بحكم غير الزائد، ومن حيث هو دليل أو إعراب هو زائد، فتناقضا. وقوله: والنون لرفع توهم الإضافة أو الإفراد/ وشرح المصنف كلامه هذا، فقال: " رفع توهم الإضافة بين، وذلك أنه لو لم يكن بعد الأحرف المذكورة نون لم تعلم إضافة من عدمها، نحو رأيت بني كرماء وعجبت من ناصري باغين. ورفع توهم الإفراد أيضاً بين في مواضع، منها تثنية اسم الإشارة وبعض المقصورات، نحو: هذان الخوزلان وفي تثنية الخوزلي. ومنها جمع المنقوص في حالة الجر، نحو: مررت بالمهتدين، وانتسبت إلى أبين كرام، فلولا النون في هذه وما أشبهها لكان لفظ واحد كلفظ غيره" انتهى ماشرح به المصنف ما اختاره. وذهب س إلى أن النون زيادة في الآخر ليظهر فيها حكم الحركة التي كان ينبغي أن تكون في التثنية والجمع تارة، وحكم التنوين أخرى، ومن غير أن تكون عوضاً من الحركة والتنوين، ولذلك قال س: "كأنها عوض"، فشبهها بالعوض، ولم يجعلها عوضاً ومن الناس من حمل كلام س على

أنها عوض منهما، وزعم أن "كان" قد تستعمل للتحقيق بمنزلة "إن" وسيأتي هذا المذهب في باب "إن" إن ساء الله. وثبت في بعض النسخ بعد قوله: " والنون لرفع توهم الإضافة أو الإفراد" قوله: " أو لجبر ما فآتهن من تقدير الحركات فيهن" يعني أن النون زيدت في آخر المثنى والمجموع على حده لأن تجبر ما فات هذه الحروف من تقدير الحركات، وذلك على مذهبه لأنها عنده ليست حروف إعراب، فلا تقدر فيها الحركات وقد بينا أن الصحيح تقدير الحركات فيها، وأنها حروف إعراب كالدال من زيد. وهذا الذي ذكره المصنف من الخلاف في الألف والواو والياء، والخلاف في النون تطويل في هذا المختصر، وليس يستفاد من ذلك حكم نطقي، ولا حكم في اختلاف معنى كلامي وقد طول أصحابنا وغيرهم في ذلك وفي كون التثنية كانت الألف والجمع السالم بالواو رفعاً وجرهما ونصبهما بالياء، وأبدوا لذلك عللاً ليس تحتها طائل، وهي من فضول الكلام. -[ص: وإن كان التصحيح لمؤنث أو محمول عليه فالمزيد ألف وتاء. وتصحيح المذكر مشروط بالخلو من تاء التأنيث المغايرة لما في نحو عدة وثبة علمين، ومن إعراب بحرفين، ومن تركيب إسناد أو مزج وبكونه لمن يعقل أو مشبه به علماً أو مصغراً أو صفة تقبل تاء التأنيث إن قصد معناه، خلافاً للكوفيين في الأول والآخر.]- ش: لما ذكر المزيد في تصحيح جمع المذكر ذكر المزيد في تصحيح جمع المؤنث، وسيأتي في آخر " باب كيفية التثنية وجمعي التصحيح" بيان ما

يجمع قياساً بالألف والتاء، والإشارة إلى أن ما سواه مقصور على السماع، والمحمول على المؤنث تصغير مالا يعقل من المذكر وصفته نحو دريهمات وجبال راسيات وهذان مطردان، ومما لا يطرد خودات وثيبات وشمالات وحسامات. وهذا الجمع- أعني جمع التصحيح في المذكر والمؤنث- ليس مختصاً بالقليل فلا يجوز في غيره، بل نقول: الغالب عليه القليل. وزعم بعضهم أنه مختص به لقربه من التثنية في السلامة. وأنكره الزجاج، وأنكر/ الحكاية التي تحكي عن النابغة مع حسان في بيته المعروف: لنا الجفنات ................. .......................... البيت. وذكر أن النابغة لا تخفى عليه معاني الشعر حتى يعترض بما لا ينبغي، مع أن الله تعالى يقول: {وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ} وقال تعالى: {هُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ اللَّهِ} انتهى. وقوله: وتصحيحا مشروط بالخلو من تاء التأنيث المراد بالمذكر

هنا المسمى لا الاسم ولذلك لو سميت رجلاً بزينب أو بسلمى أو بأسماء لجاز جمعه بالواو والنون بإجماع، وإن كانت أسماء مؤنثة، لأن مسمياتها حال التسمية مذكرون، فلو كانت في الاسم تاء التأنيث علماً نحو حمزة، أو غير علم نحو همزة، لم يجز جمعه بالواو والنون. وشمل قوله: " تاء التأنيث" ما ذكرناه ونحو أخت ومسلمات مسمى بهما رجل، فإنهما لا يجمعان بالواو والنون، ولذلك عبر بتاء التأنيث دون أن يعبر بهاء التأنيث. وقوله: المغايرة لما في نحو عدة وثبة علمين هذا القيد فيما فيه تاء التأنيث قلما ذكره أحد من أصحابنا، وذكره ابن السراج، وذلك أن ما لحقته تاء التأنيث عوضاً من فاء الكلمة نحو عدة أو لامها نحو ثبة، سميت به رجلاً، فيجوز لك أن لم يكسر قبل التسمية به أو تعتل لامه أن تجمعه بالواو والنون رفعاً، وبالياء والنون نصباً وجرا، وبالألف والتاء، فتقول: جاء عدون وثبون، وجاء عدات وثبات. فإن كسر قبل العملية نحو شفة فإنك إذا سميت به رجلاً فلا يجوز إلا تكسيره. وإن أعلت لامه نحو دية، وسميت به رجلاً، فلا يجوز جمعه إلا بالألف والتاء. ونظير هذا مما فيه التاء وجمع بعد التسمية به بالواو والنون وبالألف والتاء ما أجاز س في "ربت" مسمى بها رجل مخففاً فتقول: قام ربون، ورأيت ربين، ومررت بربين، وقام ربات. وهذا القيد الذي ذكره ابن السراج يحتاج إلى اعتباره من لسان العرب، لأن باب ثبة وسنة مما جمع بالواو والنون ليس قياساً فتبنى عليه الأحكام في باب التسمية، وإن قيل بقياس شيء منه فليكن فيما سمع من العرب وشاع جمعه مما عوض من لامه هاء التأنيث ولم يكسر فإذا سمي بشيء منه جمع بالواو والنون كما جمع حين كان غير مسمى به، أما ما لم يجمع قبل ذلك

بالواو والنون نحو عدة فلا ينبغي أن يجمع بالواو والنون، ولا يلحق ما عوض من فائه هاء التأنيث ولم يجمع بالواو والنون، بما عوض من لامه الهاء، وجمع قبل التسمية به بالواو والنون. وأما ما أجازه س من جمع "ربت" فيه ليست عوضا لا من فاء كلمة ولا من لامها، بل يكون جمع هذا بالألف والتاء، إلا أن نقل جمع ذلك بالواو والنون عن العرب، فيقبل وأما من حيث القياس فالقياس يقتضي أن لا يجوز. وقال أبو السعادات في كتابه البديع: " إن سميت رجلاً أو امرأة بسنة أو ثبة أو شية أو ظبة ونحو ذلك لم يتعد في جمعه ما جمعوه به قبل التسمية فتقول: سنون وسنوات وثبوت وثبات وفي لاشية وظبة/: شيات وظباب لا غير. وغير س يروي في ظبة ظبين" انتهى. وما قاله أبو السعادات هو نص س، قال: " ولو سميت رجلاً أو امرأة بسنة لكنت بالخيار إن شئت قلت سنوات، وإن شئت قلت سنون، وكذلك لو سميت بثبة لقلت ثبات وثبون، ولو سميت بشية وظبة لم تجاوز شيات وظبات، لأن هذا اسم لم تجمعه العرب إلا هكذا، فكذلك قياس هذه الأشياء"

وقال أبو الحسن: أقول في جمع هذا كله ظبون وشيون كما أقول قلون وثبون جرياً على الأكثر وأنه أصل الباب. وقول س أقيس لأنا لم نجدهم خالفوا في جمع الأعلام جمع أسماء الأجناس. ولو سميت رجلاً ببنت وأخت وزيت وكيت قلت بنات وذيات وأجاز الفراء جمعه بالواو والنون بحذف التاء قياساً، ولم يسمعه. وقال س: " لو سميت بعدة لقلت فيه عدات حملاً على جمعهم إياها، وعدون وإن لم يقولوه حملاً على قولهم لده ولدون" فخالف قوله. وما أجازه س من أنك إذا سميت بعدة فيجوز لك أن يجمعه بالواو والنون حملاً على لدون، وبالألف والتاء، فتقول عدون وعدات قد خالف في جمعه بالواو والنون المبرد، فقال: لدرن شاذ، فلا يقاس عليه فلا يقال في عدة عنده إلا عدات لا عدون. وقوله: ومن إعراب بحرفين احتراز من المسمى بزيدين وزيدين واثنين وعشرين ونحوها، وحكي فيهما إعراب التثنية والجمع بالواو والنون، فإنه لا يجوز جمعه بالواو والنون. وقوله: ومن تركيب إسناد فلا يجمع بالواو والنون تأبط شراً وبرق نحره وشبههما ولا نعلم في ذلك خلافاً. وقوله: أو مزج مثاله معدي كرب وسيبويه فلا يجوز: جاء معدي كربون ولا: جاء سيبويهون. ومن النحويين من أجاز جمع ما ختم بـ"وية" واختلفوا: فمنهم من ألحق العلامة الاسم بكماله فيقولون: جاءني سيبويهون. ومنهم من يحذف "ويه" فيقول: جاءني سيبون، ورأيت سيبين، ومررت بسيبين. والخلاف في تثنية ما ختم ب "ويه" كالخلاف في جمعه. والصحيح أن ذلك لا يجوز

للشبه الذي بينها وبين الأسماء المحكية من جهة التركيب، ولأنه لم يرد بذلك سماع. وقوله: ويكونه لمن يعقل فلا يجمع" واشق" اسم علم لكلب، ولا "سابق" صفته بالواو والنون. وبدل بعضهم هنا" من يعقل" بقوله: " من يعلم " ليدرج في ذلك قوله تعالى: {فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ} ولا حاجة إلى ذلك لأن جمع صفاته- تعالى - مسموع لا مقياس ولذلك ذكر المصنف {الْوَارِثُونَ} بعد ذلك مع" أولى" و"علين" مما لا ينقاس جمعه. وقوله: أو مشبه به مثال {رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ} لأن نسبة السجود إلى مالا يعقل هو لتشبيهه بمن يعقل وقول الشاعر: محالفتي دون الأخلاء نبعة ... ترن إذا ما حركت وتزمجر لها فتية ماضون حيث رمت بهم ... شرابهم قان من الدم أحمر ومن المشبه بما يعقل الدواهي والأشياء المستعظمة نحو: أصابهم الآمرون والفتكرون والبرحون وعمل بهم العملين، أي: الأعمال العجيبة وقالوا الذي يعظم شأنه ويعم نفعه: وابلون قال

الشاعر: فأصبحت المذاهب قد أذاعت ... بها الإعصار بعد الوابلينا وقال أبو صخر: تلاعب الريح بالعصرين قسطله ... والوابلون وتهنان التجاويد ومما نزل منزله العاقل في الأنس به والحنو عليه قول الراجز: قد رويت إلا دهيدهينا ... قلبصات وأبيكرينا صغر دهاهاً وجمعه وأبكراً - جمع بكر- وجمعه وقوله: علماً فمثل رجل وغلام وفتى لا يجوز جمعه بالواو والنون، وإن كان قد اجتمعت فيه الشروط غير العلمية. وقد منع المازني من جمع العلم المعدول نحو عمر، ومن تثنيته فلا يجمعه جمع سلامة ولا جمع تكسير، وقال: أقول جاءني رجلان

كلاهما عمر ورجال كلهم عمر. ولا أعلم أحداً منه من تثنيته ولا جمعه، بل يجوز أن تقول عمران وعمرون، وقالت العرب" سنو بنا سنة العمرين" وقال الشاعر: .............. ... والعمران أبو بكر ولا عمر وإذا كان قد يثني على سبيل التغليب فلأن يثنى مع اتفاق اللفظ والمعنى أولى وأحرى فإن قلت: إذا كانت العلمية شرطاً في الاسم المكبر فما وجه قول العرب في الحكاية"أتون" بالواو والنون وليس بعلم؟ فالجواب: أنه من باب حرون وليس بجمع سلامة بل جمعه بالواو والنون عوض من النقص المتوهم بالإدغام هكذا أجابوا في جمع أتون. وقوله: أو مصغراً يعني أنه إذا اجتمعت الشروط وكان مصغراً فإنه يجمع بالواو والنون ولا تشترط العلمية فتقول في رجيل وغليم وفتى وأحمير وسكيران ونصيف: رجيلون وغليمون وفتيون وأحيمرون وسكيرانون ونصيفون وإنما جمع كذلك- ولم يجمع مكبره- لتعذر تكسيره، لأن التكسير يؤدي إلى حذف ياء التصغير، فيذهب المعنى الذي جيء بها لأجله، فلما تعذر التكسير لم يبق إلا التسليم. فإن كانت الكلمة بنيت على التصغير نحو كميت وكعيت جاز

التكسير، فتقول: كمت وكعتان، لأن المعنى الذي أوجب التصغير ملازم لهما، وليس رجيل وأحمير كذلك، لأن معنى التصغير غير لازم لهما فلو قلت في جمعهما رجال وحمر لم يدر هل هما جمع رجل وأحمر أو هو جمع رجيل وأحمير. وقوله: أو صفة تقبل تاء التأنيث مثاله ضارب ومؤمن وأرمل فإنك تقول في المؤنث ضاربه ومؤمنة وأرملة فيجوز أن يجمع بالواو والنون، فتقول ضاربون ومؤمنون. قال المصنف في الشرح: " فإن لم تقبلها لم يلق بها هذا الجمع كأحمر وسكر ا/ في لغة غير بني أسد وصبور وقتيل" انتهى. واحترز المصنف بقوله: "تقبل تاء التأنيث" مما ذكر مما لا يقبل تاء التأنيث. وأغفل صفة لا تقبل تاء التأنيث، ويجوز جمع مذكرها بالواو والنون بلا خلاف، وذلك ما كان من الأوصاف مختصاً معناه بالمذكر، نحو مخصي وأفعل التفضيل إذا كان معرفاً بالألف واللام أو مضافاً إلى نكرة فإنه يجوز جمعه بالواو والنون، فتقول الأفضلون وأفضلو بني فلان وهو صفى لا تقبل التاء، وكذلك مؤنثة لا يقبل التاء بل تقوم في مؤنثه ألفضلي، فيكون تأنيثه بالألف لا بالتاء، فهذه صفة لا تقبل التاء بلفظها ولا بلفظ مؤنثها، وهي تجمع بالواو والنون. وثبت في بعض النسخ بعد قوله: " أوصفة تقبل تاء التأنيث" قوله: "باطراد" وهو قيد حسن محتاج إليه لأنه قد وجد صفة قبلت تاء التأنيث لقصد معناه ولكنه لا يطرد، فلا تجمع بالواو والنون، وذلك مسكين فإنهم

قالوا مسكينة للمؤنث، ومع ذلك فالقياس أن لا يقال مسكينون، وإن كانوا قد قالوه؛ لأن دخول التاء في مسكينة لا ينقاس لأنه على وزن مفعيل، وما كان على وزن مفعيل فإنه لا تدخله تاء التأنيث، فدخولها في مسكينة شاذ، شبهوا مسكينًا بفقير، فأدخلوا التاء للمؤنث كما قالوا فقيرةً، ولما قالوا مسكينة ومسكينات قالوا مسكينون، وقولهم امرأةً مسكين على الأصل في هذه البنية. وذكر بعضهم أنه لا يجمع هذا الجمع من الصفات ما كان على وزن مدعس ومهذار ومحضير وجواد وغفور وجريح. والعلةً في ذلك عدم قبول التاء لقصد التأنيث. وقوله: إن قصد معناه شرط في جمع صفة المذكر وصفين: أحدهما: قبول تاء التأنيث، واحترز مما ذكر من الأوصاف التي لا ثقل تاء التأنيث، وذكرنا من الأوصاف ما لا يقل التاء، وجمع بالواو والنون. والوصف الثاني: تقييد قبوله التاء بقصد معناه، فإن قبل التاء لا لمعنى التأنيث نحو ملولة وفروقةً فإنك تقول ملول وفروق، ثم تدخل تاء التأنيث لا لقصد التأنيث، بل للمبالغةً، وفروق وطول لا تجمع بالواو والنون لأنها يشترك فيها الذكر والمؤنث بغير تاء، فلا تجمع في المذكر بالواو والنون، ولا في المؤنث، بالألف والتاء، لأنها صفةً قبلت تاء التأنيث لا لقصد معناه.

وقوله: خلافًا للكوفيين في الأول يعني الخلو من تاء التأنيث، فإنهم يجيزون في جمع طلحة وحمزةً وهبيرةً: طلحون وحمزون وهبيرون. استدل الكوفيون على جواز ذلك بالسماع والقياس: أما السماع فقولهم في جمع علانية - وهو الرجل المشهور - علانون، وفي جمع ربعةً: ربعون، وهو المعتدل القامةً. وأما القياس فقالوا: قد جمعته العربي جمع تكسير، وإن كان يؤدي إلى حذف التاء الذي علل به البصريون منع جمعه بالألف والتاء، فإذا كان قد تزول التاء بجمع التكسير فكذلك تزول بالجمع بالواو والنون. والدليل على أن العرب قد كثرت ما أنث بالتاء قول الشاعر: وعقبة الأعقاب في الشهر الأصم وأما البصريون فالسماع عندهم شاذ، والقياس ليس بصحيح لأنه لا يلزم من تكسير/ العلم ذي التاء على تقدير تسليم تكسيره جواز جمعه بالواو والنون؛ لأن تأنيث جمع التكسير يعقب التاء المحذوفة، وليس لجمع السلامة بالواو والنون تأنيث، فيعقب التاء؛ ألا ترى أنك تقول: قالت الرجال، ولا يجوز: قالت الزيدون. وقد اختلف الكوفيون في جمع مثل طلحة وحمزةً مما هو على وزن فعلة، فقال الجمهور: تحذف التاء فقط، وتقول طلحون وحمزن بسكون

عين الكلمة. وذهب ابن كيسان إلى فتح عين الكلمة، وقال: لما جمع المؤنث، الذي لا علامةً فيه للتأنيث، وهو على فعل، فتحوا عين الكلمة، قالوا: أرضون. وهذا معارض بجمعهم أهلًا على أهلون بسكون عين الكلمة، ولا ينبغي أن يجعل شيء من هذا أصلًا يقاس عليه لأن جمع ذلك بالواو والنون في غاية الشذوذ. وقال البصريون: لا يجوز جمع طلحةً ونحوه مما فيه تاء التأنيث بالواو والنون لأنه لم يرد به سماع، ولا يقتضيه قياس، بل القياس يمنع منه. ووجه امتناعه في القياس أنك لو جمعته فإما أن ثبت التاء أو تحذفها: إن أثبتها فتجمع بين علامتين متضادتين: التاء التي تدل على التأنيث، والواو التي تدل على التذكير، فأما قولهم في وزقاء علمًا لمذكر ورقاوون فليس في ذلك، جمع بين علامتين متضادتين لأن الواو ليست بعلامة تأنيث،، وإنما هي بدل من الهمزة المبدلة من ألف التأنيث. وإن حذفت التاء ففي ذلك إخلال من جهة أنها حرف معنى، وقد صارت بالعلمية لازمةً للكلمة لأن العلميةً تسجل الاسم، وحصره من أن يزاد فيه أو نقص، وحذفها يؤدي إلى إذهاب المعنى الذي كانت تدل عليه، ولهذه العلة جمعوا رجيلًا وشبهه - وإن كان نكرةً - بالواو والنون، ولم يكسروه لما يؤدي إليه التكسير من حذف الياء، فيذهب بحذفها ما كانت تدل عليه من المعنى، وأما حذفها في طلحات فليس فيه إخلال لأن تاء التأنيث إذا حذفت عقبها التأنيث بالألف والتاء.

وقد تأول بعض البصريين ما أنشده الكوفيون دليلًا على تكسير العلم الذي فيه تاء التأنيث بأنه يحتمل أن يجعل الأعقاب ليس بجمع لـ "عقبة" العلم، بل يكون جمعًا لـ "عقبة" التي يراد بها الاعتقاب، ومن ذلك قولهم: لقد علمت أي حين عقبتي ويكون قد أضاف "عقبة" العلم بعد تنكيره إلى "الأعقاب" الذي هو جمع "عقبة" بمعنى الاعتقاب. وأيضًا على تقدير أنه جمع "عقبة" العلم فهو من القلة بحيث لم يجئ منه إلا هذا البيت، فلا يجعل أصلًا لقياس نظيره عليه وجمعه جمع التكسير. وقوله: والآخر بمعني الصفة التي لا تقبل تاء التأنيث، إن قصد معناه، فإن الكوفيين يجيزون جمعها بالواو والنون، وقد جاء شيء من ذلك نادرًا بني عليه الكوفيون، وهو قول الشاعر: / منا الذي هو ما إن طر شاربه ... والعانسون، ومنا المرد والشيب فعانس من الصفات التي لا تقبل تاء التأنيث، عند قصد معنى التأنيث؛ لأنها تقع على المذكر والمؤنث بلفظ واحد، وقول الآخر

فما وجدت نساء بني نزار ... حلائل أسودين وأحمرينا فأسود وأحمر عن الصفات التي لا تقبل تاء التأنيث لأن مؤنثها على غير بناء، مذكرها. وفي الإفصاح: أجاز الفراء جمع هذا الوصف بالواو والنون، والألف والتاء، وحكاه مسموعًا. وكان ابن كيسان لا يرى بذلك بأسًا، وعادةً الكوفيين إذا سمعوا لفظا في شعر أو نادر كلام جعلوه بابًا أو فصلًا، وليس بالجيد. والذي ذكره أصحابنا في تقييد الصفة التي تجمع بالواو والنون أحسن مما ذكره المصنف، وهو قولهم إن الوصف إن كان مكبرًا اشترط فيه الذكورة، والعقل، أو معاملته معاملة ذي العقل، والخلو من تاء التأنيث، وأن لا يمتنع مؤنثه من الجمع بالألف والتاء. فيحترز بالذكورة عن مثل حائض، وبالعقل عن مثل سابق صفة لفرس، وبالخلو من تاء التأنيث من مثل علامةً ورجل همزةً، وبعدم امتناع مؤنثه من الجمع بالألف والتاء من نحو جريح وصبور ونصف وغيرها مما يكون للمذكر والمؤنث، بغير تاء، ومن أفعل الذي مؤنثه فعلاء، وفعلان الذي مؤنثه فعلى. قال أصحابنا: وإنما جمعت الصفة بتلك الشروط بالواو والنون، ولم يجمع بها الاسم الجامد، لشبه الصفة بالفعل من جهة أن الصفة أبدًا فيها

معنى الفعل، إذ لا تكون إلا بالمشتق أو ما في حكمه، وإذا كانت للمذكر لم تلحقها التاء، وإذا كانت للمؤنث، لحقتها كما أن الفعل كذلك، تقول: مررت برجل قام، وبامرأةً قامت، والفعل إذا وصف به المذكر العاقل لحقته بعد ملامة لفظه الواو،: مررت برجال قاموا، ويقومون، وكذلك الصفة نحو: هؤلاء رجال قائمون. ولما كانت الصفة التي تكون للمذكر والمؤنث بغير تاء لا تثبه الفعل لم تجمع إذا كانت لمذكر بالواو والنون، وكذلك أفعل فعلاء، وفعلان فعلى، لما لم يشبها، الفعل فيما ذكرناه لم يجز أن تجمع بالواو والنون. هذا مذهب البصريين. وخالف الفراء في الخفة التي تكون للمذكر والمؤنث بغير تاء، فلم يجز جمعها بالألف والتاء إذا جرت على المؤنث لأنها - وإذ جرت عليه - مذكرةً، بدليل أن نصفًا إذا صغر لم يقل في تصغيره إلا نصيف بغير تاء، وإذا سمي بحائض مذكر ثم يمنع الصرف؛ لأنهما وأمثالهما - وإن أجريا على مؤنث - مذكرة، وحمل على المعنى، كأنك قلت: بشخص نصف وبشخص حائض، وإذا كانا من قبيل المذكر فلا يجمع بالألف والتاء، كما لا يجمع قائم صفة لذكر بالألف والتاء. وأما جمعها وجمع أمثالها بالواو والنون فليس عنده مانع له كالمانع عن الجمع/ بالألف والتاء، فلذلك أجازه. والصحيح أن ذلك لا يسوغ لأن هذا النوع من الصفةً لا يشبه الفعل، فإن حكي شيء من ذلك في الشعر فضرورةً، أو في الكلام فشاذ لا يقاس عليه، حكي يعقوب أن العرب تقول: امرأةً نصف، ونساء أنصاف، ورجل نصف، ورجال أنصاف ونصفون. وذلك شاذ لا ينبني أن يقاس عليه ما لم يسمع فيه الجمع.

فإن قلت: كيف جمعوا الأفعل للتفضيل بواو ونون، ومؤنثها الفعلى، وهي لا تشبه الفعل؟ فالجواب أن هذه الصفة لا يجوز تنكيرها إلا في ضرورة، فلما التزم فيها التعريف - وهو فرع على التنكير - أشبهت لذلك الفعل لأن الفعل فرع عن الاسم، فلما أشبهته في الفرعية حملت عليها، فجمعت بالواو والنون لذلك، ولهذه العلةً نفسها جمع الاسم الجامد إذا كان علمًا بالواو والنون، وإن كان نكرةً لم يجمع بهما لأن تعريف العلمية فرع، فأشبه بذلك الفعل، والتنكير أصل، فلم يشبه الفعل -[ص: وكون العقل لبعض مثنى أو مجموع كافٍ، وكذا التذكير مع اتحاد المادة، وشذ ضبعان في ضبع وضبعان. وما أعرب مثل هذا الجمع غير مستوف للشروط فمسموع، كـ (نحن الوارثون)، وأولى وعليين وعالميين وأهلين وارضين وعشرين ألي التسعين. وشاع هذا الاستعمال فيما لم يكسر من المعوض من لامه هاء التأنيث سلامة فاء المكسورها، ويكسر المفتوحها، وبالوجهين فى المضمومها، وربما نال هذا الاستعمال ما كسر، ونحو رقة وأضاةٍ وإوزة.]- ش: مثال كون العقل لبعض ما ذكر كافيًا قولك في رجل وفرس: هما سابقان، وفي رجل وفرسين: هم سابقون، ولا حاجةً إلى قوله "وكون العقل لبعض مثنى كاف" لأن علامة التثنية لا تختلف بحسب العقل، إنما تختلف علامة الجمع بسبب العقل، فيغلب ذو العقل، بخلاف التثنية، فإنه لا تغليب فيها بسببه. ومثال التذكير في بعض قولك في امرئ وامرأةً: امرآن، ومسلم ومسلمةً: مسلمان، وفي مسلم ومسلمتين: مسلمون، وفي أحمر وحمراء

وسكران وسكرى: أحمران وسكرانان. وهذا معنى قوله "مع اتحاد المادة". فإن اختلفت المادة كثور وبقرةً، ورجل وامرأةً، فلا يقال في ذلك ثوران، ولا رجلان، ولا في رجل وامرأتين، وثور وبقرتين: رجال ولا ثيران. وقوله: وشذ ضبعان أي ضبع وضبعان وجه الشذوذ أنه غلب لفظ المؤنث، على لفظ المذكر؛ لأن ضبعًا هو للمؤنث، وضبعانًا هو للمذكر، فحين ثنوا قالوا ضبعان، وإنما غلب لفظ المؤنث لأنه أخف من لفظ المذكر لتجرده عن الزوائد، وقد جاؤوا بذلك على الأصل، فقالوا في ضع وضبعان: ضبعانان، فغلبوا المذكر على المؤنث. وكذلك غلبوا في الجمع، قالوا ضباع، ولم يقولوا ضباعين، وقد حكي أبو بكر الأنباري أن ضبعًا على |لذكر والأنثى، فعلى هذا لا تغليب فيه إلا إن نقل/ أن من لا يقول للمذكر إلا ضبعان، ولا يقول للمؤنث إلا ضبع، فإذا ثنى قال فيهما ضبعان، فإن ذلك يكون من تغليب المؤنث على المذكر. وقوله: فمسموع يعني أنه يقتصر به على مورد السماع، ولا يتعدى، فـ {الْوَارِثُونَ} في الحقيقة ليس جمعًا لأنه إخبار عن الله تعالى. وكذلك {الْقَادِرُونَ} و {الْمَاهِدُونَ} و {وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ} فلا تقيس عليه أن تقول لله تعالى الرحيمون ولا الرحمنون ولا الحكيمون؛ لأن إطلاق الأسماء عليه - تعالى - توقيعية، لا يقال منها إلا ما ذكره تعالى في كتابه، أو ذكره رسوله - صلى الله عليه وسلم - مع كون هذا النوع من الجمع لا يكون لمفرد الذات.

وأما "أولو" فهو وصف، ولا واحد له عن لفظه حتى يعتبر فيه قبول لحاق التاء له على اشرط الذي ذكر. وأما "عليون" فإنه اسم مفرد لما هو شيء فوق شيء، وكأنه ارتفاع لا غايةً له. وقال المصنف في الشرح: "عليون كأنه في الأصل علي: فعيل من العلو، فجمع جمع ما يعقل، وسمي به أعلى الجنةً. ونظير ذلك من أسماء الأماكن صريفون وصفون، ونصيبون وقنسرون، ويبرون، ودارون وفلسطون، قال الأعشى: وتجبى إليه العيلجون ودونها ... صريفون في أنهارها والخورنق وقال زيد بن عدي: تركنا أخا بكر ينوء بصدره ... بصفين مخضوب الجيوب من الدم

ووجه شذوذ هذه الأسماء أنها لا مفرد لها من لفظها. وأما "عالمون" فوجه شذوذه أن مفرده "عالم" اسم جنس، وليس بعلم، فقد فات شرط العلمية. والعالم في اشتقاقه خلاف، أم من العلم ثم من العلامة؟ فإن قلنا عن العلم فيكون مختصًا إذ ذاك بمن يعقل، وإن كان من العلامة فيقع على من يعقل وعلى ما لا يعقل، وحين جمع بالواو والنون غلب من يعقل على ما لا يعقل. وقال المصنف في الشرح: "عالمون" اسم جمع مخصوص بمن يعقل، وليس جمع عالم؛ لأن العالم عالم والعالمين خاص، وليس ذلك شأن الجميع، ولذلك أبى س أن يجعل الأعراب جمع عرب؛ لأن العرب يعم الحاضرين والبادين، والأعراب خاص بالبادين. وقال بعضهم: العالمون جمع عالم مراد به من يعقل، وفعل به ذلك لتقوم جمعيته مقام ذكره موصوفًا بما يدل على عقله. وهذا لا يصح؛ إذ لو جاز في عالم هذا الذي زعم لجاز في غيره من أسماء الأجناس الواقعةً على ما لا يعقل وعلى ما لا يعقل، فكنا نقول في جمع شيء أو شخص أذا أريد به ما يعقل شيئون وشخصون، وفي امتناع ذلك دليل على فساد ما أفضي إليه" انتهى كلام المصنف في شرحه. فأما قوله: "إنه مخصوص بمن يعقل" فليس كما ذكر، بل العالمون قد يشمل من يعقل وما لا يعقل عند من جعله مشتقًا من العلامة لا من العلم، وأما ما ألزم من جعله/ جمع عالم من أنه كان يجوز أن يقال شيئون

وشخصون, فلا يلزم لأنه - عنده - جمع عالم على جهةً الشذوذ لفوات شرط من شروطه، وهو العلميةً، وإنما كان يلزمه ذلك أن لو كان يدعي أنه جمع جمعًا قياسيًا. وأما "أهلون" فجمع أهل، وأهل ليس بعلم ولا صفة. ومحسن جمعه بالواو والنون شذوذًا أنه قد يستعمل استعمال "مستحق"، فأجري في الجمع مجرى "مستحق"، وقال تعالى: {شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا} وقال: {مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ}. ومثل جمع أهل على أهلين جمع مرء على مرئين في قول الحسن: "أحسنوا " أيها المزؤون". وهو شاذ. وأما "أرضون" فجمع أرض، وهي مؤنثةً، اسم جنس لا يعقل، ففاته من الشروط التذكير والعقل والعلمية. وقد تمحل المصنف، لجمع أرض على أرض بأنه قد جمع هذا الجمع ما يعجب منه ويستعظم مما لا يعقل تشبيهًا بالعاقل لأنه هو الذي يصدر ما تتعجب منه. وبن ورود الأرضين في مقام التعجب والاستعظام قول الشاعر. وآية بلدة إلا أتينا ... من الأرضين تعلمه نزار وقول الآخر: لقد ضجت الأرضون إذ قام بني هداد حطيب فوق أعواد منبر وقيل: إنما جمعت هذا الجمع عوضًا من عدم تأنيثها بالتاء؛ لأنها

واقعةً على مؤنث، فكان قيامها أن يقال فيها أرضةً، فلما منعت من ذلك جمعت هذا الجمع كما جمعوا سنةً هذا الجمع عوضًا من لامها المحذوفةً، فقد استوت أرض وسنةً في الجمع تعويضًا، ولذلك فتحت راء أرض كما غيرت سين سنةً. وقيل: فتحت الراء لأنها نابت عن أرضات، وكان ذلك خوفًا من الالتباس بمجمع أرضة. انتهى ما تمحل به لجمع أرض على أرضين، وهو من فضول الكلام. وأما "عشرون" والعقود بعده إلى "تسعين" فمعلوم أنها ليست بجموع، وأنه ليس فيها شروط ما يجمع بالواو والنون. وزعم بعضهم أن "ثلاثين" وأخواته جميع، وجمعت بالواو والنون على ميل التعويض كما ذكر في أرض؛ لأن تاء التأنيث سقيت من مفرداتها حين عد بها، المؤنث، ولم يكن من حقها أن سقط، وعوملت العشرةً بذلك - وإن لم يكن في عشرين معنى الجمعية - لأن المثنى قد يعرب إعراب الجميع، وغيرت عينها وشينها كما غيرت سين سنة وراء أرض. قال المصنف في الشرح: "وهذا قول ضعيف؛ لأن ذلك لو كان مقصودًا لم يكن واحد من هذه الأسماء مخصوصًا بمقدار، إذ لا يعهد ذلك في شيء من الجموع قياسيةً كانت أو شاذةً" انتهى. وقوله: وشاع هذا الاستعمال أي: الجمع بالواو والنون رفعًا، والياء والنون جرًا ونصبًا، وزيادةً النون بعدها.

وقوله: فيما لا يكسر خرج بذلك ما كسر نحو شفةً وشاةً، فإنهما حذفت لامهما، وعوض منها الهاء، لكنهما كسرًا، فقيل: شياه وشفاه. وأصلهما شفهة/ ونزهةً، ولأجل تكسيرهما لم يجمعا جمع سلامةً لا بالألف والتاء ولا بالواو والنون، وذلك بخلاف ما لم يكسر من ذلك، فإنه جاء فيه الجمعان نحو ثبةً، تقول ثبات وثبون. وقوله: هاء التأنيث خرج بذلك أخت وبنت لأنها تاء التأنيث لا هاء التأنيث، فبنت وأخت قد حذف لامهما، ولا يجمعان هذا الجمع. وقوله: سلامة فاء المكسورها يعني أن حركتها لا تتغير في الجمع نحو مائةً، تقول مئون، فتبقى الميم مكسورةً على حالها في مائةً. وحكي الصغاني عزون بضم العين. ولعلها مما جاء في المفرد الكسر والضم. وقوله: ويكسر المفتوحها تقول في سنة: سنون. قال المصنف في الشرح: "إن كان مفتوح الأول أو مكسورة لم يجز في جمعه إلا الكسر". وكان قد قدم قبل ذلك عند شرحه قوله: "لغير تعويض" أن سين سنةً في الجمع بالواو والنون تكسر، وقال: "وقد روي ضمها", يكون هنا قد نسي أنه ذكر أنها روي ضمها، إذ لم ينبه عليه هنا. وهذا الذي ذكر من التغيير في فاء ما جمع من هذا النوع هذا الجمع حكاه ابن كيسان عن الكسائي. فما جاء من المكسور الفاء من ذلك مائةً ورئةً وعزةً وعضةً,

قال: ثلاث مئين للملوك وفي بها ... ردائي, وجلت عن وجوه الهائم وقال: فغظناهم حتى أتى الغيظ منهم ... قلوبا وأكبادًا لهم ورئينا وقال تعالى: {عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ عِزِينَ} , وقال: {الَّذِينَ جَعَلُوا القُرْآنَ عِضِينَ}. وجاء من المفتوحها سنة, ومن المضمومها ثبةً وقلةً وكرةً, قال الشاعر: والخيل تعدو عصبا ثبينا ولام هذه الكلمات واو محذوفةً إلا سنةً وعضةً, فيحتمل أن

تكون هاء وأن تكون واوًا لمجيء التصريف عليهما، وإلا مائةً ورثةً، فإنها ياء لقولهم مأيت الدراهم وأمايتها، وأمات هي، فقولهم مأيت دليل على أن المحذوف ياء. ورأيت الطائر: أصبت رئته، كما تقول يده: أصاب كبده، فالمحذوف ياء. وقوله: وربما نال هذا الاستعمال ما كسر مثاله ظبةً، جمعت على ظبين، وقد كسروها على ظبا، ولامها المحذوفةً واو، قالوا ظبونه إذا أصبته بالظبةً، ومن جمعه بالواو والنون قول الشاعر. يرى الراؤون في الشقرات منها ... وقودًا في حباحب والظبينا وأجاز الليث بن المظفر جمع ظبةً السيف على

ظُبوات وكأنه قاس ذلك على عضةً وسنةً حيث قالوا عضوات وسنوات, والمسموع في جمعها بالألف والتاء ظبات, كما قال: تسيل على حد الظبات نفوسنا ... وليست على غير الظبات تسيل ومثال ظبةً في كونه كسر وجمع الواو والنون وبالألف والتاء برةً, قالوا برا وبرات وبرون, قال الشاعر: كأن البرين والدماليج علقت ... على عشر أو خروع لم يخضد ومنه قوله: تعاور أيمانهم بينهم كؤوس المنايا بحد الظبينا وقوله: ونحو رقة أشار إلى أنه يقل وجود هذا الجمع في المنقوض الذي حذفت منه الفاء, وعوض منها تاء التأنيث, وإن لم يكسر, والمسموع من ذلك رقون في رقةً, وهي الفضةً, ولدون في لدةً وهو المساوي في السن, وحشون في حشةً, وهي الأرض التي لا أنس فيها, ومن كلام العرب "وجدان الرقين يغطي أفن الأفين", يقال: غطى غطيا: ستر, والتشديد

أشهر، وقال الشاعر: رأين لداتهن مؤزرات ... وشرخ لدي أسنان الهرام وقوله: والأضاة: الغدير, ويجمع على إضين بكسر الهمزة وحذف الألف, قال الشاعر: خلت إلا أياصر أو نئيا ... محافرها كاسرية الإضين الأسرية: جمع سري, وهو مسيل الماء, وقد كسرا أضاةً على إضاء, قال الشاعر: علين بكديون وأبطن كرةً ... فهن غضاء صايات اغلائل في أحد التأويلين. ومثل أضاةً قناةً, كسروها على قني, وجموعها

على قنين, أنشد خلف الأحمر في مجلس يونس بن حبيب: فإنك لو رأيت, ولت تريه ... أكف القوم تخرق بالقينا وقوله: وإوزة مثاله قول الشاعر: تلقي الإوزون في أكناف دارتها ... تمشي, وبين يديها البر منثور ومثل إوزة في هذا الجمع حرة وحرون, وقالوا: إحرون جمع إحرة تقديرا, ولا يقال إحرة, يعنون الحرار, وقال الراجز: لا خمس إلا جندل افحرين ... والخمس قد اجشمنك الأمرين وقد طول النحاة في تعليل جمع إوزة وحرة هذا الجمع، وملخص ما حوموا عليه أن العرب لم يجمعوا هذا الجمع إلا عوضًا من شيء نقص حقيقةً، كالذي حذف لامه أو فاؤه، أو ما كان يجب له من كونه كان يكون مؤنثًا بالتاء، أو نقص توهما كإوزةً وإحرةً، فبالإدغام الذي فيه كأنهما قد نقصا. وطلب التعليل في مثل هذه الأشياء لا يحصل طائلًا، ولا يوقف من ذلك على ما يثلج به الصدر، وإنما تلك خيالات وسواسيةً وضياع وقت في غير حاصل.

وحكى صاحب الموعب عن ثعلب أن "فاك"يجمع بالواو والنون، فيقال: فون وفين. وهذا في غاية الغرابة/، وكان هذا الجمع عوض عما ذهب منه من لام الكلمةً، وأما العين فإنها ذهبت لأجل واو الجمع ويائه. ومن غريب هذا الجمع قولهم في ثدي: ثدون وثدين، قال الشاعر: فأصبحت النساء مسلبات ... لها الويلات يمددن الثدينا شبه الثدي بالقني. وقولهم في عزهاةً: عزهون بضم الهاء، ذكره في "العين" قال: "والعزهاة". اللئيم، والعزهاة: الذي لا يطرب للسماع". وقال غيره: هو الذي لا يرب الماء. وقيل: لا يصح ضم الهاء في عزهون في الجمع، وإنما هو عزهول بفتح الهاء من جمع المقصور. ص: وقد يجعل إعراب المعتل اللام في النون منونه غالبًا، ولا تسقطها الإضافةً، وتلزمه الياء. وينصب كائنًا بالألف والتاء بالفتحة على لغة، ما لم يرد إليه المحذوف، وليس الوارد من ذلك واحدًا مردود اللام، خلافًا لأبي علي.

ش: تقدم أن سنينا ونحوه من المعتل اللام الذي عوض من لامه هاء التأنيث أعرب إعراب جمع المذكر السالم, وإعراب سنين هذا الإعراب هو لغة أهل الحجاز وعليا قيس, وأما بعض بني تميم فيجعل الإعراب في النون, ويلزم الياء, فيقول: هي السنين, قال الفراء: أنشدني بعضهم: أرى مر السنين أخذن مني ... كما أخذ السرار من الهلال وقوله: منونة غالبًا تنونيها هي لغة بني عامر, قال الفراء: وأما بنو عامر فإنهم يجرونها في النصب والخفض والرفع, فيقولون: أقمت عنده سنينا كثيرة, قال الفراء: أنشدني بعض بني عامر: متى تنج حبوا من سنين ملحة ... تثمر لأخرى تنزل الأعصم الفردا ذراني من نجد فإن سنينه ... لعبن بنا شيبا, وشيبننا مردا قال: وأنشدني الكسائي: ألم نسق الحجيج, سلي معدًا سنينا ما تعد لنا حسابا قال: وأنشدني المفضل: سنسني كلها قاسيت حربا ... أعد من الصلادمة الذكور وأما عدم تنونيها فلغة تميم, قال الفراء: إذا ألقت بنو تميم الألف

واللام من السنين لم يجروا سنين، فقالوا: قد عضت له سنين كثيرةً، وكنت عنده بضع سنين يا هذا. وظاهر كلام المصنف أن من جعل الإعراب في النون يرفع بالضمةً، وينصب بالفتحة، ويجر الكسرةً، سواء أنون أم لم ينون، ولذلك شبهه بغسلين، مرةً وبحين مرةً، فأما إذا نون فظاهر، وأنا من لم ينون فظاهر كلام الفراء أنه يكون ممنوع الصرف، فيرجع بالضمة، وينصب ويجر بالفتحة، ولذلك قال الفراء عن تميم: "أنهم إذا طرحوا الألف واللام من السنين لم يجروا". ومعناه في اصطلاح الكوفيين أنهم يعربونه إعراب ما لا يتصرف، هذا هو الاصطلاح عندهم، يقولون في المنصرف مجرى وفيما لا ينصرف غير مجرى. قال المصنف في الشرح: "وبعض هؤلاء لا ينون" وكان قد تقدم قوله: "من العرب من يشبه سنين ونحوه بغسلين". قال: فيترك التنوين لأن وجوده مع هذه النون كوجود تنوينين في حرف واحد. وقوله: ولا تسقطها الإضافةً لأنها تنزلت منزلةً الدال من زيد في جعل الإعراب فيها، فصارت حرف إعراب، وإن كانت زائدةً، كما أن نون غسلين حرف إعراب، وهي زائدةً. وقوله: وتلزمه الياء لأنه يجتمع إعرابان في حرف واحد؛ لأنها كانت قبل الإعراب بالحركات تعرب في الرفع، وفيها الواو، فلم يكونوا ليجمعوا بين ما ترفع به، وهو الواو، وبين ما ترفع به الآن، وهو الضمةً، فأما قراءةً

الحسن {عَلَى مَن تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ} فإنه شبه زيادتي التكسير في الشياطين بزيادتي الجمع المسلم، فنقلها من إعراب الحركات إلى إعراب الحروف، وهو من التشبيه البعيد الذي يقع نحوه منهم على جهة التوهم، وهو شبيه بما حكى س عنهم من همز مصائب {مَعَائِشَ} ونحوه. وهذه الياء والنون في سنين على هذه اللغة زائدتان كالواو والنون حين كان رفعه بالواو، وجاء هذا موافقًا لمن قال في جمع زيدت: زيدين، فجعل إعرابه بالحركات، فيكون وزن سنين على هذا فعينا، وأصله فعلين لأنه محذوف اللام، وهاتان زيادتان زيدتا فيه عوضًا من المحذوف. وأجاز الأخفش أن يكون سنين فعيلًا كالكليب والعبيد والضئين، ولكنهم كسروا الفاء لكسرةً ما بعدها، ولم يقل أحد من العرب سنين بالفتح، وتكون النون على هذا بدلًا من لام الفعل التي هي واو. وذكر أبو علي في "الإيضاح"، أن من حقر السنين على قول من قال: دعاني من نجد،، فإن سنينه ............... يقول: سنين وسنيين، وعلى قول من فتح النون: سنيات, لا غير وهي من المسائل المشكلة.

وذكر المصنف في الشرح علمًا لإعراب هذا النوع بالحركات في النون، لم نر تطويل كتابنا بذكرها، ثم قال: "ولو عومل بهذه المعاملةً نحو رقين لجاز قياسًا، وإن لم يرد به سماع" انتهى. وقد كفانا الرد عليه إذ قال: "لم يرد به سماع". وأما كونه أجازه قياسًا على سنين وثبين فإن القياس يقتضي أنه لا يجوز لأن جمع سنةً على سنين، وإعرابه إعراب الزيدين، أو إعراب غسلين، خارج عن القياس - أما كالزيدين فلان شروط ما تجمع بالواو والنون مفقودةً في سنةً. وأما كغسلين فإنه لا يوجد جمع تكسير زيد في آخره ياء ونون لا مقيس ولا شاذ، فإذا كان هذان الجمعان شاذين في سنةً فكيف يقاس عليهما غيرهما؟ ولولا أن العرب جمعت رقةً بالواو والنون لم يجز جمعه بهما قياسًا على جمع سنةً، قال المصنف في الشرح: "وقد فعل ذلك ببنين كقول الشاعر: وكان لنا أبو حسن علي ... أبا برا، ونحن له بنين /لأنه أشبه بنين في حذف اللام وتغير نظم الواحد، ولتغير نظم واحده، قيل فيه: فعلت البنون، ولم يقل: فعلت المسلمون". قال المصنف: ولو عومل بهذه المعاملةً عشرون وأخواته لكان حسنًا؛ لأنها ليست جموعًا، فكان لها حق في الإعراب بالحركات كسنين" انتهى. ولا يجوز ما ذكر في عشرين لأن إعرابها بالواو والنون هو على جهةً الشذوذ، فلا نضم إليه شذوذًا آخر، فأما قول الشاعر:

وماذا يدري الشعراء مني ... وقد جاوزت حد الأربعين بكسر النون، فضرورةً كقوله: إني أبي أبي ذو محافظة ... وابن أبي أبي من ابيين قال المصنف: يمكن أن تكون كسرةً إعراب، ويجوز أن يكون كسر نون الجمع وما حمل عليه لغة، كما أن فتح نون المثنى وما جرى عليه لغةً" انتهى. وليس كما ذكر لأن النحويين نصوا على أن كسر نون الجمع ضرورةً، ولم ينقل أحد أنها لغةً، وأما فتح نون الاثنين فمتقول أنها لغة، وقد تقدم لنا ذكر ذلك. وأخذ المصنف في الشرح يقرب إعراب سنين وظبين من إعراب قرين ومبين، وضرب لذلك أمثلهً وأقيسةً، واطرد عن ذلك إلى منع صرف حمدون على مذهب أبي علي، ومنع صرف حاميم, بما يوقف عليه في شرحه.

وقوله: وتنصب كائنًا بالألف بالفتحة على لغةً أي: وينصب المعتل اللام المحذوفها. هذا الذي ذكره المصنف من أنه يجوز فيه فتح التاء هو على مذهب الكوفيين، أجازوا في غير الشعر فتح التاء في المنقوص نحو ثبات ولغات تشبيهًا بقضاةً، ولا يجيز البصريون شيئًا من ذلك، ولا فرق عندهم بين الناقص والتام في هذا. واستدل الكوفيون بما حكي الكسائي من قول بعضهم: "سمعت لغاتهم" وقال الشاعر: فلما جلاها بالأيام تحيزت ... ثباتًا، عيها ذلها واكتئابها ينشد بكسر التاء وفتحها. قال الفراء: "العرب تجمع الثبةً ثبين وثبات، وبعضهم ينصبها في النصب، فيقولون: رأيت ثباتًا كذا. وقال أبو الجراح في كلامه: ما من قوم إلا قد سمعنا لغاتهم، فنصب التاء، ثم رجع فخفضها، والعرب تخفض هذه التاء في النصب وتنصبها: سمعت لغاتهم ولغائهم، بالنصب والخفض، وكذلك الثبات" انتهى كلام الفراء. قال المصنف في الشرح ونصبه بالفتحةً قبل الرد كان لشيئين: أحدهما الشبه بباب قضاةً في أنه جمع أخره تاء مزيدةً بعد ألف في موضع لام معلةً. والثاني أن ثبات بإزاء ثبين، فكسرته بإزاء يائه، فكما جاز على لغةً أن يراجع الأصل بثبين تشبيهًا بقرين جازت مراجعته بثبات تشبيهًا

بنبات/، وكل واحد من الشيئين منتف مع رد المحذوف، فبقي على الإعراب الذي هو به أولى. ولا يعامل نحو عدات من المعتد الفاء معاملةً ثبات لانتفاء الشيئين المذكورين" انتهى. وما دكره من أنه لا يعامل نحو عدات من المعتل الفاء معاملة ثبت قد جاء بعضه معاملًا هذه المعاملةً، "قال أبو عمرو بن العلاء لأبي خيرةً: كيف تقول حفرت إراتك؟ قال: حفرت إراتك، فقال أبو عمرو: لان جلدك يا أبا خيرة. يقول: أخطأت. قال أحمد بن يحيى: هي لغةً لم يعرفها أبو عمرو، يقال: وأزت إرة أثرها وأرا، إذا حفرت حفيرةً تطبخ فيها، وإرات جمع إرةً. وقال المازني: وأما سمعت لغاتهم وما أشبهه فلا يجوز فيه إلا الكسر لأنه تاء جمع، وأنشد الأصمعي للهذلي: ............... كأن ظباته عقر بعيج فهذه جمع ظبة، وكذلك ثبات", فهذا الذي قاله أبو عثمان مخالف ظاهره لما حكاه الفراء عن العرب من أنه يجوز فتح التاء وخفضها. وقوله: ما لم يرد إليه المحذوف يعني فإنه ينصب بالكسرةً. واستظهر بذلك على جمع سنةً بالألف والتاء على سنوات برد المحذوف، وعضة على عضوات كذلك، فإذا يمنع رد إلى أصله الذي هو أولى به، وهو النصب بالكسرة. وقوله: وليس الوارد من ذلك واحدًا مردود اللام، خلافًا لأبي علي

ذهب أبو علي إلى أن قولهم: أسمعت لغاتهم" بفتح التاء إنما هو مفرد ردت إليه اللام، وليس بجمع، وأصله لغوةً، تحركت الواو، وانفتح ما قبلها، فقلبت ألفًا. ورد ذلك بأنه لم تسمع في لغةً المحذوفةً اللام رد اللام، فتقول فيه لغاةً، وبقول العرب: رأيت بناتك، بفتح التاء، وهذا نص في الجمعية. ورد المصنف ذلك بأنه يؤدي إلى الاشتراك بين المفرد والجمع، وبأن هذه التاء عوض من اللام المحذوفةً، فلو ردت لكان فيه جمع بين عوض ومعوض منه، وذلك ممنوع. وما رد به المصنف لا يصلح أن يرد به لأنه أجاز هو أن يكون فلك مشتركًا بين المفرد والجمع، فكذلك هذا. ودعواه أن التاء عوض من اللام المحذوفةً، فلو رد لكان فيه جمع بين العوض والمعوض عنه، ليس كذلك لأنه إذا ردت اللام لم تكن التاء إذ ذاك عوضًا اللام المحذوفةً، بل تكون التاء فيه دالةً على ألإفراد كحالها في قناةً وحصاةً، فكما لا يقال في تاء قناةً إنها عوض، فكذلك تاء لغاةً لا تكون عوضًا، فلا يكون في ذلك جمع بين العوض والمعوض منه. تم بحمد الله تعالى وتوفيقه الجزء الأول من كتاب "التذييل والتكميل" بتقسيم محققه، ويليه - إن شاء الله تعالى - الجزء الثاني، وأوله: " باب كيفية التثنية وجمعي التصحيح"

التذييل والتكميل في شرح كتاب التسهيل ألفه أبو حيان الأندلسي حققه الأستاذ الدكتور حسن هنداوي جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية- فرع القصيم الجزء الثاني دار القلم دمشق

بسم الله الرحمن الرحيم تنمية لوصف النسخ المخطوطة 16 - نسخة يوسف آغا (غ): تحتفظ بها مكتبة يوسف آغا في مدينة قونية بتركية برقم (6841)، وتقع في ستة اجزاء، والموجود منها الجزء الرابع، ويبدأ بقول ابن مالك في باب حروف الجر "ومنها إلى للانتهاء مطلقًأ، وللمصاحبة .... "، وينتهي في آخر "باب مصادر غير الثلاثي". ويقع في 237 ورقة، وفي كل صفحة 29 سطراً. كتب سنة 743 هـ سلخ جمادي الآخرة، بخط نسخي نفيس. وهي نسخة قيمة، والأخطاء فيها نادرة. وقد رمزت لها بالحرف (غ).

/

/

/

باب كيفية التثنية وجمعي التصحيح

-[ص: باب كيفية التثنية وجمعي التصحيح الاسم الذي حرف إعرابه ألف لازمة مقصور، فإن كان ياًء لازمةً تلي كسرةً فمنقوص، فإن كان همزةً تلي ألفًا زائدةً فممدود، فإذا ثني غير المقصور والممدود الذي همزته بدل من أصل أو زائدة لحقت العلامة دون تغيير، ما لم تنب عن تثنية غيره.]- ش: لما ذكر شروط /ما يثنى وما يجمع جمعي السلامة أخذ يذكر كيفية التثنية والجمعين، وأخذ يذكر المقصور والممدود والمنقوص ليبني ما يقع من الاختلاف على ذلك. فبدأ بالمقصور، وكان ينبغي أن يصدر به لأنه هو المحدود، وكان قد عقد بابًا للمقصور والممدود في أواخر الكتاب، بين فيه المقيس من القبيلين، فلم يحتج إلى ذكر ذلك هنا؛ لأن ذكره هنا إنما هو بالنسبة إلى كيفية ما وضع له الباب، وقد صدر به في الشرح، فقال: "المقصور هو الاسم" إلى آخره. قال: "فذكر الاسم مخرج للفعل المضارع الذي حرف إعرابه ألف نحو يرضى". وقد ذكرنا في أول الكتاب أن الجنس في الحد لا يؤتى به للاحتراز، وإنما هو ناظم المحدود وغيره، ثم بعد ذلك يؤتى بالفصل على سبيل الاحتراز. وقوله: حرف إعرابه احتراز من المبني الذي آخره ألف نحو: إذا ومتى.

وقوله: لازمة احتراز من المثنى المرفوع في اللغة المشهورة، فإنها ليست بلازمة إذ تنقلب ياًء في النصب والجر، ومن الأسماء الستة إذ لا تثبت في الرفع والجر. وقوله: لازمة ليس ذلك على الإطلاق، بل لغة لبعض العرب قلبها ياًء إذا أضيف الاسم المقصور إلى ياء المتكلم، فتقول: هذه عصي، ورأيت عصي، ومررت بعصي، لكن المصنف لم ينظر إلى هذه الحالة التي للمقصور مع ياء المتكلم لأنها ليست اللغة المشهورة للعرب. وذكر أيضًا في الشرح المنقوص، فقال: "والمنقوص العرفي الاسم الذي حرف إعرابه ياء لازمة تلي كسرةً". وإنما قال: "العرفي" لأن ما حذف منه حرف ينطلق عليه منقوص، ولاسيما الذي حذفت لأمه، ولذلك قسم أبو موسى المنقوص إلى منقوٍص بقياس ومنقوٍص بغير قياس، وجعل من المنقوص بغير قياس أبًا وأخًا ويدًا ودمًا وما أشبهها. وقال المصنف في الشرح: "فالاسم مخرج للمضارع الذي حرف إعرابه ياء تلي كسرةً نحو يعطي". انتهى. وقد ذكرنا قبل أن الجنس لا يؤتى به للاحتراز. واحترز بقوله: "حرف الإعراب" من المبني الذي آخره ياء تلي كسرةً نحو: ذي. وقال المصنف في الشرح: "واللزوم مخرج لنحو الزيدين والأسماء الستة في حال الجر" انتهى.

وهذا الرجل كثيرًا ما يقول الشيء، ثم ينساه، قد قرر هو أن الواو والألف والياء في التثنية والجمع ليست حروف إعرابه، وأنها نفسها هي الإعراب. فإذا كان قد ذهب هذا المذهب فكيف يقول إنه احترز باللزوم عن نحو الزيدين والأسماء الستة في حال الجر، وليست الياء عنده حرف إعراب، بل هي الإعراب نفسه؟ فكيف يحترز عن شيء لم يدخل فيما قبل اللزوم حتى يحترز باللزوم عنه؟ أما الأسماء الستة فإنها يحترز باللزوم عنها؛ لأنه ذهب إلى حرف العلة فيها هو حرف الإعراب، وأما مثل الزيدين فلا؛ لأنه عنده غير حرف إعراب. وقال المصنف في الشرح: "والممدود الاسم الذي حرف إعرابه همزة، تلي ألفًا زائدة". قال: "فذكر الاسم مستغنًى عنه /لأن المخرج به في رسم المقصور والمنقوص ما يشبههما من الأفعال المضارعة، إذ لو لم يذكر "اسم" في رسميهما لتناول رسم المقصور نحو: يرضى، ورسم المنقوص نحو: يعطي، وههنا لو لم يذكر "اسم" لم يتناول رسم الممدود فعلًا؛ إذ لا يوجد فعل آخره همزة تلي ألفًا زائدة، وإنما تلي ألفًا منقلبة ك"يشاء"، ولكن ذكر الاسم ليعلم من أول وهلة أن الممدود ليس

من أصناف غيره" انتهى. وهذا الذي ذكر أنه "لا يوجد فعل آخره همزة" إلى آخره، قد وجد ذلك في الإشباع في قول الشاعر: فلم أر معشرًا أسروا هديا ولم أر جار بيٍت يستباء وإنما هو: يستباء. بني افتعل من "سبأ" من قول الشاعر: ولم أسبأ الزق الروي، ولم أقل لخيلي كري كرة بعد إجفال فيستباء مضارع آخره همزة قبلها ألف زائدة. وهذا في أحد تأويلي: يستباء. والقول الآخر ذكره الأعلم من أن وزنه يستفعل من الباءة، وهو النكاح. وقيل: معنى يستباء من البواء، وهو القود، وكان هذا الرجل قد أتاهم، وقامرهم مرارًا، فردوا عليه ماله، ثم قامرهم، فلم يردوه، فقامر على امرأته، فغلب، فأخذت امرأته. فعلى هذا يصح أن يكون بني من السبء، وهو الشراء، فيكون افتعل لأن أخذها في القمار كأنه اشتريت منه امرأته. ويصح أن يكون من الباء، أي: يستنكح، أي: تؤخذ امرأته، وتنكح. وأما من جعله من البواء - وهو القود- فقيل: إنه جاءهم يستجير بهم، فقتلوه برجل منهم.

واحترز بقوله: "حرف إعرابه" من نحو أولاء اسم الإشارة أو الموصول، فإنه مبني. واحترز بقوله: "ألفًا زائدة" من نحو: داٍء وماٍء، فالألف في نحو هذا لا تكون زائدة؛ لأن أقل ما تكون عليه الكلمة المعربة ثلاثة حروٍف أصول، فالألف بدل من أصل. وقوله: غير المقصور والممدود إلى آخره شمل الصحيح والمعتل الجاري مجرى الصحيح كمرمي ورمي، والمنقوص كشٍج، والمهموز غير الممدود كرشا وماٍء ووضوٍء ونبئ، والذي همزته أصل كقراٍء ووضاٍء. وقوله: لحقت العلامة يعني الألف رفعًا، والياء جرًا ونصبًا، ونونًا في الأحوال الثلاثة على ما سبق. وقوله: دون تغيير لا تغيير إلا فتح ما قبل العلامة ورد ياء منقوص حذفت لوجود التنوين، فإذا ذهب التنوين لأجل العلامتين عادت الياء. وقوله: ما لم تنب عن تثنيته تثنية غيره تقول العرب: هما سواء، فلا تثني "سواء" في اللغة الفصيحة، استغنوا عن تثنية "سواء" بتثنية "سي" بمعنى مثل، فقالوا: هما سيان. وحكي أبو زيد في كتاب "أيمان عيمان" أنهم ثنوه، فقالوا: هذان رجلان سواءان. وحكي ذلك أيضًا أبو عمرو. وأنشد ابن فارس:

تعالي نسمك حب دعٍد ونغتدي سواءين، والمرعى بأم درين وفي الإفصاح: حكي السكري عن أبي حاتم: هما سواءان. وقال أبو علي في الحجة: "وإنما حكي /السكري عن أبي حاتم إجازة تثنية سواء، ولم يصب السجستاني في ذلك لأن أبا الحسن وأبا عمرٍو زعما أن ذلك لا يثنى، كأنهم استغنوا بتثنية سي، وعلى ذلك التنزيل، قال تعالى: {سَوَاءً العَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ} ". وأورد المصنف سواًء فيما ناب عن تثنيته تثنية غيره. ولا يرد هنا لأنه قال: "فإذا ثني غير المقصور والممدود الذي همزته بدل من أصل - أي: وغير الممدود الذي همزته بدل من أصل- أو زائدة"، فبقي الممدود الذي همزته أصل نحو: قراٍء، فهمزة "سواٍء"، ليست أصلًا، وإنما هي بدل من أصل، وأصله سواي، يدل على ذلك قولهم: سيان، إذ أصله سويان، فإذا كانت همزته بدلًا من أصل لم يدخل تحت الذي يريد تثنيته، وهو ما همزته أصل، فلا يستثنى إذ لم يقصد تثنيته، بل قال: "غير المقصور والممدود" أي: وغير الممدود الذي همزته بدل من أصل أو زائدة، ثم بعد ذلك ذكر حكم ما همزته بدل من أصل وزائدة. قال المصنف: "وكذلك استغنوا غالبًا بأليين وخصيين عن أليتين وخصيتين، مع أنهم إذا أفردوا فالغالب أن يقولوا: أليه وخصية، وقد

يقولون: ألي بمعنى أليه، وخصي بمعنى خصية، وقد يقال في التثنية: أليتان وخصيتان". وقال المبرد وثابت: من قال أليه قال أليتان، ومن قال ألي قال أليان، قال: يشكو عروق خصيتيه والنسا ففي خصية لغتان، وكذلك في أليه. قال: "ومن الاستغناء بتثنية عن تثنية قولهم في ضبع وضبعاٍن: ضبعان، ولم يقولوا ضبعانان، وهو القياس" انتهى. وقوله: "ولم يقولوا ضبعانان" ليس كما ذكر، بل قالوا ضبعانان تغليبًا للذكر على الأنثى، وقد تقدم لنا الكلام على تثنية ضبع وضبعاٍن، فأغنى عن إعادته. ص: وإذا ثني المقصور قلبت ألفه واوًا إن كانت ثالثةً بدلًا منها، أو

أصلًا أو مجهولةً ولم تمل، وياًء إن كانت بخلاف ذلك، لا إن كانت ثالثة واوي مكسور الأول أو مضمومة، خلافًا للكسائي، والياء في رأي أولى بالأصل، والمجهولة مطلقًا، وتبدل واوًا همزة الممدود المبدلة من ألف التأنيث، وربما صححت أو قلبت ياًء، وربما قلبت الأصلية واوًا، وفعل ذلك بالملحقة أولى من تصحيحها، والمبدلة من أصٍل بالعكس، وقد تقلب ياًء، ولا يقاس عليه، خلافًا للكسائي. وصححوا مذروين وثنايين تصحيح شقاوة وسقاية للزوم علمي التثنية والتأنيث. ش: مثال ألف المقصور ثالثةً بدلًا من الواو عصا، تقول في التثنية عصوان، لقولهم: عصوته، أي: ضربته بالعصا. ومثال كونها أصلًا لكونها في حرف أو شبهه نحو: إذا وألا الاستفتاحية، فإذا سميت بألا أو بإذا تقول: ألوان وإذوان. ومثال كونها مجهولة الأصل لا يدرى عن أي شيء انقلبت قولهم خسًا بمعنى فرد من قولهم خسًا وزكًا، كذا قال المصنف في الشرح. وقال: "ولقًى بمعنى ملقًى لا يعبأ به" انتهى. وليست ألف "لقًي" مجهولة الأصل، بل هي منقلبة عن ياء، قاله ابن جني، ولامه ياء، والجمع ألقاء، وهو على وزن فعٍل بمعنى مفعول /كالقبض والنقض بمعنى المقبوض والمنقوض، ف"لقى" بمعنى ملقي لا بمعنى ملقى، والمعنى أنه لخساسته وكونه تافهًا يلقاه كل أحد فلا يأخذه، فيبقى لأجل ذلك ملقيًا. وأما "خسا" ففي المخصص: "خسا: فرد، وزكا: زوج.

ويجوز: زكا وخسا منونين، وتكتب بالألف لأنها من خسأ مهموز" انتهى. فعلى هذا تكون الألف المجهولة الأصل ب"الددا" وهو اللهو، وهذا الاسم استعمل منقوصًا، كما جاء في الحديث: "لست من دٍد ولا الدد مني"، واستعمل صحيحًا متمًا بالنون، فقالوا: ددن، وبالدال فقالوا: ددد، واستعمل مقصورًا، قالوا: ددًا، فهذه الألف مجهولة لا يدري هل هي منقلبة عن ياء أو واو، إذ الألف في الثلاثي المعرب لابد أن تكون منقلبة عن ياء أو واو. قال المصنف في الشرح: "المشهور فيما كان من هذين النوعين - يعني نوع الألف الأصلية ونوع المجهولة الأصل- أن تعتبر حاله في الإمالة، فإن أمالته لعرب ك"بلى" و"متى" ثني بالياء إذا سمي به، وإن لم تمله العرب ك"إلى" و"أما" بمعنى حقًا ثني بالواو". وذهب بعض البصريين إلى أن الحكم في الألف المجهولة الأصل أنه تعتبر إمالتها كما ذكرنا آنفًا، أو انقلابها ياًء في حال من الأحوال، فإن أميلت كبلى، أو انقلبت ياء نحو إلى وعلى ولدى، فتقلب في التثنية ياء لأنك تقول: إليه وعليه ولديه، فتقول: بليان وعليان ولديان، وهذا اختيار

أبي الحسن بن عصفور. وقد نص سيبويه والأخفش في أحد قوليه على تثنية إلي ولدى وعلى بالواو, ولم يعتبر القلب. ونص الأخفش في قول آخر له على أنه إن قلبت ياٌء في حال من الأحوال قلبت في التثنية, فتقول في علي: عليان لقولهم: عليه. وقال المصنف في الشرح: "من النحويين من لا يعدل عن الياء في النوعين ثبتت الإمالة أو لم تثبت". قال:"ومفهوم قول س عاضٌد لهذا الرأي؛ لأنه أصل في الألف المجهولة أصلًا يقتضي ردها إلي الواو إذا كانت موضع العين، وردها إلي الياء إذا كانت موضع اللام. وعلل ذلك بأن انقلابها ثانيًة عن واو أكثر من انقلابها عن ياء، وأمر الثالثة بالعكس". انتهى. فعلى ما نقله المصنف ونقلناه يكون في الألف الأصلية والمجهولة الاًل ثلاثة مذاهب: أحدها: أنها تقلب إلي الياء من غير اعتبار إمالة ولا قلب، وهو الذي حكاه المصنف. الثاني: أنها تقلب ياٌء إن أميلت فقط، وواوًا إن لم تمل، وهو مذهب س. الثالث: أنها تقلب ياء إن أميلت أو انقلبت في حال من الأحوال، وواوًا إن لم تمل، ولم تقلب ياء في حال من الأحوال، وهو مذهب بعض البصريين.

وفي الإفصاح: ما لم يسمع فيه تفخيم ولا إمالة، ولا عرف له اشتقاق، نص أبو الحسن أنه يثنى بالياء لأن الياء أغلب على الطرف/وأكثر في كلامهم، ولا أعلم له مخالفًا في ذلك. وقوله: وياًء إن كانت بخلاف ذلك أي: إذا لم تكن بدلًا من واو، ولا أصلًا ولا مجهولًة ولم تمل، فيدخل تحت هذا أن تكون غير ما ذكر، نحو كونها غير ثالثة رابعًة أو خامسًة أو سادسًة أو ثالثًة بدلًا من ياء أو ثالثًة غير أصل ك"إذا"الموقوف عليها التي أصلها "إذن"مسمى بها أو مجهولة أميلت، كقولك: ملهيان وحبليان وأرطيان ومعتليان ومستدعيان وهديان وإذيان. وخالفنا الكوفيون فيما زاد على أربعة، فحذفوا ألفه، قالوا في مقتدى: مقتدان، حملًا له على النسب. وهذا باطل أنه لو حمل على النسب لقالوا في حبلى: حبلان؛ لأنهم يحذفون هذه الألف في النسب. وقوله: مكسور الأول مثاله: ربًا ورضًا. وقوله: أو مضمومه مثاله: ضحى. فإن تثنية هذين ليس بالياء، بل تقلب الألف فيها واوًا، فتقول: ربوان ورضوان وضحوان. وقوله: خلافًا للكسائي يعني أنه يجيز في نحو: رضًا وعلًا أن يثني بالياء قياسًا على ما ندر كقول بعض العرب رضًا ورضيان شذوذًا. هكذا قال

المصنف في الشرح. وقال أصحابنا: "أما الكوفيون فإن المقصور الثلاثي عندهم إذا كان مضموم الأول أو مكسوره ثني بالياء، كان من ذوات الياء أو من ذوات الواو، فيقولون في تثنية ربًا وضحى وهدًى: ربيان وضحيان وهديان، إلا لفظتين شذتا، وهما رضا وحمى، فإن العرب تثنيهما بالياء والواو، فقالوا: رضيان ورضوان وحميان وحموان، فإن كان مفتوح الأول وافقوا البصريين في تثنيته. ولا يعرف البصريون بين المفتوح الأول وغيره فرقًا. وحكي س في تثنية ربًا: ربوان، وهو خلاف ما ذهبوا إليه. وحموان بالواو شاذ عند البصريين. وكذلك رضيان بالياء شاذ عندهم"انتهى. فبين هذين النقلين ما ترى من الاختلاف، نقل المصنف أن الكسائي يجيز في الثلاثي المقصور الواوي الذي على وزن فعل وفعل أن يثني بالياء، وأصحابنا نقلوا أن الكوفيين يجيزون فيما كان مضموم الأول أم مكسورة أن يثني بالياء، سواء أكان من ذوات الياء أم من ذوات الواو، إلا رضا وحمى فثنيا بالياء والواو. وإنما قلبت ياء فيما زاد الاسم على ثلاثة أحرف بالحمل على الفعل الرباعي، وقلب في الفعل الرباعي بالحمل على المضارع، فإذا قلت أغزيت فمضارعه أغزي، وأعطيت أعطي، فحمل الماضي على المضارع في ذلك؛

ألا ترى أنه من ذوات الواو في الأصل، تقول في الثلاثي غزوت. وقوله: والياء في رأي أولى بالأصل والمجهولة مطلقًا يعني بقوله: "مطلقًا"سواء أميلت أم لم تمل، وتقدم الكلام على هذا المذهب. وقوله: وتبدل واوًا همزة الممدود المبدلة من ألف التأنيث مثاله قولك في حمراء: حمراوان. وهمزة التأنيث- عندنا- بدل من الألف الموضوع للتأنيث، خلافًا للكوفيين والأخفش. وقد تكلمنا على ذلك في باب التذكير والتأنيث في أوائل الباب. ولم يذكر س فيها إلا القلب إلي الواو. وحكي غيره القلب إلي الياء أيضًا، وحكي النحاس في "صنعة الكتاب"أن الكوفيين يجوزون فيها الأمرين. وقوله: وربما صححت أو قلبت ياٌء مثاله: حمراءان وحمرايان، و"ربما"تشعر بالتقليل فيهما. أما إقرارها همزة فهو شاذ، وحكاه أبو حاتم/ وابن الأنباري عن العرب. وأما قلبها ياءٌ فهي لعة لفزارة،

ففرق بين النقلين. وهكذا نصوص أكثر النحويين على أن ما آخره همزة التأنيث تقلب واوًا في التثنية. وحكي عن العرب في زكرياء الإبدال واوًا والإقرار همزًة، فتقول: زكرياوان، وزكرياءان. وقال أبو سعيد: مما استثقل وقوع الألف بين واوين، فعدلوا به عن القياس، قولهم في تثنية لأواء وعشواء: لأواءان وعشواءان، وهمزة التأنيث تقلب في التثنية واوًا، فيقال: حمراوان، وكرهوا لأواوان لأجل الواوين، فهمزوا. وقال صاحب المخصص: "واستحسنوا- يعني الكوفيين- في الممدود إذا كان قبل الألف واٌو أن يثنوا بالهمز وبالواو، فقالوا في لأواء وحلواء: لأواءان ولأواوان، وأجازوا في سوآء- وهي المرأة القبيحة- سوآءان وسوآوان". وفي الإفصاح: وإذا ثنيت حواء فالاختيار حواءان لأن قبل الهمزة واوًا مشددة، والوا المشددة واوان، فكرهوا الجمع بين ثلاث واوات. وكذلك الاواوان بالواو، والهمز أكثر في كلام العرب. قاله ابن الأنباري. وقوله: وربما قلبت الأصلية واوًا حكي من كلامهم قلب الهمزة الأصلية واوًا، فيقال: قراوان ووضاوان في تثنية قراء ووضاء، وذلك قليل،

ولم يذكر س فيه إلا الإقرار همزة. وقوله: وفعل ذلك بالملحقة أولى من تصحيحها أي: وقلب الهمزة الملحقة واوًا أولى من إقرارها، وذلك نحو: علباٍء ودرحاٍء وحرباٍء وقوباٍء، فتقول: علباوان ودرحاوان وحرباوان وقوباوان. ويجوز إقرارها، فتقول: علباءان ودرحاءان وحرباءان، وقوباءان. فالهمزة في علباء زائدة بدليل قولهم: علبت الرمح إذا شددته بالعلباء، فيحذفون الهمزة. والهمزة في درحاء بدل من حرف علة لتطرفه ووقوعه بعد ألف زائدة، بدليل انم قالوا لما ألحقوه تاء التأنيث، وبنوا الكلمة عليها: درحاية؛ لكونها إذ ذاك ليست بطرف، فدل ذلك على أن همزة درحاء منقلبة عن ياء، وتلك الياء زائدة، إذا لا يتصور أن تكون أصلًا، لأن الياء لا تكون أصلًا في بنات الاربعة إلا في المضعف نحو: حيحيت. وكذلك ينبغي أن تجعل الهمزة في علباء بدلًا من ياء؛ لأن الإلحاق قد استقر بالياء بدليل درحاية، ولم يستقر بالهمزة، فالياء إذًا هي التي ألحقت بناء علباء ودرحاء ببناء قرطاس. وظاهر قول المصنف أن الهمزة هي الملحقة، وقد بينا أن الملحق هو غيرها، وأن الهمزة بدل منه. وقوله: والمبدلة من أصٍل بالعكس يعني أن إقرارها أولى من قلبها واوًا، وذلك نحو: كساٍء وسقاٍء، فتقول: كساوان وسقاوان وكساءان

وسقاءان، والهمزة في كساء وسقاء مبدلة من حرف أصلي لقولهم: كسوت وسقيت. وهذه الأولوية بين مما الهمزة فيه للإلحاق وبين ما هي منقلبة عن أصل ذهب إليها بعض أصحابنا، كما ذهب إليه المصنف. وقال أبو موسى: "وما انقلبت فيه عن/أصل أو عن زائد ملحق بالأصل فأجره إن شئت على الأصل، وإن شئت على الزائد، والأول أحسن". فسوى بين المسألتين، وجعل الإجراء فيهما على الأصل أحسن، فصار إقرار الهمزة فيهما أحسن. وهكذا نص عليه س، قال: "وذلك قولك: رداءان وكساءان وعلباءان، فهذا الأجود والأكثر". ثم قال: "واعلم أن ناسًا كثيرًا من العرب يقولون: علباوان وحرباوان". ثم قال: "وقال ناس: كساوان وغطاوان ورداوان". ثم قال: "وعلباوان أكثر من قولك: كساوان في كلام العرب لشبهها بحمراء". فهذا نص مخالف لكلام المصنف. وإنما فاوت س بين القلب في علباء وبينه في كساٍء، فذكر أن القلب في علباٍء أكثر منه في كساء. وقال الأخفش في النسخة الوسطى في النحو: "وإن كان شيء من الممدود مهموزًا لغير التأنيث نحو: عطاء وقضاء وعلباء وحرباء، فإن هذا تثنيته بالهمز، تقول: عطاءان وقضاءان وحرباءان وعلباءان، وإن شئت ثنيت هذا كله بالواو، فهي لغة، تقول: عطاوان وحرباوان" انتهى. فبدأ أولًا

بالأحسن، وهو إقراره مهموزًا، وحكي بعد أن قلبه واوًا لغة، وسوى بين المبدلة من أصل وبين الملحقة بأصل. فهذا نٌص من س والأخفش على أن إقرار الهمزة فيهما أحسن. وإنما كان إجراؤه مجرى الأصل أحسن لأنه أشبه بقراٍء وأمثاله مما الهمزة فيه أصٌل منه بحمراء وشبهها مما الهمزة فيه زائدة للتأنيث، من حيث إنها بدل من أصل أو في مقابلته، وهاتان اللغتان يتكلم بهما جميع العرب. وحكي أبو زيد في كتاب الهمز لغة ثالثة لبني فزارة خاصة، وهي قلب الهمزة ياء فتقول: كسايان وسقايان. وفي البسيط: أجاز الفراء والمازني قلبها- يعنيان همزة حمراء- ياُء. قالا: وهي لغة. قال المازني: ردئة. وقوله: وقد تقلب ياٌء يعني فيهما. هذه هي اللغة المنسوبة لبني فزارة. وقوله: ولا يقاس عليك خلافًا للكسائي بل يقاس عليه لأنها لغة لقبيلة من العرب كما ذكرنا، وإذا كان لغٌة لقبيلة قيس عليه. وقوله: وصححوا كذروين وثنايين إلي آخره أما المذروان فهما طرفا الآلية، وطرفا القوس، وجانبا الرأس، والمشهور إطلاقه على طرفي الألية، قال عنترة: أحولي تنفض استك مذرويها ... لتقتلني، فها أنا ذا عمارا

وقال ابن قتيبة: "المذروان طرفا كل شيء". وقياسه مذريان لأن الألف وقعت رابعة كألف مغزى، لكنه لما بنت الكلمة على علامة التثنية ضحت وقعت رابعًة كألف مغزى، لكنه لما بنيت الكلمة على علامة التثنية صحت كما صحت واو شقاوة إذ بنيت الكلمة على تاء التأنيث. وذكر أبو علي القالي أنه لا يفرد البتة، فلا يقال: مذري بمعنى ما ذكر أنه ملدول المذروين. وذكر أبو محمد بن السيد أن أبا عبيٍد حكى عن أبي عمرو مذري مفردًا. قال ابن السيد: "أحسب أن أبا عمرو قاس ذلك عن غير سماع، وأنا أبا عبيد/وهم فيما حكاه عن أبي عمرو، كما وهم في أشياء كثيرة". وقال أبو العباس: "فلانٌ يضرب أصدريه وأزدريه، ولا ينطقون فيه بواحد، وفلان يضرب مذرويه، وهما ناحيتاه، وإنما يوصف بالخيلاء". وأما الثنايان فهما طرفا العقال، وقالت العرب/ "عقلته بثنايين"، وقياسه أن يقال: بثناوين، أو بثناءين لأن بعد الألف الزائد حرف علة، فلو كان أفرد فقيل: "ثناء"كان يكون أبدل همزة، وتكون همزة بدلًا من أصل، فيجيء فيها الوجهان من الإبدال والإقرار، لكنه بنيت الكلمة على التثنية،

فبقي كالمبني على هاء التأنيث كسقاية. وقال أبو عبيد في "الغريب المصنف": ثنيت البعير بثنايين غير مهموز، وذلك أن تعقل يديه جميعًا بعقالين، ويسمى ذلك الحبل الثناية. فعلى هذا يكون من باب خصيين وأليين. -[ص: وحكم ما ألحق به علامة جمع التصحيح القياسية حكم ما ألحق به علامة التثنية، إلا أن آخر المقصور والمنقوص يحذف في جمع التذكير، وتلي علامتها فتحة المقصور مطلقًا، خلافًا للكوفيين في إلحاق ذي الألف الزائدة بالمنقوص، وربما حذفت خامسًة فصاعدًا في التثنية والجمع بالألف والتاء، وكذا الألف والهمزة من قاصعاء ونحوه، فلا يقاس على ذلك، خلافًا للكوفيين.]- ش: يشمل قوله: "علامة جمع التصحيح"المذكر والمؤنث. وقوله: القياسية: ليحترز بذلك مما خالف القياس، نحو قولهم: بنون، ولو يقولوا: ابنون، كما قالوا في التثنية: ابنان، نحو جمعهم: ربعة، وعلانية: ربعون وعلانون، وقياسه: ربعات وعلانيات، كقياس جمع ما فيه تاء التأنيث، وسيأتي ما خالف التثنية بعد هذا إن شاء الله الله تعالى. وملخص هذا الذي ذكره أن الاسم يجمع جمع التصحيح، فلتلحقه الواو والنون فيما يجوز فيه ذلك، أو الألف والتاء فيما يجوز فيه ذلك، ويكون حكمه من التغيير أو عدمه حكمه إذا ثني إلا ما استثنى، فكما تقول في زيد زيدان كذلك تقول زيدون، وفي قراء قراءان تقول قراؤون، وفي حمراء حمراوان تقول فيه مسمى به مذكرًا حمراوون، ومسمى به مؤنثًا حمروات كما قالوا صحراوات، وفي حبلى حبليان تقول حبليان، وفي كساء وسقاء كساوان وسقاوان وكساءان وسقاءان تقول مسمى بهما كساؤون وسقاؤون وكساؤون وسقاؤون، وكذلك في علباء.

وأجاز أبو عثمان أن تقلب واو حمراوون همزة كما قالوا أدوؤر، فتقول حمراؤون؛ لأن الهمزة ليست للتأنيث. وهو غلط لأن إدال هذه الواو للجمع، والجمع عارض، فهو كواو (لتبلون) و (لترون)، وهذا عدٌو شديد مما هو غير لازم. وقوله: إلا أن آخر المقصور والمنقوص يحذف لما كان المقصور والمنقوص حالهما في الجمع مخالفًا حالهما في التثنية استثناهما، فذكر أن آخر المقصور وآخر المنقوص يحذف في جمع التذكير. وإنما يحذف لالتقاء الآخر ساكنًا مع الواو والياء، فتحذف الألف أو الياء لالتقاء الساكنين. /وقوله: في جمع التذكير لأن جمع التأنيث حكمه حكم المثني، فتقول: حبليات وغازيات كما تقول: حبليان وغازيتان. وقوله: وتلي علامتاه فتحة المقصور مطلقًا يعني سواء أكانت ألفة منقلبة عن أصل، أم زائدة كأرطى مسمى وحبلى مسمى به مذكر. وقوله: خلافًا للكوفيين في إلحاق ذي الألف الزائدة بالمنقوص يعني في ضم ما قبل واو الجمع وكسر ما قبل يائه، فيقولون: جاء الحبلون،

ومررت بالحبلين، ورأيت الحبلين، كما تقول: قام القاضون، ومررت بالقاضين، ورأيت القاضين. قال المصنف في الشرح: "فإن كان المقصور أعجميًا أجازو- يعني الكوفيين- فيه الوجهين لاحتمال الزيادة وعدمها". يعني بالوجهين فتح ما قبل العلامتين مطلقًا، وضمها مع الواو، وكسرها مع الياء، فيقولون: جاء موسون، ومررت بموسين، ورأيت موسين، وجاء موسون، ومررت بموسين، ورأيت موسين. ونقل أصاحبنا الخلاف عن الكوفيين في المقصور مطلقًا، ولم يفصلوا عنهم في الألف الزائدة ولا في الأعجمي، فقالوا: أجاز أهل الكوفة مع وجه الفتح وجهًا آخر، وهو ضم ما قبل الواو وكسر ما قبل الياء حملًا على غيره من جمع السلامة، وذلك غير مسموع ولا جائز قياسًا، وذلك أنك إذا ضممت ما قبل الواو، وكسرت ما قبل الياء، لم يبق ما يدل على الألف المحذوفة. وفي البسيط: "وقد أجاز الكوفيون ضم ما قبل الواو وكسر ما قبل الياء مطلقًا، كأنهم حذفوا الألف لالتقاء الساكنين، فإذا راعيت الأصل أبقيت الفتحة علامة على الألف المحذوفة في الجمع، وإن لم تراع الأصل فهو ضعيف. وقال بعض النحويين- أظنه الرماني-: ما ظننت أحدًا يقوله، وكنت أتعجب لقول س: "والضم خطأ"حتى رأيته لبعض الكوفيين". انتهى.

وقد حكى ابن ولاٍد في "المقصور والممدود"أن من العرب من يقول: موسون وعيسون بضم السين، وهذه اللغة لم يذكرها س، وهي نادرة، ولعلها جاءت في بعض ألفاظ شذت عن القياس، وكأنهم ردوها إلي الأصل، واستثقلوا الضمة، فحذفوها، ونقلوها إلي ما قبل كالقاضون. وذكر بعض أصحابنا أنه شذ عن هذا الحكم من المقصور قولهم: "مقتوين"قال: ................... ... متى كنا لأمك مقتوينا "وكان القياس أن يقول مقتين، فيجمع مقتى- ووزنه مفعل بفتح الميم والعين- كما يجمع ملهى، لكنهم جاؤوا به على الأصل شذوذًا". قال: "ويحتمل أن يكون مما حذفت منه ياء النسب، وكان الأصل مقتويين، فحذف ياءي النسب، وهو يريدهما، فيكون كالأعجمين والأشعرين؛ ألا ترى أن المعنى الأعجميين والأشعريين.

وقوله: "مقتوين"يريد خدامًا، من القتو، وهو الخدمة، كأنه جمع مقتٍو، يريد به خديمًا، والعرب تدخل ياءي النسب على الصفة للمبالغة، فيقولون: دواري في دوار، وأحمري في أحمر". وفي البسيط: "قالوا: رجل مقتوي، وفي الجمع: مقتوون. وأما تصحيحهم الواو فإن شئت قلت/صححوها في الجمع على حد التثنية، كما صححوها في جمع التكسير حيث قالوا: مقاتوة. وحكي أبو زيد الفتح والكسر في الواو فيما قبل الياء فيمن جعل النون حرف الإعراب، وحكي جعل النون إعراب كما جعلت في سنين هو وأبو عبيدة. وحكيا: رجل متقويٌن، ورجلان مقتويٌن، ورجال مقتويٌن. قال أبو زيد: "وكذلك المرأة والنساء"انتهى قول أبي زيد. وحسن ذلك أنه مصدر في الأصل؛ لأنه مفعل من القتو، فجاز فيه أن يكون للواحد والجمع، ولا يضره ما دخله من علامة؛ لأنها لما عاقبت الياءين للنسبة صارت كأنها ليست للجمع، كما في ثبة، وكأنه مصدر على أصله غير مجموع. هذا فيمن جعل الواو حرف إعراب. وأما من جعل النون حرفه فهو في إرادته الجمع كالذي لم يجعلها حرف إعراب". انتهى ملخصًا.

وقوله: وربما حذفت خامسٌة فصاعدًا في التثنية والجمع بالألف والتاء أي: حذفت الألف الزائدة. مثال حذفها في التثنية خامسة قولهم في القهقرى والخوزلى والهندبى في لغة من قصر: قهقران وخوزلان وهندبان. ومثال ذلك فيما كان زائدًا على خمسة قولهم في الضبغطرى- وهو الأحمق الذي لا يعجبك- ضبغطران، والقياس قلبها ياٌء كما قالوا في تثنية جمادى: جماديان، قال: شهري ربيع وجماديين وإنما حذفت خامسة للطول. وقاسه الكوفيون. وذكر أبو علي أنه مذهب لأهل بغداد. ورد عليهم في "التذكرة"شذوذ هذا المسموع، وأنه لم يثبت سماعه، وأن قياسه على النسب غير صحيح؛ لأن النسب باب تغيير وحذف في اللفظ والمعنى كالتكسير والتغصير، والتثنية ليست كذلك؛ ألا ترة أن التاء تحذف فيه، ولا تحذف في التثنية. ومثال حذفها خامسة في الجمع بالألف والتاء قولهم هراوات، بفتح الهاء، جمع هراوى، جمع هراوة بكسر الهاء، قال:

تروح في عمية، وأعانه ... على الماء قوُم بالهراوات هوج قال المصنف في الشرح: "وهذا يدل على أن الألف قد تحذف وإن لم تكن زائدة؛ لأن ألف هراوى منقلبة عن لام الكلمة"انتهى. وكونها منقلبة عن لام الكلمة هو موضح في علم التصريف، إلا أن الذي أجاز هذا ونقله هو الفراء، وعنده أن هراوى وأمثاله ليس مجموعًا على فعائل فيلزم ما قاله المصنف، بل هو عنده جمع على وزن فعالى، فالألف زائدة على مذهبه، وليس لام الكلمة. ومثال حذفها فيما كان زائدًا على خمسة في الجمع بالألف والتاء قولهم في جمع قبعثراة: قبعثرات. وقوله: وكذا الألف والهمزة من قاصعاء ونحوه يعني أنهما قد يحذفان كما حذفت الألف الزائدة في المقصور، قال بعض العرب في خنفساء وعاشوراء وباقلاء وقرفصاء: خنفسان وعاشوران وباقلان/ وقرفصان. وقوله: ولا يقاس على ذلك، خلافًا للكوفيين أي: لا يقاس على ما سمع من حذف ألف المقصور الزائدة خامسًة فصاعدًا، ولا حذف الألف والهمزة من قاصعاء ونحوه غير ما سمع.

وذكر بعض أصحابنا في المقصور الزائد على ثلاثة أحرف أنه لا خلاف بين النحويين في أنه يثنى بالياء. ثم ذكر ما شد من ذلك. فهذا النقل مخالف لظاهر قول المصنف. وذكر أبو الحسن علي بن سيده: أن الكوفيين أجازوا فيما طال من الممدود حذف الحرفين الأخيرين، فأجازوا في قاصعاء وحاثياء ونحوهما: قاصعان وحاثيان، وقاصعاوان وحاثياوان. فينبغي أن يكون قول المصنف: "ولا يقاس على ذلك"راجعاً لقوله: "وكذل الألف والهمزة من قاصعاء"لا إلي: الألف الزائدة، والألف والهمة، فيكون"ذلك"إشارًة إلي أقرب مذكور، إلا أن ظاهر كلام المصنف في الشرح أنه راجع إلي الألف الزائدة وإلي الألف والهمزة معًا. وفي الإفصاح: ذكر- يعني ابن الأنباري- أنهم قالوا: خنفسان وحوصلان سماعًا عن العرب، وقاس عليه مثل: صورياء وزكرياء وأورياء وما أشبهها مما تجيء فيه الألفات بعد أربعة أو أكثير. وحكي غيره: باقلان وعاشوران وقرفصان. ولم يحك س شيئًا من هذا كله، ولا أجازه، وإنما هي أشياء شواد، فلا ينبغي أن تقاس. قال: وحكي هذا كله السيرافي عن الكسائي وجميع الكوفيين. قال: "ولا يعرفه أصحابنا، ولا يثبتون شيئًا منه". ص: وتحذف تاء التأنيث عند تصحيح ما هي فيه، فيعامل معاملة مؤنٍث

عارٍ منها لو صحح، ويقال في المراد به من يعقل من ابن وأٍب وأٍخ وهٍن وذي: بنون أبون وأخون وهنون وذوو، وفي بنت وابنة وأخت وهنة وذات: بناٌت وأخوات وهنات وهنوات وذوات. وأمهات في الأم من الناس أكثر من امات، وغيرها بالعكس. ش: لما كانت تثنية ما فيه التاء تثبت فيها التاء، فتقول: فاطمتان، وكان قد قدم أن حكم ما ألحق به علامة جمع التصحيح القياسية حكم ما ألحق به علامة التثنية، واستثنى ما استثنى، بين أن هذه التاء لا تثبت في الجمع بالألف والتاء كما تثبت في التثنية، بل تحذف، فيلي ما بقي بعد الحذف بالألف والتاء، كما يفعل بالعاري من التاء المؤنث عند تصحيحه، لكن إن كان ما قبل التاء المحذوفة ألفًا قلبت إلي أصلها، فتقول: فتيات وقنوات في فتاة وقناة، أو همزًة مبدلًة فكحالها في التثنية، فتقول في سقاءة وباقلاءة: سقاوات وباقلاوات. ومثل المصنف في الشرح بهذين وب"سماء"، فقال: "تقول سموات". وهذا منه غلط لأن"سماء"لم تحذف منه التاء عند الجمع إذ لا تاء فيه، ولم يندرح تحت الحكم الذي ذكره من قوله: "فإن كان الذي قبل التاء المحذوفة ألفًا أو همزة ممدوٍد مبدلًة فعل بع ما كان يفعل/ بمقله مباشرًا لألف التثنية"، فكيف يمثل ب"سماء"؟. ولما ذكر ما خالف فيه المؤنث بالتاء المثني الجمع بالألف والتاء ذكر ما خالف به المذكر العاقل في جمعه بالواو والنون مثناه، فقال: "ويقال في المراد به من يعقل"لأنه إن أريد به ما لا يعقل فهو مجموع بالألف والتاء كما ذكر.

فأما ما جمع بالواو والنون من ابن، وبالألف والتاء من بنت، فإنه مخالف للمثنى، إذ قالوا في التثنية: ابنان وابنتان، وقالوا في الجمع: بنون وبنات، وكان القياس يقتضي أن يقال: ابنون وابنات، لكنهم لما حذفوا همزة الوصل فتحوا الباء تنبيهًا على أن أصلها الفتح. وأما ما جمع من أٍب وأٍخ وهٍن بالواو والنون فإنه خالف التثنية، إذ قالوا: أبوان وأخوان وهنوان، وأما في الجمع فإن التصريف أدى إلي حذف واو الجمع؛ لأنه لما أتبع في إعرابه ما قبل الآخر للآخر حذفت الضمة من الواو في الرفع، والكسرة من الواو في الجر والنصب، فانقلبت لكسرة ما قبلها ياء، فالتقت الواو الساكنة مع واو الجمع، والياء الساكنة مع ياء الجمع، فحذفت لالتقاء الساكنين، وبقيت ضمة العين وكسرتها تليهما واو الجمع وياؤه. وذكر المصنف في الشرح شواهد من لسان العرب على هذه الجموع نحو قول الشاعر: كريم طابت الأعراق منه ... وأشبه فعله فعل الأبينا كريم لا تغيره الليالي ... ولا اللاواء عن عهد الأخينا وقول الآخر: ألم ترني من بعد هم هممته ... بفرقة حر من أبين كرام وقول الآخر:

فلما تبين أصواتنا ... بكين وفديننا بالأبينا قول الآخر: فقلنا: أسلموا، إنا أخوكم وقد برئت من الأحن الصدور وقول الآخر: ولكن أخو المرء الذين إذا دعا ... أجابوا بما يرضيه في السلم والحرب وقول الآخر: على ما أنها هزئت، وقالت: ... هنون، أجن، منشأ ذا قريب وقول الآخر: أريد هناٍت من هنين، وتلتوي ... علي، وآبي من هنين هنات وأنشد غير المصنف:

/وكان لنا فزارة عم سوٍء ... وكنت له كشر بني الأخينا وجعل المصنف من باب "أبين"قراءة السلف: {قَالُوا نَعْبُدُ إلَهَكَ وإلَهَ آبَائِكَ إبْرَاهِيمَ وإسْمَاعِيلَ وإسْحَاقَ} فجعل: {إبْرَاهِيمَ وإسْمَاعِيلَ وإسْحَاقَ} بدلًا من {أَبِيكُ}، إذ هو عنده بمنزلة {آبَائِكَ}، وهي القراءة المشهورة. ويحتمل ان يكون مفردًا، {إبْرَاهِيمَ} بدل منه، ويكون {إسْمَاعِيلَ}، {وإسْحَاقَ} قد عطفا على {إبْرَاهِيمَ} لا على البدل التفصيلي، وتكون هذه القراءة قد جعل فيها {إبْرَاهِيمَ} وحده أبًا ليعقوب على سبيل التشريف بكونه أبًا له، ويكون أقل مجازًا إذ يخرج إسماعيل بذلك عن الأبوة لأنه عم يعقوب لا أبوه، وليس في عمود نسبه. ومن قرأ بالجمع أو توهم الجمع في {أَبِيكُ} كثر المجاز، إذ جعل العم أبًا. وقال المصنف: "ولو قيل حٌم لم يمتنع، لكن لا أعلم أنه سمع"انتهى. وينبغي أن يمتنع لأن القياس يأباه، وجمع أٍب وأٍخ وهٍن على أبين وأخين وهنين هو شاذ لأنه فات فيها شرط الجمع بالواو والنون، فلا يقاس على ذلك. وأما جمع"ذي"فقالوا فيه: ذوو، كما قالوا في التثنية؛ لأنهم لو أبتعوا حركة الذال لحركة الواو للزم من ذلك بقاؤه على حرف واحد؛ لأنه تستثقل الضمة في الواو التي هي عين الكلمة، فتحذف الضمة، وتحذف الواو

لسكونها وسكون واو الجمع، ولام الكلمة محذوفة، فتبقى الكلمة على حرف واحد، فلما ردوا فاءه في الجمع إلي حركته الأصلية ذهب موجب الحذف، فبقي على حرفين، وكان قياسه أن لا يجمع عذا الجمع لأنه ليس بمشتق. وقوله: بناٌت وأخوات كان القياس أن يقال بنتات وأختات، كما قالوا في التثنية: بنتان وأختان؛ لأن تاءهما قد غيرت لأجلها بنية الكلمة، وسكن ما قبلها، فأشبهت تاء ملكوت. وقد وافق يونس هنا على بنات وأخوات في الجمع بينها وبين ياء النسب. والفرق بينهما أنها- وإن كانت للإلحاق- فهي مع ذلك مستقلة بالدلالة على التأنيث، فأجريت مجرى تاء التأنيث التي ليست للإلحاق، ولا دلالة فيها على النسب، فلذلك جمع بينهما في النسب. والتاء في بنت وأخت بدل من الواو المحذوفة لتلحق بنت بعدل وأخت بقفل، فهي بدل من حرف أصلي. فأما "أخت" فجمعت جمع سلامة، قالوا: أخوات، وردت الواو في أخوات، ولم ترد في أخون؛ لأن الواو في أخت وبنت لم تحذف إلا بشرط العوض منها، فإذا ذهب العوض رجعت الواو، فقلت: أخوات، وليست كذلك في المذكر لأنها حذفت على غير قياس، ولم يعوض منها، فأخوات

ليس بشاذ، وأخون شاذ، وأخوات جمع مسلم بالألف والتاء. وأما"بنات"فليس بجمع سلامة؛ لأن اللفظ لم يسلم فتقول: بنتات، ولا رجعت إلي الأصل إذ حذفت العوض، فتقول: بنوات/كأخوات، وإنما الألف والتاء عوض من المحذوف، كما كانت الواو والنون في بنون عوضًا من المحذوف، استغنى ببنون عن ابنون، فاستغنوا ببنات عن بنوات. وقوله: وهناٌت هذا جمع على لفظه، حذفت منه التاء، ولم يرد المحذوف. ونظير ذلك لثاث، قال الشاعر: وقال لي النفس: أشعب الصدع واهتبل ... لإحدى الهنات المعضلات اهتبالها قوله: وهنواٌت رد المحذوف فيه كما ردوه في سنة حيث قالوا سنوات، قال الشاعر: أرى ابن نزاٍر قد جفاني، وملني ... على هنواٍت كلها متتابع وقوله: وذواٌت جمعوا ذاتًا على ذوات كما جمعوا قناة على قنوات.

ولام "ذات"محذوفة، وهي ياء على رأي س، فلما جمعت حذفت التاء، ورجعت عين الكلمة إلي أصلها إذ كانت واوًا قد انقلبت ألفًا فقيل: ذوات، ولو ردت لام الكلمة لقيل في الجمع: ذويات أو ذايات. وقوله: وأمهاٌت في الأم أكثر من أمات كان قياس"أم"أن لا يجمع بالألف والتاء لأنه من الأجناس المؤنثة بغير علامة كعنز وعناٍق، لكنهم جمعوا بهما كما جمعوا سماء على سموات، وأرضًا على أرضات، وقد جمع الشاعر بين أمهات وأمات في الأناس في قوله: إذا الأمهات قبحن الوجوه ... فرجت الظلام بأماتكا وقوله في الأناسي: حماة الضيم آباٌء كراٌم ... وأماتٌ، فأنجد واستنارا وقوله: أولئك أماتي رفعن منابتي ... إلي نافع في ذروة المجد صاعد وقوله:

قوال معروف وفعاله ... نحار أمات الرباع الرتاع وقوله: وغيرها بالعكس أي: وغير الأم من الناس بالعكس، أي يكثر فيه أمات، ويقل أمهات، فمن ورود أمات قوله: وأمات أطلاٍء صغاٍر كأنها ... دمالج يجلوها لتنفق بائع ومن ورود أمهات قوله: [وهاٍم تزل الشمس عن أمهاته ... صلاب، وألٍح في المثاني تقعقع] وربما قالوا في أم أمهة، قال قصي بن كلاب:

إني لدى الحرب رخٌي لببي ... عند تناديهم بهاٍل وهبي معتزم الضرب عاٍل نسبي ... أمهتي خندف، والياس أبي والخلاف في هذا الهاء أهل أصلية أم زائدة مذكور في علم التصريف في حروف الزيادة. وقال/ الفراء: العرب تقول: هذه أم، وهذه أمٌة، ويجمعونها أمات وأمهات، وإنما يقول أمهات الذين يقولون أمٌة، وأمات الذين يقولون أم. وقال: أنشدني بعضهم: تقيلتها من أمٍة لك طالما ... تنوزغ في الأسواٍق منها خمارها فنقل الفراء هذا مخالٌف لكلام المصنف. ص: والمؤنث بهاٍء، أو مجردًا ثلاثيًا صحيح العين ساكنه غير مضعف ولا صفة، تتبع عينه فاءه في الحركة مطلقًا، وتفتح وتسكن بعد الضمة والكسرة، وتمنع الضمة قبل الياء، والكسرة قبل الواو باتفاق، وقبل الياء بخلف، ومطلقًا عند الفراء فيما لم يسمع. وشذ جروات. والتزم فعلات في لجبة، وغلة ربعة، لقول بعضهم لجبة وربعة. ولا يقاس على ما ندر من كهلاٍت، خلافًا لقطرب. ويسوغ في لجبٍة القياس وفاقًا لأبي العباس، ولا يقال فعلات اختيارًا فيما استحق فعلا إلا لاعتلال اللام أو شبه الصفة. وتفتح هذيل عين جوزان وبيضان ونحوهما. واتفق على عيرات شذوذًأ.

ش: مثال المؤنث بالهاء جفنة وغرفة وسدرة، والمجرد منها دعد وجمل وهند. واحترز ب"صحيح العين" من معتلها، فإنها إذا كانت معتلة فإما أن يكون ما قبل حرف العلة مناسبًا في الحركة لحرف العلة أو مخالفًا: إن كان موافقًا نحو: تارة ودولة وديمة بقي حرف العلة على حاله، فتقول: تارات ودولات وديمات. وكذلك المجرد نحو: نار ونور وريم مسمى بها. على هذا نصوص الناس. ووهم ابن الخباز، فذكر أن ما كان كسورة لا يضم استثقالًا، بل يسكن أو يفتح. وذكره الفتح في مثل سورة وهم كما ذكرنا. وفي"المصباح" "وقد قيل: إن هذيلًا يقولون ديمات بالفتح في جميع هذا الباب، والعرب كلهم يقولون عيرات- جمع عير- بالفتح"انتهى. وإن كان مخالفًا نحو: بيضة وجوزة فسيأتي حكمه إن شاء الله. واحترز بقوله: "ساكنه"من متحرك العين نحو: شجرة ونبقة وسمرة. واحترز بقوله: "غير مضاعف"من جنة وجنة وجنة. واحترز بقوله: "ولا صفًة"من نحو: ضخمة وجلفة وحلوة من الصفات، فليس فيها إلا التسكين.

وقوله: مطلقًا فتقول: جفنات ودعدات وسدرات وهندات وغرفات وجملات. ويعني بالإطلاق أن تكون الحركة فتحًة أو كسرًة أو ضمًة كما مثلنا. وقوله: وتسكن بعد الضمة نحو: غرفات. والكسرة نحو: سدرات. فأما إتباع الضمة في مقل غرفات فهي لغي أهل الحجاز وبني أسد. وأما التسكين فيه فهي لغة بني تميم وناس من قيس. وقال الأخفش: ومن العرب من يسكن، فيقول: ركبات وكسرات. وأما الفتح فذكر أصحابنا أنها لغة. وكذا قال الأخفش. قال: "وما كان من هذا أوله مضمومًا أو مكسورًا فإن لغًة للعرب يفتحون ثانيه أبدًا، فيقولون: كسران وظلمات"انتهى. وقد روي قول الشاعر: /ولما رأونا باديًا ركباتنا ... على موطٍن لا نخلط الجد بالهزل بالضم والفتح. وزعم قوم أن الفتح في نحو ظلمات إنما هو على أن ظلمات جمع ظلم الذي هو جمع ظلمة، فظلمات على هذا جمع جمٍع.

والعدول إلى الفتح تخفيفًا أسهل من ادعاء الجمع؛ لأن العدول إليه قد جاء في نحو: كسرات جمع كسرة جوازًا، وإليه في نحو فعلة وجوبًا، وفعلة وفعلة وفعلة أخوات، وجمع الجمع لا يصار إليه إلا بدليل قاطع لأنه لا ينقاس. ورد السيرافي مذهب هؤلاء بقولهم: ثلاث غرفات بالفتح، كما قالوا: ثلاث غرفات بالضم. وفي المصباح: والضم هو الأصل عند النحويين لأنه إتباع لحركة الفاء كما اتفق في المفتوح والمكسور، والتسكين عندهم للتخفيف، وكذا الفتحة عندهم، عدلوا عن الضمة إليها تخفيفًا. قال ابن جني: "وهذا أدل دليل على خفة الفتحة أنهم يفرون إليها من الضمة كما يفرون إلي السكون". وعندي أن الفتح إتباع لما بعدها، وأن التسكين تسليٌم للمجموع وإبقاء العين على حدها. وقال س: "ومن العرب من يدع العين ساكنًة". فهذا دليل على أنه سكون الأصل وأن الفتح والضم عارضان. وأبو علي والجماعة يرون أن التسكين تخفيٌف عن الضم. واستدل أبو علي في "الحجة"على أنه تخفيف، وليس على الأصل، أنه لم يجيء السكون على المفتوح في الأصل إلا نادرًا في الشعر، فلا ينبغي أن يحمل عليه الشائع الكثير. ولا يلزم هذا، بل الفرق بين الفتحتين والضمتين بيٌن، وكذلك الكسرتان، وقد يستعملون الفتح فيما خف عليهم، بخلاف ما يثقل عليهم.

انتهى. وقوله: وتمنع الضمة قبل الياء مثال ذلك: كليات في جمع كلية، تسكن العين، وتفتحها، ولا يجوز ضمها إتباعًا لحركة الفاء لأن ذلك يؤدي إلي قلب الياء التي هي لام واوًا لانضمام ما قبلها، فلما كان الإتباع يؤدي إلي ما ذكرناه من التعيير رفضوه. قال س: "ومن قال خطوات بالتثقيل فقياس قوله: أن يقول كلوات، ولكنهم لم يتكلموا بها إلا كليات فرارًا من أن يصلوا إلي ما يستثقلون". وقال في فصل جمع فعلة من الثلاثي: "وذلك كلية وكلى، مدية ومدى، وكرهوا أن يجمعوا بالتاء، فيحركوا العين بالضمة، فتجيء هذه الياء بعد ضمة، فلما ثقل عليهم تركوه، واجتزوا ببناء الأكثر، ومن خفف قال: كليات ومديات"انتهى. قال ابن هشام: ولذلك لا يجمع بالألف والتاء إلا في لغة، ولا يتبع، ولم يسمع بيها كليات بالفتح. ومن يرى أن الفتح عدل به عن الضم قد يقول: لما لم يكن ضٌم لم يكن عدوٌل عنه. وقال ابن جني: "القياس عندي في كليات بالفتح أن لا تقلب الياء واوًا لأن الفتح هنا بمنزلة السكون". وقوله: والكسرة قبل الواو مثاله: رشوات في جمع رشوة، تسكن العين، وتفتحها، /ولا يجوز كسرها إتباعًا لحركة الفاء؛ لأن ذلك يؤذي إلي قلب الواو ياء لتطرفها وانكسار ما قبلها، فرفضوا ذلك لما كان يؤدي إلى هذا

التغيير. وقال ابن جني: تقول رشوات كما تقول كليات لأن الفتحة في نية السكون. وذكر س هنا السكون، ولم يذكر الفتح. قال ابن هشام: وأظنه غير مسموع. وقال أبو العباس في رشوات حين منع الإتباع: "ولكنه يسكن إن شاء، وإن شاء فتح". وكذلك قال في مديات: "وإن شاء فتح". وقوله: باتفاق يعني من النحويين. وقوله: وقبل الياء بخلف مثاله: لحية. في إتباع حركة الحاء لحكرة اللام خلاف بين البصريين: منهم من منع لأنه توالى عنده كسرتان والياء، فكأنها ثلاث كسرات، ومنهم من أجاز. وإليه ذهب الأستاذ أبو الحسن بن عصفور وبعض شيوخنا. قال الأستاذ أبو الحسن: "وتقول في جمع فدية فديات بتسكين العين وفتحها وكسرها" انتهى. وكما جاز في جمع خطوة اللغات الثلاث، ولم يحفلوا باجتماع الضمتين والواو، كذلك لم يحفلوا باجتماع الكسرتين والياء. وقوله: ومطلقًا عند الفراء فيما لم يسمع يعني بقوله: "مطلقًا" سواء أكان من باب رشوة أم من باب فدية أم من باب كسرة أو هند، فلا يجيز رشوات إذ هو متفق على منعه، ولا فديات إذ هو مختلف فهي، ولا كسرات ولا هندات، إلا إن سمع ذلك، فيقصر الجواز على المسموع، ولا يقيس عليه. وحجته في ذلك أن فعلات يتضمن فعلًا، وفعل وزن أهمل إلا

فيما ندر كإبل، وما استثقل فيه الإفراد حتى كاد يكون مهملًا، فيكون استثقاله في الجمع أولى؛ لأن الجمع أثقل من الإفراد. ورد على الفراء بأن فعلًا أخف من فعل، فكان ينبغي أن تكون أمثلته أكثر من أمثلة فعل، لكن الاستعمال بخلاف ذلك، فأي تصرف أدى إلى استعماله فلا ينبغي أن يتجنب إذ كان جبرًا لما فات من كثرة الاستعمال، ويؤيد هذا قلة تسكين فِعل وكثرة تسكين فُعل. وبأن فُعلًا من أبنية الجمع، وفِعل ليس من أمثلته، فهو أحق بالجواز لأنه جمع لا يشبه جمع جمه، بخلاف فُعلات. وبأن فِعلات قد استعملته العرب جمعًا لفعلة كنعمة ونعمات، وقد أشار س إلى أن العرب لم تتجنب استعماله كما لم تتجنب استعمال فُعلات، وقد رجح بعض العرب فِعلات على فُعلات إذ قال في جمع جروة جِروات، ولم يقل أحد مُنيات بضم النون. وقال س: "وإذا سمتها بهند أو جمل، فجمعت بالتاء، فقلت: جُمُلات، ثقلت في قول من ثقل ظلمات، وهِندات، فيمن ثقل في كسرة فقال كِسِرات، ومن العرب من يقول كِسْرات" انتهى. فهذا نص من س على جواز ذلك واطراده. وقال الأخفش: كل ما كان على فُعلة أو فَعلة أو فِعلة، فجمعته بالتاء، فإنك تحرك ثانيه على أوله، تقو في ركبة: ركبات، وتمرة: تمرات، وكسرة: /كسرات. فبدأ بهذه اللغة. ثم قال: ومن العرب من يسكن ثاني

هذا إلا المفتوح، فإنه لا يحسن إلا في الشعر. ثم ذكر لغة من فتح في ظلمة وكسرة. وقوله: وشذ جِرِوات وجه الشذوذ أنه أدى إلى قلب الواو ياء، وقد ذكر اتفاق العرب على امتناع إتباع الكسرة قبل الواو، ولو جرى على قاعدة التصريف لانقلبت الواو ياء، وكان في ذلك تغيير كثير في جمع المؤنث السالم، إذ قد جمع تغيير حركة المفرد وتغيير لامه، فكان يصير شبيهًا بجمع التكسير، فلذلك اتفق على المنع. وقوله: والتزم فعلات في لجبة، وغلب في ربعة أما لجبة فهو صفة، يقال: شاة لجبة -بسكون الجيم وفتح اللام وضمها وكسرها- إذا قل لبنها. وأما ربعة فصفة أيضًا، وهو المعتدل القامة من الرجال والنساء. وإذ كان لجبة وربعة صفتين فقياسهما أن يجمعا بسكون العين، كما تقول في جمع فعلة الصفة، نحو ضخمة وضخمات وصعبة وصعبات وخدلة وخدلات. وقوله: لقول بعضهم لجبة وربعة يعني أنهما لم يجمعا بفتح العين إلا لأنه بعضهم حرك العين في المفرد، فالتزم التحريك في جمع لجبة، وغلب في جمع ربعة. ويحتمل أن يكون هذا من باب الاستغناء بجمع أحدهما عن جمع الآخر، فلا يكون جمعًا للجبة، بل يكون لجبة لم يجمع. قال المصنف في الشرح: "وأكثر النحويين يظنون أن جمع لجبة الساكن الجيم، فيحكمون عليه بالشذوذ لأن فعلة صفة لا تجمع على فَعَلات بل فَعْلات، وحملهم على ذلك عدم اطلاعهم على أن فتح الجيم في الإفراد ثابت، وكذلك اعتقدوا أن ربعات بفتح الباء جمع ربعة بالسكون،

وإنما هو جمع ربعة، ذكر ذلك ابن سيده" انتهى. وقوله: خلافًا لقطرب سمع من كلامهم كهلة وكهلات بفتح الهاء في الجمع، وبالسكون، وهو أشهر، حكاه أبو حاتم، وأجاز ذلك قطرب في جميع الصفات التي على فعلة قياسًا على كهلات، وقياسًا للصفة على الاسم. والصحيح الفرق بينهما. وإنما احتمل الاسم التحريك دون الصفة لأن الاسم أخف من الصفة، فعادل ثقل الصفة ثقل الحركة. وقوله: ويسوغ في لجبة القياس وفاقًا لأبي العباس ظاهر كلامه في هذا وفي قوله: "والتزم فعلات في لجبة" أنه لم يسمع من العرب في لجبة الساكنة الجيم إلا لجبات، وقد بينا أنه يحتمل أن يكون من باب الاستغناء بجمع إحدى اللغتين عن جمع الأخرى. والذي ذكره أصحابنا أن ربعة ولجبة يجوز فيهما - أي في جمعهما- فتح العين وتسكينها، قالوا: "فمن سكنها فلأنهما صفتان، ومن فتحها فلأنهما قد استعملتا استعمال الأسماء، فوليتا العوامل، فتقول: جاءني ربعة، وحلبت لجبة، فقالوا من أجل ذلك: ربعات ولجبات كجفنات". وقوله: ولا يقال فَعْلات اختيارًا فيما استحق فَعَلات يعني أنه يجوز في

ضرورة الشعر، /نحو قوله: أبت ذكر عودن أحناء قلبه خفوقًا ورفضات الهوى في المفاصل وقوله: وحملت زفرات الضحى، فأطقتها وما لي بزفرات العشى يدان وقوله: فتستريح النفس من زفراتها وقوله: ولكن نظرات بعين مريضة أولاك اللواتي قد مثلن بنا مثلا وقول لبيد: رحلن لشقة ونصبن نصبًا لوغرات الهواجر والسموم وأنشد ابن الأعرابي:

يا حاجب اجتنبن الشام إن بها حمى ذعافًا وحصباتٍ وطاعونا وأنشد الزجاجي في نوادره لأعرابية: فاجتث خيرهما من جنب صاحبه دهر يكر بفرحات وترحات وقال آخر: ................................ فراع، ودعوات الحبيب تروع وقوله: لاعتلال لامه أو شبه الصفة أصحابنا لا يستثنون من فعلة الاسم شيئًا، بل تفتح العين في الجمع سواء أكان اسمًا صحيح اللام أم معتله، مصدرًا أم غيره، ولذلك أنشدوا ما ذكرناه على الشذوذ. وحكي أبو الفتح فيما حكاه عنه المصنف في الشرح: أن قومًا من العرب في المعتل اللام يسكنون العين في الجمع اختيارًا، فيقولون: ظَبْيات وشَرْيات. ولم يمثل المصنف إلا بما اعتلت لامه بالياء، ولم يذكر مثل غلوة ونبوة. قال: "واللغة المشهورة ظَبَيات وشَرَيات" انتهى. فإن صح هذا النقل قبل، والمحفوظ التحريك، كما قال الشاعر:

بالله يا ظبيات القاع قلن لنا ليلاي منكن أم ليلى من البشر وإنما تجنبت التحريك لما يؤدي إليه القياس من قلب الياء والواو ألفًا لتحركهما وانفتاح ما قبلهما، كما تجنبوا أن يقولوا في النسب إلى طويلة طولي، فكان يكثر التغيير. قال المصنف - ولخص من شرحه -: "وربما عدل عن الفتح إلى السكون لشبه الصفة كقولهم: أهل وأهلات، وأهلات بالفتح أشهر، وحكي الفراء أهلة بمعنى أهل، فالأولى بأهلات أن يكون جمعًا له لا لأهل. وقد يسكن فعلات المصدر كحسرات تشبيهًا بالصفة/ لأنه قد يوصف به. قال أبو الفتح: "ظبيات أسهل من رفضات لاعتدال اللام، ورفضات أسهل من تمرات لأن المصدر يشبه الصفة". فإذا قيل: "امرأة كلبة" ففي جمعه الفتح اعتبارًا بالأصل، والتسكين اعتبارًا بالعارض. ولا نعدل عن فَعَلات إلى فَعْلات فيما سوى ذلك إلا ضرورة، وهو من أسهل الضرورة". وقوله: وتفتح هذيل عين جوزات وبيضات هذيل هذه التي روي عنها إجراء المعتل مجرى الصحيح في الأسماء هي هذيل بن مدركة. وجرت

في ذلك على القياس. وإنما سكنتها العرب غيرهم لأن تحريك الياء بعد فتحة موجب لإبدالها ألفًا، ولم تلتفت إلى هذا هذيل لأنه تحريك عارض للإتباع كحركة جيل وحوب وضو في جيئل وحوأب وضوء. فإن كانت فعلة المعتلة العين صفة نحو: جونة وغيلة جرت مع سائر العرب على القياس في تسكين العين، فقالوا: غيلات وجونات. وقال شاعر هذيل: أخو بيضات رائح متأوب رفيق بمسح المنكبين سبوح وقال ابن خالويه في "شواذ القراءات" له: {ثَلاثُ عَوَرَاتٍ} ابن أبي إسحاق". قال ابن خالويه: "وسمعت ابن الأنباري يقول: قرأ به الأعمش، وسمعت ابن مجاهد يقول: هو لحن. وإنما جعله لحنًا وخطأ من قبل الرواية، وإلا فله مذهب في العربية، بنو تميم يقولون: رَوَضات وجَوَزات وعَوَرات، وسائر العرب بالإسكان، وهو الاختيار". وقوله: واتفق على عيرات شذوذًا عيرات جمع عير، وهو شاذ عن القياس من جهة أنه إذا جمع بالألف والتاء فقياسه أن تبقى الياء ساكنة،

ولا تفتح كما لا تفتح في ديمات؛ إذ الفتح في مثل هذا الجمع إنما يكون للإتباع كجفنات، أو للتخفيف من كسر كهندات، وليس في عيرات إتباع ولا تخفيف؛ لأن السكون أخف من الحركة. والعير: الإبل التي عليها الأحمال، سميت بذلك لأنها تعير، أي: تذهب وتجيء. وقيل: هي قافلة الحمير، ثم كثر حتى قيل لكل قافلة عير، كأنها جمع عير، وأصلها فُعل كسَقف وسُقف، فعل به ما فعل ببيض وعيد. والعير مؤنث، وقالوا في الجمع عيرات، فشذوا في جمعه بالألف والتاء، وفي فتح يائه، وقال الشاعر: غشيت ديار الحي بالبكرات فعارمة فبرقة العيرات قال الأعلم: العيرات هنا: مواضع الأعيار، وهي الحمير. وقال الفارسي: عند ابن السراج: عير وعيرات. واضطراب أبو العباس في عَيَرات بفتح العين، فقال: هو جمع عَيْر، وفسره بالحمار. وهو لا يصلح في هذا الموضع لأن س إنما قال: "وقد يجمعون المؤنث الذي ليس فيه هاء التأنيث بالتاء". فإنما يجب أن يذكر شيئًا مؤنثًا يجمع بالألف والتاء/ لا هاء فيه. وأبو العباس قد جعله مذكرًا. وقال أبو إسحاق: إنما هو عَيَرات، وهو جمع عَيْر الذي في الكتف أو القدم؛ لأن عير الكتف أو القدم مؤنثان. قال: قال يونس: كل شيئين منفصلين في الإنسان مؤنثان، كرجلين وعضدين. والصحيح أنها جمع عِيْر،

وهي الإبل، وهي مؤنثة، ولو كانت الرواية بفتح العين لكان القول ما قاله أبو إسحاق.

-[ص: فصل يتم في التثنية من المحذوف اللام ما يتم في الإضافة لا غير، وربما قيل: أبان وأخان ويديان ودميان ودموان وفميان وفموان. وقالوا في ذات: ذاتا على اللفظ، وذواتا على الأصل. ويثنى اسم الجمع والمكسر بغير زنة منتهاه.]- ش: المحذوف اللام جملة أسماء ذكرت في علم التصريف، وهي تنقسم قسمين: قسم منها إذا أضفتها يعود ذلك المحذوف، وقسم منها لا يعود. فالأول هو الاسم المنقوص بقياس، وأب وأخ وحم في أكثر اللغات، وهن في بعض اللغات، تقول: هذا قاضيك وأخوك وأبوك وهنوك وحموك، فإذا ثنيت رددت لام الكلمة، فقلت: قاضيان وأخوان وأبوان وحموان وهنوان. وإذا ثنيت غير ما ذكر من المنقوص لم ترد المحذوف، تقول: حران وسنتان؛ لأنك تقول في الإضافة حرك وسنتك. وقوله: وربما قيل أبان وأخان جاء هذا على لغة من التزم النقض في الإفراد وفي الإضافة، ومن ذلك قول الشاعر. إذا كنت تهوى الحمد والمجد مولعاً ... بأفعال ذي غي، فلست براشد ولست، وأن أعيا أباك مجادة ... إذا لم ترم ما أسلفاه بماجد

هكذا أنشد المصنف هذا البيت مستدلا على أن "أباك" تثنية أب. وحمله على ذلك تثنية الضمير في قوله: "ما أسلفاه"، فتقديره عنده: وإن أعيا أبان لك، فسقطت النون للإضافة. ويحتمل أن يكون "أباك" مفرداً، ويكون مقصوراً، إذ في الأب لغة القصر، وقد تقدم ذكر ذلك، ويكون الضمير في "أسلفاه" عائداً على الأب والأم، ويكون "الأم" معطوفاً على الأب، وحذف لدلالة المعنى عليه. ويحسن حذف هذا المعطوف أن ذكر الأب هو الذي يفتدى به في المجد، وأن في ذكر الأم امتهاناً للاسم. وقال الفراء: من قال: هذا أبك قال: أبان. وقوله: ويديان ودميان ودموان وفميان وفموان تقدم أن في اليد والدم والفم القصر لغة، وتقدم الكلام على الشواهد على ذلك، فأغنى عن إعادته. وقوله: ذاتا على اللفظ يعني أنه لم يرد المحذوف، والمحذوف هو لام الكلمة، والألف منقلبة عن الواو التي هي عين الكلمة، وهي التي قدر الإعراب/ فيها في "ذو"، وتحركت فتثنيته، فقالوا: ذوا مال، فحرف الإعراب في "ذو" هو عين الكلمة، إذ حذفت لامها ونقل أبو القاسم خلف بن فرتون الشنتريني خلافاً عن نحاة بلادنا،

فذكر أن حذف اللام هو مذهب الشيوخ بغرب الأندلس، وأن مذهب نحاة أهل قرطبة أن المحذوف هو عين الكلمة. والذي يظهر أن المحذوف هو اللام؛ لأن حذف اللام أكثر من حذف العين. ومما جاء من تثنية ذات على اللفظ قول الراجز: يا دار سلمى بين ذاتي العوج والتثنية على اللفظ هي القياس لأن الأصل أن لا يغير المفرد لا في المذكر ولا في المؤنث، فكما لا يرد"ذو" حالة الثنية إلى أصله، فكذلك كان ينبغي في "ذات"، وكما لم يردوا في جمع "ذات" لم يردوا في تثنيته؛ ألا ترى أنهم قالوا: "ذوات"، ولو ردوا لقالوا: "ذويات". وقوله: وذواتا على الأصل هذا هو المستعمل الكثير، كما قال تعالى: {ذَوَاتَا أَفْنَانٍ} {ذَوَاتَى أُكُلٍ}، فالألف في "ذواتا" هي لام الكلمة انقلبت عن الياء. وقوله: ويثنى اسم الجمع والمكسر بغير زنة منتهاه قال المصنف في

شرحه ما نصه: "مقتضى الدليل أن لا يثنى ما دل على جمع؛ لأن الجمع يتضمن التثنية، إلا أن الحاجة داعية إلى عطف جمع، كما كانت داعية إلى عطف واحد، فإذا اتفق لفظاً جمعين مقصود عطف أحدهما على الآخر استغني فيهما بالتثنية عن العطف، كما استغني بها عن عطف الواحد على الواحد، ما لم يمنع من ذلك عدم شبه الواحد، كما منع في نحو: مساجد ومصابيح. وفي المثنى والمجموع على حده مانع آخر، وهو استلزام تثنيتهما اجتماع إعرابيين في كلمة واحدة، ولأجل سلامة نحو: مساجد ومصابيح من هذا المانع الآخر جاز أن يجمع جمع تصحيح، كقولهم في أيا من: أيامنون، وفي صواحب: صواحبات، وامتنع ذلك في المثنى والمجموع على حده. والمسوغ لتثنية الجمع مسوغ لتكسيره، والمانع من تثنيته مانع من تكسيره، ولما كان شبه الواحد شرطاً في صحة ذلك كان ما هو أشبه بالواحد أولى به، فلذلك كانت تثنية اسم الجمع أكثر من تثنية الجمع، كقوله تعالى {قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا}، وكقوله {يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ}، وكقول النبي عليه السلام: "مثل المنافق كمثل الشاة العائرة بين الغنمين" انتهى ما شرح به المصنف. وظاهر كلامه في الفص والشرح قياس جواز تثنية اسم الجمع وجمع التكسير ما لم يكن لفظ الجمع الذي لا نظير له في الآحاد كمصابيح ودراهم،

فإنه لا يجوز تثنيته. وظاهر كلامه في الشرح أن هذا الجمع يجوز أن يجمع جمع تصحيح بالواو والنون فيمن يعقل من المذكر، وبالألف/ والتاء في المؤنث. وهذا الذي ذهب إليه مخالف لما عليه الناس من اقتباس ذلك، بل نصوا على أن تثنية اسم الجمع وجمع التكسير مسموعة لا مقايسة، فإن اضطر شاعر إلى ذلك مما لم يسمع فيه التثنية جاز له ذلك في الضرورة، وقد تقدم لنا الكلام على تثنية اسم الجمع وجمع التكسير أول باب التثنية. وأما جمع الجمع فقد تكلمنا عليه عند كلامه على ذلك في آخر "فصل في باب أمثلة الجمع" من هذا الكتاب. والذي نختاره وتنطق به كتب أكثر النحاة أن جمع الجمع لا ينقاس، سواء أجمع جمع تصحيح أم جمع تكسير لقلة أو كثرة، ويوقف فيه مع المسموع، وكل ما ورد من ذلك نادر، نص على منع القياس فيه س والحزمي والفراء وغيرهم من المتقدمين والمتأخرين، فمختار المصنف غير مختار. ص: ويختار في المضافين لفظاً أو معنى إلى متضمنيهما لفظ الإفراد على لفظ التثنية، ولفظ الجمع على لفظ الإفراد، فإن فرق متضمناهما اختير الإفراد. وربما جمع المنفصلان إن أمن اللبس، ويقاس عليه وفاقاً للفراء. ومطابقة ما لهذا الجمع لمعناه أو لفظه جائزة.

ش: الأصل في كلام العرب دلالة كل لفظ على ما وضع له، فيدل المفرد على المفرد، والمثنى على اثنين، والمجموع على جمع، لكنه قد يخرج هذا عن الأصل، وهو على قسمين: مقياس، ومسموع، ويتبين المقياس والمسموع في شرحنا لكلام المصنف. فمثال اختيار لفظ الإفراد على لفظ التثنية في المضافين إلى ما تضمنهما لفظاً أن تقول: قطعت رأس الكبشين، فرأس - عنده - مختار على رأسي. ومثال ذلك معنى: الكبشان قطعت منهما الرأس، فالرأس مختار على الرأسين، والتقدير: قطعت منهما رأسهما أو رأسيهما. ومثال اختيار لفظ الجمع على لفظ الإفراد: قطعت رؤوس الكبشين، والكبشان قطعت منهما الرؤوس، فالجمع هنا مختار على الإفراد، وإذا كان مختاراً على الإفراد، وقد قدم أن الإفراد مختار على التثنية، أنتج ذلك أن الجمع مختار على التثنية؛ لأن المختار على شيء قد اختير عليه شيء مختار على ذلك الذي اختير عليه. ومثل المصنف وغيره الجمع المراد به التثنية إلى مضافين لفظاً بقوله: {فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا}. ومثل ما أضيف معنى إلى ما ذكر من هذا الجمع المراد به التثنية بقول الشاعر: رأيت ابني البكري في حومة الوغى ... كفاغري الأفواه عند عرين

أي: كأسدين فاغرين أفواههما عند عرينهما وتلخص من كلام المصنف في الفَصِّ وفي الشرح أنه يختار بالشروط المذكورة الجمع ثم الإفراد ثم التثنية. وعلة ترجيح الجمع عند البصريين على ما سواه أن المضاف والمضاف إليه كشيء واحد، إذ بينهما / اتصال من جهة المعنى، و [لما] كان لفظ الجمع قد يعبر به عن الاثنين كرهوا هنا تثنيتين، فاختاروا لفظ الجمع مع فهم المعنى، ولذلك شرط أن لا يكون لكل واحد من المضاف إليهما إلا شيء واحد؛ لأنه إذا كان له أكثر التبس، لو قلت: قطعت آذان الزيدين، تريد أذنيهما، لم يجز لأجل الالتباس، فأما قوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} فالمراد أيمانهما، وكذلك قرأ ابن مسعود، إذ المشروع في القطع أولاً إنما هو

اليمين، ولأن الأيدي التي يبطشن بها هي الأيمان. ورغم الفراء أن علة استعمال الجمع مكان التثنية في هذا هي أن الأعضاء في البدن أكثرهم اثنان كالعينين والحاجبين وغير ذلك، فإذا كان في البدن منه واحد أقيم مقام الاثنين، فجمع لذلك، لأنه كأنه مع نظيره أربعة. قال أبو سعيد: "ويقوي قوله أن الدية فيما كان في البدن منه واحد كاملة، وفي أحد اثنين نصفها". ويلزم الفراء على مذهبه أن يخبر عن الواحد إخبار الاثنين. قال المصنف في الشرح: "وكان الإفراد أولى من التثنية لأنه أخف منها، والمراد به حاصل، إذ لا يذهب وهم في نحو أكلت رأس الكبشين إلى أن معنى الإفراد مقصود، وجاء لفظ الإفراد في الكلام الفصيح دون ضرورة، ومنه الحديث في وصف وضوء النبي صلى الله عليه وسلم: "ومسح أذنيه ظاهرهما وباطنهما"، ولم يجيء لفظ التثنية إلا في شعر، كقوله:

فتخالسا نفسيهما بنوافذ ... كنوافذ العبط التي لا ترقع أو في كلام نادر كقول س: "وزعم يونس أنهم يقولون: ضربت رأسيهما، وزعم أنه سمع ذلك من رؤبة أيضاً" انتهى. وهذا الذي ذهب إليه المصنف من أن الإفراد أولى من التثنية في هذه المسألة هو خلاف ما ذهب إليه أصحابنا، ذهبوا إلى أن الأفصح الجمع ثم التثنية. وأما الإفراد فقال شيخنا أبو الحسن بن الضائع: "فأما لفظ المفرد فلم يأت إلا في ضرورة أو نادر كلام، كقوله: كأنه وجه تركيين قد غضبا ... مستهدف لطعان غير تذبيب وعلى الإفراد قراءة من قرأ: {فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا} وقال الأستاذ أبو الحسن بن عصفور، وقد ذكر المقياس من وضع

الجمع موضع التثنية، نحو: قطعت رؤوس الكبشين، فقال: "هذا هو المختار، ومن العرب من يخرج اللفظ على أصله من التثنية، فيقول: قطعت رأسي الكبشين، وذلك قليل، قال الفرزدق: بما في فؤادينا من الهم والهوى ... فيبرأ منهاض الفؤاد المشعف وقال آخر: نذود بذكر الله عنا من السدا ... إذا كان قلبانا بنا يجفان وقد جمع الشاعر بين اللغتين، فقال: ظهراهما مثل ظهور الترسين ومن العرب من يضع المفرد موضع الاثنين. ووجه ذلك أنه لما أمن اللبس، وكره الجمع بين تثنيتن فيما هو كالكلمة الواحدة، صرف لفظ التثنية الأولى إلى لفظ المفرد لأنه أخف من الجمع، وذلك قليل جداً لا ينبغي أن يقاس عليه، ومنه قوله:

حمامة بطن الواديين ترنمي ... سقاك من الغر الغوادي مطيرها أراد بطني الواديين فأفرد" انتهى. وقال الأستاذ أبو الحسن بن عصفور أيضاً: " وأما وضع المفرد موضع التثنية فقوله: كأنه وجه تركيين قد غضبا ... ........................ وهو موقوف على السماع" انتهى. وقال أيضا في رده على الفراء في تعليله السابق لوضع الجمع موضع التثنية في هذه لمسألة: وهذا يعني قول الفراء - فاسدُ إذ لو كان كذلك الواجب أن ينزل العضو وحده منزلة اثنين، فيقال: قطعت ى رأس الكبشين، وذلك غير جائز. وقد عقد الأخفش بابًا في كتابه " النسخة الوسطى" فذكر الجمع، ومثل بقوله: ما أحسن وجوههما، وبغير ذلك. ثم قال: وقد يجوز هذا أن يكون اثنين، وأنشد: بما في فؤادينا ....... ... ...................... و: ظهراهما مثل ظهور الترسين و:

فتخالسا نفسيهما .......... ... .................... ولم يذكر الإفراد، ولا تعرض له، فدل ذلك على أنه لا يجوز عنده وكذا فعل س. وقال ابن هشام: "وقد أجاز الكوفيون العدول بهذا إلى لفظ المفرد لأنه الأصل، لأن ذلك عندهم هو لاستقباح الخروج من تثنية إلى تثنية، وأنشدوا: كأنه وجه تركيين قد غضبا ... .................... و: حمامة بطن الواديين ترنمي ... ..................... فأجازوا: ضربت رأسا الزيدين، وجدعت أنف العمرين، وما أحسن وجه المحمدين. والبصريون يحملون زينك البيتين على الضرورة ولم يقيسوا عليهما. وقد وافقهم بعض البصريين، ومنهم السيرافي قال في شرح الكتاب: " الوجه والأكثر في كلام العرب جمعه، ويجوز تثنيته وإفراده" وعلله بأنه يكتفي بإضافته للمثنى، ويعلم بذلك أنه مثنى وبأن العرب تقول: عيني لا تنام، تريد: عيناي" انتهى. وقال في البسيط: وقال الفراء: " يجوز في الكلام أن تقول: ائتني برأس شاتين، وبرأسي شاه. فعلى الأول تريد الرأس من كل شاه، وعلى الثاني تريد رأسي هذا الجنس". وأنشد: كأنه وجه تركيين قد غضبا ... ....................

وقرأ الحسن: " {فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا} فهذا نص عن البصريين على أن وضع المفرد في هذه المسألة لا ينقاس. وأما دعوى المصنف أن لفظ الإفراد جاء في الكلام الفصيح واستدلاله بما ورد من قوله: " ظاهرهما وباطنهما" فله طريقة/ في الاستدلال بما ورد في الحديث وقد تكلمنا معه في هذا الاستدلال، وأمعنا معه في الكلام ذلك في باب الجوازم في قوله: " فصل: لأداة الشرط صدر الكلام" فيطالع هناك. وإذا كان الأصل التثنية لكن عدل إلى الجمع كراهة اجتماع تثنيتين فيما هو كالكلمة الواحدة. ولاشتراك الجمع والتثنية في معنى الاجتماع، فكيف يكون المفرد الذي لم يشارك التثنية في معنى الاجتماع أولى من التثنية التي دلالتها على ما وضعت عليه هو بجهة الحقيقة، ودلالة المفرد على التثنية هو بجهة المجاز؟ بل كان القياس يقتضي أن لا يدل على التثنية إلا باللفظ الذي وضع لها، ولكن لما عدل إلى المجاز لمرجح كان أقرب المجازين إلى التثنية أولى من أبعدهما، ولم يحفظ من مجيء المفرد في هذه المسألة إلا هذه القراءة الشاذة: {فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا}. وقول الشاعر: حمامة بطن الواديين ...... ... .................. وسمع من إقرار التثنية على حالها ما حكاه يونس من قولهم " ضربت رأسيهما" وأنه سمع ذلك من رؤبة وأراد بذلك تقويته لأن رؤبة عندهم فصيح وقول الشاعر: فتخالسا نفسيهما بنوافذ ...............

وقول الآخر: ظهراهما مثل ظهور الترسين وقوله: بما في فؤادينا ...... ... .................... وقوله: ............... ... إذا كان قلبانا ........ وقول الفرزدق: هما نفثا في في من فمويهما ... على النابح العاوي أشد رجام فهذه الجملة من مسموع تقوي أن التثنية أولى من الإفراد هذا مع أن الأصل في هذه المسألة هو التثنية. وزعم بعض المتأخرين أنه لم يجئ على الأصل- يعني على التثنية- إلا مع الإضافة "إلى الضمير التثنية، وإنما كان ذلك لأن ضمير التثنية اسم مفرد في اللفظ ليس بصيغة تثنيته، فكأنه لم يضف إلى تثنية وهو الذي حكي يونس، وبه جاء المسموع من الأبيات فعلى هذا لا يجوز: قطعت رأسي الكبشين. وقوله: فإن فرق متضمناهما اختير الإفراد مثاله قوله تعالى: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ} وفي حديث زيد بن ثابت: " حتى شرح الله له صدري كما شرح له صدر أبي بكر

وعمر" قال المصنف في الشرح: " ولو جيء في مثل هذا بلفظ الجمع أو لفظ التثنية لم يمتنع" انتهى. فذكر أن المختار إذا فرق المتضمنان الإفراد. والذي ذكره بعض أصحابنا أنه لا ينقاس وضع المفرد موضع التثنية مع الإضافة إلى التثنية، وإذا لم ينقس في ذلك فالأحرى أن لا ينقاس مع عدم الإضافة إلى التثنية، إذ موجب اجتماع تثنيتن قد زال بتفريق المتضمنين. وكذلك أيضاً ينبغي أن يكون الجمع في عدم الاقتياس كالمفرد. والذي يقتضيه/ النظر أنه لا ينقاس وضع المفرد ولا الجمع موضع التثنية في هذه المسألة بل تقول: ضربت رأسي زيد وعمرو، فإن جاء في كلامهم الإفراد أو الجمع اقتصر على مورد السماع ولا ينقاس. فأما قوله تعالى: {عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ} فاللسان فيه يحتمل أن لا يراد به الجارحة، إذ نقلوا أن اللسان يذهب به مذهب الرسالة، ومذهب القصيدة من الشعر، ومذهب اللغة، ومذهب

الكلام، فيحتمل هنا أن يراد باللسان الكلام، وأن يراد به الرسالة، وإذا احتمل ذلك لم يكن اللسان جزءا من كل واحد من داود ولا من عيسى عليهما السلام، فلم تكن الآية دليلاً على ما زعم المصنف، رحمه الله. وقوله: وربما جمع المنفصلان إن أمن اللبس المنفصلان هما اللذان ليسا جزأين مما أضيفا إليه كالدرهمين والدينارين والثوبين، فهذا إذا ألبس الجمع لا يجوز أن يوضع موضع التثنية، لأن المتبادر إلى الذهن الجمع، وهو الحقيقة، فلا يجوز أن يحمل على التثنية إذا ألبس فإذا لم يلبس ذلك فهل يقتصر على مورد السماع أو ينقاس ذلك؟ القياس مذهب الفراء واختاره المصنف. والاقتصار على مورد السماع مذهب غيره. فمما ورد قول يونس/ إنهم يقولون: " ضع رحالهما" يريدون اثنين. وقال المصنف: " رأي الفراء أصح لكونه مأمون اللبس مع كثرة وروده في الكلام الفصيح" وذكر ما ورد في الحديث من قوله: "ما أخرجكما من بيوتكما"؟ و" إذا أويتما إلى مضاجعكما" و" تسألانك عن إنفاقهما على

أزواجهما" و" فضرباه بأسيافهما" ومثال مطابقة ما لهذا الجمع لمعناه دون لفظه قول الشاعر: قلوبكما يغشاهما الأمن عادة ... إذا منكما الأبطال يغشاهم الذعر وقول الآخر:

وساقان كعباهما أصمعان ... أعاليهما لكتا بالزيم وقول الآخر: رأوا جبلاً هذا الجبال إذا التقت رؤوس كبيريهن ينطحان أنشد المصنف هذه الثلاثة الأبيات شاهدة على ما ادعاه من مطابقة هذا الجمع لمعناه وليس في الثاني دليل على ذلك لاحتمال أن يكون " أعاليهما" مرفوعاً ب "أصمعان" وثنى على لغة: "أكلوني البراغيث" ويكون"لكتا" الضمير فيه عائد على "ساقان" أو على "كعباهما" لا على "أعاليهما" وكذلك الثالث لا دليل فيه على رأي المصنف، يجوز أن يكون " ينطحان" حالاً من " كبيريهن" لا من "رؤوس" لأن المصنف يجيز أن تأتي الحال من المضاف إليه إذا كان المضاف جزا له كالجزء وجعل من ذلك قوله تعالى: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إِخْوَاناً} فـ (إخواناً) - عنده - حال من ضمير (صدورهم) لأنه أضيف إليه صدور، وهو جزء/ من المضاف إليه فكذلك يكون "ينطحان" حالاً من قوله: "كبيريهن" لأنه أضيف إلى "كبيريهن" "رؤوس" وهو جزء من المضاف إليه، وسيأتي الكلام معه في هذه المسألة في باب الحال إن شاء الله. ونظير " قلوبكما يغشاهما الأمن" قول عنترة: متى ما تلقني فردين ترجف ... روانف أليتيك، وتستطارا ثني"وتستطارا" لأن الروانف في معنى التثنية يريد الرانفتين وهما

طرفا الأليتين. قال المصنف: " وعلى ذلك حمل أبو العباس المبرد قول الشاعر: أقامت على ربعيهما جارتا صفا ... كميتا الأعالي جونتا مصطلاهما فأعاد الضمير المضاف إليه " المصطلي" على " الأعالي" لأنها مثناه في المعنى، وهو توجيه حسن" انتهى. وسيأتي فساد تأويل أبي العباس في هذا البيت، وأنه ليس على ما ذهب إليه في باب الصفة المشبهة باسم الفاعل، إن شاء الله. مثال مطابقة هذا الجمع للفظه دون معناه قول الشاعر: خليلي لا تهلك نفوسكما أسى ... فإن لها فيما به دهيت أسا فقال: لها: دهيت ولو طابق المعنى لقال: لهما و: دهيتا. ص: ويعاقب الإفراد التثنية في كل اثنين لا يغنى أحدهما عن الآخر، وربما تعاقبا مطلقاً وقد يقع افعلا موقع افعل ونحوه وقد تقدر تسمية جزء باسم كل، فيقع الجمع موقع واحده أو مثناه.

ش: مثال معاقبة الإفراد التثنية فيما ذكر أولا قولهم: عيناه حسنة وعينه حسنتان فتارة يعاقب في المسند وتارة في المسند إليه وتارة فيهما. والاثنان اللذان لا يغني أحدهما عن الأخر هما مثل: العينين والأذنين والحاجبين والخفين والنعلين والجوربين، وسواء أكانا جزأين مما أضيفا إليه أم غير جزأين، وسواء أضيفا أم لم يضافا وأنشد المصنف في الشرح ما يدل على هذا الحكم قوله: وكأن في العينين حب قرنفل ... أو سنبلا كحلت به فأنهلت وقول امرئ القيس: لمن زحلوقة زل ... بها العينان تنهل وقول الآخر: سأجزيك خذلاناً بتقطيعي الصوى إليك وخفا زاحف يقطر الدما يريد: كحلتا به فأنهلتا وتنهلان ويقطران فعاقب الإفراد التثنية وأنشد: إذا ذكرت عيني الزمان الذي مضى بصحراء فلج ظلتا تكفان

يريد: عيناي. وأنشد/: ألا أن عينا لم تجد يوم واسط ... عليك بجاري دمعها لجمود فهذا من التعاقب في المنشد إليه والمسند. ومن هذا قول زهير بن أبي سلمى: كأن عيني وقد سال السليل بهم ... وعبرة ما هم لو أنهم أمم غرب على بكرة أو لؤلؤ قلق ... في السلك خان به رباته النظم وقول علقمة: فالعين مني كأن غرب تحط به ... دهماء حاركها بالقتب محزوم وقول الآخر: قد سالم الحيات منه القدما .........................

في رواية من رفع "الحيات"، يريد: القدمين. ومن هذا قولهم "لبست نعلي وخفي"، تريد: نعلي وخفي. وهذا الذي ذهب إليه المصنف من معاقبة المفرد المثنى فيما ذكر يدل على اقتباسه كلامه. والذي ذهب إليه بعض أصحابنا أنه لا ينقاس شيء من هذا البتة، وأن هذا إنما جاء في الشعر، مع أن بعضها يحتمل التأويل، ولا تثبت مثل هذه الأحكام إلا بنص لا يحتمل، أو بنقل ذلك عن مستقرئي علم النحو عن العرب كالخليل وس والكسائي وأنظارهم الذين شافهوا العرب، وأما متأخر جداً قد وقعت له أبيات يسيرة، ولا نسمع منه هذا، مع أن الأصل هو الذي قررناه من كون كل واحد من المفرد والمثنى والمجموع يكون طبق مدلوله، وقد جاءت أبيات وقع فيها المفرد موقع المثنى وموقع الجمع، ومثنى وقع موقع المفرد وموقع الجمع، وجمع وقع موقع المفرد وموقع المثنى. وكل هذا لم يقس النحويون منه شيئاً، بل اقتصروا فيه على مورد السماع إلا ما تقدم من نحو قولهم: قطعت رؤوس الكبشين، وإلا ما وقع فيه الخلاف بين الفراء وغيره. فمما وقع فيه المفرد موقع المثنى قوله: كأنه وجه تركيين قد غضبا ... ............ وتقدم الكلام فيه مع المصنف. وما أنشده الفارسي من قول الشاعر:

ولكن هما ابن الأربعين تتابعت ... أنابيبه مردى حروب على ثغر وحمل على ذلك الفارسي قوله: يداك يد إحداهما النيل كله ... وراحتك الأخرى طعان تغامره يريد: ابنا الأربعين، ويدان: ومما وقع فيه المفرد موقع الجمع قول علقمة: بها جيف الحسرى، فأما عظامها ... فبيض، وأما جلدها فصليب وقول الآخر /: كلوا في بعض بطنكم تعفوا ... فإن زمانكم زمن خميص وقول الآخر: لا تنكروا القتل وقد سبينا ... في حلقكم عظم، وقد شجينا

وهذا عند س من أقبح الضرائر، يريد: جلودها، وبطونكم، وحلوقكم. وحكي الأخفش عن العرب: ديناركم مختلفة، يريد: دنانيركم، وحملوه على الشذوذ. ومما وقع فيه المثنى موقع المفرد قول الشاعر: أأطعمت العراق ورافديه ... فزاريا أحذ يد القميص يريد: ورافده، لأن العراق ليس له إلا رافد واحد. وموقع الجمع قولهم: حنانيك، وأخواته. ومما وقع فيه الجمع موقع المثنى من غير المقياس ما حكي يونس: "ضع رحالهما وغلمانهما" وهم يريدون: رحيلهما، وغلاميهما. وقد حمل قوله تعالى: {إِذْ تَسَوَّرُوا}، و: {إِنَّا مَعَكُم مُّسْتَمِعُونَ} على أنه من هذا الباب لقوله: {إِنَّ هَذَا أَخِي} وقوله: {إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى}

وموقع المفرد قولهم: شابت مفارقه، وقول امرئ القيس: يطير الغلام الخف عن صهواته ... .................. وليس إلا مفرقا واحد وصهوة واحدة. فهذه جملة مسموعة من وضع كل واحد من المفرد والمثنى والمجموع موضع قسيمه، لم يقس النحويون على شيء منها، إذ الأصل ما ذكرناه من استعمال كل واحد موضوعه، ولا يخرج عنه، ولو اقتبس شيء من هذا كله لالتبست الدلالات، ولاختلطت الموضوعات. ومما جاء فيه على الأصل من كون المتلازمين اللذين لا يغنى أحدهما عن الآخر كغيرهما من المثنى قول الشاعر: له أذنان تعرف العتق فيهما ... كسامعتي مذعورة وسط ربرب وقوله: وعينان قال الله: كونا، فكانتا ... فعولان بالألباب ما تفعل الخمر وقوله: وربما تعاقبا مطلقاً هذا يدل على أن الحكم الذي أورده قبل ذلك هو مقياس عنده لقوله في هذا: "وربما"، وهي تدل على التقليل. وقال في الشرح: "المراد بقوله "مطلقاً" وقوع أحدهما موقع الآخر، وإن لم يكونا مما تقدم الكلام عليه كاليدين والخفين، ولا من المزال عن لفظ التثنية لأجل الإضافة. فمن وقوع المفرد موقع المثنى قوله تعالى: {فَاتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ}، وقوله: {عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ}

الشِّمَالِ قَعِيدٌ} وشبيها به قول حسان /: إن شرخ الشباب والشعر الأس ... ود ما لم بعاص كان جنونا ومن وقوع المثنى موقع المفرد قول الشاعر: إذا ما الغلام الأحمق الأم سافني ... بأطراف أنفيه استمر، فأسرعا" انتهى ما ذكره مما استدل به على ما ذكر، ويمكن تأويل جميعه. أما الآية فقد ذكروا أن رسولاً يكون مصدراً بمعنى الرسالة، فإذا كان كذلك كان من باب "الزيدان خصم"، وحيث ثني لم يرد به المصدر. وأما الآية الثانية فتحتمل وجهين: أحدهما: الحذف، أي: عن اليمين قعيد، وعن الشمال قعيد، فحذف "قعيد" لدلالة الثاني عليه. والوجه الثاني: أن يكون "قعيد" مما يخبر به عن المفرد والمثنى والمجموع بلفظ واحد نحو: "صديق".

وأما "إن شرخ الشباب" فأكثر النحويين خرجه على الحذف، أي: إن شرخ الشباب ما لم يعاص كان جنوناً، والشعر الأسود ما لم يعاص كان جنوناً. وأما "سافني بأطراف أنفيه" فإنه عبر عن ثقبي الأنف بقوله: "أنفيه" على سبيل المجاز، ولم يرد الإفراد، ولذلك جمع "بأطراف" لإضافته إلى ما هو مثنى، ويعني به البخشين اللذين للأنف. وما ذكرناه في تأويل هذا البيت أحسن مما حمله عليه المصنف؛ لأنه يلزم في قوله مجازان لا ينقاسان: أحدهما: وضع المثنى موضع المفرد. والآخر: وضع الجمع موضع المفرد، وعلى تأويلنا يلزم مجازان: أحدهما: منقاس، وهو التعبير ب "أطراف" عن طرفين، فيكون من باب "قطعت رؤوس الكبشين". والثاني: التعبير عن البخشين بالأنفين. وقوله: وقد يقع افعلا موقع افعل ونحوه قال المصنف في الشرح: "قد يقع الفعل المسند إلى ضمير واحد مخاطب بلفظ المسند إلى ضمير مخاطبين إذا كان أمراً أو مضارعاً، والقصد بذلك التوكيد والإشعار بإرادة التكرار، ومن ذلك ما روي عن الحجاج: "يا حرسي اضربا عنقه"، ومنه قول الشاعر:

فإن تزجراني يابن عفان أزدجر ... وإن تدعاني أحم عرضاً ممنعا وقال آخر: فقلت لصاحبي: لا تحبسانا ... بنزع أصوله، واجتز شيحا وجعل بعض العلماء من ذلك قوله تعالى: {أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ} انتهى ما ذكره وأنشده غيره: قولا لعمرو بن هند غير متأب ... يا أخنس الأنف، والأضراس كالعدس لأنه لا يتصور أن يكون "غير متأب" حالاً من بعض الاسمين. وهذا الذي ذهب إليه قاله ابن جني، قال في قول امرئ القيس:

قفا نبك ................... ... ..................... "ثنى ضمير الفاعل، وناب ذلك عن تكرير / الفعل". قال: "وهذا مما يشهد لشدة اشتراك الفعل والفاعل؛ ألا ترى أنه لما ثني أحدهما - وهو ضمير الفاعل - ناب عن تكرير الفعل. وإنما ناب عنه لقوة امتزاجهما، فكان أحدهما إذا حضر فقد حضرا جميعاً". قال ابن يسعون: ويمكن أن يؤيد هذا القول بقوله بعد: أحار ترى برقا أريك وميضه .................. وذهب البغداديون إلى نحو مما ذهب إليه المصنف وابن جني من أن ضمير الاثنين يكون للواحد، وأنشدوا:

خليلي قوما في عطالة، وانظرا ... أناراً ترى من نحو بابين أم برقا وقال آخر: أنعمة لكما عندي، فتطلبها ... أم من غرامي إليه نالكم وصب فقال: قوما، و: لكما، وهما للواحد بدليل: ترى، و: تطلبها. وقال أبو عثمان نحواً مما ذكره ابن جني، لكنه أوضحه، فقال: "أصل قفا: قف قف، وفي كل واحد من الفعلين ضمير، فحذف الفعل الواحد، وبقي الفاعل، فثنيته، فقلت: قفا". قال بعض أصحابنا: وهذا فيه نظر، فإن التأكيد يناقضه الحذف؛ ألا ترى أن الأخفش زعم أن الذين يقولون: "جاءني الذي ضربت"، ويحذف الضمير العائد لا يقول: جاءني الذي ضربته، والذي يحذف العائد إذا أكد قال: جاءني الذي ضربته نفسه، ولم يكن له بد من الإتيان بالضمير. وهذا حسن وهذا الذي أجازه ابن جني والبغداديون وأبو عثمان وهذا المصنف فيه هدم للقواعد، وإثبات لأحكام بأشياء محتملة التأويل. أما ما روي عن الحجاج فإنه يحتمل أن يكون وقف على النون الخفيفة، فأبدلها ألفاً، ثم أجرى الوصل مجرى الوقف. وقد حمل قول

امرئ القيس على هذا على تقدير أن لا يكون خطاباً لاثنين وأما قوله: " فإن تزجراني يا بن عفان" فلا يدل النداء لواحد على أن المخاطب واحد، بل يجوز أن يكون الخطاب لاثنين، والنداء لواحد كما يجوز: إن تضربوني- يا زيد- أغضب. وأما " فقلت لصاحبي لا تحبسانا" فيحتمل أن يكون من إبدال نون التأكيد ألفاً في الوقف، وإجراء الوصل مجرى الوقف. ويحتمل قوله: " فإن تزجراني" هذا التأويل أيضاً. وكذلك " قولا لعمرو بن هند" أي: قولن. وقول المصنف في الشرح: " وجعل بعض العلماء " هو المازني، قال أبو جعفر النحاس- وقد ذكر قول إنه من مخاطبة الواحد مخاطبة الاثنين، وذكر قول المازني إنه على التوكيد- قال: " سكون مخاطبة للملكين". ثم قال: " وأكثر من يخلط في هذه الأشياء من ليس بإمام في النحو، وإن كانت له رياسة في الغريب، وإنما ترد هذه الأشياء إلى أهلها" وقوله: فيقع الجمع موقع واحده مثال ذلك: شابت مفارقة/ وأنشد المصنف في الشرح: قال العواذل: ما لجهلك بعدما ... شاب المفارق، واكتسين قتيرا؟ وقال الآخر:

ولقد أروح إلى التجار مرجلا ... مذلاً بمالي لينا أجيادي وقوله: أو مثناه مثاله قول العرب: رجل عظيم المناكب والثنادي، وغليظ الحواجب والوجنات، وعظيمة الأوراك، ورجل شديد المرافق، وجاث على كراسيعه، والكواهل، والغوارب، وقال الشاعر: أشكو إلى مولاي من مولاتي ... تربط بالحبل أكير عاتي وقال آخر: فالعين بعدهم كأن حداقها سملت بشوك فهي عور تدمع يريد: المنكبين والثندوتين والحاجبين والوجنتين والوركين والمرفقين والكرسوعين والكراعين والحدقتين وعوراوين، وقد تقدم لنا أن هذا لا يقاس عليه.

-[ص: فصل يجمع بالألف والتاء قياساً ذو تاء التأنيث مطلقاً وعلم المؤنث مطلقاً وصفة المذكر الذي لا يعقل ومصغره، واسم الجنس المؤنث بالألف إن لم يكن فعلي فعلان أو فعلاء أفعل غير منقولين إلى الاسمية حقيقة أو حكماً، وما سوى ذلك مقصور على السماع.]- ش: ذكر في هذا الفصل ما يجمع بالألف والتاء قياساً، فبدأ أولاً بما فيه تاء التأنيث، وتاء التأنيث تشمل التاء المبدلة هاء في الوقف، وتاء بنت وأخت سمي بهما مذكر أو مؤنث أو لم يسم، فتقول في الجمع: بنات وأخوات. وكذلك: كيت وذيت إذا سميت بهما مذكراً أو مؤنثاً، تقول: كيات وذيات. قال المصنف في الشرح: " وذكرت "مطلقاً" ليدخل في ذلك العلم واسم الجنس والمدلول فيه بالتاء على تأنيث أو مبالغة" انتهى. مثال ذلك: فاطمات وطلحات وسنبلات وبنات ورجال نسابات. وقد أطلق المصنف بقوله: "مطلقاً" ومما فيه تاء التأنيث أسماء لا يجوز جمعها بالألف والتاء، ومن تلك الأسماء شفة وشاة وأمة ومرآة وامرأة وفله مؤنث فل المختص بالنداء، فهذه مؤنثات بالتاء، ولا تجمع بالألف والتاء، فكان ينبغي أن يحترز منها، ولا يقول"مطلقاً" فقد أطلق في مكان التقييد.

وقوله: علم المؤنث مطلقاً قال المصنف في الشرح: " وذكرت مطلقاً بعد علم المؤنث ليتناول العاري من علامة والمتلبس بعلامة كزينب وسلمه وسعدي وعفراء" انتهى. فتقول: زينبات/ وسلمات وسعديات وعفراوات. وقد أطلق أيضا في مكان التقييد، فإن من العلم المؤنث نوعاً لا يجوز أن يجمع بالألف والتاء، وهو ما جعل علماً من الأسماء المؤنثة بالتاء الممتنع من جمعها بالألف والتاء، فلو سميت ب"شاة" لم يجز جمعه بالألف والتاء كما جاز ذلك في طلحة، لأن العرب لم يجمعها قبل النقل إلى العملية. وكذلك المعدول عن فاعلة في لغة من بناه، وذلك نحو: قطام ورقاش وحزام، فهذا علم مؤنث لا يجوز في هذه اللغة أن يجمع بالألف والتاء، فأما على لغة من منعه الصرف فيجوز ذلك، فتقول: قاطمات ورقاشات وكذلك أيضاً لا يجوز تثنيته قطام وشبهها في لغة من بني. وسبب ذلك أن الجمع والتثنية يخرجان هذه إلى الإعراب وتأثرها بالعامل وهو مناقض للبناء. وذكر الأستاذ أبو الحسين بن أبي الربيع شرطين في جمع الاسم المؤنث بلا علامة: أحدهما: أن يكون علماً. والثاني: أن يكون عاقلاً. فعلى هذا لو سميت ناقة بـ"عناق" أو شاة بـ"عقرب" لم يجز جمعه بالألف والتاء لأنه واقع على غير عاقل. ولا أعلم أحداً ذكر هذا الشرط الثاني غيره.

وقوله: وصفة المذكر الذي لا يعقل مثاله: جبال راسيات، وأيام معدودات. وقد أغفل ابن عصفور هذا، فلم يذكر في كتبه أن صفة ما لا يعقل تجمع بالألف والتاء. واحترز بقوله: "صفة المذكر" من صفة المؤنث، نحو: حائض، فلا يقال: حائضات. واحترز بقوله: " الذي لا يعقل" من صفة مذكر يعقل نحو: عالم، فلا يقال: رجال عالمات. وقوله: ومصغره مثاله: دريهمات ودنينيرات جمع دريهم ودنينبر، فإن كان مصغر مؤنث لم يجمع بالألف والتاء، نحو: أرينب وخنصر، لا يقال فيهما: أرينبات ولا خنيصرات. وقوله: واسم الجنس المؤنث بالألف يشمل الاسم نحو: بهمي وبهيمات، وصحراء وصحراوات. والصفة نحو: حلة سيراء، وحلل سيراوات، وامرأة حبلى ونساء حبليات. واحترز بقوله: "بالألف" من أن يكون مؤنثاً بغير علامة، نحو: قدر وشمس وناقة شرح، فلا يقال: قدرات ولا شمسيات ولا نياق سرحات. وقوله: إن لم يكن فعلى فعلان أو فعلاء أفعل مثاله: سكري وحمراء، لا يقال فيهما: سكريات ولا حمراوات، كما لا يجمع مذكرهما بالواو والنون. قال بعض أصحابنا: وإن جاء شيء منه في الكلام فشاذ يحفظ، ولا يقاس عليه. ويقتضي قياس قول الكوفيين في جمع أحمر بالواو والنون أن

يجيزوا جمع مؤنثه بالألف والتاء. قال المصنف في الشرح: " ولا يلزم هذا المنع ما كان من الصفات على فعلاء ولا مذكر على أفعل، نحو قولهم: امرأة عجزاء، وديمة هطلاء، وحلة شوكاء، لأن منع الألف والتاء من نحو حمراء تابع لمنع الواو والنون من أحمر، وذلك مفقود في عجزاء وأخواتها، فلا مانع من/ جمعها بالألف والتاء، على أن الجمع بالألف والتاء مسموع في "خيفاء" وهي الناقة التي خيفت، أي: اتسع جلد ضرعها، وكذا سمع في "ذكاء" وهي الأكمة المنبسطة وكلاهما نظير ما ذكرت من عجزاء وهطلاء وشوكاء في أنهن صفات على فعلاء لا مقابل لها على أفعل، فثبت ما أشرب إليه" انتهى. وقياس ما ذكر أن ذلك يجوز في عذراء وعفلاء ورتقاء لأنه لا مذكر لها، والذي أن يقال: إن ذلك لا يجوز لأن المانع من بناء مذكر لها على وزن أفعل إنما هو كون العرب لم تستعمل ذلك، أو كونه لا مقابل له في الخلقة، لأن الغفل والرتق والعذرية صفات اختص بها المؤنث، وينبغي أن تجري فعلاء من هذا النوع مجرى ما وضع له أفعل، ألا ترى إلى إجراء أفعل للمذكر الذي مؤنث له على فعلاء من هذا النوع مجرى أفعل

الذي له مؤنث على فعلاء، فلم يجمع بالواو والنون، نحو: رجل أكمر، ورجل آدر، ورجل آلي، لا يقال: رجال أكمرون، ولا رجال آدرون، لا نعلم في ذلك خلافاً بين أصحابنا، كما لم يجز أحمرون ولا أصفرون ولا ألوان، فكما امتنع هذا النوع من الجمع بالواو والنون، فكذلك يمتنع مقابلة من المؤنث من الجمع بالألف والتاء. وأما جمعهم خيفاء وداء بالألف والتاء فشاد وإجراء لهما مجرى الأسماء، ألا ترى إلى جريان ذكاء على المذكر في قوله تعالى: {فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكّاً} في قراءة من قرأ: (دكاء) بالمد وكما جاء: " ليس في الخضروات صدقة" أجراها مجرى الأسماء إذ المراد بها البقول. قال أصحابنا: قد يكون فعلاء وصفاً وليس له أفعل ولا يجمع مع ذلك بالألف والتاء نحو: عذراء ولا يقال أعذر وعجزاء ولا يقال: أعجز، ومع ذلك لا تقول: عذراوات ولا عجزاوات.

وقوله: غير منقولين إلى الاسمية حقيقة أو حكماً مثال ما نقل إلى الاسمية حقيقة حمراء وسكري مسمى بهما مؤنث، فتقول في الجمع حمراوات وسكريات. ومثال ما نقل إلى الاسمية حكماً بطحاء، فإنه صفة مقابلة في الأصل لأبطح إلا أنها غلب عليها استعمالها مستغنية عن موصوف، فأشبهت الأسماء، فجمعت جمعها، فقيل: بطحاوات. وفي "منقولين" ضمير يعود على فعلي فعلان وفعلاء أفعل. و" حقيقة أو حكماً" تقسيم إلى نقلهما إلى الاسمية، فيكون كل من فعلى وفعلاء المذكورين قد نقلا حقيقة، ونقلا حكماً أما نقلهما حقيقة فوجد فيهما مسمى بهما مؤنث. وأما نقلهما حكما فوجد في فعلاء، ولا يحفظ في فعلي فعلان أنه عامل معاملة الأسماء ومقابلة في الأصل صفة على وزن فعلان، فإن وجد كان التقسيم صحيحاً وإلا كان قاصراً على فعلاء أفعل دون فعلى فعلان. واستثناء المصنف بقوله: "غير منقولين" هو استثناء منقطع لا متصل، لأنه إذا نقلا إلى الأمسية لم يبقيا مؤنث فعلان ولا مؤنث أفعل، لأن التسمية بهما حجرت عليهما أن يكون لهما مذكر على وزن فعلان وعلى وزن أفعل إنما لهما ذلك حال كونهما وصفين لا علمين وهذا في إدراكه غموض. وقوله: وما سوى ذلك مقصور على السماع الإشارة ب"ذلك" إلى الأنواع الخمسة التي ذكر أنه ينقاس فيها جمعها بالألف والتاء على قرره وحررناه ويعني" وما سوى ذلك" مما جمع بالألف والتاء وقصره على السماع هو أن لا يقاس على شيء منه.

قال المصنف في الشرح: " فيدخل في ذلك نحو: شمس ونفس وأتان وعناق، وامرأة صبور وكف خضيب وجارية حائض ومعطار، فلا يجمع شيء من هذه الأسماء والصفات ونحوها بالألف والتاء إلا إذا سمع، فيعد من الشواذ عن القياس، ولا يلحق به غيره. فمن الشاذ سماء وسموات، وأرض وأرضيات وعرس وعرسات وعير وعيرات، وشمال وشمالات، وخوذ وخوذات، وثيب وثيبات. وأشد من هذا جمع بعض المذكرات الجامدة المجردة كحسام وحسامات، وحمام وحمامات، وسرادق وسرادقات، وكل هذا مقصور على السماع" انتهى ما ذكره، فجعل أشذ مما ذكر جمع بعض المذكرات الجامدة كحسام وحسامات. وهذا شيء اضطرب فيه أصحابنا فمنهم من ذهب إلى أن جمع هذا بالتاء لا يقال إلا حيث سمع، وإلى هذا ذهب الأستاذ أبو الحسن بن عصفور أولاً. وفي البسيط: " القياس المطرد أن لا تجمع أسماء الأجناس المذكرة بالألف والتاء وشذ منها أسماء جمعتها العرب بالألف والتاء بدلاً من تكسيرها وهي حمام وساباط وسرادق وإيوان وهاوون وخيال وخوان وسجل ومكتوب ومقام وأوان، وهي حديده تكون للرائض،

وبوان بكسر الباء وضمها، وهو عمود في الخباء وشعبان ورمضان وشوال ومحروم، ولا يستعمل هذا في غيرها" انتهى. وبعض هذه الأسماء كسر. ومنهم من فصل في ذلك، فقال: إما أن يكون المذكر المكبر جمع جمع تكسير أو لا، وكذلك أيضاً المؤنث المكبر الذي ليس بعلم، ولا فيه علامة تأنيث، أما أن يكون جمع جمع تكسير أو لا، فإن كان النوعان جمعا جمع تكسير فلا يجوز أن يجمعا بالألف والتاء، وذلك نحو: جوالق وأرنب وخنصر، ولا يقال: جوالقات ولا أرنبات ولا خنصرات، لأنهم قالوا: جوالق وأرانب وخناصر. وقد شذ من ذلك بوان وبوانات وعرس وعرسات وضفدع وضفدعات، لأن العرب قد كسرتها، فقالوا: بون وأعراس وضفادع، ولذلك لحن أبو الطيب في قوله: إذا كان بعض الناس سيفاً لدولة ... ففي الناس بوقا لها وطبول فجمع بوقاً على بوقات وقد كسرته العرب فقالوا: أبواق. وإن لم يكونا جميعا جمع/ تكسير جاز أن يجمعا جمع سلامة بالألف والتاء قياساً مطرداً. وإلى هذا ذهب الأستاذ أبو الحسن بن عصفور أخيراً فتقول في: حمام وسجل وسرادق وإسطبل: حمامات وسجلات وسرادقات وإسطبلات. وهذا المذهب هو ظاهر كلام س. وسواء في ذلك مكبر الذي لا يعقل وصفته إذا لم يكسرا، قالوا:

جمل سبحلٌ وجمال سبحلات لأنهم لم يُكسروا سجلًا، وكذلك ربحل وسبطر، تقول: جمال ربحلات وسبطرات. وقد اتضح بهذا أن المجموع بالألف والتاء المنقاس ستة أنواع على ما شرحناه وبيناه، وأن قول المصنف: "وما سوى ذلك مقصورٌ على السماع" ليس مذهب س، بل مذهبه في المكبر من المذكر والمؤنث الذي لم يُكسر اسمًا كان أو صفةً اقتباس جمعه بالألف والتاء، وقد نص س في كتابه على أنه لا يقال جُوالقات ولا فرسنات ولا محلجات لأنها قد كُسرت، فقالوا: جواليق وفراسن ومحالج ومحاليج، وذكر مما لم يُكسر وجُمع بالألف والتاء سرادقات وحمامات وإوانات وسبحلات وربحلات وسبطرات وعيرات، ثم قال س: "وربما جعلوه بالتاء وهو يُكسرونه على بناء الجمع، وذلك قولهم: بُواناتٌ وبُوان للواحد وبونٌ للجمع، كما قالوا: عُرسات وأعراس، وقد قال بعضهم في شمال: شمالات".

باب المعرفة والنكرة

-[ص: باب المعرفة والنكرة الاسم معرفةٌ ونكرةٌ، فالمعرفة: مضمرٌ، وعلمٌ، ومشارٌ به، ومنادى، وموصولٌ، ومضافٌ، وذو أداة.]- ش: لما كان كثير من الأحكام النحوية تُبتنى على معرفة النكرة والمعرفة، وكانا كثيري الدور في أبواب العربية، شرع المصنف في الكلام عليهما، ولم يتعرض لحد شيء منهما، بل حصر المعرفة بالعد، وحد بعض أقسامها، ونحن نذكر شيئًا من الحدود التي ذكرها النحويون، فنبدأ بالنكرة لأنها أسبق من المعرفة، بخلاف ما ذكره المصنف، فإنه في التبويب قدم المعرفة على النكرة، وكذلك في التقسيم، وكلٌ واسعٌ. فنقول: النكرة هي الاسم الموضوع على أن يكون شائعًا في جنسه إن اتفق أن يُوجد له جنسٌ. وقيل: النكرة هي اللفظ الموضوع على معنى، ذلك المعنى لا يمنع من حيث يُتصور أن يُوجد منه أكثر من شخص واحد. وقيل: "النكرة ما عُلق في أول أحواله على الشياع في مدلوله". وقيل: هو الاسم الصالح لكل واحدٍ من جنسه على طريق البدل. وقد تكلم النحويون هنا في النكرات بالنسبة إلى العموم والخصوص، فقالوا: أنكر النكرات شيءٌ ثم مُتحيزٌ ثم جسم ثم نامٍ ثم حيوانٌ ثم ماشٍ ذو رجلين ثم إنسانٌ ثم رجلٌ. فهذه تسعة أشياء يقابل كل واحد

منها ما هو في مرتبته، فشيءٌ ليس له ما هو في مرتبته لأنه أعم النكرات/، ومتحيزٌ في مرتبته غير متحيز، وهو الله تعالى، وجسمٌ في مرتبته هيئةٌ، ونامٍ في مرتبته غير نامٍ كالحجر، وحيوان في مرتبته جمادٌ، وماشٍ في مرتبته سابحٌ وطائرٌ، وذو رجلين في مرتبته غير ذي رجلين وذو أرجل، وإنسانٌ في مرتبته بهيمةٌ، ورجلٌ في مرتبته امرأةٌ. وضابط هذا أن النكرة إذا دخل غيرها تحتها، ولا تدخل تحت غيرها، فهي أنكر النكرات، فإن دخلت تحت غيرها، ودخل غيرها تحتها، فهي بالإضافة إلى ما يدخل تحتها أعم، وبالإضافة إلى ما تدخل تحته أخص. وقال شيخنا الأستاذ أبو الحسن بن الضائع: المعاني المدلول عليها بالألفاظ قد تكون متباينة حتى لا يكون بينها تداخلٌ أصلًا كفرسٍ وأسدٍ وحمارٍ، فهذه لا يُنسب بعضها لبعض بعموم ولا بخصوص، وقد يكون بينها تداخل، ولا تخلو إذ ذاك أن تكون متساوية في العموم والخصوص حتى لا يكون أحد المعنيين بالنظر إلى دلالة اللفظ أعم من الآخر ولا أخص منه، مثل قولك إنسان وضاحك وفرس وصاهل، وتختبر ذلك بأن تدخل كلًا على أحد الاسمين، فتُخبر عنه بالاسم الثاني، ثم تعكس، فتصير الخبر مع كل مبتدأ، وتُخبر عنه بالاسم الآخر، فإذا صدق كل واحد من الكلامين فليس أحد اللفظين بالنظر إلى ذلك المعنى أعم من الآخر، بل هما فيه متساويان، نحو: كل إنسانٍ ضاحكٌ، وكل ضاحكٍ إنسانٌ. أو لا تكون متساوية، بل يكون أحد المعنيين أو المعاني أعم، والآخر أخص. وهذا القسم قسمان: أحدهما: أن يكون أحد المعنيين أو المعاني أعم من وجهٍ وأخص من

وجهٍ كإنسانٍ وأبيض، فتدخل كلًا على كل واحد من الاسمين، وتُخبر عنه بالثاني، فيكذب كلٌ من الكلامين، كقولك: كل إنسانٍ أبيض، فهذا كذبٌ لأن الزنجي إنسانٌ، وليس بأبيض. وكذا: كل أبيض إنسانٌ، فإن كثيرًا من الحيوان أبيض، وليس بإنسانٍ. والقسم الثاني: أن يكون أحد المعنيين بالنظر إلى دلالة اللفظ أعم بالإطلاق، والآخر أخص كذلك، وتختبره بأن تُدخل كلًا على أحد الاسمين، وتُخبر عنه بالثاني، فإذا صدق ذلك فأعلم بأن الخبر ليس بأخص من المُخبر عنه، وهو الذي أدخلت كلًا عليه، ثم اعكس، فصير الداخل عليه كلٌ خبرًا، وصير الخبر مُخبرًا عنه مضافًا إليه كلٌ، فإن كذب فالداخل عليه كلٌ أولًا - وهو المُخبر عنه - أخص من الخبر، والخبر أعم منه بإطلاق، وهذا هو الذي يعني النحويون عنه - أخص من الخبر، والخبر أعم من بإطلاق، وهذا هو الذي يعني النحويون بقولهم: أنكر الأشياء كذا ثم كذا. فتقول: كل جوهرٍ شيءٌ، وهذا صادق لأن الشيء هو الموجود، وكل جوهر موجود، ونعني بالجوهر المُتحيز الذي قد شغل حيزًا ومكانًا، فلو عكست، فقلت: كل شيء جوهر، أي: كل موجود جوهر متحيز، لكان كذبًا لأن الأعراض أشياء موجودة، وليست/ بجواهر متحيزة، بل كان يكون كفرًا لأن الله تعالى موجود، وليس بجوهر، تعالى الله عن ذلك. فمعنى قولهم: "أنكرُ النكرات شيءٌ" يعنون: أنكر النكرات الداخل بعضها تحت بعض المتفاضلة في العموم والخصوص. ولذلك لا يرد عليهم أن يقال: ليس "شيء" أنكر من "موجود". فإن قيل: "معلوم" أنكرُ من "شيء" لأن المعلوم يقع على المعدوم قيل: رب شيءٍ ليس بمعلوم لنا، فلفظة "معلوم" من حيث هي فقط لا بالنظر إلى العالم ليست بأعم من "شيء" على الإطلاق، فلا يرد علينا أن كل شيء معلوم لله تعالى؛ فإن من الأشياء ما هو مجهول عندنا، فيصدق عليه أنه

ليس بمعلوم، فلفظة "معلوم" إضافية، لا ينبغي أن تقرن بما هو موضوع على ذات من حيث هي تلك الذات لا بالنظر إلى غيرها. وأعلم أن النكرة هي الأول، والمعرفة بعدها وطارئة عليها، هذا مذهب س؛ ألا ترى أن غلامًا تدخل عليه أل والإضافة، والمضمر اختصار تكرير المظهر، والمشار ناب مناب المظهر، فـ "هذا" استغني به عن: زيد الحاضر، ولذلك لا يتناول اسم الشخص إلا حاضرًا. ويدل على أنه في موضعه قولهم: يا هذا العاقل، برفع العاقل، ومن حيث اسم الإشارة مبنىٌ كان لا يجوز فيه إلا النصب لأنه ليس له لفظ ضم يحمل عليه، فلولا نيابته مناب ما يظهر فيه لفظ البناء المشبه للإعراب ما جاز الرفع في النعت. وذهب الكوفيون وابن الطراوة إلى أن الأمر ليس علي ما ذهب إليه س، قالوا: لأن من الأسماء ما التعريف فيه قبل التنكير، نحو: مررت بزيد وزيدٍ آخر، فحالة التنكير هنا بعد حالة التعريف. ومنها ما لا يفارقه التعريف أصلًا كالمضمرات. ومنها ما التنكير فيه قبل التعريف كما قال س، فضم الجميع إلى هذا الضرب الواحد غير صحيح. وانفصل عن هذان الأستاذ أبو علي بأن قال: لم يلتفت س هنا في التعريف والتنكير إلا إلى حال الوجود لا ما تخيله الكوفيون وابن الطراوة، وإذا نظر إلى حال الوجود كان التنكير قبل التعريف صحيحًا لأن الأجناس هي الأول ثم الأنواع، ووضعهما على التنكير إذ كان الجنس لا يختلط بالجنس، والنوع لا يختلط بالنوع، والأشخاص هي التي حدث فيها التعريف لاختلاط

بعضها ببعض بلا شك بعد الأنواع، فالذي قاله س صحيح، لا اعتراض عليه، إذ الذي حصل له التعريف تناوله النكرة قبل. وقوله: فالمعرفة مضمرٌ وعلمٌ إلى آخره قال المصنف في الشرح: "من تعرض لحد المعرفة عجز عن الوصول إليه دون استدراك عليه؛ لأن من الأسماء ما هو معرفةٌ معنى نكرةٌ لفظً، نحو: كان ذلك عامًا أول، وأول من أمس، فمدلولهما مُعين/ لا شياع فيه بوجه، ولم يستعملا إلا نكرتين. وما هو نكرةٌ معنًى معرفةٌ لفظًا كأسامة، هو في اللفظ كحمزة في منع الصرف وإضافته ودخول أل عليه ووصفه بالمعرفة دون النكرة واستحسان مجيئه مبتدأ وصاحب حال، وهو في الشياع كأسدٍ. وما هو في استعمالهم على وجهين كواحد أمه، وعبد بطنه، فأكثر العرب هما عنده معرفة بالإضافة، وبعضهم يجعله نكرة، وينصبها على الحال. ومثلهما ذو الألف واللام الجنسيتين، فمن قبل اللفظ معرفة، ومن قبل المعنى لشياعه نكرة، ولذلك يوصف بمعرفة اعتبارًا بلفظه، وهو الأكثر، ويجوز أن يوصف بنكرة اعتبارًا بمعناه، نحو: مررت بالرجل خير منك. وعلى ذلك حمل المحققون قوله تعالى: {وَآيَةٌ لَّهُمْ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ} فجعلوا (نسلخ) صفةً لليل، والجُمل لا يُوصف بها إلا النكرات. فإذا ثبت كون المعرفة بهذه المثابة فأحسن ما تبين به ذكر أقسامها

مستقصاةً، ثم يقال: وما سوى ذلك فهو نكرة" انتهى ما ذكره، وفيه بعض تلخيص. وهذا الذي ذكره في أنه لا يمكن حد المعرفة لما ذكر ليس بصحيح. أما قوله: "كان ذلك عامًا أول، وأول من أمس: إن مدلولهما معين لا شياع فيه بوجه، ولم يستعملا إلا نكرتين" ففرق بين الوضع والاستعمال، أما لفظ "عامٍ" فلا شك في أنه نكرة، ومدلوله معنى شائع في جنسه كرجل، وإنما اكتسب التعيين عند السامع باستعماله مع صفته للعام الذي كان قبل عامك، وكذلك أول من أمس، معناه يومًا أول من أمس، فحذف يومًا، وقامت صفته مقامه، ومدلول "يوم" شائع في جنسه، ولما وصفته بأول، وعنيت عامًا أول من عامك، ويومًا أول من يومك، اكتسب بالاستعمال وبالوصف انطلاقه على العام الذي يلي عامك، واليوم الذي يلي يومك. ولا شك أنه يعرض للنكرات أن تعين المراد ببعض أفرادها فرينةٌ لفظية أو حالية، كقولك: لقد قتل ابن مُلجم رجلًا عظيمًا، فيفهم من قولك: "رجلًا عظيمًا" أنه على بن أبي طالب، وكذلك جميع النكرات التي جاءت في القرآن مرادًا بها الأعلام، كقوله تعالى: {عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى * ذُو مِرَّةٍ}، فهذا معلوم أنه جبريك عليه السلام، ولا يدعي عاقل أن قوله: {شَدِيدُ الْقُوَى} هو معرفة وكذلك: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ} هو محمد صلى الله عليه وسلم، ولا يُدعى أن قوله: {رَسُولٍ كَرِيمٍ} معرفة، فكذلك حكم "عامًا أول" و "أول من أمس" وإن كان السياق والقرائن تعين من أريد بهذه النكرة، ولا يحتمل الشياع والحالة هذه. فقد بان الفرق بين الوضع والاستعمال في ذلك. وأما قوله: "كأسامة" فهذا ونحوه يُطلق عليه أنه معرفة على طريق

المجاز إذ لا يخالف في معناه دلالة "أسد"، إنما يخالفه في أحكام لفظية؛ ألا ترى أنه داخل/ تحت حد النكرة، فلما وجدنا فيها أحكام المعارف أطلقنا عليها معارف. ونظير ذلك قولنا في الأسماء الموصولة أسماء لوجود أحكام الأفعال فيها، ولذلك قال س: "هذا بابٌ من المعرفة يكون فيه الاسم الخاص شائعًا في أمته ليس واحد منها أولى به من الآخر، ولا يُتوهم به واحدٌ دون آخر له اسمٌ غيره، نحو قولك للأسد: أبو الحارث وأسامة، وللثعلب: ثعالة وأبو الحصين وسمسمٌ، وللذئب: ذألان وأبو جعدة". وذكر من هذا النوع أسماءً. وفرق بين أسامة زيدٍ بأن زيدٍ قد عرفه المخاطب بحليته أو بأمر قد بلغه، وإذا قال "أسامة" فإنما يريد هذا الأسد، ولا يريد أن يشير إلى شيء قد عرفه بعينه قبل ذلك كمعرفته زيدًا، ولكنه أراد هذا الذي كل واحدٍ من أمته له هذا الاسم. وقدن رام بعض من يميل إلى المعقول، ويريد أن يجري القواعد على الأصول، أن يُوجه لأسامة ونحوه يدخل به في المعارف، فقال: يقال: إن أسدًا وضع ليدل على شخص معين، وذلك الشخص المعين لا يمتنع أن يوجد منه أمثال، فوضعي على الشياع في جملتها، ووضع أسامة لا بالنظر إلى شخص، بل وُضع على معنى الأسدية المعقولة التي لا يمكن أن توجد خارج الذهن، بل هي موجودة في النفس، ولا يمكن أن يوجد منها اثنان أصلًا في الذهن، ثم صار أسامة يقع على الأشخاص لوجود ما هو ذلك المعنى المفرد كلي في الأشخاص. وهذا الذي رام هؤلاء بعيد عما يقصده العرب، وس والمستقرئون

هذا الفن العربي أعرف بأغراض العرب ومناحيها في كلامها، وقد ذكروا أن هذه الأسماء شائعة شياع النكرات، وأنها عوملت معاملة المعارف لفظًا، فأُطلق عليها معارف لذلك. وقال في البسيط: "أسامة وبابُه لما كان من المعارف اقتضى أن يكون له وحدة، إذ التعريف لابد فيه من ذلك، لكنه امتاز عن المعارف الشخصية بأن وحدته هي وحدة النوع لا وحدة الشخص، فإن أسامة موضوعٌ لضرب من الحيوان خاص بصفاتٍ هي كذا وكذا، كما أن زيدًا موضوع لشخصٍ هو كذا وكذا، وإذا كان كذلك فليس أسامة موضوعًا لمعنًى مُطلق فإن المطلق لا توجد فيه وحدة بحسب الوضع، وإن كان لابد له منه، فصار حكمه في الإطلاق في عدم الابتداء به حكم النكرة لأنهما يلزمهما لازمٌ واحد، وهو عدم الإفادة". وأما قوله: "كواحد أمه وعبد بطنه" فهذا له اعتباران كما ذكر، لا يدخل أحدُ الاعتبارين على الآخر، فمن تأول واحد أمه بمُفرد أمه، وعبد بطنه بخادم بطنه، اعتقد تنكيرهما لتأويلهما باسم الفاعل، ومن لم يتأولهما باسم الفاعل أقرهما على التعريف بالإضافة، وهذا لا يبعد نظيره في/ اللفظ الواحد باعتبار تأويلين؛ ألا ترى أن "مثلك" نكرة عند أكثر العرب، ومعرفة عند بعضهم. وأما قوله: "ومثلهما ذو الألف واللام الجنسيتين" فلا يقوم دليل على أن الذي هي فيه نكرة، ولا يقوم دليل على أنها تُنعت بالنكرة، وأما ما ذكره من قولهم: مررت بالرجل خيرٍ منك، {وَآيَةٌ لَّهُمْ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ}

فلا دليل في ذلك، أما "مررت بالرجل خير منك" فيحتمل أن تكون الألف واللام زائدة، ويحتمل أن لا تكون زائدة، ويكون "خير منك" بدلًا من المعرفة بدل النكرة من المعرفة، كما جاء "خير" بدلًا من المعرفة التي لا يمكن أن يُدعى فيها أنها نكرة، نحو قول الشاعر: فلا وأبيك خيرٍ منك إني ليؤذيني التحمحم والصهيل وأما قوله تعالى: {وَآيَةٌ لَّهُمْ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ} فـ (نسلخ) جملةٌ حالية لا نعتٌ لقوله: (الليل). وقد حد أصحابنا المعرفة، فقالوا: المعرفة هي الاسم الموضوع على أن يخص مسماه. وقالوا أيضًا: "المعرفة هي الذي عُلق في أول أحواله على أن يخص مسماه". وقيل: هي الاسم الموضوع على أن يخص الواحد من جنسه. وسيأتي تحرير القول في كل قسم منها. وقسم المصنف المعرفة إلى سبعة أقسام، والموجود في أكثر الكتب أن المعرفة خمسة أقسام، والذي زاد هو المنادي والموصول، فأما المنادي فأطلقه المصنف، ولا خلاف في أن المنادي الذي هو غير مُقتل عليه نكرة، وإنما وقع الخلاف في النكرة المقبل عليها، وفي العلم: فمن النحويين من قال: إن النداء يُعرف النكرة المُقبل عليها، وإن

العَلَم يزال تعريفه، ثم يتعرف بخطاب النداء. والذي صححه أصحابنا، أن النكرةً المقبل عليها إنما، تعرفت بالألف واللام المحذوفة، وناب حرف النداء منابها، وأن العلم باق على علميته؛ ألا ترى أن من الأعلام المناداةً ما لا يمكن أن يزال تعريفه، فيتنكر، ويعرف بالنداء، كاسم الله تعالى، فإذا قلت: "يا الله" فلا يمكن أن يقال إنه تنكر، وسلب العلمية، ثم عرف بالنداء، ولو كان النداء معرفًا كما ذهب إليه المصنف لعرف النكرة غير المقصودةً. وقال المصنف في الشرح: "وقال قوم: بل تعريفه بالإشارةً إليه والمواجهةً، وإذا كانت الإشارةً دون مواجهةً معرفةً لاسم الإشارةً فأن تكون معرفةً ومعها مواجهه أولى وأخرى" انتهى. وهذا لا تحقيق فيه؛ لأن "يا رجل" لا إشارةً فيه ولا في "يا زيد"، وإنما ذلك مواجهةً، وهو الذي عبر عنه أصحابنا بالخطاب، ولو كان الخطاب معرفًا للزم أن يكون " رجل" من قولك " أنت رجل صالح" معرفة؛ لأنك خاطبت رجلا، ومع ذلك فهو نكرةً. وأما الموصول ففي المعرف له خلاف: ذهب الفارسي/ إلى أنه تعرف بالعهد الذي في الصلة. وذهب أبو الحسن إلى أنه تعرف بالألف واللام، وما ليس فيه ألف ولام فهو في معنى ما فيه الألف واللام، وأما

"أيهم" فإنه تعرف بالإضافة. واستدل الفارسي بوجود من وما ونحوهما من الموصولات. وأجيب بالذي ذكرناه من أنها في معنى ما فيه الألف واللام. ورد مذهبه أيضًا بأن الصلةً تتنزل من الموصول منزلة الجزء منه، فكما أن جزء الشيء لا يعرف الشيء، كذلك ما تتنزل منزلته. وقوله: ومضاف يعنى ما أضيف إلى معرفةً إضافةً محضةً. وقوله: وذو أداةً يعني به ما دخلت عليه الألف واللام المعرفة. -[ص: وأعرفها ضمير المتكلم، ثم ضمير المخاطب، ثم العلم، ثم ضمير الغائب السالم عن إبهام، نم المنان به والمنادى، ثم الموصول وذو الأداة، والمضاف بحسب المضاف إليه.]- ش: اختلف الناس في اعرف المعازف: فمنهم من ذهب إلى أن المضمر أعرفها، وهو مذهب س والجمهور ومنهم من ذهب إلى أن

العلم أعرفها، وهو قول الصيمري، وعزي إلى الكوفيين. ومنهم من ذهب إلى أن اسم الإشارة أعرفها، ونسب لابن السراح. ومنهم من ذهب إلى أن المعرف بأل أعرفها لأنه وضع لتعريفه أداةً، وغيره لم يوضع له أداة. وأما المضاف فلم يذهب أحد إلى أنه أعرف المعارف. وسبب ذلك أنه إنما يكتسى التعريف مما أضيف إليه، فكيف يدعى أحد أنه أعرف مما اكتسى التعريف منه! والذي تلقناه من الشيوخ أن أعرف المعارف هو المضمر، ويليه العلم، ويليه اسم الإشارةً، ويليه ذو الألف واللام، وأما المضاف فإنه في رتبةً المضاف إليه إلا المضاف إلى المضمر، فإنه في رتبة العلم، هذا الذي اتفق عليه شيوخنا، وقرروه، وبنوا عليه سائر النعوت على ما سيأتي تبيينه في باب النعت إن شاء الله، وهو مذهب س. وقيل: أعرفها الأعلام، ونسبوه إلى س، ثم المضمرات، ثم ذو الأداةً، ثم أسماء الإشارة. والذي أختاره، وأذهب إليه، هو أن أعرف المعارف هو العلم، ثم

المضمر، ثم المبهم، ثم المعرف بأل. وإنما ذهبت إلى ذلك لأن اسم العلم جزئي وضعًا واستعمالًا، وباقي المعارف هي كليات وضعًا جزئيات استعمالًا. بيان ذلك أن المضمر وضع المتكلم منه لكل متكلم، والمخاطب لكل مخاطب، والمخاطب لكل غائب، فكل متكلم يصلح له أن يعبر عن نفسه ب "أنا" وكل مخاطب يصلح أن يعبر عنه ب "أنت" وكل غائب يصلح أن يعبر عنه ب "هو"، فهذه موضوعات كليةً لا يختص بها بعض دون بعض، لكن إذا استعملت صارت جزئيةً، ولم يشركه أحد فيما أسند إليه. وكذلك اسم الإشارةً وضع صالحًا/ لكل من يشار إليه، فإذا استعمل في واحد، فقيل مثلًا: هذا قائم، لم يشركه في القيام المسند إليه أحد. وكذا أل، هي صالحةً لأن يعرف بها، فإذا استعملت في واحدٍ نكرة عرفته، وهمزته على شيء بعينه. وقوله: ثم العلم ثم ضميز الغائب السالم عن إبهام لا أعلم أحدًا ذهب إلى هذا التفصيل في المضمر، فجعل العلم أعرف من ضمير الغائب، إلا هذا الرجل، والذين ذكروا أن أعرف المعارف هو المضمر قالوه على الإطلاق، ثم يليه اسم. وقال المصنف في الشرح: "وأمكنها في التعريف ضمير المتكلم لأنه يدل على المراد به بنفسه، وبمشاهدة مدلوله، وبعدم صلاحيته لغيره، وبتميز صوته، ثم ضمير المخاطب لأنه يدل على المراد به بنفسه، وبمواجهة مدلوله. وقوله: ثم العلم ثبت في بعض النسخ: "ثم العلم الخاص، وهو قيد محتاج إليه ليخرج بذلك أسامةً ونحوه، قال في الشرح: "لأنه يدل على

المراد حاضرًا وغائبًا على سيل الاختصاص". وقوله ثم ضمير الغائب السالم عن إبهام قال في الشرح: "نحو: زيد رأيته، فلو تقدمه اسمان أو أكثر نحو: "قام زيد وعمرو، وكلمته" لتطرق إليه إبهام، ونقص تمكنه في التعريف". وضمير الغائب إن عاد على معرفة نحو: مررت بزيد فأكرمته، فظاهر أنه معرفةً، وإن عاد على نكرةً نحو: مررت برجل فأكرمته، فأكثر النحويين على أنه معرفة، وذهب بعض النحويين إلى أنه نكرةً، قال: لأنه لا يخصص من عاد عليه من بين أمته. والصحيح الأول لأنه يخصصه من حيث هو مذكور، وكذلك في المعرفةً لأن الضمير العائد إليها إنما خصصها من أمته كون المدلول سبق له التعريف، فتعيين الضمير لمفهوم المعرفةً إنما هو بالعرض، وهو كونه عاد على معرفة، فقد اشتركت النكرة والمعرفةً في أن تخصيص الضمير لهما إنما هو من حيث عاد على مذكور. ويدل على ذلك أن العرب جعلت الحال منه على جهةً القوةً، نحو: مررت برجلٍ معه صقر صائدًا به، فصاحب الحال هو الضمير في " معه"، وعاد على نكرةً. وقوله: ثم المشار به والمنادى قال في الشرح: "هما متقاربان" وثبت في بعض النسخ بعد قوله: " والمنادى" ما نصه: "وتعريفه بالقصد لا بحرف التعريف منويًا خلافًا لبعضهم، انتهى. وقد تقدم

كلامنا على ذلك. وقوله ثم الموصول قال في الشرح: "وهو يحتسب صلته، فيكمل تعريفه بكمال وضوحها، وينقص بنقصانه. تقدم لنا أن هذا الذي قاله هو مذهب الفارسي، وتقدم الرد عليه. وقوله: وذو الأداةً جعل الموصول والمعرف بأل في رتبةً واحدةً، وكأنه رأى أن التعريف فيهما بالعهد، والعهد موجود في الصلةً كما أنه موجود في أل. وثبت في بعض النسخ: "ثم ذو/ أداة"، فجعل ذا الأداة في التعريف بعد الموصول. وأصحابنا جعلوا الموصول من قبيل ما عرف بأل، فصار من المعرف بأل، وذلك على مذهب الأخفش، كما تقرر قبل. وقوله: والمضاف بحسب المضاف إليه يعني أنه يكتسي التعريف من المضاف إليه، فيصير مثله في التعريف. وهذا الذي قاله ليس على إطلاقه، بل قال أصحابنا: إن المضاف في رتبةً المضاف إليه إلا المضاف إلى مضمر، فإنه في رتبة العلم. وإنما قالوا ذلك لئلا يكون مساويًا للمضمر في التعريف والغرض، على ما اختاروه من المذاهب في أن أعرف المعارف هو المضمر فقط، فلو كان المضاف إليه أعرف المعارف لكان أعرف المعارف شيئان: المضمر، والمضاف إلى المضمر، وليس بعد المضمر رتبةً تليه إلا رتبة العلم، فقالوا: هو في رتبةً

العلم في التعريف، وهذا مذهب س. وذهب أبو العباس، إلى أن كل مضاف إلى واحد من هذه المعارف الأربعةً فإنه دون ما أضيف إليه في التعريف حملًا على المضاف إلى المضمر، فكما أن المضاف إلى المضمر دون المضاف إليه في التعريف، فكذلك المضاف إلى العلم دونه في التعريف، والمضاف إلى اسم الإشارةً دونه في التعريف، والمضاف إلى ذي الأداةً دونه في التعريف. وقد رد مذهب أبي العباس بقوله تعالى: {وَوَاعَدْنَاكُمْ جَانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ} وبقول الشاعر: كتيس الظباء الأعفر انضرجت له عقاب تدلت من شماريخ ثهلان وقوله: ..................... ... كتيس الظباء الحلب العدوان وقوله.

............... ... درير كخذروف الوليد المثقب وقوله: كشاة الكناس الأعفر انضرجت له كلاب رآها من بعيد، فأحضرا ووجه الدلالةً عن هذه الشواهد أنه قد تقرر أن النعت يكون إما مساويًا للمنعوت في التعريف آو أقل منه تعريفًا، وإذا كان كذلك فقد وصف المضاف إلى ما فيه الألف واللام بما فيه الألف واللام؛ ألا ترى أن (الأيمن) صفةً ل (جانب الطور)، و "لأعفر" صفةً ل "تيس الظباء" و "الحلب والعدوان" صفتان ل "تيس الظباء" أيضًا، و"المثقب" صفة لـ "خذزوف الوليد"، فكان يلزم من قوله أن يكون النعت أعرف من المنعوت، وذلك لا يجوز. وفي الإفصاح: اختلفوا في المضاف، فمنهم من جعله بمنزلة المضاف إليه في كل شيء اعتمادًا على قول س فيما أضيف إلى اللام، ويلزم على هذا أن تكون الأعلام بمنزلة المضمرات لأنه أجاز في الصفةً: "مررت بزيد أخيك"، فإذا كان المضاف إلى الضمير مثله في التعريف، وقد وصف به العلم، فلا أقل عن أن يكون/ مساويًا. وقد التزم هذا جماعةً، وبه قال ابن طاهر وابن خروف وجماعةً ممن أدركنا. ومن النحويين من جعل المضاف دون المضاف إليه في التعريف سوى

ما أضيف إلى اللام. وقال أبو العباس: كل مضاف إلى معرفةً فهو دونها في التعريف، فمن هنا تعرف ما يكون نعتا للشيء. وقال في الإفصاح أيضًا: والذي عندي أن س لم يطلق التسوية إلا في اللام، ويمكن أن تكون تختص بهذا لأنها أقل وجوه التعريف، فلا انحطاط بعدها. -[ص: وقد يعرض للمفوق ما يجعله مساويًا أو فائقًا. والنكرةً ما سوى المعرفةً. وليس ذو الإشارة قبل اسم، خلافًا للكوفيين، ولا ذو الأداةً قبل الموصول، ولا شيء وما بهما معرفتين، خلافًا لابن كيسان في المسألتين.]- ش: قال في الشرح: "كقولك لرجلين حضراك دون ثالث: لك مبرةً بل لك، فإنهما لا يعرفان بمجرد هذا اللفظ المعطوف من المعطوف عليه ما لم يعضد اللفظ بمواجهةٍ أو نحوها، بخلاف قوله: للكبير منكما مبرةً بل للصغير، أو العكس، أو يقول: للذي سبق منكما بل للذي تأخر، فإنهما لا يرتابان في مراده بالأول والثاني، فقد عرض لذي الأداةً والموصول ما جعلهما فائقين في الوضوح لضمير الحاضر. وكذلك يعرض للعلم ما يجعله أعرف من ضمير المتكلم كقول من شهر باسم لا شركه فيه لمن قال له: من أنت؟ قال: أنا فلان، ومنه قوله: {أَنَا يُوسُفٌ} فالبيان لم يستفد ب "أنا" بل بالعلم بعده. وقد يعرض للموصول مثل ما عرض للعلم، كقول من شهر بفعل لا شركةُ فيه لمن قال له: من أنت؟ أنا الذي فعل كذا. ومن هذا القبيل: "سلام

الله على من أنزل عليه القرآن، وعلى من سجدت له الملائكة"، ومنه: "وامن حفر بئر زمزماه". وقوله: والنكرةً ما سوى المعرفةً لما حصر، المعرفة في تلك الأقسام قال هذا، وتمييزها بأنها غير ما ذكر من الأقسام أجود من تمييزها بدخول رب وبالألف واللام؛ لأن عن المعارف ما تدخل عليه الألف واللام كالفضل والعباس، ومن النكرات ما لا تدخل عليه رب ولا الألف واللام كأين ومتى وكيفت وعريب وديار، ولا تركيب، في النكرات إلا ما شذ من قولهم: بيتُ بيت وكفةً كفة أو يكون تنكيرها ثانيًا من تعريف، نحو: مررت بمعدي كرب ومعدي كرب أخر. ويكثر وجود التركيب في النكرات في لغة بعض العجم كلغة الترك. وقوله: خلافًا للكوفيين، استدل الكوفيون على أن اسم الإشارة أعرف من العلم بوجهين: أحدهما: أن اسم الإشارة ملازم للتعريف، ولا يقبل التنكير، والعلم بخلاف ذلك، فكان تعريفه دون تعرف اسم الإشارةً. والثاني: أن تعريف اسم الإشارة حسي وعقلي، وتعريف العلم عقلي لا غير، وتعريف من جهتين أقوى من تعرف من جهةً واحدةً. ونقل بعض شيوخنا/ هذا المذهب عن الفراء خاصةً، وقال:

"المشار تعرف بالعين والقلب، والعلم إنما تعرف من جهةً القلب خاصةً، وما تعرف من جهتين أعرف مما تعرف من جهةً واحدةً. وأيضًا فإنه إذا اجتمع المشار مع العلم فالعرب تقدم المشار على العلم في الإخبار، فتقول: "هذا زيد، ولا تقول: زيد هذا". وقد نسب هذا القول إلى ابن سريج وابن كيسان. وفي الإفصاح: واختلفوا في الأعلام والمبهمات، فالأعلام أعرف عند "س"، والمبهمات أعرف عند الفراء، وبقوله قال أبو بكر وجماعةً، وهو مذهب المنطقتين، حتى قالوا: إن العلم إنما تعرف لأنه صار كقولك هذا، ولم يرد به غيره، فصار قريبًا من المشار إليه أو مثله. ورد هذا المذهب بأن قوله: "إن ما تعرف من جهتين أعرف مما تعرف من جهةً واحدةً" ليس بصحيح لأن التعريف لا يزيد، وإنما نعني بقولنا: "هذا أعرف من هذا" أي: ألزم للتعريف، ولا يتزيد. واستدلاله بأنه إذا اجتمع المشار والعلم قدم المشار على العلم في الإخبار فلا حجةً فيه، وإنما فعلت العرب ذلك لأنهم يغلبون في الإخبار القريب على البعيد، فيقولون: أنا وأنت قمنا، ولا يقولون:. قمتما، ويقولون: أنت وزيد قمتما، ولا يقولون: قاما. ورد المصنف في الشرح ما عزاه إلى الكوفيين بأن قال: "الجواب عن

الأول أن يقال: لزوم الشيء معنى لا يوجب له مزيةً على ما له ذلك المعنى دون لزوم، بل قد تثبت المزيةً لغير ذي اللزوم على ذي اللزوم، كما ثبتت ل " نقيضك" على " غيرك" مزيةً، فتعرف بالإضافة مع عدم لزومه لها، ولم يتعرف "غيرك" بها مع لزومه لها، وكما ثبتت ل "الجميع" مزيةً على "الجماء" ما في قولهم: جاؤوا الجماء الغفير، بحيث عُد "الجميع" معرفةً غير مؤولة بنكرةً مع عدم لزوم الألف واللام، وأول "الجماء الغفير"، بنكرةً مع لزوم الألف واللام. والجواب عن الثاني أن يقال: المعتبر في كون المعرفة معرفةً الدلالةً المانعةً من الشياع، سواء أحصل ذلك من جهةً واحدةً أم من جهتين، والمعتبر في ترجيح التعريف قوة منع الشياع وزيادةً الوضوح، ومعلوم أن اسم الإشارةً، وإن عين المشار إليه، فحقيقته لا تستحضر به على التمام، ولذلك لا يستغني غالبًا عن صفةً تكمل دلالته، بخلاف العلم، لاسيما علم لم تعرض فيه شركةً كإسرافيل وطالوت وأدد ونزار ومكة ويثرب". وقوله: ولا ذو الأداةً قبل الموصول قد ذكر هو عن ابن كيسان أنه ذهب إلى أن ذا الأداةً أعرف من الموصول، وقد تقدم اضطراب المصنف في ذلك، ففي نسختنا التي صححناها من هذا الكتاب أن مذهبه أنهما في رتبةً واحدةً، وذكرنا أنه ثبت في بعض نسخه التي شرحها أن ذا الأداةً بعد الموصول، فصارت ثلاثةً مذاهب: أحدها: أنهما سواء. الثاني:/ أن الموصول أعرف من ذي الأداة. الثالث: أن ذا الأداةً أعرف من الموصول. واستدل ابن كيسان لمذهبه بأن الأداة يوصف بالموصول، كقوله

تعالى: {قُلْ مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى}، والموصوف به إما مساوٍ وإما دون الموصوف، ولا قاتل بالمساواةً، فثبت كون "الذي" أقل تعريفًا من "الكتاب". قال المصنف في الشرح: "والجواب أن نقول: لا نسلم كون (الذي) في الآية صفةً، بل هو بدل، أو مقطوع على إضمار فعل ناصب، أو بدأ، وعلى تقدير كون (الذي) صفةً، فـ (الكتاب) علم بالغلبةً لأن المعنيين بالخطاب بنو إسرائيل، وقد علب استعماله عندهم مرادًا به التوراةً، فالتحق في عزفهم بالأعلام، فلا يلزم من نضفه بـ (الذي) جواز وصف غيره مما لم يلحق بالأعلام - وبالجواب الأول يجاب من أورد نحو قوله تعالى {لا يَصْلاهَا إِلا الأَشْقَى (15) الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى (16) وَسَيُجَنَّبُهَا الأَتْقَى (17) الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ} وقد تقدمت الإشارةً إلى أن الموصول قد تتضح صلته وضوحا يجعله في رتبةً العلم، ولا يكون ذلك في ذي الأداةً غالبًا إلا إذا عرض له ما عرض للنجم والصعق من الغلبةً الملحقة بالأعلام الخاصةً" انتهى كلام المصنف في شرحه في الرد على ابن كيسان. وهو تسليم من المصنف لابن كيسان أنه لا قائل بالمساواة، وليس بصحيح، بل ذكرنا، أن مذهب أصحابنا هو أن الموصول من قبيل ما عرف بالألف واللام، وهو مذهب الأخفش، فهو قسم من المعرف بالألف واللام، فيجوز أن يوصف ذو الأداة بالموصول الذي يجوز أن يوصف به، ويجوز أن يوصف الموصول بذي الأداة لتساويهما. فمن وصف ذي الأداةً

بالموصول قول الشاعر: أنا الرجل الضرب الذي تعرفونه خشاشا كرأس الحية المتوقد وقول الآخر: أأنت الهلالي الذي كنت مرةً سمعنا به والزحبي المعلف والآيات الكريمة السابق ذكرها. ومن كلام العرب: "بالفضل ذو فضلكم الله به، والكرامةً ذات أكرمكم الله به"، ف "ذو" موصول على لغة طيئ، و"ذات" كذلك، وقد وصف بهما ذو الأداة. ومن وصف الموصول بذي الأداة قوله تعالى: {قُلْ أَؤُنَبّئُكُم بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ} الآيات، فوصف (الذين) بقوله: {الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ}

وإنما تأول المصنف الآيات على البدل وغيره لأنه ثبت في النسخةً التي شرحها أن الموصول أعرف من ذي الأداةً، وإذا كان أعرف فلا يجوز أن يكون نعتًا لذي الأداةً لئلا يكون النعت أعرف من المنعوت، وهو لا يجوز، إنما يجوز أن يكون مساويًا أو أقل منه تعريفًا. وقوله: ولا من وما المستفهم/ بهما معرفتين استدل على ذلك ابن كيسان، بأن جوابهما يكون معرفةً، وهو طابق للسؤال، فإذا قيل: من عندك؟ فجوابه: زيد، ونحوه. وإذا قيل: ما دعاك إلى كذا؟ فجوابه: لقاؤك، ونحوه. فدل تعريف الجواب على تعريف المجاب. وقال المصنف في الشرح: "وهذا ضعيف لوجهين: أحدهما: أن تعريف الجواب غير لازم؛ إذ لمن قيل له: من عندك؟ أن يقول: رجل من بني فلان، ولمن قيل له: ما دعاك إلى كذا؟ أن يقول: أمر مهم. والثاني: أن من وما في السؤالين قائمان مقام: أي إنسان؟ وأي شيء؟ وهما نكرتان، فوجب تنكير ما قام مقامهما، والتمسك بهذا أقوى من التمسك بتعريف الجواب، لأن تطابق شيئين قام أحدهما مقام الآخر ألزم وأكد من تطابق الجواب والسؤال، وأيضًا فالتعريف فرع، فمن ادعاه فعليه الدليل، بخلاف ادعاء التنكير" انتهى كلامه، وهو حسن. وقال أصحابنا: أعرف المضمرات المتكلم ثم المخاطب ثم الغائب، وأعرف الأعلام أسماء الأماكن ثم أسماء الأناسي ثم أسماء الأجناس، وأعرف المشارات ما كان للقريب ثم للوسط ثم للبعيد، وأعرف ذي الأداةً ما كانت فيه للحضور ثم للعهد في شخص. وأسماء الأجناس لا يعرف تعريفها من تنكيرها إلا بالاستقراء، فمما هو معرفةً ابن آوى وابن قترةً. ومما هو

نكرةً ابن لبون وابن مخاض. ومما جاء معرفة ونكرةً ابن عرس، تقول: هذا ابن عرس مقبلًا، وهذا ابن عرس مقبل. وأما ابن أوبر فزعم س أنه معرفة لامتناعه من الصرف. وزعم أبو العباس، أنه نكرةً لدخول الألف واللام عليه، مثل قوله: ................... ... ولقد نهيتك عن بنات الاوبر وهذا عند من يرى مذهب س من باب دخول أل على العلم. وما ذكرناه عن النحويين من تفاوت المعارف واختلاف الناس في مراتبها قد خالف في ذلك أبو محمد علي بن حزم الظاهري، فزعم أن المعارف كلها مستويةً، ولا يصح في هذا أن يقال: "هذا أعرف من هذا" لأن المعرفةً لا تتفاضل، ولا يصح أن يقال: "عرفت هذا أكثر من هذا" لأنه يكون في حق المرجوح المعرفة جهلًا. وقال الرادُ على أبي محمد: هذا الذي قاله أبو محمد حق في نفسه،

إلا أنه لم يفهم مراد القوم، وذلك أنهم يريدون بأن هذا أعرف من هذا أن تطرق الاحتمال إليه أو من تطرقه إلى الآخر، فلا بد من تقيمها إلى ما يتطرق إليه الاحتمال وإلى ما لا يتطرق، ومن حد كل واحد منها، ومن حد كل واحد منها، تتميز ماهيةً كل واحد، وتظهر تفاوتها في التعريف.

باب المضمر

-[ص: باب المضمر وهو الموضوع لتعيين مسماه مشعرًا بتكلمه أو خطابه أو غيبته. فمنه واجب الخفاء، وهو المرفوع بالمضارع ذي الهمزةً أو النون، وبفعل أمر المخاطب ومضارعه، واسم فعل/ الآمر مطلقًا. ومنه جائر الخفاء، وهو المرفوع بفعل الغائب والغائبةً أو معناه، من اسم فعل وصفةٍ وظرف وشبيه.]- ش: البصريون يقولون: "المضمر"، والكوفيون يقولون: "الكناية" و"المكني". قال المصنف في الشرح: "ذكر الوضع مخرج للمنادى والمضاف وذي الأداة، وذكر التعيين مخرج للنكرات" انتهى. وهذا الذي ذكره من أن الجنس في الحد يتحرر به هي عادته وعادةً ابن عصفور، وتقدم لنا الكلام معهما في ذلك أول الكتاب، وأن الجنس لا

يورد في الحد للاحتراز، وإنما الجنس يشغل المحدود وغيره، والفصل هو الذي يؤتى به لتمييز المحدود من غيره. فقوله: "الموضوع لتعيين مسماه" جنس يشمل سائر المعارف، فإن كل معرفة يعين مسماه، وليس "الوضع" مخرجًا للمنادى والمضاف وذي الأداةً كما زعم المصنف، بل يا رجل، وغلام زيد، والرجل، موضوعات لتعيين المسمى، والمسمى في هذا المركب وضع له هذا اللفظ المركب، وكل من هذه التراكيب تفيد تعيين المسمى، وكأن الوضع عند المصنف مختص بالمفرد قبل التركيب، وليس كما زعم. وهذا الذي بحثناه هو على ما تقتضيه قواعد الجماعةً. وأما على ما بحثنا، نحن في العلم وفي باقي المعارف فإن الذي وضع لتعيين المسمى إنما هو العلم، وأما باقي المعارف فإنما وضعت كليات، ثم بالاستعمال يتعين المسمى لا بالوضع، على ما قررناه قبل. وقوله: مشعرًا بتكلمه أو خطابه أو غيبته فصل يخرج العلم والمشار به والموصول؛ لأن كل واحد من هذه صالح لكل حالًا من الثلاث على سيل البدل، وذلك بخلاف المضمر، فإنه يختص بواحدةً منها، هذا معنى ما قاله المصنف في الشرح. وقوله: ومنه واجب الخفاء نم المصنف المضمر إلى واجب، الخفاء وجائز الخفاء، وبارز متصل ومنفصل، وأصحابنا نموه إلى مستكن، وبارز متصل ومنفصل. ويعكر هذان التقسيمان على ما حدوا به الضمير؛ لأنهم حدوه بأنه

الموضوع لتعيين مسماه، وما كان واجب، الخفاء وجائز الخفاء ومستكنًا لا يصح فيه أن يقال إنه الموضوع لتعيين مسماه؛ لأن الوضع يستدعي وجود لفظ، ولا لفظ، بل هذا الذي ادعوه من الضمير هو عدمي، وما كان عدميًا فلا وضع له. وهذا التقسيم الذي قسمه المصنف من واجب الخفاء وجائز الخفاء يعني به أنه إذا كان واجب الخفاء لا يمكن أن يرفع الفعل ظاهرًا ولا مضمرًا بارزًا مكانه، وإذا كان جائز الخفاء يمكن أن يرفع الفعل ظاهرًا أو مضمرًا بارزًا مكانه. وهذا اصطلاح غريب لا نعرفه إلا منه، وإنما يقول أصحابنا: الضمير المرفوع ينقسم إلى مستكن وبارز، ويقولون أيضًا ينقسم إلى متصل ومنفصل، ويجعلون المستكن من المتصل. ومثال ما ذكر أنه واجب/ الخفاء أفعل ونفعل وافعل وتفعل. ومراد المصنف بقوله: "وبفعل أمر المخاطب" يعني المفرد المذكر؛ لأنه إن كان أمرًا للمؤنث أو للمثنى أو للمجموع برز الضمير، فلفظة "المخاطب" فيه قيد الذكوريةً والإفراد. وقوله: واسم فعل الآمر مطلقًا مثاله: تزال. وإنما قال: "مطلقًا" لأنه يكون أمرًا للمفرد المذكر والمؤنث ومتناهما ومجموعهما. ونقص المصنف قسم لم يذكره، والضمير فيه واجب الخفاء كهذه الخمسةً، وهو اسم الفعل الذي هو مضارع للمتكلم نحو: أوه بمعنى أتوجع، وأن بمعنى أتضجر، ونحوهما، فكان ينبغي أن يقول: وهو المرفوع بالمضارع ذي النون أو الهمزة أو اسم فعله، ويأتي بباقيها.

وقوله: وهو المرفوع بفعل الغائب إلى آخره مثال ذلك: زيد حسن، وهند حسنت، وهند هيهات، وزيد ضارب وضروب وحسن، وزيد عندك، وعمرو في الدار، فهذه الأخبار متحملة ضميرًا جائز الخفاء، ويجوز أن لا تتحمله بأن ترفع اسمًا ظاهرًا، أو ضميرًا بارزًا، فتقول: زيد حسن وجهه، أو: ما حسن إلا هو، وكذلك باقيها، هكذا قال المصنف. ولا يطرد له ذلك في جميع ما ذكر؛ ألا ترى أن اسم الفعل يرفع الظاهر، ولا يرفع المضمر البارز، تقول: هند هيهات دارها، ولا تقول: هند ما هيهات إلا هي؛ لأنه لم يتسع في اسم الفعل فينفي كما ينفي الفعل، فتفسيره في الشرح: "جائز الخفاء" بأنه هو الذي يخلفه ظاهر أو مضمر بارز يطرد له في فعل الغائب وفعل الغائبةً والصفةً والظرف والمجرور لا في اسم الفعل بمعنى فعل الغائب والغائبةً. -[ص: ومنه بارز متصل، وهو إن عنى به المعني بنفعل "نا" في الإعراب كله، وإن رفع بفعل ماضٍ فتاء تضم للمتكلم، وتفتح للمخاطب، وتكسر للمخاطبةً، وتوصل مضمومةً بميم وألف للمخاطبين والمخاطبتين، وبميم مضمومةً ممدودةً للمخاطبين، وبنون مشددةٍ للمخاطبات، وتسكين ميم الجمع إن لم يليها ضمير متصل أعرف، وإذ وليها لم يجز التسكين، خلافًا ليونس.]- ش: قوله في الإعراب كله يعني الرفع والنصب والجر، نحو: قمنا، وضربنا زيد، ومر بنا بكر. وقوله: في الإعراب فيه تجور إذ المضمرات مبنيةً، فلا إعراب، والمعنى أنه لو وقع مكانه معرب لكان مرفوعًا ومنصوبًا ومجرورًا، وقد كثر تجوزه في هذا، فقال في المضمر: "وهو المرفوع"، وقال: "وإن رفع"، والمضمرات لا رفع فيها ولا نصب ولا جر، وعبارة أصحابنا أسد،

يقولون: مرفوع الموضع، ومنصوب الموضع، ومجرور الموضع. وهذا البارز الذي ذكره هو قسيم المستكن، وهو ينقسم قسين متصلًا ومنفصلاً، فالمتصل هو ما لا بد له من مباشرة العامل لفظًا وخطًا. وقال: "إن عني به المعنى بنفعل" لأنه قدم أن نون/ نفعل تدل على المتكلم عظيمًا أو مشاركًا. وتمثيل ما ذكر انه رفع بالفعل الماضي: ضربت ضربت ضربت ضربتما ضربتم ضربتن، وحكي "ضربتني" بياء بعد الكسرة للمؤنث. واختلفوا في التعليل: فمن النحويين من قال: فعل هذا للفرق. ومنهم من قال: كان المتكلم أولى بالضمةً لأن الكلام منه، وإخباره عن نفسه أكثر من إخباره عن غيره، فاستحق أن يكون حظه من الحركات الحركةً الأولى. وقال ابن كيسان: إذا أخبر فليس يكون أبدًا إلا واحدًا، وإذا خاطب جاز أن يخاطب واحدًا واثنين وأكثر، فألزم الحركةً الثقيلةً اسمه، وفتح اسم من يخاطبه لأنه يكثر، ويعطف بعضه على بعض، فتقول: أنت تكلمت وأنت وأنت، فتعد جماعةً كلهم اشتركوا في الكلام. قال ابن كيسان: وكسروا المؤنث، لأن الكسرةً من علامة التأنيث. وقيل: كسروا لأنها لم تبق حركة غير الكسرة. وأما ضم التاء من ضربتما وضربتم فإجراء للميم مجرى الواو

لمضارعتها لها في قربها في المخرج منها. وكانت الزيادةً ألفًا بعد الميم في التثنيةً ليفرق بينها وبين الجمع. وردت حرفين في ضربتن لما زدت حرفين في المذكر في ضربتمو. والذي أذهب إليه أن هذه التعاليل لا يحتاج إليها لأنها تعليل وضعيات، والوضعيات ينبغي أن لا تعلل. وقوله: فتاة تضم للمتكلم قد مثلناه بقولك: ضر بت، قال س نصًا: " لا يقع أنا في موضع التاء التي في فعلت، لا يجوز أن تقول فعل أنا؛ لأنهم استغنوا بالتاء عن أنا". وأجاز غير س: فعل أنا. واختلف مجيزوه: فمنهم من قصره على إجازته في الشعر. ومنهم من أجازه في الشعر وغيره. قال الحزمي: يجوز في الشعر: قام هو، وقام أنا. وأجازه أبو العباس، في الشعر وغيره، وادعي أن إجازته على معنى ليس في المتصل لأنه يدخله معنى النفي والإيجاب، ومعناه ما قام إلا أنا، وأنشد علي بن سليمان تقوية لذلك قول الشاعر: أصرمت حبل الحي أم صرموا ... يا صاح، بل صرم الحبال هم رفع قوله: "هم" ب "صرم"، ولا يجوز فيه غير هذا، فعلى هذا: قام أنا. وقوله: أعرفتم أي: ضربتم بسكون الميم أعرف من ضربتمو، ومن ضربتم، بضم الميم ووصلها بواو، وضمها مختلسةً، ولقلة الاختلاس لم

يتعرض له في المتن، وهو أقيس من الإسكان، والوصل بواو هو الأصل؛ ألا ترى لزوم الإشباع في التثنيةً في ضربتما، فكان القياس لزوم الإشباع، ولذلك رجع إليه إذا اتصل بهذه الميم ضمير نصب متصل، كما قال تعالى: {فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ}؛ لأن الإضمار يرد الأشياء إلى أصولها غالبًا. وقوله: خلافًا ليونس نحو: رأيتمه وضربتها. قال المصنف في الشرح: "ولا أعلم في ذلك سماعًا إلا ما روى ابن الأثير في غريب الحديث/ من قول عثمان رضي الله عنه: أراهمني الباطل شيطانًا" وقياسه: أراهموني، ولو جاء هكذا كان أيضًا شاذًا مثل الإسكان من وجه آخر، وهو أنه إذا تعدى الفعل إلى مفعولين، وكانا ضميرين، فإن ضمير المتكلم يقدم على ضمير المخاطب وعلى ضمير الغائب، وضمير المخاطب يقدم على ضمير الغائب، فكان القياس أن يقال: أرانيهم الباطن شيطانًا. أما قوله: "خلافا ليونس"فليس بشيء لأن الكسائي والفراء قرأ: {أَنُلْزِمُكُمُوهَا} بإسكان الميم الأولى تخفيفًا. وقال س: "إن الوصل أكثر

وأعرف"، فدل على أن التسكين كثير معروف، قال س: وزعم يونس أنك تقول أعطيتكمة، كما تقول في المظهر، والأول أكثر وأعرف" انتهى. يعنى بالأول ما قدمه من قوله أعطيتكموه. قال بعض الشراح: "وإنما حذفت في أعطيتكم لأنها واو في الطرف قبلها ضمةً، فأشبهت ما رفض من كلامهم نحو: قلنسو وعرقو، فحذفوا الواو، وأسكنوا، فعندما وصلوا بالضمير صارت حشوًا، فعاد الحرف إلى أصله، قال س: "كما ردوه باللام" يعني كما ردوا الميم إلى الضم بسبب لام التعريف حين قالوا: أعطيتكم اليوم، ولأنه اضطر إلى تحريكه، فحركه بحركةً الأصل، وأما من يقول - وهو قليل -: أعطيتكمه، ولا يحرك، فإنه مع اللام إنما يحرك بالكسر، فيقول: "أعطيتكم اليوم" لأنه لا يرد حركة الأصل" انتهى. وأما قول المصنف: "ولا أعلم في ذلك سماعًا" فقد علمه يونس، وس، وغيره" فلا يضر جهل المصنف به. وأما تخريجه قول عثمان - رضي الله عنه - على أن قياسه "أراهمونى" فقد أفسد هو هذا القياس بقوله: "ولو جاء هكذا كان أيضًا شاذًا"، وبين جهة الشذوذ، فإذا كان شاذًا فلا يكون قياسًا. وأما قوله أخيرًا: "فكان القياس أن يقال: "أرانيهم الباطل شيطانًا" فهذا لا يصح، ومعناه عكس ما أراد عثمان؛ لأنه كان يكون هو الذي رآهم شيطانًا، والمعنى: أنهم هم رأوه شيطانًا؛ لأن ضمير المتكلم هو الفاعل قبل دخول همزةً التعدية على رأى، فالقياس أن يقول في معنى ما أراد عثمان:

أراهم إياي الباطل شيطانًا؛ إذ هم الراؤون قبل همزة التعدية لا هو. وفي البسيط: "العرب فيها - يعني ميم الجمع - على ثلاثة مذاهب: منهم من يثبت الواو مطلقًا، ومنهم من يحذفها مطلقًا، ومنهم من يثبتها إذا وقعت بعدها همزةٌ لأنها من آخر الحلق، فمد ما قبلها ليتوصل بالمد إلى تحقيقها. "والتاء والألف في ضربتما هو الضمير، والميم فيه وفي ضربتم زائدةً لتقوية الضمير، كما عملوا في ذا، فقالوا: هذا. وقال الصقلي: زيدت الميم وقايةً للضمةً كما زيدت النون في ضربني وقايةً للفتحة. وأما الجمع فضميره: "تمو" فرقوا فيه بين التثنيةً والجمع، بالواو هنا، والألف هناك، واختصا بذلك لأن الألف للتثنية والواو للجمع في الإعراب، وضمت الميم لأجل الواو، وقد تحذف الواو، وإن كانت جزءًا من الضمير، تشبيهًا بما ليس جزءًا كالصلةً من فيه وعليه". ص: وإذ رفع بفعل غيره فهو نون مفتوحةً للمخاطبات أو الغائبات، وألف لتثنية غيي المتكلم، وواو للمخاطبين أو الغائيين، وياء للمخاطبةً. وللغائب مطلقًا مع الماضي ما له مع المضارع، وربما استغني معه بالضمةً عن

الواو. وليس الأربع علاماتٍ والفاعل مستكن، خلافا للمازني فيهن، وللاخفش في الياء. ش: وإذ رفع: يعني البارز المتصل. والهاء في "غيره" عائد على الماضي. وغير الماضي هو المضارع والأمر. ومثل المخاطبات والغائبات: اضربن تضربن يضربن، ومثال غير المتكلم: افعلا ويفعلان وتفعلان، ومثال المخاطبين والغائبين: اضربوا ويضربون وتضربون، ومثال ياء المخاطبة: اضربي وتضربين. وقوله: وللغائب مطلقًا مع الماضي مثال: زيد ضرب، وهند ضربت، والزيدان ضربا، والهندان ضربتا، والزيدون ضربوا، والهندات ضربن. وقوله: ما له مع المضارع لأنك تقول: زيد يضرب، وهند تضرب، والزيدان يضريان، والهندان تضربان والزيدون يضربون، والهندات تضربن. وقوله: وربما استغنى معه - أي مع الماضي - بالضمة عن الواو، قال: فلو أن الأطبا كان حولي وكان مع الأطباء الأساة وقال: رب ذي لقاح ويب أمك فاحش هلع إذا ما الناس جاع وأجدبوا يريد: كانوا، وجاعوا، فحذف الواو، وهي ضمير الجماعة الذكور. وظاهر قول المصنف: "وربما" أنه يجوز ذلك قليلًا. وبعض

أصحابنا إنما أنشدوا ذلك على سيل الضرورة التي تختص بالشعر. وقال الشاعر: إذا ما شاء ضروا من أرادوا ولا يألو لهم أخت ضرارًا وأنشد الكسائي: إذا ما الأقربون من الأداني ... أمال على صفاحًا وطينًا وأنشد أيضًا: وإذا احتملت لأن تزيدهم تقى ... دبروا، فلم يزداد غير تماد أي: شاؤوا، وأمالوا، ويزدادوا. وبعضهم قال: من العرب من يقول في الجمع: الزيدون قام، فيجتزئ بالضمة، وأنشد: جزيت ابن أوفى بالمدينة قرضةً وقلت لشفاع المدينة: أوجف يريد: أوجف، فسكن للوقف. وأنشد أيضًا: فلو أن الأطبا كان حولي ... ..................... واستفيد من البيت الأول أن فعل الأمر للجماعةً الذكور يجري مجرى الفعل الماضي في ذلك.

وقال المصنف في الشرح: "وأنشد السيرافي: لو أن قومي حين أدعوهم حمل ... على الجبال الصم لانهد الجبل شبوا على المجد، وشابوا، واكتهل أراد: خملوا، واكتهلوا، فحذف الواو اكتفاء بالضمةً، ثم وقف فسكن، انتهى. ويحتمل توجيها آخر، وهو أن القوم هو اسم جمع، واسم الجمع يجوز أن يعني عنه إخبار الواحد، فتقول: الرهط صنع كذا، والنفر رحل، والركب سار، مراعاةً للفظ، ولذلك إذا صغر صغروه كما يصغر المفرد، فتقول: رهيط ونفير وركيب. فراعى أولا المعنى حين قال: "ادعوهم"، فأتي بضمير الجمع، ثم راعى اللفظ فقال: "حمل"، فأفرد الضمير. فإذا احتمل هذا - وهو أرجح - لم يكن للمصنف فيه دليل على دعواه. وقال المصنف في الشرح أيضًا: "وربما فعل هذا مع فعل الأمر كقوله: إن ابن الأحوص معروف فبلغه ... في ساعديه إذا رام العلا قصر انتهى - يريد: فبلغوه، فحذف الواو مع فعل الأمر. وهذا الذي خرج عليه هذا البيت لا يلزم لأنه يحتمل وجهين: أحدهما: أن يكون أتبع حركة الغين حركة الهاء، وهو يريد: فبلغه.

والثاني: أن يكون نقل حركة الهاء إلى الغين الساكنة، فصار: "فبلغه" ناويا الوقف، كما قال زياد: من عنزي سبني لم اضربه يريد: لم اضربه، ثم أجرى الوقف مجرى الوصل، فترك الهاء بالضم. وقوله: وليس الأربع علامات يعني بالأربع النون والألف والواو والياء. ويعني بقوله: "علامات" أي النون علامةً لجمع المؤنث، والألف علامة للتثنية، والواو علامةً للجمع المذكر، والياء علامةً للمؤنثةً، فيكن كتاء التأنيث في مثل: ضربت هند، بل هي أسماء ضمائر بارزةً، اتصلت بالأفعال كاتصال تاء المتكلم وتاء الخطاب في نحو: قمتُ وقمتَ. هذا مذهب جمهور النحويين. وذهب المازني إلى أنها علامات، والفاعل مستكن كاستكانانه في: زيد فعل، وهند فعلت. وكما يقول الجمهور في مثل: قاما أخواك، وقاموا إخوتك، وقمن أخواتك، على لغة "أكلوني البراغيث"، إنها علامات تدل على تثنية الفاعل وجمعه.

واستدل المصنف على بطلان مذهب المازني في الشرح بأنها لو كانت حروفاً تدل على أحوال الفاعل المستكن كالتاء من فعلت لجاز حذفها في نحو: الزيدان قاما، والزيدون قاموا، كما جاز حذف التاء في نحو: .................. ... فإن الحوادث أودى بها ................... ... ولا أرض أبقل إبقالها بل كانت الألف وأخواتها أحق بجواز الحذف لأن معناها أظهر من معنى التأنيث وذلك أن علامة التأنيث اللاحقة للأسماء لا يوثق بدلالتها على التأنيث، إذ قد تلحق المذكرات كثيرا كرواية وهمزة، فدعت الحاجة إلى التاء التي تلحق الفعل، وليس الأمر كذلك/ في علامتي التثنية والجمع، إذ لا يمكن أن يعتقد فيما اتصلتا به خلوه من مدلولهما فذكر الفعل على إثر واحدة منهما مغن عن علامة تلحق الفعل، ولما لم يستغنوا بما يلحق الاسم عما يلحق الفعل أن لهم داعياً إلى التزامه غير كونه حرفاً وليس ذلك إلا كونه اسماً مسند إليه، ولذلك لم يجز حذفه بوجه، إذ لو حذف لكان الفعل حديثاً عن غير محدث عنه، وذلك محال. انتهى مارد به المصنف في الشرح على المازني وهو كلام مطول. والمازني يقول: لما استكن في فعل وفعلت، وأتينا بعلامة تأنيث تفرق فعل المؤنث من فعل المذكر، استكن في فعل التثنية والجمع، وأتينا بعلاماتٍ

تدل على التثنية والجمع ليحصل الفرق بين المسند لضمير المفرد وضمير المثنى والمجموع. والذي يظهر به ضعف مذهب المازني هو أنه لو كانت هذه علامات للزم أن تكون علامة جمع المؤنث نوناً ساكنة، ولا يسكن آخر الفعل لها، كما كانت تاء التأنيث ساكنة، ولا يسكن آخر الفعل لها وتسكين آخر الفعل لها وتحريكها يدل على أسميتها، إذ لا يكون ذلك إلا لما تنزل من الكلمة منزلة الجزء منها، كما فعلوا ذلك بنحو: "ضربت" لما تنزل منزلة الجزء من الفعل في كونه لا يفصل منه سكنوا آخر الفعل لئلا تتوالى أربع متحركات في كلمة، فكذلك فعلوا في ضربن. فكما أن التاء في ضربت اسم بلا خلاف كذلك النون في فعلن ويفعلن. وقوله: وللأخفش في الياء يعني في مثل: افعلي وتفعلين. ذهب الأخفش - وتبعه جماعة- إلى أن الياء حرف تأنيث فلا موضع لها من الإعراب والفاعل مستكن، ولا يجوز أن تكون ضميراً لأن فاعل المضارع المفرد لا يبرز، نحو: هند تقوم، وزيد يقوم، فرقوا في الغيبة بالتاء في أول المضارع بين المذكر والمؤنث، ولما كان الخطاب مشتركاً بين المذكر والمؤنث في التاء في أول الفعل احتج إلى علامة تميز المؤنث من المذكر، فقالوا: تقوم يا زيد، وتقومين يا هند. وذهب الجمهور س وغيره إلى أن الياء ضمير. واستدلوا

بأن الياء لم تثبت علامة تأنيث في غير هذا الموضع، فيحمل هذا عليه، وقد ثبتت ضميراً باتفاق في مثل: ضربني. ومنها أن علامة التأنيث لم تلحق المضارع في موضع من آخره. ومنها أن علامة التأنيث ثبتت في التثنية في مثل: قامتا، والهندان تقومان فلو كانت الياء حرف تأنيث لثبتت في التثنية. ومنها أنه لم يرفع من المضارعة بالنون إلا ما اتصل به ضمير. وإنما برز الضمير هنا للعلة التي أوجبت بروزه في التثنية والجمع وهو اللبس، ألا ترى أنه لو لم يبرز في التثنية والجمع لالتبس بفعل المفرد، فكذلك هنا لو لم يبرز لالتبس بفعل المذكر، لأنك تقول: "تفعل" في خطاب المذكر. وما استدل به لهذا المذهب مدخول: أما قولهم: " إن الياء لم تثبت علامة التأنيث في غير هذا الموضع" فإنه يرد بقولهم للمذكر"هذا" وللمؤنث"هذي". وأما أنها لم تلحق مضارعاً من آخره فسبب ذلك- أعني لحاقها فيه- مخافة اللبس إذ كانت التاء/ التي في المضارع قد اشتركت فيها صيغة المذكر والمؤنث فاحتيج إلى فارق. وأما الثبات في التثنية فإنهم اعتزموا على التسوية في المثنى بين المذكر والمؤنث في الخطاب فقالوا: تقومان يا زيدان، وتقومان يا هندان، كما فعلوا ذلك في الماضي فقالوا: قمتما يا زيدان، وقمتما يا هندان، وفرقوا في الإفراد، فقالوا: قمت يا زيد، وقمت يا هند. وأما أنه لم يرفع بالنون إلا ما اتصل به ضمير فممنوع هذا الحصر بهذا الذي اختلفنا فيه. وقال المصنف في الشرح: " وهذا القول- يعني قول الأخفش-

مردود بما رد به قول المازني وبشيء آخر، وهو أن الأخفش جعل ياء افعلي كتاء فعلت، فيقال له: لو كانت الياء كالتاء لتساوتا في الاجتماع مع ألف الاثنين، فكان يقال: أفعليا، كما يقال: فعلتا، لكنهم امتنعوا من ذلك، فعلم أن مانعهم كون ذلك مستلزماً اجتماع مرفوعين بفعل واحد من غير عطف، وذلك لا يجوز" انتهى ما ذكره، وقد تقدم الجواب عن هذا الذي ذكره. -[ص: ويسكن آخر المسند إلى التاء والنون ونا، ويحذف ما قبله من معتل وتنقل حركته إلى فاء الماضي الثلاثي، وإن كانت فتحة أبدلت بمجانسة المحذوف، ونقلت وربما نقل دون إسناد إلى أحد الثلاثة في زال وكاد أختي كان وعسى، وحركة ما قبل الواو والياء مجانسة، فإن ماثلها أو كان ألفا حذف، وولى ما قبله بحالة، وإن كان الضمير واواً والآخر ياء أو بالعكس حذف الآخر وجعلت الحركة المجانسة على ما قبله.]- ش: مثال ما أسند إلى التاء و" نا": فعلت وفعلنا ولا يكون إلا ماضياً وإلى النون: فعلن ويفعلن وافعلن. وقال" آخر" ولم يقل " لام الفعل" لأنه قد يكون حرفاً زائداً للإلحاق نحو: اغرنديت. واختلفوا في تعليل سكون آخر الفعل: فأكثر النحويين على أنه إنما سكن لئلا يتوالى أربع حركات في شيئين هما كشيء واحد، لأن الفاعل كجزء من الفعل. وقد ضعف المصنف هذا البقول في الشرح بأن التعليل عام، والعلة قاصرة إذ لا يوجد التوالي إلا في الثلاثي الصحيح وبعض الخماسي، نحو:

انطلق والكثير لا تتوالى فيه، فمراعاته أولى. وبأن تواليها لم يهمل بدليل علبط وعرتن وجندل والأصل: علابط وعرتن وجنادل عند البصري، وجنديل عند الكوفي، فحذفوا، ووالوا بينها فلو كان التوالي منفوراً عنه طبعاً ومقصود الإهمال وضعاً، لم يتعرضوا إليه دون ضرورة ولسدروا باب التأنيث بالتاء، نحو: شجرة ومعدة ولبؤة. ولا يعتذر عن هذا بأن تاء التأنيث في تقدير الانفصال لكونها جزء كلمة لا يقوم غيرها مقامها. ولا يستغنى عنها، بخلاف تاء فعلت فإنها جزء كلام تام وتقبل الاستغناء عنها بغيرها، نحو: فعل زيد. قال المصنف: " وإنما سببه تمييز الفاعل من المفعول في نحو: أكرمنا وأكرمنا ثم خملت التاء والنون على "نا" للمساواة في الرفع والاتصال وعدم الاعتلال" انتهى. وهذه التعاليل تسويد للورق وتحرص على العرب في موضوعات كلامها وكأن الأولى/ أن نضرب صفحاً عن ذكر هذا كله. وقوله: ويحذف ما قبله أي: ما قبل آخر المسند من معتل وإنما حذف لالتقاء الساكنين ويقتصر على ذلك في الأمر والمضارع نحو: خفن ولا تخفن وصحن ولا تصحن، وقلن ولا تقلن. وقوله: وتنقل حركته إلى فاء الماضي الثلاثي مثاله: طلت وخفت، لأن أصله طول وخوف. ويعني بنقل حركته التي كانت له قبل انقلابه ألفاً في طال وخاف.

وقوله: وإن كانت فتحة- أي: وإن كانت الحركة التي كانت لحرف العلة فتحة قبل انقلابه ألفاً- أبدلت بمجانسة المحذوف، إن كان المحذوف واواً أبدلت الحركة ضمة، وإن كان ياء أبدلت كسرة. ونقلت، أي: إلى فاء الكلمة مثاله: قام وباع أصلهما: قوم وبيع، تحركت الواو والياء وانفتح ما قبلهما ألفاً، فقيل: قام وباع فإذا أسندتهما إلى التاء قلت: قمت وبعت. وقوله: في زال وكاد مثاله قول بعض العرب: مازيل زيد فاضلاً وكيد زيد يقول، قال أبو خراش الهذلي: وكبدت صباع القف يأكلن جثتي وكيد خراش يوم ذلك ييتم قال س: "وحدثنا أبو الخطاب أن ناساً من العرب يقولون: كيد زيد يفعل كذا" قال الأستاذ أبو علي. جسرهم على ذلك أنهم أمنوا اللبس حيث كان هذا الفعل لا مفعول له، وإنما هو رافع الاسم، وبعده فعل، كأنه في موضع خبره، وهو مع هذا شاذ. وقوله: أختي كان وعسى احتراز من " زال" بمعنى ماز، وبمعنى ذهب أو تحول ومن "كاد" بمعنى احتال، وبمعنى أراد، وبمعنى تنكر، ويجمعها أن يقال: " التي مضارعها يكيد" لأن مضارع تلك: يكاد. وقوله: فإن ماثلها أو كان ألفاً حذف مثاله. أنتم تدعون، وأنت ترمين، وأنتم تخشون، وأنت تخشين، أصله: تدعوون وترميين وتخشاون وتخشاين.

وقوله: وولي ما قبله بحاله أي: تبقى حركة العين في تدعون، والميم في ترمين، والشين في تخشون وتخشين، على حالها لا يعرض لشيء منها تغيير. وقوله: وإن كان الضمير واواً والآخر ياء مثل: ترمون، أصله: ترميون أو العكس مثل: أنت تغرين، أصله: تغزوين، استثقلت الضمة في الياء والكسرة في الواو فحذفتا فالتقى ساكنان فحذف الآخر، وحرك ما قبله بحركة تجانس الضمير. وما ذكره المصنف هنا من قوله: " ويسكن آخر المسند" إلى قوله: " وجعلت الحركة المجانسة على ما قبله" هو من علم التصريف، وفيه ذكره النحاة، واستعجل المصنف ذكره في هذا الباب، وليس محل ذكره. -[ص: ويأتي ضمير الغائبين كضمير الغائبة كثيراً لتأولهم بجماعة وكضمير الغائب قليلا لتأولهم بواحد يفهم الجمع، أو لسد واحد مسدهم ويعامل بذلك ضمير الاثنين وضمير الإناث بعد أفعل التفضيل كثيراً ودونه قليلا. ولجمع الغائب غير العاقل ما للغائبة أو الغائبات. وفعلت ونحوه أولى من فعلن/ ونحوه بأكثر جمعه وأقله والعاقلات مطلقاً بالعكس. وقد يوقع فعلن موقع فعلوا طلب التشاكل، كم قد يسوغ لكلمات غير ما لها من حكم ووزن.]- ش: مثال ذلك: {وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ} وقول الراجز:

قد علمت والدتي ما ضمت ... إذا الكماه بالكماة التفت وهو كثير. ومثال ضمير الغائب قوله: فإني رأيت الضامرين متاعهم ... يموت ويفنى فارضخي من وعائيا أي: يموتون فأفرد كأنه قال: يموت من ثم أو من ذكرت. وعلى ذلك يحمل قول الآخر: تعفق بالأرطى لها وأرادها ... رجال فبذت نبلهم وكليب أي: تعفق بالأرطى رجال، وأرادها جمعهم فبهذا التوجيه يؤمن الانتصار للكسائي بهذا البيت في حذف الفاعل وللفراء في نسبة العمل إلى العاملين. وقد أجاز س أن يقال: " ضربت وضربني قومك" أراد: وضربوني،

فأفرد على تقدير وضربني من ثم وأنشد أبو الحسن: وبالبدو منا أسرة يحفظوننا ... سراع إلى الداعي عظام كرا كرة فأفرد ضمير الأسرة لأنه نسب إليهم الحفظ، فصح تأولهم بحصن أو ملجأ فجاء بالضمير على وفق ذلك، فكأنه قال: أسرة هم بحفظهم إيانا ملجأ عظيم كرا كرة ومن كلام العرب: " هو أحسن الفتيان وأجمله" لأن بمعنى: أحسن فتى، فأفرد الضمير حملاً على المعنى. قال المصنف في الشرح: " وإلى نحو هذا أشرت بقولي: " أو لسد واحد مسدهم"، ومثل هذا قوله تعالى: {أن لَكُمْ فِي الأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُّسْقِيكُم مِّمَّا فِي بُطُونِهِ} وقول الراجز: وطاب ألبان اللقاح، وبرد لأن النعم واللبن يسدان مسد الأنعام والألبان" انتهى كلام المصنف في شرحه. فأما قوله: " ويأتي ضمير الغائبين كضمير الغائبة كثيراً لتأولهم بجماعة" فهذا فيه تفصيل: لا يخلوا ضمير الغائبين أن يعود على جمع سلامة، أو على جمع تكسير أو على اسم جمع: فإن عاد على جمع سلامة نحو: الزيدين والمؤمنين فلا يجوز أن يكون إلا بالواو نحو: الزيدون خرجوا، ولا يجوز: الزيدون خرجت ولا:

المؤمنون أفلحت، على التأويل بجماعة كما يدل عليه ظاهر كلام المصنف. وإن عاد على جمع تكسير جاز ذلك، وجاز أن يأتي كضمير الغائبة، وسواء في ذلك أكان الضمير مرفوعاً أو غيره، فالمرفوع كقوله: {وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ} وغيره كقول العرب: " الرجال وأعضادها". وإن عاد على اسم جمع جاز أن يعود بالواو وبضمير المفرد، فتقول: الرهط خرجوا والرهط خرج والركب سافروا، والركب سافر. أما قوله: " وكضمير الغائب قليل" وإنشاده/ دليلا على ذلك: فإني رأيت الضامرين متاعهم ... يموت ويفنى ............... وأن الشاعر أراد: يموتون ويفنون فلا حجة فيه لأنه يحتمل أن يكون " متاعهم" بدلا من" الضامرين" والخبر عنه، كما تقول: إن الزيدين برهم واسع، وكنى عن نفاد متاعهم بالموت على سبيل المجاز، والتقدير: فإني رأيت متاع الضامرين ينفد ويفنى. وهذا التأويل أقرب من إجازة: الزيدون خرج، إذ في ذلك هدم للقواعد الثابتة من لسان العرب بالبيت الفرد الشاذ المحتمل للتأويل. وأما قوله: " وعلى ذلك - أي: على إفراد الضمير- يحمل قول الآخر: تعفق بالأرطى ....... ... ................. فهذا يدل على أنه ساوى في الحكم بين "الضامرين" وبيت " رجال" في إفراد الضمير، فتقول: الزيدون خرج، والرجال خرج، وذلك لا يجوز، وسيأتي الكلام في هذا البيت في باب الإعمال إن شاء الله.

وقوله: " وقد أجاز س أن يقال: ضربت وضربني قومك، أراد: وضربوني، فأفرد على تقدير: وضربني من ثم" فلم يجزه س على الإطلاق، ولا هذا المثال الذي ذكره س بل قال س: " وأن قال: ضربني وضربت قومك فجائز، وهو قبيح أن تجعل اللفظ كالواحد كما تقول: هو أجمل الفتيان وأحسنه وأكرم بنيه وأنبله، ولا بد من هذا لأنه لا يخلو الفعل من مضمر مرفوع أو مظهر مرفوع من الأسماء، كأنك قلت إذا قلت: ضربني من ثم، وضربت قومك وترك ذلك أجود وأحسن للبيان الذي يجيء بعده فأضمر " من" لذلك، وهو رديء في القياس، يدخل فيه أن تقول: أصحابه جلس، تضمر شيئا يكون في اللفظ واحداً فقولهم: " هو أجمل الفتيان وأنبله" لا يقاس عليه، ألا ترى أنك لو قلت، وأنت تريد الجماعة: هذا غلام القول وصاحبه لم يحسن" انتهى كلام س. وفيه أنه أجاز لك، وهو قبيح وأنه رديء في القياس، وإنما أجازه على قبحه ورداءته في مكان خاص، وهو باب الإعمال إذا قد سمع نظيره في قوله: تعفق بالأرطى لها وأرادها ... رجال .................... ولا يلزم من إجازته في هذا الباب أن يجيز ذلك في غيره، ألا ترى أنه منع" هذا غلام القول وصاحبه" قياساً على" هو أجمل الفتيان وأنبله" وظاهر كلام المصنف إجازة ذلك على قلة. وقوله: أو لسد واحد مسدهم حمل المصنف على هذا قول العرب: " هو أحسن الفتيان وأجمله" وهذا الذي ذهب إليه المصنف من أن جواز ذلك هو لسد واحد مسد الجمع هو مذهب الفارسي، زعم أبو علي أنه إنما

أفرد الضمير لأنهم تارة يقولون: " هو أحسن فتى" فيفردون، وتارة يقولون " هو أحسن الفتيان" فيجمعون فتوهموا ذلك في حالة الجمع، فأفردوه رعياً لكثرة ما يقولونه بالمفرد. والذي يدل عليه كلام س أنه إنما أفرد كما أفرد في " ضربني وضربت قومك" وهو على معنى " من ثم" فكأنه قيل: هو أحسن الفتيان وأمل من ذكر. قال أصحابنا/: والصحيح أن الإفراد في هذا إنما هو على معنى: من ذكر والذي يدل/ على ذلك السماع، ألا ترى قوله صلى الله عليه وسلم: " خير النساء صوالح نساء قريش، أحناه على ولد في صغره وأرعاه على زوج في ذات يده، فلو كان إفراد الضمير في هذا لأجل أن المفرد يقع موقع الجمع فيه لقال: " أحناها" لأن المفرد الذي يقع هنا إنما كان يكون " خير امرأة " فكونه قال: " أحناه" دليل على أن المراد: " أحنى من ذكر" لا ما قاله الفارسي. وقول المصنف في الشرح: ومثل هذا قوله: {وَإِنَّ لَكُمْ فِي الأَنْعَامِ لَعِبْرَةً}. إلى آخر كلامه، فليس مثله لأنه فرق بين جمع التكسير العاقل وجمع التكسير لغير العاقل، ويأتي حكم جمع التكسير لغير العاقل قريباً إن شاء الله. وقوله: ويعامل بذلك ضمير الاثنين وضمير الإناث أفعل التفضيل كثيراً أي يفرد. مثال ذلك في ضمير الاثنين ما أنشده المصنف:

ومية أحسن الثقلين جيدا ... وسالفة وأحسنه قذالا وقال آخر: شر يوميها وأغواه لها ... ركبت عنز بحدج جملا وهذا لا دليل فيه على ما ذكر لأنه قال: " ضمير الاثنين بعد أفعل التفضيل كثيرا" ولا يدل البيتان على ما ادعاه من أن المثنى يعود عليه الضمير مفرداً كثيرا على الإطلاق. لأن هذا المثنى الواقع في البيتين ليس معناه على التثنية، لأن معنى" أحسن الثقلين" جمع، إذا معناه الخلائق. وكذلك "شر يوميها" يريد: أيامها، لا يريد حقيقة يومين اثنين، فهو من المثنى الذي يراد به الجمع، لا يراد به شفع الواحد فلا يجوز: هذا أحسن ولديك وأنبله، إّ قد منع س القياس على قولهم: هو أحسن الفتيان وأجمله فالقياس على ما ورد من ذلك مثنى ويراد به الجمع أولى بالمنع، فكيف يقاس عليه المثنى الذي يشفع الواحد؟ وقال صاحب الإفصاح: " وإنما جاء فيه لأن الثقلين جميع الجن والأنس، فهو جمع فيعيدون الضمير على معنى الجمع مع قلة هذا والمنع من القياس عليه" انتهى.

وأما دعواه الكثرة بوجود بيت أو بيتين فغير سديد. ومثال ذلك في ضمير الإناث: "خير النساء صوالح نساء قريش، أحناه على ولد" الحديث، هكذا مثل المصنف، قال: " كأنه قال أحنى هذا الصنف، وأحنى من ذكرت فهذا بعد أفعل التفضيل وهو كثير" انتهى. وأين كثرة هذا وهو لم يذكر منه إلا هذا الأثر؟ مع أنه يحتمل أن لا يكون لفظ الرسول عليه السلام إذ جوزوا النقل بالمعنى، ويحتمل أن يكون من تحريف الأعاجم الرواة، وقد ذكر س أن قولهم: " هو أنبل الفتيان وأجمله" لا يقاس عليه. فلو كان كثيراً كما زعم المصنف لقاس عليه س. وقوله: ودونه قليلاً يعني: ودون أفعل التفضيل يجيء ضمير الاثنين كضمير الواحد قليلاً. وأنشد المصنف شاهداً على ذلك / الشاعر: أخو الذئب يعوي والغراب ومن يكن ... شريكيه يطمع نفسه كل مطمع أي: ومن يكونا- أي: الذئب والغراب- شريكيه، فأفرد كأنه قال: ومن يكن هذا النوع أو من يكن ما ذكرته. وهذا الذي ذكره المصنف لا يتعين في البيت فيكون فيه دليل على دعواه، إذ يحتمل وجهاً آخر، وهو أن يكون الضمير في "يكن" مفرداً عائداً على " من" ويكون "شريكيه" من المقلوب ثني شريك، والمراد به الإفراد، وأفراد الضمير المتصل به، والمراد به التثنية والتقدير: ومن يكن شريكهما، وقد عملت العرب هذا النوع من القلب في التثنية، فثبت المفرد، وأفردت المثنى قال الشاعر:

كما دحست الثوب في الوعاءين قال النحويون: أراد الشاعر: كما دحست الثوبين في الوعاء. فكذلك يكون هذا البيت، فلا يكون دليلاً على ما ادعاه المصنف. وأما قول الفرزدق: فعدي مكاني من معد ومنصبي ... فإني شريف المشرقين وشاعره فتأويله: شريف عالم المشرقين. ومثله قول سويد بن كراع: خليلي قوما في عطالة وانظرا ... أناراً ترى من نحو بابين أم برقا وهذا شذوذ متأول وكأنه خرج من خطاب الاثنين إلى خطاب الواحد. وقوله: لجمع الغائب غير العاقل ما للغائبة والغائبات مثال ذلك: {وَإِذَا النُّجُومُ انكَدَرَتْ}. {فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا}. ونقص المصنف أن يقول كما قال غيره من النحويين: إنه قد يعود الضمير عليه كما يعود على الواحد المذكر، نحو قوله تعالى: {وَإِنَّ لَكُمْ فِي الأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُّسْقِيكُم مِّمَّا فِي بُطُونِهِ}. وقوله: وفعلت ونحوه أولى من فعلن ونحوه بأكثر جمعه أي بأكثر جمع المؤنث غير العاقل، مثاله: الجذوع انكسرت، وهو أولى من: الجذوع انكسرن. وكذا إذا كان الضمير غير مرفوع نحو: الجذوع كسرتها وهو أولى من: الجذوع كسرتهن. وإلى غير المرفوع أشار المصنف بقوله: "ونحوه". وقوله: وأقله- أي-: وأقل جمع المؤنث غير العاقل- والعاقلات مطلقاً

أي كان جمعاً صحيحاً أو جمعاً مكسراً- بالعكس أي: النون وما أشبهها أولى من التاء وما أشبهها مثال ذلك: الأجذاع انكسرن، وهو أولى من: الأجذاع انكسرت، والأجذاع كسرتهن أولى من: الأجذاع كسرتها، قال تعالى: {مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ} لما أعاد على " اثني عشر شهرا" قال: (منها) ثم قال: {فَلاَ تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ}. لما أعاد على " أربعة" قال: "فيهن". ومثال ذلك في العاقلات في جمع السلامة: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ}، {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ}، {إِذَا جَاءكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ}، {إِذَا جَاءكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ}. ومثال عوده كعود ضمير الواحدة قولك: الهندات خرجت، وقول الشاعر: ولست بسائل جارات بيتي ... أغياب رجالك أم شهود قال: " رجالك" ولم يقل: " رجالكن". ومثال ذلك في جمع التكسير: {إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} ومثال عوده كعود ضمير الغائبة قولهم: " النساء وأعجازها"، وقال الشاعر:

تركن الخيل والنعم المفدى ... وقلنا للنساء بها أقيمي وقال تعالى: {وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ} وقال الشاعر: وإذا العذارى بالدخان تلفعت ... واستعجلت نصب القدور فملت وقال الآخر: وعذاريكم مقلصة ... في دعاع النخل تجترمه ومثال الجمع بينهما في جملة واحدة قول الشاعر: ولو أن ما في بطنه بين نسوة ... حبلن، ولو كانت قواعد عقرا فـ" كانت" ضمير الغائبة، و" قواعد عقرا" ضمير الغائبات. وقوله: وقد يوقع فعلن موقع فعلوا طلب التشاكل مثاله ما روي في بعض الأدعية المأثورة: " اللهم رب السموات وما أظللن ورب الأرضيين وما أقللن ورب الشياطين ومن أظللن" أي: ومن أضلوا، وكان القياس

هذا، أو يعود كما يعود على الغائبة، أي: ومن أضلت. وقوله: كما قد يسوغ- أي: التشاكل- لكلمات غير ما لها من حكم ووزن قال المصنف في الشرح: " كما حمل على الخروج من حكم التصحيح إلى حكم الإعلال في قوله عليه السلام: " لا رديت ولا تليت" وإنما حقه تلوت. ومن حكم الإدغام إلى حكم الفك في قوله" آيتكن صاحبة الجمل الأدبب تنبحها كلاب الحوأب"؟ وكما حمل على الخروج من وزن الكلمة إلى غيره كقول العرب: " أخذه ما قدم وما حدث" و" هنأه ومرآة" و" فعلته على ما يسوؤك وينوءك" ولا يقولون في الإفراد إلا "حدث" و"امرأة" و"إناؤه" انتهى. ومن ذلك قولهم: " لك الفدا والحمى" و" مأزورات غير

مأجورات" " والغدايا والعشايا"و: هتاك أخيبة ولاج أبوبه ... ...................... وقال س وقد ذكر أن " عولة" لا يكون إلا بعد "ويلة": " وكذلك عول لا يكون إلا بعد ويل" قال: " كما أن ينوءك يتبع يسوءك". فزعم ابن خروف- واستحسنه داود بن يزيد السعدي- أنه لا يقال ينوءك متعدياً إلا مع يسوءك وأما إن استعمل وحده فهو غير متعد. وتبع المصنف ابن خروف في هذا القول. وزعم غيرهم أن س لم يرد هذا لأن هذا تبع في

حكم، ومقصوده إنما هو اللفظ، ولأن ابن خروف زعم أن ينوؤك هو ينوء بل، أي: ينهض بك. وهذا باطل إذ معناه هنا ليس إلا ينهضك أي يسوءك ويجعلك تنهض بثقل، فهذا الموضع ل"ينئ" أتبعوا ينوء ليسوء. انتهى ما زعم هذا الزاعم وهو عين كلام/ ابن خروف، وظن أنه قول غيره، وإنما أراد ابن خروف أنهم استعملوا ما كان يتعدى بحرف الجر متعدياً بنفسه حملاً على ما تعدى بنفسه وهو يسوء وإذا استعمل ينوء وحده غير تابع ل" يسوء" كان غير متعد- أي: بنفسه- لمنصوب، فإن تعدى فإنما يتعدى بحرف الجر كما قال تعالى: {لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ} أي لتنئ العصبة. وما ذكر من أن معنى ينهض بك باطل ليس كذلك لأن الباء للتعدية فمعنى ينهض بك: ينهضك، فالذي قاله ابن خروف صحيح، وما تخيل هذا الزاعم أن ما قاله هو تخريج مخالف لتخريج ابن خروف تخيل فاسد. وهذا استطراد في التشاكل لم تكن بنا حاجة إليه في باب المضمر. -[ص: ومن البارز المتصل في الجر والنصب ياء المتكلم وكاف مفتوحة للمخاطب، ومكسورة للمخاطبة، وها الغائبة وهاء مضمومة للغائب وإن وليت ياء الساكنة أو كسرة كسرها غير الحجازيين، وتشبع حركتها بعد متحرك ويختار الاختلاس بعد ساكن مطلقاً وفاقاً لأبي العباس، وقد تسكن أو تختلس الحركة بعد متحرك عند بني عقيل وبني كلاب اختياراً وعند غيرهم اضطراراً وإن فصل المتحرك في الأصل ساكن حذف جزماً أو وقفاً جازت الأوجه الثلاثة.]- ش: ضمير الجر كله متصل، وضمير النصب منه متصل ومنفصل كضمير الرفع، ولكنه فيه مستكن ولما وقع الاشتراك في ضمير بين الرفع والنصب والجر - وهو "نا" ولفظ هما وهم وهن، هي من ضمائر الرفع المنفصلة ومن ضمائر النصب المتصلة ومن ضمائر الجر- سهل عندهم أن

يشركوا بين الجر والنصب، فجميع ضمائر الجر هي ضمائر النصب المتصلة، وكذلك أشركوا في الياء أيضاً جعلوها من ضمائر الرفع المتصلة في خطاب المؤنث، وجعلوها من ضمائر النصب والجر للمتكلم، وهذه كلها أوضاع لا تعليل لها. فمثال الياء: {رَبِّي أَكْرَمَنِ} ومثال الكاف للمخاطب: {مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ}، ومثاله للمخاطبة: {قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيّاً}. ولو اتصل بهما هاء الإضمار فالأصح أن لا تشبع حركتهما، بل تقول: الدرهم أعطيتكه، والجبة كسوتكها، وأعطيتكه وكسوتكه. وحكي س أن من العرب من يشبع الحركة، قال س: " واعلم أن ناسا من العرب يلحقون الكاف التي هي علامة الإضمار إذا وقعت بعدها هاء الإضمار ألفاً في التذكير وياء في التأنيث" ثم قال: " وذلك قولك: أعطيكيها وأعطيكيه للمؤنث، وتقول في التذكير: أعطيكاه وأعطيكاها" انتهى. وحكى بعضهم ذلك وان لم تلحق هاء الإضمار فتقول: أعطيتكا وأعطيتكي، وأنشدوا: ولست بخير من أبيك وخالكا ... ولست بخير من معاظلة الكلب

ويجوز أن تأتي مكان كاف المؤنث بشين مكسورة، وهي لغة لناس كثير من بني تميم وناس/ من أسد فيقولون: إنش ذاهبة، ومالش؟ يريد: إنك ومالك؟ نص على ذلك س. وقد أحكمنا على ذلك في التصريف في رباب البدل. ومثال لها للغائبة: {قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا}. وفي البسيط: " قيل: الهاء والألف هو الضمير. وحكى السيرافي أنه لا خلاف في ذلك، واستدل بلزومها ولو كانت صلة لم تلزم كما في ضربه. وقيل: هي زائدة بخلاف المذكر وهو الصحيح زيدت تقوية لحركة الهاء لما تحركت الهاء بالفتح للفرق بين المذكر والمؤنث، وتولدت عنها الألف، ولزمت لخفائها، بخلاف الواو، فلذلك ثبتت مطلقاً سواء اتصلت بضمير نحو: أعطيتهاه أم لا. وقد أجاز قوم حذف هذه الألف في الوقف، وحملوا عليه قول الشاعر:

.............. ... ونهنهت نفسي بعدما كدت أفعله يريد: أفعلها، وهي لغة ضعيفة، وأنشدوا: علقت بالذئب حبلا ثم قلت له: ... الحق بأهلك واسلم أيها الذيب إما تفوز به شاة فتأكلها ... أو أن تبيعه في بعض الأراكيب وحكى الفراء: بالكرامة ذات أكرمكم الله به، يريد: بها" ومثال الغائب: {فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ}. الهاء في ضربه هي الضمير لأنها نظيرة الكاف والياء في غلامك وغلامي، وأنه متصل وحكمه أن يكون على حرف واحد، والواو زائدة للتقوية يدل عليه حذفهم لها في الوقف ولو كانت أصلا لم يجز كما لم يجز في "هو" لأنها ساكنة. وزعم بعضهم أن الهاء والواو هو الضمير. حكاه السيرافي، وهو مذهب الزجاجي. وقال بعضهم: الحذف ليس بدليل قاطع على الزيادة بدليل أنهم حذفوا

في ضربكم وعليكم مع أن الواو أصلية. وقوله: وإن وليت ياء الساكنة مثاله: فيه وعليه، أو كسرة مثاله: به، كسرها غير الحجازيين. قال المصنف في الشرح: " لغة الحجازيين في هاء الغائب الضم مطلقاً وهو الأصل، فيقولون: ضربته ومررت به ونظرت إليه، ولغة غيرهم الكسر بعد الكسرة أو الياء الساكنة إتباعاً وبلغة غيرهم قرأ القراء إلا حفصاً في {وَمَا أَنسَانِيهُ إِلاَّ الشَّيْطَانُ} و {بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ} وحمزة في {لأَهْلِهِ امْكُثُوا} في الموضعين فإنهما قرأ بالضم على لغة الحجازيين" انتهى. وما ذكره من أن ذلك لغة الحجازيين فقط ليس كذلك، بل قد شاركهم غيرهم، قال الفراء: " قريش وأهل الحجاز ومن جاورهم من فصحاء اليمن يرفعون الهاء {نزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ} {عَلَيْهِمَا} {عَلَيْهِمُ} {عَلَيْهِنَّ} {لاَ رَيْبَ فِيهِ} ونزلت به. وأهل نجد من بني أسد وقيس وتميم يكسرونها نحو: عليه وعليهما وعليهم" انتهى. وفي البسيط: " هذه الهاء تكسر إذا كان قبلها ياء أو كسرة نحو: أعطه ويرميه مالم/ تتصل بضمير آخر نحو: بعطيهوه ولم يعطهوه" انتهى. فإن وليت ساكنا غير الياء فهي مضمومة على أصلها، نحو: منه

وعنه ولم يضربه. وكذلك في التثنية والجمع، نحو: منهما وعنهما ولم يضربهما ومنهم وعنهم ولم يضربهم ومنهن وعنهن ولم يضربهن. وبنو تغلب يقولون: منهم بكسر الهاء ولا أدري أيطردون ذلك في منه ومنهما ومنهن وما أشبهه مما قبل الهاء ساكن غير الياء أم لا يطردون ذلك. وقال الفراء: هي لغة مرفوضة. وقوله: وتشبع حركتها بعد متحرك مثاله: لهو وبهي، والإشباع هو الأصل. وقوله: ويختار الاختلاس بعد ساكن مطلقاً سواء أكان الساكن حرف علة، نحو: فيه ويرضوه، أم حرفاً صحيحاً نحو: منه وعنه وأكرمه. وقوله: وفاقاً لأبي العباس هو المبرد، قال المصنف في الشرح " رجح س الإشباع إذا لم يكن الساكن حرف لين، ورد ذلك أبو العباس، ويعضده السماع " انتهى. والذي يدل عليه السماع هو ما ذكره س وذهب إليه، قال س رحمه الله- واختصرناه بلفظه-: " إذا كان قبل الهاء حرف لين فإن حذف الياء والواو في الوصل أحسن وذلك: عليه يا فتى ورأيت أباه قبل، وهذا أبوه كما ترى، والإتمام عربي. فإن لم يكن قبل هاء المذكر حرف لين أثبتوا الياء

والواو في الوصل، وقد يحذف بعض العرب الحرف الذي بعد الهاء إذا كان ما قبل الهاء ساكناً، لأنهم كرهوا حرفين ساكنين بينهما حرف خفي نحو الألف فكما كرهوا التقاء الساكنين في أين ونحوها كرهوا أن لا يكون بينهما حرف قوي، وذلك قول بعضهم: منه يا فتى، وأصابته جائحة، والإتمام أجود لأن هذا الساكن ليس بحرف لين، والهاء حرف متحرك" انتهى. وقال أبو عمرو: الإتمام أجود بخلاف عليه وإليه، فقد نص س أن العرب تثبت في نحو: منه وأصابته وأن بعض العرب يحذف. وهذا مخالف لما قال المصنف: إن أبا العباس يعضده السماع. وكان هذا الرجل قليل الإلمام بكتاب س فكثيراً يزل بمخالفته إياه. قال المصنف: " ومن العرب من يكسر هاء الغائب بعد كسرة مفصولة بساكن ومنه {أَرْجِهْ وَأَخَاهُ} في قراءة ابن ذكوان" وقوله: اختياراً روى هذه اللغة الكسائي عن بني عقيل وبني كلاب، قال الكسائي: سمعت أعراب عقيل وكلاب يقولون: {إِنَّ الإِنسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ} بالجزم و {لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ} بغير تمام، وبهذه اللغة قرأ أبو جعفر: (له) وبه) بالاختلاس. وبها قرأ يعقوب: {بِيَدِهِ مَلَكُوتُ} بالاختلاس.

وقال الفراء: العرب تصل الهاء بالواو إّا رفعت مثل" رفعهو إليه" وبالياء إذا كسرت نحو: {يُؤَدِّهِي إِلَيْكَ} وهي أفصح اللغات وبعض قيس يحذفون الواو والياء فيقولون: {يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ} باختلاس الهاء {وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ} باختلاس و"رفعه إليه" أنشدني بعض بني عامر/: أنا ابن كلاب وابن أوس فمن يكن ... قناعة مغطيا فإني لمجتلى وبعض العرب يقف على الهاء جزماً في الوصل والقطع، كما قرأ حمزة والأعمش، ولست أشتهي ذلك لأنها شاذة فإما من لغته التخفيف فمثل قول الشاعر: عسى ذات يوم أن تعودا بها النوى ... على ذي هوى حيران قلبه طائر وأما من حذف الحركة البتة فمثله قول الراجز: أخنى على الدهر رجلاً ويدا ... يقسم لا يصلح إلا أفسدا فيصلح اليوم ويفسده غدا

ومثله. فبث لدى البيت العتيق أخيله ... ومطواي مشتاقان له أرقان وهذا الذي حكاه الكسائي والفراء عمن حكوه من العرب لم يحفظه س لشذوذه وندوره بل نص س على أن الحذف للياء والواو لا يجوز إلا في الاضطرار قال س: " فإن كان الحرف الذي قبل الهاء متحركاً فالإثبات ليس إلا، كما تثبت الألف في التأنيث لأنه لم تأت علة مما ذكرنا، فجرى على الأصل إلا أن يضطر شاعر فيحذف" انتهى. وقول س: "لأنه لم تأت علة مما ذكرنا" العلة التي ذكرها هي أن يكون قبلها حرف ساكن، إما حرف لين فالحذف أحسن وإما غيره فالإثبات أحسن. وكذلك حذف الصلة وحذف حركة الضمير، وأنشدوا على الضرورة قوله: ................. ... ما حج ربه في الدنيا ولا اعتمرا وقوله:

................ ... سأجعل عينيه لنفسه مقنعا وقوله: .................... ... ومطواي مشتاقان له أرقان وقوله: .................. ... إلا لأن عيونه سيل واديها قال أصحابنا: " وحذف حركة الضمير في الضرورة أحسن من حذف الصلة وإبقاء الحركة، لأن الأول فيه إجراء الوصل مجرى الوقف، فكما تقول: به، وضربه، ويضربه في الوقف، فكذلك في الوصل، وأما حذف الصلة وإبقاء الحركة فإنه لم يجر الوصل مجرى الوقف، ولا أبقي الوصل الصلة وإبقاء الحركة فإنه لم يجر الوصل مجرى الوقف، ولا أبقي الوصل على ما كان ينبغي أن يكون عليه" وقوله: وعند غيرهم اضطراراً أي: عند غير كلاب وعقيل لا يكون حذف الصلة والاختلاس ولا حذفها والإسكان للهاء، إلا في ضرورة الشعر. وقد ذكرنا الشاهد على ذلك. وفي الإفصاح: إسكانها إذا تحرك ما قبلها لا يجوز عند س إلا في الشعر، وكذلك تحريكها بلا صلة إلا إذا حذف ما قبلها نحو قوله: {يَرْضَهُ لَكُمْ} وما سواه ضرورة وهو من إجراء الوصل مجرى الوقف.

وهو عند أبي الحسن لغة. وقال الفراء: أصله شعر. وقوله: وإن فصل المتحرك في / الأصل ساكن حذف جزماً أو وقفاً جازت الأوجه الثلاثة. أي: وإن فصل الضمير المتحرك فصله في الأصل ساكن حذف جزماً نحو: {يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ} إذ أصله قبل دخول الجازم: يؤديه وكذلك (نصله) أصله نصليه وكذلك: {يَرْضَهُ لَكُمْ} أصله يرضاه لكم. ومثاله وقفاً -أي غير جزم - قوله: {فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ} أصله ألقيه وقوله: " في الأصل" متعلق ب "فصل" لا ب" المتحرك". والأوجه الثلاثة هي: الإشباع إذ صار في اللفظ نحو: به وضربه إذ هي هاء متصلة فاعتبر اتصالها بالحركة. والاختلاس نظراً إلى أن أصلها أن تختلس الحركة، ولا اعتداد بكونه ولي الهاء حركة، لأن ولايتها إياه إنما هو بحكم العرض، ولا اعتداد بالعارض غالباً. والتسكين نظراً إلى أن هذه الهاء حلت محل المحذوف الذي كان حقه لو لم يكن حرف العلة أن يسكن فأعطيت الهاء ما يستحقه المحل من السكون. وثبت في بعض النسخ بعد قوله: " جازت الأوجه الثلاثة" ما نصه: " وإشباع كسرة للتأنيث في نحو: ضربته وأعطيتكه لغة ربعيه" انتهى. وتقدم لنا

الكلام على إشباع الكسرة في نحو: أعطيتكيه، والفتحة في نحو: أعطيتكاه. وأما ضربته فقال س: "وحدثني الخليل أن ناساً يقولون ضربتيه، فيلحقون الياء، وهذه قليلة" وقد نبهنا على ذلك عند شرحنا قول المصنف: " وتكسر للمخاطبة". -[ص: ويلي الكاف والهاء في التثنية والجمع ما ولي التاء، وربما كسرت الكاف فيهما بعد ياء ساكنة أو كسرة. وكسر ميم الجمع بعد الهاء المكسورة باختلاس قبل ساكن وبإشباع دونه أقيس، وضمها قبل السكن وإسكانها قبل متحرك أشهر وربما كسرت قبل ساكن مطلقاً.]- ش: مثال ذلك: ضربكما غلامكما، وضربكم غلامكم، وضربكن غلامكن، وضربهما غلامهما، وضربهم غلامهم، وضربهن غلامهن. ومن كسر في به وفيه كسر في بهما وفيهما وبهم وفيهم وبهن وفيهن. ومن لم يكسر ضم، فقال: بهما وفيهما وبهم وفيهم وبهن وفيهن. وفي الإفصاح: إن كان قبلها كسرة أو ياء فأكثرهم يكسر، ومنهم من يضم وهم قليل، فيقولون: بهما وفيهما وفيهم. قال أبو عمر: " والضم مع الياء أكثر منه مع الكسرة" قال: "وأناس من العرب في "هم" إذا كسروا ألحقوا الياء، وهم تميم وعامة قيس وأناس يسكنون الميم، وهو قوم من أسد وكنانة من قيس" وأما الكاف فمضمومة في التثنية والجمع سواء أكان قبلها كسرة أم ياء أم غير ذلك، نحو: فيكما وبكما ولم أكرمكما. وكذلك في الجمع للمذكر والمؤنث، وتسكين ميم الجمع أعرف من الإشباع والاختلاس إذ لم يلها ضمير متصل، وخلاف يونس في جواز التسكين هنا إذا وليها ذلك الضمير

مثله في نحو: رأيتموه. وفي الإفصاح: قال أبو عمر: "فإذا لحقها المضمر ألحقوا الواو نحو: لأعطيتكموه". قال: " ولا يكسر الكاف من يؤخذ بلغته وقد حكي يونس أعطيتكمه/ ساكنة الميم". وقوله: وربما كسرت الكاف فيهما- أي في التثنية والجمع- بعد ياء ساكنة - نحو: فيكما وفيكم وفيكن- أو كسرة نحو: بكما بكم بكن. وكسرة هذه الكاف حكاها الفراء لغة للنمر، قال: " يقولون: السلام عليكم، ولا نعلم أحداً من العرب يقولها غيرهم" انتهى. وقد حكاها س من غير النمر قال س: " وقال ناس من بكر بن وائل: من أحلامكم وبكم، شبهها بالهاء لأنها علم إضمار وقد وقعت بعد الكسرة فأتبع الكسرة الكسرة حيث كانت حرف إضمار، وكان أخف عليهم من أن تضم بعد أن تكسر، وهي رديئة جداً، سمعنا أهل هذه اللغة يقولون للحطيئة: وإن قال مولاهم على جل حادث ... من الدهر: ردوا أفضل أحلامكم، ردوا" انتهى. إلا أن س لم يقل ذلك إلا فيما كان قبل الكاف التي للجميع في المذكرة كسرة، والفراء فيما نقل قبل تلك الكاف ساكن، فيجيء من مجموع

النقلين أنه قد تكسر الكاف في الجمع في المذكر إذا كان قبل الكاف ياء ساكنة أو كسرة، وهل ذلك يكون التثنية، نحو: بكما وفيكما، وفي الجمع في المؤنث، نحو: بكن وفيكن، كما ذكره المصنف يحتاج إلى مزيد نقل، ولا يكاد الأمر يختلف عن ذلك، إلا أن التحري في النقل أحوط فقد يجمعون بين المفترقات ويفرقون بين المتماثلات، فلو كان قبل الكاف ساكن غير الياء نحو: لم أضربكم فالضم. وقوله: باختلاس قبل ساكن مثاله: {بِهِمُ الأَسْبَابُ} و {يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ} وإنما كان كسرها أقيس من الضم لأجل الإتباع وإذا كانوا يتبعون في الكلمتين مع انفصالهما فلأن يتبعوا فيما هو كلمة واحدة أولى. وقوله: وبإشباع دونه أقيس أي دون الساكن مثاله: {وَمَن يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ}، {تُشَاقُّونَ فِيهِمْ}. قال: " ويجوز الإسكان والاختلاس، فيقولون: بهم وبهم". وإنما كان الإشباع لأن أصل الضم أن يوصل بحرف ياء أو واو أو ألف في حالة الإفراد فإذا ثنوا وصلوا الميم بألف، فإذا جمعوا زادوا في المذكر ميماً ووصلوها بواو أو بياء على ما تقرر، وكذلك في المؤنث يزيدون أيضا نوناً مشددة وهي بحرفين ليتساوى الضميران في أنه زيد على الكاف والهاء حرفان. وقوله: وضمها قبل ساكن- نحو: {بِهِمُ الأَسْبَابُ} - وإسكانها قبل متحرك- نحو: {وَمَن يُوَلِّهِمْ} - أشهر ولذلك قرأ أكثر

القراء بالضم قبل الساكن، وبالإسكان قبل المتحرك كأنهم كرهوا أن تتوالى كسرات في نحو"بهمي" وساء، فخففوا بحذف الصلة وحذف ما تولدت عنه، وهي الحركة. وإنما قال المصنف: " بعد الهاء المكسورة " احترازاً مما الهاء فيه مضمومة، نحو {تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ} ويضربهم الرجل فإن الميم لا تكسر. فإن كانت الهاء مختلفاً فيها، نحو هاء (عليهم): فمن ضم الهاء أتبع حركة الميم حركة الهاء إذا لقيها ساكن، نحو: {إِلَيْهِمُ الْمَلآئِكَةَ} و {عَلَيْهِمُ الضَّلاَلَةُ} وهي لغة كنانة وبعض بني سعد بن بكر ومن كسر الهاء أبقاها مكسورة وكسر الميم إذا لقيها/ ساكن كما تقدم، ولغة بعض بني أسد كسر الهاء ورفع الميم نحو: {عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ}. وفي البسيط: " وأما ضمير الجمع نحو عليهم وإليهم في لحاق الواو فالحذف هو اللغة الفصيحة، قال الفراء: هي لغة بني سعد وكنانة" انتهى. فإن كان قبلها ضما نحو: يضربهم أو فتحاً نحو: لن يضربهم أو ألفا نحو: عصاهم أو واواً نحو: يغزوهم، ضمت الهاء أو كسرة أو ياء ساكنة فالكسر الأفصح، والضم قال الفراء: لغة قريش أو أهل الحجاز ومن

حولهم من فصحاء اليمن. فيصح في " عليهم" ثلاث صور: عليهمو عليهمي، عليهم عليهم، عليهمو، ويمتنع عليهمي لأن "فعل" للأفعال، وإذا حذفت حرف المد وجب إسكان الميم ولا تحرك إلا للالتقاء، فإما على أصل التقاء الساكنين أو بحركة الأصل قال أبو حاتم: وهي لغة فاشية بالحرمين. وقال الفراء: هي لغة بني أسد. وقال الفراء: الكسر لغة سليم. انتهى، وفيه بعض تمثيل وحذف. وقوله: وربما كسرت قبل ساكن مطلقاً أي: كسرت الميم قبل الساكن وإن لم تكن الهاء مكسورة نحو قوله: ............... ... وهم الملوك ومنهم الحكام وقوا الآخر: ألا أن أصحاب الكنف وجدتهم ... هم الناس لما أخصبوا وتمولوا وذكر الفراء أن العرب جميعاً يقولون: {أَلا أنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ} فيرفعون الميم من "هم" عند الألف واللام، إلا بني سليم، فإني سمعت بعضهم ينشد: فهم بطانتهم وهم وزراؤهم ... وهم القضاة ومنهم الحجاب

-[ص: فصل تلحق قبل ياء المتكلم إن نصب بغير صفة أو جر بمن أو عن أو قد أو قط أو بجل ولدن نون مكسورة للوقاية. وحذفها مع لدن وأخوات ليت جائز، وهو مه بجل ولعل أعرف من الثبوت، مع ليس وليت ومن وعن وقد وقط وبالعكس. وقد تلحق مع اسم الفاعل وأفعل التفضيل وهي الباقية في "فليني" لا الأولى وفاقاً لسيبويه.]- ش: أصل ياء المتكلم الحركة، كما أن النون في فعلن والتاء في ضربت متحركان، فأما الواو في ضربوا، والياء في اضربي فمحمولان على الألف لأنهما ضميرا رفع، حرفا مد ولين مثلها، والألف لا تتحرك لما يلزم في ذلك من قلبها لغيرها، فحملوهما عليها كما حملوا الكسرة في مسلمات على ياء مسلمين ومع ذلك إن المد الذي فيهما بمنزلة الحركة، قاله أبو علي في الحجة وقال: " وحجة من أسكن |أن الياء تستثقل فيها الفتحة، وقد اتفقوا على تسكين معدي كرب وقالي قلا في المركب والإضافة، وأنها تحذف منها الفتحة في الكلام ويكثر في الشعر حتى زعم بعض النحويين انه قياس لقوة شبهها بالألف" انتهى. ويدخل تحت قوله: " بغير صفة" أن ينصب بالفعل الماضي وبالمضارع وبالأمر وباسم الفعل وبإن وأخواتها نحو: ضربني ويضربني واضربني وعليكني ورويدني، وقال بعض العرب: " عليك بي" حكاه س، لأن

"عليك" في الإغراء تنصب ما بعدها فتقول: عليك زيداً وتعدى/ إلى مفعولها بالباء أيضا، فتقول: عليك بي، قال الشاعر، فجمع بين تعديه "عليك" بنفسه وتعديته بحرف الجر: ولقد بعثت العنس، ثم زجرتها ... وهناً، وقلت: عليك خير معد عليك سعد بن الضباب، فسمحي سيراً إلى سعد، عليك بسعد وقال الفراء: " سمعت بعض بني سليم يقول: مكانكني، يريد انتظرني في مكانك" وتقول: إنني. واحترز بقوله: " بغير صفة" من أن ينصب بصفة نحو: زيد ألضاربي وهذا على مذهب من يزعم أن هذا الضمير منصوب، وأما من يعتقد أنه مجرور فلا يحتاج إلى هذا الاحتراز بل يكتفي أن يقول: إن نصب. وقد اندرج تحت قوله: " بغير صفة" الذي لا ينصرف نحو: هب وتعلم ووهب بمعنى جعل، عسى، فتقول: هبني شجاعا تعلمني منطلقاً، ووهبني الله فداءك، وعساني أن أخرج ولما كان للفعل الأصالة في لحاق هذه النون له لم يمنع من ذلك عدم التصرف. واختلفوا في لحاقها فعل التعجب، نحو: ما أحسنني، وما أجملني: فذهب البصريون إلى أن حكمه في ذلك حكم سائر الأفعال في لزوم نون

الوقاية. وذهب الكوفيون- واختاره بعض أصحابنا - إلى أن لحاق النون له هو على سبيل الجواز لا على سبيل اللزوم، فأجاز أن تقول: ما أجملي! وما أظرفي! وما أجملني! وما أظرفني! قال بعض أصحابنا: " ولعلهم قالوا ذلك بالقياس فإنه عندهم اسم، فإن كان ما أجازوا من ذلك مسموعاً فوجهه شبهه بالأسماء من حيث لم يتصرف" انتهى. وما أجازه الكوفيون من ذلك هو سماع عن العرب صرحوا بذلك فوجب قبوله. وقد استعمله بعض مشايخنا النحاة الأدباء في شعره فقال: يا حسناً مالك لم تحسن ... إلى نفوس في الهوى متعبة؟ طرزت بالورد والسوسن ... صفحة خد بالسنا مذهبه يا حسنة إذ قال: ما أحسني! ... ويا لذاك اللفظ ما أعذبه! قلت له: كلك عندي سني ... وكل ألفاظك مستعذبة في أبيات ذكرها.

وقوله: أو جر بمن أو عن أو قد أو قط أو بجلأو لدن مثاله: مني وعني وقدني وقطني وبجلني ولدني. أما قد وقط فذكر المصنف أن معناهما معنى حسبي، والياء المتصلة مجرورة بالإضافة إليها كما تقول في حسبي إن الياء مجرورة بالإضافة إليها. وما ذهب إليه المصنف هو مذهب الخليل وس. ونقل الكوفيون في قط وقد وجهين عن العرب: أحدهما: أنها اسما فعل، وهما مبنيان على السكون، وينصبون بهما، فيقولون: قد زيداً درهم. وإذا اتصل بهما ضمير المتكلم لحقتهما نون الوقاية لأن الضمير في موضع نصي، كما تلحق سائر أسماء الأفعال الناصبة، نحو: رويدني، والثاني: / أن من العرب من يقول: قط عبد الله درهم، وقد عبد الله درهم فيرفع قط وقد ويجر ما بعدهما بإضافة قط وقد إليه، ويعربهما، ويكونان بمعنى حسب. وإذا أضاف إلى نفسه قال: قطي درهم وقدي رهم، فلا يلحقهما نون الوقاية كما لا تلحق حسب. هذا نقل الكوفيين. وقد ذكر المصنف في " باب أسماء الأفعال" أنهما يكونان اسمي فعل في أحد الوجهين. وذكر في " باب تتميم الكلام على كلمات مفتقرة إلى

ذلك" أن "قد" تكون اسماً ل"كفى" فتستعمل استعمال أسماء الأفعال، فتطالع هناك. والذي أختاره أن من قال من العرب قدني وقطني فإنهما عنده اسم فعل، والياء في موضع نصب. ومن قال قطي وقدي فهما بمعنى حسب، والياء في موضع جر، كما نقل الكوفيون عن العرب. ويحتمل أن تكون النون في قطني وقدني ليست نون وقاية بل هي من أصل الكلمة حكي الكسائي عن العرب: قطن عبد الله درهم، وقطن عبد الله درهم، بحر عبد الله ونصبه، فعلى هذا النون من أصل الكلمة فإذا أنجر ما بعده فهو مبني على الفتح لشبهه بقطن الذي هو اسم فعل. وقال هشام: من نصب عبد الله مع النون وأتى بياء المتكلم لزمه أن يقول قطنني بنونين، ولم يسمع هذا من العرب. قال هشام: فيجوز أن يكون الأصل قطنني فحذفت النون كما حذفت من إنني فقيل: إني. وعلى ما حكي الكسائي أجاز هشام: إن قطني درهم، وإن قدني درهم على أن الياء مخفوضة بالإضافة، والنون من سنح الكلمة. وأما بجل فقد ذكر المصنف وغيره أنها تكون اسم فعل فينبغي إذا لحقتها نون الوقاية أن تكون اسم فعل، فتقول: بجلني بمعنى يكفيني أو كفاني.

وقوله نون مكسورة للوقاية أصل اتصال هذه النون بالفعل، واتصلت بغيره على جهة الشبه، قالوا: "وإنما لزمت في الفعل لأن ياء المتكلم يكسر ما قبلها، فلو لم تلحق الفعل لدخله الكسر الذي هو نظير الخفض، فكما أن الخفض لا يدخل الفعل، فكذلك نظيره، فلحقت النون لتقي الفعل من الكسر" قالوا: " فإن قيل: هلا قالوا ضربتي، يريدون: ضربتني، لأن الضمير يقي الفعل من الكسر، فكانوا يستغنون به عن نون الوقاية؟ فالجواب أن ضمير الفاعل بمنزلة جزء من الفعل، وقد أقيم الدليل على ذلك، فكما كرهوا دخول الكسر في الفعل، فكذلك أيضا كرهوا دخوله في الضمير لأنه بمنزلة حرف من حروفه" وزعم المصنف أن فعل الأمر أحق بنون الوقاية من الماضي والمضارع، قال في الشرح: " لأنه لو اتصل بياء المتكلم دونها لزم محذوران: أحدهما التباس ياء المتكلم بياء المخاطبة. والثاني التباس أمر المذكر بأمر المؤنثة، فهذه النون توفي هذان المحذوران، فسميت نون الوقاية لذلك، لا لأنها وقت الفعل من الكسر، إذ الكسر يلحق الفعل مع ياء المخاطبة لحاقاً هو أثبت من لحاق الكسر لأجل ياء المتكلم لأنها فضله في تقدير الانفصال، وتغني عنها الكسرة في نحو: {كْرَمَنِ}، ثم يوقف على المكسور/ بالسكون وياء المخاطبة عمدة لا يعرض لها ذلك، ولما صحبت الأمر صحبت أخويه واسم الفعل وجوباً ليدل لحاقها على نصب الياء، ولو جعل لحاقها مع المضارع أصلاً لم يمتنع لأنها صانته من خفاء الإعراب

وتوهم بقائه، فاحترز بها كما احترز في نحو: يضربان، فجيء بالنون نائبة عن الضمة، ولم يحتج إلى ذلك في علامي، بل اكتفي بتقدير الإعراب لأصالته فيه، فلا يزال إلا بسبب جلي. وقد يؤيد اعتبار وقاية الفعل الكسر بأنه كسر يلحق الاسم مثله في ياء المتكلم لا كسر ما قبل ياء المخاطبة، فإنه خاص بالفعل، فلا حاجة إلى صون الفعل منه. وهذا فرق حسن، لكنه مرتب على ما لا أثر له في المعنى، بخلاف الذي اعتبرته، فإنه مرتب على صون من ذلك ولبس، فكان أولى" انتهى، وفيه بعض تلخيص. وهذا إكثارا في تعليل لحاق نون الوقاية الفعل، وهو فضول من الكلام. وقوله: وحذفها مع لدن وأخوات ليت جائز قال المصنف في الشرح: " لحاق النون أكثر من عدم لحاقها، وزعم س أن عدم لحاقها من الضرورات، وليس كذلك، بل هو جائز في الكلام الفصيح، ومن ذلك قراءة نافع): من لدني عذرا) بتخفيف النون وضم الدال. ولا يجوز أن تكون نون لدني نون الوقاية، ويكون الاسم لذ، لأن ولد متحرك الآخر، والنون في لدن وأخواته إنما جيء بها لتصون أواخرها من زوال السكون، فلا حظ فيها لما آخره، وإنما يقال في لد مضافاً إلى الياء لدي، نص على ذلك س. وقرأ أبو بكر مثل نافع إلا أنه أشم الدال ضماً. وقرأ الباقون بضم الدال وتشديد النون مدعمين نون لدن في نون الوقاية" انتهى كلامه. وما ذهب إليه من التخيير في إثبات نون الوقاية وحذفها قد ذهب إليه

غيره من أصحابنا كأبي موسى والأستاذ أبي الحسن بن عصفور وشيخنا الأستاذ أبي الحسن الأبذي وغيرهم، وقال ابن عصفور: " وإنما كان الحذف في لدن أحسن لأنهم يقولون: لد، فيحذفون النون، ولد المحذوفة إذا اتصلت بها ياء المتكلم لم تلحقها نون الوقاية لأنها إذ ذاك بمنزلة مع فما يقولون معي فكذلك يقولون لدي، فكأن الذين حذفوا نون الوقاية مع إثبات النون حملوها في ذلك عليها إذا حذفت نونها" انتهى كلامه. وأما س فلم يذكر فيما وقفنا عليه من كلامه إلا لحاق نون الوقاية في لدن. وأما قول المصنف عنه: " إن عدم لحاقها من الضرورات " فليس كما قال عنه، إنما قال في قد: " وقد جاء في الشعر قدي، قال الشاعر: قدني من نصر الخبيبين قدي لما اضطر شبهه بحسبي" انتهى. وأما أخوات ليت فهي إن وأن وكأن ولكن ولعل، فيجوز أن تقول: إنني وأنني وكأنني ولكنني، ويجوز: إن إني وأني وكأني ولكني. وإنما لحقت نون الوقاية لأن وأخواتها لأنها لما/ عملت عمل الفعل أجريت مجراه في لحاق نون الوقاية تكميلاً للشبه. وإنما جاز حذفها فيما عدا ليت لأن لحاقها لهن أضعف من لحاقها للفعل، إذ هي محمولة على الفعل، ولاجتماع الأمثال أيضا في إنني وأنني

وكأنني ولكنني، والمتقاربات في لعني، ولأنها طرف، والطرف يسرع إليه الإعلال، وهذا مذهب س وقولهم لعلي يدل على ذلك. وكذلك: ............. ............. فليني لأن النون فاعل، والفاعل لا يحذف. وما ذهب إليه المصنف من حذف نون الوقاية من إن وأن وكأن ولكن إذا اتصلت بباء المتكلم هو مذهب أكثر النحويين من البصريين والكوفيين. وذهب بعضهم إلى أن الساقط هو النون الثانية، والأولى مدعمة في نون الوقاية. واحتج بأن نون الوقاية دخلت للفرق بين إنني وغلامي، ولشبه إنني يضربني، وما دخل للفرق فسبيله أن يبقى ولا يسقط، كما أن الذي يقول: أنت تتكلم، والمرأة تتكلم، إذا قال: أنت تتكلم، والمرأة تكلم، أسقط التاء الثانية ولم يسقط الأولى لأنها هي الفارقة بين الخطاب والغيبة، وهذا كإسقاط الأولى من ظلت وهمت وعلماء عبد الله، الأصل: ظللت وهممت وعلى الماء. ويدل أيضاً على أن الساقط هي الثانية قولهم: علمت إن زيداً قائم، فقد عهد حذفها قبل نون الوقاية، فلتكن المحذوفة إذا لحقت. وقيل: المحذوف هي الأولى لأنها ساكنة، ويسرع إلى الساكن الاعتلال بدلالة ميزان وموسر وصحة خوان. وأما إنا وأنا ولكنا وكأنا فالمحذوفة

الوسطى لأن الأخيرة اسم، وليست للوقاية. وقيل: المحذوف الأولى. وقوله: وهو مع بجل ولعل أعرف من الثبوت تقول: بجلي، قال الشاعر: ألا إنني شربت أسود حالكا إلا بجلي من الشراب ألا بجل ويجوز بجلني. ومعنى بجل: حسب، وهو أشبه بحسب من قط وقد لتساويهما في كونهما ثلاثيين ومشتقاً منهما، قالوا: أبجله وأحسبه بمعنى كفاه. والأكثر لعلي، وقل لعلني ومنه قول الشاعر: فقلت: أعيراني القدوم لعلني أخط بها قبراً لأبيض ماجد وقوله: ومع ليس وليت ومن وعن وقد وقط بالعكس ظاهر كلام المصنف التسوية بين هذه الكلمات في أنه يكثر معها نون الوقاية، ويقل حذفه. أما: ليس" فالقياس يقتضي ثبات النون كما ثبتت في عساني، وقال بعض العرب: عليه رجلا لينسي، وقال الراجز، فحذف: عددت قومي كعديد الطيس ... إذ ذهب القوم الكرام ليسي يريد: ليسنِي.

وأما ليت فالقياس يقتضي ثبات النون لأنه لا يلتقي مثلان ولا متقاربات وقال الشاعر: كمنية جابر إذ قال: ليتي ... أصادفه، وأذهب بعض مالي وقال مهلهلا: زعموا أنني ذهلت، وليتي ... أستطيع الغداة عنك ذهولا وقال الآخر: فيا ليتي إذا ما كان ذالكم ... شهدت، وكنت أولهم ولوجا قال المصنف في الشرح: " ولم يرد ليتي وليسي إلا في نظم" انتهى. أما "ليس" فقد نص بعض أصحابنا على أن حذف نون الوقاية من "ليس" يجوز في الكلام. وأما من "ليت" فنص س على أن ذلك في الضرورة قال س: " وقد قالت الشعراء ليتي إذا اضطروا، كأنهم شبهوه بالاسم حيث قالوا: الضاربي

والمضمر منصوب" انتهى. وقال الفراء: " ليتي وليتني جائز" فظاهر هذا أنه يجوز في الكلام. وأما من وعن وقد وقط فقال الشاعر: أيها السائل عنهم وعني ... لست من قيس، ولا قيس مني وقال: قدني من نصر الخبيبين قدي وظاهر كلام المصنف وكلام أبي موسى أن حذف النون من من وعن وقط وقد جائز في الكلام وإن لم يكن في شهرة الإثبات. وليس كذلك بل الحذف لا يجوز إلا في الضرورة، نص عليه أصحابنا. وقوله: وقد تلحق مع اسم الفاعل مثاله قول الشاعر: وما أدري- وظني كل ظن- ... أمسلمني إلى قومي شراح وقول الآخر:

وليس بمعييني - وفي الناس ممتع- ... صديق إذا أعيا على صديق وقول الآخر: وليس الموافيني ليرفد خائباً ... فإن له أضعاف ما كان آملا وقول الآخر: ألا فتى من سراه الناس يحملني ... وليس حاملني إلا ابن حمال وقول الآخر: أمسلمني للموت قومي فميت ... أنشد المصنف ثلاثة الأبيات الأول زاعماً أن هذه النون هي نون الوقاية لحقت الصفة تشبيهاً له بالفعل. وذهب غيره إلى أن النون في مثل: مسلمني وجاملني ومعيني هو نون التنوين لا نون الوقاية، وجعل إثبات هذا النون الذي هو التنوين نظير إثبات نون التثنية ونون الجمع مع الضمير في الضرورة. قال: " ولا يجوز إثبات النون ولا التنوين في اسم الفاعل مع الضمير إلا ضرورة". وأنشد/ شاهداً على إثبات التنوين: "وما أدري، "وألا فتى" "وليس بمعيني"، ثلاثة الأبيات. وأنشد على إثبات النون قول الشاعر:

هم القائلون الخير والآمرون ... . وقول الآخر: ولم يرتفق والناس محتضرون ... .. وإلى أن النون في مسلمني هو تنوين ذهب هشام فأجاز: هذا ضاربنك وهذا ضاربني، بإثبات التنوين مع الضمير مستدلاً بقوله: ... أمسلمني إلى قومي شراح وقال المصنف في الشرح ناصراً لدعواه أن هذه النون هي نون الوقاية ما نصه: " ومعييني والموافيني يرفعان توهم كون نون مسلمني تنويناً لأن ياء المنقوص المنون لا ترد عند تحريك التنوين لملاقاة ساكن نحو: أغاد ابنك أم رائح؟ وياء معييني الثانية ثابتة في " وليس بمعييني"، فعلم أن النون الذي وليه ليس تنويناً وإنما هو نون الوقاية، ولذلك ثبت مع الألف واللام مع الموافيني وأيضا فإن المنون إذا اتصل بما هو معه كشيء واحد حذف تنوينه نحو: وابن زيداه، ولا يقال: وابن زيدناه فيحرك التنوين، بل يحذف لان زيادة الندبة والمندوب كشيء واحد، وكذا ياء المتكلم مع متلوها كشيء واحد، ولذا كسر ما قبلها ما قبل ياء النسب. وأجاز الكوفيون

تحريك التنوين لأجل ألف الندبة في نحو: " وابن زيدناه. وأيضا فمقتضى الدليل مصاحبة النون الياء في الأسماء المعربة لتقيها خفاء الأعراب، فلما منعوها ذلك كان كأصل متروك، فنهبوا عليه في بعض أسماء الفاعلين كما مضى من أمسلمني ومعييني والموافييني. ومن ذلك قراءة بعض القراء: (هل أنتم مطلعين) بتخفيف الطاء وكسر النون وفي البخاري: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لليهود: ""فهل أنتم صادقون" كذا في ثلاثة مواضع في أكثر النسخ المعتمد عليها" انتهى كلامه. وفيه بعض مناقشة. والدليل على أنه في مثل ضاربني تنوين لا نون وقاية ثبوت النون في "مختصرونه" و"الآمرون" لأن التنوين يسقط مع الضمير كما تسقط هذه النون وقوله وأفعل التفضيل قال في الشرح: "لما كان لأفعل التفضيل شبه بالفعل معنى ووزناُ وخصوصاً بفعل التعجب اتصلت به النون المذكورة في قول النبي صلى الله عليه وسلم: " غير الدجال أخوفني عليكم" والأصل فيه: " أخوف مخوفاتي، فحذف المضاف إلى الياء فأقيمت هي مقامه فاتصل أخوف بالياء معمودة بالنون كما فعل بأسماء الفاعل الثلاثة" ثم تكلم على أخوف وكيف بني للتفضيل وخرجه على أنه مصوغ من

فعل المفعول كقولهم: "أشغل من ذات النحيين "، وقوله عليه السلام: "أخوف ما أخاف على أمتي الأئمة المضلون ". أو من أخاف وإن كان رباعياً إذ هو مطرد على مذهب س على زعمه. والمعنى: غير الدجال أشد إخافة عليكم من الدجال. أو من باب وصف المعاني على سبيل/ المبالغة بما يوصف به الأعيان، فيقال: شعر شاعر، وتقديره: خوف غير الدجال أخوف خوفي عليكم، فحذف المضاف إلى غير، وإلى الياء، وأقيما مقامه. انتهى ملخصاً. وقوله: وهي الباقية في فليني لا الأولى وفاقاً لسيبويه أشار بقوله: "فليني "إلى قول الشاعر: تراه كالثغام، يعل مسكا يسوء الفاليات إذا فليني يريد: فلينني. قال المصنف: حذف الأولى، وبقيت الثانية، كما أنها هي الباقية في: {قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَامُرُونِّي} انتهى. ونظر بشيء مختلف فيه، وقد تقدم الكلام عليه في آخر باب إعراب الصحيح الآخر.

وذهب بعض أصحابنا إلى أن المحذوف في "فليني "هي نون الوقاية لا نون الإناث، وأن هذا الحذف وقع ضرورة، وأن مسهله في الضرورة هو اجتماع المثلين. وتقدمه إليه المبرد، قال: أرى فيما كان مثل هذا حذف الثانية. وهذا الذي أختاره لأن نون الإناث اسم ضمير فاعل، ونون الوقاية حرف، وجيء به ليقي الفعل من الكسر، فالذي كان يقتضيه القياس أن كل ما اتصل بالفعل مما كان يمكن كسره، فلا يصل الكسر إلى الفعل بسببه، أن لا يؤتي فيه بنون الوقاية، لكن كان يعرض لبس في بعض الصور، نحو: ضربتني، خطاباً لمذكر، وضربتني، خطاباً لمؤنث، فلو لم تأت بالنون وقلت: ضربتي لا لتبس، فلم يدر أهو خطاب لمذكر أم لمؤنث، أما في نحو: ضربنني فلو لم يؤت بنون الوقاية، واجتزئ بكسرة النون التي هي ضمير، لم يلبس، فجاء قولهم: "فليني "تنبيهًا على ما كان ينبغي أن يكون، وذلك في الضرورة، فالأولى أن يعتقد أن المحذوفة هي نون الوقاية، وأن المثبتة هي نون الضمير العائد على "الفاليات ". وقال ابن هشام: وينبغي في "فليني "أن تحذف نون الوقاية لأن الأولى ضمير الفاعل، فهي أولى بالإبقاء. وقال ابن جني: "ومن قرأ: (أتحاجونا) فالمحذوف علامة الرفع

لأن الثانية ضمير "انتهى. هذا ومذهبه أنه يجوز حذف نون الوقاية إذا اجتمعت مع نون الرفع، فقياسه أن يحذف الثانية في {أتحاجوننا}، لكنه اعتل بكونها ضميرًا، فكذلك ينبغي في "فليني "أن تكون المحذوفة نون الوقاية لكون الأولى ضميرًا. وفي البسيط: "وأما في ضمير الفاعل- يريد في نحو: فليني- فلا خلاف أن نون الوقاية هي المحذوفة ".

-[ص: فصل من المضمر منفصل في الرفع، منه للمتكلم "أنا "محذوف الألف في وصل غير تميم، وقد يقال: هنا، وآن، وأن. ويتلوه في الخطاب تاء حرفية كالإسمية لفظًا وتصرفًا. ولفعل نفعل "نحن "، وللغيبة: هو وهي وهما وهم وهن. ولميم الجمع في الإنفصال ما لها في الإتصال. وتسكين هاء هو وهي بعد الواو والفاء واللام وثم جائز، وقد تسكن بعد همزة الإستفهام وكاف الجر. وتحذف الواو والياء اضطرارًا، وتسكنهما قيس وأسد، وتشددهما همدان.]- ش: لما ذكر المصنف المتصل من المرفوع والمنصوب أخذ في ذكر المنفصل، فبدأ بالمرفوع، وبدأ منه بالمتكلم، فذكر "أنا ". ومذهب البصريين أن الإسم هو الهمزة والنون، وأما الألف بعدها فزائدة، بدليل حذفها في الوصل إذا قلت: / أنا فعلت، وإنما تزاد للوقف كزيادة هاء السكت، وتعاقبهما الهاء كقول حاتم: "هذا فصدي أنه ". ومذهب الكوفيين أنه كله الإسم، بدليل إثبات الألف في قول حميد ابن ثور:

أنا سيف العشيرة، فاعرفوني حميدًا، قد تذريت السناما واختاره المصنف، قال: "والصحيح أن أنا بثبوت الألف وقفا ووصلا هو الأصل، وهي لغة بني تميم، وبذلك قرأ نافع قبل همزة قطع في نحو: (أنا أحيي)، وابن عامر في (لكنا هو الله)، إذ أصله: لكن أنا، ولمراعاة الأصل كانت نون أنا مفتوحة في لغة من أسقطها، وجعل الفتحة تدل عليها، كقولهم: أم والله، ولم فعلت؟ يريد: أما والله، ولأن ما كان على حرفين، وهو مبني، إنما يبنى على السكون ك "من "و "عن ". انتهى ملخصًا. وقوله: في وصل غير تميم يعني أن تميمًا في الوصل يثبتون الألف كما يثبتونها في الوقف، وأن غير بني تميم يحذفها في الوصل فقط، ويثبتها في الوقف، وهذه اللغة هي لغة الحجاز، نص عليها الفراء. وأما "أنا "بإثباته وقفًا ووصلاً فذكر المصنف أنها لغة بني تميم، ونقل الفراء أن من قيس وربيعة من يقول هذه اللغة، قال: وأنشدني بعضهم لأبي النجم:

أنا أبو النجم إذا قل العذر وأما "هنا "فالهاء بدل من الهمزة، كما قالوا في إياك: هياك. وأما "آن "فقال الفراء: بعض العرب يقول: "آن قلت ذلك "، يطيل الألف الأولى، ويحذف الآخرة. و "آن قلت ذاك "في قضاعة على وزن عان. وقوله: "يطيل الألف "يدل على أنه إشباع، والإشباع يكون غالبًا في الضرورة، وجعله المصنف من باب المقلوب كقولهم في رأي: راء. وأما "أن "فحكاها قطرب. وقوله: ويتلوه في الخطاب أي: ويتلو أن، وهي اللغة الأخيرة التي ذكرناها في أنا. وقوله: تاء حرفية كالإسمية لفظًا وتصرفًا تقول: أنت أنت أنتما أنتم أنتن، كما قلت: ضربت ضربت ضربتما ضربتم ضربتن. وهذا الذي ذهب إليه المصنف من أن المضمر هو "أن "وأن التاء حرف خطاب لا اسم هو مذهب البصريين، فهو عندهم مركب من اسم وحرف، ولذلك غذا سموا به حكوه، فقالوا: قام أنت، ورأيت أنت، ومررت بأنت. وذهب الفراء إلى أن "أنت "بكماله هو الإسم، قال الفراء: أخذت التاء من قولك: ذهبت، فضمت إليها أن، وجعلا اسمًا واحدًا. وذهب ابن كيسان إلى أن التاء هي الإسم، وهي التي كانت في

فعلت، وكثرت بـ"أن ". وهذا الذي أختاره لأنه قد ثبتت اسمية التاء في ضربت وفروعه بلا خلاف، وفائدتها هنا في أنت وفروعه فائدة فعلت وفروعه، ولم يثبت في كلام العرب أن التاء للخطاب فيحمل عليه هذا، وقد ثبتت الإسمية، فيحمل هذا عليه، ولا يمكن أن يكون "أن "الضمير هو ضمير الخطاب زيد عليه حرف خطاب للتدافع؛ لأنه من حيث هو موضوع للمتكلم ينافي الخطاب، ومن حيث التاء تدل على الخطاب تنافي التكلم، فالذي نختاره هو أن "أن "المكثر به التاء حتى يصير ضميرًا مستقلاص منفصلاً هو غير/ ضمير المتكلم، وأنه وافقه لفظًا لا مدلولاً، وهذا نظير ما قال بعضهم في "إياك "، وسيأتي الكلام فيه إن شاء الله. وذهب بعض المتقدمين إلى أن "أنت "مركبة من ألف أقوم ونون نقوم وتاء قمت، وأن "أنا "مركب من ألف أقوم ومن نون قمنا. وهذا قول ينبغي أن لا يتشاغل به. وفي التثنية أنتما زيدت الميم تقوية كما في المتصل، والألف أصلية، وضمت التاء هنا لأنهم لا يحتاجون إلى الفرق لعزمهم على الإشتراك، وكانت الضمة لأنها حركة ما لا يكون في الأصل. وفي الجمع أنتمو، والواو أصلية، وتحذف كما تحذف في المتصل. وفي المؤنث أنتن، والنون الأولى زائدة، وضمت التاء هنا وإن كان لا اشتراك في هذا الجمع لأن التفرقة قد حصلت بالنون. وقوله: ولفاعل نفعل نحن قال الفراء وثعلب: لما تضمن معنى

التثنية والجمع قوي، فأعطي أقوى الحركات كما ضموا "حيث "حيث قالوا: الخضب حيث المطر، فتضمنت محلين. وكذا قبل وبعد عند الفراء، لما تضمنا معناهما في أنفسهما ومعنى المحذوف بعدهما حملتا أثقل الحركات. وقال هشام: الأصل نحن، فقلبت حركة الحاء على النون، وأسكنت الحاء. وقال أبو العباس: نحن مثل قبل وبعد لأنها متعلقة بشيء، وهو الإخبار عن اثنين وأكثر، فأشبهت قبل وبعد. وقال أبو إسحاق: "نحن لجماعة، ومن علامة الجماعة الواو، والضمة من جنس الواو، فلما اضطروا إلى حركة نحن لإلتقاء الساكنين حركوها بما يكون للجماعة ". قال: "ولهذا ضموا واو الجماعة في: (اشتروا الضلالة) ". وقال علي بن سليمان: "نحن للمرفوع، فحرك بما يشبه الرفع "انتهى ما نقلناه في تعليل بناء "نحن "على الضم، وهو تعليل وضع، وليس فيه كبير فائدة. وقوله وللغيبة هو وهي هو للمذكر، وهي للمؤنث. والمعروف عند البصريين أن الإسم هو وهي بجملتهما، وليست الواو والياء زائدة للمد

لأنها متحركة، ولو كانت للمد لم تحرك كما في ضربة، ولذلك ثبتت في الوقف، وتبين حركتها بالهاء نحو: "هوه "كما يوقف على النون في ضربهن، لكنها قد تشبه بالمتصل المنصوب، فتحذف في الضرورة. وذهب الكوفيون وابن كيسان والزجاج إلى أن الهاء من هو وهي هي الإسم، والواو والياء مزيدان للتكثير. وتأوله ابن كيسان على س لأن س أنشد: بيناه في دار صدق، قد أقام بها ... ............................ وأنشد: دار لسعدي إذ هـ من هواكا فحذف الواو والياء، فدل على أنهما زائدان على لغة من قال: هو وهي. قال ابن كيسان: ويدل على ذلك حذفها في التثنية، تقول: هما قاما. وبذلك استدل الكوفيون. وهو ضعيف لأن التثنية والجمع ألفاظ مُرْتَجَلَة،

قالوا: والأصل هو ما، وهو مو، فحركت الواو بالضم، كما فعلوا في تاء أنتما وأنت، فاستثقلوا الضمة عليها، فحذفوها، فسكنت، فحذفت استخفافًا، وحذفت الواو من همو، ولم تحذف الألف من هما. / والميم في هما وهمو زائدة. وحكي عن أبي علي أنه قال: هما وهم ضمير بجملته. ولم يجعل الميم زائدة. وجمع المؤنث: هن، وأصله هون، والنون الأولى كالميم، والثانية كالواو، ولم يحذفوا النون كما قالوا هم لأنها ليست بحرف مد. وقوله: ولميم الجمع في الإنفصال ما لها في الإتصال أي: حكم أنتم في تسكين الميم وإشباعها واختلاس الحركة حكم ضربتم، إلا أن ميم أنتم لا يجيء فيها خلاف يونس في ضربتموه لأنه لا يتصل به الضمير. وقوله: وتسكين هاء هو وهي بعد الواو والفاء واللام وثم جائز هو وهي بناؤهما على حركة مخالف لما جاء من الأسماء على حرفين، فإنه بني على السكون، وإنما بني على حركة ما بناؤه عارض كاسم "لا "والمنادى وما حذف منه حرف كأنا على مذهب من يجعل الألف من أصل الكلمة. وتسكين أولهما بعد هذه الحروف مخالف أيضًا لنظائرهما، فأما بناؤهما على حركة فسببه أنهم قصدوا امتيازهما من ضمير الغائب المتصل؛ ألا ترى أنك تقول: ضربه، ومر به، فإذا أشبعت الحركة صار مشبهًا لهو وهي لو بنيا على السكون، فالتبس المنفصل بالمتصل. وأما تسكين الهاء ففرار من مخالفة النظائر؛ إذ ليس في الكلمات ما هو على حرفين متحركين ثانيهما حرف لين غيرهما، فقصد تسكين أحدهما، فكان ثانيهما أولى، إلا أنه يلبس المنفصل بالمتصل، فعدل إلى تسكين الأول مع الحروف المذكورة لأنها كثيرة الإستعمال وبمنزلة الجزء مما تدخل عليه، أعني

الواو والفاء واللام، وألحقت بها ثم، وقد قرئ بها في السبعة. هذا تعليل المصنف في الشرح، وفيه بعض تلخيص واختصار، وهو تعليل لا يحتاج إليه. وتسكين هاء هو وهاء هى لغة أهل نجد، والتثقيل لغة الحجاز، والتخفيف أكثر في كلام العرب، وذلك فيما قبلة الواو والفاء واللام، شبهوا فهو يرحل، وفهي بهرم، فخففوا. وقوله: وقد تكسن بعد همزة الاستفهام وكاف الجر مثاله قول الشاعر: فقمت للطيف مرتاعا، فأرقني فقلت: أهي سرت أم عادني حلم وقول الآخر: وقد علموا ما هن كهي، فكيف لي سلو، ولا أنفك صبًا متيما وذكر المصنف في الشرح أن السكون مع الهمزة والكاف لم يجئ إلا في الشعر، وقرأ أبو حمدون: (لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي)، وقرئ أيضًا

(أَنْ يُمِلَّ هُوَ) بسكون الهاء وهي قراءة شاذة. وقوله: وتحذف الواو والياء اضطرارًا مثال ذلك قول الشاعر: بيناه في دار صدق قد أقام بها حينًا يعللنا وما نعلله وقوله الآخر: سالمت من أجل سلمى قومها، وهم عدا، ولولاه كانوا في الفلا رمما وقوله: وتسكنها قيس وأسد لم تبال قيس وأسد بالتباس المنفصل بالمتصل/ لأن ذلك نادر، والغالب أن موضع المنفصل يدل عليه، فيؤمن التباسه بالمتصل. ومما يلتبس لصلاحية المتصل والمنفصل فيه قولك: من أعطيته زيد، ومن لم أعطه هند، فيجوز أن يراد الاتصال، فتكون الهاءات مفعولين، ويجوز أن يراد بهما الانفصال على لغة قيس وأسد، فيكونان مبتدأين، والعائد محذوف، والأصل: من أعطيته هو زيد، ومن لم أعطها هي هند. وقال الفراء: بنو أسد يسكنون الياء والواو من هي وهو في الوصل والقطع، سمعتها كثيرًا من بني ذبيان وغيرهم من أسد، كما قال عبيد:

أخلف ما بازلًا سديسها لا حقه هي ولا نسوب ولا يجوز التخفيف في لغة أسد لئلا يجتمع ساكنان. انتهى. يغني إذا دخل على الهاء من هو وهي الواو والفاء واللام لا يجوز تسكين الهاء. وأنشدوا على هذه اللغة قول الشاعر، وهو مرة بن الرواع من بني أسد: لماجد شهد الإمجاد والده ... فأوجهوه فهو بالجاه مبتهج وعلى هذه اللغة قول الآخر: أدعوته بالله، ثم قلتلته لو هو دعاك بذمة لم يغدر قول الأخر: وركضك لولا هو لقيت الذي لقو فأصبحت قد جاورت قومًا أعاديًا وقول الآخر: إن سلمى هي التي لو تراءت حبذا هي من خلة لو تخالي وفي الإفصاح: أنكر الزجاج سكون الواو والياء في هو وهي؛ لأن كل مضمر حركته إذا انفرد الفتح نحو أنا، فكما لا يستقيم سكون هذه النون كذلك لا تسكن هذه الواو. ورد عليه أبو علي بسكون النون في أنت لأن التاء حرف خطاب، وقال: "لا يمتنع سكونها إن وردت بذلك رواية عن ثقة". وقال: "الوجهات متكافئتان في العمل إلا أن الفتح هو المشهور نقلًا" انتهى.

وقال زهير" وهو غيث لنا في كل عام يلوذ به المخول والعديم وقال آخر: ولكنما هو لا مرئ ذي حفيظة إذا مال لم ترعد إليه خصائله وقوله وتشددهما همدان قال أبو جعفر النحاس: حكي الكوفيون هو وهي بالتشديد، وقال الشاعر: وإن لساني شهدة يشتفي بها وهو على من صبه الله علقم وقال الآخر: تخاطاه الحتوف، فهو جون كناز اللحم فائله رديد وقال آخر: فالنفس إن دعيت بالعنف آبيه وهي ما أمرت باللطف تأتمر ص: ومن المضمرات "إيا" خلافًا للزجاج، وهو في النصب كأنا في

الرفع، لكن يليه دليل ما يراد به من متكلم أو غيره اسمًا مضافًا إليه وفاقًا للخليل والأخفش والمازني، لا حرفًا، خلافًا لسيبويه ومن وافقه، ويقال: إياك وأياك وهياك وهياك. ش: في المنفصل المنصوب خلاف: فمن النحويين من ذهب إلى أن "إيا" هو الضمير، والمتصل به حروف تبين أحوال الضمير، وهو مذهب س، واختاره الفارسي، وعزاه صاحب البديع إلى الأخفش. ومنهم من ذهب إلى أنه ضمير، وتلك اللواحق ضمائر، أضيف إليها الضمير الذي هو إيا، وهو اختيار المصنف، وعزاه إلى الخليل والأخفش والمازني. ومنهم من ذهب إلي أنه بجملته هو الضمير، أعني إيا ولواحقه، ونسب إلى الكوفيين.

ومنهم من ذهب إلى أن اللواحق هي الضمائر، وإيا دعامة زيادة، تعتمد عليها اللواحق لينفصل عن المتصل، وهو مذهب الفراء. ومنهم من ذهب إلى أن إيا اسم ظاهر، واللواحق ضمائر أضيف إليها إيا، وهن في موضع خفض بالإضافة، ونسبه ابن عصفور إلى الخليل. فأما المذهب الأول- وهو مذهب س- فهو الذي صححه أصحابنا وشيوخنا. وأما الثاني- وهو اختيار المصنف- فاستدل على أن إيا هو الضمير بأنه يخلف الضمير المتصل عند تعذره كالتقديم على العامل، كما خلف ضمير الرفع المنفصل ضمير الرفع المتصل عند تعذره، فنسبه المنفصلين من المتصلين نسبة واحدة، ولأن بعض المرفوعات كجزء من رافعه، وقد ثبت لضميره منفصل، فثبوت ذلك لضمير النصب أولى، إذا لا شيء من المنصوبات كجزء من ناصبه، ولأن إيا لا يقع في موضع رفع، وكل اسم لا يقع موضع رفع فهو مضمر أو مصدر أو ظرف أو حال أو منادى، ومباينة إيا لغير المضمر متيقنة، فتعين كونه مضمرًا. ولأن إيا لو كان ظاهرًا لكان تأخره عن العامل واتصاله به جائزًا بل راجحًا على انفصاله عنه وتقدمه عليه كحال غيره من المنصوبات الظاهرة، والأمر بخلاف ذلك، فامتنع كونه ظاهرًا، ولزم كونه ضميرًا، لكنه وضع بلفظ واحد، فافتقر إلى وصله بما يبين المراد به من الكاف وأخواتها، وهي ضمائر مجرورة بالإضافة لا حروف.

انتهى ما ذكره المصنف في الاستدلال على أن إيا هو ضمير/ لا ظاهر. وما ذكره لا يدل. أما أولًا فلا نسلم أن إيا وحده خلف الضمير المتصل عند تعذره، بل مجموع إيا وما بعده من اللواحق هو الذي خلف الضمير المتصل عند تعذره. وأما قوله: "ولأن المرفوعات كجزء من رافعه" فقد منع المصنف ذلك، ولو سلمنا له ذلك قوله: "وقد ثبت لضميره منفصل فثبرت ذلك لضمير النصب أولى" فنحن نقول بهذا إلا أنه لا يتعين أن يكون ضمير النصب هو إيا وحده. وأما قوله: "ولأن إيا لا يقع في موضع رفع، وكل اسم إلى آخره، فلا نسلم حصر ما لا يقع في موضع رفع فيما ذكر. وأما قوله: "ولأن إيا لو كان ظاهرًا لكان إلى آخره" فلا أسلم ملازمة ذلك؛ بل هو ظاهر، لكنه اقترن به ما أوجب له التقدم على العامل وأن لا يتصل به، وهو اللواحق به، ثم لبعض الظواهر خصوصيات تلزمها، ولا تجوز في غيرها. واستدل المصنف على أن هذه اللواحق مضمرة بأنه يخلفها الاسم المجرور بالإضافة، روى الخليل: " إذا بلغ الرجل الستين فإياه وإيا الشواب". وبأنها لو كانت حروفًا، وكانت الكاف في إياك حرفًا لاستعملت على وجهين: مجردة من لام، وتاليه لها، كما استعملت مع ذا وهنا، ولحاقها مع إيا أولى لأنها كانت ترفع توهم الإضافة، فإن ذهاب الوهم إليها مع إيا أمكن منه مع ذا لأن إيا قد يليها غير الكاف، ولذا لم يختلف في حرفية

كاف "ذاك" بخلاف كاف "إياك". ولأنها لو كانت حرفًا لجاز تجريدها من الميم في الجمع كما جاز في: {فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ}، وفي: {ذَلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ}. ولأنها لو كانت اللواحق حروفًا لم يحتج إلى الياء في إياي كما لم يحتج إلى التاء المضمومة في أنا، ولأن غير الكاف من لواحق إيا مجمع على اسميتها مع غير إيا، مختلف في اسميتها معها، فلا يترك ما أجمع عليه لما اختلف فيه، ثم تلحق الكاف بأخواتها ليجري الجميع على سنن واحد. ولأن الأصل عدم اشتراك اسم وحرف في لفظ واحد، وفي القول باسميه اللواحق سلامة من ذلك، فوجب المصير إليه. انتهى ما استدل به المصنف على اسميه هذه اللواحق. وما استدل به ولا يدل على ذلك. أما كونها يخلفها الاسم مجرورًا فذلك من الندور والشذوذ بحيث لا يقاس عليه قال بعض أصحابنا: بل لنا أن نقول: هذه المضافة إلى الظاهر ليست بإيا من إياك وإن اتفقتا في اللفظ، بل هي اسم ظاهر مثلها في قوله: دعني وإيا خالد ... فلا قطعن عرا نياطه وأما كون الكاف لا تلحقها اللام كما لحقت مع ذا وهنا فليس بلازم؛ ألا ترى لحاق الكاف في: النجاءك، ورويدك زيدًا، ولا تلحق معها اللام، لا يقال: النجاءلك، ولا رويدلك زيدًا. وأما قوله: "لو كانت حرفًا لجاز تجريدها من الميم في الجمع كما جاز في (فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ) " فلا يلزم؛ ألا ترى أن الكاف اللاحقة ل "أرأيت" هي حرف خطاب على أصح المذاهب، ولا يكتفي بها وحدها

دون الميم في الجمع، لا تقول: أرأيتك يا زيدون إن كان كذا ما تقولون، بل تقول: أرأيتكم. وأما/ قوله: "لو كانت حروفًا لم يحتج إلى الياء في إياي كما لم يحتج إلى التاء المضمومة في أنا" فلا يلزم ذلك لأن المنفصل المرفوع مباين بالكلية للمرفوع المتصل، فتميز بنفسه، ولم يحتج إلى التاء. وأما الياء في إياي فهو الضمير المتصل في الأصل، زيد عليه إيا حتى صار منفصلًا، فلذلك احتيج إلى اجتماعهما حتى يصير منفصلًا. وأما كون اللواحق مجمعًا على اسميتها مع غير إيا مختلفا في اسميتها معها فهو صحيح، وإلى ذلك نذهب، وهو مذهب الفرء، لأنه قد ثبتت اسميه هذه اللواحق حين كن متصلات، فهي باقية على اسميتها، ولما أرداوا أن يجعلوها منفصلات زادوا عليها إيا، وعمدوها بها، أي: قووها بهذه الزيادة لتستقل بالانفصال، كما بحثناه في أنت وفروعه من أن الضمير هو التاء، وأن "أن" تقويه لها ليعتمد عليه حتى يصير منفصلًا. وأما قوله: "ولأن الأصل عدم الاشتراك في اسم وحرف" فنحن لا نذهب إلى ذلك، ولا اشتراك فيما ذهبنا إليه. وقال من رد على هذا المذهب من أن اللواحق هي الضمائر وإيا دعامة بأنه فاسد لأنه لا يسوغ أن يكون الاسم دعامة. ونحن لا نذهب إلى أن لفظ إيا حين كونه دعامة اسم، بل نقول: إن لفظ زيد على اللواحق، صيرها ضمائر منفصلات، يجوز أن تأتي في أول الكلام، بخلاف حالها إذا لم يكن معها إيا، فإنها لا بد أن تكون متصلة بالعامل، ولا تتقدم أول الكلام، وإيا لفظ إما اسم مضمر أو مظهر، أو لفظ زيد على الضمائر المتصلة لتصير منفصلة على اختلاف المذاهب، ليس مشتقًا من شيء. وذهب أبو عبيدة وغيره إلى أنه مشتق. وإذا قيل بالاشتقاق فاشتقاقه من

لفظ: "أو" من قوله: فأو لذكراها إذا ما ذكرتها .................... فيكون من باب قوة. أو من الآية، فتكون عينها ياء لقوله: لم يبق هذا الدهر من آيائه قولان. وهل وزنه إفعل وأصله إأوو أو إأوى، أو فعيل وأصله: إويو أو إويي، أو فعول وأصله إووو أو إويي، أو فعلى فأصله إويا أو إووى؟ أقاويل، كلها ضعيفة. ولمل ذهب المصنف إلى أن إيا مضمر، وأضيف إلى مضمره، وكان النحويون قد ذكروا أن المضمرات وأسماء الإشارة لا تضاف، أورد المصنف سؤالًا، فقال: "فإن قيل: هذه الوجوه مؤدية إلى إضافة إيا، وهي ممتنعة من وجهين: أحدهما: أن إيا لو كان مضافًا لم تخل إضافته من قصد تخفيف أو تخصيص، فقصد التخفيف ممتنع لأنه مخصوص بالأسماء العاملة عمل

الأفعال، وإيا ليس منها. وقصد التخصيص ممتنع أيضا لأن إيا أحد الضمائر، وهي أعرف المعارف، فلا حاجة بها إلي تخصيص. الثاني: أن إيا لو كان مضافا لكانت إضافته إضافة الشيء إلي نفسه، وهي ممتنعة. والجواب أن يقال: أما إضافة التخفيف فمسلم امتناعها من إيا، وأما إضافة التخصيص فغير ممتنعة، فإنها تصير المضاف معرفة إن كان قبلها نكرة، وإلا ازداد بها وضوحا كما يزداد بالصفة، / كقول الشاعر: علا زيدنا يوم النقا رأس زيدكم بأبيض ماضي الشفرتين يمان فإضافة "زيد" هنا أوجبت له من زيادة الوضوح مثل ما يوجب وصفه إذا قيل: علا زيد الذي منا زيدا الذي منكم، فكما قبل زيادة الوضوح بالصفة قبل زيادة الوضوح بالإضافة من غير حاجة إلي انتزاع تعريفه، وقد يضاف علم لا اشتراك فيه علي تقدير وقوع الاشتراك المحوج إلي زادة الوضوح، كقول ورقة بن نوفل: ولوجا في الذي كرهت قريش ولو عجبت بمكتها عجيجا فإذا جازت إضافة مكة ونحوها مما لا اشتراك فيه فإضافة ما فيه الاشتراك أولي بالجواز كإيا، فإنه قبل ذكر ما يليه صالح أن يراد به واحد من اثني عشر معني، فالإضافة إذا له صالحة، وحقيقته بها واضحة، وكان انفرادها بالإضافة دون غيرها من الضمائر كانفراد "أي" بها دون سائر الموصولات، ورفعوا توهم حرفية ما تضاف إليه بإضافتها إلى الظاهر في

قولهم: "فإياه وإيا الشواب"، والاحتجاج بهذا للتخليل علي س شبيه باحتياج س علي يونس بقول الشاعر: دعوت لما نابني مسورا فلبي، فلبي يدي مسور لأن يونس يري أن ياء "لبيك" ليست للتثنية، بل هي كياء "لديك"، فاحتج س بثبوت ياء "لبي" مع الظاهر، ولو كانت كياء "لدي" لم تثبت إلا مع المضمر، كما أن ياء "لدي" لا تثبت إلا مع المضمر. وأما إلزامهم بإضافة إيا إضافة الشيء إلي نفسه فنلتزمها معتذرين بما اعتذر عنها في نحو: جاء زيد نفسه، وأشباه ذلك". وقد انتهي سؤال المصنف وجوابه. والذي يقطع ببطلان ما ذهب إليه من أن "إيا" مضمر أضيف إلي ضمير إجماع النحويين علي أن المضمر مبني علي الإطلاق، فيدخل فيه الضمير المنفصل المنصوب، وسواء أكان الضمير نفس "إيا"، واللواحق بعده حروف، أم اللواحق، وإيا مزيد يصير به المتصل منفصلا، أم هما، أم كلا منهما، فلو كان "إيا" هو الضمير، وقد أضيف إلي الضمير، لزم إعراب "إيا" كما لزم إعراب "أي" لأنها إضافة لازمة، وإعرابه يكون أوضح من إعراب "أي" لأن "أيا" تنفك عن الإضافة لفظا، وإيا لا ينفك عن الإضافة أصلا، ولا ينطق به علي زعم المصنف إلا مضافا لضمير، وقد نص النحويون علي أن سبب إعراب "أي" دون سائر الموصولات إنما هو لزوم الإضافة، وأن نفس لزوم الإضافة موجب للإعراب، ولم يذهب أحد من النحويين إلي أن "إيا" من قولهم "إياك" وأمثاله معربة، فبطل ما ادعاه من أن "إيا" مضمر أضيف إلى

مضمر. وقد طال بنا الكلام في "إيا" ولواحقه، وليس في ذلك كبير فائدة، وإنما حصل أن "إيا" ولواحقه ضمير نصب منفصل/، وما سوي ذلك مما تكلم فيه تكثير وتطويل قليل الجدوي، لكنها أشياء يؤدي إليها علم الصناعة النحوية، ويقال: إنه لا يوصل إلي حقائق الأشياء إلا بالكلام الذي فيه زيادة علي ما تقتضيه تلك الصناعة مما كنت تستغني عنه. وأبطل أصحابنا مذهب الخليل بأنه لو كان المضمر ما بعد "إيا" لم يمنع من وقوعه بعد العامل مانع، وكنت تقول: ضربت إياك، وكونهم لا يقولون ذلك، ولا يتكلمون به إلا متصلا، دليل علي أن المضمر إنما هو إيا. وكأن الخليل لما وجده مضافا إلي الضمير في "إياه وإيا الشواب" قضي بأنه لو كان مضمرا لما أضيف، وهذا غير قادح لأن إيا هذه ليست تلك، وهذه بمعني حقيقة، كأنه قال: فإياه وحقيقة الشواب. قالوا: ومما يدل علي فساده أنه لم يثبت قط اسم ما لزم إعرابا ما في غير المصادر والظروف، وليس مخصوصا بباب نحو: "ايمن الله" في القسم. وأبطلوا مذهب الكوفيين بأن الزائد لا يكون جل الاسم، إنما يكون أقل. وقوله: ويقال: أياك وإياك وهياك وهياك قال المصنف: "أغرب لغاتها تخفيف الياء" انتهي. فأما "إياك" فهي اللغة المشهورة، وبها قرأ الجمهور، وقرأ الفضل الرقاشي بفتح الهمزة وتشديد الياء: {أَيَّاك

نَعْبُدُ}، وقرأ عمرو بن فائد: (إياك) بكسر الهمزة وتخفيف الياء، وقرأ أبو السوار الغنوي: (هياك) بفتح الهاء وتخفيف الياء، وقرئ: (هياك) بكسر الهاء وتخفيف الياء.

-[ص: فصل يتعين انفصال الضمير إن حصر بإنما، أو رفع بمصدر مضاف إلي المنصوب أو بصفة جرت علي غير صاحبها، أو أضمر العامل، أو أخر، أو كان حرف نفي، أو فصله متبوع، أو ولي واو المصاحبة، أو إلا، أو إما، أو اللام الفارقة، أو نصبه عامل في مضمر قبله غير مرفوع إن اتفقا رتبة، وربما اتصلا غائبين إن لم يشتبها لفظا.]- ش: ذكر المصنف أنه يتعين انفصال الضمير في اثنتي عشرة صورة، وبدأ أولا بصورة مختلف فيها، وهو قوله: "إن حصر بإنما"، وأنشد: أنا الفارس الحامي الذمار، وإنما يدافع عن أحسابهم أنا أو مثلي وهذه صورة اختلف فيها كما ذكرنا: فذهب س إلي أن فصل الضمير بعد "إنما" هو ضرورة، وأن الفصيح اتصاله. وذهب الزجاج إلي أن فصله ليس بضرورة. وذهب المصنف إلي أنه متعين الانفصال. فأما الزجاج فادعي أنه غير ضرورة لما كان عنده في معني المحصور بحرف النفي وإلا، فكما ينفصل بعد إلا فكذلك ينفصل بعد إنما.

وأما س فلم يلفظ ما لحظه الزجاج من مراعاة الحصر، ولعل ذلك عنده إنما كان لأجل أن "إنما" لا تفيد الحصر وضعا، كما أن كأنما وليتما لا تفيدان حصر التشبيه ولا حصر التمني. قال أصحابنا: "والصحيح أن الفصل ضرورة؛ إذ لو كان هذا الموضع موضع فصل الضمير لوجب أن لا يؤتي/ به إلا منفصلا، كما لا يجوز ذلك مع إلا، فقول العرب "إنما أدافع عن أحسابهم" وأمثاله دليل علي أنه من مواضع الاتصال وأن الانفصال فيه ضرورة". وقال أبو الفضل القاسم بن علي البطليوسي في شرح كتاب س ما نصه: "وأما الاسم الذي يكون في معني المقرون بإلا فالزجاج يجوز: إنما ضرب زيدا أنا، وس جعله ضرورة، وهو أسد لأنك تقدر علي الاتصال فلا تفصله، بخلاف إلا؛ إذ لا يمكن أن يتصل بها ضمير، وتكون القرائن تبين أن الفاعل هو المحصور، أو تبين أن المحصور هو المفعول علي حسب المواضع، فقياس ذلك علي إلا خطأ، ولأنه لا مانع هنا من الاتصال فالصحيح ما قال س" انتهي. وقال المصنف في الشرح: "ومن ذلك قول الراجز: كأنا يوم قري إن ما نقتل إيانا"

يعني "ومن ذلك" أي: مما انفصل لكونه محصورا بإنما، قال: "وقد وهم الزمخشري في قوله: "إنما نقتل إيانا" فظن أنه من وقوع المنفصل موقع المتصل، وليس كذلك لأنه لو أوقع هنا المتصل، فقال "إنما نقتلنا" لجمع بين ضميرين متصلين، أحدهما فاعل، والآخر مفعول، مع اتحاد المسمي، وذلك مما تختص به الأفعال القلبية. وغر الزمخشري ذكر س هذا البيت في باب ما يجوز في الشعر من إيا، ثم قال: "فمن ذلك قول حميد الأرقط: إليك حتي بلغت إياكا فهذا ونحوه مخصوص بالشعر لأنه لولا انكسار الوزن لقال: حتي بلغتك. ثم ذكر البيت الذي أوله: "كأنا" لا لأن ما فيه لا يجوز إلا في الشعر، بل لأن "إيانا" وقع فيه موقع "أنفسنا"، فبينه وبين الأول مناسبة من قبل أن "إيا" في الموضعين وقعت موقعا غيره به أولي، لكن في الثاني من معني الحصر المستفاد بإنما ما جعله مساويا للمقرون بإلا، فحسن وقوع إيا فيه كما يحسن بعد إلا. وهذا مطرد، فمن اعتقد شذوذه فقد وهم" انتهي كلامه. وجعل البيت نظير قوله: ........... وإنما يدافع عن أحسابهم أن أو مثلي وقال أبو بكر يحيي بن عبد الله الجذامي في شرح كتاب س: "قال

الزجاج: يمكن أن لا يكون هذا البيت - يعني قول حميد - من الضرورة، وذلك بأن تريد: بلغتك إياك، ثم حذف المفعول المؤكد بإياك. وهذا غلط لأنه لا يخرجه ذلك عن الضرورة؛ لأنه لو كان علي ما قال لانبغي أن يجوز في الكلام: رأيت إياك، والعرب لم تقله أصلا في الكلام، بل التزمت أن لا تأتي بالضمير المنفصل بعد الفعل مع القدرة علي المتصل، فدل أنها لم تلحظ شيئا من هذا. وإنما لم تلحظه لأن حذف الشيء وتأكيده قصدان متناقضان، مع ما في هذا الذي قاله من التكلف. وأما بيت اللص فهو أقل ضرورة لأنه لا يمكنه أن يأتي بالمتصل فيقول نقتلنا؛ لأنه لا يتعدى الفعل الرافع للمضمر المتصل إلي ضميره المتصل أيضا، فلذلك حسن هنا وقوع الضمير المنفصل، لكن كان حقه أن يقول: نقتل أنفسنا، وستري هذا، فلا يخرج بذلك عن الضرورة. وقال الزجاج: ليس هذا ضرورة، وإنما فصل هنا لأجل إنما، فحمل علي معني الكلام؛ إذ معناه: ما نقتل إلا / إيانا؛ إذ "إنما" تقتضي حصر القتل فيهم، كالنفي وإلا. وهذا أيضا فاسد لأن الإمام أقعد بكلام العرب، فلو كان ما قال لانبغي أن يكثر ويرد في الكلام، وهو لم يرد إلا في الشعر، فدل ذلك علي أن العرب لم تحمله علي ما ذكر، وليس حمل الكلام علي ما هو في معناه بمطرد، بل تتبع فيه موارد السماع، ولو كان معمولا به في الكلام لما جعله س من ضرائر الشعر". وقال أبو الفضل البطليوسي في قوله: "إنما نقتل إيانا": "الزجاج يري الفصل جائزا. وتقدم الرد عليه، فالصحيح أنه كان يقدر على: نقتلنا.

فإن قلت: لا يجوز "نقتلنا" لأنه يكون فيه تعدى فعل المضمر إلي مضمره المتصل، فالفصل هنا واجب لا ضرورة. قلت: ليس علي ما زعمت، وذلك أنه إنما يكون فيه تعدى فعل المضمر إلي مضمره المتصل إذا جعلت المفعول هو الفعل المضمر في "نقتل"، فيكون المعني: يقتل كلنا كلنا، وليس المعني علي ذلك، وإنما يرد: يقتل بعضنا بعضا، فالأول ليس بالآخر، فليس فيه ما قلت، فالفصل ضرورة". وقال الأساذ أبو الحسن بن خروف: ليس يريد في "نقتل إيانا" أنه محل المتصل، لكنه مما استغني فيه بالنفس عنهما، وقد ذكره بعد" انتهي. فهذا نقل أصحابنا في المسألة، نقلوا فيها الخلاف بين س والزجاج، وردوا قاطبة علي الزجاج. والمصنف لم يذكر خلافا لا في الفص ولا في الشرح، وناهيك من إهمال خلاف بين سيبويه والزجاج. ومن نظر في كلام س علم أن انفصال الضمير في نحو: "إنما نقتل إيانا" لا يجوز إلا في الشعر دون الكلام، قال س: "هذا باب ما يجوز في الشعر من إيا ولا يجوز في الكلام، فمن ذلك قول حميد الارقط: إليك حتي بلغت إياكا وقال الآخر: كأنا يوم قري إن ما نقتل إيانا قتلنا منهم كل فتي أبيض حسانا" فهذا واضح الدلالة علي أن "إيا" وقعت في الشعر موقعا لا يقع مثله في الكلام.

وشملت الترجمة مسألتين: إحداهما أنها وقعت موقع الضمير المتصل. والثانية أنها وقعت موقع النفس؛ إذ هو مكان لا يقع فيه المتصل ولا المنفصل؛ لأن "قتل" من الأفعال التي لا يتصل بها الضمير المتصل ولا المنفصل إذا كان الفاعل ضميرا متصلا، فلا يجوز: أن أضربني، ولا: أنا أضرب إياي، بل هذا مما لا يجوز فيه إلا النفس، فتقول: أنا أضرب نفسي. وأما كلام المصنف في "نقتل إيانا" وتأويله علي س بأن "إيانا" وقع موقع "أنفسنا" فكلام صحيح، لكن تأويله علي أن انفصال الضمير هنا مطرد غير صحيح، بلا لا يأتي هنا لا الضمير المنفصل ولا المتصل، بل النفس كما تقدم. وقد أولع أكثر أصحابنا المتأخرين بأن "إنما" فيها معني الحصر، حتي أجروا عليها أحكام حرف النفي وإلا. والذي تقرر في علم النحو أن "ما" الداخلة علي "إن" وأخواتها هي كافة لهن من العمل. وقال عبد الوهاب المالكي: / إنها إذا دخلت علي إن للحصر والتحقيق. وزعم الكوفيون أنها تفيد معني النفي والإثبات، وأنشدوا للفرزدق: أنا الضامن الراعي عليهم، وإنما يقاتل عن أحسابهم أن أو مثلي قالوا: معناه ما يدافع عن أحسابهم إلا أنا أو مثلي. وسيأتي الكلام

على ذلك ممنعا في باب "إن" إن شاء الله. وما ذهب إليه المصنف من تعيين انفصال الضمير بعد إنما خطأ فاحش وجعل بلسان العرب؛ قال تعالي: {إِنَّمَآ أشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَي اللهِ}، وقال: {إِنَّمَآ أَعِظُكُم بِوَاحِدَةٍ}، وقال: {إِنَّمَآ أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ}، وقال: {وَإِنَّمَآ تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ}، ولو كان علي ما زعم من تعين انفصال الضمير لكان التركيب: إنما يشكو بثي وحزني إلي الله أنا، وإنما يعظكم بواحدة أنا، وإنما أمر أن أن يعبد رب هذه البلدة أنا، وإنما يوفي أجوركم أنتم. وقوله: أو رفع - يعني الضمير - بمصدر مضاف إلي المنصوب لا يصح هذا علي ظاهرة؛ لأنه لا يضاف المصدر إلي المنصوب، فإنما تأويله: إلي المنصوب معني لا لفظا، ومثاله: عجبت من ضرب زيد أنت، وزيد عجبت من ضربك هو، وقال: بنصركم نحن كنتم ظافرين، وقد أغري العدا بكم استسلامكم فشلا وقوله: أو بصفة جرت علي غير صاحبها مثاله: زيد هند ضاربها هو، وقال الشاعر:

غيلانُ ميَّة مشغوف بها هو مد بدت له، فحجاه بان أو كربا وهو الصورة أجمل فيها المصنف في مكان التفصيل، وأوهم الوفاق في مكان الخلاف. فأما الأول فإنه إنما برز لأجل العلامة التي لحقت بالنظر إلي التكلم والغيبة والخطاب، فأبرز الضمير منها إذا جرت علي غير من هي له؛ إذ لو لم يبرز لوقع اللبس؛ ألا ترى أنك لو قلت: "هند ضاربها" لم يدر من الضارب؛ إذ يحتمل أن يكون أنا أو أنت، وكذلك: هند ضارباها، أو ضاربوها، إذ يحتمل أنتما أو نحن، أو أنتم أو نحن، فلما دعت الضرورة إلي إبراز الضمير وتوحيد الصفة في جميع الأحوال لأنها لم تتحمل ضميرا، فقلت: هند ضاربها أنت وأنا وأنتما ونحن، ثم حمل ما لا لبس فيه علي ما فيه اللبس، فقيل: زيد هند ضاربها هو، فأبرز الضمير وإن كنت لو لم تبرزه لم يقع اللبس؛ إذ لا يتصور أن يكون فاعل الصفة إلا ضمير "زيد" لئلا تعرو الجملة الواقعة خبرا من رابط. ولا يجوز استتاره في هذا الموضع إلا أن يكون ضمير تثنية أو جمع، فإن العرب لا تبرزه إذ ذاك لأن اسم الفاعل تجوز تثنيته وجمعه، وفي ذلك دلالة علي الضمير، تقول: مررت برجل قائم أبواه لا قاعدين، ومررت برجل قائم آباؤه لا قاعدين، فلا يحتاج إلي: لا قاعدان هما، ولا قاعدين هم؛ لأن التثنية والجمع أغنت عن ذلك. فهذا التفصيل الذي أجمله / المصنف في هذه المسألة. وأما الخلاف فإن الكوفيين ذهبوا إلي أنه لا يلزم انفصال الضمير إلا إذا خيف لبس أو لم تتكرر الصفة، فإن تكررت أو أمن اللبس لم يلزم انفصال الضمير، فيجيزون في: زيد حسنة أمه عاقله هي، وفي: زيد هند ضاربها

هو، أن لا تأتي بالضمير منفصلا، فتقول: زيد حسنة أمه عاقله، وزيد هند ضاربها؛ لأن الصفة تكررت في المثال الأول، واللبس قد أمن في المثال الثاني. وسيأتي الكلام علي تمام هذه المسألة والاستدلال للمذهبين في باب الابتداء عند تعرض المصنف لها إن شاء الله. وقد ناقض المصنف كلامه هنا بكلامه في باب المبتدأ؛ لأنه ذكر هنا أنه يتعين انفصال الضمير إذا جرت الصفة علي غير صاحبها، وفي باب الابتداء ذكر أنه "قد يستكن الضمير إذا لم يلبس وفاقا للكوفيين" انتهي. فعلي هذا قد استثني حالة لم يستثنها هنا، وهو إذا أمن اللبس. وقوله: أو أضمر العامل أنشد المصنف شاهدا علي ذلك قول الشاعر: فإن أنت لم ينفعك علمك فانتسب لعلك تهديك القرون الأوائل ولم يبين المصنف الفعل المضمر الذي انفصل الضمير لإضماره، وظاهر كلامه أنه أضمر فعلا يفسره قوله: "لم ينفعك"، ولا يصح ذلك لأنه لو حمل أنت علي الببي المرفوع الذي هو "علمك" لأدى إلي تعدى فعل المضمر المتصل إلي ضميره المتصل؛ ألا ترى أنك لو وضعت "أنت" مكان "علمك" لكان التقدير: فإن لم تنفعك. ولا يجوز حمله أيضا علي الكاف في "ينفعك" لأنه لو فعل ذلك لنصب، فقال: فإن إياك. وإذا امتنع أن يحمل "أنت" علي "علمك" وعلي الكاف لما ذكرناه، فاختلف الناس في تخريجه: فذهب الأستاذ أبو الحسن بن عصفور وبعض شيوخنا إلى أنه

فاعل بفعل محذوف يفسره المعني، ويدل عليه، والمسألة خارجة من باب الاشتغال، كأنه قال: فإن ضللت لم ينفعك علمك، فأضمر ضللت لفهم المعني، وبرز الضمير لما حذف الفعل. وخرجه السهيلي علي وجهين: أحدهما: أن يكون "أنت" مبتدأ، وذلك علي ما أجازه س من جواز الرفع بالابتداء بعد أداة الشرط و "إذا" إذا كان في الجملة التي هي مطلوب الشرط فعل هو خبر، نحو: إن الله أمكنني من فلان. والذي سهل هذا وجود الفعل في الجملة الشرطية، فكأن حرف الشرط لم يعدم الفعل وإن وليه الاسم المبتدأ. والوجه الثاني: أن يكون "أنت" في موضع نصب، وهو مما وضع فيه الضمير المرفوع موضع الضمير المنصوب، كما وضعوا المنصوب موضع المرفوع، قالوا: لم يضربني إلا إياه، وفي الحديث: "من خرج إلي الصلاة لا ينهزه إلا إياها"، وفي المحكي من كلام العرب: إذا هو إياها، وإذا هي إياه. وقوله: أو أخر مثاله: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ}.

وقوله: أو كان حرف نفي مثاله: {ما هُنَّ أُمَّهاتِهِمْ}، {وما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ}، وقال الشاعر: إن هو مستوليا علي أحد إلا علي أضعف المجانين / وقوله: أو فصله متبوع مثاله: جاء عبد الله وأنت، وقوله تعالي: {لَقَدْ كُنتُمْ أَنتُمْ وَآبَآؤُكُمْ}، وقوله: {يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ}. ومثل س أيضا بقوله: كنا وأنتم ذاهبين، وأنشد: مبرأ من عيوب الناس كلهم فالله يرعي أبا حرب وإيانا وأنشد غيره: ولكني خشيت علي عدي سيوف القوم أو إياك حار وقد خالف في ذلك بعض أصحابنا، فقال: "وقال: الانفصال في

وإيانا أو إياك في البيتين لم يجز إلا الضرورة لأجل الوزن؛ لأنه لا يقدر علي الاتصال، فإنما فصل ضرورة، ولو كان في الكلام لم يجز، خلافا لسيبويه" انتهي. وقد رددنا هذا القول في باب العطف. وقوله: أو ولي واو المصاحبة مثاله قوله: فآليت لا أنفك أحدو قصيدة تكون وإياها بها مثلا بعدي وقال الآخر: فكان وإياها كحران لم يفق ............................. وقوله: أو إلا {أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلَّآ إِيَّاهُ}، وقال: قد علمت سلمي وجاراتها ... ما قطر الفارس إلا أنا ويأتي الكلام في الضمير الواقع بعد إلا بعيد هذا، إن شاء الله. وقوله: أو إما مثاله: قام إما أنا وإما أنت، وقال الشاعر:

بك أو بي استعان فليل إما أنا أو أنت ما ابتغي المستعين وقوله: أو اللام الفارقة مثاله: إن ظننت زيدا لإياك، وقال الشاعر: إن وجدت الصديق حقا لإيا ك، فمرني، فلن أزال مطيعا وقال المصنف: "وقال الأخفش في كتاب المعاني بعد أن مثل بإن كان زيد لصالحا: فإن جئت في هذا القياس بفعل لا يحتاج إلي مفعول أوقعت اللام علي اسم الفاعل، فقلت: إن قام لزيد، وإن كان الاسم مضمرا قلت: إن قعد لأنا، إذا لم تصل إلي التاء جعلتها أنا إذا عني المتكلم نفسه، وأنت إذا عني غيره، وكذلك: إن قام لنحن" انتهي. وكذا قال في النسخة الوسطي من نحوه. وهذا لا يتم إلا علي مذهب الكوفيين حيث جوزوا ذلك، ووافقهم الأخفش علي ذلك، وتويزهم ذلك هو علي تأويل أن "إن" نافية، واللام بمعني إلا. وأما علي مذهب جمهور البصريين فلا يجوز ذلك عندهم إلا في الفعل الناسخ للابتداء؛ لأنها عندهم "إن" المخففة من الثقيلة، فلا تدخل إلا علي الابتداء أو ناسخه، وسيأتي الكلام علي ذلك في باب "إن"، إن شاء الله. وقوله: أو نصبه عامل في مضمر قبله غير مرفوع إن اتفقا ربتة احترز بقوله: "غير/ مرفوع" من قولهم: ظننتني قائما، فإن الضمير الذي هو "ني" نصبه عامل في مضمر، لكن ذلك المضمر مرفوع، وقد اتفقا - أعني التاء

و"ني" - في كونهما ضميري متكلم، ولا يتعين انفصال "ني"، بل ولا يجوز. وكذلك: زيد ظنه قائما، قد عمل ظن في مضمر مرفوع، وهو الفاعل المستكن في ظن وفي معمول منصوب، وقد اتفقا رتبة، ومع ذلك لا يجوز فصل الضمير المنصوب. ومثال اتفاق ما ذكر رتبة: علمتني إياي، وعلمتك إياك، وزيد علمته إياه، ومال زيد أعطيته إياه. ومعني علمتك إياك: أنت في علمي الآن كما كنت من قبل. فانفصال الضمير في هذه المسائل متعين. وقوله: وربما اتصلا غائبين إن لم يشتبها لفظا قال المصنف: "فإن غاير الغائب الأول الغائب لفظا جاز اتصاله علي ضعب، فمن ذلك ما روي الكسائي من قول العرب: هم أحسن الناس وجوها وأنضرهموها، ومنه قول مغلس بن لقيط: وقد جعلت نفسي تطيب لضغمة لضغمهماها، يقرع العظم نابها" انتهي ما شرح به المصنف هذه المسألة والتي قبلها. وفيما قاله المصنف تفصيل وانتقاد. أما التفصيل فنقول: إذا اتفقا رتبة فإما أن يكونا ضميري متكلم، أو ضميري مخاطب، أو ضميري غائب؛ فإن كانا ضميري متكلم فالانفصال

نحو: مَنَحْتَني إياي، ويقبح أن يقول: منحتنيني. وإن كانا ضميري مخاطب فالاختيار الانفصال، ويجوز الاتصال علي ضعف، فتقول: أعطيتكما إياكما، وأعطيتكن إياكن. ويجوز الاتصال، فتقول: أعطيتكما كما، وأعطيتكنكن. هذا مذهب أصحابنا والكسائي، ومنع الاتصال الفراء. وإن كانا ضميري غائب فإما أن يتحدا رتبة أو يختلفا. إن اتحدا رتبة فكضميري المخاطب، فعلي مذهب أصحابنا والكسائي يختار الانفصال، فتقول: زيد الدرهم أعطيته إياه. ويجوز ضعيفا الاتصال، فتقول: أعطيتهوه. ومنع الفراء الاتصال، وزعم أنه غير مسموع من كلام العرب. وإن اختلفا رتبة كأن يكون أحدهما مفردا والآخر مثني أو مجموعا، أو أحدهما مذكرا والآخر مؤنثا، فالفصل هو الكثير، فتقول: هند الدرهم أعطيتها إياه، وأعطيته إياها، ويجوز: أعطيتهوها، وأعطيتهاه. وقال س: "فإذا ذكرت مفعولين كلاهما غائب قلت: أعطاهوها وأعطاهاه جاز، وهو عربي، ولا عليك بأيهما بدأت من قبل أنهما كلاهما غائب، وهذا أيضا ليس بالكثير في كلامهم، والكثير في كلامهم أعطاه إياه" انتهي كلام س. وفيه حجة لأصحابنا أنه يجوز الانفصال والاتصال في الغائبين مطلقا سواء اتحدت الرتبة أم اختلفت لقوله: "والكثير في كلامهم أعطاه إياه" فمثل أولا بالمتحد ثم ثانيا بالمتخلف. وأما الانتقاد فإنه استدل علي وصل الثاني من الغائبين إذا اختلفت الرتبة بقول الشاعر ببيت مغلس "لضغمهماها" وبما روى الكسائي،

وأصحابنا ذكروا ذلك في مسألة كون أحد الغائبين مخفوضا، وهو مثله في الغيبة، فإنه لا يجوز عندهم إلا الانفصال، نحو قولك: هند زيد عجبت من ضربه إياها. قالوا: ولا يجوز "من ضربهيها" إلا في ضرورة، وأنشدوا بيت مغلس، أو في نادر كلام، وذكروا ما روي الكسائي، وغر / المصنف في الاستدلال ببيت مغلس علي جواز الاتصال علي ضعف إنشاد س إياه عقب قوله: "والكثير في كلامهم أعطاه إياه"، قال س بعد هذا: "علي أن الشاعر قد قال" وأنشد البيت. قال ابن خروف قوله: "علي أن الشاعر قد قال" متعلق بفعل يفسره ما قبله، وكأنه في معني التفات؛ لأنه لمخفوض كثر غيره. ويأتي الكلام إذا كان أحد الضميرين مخفوضا، إن شاء الله. -[ص: وإن اختلفا رتبة جاز الأمران، ووجب في غير ندور تقديم الأسبق رتبة مع الاتصال، خلافا للمبرد ولكثير من القدماء، وشذ: إلاك، فلا يقاس عليه.]- ش: اختلافهما رتبة كأن يكون أحدهما ضمير متكلم والآخر ضمير مخاطب أو غائب، أو يكون ضمير مخاطب والآخر ضمير غائب، فإذا كانا كذلك فيجوز الاتصال والانفصال في الثاني، وأما ما ولي الفعل فلا يكون إلا متصلا، هذا شرح قوله: "وإن اختلفا رتبة جاز الأمران". ولا يخلو الذي يلي الفعل من أن يكون أقرب من الآخر أو أبعد. فإن كان أقرب جاز في الثاني الاتصال والانفصال، نحو: زيد ظننتك إياه، والدرهم أعطيتك إياه، وزيد ظننتكه، والدرهم أعطيتكه، وزيد ظننتنيه، وظننتني إياه، والدرهم أعطيتنيه، وأعطيتني إياه، ولم يذكر س في هذا إلا

الاتصال، وذكر غيره الانفصال. واختلفوا عن س، ففهم السيرافي أن س لا يجيز الانفصال في أعطانيه، وإن كان هو الوجه في: أعطاه إياه. ويمكن أن يكون هذا الفهم عن لحطه فرقًا بين أعطانيه وبين أعطاه إياه، وهو أن ضمير المتكلم وضعه أن يلي الفعل بعد الفاعل، ولا يُفضل بينه وين الفعل، لا يقال: أعطاهني، فجاء كالفاعل، فكأنه لم يُفضل الفعل عن طلبه للثاني. ويليه في ذلك ضمير المخاطب، بخلاف الغائب، إلا أن هذا لا يقوى أن يوجب في هذا ما ضعف في ذلك. وأما الأستاذ أبو علي فلم يتلفت شيئًا من هذا، وارتكب أن الأفصح: أعطاني أياه، مثل ما هو الأفصح: أعطاه إياه، لا فرق، وجعل قول س: "ولم تستحكم العلامات ههنا" الفصل راجعًا إلى جميع ما تقد لا لأعطاه خاصةً. وإن كان الذي يلي الفعل أبعد من الآخر ففي ذلك أربعة مذاهب: أحدها: مذهب س، وهو أنه لا يجوز إلا الانفصال، نحو: زيدٌ ظننته إياك، والدرهم أعطيته إياك، ولا يجيز: ظننتهوك، ولا أعطيتهوك. الثاني: مذهب طائفة من قدماء النحويين، وتبعهم أبو العباس، وهو أنه يجوز الانفصال والاتصال، والانفصال أحسن. الثالث: مذهب الفراء، وهو أنه لا يجوز عنده إلا الانفصال، إلا أن

يكون ضمير مثنى أو ضمير جماعة من المذكرين، فيجيز إذ ذاك الاتصال والانفصال، والانفصال أحسن، نحو: الدرهمان أعطيتهماك، والغلمان أعطيتهموك، والزيدان ظننتهماكما، والزيدون ظنتهموكم. الرابع: مذهب الكسائي، وهو كمذهب الفراء إلا أن الكسائي يُجيز الاتصال إذا كان الأول ضمير جماعة المؤنثات، نحو قولك: الدراهم أعطيتهنكن، والذي ورد به السماع، وتكلمت به العرب، هو ما ذهب إليه س. وقوله: ووجب/ في غير ندورٍ تقديم الأسبق رتبةً مع الاتصال يعني أنه إذا كان الثاني متصلًا فلا يجوز إلا تقديم الأسبق. يعني ضمير المتكلم على ضمير المخاطب وعلى ضمير الغائب، وضمير المخاطب على ضمير الغائب، فتقول: يا غلام أعطانيك زيدٌ، والغلام أعطانيه زيدٌ، ويا زيد الغلام أعطاكه زيدٌ، ولا يجوز: أعطاكني، ولا أعطاهوني، ولا أعطاهوك. وأشار بقوله: "في غير ندور" إلى ما رُوي من قول عثمان رضي الله عنه: "أراهمني الباطل شيطانًا"، فقدم ضمير الغائب على ضمير المتكلم مع الاتصال، والقياس المسموع "أرانيهم"، لكن لتقديمه في كلام عثمان وجهٌ، وهو أن "أراني" هذه هي منقولة من "أي"، والفاعل هو ضمير الجمع الذي صار مفعولًا بدخول همزة النقل، فلو تقدم ضمير المتكلم لأوهم أنه هو الذي كان فاعلًا قبل دخول همزة النقل، لكن كان ينبغي إذ تقدم ضمير الجمع أن ينفصل ضمير المتكلم، فكان يكون: أراهم إياي الباطل شيطانًا.

وقوله: خلافًا لمبرد ولكثيرٍ من القدماء يعني فإنهم يُجيزون الاتصال والانفصال، وقد ذكرنا ما في المسألة من الخلاف. وقوله: وشذ "إلاك" فلا يُقاس عليه مجيء هذه المسألة هنا غير مناسب، وكان يناسب أن تكون بجنب قوله: "أو إلا" حي ذكر أن الضمير ينفصل إذا ولى إلا. وأشار بقوله "إلاك" إلى قول الشاعر: وما علينا إذا ما كنت جارتنا أن لا يجاورزنا الاك ديار وأكثر النحويين على أن اتصال الضمير بعد إلا هو ضرورة؛ لأن "إلا" ينفصل بعدها الضمير. وبهذا استدل على أن إلا غير عاملة؛ إذ لو كانت عاملة النصب في المستثنى لاتصل بها الضمير كما اتصل في إنك وأخواتها، فاتصال الضمير بها ضرورة، وهذا مذهب البصريين، وظاهر كلام غيرهم أنه لا يختص بالشعر. قال صاحب "الواضح" مستدلًا لقول الفراء إن "إلا" مركبة من "إن" و "لا" فخففت "إن" وأدغمت النون في "لا" التي للعطف، فإذا جاء

بعدها منصوبٌ فالنصب ل "إن"، أو غير منصوب فعلى العطف ب "لا". قال: "والدليل على أن الأصل لإن وأنها تعمل عمل الفعل هنا قول العرب: قام القوم إلاك، وصلوا الكاف بإلا تغليبًا لعمل إن في الأصل. وقال بعضهم: قام القوم إلا أنت، فعطف بإلا، وأبطل عمل إن" فانظر قول صاحب الواضح: "قول العرب: قام القوم إلاك"، فلو كان هذا لا يجوز إلا في ضرورة الشعر لما استدل به، ولا أطلق أنه قول العرب. وقال المصنف في الشرح: "ومن حكم على إلا أنها عاملةٌ لم يعد هذا من الضرورات، بل جعله مراجعةً لأصلٍ متروك، ويعتذر عن مثل "ما قاموا إلا إياك" وكون الاستعمال استمر بالانفصال، والأولى به الاتصال انتهى. وثبت في بعض النسخ القديمة من هذا الكتاب بعد قوله: "وشذ إلاك فلا يقاس عليه" ما نصه: "ولا يجوز حتاك، خلافًا لابن الأنباري فيهما" انتهى. وقال المصنف في شرحه: "وأما ما أجاز ابن الأنباري من أن يقال حتاك فلا مسوغ له إلا أن إن جعلت حتى جارة/، وذلك أيضًا مفتقر إلى نقلٍ عن العرب؛ لأن العرب استغنت مع المضمر بإلى عن حتى، كما استغنت بمثلٍ عن كاف التشبيه، وقد ندر دخول الكاف على ضمير الغائب، ولم يرد دخول حتى على ضمر أصلًا" انتهى كلامه في الشرح. فأما ما زعم من أن ابن الأنباري أجاز حتاك فقد أجازه قبله هشام والفراء. قال الفراء: قام القوم حتى أنت، وضربت القوم حتى إياك. قال: ولا يجوز "حتاك" وأنت تنصب بالفعل، فإن نصبت بحتى - وهو كالنسق -

جاز حَتَّاك، وكذلك: مررت بالقوم حتى بك. وأجاز هشام: ضربت القوم حتاك. ومعنى قول الفراء "ولا يجوز حتاك. ومعنى قول الفراء "ولا يجوز حتاك وأنت تنصب بالفعل" يعني وأنت تُقدر بعد حتى الفعل، فيكون التقدير: حتى ضربتك؛ لأنه لما حذف العامل انفصل الضمير، فإذا جعلت حتى عاطفة جاز أن يكون الضمير متصلًا، فتقول: حتاك. وقول المصنف "إلا أن جعلت حتى جارة، وذلك أيضًا مفتقر إلى نقلٍ عن العرب". وقوله "ولم يرد دخول حتى على ضمير أصلًا" انتهى. يعني ضمير جر، قد ذهب إلى كونها تجر المضمر أبو العباس، ووجد السماع عن العرب في ذلك، وأنشدوا عن العرب: فلا والله لا يلقى أناسٌ فتى حتاك يابن ابي يزيد وسيأتي ذلك في باب حروف البحر، إن شاء الله. -[ص: ويختار اتصال نحو هاء: أعطيتكه، وانفصال الآخر من نحو: فراقيها ومنعكها وخلتكه. وكهاء أعطيتكه هاء نحو كنته. وخلف ثاني مفعولي نحو: أعطيت زيدًا درهمًا في باب الإخبار. ونحو: ضمنت إياهم الأرض، ويزيدهم حبًا إلى هم، من الضرورات.]- ش: إذا كان الفعل مما يتعدى إلى اثنين، وليس من أفعال القلوب، وكان الأول ضمير متكلم أو مخاطب، والثاني ضمير غائب، نحو: الدرهم أعطيتنيه أو أعطيتكه، فذكر المصنف أنه يختار الاتصال في ضمير الغائب، قال تعالى: {أَنُلْزِمُكُمُوهَا}، {إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلاً وَلَوْ أَرَاكَهُمْ

كَثِيراً}. وقد تقدم لنا أن الأستاذ أبا علي ارتكب أن الأفصح "أعطاني إياه" بالانفصال، وهو مخالف لاختيار هذا المصنف. وقال المصنف في الشرح: وظاهر كلام س أن الاتصال لازمٌ. ويدل على عدم لزومه قول النبي صلى الله عليه وسلم "فإن الله ملككم إياهم، ولو شاء لملكهم إياكم" انتهى. وقال س: "فإذا كان المفعولان اللذان تعدى إليهما فعل الفاعل مخاطبًا وغائبًا، فبدأت بالمخاطب قبل الغائب، فإن علامة الغائب العلامة التي لا تقع موقعها إيا، وذلك قوله: أعطيتكه، قال الله جل وعز: {أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنتُمْ لَهَا كَارِهُونَ}، فهذا هكذا إذا بدأت بالمخاطب قبل الغائب" انتهى. وقوله: وانفصال الآخر في نحو: فراقيها ومنعكها وختلكه. أما فراقيها ومنعكها فهو إشارة إلى ما كان من الضمير منصوبًا بمصدرٍ مضافٍ إلى مضمر قبله هو فاعل أو مفعول أول، أو باسم فاعلٍ مضافٍ إلى/ ضميرٍ هو مفعول أول، فالأول نحو: زيدٌ عجبت من ضربيه أو من ضربكه. ويجوز الانفصال، وهو أحسن، فتقول: من ضربي إياه أو من ضربك إياه. ومن ضربيك، ويجوز: ضربي إياك، قال الشاعر في الاتصال:

وإن كان حُبيك لي كاذبًا فقد كان حُبيك حقًا يقينا وقال الآخر: تعزيت عنها كارهًا، فتركتها وكان فراقيها أمر من الصبر ومثال الثاني قول الشاعر: فلا تطمع - أبيت اللعن - فيها فمنعكها بشيءٍ يُستطاع ومثال الثالث قوله: لا ترج أو تخش غير الله إن أذى واقكيه الله لا ينفك مأمونا قال المصنف في الشرح: "فإنما المختار في هذه الثلاثة وأمثالها الانفصال، ولكنه تُرك واستعلم الاتصال لأن الوزن لم يتأت إلا به" انتهى كلامه. ودل على أنه إنما استُعمل الاتصال لأجل الوزن، فصار شبيهًا بالضرورة، وليس كذلك، بل الاتصال عربيٌ، وإن كان الانفصال هو الكثير.

هذا مفهوم كلام س. ومثل المصنف بـ "فراقيها"، "منعكها"، وهو ما أضيف إليه المصدر مما هو أقرب رتبة من الذي بعده وهو فاعل أو مفعول أول؛ لأنه إن كان مضافًا لما هو أبعد رتبةً من الضمير بعده فالفضل ليس إلى، نحو: زيدٌ عجبت من ضربه إياك، ولا يجوز: من ضربهيك. وإن تساويا في القرب أو البعد فالانفصال نحو: هندٌ زيدٌ عجبت من ضربه إياها، ولا يجوز: من ضربهيها، إلا في ضرورة، نحو: ........................... لضغمهماها ....................... أو في نادر كلام نحو: "هُم أحسن الناس وجُوهًا وأنضرهموها". وإن لم يكن فاعلًا ولا مفعولًا أول، والضمير ضمير رفع، انفصل ما بعد المخفوض نحو: زيدٌ عجبت من ضربك هو، وعجبت من ضري أنت. وقوله: وخلتكه يعني إذا كان الثاني مفعول أحد أفعال القلوب فالانفصال به أولى لأنه خبر مبتدأ في الأصل، وقد حجزه عن الفعل منصوبٌ آخر. وهذا الذي ذهب إليه في اختيار الانفصال في مثل هذا قد خالفه في الألفية التي له، فاختار في ذلك الاتصال، قال: وصل أو افصل هاء "سلنيه" وما أشبهه في "كنته" الخلف انتمى كذاك "خلتنيه" واتصالا أختار، غيري اختار الانفصالا

وقد رددنا عليه ذلك في كتابنا المسمى ب "منهج السالك في شرح ألفية ابن مالك". وقد نص س على أن الانفصال هو الوجه، وقال س: "وتقول حسبتك إياه، وحسبتني إياه؛ لأن حسبتنيه وحسبتكه قليلٌ في كلامهم". وعلل س في كتابة كثرة انفصال الضمير وقلة اتصاله/ بما يُوقف عليه في كتابه. ومن الانفصال قوله: أخي، حسبتك إياه، وقد ملئت أرجاء صدرك بالأضغان والإحن ومن الاتصال قوله: بلغت صُنع امرئ هوٍ إخالكه إذ لم يزل لاكتساب الحمد مُبتدرا وقوله: وكهاء أعطيتكه هاء نحو كنته يعني أن الاتصال فيها أفصح من الانفصال. وهذا الاختيار اتبع فيه الرماني وأبا الحسين بن الطراوة. وقال في الشرح حين ذكر انفصال مثل "خلتكه" وأنه أفصح لكونه خبر مبتدأ في الأصل، وقد حجزه عن الفعل منصوب آخر، قال: "بخلاف هاء كنته، فإنه خبر مبتدأ في الأصل، ولكنه شبيهٌ بهاء ضربته من أنه لم يحجزه إلا ضميرٌ مرفوع، والمرفوع جكزءٍ من الفعل، فكأن الفعل مباشرٌ له، فكان مقتضى هذا أن لا ينفصل كما لا تنفصل هاء ضربته، إلا انه أجيز الانفصال

فيه مرجوحًا خلافًا ل "س" ومن تبعه. دليلنا على ذلك من وجهين: أحدهما: أن المشار إليه ضميرٌ منصوب بفعل لا حاجز له إلا ما هو كجزءٍ منه، فأشبه مفعولًا لم يحجزه من الفعل إلا الفاعل، فوجب له من الاتصال ما وجب للمفعول الأول، فإن لم يُساوه في الاتصال فلا أقل من أن يكون اتصاله راجحًا. الثاني: أن الوجهين مسموعان، فاشتركا في الجواز، إلا أن الاتصال ثابتٌ في النظم والنثر، والانفصال لم يثبت في غير استثناءٍ إلا في نظم، فرجح الاتصال لأنه أكثر في الاستعمال. ومن الوارد منه متصلًا دون ضرورةٍ قول الشاعر: كم ليثٍ اعت لي ذا أشبلٍ غرثت فكأنني أعظم الليثين إقداما قال: "فكأنني" مع تمكنه من أن يقول: فكنته أعظم الليثين إقدامًا على جعل "أعظم" بدلًا من الضمير ومفسرًا له، كما قالوا: "اللهم صل عليه الرؤوف الرحيم". ومن الوارد منه في النثر قول النبي صلى الله عليه وسلم لعائشة: "إياك أن تكونيها يا حميراء"، وقوله لعمر في ابن صيادٍ "إن يكنه فلن تسلط عليه، وإلا يكنه

فلا خير لك في قتله". ومن ذلك قول بعض العرب: "وعليه رجلًا ليسني". وقال س: "وبلغني عن العرب الموثوق بهم أنهم يقولون: ليسني". وقال س: "وكذلك كأنني" هذا نصه. ولم يحك في الانفصال نثرًا إلا قولهم في الاستثناء: أتوني ليس إياك، ولا يكون إياك. وهذا يتعين انفصاله في غير الضرورة لأن ليس ولا يكون فيه واقعان موقع إلا، فعومل الضمير بعدهما معاملته بعدها، فلا يُقاس على ذلك ما ليس مثله. والاتصال في قوله: إذ ذهب القوم الكرام ليسي من الضرورات لأنه استثناء، ولو لم يكن استثناءً لكان الاتصال أولى الانفصال كما تقرر" انتهى كلامه في الشرح. وترجيحه/ للاتصال وما ادعاه من أن الاتصال في "كان" هو المختار مخالفٌ لما نقل س عن العرب، والعجب له أنه يأخذ من كلام س ما يدل على الاتصال، ويجعله دليلًا على اختيار الاتصال، ويترك النصوص التي أخبر فيها س عن العرب بأن الانفصال هو المختار، وأن الاتصال لا يكادون يقولونه، إلا أن بعضهم أخبره بأن بعض العرب نطق به متصلًا. قال س بعد أن ذكر أن الانفصال في: ضربي إياك، وكان إياه، وليس إياه، هو

المستحكم، وأن الاتصال ليس بمستحكمٍ، وبعد أن ذكر أن حسبتنيه، وحسبتكه قليلٌ في كلامهم، قال س: "وذلك لأن حسبت بمنزلة كان، إنما يدخلان على المبتدأ والمبني عليه، فيكونان في الاحتياج على حال، ألا ترى أنك لا تقتصر على الاسم الذي يقع بعدهما كما لا تقتصر عليه مبتدأ، فالمنصوبات بعد حسبت بمنزلة المرفوع والمنصوب بعد ليس وكان. وكذلك الحروف بمنزلة حسبت وكان؛ لأنهما إنما يجعلان المبتدأ أو المبني عليه فيما مضى يقينًا أو شكًا، وليس بفعل أحدثته منك إلى غيرك كضربت وأعطيت" انتهى. وهذا يدل على تسوية س بين حسب وكان، وقد قدم قبل أن الكلام: كان إياه، وليس إياه، وحسبتك إياه. وقال س أيضًا وقد ذكر: عجبت من ضربي إياك، وأن العرب قد تكلم به متصلًا، قال: "ومثل ذلك: كان إياه؛ لأن كأنه قليلة، ولم تستحكم هذه الحروف هنا، لا تقول: كأنني، ولا ليسني، ولا كأنك، فصارت إيا ههنا بمنزلتها في: ضربي إياك". ثم قال س بعد ذلك: "وبلغني عن العرب الموثوق بهم أنهم يقولون ليسني، وكذلك كأنني". فانظر لتصريح س هنا بأنك لا تقول: كأنني، ولا ليسني، ولا كأنك، وأن إياك صارت هنا بمنزلتها في: ضربي إياك. ثم قال: "وبلغني" إلى آخره. ويعني بقوله "لا تقول كانني" إلى آخره يعني: لأن كلام العرب هو بالانفصال، ولما كان الاتصال قليلًا جدًا - كما قال - لأن كانه قليلةٌ احتاجن إلى إسناد ذلك بالرواية، وأنه لم يسمع ذلك من العرب، إنما بلغه ذلك بلاغًا عن الموثوق بهم إذ كان المسموع المشهور لا يحتاج إلى استدلال، إنما يستدل على الغريب القليل. وأعجب لهذا المصنف كيف ادعى أن الاتصال ثابتٌ في النثر والنظم، وأن الانفصال لم يثبت في غري استثناء إلا في نظم، وهذه مكابرةٌ عظيمة، س

يقول: كلام العرب الانفصال، وأما الاتصال فقليلٌ حتى إنه لم يسمعه منهم، إنما بلغه شيء من ذلك عن بعضهم. وهذا المصنف يقول لم يثبت إلا في نظم، ثم أخذ يستدل بوجود ذلك في النثر بإخبار س أن ذلك بلغه عن بعضهم بعد أن ذكر س أن كلام العرب على الانفصال. ومعذورٌ المصنف في ذلك، فإنه قليل الإلمام بكتاب س، وكأنه يلتمح منه شيئًا ببادي النظر، فيستدل به من غير تتبعٍ لما قبله ولما بعده، وكم شيءٍ فاته من علم س لقلة إلمامه به، وسترى ذلك في هذا الكتاب، إن شاء الله. وأما استدلاله أولًا على اختيار الاتصال بشبهه بضربت/، وأنه لا حاجز بينهما إلا الفاعل، فهو مُنتزعٌ من كلام س حيث شبه كان بضرب في جواز الاتصال، فقال: "وتقول كناهم كما تقول ضربناهم"، ولكن تشبيه اسم كان وخبرها بمفعولي حسبت أقوى كما قال س. وذكر قوة الشبه، وأشار إليها، وهو أنه لا يُقتصر على الاسم الذي يقع بعد كان وحسبت، كما لا يُقتصر عليه مبتدأ، فالمنصوبان بعد حسبت كالمرفوع بعد ليس وكان. فهذا من س تشبيهٌ قويٌ. وذكر أخيرًا أنهما ليسا كضربت وأعطيت. وقول المنصف: "فرجح الاتصال لأنه أكثر في الاستعمال" فهذه مكاذبة ل "س" حيث قال: "لأن كأنه قليلة". وقول المصنف: "ومن الوارد منه متصلًا دون ضرورة"، وإنشاده البيت الذي فيه: ...................... فكأنني أعظم الليثين إقداما فولا أن س نقل جواز الاتصال قليلًا لكان هذا البيت يُدعي فيه أنه ضرورة؛ لأن لا يتزن إلا كذا. وأما قول المنصف: "إنه متمكن من أن يقول فكنته أعظم" فكل ضرورة

هكذا، يمكن أن يبدل بها الشاعر لفظًا آخر لا يكون ضرورة، وليس حكم الضرورة في اصطلاح النحاة هذا الذي ذَكره، وقد بحثنا هذا في "كتاب التكميل"، وأمعنا الكلام في ذلك. وأما قول المصنف: "يقول: فكنته أعظم، ويجعل أعظم بدلًا من الضمير مفسرًا له" فهذه مسألة خلاف، والجمهور لا يُجيزون أن يكون البدل يُفسر الضمير. وأما استدلاله بما ورد في الحديث فقد تكلمنا معه في هذه المسألة في كتاب التكميل، وأطلنا الكلام فيها، وبينا العلة التي من أجلها لم يستدل النحاة على تقرير الأحكام النحوية بما ورد في الحديث. وفي البسيط: "الأحسن الفصل. وسمع: فإلا يكنها، أو تكنه ... ................................... البيت". وقال الوليد بن عتبة: ..................... وشر الظالمين فلا تكنه

وحكى: عليه رجلًا ليسني. وكذلك: كأنني. وتقول عليه: كنته وكانه وكنتك. وإذا كان هذا في الفعل - يعني الفصل - أحسن، فلا يكون - يعني الاتصال - في مصدر ما يكون لها ذلك، فلا تقول: عجبت من كونكه. وإذا جوزنا اتصالهما فهل يجوز مع الاتفاق في النوع والمعنى، فتقول: كنتك فيمن قال: أنت أنت، كما تقول: حسبتني؟ الظاهر من تعليل س أنه لا يجوز؛ لأنه إنما جاز في حسبتُني لكون الأول كالمتروك والاعتماد فيها على المفعولين، ولا يكون الأول هنا متروكًا، فهو كالفاعل في ضربت، فلا يجوز إلا النفس. وقال في البديع في باب الاستثناء: ومتى اتصل المضمر المنصوب بهما فلا يكون إلا منفصلًا في الأكثر، تقول: أتاني القوم ليس إياك، ولا يكون إياك. وقد جاء المتصل قليلًا نحو: ليسني وليسك وليسي. وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لزيد الخيل: "ما وصف لي شيءٌ في الجاهلية، فرأيته في الإسلام، إلا ورأيته دون الوصف ليسك" يريد: إلا إياك. وقال في الغرة: إذا كان اسمها وخبرها ضميرين فالأولى أن يجئ الخبر منفصلًا لأنه على كل حالٍ خبر الابتداء، ومع أنه القياس فأكثر ما ورد متصلًا، قال في المنفصل:

ليت هذا الليل شهرٌ لا نرى فيه عريبا ليس إياي وإيا ك، ولا نخشى رقيبا وقال في المتصل فلو كنت القيل، ولا تكنه لقد علمت معدٌ ما أقول وقال: تنفك تسمع ما حييـ ـت بهالكٍ حتى تكونه وقال: كأن لم يكنها الحي إذ أنت مرةً بها ميت الأهواء مجتمع الشمل وقال: فإن لم يكنها أو تكنه فإنه أخوها غذته أمه بلبانها وقال: فلما رأى برقًا أتى دون لمعه منازل من دهماء كانت تكونها وقوله: وخلف ثاني مفعولي أعطيت زيدًا درهمًا في باب الإخبار. مثال ذلك إذا أخبرت عن الدرهم: الذي أعطيته زيدًا درهمٌ، فاختار المصنف الاتصال، وهو رأي المازني. واختار غيره الانفصال، فيقول: الذي

أعطيت زيدًا إياه درهمٌ، وهذا جارٍ على قاعدة الإخبار من أنك تضع موضع الذي قيل لك أخبر عنه ضميرًا مطابقًا له في الإعراب والتذكير والتأنيث والإفراد وفرعيه. وأما رأي المازني - وهو اختيار الاتصال - فإنه لا يمكن إلا بعدم مراعاة موضع المخبر عنه؛ لأنه لابد أن يتصل بالفعل، فلذلك كان الأولى عندنا انفصاله. ويرجح قول غير المازني وجوب الانفصال إذا كان مفعول أعطيت الثاني لا يُعلم كونه ثانيًا إلا بالرتبة، نحو: أعطيت زيدًا عمرًا، فإنك تقول: الذي أعطيت زيدًا إياه عمروٌ، فإذا تعين فيما يعلم كونه ثانيًا ليجري الباب كله على سنن واحد، ولذلك نظائر. وقوله: ونحوه: ضمنت إياهم الأرض، و: يزيدهم حبًا إلى هم، من الضرورات. أما الأول فيمن قول الشاعر: بالوارث الباعث الأموات قد ضمنت إياهم الأرض في دهر الدهارير لولا الضرورة لقال: ضمنتهم؛ إذ لا موجب لانفصاله ولا مجوز، وهذا نظير: إليك حتى بلغت إياكا وأما الثاني فمن قول الشاعر، أنشده المصنف:

وما أصاحب من قومٍ فأذكرهم إلا يزيدهم حبًا إلى هم فـ "هم" فاعل بـ "يزيد"، ولو اتصل لقال: إلا يزيدونهم. وهذا البيت في الحماسة صدره مخالفٌ لما أنشده المصنف، وهو: لم ألق بعدهم حيًا فأخبرهم قال المنصف: "وظن بعضهم أن هذا جائزٌ في غير الشعر؛ لأن قائله لو قال: يزيدونهم، فيجعل المتصل - وهو الواو - فاعلًا، والمنفصل توكيدًا، لصح. وهذا وهم لأن ذلك جمعٌ بين ضميرين متصلين، أحدهما فاعلٌ، والآخر مفعولٌ، لمسمًى واحد، وذلك لا يكون في غير فعل قلبي"/ انتهى كلامه. وهذا الذي ظنه هذا الظان صحيحٌ، وما رد به المصنف فاسدٌ ووهمٌ منه؛ لأنه اعتقد أن الفاعل ب "يزيد" هو المفعول به، وليس كذلك، بل الفاعل ب "يزيد" هو عائد على قوله: "قوم"، أو على قوله: "حيًا" على ما ثبت في الحماسة، وقوله: "هم" المتصل ب "يزيد" عائد على من سبق ذكره في الشعر من الذين فارقهم، وهو قولهك وحبذا حين تمسي الريح باردةً وادي أشيً وفتيانٌ به هضم ثم مدحهم بعد هذا بستة أبيات، ثم قال: لم ألق بعدهم حيًا فأخبرهم. والشعر لزياد بن حمل بن سعيد بن عميرة بن حريثٍ العدوي، وبنو العدوية حيٌ من بني تميم، وكان قد أتى اليمن، فنزع إلى وطنه ببطن الرمث، وهو من بلاد تميم. فالمعنى: إلا يزيد الحي الملقيون المخبورون، أو القوم المصاحبون الذين ذكر أحبابه لأجل صحبتهم، أولئك المفارقين حبًا إلي،

وإذا كان المعنى على هذا صح أن يقال: "إلا يزيدونهم" لاختلاف مدلول الفاعل والمفعول؛ لأن الزائد غير المزيد. ولبعض شيوخنا كلام على المضمرات بالنسبة إلى الاتصال والانفصال، أردنا أن لا نخلي الكتاب منه لأن فيه فوائد ما تضمنها كلام المصنف قال: المرفوع إن عمل فيه معنى انفصل، وذلك المبتدأ، أو لفظٌ هو هو انفصل، أو غيرهما: فعلًا اتصل، إلا إن فصلت إلا فينفصل، أو كان في معناها فينفصل في الشعر، وإذا اتصل، والفعل ماضٍ، برز، إلا المفرد الغائب مذكرًا أو مؤنثًا، أو أمرٌ برز في غير مفردٍ مذكر، أو مضارعٌ لمتكلم استتر، أو لمخاطبٍ فكذا لمفردٍ مذكر. أو صفةً لمن هي له استتر، أو لغيره برز في الأعراف. أو اسم فعلٍ استتر. أو مصدرًا نائبًا مناب الفعل استترن أو مناب أن والفعل انفصل، والوجه خفضه. أو حرفا انفصل. والمنصوب إن نصبه فعلٌ - وهو كان - فالانفصال المختار - أو طن - وهو الأول، اتصل، والثاني كمفعول كان، أو غيرهما متعديًا إلى واحد اتصل، أو لاثنين، وهو أول، فكذلك، أوثانٍ، والأول محذوفٌ فكذلك، أو مذكورٌ، واجتمعا، وقدمت ما له الرتبة، اتصل لا غير، تقول: أعطيتكه، قال تعالى: {أَنُلْزِمُكُمُوهَا}، أو ما رُتبته التأخير فالانفصال لا غير: أعطيته إياك، فإن كانا في درجة واحدة فالاختيار انفصال الثاني {وَعَدَهَا إِيَّاهُ}. ويجوز: أعطاهوها، وهو عربي، وليس وجه الكلام. أو اسم فاعل تعدى لاثنين جرى مجرى الفعل، أو لواحدٍ نحو: الضاربك والضارباك، ففيه

الخلاف. ويجري مجراه: حسن الوجه جميله، والحسن الوجه الجميلة. أو صدرٌ على من قال: "ضربًا زيدًا" تأتي به مُتصلًا، فتقولك ضربه، ويسقط التنوين لمكان المتصل كما في ضاربك. ويظهر لي أن خلاف الأخفش في الموضعين واحد، فالهاء في موضع نصب كما قال في: ضاربه وس يقول: في موضع خفض/ كما قال في ضاربه. أو اسم فعل اتصل: عليكه ورويده وعليكني، ومن العرب من يقول: عليك بي، ولو قال عليك إياي كان جائزًا، قاله س. أو حرفٌ وهو "إن" فالضمير متصل، أو "ما" فمنفصل. وما كان واجب الاتصال أو جائزه من المنصوب إذا تقدم وجب انفصاله. وهذا عقد في الضمائر اتصالًا وانفصالًا ذكره بعض أصحابنا، قال: إذا تقدم العامل، أو فُصل بينهما بحرف عطفٍ أو إلا أو ما في معناها على الخلاف، انفصل. فإن كان غير ما ذكر، والعامل حرفٌ، لم يتصل إلا في إن وأخواتها. أو اسم مصدرٍ، منونٌ أو غير منون، مضافٌ لظاهرٍ أو لمضمر مثله، انفصل، وقد يتصل في المضمر الغائب إن اختلفا، إلا لم يجز. أو أقرب منه انفصل، أو أبعد جاز الاتصال، والانفصال أحسن وأفصح. واسم الفاعل واسم المفعول كذلك. أو اسم فعلٍ نحو: رويد فالاتصال عند س لا غير، وأجاز غيره الانفصال. أو ظرفٌ أو مجرورٌ فهما، أو فعلٌ متعد إلى واحد اتصل، أو إلى اثنين من باب أعطى - وهما غائبان من جنس واحد - فالانفصال أحسن، وأنكر الكوفيون الاتصال، وزعموا أن البصريين قالوه بالقياس، نحو: أعطيتهوه، وهو مسموع عن العرب. أو متكلمان أو مخاطبان

انفصل المتأخر منهما، أو مختلفان وتقدم الأقرب ف "س" لم يذكر إلا الاتصال، وذكر غيره الانفصال، أو الأبعد فالانفصال، ولا يجيز س أعطيتهوك، وحكي عن طائفة من النحويين جوازه، ورده. وزعم المبرد أن الصواب مذهبهم، وأجاز الكوفيون في التثنية والجمع، فقالوا: أعطيتهماكما وأعطيتهموكم، وأجاز الكسائي أعطيتهنكمن، ومنع الفراء الاتصال. وإن كان الفعل ناسخًا - وهو كان - فالانفصال أحسن، خلافًا لابن الطراوة. أو "ظننت" فكأعطيت، إلا إن اختلفا، وتقدم الأقرب، فيختار فيه الانفصال. أو "أعلم"، والكل ضمائر، فحكم الأول والثاني حكم باب أعظيت، أو بعضٌ مضمرٌ وبعضٌ ظاهرٌ، والمضمر واحدٌ، وصلته، أو اثنان أول وثانٍ أو ثالثٌ فكأعطيتُ، أو ثانٍ وثالثٌ فكظننت.

-[ص: فصل الأصل تقديم مفسر الغائب، ولا يكون غير الأقرب إلا بدليل، وهو إما مصرحٌ بلفظه، أو مستغني عنه بحضور مدلوله حسًا أو علمًا، أو بذكر ما هو له جزءٌ أو كلٌ أو نظيرٌ أو مصاحبٌ بوجه ما.]- ش: ضمير المتكلم وضمير المخاطب تفسرهما المشاهدة، وأما ضمير الغائب فعارٍ عن المشاهدة، فاحتيج إلى ما يُفسره، وأصل المفسر في الضمير أن يكون ما يعود عليه متقدمًا، وقد خالف هذا الأصل في مواضع، تأتي إن شاء الله. وقوله: ولا يكون غير الأقرب، أي: لا يكون مفسر ضمير الغائب غير الأقرب إلا بدليل، مثال ذلك قوله تعالى: {وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ}، فالضمير في (ذريته) / عائد على إبراهيم لا على إسحاق ولا يعقوب؛ لأن المحدث عنه من أول القصة إلى آخرها هو إبراهيم. ومثال عوده على الأقرب قولك: لقيت زيدًا وعمرًا يضحك، فالضمير في يضحك عائد على عمرو، ولا يعود على زيد إلا بدليل، ولذلك استدل أبو محمد بن حزم على تحريم جميع الخنزير لحمه وشحمه وعروقه وغضاريفه وجلده وجميع ما اشتمل عليه بقوله تعالى: {أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ

رِجْسٌ} لما ألزم أن يقول بتحليل شحم الخنزير، فقال: الضمير في (فإنه) عائد على الخنزير لأن أقرب مذكور، وإنما ذكر اللحم أولًا لأنه هو المعهود أكله لم يأكله لا على جهة حصر التحريم فيه، ثم دل قوله (فإنه رجسٌ) من حيث عاد الضمير على أقرب مذكورٍ على تحريمه كله بسائر ما يحتوي عليه. وقد نوزع في عود الضمير هنا على أقرب مذكور، ولسنا الآن لتحقيق ذلك وإمعان الكلام فيه. وقوله: وهو - أي المُفسر - إما مُصرحٌ بلفظه مثاله: زيدٌ لقيته، والتصريح بلفظ المفسر هو غالبٌ على ضمير الغيبة. وقوله: أو مستغنيً عنه بحضور مدلوله حسًا مثله المصنف بقوله تعالى {قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَن نَّفْسِي}، و {يَا أَبَتِ اسْتَاجِرْهُ}. وليس كما مثل به لأن هذين الضميرين عائدان على ما قبلهما، فالضمير في (قال) عائد على (يوسف)، والضمير في (هي) عائد على قوله {بِأَهْلِكَ سُوَءاً}، ولما كنت عن نفسها بقوله {بِأَهْلِكَ} ولم تقل "بي"، كنى هو عنها بضمير الغيبة في قوله: {هِيَ رَاوَدَتْنِي}، ولم يخاطبها بقوله "أنت راودتني"، ولا أشار أليها بقوله "هذه راودتنى". وكل هذا على سبيل الأدب في الألفاظ والاستحياء من الخطاب الذي لا يليق بالأنبياء، فأبرز الاسم في صورة الضمير الغائب تأدبًا مع الملك وحياءً منه. وكذلك أيضًا قوله {يَا أَبَتِ اسْتَاجِرْهُ} عائد على موسى، فمفسره مصرحٌ بلفظه، وكأن المصنف تخيل أن

هذا موضع إشارة لكون صاحب الضمير حاضرًا عند المخاطب، فاعتقد أن المفسر يُستغنى عنه بحضور مدلوله حسًا، فجرى الضمير مجرى اسم الإشارة، والتحقيق ما ذكرناه. وقوله: أو علمًا مثله المصنف بقوله: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} أي: إنا أنزلنا القرآن، فالمفسر مُستغني عنه بحضور مدلوله علمًا. وقوله: جزءٌ مثله المصنف بقول الشاعر: أماوي، ما يُغني الثراء عن الفتى إذا حشرجت يومًا، وضاق بها الصدر فالضمير في "حشرجت" عائد على النفس، والفتى مغنٍ عن ذكرها لأنها جزؤه. وكذلك الضمير ي "بها". وقال ابن هشام: "الضمير في "حشرجت" يعود على النفس، ولم يتقدم لها ذكر، لكن الحشرجة وضيق الصدر دلا عليا" انتهى. فلم يجعل الدال عليها ذكر/ ما هو - أي الضمير - له جزءٌ، وهو الفتى. ومن ذلك: "من كذب كان شرًا له"، و {اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى}، وقول الشاعر: وإذا سئلت الخير فاعلم أنها حسنى، تُخص بها من الرحمن وقول الآخر:

إذا نُهي السفيه جرى إليه وخالف، والسفيه إلى خلاف التقدير: كان هو، أي: الكذب، واعدلوا هو أي: العدل، واعلم أنها، أي: المسألة. والضمير في هذا أحد مدلولي الفعل، فهو جزء المدلول. وكذلك: جرى إليه، أي: السفه، وهو جزء مدلول السفيه لأنه يدل على ذاتٍ مُتصفةٍ بالسفه. وقوله: أو كل مثاله {وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ}، فالذهب والفضة بعض المكنوزات، فأغني ذكرهما عن ذكر الجميع، حتى كأنه قيل: والذين يكنزون أصناف ما يُكنز، ولا يُنفقونها. ومنه قول الشاعر: ولو حلفت بين الصفا أم معمرٍ ومروتها بالله برت يمينها قال المصنف: "أعاد الضمير إلى مكة لأن الصفا جزءٌ منها، وذكر الجزء مغنٍ عن ذكر الكل" انتهى. ولا يتعين هذا؛ إذ يحتمل أن يعود الضمير على "الصفا" على معنى الصخرة؛ لأنهما مشتركان في معنى الطواف بهما، فهما طرفان ينتهي في الطواف إليهما، والإضافة تكون بأدني مُلابسة، كما قال تعالى {لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا} أي: ضحى العشية. وقوله: أو نظير مثاله: عندي درهمٌ ونصفه، أي: ونصف درهمٍ آخر. وكذلك قوله تعالى {وَمَا يُعَمَّرُ مِن مُّعَمَّرٍ وَلا يُنقَصُ مِنْ عُمُرِهِ} أي: من

عُمُرِ معمرٍ آخر. وكذلك قوله: قالت: ألا ليتما هذا الحمام لنا إلى حمامتنا ونصفه، فقد أي: ونصف حمامٍ آخر مثله في العدد. وقول الآخر: وكل أناسٍ قاربوا قيد فحلهم ونحن خلعنا قيده، فهو سارب أي: قيد فحلنا. وقوله: كأن ثياب راكبه بريحٍ خريقٍ، وهي ساكنة الهبوب أي: وريحٌ أخرى ساكنة الهبوب. وأصحابنا يعبرون عن هذا بأنه يعود الضمير على الظاهر لفظًا لا معنى. ومن ذلك ظننت وظننيه زيدٌ قائمًا، فالهاء في ظننيه يفسرها "قائمًا" لفظًا لا معنى. ولما خفي هذا الوجه على أبي الحسين بن الطراوة منع هذه المسألة، وستأتي في باب الإعمال، إن شاء الله. وقوله: أو مصاحبٌ بوجهٍ ما/ بمستلزمٍ عن مستلزمٍ، نحو {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ

مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ}، وقوله: لكالرجل الحادي، وقد تلع الضحى وطير المنايا فوقهن أواقع فـ "عفي" يستلزم عافيًا، فالضمير في (إليه) عائد عليه. والحادي يستلزم إبلًا محدودةً، فالضمير في "فوقهن" عائد عليهن، ومثله: {حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ} أي: الشمس، أغني عن ذكرها ذكر (العشي). ويجوز أن يكون فاعل (توارت) ضمير (الصافنات). وقد يستغني عن ذكر صاحب الضمير بذكر ما يُصاحبه ذكرًا أو استحضارًا، كذكر الخبر وحده متلوًا بضمير اثنين مقصودٍ بهما المذكور وضده، نحو قوله: وما أدري إذا يممت أرضًا أريد الخير: أيهما يليني؟ وقد يُعاد الضمير على المُصاحب المسكوت عنه لاستحضاره بالمذكور وعدم صلاحيته له، كقوله: {فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلاَلاً فَهِيَ إِلَى الأَذْقَانِ}، فـ (هي) عائد على الأيدي لأنها تُصاحب الأعناق في الأغلال، فأغنى ذكر الأعناق عن ذكرها. ومثله {وَمَا يُعَمَّرُ مِن مُّعَمَّرٍ وَلا يُنقَصُ مِنْ عُمُرِهِ} أي: من عمر غير

المعمر، فأعيد عليه لأن ذكر المعمر مُذكرٌ به لتقابلهما، فكان مصاحبه في الاستحضار الذهني. انتهى شرح قوله " أو مصاحبًا له" مُلخصًا من كلام المصنف في الشرح. وقد كثر المصنف أنواع ما يُفسره ما يُفهم من سياق الكلام ولم يتقدم له مُفسرٌ متقدمٌ عليه ولا متأخرٌ عنه. وأصحابنا قسموا ضمير الغائب: إلى ما يتقدم عليه مُفسره لفظًا ورُتبةً، نحو: ضرب زيدٌ غلامه، أو لفظًا دون رتبة، نحو: ضرب زيدًا غلامه، أو رُتبةً دون لفظ، نحو: ضرب غلامه زيدٌ. وإلى ما يُفسره ما يُفهم من سياق الكلام، وهو ما عُلم المراد به، ومل يكن له مُفسرٌ متقدمٌ عليه بوجه من الوجوه الثلاثة ولا متأخرٌ عنه، نحو {مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِن دَابَّةٍ}، {حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ}، {فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعاً}: كأن هزيزه بوراء غيبٍ .................................. أي: على ظهر الأرض، وحتى توارت الشمس، فأثرن بالمكان، هزيز الرعد. وإلى ما يأخذ شبهًا من الذي يُفسره ما يُفهم من سياق الكلام، ومن الذي يُفسره ما قبله بوجه ما، أي: لم يتقدم لمُفسره ذكرٌ، لكن تقدم ما هو من لفظ المُفسر، وإن لم يكن المُفسر، وذلك نوعان: أحدهما: الضمير العائد على المصدر المفهوم من فعلٍ أو صفةٍ، نحو

قوله تعالى: {اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى}، وقوله: إذا نهي السفيه جرى إليه ....................... والثاني: العائد على شيءٍ لم يُذكر في الكلام، ولكن ذُكر قبله شيءٌ يشرك الشيء الذي يعود عليه الضمير في اللفظ، نحو: عندي درهمٌ ونصفه. -[ص: ويقدم الضمير المكمل/ معمول فعلٍ أو شبهه على مُفسرٍ صريح: كثيرًا إن كان المعمول مؤخر الرتبة، وقليلًا إن كان مُقدمها وشاركه صاحب الضمير في عامله.]- ش: قال المصنف في الشرح: مثال ما يُقدم كثيرً: ضرب غلامه زيدٌ، ومثله {فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُّوسَى}، وغلامه ضرب زيدٌ، ومثله: "في بيته يؤتي الحكم"، و"شتى تؤوب الحلبة". والكوفيون لا يُجيزون مثل هذا. وسماعه عن فصحاء العرب صحيحٌ، فهو حجةٌ عليهم. وضرب غلام أخيه زيدٌ، وغلام أخيه ضرب زيدٌ ومثله: شر يوميها وأغواه لنا ركبت عنرٌ بحدجٍ جملا

شر يوميها: ظرفٌ لركبت، وما أراد أخذ زيدٌ. ومثله: ما شاء أنشأ ربي، والذي لم يشأ ربي، فلست تراه ناشئًا أبدا وضرب جاريةً يُحبها زيدٌ. وهذا الأمثلة وأشباهما مُندرجة تحت قولي: "المكمل معمول فعل"؛ لأن المضاف إليه مُكمل المضاف، ومعمول الصلة مكمل الموصول، كما تُكمل "ما" بفاعل "أراد"، ومعمول الصفة مُكمل الموصوف كما تُكمل "جاريةً" بفاعل "يُحبها". ومثال شبه الفعل قولك: هندٌ ضاربٌ غلامه زيدٌ من أجلها، ومررت بإمرأةٍ ضاربٍ غلامه أخوها. ومثال ما يُقدم قليلًا قول حسان: ولو أن مجدًا أخلد الدهر واحدًا من الناس أبقى مجده الدهر مطعما وقال آخر: كسا حلمه ذا الحلم أثواب سؤددٍ ورقي نداه ذا الندى في ذرا المجد وقال آخر: لما رأى طالبوه مُصعبًا ذعروا وكاد لو ساعد المقدور ينتصر وقال آخر:

لقد حاز من يُعنى به الحمد إن أبى مكافأة الباغين والسفهاء وأنشد ابن جني: ألا ليت شعري، هل يلومن قومه زهيرًا على ما جر من كل جانب وأنشد أيضًا: جزى بنوه أبا الغيلان عن كبرٍ وحسن فعلٍ كما يُجزى سنمار والنحويون إلا أبا الفتح يحكمون بمنع مثل هذا، والصحيح جوازه لوروده عن العرب في الأبيات المذكورة وغيرها، ولأن جواز نحو: ضرب غلامه زيدًا، أسهل من جواز نحو: ضربوني وضربت الزيدين، ونحو: ضربته زيدًا، على إبدال زيد من الهاء. وقد أجاز/ الأول البصريون، وأجيز الثاني بإجماع، حكاه ابن كيساه، وكلاهما فيه ما في: ضرب غلامه زيدًا، من تقديم ضميرٍ على مفسرٍ مؤخرِ الرتبة؛ لأن مُفسر واو ضربوني معمول معطوفٍ على عاملها، والمعطوف ومعموله أمكن في استحقاق التأخر من المفعول بالنسبة إلى الفاعل؛ لأن تقدم المفعول على الفاعل يجوز في الاختيار كثيرًا، وقد يجب، وتقدم المعطوف وما يتعلق به على المعطوف عليه بخلاف ذلك، فيلزم من أجاز "ضربوني وضربت الزيدين" أن يحكم بأولوية جواز: ضرب غلامه زيدًا، واللهم صل عليه الرؤوف الرحيم؛ لأن

البدل تابع، والتابع مؤخر الرتبة، ومؤخرٌ في الاستعمال على سبيل اللزوم، والمفعول ليس كذلك، إذ لا يلزم تأخره. انتهى ما شرح به المصنف، وفي أوله بعض تلخيص. فأما قوله: "ضرب غلامة زيدٌ" فإنما جاز لأن المفعول - وإن كان مُقدمًا في اللفظ على الفاعل - فإنه مؤخرًا عنه في المعنى؛ لأن المفعول رتبته أن يكون بعد الفاعل، وليس بين النحويين اختلافٌ في جواز هذه المسألة. وقال ابن كيسان: العامل في الفاعل والمفعول واحد، وهو الفعل، فإذا كانا جميعًا بعد العامل فكل واحدٍ في موضعه. وقال الفراء: لما تقدم كان صاحبه كأنه معه. وأما قوله: غلامه ضرب زيدٌ، وفي بيته يُوتي الحكم، وشتى تؤوب الحلبة، ونقله عن الكوفيين؛ لأن الكوفيين فصلوا في الضمير إذا تأخر العامل عن المفعول والفاعل بين أن يكون مُتصلًا بالمفعول مجرورًا، أو بما أضيف إليه مجرورًا، أو منفصلًا منه، أو مُتصلًا به في موضع نصب. فإن كان متصلًا به أو بما أضيف إليه مجرورًا جاز ذلك عندهم أن يتقدم، نحو: إرادته أخذ زيدٌ، وغلام أبيه ضرب زيدٌ. فإن كان الضمير في موضع نصب، وهو متصل بالمفعول، لم يجز ذلك عندهم، نحو: ضاربه ضرب زيدٌ، إذا كانت الهاء في موضع نصب، وإن كانت في موضع جر جاز، كما جاز: غلامه ضرب زيدٌ، وإن كان لم يتصل بالمفعول ولا بالمضاف للمفعول فلا يجوز عندهم تقديم المفعول، ومثلوا ذلك بمثلٍ كثيرة، منها: ما رأى أحب زيدٌ، وما أراد أحب زيدٌ، ويوم يقوم يتخلص زيدٌ، ويوم يقوم يُحشر خالدٌ، وإذا قام سرك زيدٌ، وما يُعجبه يتبع أخوك. فهذه كلها منعها الكسائي والفراء، وأجازها البصريون.

وعلة ذلك عند الكسائي والفراء أن في "أحب" و "أراد" ضميرًا مرفوعًا، والمرفوع لا يُنوي به التأخير لأنه في موضعه. وحجة البصريين أن المضمر المرفوع متصلٌ بالمنصوب، والمنصوب ينوى به التأخير، فليس اتصال المرفوع به مما يمنعه عما يجوز فيه بإجماع. فإن كان العامل/ مقدمًا جازت المسائل عند الكسائي والفراء، فتقول: أخذ ما أراد زيدٌ. قال ابن كيسان: وكان ينبغي أن لا يجوز عندهما في حال؛ لأن احتجاجهما من أجل الضمير، فالعلة واحدة. وقال ابن كيسان: ينبغي على قولهما أن يكون "أخذ ما أراد زيدٌ" أقبح من قولهم: ما أراد أخذ زيدٌ، لأنك لا تجعل "ما" إذا كانت مُقدمة إلا بعد "زيد"، وإذا كانت بين الفعل وبين "زيد" فقد وقعت موقعًا لا تريد به التقديم والتأخير، فينبغي أن لا يجيزوا: ضرب زيدًا أبوه؛ لأنه على نية التقديم والتأخير. قال ابن كيسان: وقلنا لهم - يعني الكوفيين -: لم أبيتموه وأنتم تجيزون: إرادته أخذ زيدٌ؟ قالوا: الضمير إذا كان بالهاء كان كبعض حروف الاسم، وإذا كان منفصلًا من المنصوب فإنما هو غير تابع له. قيل لهم: هو في التوسط كذلك. وأجاز الكسائي وأصحابه: ما أراد زيدٌ أخذ، و"ما" في موضع نصب بأخذ، وفي أخذ ضمير زيد. ومثل هذا: ثوب أخويك يلبسان انتهى كلام ابن كيسان. وأما قوله: "شتى تؤوب الحلبة" فشتى: حال، وفيها ضمير يعود على الحلبة. وهذا لا يجوز عند الكوفيين. قال الكوفيون: راكبًا أتانا زيدٌ، لا يجوز، لأن في راكب ذِكْرَ مرفوعه من زيد، فصار نظير: ما أحب أخذ زيدٌ، وهو لا يجوز. فإن قلت: أتانا راكبًا زيدٌ، جاز لتقدم الفعل على زيد

وراكب. وكلاهما جائز عند البصريين لتصرف العامل. فإن قلت: تؤوب شتى الحلبة، جاز على كل قول. فاتضح بهذا مذهب الكوفيين أن مثل: غلامه ضرب زيدٌ، يجوز عندهم، ومثل: شتى تؤوب الحلبة، وما أراد أخذ زيدٌ، لا يجوز عندهم، وهو خلاف ما ذكر المصنف عنهم إذ سوى بين المسألتين في المنع عنهم. وقد تكرر له هذا الوهم في آخر الفصل الثالث من باب تعدي الفعل ولزومه من هذا الكتاب، وسنتكلم عليه إذا وصلنا إليه، إن شاء الله تعالى. وأما قول المنصف: "ومثال ما يُقدم قليلًا قول حسان"، وإنشاده تلك الأبيات، فقد أنشدوا أيضًا من هذا النوع قول الشاعر: جزى ربه عني عدي بن حاتمٍ جزءا الكلاب العاويات، وقد فعل وقول الآخر: لما عصى أصحابه مصعبًا أدى إليه الكيل صاعًا بصاع هكذا أنشد هذا البيت أبو عبيدة.

وأما قوله: "والنحويون إلا أبا الفتح يحكمون بمنع هذا" فظاهره أنه لا يُجيزها إلا أبو الفتح، وقد أجازها قبله من الكوفيين أبو عبد الله الطوال، وتبعه أبو الفتح. وذكر أبو حعفر الصفار الإجماع على أنها لا تجوز إلا ما ذهب إليه الطوال من أنها تجوز، قال: وتابعه أحمد بن جعفر/، فزعم أن هذا جائز في الشعر. ونقل غير أبي جعفر الصفار عن أبي الحسن إجازة ذلك. فأبو الفتح في ذلك له سلفٌ الطوال والأخفش. وأما قوله: "والصحيح جوازه لوروده عن العرب" فلعمري إنه قد كثر مجيء ذلك في الشعر، فالأحوط جوازه في الشعر دون الكلام، كما ذهب إليه أحمد بن جعفر. وقد رام بعض النحويين تأويل ذلك كله، والتأويل فيه بُعدٌ، ولجوازه وجهٌ من القياس، وهو أن المفعول كثر تقدمه على الفاعل، فجعل لكثرته كالأصل، فإذا قال: هل يلومن قومه زهيرًا؟ جرى مجرى ما أصله: هل يلومن زهيرصا قومه؟ كما يُقدم ضمير الفاعل على المفعول في نحو: ضر غلامه زيدٌ. وقد شبه س الضارب الرجل بالحسن الوجه، والأصل عكس هذا. وأما قوله: "ولأن جواز نحو ضرب غلامه زيدًا أسهل من جواز نحو:

ضَربوني وضَربتُ الزيدين، ونحو: ضربته زيدًا، على إبدال زيد من الهاء، وقد أجاز الأول البصريون، وأجيز الثاني بإجماع"، فلا تُنظر مسألة ضرب غلامه زيدًا بمسألة ضربوني وضربت الزيدين؛ لأن ضربوني وضربت الزيدين خارجةٌ عن القياس في مسائل استُثنيت يتأخر مُفسر الضمير فيها، وما كان خارجًا عن القياس لا يُقاس عليهن ولا يُشبه به. وأما قوله: "وأجيز الثاني بإجماع" - يعني ضربته زيدًا - فليس بصحيح، ولا إجماع فيها، بل في المسألة خلاف: ذهب الأخفش إلى جواز ذلك. وذهب غيره إلى أنه لا يجوز. وسيأتي الكلام على ذلك، إن شاء الله، وكثيرًا ما يدعي المصنف الإجماع فيما فيه الخلاف. وقوله: أو شبهه مثاله: هندٌ ضاربٌ غلامه زيدٌ من أجلها. وقوله: وشاركه صاحبُ الضمير في عامله احترز بهذا من أن لا يشارك صاحب الضمير في العامل، فإن المسألة إذ ذاك لا تجوز، مثاله: ضرب غلامها جار هندٍ، فصاحب الضمير الذي هو "هند" لم يُشارك الفاعل الذي هو "غلامها" في العامل الذي هو "ضرب"؛ لأن هندًا مخفوض بالإضافة، وغلامها مرفوع بضرب، وذلك بخلاف: ضرب غلامها هندًا، فإن الناصب لصاحب الضمير الذي هو "هند" هو الرافع لغلامها الذي هو الفاعل. ولتقديم المفعول والعامل بالنسبة إلى المضمر الذي يتصل بالفاعل أو المفعول احكامٌ كثيرة في مسائل عديدةٍ، نذكرها إن شاء الله في "باب تعدي الفعل ولزومه". ص: ويتقدم أيضًا غير منوي التأخير إن جُر برب، أو رفع بنعم أو شبهها، أو بأول المتنازعين، أو أبدل منه المفسر أو جعل خبره، أو كان

المُسمى ضمير الشأن عند البصريين وضمير المجهول عند الكوفيين. ش: مثاله في رب قول الشاعر: واهٍ رأبت وشيكًا صدع أعظمه وربه عطبًا أنقذت من عطبه / ومثاله في نعم قوله: نعم أمرأً هرمٌ، لم تعر نائبةٌ إلا وكان لمرتاعٍ بها وزرا وهذا الذي في نعم من أن فاعلها ضميرٌ مُستكنٌ فيها يُفسره ما بعده هو مذهب البصريين. وذهب الكوفيون إلى أنه لا فاعل مضمرٌ في نعم، بل الاسم المرفوع بعد نعم هو الفاعل بنعم. وسيأتي الكلام في ذلك في "باب نعم" إن شاء الله. وقوله: أو شبهها مثال ذلك: بئس رجلًا زيدٌ، وظرف رجلًا زيدٌ. ومثاله في أول المتنازعين قول الشاعر: جفوني، ولم أجب الأخلاء، إنني لغير جميلٍ من خليلي مهمل وهذا فيه خلاف. فمذهب الكسائي والفراء أنه لا يجوز. وسيأتي الكلام على ذلك في "باب الإعمال" إن شاء الله. ومثال المُفسر ببدله ما حكى الكسائي: اللهم صل عليه الرؤوف

الرحيم. وهذه المسألة أيضًا فيها خلاف: ذهب الأخفش إلى الجواز، وذهب غيره إلى المنع، وقالوا: البدل لا يُفسر ضمير المبدل. والصحيح جواز ذلك، وهو مذهب أبي الحسن. والدليل على ذلك قول الفرزدق: وقد مات خيراهم، فلم يهلكاهم عشية بانا رهط كعبٍ وحاتم فالضمير المخفوض عائد على ما أُبدل منه، وهو: رهط كعب وحاتم، كأنه قال: وقد مات خيرا رهط كعبٍ وحاتم، فلم يهلكاهم. وقول الآخر: قد أصبحت بقرقري كوانسا فلا تلمه أن ينام البائسا فالضمير المنصوب في "تلمه" عائد على ما أبدل منه، وهو: البائس، كأنه قال: فلا تلم البائس أن ينام. وقال الآخر: إذا هي لم تستك بعود أراكةٍ تُنخل، فاستاكت به عود إسحل في رواية من جر "عود إسحل" فهو بدل من الضمير في به. وقد ذكر

س: ضربوني وضربتهم قومك. ومن منع ذلك تأول "فلا تلمه" على أن الضمير يُفسره ما يُفهم من سياق الكلام لا البدل؛ لأن قوله "قد أصبحت" يدل على أن لها راعيًا، فكأنه أعاد الضمير عليه. وتأول "به عود إسحل" على أن يكون الضمير في "به" عائدًا على"عُود اراكة" لفظًا، نحو قوله: عندي درهمٌ ونصفه، وقول الشاعر: وكل أناسٍ قاربوا قيد فحلهم ونحن خلعنا قيده، فهو سارب ومثال جعله خبرًا قوله تعالى: {إِنْ هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا}. قال الزمخشري: / "هذا ضميرٌ لا يُعلم ما يُعني به إلا بما يتلوه من بيانه، وأصله: إن الحياة إلا حياتنا، ثم وضع هي موضع الحياة؛ لأن الخبر يدل عليها ويبينها". قال: "ومنه: هي النفس تتحمل ما حملت، وهي العرب تقول ما شاءت". قال المصنف - وقد حكي كلام الزمخشري-: "وهذا من جيد كلامه، وفي نظيره بهي النفس وهي العرب ضعفٌ لإمكان جعل العرب والنفس بدلين، وتتحملن وتقول خبرين" انتهى كلامه. ولم يذكر أصحابنا في الضمير الذي يُفسره ما بعده، ولا ينوي بالضمير التأخير، أن يكون مُفسره الخبر، وإنما هذا يُفسره سياق الكلام. وأما ما ذهب إليه المصنف من أن "هي" مُفسرها هو "حياتُنا الدنيا" الذي هو الخبر فهو فاسد؛ لأنه إذا فسره الخبر، والخبر مضافٌ لشيءٍ وموصوفٌ بشيء، كان ذلك الضمير عائدًا على الخبر بقيد إضافته وقيد صفته، وإذا كان كذلك صار تقدير الكلام: إن حياتنا الدنيا إلا حياتنا الدنيا، ولا يجوز ذلك، كما لا يجوز: ما غلامنا العالم إلا غلامنا العالم؛ لأنه يؤدي إلى أنه لا يُستفاد من

الخبر إلا ما يُستفاد من المبتدأ، وذلك لا يجوزن ولذلك منعوا: رب الدر مالكها وسيد الجارية مالكها. وليس في كلام الزمخشري ما يدل على ما ذهب إليه المصنف؛ لأنه قال: "وضع هي موضع الحياة"، فلم يقل: "موضع حياتنا الدنيا" الذي هو الخبر. وقوله: "لأن الخبر يدل عليها ويبينها" يعني أن سياق هذا الكلام دل على أن المضمر هو الحياة. ومثال ضمير الشأن قوله تعالى: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ}، هكذا مثله المصنف، وهو على أحد المحتملات التي ذُكرت في إعرابه. وذكر الفراء ضمائر يُفسرها ما بعدها، وليست مما ذُكر هنا، فمن ذلك قوله تعالى {وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ}، وقوله تعالى {وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَن يُعَمَّرَ}، وقد تكلمنا على ذلك في كتابنا الكبير في تفسير القرآن المسمى ب "البحر المحيط"، وذكرنا أعاريب الناس في ذلك، واحتجاجهم، وإبطال ما ينبغي إبطاله، وتصحيح ما ينبغي تصحيحه. قال: "ومن ذلك ما حُكي من كلام العرب: كان ذلك مرةً وهو تنفع الناس أحسابهم، وقول الشاعر: ......................... فهل هو مرفوعٌ بما ههنا رأس" فهذه جملة الأماكن المُتفق عليها والمختلف فيها التي يتقدم فيها الضمير على مفسره، ولا ينوي به التأخير.

وضمير الشأن هو ضمير غائب يأتي صدر الجملة الخبرية دالاً على قصد المتكلم استعظام السامع حديثه. وتسمية البصريين له ضمير الشأن والحديث إذا كان مذكرًا، وضمير القصة إذا كان مؤنثًا، قدروا من معنى الجملة اسمًا، جعلوا ذلك الضمير يفسره ذلك الإسم المقدر حتى يصح الإخبار بتلك الجملة عن ذلك الضمير، ولا يحتاج/ فيها إلى رابط؛ لأنها هي نفس المبتدأ في المعنى. والفرق بينه وبين الضمائر أنه لا يعطف عليه، ولا يؤكد، ولا يبدل منه، ولا يتقدم خبره عليه، ولا يفسر بمفرد. وأما الكوفيون فسموه مجهولاً لأن لا يدري عندهم ما يعود عليه. ولا خلاف في أنه اسم يحكم على موضعه بالإعراب على حسب العامل، إلا ما ذهب إليه ابن الطراوة من إنكاره وزعمه أنه حرف، قال: والسماع والقياس يمنعه. قال: أما القياس فإن الهاء في قوله: "إنه أمة الله ذاهبة "حرف كف إن عن العمل كما كفتها ما في "إنما زيد قائم ". وأما كان وليس وإن التي لا هاء معها نحو: إن من يدخل الكنيسة .................. ... ........................

ونحو: كان زيد منطلق، وليس عمرو ضاحك، ونحوها من نواسخ الإبتداء، فهي حال دخولها على الجمل التي لم تعمل فيها ملغاة كظننت، وثبت أن ظننت تلغيها العرب، وعمل كان وليس وإن فرع؛ إذ عملها بالتشبيه بالأفعال التي عملها أصل كعمل ظننت، فالقياس يقتضي أن تحمل كان وليس وإن محمل ظننت، فتكون ملغاة. وأما السماع فإن العرب لم تذكر قط الأمر بهذا اللفظ في هذا المعرض ولا الشأن، فلما لم يقل قط: كان الأمر زيد قائم، ولا: إن الشأن زيد ضاحك، بطل دعواهم. فإن قالوا: قد ثبت ضمير الأمر والشأن قي قوله تعالى {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} على تقدير: الأمر الله أحد، فليس كذلك، فإنما هو هناك بمعنى: المعبود الله، أو المصمد إليه، ونحوه. قال: ثم إنهم يتناقضون، فإنهم يجعلون الجملة من المبتدأ والخبر خبرًا عن الناسخ في نحو: إنه زيد قائم، وكان عمرو ضاحك، واسم الناسخ الذي هو ضمير الأمر تفسيره الخبر، ومن شرط الخبر أن يكون مجهولاً، ومن شرط المفسر أن يكون معلومًا، فهم قد جعلوا الشيء الواحد معلومًا مجهولاً. قال الأستاذ أبو علي وغيره: أخطأ ابن الطراوة في إنكاره ضمير الأمر والشأن: أما أن الهاء كافة ففاسد لأنها لم تثبت حرفًا إلا ضميرًا، فإخراجها عما استقر لها من الإسمية فاسد، وإنما ادعينا في ما "إنما "أنها كافة لثبوت حرفيتها، ولم نجد بدا من ذلك، وأما إلغاء كان وليس إذ لم يظهر لهما عمل فباطل؛ إذ لم يثبت ذلك فيهما، ثم لم يثبت إلغاء فعل مع تقدُّمه،

وإنما ألغيت ظننت متوسطة أو متأخرة على ضعف. وأما أن العرب لم تصرح بالأمر والشأن في هذا العرض فقول من لم يفهم عن النحويين؛ لأنهم لم يقولوا ضمير الأمر والشأن على أن ذلك هو المحذوف، إنما هو تحويم منهم على المعنى بتقريب. وأما أن الخبر يكون مجهولاً فلم يفهم ما مرادهم بمجهول، فإنه لا يصح أن يخبر إلا بما يفهم معناه؛ إذ لا يخبر أحد عن معلوم بلفظة أعجمية لا يعقل معناها، وإنما المجهول الذي يريد النحويون نسبة الخبر إلى المخبر عنه، فبكونه معلومًا يصح أن يكون مفسرًا، وبكونه مجهول النسبة يصح أن يكون خبرًا. ثم إنه لو لم يكن/ في قوله إلا مخالفة لجميع النحويين من الخليل وس إلى من بعدهم من بصري وكوفي [لكان خليقًا بالطرح والرفض]، انتهى ما ردوا به على ابن الطراوة. فأما قولهم: "إن الهاء لم توجد إلا ضميرًا "فمدفوع بما حكى س أن الهاء في إياه وإياها حرف، وأن الضمير هو إيا، وما يليه حرف دليل ما يراد بإيا من متكلم أو مخاطب أو غائب. وأما قولهم: "لم تثبت "فلا يدل عدم تقدم الثبوت على بطلان المدعي؛ ألا تراهم قد ادعوا في الفصل أنه حرف لا موضع له من الإعراب، ولم يثبت فيه ذلك قبل. وكذا ما ادعاه من إلغاء كان وليس أنه لم يثبت، فهو معارض بإدعاء مضمر لم يلفظ به في موضع معهما. وكذلك إلغاء كان وليس حالة التقدم، فمذهبه في ظننت مذهب الكوفيين من أنه يجوز

إلغاؤها متصدرة. وباقي ما ردوا به كلام غير محقق. وأقول: اتحاد المفهوم في: كان زيد قائم، وكان زيد قائمًا، وإن زيدًا قائم، وإن زيد قائم، دليل على صحة مذهب ابن الطراوة، ولو كان على ما قدروا للزم أن تكون الجملة بتقدير مفرد مصدر حتى يصح المعنى ويصح كونها خبرًا عن ذلك المضمر، فيكون التقدير: كان الأمر قيام زيد، وإن الأمر قيام زيد، والجملة التي لم تصدر بحرف مصدري، ولا أضيفت إلى ظرف زمان، لا تتقدر بالمصدر. -[ص: ولا يفسر إلا بجملة خبرية مصرح بجزأيها، خلافًا للكوفيين في نحو: ظننته قائمًا زيد، وإنه ضرب أو قام. وإفراده لازم، وكذا تذكيره ما لم يله مؤنث أو مذكر شبه به مؤنث، أو فعل بعلامة تأنيث، فيرجح تأنيثه باعتبار القصة على تذكيره باعتبار الشأن.]- ش: شرط الجملة التي يخبر بها عن ضمير الشأن أن تكون مصرحًا بجزأيها، فلو حذف جزء منها لم يجز، وذلك لأن هذا الضمير مؤكد من حيث المعنى للجملة، وجيء به لتفخيم مدلولها، ومن حيث ذلك لا يناسب اختصارها بحذف شيء منها، فلا يجوز، كما لا يجوز ترخيم المندوب، ولا حذف حرف النداء منه ولا من المستغاث. هذا مذهب البصريين. وقال الزجاج: "لا يجيز البصريون: ما هو بقائم زيد، ولا: ما هو قائمًا زيد، ولا: كان قائمًا زيد، على إضمار الأمر "انتهى. فأما تجويز الكوفيين وأبي الحسن: ظننته قائمًا زيد، على أن تكون الهاء ضمير الشأن، وقائمًا: مفعول ثان لظننت، وزيدٌ: فاعل بـ

"قائمًا "، فإنه آل إلى الإخبار عن ضمير الشأن بالمفرد، وهو لا يجوز لأن قولك: "قائمًا زيد "ليس بجملة، فلو سمع نظير هذا التركيب كان زيد مبتدأ، وظننته قائمًا جملة خبر عن المبتدأ، والهاء مفعولة بظننت عائدة على زيد، وهو الذي يسبق إلى الفهم. ونظير ما أجازه الكوفيون في "ظننته قائمًا زيد "ما أجازوه في باب كان من قولهم: كان قائمًا زيد، ففي كان عندهم ضمير المجهول، وقائمًا خبر كان، وزيد مرفوع بقائم، ولا تثني "قائمًا "لرفعه الظاهر إذا قلت: كان قائمًا الزيدان، ولا تجمعه إذا قلت: كان قائمًا الزيدون. هذا مذهب الكسائي. وذهب الفراء/ إلى جواز: كان قائمًا زيد، على أن يكون "قائمًا "خبر كان، وزيد مرفوع بكان وقائمًا معًا، ولا تثني قائمًا لرفعه الظاهر. ولا يجوز شيء من هذا عند البصريين لأن مفسر ضمير الشأن عندهم لابد أن يكون جملة. وللكوفيين تفاريع من هذا النوع نذكرها في "باب كان "إن شاء الله. وأما ما أجازه الكوفيون من قولهم: إنه ضرب، وإنه قام، على حذف المسند إليه الضرب والقيام من غير إرادة، فبقي مفردًا، ولا إضمار في ضرب ولا قام، فلا يجوز عند البصريين لأن الكلام من حيث افتتحته بضمير الشأن يد على أنه معتنى فيه بالمحدث عنه، ومن حيث اختتامه بحذف ما لابد منه يدل على عدم الإعتناء به، فتدافعا، فلا يجوز لذلك. وسيأتي الكلام

على مثل ضرب والإقتصار عليه في "باب النائب عن الفاعل "إن شاء الله. وقوله: وإفراده لازم إنما كان واجب الإفراد لأنه ضمير يفسره مضمون الجملة، ومضمون الجملة هو شيء مفرد، وهو نسبة الحكم للمحكوم عليه، وذلك لا تثنية فيه ولا جمع. وقوله: وكذا تذكيره يعني أنه يلزم التذكير كما لزم الإفراد، فتقول: إنه أخواك قائمان، وإنه إخوتك صالحون. وقوله: ما لم يله مؤنث مثاله: إنها جاريتاك ذاهبتان، وإنها نساؤك ذاهبات. وقوله: أو مذكر شبه به مؤنث نحو: إنها قمر جاريتك. وقوله: أو فعل بعلامة تأنيث يعني أنه يكون أيضًا مسندًا إلى مؤنث كقوله تعالى {فَإنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ}، وقول الشاعر: على أنها تعفو الكلوم، وإنما تؤكل بالأدني، وإن جل ما يمضي فهذه المسائل الثلاث التأنيث فيها أجود من التذكير؛ لأن مع التأنيث مشاكلة تحسن اللفظ مع كون المعنى لا يختلف؛ إذ القصة والشان بمعنى واحد. والتذكير مع ذلك جائز، كما قال أبو طالب: وإلا يكن لحم غريض فإنه تكب على أفواههن الغرائر

وقال آخر: نخلت له نفسي النصيحة إنه عند الشدائد تذهب الأحقاد فلو كان المؤنث الذي في الجملة بعد مذكر لم يشبه به مؤنث لم يكترث بتأنيثه فيؤنث لأجله الضمير، بل حكمه حينئذ التذكير، كقوله تعالى {إنَّهُ مَن يَاتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإنَّ لَهُ جَهَنَّمَ}، وكقول الشاعر: ألا إنه من يلغ عاقبة الهوى مطيع دواعيه يبؤ بهوان وكذلك لا يكترث بتأنيث ما ولى الضمير من مؤنث شبه به مذكر، نحو: إنه شمس وجهك، ولا بتأنيث فاعل فعل ولي الضمير بلا علامة تأنيث، نحو: إنه قام جاريتك. وثبت في نسخة عوض قوله: "وإفراده لازم إلى آخره "ما نصه: "فإن كان فيها مؤنث ليس فضلة ولا كفضلة/ اختير تأنيثه باعتبار القصة "انتهى. ومثال ذلك {فَإذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا يَا ويْلَنَا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هَذَا بَلْ كُنَّا ظَالِمِينَ}. واحترز بقوله: "فضلة "من قول الشاعر: ألا إنه من يلغ عاقبة الهوى ... ................................... وبقوله: "ولا كفضلة "من قول تعالى {إنَّهُ مَن يَاتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإنَّ لَهُ

جَهَنَّمَ} إذ المعنى: يجزه جهنم. انتهى. وتفسير الكلامين ملخص من كلام المصنف في شرحه. ولم يذكر أصحابنا هذه الترجيحات التي ذكرها المصنف، وإنما ذكروا أن ضمير الأمر أو القصة يجوز أن يأتي بعدهما المذكر والمؤنث، فتقول: هو زيد قائم، وكان زيد قائم، وهي هند ذاهبة، وهو هند ذاهبة. وكذلك: كانت زيد قائم، وكان زيد قائم، وكان هند ذاهبة، وكانت هند ذاهبة، وإن كان المستحسن التذكير مع التذكير، والتأنيث مع التأنيث. هذا مذهب أهل البصرة. وأما الكوفيون فزعموا أن المخبر عنه إن كان مذكرًا فالضمير ضمير أمر، أو مؤنثًا فالضمير ضمير قصة، فتقول: كان زيد قائم، وكانت هند قائمة، للمشاكلة، ولا يجوز عندهم: كانت زيد قائم، ولا: كان هند قائمة. وهذا الذي منعوه جائز في القياس، وقد ورد به السماع أيضًا، وذلك في قراءة من قرأ {أَوَلَمْ يَكُن لَّهُمْ آيَةً أَن يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إسْرَائِيلَ}؛ ألا ترى أن (آية) خبر مقدم لـ (أن يعلمه)، و (أن يعلمه) في موضع اسم مبتدأ، وهو مذكر، والضمير في (تكن) ضمير قصة، ولا يجوز أن تكون (آية) اسم (تكن) و (أن يعلمه) الخبر؛ لأن (أن يعلمه) محكوم له بحكم المضمر الذي هو أعرف المعارف، فكان يلزم من ذلك الإخبار بالمعرفة عن النكرة، وذلك من أقبح الضرائر.

ومما يرد على الكوفيين قول العرب: "إنه أمة الله ذاهبة "ونحوه، فأتى بضمير الأمر، والمخبر عنه مؤنث. وقد تأول بعض أصحابنا قراءة {أَوَلَمْ يَكُن لَّهُمْ آيَةً} على أن تكون (آية) اسم كان، والخبر في المجرور لأنه معرفة، كما تقول: كان لزيد مال، و (أن يعلمه) في موضع خفض بإضمار الحرف، أي: في أن يعلمه، ويتعلق بآية لما فيه من معنى الدليل، كأنه قال تعالى: أو لم يكن لهم دليل في علمه بنو إسرائيل. وقد منعوا من البدل لأنه لا يحل الثاني محل الأول، فيكون بمنزلته في المعنى. وقال ابن الدهان: ويجوز أن تؤنثه وتذكره مع المؤنث والمذكر، ويجوز أن يؤنث مع المذكر ويذكر مع المؤنث عند البصري، وبعض الكوفيين يذكر مع المذكر والمؤنث، ويؤنث مع المؤنث، ولا يؤنث مع المذكر. -[ص: ويبرز مبتدأ، واسم ما، ومنصوبًا في بابي إن وظن، ويستكن في بابي كان وكاد. وبني المضمر لشبهه بالحرف وضعًا وافتقارًا وجمودًا، أو للإستغناء باختلاف صيغه لإختلاف المعاني. وأعلاها اختصاصًا ما للمتكلم، وأدناها ما للغائب، ويغلب الأخص في الإجتماع.]- ش: مثاله مبتدأ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} وقوله: قد أدبر العر عنها، فهو شاملها من ناصع القطران الصرف تدسيم هو: ضمير الأمر، وشاملها: مبتدأ، وتدسيم: خبره. وفي البسيط: اختلفوا في المبتدأ هل يكون ضمير شأن أو لا، نحو:

هو زيد قائم، فمنعه الفراء وأبو الحسن، فلم يجوزاه/ إلا أن يكون معمولاً. وجوزه النحويون لأن كان وإن يضمر فيهما، وهي داخلة على المبتدأ، فهو جائز في المبتدأ. وقيل: منه {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ}، {وهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إخْرَاجُهُمْ}. هذا مذهب الجمهور. وقد روي عن الفراء وأبي الحسن منعه. وهذا غريب، مع كثرته في كلام الله تعالى وكلام العرب، كقوله تعالى: {فَإنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ}، و {إنَّهُ مَن يَاتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا}، و {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ}. وفي الشعر: ولا أنبأن أن وجهك شأنه خموش، وإن كان الحميم حميم إلى غير ذلك مما كثر في كلامهم في النظم. وإن تؤول بعضه، كما قيل في {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} إنهم كانوا يتكلمون في توحيد الله، فقيل لهم: (هو) أي التوحيد الذي يجب أن تعقدوه، وإنهم تكلموا في الحشر وما يكون بعده، فقيل لهم: إن ما تكلمتم به كذا، فهذا لا يطرد في كل موضع. انتهى من الإفصاح.

وفي البسيط: وضمير الأمر والشأن قال الفراء: لا يكون إلا معمولًا، ولا يكون في الابتداء، وقوله تعالى (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) فأحد عنده بمعنى واحد على البدل من اسم الله كقوله تعالى (وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا) وأجاز البصريون أن يكون غير معمول. ومثاله اسم "ما" قول الشاعر: وما هو من سأسو الكلوم، وتتقى به نائبات الدهر كالدائم البخل وقال في البسيط: اختلفوا في "ما" إذا عملت هل يلحقها ضمير الأمر والشأن أو لا. وقال فيه: وأما إضمار الشأن فقيل يجوز على جهة الانفصال، فتقول: ما هو زيد قائم، ويجوز دخول إلا كما في الخبر، لكنه لا بد من تقدم إلا على الجملة، فتقول: ما هو إلا زيد قائم؛ لأن معناه: ما الحديث إلا هذا، قال الراجز: ما هي إلا شربه بالحواب فصعدي من بعدها، أو صوبي وكذلك في الاستفهام: هل هو إلا زيد قائم. ومثاله في باب إن (وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ).

وذهب أبو الحسين بن الطراوة إلى أنه قد تلغى إن، فلا تعمل لا في ضمير أمر ولا غيره، وعلى ذلك جاء {إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ} على قراءة من قرأ بالألف، وأن قولهم: إنه زيد قائم، ليست الهاء ضمير أمر وشأن، بل هو كاف عن العمل بمنزلة إنما. وكذلك في "ربه رجلًا". ومنع جواز الأمر والشأن. وهذا فاسد لأن هذه أسماء، فكيف تكف؟ بل هي معمولة له، فتحتاج إلى خبر. ومثاله في باب ظن قوله: علمته الحق لا يخفى على أحد فكن محقًا تنل ما شئت من ظفر ومثاله استكنانه في باب كان قول الشاعر: إذا مت كان الناس صنفان شامت وآخر مثن بالذي كنت أصنع وقول الشاعر: هي الشفاء لدائي لو ظفرت بها وليس منها شفاء الداء مبذول وعلى هذا تقول: كان زيد قائم. واختلف النحويون في هذا التركيب: فذهب الجمهور إلى أنه يجوز. وأنكر الفراء سماعه. وهو محجوج بقول بعضهم: "كان أنت خير

منه"، وبقول الشاعر: أمن سمية دمع العين مذروف لو كان ذا منك قبل اليوم معروف والقائلون بالجواز اختلفوا: فذهب الجمهور إلى أن فيها ضمير الأمر مستكنًا. وذهب أبو الحسين بن الطراوة إلى أنها غير عاملة في شيء، ولا أضمر فيها أمر وشأن ولا غير ذلك. ومثال استكنانه في باب كاد قوله تعالى: {مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ} في قراءة حمزة وحفص، ففي (كاد) ضمير الأمر، و {يَزِيغُ قُلُوبُ} فعل وفاعل، ولا يجوز أن ترفع ب (كاد) (قلوب)، ويكون (زيغ) في موضع خبر ل (كاد)؛ لأنه من حيث هو خبر تضمن ضمير القلوب، والنية به التأخير، فلا يصح أن يكون (يزيغ) بالياء مسندًا لضمير القلوب؛ إذ لا تقول: القلوب يزيغ. وقال في البسيط: اتفقوا على أنه يكون في باب كان وأخواتها، وفي ظننت وأخواتها، واختلفوا في أفعال المقاربة، فجوزه س، واستدل بقراءة من قرأ (مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ) بالياء. وقوله: لشبهه بالحرف وضعًا يعني أن أصل الحرف أن يوضع على حرف واحد أو على حرفين؛ لأن الحروف نائبة عن الأفعال في كثير من المعاني، والفعل يكون ثلاثيًا ورباعيًا، فلما نابت عنها وضعت على الاختصار بأحط منها وضعًا بحرف أو حرفين، فإذا جاء اسم موضوع على

حرف واحد أو على حرفين كان ذلك شبهًا له بالحرف في الوضع، فيبنى لذلك. فمن المضمر الموضوع على حرف واحد تاء فعلت، وعلى حرفين: نا، فبناء هذا واجب لشبهه بالحرف وضعًا، وحلمت البواقي عليه لأن ما كان على حرف أو حرفين أصل لها، وليجري الباب مجزى واحدًا. وقوله: وافتقار يعني أن الحرف مفتقر في إفادة معناه في الغالب إلى ضميم. وكذلك المضمر مفتقر إلى ما يفسره ويفيد من عاد عليه إما من مشاهدة أو من غيرها. وقوله: وجمودًا يعني به عدم التصرف في لفظه بوجه ما حتى بالتصغير وبأن يوصف أو يوصف به كاسم الإشارة. وقوله: أو للاستغناء يعني أن المتكلم إذا عبر عن نفسه في الرفع فبتاء مضمومة، وفي غيره ياء، وفي الخطاب تاء مفتوحة في الرفع، وكاف مفتوحة في غيره في التذكير، ومكسورة في التأنيث، فأغنى ذلك عن إعرابه لحصول الامتياز بذلك. وهذا ليس بشيء لأن المعاني التي جئ بالإعراب لأجلها هي الفاعلية والمفعولية والإضافة، وليست هذه الأحوال التي عرضت/ للمضمر من التكلم والخطاب والغيبة تدل على شيء من المعاني الإعرابية، فلا يصح الاستغناء عنها بهذه الأحوال لأنها لا تدل عليها. وقوله: وأعلاها اختصاصًا ما للمتكلم وأدناها ما للغائب قد ذكر هذا المعنى في أول "باب المعرفة والنكرة" في قوله "وأعرافها ضمير المتكلم، ثم ضمير المخاطب، ثم العلم، ثم ضمير الغائب السالم عن إبهام"، فكان ينبغي أن لا يكرره، لكن كرره لما يبنى عليه بعده من الحكم. وقوله: ويغلب الأخص في الاجتماع يعني أنك تقول: أنا وأنت فعلنا، ولا تقول: فعلتما، وأمن وهو فعلتما، ولا تقول فعلا.

-[ص: فصل من المضمرات المسمى عند البصريين فصلًا، وعند الكوفيين عمادًا. ويقع بلفظ المرفوع المنفصل مطابقًا لمعرفة قبل، باقي الابتداء أو منسوخه، ذي خبر بعد، معرفة أو كمعرفة في امتناع دخول الألف واللام عليه. وأجاز بعضهم وقوعه بين نكرتين كمعرفتين، وربما وقع بين حال وصاحبها.]- ش: تسمية البصريين له فصلًا لأنه فصل به بين المبتدأ والخبر. وقيل: سمى فضلًا لأنه فصل بين الخبر والنعت، فالإتيان به يوضح أن الثاني خبر لا نعت، ولا يرد على هذا بقولهم: "أنت القائم" لكون أنت لا يصح أن يوصف؛ لأنهم لما وجدوا ذلك في بعض الأسماء حمل سائر الباب عليه. وقيل: الأولى أن يقال: فصل به بين الخبر والتابع حتى يكون "التابع" أعم من "النعت"؛ إذ يقع الفصل بعد ما لا ينعت وقبل ما لا ينعت به. وتسميه الكوفيين له عمادًا لأنه يعتمد عليه في الفائدة، وذلك أنه يبين أن الثاني ليس بتابع للأول. وهذا المعنى الذي لحظه الكوفيون هو أحد ما سمى به فصلًا عند بعض البصريين كما ذكرناه. والتعليل الأول

أحسن، وهو أنه سمى فصلًا لأنه فصل به بين المبتدأ والخبر لعموم التعليل؛ لأن في التعليل الثاني حمل بعض الباب على بعض. وقوله: من المضمرات المسمى عند البصريين فصلًا تقديره: من المضمرات المضمر المسمى كذا، فحكم على هذه الصيغة أنها مضمر. وهذه مسألة خلاف: ذهب أكثر النحويين إلى أن هذه الصيغ حروف، وأنها تخلصت للحرفية كما تخلصت الكاف التي في ضربك للخطاب مع أسماء الإشارة في نحو "ذلك". وذهب الخليل وغيره إلى أنها أسماء ضمائر. وصحيح الأستاذ أبو الحسن بن عصفور مذهب الأكثرين، واستدل على ذلك بأنها لا موضع لها من الإعراب، ولو كانت أسماء لكان لها موضع من الإعراب. وقال أبو عبد الله محمد بن علي بن محمد الأنصاري المالقي- ويعرف بالشلوبين الصغير- في شرحة للكراسة: "وما قاله الأستاذ بشيء؛ لأن كونها لا موضع لها من الإعراب نفي عارض من عوارض عنها، وغايته أنه لازم لأكثر الأسماء، ونفي ما يعرض لا ينتفي به/ الأصل، إنما ينتفي الشيء بانتفاء وصفه الذاتي له، فالصحيح ما ذهب إليه الخليل من أنها أسماء، ولا موضع لها من الإعراب؛ إذ لا يحتاج إلى ذلك في كل موضع؛ لأن حقيقة

الاسمية ثابتة فيه، وهو الدلالة على المسمى مثل سائر الأسماء، فإذا ثبت أنه من الأسماء فلا بعد في أن يكون ضميرًا؛ إذ دلالته بكناية كسائر الضمائر، ولا فرق" انتهى. وسيأتي الكلام على كونه له موضع من الإعراب أو لا موضع له من الإعراب عند تعرض المصنف لذلك، إن شاء الله. وقوله وعند الكوفيين عمادًا هذه تسمية الفراء وأكثر الكوفيين. وبعض الكوفيين سماه دعامة، كأنه يدعم به الكلام أي: يقوي ويثبت ويؤكد. ويسمى عند المدنيين صفة، ويعنون به التوكيد. وقد رد عليهم س بامتناع: مررت بعبد الله هو نفسه، وبإجازة: إن كان زيد لهو الظريف، قال س: "وقد زعم ناس أن "هو" ههنا صفة، فكيف يكون صفة وليس من عربي يجعلها ههنا صفة، لو كان ذلك لجاز: مررت بعبد الله هو نفسه، ف "هو" ههنا مستكرهة لا تكلم بها العرب لأنه ليس من مواضعها عندهم. ويدخل عليهم: إن كان زيد لهو الظريف، وإن كنا لنحن الصالحين، فالعرب تنصب هذا والنحويون أجمعون، ولو كان صفة لم يجز أن تدخل عليه اللام؛ لأنك لا تدخلها في ذا الموضع على الصفة، ولا يكون هو ونحن صفة وفيها اللام" انتهى كلام س. وقوله: ويقع باللفظ المرفوع المنفصل مطابقًا لمعرفة يعني مطابقًا لها في الإفراد والتثنية والجمع والتذكير والتأنيث والتكلم والخطاب والغيبة. وقوله: قبل أي تكون المعرفة قبل الفصل، فقطع "قبله" عن الإضافة، وبناه على الضم، فلو كان قبل الفصل نكره وما بعده معرفة، نحو قولك: ما

ظننت أحدًا هو القائم، وإن كان أحد هو القائم فأنت، وكان رجل هو القائم، فأجاز الفراء وهشام النصب في "القائم"، وجعل "هو" فصلًا. ومنع ذلك س والبصريون. والمعروف من قوله إجازة مثل قوله: .................. ولا يك موقف منك الوداعا فعلى هذا يجوز فيه الفصل كما ذهب إليه هشام والفراء. وقوله: باقي الابتداء أو منسوخه باقي الصفة لمعرفة، يعني أن المعرفة التي تكون قبل الفصل تكون باقية الابتداء أو منسوخة الابتداء ببعض النواسخ، وملخصه أنه يتوسط بين المبتدأ والخبر أو معمولي الناسخ بالشروط التي نذكرها. وجوز الفراء دخوله أول الكلام. وهو عند الكوفيين عماد. وحمل قوله تعالى: {وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ}، {وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ}. وقال: "لم يوضع العماد لأن يدخل بين المبتدأ والخبر، إنما وضع في كل موضع يبتدأ فيه بالاسم قبل الفعل، فإذا ابتدأت بالاسم أو كان موضعه صح دخوله، وإن كان فيه الاسم كنت مخيرًا، نحو: جاء زيد وأبوه قائم، / والأحسن أن يقع بينهما لأن الابتداء قد حصل أولًا، فيصح أن تقول: وهو أبوه قائم، وهل زيد ذاهب؟ وإن كان فيه الفعل أو

معناه، والموضع للاسم، قبح إلا بالعماد أولًا، نحو: أتيت زيدًا وقائم أبوه، وأتيت زيدًا ويقوم أبوه، ويزول القبح إذا قلت: أتيت زيدًا وهو قائم أبوه" قال: "وسمعت بعض العرب يقول: كان مرة وهو تنفع الناس أحسابهم. وإن كان الموضع صالحًا صح أيضًا العماد، نحو: هل هو مضروب زبد؟ وما هو بذاهب زيد، قال تعالى {وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ}، وأما هو فذاهب زيد؛ لأنه بقبح: أما فذاهب زيد؛ لأنه للاسم" انتهى كلام الفراء. والصحيح أنه يتوسط بين المبتدأ والخبر، أو بين معمولي الناسخ، بالشروط التي تذكر، وتقدم شيء من الكلام على بعض هذا في الضمائر التي يفسرها ما بعدها. وقوله: ذي خبر بعد أي: بعد الفصل، فحذف المضاف إليه، وبنى بعد كما فعل في قبل. وقوله: معرفة يعني أن الخبر يكون معرفة كما كان في المبتدأ أو منسوخه معرفة، فتقول: زيد هو القائم، وكان زيد هو القائم، وظننت زيدًا هو القائم. ولم يشترط البصريون في تعريف الخبر شرطًا، فسواء عندهم أكان مضمرًا أم علمًا أم مبهمًا أم معرفًا بالألف واللام أم مضافًا إلى واحد منها، فتقول: كان زيد هو أخاك، وكان صاحبك هو زيد، وكذلك ما أشبه. وذهب الفراء إلى أنه إن كان معرفة بغير الألف واللام لم يجز إلا بالرفع، ولا يجوز أن يكون فصلًا، نحو: كان زيد هو أخوك، وكان زيد هو صاحب الحمار، وما أشبهه. قال الفراء: وأجيز: كان عبد الله هو أخاك، بمعنى: الأخ لك، ولا أجيز ذلك في زيد وعمرو.

وأما إذا كان معرفة بالألف واللام فإما أن يكون ذلك في باب "ما" أو في غير باب "ما": إن كان في باب "ما" فلا يجوز أن يكون فصلًا عند الفراء نحو: ما زيد هو القائم، قال: لأن نصبه بالتوهم من حدوث الباء، والباء لا تدخل على "هو"؛ لأن نيته هو الرفع، ولا تدخل على "القائم" لأنهما كالحرف الواحد. وإن كان في غير باب "ما" فإما أن يكون في "ليس" أو في غيرها: إن كان في "ليس" فالرفع الوجه عند الفراء، فتقول: ليس زيد هو القائم، ويجوز النصب. وأما البصريون فالنصب عندهم هو الوجه. وأجازوا الرفع. وإن كان في غير "ليس" فإما أن يكون دخل على الخبر لام الفرق أو فاء جواب أما، أو على صيغة المضمر لا النافية أو إلا، أو كان في معنى ما دخل عليه إلا، أو لا يدخل: فإن دخلت على الخبر لام الفرق، نحو: إن كان زيد هو للقائم، فلا يجوز أن يكون فصلًا. وينصب "للقائم" عند الفراء، وهو الذي يقتضيه تعليل س؛ لأن الفصل إنما جئ به فرقًا بين النعت والخبر، فيجب أن لا يجوز النصب؛ لأن اللام لا تدخل في النعت، ولذلك منع س أن تكون "هو" وأخواتها صفة إذا دخلت عليها لام الفرق، ورد على من ذهب إلى ذلك؛ لأن النعت لا تدخل عليه لام الفرق. وعلى قول أبي العباس يجوز النصب لأنه إنما يؤتى بالفصل عنده ليدل على أن الخبر معرفة أو ما قاربها. وإن دخلت على الخبر فاء جواب أما، نحو قولك: أما زيد هو فالقائم، فذهب س والفراء إلى أنه لا يجوز الفصل؛ لأن دخول الفاء يدل

على أنه ليس بنعت. وعلى قول أبي العباس يجب أن يجوز. وإن دخلت "لا" النافية على صيغة المضمر، نحو قولك: كان عبد الله لا هو العالم ولا المقارب فمذهب البصريين جواز الفصل والنصب، لأن "لا" لا تغير من هذا شيئاً، ويفرق بها النعت والمنعوت لا اختلاف في ذلك، فتقول: مررت برجل لا نائم ولا جالس. وذهب الفراء إلى أنه لا يجوز إلا الرفع فيهما جميعاً. وإن دخلت "إلا" على صيغة المضمر نحو: ما كان زيد إلا هو الكريم فذهب البصريون والفراء إلى أنه لا يجوز الفصل ولا النصب وذهب الكسائي إلى جواز ذلك لأن المعنى: ما كان زيد إلا الكريم. وإن كان الكلام في معنى ما دخل عليه "إلا" نحو: إنما كان زيد هو القائم فهي عند الفراء كالمسألة التي قبلها، لأن "إنما" تؤدي عن معنى النفي والإيجاب. والحجة في إجازتها أن النعت هنا يجوز. وإن لم يدخل على الخبر ولا على صيغة المضمر شيء مما ذكره فإما أن يكون الخبر جامداً أو مشتقا: إن كان جامداً جاز أن يكون فصلاً نحو قوله تعالى: {إِن كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِندِكَ}. وإن كان مشتقاً فإما أن يكون رافعاً ضمير الأول أو سببيه: " إن كان رافعاً ضمير الأول فإما أن يتقدم عليه ما ظاهره التعلق به من حيث المعنى أو لا يتقدم: فإن تقدم نحو: كان زيد هو بالجارية الكفيل، فإن أردت أن يكون " بالجارية" في صلة الكفيل لم تجز المسألة بإجماع، رفعت الكفيل أو نصبته وإن أردت أن لا يكون في صلة الكفيل فاختلفوا فيه: فمن النحويين من يجعل " بالجارية " تبييناً كما قال تعالى: {وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ

النَّاصِحِينَ}. ومنهم من يقدره: كان زيد هو كفيل بالجارية الكفيلة. ومنهم من يجعل الكفيل بمنزلة الرجل. والرفع في الكفيل هو البين. فإن نصبت الكفيل لم تجز المسألة عند الفراء بوجه. فأما على أصوات البصرية فيحب. فإن جعلت "بالجارية" تبييناً جاز النصب في هذا الوجه خاصة، لأن التقدير: كان زيد هو الكفيل كفالته بالجارية. وإن لم يتقدم جاز أن يكون فصلاً نحو: كان زيد هو الكفيل بالجارية وظننت زيداً هو القائم وكان زيد هو الحسن الأم. وإن كان رافعاً ألسببي فإما أن يكون الضمير مطابقاً للاسم أو مخالفاً: فإن كان مطابقاً نحو: ظننت زيداً هو القائم أبوه، أو هو القائم جاريته، أو هو القائمة جاريته، فلا يجوز فيه عند البصريين الفصل، بل يجب الرفع فيما بعده. وأجاز الكسائي الفصل والنصب. وفصل الفراء بين أن يكون الوصف خلفاً من موصوف فيوافق الكسائي، أو غير خلف غير فيوافق البصريين، وحكي علي بن سليمان عن البصريين إنكار الخلف. وإن كان مخالفاً نحو: كان زيد/ هي القائمة جاريته فأجاز الكسائي النصب، ومنع الفراء والبصريون هذه المسألة فلا تجوز برفع ولا نصب لتقدم المكني على الظاهر. وإذا عطفت بالواو فإما أن تذكر الضمير بعدها أو لا تذكر فإن لم تذكر نحو: كان زيد هو المقبل والمدبر، جاز الوجهان الرفع والنصب. وإن ذكرت فإما أن يختلف الخبران أو يتفقا: إن اختلفا نحو: كان زيد هو القائم وهو الأمير فلا يجوز في "الأمير" عند البصريين والفراء إلا الرفع. وأجاز هشام النصب فيه. قالوا: لأن "هو" زيادتها شاذة، فلا تتمكن في كل موضع. وأيضا فإن فيها معنى التوكيد، فلا يعطف عليها كما لا يعطف على

التوكيد فأما إنشاد الكوفيين: فاضحي ولو كانت خراسان دونه رآها مكان السوق أو هي أقربا فالقول فيها عند البصريين أن "هي" مبتدأ و"أقرب" ظرف. وإن اتفقا نحو: كان زيد هو المقبل وهو المدبر فالرفع في المقبل والمدبر عند البصريين لا غير، وأجاز النصب القراء وهشام. وإذا عطفت بـ"لا" فإما أن تذكر الضمير بعدها أو لا تذكر: فإن لم تذكره، نحو: كان زيد هو القائم لا القاعد، جاز رفعهما ونصبهما بلا خلاف. فإن ذكرت بعد"لا" الضمير نحو: كان زيد هو القائم لا هو القاعد، رفعت على قول البصريين ونصبت على قول هشام. وإّذا عطفت بـ "ولكن" في نحو: ما كان زيد هو القائم ولكن هو القاعد، رفعت " القاعد" على قول البصريين والفراء وأجاز هشام النصب. وقوله: أو كمعرفة في امتناع دخول الألف واللام عليه قال س: " واعلم أن هو لا تكون فصلاً حتى يكون ما بعدها معرفة أو ما أشبه المعرفة مما طال ولم تدخله الألف واللام، فضارع زيداً وعمراً، نحو قولك: خير منك ومثلك وأفضل منك وشر منك كما أنها لا تكون في الفصل إلا وقبلها معرفة، كذلك لا يكون ما بعدها إلا معرفة أو ضارعها، فلو قلت: كان زيد هو منطلقاً كان قبيحاً حتى تذكر الأسماء التي ذكرت لك المعرفة أو ما ضارعها من النكرة ولم تدخله الألف واللام" انتهى كلام س. وهذا الذي ذكر س من أن شرط الثاني إذا كان نكرة أن لا يقبل الألف واللام كأنه مجمع عليه، إلا أنه إذا كان ما بعد صيغة الضمير فعلاً مضارعاً

فإن الجرجاني حكي أن بعضهم أجاز أن يكون فصلاً نحو: كان زيد هو يقوم. وقوله وأجاز بعضهم وقوعه بين نكرتين كمعرفتين مقاله: ما أظن أحداً هو خيرا منك، وما أجعل أحداً هو أفضل منك، ف"أحد" بما فيه من العموم شبيه بالمعرف بالألف واللام الجنسية، " وخير منك" شبيه بمعرفة في امتناع دخول حرف التعريف عليه. قال س: " لم يجعلوه فصلاً وقبله نكرة". ثم قال: " وأما أهل المدينة فينزلون هو ههنا بمنزلتها في المعرفة في كان ونحوها، فزعم يونس أن أبا عمرو ورآه لحناً" انتهى. ووافق أبو موسى أهل المدينة في ذلك، فأجاز وقوع الفصل بين نكرتين لا تقبلان الألف واللام. وحكي الأستاذ أبو الحسن بن الباذش أن قوماً من الكوفيين أجازوا الفصل في النكرات كما يكون في المعارف قالوا: ومنه قوله تعالى {تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ} ف (أربى) في موضع نصب. وفي كتاب أبي الفضل الصفار: وأجازوا الفصل بين الاسم الذي ولي"لا" وبين خبره وإن لم يكون معرفة فقالوا: لا رجل هو منطلق، ف"هو" فصل على حد: إن زيدا هو القائم وأول على أن "هو" مبتدأ ومنطلق: خبره والجملة خبر.

وقوله: ورُبَّما وقع بين حال وصاحبها قال المصنف في الشرح: "حكي الأخفش أن بعض العرب يأتي بالفصل بين الحال وصاحبها، فيقول: ضربت زيداً هو ضاحكاً وعلى هذه اللغة قرأ بعضهم: {هَؤُلاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ} بنصب (أطهر) " انتهى. وقال بعض أصحابنا: نقل الأخفش في الأوسط أن من العرب من يفصل بهذه الضمائر بين الحال وصاحبها، ولم يذكر القراءة - يعني (هن أطهر) بالنصب- فإن اتفق أن ينقل مررت بزيد هو ضاحكاً كان قاطعاً بما ذهب إليه. وعلى أنه لم يأخذ ذلك من القراءة ينبغي أن يحمل كلامه، لأن من العلم بمكان ى يجهل، فيكون الخليل وس لم يحفظا هذه اللغة وقال ابن طاهر: هذه القراءة مروية، فلا يعنف قارئها وقد يتجه له وجه، لأن هذه الحال فيها الفائدة فكانت كالخبر. وحكي عن أبي عمرو أن هذه القراءة لحن. وقال الخليل: " والله إنه لعظيم جعل أهل المدينة هذا فصلاً". ونقول: اختلفوا في د=خولهما بعد تمام الكلام نحو: هذا زيد هو خيراً منك: فأجاز عيسى ذلك وقرأ {هَؤُلاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ} بالنصب. وهذا لحن عبد الخليل وس. قالوا: ولو جاز هذا لجاز: ضربت زيداً هو أفضل منك قالوا: وهذا خطأ على كل علة قيلت في المجيء بالفصل.

"وزعم يونس أن أبا عمرو رآه لحناً وقال: احتبي ابن مروان في زه في اللحن، يقول: لحن، وهو رجل من أهل المدينة كما تقول: اشتمل بالخطأ وذلك لأنه قرأ: {{هَؤُلاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ} فنصب". وقد وجهت هذه القراءة على أن يكون (هن) مبتدأ و (لكم) هو الخبر و (أطهر) منصوب على الحال، والعامل فيها معنوي وهو المجرور، وقد تقدمت على العامل المعنوي كقراءة من قرأ {وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ}. وقال بعض العرب: " أكثر أكلي التفاحة هو نضيجة"، ويحمل"هو" على أنه مبتدأ وهو خبره وفي موضع خبر الأول والتقدير: هو إذا كانت نضيجة. وأجاز الكوفيون الفصل في نحو: ما بال زيد هو القائم، وما شأن عمرو هو الجالس. ولا/ يجيز البصريون في مثل هذا إلا الرفع. وأجاز الكسائي والفراء: مررت بعبد الله هو السيد الشريف ولئن لحقته لتلحقنه هو الجواد الكريم، وخرجت فإذا بعبد الله هو القائم، والقائم. قال الفراء: والمعنى: فوجدت عبد الله. قال بعض البصريين: ولو جاز هذا لجاز: خرجت فإذا عبد الله بمعنى: وجدت عبدا لله وهذا لا يجيزه أحد. قال الفراء: وسمع الكسائي العرب تقول: " كنت أرى العقرب أشد لسعة من الزنبور فإذا أنا بالزنبور إياها بعينها" وتأتي المسألة الزنبورية في " باب المبتدأ" إن شاء الله.

فرع: كان هو القائم زيد، تجعل في "كان" ضميراً مجهولاً، وهو المسمى ضمير الشأن عند البصريين، وتجعل خبر "كان" "القائم" فتنصبه، وتجعل زيداً فاعلاً به. وهذا تفريع على مذهب الكوفيين أن ضمير الشأن يفسر بغير جملة. قال الفراء: وهذا الفرع ليس بجائز. قال: وهو في قياس قول لكسائي جائزا. انتهى. وأما البصريون فهذا عندهم خطأ لأن ضمير الشأن إنما يفسر بجملة. فرع: إذا نتقدم مفعولا ظننت عليها جاز أن يأتي الفصل بينهما نحو: زيداً هو القائم ظننت، فإن تقدم المفعول الأول وتوسطت ظننت وتأخر الثاني نحو: زيداً ظننت هو القائم ففي جواز ذلك نظر. -[ص: وربما وقع بلفظ الغيبة بعد حاضر قائم مقام مضاف ولا يتقدم مع الخبر المقدم، خلافاً للكسائي، ولا موضع له من الإعراب على الأصح وإنما تتعين فصيلته إذ وليه منصوب وقرن باللام أو ولي ظاهراً وهو مبتدأ مخبر عنه بما بعده عند كثر من العرب.]- ش: هذه خمس مسائل. مثال الأولى قوله: وكائن بالأباطح من صديق ... يراني لو أصبت هو المصابا وذلك أنه قد قدمنا أن صيغة هذا الضمير يكون مطابقاً لما قبله في الإفراد والتثنية والجمع والتذكير والتأنيث والتكلم والخطاب والغيبة، وقوله"يراني" الرؤية هنا من رؤية القلب، فالضمير الذي للمتكلم هو المفعول الأول والمصاب هو المفعول الثاني، والياء ضمير متكلم، "هو" ضمير غائب فلم يتطابقا في التكلم فاحتيج إلى تأويل " يراني" على حذف

مضاف، التقدير: يرى مصابي ثم حذف المضاف وأقام ضمير المتكلم مقامه وطابق "هو" المحذوف الذي هو " مصابي " لا النائب الذي هو الياء وتقدم الخلاف في: كان زيد هي القائمة جاريته. وقال العكبري في المصباح: " هو توكيد للفاعل في يراني، وفصل بين المفعولين، والأول محذوف وأقيم المضاف إليه مقامه والمصاب مصدر، أي: يظن مصابي هو المصاب، يحقر كل مصاب/ دونه" انتهى. وقال بعض أصحابنا: " هو عند صديقه بمنزلة نفسه فإذا أصيب في نفسه فكأن صديقه قد أصيب، فجعل ضمير الصديق مؤكداً لضميره لأنه هو في المعنى مجازاً واتساعاً فهو من باب: زيد زهير" انتهى. ومثال الثانية: هو القائم كان زيد وهو القائم زيد، وهو القائم ظننت زيداً وشبه ذلك قال المصنف في الشرح: " لما كانت فائدة الفصل صون الخبر من توهمه تابعاً لزم من ذلك الاستغناء عنه إذ قدم الخبر، لأن تقدمه يمنع من توهمه تابعاً إذ التابع لا يتقدم على المتبوع، فلو قدم المفعول الثاني في "حسبت زيداً هو خ 0 يراً منك" لترك الفصل لعدم الحاجة إليه مع كونه في محله فلأن يترك ولا يجاء به قبل الخبر المقدم أحق وأولى فظهر بهذا بطلان ما أجازه الكسائي من ذلك " انتهى كلامه. وما نقله المصنف من الجواز عن الكسائي مختلف فيه عن الكسائي،

فالذي حفظ عنه هشام المنع، والذي حكاه الفراء وغيره عنه الجواز. والمنع قول البصريين وهشام والفراء. قال الفراء: لا يجوز: أنت القائم كنت. وإنما امتنع من التقديم- وإن كان نصباً- لأنه بني على الرفع وكل ما بني على الرفع أو الخفض، ثم أصابه نصب، لم يصبه إلا في موضعه الأصلي ألا ترى أنك تقول: هدمت الدار جمعاء وإن شئت: جمعاء فإذا حاولت أن تقدم "جمعاء " منصوبة لم يجز ذلك لأن النصب مبني على الرفع. ولا يجيز البصريون نصب"جمعاء" لأن انتصابها إنما يكون على الحال، وهي معرفة، والحال لا تكون معرفة وسيأتي في "باب التوكيد" إن شاء الله. وقال هشام: حكي قوم من أصحابنا أن الكسائي أجازها. وأخبروني بعض أصحابنا أنه قال: أجزت: وهو القائم كان زيد؟ فقال: لا. قال هشام: وحفظنا عنه الإحالة. فأما التوسط بين كان واسمها فحكي إجازة ذلك من الكسائي نحو: كان هو القائم زيد. وإذا كان قد روي عنه الإجازة مع التقديم على "كان" فلأن يجوز ذلك مع التوسط أولى. ومذهب الجمهور المنع من التقديم على المبتدأ وعلى كان وظننت ومن التوسط بين كان واسمها وبين ظننت ومفعولها الأول. المسألة الثالثة: اختلف القائلون بأن الفصل اسم هل له موضع من الإعراب أم لا؟ فذهب البصريون القائلون باسميته - ومنهم الخليل- إلى

أنه لا موضع له من الإعراب. وذهب الكسائي إلى أن موضع العماد كموضع الفعل أي الخبر. وذهل الفراء إلى أن موضعه كموضع الاسم، فإذا قلت: " زيد هو القائم" ف"هو" في موضع رفع على مذهبهما لأن ما قبله مرفوع وما بعده مرفوع، وإذا قلت: " ظننت زيداً هو القائم" ف"هو" في موضع نصب لأن ما قبله منصوب وما بعده منصوب وإذا قلت: " كان زيد هو القائم" ف"هو" عند الكسائي في موضع نصب، وعند الفراء في موضوع رفع. ورد/ مذهبهما بأنه لو كان موضعه كموضع الاسم كان كالنعت له أو كالبدل وهذا خطأ لأن اللام تدخل عليه فتحول بينه وبين الاسم، وهذا لا يكون غي النعت ولا في التوكيد، ولو كان موضعه كموضع الخبر - وهي كالنعت أو التوكيد- لم يجز لأن النعت والتوكيد لا يتقدمان على من هما له. وقال س: " فصارت هو وأخوتها هنا بمنزلة ما إذا كانت لغوا في أنها لا يتغير ما بعدها عن حالة قبل أن تذكر" انتهى. فظاهر هذا أن الفصل لا موضع له من الإعراب، ولو كان له موضع من الإعراب لجرى على ما قبله أو على ما بعده، فكان يطابق في الإعراب ما قبله وما بعده فكنت تقول: علمت زيداً إياه الفاضل، كما تقول: ما أكرمت إلا إياي. المسألة الرابعة: في تعيين فصيلته. نقول: صيغة الضمير إن وقعت بعد المبتدأ وهو ظاهر نحو: زيد هو القائم جاز في "هو" أن يكون فصلاً وأن

يكون بدلاً، وأن يكون مبتدأ ثانياً، والقائم خبره، والجملة في موضع خبر زيد. وإن كان المبتدأ مضمرا، نحو: أنت أنت القائم. جازت الأوجه الثلاث، وزاد الرابع وهو أن تكون توكيداً. وإن وقعت بعد اسم كان، وهو ظاهر أو مضمر، وما بعده مرفوع تعين أن يكون مبتدأ، وذلك المرفوع خبره، والجملة خبر كان: كان زيد هو القائم وكنت أنت القائم، وإن كان ما بعده منصوباً ظاهراً نحو: كان زيد هو الفاصل، فلا يجوز فيه إلا البدل والفصل. وإن كان اسم كان مضمراً، نحو: كنت أنت الفاضل جاز الوجهان، وزاد ثالث وهو التأكيد إلا إن دخلت عليه لام الفرق فإنه لا يجوز فيه إلا الفصل، نحو: إن كان زيد لهو الفاضل، وإن كنت لأنت الفاضل، ولا يجوز البدل ولا التأكيد لأن لام الفرق لا يفصل بها بين التابع والمتبوع. وإن وقعت بعد اسم إن، وهو ظاهر، نحو: إن زيداً هو القائم فلا يجوز فيه إلا الابتداء والفصل. أو مضمر، نحو: إنك أنت القائم، فيجوز الوجهان زاد الثالث وهو التأكيد. وإن وقعت بعد المفعول الأول لظننت وهو ظاهر أو مضمر وما بعد صيغة الضمير مرفوع، فلا يجوز أن يكون إلا مبتدأ وذلك المرفوع خبر له والجملة في موضع المفعول الثاني لظننت نحو: ظننت زيداً هو القائم، وظننتك أنت القائم. وإن كان منصوباً والمفعول الأول ظاهر، نحو: ظننت زيداً هو القائم فلا يجوز إلا الفصل، ولا يجوز الابتداء لنصب ما بعده، ولا التوكيد لأن الظاهر لا يؤكد بالمضمر، ولا البدل لعدم المطابقة في الإعراب. وإن كان المفعول الأول مضمراً، نحو: ظننتك أنت القائم جاز أن يكون فصلاً وأن يكون توكيداً.

وحكم الثاني والثالث في باب أعلمت حكم الأول والثاني في باب علمت، فما جاز فيه من أحكام الفصل جاز/ فيه. وحكم"ما" في لغة الحجازية حكم"كان". وتعينت الفصلية فيما ذكرناه في صورتين: إحداهما: إذا وليه منصوب، وقرن باللام، نحو: إن كان زيد لهو الفاضل، وإن كنت لأنت الفاضل، وأن ظننت زيداً لهو الفاضل، وإن ظننتك لأنت الفاضل. والثانية: إذ ولي هو ظاهرا منصوبا ووليه منصوب، وإن لم يكن معه لام الفرق، نحو: ظننت زيداً هو القائم، وهو قول المصنف (إذا وليه منصوب وقرن باللام، أو ولي ظاهراً"، فقوله"أو ولي ظاهراً" معطوف على قوله" وقرن باللام" لا على قوله " وليه منصوب" لأن شرط تعينه للفصلية في الصورتين هو أن يليه منصوب، ويضاف لهذا الشرط أحد شيئين، وهو أن يقرن باللام، أو يلي هو ظاهراً وإن لم يقرن بها وكان ينبغي أن يقول: " أو ولي ظاهراً أو منصوباً" ليحترز من: كان زيد هو الفاضل، لأنه يصدق عليه أنه وليه منصوب، وولي هو ظاهراً وهو في هذه الصورة لا يتعين للفصلية إذ يجوز أن يكون بدلاً من الظاهر الذي هو زيد اسم كان. المسألة الخامسة: وهو أنه يجوز أن يكون هذا الضمير مبتدأ ويخبر عنه بما بعده عند كثير من العرب، ويقرءون {إِن تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنكَ}.

{تَجِدُوهُ عِندَ اللَّهِ هُوَ خَيْراً}، وقرأ عبد الله {وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِن كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ}. وقال س: " بلغنا أن رؤبة كان يقول: أظن زيداً هو خير منك" وحكي أبو عمر الحزمي أن الرفع لغة بني تميم. وحكي عن أبي زيد أنه سمعهم يقرءون {تَجِدُوهُ عِندَ اللَّهِ هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً}. وقال قيس بن ذريح: نحن إلى ليلى، وأنت تركتها وكنت عليها بالملا أنت أقدر وفائدة الفصل عند جمهور النحويين هو إعلام السامع أن ما بعده لا يكون نعتاً مع التوكيد. وقال السهلي: فائدته الاختصاص، فإذا قلت: " كان زيد القائم" أفدت الإخبار عن زيد بالقيام، ويحتمل أن يكون غيره قد شاركه فيه، فإذا قلت" كان زيد هو القائم" أفدت اختصاصه به دون غيره، وعلى هذا {إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأَبْتَرُ} أي: المختص بالبتر دونك يا محمد، والآية نزلت في العاصي بن وائل وكان قد قال: إن محمداً أبتر. وجعل من الاختصاص قوله: {وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى (43) وَأَنَّهُ هُوَ

أَمَاتَ وَأَحْيَا}، {وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنَى وَأَقْنَى * وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرَى} لما كان ثم من يدعي أنه يضحك ويبكي، ويميت ويحي ويغني ويقني، وأن الشعري رب، أخبر عن نفسه أنه هو المختص بذلك. وقال تعالى {وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ}: لما لم يدع أحد الخلق لم يحتج إلى التخصيص. وما أورد السهلي من هذه الآيات ليست "هو" فيها فصلاً أما ما جاء بعد الضمير فيه فعل فظاهر وأما {إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأَبْتَرُ} و {وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرَى} فإنه يجوز أن يكون فصلاً ويجوز أن يكون غير فصل، ففي (هُوَ الأَبْتَرُ) يجوز أن يكون مبتدأ وفي {هُوَ رَبُّ الشِّعْرَى} يجوز أن يكون مبتدأ، ويجوز أن يكون توكيداً للضمير المنصوب اسم أن. مسألة: إن اجتمع الضميران مع الفصل فإما أن تفصل بينهما أو لا تفصل فإن لم تفصل، نحو: زيد ظننته هو إياه خيراً من عمرو فمذهب س أنه لا يجوز ذلك أن تأكيد في المعنى بهذه الثلاثة. وكل منها يغني عن صاحبه. وإن فصلت وأخرت البدل، جاز نحو: ظننته هو القائم إياه، لأنه في نية الاستئناف، وصار في ذلك بمنزلة إن واللام في كلام واحد إذا تأخرت اللام، وسواء أكان الفصل بالمفعول الثاني أو بظرف معمول الخبر، نحو: ظننته هو يوم الجمعة إياه القائم. فإن كان أحدهما إضماراً والآخر ظاهراً جاز اتفاقاً لعدم الضميرين المؤذنين بالضعف، نحو: ظننته هو نفسه القائم. مسألة: لا يقع الفصل بين الخبرين، فلا تقول: ظننت هذا الحلو هو الحامض، لأن الثاني ليس بالمعول عليه وحده. وقيل: بدخوله بينهما.

باب الاسم العلم

-[ص: باب الاسم العلم وهو المخصوص مطلقاً غلبة أو تعليقاً غير مقدر الشياع، أو الشائع الجاري مجراه.]- ش: المخصوص جنس يشمل سائر المعارف. وقال المصنف في الشرح: " المخصوص مخرج لاسم الجنس، فأنه شائعا غير مخصوصا" انتهى. وقد قدمنا أن الجنس في الحد لا يؤتي به للاحتراز، إنما تؤتي به ليشمل المحدود وغيره، ثم بعد ذلك يؤتي بالفصل الذي يميز المحدود من غيره. وقوله: مطلقاً فصل يخرج المضمر، نحو"أنا" فإنه مخصوص باعتبار كونه لا يتناول غير الناطق به، وغير مخصوص باعتبار صلاحيته لكل مخبر عن نفيه، ويخرج اسم الإشارة نحو"ذا" فإنه مخصوص باعتبار من أشرت إليه في الحال وغير مخصوص باعتبار صلاحيته لكل مشار إليه مفرد مذكر قريب. وقوله: تعليقاً أو غلبة هذا تقسيم وبيان لصنفي الأعلام ولو حذف ما احتيج إليه في الحد. والمراد بالتعليق تخصيص الشيء بالاسم قصداً

للتسمية كزيد ومكة. والمراد بالغلبة تخصيصا أحد المشتركين أو المشتركات بشائع اتفاقاً كتخصيص عبد الله بابن عمر، وتخصيص الكعبة بالبيت، وتخصيص مصنف سيبويه بالكتاب، ومدونة سحنون بالكتاب. وقوله غير مقدر الشياع مخرج للشمس والقمر فإنهما مخصوصان بالفعل شائعان بالقوة، وسيأتي ذكر الخلاف في ذي الغلبة أهو من قبيل الأعلام أم لا، إن شاء الله. وقوله أو الشائع الجاري مجراه هو معطوف على قوله" هو المخصوص" فهو تقسيم المخصوص الموصوف لا قسم منه، والمراد به العلم الجنسي كأسامة للأسد، وذؤالة الذئب، وشبوة للعقرب، وثعالة للثعلب، وكيسان للغدر فهذه وما أشبهها أعلام في اللفظ/ نكرات في المعنى. وتقدم لنا الكلام على علم اسم الجنس في أول "باب المعرفة والنكرة" وقد حد الأستاذ أبو الحسن بن عصفور العلم، فقال: " العلم هو اسم علق في أول أحواله على سيء بعينه في جميع الأحوال من غيبة وتكلم وخطاب" قال: " فقولي " اسم علق في أول أحواله على سيء بعينه" تحرز من المعرف بالألف واللام أو بالإضافة فإنه كان نكرة قبل ذلك. وقولي" في

جميع الأحوال غيبة وخطاب وتكلم" تحرز من المشار الذي لا يقع على المسمى إلا في حال الإشارة ومن المضمر لأنه لا يقع أيضاً على المسمى إلا في حالة الغيبة أن كان ضمير غائب، والتكلم إن كان ضمير متكلم، والخطاب إن كان ضمير مخاطب". وحد المصنف مسترق أكثره من حد الأستاذ أبي الحسن. -[ص: وما استعمل قبل العملية لغيرها منقول منه، وما سواه مرتجل، وهو إما مقياس وإما شاذ بفك ما يدغم، أو فتح ما يكسر، أو كسر ما يفتح، أو تصحيح ما يعل، أو إعلال ما يصحح. وما عري من إضافة وإسناد ومزج مفرد. وما لم يعر مركبا. وذو الإضافة كنية وغير كنية. وذو المزج إن ختم بغير وبه أعرب غير منصرف، وقد يضاف وإن ختم بويه كسر، وقد يعرب غير منصرف. وربما أضيف صدر ذي الإسناد إلى عجزها إن كان ظاهراً.]- ش: المرتجل إما مادة وصورة، وهي الأجناس الأول إذ لو كانت منقولة لزم التسلسل وإما مادة دون صورة ويكون في الإعلام، فيلفظوا لها بمواد لم يتكلم بها في النكرات، لكن صيغتها كصيغة النكرات كفقعس وخندف. ومرتجل صورة دون مادة، وهو الأسماء المشتقة ونحوها في النكرات، وقد يكون في الأعلام. وقسم المصنف وكثير من النحويين العلم إلى منقول ومرتجل وذهب بعض النحويين إلى أن الأعلام كلها منقولة، وأنكر المرتجل. وهذا

المذهب يظهر من كلام س. والمنقول هو الذي يحفظ له أصل في النكرات، والمرتجل هو الذي لا يحفظ له أصل في النكرات. وقيل: المنقول هو الذي يسبق له وضع في النكرات، والمرتجل هو الذي لم يسبق له وضع في النكرات. والذي أنكر المرتجل في الأعلام يقول: إنه سبق الوضع، ووصل إلى المسمى الأول، وعلم مدلول تلك اللفظة في النكرات وسمي بها، وجهلنا نحن أصلها، فتوهمها من سمى بها من أجل ذلك مرتجلة. وزعم الزجاج أن الأعلام كلها مرتجلة، فالمرتجل عنده ما لم يقصد في وضعه النقل من محل آخر إلى هذا، ولذلك يجعل أل في الحارث زائدة، وعلى هذا فتكون موافقتها للنكرات بالعرض لا بالقصد. والمنقول يكون منقولاً من مصدر كفضل وسعد، ومن اسم عين كثور وأسد، ومن اسم فاعل كحارث وغالب، ومن اسم مفعول كمنصور ومسعود ومن صفة كتغلب ويشكر، ومن جملة من فعل وفاعل وضمير مستكن، نحو: تأبط شرا، ونحو: ذرى حبا، ونحو قوله: نبئت أخوالي بني يزيد ... ظلما علينا لهم فديد فـ"يزيد" جملة فيها ضمير مستكن. ومن فعل فاعل ضمير بارز، نحو قوله:

على أطرقا بالبات الخيا ... م إلا الثمام وإلا العصي ومن فعل وفاعل ظاهر، نحو: برق نحره، وشاب قرناها. وذهب يعص النحويين إلى أن العلم منقولاً من فعل أمر دون إسناد وجعل من ذلك "إصمت" اسماً للفلاة الخالية، أنشد النحويون: أشلى سلوقية، باتت وبات لها بوحش اصمت في أصلابها أود وقال المصنف في الشرح: " وذلك غير صحيح لأن الأمر بالصمت إن كان من أصمت فتفتح الهمزة أو من صمت فتضم الميم وإصمت بخلاف ذلك، والمنقول لا يغير، ولأنه قد قيل فيه إصمته بهاء التأنيث ولو كان فعل أمر لم تلحقه هاء التأنيث، وإذا انتفى نقله من فعل أمر، ولم يثبت استعماله في غير العلمية تعين كونه مرتجلاً" انتهى ملخصاً. وما رد لا يصلح للرد: أما الهمزة فقال النحويون: إن أصلها همزة وصل، وأصلها اصمت أي من صمت يصمت إذا سكت كأن إنساناً قال لصاحبه بالفلاة اصمت يسكته تسمعا لنبأه وأجسها، فسميت بذلك وقطعت الهمزة. قال أبو الفتح: " وقطع الهمزة من إصمت مع التسمية به خاليا من الضمير هو الذي شجع النجاة على قطع هذه الهمزات

إذا سمي بما هو فيه". وأما لحاق التاء في قولهم: " لقيته بوحش إصمته" وقول المصنف: " لو كان فعلاً في الأصل لما لحقته التاء التي للتأنيث" فالجواب: " إنها لحقت في هذا المثال على هذا الحد ليزيدوا في إيضاح ما انتحوه ويعلموا بذلك أنه قد فارق موضعه من الفعلية من حيث كانت هذه التاء لا تلحق هذا المثال فعلا، فصارت إصمته في اللفظ بعد النقل كإجردة وإبردة وأنسهم بذلك تأنيث المسمى، وهو الفلاة وزاد في ذلك أن إصمت ضارع الصفة لأنه من لفظ الفعل، وفيه معناه أعنى معنى الصمت، وهو جثة لا حدث، وتلك حال قائمة وكريمة. وأيضاً فقد قالوا في واحد الينجلب - وهو الخرز المؤخذ به- الينجلبة، فإذا أن تلحق التاء الينجلب، وهو غير علم ومبقي على صورة فعليته، فإصمت الذي قد تغير لفظه بقطع همزته، ومعناه بكونه علماً أقبل للتغيير". وزعم بعض النحويين أنه قد ينقل إلى العلمية من صوت نحو ببة وهو نبز لبعض بني هاشم وهو عبد الله بن الحارث بن نوفل وهو منقول من الصوت الذي كانت أنه ترقصه به وهو صبي، وذلك قولها:

لأنكحن ببه ... جارية خدبة مكرمة محبة ... تحب أهل الكعبة وزعم ابن خالوية في " كتاب ليس" أن ببة هو الغلام السمين. وقال المصنف في الشرح: " والصحيح أن ببة منقول من قولهم للصبي السمين ببة، وقد تببب فهو بب وببة إذا سمن". وتقسيم المصنف العلم إلى قسمين منقول ومرتجل إنما هو بالنظر إلى الأكثر الأغلب، وإلا فقد لا يكون منقولاً ولا مرتجلاً، وهو ما علميته بالغلبة. نحو: الثريا والدبران وابن عمر، ويأتي الكلام على ما علميته بالغلبة، إن شاء الله. وقوله وهو إما قيس- وهو الذي يسلك به سبيل نظيره من النكرات في الوزن- وإما شاذ وهو الذي عدل به عن سبيل نظيره من النكرات في الوزن. وقوله بفك ما يدغم مثال ذلك محببا. وهو مفعل من الحب، والقياس يقتضي أن يكون محبا بالإدغام، لأن ذلك حكم مفعل مما عينه ولامه صحيحان من مخرج واحد، كما قالوا: مرد ومفر، ولا يجوز أن تكون الميم أصلية، فيكون وزنه فعللاً ويكون ملحقاً بجعفر كقرد، فلا يكون الفك شاذا إذ الإلحاق مانع من الإدغام لأن الميم إذ كانت أول كلمة، وبعدها ثلاثة أحرف فالقياس جعلها زائدة، لأنه لم تجيء أصلية فيما عرفت له اشتقاق أو تصريف إلا نادرا، نحو: معزى، بدليل قولهم: معز. وإذا ثبت أن الميم زائد وجب الإدغام.

فإن قيل: يجب جعل الميم أصلية حتى لا يكون الفك شاذا، لأن ذلك أوسع من فك ما يجب إدغامه لأن بابه أن يجيء ضرورة، نحو قوله: الحمد لله العلي الجلل ولذلك جعل النحاة الميم في مأجج وهدد أصلية حتى يكون الفك قياساً ورأوا أصالة الميم- وإن كان شذوذاً- أوسع من فك ما يجب إدغاه. فالجواب: أنه لما تعارض في محبب شذوذ جعل الميم أصلية مع شذوذ فك المدغم كان شذوذ فك المدغم أولى، لأنك إذا جعلت الميم زائدة كان اللفظ من تركيب "ح ب ب" وذلك موجو، ويكون مشتقاً من الحب وإذا جعلت الميم أصلية كان من تركيب"م ح ب" وذلك مفقود في كلامهم، فلما تعارض الشذوذان كان الحمل على التركيب الموجود أولى. وقوله أو فتح ما يكسر مثاله: موهب وموظب وموألة من وهب ووظب وموأل، والقياس يقتضي أن تكون العين مكسورة نحو: موعد وموعدة فإن قلت: فلعل الميم أصلية والوزن فوعل وفوعلة/ نحو كَوْثَر

ودوسرة فلا يكون شاذا لأن جعل الميم أصلية إذا كان بعدها ثلاثة أحرف- وإن كان ذلك قليلاً- أوسع من كسر العين في المفعل مما فاؤه واو. فالجواب: أنه لما تعارض شذوذان كان ما يؤدي إلى تركيب موجود أولى، وهو جعل الميم زائدة لأن من كلامهم تركيب (وظ ب) يقال: واظب وتركيب (وهـ ب) يقال: وهب وليس من كلامهم تركيب (م هـ ب) ولا (م ظ ب) فإذا ثبتت زيادة الميم كان فتح العين شاذاً. وقوله أكسر ما يفتح مثاله: معدي، ومن قولهم: معدي كرب والقياس معدي بفتح الدال كمرمى، ومسعى ومثوى وحكى قطرب صيقل، بكسر القاف، اسم امرأة من نساء العرب والقياس الفتح لأن نظيره في الوزن من النكرات هو بفتح العين كصيغهم وشيهم. وقوله أو تصحيح ما يعل مثاله: مدين ومكوزة، وحيوة، فقياس مدين ومكوزة أن يلزمهما الإعلال بأن تنقل الفتحة من حرف العلة إلى الساكن، ثم يقلب حرف العلة ألفاً لتحركه في الأصل وانفتاح ما قبله في اللفظ، فكان ينبغي أن يقال مكازة كمثابة ومدان كمقام، لكنهم شذوا في ذلك، وهذا الشذوذ متفق عليه عند من يقول بالنقل على كل حال. وأما من يقول بالارتجال فمنهم من جعل الصحة شذوذاً ومنهم من لم يرها شذوذاً وإلى ذلك ذهب أبو العباس، فقال: " إنما يجب إعلال مثابة

ومقام وأشباههما بالحمل على الفعل لكونها مشتقة منه بقياس وأما مكوزة ومدين ونحوهما فأعلام ليست مأخوذة من أفعال فتعتل بالحمل عليها. والصحيح أن اعتلالها شاذ لأنها منقولة من نكرات إذ الأسماء كلها ينبغي أن تكون منقولة حملاً للأقل على الأكثر، وبتقدير أنها مرتجلة فليست العلة في الإعلال ما ذكر من كون مقام ومثابة وأمثالهما مأخوذة من فعل بل السبب في ذلك أنها على مثال الفعل في عدد الحروف ومقابلة الزائد ومماثلة الحركات والسكنات حركات الفعل وسكناته مع اختلاف الزيادتين أعني مخالفة زيادة الاسم زيادة الفعل، فأمن بذلك اللبس، ولو اتفقت الزيادتان لم تجز الاعتلال خوف اللبس، نحو: أعو وأبين". وأما حيوة فقياسه حية لأنه إذا اجتمع في اللفظ ياء وواو وسبقت إحداهما بالسكون، ولم تكن الأولى منقلبة من غيرها قلبت الواو ياء، وأدغمت الياء في الياء نحو: قيوم أصله قيووم، فقلبت الواو ياء، وأدغمت الياء في الياء. وقوله أو إعلال ما يصحح مثاله: داران وماهان، قياسهما التصحيح، فيقال: دوران وموهان، كما قالوا في النظير من النكرات الجولان والطوفان والدوران.

وقوله وما عري من إضافة وإسناد ومزج مفرد، وما لم يعر مركب مثال الإضافة عبد الله، ومثال الإسناد برق نحره، ومثال المزج بعلبك. المراد بالمزج تنزيل عجز المركب منزلة تاء التأنيث. وما ذكره المصنف من أن ما عري عما ذكر مفرد وما لم يعر مركب يرد عليه أشياء كثيرة مما سمي بها فصارت أعلاماً، وهي مركبة، وقد عربت من إضافة وإسناد ومزج، كتسميتك بما ركب من حرفين، نحو: إنما أو حرف واسم، محو: يا زيد أو حرف وفعل، نحو: قد قام، ومن حرف جر- وهو على حرف واحد- ومجرور، نحو:: بزيد، وشبه ذلك ' وقد أتقنا ذلك في شرح " باب التسمية بلفظ كائن ما كان " من هذا الكتاب. وقوله وذو الإضافة كنية وغير كنية مثاله: أبو بك ر وأم بكر وعبد الله وعبد الرحمن. وقوله وذو المزج إن ختم بغير ويه أعرب غير منصرف، وقد يضاف مثاله: جاء معدي كرب، ورأيت معدي كرب، ومررت بمعدي كرب، وجاء معدي كرب، ورأيت معدي كرب، ومررت بمعدي كرب. وقد كرر هذه المسألة في وفصل من فصول " باب ما لا ينصرف" وزاد وجهاً ثالثاً وهو البناء فتقول: قام معدي كرب ورأيت معدي كرب، ومررت بمعدي كرب، تشبيهاً بخمسة عشر. وقوله وإن ختم بويه كسر، وقد يعرب غير منصرف يعني بقوله كسر أي: بني على الكسر، فتقول: جاء سيبويه، ورأيت سيبوبه ومررت بسيبويه ومثال إعرابه: جاء سيبويه، ورأيت سيبويه، ومررت بسيبويه. وقول المصنف" وقد يعرب غير منصرف" ليس متفقاً عليه، إنما أجاز

ذلك الجرمي وأما سيبويه فلم يذكر فيه إلا البناء والقياس يقتضي أن لا يجوز غيره لاختلاط الاسم بالصوت وصيرورتهما شيئاً واحداً، فعومل معاملة الصوت ك"غاق" فبني ونون إذا نكر. فإن كان ما أجازه الحزمي مستنده السماع قبل، وإن كان أجازه بالقياس لم يقبل. وقوله وربما ضيف صدر ذي الإسناد إلى عجزها إن كان ظاهراً مثاله ما ذكر المصنف أن من العرب من يضيف أول الجزأين إلى الثاني، فيقول: جاءني برق نحره. وهذا الذي ذكره لا يقاس عليه بل نص النحويون أن ك=ل ما سمي به مما فيه إسناد فليس فيه إلا الحكاية فلو سمينا ب"زيد قائم" لم يجز أن تقول: زيد قائم، فتضيف. وكذلك لو سميت ب" قام زيد" حكيت ولا يجوز: قام زيد بالإضافة وقوله إن كان ظاهراً احتراز من مثل أن تسمي بمثل"خرجت" فعجز"خرجت" ليس باسم ظاهر لأنه ضمير فلا تجوز فيه الإضافة. وتقييده بقوله" إن كان ظاهراً" أي: كان العجز ظاهراً يدل على أنه ينقاس عنده، وقد ذكرنا أنه لا ينقاس. -[ص: ومن العلم اللقب، ويتلو غالبا اسم ما لقب به بإتباع أو قطع مطلقاً وبإضافة أيضاً إن كانا مفردين ويلزم ذا/ الغلبة باقياً على حاله ما عرف به قبل دائما إن كان مضافاً وغالباً إن كان ذا أداة. مثله ما قارنت الأداة أو ارتجاله، وفي المنقول من مجرد صالح لها ملموح به الأصل وجهان.]- ش: سقط من بعض النسخ قوله "غالباً". ومعنى ما ذكر في العلم اللقب أنه يتلو في الغالب الاسم فدل قوله في الغالب أنه يتقدم اللقب

على الاسم، فتقول مثلا: جاء كرز عبد الله ولكن الغالب أن يتأخر اللقب ويتقدم الاسم. ومما تقدم فيه اللقب وتأخر الاسم قول الشاعر: أبلغ هذيلا وأبلغ من يبلغها ... عني حديثاً وبعض القول تجريب بأن ذا الكلب عمرا خيرهم حسباً ... ببطن شريان يعوي حوله الذيب وإذا تأخر اللقب فإنه يجوز فيه الإتباع إما على البدل، وإما على عطف البيان، وهذا أولى لأن اللقب أشهر من الاسم، وإذا قطعت فقد تقطع إلى النصب على إضمار "أعني" أو إلى الرفع على إضمار"هو". وقوله مطلقاً يشير إلى أنه إن كان الاسم واللقب مضافين أو الاسم مضاف واللقب مفرد أو الاسم مفرد واللقب مضاف أو اللقب والاسم مفردين فتقول: جاءني عبد الله أنف الناقة، وجاءني عبد الله بطة، وجاءني زيد عائذ الكلب، وجاءني سعيد كرز وذكر أنهما إذا كان مفردين جاز أن يضاف الاسم إلى اللقب نحو: جاء سعيد كرز. وهذه المسألة فيها خلاف: ذهب جمهور البصريين إلى أنه لا يجوز فيها إلا الإضافة ولا يجوز الإتباع. وذهب الكوفيون وبعض البصريين

إلى جواز الإتباع فتقول هذا يحيى عينان ورأيت يحيى عينين ومررت بيحيى عينين، في رجل اسمه يحيى ولقبه عينان. ويرد على قوله" إن كانا مفردين" أن لنا مفردين، ولا تجوز الإضافة مثل أن يكون فيها الألف واللام أو في أحدهما فإنه لا تجوز الإضافة في هذه الحال بل يتبع نحو: داء الحارث كرز، ورأيت الحارث كرزاً ومررت بالحارث كرز. وقد اعتذر المصنف عن س في كونه لم يذكر في المفردين إلا الإضافة ولم يذكر التبعية ولا القطع" بأن الإضافة هي على خلاف الأصل، فبين استعمال العرب لها إذا لا مستند لها إلا السماع بخلاف الإتباع والقطع، فأنهما على الأصل وإنما كانت الإضافة على خلاف الأصل لأن الاسم واللقب مدلولهما واحد، فيلزم من إضافة أحدهما إلى الآخر إضافة الشيء إلى نفسه، فيحتاج إلى تأول الأول بالمسمى والثاني بالاسم ليكون تقدير قول القائل جاء سعيد كرز: جاء مسمى هذا اللقب. فيخلص من إضافة الشيء إلى نفسه، والإتباع والقطع لا يحوجان إلى تأول، ولا يوقعان في مخالفة /أصل فاستغنى س عن التنبيه عليهما. وإنما يؤول الأول بالمسمى وهذا أيضا موجب لتقديم الاسم على اللقب لأن اللقب في الغالب منقول من اسم غير إنسان كبطة وقفة وكرز، فلو قدم لتوهم السامع أن المراد مسماه الأصلي، وذلك مأمون بتأخيره، فلم يعدل عنه" انتهى بلفظ المصنف في

الشرح. وإنما استعذر عن س لأنه لم ينقل الخلاف في المسألة، والخلاف منقول فيها كما سطرناه. وقوله ويلزم ذا الغلبة قال المصنف في الشرح ولخصناه: ذو الغلبة من الأعلام هو كل اسم اشتهر به بعض ماله معناه اشتهارا تاما، وهو على ضربين: مضاف كابن عمر وابن رألان وذو أداة كالأعشى والنابغة، فاختص ابن عمر بعبد الله وجابر بابن رألان ومن بين سائر إخوتهما، واختص الأعشى والنابغة بمن غلبا عليه من بين سائر ذي عشاً ونبوغ. وقوله باقياً على حاله أي على علميته بالغلبة واحترز بذلك من أن يقدر زوال اختصاص المضاف إليه ابن، فتتغير حال المضاف إليه، نحو: ما من ابن عمر كابن الفاروق أو يقدر زوال اختصاص ما فيه أل، فيجرد ويضاف ليختص كقولهم: أعشى تغلب، وأعشى قيس، نابغة بني ذبيان، ونابغة بني جعدة وقال الشاعر: ألا أبلغ بني خلف رسولاً ... أحقا أن أخلطكم هجاني وقال آخر: ولو بلغت عوى السماء قبيلة ... لزادت عليها نهشل وتعلت قال المصنف: " وأشرت أيضا إلى تغير الحال بالنداء، فيعرى من

الأداة كقول النبي عليه السلام في دعاء: " إلا طارقاً يطرق بخير يا رحمان" وقال الشاعر: يا أقرع بن حابس يا أقرع ... إنك أن يصرع أخوك تصرع وقوله ما عرف به قبل الذي عرف به عرف الإضافة أو الألف واللام. وقوله: إن كان مضافاً يعني أنه تلزمه الإضافة ولا يفصل منها بحال. وقوله غالباً إن كان ذا أداة يعني أنه تثبت الأداة غالباً كالصعق والعوى والدبران وقد تحذف، نحو قولهم: " إن لنا عزى ولا عزى لكم" وقوله: إذ دبرانا منك يوما لقيته أؤمل أن ألقاك غدوا بأسعد فعزى ودبران الغالب عليهما استعمالهما بالأداة فتقول: العزى والدبران.

وهذا الذي ذهب إليه المصنف من أن العلم ذا الغلبة يلزمه غالباً ما عرف به إن كان ذا أداة يخالفه قول أبي موسى في الكراسة قال: " وقد يكون العلم بالغلبة/ فيلزمه أحد أمرين: إما الألف واللام كالثريا والدبران، وإما الإضافة كابن عمر" وما ذهب إليه هو الصحيح تارة تستعمل بالألف واللام وتارة دونها ومعناها في الحالتين واحد، حكي ابن الأعرابي أنهم يقولون: "هذا العيوق طالعاً" و"وهذا عيوق طالعاً". وكلك يفعلون بسائر أسماء النجوم الغالبة. ومن ذلك: هذا النابغة ونابغة، بمعنى واحد والتجريد من الأداة قليل، ومنه ما حكي س من قول بعض العرب: " هذا يوم اثنين مباركاً فيه" فأل في الاثنين وسائر الأيام ليست للتعريف خلافاً لأبي العباس، قال: " فإذا زالت صارت نكرات" ومذهبه باطل بما حكي س مما قدمناه من مجيء الحال منه. والصحيح مذهب الجمهور من كون أسماء الأيام أعلاماً توهمت فيها الصفة، فدخلت عليها أل كما في الحارث والعباس، ثم غلبت فصارت كالدبران والنجم، وهي مشتقة من معنى الصفة، فالسبت من القطع، والجمعة من الاجتماع وباقيها من الواحد والثاني والثالث والرابع والخامس وقد وصفوا بالعدد نحو: مررت بنسوة أربع. وقوله ومثله ما قارنت الأداة نقله أو ارتجاله مثال المنقول النضر والنعمان، ومثال الارتجال السموأل واليسع، فهذه الأسماء حالة النقل والارتجال قارنتها الألف واللام، فهي في الحكم مثل ما كان علماً بالغلبة مما

فيه الألف واللام، فيجوز نزعها منه في الأحوال التي نزعت من العلم بالغلبة كالنداء وتقدير الاختصاص قال المصنف في الشرح: " وهذان النوعان أحق بعدم التجرد لأن الأداة فيهما مقصودة في التسمية قصد همزة أحمد وياء يشكر وتاء تغلب، بخلاف الأداة في الأعشى فإنها مزيدة للتعريف ثم عرض بعد زيادتها شهرة وغلبة أغنتا عنها، إلا أن الغلبة مسبوقة بوجودها فلم تنتزع ما دام التعريف مقصودا، كما لا تنتزع المقارنة للنقل والارتجال". قال: " ومن الأعلام التي قارن وضعها وجود الألف واللام "الله" تعالى، وليس أصله الإله". وأطال المصنف في الاستدلال على ما ذهب إليه وإبطال ما سواه إطالة نتزيد على ورقتين مدمجتين، وليس هذا موضع بحث في ذلك، وقد كتبنا في ذلك ما فيه غنية في كتابنا في تفسير القرآن المسمى بالبحر المحيط. وما ذهب إليه المصنف من أن من الأعلام ذا الغلبة قد ذهب إليه غيره كأبي موسى من أصحابنا، فعندهم أ"البيت" علم بالغلبة وأن " ابن عمر" علم بالغلبة. وقال الأستاذ أبو الحسن بن عصفور وغيره من شيوخنا: " الصحيح أن هذه الأسماء الغالبة جارية مجرى الأعلام، وليست بأعلام إذ تعريفها/ ليس بوضع اللفظ على المسمى بل بالإضافة أو بالألف واللام، ولذلك تلزم الألف واللام في الثريا وأمثاله. والدليل على أن ابن عمر ليس باسم علم أن الاسم

العلم الواقع عليه إنما هو عبد الله وإنما غلب ابن عمر عليه بعد استقرار تسميته بذالك" انتهى كلامه. وقد ورد بعض أصحابنا على الأستاذ أبي الحسن، فقال: " هذا من باب توقيف العبارة على بعض محتملاتها، فمن حيث التوقيف كانت أعلاما، وقد يكون لاسم واحد عبارتان يعبر بهما عنه بطريق العلمية لأنه لا يعني بالعلمية إلا وضع الاسم على الشخص للفرق بينه وبين ما شابهه" انتهى. والذي يقطع بأنها أعلام حكاية ابن الأعرابي أنه يجوز حذف الأداة، فتقول: / هذا عيوق طالعاً فلو كان تعريفه بالألف واللام لما جاز حذفها، والمراد مع حذفها هو المراد مع وجودها. وقوله وفي المنقول من مجرد صالح لها ملموح به الأصل أي: وفي العلم المنقول من صفة أو مصدر أو اسم عين. من مجرد أي: من أداة التعريف، نحو: حسن وفضل وليث واحترز بقوله: " صالح لها" - أي: للأداة- من المنقول من فعل نحو: يشكر ويزيد فإنه لا يصلح للأداة، فلا يجوز " اليشكر" ولا "اليزيد" إلا لضرورة أو عروض تنكير. والوجهان هما أن يلمح فيها الأصل فتدخل الأداة أو لا يلمح فيستديم التجريد، وأكثر دخولها على المنقول من الصفة كالحسن والعباس، ثم على المنقول من المصدر كالفضل، ثم على اسم العين كالليث والخرنق. ص: وقد ينكر العلم تحقيقاً أو تقديرا فيجرى مجرى نكرة، ويسلب التعيين بالتثنية والجمع، فيجبر بحرف التعريف إلا في نحو: جماديين وعمايتين وعرفات. ومسميات الأعلام أولو العلم، وما يحتاج إلى تعيينه من المألوفات وأنواع معان وأعيان لا تؤلف غالبا. ومن النوعي ما لا يلزم التعريف.

ش: مثال تنكيره تحقيقاً: رأيت زيدا من الزيدين، وما من زيد كزيد بن ثابت. وتنكيره تقديراً قول أبي سفيان: " لا قريش بعد اليوم" وقول بعض العرب: " لا بصرة لكم" وقال الشاعر: أزمان سلمى لا يرى مثلها الرا ... ؤون في شام ولا في عراق ومثال سلب التعيين بالتثنية قول الشاعر: وقبلي مات الخالدان كلاهما عميد بني جحوان وابن المضلل وبالجمع قول طرفة: رأيت سعودا من شعوب كثيرة ... فلم تر عيني مثل سعد بن مالك وقال: أخالدا قد علقتك بعد هند ... فشيبني الخوالد والهنود

وفي هذا دليل واضح ورد على من ذهب إلى أن العلم لا تجوز تثنيته ولا جمعه، / وتقدم لنا ذكر هذا المذهب في باب" باب التثنية والجمع". وقوله إلا في نحو جماديين يعني فلا تسلب التثنية العلمية، والعلمية في جمادي هي شبيهة أسامة، لأن كل شهر يجيء بعد ربيع الثاني يسمى جمادي، فكان القياس إذا ثني أن ينكر كما ينكر غيره من الأعلام فإذا أريد تعريفه عرف بالألف واللام أو بالإضافة، وهذا حين ثنى لم تدخل عليه الألف واللام، ولم يضف فدل على أنه باق على علميته ومنه قول الشاعر: حتى إذا رجب تولى وانقضى ... وجماديان وجاء شهر مقبل وأما عمايتان فهما جبلان، قال الشاعر: لو أن عصم عمايتان ويذبل ... سمعا حديثك أنزلا الأوعالا وعرفات مواقف الحج وهي عرفة. قال المصنف: " واحدها عرفة" قال: " ثم إن العلم المسمى به ما لا يفترق إن لازم لفظه التثنية كالفرقدين أو لجمع كقريسيان وأذر عات فله من مصاحبة الألف واللام وعدمها ما لعلم مسمى به مفرد على حسب ما سبق، فللفرقدين ما للدبران وكذا

الشرطان غالبا" لأن ابن الأعرابي حكي: "طلع الشرط" وقريسيات وأذرعات بمنزلة المسمى به مجرداً مع الإفراد لفظاً ومعنى. وقوله أولو العلم يشمل الملائكة وأشخاص الإنس والجن والقبائل كجبريل وزيد والولهان وفزارة. وقوله وما يحتاج إلى تعيينه من المألوف السور والكتب والكواكب والأمكنة والخيل والبغال والحمير والإبل والبقر والغنم والكلاب والسلاح والملابس كالبقرة والكامل وزحل مكة وسكاب ودلدل ويعفور وشدقم وهيلة وواشق وذي الفقار. وقوله وأنواع معان مثاله: بره للمبرة، وفجار للفجرة وخياب بن هيات للخسران ووادي تخيب على تفعل علم للباطل. وقوله وأعيان مثاله: أبو الحارث وأسامة للأسد، وأبو جعدة للذئب قال س: " إّذا قلت: هذا أبو الحارث فإنما تريد: هذا الأسد أي: الذي

سمعت باسمه، أو عرفت أشباهه ولا تريد أن تشير إلى سيء قد عرفته بعينه كمعرفة زيد، ولكنه أراد: هذا الذي كل واحد من أمته له هذا الاسم". هذا نصه في " باب من المعرفة يكون الاسم الخاص فيه شائعاً في أمته ليس واحد منها بأولى من الآخر". قال المصنف في الشرح: "فجعله خاصاً شائعاً في حال واحدة، فخصوصه باعتبار تعيينه الحقيقة في الذهن وشياعه باعتبار أن لكل شخص من أشخاص نوعه قسطاً من تلك الحقيقة في / الخارج" انتهى. وتقدم لنا الكلام في علم الجنس، وما من نكرة إلا ويتصور فيها هذا الذي ذكر المصنف وغيره. وقوله غالباً احتراز مما جاء في بعض المألوف من أعلام نوعية كأبي الدغفاء للأحمق وهيان بن بيان للمجهول الشخص والنسب وابن تهلل وثهلل فهلل للضال، وقتور بن قتور لنوع العبد، واقعدي وقومي لنوع الأمة، وأبي المضاء لنوع الفرس. وقوله ومن النوعي ما لا يلزم التعريف قال المصنف في الشرح: " لما كان لهذا الصنف من الأعلام خصوص من وجه وشياع من وجه جاز في بعضها أن يستعمل تارة معرفة فيعطي لفظه ما تعطاه المعارف الشخصية وأن يستعمل تارة نكرة، فيعطي لفظه ما تعطي النكرات". ويعني بالنوعي أي نوعي المعاني والطريق فيه السماع، فجاء من ذلك

فينة وبكرة وغدوة وعشية، تقول: " فلان يأتينا فينة" بلا تنوين أي: الحين دون الحين، "فينة" بالتنوين أي: حيناً دون حين. وكذلك: يتعهدنا غدوة وبكرة وعشية فبلا تنوين إذا قصدت الأوقات المعبر عنها بهذه الأسماء، وبالتنوين أي بكرة من البكر، والمراد واحد وإن اختلف التقديران. ولم يسمع ذلك في نوعي الأعيان بل ما جاء منه ملتزم تعريفه كأسامة وذؤالة. -[ص: ومن الأعلام الأمثلة الموزون بها فما كان منها بتاء تأنيث، أو على وزن الفعل به أولى أو مزيداً آخره ألف ونون أو ألف إلحاق مقصورة لم ينصرف إلا منكراً وإن كان على زنة منتهى التكسير أو ذا ألف تأنيث، ولم ينصرف مطلقاً فإن صلحت الألف لتأنيث وإلحاق جاز في المثال اعتباران، وإن قرن مثال بما ينزله منزلة الموزون فحكمه حكمه، وكذا بعض الأعداد المطلقة.]- ش: الأمثلة الموزون بها إنما كانت معارف أعلاماً لأن كل واحد منها يدل على المراد دلالة متضمنة الإشارة إلى حروفه وهيئته ولذلك تقع النكرة بعدها حالاً وتوصف بالمعرفة نحو: لا ينصرف فعل المعدول بل ينصرف فعل غير معدول، فما فيه تاء التأنيث كفعلة أو على وزن الفعل به أولى كأفعل أو مزيدا آخره ألف ونون كفعلان أو ألف إلحاق مقصورة كحبنطي، ولم تنصرف ما دامت معارف، وتنصرف إذا وقعت موقعا يوجب تنكيرها، كقولك: كل فعلة صحيح العين فجمعه فعلان إن كان اسماً وكل فعلان ذي مؤنث فعلى لا ينصرف وكل أفعل غير علم ولا صفة ينصرف وما كان على وزنه منتهى التكسير كمفاعل ومفاعيل وذي ألف التأنيث كفعلاء وفعلي لا ينصرف مطلقاً سواء أنكر أم بقي على تعريفه. وما له اعتباران،

نحو: فعلى إن حكم بتأنثه لم ينصرف معرفة ولا نكرة أو تكون الألف للإلحاق امتنع معرفة وانصرف/ نكرة. فهذه ثلاثة أقسام. والرابع ما ينصرف معرفة ونكرة كفاعل فإنه ليس له مع العلمية سبب. وقال ابن هشام: " قد اتفق أصحابنا في أمثلة الأوزان أنها إن استعلمت للأفعال خاصة حكيت نحو: ضرب وزنه فعل، وانطلق وزنه انفعل، وإن استعملت للأسماء، وأريد بها جنس ما يوزن فإن حكمها حكم نفسها وهي أعلام فإن كل فيها ما يمنع الصرف مع العملية لم تنصرف نحو قولك: فعلان لا ينصرف وأفعل لا ينصرف. وإن لم يرد بها ذلك وأريد بها حكاية موزون مذكور معها، ففيه خلاف، نحو قولك: ضاربة وزنها فاعلة، فمنهم من لم يصرف عهنا فاعلة لأن هذه الأمثلة أعلام فهذا علم فيه تاء التأنيث، ومنهم من قال: تحكى به حالة موزونة، وهم الأكثر فيصرف هنا فاعلة وإذا قال: عائشة وزنها فاعلة منع من الصرف إذ لا حكاية توجب تنوينه بل إن قلنا بالحكاية جملة لزم هنا ترك الصرف لذلك. واختلافهم هنا- وأنت لم تذكر لفظ الأول بعينه- يوجب أن لا يكون اختلاف في الحكاية إذا ذكرته بعينه، وهذا من دقيق علم هذه الصناعة" انتهى. وقوله فحكمه حكمه أي: حكم ما نزل منزلته من الصفات. مثاله: هذا رجل أفعل، حكمه حكم أسود لأنك نزلته منزلته إذ جعلته صفة لرجل، فامتنع الصرف. قال المصنف في الشرح: " وخالف سيبويه المازني فقال: ينبغي أن يصرف. ورد المبرد عليه وصوب قول س" انتهى.

ولم يذكر المصنف مارد به المبرد على أبي عثمان ولا ما صوب به قول سيبويه. والذي قال المازني: إن أفعل هنا مثال للوصف وليس بوصف ألا ترى أنه يجب صرف أفعل في قولنا: كل أفعل إذا كان صفة فإنه لا ينصرف. قال: فكذلك إذا قلنا: " هذا رجل أفعل" يجب صرفه لأنه ليس بصفة، بل هو مثال للوصف. ورد أبو العباس على أبي عثمان فقال: أفعل في قولنا: " هذا رجل أفعل" في اللفظ صفة وليس في قولنا " كل أفعل" صفة في اللفظ فليس المراعى ما مثل به، بل المراعى حكمه في اللفظ. وقال أبو سعيد: ما رد به أبو العباس على أبي عثمان صحيح إلا أنه مصروف خلافاً ل "س" وذلك أن أفعل هنا صفة، وكان ينبغي منع صرفه للوزن والوصف إلا أن أفعل أقصى أحواله في الوصف أن يكون كأربع إذا وصف به، فهو اسم وصف به وما هو كذلك لا يمتنع من الصرف. قال شيخنا الأستاذ أبو الحسن بن الضائع: " ما قاله أبو سعيد مختل والصحيح في النظر قول س، وذلك أن أربعا وضع على أن يكون اسماً ليس بصفة فعرض فيه الوصف، فلم يعتد به وأفعل هذا لم يستقر في كلامهم لا اسماً ولا صفة، فينبغي أن يراعى فيه حكمه الحاضر له، وقد وجدنا العرب تحكم/ للكتابة بحكم المكني عنه، إلا تراهم يمنعون صرف " فلانة" وليس في الحقيقة باسم علم، لما كان كناية عن علم وكذلك يحذفون التنوين في قولهم: " فلان بن فلان" إلى غير ذلك من الأحكام، وهذا في قولنا: " رجل أفعل" ليس في الحقيقة بصفة بل هو كناية عن صفة، فينبغي أن يحكم له

بحكم ما كني به عنه، فيمنع. فإن قيل: قد تكون الصفة على هذا الوزن مصروفة كأرمل. قلت: علة صرف أرمل معدومة في أفعل هذا، ومع ذلك فإن الأكثر في أفعل الوصف أن لا ينصرف لأن ما جاء دون شرطي منه صرفه- وهما أن لا يدخله تاء التأنيث ولا يكون اسماً في الأصل- قليل جداً. فإن قيل: فأفعل أيضا في قولنا: " كل أفعل صفة لا ينصرف " كناية عن صفة. قلت: بل هو اسم مثل به الوصف، ولم يجر في اللفظ صفة على موصوف فيمنع ولا فيه معنى وصف فيراعى وإن لم يجر صفة، فصح مذهب س" انتهى. وفي البسيط: ألفاظ التمثيل الاصطلاحية جرت مجرى اسم الجنس للصيغ ولم تجر الأعلام لها بحق الأصل فإن قصد بها قصد التعريف من غير آلة مجرى الأعلام فإن كان في المثال على أخرى امتنع الصرف، وإلا فلا، نحو قولك "أفعل إذا كان صفة لا ينصرف" عنيت نفس المثال فصار كالعلم، وفيه الوزن فيمتنع. وإن جرت نكرة على أصلها فما يقصد بها نوع تقول: كل أفعل إما وصف أو اسم وكل فعلان فإما مذكر فعلانة أو مذكر فعلى، وكل أفعل إذا كان وصفاً منعته، وكل أفعل إذا كان اسماً صرفته تصرف أفعل في هذه المثل كلها لأن كلا منها اسم لمطلق المثال الواقع على القسمين. وتقول: كل مفاعيل لا ينصرف وكل فعلاء لا ينصرف لا تصرف مفاعيل ولا فعلاء لأنهما لا ينصرفان نكرة. وما يقصد به مخصوص ولم يقصد مطلق الوزن جرى مجرى الموزون لأنه كناية فتقول: كل رجل أفعل، أو رجل أفعل لا ينصرف لأنك صيرت

فيه معنى الوصفية، فامتنع من الصرف في نفسه كأنك قلت: رجل أحمر، إذا أجريته على موصوف كما كان أحمر جارياً. ولو قصدت الوصف دون إجراء على موصوف فقلت: كل أفعل لا ينصرف وأنت تريد أحمر وشبهه، كما تقول: كل آدم في الكلام لا أصرفه، صرفت لأنه ليس جارياً على موصوف، ولو منعت لزم أن يكون في نفسه صفة، ولا يكون لأنه مثال فإذا جرى وصفاً كان فيه شبه الصفة هذا مذهب س والخليل. وذهب المازني إلى صرف هذا القسم وجعله كالمثال غير المقصود لأنه مثال لا وصف فلا علة له حاشا الوزن" انتهى. وذكر قول أبي العباس والسيرافي. وقوله وكذا بعض الأعداد المطلقة الإشارة بـ"كذا" إلى أنها أعلام تمنع/ الصرف للعلمية والتأنيث، والمعنى بقوله"مطلقاً" هي التي لم تقيد بمعدود محذوف ولا مذكور، إنما دل بها على مجرد العدد، وكانت أعلاماً "لأن كلا منها يدل على حقيقة معينة دلالة خارجة من الشركة متضمنة الإشارة إلى ما ارتسم به" قاله المصنف. قال: "ولو عومل بهذه المعاملة كل عدد مطلق لصح". ويعني بهذه المعاملة العلمية. وقال: "ولو عومل بذلك غير العدد من أسماء المقادير لم يجز لأن الاختلاف في حقائقها واقع بخلاف العدد، فإن حقائقه لا تختلف" ويعني بالاختلاف في حقائقها أن الرطل والقدح ونحوهما تختلف باختلاف المواضع، فلا تدل على حقيقة معينة أما العدد فالثلاثة ثلاثة عند كل أحد وفي كل مكان وفي كل لغة. ومثال كون بعض الأعداد المطلقة لا تنصرف قولهم: ستة ضعف

ثلاثة، وثلاثة نصف ستة، فتمنع الصرف للتأنيث والعلمية كما قلنا، ولم يحفظ المصنف في ذلك خلافاً. وذكر صاحب رؤوس المسائل في ذلك خلافاً قال: إّذا قلت: ستة ضعف ثلاثة، وثمانية ضعف أربعة، لم تصرف الستة ولا الثمانية عند الزمخشري، وقال بعض الشيوخ: هي مصروفة. -[ص: وكنوا بفلان وفلانة عن نحو: زيد وهند وبأبي فلان وأم فلانة عن أبي بكر وأم سلمه، وبالفلان ولفلانة عن لاحق وسكاب، وبهن وهنة أو هنت عن اسم جنس غير علم، وبهنيت عن جامعت ونحوه، وبكيت أو كيه وبيت أو ذيه وكذا، عن الحديث وقد تكسر أو تضم تاء كيت وذيت.]- ش: أشار بقوله" عن نحو زيد وهند" إلى الأعلام أولى العلم ففلان كناية عن علم مذكر من ذوي العقل، وفلانة كناية عن علم مؤنث من ذوات العقل، وكذا أبو فلان وأم فلان كأبي زيد وأم بكر. وأشار بقوله "عن لاحق وسكاب" إلى الكناية عن أعلام البهائم المألوفة. وزادوا الألف واللام فرقاً بين كناية عن علم من يعقل وبين كناية عن علم ما لا يعقل. وأشار ب"هن" إلى مذكر اسم الجنس وبـ"هنة أو هنت" إلى مؤنث اسم الجنس. ولما كان الغرض من الكناية الستر كثرت الكناية عن الفرج ب"هن" وعن فعل الجماع بـ"هنيت" ويقال للمرسل بحديث: قل كيت وكيت أو قل ذيت وذيت، بفتح التاء وكسرها وضمها وليس مع التشديد إلا الفتح وقد يقع مقامهما

"كذا وكذا" ملخص من كلام المصنف في الشرح. وقال بعض أصحابنا: الوجه في فلان وفلانة أن ينطلق كناية عن كل علم في الرجال والنساء إما لإضراب المتكلم عن ذلك العلم نسياناً أو إبهاماً وليس بعلم في الجنس لأن العلم الجنسي إنما يكون في البهائم لاستواء آحاد الجنس منها بالنسبة إلينا، وطامر بن طامر من الأعلام لأنه اسم لكل برغوث وهو/ من الطمور وهو الوثب خص بذلك وإن كان غيره يثب وقال الأستاذ أبو علي: طامر اسم علم كأسامة. وقال ابن خروف: وهن بن هن بمنزلة فلان بن فلان. وهنا نظر س بأن ألهن والهنة للمعرفة، وليس كذلك بغير لام. وقال ابن الأعرابي: قالت هند بنت الخس لأبيها: " يا أبت مخضت الفلانة" لناقة لأبيها. وقال أبو العباس: وأما قولهم طامر بن طامر وهن بن هن فإنه معرفة كما كان ابن عرس وهنت بنت هنت كله كناية كفلان بن فلان، وهي معرفة لأنه أريد به زيد بن زيد. قال الأستاذ أبو بكر: هذا نص بأن هنتاً كناية عن علم إلا أنه لما لا يعقل. وقال الأستاذ أبو علي: ألهن والهنت كنايتان عن النكرات خاصة، والفلان كناية عن علم غير عاقل. وقال ابن تقي: ويقال في الآدميين أيضاً هنت وصلاً وهنة وقفاً وفي غيرهم هنة

وصلاً ووقفاً فرقاً بينهما. وقال أبو الحسن: هذه كنايات وضعت للتذكير عند النسيان، وقد تكون للإضراب عن العلم. انتهى وكيت كيت، وذيت ذيت يقالان بالعطف وبغير العطف، وهي كناية عن أحاديث مجموعة غير معلومة عند المخاطب. وقال ابن تقي: كيت وكيت كناية عن الحديث الذي تريد إبهامه، كما أن فلاناً كناية عن علم لا يعرفه المخاطب. تم بحمد الله تعالى وتوفيقه الجزء الثاني من كتاب " التذييل والتكميل" بتقسيم محققه، يليه - إن شاء الله تعالى الجزء الثالث، وأوله: " باب الوصول"

التذييل والتكميل في شرح كتاب التسهيل ألفه أبو حيان الأندلسي حققه الأستاذ الدكتور حسن هنداوي جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية- فرع القصيم الجزء الثالث دار القلم دمشق

باب الموصول

-[ص: باب الموصول وهو من الأسماء ما افتقر أبدًا إلى عائدٍ أو خلفه، وجملة صريحة أو مؤولة غير طلبية ولا إنشائية. ومن الحروف ما أول مع ما يليه بمصدر، ولم يحتج إلى عائد.]- ش: الموصول الاسمي والموصول الحرفي كلاهما محصور بالعد، فلا يفتقر في تعرفهما إلى الحد، وقد حدهما المصنف، فبين بقوله "من الأسماء" أنه يحد الموصول الاسمي. فقوله "ما افتقر" جنس، وجاء فيه بلفظ "ما" الدالة على الإبهام، وينبغي أن لا يؤتى في الحد بلفظ مبهم، وشمل الجنس كل مفتقر. وقوله "أبدًا" احتراز من النكرة الموصوفة بجملة، فإنها حال وصفها بها، تفتقر إلى ما ذكر، لكن الموضع بحق الأصالة لمفرد تؤول الجملة به، ويغني ذكر المفرد عنها، فالافتقار إلى ما تؤول به لا إليها، وإن صدق في الظاهر أنها مفتقر إليها فلا يصدق على الافتقار إليها أنه كائن أبدًا. وقوله "إلى عائد" احتراز من "حيث" و"إذ" و"إذا"، فإنها أسماء تفتقر أبدًا إلى جملة، لكنها مستغنية عن عائد.

وقوله أو خلفه ليشمل ما وقع الربط فيه بالظاهر الذي هو الموصول من حيث المعنى، وهو خلف من الضمير، ومنه ما روي من كلامهم "أبو سعيد الذي رويت عن الخدري"/، و"الحجاج الذي رأيت ابن يوسف"، ومنه قول الشاعر: فيا رب ليلى أنت في كل موطن وأنت الذي في رحمة الله أطمع يريدون: رويت عنه، والذي رأيته، وفي رحمته. وقال أبو علي في التذكرة: "وقال رجل يخاطب ربه -تعالى-: ..................................... وأنت الذي في رحمة الله أطمع حمل على المعنى، وكأنه قال: وأنت الذي في رحمتك، أو في رحمته أطمع، ومن الناس من لا يجيز هذا" انتهى. قال بعض أصحابنا: تقديره "أنت الذي في رحمتك أطمع" أولى، وأوقع الظاهر موقع المضمر، ولم يكرر لفظ الأول، وهذا لم يجزه س في خبر المبتدأ، فأحرى أن لا يجوز عنده في الصلة. وقوله وجملة صريحة أو مؤولة مثال التأويل بجملة مؤولة الوصل بالظرف والمجرور التامين، والصفة الواقعة صلة للألف واللام، فإذا قلت: قام الذي عندك، أو في الدار، فإن صلة الموصول جملة مسندة إلى ضمير

الموصول محذوفة، وبها يتعلق حرف الجر، وهي عاملة في الظرف. وكذلك: مررت بالضارب، هو مؤول بجملة، ولذلك تعمل الصفة ماضية ومستقبلة وحالًا. وقوله غير طلبية المقصود بالصلة توضيح الموصول، والجملة الطلبية لم يتحصل معناها بعد، فهي أحرى أن لا يتحصل بها وضوح غيرها. وما ذكره المصنف من أن الجملة الواقعة صلة تكون غير طلبية هو مذهب الجمهور، وفي ذلك خلاف: أما جملة الأمر والنهي فذهب الكسائي إلى جواز ذلك، فتقول: الذي أضربه، أو لا تضربه زيدٌ. وأما جملة الدعاء إذا كانت بلفظ الخبر فحكمها عند المازني حكم الجملة الأمرية والنهيية عند الكسائي، فيجوز عند المازني أن تقول: الذي يرحمه الله زيدٌ، وكأنه راعى صيغة الخبر، ولم يلحظ معناه. ويقتضي مذهب الكسائي موافقة المازني، بل هو أحرى بذلك لأنه إذا أجاز ذلك مع صيغة الأمر والنهي فلأن يجيزه مع صيغة الخبر المراد به الدعاء أولى وأحرى. وقوله ولا إنشائية هذا مخالف لما قسم الكلام إليه من أنه خبرٌ وطلب، وهنا جعل الجمل ثلاثًا: خبرًا وطلبًا وإنشاءً، وتقسيمها إلى خبر وإنشاء هو التقسيم الصحيح. والجملة الإنشائية هي التي حصول معناها مقارن لحصول لفظها، فلا يصلح وقوعها صلة. قال المصنف في شرحه: "لأن الصلة

معَرفة، والموصول معرف، فلابد من تقدم الشعور بمعناها على الشعور بمعناه. والمشهور عند النحويين تقييد الجملة الموصول بها بكونها معهودة، وذلك غير لازم لأن الموصول قد يراد بع معهود، فتكون صلته معهودة، كقوله تعالى: {وإذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ}، وكقول الشاعر: /ألا أيها القلب الذي قاده الهوى أفق، لا أقر الله عينك من قلب وقد يراد به الجنس، فتوافقه صلته، كقوله تعالى: {كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لا يَسْمَعُ إلاَّ دُعَاءً ونِدَاءً}، وكقول الشاعر: ويسعى إذا أبني ليهدم صالحي وليس الذي يبني كمن شأنه الهدم وقد يقصد تعظيم الموصول، فتبهم صلته، كقول الشاعر: فإن أستطع أغلب، وإن يغلب الهوى فمثل الذي لاقيت يغلب صاحبه وقال آخر: وكنت إذا أرسلت طرفك رائدًا لقلبك يومًا أتعبتك المناظر رأيت الذي لا كله أنت قادر عليه، ولا عن بعضه أنت صابر" انتهى.

وما ذهب إليه من أن جملة الإنشاء لا تقع صلة هو مذهب الجمهور. وذهب هشا إلى أنه يجوز في ليت ولعل وعسى أن يقعن صلة للموصول، فتقول: الذي ليته منطلق زيدٌ، والذي لعله منطلق زيدٌ، والذي عسى أن يخرج عمروٌ. ومما يستدل به لهشام في وقوع "لعل" صلة للموصول قوله: وإني لرامٍ نظرة قبل التي لعلي -وإن شطت نواها- أزورها والمشهور أن "عسى" إنشاء لأنه ترجٍ، فهي نظيرة "لعل"، ولذلك لا يجوز وصل الموصول بها، لكن دخول "هل" الاستفهامية عليها في نحو قوله تعالى: {قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إن كُتِبَ عَلَيْكُمُ القِتَالُ ....} ووقوعها خبرًا لـ"إن" في قول الراجز: أكثرت في العذل ملحًا دائمًا لا تلحني إني عسيت صائمًا

دليل على أنها فعل خبري، وإذا ثبت كونها فعلًا خبريًا فينبغي أن يجوز وقوعها صلة للموصول بلا خلاف. ويحتمل أن تكون "عسى" صلة لـ"ذا" المراد به "الذي" على أحد محتملات "ذا" في قول الشاعر: وماذا عسى الواشون أن يتحدثوا سوى أن يقولوا: إنني لك عاشق وقول الآخر: وماذا عسى الحجاج يبلغ جهده إذا نحن جاوزنا حفير زياد ومن منع ذلك تأول هذا السماع، وقد تأولوا قوله "قبل التي لعلي" على إضمار القول بعد "التي"، أي: قبل التي أقول لعلي، أو على إضمار خبر "لعلي" وجعل "أزورها" صلة لـ"التي"، والتقدير: قبل التي ازورها وإن شطت نواها لعلي أبلغ ذلك، وفصل بين الصلة/ والموصول بجملة الاعتراض التي هي: لعلي أبلغ ذلك.

وذكر أصحابنا شروط الجملة الواقعة صلة، فزادوا فيها أنها لا تكون تعجبية ولا مستدعية كلامًا قبلها. أما اشتراط انتفاء كونها تعجبية فإن التعجب عندهم خبر من الأخبار يقبل التصديق والتكذيب، فلا يجوز: جاءني الذي ما أحسنه! وعلة ذلك أن التعجب إنما يكون من خفي السبب، والصلة موضحة، فتنافيا. وأما من يذهب إلى أن التعجب إنشاء فوجه المنع ظاهر، وذلك أن الإنشاء يكون في الحال، والصلة لا تكون أبدًا إلا معهودة بينك وبين مخاطبك على المشهور، والإنشاء ليس فيه تقدم عهد، فلا يجوز. وفي الإفصاح: "جملة الشرط والجزاء ونعم وبئس وجملة التعجب كلها تكون صلة لـ"الذي" باتفاق إلا جملة التعجب فإن فيها خلافًا" انتهى. وفي البسيط: "وفي التعجب والقسم من غير إضمار القول خلاف، ووجه جوازه أنهما خبر يوضحان الموصول كما يوضح الموصوف، فكما تقول: مررت برجل ما أحسنه! وبرجل لتكرمنه، كذلك تقول: "مررت بالذي لتكرمنه، وقال تعالى: {وإنَّ مِنكُمْ لَمَنْ لَّيُبَطِّئَنَّ} أي: للذي ليبطئن".

وأما كأن ولعل وليت فالأحسن أن لا تكون في الصلة لأنها غيرت الخبر عن مقتاه، وقد تدخل في الجملة مراعاة للأصل". "قالوا: فإذا دخل الموصول معنى الشرط لم تكن صلتها شرطًا لاجتماع الشرطين، والشيء لا يكون تمام نفسه، ولأنه لا يوضح لأنه لا يثبت له. وليس بصحيح: أما الأول فلبس أحدهما هو الآخر حتى يكون الشيء تمامًا لنفسه، بل كل واحد شرط على حدته لمشروطه، كقولك: الذي إن تطلع الشمس ينظر إليها فهو صحيح البصر. وأما الثاني فهو منقوض بالشرط الأول، وكان قد قدم جواز: الذي إن قام قام أبوه منطلق، فهذا يعني بالأول" انتهى. وأما اشتراط كونها لا تكون مستدعية كلامًا قبلها فهو نحو أن تقول: جاءني الذي حتى أبوه قائم، فلا يجوز ذلك لأن "حتى" لابد أن يتقدمها كلام تكون "حتى" غاية له. وذهب جماعة من قدماء النحويين إلى أنه لا يجوز وصل الموصول بالقسم وجوابه إذا كانت جملة القسم قد عربت من ضمير يعود على الموصول؛ فلا يجوز أن تقول: جاءني الذي أقسم بالله لقد قام أبوه.

وذهبوا أيضًا إلى أنه لا يجوز الوصل بالشرط والجزاء إذا عربت إحدى الجملتين من ضمير عائد على الموصول، فلا يجوز: جاءني الذي إن قام عمرو قام أبوه. قال أصحابنا: وذلك جائز قياسًا وسماعًا: أما القياس فإن الجملتين قد صارتا بمنزلة جملة واحدة بدليل أن كل واحدة منهما لا تفيد إلا باقترانها بالأخرى، فاكتفى فيهما بضمير واحد كما يكتفي في الجملة الواحدة. وأما السماع فقوله تعالى: {وإنَّ مِنكُمْ لَمَنْ لَّيُبَطِّئَنَّ}، فـ (ليبطئن) جواب قسم، والقسم جوابه في موضع صلة لـ (من)، التقدير: وإن منكم للذي والله ليبطئن. فإن قلت: لعل (من) نكرة/ أي: لإنسانًا ليبطئن؟ فالجواب: أم "من" النكرة لابد لها من صفة، والجملة إذا وقعت صفة فلابد فيها من رابط يربطها بالموصوف، فإذا ثبت في جملة القسم والجواب أنها تقع صفة فكذلك تقع صلة. ومن السماع قوله تعالى: {وإنَّ كُلاًّ لَّمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمَالَهُمْ}، فـ (ما) موصولة في موضع هبر (إن)، واللام الداخلة عليها لام (إن)، و (ليوفينهم) جواب القسم المحذوف، والقسم جوابه في صلة (ما). فإن قيل: لعل (ما) حرف زائد، وليست بموصولة؟

فالجواب: أن ذلك يؤدي إلى دخول لام التوكيد على مثلها، حتى كأنك قلت: لليوفينهم، وذلك لا يجوز. وقد رد شيخنا الأستاذ أبو الحسن بن الضائع هذا، وقال: "الممتنع أن تدخل اللام على اللام، فإذا فصل بينهما جاز؛ ألا ترى أن القسم أيضًا فاصل في التقدير". وقال أيضًا: "لا يمنع: "جاءني الذي والله لأضربنه" من عنده أدنى مسكة من اللغة، ثم إن هذا ليس للغة فيه مجال، بل هو معنى لا يصح أن يخالف فيه أحد من العقلاء لأن الفطرة السليمة تقبل مثل هذا الإخبار، وهو أن تقول: زيدٌ والله لأضربنه، وكذا: زيدٌ أقسم بالله لأضربنه، وكذا: زيدٌ إن يكرمني تحسن حالي، وقال الشاعر: وأنت إذا استدبرته سد فرجه بضاف فويق الأرض ليس بأعزل ومثله كثير في الكلام، ومعنى صحيح في كل لغة". "ثم أي فرق بين الوصل والخبر؟ فكما يجوز الخبر بجملة الشرط والجواب كذلك يجوز الوصل، ولهذا إذا ارتبطت الجملتان بالفاء جاز أيضًا أن يكون الضمير في إحداهما وإن لم يكن في الأخرى؛ كإجازة أبي علي "الذي يطير الذباب فيغضب زيد" على أن يكون الضمير العائد على الموصول

في "يغضب"، والجملة الأولى خالية عنه، لكن لارتباطهما بالفاء وصيرورتهما جملة واحدة جاز. وعلى هذا كان الأستاذ أبو علي يجيز في قوله: إن الخليط أجد البين فانفرقا .............................. رفع "البين" على أن يكون فاعلا بـ"أجد"، ويكون الضمير العائد على اسم "إن" في "انفرقا"، وجاز لارتباطهما بالفاء" انتهى. وزعم الكوفيون أن الموصول قد يجوز أن يتبع باسم معرفة بعده، ويستغنى بذلك عن الصلة، فأجازا أن تقول: ضربت الذي أباك. واستدلوا على ذلك بقول الشاعر: حتى إذا كان هما اللذين مثل الجديلين المحملجين ويقول الآخر: إن الزبيري الذي مثل الجلم سرى بأسلابك في أهل العلم

إلا أن تكون المعرفة التي بعد الموصول اسمًا مضمرًا فإنه لا يجوز إجراؤه على الموصول والاستغناء به عن الصلة عندهم؛ لأن الضمير لا يكون نعتًا، فتقول: ضربت الذي أنت/، أي: الذي هو أنت، ولا يجوز عندهم: ضربت الذي إياك. وهذا الذي ذهبوا إليه عند البصريين باطل، لابد للموصول عندهم من صلة، ولا حجة لهم في البيتين لأنه يحتمل أن تكون الصلة محذوفة لفهم المعنى، التقدير: اللذين عادا مثل الجديلين، والذي عاد مثل الجلم، فحذف، ولم يبق من الجملة إلا الحال، وإذا كانت الجملة الواقعة صلة كما تقدم يجوز حذفها بأسرها فالأحرى أن يجوز ذلك إذا بقى منها بعض. وزعم الكوفيون أيضًا أن مثلًا تقع صلة للموصول. واستدلوا بالبيتين السابقين، وذلك بناءً منهم على أن "مثلك" تستعمل ظرفًا، وهذا مقرر في علم الكوفيين أن "مثلك" تكون محلًا، وسنتعرض لذلك في باب المبتدأ والخبر، إن شاء الله. ورد استدلالهما بأنه يحتمل أن تكون الصلة محذوفة، أي: صارا مثل، وصار مثل، فحذف الجملة، وأبقى معمولها، وإذا حذفت الجملة بأسرها في قوله:

........................ وكفيت جانيها اللتيا والتي أي: اللتيا صغرت والتي عظمت، فالأحرى أن تحذف ويبقى منها بعض. وقوله ومن الحروف ما أول مع ما يليه بمصدر، ولم يحتج إلى عائد أي: والموصول من الحروف. و"ما أول" جنس يتناول "صه" ونحوه من أسماء الأفعال، فإنه يؤول بمصدر معرفة إن لم ينون، وبمصدر نكرة إن نون. ويتناول أيضًا الفعل المضاف إليه، نحو: حين قمت قمت، معناه: حين قيامك. ويتناول أيضًا (هو) من قوله {هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} أي: العدل. قال المصنف: "فاحترزت من هذه الأشياء ونحوها بقولي "مع ما يليه"، فإن هذه الأشياء مؤولة بمصادر لا مع شيء يليها، بخلاف الحروف الموصولة، فإنها تؤول بمصادر مع ما يليها من صلاتها" انتهى. وفيما ذكر منازعة، وذلك أن "صه" اسم فعل، فمدلوله لفظ فعل، وإذا كان مدلوله لفظ فعل فكيف يؤول بمصدر؟ ولو كان مؤولًا بمصدر على مذهبه لكان له موضع من الإعراب، والمصنف لا يرى له موضعًا من الإعراب؛ لأنه من حيث أوله بمصدر لابد أن يكون ذلك المصدر إما في موضع رفع أو نصب أو جر، فيلزم من حيث أنه لا موضع له من

الإعراب أن لا يكون مؤولًا بمصدر. وأما قوله: يتناول أيضًا (هو) من قوله {هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} فلا يقال إن (هو) يتأول بمصدر؛ إذ الضمير إذا عاد على شيء لا يقال فيه إنه يتأول بذلك الشيء، لو قلت: زيد هو الفاضل، وأعربنا هو مبتدأ، لا نقول إنه يتأول بالاسم العلم الذي هو زيد، ولو قلت: خرج أخوك، فقال قائل: هو من أهل الخير، لا نقول إن "هو" يتأول باسم مضاف إلى ضمير، وهو "أخوك"، فكذلك "هو"، هو عائد على المصدر المفهوم مما قبله، فلا يقال أنه يتأول بمصدر. والحروف المصدرية قليلة جدًا، فالذي كان يناسب أن تعد لا أن تحد كما قلنا/ في أول كلامنا على الموصول. وقوله ولم يحتج إلى عائد احتراز من "الذي" الموصوف به مصدر محذوف، فإنه يدل على المصدر، ولابد له من عائد، نحو: قمت الذي قمت، تريد: القيام الذي قمت، فهذا لابد من تقدير عائد، أي: قمته. قال المصنف: "ومثال ذلك قوله تعالى: {وخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا} أي: كالخوض الذي خاضوه، حذف الخوض، وأقام (الذي) مقامه، وحذف العائد إلى (الذي) لأنه منصوب متصل بفعل، وحذف مثله كثير" انتهى. وهذا المثال أيضًا لا يتعين لما ذكر؛ بل قالوا يكون مما حذفت منه النون، أي: كالذين، أو صفة لمفرد في معنى الجمع، أي: كالجمع الذي خاضوا، ويكون قد جمع الضمير في الصلة على معنى "الذي" لا على لفظه.

وجَوَّزَ الكوفيون والمصنف أن تكون (الذي) مصدرية، فينسبك منها ومن صلتها مصدر، وتكون حرفية لا يعود عليها ضمير، أي: وخضتم كخوضهم، ومع هذا الاحتمالات لا يتعين ما ذكر في الآية. -[ص: فمن الأسماء الذي والتي للواحد والواحدة، وقد تشدد ياءاهما مكسورتين أو مضمومتين، أو تحذفنا ساكنًا ما قبلهما أو مكسورًا، وتخلفهما في التثنية علامتها مجوزًا تشديد نونها وحذفها. وإن عنى بـ"الذي" من يعلم أو شبهه فجمعه "الذين" مطلقًا، ويغني عنه "الذي" في غير تخصيص كثيرًا، وفيه للضرورة قليلًا، وربما قيل "اللذون" رفعًا.]- ش: بدأ المصنف بالذي والتي لأنهما -وإن كانا مبنيين- ظهر فيهما تصرف ما كالتثنية والجمع والتصغير، فصار فيهما بذلك شبه بالمعرب، ولأنه إذا التبس كون غيرهما موصولًا اختبر بصلاحية الذي والتي موضعه. واللام والياء في "الذي" أصلان لأنه اسم ظاهر، فلم يكون على حرف واحد كسائر الأسماء الظاهرة. وقال الكوفيون: الاسم الذال وحده لأم الياء تسقط في التثنية، ولو كانت أصلًا لم تسقط، ولحذفها في الشعر وتسكين الذال، واللام زيدت

ليمكن النطق بالذال ساكنة، ولتدخل اللام على متحرك. وقالوا: والجواب عما قاله الكوفيون أنه لي بتثنية حقيقة، وحذفها في الشعر من الشذوذ لا يدل على زيادتها، وقد حذف كثير من الأصول في الشعر. والألف واللام في "الذي" زائدتان لا للتعريف، والتعريف بالصلة بدليل تعرف من وما بها إذا لا لام فيهما، ولأنهما لو حصلا التعريف لكان الاسم مستعملًا بدونهما نكرة؛ إذ جميع ما تدخل عليه لام التعريف كذلك، ورب زائد يلزم كالفاء في: خرجت فإذا زيد. انتهى هذا الرد، وفيه مناقشة. وفي البسيط ما ملخصه: "مذهب س أن أصل الذي لذي كعمي، ومذهب الفراء أن أصله "ذا" التي لاسم الإشارة". "وكذا التي أصلها عن س لتي، وعند الفراء تي. ومذهب السهيلي أن أصل الذي ذو بمعنى صاحب"./ وللفراء والسهيلي تقديرات حتى صارت "الذي" في غاية الاضمحلال والتعسف، ضربنا عن كتابتها صفحًا. وقوله للواحد أي: للمذكر سواء كان من ذوي العلم أم غيرهم.

والواحدة أي: للمؤنث سواء كانت من ذوات العقل أم غيرهن. وقوله وقد تشدد ياءاهما مكسورتين مثاله قول الشاعر: وليس المال فاعلمه بمال وإن أغناك إلا للذي ينال به العلاء، ويصطفيه لأقرب أقربيه وللقصي ويروى: وإن أرضاك إلا للذي. هكذا أنشد هذا البيت المصنف، وأنشد غيره: ................................. وإن أنفقته إلا الذي تنال به العلاء وتصطفيه لأقرب أقربيك وللقصي فعلى ما أنشده المصنف يكون "إلا للذي" استثناء مفرغًا، ويكون "للذي" واقعًا على الشخص، والتقدير: وليس المال فاعلمه بمالٍ لأحدٍ إلا للشخص الذي ينال به العلاء. وعلى ما أنشده غيره يكون استثناء من المال، ويكون "الذي" وقع على المال لا على الشخص، إذ التقدير: وليس المال فاعلمه بمال وإن أغناك إلا المالي الذي تنال به العلاء وتصطفيه لأقرب أقربيك وللقصي. وظاهر قول المصنف "وقد تشدد ياءاهما مكسورتين" أنهما يبنيان على

الكسر، وإن ذلك جائز في الذي والتي. أما البناء على الكسر فليس يظهر في الرواية التي أنشدها المصنف، وهي قوله "إلا للذي" لأنه يجوز أن تكون الحركة حركة إعراب أحدثتها لام الجر. وأما في إنشاد غيره "إلا الذي تنال به" على الخطاب بـ"تنال" وبقوله "وتصطفيه" و"أقربيك" فإن فيه دليلًا على البناء. وقد زعم أبو موسى أن الياء تجري بوجوه الإعراب الثلاثة. وإن صح هذا عن العرب فلا يكون في إنشاد المصنف دليل على أنها تبنى على الكسر؛ إذ يحتمل أن تكون الكسرة كسرة إعراب. وذكر بعض أصحابنا أن في "الذي" إذا شددت البناء على الكسر والجري بوجوه الإعراب. وأما جواز ذلك في الذي والتي فإن التشديد سمع في "الذي"، وأما في "التي" فلا يحفظ ذلك. وكأن المصنف اعتمد على أبي موسى في "الكراس" له حيث ذكر ذلك. وأما من تعرض لحصر لغات "التي" كالدينوري في "المهذب"، والهروي في "الأزهية"، والجوهري في "الصحاح"، فلم يذكروا ذلك في كتبهم. وقوله أو مضمومتين مثاله ما أنشده المصنف من قول الشاعر: أغض ما اسطعت فالكريم الذي يألف الحلم إن جفاه بذي

وظاهر كلام المصنف أنها تكون مبنية على الضم مشددة. ولا حجة في هذا البيت على البناء إذ قد يحتمل أن تكون الحركة حركة إعراب، كما ذكروا أنه يجوز في "الذي" مشددة/ الجري بوجود الإعراب. وقوله أو تحذفان ساكنًا ما قبلهما مثاله: فلم أر بيتًا كان أحسن بهجة من اللذ به من آل عزة عامر وقال: ما اللذ يسومك سوءًا بعد بسط يد بالبر إلا كمتلي البغي عدوانا وقال: فما نحن إلا من أناس تخرموا بأدنى من اللذ نحن فيه وأوفرا وقال آخر: فكنت والأمر الذي قد كيدا كاللذ تزبى زبية فاصطيدا وقال آخر:

فقل للت تلومك إن نفسي أراها لا تعوذ بالتميم وقال آخر: أرضنا اللت أوت ذوي الفقر والذل فآضوا ذوي غنى واعتزاز وقوله أو مكسورًا مثاله قول بعض بني تميم: واللذ لو شاء لكانت برًا أو جبلًا أصم مشمخرًا وقوله: لا تعذل اللذ لا ينفك مكتسبًا حمدًا، ولو كان لا يبقى ولا يذر وقال الفراء: ومن العرب من يقول: "هو اللذ قال ذلك". ولم ينشدوا على كسر التاء دون ياء شيئًا، لكن ذكر ذلك فيها الدينوري والهروي والجوهري، إلا أن المصنف في بعض نسخ شرح هذا الكتاب أنشد على ذلك قول الشاعر:

شغفت بك اللت تيمتك، فمثل ما بك ما بها من لوعة وغرام ومن ذهب إلى أن هذا التصرف في ياء الذي والتي من التشديد في الياء، ومن حذفها والاجتزاء بالكسرة عنها، ومن حذفها وتسكين المكسور، مختص بالشعر، فمذهب فاسد، وإنما نقله أئمة العربية على أنها لغات من الذي والتي. قال الفراء: "ومن العرب من يقول: هو اللذ قال ذلك، ويقول في الواحد: هو اللذ قال ذلك، بجزم الذال، وفي الواحدة: هي اللت قالت ذلك" انتهى. وقد تقدم من قولنا أن تشديد الياء في "التي" لا نحفظه، لكن أكثر أصحابنا نص عليه كـ"الذي" سواء. وقوله وتخلفهما أي: تخلف ياء الذي وياء التي في التثنية علامتها أي: الألف رفعًا والياء نصبًا وجرًا، تقول: اللذان/ واللتان، ورأيت الذين، ومررت بالذين، وكذلك "التي". وقوله مجوزًا تشديد نونها أي: نون التثنية. وتخفيف النون لغة الحجاز وبني أسد، وتشديدها لغة قيس وتميم. وظاهر كلام المصنف جواز التشديد مع الألف والياء.

وفي البسيط: "وفيه وجهان: تشديد النون لغة قريش، وتخفيفها". فأما مع الألف فلا خلاف في تجويز تشديد النون، وقد قرئ في السبعة {والَّلذَانِ يَاتِيَانِهَا مِنكُمْ}، وأما مع الياء ففيه خلاف: مذهب البصريين أنه لا يجوز التشديد مع الياء. وذهب الكوفيون إلى جواز ذلك، وبه قرأ بعضهم في قوله {رَبَّنَا أَرِنَا اللَّذَيْنِ أَضَلاَّنَا}. وذكر المصنف أن التشديد قصد به التعويض مما حذف من الاسم المفرد في التثنية؛ لأن القياس كان يقتضي أن لا يحذف منه شيء، فكان يقال: اللذيان كما قالوا: الشجيان، لكنهم حذفوا الياء في التثنية، فناسب أن يعوضوا من ذلك المحذوف التشديد في النون. ويحتاج من دعوى هذا إلى دليل. ولمدع أن يدعي أن هذه الزيادة في النون إنما هي للفرق بين تثنية المبني وتثنية المعرب لا للتعويض من المحذوف؛ كما فرقوا بالحركة بين المعرب والمبني في قبل وبعد، فجعلوا الحركة فيهما إذا كان مبنيين ضمة، وكل واحد من القولين دعوى. وفي البسيط أقوال في تشديد النون لم شددت، لا يقوم لشيء منها دليل.

وقوله وحذفها الحذف لغة بني الحارث بن كعب وبعض ربيعة، يقولون: هما اللذا قالا ذلك، بحذف النون، وهما اللتا قالتا ذلك، وعليه قوله في تثنية الذي: أبني كليب إن عمي اللذا قتلا الملوك، وفككا الأغلالا وقال: وعكرمة الفياض منا وحوشب هما فتيا الناس اللذا لم يعمرا وقال: وحوصاء ورألان الـ ـلذي دلا على الحج وقال في تثنية التي: هما اللتا لو ولدت تميم لقيل فخر لهم عميم وقوله وإن عني بـ"الذي" من يعلم أو شبهه يعني بشبهه الأصنام التي عبدت من دون الله إذ نزلوها منزلة من يعلم حتى عبدوها. فمثال إطلاق "الذين" على من يعلم قوله {الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ}، وهو كثير جدًا. ومثال إطلاقه على من يشبه من يعلم قوله تعالى {إنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ

عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ} إلى قوله {أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بها} إلى آخر الاستفهام. وقوله فجمعه "الذين" مطلقًا يعني أنه يكون بالياء في موضع الرفع والنصب والجر. قال المصنف في الشرح: "لما كانت التثنية من خصائص الأسماء المتمكنة، ولحقت الذي والتي، وجل لحاقهما/ معارضًا لشبههما بالحروف، فأعربا في التثنية كما جعلت إضافة "أي" معارضة لشبهها بالحروف، فأعربت. ولم يعرب أكثر العرب "الذين" وإن كان الجمع من خصائص الأسماء لأن "الذين" مخصوص بأولي العلم و"الذي" عام، فلم يجريا على سنن الجموع المتمكنة؛ بخلاق "اللذين" و"اللتين"، فإنهما يجريا على سنن المثنيات المتمكنة لفظًا ومعنى. وعلى كل حال ففي "الذي" و"الذين" شبه بالشجي والشجين في اللفظ وبعض المعنى، فلذلك لم يجمع العرب على ترك إعراب الذين" انتهى. والذي ذهب إليه المحققون أن اللذان واللتان والذين واللذون صيغ تثنية وجمع، وليست بتثنية صحيحة ولا جمع صحيح؛ لأنها لو كانت تثنية صحيحة للزم تنكيرها لأن الاسم لا يثنى حتى ينكر، ولذلك تقول "الزيدان"، والموصلات لا يتصور تنكيرها لأن موجب تعريفها لازم لها، وهو الألف واللام على قول، والصلة على قول آخر، فلما لم يتصور تنكيرها لم يتصور تثنيتها وجمعها. ويبين أنها ليست بتثنية صحيحة حذف الياء، إذ لو كانت تثنية صحيحة لقيل اللذيان واللتيان، كما تقول في القاضي والغازي

القاضيان والغازيان. وقوله ويغني عنه "الذي" في غير تخصيص كثيرًا مثاله {والَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وصَدَّقَ بِهِ أُوْلَئِكَ هُمُ المُتَّقُونَ}، فلو لم يكن المراد به جمعًا لم يخبر عنه بجمع، وهو "أولئك"، ولا عاد عليه ضمير جمع. قال المصنف: "ومنه {كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ المَسِّ} انتهى. وليس مثل ما تقدم لأنه يحتمل أن يكون (الذي) هو مفردًا، بل هو أظهر، بخلاف قوله {والَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ}. وقوله وفيه للضرورة قليلًا أي: وفي التخصيص. قال المصنف في الشرح: "إذا قصد بـ"الذي" مخصص فلا محيص عن "اللذين" في التثنية و"الذين" في الجمع، ما لم يضطر شاعر، كقوله: أبني كليب إن عمي اللذا ...................................... وقوله: وإن الذي حانت بفلج دماؤهم هم القوم كل القوم يا أم خالد" انتهى. ولا يعرف أصحابنا هذا التفصيل بين أن يقصد به التخصص أو غيره، بل أنشدوا البيتين على الجواز في فصيح الكلام لا على الضرورة، وعلى

ذلك أنشدوا أيضًا قول الشاعر: يا رب عبس لا تبارك في أحد في قائم منهم، ولا فيمن قعد إلا الذي قاموا بأطراف المسد وقول الآخر: فبت أساقي القوم إخوتي الذي غوايتهم غيي ورشدهم رشدي وقول الآخر: أولئك أشياخي الذي تعرفونهم ................................. قال الأخفش: يكون "الذي" للجمع والواحد بلفظ واحد كـ"من". قيل: ومنه {والَّذِي/ جَاءَ بِالصِّدْقِ وصَدَّقَ بِهِ} و {كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا}. فعلى مذهب الأخفش لا يكون "الذي" المراد منه الجمع محذوفًا منه النون، بل هو من المشترك بين الواحد والجمع. ولو كان مثل "من" على ما ذهب إليه الأخفش لجاز أن يكون أيضًا للمثنى، فيعود عليه الضمير مثنى،

فتقول: جاءني الذي ضربا زيدًا، وهذا غير مسموع. وقوله وربما قيل اللذون رفعًا يعني أنه أجري مجرى ما جمع بالواو والنون رفعًا، والياء والنون جرًا ونصبًا. قال المصنف: "إعراب الذين في لغة طيئ مشهور، فيقولون: نصر اللذون آمنوا على الذين كفروا". ونقل غيره من أصحابنا أنها لغةً هذيل. ونقل غيرهما أنها لغةً عقيل. وأنشد من ذكر أنها لغةً طييء ومن ذكر أنها لغة هذيل قول الشاعر: وبنو نوينجيه اللذون كأنهم ... معط مخدمة من الخزان ص: وقد يقال لذي بأذان ولذان ولذين ولاتي. وبمعنى الذين الألى والألاء واللاء واللائين مطلقًا، أو جرًا ونصبًا، واللاؤون رفعًا. وجمع التي: اللاتي، واللاتي واللواتي، وبلا ياءات، واللأ واللوا واللواء واللاءات مكسورًا أو معربًا أعراب أولات والألي، وقد ترادف التي واللاتي ذات وذوات مضمومتين مطلقًا.

ش: قال المصنف في الشرح: "والسادسةً - يعني اللغة السادسةً - حذف الألف واللام وتخفيف الياء ساكنةً. وبهذه اللغة قرأ بعض الأعراب، قال أبو عمرو بن العلاء: سمعت أعرابيًا يقرأ بتخفيف اللام، يعني {صِراطَ لَذِينَ} انتهى. ولم يذكر المصنف شاهدًا على ما ادعاه من حذف الألف واللام من لذي ولذان ولذين ولتي ولاتي سوى قراءةً هذا الأعرابي، فإن كان مستنده القياس على قراءة هذا الأعرابي، فجوز الحذف من البواقي دون سماع، كان قياسًا فاسدًا لأن ذلك في {صِرَاطَ الَّذِينَ} في غايةً من الدور والشذوذ، فلا يقاس عليه، وهو شبيه بحذف الألف واللام من قول بعضهم "سلام عليكم"، بحذف التنوين على إرادة الألف واللام، وذلك على رأي من يزعم أن تعريف الذي وما فيه الألف واللام من الموصولات بالألف واللام. وقوله وبمعنى الذين الألى هي على وزن "العلي"، والمشهود وقوعها بمعنى "الذين" فتكون للعقلاء، نحو قول الشاعر:

رأيت بني عمي الألي يخذلونني على حدثان الدهر إذ يتقلب وقول الآخر: وإن يكن من خيار أمته من الألي يحشرهم في زمرته وقول الآخر انشده بعض البغداديين: ألا أيها القوم الألي ينبحوني ... كما نبح الليث الكلاب الضوارع ألم ترني بعد الذين تتابعوا ... وكانوا الألي أعطى بهم وأمانع وقول الآخر: أليسوا بالألي قسطوا جميعا ... على النعمان, وابتدروا السطاعا وقال الأستاذ أبو الحسن بن عصفور: "وأما الألي بمعنى اللذين فغنها تقع على من يعقل وما لا يعقل من المذكرين" انتهى. ولا تختص بالمذكر, بل تأتي للمؤنث على ما يذكر إن شاء الله. وقال: "وقولنا الألي بمعنى "اللذين" تحرز منها بمعنى "أصحاب" نحو قوله:

لقد علمت أملى المغيرة أنني ... لحقت, فلم أنكل عن الضرب مسمعا معناه: أصحاب المغيرة" انتهى. وهذا وهم من الأستاذ، أولى تأنيث أول، ومعنى أولى في البيت متقدمةً الخيل المغيرةً، أو أولى الجماعةً المغيرةً، قال أبو عبد الله بن خالويه: سألت أبا عمر - يعني غلام ثعلب - عن قوله: لقد علمت أولى المغيرة أنني ... ................. فقال: أولى كل شيء أوله، وأنشد: له وفضة قيها ثلاثون سيحفًا ... إذا ما رأت أولى العدى اقشعرت ولو قال ابن عصفور: "احترز من ألي اسم الإشارة"، لكان له وجه لأن النطق بهما واحد، ورسمهما في الخط واحد، بخلاف أولى فإن بعد الهمزة واوًا، تمد الهمزةً لأجلها إذ هي عين الكلمةً، فلفظةً "ألي" مشتركةً بين أن تكون موصولةً وبين أن تكون مشارًا بها، ولا تكون بمعنى "أصحاب" البتة، ولا أيضًا "أولى" تأنيث "أول" بمعنى "أصحاب"، ثم إنه لا يقع اشتراك بين ألَى الموصولةً وألي اسم الإشارةً إلا إذا كانت الموصولةً دون ألف ولام، نحن قول الشاعر: أأنتم ألي جئتم مع الدبر والدبا ... فطرتم، وهذا شركم غير طائر

وقول بشر بن أبي خازم: ونحن ألي ضربنا رأس حجر ... بأسياف مهندةً رقاق وقول والألاء مثال ذلك قول الشاعر: أبى الله للشم الألاء كأنهم سيوف أجاد القين يوما صقالها وقوله واللأء مثال قول الشاعر: من النفر اللاء الذين هم إذا يهاب الرجال حلقة الباب قعقعوا وقال كثير: تروق عيون اللاء لا يطعمونها ويروي برياها الضجيع المكافح وأنشد الفراء لرجل من سليم: فما آباؤنا بأمن منه ... علينا اللاء هم مهدوا الحجورا

اجتزأ بالكسرةً عن الياء. وقوله واللائين مطلقًا يعنى انه كـ "الذين", يكون بالياء رفعًا ونصبًا وجرًا، وهذه لغةً هذيل. وأنشد المصنف في الشرح قول الشاعر: وإنا من اللائين إن قدروا عفوًا وان اتربوا جادوا, وإن تربوا عفوًا وأنشد غيره: ألمًا تعجبني وترى بطيطا من اللائين في الحقب الخوالي وأنشد المصنف: من اللاتي يعود الحلم فيهم ويعطون الجزيل بلا حساب قال: "فقوله "من اللائين" يحمل أن يكون على لغة من يبني، ويحتمل أن يكون على لغة من يعرب". وقوله واللاؤون هي أيضًا لغة لبعض هذيل، يقولون "اللاؤون، في الرفع، و "اللائين" في الجر والنصب، وأنشدوا:

هم اللاؤون فكوا الغل عني بمرو الشاهجان، وهم جناحي ويجوز حذف النون من اللائين واللاؤون، قرأ ابن مسعود {لِلَّائي آلَوْا مِنْ نِسَائِهِمْ} وابن مسعود هذلي. وسمع الكسائي هذيلًا تقول: "هم اللاؤو صنعوا كذا". وحكي الفارسي في "الشيرازيات" عن بعض البغداديين أنه حكي: "هم اللائي فعلوا كذا"، فاستعمله بالياء في حالة الرفع محذوف النون كقراءة عبد الله. ونسب المصنف لهذيل هذه اللغة، أعني "اللاؤون" رفعًا، ولم ينسب "اللائين" مطلقًا، وكلاهما لغة لهذيل. قال المصنف في الشرح: "والصحيح أن الذين جمع الذي مرادًا به من يعقل، وأن اللائين جمع اللاء مرادفًا للذين" انتهى. وهذه كما قلنا ليست بجموع حقيقةً. وقوله وجمع التي اللاتي واللائي واللواتي وبلا ياءات هذه ستة ألفاظ للجمع في "التي". قال المصنف: "وإثبات الياءات فيهن هو الأصل، وحذفها تخفيف واجتناب للاستطالة، وقد بالغوا في ذلك حتى حذفوا التاء والياء من اللاتي واللواتي، فقالوا: اللأ واللوا، ولم أجد حجةً على ذلك إلا

تصديق الرواة" انتهى. وعدم وجدانه هو لا يدل على عدم الوجود، وهذا هو من باب نقل اللغةً، وليس من شرط نقل اللغةً أن يجد في ذلك المتأخر نقلًا عن العرب بصريح لفظها، بل يكفي في ذلك قول اللغوي: إن العرب تقول كذا. وقد أنشد المصنف في نسخةً أخرى من الشرح قول الراجز: جمعتها من اينق عكار ... من اللوا شرفن بالصرار وقال: وكانت من اللا لا يعيرها ابنها إذا ما الغلام الأحمق الأم عيرًا والبيت للكميت، وقال الكميت: فدومي على العهد الذي كان بيننا أم أنت من اللا ما لهن عهود قال: "والأظهر عندي أن الأصل في التي: اللوائي، وفي اللَّا:

اللاء". وأنشد غير المصنف: اللاء كن مرابعا ومصايفًا ... بك, والغصون من الشاب رطاب وقوله واللاءات مكسورًا أي مبنيًا على الكسر في الأحوال الثلاث، أو معربًا إعراب أولات، أي: يرفع بالضمةً، ويجر وينصب بالكسرةً. ولم يذكر بعض أصحابنا في "اللاءات" إلا البناء على الكسر. وأنشد المصنف: أولئك إخواني الذين عزفتهم ... وأخدانك اللاءات زين بالكتم وزاد "اللائي" بياء محضةً، و "اللاتي" بالسكون. ولا تثبت لغةً السكون بقوله {اللَّائِي يَئِسْنَ} لإمكانه أن يكون السكون لأجل الإدغام. وقوله والألي تقدم أن "الألى" أيضًا يكون لجمع المذكر عاقلًا وغير عاقل، ومما جاء فيه لجمع المذكر بمعنى الذين وجمع المؤثنات بمعنى

اللاتي قول الشاعر: وتفني الألي يستلئمون على الألي ... تراهن يوم الروع كالحدأ القبل ومما جاءت فيه بمعنى "اللاتي" قوله: فأما الألى يسكن غور تهامة ... فكل فتاة تترك الحجل أقصما وقال يصف كلابًا وبقرةً وحشيةً: تبذ الألى يأتينها من ورائها ... وإذ تتقدمها الطوارد تصطد وقول وقد ترادف التي واللاتي ذات وذوات مضومتين مطلقًا تقدم أن "ذات" بمعنى صاحبةً تعرب بالضمةً والفتحةً والكسرةً، وأن "ذوات" بمعنى صواحب تعرب، بالضمةً والكسرةً نحو صاحبات. فأما إذا كانت "ذوات" بمعنى "التي" - أي: لمؤنثةً مفردةً - أو: "ذوات" بمعنى "اللاتي" - أي: لجمع مؤنث - فإنهما مبنيان على الضم أبدًا، ومن كلام العرب "بالفضل ذو فضلكم الله به، وبالكرامةِ ذات أكرمكم الله به، وقال الشاعر:

جمعتها من أينق موارق ويروى: سوابق. ذوات ينهضن بغير سائق وهذا الذي ذكره هو لغة طيئ، وتأتي "ذو" إن شاء الله. وتثنى ذات: ذواتا في الرفع وذواتي في الجر والنصب، فتعرب كإعراب تثنيةً "ذات" بمعنى صاحبةً. وقال المصنف في الشرح: "إن تاء ذات وذوات مضمومةً أبدًا، وحكي غيره إعراب "ذات" الموصولةً بالحركات إعراب "ذات" بمعنى "صاحبة". ونقل لنا شيخنا الإمام بهاء الدين أبو عبد الله محمد بن إبراهيم بن محمد بن أبي نمر الحلبي شهر بابن النحاس أنه حكي إعراب "ذوات" الموصولة إعراب "ذوات" بمعنى "صواحب", فترفع بالضمةً، وتجر وتنصب بالكسرةً، قال: وهذا غريب. والأفصح في "ذات" أن لا تثنى ولا تجمع، بل تكون "ذات" للمؤنثةً المفردةً ومثناها ومجموعها، وأن تبنى على الضم حالة الرفع والنصب والجر.

-[ص: وبمعنى الذي وفروعه من وما وذا غير ملغي ولا مشار به بعد استفهام بما أو من، وذو الطائيةً مبنية غالبًا، وأي مضافًا إلى معرفةً لفظا أو نيةً. ولا يلزم استقبال، عامله ولا تقديمه، خلافًا للكوفيين، وقد يؤنث بالتاء موافقًا للتي. وبمعنى الذي وفروعه الألف واللام، خلافًا للمازني ومن وافقه في حرفيتها، وتوصل بصفة محضة، وقد توصل بمضارع اختيارًا، ومبتدأ وخبر أو ظرف اضطرارًا.]- ش: يعني بقوله "وفروعه" فروع "الذي"، وفروعه هي "التي" لأن التأنيث فرع التذكير، وتثنيتهما وجمعهما، نحو اللذان واللتان، والذين واللاتي. فـ "من" و"ما" يجوز أن يراد بكل منهما المفرد والمثنى والمجموع والمذكر والمؤنث؛ إلا أن لكل منهما بالنسبةً إلى ثم يعلم وما لا تعلم اعتبارًا يذكر - إن شاء الله. عند تعرض المصنف له. وقوله غير ملغي إن عني بالإلغاء الزيادةً كما يفهم من ظاهر اصطلاح النحويين فليس قوله بصحيح لأن الأسماء لا تلغى، أي: لا تزاد، وإذ عني أنها ركبت مع "ما"، وصار المجموع اسم استفهام، فيصح. وقوله وذا غير مشار به أصل "ذا" أنه اسم إشارةً، ثم جرد من معنى الإشارةً، واستعمل موصولًا بالشرط الذي يذكر، فإذا أقر على أصل موضوعةً من الإشارةً لم يحتج إلى صلةً، وانعقد منه مع "من" أو "ما" كلام، وإذا كان موصولًا كان جزء كلام، واهتم إلى صلة وعائد كغيره من الموصولات، وصار يقع على المفرد والمثنى والمجموع والمذكر والمؤنث. وقوله بعد استفهام بما أو من أما جعل "ذا" موصولةً بعد "ما" الاستفهاميةً فلا نعلم خلافًا في جواز ذلك، وأما بعد "من"الاستفهاميةً ففيه

خلاف، فأكثر أصحابنا أجازوا ذلك، ومن النحويين من لا يجيز ذلك. واستدل لجواز ذلك بقول الشاعر: وغريبة تأتي الملوك كريمة ... قد قتلها ليقال: من ذا قالها وقول الآخر: ألا إن قلبي لدى الظاعنينا ... حزين فمن ذا يعزي الحزينا وفي البسيط: "وقيل: لا تكون "ذا" موصولةً مع "من" لأن "من" تخص من يعقل، فليس فيها إبهام كما في "ما"، وإنما صارت بالرد إلى الاستفهام في غاية الإبهام، فأخرجت "ذا" من التخصيص إلى الإبهام، وجذبتها إلى معناها، ولا كذلك "من"، لتخصيصها، فلذلك لا تستعمل استعمالها، وإنما تستعمل حيث قال س: "وأكثر ما تستعمل في الإنكار على معنى: ما أحد خيرًا منك، كما تقول: من ذا أرفع من الخليفة"، قال

تعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} , فوصف "ذا" بـ "الذي"، ولم يرد أن يشير إلى إنسان قد عرف فضله على المسؤول، ولو أردت ذلك لنصبت" انتهى. ولتعلم أن "ماذا" لها استعمالات: أحدها: أن تنفي كل واحدةً على أصلها، فتبقى "ما" على استفهاميتها و"ذا" على إشارتها كما ذكرنا. الثاني: أن تبقى "ما"على استفهاميتها، وتكون "ذا" موصولةً مفردةً هكذا لمذكر ولمؤنث وفروعهما. الثالث: أن تركب "ذا" مع "ما"، ويصيرا اسمًا واحدًا استفهامًا. والفرق بين هذا والذي قبله أنك إذا قلث "ماذا صنعت؟ " كانت "ما" مبتدأ، و "ذا" بمعنى "الذي" خبره، و "صنعت" صلة "ذا" والعائد محذوف، والتقدير: ما الذي صنعته؟ هذا على الاستعمال الثاني. وأما على الاستعمال الثالث فيكون "ماذا" بجملته مفعولًا مقدمًا بـ "صنعت" ولا ضمير في "صنعت"، وكأنك قلت: أي شيء صنعت؟ وجواب هذا في الأفصح "خيرًا" بالنصب حتى يطابق بين السؤال والجواب، وجوابه في الوجه الثاني في الأفصح "خير" بالرفع حتى يطابق بين السؤال والجواب أيضًا، ويظهر الفرق بينهما بالبدل أيضًا، فعلى الاستعمال الثاني رفع البدل لأنه بدل من مرفوع، فتقول: ماذا صنعت أخير أم شر؟ وعليه جاء قوله: آلا تسألان المرء ماذا يحاول ... أنحب فيقضى أم ضلال وباطل وعلى الاستعمال الثالث، تنصب البدل لأنه بدل من منصوب، فتقول:

ماذا صنعت خيرًا أم شرًا؟ ومما يدل على استعمالها مركبةً مع "ذا" قول العرب: "عماذا تسأل؟ " بإثبات ألف "ما" لكونها توسطت، ولا تصح موصوليةً "ذا" لأن حرف الجر لا يدخل على الجملةً، وبدليل قول الشاعر: يا خزر تغلب، ماذا بال تسوتكم لا يستفقن إلى الديرين تحنانا ولا تصح موصوليتها لأن العرب لا تقول إلا "ما بالك؟ " ولا تقول: ما الذي بالك؟ وبقول الشاعر: وأبلغ آبا سعد إذا ما لقيته نذيرًا، وماذا ينفعن نذير فدخول نون التوكيد يقضى بأن "ماذا" كلها جاءت استفهامًا. ولا يجوز أن تكون موصولة لأن الفعل الواقع صلةً لا تدخله نون التوكيد. وتترجح دعوى التركيب إذا كان "الذي"بعد "ماذا" أو بعد "من ذا" كقوله تعالى {مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ} وقول الشاعر: ويحسب آذ النائبات تركنه ومن ذا الذي عمرينه فهو وافر وقول الشاعر في ماذا فماذا الذي يشفي من الحب بعدما ... تشربه بطن الفؤاد وظاهره

ويحتمل أن تكون "ذا" موصولةً، ويكون فيه جمع بين موصولين نحو قوله: إن الذين الألي أدخلتهم بقر ... لولا بوادر إرعاد وإبرق ويخرج على التوكيد، أو على أن يكون الموصول الثاني خبر مبتدأ محذوف. والرابع: أن تركب "ذا" مع "ما" ويصيرا اسمًا واحدًا موصولًا، وتكون ليس فيها شيء من الاستفهام، وعليه بيت الكتاب: دعي ماذا علمت سأتقيه ... ولكن بالمغيب نبئيني أي: دعي الذي علمت، سأتقيه، والمعنى: دعي ذكر الشيء الذي علمته، فإني سأتقيه واستعمالها في هذا الوجه - وهو أن تكون كلها موصولة - قال بعض أصحابنا فيه: هو قليل. وقال بعضهم: هذا الاستعمال جاء في الشعر.

وقد خلط في تخريج هذا البيت الأستاذ أبو الحسن بن عصفور، قال: "ومن جعل "ماذا" اسمين قول الشاعر" وأنشد البيت. ثم قال: "ولا يتصور في "بماذا" أن تكون بتقدير اسم واحد؛ لأنه لو كان كذلك لم يخل من أن يكون منصوبًا بـ "دعي" أو بـ "علمت" أو بفعل مضمر يفسره "سأتقيه". وباطل أن يكون منصوبًا بـ "ادعي" لأن الاستفهام لا يعمل فيه ما قبله. وباطل أن يكون منصوبًا بـ "علمت" لأنه لا يريد أن يشفهم عن معلوم, وباطل أن يكون منصوبًا بفعل مضمر يفسره "سأتقيه" لأنه لا يكون لـ "علمت" إذ ذاك موضع من الإعراب، فلم يبق إلا أن يكون مبتدأ وخبرًا علق عنه "دعي"، كأنه قال: دعي أي شيء الذي علمته فإني سأتقيه. والضمير الذي في "سأتقيه" عائد على "ذا"، انتهى تخريجه. وكتب أستاذنا أبو جعفر أحمد بن إبراهيم بن الزبير على هذا التخريج ما نصه: "هذا كله نظر خلف، وتعد عن فهم مراد س، ومخالفًا للناس قاطبةً في فهمهم عن س أن "ماذا" لها ثلاثة أحوال: موصوليةً "ذا"، مع كون "ما" استفهامًا، وجعل الاسمين اسمًا واحدًا، إما أن يكون إذ ذاك استفهامًا، وهو الأكثر، أو يكون كله اسمًا موصولًا، ومنه هذا البيت، وهو قليل، وهذا كله ما لم تبق كل واحدة على بابها- وهذا تفسير السيرافي وابن خروف

والأستاذ أبي علي الشلوبين وفهمهم عن س. وقوله "وباطل أن يكون منصوبًا بدعي لأن الاستفهام لا يعمل فيه ما قبله" هذا لو سلم له أنه استفهام، ولم يقل بذلك أحدهم انتهى كلامه. وقد رجع الأستاذ أبو الحسن عن هذا التخريج في بعض تصانيفه، فقال: "وقد استعملت في الشعر استعمالًا ثالثًا، وهو جعلها بمنزلة "الذي" أو بمنزلة نكرة موصوفةً، قال: "دعي ماذا علمت سأتقيه". وإلى أنها نكرةً موصوفةً ذهب أبو علي الفارسي ولا يجوز أن تكون "ذا" موصولةً لأنها تكون جملةً، و "دعي" ليس مما يعلق، فلا يدخل على جملةً الاستفهام. ولا يصح أن يكونا معًا استفهامًا لأنك إذ أعملت فيه "دعي" لم يجز لأن الاستفهام لا يعمل فيه ما قبله، أو "علمت" لم يجز لأن "دعي" تكون قد دخلت على جملةً استفهاميةً، وهى "علمت" ومفعولها، وليست مما يعلق، فلم يبق إلا أن تكون "ماذا" موصولةً أو نكرةً موصوفةُ" انتهى ما ذكره ملخصًا. وأنكر أبو علي الفارسي أن يكون "ماذا" في هذا البيت موصولًا بمعنى الذي، قال: "لأنا لم نجد في الموصولات ما هو مركب، ووجدنا في الأجناس ما هو مركب" وقال: "جاز لـ "ذا" أن يتنكر لأنه لما ركب مع "ما" حدث بالتركيب معنى لم يكن". وقال المصنف في الشرح: "ومثل وماذا" في احتمال معنى "شيء" ومعنى "الذي" في غير استفهام قول جرير: فالله ماذا هيجت من صبابةٍ على ... هالك يهذي بهند ولا يدري" انتهى.

ولا يجوز عند البصريين أن يستعمل اسم الإشارةً موصولا إلا "ذا"، إما بانفرادها وإما مركبةً مع "ما" وزعم الكوفيون أن أسماء الإشارةً كلها يجوز أن تستعمل موصولات، ومن ذلك عندهم {وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى} فـ (تلك) عندهم موصول، و (بيمينك) صلته، كأنه قيل: وما التي بيمينك؟ وقال الشاعر: عدس ما لعباد عليك، إمارة ... نجوت، وهذا تحملين طليق كأنه قال: والذي حملين. ولا حجةً في هذا لأنه يتخرج على أن يكون (بيمينك) متعلقًا بما في (تلك) من معنى الإشارةً؛ لآن المعنى: وما المشار إليها بيمينك؟ أو حالًا من المشار إليه، أو متعلقًا بفعل مضمر على جهة البيان، كأنه قال: أعني بيمينك. وعلى أن يكون "تحملين" في موضع الحال، أي: وهذا محمولًا لك طليق، أو في موضع خبر لـ "هذا"، و "طليق" خبر ثان كقولهم: هذا

حلو حامض, و: ............... ... فهو يقظان هاجع وهذه تخاريج ابن عصفور. والبصريون حملوا (بيمينك) و "تحملين"على الحال. وقال شيخنا الأستاذ أبو الحسن بن الضائع: "تقديره "أعنى بيمينك" بعيد، ولا يتعدى أعني بالباء، فهو تقدير ضعيف جدًا، فلا ينبغي أن يعول عليه، فالحال أشبه". وقول وذو الطائيةً مبنيةً غالبًا إنما نسبها لطيئ لأنهم هم الذين يستعملونها موصولةً، أو من تشبه بهم من المولدين، فاستعملها، كأبي نواس وحبيب بن أوس, والحسن بن وهب وغيرهم، ومن كلام بعض

الطائيين: "أرى ذو ترون"، ومن كلامهم "فلا وذو في السماء بيته". والعجب لهذا المصنف أنه وصف "ذو" بالطائيةً، وقد ذكر "ذات" و"ذوات"، ولم يصفهما بأنهما طائيتان، والجميع مختص باستعمالها طيئ. وقوله مبنية غالبًا لأن بعض العرب من الطائيين قد أعربها، فقال: جاءني ذو قام، ورأيت ذا قام، ومررت بذي قام، قال الشاعر: فإما كرام موسرون أتيتهم فحسبي من ذي عندهم ما كفانيا ومنه في أحد الخريجين "اذهب بذي تسلم"، أي: بالذي تسلم. وأعربت تشبيهًا لها بـ "ذي" بمعنى "صاحب" لمشابهتها لها في اللفظ، حتى إن بعضهم، حكي أن "ذو" هذه منقولةً من "ذي" بمعنى "صاحب" لاشتراكهما في التوصل إلى الوصف. والأفصح في "ذو" أن لا تثنى ولا تجمع، بل تكون هكذا للمفرد والمثنى والمجموع من المذكر. وأنشدوا على "ذو" الطائية قول الشاعر:

ذاك خليلي وذو يعاتبني ... يرمي ورائي بامسهم وامسلمةً وقول الآخر: نغادر محض الماء ذو هو محضه ... على أثره عن كان للماء من محض يروي العروق الهامدات من البلى ... من العرفج النجدي ذو باد والحمض وقول الآخر: لئن لم تغير بعض ما قد صنعتم ... لأنتحين العظم ذو أنا عارقه وقول الآخر: فإما كرام موسرون وجدتهم ... فحسبي من ذو عندهم ما كفانيا وقوله: قولا لهذا المرء ذو جاء طالبا ... هلم, فإن المشرفي الفرائض أظنك دون المال ذو جئت تبتغي ... ستلقاك بيض للنفوس قوابض

وحكى الأزهري أن "ذو" في لغة طيئ تستعمل بمعنى الذي والتي وتثنيتهما وجمعهما، فعلى أما حكاه الأزهري تستعمل "ذو" للمؤنث، وتثنيته وجمعه، ومنه قول الشاعر: فإن الماء ماء أبي وجدي ... وبئري ذو حفرت وذو طويت أي: بئري التي حفرت. وزعم ابن عصفور أنه ذكر البئر على معنى القليب، ومثله قوله: يا بئر يا بئر بني عدي ... لأنزحن قعرك بالدلي حتى تعودي أقطع الولي فخرجه على أنه ذكر على معنى القليب، فأنث على معنى البئر. وقدره الفارسي: "حتى تعودي قليبًا اقطع الولي"، فهو من حذف الموصوف. قال شيخنا الأستاذ أبو الحسن بن الضائع: "وعندي أنه لا يجوز

ذلك في "ذو" قياسًا على الصفةً؛ لأن ذلك في الصفةً بالحمل على الفعل، فالصفةً الجاريةً مجرى الفعل يجوز فيها ما لا يجوز في غير الجاريةً؛ ألا ترى أن من قال "جاء الموعظة" لا يقول مشيرًا إليها: هذا الموعظة نفعتني، ولذلك زعم الخليل في قوله تعالى {هَذَا رَحْمَةٌ مِّن رَّبِّي}، أنه إشارةً إلى القطر لا للرحمةً، و "ذو" أقرب لأسماء الإشارةً منها للصفةً الجاريةً. وأيضًا فلم يذكر "ذات" كل من ذكر "ذو"، فهذا يدل على أن "ذو" أشهر "من ذات"، ولو كان مؤنثها كـ "التي" مع "الذي" لم يكن أحدهما أشهر لأن المذكر ومؤنثه في مرتبةً واحدةً" انتهى. وحكي الهروي في "الأزهية" أن بعض العرب الطائيين يثنى "ذو" ويجمعها جمع "ذي" بمعنى "صاحب". وكذا قال ابن السراج: "إن تثنية ذو وجمعه لا يجوز فيهما إلا الإعراب"، فتقول: جاء ذوا قاما، ورأيت ذوي قاما، ومررت بذوي قاما، وجاءني ذوو قاموا، ورأيت ذوي قاموا، ومررت بذوي قاموا. وقال المصنف في الشرح: "أطلق ابن عصفور القول بتثنيتها وجمعها، وأظن حامله على ذلك قولهم: ذات وذوات بمعنى التي واللاتي، فأضربت عنه لذلك" انتهى. ولم يفعل ذلك ابن عصفور لما قال

المصنف، بل نقل ذلك الهروي وابن السراج عن العرب. وقوله وأي أي: تكون موصولةً على مذهب الجمهور، وخالف أحمد بن يحيى، فزعم أنها لا تكون إلا استفهامًا أو جزاء، وهو محجوج بثبوت ذلك في لسن العرب بنقل الثقات من النحويين، ومن ذلك قول الشاعر: إذا ما أتيت بني مالك ... فسلم على أيهم أفضل وقال تعالى: {ثُمَّ لَنَنزِعَنَّ مِن كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ}، وأنشد سلمةً: أباهل لو أن الرجال تبايعوا ... على أينا شر قبيلا وألام وقال: فادنوا إلى حقكم يأخذه أيكم ... شئتم، وإلا فإياكم وإيانا وقال: أما النساء فأهوى أيهن أرى ... للحب أهلا, فلا أنفك مشغوفا قال س: "وحدثنا هارون أن ناسًا - وهم الكوفيون - يقرأونها {ثُمَّ

لَنَنزِعَنَّ مِن كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِيّاً} , وهي لغةً للعرب جيدةً، نصبوها، كما جروها حين قالوا: امرر على أيهم أفضل، فأجراها هؤلاء مجرى "الذي" إذا قلت: اضرب الذي أفضل" انتهى. وقوله مضافًا إلى معرفةً هذا هو الأفصح فيها، فإذا قلت "يعجبني أو الرجال عندك" تبين بإضافة "أي" إلى "الرجال" أو إلى ضميرهم أن الذي أعجبك مذكر عاقل، ويحتمل أن يكون مفردًا أو مثنى أو مجموعًا. وكذلك "يعجبني" أو الماء عندك" و "أيهن عندك"، فيتبين أن التي أعجبك مؤنث عاقلةً. وقد يضاف إلى النكرة، ولم يذكره المصنف، فيقال: يعجبني أي رجل عندك، وأي رجلين، وأي رجال عندك، وأي امرأةً، وأي امرأتين. وقول لفظًا أو نيةً مثال إضافتها لفظًا ما مثلناه، ومثال إضافتها نية "يعجبني أي عندك"، ويحتمل أن تكون واقعةً على مفرد أو مثنى أو مجموع من المذكرين أو المؤنثات من عاقل أو غيره. وقوله ولا يلزم استقبال عامله هذا الذي قاله واختاره ليس مذهب الجمهور، بل الجمهور نهجوا إلى أن أيًا إذا كانت موصولةً لم يعمل فيها الفعل الماضي، لا يجوز أن تقول: أعجبني أيهم

قام. قالوا: وسبب ذلك أنها وضعت على الإبهام والعموم، فإذا قلت "تعجبني أيهم يقوم" فكأنك قلت: يعجبني الشخص الذي يقع منه القيام كائنًا من كان، فلو جعلت معمولةً للفعل الماضي أخرجها ذلك عما وضعت له من العموم ألا ترى أنك لو قلت "أعجبني أيهم خرج" لم يقع إلا على الشخص الذي خرج؟ وسئل الكسائي في حلقة يونس: هل يجوز: أعجبني أيهم قام؟ فمنع من ذلك، فقيل له: لمَ لم يجز ذلك؟ فلم يلح له الوجه الذي لأجله امتنع ذلك، فقال: أي هكذا خلقت. وظاهر كلام المصنف في الشرح أن الكوفيين لا يلتزمون استقبال عامل "أي" وهذا رأسهم الكسائي في هذه الحكاية يلتزمه، ويقول: هكذا خلقت، يعني أنها وضعت على أن لا يعمل فيها الماضي - وزعم الأخشف، أنها قد تكون معمولةً للماضي إلا أن ذلك قليل. وقوله ولا تقديمه مذهبنا أن أيا الموصولةً كغيرها من الأسماء يعمل فيها العامل متقدمًا ومتأخرًا نحو: أحب أيهم قرأ، وأيهم قرأ أحب. ونقل المصنف عن الكوفيين أنهم يلتزمون تقديم العامل، قال "ولا حجةً لهم إلا كون ما ورد على وفق ما قالوه".

وقوله خلافًا للكوفيين ظاهره أن مذهب البصريين بخلافه، فلا يلتزمون الاستقبال ولا التقديم، أما الاستقبال فجمهور البصريين نصوا على أنه ملتزم، ولم يمثل س إلا بالمستقبل. وأما التقديم فمذهب البصريين، أنه لا يلتزم تقديم العامل، وقد مثل س به متأخرًا عن الموصول. قوله وقد يؤنث بالتاء موافقًا لـ "التي" قال ابن كيسان: بعض العرب إذا أراد التأنيث قل "أية" نحو: يجيئني أيتهن في الدار, ولأضربن أيتهن في الدار. وهذه اللغة ضعيفةً، وأهلها يثنون أيا ويجمعونها إن أرادوا ذلك، تقول في التثنية: يعجبني أياهم عندك، وأيوهم عندك، واضرب أييهم عندك، وأيهم عندك، وللواحدةً أيتهن، وللتثنيةً أيناهن، وأيتيهن، وفي الجمع أياتُهن وأياتِهن. وكذلك يفعلون في حال الإفراد وفي حال الإضافةً إلى نكرة. وكان ينبغي للمصنف أن ينبه على أن من أنث أيا يثنيها ويجمعها. ومن التأنيث قول الشاعر: إذا اشتبه الرشد في الحادثات ... فارض بأيتها قد قدر وفي البسيط: "وأما أي فلا تكون موصولةً وهي مضافةً إلى نكرةً، فلا تقول: اضرب أي رجل يقوم، على معنى: اضرب الذي يقوم منهم؛ لأنها نكرةً حينئذ، والموصولات معارف. وتعريف "أي" بالإضافةً، بخلاف

الاستفهام، فإنها تكون فيه نكرةً، وكذلك في الشرط، ولذلك امتنع في قوله تعالى: {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُون} أن تكون أي موصولة بـ (يَنْقَلِبُونَ). وقوله وبمعنى الذي وفروعه الألف واللام يعني أن "أل" اسم موصول تكون بمعنى الذي وفروعه، يعني من المؤنث والمثنى والمجموع بلفظ واحد. وفي كونها موصولة بخلاف: ذهب أبو الحسن الأخفش إلى أنها حرف تعريف، وليست موصولةً، فـ "أل" في "الضارب" كـ "أل"في "الغلام". قيل للاخفش: فإذا لم تكن من قبيل الموصولات فلم لا يقدم المنصوب باسم الفاعل علينا فيقولوا "هذا زيدًا الضارب"، كما يجوز "هذا زيدا ضارب؟ ". فأجاب بأن اسم الفاعل لا يعمل إذا دخلت عليه "أل" كما لا يعمل إذا وصف أو صغر لأن "أل" خاصة من خواص الاسم كما أن الوصف والتصغير كذلك، والاسم المنتصب بعده ليس على سبيل المفعوليةً، إنما انتصب على التشبيه بالمفعول به، والمنصوب على التشبيه بالمفعول به لا يجوز تقديمه

على الوصف، فكذلك هذا. وأبطل مذهب الأخفش بأن المشبه بالمفعول، لا يكون إلا سببيًا، ولا يكون في الكلام إلا نكرةً، أو معرفًا بالألف واللام، أو مضافًا إلى ما الألف واللام فيه، أو ضمير ما هما فيه، أو مضافًا إلى ضمير ما هما فيه، و"زيد" من قولك "هذا الضارب زيدًا" ليس سببيًا ولا نكرةً ولا شيئًا من المعارف الني ذكرناها، فثبت أنه ليس منصوبًا على التشبيه بالمفعول به وأن "أل"، من قبيل الموصول. وذهب أبو بكر بن السراج، وأبو علي الفارسي وأكثر النحويين إلى أن "أل" موصول اسمي، وهو اختيار المصنف. واستدلوا بعود الضمير إليها، تقول: جاءتني الضاربها زيد، فالضمير عائد على "أل". فإذ قلت: فلعل الضمير يعود على موصوف محذوف؟ فالجواب: أن ذلك باطل لأن الصفة لا تحذف إلا في مظان حذفها، وليس هذا منه، فإن لم يكن من مظان الحذف لم يجز حذفه إلا في ضرورةً، وجواز "جاءتني الضاربها زيد" في فصيح الكلام دل على أن "أل" بمنزلة "التي"، فكما جاز أجاءتني التي ضربها زيد" فكذلك جاز "جاءتني الضاربها زيد"، ولو كان حذف الموصوف في مثل هذا سائغًا لجاز "جاءتني ضاربها زيد" كما يجوز "جاءتني امرأةً ضاربها زيد" فامتناع ذلك يدل على أنه ليس

على حذف الموصوف. ومما يدل علي أنه اسم موصول لا حرف موصول أنه لم يوجد في كلامهم حرف موصول إلا وهو مع ما بعده بمنزلة المصدر, وهذا لا يتقدر بمصدر, فدل علي أنه اسم. واستدل ابن برهان علي موصولية "أل" بدخولها / علي المضارع, وأل المعرفة للاسم في اختصاصها به كحرف التنفيس في اختصاصه بالمضارع, فكما لا يدخل حرف التنفيس علي اسم كذلك لا تدخل "أل" للتعريف علي فعل, فوجب اعتقاد "أل" في نحو: ............. الترضي ....... ....................... اسما بمعني "الذي" لا حرف تعريف. وقوله خلافا للمازني ومن وافقه في حرفيتها استدل المازني علي أنها حرف موصول لا اسم بتخطي العامل عمله إلي صلتها لا إليها, فإذا قلت "مررت بالضارب" فالعامل الجر في "الضارب" هو الباء, وكذلك "جاء

الضارب" و "رأيت الضارب", ولا موضع لـ "أل" من الإعراب, ولا يكون اسم في الكلام إلا وله موضع من الإعراب. وأيضا لو كانت من الأسماء لكانت من الأسماء الظاهر, ولا يكون اسم ظاهر علي حرفين أحدهما ألف وصل, فيكون الاسم في الحقيقة حرفا واحدا. وأيضا فهمزة الوصل في "الضارب" مفتوحة إذا ابتدأت, ولا تكون همزة وصل في الاسم إلا مكسورة إلا ما شذ من قولهم "ايمن الله", وإذا كانت حرفا كانت مفتوحة فيه كحالها في الرجل والغلام. وأيضا لو كانت اسما لجاز أن يفصل بينها وبين صلتها بمعمول الصلة, فتقول: جاءني ال زيدا ضارب, كما يجوز ذلك في الذي إذا قلت: جاءني الذي زيدا ضرب. وقال الأستاذ أبو علي: الدليل علي أن "أل" حرف قولك: جاء القائم, فلو كانت اسما كانت فاعلا, واستحق "قائم" البناء لأنه علي هذا التقدير مهمل لأنه صلة, والصلة لا يسلط عليها عامل الموصول. والجواب عما قاله المازني علي ما ذكروه أنها جعلت مع الاسم كالشيء الواحد لأن الصلة والموصول كالشيء الواحد, فإذا كانت الصلة اسما مفردا كانت أشد اتصالا بالموصول وافتقارا إليه, فجعل الفاعل بجملته "الضارب" في قولك "قام الضارب" كما إذا قلت "هذه بعلبك" صار الاسم المجموع, فكذلك "الضارب" بمنزلة اسم واحد.

وأما كون الاسم الظاهر لا يكون علي حرف واحد فباطل, حكي من كلامهم "ام الله", وهمزته همزة وصل مع أنه معرب, فالأحرى أن يجيء علي ذلك الاسم المبني. وقد أجاز س بالقياس إذا سميت بالباء من اضرب أن تقول "إب" فتلحق همزة الوصل وتعرب, فأجاز أن يكون الاسم المعرب علي حرف واحد إذا وصلت, فإذا ابتدأت كان علي حرفين أحدهما همزة وصل, وقاس ذلك علي "أب"؛ ألا تري أنه علي حرفين ابتداء, فإذا وصلت في مثل "من أب لك" علي لغة من نقل الحركة وحذف الهمزة صار علي حرف واحد, بل يبقي الاسم المعرب علي حرف واحد وصلا وابتداء, حكي ابن مقسم عن ثعلب "شربت ما". وأما فتح همزة الوصل فتشبيها بـ "أل" التي للتعريف, وإذا كانوا قد فتحوا همزة "ايمن" تشبيها بالحرف فالأحرى تشبيه "أل" الموصولة بأل المعرفة. وأما عدم الفصل / بالمعمول فلشدة اتصال "أل" بصلتها وجعلهما كشيء واحد؛ إذا كانت الصلة مفردة؛ بخلاف صلة "الذي", فإنه جملة, بل ذلك يلزم المازني في مذهبه لأنهما عنده حرف, والموصول إذا كان حرفا غير عامل يجوز أن يفصل بينه وبين صلته, نحو ما تقول: يعجبك ما اليوم تصنع, تريد: صنعك اليوم, فكذلك ينبغي أن يجوز في مذهبه في قولك "الضارب". وأما من يجعلها اسما, ويجعلها مع صلتها كشيء واحد, فلا

يجوز الفصل كما لا يجوز الفصل بين جزأي بعلبك. والجواب عما قاله الأستاذ أبو علي أن يقال: مقتضي الدليل أن يظهر عمل الموصولات في آخر الصلة لأن نسبتها منه نسبة عجز المركب منه, لكن منع من ذلك كون الصلة جملة, والجملة لا تتأثر بالعوامل, فلما كانت صلة الألف واللام في اللفظ مفردا جيء بالإعراب فيه علي مقتضي الدليل لعدم المانع. قاله المصنف. وقال المصنف في الشرح: "وزعم المازني أن الألف واللام للتعريف, وأن الضمائر عائدة علي موصوفات محذوفة" انتهي. وهذا الذي حكاه عن المازني هو الذي حكيناه نحن عن الأخفش من أن الألف واللام للتعريف. وحكينا عن المازني أن "أل" موصول حرفي. والجمع بين الحكايتين أن "أل" معرفة في مذهب الأخفش ومذهب المازني, إلا أن المازني هي عنده موصول حرفي, وعند الأخفش هي معرفة, وليست موصولة, فقد اشترك المذهبان في التعريف, واختص مذهب المازني بالوصل. وقد ضعف المصنف مذهب المازني بأنه لو جاز حذف الموصوف مع "أل" المعرفة لجاز مع التنكير؛ إذ لا فرق بين تقدير الموصوف منكرا أو معرفا, بل يكون في التنكير أولي لأن حذف المنكر أولي من حذف المعرف. وبأنه لو كانت معرفة لقدح لحاقها في إعمال اسم الفاعل بمعني الحال والاستقبال, والأمر بخلاف ذلك, فإن لحاقها يسوغ لما لا يجوز أن يعمل دونها أن يعمل, وهو الماضي, فعلم أنها غير المعرفة وأنها موصولة

بالصفة لأن الصفة يجب تأولها بفعل لتكون في حكم الجملة المصرح بجزأيها, ولذا وجب العمل مطلقا, وحسن العطف علي اسم الفاعل الموصول به فعل صريح كقوله تعالي: {فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحًا. فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا} , {إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ وَأَقْرَضُوا}. وقوله وتوصل بصفة محضة قال: "نعني بالمحضة أسماء الفاعلين وأسماء المفعولين والصفات المشبهة بأسماء الفاعلين" قاله المصنف. قال: "واحترز بالمحضة مما يوصف به وليس بصفة محضة كالأسد, فإن "أل" فيه معرفة, وليست موصولة بأسد, وإن كان يوصف به". وفي البسيط: "وأما الصفة المشبهة فلا تدخل - يعني أل - عليها لضعفها وقربها من الأسماء؛ إذ ليس معناها: الذي فعل, فإذا أدخلت عليها فعلي حذف الموصوف, والعائد إنما يكون عليه / في قوله: مررت بالحسن وجه ابنه, ولا يقال: إن اسم الفاعل كذلك, أعني علي حذف الموصوف, والضمير يعود عليه؛ لأنا نقول: إن إجماعهم علي العمل معها كيف كان اسم الفاعل, ومنعهم الماضي دونها, وكلاهما وصف, يدل علي زيادة معناها هناك بحيث يقوي معني الفعل, وليس ذلك إلا معني "الذي" لأنه قد دخلها حين دخلت علي الفعل وعلي الجملة الابتدائية, فعلم أنها تكون لهذا المعني". وقوله وقد توصل بمضارع اختيارا لا خلاف نعلمه أن وصل "أل" بالمضارع يختص بالشعر, وقد ذهب هو في بعض تصانيفه إلى أن وصل

"أل" بالمضارع قليل, وهنا أجاز ذلك في الاختيار. وأنشدوا علي ذلك: ما أنت بالحكم الترضي حكومته ... ولا الأصيل ولا ذي الرأي والجدل وقوله: يقول الخنا, وأبغض العجم ناطقا إلي ربه صوت الحمار اليجدع وقوله: ما كاليروح ويغدو لاهيا فرحا مشمر يستديم الحزم ذا رشد وقوله: ويستخرج اليربوع من نافقائه ومن حجره بالشيحة اليتقصع وقوله: لا تعبثن الحرب, إني لك الينـ ـذر من نيرانها فاتق وقوله: فذو المال يؤتي ماله دون عرضه لما نابه والطارق اليتعمد

وأنشد الفراء رحمه الله تعالي: أحين اصطباني أن سكت, وإنني لفي شغل عن دخلي اليتتبع وقال ابن خالويه: "وليس في كلامهم فعل دخله الألف واللام إلا اليجدع, واليتقصع, واليتتبع, واليسع: اسم نبي, واليحمد: قبيلة, ولو سميت بالفعل نحو يزيد لم تدخله الألف واللام, فأما قوله: رأيت الوليد بن اليزيد ..... ........................... فهو بمنزلة "الغدايا والعشايا" للازدواج" انتهي. وحصر ابن خالويه ليس بصحيح, وقد ذكرنا في الأبيات السابقة ما ينقض حصره, وكثيرا ما يقول في كتاب ليس: "ليس كذا" ثم يوجد في كلام العرب, فدل علي أن استقراءه ليس بتام. قال المصنف في الشرح: "وعندي أن مثل هذا غير مخصوص بالشعر لتمكن قائل الأول أن يقول: ما أنت بالحكم المرضي حكومته؛ ولتمكن قائل الثاني/ أن يقول: إلي ربنا صوت حمار يجدع, ولتمكن الثالث من أن يقول: ما من يروح, فإدخال "أل" يدل علي الاختيار لا الاضطرار. وأيضا فمقتضي النظر يدل علي أنها من حيث هي اسم موصول يجوز وصلها بما يوصل به الاسم الموصول من الجمل الاسمية والفعلية والظروف, فمنعت ذلك حملا علي المعرفة لأنها مثلها في اللفظ, وجعلوا

صلتها ما هو جملة في المعني ومفرد في اللفظ صالح لدخول "أل" المعرفة عليه, وهو اسم الفاعل وشبهه من الصفات, ثم كان في التزام ذلك إيهام أن "أل" معرفة لا اسم موصول, فقصدوا التنصيص علي مغايرة المعرفة, فأدخلوها علي الفعل المشابه لاسم الفاعل, وهو المضارع, ولكون ذلك جائزا في الاختيار لم يقل في أشعارهم كما قل الوصل بالجملة الاسمية" انتي كلامه, وفيه بعض تلخيص واقتصار. وقوله ومبتدأ وخبر أو ظرف اضطرارا مثاله وصلها بمبتدأ وخبر قوله: من القوم الرسول الله منهم لهم دانت رقاب بني معد يريد: الذين رسول الله منهم. ومن النحويين من جعل "أل" زائدة في قوله "الرسول" لا موصولة, ولا نعلم ورود "أل" داخلة علي الجملة الاسمية إلا في هذا البيت. وفي البسيط: "ولا تكون بغير اسم الفاعل إلا في ضرورة كقوله: من القوم الرسول الله منهم ......................... البيت, وأجازه بعض الكوفيين" انتهي. ومثال وصلها بظرف قوله:

من لا يزال شاكرا علي المعه فهو حر بعيشة ذات سعه يريد: علي الذي معه. وقد انتهي ذكر ما ذكره المصنف من الموصولات. وزعم الكوفيون أن الأسماء المعرفة بأل كلها يجوز أن تستعمل موصولة, واستدلوا علي جواز ذلك بقول الشاعر: لعمري لأنت البيت أكرم أهله وأقعد في أفيائه بالأصائل فـ "البيت" خبر أنت, و "أكرم" صلة لـ "البيت", كأنه قال: لأنت الذي أكرم أهله, أي: البيت الذي أكرم أهله. وزعموا أن النكرة توصل نحو: هذا رجل ضربته, فـ "ضربته" - عندهم - صلة "رجل". وكذلك إذا أضفت نكرة إلي نكرة يجوز أن تصلهما وأن تصل أيهما شئت, فتقول "هذه دار رجل دخلت" إن وصلت الأولي, و "هذه دار رجل أكرمت" إن وصلت الثانية, و "هذه دار رجل أكرمت دخلت" إن وصلتهما. وفي البسيط: "وقد جعلوا - يعني الكوفيين - النكرة موصولة كالمعرفة, لكن صلتها تجري صفة عليها, فتقول: أنت رجل يأكل طعامنا. وخالفوا هذا, فجوزوا فيه تقديم معمول الصلة, فتقول "أنت طعامنا رجل يأكل" لاستقلال النكرة بنفسها" انتهي. وكذلك أجازوا وصل النكرة إذا أضيفت/ إلي معرفة, نحو قولك: هذه

دار زيد بالبصرة, فـ "بالبصرة" صلة "دار" إذا كانت له دار بالبصرة ودار بغيرها. وجعلوا من ذلك قول الشاعر: يا دار مية بالعلياء فالسند ........................ وهذا كله لا يجوز عند البصريين. وهذه المواضع التي استدلوا بها حملها البصريون علي غير ذلك. أما "لأنت البيت أكرم أهله" فخرج علي حذف صفة, وجعل "أكرم" خبرا ثانيا, التقدير: لأنت البيت المحبوب عندي أكرم أهله. وأما ما جاء بعد النكرة فهو عند البصريين صفة لا صلة. وأما "هذه دار زيد بالبصرة" فـ "بالبصرة" في موضع الحال. وكذلك "يا دار مية بالعلياء" بالعلياء: في موضع حال من المنادي علي مذهب من يجيز الحال من المنادي. وأما علي مذهب من لا يجيزه فمتعلق بإضمار فعل علي وجهة البيان, التقدير: أعني بالعلياء. كما كان "لك" بعد "سقيا" من قولهم "سقيا لك" متعلقا بإضمار فعل تقديره: لك أعني. ص: ويجوز حذف عائد غير الألف واللام إن كان متصلا منصوباً بفعل

أو وصف, أو مجرورا بإضافة صفة ناصبة له تقديرا, أو بحرف جر بمثله معني ومتعلقا الموصول أو موصوف به, وقد يحذف منصوب صلة الألف واللام والمجرور بحرف وإن لم يكمل شرط الحذف. ش: الضمير العائد ينبغي أن يكون مما للجملة به تعلق كالفاعل, والمفعول علي أصنافه, والمبتدأ والخبر, وأما إن كان مما يتعلق هو بالجملة كالتوابع فإن كان الذي له الموصول ظاهرا في الصلة فلا يجوز, نحو: بعت الذي أكلت الرغيف ثلثه, وأكرمت الذي سرق زيد ثوبه؛ لأن الموصول لا يكون لغير مذكور في الصلة ظاهرًا, وإن لم يكن ظاهرًا فإن كان مضافًا فيجوز, نحو: رأيت الذي ضرب زيد غلامه, وإن كان معطوفًا, نحو: رأيت الذي قام زيد وأخوه, والهاء عائدة علي "الذي" لا علي "زيد", فيجوز. وفصل السهيلي, فقال: "إن كانت الواو جامعة جاز, وإن كانت عاطفة لم يجز. فإن صرح بالفعل فلا يجوز إجماعًا نحو: رأيت الذي قام زيد وقعد أخوه. وكذلك من يقدر في المعطوف فعلًا آخر لأن الصلة لا يعطف عليها إلا بعد تمامها". ولما فرغ المصنف من عد الموصولات وذكر صلاتها, وكان قد ذكر أن الصلة تشتمل علي عائد أو خلفه, أخذ يذكر حكم ذلك العائد, وهو الضمير

الذي يعود على الموصول الرابط للصلة به بالنسبة إلي الحذف والإثبات, وذلك الضمير مرفوع الموضع ومنصوبه ومجروره, فبدأ أولا بذكر المنصوب, فقال: الضمير إما أن يكون عائد غير الألف واللام أو عائد صلة الألف واللام: إن كان عائد صلة الألف واللام فسيأتي حكمه, وإن كان عائد غير الألف واللام فإما أن يكون متصلا أو منفصلا؛ فإن كان منفصلا لم يجز حذفه, مثاله: جاءني الذي لم أضرب إلا إياه, وجاءني الذي إياه لم أضرب, أو إياه أضرب/. وإن كان متصلا فإما أن يكون نصبه بفعل أو بوصف أو بغير فعل ولا وصف: إن كان نصبه بغير فعل ولا وصف لم يجز حذفه, مثاله: جاءني الذي إنه فاضل, وجاءني الذي كأنه قمر, فلا يجوز حذف اسم إن ولا اسم كأن. ومثال نصبه بفعل: جاءني الذي ضربته, فيجوز حذف هذه الهاء, فتقول: جاءني الذي ضربت, قال تعالي: {أَهَاذَا الَّذِي بَعَثَ اللهُ رَسُولًا} , التقدير: بعثه الله رسولًا. ومثال نصبه بوصف: الذي معطيكه زيد درهم, فالهاء منصوبة بـ "معطيك", وهي عائدة علي الذي, فيجوز حذفها, فتقول: الذي معطيك زيد درهم. وأنشد المصنف علي حذف الضمير المنصوب بالفعل قول الشاعر: كأنك لم تسبق من الدهر ساعة إذا أنت أدركت الذي كنت تطلب وقول الآخر:

وحاجةٍ دون أخرى قد سنحت بها جعلتها للتي أخفيت عنوانا ومثل أيضا بقوله تعالي: {وَءَامِنُوا بِمَآ أَنزَلْتُ مُصَدِّقًا} و {يَعْلَمُ مَا يُسِرُّرونَ وَمَا يُعْلِنُونَ}. وذكر مما جاء فيه الحذف والإثبات {وَفِيهَا مَا تَشْتَهِي الأنفُسُ} , {وَمَا عَمِلَتْ أَيْدِيهِمْ} , وقرئ (ما تشتهيه) (وما عملته) , والحكم متى كان كثيرا جدا فيكفي فيه مثال واحد. وأنشد علي حذف الضمير المنصوب بالوصف قول الشاعر: ما الله موليك فضل فاحمدنه به فما لدي غيره نفع ولا ضرر وقول الآخر: وليس من الراجي يخيب بماجد إذا عجزه لم يستبن بدليل التقدير: موليكه, ومن الراجيه. وفي كون هذه الهاء في "الراجيه"

منصوبة خلاف, سيذكر إن شاء الله. وقد سوي المصنف في جواز الحذف في الضمير المنصوب بالفعل والوصف, وليسا بسيين, هو في الفعل كثير جدا وفي الوصف نزر جدا. وأغفل المصنف شرطين في جواز حذف الضمير المنصوب بالفعل: أحدهما أن يكون الضمير متعين الربط به, نحو: جاءني الذي ضربته. فإن لم يتعين للربط لم يجز حذفه, نحو: جاءني الذي ضربته في داره, لا يجوز أن تقول: جاءني الذي ضربت في داره؛ لأنه لا يدري أهو المضروب أم غيره. الثاني أن يكون الفعل تامًا, فإن كان ناقصا لم يجز حذف الضمير المنصوب, تقول: جاءني الذي ليسه زيد, ولا يجوز: ليس زيد, وكلما طالت الصلة كان الحذف أحسن, نحو: جاءني الذي ظننت قائما, وجاءني الذي أعلمت بكرا منطلقا, أي: ظنته قائما, وأعلمته بكرا منطلقا. وإذا حذفت هذا الضمير المنصوب بشرطه ففي توكيده والنسق عليه خلاف, مثاله: جاءني الذي ضربت نفسه, / وجاءني الذي ضربت وعمرا, تريد: ضربته نفسه, وضربته وعمرا, فأجاز ذلك الأخفش والكسائي, ومنعه ابن السراج وأكثر أصحابه, واختلف عن الفراء في ذلك. واتفقوا علي جواز مجيء الحال من الراجع المحذوف إذا كانت مؤخرة عنه في التقدير, واختلفوا إذا كانت في التقدير مقدمة عليه, فأجازها ثعلب, ومنعها هشام.

وقوله أو مجرورًا بإضافة صفة احتراز من أن يكون مجرورا بإضافة غير صفة, مثاله: جاءني الذي وجهه حسن, فالهاء لا يجوز حذفها لأنها مجرورة بإضافة "وجه" إليها, و "وجه" ليس صفة. وقوله ناصبة له تقديرا احتراز من أن يجر بإضافة صفة ليست ناصبة له في التقدير, ومثال ذلك: جاءني الذي زيد ضاربه أمس, فالهاء مجرورة بإضافة صفة - وهي "ضارب" - إليه, إلا أن ضاربا ليس ناصبا للهاء في التقدير لأنه اسم فاعل ماض, وليست فيه الألف واللام, فليس بعامل, بل الإضافة فيه كالإضافة في "وجهه". ومثال ما الصفة ناصبة له في التقدير, وجاء الضمير محذوفا, قوله تعالي: {فَاقْضِ مَآ أَنتَ قَاضِ} , التقدير: ما أنت قاضيه. وقال الشاعر: ويصغر في عيني تلادي إذا انثنت يميني بإدراك الذي كنت طالبا وقال الآخر: لعمرك ما تدري الضوارب بالحصي ولا زاجرات الطير ما الله صانع وقال الآخر: سأغسل عني العار بالسيف جالبا علي قضاء الله ما كان جالبا التقدير: طالبه وصانعه وجالبه. ومثله قول طرفة:

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا ........................ أي: جاهله. وأورد شيوخنا هذا الحذف علي أنه جائز فصيح. وزعم الأستاذ أبو الحسن بن عصفور أن الأفصح فيه أن لا يحذف, قال: "وحذفه ضعيف جدا". ثم ذكر الاستدلال علي الحذف بقوله تعالي {فَاقْضِ مَآ أَنتَ قَاضٍ}. ولا يسوغ ذلك لأن ما كثر في لسان العرب مجيئه, وجاء في القرآن, لا يقال فيه إنه ضعيف جدا. ثم له وجه قوي من القياس لأنه منصوب من حيث المعني, فكما يجوز حذفه لو نصبه الفعل كذلك يجوز حذفه إذا نصبه من حيث التقدير الوصف. علي أن من النحويين من يزعم أن / هذا الضمير ليس مجرورا بالإضافة, بل هو منصوب, وحذف التنوين من الوصف لاتصال الضمير به لا للإضافة. وزعم الكسائي أنه يجوز حذف الضمير المجرور بغير وصف, فينحذف معه المضاف إليه, فأجاز أن تقول: اركب سفينة الذي تعمل, التقدير: تعمل سفينته, فحذف الضمير, وانحذف بحذفه ما أضيف إليه. واستدل علي ذلك بقول الشاعر: أعوذ بالله وآياته من باب من يغلق من خارج

تقديره: من باب من يغلق بابه من خارج, فحذف "بابه". ومنع من ذلك الجمهور. وتأول بعضهم هذا البيت علي أن التقدير: يغلق بابه, فحذف "باب", وأقيم الضمير مقامه, فصار ضميرا مرفوعا, فاستتر في الفعل, أي: يغلق هو, أي: بابه. ولا يجوز حذف "بابه" كما ذكر الكسائي لأنه مفعول لم يسم فاعله, والمفعول الذي لم يسم فاعله بمنزله الفاعل, فلا يجوز أن يحذف كما لا يجوز أن يحذف الفاعل. وقوله أو بحرف جر بمثله معني ومتعلقا الموصول أو موصوف به معناه: أو بحرف جر الضمير العائد علي الموصول بمثل ذلك الحرف معني ومتعلقا, أي: المتعلق به حرف الجر الداخل علي الموصول هو مثل المتعلق به الحرف الذي جر الضمير. مثال ذلك: مررت بالذي مررت به, ومررت بالرجل الذي مررت به, فهنا يجوز حذف حرف الجر والضمير, فتقول: مررت بالذي مررت, ومررت بالرجل الذي مررت, قال تعالي: {يَاكُلُ مِمَّا تَاكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ} يريد: مما تشربون منه. وقال الشاعر: نصلي للذي صلت قريش ونعبده, وإن جحد العموم

وقال الشاعر: إن تعن نفسك بالأمر الذي عنيت نفوس قوم سموا تظفر بما ظفروا يريد: للذي صلت قريش له, والذي عنيت به. واندرج تحت قوله "بمثله معني" أن يكون أحد المتعلقين فعلا والآخر صفة بمعناه, نحو قوله: وقد كنت تخفي حب سمراء حقبة فبح لان منها بالذي أنت بائح يريد: أنت بائح به. فلو كان المضمر مجرورا بما جر الموصول, ولم يكن حرفا, لم يجز الحذف, نحو: جاء غلام الذي أنت غلامه. فإن لم يدخل علي الموصول ولا علي الموصوف بالموصول حرف جر فلا يجوز حذف الضمير وحرف الجر, نحو: جاءني الذي مررت به, لا يجوز حذف "به". وقال المصنف: لا يحذف إلا قليلا, نحو قول حاتم: ومن حسد يجوز علي قومي وأي الدهر ذو لم يحسدوني يريد: يحسدوني فيه. وقول الفرزدق:

/لعل الذي أصعدتني أن يردني إلي الأرض إن لم يقدر الخير قادرة يريد: أصعدتني به. وإن دخل علي الموصول حرف لا يماثل ما دخل علي الضمير لم يجز حذفه إلا ضرورة, نحو قوله: فأصبح من أسماء قيس كقابض علي الماء لا يدري بما هو قابض يريد: قابض عليه. فهذا قد اختلف فيه حرف الجر والمتعلق. وكذلك أنشدوا علي ذلك قول الشاعر: فقلت لها: لا والذي حج حاتم أخونك عهدا, إنني غير خوان قالوا: يريد: حج حاتم إليه. فهنا جر الموصول الواو, وجر الضمير إلي, فاخلف الحر, واختلف المتعلق, لأن حرف القسم يتعلق بفعل القسم, و "إليه" يتعلق بـ "حج". ولا يتعين حمل البيت علي هذا إذ يحتمل أن يكون المقسم به هو الله تعالي, فيجيء ذلك التأويل. ويحتمل أن يكون المقسم به هو البيت, فيكون الضمير المحذوف منصوبا, تقديره: لا والبيت الذي حجه حاتم. فإن تماثل الحرفان معني, واختلفا لفظا, فلا يجوز الحذف, نحو: حللت في الذي حللت به, لا يجوز حذف "به", والباء ظرفية, فالباء مماثلة لـ "في" معني لا لفظا, ولا يجوز حذف الضمير و "به" لأنه لا يدري ما المحذوف, أهو "فيه" أو هو "به", والذي يتبادر إلي الذهن أنه "فيه" لتقدم ذكره.

وإن تماثل الحرفان لفظا ومعني, واختلف المتعلق, لم يجز الحذف, نحو: مررت بالذي سررت به, فلا يجوز الحذف, فأما قوله {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ} فلا ينبغي أن يقدر "بما تؤمر به" لئلا يختلف المتعلق, ولكن "أمر" تتعدي تارة بحرف جر وتارة بنفسها, فيكون التقدير: بما تؤمره, فيكون الضمير المحذوف منصوبا. وفي حذفه شروط جواز الحذف. وأما قول الشاعر: وإن لساني شهدة يشتفي بها وهو علي من صبه الله علقم وقول الآخر: فأبلغن خالد بن نضلة والـ مرء معني بلوم من يثق فضرورة, والتقدير: وهو علي من صبه الله عليه, ومعني بلوم من يثق به. ولم يستوف المصنف ما يجوز حذف حرف الجر والضمير منه إذ ذكر الموصول والموصوف بالموصول, وترك قسما آخر, وهو أن يكون الحرف دخل علي المضاف للموصول, فإن حكمه حكم الموصول والموصوف بالموصول, مثاله: مررت بغلام الذي مررت به, فيجوز حذف "به" في هذه المسألة. ونقصه شروط أخر في المسألة: أحدهما/ أن لا يكون الضمير وحرف الجر في موضع المفعول الذي لم يسم فاعله, فإنه إذ ذاك لا يجوز الحذف وإن استوفي الشروط التي ذكرها

المصنف، مثاله: مررت بالذي مر به، وغضبت على الذي غضب عليه، لا يجوز حذف "به" ولا حذف "عليه" لأنه في موضع رفع. الثاني: أن لا يكون ثم ضمير آخر يصلح للربط، نحو: مررت بالذي مررت به في داره، فلا يجوز حذفه. الثالث: أن لا يكون الضمير محصوراً ولا في معنى المحصور، نحو: مررت بالذي ما مررت إلا به، ومررت بالذي إنما مررت به. قال المصنف في الشرح: "وقد يحذف العائد المجرور لوجود مثله بعد الصلة، كقوله: لو أن ما عالجت لين فؤادها فقسا استلين به للأن الجندل أراد: لو أن ما عالجت به لين فؤادها فقسا، فحذف "به" المتصل بـ "عالجت" استغناء عنه بالمتصل باستلين" انتهى. وهذا عند أصحابنا ضرورة إذ عري من شروط جواز الحذف. وثبت في بعض النسخ: "أو بحرف متعين، أو مجرور بمثله معنى متعلقاً الموصول أو موصوف به". وشرح ذلك المصنف، فقال: "مثال المجرور بحرف متعين: الذي سرت يوم الجمعة، والذي رطل بدرهم لحم، أي: الذي سرت فيه، والذي رطل منه، فحسن الحذف تعين المحذوف كما حسنه في الخبر والصفة، والموصول بذلك أولى لاستطالته بالصلة، ومن ذلك قول الشاعر: وإن الذي ترنو العيون محسداً جدير بشكر يستديم به الفضلا

ويمكن أن يكون منه قوله تعالى {ذَلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبَادَهُ}، وكذا قول الشاعر: فقلت له: لا والذي حج حاتم ... ........................ انتهى. وهذا الذي ذكره في صلة الموصول ذكره أصحابنا في خبر المبتدأ، ولم يذكروه في صلة الموصول، ولا ينبغي أن يقاس على ذلك، ولا أن يذهب إليه إلا بسماع ثابت عن العرب، وإلا فكل ما ذكر أنه جاء الحذف فيه ضرورة يمكن تخريجه على ما ذكر هذا المصنف من أنه حذف لأجل التعين، ألا ترى إلى قوله: ............................ ... وأي الدهر ذو لم يحسدوني و: لعل الذي أصعدتني ................................ و: ............................ ... ............ بما هو قابض و: ........................... ... ... على من صبه الله علقم

و: ........................... .......... بلوم من يثق كيف تعين حرف الجر والضمير في هذا كله. وهذا الذي ذكره هدم للقواعد التي ذكرها النحويون، فلا يلتفت إليه. وقوله وقد يحذف منصوب صلة الألف واللام مثال ذلك: الضاربها زيد هند، والجمهور على منع حذف هذا الضمير، وأجاز حذفه بعضهم، فتقول: الضارب زيد هند. وقد اختلف عن الكسائي في ذلك. وهذا على خلاف في هذا الضمير أهو/ منصوب أو مجرور: فمذهب الأخفش أنه منصوب، ومذهب الجرمي والمازني أنه مجرور، ومذهب الفراء أنه يجوز أن يكون منصوباً وأن يكون مجروراً، ومذهب س اعتباره بالظاهر، فحيث جاز في الظاهر النصب والخفض جاز في الضمير مثل ذلك، نحو: جاء الضاربا زيداً، ويجوز: الضاربا زيد، فإذا قلت "الضارباهما غلامك الزيدان" حاز أن يكون "هما" في موضع نصب وفي موضع جر، وجيث وجب في الظاهر النصب وجب في الضمير، نحو: جاء الضارب زيداً، فإذا قلت "الضاربة زيد غلامك" فالضمير في موضع نصب.

وأنشد المصنف دليلاً على حذف منصوب صلة الألف واللام قول الشاعر: ما المستفز الهوى محمود عاقبة ولو أتيح له صفو بلا كدر يريد: ما المستفزة الهوى. وقال بعض أصحابنا ممن جوز حذف الضمير في صلة الألف واللام: "إن كان الاسم الواقع في صلتها مأخوذاً من فعل يتعدى إلى واحد فالإثبات فصيح، والحذف قليل، نحو: جاءني الضاربة زيد، و"الضارب زيد" قليل، وإن كان مأخوذاً من فعل يتعدى إلى اثنين أو ثلاثة حسن الحذف لاجل الطول، والحذف في معتد إلى ثلاثة أحسن منه فيما يتعدى إلى اثنين، نحو: جاءني الظانة زيد منطلقاً، والمعطية زيد درهماً، والمعلمه بكر عمراً منطلقاً، وإن شئت قلت: الظان زيد منطلقاً، والمعطي زيد درهماً، والمعلم بكر عمراً منطلقاً". وقال أيضاً بعض أصحابنا: إن لم يكن على حذفه دليل لم يجز حذفه، لم يجز حذفه، لا يجوز أن تقول: جاءني الضارب زيد، لأنه لا يعلم هل هذا الضمير المحذوف مفرد أو غير مفرد، ولا هل هو مذكر أو مؤنث. فإن كان عليه دليل كان حذفه قبيحاً، نحو: جاءني الرجل الضاربه زيد، وهو على قبحه في اسم الفاعل المأخوذ من متعد إلى ثلاثة أحسن منه في المأخوذ من متعد إلى اثنين، وفي المتعدى إلى اثنين أحسن منه في المتعدى إلى واحد. وما علل به القبح من أنه لا يعلم الضمير مفرد أو غير مفرد، ولا مذكر أو مؤنث، يلزمه في: جاءني من ضربت، فعلى تعليله يكون حذفه من هذا قبيحاً، ولم يقل بذلك أحد.

وقال المازني: لا تكاد تسمع حذفه من العرب إلا أنه ربما جاء في الشعر. وقوله والمجرور بحرف وإن لم يكمل الشرط قد ذكرنا ما حذف حرف الجر منه والضمير ضرورة، وذكرنا ما فات المصنف من الشروط في ذلك. -[ص: ولا يحذف المرفوع إلا مبتدأ ليس خبره جملة ولا ظرفاً بلا شرط آخر عند الكوفيين، وعند البصريين بشرط الاستطالة في صلة غير أي غالباً، وبلا شرط في صلتها، وهي حينئذ على موصليتها مبنية على الضم غالباً، خلافاً للخليل ويونس، وإن حذف ما تضاف إليه أعربت مطلقاً، وإن أنثت بالتاء حينئذ لم تمنه الصرف، خلافاً لأبي عمرو.]- ش: الضمير إذا عاد على الموصول وكان مرفوعاً فإما أن يكون مبتدأ أو غير مبتدأ، أو غير مبتدأ، إن كان غير مبتدأ - كأن يكون فاعلاً أو مفعولاً لم يسم فاعله أو خبر مبتدأ أو خبر إن وأخواتها أو غير ذلك - فلا يجوز حذفه، مثاله: جاء اللذان قاما، أو ضربا، أو جاءني الذي الفاضل هو، أو جاءني الذي إن الفاضل هو. وإن كان مبتدأ فإما أن يكون ما بعده جمله أو ظرفاً أو لا. إن كان ما بعده جملة، نحو قوله تعالى {الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ}، أو ظرفاً نحو "جاءني الذي هو في الدار"، فلا يجوز حذف هذا المبتدأ لأنه لو حذف لم يدر أحذف من الكلام شيء أم لا، لأن ما بعده من الجملة والظرف يصلح أن يقع صلة للموصول. وإن لم يكن بعده جملة ولا ظرف جاز حذفه بلا شرط عند الكوفيين،

نحو: جاءني الذي هو فاضل، فيجيزون حذف "هو" في فصيح الكلام. وفصل البصريون بين "أي" وغيرها، فجوزوا ذلك في "أي" سواء أطالت الصلة أم لم تطل، فتقول: يعجبني أيهم هو قائم، ويجوز حذف "هو"، هذا ما لم يكن في الصلة ما يستدعى ثبوته كالعطف عليه، نحو: أضرب أي الرجلين هو والعدم سواء. وإن كان الموصول غير "أي" فلا يجوز ذلك عند البصريين إلا بشرط الاستطالة في الصلة، نحو ما روي عن العرب: "ما أنا بالذي قائل لك شيئاً"، يريد الذي هو قائل لك شيئاً، ومنه قوله تعالى: {وهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إلَهٌ وفِي الأَرْضِ إلَهٌ} وقال الشاعر: فأنت الجواد، وأنت الذي إذا ما النفوس ملأن الصدورا جدير بطعنة يوم اللقاء تضرب منها النساء النحورا التقدير: هو في السماء إله وهو في الأرض إله، وهو جدير. فإن لم تطل الصلة فلا يجوز حذفه إلا في ضرورة، وإن جاء في الكلام شيء منه فشاذ يحفظ، ولا يقاس عليه، نحو قال الشاعر: لم أر مثل الفتيان في غير الـ أيام ينسون ما عواقبها

وقراءة من قرأ {تَمَامًا عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ}، و {مَثَلاً مَّا بَعُوضَةً} برفع (أحسن) و (بعوضة)، أي: على الذي هو أحسن، ومثلاً ما هو بعوضة. وإنما حسن الحذف مع "أي" لافتقارها إلى الصلة وإلى الإضافة، فكانت أطول، فحسن معها تخفيف اللفظ. وقوله ولا ظرفاً كان ينبغي أن يقول: ولا جاراً ومجروراً. وقوله غالباً قال المصنف في الشرح: "إن عدمت الاستطالة ضعف الحذف، ولم يمتنع، كقول الشاعر: من يعن بالحمد لا ينطق بما سفه ولا يجد عن سبيل الحلم والكرم / أراد: لا ينطق بما هو سفه". وهذا من المصنف جنوح لمذهب الكوفيين. وقد نقص المصنف في جواز حذف هذا المبتدأ شروط: أحدها: أن لا يكون معطوفاً على غيره، فإنه إن كان معطوفاً على غيره لم يجز حذفه، نحو: جاءني الذي زيد وهو منطلقان. الثاني: أن لا يكون معطوفاً عليه غيره، نحو: جاءني الذي هو وزيد

فاضلان. وفي هذا خلاف للفراء، أجاز حذفه، فتقول: جاءني الذي وزيد فاضلان، ولم يسمع من كلامهم، ولئلا يؤدي إلى وقوع حرف العطف صدراً. الثالث: أن لا يكون محصوراً، نحو: جاءني الذي ما في الدار إلا هو. الرابع: أن لا يكون في معنى المحصور، نحو: جاءني الذي إنما في الدار هو. الخامس: أن لا يكون بعد حرف نفي، نحو: جاءني الذي ما هو قائم. السادس: أن لا يكون بعد "لولا" نحو: جاءني الذي لولا هو لقمت. ومع حصول هذه الشروط فقال بعض أصحابنا: إن حذفه في غير أي قليل. هذا حكم الضمير المشتمل عليه الصلة إذا كان أحد جزأيها أو معمولاً لها. فإن كان بعض معمول الصلة حذفت المعمول، فينحذف الضمير بحذفه، فتقول: أين الرجل الذي قلت؟ وأين الرجل الذي زعمت؟ تريد: أين الرجل الذي قلت إنه يأتي، أو زعمت أنه يأتي، أو نحو ذلك مما يكون المعنى عليه، قال تعالى: {أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ} أي: تزعمون أنهم شركائي. وقوله وهي حينئذ على موصوليتها مبنية على الضم غالباً، خلافاً للخليل ويونس مثال ذلك: يعجبني أيهم قائم، واضرب أيهم قائم، وأمرر بأيهم قائم. ومعنى "حينئذ" أي: حين إذ حذف المبتدأ الذي هو عائد عليها بالشروط التي تقدمت. والبناء إذ ذاك مذهب س والجمهور.

وقوله غالباً احتراز ممن أعربها إذ ذاك من العرب، وقد قرأ بعضهم (ثم لننزعن من كل شيعة أيهم أشد) بنصب (أيهم). ودل قوله "وهي حينئذ" على أنها إذا لم يحذف الضمير لم تبن، فتقول: أضرب أيهم هو قائم، ولا يجوز البناء. وقد أورد بعض النحويين الخلاف في هذه المسألة، فقال: أيهم إن وصلت بجملة أعربت اتفاقاً، أو بمفرد أعربت اتفاقاً، أو بمفرد بنيت عند س جوازاً، وقد حكي س أن من العرب من لا يبنيها، وذهب الكوفيون وبعض البصريين إلى أنها معربة. حُجة الأول أن أصلها البناء شرطاً أو استفهاماً لتضمنها معنى الحرف. أو موصولة لنقصانها، إلا أنها أعربت حملاً على نظيرها "بعض" ونقيضها "كل" بجامع عدم انفكاكهن عن الإضافة، والإضافة من أحكام الأسماء، فإذا لزمت عارضت موجب البناء، فلم يؤثر، فإذا حذف من صلتها شيء خالفت بقية أخواتها، فازدادت مخالفة، فوجب الرجوع إلى أصلها من البناء، وقوله تعالى {ثُمَّ لَنَنزِعَنَّ مِن كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ}. وحجة الآخر ما قال الجرمي، قال: خرجت من البصرة، فلم أسمع منذ فارقت الخندق إلى مكة أحد يقول "لأضربن أيهم" بالضم، بل بنصبها، ولأن "أيهم" معربة في غير هذا الموضع فتكون معربة هنا. قالوا: والآية محمولة على غير ما ذكرتم.

قال هذا الحاكي لهذا الخلاف. والجواب: يجوز أن يكون ما سمعه الجرمي لغة لبعض العرب، فإن س حكي خلافها الحكايتين، ويحمل الأمر فيهما على لغتين. والأقيس البناء، وأما قياسها عليها في الاستفهام والجزاء فلا يصح لأنها هناك تامة، وهي هنا ناقصة مخالفة لأخواتها من الموصلات. انتهى كلامه. فلو كان صلة "أي" ظرفاً نحو "لأضربن أيهم في الدار" فلا يجوز البناء، كما إذا كانت صلتها جملة مصرحاً بجزأيها، ووجد في بعض تصانيف النحاة ما يدل على البناء مع الظروف. وقوله خلافا للخليل ويونس يعني أنه تبنى خلافاً لهذين، فإنهما لا يريان البناء. وليس مذهبهما واحداً في تخريج ما ورد من ذلك مما ظاهره البناء، بل مذهب الخليل، أنها استفهامية محكية بقول محذوف، فإذا قلت "أضرب أيهم أفضل" فالتقدير عنده: أضرب من يقال فيه أيهم أفضل، وعلى التقدير حمل قوله تعالى: {ثُمَّ لَنَنزِعَنَّ مِن كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ} أي: الجنس الذي يقال فيه أيهم أشد. والخليل مخير بين الأعراب على أن تكون موصولة وبين الحكاية على أن تكون استفهامية. ورد مذهب الخليل بأن الجمل التي لم تستقر أسماً لشيء فإن بابها الشعر بمنزلة القول في "شاب قرناها" و"خامري أم

عامر"، لكن إذا بنيت أسماً لشيء جاز حكايتها نحو "تأبط شراً"، و"أيهم" في الكلام الفصيح، فلا ينبغي أن يحمل على "شاب قرناها". وفي البسيط: "وقال الخليل: هو على الحكاية. قال أبو زيد - يعني السهيلي - على حكاية لفظ الاستفهام، ولا يريد على حكاية القول. وقال الأخفش: من: زائدة، وكل: مفعولة، و (أيهم أشد): جملة مستأنفة. وأما يونس فإنها عنده أيضاً استفهامية، وليست محكية بقول محذوف، ولكنها عنده في موضع المفعول بالفعل الذي قبلها، ولا يؤثر فيها لأنها عنده اسم استفهام، ولكن على سبيل التعليق لأن التعليق عنده لا يختص بأفعال القلوب". وذهب الكوفيون إلى أن "أيهم" علق عنه "شيعة" بما فيه من معنى الفعل، وكأنه قال: لننزعن من كل من يتشيع في أيهم أشد، أي: من كل من نظر في أيهم. وكأنهم رأوا أن (لننزعن) لا يعلق، فعدلوا إلى هذا. وهذا

باطل لأن س نقل عن العرب "لأضربن أيهم أفضل" فهذا لا يمكن فيه تعليق حال. وقال ابن الطراوة: "غلطوا، ولم تبن إلا لقطعها عن الإضافة، وقوله (أيهم) (هم) من (أيهم) مبتدأ،/ و (أشد) خبره، و"أي" مقطوعة من الإضافة". انتهى. وليس قوله بشيء لأنهم يقولون إنها لا تبنى إلا إذا أضيفت، وإن لم تضف فهي معربة، ولا تقول: جاءني أي. وقال س: إنها بعدت عن حال أخواتها، فحذف معها أحد جزأي الجملة الابتدائية، فلما تغيرت كان من فعلهم فيها أن غيروها تغييراً ثانياً إذ قد ثبت أن التغيير يأنس بالتغيير، دليل ذلك "يا الله"، وهذا تعليل شذوذ، فلا يطلب طرده في جميع ما جاءت فيه "أي" مضافة. والحجة لـ "س" - وهو مما يبطل مذهب الخليل ويونس - قول الشاعر: إذا ما أتيت بني مالك فسلم على أيهم أفضل وقوله: أباهل لو أن الرجال تتابعوا على أينا شر قبيلاً وألأم وما جاء نحوه، لأن حروف الجر لا تعلق عن العمل، ولا يضمر قول بينها وبين ما يليها، فتعين البناء.

وقال المصنف في الشرح: "وأعرابها حينئذ مع قلته قوي لأنها في الشرط والاستفهام تعرب قولاً واحداً لمخالفتها غيرها من أسماء الشرط والاستفهام بإضافتها، ووفاقها في المعنى لبعض إن أضيفت إلى معرفة، ولكل إن أضيفت إلى نكرة. والموصولة أيضاً مخالفة لغيرها من الأسماء الموصولة بإضافتها، إلا أنها لا تضاف إلا إلى معرفة، فوافقت في المعنى بعضاً دون كل، فضعف بذلك موجب إعرابها، فجعل لها حالان: حال بناء وحال إعراب، وكان أولى أحوالها بالبناء الحال التي يحذف فيها شطر صلتها مع التصريح بما تضاف إليه لأن حذف شطر صلتها لم يستحسن فيها إلا لتنزيل ما تضاف إليه منزلته، وذلك يستلزم تنزلها حينئذ منزلة غير مضاف لفظاً ولا نية، وإنما أعربت لإضافتها، فإذا صارت في تقدير ما لم يضف ضعف سبب إعرابها، فبنيت غالباً" انتهى. وقوله وإن حذف ما تضاف إليه أعربت مطلقاً يعني سواء أحذف صدر صلتها المبتدأ أم لم يحذف، مثال: ذلك: أضرب أيا هو قائم، وأضرب أيا قائم. ومن مذهب الخليل ويونس وقولهما أنك تقول: أضرب أي أفضل× لأن الخليل يحكي، ويونس يعلق، فسيان عندهما إضافة "أي" وعدم إضافتها. وهذا الإعراب يدل على تمكن "أي" في الإضافة لاستغنائها بمعناها دون لفظها، وإلحاق التنوين بها عوضاً من المحذوف، فشابهت كلاً في حذف ما أضيفت إليه ودخول التنوين عوضاً منه. وما ذكرناه من أنها تعرب إذا لم تضف لفظاً، وحذف صدر صلتها بشرطه، هو مذهب الجمهور. وذهب بعض النحويين إلى جواز البناء قياساً على التي لم يحذف ما تضاف إليه وحذف صدر صلتها.

وقوله وإن/ أنثت بالتاء حينئذ - أي حين حذف ما تضاف إليه - لم تمنع الصرف، خلافاً لأبي عمرو، أما الصرف فظاهر لأنه ليس فيها إلا التأنيث فقط، وأما أبو عمرو فتخيل أن فيها التعريف زيادة للتأنيث، فمنعها الصرف، والتعريف المانع مع التأنيث إنما هو تعريف العلمية. قال المصنف في الشرح: "وكان أبو عمرو يمنعها الصرف حينئذ للتأنيث والتعريف، لأن التعريف بالإضافة المنوية شبيه بالتعريف بالعملية، ولذلك منه من الصرف "جمع" المؤكد به لأن فيه عدلاً وتعريفًا بإضافة منوية، فكان كالعلم المعدول، إلا أن شبه "جمع" بالعلم أشد من شبه "أية" لأن "جمع" لا يستعمل ما يضاف إليه، بخلف أية، فإن استعمال ما تضاف إليه أكثر من عدمه، فلم تشبه العلم" انتهى. وقد سلم المصنف أن امتناع الصرف من "جمع" هو للتأنيث والتعريف بنية الإضافة، ثم فرق بين "أية" وبين "جمع" بلزوم حذف ما أضيفت إليه "جمع" وكثرة استعماله في "أية". وهذا مذهب قد قيل به. وقيل: امتنع "جمع" للعدل وتعريف العلمية. وسيقرر ذلك في باب التوكيد، إن شاء الله. كذا أورد المصنف مسألة "أي" إذا أنثت، وحذف ما تضاف إليه. وقال غيره: لو كانت - يعني الصلة - بمنزلة بعض الاسم حقيقة لم يعد منها ذكر إلى الموصول، وتثنى وتجمع، ولا يكون ذلك في بعض الاسم. فإن قيل: إذا لم تكن الصلة كالجزء، بل هو كالصفة، فإذا سميت امرأة بـ "أية في الدار" فينبغي أن تمنع من الصرف للتأنيث والعلمية، وما بعدها من الصلة كالصفة، فكما لا يصرف قولهم "رأيت أحمر العاقل" - وإن كان

موصوفاً - فكذلك هذا. قيل: قد اختلف النحويون في هذا، فكان أبو عمرو - فيما حكاه أبو عثمان عنه - يقول: رأيت أية في الدار، فلا يصرف. وكان أبو الحسن يصرف. فحجة أبي عمرو ما ذكرناه، وحجة أبي الحسن أن التسمية لما كان بالمجموع صار التنوين بعض الاسم لأنه وقع في الوسع، فلا يحذف كما في امرأة تسمى "خيراً منك". قال أبو علي: وقد يفرق بينهما من جهة أن "خيراً منك" و"لا ضارباً زيداً" لا يشبه الصلة في "أية" لأن الصلة في "أية" توضح في الأصل، فهي في ذلك كالوصف، ألا ترى أنها لا بد لها من عائد كالصفة، وتثنى وتجمع مثل الموصول والموصوف، وليست توافق "خيراً منك". قال أبو علي: والقول قول أبي الحسن، وهو أبين من قول أبي عمرو لأنهم إذا نونوا مع "خيراً منك" الذي هو يفتقر أحدهما إلى الآخر افتقار العامل إلى المعمول، فأحرى أن يثبت مع ما يفتقر إليه افتقار الجزء، لأنه لا تعمل الصلة في الموصول، فدل على شدة الاتصال وقوة التعلق. ص: ويجوز الحضور أو الغيبة/ في ضمير المخبر به أو بموصوف عن حاضر مقدم، ما لم يقصد تشبيهه بالمخبر به، فتتعين الغيبة، ودون التشبيه يجوز الأمران إن وجد ضميران.

ش: الحضور يشمل حضور التكلم وحضور الخطاب، ثم إن المصنف لم يمثل في شرحه إلا بضمير المخاطب، فقال: "الإشارة بهذا الكلام إلى نحو: أنت الذي فعل، وأنت فلان الذي فعل، وأنت رجل فعل، ففي "فعل" الأول ضمير عائد على موصول مخبر به، وفي "فعل" الثاني ضمير عائد على موصول موصوفه مخبر به، وفي "فعل" الثالث ضمير عائد على نكرة مخبر بها، والمخبر عنه في الأمثلة الثلاثة حاضر، مقدم، وقد جيء بمضمر خبره غائباً معتبراً به حال الخبر، ولو جيء به حاضراً معتبراً به حال المخبر عنه جاز، فكنت تقول: "فعلت" في الأمثلة الثلاثة، لأن المخبر عنه والمخبر به شيء واحد في المعنى، وفي حديث محاجه موسى آدم عليهما السلام: "أنت آدم الذي أخرجتك خطيئتك من الجنة؟ فقال آدم: أنت موسى الذي اصطفاك الله برسالته؟ ". وفي رواية: "أنت الذي أعطاه الله علم كل شيء، واصطفاه على الناس برسالته؟ ". ومن اعتبار حال المخبر عنه قول الفرزدق: وأنت الذي تلوي الجنود رؤوسها إليك، وللأيتام أنت طعامها ومثله قول قيس العامري: وأنت التي إن شئت نعمت عيشتي وإن شئت بعد الله أنعمت باليا ومن اعتبار حال الخبر قول الفرزدق:

وأنت الذي أمست نزار تعده لدفع الأعادي والأمور الشدائد انتهى كلامه. ومنه قول الشاعر: وأنت الذي آثاره في عدوه من البؤس والنعمى لهن ندوب وقول الآخر: نحن اللذون صبحوا الصباحا يوم النمير غارة ملحاحاً ولم يمثل بشيء من ضمير المتكلم، ولا فرق بين المخاطب والمتكلم، فتقول في المتكلم: أنا الذي ضرب زيداً، وأنا الرجل الذي ضرب زيداً، وأنا رجل ضرب زيداً، ويجوز في هذه كله "ضربت" رعياً لـ "أنا"، قال: أنا الذي فررت يوم الحرة والشيخ لا يفر إلا مره وقال: وأنا الذي قتلت عمراً بالقنا وتركت تغلب غير ذات سنام وقال

أنا الذي سمتن أمي حيدرة أضرب بالسيف رؤوس الكفرة وقال الآخر: أنا الرجل الضرب الذي تعرفونني خشاشاً كرأس الحية المتوقد وقال الآخر: وأنت التي حببت كل قصيرة إلى، ولم تشعر بذاك القصائر وهذه المسائل التي ذكرها المصنف تحتاج إلى تحرير وتقييد: فمن ذلك أن شرط الموصول المخبر به أو الموصوف به أن يكون "الذي" و"التي" وتثنيتهما وجميعهما فقط، وزاد بعض أصحابنا الأخبار بـ "ذو" و "ذات" الطائيتين أو بالألف واللام. ولا يجوز في غير ذلك إلا العود غائباً، فتقول: أنا من قام، وأنت من ضرب زيداً، ولا يجوز: أنا من قمت، ولا أنت من ضربت زيداً. ووقع لبعض أصحابنا وهم في ذلك، فقال وقد ذكر الموصولات: "ويجوز في جميعها إذا وقعت بعد ضمير متكلم أو مخاطب أن تعيد الضمير عليها كما تعيد على الاسم الظاهر إذا وقعت بعده، أعني ضمير غيبة، وأن تعامله معاملة ضمير المتكلم أو المخاطب لأن الموصول هو المتكلم أو المخاطب في المعنى" ثم مثل هذا القائل بـ "الذي". انتهى كلامه. وهو ظاهر كلام المصنف لأنه لم يشترط في الموصول أن يكون "الذي" وفروعه فقط،

وهو وهم كما ذكرناه. ومن ذلك أن من شرط مراعاة ضمير المتكلم أو المخاطب أن يتأخر الخبر، فلو تقدم لم يجز إلا مراعاة الموصول، فيعود غائباً، مثاله أن تقدم الخبر في: أنا الذي قمت، وأنت الذي قمت، فإذا قدمته وجب أن يكون الضمير غائباً، فتقول: الذي قام أنا، والذي قام أنت، هذا مذهب الفراء، وهو الصحيح، وهو الذي تقتضيه أصول البصريين لأنهم يمنعون الحمل على المعنى قبل تمام الكلام، لأنه يلزم من ذلك الحمل على المعنى قبل حصول المعنى في اللفظ، ألا ترى أن الموصول إنما يكون في المعنى ضمير متكلم أو مخاطب إذا أخبرت عنه بضمير المتكلم أو المخاطب، أو أخبر عن الضمير به، وأما قبل أن يجعل أحدهما خبراً عن الآخر فلا يكون الموصول في معنى الضمير. وأجاز الكسائي أن يعود مطابقاً لضمير المتكلم والمخاطب كحاله لو كان متأخراً، فتقول: الذي قمت أنا، والذي قمت أنت، وتبعه على ذلك الأستاذ أبو ذر مصعب بن أبي بكر الخشني. واحترز المصنف بقوله "عن حاضر/ مقدم" عن أن يتأخر، فإنه لا تجوز مراعاة المعنى، خلافاً للكسائي كما بيناه. ومثال قولك "أنا رجل آمر بالمعروف" قول الشاعر: وأنا لقوم ما نرى القتل سبة إذا ما رأته عامر وسلول ومثال: "أنت رجل تأمر بالمعروف" قوله تعالى: {بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ}، وقول الشاعر:

وأنت امرؤ أفضت إليك أمانتي وقبلك ربتني فضعت ربوب ومثل قولك "أنا رجل يأمر بالمعروف"، و"أنت رجل يأمر بالمعروف" قول الشاعر: وأنا ابن حرب لا يزال يشبها ناراً تسعر طالباً أو أطلب وقول الآخر: .... قد وليت ولاية فكن جرذا فيها يخون ويسرق والنواسخ حكم الموصول والنكرة الواقعين خبراً للناسخ حكمهما إذا وقعاً خبراً، فيجوز أن يكون غائباً وأن يطابق الضمير، نحو قوله: ............................ فكن جرذاً فيها يخون ويسرق يروى بالتاء وبالياء. وقال الشاعر: وكنا أناساً قبل غزو قرمل ورثنا الغنى والمجد أكبر أكبرا وفي الحديث "إنك امرؤ فيك جاهلية".

والمحلى بالألف واللام عند الكوفيين إذا وقع خبراً للحاضر حكمه حكم النكرة في عود الضمير عليه غائباً، وفي عوده مطابقاً للضمير، قال الشاعر: لعمري لأنت البيت أكرم أهله وأقعد في أفيائه بالأصائل وقال آخر: لقد علمت عرسي مليكة أنني أنا الليث معدياً علي وعادياً ولا يجوز ذلك عندهم في مثل "الذي" إلا بالغيبة، لا يجيزون "أنت الذي ترغب فينا" بالتاء على الخطاب، بل لابد من الغيبة في الصلة لأن "الذي" ومثله لا يستقل بنفسه بخلاف الاسم النكرة وذي "أل". وذكر أبو علي أن الحمل على اللفظ أكثر في الصلة والصفة، وقال: إذا قلت "أنت الذي قمت" لم يعد على الصلة ضمير، إنما عاد على "أنت". وكذلك إذا قلت "أنتم كلكم بينكم درهم" لم يعد على "كل" من خبره شيء. وكذلك الموصوف الذي مثلنا. وهي كلها تحتاج إلى ضمائرها، فخلوها من ذلك خروج عن القياس. قال: وهو قول أبي عثمان. وقال أبو عثمان: "لولا أنه مسموع من العرب لرددناه لفساده". فعلى هذا لم يعد على "كل" ضمير إذا خاطبت، لكن صح الكلام للحمل على المعنى، لأنه إذا عاد على "أنتم" - وهو "كل" في المعنى - فكأنه عاد على "كل". هذا ذكره أبو علي في

الإغفال/، وحكاه عن أبي عثمان، ورضيه. قال بعض أصحابنا: "والأولى أن يقال: عاد الضمير على لفظ الغيبة بلفظ الخطاب حملاً على المعنى، وهو الذي تلقيته عن الشيوخ" انتهى. وفي البسيط: "ومن شأن الصلة أن تعامل معاملة الغائب وإن كان خبراً عن مخاطب، فتقول: أنت الذي يفعل كذا، وأنتم الذين يفعلون كذا، ولا يكون الخطاب إلا في الشعر كقوله: وأنا الذي قتلت بكراً بالقنا وتركت مرة غير ذات سنام والوجه: وأنا الذي قتل. وقال آخر: يا مر يا بن رافع يا أنتا أنت الذي طلقت عام جعتا وزعم بعض الكوفيين أن "الذي" يصلح أن تكون ملغاة، فتعامل الأول، فتقول: أنت الذي تقوم، وأنت الذي قمت. ومنعه بعضهم في "من" فلا تقول: أنت من تقوم، لأن "من" لم تلغ بخلاف (الذي) " انتهى. وقوله ما لم يقصد تشبيهه بالمخبر به، فتتعين الغيبة مثاله: أنا في الفتك الذي قتل عروة الرحال، وأنت في الشجاعة الذي قتل مرحباً، والذي قتل عروة الرحال هو البراض، والذي قتل مرحباً اليهودي هو علي بن أبي طالب، فإنما أردت تشبيه نفسك بقاتل عروة، لا أنك هو، وكذلك أراد تشبيه المخاطب بعلي، لا أنه هو. فمثل هذا يتعين أن يعود الضمير غائباً، وذلك أنه على حذف "مثل"، فليس الموصول ضمير المتكلم والمخاطب من حيث

المعنى، وأنت لو صرحت بـ "مثل" لزم العود غائباً"، فكذلك إذا أردت معناها. وقوله ودون التشبيه يجوز الأمران إن وجد ضميران مثاله: أنا الذي قام وضربت خالداً، وأنا الذي قمت وضرب خالداً، وأنت الذي قام وضربت خالداً، وأنت الذي قمت وضرب خالداً، وقال بعض الأنصار: نحن الذين بايعوا محمداً على الجهاد ما بقينا أبداً وقال امرؤ القيس: وأنا الذي عرفت معد فضله ونشدت عن حجر بن أم قطام وقال الآخر: أأنت الهلالي الذي كنت مرة سمعنا به والأرحبي المعلق إلا أنه إذا اجتمع الحملان فالأحسن أن يبدأ بالحمل على لفظ "الذي" قبل الحمل على المعنى. وقد أطلق المصنف في هذه المسألة، وفيها تفصيل، وذلك أنه إما أن تفصل بين الحملين أو لا تفصل، فإن فصلت جاز ذلك باتفاق، وإن لم

تفصل بين الحملين فلا يجوز الجمع بين الحملين عند الكوفيين، فلا يجوز عندهم: أنا الذي قمت وخرج./ وأجاز البصريون ذلك، ولا يجعلون للفصل تأثيراً والسماع إنما جاء فيما فيه فصل بين الحملين كالأبيات التي استشهدنا بها على مجيء الحملين. -[ص: ويغني عن الجملة الموصول بها ظرف أو جار ومجرور منوي معه "استقر" أو شبهة، وفاعل هو العائد أو ملابس له، ولا يفعل ذلك بذي حدث خاص ما لم يعمل مثله في الموصول أو موصوف به. وقد يغني عن عائد الجملة ظاهر.]- ش: مثاله: عرفت الذي عندك، أو في الدار، تقديره: استقر عندك، أو استقر في الدار. قال المصنف: "وتقدير الفعل هنا مجمع عليه". وهذا كما ذكر، لا نعلم خلافاً في تقدير العامل جملة. وقوله أو شبهه مثل "كان"، فإذا قلت "الذي عندك زيد" فتقديره: الذي استقر أو الذي كان عندك زيد، كما أنك إذا قلت "زيد في الدار" قدرته: مستقر في الدار أو كائن في الدار. وقوله وفاعل هو العائد يعني العائد على الموصول، ففي "استقر" ضمير يعود على الموصول. وقوله أو ملابس له مثاله: الذي في الدار أخوه زيد، فـ "أخوه" ملابس للضمير العائد على الموصول، وهو مرفوع بـ "استقر" المنوية". وقوله ما لم يعمل مثله في الموصول أو موصوف به مثاله: نزلنا الذي البارحة، أي: الذي نزلناه البارحة. ومثال الموصوف به ما حكي الكسائي: نزلنا المنزل الذي البارحة، يريد: نزلنا البارحة، وذلك أن الحدث الخاص لا

يجوز حذفه وإبقاء الظرف أو المجرور مغنياً عنه، فلو قلنا: زيد الذي ضحك عندك، أو: نام في الدار، لم يجز حذف "ضحك" ولا "نام" لأنها أحداث خاصة. فإذا كان كوناً مطلقاً جاز ذلك. وكذلك في خبر المبتدأ، لو قلت: زيد نائم عندك، أو: ضاحك في الدار، لم يجز حذف "نائم" ولا "ضاحك". وهذا الذي ذكره المصنف من أنه إذا كان العامل في الظروف أو المجرور حدثاً خاصاً هو عامل في الموصول أو في الموصوف بالموصول جاز أن يحذف، فيه إخلال بقيد، وقياس فاسد في موضعين: أما الإخلال بالقيد فإنه كان ينبغي أن يقيد الظرف بكونه قريباً من زمان الإخبار، فإنه إن كان غير قريب لم يجز حذف الصلة، قال الكسائي: "ولا يحذفون الصلة إلا مع ما قرب من الظروف، نحو: نزلنا المنزل الذي أمس، ونزلنا المنزل الذي البارحة، ونزل المنزل الذي آنفاً، ولا يقولون: نزلنا المنزل الذي يوم الخميس، ولا المنزل الذي يوم الجمعة" انتهى كلامه. فالكسائي حكي ذلك مقيداً فيه الظرف بأن يكون قريباً. وأما القياس الفاسد في موضعين: فالأول: هو أن المصنف قاس المجرور على الظروف، والظرف يتصور فيه أن يكون/ قريباً وبعيداً، وأما المجرور فلا يتصور فيه ذلك. والثاني: أن محل السماع إنما هو حذف الصلة في الموصول الموصوف به غيره، نحو: نزلنا المنزل الذي البارحة، لا في الموصول الداخل عليه عامل مثل الصلة المحذوفة. وهذا الذي حكاه الكسائي هو خارج عن القياس، فلا ينبغي أن يقاس عليه، وإنما يقال منه ما قالته العرب. وقوله وقد يغني عن الجملة ظاهر مثاله ما حكي الكسائي: "أبو سعيد

الذي رويت عن الخدري"، "والحجاج الذي رأيت ابن يوسف" يريد: رويت عنه، والحجاج الذي رأيته. وقال الشاعر: إن جمل التي شغفت بجمل ففؤادي - وإن نأت - غير سال وقال الآخر: فيا رب ليلى أنت في كل موطن وأنت الذي في رحمة الله أطمع وقال الآخر: سعاد التي أضناك حب سعادا وإعراضها عنك استمر وزادا يريد: بها، وفي رحمته، وحبها. وهذا في الصلة نادر. وأما الاستغناء بالظاهر عن المضمر في خبر المبتدأ فمنه مقيس، ومنه مختلف فيه، وسيأتي ذلك عند ذكر الروابط، إن شاء الله تعالى.

-[ص: فصل و"من" و"ما" في اللفظ مفردان مذكران، فإن عني بهما غير ذلك فمراعاة اللفظ فيما اتصل بهما أو أشبههما أولى، ما لم يعضد المعنى سابق فيختار مراعاته، أو يلزم بمراعاة اللفظ لبس أو قبح، فتجب مراعاة المعنى مطلقاً، خلافاً لابن السراج في نحو "من هي محسنة أمك"، فإن حذف "هي" سهل التذكير.]- ش: تخصيصه هذا الحكم من الموصلات بـ "من" و"ما" ليس بجيد لأن غيرهما من الموصلات مما يستعمل مفرداً مذكراً يشركهما فيه، فالأحسن أن يقال: وما كان من الموصلات مفرداً مذكراً في اللفظ، وكان معناه مخالفاً للفظه، وذلك هو "من" و"ما" و"ذا" بعد "من" و"ما" في الاستفهام، و"أي" في الأفصح، و "ذو" و"ذات" في الأفصح، و"أل". وقوله فإن عني بهما غير ذلك أي: غير الإفراد والتذكير من تثنية أو جمع أو تأنيث. وقوله فمراعاة اللفظ فيما اتصل بهما أو بما أشبههما أولى الذي يتصل بهما هو صلتهما إن كانا موصولين، أو فعل شرط إن كانا شرطين، أو استفهام إن كانا للاستفهام. وفسر المصنف الذي أشبههما بـ "كم" و"كأين"، ولولا اقتصاره على أن الذي أشبههما هو "كم" و"كأين" لا ندرج

في دلالة اللفظ ما أشبههما من الموصولات التي هي بلفظ واحد مذكر، ويراد به التأنيث والتثنية والجمع، / و"كم" و"كأين" فكان يكون الحكم شاملاً لما استدركناه عليه قبل. ومثال ما روعي فيه اللفظ قوله تعالى: {أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ كَمَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِّنَ اللَّهِ} {لِكَيْلا تَاسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ ولا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ} وهو أكثر كلام العرب، {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَذَّبَ بِآيَاتِ اللَّهِ وصَدَفَ عَنْهَا}، {ومَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا}. ومثال ما روعي فيه المعنى قوله تعالى {ومِنْهُم مَّن يَسْتَمِعُونَ إلَيْكَ}، {ومِنَ الشَّيَاطِينِ مَن يَغُوصُونَ لَهُ}، وقال امرؤ القيس: ............................ لما نسجتها من جنوب وشمال أي: للتي نسجتها. وقال الآخر: تعش، فإن عاهدتني لا تخونني نكن مثل من يا ذئب يصطحبان أي: مثل الذين يصطبحان. وقال الشاعر: ألما بسلمى عنكما إن عرضتما وقولا لها: عوجي على من تخلفوا

وقوله ما لم يعضد المعنى سابق فيختار مراعاته مثاله قول الله تعالى {ومَن يَقْنُتْ مِنكُنَّ لِلَّهِ ورَسُولِهِ وتَعْمَلْ صَالِحًا}، وقول الشاعر: فمنهن من تسقى بعذب مبرد نقاخ، فتلكم عند ذلك قرت ومنهن من تسقى بأخضر آجن أجاج، ولولا خشية الله فرت وقول الآخر: وإن من النسوان من هي روضة تهيج الرياض قبلها وتصوح فسبق (منكن) مقو لقوله (وتعمل) بالتاء حملاً على المعنى، وإن كان قد سبقه (ومن يقنت) بالياء، كما أن "منهن" مقو لمراعاة المعنى في قوله "تسقى"، و"من النسوان" مقو لمراعاة المعنى في قوله "من هي روضة". وقوله أو يلزم بمراعاة اللفظ لبس مقاله "أعط من سألتك لا من سألك"، و"أعرض عمن مررت بها لا عمن مررت به"، فهذا ونحوه تجب فيه مراعاة المعنى مخافة اللبس. وقوله أو قبح مثاله "من هي حمراء أمتك"، تتعين فيه مراعاة المعنى، إذ لو روعي اللفظ، فقيل "من هو أحمر أمتك" لكان في غاية القبح. قال المصنف في الشرح: "ووافق ابن السراج على منع التذكير في هذا

وأمثاله، وأجاز في نحو "من هي محسنة أمك" أن يقال: من هي محسن أمك، ومن محسن أمك. أما "من محسن أمك" فغريب، وأما "من هي محسن أمك" ففيه من القبح قريب مما في "من هي أحمر أمتك"، فوجب اجتنابهما. وحمل ابن السراج على جواز "من هي محسن أمك" شبه "محسن" بـ "مرضع" ونحوه من الصفات الجارية على الإناث بلفظ خال من علامة بخلاف "أحمر"، فإن/ إجراء مثله على مؤنث لم يقع، فلذلك اتفق على منع: من هي أحمر أمتك" انتهى كلامه. ولأصحابنا طريقة غير هذه الطريقة التي سلكها المصنف في الحمل على اللفظ أو على المعنى، قالوا: تقول إن حملت على اللفظ: من قام هند، ومن قام أخواك، ومن قام إخوتك. وإن حملت على المعنى قلت: من قامت هند، ومن قاما أخواك، ومن قاموا أخوتك. ويجوز الجمع بين الحملين، وإذا فعلت ذلك فالأحسن أن تبدأ بالحمل على اللفظ، نحو قوله تعالى {ويَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقًا مِّنَ السَّمَوَاتِ والأَرْضِ شَيْئًا ولا يَسْتَطِيعُونَ}، {ومَن يَقْنُتْ مِنكُنَّ لِلَّهِ ورَسُولِهِ وتَعْمَلْ صَالِحًا} في قراءة من قرأ (يقنت) بالياء. ويجوز أن تبدأ بالحمل على المعنى، ثم تحمل على اللفظ باتفاق من النحويين إن وقع بين الحملين فصل، فتقول: من يقومون في غير شيء وينظر في أمورنا قومك، فإن لم تفصل، وقلت: من يقومون وينظر في أمورنا

قومك، لم يجز عند الكوفيين، ويجوز ذلك عند البصريين؛ لأنه لا يجعلون للفصل تأثيرًا. والسماع في الحمل على اللفظ بعد الحمل على المعنى إنما هو مع الفصل، هذا نقل السيرافي أن البصريين لا يشترطون الفصل، يجيزون: من قام وقعدا، ومن قام وقعدت، والعكس، فتبدأ بالحمل على المعنى، ولا ترجع إلى اللفظ بعد الحمل على المعنى إلا بشرط الفصل. وزعم الأستاذ أبو علي أن مذهب البصريين هذا يعني اعتبار ذلك بالفصل، والأول مذهب الكوفيين. وإذا كان الضميرُ المحمولُ على اللفظ مخبرًا عنه بعده، وأخبرت عنه بفعل، لم يجز الحمل إلا على اللفظ أو على المعنى، فتقول: من كان يقوم أخواك، ومن كانا يقومان أخواك، ولا يجوز: من كان يقومان أخواك. وإن أخبرت عنه باسم وكان مشتقًا باطراد جاز الحمل على اللفظ والحمل على المعنى على الإطلاق، فتقول: من كان محسنًا أخواك، ومن كانا محسنين أخواك، ومن كان محسنين أخواك، ومن كان محسنًا أختك، ومن كان محسنة أختك، ومن كانت محسنة أختك. وإلى جواز الجمع بين الحملين ذهب الكوفيون وكثير من البصريين، وهو الصحيح. وذهب ابن السراج إلى منع الجمع بين الحملين. والحجة عليه قوله تعالى {وقَالُوا لَن يَدْخُلَ الجَنَّةَ إلاَّ مَن كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى}، وقال الشاعر:

.............................. وأيقظ من كان منكم نياما هذا إذا كان من الصفات المفصول بين مذكرها ومؤنثها بالتاء. فإن كان من غيرها فإما أن تكون صفة المذكر والمؤنث من لفظ واحد أو لا، إن كانت من لفظ واحد، وأدى الحمل إلى جعل صفة المذكر للمؤنث أو للعكس، لم يجزه الكسائي، وأجازه/ الفراء، فتقول "من كانت حمراء جاريتك" على المعنى، و"من كان حمراء جاريتك"، الاسم على اللفظ، والخبر على المعنى، ولا يجيز الكسائي "من كانت من النساء أحمر جاريتك"، ولا "من كان أحمر جاريتك"، والفراء يجيزه لاتفاق الصفتين في الحروف الأصول كاتفاق قائم وقائمة في ذلك. وصحح مذهب الفراء بعض أصحابنا. وإن لم تكن مشتقة من لفظ واحد، وأدى الحمل إلى جعل صفة المذكر للمؤنث أو العكس، لم يجز ذلك عند الكسائي ولا عند الفراء ولا عند أحد من البصريين فيما علمت، قاله بعض أصحابنا. وقال بعضهم: "إن كانا لا يرجعان لاشتقاق واحد فالفراء والكسائي منعا الحمل على لفظ التذكير، فيقولان: من كان عجوزًا جاريتك، ولا يجيزان: من كان شيخًا جاريتك، إلا في لغة من يقول شيخ وشيخة، قال: وتضحك مني شيخة عبشمية كأن لم ترى قبلي أسيرًا يمانيا

ولا يجيزان: من كان غلامًا جاريتك، إلا في لغة من يقول غلام وغلامة، قال الشاعر: ومركضة صريحي أبوها تهان لها الغلامة والغلام والأحسن عند الفراء: من كان عجوزًا جاريتك، ومن كان أمة جاريتك، ولا يستحسن: من كان شيخًا جاريتك، ولا: من كان غلامًا جاريتك؛ لأن غلامة وشيخة قليل في كلامهم. وأصول البصريين تقتضي جواز ذلك كله لأنهم أطلقوا القول، ولم يفصلوا. فإن لم يكن الضمير المحمول على اللفظ مخبرًا عنه بما بعده، وأردت حمل ما بعده عليه، حملته على لفظه، ولم يجز الحمل على معناه عند الكوفيين، فتقول: من ضربته أجمعون قومك، فتحمل على "من"، ولا يجوز النصب تأكيدًا للضمير على معناه لنه لا يحمل عندهم على المعنى إلا حيث لا يمكن إظهار المعنى في اللفظ، وأنشد الكسائي: إذا ما حاتم وجد ابن عمي مجدنا من تكلم أجمعينا فرد على من، ولا يجوز أن يرد على الضمير الذي في "تكلم" فيرفع؛ لأنه يمكن جمعه.

وأصول البصريين تقتضي جواز ذلك لأنهم لم يفصلوا، وهو الصحيح بدليل قوله تعالى {يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ}؛ ألا ترى أن (خالدين) حال من الضمير المحمول على معناه، والعامل في الحال الفعل العامل في الضمير، ولا يجوز أن يكون حالًا من "من" لأن العامل في الحال لا يكون إلا العامل في ذي الحال، نحو: جاء زيد ضاحكًا، أو ذا الحال نفسه إن كان فيه معنى فعل، نحو قولك: هذا ضاحكًا زيد. ولا يجوز أن يكون العامل في الحال (من) لأنها ليس فيها معنى فعل، ولا العامل في (من)؛ لأن العامل فيها إنما هو معنى، والمعنى المجرد دون اللفظ لا يعمل في الحال، وإنما عمله الرفع خاصة" انتهى/ ما قاله بعض أصحابنا. ومما وقع فيه الحمل على اللفظ خاصة، ولا يجوز الحمل على المعنى، قولك في التعجب: ما أحسن زيدًا! وإن كان الذي أوجب التعجب صفة مؤنثة أو صفات متعددة. ومما وقع فيه الحمل على المعنى، ولا يجوز الحمل على اللفظ، قولهم "ما جاءت حاجتك" كأنه قال: أية حاجة صارت حاجتك. فرع: إذا جاء العائد على لفظ الموصول دون معناه، ثم أكدته بلفظة مضافة، فحملت أولها على معنى الموصول وآخرها على لفظه، لم يجز ذلك عند الفراء، وأجازها الكسائي وهشام، ومثاله: جاءني من خرج أنفسه، جعلت العائد أولًا في "خرج" مفردًا على لفظ الموصول، ثم أكدت بـ"أنفس" جمعًا على معنى الموصول، ثم أفردت الضمير المضاف إليه

"أنفس" على لفظ الموصول. -[ص: ويعتبر المعنى بعد اعتبار اللفظ كثيرًا، وقد يعتبر اللفظ بعد ذلك.]- ش: مثال ذلك {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ}، {ومِنْهُم مَّن يَقُولُ ائْذَن لِّي ولا تَفْتِنِّي أَلا فِي الفِتْنَةِ سَقَطُوا}، {ومِنْهُم مَّنْ عَاهَدَ اللَّهَ} ثم قال {فَلَمَّا آتَاهُم مِّن فَضْلِهِ}. ومثال اعتبار اللفظ بعد اعتبار المعنى بعد اعتبار اللفظ قوله تعالى {ومَن يُؤْمِنْ بِاللَّهِ ويَعْمَلْ صَالِحًا يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقًا}، فأفرد الضمير في (يؤمن) و (يعمل) و (ندخله)، ثم جمعه في (خالدين)، ثم أفرده في (له رزقا). وقوله تعالى {مِنَ النَّاسِ مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ ويَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ وإذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا ولَّى مُسْتَكْبِرًا} إلى آخر الآية، أفرد الضمير في (يشتري) و (ليضل) و (يتخذها)، ثم جمع (أولئك) و (لهم)، ثم أفرد في (وإذا تتلى عليه) إلى آخر الآية. وقال تعالى في "من" الشرطية -وحكمها حكم الموصولة- {ومَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ (36) وإنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ ويَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ (37) حَتَّى إذَا جَاءَنَا} في قراءة من أفرد الضمير في (جاءنا) أفرد في

(يعش) وفي (نقيض له) وفي (فهو له)، ثم جمع في (ليصدونهم) و (يحسبون أنهم مهتدون)، ثم أفرد في (جاءنا). وأما من قرأ (جاءانا) على التثنية فهو ضمير العاشي والقرين، وكانا قد أفردا، قم جمعا، ثم ثنيا، وكل من الضميرين مفرد، فلم يخرج أيضًا عن إفراد الضمير العاشي. وقال الشاعر: لست ممن يكع أو يستكينو ن إذا كافحته خيل الأعادي أفرد الضمير في "يكع"، ثم جمع في "يستكينون"، ثم أفرد في "كافحته". وبهذا البيت والآيات السابقة يتبين خطأ صاحب البسيط في ادعائه اتفاق النحويين على أن العرب قد ترجع من الواحد إلى الجمع، ومن المذكر إلى المؤنث من لفظه إلى معناه، ولا ترجع من معناه/ إلى لفظه، قال: "بإجماع من النحويين". قال: "واستخرج ابن مجاهد عكس هذا من آية سورة الطلاق". ص: وتقع من وما شرطيين، واستفهاميتين، ونكرتين موصوفتين. ويوصف بـ"ما" على رأي، ولا تزاد "من" خلافًا للكسائي، ولا تقع على غير من يعقل إلا منزلًا منزلته، أو مجامعًا له شمول أو اقتران، خلافًا لقطرب. و"ما" في الغالب لما لا يعقل وحده، وله مع من يعقل، ولصفات من يعقل، وللمبهم أمره، وأفردت نكرة، وقد تساويها "من" عند أبي علي. وقد تقع "الذي" مصدرية، وموصوفة بمعرفة أو شبهها في امتناع لحاق "أل".

ش: مثال "من" و"ما" شرطًا {مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ}، {مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا}. ومثالهما استفهامًا {مَّنْ إلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ}؟ {ومَا رَبُّ العَالَمِينَ}؟ ومثال "من" نكرة موصوفة قولك: مررت بمن معجب لك، أي: بإنسان معجب لك، وقال الشاعر: ألا رب من تغتشه لك ناصح ومؤتمن بالغيب غير أمين فوصفك لـ"من" بمعجب وناصح، وهما نكرتان، دليل على أن "من" نكرة. وشرط بعض أصحابنا فيها أنها لا تستعمل موصوفة إلا في حال تنكير. وليس كما ذكر؛ ألا ترى أنها توصف وهي معرفة، وذلك إذا كانت موصولة، نحو: قام من في الدار العاقل. ووقوع "من" نكرة موصوفة سائغ فيها سواء كانت في موضع تسوغ فيه النكرة والمعرفة أم في موضع لا تسوغ فيه إلا النكرة. وزعم الكسائي أن العرب لا تستعملها نكرة موصوفة إلا بشرط وقوعها في موضع لا تقع فيه إلا النكرة، نحو قولك: رب من عالم أكرمت، ورب من أتاني أحسنت إليه، أي: رب إنسان آتٍ إلى أحسنت إليه، لأن "رب" لا تدخل إلا على نكرة. ومن ذلك قولُ

الشاعر: رب من أنضجت غيظًا قلبه قد تمنى لي موتًا، لم يطع وأنشد المفضل: ألا يا اسلمي قبل الفراق ظعينا تحية من أمسي إليك حزينا تحية من لا قاطع حبل واصل ولا صارم قبل الفراق قرينا بخفض "قاطع" فأنكر ذلك الكسائي، وقال: إنما هو "لا قاطع" بالرفع، و"من" موصولة، كأنه قال: تحية من لا هو قاطع. قيل له: فكيف تصنع ببيت الفرزدق: إني وإياك إذ حلت بأرحلنا كمن بواديه بعد المحل ممطور فقال: "من" موصولة، وصلتها "بواديه"، و"ممطور" مكرر على "من"، يعني بدلًا منه، كأنه قال: كممطور بعد المحل. وهذا الذي ذهب إليه الكسائي باطل؛ لأن رواية المفضل لا تندفع/ بروايته، وجعله ممطورًا بدلًا من "من" ضعيف لأنه مشتق، والبدل بابه أن يكون بالجوامد لأنه في نية تكرار العامل، والصفات التي هي غير مختصة بجنس الموصوف لا تباشرها العوامل إلا في ضرورة شهر، و"ممطور" من الصفات غير المختصة بجنس الموصوف، فحمله على البدل ضعيف، بل هو

غير جائز إلا في ضرورة، ولا داعية إلى ذلك لأن ما ذهب إليه غير صحيح بدليل رواية المفضل، وبدليل قول الشاعر: فكفى بنا فضًا على من غيرنا حب النبي محمد إيانا فإنه روي بخفض "غير" نعتًا لـ"من". وللكسائي أن يقول: "من" في رواية المفضل وفي هذا البيت زائدة، التقدير: تحية لا قاطع، وعلى غيرنا؛ إذ من مذهبه جواز زيادة "من". ومثال "ما" نكرة موصوفة قولك "مررت بما معجب لك"، ومن ذلك قول أمية: ربما تكره النفوس من الأمـ ـر له فرجة كحل العقال "ما" بمنزلة "شيء"، و"تكره النفوس": صفة له، والعائد محذوف، كأنه قال: رب شيء تكرهه النفوس من الأمر له فرجة. لا تكون "ما" هذه هي المهيئة؛ لأن تلك حرف، فلا يعود عليها ضمير. ومن ذلك أيضًا قول الشاعر:

سالكاتٌ سبيل قفرة بدي ربما ظاعن بها ومقيم فـ"ما" بمنزلة "إنسان"، ووقعت على من يعقل لأن الموضع موضع عموم، وظاعن: خبر ابتداء مضمر، ومقيم: معطوف عليه، والجملة في موضع صفة، كأنه قال: رب إنسان هو ظاعن بقلبه إلى أحبته الذين ظعنوا عن هذه البلدة مقيم بجسده فيها. ولا تكون "ما" كافة لأمرين: أحدهما أن "رب" التي تلحقها "ما" الزائدة لا تدخل على الجمل الاسمية. والآخر عود الضمير عليها، ولو كانت "ما" حرفًا لم يعد عليها ضمير. ومن ذلك قول أبي داود: ربما الجامل المؤبل فيهم وعناجيج بينهم المهار فـ"ما" بمعنى شيء، كأنه قال: رب شيء هو الجامل، والجملة في موضع صفة. والدليل على أن "ما" اسم عودة الضمير عليها أيضًا. وقد يمكن أن يكون من ذلك قوله تعالى {هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ}، فتكون "ما" نكرة بمنزلة "شيء"، وعتيد: صفة له، كأنه قال: هذا شيء لدي عتيد. وفي البسيط: أنكر بعض النحويين أن تكونا موصوفتين، واستدل بأنهما لا تستقلان بأنفسهما، وما هو كذلك فلا يكون اسمًا تامًا. وهذا مردود، فإن من الصفات ما يلزم الموصوف، نحو "الجماء الغفير" و"يا أيها الرجل"، و"من" و"ما" من هذا القبيل. ولا تستقل بوصفها إلا إذا كانت

مفعولة، نحو: مررت بمن صالح، وإذا كانت خبرًا عن مبهم نحو: هذا من أعرف، فلا تكتفي بكونها مع وصفها خبرًا، بل تأتي بشيء آخر يكون حالًا أو خبرًا، نحو: هذا من أعرف منطلق./ وإنما كان كذلك لأن الإخبار بالنكرات لا يفيد حتى تعتمد على معرفة، بخلاف الفعل، لأنه فيه تخصيصًا بسبب الزمان، فكما اشترط في المبتدأ أن يكون كذلك ليقع للتخصيص، كذلك يشترط في الخبر أن يكون فيه أيضًا إيضاح وبيان لتحصل الفائدة، وأنت إذا اعتمدت على مبهم، ثم أخبرت عنه بمبهم، فلم تحافظ على الفائدة، فصار بمنزلة "رجل قائم"، فلذلك احتجت إلى تخصيص إما بحال أو خبر. وقوله ويوصف بـ"ما" على رأي، قال المصنف في الشرح: "واختلف ما "ما" من قولهم "لأمر ما جدع قصير أنفه"، فالمشهور أنها حرف زائد منبه على وصف مراد لائق بالمحل. وقال قوم: هي اسم موصوف به. والأول أولى لأن زيادة "ما" عوضًا من محذوف ثابت في كلامهم، من ذلك قولهم "أما أنت منطلقًا انطلقت"، فزادوا ما عوضًا من "كان". ومن ذلك قولهم: حيثما تكن أكن، فزادوا ما عوضًا من الإضافة. وليس في كلامهم نكرة موصوف بها جامدة كجمود "ما" إلا وهي مردفة بمكمل، كقولهم: مررت برجل أي رجل، وأطعمنا شاة كل شاة، وهذا رجل ما شئت من رجل. فالحكم على "ما" المذكورة بالاسمية واقتضاء الوصفية حكم بما لا نظير له، فوجب اجتنابُه" انتهى.

ولم يذكر أصحابنا خلافًا في أن "ما" تكون صفة. قال الأستاذ أبو محمد بن السيد: "ومنها "ما" التي تجري مجرى الصفة، وهي تنقسم ثلاثة أقسام: قسم يراد به التعظيم للشيء والتهويل به، كنحو ما أنشد سيبويه: عزمت على إقامة ذي صباح لأمر ما يسود من يسود أي: السيد إنما يسود لأمر عظيم يوجب له ذلك. ومنه قول امرئ القيس: ................................ وحديث ما على قصرة أي: حديث طويل وإن كان قصيرًا. وقسم يراد به التحقير كقولك لمن سمعته يفخر بما أعطاه: وهل أعطيت إلا عطية ما. وقسم لا يراد به تحقير ولا تعظيم، ولكن يراد به التنويع، كقولك: ضربت ضربًا ما، أي: نوعًا من الضرب، وفعل فعلًا ما، أي: نوعًا من الفعل. ومن هذا قول العرب: افعله آثرًا

ما"، كأنه قال: نوعًا من الإيثار، و"آثرًا" مصدر جاء على فاعل". وقال الأستاذ أبو الحسن بن عصفور: "مثال كونها صفة كقولك: فعلت هذا لأمر ما، إذا قصدت التعظيم، أي: لأمر عظيم، فـ"ما" لإبهامها ضمنت معنى "عظيم"؛ لأن العرب تستعمل الإبهام في موضع التعظيم، كقوله تعالى {فَغَشِيَهُم مِّنَ اليَمِّ مَا غَشِيَهُمْ}، وكقوله سبحانه {الْحَاقَّةُ (1) مَا الحَاقَّةُ}، ومن كلامهم "لأمر ما جدع قصير أنفه". ومن ذلك أيضًا قوله: ................................... لأمر ما يسود من يسود أي: لأمر عظيم. ولا يمكن أن تكون "ما" زائدة لأمرين: أحدهما أن زيادة "ما" قبل الجملة أو آخرًا تقل، بل لا يحفظ من ذلك إلا قولهم: "افعله آثرًا ما"، أي: آثرًا له على غيره، فزادها آخرًا. وقوله: وقد ما هاجني، فازددت شوقًا بكاء حمامتين تجاوبان وفي إحدى الروايتين، أي: وقد هاجني، ولم يجئ ذلك إلا في الشعر. ومثل: لأمر ما جدع قصير أنفه" كثير في كلامهم. والآخر أنها تعطي التعظيم، ولا تستعمل نعتًا إلا إذا قصدته، ولو كانت

"ما" زائدة لم يكن في الكلام ما يعطي التعظيم". وقوله ولا تزاد من، خلافًا للكسائي. مذهب البصريين والفراء أنه لا تزاد "من" لأنها اسم، والأسماء لا تزاد، وأجاز ذلك الكسائي، واستشهد على ذلك بقول عنترة: يا شاة من قنص لمن حلت له حرمت على، وليتها لم تحرم وبقول الآخر: آل الزبير سنام المجد قد علمت ذاك القبائل والأثرون من عددا التقدير عنده: يا شاة قنص، والأثرون عددا. وتأولوا هذا السماع على جعل "من" نكرة موصوفة، التقدير: يا شاة إنسان قنص، أي: مقتنص، أو ذي قنص، وكذلك والأثرون من يعد، وصف "من" بـ"عدد" كما وصفها بـ"قنص". وقوله إلا منزلًا منزلته أي: منزلة العاقل، كقوله تعالى {ومَنْ أَضَلُّ مِمَّن يَدْعُو مِن دُونِ اللَّهِ مَن لاَّ يَسْتَجِيبُ لَهُ}، فعبر بـ"من" عن الأصنام لتنزلها منزلة

من يعقل. ومنه قوله: بكيت إلى سرب القطا إذ مررن بي فقلت ومثلي بالبكاء جدير أسرب القطا هل من يعير جناحه لعلي إلى من قد هويت أطير وقال امرؤ القيس: ألا عم صباحًا أيها الطلل البالي وهل يعمن من كان في العصر الخالي وقوله: وهل يعمن من كان أحدث عهده ثلاثين شهرًا في ثلاثة أحوال أوقع "من" على الطلل -وإن كان من قبيل ما لا يعقل- لما ناداه وحياه، فعالمه لذلك معاملة من يعقل. وكذلك لما بكى إلى سرب القطا، وناداها، وطلب منها إعارة جناح، أطلق "من" على ما لا يعقل إذ عاملها بذلك معاملة من يعقل. وقوله أو مجامعًا له شمول مثاله قوله تعالى {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَن فِي السَّمَوَاتِ والأَرْضِ}، وقوله {ومِنْهُم مَّن يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ}؛ ألا ترى أن الماشي على رجلين منه عاقل كالإنسان وغير عاقل كالطائر، لكن أوقع على الجميع "من" لاختلاطهما، ولذلك لما قال

جرير: /يا حبذا جبل الريان من جبل وحبذا ساكن الريان من كانا قال له الفرزدق: وإن كانوا قرودًا؟ فسوغ أن تقع "من" على ما لا يعقل لأجل الاختلاط، فأجابه جرير بأن قال: إنما قلت "من"، ولم أقل "ما". ووجه انفصال جرير أن "من" وإن وقعت على ما لا يعقل في حال اختلاطه بمن يعقل، فإنها فيمن يعقل أظهر. وقال تعالى {أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لاَّ يَخْلُقُ} و {مَن لاَّ يَخْلُقُ} شمل المعبود من دون الله عاقلًا وغير عاقل. ومثله ما ذكر الفراء عن بعض العرب "اشتبه على الراكب وجمله، فلا أدري من ذا من ذا". وقوله أو اقتران مثاله {ومِنْهُم مَّن يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ}، وقعت هنا على ما لا يعقل لاختلاطه بمن يعقل فيما فصل بـ"من" في قوله {واللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِّن مَّاءٍ}؛ ألا ترى أن الدابة تقع على كل ما يدب من عاقل أو غير عاقل، فغلب من يعقل على ما لا يعقل، وعومل الجميع معاملة من يعقل، ففصل بـ"من" لذلك. ومن كلام العرب "خلق الله الخلق، فمنهم من يتكلم، ومنهم من لا يتكلم"، فأوقع "من" على ما لا يتكلم، وهو غير عاقل، لاقترانه بالعاقل في المفصل بـ"من" وهو الخلق، لأن الخلق يقع على كل مخلوق من عاقل وغير عاقل.

وتقول العرب "أصبحت كمن لم يخلق" تريد: كمن قد مات، فتقع "من" على هذا المعنى على العاقل، فإن أردت بمن لم يخلق المعدوم، فذهب الفراء إلى جواز ذلك، وذهب بشر المريسي إلى منع ذلك، قال بشر: "من": الناس، ومن لم يخلق ليس بشيء، فبأي شيء شبه؟ فأجاب الفراء عن ذلك بأن العرب توقع "ما" على المعدوم، فتقول "ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن"، فكما جاز ذلك في "ما" فكذلك يجوز في "من". قال بعض أصحابنا: والصحيح ما ذهب إليه الفراء، ولا تخرج "من" بذلك عن معناها، بل تكون واقعة على عاقل موجود أو معدوم متوهم، فإن المعدوم المتوهم تجعله العرب شيئًا، قال عمر بن أبي ربيعة: وهبها كشيء لم يكن أو كنازح به الدار، أو من غيبته المقابر فأوقع شيئًا على ما لم يكن، وهو المعدوم. ومثل ذلك قول بشار: وأخفت أهل الشرك، حتى إنه لتخافك النطف التي لم تخلق فأوقع النطف على ما لم يخلق.

وقوله خلافًا لقطرب، زعم قطرب وغيره أن "من" تقع على ما لا يعقل عمومًا دون اشتراط ما ذكر، واستدل بقوله تعالى {أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لاَّ يَخْلُقُ}، قال: يعني بذلك الأوثان والأصنام. ولا حجة في ذلك كما بينا لاشتراك العاقل وغير العاقل في (من لا يخلق) إذ قد عبد من دون الله من يعقل/ ومن لا يعقل، أو لتنزيلها منزلة من يعقل إذ عبدت من دون الله، أو لاعتقاد من عبدها أنها عاقلة فعالة. فهذه الوجوه كلها يحتمل قوله {كَمَن لاَّ يَخْلُقُ}، فلا دليل على أنها تقع على آحاد ما لا يعقل. وقوله و"ما" في الغالب لما لا يعقل قال المصنف في الشرح: "احترزت بقولي "في الغالب" من نحو قوله تعالى {مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ}، ومن قول بعض العرب: سبحان ما سخركن لنا" انتهى. ويعني أنها في قليل تطلق على آحاد ذوي العلم كما أطلقت في قوله "لما خلقت" على آدم، وفي "ما سخركن" على الله تعالى.

وإطلاقها على آحاد من يعقل هو مذهب أبو عبيدة وابن درستويه ومكي بن أبي طالب، ومن متأخري أصحابنا الأستاذ أبو الحسن بن خروف، وزعم أنه مذهب س. واستدلوا على ذلك بما تقدم، وبقوله "سبحان ما سبح الرعد بحمده"، وبقوله تعالى {والسَّمَاءِ ومَا بَنَاهَا (5) والأَرْضِ ومَا طَحَاهَا (6) ونَفْسٍ ومَا سَوَّاهَا (7)}، ومعلوم أن الذي بني السماء، وطحا الأرض، وسوى النفس، هو الله. وبقوله {ولا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ}، ومعلوم أنه الله. وأبى أصحابنا ذلك، وتأولوا ما استدل به المخالف. أما {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} فقال السهيلي: "عبر بـ"ما" لأن السجود له لم يكن من حيث هو عاقل، بل من حيث الأمر كالقبلة. وقد يقال: أنه حين الخلق لم يكن عاقلًا، وإنما نفخ فيه الروح بعده بمدة" انتهى هذا التأويل. وقوله "وإنما نفخ فيه الروح بعده بمدة" ليس بصحيح بدليل قوله {فَإذَا

سَوَّيْتُهُ ونَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ}، فالأمر بالسجود إنما كان بعد التسوية ونفخ الروح فيه، وعتب إبليس على امتناعه من السجود إنما كان بعد الأمر وامتثال الملائكة، وقبل هذا كان قد سوي، ونفخ فيه الروح، فقوله تعالى {مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} كان بعدما سوي، ونفخ فيه الروح. وتأولوا "سبحان ما سخركن لنا" و"سبحان ما سبح" على أن جعلوا "ما" مصدرية ظريفة، أي: مدة تسخيركن، ومدة تسبيح الرعد، و"سبحان" علمًا غير مصروف، كما جاء: .............................. سبحان من علقمة الفاخر ولا نقول إنه كان أصله: سبحان الله، فحذف المضاف إليه، وبقي: سبحان؛ لأنهم إذا خذفوا ما أضيفت إليه نونت، نحو قوله: سبحانه، ثم سبحانًا نعوذ به وقبله سبح الجودي والجمد فنون سبحانًا لما حذف المضاف إليه. وأما (وما بناها) (وما طحاها) (وما سواها) و (لما خلقت بيدي) و (ما أعبد) فتأولوا ذلك على أن "ما" مصدرية، كأنه قيل: وبنائها وطحوها

وتسويتها وخلقي وعبادتي، أي: عبادة مثل عبادتي، وقد أول المصدر في لخلقي وعبادتي تأويل المفعول، أي: لمخلوقي ومعبودي، كما قالوا: درهم ضرب الأمير، وبرد نسج اليمن. قالوا: والضمير في (بناها) و (طحاها) و (سواها) عائد على الله تعالى، وإن لم يتقدم/ له ذكر؛ لأنه قد علم أن فاعل ذلك هو الله، فعاد على ما يفهم من سياق الكلام. وقال شيخنا الأستاذ أبو الحسن بن الضائع: "وقيل: يحتمل أن يكون عبر بالمصدر عن المعبود، والأولى أن يكون عبر بـ"ما" لأنه في مقابلة {لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ}، وقد يجوز عند المقابلة ما لا يجوز ابتداء، وهو كثير في القرآن وكلام العرب، ومنه {ومَكَرُوا ومَكَرَ اللَّهُ} ". "وزعم أبو زيد السهيلي أنها لا تقع على أولي العلم إلا بقرينة وتلك القرينة هي التعظيم والإبهام. فوقعت عنده "ما" على الله تعالى فيما تقدم ذكره لأن المراد التعظيم، فأتى بـ"ما" لأنها مبهمة، والإبهام كثيرًا ما يستعمل إذا قصد التعظيم، نحو قوله {الْحَاقَّةُ (1) مَا الحَاقَّةُ (2)}، {فَغَشِيَهُم مِّنَ اليَمِّ مَا غَشِيَهُمْ}، فكأن المعنى: إن الذي بنى السماء وطحا الأرض لعظيم". وأما {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} فتقدم تأويله فيه. وأما {ولا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ} فسوغ وقوع "ما" عنده على الله تعالى شيئان: أحدهما: الإبهام وتعظيم المعبود. والآخر: أن الحسد منهم يمنعهم من أن يعبدوا معبوده كائنًا ما كان. وقد تقدم تأويل ما احتج به.

وما ذكره أبو زيد من التعظيم لا يسوغ وضع الاسم الذي هو لما لا يعقل على من يعقل، والإبهام مقصد من مقاصد التعظيم، لكن ما ينبغي أن يكون ذلك الإبهام الذي يقصد به التعظيم مخرجًا للفظ عما وضع له. وزعم المعري في "اللامع" له أنه إذا كان لا تدرك صفته، ولا تعلم حقيقته يجعل كالشيء المجهول فينطلق عليه "ما". وحمل على ذلك "سبحان ما سبح الرعد بحمده" أي: سبحان الذي سبح الرعد بحمده، وقد تقدم تأويل هذا. والذي صححه أصحابنا أن "ما" لا تقع على آحاد أولي العلم إلا في موضعين: أحدهما: الاستثبات عمن يفعل إذا لم تفهم الاسم؛ لأنك في الحقيقة لم تستثبت عن عاقل؛ ألا ترى أنه إذا قال: جاءني زيد، فلم تفهم الاسم، فاستثبته، وقلت: جاء مه؟ ففي الحقيقة لم تستثبت عن زيد لأنك لم تعلم أزيدًا قال أم غير ذلك، وإنما استثبت عن الفاعل من حيث هو فاعل. والآخر: الاستفهام بها عن صفات من يعقل؛ ألا ترى أنك تقول: ما زيد؟ فيقول لك المسئول: كاتب أو عالم، فهي وإن كانت في الظاهر واقعة على كاتب أو غير ذلك من صفات زيد، و"كاتب" اسم واقع على من يعقل، فليست في الحقيقة واقعة على عاقل؛ لأنك إنما سألت بها عن صفة من يعقل، والصفة ليست من جنس العقلاء؛ ألا ترى أنك إذا قلت: ما زيدٌ؟

فإنما تريد: ما صفة زيد؟ وقول المجيب "كاتب" جواب على المعنى؛ لأنه لو أجاب على اللفظ لقال: صفته كتب، إلا أن كاتبًا يغني عن ذلك، ويقوم مقامه. وقوله وله مع من يعقل أي: ولما لا يعقل مع من يعقل/، مثاله {ولِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَوَاتِ ومَا فِي الأَرْضِ مِن دَابَّةٍ}. وقوله ولصفات من يعقل هذه عبارة الفارسي، زعم أنها تقع على صفات من يعقل، نحو {والسَّمَاءِ ومَا بَنَاهَا} أي: والسماء وبانيها. ومثل المصنف بقوله {فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاءِ}. وعبر أصحابنا عن هذا المعنى بأن "ما" تقع على أنواع من يعقل، ومثلوا بقوله (ما طاب لكم)، ويريدون الطيب. وقوله وللمبهم أمره هذا مذهب السهيلي الذي تقدم ذكره والرد عليه. قال المصنف في الشرح: "مثل أن ترى شبحًا تقدر إنسانيته وعدم إنسانيته، فتقول: أخبرني ما هناك؟ وكذا لو علمت إنسانيته ولم تدر أذكر هو أم أنثى، ومنه {إنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا} ". وقوله وأفردت نكرة يعني أنها خلت من صلة وصفة وتضمن شرط أو

استفهام، وذلك في التعجب، نحو: ما أحسن زيدًا! على مذهب س، وفي نعم وبئس، نحو قول العرب "غسلته غسلًا نعمًا"، على مذهب غير س، وسيأتي الكلام على ذلك في التعجب، وفي باب نعم. وقوله وقد تساويها من عند أبي علي يعني في كونها أفردت نكرة، هذا مما انفرد به أبو علي، وحجته قول الشاعر: وكيف أرهب أمرًا، أو أراع به وقد زكأت إلى بشر بن مروان؟ ونعم مزكأ من ضاقت مذاهبه ونعم من هو في سر وإعلان فـ"من" عنده في موضع نصب، وفاعل "نعم" ضمير مفسر بـ"من" كما فسر بـ"ما" في {فَنِعِمَّا}، و"هو" مبتدأ، خبره الجملة التي قبله، و"في سر وإعلان" متعلق بـ"نعم". قال المصنف في الشرح: "والصحيح غير ما ذهب إليه أبو علي". وقوله وقد تقع "الذي" مصدرية حكي هذا عن يونس، وتأول عليه {ذَلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبَادَهُ} أي: ذلك تبشير الله عباده. وعلى قول يونس قد

يحمل قوله {وخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا} أي: كخوضهم. وما ذهب إليه يونس ليس بشيء لأنه إثبات للاشتراك بين الاسم والحرف بغير دليل، وقد ثبتت اسمية "الذي" بكونها فاعلة ومفعولة ومجرورة ومبتدأة وتثنى وتجمع وتؤنث ويعود عليها الضمير، فلا نعدل عن هذا الحكم المقطوع به لشيء لا يقوم عليه دليل، بل ولا شبهه، والأحسن في الآية أن يكون التقدير: ذلك الذي يبشره الله عباده، وأصله: يبشر به، فلما صار منصوبًا حذف إذ مجوز الحذف فيه موجود. وقوله وموصوفة بمعرفة أو شبهها في امتناع لحاق أل مثاله: مررت بالذي أخيك، ومررت بالذي مثلك، وقد تقدم الكلام على هذه المسألة حين الكلام على الصلة في أول الموصولات. وهذا الذي ذكره المصنف من جواز ذلك ليس مذهب البصريين، لا يجيزون شيئًا من ذلك، وإنما أجازه الكوفيون، وتقدم ذكر ما استدلوا به والرد عليهم. قال أبو علي: "وقد/ أجاز البغداديون أن تكون "الذي" موصوفة لا موصولة كما في من وما". وقال المصنف في الشرح: "حاصل كلام أبي علي أن "الذي" موصولة وموصوفة مستغنية بالصفة عن الصلة، ومصدرية محكوم بحرفيتها، وهو مذهب الفراء، وهو صحيح، وبه أقول، وأجاز

الفراء في (تمامًا على الذي أحسن) أن تكون "الذي" مصدرًا، والتقدير: تمامًا على إحسانه، أي: إحسان موسى. وأن تكون موصوفة بـ"أحسن" على أن "أحسن" أفعل تفضيل، فال: "لأن العرب تقول: مررت بالذي خير منك، ولا تقول: مررت بالذي قائم؛ لأن "خيرًا منك" كالمعرفة إذ لم تدخل فيه الألف واللام. وكذلك يقولون: مررت بالذي أخيك، وبالذي مثلك، إذا جعلوا صفة "الذي" معرفة أو نكرة لا تدخله الألف واللام جعلوها تابعة للذي، أنشد الكسائي: إن الزبيري الذي مثل الجلم ومثله ما أنشد الأصمعي: حتى إذا كانا هما اللذين مثل الجديلين المحملجين وحكي الفراء عن بعض العرب: أبوك بالجارية الذي يكفل، وبالجارية ما يكفل، والمعنى: أبوك بالجارية كفالته. وهذا صريح في ورود "الذي" مصدرية. ومنه قول ابن رواحة: فثبت الله ما آتاك من حسن في المرسلين، ونصرًا كالذي نصروا أي: ونصرًا كنصرهم. ومثله قول جرير:

يا أم عمرو جزاكِ الله مغفرة ردي على فؤادي كالذي كانا وقول ابن أبي ربيعة: لو أنهم صبروا عنا فنعرفه منهم إذًا لصبرنا كالذي صبروا وقول جرير: دعاني أبو سعد، وأهدى نصيحة إلي، ومما أن تغر النصائح لأجزر لحمي كلب نبهان كالذي دعا القاسطي حتفه، وهو نازح" انتهي كلامه ولا حجة في شيء مما ذكر على أن تكون "الذي" مصدرية، ولا أنها تتبع بمعرفة أو نكرة لا تقبل "أل" دون صلة؛ لأن الكوفيين يقولون: قالت العرب كذا، ويكون ذلك على قياس ما فهموا هم عن العرب، ولما اعتقدوا في قوله: إن الزبيري الذي مثل الجلم أن "مثل" تابع لـ"الذي"، وأنه لا صلة له، بنوا عليه أن العرب تقول: مررت بالذي خير منك، ومررت بالذي مثلك، وبالذي أخيك، وكل هذا قياس منهم على فهمهم في هذا الرجز وشبهه، وقد تقدم من تأويل البصريين/ لمثل هذا أنه مما حذفت منه الصلة، وأبقى معمولها، والمعنى: أن الزبيري الذي صار مثل الجلم. وكذلك:

حتى إذا كانا هما اللذين مثل الجديلين .......... التقدير: عادا مثل الجديلين. وأما ما استشهدوا به على أن "الذي" تكون مصدرية فلا حجة في شيء منه. أما قول بعض العرب "أبوك بالجارية الذي يكفل" فـ"الذي" على حاله موصول، وبالجارية: متعلق بمحذوف، يدل عليه "الذي يكفل"، التقدير: أبوك كفيل بالجارية الذي يكفل، أو على إضمار "أعني"، كما يقدره بعض أصحابنا في كثير من المجرور، وإن كان "أعني" لا يتعدى في أصل الوضع بالباء. وأما "أبوك بالجارية ما يكفل" فـ"ما" مصدرية، و"بالجارية" متعلق بمصدر محذوف، التقدير: أبوك كفالته بالجارية كفالته، كقول الشاعر: وبعض الحلم عند الجهـ ـل للذلة إذعان قدروه: إذعان للذلة إذعان. وأما "كالذي نصروا" فيحتمل وجهين: أحدهما أن يكون أصله: كالذين نصروا، فحذف النون، والتقدير: كنصر الذين نصروا. أو يكون "الذي" صفة لمصدر محذوف، والعائد عليه محذوف من نصروا، والتقدير: كالنصر الذي نصروه. وأما قوله: ........................ ردي علي فؤادي كالذي كانا فتأويله: كالفؤاد الذي كانا، والشيء يشبه بنفسه باعتبار حالين، تقول:

زيد الآن كهو أمس، والمعنى: إن قلبي كان سليمًا فيما مضى من الزمان، والآن قد شفه الغرام، فرديه إلى الحالة التي كانت سبقت له. وأما قوله: ................ كالذي دعا القاسطي حتفه ....... فإن عندهم في معنى: كما دعا القاسطي حتفه، فـ"القاسطي" مفعول بـ"دعا"، و"حتفه" فاعل بـ"دعا"، ولا عائد على الذي. وتأويله عندي على أنه قوله "كالذي دعا القاسطي" في موضع نعت لمصدر محذوف، و"الذي" صفة للدعاء، التقدير: دعاني أبو سعد دعاء مثل الدعاء الذي دعا القاسطي، ففي "دعا" ضمير يعود على "الذي"، وجعل الدعاء داعيًا على حد قولهم: شعر شاعر، وارتفاع "حتفه" على أنه خبر مبتدأ محذوف، وهو جواب سؤال مقدر، كأنه قيل: ما الذي دعاه؟ قال: هو حتفه، أي: الداعي هو الحتف. ويحتمل أن يكون ارتفاعه على أن يكون بدلًا من الضمير المستكن في "دعا" العائد على "الذي". وتأويل هذه النوادر أولى من إثبات قاعدة كلية بشيء محتمل مخالف لما استقر في اللسان العربي.

-[ص: فصل وتقع أي شرطية، واستفهامية، وصفة لنكرة مذكورة غالبًا، وحالًا لمعرفة، ويلزمها في هذين الوجهين الإضافة لفظًا ومعنىً إلى ما يماثل الموصوف لفظًا ومعنىً، أو معنى لا لفظًا.]- ش: مثال الشرطية قول الشاعر: أي حين تلم بي تلق ما شئـ ـت من الخير، فاتخذني خليلًا والاستفهامية {فَأَيُّ الفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ}. وقوله وصفة لنكرة مذكورة/ مثال ذلك: مررت برجلٍ أي رجل، وبفارسٍ أي فارس، وقال الشاعر: دعوت أمرًا أي أمري، فأجابني وكنت وإياه ملاذًا وموئلًا ولا تكون إلا نكرة: فإن أضيفت إلى مشتق من صفة يمكن المدح بها كانت للمدح بالوصف الذي اشتق منه الاسم الذي أضيفت إليه، فإذا قلت: مررت بفارس أي فارس، فقد أثنيت على الأول بالفروسية خاصة. وإن أضيفت إلى غير مشتق من صفة يمكن المدح بها فهي للثناء على الأول بكل صفة يمكن أن يثنى عليه بها، فإذا قلت: مررت برجل أي رجل، فقد أثنيت على الرجل ثناءً عامًا في كل ما يُمْدَح به الرجل.

وإنما كانت صفةً للنكرة، ولم تُوصف بها المعرفة، لأنها لو أُضيفت إلى معرفة كانت بعضًا مما تُضاف إليهن وذلك لا يُتصور في الصفة إذ الصفة أبدًا إنما هي الموصوف لا بعضه، و "أيٌ" وإن لم تكن مشتقة فهي في حكم المشتق. قال أصحابنا: وإنما أُعطيت معنى الاشتقاق لأنها في الأصل استفهام، فإذا قلت: مررت برجلٍ أي رجلٍ، فكأنك قلت: مررت برجلٍ لنباهته وكماله يُتطلع إلى السؤال عنه والعجب من أحواله، فيقال: أي الرجال هو؟ هذا أصله، ولذلك أعطيت "أيٌ" معنى الكمال، وأزيل عنها الاستفهام ليعمل فيها ما قبلها، وبقي فيها إبهام الاستفهام ليفيد معنى المبالغة في الصفة. وقال بعض أصحابنا: "ولا يعنون بقولهم "صفة" أنها جاريةٌ أبدًا على ما قبلها، بل يُعني بذلك أنها تُستعمل على معنى الوصف، وإلا فقد تُستعمل غير تابعة، نحو قوله: فأومأت إيماءً خفيًا لحبترٍ ولله عينا حبترٍ أيما فتى كأنه قال: أيما فتى هو، أي: هو الممدوح بكل ما مدح به الفتيان" انتهى. وقوله غالبًا يعني أن الموصوف النكرة قبل "أيً" يكون مذكورًا غالبًا، واحترز بذلك من حذفه في قول الفرزدق: إذا حارب الحجاج أي منافقٍ علاه بسيف كلما هز يقطع

أراد: منافقًا أي منافقٍ. وهذا عند أصحابنا في غاية الندور، قالوا: "فارقت "أي" سائر الصفات في أنه لا يجوز حذف الموصوف وإقامتها مقامه، لا تقول: مررت بأي رجلٍ، وذلك لأن المقصود بالوصف بـ "أي" إنما هو التعظيم والتأكيد، والحذف يُناقص ذلك". وقوله وحالًا لمعرفة أنشد المصنف في الشرح: ............................... فلله عينا حبترٍ أيما فتى بالنصب، جعله حالًا. وتقدم أن أصحابنا انشدوه بالرفع على أنه مبتدأ أو خبر مبتدأ، وقدوره: أيُ فتى هو. ولم يذكر أصحابنا كون "أي" تقع حالًا،/ وإنما ذكروا لها خمسة أقسام: موصولة، وشرطية، واستفهامية، وصفة لنكرة، ومنادى، وسيأتي حكمها في باب النداء، إن شاء الله. وقوله ويلزمها في هذين الوجهين أي: في وجه استعمالها صفة، واستعمالها حالًا. وقوله الإضافة لفظًا ومعنىً لأنها إذا كانت موصلة أو شرطية أو استفهامية لا يلزم إضافتها لفظًا. وقوله إلى ما يُماثل الموصوف لفظًا ومعنىً فلا يجوز أن تقول: مررت برجلٍ أي عالمٍ، ولا: بعالمٍ أي رجلٍ، بل تقول: مررت برجلٍ أي رجلٍ، وبعالمٍ أي عالمٍ.

وقوله أو معنىً لا لفظًا مثاله: دعوت امرًأ أي فتى. هكذا مثله المصنف في الشرح. وينبغي أن يُحتاط في جواز هذا، ويتوقف حتى يُسمع من كلام العرب، وإلا منع؛ لأن الأصل فيها أن لا يُوصف بها، فلا يُتوسع في القياس فيها. -[ص: وقد يُستغني في الشرط والاستفهام بمعنى الإضافة إن عُلم المضاف غليه، و "أي" بمنزلة "كل" مع النكرة، وبمنزلة "بعضٍ" مع المعرفة.]- ش: استغناؤها في الشرط مثاله قوله تعالى {أَيّاً مَّا تَدْعُوا فَلَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى}، ومثاله في الاستفهام ما ورد في الحديث: "من أبرُ يا رسول الله؟ قال: أمك. قال: ثم أيٌ؟ قال: أمك". وقوله و "أيٌ" فيهما - يعني في الشرط والاستفهام - بمنزلة "كلً" في النكرة، وبمنزلة "بعضٍ" في المعرفة. مثالها في الشرط مضافةً إلى نكرة: أي رجل تضرب أضربه، وأي رجلين تضرب أضربهما، وأي رجال تضرب أضربهم، فيعود الضمير مطابقًا لما تضاف إليه "أيٌ". ومثالها مضافةً إلى معرفة: أي الرجل تضرب أضربه، وأي الرجلين تضرب أضربه، وأي الرجال تضرب أضربه. ومثالها في الاستفهام مضافةً إلى نكرة: أي رجلٍ أخوك؟ وأي رجلين أخواك؟ وأي رجال إخوتك؟ فيُطابق الخبر ما تضاف إليه "أيٌ". ومثالها مضافة إلى معرفة: أي الرجلين أحسن؟ وأي الرجلين أخوك؟

وأي الرجال أخوك أو أخوك؟ وتقول: أي الثلاثة أخواك أو أخوك؟ ولا تقع الشرطية والاستفهامية إلا صدر كلام، فلا يعمل فيها عاملٌ متقدم عليها إلا الخافض بشرط أن يكون متعلقًا بالفعل الذي يليها، إلا في الاستفهام في الاستثبات، فإنه قد يتقدم عليها، فإذا قال قائل: ضربت رجلًا، قلت إذا استثبت: أيا ضربت؟ وضربت أيا؟ -[ص: ولا تقع نكرةً موصوفةً، خلافًا للأخفش، وقد يُحذف ثالثها في الاستفهام، وتُضاف فيه إلى النكرة بلا شرط، وإلى المعرفة بشرط إفهام تثنيةٍ، أو جمعٍ، أو قصد أجزاءٍ، أو تكريرها عطفًا بالواو.]- ش: أجاز الأخفش: مررت بأي كريمٍ، فجعل أيا نكرةً موصوفة، ولم يُسمع من العرب، وإنما أجازه قياسًا على "من" و "ما" من قول العرب: "رغبت فيما خيرٍ مما/ عندي"، و: كفى بنا فضلًا على من غيرنا ................................ ويضعف القياس على ذلك، بل في قولهم "مررت بما معجبٍ لك" إن "ما" نكرة بمعنى شيء موصوفة بـ "مُعجب" نظرٌ، لأنه يجوز أن تكون "ما" زائدة بين حرف الجر والمجرور، والتقدير: مررت بمُعجبٍ لك، وكثيرًا ما زيدت "ما" بين حرف الجر والمجرور، فإن سُمع من كلامهم: رأيت ما مُعجبًا لك، وسرني ما معجبٌ لك، وكثر ذلك في كلامهم، ثبت أن "ما" نكرة موصوفة، على أنه لو سُمع قليلًا انبغى تأويله على زيادة "ما" كما زادوها في قوله:

................. ضرج ما أنف خاطبٍ بدم وفي قوله "رويد ما الشعر"، وقد تقدم الاستدلال على كون "ما" نكرةً موصوفة بقوله: ربما تكره النفوس من الأمـ ـر ..................... وليس بقاطع؛ إذ يحتمل أن تكون "ما" مُهيئة، و "من الأمر" في موضع المفعول بـ "تكره"، أي: شيئًا من الأمر، ويكون العائد في "له" عائدًا على ذلك المفعول المحذوف، وإذا دخل الدليل الاحتمال سقط به الاستدلال. وقد تكرر للمصنف ذكر مذهب الأخفش في "أي" أنها تكون نكرة موصوفة، فإنه ذكرها هنا، وفي الشرح حين تكلم على "ما" وأنها تكون نكرة موصوفة. ومثال حذف ثالث "أي" في الاستفهام قول الشاعر: تنظرت نصرًا والسماكين أيهما علي من الغيث استهلت مواطره وقوله وتضاف فيه - أي: في الاستفهام - إلى النكرة بلا شرط أي: لا تُشترط في إضافتها إلى النكرة شرط. وقوله بشرط إفهام تثنيةٍ نحو: أي الرجلين أفضل؟ وأيهما أفضل؟ أو جمع: أي الرجال أفضل؟ وأيهم أفضل؟ أو قصد أجزاء: أي زيدٍ أحسن؟

أي الرجل أحسن؟ ولذلك تبدل منه، فتقول: أوجهه أم عينه؟ فالجواب لهذا الاستفهام إنما يكون بذكر شيءٍ من أجزاء زيد أو الرجل. وقوله أو تكريرها عطفًا بالواو مثاله قول الشاعر: أيي وأي ابن الحصين وعثعثٍ إذا ما التقينا كان بالحلف أغدرا وقول الآخر: فأيي ما وأيك كان شرًا فسيق إلى المقامة لا يراها وقول الآخر: فلئن لقيتك خاليين لتعلمن أيي وأيك فارس الأحزاب ونقص المصنف أن تكون "أيٌ" مضافة إلى المفرد المعرفة جنسًا أو معطوفًا عليه غيره بالواو، مثاله: أي الدينار دينارك؟ وأي البعير بعيرك؟ ومثال المعطوف: أي زيدٍ وعمروٍ وجعفرٍ قام؟ ويمكن اندراج ذلك تحت قوله "أو جمعٍ" لأن/ اسم الجنس هنا يراد به الجمع، ولأن "أي زيدٍ وعمرٍ وجعفرٍ" هو في المعنى: أي هؤلاء قام؟ لكن المصنف مثل قوله "أو جمعٍ" بقوله: أي الرجال أفضل؟ وأيهم أكرم؟ فدل على أنه لا شعور له بالمسألتين اللتين ذكرناهما، ونص أصحابنا عليهما. ولا يجوز أن يُعطف على "أي" الاستفهامية غير اسم استفهام، فإذا

قلت: أي القوم جاءك وزيدٌ؟ عطفت زيدًا على الضمير في جاء، ولا يجوز أن تعطفه على "أي". ولو قلت: أي القوم وزيدٌ جاء؟ لم يجز إلا إذا جعلت زيدًا معطوفًا على الضمير في جاء، وقدمته عليه، على حد قول الشاعر: وأنت غريمٌ لا أظن قضاءه ولا العنزي القارظ الدهر جائيا يريد: لا أظن قضاءه جائيًا هو ولا العنزي القارظ. وإنما لم يجز ذلك لأنك تكون قد عطفت مخبرًا عنه على مستفهمٍ عنه، وذلك لا يجوز، لو قلت: أزيدٌ وعمروٌ منطلقان؟ وأنت تسأل عن انطلاق زيد، وتخبر عن انطلاق عمرو، لم يجز. -[ص: من الموصولات الحرفية "أن" الناصبة مضارعًان وتوصل بفعلٍ متصرفٍ مطلقًا، ومن "أن"، وتوصل بمعموليها. ومنها "كي"، وتوصل بمضارع مقرونٍ بلام التعليل لفظًا أو تقديرًا. ومنها "ما"، وتُوصل بفعلٍ متصرفٍ غير أمرٍ، وتختص بنيابتها عن ظرف زمان، موصولة في الغالب بفعلٍ ماضي اللفظ مثبت أو منفي بـ "الم".]- ش: احترز بقوله "الناصبة مضارعًا" من "أن" المخففة من "أن" الثقيلة، فإنها حكمها حكم المثقلة، ومن "أن" الزائدة، ومن "أن" التفسيرية، ولهذه الأقسام مواضع تُذكر فيها. وإنما ذكر هنا ما تُوصل به "أن" الناصبة للمضارع، فكما ذُكرت الموصلات الاسمية وصلاتها، كذلك ذكرت الحرفيات وصلاتها. وهذه الحروف الموصولات ينسبك منها مع صلاتها مصدر.

وقوله بفعلٍ متصرفٍ احترزٌ من الجامد. وقوله مطلقًا يعني سواءٌ أكان ماضيًا، نحو: أعجبني أن قام زيدٌ، أم مضارعًا، نحو أريد أن تقوم، أم أمرًا، نحو: أرسلت إليه بأن أفعل، فلو كان الماضي غير متصرف كـ "عسى"، أو المضارع غير متصرف كـ "يهيط"، أو الأمر غير متصرف كـ "تعلم" بمعنى اعلم على رأي الأعلم، لم يكن شيء من ذلك صلة لـ "أن" هذه، فأما قوله {وَأَنْ عَسَى أَن يَكُونَ} {وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ} فـ "أن" هي المخففة من الثقيلة لا الناصبة للمضارع. وجميع ما استدلوا به على أن "أن" هذه توصل بفعل الأمر محتمل أن تكون التفسيرية. ويُقوي ذلك أن ذلك تقدمه شرط التفسيرية، وهو أن تكون الجملة التي قبل "أن" فيها معنى القول، نحو قوله تعالى {وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَن طَهِّرَا}، وأشرت إليه أن قم، وكتبت إليه أن قم. وقال/ بعض أصحابنا: "وتدخل على الأمر قليلًا، حكي س: كتبت إليه بأن قم" انتهى. وبهذا استدل على أنها المصدرية لا التفسيرية. ووجه الاستدلال أنه دخل عليها حرف الجر، والتفسيرية لا يدخل عليها حرف الجر. ولا يقوي عندي وصل "أن" بفعل الأمر لوجهين: أحدهما: أنه إذا سبكت من "أن" وفعل الأمر مصدرًا فات معنى الأمر

المطلوب والمدلول عليه بالصيغة، ففرق بين: كتبت إليه بالقيام، وكتبت إليه أن أقم. والثاني: أنه لا يوجد من لسان العرب: يعجبني أن قم، ولا: أحببت أن قم، ولا: عجبت من أن قم، فكون ذلك مفقودًا في لسانهم دليل على أنها لا توصل بفعل الأمر، ولو وصلت بفعل الأمر لوجد ذلك في لسانهم، كما وجد ذلك في وصلها بالماضي والمضارع، تقول: أعجبني أن قام زيدٌ، وأحببت أن قام، وعجبت من أن قام، ويعجبني أن يقوم زيدٌ، وأحب أن يقوم زيدٌ، وعجبت من أن يقوم زيدٌ. وأما ما حكي س من قولهم "كتبت إليه بان قم" فالباء زائدة مثلها في: ................... ................ لا يقرأن بالسور وزعم بعض النحويين أنها تُضمر بعد همزة الاستفهام في التسوية، ويكون ينسبك منها مع الفعل مصدر، فإذا قلت: سواءٌ علي أقمت أم قعدت، فأصله عنده: أأن قمت أم أن قعدت، فالفعل بعدها بتقدير المصدر. والصحيح أنه لا إضمار بعد الهمزة ولا يعد أم؛ لأنه لم يُلفظ بذلك في موضوع من المواضع، وإنما اكتفوا هنا بالمعنى دون الإضمار، ولا يُقاس عليه لأنه موضعٌ خرج فيه اللفظ عن أصله، فخرجت همزة الاستفهام والفعل عن أصلهما، وصار سبكًا معنويًا إلى المصدر، كما يُسبك إلى اسم الفاعل في قولك: ما أبالي منك أقمت أم قعدت؛ أي: قائمًا ولا قاعدًا.

وإنما لم تكن همزة الاستفهام مما ينسبك معها الفعل إلى المصدر لأن ما ينسبك معه يكون معمولًا لما قبله لفظًا، ولا يكون ذلك في الهمزة وإن كانت قد تكون مع ما دخلت عليه في موضوع معمولٍ في المعنى. وذهب بعض النحويين إلى أنها تضمر "أن" بعد ظروف الزمان في نحو: يوم يقوم زيدٌ، أي: يوم أن يقوم، لكنهم استغنوا عنها بأن أنابوها عنها لأن لظروف الزمان خصوصية بالأفعال، فلم يحتاجوا معها إلى إضمار سابك. والصحيح أنه لا إضمار فيه لأنه لم يُلفظ به قط، وإنما هو من الإضافة للدليل لفظًا، وهم يريدون المدلول، كم صغروا الفعل وهم يريدون المدلول من المصدر في باب التعجب، وكما يعدون ما يتعدى بحرف الجر نفسه. وقوله ومنها "أن" وتوصل بمعموليها مثاله: أعجبني أن زيدًا قائمٌ، وأحببت أن زيدًا قائمٌ، وعجبت من أن زيدًا قائمٌ، تقول: عجبت من انطلاقك، لا دليل فيه على/ وقوعه أو تحققه، فإذا قلت: عجبت من أنك منطلقٌ، دل على الوقوع والتحقق. قاله في البسيط. وقوله ومنها "كي"، وتوصل بمضارع مقرونٍ بلام التعليل لفظًا مثاله: جئت لكي أراك. أو تقديرًا مثاله: جئت كي أراك. فإذا قُرنت باللام لفظًا تعينت المصدرية، وإذا لم تُقرن بها احتملت، وقد تكلمنا على ذلك في نواصب المضارع مُستوفي هناك. ولا تخلو "كي" من التعليل، فهي لا تتصرف تصرف "أن"، لا تكون مبتدأة ولا مفعولة ولا مضافًا إليها ولا مجرورةً باللام ظاهرةً أو مقدرةً معها. وقوله ومنها "ما"، وتوصل بفعلٍ متصرفٍ غير أمر. احترز بـ "متصرف"

من الفعل غير المتصرف، على أنه قد جاء وصلها بـ "ليس"، وهي فعلٌ غير متصرف، قال: ......................... بما لستما أهل الخيانة والغدر وفي البسيط: "ما أصلٌ في السبك لأنها أتي بها في الفعل لأجل ذلك لا لمعنى، بخلاف أخواتها، فإن لها تخليصًا وعملًا، ولا تكون سابكة إلا حيث تصح الموصولة؛ لأن الموصلة سابكة في المعنى؛ لأنك تسبك بها الجملة إلى الوصف المفرد، فلذلك لا تقول: أريد ما تخرج، وتقول: أحب ما صنعت؛ لأن "ما" في الوصل مبهمة، فلا تصلح للخصوص، ولما كان الخروج خاصًا، ونحوه" انتهى. وما ذكره من أن شرط الوصل بها صلاحية وقوع "ما" الموصولة الاسمية موقعها، وأن الفعل الواقع بعدها لا يكون خاصًا، باطلٌ. وأكثر ما تكون صلتها ماضيًا، قال تعالى {وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ}، وقال الشاعر: يسر المرء ما ذهب الليالي .................... أي: ذهاب الليالي. وفي (بما رحبت) وهذا البيت بطلان قول صاحب البسيط. وقد ذكر عن السهيلي أن "ما" لا تكون مصدرية إلا في موضع إبهام

وعموم، ولذلك منع في قوله تعالى {بما أرك الله} أن تكون "ما" مصدرية، والعلم لا إبهام فيه لأنه تمييز، قال: ألا ترى أنك لا تقول: أعجبني ما رأيت، تريد: رؤيتك، وأعجبني ما خرج زيدٌ. وقال في البسيط أيضًا: "وقال أبو زيد - يعني السهيلي - إن صلة "ما" لابد أن تكون فعلًا غير خاص، بل مبهمًا يحتمل التنويع، نحو: أعجبني ما صنعت؛ لأن الصنع عامٌ، ولا تقول: أعجبني ما تجلس، ولا: أعجبني ما جلست؛ لأن الجلوس نوعٌ خاصٌ ليس مبهمًا، فكأنك قلت: يعجبني الجلوس الذي جلست، فيكون آخر الكلام مفسرًا لأوله رافعًا للإبهام، فلا معنى حينئذ لها. وذهب أيضًا إلى أن "ما" المصدرية اسم، وأنها هي التي بمعنى "الذي" من الصلة، وليست حرفًا. وهي رأي المبرد والرماني. واستدل على ذلك بأن تقول: أعجبني/ أن تجلس، ولا تقول: أعجبني ما تجلس؛ لأنها بمعنى "الذي"، فتكون مبهمة، فلا تكون صلتها خاصًا بل مبهمًا، وهذا خاصٌ، ولو كانت بمعنى "أن" لجاز انتهى. ومثال وصلها بالمضارع قوله تعالى {وَلاَ تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ

الْكَذِبَ}، أي: لوصف ألسنتكم الكذب، وعجبت مما تضرب زيدًا. وقوله غير أمرٍ لا تقول: عجبت من ما قم، ولا: من ما أخرج. وقوله وتختص بنيابتها عن ظرف زمانٍ موصولة في الغالب بفعلٍ ماضي اللفظ مُثبتٍ مثاله: "لا أصحبه ما ذر شارق"، وقوله تعالى {خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ} أي: مدة ذرور شارقٍ، ومدة دوام السموات. وتُسمى هذه ظرفية. وذهب الزمخشري إلى أنها تشاركها في هذا المعنى "أن"، وحمل على ذلك قوله تعالى {أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ}، وقوله تعالى {إِلاَّ أَن يَصَّدَّقُوا}، تقديره عنده: وقت أن آتاه الله الملك، وإلا حين أن يصدقوا. واستدل بعضهم على ذلك بقوله: وقالوا لها: لا تنكحيه، فإن لأول سهم أن يُلاقي مجمعا أي: لأول سهمٍ وقت ملاقاته مجمعًا. وكونها تنوب عن ظرفٍ لا يعرفه أكثر النحويين. وما احتجوا به لا دليل فيه لأن {أَنْ آتَاهُ اللَّهُ} تعليلٌ، أي: لأن آتاه الله. وكذلك: إلا لأن يصدقوا. وكذلك: بأن يلاقي مجمعًا. وهذا معنى صحيح سائغ، ولم يقم دليلٌ على أن تكون "أن" ظرفية مثل "ما". وإنما قال "في الغالب" لأنها قد توصل بالمضارع، نحو قوله:

نطوف ما نطوف، ثم نأوي ذوو الأموال منا والعديم وقوله أو منفي بـ "لم" مثاله قول الشاعر: ولن يلبث الجهال أن يتهضوا أخا الحلم ما لم يستعن بجهول -[ص: وليست اسمًا فتفتقر إلى ضمير، خلافًا لأبي الحسن وابن السراج، وتوصل بجملة اسمية على رأي. ومنها "لو" التالية غالبًا مُفهم تمنً، وصلتها كصلة "ما" في غير نيابة، وتُغني عن التمني، فينصب بعدها الفعل مقرونًا بالفاء.]- ش: في "ما" المصدرية هذه خلاف: ذهب س والجمهور إلى أنها حرف. وذهب الأخفش وابن السراج وجماعة من الكوفيين إلى أنها اسم. فإذا قلت "أعجبني ما قمت" فيقدره س: قيامك، ويقدره أبو الحسن: القيام الذي قمته، ويحذف الضمير من الصلة. ورد عليه بوصل "ما" بـ "ليس" في قوله: ........................ بما لستما أهل الخيانة والغدر ألا ترى أنه لا يسوغ تقدير "ما" هنا بـ "الذي" لعدم الرابط.

وقوله وتوصل بجملةٍ اسميةٍ على رأي. "ما" المصدرية/ لا تُوصل إلا بالفعل المتصرف غير الأمر في مذهب س. وذهبت طائفة منهم أبو الحجاج الأعلم إلى أنه يجوز أن توصل بالجملة الاسمية، وجعلوا من ذلك قول الشاعر: أعلاقةً، أم الوليد بعدما أفنان رأسك كالثغام المُجلس وقول الآخر: أحلامكم لسقام الجهل شافيةٌ كما دماؤكم تشفي من الكلب وقد اختلف رأي ابن عصفور في ذلك، فمرة أجاز ذلك، ومرة منعه. ومن منع ذلك تأوله على أن "ما" كافة لـ "بعد"، وللكاف عن العمل، ومهيئة للدخول على الجمل. وقال المصنف في الشرح: "الحكم على ما هذه بالمصدرية أولى من جعلها كافة، لأنها إذا كانت مصدرية كانت هي وصلتها في موضع جر، فلم يصرف شيء عما هو له ثابت، بخلاف الحكم بأن ما كافة".

وقال أيضًا: "وأيضًا فمن مواقع "ما" المصدرية النيابة عن وقتٍ واقعٍ ظرفًا، والوقت الواقع ظرفًا قد يُضاف إلى جملة اسمية، كما يضاف إلى جملةً فعليه، فإذا وصلت بهما وهي للوقت سُلك بها مسلك الوقت، فالحكم بجواز وصلها بجملةٍ اسميةٍ راجحٌ على الحكم بالمنع على تقدير عدم كون ذلك مسموعًا، فكيف وقد سمع؟ قال: واصل خليلك ما التواصل ممكنٌ فلأنت أو هو عن قليلٍ ذاهب وقال آخر: ................... فعسهم أبا حسان ما أنت عائس وإذا ثبت وصلها ظرفيةً بالجملة الاسمية لم يُستبعد وصلها بها إذا كانت غير ظرفية" انتهى. وفيه بعض تلخيص. وقوله ومنها "لو" التالية غالبًا مُفهم تمنً. اختلف في "لو" هذه التي ذكرها: فذهب الجمهور إلى أن "لو" لا تكون مصدرية، وهو قول أشياخنا. وذهب الفراء وأبو علي وأبو زكرياء التبريزي وأبو البقاء

العكبري وهذا المصنف إلى إثبات ذلك من لسان العرب، وخرجوا عليه مواضع من القرآن، من ذلك قوله تعالى {يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ}، {وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُم}، {وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُم}، {وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ}. وقوله غالبًا احترازٌ مما جاء غير مفهم تمنيًا، كقول قتيلة: ما كان ضرك لو مننت، وربما من الفتى وهو المغيظ المحنق وقال آخر: لقد طوفت في الآفاق حتى بليت، وقد أني لي لو أبيد /وقال آخر: أصبن الطريف بن الطريف ومالكًا وكان شفاءً لو أصبن الملاقطا وقال آخر: وربما فات قومًا جُل أمرهم من التأني، وكان الحزم لو عجلوا

التقدير: ما كان ضرك منك، وقد أني لي البيود، وكان شفاءً إصابتهن، وكان الحزم عجلهم. ومن لم يثبت أن "لو" تكون مصدرية تأول هذه المواضع كلها. وقوله مفهم تمن: الذي أوردوا من ذلك هو لفظ "ود" و "يود"، و "مُفهم تمن" يشمل ود وأحب وآثر وتمني واختار، ولم يُسمع من مفهم التمني في غير "ود". وقوله وصلتها كصلة "ما": يعني أنها تُوصل بما وصلت به "ما" من فعلٍ متصرفٍ ماضٍ ومضارع، لا تُوصل بالأمر. وذكر المصنف أن "ما" توصل بفعلٍ منفي بـ "لم"، وظاهر كلامه أن "لو" توصل بذلك، فتقول: وددت لو لم يقم زيدٌ. وقد اختار المصنف في "ما" أنها توصل بالجملة الاسمية، واستدل لصحة ذلك. ولا يُحفظ ذلك في "لو"، لا يُحفظ مثل: وددت لو زيدٌ قائمٌ، فينبغي أن يُقيد قوله "وصلتها كصلة ما": "إلا في الجملة الاسمية". ومما يُبعد كون "لو" مصدرية أنه لا يُحفظ من كلامهم دخول حرف الجر عليها، لا يوجد: عجبت من لو خرج زيدٌ، أي: عجبت من خروج زيد. وقوله في غير نيابةٍ يعني أن "ما" تنوب عن ظرف زمان، ولا تنوب "لو" المصدرية عن ظرف زمان، فهما وإن اشتركا في الصلة، فقد اختصت "ما" بالنيابة. وقوله وتغني عن التمني إلى آخره، قال الشاعر: سرينا إليهم في جموعٍ كأنها جبال شروري لو نعان فننهدا

قال المصنف في الشرح: "في نصب فننهد وجهان: أحدهما - وهو المختار - أنه جواب تمن إنشائي كجواب "ليت"؛ لأن الأصل: وددنا لو نعان، فحذف الفعل لدلالة "لو" عليه، فأشبهت "ليت" في الإشعار بمعنى التمني دون لفظه فجووبت كجوابها. والثاني: أنه من باب العطف على المصدر؛ لأن "لو" مع "نعان" تتقدر بالمصدر، فليس جوابًا، بل هو من باب: ......................... تقضي لبانات، ويسأم سائم وذهب أبو علي في "التذكرة" إلى أن مثل "لو نعان فننهدا" "لو" أجريت فيه مجرى "لو" التي بمعنى الأمر، أي: أعنا يا الله فننهد، وفي {فَلَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَكُونَ} أي: أحدث لنا كرةً فنكون. وقال الزمخشري: "تجيء "لو" في معنى التمني كقولك: لو تأتيني فتحدثني". فإن/ أراد ما أردته فصحيح وإن أراد أن "لو" حرفٌ موضوع للتمني كـ "ليت" فغير صحيح؛ لأن ذلك يستلزم منع الجمع بينها وبين فعل التمني، كما لا يُجمع بين "ليت" وبينه، وذلك أن حروف المعاني قُصد بها النيابة عن أفعالٍ على سبيل الإنشاء، فلا يُجمع بينهم لأن لا يجمع بين نائب ومنوب، ولذلك لا يُجمع بين "لعل"

و "أترجى"، ولو بين "إلا" و "أستثني"، فلو كانت "لو" موضوعة للتمني كـ "ليت" لساوتها في امتناع ذكر فعل التمني معها، فكان قول القائل "تمنيت لو تفعل" غير جائز، كما أن "تمنيت ليتك تفعل" غير جائز. فإن قيل: كيف دخلت "لو" المصدرية على "أن" في نحو {لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَكُونَ}؟ فالجواب من وجهين: أحدهما: أن "لو" داخلة على "ثبت مقدرًا رافعًا لـ "أن"، فلا يلزم من ذلك مباشرة حرفٍ مصدري لحرفٍ مصدري. الثاني: أن يكون هذا من باب التأكيد اللفظي، وهو من أحسنه لأنه توكيد كلمة بما يوافقها معنىً دون لفظ، وهو أجود من التوكيد بإعادة اللفظ بعينه، ومنه توكيد "السبل" بـ "الفجاج"، وتوكيد "الذين" بـ "من" في قراءة زيد {وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ}. ولتفضيل هذا النوع من التوكيد على إعادة اللفظ بعينه كان قولك "زيدٌ كمثل عمروٍ" سائغًا مستحسنًا في النظم والنثر، بخلاف "زيدٌ ككعمرو"، فإنه مخصوص بالضرورة. وقد اجتمعت "أن" و "لو" المصدريتان في قول على كرم الله وجهه: ما كان عليك أن لو صمت لله أيامًا، وتصدقت بطائفة من طعامك محتسبًا". انتهى كلامه، وفيه بعض تلخيص. فأما دعواه أن قوله "لو نعان فننهدا" أصله: وددنا لو نعان، فحذف الفعل لدلالة "لو" عليه، فهذا فيه إضمار الفعل حيث فهم من "لو" معنى

التمني، وهو على خلاف الأصل، وفيه إثبات أن "لو" في هذا التركيب تكون مصدرية، ولا يقول بذلك الأكثرون من النحاة، وإنما هو قول بعض الكوفيين ومن تبعه من متأخرين كالتبريزي. وأما الوجه الثاني الذي جوزه من وجهي النصب فإنه على تسليم أن "لو" مصدرية. وأما ما حكي عن أبي علي أن "لو" بمعنى الأمر فينبغي أن لا يُحمل على ظاهره، وإنما يريد أبو علي أنها أُشربت معنى التمني، والتمني طلب. وأما قول الزمخشري إن "لو"س تجيء في معنى التمني فهو قول النحويين، ولا يعنون أنها وُضعت دالةً على التمني، وإنما المعنى أنها تُشرب معنى التمني، فتُجاب بما تُجاب به "ليت" من الفاء المنصوب بعدها المضارع بإضمار "أن"، وإذا أُشربت معنى التمني فهي "لو" التي هي حرفٌ لما كان سيقع لوقوع غيره، وهي المعبر عنها عند معظم النحويين بأنها حرف امتناع لامتناع، وليست قسمًا موضوعًا للتمني، إنما تُشربه على سبيل المجاز، فكأنك نطقت بـ "ليت"، ولذلك جمعت العرب/ بين "لو" وبين جوابها بالفاء لإشرابها معنى "ليت"، وبين جوابها الذي لها بحق أصل الوضع، قال الشاعر: فلو نُبش المقابر عن كليبٍ فيُخبر بالذنائب أي زير بيوم الشعثمين لقر عينًا وكيف لقاء من تحت القبور

فقوله "فيُخبر" لاحظ فيها معنى "ليت"، وقوله "لقر عينًا" لاحظ فيها أصل وضعها من أنها حرفٌ لما كان سيقع لوقوع غيره. وإنما حَسُن الجمع بين الجوابين لأن الأول هو معطوف على مصدرٍ مُتوهم، فالمعنى: لو حصل نبشٌ فإخبارٌ لقر عينًا. وأما دعواه أن "لو" في قوله {لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً} هي المصدرية فلا نعلم أحدًا ذهب إلى ذلك غير هذا الرجل، بل هي عندهم الامتناعية أُشربت معنى التمني، وجوابها محذوف. وكذلك في قوله {لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ}، وكثيرًا ما يُحذف جواب "لو" لدلالة المعنى عليه، وقد بينا ذلك عند الكلام على "لو" الامتناعية. وذكر أبو مروان عبيد الله بن عمر بن هشام الحضرمي أنه إذا كانت "لو" بمعنى التمني فلا تحتاج إلى الجواب الذي للامتناعية، قال: "واختلفوا في قوله: فلو أنها نفسٌ تموت جميعةً ولكنها نفسٌ تساقط أنفسا فقيل: "لو" للتمني، فلا تحتاج إلى الجواب لأنه أراد: فليت أنها نفسٌ، وذلك أنه لما طال سقمه تمنى أن يأتيه الموت، فتذهب نفسه مرة. وقيل: هي الامتناعية على بابها، والجواب محذوف، تقديره: لاسترحت" انتهى. والصحيح أن التي تُشرب معنى التمني هي الامتناعية بنفسها. وأما جواب المصنف أنه على إضمار فعل، أي: لو ثبت أن لنا كرة،

فهذا مذهب المبرد، ذهب إلى أن إذا جاءت بعد "لو" كانت في موضع الفاعل بفعل مضمر تقديره: لو ثبت أنهم صبروا، أي: لو ثبت صبرهم. ومذهب س أن "أن" في موضع رفع على الابتداء. وقد تكلمنا على المذهبين في فصل "لو" من باب عوامل الجزم. وأما قوله "وقد اجتمعت أن ولو المصدريتان في قول علي" فليست "لو" هنا مصدرية، بل "أن" هي المصدرية، وهي المخففة من الثقيلة، و"لو صمت" جملة امتناعية، وهي في موضع الخبر لـ "أن" المخففة، وجواب "لو" محذوف، و"أن لو" هنا نظير {وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ}، والتقدير: وما كان عليك في أنه لو صمت وتصدقت لوجدت ثوابه، أو لنفعك. وقال أبو مسلم الأصبهاني: "ود بمعنى تمنى، فتستعمل معها "لو" و"أن"، وربما جُمع بينهما، فيقال: وددت أن لو فعل" انتهى/. وإذا ثبت أن الجمع بين "أن" و "لو" من كلام العرب في نحو "وددت أن لو كان كذا" حُمل على أن "أن" مخففة من الثقيلة، و "لو" هي الامتناعية، ولم يُجعلا حرفي مصدر.

-[ص: فصل الموصوف والصلة كجزأي اسم، فلهما ما لهما من ترتيبٍ، ومنع فصلٍ بأجنبي إلا ما شذ، فلا يُتبع الموصول، ولا يُخبر عنه، ولا يُستثنى منه، قبل تمام الصلة أو تقدير تمامها. وقد ترد صلةٌ بعد موصولين أو أكثر مُشتركًا فيها أو مدلولًا به على ما حُذف.]- ش: أشبه الأسماء بالصلة والموصول الاسم المركب تركيب المزج، فإن المفرد مُباين لهما بعدم التركيب، والمضاف والجملة مباينان لهما بتأثير صدريهما في عجزيهما. وقوله فلهما - أي فللصلة والموصول - ما لهما - أي: ما لجزأي الاسم من ترتيب - أي: من تقدم الموصول وتأخير صلته تليه. وقوله ومنع فصلٍ بأجنبي مفهومه إذا لم يكن الفصل بأجنبي جاز، وغير الأجنبي هو جملة الاعتراض، وهي ما كان فيها تأكيدٌ أو تبيينٌ للصلة، فمثال التوكيد الفصل بالقسم، قال الشاعر: ذاك الذي - وأبيك - يعرف مالكًا والحق يدفع ترهات الباطل

فصل بين الموصول وصلته بالقسم لأن فيه تأكيدًا للصلة، كأنه قال: ذاك الذي يعرف مالكًا حقًا. وفي الحديث: "وأنبوهم بمن - والله - ما علمت عليهم من سوءٍ قط". ومثال تبيين الصلة قوله تعالى {وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ جَزَاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ}، فقوله (وترهقه ذلةٌ) من كمال الصلة لأنه معطوف على (كسبوا)، وفصل بينه وبين الموصول بقوله {جَزَاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا}، وهي جملة من مبتدأ وخبر، والباء في الخبر لأن فيه تبيينًا لقوله (وترهقهم ذلةٌ) ألا ترى أن جزاء السيئة بمثلها من رهق الذلة لهم. وعد أصحابنا الفصل بالقسم من الفصل بجملة الاعتراض، ويظهر من كلام المصنف أنهما غيران؛ لأنه قال: "ولا يدخل في الأجنبي القسم لأنه يؤكد الجملة الموصول بها، ولا جملة الاعتراض، كقول الشاعر: ماذا - ولا عتب في المقدور - رمت، أما يُحظيك بالنجح أم خسرٌ وتضليل" انتهى. قال: "ففصل بين "ذا" و "رمت" بقوله: "ولا عتب في المقدور" لأن فيه توكيدًا وتسديدًا لمضمون الجملة الموصول بها". ولا يتعين في "ماذا"

أن تكون "ذا" موصولة إذ يحتمل أن تكون "ماذا" كلها استفهامية، وهو أحد محاملها التي تقدم ذكرها. قال المصنف: "والجملة الحالية أولى أن لا تعد أجنبية، والنداء الذي يليه مخاطبٌ، قال: /إن الذي، وهو مثرٍ، لا جود حرٍ بفاقةٍ تعتريه بعد إثراء العامل في جملة الحال "يجود"، وما عمل فيه فعل الصلة فهو من الصلة، فلا يكون أجنبيًا. وقال الشاعر: وتركي بلادي - والحوادث جمةٌ- طريدًا، وقدمًا كنت غير مطرد وقال: وأن الذي - يا سعد - أبت بمشهدٍ كريمٍ وأثواب المكارم والحمد فلو لم يل النداء مخاطبٌ عد الفصل به أجنبيًا، ولم يجز إلا في ضرورة نحو: .................. كن مثل من - يا ذئب - يصطحبان" وقوله إلا ما شذ مثاله قول الشاعر: وأبغض من وضعت إلى فيه لساني معشرٌ عنهم أذود

فصل بين الصلة ومتعلقها ومعمولها بقوله "إلي"، وهو أجنبيٌ من الصلة وما عملت فيه لأنه متعلق بالمضاف إلى الموصول، وهو "أبغض"، والأصل تأخيره بعد "لساني". وقوله فلا يُتبع الموصول بعني بنعت ولا عطف بيان ولا توكيد ولا بدل ولا عطف نسق، فأما قول الشاعر: لسنا كمن جعلت إيادٍ داراه تكريت تمنع حبها أن يُحصدا وقول الآخر: كذلك تلك، وكالناظرات صواحبها، ما يرى المسحل فظاهره أن "إياد" بدل من "من" في رواية من جر، وبدل من الضمير المستكن في "جعلت" في رواية من رفع "إياد"، وقد فصل بالبدل بين الصلة التي هي "جعلت" و "دارها تكريت" اللذين هما معمولًا "جعلت". وكذلك فصل بقوله "صواحبها" - وهو مبتدأ - بين "الناظرات" ومعمولها الذي هو "ما يرى المسحل". فقيل: هذا الفصل ضرورة كقوله: وأبغض من وضعت إلي فيه ................... (البيت)

وقيل: يتخرج على أن يكون الموصول قد تمت صلته عند قوله "جعلت"، وأبدل بعد تمام الصلة. وكذلك تم الكلام عند قوله "وكالناظرات صواحبها". وينتصب "دارها تكريت" و" ما يرى المسحل" بفعلٍ محذوف تدل عليه الصلة، التقدير: جعلت دارها تكريت، وينتظرن ما يرى المسحل. وقوله ولا يُخبر عنه ولا يستثنى منه قبل تمام الصلة: لا يجوز: الذي محسنٌ أكرم زيدًا، في: الذي أكرم زيدًا محسنٌ. ولا يجوز: جاء الذين إلا زيدًا أساؤوا في: جاء الذين أساؤوا إلا زيدًا. وقوله أو تقدير تمامها هو مثل التخريج الثاني في "لسنا كمن جعلت إيادٍ" والبيت الذي بعده. وقوله وقد ترد صلةٌ بعد موصولين أو أكثر مشتركًا/ فيها مثاله قول الشاعر: صل الذي والتي متا بآصرةٍ وإن نأت عن مرامي متها الرحم فـ "متا" صلة اشتركت فيها "الذي" و "التي"، وكان القياس أن يقول: صل اللذين، فيُغلب المذكر، لكنه أفرد كلًا من الموصولات لأنه أوضح في التذكير والتأنيث من التغليب. ومثال ما هو أكثر من موصولين مشتركًا في الصلة: [بعد اللتيا واللتيا والتي إذا علتها أنفسٌ تردت]

وقوله أو مدلولًا بها على ما حُذف مثاله قوله: وعند الذي واللات عُدنك إحنةٌ عليك، فلا يغررك كيد العوائد وقول الراجز من اللواتي والتي واللاتي يزعمن أني كبرت لداتي التقدير: وعند الذي عادك، ومن اللواتي يزعمن أني كبرت لداتي والتي تزعم. ولو أنشد هذا دليلًا على أن الصلة مشترك فيها أكثر من موصولين لناسبن فتكون "يزعمن" صلة للموصلات الثلاثة على سبيل الاشتراك فيها. -[ص: وقد يُحذف ما علم من موصولٍ غير الألف واللام، ومن صلة غيرهما، ولا تُحذف صلة حرفٍ إلا ومعمولها باقٍ، ولا موصولٌ حرفيٌ إلا "أن". وقد يلي معمول الصلة الموصول إن لم يكن حرفًا أو الألف واللام. ويجوز تعليق حرف جرً قبل الألف واللام بمحذوفٍ دل عليه صلتها، ويندر ذلك في الشعر مع غيرها مطلقًا، ومعها غير مجرورةٍ بـ "من".]- ش: قوله من موصولٍ يعني اسمي؛ لأنه ذكر الموصول الحرفي بعد ذلك. وهذا الذي ذكره من جواز حذف الموصول الاسمي إذا عُلم هو شيء ذهب إليه البغداذيون والكوفيون، وأما البصريون غير الأخفش فلا يجيزون ذلك، وإن ورد فيكون ذلك مختصًا بالشعر. وذهب المصنف مذهب الكوفيين والبغداذيين في ذلك، وزعم أنه ثابت

بالقياس والسماع، قال: "فالقياس على "أن"، فإن حذفها كتفي بصلتها جائزٌ بإجماع، مع أن دلالة صلتها عليها أضعف من دلالة صلة الموصول من الأسماء عليه؛ لأن صلة الاسم مشتملةٌ على عائد يعود عليه، ويُميل الذهن إليه، وليس ذلك في صلة الحرف، فالموصول الأسمى أولى بالحذف، وأيضًا فهو كالمضاف، وصلته كالمضاف إليه، وحذف المضاف إذا عُلم جائز، فكذلك ما أشبهه. وأما السماع فمنه قول حسان: أمن يهجو رسول الله منكم ويمدحه، وينصره سواء وقول ابن رواحة: / فوالله ما نلتم وما نيل منكم بمعتدلٍ وفقٍ ولا متقارب وقول بعض الطائيين: ما الذي دأبه احتياطٌ وحزمٌ وهواه أطاع يستويان وقول الآخر: لكم مسجدا الله المزوران والحصى لكم قبضه من بين أثرى وأقترا التقدير: ومن يمدحه، وما الذي نلتم، والذي هواه أطاع، ومن بين من

أثرى ومن اقتر، أي: استغني وافتقر". قال المصنف: "وأقوى الحجج قوله تعالى {وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنزِلَ إِلَيْنَا وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ} أي: وبالذي أنزل إليكم، فيكون مثل {آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِيَ أَنزَلَ مِن قَبْلُ} " انتهى. وقوله في "أن": "إن حذفها مُكتفي بصلتها جائزٌ بإجماع" ليس بصحيح، ولا إجماع فيه؛ لأنه إن أراد ما ينتصب بإضمار "أن" بعد الواو والفاء في الأجوبة الثمانية، وأو وحتى ولام "كي" ولام الجحود، فالخلاف فيه موجود، وإن أراد غير لك فالخلاف فيه أيضًا موجود، وينظر ذلك في كلامنا على النواصب في شرح هذا الكتاب. وقوله ومن صلة غيرهما مثاله قوله: أبيدوا الألى شبوا لظي الحرب، وادرأوا شباها عن اللائي فهن لكم إما أي: عن اللائي لم يشبوا لظاها، حذف الصلة لتقدم ما يدل عليها، وقوله: أصيبا به فرعا سُليم كلاهما وعز علينا أن يُصابا، وعز ما أي: وعز ما أُصيبا به، وقولُ الآخر:

أتجزع إن نفسٌ أتاها حمامها فهلا الذي عن بين جنبيك تدفع أي: فهلا تدفع الذي يُجزعك عن بين جنبيك. ومن الاستدلال في هذا الباب بالمتأخر قول الشاعر: نحن الألي، فاجمع جمو عك، ثم وجههم إلينا التقدير: نحن الألي عرفت عدم مبالاتهم بأعدائهم، وفهمت هذه الصلة بقوله: فاجمع جموعك ثم وجههم إلينا. وأنشد أحمد بن يحي: فإن أدع اللواتي من أناسٍ أضاعوهن لا أدع الذينا قال أبو علي: "التقدير: اللواتي أولادهن من أناسٍ أضاعوهن، أي: أضاعوا هؤلاء النساء، فلم يحموهن كما تحمي الفحولة أزواجها، فلا أدع الذين أضاعوهن، والمعنى:/ إن أدع هجو هؤلاء النساء فلا أدع هجو هؤلاء الرجال". وقوله ولا تُحذف صلة حرفٍ إلا ومعمولها باقٍ مثاله قول العرب: لا أفعل ذلك ما أن حراء مكانه، وما أن في السماء سحابةً، أي: ما ثبت، حذفوا "ثبت"، وأبقوا الفاعل بها، وهو "أن" ومعمولاها. ومن ذلك: "أما أنت منطلقًا انطلقت"، أي: لأن كنت، حذف "كان"، وهي صلة "أن"، وأبقي معمولاها. وقول العرب: "كل شيء أممٌ ما النساء وذكرهن" أي:

ما عدا النساء. وقوله ولا موصولٌ حرفيٌ إلا "أن" إذا حذفت فتارةً يبقى عملها، وتارةً لا يبقى. قال المصنف في الشرح: "ومنه {وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ}، وقوله: فجاءت به وهو في عزبةٍ فلولا تجاذبه قد غلب وقول الفرزدق: ألا إن هذا الموت أضحى مسلطًا وكل امرئ لابد ترمى مقاتله وقول ذي الرمة: وحق لمن أبو موسى أبوه يوفقه الذي أرسى الجبالا وقول الآخر: أو ليس من عجبٍ أسائلكم ما خطب عاذلتي وما خطبي؟ وقول الفرزدق: بحق امرئ بين الأقارع بيته وصعصعة البحر الجزيل المواهب يكون سبوقًا للكرام إلى العلا إذا فصل المقياس بين الحلائب

وقول الآخر: وقالوا: ما تشاء؟ فقلت: ألهو إلى الإصباح آثر ذي أثير ومن كلام بعض العرب: "أذهب إلى البيت خيرٌ لي"، و "تزورُني خيرٌ لك"، و "تسمع بالمعيدي خيرٌ لا أن تراه"، التقدير: أن يريكم، وأن تُجاذبه، وأن تُرمى، وأن يُوفقه، وأن أسائلكم، وأن يكون، وأن ألهو، وأن أذهب، وأن تزورني، وأن تسمع" انتهى، وفيه بعض تلخيص، وفيه ما يُتأول على غير إضمار "أن". وقوله وقد يلي معمول الصلة الموصول مثاله: جاء الذي زيدًا ضرب، تريد: ضرب زيدًا. وقوله إن لم يكن حرفًا أطلق الحرف، وينبغي أن يُقيد بكونه ناصبًا، كما قيده غيره، مثل أن وكي وأن، فإنه لا يجوز أن يليها معمول شيء من صلاتها، فأما "ما" فإنه يجوز ذلك فيها، تقول: عجبت مما زيدًا تضرب، أي: مما تضرب زيدًا. وعلل المصنف في الشرح امتناع تقديم معمول صلة الحرف/ عليها "بأن امتزاجه بصلته أشد من امتزاج الاسم بصلته؛ أشد من امتزاج الاسم بصلته؛ لأن أسميته منتفيةٌ بدونها، فلو تقدم معمولها كان تقدمه بمنزلة وقوع كلمةٍ بين جزأي مصدر، وليس كذلك تقدم معمول صلة الاسم غير الألف واللام؛ لأن له تمامًا بدونها ولذلك جُعل إعرابه إن كان مُعربًا قبلها، والإعراب لا يجئ قبل تمام

المعرب، ولما له من التمام بدونها جاز أن يستغني عنها وعن معمولها إذا علمت، بخلاف الموصول الحرفي" انتهى. وظاهر هذا التعليل أنه عامٌ في كل موصولٍ حرفي، وقد ذكرنا أن النحويين فرقوا بين ما كان عاملًا من الحروف المصدرية وبين ما ليس بعامل، فمنعوا أن يتقدم معمول الصلة عليها إذا كان الموصول عاملًا، وأجازوه إذا كان غير عامل. وعلة المنع في العامل أن الموصول قوي تشبثه بالصلة من حيث اللفظ ومن حيث المعنى، أما من حيث اللفظ فكونه عمل فيها، وأما من حيث المعنى فكونه معها في تقدير اسم واحد، وهو المصدر، فلما قوي تشبثه من الوجهين المذكورين لم يكن ليُفصل بمعمول الصلة بين الموصول الحرفي وبينها. وأما إذا لم يكن عاملًا فإنه إذ ذاك شبيهٌ بالاسم الموصول من حيث اقتضاء الصلة من غير عمل، فجاز أن يتقدم معمولها عليها، وأن يُفضل به بينها وبينه. وقوله أو الألف واللام مثاله: جاءني القاتل زيدًا، لا يجوز: جاءني ال زيدًا قاتل. وعلة ذلك قوة امتزاجها بالصفة، وهو أقوى من امتزاج "أن" بصلتها لأنه يجوز أن يُفصل بين "أن" وصلتها بـ "لا"، ولا يجوز ذلك في "أل" لا بـ "لا" ولا بغيرها؛ لأنها أشبهت "أل" للتعريف، فعوملت معاملتها لفظًا. وقوله ويجوز تعليق حرف جر قبل الألف واللام بمحذوفٍ تدل عليه صلتها مثال ذلك {وَكَانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ}، و {إِنِّي لِعَمَلِكُم مِّنَ الْقَالِينَ} و {إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ}، {وَأَنَا عَلَى ذَلِكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ}.

ولا يجوز تقديم شيء من الصلة على الموصول، سواء أكان حرفًا أم اسمًان فمما جاء يقتضي ظاهره ذلك الآيات المذكورة، وقول الراجز: ربيته حتى إذا تمعددا كان جزائي بالعصا أن أجلدا وقوله: ...................... أبت للأعادي أن تذل رقابها فأما ما ظاهره أن يعمل فيه متقدمًا ما كان صلةً للألف واللام ففي تخريجه وجوه: أحدها: أن هذا من الاتساع في الظروف والمجرورات، فإنها قد جاز فيها أشياء لا تجوز في غيرها، واختاره شيخنا الأستاذ أبو الحسن بن الضائع. والثاني: أن "أل" ليست موصولة، وإنما هي للتعريف؛ ألا ترى أنك تقول: نعم القائم زيدٌ، ولا يجوز: نعم الذي قام زيدٌ، فإنما هو بمنزلة: نعم الرجل زيدٌ، وهو مذهب المازني في "أل" أنها للتعريف، وإلى هذا/ الوجه مال المبرد. والثالث: أنه يتعلق بإضمار فعل تقديره: أعني فيه من الزاهدين، ويكون الخبر هو (من الزاهدين)، وكذلك باقيها، وروي هذا التخريج عن

المبرد أيضًا. ويُعبرون عن هذا بالتبيين، وليس الجار والمجرور داخلًا في الصلة، بل هو على جهة البيان كـ "لك" بعد "سقيًا". الرابع: أنه يتعلق باسمٍ محذوف يدل عليه هذا الظاهر، تقديره: وكانوا زاهدين فيه من الزاهدين، وكذلك باقيها. وإلى هذا ذهب ابن السراح وابن جني، وقاله المبرد قبلهما، قال: جعل (من الشاهدين) و (من الناصحين) تفسيرًا لـ "شاهد" و "ناصح". قال المنصف في الشرح: "ويكثير هذا الحذف قبل الألف واللام داخلًا عليها "من" التبعيضية؛ لأن في ذلك إشعارًا بأن المحذوف بعض المذكورين بعد، فتقوى الدلالة عليه". وقوله وينذر ذلك في الشعر مع غيرها مطلقًا أي: مع غير الألف واللام. ويعني بقوله "مطلقًا" سواء أوجدت "من" جرت الموصول أم لم توجد جارة له، فمثال ذلك مع "من" وقد جرت الموصول قول الشاعر: لا تظلموا مسورًا، فإنه لكم من الذين وفوا في السر والعلن تقديره: فإنه وافٍ لكم من الذين وفوا. ومثاله مع موصولٍ غير الألف واللام، ولم يجز بـ "من" قول الشاعر:

وأهجو من هجاني من سواهم وأعرض منهم عمن هجاني قال المصنف: "أرد: وأعرض عمن هجاني منهم عمن هجاني منهم، على سبيل التوكيد، ثم حذف منهم من التوكيد، وحذف ما سواها من المؤكد" انتهى. والأحسن - عندي - أن يكون التقدير - وأعرض عن هاجي منهم، فيكون المحذوف اسم فاعل، وهو أسهل من حذف موصولٍ وصلته. وقوله ومعها غير مجرورةٍ بـ "من" أي: ومع الألف واللام غير مجرورة بـ "من"؛ لأنه ذكر أنه إذا كان مجرورة بـ "من" كان الحذف كثيرًا، ومثاله قوله: تقول وصكت صدرها بيمينها أبعلي هذا بالرحى المُتقاعس فـ "بالرحى" متعلق بمحذوف، يدل عليه قوله "المتقاعس"، تقديره مُتقاعسًا بالرحى، و "المتقاعس" ليس مجرورًا بـ "من". وقوله: فإن تنأ عنها حقبةً لا تلاقها فإنك مما أحدثت بالمجرب فـ "مما أحدثت" متعلق بمحذوف، يدل عليه "بالمجرب"، و "المجرب" فيه الألف واللام، لكنه لم يجر بـ "من"، والتقدير: فإنك

مجرب مما أحدثت بالمجرب. وقول الشماخ: فتىً ليس بالراضي بأدنى معيشة ولا في بيوت الحي بالمُتولج /التقدير: ولا بمتولج في بيوت الحي بالمتولج. وهذا المسألة والتي قبلها لا تجوز إلا في الضرورة، وأما إذا كان الموصول "أن" فلا يجوز أيضًا تقديم شيء من معمول صلتها عليها كما ذكرنا، فأما: كان جزائي بالعصا أن أجلدا ونحوه، فقد خرج على الحذف، أي: كان جزائي أن أجلد بالعصا أن أجلد. إلا أن الفراء أجاز تقديم معمول صلة "أن" عليها، والكسائي أجاز تقديم معمول صلة "كي" عليها، فأجاز الفراء: أعجبني العسل أن تشرب، وأجاز الكسائي: جاء زيدٌ العلم كي يتعلم، ولا يجوز ذلك عندنا. والمصدر الذي ينحل بحرفٍ مصدري والفعل حكمه في الامتناع من تقديم شيء من معمولاته عليه حكم الحرف المصدري فأما قول الشاعر: وبعض الحلم عند الجهـ ـل للذلة إذعان وقوله:

حَلَّت لي الخمر، وكنت امرًأ عن شربها في شغلٍ شاغل فخرج على أن العامل في المجرور محذوف، تقديره: إذعانٌ للذلة إذعان، وكنت امرأً مشغولًا عن شربها.

باب اسم الإشارة

-[ص: باب اسم الإشارة وهو ما وضع لمسمى وإشارةٍ إليه، [وهو] في القرب مفردًا مذكرًا "ذا" ثم "ذاك" ثم "ذلك" و "آلك" وللمؤنثة "تي" و "تا" و "ته" و "ذي" و "ذه"، وتكسر الهاءان باختلاسٍ وإشباعٍ، و"ذات"، ثم "تيك" و "تيك" و"ذيك" ثم "تلك" و "تلك" و "تيلك" و "تالك".]- ش: "ما وضع لمسمى" جنس يشمل كل ما وضع لمسمى، وهذا أقعد الأجناس إذ يدخل فيه النكرة والمعرفة، و"ما" مبهمة، فينبغي أن تُجنب الحدود والرسوم. و "إشارة" خرج بذلك ما سوى اسم الإشارة. وهذا الذي أورده ليس على سبيل الحدود ولا الرسوم؛ إذ لم يأت فيه بجنس وفصلٍ. وأحسن ما قيل في حد اسم الإشارة: اسم الإشارة هو الموضوع لمعين في حال الإشارة. فـ "الموضوع لمعين" جنس يشمل المعارف، و "في حال الإشارة" فصل يُخرج سائر المعارف، ويخص اسم الإشارة. وقوله وهو في القرب مفردًا مذكرا "ذا" وألفه منقلبة عن أصل عند البصريين، وزعم الكوفيون أن الألف زائدة، ووافقهم

السهيلي على ذلك، واحتجوا بقولهم في التثنية "ذان"، فالألف والنون هي للتثنية، فلم يبق سوى الذال. وأجيبوا عن هذا بأنها ليست تثنية، بل هي صيغة موضوعة للتثنية. والدليل على ذلك عدم تنكيرها، ولو سلمنا أنها تثنية حقيقة لقلنا: سقطت الألف الأولى لالتقاء الساكنين، ولأنه قد عوض من الذاهب تشديد النون، فكأنه لم يذهب. ورد مذهب الكوفيين بأنه ليس في الأسماء الظاهرة القائمة/ بنفسها ما هو على حرف واحد. واختلف البصريون في ألف "ذا"، فقال بعضهم: هي منقلبة عن ياء، فالعين واللام المحذوفة ياءان، وهو ثلاثي الوضع في الأصل. وقال بعضهم: الألف منقلبة عن واو وجعلوه من باب طويت. واحتج البصريون على أنها منقلبة عن أصل بقولهم في التصغير ذيا، وأصله عندهم: ذييا، فقد انقلبت الألف ياء، وأعيدت لام الكلمة ياء، وأدغم فيها ياء التصغير على ما قرر في باب التصغير. ولو ذهب ذاهب إلى أن "ذا" ثنائي الوضع نحو "ما"، وأن الألف أصل بنفسها، وليست منقلبة عن شيء؛ إذ أصل الأسماء المبنية أن توضع على

حرف واحد أو على حرفين، لكان قد ذهب مذهبًا جيدًا سهلًا قليل الدعوى. وهذا الذي قدرنا أن لو قيل به وقفت عليه بعد ذلك للسيرافي، قال: ذا على حرفين كـ "ما"، فلما صغروا ألحقوا ياء ليتم التصغير، وكانت ياءً لأنها أكثر ما تلحق. وذكر الخشني في شرحه كتاب س أن "ذا" لا يُطلب له وزن ولا أصل، كما لا يُطلب للحروف، وأن قومًا ذهبوا إلى ذلك، فالألف أصل على قول هؤلاء، كما هي أصل في "ما" و "لا"، قال: إلا أنه لما كان اسمًا يُثنى ويُجمع ويُحقر وجب أن يغلب عليها حكم الاسمية، وأن يطلب أصلها ووزنها، فنقول: هو اسم على حرفين، وأقل ما يكون الاسم على ثلاثة أحرف، فالساقط حرف، والأظهر أن يكون اللام، وأن يكون ياء لأن الياء تغلب على اللام، والواو على العين، إلا أن الإمالة سُمعت فيه، فوجب أن يكون ياءً، على أنه قد تُمال ذوات الواو، فمن جعل الألف منقلبة عن ياء لم يُجز في اللام أن تكون واوًا؛ لأن مثل حيوت غير موجود في الكلام إلا على مذهب أبي عثمان. ثم هذه الألف تحتمل أن تكون العين، وأن تكون اللام: فمن قال هي العين قال: لأن الإعلال يسبق إلى اللام، فهي أحق بالحذف من العين. ومن قال الياء فيه هي العين قال: حكم اللام أن تكون ساكنة نحو ذي، فلا يجب قلبها ألفًا، فلما وجدنا هذه الألف استدللنا على أنها منقلبة عن حرف متحرك، وهي العين، إلا أن الذي يقول إنها اللام قلبت وإن كانت ساكنة لما دخل هذه الكلمة من الإعلال لم يبالوا بقلبها ألفًا وإن كانت ساكنة، كما قلبوها ساكنة في ياجل وطائي. وأما وزنها فقيل: فعلٌ محرم العين. وقيل: ساكن لأنه الأصل، إلا أن الأظهر التحريك لأجل الانقلاب؛ لأن الانقلاب عن المحرك أولى، كانت عينًا أو لامًا، وإن كان يحتمل الانقلاب عن ساكن، لكن حمله على هذا

قليل. وسأل ابن مهلب أبا الحسن بن الأخضر عن وزن "ذا" فقال: هو فعل محرك. فقال له ابن مهلب: أخطأت. قال الخشني: فذكرت ذلك لأبي عبد الله، يعني ابن أبي العافية، فقال: الصواب ما قاله أبو الحسن، وما/ قاله ابن مهلب خطأ. ولم يستوف المصنف ما يُشار به للواحد المذكر القريب، إذ يقال فيه "ذاء" بهمزة مكسورة بعد الألف، و "ذائه" بهمزة بعد ألف وهاءٍ تليها مكسورةٍ قال الراجز ها ذائه الدفتر خير دفتر وقوله ثم ذاك هذه الرتبة الوسطى للمفرد المذكر. وقوله ثم ذلك وآلك هذه الرتبة القصوى للمفرد المذكر، ونقصه أن يقول: ذائك. وهذا التقسيم الذي ذكره المصنف من اعتبار المشار بمراتب ثلاث الدنيا والوسطى والقصوى هو مشهور قول النحويين، ويأتي قول من جعل ذلك مرتبتين الدنيا والبعدى عند ذكر المصنف ذلك. وقوله وللمؤنثة إلى وذات هي عشرة ألفاظ مفهومة من الكتاب للمؤنثة المفردة في حالة القرب. وقوله ثم تيك وتيك وذيك هذه المرتبة الوسطى للمؤنثة المفردة. وقال أحمد بن يحيى: لا يقال ذيك. وقوله ثم تلك هذه المرتبة القصوى، و"تلك" بكسر التاء هي الأفصح،

وأما "تلك" بفتحها فحكاها هشام، و"تيلك"، أنشد الفراء: بأية تيلك الدمن الخوالي عجبت منازلًا لو تنطقينا و"تالك" أنشد الفراء للقطامي: تعلم أن بعد الغي رشدًا وأن لتالك الغمر انقشاعا وأنشد غيره: إلى الجودي حتى عاد حجرًا وحان لتالك الغمر انحسار -[ص: وتلي الذال والتاء في التثنية علامتها مجوزًا تشديد نونها، وتليها الكاف وحدها في غير القرب، وقد يقال "ذانيك". وفي الجمع مطلقًا "أولاء"، وقد ينون، ثم "أولئك"، وقد يُقصران، ثم "أولالك" على رأيٍ وعلى رأيٍ "أولاء" ثم "أولاك" ثم "أولئك" و "أولالك". وقد يقال هلاء، وأولاء، وقد تُشبع الضمة قبل اللام. وقد يقال "هؤلاء" و "ألاك". ومن لم ير التوسط جعل المجرد للقرب وغيره للبعد. وزعم الفراء أن ترك اللام لغة تميم.]- ش: تقول في تثنية المذكر في القرب: ذان، وفي تثنية المؤنثة: تان، فتحذف ألف ذا وألف تا، ولم يُثن غير هذين اللفظين. وقوه مُجوزًا تشديد نونها فتقول: ذان وتان. وقد خالفت هذه التثنية تثنية الأسماء المتمكنة بشيئين:

أحدهما: حذف الألف، ولا تُحذف من المتمكن إلا شاذًا في بعض ألفاظه على حسب السماع، بل تُقلبُ في الاسم المتمكن. الثاني: جواز تشديد النون، ولا يجوز/ ذلك في تثنية الاسم المتمكن. وظاهر كلام المصنف تجوير تشديد النون مطلقًا، أعني في الرفع والنصب والجر، وهذا هو مذهب الكوفيين. وذهب البصريون إلى أنه لا يجوز التشديد إلا مع الألف خاصة، ولا يجوز مع الياء، فتقول: ذان وتان، ولا يجوز: ذين ولا تين بالتشديد. وقوله وتليها الكاف وحدها في غير القرب أي: وتلي النون الكاف في الحالة الوسطى والبعدى، فتقول: ذانك وتانك وذانك وتانك. وقد يقال ذانيك: ظاهر كلام المصنف أنه في الحالة الوسطى والحالة البُعدى تقول: ذانك وتانك وذانك وتانك وذانيك. وأصحابنا يقولون في الحالة الوسطى: ذانك وتانك بالنون خفيفة، وفي الحالة البُعدى: ذانك وتانك، وذانيك وتانيك بإبدال إحدى النونين ياء. ولم يذكر المصنف تانيك. قال المصنف في الشرح: "وقلت "وحدها في غير القرب" ليعلم أن اللام لا تجتمع مع الكاف في التثنية كما اجتمعت في الإفراد، وأن لمُثنى المشار إليه في البُعد ما له مع التوسط؛ لأنهم استثقلوا اللام بعد النون. وزعم قوم أن من قال ذانك بتشديد النون قصد تثنية ذلك". يعني أن ذانك للبعد كما ذكره أصحابنا.

قال المصنف: "ويبطل هذا القول جواز التشديد في نون ذين وتين، بل التشديد جابرٌ لما فات من بقاء الألف التي حقها أن لا تُحذف كما لا تُحذف ألف المقصور. ويؤيد صحة هذا الاعتبار جواز تشديد نون اللذين واللتين ليكون جابرًا لما فات من بقاء ياء الذي والتي، كما تبقى ياء المنقوص حين يُثنى" انتهى كلامه. وما زعم أنه يُبطل ذلك القول جواز التشديد في نون ذين وتين ليس بصحيح؛ لأن التشديد في نون ذين وتين، والحالة هذه، هو على سبيل الجواز، والتزامه في ذانك وتانك في حالة البعد هو على سبيل اللزوم، فلا يدل جوازه في حالة القرب على عدم جعله على سبيل اللزوم دليلًا على حالة البعد، بل قد يلزم الشيء دلالةً على شيء في حال، وإن كان جائزًا في حال أخرى. وقوله "بل التشديد جابرٌ" لو كان جابرًا لكان لازمًا لأن حذف ألف "ذا" و "تا" في التثنية، وياء "الذي" و "التي" في التثنية لازم، فوجب أن يكون الجابر لازمًا، فكونه جاء جائزًا دليل على أنه ليس بجابر، فبطل ما زعم. وتقدم لنا أن البصريين لا يُجيزون تشديد النون مع الياء في حالة النصب والجر، وإذا كان المثني في حالة البعد التزموا الإبدال، فقالوا: ذينيك وتينيك، ولا يُجيزون تينك ولا ذينك بالتشديد. وسألني شيخنا الإمام بها الدين أبو عبد الله محمد بن إبراهيم بن النحاس الحلبي - رحمه الله - عن قولهم "هذان" بالتشديد:/ ما النون المزيدة؟ قلت له: الأولى. قال: قال الفارسي في التذكرة: هي الثانية لئلا يُفصل بين ألف التثنية ونونها، ولا يُفصل بينهما. قلت له: يكثر العمل في

ذلك لأنا نكون زدنا نونًا متحركة، ثم أسكنا الأولى، وأدغمنا، أو زدناها ساكنة، ثم أسكنا الأولى، وأدغمنا، فتحركت لأجل الإدغام بالكسر على أصل التقاء الساكنين، وعلى ما ذكرته نكون زدنا نونًا ساكنة، وأدغمنا فقط، فهذا أولى عندي لقلة العمل ثم ظهر لي تقوية هذا الذي ذكرته بأن الألف والنون ليستا متلازمتين، فيكره الفصل بينهما؛ ألا ترى إلى انفكاكها منها بالحذف في الإضافة وتقصير الصلة. وقوله وفي الجمع مطلقًا أولاء يعني بقوله "مطلقًا" أي في جمع المذكر والمؤنث، يعني أنهما يشتركان في هذا اللفظ، فتقول: أولاء خرجوا، وأولاء خرجن. ووزنه عند أبي العباس وأبي علي فعال كالغثاء في الوزن لا في الانقلاب. فإذا قُصر فوزن فعل كهدى. وذهب أبو إسحاق إلى أن وزنهما معًا فعلٌ كهدى، زيد في آخره ألف، فانقلبت الثانية همزة، كما تقول في النزاء والدعاء: زدت ألفًا قبل حرف العلة، فانقلبت همزة. والفرق بينهما أن الهمزة في النزاء انقلبت عن ألفٍ انقلبت عن واو، وفي أولاء انقلبت عن ألف لم تكن منقلبةً عن شيء. وقوله وقد يُنون حكي قُطرب تنونيه لغة، فتقول: أولاءٍ. قال المصنف في الشرح: "وتسمية تنوينًا مجازٌ لأنه غير مناسب لواحد من أقسام التنوين، والجيد أن يقال: إن صاحب هذه اللغة زاد نونًا بعد همزة أولاء، كما زيد بعد فاء "ضيف" نون، إلا أن ضيفًا مُعرب فلما زيد آخره

نونٌ صار حرف إعراب، فتحرك، وأولاء مبني، فلما زيد آخره نونٌ سكن؛ إذ لا مُوجب لتحركه، فإنه آخر مبنيٌ مسبوق بحركة" انتهى. وليست هذه النون في الزيادة كنون "ضيفن"، لأن نون "ضيفن" زيدت للإلحاق بجعفر، فجيء بها لأجل الإلحاق، ونون "أولاءٍ" لم يُؤت بها لشيء. وأيضًا ففي نون "ضيفن" خلافٌ أهي زائدة، فيكون أصل الكلمة "ضيف"، أم أصليةٌ، فيكون وزنه فيعلا، ويكون من ضفن الرجل إذا جاء مع الضيف. وقوله ثم أولئك وقد يقصران أي: يُقصر أولاء، فيقال أولى، ويقصر أولئك، فيقال أولاك. و"أولى" هو للرتبة القريبة، و "أولئك" للرتبة الوسطى، وعدوا أيضًا للرتبة الوسطى "ألاك" بشديد اللام، قال: من بين ألاك إلى ألاكا وقوله ثم أولالك على رأيٍ يعني أنه ليس للرتبة البعدى لفظ سوى "أولالك"، وقال الشاعر: /أولالك قومي، لم يكونوا أشابةً وهل يعظ الضليل إلا أولالكا وقوله وعلى رأيٍ أولاء ثم أولاك ثم أولئك وأولالك يعني أنه للرتبة الدنيا "أولاء" ثم للوسطى "أولاك"، ثم للقصوى لفظان، وهما "أولئك" و "أولالك"، فالخلاف وقع في "أولئك"، أهو للرتبة الوسطى أم للرتبة

البعدى. وحكى الفراء أن القصر في "أولى" و "أولاك" لغة بني تميم، وأن المد لغة الحجاز. ومما يستدل به أن أولائك للوسطى مثل "أولاك" قول الشاعر: يا ما أميلح غزلانًا، شدن، لنا من هؤليائكن الضال والسمر ووجه الدلالة أنه قدر تقرر أن "ها" للتنبيه لا تُجامع اللام لأن اللام لا تكون إلا للبعد، وتُجامع القريب والوسط، فتقول: هذا وهذاك، ولا تقول: هذلك، وتقول: هؤلاء وهؤلاك وهؤلئك، فلو كانت أولئك للبعد لما دخلت عليه "ها" للتنبيه؛ لأن "ها" للتنبيه لا تُجامع البعيد. وأصل هؤليائكن قبل التصغير هؤلئكن، فدل ذلك على أنها للوسطى لا للبُعدى. وقوله وقد يقال هُلاء هذا من إبدال الهمزة هاء كقولهم في إياك: هياك، وفي أما: هما، وفي أرقت: هرقت، وهو باب مُتسع. وقوله وأولاء يعني بضم الهمزتين. وقوله وأولاء وأولئك بإشباع الضمتين، وهاتان لغتان غريبتان، ذكرهما قُطرب. وقوله وقد يقال هؤلاء وألاك أما هؤلاء فحكاها الأستاذ أبو علي عن

بعض العرب، وأنشد المصنف في نسخة من شرح هذا الكتاب" تجلد لا يقل هؤلاء هذا بكى لما بكي أسفًا علينا وأما "ألاك" بالقصر والتشديد فحكاها بعض اللغويين، وتقدم ذكرنا لها، وأنها في الرتبة الوسطى. وقوله ومن لم ير التوسط إلى آخره هذا مذهب لبعض النحويين، جعل لأسماء الإشارة مرتبتين قريبة وبعيدة كالمنادى، فإن حروفه على قسمين، منها ما يكون للقريب، ومنها ما يكون للبعيد، فما كان مجردًا من كاف الخطاب فهو للقريب سواء أكان مصحوبًا بـ "ها" للتنبيه أم لم يكن، وهذا معنى قوله "جعل المجرد" يعني من كاف الخطاب، وما لم يتجرد منها يكون للبعيد. قال المصنف الشرح: "وهذا هو الصحيح، وهو الظاهر من كلام المتقدمين، ويدل على صحته خمسة أوجه: أحدها: أن النحويين مجمعون على أن المنادى ليس له إلا مرتبتان مرتبة للقرب، تستعمل فيها الهمزة، ومرتبة للبعيد أو ما هو في حكمه، تستعمل فيها بقية الحروف، والمشار إليه/ شبيه بالمنادى، فليقتصر فيه على مرتبتين إلحاقًا للنظير بالنظير. قلت ليس المشار إليه شبيهًا بالمنادى، وأي شبه بينهما؟ المشار إليه ليس مقبلًا عليه بالخطاب، وبل المقبل بالخطاب هو غيره، وهو اسم غائب يخبر عنه إخبار الغائب، وأما المنادى فهو المقبل عليه بالخطاب، فتقول: يا زيد لقد صنعت كذا، كما قال:

أداراً بحزوى هجت للعين عبرة فما الهوى يرفض، أو يترقرق وقال: ألا يا نخلة من ذات عرق عليك ورحمة الله السلام ولو سلمنا أن بينهما شبهًا في شيء ما لم يلزم أن يشتركا في سائر الأحكام، فتكون رتبة المشار إليه مثل رتبة المنادى. الثاني: أن المرجوع إليه في مثل هذا النقل لا العقل، وقد روى الفراء أن بني تميم يقولون: ذاك وتيك بلا لام، حيث يقول الحجازيون: ذلك وتلك باللام، وأن الحجازيون ليس من لغتهم استعمال الكاف بلا لام، وأن التميميين ليس من لغتهم استعمال الكاف مع اللام، فلزم هذا أن اسم الإشارة على اللغتين ليس إلا مرتبتان، إحداهما للقرب والأخرى لأدنى البعد وأقصاه. قلت: لا يلزم ما ذكر لأنه يقتصر في بعض اللغات على معنى ما، ولا يكون لهم لفظ يعبر عن المعنى الآخر المقابل، ولا يلزم من تعقل معنى ما في الوجود أن يوضع له لفظ، فإن صح نقل الفراء فيكون بنو تميم لم يضغطوا لفظًا يعبر عن المرتبة البعدى، بل اقتصروا على المرتبة الوسطى، فقالوا: ذاك وتيك، ويكون الحجازيون أيضًا لم يضعوا لفظًا يعبر به عن المرتبة الوسطى، بل اقتصروا على الرتبة البعدى، فقالوا: ذلك وتلك،

وحصل من مجموع اللغتين استعمال اللغة العربية للمرتبتين الوسطى والقصوى، إذ قد يكون معنى ما وضعت له طائفة من العرب، ومعنى آخر مقابلة وضعت له طائفة من العرب. الثالث: أن القرآن العزيز ليس فيه الإشارة إلا بمجرد اللام والكاف معًا أو بمصاحب لهما معًا، أعني غير المثنى والمجموع، فلو كانت الإشارة إلى المتوسط بكاف لا لام معها لكان القرآن العزيز غير جامع لوجوه الإشارة، وهذا مردود بقوله تعالى: (وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ). قلت: هذا الوجه شبيه بكلام الوعاظ، ولا يلزم كونه لم يرد في القرآن لعدم وجوده في لسان العرب،/ فكم من قاعدة نحوية شهيرة فصيحة لم تأت في القرآن، ولا يدعي أحد أن القرآن أتى على جميع اللغات والقواعد النحوية، ولا انحصر ذلك فيه، هذه "رب" تجر الأسماء، وقد طفح بها لسان العرب نثرًا ونظمًا، حتى إنه قل قصيد لهم يخلو من ذلك، ولم تجئ في القرآن جارة الأسماء. وأما استدلاله بقوله تعالى (وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ) فليس المعنى أنه مبين لوجوه الإشارة وجميع المعاني الكلامية، وإنما هذا عام مخصوص، والمعنى: تبيانًا لأصل كل شيء من أصول الديانات وأصول الأحكام التكليفية، وإلا فعدد ركعات الصلوات الخمس لم يبين في القرآن، وكذلك ما تجب فيه الزكاة، وما يجب، ومتى يجب، وعلى من تجب. الرابع: أن التعبير ب "ذلك" عن مضمون كلام على إثر انقضائه شائع سائغ في القرآن وغيره، ولا واسطة بين النطقين، كقوله تعالى (ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ)، (ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ)، (ذَلِكَ تَاوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ

صَبْرًا)، (ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ). قلت: كون اللفظ الموضوع للبعد يستعمل في القرب لا يدل على أن المشار إليه له مرتبتان؛ إذ قد تقرر أنه قد يعبر بالبعيد عن القريب، وبالعكس، وسيذكر المصنف ذلك بعد هذا، ونتكلم عليه، ولا يدل ذلك الاستعمال على انحصار المشار إليه في مرتبتين. الخامس: أنه لو كانت مراتب المشار إليه ثلاثًا لم يكتف في التثنية والجمع بلفظين؛ لأن في ذلك رجوعًا عن سبيل الإفراد، وفي اكتفائهم بقولهم هذان وذاك وهؤلاء وأولئك دليل على أن ذاك وذلك مستويان، وأن ليس للإشارة إلا مرتبتان، ولا التفات إلى من قال إن تشديد نون "ذانك" دليل على البعد، وتخفيفها دليل على القرب، لأنه قد سبق الإعلام بأن التشديد عوض مما حذف من الواحد؛ لأنه يستعمل مع التجريد من الكاف كما يستعمل مع التلبس بها. وكذا لا يلتفت إلى قول من زعم أن "أولالك" للبعداء دون "أولئك" لقلة "أولائك" وكثرة الحاجة إلى جمع "ذلك"، ولأنه يلزم منه خلو القرآن من إشارة إلى جماعة بعداء، وذلك باطل بمواضيع كثيرة من القرآن، فثبت ما أردناه، والحمد لله". قلت: ولا أسلم أنه اكتفى في التثنية والجمع بلفظين. أما التثنية فإنهم قد قالوا في الوسطى: ذانك، وفي البعدى: ذانك بالتشديد، وذانيك بالإبدال، وقالوا في المؤنث: تانك في الوسطى، وفي البعدى: تأنك بالتشديد، وتانيك بالإبدال. وأما قوله "ولا التفاف إلى من قال إن تشديد نون ذانك دليل على البعد، وتخفيفها دليل على القرب، وذكر/ التعليل، وقد تقدم إبطالنا لهذا التعليل، فلا التفاف لقوله هو.

وأما قوله "وكذا لا يلتفت إلى قول من زعم أن أولالك للبعداء دون أولئك لقلة أولالك وكثرة الحاجة إلى جمع ذلك" فقد بينا أن "أولئك" لا يمكن أن يكون للبعيد، وإنما هو في المرتبة الوسطى بدخول "ها" التنبيه عليه، وقد تقدم كلامنا على ذلك. وأما قوله "ولأنه يلزم منه خلو القرآن من إشارة إلى جماعة بعداء، وذلك باطل، فلا يلزم ذلك لأنه قد يستعمل للجماعة البعداء لفظ جماعة المرتبة الوسطى على سبيل المجاز والتوسع، ولا يدل كون "أولالك" لم يرد في القرآن أن لا يكون موضوعًا للرتبة العبدى في كلام العرب. وفي كتاب أبي الفضل البطليوسي ما نصه: "لم يجعل س المشار ثلاث مراتب بل مرتبتين دنيا ومتراخ، فجعل "داك" التي هي وسطى بمنزلة أولئك وتلك، وهما للبعيد، ونقل الناس خلاف هذا على ما ذكر أبو موسى في كراسته، فربما لم يحفظ س تفصيلًا في هذا كله". وفي البسيط: "قال الفراء: أهل الحجاز يقولون "ذلك" باللام، وبه جاء القرآن، وأهل نجد من تميم وأسد وقيس وربيعة بغير لام". ص: وتصحب "ها" التنبيه المجرد كثيرًا، والمقرون بالكاف دون اللام قليلًا، وفصلها من المجرد بـ "أنا" وأخواته كثير، وبغيرها قليل، وقد تعاد بعد الفصل توكيدًا. والكاف حرف خطاب يبين أحوال المخاطب بما بينها إذا كان اسمًا. وقد يغني "ذلك" عن "ذلكم"، وربما استغنى عن الميم

بإشباع ضمة الكاف. ش: يعني بالمجرد الخالي من كاف الخطاب، وذلك هو رتبة القرب، سواء أكان مفردًا أم مثنى أم مجموعًا، مذكرًا أم مؤنثًا، وهو كثير جدًا، ومنه قول الشاعر: وليس لعيشنا هذا مهاه وليست دارنا هاتا بدار وقوله والمقربون بالكف دون اللام قليلًا يشمل قوله المفرد المذكر والمؤنث ومثناهما ومجموعهما، فمثال ذلك في المذكر: "هذاك"، قال الشاعر: رأيت بني غبراء لا ينكروني ولا أهل هذاك الطرف الممدد ومثاله في المؤنث: هذيك وهاتاك وهاتيك، وقال ذو الرمة: وقد احتملت مي، فهاتيك دارها بها السحم تردي والحمام المطوق وعلى هذا الذي تقرر يجوز: هاتا وهاتاك. وزعم ابن يسعون أن "تي" في المؤنث لا تستعمل إلا بـ "ها" في أولها، وبالكاف في آخرها، فتقول في المثنى: هذانك وهاذينك وهاتانك وهاتنك، وفي الجمع: هؤلاك وهؤلئك.

وقد زعم المصنف/ في الشرح أن المقرون بالكاف في التثنية والجمع لا تلحقها الهاء، فلا يقال: هذانك ولا هؤلائك، قال: "لأن واحدهما ذاك وذلك، فحمل على "ذلك" مثناه وجمعه لأنهما فرعاه، وحمل عليهما مثنى "ذاك" وجمعه لتساويهما لفظًا ومعنى" انتهى كلامه. وهذا الذي ذهب إليه المصنف مبني على زعمه أن المشار ليس له إلا مرتبتان القربي والبعدى، وقد بينا فساد دعواه في ذلك فيما تقدم، والسماع يرد عليه، قال: يا ما أمليح غزلانًا، شدن، لنا من هؤليائكن الضال والسمر فـ "هؤليائكن" تصغير "هؤلئكن"، وقد زعم هو أنه لا يقال "هؤلئك"، وهو باطل بهذا السماع الفاشي من العرب. فإن كان اسم الإشارة باللام أو ربما قام مقامها مما هو يستعمل في الرتبة البعدى لم تدخل عليه "ها" التنبيه، فلا يقال: هذلك ولا هاتالك ولا هاتلك ولا هاتيلك ولا هذانك ولا هذينك ولا هاتانك ولا هاتينيك ولا هؤلالك ولا هؤلاك، وملخصه أنه لا تجامع "ها" التنبيه ما دل على الرتبة البعدى، وتجامع ما دل على الرتبة القربى والوسطى، وهذا مما يدل على أن المشار إليه له ثلاث مراتب كما زعن النحويون. وهذا المذهب الذي ذكره المصنف عن بعض النحويين أن له مرتبتين، واختاره هو، لم أقف عليه لأحد على كثرة مطالعتي لكتب هذا الشأن. وعلل المصنف امتناع اجتماع الهاء واللام بأن العرب كرهت كثرة

الزوائد. وهذا تعليل ليس بجيد لأن كل زائدة منهما هي لمعنى لا تدل عليه الزائدة الأخرى، فاللام زائدة تشعر بالبعد، والكاف للمخاطب، والهاء تنبيه له. وزعم بعض النحويين أن "ها" تنبيه، وأن اللام أيضًا تنبيه، فلا يجتمعان. وهذا ليس بشيء لأن اللام ليست للتنبيه، فقوله دعوى لا دليل عليها. وقال السهيلي: "الأظهر أن اللام تدل على تراخ وبعد في المشار إليه، وأكثر ما تقال في الغائب وما ليس بحضرة المخاطب، و"ها" تنبيه للمخاطب لينظر، وإنما ينظر إلى ما بحضرته لا إلى ما غاب عن بصره، فذلك لم يجتمعا" انتهى. وقوله وفصلها من المجرد بـ "أنا" وأخواته كثير أي: وفصل "ها" للتنبيه من اسم الإشارة المجرد من كاف الخطاب بـ "أنا" وأخواته من ضمائر الرفع المنفصلة يكثر، فتقول: هأناذا وهأناذي وها نحن أولاء، وها أنت ذا وها أنت ذي وها أنتما ذان وها أنتماتان وها أنتم أولاء، وها هوذا وها هي ذي وها هما ذان وها هما تان وها هم أولاء، وقال تعالى (هَا أَنْتُمْ أُولَاءِ)، وفي الحديث "هأناذا يا رسول الله"./ وهذه المسألة قد تكررت للمصنف في أول الفصل الثالث من باب "تتميم الكلام على كلمات مفتقرة إلى ذلك"، وقيدنا ما أطلقه المصنف فيها في كتاب "التكميل" من تأليفنا، وأمعنا الكلام فيها، فتطالع هناك. وقوله وبغيرها قليل أي: وبغير "أنا" وأخواته، ومن ذلك قول

الشاعر: تعلمن ها لعمر الله ذا قسمًا فالقدر بذرعك، وانظر أين تنسلك ومنه عند الخليل "إي ها الله ذا"، ففصل بين "ها" للتنبيه وبين اسم الإشارة بالقسم- وهو "لعمر الله"- وقوله "الله"، وأنشد س: ونحن اقتسمنا المال نصفين بيننا فقلت: لها هذا لها، ها وذا ليا أراد: وهذا ليا، ففصل بالواو بين "ها" و"ذا". قال المصنف: "ومن ذلك قول النابغة: ها إن ذي عذره إلا تكن نفعت فإن صاحبها قد تاه في البلد" وهذا ليس من جنس ما فصل به بين "ها" التنبيه واسم الإشارة؛ لأن "ذي" اسم "إن"، و"عذره" الخبر، فلا يمكن تركيب "ها" التنبيه و"ذي" في ذلك، فتقول فصل بينهما بـ "إن"؛ لأنك لو قلت "هذي إن عذره" لم يكن كلامًا، فـ "ها" هنا لم تدخل على اسم الإشارة., وقوله وقد تعاد بعد الفصل توكيدًا مثاله قوله تعالى (هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ). وهذا الذي ذكره المصنف مخالف ظاهره لما قال س، قال س: "وقد تكون ها في ها أنت ذا غير مقدمة، ولكنها تكون بمنزلتها في هذا، يدلك

على ذلك قوله تعالى (هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ)، فلو كانت ها المقدمة مصاحبة أولاء لم تعد مع أولاء" انتهى. ومعنى قول س أن "ها" في "ها أنت ذا" قد تتجرد للتنبيه غير مصحوبة لاسم الإشارة، فلا تكون مقدمة على الضمير من اسم الإشارة. وقوله "ولكنها تكون بمنزلتها في هذا" أي: تدل على التنبيه وإن لم تكن مع اسم الإشارة، كما تدل عليه مع اسم الإشارة. ثم استدل على ذلك بما ذكر. وهو استدلال واضح. وما ذكره المصنف يدل على أنها قدمت من اسم الإشارة، ثم أعيدت معه على سبيل التوكيد، وهو مخالف لظاهر كلام س. وقوله والكاف حرف خطاب يبين أحوال المخاطب بما بينها إذا كان اسمًا يعني من إفراد وتثنية وجمع وتذكير وتأنيث، فتقول: ذاك وذاك وذاكما وذاكم وذاكن، كما تقول أكرمك وأكرمك وأكرمكما وأكرمهم وأكرمكن. ولا خلاف في حرفيتها مع اسم الإشارة، ولا تتوهم فيه الاسمية وإضافة اسم الإشارة إليها لأن اسم الإشارة لا يضاف. وقوله وقد يغني ذلك عن ذلكم أي: يكتفي/ بكاف الخطاب المتصل باسم الإشارة مفردة مذكرة في خطاب الجمع المذكر عن إتيانك به مقرونًا بميم الجمع، قال تعالى (فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ) و (ذَلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ)، أغنى "ذلك" عن "ذلكم". ولا تغني الكاف المذكورة إذا كانت ضميرًا عن الكاف والميم، تقول: يا رجال أكرمكم زيد، ولا يجوز: يا رجال أكرمك زيد. وما ذكره المصنف من أن الكاف المذكورة تغني عن الكاف والميم وليس مختصًا إغناؤها بذلك، بل لغة للعرب يكتفون في خطاب المثنى والمجموع

والمؤنث بخطاب المفرد المذكر إذا كان مع اسم الإشارة. قال الزجاجي: "كاف الخطاب قد تجيء في مثل هذا موحدة في الاثنين والجمع, تترك على أصل الخطاب". وقال أبو الحسن بن الباذش: "إفراد الكاف إذا خوطب به جماعة كقوله عز وجل} ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ {و} ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ {له تأويلان: أحدهما أن يقبل بالخطاب على واحد من الجماعة لجلالته, والمراد له ولهم. أو تخاطب الجماعة كلها, ويقدر لها اسم مفرد من أسماء الجموع, يقع على الجماعة, تقديره: ذلك يوعظ به يا فريق ويا جمع, وما أشبه ذلك من الأسماء المفردة المسمى بها الجمع. وقد يجوز في هذا الوجه الإفراد والتأنيث على تأويل الفئة والفرقة" انتهى. وقال المصنف في الشرح: "ولم يغن أنت عن أنتم, وذلك أن الذال والألف قد يستغنى بهما عن الكاف عند تقدير القرب أو قصد الحكاية كقوله تعالى} هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسَابِ {و} هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ {,} وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ {, فجاز الاستغناء بالكاف عن مصحوبها, ولا يستغنى بالهمزة والنون عن التاء, فلم يجز الاستغناء بالتاء عن الميم" انتهى. وهذا تفريغ على مذهب جمهور النحويين أن التاء للخطاب, وليست ضميرا. وقوله وربما استغنى عن الميم بإشباع ضمة الكاف أنشد بعض الكوفيين:

وإنما الهالك ثم التالك ذو حيرة ضاقت به المسالك كيف يكون النوك إلا ذلك قال المصنف: "أراد: ذلكم, فأشبع الضمة, واستغنى عن الميم بالواو الناشئة عن الإشباع" انتهى. ولا دليل في هذا على ما ادعاه المصنف, بل هذا عندي من باب تغيير الحركة لأجل القافية؛ لأن القوافي قبله مرفوعة, فاحتاج أن غير حركة الكاف التي هي الفتحة إلى الضمة, وقد جاء ذلك في كلامهم, قال: سأترك منزلي لبني تميم وألحق بالحجاز, فاستريحا /غير الحركة لأجل القافية من الضمة إلى الفتحة, وهو ضرورة. وكان التغيير في هذا أوجه لأنها حركة بناء لم يقتضها عامل؛ بخلاف "فأستريحا", فإن الضمة حركة إعراب, يقتضيها العامل, ومع ذلك فقد غيرت إلى الفتحة. -[ص: وتتصل بـ "أرأيت" موافقة أخبرني هذه الكاف مغنيا لحاق علامات الفروع بها عن لحاقها بالتاء. وليس الإسناد مزالاعن التاء, خلافا للفراء. وتتصل أيضا بـ "حيهل" و "النجاء" و "رويد" أسماء أفعال. وربما اتصلت بـ "بلى" و "أبصر" و "كلا" و "ليس" و "نعم" و "بئس" و "حسبت".]- ش: "رأيت" هذه العملية دخل عليها همزة الاستفهام, فهي تتعدى إلى اثنين, فإن استعملت على أصل موضوعها هذا جاز أن تتصل بها الكاف ضميرا منصوبا, ويطابق الضمير المرفوع المنصوب في إفراد وتثنية وجمع وتذكير وتأنيث, وكان الضمير مفعولا أول, وما بعده مفعول ثان,

وتعدى الفعل المسند إلى الضمير المرفوع المتصل إلى ضميره المنصوب المتصل لأن ذلك جائز في باب "ظننت" وأخواتها, فتقول: أرأيتك منطلقا, كما تقول: أعلمتك ذاهبا, أي: أعلمت نفسك, ورأيتك ذاهبة, وأر أيتماكما ذاهبين, وأر أيتموكم ذاهبين, وأرأيتنكن ذاهبات. وإن ضمنت "أرأيت" معنى "أخبرني", فصارت لا تدل على الاستفهام, ولا تقتضي جوابا, فيجوز أن تتصل بها كاف الخطاب. وفي المسألة إذ ذاك ثلاثة مذاهب: أحدها: مذهب البصريين, وهو أن الفاعل بهذا الفعل هو التاء, وهذا معنى قول المصنف "وليس الإسناد مزالا عن التاء", ويبقى هذا الفاعل مفردا مذكرا, ودائما, وتظهر علامات الفروع في كاف الخطاب, فتقول: أرأيتك وأرأيتك وأرأيتكما وأرأيتكم وأرأيتكن. وليس لحرف الخطاب موضع من الإعراب؛ لأنها حروف تمحضت للخطاب كما تمحضت في "ذلك" وفروعه. والمذهب الثاني: مذهب الفراء, وهو الذي أشار إليه المصنف بقوله "خلافا للفراء", وذلك أن الفراء ذهب إلى أن التاء حرف خطاب, وليست اسما, كما نذهب نحن إليه في التاء في "أنت", وأن الكاف هي الفاعل, فالفعل مسند إليها, وذلك أن التاء لما تجردت للخطاب, وأفردت له, لم يجز أن تكون مرفوعة لإفرادها, لأن التاء إذا كانت ضميرا لم تفرد مذكرة لمثنى ومجموع ومؤنث, بل تطابق ما كانت ضميرا له, فدل ذلك على سلب الاسمية منها, ولما ظهرت المطابقة في الكاف ادعينا أنها هي المسند إليها الفعل على جهة الفاعلية, ولما لم يمكن أن تطابق بضمير الرفع لقلق

اللفظ, فكان يقال: أرأيتتم, ولا أرأيتتما, استعير ضمير غير الرفع لذلك, فكان هو الفاعل. وقد رد أبو علي على مذهب الفراء في مسائله العسكرية, فقال: "الذي يفسد قول من قال إنها رفع أن التاء هي الفاعلة, وموضعها رفع, فيمتنع إذا أن تكون الكاف مرفوعة لاستحالة كون فاعلين لفعل واحد في كلامهم على غير وجه الاشتراك لأحدهما بالآخر بغير حرف العطف, فهذا القول بعيد جدا" انتهى. ولا يلزم ما قال أبو علي على الفراء لأن الفراء لا يذهب إلى أن التاء هي الفاعلة, بل التاء عنده حرف خطاب, فلا يلزم على مذهبه أن يكون فاعلان لفعل واحد كما ذكر. وقد رد المصنف في الشرح على الفراء بأن "التاء لا يستغنى عنها, والكاف يستغنى عنها, وما لا يستغنى عنه أولى بالفاعلية مما يستغنى عنه, ولأن التاء محكوم بفاعليتها مع غير هذا الفعل بإجماع, والكاف بخلاف ذلك, فلا يعدل عما ثبت لهما دون دليل". والمذهب الثالث: قول بعضهم إن الكاف لها موضع من الإعراب, وهو النصب, وفي محفوظي أنه مذهب الكسائي. ورد هذا المذهب بأنها لو كانت في موضع نصب لكانت المفعول الأول من المفعولين اللذين يقتضيهما "رأيت", والمفعول الأول في المعنى هو المفعول الثاني, وأنت إذا قلت: أرأيتك زيدا ما فعل, و} أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ {استحال أن يكون المخاطب غائبا, فلا تكون إذا المفعول الأول, فإذا لم يكن إياه علمت أنه لا موضع له من الإعراب, وأن

"زيدًا" هو المفعول الأول, وما بعده في موضع المفعول الثاني. وقال أبو علي: "فإن قلت: لم لا يكون "أرأيتك" من قبيل ما يتعدى إلى ثلاثة مفاعيل, فيكون الأول ليس الثاني؟ قيل: ليس من تلك الأفعال, ولو كان منها لجاز أن تعديها إلى الثلاثة في غير هذا الموضع, وامتناعه من ذلك فيما عدا هذا يفسد هذا الاعتراض" انتهى ملخصا. ولـ "أرايت" بمعني "أخبرني" أحكام تذكر إن شاء الله في "باب الأفعال الداخلة على المبتدأ والخبر". وقوله وتتصل أيضا بـ "حيهل" و "النجاء" و "رويد" تقول حيهلك بمعنى: ائت, والنجاءك بمعنى: أسرع, ورويدك بمعنى: أمهل. وقوله أسماء أفعال احتراز من أن يكون "النجاء" مصدرا لا يراد به اسم فعل, ومن أن يكون "رويد" لا يراد به اسم الفعل, وقد ذكرت أقسامه مستوفاة في باب أسماء الأفعال والأصوات". وقوله وربما اتصلت ببلى وأبصر وكلا وليس ونعم وبئس وحسبت اتصالها بهذه الكلمات قليل جدا, مثال ذلك: بلاك, وأبصرك زيدا, تريد: أبصر زيدا, وكلاك, وليسك زيد قائما, قال الشاعر: ألستك جاعلي كابني جعيل ............................. ونعمك الرجل زيد, وبئسك الرجل/ عمرو, وحسبتك عمر منطلقا, قال المصنف: "وأنشد أبو علي رحمه الله:

.............. وحنت, وما حسبتك أن تحينا وأجاز أن تكون الكاف فيه حرف خطاب. وهو غريب. وحمله على ذلك وجود "أن" بعدها, فإنه إن لم يكن الأمر كما قال لزم الإخبار بـ "أن" والفعل عن اسم عين, وذلك لا سبيل إليه في موضع يخبر عنه فيه بمصدر صريح, نحو: زيد رضا, فكيف غي موضع بخلاف ذلك؟ " انتهى. فعلى هذا إذا كانت الكاف حرف خطاب تكون "أن" الناصبة وما بعدها سدت مسد مفعولي "حسبت", كقراءة من قرأ} وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ {في قراءة من نصب "تكون". ويحتمل البيت تخريجا آخر, وهو أن تكون الكاف ضميرا مفعولا أول, و "أن" زائدة, و "تحين" في موضع المفعول الثاني, فلا تكون "أن" مصدرية. وهذا على مذهب الأخفش في إجازته أن "أن" الزائدة تنصب, وقد ذكرنا ذلك في "باب إعراب الفعل وعوامله". -[ص: وقد ينوب ذو البعد عن ذي القرب لعظمة المشير أو المشار إليه, وذو القرب عن ذي البعد لحكاية الحال, وقد يتعاقبان مشارا بهما إلى ما ولياه, وقد يشار بما للواحدة إلى الاثنين وإلى الجميع.]- ش: قال المصنف في الشرح: "من نيابه] ذي البعد عن [ذي القرب لعظمة المشير قوله تعالى: {وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى} , ولعظمة

المشار إليه {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي} , و} فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ {بعد أن أشارت إليه النسوة بـ "هذا" إذ قلن} مَا هَذَا بَشَرًا {والمجلس واحد, إلا أن مرأى يوسف عند امرأة العزيز كان أعظم من مرآه عند النسوة, فأشارت إليه بما يشار إلى البعيد إعظاما وإجلالا. ومثال حكاية الحال} كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ {,} فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلَانِ هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ {. ومثال التعاقب قوله متصلا بقصة عيسى- على نبينا وعليه السلام-} ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَليْكَ مِنَ الْآَيَاتِ {, ثم قال} إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ {,} لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ {,} هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسَابِ {,} إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى {,} إِنَّ فِي هَذَا لَبَلَاغًا {" انتهى ملخصا. وما ذهب إليه المصنف من أنهما قد يتعاقبان, فيكون "ذلك" للحاضر بمعنى "هذا", هو مذهب الجرجاني وطائفة, واحتجوا بقول الشاعر:

.................... تأمل خفافا, إنني أنا ذلكا أي: أنا هذا. قال السهيلي: وهذا باطل لأن الشاعر إنما أراد: ذلك الذي كنت تحدث عنه وتسمع به هو أنا, وإنما حداهم إلى هذا قوله تعالى} ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ {معناه عندهم: هذا الكتاب؛ ألا تراه قال في آية أخرى} وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ {, فقد صار "هذا" و "ذلك" بمعنى واحد. فيقال لهم: لا سواء؛ لأن الإشارة في/ قوله} الم (1) ذَلِكَ الْكِتَابُ {إلى ما حصل بحضرتنا, وانفصل عن حضرة الربوبية بالتنزيل, فصار مكتوبا بالحروف مقروءا بالألسنة, وصار معنى الكلام: ذلك الكتاب الذي عندك يا محمد, وإنما يقول المتكلم "هذا" لما عنده, و "ذلك" لما عند المخاطب أو عند غيره, وقوله} الم {لحروف التهجي, والتهجي وتقطيع الحروف وكتب القرآن بها حرفا بعد حرف واللفظ بها إنما هو في حقنا, وحين لم يذكر الحروف المقطعة قال} وهذا كتاب أنزلناه {لأنه عنده سبحانه على ما هو عليه حقيقة, وهو عندنا متلوا ومكتوبا على ما يليق به, فاقتضت البلاغة والإعجاز فصلا بين المقامين وتفرقة بين الإشارتين" انتهى كلامه. وقوله وقد يشار بما للواحد إلى الاثنين والجمع من العرب من يجعل اسم الإشارة المثنى والمجموع والمؤنث كما يكون للواحد المذكر,

ومثلوا ما يقع من ذلك للاثنين بقوله تعالى} عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِك {أي: بين الفارض والبكر, وقول الشاعر: إن الرشاد وإن الغي في قرن بكل ذلك يأتيك الجديدان وقول الآخر: إن للخير وللشر مدى وكلا ذلك وجه وقبل أي: وكلا ذينك, أي الخير والشر. ومثلوا الإشارة بما يكون للواحد إلى الجمع بقول لبيد: ولقد سئمت من الحياة وطولها وسؤال هذا الناس: كيف: لبيد؟ ومثله قول مسكين الدارمي: وبينا الفتى يرجو أمور كثيرة أتى قدر من دون ذاك متاح أي: من دون أولئك الأمور.

ويحتمل أن يكون "ذاك" في البيت عائدا على مفرد, وهو المصدر المفهوم من "يرجو" أي: من دون ذاك الرجاء. -[ص: ويشار إلى المكان بـ "هنا" لازم الظرفية أو شبهها, معطى ما لـ "ذا" من مصاحبة وتجرد. وكـ "هنالك" "ثم" و "هنا" لفتح الهاء وكسرها, وقد يقال "هنت" موضع "هنا", وقد تصحبها الكاف, وقد يراد بـ "هناك" و "هنالك" و "هنا" الزمان.]- ش: "هنا" لازم الظرفية, فلا يقع فاعلا ولا مفعولا به ولا مبتدأ. ومعنى قوله "أو شبهها" هو جرها ببعض حروف الجر, نحو من وإلى, قال: قد أقبلت من أمكنه من هنا ومن هنه وتقول: تعال إلى هنا. ولما كانت أسماء الإشارة السابق ذكرها لا تختص, بل يشار/ بها إلى المعاني وإلى الأجرام وإلى غير ذلك ذكر هنا ما يختص ببعض الأشياء, فذكر "هنا" وأنها تكون إشارة للمكان. وقوله معطى ما لـ "ذا" من مصاحبة وتجرد أي: من مصاحبة لـ "ها" التنبيه وكاف الخطاب, وتجرد منهما, فتقول في الإشارة إلى المكان القريب: هنا, وإلى الوسط: هناك, وإلى البعيد: هنالك. وتدخل الهاء في القرب والوسط, فتقول: ههنا وههناك كما قلت: هذا وهذاك, ولا تقول: ههنالك كما لا تقول: هذلك. وقوله وكـ "هنالك" "ثم" أي: أنها ظرف مكان يشار بها للبعيد منه, وتلتزم ظرفيته, وتجر بـ "من" وبـ "إلى", فتقول: من ثم, وإلى ثم, قال تعالى} وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا {.

ولا يجوز أن تعرب (ثم) في الآية مفعولاً به, وإن كان قد ذهب إليه بعضهم لأن "ثم" ظرف لا يتصرف فيه بغير ما ذك رناه من حرف الجر, وإنما مفعول "رأيت" محذوف إما اختصاراً فيكون التقدير: وإذا رأيت ثم الموعود به, أو اقتصاراً أي: وإذا وقعت رؤيتك في ذلك المكان وقعت على نعيم وملك كبير. وقوله وهنا بفتح الهاء وكسرها يعني: وتشديد النون, وحكمها حكم هنالك أنه يشار بها إلى مكان البعيد قال الشاعر: كأن ورساً خالط ليرنا ... خالطه من ههنا وهنا وقال أعرابي من بني أسد: فلما صار نصف الليل هنا ... وهنا نصفه قسم السوي دعوت فتي أجاب فتى دعاه ... يلبيه أشم شمردلي وقوله وقد يقال هنت موضعا هنا قال الشاعر: وذكرها هنت, ولات هنت أراد: هنا ولات هنا هكذا قال المصنف في الشرح وقوله وقد تصحبها الكاف فتقول: هناك وهناك.

وقوله وقد يراد بهناك إلى آخره. ومن الإشارة بهنالك إلى الزمان قوله تعالى {هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ} أي: في ذلك الزمان ابتلي المؤمنون, وقبله {إِذْ جَاؤُوكُم مِّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ} الآية: وقال الأفواه: وإذا الأمور تعاظمت وتشابهت فهناك يعترفون أين المفزع وقال الآخر: تلوم على أن أمنح الورد لقحة ... وما تستوي والورد ساعة تفزع إذا هي قامت حاسرا مشمعلة ... نخيب الفؤاد ,رأسها ما يقنع وقمت إليه باللحام ميسراً ... هنالك يحزنني الذي كنت أصنع بهذه استدل المصنف على أن "هنالك" و"هناك" قد يشار بهما إلى الزمان. ولا حجة في ذلك لأنه يحتمل أن يشار بهما إلى المكان لأن الزمان يدل على المكان فكأنه قال: في ذلك المكان الذي كان حاكم الكفار في زمانه من فوقكم ومن أسفل منكم ابتلي المؤمنون. وكذلك تأويل الأبيات التي بعد الآية. وقوله هنا مثال الإشارة بـ"هنا" للزمان قول الشاعر:

حنت نوار ولات هنا حنت وبدا الذي كانت نوار أجنت فـ"هنا" عند المصنف إشارة إلى وقت وانتصب على الظرفية و"حنت" في موضع رفع بالابتداء وخبره في الظرف قبله, وأخبر عن الفعل مؤولاً بالمصدر والتقدير: ولا حنان في هذا الوقت. وذهب الأستاذ أبو الحسن بن عصفور إلى أن "لات" تعمل في اسم الزمان معرفة ونكرة فمن إعمالها فيه معرفة قول الأعشى: لات هنا ذكرى جبيرة أو من جاء منها بطائف الأهوال فـ"هنا" اسم زمان هنا مرفوع بـ"لات" و"ذكرى جبيرة" في موضع نصب على أنه خبر "لات" والتقدير: لات هنا حين ذكرى جبيرة أي: لآت هذا الحين حين ذكرى جبيرة. وذهب بعض النحويين إلى أن "هنا" ظرف مكان بمعنى هنا, وذكرى: مبتدأ وخبره في ظرف المكان قبله, والجملة من المبتدأ والخبر منفية بـ"لا" و"هنا" تكون ظرف مكان وظرف زمان. ونقل المصنف في الشرح أن بعض المتأخرين زعم أن "هنا" في

قوله "ولات هنا حنت" اسم "لات" والتقدير: ليس ذلك الوقت وقت حنت أي: وقت حنان. وقال في الشرح رادا عليه: "هذا الاستعمال مخالف لاستعمال لات ولاستعمال هنا , أما استعمال لات فإن اسمها لا يكون إلا حين محذوفاً كقوله تعالى {وَلاتَ حِينَ مَنَاصٍ} أي: ليس الحين حين مناص وهنا بخلاف ذلك, فلا تكون اسم لات. وأما استعمال هنا فإنها ملتزم فيها الظرفية ولا تفارقها إلا بدخول من أو إلى عليها, وارتفاعها على أن تكون اسم لات مخرج لها عما استقر فيها من الظرفية, فلا يصح" انتهى. وما ذهب إليه من أن اسم "لات" لا يكون إلا الحين محذوفاً واستدلاله بالآية فليس كما ذكر, ألا ترى أن س حكي أنها ترفع الحين مثبتاً ومن ذلك قراءة بعضهم {وَلاتَ حِينَ مَنَاصٍ} بالرفع. وأما قوله"إن هنا ملتزم فيها الظرفية" فهذا ابن عصفور يخالفه في ذلك, ويزعم أن "لات" تعمل في اسم الزمان معرفة ونكرة وجعل "هنا" اسم " لات" وهذا كله مبني على أن "لات" تعمل, وأنها إذا عملت فتعمل عمل "ليس" وهذا فيه خلاف, وقد أمعنا الكلام في ذلك في " فصل ما" عقب" باب كان". -[ص: وبني اسم الإشارة لتضمن معناها أو لشبه الحرف وضعاً وافتقاراً.]- ش: الإشارة معنى من المعاني التي عبر عنها بالحروف كالاستفتاح

والتنبيه والترجي والتشبيه والنفي وغير ذلك من المعاني, فكان المناسب أن يوضع للإشارة حرف يدل عليها, لكن العرب لم تضع لها حرفاً يدل عليها, فلما تضمن اسم الإشارة معنى الحرف المتوهم, كما بينت أسماء الشرط وأسماء الاستفهام لما تضمنت معنى حرف الشرط وحرف الاستفهام. قال المصنف:" وهذا السبب يقتضي بناء كل اسم إشارة لكن عارضه في زين وتين شبههما بمثنيات الأسماء المتمكنة فأعربا" انتهى. وذان وتأن عند المحققين صيغ تثنية لا تثنية حقيقة وقدم لنا تبيين ذلك. وأما شبه الحرف وضعاً فهو ما منها على حرفين نحو" ذا" و"ذي" وأشبهت الحروف بذلك فبنيت وحملت البواقي عليها لأنها فروع لها أو كالفروع , نحو"هنا" وأخواتها فإنها ليست فروعاً لـ"ذا" و"ذي" لكنها كالفروع إذ قد يستغني عنها بـ"ذا" و"ذي". وأما شبه الحرف افتقاراً فالمراد به هنا حاجة اسم الإشارة في إبانة مسماه إلى مواجهة أو ما يقوم مقامها مما يتنزل منه منزلة الصلة من الموصول وهذا سبب عام في جميع أسماء الإشارة. وأما س فاعتل لبنائها بشدة توغلها في الإبهام فأشبهت الحروف, ألا ترى أن "من" تبعيض على الإطلاق وأي شيء أردت تبعيضه أتيت بـ"من" كما أن "ذا" يشار به إلى كل موجود ولا يختص موجوداً دون آخر. واعتل ابن الطراوة لبنائها بعدم النقار على مسماها ألا ترى أن "ذا" لا يقع إلا في حالة الإشارة ولا يلزم لزوم "زيد" و"عمرو" الذي ليس موضوعاً

لمعنى, فيزول بزواله. ورد عليه بأنه يلزمه أن تبني الصفات أجمع لأن ضاربا لا يكون مطلقاً على من اتصف به إلا ما دام موصوفاً به موجوداً فيه ذلك الوصف. وأما من علل بالافتقار لمشار فليس بشيء لأنه ميماها وكل اسم مفتقر إلى مسماه.

باب المعرف بالأداة

-[ص: باب المعرَّف بالأداة وهي"أل" لا اللام وحدها , وفاقاً للخليل وسيبويه. وقد تخلفها "أم". وليست الهمزة زائدة خلافاً لسيبويه.]- ش: ذكر المصنف في أداة التعريف مذاهب ثلاثة:" أحدها: أن الأداة هي اللام وحدها. ونسب ذلك للمتأخرين وأن من عبر عنها بالألف واللام فهو تارك لما هو أولى وكذا المعبر عنها بـ"أل" حتى أن ابن جني قال:"ذكر عن الخليل أنه كان يسميها أل, ولم يكن يسميها الألف واللام كما لا يقال في قد القاف والدال". المذهب الثاني: ما ذكر المصنف أن الخليل ذهب إليه وهو أن الأداة حرف وضع ثنائياً والهمزة فيه همزة أم وأو وأن. المذهب الثالث: ما ذكر أن س- رحمه الله- ذهب إليه وهو أنها ثنائية

الموضع وقد عدَّها س في ثنائي الوضع في " باب عدة ما يكون عليه الكلم" إلا أن الهمزة وصل معتداً بها في الوضع كهمزة استمع ونحوه فلا يعد " استمع" رباعياً بحيث يضم أول مضارعه كالرباعي لأنهم اعتدوا بهمزته وإن كانت همزة وصل زائدة. وكذا لا تعد أداة التعريف اللام وحدها مع القول بأن همزتها همزة وصل زائدة. انتهى ملخصاً من كلامه في حكاية هذه المذاهب. وعلى ذلك فيكون المذهب الأول الذي فيه أن اللام وحدها هي الأداة لا تكون الأداة بنيت على همزة الوصل فيتحد هذا المذهب ومذهب س , وإنما يكون الموضوع اللام وحدها ثم إنه لما لم يمكن النطق بالساكن اجتلبت همزة الوصل. فعلى هذا يتصور كون المذاهب ثلاثة. وثمرة الخلاف تظهر إذا قلت " قام القوم" هل كان ثم همزة وصل, فحذفت لتحرك ما قبلها لكونها موضوعة على حرفين أو لم يكن ثم همزة البتة, ولم يؤت بها لعدم الحاجة إليها لأن ما قبل اللام متحرك. وهذا الذي ذكره المصنف من أن المذاهب في الأداة ثلاثة - كما أوضحنا - خالف أصحابنا في ذلك فذكروا فيها مذهبين: أحدهما: مذهب جميع النحويين إلا ابن كيسان وهو أن الحرف المعرف إنما هو اللام وأما الألف فهمزة وصل جيء بها وصلة للساكن فكان ينبغي أن تكسر لالتقاء الساكنين كسائر همزات الوصل , ونذكر علة فتحها. والمذهب الثاني: مذهب ابن كيسان وهي أنها كلمة ثنائية الوضع بمنزلة قد وهل لا, والهمزة همزة قطع. وهذا المذهب هو الذي نقله المصنف

عن الخليل. ونحن نذكر ما في كتاب س عن الخليل وعن س في ذلك فتقول: قال س في " هذا باب إرادة اللفظ بالحرف الواحد" ما نصه: " زعم الخليل - رحمه الله -أن الألف واللام اللتين يعرفون بهما حرف واحد كقد, وأن ليست واحدة منهما منفصلة من الأخرى كانفصال ألف الاستفهام في قوله: أزيد؟ ولكن الألف كألف أيم في: أيم الله وهي موصولة". ثم قال س: " وقالوا في الاستفهام: ألرجل؟ شبهه أيضا بألف أحمر كراهة أن يكون كالخبر, فيلتبس. فهذا قول الخليل وأيم الله كذلك فقد يشبه الشيء بالشيء في موضع ويخالفه في أكثر ذلك". وقال س أيضا:" وقال الخليل - رحمه الله- ومما يدل على أن أل مفصولة من الرجل ولم يبن عليها وأن الألف واللام فيه بمنزلة قد, قول الشاعر: دع ذا, وعجل ذا وألحقنا بذل ... بالشحم إنا قد مللناه بجل قال: هي ههنا كقول الرجل وهو يتذكر: قدي ثم يقول: قد فعل ولا يفعل مثل هذا علمناه بشيء مما كان من الحروف الموصولة. ويقول الرجل: ألي ثم يتذكر فقد سمعناهم يقولون ذلك, ولولا أن الألف واللام بمنزلة قد وسوف لكانتا بناء بني على الاسم لا يفارقه ولكنهما جميعاً بمنزلة هل وقد وسوف يدخلان للتعريف ويخرجان".

وقال س في " باب عدة ما يكون عليه الكلم" وقد تكلم على جملة من الحروف الثنائية قال:" وأل تعرف الاسم في قولك القوم والرجل". وقال س في " باب ما يتقدم أول الحرف وهي زائدة":" وتكون موصولة في الحرف الذي تعرف به الأسماء. والحرف الذي تعرف به الأسماء هو الحرف الذي في قولك القوم والرجل والناس وإنما هما حرف بمنزلة قولك قد وسوف". ثم قال:" ألا ترى أن الرجل يقول إذا نسي, فتذكر ولم يرد أن يقطع: ألي, كما يقول قدي ثم يقول: كان وكان ولا يكون ذلك في ابن ولا امرئ لأن الميم ليست منفصلة ولا الباء". وقال س أيضا:" زعم الخليل أنها مفصولة كقد وسوف ولكنها جاءت لمعنى كما يجيئان للمعاني فلما لم تكن الألف في فعل, ولا في اسم كانت في الابتداء مفتوحة فرق بينها وبين ما في الأسماء والأفعال , وصارت في ألف الاستفهام إذا كانت قبلها لا تحذف شبهت بألف أحمر". ثم قال:"ومثلها من ألفات الوصل الألف التي في ايم" ثم قال:" وهذا قول الخليل". انتهى ما نقلناه من كتاب س , وظاهره يدل على أن "أل" حرف ثنائي همزته همزة وصل, لا تنفصل الهمزة من اللام ولا تنفصل اللام من الهمزة وهو خلاف ما ذكره أصحابنا من أن حرف التعريف هو اللام وحدها.

وأما تشبيهه بـ"قد" فليس من حيث إن همزته قطع, وإنما هو من حيث إنه لم يجعل في بناء الاسم, كما لو يجعل"قد" في بناء الفعل بل هو حرف مستقل وحده جيء به لمعنى , ولذلك وقف عليه ساكناً في قوله"وألحقنا بذل" ولحقه علامة التذكار في قولهم"ألي" ولو كان مجعولاً في بناء الكلمة لم يوقف عليه, ولم تلحقه علامة التذكار ,ألا ترى أنك لا تقف على "مس" من قولك" مستعجل" ولا تلحقه علامة التذكار , فتقول "مسي" لأنه مجعول في بناء الكلمة, وكذلك"يستعجل" لا تقف على "يس" ولا تقف: "يسي". فليس في كلام الخليل ما يدل على أن الهمزة أصل مقطوعة في الأصل كهمزة أم وأن. والمصنف قلد الزمخشري في نسبة ذلك إلى الخليل, قال الزمخشري: " وعند الخليل حرف التعريف أل كهل وبل/, وإنما استمر بها التخفيف للكثرة" انتهى. وقد رد عليه ذلك أبو الحجاج يوسف بن معزوز وقال:" إنما هي في مذهب الخليل وس ألف وصل, ولكنه فهم كلام س هو وغيره من النحويين فهم سوء لأن في ظاهره إشكالاً ففهموه فهم السوء" ثم ذكر جملة من نصوص س التي قدمناها, وقرر أن حرف التعريف هو اللام وحدها , قال:" وقوله كقد أي: أنها منفصلة كما أن قد وأن منفصلة يريد أن اللام ليست كتاء اقتتل ولا كواو فدوكس, ولا كألف حبلى , وليس يريد

أن أل بمنزلة قد في العدد" والذي يظهر أن مذهب الخليل وس واحد, وأن أل حرف ثنائي الوضع بني على همزة الوصل ولام ساكنة كبناء ابن واسم ,إلا أن "أل" حرف, وهذان اسمان. وفتحت فرقاً بين الحرف وبين الاسم والفعل. ولنذكر ما احتج به ابن كيسان على أن الهمزة همزة قطع, وأنها كلمة ثنائية بمنزلة قد وهل, ونذكر بعد احتجاجه ما احتج به المصنف لهذا المذهب الذي زعم أنه مذهب الخليل. قال ابن كيسان:" الدليل على أنها همزة قطع فتحها ولو كانت وصلاً لم تفتح". وأجيب عن هذا بأن الفتح لكثرة الاستعمال, والشيء إذا كثر استعماله خفف, فألزمت الفتح طلباً للتخفيف. واحتج ابن كيس أيضا بأن وجدنا العرب يقفون عليها, تقول: ألي, ثم تتذكر فتقول: الرجل ولا تقف على حرف , لا تقف على الباء من بزيد ولا على كاف التشبيه وقالوا: دع ذا وعجل ذا وألحقنا بذل ... ................. فوقفوا على اللام, ولا تقف إلا على ما كان على حرفين, فلو كان المعرف اللام لكانت على حرف, فلا يوقف عليها. وأجيب بأن العرب وقفت عليها- وإن كانت على حرف - لأنها قد نضاف لها حرف آخر لزمها حتى صارت على حرفين. وقال الجمهور: الذي يقطع بأن الهمزة وصل أنها تحذف عند الوصل, فتقول: مررت بالرجل. فإن قال: هي همزة قطع وقد حذفت تخفيفاً.

فالجواب: أن همزة القطع لا تحذف تخفيفاً إلا وهم يتكلمون بالأصل فيقولون: ويل أمه وويله, وأي سيء هذا وأيس هذا, فلو كان على زعمه حذفها تخفيفاً لصرح بالقطع يوماً ما , فقيل: بالرجل وإنما نسب الخليل التعريف |إليهما وإن لم يكن إلا اللام لما لزمتها لأنها على حرف واحد, وجعلها بمنزلة قد وأن في أنها منفصلة مما بعدها غير معتد من حروفه كما أن همزة أحمر من الاسم , فأشبهت قد في هذا الطريق. وقالوا: ولكن الألف وألف أيمن, وهي موصولة. نص في أن المعرف اللام وحدها, إذ الألف/ وصل فليست من الحرف. وقالوا: فإن قلت: ما الذي سوغ دخول لام التعريف في باب إرادة اللفظ بالحرف الواحد؟ قيل: لأنه زعم أن الحرف الساكن إذا أريد التكلم به فإنما يكون مجتلباً إليه همزة الوصل, فزعم أن نظيره لام التعريف لأنها كانت ساكنة, فعندما أرادوا التكلم بها جاؤوا بهمزة الوصل. وأما احتجاج المصنف للمذهب الذي زعم أنه مذهب الخليل, ونقل أصحابنا أنه مذهب ابن كيسان فقال: الصحيح عندي قول الخليل لسلامته من وجوه كثيرة مخالفة للأصل موجبة لعدم النظير: أحدها: تصدير زيادة فيما لا أهلية فيه للزيادة وهو الحرف. قلت: هذا لا يلزم قد زعم النحويون أن اللام الأولى في "لعل" زائدة فكذلك الهمزة في أل. الثاني: وضع كلمة مستحقة للتصدير على حرف ساكن, ولا نظير لذلك.

قلت: ليس في هذا حجة لمذهب الخليل على زعمه, لأن ظاهر كلام س أن "أل" حرف ثنائي وضع على حرفين , أولهما همزة وصل ولا دليل فيما ذكر على صحة مذهب الخليل في أنها همزة قطع. الثالث: افتتاح حرف بهمزة وصل, ولا نظير لذلك أيضاً. قلت: وعدم النظير يلزم أيضاً في مذهب الخليل الذي ادعاه له, وهو أنه لا توجد همزة قطع يلتزم فيها الوصل دائماً فهذا أيضا لا نظير له. الرابع: لزوم فتح همزة وصل بلا سبب, ولا نظير لذلك أيضا. قال:" ولاحترزت باللزوم ونفي السبب من همزة "أيمن" في القسم, فإنها تكسر وتفتح وكسرها هو الأصل , ففتحت لئلا ينتقل من كسر إلى ضمتين دون حاجز حصين , ولم تضم لئلا تتوالى الأمثال المستثقلة , فإن جعل سبب فتتح همزة حرف التعريف طلب التخفيف لأجل كثرة الاستعمال لزم محذور آخر وهو أن التخفيف مصلحة تتعلق باللفظ, فلا يرتب الحكم عليها إلا بشرط السلامة من مفسدة تتعلق بالمعنى كخوف اللبس, وهو هنا لازم لأن همزة الوصل إذا فتحت التبست بهمزة الاستفهام, فيحتاج الناطق بها إلى معاملتها بما لا يليق بها من إبدال أو تسهيل ليمتاز الاستفهام من الخبر, وذلك يستلزم وقوع البدل حيث لا يقع المبدل منه, لأن همزة الوصل لا تثبت إذا ابتدئ بغيرها فإذا أبدلت أو سهلت بعد همزة الاستفهام وقع بدلها حيث لا تقع هي وذلك ترجيح فرع على أصل أفضى إليه القول بأن همزة "أل" همزة وصل زائدة". الخامس: أن المعهود الاستغناء عن همزة الوصل بالحركة المنقولة إلى الساكن , نحو: ر زيداً والأصل أراء زيداً ولم يفعل/ ذلك بلام التعريف المنقول إليه حركة إلا على شذوذ بل يبدأ بالهمزة في المشهور من قراءة

ورش في مثل (الآخرة) وذلك في مثل: ر زيداً لا يجوز أصلاً فلو كانت همزة أداة التعريف زائدة للوصل لك يبدأ بها مع النقل كما لا يبدأ بها في الفعل المذكور. قلت: الفرق بين"أل" والفعل ظاهر, وذلك أن الفعل يتصرف فيه, كثيراً ويقع فيه التغير فناسب أن لا تقر همزته مع النقل بخلاف الحرف, فإنه لا يتصرف فيه , فكان إقرار همزته راجحاً على حذفها مع النقل, وقد جاء حذفها وليس بشاذ كما زعم بل هما طريقان للعرب وإن كانت إحداهما أشهر لما ذكرنا من أن "أل" حرف وأصل الحروف أن لا يتصرف فيها, والاعتداد بالعارض أقوى في الفعل منه في الحرف إذ هو تصرف كما ذكرنا. السادس: أنه لو كانت همزة أداة التعريف همزة وصل لم تقطع في: يا الله, ولا في قول بعضهم " افألله لأفعلن" بالقطع تعويضاً من حرف الجر, لأن همزة الوصل لا تقطع إلا في الاضطرار, وهذا الذي ذكرته قطع في الاختيار روجع به أصل متروك, ولو لم يكن مراجعة أصل لكان قولهم " أفأ لله لأفعلن" أقرب إلى الإجحاف منه إلى التعويض إذ في ذلك جمع بين حذف ما أصله أن يثبت وإثبات ما أصله أن يحذف فصح أن الهمزة المذكورة كهمزة أم وأن وأو ولكن التزم حذفها تخفيفاً إذا لم يبدأ بها ولم تل همزة استفهام, كما التزم أكثر العرب حذف عين المضارع والأمر من "رأى" وحذف فاء الأمر من أخذ وأكل وهمزة أم في ويلمه. قلت: استدل على أنها همزة قطع بمجيئها مقطوعة في موضعين في يا ألله, وفي لأفعلن ومجيئها موصولة لا يمكن حصر أماكنها لكثرتها,

فاستدل بالأقل النادر الشاذ وتره الكثير المطرد. فأما "يا ألله" فليست واجبة القطع, بل قيل: يالله بحذفها وقيل بالقطع , والقطع شذوذ في القياس وقد احتمل الشذوذ في هذا الاسم بأن نودي, وفيه أل ومحسن ندائه أنها لا تنفك من الاسم. وأما "أفأ لله لأفعلن" فلاستغناء عن التعويض بقطع الهمزة قليل, ولا يجعل مثل هذين الموضعيين الشاذين الجائز معهما غيرهما من حذف الهمزة دليلاً على أن الأصل همزة قطع. وأما قول المصنف " التزم حذفها تخفيفاً" فقد تقدم من قول الجمهور أن همزة القطع لا تحذف تخفيفاً إلا وهم يتكلمون بالأصل. والذي ينبغي أن يذهب إليه إجراء الشيء على ظاهره في الوضع, ولا يعدل عن الظاهر إلا لمرجح قوي يدل على خلاف الظاهر. وهذه الهمزة الظاهر أنها همزة وصل, وحكمها حكم همزات الوصل في غير "أل" وأما/ أنها تقطع ابتداء فهذا من ضرورة التكلم, وليس ذلك مختصاً بهمزة "أل" بل كل همزة وصل إذا ابتدئ بها قطعت. وأما إبدالها وتسهيلها إذا تقدمنها همزة الاستفهام فذلك لمخافة التباس الاستفهام بالخبر, أترى أنه إذا لم يلتبس لم يثبت ولو كانت همزة قطع لثبتت مع همزة الاستفهام, ولجاز الفصل بينهما بألف كما جاز في همزات القطع , فهذا مما يدل على أنها همزة وصل. قال المصنف:" واحتج بعض النحويين لسيبويه بأن قال: قد قيل: "مررت بالرجل" فتخطى العامل حرف التعريف فلو كان الأصل "أل" لكان في تقدير الانفصال, وكان يجب أن يقع قبل الجار كما أن الحروف التي لا تمتزج بالكلمة كذلك, ألا ترى أنك تقول: هل بزيد مررت؟ ولا تقول: بهل

زيد مررت, فلولا أن حرف التعريف بمنزلة الزاي من "زيد" ما تخطاه العامل. والجواب: أن تقدير الانفصال لا يترتب على كثرة الحروف بل على إفادة معنى زائد على معنى المصحوب ولو كان المشعر به حرفاً واحداً كهمزة الاستفهام, فإنها- وإن كانت حرفاً واحدا- في تقدير الانفصال لكون ما تفيده من المعنى زائداً على معنى مصحوبها غير ممازج له وعدم تقدير الانفصال يترتب على إفادة معنى ممازج لمعنى المصحوب كـ "سوف" فإنها- وإن كانت على ثلاثة أحرف- غير مقدرة الانفصال لكون ما تفيده من المعنى ممازحاً لمعنى الفعل الذي تدخل عليه, فإنها تعينه للاستقبال, وذلك تكميل لدلالته. وهكذا حرف التعريف غير مقدر الانفصال- وإن كان على حرفين - لأن ما أفاده من المعنى مكمل لتعيين الاسم مسماه, فينزل منزلة الجزء من مصحوبة لفظاً كما ينزل منزلة الجزء معنى , إلا أن امتزاج حرف التعريف بالاسم أشد من امتزاج" سوف" بالفعل لوجهين: أحدهما: أن معنى حرف التعريف لا يختص به بعض مدلول الاسم, بخلاف معنى سوف فإنه يختص بأحد مدلولي الفعل. والثاني أن حرف التعريف يجعل الاسم المقرون بها شبيهاً بمفرد قصد به التعيين وضعاً كالمضمر واسم الإشارة والعلم المرتجل, فلا يقدح في الامتزاج المعنوي كون أحد الممازحين بحرفين أو أكثر, و"سوف" وإن مازج معناها معنى مصحوبها لكن لا تجعله شبيهاً بمفرد قصد به وضعاً ما قصد بها وبمصحوبها , لأن ذلك غير موجود, وقد يترتب على هذا امتناع الفصل بين حرف التعريف والمعرف به ووقوعه بين"سوف" والفعل المصاحب بها

كقول الشاعر: وما أدري وسوف أخال أدري ... أقوم أل حصن أم نساء وفعل ذلك أيضا بـ"قد" كقول الشاعر: لقد أرسلوني في الكواعب راعياً ... فقد- وأبي- راعي الكواعب أفرس أراد: فقد أفرس راعي الكواعب وحق أبي فسكن الياء, وفصل. واحتج قوم على الخليل بأن قالوا: لما كان التنكير مدلولاً عليه بحرف واحد- وهو التنوين- كصة ومه وجب كون التعريف مدلولاً عليه بحرف واحد- وهو اللام- لأن الشيء يحمل على ضده كما يحمل على نظيره. وهذا ضعيف جدا لأن الضدين قد يتفقان في العبارة مطلقاً كصعب يصعب صعوبة فهو صعب, وسهل يسهل سهولة فهو سها, وقد يختلفان مطلقاً كشبع شعباً فهو شبعان وجاع جوعاً فهو جائع وقد يتفقان من وجه ويختلفان مكن وجه, كرضي رضا فهو راض وسخط سخطاً فهو ساخط, والاختلاف أولى بهما ليكون سبيلهما في المعنى واللفظ واحداً. إن سلم حمل الشيء على ضده فبشرط تعذر حمله على نده فقد أمكن ما يحمل عليه, فتعين الجنوح إليه. ونقول: التعريف نظير التأنيث في الفرعية فاشتركا في استحقاق علامة, والتنكير نظير التذكير في الأصالة فينبغي أن يشتركا في الخلو من علامة, فإن وضع للتنكير علامة فحقها أن تنقص عن علامة التعريف تنبيهاً

على أنه أحق بالعلامة لفرعيته وأصلة التنكير, وذلك موجب لكون علامة التعريف حرفين وهو المطلوب. وأيضا فإن التعريف طارئ على التنكير طروء التثنية على الإفراد, فسوي بينهما بجعل علامة كل واحد منهما حرفين, يحذف أحدهما في حال دون حال. وأيضا لما كانت"من" ذات حرفين ومدلولها العموم في نحو: ما فيها من رجل, وكان حرف التعريف نظيرها في العموم سوي بينهما, فكان حرف التعريف حرفين تسوية بين النظيرين. ولما كانت اللام تدغم في أربعة عشر حرفاً فيصير المعرف بها كأنه من المضاعف العين الذي فاؤه همزة, جعل أهل اليمن ومن داناهم بدلها ميماً, لأن الميم لا تدغم إلا في ميم" انتهى كلام المصنف. وفي البسيط:" واختلف فيها على القول بزيادتها هل هي همزة أو ألف؟ فقيل: هي همزة ولذلك إذا دخلت عليها همزة الاستفهام لم تحرك للاعتماد على همزة الاستفهام , فلزم إثباتها فرقاً بين الاستفهام والخبر, فثبتت ساكنة فأبدلوها ألفاً على قياس البدل. وقيل: هي ألف فتثبت مع ألف الاستفهام من غير بدل , لأنه لا حاجة إلى تحريكها لتصير همزة". و" آلة التعريف قيلا هو الألف واللام معاً". " وقال المحققون: إنها اللام خاصة" انتهى.

وقد طال/ الكلام في "أل" طولاً زائدا على الحد واختلافهم فيما لا يجدي شيئاً لأنه خلاف لا يؤدي نطقاً لفظياً ولا معنى كلامياً, وإنما ذلك هوس وتضييع ورق ومداد ووقت يسطر ذلك فيه , والخلاف إذا لم يفد اختلافاً في كيفية تركيب أو في معنى يعود إلى أقسام الكلام, وينبغي أن لا يتشاغل به, ومن طلب لوضع المفردات معنى معقولاً وعلة تقتضي له خصوصية ذلك اللفظ فهو بمعزل عن العقل, هذا لسان الفرس وضعوا علامة للتنكير ألفا ممالة إمالة محضة بحيث لا تفتح أصلاً, يقولون في رجل: مردا, وفي فرس: أسبا, ووضعوا حذف تلك الألف علامة للتعريف, فتقول في الرجل: مرد وفي الفرس: أسب , بحذف الألف. وهذا لسان البخمور الذي يسمى عند العامة بالبشمور وضعوا علامة للتعريف في المذكر باء مكسورة فيقولون: روم, أي: رجل, وبروم أي: الرجل, وهور أي: كلي وبهور أي: الكلب, ووضعوا علامة للتعريف في المؤنث دالاً مكسورة فيقولون: سيم أي: امرأة ودسيم أي: المرأة , وشادي: قطة, ودشاد أي: القطة. وهذا كله أمر وضعيا لا يعلل. كذلك مذهبنا في وضع المركبات أنها لا تعلل أيضا, وإنما نتكلم في ذلك على سبيل نقل ما قاله أهل هذا الفن فأنهم زادوا فيه على قدر الحاجة, أو على سبيل ما حملوه هذه الصناعة مما لا يحتاج إليه. -[ص: فإن عهد مدلول مصحوبها بحضور حسي أو علمي فهي عهديه, وإلا فهي جنسية. فإن خلفها كل دون تجوز فهي للشمول مطلقا ويستثنى من مصحوبها وإذا أفرد فاعتبار لفظه فيما له من نعت وغيره أولى فإن خلفها تجوزاً فهي لشمول خصائص الجنس على سبيل المبالغة.]- ش: عني بالحضور الحسي ما تقدم ذكره لفظاً فأعيد مصحوباً بآل, كقوله تعالى {كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولاً (15) فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ} أو كان

حاضراً مبصراً نحو قولك: " القرطاس" لمن سدد سهما. وعنى بالحضور العلمي نحو قوله تعالى {إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ} و {إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ} و {إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ}، فالغار والوادي والشجرة لم يجر ذكرها قبل لفظًا، ولا هي حاضرة مبصرة حالة الخطاب بهذه الآيات. وتحصل من كلام المصنف أن "أل" على قسمين: عهديه وجنسية وأن المعهود على قسمين: معهود ذكراً نحو: لقيت رجلاً فضربت الرجل, تريد: الرجل المعهود في الذكر قبل, وليس معهوداً لأنه نكرة. ومعهود علماً وهو ما بينك وبين المخاطب عهد فيه, وهذا التقسيم الذي قسمه المصنف ذهب إليه أكثر أصحابنا. وذهب الأستاذ أبو الحجاج يوسف بن معزوز إلى أن / "أل" قسم واحد في التعريف وهي عهديه سواء أدخلت على واحد أن على اثنين , أو على ما يقع على الجنس, فإذا قلت " جاءني الرجل" فمعناه: الرجل الذي عهدت بيني وبينك أو ما أشبه هذا. وإذا قلت " الدنيا خير من الدرهم" فمعناه: هذا الذي عهدت بقلبي على شكل كذا خير من الذي عهدت على شكل كذا, فاللام للعهد أبداً لا تفارقه. انتهى وهو نص كلامه في رده على الزمخشري في قوله:" تعريف جنس أو تعريف عهد".

وذكر أصحابنا أنه يعرض في العهدية الغلبة ولمح الصفة فـ"أل" للغلبة كالتي في "البيت" يريدون: الكعبة والتي في " النجم" يريدون: الثريا فهذه دخلت لتعريف العهد, ثم حدثت الغلبة بعد ذلك. و"أل" للمح الصفة لم تدخل أولاً على الاسم للتعريف لأن الاسم علم في الأصل, ولكن لمح فيه معنى الوصف, فسقط تعريف العلمية منه وأنت إنما تريد شخصاً معلوماً فلم يكن بد من إدخال"أل" عليه لذلك. وقوله وإلا فهي جنسية أي: وإلا يعهد مدلول مصحوبها بما ذكر فهي جنسية."أل" الجنسية هي التي تحدث في الاسم معنى الجنسية نحو"دينار" ينطلق على كل دينار على سبيل البدل, فإذا أدخلت عليه "أل" دلت على الشمول, بخلاف قولك "لبن" فإنه واقع على جنس اللبن فإذا قلت "اللبن فـ"أل" عرفت الجنس ولم تصيره جنساً بل دخلت لتعريف الجنس , هكذا قاله الأستاذ أبو الحسن بن عصفور وقرره. نازعه بعض تلاميذه الأذكياء فقال: الذي يظهر أن"أل" في اللبن والدينار سواء, وأن "أل" إذا دخلت على كلي فتلك التي للجنس وإذا دخلت على شخصي فتلك للعهد, ولم يقل أحد في الاسم النكرة إنه يدل على الكلي, نحو"لبن" وإنما يتناول الجميع بصدقه على الآحاد على البدل, وإنما الذي يصير يعطي الكلي المعرف بالألف واللام إذا اقترنت به قرينة تدل على ذلك, فإنه قد يقول: الدينار ويشير إلى شخص منها بعينه, واللبن ويشير إلى قطعة بعينها فإذا قلت: اللبن أسوغ من العسل أو الدينار أنفس من الدرهم فهم المعنى الكلي.

وقال الأستاذ أبو الحسن:" تقول "اللبن" والماء" في الجنسية ولم يتقدم بينك وبين مخاطبك عهد في جنس الماء واللبن, فتحيله على ذلك, وإنما أدخلت الألف واللام لأنك تعلم أن هذين الجنسين معلومان عند كل أحد, ولا يبعد عندي أن تسمى الألف واللام اللتان لتعريف الجنس عهديتين لأن الأجناس عند العقلاء معلومة مذ فهموها, والعهد تقدم المعرفة فالأجناس إذا في نفوسهم معهودة , وإنما الذي يمتنع أن تسمى معهودة/ بمعنى أنها تقدم فيها عهد بين المخاطب والمخاطب وهو الذي أراد أبو موسى بالعهد, فكأنه قال: لا في معرض الحوالة على شيء معهود بينك وبين مخاطبك" انتهى. قال ذلك التلميذ: "إنما سماها- يعني الجزولي - جنسيتين لخاصية إعطاء الجنس بهما, ولو كان كما ذكر الأستاذ - يعني أبا الحسن- لم يكن بينها وبين العهديتين فرق, والفرق بينهما أن الشخصيتين دخلتا في اسم متقدم فيه عهد بينك وبين مخاطبك مع استقلال الاسم دونهما بإفادته , والجنسيتان دخلتا في اسم لم يكن له استقلال بإفادة الجنس دونهما فلهما من إعطاء الاسم الكلي جزء دلالة, والشخصيتان أصبحتا المعهود خاصة ولم تدل مع الاسم عليه" انتهى كلامه. قال أبو موسى: " ويعرض في الجنسية الحضور" وإنما جعل"أل" التي للحضور هي الجنسية من جهة أنك إذا قلت " خرجت فإذا الأسد" فليس بينك وبين مخاطبك عهد في أسد مخصوص وإنما أردت: خرجت فإذا هذه الحقيقة فدخلت "أل" لتعريف الحقيقة لأن حقيقة الأسد معروفة عند الناس,

واسم الجنس معلق على الحقيقة ولذلك يقع على ما قل وكثر منها, فـ"لبن" يقع على جميع اللبن ويقع على القطعة منه, لأن حقيقة اللبن موجودة في القطعة من اللبن كما هي موجودة في جميع اللبن. وذكروا أن "أل" للحضور تكون في أربعة مواضيع: أحدها: بعد إذا الفجائية نجو: خرجت فإذا بالأسد. الثاني: أن تقع بعد أسماء الإشارة نحو: مررت بهذا الرجل. الثالث: في النداء في نحو: يأيها الرجل. والرابع: في نحو الآن والساعة وما في معناها من الزمان الحاضر. وماعدا ما ذكر لا تكون فيه للحضور إلا أن يقوم دليل على ذلك نحو قول الشاعر: فأنت طلاق, والطلاق عزيمة ... ثلاث ومن يخرق أعق وأظلم في رواية من رفع ثلاثاً إذا لا يمكن أن يريد جنس الطلاق فإن جنسه ليس عزيمة وثلاثاً فلم يبق إلا أن يريد الطلاق الواقع في الزمان الحاضر الذي ليس يعطيه قولك"فأنت طلاق" كأنه قال: وطلاقي هذا عزيمة ثلاث. وقد قسم بعض أصحابنا "أل" ستة أقسام: الأول: أن تكون لتعريف العهد في شخص أو جنس

الثاني: أن تكون لتعريف الحضور. الثالث: أن تكون للغلبة. الرابع: أن تكون للمح الصفة. الخامس: أن تكون بمعنى الذي والتي. السادس: أن تكون زائدة. فهذه أقسام لـ"أل" وعلى هذا التقسيم لا يقال: يعرض في الجنسية الحضور, ولا يقال: يعرض في العهدية الغلبة ولمح الصفة لأن قسماً من الشيء لا يكون قسيماً له. وقوله فإن خلفها كل دون تجوز فهي للشمول/ مطلقاً مثال ذلك قوله تعالى {وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفاً} ويعني بقوله"مطلقاً" عموم الأفراد والخصائص ويصح تقديره: خلق كل إنسان ضعيفاً. وقوله ويستثنى من مصحوبها مثاله {وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا} فلولا أن أداة التعريف اقتضت شمول الحقيقة والإحاطة بأفرادها لم يستثن {الَّذِينَ آمَنُوا} من المعرف بها, وهو الإنسان. وقوله وإذا أفرد فاعتبار لفظه فيما له من نعت وغيره أولى إنما قال" وإذا أفرد" لأن "أل" تدخل على المثنى وعلى المجموع وتكون فيه للجنس, فمثال دخولها على المثنى قولهم: نعم الرجلان الزيدان فأل جنسية وقد دخلت على المثنى وقال الشاعر: فإن النار بالعودين تذكى ... وإن الحرب أولها الكلام

ومثال دخولها على الجمع {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ} وهو كثير. ومثال موافقة لفظ الإفراد قوله تعالى {وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ} , {لا يَصْلاهَا إِلاَّ الأَشْقَى (15) الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى} ومثال موافقة المعنى دون اللفظ- وهي قليلة- قوله تعالى {أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا} وحكي الأخفش: أهلك الناس الدينار الحمر والدرهم البيض, فهذا مثال النعت. ومثال غير النعت أن يكون خبراً أو في حيز الخبر أو حالاً نحو قولك: هذا الدينار حمر: أي هذه الدنانير حمر' وقولك: ما هو من الأحد أي: من الناس وأنشد اللحياني: وليس يظلمني في وصل غانية إلا كعمرو وما عمرو من الأحد قال اللحياني:" فلو قلت: ما هو من الإنسان , تريد: من الناس , أصبت". وقوله فإن خلفها تجوزاً إلى آخره مثاله: زيد الرجل بمعنى: الكامل الرجولية الجامع لخصائصها فإن هذا تجوز لأجل المبالغة ويستعملون كلا بهذا المعنى تابعاً وغير تابع فيقولون: زيد كل الرجل وزيد الرجل كل الرجل. ص: وقد تعرض زيادتها في علم وحال وتمييز ومضاف إليه تمييز, وربما زيدت فلزمت. والبدلية في نحو" ما يحسن بالرجل خير منك" أولى من

النعت والزيادة. وقد تقوم في غير الصلة مقام الضمير. ش: مثال ذلك في العلم قول الشاعر: باعد أم لعمرو من أسيرها حراس أبواب على قصورها وقول الآخر: عوير ومن مثل العوير ورهطه ... وأسعد في ليل البلابل صفوان وقول الآخر: أما دماء لا تزال مراقة ... على قنة العزى وبالنسر عندما وقال الآخر: ولقد جنينك أكمؤا وعساقلا ... ولقد نهيتك عن بنات الأوبر يريد: أم عمرو ومن مثل عوير وبنسر- وهم صنم - وعن بنات أوبر. ومثال زيادتها في الحال قراءة بعضهم {لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ} أي: ليخرجن العزيز منها ذليلاً وقال بعض العرب:" ادخلوا الأول

فالأول" أي: أولا فأولاً وقال الشاعر: دمت الحميد فما تنفك منتصرا ... على العدا في سبيل المجد والكرم فزاد"أل" في الحال. وهذا مذهب الجمهور. وذهب بعض النحويين إلى أن الحال تكون معرفة ونكرة فعلى مذهب هذا لا تكون "أل" زائدة في الحال. ومثال زيادتها في التمييز قول الشاعر: رأيتك لما أن عرفت وجوهنا ... صددت وطبت النفس ياقيس عن عمرو ومنه الحديث "أن امرأة كانت تراق الدماء" وحكي البغداديون: " الخمسة العشر الدرهم". ومثال زيادتها فيما أضيف إليه تمييز قول الشاعر

إلى رُدُحٍ ممن الشيزى ملاء لباب البر يلبك بالشهاد وزيادتها في التمييز هو على مذهب البصريين وأما الكوفيون فيجيزون تعريف التمييز, فلا تكون "أل" عندهم زائدة. وقوله وربما زيدت فلزمت قال المصنف في الشرح: "أشرت إلى نحو اليسع والآن والذي" انتهى. أما "الآن" فذكر أصحابنا أن "أل" ليست زائدة بل هي للحضور وأما "الذي" ففيه خلاف فمن زعم أن الموصول يعرف بآل معرفة فيه. وقوله والبدلية إلى آخر المسألة قال المصنف في الشرح:" زعم الخليل إنه إنما جر هذا على نية الألف واللام ولكنه موضع لا تدخله كما كان "الجماء الغفير" منصوباً على نية إلقاء الألف واللام, نحو: طرا قاطبة فحكم الخليل في المقرون بالألف واللام المتبع بـ"مثلك" وخير منك" بتعريف المنعوت والنعت. وذهب أبو الحسن إلى أنهما نكرتان وأن الألف واللام زائدتان في نية الاطراح" قال:"وعندي أن أسهل مما ذهبا إليه الحكم بالبدلية وتقرير المتبوع والتابع على ظاهرهما" انتهى. فيكون بدل نكرة من معرفة لكن البدل بالمشتقات ضعيف, فهذا الذي حمل الخليل والأخفش على ما ذهبا

إليه وباب البدل إنما يكون/ بالجوامد. وقوله وقد تقوم إلى آخره قال المصنف:" أشرت إلى نحو: مررت برجل حسن الوجه بتنوين حسن ورفع الوجه على معنى: حسن وجهه, فالألف واللام عوض من الضمير وبهذا التعويض قال الكوفيون وبعض البصريين" انتهى. وهذه المسألة أشبع الكلام فيها هنا المصنف وأخرناها نحن إلى بابها" باب الصفة المشبهة باسم الفاعل". قال المصنف:" لما كان حرف التعريف بإجماع مغنياً عن الضمير في نحو: مررت برجل فأكرمت الرجل جاز أن يغني عنه في غير ذلك لاستوائهما في تعيين الأول" انتهى. وهذه غفلة لم تغن"أل" عن الضمير في: فأكرمت الرجل بل "أل" وما دخلت عليه هي التي أغنت عن الضمير, وقامت مقامه وهذا بخلاف: مررت برجل حسن الوجه, فإن "أل" وحدها قامت مقام الضمير فقوله"إن حرف التعريف بإجماع مغن عن الضمير" فيما ذكر كلام ساقط. وشمل قوله " في غير الصلة" مسألة باب الصفة المشبهة باسم الفاعل, ونحو قوله: ضرب زيد الظهر والبطن وقوله تعالى {فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَاوَى} , {فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَاوَى}. ومن لا يرى ذلك جعل الضمير محذوفاً وسيأتي الكلام في هذه المسألة في " باب الصفة المشبهة". وقوله في غير الصلة احتراز من الصلة نحو قولهم:"أبو سعيد الذي

رَوَيت عن الخدري" تريد: رويت عنه, وهذا لا يطرد, وهو أن يكون الظاهر الذي هو الموصول في المعنى يقوم مقام الضمير, وليس على ما ذكر المصنف من أن "أل" تقوم في الصلة مقام الضمير, بل القائم مقامه هو الاسم الذي فيه "أل", فليست هذه المسألة, ولا مررت برجل فأكرمت الرجل, نظير: مررت برجل حسن الوجه, ولا} فَإنَّ الجَحِيمَ هِيَ المَاوَى {؛ لأنها هنا وحدها قامت مقام الضمير, وهناك قام الاسم المعرف بها مقام الضمير, فهذا فرق ما بين المسألتين, وقد بيناه.

-[ص: فصل مدلول إعراب الاسم ما هو به عمدة, أو فضلة, أو بينهما, فالرفع للعمدة, وهي: مبتدأ, أو خبر, أو فاعل, أو نائبه, أو شبيه به لفظا, وأصلها المبتدأ, أو الفاعل, أو كلاهما أصل. والنصب للفضلة, وهي: مفعول مطلق, أو مقيد, أو مستثنى, أو حال, أو تمييز, أو مشبه بالمفعول به. والجر لما بين العمدة والفضلة, وهو المضاف إليه. وألحق من العمد بالفضلات المنصوب في باب: كان, وإن, ولا.]- ش: قال المصنف في الشرح: "العمدة عبارة عما لا يسوغ حذفه من أجزاء الكلام إلا بدليل يقول مقام اللفظ به" انتهى. وهذا كلام مدخول لأن لنا من أجزاء الكلام ما يسوغ حذفه لدليل, ولا يسمى عمدة, ولنا من أجزاء الكلام ما لا يسوغ حذفه ولو كان عليه دليل, ويسمى عمدة: فمثال الأول "الفعل", فإنه يسوغ حذفه لدليل, ولا يسمى عمدة/, فإذا قلت "زيد" في جواب "أجاءك أحد"؟ فالتقدير: جاءني زيد, فـ (جاءني" جزء الكلام, وقد ساغ حذفه لدليل, ولا يسمى عمدة. ومثال الثاني "الفاعل" و "المفعول الذي لم يسم فاعله", فإن كلا منهما

يسمى عمدة, ولا يسوغ حذفه لدليل. وكذلك يلزم أيضا من قوله أن يكون بعض الحروف عمدة, وذلك أنه من أجزاء الكلام, ولا يسوغ حذفه إلا بدليل, نحو حرف النداء وهمزة الاستفهام وغيرهما. وقال أيضا: "الفضلة عبارة عمارة عما يسوغ حذفه مطلقا إلا لعارض". يرد عليه بعض العمد الذي يسوغ حذفه مطلقا إلا لعارض, فمن ذلك المبتدأ في قطع النعوت, والخبر في نحو: لولا زيد لأكرمتك. وقوله فالرفع للعمدة قال في الشرح: "لما كان الاهتمام بالعمدة أشد من الاهتمام بغيرها جعل إعرابه الرفع؛ لأن علامته الأصلية ضمة, وهي أظهر الحركات. وإنما قلنا هي أظهر الحركات لوجهين: أحدهما: أنها من الواو, ومخرجها من الشفتين, وهو مخرج ظاهر؛ بخلاف الفتحة والكسرة, فإنهما من الألف والياء, ومخرجاهما من باطن الفم. والثاني: أن الضمة يمكن الإشارة إليها بالإشمام عند سكون ما هي فيه وقفا وإدغاما بخلاف غيرها". وقوله أو خبر يشمل خبر المبتدأ وخبر "إن" وأخواتها. وقوله أو شبيه به يعني شبيه بالفاعل, وهو اسم "كان" وأخواتها. وقوله وأصلها المبتدأ أي: وأصل العمدة المبتدأ, أو الفاعل, أو

كلاهما أصل, هذه أقوال للنحاة, وهو خلاف لا يجدي شيئا. وقوله والنصب للفضلة لما جعلت الضمة للعمدة والكسرة للمتوسط بين العمدة والفضلة تعينت الفتحة للفضلة. وقوله مفعول مطلق عنى به المصدر مؤكدا كان أو مبينا لنوع أو عدد. وقوله أو مقيد عنى به المفعول به, والمفعول فيه, والمفعول من أجله, والمفعول معه. وقوله أو شبيه بالمفعول به هو ما انتصب على سبيل الاتساع من ظرف, أو مصدر, أو مرفوع في باب الصفة المشبهة. وقوله والجر لما بين العمدة والفضلة, وهو المضاف إليه إنما كان بينهما لأنه في موضع يكمل العمدة, نحو: جاء عبد الله, وفي موضع يكمل الفضلة, نحو: أكرمت عبد الله, وفي موضع يقع فضلة, نحو: زيد ضارب عمرو. ولما كانت الكسرة تشبه الضمة جعلت علما للمضاف إليه؛ لأنه قد يكمل العمدة, ولأنها متوسطة بين الثقل والخفة, فجعلت للمتوسط بين العمدة والفضلة. وهذه العلل في اختصاص العمدة بالضمة, والفضلة بالفتحة, وما بينهما بالكسرة, ذكرها المصنف وغيره, وهي غير محتاج إليها. وقد حصر/ المصنف المرفوعات والمنصوبات والمجرور فيما ذكره هنا. فأما المرفوعات فذكر الأستاذ أبو الحسن بن عصفور أن الاسم يرفع إذا كان لمجرد عدد, وكان معطوفا على غيره, أو معطوفا عليه غيره, ولم يدخل عليه عامل لا في اللفظ ولا في التقدير, مثال ذلك: واحد واثنان وثلاثة وأربعة, فلو كان عاريا من عطفية كان موقوفا, نحو: واحد اثنان ثلاثة

أربعة, وكأن التركيب الذي حدث فيه بالعطف قام مقام العامل في حدوث هذه الضمة. والعجب للأستاذ أنه ذكر هذا في باب ما يدخل المعرب فيه لقب من ألقاب الإعراب, وقد قرر قبل أن الإعراب هو تغير آخر الكلمة لأجل العامل الداخل عليها في الكلام الذي هي فيه. فكيف يكون إعراب بلا عامل؟ هذا تناقض. والذي ينبغي أن يذهب إليه أن هذه التي في العدد المعطوف أو المعطوف عليه ليست حركات إعراب, وهي شبيهة بحركات الإعراب, وحدثت عند حصول هذا التركيب العطفي. ومن قال إن الإعراب حادث عن عامل لا يمكن أن يقول في هذه إنها حركات إعراب. وعد البصريون في المرفوعات اسم ما الحجازية والتابع لمرفوع أو لجار مجرى المرفوع, ولم يعدهما المصنف. وأما الكوفيون فأنكروا ارتفاع الاسم "بـ ما", وزعموا أنه مرفوع بالابتداء. ويرتفع الاسم عندهم من ثمانية عشر وجعها ترجع إلى ما ذكره البصريون إلا موضوعين: أحدهما: ما ذكره الفراء من أن "لولا" الامتناعية يرتفع الاسم بها, وقد تكلمنا معه على ذلك في شرحنا الفصل الذي فيه حروف التخصيص من هذا الكتاب في "باب تتميم الكلام على كلمات مفتقرة إلى ذلك".

والثاني: أن الاسم يرتفع بظرف قد رفع غيره, أو باسم غير ظرف قد رفع غيره, فأما الظرف فإذا كان قد ناب مناب ظرفين من جهة المعنى, وذلك قولك: زيد حيث عمرو, فزيد وعمرو يرتفعان بـ "حيث" لأن معناه: زيد في مكان فيه عمرو, فلما خلفت "حيث" الظرفين رفعت الاسمين اللذين كانا مرتفعين بهما. وأما البصريون فـ "عمرو" عندهم مرفوع بالابتداء, والخبر محذوف لدلالة المعنى عليه. وقال ابن كيسان: "حيث" يرتفع الاسم بعده على الابتداء, كقولك: قمت حيث زيد قائم. وأهل الكوفة يجيزون حذف "قائم", ويرفعون بـ "حيث" زيدا, فإذا أظهروا "قائما" بعد "زيد" أجازوا فيه الوجهين الرفع والنصب, يقولون: قامت مقام صفتين, والمعنى: زيد في موضع فيه عمرو, فعمرو يرتفع بـ "فيه", وهو صلة للموضع, وزيد مرفوع بـ "في" الأول, وهو خبره, وليست بصلة لشيء. قال: وأهل البصرة يقولون: حيث مضافة إلى جملة/ لم تخفض لذلك. وأما الاسم غير الظرف الذي رفع غيره فكل اسم مشتق وقع خبرا لمبدأ أو لما أصله المبتدأ, نحو: زيد قائم, فزيد مرتفع بقائم, وقائم قد رفع الضمير المستكن فيه العائد على "زيد" ولو قدرته خلفا من موصوف رفع المبتدأ, واستتر فيه ضميران: أحدهما للمبتدأ, والآخر ضمير الموصوف الذي صار خلفا منه. فإن قلت "زيد القائم" فزيد مرفوع بالقائم, والقائم فيه ضميران: أحدهما للمبتدأ, والآخر لـ "أل", فلو جعلته خلفا لموصوف رفع أربعة أشياء: أحدها المبتدأ, والثاني ضمير المبتدأ, والثالث الضمير العائد على الموصوف الذي صار خلفا منه, والرابع الضمير العائد على "أل", وكذلك في "كان". وإذا أكدوا مثل "كان زيد القائم" على أنه خلف من موصوف, ويحمل ثلاثة ضمائر, قالوا: كان زيد القائم نفسه نفسه نفسه. وزاد الأعلم في وجوه الرفع بالإهمال, وجعل من ذلك قوله

تعالى {يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيم} , فارتفاع (إبراهيم) عنده بالإهمال من العوامل. والذي يجرى مجرى المرفوع المشبه بالمرفوع نحو: يا زيد الظريف. والمحكوم به بحكمة نحو: قام هؤلاء العقلاء, ويا أيها العقلاء. وما هو في موضع رفع نحو: ما جاءني من رجل عاقل. وما هو مرفوع مقدار نحو: زيد يضرب وخارج. ومرفوع في المعنى نحو: ما قام غير زيد وعمرو, أي: ما قام إلا زيد وعمرو, هكذا عدوه, وعندي أن هذا هو عطف على توهم: ما قام إلا زيد. وجعل الكوفيون من هذا القبيل: ضارب زيد هندا العاقلة, برفع "العاقلة". وأما المنصوبات فعد البصريون منها خبر "ما" الحجازية, وخبر "لا" و "لات" أختيها, واسم "لا" التبرئة, واسم "ألا" للمتني, واسم "إن" وأخواتها, وتابعا لمنصوب. وأنكر الكوفيون انتصاب الاسم على أنه خبر "ما", وزعموا أن الاسم ينتصب من ثمانية عشر وجها, كلها ترجع إلى ما ذكره البصريون إلا ثلاثة: أحدها أن الاسم ينتصب على القطع, نحو: جاء زيد أزرق, يريدون: الأزرق, فقطع عن الإتباع, وانتصب بسقوط الألف واللام. وأنكر الفراء ذلك حيث لا يراد التأكيد. وممن أجاز ذلك هشام. والثاني: النصب على الخلاف, نحو: لو تركت والأسد لأكلك. وهذا عند البصريين مفعول معه.

والثالث: انتصاب الخبر بعد "ما" الحجازية بسقوط الباء. وزاد السهيلي في وجوه النصب انتصاب الاسم على أنه مفعول به من جهة المعنى وإن لم يعمل فيه عامل لفظي, وذلك في باب/ الإغراء. وزاد ابن الطراوة النصب بالقصد, وذلك في باب الاشتغال, نحو: زيدا ضربته. والذي يجري مجرى المنصوب ما كان مشبها بالمنصوب, نحو: لا رجل ظريفا عندك, أو محكوما له بحكمه, نحو: رأيت هؤلاء العقلاء, أو في موضع نصب, نحو: ما رأيت من رجل ولا امرأة, أو منصوبا مقدرا نحو قوله: فألقيته يوما يبير عدوه وبحر عطاء يستخف المعابرا أي: مبيرا عدوه. وزعم الكوفيون أن الاسم قد ينتصب لكون متبوعه مفعولا من حيث المعنى, نحو: ضارب زيد هندا العاقل, بنصب العاقل. وأما المجرورات فيجر الاسم بالحرف, أو بالإضافة, أو بكونه تابعا لمجرور, أو لما جرى مجرى المجرور. والجاري مجرى المجرور أن يكون محكوما له بحكم المجرور, نحو: مررت بخمسة عشر رجلا كرام. أو مخفوضا مقدرا نحو قوله: بات يعيشها بغضب باتر يقصد في أسوقها وجائر

أي: قاصد في أسوقها وجائر. أو متوهما خفضه, نحو: بدالي أني لست مدرك ما مضى ولا سابق شيئا إذا كان جائيا توهم دخول الباء في "مدرك", فعطف على التوهم: ولا سابق.

باب المبتدأ

/ص: باب المبتدأ وهو ما عدم حقيقة أو حكما عاملا لفظيا من مخبر عنه, أو وصف سابق رافع ما انفصل وأغنى, والابتداء كون ذلك كذلك, وهو يرفع المبتدأ, والمبتدأ الخبر, خلافا لمن رفعهما به أو بتجردهما للإسناد, أو رفع بالابتداء المبتدأ وبهما الخبر, أو قال ترافعا. ولا خبر للوصف المذكور لشدة شبهه بالفعل, ولذلك لا يصغر ولا يوصف ولا يعرف ولا يثنى ولا يجمع إلا على لغة "يتعاقبون فيكم ملائكة". ولا يجري ذلك المجرى باستحسان إلا بعد استفهام أو نفي, خلافا للأخفش, وأجري في ذلك "غير قائم" مجرى "ما قائم". ش: قوله "ما" يشمل الاسم والمقدر به, نحو} وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ {أي: صومكم. ويشمل المخبر عنه في نحو: زيد قائم, والوصف الذي ذكر نحو: ما قائم الزيدان, فزيد وقائم لم يدخل عليهما عامل لفظي حقيبة. والذي لم يدخل عليه عامل لفظي حكما هو ما جر بـ "من" الزائدة أو بالباء, نحو} هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ {و: بحسبك درهم, فـ (خالق) و "حسبك" مبتدآن, وقد عدما عاملا لفظيا حكما لا حقيقة لأنهما قد دخل عليهما عامل لفظي حقيقة, لكنه جعل دخوله كلا دخول, ولا يختص ذلك

بحرف الجر الزائد كما ذكره المصنف وغيره، بل من الحروف ما ليس بزائد، وجعل حكمه في دخوله على المبتدأ حكم الحرف الزائد، وذلك "رب"، تقول: رب رجل عالم أفادنا، فـ "رجل" موضعه رفع بالابتداء، وهو مبتدأ، وقد جر بحرف جر غير زائد، وسيذكر ذلك في "حروف الجر" إن شاء الله. وشمل قوله "من مخبر عنه" ما أخبر عن لفظه نحو: زيد ثلاثي، و {وأَن تَصُومُوا} ناصب ومنصوب، وعن مدلوله نحو: ويد قائم، و {وأَن تَصُومُوا خَيْرٌ لَّكُمْ} أي: صومكم، فـ "خير" خبر عن (أن تصوموا) باعتبار المعنى. قال المصنف في الشرح: "ومن الإخبار باعتبار المعنى والمخبر عنه في اللفظ غير اسم قوله تعالى (سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ) أي: سواء عليهم الإنذار وعدمه" انتهى. وظاهر كلام المصنف أن (سواء) خبر مقدم، والجملة في موضع المبتدأ. وقد أجازوا العكس، وهو أن يكون (سواء) مبتدأ، والجملة موضع الخبر. والقولان عن أبي علي الفارسي. وقال في "الإغفال": (سواء) مبتدأ، والجملة خبره، ولم تحتج لضمير لأنها المبتدأ في المعنى والتأويل. وبه قال الزجاج. وأجاز بعض النحويين أن يكون (سواء) مبتدأ، والجملة في موضع/ الفاعل المغني عن الخبر، والتقدير: استوى عندي أقمت أم قعدت،

فيكون نحو قولهم "نولك أن تفعل" لما كان في معنى "ينبغي". وأكثر ما جاء "سواء" بعده الجملة المصدرة بالهمزة المعادلة بـ "أم"، وقد تحذف تلك الجملة للدلالة عليها، نحو قوله تعالى (فَاصْبِرُوا أَوْ لَا تَصْبِرُوا سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ) أي: سواء عليكم أصبرتم أم لم تصبروا. ويأتي بعدها الجملة الفعلية المتسلطة على اسم الاستفهام، نحو: سواء على أي الرجال ضربت، قال: سواء عليه أي حين أتيته أساعة نحس تتقى أم بأسعد وقد جاء بعد ما عري عن الاستفهام، وهو الأصل، قال: ....... سواء صحيحات العيون وعورها وأشعر قول المصنف "عاملًا لفظيًا" بان له عاملًا معنويًا. وقوله من مخبر عنه احتراز من المضارع العاري من ناصب وجازم، فإنه يصدق عليه أنه عدم عاملًا لفظيًا حقيقة. وقوله أو وصف المراد ما كان كضارب ومضروب من الأسماء المشتقة أو الجاري مجراها باطراد، نحو: أقائم الزيدان؟ وما مضروب العمرون، وما ذاهبة جاريتاك، وما قرشي أبواك، وما كريمةٌ نساؤكم،

وأقرشي قومك؟ وأقرشي أبواك؟ قال س: "ومن قال: أذهب فلانة؟ قال: أذهب فلانة؟ وأحاضر القاضي امرأة؟. ويرد على المصنف مسألة "لا نؤلك أن تفعل"، فإن "نؤلك" ليس وصفًا، وقد جعلوه بمنزلة: أقائك الزيدان؟، فنولك: مبتدأ، وأن تفعل: فاعل به؛ إذ معناه: لا ينبغي لك أن تفعل. وقد حكي "نؤلك أن تفعل" دون "لا"، بمعنى: ينبغي لك أن تفعل، فهو من باب "قائم الزيدان" في مذهب أبي الحسن. وقوله سابق احتراز من نحو: أخواك خارج أبوهما. وقوله رافع يشمل ما رفع الفاعل والمفعول الذي لم يسم فاعله. وقوله ما انفصل احتراز من المتصل، فإن هذا الوصف المبتدأ لا يسد الضمير المتصل فيه مسد الخبر. وشمل قوله "ما انفصل" الاسم الظاهر، نحو قول الشاعر: أقاطن قوم سلمى أم نووا ظعنًا إن يظعنوا فعجيب عيش من قطنا وقال آخر: أمرتجع لي مثل أيام حنة وأيام ذي قار على الرواجع والضمير المنفصل. وفي هذا الوصف الضمير المنفصل خلاف:

ذهب البصريون إلى جواز ذلك، فيقولون: أذاهب أنتما؟ وما ذاهب أنتم. وذهب/ الكوفيون إلى منع ذلك، فإذا قلت: أقائم أنت؟ جعلوا قائمًا خبرًا مقدمًا، وأنت مبتدأ. والبصريون يجيزون هذا الوجه، ويجيزون أن يكون أنت فاعلًا بقائم. وثمرة الخلاف تظهر في التثنية والجمع، فالكوفيون لا يجيزون إلا: أقائمان أنتما؟ وأقائمون أنتم؟ واحتج الكوفيون لمذهبهم بأن هذا الوصف إذا رفع الفاعل الساد مسد الخبر كان جاريًا مجري الفعل، والفعل لا ينفصل منه الضمير في قولك: أيقومان؟ وأيقومون؟ فلا ينبغي أن ينفصل مما جرى مجراه، وإن لم يجز انفصاله وجب أن يقال: أقائمان أنتما؟ وأقائمون أنتم؟ حتى يكون الضمير الذي في "قائم" متصلًا به كاتصاله بالفعل في أيقومان؟ وأيقومون؟ إلا أن الفعل مستقل بنفسه، والاسم الذي فيه ضمير مستتر غير مستقل بنفسه، فلذلك احتاج إلى مرافع، وهو أنتما وأنتم. والصحيح ما ذهب إليه البصريون. واستدلوا على ذلك بالقياس والسماع. أما القياس فهو أن الصفة إذا جرت على غير من هي له برز منها الضمير المرفوع بها، نحو: زيد هند ضاربها هو، بلا خلاف بين أحد من النحويين في جواز ذلك، مع أنها إذ ذاك جارية مجرى الفعل، ولو وقع الفعل موقعه لم يبرز الضمير فيه، بل كنت تقول: زيد هند يضربها. فكما خالف اسم الفاعل الفعل في هذا الموضع مع أنه جار مجراه، فكذلك لا ينكر أن يخالف اسم الفاعل الفعل بانفصال الضمير منه في "أقائم أنتما" وشبهه.

وأما السماع فقول الشاعر: خليلي ما واف بعهدي أنتما إذا لم تكونا لي على من أقطاع وقول الآخر: فما باسط خيرًا، ولا دافع أذى من الناس إلا أنتم آل دارم في "أنتما" مرفوع بـ "واف"، و"أنتم" مرفوع بـ "باسط" أو بـ "دافع"، وهما ضميران منفصلان لم يطابقا الوصف، فلو عطفت على هذا الوصف بـ "بل" انفصل الضمير، فتقول: أقائم الزيدان بل قاعد هما؟ قاله المزني. ولو قال قائل "زيد قائم" لجاز أن تقول منكرًا عليه: أقائم هو؟ ترفع "هو" بـ "قائم". وتقول: "أقائم أخواك أم قاعد؟ هذا القياس والوجه. وحكى أبو عثمان: "أم قاعدان"، فأضمر المتصل على حد ما يضمر في اسم الفاعل، وعلى هذا قول الشاعر: أناسية ما كان بيني وبينها وتاركة عقد الوفاء ظلوم فأيهما أعمل في "مظلوم" من اسمي الفاعل لزم الإضمار في الآخر منفصلًا، لكن البيت/ جاء على ما حكاه أوب عثمان. وقوله وأغنى يغني وأغنى عن الخبر. واحترز من نحو: أقائم أبواه زيد؟ فإن الفاعل فيه غير مغن، إذ لا يحسن السكوت عليه، فزيد: مبتدأ، وقائم: خبر مقدم، وأواه: مرتفع به. قال المصنف: "ويجوز أن يكون "قائم"

مبتدأ و"زيد" خبر، مع أن قائمًا نكرة وزيد معرفة، كما قال س في: مررت برجل خير منه أبوه، فـ "خير" عنده مبتدأ، و"أبوه" خبره. ويأتي بيان مثل هذا إن شاء الله". وأورد على المصنف أنه إذا كان "أقائم" مبتدأ، و"أبواه" فاعل به، و"زبد" خبر "أقائم"، لزم من ذلك أن يكون المبتدأ قد اشتمل بمتعلقة على ضمير يعود على الخبر، وهو متأخر لفظًا ورتبة، وذلك لا يجوز لأنه ليس من المواضع التي يفسر فيها الضمير ما بعده. واعترض على هذا الرد بأنه مثل ما أجاز أبو الفتح في قولهم: "ضرب غلامه زيدًا"؛ لأن الضمير فيه عاد على ما بعده لفظًا ورتبة، وهو المفعول لأنه متأخر لفظًا ورتبة. وقد ذهل المصنف والراد عليه والمعترض عن قاعدة في الباب، وهو أن هذا الوصف القائم مقام الفعل لا يكون مبتدأ حتى يكون مرفوعة أغنى عن الخبر؛ لأن مرفوعة هو المحدث عنه، فلا يجتمع هو وخبر عن الوصف، و"أبواه" في هذه الصورة لا يغني عن الخبر لأنه لا يستقل مع الوصف كلامًا من حيث الضمير، فلا يجوز في الوصف أن يكون مبتدأ البتة، فيتعين أن يكون خبرًا مقدمًا، و"أبواه" فاعل به، و"زيد" مبتدأ. وهذا الحد الذي ذكره المصنف فيه إبهام بلفظ "ما"، وترديد في قوله "أو حكمًا"، وفي قوله "أو وصف" حيث أتى بـ "أو". ثم هو حد يخالف فيه الكوفيون، فإنهم يزعمون ان المبتدأ مرفوع بالخبر، فإذا ما عدم عاملًا لفظيًا. وقد حددته بحد مختصر، وهو: المبتدأ هو الاسم المنتظم منه مع

اسم مرفوع به جملة". فقولي "المنتظم" يشمل المخبر عنه والوصف الرافع للمنفصل المغني. وقولي "مع اسم مرفوع به" يشمل الخبر المسند للمبتدأ، فإنه مرفوع بالمبتدأ على ما يبين، والمرفوع بالوصف فاعلًا او مفعولًا لم يسم فاعله. وقولي "جملة" يشمل مثل: زيد قائم، وأقائم زيد، وأبوه قائم، من قولك: زيد أبوه قائم. واحترز بقوله "جملة" من نحو "قائم أبوه" من قولك: زيد قائم أبوه، فإن قولك "قائم أبوه" لا يسمى جملة. وقوله والابتداء كون ذلك كذلك ذلك: إشارة إلى ما عدم عاملًا لفظيًا، وكذلك: إشارة إلى القيود التي قيد بها كل واحد من المخبر عنه ومن الوصف. وقوله وهو يرفع المبتدأ، والمبتدأ الخبر أي: والابتداء يرفع المبتدأ، هذا مذهب س، نص عليه/، قال: "وأما الذي يبنى عليه شيء هو هو فإن المبني عليه يرتفع به كما ارتفع هو بالابتداء، وذلك قولك: عبد الله منطلق، ارتفع بعبد الله لأنه ذكر ليتبني عليه المنطلق، وارتفع المنطلق لأن المبني على المبتدأ بمنزلته" انتهى. وبقول س قال جمهور البصريين، وهو أن العامل في المبتدأ بالابتداء، وفي الخبر المبتدأ. ونسب أيضًا هذا المذهب إلى المبرد. وقد رد مذهب س، وقيل: هو باطل بدلائل. أحدهما: أن المبتدأ قد رفع فاعلًا نحو: القائم أبوه ضاحك، فلو كان

رافعًا للخبر لأدى ذلك إلى إعمال عامل واحد في معمولين رفعًا من غير أن يكون أحدهما تابعًا للآخر، وذلك لا نظير له، وإذا لم يوجد في العوامل المتصرفة فكيف فيما يقصر عنها؟ والثاني: أن المبتدأ قد يكون اسمًا جامدًا، نحو "زيد"، والعامل إذا كان غير متصرف لم يجز تقديم معموله عليه، والمبتدأ يجوز تقديم الخبر عليه، فدل ذلك على أنه غير عامل فيه. والثالث: أن المبتدأ قد يكون ضميرًا، والضمير لا يرفع إذا كان ضميرًا ما يعمل، فكيف إذا كان ضمير ما لا يعمل. قال شيخاي أبو الحسن الأبذى وأبو الحسن بن الضائع: ما رد به على س لا يلزم: أما الأول فلا يلزم لأن طلبه للفاعل يخالف طلبه للخبر، فقد اختلفت جهتا الطلب، وإنما يمتنع أن يعمل في فاعلين أو مفعولين بهما إذا كان لا يتعدى إلا إلى واحد، وأما إذا عمل رفعين من وجهتين مختلفين فلا مانع من ذلك. وأما الثاني- وهو أن العامل إذا لم يتصرف فيه نفسه لم يتصرف في معموله- فإنما ذلك فيما كان من العوامل محمولًا على الفعل ومشبهًا به، والمبتدأ ليس من ذلك القبيل لأن عمله متأصل؛ لأنه إنما يعمل فيه لطلبه له كما يعمل الفعل في الفاعل لطلبه له، ولذلك لا أثر للتقدم هنا لهذا المعنى.

وأما الثالث فلا يلزم إلا لو كان المبتدأ يعمل بالحمل على الفعل أو بالنيابة منابه، وأما وهو يعمل بحق الأصالة فلا فرق فيه بين الظاهر والمضمر، والجامد والمشتق، وإنما يعتبر هذا الذي ذكروه بالنسبة إلى الأفعال المتصرف منها وغير المتصرف، أو لما ينوب مناب الأفعال من الأسماء. وقوله خلافًا لمن رفعهما به أي: رفع المبتدأ والخبر بالابتداء، وهذا قول ابن السراج، وهو مذهب الأخفش والرماني. قال المصنف في الشرح: وهذا لا يصح لأربعة أوجه: أحدهما: أن الأفعال أقوى العوامل، وليس منها ما يعمل رفعين دون إتباع، فالمعنى إذا جعل عاملًا كان أضعف العوامل، فكان أحق بأن لا يعمل رفعين/ دون إتباع. قلت: قد عد بعض النحويين رفع خبر المبتدأ على أنه إتباع لرفع المبتدأ، فعلى هذا يكون قد عمل العامل المعنوي رفعين بالإتباع، كما عمل العامل اللفظي رفعين بالإتباع. الثاني: أن المعنى الذي ينسب إليه العامل، ويمنع وجوده دخول عامل على مصحوبه كالتمني والتشبيه، أقوى من الابتداء لأنه لا يمنع وجود دخول عامل على مصحوبه، والأقوى لا يعمل إلا في شيء واحد، وهو الحال، فالابتداء الذي هو أضعف أحق بأن لا يعمل إلا في شيء واحد.

قلت: لا نسلم أن التمني والتشبيه لا يعمل إلا في شيء واحد، بل قد عمل في الاسم والخبر وفي الحال، فهذه ثلاثة، والابتداء قد عمل في اثنين المبتدأ والخبر، فقد انحط عن العامل اللفظي درجة. الثالث: أن الابتداء معنى قائم بالمبتدأ لأن المبتدأ مشتق منه، والمشتق يتضمن معنى ما اشتق منه، وتقديم الخبر على المبتدأ ما لم يعرض مانع جائز بالإجماع من أصحابنا، فلو كان الابتداء عاملًا في الخبر لزم من جواز تقديمه على المبتدأ تقديم معمول العامل المعنوي الأضعف، وتقديم معمول العامل المعنوي الأقوى ممتنع، فما ظنك بالأضعف؟ قلت لا يلزم ما ذكر لانا لا نسلم أن الابتداء معنى قائم بالمبتدأ فقط، بل هو معنى قائم بهما معًا، وإن الابتداء وقع بهما معًا، وإذا كان كذلك فلم يتقدم معمول العامل المعنوي الأضعف كما ذكر، وإنما تقدم أحد معمولي الابتداء على الآخر، إذ ليس معنى الابتداء قائمًا بالمبتدأ وحده دون الخبر. الرابع: أن رفع الخبر عمل وجد بعد معنى الابتداء ولفظ المبتدأ، فكان بمنزله وجود الجزم بعد مضي معنى الشرط والاسم الذي تضمنه، فكما لا ينسب الجزم لمعنى الشرط بل للاسم الذي تضمنه، كذلك لا ينسب رفع الخبر للابتداء بل للمبتدأ. قلت: هذا يبتنى على أن الابتداء هو معنى حل بالمبتدأ فقط، وقد منعا ذلك. قال المصنف في الشرح: "وأمثل من قول من قال الابتداء يرفع

المبتدأ والخبر معًا قول أبي العباس: "الابتداء رفع المبتدأ بنفسه، ورفع الخبر بواسطة المبتدأ". وهو أيضًا مردود لأنه قول يقتضي كون العامل معنى متقويًا بلفظ، والمعروف كون العامل لفظًا متقويًا بلفظ كتقوى الفعل بواو المصاحبة، أو كون العامل لفظًا متقويًا بمعنى كتقوى المضاف بمعنى اللام أو معنى من، فالقول بأن الابتداء عامل مقوى بالمبتدأ لا نظير له، فوجب رده. وقد جعل بعضهم نظير ذلك إعمال أداة الشرط بنفسها، وفي الجواب بواسطة فعل الشرط. وليس كما زعم لأن أداة الشرط وفعله لفظان، فإذا قوي أحدهما بالآخر لم يكن/ بدعًا، وأما الابتداء والمبتدأ فمعنى ولفظ، فلو قوي اللفظ بالمعنى لكان قريبًا، بخلاف ما يحاولونه من العكس، فإنه بعيد، ولا نظير له" انتهى. وقيل: قول أبي العباس وس واحد في أن المبتدأ رافع الخبر، قال أبو العباس في النداء وقد مثل بـ "زيد منطلق": فقد عمل زيد في منطلق عمل الفعل، ولا يجوز أن يدخل عامل على عامل، ولكنك تحكيه، كما انك لو سميت رجلًا "قام زيد" لقلت: يا قام زيد. وقوله أو بتجردهما للإسناد يعني بتجردها للإسناد تعريهما من العوامل اللفظية، وهذا مذهب الجرمي والسيرافي وكثير من البصريين، وذكر

الفراء أنه مذهب الخليل، وأصحاب الخليل لا يعرفون هذا. قال المصنف في الشرح: "هو مردود أيضًا بما رد له قول من قال هما مرفوعان بالابتداء، وفيه رداءة زائدة من ثلاثة أوجه: أحدها: انه يجعل التجرد عاملًا، وإنما هو شرط في صحة عمل الابتداء، والابتداء هو العامل س وغيره من المحققين. قلت: هذا ينعكس بقول: التجرد والتعرية هو العامل، والابتداء شرط في عمل التجرد. الثاني: أنه جعل تجردهما واحدًا، وليس كذلك، فإن تجرد المبتدأ تجرد لإسناد إليه، أو إسناده إلى ما يسد مسد مسند إليه، وتجرد الخبر إنما هو ليسند إلى المبتدأ، فيبين التجردين بون، فكيف يتحدان؟ قلت: اتحدا من حيث الدلالة والاشتراك في القدر المشترك دون ما يخص كل واحد منهما، فليسا تجردين، وإنما هو تجرد واحد بالنسبة إلى القدر المشترك. الثالث: أنه أطلق التجرد، ولم يقيده، فلزم من ذلك أن لا يكون مبتدأ ولا خبر ما جر منهما بحرف زائد، نحو: ما فيها من أحد، و: ............... ... هل أخو عيش لذيذ بدائم" قلت: لا يحتاج إلى تقييد لأنه قد تقرر أن العامل الزائد كلًا عامل في

باب الفاعل، وفي باب المبتدأ، وفي غير ذلك، فلا حاجة لتقييده. وقد صحح الأستاذ أو الحسن بن عصفور وبعض شيوخنا هذا المذهب، وزعموا أن التعري هو الرافع للمبتدأ والخبر. واستدلوا على ذلك بأنه قد وحد التعري عن العوامل رافعًا للاسم بشرط أن يكون المعرى قد ركب من وجه ما، حكي س أنهم يقولون: واحد، واثنان، وثلاثة، وأربعة، إذا عدوا، ولم يقصدوا الإخبار بأسماء العدد ولا عنها، وذلك مع التركيب بالعطف، فإن لم يعطف بعضها على بعض كانت موقوفة، فقلت: واحد، اثنان/، ثلاثة، فكذلك المبتدأ والخبر ارتفعا مع تركيب المبتدأ بالإخبار عنه، وتركيب الخبر بالإخبار به. وذهب ابن كيسان إلى أن هذا المذهب يفسده كون ذلك مؤديًا إلى أن يكون وجود العامل أضعف من عدمه إن قدرت التعرية عن عامل نصب أو خفض؛ لأن التعرية تعمل رفعًا، ووجود العامل الذي قدرت التعرية عنه يعمل نصبًا أو خفضًا، وعامل الرفع أقوى من عامل النصب والخفض؛ إذ قد يعمل النصب والخفض معنى الفعل، وليس كذلك الرفع. وإن قدرت التعرية عن عامل رفع كان وجود العامل وعدمه سواء، وإنما ينبغي أن يكون الشيء موجودًا أقوى منه معدومًا. قال الأستاذ أبو الحسن: "وهذا باطل لأنا لا نعني بالتعرية أكثر من أن الاسم المبتدأ لا عامل له، وإنما كان يلزم ما ذكر لو قدرنا أنه قد كان له

عامل، ثم حذف". وقوله أو رفع بالابتداء المبتدأ، وبهما الخبر أي أن المبتدأ ارتفع بالابتداء، وارتفع الخبر بالابتداء والمبتدأ معًا. وقد نسب هذا المذهب إلى أبي العباس، وهو قول أبي إسحاق وأصحابه. ورد بأنه يؤدي إلى منع تقديم الخبر لأنه لا يتقدم المعمول إلا من حيث يكون العامل لفظًا متصرفًا. ولا يرد هذا المذهب بأنه يؤدي إلى إعمال عاملين في معمول واحد؛ لأنه لا يجعل الابتداء عاملًا على انفراده، والمبتدأ كذلك، بل يكونان العامل في الخبر، وقد تنزلا منزلة الشيء الواحد. وقوله أو قال ترافعا يعني أن المبتدأ رفع الخبر، والخبر رفع المبتدأ. وهذا القول مروي عن الكوفيين. وأطلق المصنف ترافعهما، وقيده غيره، فحكي أن المبتدأ مرفوع بالذكر الذي في الخبر، فإذا لم يكن ثم ذكر ترافعا، أي: رفع كل واحد منهما الآخر. قال: وهذا مذهب الكوفيين. وكأنهم حين قالوا "زيد ضربته" وجدوه مرفوعًا، فلما زال الضمير انتصب "زيد"، فقالوا: زيدًا ضربت، نسبوا الرفع للضمير، فعندما وجدوا الرفع فيما لا ضمير فيه أصلًا نحو "القائم زيد"

قالوا: ترافعا. ورد هذا الحاكي هذا المذهب، فقال: وهذا خطأ لأن الضمير اسم جامد، والأسماء الجامدة لا تعمل. قال: وأما بطلان الترافع فبهذا، وبأن المبتدأ قد يرفع غير الخبر، والخبر كذلك قد يرفع غير المبتدأ، نحو: القائم أبوه ضاحك أخوة، فيؤدي ذلك إلى أن يعمل الاسم رفعين من غير حرف تشريك. ومن الموضح أن الكوفيين ذهبوا في مثل "زيد قائم" إلى أن زيدًا مرفوع بلفظ "قائم"، و"قائم" مرفوع بزيد، والضمير رفع بمعنى "قائم" و"قائم" ينوب مناب اسم/ وفعل جميعًا، لا ينفصل الاسم من الفعل، ولا الفعل من الاسم. وقيل: يرتفع بالعائد من الذكر، وهو أيضًا مروي عن الكوفيين. فتلخص عن الكوفيين مذهبان: أحدهما: أن المبتدأ يرفع الخبر، والخبر يرفع المبتدأ مطلقًا، وسواء أكان في الخبر ذكر للمبتدأ أم لا يكون له ذكر. والثاني: التفصيل بين أن يكون له ذكر، فيكون المبتدأ مرفوعًا بذلك الذكر، أو لا يكون، فيكون مرفوعًا بالخبر. وقد رد الناس على الكوفيين هذا المذهب، فذكرنا رد حاكي التفصيل. وقال من رد هذا المذهب: هذا فاسد- أعني رفع الخبر للمبتدأ- لأن الخبر

قد يكون جامدًا، والجامد لا يعمل. ولأن رتبته بعد المبتدأ، ورتبه العامل قبل المعمول، فتنافيا. ولأنه يكون فعلًا، فلو عمل في المبتدأ لكان فاعلًا. ولأن الضمير قد يكون في الصلة، فلو عمل لعمل فيما قبل الموصول. ولأن الخبر كالصفة، ولا تعمل في الموصوف، فكذلك الخبر. ولأن العامل اللفظي يؤثر في المبتدأ، والخبر لفظي، والعامل اللفظي لا يبطل بالعامل اللفظي. وقال المصنف في الشرح- وقد حكي مذهب الكوفيين- قال: "وهو مردود لأنه لو كان الخبر رافعًا للمبتدأ كما أن المبتدأ رافع للخبر لكان لكل منهما في التقدم رتبة أصلية؛ لأن أصل كل عامل أن يتقدم على معموله، فكان لا يمتنع "صاحبهما في الدار" كما لم يمتنع "في داره زيد"، وامتناع الأول وجواز الثاني دليل على أن التقديم لا أصلية للخبر فيه" انتهى. ورد عليهم أيضًا بان قيل: العمل تأثير، والمؤثر أقوى من المؤثر فيه، فيفضي مذهبهم إلى أن يكون الشيء قويًا ضعيفًا من وجه واحد إذا كان مؤثرًا فيما أثر فيه. انتهى ما نقلناه من الرد على الكوفيين. والذي نذهب إليه ونختاره- وهو الذي يقتضيه النظر- قول الكوفيين في أن كلا منهما رافع للآخر، وذلك أن كلا منهما يقتضي الآخر، وما كان مقتضيًا لشيء، وليس بمستقل، فينبغي أن يكون عاملًا فيه. ونحن نرد جميع ما احتج به على بطلان هذا المذهب. أما الرد أولًا بـ "أن كلا منهما قد يرفع غير الآخر، فيؤدي إلى إعمال عامل رفعين من غير تشريك" فهذا لا يلزم إلا لو اتحداك جهتا الرفع، أما إذا اختلفت بأن رفع أحدهما على جهة الفاعلية، والآخر على غير جهة الفاعلية،

فلا يمنع، وقد ذكرنا ذلك في الرد على س في أن المبتدأ يرفع بالخبر. وأما من رد بـ "أن الخبر قد يكون جامدًا، والجامد لا يعمل" فهذا لا يلزم إلا في الأفعال أو ما عمل لشبهه بها أو لنيابة منابها/، وقد تقدم ذلك أيضًا. وأما من قال: "رتبة بعد المبتدأ، ورتبة العامل قبل المعمول، فتنافيا فهذا منقوض بما وقع الاتفاق عليه من قولهم: أيًا تضرب أضرب، فرتبة فعل الشرط بعد أداته، وهو عامل في اسم الشرط، ولا يلزم أن تكون رتبته قبل اسم الشرط، فلا تنافي ذلك. وأما قولهم "إن يكون فعلًا، فلو عمل في المبتدأ لكان فاعلًا" فليس بصحيح، ليس الفعل الواقع خبرًا هو العامل في المبتدأ، بل الاسم الذي وقع الفعل خبرًا هو العامل في المبتدأ لم يلزم أن يكون المبتدأ فاعلًا؛ لأنه رفعه على جهة الخبرية بالنيابة عن الاسم، فلا يكون فاعلًا. وأما قولهم "ولأن الضمير قد يكون في الصلة، فلو عمل لعمل فيما قبل الموصول" فهذا لا يلزم لأني لم أختر أن المبتدأ يرفع بالضمير الذي في الخبر، وإنما قولنا: إن الخبر رافع للمبتدأ. وأما قولهم "إن الخبر كالصفة" فليس الخبر كالصفة، لا يشبه شيء هو أحد ركني الإسناد بشيء غير مفتقر إليه في كيفية الإسناد. وأما قولهم "إن العامل اللفظي" إلى آخره، فنحن نجد العامل اللفظي يبطل عمله بالعامل اللفظي، تقول: ما قام رجل، فرجل مرفوع بقام، وليس

زيدٌ قائمًا، فقائمًا منصوب بليس، ثم تدخل من على "رجل"، والباء على "قائم" فبطل عمل العامل اللفظي، "وهو قان" و"ليس". وأما رد المصنف بـ "أنه لو كانا مترافعين لكان لكل منهما في التقدم رتبة أصلية" إلى آخره، فهو منقوض باسم الشرط وفعله، فلا يلزم من ذلك أن يكون أصل كل عامل أن يتقدم على معموله. وأما امتناع: صاحبها في الدار، وجواز: في دار زيد، فليس مبنيًا على ما ذكره المصنف من أن أصل كل عامل أن يتقدم على معموله، وإنما ذلك لأن وضع الخبر أن يكون ثانيًا للمبتدأ لفظًا أو نية، والمبتدأ أول لفظًا أو نية لا من حيث العمل بل من حيث ترتيب الإسناد؛ لأن الأصل في الوضع أن يطابق المعنى للفظ، فتبدأ أولًا بالمسند إليه الحكم، وتأتي ثانيًا بالمسند لأنه حديث عنه، ولذلك كان باب وضع الفاعل على خلاف الأصل؛ لأنه ليس بالمعنى فيه مطابقًا للفظ؛ لأنك بدأت أولًا بالمسند، ثم أتيت بالمسند إليه، فلما اتصل بالمبتدأ ضمير شيء هو في الخبر، كان مفسره متأخرًا عنه لفظًا ونية إذ وقع في موضعه ثانيًا، وهو أصله، فلم تجز المسألة إذ ليست من المواضع المستثناة في تفسير المضمر بما بعده، وأما جواز "في داره زيد" فإن مفسره وإن تأخر لفظًا فهو مقدم رتبة، و"في داره" وإن تقدم لفظًا فهو مؤخره/ رتبة، فلما كانت النية به التأخير جاز ذلك. وأما قولهم "العمل تأثير" إلى آخره فليس قويًا ضعيفًا من وجه واحد، بل اختلفت جهتا القوة والضعف؛ لأن طلب المبتدأ للخبر غير جهة طلب الخبر للمبتدأ، كما جاز ذلك في اسم الشرط وأداته. وقد رام بعض النجاة أن يفرق بين عمل المبتدأ والخبر وبين أداة

الشرط وفعله بأن العمل في مسألة المبتدأ والخبر واحد، يعني رفعًا، وعمل أداة الشرط وفعله مختلف، إذ عمل الأداة جزمًا، وعمل الفعل نصبًا، فلذلك جاز في أداة الشرط وفعله، ومنعناه في المبتدأ والخبر. وهذه التفرقة لا أثر لها لأن جهة الرفع مختلفة، فلا فرق بينهما. نعم لو كان الرفع من جهة واحدة لا متنع إن لم يكن بتشريك. وأما عن زعم من النحويين أن الجزم في فعل الشرط ليس بأداة الشرط إذا كانت اسمًا، بل الجازم هو "إن" مقدره قبل أداة الشرط الاسمية، ولا يجوز أن تظهر كما لم يجز إظهار "أن" مع "حتى"، فإذا قلت "من يقم أقم معه" فـ "إن" مقدره قبل "من"، وعلى هذا لا يلزم أن يكون كل واحد من اسم الشرط وفعله عاملًا معمولًا؛ إذ النصب في اسم الشرط في نحو "أيًا تضرب اضربه" بـ "تضرب"، والجزم في "تضرب" بـ "إن" مقدرة قبل "أي". فهذا الزعم باطل لأن النحويين ذكروا أن "من" و"ما" وما أشبههما من أسماء الشرط بنيت لتضمنها معنى حروف الشرط، ولولا تضمنها معناه لم تبن، فإذا كان حرف الشرط مقدرًا قبلها لم تضمنه، فيلزم أن تكون معربة، وأيضًا فما ادعاه من التقدير لم يلفظ به في موضع من المواضع. وكذلك أيضًا تفرقة من فرق البابين بأن عمل اسم الشرط هو بالنيابة عن الحرف، وعمله في الفعل ضعيف، وهو الجزم، بخلاف المبتدأ والخبر، لا أثر لها؛ لأنه لا فرق في التأثير بين أن يكون بالحرف أو بالاسم الذي تضمنه إذ الكل عمل. وكذلك أيضًا لا فرق بين الرفع والنصب والجر والجزم إذا الكل بعوامل تقتضيها، ولا تقول إنها من حيث العمل أحدها أقوى من الآخر؛ لأنَّ

المؤثرات -وإن اختلفت آثارها- هي مشركة في القدر المشترك، وهو التأثير. وإنما اخترنا مذهب الكوفيين لأنه جار على القواعد؛ إذ أصل العمل إنما هو للفظ، ولم نجد إلا مبتدأ وخبرًا، ووجدناهما مرفوعين، وأمكن أن ينسب العمل لكل منهما في الآخر؛ إذ قد اختلفت جهتا الاقتضاء، كما وجدنا ذلك فيما هو متفق عليه أو كالمتفق من اسم الشرط وفعله، وكان في ذلك بقاء على أن العامل لفظي دون ادعاء ما لا يصح من أن يكون العامل معنويًا، كمن ذهب إلى أن العامل في المبتدأ بالابتداء، أو من ذهب إلى الإسناد، أو من ذهب إلى التعري/ من العوامل اللفظية، أو من ذهب إلى أنه التهمم والاعتناء، أو من ذهب إلى أنه شبه بالفاعل. وهذه كلها معان ليس ثم لفظ يدل عليها. والمعاني لم يثبت لها عمل في موضع اتفاق، فيحمل عليه هذا المختلف فيه. وقوله ولا خبر للوصف المذكور لشدة شبهه بالفعل: الفاعل في نحو "أقائم الزيدان" مغن عن الخبر إذ فائدة الإسناد قد حصلت بوجود مسند ومسند إليه بالمبتدأ والفاعل. وكأن هذا التركيب قد أخذ شبهًا من باب الفاعل ومن باب المبتدأ، فمن حيث إن فيه عاملًا مسكوتًا عليه، يتم الكلام به، أشبه باب الفاعل، ومن حيث إن فيه اسمًا مرفوعًا، لم يتقدمه رافع لفظي، أشبه باب المبتدأ. وقد ذهب النحويين إلى أن خبر هذا الوصف محذوف. وهذا خطأ لأن المبتدأ المحذوف الخبر لا يستقل كلامًا إلا بتقدير ذلك الخبر، وهذا كلام تام بنفسه، فلو قدرت له خبرًا لزم منه تقدير ما لا فائدة فيه. وقوله ولذا يصغر ولا يوصف ولا يعرف ولا يثنى ولا يجمع إلا على

لغة "يتعاقبون فيكم ملائكة "الإشارة بقوله "ولذا "أي؛ لشدة شبهه بالفعل وإعماله عمله، فيرفع به الفاعل، وينصب المفعول، لا يصغر. وليس مختصًا بانتفاء هذه الأشياء عنه في هذا التركيب، بل اسم الفاعل واسم المفعول العاملان عمل الفعل حكمهما ذلك في هذا الباب وفي غيره، فلا تقول: أضويرب الزيدان؟ ولا: أمضيريب العمران؟ وكذلك أيضًا لا يوصف، لا تقول: أضارب عاقل الزيدان؟ وكذلك أيضًا لا يعرف، لا تقول: القائم أخواك؟ قال ابن السراج: لأنه قد يكمل اسمًا معرفة، والمعارف لا تقوم مقام الأفعال. وكذلك أيضًا لا يثنى ولا يجمع، لا يجوز: أقائمان أخواك؟ ولا: أقائمون إخوتك؟ على أن يكون "أخواك "و "إخوتك "مرفوعين على الفاعل إلا على لغة ضعيفة، وهي لغة "أكلوني البراغيث ". قال ابن السراج: "القائمان أبواهما أخواك "لا يجوز؛ لأنك لا تثني الاسم قبل أن يتم. يعني أنه لما رفع اسم الفاعل أخواك صار الفاعل من تمامه، فلا يجوز تثنيته لأنه لم يتم، فعلى هذا لا يجوز: أقائمان أخواك؟ على تقدير رفع "أخواك "على الفاعلية. وهذا الذي تقرر من أن هذا الوصف لا يثنى ولا يجمع نص عليه كثيرون من النحاة، قالوا: أقائم الزيدان؟ لا يثنى ولا يجمع لأنه تمكن في الفعلية بسبب الاستفهام والنفي، ولا تستعمله العرب إلا هكذا. وقال القاضي أبو محمد بن حوط الله: هذا غلط بدليل ما جاء في الحديث من قوله صل الله عليه وسلم: "أو مخرجي هم "؟ قال ابن هشام الخضراوي: قلت

لأبي محمد: يكون كـ "يتعاقبون فيكم ملائكة "، فسكت. قال ابن هشام: إن لم يكثر فهذا/ وجهه، وإن كثر فعلى التقديم والتأخير. يعني: على أن يكون الوصف خبرًا مقدمًا، وما بعده مبتدأ. وقد أجاز النحويون في هذا الوصف إن كان مطابقًا لما بعده في إفراد أو تثنية أو جمع أن يكون الوصف خبرًا مقدمًا، وما بعده مبتدأ. وإنما تتعين الفاعلية إذا لم يطابق في تثنية ولا جمع. وقوله ولا يجري ذلك المجرى باستحسان إلا بعد استفهام أو نفي، خلافًا للأخفش. أشار بـ "ذلك المجرى "إلى جعل الوصف مبتدأ رافعًا للفاعل منتظمًا منهما كلام. وقوله "باستحسان "يدل على أن ذلك فيه- أعني الحكم المذكور فيه- يستحسن بعد الاستفهام والنفي، وأن تقدم النفي أو الاستفهام عليه ليس بشرط فيه. وكون إعمال الوصف يتقدمه استفهام أو نفي فرع من فروع الاعتماد. وهي مسألة خلاف بين جمهور البصريين والأخفش: ذهب جمهور البصريين إلى أن شرطه الاعتماد على أن يتقدمه نفي أو استفهام، أو يقع صلة أو صفة أو حالاً أو خبرًا أو ثانيًا لظننت أو ثالثًا لأعلمت. وذهب الأخفش ومن تبعه إلى أنه لا يشترط الاعتماد في إعماله. فعلى مذهبه يجوز: قائم زيد، فيكون "قائم "مبتدأ، و "زيد "فاعل به أعنى عن الخبر. وسيأتي استدلال المذهبين في باب اسم الفاعل، إن شاء الله. وقال المصنف في الشرح: "لا يحسن عند س الابتداء به- أي بالوصف- على الوجه الذي تقرر إلا بعد استفهام أو نفي، فإن فعل به ذلك دون استفهام أو نفي قبح عنده دون منع. هذا مفهوم كلامه في باب الابتداء،

ولا معارض له في غيره. ومن زعم أن س لم يجز جعله مبتدأ إذا لم يل استفهامًا ولا نفيًا فقد قوله ما لم يقل "انتهى كلام المصنف في الشرح. ونحن نسرد ما ذكره س في كتابه لننظر فيه. قال س في باب الإبتداء: "وزعم الخليل- رحمه الله- أنه يستقبح أن تقول: قائم زيد، وذلك إذا لم تجعل قائمًا مقدمًا مبنيًا على المبتدأ كما تؤخر وتقدم، فتقول: ضرب زيدًا عمرو، و "عمرو "على "ضرب "مرتفع، وكان الحد أن يكون مقدمًا، ويكون "زيد "مؤخرًا. وكذلك هذا، الحد فيه أن يكون الإبتداء مقدمًا، وهذا عربي جيد، وذلك قولك: تميمي أنا، ومشنوء من يشنؤك، وأرجل عبد الله، وخز صفتك. فإذا لم يريدوا هذا المعنى، وأرادوا أن يجعلوه فعلاً كقولك: يقوم زيد، وقام زيد، قبح لأنه اسم، وإنما حسن عندهم أن يجري مجرى الفعل إذا كان صفة جرى على موصوف، أو جرى على اسم قد عمل فيه، كما أنه لا يكون مفعولاً في "ضارب "حتى يكون محمولاً على غيره، فتقول: هذا ضارب/ زيدًا، وأنا ضارب زيدًا، ولا يكون "ضارب زيدًا "على قولك: ضربت زيدًا، وضربت عمرًا، فكما لم يجز هذا كذلك استقبحوا أن يجري الاسم الذي في معنى الفعل مجرى الفعل المبتدأ، وليكون بين الفعل والاسم الذي في معنى الفعل فصل وإن كان موافقًا له في مواضع كثيرة، وقد يوافق الشيء الشيء، ثم يخالفه لأنه ليس مثله "انتهى ما نقلناه من كتاب س في باب الابتداء، وليس فيه أن س يستحسن ذلك بعد استفهام أو نفي، بل فيه أن الخليل قد استقبح "قائم زيد "على أن لا يكون "قائم "خبرًا مقدمًا. وكذلك نص س على أنه إذا جعل "قائم " في معنى "يقوم "أو "قام "قبح، وأنه لا يحسن أن يعمل إلا إذا كان صفة أو خبرًا. هذا ملخص كلامه.

وقد استدل المصنف على صحة مذهب الأخفش بقول الشاعر: خبير بنو لهب، فلا تك ملغيًا ... مقالة لهبي إذا الطير مرت وبقول الآخر: فخير نحن عند الناس منكم ... إذا الداعي المثوب قال: يا لا قال: "فخير: مبتدأ، ونحن: فاعل، ولا يكون "خير "خبرًا مقدمًا، و"نحن "مبتدأ؛ لأنه يلزم من ذلك الفصل بمبتدأ بين أفعل التفضيل و"من "، وهما كمضاف ومضاف إليه، فلا يقع بينهما مبتدأ كما لا يقع بين مضاف ومضاف إليه. وإذا جعل "نحن "مرتفعًا بـ "خير "على الفاعلية لم يلزم ذلك؛ لأن فاعل الشيء كجزء منه "انتهى. وما استدل به المصنف لا حجة فيه: أما "خبير بنو لهب "فـ "خبير "خبر مقدم، و"بنو لهب " مبتدأ، ولا يحتاج إلى المطابقة في الجمع لأن خبيرًا فعيل، يصح أن يخبر به عن المفرد والمثنى والمجموع، ولاسيما ورود ذلك في الشعر، كما أخبروا بـ "فعول "، قال تعالى {هُمُ الْعَدُوُّ}، وقال بعض العرب: ...................... ... ........................ هنَّ صديق

فأخبر عن ضمير جمع النساء بـ "صديق ". وأما قوله "فخير نحن "فخير: خبر مقدم، ونحن: مبتدأ، وعلى ما قررناه ونصرناه من مذهب الكوفيين أن الخبر هو رافع المبتدأ، فالمبتدأ معمول له، كما أن "من "الداخلة على المفضل عليه متعلقة به، فلم يفصل بينهما بأجنبي. وأما قوله "إن أفعل التفضيل ومن كمضاف ومضاف إليه "إلى آخره، فليس بصحيح، لو كان كذلك لما جاز الفصل بينهما بالتمييز وبالفاعل وبالظرف وبالمجرور؛ لأنه لا يفصل بشيء من هذه بين المضاف والمضاف إليه، فلم يجريا مجراهما. ولو سلمنا أن المبتدأ ليس معمولاً للخبر لما ضر هذا الفصل لأنه/ وقع في شعر. وأيضًا فقد خرج الأستاذ أبو الحسن بن خروف قوله "نحن "على أنه تأكيد للضمير المستكن في قوله "فخير "، وخير: خبر مبتدأ محذوف، التقدير: فنحن خير نحن، كما تقول: أنت قائم أنت. وذهب الكوفيون إلى ما ذهب إليه الأخفش من عدم اشتراط الاستفهام والنفي، إلا أنهم يجعلون الوصف مرفوعًا بما بعده، وما بعده مرفوع به على قاعدتهم. ويوافقونه في التزام إفراده وتجرده من ضمير، ويجيزون إجراءه مجرى اسم جامد، فيطابق ما بعده. ويجيزون أيضًا جعله نعت منوي مطابق للآخر في إفراده وتثنيته وجمعه، فلابد إذ ذاك من مطابقة النعت، ويسمونه خلفًا. وأطلق المصنف الاستفهام والنفي ليشمل أدواتهما، فتقول: هل معتق أخواك؟ وما فاعل الزيدان؟ ومن ضارب العمران؟ ومتى راجع العمران؟ وأين قاعد صاحباك؟ وكيف مقيم ابناك؟ وكم ماكث صديقاك؟ وأيان قادم رفيقاك؟ هكذا قال المصنف في الشرح، وهو قياس على الهمزة، والأحوط أن لا

يقال منها تركيب إلا بعد السماع. وذكر في أدوات النفي "ما " و "لا " و"إن " و"ليس "، إلا أن "ليس "يرتفع الوصف بعدها على أنه اسمها، ويرتفع به ما يليه، ويسد مسد خبرها، وكذلك "ما "الحجازية، تقول: ليس قائم الزيدان، وليس منطلق إلا العمران، وما ذاهب عبداك، وهذا قياس على "ما "، والأحوط التوقف حتى يسمع. وفي البسيط: "واختلفوا في الظرف والمجرور، هل هو في تقدير اسم فاعل أو فعل؟ وعلى القول بأنه في تقدير اسم فاعل هل يصير رافعًا للظاهر إذا اعتمد، فتقول: أفي الدار زيد، أم لا؟ " انتهى. وقياس حرف النفي أن يكون كالهمزة. وقال بعض أصحابنا: الظرف والمجرور إذا وقع خبرًا أو صفة أو حالاً رفع، وإذا اعتمد على أداة نفي أو استفهام فالأخفش يجيز أن يرفع، كما يجيز ذلك دون اعتماد، وس لا يجيز رفعه دون اعتماد على ما ذكر من غير النفي والاستفهام. والصحيح أنه لا يعمل إذا اعتمد على نفي أو استفهام بخلاف اعتماده على ما ذكرنا قبل؛ لأنه في ذلك ملحوظ فيه الفعل؛ لأن غالب الخبر والصفة والحال لا يكون شيء منها إلا مشتقًا، فوقع في محل الاشتقاق، فرفع. والصلة إذا كانت بالظرف أو المجرور فإنما ذلك لأنهما في معنى الفعل، ولولا ذلك ما استقل بهما الاسم الموصول؛ لأنه لا يوصل إلا بالجملة، وأما الاستفهام والنفي فلا يقوى فيهما جانب الفعل؛ ألا ترى أنك تستفهم عن

الاسم الصريح، فتقول: أزيد أخوك؟ وكذلك/ النفي: ما زيد أخوك، فنهايته بعد الاستفهام والنفي أن يكون مثله قبلهما. وأيضًا فالعرب تقول: مررت بسرج خز صفته، ولا يرفعون هذا إذا أوقع عليه الاستفهام والنفي، فدل ذلك على صحة مذهب س. وقوله وأجري في ذلك "غير قائم "مجرى "ما قائم ". قال المصنف في الشرح: "إذا قصد النفي بـ "غير "مضاف إلى الوصف فيجعل "غير "مبتدأ، ويرفع ما بعد الوصف به، كما لو كان بعد نفي صريح، ويسد مسد خبر المبتدأ، وعلى ذلك وجه الشجري قول الشاعر: غير مأسوف على زمن ... ينقضي بالهم والحزن ومثله قول الآخر: غير لاه عداك، فاطرح اللهـ ... ـو، ولا تغترر بعارض سلم " انتهى. وكأنه قال: ما مأسوف على زمن، فقوله "على زمن "في موضع رفع على أنه مفعول لم يسم فاعله بـ "مأسوف "، و"ينقضي "جملة في موضع الصفة لـ "زمن ".

وسأل عالي بن أبي الفتح أباه أبا الفتح بن جني عن قوله "غير مأسوف "البيت، فأجابه بأن المقصود ذم الزمان الذي هذه حاله، فكأنه قال: زمان ينقضي بالهم والحزن غير مأسوف عليه، فزمان: مبتدأ، و"ينقضي ": صفته، و"غير ": خبر للزمان، ثم حذفت المبتدأ مع صفته، وجعلت إظهار الهاء مؤذنًا بالمحذوف، لأنك إنما جئت بالهاء لما تقدمها ذكر ما ترجع إليه، فصار اللفظ بعد الحذف والإظهار: غير مأسوف على زمن ... ينقضي بالهم والحزن وهذا التخريج بعيد جدًا متكلف، وهي عادة ابن جني وشيخه في مجيئهما بالتخريجات المتمحلة المتكلفة التي لا يكاد يلحظها العرب. قال أبو الفتح: وإن شئت قلت: هو محمول على المعنى، كما حملت "أقل امرأة تقول ذاك " على المعنى، فلم تذكر في اللفظ خبرًا لأنه مبتدأ، وقد أضفت "أقل "إلى "امرأة "، ووصفت المرأة بـ "تقول ذاك "، كأنك قلت: قل امرأة تقول ذاك، فلم تحتج "أقل "إلى خبر لأنها في معنى "قل ". وكذلك حمل س على المعنى قول من قال "خطيئة يوم لا أراك فيه "على معنى: يوم خطأ لا أراك فيه. وما حمل على المعنى كثير في القرآن وفصيح الكلام. انتهى هذا التخريج الثاني وهو الذي أخذه منه ابن الشجري، وخرج البيت عليه. ويعضده البيت الثاني، وهو "غير لاه عداك "، فإنه لا يتصور فيه التخريج الأول. ولأبي/ عمرو بن الحاجب في هذا البيت كلام طويل وترديد، ثم خرجه على تخريجي أبي الفتح. ص: ويحذف الخبر جوازًا لقرينة، ووجوبًا بعد "لولا "الإمتناعية غالبًا، وفي قسم صريح، وبعد واو المصاحبة الصريحة، وقبل حال إن كان المبتدأ أو معموله مصدرًا عاملاً في مفسر صاحبها، أو مؤولا بذلك، والخبر الذي

سَدَّت مسده مصدر مضاف إلى صاحبها لا زمان مضاف إلى فعله، وفاقًا للأخفش، ورفعها خبرًا بعد "أفعل "مضافًا إلى ما موصولة بـ "كان "أو "يكون "جائز، وفعل ذلك بعد مصدر صريح دون ضرورة ممنوع. ش: مثال حذفه جوازًا لقرينة "زيد "لمن قال: من في الدار؟ وقولك: زيد قائم وعمرو، التقدير: زيد عندي، وعمرو قائم، فحذف "عندي "لجريانه في جملة السؤال، و "قائم "لجريانه في الجملة المعطوف عليها. فإن قلت "زيد وعمرو قائم "فخبر أحدهما محذوف، فقيل: خبر الأول، وقيل: خبر الثاني، وقيل: أنت مخير في تقدير الخبر، فإن شئت قدرته خبر الأول، وإن شئت قدرته خبر الثاني. وصحح هذا المذهب الأخير بعض أصحابنا. وحكي أبو حاتم: هند وزيد قائم، فهذا حذف فيه الخبر من الأول، إذ التقدير: هند قائمة وزيد قائم. قال المصنف في الشرح: "ومن الحذف الجائز الحذف بعد "إذا "الفجائية، نحو: خرجت فإذا السبع، والحذف بعد "إذا "قليل، ولذلك لم يرد في القرآن مبتدأ بعد "إذا "إلا وخبره ثابت غير محذوف، كقوله تعالى {فَإذَا هِيَ حَيَّةٌ}، {فَإذَا هِيَ بَيْضَاءُ}، {فَإذَا هُمْ جَمِيعٌ}، {فَإذَا هُمْ قِيَامٌ} " انتهى الكلام. وليس كما ذكر: أما قولهم "خرجت فإذا السبع "فإن "إذا" الفجائية

ظرف مكان، وهو خبر عن "السبع "، وقدروه: خرجت فبالحضرة السبع، أي: فبالمكان الذي أنا حاضر فيه السبع. هذا ظاهر كلام س ومذهب أشياخنا، وهو الذي تلقناه منهم. وسيأتي الكلام على "إذا "الفجائية وعلى الخلاف فيها، حيث ذكرها المصنف في باب المفعول المسمى ظرفًا، إن شاء الله. و "خرجت فإذا السبع "كلام تام بنفسه لا يحتاج إلى تقدير شيء محذوف، ولما كان مدلولها ظرف المكان جاز أن تأتي خبرًا إذا أريد الإخبار بها عن الجثة، وجاز أن تأتي معمولة للخبر إذا لم تجعل هي الخبر، فتقول: خرجت فإذا زيد، وخرجت فإذا زيد قائمًا، وخرجت فإذا زيد قائم، كما تقول: خرجت ففي الدار زيد، وخرجت ففي الدار زيد جالسًا، وخرجت ففي الدار زيد جالس، إذا كان "في الدار "متعلقًا بـ "جالس "الذي هو الخبر. وأما قوله تعالى {فَإذَا هِيَ حَيَّةٌ} إلى آخر ما ذكر مما جاء في القرآن، فإنما لم يحذف/ الخبر لكونه لا يدل على حذفه دليل، ولم يمكن جعل "إذا "في الآيات خبرًا لأن المقصود الإخبار عن المبتدأ الذي بعد "إذا "بأشياء لم تكن معلومة للسامع إلا من ذكر الخبر، لو قلت: فألقى عصاه فالبحضرة هي، وفأخرج يده فبالحضرة هي، لم يكن كلامًا، فمتى قصد الإخبار بخبر غير معلوم للسامع، وهو أن يكون بحيث لو حذف لم يكن ثم ما يدل عليه، وجب ذكره، وصار نظير قولك ابتداء: زيد منطلق، فلا يجوز حذف "منطلق "لأنه لا دليل على حذفه. ومتى قصد الإخبار عن زيد بـ "إذا " الفجائية كانت هي الخبر، وإنما بنى المصنف على ما اختاره هو من كون "إذا "الفجائية حرفًا، فلا يصح أن تكون خبرًا، فاضطر إلى تقدير خبر في: خرجت فإذا السبع.

وقوله ووجوبًا بعد "لولا" الامتناعية غالبًا سقط "غالبًا" من بعض النسخ، وهو أجود لأن الوجوب والغلبة لا يجتمعان؛ إذ الوجوب هو أن لا يجوز ذكره، والغلبة هي أن يغلب حذفه، فهي من باب الجائز، ومحال أن يكون الشيء واجبًا جائزًا، أعني الجواز بمعنى التخيير، ولأن مشهور قول أكثر النحويين هو أنه يجب حذف خبر المبتدأ الذي بعد "لولا"، وهذا الذي ذكره في "لولا" هو على تقدير رفع الاسم بالابتداء. وقد ذكرنا اختلاف الناس في ذلك، وتكلمنا على هذه المسألة في "فصل حروف التحضيض" في "باب تتميم الكلام على كلمات مفتقرة غلى ذلك". قال المصنف في الشرح: "وإنما وجب حذف الخبر بعد "لولا" الامتناعية لأنه معلوم بمقتضى "لولا"؛ إذ هي دالة على امتناٍع لوجود، والمدلول على امتناعه هو الجواب، والمدلول على وجوده هو المبتدأ، فإذا قيل "لولا زيد لأكرمت عمرًا" لم يشك في أن المراد: وجود زيد منع من إكرام عمرو، فصح الحذف لتعين المحذوف، ووجب لسد الجواب مسده وحلوله محله، والمراد هنا بالحذف الكون المطلق، فلو أريد كون مقيد لا دليل عليه لم يجز الحذف، نحو: لولا زيد سالمنا ما سلم، ولولا عمرو عندنا لهلك، ومنه قوله صلي الله عليه وسلم: "لولا قومك حديثو عهٍد بكفٍر لأسست البيت على قواعد إبراهيم". فلو أريد كون مقيد مدلول عليه جاز الإثبات والحذف، نحو "لولا أنصار زيد حموه لم ينج"، فـ"حموه" خبر مفهوم المعنى، فيجوز إثباته وحذفه. ومن هذا القبيل قول المعري في صفة

سيف: ....................... فلولا الغمد يمسكه لسالا وهذا الذي ذهبت /إليه هو مذهب الرماني والشجري والشلوبين، وغفل عنه أكثر النحويين. ومن ذكر الخبر بعد "لولا" قول أبي عطاء السندي: لولا أبوك، ولولا قبله عمر ألقت إليك معد بالمقاليد" انتهى كلامه. وهذا الذي اختاره غير مختار، بل المختار ما حكاه الجمهور من أن خبر المبتدأ بعد "لولا" يجب إضماره، وأنه لا يكون إلا كونًا مطلقًا لا كونًا مقيدًا. وحكي الأخفش عن العرب أنهم لا يأتون بعد الاسم الواقع بعد "لولا" بالحال، كما لا يأتون بالخبر، وقد زعم أنه إن ورد خبر لمبتدأ بعد "لولا" كان شذوذًا أو ضرورة، وهو منبهة على الأصل. وقال شيخنا أبو الحسين بن أبي الربيع: أجاز قوم: لولا زيد قائم لأكرمتك، ولولا زيد جالس لأكرمتك. وهذا لم يثبت بالسماع، والمنقول: لولا جلوس عمرٍو، ولولا قيام زيٍد. وقوله وفي قسٍم صريح مثاله: لعمرك، وأيمن الله، وأمانة الله، ويمين

الله. قال المصنف في الشرح: "وجب حذف الخبر هنا لأن فيه ما في خبر المبتدأ بعد "لولا" من كونه معلومًا، مع سد الجواب مسده". واحترز بقوله "صريح" من مبتدأ في القسم صالح لغير القسم، نحو: عهد الله، فلا يجب حذف الخبر إذ ذاك، بل يجوز نحو: على عهد الله لأفعلن، فيجوز أن تحذف، فتقول: عهد الله لأفعلن؛ لأن "لعمرك" و"أيمن الله" لا يستعملان إلا في قسم، و"عهد الله" لا يشعر بالقسم حتى يذكر المقسم عليه. وما ذهب إليه المصنف من أن "أيمن الله" وشبهها مبتدأ محذوف الخبر وجوبًا ليس متفقًا عليه، بل أجازوا في مثل هذا أن يكون خبرًا محذوف المبتدأ، التقدير: قسمي يمين الله. وممن أجاز الوجهين الأستاذ أبو الحسن بن عصفور، ولذلك لم يذكر هذا الموضع فيما يجب حذفه من الخبر. ويأتي الكلام على ذلك في "باب القسم" إن شاء الله. وقوله وبعد واو المصاحبة الصريحة مثاله: أنت ورأيك، وكل رجٍل وضيعته، وكل ثوٍب وقيمته. ذكر الأخفش في كتابه "الأوسط" في مثل هذا عن النحويين قولين: أحدهما: أنه مبتدأ لا يحتاج إلى تقدير خبر؛ إذ هو كلام تام لأنه في معنى: أنت مع رأيك، وكل رجل مع ضيعته. وإلى هذا ذهب الأستاذ أبو الحسن بن خروف. والقول الثاني: أن الخبر محذوف، تقديره "مقرونان" أو ما في معناه. وهذا قول الجمهور. وكان الحذف واجبًا لدلالة الواو وما بعدها على

المصحوبية إذ قامت مقام "مع"، فلو جئت بـ"مع" مكان الواو كان الكلام تامًا. ونقل القولين أبو المعالي الموصلي في "شرح الدرة"، إلا أنه نسب حذف الخبر للبصريين، والاستغناء عن تقديره إذ الواو أغنت عنه للكوفيين. وقال شيخنا الأستاذ أبو الحسين بن أبي الربيع: /التقدير: كل رجٍل مع ضيعته وضيعته معه، وعلى هذا: زيد وكتابه، وعمرو وفرسه، إذا أردت أن كل واحد منهما لا يفارق صاحبه. وتدخل نواسخ الابتداء على هذا، قال الشاعر: فمن يك سائلًا عني فإني وجروة لا ترود، ولا تعار وقال آخر: فكان تنادينا وعقد عذاره وقال صحابي: قد شأونك، فاطلب

التقدير: فإني مع جروه وجروه معي، وتنادينا مع عقد عذاره وعقد عذاره مع تنادينا، فحذف من الأول ما دل الثاني عليه، ومن الثاني ما دل الأول عليه. ويجري مجراه في الاستغناء: أنت أعلم وربك، التقدير: أنت أعلم بربك وربك أعلم بك. وعلى هذا الحديث "لا أنا ولا ثابت". انتهى. وما قدره الجمهور أخصر مما قدره الأستاذ أبو الحسين، إذا قدروا المحذوف خبرًا واحدًا، وجعلوا الكلام جملة واحدة، والأستاذ أبو الحسين قدر خبرين محذوفين، وجعل الكلام جملتين. فإذا قلت "أنت أعلم ومالك" فقال أبو القاسم بن القاسم: لا يصح عطف "مالك" على "أنت" على حد: أنت أعلم وزيد؛ لأنك تضمر في هذا خبرًا من جنس ما أظهرت، والمال لا يعلم، ولا على "أعلم" لأن المعطوف على الخبر خبر يصح انفراده، فلو قلت "أنت مالك" لم يصح، ولا على الضمير في "أعلم" لوجوه: منها استتاره غير مؤكد. ومنها أن أفعل التفضيل لا ترفع الظاهر إذا وليها، فكذلك إذا عطف على مضمر رفعته، وقد يكونان هذان الوجهان بشذوذ. قال: فإذا استحالت هذه الأوجه كان معطوفًا على "أنت" لا على ذلك الوجه، بل هو بمنزلة: شاة ودرهم، أي: معطوف في اللفظ، خبر في المعنى، لنيابته منابه. وهكذا أعرب المسألة الجرمي في "الفرخ"، قال: الشاء شاة ودرهم. قال: من قال هذا جعل الشاء مبتدأ، وشاة مبتدأ، ودرهم خبره، والجملة خبر الأول.

وذهب الأستاذ أبو بكر بن طاهر إلى أنه معطوف على "أعلم"؛ لأن الأصل "بمالك"، فوضعت الواو موضع الباء، فعطفت على ما قبلها، ورفعت ما بعدها في اللفظ، وهو بمعنى الباء متعلقة بـ"أعلم". وهذا أقرب لتفسير كلام س؛ لأنه قال في الواو: "يعمل فيما بعدها المبتدأ". يريد: أنك تعطفه على "أعلم"، فيعمل فيه ما عمل في "أعلم" وهو المبتدأ. ومما اختلفوا فيه قول العرب "حسبك ينم الناس": فقيل: الضمة في "حسبك" ضمة بناء، وهو اسم سمي به الفعل، والكاف حرف خطاب، وبنيت على الضم لأن حسبًا كان معربًا قبل ذلك، فحملت على قبل وبعد ويا حكم. وهو مذهب أبي عمرو بن العلاء، /نقله عنه أبو زرعه أحد أصحاب المازني. وذهب الجمهور إلى أنها ضمة إعراب. واختلفوا: فقيل: هو مبتدأ محذوف الخبر لدلالة المعنى عليه، والتقدير: حسبك السكوت ينم الناس. وذهب جماعة إلى أنه مبتدأ لا خبر له لأن معناه: اكفف، وهو اختيار أبي بكر بن طاهر. وقوله الصريحة احتراز مما كان يحتمل المصاحبة، ويحتمل مطلق العطف، فإذ ذاك لا يجب الحذف، نحو قولك "زيد وعمرو" وأنت تريد: مع عمرو، فإنه غير صريح، فلك أن تأتي بالخبر، فتقول: زيد وعمرو مقرونان، ولك أن تستغني عن الخبر اتكالًا على أن السامع يفهم من اقتصارك عليهما

معنى الاقتران والاصطحاب. وقوله وقبل حاٍل إن كان المبتدأ أو معمولة مصدرًا عاملًا في مفسر صاحبها أو مؤولًا بذلك يعني أنه يجب إضمار الخبر قبل حاٍل مشروٍط فيها ما ذكر، وهذا يستدعي تسليم أربعة أشياء مختلف فيها: أحدها: أن ذلك المصدر أو معمولة مرفوع بالابتداء. الثاني: أنه مبتدأ محتاج إلى خبر. الثالث: أن خبره محذوف لا ملفوظ به. الرابع: أنه مقدر قبل تلك الحال. فأما الأول فاختلفوا في رفعه: فذهب الجمهور إلى أنه مرفوع بالابتداء. وذهب بعضهم إلى أنه فاعل بفعل محذوف تقديره: يقع ضربي زيدًا قائمًا، أو ثبت ضربي زيدًا قائمًا. ورد هذا المذهب بأنه حذف ما لا دليل على تعينه؛ لأنه كما يجوز تقدير "ثبت" يجوز تقدير "قل"، أو: عدم ضربي زيدًا قائمًا، وما لا يتعين تقديره لا سبيل إلى إضماره، مع أنه إذا دار الأمر بين الحذف من أول الكلام وآخره كان الحذف من آخره أولى، فإن أول الكلام موضع استجمام وراحة، وآخره موضع طلب استراحة وموضع تعب. والذي يجزم ببطلان هذا المذهب دخول نواسخ الابتداء عليه، فلو كان فاعلًا لم يجز دخول النواسخ عليه، نحو قول الشاعر: إن اختيارك ما تبغيه ذا ثقةٍ بالله مستظهرًا بالحمل والجلد

فأدخل "إن" على المصدر الموصوف بما ذكر، وتقول: كان ضربي زيدًا قائمًا. وأما الثاني فذهب ابن درستويه إلى أنه مبتدأ، ولا يحتاج إلى خبر لأن المصدر واقع موقع الفعل، فمعنى ضربي زيدًا قائمًا: ضربت زيدًا، أو أضرب زيدًا قائمًا، فصار نظير: أقائم الزيدان؟ فكما أن "أقائم" مبتدأ لا يحتاج إلى خبر لأنه في معنى الفعل، فكذلك هذا المصدر مبتدأ لا يحتاج إلى خبر لأنه في معنى "ضربت". ورد هذا المذهب بأنه لو كان كذلك لحسن الاقتصار على الفاعل، كما صح الاقتصار على الفاعل في: أقائم الزيدان؟ وحيث لم يصح أن يقال "ضربي زيدًا" ويقتصر بطل هذا المذهب. وأما الثالث والرابع فيأتي حكمهما إن شاء الله. /مثال المبتدأ مصدرًا: ضربي زيدًا قائمًا. ومثال معمول المبتدأ: أكثر شربي السويق ملتوتًا، ومثله المصنف في الشرح بقولك: كل شربي السويق ملتوتًا، وبعض ضربك زيدًا بريئًا، ومعظم كلامي معلمًا. وهذا فيه نظر، فإن ذلك لا يحفظ إلا في مصدر، أو في أفعل التفضيل مضافًا إلى مصدر، أو مؤول بالمصدر. وفي الإفصاح: "هذا الباب معتبر عند النحويين في كل مصدر وفيما أضيف إليه إضافة بعٍض لكل أو كل للجميع، والمعنى أن يكون المضاف إليه مصدرًا في المعنى، نحو: أكثر شربي، وأقل شربي، وأيسر شربي السويق ملتوتًا، وكل ركوبي الفرس دارعًا".

ومعنى قوله "أو معموله" أن المصدر مجرور بإضافة المبتدأ الذي ليس مصدرًا إليه. وشمل قوله "في مفسر صاحبها" أن يكون المفسر مفعولًا بالمصدر، أو فاعلًا من حيث المعنى بالمصدر، نحو: قيامك ضاحكًا. واحترز بقوله "عاملًا في مفسر صاحبها" من نحو: ضربي زيدًا قائمًا شديد، فإن المصدر عامل في صاحب الحال وفي الحال، فلم يصلح أن تغني عن خبره لأنها من صلته. ومعنى قوله "مفسر صاحبها" أن قائمًا حال من الضمير المستكن في "كان" المحذوفة، ومفسره "زيد" الذي هو معمول المصدر. واحترز أيضًا من قولهم "حكمك مسمطًا"، فالمبتدأ فيه مصدر مستغن عن خبره بحال استغناء شاذًا؛ لأن صاحب الحال ضمير عائد على المبتدأ الذي هو "حكمك"، التقدير: حكمك لك مسمطًا أي: مثبتًا، فصاحب الحال هو الضمير المستكن في "لك"، وهو عائد على المصدر المجعول مبتدأ، فهذا ونحوه الحذف فيه شاذ غير لازم، ونحو "ضربي زيدًا قائمًا" الحذف فيه ملتزم مطرد. وقوله أو مؤولًا بذلك أي بالمصدر. مثاله: أخطب ما يكون الأمير قائمًا، فإن أنبت "أن" مع الفعل مناب المصدر، فقلت: أن ضربت زيدًا قائمًا، وأن تضرب زيدًا قائمًا، ففيه خلاف: أجاز ذلك بعض الكوفيين، ومنعه الجمهور. وقال ابن الأنباري: أبطل الكسائي والفراء وهشام: أن تضرب عبد الله قائمًا، واتفقوا على إجازة: الذي تضرب عبد الله قائمًا، وما تضرب عبد الله قائمًا، على أن "الذي" و"ما" بمعنى المصدر، معناهما: ضربك عبد الله

قائمًا. وعَلَّلَ المنع في "أن" بأنها لما عملت فيما بعدها أشبهت الأدوات، وبعدت عن المصادر، فلم يجز فيها ما جاز في المصادر. وفي هذا التعليل نظر، فإن المصدر أيضًا عامل فيما بعده. وقيل: علة ذلك أن الحال إنما تسد مسد الخبر إذا كان ظرف زمان، وظرف الزمان لا يكون خبرًا لـ"أن" والفعل. وقوله والخبر الذي سدت مسده مصدر مضاف إلى صاحبها لا زمان مضاف إلى فعله وفاقًا للأخفش. الذي ذهب إلى أن الخبر هو زمان مضاف إلى فعله /هو س وجمهور البصريين، ويقدرونه إن كان ماضيًا: إذ كان قائمًا، ومستقبلًا: إذا كان قائمًا. واختار المصنف مذهب الأخفش، والتقدير: ضربي زيدًا ضربه قائمًا، فضربي: مبتدأ، وضربه: خبره، وقائمًا: منصوب بـ "ضربه"، وهو مصدر مضاف إلى المفعول، وفاعله ضمير المتكلم محذوفًا على ما يذكر في "باب المصدر"، وكأنه كان في الأصل: ضربي زيدًا ضربيه قائما. ورد هذا المذهب بأنه "إما أن يفهم من نفس الخبر عين المفهوم من المبتدأ، فلا يصح، وإما أن يفهم منه أن ضربيه المطلق مثل ضربيه قائمًا، وهو غير المعنى المفهوم، وإن جعل المصدر مضافًا إلى فاعله صار المفهوم منه غير المطلوب من الكلام". قاله شيخنا بهاء الدين بن النحاس، رحمه الله. وقال: "هنا نكتة لطيفة، وهو أن الاسم العامل ومعموله يتنزلان

منزلة المضاف والمضاف إليه في باب النداء، وباب "لا"، فكما يحذف المضاف، ويقام المضاف إليه مقامه، كذلك يحذف العامل، ويبقى معموله، إلا أنه لما كان الأكثر إذا حذف المضاف يعرب المضاف إليه إعرابه، ولا كذلك العامل والمعمول، كثر حذف المضاف، وقل حذف العامل. وهذا وإن اشترك فيه مذهب س والأخفش، فإن مذهب س ينفرد بما أذكره، قال شيخنا الإمام جمال الدين محمد بن عمرون الحلبي، رحمه الله: "والذي يوضح المسألة أن معنى: ضربي زيداً قائماً: ما ضربت زيداً إلا قائماً، وهذا المعنى لا يستقيم إلا على مذهب س لأن العامل يتقيد بمعموله، فإذا جعلت الحال من تمام المبتدأ يكون الإخبار بأن ضربي مقيداً بالقيام واقع، وذا لا ينفي أن يقع الضرب في غير حال القيام، وإذا جعل الحال من جملة الخبر يكون ضربي زيداً هذا الذي لم يقيد بحال كائن إذا كان قائماً، فلو قدر وقوع ضرب في غير حال القيام يكون مناقضاً للإخبار، إذ من المحال وقوع غير المقيد بالحال في زمان وتختلف شيء منه عن ذلك الزمان إذا أريد الحقيقة". ثم قال - رحمه الله - في مسألة: أكثر شربي السويق ملتوتاً: "وما أبطلنا به مذهب من يعتقد أن الحال من معمول المصدر يظهر في هذه المسألة أكثر، لأن ملتوتاً لو جعل من تمام الشرب يكون الإخبار حينئذ عن أكثر شرب سويق ملتوت أنه حاصل، وذلك لا ينفي أكثرية في غير حال اللت، والمراد من هذا الكلام أن الأكثرية تقع في حال اللت، ولو وقعت في غير حال اللت لا يكون في الإخبار كبير فائدة" انتهى. وقد رجع المصنف في الشرح مذهب الأخفش على مذهب سيبويه

بأنه أقل حذفاً مع صحة المعنى، لأنه لم يحذف منه إلا خبر مضاف إلى مفرد، ومذهب س حذف منه خبر، ثم نائب عن الخبر مع فعل وفاعل، لأن الأصل فيه: ضربي زيداً مستقر إذا كان قائماً. ولأنه حذف منه خبر عامل، فبقي معموله، ودلالة المعمول/ على عامله قوية، وفي مذهب س بقي فيه بعد الحذف معمول عامل أضيف إليه نائب عن الخبر الأصلي الذي هو مستقر، فضعفت الدلالة لبعد الأصل بكثرة الوسائط. وأيضاً فالحاذف آمن عذراً في الحذف لأن المحذوف لفظه مماثل للفظ المبتدأ، فيستثقل الباعث على الحذف، وليس في قول القائل "ضربي زيداً ضربه قائماً" تعرض لكون زيد وقع به غير الضرب المقارن لقيامه أو لم يقع، بل تعرض به لما تعرض بقولك: ضربته قائماً. انتهى ما رجح به المصنف مذهب الأخفش على مذهب س. أما الأول فلا ترجيح فيه لأن مستقراً العامل في "إذا كان" ممات الحذف إذا كان يقدر، ولا يلفظ به، ولا يجمع بينه وبين الظرف، بل تنتقل أحكامه إلى الظرف من تحمل الضمير، ومن رفع الظاهر به وغير ذلك، فكأنه لم يحذف إلا الظرف الواقع خبراً، فقد ساوى من حيث الحذف مذهب س مذهب الأخفش. وأما الثاني - وهو كثرة الوسائط - فهو مبني على الأول، وإذا بطل الأول بطل الثاني. وأما أنه يؤمن عذر في الحذف لمماثلة المحذوف لفظ المبتدأ فهذا هو المبعد من تقدير الحذف، لأنه إن كان مماثلاً لفظ الخبر المحذوف للفظ المبتدأ فلا حاجة له، إذ قد استفيد من لفظ المبتدأ معنى لفظ الخبر. فإن قلت: قد يقيد بالحال هذا الخبر المحذوف؟ قلت: الحال التي تقيد الخبر تكون في المعنى وصفاً للمبتدأ وخبراً عنه، فهي في الصورة حال،

وهي في المعنى خبر، مثاله قوله تعالى {وهَذَا بَعْلِي شَيْخًا}، وقوله {فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً}، "وقائماً" هنا من وصف المفعول ولا من وصف المبتدأ، فلا يجوز أن تكون مقيدة للخبر في تقدير الأخفش. وما ذكره المصنف من أن مذهب الأخفش هو حذف الخبر قبل الحال، وأن تقديره "ضربه قائماً" نقله غيره عنه. ونقل بعض أصحابنا أن مذهب أبي الحسن أن الحال سدت مسد الخبر كالظرف لأنها في تقديره، كأنك قلت: ضربي زيداً في حال كونه قائماً، والعرب تقول: أكثر شربي يوم الجمعة، فاستعملوا الحال استعمال الظرف. وبه قال الجرمي في "الفرخ"، وهو مذهب أبي الحجاج الأعلم، وقال به ابن كيسان، وسيأتي ذكره والرد عليه. وحكي أبو علي عن عضد الدولة أنه كان يرى حذف المصدر لطول الكلام وتكرير اللفظ والدلالة على المعنى، وكان يقدر ضربي زيداً: ضريبة قائماً، وأكثر شربي السويق: شربي إياه ملتوتاً، فحذف المصدر، وأبقي معموله، فقام مقامه. وكان يستحسن هذا القول أبو القاسم بن القاسم، وفيه حذف المصدر وإبقاء معموله، وأكثر النحويين لا يجيزونه، وقد نص على منعه س، وقدره في مواضع./ والذي يصح من مذهبه منعه. وهذا الذي ذهب إليه العضد هو مذهب الأخفش. وإنما كان الخبر ظرفاً دون غيره في مذهب س لأنا نقدر الخبر

محذوفاً، والحذف وتوسع، فالظروف أحمل لذلك من غيرها، وقدر ظرف زمان دون ظرف المكان لأن الحال عوض منه كما ذكرنا، والحال لظرف الزمان أنسب منها لظرف المكان لأنها توقيت للفعل من جهة المعنى، كما أن الزمان توقيت للفعل، ولذلك قدر س الحال بـ "إذا" في قوله تعالى: {وطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنفُسُهُمْ}، فقال: "إذ طائفة في هذه الحال"، ولأن المبتدأ هنا حدث، وظرف الزمان مختص بالإخبار به عن الحدث دون الجثة، فهو أخص به من ظرف المكان. وكان الظرف الزماني المقدر "إذ" و"إذا" دون غيرهما لأن "إذ" تستغرق الماضي، و"إذا" تستغرق المستقبل. وكان المقدر بعدهما "كان" التامة دون غيرها لأن الظرف المقدر لابد له من فعل أو معناه ليكون ظرفاً له، والحال لابد لها أيضاً من عامل، والأصل في العمل للفعل، فقدرت "كان" التامة لتدل على الحدث المطلق الذي يدل الكلام عليه. ولم يعتقد في "قائم" الخبرية للزومة التنكير، وحكي ابن خروف أن الفراء أجاز أن يكون منصوباً على خبر "كان"، وانشد قول الشاعر: لذو الرمة ذا الرمـ ـة أشهر منه غيلاناً فنصب "ذا الرمة" و"غيلان" - وهما علمان - على الخبرية. وهذا نادر لا يعتد به، ودخول الواو عليهما على ما سيأتي - إن شاء الله - يوجب

الحالية. وهذا الذي حكاه ابن خروف عن الفراء هو خلاف مذهبه في هذه المسألة على ما سيأتي ذكره إن شاء الله. وزعم الزمخشري أنه يجوز أن يكون التقدير: إذ كنت أو إذا كنت قائماً، فتكون "كان" مسندة إلى فاعل الضرب. ولا ينبغي أن يجوز هذا إلا بدليل لأن التقييدات بالأحوال والصفات، وعود الضمير لا يكون إلا لأقرب مذكور، ألا ترى أن ما جاء من ذلك في تمثيلهم يعين أن يكون حالاً من المفعول، كقولهم: أكثر شربي السويق ملتوتاً، وأكلي التفاحة نضيجة، وغير ذلك، أما إذا دل دليل على ذلك أو كان المصدر قد اقتصر به على الفاعل لحذف المفعول أو لكونه مصدراً لفعل لازم، فيتعين إذ ذاك تقدير: إذ كنت، أو إذا كنت، إن كان المصدر مضافاً لضمير متكلم، وإن كان مضافاً لمخاطب أو لغائب طابق. وقوله ورفعها خبراً بعد أفعل مضافاً إلى "ما" موصولة بـ "كان" أو "يكون" جائز. أي: رفع الحال، أي: ما كان حالاً، ومثال ذلك: أخطب ما يكون الأمير قائماً، فأجاز الأخفش في "قائم" الرفع على أنه خبر "أخطب". وتبعه المبرد وأبو علي الفارسي/ وهذا المصنف، قال في الشرح: "يلزم من ذلك ارتكاب مجازين:

أحدهما إضافة "أخطب"، مع أنه من صفات الأعيان، إلى "ما يكون"، وهو في تأويل الكون. والثاني الإخبار بـ "قائم" مع أنه في الأصل من صفات الأعيان، عن "أخطب ما يكون" مع أنه في المعنى كون لأن أفعل التفضيل بعض ما تضاف إليه، والحامل على ذلك قصد المبالغة، وقد فتح بابها بأول الجملة، فعضت بآخرها مرفوعاً" انتهى. ولذلك امتنع رفع قائماً في قولك: ضربي زيداً قائماً، إذ لم يفتتح أول الجملة بمجاز. ولم يذكر المصنف خلافاً في المسألة، إنما ذكر إجازته لذلك، وذكر غيره الخلاف، فقال: أجاز الأخفش: عبد الله أحسن ما يكون قائم، بالرفع ومنعها س إلا بالنصب. قال شيخنا الإمام بهاء الدين بن النحاس رحمه الله: "وجه ابن الدهان رفع الأخفش قائماً بأن جعل "أخطب" مضافاً إلى "أحوال" محذوفة، تقديره: أخطب أحوال كون الأمير، فلا مجاز في قائم حينئذ" انتهى. فقوله "فلا مجاز في قائم حينئذ" غير مسلم، بل هو مجاز لأن تقديره "أخطب أحوال كون الأمير" لا يخبر عنه بـ "قائم" لأن قائماً من صفات الأعيان لا من صفات الأحوال، فالمطابق للإخبار عن قوله "أخطب أحوال الأمير" أن يقال: القيام، كما تقول: أحسن أحوال الأمير السرور أو الضحك، ولا تقول: الضاحك ولا السار، فجعله قائماً خبراً عن "أخطب" فيه مجاز بلا شك. قال شيخنا بهاء الدين بن النحاس: "ويجوز أن تجعل "ما" بمنزلة شيء، ويكون الأمير صفته، والعائد محذوف خبر "يكون الأمير"،

و"يكون" ناقصة، كأن أصلها: اخطب أحوال يكون الأمير فيها قائماً، وتكون "ما" للعموم والكثرة كقوله {ويَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ ولا يَنفَعُهُمْ}. ودليل وقوعها للجنس والعموم والإشارة إليها بقوله {ويَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللَّهِ}، وتكون "ما" حينئذ كناية عن الأحوال، فيتوجه ما قاله الأخفش" انتهى. ويكون الإخبار بـ "قائم" عن "أخطب أحوال يكون الأمير فيها قائماً" على سبيل المجاز، إذ القائم ليس خبراً عن "أخطب" في الحقيقة، لأن من صفات الأعيان لا صفات الأحوال كما بينا. وأجازوا أيضاً في هذا المثال أن يكون التقدير: أخطب أزمان كون الأمير قائماً، قالوا: فيجوز على هذا أن تكون "إذا" أو "إذ" المقدرة المحذوفة خبراً عن "أخطب" بنفسها، لأن "أخطب" إذ ذاك زمان لإضافته إلى الزمان، ولا يكون العامل في "إذا" ولا في "إذا" إذ ذاك محذوفاً لأنه هو المبتدأ. قالوا: ولا يستنكر خروج "إذا" عن الظرفية ورفعها، فقد جاءت مجرورة في قول الشاعر: وبعد غد، يا لهف نفسي على غد إذا راح أصحابي، ولست برائح فأبدل "إذا" من "غد". وحكي: جئتك بعد إذ قام زيد، وفي القرآن {رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إذْ هَدَيْتَنَا}.

وأجاز أبو العباس الرفع الصريح فيها، وذلك: إذا يقوم زيد إذا يقوم عمرو، فـ "إذا" الأولى مبتدأة، والثانية خبر. ويبين لك ذلك أنه إذا ظهر الإعراب في الظرف رفع، تقول: أخطب ما يكون الأمير يوم الجمعة، إذا جعلت "أخطب" زماناً، فإن جعلت "أخطب" كوناً نصبت يوم الجمعة، وكان "إذا" و"إذا" في موضع نصب. وهذا الذي أجازوه من التصرف في "إذ" و"إذا" وإخراجهما عن الظرفية لا يجوز عندي، وسيأتي الكلام على ذلك في "باب المفعول المسمى ظرفاً" إن شاء الله. فعلى هذا الذي قالوه في "أخطب ما يكون" تكون "ما" مصدرية، ولا حذف، وهو الظاهر، أو يكون المحذوف أزماناً أو أحوالاً مضافة إلى الكون، أو تكون "ما" بمعنى شيء، و"تكون" صفة. وأجاز ابن الدهان في "ضربي زيداً قائماً" رفع "قائم" على أن يكون خبراً عن "ضربي" إذا كان معنى "قائم" ثابت ودائم، كما تقول: الأمر بيننا قائم، والحرب قائمة على ساق، وهذا جار على قولهم: ضربي زيداَ شديد، ولا خلاف في جوازه. وقوله وفعل ذلك بعد مصدر صريح دون ضرورة ممنوع أي: رفع ما كان حالاً على أن يكون خبراً للمصدر الصريح ممنوع، مثال ذلك: ضربي زيداً قائم. واحترز بقوله "صريح" من المسألة التي أجاز فيها الرفع، وهي: أخطب ما يكون الأمير قائم. وقوله دون ضرورة مشعر بأن ذلك يجوز في الضرورة، وهو أن يكون خبراً عن المصدر الصريح. ثم لما تكلم في المسألة في الشرح لم يجز الرفع على هذا الوجه، وهو أن يكون خبراً عن "ضربي"، إنما أجازه على إضمار

مبتدأ مقرون بواو الحال، تقديره: ضربي زيداً وهو قائم، قال: "وحقه أن يمنع مطلقاً لأن شبيه بقولك: جاء زيد راكب، على تقدير: وهو راكب، لكن الضرورة أباحت حذف المبتدأ المقرون بالفاء في جواب الشرط، وهو أصعب، فإجازة حذف مبتدأ مقرون بواو الحال أولى. ومثال حذف المبتدأ مقروناً بالفاء قول الشاعر: بني ثعل لا تنكعوا العنز شربها بني ثعل من ينكع العنز ظالم" انتهى كلامه. وكان ينبغي أن لا يقول "دون ضرورة"، بل يقول: وفعل ذلك بعد مصدر صريح ممنوع، فإن أدت الضرورة إلى رفعه خبر مبتدأ محذوف، وتكون الجملة حالاً، جاز. ولم يبين المصنف جهة الأصعبية. ونقول: بل هو في الشرط أسهل لأن جواب الشرط لابد أن يكون جملة، وكونها أسمية جائز، فإذا حذف دل طلب الشرط عليه. وأما هذه/ الحال السادة مسد خبر المبتدأ ففيها خلاف: أتقوم الجملة مقامها أم لا؟ يجوز إلا أن تكون صريح الاسم، وسيأتي ذكر ذلك. فعلى هذا لا مقتضى للجملة، بخلاف جملة الشرط، فإنها تطلب جملة الجواب، وتقتضيه، فإذا حذف منها شيء، دل عليه الشرط. ص: وليس التالي "لولا" مرفوعاً بها، ولا بفعل مضمر، خلافاً للكوفيين. ولا يغني فاعل المصدر المذكور عن تقدير الخبر إغناء المرفوع بالوصف المذكور، ولا الواو والحال المشار إليهما، خلافاً لزاعمي ذلك، ولا يمتنع وقوع الحال المذكورة فعلاً، خلافاً للفراء، ولا جملة اسمية بلا واو،

وِفاقاً للكسائي، ويجوز إتباع المصدر المذكور، وفاقاً له أيضاً. ش: المناسب ذكر قوله "وليس التالي لولا مرفوعاً بها، ولا بفعل مضمر، خلافاً للكوفيين" متصلاً بقوله "ووجوباً بعد لولا الامتناعية غالباً"، أما أن يفصل بذلك بين مسائل الحال السادة مسد الخبر فغير سديد في التصنيف. وقوله مرفوعاً بها هو قول الفراء. وقوله ولا بفعل مضمر هو قول الكسائي. وأبهم في قوله "خلافاً للكوفيين". وقد أمعنا الكلام على المرفوع بعد "لولا" في كتاب "التكميل" في الفصل الثاني من "باب تتميم الكلام على كلمات مفتقرة إلى ذلك". وقوله ولا يغني فاعل المصدر المذكور إلى آخر المسألة تقدم الكلام على هذه المسألة، فأغنى عن إعادته. وقوله ولا الواو والحال المشار إليهما، خلافاً لزاعمي ذلك. أما الواو فيعني بها واو المصاحبة، فلا تغني عن الخبر، وقد تقدم الكلام على ذلك. وأما الحال فقد ذهب الكسائي والفراء وهشام وابن كسيان إلى أن الحال بنفسها هي الخبر لا سادة مسدة، على خلاف بينهم في ذلك:

فقال الكسائي وهشام: الحال إذا وقعت خبراً للمصدر كان فيها ذكران مرفوعان: أحدهما من صاحب الحال، والآخر من المصدر. وإنما احتاجوا إلى ذلك لأن الحال لابد لها من ضمير يعود على ذي الحال، وهي خبر، والخبر عندهم لابد فيه من ضمير يعود على المبتدأ، لأن المبتدأ عندهم إنما يرتفع بما عاد عليه في أحد مذهبي الكوفيين. و"ضربي" مبتدأ مرفوع، فلابد له من رافع، فاحتاجوا إلى القول بتحمل "قائم" ضميره ليرفعه، حتى إنهما قالا: يجوز أن تؤكد الضميرين اللذين في "قائماً"، فتقول: ضربي زيداً قائماً نفسه نفسه، وقيامك مسرعاً نفسك نفسه، فإن أكدت القيام أيضاً على المضمرين قلت: قيامك مسرعاً نفسك نفسه، فتكرر النفس ثلاث مرات. وزعم الفراء ومن أخذ بقوله أن الحال/ إذا وقعت خبراً للمصدر لا ضمير فيها من المصدر لجريانها على صاحبها في إفراده وتثنيته وجمعه وتعريها من ضمير المصدر للزومها مذهب الشرط، والشرط بعد المصدر لا يتحمل ضمير المصدر، فكذلك الحال. وجاز نصب قائماً ومسرعاً وما أشبههما على الحال عند الكسائي وهشام والفراء وإن كان خبراً لما لم يكن المبتدأ، ألا ترى أن المسرع هو المخاطب لا القيام. والقائم هو زيد أو أنا لا الضرب، فلما كان خلاف المبتدأ انتصب على الخلاف، لأن الخلاف عندهم يوجب النصب. وقال ابن كيسان: إنما أغنت الحال عن الخبر لشبهها بالظرف. وحكي أبو محمد بن السيد البطليوسي عن الكوفيين أن الخبر محذوف بعد "قائم"، تقديره: ثابت أو موجود. وكذا قال ابن هشام في الإفصاح، قال: "والكوفيون يجعلون قائماً حالاً من زيد، والعامل فيه

المصدر، والتقدير: ضربي زيداً قائماً واقع، على معنى: يقع أو وقع، وقالوا: تقدير اسم مفرد أولى من تقدير ظرف قد قام مقام جملة، ثم تقدير فعل وفاعل بعده، فتقدير اسم مفرد أولى". قال: "وهذا التقدير لا يوافق المعنى الشرط، كأنه قال: إنما أضربه بشرط أن يكون قائماً، وإنما ضربته لما كان قائماً، وهذا المعنى يصح بتقدير إذ وإذا، فلهذا احتاج البصريون إلى تقديرهما". فأما مذهب الكسائي وهشام فأبطل بأن العامل الواحد لا يعمل في معمولين ظاهرين ليس أحدهما تابعاً للآخر رفعاً، فكذلك لا يعمل في مضمرين، وأما قولهم في "زيد حيث عمرو" من أن "حيث" رفعت زيداً وعمراً لنيابتها مناب ظرفين فقد أبطلناه فيما تقدم في الفصل قبل "باب الابتداء". وإذا انتفى أن ترفع الحال ضميرين انتفى كونها خبراً. وأيضاً، فنقول: ضربي الزيدين قائمين، فلا يمكن أن يكون فق "قائمين" ضميران، لأنه لو كان كذلك لكان أحدهما مثنى من حيث عوده على مثنى، والآخر مفرد من حيث عوده على مفرد، وتثنية اسم الفاعل وإفراده إنما هو بحسب ما يرفع من الضمير، فلزم أن يكون اسم الفاعل مفرداً في حال واحدة، وهذا لا يمكن. وأما تأكيد الضميرين فشيء قالوه بقياس مبني على قول فاسد، ولا سماع يعضده. وأما ما ذهب إليه الفراء فأبطل بأن الشرط بمفرده من دون جواب لا يصلح أن يكون خبراً لأنه لا يفيد، وإذا كان كذلك تعين أن يكون جواب الشرط محذوفاً، فيكون الضمير محذوفاً مع الجواب، مع أن قيام الشرط

بمفرده دعوى لا دليل على شيء منها. وما ذهب إليه ابن كيسان من أن الحال تشبه الظرف، فكأنه قال: ضربي زيداً في حال قيام، ليس بشيء، لأنه لو جاز ذلك لهذا التقدير لجاز مع الجثة/ أن تقول "زيد قائماً" لأنه في معنى: زيد في حال قيام، وحيث لم يجز ذلك دل على فساد ما ذكره. وقال المصنف في الشرح موضحاً لهذا الدليل السابق في إبطال مذهب ابن كيسان: "إما أن يقدر لهذه الحال عامل أو لا، أن لم يقدر لها عامل لزم استغناؤها عما لا يستغنى عنه الظرف مع أنه أصل بالنسبة إليه، ولو جاز ذلك مع المصدر لجاز مع غيره، فكان يقال: زيد قائماً، لأنه بمعنى: زيد في حال قيام. وإن قدرت لم يكن العامل إلا مثل المقدر في الظرف، فكما يقدر في: زيد في حال قيام: زيد مستقر في حال قيام، يقدر: ضربي زيداً مستقراً قائماً، فكان يلزم من ذلك الإخبار عن الضرب بما للضارب، وذلك محال، وما أفضى إلى المحال محال" انتهى. وأما ما حكاه ابن السيد عن الكوفيين فقد رد لأنه تقدير ليس في اللفظ ما يدل عليه، فكما تقدره "ثابت" فيجوز أن تقدره "منفي"، ولأنه يكون من الحذف الجائز لا الواجب، لأن قائماً إذ ذاك يكون حالاً من "زيد"، والعامل فيه المصدر، فلا تكون الحال سدت مسد الخبر، فلا يجب حذفه، وإنما يجب إذا سدت الحال مسده، لأن الحال إذ ذاك عوض من الخبر بدليل أن العرب لا تجمع بينهما، ولا تحذف خبر هذه المصادر إلا مع وجود الأحوال للمناسبة التي بين الحال والخبر، لأن أصل الخبر التنكير كالحال، ولأن الحال هي صاحبها، كما أن الخبر المفرد هو المبتدأ، والحال مقيدة كما أن الخبر كذلك، ففهم من عدم اجتماعهما قصد العوضية، ولا تتصور العوضية إلا على قول من قدر أن الخبر قبل الحال، لأنك إذا قدرت الخبر

"ثابت" أو "موجود"، وجعلت قائماً حالاً من "زيد" فإما أن يكون إخبارك المخاطب عن ضرب قد عهد منك إيقاعه بزيد في حال قيامه، فلا يكون في الإخبار بثابت أو موجود فائدة لأنه معلوم عنده، أو عن ضرب لم يعهده منك في تلك الحال، فلا دليل على ذلك المحذوف لجواز أن يكون التقدير: ضربي زيداً قائماً غير ثابت، ولأن في جعل "قائماً" معمول "ضربي" حذف الحبر برمته، وفي جعل "قائماً" معمول الخبر حذف بعض الخبر، وحذف بعض الخبر أولى من حذف جميعه. وتلخص من مجموع هذه المذاهب أن النحويين أجمعوا على رفع "ضربي" من قولك: ضربي زيداً قائماً. فقيل: ارتفع على الفاعليه بفعل محذوف. وقيل: على الابتداء. فقيل: لا خبر له لإغناء فاعله عنه. وقيل: له. خبر فقيل: ملفوظ، وهي الحال على اختلاف في التقدير، وقيل: محذوف. فقيل: بعده. وقيل: قبله. فقيل تقديره: ضربه قائماً. وقيل: إذا كان أو إذ كان. وهذا الذي ذكرناه من سد الحال مسد خبر المبتدأ ينبغي أن يقتصر به على مورد السماع/ لأنه شيء خارج عن القياس، فلا يجوز ذلك إلا فيما سمع، وهو أن يكون المبتدأ مصدراً أو أفعل التفضيل مضافاً إلى المصدر أو ما قدر بالمصدر. وزعم الأستاذ أبو الحسن بن عصفور أن الاسم الذي لا حقيقة له في الوجود يجري مجرى المصدر في هذا المعنى لا مجرى الجثث، فتسد الحال مسد خبره. واستدل على صحة ذلك بقول الشاعر:

خيال لأم السلسبيل ودونها مسيرة شهر للبريد المذبذب فـ "خيال" مرفوع بالابتداء، وجاز الابتداء، وجاز الابتداء به لأنه وصف بقوله "لأم السلسبيل"، فلا يصح أن يكون خبراً لأنه صفة، بل الخبر هو محذوف، سدت الحال - وهي قوله "ودونها مسيرة شهر" - مسدة. وساغ ذلك لأن الخيال لا حقيقة له جسمية. ولا حجة في هذا البيت لأنه يحتمل أن يكون "خيال" خبر مبتدأ محذوف تقديره: هذا خيال. وقوله ولا يمتنع وقوع الحال المذكورة فعلاً، خلافاً للفراء. اختلف في ذلك: فأجاز ذلك أبو الحسن والكسائي وهشام، نحو: حسنك تركب، أي: راكباً. ونقل عن س المنع. واختلف النقل عن الفراء: فحكي ابن خروف عنه الجواز، ونقل ابن عصفور المنع، وهو الصحيح عنه. ونقل ابن أصبغ الخلاف عن الكسائي. وقال أبو بكر بن الأنباري: "أجاز الفراء رد الحال إلى الاستقبال إذا كانت غير رافعة، وأبطل ذلك فيها إذا رفعت، فخطأ عند الفراء: حسنك تركب. وأجاز هو والكسائي: حسنك تركب مسرعاً. قال ابن عصفور: والذي يمنعه الفراء المضار المرفوع. وعلله بأن النصب الذي في لفظ المفرد عوض من التصريح بالشرط، والمستقبل المرفوع ليس في لفظه ما يكشف مذهب الشرط" انتهى. والصحيح الجواز لورود ذلك عن العرب، قال الشاعر:

ورأي عيني الفتى أباكا يعطي الجزيل، فعليك ذاكاً وقال الآخر: عهدي بها في الحي قد سربلت بيضاء مثل المهرة الضامر قال ابن هشام: يمكنه أن يجعل الخبر في المجرور، أي: عهدي واقع بها، ويجعل الجملة حالاً من الضمير المجرور. وقوله ولا جملة اسمية بلا واو وفاقاً للكسائي. اختلف في وقوع الجملة الأسمية حالاً مصحوبة بالواو: فنقل عن س والأخفش أنه لا يجوز ذلك، وأن الحال لا تسد مسد الخبر إلا إذا كانت اسماً منصوباً. وأجاز ذلك الكسائي والفراء. وقد ورد السماع بما منعه س، قال الشاعر: عهدي بها الحي الجميع، وفيهم عند التفرق ميسر وندام وقال آخر: خير اقترابي من المولى حليف رضا وشر بعدي عنه، وهو غضبان ولم ينقل المصنف خلافاً في الجملة الاسمية المصحوبة بواو الحال، بل حكي عن ابن كيسان ما ظاهره الجواز في كل الأحوال، قال: "قال كيسان: إن قلت "مسرتك أخاك هو قائم" جاز ذلك عن الكسائي وحده، فإن جئت بالواو قبل "هو" جازت في كل الأقوال". فظاهر قوله "في كل الأقوال"

أنه لا خلاف في ذلك، وقد حكي أن س منع من ذلك. وأما إذا كانت جملة اسمية لا واو معها فأجاز ذلك الكسائي فيما فيه ذكر، كما قاله ابن كيسان، واتبعه المصنف. ومنع ذلك الفراء وقال: واو الحال هي رافعة المصدر، والرافع لا يحذف. والبصريون على مذهب الكسائي في هذا الأصل، قاله بعضهم. ويقتضي مذهب س المنع لأنه لا يجيز وقوع الجملة الاسمية المصحوبة بالواو حالاً، وكونها محذوفة الواو فرع على هذا المنع، فهو أولى بالمنع. والذي ورد عن العرب في هذا إنما هو بالواو، فينبغي إتباعه. ومن أجاز حذفها فليس مذهبه ببعيد. قال المصنف في الشرح: "مقتضى الدليل أن يكون حذف الواو هنا أولى لأنه موضع اختصار، لكن الواقع بخلاف ذلك، وباب القياس مفتوح". وقوله ويجوز إتباع المصدر المذكور وفاقاً له أيضاً. أي: للكسائي، أجاز الكسائي: ضربي زيداً الشديد قائماً، وشربي السويق كله ملتوتاً. وحجته في ذلك إتباع القياس. وحجة من منع أن الموضع موضع اختصار، ولم يرد به سماع، ولا يجوز أن يقع المصدر موضع هذه الحال لأنه لا مناسبة بينه وبين الزمان، لأنهم إنما عدلوا إلى الحال المشتقة للمناسبة، وهذه المناسبة لا تحفظ إلا مع صورة الحال الأصلية، ولا يجوز التجوز في الحال لكونها كالظرف، لأنه لا يتجوز في الشيء الواحد مرتبين. وقد أغفل المصنف ذكر مسائل تتعلق بهذه المسألة:

الأولى: أجاز السيرافي وابن السراج دخول "كان" الناقصة على هذا المصدر، فتقول: كان ضربي زيداً قائماً. وقال ابن عصفور: هو قبيح لأن تعويض الحال من الخبر إنما يكون بعد حذفه، وحذف خبر "كان" قبيح. الثانية: إذا كنيت عن المصدر الذي سدت الحال مسد خبره قبل ذكر الحال، نحو "ضربي زيداً هو قائماً" حال سدت مسد خبره. وعند الكسائي يرتفع الضرب بالراجع من "هو"، ويرتفع "هو" بقائم، وهذا جار على مذهبه. وقال الفراء: لا يجوز ذلك/ لأن المكني مثل "زيد" لا يرفعه إلا ما يرفع زيداً وعمراً، والحال لا ترفع زيداً ولا عمراً. الثالثة: اختلفوا في جواز تقديم هذه الحال على المصدر: فقال الفراء: لا يجوز ذلك سواء أكانت من ظاهر أم من مضمر، فيمنع: مسرعاً قيامك، وإن كان يجيز: مسرعاً قمت، لأن الحال مبنية على الشرط، والشرط يرفع آخراً، ولا يعرب أولاً، فيقال: قيامك إن أسرعت، وسكوتك إن أنصفت، ولا يقال: أن أنصفت سكوتك. وقال الكسائي وهشام: يجوز ذلك إذا كانت من مضمر لا من ظاهر، فيجوز: مسرعاً قيامك، كما يجوز: مسرعاً قمت، ومسرعاً تقوم، ولا

يجوز: مسرعاً قيام زيد. فإن كان المصدر متعدياً نحو "شربك السويق ملتوتاً" فمنع التقديم الكسائي والفراء وهشام، فلا يجيزون: ملتوتاً شربك السويق. وأجاز ذلك البصريون سواء أكان المصدر متعدياً أم لازماً، نقلاً عنهم، خلافاً لمن قال: لا نقل عن البصريين، بل مقتضي قولهم جواز تقديمها إن قدر الخبر مقدماً على المصدر، ووجوب التأخير إن قدر مؤخراً. وقال ابن الدهان: لا يمتنع في القياس تقديمها، ومن نقل وعلم حجة على من لم ينقل ولم يعلم. وفي الإفصاح: ذكر السيرافي أن الزجاج أجاز: قائماً ضربي زيداً، قدم الحال كقولك: اليوم القتال، كأنك قلت: إذا كان قائماً ضربي زيد يقع. الرابعة: تقديم الحال على مفعول المصدر، نحو: شربك ملتوتاً السويق، أبطل ذلك الكسائي والفراء وهشام، وحكي عن البصريين جواز ذلك. ولعله لا يصح، وإجازة ذلك تشكل لأن فيه الفصل بين المصدر ومعموله بالحال التي سدت مسد الخبر، بخلافها إذا تقدمت، فإنه لا يلزم في ذلك فصل بين المصدر ومعموله. الخامسة: إذا كانت الحال بالواو فهل يجوز تقديمها على المصدر؟ أبطل ذلك الكسائي وهشام الفراء إن كان المصدر متعدياً لمفعول، نحو قولك: وهو ملتوت شربي السويق، وإن كان لازماً جاز ذلك عند الكسائي،

نحو: وأنت راكب حسنك، ولم يجز ذلك عند الفراء لأن الحال لا ترفع مقدمة. السادسة: أجمعوا على إبطال: أكلك متكئاً الطعام، لأن الطعام في صلة الأكل، ومتكئاً خبره، والصلة لا تأتي بعد الخبر، وقد تقدم الخلاف في جواز نحو: شربك ملتوتاً السويق، فينظر ما الفرق بين المسألتين. السابعة: اتفقوا على جواز دخول "إن" وفاء "أما"، تقول: إن حسنك راكباً، وأما حسنك فراكباً. الثامنة: اتفقوا على منه: ما حسنك براكب، لأن الباء تغير نصب الحال، فتفسد المسألة لذلك. التاسعة: أما ضربيك فإنه حسناً، على أن الهاء ترجع إلى الضرب، وخبر إن حسناً، وحكم كان وظن حكم إن في هذا المعنى، فأجازوا: أما ضربيك فكان حسناً، وأما/ ضربيك فظننته حسناً، على أن حسناً صفة الضرب. وأبطلها الفراء على حسناً صفة للياء والكاف. والكسائي يجيزهن كلهن. العاشرة: أجاز الكسائي وهشام: عبد الله وعهدي بزيد قديمين، وكذلك: عبد الله والعهد بزيد قديمين. ترتيب المسألة: العهد بعبد الله وزيد قديمين، فقدم "عبد الله"، ورفع بما بعده، وثني "قديمين" لأنه لـ "عبد الله" و"زيد"، وكانا خبراً للعهد كما تكون الحال خبر المصدر. وسوى الكسائي وهشام بين قولك: إن عبد الله والعهد بزيد قديمين، وعبد الله وإن العهد بزيد قديمين. ولا يعلم أن الفراء أجاز شيئاً من هذا، وأصحابه يردون على الكسائي

وهشام ما جوزاه من هذه المسائل. وقياس البصريين يقتضي المنع. ولا يجوز في قول الكسائي وهشام: عبد الله فالعهد بزيد قديمين، ولا يصلح عندهما في هذا المعنى العطف إلا بالواو الجامعة. الحادية عشرة: أجاز الكسائي والبصريون تقديم معمول الحال السادة مسد خبر المصدر على الحال بعد تمام المصدر بما هو من صلته، نحو: ضربي زيداً فرساً راكباً، تقديره: راكباً فرساً. ومنع ذلك الفراء، قال: لأن راكباً لا يرد إلى الاستقبال، وما لم يرد إلى الاستقبال لم تقدم صلته عليه، وإنما يجيز الكسائي تقديم صلته عليه إذا كانت إلى جنبه، فإن فرق بينهما لم يجز ذلك عنده. وقياس قول البصريين الجواز. والثانية عشرة: أجاز الزجاج: عبد الله أحسن ما يكون القيام، وقال: لا يجوز غيره. ومنعها المبرد. الثالثة عشرة: "أكثر ضربي زيد" منعها الكوفيون، وأجازها البصريون. قيل: ولا خلاف نعلم في جواز: أكثر لبسي الكتان. الرابعة عشرة: أجاز ابن كيسان: أما ضربي زيداً فكان قائماً نفسه نفسه، فتكون الأولى لذكر زيد، والثانية لذكر الضرب. وحكي أبو جعفر النحاس إن ذلك جائز على مذهب البصريين والكسائي، وغير جائز على مذهب الفراء. الخامسة عشرة: "علمي بزيد كان ذا مال" منعها أبو علي على أن يكون "علمي" مبتدأ، و"بزيد" متعلق به، "وكان" في موضع خبره، واسمها مستتر فيها، وهو عائد على علمي، و"ذا" خبر كان من حيث إنه يصير التقدير إلى: علمي ذو مال، و "ذو مال" ليس نفس العلم، ولا منزل منزلته.

وتجوز المسألة على وجوه: منها ما جوزه بعضهم من أن تكون من باب: ضربي زيداً قائماً، أي: كائناً ذا مال، وقد كان ذا مال، وذلك على تقدير الكوفيين في نقل من نقل عنهم أنهم يقدرون الخبر متأخراً محذوفاً، أي: علمي بزيد كان قائماً واقع، أو على تقدير العضد: علمي بزيد علمي به ذا مال، وأما على تقدير من قدر "إذا كان" فلا يصح. ويمكن أن يكون خبر علمي، أي: علمي ملتبس كان قائماً واقع، أو على تقدير العضد: علمي بزيد علمي به ذا مال، وأما على تقدير من قدر "إذا كان" فلا يصح. ويمكن أن يكون خبر علمي، أي: علمي ملتبس يزيد أو واقع به ذا مال، أي: غنياً، ويمكن أن تكون "كان" زائدة، ويكون المعنى: علمي بزيد ذا مال. /وزعم بعض النحويين أنه يجوز: علمي بزيد كان ذا مال، على تقدير: إذ كان، وحذف "إذا" للدلالة عليها. وهذا ضعيف لأن العرب إنما حذفت هنا الظرف والفعل معاً، واطرد ذلك في كلامهم، ولم تحذف أحدهما دون الآخر. وأجاز الأستاذ أبو علي في بعض تقاييده على الإيضاح أن تكون "كان" ناقضة، واسمها مضمر يعود على العلم، و"ذا مال" حال تسد مسد خبر "كان" كما تسد مسد خبر المبتدأ. قال بعض أصحابنا: واتفقوا على منع ما أجازه الأستاذ أبو علي، واختلفوا في التعليل: فقيل: امتنع ذلك لأنه باب حذف واختصار وتعويض، ولم يجعل العرب ذلك إلا مع المصدر أو مع مضاف إلى المصدر، وعلى أن يكون بعضه أو كله لا مع ضميره، وإن كان في المعنى مصدراً، وعلينا إتباعهم. وقال أبو علي في التذكرة: لم يجز لأنك حلت بينه وبين معموله، يريد أن الحال القائمة مقام الخبر عن المصدر لابد أن يكون في المصدر من الحال له، ويكون معمول المصدر، فإذا أضمرت المصدر لم يبق معموله لأن

الضمير العائد على المصدر لا يعمل، فإذا لا يصح أن تكون الحال سادة مسد الخبر عن مصدر مضمر لأنها لا تسد إلا عن مصدر معموله صاحب الحال، والمضمر لا يعمل، فليس له معمول. وقيل: لم يسمع منهم: ضربي زيداً هو قائماً، فلا تدخل عليه كان، فيكون اسماً لها، وكل ما كان اسماً لـ "كان" يجوز أن يتقدم، ويضمر فيها ضميره، فتقول في كان زيد قائماً: زيد كان قائماً، وهذا لم يأت في نحو هذا، لم يسمع: ضربي زيداً كان قائماً. -[ص: ويحذف المبتدأ أيضاً جوازاً لقرينة، ووجوباً كالمخبر عنه بنعت مقطوع لمجرد مدح أو ذم أو ترحم، أو بمصدر بدل من اللفظ بفعله، أو بمخصوص في باب نعم، وبئس، أو بصريح في القسم، وإن ولي معطوفاً على مبتدأ فعل لأحدهما واقع على الآخر صحت المسألة، خلافاً لمن منع، وقد يغني مضاف إليه المبتدأ عن معطوف، فيطابقهما الخبر.]- ش: مثال حذفه جوازاً لقرينة: صحيح، لمن قال: كيف زيد؟ و: مسك، عند شم طيب، و: إنسان، عند رؤية شبح، وقال الشاعر: إذا ذقت فاها قلت: طعم مدامة معتقة مما تجيء به التجر أي: هذا طعم مدامة. ولو كان هذا معرفة لجاز جعله مبتدأ محذوف الخبر. ومما يحسن الحذف دخول فاء الجزاء على ما لا يصلح أن يكون مبتدأ، كقوله تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ} أي: فصلاحه لنفسه. وقوله لمجرد مدح أو ذم أو ترحم مثاله: الحمد لله أهل الحمد، ومررت بزيد الفاسق، ومررت ببكر المسكين. وإنما التزم/ هنا إضمار

المبتدأ لأنه مما يجوز فيه القطع إلى النصب على إضمار فعل لا يجوز إظهاره، قصدوا إنشاء المدح أو الذم أو الترحم، ولم يريدوا به الإخبار، فالتزموا فيه الإضمار إمارة على الإنشاء، كما فعلوا في النداء، إذ لو أظهر لأوهم الإخبار، فأجري الرفع مجرى النصب في إضمار الرافع والناصب ليستويا. واحترز بقوله "لمجرد مدح أو ذم أو ترحم" من أن يكون لغير ذلك، فإنه يجوز إظهار المبتدأ وإضماره، وإظهار الناصب وإضماره، نحو: مررت بزيد الخياط، يجوز فيه الرفع والنصب، ويجوز أن تقول: بزيد هو الخياط، وبزيد أعمي الخياط، وقال الشاعر: نفسي فداء أمير المؤمنين إذا أبدى النواجذ يوم باسل ذكر الخائض الغمر والميمون طائره خليفة الله يستسقى به المطر وقوله أو بمصدر بدل من اللفظ بفعله مثاله قولهم: سمع وطاعة، وقال الشاعر: فقالت: حنان، ما أتى بك ههنا أذو نسب أم أنت بالحي عارف التقدير: أمري سمع وطاعة، وأمري حنان. والأصول في هذا النصب لأنه مصدر جيء به بدلاً من اللفظ بالفعل، فلم يجز إظهار ناصبه لئلا يكون جمعاً بين البدل والمبدل منه، ثم حمل الرفع على النصب، فالتزم إضمار المبتدأ. وقيل لبعضهم: كيف أصبحت؟ فقال: حمد الله وثناء عليه، أي: أمري

حَمْدُ الله. وقد جاء إظهار هذا المبتدأ في الشعر، أنشد ابن جني في الخصائص: فقالت: على اسم الله، أمرك طاعة وإن كنت قد كلفت ما لم أعود وقوله أو بمخصوص في باب نعم وبئس مثاله: نعم الرجل زيد، جوزوا في "زيد" أن يكون خبر مبتدأ محذوف، أي: هو زيد، فعلى هذا قالوا: يكون قد حذف المبتدأ وجوباً، وسيأتي الكلام في هذه المسألة إن شاء الله. ويتضح أنه لا يجوز في هذا المخصوص إلا أن يكون مبتدأ، والجملة التي قبله في موضع الخبر، له، كما لو كان تقدم على الجملة. وقوله أو بصريح في القسم مثاله قول العرب: في ذمتي لأفعلن، أي: في ذمتي ميثاق أو عهد، وهذا عكس قولهم: لعمرك لأفعلن، ذكر هذه المسألة أبو علي الفارسي، وقال الشاعر: تسور سوار إلى المجد والعلا وفي ذمتي لئن فعلت ليفعلا ومما يجب فيه إضمار المبتدأ مواضع: أحدها أن يذكر الشاعر منزلاً أو منازل/ يتغزل بها، ثم يقول: دار فلانة، أو ديار فلانة، كما قال الشاعر: أتعرف رسم الدار قفرا منازله كسحق اليماني زخرف الوشي ماثله

بتثليث أو نجران أو حيث نلتقي من النجد في قيعان جاش مسايله ثم قال: ديار سليمى إذ تصيدك بالمنى وإذ حبل سلمى منك دان تواصله أي: هي ديار، أو تلك ديار. وقال الآخر: هل تعرف اليوم رسم الدار والطللا كما عرفت برسم الصيقل الخللا دار لمروة إذ أهلي وأهلهم بالقادسية نرعى اللعو والغزلا وكذلك ما انتصب توكيداً لنفسه، نحو {صُنْعَ اللَّهِ}، و {وعْدَ اللَّهِ}، و {كَتَبَ اللَّهُ} و {صِبْغَةَ اللَّهِ}، هذا كله يجوز رفعه بإضمار مبتدأ لا يجوز إظهاره. قال بعض أصحابنا: "وكذلك سائر ما جاء من الفصل الأول". يعني ما ارتفع خبر مبتدأ، وأصله أن ينصب بفعل لا يجوز إظهاره. قال: "إلا أنه غير مقيس، لا تفعله". يعني ترفعه على خبر مبتدأ إلا فيما سمعت بخلاف ما جاء في الديار، وما قطع في النعوت، وفي مصادر التوكيد، لكن ما سمع منه لا يكون إلا على هذا، أي: على خبر مبتدأ، كقولهم: من أنت زيد؟ الثاني: قول العرب: من أنت زيد؟ أي: مذكورك زيد، حذفت

المبتدأ وجوباً لأنهم قالوا: من أنت زيداً؟ بالنصب، أي: تذكر زيداً، اضمروا في الرفع كما أضمروا في النصب. الثالث: قول العرب "لا سواء" حكاه س، وتأوله على حذف المبتدأ، تقديره: هذا لا سواء، وقال س: "إنما دخلت لا هنا لأنها عاقبت ما ارتفعت عليه سواء، ألا ترى أن لا تقول: هذان لا سواء". والمبرد لا يمنع ظهوره، يعني ظهور المبتدأ. وقدره بعضهم بعد "لا"، أي: لا هما سواء. ومن كلام المختار بن أبي عبيد، وقد قتل حفص بن عمر بن سعد بن أبي وقاص، وأباه عمر بن سعد: "عمر بالحسين، وحفص بعلي بن الحسين، ولا سواء"، أي: ولا هما سواء. ولم تكرر "لا" لأن المعنى: ولا يستويان، فكما أن الفعل لا يلزم تكرير "لا" معه، فكذلك مع ما في معناه. وفي كتاب أبي الفضل الصفار: س لا سواء، يريد أن هذه اللفظة تستعمل عندما تسوي بين شيئين أو أشياء، فيقول الراد: لا سواء، أي: هما لا سواء، لكن لم يظهر قط ما ارتفعت عليه سواء، وعاقبه "لا"، فكما أنك لو قلت "هما سواء" لم يلزم تكرار، فكذلك ما عاقبه. الرابع: قولهم "لاسيما زيد" في من رفع زيداً، التقدير: لا سي الذي هو زيد.

وقوله وإن ولي معطوفاً إلى آخر المسألة مثال/ ذلك: عبد الله والريح يباريها، فمجيز ومانع، والمنع أظهر لأن "عبد الله" مبتدأ، و"الريح" معطوف عليه، والمعطوف على المبتدأ مبتدأ، و"يباريها" خبر عن المبتدأ الواحد، ويبقى الآخر لا خبر له، فلو لم تكن الواو صحت إجماعاً. ومن أجازها من البصريين جعل خير المبتدأين محذوفاً، وتقديره: عبد الله والريح يجريان يباريها، و"يباريها" في موضع نصب على الحال، واستغنى بها عن الخبر لدلالتها عليه. ومن أجازها من الكوفيين فعلى معنى: يتباريان، إذ من باراك فقد باريته، ولم يقدر محذوفاً. قال أبو بكر بن الأنباري: عبد الله والريح يباريها، وأخوك والدنيا يذمها، بين هشام أن "عبد الله" رافعة في الأصل ما عاد من "يباريها"، و"الريح" يرفعها رجوع الهاء في "يباريها"، والواو نسقت "الريح" على "عبد الله"، فبنيا على: عبد الله والريح يتباريان، وعبد الله والدنيا مقرونان ومجتمعان، وبطل: عبد الله فالريح يباريها، وأخوك ثم الدنيا يذمها. ولهشام في هاتين المسألتين جواب آخر، وهو أن الواو ترفع "عبد الله"، و"الريح" نسق على "عبد الله"، و"يباريها" حال لـ "عبد الله" و"الريح". وتلخيص المسألة: عبد الله مع الريح يباريها، إذا كان معروفاً بالسخاء والإفضال والإشباه للريح في هذا المعنى، فكانت الواو هنا على ما هي عليه في: كل ثوب وثمنه، وكل رجل وضيعته. وقال أحمد بن يحيي: إذا نسقت الريح على عبد الله على أن يباريها

حال نصب إذا صرف إلى الدائم، فقيل: مباريها، وإذا عمل على أن يباريها خبر عبد الله والريح اختلطا في عقدة، واجتمع "عبد الله" و"الريح" في التقرب لاختلاط الخبرين، إذا صرف "يباريها" إلى الدائم رفعه، وأتي بعده بكناية صاحبه، وصاحبه "عبد الله". وقيل: عبد الله والريح مباريها هو، بإسكان الياء، وأخوك والدنيا ذامها هو، برز "هو" بعد "مباريها "وذامها" لأن فاعلاً جرى على غير صاحبه، فلم يحتمل ضميراً من صاحبه، كما فعل ذلك في "يدك باسطها أنت" لما جرى "باسط" على اليد، وهو فعل للكاف، لم يحتمل ضميراً من الكاف، فظهر صاحبه معه وأبرز. قال أبو بكر: وقد شرحنا من إجازة الكوفيين هذا المكني، وأبي البصريون إلا إظهاره. وأصل المسألتين بغير واو عاطفة: عبد الله الريح يباريها، وأخوك الدنيا يذمها. وللريح والدنيا وجهان: أحدهما النصب بـ "يباري" و"يذم"، وهما مبنيان عند الكوفيين على التأخر بعد الفعل، والبصريون ينصبون الدنيا والريح بفعل مضمر قبل الدنيا والريح، يفسرهما الفعل المظهر. والوجه الآخر ارتفاعهما برجوع الهاء. فمن عمل على أن "الدنيا" والريح في موضع نصب، وصرف المستقبل إلى الدائم، لم يحتج إلى زيادة في الكلام، فقال: عبد الله الريح مباريها، وأخوك الدنيا ذامها، فذام ومبار/ رافعهما عبد الله والأخ. ومن عمل على أن "الدنيا" و"الريح" في موضع رفع، وصرف المستقبل إلى الدائم، قال: عبد الله الريح مباريها هو، وأخوك الدنيا ذامها هو، احتيج في هذا المعنى إلى إبراز "هو"، وفيه من الحذف ما في غيره. وقد أجاز هشام: كل رجل وأخوه قائم، على أن كلا يرفعه رجوع الهاء، والأخ رافعه قائم، نسقت الأخ على كل، لما اجتمع الخبران واختلطا

شُبِّها باختلاطهما في: عبد الله والدنيا يذمها. وقد خالف بعض الكوفيين هشاماً في هذا وفي إجازته: عبد الله وصاحبه قائم، على أن الصاحب معطوف على عبد الله تشبيهاً بـ "أخوك والدنيا يذمها"، وقال: لا ينبغي أن نقيس على المختلطين غيرهما. انتهى ما لخص من كلام ابن الأنباري في هذه المسألة. وقد أطلق المصنف في قوله "وإن ولي معطوفاً على مبتدأ"، وقد قيدوه بأن يكون العطف بالواو، فلو كان بالفاء أو بثم لم يجز. وقيد المصنف بقوله "فعل لأحدهما"، وقد جوزوا ذلك في الفعل وفي اسم الفاعل كما سبق في كلام ابن الأنباري. وقال المصنف في الشرح: "واستدل أبو بكر بن الأنباري على صحة هذا الاستعمال بقول الشاعر: واعلم بأنك والمنيـ ـة شارب بعقارها" انتهى: ولا حجة فيه لأنه لا يتعين أن تكون الواو للعطف، إذ يحتمل أن تكون واو "مع"، ويكون "شارب" خبراً لـ "أن" في قوله "بأنك"، التقدير: بأنك مع المنية شارب بعقارها، كما تقول: إنك مع هند محسن إليها. وقد جعل الكوفيون هذا مقيساً على أن تكون الواو بمعنى "مع"، فيجيزون: إن زيداً وعمراً قائم، كأنك قلت: إن زيداً مع عمرو قائم، فليس لك ما تخبر عنه إلا اسم واحد، ولو أردت العطف عندهم لم يجز إلا أن تثني الخبر. واستدلوا على ذلك بقوله:

فإنك والكتاب إلي علي كدابغة, وقد حلم الأديم وسيأتي ذكر هذه المسألة في "باب إن" إن شاء الله. وقوله وقد يغني مضاف إلي آخر المسألة. قال المصنف في الشرح: "قد يقصد اشتراك المضاف والمضاف إليه في خير, فيجيء الخبر مثني كقول بعض العرب "راكب البعير طليحان", والأصل: راكب البعير والبعير طليحان, فحذف المعطوف لوضوح المعني" انتهي. وهذه المسألة أجازها الكسائي وهشام, فلو قدمت, فقلت "طليحان صاحب الناقة" أبطلاها إذ لم يقم سابق دليل علي تثنية الخبر, والمرفوع المخبر معنه واحد. قال ابن الأنباري: "وإنما جاز الأول لأن التقدير في التقديم: الناقة والصاحب, فثني الخبر بالدليل السابق, وهو الاثنان المذكوران, واستحال / "طليحان صاحب الناقة" لتثنية الفعل ورفعه من غير سبق دليل يوجب التثنية, ولا تأخر اثنان مرفوعان يكون مبناه عليهما, وما يصح البناء علي مدلول عليه إلا بمقارنة الدليل وسبقه إياه" انتهي. وقال صاحب البديع: فأما قولهم "راكب الناقة طليحان" فتقديره: أحد طليحين, فحذف المضاف, وأقيم المضاف إليه مقامه. ويجوز أن يكون قد حذف المعطوف للعلم به, تقديره: راكب الناقة والناقة طليحان, ومثله

قول الشاعر: أقول له كالنصح بيني وبينه هل أنت بنا في الحج مرتحلان وقد جوز بعضهم: غلام زيد ضربتهما, فيعيد الضمير إليهما. -[ص: والأصل تعريف المبتدأ وتنكير الخبر, وقد يعرفان. وينكران بشرط الفائدة, وحصولها في الغالب عند تنكير المبتدأ بأن يكون: وصفا, أو موصوفا بظاهر أو مقدر, أو عاملا, أو معطوفا, أو معطوفا عليه, أو مقصودا به العموم أو الإبهام, أو تالي استفهام أو نفي أو لولا أو واو الحال أو فاء الجزاء أو ظرف مختص أو لاحق به, أو بأن يكون دعاء, أو جوابا, أو واجب التصدير, أو مقدرا إيجابه بعد نفي. والمعرفة خبر النكرة عند س في نحو: كم مالك؟ واقصد رجلا خير منه أبوه.]- ش: إنما كان الأصل تعريف المبتدأ لأن المبتدأ مسند إليه, والإسناد إلي المجهول لا يفيد المخاطب إلا بقرينة لفظية أو معنوية تقربه من المعرفة. وإنما كان الأصل تنكير الخبر لأن نسبته من المبتدأ نسبة الفعل من الفاعل, والفعل يلزمه التنكير, فرجح تنكير الخبر علي تعريفه, قاله المصنف, قال: "أو لكونه إذا كان معرفا مسبوقا بمعرفة توهم كونهما موصوفا وصفة, فمجيئه نكرة يرفع ذلك التوهم". ومثال تعريفهما: {اللهُ رَبُّنَا} و {مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللهِ}. وقوله وقد يعرفان مثاله: زيد القائم, وفائدته أقل من فائدة الإخبار بالنكرة؛ لأنك إنما تستفيد منه النسبة إلي المبتدأ لا ثبوته, لأنك تعلمه,

ويشترط فيه أن لا يكون معلوم النسبة لأنه لا فائدة فيه إلا أن يدخله معني تعظيم, نحو: أنا أنا, ونحوه. وقد خير بعض النحويين في جعل أيهما شئت المبتدأ أو الخبر. وقال بعضهم: هو بحسب المخاطب, فإن علم منه أنه في علمه أحد الأمرين, أو سأل عن أحدهما بقوله: من القائم؟ فقلت في جوابه: القائم زيد, فلا اختيار هنا؛ لأن الثاني كالمجهول, وأما لو أحضر الأمرين, فقال: هل أخوك زيد؟ فحينئذ تكون بالخيار. وأما من خير فلأنه لا فرق بين كونه في ذكره الأمران أو أحدهما إذا كان عالما بذلك في الجملة. وفي الإفصاح: قال بعض المتأخرين: محل الفائدة - وهو الذي كان غير معلوم عند المخاطب - / هو الخبر, والمعلوم عنده هو الاسم, يعني في "باب كان". قال: وكذلك جعلوه في المبتدأ والخبر, وألزم بعضهم تقديم الخبر علي هذا لئلا يلبس. وقال بعضهم: إذا كان أحد الاسمين أعم من الآخر فالعموم هو الخبر, نحو: زيد صديقي, إذا كان له أصدقاء غيره, ولا يجوز علي هذا: صديقي زيد, كما لا يجوز: الحيوان زيد, ولا: الكاتب عمرو, ولا: كاتب الأمير عمرو, إذا كان له كتاب, وتقول: عمرو كاتب الأمير. إذا لم يكن له كاتب ساواه. وقال بعضهم: هذا علي معني الحصر. والذي عليه المتقدمون قول أبي علي: إنك تجعل ما شئت منهما الاسم والآخر الخبر, يعني في "باب كان وأخواتها" وكذا في المبتدأ والخبر.

وقد قال أبو بكر بن الصائغ في قول الشاعر: أردت قصيرات الحجال, ولم أرد قصار الخطا, شر النساء البحاتر إن "البحاتر" هو المبتدأ, و "شر النساء" الخبر لأنه أعم منه؛ لأن القصر من العيوب, والقصائر بعض معيبات النساء. وسلم له ابن السيد هذا علي أنه الوجه والأصل, وأجاز أن يكون مبتدأ لأن الأول هو الثاني, وإذا علمنا من أحد الشيئين أنه الآخر علم من الآخر أنه الأول, فوقعت الفائدة. واحتج بقول زهير: وإما أن تقولوا: قد أبينا فشر مواطن الحسب الإباء قال: فدخول الفاء يدل علي أنه مبتدأ لأنها لا تدخل علي الخبر. قال ابن هشام: "وهذا خطأ فاحش لأن الجواب إنما يكون في صدر الكلام, فإن تقدم الخبر كان صدرا, ودخلت عليه الفاء, كقولك: أما زيد ففي الدار, و: إن كان زيد في السجن ففي الدار عمرو. والحجة في قوله تعالي {إِنَّ شَرَّ الدَّوَآبِّ عِندَ اللهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ} " انتهي, وفي بعضه لي قليل توضيح.

وقوله وينكران من النكرات ما يلزم حالا واحدة, نحو: عريب وكتيع وأحد الذي همزته أصل, تقول: ما أحد مثلك, ونحوه؛ لأنه عام, ولا يقع إلا في النفي, وسيأتي خلاف المبرد فيه. ومنه ما لا يلزم طريقة واحدة. وقوله وحصولها - أي: وحصول الفائدة - في الغالب قال المصنف: "تنبيه علي أن الفائدة قد يندر حصولها في الإخبار عن نكرة خالية من جميع ما ذكر, كقول من خرقت له العادة برؤية شجرة ساجدة أو بسماع حصاة مسبحة: شجرة سجدت, وحصاة سبحت" انتهي. والمصنف لم يستوف المسوغات لجواز الابتداء بالنكرة, وسنذكر ما أغلفه منها, ونبين أن في هذا مسوغا منها: فالوصف قول العرب " ضعيف عاذ بقرملة", أي: إنسان ضعيف أو حيوان ضعيف التجأ إلي ضعيف والقرملة: شجرة ضعيفة. والموصوف بظاهر "شوهاء ولود خير/ من حسناء عقيم". وهذا يسميه بعضهم خلفا من موصوف, أي: امرأة شوهاء. وبمقدر قولهم: "السمن منوان بدرهم", أي: منوان منه بدرهم, وصف "منوان" بالمجرور المقدر, ومنوان: مبتدأ, بدرهم: خبره, والجملة خبر عن قولهم "السمن". وجعل المصنف من هذا قوله {وَطَآئِفَةٌ قَدْ

أَهَمَّتْهُمْ أَنفُسُهُمْ} أي: من غيركم, وهم المنافقون, وقول الشاعر: إني لأكثر مما سمتني عجبا يد تشج, وأخري منك تأسوني أي: يد منك. ولا يتعين ما ذكر لأنه موضع تفصيل, فيجوز أن يكون المسوغ هو التفضيل. وأنشد المصنف أيضا من ذلك: وما برح الواشون حتي ارتموا بنا وحتي قلوب عن قلوب صوادف أي: قلوب منا عن قلوب منهم. والعامل: "أمر بمعروف صدقة, ونهي عن منكر صدقة". قال المصنف: (ويدخل في هذا المضاف إلي نكرة, نحو "خمس صلوات كتبهن الله علي العباد"). والمعطوف: زيد ورجل قائمان, فـ "رجل" نكرة جاز الابتداء بها لعطفها علي معرفة. والمعطوف عليه قوله تعالي {طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَّعْرُوفٌ} علي أن يكون التقدير: طاعة وقول معروف أمثل, فساغ الابتداء بقوله (طاعة) لأنه عطف

عليه ما فيه مسوغ لجواز الابتداء به, وهو (معروف) الذ هو وصف لقوله (وقول) , وقال الشاعر: غراب وظبي أعضب القرن ناديا بصرم, وصردان العشي تصيح فابتدأ بـ "غراب" - وهو نكرة - لعطف "وظبي" عليه, وفيه مسوغ, وهو وصفه بـ "أعضب القرن". وظاهر كلام المصنف في الشرح أن مطلق العطف مسوغ لجواز الابتداء بالنكرة, وجعل من ذلك قولهم "شهر ثري, وشهر تري, وشهر مرعي" وقول الشاعر: فيوم علينا, ويوم لنا ويوم نساء, ويوم نسر وهذا عند غيره ليس مسوغ الابتداء فيه بالنكرة ما ذكره المصنف من العطف, وإنما مسوغ ذلك التفضيل, وقد ذكره أصحابنا في المسوغات, وأغفله المصنف.

وجعل المصنف مما ابتدئ فيه بالنكرة لأجل العطف قول الشاعر: عندي اصطبار وشكوى من معذبتي فهل بأعجب من هذا امرؤ سمعا ولا يتعين ما ذكره المصنف لأنه قد تقدم هنا علي النكرة ظرف, وهو مسوغ لجواز الابتداء بالنكرة, وقد ذكر هذا المسوغ المصنف, وسيأتي في التمثيل. والمقصود به العموم قول ابن عباس "تمرة خير من جرادة", وقول العرب "خبأة خير / من يفعة سوء". والإبهام مثله المصنف بقولهم: ما أحسن زيدا! وأصحابنا يقولون: جاز الابتداء بـ "ما" لأن فيها معني التعجب. وجعلوا من ذلك قول العرب: عجب لزيد. ولم يذكر المصنف هذا المسوغ, استغني عنه بالإبهام. وتالي الاستفهام: أرجل في الدار؟ والنفي: ما رجل في الدار. و"لولا" قول الشاعر: لولا اصطبار لأودي كل ذي مقة حين استقلت مطاياهن للظعن

وواو الحال قول الشاعر: سرينا, ونجم قد أضاء, فمذ بدا محياك أخفي ضوؤه كل شارق وقال البعيث: أغر إذا ما شد عقدا لذمة حماها, وطير في الدماء كروع وأنشد المصنف في الشرح: عرضنا, فسلمنا, فسلم كارها علينا, وتبريح من الوجد خانقه ولا يتعين أن يكون الابتداء هنا بالنكرة لأجل واو الحال؛ لأن "من الوجد" إما أن يكون متعلقا بتبريح, أو يكون في موضع الصفة, وكل منهما مسوغ, أما إذا كان متعلقا بتبريح فيكون المسوغ كون المبتدأ عاملا, وأما إن كان في موضع الصفة فيكون المسوغ كونه موصوفا بظاهر, وقد ذكر المصنف هذين المسوغين. وفاء الجزاء قول العرب: "إن ذهب عير فعير في الرباط". وظرف مختص: أمامك رجل, فلو كان غير مختص لم يجز, نحو: أماما رجل. واللاحق به هو الجار والمجرور. قيل: وإنما جاز هذا لأن المخبر عنه في الحقيقة هو أمامك, المعني: أمامك معمور برجل. وشرط السهيلي أن يكون المجرور معرفة.

ومثلُهما في ذلك ما ذكره المصنف من الجملة المشتملة علي فائدة, نحو: قصدك غلامه رجل. ولا أعلم أحدا أجري هذه الجملة مجري الظرف والمجرور إلا هذا المصنف. والدعاء: ويل لزيد, {سَلَامٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ} , و "أمت في الحجر لا فيك", و "خير بين يديك". والجواب: درهم, في جواب: ما عندك؟ أي: درهم عندي. قال المصنف: "ولا يجوز أن يكون التقدير "عندي درهم" إلا علي ضعف؛ لأن الجواب ينبغي أن يسلك به سبيل السؤال, والمقدم في السؤال هو المبتدأ, فكان هو المقدم في الجواب, ولأن الأصل تأخير الخبر, فترك في مثل: عندي درهم؛ لأن التأخير يوهم الوصيفة, وذلك مأمون فيما هو جواب, فلم يعدل عن الأصل بلا سبب" انتهي. وغير مطابقة الجواب للسؤال في الإعراب لا نقول إن ذلك هو / ضعيف, بل هو جائز, وإن كان الأرجح المطابقة؛ ألا تراهم جوزوا الوجهين في باب الاشتعال في الجملة الاشتغالية التي تكون جوابا, وإن كان الطباق في الإعراب أولي عندهم, لكن الوجه الآخر ليس بضعيف. وواجب التصدير: من في الدار؟ وكم عبدا لك؟ ومقدر إيجابه بعد نفي "شر أهر ذا ناب" و "مأرب دعاك إلينا لا

حفاوة" بمعنى: ما أهر ذا ناب إلا شر, وما دعاك إلينا إلا مأرب, ومثله قول الشاعر: قدر أحللك ذا المجاز, وقد أري وأبي لك ذو المجاز بدار وقال الآخر: قضاء رمي الأشقى بسهم شقائه وأغري سبيل الحر كل سعيد أي: ما أحللك ذا المجاز إلا قدر, وما رمي الأشقى إلا قضاء. أنشد المصنف البيتين علي هذا المعني. قال بعض أصحابنا: "لا يقال "شيء ما جاء بك" إلا لمن جاء في وقت ما جرت العادة بأن يجيء في مثله إلا لأمر مهم. وكذلك "شر أهر ذا ناب", لا يقال إلا في وقت لا يهر الكلب فيه إلا لشر, وجرت العادة لذلك, وإلا فالكلب يهر لغير الشر كثيرا. وقال س: "إنما جاز أن يبتدأ به لأنه في معني: ما جاء بك إلا شيء". وقال ابن الطراوة: إنما جاز لأنه مفاجأة, فلا يحتاج إلي التعريف, وإنما التعريف والتنكير أمر يختص به المخاطب. وهذا ليس بشيء, فإن قولك "شيء ما جاء بك" لا يقال إلا لمن تستقبل بالخبر كما بينا, ولو زعم ذلك في "شر أهر ذا ناب" أمكن لأنه يمكن أن يستقبل به أحد, لكن لا على

اللزوم, فنهايته أن زاد في شروط الابتداء بالنكرة أن تكون مفاجأة. وكذلك جعل المثل "ليس عبد بأخ لك" علي المفاجأة. ونحن نقول أن يكون سببه النفي" انتهي. وقد انتهت المسوغات التي ذكرها المصنف, وهي ثمانية عشر. وزادوا: أن تكون موضع تفصيل, نحو قوله: فأقبلت زحفا علي الركبتين فثوب نسيت, وثوب أجر وأن يكون اسم شرط, نحو: من يقم أقم معه. وهذا داخل تحت قول المصنف "أو واجب التصدير". وأن يكون قارب المعرفة, نحو: أفضل من زيد عندنا. وهذا داخل تحت قول المصنف "أو عاملا" لأن "من" تتعلق بأفعل التفضيل. وأن يكون مصغرا, نحو: رجيل عندنا. وهذا يمكن أن يدخل تحت قول المصنف "أو موصوفا" لأن التصغير وصف في المعني, فكأنك قلت: رجل صغير الجرم عندنا. وأن يكون "كم" الخبرية, نحو: كم رجل جاءني. وهذا يندرج تحت قوله "واجب التصدير". وأن يكون فيه معني التعجب/ , نحو: عجب لزيد. وعلي هذا يتخرج ما تقدم ذكره من قول المصنف "شجرة سجدت" وشبهه؛ لأن الناطق بذلك تعجب من هذا الخارق العظيم. وأن يكون محصورا بأداة الحصر, نحو: ما في الدار إلا رجلٌ, وإنما

في الدار رجلٌ. وهذا في معني ما تقدم عليه حرف النفي, أو تقدم عليه الظرف, وكلاهما مسوغ للابتداء. وزاد الأخفش في مسوغات الابتداء بالنكرة أن تكون في معني الفعل, نحو: قائم زيد. وتقدم مذهبه في ذلك. وما استدل به أيضا من قوله تعالي {وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلَالُهَا} في قراءة من رفع (دانية) لا حجة فيه لاحتمال أن يكون خبرا مقدما. وزاد الأستاذ أبو الحسن بن عصفور في المسوغات أن تكون النكرة لا تراد لعينها, نحو: رجل خير من امرأة, يريد واحدا من هذا الجنس, أي واحد كان خير من كل واحدة من هذا الجنس, قال: "إلا أن معناه يؤول إلي العموم, إلا أنه يخالف العموم في أنه يدل علي كل واحد علي جهة البدل, أعني أنه لا يتناول الجميع دفعة واحدة" انتهي. وهذا الذي ذكره الأستاذ أبو الحسن يندرج تحت قول المصنف "ومقصودا به العموم"؛ لأن العموم علي قسمين, عموم شمول, نحو: كل يموت, وعموم بدل, نحو: "تمرة خير من جرادة". ولا يجوز أن يبتدأ بالنكرة إلا وفيها مسوغ من هذه المسوغات التي ذكرنا, فأمَّا قوله:

مرسعة بين أرساغه به عسم يبتغي أرنبا فزعم بعضهم أنه جاز الابتداء بالنكرة هنا لأنه فعل ذلك ضرورة. ورد هذا بأنه ليس من أحكام الضرائر أن يجوز بسببها الكلام الذي لا يفيد. وخرجه بعض أصحابنا علي أنها نكرة لا تراد بعينها؛ لأنه لا يراد مرسعة دون مرسعة, بخلاف قولك: رجل قائم, فإن رجلا لا يقع هنا إلا علي الذي وقع منه القيام. ولم يشترط س في الابتداء بالنكرة إلا أن يكون في الإخبار عنها فائدة, لكن النحويين تتبعوا مواضعها. ولا يدخل علي س جواز ما أجمع النحويون علي أنه ليس من لسان العرب, وهو: رجل في الدار, لاعتقاد أن فائدته وفائدة "في الدار رجل" واحدة؛ لأن امتناع "رجل في الدار" إنما هو لعروض اللبس الحاصل بتأخر "في الدار" أهو صفة أم خبر, وأنه ينبغي حمله علي الصفة لاحتياج النكرة إليها لشدة إبهامها, وذلك بخلافه إذا تقدم. ولا يرد عليه نحو "زيد القائم" فيمنع لأنه يؤدي إلي اللبس لاحتمال أن

يكون صفة؛ لأن النكرة أحوج إلي النعت من المعرفة, فلذلك كان اللبس إلى النكرة أسرع منه إلي المعرفة. وقال بعضهم: الابتداء بالفعل فيه إنباء بأمر وقع في زمان, فيتشوف الذهن عند سماعه إلي محل الفعل, فإذا أتيت بما أتيت حصل غرض / السائل. وكذلك إذا قدمت المجرور, بخلاف تقديم النكرة. وقيل: المجرور نائب عن عامل في الخبر بحيث لا يذكر معه, وإذا ناب عن عامل صار بمنزلة تقديم الفعل, والفعل يكون فاعله نكرة, ولم يكن ذلك في "قائم زيد" لأن "قائم" لم ينب عن عامل كالمجرور. وقوله في نحو: كم مالك؟ إنما حكم س علي "كم" بالابتداء مع أن ما بعدها معرفة لأن أكثر ما يقع بعد أسماء الاستفهام النكرة والجمل والظرف, فيتعين إذ ذاك أن يكون اسم الاستفهام مبتدأ, نحو: من قائم؟ ومن قام؟ ومن عندك؟ فحكم عليها بالابتداء وعلي المعرفة بالخبر ليجري علي حال واحدة, فيكون الأقل حمل علي الأكثر, قال معناه المصنف. وقال غيره: "ما أنت وزيد؟ " "ما" عند س مبتدأ, و "أنت" الخبر, نص علي هذا, وغيره يعكس, ويقول: قدم الخبر لأجل الاستفهام. وما ذكر س أولي لأن معني الاستفهام كالتعريف, يحسن الابتداء بالنكرة, وإذا تقدم علي معرفة صارا كالمعرفتين, نحو: زيد أخوك, والمقدم منهما هو المبتدأ. وكذا قال في "كم أرضك"؟ إن "كم" مبتدأ, و "أرضك" الخبر.

وغيره رأى أن المستفهم به هو المجهول, والمستفهم عنه معلوم للمخاطب, فلا يخبر به, وهو في الجواب خبر, فكذلك ينبغي أن يكون في السؤال. وس يري أن الأول لما كان الثاني معني وقعت الاستفادة بمجموعهما. قال المصنف: "والكلام علي أفعل التفضيل كالكلام علي أسماء الاستفهام" انتهي. ونقول: إن قولك: اقصد رجلا خير منه أبوه, كان القياس أن يكون "خيرا" منصوبا ليكون صفة للنكرة قبله, لكن منع من ذلك أن أفعل التفضيل لا يرفع الظاهر فصيحا إلا في مسألة "ما رأيت رجلا أحسن في عينه الكحل منه في عين زيد", ولو جعلت مكان "أفضل" وصفا غير أفعل التفضيل لرفع الظاهر, فكنت تقول: اقصد رجلا محسنا لك أبوه, لكان كونه منصوبا صفة أحسن من كونه مرفوعا, فلما كان محل "أفضل" محل ما يرفع به ما بعده ترك مرفوعا بالابتداء, ليرتفع به "أبوه", وجعل "أبوه" خبرا حتى لا يخلو أفعل التفضيل من العمل فيه؛ إذ كان قياسه لو كان منصوبا علي الوصف أن يعمل فيه هذا مع كونه فيه مسوغان لجواز الابتداء بالنكرة: أحدهما كونه عاملا يتعلق به المجرور. والثاني قربه من المعرفة حيث لا يقبل "أل". -[ص: والأصل تأخير الخبر, ويجوز تقديمه إن لم يوهم ابتدائية الخبر أو فاعلية المبتدأ, أو يقرن بالفاء أو بإلا لفظا أو معني في الاختيار, أو يكن لمقرون بلام الابتداء, أو لضمير الشأن, أو شبهه, أو الأداة استفهام أو شرط أو مضاف/ إلي إحداهما, ويجوز نحو: في داره زيد, إجماعا, وكذا: في داره قيام زيد, وفي دارها عبد هند, عند الأخفش.]- ش: إيهام ابتدائية الخبر بأن يكونا معرفتين أو نكرتين, فأيهما تقدم هو المبتدأ لأنه لا يتميز المبتدأ من الخبر إلا بأن يتقدم, فإذا قلت: زيد أخوك, وأفضل منك أفضل مني, فـ "زيد" و "أفضل منك" هو المبتدأ. فلو كان ثَمَّ

قرينة تميز الخبر من المبتدأ جاز التقديم للخبر علي المبتدأ, كما قال حسان: قبيلة ألام الأحياء أكرمها وأغدر الناس بالجيران وافيها وقال آخر: وأغناهما أرضاهما بنصيبه وكل له رزق من الله واجب أي: أكرمها ألأم الأحياء, وأرضاهما بنصيبه أغناهما. قال: بنونا بنو أبنائنا, وبناتنا بنوهن أبناء الرجال الأباعد أي: بنو أبنائنا بنونا, فـ "بنونا" خبر شبه به المبتدأ, وعلي هذا يجوز في: زيد زهير شعرا, وعمرو عنترة شجاعة, وأبو يوسف أبو حنيفة فقها, تقديم زهير وعنترة وأبي حنيفة وإن كانت أخبارا مشبها بها المبتدآت لوضوح المعني بأن الأعلى لا يشبه بالأدنى عند قصد الحقيقة. وكذلك قول الشاعر: جانيك من يجني عليك, وقد تعدي الصحاح مبارك الجزب فـ "من يجني" هو المبتدأ, و "جانيك" الخبر, أي: كاسبك الذي تعود

جنايته عليك. هذا كله تفسير المصنف في الشرح لقوله " إن لم يوهم ابتدائية الخبر". وسواء أكانا معرفتين أم نكرتين أم كان المبتدأ مشبها بالخبر, فمتى دل المعني علي تمييز المبتدأ من الخبر في هذه الأشياء جاز أن يتقدم الخبر علي المبتدأ, ومتى لا يتميز وجب تقديم المبتدأ وتأخير الخبر. وأطلق أكثر أصحابنا القول بوجوب تأخير الخبر إذا كانا معرفتين أو نكرتين, أو كان الخبر مشبها به المبتدأ من غير لحظ لما يدل علي التمييز مما لا يدل. ولا يعني بكونهما ومعرفتين تساويهما في رتبة التعريف, ولا يعني أيضا بكونهما نكرتين تساويهما في رتبة المسوغ لكل واحد منهما في جواز الابتداء بالنكرة, بل مطلق التعريف ومطلق المسوغ, فإذا قلت: زيد أخوك, فالمتكلم قدر أن المخاطب يعرف زيدا, ويجهل نسبة الأخوة, فلو عكست انعكست النسبة إذ يكون المخاطب عالما بأن له أخا, وجهل كونه زيدا, فلذلك لم يجز تقديمه إلا إن كان ثم ما يميز المبتدأ من الخبر. وهذه المسألة فيها خلاف: فمن النحويين من أجاز ذلك, ولم يلتفت إلي هذا الانعكاس, / ويقول الفائدة تحصل للمخاطب سواء أقدمت الخبر أم أخرته. ومنهم من منع لهذا الذي ذكرناه. وهذه المسألة جري الكلام فيها بين رجلين كبيرين من علماء بلادنا الأندلس, وهما الأستاذ أبو محمد بن السيد, وأبو بكر بن الصائغ, وأصل

ذلك اختلاف النحاة بمدينة سرقسطة في قول الشاعر: وأنت التي حببت كل قصيرة إلي, ولم تشعر بذاك القصائر عنيت قصيرات الحجال, ولم أرد قصار الخطا, شر النساء البحاتر فقال بعضهم: "شر النساء" خبر مقدم, و "البحاتر" مبتدأ, ولا يجوز غيره لأن الشاعر أراد أن يحكم علي البحاتر أنهن شر النساء. وقال بعضهم: لا يجوز ذلك لئلا ينقلب المبتدأ خبرا والخبر مبتدأ. فدارت بين الرجلين مكالمة ونزاع وتعصب, حتى أملي في ذلك ابن السيد, وأجاز أن يكون خبرا مقدما, وأجاز أن يكون مبتدأ. ويوقف علي ترجيح ذلك من كلامه, وقد حكي هو الخلاف في ذلك, فقال: لم يجز ذلك عند جماعة من النحويين. وقوله أو فاعلية المبتدأ وذلك بأن يخبر عنه بفعل مستكن فيه ضميره, نحو: زيد قام, فلا يجوز تقديم قام لأنه لو تقدم أوهم أن زيدا فاعل. فلو أمن اللبس ببروز الفاعل في حال التثنية والجمع, فقلت: الزيدان قاما, والزيدون قاموا, والهندات قمن, ففي جواز التقديم خلاف: منهم من منع ذلك إجراء لضمير التثنية والجمع مجري الضمير المفرد لأنهما فرعه, فيجري الباب مجري واحدا, ويقول: إذا ورد مثل "قاما أخواك" فله تأويلان: أحدهما: أن الألف علامة تثنية كالتاء في قامت زينب, وهي لغة "أكلوني البراغيث". والثاني: أن تكون الألف فاعلا, وما بعدها بدل منها. ومنهم من أجاز ذلك لأنه موضع قد أمن فيه اللبس. وإياه اختار

المصنف في الشرح, وقال: "لا يمنع من ذلك احتمال كونه علي لغة "أكلوني البراغيث"؛ لأن تقديم الخبر أكثر من تلك اللغة, والحمل علي الأكثر راجح". فلو كان الضمير منفصلا أو رفع سببيا جاز التقديم, نحو: ما قام إلا هو زيد, وقام أخوه زيد. فإن رفع الفعل ظاهرا غير السببي قبح, نحو: ضرب أبو بكر زيد, أي: زيد ضربه أبو بكر. ووجه قبحه أنك صدرت الموضع بما لا يصح أن لكون له, فتبني الكلام علي الفعل. وقال يعقوب: قرئ {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} علي معني: السموات والأرض وسعها كرسيه. وقوله أو يقرن بالفاء مثاله: الذي يأتيني فله درهم. وعلته أنه إنما دخلت الفاء في الخبر تشبيها للمبتدأ باسم / الشرط, ولخبره بجواب الشرط, فكما لا يجوز أن يتقدم جواب الشرط, كذلك لا يجوز أن يتقدم هذا الخبر المشبه به. وقوله أو بإلا لفظا مثاله {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ}. وقوله أو معني مثاله {إِنَّمَآ أَنتَ نَذِيرٌ}. وقوله في الاختيار إشارة إلي أنه قد جاء في الشعر مقدما وقد قرن بـ "إلا", قال الشاعر:

فيا رب هل إلا بك النصر ... عليهم وهل إلا عليك المعول وقوله أو يكن لمقرون بلام الابتداء مثاله: لزيد قائم, فلا يجوز: قائم لزيد. وسبب ذلك أن اقتران المبتدأ باللام يؤكد الاهتمام بأول الجملة, والتقدم عليه مناف لذلك فامتنع فأما قوله: خال لأنت ومن جرير خاله ينل العلاء ويكثر الأخوال فتخريجه إما على زيادة اللام في الخبر كقوله: أم الحليس لعجوز شهر به ترضى من اللحم بعظم الرقبة وإما على إضمار مبتدأ أي: خالي لهو أنت والزيادة أولى من اعتقاد كونها للتأكيد وحذف المبتدأ لأن مصحوبها مؤكد بها, فينا فيه الحذف ومن زيادتها في الخبر قول كثير عزة: أصاب الردى من كان يهوى لك الردى ... وجن اللواتي قلن: عزة جنت فهن لأولى بالجنون وبالردى ... والسيئات ما حيين وحيت وزيدت مع المبتدأ في قول الخنساء: وبنفسي لهموم ... فهي حرى أسفه

وقوله أو ضمير الشأن مثاله: هو زيد منطلق فلو تأخر "هو" لم يدر أهو ضمير الشأن أم لا, ولاحتمل أن يكون تأكيداً للضمير في " منطلق". وقوله أو شبهه مثاله: كلامي زيد منطلق يمتنع تقديم الخبر لأن تقديم قولك"زيد منطلق" يعلم منه السامع أنه كلامك فإذا قلت بعد ذلك"كلامي" لم يفده هذا شيئاً, وكأنك قلت: كلامي كلامي, ولا فائدة في ذلك. وقوله أو لأداة استفهام مثاله: أيهم أفضل؟ أو شرط: من يقم أقم معه. وقوله أو مضافاً إلى احدهما مثاله: غلام أيهم أفضل؟ وغلام من يقم أقم معه. فهذه المواضع التي ذكر المصنف أنه يجب فيها تأخير خبر المبتدأ. وزاد بعض أصحابنا أن يكون خبراً لـ"كم" نحو قولك: كم غلام عندي: أو لمضاف إليها نحو: وزير كم ملك زارني. أو لـ"ما" التعجبية/ نحو: ما أحسن زيدا! أو لمبتدأ مستعمل مقدماً عليه في مثل نحو " الكلاب على البقر" و"أمت في الحجر لا فيك" و" عبد صريخه أمه". أو يكون خبراً لضمير متكلم, أو مخاطب موصولاً يجوز تثنيته وجمعه أو نكرة والصلة والصفة قد عاد الضمير فيهما مطابقاً للمبتدأ في التكلم أو الخطاب مثاله: أنت الذي تضرب وأنا الذي أضرب وأنت رجل تضرب زيداً وأنا رجل أضرب فلا يجوز تقديم الخبر في شيء من

هذه المثل، خلافاً للكسائي فإنه يجيز التقديم. أو خبراً لمبتدأ فيه معنى الدعاء: معرفة, نحو {الْحَمْدُ لِلَّهِ} والويل لزيد و {لَّعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ} والخيبة لزيد. فأما: لله الحمد وقول الشاعر: له الويل إن أمسى ولا أم هاشم ... قريب ولا البسباسة بنة يشكرا فإنما خرج مخرج الخبر الثابت الذي لا يرجى ولا يطلب. أو نكرة نحو: ويح لزيد وويل له ولبيك وخير بين يديك وسلام عليك وويس لك, وويله لك وعوله, وخير لك وشر لك وفدى لك أبي وأمي وحمى لك أمي ووفاء لك أمي من هذا عند س. أو جملة لا تحتمل الصدق لا الكذب نحو: زيد اضربه, وزيد هلا ضربته. قال بعض أصحابنا: وكذلك: ما زيد بقائم يجب فيه تقديم "زيد" على اللغتين فلا يجوز: ما بقائم زيد. ويعني بـ"اللغتين" لغة تميم ولغة الحجاز وسيأتي ذكر الخلاف في هذا إن شاء الله. وزاد الجزولي أن يكون الخبر محذوفاً والمبتدأ معرفة , ومثلوه بقولهم: لولا زيد لأكرمتك فالنية بالخير المحذوف التأخير. ولا ينبغي أن يجعل قوله" والمبتدأ معرفة" قيداً في المبتدأ بل أخرج مخرج الغالب, ألا ترى أنه يجوز أن يأتي المبتدأ نكرة بعد"لولا" وإنما قُدِّر

مؤخراً لأنه خرج عن الأصل بالحذف فلا يجمع عليه مع ذلك خروجه عن الأصل بنية التقديم, وقد تقد الخلاف في الرافع للاسم بعد"لولا" وزاد في "الإفصاح " قولهم: ضربي زيداً قائماً والمبتدأ بعد"أما" نحو: أما زيد فعالم لأن الفاء لا تلي "أما". وقوله ويجوز نحو"في داره زيد" إجماعاً إنما جاز ذلك لأنه منوي به التأخير, وفيه ضمير يفسره ما بعده لفظاً والنية به التقديم فهو شبيه بقولهم: ضرب غلامه زيد. وما ذكره المصنف من جواز هذه المسألة إجماعاً ليس كما ذكر بل فيها خلاف عن الأخفش نقل عنه أبو جعفر الصفار أنه إذا ارتفع "زيد" بالظرف منعها. وإنما منعها لأنه إذا رفع الظرف الاسم بعده كان واقعاً في محله لأنه عامل, فيلزم من ذلك أن يتقدم/ الضمير على مفسره, وذلك لا يجوز. وأجاز ذلك البصريون لأن زيداً مرفوع بالابتداء لا بالظرف, وذلك عندهم على التقديم والتأخير. وكذلك أجاز هذه المسألة الكوفية. فقيل لهم: كيف أجزتموها وليس المعنى التأخير؟ قالوا: حمل على المعنى لأن المعنى: استقر زيد في داره وحل في داره أو نزل في داره فهي مع الظرف بمنزلتها مع المفعول. قيل: أو ليس قد صار الظرف رفعاً وحل محل الفعل الذي لا يجوز تأخيره؟.

قالوا: بلى, ولكنه بمنزلة ذلك الذي كان يتقدم ويجوز تأخيره يعنون المفعول والقياس على قولهم أن لا يجوز. وقوله وكذا "في داره قيام زيد" و"في دارها عند هند" عند الأخفش. قال المصنف في الشرح:"أجاز الأخفش تقديم خبر مشتمل على ضمير عائد على ما أضيف إليه المبتدأ وسوى في ذلك بين الصالح للحذف وإقامة المضاف إليه مقامه, نحو: في داره قيام زيد, وبين ما لا يصلح لذلك, ونحو: في دارها عبد هند. وبقوله أقول لأن المضاف والمضاف إليه كشيء واحد, فإذا كان المضاف مقدر التقدم بوجه ما كان المضاف إليه مقداراً معه, إلا أن تقديم ضمير ما يصلح أن يقام مقام المضاف أسهل, ومنه قول العرب " في أكفانه درج الميت" وقول الشاعر: بمسعاته هلك الفتى أو نجاته فنفسك صن عن غيها تك ناجيا" انتهى كلامه. وما ذكر المصنف من أن الأخفش أجاز المسألتين هو قول البصريين, وذكره جواز ذلك منسوباً إلى الأخفش يوهم أن غيره من البصريين يخالفه, وليس كذلك. ومنع الكوفيون المسألتين فلا يجيزون: في داره قيامُ زيد, ولا:

على بابها عبد هند وكذلك أيضا لا يجيزون: مفاعله الدال على الخير. ويجيزه البصريون , وإنما أجاز البصريون ذلك لأنهم يرفعون زيداً والدال بالابتداء. وحكي أبو جعفر الصفار عن الأخفش المنع إن رفعت بالظرف. فكان ينبغي للمصنف في هذه المسألة أن يفصل القول عن الأخفش , فيقول: إن رفع بالظرف لم يجز, أو بالابتداء جاز. ولو كان الخبر مضافاً إلى ضمير يعود على مضاف إليه المبتدأ نحو: غلامه محبوب زيد, أو جملة مصدره بمضاف إلى ضميره نحو: أبوه ضربه عمرو, فنقل ابن كيسان أن ذلك لا يجوز من قول النحويين أجمعين, فلو زدت اسماً فقلت: أبوه ضربه عمرو زيد, والفعل لعمرو والهاء في "أبوه" لزيد جاز ذلك في قول البصريين على التقديم والتأخير, لأن من كلامهم: أبوه صائم زيد. -[ص: ويجب تقديم الخبر إن كان أداة استفهام أو مضافاً إليها أو مصححاً تقديمه الابتداء بنكرة أو دالاً بالتقديم على ما لا يفهم بالتأخير أو مسنداً دون أما إلى "أن" وصلتها أو إلى مقرون بالا لفظً أو معنى أو إلى ملتبس بضمير ما التبس بالخبر.]- ش: مثاله أداة استفهام: أين زيد؟ واحترز بقوله "إن كان - أي الخبر- أداة استفهام" من أن يكون جزءا في الخبر نحو: زيد هل ضربته؟ فإنه لا يجب تقديم الخبر هنا. مثاله مضاف للأداة: صبح أي يوم السفر؟ ومثال المصحح: في الدار رجل, وخلفك امرأة. وقال المصنف "ونحو: قصدك غلامه رجل, لولا الكاف من "قصدك" لم يفد الإخبار

بالجملة كما أنه لولا اختصاص الظرف والمجرور لم يفد الإخبار بهما" وذهب الكوفيون إلى أن قولك: أمامك رجل, وفي الدار رجل ارتفع الاسم فيهما على الفاعلية. وكذلك لو كان معرفة نحو: أمامك زيد, وفي الدار عمرو, لأنه في معنى: حل أمامك رجل, وحل في الدار رجل, فحذف الفعل واكتفي بالظرف والجار فتقدمه كتقدم الفعل ولو تقدم الفعل لوجب أن يكون فاعلاً فكذلك هذا. ورد هذا المذهب بجواز دخول النواسخ عليه, فلو لم يكن الأصل الابتداء الخبر لم يجز دخول النواسخ. واتفق أكثر القائلين على أن الظرف أو الجار إن كان معتمداً عمل لقوته. وزعم بعضهم أنه يرتفع بالابتداء سواء اعتمد أم لا يعتمد. وسيأتي الكلام في ذلك. ومثال الدال بالتقديم قولهم: الله درك! وشبهه من الجمل التعجبية فأن تعجبها لا يفهم إلا بتقديم الخبر وتأخير المبتدأ. قال المصنف في الشرح: "وكذا نحو {وَسَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ} من الجمل الاستفهامية المقصود بها التسوية فإن الخبر فيها لازم التقدم, وذلك لأن المعنى: سواء عليهم الإنذار وعدمه فلو قدم (أَأَنذَرْتَهُمْ) لتوهم السامع أن المتكلم مستفهم حقيقة وذلك مأمون بتقديم الخبر, فكان ملتزما" انتهى كلامه. وما ذكره المصنف من أن (سواء) هو خبر مقدم واجب التقديم هو

قول جماعة, وذهب بعضهم إلى أنه مبتدأ والحبر جملة وقد ذكرنا هذين القولين فيما تقدم. وذهب بعضهم إلى أن (سواء) مبتدأ والجملة فاعل, والتقدير: استوي عندي أقمت أم قعدت فيكون ذلك مثل تخريجهم "نولك أن تفعل" على أن "نولك" مبتدأ و"أن تفعل" فاعل به لأنه في معنى: ينبغي لك أن تفعل. وللسهلي في هذه المسألة مذهب غريب قال ما نصه:" ومما لا يجوز تقديمه باتفاق: سواء علي أقمت أم قعدت فـ"سواء" مبتدأ, والجملة خبر. و"سواء" ليس بمبتدأ في المعنى, إذ لو كان مبتدأ لكان في الجملة عائد فالجملة/ إذا ليست خبراً على الحقيقة لأن المعنى: سواء على القيام والقعود فالقيام مبتدأ معنى ولا يكون في المبتدأ ضمير يعود على الخبر البتة, فكذلك في هذه الجملة الواقعة موقع المبتدأ الذي هو "إنذار" هذا تفسير مذهب أبي علي ومن قال بقوله, ولا يصح ذلك لأنك تقول: سيان زيد وعمرو, ولا تقول: سيان أقمت أم قعدت ولا: سواء أقمت أم قعدت حتى تقول: على أو عليهم لأنك لا تريد استواء الشيئين في صفة هي لهما, كما إذا قلت: سواء زيد وعمرو إذا سويت بينهما في حسن أو قبح أو نحوهما وإنما المساواة في عدم المبالاة فمعنى ذلك: لا أبالي أكان هذا أم هذا فقد عاد معنى المساواة إلى فعل القلب, وهو عدم الالتفات والمبالاة وإذا عدم الالتفات بالقلب إلى الشيء عدم العلم به فصار معنى "سواء علي": لا أبالي ولا ألتفت وصارت الجملة الاستفهامية في موضوع المفعول بـ"لا أبالي" كما تكون في موضع

المفعول إذا قلت: لا أدري, وصار الفعل نحو الضمير المخفوض في علي وعليهم, ولولا قوله "علي" و"عليهم" ما جازت المسألة, وإنما أتى بـ"على" دون غيرها لأن المعنى: هين عليهم أي: لا يبالون, فالضمير في "عليهم" هو الفاعل في "يبالون" فلابد منه في هذه المسألة كما لا بد منه في {ثُمَّ بَدَا لَهُم} فقوله (ليسجننه) و (أَأَنذَرْتَهُمْ) كلام لا يكون في موضع رفع أبدا, إنما يكون في موضع نصب بعد فعل القلب, وذلك أن معنى بدا: ظهر وهو هنا ظهور للقلب لا للعين ولا بد له من فاعل وفاعله هو الاسم المجرور باللام من قوله (لهم) قال: المعنى إلى العلم ورؤية القلب فكأنه قال: ثم رأوا ليسجننه فالفاعل في (رأوا) هو المجرور باللام, كما أن الفاعل في "لا يبالون" هو المجرور بـ"علي" إذا قلت: سواء عليهم وقد قال س في قولهم " له صوت صوت حمار": بنصب الثاني إن"صوت حمار" مفعول وإن الفاعل هو المجرور باللام من قولك "له" وإنه الضمير الذي في يصوت أو يبدي صوت حمار, فكذلك الفاعل هو المخفوض بـ"على" وباللام من قوله (سواء عليهم) و (بدالهم) والجملة المستفهم عنها أو المؤكدة باللام هي المفعول بالمعنى الذي بيناه فـ"سواء" على هذا مبتدأ في الفظ دون المعنى ولذلك لم يكن له خبر في الحقيقة كما كان في قولهم" حسبك ينم الناس" معناه: اكفف فخالف باطن الكلام ظاهره, فلم يكن له خير كما أن قولك "اكفف" لا يخبر عنه وكذلك أقائم زيد؟ " قائم: مبتدأ في اللفظ وزيد: فاعل به ولا خبر لـ"قائم" لأن معنى الكلام: أيقوم زيد؟ وكل مبتدأ معناه/ معنى الفعل فخبره متروك مراعاة للمعنى الذي تضمنه الكلام ولهذا نظائر في أبواب كثيرة من العربية " انتهى كلامه.

وتلخص من هذا كله أن الجملة بعد (سواء) إما مبتدأ و (سواء) الخبر وإما خبر, و (سواء) المبتدأ وإما فاعل بـ (سواء) و (سواء) مبتدأ وإما مفعول و (سواء) مبتدأ. وقوله أو مسنداً دون "أما" إلى "أن" وصلتها مثال ذلك: معلوم أنك عاقل قال تعالى {وَآيَةٌ لَّهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ}. وهذا الذي ذكره من وجوب تقديم الخبر على "أن" ومعمولها إذا لم تلها "أما" فيه خلاف: ذهب س والجمهور إلى المنع. وأجاز تقديم "أن" الأخفش والفراء وأبو حاتم فتقول: أنك عاقل صحيح. واعتلوا للمنع بخوف الالتباس بالمكسورة أو الالتباس بـ"أن" التي بمعنى "لعل" أو التعرض لدخول "إن" فيستثقل اجتماعهما. واستدل من أجاز بالقياس على "أن" نحو قوله {وَأَن تَصُومُوا خَيْرٌ لَّكُمْ}. فإن وليتها أما جاز التقديم بلا خلاف قال الشاعر: دأبي اصطبار , وأما أنني جزع ... يوم النوى فلوجد كاد يبريني وقوله أو إلى مقرون بإلا لفظاً: ما في الدار إلا زيد أو معنى: إنما في الدار زيد. وقوله أو إلى ملتبس بضمير ما التبس بالخبر مثاله: في الدار ساكنها

وخلف دارك من يشتريها, ومعرض عند هند أخوها وقول الشاعر: أهابك إجلالاً وما بك قدرة علي ولكن ملء عين حبيبها وقدم الخبر في هذه لأنه لو تأخر لعاد الضمير إلى متأخر لفظاً ورتبة. فهذه المواضع التي ذكر المصنف أنه يجب فيها تقديم خبر المبتدأ. وزاد بعض أصحابنا أن يكون الخبر"كم" الخبرية نحو: كم درهم مالك. أو يكون مضافا إليها نحو: صاحب كم غلام أنت, أو يكون قد استعمل متقدماً في مثل نحو قولهم "في كل واد بنو سعد". أو تكون الفاء دخلت على المبتدأ نحو: أما في الدار فزيد. وزاد بعض أصحابنا: إذا تقدم الخبر ودخله الوصل, نحو: والله لفي الدار أخوك وإن تقم ففي الناس من ينكر قيامك وإن قدمت بعد الوصل جاز. وزاد آخر أن يكون الخبر اسم إشارة ظرفاً نحو: ثم زيد وهنا جعفر وقال: فهذا يتقدم على المبتدأ ولا يجوز تأخيره أصلا لأن فيها الإشارة, فقدمت كما تقدم "هذا" على "زيد" في الإخبار ألا ترى أنك تقول: هذا زيد ولا تقول: زيد هذا ولما رآه الفراء مبدوءا به جعله أعرف من العلم, وذلك أن تقدمه إنما كان لأجل الإشارة وقد ثبتت الإشارة مقدمة

في: ههنا زيد/ وثم عمرو فكذلك: هذا زيد. انتهى. ولما ذكر المصنف ما يجب فيه تأخير الحبر, وما يجب فيه تقديمه, واستدركنا عليه ما ذكره أصحابنا دل ذلك على أن ما سوى ما ذكر يجوز فيه التقديم والتأخير سواء أكان الخبر اسماً رافعاً ضمير المبتدأ أم رافعاً سببيه, أو ناصباً ضميره أو سببيه نحو: قائم زيد وقائم أبوه زيد وقام أبوه زيد, وضربته زيد, وضرب أخاها زيد هند, وهذا مذهب البصريين. وذهب الكوفيون إلى منع تقديم الخبر في هذه المسائل كلها ونسب ذلك إلى الخليل. والصحيح ما ذهب إليه البصريون, حكي س عن العرب:" مشنوء من يشنؤك وتميمي أنا وخز صفتك وأرجل عبد الله" وقال الشاعر: إلى ملك ما أمه من محارب ... أبوه, ولا كانت كليب تصاهره وقال الآخر: قد ثكلت أمه من كنت واحدة وصار منتشباً في برثن الأسد وقال: فتى ما ابن الأغر إذا شتونا وحب الزاد في شهري قماح

التقدير: من يشنؤك مشنوء, وأنا تميمي وصفتك خز وأعبد الله رجل؟ وأبوه ما أمه من محارب ومن كنت واحدة قد ثكلت أمه وابن الأعز فتى إذا شتونا. ونقل بعض أصحابنا عن ألكسائي والفراء أنهما يجيزان التقديم إذا لم يكن الضمير مرفوعاً نحو: ضربته زيد, ويمنعان ذلك مع المرفوع نحو: قائم زيد. والصحيح عن الكوفيين المنع مفرداً كان الخبر أو الجملة وفرقوا بيم: قائم زيد, وضربته زيد فمنعوا, وبين: في داره زيد فأجازوا. قالوا: لأن هذا الضمير غير معتمد عليه, ألا ترى أن المقصود: في الدار زيد, وحصل هذا الضمير بالعرض كما أنهم أجازوا: ضرب غلامه زيد لأن المقود: ضرب الغلام واتفق أن كان المضروب غلامه. وهم محجوجون بالسماع السابق ذكره. وذهب أبو الحسين بن الطراوة إلى مذهب غريب في تقديم الخبر بناه على مذهب له في الواجب والجائز والممتنع فالواجب عنده: رجل وقائم ونحوهما مما يجب أن يكون في الوجود ولا ينفك الوجود عنه. والممتنع: لا قائم ولا رجل إذ يمتنع الوجود أن يكون لا رجل فيه ولا قائم. والجائز مثل زيد وعمرو, لأنه جائز أن يكون وجائز أن لا يكون. قال: فكلام مركب من واجبين ولا يجوز, نحو: رجل قائم, لأنه لا فائدة فيه, وكلام مركب من ممتنعين أيضا لا يجوز مثل: لا رجل لا قائم لأنه /كذب ولا فائدة فيه, كلام مركب من واجب وجائز صحيح نحو: زيد قائم وكلام مركب من ممتنع وجائز لا يجوز ولا من واجب وممتنع, نحو: زيد لا قائم ورجل لا قائم لأنه كذب إذ معناه: لا قائم في

الوجود وكلام مركب من جائزين لا يجوز نحو: زيد أخوك لأنه معلوم لكن بتأخيره صار واجباً فصح الإخبار به لأنه مجهول في حق المخاطب, فالجائز يصير بتأخيره واجباً. وإذا ثبت هذه كله أنبني عليه أن لا يجوز: قائم زيد, لأن زيدا صار بتأخيره واجباً فصار الكلام مركباً من واجبين فصار بمنزلة: قائم رجل. فلا يجوز عنده تقدم الخبر إذ كان واجباً. وتأول المثل التي أوردها س, فقال:" مشنوء من يشنؤك" دعاء كأنه قيل: شنئ من يشنؤك فكأنك ابتدأن بفعل. ورد هذا التأويل بأنه دعوى, ولو كان على معنى الدعاء لنقله س. وقال: "تميمي أنا" هو جواب لمن قال: ماأنت؟ فقال: تميمي على معنى: أنا تميمي وحذف المبتدأ ثم أتى بـ"أنا" توكيدا. ورد بأن قوله "إنه جواب" دعوى, ولم يقله أحد ولا يجوز حذف المؤكد للتناقض. وقال:" خز صفتك " على معنى: من خز صفتك فابتدأت بمجرور. وكذا عمل في: هذا درهم ضرب الأمير أي: من ضرب الأمير فهو صفة للنكرة وخرجه الخليل على إضمار "هو" أي: هو ضرب الأمير , ورد بأنه يلزمه: هذا راقود الخل, لأنه في معنى: من الخل والعرب لا تقول لا ذلك. وقال: "أرجل عبد الله؟ " عبد الله: فاعل وكأنك قلت: أكامل عبد الله؟ قال: والدليل على هذا أنك لم ترد أن تسأل عن كونه رجلاً لأن ذلك معلوم. ورد ذلك فهو يخالف "أكامل" في العمل غايته أن يعمل في الحال في نحو: أنت الرجل علماً أما أن يعمل رفعاً فلا لضعفه. وأما قوله"إن الجائز بتأخيره يصير واجباً" فرد عليه بأنه لا يصير الجائز بالتأخير واجباً, ومعناه مقدما وموخراً واحد أي: هو مخبر عنه قدمته أم أخرته كما لا يصير الفاعل بتأخيره عن المفعول مفعولاً ولا المفعول بتقديمه فاعلاً.

-[ص: وتقديم المفسر إن أمكن مصحح خلافاً للكوفيين إلا هشاماً ووافق ألكسائي في جواز نحو: زيدا أجله محرز لا في نحو: زيداً أجله أحرز.]- ش: قال المصنف في الشرح:" إذا التبس المبتدأ بضمير اسم ملتبس الخبر, وأمكن تقديم صاحب الضمير صحت المسألة عند البصريين وهشام الكوفي نحو: زيداً أجله نحرز, وزيداً أجله أحرز, ووافق ألكسائي في مسألة اسم الفاعل لا في مسألة الفعل" انتهى كلامه. وقال غيره:" وتقول:/ زيداً أبوه ضرب أو يضرب جائزة من قول البصريين وهشام وخطأ من قول ألكسائي الفراء. والحجة لهما أن تقدير "زيد" أن يكون بعد الفعل فيصير التقدير: أبوه ضرب زيدا فيتقدم المكني على الظاهر فإن قلت: زيداً أبوه ضارب أجازها البصريون والكسائي, وأحالها الفراء" انتهى. قال المصنف:" وعضد أبو علي قول ألكسائي بأن قال: المبتدأ وخبره المفرد بمنزلة الفعل والفاعل, فكما لا يمتنع: زيداً أحرز أجله, لا يمتنع: زيداً أجله محرز, لأنه لم يفصل بين المنصوب وناصبه أجنبي, بخلاف: زيداً أجله أحرز فإن الأجل- وإن كان الفعل خبره- فالإخبار بالفعل على خلاف الأصل لأن الفعل وفاعله أصلهما أن يستقل بهما كلام فعد المبتدأ فبلهما أجنبياً بخلاف وقوعه قبل اسم الفاعل فإن اتصال المبتدأ به على الأصل لأنه مفرد. قال المصنف:" وقول أبي علي"إن الفعل وفاعله أصلهما أن يستقلَّ

بهما كلام, فعد المبتدأ قبلهما أجنبياً" تحيل جدلي لا ثبوت له عند التحقيق لأن الجملة لا توقع موقع المفرد إلا لتؤدي معناه وتقوم مقامه, فلا يعد ما هي له خبر أجنبيا, كما لا يعد أجنبيا ما المفرد له خبر. وقد يفرق بين الصورتين بأن اسم الفاعل لا يجب تأخيره فلا يمتنع تقديم معموله بخلاف الفعل فإن تأخيره إذا وقع خبر مبتدأ واجب فلا يجوز تقديم معموله لأن تقديم المعمول يؤذن بتقديم العامل. والصحيح ما ذهب إليه البصريون من التسوية في الجواز بين: زيدا أجله محرز وزيداً أجله أحرز بل الآخر أولى بالجواز لأن العامل فيه فعل, عامل المثال الأول اسم فاعل فمن يمنع الأول دون الآخر فقد رجح فرعاً على أصل, ومن منعهما فقد ضيق رحيبا وبعد قريباً ومن حجج البصريين قول الشاعر: خيراً المبتغية حاز وأن لم ... يقض فالسعي في الرشاد رشاد فهذا مثله: زيداً أجله أحرز" انتهى كلام المصنف. وفي البسط: إذا كان في الفاعل ضمير يعود على المفعول, وقدمتهما فقلت: زيداً أجله أحرز, وزيداً غلامه ضرب فأكثر النحويين المتقدمين يحيلها وجوزها هشام والمتأخرون منهم لأن المفعول لما تقدم عاد عليه الضمير , فكأنك قلت: أجل زيد أحرز زيداً, وإذا كان يجوز عود الضمير على ما لم يتقدم كقوله تعالى {مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِن

دَابَّةٍ} , و {بَلَغَتْ التَّرَاقِيَ} فأولى هنا, وليس المفعول كالفاعل في التقدم فإن الفاعل إذا تقدم خرج عن الفعل بخلاف المفعول فلذلك بقي مفعولاً تم بحمد الله تعالى وتوفيقه الجزء الثالث من كتاب" التذييل والتكميل" بتقسيم محققه ويليه- إن شاء الله تعالى- الجزء الرابع, وأوله: "ص: فصل: الخبر مفرد وجملة, والمفرد مشتق وغيره"

التذييل والتكميل في شرح كتاب التسهيل ألفه أبو حيان الأندلسي حققه الأستاذ الدكتور حسن هنداوي جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية- فرع القصيم الجزء الرابع دار القلم دمشق

-[ص: فصل الخبر مفرد/ وجملة، والمفرد مشتق وغيره، وكلاهما مغاير للمبتدأ لفظًا متحد به معنى، ومتحد به لفظًا دال على الشهرة وعدم التغير، ومغاير له مطلقًا دال على التساوي حقيقة، أو مجازًا، أو قائم مقام مضاف، أو مشعر بلزوم حال تلحق العين بالمعنى، والمعنى بالعين مجازًا. ولا يتحمل غير المشتق ضميرًا ما لم يؤول بمشتق، خلافًا للكسائي، ويتحمله المشتق خبرًا أو نعتًا أو حالًا ما لم يرفع ظاهرًا أو محلًا، ويستكن الضمير إن جرى متحمله على صاحب معناه، وإلا برز، وقد يستكن إن أمن اللبس، وفاقا للكوفيين.]- ش: قسم المصنف خبر المبتدأ إلى قسمين: مفرد وجملة، وذكر أن المفرد ما تسلطت عوامل الأسماء على لفظه عاريًا من إضافة وشبهها، أو متلبسًا بأحدهما، نحو: زيد ومنطلق، وعمرو صاحبك، وبشر قائم أبوه، وذكر أن قولك: "قائم أبوه" من هذا الكلام ليس بجملة عند المحققين، وذكر أن الجملة ما [تضمن جزأين ليس] لعوامل الأسماء تسلط على لفظهما أو لفظ أحدهما، نحو: زيد أبوه عمرو، وبشر حضر أخوه. وهذا التقسيم عليه جمهور النحويين. وذهب أبو بكر بن السراج إلى أن الإخبار بالظرف أو المجرور

قسم برأسه، ليس من قبيل المفرد ولا من قبيل الجملة. ذكر ذلك عنه أبو علي الفارسي في الشيرازيات والعسكريات، وزعم أنه مذهب حسن، فإذا قلت: زيد في الدار، أو زيد أمامك، فهو تركيب برأسه، وليس من تركيب الاسم مع الاسم، ولا من تركيب الاسم مع الفعل. واستدل على ذلك بأن العرب عاملتهما معاملة غير المفرد وغير الجملة، بدليل قولهم: إن في الدار زيدًا، ولو قلت: إن استقر في الدار زيدًا، أو إن مستقر في الدار زيد، لم يجز ذلك، فلو كان الظرف أو المجرور بمنزلة مستقر أو استقر لم يجز تقديمه على اسم إن، كما لا يجوز تقديمهما، وقد جاز ذلك، فدل على أنهما ليسا بمنزلتهما. قال بعض أصحابنا: "والصحيح أن تركيب الاسم والظرف أو المجرور لا بد له أن يكون في الأصل راجعًا إلى تركيب الاسم مع الاسم؛ أو الاسم مع الفعل، وإنما وجه جعله نوعًا ثالثًا مخالفة حكمه بعد الحذف لحكمه قبل الحذف فيما ذكرناه، ومخالفة الحكم لا يلزم عنها مخالفة التركيب؛ ألا ترى أنك إن راعيت المحذوف وقدرته كان الاسم المبتدأ مركبًا مع ذلك العامل المحذوف على حسب ما تقدره من اسم أو فعل؛ وإن لم تراع المحذوف لقيام الظرف والمجرور مقامه وجب أن يكون الرعي للظرف والمجرور القائمين مقام المحذوف، والظرف اسم، فليزم أن يكون المبتدأ والظرف من قبيل تركيب الاسم مع الاسم والحرف.

والصحيح عندي/ أن الرعي في هذا وأمثاله إنما هو للمحذوف لا للفظ القائم مقامه؛ ألا ترى أن قولك: سبحان الله، ومعاذ الله، وأشباههما من قبيل ما تركب فيه الاسم مع الفعل، مع أن الأفعال الناصبة لها لا تظهر لقيامها مقامها، ولو كان الرعي هنا للقائم مقام المحذوف لكان الكلام اسمًا واحدًا غير مسند، وذلك شيء لا يسوغ القول به" انتهى كلامه. والذي يرد به على ابن السراج أنا إذا قلنا: إن في الدار زيدًا، أو إن أمامك بكرًا، لا يقدر العامل في الظرف والمجرور متقدمًا عليهما؛ إذ ليس موجودًا في اللفظ، فنقول هو مقدم في اللفظ مؤخر في المعنى، فيلزم منه الفصل بيم إن واسمها، وإذا لم يكن ملفوظًا به فهو في المعنى والرتبة بعد المبتدأ، والظرف والمجرور المقدمان قبل المبتدأ دالان عليه، والدال على الشيء غير الشيء، ولذلك لم يجز: في الدار نفسه زيد، ولا: فيها أجمعون قومك؛ لأن التوكيد لا يتقدم على المؤكد، وجاز "إن في الدار زيدًا" لأن الظرف ليس هو الخبر في الحقيقة، إنما هو متعلق بالخبر، والخبر منوي في موضعه، ولذلك عدل س في قولهم: فيها قائم رجل، و: لمية موحشًا طلل .......................... إلى أن جعلها حالًا من نكرة، ولم يجعلها حالًا من الضمير الذي في الخبر؛ لأن الخبر مؤخر في النية، وهو العامل في الحال، وهو معنوي، والحال لا تتقدم على العامل المعنوي، فهذا يدل على أن الظرف والمجرور ليس هو الخبر في الحقيقة. وسيأتي الكلام على تمام هذه

المسألة - إن شاء الله- عند تعرض المصنف لشيء من هذا في هذا الباب. وتلخص مما ذكرناه أن الظرف والمجرور ليس من قبيل ما هو قسم برأسه؛ إذ لا يجوز تقديم العامل فيهما على اسم "إن" تقديرًا، بل نقدره مؤخرًا، وإذا قدرناه مؤخرًا فهل يقدر باسم فاعل أو فعل؟ سيأتي الكلام في ذلك إن شاء الله. وقوله والمفرد مشتق وغيره المشتق هو المبني من المصدر أو من الاسم غير المصدر غير المصدر دالًا على ما اشتق منه وعلى المحل القائم به معنى المصدر، والاسم غيره، مثاله: ضارب ومضروب ومضرب ونحو ذلك، فهذه مبينات من المصدر- وهو الضرب- ودالة عليه وعلى المحل الذي قام به معنى المصدر؛ إذ معنى المصدر موجود فيها كلها. ومثال ما بني من الاسم غير المصدر قولهم: أظفر، هو مأخوذ من الظفر، وليس الظفر مصدرًا، وهو دال على محل قام به معنى ذلك الاسم. وقال المصنف في الشرح: "المراد هنا بالمشتق ما دل على متصف مصوغًا من مصدر مستعمل أو مقدر، نحو: ضارب ومضروب وحسن وأحسن منه، وربعة وحزور وقفاخر من الصفات التي لا مصادر لها ولا أفعال، فيقدر لها مصادر كما تقدر للأفعال التي لم تستعمل لها مصادر. وغير المشتق ما عري مما رسم به المشتق" انتهى.

والذي نقول/ أن ربعة وحزورًا وقفاخرًا ليست بمشتقة من مصادر أهملت، ولا نقدر لها مصادر، وإن كانت تستعمل أوصافًا، لأن الإخبار بها لا يستلزم اشتقاقها؛ إذ المخبر به يكون مشتقًا وغير مشتق، فإن استعملت نعوتًا أو أخبارًا رافعة ما بعدها فنقول ليست مشتقة، ولكنها أجريت مجرى المشتق، وقد قال المصنف ذلك في باب النعت، قال لما قسم النعت إلى مفرد وجملة قسم المفرد لمشتق لفاعل أو مفعول، ولجار مجرى المشتق أبدًا، ولجار مجراه في حال دون حال. فذكر من الجاري مجراه أبدًا قولهم: لوذعي بمعنى فطن، وجرشع بمعنى غليظ، وصمحمح بمعنى شديد، وشمردل بمعنى طويل، وذي بمعنى صاحب، وغير ذلك، فكذلك نقول إن ربعة وحزورا وقفاخرًا هي جارية مجرى المشتق، فربعة بمعنى مستوى القامة، وحزور بمعنى [مقارب البلوغ]، وقفاخر بمعنى [حسن الخلق]. وقوله وكلامهما- أي: المشتق وغير المشتق- مغاير للمبتدأ لفظًا متحد به معنى نحو: زيد قائم، وهذا بكر. وقوله ومتحد به لفظًا دال على الشهرة وعدم التغير فمثاله مشتقًا قول بعض طيئ: خليلي خليلي دون ريب، وربما ألان امرؤ قولًا، فظن خليلًا وقال علقمه: ومطعم الغنم يوم الغنم مطعمه أنى توجه، والمحروم محروم

وقولهم: المشؤوم مشؤوم. ومثاله غير مشتق قوله: أنا أبو النجم وشعري شعري وقالوا: "كان ذلك والناس ناس"، وقال: إذ الناس ناس، والبلاد بغرة وإذا أم عمار صديق مساعف وذكر الخليل: "أنت أنت"، وقال الشاعر: هذا رجائي مصر عند عابرة وأنت أنت، وقد ناديت من كثب وأنشد أبو زيد: رقوني، وقالوا: يا خويلد له ترع فقلت: وأنكرت الوجوه: هم هم فهذا- وإن اتحد بالمبتدأ لفظًا- فإنه فيه من حيث المعنى زيادة بها صح أن يقع خبرًا، فكأنه قال: خليلي هو الخليل المصافي الذي لا يتغير في حضور ولا غيبة. وشعري هو الشعر المعروف بالجزالة والجودة وكذلك باقيها، وهو على معنى أنه على حاله، لم يتغير، فذلك أفاد. وقد

جاء في جملة الجزاء نظير جملة الشرط، نحو: "فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله"، والمعنى: فقد وقعت موقعها لما تحصل فيها من جزيل/ الثواب. وقوله ومغاير له مطلقًا دال على التساوي حقيقة أو مجازًا مثال الأول قوله تعالى: {وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ}، وعنى بالتساوي التساوي في الحكم، أي: وأزواجه في التحريم والاحترام مثل أمهاتهم. ومثال المجاز قوله: ومجاشع قصب هوت أجوافها لو ينفخون من الخؤورة طاروا وقوله أو قائم مقام مضاف مثاله: {هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللَّهِ}، {وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آَمَنَ}، التقدير: ذوو درجات، وبر من آمن. قال المصنف: "ويدخل في هذا- أي: في القائم مقام المضاف- الدال على التساوي مجازًا، فيقدر "مثل" مضافًا إلى الخبر في قولهم: زيد وزهير، ومجاشع قصب، ونحو ذلك" انتهى. وقوله أو مشعر بلزوم حال تلحق العين بالمعنى والمعنى بالعين مجازًا مثال الأول: زيد صوم، تريد المبالغة، جعلته نفس الصوم، ولا يراد بذلك: ذو صوم؛ لأن صاحب الصفة يصدق على القليل والكثير، وزيد صوم لا يصدق إلا على المدمن الصوم.

ومثال الثاني: نهارك صائم، وليلك قائم، ومنه {وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا}، أنشد س: أما النهار ففي قيد وسلسلة والليل في جوف منحوت من الساج ومنه: شعر شاعر، وموت مائت. هذه كلها مثل المصنف في شرحه. وهذا التقسيم في الخبر المفرد تكثير من المصنف. وقد قسمه أصحابنا إلى ثلاثة أقسام: قسم هو الأول، نحو: زيد أخوك. وقسم يتنزل منزلته من جهة المعنى، نحو: زيد حاتم جودًا. وقسم واقع موقع ما هو الأول، وهو الظرف والمجرور، نحو: زيد أمامك، وزيد في الدار. وهذه الأقسام التي كثر بها المصنف راجعة إلى القسمين الأولين من تقسيم أصحابنا في التحقيق. وقوله ولا يحتمل غير المشتق ضميرًا مثاله: هذا أسد، تشير إلى السبع، فأسد جامد لا ضمير فيه. وقوله ما لم يؤول بمشتق يعني: فيتحمل إذ ذاك الضمير، ويرتفع به، فإذا قلت: زيد أسد، تريد به معنى "شجاع" فإنه فيه ضمير يعود على المبتدأ. ومن ذلك قول العرب: مررت بقوم عرب أجمعون، ومررت

بقاع عرفج كله، فعرب وعرفج جامدان إلا أنهما مؤولان بالمشتق، فعرب أول بفصحاء، وعرفج أول بخشن، فلذلك تحملا ضميرًا، وأكد ذلك الضمير المرفوع بقولهم: "أجمعون" وبقولهم "كله"، وهما مرفوعان، فعلى هذا تقول: هذا القاع عرفج كله، فيكون كله تأكيدًا للضمير المستكن في عرفج لأنه ضمن معنى خشن. وكذلك: هؤلاء عرب أجمعون؛ لأنه ضمن معنى فصحاء. ولتأويله بمعنى المشتق إذا أسند إلى ظاهر رفعه، فأجاز س أن تقول: مررت برجل أسد أبوه، بالجر إذا أردت/ أن تجعله شديدًا مثله، فإذا قلت: مررت بدابة أسد أبوها، لم يكن عند س إلا الرفع؛ لأنك تخبر بأن أباها هو السبع. ومن ذلك قول الشاعر: وليل يقول الناس من ظلماته سواء صحيحات العيون وعورها كأن لنا منه بيوتًا حصينة مسوحًا أعاليها وساجًا كسورها أول مسوحًا وساحبًا بـ "سود"، فرفع بهما الظاهر. وإذا رفع الظاهر لتأوله بمشتق فرفع المضمر أولى؛ إذ قد وجدنا ما لا يرفع الظاهر، ويرفع المضمر، كأفعل التفضيل في أكثر الكلام.

قال المصنف في الشرح: "وإذا رفع الجامد لتأوله بمشتق ضميرًا وظاهرًا جاز أن ينصب تمييزًا وحالًا بعده، كقول الشاعر: تخبرنا بأنك أحوذي وأنت البلسكاء بنا لصوقًا والبلسكاء: حشيشة تلصق بالثياب كثيرًا. وقوله خلافًا للكسائي هذا راجع للمسألة الأولى، وهي قوله: "ولا يتحمل غير المشتق ضميرًا" لا للمسألة الثانية، وهي قوله: "ما لم يؤول بمشتق". وذكر المصنف هنا الخلاف منسوبًا إلى الكسائي، قال المصنف: "وهذا القول وإن كان مشهوراً انتسابه إلى الكسائي دون تقييد فعندي استبعاد لإطلاقه إذ هو مجرد دليل، والأشبه أن يكون حكم بذلك في جامد عرف لمسماه معنى ملازم لا انفكاك عنه، كالإقدام والقوة للأسد، والحرارة والحمرة للنار" انتهى. وهذا الذي قيده به هو تأويله بالمشتق، فيكون إذ ذاك مما لا خلاف فيه. وقد نقل صاحب البسيط وصاحب كتاب الإنصاف الخلاف في هذه المسألة منسوبًا للكوفيين والرماني لا للكسائي وحده. ومن الأقوال ما هو ضعيف جدًا كهذا القول، وكم للكوفيين من قول ضعيف ودعاو لا يقوم على شيء منها دليل، من ذلك دعواهم أن "منذ" أصلها: من إذ، ودعواهم أن "كم" أصلها كاف التشبيه وما الاستفهامية، ودعواهم أن

"اللهم" أصله: يا ألله أمنا بخير، وغير ذلك. وقد رد هذا المذهب بأنه لو تحمل ضميرًا لجاز العطف عليه مؤكدًا، فقلت: هذا أخوك هو وزيد، كما تقول: زيد قام هو وعمرو، ولصح أن يكون صفة، والجامد لا يكون صفة. وقوله ويتحمله المشتق هذا لا يصح على الإطلاق؛ لأن لنا مشتقًا لا يتحمل ضميرًا كالآلات، نحو مفتاح ومكسحة، واسم الزمان والمكان كمغزى، وما بني على مفعلة للتكثير، نحو مسبعة ومأسدة، وإنما يتحمل الضمير من المشتقات ما جاز أن يعمل عمل الفعل. وقوله خبرًا أو نعتًا أو حالًا مثال ذلك: زيد قائم، زيد رجل عاقل،/ زيد منطلق مسرعًا، ففي قائم وعاقل ومسرع ضمائر مرفوعة بها. وقوله ما لم يرفع ظاهرًا لفظًا مثاله: الزيدان قائم أبوهما. وقوله أو محلًا مثاله: زيد ممرور به. وقوله ويستكن الضمير إن جرى متحمله على صاحب معناه مثال جريه على صاحب معناه: زيد هند ضاربته. وظاهر كلام المصنف يدل على أن الصفة إذا جرت على من هي له استكن الضمير، وأنه لا يبرز، وزعم في الشرح أنه يستكن الضمير بإجماع لعدم الحاجة إلى إبرازه، وليس كذلك، بل يجوز في الصفة إذا جرت على من هي له استكنان الضمير، كالمثال الذي مثلناه، وإبرازه، فإذا أبرزته قلت: زيد هند ضاربته هي، وهو إذ ذاك يتخرج إعرابه على وجهين: أحدهما: أن يكون تأكيدًا للضمير المستكن في الصفة.

والوجه الثاني: أن يكون فاعلًا بالصفة على حد إعرابه وبروزه إذا جرت الصفة على غير من هي له. وقد أجاز س في نحو: "مررت برجل مكرمك هو" أن يجعل "هو" تأكيدًا للضمير المستكن في "مكرمك"، وأن يكون فاعلًا بالصفة. والفرق بين التقديرين يظهر في التثنية والجمع، فعلى الفاعل تقول: مررت برجلين مكرمك هما، وعلى التأكيد: مكرمَيك هما. وفي الإفصاح: أجاز بعض أهل عصرنا أن تقول: زيد عمرو ضاربة هو، فيكون جاريًا على "عمرو"، وهو له، وترفع الضمير به، أو تجعله توكيدًا. واحتج بعموم قول س والنحويين. ولا يجوز عندي على قول من يرى أن ذلك لرفع اللبس؛ لأنهم لم يكونوا ليرفعوا اللبس إذا وقع، ثم يفعلون ما لا يلزم، فيرفعون به اللبس، فهذا نقض لما اعتزموا عليه. وقوله وإلا برز أي: وإن لم يجر متحمله على صاحب معناه، بل جرى على غير من هو له، برز الضمير، وسواء ألبس أو لم يلبس، هذا مذهب البصريين. مثاله إلباسه: زيد عمرو ضاربه هو، فلو حذفنا "هو" لتبادر الذهن إلى أن "ضاربه" جرى خبرًا لعمرو، وتكون الهاء لزيد، ويكون المعنى: عمرو ضارب زيد؛ إذ أصل الخبر أن يكون للمبتدأ الذي هو خبر عنه، فإذا أردت معنى أن زيدًا هو ضارب عمرو بهذه العبارة ألبس إن لم تأت بـ "هو"، فيكون بإبراز "هو" فرقًا بين المعنيين، ويتعين هذا المعنى الثاني، ويزول الإلباس. ومثال ما لا يلبس: زيد الفرس راكبه هو، فلو حذفنا "هو" لم يلبس.

فلو كان الخبر الجاري على غير من هو له مسندًا لغير ضمير المبتدأ، فلا ضمير فيه، فيبرز إذ قد أسند إلى غيره، ومثال ذلك: زيد الفرس راكبه أخوه، فـ "راكبة" خبر جرى على الفرس. ولو كان الخبر فعلًا فلا نأتي بالضمير على أنه فاعل بالفعل، بل يجوز أن نأتي به على طريق التأكيد للضمير المستكن في الفعل،/ مثال ذلك: زيد هند يضربها، ويجوز أن تقول: يضربها هو، على سبيل التأكيد للضمير المستكن في "يضربها" العائد على "زيد". هكذا أطلق معظم النحويين في الفعل أنه لا يجب إبرازه. ويعرض اللبس في الفعل كما يعرض في الصفة، وذلك إذا كان التساوي من كل جهة، نحو: زيد عمرو يضربه، وهند دعد تضربها، والزيدان البكران ضرباهما؛ ألا ترى أن الفعل في كل هذا يحتمل أن يكون للثاني، وهو المتبادر للذهن، ويحتمل أن يكون للأول. فإذا خيف اللبس في الفعل كرر الظاهر الذي هو الفاعل ليزول اللبس، فتقول إذا ألبس: زيد عمرو يضربه زيد، فـ "يضربه زيد" في موضع خبر "عمرو"، والرابط له به الضمير العائد عليه، و"عمرو" وخبره في موضع خبر "زيد"، والرابط له تكرار لفظ المبتدأ الذي هو "زيد"، ولزم الإظهار لأنك لو قلت: "زيد عمرو يضربه" لم يُدرَ هل الفعل لعمرو أو لزيد. وزعم المصنف في الشرح أنه إذا خيف اللبس في الفعل وجب الإبراز، كقولك: غلام زيد يضربه هو، إذا كان المراد أن زيدًا يضرب الغلام. وما زعمه المصنف من إبراز الضمير في هذه المسألة مخالف لما تقدم من ذكر الظاهر الذي هو الفاعل. وعله بروز الضمير في الوصف دون الفعل أنه إذا تحتملته الصفة لم

يكن له ما يبينه إلا جريان الصفة على من هي له إذ الضمير ليس له صورة في اللفظ، بل هو مستتر في الصفة، فاحتيج إذا جرت الصفة على غير من هي له إلى إبرازه؛ إذ ليس له إذ ذاك ما يبينه إلا خروجه إلى اللفظ وظهوره، وإذا خرج إلى اللفظ لزم انفصاله لأن الصفات لم تستحكم في اتصال ضمائر الرفع بها استحكام الفعل في ذلك؛ لأن الفعل يتصل به الضمير على وجهين: أحدهما: أن يكون مستترَا في الفعل. والآخر: أن يلفظ به، ويكون كالجزء من الفعل، ولذلك سكنوا له آخر الفعل في مثل ضربت، والصفة لا يتصل بها الضمير إلا أن يكون مستترًا، ولا يلفظ به، ويجعل كالجزء منها، فلما لزم إظهاره في حال جريانها على غير من هي له لما ذكرناه لزم انفصاله، وليس الفعل كذلك؛ إذ لا يعدم مبينًا له، إما جريانه على من هو له نحو: زيد قام، أو اللفظ الموضوع له نحو: قاما، وقاموا، أو العلامات اللاحقة للفعل نحو: أقوم ونقوم وتقوم ويقوم، فلم يحتج إلى إبرازه، وإن جرى على غيره من هو له، إلا إن خفيف لبس ضمير الغيبة كالمسألة التي تقدمت، فيبرز الظاهر. وإذا برز الضمير في الصفة الجارية على غير من هي له فهو مرفوع بالصفة على الفاعلية، ولا يقال إن الفاعل مستكن في الصفة، والضمير البارز توكيد؛ إذ لو كان كذلك لم يلزم لأن/ التوكيد لا يلزم، ولوجبت تثنية الصفة وجمعها، فكنت تقول: الهندان الزيدان ضاربتاهما هما، والهندات الزيدون ضارباتهم هن، فلما لم تقل ذلك العرب إلا في لغة أكلوني البراغبث، وقالت: الهندان الزيدان ضاربتهما هما، فأفردت

ضاربة، ولم تثن، دل على أنه ليس في الصفة ضمير مستتر، بل هذا الضمير المنفصل مرفوع بالصفة.# وإنما أفردت العرب الصفة الرافعة للضمير المنفصل في جميع الأحوال لجريانها مجرى الفعل، فكما أن الفعل إذا رفع الضمير المنفصل لا تتصل به علامة تثنية ولا جمع، فكذلك الصفة، تقول: الزيدان ما قام إلا هما، والزيدون ما ضرب عمرًا إلا وهم. وكذلك لو فصل ضمير الفاعل من الفعل في الضرورة لم تتصل به علامة تثنية ولا جمع، نحو: .............. إلا يزديهم حبًا إلى هم وعومل الضمير المنفصل معاملة الظاهر فيما ذكرناه لأن العرب تحكم له بحكم السببي وهو ظاهر، فيقولون: إن زيدًا لم يضربه إلا هو، فيعدون فعله إلى مضمره المتصل، كما يقول: إن زيدًا لم يضربه غلامه، وليس كذلك ضمير الرفع المتصل بدليل أنهم لا يعدون فعله إلى ضميره المتصل في غيره فقدت وعدمت وباب ظننت. وقال السهيلي: كل صفة جرت على غير من هي له فأصلها أن لا تجري عليه، وأن تكون خبرًا عمن هي له، فقولك: مررت برجل ضاربه عمرو، الأصل: عمرو ضاربه، وكذلك: زيد مررت برجل محبه هو، أصله هو محبه، ثم تقول: "محبه هو" على أن يكون خبرًا مقدمًا، ثم أجريته صفة للأول، وجعلت المبتدأ فاعلًا، فتركته منفصلًا على ما كان يلزمه إذ كان مبتدأ إشعارًا بحكم أصله. وقوله وقد يستكن إن أمن اللبس وفاقًا للكوفيين إذا جرت الصفة على غير من هي له ففي ذلك خلاف.

مذهب البصريين أنه لا بد من بروز الضمير فيها، ألبس أو لم يلبس، كما ذكرناه إلا في مسألة واحدة، وهي قولك: مررت برجل حسن أبواه جميلين، فجميلين صفة جارية على رجل، وليست له بل للأبوين، ولم يبرز الضمير فيها، فيقال: جميلين هما، أجروا الضمير الرابط هنا مجراه الصفة الجارية على الموصوف، فاستتر، وساغ ذلك، وإن لم يعد على الموصوف، من حيث كان عائدًا على الأبوين المضافين إلى ضميره، فصار لذلك كأنه من جهة المعنى قد قال: مررت برجل حسن أبواه جميل أبواه. ويذهب الكوفيين أن الضمير إما يتقدم له ذكر أو لا يتقدم، فإن لم يتقدم برز، نحو: مررت برجل ضاربه أنت. وإن تقدم فإما أن يلبس أو لا: إن ألبس برز، نحو: زيد عمرو ضاربة هو، إذا أردت أن زيدًا ضرب عمرًا؛ لئلا يتلبس بأن عمرا ضرب زيدًا. وإن لم يلبس جاز أن يبرز وأن لا يبرز، نحو قولك: يدك باسطها أنت، ويجوز: يدك باسطها، وهند زيد ضاربته هي، ويجوز: هند زيد ضاربته./ واستدل لمذهبهم في جواز ترك إبراز الضمير إذا يلبس بقول الشاعر: وإن امرأ أسرى إليك، ودونه سهوب وموماة وبيداء سملق لمحقوقة أن تستجيبي لصوته وأن تعلمي أن المعان موفَّق

وبقول الآخر: ترى أرباقهم متقلديها إذا صدئ الحديد على الكماة ويروي: حمي الحديد. وقول الآخر: قومي ذرا المجد بانوها، وقد علمت بكنه ذلك عدنان وقحطمان وبقول الآخر: إن الذي لهواك آسف رهطه لجديرة ان تصطفيه خليلًا وحكي الفراء عن العرب: "كل ذي عين ناظرة إليك"، وقال تعالى: (فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ)، وقرأ ابن أبي عبلة: "حتى يؤذن لكم إلى طعام غير ناظرين إناه" بجر (غير). فمحقوقة صفة للمرأة، وقد جرت على "امرئ"، ولم يبرز الضمير، فيقول: لمحقوقة أنت. ومتقلديها قد جرى على "الأرباق"، وليس لها، ولم يبرز الضمير، فيقول: متقلديها هم. و"بانوها" جرى على "ذرا المجلد"، وليس له، ولو برز لقال: بانوها هم. ولجديرة صفة للمرأة، وقد جرت على "الذي آسف"، ولم يبرز الضمير، فيقول: لجديرة أنت. و"ناظرة" خبر عن "كل"، وليس له، فلو أبرز لقال: ناظرة هي إليك.

و (خاضعين) صفة لأرباب الأعناق، وجرت على الأعناق، ولم يبرز الضمير، فيقول: خاضعين هم. و (غير ناظرين) صفة لـ "طعام"، وليس له، ولو برز الضمير لقال: غير ناظرين إناه أنتم. وقد تأول البصريون هذه الشواهد بإخراجها عن ظاهرها بتأويلات متكفلة، قالوا: لا ضمير مستكن في قوله: "لمحقوقة"، بل قوله: "أن تستجيبي" هو المرفوع بمحقوقه، وأنث على المعنى، والتقدير: لمحقوقة استجابتك لصوته. وكذلك لجديرة، أي: لجديرة اصطفاءتك له خليلًا. وقالوا أيضًا: لمحقوقة ولجديرة خبر مبتدأ محذوف، والتقدير: لانت محقوقة بأن تستجيبي، ولأنت جديرة بأن تصطفيه. وقالوا أيضًا: هو جملة في موضع خبر إن في البيت قبله، يعنون أن قوله: "لمحقوقة" خبر مقدم، و"أن" تستجيبي" في موضع المبتدأ، كما تقول: أقائم زيد؟ وقالوا في "ترى أرباقهم متقلديها": إنه يخرج على إقحام الأرباق، كأنه قال: تراهم متقلديها، أي متقلدي الأرباق، والمضاف إلي الشيء يعامل معاملة ما أضيف إليه إذا حاز أن تلفظ بما أضيف إليه وأنت تريده، نحو قولهم: اجتمعت أهل اليمامة، لأنك تقول: اجتمعت اليمامة، وأنت تريد أهلها. وكذلك أيضًا يجوز: ترى أرباقهم متقليدها؛ لأنك تقول: تراهم متقلديها، أي: متقلدي الارباق. وقالوا أيضًا في تخريجه: إنه على حذف مضاف، أي: ترى أصحاب أرباقهم متقلديها، وروعي ذلك/ المحذوف. وقالوا في "قومي ذرا المجد بانوها": إن التقدير: قومي بانون ذرا

المجد بانوها. وفي جواز مثل هذا التخريج خلاف بين أبي علي وأبي الفتح، سيذكر في الاشتغال إن شاء الله. وقالوا في قول العرب "كل ذي عين ناظرة إليك": أي ألحاظ أو أجفان كل ذي عين، فهو على حذف مضاف. وقالوا في (فظلت أعناقهم لها خاضعين) " إنها تتخرج على إقحام الأعناق؛ لأنه يجوز: فظلوا لها خاضعين، في معنى (فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ). وقالوا: يجوز أن يراج بالأعناق جمع عنق الجماعات، تقول: أتانا عنق من الناس، أي جماعة منهم، فكأنه قال: فظلت جماعتهم لها خاضعين. ولما كانت هذه التأويلات متكفلة وافق المصنف مذهب الكوفيين في أنه لا يجب إبراز الضمير إذا لم يلبس. ومثال الإبراز المجمع عليه قول الشاعر: لكل إلفين بين بعد وصلهما والفرقدان حجاه مقتفيه هما حجا كل شيء: ناحيته. وحكم هذا الوصف إذا جرى على غير من هو له خبرًا أو نعتًا أو حالًا، جاز فيه هذا التفصيل والخلاف المذكور. ولم يتعرض المصنف لمطابقة الخبر للمبتدأ في تذكيره وإفراده وفروعهما. ونقول: بالنسبة إلى التذكير والتأنيث إن كان الأول هو الثاني من جهة المعنى فالمخالفة تجوز بحسب اللفظ، نحو: الاسم كلمة، وفاطمة

هذا الرجل، إذا كان "فاطمة" اسمه. وإن كان غيره صفة فالموافقة، وقد يخالف إن كان التأنيث غير حقيقي، كقوله: .................. والعين بالإثمد الجاري مكحول على تقدير: والعضو أو شيء مكحول. وإن كان جامدًا فلا يكون إلا على التحقير نحو: هذا الرجل امرأة، أو التنكير نحو: هذه المرأة رجل. وأما بالنسبة إلى الإفراد والجمع فإن كان المبتدأ مفرد اللفظ والمعنى فالمطابقة، نحو: زيد قائم، إلا إذا كان ذا أجزاء، فتجوز المخالفة حيث سمع، نحو: هذا الثوب أخلاق، وهذه البرمة أعشار، ولا يقاس عليه: هذا الرجل أعضاء، وإن كان منقسمًا إلى أعضائه. وإن كان عكسه: فإن كان الخبر مما يقبل التثنية والجمع جامدًا فلا يجوز إلا على نحو: هذا الرجل أسد، فتقول: الرجال رجل واحد، تريد في أنهم على قلب واحد أو على مذهب واحد. أو مشتقًا فالمطابقة، نحو: الرجال قيام، ولا يكون مفردًا إلا بتقدير موصوف مفرد اللفظ دون المعنى، نحو قوله: ألا إن جيراني العيشة رائح دعتهم دواع للهوى ومنادح

أي: جمع رائح، وليس جيدًا. وقيل: إن أرادت بالجمع كليه جاز إفراد الخبر، نحو قوله: نصبن الهوى، ثم ارتمين قلوبنا بأعين أعداء، وهن صديق أي: وكل واحدة منهن صديق. قيل: ومنه (وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا)، لم تأت "رفقاء" لأنه أراد: كل واحد منهم رفيق. وإن لم يقبل كأفعال التفصيل: فإن كان بـ "من" فهو في معنى الجمع، أو مضافًا إلى جامد اسم جمع جاز، نحوه: هؤلاء أول حزب، وأحسن قبيل. أو غيره لم يجز أن تقول: هؤلاء أول رجل، بل: أول الرجال. أو إلى مشتق فمجيز بلا تأويل، نحو: هؤلاء أول طاعم، ومجيز بتأويل حذف اسم الجمع، أي: أول حزب طاعم، وهو المبرد. أو على معنى الفعل، أي: أول من طعم. وإن كان المبتدأ مفرد اللفظ مجموع المعنى، والخبر صفة، جاز أن يفرد، نحو: الجيش منهزم، أو جامد فلا يفرد إلا بحسب القصد، قال الزجاج: "الجيش رجل، يكره لتوهم التقليل. أما إذا عرف المعنى فيسوغ، نحو: جيشهم إنما هو فرس ورجل، تريد: خيل ورجال، أي: ليسوا بكثيري الأتباع".

وإن كان عكسه، أي: مجموع اللفظ مفرد المعنى، كرجل يسمى زيودًا، فحكمه حكم ما هو مفرد في اللفظ والمعنى. -[ص: والجملة اسمية وفعلية، ولا يمتنع كونها طلبية، خلافًا لابن الأنباري وبعض الكوفيين، ولا قسمية، خلافًا لثعلب، ولا يلزم تقدير قول قبل الجملة الطلبية، خلافًا لابن السراج. وإن اتحدت بالمبتدأ معنى هي أو بعضها، أو قام بعضها مقام مضاف إلى العائد، استغنت عن عائد، وإلا فلا.]- ش: مثاله الاسمية: زيد أبوه قائم، ومثال الفعلية: زيد خرج أخوه. ويندرج في الجملة الاسمية الجملة المصدرة بحرف عامل في المبتدأ، نحو: "ما" الحجازية و"إن"، نحو: زيد ما هو قائمًا، وزيد إنه قائم، وزيد إن عمرًا ضاربه. وهذا مذهب البصريين، أعني أنه يجوز وقوع "إن" المكسورة وما عملت فيه موقع خبر المبتدأ. ومنع ذلك الكوفيون. ويدخل فيها الجملة المصدرة باسم الشرط غير معمول لفعله، نحو: زيد من يكرمه أكرمه. ويدخل في الجملة الفعلية الجملة الشرطية المصدرة بحرف أو اسم شرط معمول، نحو: زيد إن يقم أقم معه، وزيد أيهم يضرب أضربه، والمضارع العامل في ظرف مستقبل، نحو: زيد يقوم غدّا، اتفاقًا، والداخل عليه حرف التنفيس باختلاف، نحو: زيد سيقوم أو سوف يقوم، أجاز ذلك الجمهور، ومنعها بعض المتأخرين. والفعلية المتقدم عليها معمولها نحو: زيد عمرًا ضرب أو يضرب، وبعض النحويين منع من ذلك. وقوله خلافًا لابن الأنباري أي: ذهب ابن الانباري ومن وافقه من الكوفيين/ إلى أن الجملة الطلبية لا تكون خبرًا للمبتدأ؛ نظرًا إلى أن الخبر

حقه أن يكون محتملًا للصدق والكذب، والجملة الطلبية ليست كذلك. وهذا قول فاسد لانا قد أجمعنا على أن خبر المبتدأ يكون مفردًا، والمفرد لا يحتمل الصدق والكذب، فكما يقع المفرد- وهو لا يحتمل الصدق والكذب- خبرًا، فكذلك الجملة التي لا تحتمل الصدق والكذب، فإن الخبر يقال باشتراك، لا يقال: إنما ساغ جعل المفرد خبرًا لأنه ينتظم منه مع ما قبله خبر يحتمل الصدق والكذب، والأمر والنهي وما أشبههما لا ينتظم منهما مع المبتدأ قبلها خبر؛ لأنا نقول: قد يقع الخبر أيضًا اسمًا لا ينتظم منه مع المبتدأ خبر، نحو: كيف زيد؟ وأين عمرو؟ ومتى القتال؟ فلا يمتنع قياس الجملة الطلبية على هذا لو كان غير مسموع، فكيف وهو مسموع من لسان العرب، قال الشاعر، وهو رجل من طيئ: قلت: من عيل صبره كيف يسلو صاليًا نار لوعة وغرام وقوله خلافًا لثعلب روى عن ثعلب انه منع الإخبار عن المبتدأ بالجملة القسمية. وهو محجوج بالسماع، قال تعالى: (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا)، (وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا)، (وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ)، وقال الشاعر: جشأت، فقلت: اللذ خشيت ليأتين وإذا أتاك فلات حين مناص وقوله خلافًا لابن السراج إنما أضمر القول في نحو: زيد اضربه، وإن

التقدير: زيد أقول لك اضربه؛ لأن "اضربه" لا يحتمل الصدق والكذب، فلا يكون خبرًا، وقد قدم الرد على هذا في الرد على ابن الأنباري. والمتفق على وقوعه خبرًا من الجمل الجملة الخبرية، وقد يعرض لها ما لا يسوغ وقوعها خبرًاـ كدخول "لكن" عليها، أو "بل"، أو "حتى". وبعض الجمل غير الخبرية لا يجوز أن تقع خبرًا، وذلك جملة النداء، فلا يجوز" زيد يا أخاه، ولا: زيد يا عمرو إليه، تريد: أدعوك إليه، فلو قلت: "زيد يا عمرو قم إليه" لكان الخبر "قم إليه" و"يا عمرو" اعتراض. وقوله وإن اتحدت بالمبتدأ معنى هي الجملة المتحدة بالمبتدأ معنى هي كل جملة مخبر عن مفرد يدل على جملة كحديث وكلام، ومنه ضمير الشأن. والقصة، والمضاف إلى حديث أو قول وما أشبهه من ذلك، نحو: "أفضل ما قلته أنا والنبيون من قبلي لا إله إلا الله"، وقولهم: "هجيري أبي بكر لا إله إلا الله"، أي: قوله في الهاجرة لا إله إلا الله. وقوله أو بعضها الجملة المتحد بعضها بالمبتدأ معنى هي كل جملة تتضمن/ ما يدل على ما يدل عليه المبتدأ بإشارة أو غيرها، نحو قوله: (وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ)، وقوله: (وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ)، فيحصل له ما يحصل بالضمير

مع مزيد الثناء، ويكثر الاتحاد لفظًا ومعنى تعظيمًا لأمر المحدث عنه أو المحدث به، كقوله تعالى: (وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ). وقوله أو قام بعضها مقام مضاف إلى العائد مثاله قوله: ()، والمراد: يتربص أزواجهم، فأقيم ضمير الأزواج مقام الأزواج المضافة إلى ضمير (الذين)، ومثله قول الشاعر: الألى يؤرثون مجدًا، ويعنو ن بتأثيليه يدوم أثيلًا أراد: يدوم مجدهم أثيلًا. وتأول بعض أصحابنا الآية على حذف مضاف معتد به دون اللفظ، أي: ونساء الذين يتوفون منكم ويذرون أزواجًا يتربصن، فيكون كقوله: يسفون من ورد البريص عليهم بردى يصفق بالرحيق السلسل بردى: موضع، يريد: ماء بردى، فأعاد الضمير من "يصفق" على المحذوف لا على بردى. وقال: وقد يكون على ما قال س في:

(وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ) أي: مما يتلى عليكم الذين يتوفون منكم، ثم ابتدأ: يتربصن، لتفسير المتلو. وقال الأخفش: التقدير: يتربصن بعدهم. ويقدر المبرد والزجاج: أزواجهم يتربصن. وقوله استغنت عن عائد يعني به الضمير. وقوله وإلا فلا أي: وإن لم تكن الجملة متحدة بالمبتدأ من حيث المعنى لا هي ولا بعضها، ولا قام بعضها مقام مضاف إلى العائد، فلا تستغني عن العائد، مثاله: زيد قام غلامه، وزيد أبوه قائم. وقد رتب المصنف الكلام في الجملة الواقعة خبرًا للمبتدأ بالنسبة إلى الرابط الذي يربطها بالمبتدأ ترتيبًا قلقًا، غير مصطلح القوم، ولا جامعًا للروابط، ولا منبهًا على ما اتفقوا عليه منها، ولا ما اختلفوا فيه، ونحن نذكر ذلك على الاستيفاء، فتقول: الجملة الواقعة خبرًا إما أن تكون نفس المبتدأ في المعنى أو لا، فإن كانت نفس المبتدأ في المعنى فلا رابط، نحو: هجيري أبي بكر لا إله إلا الله"، وهو زيد منطلق. وإن لم تكت نفس المبتدأ في المعنى فلا بد من رابط، وزعم الفراء، فأما "سواء علي أقمت أم قعدت" فمذاهب:

الأول: أن "سواء" مبتدأ، والجملة خبر، ولم تحتج إلى رابط لأنها المبتدأ في المعنى والتأويل؛ إذ التقدير: سواءٌ علي قيامك أو قعودك، وهو مذهب الزجاج وأبي علي. الثاني: أن/ الجملة هي المبتدأ، وهي في تقدير اسم مفرد، و"سواء" الخبر، وبه قال جماعة، وهو ظاهر قول أبي علي في "الإيضاح"، ومذهب الزمخشري. والثالث: أن "سواء" مبتدأ، والجملة في موضع الفاعل، والتقدير: استوى عندي أقمت أم قعدت، أي: قيامك وقعودك، كقولهم: "نولك أن تقوم"، في معنى: ينبغي لك أن تقوم، قاله بعض النحويين. والرابط المتفق عليه خمسة أشياء: ضمير المبتدأ، نحو: زيد قام غلامه. وتكرار المبتدأ بلفظه، نحو: زيد قام زيد، وأكثر ما يكون ذلك في موضع التهويل والتفخيم، نحو قوله تعالى: {الْحَاقَّةُ (1) مَا الحَاقَّةُ (2)}، {الْقَارِعَةُ مَا القَارِعَةُ (2)}، التقدير: الحاقة أي شيء هي، كما تقول:

"أي رجل زيد" إذا أردت تعظيمه والتفخيم لشأنه، ومن ذلك قوله: ليت الغراب غداة ينعب دائبًا كان الغراب مقطع الأوداج من زعم أن تكرار المبتدأ بلفظه لا يجوز إلا في موضع التهويل والتعظيم فقد زاد شرطًا لم يزده س، وذكر ابن السراج إجازة النحويين: أجل زيد أحرز زيدًا، وقال: لا أرى الموت يسبق الموت شيء نغص الموت ذا الغنى والفقيرا وإشارة إلى المبتدأ، نحو قوله: {ولِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ}. والعموم نحو قولك: زيد نعم الرجل، وقال: فأما القتال لا قتال لديكم ...................................... وقال: .................................. .... وأما الصبر عنها فلا صبرا فـ"زيد" فرد من أفراد المرفوع بـ"نعم"، إذ هو يراد به الجنس،

و"القتال" فرد من أفراد القتال المنفي، و"الصبر" فرد من أفراد الصبر المنفي. وعطف الجملة بالفاء فيها ضمير المبتدأ على جملة عارية منه، هي خبر المبتدأ، نحو قوله: وإنسان عيني يحسر الماء تارة فيبدو، وتارات يجم، فيغرق وقال: إن الخليط أجد البين، فانفرقا وعلق القلب من أسماء ما علقا في رواية من رفع "البين". ففي "فيبدو" ضمير مستكن عائد على المبتدأ الذي هو "وإنسان عيني"، وهي معطوفة على قوله: "يحسر الماء تارة"، وهي خبر المبتدأ، وليس فيها رابط، واكتفى بالربط الذي في المعطوف. وكذا الكلام في البيت الثاني. والرابط المختلف فيه هو تكرار المبتدأ بمعناه لا بلفظه، نحو: زيد جاء أبو بكر، إذا كان "أبو بكر" كنية "زيد"، فهذا قد نص س على منعه. وأجاز ذلك أبو الحسن، وتبعه ابن خروف، واستدل على صحة مذهبه بقوله: {أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا فَإنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَن يَشَاءُ

ويَهْدِي مَن يَشَاءُ} المعنى عنده: فإن الله يضله ويهديه. ويقوله: {إنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً (30)}، التقدير: إنا لا نضيع أجرهم. ورد استدلاله بأن خبر (أفمن) محذوف/ لدلالة ما تقدم عليه، وهو قوله: {الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ والَّذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وأَجْرٌ كَبِيرٌ}، فكأنه في التقدير: أفمن زين له سوء عمله فرآه حسنًا فله عذاب شديد خير أم من آمن وعمل صالحًا فله مغفرة وأجر كبير، فحذف لفهم المعنى. وأحسن من هذا التخريج أن يكون التقدير: أفمن زين له سوء عمله فرآه حسنًا كمن هدي. ويدل على هذا قوله بعد: {فَإنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَن يَشَاءُ ويَهْدِي مَن يَشَاءُ}، فيكون المحذوف خبر المبتدأ فقط، وفي التخريج السابق حذف الخبر ومعادل المبتدأ السابق وخبره. وأما الآية الأخرى فتأولها من رد على الأخفش بأن الخبر هو {أُوْلَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ}، ويكون قوله: {إنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً} جملة اعتراض. وتأول ابن عصفور ذلك بأن جعل الرابط محذوفًا، تقديره: من أحسن عملًا منهم. قال ابن عصفور: "وينبغي أن يجوز هذا الذي

ذهب إليه أبو الحسن من الاستغناء عن الضمير باسم ظاهر هو المبتدأ في المعنى، كما جاز ذلك في الصلة، حكي من كلامهم: أبو سعيد الذي رويت عن الخدري، يريدون: رويت عنه، إلا أن ذلك قليل جدًا" انتهى. وقال ابن هشام: ويعضده -يعني الأخفش- قول الشاعر: إذا المرء لم يغش الكريهة أوشكت حبال المنايا بالفتى أن تقطعا وقد حسن ابن جني هذا في خصائصه بأنه لم يكن العائد لفظ الأول بل لفظًا آخر هو هو، فصار كالضمير، فلهذا صح. وعطف جملة بالواو مكان الفاء فيها ضمير المبتدأ على جملة عارية من الضمير وقعت خبرًا، نحو: الخيل جاء زيد وركبها، أجاز ذلك هشان، ومنع ذلك الجمهور، وشرطوا أن يكون العطف بالفاء. ووقوع الضمير مكان مظهره الذي اتصل به الذكر العائد على المخبر عنه، نحو قوله تعالى: {والَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ ويَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ}، التقدير: يتربص أزواجهم، فحصل الربط بهذا المضمر الواقع مكان المظهر الذي هو أزواجهم، و"أزواج" متصل به ضمير المبتدأ. وأجاز ذلك الأخفش والكسائي، ومنعه الجمهور، واستدل الأخفش والكسائي بهذه الآية. ولا ينبغي أن تحمل الآية على هذا لأنه ربط بالمعنى، والربط بالمعنى

لا ينقاس، ولذلك لما قالت العرب: مررت برجل حسن أبواه جميلين، وربط الصفة التي هي "جميلين" بالموصوف الذي هو الرجل الضمير المستتر فيها، وهو عائد على الأبوين لا على الموصوف، لكون ذلك الضمير يفيد ما يفيده قولك: "جميلين أبواه"، لم يجز النحويون قياسًا عليه أن تقول: "مررت برجل حسنين جميل أبواه" على إعمال الصفة الثانية والإضمار في الصفة الأولى/، ويجعل الضمير العائد على الأبوين من الصفة الأولى رابطًا للموصوف، كما جعل في الصفة الثانية من قولك: مررت برجل حسن أبواه جميلين؛ لأنه ربط بالمعنى إنما سمع من العرب في الصفة الثانية لا في الأولى، فلم يتعد به موضع السماع، ولذلك أجاز س أن تقول: مررت برجل عاقلة أمه لبيبة، على أن تجعل "لبيبة" مضمرًا فيها الأم. ووقوع الضمير عائدًا على المبتدأ بدلًا من بعض ما في الجملة الموضوعة موضوع خبره، مثاله: حسن الجارية أعجبتني هو، فحسن: مبتدأ، والجملة بعده خبر، ولا رابط فيه، لكنه ربط بالبدل الذي هو "هو"؛ إذ "هو" بدل من الضمير المؤنث المستكن في "أعجبتني" العائد على الجارية، و"هو" عائد على الحسن. وفي الربط بهذا خلاف، سنوضحه بأكثر من هذا في باب البدل، إن شاء الله. فهذه الروابط المختلف فيها، وهي أربعة. وقد ترك المصنف مما أجمع عليه أنه رابط اثنين: أحدهما العموم، والثاني العطف بالفاء على ما بين. وأبهم في قوله: "أو بعضها"، وفسره في الشرح باسم الإشارة أو غيره. وأورد مختلفًا فيه مورد المتفق عليه، وهو قوله "أو قام بعضها مقام مضاف إلى العائد". وتفسير المتحد بالمبتدأ وهو بعض الجملة بقوله: {إنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ

المُصْلِحِينَ}، قال: "لأن المصلحين هم الذين يمسكون بالكتاب وأقاموا الصلاة، فيتحصل به ما كان يتحصل بضمير مع تأكيد الاعتناء ومزيد الثناء" انتهى. وهذا الذي ذكره هو مذهب الأخفش. -[ص: وقد يحذف إن علم ونصب بفعل أو وصف، أو جر بحرف تبعيض أو ظرفية، أو بمسبوق مماثل لفظًا ومعمولًا، أو بإضافة اسم فاعل، وقد يحذف بإجماع إن كان مفعولًا به، والمبتدأ كل أو شبهه في العموم والافتقار، ويضعف إن كان المبتدأ غير ذلك، ولا يخص جوازه بالشعر، خلافًا للكوفيين.]- ش: احترز بقوله "إن علم" من نحو: زيد ضربته في داره، فلا يجوز حذف هذا الضمير لأنه لا يدري أحذف أم الفعل مسلط على غيره مما يجوز حذفه من المفعولات. واحترز بقوله "ونصب" من أن يكون الضمير مرفوعًا، فإنه لا يجوز حذفه. ومثال ما نصب بفعل قول الشاعر: ثلاث كلهن قتلت عمدًا فأخزى الله رابعة تعود أي: قتلتهن عمدًا ومثال المنصوب بوصف قول الراجز:

غني نفس العفاف المغني والخائف الإملاق لا يستغني التقدير: العفاف المغنيه، أي: الذي يغنيه هو غني نفس، فالعفاف: مبتدأ، والمغني: مبتدأ ثان، وخبره "غني نفس"، وفي "المغني" ضميران: أحدهما عائد على العفاف، وهو الفاعل باسم/ الفاعل. والآخر ضمير نصب، وهو المحذوف العائد على أل، و"المغني" وصف جرى على غير من هو له، ولم يبرز الضمير، ولو برز لقال: المغنيه هو. ومعنى هذا الكلام: الذي يغنيه العفاف غني نفس. ويحتمل وجهًا آخر من الإعراب، وهو أظهر وأقل تكلفًا، وهو أن يكون "غني نفس" مبتدأ، وسوغ الابتداء فيه -وإن كان نكرة- كونه متخصصًا بالإضافة، أو كونه نعتًا لمنعوت، أي: إنسان غني، والعفاف: مبتدأ ثان، وخبره "المغني"، وهو وصف جار على من هو له؛ إذ هو خبر عن "العفاف"، فالجملة من قوله: "العفاف المغني" في موضع خبر المبتدأ الذي هو "غني النفس"، والعائد من الجملة محذوف، وهو الضمير المنصوب؛ إذ التقدير: المغنيه، والمعنى: غني النفس العفاف يغنيه. ومثال المجرور بحرف تبعيض "السمن منوان بدرهم" أي: منوان منه، فمنوان: مبتدأ ثان، وسوغ الابتداء به هذا الوصف المحذوف، وهو "منه"، وبدرهم" خبره، والجملة خبر لقوله: "السمن"، والعائد هو "منه" المحذوف، وهو ضمير مجرور بمن، وهو حرف تبعيض. ومثال الظرفية قوله: فيوم علينا، ويوم لنا ويوم نساء، ويوم نسر

أي: نساء فيه، ونسر فيه. وقولهم: "شهر ثري، وشهر ترى، وشهر مرعى" أي: وشهر ترى فيه النبات. ومثال ما جر بمسبوق مماثل لفظًا ومعمولًا قول الشاعر: أصخ، فالذي توصى به أنت مفلح فلا تك إلا في الفلاح منافسا أراد: أنت مفلح به، فحذف "به" لأنه مسبوق بمماثل لفظًا ومعمولًا، وهو نظير قوله: {أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُم بِهِ مِن مَّالٍ وبَنِينَ (55) نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الخَيْرَاتِ}، أي: نسارع لهم به. ومثال ما جر بإضافة اسم فاعل قول الشاعر: سبل المعالي بنو الأعلين سالكة والإرث أجدر من يحظى به الولد أي: سالكتها، وأنت "سالكة"، وكان القياس: سالكون، لأن "بني" يؤنث، تقول: قالت بنو عامر ............. ...................... وقوله وقد يحذف بإجماع إن كان مفعولًا به، والمبتدأ كل أو شبهه في العموم والافتقار مثاله قراءة ابن عامر (وكل وعد الله الحسنى)، أي:

وَعَده. وقول الراجز: قد أصبحت أم الخيار تدعي علي ذنبًا، كله لم أصنع أي: لم أصنعه. قال المصنف في الشرح: "وكذا ما أشبه كلًا في العموم، نحو: أيهم يسألني أعطي، على جعل أي موصولة. وكذا ما عم وإن لم يكن موصولًا، نحو: كل رجل/ يدعو إلى خير أجيب، آمر بخير ولو كان صبيًا أطيع، أكثر السائلين أعطي. فول كان المبتدأ غير ذلك، والضمير مفعول به، لم يجز عند الكوفيين حذفه مع بقاء الرفع إلا في الاضطرار. والبصريون يجيزون ذلك في الاختيار، ويرونه ضعيفًا، ومنه قراءة السلمي: (أفحكم الجاهلية يبغون) برفع الحكم. ومثل هذا القراءة قول الشاعر: وخالد يحمد أصحابه بالحق، لا يحمد بالباطل هكذا رواه أبو بكر بن الأنباري برفع "خالد" و"أصحابه" انتهى ما ذكره المصنف، وما مثلناه قبل فمن تمثيله إلا قليلًا. وهذا التقسيم الذي سلكه في العائد على المبتدأ بالنسبة إلى جواز حذفه غير الطريق الذي سلكه أصحابنا، وفيه ما اختلف فيه وما اتفق عليه،

وفي كلام المصنف دعوى إجماع لا تصح، ونقل عن البصريين والكوفيين لا يوافق عليه، ونحن نوضح ذلك، فنقول: الضمير العائد على المبتدأ من الجملة التي وقعت خبرًا عنه إما أن يكون مرفوعًا أو منصوبًا أو مجرورًا؛ إن كان مرفوعًا لم يجز حذفه سواء أكان مبتدأ أم غيره، فلا يجوز: الزيدان قام، ولا: الزيدون ضرب. وذهب بعض النحويين إلى أنه يجوز حذفه إذا كان مبتدأ، نحو قوله: إن يقتلوك فإن قتلك لم يكن عارًا عليك، ورب قتل عرب تقديره: هو عار، فحذف "هو" من الجملة التي هي خبر عن قوله: ورب قتل. وقال صاحب البسيط: "إن كان مبتدأ جاز حذفه، نحو: زيد هو قائم؛ إذ لا مانع من ذلك" انتهى. وهذا ليس بشيء لأنك إذا قلت: زيد قائم، وحذفت "هو"، لم يعلم أن "هو" محذوف لصلاحية "قائم" أن يكون خبرًا مستقلًا، وقد منع الخليل: ليس زيد قائم، على تقدير: هو قائم، وحذف "هو"؛ لصلاحية نصب "قائم" فيكون الخبر. وإن كان منصوبًا فإما أن يكون منصوبًا بفعل أو بغيره: إن كان منصوبًا بغير فعل لم يجز حذفه، نحو: زيد كأنه أسد. وإن كان منصوبًا بفعل فإما أن يكون فعلًا تامًا أو فعلًا ناقصًا: إن كان فعلًا ناقصاً لم يجز

حذفه، نحو: الصديق كأنه زيد. وإن كان فعلًا تامًا فإما أن يكون متصرفًا أو غير متصرف: إن كان غير متصرف لم يجز حذفه، نحو: زيد ما أحسنه! واختلف النقل عن الفراء: فحكي عنه أبو بكر بن الأنباري أنه لا يجوز حذف هذه الهاء. ونقل عنه المصنف أنه يجيز حذفها. قال: "مع أنه لا يجيز: زيد ضربت، وذلك أن فعل التعجب لا تسلط له على ما قبله، فاستوي تفريغه وعدم تفريغه، بخلاف/ زيد ضربت، فإن تفريغه مع إيثار الابتداء بالعمل ترجيح الأضعف على الأقوى". قال: "ولم يعتبر ذلك في نحو "كله لم أصنع" لشبه كل بالموصول العام، وكذا ما ككل في العموم" انتهى كلامه. وحكي أبو بكر بن الأنباري أن الكسائي كان يجيز: أبوك ما أحسن! قال: "لما لم أصل إلى نصب الأب أضمرت له هاء تعود عليه، فرفعته بها، والتقدير: أبوك ما أحسنه! ". وإن كان متصرفًا فمذهب البصريين أنه لا يجوز حذفه إلا في الشعر، وسواء أكان يؤدي إلى تهيئة العامل للعمل وقطعه، نحو: زيد ضربه عمرو، أو لا يؤدي، نحو: زيد هل ضربته؟ وزيد هلا ضربته، وزيد إن تضربه أضربه، وسواء في ذلك عندهم أن يكون المبتدأ كلًا أو غيره، ونصوا على شذوذ قراءة ابن عامر (وكلٌ وعد الله الحسنى).

وقد سلك الأدب في ذلك شيخنا الأستاذ أبو الحسين بن أبي الربيع، فقال: "جاء في الشعر وفي قليل من الكلام، قرأ ابن عامر (وكلٌ وعد الله الحسنى) ". وذهب هشام إلى أنه يجوز "زيد ضربت" في الاختيار. وذهب الفراء ومن وافقه من الكوفيين إلى أنه يجوز إذا كان المبتدأ اسم استفهام أو كلًا أو كلا أو كلتا، وإن أدى حذفه إلى تهيئة العامل للعمل وقطعه عنه، فأجاز أن تقول: أيهم ضربت؟ برفع أي، وكل رجل ضربت. ومما جاء من ذلك قوله: ............................ علي ذنبًا كله لم أصنع وقوله: ثلاث كلهن قتلت عمدًا ................................. وقوله أرجزًا تطلب أم قريضًا أم هكذا بينهما تعريضا كلاهما أجد مستريضا وإنما جاز ذلك مع هذه الأسماء خاصة لأن اسم الاستفهام من أسماء الصدور، ولا يجوز أن يتقدم ما بعده عليه، فأشبه لذلك الموصول؛ ألا

ترى أن الموصول لا تتقدم صلته عليه، فكما أنه يجوز أن يحذف هذا الضمير من الصلة، فكذلك يحذف من الخبر. وكذلك كل وكلا، يدخل الكلام إذا ابتدأت بهما معنى "ما"، و"ما" من أدوات الصدور، فإذا قلت: "كل القوم ضربته" فالمعنى: ما من القوم إلا من ضربته، وكلا الرجلين ضربته، معناه: ما من الرجلين إلا من ضربته. والدليل على أن الكلام يدخله معنى "ما" قوله: وكلهم حاشاك إلا وجدته كعين الكذوب جهدها واحتفالها أدخل "إلا" على خبر "كل" لأن المعنى: ما منهم أحد إلا من وجدته، فأشبهت لذلك الموصول، فساغ حذف الضمير. وقال الفراء أيضًا: لا أضمر الهاء إلا مع ستة أشياء: كل ومن وما وأي -يعني في الاستفهام- ونعم وبئس. ومثال ذلك في نعم وبئس: نعم الرجل لقيت، وبئس الرجل ضربت، وهذا على مذهب الفراء في أن نعم وبئس يرتفعان على الابتداء. قال الأستاذ أبو الحسن بن عصفور: "والصحيح أن حذف الضمير/ من الجملة الواقعة خبرًا لهذه الأسماء لا يجوز إذا أدى إلى تهيئة العامل للعمل وقطعه عنه؛ كما لا يجوز ذلك في غيرها، وإن جاء منه شيء في الكلام فشاذ لا يقاس عليه، وإنما جاز حذفه من الصلة، ولم يجز من خبر المبتدأ، لأن حذفه من الصلة لا يؤدي إلى تهيئة العامل للعمل وقطعِه عنه؛

إذ الصلة لا تعمل في الموصول، وليس كذلك أسماء الاستفهام وكل كلا لأن ما من أسماء الاستفهام يسوغ له أن يعمل فيها، وكذلك ما بعد كل وكلا قد يجوز أن يعمل فيها، وأيضًا فالصلة والموصول كالشيء الواحد، فطال لذلك الموصول بصلته، والطول موجب للتخفيف بالحذف، وليست أسماء الاستفهام وكل وكلا مع أخبارها كالشيء الواحد، فيسوغ التخفيف بحذف الضمير من أخبارها" انتهى كلامه. وقال أبو جعفر الصفار: "أجاز س في الشعر: زيدٌ ضربت، ومنع ذلك الكسائي والفراء وأصحاب س، وحكي عن أبي العباس أنه قال: لا يضطر الشاعر إلى هذا لأن وزن المرفوع والمنصوب واحد. وأجاز الكسائي والفراء: كلهم ضربت، ورجل ضربت أفضل من رجل تركت؛ لأن كلا إحاطة، إذا قلت "كلهم ضربت" فمعناه: لم يبق أحد إلا ضربت، فلما صار المعنى يصير إلى النكرة صار الفعل كأنه صلة للنكرة، وكذلك النكرات كلها عندهما. وأجاز الفراء أيضًا الرفع في كل اسم لا يكون إلا في صدر الكلام مثل كم وأي، وفي كل اسم لا يتعرف نحو من وما؛ لأن الاسم يكون في صدر الكلام لا يزايله، والفعل له، فكثر الكلام به، وإنما يجئ مفعولًا به في بعض الكلام، وقد عرف موضعه بالرفع، فأجروه على ذلك، وأضمروا الهاء، ولم يجز ذلك في زيد وعمرو لأنهما يتقدمان ويتأخران، هذا احتجاج الفراء" انتهى ما نقله أبو جعفر. وأين ما ادعى المصنف من الإجماع في "كل" وما أشبهه في العموم، ولم يقل به في "كل" إلى الفراء في نقل، وإلا الفراء والكسائي في نقل آخر؟

وإن كان الضمير مجرورًا فإما أن يكون مجرورًا بالإضافة أو بحرف جر: إن كان مجرورًا بالإضافة فلا يجوز حذفه، وسواء أكان أصله النصب نحو: زيد أنا ضاربه، أم لم يكن نحو: زيد قام غلامه، هذا نقل أكثر أصحابنا وإطلاقهم، وفي كلام بعضهم أنه إذا كان مجرورًا وأصله النصب فقد يحذف. وإن كان مجرورًا بحرف جر فإما أن يؤدي إلى تهيئة العامل للعمل وقطعه عنه أو لا: إن أدى لم يجز حذفه، نحو: زيد مررت به، وإن لم يؤد جاز، فتقول: السمن منوان بدرهم، التقدير: منوان منه بدرهم، وقال الشاعر: /كأن لم يكونوا حمى يتقى إذ الناس إذ ذاك من عز بزا أي: من عز منهم بز. ومنه في أحد الأقوال: {إنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً (30)} أي: منهم. ولخص بعض أصحابنا حذف الضمير، فقال: لا يجوز حذفه إلا بشرط أن لا يكون فاعلًا ولا مفعولًا لم يسم فاعله ولا مؤديًا إلى لبس، نحو: زيد ضربته في داره، ولا إلى إخلال نحو: زيد قام غلامه، لأن حذفه يخل بالتعريف الذي استفادة الغلام منه، ولا إلى التهيئة والقطع، فهذه خمسة شروط في جواز حذف الضمير العائد من الجملة إلى المبتدأ. وتبين أن ما ذكره المصنف في الفص وفي الشرح منقود من وجوه:

أحدهما: أنه إذا نصب بفعل أو وصف فقد يحذف. وذكرنا أن ذلك لا يجوز عند البصريين إلا في الشعر، وسواء أكان فعل تعجب أم غيره. الثاني: أنه إذا جر بحرف تبعيض فقد يحذف. وليس كما ذكر؛ إذ لو كان حذف الضمير منجرًا بـ"من" التبعيضية، وأدى إلى تهيئة العامل وقطعه، لم يجز، نحو: الرغيف أكلت منه، فلا يجوز حذف "منه" لأن حذفه يؤدي إلى التهيئة والقطع. الثالث: أنه إذا جر بحرف ظرف فقد يحذف. واستدل على ذلك بقوله: ........................... ويوم نساء، ويوم نسر وبقوله: وشهر ترى. وهذا لا يجوز لأنه يؤدي إلى التهيئة والقطع. الرابع: أنه أعرب "ويوم نساء، ويوم نسر" و"شهر ترى" مبتدأ، والجمل بعدها أخبارها. وهذا يحتمل أن يكون مبتدأ محذوف الخبر، أو خبر مبتدأ محذوف، و"نسر" و"ترى" جمل في موضع الصفة، وحملها على الصفة أولى لأن الحذف منها أقرب من الحذف من أخبار المبتدأ. الخامس: أنه إذا كان منجرًا باسم الفاعل فإنه ذكر أنه يحذف. وذكرنا أنه لا يجوز ذلك عند أصحابنا، وإن جاء منه شيء فبابه الشعر. السادس: دعواه بالإجماع إذا كان المبتدأ كلًا أو شبهه في العموم والافتقار. وقد ذكرنا أن الكسائي والفراء في نقل أجازا ذلك مع كل، وأن الفراء أجازه في نقل آخر مع كل.

السابع: أنه ذكر أن ما أشبه كلًا في العموم والافتقار يجوز حذف الضمير من الخبر معه، ومثل بـ"أيهم" الموصولة. ولا أعلم له سلفًا في ذلك، بل ذلك عند أصحابنا إن وجد ففي الشعر. الثامن: أنه ذكر أنه فصل بين: زيد ضربت، وبين: كل ضربت، فالرفع في "كل" جائز عند الإجماع، والرفع في "زيد ضربت" ضعيف. ولا فصل بينهما عند أصحابنا. التاسع: نقله عن البصريين جواز "زيد ضربت" في الكلام، وأن الكوفيين يخصونه بالشعر. والنقل عن الكوفيين مختلف، أما هشام/ فنقل عنه أنه يجيزه في الاختيار، وأما الكسائي والفراء فمنعا ذلك في الشعر. وأما البصريون فجوزوه في الشعر. وهذا اضطراب كثير في هذه المسألة للمصنف، رحمه الله. -[ص: ويغني عن الخبر باطراد ظرف، أو حرف جر تام معمول في الأجود لاسم فاعل كون مطلق، وفاقا للأخفش تصريحًا، ولسيبويه إيماء، لا لفعله، ولا للمبتدأ، ولا للمخالفة، خلافًا لزاعمي ذلك. وما يعزى للظرف من خبرية وعمل فالأصح كونه لعامله، وربما اجتمعا لفظًا.]- ش: مثال الظرف: زيد أمامك، ومثال حرف الجر: زيد في الدار. وقوله تام احتراز من أن يكون ناقصًا، نحو: زيد فيك، وزيد عنك، فإن مثل هذا لا يصح أن يخبر به عن "زيد".

وقوله معمول في الأجود لاسم فاعل كون مطلق فإذا قلت: "زيد أمامك" فتقديره: زيد كائن أمامك. وإنما كان أجود عنده أن يقدر العامل مفردًا لأن أصل الخبر أن يكون مفردًا، فجعل المحذوف مفردًا لا فعلًا لأتنه جملة بإجماع، ولأن العرب حين تجمعت بين العامل والمعمول جمعت بينهما والعامل اسم فاعل على ما سيأتي، إن شاء الله، ولأن تقدير الفعل لا يغني عن تقدير اسم الفاعل ليستدل به على أنه في موضع رفع، واسم الفاعل لا يحتاج إلى تقدير، ولأن كل موضع وقع فيه الظرف صالح لوقوع اسم الفاعل، وبعض المواضع لا يصلح فيه الفعل، نحو: أما عندك فزيد، وجئت فإذا عندك زيد. وقوله لا لفعله هذا منسوب إلى س، وبه قال أبو علي والزمخشري وغيرهما. ورجح هذا القول بأن الفعل متعين في وصل الموصولات، والفرق بينهما أنه الوصل واقع موقعًا لا يقع فيه المفرد، بل إن وقع أول

بجملة، وهنا الأصل فيه المفرد، وإذا وقعت فيه الجملة أولت بالمفرد. ورجح أيضًا بأن أصل العمل للفعل، فمتى أمكن أقر على حاله، وقد أمكن بتقديره. وعورض بأن الموضع للمفرد. وقال ابن الدهان: رأيت بيتًا هو حجة على أنه جملة، وهو قوله: أفي الله أما بحدل وابن أمه فيحيا، وأما ابن الزبير فيقتل ومعلوم أن "ما" تقطع ما بعدها عما قبلها، والهمزة لا تصدر إلا جملة، ولا تتصدر مفردًا، فثبت أنه جملة. وقوله ولا للمبتدأ زعم ابن أبي العافية وابن خروف وغيرهما أن مذهب س أن الظرف منصوب بالمبتدأ نفسه، وهو خبر عنه، وعمل فيه المبتدأ النصب لا الرفع لأنه ليس الأول في المعنى، فإذا كان الخبر هو الأول رفع، وإذا كان غير الأول نصب. قال ابن خروف: "العامل عند س/ في الظرف المبتدأ، وهو الذي نص عليه في أبواب الصفة، عمل فيه نصبًا كما عمل في المفرد رفعًا لكونه إياه، ولما لم يكن المبتدأ الظرف عمل فيه نصبًا، وهو مذهب متقدمي أهل البصرة" انتهى.

وذكر المصنف في الشرح أن ابن خروف ذهب إلى ذلك، وأنه قال: "هو مذهب س". ثم ذكر المصنف كلامًا لـ"س"، زعم أنه هو الذي حمل ابن خروف على نسبة هذا المذهب لـ"س"، وتأوله، وطول فيه، قال: وهو يبطل من سبعة أوجه: أحدها: أنه قول مخالف لما شهر عن البصريين والكوفيين مع عدم دليل، فوجب اطراحه. قلت: أما قوله: "إنه مخالف لما شهر عن البصريين والكوفيين" فليس كما ذكر؛ ألا ترى إلى نقل ابن خروف وغيره أنه مذهب متقدمي أهل البصرة. وأما قوله: "مع عدم دليل" فليس كما ذكر، بل الدليل يدل عليه، فكما أعلمنا المبتدأ في الخبر إذا كان إياه رفعًا، كذلك أعملناه فيه نصبًا، ومتى أمكن نسبة العمل إلى ملفوظ به كان أولى من المقدر، وقد أمكن ذلك بما ذكرناه. الثاني: أن قائله يوافقنا على أن المبتدأ عامل رفع، ويخالفنا بادعاء كونه عامل نصب، وما اتفق عليه إذا أمكن أولى مما اختلف فيه، ولا ريب في إمكان تقدير خبر مرفوع ناصب للظرف، فلا عدول عنه. قلت: لا نوافق على أن المبتدأ عامل رفع على الإطلاق، بل الاتفاق على أنه عامل رفع إذا كان الخبر هو الأول، أما إذا كان الخبر ظرفًا فلا. الثالث: أنه يلزم تركيب كلام تام من ناصب ومنصوب لا ثالث لهما، ولا نظير له، فوجب اطراحه.

قلت: لا يلزم ما ذكر، بل تركب الكلام من مرفوع ومنصوب، فصار نظير: إن زيدًا قائم، فإنه تركب من منصوب ومرفوع. الرابع: أنه يستلزم ارتباط متباينين دون رابط، ولا نظير له. قلت: لا يلزم ما ذكره إذ هو نظير: أبو يوسف أبو حنيفة، فهذا التركيب الخاص حصل به الربط بين هذين المتباينين، كما أن تركب "زيد خلفك" هذا التركيب الخاص حصل به الربط، وليس حصول الربط مستدعيًا لفظًا ثالثًا يحصل به الربط. الخامس: أن نسبة الخبر من المبتدأ نسبة الفاعل من الفعل، والواقع موقع الفاعل من المنصوبات لا يغني عن تقدير الفاعل، وكذا الواقع موقع الخبر من المنصوبات لا يغني عن تقدير الخبر. قلت: ليست نسبة الخبر من المبتدأ نسبة الفاعل من الفعل، فيلزم عنه ما ذكر، بل نسبة الخبر من المبتدأ نسبة الفعل من الفاعل لأنه محكوم به ومسند إلى المبتدأ، كما أن الفعل محكوم به ومسند إلى الفاعل. السادس: أن الظرف الواقع موقع الخبر من نحو: "زيد خلفك" نظير المصدر من نحو: "ما أنت إلا/ سيرًا" في أنه منصوب مغن عن مرفوع، والمصدر منصوب بغير المبتدأ، فوجب أن يكون الظرف كذلك إلحاقًا للنظير بالنظير. السابع: أن عامل النصب في غير الظرف المذكور بإجماع لا يكون إلا فعلًا أو شبيهه أو شبيه شبيهه، والمبتدأ لا يشترط فيه ذلك، فلا يصح انتصاب الظرف المذكور به. قلت: من زعم أن الظرف منصوب بالمبتدأ نفسه لا يخرج المبتدأ عن

أن يكون شبيهًا بالفعل أو شبيه شبيه، والجامع بينهما الاقتضاء. وقوله ولا للمخالفة هو قول الكوفيين، حكاه عنهم ابن كيسان، فإذا قلت: "زيد أخوك"، فالأخ هو زيد، وإذا قلت: "زيد خلفك" فالخلف ليس بزيد، فمخالفته له عملت فيه النصب. وقال غيره: الكوفيون الكسائي والفراء وهشام وشيوخ الكوفيين مجمعون على أن المحل ينصب لأنه خلاف الاسم الذي المحل حديثه، لا فعل ينصبه، ولا يقدر معه من قبله ولا من بعده. ومبناهم على ضعف المحل، وأن الذي يضعف لا يحمل من الحركات إلا الفتح، والفائدة في "زيد خلفك" أن المخاطب دل على موضع زيد، ولم يقصد لفعله في استقرار ولا قيام ولا قعود. وخالف أحمد بن يحيي أصحابه، فقال: "المحل منصوب بفعل محذوف". ورد هذا المذهب المنسوب للكوفيين بوجوه: أحدها: أن تخالف المتباينين معنى نسبته إلى كل منهما كنسبته إلى الآخر، فإعماله في أحدهما ترجيح من غير مرجح. الثاني: أن المخالفة بين الجزأين محققة في مواضع كثيرة، ولم تعمل فيها بإجماع، نحو: أبو يوسف أبو حنيفة، وزيد زهير، ونهارك صائم، وأنت فطر، و {هُمْ دَرَجَاتٌ}، فلو صلحت المخالفة للعمل في الظرف

المذكور لعملت في هذا الأخبار ونحوها لتحقق المخالفة فيها. الثالث: أن المخالفة معنى لا يختص بالأسماء دون الأفعال، فلا يصح أن تكون عاملة؛ لأن العامل عملًا مجمعًا عليه لا يكون غير مختص، هذا إذا كان العامل لفظًا مع أنه أقوى من المعنى، فالمعنى إذا عدم الاختصاص أحق بعدم العمل لضعفه. الرابع: أن المخالفة لو كانت صالحة للعمل للزم على مذهب الكوفيين أن لا تعمل في الظرف عند تأخره؛ لأن فيه عندهم عائدًا، هو رافع المبتدأ مع بعده بالتقدم، فإعمال ذلك العائد في الظرف لقربه منه أحق. وقوله وما يعزى للظرف من خبرية وعمل فالأصح كونه لعامله هذا الذي اختاره المصنف هو مذهب ابن كيسان وظاهر قول السيرافي، فإذا قلت: "زيد خلفك" على مذهب من جعل العامل في الظرف هو غير المبتدأ من اسم فاعل أو فعل فتسميته/ الظرف خبرًا هو مجاز، والخبر في الحقيقة هو العامل المحذوف. وكذلك إذا قلت: "زيد خلفك أبوه" فأبوه يقال هو فاعل بالظرف، وليس على الحقيقة، بل هو فاعل باسم الفاعل أو بالفعل العامل النصب في الظرف. وكذلك تحمله للضمير المرفوع العائد على زيد. وذهب أحمد بن يحيي إلى أن المحل نائب عن الفعل المحذوف الناصب له، يضمر فيه من ذكر الاسم ما يضمر في الفعل.

وذهب الفراء إلى أن المحل إذا تأخر تحمل ضمير "زيد"، وإذا تقدم لا يتحمل ضميرًا لأنه يرفع الظاهر، فزيد مرفوع بالمحل تقدم أو تأخر، إلا أنه إذا تأخر رفع الظاهر، ورفع ضميره. والمنقول عن البصريين أنه يتحمل ضمير المبتدأ سواء أتقدم على المبتدأ أم تأخر، وأنه يرفع ذلك المضمر، ويرفع الاسم بعده، فإذا قلت: "زيد خلفك" ففي خلفك ضمير مرفوع. والدليل على ذلك أن العرب أكدت ذلك الضمير، فقالوا: إن زيدًا خلفك هو نفسه، بالرفع، فـ"نفسه"" تأكيد للضمير الذي تحمله الظرف، و"هو" تأكيد له لأنك أكدته بلفظ النفس، فاحتيج إلى توكيد بضمير منفصل. وتقول: إن المال عندك أجمع، فـ"أجمع" توكيد لذلك الضمير المستكن في الظرف، ولم يحتج إلى تأكيد لأنك أكدت بأجمع. وقال الشاعر: .............................. فإن فؤادي عندك الدهر أجمع وإذا قلت: "زيد خلفك أبوه" فـ"أبوه" مرفوع بالظرف على الفاعلية، ويجوز أن يرتفع على الابتداء، والظرف قبله خبر، والجملة من المبتدأ والخبر خبر عن "زيد"، والوجه الأول أولى لأنه إخبار بمفرد، والثاني إخبار بجملة، هكذا تلقنا هذا الإعراب من شيوخنا. وفي "الغرة" ما ملخصه: أبو علي وابن جني يدعيان انتقال الحكم إلى الظرف، إذ لو كان الحكم للعامل لجاز: قائمًا زيد في الدار،

كما جاز مع العامل. وقد استخرج من س هذا القول، فقال: تقول: إياك أنت وزيد، ولا تقول: إياك وزيد؛ لأنه المضمر المرفوع لا يعطف عليه حتى يؤكد، والظرف كهذا في النيابة. وذهب أبو زيد السهيلي إلى أنه "لا يصح ارتفاع اسم بعد الظرف والمجرور بالاستقرار على أنه فاعل، وإن كان في موضع خبر أو نعت، بل بالابتداء، كما يرتفع في "قائم زيد" بالابتداء". قال: "فإن قيل: أليس يرتفع بـ"قائم" إذا اعتمد، فليرتفع هنا به؟ وقد توهم قوم أن هذا مذهب س، وأنه يجوز أن يرفع الظرف إذا قلت: زيد في الدار أبوه، ومررت برجل معه صقر، وليس مذهبه، وقد بين السيرافي مراده، وشرح وجه الغلط بما فيه غنية. فالجواب: أن الفرق بين الظرف واسم الفاعل أن اسم الفاعل مشتق، وفيه لفظ الفعل/ موجود، فإذا اقترنت به قرينة من القرائن التي يقوى بها معنى الفعل عمل عمله، والظرف لا لفظ للفعل فيه، إنما هو معنى يتعلق بالحرف، ويدل عليه، فلم يكن في قوة القرينة التي اعتمد عليها أن تجعله كالفعل، كما لم يكن في قوته إذا كان ملفوظًا به دون قرينة أن يكون كالفعل حتى يجتمع الاعتماد المقوي لمعنى الفعل مع اللفظ المشتق من الفعل، فيعمل حينئذ عمل الفعل. ووجه آخر من الفرق: إذا قلت "مررت برجل قائم أبوه" فالقيام مسند إلى الأب في المعنى، وإلى رجل في اللفظ، واتفق لما كان للكلام لفظ ومعنى، فكان في اللفظ جاريًا على ما قبله، وفي المعنى مسندًا إلى ما

بعده، وأما الظرف والمجرور فليس للصفة المشتقة لفظ يجري على ما قبله، وإنما هو معنى يتعلق به الجار، وذلك المعنى مسند إلى الاسم المرفوع وخبر عنه، فصح أنه مبتدأ، والمجرور خبر له، والجملة في موضع نعت أو خبر. فإن قيل: يلزمكم إذا قدرتم الظرف في موضع خبر، وقدرتم فيه ضميرًا يعود على المبتدأ، أن تجيزوا: في الدار نفسه زيد، وفيها أجمعون إخوتك، وهذا لا يجيزه أحد، وفي هذا حجة للأخفش ولمن رفع بالظرف. قلنا: إنما قبح توكيد المضمر لأن الظرف في الحقيقة ليس هو الحامل للضمير، إنما هو متعلق بالاسم الحامل للضمير، وذلك الاسم غير موجود في اللفظ حتى يقال إنه مقدم في اللفظ مؤخر في المعنى، وإذا لم يكن ملفوظًا به فهو في المعنى والرتبة هو المبتدأ، والمجرور المقدم قبل المبتدأ دل عليه، والدال على الشيء غير الشيء، فلهذا قبح "فيها أجمعون الزيدون" لأن التوكيد لا يتقدم على المؤكد" انتهى. وفي الإفصاح: المجرورات إذا كانت معتمدة على ما قبلها، أي صفة أو حالًا أو خبرًا عنه فأكثر النحويين على أن ما بعد المجرور يرتفع به ارتفاع الفاعل لا غير، والمجرور في موضع الصفة أو الحال أو الخبر. ومنهم من قال: المجرور في هذه المواضع خبر مقدم، وما بعده مبتدأ، وتكون الجملة في موضع الصفة أو الحال أو الخبر. ومنهم من أجاز الوجهين، كما يرى أبو الحسن في المجرورات

والظروف وإن لم تعتمد. وكلام س محتمل، وكل تأول على مذهبه. وقوله وربما اجتمعا لفظًا مثاله ما ورد من قول الشاعر: لك العز إن مولاك عز، وإن يهن فأنت لدى بحبوحة الهون كائن وفي هذا البيت دليل على أن العامل في الظرف هو اسم فاعل إذ ظهر في هذا البيت. ومثل هذا البيت قوله: {فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًا عِندَهُ} فـ"مستقرًا" حال، والعامل فيها محذوف، وقد ظهر في هذا، وهو امس فاعل لا فعل. وقال ابن الدهان: {مُسْتَقِرًا} ليس عاملًا/ في الظرف، وإنما (عنده) للرؤية، و {مُسْتَقِرًا} حال من الهاء. -[ص: ولا يغني ظرف زمان غالبًا عن خبر اسم عين ما لم يشبه اسم المعنى بالحدوث وقتًا دون وقت، أو تعم إضافة معنى إليه، أو يعم واسم الزمان خاص أو مسؤول به عن خاص. ويغني عن خبر اسم معنى مطلقًا، فإن أوقع في جميعه أو أكثره وكان نكرة رفع غالبًا، ولم يمتنع نصبه ولا جره بـ"في"، خلافًا للكوفيين. وربما رفع خبرًا الزمان الموقوع في بعضه.]- ش: لا تقول: زيد اليوم، ولا: بكر غدًا. واحترز بقوله: "غالبًا" من قول امرئ القيس "اليوم خمر وغدًا أمر"، وقول الشاعر:

جارتي للخبيص، والهر للفأ ر، وشاتي إذا أردت مجيعا فشاتي: مبتدأ، وهي جثة، وإذا ظرف زمان، وقد وقع خبرًا للجثة. وكذا "اليوم خمر"، الخمر جثة، واليوم ظرف زمان، وهو خبر عنه. وقوله ما لم يشبه اسم المعنى بالحدوث وقتًا دون وقت مثاله: الهلال الليلة، والرطب شهري ربيع، والطيالسة ثلاثة أشهر، والصيد شهري ربيع؛ وزيد حين بقل وجهه، وزيد حين طر شاربه، والجباب شهرين، والثلج شهرين، والحجاج زمان ابن مروان، ومتى أنت وبلادك؟ أي: متى عهدك ببلادك؟ واختلف النحويون في هذا: فذهب الجمهور إلى أنه لا يقع ظرف الزمان خبرًا عن الجثة من غير تفصيل، سواء أجئت بالظرف منصوبًا أم جررته بفي، وتأولوا ما ورد من ذلك على حذف مضاف. وأجاز ذلك قوم بشرط أن يكون فيه معنى الشرط، نحو: الرطب إذا جاء الحر. وذهب بعض المتأخرين إلى أنه لا يمتنع ذلك إذا أفادت، وإن لم يكن فيه معنى الشرط، وإذا وصفت الظرف، ثم جررته بفي، جاز وقوعه

خبرًا للجثة، نحو: نحن في يوم طيب، ونحن في يوم صائف. وقال أبو الحسين بن عبد الوارث -وهو ابن أخت أبي علي الفارسي-: "الهلال الليلة هو على ظاهره لا على حذف مضاف؛ لأن الهلال يكون ظاهرًا، ثم يستنير، ثم يظهر، فلما اختلفت به الأحوال جرى مجرى الأحداث التي تقع مرة، وتزول أخرى، فجاز جعل الزمان خبرًا عنه". قال عبد القادر الجرجاني: "ويوضح ما قاله أن الهلال ليس باسم وضع علمًا للنير كالشمس والقمر، وإنما هو اسم يتناوله في حال دون حال، والاسم الموضوع له "القمر"، فلما كان كذلك صار إذا قيل: "الهلال" كأنه قيل: استنارة القمر، أو بدو القمر، فهو إذًا متضمن لمعنى الحدوث، فيجوز أن تجعل "الليلة" خبرًا عنه، ولهذا قال ابن السراج: لو قلت: الشمس اليوم، والقمر الليلة، لم يجز لأنه غير متوقع، فلا يتضمن الدلالة على الحدوث". وقال السهيلي:/ "فإن قلت: فقد قالوا: زيد حين بقل وجهه، وطر شاربه. قلنا: إنما جاز ذلك بقرينة أخرجته عن معنى الظرف من الزمان إلى معنى الوصف بمقدار السنين، وهي إضافة الوجه إليه، ولو قلت: "حين بقل وجه عمرو" لم يجز مع أنه أيضًا مخصوص بلفظ "حين"، ولو قلت "زيد يوم بقل وجهه" لم يجز لما في لفظ "حين" من لفظ حان يحين الذي يصح أن يكون خبرًا عن زيد".

وقوله أو تعم إضافة معنى إليه ثبت في بعض النسخ عوض هذا قوله: "أو تنو إضافة معنى إليه", مثاله: أكل يوم ثوب تلبسه؟ وأكل ليلة ضيف يؤمك؟ وقال الراجز: أكل عام نعم تحوونه يلقحه قوم, وتنجونه وقال الشاعر: أفي كل عام مأتم تبعثونه على محمر ثوبتموه, وما رضا التقدير: تجدد ثوب, وإحراز نعم, وحدوث مأتم. وقوله أو يعم واسم الزمان خاص مثاله: نحن في شهر كذا. وقوله أو مسؤول به عن خاص مثاله: في أي الفصول نحن؟ وفي أي شهر نحن؟ وفي أي عام نحن من تاريخ خلافة فلان؟ لأن مثل هذا قد يجهل. وقوله ويغني عن خبر اسم معنى مطلقا يعني بقوله: "مطلقا" سواء أوقع المعنى في جميعه أو في بعضه. وقوله فإن أوقع في جميعه مثاله:} وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ

شَهْرًا {, وقوله تعالى:} غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ {. وقوله أو أكثره:} الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ { وقوله وكان نكرة لأنه إن كان معرفة فيجوز فيه الرفع والنصب باتفاق من الكوفيين والبصريين, نحو: قيامك يوم الخميس, وصومك اليوم, إلا أن النصب هو الأصل والغالب. وقوله رفع غالبا, ولم يمتنع نصبه ولا جره بـ "في", خلافا للكوفيين تقدم تمثيل رفعه, وأما نصبه وجره بـ "في" فلا يمتنع عند البصريين, ومنع ذلك الكوفيون. وحجتهم صون اللفظ عما يوهم التبعيض فيما يقصد به الاستغراق. وهذا مبني على قول بعضهم إن "في" للتبعيض, حكاه السيرافي. وليس بصحيح, وإنما "في" للظرفية بحسب الواقع في مصحوبها, فإن كان يستغرق فلا تمنع منه "في" ولا معناها, ولذلك يقال: في الكيس درهم, وفي الكيس ملؤه من الدراهم. انتهى شرح هذا ملخصا من كلام المصنف في شرحه. ونقول: الظرف الزماني إما أن يقع خبرا لزمان أو لمصدر, وقد تقدم الكلام عليه مع الجثة. فإن وقع خبرا لزمان غير أيام الأسبوع, وهو على قدر المبتدأ, فالرفع فقط, تقول: زمان خروجك الساعة, وإن كان أعم جاز الرفع والنصب, تقول: زمان خروجك يوم الجمعة, فيوم الجمعة بالنصب حقيقة, ويوم بالرفع مجاز, تجعل الخروج طويلا/ قد استغرق اليوم أجمع.

وإن كان من أيام الأسبوع فالرفع, نحو: الأحد اليوم, وكذلك أسماء الأيام جميعها إلا الجمعة والسبت, فإنه يجوز رفع اليوم ونصبه. هذا مذهب البصريين, وسيأتي ذكر الخلاف في ذلك عند تعرض المصنف له. وإن وقع خبرا لمصدر, وكان معرفة, فالرفع والنصب. وإن كان نكرة فذهب هشام إلى أنه يلتزم فيه الرفع, فتقول: ميعادك يوم ويومان. وذهب الفراء إلى أن المنكور من المواقيت يرفع وينصب كالمعرفة, وهو مذهب البصريين, هذا نقل أبي بكر بن الأنباري. وحكي السيرافي أنه يجوز الرفع والنصب باتفاق معرفة كان أو نكرة. وحكي النحاس عن الكوفيين رفعه نكرة ونصبه معرفة. وحكي غيرهما التفصيل عن الكوفيين: فإن كان معدودا فالاختيار الرفع, وقل النصب, نحو: القتال يومان؛ لأنه صار في معنى ما الثاني فيه الأول؛ ألا ترى أن المعنى: أمد ذلك يومان, فالأول إذا هو الثاني, فيكون الرفع مختارا. وإن كان غير معدود فالنصب أحسن, نحو: القتال يوم الجمعة؛ لأن هذا ليس بأمد؛ ألا ترى أن المعنى: وقت الجمعة. ومستندهم أن السماع ورد به, قال تعالى:} غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا

شَهْر}. ولا يدل إلا على أن الرفع في المعدود أحسن منه في غير المعدود, وأما أن يكون أحسن من النصب فلا؛ لأن النصب هو الحقيقة. وهذا كله إذا لم يكن الحدث مستغرقا للزمان. فإن كان مستغرقا فمذهب البصريين أنه يجوز فيه الرفع والنصب, ومذهب الكوفيين انه لا يجوز فيه إلا الرفع, فإذا قيل: "قيامك يوم" فالقيام آخذ بجملة اليوم, فإن كان القيام في بعض اليوم فهو منصوب مع النعت أو الصلة, فتقول: قيامك يوما مباركا من الدهر, فإن قلت: "قيامك شهر" فالرفع والنصب على المعنيين المختلفين, والمضاف للمصدر كالمصدر, نحو: أفضل قيامك يوم الجمعة, برفع "يوم الجمعة" ونصبه, والمصادر كلها تنتصب على الأوقات. فإذا وقعت خبرا لزمان, وكان أعلم من الزمان, جاز الرفع والنصب, نحو: زمان خروجك خلافة الحجاج, أو مساويا فالرفع نحو: زمان خروجك خفوق النجم. وإن وقعت خبرا لغير زمان جار عند البصريين الرفع والنصب من غير تفصيل, قيل: فتقول: قيامي صياح الديك, وخروج الأمير وخروجكم, وخروجنا, ويجوز الرفع على قبح على أن القيام وقت الخروج. وفصل الكوفيون, فقالوا: إن كان معدودا فالرفع عندهم أحسن, نحو: خروجي خلافة الحجاج. وإن لم يكن معدودا فالنصب خاصة إن كان أعلم, نحو: ولادة زيد ظهور الأزراقة. ولم يشترط الكوفيون في نصب المصدر ميقاتا أن يكون فيما يعرف. ولا نقل أحفظه عن البصريين/ في ذلك إلا ما حكي عن الزجاج أنه لا يجيز هذا إلا فيما يعرف, نحو: قدوم

الحاج, وخفوق النجم, ولو قلت: لا أكلمك قيام زيد, تريد: وقت قيام زيد, لم يجز لأنه لا يعرف. ولا يكون المصدر وقتا إلا أن يكون مصرحا, فمن قال: يعجبني أن تقوم, وما تقوم, لا يقول: خروجنا أن يصيح الديك, ولا: ما يصيح الديك. وإذا كان المصدر خبرا للمصدر, ولم يرد به زمن البتة وجب الرفع, ويكون بمنزلة قوله: وظني بها حفظ بعين ورعية لما استودعت, والظن بالغيب واسع أراد: ومظنوني بها كذا, أو: وصاحب ظني كذا, فهو مصدر لم يخرج إلى الزمان. وقوله وربما رفع خبرا الزمان الموقع في بعضه مثاله: الزيارة يوم الجمعة, وسواء أكان الظرف معرفة أم نكرة, وقال: زعم البوارح أن رحلتنا إذا وبذاك خبرنا الغداف الأسود يروى بنصب غد ورفع. قال المصنف في الشرح: "والوجهان في هذا النوع جائزان بإجماع, إلا أن النصب أجود لأن الحذف معه أقيس, واستعماله أكثر" انتهى. وما ذكر من أن الوجهين جائزان بإجماع ليس بصحيح, فقد ذكرنا أن هشاما يوجب الرفع في النكرة, ولا يجيز النصب, وأن الفراء يجيزهما في النكرة كالبصريين. ص: ويفعل ذلك بالمكاني المتصرف بعد اسم عين: راجحًا إن كان

المكاني نكرة, ومرجوحا إن كان معرفة, ولا يخص رفع المعرفة بالشعر, أو بكونه بعد اسم مكان, خلافا للكوفيين. ويكثر رفع المؤقت المتصرف من الظرفين بعد اسم عين مقدر إضافة بعد إليه. ويتعين النصب في نحو: أنت مني فرسخين, بمعنى: أنت من أشياعي ما سزنا فرسخين. ش: أي: ويفعل ذلك أي: الرفع. واحترز بقوله: "المتصرف" مما لا يتصرف, نحو: عندك, وانتصب "راجحا" على الحال من اسم الإشارة. ومثال رجحانه في المكاني النكرة: المسلمون جانب والمشركون جانب, ونحن قدام وأنتم خلف. "والنصب جائز عند البصريين والكوفيين ومن زعم أن مذهب الكوفيين في هذا التزام الرفع فقد وهم". وقوله ولا يخص رفع المعرفة بالشعر, أو بكونه بعد اسم مكان, خلافا للكوفيين المختار عند البصريين نحو: زيد خلفك, ويجوز الرفع نحن: زيد خلفك, وأمامك, وسواء أكان خبرا لاسم مكان أو ذات غيره نحو: داري أمام دارك, وزيد أمام دارك. وقد قصر الكوفيون جواز الرفع على الشعر, أو على أن يكون خبرا لاسم مكان, وهذا معنى الذي ذكره المصنف في شرحه كلامه. وفيه تفصيل, فنقول: الظرف المكاني إذا وقع خبرا فإما أن يكون خبرا للأسماء غير المواضع والمصادر, أو للمواضع, أو للمصادر: إن وقع خبرا للأول فإما أن يكون مضافا أو غير مضاف: إن كان مضافا فإما لنكرة أو لمعرفة:/ إن

كان مضافاً لنكرة نحو: زيد خلف حائط, وبكر وراء جبل, فاتفق البصريون والكوفيون على جواز رفعه ونصبه. وإن أضيف إلى معرفة نحو: زيد خلفك, فمذهب البصريين جواز رفعه ونصبه, ومذهب الكوفيين أنه لا يجوز إلا النصب, هذا إن لم يملأه, فإن ملأه فالرفع عندهم أحسن من النصب, نحو: زيد مكانك, تجعله المكان لأنه قد ملأه, فصار كأنه هو, فأما قول الشاعر: .................. .................. إلا جبرئيل أمامها فقالوا: لما كان لعظمه يملأ الأمام رفع الأمام, ولا فرق عند البصريين بين أن يملأ أو لا يملأ, يجيزون الرفع والنصب. وإن لم يكن مضافا فإما أن يكون مصحبا من أو غير مصحب من: إن كان مضحبها جوزوا كلهم رفعه ونصبه, نحو: زيد قريبا منك, وقريب منك, والقوم ناحية من الدار, وناحية من الدار, قال س: "قال يونس: العرب تقول: هل قريبا منك أحد؟ ". وقال الكسائي والفراء وهشام: يقال: عبد الله قريب منك, وقريبا منك, وبعيد منك, وقليل في كلام: بعيدا منك, وإنما قل لأنهم لما قالوا: عبد الله قربك, وبقربك حسن ذلك مذهب المحل في قريبا منك, وحين لم يقولوا: عبد الله بعدك, وببعدك قبح ذلك مذهب المحل في: بعيدا منك, وهو جائز في القياس. وأجازوا:

إن قريباً منك الماء, بنصب الماء ورفعه, وقال الكسائي والفراء وهشام: كلام العرب: إن بعيدا منك الماء, برفع الماء, ونصبه قليل, وأنشدوا قول الراجز: إن قريبا منك صقرا صائدا وإن كان غير مصحب بـ "من" فإما أن يكون بألف ولام, أو بغير ألف ولام: إن كان بألف واللام فالرفع عند الكوفيين والبصريين, وأما النصب فلا يجوز عند الكوفيين, ويجوز عند البصريين, فتقول: زيد الأمام, وزيد الشمال, وبكر اليمين. وإن كان بغير ألف ولام فإما أن يعطف عليه منكور مثله أو لا يعطف: إن عطف فالاختيار عند الكوفيين الرفع, ويجيزون النصب على غير اختيار. والبصريون يسوون بين الرفع والنصب, فيقولون: القوم يمين وشمال, ويمينا وشمالا, وزيد مرأى ومسمعا, ومرأى ومسمع. وإن لم يعطف عليه مثله رفعه الكوفيون لا غير, وجوز البصريون رفعه ونصبه, فقالوا: زيد خلف وخلفا. فإن كان الظرف مختصا لم يرفع ولم ينصب, نحو: زيد دارك أو دارك, لا يجوز لا برفع ولا بنصب إلا فيما سمع نحو قولهم: زيد جنبك, ولا يقاس عليه: زيد ركن الدار, لا برفع ولا بنصب. وإن وقع الظرف المكاني خبرا للمواضع نصب ورفع, نحو: مكاني خلفك وخلفك, وقالت العرب: منزله شرقي الدار, رفعوا على أن المنزل هو الشرقي؛ ونصبوا على مذهب الناحية/. فإن كان الظرف المكاني مختصا فالرفع, نحو: موعدك ركن الدار,

وموعدك المسجد والمقصورة, لا ينصب شيء من هذا, فأما: موعدك باب البردان وباب الطاق, فيرفع على أن الموعد هو الباب, وينصب على معنى: موعدك ناحية باب البردان, وناحية باب الطاق, والمستعمل بالنصب من المختصات لا يقاس عليه غيره مما لم يكثر استعماله, ولذلك من قال: موعدك بيت المقدس, ومدينة أبي جعفر, وطاق الحراني, لا ينصب شيئا منه وهو يقصد الناحية لأنه لم يكثر به استعمال. وإن وقع الظرف المكاني خبرا للمصادر, نحو: القتال خلفك, والضرب قدامك, فالنصب, والنص على أنه لا يجوز "خروجك وراؤنا" بالرفع. وقد اتضح بهذا الذي ذكرناه ما في كلام المصنف من التقصير في نقل الأحكام والخلل: أما التقصير فإنه لم يستوف ما يكون الظرف المكاني خبرا له من أسماء المواضع ومن المصادر ومن غيرهما من الأسماء كأسماء الناس وغيرهم. وأما الخلل فقوله "إنه يرفع المكاني المتصرف بعد اسم عين راجحا إن كان المكاني نكرة", وإذا كان نكرة ففيه ما ذكرناه من التفصيل من أنه لا يخلو أن يكون مضافا لنكرة أو مصحبا بمن أو غير مصحب, فإن كان مضافا لنكرة أو مصحبا بمن جاز الرفع والنصب, أو غير مصحب بمن معطوفا عليه منكور مثله فالاختيار الرفع عند الكوفيين,

ويجوزون النصب على غير اختيار, والبصريون يسوون بينهما, أو غير معطوف عليه مثله فالوجهان عند البصريين, وأما الكوفيون فلا يجوز عندهم فيه إلا الرفع, هذا هو الصحيح في النقل عن الكوفيين لا ما زعم المصنف في الشرح من قوله "إن من زعم أن مذهب الكوفيين في هذا التزام الرفع فقد وهم". قال أبو بكر بن الأنباري: إذا أتى خبرا لأسماء الناس, وأفرد من الإضافة, رفعه الكوفيون لا غير, وجوز البصريون رفعه ونصبه, فقالوا: زيد خلف وخلفا, وأبطل الكوفيون: زيد خلفا. وقال الفراء: العرب تقول: التقى الجيشان فالمسلمون جانب والروم جانب, ولا يجوز في جانب وجانب إلا الرفع لتنكيرهما, فإذا قلت: "فالمسلمون جانب الروم والروم جانب المسلمين" لم يكن في الجانبين إلا النصب لتعريفهما, فإن قالوا: "فالمسلمون جانب من الروم والروم جانب من المسلمين" جاز في جانب وجانب الرفع والنصب, أدنته "من الإضافة, وشبهته بما يكون مضافا بغير من, قال الشاعر: فيما بي من حمى ولا مس جنة ولكن عمي الحميري كذوب عيشة لا عفراء منك بعيدة فتسلو, ولا عفراء منك قريب معناه: مكان قريب. ومن الخلل الواقع في كلام المصنف قوله "ولا يخص رفع المعرفة بالشعر أو بكونه بعد اسم مكان, خلافا للكوفيين", فأفهم أن الكوفيين

يخصون رفع المعرفة/ بالشعر أو بكونه خبرا لاسم مكان, وهذا عند الكوفيين فيه تفصيل, قالوا: ما يحسن من المحال فيه "في" يختار رفعه في أخبار المواضع, ويجوز نصبه, وما لا يحسن فيه "في" يختار نصبه, ويجوز رفعه, فالذي يؤثر فيه الرفع: منزله ذات اليمين وذات الشمال؛ لأن "في" يحسن, فيقال: في ذات اليمين وفي ذات الشمال. والذي يؤثر نصبه: منزلي خلفك, لا يحسن فيه: في خلفك. وقوله ويكثر رفع الموقت المتصرف من الظرفين بعد اسم عين مقدر إضافة بعد إليه الموقت هو المحدود كيوم ويومين وثلاثة أيام وفرسخ وميل. واحترز بقوله: "المتصرف" من الظرف الذي التزم فيه النصب على الظرفية كـ "ضحوة" معينا. ويعني بقوله: "من الظرفين" ظرف الزمان وظرف المكان, ومثال ذلك: زيد مني يومان أو فرسخان, أي: بعد زيد مني يومان أو فرسخان. فلو كان مختصا لم يجز الرفع ولا النصب نحو: زيد دارك وبستانك, وزيد البيت والمسجد, إلا فيما سمع نحو: زيد جنبك, ولا يقاس عليه: زيد يديك ورجليك وكتفيك وعضديك, ما لم يقع به استعمال, أو إلا أن يقصد المقدار, وقام على ذلك دليل, نحو: زيد مني المسجد الجامع, ولا يكون فيه إذ ذاك إلا الرفع, حكي الكسائي والفراء "زيد مني الكوفة" على هذا المعنى, ولا وجه لنصب الكوفة, وأجاز الفراء: هو مني مكان الحائط منك, النصب على المحل, والرفع بتأويل: قدره مني كقدر مكان الحائط منك. ويجري مجرى الظرف في ذلك المصدر, قالوا: هو مني فوت اليد, وهو مني دعوة رجل وعدوة فرس, بالرفع والنصب, فإذا رفعوا أضمروا القدر, وإذا نصبوا بنوا على المحل.

وقوله ويتعين النصب في نحو: أنت مني فرسخين, بمعنى أنت من أشياعي ما سرنا فرسخين إنما تعين النصب على الظرف لأن قوله: "أنت مني" بمعنى: من أشياعي, مبتدأ وخبر, بخلاف قولك: أنت مني فرسخان, وأنت تريد: بعدك مني, فإن "مني" متعلق بذلك المقدر المحذوف, وليس في موضع خبر, وإنما الخبر "فرسخان", فمن رفع فالتقدير: بعد مكانك مني فرسخان, ومن نصب فعلى الظرف, وهو في موضع الخبر, وإذا كان "أنت مني" بمعنى: أنت من أشياعي, فيكون كقوله:} فَمَن تَبِعَنِى فَإنَّهُ مِنّىِ {, وينتصب فرسخين بالخبر الذي يتعلق به مني, أي أنت تابع من أتباعي في فرسخين, أي في سيرنا فرسخين. وظاهر كلام المصنف أن "فرسخين" منصوب بذلك الذي قدره, وهو: ما سرنا فرسخين, وليس بجيد لأن "ما سرنا" "ما" فيه مصدرية ظرفية, و "سرنا" صلة "ما", و "فرسخين" معمول لصلة "ما", ولا يجوز حذف الموصول والصلة وإبقاء معمولها. وقال س: "أنت مني فرسخين تقديره: أنت مني ما دمت تسير فرسخين". وهو شبيه بتقدير المصنف, إلا أن س جعل صلة "ما" "دام" الناقصة, وحذف "ما" و "دام" وخبرها, وأبقى/ معمول الخبر, فهو أبعد من تقدير المصنف. وقد رد أحمد بن يحي على س قوله, فقال: ليس على هذا الإضمار دليل, ولا يدعو إليه اضطرار, ولا ينبغي أن يطالب الإضمار إذا قام الكلام الظاهر بنفسه.

والذي ينبغي أن يخرج عليه كلام س وتقديره إنما هو تفسير المعنى لا تفسير الإعراب؛ لأنه إذا كان تابعا من أتباعه في فرسخين دل على أنه لا يكون تابعه في أكثر منها, فهذا معنى قول س: "ما دمت تسير فرسخين", فإذا كان تفسير معنى بطل رد أحمد بن يحي. وفي البسيط: هو مني فرسخان, لا يجوز النصب لأنك تريد: بيني وبينه هذه المسافة, فلا عمل فيه إلا أن تريد معنى المصاحبة, أي: هو مصاحبي, كما قاله س. وقد قيل: إن منه: هو مني عدوة الفرس, ودعوة الرجل, وفوت اليد, ولذلك لم يكن فيه النصب. وأما قولهم: "أنت مني مرأى ومسمع" فرفعوه- وإن لم يكن فيه المعنى المذكور- لأنهم جعلوه كـ "قريب" لكثرة استعماله في هذا المعنى, وقد ينصب لعدمه. "وأما داري خلف دارك فرسخا" فكيف انتصب والمعنى: بين داري ودارك هذا القدر من خلفها, فهو متأول: أما س فجعل الخبر في خلف, ونصب فرسخا على التمييز لاستقلال الكلام, ولأنه مبين للمقدار الذي بينهما. ونصبه المبرد على الحال؛ لأنه لما قال: "داري خلف دارك" علم أنها تبعد عنه أو تقرب, فلو قال بعيدة أو قريبة لصح على الحال, فجعل فرسخا بمنزلة "بعيدة", ولو قال: "خطوة" لكان حالا كـ "قريبة". ورد تأويل س بأن التمييز مقدر بـ "من", ولا يصح هنا. ورد بأنه يلزم في قولك: "أفضلهم رجلا" أن يكون تمييزا لأنك لا تقول: "من رجل", فكما يقدر هنا: أفضلهم من الرجال؛ لأن الأول رجل, كذلك

هنا معناه: قدر ما بين داري وداره فرسخ من الفراسح. وفيه نظر, والوجهان محتملان. وقد قيل: إن مراد س بالبيان الحال. ويجوز أن ترفع فرسخا, فتقول: داري خلف دارك فرسخ, إذا ألغيت خلف, ويقوى الإلغاء إذا قلت: من خلف دارك. وقال يونس: إن من لا تضعف الظروف- وإن جر بها- لأنها تدخل على غير المتمكنة كعندك, فلا تخرجها عن الظرفية, فكذلك في المتمكن. ورضيه س. -[ص: ونصب اليوم إن ذكر مع الجمعة ونحوها مما يتضمن عملا, خلافا للفراء وهشام, وفي الخلف مخبرا به عن الظهر رفع ونصب, وما أشبههما كذلك, فإن لم يتصرف كالفوق والتحت لزم نصبه.]- ش: تقول: اليوم الجمعة, برفع اليوم ونصبه. ويعني بقوله "ونحوها مما يقتضي عملا" مثل يوم السبت والعيد والفطر والنوروز والأضحى والمهرجان, فكل هذه تقتضي عملا لأن في الجمعة معنى الاجتماع, وفي السبت معنى القطع, وفي العيد معنى العود, وفي الفطر والأضحى معنى

الإفطار والتضحية,/ وفي النوروز والمهرجان معنى السرور, فكل هذه يجوز في "اليوم" معها الرفع والنصب, فتقول: اليوم الجمعة, وكذلك باقيها. وذكر المصنف أن الرفع والنصب في اليوم مع هذه الأسماء جائز بلا خلاف, إلا أنه لم يذكر الأضحى والمهرجان, وذكر غيره أن ذلك يجوز في اليوم معها. وقوله لا إن ذكر مع الأحد ونحوه نحوه هو الاثنان والثلاثاء والأربعاء والخميس. وقوله: مما لا يقتضي عملا لأن الأحد بمنزلة الأول, والاثنين بمنزلة الثاني, والثلاثاء بمنزلة الثالث, والأربعاء بمنزلة الرابع, والخميس بمنزلة الخامس, فهذه لا يلحظ فيها معنى عمل, فلا يجوز فيها إلا الرفع لأن انتصابها إنما هو على معنى أنه كائن فيها شيء, ولا شيء كائن فيها, بخلاف "اليوم الجمعة" فإن في الجمعة معنى الاجتماع, وهو معنى تصلح كينونته في اليوم, فيكون اليوم ظرفا له. وقوله خلافا للفراء وهشام يعني أنهما أجازا الرفع والنصب في اليوم مع سائر أسماء الأيام, فإذا رفع اليوم جعل الذي بعده بعينه, وإذا نصب بني على الآن, ومعنى هذا أن الآن أعم من الأحد والاثنين, فتجعل الأحد والاثنين واقعا في الآن, كما تقول في هذا الوقت: هذا اليوم. قال المصنف في الشرح: "وقد قال س ما يقوى هذا؛ لأنه قد أجاز "اليوم يومك" بنصب اليوم بمعنى الآن, وقال: "لأن الرجل قد

يقول: أنا اليوم أفعل ذلك, ولا يريد يوما بعينه". فهذا مما يقوي قول الفراء. وللمحتج لـ "س" أن يقول: إن قول القائل: اليوم يومك, بمعنى: اليوم شأنك وأمرك الذي تذكر به, فأجريا مجرى واقع وموقوع فيه, بخلاف: اليوم الأحد" انتهى كلامه. وتقضي قواعد البصريين في غير أسماء الأيام من أسماء الشهور ونحوها الرفع في نحو: الوقت الطيب المحرم, وأول السنة المحرم, واليوم يومك, على تقدير: هذا الوقت وقتك, ولا يجوز النصب في شيء من هذا. وقوله وفي الخلف مخبرا به عن الظهر رفع ونصب تقول: ظهرك خلفك, فمن نصب فعلى الظرف, ومن رفع فلأنه في المعنى الظهر, وهو ظرف متصرف. وقوله وما أشبهها كذلك أي: ما أشبه الخلف والظهر. ومعنى كذلك أي: في جواز الرفع والنصب, نحو: رجلاك أسفلك, أو نعلاك أسفلك, وقرئ:} وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ {برفع (أسفل) ونصبه. وقوله فإن لم يتصرف إلى آخره قال الأخفش: "العرب تقول: فوقك راسك, فينصبون الفوق لأنهم لم يستعملوه إلا ظرفا, والقياس أن يرفع لأنه هو الرأس, وهو جائز, غير أن العرب لم تقله. قال: وتقول: تحتك رجلاك, لا يختلفون في نصب التحت". وقال خطاب الماردي: إن أخبرت عن شيء من هذه الظروف بخبر

رفعته بالابتداء, وكانت أسماء لا تتضمن شيئا كسائر الأسماء, فتقول: خلفك واسع, وأمامك ضيق, كما تقول: زيد قائم. وقال بعض النحويين: إنه يجوز هذا فيما كان في الجسد, كقولك: فوقك رأسك, وخلفك ظهرك, وتحتك رجلاك, فهذا كله/ مبتدأ وخبر, ويعنون بالخلف الظهر, وبالأمام الصدر, وبالفوق الرأس, وبالتحت الرجلين, والأكثر أن تكون ظروفا, في الجسد كانت أو غيره, وهذا قول الأخفش. وقيل: إن من قال: فوقك راسك لا يقول: فوقك قلنسوتك, وتحتك نعلك؛ لأن القلنسوة والنعل ليستا من الجسد. قال: وهذا قياس من النحويين, وأما كلام العرب فنصب في هذا كله من الجسد والقلنسوة. وقال غيره: وأما خلفك واسع فهو عربي جيد. انتهى. مسألة: أجاز يونس وهشام: زيد وحده, ومنعه الجمهور, أجراه يونس وهشام مجرى عنده, وتقديره: زيد موضع التفرد, وعلى هذا يجوز تقديمه, فيقال: وحده زيد, كما يقال: في داره زيد. وقال هشام قولا آخر, قال (زيد وحده" نصب بفعل مضمر, يخلف الفعل المضمر وحده, كما قيل: زيد إقبالا وإدبارا, والمعنى: يقبل إقبالا, ويدبر إدبارا, والتأويل عند هشام: زيد وحده. وقال هشام: حكي الأصمعي عن العرب وحد يحد. يذهب هشام إلى أن

وَحْدَه خلف وحد كخلافة الإقبال والإدبار أقبل وأدبر. قال هشام: ومثل زيد وحده في مثل هذا المعنى: زيد أمره الأول, وسعد قصته الأولى, وحالة الأولى. يذهب هشام إلى خلافة هذا المنصوب الناصب كما خلف الوحد وحد, وكان يسمى هذا منصوبا على الخلاف. وقال: لا يجوز: وحده عبد الله, كما لا يجوز: إقبالا وإدبارا عبد الله, ولا يصلح قصته الأولى زيد, من قبل أن الفعل لا يضمر إلا بعد الاسم. وقال أحمد بن يحي: لا يضمر الفعل إلا بعد الاسم لأنه ثان للاسم, ترتيب الاسم أن يكون, ثم يفعل, فلم يضمر إلا في مكانه الأصلي السابق ليكون ذلك أقرب إلى الفهم وأبعد من اللبس. انتهى. ويعني بقوله: "ترتيب الاسم أن يكون, ثم يفعل" أن ترتيب الاسم في الابتداء أن تنطق به أولا, ثم تخبر عنه بقولك يفعل في نحو: زيد إقبالا وإدبارا, وما جرى مجراه, فلذلك لا يجوز تقديم المصدرين على المبتدأ لأن العامل فيهما المحذوف رتبته أن يكون بعد المبتدأ, فكما لا يجوز تقديم الفعل كذلك لا يجوز تقديم ما خلفه, وهو معموله. وحجة الجمهور أن "وحده" اسم جرى مجرى المصدر. قال س في: "مررت بعبد الله وحده": تأويله أفردت عبد الله بالمرور به, فالوحد صفة عبد الله, وتقديره: إفراده. وقال بعض النحويين: وحده مما نصب على الحال, وهو في لفظ

التعريف, كما فعل ذلك في: رجع عوده على بدئه, وإذا كان اسما جرى مجرى المصدر أو مجرى الحال لم يصح أن يقع خبرا عن زيد. وقد رد على الجمهور بما نقل عن العرب من أنهم قالوا: "زيد وحده", فجعلوا وحده خبرا, وإذا جعلته العرب خبرا لم يصلح أن يقع حالا من حيث لم يجز: زيد قائما, ولا: عمرو جالسا, ونص العرب على قولهم: "زيد وحده" هو حجة هشام ويونس. مسألة: قال الكسائي: العرب تقول: القوم خمستهم وخمستهم,/ وكذلك عشرتهم وعشرتهم, من رفع الخمسة رفعها بالقوم, ومن نصبها ذهب بها مذهب وحدهم, ولم يقل وحده إلا بالنصب في هؤلاء الأمكنة. وقال س: "مررت بالقوم خمستهم وخمستهم, خمستهم تقديره كلهم, لم ادع منهم أحدا إلا مررت به, وخمستهم تقديره وحدهم, مررت بهم إفرادا أفردتهم بالمرور دون غيرهم" انتهى. وعلى ما قدره س لا يصلح أن يكون "خمستهم" خبرا, سواء أكان بمعنى كلهم أم بمعنى وحدهم على مذهب س في وحدهم, من جهة أنه لا يصح أن تقول: زيد وحده, وقد نقلوا أن العرب قالت: زيد وحده, والقوم خمستهم بالرفع والنصب, فوجب قبوله وإن خالف رأي س أو غيره. مسألة: لا يجوز "زيد دونك" بالرفع عند س, وأنت تريد المكان, وأجازة غيره, قاله ابن أصبغ.

وقال الفراء: سواك ومكانك وبدلك ونحوك ودونك لا تجعل أسماء مرفوعة, فإذا قالوا قام سواك وبدلك ومكانك ونحوك ودونك نصبوا, ولم يرفعوا على اختيار, وربما رفعوا, قال أبو ثروان: أتاني سواؤك, فرفع سواءك. وقال الفراء أيضا: الرفع في سوى وبدل وغيرهما أقوى منه في دون لأن انفراد هذه الحروف أكثر من انفراد دون, فقد قالوا: هما سواء, وقد يفردون دون, فيقولون: هذا رجل دون, يريدون خسيسا, وإذا قصدوا هذا أعربوا دونا بوجوه الإعراب. وقال س: "أما دونك فلا ترفع أبدا لأنها مثل, وإن قيل: "هو دونك في السن والنسب"؛ لأن هذا مثل, كما أن قولهم: "هذا مكان هذا" في البدل ذكر مثلا". قال ابن الأنباري: يذهب س إلى أن كونه وصفا لم ينقله عن مذهب الظرف الذي يجب له فيه النصب, فعارضه أحمد بن يحيي بأنه لما جوز "زيد خلفك" وجب عليه أن يلزم دونك من جواز الرفع ما ألزمه خلفك. مسألة: لا يجوز: زيد مثل عمرو, بالنصب عند أحمد من البصريين, وأجازه الكوفيون, وذلك أن "مثلك" عندهم من القسم الثاني من القسمة التي قسموها المحال, وهو الذي يعرب في مواضع النعوت والأخبار

بتعريب الأسماء، وينصب في كل حال، وإذا وقع موقع أسماء الفاعلين من الماس رفع، ولم ينصب. وهذا القسم هو عندهم هذه الأسماء: قرنك وسنك وشبهك ولدتك ومثلك، قالوا: يقال: عبد الله سنك وسنك، ومثلك ومثلك، وهذا رجل شبهك وشبهك، ومررت برجا مثلك ومثلك، فإذا قالوا قام مثلك، وجاءني سنك وشبهك ولدتك، رفعوا ولم ينصبوا. ولتجويزهم أن مثلك يكون محلًا أجازوا أن يقع صلة لموصول. ولا يجيز البصريون أن يكون مثلك محلًا، فإن نقل عن العرب "زيد مثلك" بالنصب، وكثر، وجب قبوله، وأما ما استدلوا به في صلة الموصول في تأوله البصريون. مسألة: الظرف المقتطع قبل وبعد لا يخبر به، ولا يوصف/ به، ولا يوصل به، ولا يكون حالًا، ولم يعتلوا لذلك إلا بضعفها حسب، وشبهها سيبويه والفارسي بالأصوات. قال ابن الدهان: والصحيح عندي أنهم لم يجمعوا عليها حذف العامل فيها ومعمولها وجعلها معتمدًا لفائدة، فأما قوله: فأضحت زهير في السنين التي خلت وما بعد لا يدعون إلا الأشائما فـ "ما: زائدة، وبعد منصوب الموضع عطفًا على موضع الجار والمجرور.

وقوله تعالى {ومِن قَبْلُ مَا فَرَّطتُمْ فِي يُوسُفَ} فليست {مَا} موصلة (ومن قبل) الخبر، وإنما {مَا} زائدة. فإن قيل: ما العامل في (من قبل)؟ فالجواب أن المعنى بالعامل هو الفعل هنا، وإنما حرف جر موصل له، فموضعها نصب. انتهى. وقد نص س على أن الظرف المتقطع عن الإضافة لا يقع خبرًا للمبتدأ، وقد هم الومخشري وغيره في تجويزه ذلك في قوله (ومن قبل ما فرطتم)، إذا جعل (ما) مصدرية في موضع المبتدأ، و (من قبل) خبر، أي: ومن قبل تفريطكم في يوسف، وقد رددناه عليه في "البحر المحيط" في التفسير من تأليفنا. ص: ويُغني عن خبر اسم عين باطراد مصدر يؤكده مكررًا أو محصورًا، وقد يرفع خبرًا، وقد يغني عن الخبر غير ما ذكر من مصدر أو مفعول به أو حال. وقد يكون للمبتدأ خبران فصاعدا بعطف وغير عطف، وليس من ذلك ما تعدد لفظًا دون معنى، ولا ما تعدد لتعدد صاحبة حقيقة أو حكمًا، وإن توالت مبتدآت أخبر عن آخرها مجعولًا هو وخبره متلوه، والمتلو مع ما بعده خبر متلوه إلى أن يخبر عن الأول بتاليه مع ما بعده، ويضاف غير الأول إلى ضمير متلوه، أو يجاء بعد خبر الآخر بروابط المبتدآت أول لآخر، وتال لمتلو.

ش: مثاله مكررًا: زيد سيرًا سيرًا، ومثاله محصورًا: ما أنت إلا سيرًا، يسير سير سيرًا، فحذف الفعل، واستغنى عنه بمصدره، وجعل تكراره بدلًا من اللفظ بالفعل، فامتنع إظهاره لئلا يجتمع عوض ومعوض عنه، والحصر قام مقام التكرار في سببية التزام الإضمار. ومثل المصنف في الشرح المحصور بقوله: إنما أنت سيرًا، ومثله س ب"ما" و"إلا"، وسواء أكان في المصدر الألف واللام أو لم تكن نحو: ما أنت إلا الضرب الضرب، وما أنت إلا سير البريد سير البريد، وهذه مثل س. وتقول: م أنت إلا تسير سيرًا، فتظهر الفعل. فإن قلت: كيف الجمع بين هذا وبين قولك فيما تقدم إنه بدل من اللفظ بالفعل، فلا يظهر الفعل، وهنا قد ظهر؟ فالجواب أن الإخبار إذا كان عن شيء متصل بزمان الإخبار لم ينقطع فالفعل واجب الإضمار، وإذا أردت أنه سار، ثم انقطع السير، أو أخبرت أنه يسير في المستقبل، فإن الفعل يظهر، ذكر ذلك س. وقوله وقد يرفع خبرًا مثاله: زيد سير سير، وما أنت إلا شرب الإبل، تجعل الآخر هو الأول على سبيل المبالغة. وإذا أخبرت بالمصدر عن عين فثلاثة مذاهب: أحدها مذهب س أن ذلك على سبيل المبالغة، حيث جعلت الذات نفس المصدر مبالغة. ومذهب

الكوفيين أنه محرف عن أصله، فإذا قلت زيد عدل فمعناه عادل. ومذهب أبي العباس أنه على حذف مضاف تقديره: ذو عدل. وقوله وقد يغني عن الخبر غير ما ذكر من مصدر مثاله: زيد سيرًا، أي يسير سيرًا، فأما قول بعض العرب: "إنما العامري عنته" أي: يتعمم عمته، فهذا من المصدر المحصور نظير: ما أنت إلا سيرًا، فهو من الكثير المقيس. وقوله أو مفعول به مثاله ما روى: "إنما العامري عمامته"، التقدير" يتعهد عمامته، وقوله تعالى (وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ) و (فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ) التقدير: يقولون ما نعبدهم،: فيقال لهم أكفرتم. قال المصنف: "ومن ذلك ما رواه الكوفيون من قول العرب: حسبت أن العقرب أشد لسعة من الزنبور فإذا هو إياها، أي: فإذا هو يساويها". ولا يجوز أن يكون إياها قد شذ وقوعه في موضع رفع كما شذ في موضع جر، كقول العرب: مررت بإياك، حكاه الفراء عنهم، ثم قال: وأنشد الكسائي"

وأحسن، وأجمل في أسيرك إنه ضعيف، ولم يأسر كإياك آسر انتهى. وتقديره: فإذا هو يساويها، لما حذف الفعل انفصل الضمير. وهذا الذي ذكر أن الكوفيين رووه عن العرب هي المسألة التي جرت بين الكسائي والفراء، وبين سيبويه بحضرة هارون الرشيد، وقيل: بل حضرة يحي بن خالد البرمكي، وتسمى المسألة الزنبورية، واختلف النقل فيها: فقيل: أجازة س بقوله: فإذا هو إياها، وقال الكوفيون: فإذا هو هي، وقيل: أجازه س بقوله: فإذا هو هي، وقال الكوفيين: فإذا هو إياها. وكلا الجوابين له توجيه من العربية: فمن قال: "فإذا هو إياه" فـ "إياها" مفعول بفعل محذوف يدل عليه المعنى، فلما حذف الفعل انفصل الضمير. ومن قال: "فإذا هو هي" فليس المعنى أن الزنبور هو العقرب حقيقة، وإنما هو من باب زيد زهير، أي: فإذا هو مثلها في اللسع لا أشد لسعًا منها. وقد نظم هذا المعنى شيخنا الإمام العلامة رئيس الأدباء غير مدافع في عصره أبو الحسن حازم بن محمد بن حازم الأنصاري الأندلسي، أنشدنا لنفسه بمدينة تونس من قصيدة له في النحو قوله: والعرب قد تحذف الأخبار بعد "إذا" إذا عنوا فجأة الأمر الذي دهما

فإن تلاها ضميران اكتسي بهما وجه الحقيقة من إشكاله غممًا لذاك أعيت على الإفهام مسألة أهدت إلى سيبويه الحتف والغمما وقد كانت العقرب العوجاء أحسبها أشد لسعة من لسعة الزنبور وقع حما وفي الجواب عليها هل "إذا هو هي" أو هل "إذا هو إياها" قد اختصما وغاط عمرًا علي في حكومته يا ليته لم يكن في مثلها حكمًا كغيظ عمرو عليًا في حكومته يا ليته لم يكن في مثلها حكمًا وفجع ابن زياد كل منتخب من آله إذا غدا منه يفيظ ذما كفجعة ابن زياد كل منتخب من آله إذا غدا منه يفيض دما وفي البسيط: فإذا هو هي. وقال الكسائي والكوفيون: فإذا هو إياها حجة البصريين أن "هو" مبتدأ، والخبر إما أن يكون "إذا" التي للمفاجأة لأنها مكان، فيلزم أن يكون الثاني حالًا، و"إياها" لا يكون حالًا. وأما أن يكون الخبر الضمير الثاني، و"إيا" من ضمائر النصب، فلا يكون خبرًا فتعين أن يكون ضمير رفع خبرًا للمبتدأ. واحتج الوفيون من وجهين: أحدهما: أن العرب شهدوا بذلك، وأقروا به. والثاني: أن "إذا" التي للمفاجأة يجوز أن يرتفع ما بعدها بالمبتدأ والخبر، وأن ينصب على إضمار وجد، وعلى ذلك جاءت الحكاية.

وقال ثعلب: هو عماد، أي: وجدته إياها. وهو ضعيف لأنها لا بد لها من مفعولين، وليسا في الكلام، ولا يكون "هو" عمادًا- أعني فصلًا- لأن الفصل يكون بين اسمين، وليسا هنا. وقوله أو حال مثاله ما روى الأخفش من قول بعض العرب: زيد قائمًا، والأصل: زيد ثبت قائمًا، أو عرف قائمًا. وروى عن علي رضي الله عنه أنه قرأ" () بالنصب. وما حكاه الأزهري من قول بعض العرب: حكمك مسمطًا، أي" حكمك لك مثبتًا، فـ "لك" خبر حذف، واستغنى عنه بالحال، وليس نظير: صربي زيدًا قائمًا، وعلى ذلك يخرج فول النابغة الجعدي: وحلت سواد القلب، لا أنا باغيًا سواها، ولا في حبها متراخيًا أي: لا أنا أرى باغيًا، فحذف "أرى" وهو خبر "أنا" وأنا: مبتدأ، ودل عليه المعمول، وهو أولى من جعل "لا" عاملة في المعرفة. وقوله وقد يكون للمبتدأ خبران فصاعدا بعطف وغير عطف مثاله بغير عطف قوله تعالى (وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ (14) ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ (15) فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ)، وقول الراجز:

/ من يك ذا بت فهذا بتي مقيط مصيف مشتي وقوله: ينام بإحدى مقلتيه، ويتقي بأخرى الأعادي فهو يقظان هاجع ومثاله بعطف: زيد فقيه وشاعر، ويجوز فيما قبله دخول الواو. وقوله وليس في ذلك ما تعدد لفظًا دون معنى مثاله: هذا حلو حامض، بمعنى مز، وهذا أعسر يسر، بمعنى أضبط، أي: عامل بكلتا يديه، فهذان قام مقام خبر واحد في اللفظ والمعنى، ولا يستعمل فيه العطف لأن مجموعة بمنزله مفرد، فلو استعمل فيه العطف لكان عطفه بعض كلمة على بعض، وأجاز ذلك أبو علي، فيقول: هذا حلو وحامض. وقوله ولا تعدد لتعدد صاحبة حقيقة مثاله: بنو زيد فقيه وشاعر وكاتب، وقول الشاعر: يداك يد خيرها يرتجي وأخرى لأعدائها غائظه ولا تستعمل هذه الأخبار إلا بحرف العطف. وقوله أو حكمًا مثاله في قوله تعالى: (اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ)، وقول الشاعر:

والمرء ساع لأمر ليس يدركه والعيش شح وإشفاق وتأميل ولا يستعمل هذا أيضًا دون عطف. انتهى ما شرح به الكلام في تعداد الأخبار، وهو ملخص من شرح المصنف. ونقول: إذا تعدد المبتدأ في اللفظ أو في المعنى فخبره مطابقة في اللفظ أو في المعنى، نحو: الزيدان قائمان، الزيدان قائم وقاعد، وزيد وعمرو شاعران، وزيد وعمرو شاعر وكاتب، والزيدون قائمون، والزيدون قائم وقاعد ومضطجع، وزيد وعمرو وبكر قائمون، وزيد وعمرو وبكر شاهر وكاتب وفقيه. وإذا اتحد لفظًا ومعنى ففي جواز تعدد الخبر مع اتحاد المبتدأ خلاف: منهم من أجاز مطلقًا، سواء أكان الخبران فصاعدا من قسم المفرد أم من قسم الجمل أم مركبًا منهمًا، نحو: زيد كاتب شاعر، وزيد أبوه قائم أخوة خارج، وهند منطلقة أبوها خارج، وزيد أمه منطلقة خارج. ومنهم من قال: لا يقضي إلا خبرًا واحدًا، فإن قضيته أكثر فلا بد من حرف التشريك، نحو: زيد قائم ومنطلق، أو زيد قام أخوه وأبوه مسافر، إلا أن تريد اتصافه بذلك في حين واحد فيجوز، نحو: هذا حلو حامض، أي: مز، فإذا لم ترد أن يتصف بذلك في حين واحد، وكان ذلك في وقتين، فلا يجوز، نحو: زيد ضاحك راكب، وهذا هو اختيار من عاصرناه من الشيوخ. وإذا كان للمبتدأ خبران في حين واحد، وكانا بغير تشريك، وهما مشتقان الاشتقاق الذي يتحمل صاحبه/ الضمير، نحو: هذا حلو حامض،

وزيد قائم قاعد، أي: مضطرب الرأي، وقوله: ينام بإحدى مقلتيه، ويتقي بأخرى الأعادي، فهو يقظان هاجع أي: متحذر أو متخوف، فهل فيما ضميران أم الأول خال من الضمير، والثاني محتمل ضمير المبتدأ؟ فيه نظر: نقل لنا عن أبي علي الفارسي أنه ليس إلا ضميرًا واحد تحمله الخبر الثاني؛ لأن الأول تنزل من الثاني منزله الجزء منه، وصار الخبر إنما هو بتمامها. والذي أختاره أن كلًا منهما تحمل ضميرًا من المبتدأ، وأن كونهما خبرين في وقت واحد لا يخرجهما عما استقر في الخبر المشتق من تحمله الضمير. وثمرة هذا الخلاف تظهر إذا جاء بعدهما اسم ظاهر، نحو قولك: هذا البستان حلو حامض رمانه، فإذا قلنا: لا يحتمل الأول ضميرًا تعين أن يكون الرمان مرفوعًا بالثاني، وإذا قلنا إنه يتحمل أن يكون من باب الإعمال، ولا التفاف لمن شرط في باب التنازع أن العاملين لا يتنازعان سببًا مرفوعًا، وسيأتي القول في ذلك في بابه إن شاء الله. وقال بعض أصحابنا: قال أبو علي: "إن ارتفعا بأنهما خبر فلا يكون؛ لأنه لا يوجد رافع لاسمين هكذا، ولأنه محمول على الفاعل، ولا

فاعل هكذا. ولا يصح في حامض أن يكون صفة لامتناع وصف الحلو به، ولا بدلًا لأنه لا يراد أحدهما، ولا خبر مبتدأ محذوف لصيرورة الكلام جملتين، وإنما يريد أنه جمع الطعمين لا أنه هو هذا وهذا". وقيل ليس بخارج عن الصفة، فكان الخبر هو الأول موصوفًا بهذا، أي: حلو مكسور بحموضة، كما تقول إذا كان مبتدأ، نحو: الحلو الحامض هو السكنجبين، فالحامض صفة، فكذلك في الخبر، والصفات قد توصف إذا تنزلت منزلة الجوامد، نحو: مررت بالضارب العاقل، وكذلك: هو زيد المنطلق، وهذا رجل منطلق، وقد جوز س فيهما الخبرية على الجمع، لكت ينتقض الوصف إذا كان أحدهما معرفة والآخر نكرة، نحو: هذا زيد قائم، وقد جوزه س على الجمع. ومثل هذين الخبرين لا يعطف الثاني فيه على الأول لأن الواو لا تدخل إلا حيث تستقل الإفادة. وقيل: تدخل واو الجمع كما تدخل في: اختصم زيد وعمرو، وإن كان الفعل لا يتم بالأول وإذا لم يحضر الخبرين لفظ واحد، وقصدت الجمع، كان في الأمر الأكثر منزله: هذا حلو حامض، في الأكثر: ومنه قراءة عبد الله (وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا)، ومنه (كَلَّا إِنَّهَا لَظَى. نَزَّاعَةً لِلشَّوَى)، وقوله: (وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ. ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ) وقول الشاعر:

من يك ذا بت فهذا بتي مقيظ مصيف مشتي أي: صالح للقيظ والصيف والشتاء. ويصلح هنا العطف، ويحسب قصدك الجمع/ بحذفهما، والخبران هنا ليس متنافيين، ويصلح أن يستقل كل واحد منهما بالخيرية، بخلاف: هذا حلو حامض. وقال صاحب البديع: "قد يرد للمبتدأ خبران فصاعدا، قالوا: هذا حلو حامض، وهذا أبيض أسود، وعليه قوله: "وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ)، وهذان الخبران وقعا جميعًا خبرًا للمبتدأ لمتشابهتهما الجمل، فلا يجوز الفصل بينهما ولا تقدمهما على المبتدأ عند الأكثرين، ولا تقدم أحدهما تأخر الآخر، وأجازه بعضهم، والضمير يعود على المبتدأ من معنى الكلام، كأنك قلت: هذا مز، لأنه لا يجوز خلو الخبرين من الضمير لنقص ما تقرر من اضطرار اسم الفاعل إليه، ولا يجوز أحدهما به لأنه ليس أولى من الآخر، ولا يجوز أن يكون فيهما ضمير واحد لأن عاملين لا يعملان في معمول واحد، ولا يجوز أن يكون فيهما ضميران لأنه يصير التقدير: كله حلو وكله حامض، وليس هذا الغرض منه. وقال الأخفش: الخبر الثاني وقع كالصفة للأول، وإنما أرادوا بالإخبار أن هذا حلو فيه حموضة" انتهى. وفي "الغرة" أن ابن جني أجاز تقديم أحد الخبرين على المبتدأ، ونشد في كتاب "التمام": بان الخليط الذي ما دونه أحد عندي، ولو لم يكن يرضى به أحد فيجوز أن يكون "دونه و"عندي" خبرين للمبتدأ. وقال الأخفش في "المسائل الكبير": "اعلم أن قولهم: هذا حلو

حامض، وهذا أبيض أسود، إنما أرادوا أن هذا حلو فيه حموضة، فينبغي أن يكون الثاني صفة للأول، وليس قولهم إنهما جميعًا خبر واحد بشيء، وكيف يكون؟ هذا ليس له مذهب في العربية". وذكر أبو الفتح أنه راجع أبا علي في هذا الفصل نيفًا وعشرين سنة في عود الضمير حتى يتبين له. وقوله وإن توالت مبتدآت إلى آخره: في ذلك طريقان: أحدهما جعل الروابط في الأخبار. والثاني جعله في المبتدآت: فمثال الأول: زيد هند الأخوان الزيدون ضاربهما عندها بإذنه، والمعنى: الزيدون ضاربو الأخوين عند هند بإذن زيد. ومثله من الموصول: الذي التي اللذان التي أبوها أبوهما أختها أخوالك أخته زيد، قال ابن الخباز: فلا تدخل العرب موصولًا على موصول، بل ذلك من وضع النحويين، وهي مشكلة جدًا. ومثال الثاني: زيد أمه أخواها عمها قائم، والمعنى: عم أخوي أم زيد قائم. وقد ذكر هذه المسألة الأستاذ أبو الحسن بن عصفور، وطول فيها، وهي من واضح المسائل. وقد ذكرها غيره من أصحابنا. وذكر على ثلاثة أوجه: فالوجهان ما سبقا. والثالث ما تركب منهما، وهو على ضربين: أحدهما أن يتقدم بعض المبتدآت المعراة، ويتأخر بعض عن

المعرى، فيحتاج الأولى إلى/ ضمائر أخيرة، كقولك: زيد عمرو هند أبوها أخوه منطلق من أجله عنده، وتلخيصها: أخو أبي هند منطلق من أجل عمرو عند زيد. والثاني بالعكس كقولك: زيد غلامه أبوه عمرو العمران منطلقان من أجله عنده، وتلخيصه، العمران منطلقان من أجل عمرو عند أبي غلام زيد. وقد تتركب تركيبًا آخر ثلاثيًا بأن يتقدم المعرى، ثم تثنيه بالمشتغل، ثم تثلثه بالمعرى، وبالعكس، فيكثر المفروض. وهذه المسائل التي وضعها النحويون للاختبار، ولا يوجد نظير تراكيبها في لسان العرب، وإنما اقتضتها صناعة النحو. ونظير ذلك أن نقول: أعلمت زيدًا عمرًا قائمًا حسنًا أمامك يوم الجمعة ضاحكًا وهندًا عائشة منطلقة إعلاميًا قبيحًا وراءك يوم الخميس باكية، فمثل هذا التركيب اقتضته صناعة النحو، ولا يوجد مثله في كلامها البتة. في كتاب "المقتضب" لأبي العباس وكتاب "اللباب" للحوفي من هذا النوع مسائل وضعت للاختبار وتمرين الذهن، وأما أن تلك التراكيب توجد في كلام العرب فلا. ونبهت هنا على هذا لئلا يتوهم أن مثل هذا التركيب الذي ركبه النحويين هو موجود في كلام العرب.

-[ص: فصل تدخل الفاء على خبر المبتدأ وجوبًا بعد أما إلا في ضرورة أو مقارنة قول أغنى عنه المقول، وجوازًا بعد مبتدأ واقع موقع من الشرطية أو ما أختها، وهو أل الموصولة بمستقبل عام، أو غيرها موصولًا بظرف أو شبهه، أو يفعل صالح للشرطية، أو نكرة عامة موصوفة بأحد الثلاثة، أو مضاف إليها مشعر بمجازاة، أو موصوف بالموصول المذكور، أو مضاف إليه.]- ش: خبر المبتدأ مرتبط بالمبتدأ ارتباطًا المحكوم به بالمحكوم عليه، فلا يحتاج إلى حرف يربط بينهما، كلا لا يحتاج الفعل والفاعل إلى ذلك، فكان الأصل أن لا تدخل الفاء على شيء من خبر المبتدأ، لكنه لما ألحظ في بعض الأخبار معنى ما تدخل الفاء فيه دخلت، وهو الشرط والجزاء. فمثال ذلك في "أما" قوله تعالى" (وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ)، وقد تقررت كيفية دخولها مع "أما" في آخر الفصل الخامس من "باب تتميم الكلام على كلمات مفتقرة إلى ذلك". ومثال حذفها في الضرورة قوله: فأما القتال لا قتال لديكم ................ أي: فلا قتال. وقوله أو مقارنه قول أغنى عنه المقول مثاله {فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ

وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ} أي: فيقال أكفرتم. وقد كرر المسألة في آخر الفصل الخامس من "باب تتميم الكلام على كلمات مفتقرة إلى ذلك"، فقال: "ولا تحذف في السعة إلا مع قول يغني عنه محكيه". وقوله وجوازًا بعد مبتدأ يعني بالجواز أنه يجوز أن تراعى أن الخبر مستحق بالصلة أو الصفة، فتدخل الفاء ولا بد، أو لا تراعي هذا المعنى، فيمكن أن يكون مستحقًا به أو بغيره، فلا تدخل، فما معنيان مقصودان يترتب عليهما دخول الفاء وعدم دخولها. وقوله واقع من الشرطية أو ما/ أختها يعني أن الموصول أو الموصوف يكون فيه عموم، فلو كان الموصول خاصُا، أو يعني بالنكرة الموصوفة خاص، لم تدخل الفاء، نحو: الذي يزورنا فهو مكرم، وتريد به شخصًا بعينه. وفي هذا خلاف: من النحويين من أجاز دخول الفاء وإن لم يكن الموصول عامًا، ولكونه عامًا زعم هشام أن الموصول إذا وصف أو أكد لم يجز دخول الفاء في خبره مع استيفاء الشروط، فلا يجوز عنده أن تقول: الذي يأتيك نفسه فله ردهم، قال: لأنك لا تريد أن تريد أن تخص رجلًا بعينه، وإنما تريد: كل من كان منه إتيان فله درهم، فإذا قلت: "نفسه" ذهب معنى الجزاء. وكذلك "الذي يأتيك الظريف فأكرمه" لا يجوز عنده. وهذا الذي ذهب إليه يعضده أنه لا يحفظ دخول الفاء مع التأكيد أو النعت من كلام العرب. وقوله وهو آل الموصولة بمستقبل عام مثل المصنف ذلك بقوله تعالى: (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا)، وقال: "فلو قصد به

مضي أو عهد أل شبه من وما". ويعنى فلم تدخل الفاء. وفي كلام المصنف نفذ من جهات: أحدهما: أنه قال" بعد مبتدأ واقع موقع من الشرطية أو ما أختها، وهو أل الموصولة" وليس "أل" وهو المبتدأ، بل هو وصلته هو المبتدأ، لذلك ظهر الإعراب في الصلة. الثاني: أنه قال "بمستقبل عام"، والعموم في الوصف إنما استفيد من "أل"، فقد وصف "أل" بقوله "الموصولة بمستقبل عام"، فتوقفت معرفة "أل" على وصفها بما ذكر، وتوقفت معرفة وصف "مستقبل" بالعموم على قوله: "عام"، فلا يعرف المستقبل إلا بدخول "أل"، ولا يعرف "أل" إلا بوصفة بالمستقبل العام، وهو المستفاد عمومه من "أل"، فلزم مكلًا منهما أن تتوقف معرفته على معرفة ما يتعرف به، وذلك لا يصح البتة. الثالث: أنه بدأ من المبتدأ الذي ادعى أن الفاء تدخل في خبرة بشيء مختلف فيه، ولم بذكر الخلاف لا في فص الكتاب ولا في شرحه، فدل علة أنه لم يطلع على الخلاف، وذلك أن النحويين اختلفوا في دخول الفاء في خبر المبتدأ الذي دخلت عليه "أل": فذهب جمهور البصريين إلى أن ذلك لا يجوز لأن السبب المسوغ لدخول الفاء في خبر "الذي" و"التي" ونحوهما غير موجود فيما دخلت عليه "أل" بمعناها، وهو أن تكون الصلة ظرفًا أو مجرورًا أو جملة فعلية غير شرطية، فهذا ما شرط في الصلة. وأما ما شرط في الخبر فهو أن يكون مستحقًا بالصلة، وسيأتي توضيح هذا كله إن شاء الله.

وذهب الكوفيون -وقيل: الفراء والمبرد والزجاج- إلى أن ذلك يجوز، وحملًا عليه قوله تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا} لأن {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي} في معنى الذي يزني والتي تزني. ولا حجة لهما في/ ذلك لأن خبر الزاني والزانية محذوف، تقديره: فيما فرض عليكم الزانية والزاني، أي: حكمها، ودل على ذلك قوله تعالى قبل: {سُورَةٌ أَنْزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا}. ويدل على أن التقدير كذلك رفع أكثر القراء لهما مع أن المختار في نحو "زيدًا فاضربه" النصب، فلولا أن التقدير ما ذكرناه لكان المختار نصيب. فأما ما اعتل به الفراء من أن مثل هذا لا ينصب لأن تأويله الجزاء فتعليل غير صحيح؛ لأن تعليل الجزاء لا وجه له لمنعة النصب؛ لأن الاسم في الجزاء ينتصب، تقول: أيًا تضرب أضربه، فلما رفعهما أكثر القراء، والعامل في الضمير أمر، دل ذلك على أن قوله {فَاجْلِدُوا} ليس في موضع الخبر، بل الخبر محذوف. وقرأ ناس من القراء منهم عيس بن عمر {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي} بالنصب، فيكون نحو: زيدًا فاضربه. وقوله وغيرهما موصولًا بظرف أي: وغير "أل" موصولًا بظرف،

مثاله قول الشاعر: ما لدى الحازم اللبيب معارًا فمصون، وماله قد يضيع وقوله أو شبهه هو الحار والمجرور، ومثله المصنف وغيره بقوله تعالى {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ}. فإن قلت: قد ذكرت أن الفاء لا تدخل في الخبر حتى يكون مستحقًا بالصلة، وكون النعم من الله غير مستحق باستقرار نعمة بنا. فالجواب أن العرب قد تقيم السبب مقام المسبب، وتستغني به عن ذكره، فالمعنى: وما بكم من نعمة فاشكروا الله عليها لأنها منه، فأقيم سبب شكره تعالى على النعم، وهو كونها منه، مقام الشكر، واستغنى به عنه. وقوله أو بفعل صالح للشرطية احترز بقوله "أو بفعل" وبما قبله من أن تكون الصلة جملة اسمية، فإنه إذ ذاك لا تدخل الفاء، نحو: الذي هو محسن فهو مكرم. واحترز بقوله: "صالح للشرطية" من أن يكون غير صالح لأداء الشرط، وذلك صور: إحداها أن تكون أداة الشرط قد باشرته، نحو: الذي إن يكرمني أكرمه فهو مكرم، فلا يجوز دخول الفاء هنا لأن الشرط قد استوفى جزاءه في الصلة، فلا يكون له جزءان؛ إذ الفاء إنما تكون داخلة على الخبر لاستحقاقه بالصلة وكوبه جوابًا لها في المعنى، والصلة قد أخذت جوابها،

فلو دخلت للزم أن يكون للشرط جوابان، وذلك غير جائز. وأيضًا فإذا دخل خبر "الذي" الفاء كان منزلًا منزلة اسم الشرط، واسم الشرط لا يجوز دخوله على أداة الشرط، فكذلك ما كان منزلًا منزلته. وأجاز بعضهم ذلك، نحو: الذي إن تطلع الشمس ينظر إليها فهو صحيح النظر، نظرًا إلى أن الشرط والجزاء مستقبلان، ولا يلزم ما قال أبو علي من أنه يكون للشرط جزءان لأن السبب يختلف والمسبب يختلف، فيدخل أحدهما على الآخر؛ لأنه لا يبعد أن يكون ارتباطًا سبب لمسبب سببًا لمسبب آخر كالمثال/ الذي سبق، وارتباط الرؤية بطلوع الشمس دال على حدة البصر، قاله صاحب البسيط عن بعض شيوخه. وقد أجاز الفراء وغيره كون الشرط جوابًا للشرط، وعليه حمل {فَإِمَّا يَاتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ}. وحمله بعضهم على حذف الجواب، أي: فاتبعوه، فمن تبع. وفي البسيط أيضًا: "وأما إن دخلت على جملة شرط، وبها تمت صلتها، فهو جائز عند النحويين س والمبرد وغيرهما، فتقول: الذين إن يأتني أحسن إليه فله درهم، وأي من يأتني أكرمه فله درهم، وكذلك سائر أخواتها" انتهى. يعني أخوات "إن" من أدوات الشرط. الصورة الثانية: أن يكون الفعل ماضي المعنى، نحو قولك: الذي

زارنا أمس فله دينار، فلا يجوز ذلك لأن "زارنا" لا يصلح لأداة الشرط لمضي الفعل معنى. وأجاز ذلك بعضهم واستدل على ذلك بقوله تعالى: {وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ}، وبقوله تعالى: {وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ}، ومعلوم أن هذا ماض لفظًا ومعنى مقطوع بوقعه صلة وخبرًا. وقد تأولناه على معنى التبين، كأنه قيل: وما يتبين إصابته إياكم، وما يتبين إفاءة الله على رسوله منهم، ويكون نظير قوله تعالى: {إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ} أي: إن تبين كون قميصه قد من قبل. الصورة الثالثة: أن يكون مستقبلًا مصحوبًا بالسين أو سوف أو لن أو قد أو ما، نحو: الذي سيأتيني أو سوف يأتيني أو لن يأتيني أو قد يأتيني أو ما يأتيني له درهم، فلا يجوز دخول الفاء على هذا الخبر لأنه لا تصلح هذه الصلات لدخول أداة الشرط على شيء منها. وكذلك لو كان داخلًا عليه لما، نحو: الذي يأتني له درهم، بخلاف لم؛ لأن أداة الشرط لا يصلح دخولها على لما، ويصلح دخولها على لم. وهذا الذي ذكر المصنف من اشتراط صلاح الصلة إذا كانت فعلًا لأداة الشرط فيه خلاف: قال الأستاذ أبو الحسن بن عصفور ما نصبه: ومن الناس من اشتراط في الفعل الواقع صلة إذا دخلت الفاء في الخبر أن

يكون الفعل مما يحسن وقوعه بعد أداة الجزاء، فلو قال: "الذي ما يؤذيني فله درهم" لم يجز ذلك عنده لأن أداة الشرط لا تدخل على "ما" النافية. ومن الناس من أجاز ذلك مع الموصولـ وإن لم يجزه مع أداة الشرط، لأنه ليس بشرط صحيح، وإنما هو مشبه به. قال: والصحيح عندي أن الامتناع من إجازة ذلك لأنه غير محظوظ من كلام العرب، وإذا لم يسمع من كلامها أمكن أن تكون امتنعت من إجازته لما ذكرتاه من أن الصلة إذا ذاك لا تشبه فعل الشرط. وقوله أو نكره عامة موصوفة بأحد الثلاث يعني الظرف أو مشبهه أو الفعل الصالح للشرطية، مثال ذلك: رجل عند حزم فهو سعيد، وعبد لكريم/ فما يضيع، ونفس تسعى في نجاتها فلن تخيب، وشرط بعضهم في فاعل الفعل الذي صلة أو صفة أن يكون عامًا، قال: فلو كان معينًا لم يجز لأنه يخصص به الفعل، فيخرج عن الإبهام، ولذلك كانت النكرة ولا بد عامة. ولم يشترط ذلك بعضهم، وما حكى الكسائي من قولهم: "الدار التي أسكنها فمعطاة" فشاذ من وجهين: تعيين الفاعل، ومعهودية الذكر، ويخرج على زيادة الفاء أو الندور. وقوله أو ضاف إليها مشعر بمجازاة مثاله: كل رجل عنده حزن فهو سعيد، وكل عبد لكريم فما يضيع، وكل نفس تسعى في نجاتها فلن تخيب، قال الشاعر: نرجو فواصل رب سيبه حسن وكل خير لديه فهو مسؤول وروي: فهو مبذول. قال بعض أصحابنا: ولا يلزم أن تكون النكرة العامة لفظ "كل"،

خلافًا لبعضهم، بل كل نكرة يراد بها العموم من جهة المعنى حكمها وحكم "كل" في ذلك سواء، ولو قلت: "رجل يأتيني فله درهم" جاز دخول الفاء لأن معناه ومعنى "كل رجل يأتيني" واحد وأجاز الفراء: ضارب عمرًا فله دينار؛ لأن معناه ومعنى قولك" "كل رجل ضارب عمرًا" سواء. والصحيح أم ذلك لا يجوز الشبه المسوغ لدخول الفاء في الخبر مفقود؛ لأن ضاربًا ليس موصوفًا بجملة تشله الشرط. واختر بقوله: "مشعر بمجازاة: وقوله أو موصوف بالموصول المذكور مثاله قوله تعالى: (وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا يَرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ)، وقول الشاعر: صوا الحزم، فالخطب الذي تحسوبنه يسيرًا فقد تلقونه متعسرًا وهذا الذي ذكره فيه خلاف، قال بعض أصحابنا: "الصحيح عندي أن ذلك لا يجوز لأن الاسم المخبر عنه- وهو الموصوف ب"الذي"- ليس بمشبه لاسم شرط؛ لأن اسم الشرط لا يقع بعده إلا الفعل ظاهرًا أو مضمرًا، والاسم الموصوف بـ "الذي" ليس كذلك" انتهى. ويمكن تأويل الآية على أن يكون (الْقَوَاعِدُ) مبتدأ، و (اللَّاتِي) خبره، كأنه قال: والقواعد من النساء هن اللاتي لا يرجون نكاحًا، والجملة من قوله: (فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ) جملة مرتبطة بالفاء بالجملة التي قبلها من المبتدأ والخبر.

ويحتمل أن يكون (وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ) مبتدأ، و (اللَّاتِي) مبتدأ ثانيًا، والرابط فيه محذوف، أي: اللاتي لا يرجون نكاحًا منهن فليس عليهن جناح، ودخلت الفاء لأن الجملة وقعت خبرًا عن (اللَّاتِي)، وهو موصول فيه شرط جواز دخول الفاء معبرة في خبره، وكأنه قسم من النساء إلى قسمين: أحدهما لا يرجون نكاحًا، فحكم عليهن أنه ليس عليهن جناح. والثاني ما يرجون نكاحًا، فعليهن الجناح. وأما البيت فيتخرج على زيادة الفاء، أي: قد/ لا تلقونه، كما قال: ................... ............. والصغير فيكبر وقوله أو مضاف إليه: أي: إلى الموصول، مثاله قول زينب بنت الطثرية ترثي أخاها: يسرك مظلومًا، ويرضيك ظالمًا وكل الذي حملته فهو حامل -[ص: وقد تدخل على خبر "كل" مضافًا إلى غير موصوف، أو إلى موصوف بغير ما ذكر، وعلى خبر موصول غير واقع موقع "من" الشرطية، ولا "ما" أختها، ولا تدخل على خبر ذلك، خلافًا للأخفش. وتزيلها نواسخ الابتداء إلى إن وأن ولكن على الأصح.]- ش: مثاله ما روى عن بعض السلف: "كل نعمة فمن الله"،

وقال الأفوه: وكل قرينة فإلى افتراق ولكن فرقة تنفي الملاما ومثاله موصوف بغير ما ذكر قول الشاعر: كل أمر مباعد أو مدان فمنوط بحكمه المتعالي ومثال ما ذكر بعده قوله تعالى: {وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ}، وهكذا مثله المصنف في الشرح، وقد تقدم أن بعض النحويين أجاز ذلك، وإن كانت الصلة ماضية في المعنى، فالمصنف موافق له، وقد ذكرناه تأويل ذلك. وقوله لا تدخل على خبر غير ذلك قال المصنف في الشرح: "أجاز الأخفش دخول الفاء على خبر المبتدأ الذي لا يشبه أداة الشرط، نحو: زيد فمنطلق، وزعم أنهم يقولون: أخوك فوجد، ومثل ما زعم قول الشاعر: ................. ويحدث ناس، والصغير فيكبر

ولا حُجَّة له في قول الشاعر: وقائله: خولان فأنكح فتاتهم وأكرومه الحين خلو كما هيا ولا قول الآخر: أرواح مودع أن بكور أنت فانظر لأي ذاك تصير لأن معنى الأول: هذه خولان، فخولان خبر مبتدأ محذوف. ومعنى الثاني: أنظر أنت، فأنت فاعل محذوف، على أن زيادة الفاء قد سهلها كون الخبر أمرًا، كما يسهلها كون الفاعل أمرًا، مفرغًا في نحو: زيدًا فاضرب، {وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ}؛ لأن الأمر تطرق إلى ما تعلق به معنى المجازاة، فالقائل: زيدًا فاضرب، أو زيد فاضربه، كأنه قال: ما يكن من شيء فزيدًا اضرب، وما يكن من شيء فزيد اضربه، فلا يلزم من جواز هذا جواز: زيد فمنطلق؛ إذ ليس الخبر أمرًا، فيطرق إلى ما تعلق به معنى المجازاة" انتهي. وأجاز الفراء وجماعة منهم الأعلم دخولها في الخبر إذا كان أمرًا أو نهيًا، نحو: زيد فلا تضربه، وزبد فاضربه، وزيد فليقم، سواء أكان المبتدأ موصولًا أو موصوفًا بالشرط الذي/ ذكر أو كان غير ذلك، واستدل بقوله: يا رب موسى أظلمني وأظلمه فاصبب عليه ملكًا لا يرحمه

وفي الإفصاح ما ملخصه: ذكر أبو علي أن زيدًا ونحوه كان مبتدأ لم تدخل الفاء في خبره؛ لأن الفاء تؤذن باستحقاق ما بعدها بما قبلها. وأجاز الأخفش على زيادة الفاء، وحكي عنهم: زيد فوجد، وزيد فقائم، وهذا لم يسمعه س إلا فيما يحتمل نحو: وقائلة: خولان فانكح فتاتهم .................... وأول على: هذه خولان: فتعطف الفاء جملة علة جملة وإن لم يتناسب المتعاطفتان؛ إذ الصحيح جواز ذلك. ومنهم من يقول: أصله مهما يكن من شيء فزيد اضربه، وعوض مهما وفعلها "أما"، فتقول" أما زيد فاضربه، ثم تحذف "أما" اختصارًا ويبقى اللفظ على حاله. ومنهم من قال: التقدير تنبه فزيدًا اضربه، فلما حذف "تنبه" أو ما في معناها قدموا الاسم دليلًا على ذلك المعنى، والأكثر نصبه بسبب الأمر. وأجاز الفراء: زيد فاضربه، قال: ولا يجوز: زيد فمنطلق. قال ابن طاهر: لأنه على زيادة الفاء عنده أو للتنبيه. وقد أجاز أبو علي وابن جني زيادة الفاء في الأمر والنهي، وعليه حملًا {وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (3) وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ}.

وقال أبو إسحاق: {فَلْيَذُوقُوهُ} خبر {هَذَا}. وشبهه بقوله: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ}. وخطأه أبو علي، وقال: "هذا ليس فيه معنى الفعل شيء، وفي {السَّارِقُ} ما استحق به العقاب". فعلى قول أبي على (هذا) مفعول بفعل مضمر، كقولك: زيدًا فاضربه، و {وَحَمِيمٍ} خبر مبتدأ، أي: هو حميم. وفي قول ذي فائش الحميري لعلبة "الله درك! مثلك فليصف أسرته" ما يشهد لما حكي عن أبي الحسن في زيادة الفاء. وتؤول على نية: مثلك فليكلف. وقال الأعلم: إن هذا رفع على الإهمال. وزعم في البيت أنه يرفع على الإهمال. وذكر أن كلامهم: زيد فاضربه، وهو غالب، وأنه يجوز: الله فاعبده. ولا وجه لقوله لأن الإهمال عدم العامل، وكيف يكون عاملًا، وقد وجدنا الأعداد المتناسقة وحروف الهجاء المتناسبة وحروف فواتح السرور غير معربة لإهمالها، وكذلك كل مهمل. وقوله وتزيلها نواسخ الابتداء إلا إن وأن ولكن على الأصح قال

المصنف في الشرح: "إذا دخل بعض النواسخ على مبتدأ دخلت الفاء في خبره أزال شبهه بأداة الشرط، فامتنع دخول الفاء على الخبر" انتهى. فقوله: "إذا دخل بعض النواسخ على مبتدأ دخلت الفاء على خبره" إلى آخره يدل على أن الناسخ يدخل على مبتدأ دخلت الفاء في خبره، وليس كذلك، بل إذا دخل الناسخ فلا يدخل إلا على مبتدأ لا تكون الفاء في خبره، وليس المعنى أنه إذا دخل الناسخ أزال الفاء. وقال في الشرح: "ما لم يكن الناسخ إن وأن ولكن، فإنها ضعيفة العمل إذ/ لم يتغير بدخولها المعنى الذي كان مع الابتداء، ولذلك جاز العطف معها على معنى الابتداء، ولم تعمل في الحال، بخلاف كأن وليت ولعل، فإنها قوية العمل، مغيرة بدخولها المعنى الذي كان مع الابتداء، مانعة بدخولها من العطف على معنى الابتداء، صالحة للعمل في الحال، فقوى شبهها بالأفعال، وساوتها في المنع من الفاء المذكورة" انتهى. وقوله "ولذلك جاز العطف معها على معنى الابتداء، مذهب س والمحققين أنه لا يجوز، والعجب للمصنف أنه ذكر جواز ذلك لإجماع في باب إن وأخواتها، وجهل الخلاف في ذلك، ولاسيما خلاف س، وسيأتي بيان ذلك في بابه إن شاء الله. وقوله "مانعة بدخولها من العطف على معنى الابتداء، قد ذكر هو- أعني المصنف- الخلاف في ذلك في "باب إن"، وستقف عليه. وقوله على الأصح وهو راجع إلى الثلاثة، وهو ظاهر كلام المصنف.

وقال الأستاذ أبو الحسن بن عصفور: الموصول الذي يجوز دخول الفاء في خبره إذا دخلت عليه ليت أو لعل أو ما أشبههما من نواسخ الابتداء لم يجز دخول الفاء في خبره؛ لأن الموصول إذ ذاك لا يشبه اسم الشرط؛ لأن اسم الشرط لا يعمل فيه ما قبله، وإذا زال الشبه باسم الشرط لم يكن لدخول الفاء وجه إلا أن تكون زائدة، وزيادة الفاء لا تنقاس ما لم يكن الناسخ إن، فإن كان "إن" جاز دخول الفاء في الخبر، ومنه {إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ}، وجاز ذلك معها وحدها من بين سائر أخواتها لأن العرب تعامل "إن زيد قائم" معاملة "زيد قائم" لما كانا في معنى واحد، بدليل قولهم: إن زيدًا قائم وعمرو، ولا كذلك النواسخ، فعاملوا: "إن الذين يأتيك فله درهم" معاملة "الذين يأتيك فله ردهم" انتهى. فظهر من هذا النقل أن دخول الفاء مخصوص بإن وحدها خاصة ومن منع ذلك في خبر إن احتج بأن "إن" تحقق الخبر، والشرط فيه توقف وإخراج عن صريح الخبر، فلا يجتمعان، وهو رأي الأخفش. وقد قيل: إدخال "إن" في الموانع من الفاء هو رأي س، وإخراجها رأي الأخفش. والعجب للمصنف أن ذكر الخلاف في إن وأن ولكن خاصة، فأفهم كلامه أن باقي النواسخ لا خلاف في أنه لا تدخل الفاء معها، وفي ذلك تفصيل وخلاف، فنقول"

إن دخل على المبتدأ المستوفي الشروط ناسخ فإن كان ليت أو لعل أو كأن فلا تدخل الفاء، وفي لعل خلاف: منهم من ألحقها بما لا يغير معنى الابتداء، فأجاز دخول الفاء لأنها قد وصلت بها الموصولات في قوله: وإني لرام نظرةً قبل التي لعلي -وإن شطت نواها- أزورها /وقد تؤول هذا البيت. وكونها وصل بها الموصول على تسليم ذلك شيء مشترك بينها وبين كأن، فكان ينبغي أن تدخل في خبر كأن كما تدخل في خبر لعل أو إن أو أن أو لكن، دخلت خلافًا لأبي الحسن في أحد قوليه. وهو محجوج بسماع ذلك، قال تعالى: {إنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا ومَاتُوا وهُمْ كُفَّارٌ فَلَن يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِم}، {إنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ}، {إنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ مَاتُوا وهُمْ كُفَّارٌ فَلَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ (34)}، وقال تعالى: {واعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ}، وقال الشاعر: علمت يقينًا أن ما حم كونه فسعي امرئ في صرفه غير نافع وقال آخر: بكل داهيةٍ ألقى العداة وقد يظن أني في مكري بهم فزع كلا، ولكن ما أبديه من فرقٍ فكي يغروا فيغريهم بي الطمع

وقال الأفوه: فوالله ما فارقتكم قاليًا لكم ولكن ما يقضى فسوف يكون أو ما فيه تحقيق مما ينصب المفعولين من نحو "علمت"، فظاهر قول ابن السراج الجواز، فتقول: علمت الذي يأتيني فله درهم. والظاهر أنه لا يجوز لأن الفاء إذا دخلت في الخبر فهو إنشاء للشرط والسبب والإخبار بأنه معلوم أو مظنون إخراج له عن الإنشاء؛ لأن القصد بدخول هذه تعريف كيفية الخبر عندك وفي اعتقادك، فليس إنشاء حينئذ. أو لا تحقيق فيه نحو "ظننت" فالمنع، فلا يجوز: ظننت الذي يأتيني فله درهم، والأخفش يجيزه على زيادة الفاء. أو "كان"، فإن كان بلفظ الماضي فلا يجوز، أو بلفظ "يكون" فظاهر قول ابن السراج الجواز. ومذهب أبي الحسن أن المبتدأ الموصول إذا ضمن معنى الشرط لا يعمل فيه ما قبله. ومذهب الجمهور جواز دخول الناسخ على ما فصل. وذهب الفراء إلى جواز دخول الفاء في خبر الاسم الموصوف بالموصول إذا دخلت عليه إن، نحو: إن الرجل الذي يأتيك فله درهم، وحمل عليه قوله تعالى: {قُلْ إنَّ المَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإنَّهُ مُلاقِيكُمْ}. والصحيح أن ذلك لا يجوز، وقد تقدم تعليل منع ذلك عند

قول المصنف: "أو موصوف بالموصول المذكور". وخرجت الآية على أن يكون {المَوْتَ} اسم {إن}، و {الَّذِي} خبرها، و {فَإنَّهُ مُلاقِيكُمْ} جملة مرتبطة بالفاء بالجملة التي قبلها، ووجه ارتباطها أن العرب تعتقد أن من فر من شيء وخاف منه كان سببًا في لقائه، ومنه قولهم: إن الجبان حتفه من فوقه جعل الجبن سببًا في قرب الحتف. وقال زهير. ومن هاب أسباب المنية يلقها ولو رام أسباب السماء بسلم جعل هيبة أسباب المنية شرطًا في لقائها. وقيل: {الَّذِي} بدل من {المَوْتَ}، فالنية به أن يلي /"إن"، وكأنه قال: قل إن الذين يفرون. مسألة: إن أعملت هذه العوامل في اسٍم آخر جاز دخول الفاء،

نحو: إنه الذي يأتيني فله درهم، وإن زيدًا كل رجٍل يأتيه فله درهم. مسألة: إذا جئت بالفاء في خبر ما فيه معنى الجزاء لم يجز العطف عليه قبلها عند الكوفيين، وأجازه ابن السراج.

باب الأفعال الرافعة الاسم الناصبة الخبر

-[ص: باب الأفعال الرافعة الاسم الناصبة الخبر فبلا شرط: كان وأضحى وأصبح وأمسى وظل وبات وصار وليس، وصلة لـ"ما" الظرفية: دام، ومنفية بثابت النفي مذكور غالبًا متصل لفظًا أو تقديرًا أو مطلوبة النفي: زال ماضي يزال، وانفك، وبرح، وفتئ، وفتأ، وأفتأ، وونى ورام مرادفتاها. وكلها تدخل على المبتدأ إن لم يخبر عنه بجملة طلبيه، ولم يلزم التصدير أو الحذف أو عدم التصرف، أو الابتدائية لنفسه أو مصحوب لفظي أو معنوي، وندر: وكوني بالمكارم ذكريني.]- ش: قوله "الرافعة الاسم" هذه المسألة فيها خلاف: ذهب البصريون إلى أنها ترفع الاسم، وتنصب الخبر. وذهب الكوفيون إلى أنها نصبت الخبر، وبقي المبتدأ على رفعه. والصحيح الأول، ويدل على ذلك اتصال الضمائر بها، فلو كان غير معمول لها لم يتصل بها لأن الضمير لا يتصل إلا بعامله. وأيضًا فيلزم في قول الكوفيين أن يفصل بين العامل والمعمول بما ليس معمولًا للعامل، وهو أجنبي. وكان القياس في هذه الأفعال أن لا تعمل لأنها ليست بأفعال صحيحة؛ إذ دخلت للدلالة على تقييد الخبر بالزمان الذي بنيت له، فقولك: "كان زيد قائمًا" بمنزلة "أمس زيد قائم"، و"يكون زيد قائمًا" بمنزلة "غدًا زيد قائم". وإنما عملت، فرفعت الاسم، ونصبت الخبر، تشبيهًا بما يطلب من الأفعال الصحيحة اسمين، نحو ضرب، من حيث إنها تطلب

اسمين أو اسمًا وما هو في تقديره، فرفع اسمها تشبيهًا بالفاعل من حيث هو محدث عنه، ونصب الخبر تشبيهًا بالمفعول، هذا مذهب س وأصحابه. وزعم الفراء أن الاسم ارتفع لشبهه بالفاعل، وأن الخبر انتصب لشبهه بالحال، فـ"كان زيد ضاحكًا" مشبه عنده بـ"جاء زيد ضاحكًا". واستدل بمجيء الجمل الاسمية والفعلية والظرف والمجرور في موضع الخبر كما تجيء في الحال، ولا يجوز شيء من ذلك في موضع المفعول به. وبدليل أن الماضي لا يحسن وقوعه خبرًا لـ"كان" إلا مع "قد" كما لا يحسن وقوعه حالًا إلا مع "قد". وبدليل أنك لا تكني عنه كما لا تكني عن المفعول به؛ ألا ترى أنك تكني عن قولك ضربت زيدًا، فتقول: فعلت به، ولا يسوغ ذلك في "كان" وأخواتها، بل إن كنيت في باب "كان" قلت: كان زيد كذا، كما تكني عن الحال: جاء زيد كذا. ورد على الفراء بأن الجمل تقع في موضع المفعول وفي موضع الحال، نحو: قال زيد /عمرو منطلق، وقال زيد يقوم عمرو، والمجرور في موضع المفعول نحو: مررت بزيٍد، والظرف في موضع المفعول إذا اتسعت فيه. وأما قبح وقوع الماضي خبرًا لـ"كان" بغير "قد" لشبهه بالحال فليس كما زعم، بل جاء وقوع الماضي خبرًا لـ"كان" في القرآن وفي كلام العرب ما لا يحصى كثرةً. ولئن سلمنا ما قال فليس سببه شبهه بالحال، بل من حيث إن "كان" يدل على المضي، فإذا كان الخبر ماضيًا لم يكن للإتيان بـ"كان" كبير فائدة؛ لأن المضي قد فهم من الخبر، فإن أتيت بـ"قد" حسن ذلك لتقريبها له من الحال. وأما الكناية فإنه يكنى عن

المفعول في باب القول بقولك كذاك، يقول القائل: قال زيد عمرو منطلق، فتسأل عن قول زيد: كيف كان؟ فتقول: قال زيد كذا. ومما يدل على صحة مذهب س أنه مشبه بالمفعول مجيء الخبر مضمرًا كما يجيء المفعول، والحال لا تضمر، ومجيئه معرفة كالمفعول، والحال بابها أن لا تكون إلا نكرةً، ومجيئه جامدًا، والحال بابها الاشتقاق، وكونه لا يستغنى عنه، والحال بابها أن يستغنى عنها. وقوله فبلا شرط يعني أنها تعمل موجبة ومنفية وصلة لـ"ما" الظرفية وغير صلة لها، إلا ما كان منها موضوعًا للنفي -وهو ليس- فلا يكون للإيجاب، ولا يقع صلة لـ"ما" الظرفية. وكلها أفعال بلا خلاف إلا ليس، فمذهب أبي بكر بن شقير وأبي علي الفارسي في أحد قوليه، وجماعة من أصحابه، أنها حرف، ولم يجعلا اتصال الضمائر المرفوعة بها وتاء التأنيث دليلًا على فعليتها لأن حد الفعل لا ينطبق عليها. ومذهب الجمهور أنها فعل، ووزنه فعل بكسر العين، وخفف، ولزم التخفيف لثقل الكسرة في الياء، ولا جائز أن يكون فعل بفتح العين لصيرورته إلى لاس، ولا فعل بضم العين لصيرورته باتصال

ضمير المتكلم أو المخاطب إلى لست بضم اللام، على أنه قد سمع فيها لست بضم اللام، فدل على أنها بنيت مرة على فعل ومرة على فعل. قال ابن هشام: "ولا تكون مضمومة لتعديها، ولأن هذا المثال لا يكون في المعتل العين بالياء" انتهى. وقد وجد في المعتل العين بالياء، قالوا: هيؤ الرجل. فإن قلت: لو كان على فعل لقلت لست بكسر اللام كما قلت نلت، وإذا كانوا يكسرونها في فعل نحو بعت فلأن يكسروها في فعل أولى. فالجواب انه لو كانت فعل لزم شذوذان: أحدهما تخفيف عينها بلا موجب وتصحيحها. والثاني عدم كسر فائها. وعلى أنها فعل يلزم الشذوذ الثاني لا الأول؛ لأن تخفيف فعل إلى فعل قياس مطرد، نحو علم في علم، فكان ادعاء أن وزنها فعل أولى. وقد نقل الفراء أن بعضهم قال لست بكسر اللام. ولـ"ليس" حالة لا يرفع فيها الاسم، ولا ينصب الخبر، وذلك إذا دخل على الخبر "إلا" في لغة تميم، وسيأتي ذكر ذلك والخلاف فيه. /وقوله وصلة لـ"ما" الظرفية "دام" "ما" الظرفية هي المصدرية المراد بها وبصلتها التوقيت، فإذا قلت: "لا أكلمك ما دام زيد قائمًا" فكأنك قلت: لا أكلمك زمان دوام زيد قائمًا، ولا يستعمل الدوام مكانها لأنه لا يدل على تخصيص كما يدل "دام". وقوله ومنفية قال المصنف في الشرح: "وقد تناول قولي:

"ومنفية" المنفي بليس، قال الشاعر: ليس ينفك ذا غنى واعتزاز كل ذي عفة بقل قنوع" والمنفي بـ"غير" كقوله: غير منفك أسير هوى كل وان ليس يعتبر والمنفي بـ"قل" نحو: قلما يزال عبد الله يذكرك؛ لأن "قلما يزال" بمعنى "ما يزال". وما يقع بعد "أبيت" نحو: أبيت أزال مستغفرًا لله، بمعنى: لا أزال. وقول العرب: لا ينشأ أحد ببلد فيزال يذكره؛ لأن معناه: إذا نشأ أحد ببلد لم يزل يذكره. ذكر ذلك كله الفراء في "كتاب الحد"، ومن أمثلته فيه: ما يعترينا أحد فنزال نعينه، وقال: ألا ترى أن المعنى: إذا اعترانا أحد لم نزل نعينه. وقوله بثابت النفي احتراز من أن تدخل عليه همزة التقرير، نحو: ألست تزال تفعل، وألم تزل تفعل، فإنه لا يجوز لأن التقرير إثبات، فإن أريد مجرد الاستفهام عن النفي جاز. وقوله مذكور غالبًا إشارة إلى أن نافيها قد يحذف، قال تعالى: {تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ} أي: لا تفتأ، وقال: تنفك تسمع ما حييـ ـت بهالك حتى تكونه

أي: لا تنفك، وقال: تزال حبال مبرمات أعدها لها ما مشى يوما على خفه الجمل قال بعض أصحابنا: لا تحذف منها أداة النفي وتراد إلا بشرطين: أحدهما أن يكون الفعل مضارعًا. والآخر أن يكون جواب قسم، وقد حذفت منها أداة النفي في حال المضي في جواب القسم شاذًا، قال: لعمر أبي دهماء زالت عزيزة .......................... أي: لا زالت عزيزة. وقد استعملت "أبرح" بغير أداة نفي في غير جواب القسم، وذلك ضرورة، قال: وأبرح ما أدام الله قومي بحمد الله منتطقًا مجيدًا وفيه قولان: أحدهما أن "لا" محذوفة، أي: لا أبرح. والثاني

أنه غير منفي لا لفظًا ولا تقديرًا، والمعنى: أزول عن أن أكون منتطقًا مجيدًا، أي: صاحب نطاق وجواد ما أدام الله قومي، فإنهم يكفونني ذلك. وقوله أو تقديرًا مثاله/ قوله: ما خلتني زلت بعدكم ضمنًا أشكو إليكم حموة الألم أراد: خلتني ما زلت، وحلت هنا بمعنى أيقنت، وهو أيضًا غريب. وقال: ولا أراها تزال ظالمة تحدث لي قرحة وتنكؤها أي: وأراها لا تزال ظالمة. وقال الفراء في "كتاب الحد": يجوز أن يقدم نفي "زال" على "ظن" وأخواتها، فيقال: لا أظنك تزال تقول ذلك. قال: وكذلك: ما أظنك تبالي بشدة، معناه أظنك لا تبالي. قال المصنف في الشرح: والنفي المفصول الفعل ومعمولاه خبره كقولك: ما عبد الله يزال محسنًا؛ لأن المعنى: عبد الله ما يزال محسنًا، فالنفي متصل بيزال تقديرًا. وكذلك المنفصل بقسم نحو قوله: فلا -وأبي دهماء- زالت عزيزة على أهلاه ما فتل الزند قادح وقوله أو مطلوبة النفي إشارة إلى النهي والدعاء، نحو قوله:

صاح شمر، ولا تزال ذاكر المو ت، فنسيانه ضلال مبين وقال: ألا يا اسلمي يا دار مي على البلى ولا زال منهلًا بجرعائك القطر وأنشد الفراء: لن يزالوا كذلكم، ثم لا زلـ ـت لهم خالدًا خلود الجبال وقوله زال ماضي يزال احتراز من التي مضارعها يزول، بمعنى تحول، فإنها تامة. قال المصنف: "ومن زال الشيء بمعنى عزله، فمضارعه يزيل" انتهى. قلت: وحكي الكسائي أيضًا في مضارع زال الناقصة يزيل على وزن يبيع. وحكي أحمد بن يحيي عن الفراء "لا أزيل أقول ذلك"، فتكون زال الناقصة مما جاءت على فعل يفعل وفعل يفعل كنقم ينقم ونقم ينقم. وزعم الفراء أن "زال" التي هي ناقصة مغيرة من "زال" التامة، بنوها على فعل بكسر العين بعد أن كانت مفتوحة فرقًا بين التمام والنقصان، فعينها واو. وأجاز ابن خروف أن تكون "زال" الناقصة من زاله يزيله إذا مازه منه، فعينها ياء.

وما ذهبا إليه باطل لأنه لم يوجد فعل من باب "كان" وأخواتها إلا ووزنه في حال نقصانه كوزنه في حال تمامه، فتبين أن "زال" الناقصة ليست من زال يزول، ولا من زال يزيل؛ لأن مضارعها ليس كمضارع أحد منهما. والصحيح أنها قسم ثالث، وأن معناها معنى برح، وعينها ياء لقولهم: زايلته، أي باينته، وقالوا أيضًا: زيلته، قال: سائل مجاور جرم هل جنيت لها حربًا تزيل بين الجيرة الخلط /وزيل فعل بدليل مصدره، قالوا: تزييلًا، وزايل وزيل من زال الناقصة كجالسه من جلس، وإلى هذا ذهب س. وقوله وانفك وبرح وفتئ وفتأ وأفتأ قال أبو زيد: ما أفتأت أذكره، وما فتئت أذكره، وما فتأت أذكره، أي: ما زلت أذكره. وذكر الصاغاني فتؤ يفتؤ على وزن ظرف لغة في فتأ يفتأ. وقال في المحكم: ما فتئت أفعل، وما فتأت أفتأ فتئًا وفتوءًا، وما أفتأت، الأخيرة تميمية، أي: ما برحت. و"ما زال" وأخواتها تدل على ملازمة الصفة للموصوف مذ كان قابلًا لها على حسب ما قبلها، فإن كان الموصوف قبلها متصلة الزمان دامت له كذلك، نحو: ما زال زيد عالمًا، وإن كان قبلها في أوقات متفرقة دامت له كذلك، نحو: ما زال زيد يعطي الدنانير، ألا ترى أن إعطاء للدنانير كان في أوقات متفرقة، وأن ذلك دام له، وكذلك اتصافه بالعلم كان متصل الزمان، ودام له أيضًا كذلك. ومثل "ما زال يعطي

الدنانير" قول الفرزدق: ما زال مذ عقدت يداه إزاره فسما، فأدرك خمسة الأشبار يدني خوافق من خوافق تلتطي في ظل معترك العجاج مثار فإدناؤه الخوافق ليس متصلًا في الزمان، وإنما يكون في أوقات مختلفة، وبهذا يظهر فساد من نقد على ذي الرمة قوله: ألا يا اسلمي يا دار مي على البلى ولا زال منهلًا بجرعائك القطر وقال: إن الجيد قول طرفة: فسقى بلادك غير مفسدها صوب الربيع وديمة تهمي قال: إذ بيت ذي الرمة يقتضي طمي رسومها وعفاء آثارها بملازمة المطر إياها، ولا يقتضي ذلك بيت طرفة، وذلك أن ذا الرمة عهد دار مي في خصب لسقي المطر لها في أوقات الحاجة إلى ذلك، فدعا لها بأن لا تزال على ما عهدها عليه من انهلال القطر بجرعائها في وقت الحاجة إليها. ولا خلاف بين النحويين في أن معاني هذه الأفعال الأربعة متفقة إلا شيء ذكره أبو علي عن بعض أهل النظر أنه فصل بين ما زال وما برح بأن قال: "إن برح لا تستعمل في الكلام إلا أن يراد بها البراح من المكان، فتذكر المكان أو تحذفه للدلالة". قال أبو علي: "وهذا لا يصح، قال تعالى: {لا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ البَحْرَيْنِ}، فلا يجوز أن يراد بها

البراح من المكان بدلالة {حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ البَحْرَيْنِ}، ومحال أن يبلغ هذا الموضع وهو لم يبرح من مكانه، فثبت أن ما برح بمعنى ما زال من غير فرق". وقوله ووني ورام مرادفتاها قال المصنف: "قيد وني/ ورام الملحقان بهن بمرادفتها احترازًا من وني بمعنى فتر، ورام بمعنى حاول وبمعنى تحول، ومضارع التي بمعنى حاول: يروم، ومضارع التي بمعنى تحول: يريم، وهكذا مضارع المرادفة زال، وهي ووني بمعنى زال غريبتان، ولا يكاد النحويون يعرفونهما إلا من عني باستقراء الغريب، ومن شواهد استعمالهما قوله: لا يني الخب شيمة الخب ما دا م، فلا تحسبنه ذا ارعواء وقال: إذا رمت ممن لا يريم متيمًا سلوًا، فقد أبعدت في رومك المرمى" انتهى. أما قوله "ولا يكاد النحويون يعرفونهما إلا من عني باستقراء الغريب" فإن أصحابنا ذكروا "وني" وأن بعض البغداديين زادها في أفعال هذا الباب لأن معناها معنى "ما زال"، وذلك: ما وني زيد قائمًا، أي: ما فتر عن القيام، ولذلك ألحقها بها. ورد هذا المذهب بأنه لا يلزم لأن الفعل قد يكون بمعنى فعل

آخر، ولا يكون حكمه كحكمه؛ ألا ترى أن "ظل زيد قائمًا" معناه: أقام زيد قائمًا النهار كله، ولم يجعل العرب لـ"أقام" اسمًا ولا خبرًا كما فعلت بـ"ظل". قالوا: ومما يدل على أنها ليست من أخوات "كام" أنه لا يقال: ما وني زيد القائم، فالتزام التنكير في قائم وأشباهه دليل على انتصابه على الحال. انتهى ما ردوا به هذا المذهب. فأما ما استدل به المصنف على أن "وني" بمعنى "زال" من قوله: لا يني الخب شيمة الخب ...... ...................................... فـ"شيمة" قد أضيف إلى معرفة، فهو معرفة، فقد جاء خبر "وني" معرفة. والجواب عن هذا أن الذي يظهر أن "شيمة" ليس خبرًا لـ"خب"، بل هو منصوب على إسقاط حرف الجر، أي: لا يني الخب عن شيمة الخب وطبيعته، أي: لا يفتر عن التحلي بها؛ ألا ترى أن "شيمة الخب" لا ينعقد منه مع المرفوع بـ"يني" الذي هو "الخب" مبتدأ وخبر، لو قلت الخب شيمة الهب لم يكن كلامًا. وأما ما استدل به على أن "رام" ناقصة بمعنى "زال" من قول الشاعر: إذا رمت ممن لا يريم متيمًا .................................... فلا حجة فيه لتنكير "متيمًا" واحتماله أن يكن حالًا، وهو أظهر؛ إذ "رام" لم يستقر فيها أن تكون ناقصة في غير هذا البيت المتنازع فيه فيحمل هذا البيت عليه، بل الثابت من لسان العرب أنها تامة كما قال: لمن طلل برامة لا يريم عفا، وخلا له حقب، قديم

وهذه الأفعال التي النفي أو ما يشبهه شرط في كونها من هذا الباب بطل حكم النفي فيها، يدل على صحة ذلك أنهم لا يجيزون النصب بعد الفاء في الفعل في الجواب، لا يقولون: ما زال زيد زائرك فيكرمك، كما لا يقولون ذلك في الإيجاب المحقق إلا/ في الشعر. واختلفوا في تلقي القسم بها، فمنعه بعضهم، فلا يقولون: والله ما زال زيد قائمًا. والصحيح جوازه، قال تعالى: {تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ} أي: لا تفتأ، وقال الشاعر: فآليت لا أنفك أحدو قصيدة ........................ وقال: فلا -وأبي دهماء- زالت عزيزة .............................. أي: ما زالت عزيزة، روعي لفظ الحرف النافي صورة، فتلقي به القسم. ولكونها موجبة المعنى لا تدخل "إلا" في خبرها، وسيأتي ذكر ذلك. ومن منع أن يتلقى بها القسم جعل الفعل تامًا لا ناقصًا، والمنصوب حال. وقوله بجملة طلبية مثاله: زيد اضربه، وبكر لا تصحبه، وبشر هل رأيته؟ وقوله لم يلزم التصدير كأسماء الشرط وأسماء الاستفهام وكم الخبرية والمقرون بلام الابتداء. وخالف الأخفش في "كم" الخبرية، فأجاز جعلها

اسمًا لـ"كان" لأنها بمنزلة "كثير"، فلا تلزم الصدر. والصحيح أن ذلك لا يجوز لأنها للمباهاة والافتخار، والحرف الموضوع لهذا المعنى له الصدر، وهو "رب"، فكذلك "كم"، مع أن السماع لم يرد بما ذكر. وقوله أو الحذف كالمبتدأ في النعت المقطوع. وقوله أو عدم، التصرف مثاله: طوبى للمؤمن، وسلام عليك، وويل للكافر. وقوله أو الابتدائية لنفسه مثال قول ذي الرمة: هاجت، ومثلي نوله أن يربعا حمامة هاجت حمامًا سجعا أن يربع أي: يكف، يقال: أربع على نفسك، وتقول: نولك أن تفعل، أقاموه مقام: ينبغي لك أن تفعل، وأقل رجل يقول ذلك إلا زيد، أقاموه مقام: ما يقول ذلك رجل إلا زيد. وما ذهب إليه من أن نولك يلزم الابتدائية لنفسه ليس بصحيح، بل قد أدخلت عليه العرب "كان" قال الشاعر، وهو النابغة -ونسبه ابن هشام لعلقمة غلطًا-: فلم يك نولكم أن تشقذوني ودوني عازب وبلاد حجر فأدخل عليه "يك"، وأنشط الزمخشري في كتاب "أساس البلاغة": أأن حن أجمال، وفارق جيرة عنيت بنا ما كان نولك تفعل يريد: أن تفعل، فحذف أن، فارتفع الفعل.

وقال ابن هشام: " وتدخل "كان" على هذا، فيقال: ما كان نولك أن تفعل، برفع "نولك" اسمًا لكان، ونصبه خبرًا لها مقدمًا، ونولك بمعنى الواجب، أي: ما كان الواجب أن تفعل. ويجوز فيمن رفع "نولك" أن يضمر الأمر، ويكون "أن تفعل" فاعل "نولك"، وينوب الرافع والمرفوع مناب الجملة الفعلية التي يفسر بها الأمر والشأن. ويجوز فيمن رفع أن يكون اسم كان، والفاعل/ يسد مسد الخبر لكان، كما يسد مسد خبر المبتدأ" انتهى. وفي تجويز إضمار الشأن في كان، والخبر "نولك" رافعًا "أن تفعل" فاعلًا نظر؛ لأن شرط الواقع خبرًا بعد ضمير الأمر أن يكون جملة مصرحًا بجزأيها عند البصريين، وإنما يجوز هذا عند الكوفيين. وقوله أو مصحوب لفظي هو المبتدأ الواقع بعد "لولا" الامتناعية، والواقع بعد "إذا" الفجائية. وقوله أو معنوي مثاله "ما" التعجبية، والمبتدأ في نحو " لله درك"، وما جرى مثلًا، نحو "الكلاب على البقر"، و"العاشية تهيج الآبية" و"الإيناس قبل الإبساس"، فهذه مبتدآت لا تدخل عليها "كان" وأخواتها، وتمثيلها ملخص من شرح المصنف.

وقولُه ونَدَرَ: وكوني بالمكارم ذكريني وجه ندوره أنه وقع موقع الخبر جملة طلبية، وعجز هذا البيت قوله: ..................................... ودلي دل ماجدة صناع وقبله: ألا يا أم فارع لا تلومي على شيء رفعت به سماعي وتأويل البيت: وكوني بالمكارم تذكرينني، فوضع الأمر موضع الخبر كقوله تعالى: {فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدًا} أي: فيمد. -[ص: فترفعه اسمًا وفاعلًا، وتنصب خبره، ويسمى خبرًا ومفعولًا، ويجوز تعدده، خلافًا لابن درستويه. وتختص "دام" والمنفي بـ"ما" بعدم الدخول على ذي خبر مفرد طلبي، وتسمى نواقص لعدم اكتفائها بمرفوع، لا لأنها تدل على زمان دون حدث، فالأصح دلالتها عليهما إلا "ليس". وإن أريد بـ"كان" ثبت أو كفل أو غزل، وبتواليها الثلاث دخل في الضحى والصباح والمساء، وبظل دا أو طال، وببات نزل ليلًا، وبصار رجع أو ضم أو قطع، وبدام بقي أو سكن، وببرح ذهب أو ظهر، وبوني فتر، وبرام ذهب أو فارق، وبانفك خلص أو انفصل، وبفتأ سكن أو أطفأ، سميت تامة، وعملت عمل ما رادفت. وكلها تتصرف إلا ليس ودام، ولتصاريفها ما لها، وكذا سائر الأفعال.]- ش: المشهور في الاصطلاح أن المرفوع يسمى اسم "كان" أو اسم

"صار" على حسب الرافع له منها، والمنصوب يسمى خبره، وعبر عنهما س باسم الفاعل واسم المفعول، والمبرد بالفاعل والمفعول. وهو مشبه بالمفعول عند البصريين، شبهت "كان" بضرب. وأما الكوفيون فزعموا أنه منصوب على الحال. وكذلك ثاني "ظننت" لأنه فعل لا يتعدى، فلا ينصب وإنما لم يكن متعديًا لأنه لا يقع على الواحد أو الجمع من الواحد والجمع، لا تقول: كانا قائمًا، ولا: كانوا قائمًا، كما تقول: ضربًا رجلًا، ولأنا لم نجد فعلًا يعمل في مفعولين أحدهما هو الفاعل إلا الحال، فليحمل على النظائر الأكثرية، ولأنك تقول: ضربت بزيد، أي: فعلت به، ولا تقول: كنت بقائم. واستدل البصريون على أنه/ ليس حالًا بجواز جموده وتعريفه وإضماره وعدم انتقاله، وبوجوب كونه لا يستغنى عنه، فروعي الخواص الأكثرية، فحمل على التشبيه بالمفعول به، وألغيت قلة خواص الحال. وقوله ويجوز تعدد خبره قد تقدم الكلام في تعدد الخبر إذا كان لمبتدأ واحد والخلاف فيه، وذكرنا ما اختاره أصحابنا من أن الخبرين أو الأخبار إذا كانت في معنى خبر واحد جاز ذلك. وإذا كان يصح تعدد الأخبار على الخلاف الذي تقدم والعامل غير "كان" فلأن يصح معها بطريق الأولى؛ إذ كانت أقوى من ذلك العامل إذ نسخت حكمه، فكما جاز ذلك مع العامل الأضعف فجوازه مع الأقوى أولى. وقوله خلافًا لابن درستويه قال الأستاذ أبو الحسين بن أبي

الربيع: "منهم من لم يجز أن يكون لها إلا خبر واحد، ويظهر هذا من كلام س. وهذا القول عندي أقوى لأن ضرب لا يكون له إلا مفعول واحد، ولا يكون له مفعولان إلا بحكم التبعية، فما شبه به يجري مجراه. وزعم بعضهم أنه يجوز أن يكون لها خبران وأكثر، وأجرى ذلك مجرى المبتدأ، والمبتدأ تكون له أخبار عدة" انتهى. وقوله وتختص إلى طلبي يقول: "دام" وما نفى بـ"ما" من "زال" وأخواتها و"كان" وأخواتها لا يكون خبرها طلبيًا، أي: تختص بأن لا تدخل على مبتدأ ذي خبر مفرد طلبي، نحو أين وكيف ومتى. وقال: "مفرد" لأنه قد قدم أن الجملة الطلبية لا تقع خبرًا لهذه الأفعال، فلذلك قيد هذا الخبر بقوله: "مفرد"، فلا يجوز أن تقول: لا أصحبك أين ما دام زيد، ولا تقول: أين ما كان زيد، ولا: متى ما صار القتال، ولا: كيف ما أصبح زيد. وكذلك باقي ما نفي بـ"ما" من "كان"، ولا تقول: أين ما زال زيد. ويقابل المنفي بـ"ما" قسمان: أحدهما أن ينفى بغير "ما". والقسم الآخر أن لا يكون منفيًا البتة. وكلاهما يجوز أن يقع المفرد الطلبي خبرًا فيه، نحو: أين لم يكن زيد؟ وأين كان زيد؟ ومتى لم يصر القتال؟ ومتى صار القتال؟ وقوله وتسمى نواقص لعدم اكتفائها بمرفوع وذلك أن فائدتها لا تتم بذكر المرفوع فقط، بل تفتقر إلى المنصوب لأن الكلام منعقد مما أصله المبتدأ والخبر، ولا يفيد ذكر المبتدأ دون ذكر خبره. وقوله لا لأنها تدل على زمان دون حدث، فالأصح دلالتها عليهما إلا

ليس هذا هو القول الثاني في تسميتها ناقصة لأنها لا دلالة لها على الحدث. وذهب إلى هذا المبرد وابن السراج والفارسي وابن جني والجرجاني وابن برهان، وهو ظاهر مذهب س، قال: "واعلم أنه لا يجوز لك أن تقول: "عبد الله المقتول" وأنت تريد: كن عبد الله المقتول؛ لأنه ليس فعلًا يصل من شيء إلى شيء لأنك لست تشير له/ إلى أحد" أي ليس كالضرب والقيل الذي يتكلم به أو تدل عليه قرينة، فيغرى عليه المخاطب، ويكتفي بإشارة في فهم ما تريد. وزعموا أن الخبر هو الحدث الذي قصد الإخبار به عن اسم كان، وقد علمناه وكونه محمولًا على الاسم، وإنما استفدنا بكان أن ذلك فيما مضى من الزمان، أو فيما يستقبل إذا قلت: يكون زيد قائمًا. وإلى أنها ليس لها حدث ولا أنها اشتقت منه كان يذهب الأستاذ أبو علي الشلوبين. قال ابن هشام: "والعجب منه يقول: ليس لها حدث ولا اشتقت منه، وهو يملأ تعاليقه من هذا التقدير، يعني تقدير مصدرها في نحو: سرني أن زيدًا في الدار، أي: سرني كون زيد في الدار، وأن زيدًا أخوك، أي: كون زيد أخاك" انتهى. والمشهور والمنصور أنها تدل على الحدث والزمان، وأن الحدث مسند إلى الجملة، كما كان "ظننت" مسندة إلى الجملة.

والذين قالوا إنها تدل على الحدث اختلفوا: هل تنصبه فتقول: كان زيد قائمًا كونًا؟ فأجازه بعضهم، وبه قال السيرافي، والجمهور على المنع وأنهم عرضوا عن النطق بمصدرها الخبر إذ هو المسند في الحقيقة لاسمها. ولما ذهب الفارسي إلى أنها خلعت الدلالة على الحدث قال: "لا يتعلق بها حرف جر، وفي عملها في ظرف الزمان نظر" انتهى قوله. ومن قال إنها تدل على الحدث أجاز لها العمل في ذلك كله، ولذلك علق بعضهم المجرور في قوله: {أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا} بـ {كَانَ}، وقد فعل ذلك أبو علي. وقيل: يتعلق بـ {عَجَبًا} لأنه ليس في تقدير أن والفعل. وقيل: {عَجَبًا} بمنزلة عادل، تقول العرب: هو فيهم عدل وجور وخصم. وقيل: اللام للتبيين تتعلق بما يفهم من معنى الكلام، أي: بين للناس، ولا يلفظ به. وقال ابن هشام: يجوز عندي أن يكون {لِلنَّاسِ} صفة لـ"عجب" أي: عجبًا كائنًا لهم ومستقرًا، ثم قدم، فيصير في موضع الحال. وزعم الأستاذ أبو الحسن بن خروف، وتبعه ابن عصفور، أنها مشتقة من أحداث لم ينطق بها، قال: "وقد تقرر من كلام العرب أنهم قد يستعملون الفروع، ويهملون الأصول. والذي حمل على ادعاء مصادر لهذه الأفعال قد رفض النطق بها أنها أفعال، فينبغي أن تكون بمنزلة سائر الأفعال في أنها مأخوذة من حدث. ومما يدل على أن في هذه الأفعال معنى الحدث أمرهم بها وبناء اسم الفاعل منها، نحو: كن قائمًا، وأنا كائن

منطلقًا، والأمر لا يتصور بالزمان، وكذلك لا يبنى اسم الفاعل من الزمان". وكذلك النهي، قال تعالى: {ولا تَكُن كَصَاحِبِ الحُوتِ}، ونصب الفعل بعد الفاء جوابًا، نحو: كن خيرًا فتدخل الجنة. وما ذهب إليه ابن خروف وابن عصفور من أنها مشتقة من أحداث لم ينطق بها ليس بصحيح، وقد جاء المصدر منها صريحًا، حكى أبو زيد في كتاب الهمز مصدر "فتئ"/ مستعملًا، وحكى غيره: ظللت أفعل كذا ظلولًا، وبت أفعل كذا بيتوتة، وجاؤوا بمصدر "كاد" في قولهم: لا أفعل ذلك ولا كيدًا، أي: ولا أكاد كيدًا، و"كاد" فعل ناقص من باب "كان". وقد جاء المصدر معملًا إعمال فعله في قول العرب: كونك مطيعًا مع الفقر خير من كونك عاصيًا مع الغنى، وقول الشاعر: ببذل وحلم ساد في قومه الفتى وكونك إياه عليك يسير وقد جاءت في صلة "أن"، قال تعالى: {إلاَّ أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ}، وهي وما وصلت به في تأويل المصدر. وبهذا يرد على من زعم أن المنصوب في قولك: "عجبت من كونك قائمًا" حال، وأن المصدر هو لـ"كان" التامة، وعلى من زعم أنها لا مصدر لها وأنها لا تدل على

الحدث. وهذا أحد الوجوه العشرة التي رد بها المؤلف على من قال إنها لا تدل على الحدث، وهو أقواها إذ هو دليل سمعي ثابت من لسان العرب. والثاني: أنها أفعال، والفعل يستلزم الدلالة على الحدث والزمان معًا؛ إذ الدال على الحدث وحده مصدر، وعلى الزمان وحده اسم زمان، وهذه ليست مصادر ولا أسماء زمان، فبطل كونها دالة على أحد المعنيين دون الآخر. الثالث: أن الأصل في كل فعل الدلالة على المعنيين، فالحكم على العوامل المذكورة بما زعم إخراج لها عن الأصل، فلا يقبل إلا بدليل. الرابع: أنها لو كانت دلالتها مخصوصة بالزمان لجاز أن تنعقد جملة تامة من بعضها ومن اسم معنى، كما تنعقد منه ومن اسم زمان، وفي عدم ذلك دليل على إبطالها هذه الدعوى. الخامس: أن الأفعال لا تمتاز إلا بالحدث، فهي وإن تساوت في الزمان فقد افترقت بالنسبة إلى الحدث، فإذا زال ما به الافتراق، وبقي ما به التساوي، فلا فرق بين: كان زيد غنيًا، وصار زيد غنيًا، والفرث حاصل، فبطل ما يوجب خلافه، وأيضًا فيلزم تناقض أصبح زيد ظاعنًا، وأمسى مقيمًا، إذ يكون معناه: زيد قبل وقتنا ظاعن مقيم، وإنما يزول التناقض بمراعاة دلالة الفعلين على الإصباح والإمساء. السادس: أن من جملتها "انفك"، ولابد معها من ناف، فلو كانت لا تدل على الحدث للزم أن يكون معنى ما انفك زيد غنيًا: ما زيد غنيًا في وقت من الأوقات الماضية، وذلك نقيض المراد.

السابع: أن منها "دام"، ومن شرط عملها عمل "كان" كونها صلة لـ"ما" المصدرية، ومن لوازم ذلك صحة تقدير المصدر في موضعها، فلو جردت من الحدث لم يقم مقامها اسم الحدث. الثامن: أن دلالته على الحدث أقولا من دلالته على الزمان؛ لأن دلالته على الحدث لا تتغير، ودلالته على الزمان تتغير بالقرائن، فدلالته على الحدث أولى/ بالبقاء من دلالته على الزمان. التاسع: لو كانت لمجرد الزمان لم يغن عنها اسم الفاعل، كما جاء في الحديث: "إن هذا القرآن كائن لكم أجرًا، وكائن عليكم وزرًا"، وقال س: "قال الخليل: هو كائن أخيط، على الاستخفاف، والمعنى: كائن أخاك"، قال: وما كل من يبدي البشاشة كائنًا أخاك إذا لم تلفه لك منجدا لأن اسم الفاعل لا دلالة فيه على الزمان، بل هو دال على الحدث وما هو به قائم أو ما هو عنه صادر، ومثله: قضى الله يا أسماء أن لست زائلًا أحبك حتى يغمض العين مغمض أراد: أن لست أزال أحبك، فأعمل اسم الفاعل عمل الفعل. العاشر: لو كانت مجردة من الحدث مخلصة للزمان لم يبن منها أمر كقوله تعالى: {كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ}؛ لأن الأمر لا يبنى مما لا دلالة فيه على الحدث. انتهى كلام المصنف، وفيه بعض تلخيص.

وقال المصنف في الشرح: "وما ذهبت إليه من كونها دالة على مصادرها هو الظاهر من قول س والمبرد والسيرافي. وسبب تسميتها نواقص إنما هو لعدم اكتفائها بالمرفوع، وإنما لم تكتف به لأن حدثها مقصود إسناده إلى النسبة التي بين معموليها، فمعنى كان زيد عالمًا: وجد اتصاف زيد بالعلم، والاقتصار على المرفوع غير كاف بذلك، فلذلك لم يستغن به عن الجزء الثاني، وقد أشار س إلى هذا المعنى بقوله: "تقول كان عبد الله أخاك، فإنما أردت أن تخبر عن الأخوة"، فبين أن "كان" مسندة إلى النسبة، فمن ثم نشأ عدم الاكتفاء بالمرفوع". وقوله: وإن أريد بكان ثبت قال المصنف في الشرح: "ثبوت كل شيء بحسبه، فتارة يعبر عنه بالأزلية نحو: كان الله ولا شيء معه، وبـ"حدث": إذا كان الشتاء فأدفئوني ................................. وبـ"حضر" {وإن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ}، وبـ"قدر" أو "وقع": ما شاء الله كان" انتهى. وهي في هذه المعاني لازمة.

وقال بعض أصحابنا: " وبمعنى خلق، يقال: كان عبد الله، أي: خلق، وبمعنى "أقام"، ومن ذلك قول الشاعر: كانوا، وكنا، فما ندري على وهل أنحن فيما لبثنا أم هم عجل" انتهى. فأما قوله: " بمعنى خلق" فهي التي بمعنى حدث، وكان قد ذكر أنها تأتي بمعنى حدث، فجعلهما معنيين، وهما معنى واحد. وقوله أو كقل أو غزل يقال: كنت الصبي: كفلته، ومصدرها كيانة، وكنت الصوف: غزلته. وودن كان فعل بفتح العين. وذكر صاحب الكتاب المحلي -وهو أبو غانم المظفر بن أحمد النحوي- أن الكسائي زعم أن أصل كان فعل كقولك ظرف وكرم، قال: "ولو كان كما زعم لما قالوا: هو كائن؛/ لأن فعل الاسم منه فعيل كقولك كريم وظريف، وخالفه جميع النحويين من أهل الكوفة والبصرة" انتهى. وقوله وبتواليها الثلاث دخل في الضحى والصباح والمساء مثاله قوله: ومن فعلاتي أنني حسن القرى إذا الليلة الشهباء أضحى جليدها وقوله تعالى: {فَسُبْحَانَ الله حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ}، وقال الشاعر:

وتشكو بعين ما أكل ركابها وقيل المنادي أصبح القوم أدلجي أي: دخلوا في الصباح. فأما قوله: فأصبحوا والنوى عالي معرسهم .................................... فالواو عند الأخفش زائدة، وعند غيره أنها واو الحال، وأصبحوا تامة. وقال آخر: حتى إذا الهيق أمسى شام أفرخه وهن لا مؤنس نأيا ولا كثب أي: دخل في المساء. وتكون الثلاثة أيضًا للدلالة على إقامة الفاعل في الأوقات التي تشاركها في الحروف، تقول: أمسى زيد وأضحى وأصبح، أي: أقام في المساء والضحى والصباح، ومن ذلك قولهم: "إذا سمعت بسرى القين فاعلم أنه مصبح" أي: مقيم في الصباح. وقوله وبظل دام أو طال وزاد غيره ظل بمعنى: أقام نهارًا. وقوله وببات نزل ليلًا قال في الشرح: "بات بالقوم، وبات القوم إذا نزل بهم ليلًا، فتستعمل متعدية بنفسها وبالباء". وقال غيره: وبات

بمعنى أقام ليلًا. ومثال تمامها قوله: نحن أدلجنا، وهم باتوا ليت شعري ما أنامهم؟ ومثال نقصها: ................................. باتت طرابًا، وبات الليل لم ينم وقوله: باتوا نيامًا، وابن هند لم ينم وقوله وبصار رجع أو ضم أو قطع قال في الشرح: "يراد بها معنى رجع فتتعدى بإلى". وقال غيره: بمعنى انتقل، فتتعدى بإلى، ومن ذلك قوله: وصرنا إلى الحسنى، ورق كلامنا ....................................... وقال ابن هشام: ومعنى صار الانتقال، وذلك على وجهين: انتقال بالذات كقولك: صار الماء بخارًا، والميت ترابًا، والطعام عذرة. وانتقال

بالعرض كقولك: صار الغني فقيرًا، والجواد شحيحًا، ومنه: صار هذا الفرس إلى عمرو، وكل حي صائر إلى الزوال. وقال ابن الدهان في الغرة ما معناه: صار تامة، فتتعدى إلى المفعول بحرف الجر، ولابد، نحو: صرت إلى البلد الفلاني. وناقصة، وفيها اتساع من وجهين: سلبها الدلالة على المصدر وإلزامها الخبر. والثاني جعلها تدل على زمن الوجود دون الزمن الماضي، نحو: كان فقيهًا فصار نحويًا. ولم تستعمل زائدة فيما علمت، وقد زعم قوم أنه لا يمتنع. وقد حذف خبرها في قول عمرو بن الأهتم: /فإن قصدوا لمر الحق فاقصد وإن جاروا فجر حتى يصيروا أي: حتى يصيروا تبعًا لك. وقوله وبدام بقى أو سكن وذلك نحو {مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ والأَرْضُ}، أي: ما بقيت، و"لا يبولن أحدكم في الماء الدائم" أي: الساكن. وقوله وببرح ذهب أو ظهر فسر قولهم: "برح الخفاء" بذهب وبظهر. وقوله وبوني فتر استعمالها بمعنى فتر أشهر من استعمالها بمعنى زال الناقصة، قاله المصنف، وقد ذكرنا ما استدل به على أنها ناقصة، وتأولناه.

وقوله وبرام ذهل أو فارق يقال: ما رام، أي: ما فارق، والذهاب والمفارقة معنى واحد، وليسا معنيين. وقوله وبأنفك خلص أو انفصل يكون مطاوع فك الخاتم وغيره: فصله، والأسير؛ خلصه، وهما متقاربان. وقوله وبفتأ كسر أو أطفأ قال المصنف في الشرح: "وتتم فتأ بأن يراد بها معنى كسر أو أطفأ، حكى الفراء: فتأته عن الأمر: كسرته، والنار: أطفأتها" انتهى. وهذا الذي ذكر المصنف من أن "فتأ" تتم، فتكون بمعنى كسر أو أطفأ وهم وتصحيف، والله أعلم، نبه عليه الأمير العالم علاء الدين علي بن الفارسي، وكشف مادة "فتأ" في الصحاح والمحكم والصاغاني،

فلم يجد أحدًا منهم ذكر أن "فتأ" تكون تامة بمعنى سكن أو كسر أو أطفأ، وإنما ذكر ذلك في مادة "فثأ" بالثاء المثلثة، قال في الصحاح: "فثأت القدر: سكن غليانها، وفثأت الرجل فثئًا: كسرته عنه وسكنت غضبه". وقال في المحكم: فثأ غضبه يفثؤه فثئًا: كسره وسكنه، والشيء: سكن برده بالتسخين، والشمس الماء فثوءًا: كسرت برده، وفثأ القدر يفثؤها فثئًا وفثوًا: سكن غليانها، كثفأها، وفثأ الشيء عنه: كفه. وقوله سميت تامة، وعملت عمل ما رادفت بمعنى أنها لا تكون نواقص في شيء من هذه المعاني، فتحتاج إلى خبر. وبقي من الأفعال ما لزم النقص ولم يتم مما دل عليه مفهوم كلام المصنف هنا ومنطوقه في الشرح: ليس وزال وفتئ، أما "ليس" فقد ذهب الكوفيون إلى أنها يعطف بها في المفردات، فتقول: قام القوم ليس زيد، ورأيت القوم ليس زيدًا، ومررت بالقوم ليس زيد. ولا يحوز هذا عند البصريين. وأما إذا دخلت إلا في خبرها فلا تعمل البتة في لغة تميم، غلبوا عليها شبه "ما"، فإذ ذاك لا توصف بنقص ولا بتمام. وأما "زال" التي مضارعها "يزال" فذهب أبو علي في الحلبيات إلى إجازة أن تكون تامة، ولم يحفظ ذلك، إلا أنه أجازه بالقياس، فقال: "لا يمتنع عندي أن يجوز الاقتصار على الفاعل، كما يجوز في كان إذا أريد

به وقع". قال: "ويدل على هذا ما حكي في تصاريف هذه الكلمة من قولهم زيلت وزايلت، و: ................................ ...... تزيل بين الجيرة الخلط ثم نقل إلى الأفعال/ التي تدل على الزمان مجردة من الحدث ككان وبابه، فلزما الخبر". يعني أنه كما استعملت تصاريف "زال"، وهي زايل وزيل وتزيل، غير مفتقرة إلى خبر، فكذلك يجوز أن تستعمل "زال" غير مفتقرة إلى خبر. قال بعض أصحابنا: ويقوى ما ذهب إليه أبو علي من استعمال زال يزال تامة قول الشاعر: وما إن يزال رسم دار قد اخلقت وعهد لميت بالفناء جديد ألا ترى أن قوله: "قد أخلقت" صفة لدار، ولم يأت لاسم يزال بخبر، وكذلك "عهد" معطوف على "رسم"، و"لميت" متعلق به، و"بالفناء" صفة لميت، وجديد صفة لعهد، ولم يأت بعد ذلك خبر. ولا يجوز أن يكون "وعهد" مبتدأ"، و"جديد" خبره؛ لأنه ليس المعنى على ذلك، بل المعنى: ولا يزال عهد لميت بالفناء جديد، فيلزم أن يكون عهد معطوفًا على رسم. وقال المصنف في الشرح: "وقد يعضد رأيه -أي: رأي أبي علي في ذلك- أي- في إجازة أن تكون زال التي مضارعها يزال تامة-

بقول الشاعر: وفي حميا بغيه تفجس ولا يزال وهو ألوى أليس فاستغنى بالجملة الحالية عن الخبر". قال: "ولنا أن نقول: الخبر محذوف، والتقدير: ولا يزال متفجسًا وهو ألوى أليس، والتفجس: التكبر، والأليس: الشجاع" انتهى. وأما "فتئ" بكسر التاء فلا أعلم أحدًا ذكر أنها تكون تامة إلا الصاغاني، فإنه ذكر أن من نوادر الأعراب: "فتئت عن الأمر فتئًا إذا نسيته"، فتكون على هذا "فتئ" تامة بمعنى نسي. وذكر المصنف في الشرح أن فتأ وأفتأ أيضًا ناقصتان فقط، ولا تكونان تامتين، وعدهما مع فتئ وزال ماضي يزال وليس، ثم ذكر فيه أن فتأ تكون بمعنى كسر وأطفأ، فتتم. فقد اضطرب قوله في "فتأ"، وقد بينا وهمه في فتأ وتصحيفه فيه، والله أعلم. وزعم المهاباذي وأبو الحكم بن رختاط أن "ظل" لا تستعمل تامة، ولا تستعمل إلا ناقصة، زاد المهاباذي: في فعل النهار. وما ذهبا إليه مخالف لما نقل أئمة اللغة والنحو أنها تكون تامة. وأما قول المهاباذي "إنها لا تستعمل إلا في فعل النهار" فسيأتي رده إن شاء الله. وقوله وكلها تتصرف إلا ليس ودام تصرفها هو أن يستعمل منها ماضٍ

ومضارع وأمر واسم فاعل ومصدر، إلا أن الأمر لا يتأتى صوغه من المستعمل منفيًا. فأما "ليس" فمجمع على أنها لا تتصرف. وأما "دام" ففي بعض كتب المتأخرين أنها إذا كانت ناقصة لا تتصرف، وهذا هو مذهب الفراء، زعم الفراء أن ما دام لا يبنى منها المضارع، فلا يقال: لا أفعل هذا ما يدوم زيد قائمًا، وذكر أن السبب في ذلك أنه إذا قلت "أفعل هذا ما دام زيد قائمًا" كان مشبهًا للشرط الذي تقدم/ جوابه؛ ألا ترى أن معنى ذلك معنى قولك: أفعل هذا إن دام زيد قائمًا، والشرط الذي تقدم جوابه عليه لا يكون فعله إلا ماضيًا؛ ألا ترى أن العرب تقول: "أنت ظالم إن فعلت"، ولا تقول: أنت ظالم إن تفعل. وهذا الذي ذكره الفراء أنه لا يجوز أن تقول: "أفعل هذا ما يدوم زيد قائمًا" لم يذكره البصريون، قال بعض أصحابنا: "فإن صح أن العرب لا تقول ذلك فوجهه ما ذكره الفراء" انتهى. وهذا التعليل الذي ذكره الفراء لا يصح لأن ما المصدرية الظرفية توصل بالمضارع كما قال: أطوف ما أطوف، ثم آوي إلى بيت قعيدته لكاع فلو كانت هذه "ما" لحظ فيها هذه العلة لما جاز أن توصل بالمضارع، ولا فرق في الوصل بين أن يكون الفعل تامًا أو ناقصًا. قال ابن الدهان: ولا يستعمل في موضع دام "يدوم" لأنه جرى كالمثل عندهم. ص: ولا تدخل "صار" وما بعدها على ما خبره فعل ماض، وقد تدخل عليه "ليس" إن كان ضمير الشأن، ويجوز دخول البواقي عليه مطلقًا،

خلافًا لمن اشترط في الجواز اقتران الماضي بـ"قد". ويجوز في نحو "أين زيد"؟ توسيط ما نفي بغير "ما" من زال وأخواتها، ولا توسيط "ليس"، خلافًا للشلوبين. وترد الخمسة الأوائل بمعنى صار، ويلحق بها ما رادفها من آض وعلا وآل ورجع وحار واستحال وتحول وارتد، وندر الإلحاق بصار في "ما جاءت حاجتك" و"قعدت كأنها حربة". والأصح أن لا يلحق بها "آل" ولا "قعد" مطلقًا، وأن لا يجعل من هذا الباب "غدا" و"راح"، ولا "أسحر وأفجر وأظهر". ش: الذي بعد "صار" هو: ليس ودام وزال وأخواتها، ومعناها مناف للماضي، وذلك أن صار وما دام وما زال وأخواتها تعطي الدوام على الفعل واتصاله بزمان الإخبار، والأفعال الماضية تعطي الانقطاع، فتدافعا. وقوله وقد تدخل عليه "ليس" إن كان ضمير الشأن معناه: إن كان ما خبره فعل ماض ضمير الشأن. وظاهر كلام المصنف أنه لا يجوز أن يقع خبر "ليس" فعلًا ماضيًا إلا إن كان اسمعا ضمير الأمر والشأن، ولهذا قال في الشرح ما نصه: "حكي س من قول بعض العرب: ليس خلق الله أشعر منه، وليس قالها زيد، والوجه في هذا أن يكون في "ليس" ضمير الشأن، والجملة بعده خبر" انتهى. وقال الأستاذ أبو علي الشلوبين في قول س "ليس خلق الله مثله": "يحتمل ثلاثة أشياء؛ أحدها أن تكون ليس مشبهة بما، فلا تحتاج إلى اسم

وخبر، ولا يكون فيها ضمير أمر وشأن بدليل قوله في باب حروف أجريت مجرى حروف الاستفهام: "وقد زعم/ بعضهم أن ليس كـ"ما"، وذلك قليل لا يكاد يعرف" فلا ينبغي أن يحمل عليه ما وجدت مندوحة. فلم يبق إلا الوجهان الباقيان، عدل إلى أحدهما لأن هذا موضع تعظيم وتشريف، وضمير الشأن والقصة على هذا وضعه لا يقال إلا في موضع الإبهام والتعظيم. فإن قلت: إنما فر إلى ذلك لأن خبر "ليس" لا يكون بالماضي فرارًا من التناقض لأنها لنفس الحال، فبعدت نسبته من الماضي. فهذا ليس بشيء، وإنما ذلك مختص بكان؛ ألا ترى لما ذكر في باب اسم الفاعل "كان ضاربًا أباك" قدره: كان يضر أبا، ولم يقدره بضرب لئلا يقع الماضي خبرًا عن كان. والدليل على جواز ذلك في "ليس" أن س قد ذكر في أبواب الاشتغال: ما زيد ضربته، وجعلها حجازيو، وهي كليس، فقد وقع الماضي في خبرها. وأيضًا قد قال في باب حروف أجريت مجرى حروف الاستفهام: "كأنك قلت: ليس زيد ضربته"، فهذا نص على أن ليس قد يقع في خبرها الماضي. وتحقيق القول فيها أنه إذا وقع النفي بها مطلقًا لم تنف إلا الحال وحده، وذلك إذا دخلت على جملة غير مقيدة بزمان، نحو: زيد قائم، وإذا وقع النفي بها مقيدًا نفت جميع أنواع الفعل، نحو: زيد قام، وزيد يقوم" انتهى.

وتحصل من ذلك أن الماضي يقع خبرًا لـ"ليس" على الإطلاق، وقد حكي ابن عصفور اتفاق النحويين على ذلك من غير تقييد لا بضمير أمر ولا غيره، فتخصيص ذلك بما كان اسمها ضمير الشأن ليس بصحيح. وما ذكره الأستاذ أبو علي من أن تقدير س كان زيد ضاربًا أباك: كان يضرب أباك، ولم يقدره بضرب لئلا يقع الماضي خبرًا لكان ليس بصحيح، وإنما قدره بالمضارع لا الماضي لأن ضاربًا قد عمل في أباك النصب، فلو قدره بضرب كان يكون قد أعمل اسم الفاعل، وهو ماض، وليس مذهبه. وما ذكره الأستاذ أيضًا من كون "ليس" لنفي الحال في الجملة غير المقيدة بزمان، وأما المقيدة بزمان فإنها تنفيه على حسب القيد، هو الصحيح. وإلى أنها قد تنفي في الاستقبال ذهب ابن السراج، وتابعه الصيمري، قال: "لأن لفظ الحال والاستقبال واحد". ومنعه الزمخشري، فقال: "ولا تقول: ليس زيد قائمًا غدًا". وقال بعضهم: هي للنفي مطلقًا. وفي "الغرة": وقد منعوا من قولهم: ليس زيد قد ذهب، ولا: قد يذهب، لتضاد الحكم بين "قد" و"ليس".

وقوله ويجوز دخول البواقي عليه مطلقًا، خلافًا لمن اشترط في الجواز اقتران الماضي بـ"قد" هذا مذهب الكوفيين. وحجة المنع أن "كان" وأخواتها إنما دخلت على الجمل لتدل على الزمان، فإذا كان الخبر يعطي الزمان لم يحتج إليها، وكان ذكرها /فضلًا؛ ألا ترى أنك إذا قلت: "زيد قام" كان المفهوم منه ومن "كان زيد قام" واحدًا، فإن جاء شيء من ذلك فهو عنده على إضمار "قد" لأنه يقرب الماضي من الحال. والصحيح جواز ذلك دون اشتراط قد، وذلك أنك إذا قلت "أصبح زيد خرج" دل على أن الخروج الماضي كان في وقت الصباح، وكذلك أمسى وأضحى وظل وبات، فأما في "كان" فإنها تفيد التوكيد، والتأكيد أولى من إضمار حروف المعاني لكثرة ذلك وقلة هذا. وأيضًا فقد كثر ذلك في كلامهم نظمًا ونثرًا كثرة توجب القياس. قال تعالى: {إن كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن قُبُلٍ}، {وَإن كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ}، {إن كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ}، {إن كُنتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي}، {إن كُنتُمْ آمَنتُم بِاللَّهِ}، ولا يعتذر عن هذا بأن الذي سوغ ذلك دخول أداة الشرط على "كان" لأنها مخلصة للاستقبال، وكأنه قال: إن يكن قميصه قد من قبل؛ لأنه اعتذار لا يطرد لنقضه بقوله تعالى: {ولَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِن قَبْلُ}، وبقوله {أَوَ لَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُم}، وبقول الشاعر:

وكان طوى كشحًا على مستكنة فلا هو أبداها، ولم يتجمجم وقول الآخر: وكنا حسبناهم فوارس كهمس حيوا بعدما ماتوا من الدهر أعصرا وقول الآخر: وكنا ورثناه على عهد تبع طويلًا سواريه شديدًا دعائمه وقول الآخر: وكنا حسبنا كل بيضاء شحمة عشية لا قينا جذام وحميرا وقول الآخر: وأصبحت ودعت الصبا غير أنني أراقب خلات من العيش أربعا وقول الآخر:

ورأوا عقابهم المدله أصبحت نبذت بأغلب ذي مخالب جهضم وحكي الكسائي عن العرب: "أصبحت نظرت إلى ذات التنانير" يعني ناقته، وقال الشاعر: أمست خلاء، وأمسى أهلها احتملوا أخنى عليها الذي أخنى على لبد وقال الآخر: فأمسى مقفرًا لا حي فيه وقد كانوا، فأمسى الحي ساروا كانوا ناقصة، والخبر محذوف. أي: وقد كانوا فيه، وقال الآخر: ثم أضحوا لعب الدهر بهم وكذاك الدهر حالًا بعد حال وينبغي أن يقيد كونها يقع الماضي خبرًا لها بأن لا تكون بمعنى "صار"، فإنها إذا كانت بمعنى "صار" فلا يقع الماضي خبرًا لها، ويمتنع ذلك من حيث امتنع في "صار". وقوله ويجوز في نحو "أين زيد" توسيط ما نفي بغير "ما" من "زال" وأخواتها فتقول: أين لم يزل زيد؟ وأين لا يزال زيد؟ وأين لن يزال زيد؟ فلو كان النفي بـ"ما" لم يجز ذلك لأن "ما" لها صدر الكلام، فلا يتقدم ما في حيزها عليها، وقد تقدم نحو من هذا قبل في أوائل الباب في قوله: "وتختص دام والمنفي بما بعدم الدخول على ذي خبر مفرد طلبي"، فدل

ذلك على أن المنفي بـ"ما" لا يكون خبره مفردًا طلبيًا، فلا يجوز: أين ما كان زيد؟ ولا: أين ما زال زيد؟ وينبغي أن يجري فيه خلاف ابن كيسان في إجازته: قائمًا ما زال زيد، بل ينبغي أن يوجب هنا التقديم لأجل الاستفهام. وقوله لا توسيط "ليس" خلافًا للشلوبين قال المصنف في الشرح: "أجاز أبو علي الشلوبين أن يقال: أين ليس زيد؟ بناء على اعتقاد جواز تقديم خبر ليس، وقد تقدمت الدلائل على أن الصحيح منع تقديم خبرها، فالحق أحق أن يتبع، ولا مبالاة بمن منع" انتهى. فقوله: "وقد تقدمت الدلائل" إلى آخره لم يتقدم له دليل على ذلك، ولا ذكر المسألة إلا بعد ذلك بأسطار كثيرة، قال: "ولا يتقدم خبر ما دام اتفاقًا، ولا خبر ليس على الأصح". وحين شرح هذا الكلام ذكر الأدلة، فقوله: "وقد تقدمت" ذهول منه. ولا ينبغي أن يرد على أبي علي الشلوبين بما رد به المصنف، إنما يرد عليه بأن "ليس" إنما موضوعها نفي الأخبار لا نفي الذوات، ومتعلق النفي إنما هو الخبر، وهو الذي يحتمل الصدق والكذب، فيحتمل أن ينفى، ويحتمل أن يثبت، وإذا كان كذلك فالاستفهام ليس هو إذا وقع خبرًا لـ"ليس"، وذلك بخلاف ما زال"، فغن "ما زال" صورتها النفي، ومعناها الإيجاب، فكما يجوز: أين كان زيد؟ يجوز: أين لم يزل زيد؟

والشلوبين هذا هو أبو علي عمر بن محمد بن عمر الأزدي، من أهل إشبيلية، رئيس النحاة وشيخهم، أخذ العربية عن أبي إسحاق بن ملكون، وأبي الحسن نجبة بن يحيى بن نجبة وغيرهما، وسمع من أبي بكر بن الجد كتاب سيبويه وغيره، وكان في وقته علمًا في العربية، إليه يرحل الناس من بلاد المغرب، لا يجاري، ولا يباري، قيامًا عليها واستبحارًا، وهو شيخ شيوخنا أبي الحسن الأبذي وأبي الحسن بن الضائع وأبي الحسين بن أبي الربيع وأبي جعفر اللبلي وغيرهم من شيوخنا، وشيخ شرف الدين أبي عبد الله محمد بن أبي الفضل المرسي، والأستاذ أبي الحسن بن عصفور، والأستاذ أبي العباس بن الحاج، والأستاذ أبي

زكريا بن ذي النون، والأستاذ أبي جعفر بن أبي رقيقة، وغيرهم من مشاهير النحاة، ولم ينجب أحد فيما علمناه من أهل النحو إنجابه، وقد جمعت من تلاميذه نحوًا من ثلاثين تلميذًا ليس منهم أحد إلا مشهورًا بالعلم والنحو. مولده سنة اثنتين وستين وخمسمائة، وتوفي منتصف صفر سنة خمس وأربعين وستمائة بإشبيلية. /والشلوبين لقب لأبيه، ثم غلب على الأستاذ أبي علي. وقوله وترد الخمسة الأوائل بمعنى صار يعني: كان وأضحى وأصبح وأمسى وظل، شواهد على ذلك قوله تعالى: {وبُسَّتِ الجِبَالُ بَسًّا (5) فَكَانَتْ هَبَاءً مُّنْبَثًا (6) وكُنتُمْ أَزْوَاجًا ثَلاثَةً (7)}، وقال: بتيهاء قفر، والمطي كأنها قطا الحزن قد كانت فراخا بيوضها وقال: حتى إذا حل بك القتير والرأس قد كان به شكير وقال:

أضحى يمزق أثوابي، ويضربني أبعد ستين عندي تبتغي الأدبا وقال: ثم أضحوا كأنهم ورق جـ ـف فألوت به الصبا والدبور وقال تعالى: {فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إخْوَانًا}، وقال: أصبحت لا أحمل السلاح، ولا أملك رأس البعير إن نفرا وقال: وأصبحت ودعت الصبا غير أنني ............................... وأنشد المصنف: أمست خلاء، وأمسى أهلها احتملوا ........................... فإن كان الشاهد في "أمست خلاء" فصحيح، وإن كان في "أمسى أهلها احتملوا" أو في مجموعهما فليس بصحيح لأنه لا يتأتى تقدير ذلك في "وأمسى أهلها احتملوا" لوقوع الماضي خبرًا لها، وهي إذا كانت بمعنى "صار" لا يقع الماضي خبرًا لها، كما لا يقع خبرًا لـ"صار"، وقد نبهنا قبل على ذلك. وقال تعالى: {فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ} أي: صارت، وقال:

{ظَلَّ وجْهُهُ مُسْوَدًا} أي: صار. وذهب لكذة الأصبهاني والمهاباذي شارح "اللمع" إلى أن "ظل" لا تكون بمعنى "صار"، بل لا تستعمل إلا في فعل النهار. وقال نحوه السيرافي، قال: ظل لما يستعمله الإنسان نهارًا، ولا تستعمل إلا ناقصة. وقال أبو بكر: هو مشتق من الظل، وإنما يستعمل في الوقت الذي للشمس فيه ظل، وهو من طلوع الشمس إلى غروبها، وقال الأعشى: يعل منه فو قتيلة بالـ إسفنط لما بات فيه وظل ساوى بينهما، و"بات" لليل، و"ظل" للنهار. وقال هشام: هو بين الصباح والمساء، وعاب لكذة على الأعشى قوله: /يظل رجيمًا لريب المنو ن والهم في أهلها والحزن فزعم أن "يظل" خطأ، قال: لأن الظلول لا يكون إلا نهارًا. وقال: افتراه يظل نهاره رجيمًا لريب المنون، فإذا كان الليل أمن. وقال: لا يقال: ظل فلان عمره سفيهًا؛ لأن الظلول إنما خص به يوم واحد. ثم قال: لا يقال: ظل فلان شهره سائرًا إلا أن يكون إنما كان سيره نهارًا خاصة. فناقض.

وهذا الذي ذهب إليه لكذة والمهاباذي والسيرافي وأبو بكر وهشام خطأ، بل نقل الناس أن "ظل" تكون بمعنى "صار"، وقد رد أبو حنيفة الدينوري على لكذة قوله، وقال: إنا نقول: أفترى أنت أن السامري الذي ظل على العجل عاكفًا إنما كان يعبده نهارًا، فإذا جاء الليل كفر به، وما قالوا: {لَن نَّبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إلَيْنَا مُوسَى}، وكانت غيبته فيما يقال أربعين يومًا. وينبغي على هذا القياس في قول الله جل ثناؤه: {وَلَئِنْ أَرْسَلْنَا رِيحًا فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا لَّظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ} أن يكون كفرهم بالنهار خاصة وأن لا يكفروا بالليل. وينبغي أيضًا في قول الشاعر: وإخوان صدق لست أطلع بعضهم على سر بعض غير أني جماعها يظلون شتى في البلاد، وسرهم ... إلى صخرة أعيا الرجال انصداعها أن يكون هؤلاء القوم بالنهار شتى دون الليل، أفتراهم بالليل يجتمعون جميعًا وواحد بالغور وآخر بنجد؟ وكذلك قول الآخر يذكر سبعًا أقام معه في مغارة يردان قلتا: ظللنا به جارين نحترس الثأى يسائرنا من نطفة ونسائره أي: أقمنا يشرب سؤري، وأشرب سؤره، ويحترس كل واحد منا من فساد صاحبه، وهو الثأى، أفتراه كان يحترس منه بالنهار دون الليل، والخوف بالليل أشد، والعدوة فيه أمكن؟ وإنما هذا كله على معنى المكث، وقد نعلم أنهم إذا نصوا على النهار لم يقولوا إلا ظللنا، ولم ينصوه على

الليل، فإذا أبهم ولم ينص قالوا: ظللنا مقامنا هنالك في تعاد وتباغض، فغلب ما يكون على النص بالنهار، قال ذو الرمة: حتى إذا يبست بهمي لوى لبن واصفر بعد سواد الخضرة العود ظللت تخفق أحشائي على كبدي كأنني من حذار البين مورود أفتراه كان يحاذر بالنهار ويأمن بالليل، فيكون بالنهار على يقين من أنهم سيتفرقون/، وبالليل على علم أنهم لا يتفرقون؟ انتهى كلام أبي حنيفة، وفيه بعض اقتصار، وفي هذه الشواهد كلها رد على لكذة حيث زعم أن الظلول يخص به يوم واحد، وقد ذكرنا تناقضه في كلامه. وزعم الزمخشري أن "بات" قد تستعمل بمعنى "صار". وقال المصنف في الشرح: "وليس بصحيح لعدم شاهد على ذلك مع التتبع والاستقراء، وحمل بعض المتأخرين على ذلك قول النبي صلي الله عليه وسلم: "فإن أحدكم لا يدري أين باتت يده"، ولا حاجة إلى ذلك لإمكان حمل "بات" على المعنى المجمع عليه، وهو الدلالة على ثبوت مضمون الجملة ليلًا، كما أن "ظل" غير المرادفة لـ"صار" لثبوت مضمون الجملة نهارًا، كما قال الراجز: أظل أرعى، وأبيت أطحن الموت من بعض الحياة أهون

ومن أصلح ما يتمسك به جاعل "بات" بمعنى "صار" قول الشاعر: أجني كلما ذكرت كليب أبيت كأنني أطوي بجمر لأن "كلما" تدل على عموم الأوقات، و"أبيت" إذا كانت على أصلها مختصة بالليل" انتهى. وقوله ويلحق بها ما رادفها من: آض وعاد وآل ورجع وحار واستحال وتحول وارتد الضمير في "بها" عائد على "صار"، وشواهد ذلك: ربيته حتى إذا تمعددا وآض نهدًا كالحصان أجردا وصار مضلي من هديت برشده فلله مغو عاد بالرشد آمرًا وتقول: عاد الطين خزفًا، ومن ذلك قوله: تعد فيكم جزر الجزور رماحنا ويرجعن بالأكباد منكسرات فـ"جزر الجزور" خبر "تعد" لأنه معرفة، هذا هو الوجه فيه. قال ابن عصفور: "وقد يجوز فيه أن يكون حالًا لأن المعنى: مثل جزر الجزور،

وما كان على معنى "مثل" من الأسماء فقد تجعله العرب نكرة، وتنصبه على الحال، وإن كان بلفظ المعرفة" انتهى. وممن ذكر أن "عاد" قد تكون من أخوات "كان" أبو الحجاج الأعلم. ومن النحويين من لم يلحق "آض" ولا "عاد" بأفعال هذا الباب، فنصب ما يأتي بعدها على الحال، ولأنها تعدي بحرف الجر، تقول عاد زيد إلى كذا، وآض إليه، أي: رجع، و"أيضًا" مصدرها. وأنشد المصنف على أن "آل" بمعنى "صار" قول الشاعر: وعروب غير فاحشة ملكتني ودها حقبا ثم آلت لا تكلمنا كل حي معقب عقبا /ولا حجة في هذا لأنه يحتمل أن يكون "آلت" بمعنى: حلفت، و"لا تكلمنا" جواب القسم كقوله: .................................... .......... وآلت حلفة لم تحلل "لا ترجعوا بعدي كفارًا يضرب بعضكم رقاب بعض"، وقال: قد يرجع المرء بعد المقت ذا مقة بالحلم، فادرأ به بغضاء ذي إحن وما المرء إلا كالشهاب وضوئه يحور رمادا بعد إذ هو ساطع

"فاستحالت غَرْبًا". وقال: إن العداوة تستحيل مودة بتدارك الهنوات بالحسنات وبدلت قزحا داميا بعد صحة لعل منايانا تحولن أبؤسا لا يوئسنك سؤال عيق عنك فكم بؤس تحول نعمى أنست النقما {فَارْتَدَّ بَصِيرًا}، وارتد مطاوع رد، ورد تكون بمعنى صير، وستأتي إن شاء الله. وقوله وندر الإلحاق بـ"صار" في "ما جاءت حاجتك" و"قعدت كأنها حربة" أما "ما جاءت حاجتك" فقيل: أول من قالها الخوارج، قالوها لابن عباس حين أرسله علي _كرم الله وجهه_ إليهم. ويروى برفع "حاجتك" على أن "ما" خبر "جاءت"، قدم لأنه اسم استفهام، التقدير: اية حاجة صارت حاجتك؟ ويروى بالنصب على أن تكون خبر "جاءت"، واسمها مستتر فيها عائد على معنى "ما"، والتقدير: أية حاجة صارت حاجتك؟ وما: مبتدأ، والجملة بعده خبر، ويقتصر بها على هذا المثل.

وطرد استعمالها بعضهم لقوة الشبه بينها وبين "صار"، فجعل من ذلك قولهم: جاء البر قفيزين وصاعين، والصحيح أن هذا حال. وأما "قعدت كأنها حربة" فقالوا: شحذ شفرته، ويروى: أرهف شفرته، حتى قعدت كأنها حربة، أي: صارت كأنها حربة، فـ"كأنها حربة" خبر "قعدت". وقوله والأصح أن لا يلحق بها "آل" كأنه ذهب إلى أن البيت الذي أنشده لا حجة فيه لاحتمال ما ذكرناه من كون "آلت" فيه بمعنى "حلفت". وقوله ولا "قعد" مطلقًا يعني أنه إنما تستعمل "قعد" بمعنى "صار" حيث وردت، ولا تقاس. وذهب الفراء إلى أنه يطرد جعل قعد بمعنى صار، وجعل من ذلك قول الراجز: لا يقنع الجارية الخضاب ولا الوشاحان ولا الجلباب من دون أن تلتقي الأركاب ويقعد الأير له لعاب وحكي الكسائي: "قعد لا يسأل حاجة إلا قضاها" بمعنى صار. وجعل الزمخشري من ذلك قوله تعالى: {فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَّخْذُولاً}. قال

المصنف: "ويمكن أن يكون /منه قول الشاعر: ما يقسم الله أقبل غير مبتئس منه، وأقعد كريما ناعم البال" انتهى. وأما قولهم: "فلان قعد يتهكم بعرض فلان" فزعموا أن "قعد" زائدة؛ إذ المعنى: فلان يتهكم بعرض فلان، ولا معنى لقعد هنا إلا الزيادة. وقوله وأن لا يجعل من هذا الباب غدا وراح قال المصنف في الشرح: "ألحق قوم _منهم الزمخشري وأبو البقاء_ بأفعال هذا الباب "غدا" و"راح"، وقد يستشهد على ذلك بقول ابن مسعود رضي الله عنه "اغد عالما أو متعلما، ولا تكن إمعة"، وبقول النبي عليه السلام: "لو توكلتم على الله حق توكله لرزقتم كما ترزق الطير، تغدو خماصا، وتروح بطانا". والصحيح أنهما ليسا من الباب، وإنما المنصوب بعدهما حال إذ لا يوجد إلا نكرة" انتهى. وقد أدخلهما في هذا الباب أبو موسى الجزولي والأستاذ أبو

الحسن بن عصفور، وقال الأستاذ أبو الحسن بن عصفور: "وأما غدا وراح فيستعملان تامين وناقصين، فإذا استعملا تامين دلا على دخول الفاعل في الوقت الذي اشتقا من اسمه على حسب ما تقتضيه الصيغة من مضي أو غيره، فتقول: غدا زيد وراح، أي: دخل في الغدو والرواح. وقد يدلان على إيقاع الفاعل شيئا في الوقت الذي اشتقا منه، يقال: غدا زيد وراح، أي: مشى في الغدو والرواح. وإذا استعملا ناقصين جاز أن يكون فيهما ضمير الأمر والشأن وأن لا يكون، ويكونان إذ ذاك للدلالة على اقتران مضمون الجملة بالزمان الذي اشتقا منه، وذلك نحو: غدا زيد قائما، أي: وقع قيامه في وقت الغدو، وراح عبد الله منطلقا، أي: وقع انطلاقه في وقت الرواح. وقد يكونان بمعنى صار، فتقول: غدا زيد ضاحكا، وراح عبد الله منطلقا، أي: صار في حال ضحك أو انطلاق" انتهى. ويحتاج تقرير كونهما ناقصين إلى سماع من العرب. وكان الأستاذ أبو الوليد بن أبي أيوب ينكر قول من يقول إن غدا وراح من أفعال هذا الباب إنكارا شديدا، ويقول: غدا بمعنى خرج غدوة، وراح بمعنى خرج بالعشي، وهذا مستغن عن الخبر. قال الأستاذ أبو علي: الذي ذكر أنه غدا وراح من هذا الباب لم

يذكرهما فيه بالمعنى الذي ذكره الأستاذ أبو الوليد، إنما ذكرهما في هذا الباب على أنهما بمعنى صار، فإن صح ذلك قبل، وإلا فلا. وقوله ولا أسحر وأفجر وأظهر ذكر هذه الثلاثة الفراء في "كتاب الحد"، ولم يذكر شاهدا على ذلك. وذهب الكوفيون إلى أن "هذا" و"هذه" إذا أريد /بهما التقريب كانا من أخوات "كان" في احتياجهما إلى اسم مرفوع وخبر منصوب، وذلك نحو: كيف أخاف الظلم وهذا الخليفة قادما؟ وكيف أخاف البرد وهذه الشمس طالعة؟ وكذلك كل ما كان فيه الاسم الواقع بعد أسماء الإشارة لا ثاني له في الوجود؛ لأن المعنى إنما هو على الإخبار عن الخليفة بالقدوم، وعن الشمس بالطلوع، وأتي باسم الإشارة تقريبا للقدوم والطلوع، ألا ترى أنك لم تشر إليهما وهما حاضران، وأيضا فالخليفة والشمس معلومان، فلا يحتاج إلى تبيينهما بالإشارة إليهما، ويبين أن المرفوع بعد اسم الإشارة مخبر عنه بالمنصوب أنك لو أسقطت اسم الإشارة، فقلت: الخليفة قادم، والشمس طالعة، لم يختل المعنى، كما أنك إذا أسقطت كان من: كان زيد قائما، فقلت: زيد قائم، لم يختل المعنى. ولو قلت "هذا الصياد أشقى الناس" كان تقريبا، وكذلك ما أشبهه مما الاسم الواقع فيه بعد اسم الإشارة معبرا به عن جنسه لا عن واحد بعينه، نحو قولك: ما كان من السباع غير مخوف فهذا الأسد مخوفا؛ لأنك لم تقصد إلى شخص بعينه، ولو أسقطت اسم الإشارة صح الكلام. وما ذهبوا إليه من أن المعنى على الإخبار عن المرفوع بالمنصوب صحيح، إلا أن الإعراب على غير ما ذكروه، بل المرفوع بعد اسم الإشارة

خبر، والمنصوب حال، والمعنى قد يكون على خلاف اللفظ، ومنع من مطابقة اللفظ للمعنى هنا كون اسم الإشارة لا يكون له موضع من الإعراب، ولا يوجد اسم لا موضع له من الإعراب. فإن قلت: يكون لا موضع له من الإعراب على مذهب من يرى أن الفصل اسم، ولا موضع له من الإعراب. قلت: يدل على أنه يرتفع على الابتداء دخول النواسخ عليه، حكي الكسائي عن العرب: أو ليس هذان الليل والنهار يختلفان علينا؟ بنصب الليل والنهار، فدل هذا على أن اسم الإشارة قبل دخول "ليس" كان مبتدأ، والليل والنهار خبرا لاسم الإشارة وإن كان تقريبا؛ لأن الليل والنهار يراد بهما الجنس. ويدل على أنه حال التزام التنكير فيه، فلو كان خبرا لجاء معرفة، وإجازتهم التعريف فيه هو بالقياس، وإن حفظ شيء منه دخلت عليه "أل" جعلت زائدة كهي في: الجماء الغفير. وقد انتهى ذكر الكلمات التي ترفع الاسم وتنصب الخبر، وهي إحدى وثلاثون كلمة بالمتفق عليه والمختلف فيه، وحصرها بالعد طريقة المتأخرين، وهي طريقة ضعيفة، ولذلك زاد بعضهم فيها ونقص، وأما س فإنه ذكر منها ألفاظا، ثم قال: "وما كان نحوهن من الفعل مما لا يستغنى بمرفوعة عن الخبر"، فأعطى قانونا كليا يعرف به ما كان من هذا الباب، وه كون مرفوعها لا يستغنى عن الخبر، ولذلك ألحق النحويون بها أفعال المقاربة، وهذه هي طريقة النحاة الذين هم على/ سنن النحو، وهو عذق الباب بقانون كلي يختبر في شخصيات

المسائل، فما وافق كان من الباب، وما خالف لم يكن منه. وفي البسيط: قال بعض النحويين: إن كل فعل يجوز فيه أن يدخل في باب "كان" إذا جعلت الحال غير مستغنى عنها، تقول: قام زيد كريما؛ لأنك هنا لا تريد أنه قام في حال كرم، فإن الحال منتقلة، فلا تريدها هنا لأنها لا تفيد تخصيصًا، فالفعل هنا داخل على المبتدأ والخبر، وقد تكون منتقلة لكنك لا تريد أن تجعلها مستغنى عنها، نحو: ذهب زيد متحدثا، فالأفعال هنا ناقصة، قال الشاعر: عاش الفتى مجاهدا في قومه فإن جعلتها تامة نصبت على الحال. -[ص: وتوسيط أخبارها كلها جائز ما لم يمنع مانع أو موجب. وكذا تقديم خبر "صار" وما قبلها جوازا ومنعا ووجوبا. وقد يقدم خبر "زال" وما بعدها منفية بغير "ما"، ولا يطلق المنع، خلافا للفراء، ولا الجواز، خلافا لغيره من الكوفيين. ولا يقدم خبر "دام" اتفاقا، ولا خبر "ليس" على الأصح. ولا يلزم تأخير الخبر إن كان جملة، خلافا لقوم. ويمنع تقديم الخبر الجائز التقدم تأخر مرفوعة، ويقبحه تأخر منصوبة، ما لم يكن ظرفا أو شبهه. ولا يمتنع هنا تقديم خبر مشارك في التعريف وعدمه إن ظهر الإعراب. وقد يخبر هنا وفي باب "إن" بمعرفة عن نكرة اختيارا.]- ش: مثال ذلك: "كان قائما زيد". وهذا الذي ذكره المصنف من جواز توسيط أخبارها سواء أكان الخبر جامدا أو مشتقا هو مذهب البصريين. ولا يجيز الكوفيون "كان قائمًا زيد" على أن يكون في قائم ضمير يعود على اسم كان المؤخر، ويكون قائما خبرا مقدما على الاسم

لأن ضمير الرفع عندهم لا يتقدم على ما يعود عليه أصلا. وجاز ذلك عند أهل البصرة لأن المضمر مرفوع بما النية به التأخير، والضمير إذا كانت النية به التأخير عن الظاهر جاز تقديمه عليه. وأجاز الكسائي "كان قائما زيد" على أن يكون في كان ضمير الأمر والشأن، و"قائما" خبر "كان"، و"زيد" مرفوع بـ"قائم"، ولا يثني قائما ولا يجمعه لرفعه الظاهر. وهذا باطل عندنا لأن ضمير الشأن لا يفسر إلا بجملة. وأجاز الفراء ذلك على أن يكون "قائم" خبر "كان"، و"زيد" مرفوع بـ"كان" وبـ"قائم"، ولا يثني عنده ولا يجمع لرفعه الظاهر مع أنه يتقدر بالفعل؛ ألا ترى أنك تقول: كان يقوم زيد، وكان قام زيد، فيكون بمعنى: كان قائما زيد. وهذا باطل لأنه لا يجوز إعمال عاملين في معمول واحد. وأجاز هشام: كان قائما الزيدان والزيدون، على أن تجعل قائما خبرا، والزيدان والزيدون اسما. ولا يجيز ذلك البصريون إلا مع تثنية الخبر وجمعه. وقوله كلها دخل فيها ليس /وما دام، أما "ليس" فخالف في جواز توسيط خبرها بعض النحاة، ذكره ابن درستويه، وشبهها في ذلك بـ"ما". وهو محجوج بالسماع الثابت، ففي السبعة {لَيْسَ البِرَّ أَن تُوَلُّوا} بنصب {البِرَّ}، وقال الشاعر: سلي -إن جهلت- الناس عنا وعنهم وليس سواء عالم وجهول

وقال الآخر: أليس عجيبًا بأن الفتى يُصاب ببعض الذي في يديه وقد وهم المصنف في الشرح، فزعم أن خبر "ليس" جائز توسيطه بالإجماع، واتبع في ذلك أبا علي الفارسي، فإنه قال: "لم يختلفوا في جواز تقديم خبرها على اسمها". وكذلك قال ابن الدهان: "جواز تقديم خبرها على اسمها إجماع". وكذلك قال ابن عصفور: لم يختلفوا في جواز تقديم خبرها على اسمها. وأما "ما دام" فقد وهم ابن مُعط في منع توسيط خبرها، وخالف النص والقياس والإجماع، أما النص فقول الشاعر: لا طيب للعيش ما دامت منغصة لذاته بادكار الموت والهرم وقول الآخر: ما دام حافظ سري من وثقت به فهو الذي لست عنه راغبًا أبدا وأما القياس فكما جاز توسيط أخبار أخواتها كذلك يجوزُ مع "دام".

وقال المصنف في الشرح: " فيها ما في "دام" من عدم التصرف، وتوفقها ضعفًا بأن منع تصرفها لازمٌ ومنع تصرف "دام" عارضٌ، ولأن "ليس" تشبه "ما" النافية معنى، وتُشبه "ليت" لفظًا؛ لأن وسطها ياء ساكنة سالمة، ومثل ذلك مفقود في الأفعال، فثبت بها زيادة ضعف "ليس" على ضعف "دام"، وتوسيط خبر ليس لم يمتنع، فإن لا يمتنع توسيط خبر دام لنقصان ضعفها أحق" انتهى. قوله "فيها ما في دام من عدم التصرف" قد تقدم أن عدم تصرفها في هذا الباب هو مذهب الفراء، والبصريون لا يشترطون ذلك. وقوله ما لم يعرض مانع يعني من التوسط، مثال ذلك: ما يوجب التقديم نحو: كم كان مالك؟ وأين زيد؟ وما يوجب التأخير نحو: كان فتاك مولاك، وما كان زيد في الدار. وقوله أو موجب أي للتوسط، مثاله ما قُصد فيه حصر الاسم، نحو {مَّا كَانَ حُجَّتَهُمْ إِلاَّ أَن قَالُوا}، ونحو: كأنك زيد، وكان في الدار رجلٌ. قال المصنف: "وقد يحمل المُوجب على موجب التقديم أو توسيط على سبيل التخيير، وذلك إذا اشتمل الاسم على ضمير ما اشتمل عليه الخبر، نحو: كان شريك هند أخوها،/ ووليها كان أبوها، فواجب في هذه المسألة تقديم الخبر أو توسيطه، وممتنع تأخيره لئلا يتقدم الضمير على مُفسر مؤخر رتبة ولفظًا، فلو كان في مثل هذه قبل الفعل ما له صدر الكلام تعين التوسط، نحو قولك: هل كان شريك هند أخوها؟ ". وقوله وكذا تقديم خبر "صار" وما قبلها جواز ومنعًا ووجوبًا يعني أن

تقديم خبر "صار" وما قبلها عليها ينقسم انقسام الخبر من ثلاثة الأقسام: قسم يجوز فيه، وقسم يمتنع، وقسم يجب: فالجائز نحو: قائمًا كان زيد، وسواء أكان الخبر جامدًا أم مشتقًا، هذا مذهب البصريين. وذهب الكوفيون إلى أنه لا يجوز: قائمًا كان زيد، على أن يكون "قائمًا" خبر "كان" مقدمًا، و"زيد" اسم "كان"، للعلة التي ذُكرت عنهم في منع توسطه. وأجاز ذلك الكسائي على أن يكون "قائمًا" خبر "كان" مقدمًا مرفوعًا به "زيد" وفي "كان" ضمير الشأن، ولا يُثنى "قائم" ولا يُجمع لرفعه الظاهر، كما يُفعل ذلك مع التوسط. وأما الفراء فحكمه عنده مع التقدم حكمه مع التوسط، إلا أنه يُثني "قائمًا" ويجمعه لأنه لا يسوغ في محله الفعل، فلا تقول: قائم كان زيد، ولا: يقوم كان زيد. ومذهبها فاسد بما أفسدنا به مذهبهما في التوسط. فإن جعلت قائمًا وأشباهه خالفًا لموصوف جاز عندهم أن يكون خبرًا مُقدمًا وموسطًا، ويكون فيه إذ ذاك ضمير يعود على الموصوف المحذوف، ويُثنى ويُجمع. وأجاز البصريون والكسائي تقديم الخبر في نحو: كنت حسنًا وجهك، فتقول: حسنًا وجهك كنت. ومنعه الفراء إلا أن تجعل مكان الكاف الهاء، فتقول: حسنًا وجهه كنت. ويحتاج جواز تقديم خبر "كان" إلى "صار" عليها إلى سماع من العرب، ولم نجدهم ذكروا سماعًا في ذلك، لا يكاد يوجد: قائمًا كان زيد.

وقد استدل بعضهم على جواز ذلك بقوله تعالى: {أَهَؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ}، فـ "إياكم" معمول لقوله: "يعبدون"، وهو خبر وتقدم المعمول يُؤذن بتقديم العامل، فلو لم يكن {يَعْبُدُونَ} جائزًا تقدمه على {كَانُوا} لم يجز تقديم معموله. وكذلك قوله تعالى: {قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِؤُونَ}. وأما قوله تعالى: {كَذَلِكَ كُنتُم مِّن قَبْلُ} فقيل: {كَذَلِكَ} خبر مقدم. وقيل: {كُنتُم} تامة. وإذا كان الخبر اسمًا فيه معنى الاستفهام وجب تقديمه، نحو قولهم: ما جاءت حاجتك؟ فيمن رفع حاجتك، فـ "ما" خبر تقدم، كأنه قال: أية حاجة صارت حاجتك؟ على أنه يحتمل أن تكون "ما" مبتدأ، وخبر "جاءت ضمير محذوف. وقد مثل بعضهم ذلك بقوله: أيًا كان أبوك؟ فإن كان الخبر ظرفًا فيه معنى الاستفهام فقد تقدم أنه يجب تقديمه، وكذلك "كم". قال المصنف: "ومن عُروض المانع خوف اللبس نحو: كان فتاك مولاك، وصار/ عدوي صديقي. وحصر الخبر نحو: إنما كان زيد في المسجد. واشتمال الخبر على ضمير ما اشتمل عليه الاسم، نحو: كان بعل هند حبيبها، فيجب تأخير الخبر في مثل هذا؛ لأنه لو وُسط أو قُدم لزم عود الضمير على متأخر لا يتعلق به العامل. وبعض النحويين لا يلزم تأخير الخبر في مثل هذا لأن المضاف والمضاف إليه كشيء واحد، فلو وسط الخبر، فقيل: "كان حبيبها بعل هند" لم يضر لأن الضمير عائد على ما هو كجزئه مقدر التقديم معه؛ إذ لا يتم معناه إلا به. ويلزم من جواز

هذا جواز: كان حبيبها الذي خطب هندًا؛ لأن ما يتم به المضاف بمنزلة ما يتم به الموصول، وهذا لا يجوز، فكذلك ما أشبهه. وأما عروض مُوجَب التقديم فإذا كان فيه معنى استفهام، نحو: كم كان مالُك؟ أو أُضيف إلى ما هو فيه، نحو: غلامَ من كان زيد؟ " انتهى، وفيه بعض تلخيص. وقوله وقد يُقدم خبر "زال" وما بعدها منفية بغير "ما" مثاله: في الدار لم يبرح زيد، وقائمًا لن يزال عمرو، فإذا كان حرف النفي لا أو لن أو إنْ أو لم أو لمَّا جاز تقديم الخبر، هذا مذهب البصريين، ويُحتاج في إثبات ذلك إلى سماع من العرب. ومما استُدل به لذلك قول الشاعر: ورج الفتى للخير ما إن رأيته على الشر خيرًا لا يزال يزيد ووجه الدلالة من هذا أن "خيرًا" منصوب بـ "يزيد"، و"يزيد" خبر لـ"يزال"، وتقدم المعمول مُؤذن بتقدم العامل، فكما جاز تقديم "خيرًا" جاز تقديم "يزيد"، وهو خبر "زال". وأجاز الأستاذ أبو بكر بن طاهر نصب "خيرًا" برأيته على حذف مضاف، أي: ذا خير، وأن يكون منصوبًا بيزيد لاتساعهم في "لا" كـ "لن" و"لم" قال: ولا يصلح مع "ما". ومما يقع التخيير فيه بين التقديم أو التوسط: في الدار لم يبرح صاحبها، ولا ينفك مع هند أخوها.

وقوله ولا يُطلق المنع، خلافًا للفراء منع الفراء من تقديم خبر زال وأخواتها عليها بأي حرف كان النفي. وقوله ولا الجواز، خلافًا لغيره من الكوفيين يعني أن غير الفراء من الكوفيين أجاز تقديم الخبر مطلقًا سواء أنفي بما أم بغيره، فتقول: قائمًا ما زال زيد، وهذا المذهب مشهور نقله عن ابن كيسان، ورُوي عن الكسائي والأخفش، وقال به أبو جعفر النحاس، واختاره ابن خروف، وحكاه صاحب "البسيط" عن ابن كيسان وبقية الكوفيين. واحتج ابن كيسان على ذلك بأن هذه الأفعال وإن كانت منفية في اللفظ، فإنها مُوجبة في المعنى؛ ألا ترى أن معنى "ما زال زيد عالمًا" ثبوت العلم له لا نفيه عنه، فجرت مجرى "كان"، ويدل على مراعاة هذا المعنى لها كونهم لم يُدخلوا "إلا" على خبرها كما لا تدخل/ على خبر كان الثبوتية. ورُد هذا المذهب بأن المراعى في التقديم إنما هو اللفظ لا المعنى؛ ألا ترى أنهم لا يُجيزون في "ما ضربت غير زيد" تقديم "غير" وإن كان المعنى على الإيجاب، رعيًا للفظ "ما"، فكذلك هذا.

فرع: إذا توسط الخبر بين "ما" وهذا الأفعال نحو "ما قائمًا زال زيد" فأكثر النحويين على جواز ذلك، وبعضهم منعه. وفي البسيط: "واحتج بأنها لزمت "ما"، وانقلب معناها بها، ولذلك المعنى عملت في الخبر، فغلب عليها حكم الحرف، فلم يُتصرف في معمولها، ولأنها مع "ما" كـ "حبذا"، فلا يُفصل بينهما. ولم يُراع الجمهور هذا". وقال أيضًا: "الاتفاق على أنه لا يجوز تقديم أخبارها على "ما" إذا كان النفي غير لازم، نحو "ما كان" وأخوتها". وفي الإفصاح: "ومن منع من التقديم - يعني تقديم الخبر على الفعل لا على "ما" - احتج بأنها إذا لم تدخل عليها "ما" لم تعمل بأنها نفي في المعنى، تقول: برح الخفاء، وزال زيد، وانفك عن كذا أو منه، أي: انصرف، فإذا أدخلت هذا، ونفيت الزوال وما في معناه انعكس المعنى إثباتًا، وصارت هذه الأفعال لمصاحبة هذا الحرف تدل على دوام الصفة للموصوف، وهو معنى وجود الخبر للمخبر عنه دائمًا، لم يتهيأ هذا المعنى وهذا الاقتضاء وهذا العمل إلا بالحرف، فكان الحرف هو العامل، فلم يتصرف هذا الفعل في معموله لغلبة الحرف عليه، وكأنه حرف" انتهى. وهذا التعليل يقتضي امتناع التقديم على الاسم إذا نفي بـ "لا" أو بـ "إن" النافية، نحو: لا يزال زيد محسنًا، وإن يزال زيد محسنًا. وقوله ولا يتقدم خبر "ما دام" اتفاقًا نحو: لا أصحبك طالعة ما دامت الشمس، لأن "طالعة" معمول لصلة ما، ومعمول الصلة لا يتقدم على الموصول. وفي الإفصاح: "لا يُقدم الخبر على "دام" لأنها بمنزلة "أن"؛ لأن الحرف المصدري لا يُفصل بينه وبين فعله لأنه كالجزء منه، ولا على "ما" لما تقدم من أن الحرف المصدري لا يعمل ما بعده فيما قبله، كما لا يتقدم بنفسه عليه".

وقال ابن المصنف الإمام بدر الدين محمد: "ما هذه - يعني في ما دام - ملتزمة صدر الكلام، ولا يُفصل بينها وبين صلتها بشيء، فلا يجوز تقدم الخبر على دام وحدها، ولا عليها مع ما. ومثل دام في ذلك كل فعل قارنه حرف مصدري، نحو: أريد أن تكون فاضلًا" انتهى. وليس كما ذكر، بل الحرف فيه تفصيل بين أن يكون عاملًا أو غير عامل، إن كان غير عامل جاز أن يتقدم على الفعل لا على الحروف، نحو قولك: عجبت مما زيدًا تضرب، تريد: مما تضرب زيدًا. وإن كان عاملًا ففي جواز التقديم خلاف، ومذهب البصريين المنع. فمقتضى ما ذكرناه أن يجوز: لا أصحبك ما طالعة دامت الشمس، وهو الذي يقتضيه القياس على: عجبت مما زيدًا تضرب، إلا إن علل ذلك بأن/ دام لا تتصرف، فيمكن المنع. وقوله ولا خبر "ليس" على الأصح اختار المصنف منع تقديم خبر "ليس" عليها، فلا يجوز عنده: قائمًا ليس زيد، وهو مذهب الكوفيين والمبرد وابن السراج والزجاج والسيرافي والجرجاني وأكثر المتأخرين، واختاره أبو الحسين بن عبد الوارث الفارسي وأبو زيد

السهيلي. وذهب قدماء البصريين إلى الجواز، ونسبه صاحب اللباب إلى الكوفيين. وقال أبو الفتح: "انفرد المبرد بأنه لا يجوز تقديم خبر ليس عليها، وخالفه في ذلك الجمهور" انتهى. وقد اختلف في ذلك على س، فنسب بعضهم إليه الجواز وبعضهم قال: "ليس في كلامه ما يدل على ذلك". وإلى جواز ذلك ذهب أبو علي والسيرافي وابن برهان والزمخشري والأستاذ أبو علي الشلوبين، واختاره ابن عصفور، وقال: "هو الذي يعطيه كلام س لأنه أجاز في الاشتغال: أزيدًا لست مثله؟ بنصب زيد بفعل يُفسره ليس، ولا يُفسر في الاشتغال إلا ما يصح له العمل". واستدل من أجاز ذلك بشيئين، قال: أحدهما أنه لا خلاف في جواز تقديم خبرها على اسمها، ولم يُوجد الخبر متقدمًا على الاسم وهو غير ظرف ولا مجرور إلا حيث يجوز تقديم

الخبر على العامل؛ ألا ترى أن "كان" يتقدم خبرها على الاسم وعليها، وأن خبر "إن" وأخواتها لا يتقدم على اسمها ولا عليها، فلو كانت "ليس" بمنزلة "إن" و "ما" في امتناع تقديم خبرها عليها لامتنع تقديم خبرها على اسمها، كما امتنع ذلك في "إن" و "ما" وأخواتها، فدل ذلك على أنه يجوز أن يتقدم خبرها عليها كما جاز تقديم خبر "كان" على اسمها. والثاني قوله تعالى: {أَلاَ يَوْمَ يَاتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفاً عَنْهُمْ}، فقدم {يَوْمَ يَاتِيهِمْ} وهو معمول الخبر، ولا يتقدم على الناسخ معمول معموله إلا حيث يجوز تقديم معمول الناسخ عليه؛ ألا ترى أنك تقول: يوم الجمعة كان زيد قائمًا، لأنه يجوز أن تقول: قائمًا يوم الجمعة كان زيد، ولا يجوز أن تقول: قام يوم الجمعة إن زيدًا. ونظير قوله تعالى: {أَلاَ يَوْمَ يَاتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفاً عَنْهُمْ}، قول الشاعر: فيأبى، فيما يزداد إلا لجاجة وكنت أبيا في الخنا، لست أقدم فظاهر هذا البيت أن قوله: "في الخنا" متعلق بقوله "أقدم"، و"أقدم" خبر "ليس". وحجة من منع إن كان مذهبه فيها أنها حرف فمعمول الحرف لم يتقدم على الحرف في موضع من المواضع، وإن كان مذهبه فيها أنها فعل فالفعل إذا لم يتصرف في نفسه لم يتصرف في معموله، دليل ذلك فعل التعجب وعسى ونعم وبئس، مع أن "ليس" شبيهة في المعنى بحرف لا يُشبه الفعل، وهو/ "ما"، بخلاف "عسى" فإنها شبيهة بحرف يشبه الفعل، وهو "لعل"، وكان مقتضى شبه "ليس" بـ "ما"، و"عسى" بـ "لعل" امتناع توسيط خبريهما كما امتنع توسيط خبر "ما" و "لعل"، لكن قصد ترجيح ما

له فعلية على ما لا فعلية له، والتوسيط كاف في ذلك، فلم تجر الزيادة عليه تجنبًا لكثرة مخالفة الأصل. وقد طول المصنف بما لا حاجة إليه في هذه المسألة من إبداء فروق بين "ليس" وفعل التعجب ونعم وبئس وعسى. وأجاب أصحاب هذا المذهب عن السماع، وهو قوله: {أَلاَ يَوْمَ يَاتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفاً عَنْهُمْ} بأجوبة: أحدها: أن المعمول قد يقع حيث لا يقع العامل، نحو: أما زيدًا فاضرب، وعمرًا لا تهن، وحقك لن أضيع، فكما لم يلزم من تقديم معمول الفعل بعد "أما" تقديم الفعل، ولا من تقديم معمول المجزوم والمنصوب على "لا" و "لن" تقديمهما عليهما، كذا لا يلزم من تقديم معمول خبر ليس تقديم الخبر. الثاني: أن يُنصب {يَوْمَ يَاتِيهِمْ} بفعل مضمر لأن قبله {مَا يَحْبِسُهُ}، فـ {يَوْمَ يَاتِيهِمْ} جواب، كأنه قيل: يعرفون يوم يأتيهم، و {لَيْسَ مَصْرُوفاً} جملة حالية مؤكدة أو مستأنفة. الثالث: أن يكون {يَوْمَ} مبتدأ بني لإضافته إلى الجملة، فذلك سائغ مع المضارع كسوغه مع الماضي، وللاحتجاج على بناء المضاف إلى المضارع موضع آخر. الرابع: أنا نُسلم انتصاب {يَوْمَ} بـ {مَصْرُوفاً} لأن الظروف يُتوسع فيها ما لا يُتوسع في غيرها، ولذلك جاز: ما غدًا زيد ذاهبًا، ولم يجز: ما طعامك زيد آكلًا، وجاز: أغدًا تقول زيدًا منطلقًا؟ ولم يجز: أأنت تقول زيدًا منطلقًا؟ انتهت هذه الأجوبة، وهي كلام المصنف في الشرح.

وقال السهيلي: قائمًا لست، وقيامًا لسنا، وخارجين لسنا، ما أظن العرب فاهت بمثله قط. وقوله ولا يلزم تأخير الخبر إن كان جملة، خلافًا لقوم هذه المسألة أوردها النحويون على طريقتين: إحداهما أن يكون الخبر جملة من غير تفصيل في الجملة، فسواء أكانت الجملة أسمية أم فعلية، رافعة ضمير المبتدأ أو غير رافعة، مثال ذلك: كان زيد أبوه قائم، وكان زيد يقوم، وكان زيد يمر به عمرو، فكذر ابن السراج عن قوم من النحويين أنهم لا يجيزون تقديم الخبر ولا توسيطه في ذلك، فلا يجوز: أبوه قائم كان زيد، ولا: يقوم كان زيد، ولا: كان أبوه قائم زيد، ولا: كان يقوم زيد، وقال ابن السراج: "والقياس جوازه وإن لم يسمع". وصحح المصنف الجواز، قال: "لأنه وإن لم يسمع مع كان فقد سمع الابتداء، كقول الفرزدق: إلى ملك ما أمه من محارب أبوه، ولا كانت كليب تصاهره" قال: "فلو دخلت كان لساغ التقديم، فكنت تقول: ما أمه من مُحارب كان أبوه. والتوسيط أولى بالجواز كقوله: ما كان أمه من مُحارب أبوه". ومما يدل على تقديم الخبر وهو/ جملة قوله تعالى: {أَهَؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ} {وَأَنفُسَهُمْ كَانُوا يَظْلِمُونَ}، وتقديم المعمول يُؤذن بتقديم العامل.

والطريقة الأخرى: تقييد الجملة بأن تكون فعلًا مرفوعة ضمير مستتر فيه، نحو: كان زيد يقوم، فمنهم من أجاز تقديمه، وجعل من ذلك قول الشاعر: وأصبح في لحد من الأرض ميتًا وكانت به حيًا تضيق الصحاصح في "الصحاصح" عنده اسم "كانت"، و"تضيق" الخبر. ومنهم من منع، فاسم "كانت" ضمير القصة، و"تضيق الصحاصح" فعل وفاعل في موضع خبر اسم "كانت" الذي هو ضمير القصة. واستدل من منع ذلك بأن هذه الأفعال داخلة على ما أصله المبتدأ والخبر، فكما إذا قلت: "الصحاصح تضيق" لا يجوز تقديم "تضيق"، ويكون خبرًا للمبتدأ، فكذلك خير هذه الأفعال. واحتج من أجاز التقديم بأنه إنما لم يجز "تضيق الصحاصح" على أن يكون "تضيق" خبرًا مقدمًا لأنه لا يمكن إعمال الابتداء في "الصحاصح" مع وجود الفعل قبله لأن الابتداء معنى، والفعل لفظ، والعامل اللفظي أقوى من العامل المعنوي. ولك في البيت أن تجعل "تضيق" خبرًا مقدمًا، و "الصحاصح" اسم "كان". ولك أن تجعل "الصحاصح" فاعلًا بـ "تضيق". فلما كان كل واحد من العاملين - وهما كان وتضيق - لفظيًا لم يكن أحدهما أولى بالعمل من الآخر، فجاز الوجهان. قال الأستاذ أبو الحسن بن عصفور: والصحيح المنع من تقديم الخبر إذا كان فعلًا مرفوعه ضمير مستتر فيه؛ لأن الذي استقر في باب "كان" أنك

إذا حذفتها عاد اسمها وخبرها إلى الابتداء والخبر، نحو: كان زيد قائمًا، لو أسقطت "كان" قلت: زيد قائم، ولو أسقطها من كان يقوم زيد على أن يكون "يقوم" خبرًا مقدمًا، فقلت: يقوم زيد، لم ترجع إلى المبتدأ والخبر. وإذا كان في كان ضمير الشأن، والجملة خبر، فحذفت "كان" برز ضمير الشأن، وكان مع ما بعده مبتدأ وخبرًا، فقلت: هو يقوم زيد. وفي "الغرة": الكوفي لا يُجيز: أبوه قائم كان زيد؛ لأنهم لا يقدمون على "كان" ما لم يعمل فيه، ولا يقولون: كان أبوه قائم زيد، ولا يتقدم على "كان" فعل ماض ولا مُستقبل. وقوله ويمنع تقديم الخبر الجائز التقدم تأخر مرفوعه مثاله: كان زيد قائمًا أبوه، وكان زيد آكلًا أبوه طعامك، لا يجوز: قائمًا كان زيد أبوه، ولا: آكلًا كان زيد أبوه طعامك، وذلك أن حق العامل أن يُفضل بينه وبين معموله، والمرفوع فضله أصعب لكونه كجزء من رافعه، فلذلك امتنع، ولم يجز بوجه. وقوله ويُقبحه تأخر منصوبه وذلك نحو: آكلًا كان زيد طعامك، فهذا قبيح، ولا يمتنع لأنه ليس كجزء من ناصبه لكونه فضلة. / وقوله ما لم يكن ظرفًا أو شبهه نحو: وإذا كان زيد فيك، ومسافرًا كان زيد اليوم. وحسن ذلك كون العرب تتسع في الظروف والمجرورات ما لا تتسع في غيرهما. وقوله ولا يمتنع هنا تقديم خبر مشارك في التعريف وعدمه إن ظهر الإعراب يعني بقوله "وعدمه" أي: وعدم التعريف، وهو التنكير. مثاله: كان أخاك زيد، وأخاك كان زيد، ولم يكن خيرًا منك أحد، وخيرًا منك لم يكن أحد. فإن لم يظهر الإعراب فالمتقدم هو الاسم، والمتأخر هو الخبر،

نحو: كان أخي صديقي، ولم يكن فتى أزكى منك. وقوله وقد يُخبر هنا وفي باب "إن" بمعرفة عن نكرة اختيارًا قال المصنف في الشرح: "لما كان المرفوع هنا مشبهًا بالفاعل، والمنصوب مشبهًا بالمفعول، جاز أن يُغني هنا تعريف المنصوب عن تعريف المرفوع، كما جاز ذلك في باب الفاعل، لكن بشرط الفائدة وكون النكرة غير صفة محضة، فمن ذلك قول حسان: كأن سُلافة من بيت رأس يكون مزاجها عسل وماء وليس مضطرًا إذ كان يقول: تكون مزاجها عسل وماء، فيجعل اسم "تكون" ضمير السلافة، و"مزاجها عسل وماء" مبتدأ وخبر في موضع نصب خبر "كان"، وقول القطامي: قفي قبل التفرق يا ضباعا ولا يك موقف منك الوداعا وليس مضطرًا إذ له أن يقول: ولا يك موقفي منك الوداعا. والمحسن لهذه شبه المرفوع بالفاعل والمنصوب بالمفعول، وقد حمل هذا الشبه في باب "إن" على أن جُعل فيه الاسم نكرة والخبر معرفة، كقول الشاعر: وإن حرامًا أن أسب مُجاشعًا بآبائي الشم الكرام الخضارم

وأجاز س: إن قريبًا منك زيد" انتهى، وفيه بعض تلخيص. وأنشد غير المصنف: وقد كان لي في الندى مقتد عصامًا كما كان لي عاصم وقول الآخر: فلو كان واليها جاهل لما كان قاضيًا عالم وقول الآخر: بمكة حنطة بُلت بماء يكون إدامها لبن حليب وعليه حمل بعضهم قوله: لكان التغزي عند كل مصيبة ونازلة بالحر أولى وأجمل وسكن ياء "التعزي" ضرورة. وقد أجحف المصنف في هذا الباب بكيفية الإخبار/ عن المعرفة بالمعرفة، وعن النكرة بالنكرة، وعن المعرفة بالنكرة، وعن النكرة بالمعرفة.

ونحن نذكر من ذلك ما تيسر لنا، فنقول: إذا اجتمع معرفتان في هذا الباب فإما أن تكون إحداهما قائمة مقام الآخر، أو مُشبهة به، أو هي نفسه: إن كانت قائمة مقامه أو مُشبهة به جُعل الخبر ما تريد إثباته، نحو: "كانت عقوبتك عزلتك"، وكان زيد زهيرًا، فالعزلة ثابتة لا العقوبة، والتشبيه بزهير ثابت. ولو قلت: كانت عزلتك عقوبتك فهو مُعاقب لا معزول، ولو قلت: كان زهير زيدًا ثبت التشبيه لزهير بزيد. وإن كانت المعرفة هي الأخرى بنفسها فإما أن يكون المخاطب يعرفهما أو يجهلهما، أو يعرف أحدهما ويجهل الآخر، فإن كان يعرفها فإما أن تكون نسبة أحدهما إلى الآخر مجهولة أو معلومة، إن كانت مجهولة جاز أن تجعل أيهما شئت الاسم والآخر الخبر، نحو: كان زيد أخا عمرو، وكان أخو عمرو زيدًا، إذا قدرت أن المخاطب يعلم زيدًا بالسماع وأخا عمرو بالعيان، لكنه لا يعلم أن ما علمه بالعيان هو الذي عرفه بالسماع، لا فرق بين أن تجعل زيدًا الاسم وأخا عمرو الخبر، والعكس؛ لأن المجهول إنما هو النسبة، وحظ كل واحد منهما في النسبة واحد، هذا إذا استويا في رُتبة التعريف، إلا إن كان أحدُهما أنْ أو أنَّ المصدريتين، فإن الاختيار جعلهما الاسم والآخر الخبر، ولذلك قرأ أكثر القراء {فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَن قَالُوا} بنصب {جَوَابَ} - وإن كان متساويي الرتبة في التعريف - لأن {جَوَابَ قَوْمِهِ} مضاف إلى مضاف إلى المضمر، و {أَن قَالُوا} مقدر بمصدر مضاف إلى المضمر. وإنما كان الاختيار ذلك من جهة الشبه بالمضمر من حيث إنهما لا يوصفان كما لا يوصف المضمر، فعومل معاملته، والضمير إذا اجتمع مع معرفة غيره كان الاختيار أن يُجعل الاسم لأنه أعرف من الظاهر.

وزعم ابن الطراوة أنه لا يجوز في نحو: {فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَن قَالُوا} إلا أن يكون الخبر {جَوَابَ قَوْمِهِ} لأنه يلي النافي، فهو في حيز النفي، وإنما يُنفي ويُوجب الخبر، وأما الاسم فلا يُوجب ولا يُنفي، ولكن يُوجب له، ويُنفي عنه، قال: "وأما ما رواه س فإنما هو على تقدير الخبر وإلغاء كان". ورد عليه بقولهم: ما زيد إلا قائم، وما كان زيد إلا قائمًا، فـ"زيد" في المسألتين مخبر عنه باتفاق مع أنه يلي النافي. وبأنه لما حل محل "أن" المصدر لم يتعين فيه الرفع، نحو قول الشاعر: وقد علم الأقوام ما كان داءها بثهلان إلا الخزي ممن يقودها / وقول الآخر: لقد شهدت قيس، فما كان نصرها قتيبة إلا عضها بالأباهم رُوي بنصب "داءها" و "نصرها" ورفع "الخزي" و "عضها"، ورُوي العكس، ولم يُرو برفع الاسمين، ولا جاء شيء من ذلك في كلامهم. وما ذكره من إلغاء "كان" متقدمة ففاسد، وسيبين فساده إن شاء الله. وإن لم يستويا في رتبة التعريف كان الاختيار جعل الأعرف منهما الاسم والأقل تعريفًا الخبر، نحو: كان زيد صاحب الدار؛ لأن العلم أعرف

من المضاف إلى ما فيه "أل"، ويجوز: كان صاحب الدار زيدًا، إلا المُشار، فإنه يُجعل الاسم، وغيره من المعارف الخبر، فتقول: كان هذا أخاك، اعتنت به العرب لمكان التنبيه الذي فيه بالإشارة، ولا يجوز عكس هذا إلا مع المضمرات، فإن الأفصح تقديمه، تقول: ها أنا ذا، ويجوز: هذا أنا، وهذا أنت. وفي تقرير الإخبار عن الاسم المضمر باسم الإشارة وعكسه إشكال، وأي نسبة بينهما يجهلها المخاطب حتى يصح هذا الإخبار؟ وإن كانت نسبة أحد المعرفتين المعلومين عند المخاطب معلومة عنده لم يجز جعل أحدهما الاسم والآخر الخبر؛ لأنه لا فائدة في ذلك، فلا يجوز على هذا: كان أبوك محمدًا. وإن كان المخاطب يجهلها لم يجز جعل أحدهما الاسم والآخر الخبر لأنه لا فائدة في ذلك. وإن كان المخاطب يعرف أحد المعرفتين ويجهل الآخر جُعل المعلوم الاسم والمجهول الخبر، نحو: كان أخو بكر عمرًا، إذا قدرت أن المخاطب يعلم أخا بكر، ويجهل كونه عمرًا. فلو كان العكس قلت: كان عمرو أخا بكر، إذا كان يعلم عمرا، ويجهل كونه أخا بكر. وزعم ابن الطراوة أن الذي لا تريد إثباته تجعله الاسم، والذي تريد إثباته تجعله الخبر، وتعلق بقول عبد الملك بن مروان لخالد: "وقد جعلت عقوبتك عزلتك". قال: "فالعزلة هي الحاصلة". قال: "ومن

ذلك قول الشاعر: فكان مُضلي من هديت برشده فلله غاو عاد بالرشد آمرا أثبت الهداية لنفسه، ولو قال: فكان هادي من أضللت به لأثبت الإضلال". قال: "وقد غلط في هذا جلة من الشعراء، ومنه قول المتنبي: ثياب كريم، ما يصون حسانها إذا نُشرت كان الهبات صوانها" قال: "ذمه وهو يرى أنه مدحه إذ أثبت الصون، ونفى عنها الهبات، كأنه قال: الذي يقوم لها مقام الهبات أن تُصان، ولو قال: كان الهبات صوانها لكان/ يهب ولا يصون، كأنه قال: كان الذي يقوم لها مقام الصون أن تُوهب". قال: "وكذلك قول حبيب: ذلل ركائبه إذا ما استأخرت أسفاره فهمومه أسفار" قال: "فجعل الحاصل - وهو همومه - المبتدأ، وجعل غير الحاصل - وهو أسفار - الخبر، فظاهر العجز مُناقض للصدر إذ جعل همومه هي الأسفار، وهو قد قال: إن أسفاره قد استأخرت، بقوله: إذا ما استأخرت أسفاره". قال: "إنما كان ينبغي لهما أن يقولا: "كان الهبات صوانها، وفأسفار هموم". قال ابن عصفور: "وهذا الذي ذكره ليس على إطلاقه، إنما يُتَصَوَّر

إذا كان الخبر قائمًا مقام الأول أو مشبهًا به كما ذكرنا، أما إذا كان هو نفس المبتدأ فالمعنى واحد، نحو: كان أخو عمرو زيدًا، وكان زيد أخا عمرو. وأما: فكان مُضلي من هُديت برشده ..................................... فالمعنى واحد أيًا جعلت منهما الاسم أو الخبر إذا كانت الهداية والضلال وقعا فيما مضى، وإنما يختلف لو كان زمن الخبر في الحال وزمن المُخبر عنه في الماضي؛ ألا ترى أن قولك: "كان مُضلي فيما مضى من هُديت به الآن" عكس قوله: كان من هُديت به فيما مضى مُضلي الآن. وأما: ........................ .............. كان الهبات صوانها فإن جعلت الهبات خلاف الصوان بطل المعنى المراد من المدح بجعل الصوان خبرًا، وإن جعلت الهبات نفس الصوان كان المعنى واحدًا، نصبت الصوان أو رفعته" انتهى. وقال الأستاذ أبو الحسن بن الضائع: " قول ابن الطراوة فاسد، واعتراضه على المتنبي فاسد لأن قوله: "ثياب كريم"، ونعته للممدوح بالكرم، وأنه لا يصونها، يُعطي خلاف ما اعترض به ابن الطراوة، ومن كونهما معرفتين له أن يجعل أيهما شاء الاسم والخبر، ثم إنه يلزم أن لا يكون إلا برفع "الهبات" ونصب "صوانها"، فإن الخبر إذا نُزل منزلة الأول لزم تأخيره، ولو قدمت لانعكس المعنى، فإنما أراد أن الهبات للثياب تقوم مقام الصوان. وكذلك بيت حبيب، فإنه جعل همومه تقوم مقام الأسفار. وأما قول عبد الملك فالمعنى لز أن يكون الثاني الخبر لأنه لم يُعاقبه،

فجعلت بمعنى صيرت، أي: صيرت عقوبتك عزلتك، فهي كجعلت الطين خزفًا، أي: صيرته، فلو عكس لانعكس المعنى. وكذلك "فكان مُضلي من هديت برُشده" المعنى ألزم أن يكون الثاني الخبر" انتهى. وأيضًا فإن ابن الطراوة قال: "إذا كان المعرفتان لا يظهر فيهما إعراب فالثاني هو الخبر"، وقوله: "فكان مُضلي من هديت برُشده" لا يظهر في "مُضلي" إعراب لأنه مضاف إلى ياء المتكلم، ولا في "من" لأنه مبني، فتعين أن يكون "من" هو الخبر من حيث المعنى ومن حيث هذا الذي قرر. ومن تمام اجتماع المعرفتين أن تعلم أن ضمير النكرة - وإن كان معرفة - فإنه في باب الإخبار يعامل معاملة النكرة إذا اجتمعت مع المعرفة؛ لأن تعريفه إنما هو لفظي من حيث عُلم على من يعود، نحو: لقيت رجلًا فضربته، أما أن يُعلم من هو في نفسه فلا، فالإخبار عن ضمير النكرة بالمعرفة بابه الشعر، نحو قوله: / أسكران كان ابن المراغة إذ هجا تميمًا بجوف الشام أم مُتساكر ففي "كان" ضمير "سكران"، وهو نكرة، وقد أخبر عنه بابن المراغة، وهو معرفة، والجائز في الكلام: أسكران كان ابن المراغة، بنصب "سكران" خبرًا، ورفع "ابن المراغة" اسمًا. وقال الآخر: ألا من مُبلغ حسان عني أسحر كان طبك أم جنون

وقال الآخر: فإنك لا تُبالي بعد حول أظبي كان أمك أم حمار فهذا ونحوه استدل به س على جعل الاسم نكرة والخبر معرفة. ورده المبرد بتأويل إلى ما عليه الجمهور من أن اسم "كان" مضمر فيها، والمضمر معرفة. وانتصر قوم لـ "س"، فقالوا: هذه الضمائر تعود إلى نكرات، فهي نكرات. قال ابن الدهان: "وليس بشيء لأنه لا يكون ضمير إلا معرفة إلا ما دخل عليه رب، نحو: ربه رجلًا. والدليل على أن ضمائر النكرات معارف كونها لا توصف، وهي تؤكد، ولما فارقها ضمير رب لزمه التفسير" انتهى. وذهب قاضي القضاة أبو جعفر بن مضاء صاحب كتاب

"المشرق"، والأستاذ أبو الحسن بن خروف، وشيخه ابن طاهر والأستاذ أبو علي في إقرائه القديم إلى أنه إذا اجتمع في هذا الباب معرفتان جعلت أيهما شئت الاسم والآخر الخبر من غير التفات إلى المخاطب؛ لأنه إذا كان يعرف مثلًا زيدًا، ولا يعلم أنه أخو عمرو، وقلت: كان أخو عمرو زيدًا، حصلت له الفائدة. قال ابن خروف: "وعلى هذا كلام العرب أن تجعل أيهما شئت الاسم والآخر الخبر، ووقفوا في ذلك مع ظاهر كلام س لأنه قال: "وإذا كانا معرفتين فأنت بالخيار أيهما ما جعلته فاعلًا رفعته، ونصبت الآخر، كما فعلت ذلك في ضرب". ولم يعتبر س المخاطب". وقال الأستاذ أبو الحسن بن عصفور في شرح الجمل الصغير: "إن كانا معرفتين جعلت أيهما شئت الاسم والآخر الخبر. ولم يفصل لا بالنظر إلى معرفة المخاطب، ولا بالنظر إلى استوائهما في التعريف أو عدم استوائهما". وهكذا أطلق أبو علي الفارسي، قال: "إذا اجتمع معرفتان كان لك أن تجعل أيهما شئت الاسم والآخر الخبر". وقد تأول الشراح كلامه، وقسموا التقسيم الذي بدأنا به أولًا في اجتماع المعرفتين. وبعض شراح كلام أبي علي حمله على عمومه، وقال: "الذي عليه المتقدمون قول أبي علي. وقد احتج أبو علي بقوله تعالى: {فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَن قَالُوا} قرئ رفعًا ونصبًا.

وذكر س: و {مَّا كَانَ حُجَّتَهُمْ إِلاَّ أَن قَالُوا}، وذكر أن بعض العرب يقرؤونها بالرفع، وأنشد: وقد علم الأقوام .. البيت. قال: وإن شئت رفعت/ الأول، وأنشد: فقدت شهدت قيس ... البيت. برفع العض ونصبه، وهو دليل على ما ذكره النحويون المتقدمون؛ ألا ترى أن "كان" هنا حالها بخلاف سائر الأفعال لما كان مرفوعها هو منصوبها في المعنى، وكانت إنما تدل على أن الثاني منسوب للأول وموجود له؛ لأنك إذا قلت: ما ضرب زيد إلا عمرًا كان المعنى: إن زيدًا ضرب عمرًا، ولم يضرب سواه، فإذا عكست فقلت: ما ضرب زيدًا إلا عمرو كان المعنى: إن عمرًا ضرب زيدًا، ولم يضربه غيره، ويمكن أن ضرب عمرو غير زيد، وفي "كان" المعنى واحد لما تقدم. وذكر س في هذا الفصل قولهم: من كان أخاك؟ ومن كان أخوك؟ وبلا شك إن المستفهم عنه هو الذي لا يعرفه السائل، ويريد أ، يُخبر به، فلو كان ما زعموا صحيحًا لم يجز إلا: من كان أخوك؟ وقد سُمع الرفع

والنصب عنهم. وكذلك: ما جاءت حاجتك. قال س: "كما تقول: من ضرب أباك؟ إذا كان من الفاعل، ومن ضرب أبوك؟ إذا جعلت الأب الفاعل". يريد أنك تخالف هذا بشرط اختلاف المعنى، وفي "كان" تخالف، والمعنى واحد" انتهى، وهو من الإفصاح. وقال السيرافي وابن الباذش والأستاذ أبو علي في آخر إقرائه والأستاذ أبو الحسن بن الضائع: مُراد س أنك لا تخير المخاطب، فتجعل له الخبر عن "كان" المجهول عنده، إنما مراده أنهما إذا كانا معرفتين، والمخاطب يعرف كلًا على انفراده لا التركيب، فأردت أن تُخبر بانتساب أحدهما إلى الآخر، فأنت إذًا بالخيار، أيهما جعلت الاسم والخبر؛ لأن كلًا منهما عنده في المعرفة سواء، إذ مقصودك إنما هو أن تُعرفه بتركيبهما ونسبتهما إذ كان يجهل ذلك، مثال ذلك أن يعرف زيدًا اسمًا لا شخصًا، ويعرف الشخص وجهًا لا اسمًا، فتُعرفه أن الذي في خاطره معروف هو اسم ذلك الشخص الذي يعرفه بوجهه، فأردت أن تخبره بما عندك، فأنت بالخيار أيهما جعلت الاسم أو الخبر. وإذا اجتمع نكرتان فإن كان لكل واحد منهما مُسوغ لجواز الابتداء بالنكرة جعلت أيهما شئت الاسم والآخر الخبر، نحو: أكان رجلٌ قائمًا؟ وأكان قائم رجلًا؟ وإن كان لأحدهما مُسوغ، والآخر لا مُسوغ له، فالذي له مُسوغ هو الاسم، والآخر الخبر، نحو: كان كل أحد قائمًا، ولا يجوز: كان قائم كل أحد. وإذا اجتمع معرفة ونكرة فالمعرفة الاسم، والنكرة الخبر، ولا يُعكس إلا في الشعر، وإذ ذاك إن كان للنكرة مُسوغ للإخبار عنها، وبنيت المعنى

على الإخبار عن المعرفة بالنكرة، كان مقلوبًا، نحو: أكان قائم زيدًا؟ إذا أردت أن المعنى: أكان زيد قائمًا؟ وإن بنيت المعنى على الإخبار عن النكرة بالمعرفة لم يكن/ مقلوبًا، نحو: أكان قائم زيدًا؟ تريد: أكان قائم من القائمين يُسمى زيدًا؟ وإن لم يكن مُسوغ فالمسألة مقلوبة، نحو: كان قائم زيدًا، والقلب للضرورة جائز باتفاق، وإنما الخلاف في جوازه في الكلام. ومن القلب في باب كان قوله: كانت فريضة ما تقول كما كان الزناء فريضة الرجم يريد: كما كان الرجم فريضة الزنى.

-[ص: فصل يقترن بـ "إلا" الخبر المنفي إن قُصد إيجابه وكان قابلًا. ولا يُفعل ذلك بخر "برح" وأخواتها لأن نفيها إيجاب، وما ورد منه بإلا مؤول. وتختص "ليس" بكثرة مجيء اسمها نكرة محضة، وبجواز الاقتصار عليه دون قرينة، واقتران خبرها بواو إن كان جملة موجبة بـ "إلا". وتُشاركها في الأول "كان" بعد نفي أو شبهه، وفي الثالث بعد نفي. وربما شُبهت الجملة المُخبر بها في ذا الباب بالحالية، فوليت الواو مطلقًا.]- ش: يشمل قوله: "الخبر المنفي" ما نُفي بحرف نفي، نحو: ما كان زيد قائمًا، أو بفعل نحو: ليس زيد قائمًا. ويدخل في الخبر ثاني "ظننت" وثالث "أعلمت" لأنهما خبر في الأصل، فإذا أردت إيجاب هذا المنفي أدخلت "إلا"، فقلت: ما كان زيد إلا قائمًا، وليس زيد إلا قائمًا، وما ظننت زيدًا إلا قائمًا، وما أعلمت زيدًا فرسك إلا مُسرجًا، فلو كان دخل على حرف النفي أو على فعله همزة التقرير لم تدخل "إلا" على الخبر لأنه مُوجب من حيث المعنى، نحو: ألم يكن الله مُحسنًا إليك، وأليس الله مُحسنًا إليك، فهذا ونحوه لا تدخل على خبره "إلا"، وإذا دخلت إلا على الخبر بقي على إعرابه من النصب، إلا في "ليس" في لغة تميم، فيرفع، وسيأتي الكلام على ذلك في باب "ما" حيث تعرض له المصنف. وقوله وكان قابلًا احتراز مما يكون الخبر فيه لا يجوز استعماله إلا منفيًا، فإنه لا يجوز دخول "إلا" تُوجب الخبر، فتكون قد استعملت مُوجبًا ما لا يُستعمل إلا منفيًا، فمن ذلك أن يكون الخبر مشتقًا

من "زال" وأخواتها، نحو: ما كان زيد إلا زائلًا ضاحكًا، وما أصبح بشر إلا مُنفكًا منطلقًا، فلا يجوز ذلك لأن زائلًا ومنفكًا لا يستعمل في الإيجاب. وكذلك: ما كان زيد إلا أحدًا؛ لا يجوز لأن "أحدًا" من الألفاظ التي لا تستعمل إلا في النفي. وقال المصنف في الشرح: "فإن كان الخبر مما لا يُستعمل إلا في نفي لم يقرن بإلا، نحو: ما كان مثلك أحدًا، وما كنت تعيج، أي: تنتفع، فلو قرنت أحدًا أو تعيج بإلا لم يُجز لأن تنقض النفي، وأحد وتعيج من الكلم التي لا تستعمل إلا في نفي" انتهى. يعني أن/ العرب لم تستعمل عاج يعيج بمعنى انتفع إلا منفيًا. وقد ذكر ثعلب في "الفصيح" قوله: "وشربت دواء فما عجت به، أي: ما انتفعت به". وما ذهب إليه المصنف من أن عاج بمعنى انتفع لم تستعمله العرب إلا منفيًا ليس بصحيح، أنشد أبو علي القالي في النوادر، قال: أنشدنا أحمد بن يحي عن ابن الأعرابي: ولم أر شيئًا بعد ليلى ألذه ولا مشربًا أروى به، فأعيج فرع: يجوز: ما كان زيد زائلًا ضاحكًا؛ لأن "ما" إذا دخلت على هذه الأفعال نفت أخبارها، فكأنك قلت: ما زال زيد ضاحكًا، ولو قلت "ما أضحى زيد رجلًا زائلًا ضاحكًا" لم يجز لأن حرف النفي لا ينفي صفة الموصوف إذا دخل عليه، لو قلت: "ما زيد العاقل قائمًا" لم يكن نافيًا للعقل عن زيد، فكذلك لم ينتف كونه زائلًا ضاحكًا، وذلك غير جائز. وقوله ولا يُفعل ذلك بخبر "برح" وأخواتها أي: لا تدخل "إلا" على

أخبارها، فلا يقال: ما زال زيد إلا ضاحكًا، وكذلك انفك وبرح وفتئ. ثم علل المصنف ذلك بقوله لأن نفيها إيجاب. ومعناه أنك إذا قلت "ما زال زيد عالمًا" فيه إثبات العلم لزيد، فصار نظير "كان زيد عالمًا" في إثبات العلم له، فكما لا يجوز: كان زيد إلا عالمًا، كذلك لا يجوز: ما زال زيد إلا عالمًا. وقوله وما ورد منه بإلا مؤول مثال ذلك قول ذي الرمة: حراجيج ما تنفك إلا مُناخة على الخسف، أو نزمي بها بلدًا قفرا فظاهره أن "إلا" دخلت على خبر "تنفك"، فقيل: أخطأ ذو الرمة حيث أوقع "إلا" غير موقعها، وهذا قول من ذو الرمة عنده لا يُستشهد بكلامه، قال الأصمعي: "لا يُحتج بذي الرمة، فطالما أكل الزيت من حوانيت البقالين"، يعني أنه كثرت ملازمته الحاضرة، ففسد لسانه. وجمهور أهل العلم على الاحتجاج بكلامه. وخرج البيت أبو الفتح على أن "إلا" زائدة. وكذلك قال في قراءة ابن مسعود: {وَإِنَّ كُلاًّ لَّمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ}. وهذا ضعيف لأن "إلا" لم تثبت زيادتها في غير هذا فيحمل هذا عليه، وأما قراءة ابن مسعود فتخريجها على أن "إن" نافية، و"إلا" على بابها، و {لَيُوَفِّيَنَّهُمْ} جواب قسم محذوف، أي: وما كل إلا أقسم ليُوفينهم.

وما ذهب إليه أبو الفتح من زيادة "إلا" في البيت تقدمه إليه المازني, واستدل على أن "إلا" تكون زائدة بقول الشاعر: ما زال مذ وجبت في كل هاجرة بالأشعث الورد إلا وهو مهموم وقال: وكلهم حاشاك إلا وجدته كعين الكذوب جهدها واحتفالها وقال: وكلهم حاشاك إلا وجدته كعين الكذوب جهدها واحتفالها وقال: أرى الدهر إلا منجنونًا بأهله وما صاحب الحاجات إلا معذبًا قيل: عيب هذا على ذي الرمة, فلما فطن قال: إنما قلت: "آلا" أي: شخصًا, كمال قال: فما بلغت بنا سفوان حتى طرحن سخالهن, فصرن آلا

وخَرَّجه ابن عصفور والمصنف على أن "تنفك" تامة, ومناخة حال, أي: ما تنفك أي: ما يزول بعضها من بعض لأنها متصلة إما لتساويها في السير أو لأنها مقطرة مربوط بعضها ببعض, فإذا أنيخت زالت عن الاتصال, فلا تنفك إلا في حال إناختها على الخسف, وهو حسبها على غير علف, يريد أنها تناخ معدة للسير عليها, فلا ترسل من أجل ذلك في المرعى, و "أو" بمعنى إلى أن, كأنه قال: هي في حال إناخة إلى أن نرمي بها بلدًا قفرًا, وسكن الياء ضرورة, و"على الخسف" في هذا التخريج متعلق بقوله "مناخة". وهذا التخريج سبقهما إليه ابن خروف, قال: "تنفك هنا تامة, فلم تدخل "إلا" على خبرها, فتكون قد دخلت قبل أن يتم الكلام, ومناخة خال, كقولك: ما جاء زيد إلا راكبًا". قال ابن هشام: "وهذا الذي ذكر فيه إشكال, فإنك إذا قلت: ما زال زيد, وما انصرم, فالكلام إثبات, فمعنى ما زال الأمر: ثبت, وأنت لا تقول: ثبت زيد إلا قائمًا, ولا: ثبت الأمر إلا مستشبعًا؛ لأنك أدخلت "إلا" على معمول الفعل قبل أن يتناوله, وهو موجب, وذلك باطل كقولك: ضربت إلا زيدًا, وجئت إلا مسرعًا, فإن قال: اللفظ نفي, قلنا: كذلك نقول: اللفظ نفي, وهي ناقصة, وأنت قد منعت ذلك لأنه نفي في اللفظ إيجاب في المعنى, فكذلك إذا كانت تامة. وكذلك يروى عن الفراء أنه قال: هي ناقصة على الأكثر, وعلى

الخسف: الخبر, وإلا مناخة: حال, ويلزم فيه ذلك لأنه إيجاب, ولم يأخذ العامل عمله, لو قلت: ما انفك زيد في الدار إلا جالسًا لم يجز وكذلك ما انفك زيد إلا جالسًا في الدار" انتهى. وما رد به ابن هشام غير محقق لأن "انفك" إذا كانت تامة تدل على الانفصال, وهو معنى ثبوتي, فإذا نفيته ذلك الانفصال الذي معناه الثبوت, فيصح إذ ذاك دخول "إلا"؛ ألا ترى أنك تقول: ما انفصل زيد عن عمرو إلا راضيًا بصحبته, فكذلك تقدير هذا: ما تنفصل عن السير إلا في حال إناختها عل الخسف. وخرج ابن عصفور والمصنف هذا البيت أيضًا على أن تكون "تنفك" ناقصة, وعلى الخسف: الخبر, ومناخة: حال, والمعنى: ما تنفك كائنة على الذل والتعب أو مرميًا بها بلد قفر إلا في حال إناختها, وقد تقدمها إلى هذا التوجيه قوم. وفيه قبح من وجهين: أحدهما: أن "مناخة" حال من الضمير المستكن في الجار, وقد قدمته عليه, ولا يجوز إلا عند الأخفش. والثاني: تقديم "إلا" على الموصلة هي له, قال ابن الدهان: فإن أعلمت "تنفك" في الحال كان حسنًا.

فرع: ما امتنع فيه دخول إلا امتنع فيه دخول الباء, فلا تقول: ما زال زيد بقائم؛ لأن الباء إنما تدخل تأكيدًا للنفي, والخبر هنا ثابت, ويمتنع أن يكون لها جواب بالنصب كما يكون في: ما كان زيد قائمًا فيذهب عمرو, وكذلك لا يكون اسمها نكرة كما يجوز في النفي, قاله في البسيط. وقوله وتختص "ليس" بكثرة مجيء اسمها نكرة محضة لما كان النفي من مسوغات جواز الابتداء بالنكرة, وكانت "ليس" موضوعة للنفي, اختصت بكثرة مجيء اسمها نكرة, قاله المصنف, وأنشد: كم قد رأيت, وليس شيء باقيًا من زائر طيف الهوى ومزور وقول وبجواز الاقتصار عليه دون قرينه يريد على اسم "ليس" ويعني بقوله "دون قرينة" أي: دون قرينة سوى كون اسمها نكرة عامة؛ لأنه بذلك يشبه اسم "لا", فيجوز أن يساويه في الاقتصار عليه. وقال المصنف: "فيجوز أن يساويه في الاستغناء به عن الخبر". وليس بجيد لأنه لم يستغن به عن الخبر, بل لابد من تقدير الخبر ضرورة أن كل محكوم عليه لابد من محكوم به له, فليس هذا من باب الاستغناء, وأنشد المصنف: ألا يا ليل ويحك نبئينا فأما الجود منك فليس جود أراد: فليس منك جود, أو: ليس عندك جود, وقال آخر:

بئستم, وخلتم أنه ليس ناصر فبوئتم من نصرنا خير معقل وحكي س: "ليس أحدًا" أي: ليس هنا أحد. وقال الفراء: يجوز في "ليس" خاصة أن تقول: ليس أحد إلا وهو هكذا؛ لأن الكلام قد يتوهم تمامه بـ"ليس" ونكرة؛ ألا ترى أنك تقول: ليس أحد, وما من أحد, انتهى ما قاله المصنف. ونص أصحابنا على أنه لا يجوز حذف اسم كان وأخواتها, ولا حذف خبرها لا اقتصارًا ولا اختصارًا, أما حذف اسمها فلأنه يشبه بالفاعل, والفاعل لا يحذف, فكذلك ما أشبهه, وأما الخبر فكان قياسه أن يحذف لأنه إن راعيت أصله فكان خبر مبتدأ, وخبر المبتدأ يجوز حذفه اختصارًا, وإن راعيت ما آل إليه من شبهه بالمفعول فالمفعول يجوز حذفه, لكنه صار عندهم عوضًا من المصدر؛ ألا ترى أنك لا تقول "كان زيد قائمًا كونًا" لئلا تجمع بين العوض والمعوض منه, وإنما عوض لأنه في معنى المصدر؛ ألا ترى أن القيام كون من أكوان زيد, ولما صار عوضًا صار كأنه من كمال الفعل, فكأنه جزء منه, فلم يحذف لذلك, وأيضًا فالأعواض لازمة لا يجوز حذفها. قالوا: وقد يحذف الخبر في الضرورة, نحو قوله:

لهفي عليك للهفة من خائف يبغى جوارك حين ليس مجير يريد: ليس في الدنيا مجير, فأنت ترى تباين ما بين كلام المصنف من أنه يجوز الاقتصار على اسم "ليس" دون قرينة, وكلام أصحابنا أنه مختص بالضرورة, وأنه لا يجوز حذف خبر هذه الأفعال سواء أكان الفعل "ليس" أم غيره, فأما: زماني بأمر كنت منه ووالدي بريئًا ومن أجل الطوي رماني وقول الآخر: إني ضمنت لكل شخص ما جنى وأبي, فكان وكنت غير غدور فخرج على حذف الخبر لفهم المعنى ضرورة, أي: كنت منه بريئًا ووالدي بريئًا, وأبي فكان غير غدور, أو على وضع المفرد موضع المثنى ضرورة, أي: كنت منه ووالدي بريئين, وفكان وكنت غير غدورين, أو على أن بريئًا وغدورًا مما يقع على المفرد والمثنى والمجموع بلفظ واحد, نحو عدو وفريق وصديق. وقوله واقتران خبرها بواو إن كان جملة موجبة بألا أنشد المصنف دليلًا على ما ادعاه من هذا الحكم قول الشاعر:

ليس شيء إلا وفيه إذا ما قابلته عين البصير اعتبار وهذا الذي ذهب إليه من جوار اختصاص "ليس" بدخول الواو على خبرها إذا كان جملة موجبة بألا لا يجوز عندنا؛ لأن أصل هذا أنه خبر للمبتدأ, فكما لا يجوز دخول الواو على خبر المبتدأ إذا كان بهذه الصفة, كذلك لا يجوز إذا وقع خبرًا لـ"ليس" لئلا يكون الفرع أكثر تصرفًا من الأصل, وما استدل به المصنف لا حجة فيه لاحتمال أن يكون خبر "ليس" محذوفًا, إما لأن اسمها نكرة على زعم المصنف جواز ذلك, وإما ضرورة كما يقول أصحابنا, والجملة الداخلة عليها الواو جملة حالية لا في موضع الخبر, ويحتمل أن تكون الواو زائدة, وتكون الجملة هي الخبر, والوجه الأول أحسن عندي. وقوله وتشاركهما في الأول "كان" بعد نفي الأول هو كثرة مجيء اسمها نكرة, لكن لفظ المشاركة ينفى قوله: "وتختص ليس بكذا" فاشتراك "كان" مع "ليس" في كثرة مجيء اسمها نكرة ينفي كون "ليس" مختصة بذلك, فلو قال: "ويكثر مجيء اسم ليس نكرة" لكان أجود وأبعد من النقد, وأنشد: إذا لم يكن أحد باقيًا فإن التآسي دواء الأسى وقال الآخر: إذا لم يكن فيكن ظل ولا جني فأبعدكن الله من شجرات وقوله أو شبهه مثاله:

ولو كان حي في الحياة مخلدًا خلدت, ولكن ليس حي بخالد وقال الآخر: فلو كان حمد يخلد الناس لم تمت ولكن حمد الناس ليس بمخلد وقال آخر: فلو كان حي ناجيًا لوجدته من الموت في أحراسه رب مارد وقال آخر: فإن يكن شيء خالدًا أو معمرًا تأمل تجد من فوقه الله عاليًا وقوله وفي الثالث بعد نفي الثالث هو اقتران الخبر بواو إذا كان جملة موجبة بإلا, وأنشد المصنف شاهدًا على ذلك قول الشاعر: ما كان من بشر إلا وميتته محتومة, لكن الآجال تختلف وأنشد الفراء: إذا ما ستور البيت أرخين لم يكن سراج لنا إلا ووجهك أنور وهذا الذي ذهب إليه المصنف لا يجوز عندنا لما بيناه في "ليس", فأما البيت الأول فيتخرج على حذف خبر "كان" للضرورة, وأما الثاني فـ"لنا" هو خبر "يكن", والجملة في البيتين حالية. وقوله وربما شبهت إلى قوله مطلقًا أنشد المصنف دليلًا على إثبات

هذا الحكم الذي ذكره قول الشاعر: فظلوا ومنهم سابق دمعه له وآخر يثني دمعة العين بالمهل وقول الآخر: وكانوا أناسًا ينفحون, فأصبحوا وأكثر ما يعطونك النظر الشزر ولا حجة في هذا على ما ادعاه لأن القياس يأباه, وهو محتمل أن تكون فيه "فظلوا" و "فأصبحوا" تامتين, ويحتمل أن تكونا ناقصتين, وحذف خبرهما ضرورة لفهم المعنى: فظلوا مفترقين, يدل عليه ما بعده من التفصيل, وأصبحوا لا ينفحون, فحذف لدلالة قوله قبله "ينفحون". وأنشد غير المصنف: دخلت على معاوية بن حرب وكنت وقد يئست من الدخول وقول الآخر: إن الجميل يكون وهو مقصر والقوم فيما تم غير سواء أنشدهما الفراء, وروى: كان عبد الله وإنه لجميل, وأنشد أبو الحسن: كنا ولا تعصي الحليلة بعلها فاليوم تضربه إذا ما هو عصى

وما ذكره المصنف هو قول الأخفش, شبه خبر كان الجملة بجملة الحال, وحمله على ذلك قولهم: كان ولا مال له, كما تقول: جاد ولا ثوب عليه, ولا يعرف ذلك البصريون, وقال الفارسي: "كنا" تامة, ولا تعصي واو الحال. -[ص: وتختص "كان" بمرادفة "لم يزل" كثيرًا, وبجواز زيادتها وسطًا باتفاق, وأخرًا على رأي, وربما زيد أصبح وأمسى ومضارع كان, وكان مسندة إلى ضمير ما ذكر, أو بين جار ومجرور, وتختص "كان" أيضًا بعد "إن" أو "لو" بجواز حذ 5 ها مع اسمها إن كان ضمير ما علم من غائب أو حاضر, فإن حسن مع المحذوفة بعد "إن" تقدير "فيه" أو "معه" أو نحو ذلك جاز رفع ما وليها, وإلا تعين نصبه, وربما جر مقرونًا بـ"إلا" أو بـ"إن" وحدها إن عاد اسم "كان" إلى مجرور بحرف, وجعل ما بعد الفاء الواقعة جواب "إن" المذكورة خبر مبتدأ أولى من جعله خبر "كان" مضمرة, أو مفعولًا بفعل لائق, أو حالًا, وإضمار "كان" الناقصة قبل الفاء أولى من التامة.]- ش: مثال مرادفة "كان" لـ"لم يزل" قوله: وكنت أمرًا لا أسمع الدهر سبة أسب بها إلا كشفت غطاءها فهذا قصد بـ"كان" الدوام, قاله المصنف, وقال أيضًا: "الأصل في كان أن يدل بها على حصول ما دخلت عليه فيما مضى دون تعرض لأولية ولا انقطاع, كغيرها من الأفعال الماضية, فإن قصد الانقطاع ضمن الكلام ما يدل عليه, كقوله تعالى: {وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء

فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ} وقول الشاعر: وتركي بلادي, والحوادث جمة طريدًا, وقدما كنت غير مطرد" انتهى. وما اختاره في "كان" وادعاه فيها وفي الأفعال أن الفعل الماضي يدل على وقوعه فيما مضى من غير دلالة على الانقطاع ليس هو الصحيح عند أصحابنا. قال أصحابنا: "اختلف النحاة في "كان" هذه, هل تقتضي الانقطاع أو لا تقتضيه؟ فأكثرهم على أنها تقتضي الانقطاع, وأنك إذا قلت: "كان زيد قائمًا" فإن قيام زيد كان فيما مضى, وليس الآن بقاتم, وهذا هو الصحيح بدليل أن العرب إذا تعجبت من صفة هي موجودة في المتعجب منه في الحال قالت: ما أحسن زيدًا! فإذا تعجبت من الحسن فيما مضى, وهو الآن ليس كذلك, قالت: ما كان أحسن زيدًا! وزعم بعضهم أنها لا تقتضي الانقطاع, واستدل على ذلك بقوله تعالى: {وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} , {وَلاَ تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً} أي: كان الآن كذلك. قالوا: والجواب أن ذلك قد يتصور فيه الانقطاع بأن يكون المراد الإخبار بأنه غفورًا رحيمًا فيما مضى كما هو الآن كذلك, وبمعنى أنه كان فاحشًة, أي: كان عندكم فاحشًة في الجاهلية, ولم يتعرض لخلاف ذلك, فيكون المراد الإخبار عن الزنى كيف كان عندهم في الجاهلية".

والذي تلقناه من الشيوخ أن "كان" تدل على الزمان الماضي المنقطع, وكذلك سائر الأفعال الماضية, ومن تعقل حقيقة المضي لم يشك في الدلالة على الانقطاع, لكن مثل قوله تعالى: {وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} وإن دل على الماضي المنقطع - فإنه يعلم أن هذه الصفة ثابتة له في الأزمان كلها من دليل خارج لا من حيث وضع اللفظ. وقوله وبجواز زيادتها وسطًا باتفاق قال المصنف في الشرح: "تختص زيادتها بلفظ الماضي بين مسند ومسند إليه, نحو: ما كان أحسن زيدًا ولم ير كان مثلهم, وكقول أبي أمامة الباهلي: يا نبي الله أو نبي كان آدم" انتهى. وأطلق المصنف في قوله "بين مسند ومسند إليه", وينبغي أن يقيد, فإن زيادتها في مثل: قام كان زيد, ومثل: يضرب كان زيد تحتاج إلى سماع. ومن زيادتها بين الصفة والموصوف قول الشاعر: في غرف الجنة العليا التي وجبت لهم هناك بسعي كان مشكور وبين المتعاطفين قول الفرزدق: في لجة غمرت أباك بحورها في الجاهلية كان والإسلام وبين "نعم" وفاعلها, أنشد الفراء:

ولبست سربال الشباب أزورها ولنعم كان شبيبة المختال وحكي من كلامهم: "ولدت فاطمة بنت الخرشب الكملة من بني عبس لم يوجد كان أفضل منهم". وقال الفارسي: "وحكم ما تلغيه أن توسطه وأن لا تبتدئ به قياسًا على "هو" التي للفصل, لأنه غير معتد به, والقصد في الإفادة غيره, فقبح أن تؤخر شيئًا الاهتمام به أكثر, وتقدم ما الاهتمام به أقل". ومن زيادة كان عند س ما حكي من قولهم: "إن من أفضلهم كان زيدًا", وقال المبرد: زيدًا: اسم إن, ومن أفضلهم: خبر كان, واسم كان مضمر فيها, واسمها وخبرها في محل خبر إن, وأجاز ذلك الرماني وبعض المتأخرين, وهذا خطأ لأنه يؤدي إلى أن جعل الخبر جملة مقدمًا في "إن", وهذا لا يجيزه أحد. وفي "كان" الزائدة خلاف: ذهب السيرافي والصيمري وغيرهما إلى أن فاعلها مضمر, وهو ضمير المصدر الدال عليه الفعل, كأنه قيل: كان هو, أي: كان الكون, ويعني بالكون كون الجملة التي تزاد فيها. وذهب الفارسي إلى أنها لا فاعل لها, وحجته أن الفعل إذا استعمل استعمال ما لا يحتاج إلى فاعل استغنى عن الفاعل, دليل ذلك أن

"قلما" فعل, لكن لما استعملته العرب للنفي, فقالت: "قلما يقوم زيد" في معنى: ما يقوم زيد, لم يحتج إلى فاعل, كما أن "ما" لا تحتاج إلى فاعل, بل صارت بمنزلة الحروف التي تصحب الأفعال, فتقول: قلما يقوم زيد, فكذلك "كان", لما زيدت للدلالة على الزمان الماضي صارت بمنزلة "أمس", فكما أن "أمس" لا يحتاج إلى فاعل, فكذلك ما استعمل استعماله. وقال المصنف في الشرح: "وزعم السيرافي أن "كان" الزائدة مسندة إلى مصدر منوي, ولا حاجة إلى ذلك, ولا يبالي بأن يقال: خلوها من الإسناد إلى منوي يلزم منه كون الفعل حديثًا عن غير محدث عنه, لأن "كان" المحكوم بزيادتها تشبه الحرف الزائد, فلا يبالي بخلوها من الإسناد, كما أن الضمير الواقع فصلًا لما قصد به ما يقصد بالحروف من الدلالة على معنى في غيرها استجيز أن لا يكون له موضع من الإعراب" انتهى. ولا يسلم له أن الواقع فصلًا هو ضمير قصد به ما يقصد من الحروف, بل الأصح انه حرف, فهو مشترك بين أن يكون ضميرًا وأن يكون فصلًا. قال المصنف: "وأيضًا فإن "كان" قد زيدت بين "على" ومجرورها, فإذ نوى معها فاعل لزم الفصل بين الجار والمجرور بجملة, ولا نظير لذلك, وإذا لم ينو معها ضمير "كان" الفصل بكلمة واحدة, فلا يمتنع كما لم يمتنع الفصل بـ"ما" بين عن ومن الباء ورب والكاف ومجروراتها انتهى, ولا يلزم من ذلك محظور لأنها جملة كالمفرد إذ لم يصرح بأحد جزأيها, وهو المسند إليه "كان".

وقوله وآخرًا على رأي هذا مذهب الفراء, أجاز زيادة "كان" أخرًا, فتقول: زيد قائم كان, وقاس ذلك على إلغاء "ظن" أخرًا, قال المصنف: "والصحيح المنع لعدم استعماله, ولأن الزيادة على خلاف الأصل, فلا تستباح في غير مواضعها المعتادة". وقوله وربما زيد أصبح وأمسى هذا مذهب الكوفيين, وحكوا من كلامهم: ما أصبح أبردها! وما أمسى أدفأها يعنون الدنيا, وهذا عند البصريين إذا ثبت من القلة بحيث لا يقاس عليه, وهو خارج عن القياس, لأن القياس في اللفظ أن لا يزاد. وقال ابن الدهان: "وجدت بيتًا يدل على الزيادة, قال: قد بث أحرسني وحدي, ويمنعني صوت السباع به يصبحن والهام" انتهى, فادعى أن يصبحن زائدة, والظاهر أن معنى "به يصبحن" أي: به يقمن في الصباح, فالمعنى أن السباع بهذا المكان والهام دائمًا في الليل والصباح, وروي: يضبحن, والضباح: صوت الثعلب, وصوت أجواف الخيل.

فأما قول الشاعر: عدو عينيك وشانيهما أصبح مشغول بمشغول وقول الآخر: أعاذل قولي ما هويت, فأوبي كثيرًا أرى أمسى لديك ذنوبي فأجاز أبو علي أن تكون فيه أصبح وأمسى زائدتين. وأجاز بعض النحويين زيادة "أضحى" وسائر أفعال هذا الباب وكل فعل غير متعد من غير هذا الباب إذا لم ينقض المعنى, فأجاز: ما أضحى أحسن زيدًا وزيد أضحى قائم, واستدل على ذلك بأن العرب قد زادت الأفعال في نحو قوله: فاليوم قربت تهجونا, وتشتمنا فاذهب, فما بك والأيام من عجب ولم يرد أن يأمره بالذهاب, وقولهم: فلان قعد يتهكم بعرض فلان, المعنى: فلان يتهكم, وقول الشاعر:

على ما قام يشتمني لئيم كخنزير تمرغ في رماد المعنى: على ما يشتمني. والصحيح أن ذلك لا يجوز لاحتمالين التأويل, ولو جاء مكان لا يحتمل التأويل قيل بزيادته حيث ثبت, ولا يقاس عليه. وقوله ومضارع كان قال المصنف: "شذت زيادة "تكون" في قول أم عقيل بن أبي طالب: أنت تكون ماجد نبيل إذا تهب شمأل بليل وأجاز الفراء زيادة "يكون" بين أفعل و"ما" في التعجب, نحو: ما يكون أطول هذا الغلام ولفظه يشعر بأنه مسموع لأنه قال: وقد يقال في المستعمل: ما يكون أطول هذا الغلام ويشهد لقوله قول رجل من طيئ: صدقت قائل ما يكون أحق ذا طفلًا ببذ ذوي السيادة يافعا قال الفراء: وأخوات "كان" تجري مجراها". وزيادة "يكون" ينبغي أن تحمل على الشذوذ لأن صاحب البسيط ذكر الاتفاق على أن زيادتها لا تكون إلا بلفظ الماضي, فلا ينبغي أن يقاس إلا على ما وقع الاتفاق عليه. وقوله و"كان" مسندة إلى ضمير ما ذكر مثاله قول الشاعر:

فكيف إذا مررت بدار قوم وجيران لنا كانوا كرام قال المصنف: "لا يمنع من زيادتها إسنادها إلى الضمير, كما لم يمنع من إلغاء ظن إسنادها في نحو: زيد ظننت قائم, هذا مذهب س" انتهى. وهذا الذي ذهب إليه المصنف في هذا البيت هو مذهب س - كما ذكر - والخليل. وذهب أبو العباس وأكثر النحويين إلى أنها ليست زائدة, بل كانوا: كان واسمها, ولنا: في موضع خبرها, والجملة في موضع الصفة لجيران, وكرام: صفة بعد صفة, وصار نظير قوله تعالى: (وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ) وقول امرئ القيس: وفرع يغشي المتن أسود فاحم ......................... ورد ذلك الزجاج وابن شقير, وقالا: اللام للملك, ولم يرد أن الجيران كانوا ملكه, وإنما يريد: وجيران لنا.

وقال الفارسي في التذكرة: "كان في هذا البيت لغو, لأن "لنا" قد جرى صفة على الموصوف, فلا يقدر فيه الانتزاع من موضعه كما لم يجز في قوله: "مررت برجل معه صقر صائدًا به", لأن "معه صقر" صفة لرجل". قال أبو علي: "فإن قلت: كيف تلغى "كان" وقد عملت في الضمير؟ قلنا: تكون لغوًا, والضمير الذي فيها تأكيد لما في "لنا" لأنه مرتفع بالفاعل, ألا ترى أنه لا خبر له. قال: فإن قيل: كيف جاز أن تلغيه وقد عمل؟ قلنا: لا يمتنع إلغاؤه وإن عمل, ألا ترى انك تلغي ظننت الجملة بأسرها وقد عمل ما تلغيه في الاسم, وكذلك يجوز أن تلغي "كان" وحدها في قوله: "وجيران لنا كانوا كرام" كما جاز أن تلغي الجملة بأسرها في ظننت, وجاز إلغاء "كانوا" لأنه لم يقع أولًا, وإنما وقع بين صفة وموصوف, فجاز إلغاؤه كما جاز إلغاؤه لما كان بين الخبر والمخبر عنه". وقال أبو علي في غير التذكرة: "إنما قيل في "كان" هنا إنها زائدة, كأنهم لم يستجيزوا أن يجعلوا "لنا" خبر "كان", فيقدروا به غير موضعه وقد جرى صفة على "جيران".

قال: ومما يؤكد ذلك أن الشيء إذا احتمل حمل على الأقوى والأقرب لئلا يقع لبس, كقولك: ضربت جالسًا زيدًا, فجعلك "جالسًا" حالًا من التاء هو الوجه لا من "زيد", ويؤكد ذلك أنك إذا جعلت "كان" غير زائدة كنت قد فصلت بين الصفة والموصوف بجملة, وذلك ضعيف, وأيضًا فإنه إذا كان للشيء صفتان مفردة وجملة كان تقديم الصفة المفردة أولى". واحتج أبو الفتح للخليل بأن قال: "وجه زيادتها في هذا البيت أن يعتقد أن الضمير المتصل وقع موقع المنفصل, والضمير مبتدأ, و"لنا" الخبر, ولكنك لما وصلت أعطيت اللفظ حقه, ولم تعتقد أن الواو مرفوعة بكان" انتهى. وقال الأستاذ أبو الحسن بن عصفور: "أصل المسألة: وجيران لنا هم كرام, فـ"لنا" في موضع الصفة, وهم: فاعل بـ"لنا" على حد: مررت برجل معه صقر صائدًا به غدا, لأن س نص على أن صقرًا مرفوع بـ"معه", لأنه لو قدم خبرًا لصقر كانت النية به التأخير, إذ النية في الخبر أن يكون بعد المبتدأ, وإذا كان صفة, وصقٌر مرفوع به, كان في موضع لا ينوي به التأخير, واللفظ إذا أمكن أن يكون في موضعه لم يجز أن ينوي به الوقوع في غير موضعه, ثم زيدت "كان" بين "لنا: و"هم" لأنها تزاد بين العامل والمعمول, فصار: لنا كان وهم, ثم اتصل الضمير بكان وإن كانت غير عاملة فيه, لأن الضمير قد يتصل بعير عامله في الضرورة, نحو قوله:

.............. أن لا يجاورنا إلاك ديار والأصل: إلا إياك، وإذا كان يتصل بالحرف فالأحري أن يتصل بالفعل" انتهي. وهذه التخريجات كلها متكلفة. والذي نختاره في البيت أن "كانوا" و"لنا": كان واسمها وخبرها، ومعني اللام الاختصاص، والجملة في موضع الصفة، وإطلاق الخليل وس عليها أنها زائدة لا يعنيان بالزيادة ما فهم النحويون عنهما، إنما أرادا بالزيادة أنه لو لم تدخل هذه الجملة بين "جيران" و"كرام" لفهم أن هؤلاء القوم كانوا جيرانه فيما مضي، وأنه قد فارقهم، فالجيرة كانت في الزمان الماضي، فجئ بقوله: "كانوا لنا" علي هذا المعني، لا يستفاد بها إلا تأكيد ما فهم من المضي قبل دخولها، فأطلق عليها الخليل الزيادة بهذا المعني لا بمعني أنها زيدت كزيادة: ما كان أحسن زيدا! ولا كزيادة: ........................ علي كان المسومة العراب ويدل علي أنه يصف حالا ماضية قوله قبل هذا البيت: هل انتم عائجون بنا لعنا ... نري العرصات أو أثر الخيام فهذا يصف حالة الأحباء التي مضت وانقضت. ولا يمتنع أيضا أن يكون قوله: "كانوا" التامة، ويكون على حذف

مضاف، أي: وجدت جيرتهم في الزمان الماضي وحدثت، ثم حذف المضاف، وأقيم المضاف إليه مقامه، فقيل: كانوا، وتكون الجملة صفة، ويكون معني الزيادة علي ما قررناه لا علي ما فهمه النحويون حتي احتاجوا في تصحيح كلام الخليل إلي تلك التمحلات والتكلفات، وكلامهم في ذلك يمكن رد أكثره، ولا كبير فائدة في نقضه، فضربنا عن ذلك صفحا إذ قد طال الكلام في هذا البيت. وقوله وبين جار ومجرور مثاله: /سراة بني أبي بكر تساموا ... علي كان المسومة العراب هكذا أنشده أصحابنا. وأنشده المصنف: "علي كان المطهمة الصلاب". وكان ينبغي للمصنف أن لا يطلق فيقول "وبين جار ومجرور"، بل كان يقول "وبين علي ومجرورها"؛ لأنه لا تحفظ زيادتها في غير هذا البيت بين جار ومجرور، وزيادتها بينهما شاذة، لا يقاس عليها. وقوله وتختص "كان" أيضا بعد "إن" أو "لو" بجواز حذفها مع اسمها إن كان ضمير ما علم من غائب أو حاضر الإضمار هنا جائز لا واجب, قال س: "وإن شئت أظهرت بالفعل". ومثاله مع الغائب قوله: قد قيل ذلك إن حقا وإن كذبا ... فما اعتذارك من قول إذا قيلا

وقوله: انطق بحق وإن مستخرجا إحنا ... فإن ذا الحق غلاب وإن غلبا وقول الآخر: لا يأمن الدهر ذو بغي ولو ملكا ... جنوده ضاق عنها السهل والجبل التقدير: وإن كان مستخرجا، أي: وإن كان الحق. ولا يتعين أن تكون "كان" هنا مسندة إلي ضمير غائب، بل يصح أن يكون مسندا لضمير المخاطب، أي: وإن كنت مستخرجا بالحق إحنا. والتقدير في لو: ولو كان ملكا، أي: ولو كان ذو البغي ملكا. ومثاله مع الحاضر قول الشاعر: حدبت علي بطون ضبة كلها ... إن ظالما فيهم وإن مظلوما وقول الآخر: لا تقربن الدهر آل مطرف ... إن ظالما فيهم وإن مظلوما

وقول الآخر: وأحضرت عذري عليه الشهو ... د، إن عاذرا لي وإن تاركا التقدير: إن كنت ظالما، وإن كنت ظالما، وإن كنت عاذرا، يريد الأمير المخاطب. وقال الشاعر في "لو": علمتك منانا، فلست بآمل ... نداك، ولو غرثان ظمآن عاريا والحاضر: يشمل المتكلم والمخاطب. ويتعين النصب في هذه المثل لأنها خبر "كان". ويجري مجري "لو" غيرها من الحروف الدالة علي الفعل إذا تقدم ما يدل عليه، نحو "هلا" و"ألا"، لكنه ليس بكثير الاستعمال، وتقول: ألا طعام ولو تمرا، وائتني بدابة ولو حمارا، يجوز النصب، أي: ولو يكون الطعام تمرا, والرفع, أي: ولو يكون عندكم تمر,/ وعلي الفعل التام, أي: ولو سقط تمر أو وجد تمر، والأحسن ما كان عند الظهور أحسن, وهو "كان", والأحسن منها ما نصب, وقد يقبح غير النصب إذا كان بعدها صفة لا تستعمل وحدها، كقولك: ألا ماء ولو باردا، يقبح الرفع لأنك لو قلت: "جاءني بارد" تريد ماء لم يكن. وقد جروا في هذه بدون الجار، ويقبح في "بارد" لأنه يقبح فيه بوجوده. وقالوا: ادفع الشر ولو إصبعا، أي: ولو كان إصبعا،

أي: قدرُه إصبعًا، وعلي الفعل التام، أي: ولو دفعته إصبعا، والرفع علي معني: ولو كان في قدره إصبع، أي: ولو وقع إصبع، أي: قدر إصبع. وقوله فإن حسن مع المحذوفة بعد "إن" تقدير "فيه" أو "معه" أو نحو ذلك جاز رفع ما وليها مثاله "الناس مجزيون بأعمالهم، إن خيرا فخير، وإن شرا فشر"، و"المرء مقتول بما قتل به، إن سيفا فسيف، وإن خنجرا فخنجر". فانتصاب خيرا وشرا وسيفا وخنجرا علي تقدير: إن كان العمل خيرا أو شرا، وإن كان المقتول به سيفا أو خنجرا. وارتفاعها علي أنها اسم "كان"، أي: إن كان في أعمالهم خير، وإن كان في أعمالهم شر، وإن كان معه سيف، أو كان معه خنجر. ويجوز ارتفاعه علي أنه فاعل بـ"كان" التامة. وقوله وإلا تعين نصبه أي: وإلا يحسن تقدير "فيه" أو "معه" أو نحو ذلك تعين النصب علي أنه خبر "كان" المحذوفة، قال سيبويه: "مثال ذلك مررت برجل إن طويلا وإن قصيرا، وامرر بأيهم أفضل إن زيدا وإن عمرا، ومررت برجل قبل إن طويلا وإن قصيرا، لا يكون في هذا إلا النصب؛ لأنك لا تستطيع أن تقول: إن كان فيه طويل، أو إن كان فيه زيد، ولا يجوز علي: إن وقع. ومثل ذلك: مررت برجل إلا صالحا فطالح، ومن العرب من يقول: إلا صالحا فطالحا" انتهي. وقدره س: إلا يكن صالحا فقد لقيته طالحا، فنصب طالحا علي الحال. وقوله وربما جر مقرونا بـ (إلا) أو بـ "إن" وحدها إن عاد اسم "كان" إلي مجرور بحرف قال المصنف في الشرح: "وحكي يونس: إلا صالح

فطالح، والتقدير: إلا أمر بصالح فقد مررت بطالح، وأجاز: امرر بأيهم أفضل إن زيد وإن عمرو، علي تقدير: إن مررت بزيد وإن مررت بعمرو. وجعل س إضمار الباء بعد إن هذه أسهل من إضمار رب بعد الواو" انتهي. وليس أسهل إلا باعتبار ما، وإلا فباب واو "رب" أقوى لأن الخافض قد جعل عوضا منه الواو، فكأنها الخافضة، وإنما اعتبر س هنا قوة هذا في أنه فعل، وذلك حرف، وإلا فذاك مطرد، وهذا لا يقال منه إلا ما سمع. قال س: "وزعم يونس أن من العرب/ من يقول: "إلا صالح فطالح" علي: إلا أكن مررت بصالح فبطالح، وهذا قبيح ضعيف لأنك تضمر بعد إلا فعلا آخر غير الذي تضمر بعد إلا في قولك: إلا يكن صالحا فطالح. ولا يجوز أن يضمر الجار، ولكنهم لما ذكروه في أول كلامهم شبهوه بغيره من الفعل، وكان هذا عندهم أقوي إذ أضمرت رب ونحوها في قولهم: وبلده ليس بها أنيس ............................... ومن ثم قال يونس: امرر علي أيهم أفضل إن زيد وإن عمرو، يعني: إن مررت بزيد أو مررت بعمرو" انتهى.

وهذا الذي أجاز يونس ليس مذهبنا، إنما قاسه يونس علي: إلا صالح فطالح، وليس موضع قياس للكلفة التي فيه مع إضمار ما يجر. وتقدير المصنف فيما حكي يونس من قول بعض العرب "إلا صالح فطالح" مخالف لتقدير س؛ لأن المصنف قدره: إلا أمر بصالح فقد مررت بطالح، وقدره س: إلا أكن مررت بصالح فبطالح, وتقدير س هو الصواب لأنه مبني علي قوله: مررت برجل إلا بصالح فبطالح، فهو مبني علي ماض، فتقديره بـ"إلا أكن مررت" مطابق لما قبله؛ بخلاف "إلا أمر", فهذا مستقبل، فلا يناسب هذا التقدير. وأيضا فتقدير س يقضي بأن المحذوف هو "يكن"، وهي المعهود حذفها بعد "إن"، بخلاف "أمر". وقال أبو الفضل البطليوسي في شرح كتاب س لما قدر س "إلا أكن مررت" فأضمر فعلين: "فإن قلت: ما دعاه إلي هذا التكليف؟ وهلا أضمر فعلا واحدا، فقدر: إلا أمر بصالح؟ قلت: لابد من إضمارهما؛ ألا تري أنه يصير الماضي بعد إن مستقبلا، وأنت إذا قلت "إلا أمر" نقضت المعني؛ فإنك قد قلت: مررت برجل صالح، ثم تقول: إلا أمر بصالح فيما أستقبل، وإنما المرور واقع، فلابد من إضمار الكون، فتقول: إلا أكن فيما يستقبل موصوفا بكوني مررت بصالح فأنا قد مررت بطالح، فلما كثر الإضمار، وكان إضمار الجار بعد، ضعفه س، فقال: لأنك تضمر بعد إلا فعلا آخر غير الذي تضمره بعد إلا في: إلا يكن صالحا". وقوله وجعل ما بعد الفاء إلي قوله أو حالا مثال تقديره خبر مبتدأ: فالذي يجزون به خير. ومثال تقديره خبر "كان" مضمرة: كان الذي يجزي به خيرا. ومثال تقديره مفعولا بفعل لائق: فهو يجزى خيرا، أو فهو يعطي خيرا. ومثال تقديره حالا: فهو يلقاه خيرا.

وقوله وإضمار "كان" الناقصة قبل الفاء أولي من التامة قال المصنف: "وسبب ذلك أن إضمار الناقصة مع النصب متعين، وهو مع الرفع ممكن، فوجب ترجيحه ليجري الاستعمالان علي سنن واحد، ولا يختلف العامل، ولأن الفعل التام إذا أضمر بعد إن الشرطية لا يستغني عن مفسر، نحو {وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ/ اُلْمُشْرِكِيِنَ اسْتَجَاَرَكَ}، فخولف هذا في كان الناقصة لوقوع ثاني جزأيها موضع المفسر، ولأنها توسع فيها بما لا يستعمل في غيرها، فمقتضي الدليل أن لا تشاركها التامة في الإضمار المشار إليه، لكن أجيز فيها لشبهها بالناقصة، فلا يستويان في التقدير" انتهي. والذي بدأ به س في تركيب "إن خيرا فخير" نصب الأول ورفع الثاني، ثم قال: "ومن العرب من يقول: إن خيرا فخيرا". ثم ذكر أن رفعهما عربي حسن، نحو: إن خير فخير. وذكر النحويون هذه الأوجه، وزادوا: "إن خيرا فخيرا" برفع الأول ونصب الثاني، قالوا: وأحسن الوجوه إن خيرا فخير، ثم إن خير فخير، ثم إن خيرا فخيرا، ثم إن خير فخيرا. فالأولي أضمرت "كان" واسمها بعد إن. وأضمرت "كان" من بين سائر الأفعال لأنها يعبر عن كل فعل، وكثيرا ما تستعمل، ولما كان الفعل والفاعل كالشيء الواحد كنا كأنا أضمرنا شيئا واحدا، ورفع الثاني بإضمار مبتدأ هو الخبر، فقد أضمرت ما أظهرت، والموضع للجملة الاسمية، فلهذا كان هذا الوجه المختار.

وأما عكسها فإنك تضمر في الأول "كان" وخبرها، فيكثر الإضمار, وتضمر في الثاني مع المبتدأ ما ينصب "خيرا", فيكثر الإضمار، والتقدير: إن كان في عمله خير فهو يجزي خيرا، ولا يصح أن تقول: "فيجزى خيرا" لأن الفاء إنما يؤتي بها بالجمل الاسمية، ولأجلها دخلت الفاء، فكان هذا أردأ الوجوه، وهو الوجه الذي لم يذكره س. وأما نصبهما ورفعهما فزعم الأستاذ أبو علي أنهما متكافئان لأن ما في نصب الأول من الحسن يقابله قبح رفعه، وما في نصب الثاني من القبح يقابله حسن رفعه. وقال الأستاذ أبو الحسن بن عصفور: هذا خطأ لأن أحسن الحسنين اللذين هما نصب الأول من "إن خيرا فخيرا" ورفع الثاني من "إن خير فخير" رفع الثاني؛ لأن إضمارا كإضمار، ويفضل الرفع لأنك أضمرت ما أظهرت، ففضل حسنه حسن نصب الأول، ولأن أقبح القبيحين نصب الثاني لأن فيه إضمار كلام، وفي رفع الأول إضمار جزء الكلام. وتضمر "كان" في الشرط الصريح المحض، تقول: أنا أفعل هذا إلا معينا لي فلا مفسدا علي، أي: إلا تكن معينا لي فلا تكن مفسدا، ويجوز الرفع إذا صح المعني، ومنه في المثل "إن لا حظية فلا ألية"، قالته امرأة لزوجها لم تحظ عنده، ولم تقصر هي في الخدمة، كأنها قالت: إن لا تكن لك في النساء حظية، أي: أنت ممن لا تحظي عنده امرأة لأن طبعك لا يلائم طباعهن، فإني غير مقصرة فيما يلزمني من خدمة الزوج. ولو نصبت "حظية" لجاز، لكنها لم تعن نفسها حال الرفع لأنه أعم،/ وهو عزاءٌ لها

في ذلك إذ ليس من شأنه، يقال: ألوت أي: قصرت، فأنا آل وألي، فألية تأنيث ألي. -[ص: وربما أضمرت الناقصة بعد "لدن" وشبهها، والتزم حذفها معوضا منها "ما" بعد "أن" كثيرا، وبعد "إن" قليلا. ويجوز حذف لامها الساكن جزما، ولا يمنع ذلك ملاقاة ساكن وفاقا ليونس. ولا يلي عند البصريين "كان" وأخواتها غير ظرف وشبهه من معمول خبرها، واغتفر ذلك بعضهم مع اتصال العامل، وما أوهم خلاف ذلك قدر فيه البصريون ضمير الِشأن.]- ش: مثال إضمار كان الناقصة بعد "لدن" قول الشاعر: من لد شولا فإلي إتلائها الشول: هي التي ارتفعت ألبانها من النوق، قال أبو زيد: يقال شولت تشويلا. وقال كراع: واحدها شائلة، وواحدة الشول التي تشول بأذنابها شائل. وقدره س والجمهور: من لد أن كانت شولا، قال المصنف: "وعندي أن تقدير أن مستغني عنه، كما يستغني عنها بعد مذ" انتهي. والذي حمل عليه أصحابنا كلام س أنه تفسير معني لا تفسير إعراب،

والمعنى: من لد كانت شولا، ولا يقدر: من لد أن كانت، ولا: من لد كونها؛ لأنه لا يجوز حذف بعض الموصول وإبقاء بعضه، وقد منع س من ذلك في قوله: ......................... ...................... إلا الفرقدان قال: "ولا يكون علي: إلا أن يكون الفرقدان؛ لأن الاسم الذي من تمامه هذا لا يحذف" انتهي. والمعني: من لد كونها شولا إلي إلقاحها فإلي إتلائها، ولذا أتي بالفاء ليحمل شيئا علي شيء، ولولا ذلك لم يجز دخول الفاء؛ ألا تري أنه لا يجوز: خرجت من الدار فإلي المسجد. وإتلاؤها هو أن يتلوها ولدها ويتبعها. ويروى: من لد شول، فقيل: هو علي حذف، أي: من لد شولان شول، وقيل: شول المصدر. وقوله وشبهها شبه "لدن", قال المصنف: "قول الشاعر: أزمان قومي والجماعة كالذي لزم الرحالة أن تميل مميلا أراد: أزمان كان قومي مع الجماعة كالذي لزم الرحالة، كذا قال س".

وقوله والتزم حذفها معوضا منها "ما" بعد "أن" كثيرا مثال ذلك قول الشاعر: أبا خراشة أما أنت ذا نفر فإن قومي لم تأكلهم الضبع وقول الآخر: إما أقمت وأما أنت مرتحلا فالله يكلأ ما تأتي وما تذر وقال س: "أما زيد ذاهبا ذهبت معه", والتقدير: أن كنت ذا نفر, [2: 84/أ] وأن/ كنت مرتحلا، فانفصل الضمير لأنه إذا حذف العامل انفصل الضمير الذي كان مع إثباته متصلا، نحو قو الشاعر: وإن هو لم يحمل علي النفس ضيمها ... فليس إلي حسن الثناء سبيل وكذلك: أن كان زيد ذاهبا ذهبت معه، ولما حذف "كان" عوض منها "ما". والدليل علي أنها عوض من "كان" أنهما لا يجتمعان، فلا يقال: أما كنت منطلقا. و"أن" هذه مفتوحة، وهي في موضع نصب- بعد إسقاط حرف جر- مفعولا ما أجله، أو في موضع جر علي الخلاف الذي فيه. ولما كانت

"ما" عوضاً من "كان" المحذوفة لم يجز حذفها، فلا يقال: أن أنت منطلقا. والمرفوع بعد "أما" اسم "كان" المحذوفة، والمنصوب خبرها. وزعم أبو علي وابن جني أن "ما" هي الرافعة الناصبة، لما كانت عوضا زادوها لما استقبحوا أن تلي "أن" الأسماء، وصارت عوضا من الفعل، فنابت منابه في العمل، ويريانه مذهب س، وإنما تكلم علي حكم الأصل. وذهب الكوفيون إلي أن "أن" هذه أداة شرط كـ"إن" المكسورة الهمزة. وجوز حذف الفعل في المذهبين العلم بأن "أن" لا يقع بعدها إلا الأفعال، إما لأنها هي المخلصة للاستقبال علي رأي، وإما لأنها للجزاء علي رأي. وقد اتفقوا علي أنك إن حذفت "ما" وأتيت بالفعل أنها مكسورة، وهي غير "إن" عند البصريين، ولا تكون بمنزلتها إلا عند الكوفيين، فلا يبعد فتحها، ويختار كسرها. وقد استدلوا علي أنها شرط بقوله: {أَن تَضِلَّ إِحْداهُمَا}،

ولذلك دخلت الفاء في الجواب، وأما قوله: إما أقمت، وأما أنت مرتحلا .......................... فكسر مع الأول وفتح لظهور الفعل، وفتح الثاني مع عدمه. وصح عطف أحدهما علي الآخر لأنه في معني الشرط كالأول، وهو شرط علي رأي الكوفيين. وهل يصح الكسر مع عدم الفعل ووجود "ما"؟ فقال س: "حذف الفعل لا يجوز هنا كما لم يصح ثم إظهاره" يريد في المفتوحة، وقد يقال: لا يبعد علي رأي الكوفيين. وزعم أبو العباس أنه يجوز إظهار الفعل مع المفتوحة، وتجعل "ما" زائدة, فتقول: أما كنت منطلقا انطلقت معك. والصحيح أنه لا يجوز ذلك لأنه كلام جري مجري المثل، والأمثال وما يجري مجراها تقال كما سمعت، ولا يطرد فيها قياس، وليس هذا الموضع من مواضع قياس زيادة "ما". وقوله وبعد "إن" قليلا مثاله قول العرب: افعل ذلك إما لا، أي: إن كنت لا تفعل غيره. ومثله قول الراجز: أمرعت الأرض لو أن مالا ... لو أن نوقا لك أو جمالا أوثلة من غنم إما لا أي: إن كنت لا تجد غيرها، و"ما" عوض من الفعل. ولا يحذف الفعل مع المكسورة معوضا منه "ما" إلا في هذا، فلو

قلت: "إما كنت منطلقا انطلقت معك" فـ"ما" ليست بعوض، ولا تحذف "كان" وتكون "ما" عوضا، فلا تقول: إما أنت منطلقا انطلقت معك, كما لا يجوز إظهار الفعل مع المفتوحة. ومثله حذفهم الفعل في قولهم: "آثرا ما" يريدون: آثرا افعل كذا، أي: افعله أول شيء، فأبدلوا منه "ما" لكثرة الاستعمال، وهو شاذ لا يقاس عليه. وفي البسيط ما ملخصه: وأما ما يجب فيه الحذف ففي باب الاشتغال وفي موضعين يعوض منها: أحدهما بعد "أن", يعوض منها "ما"، نحو: أما أنت منطلقا انطلقت معك. والثاني في "أما" التحقيقية في قولك: أما زيد فقائم، فإن الفعل محذوف للنيابة، ويصح تأويله بـ"كان" الناقصة، فإن أبقينا بعض معمولاتها كان من هذا الباب كقولك: أما قائما فزيد قائم، أي: مهما يكن شخص قائما فزيد قائم. وفي كتاب أبي الفضل الصفار: قال س: "إما لا". يقول الرجل: أنا لا أقدر علي فعل كذا وكذا، فيقال له: إما لا فافعل، أي: إن كنت لا تفعل كذا فافعل كذا، وصار الفعل لا يظهر، ودل عليه وعلي الفعل في المسألة التي قبله أن الكلام لا يقال إلا علي معني ما. وقوله ويجوز حذف لامها الساكن جزما يشما المضارع بجميع

حروف المضارعة, فالهمزة {وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا} , والنون {قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ} , والتاء {وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ} , والياء {فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ}. ويشمل مضارع الناقصة والتامة, فالناقصة ذلك فيها كثير لكثرة تصرفها في الكلام, والتامة يقل فيها ذلك كقراءة من قرأ: {وَإِن تَكُ حَسَنَةٌ يُضَاعِفْهَا} برفع التاء. وحذف النون شاذ في القياس لأنها من نفس الكلمة نحو النون من لم يصن ويهن, لكن سوغه كثرة الاستعمال وشبه النون بحروف العلة, فكأنهم جددوا له جزما, وتنوسي الجزم القياس لما قدروا كثرة استعماله بالنون, فكأنه لم يحذف منه شيء للجزم, فجددوا عليه الجزم, وجعلوا النون كأنها حرف مد, ولذلك لم يحذفوها من هذا اللفظ إلا في موضع لا تجب لها الحركة فيه؛ لأن الشبه إنما هو من أجل الغنة التي تلحقها بعد خروجها من مخرجها من اللسان, وإنما تتبين لها تلك الغنة منها عند سكونها, فإذا تحركت ضعفت, فضعف الشبه, فلم تحذف في مثل {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ} إلا أن تضم ضرورة إلي حذفها, كقوله: لم يك الحق علي أن هاجه ... ..................................

وقد أطلق المصنف/ في موضع التقييد, وهو أنه لا يجوز حذف النون إذا اتصل بها خبرها ضميرا متصلا, نحو: أنت الصديق فإن لم تكنه فمن يكونه, فلا يجوز أن تقول "فإن لم تكه" لأن الضمير يرد الشيء إلي أصله, كما رد نون "لد" إذا أضيفت إلي الضمير, فقيل: "لدنه", ولا يجوز "لده". وقوله ولا يمنع من ذلك ملاقاة ساكن وفاقا ليونس قال المصنف في الشرح: "وبقوله أقول؛ لأن هذه النون إنما حذفت للتخفيف, وثقل اللفظ بثبوتها قبل ساكن أشد من ثقله بثبوتها دون ذلك, فالحذف حينئذ أولي, إلا أن الثبوت دون ساكن ومع ساكن أكثر من الحذف, فلذلك جاء القرآن بالثبوت مع الساكن في قوله: {لَّمْ يَكُنِ اللهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ} {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا} , وقد استعملت العرب الحذف قبل الساكن كثيرا, ومنه قوله: لم يك الحق سوي أن هاجه رسم دار قد تعفي بالسرر وقول الآخر: فإن لم تك المرآة أبدت وسامة فقد أبدت المرآة جبهة ضيغم وقول الآخر:

إذا لم تك الحاجات من همة الفتي فليس بمغن عنه عقد التمائم" قال: "ولا ضرورة في هذه الأبيات لإمكان أن يقال في الأول: لم يكن حق سوي أن هاجه, وفي الثاني: فإن تكن المرآة أخفت وسامة, وفي الثالث: إذا لم يكن من همة المرء ما نوى" انتهي. وليس التخفيف علة لحذف النون, وأي ثقل في لفظ "لم يكن"؟ وإنما حذفت لكثرة الاستعمال ولشبه هذه النون لأجل سكونها بحروف العلة, فمجموع هذا هو العلة في الحذف لا التخفيف. وأما ما ذكر من الحذف مع الساكن فذلك عن س ضرورة. وأما ما ذكره المصنف من أنه لا ضرورة في ذلك إذ كان له أن يقول ما ذكر فما من ضرورة في شعر العرب إلا ويمكن تبديلها ونظم شيء مكانها, فعلي ما ذكر لا يكون في كلام العرب ضرورة, وقد بحثنا معه في هذا في "كتاب التكميل", وبينا أنه ليس كما زعم. وقوله ولا يلي عند البصريين "كان" وأخواتها غير ظرف وشبهه من معمول خبرها مثال معمول غير ظرف وشبهه: كان زيد آكلا طعامك, ولا يجوز: كان طعامك زيد آكلا. وقوله "من معمول خبرها" يشمل كل ما ينتصب بالخبر من مفعول به ومفعول من أجله وحال وغير ذلك إلا الظرف وشبهه. ولا يختص هذا الفصل بكان/ وأخواتها, بل ينبغي أن لا يلي عاملا

من العوامل ما نصبه غيره أو رفعه, تقول: جاء زيد راكبا فرسك, ولو قلت "جاء فرسك زيد راكبا" لم يجز, وكذلك في باب الظن وباب إن. وقوله واغتفر ذلك بعضهم مع اتصال العامل مثاله: كان طعامك آكلا زيد, لا يجوز عند س, وأجازه بعض البصريين, منهم ابن السراج والفارسي, وتبعهما ابن طلحة وابن عصفور, قال ابن عصفور: "والذي يجيز حجته أن المعمول من كمال الخبر وكالجزء منه, فأنت إذا إنما أوليتها الخبر, وهو الصحيح" انتهي كلامه. وليس بصحيح لأنه ليس مسموعا من لسانهم, وإنما أجازها من أجازها بالقياس. وأورد بعضهم هنا سؤالا, فقال: "إن قال قائل: إن لم يرد السماع بها عينها فقد ورد بمثلها, قال تعالي: {سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} , وقال: {وَلَا تُصَلِّ عَلَي أَحَدٍ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَدًا} , وقال الشاعر: ....................... فعادوا كأن لم يكونوا رميما فأولي {يَوْمَ الْقِيَامَةِ} {بَخِلُوا بِهِ} , و {أَبَدًا} {مَّاتَ} , و"رميما" "يكونوا", وليست معمولات لما وليته, بل {يَوْمَ الْقِيَامَةِ} معمول لقوله {سَيُطَوَّقُونَ} , و {أَبَدًا} معمول لـ {تُصَلِّ} , و"رميما" معمول لـ"عادوا".

فالجواب أن جميع ذلك ليس بمنزلة: كان طعامك آكلا زيد؛ لأنك لم تولها الفعل, إنما أوليتها الفاعل, وهو الضمير الذي في {بَخِلُوا} و {مَّاتَ} ويكونوا" انتهي. وكلتا المسألتين- وهما: كان طعامك زيد آكلا, وكان طعامك آكلا زيد- سواء كما قلنا عند س. وأبو بكر وأبو علي يقولان لا يفصل بين "كان" وخبرها بأجنبي منهما, ويريان أن المعمول هنا من تمام العامل, ودليلهما جواز: زيد عمرا ضارب, قالا: فالمبتدأ يطلب الخبر كما تطلبه "كان) , فلما تقدم معمول الخبر قبله في الابتداء كذلك يفعل في "كان". وهذا قياس لا يصح لأن المبتدأ يطلب الخبر بلا واسطة, و"كان" تطلبه بوساطة اسمها, وهي فعل كسائر الأفعال, فلا تخرج عنها إلا بدليل, وتشبيهه الفعل بالاسم غير المشتق الخارج عن النظائر لا ينبغي؛ لأن الاسم الجامد يرفع لم يوجد في كلامهم إلا في الابتداء علي الخلاف الذي فيه, ومرفوع يتقدم علي رافعه لم يوجد إلا في هذا الباب, فهو خارج, ولا يقاس عليه خلافه. وتجوزان عند الكوفيين, ومن حججهم قول الشاعر:

قنافذُ هدَّاجونَ حولَ بيوتهمْ بما كانَ إيَّاهم عَطيةُ عَوَّدا وقولُ الآخر: فأَصْبحُوا والنوَى عالي مُعَرَّسِهمْ وليسَ كلَّ النوَى يلقى المساكينُ فـ (إياهم) منصوب عندهم بقوله: (عَوَّدَ)، وهو خبر (كان) و (عَطِيةُ) اسمها، و (كُلَّ النَّوى) منصوب بـ (يُلقي). واحتج لهم المنصف بقول الشاعر: بانتْ فؤاديَ ذاتُ الخالِ سالبةً فالعيشُ إنْ حُمَّ لي عيشٌ من العَجَبِ وقولِ الآخر: لئن كان سَلمى الشَّيْبُ بالصَّدِّ مُغْرِيًا لقد هَوَّن السُّلْوانَ عنها التَّحَلمُ فـ (فوادي) منصوب ب (سالبة)، وهو حال من (ذاتِ الخال)، والعامل فيه (بانت)، فهو شبيه بـ (كان طعامَك زيدٌ آكلاً). و (سَلمى) منصوب بـ (مغريًا)، وهو خبر (كان). فلو كان معمولُ الخبر ظرفا أو جارَّا أو مجروراً جاز أن يلي (كان) منفصلاً عن الخبر ومتصلاً به، نحو: كان عندَك زيدٌ مقيماً، وكان عندَك مقيماً زيدٌ، وكان بسيفٍ زيدٌ ضاربًا، وكان بسيفٍ ضاربًا زيدٌ، وذلك لاتساع

العرب في الظرف والمجرور؛ ألا تراهم فصلوا بهما بينَ المضاف والمضاف إليه، وقد أجيز: ما غداً زيدٌ ذاهباً، فإجازةُ ذلك في (كان) أَولى. وقولَ وما أَوْهَمَ خِلافَ ذلك قدَّر فيه البصريون ضميرَ الشأن أي: ما أَوهم إيلاءَ معمولِ خبرٍ غيرِ ظرف أو شبهه لـ (كان). فأوَّلوا قوله (بما كان) على أنَّ في (كان) ضميرَ الشأن، وعطية: مبتدأ، وعَوَّدَ: فعل ماضٍ في موضع الخبر، وإياهم: مفعول بعَوَّدَ، لمَّا تقدم على العامل انفصل كقوله {إِيَّاكَ نَعْبُدُ}. وكذلك في قوله (وليس كُلَّ النوى) في (وليس) ضمير الأمر، ويُلقي المساكنُ: خبر لكانَ، والمساكنُ: فاعل بيُلقي، وكُلَّ النوى: مفعول بيُلقي، فلم يلِ (ليسَ) معمولُ خبرها إذ فيها ضمير الشأن. وكذلك (بما كان إياهم). وقد ذهب بعض أصحابنا إلى أن هذا التخريج في: ................... بما كان إياهم عطيةُ عَوَّدا لا يجوز (لأنه يؤدي إلى ما لا يجوز، وذلك أن خبر المبتدأ لا يتقدم معموله على المبتدأ إذا كان فعلاً) انتهى. وهذه مسألة خلاف، المنعُ مذهب س والكسائي، والإجازة مذهب هشام، يجيزه مع الماضي والمستقبل والدائم، وقد تقدم الكلام في هذه المسألة في باب الابتداء.

وأجاز المصنف في (بما كان إياهم عَطيةُ عَوَّدا) أن تكون (كان) زائدة. وأجاز أيضاً أن تكون (ما) بمعنى الذي، وفي (كان) ضمير عائد على (ما)، هو اسمُها، وعطية: مبتدأ، وعَوَّدَ: خبره، وهو يتعدى إلى اثنين: أحدهما إياهم، والثاني هاء عائدة على (ما)، حُذفت، وهي مقدرة. وما احتجَّ به المصنف لهم من البيتين ظاهرُ الدلالة على جواز: كان طعامَك زيدٌ آكلاً، وذكر أنَّ البيت الأول يقوي ما ذهب إليه الكوفيون، وقال: (أراد: بانت ذاتُ الخال/ سالبةُ فؤادي، فقَدَّم منصوبَ الحال على مرفوع عاملها، وهو شبيه بما منعه البصريون من تقديم منصوب كان على مرفوعها) انتهى. وقال في قوله: لئن كان سَلمى الشيبُ بالصَّدِّ مُغْرياً ............................... (لا سبيل إلى ضمير الشأن لظهور النصب في الخبر، فسلم الدليل، ولم توجد لمخالفته سبيل). وما ذهب إليه المصنف من سلامة الدليل وأنه لا سبيل إلى مخالفته ليس كما ذكر لاحتمال أن يكون (فؤادي) ليس معمولاً ل (سالبةَ)، ولا (سَلمى) معمولاً لقوله (مُغْرِياً)، بل هما مُنادَيان، كأنه قال منادياً لسلمى: لئن كان - يا سلمى - الشيبُ بالصَّدِّ - أي بِصَدِّكِ - مُغرياً، وقال منادياً لفؤاده: بانت - يا فؤادي - ذات الخال سالبةً، أي سالبةً لك، وإذا احتمل أن يكون منادَيَيْنِ لم يكن في ذلك حُجة؛ لأنه إذا دَخل الدليلَ الاحتمالُ سقط به الاستدلال، فلو كان مكان (سَلمى) و (فؤادي) اسم يظهر فيه الإعراب نصباً كان يسلم الدليل، لكنه لا يظهر فيه النصب، فاحتمل ما قاله

المصنف، واحتمل ما قلناه، فسقط استدلال المصنف به على صحة المُدَّعى. وبقى علينا الكلام في معمول الخبر بالنظر إلى جواز تقديمه على هذه الأفعال ومنعه، فنقول: إن قدمته مع الخبر جاز في كل موضع يجوز فيه تقديم الخبر، وذلك نحو: في الدار قائماً كان زيدٌ، وإن قَدَّمته وحده لم يجز كان ظرفًا أو مجروراً أو غير ذلك، فلا تقول: في الدار كان زيد قائمًا، ولا: يومَ الجمعة كان زيدٌ ذاهباً، ولا: طعامَك كان زيدٌ آكلاً، لكثرة الفصل بين المعمول الذي هو فضلة الخبر والعامل الذي هو الخبر. هذه نقل بعض أصحابنا. وقال ابن السراج: (جميع ما جاز في المبتدأ والخبر من التقديم والتأخير فهو جائز في (كانَ) إلا أن يفصل بينهما وبين ما عَملت فيه بما لم تعمل فيه). قال: (وأصحابنا يجيزون: غلامَه كان زيدٌ يضربُ، ينصبون الغلام بيَضربُ؛ لأنَّ كل ما جاز أن يتقدم من الأخبار جاز تقديم معموله) انتهى. وفي البسيط: وأما تقديم معمول الخبر على هذه الأفعال التي يتقدم خبرها عليها إذا كان غير ظرف نحو: زيداً كان عمرٌو ضاربًا، وغلامَه كان زيدٌ يَضربُ، فقيل: لا يجوز لأنه قد حالَ بين المعمول وعامله بجمله أجنبية، وإن كانت محتاجة إلى خبر، لكنها في صورة التام كالفعل والفاعل. وفيه نظر، قال تعالى {أَهَؤُلَاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ}، وقال

في الظرف والمجرور: {أَلَا يَوْمَ يَاتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفًا عَنْهُمْ}، وقال: {أَبِاللَّهِ وَآَيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ}. والصحيح عند النحويين جوازه ظرفاً كان أو غيرَ ظرف، ونَصَّ النحويون عليه، ولا تراعى الصورة، بل يُلاحَظُ المعنى. وقد تقدم مذهب الكوفيين في منعهم / تقديم الخبر وتوسيطه إذا كان يتحمل الضمير، وتخريج مثل: قائماً كان زيدٌ، وكان قائماً زيدٌ على مذهب الكسائي ومذهب الفراء. وأما التفريع على مذهبهم في تقديم المعمول على الفعل أو على الاسم فإما أن تقدِّمه بعدَ الخبر أو قبلَه، فإن قدَّمتَه بعد الخبر، نحو: قائماً في الدار كان زيدٌ، وكان قائماً في الدار زيدٌ، فالأمر على ما كان عليه لو لم يكن له معمول. وإن قدَّمته قبلَ الخبر، نحو: في الدار قائماً كان زيدٌ، وكان في الدار قائماً زيدٌ، فالأمر عندهم على ما كان عليه إلا أنه لا يجوز أن يكون خلفاً من الموصوف؛ لأنه الصفة إذا تقدَّمَها معمولُها لم يجز أن تخَلُف الموصوف عند الكسائي كان المعمول ظرفًا أو غيرَ ظرف. وفصَّل الفراء، فقال: إن كان معمول الخبر ظرفاً أو مجروراً جاز أن تكون الصفة خلفًا، وإن كان غيرهما لم يجز أن تكون خلفًا، نحو: طعامَك آكلاً كان زيدٌ، وكان طعامَك آكلاً زيدٌ. والصحيح عندنا في جميع ذلك أنه خبر مُقدَّم لم يخلف موصوفاً يُثَنَّى ويُجْمَع. مسألة: إذا قدَّمتَ الخبر وأَخَّرتَ المعمول، نحو (آكلاً كان زيدٌ

طعامَك)، فهذا لا يجوز للفصل بين العامل والمعمول بأجنبي، أعني ما ليس بمعمول لآكل. هذا مذهب الكوفيين ومقتضى مذهب البصريين، إلا إن جعلت (طعامَك) مفعولاً بفعلٍ مضمر يفسِّرُ هذه الظاهر، وكأنك قلت بعد قولك آكلاً كان زيدٌ: يأكلُ طعامَك، فإنه يجوز على كل مذهب. مسألة: إذا قلت: (كان كائناً زيدٌ قائماً) فالكسائي يجعل في (كان) ضمير الشأن، وكائنًا خبر كان، وزيدٌ مرفوع بكان وكائنٍ على أنه اسمهما، وقائماً خبر كائن وخبرها - وهو قائم - بأجنبي، ولا يجوزحمله على فعل مضمر يدل عليه كائن كما كان في: آكلاً كان زيدٌ طعامَك؛ لأن كائناً ناقص لا يتم إلا بخبر، وإنما يتصور قطع الاسم عن العامل الأول إذا كان مما يتم دونه. ولا يجوز عند أهل الكوفة (كان يقوم زيدٌ) على أن يكون خبراً مقدماً؛ لأنه لا يُتصور أن يكون خلفاً؛ لأن الفعل لا يَخلف الموصوف، فيلزم إذا جُعل خبراً أن يكون فيه ضمير يعود على الاسم، والضمير المرفوع لا يتقدم عندهم على ما يعود عليه، فلا يجوز عندهم إلا على أن يكون في (كان) ضمير الشأن، ويقوم في موضع الخبر على مذهب الفراء، وزيد مرفوع بيَقومُ. ولا يجوز عندهم تقديم (يقوم) على الفعل، فتقول: (يقومُ كانَ زيدٌ) على وجه من الوجوه؛ لأن هذه الأفعال لا يدخل عليها الفعل، والظروف والمجرور/ جاريان مجرى الفعل لكونهما لا يخلفان الموصوف. فإن كان الخبر اسماً لا يَتحمل الضمير جاز توسيطه وتقديمه عندهم، نحو: كان أخاك زيدٌ، وأخاك كان زيدٌ، إذا أرَدتَ أُخُوَّة النسَب لا أُخُوَّة الصداقة. مسألة: خبر هذه الأفعال إذا كان جملة أو ظرفاً أو مجروراً فهو في

موضع نصب على ما تقرر في عمل هذه الأفعال. وإذا كان مفرداً انتصب، ولا يجوز أن يرتفع على أن يكون خبر مبتدأ محذوف، لا تقول: كنتُ قائمٌ، تريد: أنا قائمٌ؛ لأنه إضمار لا فائدة في تكلفه، وقد نص الخليلُ على ذلك، ولَحَّنوا زياداَ الأعجم في قوله: هل لكَ في حاجتي حاجةٌ ... أَمَ آنْتَ لها تارِكٌ طارحُ أَمِتْها، لك الخيرُ، أو أحْيها ... كما يَفْعَلُ الرجلُ الصالحُ إذا قلْتُ: قد أَقبلَتُ، أَدْبرَتْ ... كمَنْ ليسَ غادٍ ولا رائحُ أراد: كمن ليس غاديًا ولا رائحًا، فرفع على إضمار هو، أي: كمن ليس هو غادِ ولا رائحٌ. قالوا: (ولا حجة في كلامه عند أكثر العلماء لأنه نزل بإصْطَخْرَ من بلاد فارس، ففسد لسانه بها، ولذلك لقب الأعجم، فكثيراً ما يوجد اللحن في شعره) انتهى. وهذا الذي قالليس بجيد لأن إمام الصنعة س قد استشهد في كتابه بشعره. وأما البيت الذين زعموا أنه لحن فليس على ما زعموا، وله وجه صحيح في العربية، وهو أن يرتفع غادٍ ورائح على أنه اسم ليس، ويكون خبرها محذوفًا على حد قولهم: ........................... ... حينَ ليسَ مُجيرُ تقديره: كمن ليس له غادٍ ولا رائح، أي: ليس له من يغدو عليه ولا من يروح، فلا يكون على هذا اسمُ ليس ضميراً يعود على مَنْ، فيلزم منه أن

ينتصب غادٍ ورائح على خبرها، والمعنى: أن حاجته لا تنبتً ولا ينقضي أمرها، فهي كشيء ليس له من يغدو عليه ولا من يروح فيبقى هملاً كحاجته. ووهم ابن عصفور في إنشاد شعر زياد، فركْب نصفاً من بيت على نصف بيت آخر، وأنشد: أَمِتْها - لك الخير - أو أَحْيهِا كَمَنْ ليسَ غادٍ ولا رائحُ وإذا كان له توجيه صحيح في العربية فلا يكون لحناً. فأما قول الآخر: كَم مِنْ لئيمٍ رأينا كانَ ذا إِبلِ فأصبحَ اليومَ لا مُعْطٍ ولا قارِ فينبغي أن يُتأول على أنه أراد: لا مُعطيًا ولا قاريًا، وحذف الياءَ للضرورة، فيكون نحو قوله: وَكَسَوتَ عارٍ لحمُه ......... ... .......................... يريد: عاريًا، وهذا أولى من ادِّعاء (هو) مضمرة، فيقدر: لا هو مِعْطٍ ولا هو قارٍ. وفي البسيط: أكثر النحويين اتفقوا على أن الاسم / ثاني من معمولي (كان) وأخواتها خبر بنفسه، ولا يكون في موضع رفع بتقدير مبتدأ، كقولك: كان زيدٌ قائمًا، ولا يجوز رفعه على الإضمار، فأما قولُه: ....................... فأَبيتُ لا حَرِجٌ ولا محرومُ

فهو عند الخليل على الحكاية، أي: أَبيتُ كالذي يُقالُ له لا حَرِجٌ ولا محروم. وقال بعض النحويين: يجوز أن يكون في موضع خبر، أي: لا أنا حرجٌ. انتهى وقال س بعدما حكى تخريج البيت على الحكاية ما نصُّه: (وقد زعم بعضهم أنَّ رفعه على النفي، كأنه قال: فأبيتُ لا حَرِجٌ ولا محرومٌ بالمكان الذي أنا به) قال س: (والتفسير على النفي كأنه أسهل) انتهى. ويَعني بالنفي النفيَ العامْ، وإذا كان لا حَرِج ولا محروم نفيًا عامًا لكل حَرِج ومحروم لزم منه أن يكون الثابت لا حَرِجًا ولا محرومًا لأنه فرد من أفراد العامّ. فأن كان الموضعُ تفصيل جاز النصب، وجاز الإضمار، نحو قولك: كان الزيدان قائمًا وقاعدًا؛ لأن موضع التفصيل تقوى فيه الدلالة على الإضمار، والمعنى على أن المراد أحدهما كذا والآخر كذا، وما أشبه ذلك، وقد نص س على جواز ذلك، ومنه قول الشاعر: فأصبحَ في حيثُ الْتقيْنا شَرِيدُهُمْ طَليقٌ ومكتوفُ اليدين ومُزْعَفُ التقدير: أحدُهم طليقٌ، والآخر مكتوف اليدين، والآخر مُزْعف، أو: مِنْهم طليقٌ، ومنهم مكتوفُ اليدين، ومنهم مُزْعف.

وفي البسيط: فإن كان في موضع تقسيم جاز، كقولك: كان الزيدان قائمٌ وقاعدٌ، أي: أحدهما. وخالف بعض الكوفيين. أما ما عدا أفعال المقاربة فقالوا هو منصوب على الحال، وليس مشبهًا بالمفعول به) انتهى. وقد تقدم ذكرُ حُجَج الكوفيين والبصريين في أوائل هذا الباب. مسألة: أجاز الجمهور رفع الاسمين بعد (كان). وأنكر الفراء سماعه. وهو محجوج بثبوت ذلك عن العرب، نحو قولِه: إذا مت كان الناس صنفان: شامت وآخر مثن بالذي كنت أصنع في رواية من رواه (صِنْفان) بالألف، وقوله: هي الشفاء لدائي لو ظفرت بها ... وليس منها شفاء الداء مبذول وإذا ارتفع الاسمان بعد كان فمذهب الجمهور أن في (كان) ضمير الشأن، والجملة من المبتدأ والخبر في موضع نصب على الخبر. ونقل عن الكسائي أن كان ملغاة، ولا عمل لها. وإلى ذلك كان يذهب أو الحسين بن الطراوة. نقله عن السُّهيلي وغيره. قال السُّهيلي: والصحيح ما ذهب إليه النحويون، يدل على ذلك قول العرب: (إنه أَمةُ اللهِ ذاهبةٌ)، فتَبَيَّنَ ضمير الأمر في (إنَّ) لما كان نصبًا، ولم يتبين في (كان) لما كان رفعًا، وصارت الجملة في موضع خبر.

فإن قيل: هلا كانت تامة مكتفية باسم واحد، وهو المضمر فيها، وكانت الجملة بدلًا؛ لأن الجملة حديث، والمضمر فيها حديث؟ قلنا: قولهم: "إن أمة الله ذاهبة" يبين أن الجملة في موضع خبر؛ إذا لا يصح في "إن" أن تكتفي باسم واحد، فبان أنها في موضع خبر. مسألة: "كان" إذا أضمر فيها ضمير الشأن فهي ناقصة، والجملة الواقعة بعدها في موضع خبرها، وليست غير الناقصة فتكون قسمًا برأسها، هذا مذهب الجمهور، وذهب أبو القاسم خلف بن فرتون الشنتريني، عرف بابن الأبرش، إل أنها قسم غير الناقصة. مسألة: أجاز هشام: ما كان أحد زائلًا يذكرك، ولا أظن أحدًا زائلًا يذكرك. وأباهما الفراء. مسألة: أجاز الكسائي وهشام: ما يزال أحد يقول ذلك، ونحوها من المستقبل. وانفرد هشام بإجازتها مع الماضي. ومنعها الفراء فيهما. مسألة: اختلفوا: هل تعمل في الظروف والمجرورات والأحوال أو لا؟ فقيل: لا تعمل لأنها لا استدعاء لها لذلك، والعامل مستدع. وقيل: تعمل لأنها فعل، وإذا عمل "هذا" في الحال بتأويل الفعل فأحرى "كان". مسألة: لا يجوز الاقتصار على الفاعل دون الخبر كما لا يجوز في المبتدأ والخبر، وأما حذف الاختصار فيمتنع في اسمها لأنه هنا كالفاعل، وأما في الخبر ففيه خلاف، أجازه في البسيط، قال: تقول في جواب من قال: ألم تكن غنيًا؟ كنت، ويقول: أكاد زيد يقوم؟ فتقول: قد كاد. وقال ابن عصفور ما معناه: "ما المانع من حذف الخبر، وأنت إن حكمت له بحكم لفظه فإنه يشبه المفعول، والمفعول يجوز حذفه، أو

بحكم أصله فهو خبر في الأصل، والخبر يجوز حذفه اختصارًا لفهم المعنى، فكان ينبغي أن يجوز حذفه على كل حال؟ والجواب أنه قد صار عوضًا من المصدر، فلا يجمع بينهما كراهة الجمع بين العوض والمعوض، وإنما عوض منه لأنه في معنى المصدر؛ ألا ترى قولك: "كان زيد قائمًا" أن القيام كون من أكوان زيد، فلما كان الخبر المصدر في المعنى استغني عنه كما استغني بـ"ترك" عن "وذر" لما كان معناهما واحدًا، ولولا أنه عوض لصرح بالمصدر إذ لا فعل إلا له مصدر أخذ منه، وقيام الدليل على ذلك، فلما صار عوضًا من المصدر صار كأنه من تمام الفعل، وكأنه جزء من أجزائه. وأيضًا فالأعواض لازمة لا يجوز حذفها، وقد يحذف الخبر في الضرورة، نحو: ................................... ............. حين ليس مجير" وهذا تلخيص من كلام أبي بكر أحمد بن الحسن المعروف بابن/ شقير في "كان" واسمها وخبرها ومعموله وما يتصور فيه من التراكيب: كان زيد آكلًا طعامك، كان آكلًا طعامك زيد، آكلًا طعامك كان زيد، كان زيد طعامك آكلًا، طعامك كان زيد آكلًا، طعامك كان آكلًا زيد، كان آكلًا زيد طعامك، زيد كان آكلًا طعامك، زيد آكلًا طعامك كان، آكلًا طعامك زيد كان، زيد كان طعامك آكلًا، طعامك زيد كان آكلًا، زيد طعامك كان آكلًا. قال ابن شقير: كل هذا جائز من كل قول. كان طعامك آكلًا زيد، كان طعامك زيد آكلًا، جائزتان من قول الكوفيين، وخطأ من قول البصريين.

آكلًا كان زيد طعامك، زيد آكلًا كان طعامك، آكلًا زيد كان طعامك، الثلاث جائزات من قول البصريين، وخطأ من قول الكوفيين إلا على كلامين من قول الكسائي. طعامك آكلًا كان زيد، زيد طعامك آكلًا كان، طعامك آكلًا زيد كان، هذه الثلاث جائزة من قول البصريين والكسائي، وخطأ من قول الفراء لأنه لا يقدم مفعول خبر كان عليه إذا كان خبر كان مقدمًا من قبل أنه لو أراد رده إلى فعل ويفعل لم يجز عنده. والكسائي يجيز تقديمه كما يجيز تقديم الحال. طعامك زيد آكلًا كان جائز، من قول البصريين، وخطأ من قول الكوفيين. آكلًا كان طعامك زيد خطأ من كل قول.

-[ص: فصل ألحق الحجازيون بـ"ليس" "ما" النافية بشرط تأخر الخبر، وبقاء نفيه، وفقد "إن"، وعدم تقدم غير ظرف أو شبهه من معمول الخبر. و"إن" المشار إليها زائدة كافة لا نافية، خلافًا للكوفيين. وقد تزاد قبل صلة "ما" الاسمية والحرفية، وبعد "ألا" الاستفتاحية، وقبل مدة الإنكار. وليس النصب بعدها لسقوط باء الجر، خلافًا للكوفيين. ولا يغني عن اسمها بدل موجب، خلافًا للأخفش. وقد تعمل متوسطًا خبرها، موجبًا بـ"إلا" وفاقًا لـ"س" في الأول، وليونس في الثاني. والمعطوف على خبرها بـ"بل" و"لكن" موجب، فيتعين وفعه.]- ش: أصل العمل للأفعال، يدل على ذلك أن كل فعل لابد له من فاعل، إلا ما استعمل زائدًا نحو "كان" على خلاف ذلك، أو استعمل في معنى الحرف نحو "قلما"، أو تركب مع غيره نحو "حبذا" على خلاف في هذا. وما عمل من الأسماء فلشبهه بالفعل. وأما الحرف فإما أن يختص بما دخل عليه أو لا، إن اختص فإما أن يتنزل منزلة الجزء منه أو لا، إن تنزل فلا يعمل لأن جزء الشيء لا/ يعمل في الشيء، وإن لم يتنزل فقياسه إن اختص بالفعل أن يعمل من الإعراب النوع المختص بالفعل، وهو الجزم، وإن اختص بالاسم فقياسه أن يعمل من الإعراب النوع الذي يختص بالاسم، وهو الجر، وإن لم يختص بما يدخل عليه فقياسه أن لا يعمل، و"ما" من هذا النوع. ولها شبهان: أحدهما هذا، وهو عام فيما لا يعمل من الحروف، وراعاه بنو تميم، فلم يعملوها. والثاني خاص، وهو شبهها

بـ"ليس" في كونها للنفي وداخلة على المبتدأ والخبر، وتخلص المحتمل للحال كما أن "ليس" كذلك، وراعى هذا الشبه أهل الحجاز. وقوله ألحق الحجازيون بليس يعني في العمل بأن ارتفع ما بعدها اسمًا لها، وانتصب الثاني خبرًا لها، وه 1 االإلحاق هو على مذهب البصريين، وسيأتي مذهب الكوفيين في ذلك. وقال الكسائي: هي لغة أهل تهامة. وقال الفراء: "لا يكاد أهل الحجاز ينطقون إلا بالباء" انتهى. وقد جاء النصب في أفصح الكلام وأجله، قال تعالى: {فَمَا مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ}، قالوا: ولم يحفظ ذلك في كلامهم إلا في بيت من الشعر، قال: وأنا النذير بحرة مسودة تصل الجيوش إليكم أقوادها أبناؤها متكنفون أباهم حنقو الصدور، وما هم أولادها وأجمع النحويون على إجازة: ما زيد قائم. وحكى س أنها لغة

تميم. وحكى الكسائي والفراء أنها لغة أهل نجد. وقال المصنف: "إنها لغة غير أهل الحجاز"، فيدخل فيه تميم وأهل نجد وغيرهم، وقد تقدم قول الكسائي إن النصب لغة أهل تهامة، وهذا يرد على المصنف. وقوله بشرط تأخر الخبر فلو قدمته ارتفع، قال الشاعر: وما حسن أن يمدح المرء نفسه ولكن أخلاقًا تذم وتحمد وقال الآخر: وما خذل قومي، فأخضع للعدا ولكن إذا أدعوهم فهم هم وهذا مذهب عامة النحويين، ويأتي ذكر الخلاف فيه عند كلام المصنف على ذلك. وكان ينبغي للمصنف أن ينبه على أن الخبر إذا كان ظرفًا أو مجرورًا جاز توسيطه، فتقول: ما عندك زيد، فيكون عندك في موضع نصب في مذهب أهل الحجاز، وخالف في ذلك الأخفش، فزعم أنه في موضع رفع، وسنتكلم على المذهبين إن/ شاء الله. وأما تقديم الباء وولايتها لـ"ما" نحو "ما بقائم زيد" فمنعه مطلقًا الكوفيون على اللغتين. وقياسه أن الباء لتأكيد النفي، فكأنها للنفي، فلا تجتمع مع "ما" كـ"إنَّ" واللام. وجوز البصريون ذلك، لكنه يلزم أن يصير

الحجازي في التقديم تميميًا لأنه لا يجوز التقديم في حال النصب، فكذلك إذا كان عارضًا، والسماع كثير، قال: .................................... وما بالحر أنت ولا القمين وقوله وبقاء نفيه إذا انتقض النفي بألا أبطل العمل كقوله تعالى: {ومَا مُحَمَّدٌ إلاَّ رَسُولٌ}، وهذا هو المشهور، ويأتي الخلاف فيه عند تعرض المصنف له. وقوله وفقد "إن" إذا كان بعد "ما" "إن" بطل العمل، نحو قول فروة لن مسيك، وهو حجازي: فما إن طبنا جبن، ولكن منايانا ودولة آخرينا وقال آخر: بني غدانة ما إن أنتم ذهب ولا صريف، ولكن أنتم خزف ولم يذكر المصنف خلافًا في هذا الشرط لا في الفص ولا في الشرح، بل ذكر أن مجيء "إن" بعد "ما" مبطل لعمل "ما"، قال في الشرح -وقد ذكر الشروط الأربعة التي ذكرها- ما نصه: "لما كان عمل ما

استحسانيًا لا قياسيًا اشترط فيه تأخير الخبر، وتأخر معموله، وبقاء النفي، وخلوها من مقارنة "إن"؛ لأن كل وادح من هذه الأربعة حال أصلي، فالبقاء عليها تقوية، والتخلي عنها أو عن بعضها توهين، فأحق الأربعة بلزوم الوهن عند عدمه الخلو من مقارنة "إن"؛ لأن مقارنة "إن" تزيل شبهها بليس؛ لأن ليس لا تليها "إن"، فإذا وليت "ما" تباينا في الاستعمال، وبطل الإعمال دون خلاف، ولا يلزم مثل هذه المباينة بنقض النفي ولا بتوسط الخبر كما سيأتي ذلك مبينًا إن شاء الله" انتهى. فقد نص على أن مجيء "إن" بعد "ما" مبطل للعمل بلا خلاف، وليس كما ذكر، بل المسألة خلافية: ذهب البصريون إلى إبطال العمل إذا جيء بعد "ما" بـ"إن"، وإنه لا يجوز النصب. وذهب الكوفيون إلى أنه يجوز النصب، فتقول: ما إن زيد ذاهبًا، وحكي ذلك يعقوب، وأنشد: بني غدانة ما إن أنتم ذهبًا ولا صريفًا، ولكن أنتم الخذف بنصب "ذهب" و"صريف". وخرج على أن "إن" نافية مثلها في قوله: {ولَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إن مَّكَّنَّاكُمْ فِيهِ}، وأتى بها بعد "ما" لتأكيد النفي من حيث كانت بمعناها كما أكدت "عن" بالباء لما كانت تستعمل بمعناها في قوله: /فأصبحن لا يسألنني عن بما به أصعد في غاوي الهوى أم تصوبا ويكون العمل في بيت يعقوب لـ"إن" كما أن العمل للباء، و"إن" قد

ترفع الاسم وتنصب الخبر، نحو قوله: إن هو مستوليًا على أحد ..................................... انتهى هذا التخريج، وهو عكس التوكيد إذ الأصل أن يؤكد الأول بالثاني لا أن يؤكد الثاني بالأول. وقوله وعدم تقدم غير ظرف أو شبهه من معمول الخبر مثاله: ما طعامك زيد آكل، وهذا جائز عند الجمهور، وحكي عن الرماني منعه، وهو محجوج بقول الشاعر: وقالوا: تعرفها المنازل من منى وما كل من وافى منى أنا عارف في رواية من نصب "كل". فإن كان المتقدم ظرفًا أو جارًا ومجرورًا لم يبطل عمل "ما"، نحو: ما اليوم زيد ذاهبًا، وما بسيف زيد ضاربًا، وقال الشاعر: بأهبة حرب كن وإن كنت آمنا فما كل حين من يوالي مواليا ويعني بالتقدم على الاسم. فإن تقدم معمول الخبر على "ما" نفسها، نحو "طعامك ما زيد آكلًا أو آكل" لم يجز ذلك عند البصريين رفعت آكلًا أو نصبته؛ لأن "ما" لما صدر الكلام. وأجاز ذلك الكوفيون، وقاسوه على لا ولن ولم. قال

أبو البقاء العكبري: "وما أصل حروف النفي، فلا يسوى بينهما" انتهى. ويقتضي هذا الجواز لأنه يتصرف في الأصل ما لا يتصرف فيما ليس بأصل، دليل ذلك همزة الاستفهام و"إن" الشرطية. وقال أبو بكر: "وقوم يجيزون دخول الباء، فيقولون: ما طعامك زيد بآكل، وما فيك زيد براغب، إلا أنهم يرفعون الخبر إذا لم تدخل الباء، ولا يجيزون النصب". قال: "ولا يجوز: طعامك ما زيد آكلًا أبوه. وقد أجازه بعض الكوفيين". ونقص المصنف من الشروط شرطين: أحدهما: أن لا تؤكد "ما" بـ"ما"، فإن أكدت بطل العمل، تقول: ما ما زيد ذاهب، ولا يجوز ذاهبًا، هذا على مذهب عامة النحويين. وحكي أبو علي الفارسي عن بعض الكوفيين إجازة النصب. وفي الغرة: "كفوا "ما" بـ"ما"، فقالوا: ما ما زيد قائم، وأجاز النصب جماعة من الكوفيين، والبصري يأبى ذلك ". الشرط الثاني: أن لا تبدل الخبر بدلًا مصحوبًا بإلا، نحو قولك: ما زيد شيء أو بشيء إلا شيء لا يعبأ به، فهنا تستوي اللغتان الحجازية والتميمية، ذكر ذلك س. وعلة ذلك أن البدل موجب بـ"إلا"، فلا يكون منصوبًا، فهو إذ ذاك واجب الرفع، وحكم البدل والمبدل منه في الإعراب واحد، فيلزم من ذلك رفع المبدل منه، وموضع "بشيء" أيضًا يتعين أن يكون رفعًا لهذه العلة.

وفي كتاب أبي الفضل الصفار: "إن كان المنصوب/ خبر "ما" فلا يجوز فيه النصب على البدل، ولا تقول: ما أحد صديقًا لك إلى عمرًا، فإنما يجوز نصبه على الاستثناء وعلى الصفة، كأنك قلت: ما أحد صديقًا لك غير عمرو، ويجوز البدل على الموضوع، فتقول؛ ما أحد صديقًا لك إلى زيد" انتهى. وهذا وهم فاحش، وأي موضع لقوله: "صديقًا لك"؟ بل لفظه هو موضعه، ولو كان البدل من خبر "ليس" لزم أيضًا أن يكون نصبًا لأن "ليس" ينتصب خبرها بعد "إلا"، فيكون مثل قوله: يا بني لبيني لستما بيد إلا يدًا ليست لها عضد وقوله و"إن" المشار إليها زائدة كافة لا نافية، خلافًا للكوفيين قال المصنف في الشرح: "الذي دعموه مردود بوجهين: أحدهما أنها لو كانت نافية مؤكدة لم تغير العمل كما لا يتغير بتكرير "ما" إذا قيل: ما ما زيد قائمًا، كما قال الراجز: لا ينسك الأسى تأسيًا، فما ما من حمام أحد معتصما فكرر "ما" النافية توكيدًا، وأبقى عملها" انتهى هذا الوجه. ودل هذا على أن المصنف لم يكن له شعور بأن من شرط إعمال "ما" أن لا تكرر؛ ألا تراه ذكر ذلك على سبيل الاستدلال على الكوفيين، وقد ذكرنا أن عامة النحويين شرطوا ذلك، وأن أبا علي حكي فيه خلافًا عن بعض الكوفيين.

فإن قلت: فما تصنع بهذا البيت، وظاهره يدل على جواز إعمال "ما" إذا أكدت بـ"ما" كما ذهب إليه بعض الكوفيين؟ قلت: يحمل ذلك على الشذوذ، أو يتأول على أن الكلام تم عند قوله "فما"، ويكون قد حذف لعد "ما" فعل يدل عليه المعنى السابق، أي: فما يجدي الحزن، ثم ابتدأ، فقال: ما من حمام أحد معتصما، فعلى هذا لا تكون "ما" توكيدًا لـ"ما". قال المصنف: "الثاني أن العرب قد استعملت إن زائدة بعد "ما" التي بمعنى "الذي"، وبعد "ما" المصدرية، وبعد "ما" التوقيتية، لشبهها في اللفظ بـ"ما" النافية، فلو لم تكن زائدة المقترنة بـ"ما" النافية لم يكن لزيادتها بعد الموصولتين مسوغ". وقوله وقد تزاد قبل صلة "ما" الاسمية إلى قوله الإنكار مثل ذلك قوله: يرجى المرء ما إن لا يراه وتعرض دون أدناه الخطوب أي: الذي لا يراه. وقوله: ورج الفتى للخير ما إن رأيته على السن خيرًا لا يزال يزيد فـ"ما" مصدرية توقيتية. وقوله: ألا إن سرى ليلي، فبت كئيبا أحاذر أن تنأى النوى بغضوبا /وقال بعض العرب: "أأنا إنية"، فزاد "غن" قبل مدة الإنكار،

وذكرنا هذا في آخر باب الحكاية موضحًا مبينًا في كتاب التكميل. وذكر زيادة "إن" في هذه المواضع استطراد، وليس من مسائل "ما" النافية، وذلك على عادة المصنف. وقوله وليس النصب بعدها لسقوط باء الجر، خلافًا للكوفيين قال الكسائي وهشام/ تنصب الاسم بطرح الباء، وترفع عبد الله بقائم إذا قلت: ما عبد الله قائمًا. وقال الفراء: "لما حذفوا اختاروا أن يكون لها أثر فيما خرجت منه، فنصبوا" لأن الصفة إذا خلفت من الفعل نصب، فتقول: أتيتك مستهل الشهر، والمعنى: في مستهله. وقد رد المصنف هذا المذهب في الشرح "بأن الباء قد تدخل بعد "هل" وبعد "ما" المكفوفة بإن، فإذا سقطت الباء تعين الرفع بإجماع، فلو كان سقوط الباء ناصبًا لنصب في هذين الموضعين. ومثل تعين الرفع في هذين الموضعين عند سقوط الباء تعينه عند سقوطها في نحو: كفى بزيد رجلًا، وبحسب عمرو درهم، وتعينه عند سقوط من في نحو: ما فيها من أحدٍ" انتهى. وقال ابن عصفور: "زعم الكسائي والفراء أن "ما" لا تعمل شيئا في اللغة الحجازية لكونها غير مختصة بما تدخل عليه، وذلك أنهم يقولون كثيرًا: ما زيد بقائم، فلما أسقطوا الباء نصبوا ليفرقوا بذلك بين الخبر إذا قدر أن الباء سقطت منه وبينه إذا قدر أن الباء لم تدخل عليه في الأصل، فإذا قدم الخبر عندهم لم ينتصب لأنه لا ينبغي أن يقدر محذوفًا منه الباءُ؛

لأن الباء لا تدخل على الخبر وهو متقدم إلا قليلًا جدًا، أنشد الفراء: أما والله أن لو كنت حرًا وما بالحر أنت ولا الصديق وكذلك أيضًا إذا دخلت "إلا" على الخبر لم يجز نصبه لأن النصب عندهم إنما هو لإسقاط الباء، والباء لا تدخل إذا ذاك على الخبر. وكذلك أيضًا لم ينتصب الخبر إذا كانت "إن" بعد "ما"، لا يقال: ما زيد إلا بقائم، ولا: ما إن زيد قائم. قال: وما ذهبوا إليه باطل بدليل أن حرف الجر الزائد إذا حذف من الاسم كان إعرابه على حسب ما يطلبه الكلام، إن كان في موضع نصب نصبته، أو في موضع رفع رفعته، فكان ينبغي أن يقال في ما زيد بقائم إذا سقطت الباء: ما زيد قائم؛ لأنه في موضع رفع؛ إذ هو خبر المبتدأ" انتهى. وقد أجاز الكسائي والفراء: ما إليك بقاصد زيد، وما فيك براغب عمرو، وإذا طرحت الباء رفعت. وهذا تناقض. وأجاز الفراء أيضًا: ما بقائم زيد. فيلزمه أن يقول: ما قائمًا زيد. ورد الفراء على س بقول العرب: ما أنت إلا أخونا، وما قائم أخوك. ولا يلزم هذا س، وقد بينه بقوله: "ليست بفعل". وقوله ولا يغني عن/ اسمها بدل موجب، خلافًا للأخفش مثال ذلك: ما قائمًا إلا زيد، التقدير: ما أحد قائمًا إلا زيد، فـ"إلا زيد" بدل من "أحد"

المحذوف، وأغنى عن اسم "ما". قال المصنف: "ومثل هذا لو سمع من العرب لكان جديرًا بالرد؛ لأن المراد فيه مجهول؛ لاحتمال أن يكون أصله: ما أحد قائمًا إلا زيد، وأن يكون أصله: ما كان أحد قائمًا إلا زيد، وما كان هكذا فالحكم بمنعه أولى من الحكم بجوازه، ولأن شرط جواز الحذف أن يكون المحذوف متعينًا لا محتملًا، ولذلك لا يجوز لمن قال: تمرون الديار ................ .............................. أن يقول: رغبت زيدًا؛ لأن المراد مجهول؛ لاحتمال أن يكون أراد: رغبت في زيد، وأن يكون أراد: رغبت عن زيد" انتهى. وهكذا صور المصنف هذه المسألة، وأن "إلا زيد" بدل موجب أغنى عن اسمها. وصورها غيره على خلاف هذا، قال: مسألة: إن قدمت الخبر منصوبًا، وأدخلت "إلا" على الاسم، أجازها الأخفش، ومنعها البصريون، فـ"إلا زيد" هو الاسم، والمنصوب المتقدم هو الخبر، وليس الاسم محذوفًا و"إلا زيد" بدل منه. وفي تصوير المصنف يكون الاسم محذوفًا، والخبر واقع موقعه من التأخر. والصحيح منع التصويرين، أما تصوير المصنف فلأن فيه حذف اسم "ما"، وهو لا يجوز حذفه لأنها عملت تشبيهًا بليس، واسم "ليس" لا

يجوز حذفه لا اقتصارًا ولا اختصارًا، فكذلك اسم "ما"، ولو أجزنا ذلك في "ما" لأدى إلى تصرف الفرع أكثر من تصرف الأصل، وهو لا يجوز. وأما تصويره غيره فلأنه أدى إلى توسط الخبر، وهو لا يجوز، مع أن هذا التركيب غير مسموع، وإنما قيل بالقياس، وهو قياس فاسد. وقوله وقد تعمل متوسطًا خبرها هذا الذي قاله وأجازه هو مذهب الفراء، أجاز الفراء أن تقول: ما قائمًا زيد، وحكي الجرمي أن ذلك لغية، وحكي: "ما مسيئًا من أعتب"، ولم يحفظ ذلك س إلا في قول الفرزدق: فأصبحوا قد أعاد الله نعمتهم إذ هم قريش، وإذ ما مثلهم بشر وقال آخر: نجران إذ ما مثلها نجران ولم يحفظ منه إلا هذا الذي أنشدناه، وقد اختلف النحاة في توجيهه، ولو كان ثابتًا في الكلام لما تكلفوا توجيهه. وقال س: "وزعموا أن بعضهم قال"، وأنشد بيت الفرزدق. وأنكر عليه هذا أصحابه، ولم يجيزوا نصب خبر "ما" إذا تقدم، قالوا: والفرزدق نم بني تميم، وبنو تميم يرفعون الخبر إذا تأخر، فكيف إذا تقدم.

وخرجه المازني والمبرد على الحال، نحو: فيها قائمًا رجل، والخبر محذوف تقديره: وإذ ما مثلهم في الوجود بشر/، والخبر المحذوف هو العامل في الحال. وكذا قال المبرد في: يا ليت أيام الصبا رواجعا إن تقديره: يا ليت لنا، ورواجعًا حال. وضعف ذلك من جهة أن حذف خبر "ما" لا يحفظ من كلامهم، وكأن المانع من ذلك أنها محمولة في العمل على "ليس"، وحذف الخبر في باب "ليس" فبيح، فهو قبيح أيضًا في باب "ما"، وبأن معاني الأفعال لا تعمل مضمرة. وقال الفراء وقد أنشد بيت الفرزدق: في هذه المسألة وجهان: إن شئت نصبت مثلًا لأنها خبر، وإن شئت نصبتها كنعت النكرة إذا تقدم، وإن شئت رفعتها. وقيل: استعمل الفرزدق لغة غيره، فغلط لأنه قاس النصب مع التقديم على النصب مع التأخير. وإلى هذا ذهب أبو علي الرندي. ورد عليه بأن العربي إذا جاز له القياس على لغة غيره جاز له القياس في لغته، فيؤدي ذلك إلى فساد لغته.

وقال الأعلم: نصب ضرورة لئلا يختلط المد بالذم؛ لأنك إذا قلت: ما مثلك أحدًا، فنفيت الأحدية، احتمل أن يكون مدحًا وذمًا، فإذا نصبت مثلك، ورفعت أحدًا، كان الكلام مدحًا، فلذلك نصب مثلهم في البيت. ورد هذا الوجه بأن ما قبله وما بعده يدل على أنه قصد المدح. وذهب الكوفيون إلى أن "مثل" هنا ظرف بمنزلة "بدل"، وحكي القالي في أماليه: هو نحوك، بالنصب، أي: مثلك، ونصبه على الظرف. وذهب بعض النحويين إلى أنها ظرف، وأصله صفة لظرف، التقدير: وإذ ما مكانًا مثل مكانهم، وحذف الموصوف، وحذف المضاف، وأقيمت الصفة والمضاف إليه مقامهما. ورد بأن "مثل" ليس من الصفات المختصة، فيحذف معها الموصوف، ولا تقدم ما يدل عليه. وقيل: "ما" لم تعمل شيئًا، و"مثلهم" في موضع رفع، وهو مبني لإضافته إلى مبني كيومئذ وحينئذ. وصححه ابن عصفور. وهذا لم يذكره س إلا في الإضافة للفعل أو "أنَّ" أو "أنْ". والصحيح الذي عليه عامة النحويين أنه لا يجوز نصب خبر "ما" إذا توسط، بل يجب الرفع، فإن لم يطابق ما بعده كان مبتدأ، وكان ما بعده مرفوعًا به أغنى عن الخبر، وإن طابق فيجوز هذا الوجه، ويجوز أن يكون خبرًا مقدمًا.

فإن كان الخبر ظرفًا أو مجرورًا فقد ذكرنا الخلاف في جواز تقديمه على لغة الحجاز، فذهب الأخفش إلى أن ذلك لا يجوز، وأنك إذا قلت "ما في الدار زيد" لم تعمل "ما"، وكان "في الدار" في موضع رفع. وحمله على ذلك أن "ما" أضعف في العمل من "إن" لعدم اختصاصها، ولذلك لم يجمع العرب على إعمالها، ولا يعملها من أعملها في كل موضع بل بشروط، قال: فلما ضعفت عنها لم يجز فيها ما جاز في "إن". قالوا: والصحيح أن ذلك جائز فيها بدليل/ قوله تعالى: {فَمَا مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ}، فـ"ما" حجازية، وقد فصل بمعمول الخبر - وهو منكم- بين "ما" واسمها، والفصل بين "إن" واسمها بالظرف والمجرور إذا كانا معمولين لخبرها أضعف من تقديم الظرف والمجرور إذا كان خبرًا، فإذا جاز في "ما" ما يضعف في باب "إن" فالأحرى أن يجوز فيها ما يقوى في باب "إن". وقوله وموجبًا بإلا الذي عليه الاتفاق بين النحويين أنك إذا أدخلت "إلا" على الخبر ارتفع، وحكي المصنف جواز النصب عن يونس من غير تفصيل. وقال صاحب "رؤوس المسائل": "إن أدخلت "إلا" على الخبر مؤخرًا، وكان اسمًا هو الأول في المعنى أو منزلًا منزلته لا وصفًا، لم يجز فيه إلا الرفع عند الجمهور، وأجاز الكوفيون النصب فيما كان فيه الثاني منزلًا منزلة الأول. وإن كان الواقع بعد "إلا" صفة أجاز الفراء فيه النصب،

ومنعه البصريون" انتهى. فمثال أن يكون اسمها هو الأول قولك: ما زيد إلا أخوك، ومثال المنزل: ما زيد إلا زهير، ومثال الوصف: ما زيد إلا قائم. وقال أبو جعفر الصفار: "لا اختلاف بين النحويين في قولك: "ما زيد إلا أخوك" أنه لا يجوز إلا الرفع، وهو عند البصريين على الابتداء والخبر، وعند الكوفيين أحدهما مرفوع بصاحبه". فتقييد صاحب "رؤوس المسائل" وحكاية الإجماع من "الصفار" يدلان على مخالفة ما حكاه المصنف عن يونس من جواز النصب على الإطلاق من غير تفصيل. وقال الصفار: "فإن قلت: ما أنت إلا لحيتك فالبصريون يرفعون، والمعنى عندهم: ما فيك إلا لحيتك، وكذا ما أنت إلا عيناك، وجاء بهذا الكوفيون بالنصب، ولا يجوز النصب عند البصريين في غير المصادر إلا أن يعرف المعنى فتضمر ناصبًا، نحو: ما أنت إلا لحيتك مرة وعينك أخرى، وما أنت إلا عمامتك تحسينًا ورداءك تزيينًا. ويقول البصريون أيضًا بالرفع في قولك: ما أنت غير قائم، وما أنت غير لحيتك. وأجاز الفراء النصب، وأجاز الفراء: ما أنت إلا راكبًا فأما ماشيًا فلست بشيء، قال: تضمر إنك جميل في حال ركوبك، وإنك شيء إذا ركبت، وإذا مشيت فلست بشيء. قال: وزعم الكسائي أنه سمع بعضهم يقول: إنما أنت راكبًا، يريد: إنما أنت إذا ركبت، وذا خطأ عند البصريين؛ لأن الحال لا تكون إلا بعد تمام الكلام، وليس هذا موضع إضمار" انتهى. فلو كان الخبر مصحوبًا بحرف التنفيس أو بـ"قد" أو بـ"لم" جاز دخول "إلا" عليه، فتقول: ما زيد إلا سوف يقوم، وما بشر إلا قد يقوم، وما بكر إلا لم يخرج/. ومنع من جواز ذلك الفراء، وزعم أن "إلا لا يكون بعدها شيئان.

قال الفراء: فإن قلت "ما زيد إلا عمرًا يضرب" فهذه فاسدة في التقدير لأن "إلا" لا يكون بعدها حرفان، ثم أجازها على قبح. وهذا كلام جيد على مذهب البصريين. وقال صاحب "رؤوس المسائل": "إن قدمت مفعول الخبر الذي هو صفة مشتقة عليه بعد "إلا" لم يجز النصب عند البصريين" يعني مثل: ما زيد إلا عمرًا ضارب، لا يجوز النصب في ضارب. قال: "وأجازه الكسائي والفراء إلا أنهما اختلفا في التوجيه" انتهى. فوجهه الكسائي على أنه كأنه استثناء، وليس هذا موضع استثناء، ووجهه الفراء على أن المعنى: ما زيد إلا ضاربًا إلا عمرًا، وهذا بعيد لأن الأولى أن يكن ما بعد "إلا" داخلًا في الإيجاب. قال الصفار: ولا يجيز الفراء: ما عبد الله إلا بالجارية كفيل، وما بالجارية إلا عبد الله كفيل؛ لئلا يصير بعد "إلا" حرفان، وكذا لا يجيز: ما كان إلا عبد الله قائمًا، ولا يكون، كذا حسبت وظننت، وذلك جائز عند البصريين والكسائي إلا أن الكسائي يجعل "إلا" بمعنى غير، يريد: ما كان غير عبد الله قائمًا، فيجعل "إلا" في موضع "غير" في الجحود، وفي كل موضع صلحت فيه "أحد". وقوله وفاقًا لسيبويه في الأول يعني في نصب خبر "ما" متوسطًا، فتقول ما منطلقًا زيد. وهذا الذي ذكره عن س من جواز إعمال "ما" ونصب ما توسط من الخبر ليس مذهب س، قال س: "وإذا قلت: ما منطلق عبد الله، وما مسيء من أعتب، رفعت، ولا يجوز أن يكون مقدمًا مثله مؤخرًا، كما أنه

لا يجوز أن تقول: إن أخوك عبد الله، على حد قولك: إن عبد الله أخوك؛ لأنها ليست بفعل". فهذا نص من س على منع النصب في الخبر متقدمًا، ولم يكفه حتى شبهه بشيء لا يجوز البتة، ولا خلاف فيه، وهو "إن أخوك عبد الله". ثم قال س بعد ذلك: "وزعموا أن بعضهم قال، وهو الفرزدق: فأصبحوا قد أعاد الله نعمتهم إذ هم قريش، وإذ ما مثلهم بشر وهذا لا يكاد يعرف". فهذا لم يسمعه س من العرب، وإنما قال: "وزعموا أن بعضهم قال". ثم قال: "وهذا لا يكاد يعرف"، نفى المقاربة، والمقصود نفي العرفات كقوله {لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا}، فإذا كان قوله هذا فكيف ينسب إليه أنه أجاز نصب الخبر مقدمًا، وقد نص النص الذي لا يحتمل التأويل أنه يرفعه، وأن مثل "وإذ ما مثلهم بشر" لا يكاد يعرف، فكيف يبنى على ما لا يكاد يعرف قانون، فيسوغ نصب الخبر تسويغًا جائزًا؟ هذا تحميل لكلامه ما لا يحتمله. واستشهد الفارسي على نصب خبر "ما" مقدمًا/ بقول الشاعر: أما والله عالم كل غيب ورب الحجر والبيت العتيق لو أنك يا حسين خلقت حرًا وما بالحر أنت ولا الخليق وقول نصيب:

والحلم رشد، ورأي الجهل مرجعه غي، وما بالسواء الغي والرشد بناء على أن الباء لا تدخل على الخبر إلا وهو مستحق للنصب، ويأتي الكلام على هذه المسألة إن شاء الله، ويتبين أنه لا حجة فيه للفارسي. وقوله وليونس في الثاني قال المصنف في الشرح: "روي عن يونس من غير طريق س إعمال "ما" في الخبر الموجب بإلا" انتهى. وإلى جواز ذلك ذهب الأستاذ أبو علي في تنكيته على المفصل. واستدل له بقول المغلس: وما حق الذي يعثو نهارًا ويسرق ليله إلا نكالا وبقول الآخر: وما الدهر إلا منجنونا بأهله وما صاحب الحاجات إلا معذبا وتأول ذلك على أن ينصب نكالًا ومعذبًا على المصدر، أي: إلا ينكل نكالًا، وإلا يعذب تعذيبًا، وصار نظير: وما زيد إلا سيرًا، أي: يسير سيرًا، كذلك يكون التقدير: إلا ينكل نكالًا، وإلا يعذب معذبًا، أي: تعذيبًا. وأول "إلا منجنونا" على أن المعنى: إلا يدور دوران منجنون، أي: دولاب، فعلى هذا يكون منجنون اسمًا أضيف إليه مصدر تشبيهي حذف منه "مثل" الذي هو صفة لمصدر وضع موضع الفعل الواقع خبرًا، والتقدير: وما الدهر إلا يدور دورانًا مثل دوران منجنون.

وقيل: منجنون اسم وضع موضع مصدر وضع موضع الفعل الذي هو خبر "ما"، تقديره: وما الدهر إلا يجن جنونًا، ثم حذف "يجن"، فقيل: وما الدهر إلا جنونا، على حد: ما أنت إلا شربًا، ثم أوقع "منجنون" موقع "جنون". وقيل: منجنون اسم في موضع الحال، وخبر "ما" محذوف، التقدير: وما الدهر موجودًا إلا على هذه الصفة، أي: مثل المنجنون، وهي السانية، يريد: لا يستقر على حالة. وزعم طاهر بن بابشاذ أن منجنونًا منصوب على إسقاط حرف الجر، أصله: وما الدهر إلا كمنجنون. وهذا فاسد لأن المجرور الذي يحذف منه حرف الجر فينتصب هو المجرور الذي هو من موضع نصب، وهذا هنا هو في موضع رفع، فلو حذف حرف الجر منه لارتفع على أنه الخبر. وقوله والمعطوف/ على خبرها ببل ولكن موجب، فيتعين رفعه مثال: ما زيد قائمًا بل قاعد، وما زيد قائمًا لكن قاعد، وارتفاعه على انه خبر مبتدأ محذوف. وقوله "والمعطوف على خبرها ببل ولكن" ليس بجيد لأنه لا يسمى ما بعدهما معطوفًا على خبر "ما"؛ إذ ليس بل ولكن والحالة هذه حرفي عطف، بل هما حرفا ابتداء لأنهما جاءت بعدهما الجملة؛ ألا ترى أن التقدير: بل هو قاعد، ولكن هو قاعد، هكذا نصوا على أنهما لا يعطفان إلا المفرد، وهذا على خلاف أيضًا في "لكن"، سنذكره في "باب العطف" إن شاء الله، وقد أشار المصنف إلى على امتناع النصب بقوله "موجب".

ومن النحويين من جعل "بل" بعد النفي على وجهين: أحدهما: ما ذكرته من أن "بل" توجب لما بعدها ما نفى عما قبلها، فلا يكون ما بعدها منصوبًا. الثاني: أن تكون "بل" بعد النفي على حالها بعد الواجب لزوال الغلط، فهذه ينتصب الخبر بعدها لأن التقدير: بل ما هو قاعدًا. وقال بعض شيوخنا: "الذي يظهر أنك متى أردت هذا المعنى جئت بالثاني بدلًا" انتهى. يعني أن ذكر الخبر أولًا كان على جهة الغلط، فأتيت بالثاني لتستدرك الغلط أن قصدك أولًا إنما كان للاسم الثاني، فيصير نظير: مررت برجل بل امرأة، قصدت أن تقول: مررت بامرأة، فسبق لسانك غلطًا إلى قولك، رجل، فأضربت عن ذلك، وقلت: بل امرأة. ورفع الاسم بعد "بل" في قولهم "ما زيد قائمًا بل قاعد" أورده س سماعًا عن العرب، وعلل رفعه بنقض النفي. وقال الفارسي: "قياس لكن أن تكون مثل بل" انتهى. وقد جاء ذلك نصًا في "ليس"، قال: ولست الشاعر السفساف فيهم ولكن مدره الحرب العوان وقياس "ما" على "ليس" يقتضي جواز: ما زيد قائمًا لكن قاعد. وقال

المصنف في الشرح: "قياس مذهب يونس أن لا يمتنع نصب المعطوف ببل ولكن" انتهى. ومفهوم كلام المصنف أنك إذا عطفت بغير "بل" و"لكن" لا يلزم الرفع في المعطوف بعد منصوب، بل يجوز فيه الرفع وغيره، وهذا على قسمين: منه ما يجوز فيه النصب، ويكون أولى لكونه من عطف المفردات، ويجوز فيه الرفع على ضعف لكونه يصير من عطف الجمل، نحو: ما زيد قائمًا ولا قاعدًا، والرفع على إضمار هو. وقد منع قوم النصب في" ليس"، فلم يجيزوا: ليس زيد قائمًا ولا قاعدًا، بالنصب، وقالوا: يجب الرفع على إضمار "هو"، أي: ولا هو قاعد. وعللوا ذلك بأنه لا يجوز: ولا ليس قاعدًا./ وإذا منعوا ذلك في ليس فلأن يمنعوه في "ما" أحرى وأولى. وحكي س الخفض على توهم الباء. وسيأتي حكمه. -[ص: وتلحق بـ"ما" "إن" النافية قليلًا، و"لا" كثيرًا، ورفعها معرفة نادر، وتكسع بالتاء، فتختص بالحين أو مرادفه، مقتصرًا على منصوبها بكثرة، وعلى مرفوعها بقلة، وقد يضاف إليها "حين" لفظًا أو تقديرًا، وربما استغنى مع التقدير عن "لا" بالتاء. وتهمل "لات" على الأصح إن وليها "هنا". ورفع ما بعد "إلا" في نحو "ليس الطيب إلا المسك" لغة تميم، ولا ضمير في "ليس" خلافًا لأبي علي. ولا تلزم حالية المنفي بـ"ليس" و"ما" على الأصح.]- ش: "إن" النافية حرف لا يختص، فهو يلي الجملة الفعلية، نحو

قوله تعالى: {ولَئِن زَالَتَا إنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ}، والجملة الاسمية نحو قوله تعالى: {إنْ عِندَكُم مِّن سُلْطَانٍ بِهَذَا}، وما كان هكذا فقياسه أن لا يعمل. واختلفوا في جواز إعماله إعمال "ما"، فيرفع به المبتدأ، وينصب خبره، فذهب إلى إجازة ذلك الكسائي وأكثر الكوفيين وابن السراج والفارسي وأبو الفتح، ومنع من إعماله الفراء وأكثر البصريين، واختلف على س والمبرد: فنقل السهيلي أن س أجاز إعمالها، وأن المبرد منع من ذلك، ونقل أبو جعفر النحاس عكس ذلك، قال: "س والفراء يرفعان، والكسائي ينصب، وهو مذهب أبي العباس" انتهى. وأكثر أصحابنا يذهب إلى أن "إن" لا تعمل". قال ابن عصفور: "ويعطيه كلام س لأنه لم يذكرها في نواسخ الابتداء والخبر" انتهى كلامه. والصحيح الإعمال، والدليل على ذلك القياس والسماع: أما القياس فإنها شاركت "ما" في النفي، وفي دخولها على المعرفة والنكرة، وفي نفي الحال.

وأما السماع فقول العرب في نثرها وسعة كلامها: "إن ذلك نافعك ولا ضارك"، و"إن أحد خيرًا من أحد إلا بالعافية"، بنصب نافعك وضارك وخيرًا، حكي ذلك الكسائي عن أهل العالية، وأنه سمعهم يقولون ذلك، وسمع أعرابيًا يقول: "إن قائمًا"، فأنكرها عليه، وظن الكسائي أنها "إن" المشددة وقعت على "قائم"، قال: فاستثبته، فإذا هو يريد: إن أنا قائمًا، فترك الهمز، ثم أدخل النون في النون، كما قال جل وعز {لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي}، وقرأ سعيد بن جبير {إنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ}. وخرجه أبو الفتح على أنها "إن" النافية، وقال: "معناه: ما الذين تدعون من دون الله عبادًا أمثالكم، يعني في الإنسانية، وإنما هي حجارة ونحوها مما لا حياة له ولا عقل، فضلالكم بعبادتهم أشد من ضلالكم لو عبدتم أمثالكم". /ولا يتعين هذا التخريج، بل تحتمل هذه القراءة الشاذة أن تكون "إن" هي المخففة من الثقيلة، ويكون قد أعملها، ونصب الخبر بها على حد ما جاء ذلك في "إن" المشددة في قول عمر بن أبي ربيعة: إذا اسود جنح الليل فلتأت، ولتكن خطاك حثاثًا، إن حراسنا أسدا وهذا التخريج أحسن، بل يتعين لتوافق القراءتين، وأما تخريج أبي الفتح ففيه تنافي القراءتين، ولا يناسب هذا التنافي في القرآن، بل يستحيل

ذلك إذ قراءة التشديد تقتضي أن يكونوا عبادًا أمثالهم، وقراءة التخفيف على تخريج أبي الفتح تقتضي أن لا يكونوا عبادًا أمثالهم، وهو محال في كلام الله تعالى. وقال الشاعر في إعمال "إن": إن هو مستوليًا على أحد إلا على أضعف المجانين وقال آخر: إن المرء ميتًا بانقضاء حياته ولكن بأن يبغى عليه، فيخذلا وبهذا السماع يتبين بطلان قول من ذهب إلى أنه لم يأت منه إلا قوله" إن هو مستوليًا على أحد"، وتخصيصه إياه بالضرورة، وأنه إذا دخلت على الاسم فلابد أن تكون بعدها إلا، نحو {إنِ الكَافِرُونَ إلاَّ فِي غُرُورٍ}، وإذا كان ذلك لغة لبعض العرب فلا يصح قول المصنف "إنه تلحق بما قليلًا". والحامل على هذا كله هو عدم الاستقراء والاطلاع على كلام العرب. وقال المصنف في الشرح: "أكثر النحويين يزعمون أن مذهب س في "إن" النافية الإهمال، وكلامه مشعر بأن مذهبه فيها الإعمال، وذلك أنه قال في باب عدة ما يكون عليه الكلم: "فأما إن مع ما في لغة أهل الحجاز فهي بمنزلة ما مع إن الثقيلة، تجعلها من حروف الابتداء، وتمنعها أن تكون حروف ليس". فعلم بهذه العبارة أن في الكلام حروفًا مناسبة

لليس من جملتها ما، ولا شيء من الحروف يصلح لمشاركة ما في هذه المناسبة إلا إن ولا، فتعين كونهما مقصودين" انتهى. ولا تؤخذ القواعد الكلية من مثل قوله "وتمنعها أن تكون من حروف ليس"، فيقضى على أن إن تعمل عمل ما؛ إذ المتبادر إليه الذهن أن قوله "تمنعها أن تكون من حروف ليس" أي: تمنعها من أن ترفع الاسم وتنصب الخبر كخروف ليس، أي: أخوات ليس التي هي كان وأخواتها، فعني بجروف ليس "كان" وأخواته، وإطلاق الحروف على الأفعال وعلى الأسماء إطلاق سائغ عند النحويين، وذلك بمعنى الكلمات لا حقيقة الحرف الذي هو قسيم الاسم والفعل، ومع هذا الاحتمال فليس في كلام س إشعار بأن "إن" تعمل. وقال المصنف في الشرح: "مقتضى النظر أن يكون/ إلحاق "إن" النافية بـ"ليس" راجحًا على إلحاق "لا" لمشابهتها لها في الدخول على المعرفة، وعلى الظرف والجار والمجرور، وعلى المخبر عنه بمحصور، فيقال: إن زيد فيها، وإن زيد إلا فيها، و {إنْ عِندَكُم مِّن سُلْطَانٍ}، و {إنْ أَنتَ إلاَّ نَذِيرٌ} كما يقال بـ"ما"، ولو استعملت "لا" هذا الاستعمال لم يجز" انتهى. وقال س: "وتكون إن كـ"ما" في معنى ليس". قال الأستاذ أبو بكر بن طاهر: "هذا نص على أن "إن" كـ"ما" تعمل عمل ليس كقوله: إن هو مستوليًا على أحد ... ..................

وقال الأستاذ أبو علي: هذا الكلام ليس بنص على ذلك؛ لأنه يحتمل أن يريد أن "إن" تكون ك"ما" في النفي، فيكون قد عبر بقوله "في معنى ليس" عن النفي، وهذا أولى أن يحمل عليه كلامه لأن العمل في "إن" شاذ. وقوله و"لا" كثيراً يعني أن عمل "إن" قليل، وعمل "لا" كثير، والعكس هو الصواب لأن "إن" قد عملت نثراً ونظماً، و"لا" إعمالها قليل جداً، حتى إن أبا الحسن زعم أنها يرفع ما بعدها بالابتداء، ومنع النصب، وتبعه أبو العباس، فهي عندهم لا تعمل عمل "ليس"، و: .................. ... ..................... لا براح و: ............... لا مستصرخ مبتدأ، والخبر مضمر، ولم يشترطوا تكريراً، ولم يجمعوا قول س "وإن شئت قلت: لا أحد أفضل منك" في قول من جعلها كليس إلا قياساً منه، فلذلك صاغ الخلاف، وظاهر كلامه أنه مسموع، وحتى إن بعض النحويين زعم أن "لا" أجريت مجرى "ليس" في رفع الاسم خاصة لا في

نصب الخبر، وهو مذهب الزجاج، ذهب إلى أنها ترفع الاسم، ولا تعمل في الخبر شيئاً، وهي مع الاسم الذي عملت فيه الرفع في موضع رفع بالابتداء، حكي ذلك عنه ابن ولآد. وهذا فاسد إذ لا عامل له، وقد نصب. وزعم بعضهم أنه لم يسمع النصب في خبر "لا" ملفوظاً به. وليس كذلك، بل سمع إعمالها عمل "ليس" ونصب الخبر، لكنه في غاية الشذوذ والقلة، قال: تعز، فلا شيء على الأرض باقيا ... ولا وزر مما قضى الله واقيا وقال آخر: نضرتك إذ لا صاحب غير خاذل ... فبوئت حصناً بالكماة حصنا وأورد المصنف في الشرح دليلاً على إعمالها إعمال "ليس" قول الشاعر، وهو سواد بن قارب: وكن لي شفيعاً يوم لا ذو شفاعة ... بمغن فتيلاً عن سواد بن قارب وقول الآخر: فرطن، فلا رد لما بت، وانقضى ... ولكن بغوض أن يقال: عديم

وقول الآخر: من صد عن نيرانها ... فأنا ابن قيس لا براح قال: "فحذف الخبر ومثله قول الآخر: والله لولا أن تحش الطبخ ... بي الجحيم حين لا مستصرخ" قال: "فهذا وأمثاله مشهور، أعني إعمال "لا" في نكرة عمل ليس" انتهى. ولا حجة في هذه الأبيات الثلاثة إذ يحتمل أن تكون: ذو شفاعة، وبراح، ومستصرخ مبتدآت إذ ليس فيها خبر يظهر نصبه؛ إذ قوله "بمغن" مشغول بحرف الجر، فيحتمل أن يكون في موضع رفع، و"براح" و"مستصرخ" لم يذكر لهما خبر البتة، فيحتمل أن يكون المحذوف مرفوعاً، فلم يبق ما يدل على أنها تعمل عمل "ليس" إلا البيتان السابقان، وهما من القلة بحيث لا تبنى عليه القواعد. لا يقال: الذي يدل على أن "لا" في الأبيات السابقة عملت عمل "ليس" كونها لم تتكرر؛ لأنها إذا كان بعدها المبتدأ تكررت، وإذا عملت عمل "ليس" لم يلزم تكرارها؛ لأن تكرارها على مذهب أبي العباس لا يلزم، وقد جاءت غير مكررة وبعدها المبتدأ في قوله: بكت جزعاً، واسترجعت، ثم آذنت ... ركائبها أن لا إلينا رجوعها

وعلى هذا حمل أبو العباس الشواهد المتقدمة. ولو ذهب ذاهب إلى أنه لا يجوز أن تعمل "لا" هذا العمل لذهب مذهباً حسناً؛ إذ لا يحفظ ذلك في نثر أصلاً، ولا في نظم إلا في ذلك البيتين النادرين، ولا ينبغي أن تبنى القواعد على ذلك، وليس في كتاب س ما يدل على أن إعمالها عمل "ليس" مسموع من العرب لا قتيلاً ولا كثيراً، فيكون مقياس مطرداً، بل قال س: "وزعموا أن بعضهم قرأ (ولات حين مناص)، وهي قليلة، كما قال بعضهم في قول سعد بن مالك: من صد عن نيرانها ... فأنا ابن قيس لا براح فجعلها بمنزلة ليس" انتهى كلام س. فظاهر كلام س أن جعلها بمنزلة "ليس" في هذا البيت تأويل من ذلك البعض الذي قال عنه س "كما قال بعضهم في قول سعد بن مالك"، ولو كان التأويل ل"س" لم يكن مثل هذا البيت تبنى عليه قاعدة؛ ألا ترى أن س شبه رفع الحين بعد "لات" برفع براح بعد "لا"، ولا ترفع "لات" غير الحين، فكذلك لا ترفع "لا" غير "براح"، وأما ما تقدم من كلامه السابق فتقدم قول الأخفش / والمبرد فيه. ومن وقفنا على كلامه ممن ذكر أن "لا" تعمل عمل "ليس" لم ينص على أن ذلك بالنسبة إلى لغة مخصوصة، إلا ما في كتاب "المغرب" لأبي الفتح ناصر بن أبي المكارم ألمطرزي الخوارزمي، فإنه ذكر فيه ما نصه: "ما ولا

بمعنى ليس ترفعان الاسم، وتنصبان الخبر، نحو: ما زيد منطلقاً، ولا رجل أفضل منك، وعند بني تميم لا تعملان". فظاهر هذا أن غير تميم يعملونها. وفي البسيط: "وأما بنو تميم فالقياس عندهم عدم الحمل على ليس، وكذلك في الثاني" يعني في نحو: لا رجل قائم. قال: "لأنهم إذا امتنعوا من الحمل الموافق فالمخالف أولى، وهو ظاهر كلام الزمخشري؛ لأنه قال: "هي في قول أهل الحجاز: لا رجل أفضل منك، وأما قول حاتم: .................... ... ولا كريم من الولدان مصبوح فيحتمل أن يترك طائيته إلى الحجازية، ويحتمل أن لا يكون خبراً، لكنه صفة على موضع لا وما بعدها" انتهى. ويحتمل أن يقال: وافق بنو تميم أهل الحجاز على هذا النحو من العمل، لكن القياس يقتضي أن يكون الحمل فيها على إن وأخواتها، شبهوها بنقيضها" انتهى. وأكثر من أجاز إعمالها إعمال "ليس" اشتراط أن تعمل في النكرات، نحو: لا رجل قائماً، ولم يجيزوا: لا زيد أخاك، وأن لا يتقدم خبرها على اسمها، وأن لا ينتقض النفي، فلو قلت: لا قائم رجل، ولا رجل إلا أفضل منك، وجب الرفع. ونصوا أيضاً على أنه لا يجوز الفصل بين "لا"وما عملت فيه. وقال في البسيط: "وهل يكون الفصل مبطلاً للعمل؟ والظاهر أنه يبطل لأن "لا" أضعف من "ما" وفيهما الخلاف، ولأنهم يرجعون إلى

التكرار في "لا رجل"، فهذا أولى" انتهى. يعني أنه إذا كان الفصل بين "لا" العاملة عمل "إن" ومعمولها مع كثرة ذلك مانعاً من إعمالها، فلأن يكون مانعاً من عمل "لا" العاملة عمل "ليس" مع قلة عملها أولى وأحرى، فيبطل إذ ذاك العمل، ويلزم التكرار. وقوله ورفعها معرفة نادر قال المصنف في الشرح: "وشذ إعمالها في معرفة في قول النابغة الجعدي: بدت فعل ذي رحب، فلما تبعتها ... تولت، وردت حاجتي في فاديا وحلت سواد القلب، لا أنا باغياً ... سواها، ولا في حبها متراخيا وقد حذا المتنبئ حذو النابغ، فقال: إذا الجود لم يرزق خلاصاً من الأذى ... فلا الحمد مكسوباً، ولا المال باقيا والقياس على هذا سائغ عندي، وقد أجاز ابن جني إعمال "لا" في المعرفة، ذكر ذلك / في كتاب التمام " انتهى. وقد تأولوا بيت النابغة على أن الأصل: ولا أرى باغياً، فلما حذف الفعل انفصل الضمير، ف"أنا" مفعول لم يسم فاعله، و"باغياً" حال. وهذا الذي ذكره المصنف من أن "لا" عملت في معرفة ذكره

هبة الله بن الشجري، وأنشد بيت النابغة. ومثال بيت المتنبي قول الشاعر: أنكرتها بعد أعوام مضين لها ... لا الدار داراً، ولا الجيران جيران وقوله وتكسع بالتاء، فتختص بالحين أو مرادفه مقتصراً على منصوبها بكثرة، وعلى مرفوعها بقلة الكسع هو ضرب الرجل مؤخر الرجل بظهر قدمه، قال الفرزدق: كسعة ابن المراغة حين ولى ... إلى شر القبائل والديار وفي الأفعال لابن القطاع: "كسع القوم كسعاً: ضرب أدبارهم بالسيف، والإنسان: ضربت دبره بظهر قدمك، والرجل: تكلمت بأثر كلامه بما ساءه، والناقة: أبقيت في ضرعها لبناً يستدعي غيره، وأيضاً نضج على ظهرها الماء البارد، وضربه بظاهر كفه ليرتفع لبنها، وكسع الطائر كسعاً: ابيض ذنبه والفرس: ابيضت أطراف ثنته " واختلف النحويون في لات: فذهب س إلى أنها مركبة من "لا" والتاء، وعلى هذا لو سميت بها حكيته كما تحكي لو سميت بـ"إنما".

وذهب الأخفش والجمهور إلى أنها "لا" زيدت عليها التاء كما زيدت على "ثم"، فقيل: ثمت. وذهب الأستاذ أبو الحسين بن الطراوة وغيره إلى أنها ليست للتأنيث، وإنما هي زائدة على الحين، واستدل على ذلك بقول الشاعر: العاطفون تحين ما من عاطف ... .................... أي: حين ما من عاطف. وقد سبقه إلى ذلك أبو عبيد، وسيأتي الكلام في هذا البيت وذهب الأستاذ أبو الحسين بن أبي الربيع إلى أن الأصل في "لات" "ليس"، قال: ويظهر لي أن الأصل في "لات" "ليس"، فأبدل من السين التاء، كما فعل ذلك في ست، ثم قبلت الياء ألفاً لأنه كان الأصل في ليس لاس لأنها فعل، وكأنهم كرهوا أن يقولوا ليت، فيصير لفظها لفظ التمني، ولم يفعل هذا إلا مع الحين، كما أن "لدن" لم تشبه نونها بالتنوين إلا مع غدوة، ويجب على هذا أن يوقف عليها بالتاء، وكذا وقف جميع القراء إلا

الكسائي، فروي عنه الوجهان، فمن وقف بالهاء فهي "لا" التي للنفي لحقتها تاء التأنيث، نحو ثمت، وجاء الحين بعدها مرفوعاً، حكاه س، فهو اسمها، والخبر محذوف" انتهى. وفي البسيط: ويحتمل أن تكون التاء بدلاً من سين ليس كما في ست/، وانقلبت الياء ألفاً على القياس فتكون "ليس" نفسها ضعفت بالتغيير، فعملت في لغة أهل الحجاز عملها في موضعها، وهو الحال. واختلفوا هل لها عمل أم لا؟ والذين قالوا إنها تعمل اختلفوا: فذهب س والجمهور إلى أنها تعمل عمل "ليس"، قال س وقد تكلم في عمل "ما" عمل "ليس" ما نصه: "كما شبهوا بليس لات في بعض المواضع، وذلك مع الحين خاصة، لا تكون لات إلا مع الحين، تضمر فيها مرفوعاً، وتنصب الحين لأنه مفعول به، ولم تمكن تمكنها، ولم تستعمل إلا مضمراً فيها". فقول س "كما شبهوا بليس لات في بعض المواضع" ظاهر في أنها لا يلزمها الإعمال دائماً، بل إعمالها إنما جاء في بعض المواضع، وكأنه يشير إلى أنها جاء بعدها غير ما ذكر. وقوله "وذلك مع الحين خاصة، لا تكون لات إلا مع الحين" نص على أنها لا تعمل عمل "ليس" في غير الحين، وظاهر في اختصاصها بلفظه. وفي البسيط: "اختصت بأن جعلت عاملة في الظرف المخبر به عن الظرف، وخصصوا من أنواع الظروف الحين كما تقول: اليوم يوم السبت، وكذلك في الحين، ورب شيء يختص في العمل بنوع ما لا لسبب، كما أعملوا لدن مع غدوة ليس إلا، والتاء في القسم، ثم التزموا في إعمالها

حذف الاسم، شبهوها بليس ولا يكون في الاستثناء، فإنه لابد هنا من اسم لازم التقدير، قال تعالى {فَنَادَوْا وَلاتَ حِينَ مَنَاصٍ}، معناه: فنادوا ولات حين تناديهم حين مناص لهم، أي: خلاص، لكنه في "لات" محذوف لا يصح إضماره لكونه حرفاً. وقيل: قد ورد شاذاً إظهار المرفوع، وقد قرئ (ولات حين مناص) وحذف الخبر" انتهى. وقول س "تضمر فيها مرفوعاً" لا يريد الإضمار حقيقة لأن الحرف لا يضمر فيه، وإنما يريد: يحذف المرفوع معها، وسماء إضماراً بجامع ما اشتركا فيه من أن كل واحد منهما لا يكون ملفوظاً به، ويبين أن مراده بالإضمار الحذف قوله بعد ذلك: "وليست لات كليس في المخاطبة والإخبار عن غائب، تقول: لست وليسوا، وعبد الله ليس ذاهباً، فتبني على المبتدأ، وتضمر فيه، ولا يكون هذا في لات، لا تقول: عبد الله لات منطلقاً، ولا: قومك لأتوا منطلقين". فهذا كله نص على أنه يريد بالإضمار الحذف. وقوله "وتنصب الحين لأنه مفعول به" أي: مشبه بما شبه بالمفعول به؛ لأن لات شبهت بليس، وليس شبهت بضرب، ومنصوب ضرب هو المفعول به حقيقة. والذين ذهبوا إلى أنها تعمل عمل "ليس" اختلفوا: فمنهم من قصر إعمالها على لفظ الحين خاصة، وهو ظاهر كلام س ومذهب الفراء.

ومنهم من أجاز ذلك في الحين/ وما رادفه وسواء أكان معرفة أم نكرة, وهو اختيار ابن عصفور , قال:" ومن إعماله فيه معرفة قول الأعشى: لات هنا ذكرى جبيرة أو من جاء منها بطائف الأهوال فـ "هنا" اسم زمان مرفوع بـ"لات" وذكرى جبيرة: في موضع نصب على أنه خبر "لات" والتقدير: لات هنا حين ذكرى جبيرة أي: لات هذا الحين حين ذكرى جبيرة" انتهى. وقال ابن الأعرابي: لات أني أنسى ذكرها. وقال الأصمعي: ليس ذكرى جبيرة. وجعل الفارسي من إعمالها فيما رادف الحين قول الشاعر: حنت نوار, ولات هنا حنت ... وبدا الذي كانت نوار أجنت أي: ليس هذا أوان حنين. وقال الأصمعي في لات هنا: تأويله ليس الأمر حيث ذهبت أي: ليس حين ذلك, وهو في قوله , أنشده الأصمعي: أفي أثر الإظعان قلبك يلمح ... نعم, لات هنا إن قلبك متيح

أي: يذهب ويجيء في ضيقه, والمتيح والتيجان: الذي يتعرض في كل شيء. ومثال عملها في الحين مقتصراً على منصوبها قوله تعالى: {فَنَادَوْا وَلاتَ حِينَ مَنَاصٍ} وقول الشاعر: غافلا تعرض المنية للمرء, فيدعى ولات حين إباء ومثال عملها فر مرادف الحين مقتصراً على منصوبها قوله: ندم البغاة ولات ساعة مندم ... والبغي مرتع مبتغيه وخيم ومثال عملها في الحين مقتصراً على مرفوعها قراءة من قرأ " ولات حين مناص" بالرفع. فأما ورد من رفع غير الحين بعدها فشاذ نحو قوله: ................. ... يبغي جوارك حين لات مجبر وتؤول على حذف كأنه قال: حين لات حين مجير فهو على الرفع, فحذف وأقام المضاف إليه مقامه. ولا يحفظ من كلام العرب مجيء الاسم بعدها مرفوعاً والخبر منصوباً مثبتين معاً, بل إن ذكر المنصوب لم يذكر المرفوع وإن ذكر المرفوع لم يذكر المنصوب.

وذهب الأخفش في قوله {وَلاتَ حِينَ مَنَاصٍ} إلى أنها لا تعمل عمل ليس بل جعل {حِينَ} اسم {لاتَ} وهي للنفي العام نحو, لا غلام سفر, والخبر محذوف تقديره. ولات حين مناص لهم. وجوز أيضا فيه وجهاً آخران وهو أن يكون {حِينَ مَنَاصٍ} خبر مبتدأ محذوف أي: ولات الحين حين مناص ووجها /آخر وهو أن يكون مفعولاً بفعل محذوف أي: ولات أرى حين مناص. وهذا كله محتمل. ونقل ابن عصفور أن مذهب الأخفش أنها لا تعمل شيئاً بل الاسم الذب بعدها إن كان مرفوعاً مبتدأ , وخبره محذوف, أو خبر ابتدأ مضمر. وإن كان منصوباً فنصبه بإضمار فعل. انتهى. وما ذهب إليه الأخفش من النصب على إضمار الفعل ليس بشيء لأن "لات" لا يحفظ في الفعل بها في موضع من المواضع, وإنما نقول إن الحين إذا كان منصوباً كان في موضع خبر مبتدأ محذوف, إذ الأولى عندي أن لات لا تعمل شيئاً, وإن كان معناها معنى "لا", لأنها كما ذكرنا لا يحفظ الإتيان بعدها باسم وخبر مثبتين. ونحن نقول في قراءة {وَلاتَ حِينَ مَنَاصٍ} على قول من ادعى أن اسمها لم يلفظ به, وإن {وحِينَ مَنَاصٍ} انتصب خبراً: لا يخلو هذا

الاسم المُدَّعى أنه مرفوع بها ولم يلفظ به من أمرين: إما أن يكون مضمراً, أو يكون محذوفاً لا جائز أن يكون مضمراً في "لات" لأن الحروف لا يضمر فيها, ولا جائز محذوفاً لأنها عندهم أجريت مجرى "ليس" في العمل و"ليس" هي الأصل, واسم "ليس" لا يجوز حذفه, فكذلك اسم "لات" لا يجوز حذفه إذ لو جاز حذف اسم "لات" لكانوا قد تصرفوا في الفرع ما لم يتصرفوا في الأصل, و"لات" على زعم من أعملها مقصورة في إعمالها على الحين, بخلاف "ليس" فإنها تعمل في المعارف والنكرات. وإنما لم يجز حذف اسم"ليس" لأنها مشبهة في عملها بالفعل المتعدى إلى واحد في رفع أحد الاسمين ونصب الآخر, كما أن الفعل المتعدي كذلك, فمرفوعها مشبه بالفاعل, ومنصوبها مشبه بالمفعول , فكما أن الفاعل لا يحذف وحده, فكذلك اسمها لا يحذف. وهذا الذي اخترناه من أن "لات" لا تعمل شيئاً هو مروي عن الأخفش, ونقل صاحب البسيط عن السيرافي أنه قال في {وَلاتَ حِينَ مَنَاصٍ}: هو على الفعل, أي: ولات أراه حين مناص, ونحوه. ورد لأنه يخرج عن الاختصاص بالحين المتفق عليه, ولأن حذف الفعل ومفعوله من غير دلالة عليه لا يكون. انتهى. وزعم الفراء أن"لات" قد يخفض بها أسماء الزمان وأنشد قول الشاعر: طلبوا صلحنا ولات أوان ... فأجبنا أن ليس حين بقاء وقول الآخر:

فلتعرفن شمائلاً محمودة ... ولتندمن ولات ساعة مندم ولا يعرف ذلك البصريون. وقد قرئ {وَلاتَ حِينَ مَنَاصٍ} بالخفض ووجه على وجهين: أحدهما: أن "لات" بمعنى "غير" وصف لمحذوف كأنه قيل: فنادوا حيناً غير حين مناص. ورد هذا التأويل بلزوم زيادة الواو, فلا فائدة لهل حينئذ وبأنه لو كانت بمعنى "لا" صفة لزم تكرارها, نحو: مررت رجل لا قائم ولا قاعد. الثاني: أن الكسرة كسرة بناء مقطوعة عن مضاف, وما بعد"لات" يقطع عن الإضافة فيبنى والتقدير: ولات حين مناصهم, والإضافة إلى المناص كأنها إضافة إلى الحين لأنه معه كشيء واحد, فكأنه قال: ولات حينهم, ثم حذف الضمير من "مناص" فكأنه حذفه من الحين, فتضمنه الحين. وهذا بعيد جداً وقد علل به الزمخشري. وتأولوا ما ورد من ذلك في الشعر. وتأولوا "ولات أوان" على أن الأصل فيه: ولات أوان صلح, فقطع أواناً عن الإضافة ونواها وبني أواناً على الكسر بفعال, وهذا تأويل أبي العباس, والتنوين عنده ليس للتمكين بل هو في أوان كهو في "إذا" لأن أواناً يضاف إلى الجمل, نحو قولك: جئت أوان زيد قائم , وأوان قام زيد فحذف المضاف وعوض منه التنوين والنون ساكنة كسكون ذال"إذ" وكسرت لالتقائها مع التنوين.

قال صاحب البسيط:" وقول أبي العباس هنا غير مرضي لأن أواناً قد يضاف إلى الآحاد نحو قوله: هذا أوان الشد, فاشتدي زيم وقوله: وهذا أوان العرض حتى ذبابه ... زنابيره والأزرق المتلمس وأما الجماعة ف"أوان" عندهم مجرور ب"لات" وذلك لغة شاذة" انتهى. وقوله وقد يضاف إليها "حين" لفظاً قال: لعل حلومكم تأوي إليكم ... إذا شمرت, واضطرمت شذاتي وذلك حين لات أوان حلم ... ولكن قبلها اجتنبوا أذاتي وقوله أو تقديراً مثاله قول الآخر: تذكر حب ليلى لات حينا وأمسى الشيب قد قطع القرينا التقدير: حين لات حين تذكر. ولا تضطر إلى هذا التقدير كما

زعم المصنف, إذ يصح المعنى بقوله: تذكر حب ليلى لا ت حين تذكر, أي: ليس الحين حين تذكر. وقوله وربما استغنى مع التقدير عن "لا" بالتاء أشار المصنف إلى قوله: العاطفون ت حين ما من عاطف والمنعمون يداً إذا ما أنعموا قال المصنف:"أراد: هم العاطفون حين لات حين ما من عاطف, فحذف حين مع لا. وهذا أولى من قول من قال: إنه أراد العاطفونه بهاء السكت ثم أثبتها/ وأبدلها تاء" انتهى. وتخريج المصنف هذا البيت على ذكر لا يتعقل لأنه يكون المعنى: هم العاطفون وقت ليس الحين حين ليس ثم عاطف. وأحسن من التخريج الثاني زعم من زعم أن التاء زيدت على "حين" في هذا البيت, والمعنى على أن هؤلاء العاطفون وقت انتفاء العاطف, وهذا هو المعنى الذي يمدح به. وإذا احتمل هذا البيت هذا التخريج والتخريج الذي قبله, ولم يتعقل تخريج المصنف له, فكيف يستنبط منه حكم أنه ربما استغني مع التقدير عن "لا" بالتاء؟ وذلك شيء لا يتعقل. وقوله وتهمل"لات" على الأصح إن وليها هنا تقدم إنشادنا: حنت نوار, ولات هنا حنت ..............

قال المصنف:" لا عمل للات في هذا وأشباهه, ولكنها مهملة و"هنا" في موضع نصب على الظرفية والفعل بعدها صلة لأن محذوفة, وأن وصلتها في موضع رفع بالابتداء, والخبر هنا كأنه قال: ولات هنا لك حنين, هكذا قال أبو علي" انتهى. وقد ذكرنا قبل عن أبي علي أن "لات" عاملة في "هنا" فيمكن أن يكون لأبي علي القولان. وكونها عاملة في "هنا" هو قول الأستاذ أبي علي وتلميذه الأستاذ أبي الحسن بن عصفور. ورد عليهما المصنف بكون "هنا" ظرفاً غير متصرف فلا يخلو من معنى "في" إلا بأن تدخل عليه "من" أو" إلى" وهو رد صحيح. ومن مع إعمالها في قوله: لات هنا ذكرى خبيرة ............. .............. تأوله على أن ذكرى مبتدأ وهنا ظرف في موضع الخبر, وهي ظرف مكان مثل"هنا" يستعمل زماناً ومكاناً والجملة في المبتدأ والخبر منفية بلا, وقد جاءت "لات" غير مضاف إليها "حين" ولا مذكور بعدها "حين", ولا ما رادفه في قول الأفوه الأودي:

ترك الناس لنا أكنافهم ... وتولوا لات لم يغن الفرار وهذا يدل على أن"لات" لا تعمل وإنما هي في هذا البيت حرف نفي مؤكد بحرف النفي الذي هو قوله"لم يغن الفرار" ولو كانت عاملة لم يجز حذف الجزأين بعدها, ألا ترى أنه لا يجوز حذفهما بعد"لا" ولا "ما" العاملتين عمل ليس. والعطف على خبر لات عند من أجاز إعمالها إعمال "ما" الحجازية كالعطف على خبر "ما" منصوباً نحو: لات حين جزع وحين طيش, ويجوز: ولا حين طيش, كما تقول: ما زيد شريفاً وكريماً ويجوز: ولا كريماً فإن كان الحرف يقتضي الإيجاب رفعت ما بعده على خبر ابتداء مضمر, نحو: لات حين قلق بل حين صبر, أو: لكن حين صبر, التقدير: بل الحين حين صبر. وقوله ورفع ما بعد"إلا" في نحو" ليس الطيب إلا المسك" لغة تميم هذه المسألة هي من باب "كان" وكان ذك رها في باب "كان" أليق/ من ذكرها في باب "ما" إلا أن المحسن لذكرها هنا هو أن مذهب الحجاز إعمال "ما" إعمال ليس بالشروط السابقة , ومذهب تميم الإهمال فكما أن أهل الحجاز أعملوا"ما" إعمال"ليس" إذا لم ينتقض النفي, فكذلك تميم أهملت"ليس" إذا انتقض النفي حملاً على "ما". وقول العرب "ليس الطيب إلا المسك" حكاه س عنهم ولا يكون ذلك إلا على اعتقاد حرفيتها وقد جوز ذلك س في قولهم: ليس

خلق الله أشعر منه, وجوز فيها هنا أن يكون فيها ضمير الأمر, أي: ليس الأمر خلق الله أشعر منه. وقد ذكرنا عن أبي علي قولين في ليس: أحدهما أنها فعل كقول الجماعة. والآخر أنها حرف وذكرنا عن ابن شقير أنها حرف قولا واحداً. وهذا الذي ذكره المصنف من أن ذلك لغة تميم صحيح, ذكر ذلك ونقله عنهم أبو عمرو بن العلاء وذكر أن لغة الحجاز النصب, وهذه المسألة جرت بين أبي عمر عيسى بن عمر الثقفي وأبي عمرو بن العلاء , كان عيسى ينكر الرفع, وأبو عمرو يجيزه فاجتمعا, فقال له عيسى في ذلك, فقال له أبو عمرو: نمت يا أبا عمر, وأدلج الناس, ليس في الأرض حجازي إلا وهو ينصب ولا تميمي إلا وهو يرفع. ثم وجه أبو عمرو خلفاً الأحمر وأبا محمد اليزيدي إلى بعض الحجازيين وجهدا أن يلقناه الرفع, فلم يفعل وإلى بعض التميميين , وجهدا أن يلقناه النصب فلم يفعل ثم رجعا وأخبرا بذلك عيسى وأبا عمرو فأخرج عيسى خاتمه من أصبعه ورمى به إلى أبي عمرو, قال: هو لك , بهذا فقت الناس. وقوله ولا ضمير في "ليس" خلافاً لأبي علي إذا ثبت أن ذلك لغة فلا يمكن التأويل لأن التأويل لا يكون إلا إذا كانت الجادة على شيء ثم جاء شيء يخالف الجادة فيتأول أما إذا كانت لغة طائفة من العرب لم تتكلم إلا بها فلا تأول.

وأما أبو علي فتأول قولهم" ليس الطيب إلا المسك" وذلك أنه لم يبلغه- والله أعلم- نقل أبي عمرو ذلك أنها لغة تميم, وزعم أنه يحتمل وجوهاً: أحدها أن يكون في "لبس" ضمير الأمر والشأن والطيب مبتدأ والمسك خبره, وقال مثله السيرافي. فألزم أبو علي أنه لو كان كذلك للزم دخول إلا على الجملة من المبتدأ والخبر التي هي خبر لضمير الأمر لا على جزئها الثاني, فكان يكون التركيب, ليس إلا الطيب المسك, كما تقول: ليس كلامي إلا زيد منطلق, كما قال الشاعر: ألا ليس إلا ما قضى الله كائن وما يستطيع المرء نفعاً ولا ضراً فأجاب أبو علي عن هذا الإلزام بأن"إلا" كان أصلها أن تدخل على الجملة, لكنها دخلت في غير موضعها. ونظير دخول"إلا" في غير موضعها قوله تعالى: {إِن نَّظُنُّ إِلاَّ ظَنّاً} وقول الشاعر: أحل به الشيب أثقاله ... وما اغتره الشيب إلا اغترارا فهذا لو حمل على ظاهره كان فاسداً لأنه معلوم أنه لا يظن غير الظن, ولا يغتر الشيب إلا اغتراراً والمعنى: إن نحن إلا الظن ظناً, ما اغتره إلا الشيب اغتراراً. وهذا لا حجة فيه على أن "إلا" دخلت في غير موضعها لأن ذلك لم

يثبت, والآية والبيت يتخرجان على حذف الصفة لفهم المعنى, وتبقى "إلا" في موضعها, وحذف الصفة لفهم المعنى سائغ في كلام العرب, والتقدير: إن نظن إلا ضعيفاً وما اغتره الشيب اغتراراً بيناً قال أبو علي: والوجه الثاني أن يكون الطيب اسم ليس, والخبر محذوف وإلا المسك بدل منه, كأنه قيل: ليس الطيب في الوجود إلا المسك. وقال بهذا التأويل المصنف إتباعا لأبي علي, قال:" ويكون الاستغناء هنا بالبدل عن الخبر كالاستغناء به في نحو: لا فتى إلا علي, ولا سيف إلا ذو الفقار". والعجب له إتباع أبي علي في هذا التأويل مع اعتقاده أن ذلك لغة. ثم قال أبو علي: والوجه الثالث أن يكون "الطيب" اسم ليس, و"إلا المسك" نعت له, والخبر محذوف كأنه قال: ليس الطيب الذي هو غير المسك طيباً في الوجود, وحذف خبر "ليس" لفهم المعنى قد يجيء قليلاً نحو قوله: ................. ... تبغي جوارك حين ليس مجير قال: فإذا احتمل قولهم"ليس الطيب إلا المسك" لم يقس عليه.

انتهى. ويبطل هذه التأويلات كلها أن ذلك لغة بني تميم. وفي الإفصاح:" وهذا الذي ذكره - بعنب الفارسي- غفلة منه عما ذكره س. قال:" إلا أن بعضهم قال: ليس الطيب إلا المسك, وما كان الطيب إلا المسك". فلو أن من رفع في "ليس" يكون رفعه على ما تأول أبو علي جاز ذلك في "كان" لأن الحكم واحد والعامل واحد, وكأنه أدري عليهم في "كان" فنصبوا فلما روى س عنهم النصب في "كان" علم أنهم لم يتأولوا ذلك التأويل" انتهى. ولأبي نزار الحسين بن صافي بن عبد الله الملقب بملك النحاة تخريج غريب في قولهم: ليس الطيب إلا المسك, وهو أنه زعم أن "الطيب" اسم "ليس" والمسك: مبتدأ, وخبره محذوف وتقديره: إلا المسك أفخره, والجملة من قولك "إلا المسك أفخره" في موضع نصب على أنها خبر"ليس" كما تقول: ليس زيد إلا عمرو ضاربه قال: وقد تخبط س والسيرافي في هذا, وما أتيا بطائل. وقد رد عليه ابن الجباب الجليس المصري. ونقل أبي عمرو أن تلك لغة تميم مبطل لما تأوله الفارسي وأبو نزار, لأن التميمي يقول: ما كان الطيب إلا المسك وينصب وليس الطيب إلا المسك, ويرفع, والحجازي ينصب فيهما, فدل على فرقان اللغتين, وأن التميمي جعلها ك"ما" في لغته وأنه أراد حصر الخبر كما

أراد الحجازي. ولذلك قيل للمنتجع التميمي: ليس ملاك/ الأمر إلا طاعة الله والعمل بها, فرفع, ولقن النصب, فلم يقبله. وقيل لأبي المهدي- وهو بأهلي- ليس ملاك الأمر إلا طاعة الله والعمل بها, بالرفع, فنصب, وقيل له بالرفع, فقال: ليس هذا من لحني ولا لحن قومي. والدليل على أنهم أرادوا حصر الخبر أنهم قالوا لأبي مهدي: ليس الطيب إلا المسك, قال لخلف واليزيدي: أتأمراني بالكذب على كبرة سني فأين الجادي, وحكي ابن الأعرابي: فأين بنة الإبل الصادرة, وهي الرائحة الطيبة. وقيل له: ليس الشراب إلا العسل, قال: فما يصنع سودان هجر؟ مالهم شراب إلا هذا التمر. ففهم من هذا الكلام الحصر, ولذلك اعترض عليه, ولم ينطق به, إذ لا يتأتى عنده الحصر لأنه كذب, فلم يفعل أن يوافق عليه. ثم قيل له: ليس ملاك الأمر إلا طاعة الله والعمل بها, قال: هذا كلام لا دخل فيه, ليس ملاك الأمر إلا طاعة الله والعمل بها, فنصب ونطق بهذا لأنه كلام صادق الإسناد. وقوله ولا تلزم حالية المنفي ب"ليس" و"ما" على الأصح هذه المسألة قد ذكر طرفاً منها في أول الكتاب, وذكر عن الأكثرين أنه يتعين الحال في المضارع إذا نفي بليس وما وإن وذكر الدلائل له على صحة دعواه, وناقشناه هناك فيما أمكن فيه المناقشة, والمدعى هنا أعم من المدعى

أول الكتاب. وقال في الشرح:" زعم قوم أن ليس وما مخصوصتان بنفي الحال, والصحيح أنهما تنفيان الحال والماضي والمستقبل. وقد تنبه لذلك أبو موسى الجزولي , فقال:" وليس لانتفاء الصفة عن الموصوف مطلقاً" لأن س حكي: ليس خلق الله مثله. وأجاز الأستاذ أبو علي ل"س" ما زيد ضربنه, على أن تكون "ما" حجازية, وبين أن النفي في الحال إنما هو إذا لم يكن الخبر مخصوصاً بزمان فيحمل إذ ذاك على الحال كما يحمل الإيجاب عليه. ومن استقبال المنفي بليس {أَلاَ يَوْمَ يَاتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفاً عَنْهُمْ} {وَلَسْتُم بِآخِذِيهِ إِلاَّ أَن تُغْمِضُوا فِيهِ} , {لَّيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلاَّ مِن ضَرِيعٍ} , وقال حسان: وما مثله ولا كان قبله ... وليس يكون الدهر ما دام يذيل وقال زهير: بدا لي أني لست مدرك ما مضى ولا سابقاً شيئاً إذا كان جائيا ومثله:

ولست لما لم يقضه الله واجداً ... ولا عادماً ما الله حم, وقدرا ومثله: إني على العهد لست أنقضه ... ما اخضر في رأس نخلة سعف ومثله: ولست بمستبق أخاً لا تلمه ... على شعث أي الرجال المهذب ومثله: فليس بآتيك منهيها ... ولا قاصر عنك مأمورها ومن استقبال المنفي بـ"ما" {وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَن يُعَمَّرَ} , {وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ} {وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنْهَا} {وَمَا هُم مِّنْهَا بِمُخْرَجِينَ} , {وَمَا هُمْ عَنْهَا بِغَائِبِينَ} ,وقال الشاعر: وما الدنيا بباقاة لحي ولا أحد على الدنيا بباق وقال:

وما المرء ما دامت حشاشة نفسه ... بمدرك أطراف الخطوب ولا آل -[ص: وتزاد الباء كثيراً في الخبر المنفي بليس و"ما" أختها وقد تزاد بعد فعل ناسخ للابتداء, وبعد {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ} وشبهه, وبعد"لا" التبرئة و"هل" و"ما" المكفوفة بأن, والتميمية خلافاً لأبي علي والزمخشري وربما زيدت في الحال المنفية وخبر إن ولكن.]- ش: مثال الزيادة في خبر ليس وما أختها المنفي {أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ} , {وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ}. واحترز ب"المنفي" من الخبر الموجب فإنه لا يجوز: ليس زيد إلا بقائم ولا: ما زيد إلا بخارج. فلو زيدت "كان" بين اسم "ما" وخبرها "ما زيد كان بقائم" لم يجز دخول الباء عند الفراء وأجازه البصريون والكسائي. ولو كان الخبر ظرفاً أو كاف تشبيه أو مثلاً أجاز البصريون نصب مثل, فتقول: ما زيد مثلك, ودخول الباء وأجازوا دخول الباء على الظرف الذي يجوز أن يستعمل اسماً, ومنع هشام دخول الباء على الكاف وعلى مثل. وهذا جائز على مذهب ألكسائي حكي: ليس بكذلك وأجاز هشام دخولها على الظروف, فأجاز: ما عبد الله بحيث تحب. واضطرب الفراء فقال مرة: لا تدخل الباء على مثل لأنها بمعنى الكاف, وقال مرة: تدخل الباء على الكاف, ولا تدخل على شيء من الصفات غيرها لأنها في معنى مثل.

وأطلق المصنف في خبر "ليس" وكان ينبغي أن يقيد فيقول: إلا الواقع في الاستثناء نحو: قام القوم ليس زيداً فلا يجوز: ليس بزيد. ومثال ذلك بعد الفعل الناسخ قوله: وإن مدت الأيدي إلى الزاد لم أكن بأعجلهم إذ أجشع القوم أعجل وقال آخر: دعاني أخي والخيل بيني وبينه فلما دعاني لم يجدني بمقعدد وذكر في الرشح أن الخبر المنفي ب"لا" أخت ليس تزاد الباء فيه, وأنشد قول/ سواد بن قارب: وكن لي شفيعاً يوم لا ذو شفاعة بمغن فتيلاً عن سواد بن قارب وقول الآخر: ولقد غدوت وكنت لا ... أغدو على واق وحاتم فإذا الأشائم كالأيا ... من والأيامن كالأشائم وكذالك لا خير ولا شر على أحد بدائم ولا حجة في هذا كما ذكرناه قبل في بيت سواد, إذ يحتمل أن يكون ما بعد "لا" مبتدأ ولم تكرر"لا" وقد ورد ذلك عن العرب فيكون هذا

منه, وإن كان قليلاً أو شاذاً. وقال ابن هشام:" لم يسمع في خبر"لا" فلا يقاس على خبر "ما" لأن الزمان مجاز". وقوله وبعد {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ} مثاله قوله تعالى: {َوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ}. وهذا من إجراء الشيء على ما هو معناه كأن المعنى: أوليس الله بقادر فزاد الباء في خبر أن على هذا المعنى. ولا تقاس الزيادة فيما ذكر من هذه المنفيات إلا في خبر ليس وما, وأحسنه ما كان النفي متوجهاً عليه في المعنى كهذه الآية. وقوله وشبهه. ومثال زيادتها بعد"لا" التبرئة قول العرب " لا خير بخير بعده النار" إذا لم تجعل الباء بمعنى "في" هكذا قاله المصنف. وقال أبو علي:" تكون زائدة في خبر"لا" وهو مرفوع وذلك إذا جعلت " بعده النار" وصفاً للخبر المنفي" انتهى. كأنه قال: لا خير بعده النار, كما تقول: لست بزيد. وإذا كانت الباء بمعنى "في" فالمجرور في موضع الخبر, و"بعده النار" صفة ل"خير" المجرور. قيل: ويجوز أن تجعل"بعده النار" صفة للاسم المنفي مع إبقاء "بخير" خبراً ويجوز أن تجعل "بعده النار" صفة للخبر المنفي , والباء زائدة. وقد أجاز أبو علي هذا

كله في "التذكرة" وقد منع في موضع آخر من "التذكرة" أن تكون الباء زائدة. وجماعة من النحويين لا يجيزون في هذه المسألة إلا الوجهين الأولين. ومن منع زيادة الباء من هؤلاء لم يجزوا إلا وجهاً واحداً وبه كان يأخذ أبو القاسم بن القاسم, وهو أن تكون الباء محلاً لا غير. وعلى ما قاله أبو علي هنا من زيادة الباء أبو بكر بن طاهر وابن خروف. وقد قال/ أبو علي في التذكرة:" لا تكون الباء هنا زائدة لأنها لا تزاد في المرفوع". قال بعض أصحابنا: وهذا لا يقاس لا يقال: لا رجل بقائم ولا إنسان بورع, لأنه لم يأت به سماع صحيح غير متأول. وقد منع قوم أن تجعل الجملة صفة ل"خير" المنفي لأنه يختص بالصفة, فلا يبقى على العموم كقولك: لا حيوان حيوان عاقل, ولا رجل كاتب, لأن المنفي هو الخبر, وحين وصفته ونوعته من الأول صرت كأنك قلت: لا حيوان عاقل في الحيوان, ولا رجل كاتب في الرجال, فالحيوان العاقل بعض الحيوان, والرجل الكاتب بعض الرجال, ومحال نفي النوع عن الكل. وأجاز هؤلاء: لا خير بعده النار خير, لأن الأول خاص والثاني عام. وهذا لا يصح لأن الصفة تخصص الموصوف, فلا يصح أن ينفى عنه عمومه لاسيما إذا كان اللفظ المخصص هو الخبر بعينه, فهذا يبطل لأن من وصفته بصفة فقد أخرجته عن تناوله اسمه بتلك الصفة, فإذا قلت "لا رجل كاتب رجل" لم يستقم لأن الرجل الكاتب رجل, فكيف ينفي عنه أن يكون رجلاً؟ والنفي في الحقيقة إنما هو للخبر, ولا يصح أن ينفي عنه أن يكون بعض الرجال, وقد أوجبت له ذلك إذ جعلته مبتدأ معلوماً عند المخاطب كما هو معلوم عندك وإذا علم أنه رجل كاتب فكيف يجهل أنه رجل, ولا بد للرجل الكاتب أن يكون رجلاً.

وبعد "هل" قوله: يقول إذا اقلولى عليها، وأقردت ... ألا هل أخو عيش لذيذ بدائم وبعد "ما" المكفوفة ب"إن" قوله: لعمرك ما إن أبو مالك ... بواه، ولا بضعيف قواه وقوله خلافاً لأبي علي والزمخشري عزاه في "البسيط" إلى أبي بكر وأبي علي في أحد قوليه، والصحيح خلاف ما ذهبا إليه للسماع والقياس والإجماع: أما السماع فكثرة وجود ذلك في أشعار بني تميم ونثرهم، ونص على ذلك س والفراء، ونص الفراء أيضاً على أن أهل نجد كثيراً ما يجرون الخبر بالباء، فإذا أسقطوا الباء رفعوا. انتهى. حتى إنهم إذا عطفوا على المجرور بالباء في هذه اللغة رفعوا المعطوف على الموضع، كما أنهم في اللغة الحجازية يعطفون على الموضع نصباً، قال الشاعر: لعمرك ما سعد بخلة آثم ... ولا نأنأ يوم الحفاظ ولا حصر يروى برفع "نأنأ" على موضع "بخلة" وبخفضه على اللفظ.

وقد اضطرب أبو علي في ذلك، فمرة قال ما حكي عنه المصنف. وشبهته في ذلك أن ما بعد "ما" مرفوع بالابتداء / والخبر، فكما أنه لا يجوز في الموجب: زيد بقائم، فكذلك في النفي، وإنما دخلت في الحجازية تشبيهاً بدخولها في خبر ليس. ومرة قال: يجوز ذلك، وتدخل في كل خبر منفي. وأما القياس فلأن "إن" إذا كفت "ما" ومنعتها العمل تدخل في خبر المبتدأ، وكذلك في الخبر بعد "هل"، وكلاهما مرفوع، فكذلك تدخل في خبر "ما" التميمة. وأما الإجماع فنقله أبو جعفر الصفار، قال: أجمعوا على أن الباء تدخل على المرفوع والمنصوب، فتقول: ما زيد بمنطلق. واختلف في فائدة المجيء بالباء، فقال البصريون: فائدتها أنه يجوز أن لا يسمع المخاطب "ما" فيتوهم أن الكلام موجب، فإذا جئت بالباء صح المعنى. وقال الكوفيون: هذا نفي لقول القائل: إن زيداً لمنطلق، والباء بمنزلة اللام. ولو قدمت الخبر أو معموله، نحو: ما بقائم زيد، وما طعامك بآكل زيد، فذهب قوم إلى أنه لا تجوز زيادة الباء في الخبر. وذهب الفراء إلى جواز ذلك فيهما، وفصل قوم، فأجازوا دخول الباء مع تقديم معمول الخبر، ومنعوا ذلك مع تقديم الخبر نفسه.

وأجاز الفراء: ما هو بذاهب زيد، فإن ألقيت الباء نصبت، فقلت: ما هو ذاهباً زيد، وهذا خطأ عند البصريين في "ما" إذا جاءت في خبرها الباء مع الجمل، ولا يجيزون: ما هو قائماً زيد؛ لأن هاء الإضمار إنما تفسره جملة قائمة بنفسها، والباء لا تدخل على جملة، فأما قوله تعالى: {وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَن يُعَمَّرَ} فلا حجة فيه للفراء، وفيه وجوه من التأويل: أحدها أن يكون {هُوَ} عائداً على (أحد) من قوله تعالى: {يَوَدُّ أَحَدُهُمْ}، و {أَن يُعَمَّرَ} فاعل بـ"مزحزحه" أو بدل من {هُوَ} والثاني: أن يكون {هُوَ} عائداً على التعمير المفهوم من قوله {لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ} ثم جاء بقوله {أَن يُعَمَّرَ} تبييناً. والثالث: أن يكون {هُوَ} كناية عن التعمير، و {أَن يُعَمَّرَ} بدل منه، وليس {هُوَ} عائداً على المصدر المفهوم من {أَن يُعَمَّرَ} بل يفسره البدل. وقوله وربما زيدت في الحال المنفية مثاله قوله: فما رجعت بخائبة ركاب ... حكيم بن المسيب منتهاها وقوله: كائن دعيت إلى بأساء داهمة ... فما انبعثت بمزؤود ولا وكل

التقدير عنده: فما رجعت خائبة ركاب، وفما انبعثت مزؤوداً ولا وكلاً. وما ذهب إليه المصنف في هذين البيتين من زيادة الباء في الحال لا يتعين؛ إذ يحتمل أن تكون الباء للحال لا زائدة في الحال، أي: فما رجعت بحاجة خائبة، أي: متلبسة / بحاجة خائبة، وكذلك: فما انبعثت بمزؤود، ويعني بذلك نفيه، والمتكلم قد يسند الفعل إلى اسم ظاهر، ويريد بذلك نفسه، نحو قولك: لقد صحبك مني رجل صالح، ولو جئتهم بي لجئت بفارس بطل، أي: لجئت متلبساً بفارس بطل، وهو يريد نفسه. وقوله وخبر إن أنشد المصنف شاهداً على ذلك قول الشاعر: فإن تنأ عنها حقبة لا تلاقها ... فإنك مما أحدثت بالمجرب يريد: فإنك المجرب مما أحدثت. ولا يتعين أن يكون "بالمجرب" خبراً لأن لجواز تعلق "بالمجرب" بقوله: "مما أحدثت"، وخبر إن هو قوله: "مما أحدثت"، ويكون قوله "فإنك" على حذف مضاف، أي: فإن نأيك وعدم ملاقاتك مما أحدثت، أي: بسبب ما أحدثت بالمجرب. وقوله ولكن مثاله قول الشاعر: ولكن أجراً لو فعلت بهين ... وهل ينكر المعروف في الناس والأجر وقد سمع دخولها في خبر "ليت"، قال الفرزدق: يقول إذا اقلولى عليها، وأقردت ... ألا ليت ذا العيش اللذيذ بدائم

أقرد: لصق بالأرض. وقال الجوهري: "أقرد: سكن وتماوت"، وأنشد البيت، لكنه أنشد عجزه "ألا هل أخو عيش لذيذ بدائم". واقلولى: ارتفع. وأجاز الأخفش زيادتها في الواجب، نحو: زيد بقائم، واحتج بقوله تعالى: {جَزَاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا}، ويدل على زيادتها قوله تعالى. {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا} وتؤول على أن يكون الخبر عاملاً في الجار، أي: واقع بمثلها أو على أن يكون {ِمِثْلِهَا} متعلقاً بقوله {وَجَزَاءُ}، والخبر محذوف. ومما جاء فيه دخول الباء في الخبر الموجب قول الشاعر: فلا تطمع - أبيت اللعن - فيها ... فمنعكها بشيء يستطاع -[ص: وقد يجر المعطوف على الخبر الصالح للباء مع سقوطها، وينذر ذلك بعد غير "ليس" و"ما". وقد يفعل ذلك في العطف على منصوب اسم الفاعل المتصل.]- ش: مثال ذلك ما أنشده س: مشائيم ليسوا مصلحين عشيرة ... ولا ناعب إلا ببين غرابها

وما أنشده المصنف: ما الحازم الشهم مقداماً ولا بطل ... إن لم يكن للهوى بالعقل غلابا فقوله: "ولا ناعب" معطوف على "مصلحين" على توهم الباء، وكذلك "ولا بطل" معطوف على "مقداماً" على توهم الباء. وقول المصنف: "الخبر الصالح للباء" يشمل خبر "ليس" وخبر "ما" كما ذكرناه، ويظهر من المصنف جواز ذلك وأنه يطرد، وهي مسألة مختلف فيها: فذهب عامة النحويين إلى أنه لا يجوز ذلك، وما ورد منه فهو محمول على التوهم، والعطف على النوهم عندهم لا يقاس. وحكي أبو جعفر النحاس عن سيبويه إجازته، قال أبو جعفر: أجاز س خفض المعطوف على خبر "ما" نحو: ما زيد منطلقاً ولا خارج، وأنشد: مشائيم. البيت. قال: لأنه يجوز أن تقع في الأول الباء، وهذا عند أصحابه خطأ لأن حروف الخفض لا يستعمل فيها هذا، وقد حكي عن ألكسائي أنه أجاز ذلك. انتهى ما قاله أبو جعفر. قال إبراهيم بن أصبغ الأزدي: "لا أعلمه من قول س إلا في ليس دون ما". ووجدت بخط أستاذنا أبي جعفر بن الزبير ما نصه: "إذا عطفت على الخبر، وكان حرف العطف غير موجب، والخبر منصوب، نصبت، وحكي س الخفض على التوهم، وجعله الفراء قياساً" انتهى. واحترز المصنف بقوله: "الصالح للباء" من خبر لا يصلح للباء،

نحو: ليس زيد إلا قائماً وذاهب، وليس زيد يقوم ولا خارج، وما زيد يركب ولا ذاهب، فإنه لا يجوز الجر في ذاهب ولا خارج لأن قائماً ويقوم ويركب لا يصلح شيء منها لدخول الباء. وقوله ويندر ذلك بعد غير "ليس" و"ما" قال المصنف: "عومل بهذه المعاملة المعطوف على منصوب كان المنفية، كقول الشاعر: وما كنت ذا نيرب فيهم ... ولا منمش منهم منمل جر منمشاً، كأنه قيل: وما كنت بذي نيرب ولا منمش، والنيرب: النميمة، والمنمش: المفسد ذات البين، والمنمل: الكثير النميمة". ومما جاء من عطف المجرور على التوهم قول الشاعر: أجدك لن ترى بثعيلبات ... ولا بيداء ناجية ذمولا ولا متدارك والليل طفل ... ببعض نواشغ الوادي حمولا وقول الآخر: تقي نقي لم يكثر غنيمة ... بنهكة ذي قربى ولا بحقلد

توهم أنه قال مكان لن ترى: لست براء، ومكان لم يكثر: ليس بمكثر غنيمة، فعطف "ولا متدارك" على توهم: لست براء، وعطف "ولا بحقلد" على: ليس بمكثر. وقوله وقد يفعل ذلك في العطف إلى آخر المسألة أنشد المصنف: وظل طهاة اللحم من بين منضج ... صفيف شواء أو قدير معجل وقال: "لأن المنصوب باسم الفاعل يجر كثيراً بإضافته إليه، فكأنه إذا انتصب مجرور، وجواز جر المعطوف على منصوب اسم الفاعل مشروط بالاتصال كاتصال منضج بالمنصوب، فلو كان منفصلا لم يجز الجر، نحو أن يقال: من بين منضج بالنهار صفيف شواء؛ لأن الانفصال يزيل تصور الإضافة المقتضية للجر، فلذلك لا يجوز جر المعطوف مع انفصال اسم الفاعل من معموله". وهذا الذي ذكره من جر المعطوف فيما ذكر لا يجيزه أصحابنا، لا يجيزون: هذا ضارب زيداً وعمرو، وهي مسألة ليست من الباب الذي نحن فيه، وإنما ذكرها على سبيل الاستطراد. وأما البيت فلا شاهد فيه، وإذا جعل معطوفاً على مراعاة جر "صفيف" فسد المعنى لأنه يصير التقدير: من بين منضج صفيف أو قدير، فكأنه قال: من بين منضج أحد هذين، فيكون قد قسم الطهاة - وهم الطباخون -إلى قسمين: أحدهما منضج صفيف أو قدير، والآخر لم يذكره؛ لأن "بين" تقتضي وقوعها بين شيئين أو أشياء، ولا تدخل على شيء واحد.

وإنما تأوله شيوخنا على أن يكون "أو قدير" معطوفاً على قوله: "منضج" لا على محل "صفيف"، ويكون على حذف مضاف، و"أو" بمعنى الواو، والتقدير: من بين منضج صفيف شواء أو طابخ قدير، ثم حذف "طابخ"، وأقيم المضاف إليه مقامه، وتكون إذ ذاك "بين" قد وقعت بين شيئين، وهما: منضج صفيف شواء، وطابخ قدير معجل، ويكون التقسيم صحيحاً، وقد جاءت "أو" مكان الواو في "بين"، قال الشاعر: قوم إذا سمعوا الصريخ رأيتهم ... من بين ملجم مهره أو سافع -[ص: وإن ولي العاطف بعد خبر "ليس" أو "ما" وصف يتلوه سببي أعطي الوصف ما له مفرداً، ورفع به السببي، أو جعلا مبتدأ وخبراً. وإن تلاه أجنبي عطف بعد "ليس" على اسمها، والوصف على خبرها. وإن جر بالباء جاز على الأصح جر الوصف المذكور، ويتعين رفعه بعد "ما".]- ش: مثال المسألة الأولى: ليس زيد قائماً ولا ذاهباً أخوه، وما زيد قائماً ولا ذاهباً أخوه. قال: فهذا يجوز فيه وجهان: أحدهما: أن تجعل الوصف المعطوف كأنه لم يذكر بعده سببي، وحكمه إذ ذاك حكم المفرد، ويجوز إذ ذاك فيه - على ما قرر المصنف - النصب والجر على توهم أن يكون الخبر المعطوف عليه مجروراً، وتقدم

ذكر الخلاف / فيه، وأن عامة النحويين لا يجيزون الجر في المعطوف على توهم الجر في المعطوف عليه. والوجه الثاني: أن يكون مبتدأ وخبراً، فترفع الوصف، فتقول: ولا ذاهب أخوه، وتكون قد قدمت خبر المبتدأ عليه، والتقدير: ولا أخوه ذاهب، ويطابق الخبر المبتدأ. ويجوز فيه وجه آخر، وهو أن يعرب الوصف مبتدأ، والسببي فاعل به أغنى عن الخبر لأنه قد اعتمد الوصف على حرف النفي. والاختيار أن لا يطابق الوصف مرفوعه، ويجوز أن يطابق، وذلك في لغة: أكلوني البراغيث. وقوله وإن تلاه أجنبي مثاله: ليس زيد قائماً ولا ذاهباً عمرو، ف"عمرو"معطوف على اسم "ليس" و"ذاهباً" معطوف على الخبر. وتقدم لنا أن من قدماء النحويين من لا يجيز فيها النصب لأن "ليس" لا تتقدر بعد "لا" فيوجبون الرفع وقد رد س عليهم مذهبهم في كتابه بقول العرب: ليس زيد ولا أخوه قاعدين. ويجوز جعلهما مبتدأ وخبراً، فتقول: ولا ذاهب عمرو. وقوله وإن جر بالباء جاز على الأصح جر الوصف المذكور مثاله: ليس زيد بقائم ولا ذاهب عمرو، قال المصنف: "الجر بباء مقدرة مدلول

عليها بالمتقدمة، وهو كثير في الكلام، ومنه قول الشاعر: وليس بمدن حتفه ذو تقدم لحرب، ولا مستنسيء العمر محجم ومنه قول الآخر: فليس بآتيك منهيها ولا قاصر عنك مأمورها ونه قول الآخر: وليس بمعروف لنا أن نردها صحاحًا، ولا مستنكر أن تعقرا" قال: "وليس هذا من العطف على عاملين، بل من حذف عامل لدلالة مثله عليه، وحذف حرف الجر من المعطوف لدلالة مثله عليه كثير". ثم ذكر من ذلك مثلًا وردت في كلام العرب. وقوله ويتعين رفعه بعد "ما" أي: رفع الوصف إذا تلاه الأجنبي، سواء أنصب خبر "ما" أو جر بالباء، فتقول: ما زيد قائمًا ولا ذاهب عمرو، وما زيد بقائم ولا ذاهب عمرو. قال المصنف: "لأن المعطوف عليه مع قربه من العامل لو قدم فيه الخبر لبطل العمل، فبطلانه بالتقديم في المعطوف لبعده من العامل أحق وأولى، ومثال ذلك قول الشاعر:

لعمرك ما معن بتارك حقه ولا منسئ معن ولا متيسر" انتهى. وهذا الذي ذكره المصنف من تعيين الرفع في الأجنبي بعد "ما" هو مذهب البصريين، والرفع إجماع من النحويين، فلو نصبت الوصف عطفًا على خبر ما المنصوب، فقلت: ما زيد قائمًا ولا ذاهبًا عمرو، فمنعه الخليل وس وأصحابهما، وأجازه الكسائي والفراء. حجة المانع أنه بغير عائد، فمحال أن يعطف على ما كان/ للأول ولم يعد عليه منه شيء. وحجة المجيز ما حكاه الكوفيون من قول العرب: ما زيد قائمًا فمتخلفًا أحد، أي: إذا قام لم يتخلف أحد. فإن عطفت على خبر "ما" المجرور، فقلت: ما زيد بمنطلق ولا خارج عمرو، بالجر، فأجازه الكوفيون، ومنعه البصريون. فإن حذفت "لا"، فقلت: ما زيد بمنطلق، وخارج عمرو، بجر "خارج" عطفًا على "بمنطلق"، لم يجز ذلك عند البصريين والفراء، وأجازه هشام كما أجاز الذي قبله لأن إعادة الحرف عنده لا تغير شيئًا إذا كان توكيدًا. وحجة الفراء في منعه أنه إذا أعاد الحرف زال معنى الجزاء، وليس فيه عائد، فلم يجز. ولم يتعرض المصنف للعطف بتأخير الوصف، والتقسيم يقتضي أن يقال فيه: لا يخلو أن تعطف على الاسم أو على الخبر أو عليهما: فإن عطفت على الاسم رفعت، فقلت: ما زيد قائمًا ولا عمرو خارج. وإن عطفت على الخبر فقد تعرض المصنف له، وتكلمنا على تقاسيمه. وإن

عطفت عليهما فإما أن يكون حرف العطف موجبًا أو غير موجب: إن كان موجبًا رفعت، نحو: ما زيد قائمًا بل عمرو خارج. وإن كان غير موجب فإن كان الخبر مرفوعًا رفعت، نحو: ما زيد قائمًا ولا عمرو خارج. وإن كان منصوبًا فأجمع النحويون على إجازة الرفع، نحو: ما زيد قائمًا ولا عمرو هارج. وزعم الجرمي أنهم رووا أن أكثر العرب يرفع. واختلفوا في النصب: فأجازه س والخليل والكسائي والفراء وهشام، ومنعه النحويون القدماء الذي رد عليهم س في كتابه، وأجمعوا على أنه لا يجوز أن تقول: ولا ليس، ولا ما، ورد عليهم س بقولهم: ما عمرو ولا خالد منطلقين، ولا تقول: ولا ما خالد. وإما لم تعد "ما" عند البصريين لأن "لا" قامت مقامها، فهما جميعًا للنفي، ولذلك لا يجوز: ما زيد خارجًا ولا منطلقًا، اكتفوا ب"لا" لأنها قد تقع موقع اسم واحد في قولك: قام زيد لا عمرو، وتأتي وحدها إذا كانت جوابًا، و"ما" تحتاج إلى شيئين بعدها. وقال الفراء: خلقة "ما" الابتداء، ولا تكون كالمتصلة بما قبلها. وقال س: "وتقول: ما كل سوداء تمرة ولا بيضاء شحمة، وإن شئت نصبت بيضاء، و"بيضاء" في موضع جر". ولا يجيز المبرد في "بيضاء" إلا الرفع لئلا يعطف على عاملين. والتقدير عند غيره: ولا كل

بيضاء، ثم حذف كلا. وإن كان خبر "ما" مجرورًا فإن عطفت على اللفظ أدخلت الباء، فقلت: ما زيد بقائم ولا عمرو بذاهب. وإن عطفت على الموضع نصبت الخبر، فقلت: ما زيد بقائم ولا عمرو قاعدًا إن كانت حجازية، ويجئ فيه الخلاف السابق، ورفعت إن كانت تميمية، فقلت/: ما زيد بقائم ولا عمرو قاعد. مسألة: زعم الأخفش أنك تقول: ما نعم الرجل عبد الله ولا قريب من ذلك، وأجاز غيره نصب "قريب" على الظرف. مسألة: أجاز الكسائي إضمار "ما"، وأنشد: فقلت لها: والله يدري مسافر إذا أضمرته الأرض ما الله صانع فأضمر "ما". قال الفراء: فسألته عن: والله أخوك قائمًا، قال: فرأيته كالمرتاب من إدخال الباء. وأجاز الكسائي والفراء: من قائم، وألا قائم، وأنشد الكسائي قول الشاعر: ألا رجل جزاه الله خيرًا يدل على محصلة تبيت والبصريون ينشدونه: ألا رجلًا، وفيه عندهم قولان: أحدهما أن

التقدير: ألا ترونني رجلًا. والثاني أن رجلًا منصوب على التبرئة، ونون اضطرارًا كما نون ما لا ينصرف. وزعم الكسائي أنه إذا خفض ما بعد "ألا" وبعد "من" فهو على تأويل: أما من رجل يتصدق، وألا من رجل، ولا يقولون: أما رجل، ولا: ما رجل. ولا يجوز عند البصريين من هذا شيء. مسألة: إذا أخرت الاسم موجبًا ب"إلا"، وقدمت معمول الخبر على الخبر، نحو: ما طعامك آكل إلا زيد، لم يجز ذلك عند الكسائي والفراء، وأجازها البصريون. مسألة: أجاز أكثر النحويين: اليوم ما زيد إياه منطلقًا، ومنعها بعضهم. مسألة: يجوز حذف الخبر بعد "ما" المكفوفة ب"إن" داخلًا على المبتدأ النكرة "من"، قال الشاعر: حلفت لها بالله حلفة فاجر لناموا، فما إن من حديث ولا صال التقدير: فما حديث ولا صال منتبه، وهو على حذف مضاف، أي: فما إن من ذي حديث ولا صال، وقال آخر: العاطفون تحين ما من عاطف ......................... شبهت في ذلك "ما" بـ"لا". مسألة: شذ بناء النكرة مع "ما" تشبيهًا لها بـ"لا"، روي من كلامهم: ما بأس عليك، كما قالوا: لا بأس عليك، وأنشد الأخفش:

وما بأس لو رَدَّت علينا تحية قليلًا على من يعرف الحق عابها مسألة: لا يجوز حذف اسم "ما"، لو قلت: زيد ما منطلقًا، تريد: ما هو منطلقًا، لم يجز لأن ما مشبهة في العمل بليس، فكما لا يجوز حذف اسم "ليس" وأخواتها، فكذلك لا يجوز حذف اسم "ما". مسألة: ما هو طعامك/ زيد بآكل، هو: ضمير الشأن، فإن كانت "ما" حجازية لم تجز هذه المسألة، وإن كانت تميمية جازت. مسألة: يجوز دخول همزة الاستفهام على "ما" الحجازية فتعمل، تقول: أما زيد قائمًا؟ كما تقول: ألست بقائم؟

باب أفعال المقاربة

-[ص: باب أفعال المقاربة منها للشروع في الفعل: طفِق وطفَق وطبِق وجعل وأخذ وعلق وأنشأ وهب. ولمقاربته: هلهل وكاد وكرب وأوشك وأولى. ورجائه: عسى وحري واخلولق، وقد ترد عسى إشفاقًا. ولازمهن لفظ المضي إلا كاد وأوشك. وعملها في الأصل عمل "كان"، لكن التزم كون خبرها مضارعًا مجردًا مع "هلهل: وما قبلها، ومقرونًا بأن مع "أولى" وما بعدها، وبالوجهين مع البواقي، والتجريد مع كاد وكرب أعرف، وأوشك وعسى بالعكس.]- ش: أطلق المصنف عليها أفعالًا، وهي على قسمين: قسم مجمع عليه أنه فعل، وهو ما عدا "عسى". وقسم مختلف فيه، وهو "عسى": فذهب الجمهور إلى أنها فعل. وذهب بعض النحويين إلى أنها حرف، ونسب ذلك إلى ابن السراج، وهو قول أبي العباس أحمد بن يحيي نصًا، نقله عنه غلامه أبو عمر الزاهد. والدليل على فعليتها اتصال ضمائر الرفع بها، وهي لا تتصل إلا بالأفعال، ولحاق علامة التأنيث لها على حد ما تلحق الأفعال بثبوتها في فعل المؤنث وعدم دخولها في فعل المذكر، نحو: عسى زيد أن يقوم، وعست هند أن تقوم، كما تقول: قام زيد، وقامت هند.

وسميت أفعال المقاربة لأن فيها ما هو للمقاربة لا أنها كلها للمقاربة، لأن فيها ما هو للشروع في الفعل، وما هو للتراخي، فلا مقاربة في هذين، فإطلاق المقاربة عليها كلها مجاز، وهو من باب تسمية المجموع ببعض أفراده. وذكر المصنف أفعال هذا الباب أربعة عشر فعلًا؛ لأن طفق بفتح الفاء وطبق بالباء المكسورة لغتان في طفق، وعدها المصنف ستة عشر فعلًا. وزاد أبو إسحاق إبراهيم بن أحمد بن يحيي البهاري في كتابه المسمى "الإملاء المنتخل" في أفعال هذا الباب قارب وكارب وقرب وأحال وأقبل وأظل وأشفى وشارف وقرب ودنا وأثر وقام وقعد وذهب وازدلف ودلف وأزلف وأشرف وتهيأ وأسف. وزاد غيرهما: طار وانبرى وألم ونشب. وأنشد المصنف شواهد على ما ذكر من الأفعال، وهي: فعادى بين هاديتين منها وأولى أن يزيد على الثلاث /طفق الخلي بقسوة يلحى الشجي ونصيحة اللاحي الخلي عناء وقد جعلت إذا ما قمت يثقلني ثوبي، فأنهض نهض الشارب الثمل

فأخذت أسأل، والرسوم تجيبني وفي الاعتبار إجابة وسؤال أراك علقت تظلم من أجرنا وظلم الجار إذلال المجير لما تبين مين الكاشحين لكم أنشأت أعرب عما كان مكنونا وقال الحطيئة: أنشأت تطلب ما تغيـ ـر بعد ما نشب الأظافر وقال غيره: هببت ألوم القلب في طاعة الهوى فلج، كأني كنت باللوم مغريا وطئنا بلاد المعتدين، فهلهلت نفوسهم قبل الإماتة تزهق وقال ثعلب: يقال: قام يفعل كذا إذا أخذ فيه، وأنشدوا: قامت تلوم، وبعض اللوم آونة مما يضر، ولا يبقى له نقل وذكر المصنف أن أغرب التي للشروع علق وهب، وأغرب التي.

للدنو أولى، وأغرب البواقي التي هي للإعلام بالمقاربة على سبيل الرجاء حري. وذكر انه يقال: حري زيد أن يجيء، بمعنى: عسى زيد أن يجيء. انتهى. فإن كان هذا نقلًا عن اللغويين فهو صحيح، وإلا فالمحفوظ أن "حري" اسم منون. قال ثعلب: أنت حري من ذلك، أي: خليق وحقيق. وقال أبو سهل محمد بن علي الهروي في كتاب "إسفار الفصيح": لا يثنى ولا يجمع، ومنه قول الشاعر: وهن حري أن لا يثنينك نقرة وأنت حري بالنار حين تثيب وقيل: إن معنى حري معنى عسى. وقالوا في قول الأعشى: إن تقل هن من بني عبد شمس فحري أن يكون ذاك، وكانا إن معناه: فحقيق، وقيل: معناه: فعسى. انتهى. فذكر أنهم قالوا في "حري" الاسم إن معناه: فعسى، يعني أنها للرجاء كما أن معنى "عسى" الرجاء، فيكون إذ ذاك ل"حري" الاسم معنيان: أحدهما أن معناها خليق. والثاني أن معناها الرجاء. فهؤلاء قد فسروا "حري" المنون الاسم ب"عسى" التي هي فعل، فيحتاج في إثبات كون

"حرى" فعلًا ماضيًا بمعنى "عسى" إلى نقل يفصح عن ذلك، فقد يكون قد تصحف على المصنف، فاعتقد أن "حري" المنون غير منون، وأنها فعل، كما صحف في غيره مما نبه عليه. /وذكر المصنف أن "كرب" لمقاربة الفعل، وهذا هو المشهور فيها. وقيل: هي من أفعال الشروع، ولذلك لم تدخل فيها "أن" بخلاف "كاد" لقربها من الفعل، قاله في البسيط. وليس كما ذكر في امتناع دخول "أن" بل سبيلها سبيل "كاد"، وقال الشاعر: ................................... وقد كربت أعناقها أن تقطعا وعد المصنف من أفعال هذا الباب اخلولق. وفي البسيط: وأما أفعال المقاربة فلها أفعال تامة بمعناها، منها بحسب الترجي كأترجى أن يكون كذا وأتوقعه. ومنها بحسب تهيؤ الأمر: اخلولقت الأرض أن تنبت والسماء أن تمطر، بمعنى استحقت ذلك، ولذلك تدخل اللام، فتقول: اخلولقت لأن تمطر، وخليق أن يكون كذا، ومستحق أن يكون. وقد جعل بعضهم اخلولق وأخلق من النواقص. وليس كذلك، أما اخلولق فلأن ما بعدها له الاستحقاق، وما بعدها مفعول لأجل دخول اللام؛ لأن هذه اللام لا تدخل في الخبر. وقد يقال: إنها لا تفيد بمرفوعها لو قلت اخلولق الشهر. وقد يجاب بأن ذلك موجود في "استحق" مع أنها ليست من الباب،

وذلك أن العرب لم تستعملها إلا مع منصوبها، وهي بالنظر إلى معناها تامة به. وأما أخلق فمعناها تهيأ الشيء لأن يكون واستحق، وقولهم أخلق به أن يكون أي: ما أشد تهيئته للفعل. وقوله وقد ترد عسى إشفاقًا مجيئها للإشفاق قليل، وقد اجتمع مجيئها للرجاء والإشفاق في قوله تعالى: {وعَسَى أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وعَسَى أَن تُحِبُّوا شَيْئًا وهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ}. ومن الإشفاق قوله: عستم لدى الهيجاء تلقون دوننا تظافر أعداء وضعف نصير وقول الأسود بن يعفر: عسيتم أن تصابوا ذات يوم كما يستشرف الخزز العقاب وقوله ويلازمهن لفظ المضي اختلف في السبب المانع من تصرف عسى: فقال أبو الفتح: لما أردي بها المبالغة في القرب أخرجت عن بابها، وهو التصرف. قال: وكذلك كل فعل يراد به المبالغة نحو نعم وبئس وفعل التعجب. فإن قلت: قد تصرف ما هو أشد مبالغة في القرب منها نحو "كاد". فالجواب: أن في "عسى" ما ليس في غيرها إذ قد تستعمل واجبة، وكذلك وردت في القرآن إلا في قوله تعالى: {عَسَى رَبُّهُ إن طَلَّقَكُنَّ أَن يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا}، وفي قول ابن مقبل:

ظن بهم كعسى، وهم بتنوفة ... يتنازعون جوائز الأمثال /أي: ظن بهم كاليقين، فلما استعملت واجبة بخلاف غيرها من أفعال المقاربة كانت أشد مبالغة في القرب من غيرها؛ إذ الواجب الوقوع أقرب مما ليس كذلك. وقال ابن يسعون: "استغنوا بلزوم الفعل الذي هو خبرها عن أن يبنوا منها مستقبلًا لأنها للتراخي، واستعمل الماضي فيها دون الحاضر والآتي لخفته ولما حاولوه من وقوع ما أملوه". وقال الأستاذ أبو علي: لما كانت عسى في معنى قرب وقارب استغنوا عن أن يبنوا منها مستقبلًا بقولهم سيقرب وسيقارب، كما استغنوا ب"ترك" عن ذر وودع لما كانت بمعناها. وقال ابن عصفور: "أنت على صيغة الماضي لما كان معناها ماضيًا؛ ألا ترى أنك لا تقول عسى زيد أن يقوم إلا وقد استقر الرجاء في نفسك لقيامه قبل ذلك، ولا تلتفت إلى كون القيام غير واقع، فإن ذلك لا يرجع إلى معنى عسى بل إلى المترجَّى. فإن قلت: إذا كان المعنى مستقرًا في نفسك فهو في الحال أيضًا مستقر، فهلا كانت لها صيغة بالنظر إلى ذلك؟ فالجواب أنها لكثرة الاستعمال اختير لها الماضي لخفتها، وسوغ ذلك إرادتهم بها معنى الاتصال والدوام، وصيغة الماضي يجوز استعمالها فيما يراد به ذلك، ومنه {وكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا}، وقول الكميت:

ما ذاق بؤس معيشة ونعيمها فيما مضى أحد إذا لم يعشق ألا ترى أن المراد ب"ذاق" الدوام، ولذلك ساغ أن يعملها في "إذا"، وهي لما يستقبل" انتهى. وهذه العلل كلها تلفيقات لشيء وضعي، والوضعيات لا تعلل. ولو قيل إن "عسى" لما كانت مشاركة ل"لعل" في الرجاء ألزمت عدم التصرف لكان قولًا. وقوله إلا كاد وأوشك أما "كاد" فجاء منها المضارع، نحو قوله تعالى: {يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ}. وأما "أوشك" فذهب الأصمعي إلى أنه لا يستعمل إلا مضارعًا، ولا يقال ماضيًا: أوشك زيد أن يقوم. وما ذهب إليه باطل لأن الخليل وغيره قد حكوا "أوشك". وقوله وعملها في الأصل عمل "كان" يعني أن هذه الأفعال هي من باب "كان"، ترفع الاسم، وتنصب الخبر، ويدل على ذلك مجيء الخبر في بعضها اسمًا منصوبًا في الشعر، وما جاز أن يكون اسمًا ل"كان" من المبتدآت كان اسمًا لها. وفي البسيط: "أما خبر أفعال المقاربة فقال الكوفيون: هو بدل من الاسم بدل المصدر. وأظن قولهم مبنيًا على أن هذه الأفعال ليست ناقصة، فيكون المعنى عندهم: قرب قيام زيد، وكرب خروج عمرو، ثم قدمت الاسم، وأخرت المصدر، فقلت: قرب زيد قيامه، ثم جعلته بالفعل. ويحتج على هذا بقولهم: عسى أن يقوم زيد، وأن هذا هو الأصل، وهي

تامة، ثم إن تقدم الاسم فهو على البدل حملًا لها على طريقة واحدة. ورد بأن تقديم الفعل يغير "أن" لا يكون إلا باسم الفاعل، ولو قدرناه به لم يكن البدل، وإن لم نقدره بالاسم لزن بدل الفعل بالاسم إلا أن تجعله من باب "تسمع بالمعيدي"، وهو شاذ، ولأن البدل لا يكون لازمًا، وهذا لازم، ولأنه إخراج لعسى عن معناها رأسًا إلى تأويل القرب. وذهب بعض النحويين إلى أنه مفعول لأنها في معنى: قارب زيد الفعل، وهي تامة. وحمله على ذلك كون المصادر لا تكون أخبارًا، وكون المصدر بمعنى فاعل لا يكون قياسًا مع "أن". وقيل: موضعها نصب بإسقاط حرف الجر لأنها تسقط كثيرًا مع أن، فمعنى عسى زيد أن يقوم: عسى زيد للقيام؛ لأن معناها: اخلولق، وكرب يفعل: تهيأ للفعل. وهذه التأويلات تخرج الألفاظ عن مقتضاها بلا ضرورة، فلا معنى لها، وأيضًا فلا يسوغ هذا في جميعها" انتهى. وقيل: هو من باب الإعمال، على إعمال الأول. وهو فاسد لقولهم: عسى أن يقوك إخوتك، وعسى أن يقوم الزيدان، ولا يصح إضمار مفرد في موضع الجمع لأنه نادر قليل لا يقاس عليه باتفاق، وإنما يحكي ما جاء منه على الندرة، وهذا قياس مستمر كثير لا ينحصر، ولم يسمع الوجه الأجود فيه بوجه. ويقطع ببطلان هذا المذهب قوله تعالى: {وعَسَى أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا} لأن فاعل فعل لا يتصل بفعل آخر. وكذلك لا يكون على إعمال

الثاني لوجوب الإضمار في "عسى" وبروزه في التثنية والجمع، إلا على مذهب الكسائي، وهو باطل لما نبينه في بابه. وقوله لكن التزم كون خبرها مضارعًا مجردًا مع هلهل وما قبلها إنما كان مضارعًا مجردًا من "أن" لأنها للأخذ في الفعل، فخبره في المعنى حال، فلذلك جعلوا في موضع خبره فعل الحال. وقوله مقرونًا بأن مع أولى وما بعدها الذي بعدها هو عسى وحري واخلولق. قال الأستاذ أبو الحسن بن عصفور: الذي لمقاربة الفعل في الرجاء نحو عسى ويوشك خبره متراخ بدليل أنك تقول: عسى زيد أن يحج العام الآتي، ويوشك أن يفعل ذلك العام القابل، فهذا النوع خبر مستقبل، فلذا جعلوا في موضع خبره الفعل المنصوب بأن لأنها تخلصه للاستقبال. ويمكن أن يكون السبب/ في ذلك أن المعنى: خليق وجدير، فكما يقولون: خليق أن يفعل، وجدير أن يفعل، قالوا: عسى زيد أن يفعل. وقوله بالوجهين مع البواقي هن: كاد وكرب وأوشك. قال الأستاذ أبو الحسن بن عصفور: "هذا النوع الذي هو لمقاربة ذات الفعل، نحو: كاد زيد يفعل، جعلوا فعل الحال في موضع خبره في فصيح الكلام لمقاربته للحال إجراء له مجرى ما قاربه، ولما قصدوا المناسبة بين الأفعال المقاربة وأخبارها، وكانت المناسبة لا تحصل إلا بالفعل لا بالاسم، عدلوا لذلك عن أن يجعلوا أخبارها الأسماء إلا في ضرورة منبهة على الأصل" انتهى. وظاهر كلام المصنف أن كاد وكرب وأوشك تستعمل أخبارها مقرونة بأن وغير مقرونة. واستدل المصنف على دخول "أن" في خبر" كاد" بما جاء في حديث عمر "ما كدت أن أصلي العصر حتى كادت الشمس

تغرب"، ويقول الشاعر: أبيتم قبول السلم منا، فكدتم لدى الحرب أن تغنوا السيوف عن السل واستدل على جواز دخول "أن" في خبر "كرب" بقول الشاعر: قد برت، أو كربت أن تبورا لما رأيت بيهسا مثبورا وبقول الآخر: سقاها ذوو الأحلام سجلًا على الظما وقد كربت أعناقها أن تقطعا وقوله والتجريد مع كاد وكرب أعرف يعني: وتجريد المضارع الواقع خبرًا لهما من "أن" أعرف من اقترانه بها. أما اقترانه بها معهما فهو عند أصحابنا من باب الضرورة، لا يقع في الكلام، خلافًا للمصنف، وأنشدوا على الضرورة: قد كاد من طول البلى أن يمصحا

وقول الآخر: كادت النفس أن تفيظ عليه إذ ثوى حشو ريطة وبرود قالوا: استعمل "أن" في خبر "كاد" في الضرورة تشبيهًا بعسى. وأنشدوا في كرب: .................................... وقد كربت أعناقها أن تقطع ولم يذكر س اقتران خبر كرب ب"أن". ويقال كرب بفتح الراء، وهو الأفصح، وكرب بالكسر. ومما جاء فيه خبر "كرب" على الفصيح بغير "أن" قول الشاعر: وما أنت أم ما رسوم الديار وستوك قد كربت تكمل وقول ابن أبي ربيعة: ولا تحرمي نفسًا عليك مضيقة وقد كربت من شدة الوجد تطلع /وقول الآخر:

كرب القلب من جواه يذوب حين قال الوشاة: هند غضوب قوله ومع أوشك وعسى بالعكس يعني أن هذين الأعرف استعمال المضارع معهما بأن، قال المصنف: خبر أوشك بأن كثير، نحو قوله: ولو سئل الناس التراب لأوشكوا إذا قيل: هاتوا، أن يملوا ويمنعوا وأنشد غيره: إذا المرء لم يغش الكريهة أوشكت حبال الهوينى بالفتى أن تقطعا قال المصنف: وبدونها قليل، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم: "يوشك الرجل متكئًا على أريكته، يحدث بحديث من حديثي، فيقول: بيننا وبينكم كتاب الله"، وأنشد: يوشك من فر من منيته في بعض غراته يوافقها

وأما "عسى" فذهب جمهور البصريين إلى أن حذف "أن" من خبرها لا يكون إلا في الضرورة، قال أبو علي الفارسي: "وربما اضطر الشاعر، فحذف "أن" من خبر" عسى" تشبيهًا لها بكاد، كما شبه كاد بعسى، قال الشاعر: عسى الكرب الذي أمسيت فيه يكون وراءه فرج قريب" وأنشد س: عسى الله يغني عن بلاد ابن قادر بمنهمر جون الرباب سكوب وقال آخر: وماذا عسى الحجاج يبلغ جهده إذا نحن جاوزنا حفير زياد وقال أبو علي في التذكرة: "إن دخول أن في خبر عسى هو الأكثر، ولا يلزم، وتقول: "عسى زيد يقوم" في الكلام. وظاهر كلام س أن استعمال خبر عسى بغير أن جائز في الكلام لأنه قال: "واعلم أن من العرب من يقول: عسى يفعل، تشبيهًا بكاد يفعل". فأطلق القول، ولم يقيد ذلك بالشعر". قال ابن عصفور: "وينبغي أن لا يحمل كلامه على عمومه لأنها لم تحفظ بغير أن إلا في ضرورة" انتهى.

وزعم أبو القاسم الزجاجي أن "قارب" مما الأجود فيه أن يستعمل بأن. ورد عليه وعلى من أدخلها في أفعال المقاربة بأنها لا تستعمل إلا بأن، وليست من هذا الباب لأنها ليست داخلة على المبتدأ والخبر بدليل مجيء مفعولها اسمًا في فصيح الكلام، تقول: قارب زيد القيام. قال بعض أصحابنا: /"وكذلك اخلولق". يعني أنها مثل "قارب" ليست من هذا الباب. وأما "دنا" فذكر س اقتران الفعل بأن في قولهم: دنوت أن تفعل. وأما "ألم" فجاء في الحديث "لولا أنه شيء قضاه الله لألم أن يذهب بصره"، وفي الحديث أيضًا: "إن مما ينبت الربيع ما يقتل حبطًا أو يلم" يريد: أو يلم أن يقتل.

وقد تُعَوَّض السين من "أن" في خبر "عسى"، قال الشاعر: عسى طيئ من طيئ بعد هذه ستطفئ غلات الكلى والجوانح وفي البسيط: ولم توضع مكانها -يعني مكان أن- سوف، وتقرب منها السين. وقد تدخل الباء على خبر أوشك المقرون بأن، قال: أعاذل، توشكين بأن تريني صريعًا، لا أزور، ولا أزار -[ص: وربما جاء خبراهما مفردين منصوبين، وخبر "جعل" جملة اسمية، أو فعلية مصدرة بإذا أو كلما، وندر إسنادها إلى ضمير الشأن ودخول النفي عليها. وليس المقرون بأن خبرًا عن س. ولا يتقدم هنا الخبر، وقد يوسط، وقد يحذف إن علم. ولا يخلو الاسم من الاختصاص غالبًا. ويسند أوشك وعسى واخلولق ل"أن يفعل"، فيغني عن الخبر، ولا يختلف لفظ المسند لاختلاف ما قبله، فإن أسند إلى ضميره اسمًا أو فاعلًا طابق صاحبه معها كما يطابق مع غيرها.]- ش: ظاهر قوله " خبراهما" أن يعود الضمير إلى أقرب مذكور، وهو عسى وأوشك، لكن المصنف بين في الشرح أنه يريد خبر كاد

وعسى، وأنشد في كاد: فأبت إلى فهم، وما كدت آيبا وكم مثلها فارقتها، وهي تصفر وفي عسى: أكثرت في العذل ملحًا دائمًا لا تلحني، إني عسيت صائما وهذا تنبيه على الأصل لئلا يجهل. وقالت العرب: "عسى الغوير أبؤسا"، فأبؤس منصوب على أنه خبر "عسى" عند س والبصريين، وهو على حذف مضاف، أي: ذا أبؤس. وقال ابن كيسان: أبؤسا مصدر، والتقدير: أن يبأس. قال مصعب بن أبي بكر الخشني: وهذا حسن. ونظره بقوله {فَطَفِقَ مَسْحًا}. وقال الكسائي: أبؤسا خبر "يكون" مضمرة، التقدير: أن يكون. وفي هذين التقديرين حذف مضاف، أي: أهل. وقال أبو عبيد: "التقدير: أن يأتي بأبؤس". وفي هذين القولين حذف "أن" وصلتها، وقد منع ذلك س والأكثرون.

وقيل: هي في هذا المثل بمعنى "صار" لأنه أخبر بالمصدر، ولا يكون في الرجاء. وقال أبو عمر الزاهد: "قال أبو العباس -يعني أحمد/ بن يحيي-: كلام العرب كله: عسى زيد قائم، فتجعل زيدًا مبتدأ وقائمًا خبره، ومن العرب من يجعلها في معنى كان، فيقول: عسى زيد قائمًا ولهذه العلة جاء الخبر عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال للرجل الذي وجد منبوذًا: عسى الغوير أبؤسا: انتهى. فظاهر هذا النقل عن أحمد بن يحيي أنه يجوز: عسى زيد قائم، بالرفع، وأنه كلام العرب، ولا يكون لعسى عمل البتة، وهذا شيء لا يعرفه البصريون. وظاهر كلامه أيضًا أنه يجوز: عسى زيد قائمًا، ولذلك أثبتها لغة للعرب لا ضرورة ولا نادرًا. وهذا أيضًا مخالف لرأي البصريين، ولو كان كما زعم أحمد بن يحيي من رفع الاسمين بعد عسى وأنه كلاه العرب لكان ذلك ثابتًا في نثرهم ونظمهم، ولا نحفظه جاء من كلامهم. وقد جاء المصدر بعد "أوشك" مغنيًا عن "أن" والفعل، قال الشاعر: لأوشك صرف الدهر تفريق بيننا ولا يستقيم الدهر، والدهر أعوج التقدير: لأوشك صرف الدهر أن يفرق بيننا.

وقوله وخبر جعل جملة اسمية مثاله قول الشاعر: وقد جعلت قلوص بني سهيل من الأكوار مرتعها قريب وقوله أو فعلية مصدرة بإذا قال المصنف: "كقول ابن عباس: فجعل الرجل إذا لم يستطع أن يخرج أرسل رسولًا". وقوله أو كلما، وندر إسنادها إلى ضمير الشأن ودخول النفي عليها سقط هذا من بعض النسخ، وثبت في بعضها مكان "وندر إسنادها إلى ضمير الشأن": "وندور إسنادها إلى ضمير"، ولم يشرح المصنف شيئًا من هذا الكلام. وقوله وليس المقرون بأن خبرًا عند س قال المصنف: "ليس المقرون بأن في هذا الباب عن س خبرًا، بل هو منصوب بإسقاط حرف

الجر أو بتضمين الفعل معنى قارب، قال س: "وتقول: عست أن تفعل، فأن هنا بمنزلتها في قولك: قاربت أن تفعل، أي: قاربت ذلك، وبمنزلة: دنوت أن تفعل. واخلولقت السماء أن تمطر، أي: لن تمطر، وعسيت بمنزلة اخلولقت السماء. ولا يستعمل المصدر هنا كما لم يستعمل الاسم الذي الفعل في موضعه في قولك: بذي تسلم" هذا نصه" انتهى. وقال أيضًا: "والوجه عندي أن تجعل عسى ناقصة أبدًا، فإذا أسندت إلى أن والفعل وجه بما يوجه وقوع حسب عليهما في نحو: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا}، فكما لم تخرج حسب بهذا عن أصلها لا تخرج عسى عن أصلها بمثل: {وعَسَى أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا}، بل يقال في الموضعين: سدت/ أن والفعل مسد الجزأين. ويوجه نحو: {فَعَسَى اللَّهُ أَن يَاتِيَ بِالْفَتْحِ} بأن المرفوع اسم عسى، وأن والفعل بدل، سد مسد جزأي الإسناد، كما كان يسد مسدهما لو لم يوجد المبدل منه، فإن البدل في حكم الاستقلال في أكثر الكلام، ومثله قراءة حمزة: {ولا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لُهُمْ} بالخطاب على دعل أن بدلًا من {الَّذِينَ} وسدها مسد المفعولين في البدلية، كما سدت مسدهما في قراءة الباقين {ولا يَحْسَبَنَّ} بالياء على جعل {الَّذِينَ كَفَرُوا} فاعلًا. ومثله: "حتى رئينا أنه لا حق لأحد منا في فضل" على رواية من رواه بالفتح في صحيح مسلم" انتهى.

ونقول: ما كان غير مقرون بأن فلا خلاف فيه أن الفعل فيه داخل على المبتدأ والخبر. وإن كان مقرونًا بأن فثلاثة مذاهب. أحدها: أنه مفعول، وهو مذهب المبرد وظاهر كلام الزجاج، ونسبه المصنف إلى س. والثاني: أنه في موضع الخبر لهذا الأفعال، وموضعه نصب إذ أصله المبتدأ والخبر، وعملت عمل كان، وصححه الأستاذ أبو الحسن بن عصفور، وهو مذهب الجمهور. والثالث: ما اختاره المصنف أنه في موضع رفع على البدل من المرفوع قبله بدل اشتمال، وما قبله فاعل، وهذا مذهب الكوفيين. فأما المذهب الأول فاستدل له أبو العباس بأن "أن" وما بعدها تتقدر بالمصدر، والمصادر لا تكون أخبارًا عن الجثث، فثبت أنها في موضع المفعول. وأجيب عن هذا بأن "أن" هنا مع ما بعدها لا تتقدر بالمصدر لأنها إنما أتى بها لتدل على أن في الفعل تراخيًا، ونظير ذلك مجيئهم بأن في خبر لعل، ومنه قوله عليه السلام: "لعل أحدكم أن يكون ألحن بحجته من بعض"،

وقول الشاعر: لعلهما أن تبغيا لك حيلة .............................. ولعل -بإجماع- من الحروف الداخلة على المبتدأ والخبر، فكما لا يتقدر الفعل المقرون بأن بعدها بالمصدر، فكذلك في عسى وأخواتها. واستدل لمذهب الجمهور بأنه في موضع نصب على الخبر بأنهم لما ردوه إلى الأصل نطقوا باسم الفاعل، ولم ينطقوا بالمصدر، مثل قولهم: لا تلحني، إني عسيت صائما ومن أصحاب هذا المذهب من زعم أن "أن" والفعل في هذا الباب تتقدر بالمصدر، وقال: جاز هنا أن يخبر بأن والفعل وليس بالاسم لأن المصدر قد يخبر به عن الاسم غير المصدر على جهة المجاز، نحو قولهم: زيد عدل ورضا، ومنه: ......................... فإنما هي إقبال وإدبار فكما يخبر عن الاسم الذي ليس بمصدر بالمصدر، فكذلك يخبر عنه بما كان في تأويله، ومن/ ذلك قوله تعالى: {ومَا كَانَ هَذَا القُرْآنُ أَن يُفْتَرَى

مِن دُونِ اللَّهِ} أي: افتراء. قال: ومن ذلك: لعلك يومًا أن تلم ملمة .................................... وقول الآخر: لعمرك ما الفتيان أن تنبت اللحى ................................... وأبطل مذهب الكوفيين بأنه لا يسوغ ذلك لأنه إبدال قبل تمام الكلام، والبدل لا يأتي كذلك؛ ألا ترى أن البدل إذا أخرج من الكلام كان ما بقى كلامًا تامًا، نحو: أعجبني عبد الله فهمه، لو قلت "أعجبني عبد الله" كان كلامًا مستقلًا، ولو قلت "عسى زيد" لم يكن كلامًا مستقلًا. فإن قلت: البدل قد يجيء قبل تمام الكلام بدليل قوله: لسان السوء تهديها إلينا وحنت، وما حسبتك أن تحينا فأن تحينا: بدل من الكاف، وإن كان لا يستقل "وما حسبتك" دون البدل. فالجواب أنه ليس ببدل اشتمال كما ذهب إليه ابن كيسان وبعضُ

الكوفيين، بل هو في موضع مفعول ثان وإن كان ليس الأول في المعنى؛ لأنه قد يخبر بالمصدر، وهذا في تأويله، فكما جاز الإخبار بالمصدر عن الجثة، فكذلك يخبر بأن والفعل. وأما قراءة حمزة التي ذكرها المصنف فتتخرج على حذف المفعول الثاني لـ {تَحْسَبَنَّ} لفهم المعنى، وهو جائز على قلة، وفيها تأويلات ذكرناها في كتابنا في تفسير القرآن، وهو المسمى بالبحر المحيط. وقوله ولا يتقدم هنا الخبر لا تقول في طفقت أفعل: أفعل طفقت، ولا في عسى زيد أن يقوم: أن يقوه عسى زيد. قال المصنف: "والسبب في ذلك أن أخبار هذه الأفعال خالفت أصلها بلزوم كونها أفعالًا، فلو قدمت لازدادت مخالفتها الأصل. وأيضًا فإنها أفعال ضعيفة لا تصرف لها؛ إذ لا ترد إلا بلفظ الماضر إلا كاد وأوشك، فإن المضارع منهما مستعمل، فلهن حال ضعف بالنسبة إلى الأفعال الكاملة التصرف، وحال قوة بالنسبة إلى الحروف، فلم تتقدم أخبارها لتفضلها كان وأخواتها". وفي البسيط: "لا يجوز تقديم أخبار أفعال المقاربة عليها اتفاقًا". وقوله وقد يوسط قال المصنف: "أجيز توسيطها تفضيلًا لها على إن وأخواتها، فيقال: طفق يصليان الزيدان، وكاد يطيرون المهزومون". وقد أطلق المصنف في قوله: "وقد يوسط"، وهو إذا كان خبر عسى وأخواتها مما فيه "أن" نحو: عسى زيد أن يقون، في جواز توسيطه خلاف:

ذهب المبرد وأبو سعيد السيرافي في كتاب "الإقناع" وأبو علي الفارسي إلى جوزا توسيطه. وصححه الأستاذ أبو الحين بن عصفور، فأجازوا أن تقول: عسى أن يقوم زيد، على أن يكون "أن يقوم" خبرًا لعسى، وزيد: اسم عسى. منهم من منع ذلك، وإلى المنع ذهب الأستاذ أبو علي، وزعم أنه لا يجوز في "عسى أن يذهب عمرو" وأشباهه إلا أن يكون "عمرو" فاعلًا بيذهب. والذي يجيز تقديمه يجيز هذا الوجه الأخير، وتسد "أن" مع صلتها في ذلك مسد الاسم والخبر، كما سدت مع صلتها مسد مفعولي ظننت في قولك: ظننت أن يقوم زيد. ومن هذا الوجه قوله تعالى: {عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا}، ولا يجوز أن يكون {أَنْ يَبْعَثَكَ} في موضع خبر {عَسَى}، و {رَبُّكَ} اسم {عَسَى} لئلا يفصل بين {أَنْ يَبْعَثَكَ} وبين {مَقَامًا مَحْمُودًا} بـ {رَبُّكَ}، وهو أجنبي من {يَبْعَثَكَ} لأنه مرفوع بعسى. وتظهر ثمرة الخلاف في التثنية والجمع، فعلى مذهب الجواز تقول: عسى أن يقوما أخواك، وعسى أن يقوموا أخوتك، وعسى أن يخرجن الهندات؛ لأنه خبر، والنية به التأخير. وعلى مذهب من منع يحتم رفع ما بعد "أن يفعل" بالفعل، فلا يكون ضمير، فتقول: عسى أن يقوم أخوالك، وعسى أن يقوم اخوتك، وعسى أن تقوم الهندات. وعلل الأستاذ أبو علي منع تقديم الخبر على الاسم بأن "عسى" فعل

غيرُ متصرف، فلا يجوز تقديم خبره على اسمه لذلك. ورد عليه بليس، فإنها غير متصرفة، ويتوسط خبرها. والحق أنه يحتاج في جواز توسيط الخبر على سماع من العرب، ولا يظهر ذلك إلا بأن يسمع مثل: عسى أن يقوما الزيدان، ولا يكون مختصًا بلغة: أكلوني البراغيث. وفي البسيط: ظاهر كلام س أنها هنا تامة لا خبر لها، وفاعلها ما بعدها على تقدير المصدر، ومعناها حينئذ دنا وقرب، ولا يجوز صريح المصدر. ويدل على أنه لا يضمر فيها أمران: أحدهما: أنه لا يثنى ولا يجمع لكون المصدر هو الفاعل. والثاني: أنه لا يكون غير فاعل ما بعدها فاعلها من جهة المعنى، وإذا كان إياه لزم أن يكون مستترًا في الفعل، ولا يكون، ولا يقال: فاعلها هو الاسم بعد الفعل، لكنه أخر لأننا نقوا: لو كان لقلت: عسى لأن يفعلا الزيدان، وأن يفعلوا الزيدون، وأنت لا تقول إلا مفردًا في جميع الأحوال. وقيل: هي ناقصة، والفاعل مغن عن الخبر وساد مسده لما تضمن من الحدث، كما في: أقائم زيد؟ وإذا قلت: القوم عسى أن يقوموا، وعسى أن يفعل، احتمل أن تكون الناقصة والتامة، وكون الفعل سد مسد اسمها وخبرها فاسد لا نظير له؛ ألا ترى أنه لا يكون في "كان"، وإنما يكون في المفعولين، ولا يصح أن يتقدم الفاعل في هذا النوع، فلا تقول: أن يقوم عسى، ويجوز حذف "أن" من هذه كما تسقط من الخبر، فتقول: عسى يجيء.

وقوله: وقد يحذف إن علم أي: يحذف الخبر، ومنه قوله تعالى: {فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالْأَعْنَاقِ} أي: يمسح، حذفه للدلالة مصدره عليه، ومنه ما جاء في الحديث: "من تأنى أصاب أو كاد، ومن عجل أخطأ أو كاد"، ومنه قول المرقش: وإذا ما سمعت من نحو أرض بمحب قد مات، أو قيل" كادا فأعلمني غير علم شك بأني ذاك، وابكي لمقصد لن يقادا أي: لن يؤخذ له بقود، وقول الأخر: ما كان ذنبك في جار جعلت له عيشًا، وقد كان ذاق الموت أو كربًا وقال آخر: وقد هاج سار لسار ليله طربًا وقد تصرم، أو قد كاد، أو ذهبًا الساري الأول: البرق وقوله ولا يخلو الاسم من الاختصاص غالبًا قال المصنف في الشرح: "حق الاسم في هذا الباب أن يكون معرفة أو مقاربًا لها، كما

يحق ذلك لاسم كان، وقد يرد نكرة محضة كقول الشاعر: عسى فرج يأتي به الله، إنه لكل يوم في خليقته أمر" وقوله وتسند أوشك وعسى واخلولق ل "أن يفعل"، فتغني عن الخبر مثاله قول تعالى: {وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ}، و {عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ}، وأوشك أن يقوم، وقال الشاعر، وهو كثير: سيوشك أن تنيخ إلى كريم ينالك بالندى قبل السؤال وقال آخر: إذا أنت لم تغفر لمولاك أن ترى به الجهل أو صارمته، وهو عاتب ولم توله المعروف أوشك أن ترى موالي أقوام ومولاك غائب واخلولق أن تفوز. وقال أبو عبد الله محمد بن هشام الخضراوي: "لا يجوز: اخلولق أن تمطر السماء" انتهى. فعلى لا يسند اخلولق إلى أن والفعل. وإذا أسندت إلى "أن يفعل" اكتفت به، وكان فاعلها، ولم تحتج إلى خبر، وإذا أسندت إلى اسم صريح لم يكن بها بد من خبر. وإنما اكتفت بأن والفعل لطولها وجريان الخبر والمخبر عنه وبالذكر في صلتها، كما سدت أيضًا مسد مفعولي ظننت وأخواتها.

وقيل في "عسى أن يخرج زيد" إنه على الإعمال. ويفسده: عسى أن يقوم إخوتك، وعسى أن يقوم الزيدان؛ لأنه على إعمال الأول يجب الإضمار في أن يقوم، وعلى إعمال الثاني/ يجب الإضمار في عسى. ويقطع بإسناد عسى إلى "أن يفعل" اتصال المرفوع إذا كان ضميرًا بالثاني في نحو" {وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا} لأن فاعل فعل لا يتصل بفعل آخر. وقوله ولا يختلف لفظ المسند لاختلاف ما قبله بل تقول: زيد عسى أن يذهب، والزيدان عسى أن يذهبا، والزيدون عسى أن يذهبوا، وهند عسى أن تذهب، والهندان عسى أن تذهبا، والهندات عسى أن يذهبن. وكذلك أوشك والخلولق؛ لأن الفعل لا يضمر فيه ضمير ما قبله؛ لأنه قد رفع "أن" والفعل. وقوله فإن أسند إلى ضمير اسمًا أو فاعلًا طابق صاحبه معها كما يطابق مع غيرها يقول: فإن أضمر في عسى وأوشك واخلولق ضمير ما قبله اسمًا على مذهب من يعتقد أنه اسم عسى وأوشك واخلولق لكونها دخلت على المبتدأ والخبر، أو فاعلًا على مذهب من يرى أن "أن" والفعل في موضوع المفعول لا في موضع الخبر، فيكون المرفوع بعسى وأوشك واخلولق فاعلًا بهن لا اسمًا لهن، فإنه يطابق ما قبله، فتقول: زيد عسى أن يخرج، والزيدان عسيًا أن يخرجا، والزيدون أن يخرجوا، وهند عست أن تخرج، والهندان عستا أن تخرجا، والهندات عسين أن يخرجن، وكذلك في أوشك واخلولق. وذكر المصنف أن س إلى ذلك في الثلاثة.

وقال "كما يطابق مع غيرها" يعني إذا قلت: زيد كان يقوم، والزيدان كانا يقومان، والزيدون كانوا يقومون، وهند كانت تقوم، والهندان كانتا تقومان، والهندات كن يقمن. وقد وقفت من قديم على نقل، وهو أن تجريد "عسى" من الضمير إذا تقدم الاسم لغة لقوم من العرب، وأن إسنادها إلى ضمير الاسم لغة لقوم آخرين، ونسيت اسم القبيلة التي نسبت إليها اللغة الأولى واسم القبيلة التي نسبت إليها اللغة الثانية، فليس كل العرب ينطق بالوجهين، وإنما ذلك بالنسبة إلى لغتين. وقال بعض أصحابنا: إذا دخلت عسى على الضمير فالأكثر الاقيس إجراء ذلك الضمير مجرى الظاهر، فيكون ضمير رفع، تقول: زيد عسى أن يقوم، والزيدان عسيا أن يقوما، والزيدون عسوا أن يقوموا، والهندات عسين أن يقمن، وعسيت زعسيا وعسين، ومن العرب من يستعمل ضمير النصب. وفي الشرح المنسوب لأبي الفضل الصفار: "وإن أسندت إلى مضمر غائب كان "عسى" مفردًا على كل حال، تقول: الزيدان عسى أن يقوما، والزيدون عسى أن يقوموا، وهند عسى أن تقوم، والهندات عسى أن تقوما، والهندات عسى أن يقمن، وتكون/ مفردة على كل حال، ويغني عن تبعية الضمير ما قبله وما بعده أو أحدهما، ولم يتصرف في هذا الضمير كما لم تتصرف في نفسها، فصارت كلعل وليت، ولا يثنى الضمير ولا يجمع إلا قليلًا" انتهى. ص: وإن كان لحاضر أو غائبات جاز كسر سين "عسى". وقد يتصل بها الضمير الموضوع للنصب اسمًا عند س حملًا على "لعل"، وخبرًا مقدمًا عند المبرد، ونائبًا عن المرفوع عند الأخفش، وربما اقتصر عليه. ويتعين عود الضمير من الخبر إلى الاسم، وكون الفاعل غيره قليل.

وتنفى كاد إعلامًا بوقوع الفعل عسيرًا، أو بعدمه وعدم مقاربته. ولا تزاد، خلافًا للأخفش. واستعمل مضارع كاد وأوشك، وندر اسم فاعل وأوشك وكاد. ش: الحاضر يشمل ضمير المتكلم والمخاطب. وكان ينبغي أن يقيد الضمير الذي للحاضر بصورة المرفوع ليحترز بذلك من ضمير الحاضر بصورة المنصوب، نحو عساك وعساني، فإنه لا يجوز في السين إلا الفتح. ومثال إسناده للضمير الذي ذكرناه أن تقول: عسيت أن أخرج، وعسيت أن تخرج، وكذلك فروعهما، والفتح أشهر، ولذلك قرأ به أكثر القراء، ولم يقرأ من السبعة بالكسر إلا نافع. وقوله أو غائبات مثاله عسين وعسين بالفتح والكسر، قاله ونقله أبو بكر خطاب الماردي، وذكر أبو بكر الأذفوي وغيره أن كسر السين مع المضمر خاصة هي لغة أهل الحجاز. وينبغي أن يقيد المضمر بما ذكرنه؛ ألا ترى أنه إذا كان ضمير غائب أو ضمير حاضر صورة المنصوب لا يجوز فيه إلا الفتح. وقد جهل أبو عبيد هذه اللغة، وقال: لو كان عسيتم بكسر السين لقرئ {عَسَي رَبُّكُمْ}.

وقال أبو علي الفارسي: "الأكثر فتح السين، وهو المشهور. ووجه الكسر قول العرب: هو عس بذلك، مثل حر وشج. فإن أسند الفعل إلى الظاهر فقياس عسيتم أن يقال: عسي زيد، مثل رضي. فإن قيل فهو القياس. وإن لم يقل فسائغ أن تأخذ باللغتين، فتستعمل إحداهما في موضع الأخرى منا فعل ذلك بغيره" انتهى. والمحفوظ عن العرب أنه لا تكسر السين إلا مع تاء المتكلم والمخاطب ونون الإناث. وفي البسيط: "وفيها لغتان: فعل وفعل إذا كان فاعلها ضمير متكلم أو مخاطب، وإذا كان فاعلها- وهو اسمها- غيره لم يكن إلا فعل بفتح العين، كذا ذكر أبو عثمان، وقد قيل: إنها لم يسمع فيها إلا ما ذكر. وسائغ أن تستعمل كل واحدة في موضع الأخرى كما قالوا: ورى الزند ووريت بك زنادي، ولما قالوا في المخاطب فعل وفعل نحو: {عَسَيْتُمْ} على القراءتين لا يبعد في "عيسى زيد" أن يفعل مثله. / وحكي ابن الإعرابي: عسى فهو عس، وما أعساه! وأعس به! " انتهى. وقوله وقد يتصل بها الضمير إلى قوله عند الأخفش إذا اتصل بعسى ضمير فحقه أن يكون بصورة المرفوع، وهذا هو المشهور في كلام العرب والذي نزل به القرآن، ومن العرب من يأتي به صورة المنصوب المتصل، فيقول: عساني وعساك وعساه، وقال عمران بن حطان: ولي نفس أقول لها إذا ما ... تنازعني: لعلي أو عساني

وقال آخر: يا أبتا علكك أو عساك وقال آخر: أصخ، فعساك أن يهدي ارعواء لقلبك بالإصاخة مستفاد وذكر المصنف في الفص ثلاثة المذاهب: فذهب س إقرار المخبر عنه والخبر على حالهما من الإسناد السابق، إلا أن الخلاف وقع في العمل، فعكس العمل حملًا على لعل. ومذهب المبرد والفارسي عكس الإسناد إذ جعل المخبر عنه خبرًا والخبر عنه مخبرًا عنه. ويلزم منه جعل خبر عسى اسمًا صريحًا، وذلك لا يجوز إلا في الشعر. ومذهب أبي الحسن إقرارا المخبر عنه والخبر عن حالهما من الإسناد، لكنه تجوز في الضمير، فجعل مكان الضمير المرفوع ضمير منصوب، وهو في محل رفع، نيابة عن المرفوع، كما ناب في قولهم: "ما أنا كأنت، ولا أنت كأنا"، وكما ناب "هو" عن ضمير النصب والجر في: مررت بك أنت، وأكرمته هو.

قال المصنف: "وقول الاخفش هو الصحيح عندي لسلامته من عدم النظير؛ إذ ليس فيه إلا نيابة ضمير غير موضوع للرفع عن موضوع له، وذلك موجود، كقول الراجز: يا بن الزبير طالما عصيكا وطالما عنيتنا إليكا قلت: ما زعم من أن ذلك موجود كقول الراجز: يا بن الزبير طالما عصيكا يريد: عصيت، فوضع ضمير النصب مرفوع ضمير الرفع، غير صحيح، بل الذي ذكر التصريفيون أبو علي وغيره أن هذا من إبدال تاء الضمير كافًا، وهو من شاذ البدل، فليس من وضع ضمير النصب موضع ضمير الرفع. والذي يدل على أنه من باب البدل تسكين آخر الفعل له في قولهم: عصيك، ولو كان ضمير نصب لم يسكن كما لم يسكن عساك روماك. قال المصنف: "ولأن نيابة الموضوع للرفع موجودة في نحو: ما أنا كانت، ومررت بك أنت، فلا استبعاد في نيابة غيره عنه". قلت: أما النيابة فيما ذكر من قولهم: "ما أنا كأنت" فذلك/ لعلة أن الكاف لا تدخل على الضمير المجرور، فاحتيج إلى النيابة، وفيما ذكر من

قولهم: "مررت بك أنت" فلأنهم لما أرادوا تأكيد المجرور، ولا منفصل له يؤكد به، احتاجوا إلى استعمال غيره. قال المصنف: "ولأن العرب قد تقتصر على عساك ونحوه، فلو كان المضمر في موقع نصب لزم منه الاستغناء بفعل ومنصوبه عن مرفوعه، ولا نظير لذلك، بخلاف كونه في موضع رفع فإن الاستغناء به نظير الاستغناء بمرفوع كاد في قولهم: من تأتي أصاب أو كاد". قلت: أما علة الاقتصار هنا على منصوب فلأنها لما عملت عمل لعل صار حكمها في الاقتصار حكمها، فكما يقتصر منصوب لعل وأخواتها، ويحذف مرفوعها للعلم به، فكذلك عسى، قال في الاقتصار عليهما: يا بتا عللك أو عساك وقال المصنف: "ولأن قول س يلزم منه حمل فعل على حرف في العمل، ولا نظير لذلك". قلت: عدم النظير ليس بديل، فمكم من أحكام لكلمات لا نظير لها. وأيضًا إذا كانوا لا يعملون الفعل، ويهملونه حتى من الفاعل لشبهه بالحرف، فلأن يعملوه عمله أحرى وأولى حملًا على الحرف، وذلك نحو قلما، فإنهم أجروها مجرى "ما"، فإذا قلت "قلما يقوم زيد" فكأنك قلت: ما يقوم زيد، فهذا أيضًا لا نظير له، ومع ذلك هو من كلام العرب. وزعم السيرافي أن "عسى" في قولك عساك وعساني حرف. قال

المصنف: "وفيه ضعف لتضمنه اشتراك فعل وحرف في لفظ واحد، إلا أن فيه تخلصًا من الاكتفاء بمنصوب فعل عن مرفوعه في نحو: ............. علك أو عساك وفي نحو "عساك تفعل" بغير "أن"، ولا تخلص للمبرد من ذلك. ويلزم المبرد أيضًا مخالفة النظائر من وجهين آخرين: أحدهما الإخبار باسم عين جامد عن اسم معنى". قلت: لا يلزم ذلك إلا إذا اعتقد "أن" حرفًا ينسبك منه مع فعله مصدر، أما إن اعتقد أنها زيدت لأجل "عسى" وتراخى الفعل فلا يلزم ذلك. قال المصنف: "والثاني وقوع خبر في غير موضعه بصورة لا تجوز فيه إذا وقع موقعه، وذلك أنك لو قلت في عساك أن تفعل: عسى أن تفعل إياك، ولم يجز، وما لم يجز في الحالة الأصلية حقيق بان لا يجوز في الحالة الفرعية. فتبين أن قول أبي الحسن في هذه المسألة هو الصحيح". قلت: الصحيح مذهب س. والذي يقطع ببطلان مذهب أبي الحسن أن قوله: إن "أن تفعل" في موضع نصب، وإن الضمير في موضع رفع، أن بعض العرب صرح بعد "عسى" المتصل بها ضمير النصب بالاسم مرفوعًا مكان "أن تفعل"، كما صرح به منصوبًا بعد ضمير الرفع في قوله: / لا تلحني إني عسيت صائمًا قال: فقلت: عساها نار كأس، وعلها تشكي، فآتي نحوها، فأعودها

فهذا قاطع ببطلان مذهب أبي الحسن؛ إذ لو كان في موضع نصب لقال: عساها نار كأس، ونصب. وفي البسيط: "ولو ظهر الخبر بغير أن لافتضح الأخفش" انتهى. وقد ظهر في هذا البيت الذي أنشدناه، فافتضح. وبقى الترجيح بين مذهب س وأبي العباس؛ إذ في كليهما خروج عما استقر في "عسى"، لكن ينبغي مراعاة المعنى إذا تعارض مع اللفظ، ففي مذهب س الخروج عما استقر لها من العمل، وهو أمر لفظي. وفي مذهب أبي العباس الخروج عما استقر لها من جعل المخبر عنه خبرًا والخبر مخبرًا عنه، وهذه إحالة للمعنى، فكان مذهب س أرجح لذلك. وقوله وربما اقتصر عليه مثاله: يا أبتا عللك أو عساك وقوله: ............. تنازعني: لعلي أو عساني فإن قلت: المنصوب لا بد له من مرفوع. فالجواب ما قاله أبو علي، قال: "هو محذوف، ولم يمتنع حذفه- وإن كان الفاعل لا يحذف- لأنها أشبهت لعل، فجاز حذفه كما جاز حذف أخبار هذه الحروف من حيث كان الكلام في الأصل مبتدأ وخبرًا، فحذف كما حذف علك، ويكون ذلك المحذوف غائبًا، كأنه قال: عساك الهالك، وعساك هو، وما حكي من قولهم: عساك تفعل، وعساني

أخرج، فيخرج على إضمار أن، نحو: وما راعنا إلا يسير بشرطة ....................... أي: إلا أن يسير، أو كما قال أحمد بن يحي: يعجبني يقوم. وكان هشام والفراء يقولانه، فيضمران أن. لو أضمر في عساني وعساك مرفوع هو الفاعل، والياء والكاف منصوبان، فعدي إلى الضمير كما تعدي إلى المظهر في "عسى الغوير أبؤسا" لكان وجهًا. والفاعل حينئذ إن جرى له ذكر فلا إشكال في إضماره، وإن لم يجر له ذكر فإنما يضمر لدلالة الحال عليه، كما في قولهم: إذا كان غدًا فأتني، وتكون على بابها، ولا تشبه بلعل" انتهى، وهو ملخص من البسيط. وقوله ويتعين عود ضمير من الخبر إلى الاسم وذلك أن "كان" إذا وقع المضارع خبرها جاز أن يرفع ضمير اسمها، وجاز أن يرفع السببي، فتقول: كان زيد يقوم، وكان زيد يقوم أخوه. وأما هنا فذكر المصنف أنه يتعين عود ضمير من الخبر إلى الاسم، وما قاله ليس بجيد لوجوه. أحدها: أنه قال: "ويتعين:، وقال بعده: "وكون الفاعل غيره قليل"، فدل على أنه يتعين، فإصلاحه أن يقول: ويكثر عود ضمير من الخبر إلى الاسم. والثاني: أنه جعل ذلك حكمًا في جميع هذه الأفعال. والذي ذكره أصحابنا أن ذلك- أعني أنه لا يكون فاعل خبرها إلا ضمير اسمها- يكون في جميع أخوات عسى، وأما "عسى" فإنه يجوز أن يكون ضمير اسمها،

ويجوز أن يكون سببيًا منه، وأنشدوا: / وما عسى الحجاج يبلغ جهده إذا نحن جاوزنا حفير زياد برفع "جهده" ونصبه. والثالث: "أنه قال "وكون الفاعل غيره قليل". وهو عند أصحابنا لا يجوز، وتأولوا ما ورد من ذلك، وكذا قال المصنف في شرحه، قال: "الضمير في غير هذا الباب لا يشترط كونه فاعلًا، بخلافه في هذا الباب، فإن الفاعل لا يكون غيره إلا على قلة، ولا يكون ما ورد على قله مؤولًا بأنه هو" انتهى. وهذا كلام مثبج؛ لأنه أثبت في الفص أن مكون الفاعل غير الضمير قليل، ثم ذكر أنه يكون مؤولًا، فإذا كان مؤولًا فلا يثبت للقلة حكم البتة. وقالوا: يجوز: عسى زيد أن يرحمه الله، ولا يجوز: جعل زيد يضربه عمرو، ولا: يضربه أبوه. قالوا: ويجوز: جعل زيد يضرب فيصبر، أي: جعل زيد يصبر على الضرب. ومما جاء فيه الفعل مسندًا لغير الضمير العائد على أسماء هذه الأفعال قول الشاعر: وقفت على ربع لمية ناقتي فما زلت أبكي عنده، وأخاطبه وأسقيه حتى كاد مما أبثه تكلمني أحجاره وملاعِبُهْ

وقول الآخر: وقد جعلت إذا ما قمت بثقلني ثوبي، فأنهض نهض الشارب الثمل وقول الآخر: فخلاها حتى إذا طال ظمؤها وقد كدن لا يبقى لهن شحوم وقول الآخر: وجدت فؤادي كاد أن يستخفه رجيع الهوى من بعض ما يتذكر المعنى: يكلمني، وأثقل بثوبي، ولا يبقين، وأن يخف من رجيع الهوى. وأنشد أحمد بن يحي: فقد جعلت في حبة القلب والحشا عهاد الهوى يوفي بشوق بعيدها ويروي: يعيدها: وهو أجود. وفي الإفصاح: خبر أفعال المقاربة لا يكون إلا لفاعل فعل المقاربة لا لسببه، لا تقول: طفق زيد يتحدث أخوه، ولا: أنشأ عمرو ينشد ابنه؛ لأنها إنما جاءت لتدل على أن فاعلها قد تلبس بهذا الفعل، وشرع فيه لا غيره. و"جعلت يثقلني ثوبي" حمل على المعنى، فكأنه قال: أضعف عن حمل ثوبي، وأتثاقل، وأتعب بلباسه. ويدل على هذا أنه عطف على هذا الفعل ما هو له، فقال: فأنهض. وقد يكون هذا قد صح بسبب

"فأنهض" لأنه المقصود، فكأنه قال:/ أنهض نهض الشارب الثمل لضعفي عن حمل ثوبي؛ لأن الفاء تربط ما بعدها بما قبلها لما فيها من معنى السببية. وقد يمكن أن أراد بـ "جعلت" جعل ثوبي، فحذف المضاف، وأعاد بعد. وقوله وتنفي "كاد" إعلامًا بوقوع الفعل عسيرًا أو بعدم وعدم مقاربته إذا أدخلت حرف النفي على كاد ويكاد فمذهب الزجاجي وغيره أنه يدل على نفي الفعل ومقاربته. فإذا قلت: "ما كاد زيد يقوم" فمعناه نفي المقاربة، ويلزم من نفي المقاربة نفي القيام، ولذلك قالوا في قوله تعالى: {لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا}: إن معناه: لم يرها، ولم يقارب رؤيتها. وفي قوله {لَا يَكَادُ يُسِيغُهُ}: إنه لا يسيغه، ولا يقارب إساغته، وهذا معنى قول المصنف: "أو بعدمه وعدم مقاربته". وذهب قوم منهم أبو الفتح إلى أن نفيها يدل على وقوع الفعل بعد بطء، وهذا معنى قول المصنف: "وتنفي كاد إعلامًا بوقوع الفعل عسيرًا". واستدل أبو الفتح على ذلك بقول الله تعالى: {فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ}؛ ألا ترى أنهم قد فعلوا بعد بطء.

وجمع المصنف بين القولين: قول الزجاجي وقول أبي الفتح، وهما مذهبان قال بعض أصحابنا: والصحيح مذهب الزجاجي لأن فيه حمل "كاد" على سائر الأفعال في أن نفيها نفي. وقال المصنف أيضًا: "وزعم قوم أن كاد ويكاد إذا دخل عليهما نفي الخبر مثبت، وإذا لم يدخل عليهما نفي الخبر منفي، والصحيح أن إثباتهما إثبات للمقاربة ونفيهما نفي للمقاربة". ثم قال: "وقد يقول القائل: لم يكد زيد يفعل، ويكون مراده أنه فعل بعسر لا بسهولة، وهو خلاف الظاهر الذي وضع اللفظ له أولًا، ولإمكان هذا رجع ذو الرمة في قوله: إذا غير النأي المحبين لم يكد رسيس الهوى من حب مية يبرح إلى أن بدل "يكد" ب"تجد"، وإن كان في "يكد" من المبالغة والجزالة ما ليس في "تجد" انتهى. وهذا الذي أجازه أخيرًا من انه "تنفي كاد إعلامًا بوقوع الفعل عسيرًا" هو الذي ذهب إليه أبو الفتح ومن تبعه، ولم يجوز غيره. وقد زعم المصنف أنه خلاف الظاهر الذي وضع اللفظ له، والعجب أنه قد ذكر في قوله تعالى {فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ} أنه محمول على وقتين: وقت عدم الذبح وعدم مقاربته، ووقت وقوع الذبح، كما يقول القائل: خلص فلان وما كاد يخلص. وكذا تأوله أصحابنا على أن المراد:

فذبحوها بعد تكرار الأمر عليهم بذبحها، وما كادوا يذبحونها قبل ذلك، ولا قاربوا الذبح، بل أنكروا ذلك أشد الإنكار بدليل قولهم: {أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا}. وإذا كان تأويل الآية على أن ذلك في وقتين فكيف يقول المصنف إنها: "تنفي كاد إعلامًا بوقوع الفعل عسيرًا"، وإنما علم وقوع الفعل من قوله {فَذَبَحُوهَا}، ومن قولك: خلص زيد ولم يكن يخلص، وهو الفعل المثبت لا "كاد" المنفية. وفي البسيط: فيها لغتان كدت وكدت تكاد، وهي جارية مجرى الأفعال في أن إيجابها يدل على ثبوت القرب ونفيها يدل على نفيه، ولا يتعرض لذات الفعل بنفي ولا إثبات بحسب لفظها، وثبوته أو نفسه يعلم من خارج. وقال بعضهم: إنها مع الإثبات نفي، ومع النفي إثبات. وهذا إن إضافة إلى دلالة اللفظ بوضعه فقد أخطأ. وقيل: هي مع الماضي المنفي منها إثبات، ومع غيره فعلى قياس الأفعال. وقال بعض المتأخرين: إنها للقرب، وتشعر بعدم الفعل، فتارة يكون نفيها بحسب مدلولها، ولا تكون إثباتًا، وتارة يكون بحسب ما تشعر، فيكون نفيه إثباتًا لأن نفي النفي إثبات، فتكون جارية في النفي على طريقتين، وعلى نفي المقاربة {وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ}، وعلى نفي النفي {لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا}.

وقوله ولا تزاد، خلافًا للأخفش استدل على ذلك بقوله تعالى: {إِنَّ السَّاعَةَ آَتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا}، وبقول حسان: وتكاد تكسل أن تجيء فراشها في جسم خرعبة وحسن قوام وأولت الآية على معنى: أكاد أخفيها فلا أقول هي آتية، وقيل: معناه: أكاد أخفيها عن نفسي. وقرأ أبو الدرداء وابن خبير: {أَكَادُ أُخْفِيهَا} بفتح همزة (أخفيها) من خفيت الشيء: أظهرته، وقال الشاعر: خفاهن من أنفاقهن، كأنما خفاهن ودق من عشي مجلب أي: أظهرهن. وأما "وتكاد تكسل" فإنه وصف المرأة بمقاربة الكسل دون حصوله، ولو كانت زائدة لكان وصفًا مذمومًا لأنه يدل على مهانة النفس جدًا؛ إذ يلزمها أن تنام في أي مكان كانت فيه.

وقوله واستعمل مضارع كاد وأوشك ذكر في أول الباب ما نصه: "ويلازمن لفظ المضي إلا كاد وأوشك". وبين هنا الذي استعمل من تصاريف كاد وأوشك هو المضارع، ومضارع أوشك أكثر من الماضي، ولذلك أنكر الأصمعي الماضي، وتقدم ذكر ذلك. وذكر الجوهري مضارع طفق. قال المصنف: "ولم أراه لغيره". والظاهر أنه قال رأيًا. وحكي الكسائي: إن البعير حتى يجعل إذا شرب الماء مجه. وفي شعر زهير الأمر من أوشك، قال يصف قطاه وصقرًا: حتى إذا قبضت أولى أظافره منها، وأوشك بما لم تخشه يقع وفي شعره أيضًا استعمال أفعل التفضيل منه، قال: وما مخدر ورد عليه مهابة يصيد الرجال، كل يوم ينازل بأوشك منه أن يساور قرنه إذا شال عن خفض العوالي الأسافل وقوله ونذر اسم فاعل وأوشك وكاد مثاله ذلك قول الشاعر:

فموشكة أرضنا أن تعود خلاف الخليط وحوشًا يبابا وقول الآخر: فإنك موشك أن لا تراها وتغدو دون غاضرة الغوداي وقول كثير: أموت أسي يوم الرجال وإنما يقينًا برهن بالذي أنا كائد قال المصنف: "أراد: بالموت الذي كدت آتيه، فأقام اسم الفاعل مقام الفعل". وفي البسيط: فال بعضهم إن لكاد مصدرًا، يقال: كاد كودًا ومكادًا. وحكي قطرب: كاد كيدًا وكيدودة. وفيه نظر لأن كاد من ذوات الواو، وقد حكى س: كدت، ولا يكون هذا إ من الواو تم بحمد الله وتوفيقه الجزء الرابع من كتاب "التذييل والتكميل" بتقسيم محققه، ويليه- إن شاء الله تعالى- الجزء الخامس، وأوله: "باب الأحرف الناصبة الاسم الرافعة الخبر"

التذييل والتكميل في شرح كتاب التسهيل ألفه أبو حيان الأندلسي حقه الأستاذ الدكتور حسن هنداوي جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية - فرع القصيم الجزء الخامس دار القلم دمشق

باب الأحرف الناصبة الاسم الرافعة الخبر

-[ص: باب الأحرف الناصبة الاسم الرافعة الخبر وهي (إن) للتوكيد، و (لكن) للاستدراك، و (كأن) للتشبيه، وللتحقيق أيضًا على رأي، و (ليت) للتمني، و (لعل) للترجي، وللإشفاق، والتعليل، والاستفهام. ولهن شبهٌ بـ (كان) الناقصة في لزوم المبتدأ والخبر والاستغناء بهما، فعملت عملها معكوسًا ليكونا معهن كمفعولٍ قُدم وفاعلٍ أخر تنبيهًا على الفرعية، ولأن معانيها في الأخبار، فكانت كالعمد، والأسماء كالفضلات، فأعطيا إعرابيهما. ويجوز نصبهما بـ (ليت) عند الفراء، وبالخمسة عند بعض أصحابه، وما اشتشهد به محمولٌ على الحال، أو على إضمار فعل، وهو رأي الكسائي.]- ش: ذكر المصنف (الأحرف) لأنه جمع قلة، وهو أولى من قولهم (الحروف) وإن كان جائزًا، واعتذر عمن قال (الحروف) بأنها وإن كانت قليلة فإنه قد يُلحظ ما يعرض فيها من فتح (إن)، ومن لغات (لعل)، ومن تخفيف ما آخره نونٌ مشددة منها. وذكرها خمسة، ولم يذكر (أن) اعتبارًا بالأصل لأن (أن) فرع المكسورة، واقتداء بـ (س) والمبرد في (المقتضب) / وابن السراج في (الأصول).

ثم أورد على نفسه اعتراضًا، فقال: "إذا كان تفريع أن سببًا لعدم الاعتداد بها فينبغي ألا يُعتد بكأن؛ فإن أصل كأن زيدًا أسدٌ: إن زيدًا كالأسد. فالجواب: أن أصل كأن منسوخ لاستغناء الكاف عن متعلق به، بخلاف أن، فليس أصلها منسوخًا بدلالة جواز العطف بعدها على معنى الابتداء كما يُعطف عليه بعد المكسورة، فاعتُبرت فرعية أن لذلك دون كأن" انتهى. وقال النحاس: "أنكر المبرد على س قوله (هذا باب الحروف الخمسة)، وقال: (هي ستة، والسادس أن؛ لأنها مع صلتها اسم). وهذا من أبي العباس تحامل، فينبغي أن يُنكر على نفسه إذ ذكرها في (المقتضب) خمسة". وقوله الناصبة الاسم هذا لا خلاف فيه، وأنها هي العاملة النصب في الاسم. وقوله الرافعة الخبر هذا مختلف فيه، فمذهب البصريين أنه هي الرافعة للخبر كما هي الناصبة للاسم، وأنها عملت عملين. ومذهب الكوفيين أنها لم تعمل في الخبر شيئًا، بل هو باقٍ على رفعه قبل دخولها. ومن حُجتهم ما حكاه س عن العرب حين قال: "واعلم أن

ناسًا من العرب يغلطون، فيقولون: إنك وزيدٌ ذاهبان". جعل هذا غلطًا لأن من مذهبه أن خبر (إن) مرتفع بها، فإذا قلت (وزيدٌ) بالرفع فقد أعملت الابتداء في الخبر، ولا يعمل في اسم عاملان. والكوفيون لا يُغلطون العرب في مثل هذا، بل هو شاهد لهم، والمعنى: أنت وزيدٌ منطلقان. قال السهيلي: "ومما يدل على صحة قولهم أنه لو كان مرفوعًا بها لجازي أن يليها كما يلي كل عامل ما عمل فيه، وإنما الممتنع ما عمل فيه غيره. ومن حجتهم أن هذه الحروف أضعف من (كان) و (ظننت)؛ لأن تلك أفعال، فرفعت ونصبت كما تعمل الأفعال، وهذه حروف، والحروف إنما تعمل في اسمٍ واحد أو في فعلٍ خاصة، إلا أن حروف الشرط في عملها في الجواب نظر واختلاف" انتهى. وقال أبو إسحاق الزجاج: إنما لم يل (إن) إلا المنصوب لأنهم قد فرقوا بين ما كان موضوعًا موضع الفعل مؤديًا عن معناه وبين ما ضُورع به الفعل من غير أن يكون في موضع الفعل؛ فالذي جُعل في موضع الفعل قولك: ما زيدٌ منطلقًا، فهذا في موضع: ليس زيدٌ منطلقًا، وهو مؤدً عن معناه. والذي ضورع به الفعل وليس موضوعًا موضعه: إن زيدًا منطلقٌ. وقال علي بن سليمان: جُعل في الحروف ما في الفعل من العمل إلا موضعًا واحدًا ليكون للفعل فضيلة، فقيل: ما زيدٌ منطلقًا، كما قيل: ضرب زيدٌ عمرًا، وقيل: إن زيدًا منطلقٌ، كما قيل: ضرب زيدًا عمرٌ والذي فضل به الفعل لتصرفه: زيدًا ضرب عمرو.

وقوله وهي (إن) للتوكيد ولذلك أجيب بها القسم كما يجاب باللام في قولك: والله لزيدٌ قائمٌ. وزعم ثعلب أن الفراء/ قال: (إن) مُقررة لقسمٍ متروكٍ، استغني به عنه، والتقدير: والله إن زيدًا لقائمٌ. وقال في (البسيط): "مُطلق التأكيد لا يخص جنسًا من جنس؛ ألا ترى أن اللام لا تخص الاسم من الفعل، فتقول: لزيدٌ قائمٌ، كما تقول: ليقوم زيدٌ، بخلاف (إن)، فإنها خاصة بجمل الأسماء" انتهى. ومن مُلح القول في (إن) ما ذكره في (الغرة) من أن (إن) لها عشرة أنحاء: للتحقيق. وبمعنى نعم. وأمرًا من الأنين. وماضيًا مبنيًا للمفعول من الأنين على لغة رد، تقول: إن في هذا الأنين. وأمرًا من الأين، تقول للنساء: إن، أي: اتعبن. وأمرًا للأنثى من وأي، لحقه نون التوكيد. وأمرًا للنساء من آن، أي: قرب، أي: اقربن. وإخبارًا عن المؤنث المجموع، أي: قربن. وإن قائمٌ، الأصل: إن أنا قائمٌ، فنقل وحذف. وعلى من أعمل (إن) قال: إن قائمًا. وذكروا أن (أن) المفتوحة أيضًا معناها التوكيد. ولا يظهر لي هذا المعنى لأنها ينسبك منها مصدر، ولو صرحت بالمصدر المنسبك منها لم يكن ثم في النسبة توكيد، لو قلت في بلغني أنك منطلقٌ: بلغني انطلاقك، لم يكن فيه توكيد البتة.

وفي (البسيط): "قال النحويون: (أن) المفتوحة تكون للتوكيد، وتُفيد السبك. قلت: وعلى هذا إشكال، وهو أنها إذا كانت للتأكيد كان معناها تحقيق الخبر وتأكيد النسبة، وإذا كانت سابكة كان في ذلك إبطال الخبرية لأن سبكها يُبطل الخبرية؛ لأن في السبك عدم قبول الصدق والكذب. والجواب: أن المفتوحة أصلها الكسر، والمؤكدة هي المكسورة ليس إلا، لكن فتحها يكون لصيرورتها في تأويل المفرد المؤكد ثبوته، فإذا قلت: إن زيدًا منطلقٌ، ثم قلت: علمت أن زيدًا منطلقٌ، فمعناه: علمت أن المؤكد الثابت، فعلى هذا لا تكون إلا علامة على السبك لا للتأكيد والسبك" انتهى. وقوله و (لكن) للاستدراك زاد غيره: وللتوكيد. ومعنى الاستدراك الذي فيها أنك تنسب حكمًا لمحكوم عليه يُخالف الحكم الذي للمحكوم عليه قبلها، ولذلك لابد أن يتقدمها كلام ملفوظ به أو مقدر ولابد أن يكون الكلام الذي قبلها نقيضًا لما بعدها أو ضدًا، فإن كان خلافًا ففي وقوعها بين الخلافين خلاف، وإن كان وفاقًا فالإجماع على أنه لا يجوز. فمثال النقيض: ما هذا ساكنٌ لكنه متحركٌ. ومثال الضد: ما هذا أسود لكنه أبيض، ومثال الخلاف: ما هذا قائمٌ لكنه شاربٌ. ومثال الوفاق: ما زيدٌ قائمٌ لكن عمرًا قائمٌ. وفي (البسيط): "معناها الاستدراك لخبرٍ تُوهم أنه موافق لما قبله في الحكم، فأتى به لرفع ذلك التوهم، أو تقريره، أو لتأكيد الأول وتحقيقه، نحو: ما قائمٌ زيدٌ لكن عمرًا قاعدٌ، لما قيل (ما قائمٌ زيدٌ) فكأنه

توهم أن عمرًا مثله لشبهٍ بينهما أو ملابسة، فرفعت ذلك التوهم، واستدركت في كلامك ذلك، ونحو: لو قام فلانٌ لفعلت لكنه لم يقم، فأكدت ما دلت عليه (لو)، وكأنها في المعنى مُخرجة لما دخل في الأول توهمًا، قال تعالى: / {وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيراً لَّفَشِلْتُمْ}، ثم قال: {وَلَكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ} أي: ما أراكهم كثيرًا. وكذلك: ما قام زيدٌ ولكنه قعد، فيها معنى التأكيد لمضمون الجملة الأولى. فإن لم تتضمن مخالفة في المعنى، واللفظ مخالف، والمعنى يُمكن أن يوافق، نحو: ما قام زيدٌ لكن ما أتي يضحك، فقد يقال إنه لا يجوز لأنه لا فائدة في الاستدراك، فيضيع معنى لكن. وقد يقال هو جائز لأنه استدراك فائدة مخالفة الأول في الثبوت والنفي، فأشبهت الأول" انتهى، وفيه تلخيص وبعض زيادة. واختلفوا أهي بسيطة أم مركبة: فذهب البصريون إلى أنها بسيطة، وأنها منتظمة من خمسة أحرف، وهي أقصى ما جاء عليه الحرف. وذهب الفراء إلى أنها مركبة، وأن أصلها: لكن أن، فطرحت الهمزة من (أن)، وسقطت نون (لكن) حيث استقبلت ساكنًا، كما قال الشاعر:

فلست بآتيه، ولا أستطيعه ولاك اسقني إن كان ماؤك ذا فضل فحذف نون (لكن) لالتقائها ساكنة مع سين (اسقني). ونقل صاحب (اللباب) عن الكوفيين أنها مركبة من (لا) و (إن) والكاف زائدة، والهمزة محذوفة، قال: "وهذا ضعيف جدًا". وفي (البسيط): "قيل: هي غير مؤلفة، وهو مذهب الأكثرين. وقيل: هي مؤلفة من (لا) و (كأن)، والكاف للتشبيه، و (أن) على أصلها، ولذلك وقعت بين كلامين لما فيه من نفي لشيء وإثباتٍ لغيره، وهو رأي أي زيد - يعني السهيلي - فإذا قلت (قام زيدٌ لكن عمرًا قاعدٌ) فكأنك قلت: لا كأن عمرًا قاعدٌ، ويُتأول في المعنى: فعل زيدٍ لا كفعل عمرٍو، ثم رُكبت هذه الحروف الثلاث، فانتشر تغييرها، فكسرت الكاف، وحُذفت همزة (أن)، ولم يقع التغيير في الأول منها لأنه الصدر، والتغيير في الأواخر والأوساط. وقال أبو زيد - يعني السهيلي - (كُسرت الكاف للدلالة على المحذوف)، يعني أن الأصل (إن) المكسورة، وهو رأي بعض الكوفيين، فما دخلت الكاف فتحت، فلما حُذفت الهمزة غُيرت الكاف بالكسر لتدل على المحذوف لكثرة التغيير. وهذا المذهب لا دليل عليه" انتهى. وقوله و (كأن) للتشبيه ذهب الخليل وس والأخفش وجمهور

البصريين والفراء إلى أنها مركبة من كاف التشبيه ومن (إن)، فأصل كأن زيدًا أسدٌ: إن زيدًا كأسدٍ، فالكاف للتشبيه، و (إن) مؤكدة له، ثم أرادوا الاهتمام بالتشبيه الذي عليه عقدوا الجملة، فأزالوا الكاف من وسط الجملة، وقدموها إلى أولها لإفراط عنايتهم بالتشبيه، فلما أدخلوا الكاف على (إن) وجب فتحها لأن (إن) المكسورة الهمزة لا يتقدمها حرف الجر، ولا تقع إلا أولًا أبدًا، وبقي معنى التشبيه الذي كان فيها وهي متوسطة كحالة فيها وهي/ متقدمة. وقال بعض البصريين: "هذا خطأ لأنه يلزم قائله أن يأتي بخبر الكاف" انتهى. وقول ابن هشام: "لا خلاف في أنها مركبة من إن وكاف التشبيه" ليس بصحيح لوجود الخلاف فيها. والأولى أن تكون (كأن) حرفًا بسيطًا وُضع للتشبيه كالكاف، وألا تكون مركبة من الكاف و (إن)؛ لأن التركيب على خلاف الأصل. واختلف القائلون بالتركيب: هل تتعلق هذه الكاف بشيء أم لا؟ فقال أبو الفتح: "الكاف لما تقدمت بطل أن تكون متعلقة بفعلٍ ولا معنى فعلٍ لأنها فارقت الموضع الذي يُمكن أن تتعلق فيه بمحذوف، فزال ما كان لها من التعلق بمعاني الأفعال في حال توسطها". قال: "وليست هنا زائدة لأن معنى التشبيه موجود فيها، وإن كانت قد تقدمت فأزيلت عن مكانها، وإذا كانت غير زائدة فقد بقي النظر في (أن) التي دخلت عليها، هل هي مجرورة بها أو غير مجرورة".

قال: "فأقوى الأمرين فيها عندي أن تكون مجرورة بالكاف. فإن قلت: إن الكاف الآن ليست متعلقة بفعل. فليس ذلك بمانع من الجر فيها؛ ألا ترى أن الكاف في قوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} غير متعلقة بفعل، وهي مع ذلك جارة". قال: "ويؤكد عندك أن الكاف هنا جارة فتحهم الهمزة بعدها كما يفتحونها بعد العوامل الجارة وغيرها، وذلك نحو: عجبت من أنك قائمٌ، وأظن أنك منطلقٌ، وبلغني أنك كريمٌ". وذهب أبو إسحاق الزجاج إلى أن الكاف الجارة في موضع رفع، فإذا قلت "كأني أخوك" ففي الكلام عند حذف، وتقديره: كأخوتي إياك موجودٌ؛ لأن (أن) وما عملت فيه بتقدير مصدر، فلا تكون الكاف على هذا مقدمة من تأخير. قال الأستاذ أبو الحسن بن عصفور: وما ذهب إليه أبو الفتح أظهر من جهة أن العرب لم تُظهر قط ما ادعى أبو إسحاق إضماره؛ ألا ترى أنه لا يُحفظ من كلامهم: كأني أخوك موجودٌ. وقوله وللتحقيق أيضًا على رأي هو رأي الكوفيين والزجاجي، زعموا أنها تأتي للتحقيق والوجوب، وجعلوا من ذلك قول الشاعر:

فأصبح بطنُ مكة مقشعرًا كأن الأرض ليس بها هشام وقول الآخر، وهو عمر بن أبي ربيعة: كأنني حين أمسي لا تُكلمني متيمٌ يشتهي ما ليس موجودًا المعنى عندهم: لأن الأرض ليس بها هشام، وإنني حين أمسي لا تُكلمني؛ إذ محال أن يقول الإنسان: كأن الأرض ليس بها هشام، على جهة التشبيه، وهشام ليس بالأرض. وفي بيت عمر لا يصح التشبيه؛ ألا ترى أن يشتهي كلامها، وهي لا تكلمه، وإذا/ كان كذلك فهو مُشتهٍ. والصحيح أنها في البيتين للتشبيه: أما الأول فلأنه أراد أن بطن مكة قد كان ينبغي له ألا يقشعر لدفن هشام في أرضه وتضمنه أشلاءه، وهو قائم مقام الغيث، فكما أنه لا يُقشعر مع وجود الغيث فكذلك كان ينبغي ألا يقشعر لتضمنه أشلاء هشام، فلما اقشعر صارت أرضه كأنها ليس بها هشام. وأما البيت الثاني فيرجع إلى التشبيه من جهة أنه يئس من أن تُكلمه مع اشتهائه كلامها وإن كانت موجودة، كما يوئس من الوصول إلى ما هو معدوم، فصار لذلك كأنه اشتهى ما لا وجود له أصلًا.

وقال المصنف في البيت الأول: "يُخرج على أن هشامًا وإن مات فهو باقٍ ببقاء من يخلُفه سائرًا بسيرته". قال: "وأجود من هذا أن تجعل الكاف من (كأن) للتعليل في هذا الموضع، وهي المرادفة للام، كأنه قال لأن الأرض ليس بها هشام". وذهب الزجاجي والكوفيون إلى أن (كأن) إذا كان خبرها اسمًا جامدًا كانت للتشبيه، وإذا كانت مشتقًا كانت للشك بمنزلة ظننت وتوهمت. وإلى هذا ذهب ابن الطراوة وابن السيد، قال ابن السيد: "إذا كان خبرها فعلًا أو جملة أو ظرفًا أو صفة فهي للظن والحسبان". قال: "والنحويون يقولون: هي للتشبيه، وليس كذلك إلا إذا كان الخبر مما يُمثل به الأول إما أحط أو أرفع، نحو: كأني بك ملكٌ، فإذا قلت: كأن زيدًا قائمٌ، لم يستقم أن يكون تشبيهًا لأن الشيء لا يُشبه بنفسه". وجعل أبو بكر بن الأنباري من ذلك قولهم: كأنك بالشتاء مُقبلٌ، أي: أظن الشتاء مقبلًا. ومن ذلك قول الشاعر: فكأنني بكما إذًا قد صرتما لا في فرائضه ولا أشناقه أي: أظن أنكما لا يبقي لكما ما تجب فيه فريضة ولا شنقٌ للغارة التي تُغار عليكما، والشنق: ما دُون الفريضة.

والصحيح أنها للتشبيه، فإذا قلت "كأن زيدًا قائمٌ" كنت قد شبهت زيدًا وهو غير قائم به قائمًا، والشيء يُشبه في حالةٍ ما به في حالة أخرى، قاله ابن ولاد. وقيل: في الكلام حذف، والمعنى: كأن هيئة زيد هيئة قائم، فحذف، فعلى هذا التقدير شبه هيئته في غير حال القيام بهيئته في حال القيام، قاله أبو علي. والتوجيه الأول أظهر لأنه لا يُحتاج معه إلى حذف. وذهب الكوفيون إلى أن (كأن) تكون للتقريب، وذلك في نحو: كأنك بالشتاء مقبلٌ، وكأنك بالفرج آتٍ، وفي قوله: فكأنني بكما إذا قد صرتما. البيت. وقول الحسن البصري: "كأنك بالدنيا لم تكن، وبالآخرة لم تزل". والمعنى على تقريب إقبال الشتاء، وتقريب إتيان الفرج، وتقريب ألا يبقى لكما ما تجب فيه فريضة ولا شنقٌ، وتقريب زوال الدنيا، وتقريب وجود الآخرة. والصحيح/ أن (كأن) للتشبيه في هذا كله: فأما قولهم "كأنك بالشتاء مقبلٌ" فخرجه الفارسي على أن الكاف في (كأنك) للخطاب، والباء في (بالشتاء) زائدة، واسم (كأن) الشتاء، والخبر (مُقبلٌ)، والتقدير: كأن الشتاء مقبلٌ. وكذلك القول في "كأنك بالفرج آتٍ"، التقدير: كأن الفرج آتٍ. وكذلك قول الحسن، التقدير: كأن الدنيا لم تكن والآخرة لم تزل، فالضمير في (تكن) و (تزل) عائد على اسم (كأن).

وخرجه غيره على حذف مضاف، والتقدير: كأن زمانك بالشتاء مقبلٌ، وكأن زمانك بالفرج آتٍ، والكاف هي الاسم، و (مقبلٌ) الخبر، ولما كان الشتاء قريب الوقوع جُعل الزمان الحاضر في وقت الخطاب كأنه مقبل. وكذلك يُتأول قول الحسن على أن الكاف اسم (كأن)، و (لم تكن) خبر، و (بالدنيا) متعلق بالخبر، والتقدير: كأنك لم تكن بالدنيا، أي: في الدنيا، والضمير في (تكن) عائد على المخاطب، وكأنك لم تزل بالآخرة، أي: في الآخرة، والتشبيه في الحقيقة للحالين لا للذي له الحال، و (لم تكن) تامة. ويحتمل أن تكون ناقصة، وهذا أولى من تأويل أبي علي لأن فيه دعوى حرفية الكاف للخطاب، ودعوى زيادة الباء في (بالشتاء) و (بالفتح) و (بالدنيا). وفي شرح الصفار البطليوسي ما نصه: "وتوجيهه أن المعنى: كأن الشتاء مُقبلٌ، وجعل المنتظر قريبًا، فشبه الشتاء وإن لم يكن مقبلًا به نفسه مقبلًا، والعرب تجعل القريب الوجود بمنزلة الموجود، كقوله تعالى: {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ}، فمراده: كأن الشتاء مقبلٌ، وكأنك راحلٌ، وأدخل الكاف للخطاب، كما تقول: أبصرك زيدًا، تريد: أبصر زيدًا، غير أن الكاف في (أبصرك) حرف وفي (كأنك) اسم، إلا أنها لما عملت فيها (كأن) لم يُمكن أن تعمل فيما بعدها، فبقيت الجملة في موضع الخبر، وإنما جعلنا الكاف اسمًا لقولهم: (كأني بك راحلٌ)، ولا يُمكن أن تكون الياء حرفًا، فهو يناجي نفسه، وزادوا الباء كما زادوها في (بحسبك)، فهذا تمام الانفصال عن مذهب الكوفيين" انتهى. وفيه أن إسناد الإقبال في قولك: كأنك بالشتاء مقبلٌ، والرحل في

قولك: كأني بك راحل، إنما هو للكاف التي هي ضمير ولياء المتكلم، فلا يُجعلان لغوًا زائدًا، ويُجعل الإسناد للشتاء وللكاف في: بك راحلٌ، ومثل هذا لم يُعهد في لسان العرب. ولابن عصفور تخريج مُلفق من قول أبي علي، وهو أنه قال: "الصحيح عندي أن (كأن) للتشبيه، وكأنك أردت أن تقول: كأن الفرج آتٍ، وكأن الشتاء مُقبلٌ، إلا أنك أردت أن تدخل الكاف، وألغيت (كأن) لزوال اختصاصها بالجملة الاسمية لما لحقها اسم الخطاب، كما ألغيت لما لحقتها (ما) في نحو (كأنما) لزوال الاختصاص، وكذلك تُلغى إذا لحقها ضمير المتكلم، نحو: كأني بك تفعل كذا؛ ألا ترى أنها إذ ذاك تدخل على الجملة الفعلية التي هي: تفعل كذا. والباء في (بالشتاء مقبلٌ) زائدة، وكأنه قال: كأنك الشتاء/ مقبلٌ، أرادا أن يقول: كأن الشتاء مقبلٌ، فألحق الكاف للخطاب، وألغى (كأن)، وزاد الباء في المبتدأ، كما زيدت في: بحسبك زيدٌ" انتهى. وهذا تخريج عجيب، فيه دعوى إلغاء (كأن) للحاق كاف الخطاب، وفي دعوى لحاق كاف الخطاب لها، وفي دعوى زيادة الباء، وفي دعوى أنها تليها الجملة الاسمية والفعلية لزوال الاختصاص، والعجب دعواه إلغاءها، وقد اتصل بها ضمير المتكلم في نحو: كأني بك تفعل كذا، وهب أنه يدعي في كاف (كأنك) أنها حرف للخطاب، أتراه يدعي في ياء المتكلم في (كأني) أنه حرف للمتكلم، وأنه لا عمل لـ (كأن) فيها؟ وعلى قوله يكون قوله (بك) من قوله "كأني بك تفعل كذا" متعلقًا بـ (تفعل)، وذلك لا يجوز لما تقرر من امتناع: تمر بك وتتفكر فيك. وأما إذا

دخلت (كأن) على ياء المتكلم في نحو قوله "فكأنني بكما إذاً قد صرتما" و "كأني بك تفعل كذا"، وقول الحريري: كأني بك تنحط ............................ فلا يُمكن أن يكون الفعل خبرًا لـ (كأن) لاختلاف مدلول ياء المتكلم وضمير المخاطب في: قد صرتما، وتفعل، وتنحط. ويتخرج ذلك على حذف الخبر، وإبقاء معموله دليلًا على حذفه، والتقدير: كأني عالمٌ بكما إذًا، أو مُلتبسٌ بكما، وكأني عالمٌ بك تفعل، أو مُلتبسٌ، وكذلك التقدير في "كأني بك تنحط"، والجملة من قوله: قد صرتما، وتفعل كذا، وتنحط، في موضع الحال من ضمير الخطاب المجرور بالباء. والدليل على أن هذه الجملة في موضع الحال صحة جواز دخول واو الحال عليها، فتقول: كأني بكما وقد صرتما كذا، وكأني بك وقد طلعت الشمس. وذهب الشيخ أبو عبد الله محمد بن محمد بن عمرون الحلبي في قول الحسن: "كأنك بالدنيا لم تكن، وبالآخرة لم تزل" إلى جواز أن يكون خبر (كأن) هو المجرور، والجملة من قولك "لم تكن" و "لم تزل" في موضع الحال. ثم اعترض، فقال:

"فإن قيل: إن (بالدنيا) لا يتم به الكلام، والحال فضلة. فالجواب: إن من الفضلات ما لا يتم الكلام إلا به، كقوله تعالى {فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ} فـ {مُعْرِضِينَ} حال من الضمير المخفوض، ولا يستغني الكلام عنها؛ لأن الاستفهام في المعنى إنما هو عنها. ومما يبين ذلك قولهم: ما زلت بزيدٍ حتى فعل، لا يتم الكلام بقولك: بزيد. ويدل على صحة الحال قولك: كأنك بالشمس وقد طلعت، ونحوه ما حُكي عن بعضهم: كأنا بالدنيا لم نكن. وعلى هذا يُحمل قول الحريري: كأني بك تنحط .................................. وخرجه المطرزي في (شرح المقامات): كأنين أُبصر بك، وترك الفعل لدلالة الحال. وما ذكرته أولى لأنه إضمار فعل وزيادة حرف جر لا يُحتاج إليه" انتهى كلامه، وهو تخريج حسن. وقد تدخل (كأن) في التنبيه والإنكار والتعجب، تقول: فعلت كذا وكذا كأني لا أعلم، وفعلتم كذا كأن الله لا يعلم/ ما تفعلون، ومنه قوله تعالى {لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ}، (وي) في قول الخليل كلمة مفصولة، و (كأن) هي هذه، و (وي) كلمة تنبيه وتندم على أمر سبق، ووقع التشبيه بعده على أحد معنيين: أحدهما: تأويل الخليل أنهم أوقعوا التشبيه على ما في علمهم وعرفهم، أو أُوقع لهم ذلك، فقيل: وقولوا: كأن الله يبسط الزرق، أي:

كأن الله يعطي الرزق من عنده بقدر منه لا بعلم الشخص وقوةٍ منه لما يرى من تبدل حاله، وكذلك {وَيْكَأَنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} أي: كأن الأمر لا يُفلح الكافرون، وكأنه قيل: أما يُشبه هذا الأمر أن يكون هكذا؟ والمعنى الثاني: أن يكون التشبيه ليس على أصله، بل المراد به التحقيق، أي: إن الله يبسط الرزق، وإن الأمر لا يُفلح الكافرون، فكما يدخلها معنى التعجب فكذلك يرجع إلى التحقيق عند هذه الكلمة، كقوله: ويكأن من يكن له نشب يحـ بب، ومن يفتقر يعش عيش ضر لا يريد إلا التحقيق. وقيل: (ويك) كلمة واحدة. وقيل: الكاف للخطاب، و (أن) في القولين هي المفتوحة، وهي بإضمار، كأنه قال: هل تعلمون بهذا أن الله يبسط الرزق؟ وفسر المفسرون (ويكأن) على معنى: ألم تر أن الله، فيُمكن أن يكون تفسير المعنى. مقتضب من (البسيط). وقوله و (ليت) للتمني ويقال (لت) بإبدال الياء تاء وإدغام التاء في

التاء. ويكون في المستحيل والممكن، تقول: ليت عمرًا قادمٌ، وليت الشباب عائدٌ. وقال المصنف في الشرح: "يكون في الممكن وغير الممكن" فقوله: "وغير الممكن" ليس بجيد لأن غير الممكن قسمان: واجب، ومستحيل، والتمني لا يكون في الواجب، لا تقول: ليت غدًا يجئ. وقوله و (لعل) للترجي وللإشفاق يعني: للترجي في المحبوبات، ولإشفاق في المحذورات، نحو: لعل العدو يأتي. ويُعبر أصحابنا عن هذا بالتوقع، ولا تستعمل (لعل) إلا في الممكن، لا يقال: لعل الشباب يعود. ومن الإشفاق قوله تعالى: {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ} وقول الشاعر: أتوني، فقالوا: يا جميل تبدلت بثينة إبدالًا، فقلت: لعلها وعل حبالًا كُنت أحكمت فتلها أتيح لها واشٍ رفيقٌ، فحلها والترجي والتمني من باب الإنشاء، فيُشكل تعلقها بالماضي، وقد جاء الماضي خبرًا لهما، قال تعالى {يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا}، وقال: فليت اليوم كان غرار حول ..................... والتمني قد يقع لما مضى ندامة، وقال:

لعلك في حدراء لمت على الذي تخيرت المعزى على نجل غالب ومنع وقوع الماضي خبرًا لـ (لعل) مبرمان. وقال في (الغرة): تقول: أريد المضي إلى/ فلانٍ لعله خلا بنفسه وأمضي إلى داره التي اشتراها لعله سكن فيها. قلنا: هذه حكاية حال، يدل عليه أنك تعطف عليه المضارع، فتقول: لعله خلا بنفسه فأحدثه أو فيُحدثني، رفعًا ونصبًا، ولو قلت (فحدثته) كان خطأ، ولا أرى الماضي يمتنع من ذلك، وتقول: صفحت عن فلان، فيقال لك: لعله خدمك، ولا يحسن: لعله يخدمك. وكذلك تقول في الخبر يرد عليك: لعلي سمعت هذا. فالموضع لـ (كأن)؛ ألا ترى أن المعنى: كأني سمعت هذا. وقد امتنعوا من الجمع بين (ليت) و (سوف)، فلا يقولون: ليت زيدًا سوف يقوم؛ لأن (ليت لما لم يثبت، وسوف لما ثبت. وقد جاءت مع (لعل)، قال الشاعر: فقولا لها قولًا رفيقًا لعلها سترحمني من زفرةٍ وعويل وحكي الأخفش: لعل زيدًا سوف يقوم. وقوله وللتعليل والاستفهام لم يذكر أصحابنا لـ (لعل) هذين المعنيين، فأما التعليل فذكره المصنف، وتبع الكسائي والأخفش، قال الأخفش في المعاني: {لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ} نحو قول الرجل لصاحبه:

افرغ لعلنا نتغدى، والمعنى: لنتغدى، وتقول للرجل: اعمل عملك لعلك تأخذ أجرك، أي: لتأخد". قال المصنف: "وكقول الشاعر: وقلتم لنا: كفوا الحروب لعلنا نكف، ووثقتم لنا كل موثق فلما كففنا الحرب كانت عهودكم كلمع سرابٍ في الملا متألق" وهذا عند أصحابنا (لعل) فيه، وفي قوله: {لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} وفي المثالين اللذين ذكرهما الأخفش، للترجي. وأما الاستفهام فهو شيء قاله الكوفيون، ونص النحاس منهم على الفراء، وقال عنه وعن الطوال: إن لعل شك. وبتعهم في الاستفهام هذا المصنف، قال: "وتكون لعل أيضًا للاستفهام كقوله تعالى: {وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى}، وقال النبي لبعض الأنصار وقد خرج إليه مستعجلًا (لعلنا أعجلناك) "؟ وهي عندنا في {لَعَلَّهُ يَزَّكَّى} للترجي، وفي قوله "لعلنا أعجلناك" للإشفاق. وكون (لعل) للتعليل وللاستفهام وللشك خطأٌ عند البصريين. و (لعل) عندهم ترج. وقال أبو العباس: هو توقع. وقوله ولهن شبهٌ بـ (كان) الناقصة إلى قوله فأعطيا إعرابيهما هذا كلام واضح، وهو على طريقة البصريين، وقد تقدم مذهب الكوفيين في أنها لم تعمل في الخبر شيئا. وشبهها بـ (كان) الناقصة هو قول الخليل.

وقال أبو إسحاق: استدللنا على أن (إن) مضارعة للفعل بأنا رأيناها تعمل في شيئين، وهذا للفعل، وفيها معنى التوكيد، والإضمار فيها كالإضمار في الفعل. وقال ابن كيسان: أشبهت الفعل باللفظ والمعنى، فأما اللفظ فآخرها كآخر الفعل في فتحه، وأما/ المعنى فإنه بمعنى: ثبت عندي حديث زيد، ولما كان معناها للخبر وجب أن ترفعه لأنها مُحققة له، وهو أولى بها، والاسم مدخلٌ فيها، فكان المفعول به، فانتصب، وكان أولى بالتقديم لأنه لا يغير بناءها، وكنايته كظهوره. وقال الأستاذ أبو الحسن بن عصفور مما لخصناه من كلامه: "أوجب لها العمل عند المحققين شبهها بالأفعال في الاختصاص. وقيل: أشبهت الأفعال في أنها على ثلاثة أحرف فصاعدًا مثلها، وأنها مفتوحة الأواخر كالماضي، وأن معانيها معاني الأفعال من التأكيد والترجي والتشبيه والتمني، ولحاق نون الوقاية، واتصال ضمائر النصب بها، وطلبها اسمين طلب الفعل المتعدي لهما. وهذا باطل لأن اتصال ضمائر النصب بها ونون الوقاية إنما اتصلت بها بعد العمل، وأما باقي وجوه الشبه فتُشاركها فيا (ثم) لأنها ثلاثيةٌ مفتوحة الآخر للعطف، كأنك قلت: عطفت، وهي مع ذلك لا تعمل وأما طلبها للاسمين طلب الفعل المتعدي لهما فإن أريد أنها تطلبهما على الاختصاص فذلك وحده مُوجب للعمل، ورفعت أحدهما ونصبت الآخر تشبيهًا بـ (ضرب)، وأيضًا فلا يُمكن فيها أكثر من ذلك، وذلك أنها لا تخلو من أن ترفعهما، وذلك باطل لأنه لم يوجد عامل واحد يعمل في اسمين رفعًا من غير أن يكون أحدهما تابعًا للآخر. أو تنصبهما، أو

تخفضهما، أو تنصب أحدهما وتخفض الآخر، وذلك باطل لأنه لم يوجد عامل يعمل نصبًا أو خفضًا من غير أن يكون مع ذلك يعمل رفعًا. أو ترفع أحدهما وتخفض الآخر، فهو باطل إذ لا خفض إلا بواسطة حرف". قال أستاذنا أبو جعفر: "وهذا خلفٌ، فإنه في قوة أن لو أجاب من قال له: لم لا تخفض؟ فقال: لأنها لا تخفض". قال الأستاذ أبو الحسن: "فلم يبق إلا أن ترفع أحدهما وتنصب الآخر"، ثم ذكر نحوًا من تعليل المصنف. وقوله ويجوز نصبهما بـ (ليت) عند الفراء، وبالخمسة عند بعض أصحابه هذا نقل هذا المصنف، ونقل ابن أضبغ أن مذهب الجمهور أنه لا يجوز نصب الاسمين بعد شيء من هذه الحروف، قال: "وأجازه الفراء في كأن وليت ولعل، وأجازه الكسائي في ليت، وبعض المتأخرين في الستة". وقال ابن عصفور: "زعم بعض النحويين أنه يجوز فيها أن تنصب الاسم والخبر معًا، وممن ذهب إلى ذلك ابن سلام في (طبقات الشعراء)، وزعم أنها لغة رؤبة وقومه".

وقال أستاذنا أبو جعفر: "حكي هذا المذهب أبو علي الشلوبين عن جماعة من المتأخرين، سمى منهم ابن الطراوة" انتهى. وممن ذهب إلى ذلك أبو محمد بن السيد البطليوسي. فصارت المذاهب فيها ثلاثة: أحدها جواز النصب في جميعها. والثاني اختصاص/ ذلك بـ (ليت). الثالث جواز ذلك في كأن وليت ولعل. ونحن نسرد ما أتى عن العرب شاهدًا على ذلك مما استدلوا به، فحكي عن بني تميم أنهم ينصبون بـ (لعل)، فيقولون: لعل زيدًا أخانا، وقال: إن العجوز خبةً جروزا أكل كل ليلةٍ قفيزا وقال عمر بن أبي ربيعة: إذا اسود جنح الليل فلتأت ولتكن خطاك خفافًا، إن حراسنا أسدا وقال أبو نخيلة:

كأن أذنيه إذا تشوفا قادمةً أو قلمًا محرفا وقال آخر: كأن مكاكيه بالجواء حول الدفاليس شربًا ثمالا وقال آخر: ليت الشباب هو الرجيع على الفتى والشيب كان هو البديء الأول وقال آخر: ليت هذا الليل دهرًا لا نرى فيه عريبا وقال: يا ليت أيام الصبا رواجعا وقال آخر:

يا ليته إذ لم يكن حمارا لؤلؤةً في الدار أو مسمارا يريد: مسمارًا لمصحف. وقال آخر: ألا يا ليتني حجرًا بوادٍ قام، وليت أمي لم تلدني وقال آخر: فيا ليتني إذ لم تجودي بنظرةٍ لما بي، وليت الحب شيئًا محرما وقال آخر: فليت اليوم كان غرار حولٍ وليت اليوم أيامًا طوالا وقال آخر: سئلت، وكان البخل منك سجيةً فليتك ذا لونين، يُعطي ويمنع وقال آخر:

............... ....... وليت الحب شيئًا محرما / وحكي الكسائي: "ليت الدجاج مذبحًا". وأما ما وجد في كتب بعض المتأخرين من قول الشاعر: أتيناك زوارًا وسمعًا وطاعةً فليتك يا خير البرية داعيا فتصحيف (فلبيك) بـ (فليتك). وروي في الحديث "إن قعر جهنم لسبعين خريفًا". وحكي الكسائي عنهم: ليت الدجاج مذبحًا. وقد عمل على ذلك بعض المولدين، قال ابن المعتز: مرت بنا سحرًا طيرٌ، فقلت لها: طوباك، يا ليتني إياك، طوباك ذكره أبو القاسم الزجاجي في (الأمالي) له فيما ذكر لي. وقوله وما استشهد به محمولٌ على الحال أو على إضمار فعل، وهو رأي الكسائي تأول المصنف "خبةً جروزا" على أنه حال من الضمير ي (تأكل)، و "إن حراسنا أسدا" على: يشبهون أسدًا، و"ليت الشباب هو

الرجيع" على تقدير: كأن الرجيع، فلما حذف (كان) انفصل الضمير الذي كان اسمها، قال: "ويُقوي ما ذهب إليه إظهار (كان) كثيرًا بعد ليت وإن". و"لسبعين خريفًا" على أنه ظرف، و (قعر) مصدر، وأخبر به عن المصدر. و (قادمةً) على: تخلفان. وتأول غيره جميع ما أتى في (ليت) على أن خبر (ليت) في ذلك محذوف، وذلك المنصوب الذي زعموا أنه خبر هو منصوب على الحال أو على خبر (كان) مضمرة، وإن كان معرفة لم يجز فيه إلا أن يكون خبر (كان) مضمرةً، والتقدير: عادت رواجع، وعاد دهرًا، وعاد لؤلؤةً، وعدت حجرًا، وكان هو الرجيع، وكان شيئًا محرمًا، وعاد غرار حولٍ، وعاد أيامًا طوالًا، وعاد مذبحًا، وتحكيان قامةً، ويحكين شربًا، وتلفيهم أسدًا. وروي ابن جني: قادمتا أو قلما محرفا على تقدير: قادمتان أو قلمان محرفان، فحذفت نون التثنية في الشعر. وقال ابن عصفور: "وأما قول أبي نخيلة فإن الأصمعي وأبا عمرو لحناه بحضرة الرشيد، ولولا أنه غير فصيح لما جاز لهما ذلك". وقال الأستاذ أبو علي الشلوبين: "هذه الحكاية لا تصح، وله محمل من التأويل من غير أن يحتاج إلى تلحين عربي" انتهى.

ومما يدل على بطلان الحكاية أن فيها "إن أبا عمرو لحنه بحضرة الرشيدة"، ولم يجتمع أبو عمرو مع الرشيد، وهو متقدم الوفاة. وإنما سوغوا تأويل هذا الأبيات على حذف الخبر لأن أخبار هذه الحروف يجوز حذفها إذا دل عليها المعنى؛ لأنها أخبار للمبتدأ في الأصل، وسيأتي ذلك إن شاء الله تعالى. -[ص: وما لا تدخل عليه (دام) لا تدخل عليه هذه الأحرف، وربما دخلت (إن) على ما خبره نهيٌ. وللجزأين بعد دخولهن ما لهما مجردين، لكن يجب هنا تأخير الخبر/ ما لم يكن ظرفًا أو شبهه، فيجوز توسيطه، ولا يُخص حذف الاسم المفهوم معناه بالشعر، وقلما يكون إلا ضمير الشأن، وعليه يُحمل "إن من أشد الناس عذابًا يوم القيامة المُصورون" لا على زيادة (من)، خلافًا للكسائي.]- ش: تقدم ما تدخل عليه (كان) وأخواتها من المبتدآت، وزادت (دام) أن خبرها لا يكون مفردًا طلبيًا، وهذه الأحرف كذلك، فلذلك أحالها على (دام). وقوله وربما دخلت (إن) على ما خبره نهيٌ وأنشد على ذلك في الشرح:

إن الذين قتلتم أمس سيدهم لا تحسبوا ليلهم عن ليكم ناما وأنشد غيره ولو أصابت لقالت وهي صادقةٌ إن الرياضة لا تُنصبك للشيب وقال الأستاذ أبو الحسن بن عصفور في شرحه الصغير لكتاب الجمل: "أما الجملة غير المحتملة للصدق والكذب ففي وقوعها خبرًا لهذه الحروف خلاف، والصحيح أنها تقع في موضع خبرها، ومن ذلك قوله. إن الذين قتلتم. البيت. فأوقع قوله (لا تحسبوا) موقع خبر (إن)، وهي جملة نهي" انتهى كلامه. وينبغي أن يُخص الخلاف بـ (إن) وحدها؛ إذ هو مورد السماع، ولا يمكن أن يكون الخلاف في (ليت)، ولا في (لعل)، ولا في (كأن)؛ لأنه يمتنع أن تكون جملة النهي متعلقًا للترجي والتمني والتشبيه، وإن ألحق بـ (إن) (لكن) فيمكن ذلك. والذي نختاره أن ذلك لا يجوز، وعليه نصوص شيوخنا، وتأولوا البيتين على إضمار القول، أي: أقول لكم لا تحسبوا، وكذلك: أقول لا

تُنصبك للشيب، وكثيرًا ما يُضمر القول، وكذلك تأوله الأستاذ أبو الحسن في شرحه الكبير للجمل. وقوله وللجزأين بعد دخولهن ما لهما مُجردين يعني أن لهما من الأحوال والأقسام، فكما انقسم المبتدأ إلى اسم عين وإلى اسم معنى، وانقسم الخبر إلى الأقسام المذكورة في باب الابتداء، واستُصحبت الأحوال والشروط، كذلك هنا. ومن الشروط عود ضميرٍ من الجملة المخبر بها. ومن الأحوال جواز حذفه لدليل، قال الشاعر: وإن الذي بيني وبينك لا يبنى بأرضٍ - أبا عمرٍو - لك الدهر شاكر أراد: لا يني به أو من أجله، قاله المصنف، ولخصته منه. وقوله لكن يجب هنا تأخير الخبر علة ذلك أن عملها بحق الفرعية فلم يتصرفوا فيها كما تصرفوا في باب (كان) لأن عملها بحق الأصالة لكونها أفعالًا، فأبقوا معموليها على ترتيبها الأصل، وباب المبتدأ أن يكون مقدمًا على الخبر. وعلل أبو موسى ذلك بأن عملها هو بحق الفرعية والحمل على/ الفعل، والأصل في الفعل أن يُقدم المرفوع على المنصوب، وقد يخرج عن هذا الأصل، فيُقدم المنصوب على المرفوع، فلما كان عمل هذه الحروف فرعيًا، وتقديم منصوب الاسم على مرفوعه فرعيًا، جعلوا منصوب هذه الحروف قبل مرفوعها لتكون صورتها في العمل كصورة ما

هو فرع في الأفعال التي هذه الحروف محمولةً عليها. وقد أشار المصنف إلى هذا بقوله "ليكونا معهن كمفعولٍ قدم وفاعلٍ أخر تنبيهًا على الفرعية". وقوله ما لم يكن ظرفًا أو شبهه، فيجوز توسيطه مثال توسيطه ظرفًا: إن أمامك زيدًا، ومثاله مجرورًا: إن في الدار زيدًا. وينبغي أن يؤخذ قول المصنف "فيجوز توسيطه" على الجواز الذي هو يقابل الامتناع لا على الجواز الذي يقابله الامتناع والوجوب؛ لأن من مسائل الظرف والمجرور ما يجب فيه تقديمهما على الاسم، نحو: إن في الدار ساكنها، وإن عند هند أخاها، فإن أخذت الجواز على ما يقابل الوجوب والمنع خرجت هذه المسألة ونظائرها. وفي (الغرة): "ويجب أن يُقدر العامل في الظرف بعد الاسم كيلا يُقدم الخبر وهو غير ظرف". قال المصنف في الشرح: "جاز تقديمه لأنه في الحقيقة معمول الخبر، وكان حقه ألا يتقدم على الاسم كما لا يتقدم الخبر، إلا أن الظرف والجار والمجرور يُتوسع فيهما ما لا يُتوسع في غيرهما، ولذلك فُصل بهما بين المضاف والمضاف إليه، وبين (كان) واسمها وخبرها، وبين الاستفهام والقول الذي يعمل عمل الظن، ولم يُبطل علم (ما) تقديمهما على اسمها، واغتُفر تقديمهما على العامل المعنوي، نحو: أكل يومٍلك درهمٌ؟ وعلى المنفي بـ (ما)، نحو قول بعض الصحابة:

ونحن عن فضلك ما استغنينا ومثله: لم يكن غيرها خلةً لي ولها ما كان غيري خليل ولو عومل غيرهما معاملتها في شيء من ذلك لم يجز" انتهى. وقوله "ولو عومل إلى آخره" لا يصح على الإطلاق لأنه قد أجاز هو وغيره أن يُفصل بين المضاف إذا كان مصدرًا وبين المضاف إليه إذا كان فاعلًا بالمفعول به. وكذلك في الإقحام في النداء على مذهب س في: يا زيد عمروٍ. وكذلك أجاز المصنف في الاختيار الفصل بين المضاف إذا كان اسم فاعل والمضاف إليه الذي هو مفعول في المعنى بمفعول آخر. قال المصنف في الشرح: "والأصل في الظرف الذي يلي (إن) أو إحدى أخواتها أن يكون ملغي، أي: غير قائم مقام الخبر، نحو، إن عندك زيدًا مقيمٌ، وكقول الشاعر:

فلا تلحني فيها، فإن بحبها أخاك مصاب القلب جمٌ بلابله فأما القائم مقام الخبر فجدير بألا يليها لقيامه مقام ما لا يليها، لكن اغتفر إيلاؤه/ إياها التفاتًا إلى الأصل" انتهى. وكلامه يدل على جواز أن يتقدم معمول الخبر المصرح به على الاسم، نحو قوله: إن عندك زيدًا مقيمٌ، ونحو البيت الذي أنشده. ونص أصحابنا على أنه لا يلي (إن) وأخواتها إلا اسمها إن تقدم على الخبر، أو خبرها إن تقدم على الاسم، وكان ظرفًا أو مجرورًا، فلو تقدم معمول الخبر، وكان غير ظرف أو مجرور، نحو: إن طعامك زيدًا آكلٌ، فلا خلاف يُعرف في بطلان ذلك، وإن كان ظرفًا أو مجرورًا فقد جاء ما ظاهره يقتضي جواز ذلك، نحو البيت الذي أنشده المصنف، فإن ظاهره يقتضي أن يكون قوله (بحبها) متعلقًا بالخبر الذي هو (مُصاب) وقد تأوله أصحابنا بأن جعلوه متعلقًا بفعل محذوف، تقديره: أعني، كأنه قال: أعني بحُبها، وفُصل بهذه الجملة الاعتراضية بين (إن) واسمها، فيكون نحو قول الآخر: كأن - وقد أتى حولٌ كميلٌ- أثافيها حماماتٌ مثول فصل بين (كأن) واسمها بجملة الاعتراض التي هي: وقد أتى حولٌ كميلٌ.

وفي (الغرة): وقد منع الأخفش في (المسائل الكبير) أن يُفصل بينهما بما لا يُسمع، فقال: لو قلت: "إن بينك يومين زيدًا مقيمٌ" كان في القياس جائزًا، ولم يُسمع، ولا نُجيزه إلا في المسموع. وكذلك لم يُجز إن حتى اليوم زيدًا مقيمٌ؛ لأن (حتى) معناها الانتهاء، فلابد أن يتقدمها كلام، وقد منع تقدمها بلا إن، كما منع أن تتقدم على رب إن. وقال المصنف: "وقد عاملوا الحال معاملة الظرف، فأولوها (كأن)، ومنه قول الشاعر: كأن وقد أتى حولٌ كميلٌ. البيت" انتهى. وقد ذكرنا قول أصحابنا إن قوله "وقد أتى حولٌ كميلٌ" جملة اعتراضية لا حالية، فعلى قولهم لم يعاملوا الحال معاملة الظرف، ولا أولها (كأن). ومن غريب المنقول ما وقع في (النكت التي على إيضاح الفارسي) تأليف أبي على الحسن بن علي بن حمدون الأسدي المعروف بالجلولي، وهو ما نصه: "يجوز أن يُفرق بين (إن) واسمها بالحال لأنهم قد أجروا الحال مجرى الظرفن فإذا قلت (إن زيدًا قائمٌ ضاحكًا) جاز تقديم (ضاحكًا) على (زيد)، فتقول: إن ضاحكًا زيدًا قائمٌ.

فإن قيل: إذا قدمت (ضاحكًا) - وهو متعلق بقائم - صرت كأنك قدمت بعض الخبر. قلت: لو امتنع هذا لامتنع تقديم الظرف، والنية به التأخير والتعلق بالخبر، نحو: إن في الدار زيدًا قائمٌ، و (في الدار) متعلق بقائم، وهذا عندهم جائز. ومنع قومٌ التفرقة بين (إن) واسمها بالحال" انتهى كلامه. وتضمن هذا الذي ذكره أن النحويين اختلفوا في الفصل بين اسم (إن) وبينها بالحال، وأن الظرف إذا كان معمولصا للخبر المصرح به يجوز/ أن يُفصل به بين (إن) واسمها، وقد تقدم منع أصحابنا لذلك. ويُشترط في الظرف والمجرور الواقعين خبرًا أن يكونا تامين، وقد تقدم ذلك في باب الابتداء. وزعم الفراء ومن أخذ بمذهبه أنه يجوز أن يقع الظرف الناقص والمجرور الناقص خبرًا في اللفظ، وهو معمول لمتعلقة في المعنى ومتعلقة حال في اللفظ، وهو خبر في المعنى، نحو: إن زيدًا بالجارية كفيلًا، وإن زيدًا اليوم قائمًا. وفي كتاب (الواضح): إن الكوفيين يحكون النصب مع الناقص عن العرب، إلا أنهم يقولون: النصب مع لتام أكثر في لسان العرب وأصح علة، أنشد أحمد بن يحي: فلا تلحني فيها ........... البيت

رُوي بنصب (مُصاب) على الحال، وجعل الباء خبر (إن)، وما يتم الكلام بها دون (مُصاب)، وهذا متفرع على باب المبتدأ والخبر، ومبني على مسألة: عبد الله بالجارية كفيلٌ، فالرفع في (كفيل) واجب عند البصريين، وهو المختار عند الكوفيين، وزعموا أن من العرب من يقول: عبد الله بالجارية كفيلًا، بالنصب. وقال أبوجعفر النحاس: لا حُجة في البيت لأنه إن كان مسموعًا بالنصب فإنه على قولك: أنا بالله وبك، على معنى الانقطاع والملازمة. وقوله ولا يُخص حذف الاسم المفهوم معناه بالشعر قال الأستاذ أبو الحسن بن عصفور: "يجوز حذف أسماء هذه الحروف في فصيح الكلام إذا كان في الكلام ما يدل عليه، نحو قوله: فلو كنت ضبيًا عرفت قرابتي ولكن زنجيٌ عظيم المشافر يريد: ولكنك زنجيٌ. ومن ذلك قوله: فليت دفعت الهم عني ساعةً فبتنا على ما خيلت ناعمي بال يريد: فليتك". وذكر أبو الحسن علي بن عبد الصمد السخاوي في (شرح المفصل) أن ذلك لا يجوز إلا ضرورة.

وقوله وقلما يكون إلا ضمير شأن قال المصنف: "ويجوز حذف الاسم إذا فهم معناه، ولا يخص ذلك بالشعر، بل وقوعه فيه أكثر، وحذفه وهو ضمير الشأن أكثر من حذفه وهو غيره، ومن وقوع ذلك في غير الشعر قول بعضهم: إن بك زيد مأخوذ، حكاه س عن الخليل، يريد: إنه بك زيد مأخوذ. وحكي الأخفش: إن بك مأخوذ أخواك، بحذف الاسم، وهو ضمير المخاطب، وجعل (مأخوذ) خبرًا مرتفعًا به (أخواك)، كما كان يرتفع بـ (يؤخذ)، وتقديره: إنك بك مأخوذ أخواك، ولا يجوز أن يكون التقدير: إنه بك مأخوذ أخواك؛ لأن الصفة المرتفع بها ظاهر بمنزلة الصفة المرتفع لها مضمر في أنها لا تسد مسد جملة، ولا يكون مفسر ضمير الشأن إلا جملة محضة مصرحًا بجزأيها. ومن حذف الاسم في الشعر/ قول الشاعر: فلو كنت ضبيًا ................. .......................... وقوله: فليت دفعت ............ ................. البيتين، التقدير: وكلنك زنجي، وفليتك. ويحتمل أن يكون التقدير: فليته. وكذا قول الآخر:

فلا تخذل المولى وإن كان ظالمًا فإن به تثأى الأمور، وترأب التقدير: فإنه، والهاء إما للمولى وإما ضمير الشأن. ومما لا يكون المحذوف إلا ضمير الشأن قوله: ولكن من لم يلق أمرًا ينوبه بعدته ينزل به وهو أعزل ومثله قول الآخر: فلو أن حق اليوم منكم إقامة وإن كان سرح قد مضى، فتسرعا ومثله: إن من لام في بني بنت حسا ن ألمه، وأعصه في الخطوب وقال: كأن على عرنينه وجبينه أقام شعاع الشمس، أو طلع البدر وقال: كأن في أظلالهن الشمس وقال آخر:

ليت على رجلي تسعى سودا يا سود إن القوم قوم أعدا وذكر س: أن إياك رأيت، وإن أفضلهم لقيت، ثم قال: (فأفضلهم منتصب بلقيت، وهو قول الخليل، هو في هذا ضعيف لأنه يريد: إنه إياك رأيت، فترك الهاء). وهذا تصريح بالجواز دون ضرورة" انتهى. ولم يجزه الفراء لأنه لا يكون الاسم الواحد معمولًا لعاملين. قاله في البسيط. وجوزوا أن يكون المحذوف من قوله "فلو أن حق اليوم" ضمير خطاب، أي: فلو أنكم. وقال الأستاذ أبو الحسن بن عصفور: "لا يجوز حذف الاسم وهو ضمير الشأن إلا في ضرورة شعر، نحو قوله: إن من لام. البيت. وإنما لم يجز حذف امس هذه الحروف إذا كان ضمير أمر وشأن لأن الجملة الواقعة خبرًا له هي مفسرة له، فأشبهت الجملة لذلك -وإن كانت في موضع الخبر- الجملة الواقعة صفة، فقبح حذفه وإبقاء الجملة، كما يقبح حذف الموصوف وإقامة الصفة مقامه إذا كانت الصفة جملة، وأيضًا فإنه يستعمل في مواضع التعظيم، والحذف مناقض لذلك". وقال الأستاذ أبو الحسن أيضًا: "ذهب جمهور البصريين إلى أنه يحسن حذفه في الشعر، ويقبح في الكلام، إلا أن يؤدي حذفه إلى أن يلي (إن) وأخواتها فعل، فإنه إذ ذاك يقبح في الكلام والشعر لأنها حروف طالبة للأسماء، فاستقبحوا لذلك مباشرتها للأفعال".

وذهب أبو الحسن إلى أن حذفه/ يحسن في الكلام وفي الشعر إذا لم يؤد الحذف إلى أن يكون بعد (إن) وأخواتها اسم يصح عملها فيه، نحو: إن في الدار قائم زيد، ومن ذلك قوله: كأن على عرنينه وجبينه أقام شعاع الشمس أو طلع البدر وكذلك قوله: فلا تشتم المولى ................... ............................. وقوله: إن من يدخل الكنيسة ............... ........................... وقوله: ولكن من لا يلق ..................... ............................ الأبيات؛ لأن اسم الشرط لا يحسن عمل (إن) فيه. فإن أدى حذفه إلى أن يكون بعدها اسم يصح عملها فيه لم يجز الحذف، نحو قولك: إن زيد قائم، لا يجوز عنده حذف هذا الضمير إلا أن يكون ذلك الاسم لفعل بعده، أو مبتدأ قد رفع ظاهرًا سادًا مسد خبره، فإنه إذ ذاك يجوز حذفه، نحو قولك: إن أفضلهم كان زيد، وإن في الدار جالس أخوك. وإنما ساغ ذلك مع إمكان أن تعمل (إن) فيما بعدها، فيقال: إن أفضلهم كان زيدًا، وإن في الدار جالسًا أخو؛ لأن المباشر في التقدير لـ (إن) في المسألة الأولى إنما هو (كان)؛ لأن النية بالخبر التأخير، وفي الثانية اسم قد عومل معاملة الفعل. وذهب الكسائي والفراء إلى أن حذف الضمير لا يجوز إذا أدى ذلك إلى أن يكون بعد (إن) وأخواتها اسم يصح عملها فيه، وسواء أكان الاسم

معمولًا لفعل متأخر أم مبتدأ قد رفع ظاهرًا سد مسد خبره أو لم يكن. فإن وقع بعد (إن) وأخواتها فعل قد تقدم عليه معموله، وهو ظرف أو مجرور، نحو قولك: إن في الدار قام زيد، وإن عندك جلس عمرو، فذهب الكسائي إلى أن (إن) مبطلة في اللفظ عاملة في معنى الفعل، قال: لأنك إذا رددت الفعل إلى الدائم انتصب، فقلت: إن في الدار قائمًا زيد، وإن عندك جالسًا عمرو. وإنما لم يجز عنده أن يكون على إضمار الأمر لأن الأم إذا أتى به في مثل هذا إنما هو وقاية لـ (فعل) و (يفعل)، فلا يجوز إسقاطه لذلك، كما أن (ما) من قولك "إنما قام زيد" لا يجوز إسقاطها لأنها دخلت وقاية لـ (فعل) و (يفعل). وقال الفراء: اسم (إن) في المعنى، وما ذكره من أن الضمير في مثل "إنه قام زيد" إنما أتى به وقاية ليس كذلك، بل أتى به لإرادة تعظي الأمر، فأبهم أولًا لأن التعظيم من توابع الإبهام، ثم بين بعد إبهامه. ومما حذف منه الضمير -والحرف بعده اسم يصح عمله فيه- ما رواه الخليل من أن ناسًا يقولون: إن بك زيد مأخوذ، ومن ذلك قول جميل: ألا ليت أيام الصفاء جديد ودهر تولى -يا بثين- يعود

في رواية من رفع الأيام. وفي (الإفصاح): مذهب أبي علي أن هذا -يعني حذف ضمير الأمر إذا كان اسمًا لـ (إن) - يختص بالشعر. وأبو الحسن يجعله جائزًا في الكلام، ويقيسه، ويمثل به، وهو مذهب/ وهو عند س ضعيف في الكلام جائز في الشعر كثير فيه. وأجازه الجرمي في الكلام، وأجاز: إن فيها قائم أخواك، قال: تضمر لـ (إن) اسمًا، وقائم: مبتدأ، ويرتفع (أخواك) بفعلهما، وإن فيها قائمان أخواك، على أن يكون (أخواك) مبتدأ، وقائمان: خبر مقدم، وأضمرت الاسم. وقال: لا قائم في الدار إلا زيد، إن علقت (في الدار) بـ (قائم) لم يجز إلا رفع (زيد)، وإذا قلت (لا قائم إلا زيد) فإنما أردت: لا يقوم إلا زيد، ولا يجوز فيه إلا الرفع. قلت: قد يقال في هذا: لا يصح لأن (لا) لا تعمل في الفعل، فكذلك فيما جرى مجراه. ومذهب البصريين أن جميع هذه الحروف في حذف ضمير الشأن سواء على ما قرر، والكوفيون إنما ذكروا ذلك في (إن)، ولم يعدوا ذلك إلى غيرها كـ (ليت) و (كأن). وقوله وعليه يحمل إلى قوله خلافًا للكسائي قال المصنف في الشرح: "المصورون هكذا رواه الثقات بالرفع"، وجعله من قوله عليه السلام. وقال ابن عصفور: "وأما قول العرب: إن من أشد الناس عذابًا يوم القيامة المصورون"، فجعل هذا الكلام من قول العرب. وتأوله

الكسائي على زيادة (من)، وعلى هذا ينبغي عنده أن يحمل ما حكاه أبو عبيد في (الأموال) له من أنه -صلى الله عليه وسلم- كتب إلى خزاعة: "أما بعد، فإن من أكرم أهل تهامة علي وأقربهم رحمًا أنتم ومن تبعكم". وكذلك أيضًا تأول ما حكاه من كلام العرب "إن هكذا الدهر" على أن يكون (هكذا) اسم (إن)، والدهر: الخبر. واستدل على أن (هكذا) تستعمل اسمًا بما حكاه عن بعض العرب من أنه قيل له: "كان هكذا وهكذا"، فقال: "ليس بهكذا"، فأدخل على (هكذا) حرف الجر. وإنما ذهب الكسائي إلى زيادة (من) في "من أشد" و"من أكرم" لأن مذهبه أن حذف هذا الضمير لا يجوز إذا أدى ذلك إلى أن يكون بعد (إن) وأخواتها اسم يصح عملها فيه، و (المصورون) و (أنتم) يجوز أن تعمل (إن) في ذلك، فتقول: (المصورين) و (إياكم). والصحيح أن يكون هذا مما حذف فيه الضمير لا على زيادة (من)، ويؤيده اللفظ والمعنى، فأما اللفظ فإن العرب لم تلحظ هذا الذي لحظه الكسائي، بل قالوا: إن بك زيد مأخوذ، وكان يجوز لـ (إن) أن تنصب زيدًا. وأما المعنى فإذا جعلتها زائدة كان المصورون أشد الناس عذابًا يوم القيامة، وليس كذلك إذ غيرهم أشد عذابًا منهم، ممن هو أعظم جرمًا. ص: وإذا علم الخبر جاز حذفه مطلقًا، خلافًا لمن اشترط تنكير الاسم. وقد يسد مسده واو المصاحبة والحال، والتزم الحذف في (ليت شعري) مردفًا باستفهام.

وقد يخبر هنا -بشرط الإفادة- عن نكرة بنكرة أو بمعرفة. ولا يجوز نحو: إن قائمًا الزيدان، خلافًا/ للأخفش والفراء، ولا نحو: ظننت قائمًا الزيدان، خلافًا للكوفيين. ش: حذف خبر (إن) وأخواتها للعلم به فيه ثلاثة مذاهب: أحدها: الجواز، وهو مذهب س، وسواء أكان الاسم معرفة أم نكرة، قال س: "ويقول الرجل: هل لكم أحد؟ إن الناس عليكم، فتقول: إن زيدًا وإن عمرًا، أي: إن لنا". والثاني: مذهب الكوفيين، وهو أنه لا يجوز إلا إذا كان الاسم نكرة، نقله عنهم علي بن سليمان الأخفش. والثالث: مذهب الفراء، زعم أنه لا يجوز، سواء أكان الاسم معرفة أم نكرة، إلا إن كان بالتكرير، نحو: إن محلًا، وإن مرتحلًا ......................... ولا يجوز في غيره، نقله عنه أحمد بن يحيي. قيل: كررت (إن) ليعرف أن أحدهما مخالف للآخر عند من يظنهما [غير] مختلفين. وحكي الفراء أنه سمع أعرابيًا قيل له: الزبابة الفأرة، فقال: إن

الزبابة وإن الفأرة، قال: وتقديره: إن الزبابة زبابة، وإن الفأرة فأرة. قال ابن تقي: كأنه قال: إن الزبابة شيء، وإن الفأرة شيء آخر. قال الأستاذ أبو علي: "قال -يعني الفراء-: والخلاف الذي بين الاسمين يدل على أن الخلاف بين الخبرين والخلاف في البيت أن المحل خلاف المرتحل، وكأنه رد على من يزعم أنه ليس ثم إلا المحل الذي هو الدنيا، فقال: إن لنا محلًا، وإن لنا مرتحلًا مخالفًا للمحل" انتهى. والصحيح من هذه المذاهب مذهب س للقياس والسماع: أما القياس فإجماع النحويين على إجازة حذف الخبر إذا عرف معناه في غير باب (إن)، فينبغي أن يجوز ذلك في باب (إن) إذا عرف المعنى. وقال أبو العباس: حذف الخبر في المعرفة أولى لما يتعارف من أخبارها، وإن قولك "إن زيدًا" يعلم أنه رجل، فينبغي أن يجوز فيه ما جاز في (رجل). وأما السماع فقوله تعالى: {إنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً العَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ}، تقديره: معذبون، لدلالة قوله: {وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُّذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ

أَلِيمٍ}، وقوله تعالى: {إنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءَهُمْ وإنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ}، وقول عمر بن عبدالعزيز لرجل ذكره بقرابته منه: "إن ذلك"، ثم ذكر له حاجة، فقال: "لعل ذلك"، أراد: إن ذلك حق، ولعل حاجتك مقضية، وقول الشاعر: /أتوني، فقالوا: يا جميل تبدلت بثينة أبدالًا، فقلت: لعلها أي: تبدلت. وقول الجعدي: فأصبح عيشي قد سلا غير أنه وكل امرئ يلقى من الدهر قنطرا أي: أنه هالك. قال ابن خروف: النكرة في هذا الباب أكثر من الكلام مع حذف الخبر الذي هو الظرف والمجرور، وبابه الكثرة والافتخار، وتقديره مع النكرة مقدم لأجل الابتداء بالنكرة. وقال الأستاذ أبو علي: "لا يجوز أن يقول القائل هذا مبتدئًا، وإنما يقوله حين يسأل، فيقال: هل لك أو هل عندك مال أو ولد؟ فيقول: إن مالًا وإن ولدًا، ويضمر (لنا) لأنه قد دل عليه ما تقدم" انتهى.

وقول الشاعر: وما كنت ضفاطًا، ولكن طالبًا أناخ قليلا فوق ظهر سبيل أراد: ولكن طالبًا منيخًا أنا. وقول الآخر: ولو أن من حتفه ناجيًا لكان هو الصدع الأعصما أي: لو أن على الأرض أو في الدنيا. وقول الآخر: إن محلًا، وإن مرتحلًا وإن في السفر إذ مضوا مهلا ذهب س في هذا البيت إلى أن المعنى: إن لنا محلًا في الدنيا ما كنا أحياء، ومرتحلًا إذا متنا. وقال أبو عمرو الشيباني: إن في الدنيا محلًا ومرتحلًا، أي: نعيمًا وبؤسًا. وقال: سوى أن حيًا من قريش تفضلوا على الناس، أو أن الأكارم نهشلا أي: تفضلوا. وحكاية س عن العرب "إن زيدًا وإنَّ عمرًا".

وزعم أحمد بن يحيي في هذه الحكاية أن (إن) بمعنى: نعم. وقال أبو جعفر الصفار: "إذا كانت إن بمعنى نعم لم تعمل". يريد بذلك الرد على ما تأوله أحمد بن يحيي. ويمكن تأويل أحمد بن يحيي في حكاية س، ولا تكون (إن) بمعنى نعم عاملة، والنصب في "إن زيدًا وإن عمرًا" على إضمار فعل، لأنه لما قيل له: هل لكم أحد؟ إن الناس عليكم، كان معناه: هل تجدون أحدًا ينصركم؟ فأجابه بأن قال: نعم زيدًا، نعم عمرًا، أي: نجد زيدًا، نجد عمرًا. ونظير هذا قول بعض العرب: أما بمكان كذا وكذا وجذ؟ فقال المسئول: بلى وجاذًا، أي: نعرف به وجاذًا؛ لأن قوله "أما بمكان كذا وكذا وجذ" معناه: أتعرف بمكان كذا وكذا وجذًا؟ فقال: بلى وجاذًا، أي: نعرف. فرع: "إن رجلًا وزيدًا" لا يجيزه الكوفيون لأنه قد اختلط بالنكرة المعرفة، ولا يجيزون حذف الخبر إلا مع النكرة. ويجوز ذلك على مذهب البصريين. فلو أبدلت فقلت: "إن رجلًا أخاك" على حذف الخبر لم يجزه الفراء لأن الاعتماد هو على البدل، وخبر المعرفة لا يضمر عنده. وأجاز هذا هشام على الترجمة. والجواز مذهب البصريين. مسألة: "إن غيرها إبلًا وشاءً): قال س: "غيرها: اسم إن، وإبلًا وشاءً/ تمييز، والخبر محذوف، أي: إن لنا غيرها إبلًا وشاءً". ولا يجوز أن يكون (إبلًا وشاءً) اسم إن، و (غيرها) حال، والخبر محذوف تقديره: إن لنا إبلًا وشاءً في حال أنها غير هذه؛ لأنه لا عامل إلا (لنا)،

والمعاني لا تعمل مضمرة بإجماع إلا المبرد، فإنه أجاز ذلك في: .............................. .... وإذ ما مثلهم بشر ولا يجوز أن يكون (غيرها) اسم (إن)، و (إبلًا وشاءً) بدل، والتقدير: إن لنا غيرها إن إبلًا، أي: إن لنا إبلًا؛ لأنه متى اجتمع تابع ومتبوع فالباب أن يقدم الجامد منهما، وقد نص على ذلك س في قوله" فيها قائمًا رجل" حين عدل إلى النصب، ولم يجعل رجلًا بدلًا من قائم، فلهذا عدل هنا إلى النصب على التمييز. مسألة: قول الشاعر: صوبنه، ولا تميلن، واحذر إنه اليوم إنما هو نار زعم بعض أصحابنا أن (إن) عاملة في الظرف، قال: "ولا يجوز أن يكون الخبر محذوفًا لدلالة ما بعده عليه، فيكون التقدير: إنه نار اليوم؛ لأن س منع: أنت ظالم فإن فعلت، ويحذف الجواب لدلالة (أنت ظالم) عليه؛ لأن الفاء تقطع، وكذلك (إن) أيضًا مستأنفة بمنزلة الفاء، فلا يجوز ذلك مع ما فيه من إعمال المعنى مضمرًا؛ لأنه لا يعمل (نار) إلا بما فيه من معنى الفعل، فلذلك لم يجد بدًا من إعمال (إن) فيه، كأنه قال: أؤكد هذا في اليوم" انتهى. وما ذكره لا يجوز لأن (إن) حرف كـ (ما) النافية وهمزة الاستفهام، ويأتي الكلام في ذلك في (باب الحال) حيث ذكر عمل الحرف في

الحال. ويتخرج هذا البيت على أن (اليوم) منصوب بإضمار (أعني)، وتكون الجملة اعتراضية، وخبر (إن) الجملة بعده، وهو: إنما هو نار، كما خرجوا: فلا تلحني فيها، فإن بحبها ........................... وأما تمثيله إياه بمسألة "أنت ظالم فإن فعلت" فتمثيل فاسد، لم يتقدم في البيت شرط، ولا حذف جواب شرط، بل تركيب البيت مثل قولك: احذر زيدًا إنه شرير، وأكرم زيدًا إنه عالم، فإنما فيه من جهة المعنى تعليل. وقوله وقد يسد مسده واو المصاحبة مثاله ما حكاه س من قول العرب: "إنك ما وخيرًا"، يريد: إنك مع خير، وما: زائدة، وقول الشاعر: فدع عنك ليلى، إن ليلى وشأنها وإن ودعتك الوعد لا يتيسر وأنشد س: فمن يك سائًلا عني فإني وجروة لا ترود، ولا تعار على معنى: مع، أي: مع جروة، أي: فمن يسأل عني فإني ملازم لجروة، يعني فرسة، ولا يريد أنه وجروة يفعلان شيئًا، ثم استأنف، فقال: هي لا ترود ولا تعار. وزعم الفارسي أن هذا من قبيل قوله:

/إن شرخ الشباب والشعر الـ ـأسود ما لم يعاص كان جنونا لما كان الشيئان متلازمين لا يفترقان أخبر عنهما إخبار الواحد، قال: "وكذلك عنترة لما كان لا ينفك عن فرسه وأنهما كالشيء الواحد أخبر عن أحدهما، فكان ذلك إخبارًا عنهما، فقوله (لا ترود ولا تعار) خبر عن جروة، وهو خبر عنهما في المعنى لأنهما كالشيء الواحد". قال بعض أصحابنا: "وهذا حسن جدًا" انتهى. وليس بحسن لأن ذلك لا يجوز إلا حيث تصلح نسبة الخبر لكل واحد من المخبر عنهما، ولو قال: فإن عنترة لا يعار لكان خلفًا من الكلام؛ لأنه لم تجر العادة بإعارة عنترة ونحوه، بخلاف جروة فرسه، فإن الخيل مما جرت العادة بإعارتها، فمهوم س في البيت هو الصحيح. وحكي الكسائي: "إن كل ثوب لوثمنه" بإدخال اللام على الواو لسدها مسد (مع). وقوله والحال قال المصنف: "قد يحذف أيضًا وجوبًا لسد الحال مسده، كما كان ذلك في الابتداء، فيقال: إن ضربي زيدًا قائمًا، وإن أكثر شربي السويق ملتوتًا. ومثله قول الشاعر: إن اختيارك ما تبغيه ذا ثقة بالله مستظهرًا بالحزم والجلد" وقوله والتزم الحذف في (ليت شعري) مردفًا باستفهام قال المصنف في الشرح: "لأنه بمعنى: ليتني أشعر، ولا بد بعده من استفهام يسد مسد المحذوف متصلًا بشعري أو منفصلًا باعتراض، فالمتصل كقوله:

ألا ليت شعري هل أبيتن ليلة بوادْ، وحولي إذخر وجليل والمنفصل باعتراض قول أبي طالب: ليت شعري -مسافر بن أبي عمـ رو، وليت يقولها المحزون- أي شيء دهاك أم غال مر آك، وهل أقدمت عليك المنون" انتهى. و (شعري) هنا مصدر حذفت منه التاء، قالوا: شعرة ودرية بالتاء، وهي هنا معلقة، والجملة الاستفهامية بعدها في موضع نصب بالمصدر، والخبر ملتزم الحذف، والتقدير: ليت شعري بكذا ثابت أو موجود أو واقع. قال أبو علي الفارسي: "لو لم يكن المصدر مما يجوز أن يلغى فعله لم يجز أن تكون الجملة الاستفهامية في موضع نصب به" انتهى. ويعني بالإلغاء هنا التعليق، وسماه إلغاء لأنه فيه ترك العمل، ولا يمكن أن يريد الإلغاء المصطلح عليه الذي يراد به ترك العمل لغير موجب؛ لأن الفعل الملغي بهذا المصطلح لا يعمل لا في اللفظ ولا في التقدير، بخلاف/ الإلغاء الذي أريد به التعليق؛ ألا ترى في قوله "الجملة الاستفهامية في موضع نصب".

وحكى أبو علي عن الزجاج قولًا آخر في هذه المسألة، وهو أن خبر (ليت) في هذا النحو في المبتدأ والخبر، فموضع الجملة الاستفهامية رفع لأنها خبر (ليت)، كأنه قال: ليت علمي واقع بكيفية حادث وصلها، ثم حذف، وأضاف اتساعًا. انتهى. ويعني في قول الشاعر: ألا ليت شعري كيف حادث وصلها وكيف تراعى وصلة المتغيب وما ذهب إليه الزجاج هو مذهب المبرد. ولا يصح هذا المذهب لأنه يؤدي إلى وقوع الجملة غير الخبرية خبرًا لـ (ليت)، ولا يجوز ذلك لا في (ليت) ولا في أخواتها. وأيضًا فإن الجملة الواقعة خبرًا، وليست المبتدأ في المعنى، لابد فيها من رابط يربط المبتدأ بالخبر، ولا رابط، فلا يجوز أن تكون خبرًا. قال ابن يسعون: و (شعري) على هذا ملغي إذ هو أضعف حكمًا في مراعاة عمله من الفعل الذي يلغى، وقد فصل بين (شعري) والاستفهام بمصدر، قال الشاعر: ليت شعري ضلة أي شيء قتلك وبالظرف، قال الشاعر: يا ليت شعري عن نفسي أزاهقة نفسي، ولم أقض ما فيها من الحاج

وفي (الإفصاح): "شعري: معرفتي، والأصل: شعرت به، ولا يتعدى إلا بالباء، بخلاف (دريت)، فإنها تتعدى بنفسها وبالباء، ولا يستعمل (شعرة) إلا بالتاء، إلا مع (ليت)، فإنه يلزم معها حذف التاء. ونظير ذلك قولهم: أبو عذرها، والأصل: أبو عذرتها، ولا ينطق بها إلا بالتاء، إلا مع الأب فإنه بغير تاء. والجملة الاستفهامية بعد (ِشعري) في موضع الخبر، كذا قال س. وتحقيقه أن (شعري) بمعنى: معلومي، فالجملة نفس المبتدأ في المعنى، فلا تحتاج إلى ضمير. ومن الناس من جعل الجملة معمولة لـ (شعري)، وأضمر الخبر، أي: موجود وثابت. وقيل: الجملة معمولة لـ (شعري)، وسدت مسد الخبر. وتقول العرب: ليت شعري بزيد قائم، وليت شعري عن زيد أقائم، قامت (عن) مقام الباء لما في الشعور بالشيء من الكشف عنه، وليت شعري زيدًا أقام. قال الكسائي: العرب تقول: ليت شعري زيدًا ما صنع، وأنشد: ليت شعري -مسافر بن أبي عمـ ـرو. البيت. انتهى. ومن نصب فعلى إسقاط حرف الجر، والاسم مجرورًا أو منصوبًا معمول لـ (شعري)، وما بعده خبر (ليت)، أو جملة في موضع البدل من المنصوب أو المجرور على القول بان (شعري) يعمل في الجملة، وأن الجملة تكون بدلًا من المفرد إذا جاز أن يتسلط عليها العامل الذي

يعمل في المفرد، كما قيل ذلك في: عرفت زيدًا أبو من هو، وهو قول أبي العباس"/ انتهى ملخصًا. وقوله وقد يخبر هنا -بشرط الإفادة- عن نكرة بنكرة أو بمعرفة مثال الأول قول امرئ القيس في رواية س: وإن شفاء عبرة مهراقة فهل عند رسم دارس من معول وحكي س: إن ألفًا في دراهمك بيض، وإن بالطريق أسدًا رابض. ومثال الإخبار عن نكرة بمعرفة قوله: كأن درية لما التقينا بنصل السيف مجتمع الصداع وقال آخر: كأن طيرًا سودها وحمرها وقوله: وما كنت ضفاطًا، ولكن طالبًا أناخ قليلًا فوق ظهر سبيل قال س: "أراد: ولكن طالبًا أنا". وقال الشاعر:

وإن عناء أن تفهم جاهلًا .................................... وقال آخر: وإن حرامًا أن أسب مجاشعًا بآبائي الشم الكرام الخضارم وحكي س: إن قريبًا منك زيد، وإن بعيدًا منك زيد. وقال الجرمي في (الفرخ): يبتدأ بالنكرة ويخبر عنها في هذا الباب. وجاز لهم أن يجعلوا اسم (إن) نكرة والخبر معرفة لأنهم لا يقدمون خبر (إن) كما يتوسعون في (كان)، وأعطوا (إن) ما منعوا (كان)، وقدموا خبر (كان)، ومنعوا أن يكون اسمها نكرة وخبرها معرفة، فأعطوا كل واحد منهما ما منع صاحبه. وأجازوا في قوله: فليت كفافًا كان خيرك كله ................................... أن يكون (كفافًا) اسم (ليت). وقد منع هذا الوجه أبو علي في (التذكرة)، وقال: "يقبح الابتداء بالنكرة، ولأنه ليس في الجملة بعده ذكر يعود عليه، ولا هو هي". قال ابن هشام: "وهذه غفلة من حبر، والتقدير: كأنه خيرك، ونظيره

أحد قولي س في: إن أفضلهم كان زيد، أي: كأنه زيد، وإضمار خبر (كان) لا يحصى، وحذفه كحذف سائر الضمائر إذا كان في حكم الموجود، ونصب هذه الحروف للنكرات لا ينحصر، ويخبر المعرفة، وهذا غريب لا يجوز في الابتداء ولا في (كان)، وقدر س: ولكن طالبًا منيخًا أنا. وإنما جاز هذا عندي بأن تكون المعرفة خبرًا عن النكرة أن الأول لما كان الثاني كان المعنى واحدًا، وكان الاسم بها منصوبًا، فصار كأنه غير مسند إليه وفضلة، فجاز تنكيره، وكان الخبر معرفة لأنه لما كان مرفوعًا صار كأنه مسند إليه لا مسند، وكأن هذا من تتميم شبهه بالفاعل" انتهى كلام ابن هشام. وهذه المسألة تكررت للمصنف هنا، فإنه ذكر في (باب كان) ما نصه/: "وقد يخبر هنا وفي باب إن بمعرفة عن نكرة اختيارًا". قال السهيلي: "هذا يجوز في (إن) إذا قدمن خبرها أن يرجع اسمًا لها، بخلاف (كان)، فإنك إذا قلت (كان حليم زيدًا) لم يجز لأن النكرة لا يخبر عنها، وذلك أن (كان) فعل يجوز الإخبار به، و (إن) ليست كذلك. وأيضًا فإن اسمها يعود منصوبًا مؤخرًا، وليس هذا حكم المخبر عنه، وأما (إن) فاسمها إذا قلت (إن قائمًا زيد) لم يخرج عن حكم الأسماء المحدث عنها لأنه عاد مرفوعًا، وهو الأصل فيه، فكان القلب في (إن) وأخواتها أحسن منه في كان" انتهى.

ولو قلت "إن قائمًا ويقعد أخواك" لم يجز عند الكوفيين لأن (قائمًا) لا يقع موقع (يقوم). وقال ابن كيسان: "وهذا عندي جائز لأن (إن) إنما لا تقع على الفعل لشبهها به وأن الفعل لا يعمل في الفعل، فإذا فرق بينهما جاز أن يرد الثاني إلى الفعل. وأيضًا فقد يقع في المعطوف ما لا يكون في المعطوف عليه، وليس يلزم أيضًا هذا -يعني جعله ملاصقًا لقوله (إن قائمًا) - إذا قدرت أن ذلك من وصف واحد؛ ألا ترى أنك لو قلت (إن ذاهبًا وجائيًا أخوك) لم يجز لك أن تقول: إن ذاهبًا أخوك وجائيًا؛ لأنك إنما تريد: إن رجلًا ذاهبًا وجائيًا -أي جامعًا هذين- أخوك، فالثاني من تمام الأول، فإن أردت أن يكونا من صفة اثنين جاز التأخير، كما تقول: إن زيدًا أخوك وعمرًا، تريد: وإن عمرًا أخوك، ولا يجوز (إن قائمًا أخوك ويقعد) لأن (يقعد) لا ينفصل من (قائم) لأنه لا يقوم مقام ما وصفه" انتهى كلام ابن كيسان. والذي تقتضيه قواعد البصريين أنه لا يجوز: إن قائمًا ويقعد أخواك، كما ذهب إليه الكوفيون. ولو قلت: إن قائمين أخواك فيها، وإن فيها قائمين أخواك قيامًا حسنًا، لم يجز عند الكوفيين لأن (قائمين) عندهم اسم لا ينصرف إلى فعل ويفعل، فلا يفرق بينه وبين صلته. وكذلك لا يجيزون: إن آكلًا زيد طعامك. قال الفراء: لا يخلو (آكل) من أن يكون اسمًا أو خلفًا، ولا يفرق بينه وبين صلته. قال أبو جعفر الصفار: وذا كله جائز عند البصريين، إلا أن تجعل (آكلًا) نعتًا أو يكون بمنزلة (رجل)، فلا يعمل شيئًا بحال من الأحوال.

وقوله ولا يجوز نحو (إن قائمًا الزيدان) خلافًا للأخفش والفراء جواز هذا متفرع من جواز (قائم الزيدان) دون استفهام ولا نفي، وقد تقدم ذكر الخلاف في ذلك في "باب المبتدأ" وترجيح المصنف جوازه وترجيحنا نحن منعه. وفي (البسيط): "وتقول: إن قائمًا زيد، ترفع زيدًا بقائم، وهو ساد مسد الخبر، كما كان في قولك: أقائم زيد؟ وفي التثنية: إن قائمًا الزيدان، وهو قول البصريين، وأما الكوفيون فلا يجيزون إلا أن تقول: إن قائمين الزيدان، ولا يجوز إفراد اسم الفاعل لأن/ المفرد في قوة الفعل، و (إن) لا تلي الفعل" انتهى. وفي موضع آخر نقل بالعكس. وقوله ولا نحو ظننت قائمًا الزيدان، خلافًا للكوفيين قال المصنف: "يلزم من أجاز (إن خبيرًا بنو لهب) من البصريين أن يجيز دخول (ظننت)، كما فعل الكوفيون، فيقول: ظننت خبيرًا بنو لهب. والصحيح أن يقال: إعمال الصفة عمل الفعل فرع إعمال الفعل، فلا يستباح إلا في موضع يقع فيه الفعل، فلا يلزم من تجويز (قائم الزيدان) جواز: إن قائمًا الزيدان، ولا: ظننت قائمًا الزيدان؛ لصحة وقوع الفعل موقع المتجرد من (إن) و (ظننت) وامتناع وقوعه بعدهما. واستدل الكوفيون على (ظننت قائمًا الزيدان) بقول الشاعر:

أظنَّ ابن طرثوث عتيبة ذاهبًا بعاديتي تكذابه وجعائله ولا حجة فيه لاحتمال أن يريد قائله: أظن ابن طرثوث عتيبة شخصه ذاهبًا، فحذف المفعول الأول للعلم به، كقوله تعالى: {ولا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَّهُم}، الأثل: بخلهم هو خيرًا لهم، فحذف المفعول الأول، وترك الثاني" انتهى. وذكره مسألة (ظننت) هنا من باب الاستطراد. وفي (الإفصاح): يجوز على مذهب أبي الحسن والكوفيين في (كان) و (إن) إذا أعملتهما أن يرفع اسم الفاعل، ويسد مسد الخبر، يعتمد اسم الفاعل عندهما على (كان) و (إن)، فيقولون: إن ضاربًا عمرو وزيد، وكان ضارب عمرو وزيد. ويجوز عندهم أن يضمر الأمر ويرفع لأنه في موضع الخبر، فاعتمد، كما تقول: زيد ضارب أبوه عمرًا، وجعلوا المفرد هنا يفسر الضمير لأنه بمنزلة الجملة الفعلية، وكذلك يقولون: ظننته ضارب زيد عمرًا. ويجيزون النصب بعد (ظننته) لأنه مفعول ثان، وسد مسد الجملة المفسرة. وهذا كله باطل، ولم يسمع منه شيء.

-[ص: فصل يستدام كسر (إن) ما لم تؤول هي ومعمولها بمصدر، فإن لزم التأويل لزم الفتح، وإلا فوجهان. فلامتناع التأويل كسرت: مبتدأة، وموصولًا بها، وجواب قسم، ومحكية بقول، وواقعة موقع الحال موقع خبر اسم عين، أو قبل لام معلقة. وللزوم التأويل فتحت بعد (لو) و (لولا) و (ما) التوقيتية، وفي موضع مجرور، أو مرفوع فعل أو منصوبه غير خبر.]- ش: قال المصنف في الشرح: " (إن) بالكسر أصل لأن الكلام معها جملة غير مؤولة بمفرد، و (أن) الفتح فيها فرع لأن الكلام معها مؤول بمفرد، وكون المنطوق به جملة من كل وجه أو مفردًا من كل وجه أصل لكونه جملة من وجه ومفردًا من وجه. ولأن المكسورة مستغنية بمعموليها عن/ زيادة، والمفتوحة لا تستغني عن زيادة، والمجرد من الزيادة أصل للمزيد، ولأن المفتوحة تصير مكسورة بحذف ما تتعلق به، كقولك في عرفت أنك بر: إنك بر، ولا تصير المكسورة مفتوحة إلا بزيادة، كقولك في إنك بر: عرفت أنك بر، والمرجوع إليه بحذف أصل للمتوصل إليه بزيادة، ولكون المكسورة أصلًا قلت: يستدام كسر إن" انتهى.

وقال غيره: الأصل المكسورة لأنها تفيد معنى واحدًا، وهو التأكيد، والمفتوحة تفيده، وتعلق ما بعدها بما قبلها، ولأنها أشبه بالفعل إذ كانت عاملة غير معمولة كما هو أصل الفعل، والمفتوحة عاملة ومعمول فيها كالمركب، والمكسورة كالمفرد، والمفرد أصل للمركب، ولأنها مستقلة، والمفتوحة كبعض اسم إذ كانت وما عملت فيه بتقديره. وقال قوم: المفتوحة أصل للمكسورة. وقال آخرون: كل واحدة أصل بنفسها. والصحيح الأول. وفي (البسيط): قيل: إن المفتوحة مغيرة من المكسورة، فتفتح دليلًا على اتصال العامل بما دخلت عليه، وهو قول الفراء. وتميم وقيس يبدلون من همزتها عينًا، فيقولون: أشهد عن محمدًا رسول الله. وقوله ما لم تؤول هي ومعمولها بمصدر لما كانت (إن) و (أن) متقاربتين في اللفظ ومتفقتين في بعض الأحكام -ألا ترى دخولهما على المبتدأ والخبر واتفاقهما في معنى التأكيد- احتيج إلى قانون تميز به أماكن المكسورة من المفتوحة، فذكر أنها متى أولت هي ومعمولاها بمصدر لم تكسر. وما ذهب إليه المصنف من أنها إذا فتحت أولت بمصدر هو قول الأكثر من النحويين. وإذا كان خبرها فعلًا أو اسمًا ملاقيًا للفعل في الاشتقاق من المصدر تقدرت بمصدر من لفظ الفعل أو ذلك الاسم، نحو: بلغني أنك تنطلق، أو أنك منطلق، فتقدر: بلغني الانطلاق.

فإن كان الخبر ظرفًا أو مجرورًا يقدر المصدر من لفظ الاستقرار العامل في الظرف أو المجرور، نحو: لغني أنك عند زيد، أو في الدار، يقدر: بلغني استقرارك في الدار، أو استقرارك عند زيد. وإن كان اسمًا جامدًا، نحو: بلغني أن هذا زيد، فالتقدير: بلغني كون هذا زيد. وإنما ساغ ذلك لأن كل خبر جامد تصح نسبته إلى المخبر عنه بلفظ الكون، فتقول: هذا زيد، وإن شئت: هذا كائن زيدًا، فيكون معناه كمعنى قولك: هذا زيد. وقال السهيلي: "قول كثير من النحاة (أن وما بعدها في تأويل مصدر) وتقديرهم: بلغني أنك منطلق، أي: انطلاقك، ليس كما زعموا إنما هي في تأويل الحديث، كذلك قال س، وإنما التي في تأويل المصدر (أن) الخفيفة الناصبة للفعل؛ لأنها أبدًا مع الفعل هي/ تدل على مصدره، وأما (أن) المشددة فقد يكون خبرها اسمًا محضًا، نحو: علمت أن الليث الأسد، فهذا لا يشعر بالمصدر لأنه لا فعل له" انتهى كلام السهيلي. وتلخص منه أن (أن) وما بعدها لا تتقدر بالمصدر، خلافًا لأكثر النحويين. وقوله فإن لزم التأويل لزم الفتح، وإلا فوجهان يعني: إن لزم أن تؤول بالمصدر لزم فتح (أن). وقال أبو علي الفارسي في ضبط المكسورة والمفتوحة: كل موضع يتعاقب عليه الاسم والفعل فـ (إن) فيه مكسورة، وكل موضع ينفرد بأحدهما فـ (أن) فيه مفتوحة. فالأول نحو: إن زيدًا قائم، يجوزُ: زيدٌ

قائم، ويقوم زيد. والثاني نحو: بلغني أن زيدًا قائم. والثالث نحو: لو أن زيدًا قائم. قالوا: وهذا القانون ليس بصحيح لأنه ينكسر بـ (إذا) التي للمفاجأة، فإنه لا يليها إلا الاسم، وتكسر (إن) بعدها. وقال س: كل موضع هو للجملة فـ (إن) فيه مكسورة، وكل موضع هو للمفرد فـ (أن) فيه مفتوحة. قالوا: وهذا ينكسر بقولهم "لو أن زيدًا قائم" لوقوعها موقع الجملة الفعلية، ومع هـ 1 اهي مفتوحة، هذا على مذهب س على ما سيأتي بيانه. ومن النحويين من ضبط ذلك بتعداد المواضع. وقوله فلامتناع التأويل كسرت مبتدأة أخذ المصنف في تعداد أماكن المكسورة، فذكر أنها تكسر إذا كان مبدوءًا بها لفظًا ومعنى، نحو: إن زيد قائم، أو معنى لا لفظًا، نحو: ألا إن زيدًا قائم. وفي قوله (مبتدأة) إبهام لأن المبتدأ في الاصطلاح معروف، ولا يراد هنا إذ يلزم على ذلك الكسر في نحو: عندي أنك فاضل، ولا يجوز ذلك، وإنما أرد بقوله (مبتدأة) أي: أول الكلام.

وليس ما ذكر من أنها تكسر في ابتداء الكلام مجمعًا عليه؛ إذ قد ذهب بعض النحويين إلى جواز الابتداء بـ (أن) المفتوحة أول الكلام كما سبق في (باب الابتداء)، فتقول: أن زيدًا قائم عندي. وقوله وموصولًا بها مثاله {وآتَيْنَاهُ مِنَ الكُنُوزِ مَا إنَّ مَفَاتِحَهُ}. فإن جاء ما ظاهره أنه فتحت فيه (أن) بعد موصول، نحو قولهم: "لا أصحبك ما أن في السماء نجمًا"، فإن صلة (ما) محذوفة، و (أن) معمولة لذلك المحذوف، تقديره: ما ثبت أن في السماء نجمًا، كذا قاله المصنف في الشرح. وقال أبو علي الفارسي: "إذا وقعت بعد الاسم الموصول، كقولك: أعطيته ما إن شره خير من جيد ما معك" انتهى. وكذا يقول أصحابنا. وعلى ما زعم س ليست (إن) صلة الاسم الموصول، بل (إن) عنده على إضمار قسم، والقسم وجوابه هو الصلة، و (إن) هو جواب القسم المحذوف. ولا يجيز س بعد القسم في (إن) إلا كسر/ همزتها. وقوله وجواب قسم هذه المسألة -وهي: والله إن زيدًا قائم- فيها أربعة مذاهب: أحدها: إجازة الكسر والفتح واختيار الفتح، وهو مذهب الكسائي

والبغداديين. والثاني: إجازتهما واختيار الكسر. والثالث: وجوب الفتح، وهو مذهب الفراء، وقال أبو جعفر الصفار: "قال الكسائي والطوال: تقول: والله أن زيدًا منطلق، بفتح أن". والرابع: وجوب الكسر، وهو الذي صححه أصحابنا، وهو مذهب البصريين، وهو القياس÷ وبه ورد السماع، قال تعالى {حم (1) والْكِتَابِ المُبِينِ (2) إنَّا أَنزَلْنَاهُ}، {الْحَمْدُ لله الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَلَهُ الحَمْدُ فِي الآخِرَةِ وَهُوَ الحَكِيمُ الخَبِيرُ (1) يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ الرَّحِيمُ الغَفُورُ (2) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا}. قال أبو الحسن بن خروف: "ولم يسمع فتحها بعد اليمين، ولا وجه له في القياس" انتهى. وقد سمع من لسان العرب "حلفت أن زيدًا قائم" بالفتح والكسر، فغلط سماع ذلك من أجاز الفتح والكسر في قولك: بالله إن زيدًا قائم؛ لأن التقدير: حلفت بالله إن زيدًا قائم، فكما يجوز الكسر والفتح مع

التصريح بالفعل فكذلك يجوز مع إضماره. وبيان الغلط فيه أن من كسرها بعد (حلفت) لم يجعل (حلفت) إلا قسماً, و (إن) وما بعدها جواباً لها, ومن فتحها بعد (حلفت) جعل (حلفت) إخباراً عن قسم متقدم , ولم يجعلها قسماً وتكون (أن) وما بعدها في موضع معمول لها, ولا يتصور هذان التقدير إذا كانت (حلفت) مضمرة, لأن العرب لا تضمر (حلفت) وتريد بها غير القسم, بل إذا أضمرتها بل إذا أضمرتها كانت قسماً لا إخباراً عنه, فلذلك كسرت (إن) بعد (حلفت) المضمرة. وقد خالف المصنف قوله هنا في أرجوزته حيث قال: بعد (إذا) فجاءه أو قسم ... لا لام بعده بوجهين نمي فيعني بقوله (نمي) أن ذلك مروي, وليس كذلك بل السماع إنما ورد بالكسر. وإلى جواز الفتح والكسر ذهب أبو القاسم السهلي من أصحابنا, كما ذهب إليه المصنف في الأرجوزة قال السهلي:" جواز فتحها وكسرها بعد القسم لأن القسم جملة تؤكد أخرى فإن كسرت (إن) فلأنها عليه, يعمل فيه أحلف وأقسم" انتهى. وقال الأستاذ أبو الحسن بن الضائع شيخنا:"إذا كانت جواباً للقسم في اللفظ كسرت, وهي في قولهم (حلفت أن زيداً منطلق) جواب في المعنى ومعمولة لفعل الحلف في اللفظ فلذلك تفتح". وفي (البسيط): وأما القسم فذهب البصريون إلى أنه يكسر ليس إلا, وذهب غيرهم إلى الفتح وأصل هذا الخلاف أن جمليتي القسم والمقسم.

عليه هل إحداهما معمولة للأخرى فيكون المقسم عليه مفعولاً لفعل القسم أولا؟ فذهب بعضهم إلى أنه في موضع مفعول ففتح (أن) / بتقدير: أحلف على كذا. ومنهم من جعل القسم تأكيداً للمقسم عليه لا عاملاً فيه فانتفي ألا يكون به تعلق فكسر ليس إلا, ومن جوز الأمرين أجاز الوجهين. وقوله ومحكيه بقول نحو: {قَالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ}. ويأتي الكلام في فتحها بعد القول حيث تعرض لذلك المصنف في (باب ظننت) إن شاء الله. وقوله وواقعة موقع الحال مثاله: {كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِن بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقاً مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ} وقال: ما أعطياني ولا سألتهما ... إلا وإني لحاجزي كرمي وقوله وموقع خبر اسم عين مثاله: زيد إنه منطلق. وهذه مسألة خلاف ذهب البصريون إلى جواز ذلك, واستدلوا على صحة ذلك بقول الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} وبقول الشاعر: أراني- ور كفران بالله- إنما ... أواخي من الأقوام كل بخيل وقول الآخر:

إن الخليفة إن الله سربله ... سربل ملك به ترجى الخواتيم وقول الآخر: منا الأناة وبعض القوم يحسبنا ... إنا بطاء وفي إبطائنا سرع وقال الفراء:" لا تقول في الكلام: إن أخاك إنه ذاهب". قال:" وإنما جاز في الآية لأن المعنى كالجزاء أي: من كان مؤمناً أو على شيء من هذه الأديان فالله يفصل بينهم" انتهى. وما استدل به البصريون ليس هو في عين المسألة لأن الحكم هو أنه تكسر إذا وقعت خبر اسم عين, والمستدل به هو أنها كسرت إذا وقعت خبراً لـ (إن) وإن كان الاستدلال بما ذكر يستلزم جواز ذلك لأن (إن) و (أراني) و (يحسبنا) نواسخ للابتداء , فيقال: كما جاز ذلك مع النواسخ يجوز غفي الابتداء, نحو: زيد إنه ذاهب, ويمكن أن يقال إنه تحدث مع النواسخ أحكام لا تكون مع الابتداء, فيمكن أن يكون هذا منها. وقوله أو قبل لام معلقة مثاله قوله تعالى: {وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ} وقول الشاعر: ألم تر إني وابن أسود ليلة ... لنسري إلى ناريين يعلو سناهما فلولا اللام لفتحت. وقد انتهت المواضع التي يجب فيها الكسر, وهي سبعة.

ونقصه موضع آخر وهو أنه يجب كسرها بعد (حيث) نحو: اجلس حيث إن زيداً جالس. وقد أولع عوام الفقهاء في قراءاتهم بفتحها يقولون: من حيث أنه, بالفتح. وقوله وللزوم التأويل فتحت/ بعد (لو) أي: وللزوم تأويلها بالمصدر. ومثال ذلك بعد (لو) قوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا}.وقال الشاعر: فلو أن قومي أنطقتني رماحهم ... نطقت ولكن الرماح أجرت والتقدير: ولو صبرهم, ولو إنطاق لرماح قومي إياي, فموضع (أن) وما دخلت عيه رفع. واختلفوا على ماذا ارتفع: فذهب الكوفيون وبعض البصريين, منهم المبرد والزجاج وتبعهما الزمخشري وجماعة إلى أنه مبني على فعل محذوف. قال ابن هشام: وقول الكوفيين عديم النظير لأن الفعل لم يحذف بعد (لو) قط إلا أن يكون مفسراً, نحو قوله تعالى: {لَّوْ أَنتُمْ تَمْلِكُونَ} وقولهم في المثل:" لو ذات سوار لطمتني".

قال:" وزعم البصريون أن الخبر لـ ـ (أن) بعد (لو) لم يجيء إلا فعلاً أو اسم فاعل ليكون بمعنى الجملة الاسمية, ولا يجوز: لو أن زيداً أخوك لأكرمتك" انتهى. وليس مذهب البصريين بصحيح أن كان يصح نقله عنهم. فذهب البصريون إلى أنه مرفوع بالابتداء وخبره محذوف, وهكذا ذكر الأستاذ أبو علي أنه مذهب البصريين. وقال ابن هشام: مذهب س أن (أن) مع معموليها مبتدأه, والخبر محذوف, لا يجوز إظهاره, كحذفه بعد (لولا) , وهو قول أكثر البصريين, وذهب بعضهم أنه مرفوع بالابتداء ولا خبر له لطوله وجريان المسند والمسند إليه في الذكر. قال ابن عصفور: وهذا الذي أحفظه عن البصريين. انتهى. وقد جوز المبرد هذا الوجه والوجه الأول حكي عنه ابن السراج في كتاب (الأصول) أنه قال: إن (أن) المفتوحة بعد (لو) مع صلتها بتقدير مصدر, ووقوعها بعدها على ضربين: أحدهما: أن المصدر يدل على فعله, فيجزي منه. قال: فإن قال قائل: إذا قلت" لو أنك أجبتني لأكرمتك" فلم لا تقول: لو إجابتك لأكرمتك؟ قيل: لأن الفعل قد لفظت به في صلى (أن) والمصدر ليس كذلك, ألا ترى أنك تقول: ظننت أنك منطلق فتعديه إلى (أن) وهي وصلتها اسم واحد لأنها قد صار لها اسم وخبر فدلت على المفعولين , وغيرها من الأسماء لابد معه من مفعول ثان.

قال: والوجه الآخر أن الأسماء تقع بعد (لو) على تقدير تقديم الفعل الذي بعدها, فـ (لو) على كل حال, وإن كان ذلك من أجل ما بعدها, ولذلك وليتها (أن) لأنها اسم, وامتنعت المكسورة لأنها حرف جر جاء لمعنى التوكيد, فمما وليها من الأسماء قول الله عز وجل: {قُل لَّوْ أَنتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَآئِنَ رَحْمَةِ رَبِّي} وكذلك: لو أنك جئتني, أي: لو وقع مجيئك. والصحيح أن (أن) ومعموليها في موضع رفع بالابتداء وذلك أن في كل من المذهبين خروجاً لـ (لو) عما استقر فيها, لأن العرب لا تقول: لو زيد/ قائم لأكرمتك, ولا تقول: لو قيام زيد لأكرمتك, إنما تحذف الفعل بعدها , وتجعل ما بعده معمولاً له إذا كان ثم ما يفسره, وهو مع ذلك قليل, وأن يليها الفعل هو الكثير ,فإذا جعلنا ذلك مبتدأ- ولا يحتاج إلى خبر لجريان المسند والمسند إليه في صلتها وإغناء ذلك عنه- كان أولى لأن هذا الوجه ليس فيه حذف , والوجه الآخر يحتاج إلى تكلف حذف. وما ذكره المبرد من أن السبب في ذلك جريان ذكر الفعل في صلة (أن) ليس بشيء لأن (أن) الواقعة بعد (لو) قد لا يكون خبرها الفعل, نحو قوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأَرْضِ مِن شَجَرَةٍ أَقْلامٌ} وما ذكره الأستاذ أبو علي أنه مذهب البصريين أنه يقدر بمبتدأ محذوف الخبر فهو مرجوح لأنه إذا أمكن أن يحمل الكلام على أن لا حذف كان أولى من جمله على حذف. وقد ذكرنا أيضاً الكلام على (أنَّ)

بعد (لو) في كتاب (التكميل) في الفصل الثاني من (باب عوامل الجزم) وأمعنا الكلام في ذلك هناك, لكن فيما ذكرناه هنا مزيد فوائد. وقوله و (لولا) مثاله قوله تعالى: {فَلَوْلا أَنَّهُ كَانَ مِنْ الْمُسَبِّحِينَ} , وقول الشاعر: لكم أمان ولولا أننا حرم ... لم تلف أنفسكم من حتفها وزرا وقوله و (ما) التوقيتية مثاله قول العرب فيما حكاه ابن السكيت: لا أكلمك ما أن في السماء نجما, وفيما حكاه الليحاني: لا أفعل ما أن حراء مكانه, التقدير: ما ثبت أن ما في السماء نجماً وما ثبت أن حراء مكانه. وقوله وفي موضع مجرور, أو مرفوع فعل أو منصوبة غير خبر مثال ذلك: عجبت من أنك منطلق, وقوله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ} و {إِنَّهُ لَحَقٌّ مِّثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ} وأنشد س: تظل الشمس كاسفة عليه ... كآبة أنها فقدت عقلا {أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنزَلْنَا} , {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ} , {وَلاَ تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُم}

واحترز بقوله"غير خبر" من نحو قوله: حسبت زيداً إنه قائم, فـ"إنه قائم" في موضع نصب, لكنه خبر في المعنى لأن (حسب) داخلة على المبتدأ والخبر. -[ص: ولإمكان الحالين أجيز الوجهان بعد (أول قولي) , و (إّا) المفاجأة وفاء الجواب. وتفتح بعد (أما) بمعنى حقاً وبعد (حتى) غير الابتدائية وبعد (لا جرم) غالباً وقد تفتح عند الكوفيين بعد قسم ما لم توجد اللام.]- ش: يعني بـ"إمكان الحالين" اعتبار التقدير بالمصدر واعتبار التقدير بالجملة, فباعتبار المصدر تفتح، وباعتبار الجملة تكسر. وقوله أجيز الوجهان بعد (أول قولي) هذه مسألة ذكرها س, وهي قولهم: أول ما أقول/ إني أحمد الله, وأحالها المصنف إلى: أول قولي, فسبك من (ما) والفعل مصدراً وأضاف إليه (أول) وسيأتي احتمال (ما) أن تكون اسماً موصولاً وكما ذكرها س ذكرها أ [وعلي في (الإيضاح) ولم يسبك من (ما) والفعل مصدراً فمن فتح (أن) قدرها بالمصدر كأنه قال: أول ما أقول حمد الله فأول: مبتدأ و"أني أحمد الله" في موضع الخبر, و (ما) مصدرية كأنه قال: أول قولي حمد الله, وهذا إخبار بمعنى عن معنى لأن (قولا) مصدر, والمضاف إليه مصدر و (حمد) مصدر أخبر به عن مضاف لمصدر. فإن قلت: أيجوز مع فتح "إني أحمد الله" أن تكون (ما) موصولة بمعنى (الذي) أو نكرة موصوفة بمعنى (شيء) والفعل بعدها صلة, أو

صفة, والعائد محذوف, وهو مفعول القول, ويكون التقدير: أول الألفاظ التي أقولها وأول ألفاظ أقولها حمد الله؟ قلت: منع ذلك بعضهم, قال: لأن" حمد الله" ليس من الألفاظ المقولة, فكيف يقع خبراً لما هو لفظ؟ والخبر إذا كان مفرداً فلا بد أن يكون المبتدأ, نحو: زيد أخوك, أو منزلا منزلته, نحو: زيد زهير, و"حمد الله" ليس أول الألفاظ ولا منزلاً منزلته. وأجاز ابن خروف مع فتح (أني) أن تكون (ما) موصولة بمعنى (الذي) ونكرة موصوفة. وهذا لا يتصور إلا أن يجعل "حمد الله" من قبيل الألفاظ فكأنه يقول: أول ألفاظي هذا اللفظ أي: حمد الله. ومن كسر, فقال: أول ما أقول إني أحمد الله فأول: مبتدأ و (ما) موصولة بمعنى (الذي) أو نكرة موصوفة أو مصدرية أريد بها المفعول كما قالوا: درهم ضرب الأمير, أي: مضروبة وكذلك هذا, تقديره: أول قولي. أي: مقولي. ومعمول (أقول) إذا كانت (ما) بمعنى (الذي) أو موصوفة محذوف كما قدرناه إذا فتحت (أن) والخبر عن المبتدأ الذي هو (أول): إني أحمد الله كما تقول: أول ما أقرأ: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} , {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ} خبر عن (أول) ولا تحتاج هذه الجملة إلى رابط لأنها نفس المبتدأ في المعنى. هكذا فسر الناس كلام س في هذه المسألة, أغني أن "أول ما أقول" مبتدأ و"إني أحمد الله" خبر عنه فسره كذلك المبرد والزجاج والسيرافي وابن طاهر وأكثر مقرئي كتاب س بالأندلس.

ولأبي علي الفارسي فيه ارتباط وخبط, زعم أن" إني أحمد الله" معمول لـ (أقول) في قوله " أول ما أقول إني أحمد الله" فكسرت من أجل أنها معمولة للقول محكية به, فاحتاج من أجل ذلك إلى تقدير خبر للمبتدأ الذي هو (أول) فقدره (ثابت) فصار المعنى: أول قولي إني أحمد الله ثابت. ورد الناس على أبي علي هذا التقدير وقالوا: يغير معنى الكلام, والكلام تام دون هذا التقدير. وممن رد عليه في هذه المسألة أبو الوليد الوقشي وأبو الحسين بن الطراوة وأبو الحجاج بن معزوز, وقالوا:/ هذا التقدير غير معقول لأنه يؤدي إلى أن يكون أول قوله: إني أحمد الله, وهو مثلاً قوله: إني موجود ويفهم من دليل الخطاب أن آخره غير موجود وهذا بلا شك لا يمكن أن يقصده عاقل. وزعم بعض أصحابنا أن "إني أحمد الله" معمول لـ (أقول) لكنه خبر للمبتدأ من حيث المعنى, وسد المفعول مسد الخبر لأنه في معنى ما لا يحتاج إلى خبر, والتقدير: أقول قبل كل شيء إني أحمد الله, ونظير ذلك: أقائم الزيدان, فقد سد الفاعل مسد الخبر وأغنى عنه, فكذلك هذا, سد فيه المفعول مسد الخبر, وأغنى عنه. وانفصل هذا الزاعم بهذا الذي قرره عما اعترض الناس به على أبي علي, وقال: لم يرد أبو علي أن هناك ثابتاً أو موجوداً وإنما أراد أن

" أول ما أقول إني أحمد الله" كله بمنزلته لو كان ثم (ثابت) أو (موجود) , قال: فذلك تمثيل منه وإن لم يتكلم به ليتحقق وجه الانفراد. وهذا الذي ذهب إليه ليس بشيء, لأنه إنما سد في " أقائم الزيدان"لاجتماع المسند والمسند إليه في هذا الكلام , فالمعنى متفق وإن اختلفت جهتا التركيب وأما في تلك المسألة فإن قوله"إني أحمد الله" جعله مفعولاً لـ (أقول) فضلة في الكلام, فلم يجتمع فيه مسند ومسند إليه ولم تكن الفضلة لتنوب عما هو أحد جزأي الكلام الذي يتوقف عليه معقولية المحكومة عليه والمحكوم به, ثم إن هذا التأويل الذي تأوله على أبي علي لا ينزل عليه لفظ أبي علي لأنه صرح بأن "أول ما أقول" مبتدأ محذوف الخبر, وزعم أن تقدير ذلك الخبر المحذوف (ثابت) أو (موجو) ولو أراد ما ذهب إليه هذا المنفصل لقال: و"أول ما أقول إني أحمد الله" مفرد بمنزلته لو كان هناك (ثابت) أو (مستقر) ملفوظاً به. وذهب الأستاذ أبو علي إلى أنه ليس"إني أحمد الله" معمولاً لـ (أقول) ولا كسرها لأجل كونها معمولة له, وإنما كسرها لأتنها بعد (أول) وهو قول من حيث أضيف إلى القول وقدر الخبر محذوفاً - أي ثابت- كما قدره الفارسي, قال: أترى أن معنى أول ما أقول إني أحمد الله ثابت أو موجود: قولي إني أحمد الله المتقدم على كل كلام ثابت أو موجود. وهذا الذي ذهب إليه الأستاذ أبو علي خطأ لأن (إن) لا تكسر حكاية لفعل أو مصدر إلا وهي معمولة و (أول) لا يعمل وإن كان مصدراً في المعنى لأنه ليس بمصدر في اللفظ وإن كان في معناه , ألا ترى أن المصدر إنما عمل لانحلاله إلى (أن) والفعل أو (ما) والفعل, و (أول) ليست كذلك لأنه لم يستعمل من لفظها فعل.

وذهب ابن عصفور إلى أنه يتخرج كلام أبي غلي على أن تكون (ما) مع الفعل بتأويل المصدر, كأنك قلت: أول قولي إني أحمد الله, والمصدر قد يراد به/ المرة الواحدة , وقد يراد به أكثر كما أريد به في قوله تعالى {إِنَّ أَنكَرَ الأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ} , والحمير ليس لها صوت واحد وإنما لها أصوات فإّا أريد بالمصدر في المسألة المرة الواحدة لزم الفساد المتقدم فلم يبق إلا أن يراد التكثير وكأنه قال: أول أقوالي إني أحمد الله ثابت قبل, أي: ليس هذا بأول حمد حمدت الله تعالى بل لك أزل أحمده فيما تقدم. وحكي عن الملك عضد الدولة بن بويه- وهو أحد من أخذ عن أبي علي الفارسي - أنه أجاز أن تكون (ما) من قوله "أول ما أقول" مصدرية , و (أول) المضاف إليها مبتدأ وخبره محذوف والتقدير: أول ما أقول قولي إني أحمد الله و (إني) في صلى (قولي) المحذوف الذي هو خبر لـ (أول). وارتضاه بعض شيوخنا, ورده بعضهم لأن فيه حذف الموصول وإبقاء ما هو من صلته, وهو معمولة وهذا بابه الشعر. ويجوز ذلك في قول البغداديين وينبغي ألا يمتنع هنا لأن القول قد كثر إضماره في كلام العرب حتى صار يجري مضمراً مجراه مظهراً لكنه بعد ذلك فيه مجاز الإضمار وإذا جعلت "إني أحمد الله" في موضع الخبر فلا إضمار وكلام س في هذه المسألة واضح جداً. وتلخص من هذا كله أن كسر (إن) في هذه المسألة إما لكونها خبراً

عن (أول) وهو مذهب الجمهور والمتفهم من كلام س, أو عن (قولي) المضمرة معمولة له, وهو منسوب إلى عضد الدولة. أو لكونها معمولة لـ (أقول) والخبر محذوف وهو قول الفارسي. أول لـ (أول ما أقول) , والخبر محذوف وهو قول الأستاذ أبي علي. أو لا يحتاج إلى الخبر لسد المعمول مسده, وهو قول بعض أصحابنا. وتحقيق الكلام في هذه المسألة أن (القول) ينطلق على معنيين: أحدهما الحدث, وهو تأخيذ الصوت في أشخاص الكلام أو في بعض أشخاصه, والثاني أشخاص الكلام أنفسها ومثال ذلك: هذا ضربي, تشير إلى تأخيذ الحركات وهذا درهم ضرب الأمير , تريد: مضروبة. فإذا أردت الحدث فتحت, وكان التقدير: أول تكلمي تحميد الله فوقعت موقع المفرد. وإذا أردت المقول كسرت , وكان التقدير: أول كلامي إني أحمد الله وذلك أن (أول) هي أفعل التي للمفاضلة بدليل أن مؤنثها (الأولى) كالأفضل والفضلى , وأفعل التي يراد بها المفاضلة هي من جنس ما تضاف إليه, فهي كلام, وإذا كان كلاماً أخبرت عنه بما هو كلام , لأن الخبر هو المخبر عنه في المعنى وإذا كان كذلك لزم كسر (إن) لأنها إذا كسرت كانت مع معمولها كلاماً وإذا فتحت كانت بتقدير المفرد, والمفرد ليس بكلام. وقوله وبعد (إذا) الفجائية مثاله قول الشاعر: وكنت أرى زيداً كما قيل سيداً ... إذا إنه عبد القفا واللهازم روي بالكسر على عدم التأويل بالمصدر وبالفتح على تأويل (أن) ومعموليها بمصدر مرفوع بالابتداء. قال المصنف في الرشح:" والخبر محذوف والأول أولى لأنه لا يحوج إلى تقدير محذوف" انتهى.

وقد تقدم لنا أن مذهب أصحابنا أن الخبر هو (إذا) الفجائية فلا يكون الخبر محذوفاً فلا أولوية بل يكون الوجهان متساويين في الجودة أعني الفتح والكسر في (إن). وقوله وفاء الجواب عبر عنها المصنف في غير هذا بفاء الجزاء. فإذا وقعت بعد فاء الجواب جاز فيها الفتح والكسر مقاله: من يقصدني فإني أكرمه, بالفتح والكسرة, قال تعالى: {أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَن يُحَادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ} قرئ بالفتح وقال تعالى: {وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ} قرئ بالكسر, وقال تعالى: {أَنَّهُ مَن عَمِلَ مِنكُمْ سُوءاً بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِن بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} قرئ بالفتح والكسر, فالفتح على تقديرها بمصدر وهو خبر مبتدأ محذوف كأنه قال: من يحادد الله ورسوله فجزاؤه كينونة النار له, وكذلك: فجزاؤه الغفران. الكسر على أنها جملة باقية على أصلها, وهو أحسن في القياس لأن الفتح يؤدي إلى تكلف الإضمار, والكسر لا إضمار معه. قال المصنف:" ولذلك لم يجئ في القرآن فتح إلا مسبوق بـ (أن) المفتوحة, فإن لم تسبق (أن) المفتوحة فكسر (إن) بعد الفاء مجمع عليه من القراء السبعة نحو {إِنَّهُ مَن يَاتِ رَبَّهُ مُجْرِماً فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ} و {إِنَّهُ مَن يَتَّقِ وَيِصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} , {وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ} انتهى.

وقال الزمخشري في قوله تعالى {أَلَمْ يَعْلَمُوا} الآية ما نصه: " ويجوز أن يكون {فَأَنّ} معطوفاً على {أَنَّهُ} على أن جواب {مَن} محذوفة, وتقديره: ألم يعلموا أنه من يحادد الله ورسوله يهلك فأن له نار جهنم". وقال:" وقيل: معناه فله, و (أن) تكرير لـ {أَنَّ} في قوله: {أَنَّهُ} توكيداً. وهذا الذي جوزه الزمخشري والذي نقله عن غيره لا يجوزان: أما الأول فلأنه قد تقرر في علم العربية أنه إذا حذف جواب الشرط لدلالة الكلام عليه لزم مضي فعل الشرط , نحو قولهم: أنت ظالم إن فعلت ولا يجوز أن يأتي مضارعاً إلا في ضرورة الشعر, وهنا في الآية قد جاء مضارعاً وهو قوله: {يُحَادِدِ اللَّهَ} فلا يجوز إذا ذاك حذف الجواب, ويتعين أن يكون الجواب غير محذوف. وأما الثاني فلا يجوز أن يكون {فَإِنَّ لَهُ} تكريرا لـ {أَنَّ} على سبيل التوكيد لوجوه: الأول: أن الفاء تمنع من التوكيد لما فيها من التعقيب والتوكيد هو المؤكد فلا تعقيب بينهما/ ولا يمكن جعل الفاء زائدة لأنها لا تزاد إلا إن كان ذلك في شعر إن وجد. الثاني: أن الحرف إذا كرر على سبيل التوكيد فلا يكرر إلا بما دخل عليه, ومتعلق {أَنَّهُ} غير متعلق {فَأَنّ} لأن تلك اسمها ضمير الشأن, وخبرها الجملة الشرطية وهذه اسمها {نَارَ جَهَنَّمَ} فلا يمكن أن تكون {فَأَنّ} توكيداً لـ {أَنَّهُ}

الثالث: أنه إذا جعلت {أَنَّ} كررت توكيداً لم تكن داخلة في جواب الشرط, وهي بلا شك داخلة فيه إذ ينسبك منها مع معموليها مصدر, فإذا تنسبك منها مصدر هو داخل في جواب الشرط لم تكن توكيداً, فتناقضا لأنها من حيث هي تكرير على سبيل التوكيد لا تكون داخلة في جواب الشرط, ومن حيث هي مصدرية هي داخلة فيه إذ هي جزء الجواب. وقوله وتفتح بعد (أما) بمعنى حقاً روي س "أما إنك ذاهب" بكسر (إن) على أن (ما) للاستفتاح كـ (ألا) وبفتحها بمعنى حقاً, كذا قال المصنف في الشرح: إن (أما) بمعنى حقا. والذي شرح به أصحابنا كلام س هو أنك إذا كسرت فـ (أما) استفتاح كـ (ألا) أو فتحت الهمزة للاستفهام و (ما) بمنزلة حق, وذلك أن (ما) عامة, فتجعلها بمنزلة: شيء وذلك الشيء حق, فكأنك: أحقاً أنك ذاهب؟ وانتصابه على الظرف. قال المصنف في الشرح:" وإذا وليت (أن) (حقا) فتحت لأنها حينئذ مؤولة هي وصلتها بمصدر مبتدأ و (حقا) مصدر واقع ظرفاً مخبراً به ومنه قول الشاعر:

أحقاً أن جيرتنا استقلوا ... فنيتنا ونيتهم فريق تقديره عند س:" أفي حق أن جيرتنا استقلوا فـ (أما) المفتوح بعدها (أن) كذلك". قال المصنف في الشرح:" ويحتمل عندي أن يكونوا نصبوا حقاً نصب المصدر الواقع بدلاً من اللفظ بفعله, و (أن) في موضع رفع على الفاعلية, كأنه قال: أحق حقاً أن جيرتنا استقلوا وتكون (أما) مع الفتح للاستفتاح أيضاً, وما بعدها مبتدأ خبره محذوف كأنه قال: أما معلوم أنك ذاهب. وقد يقع بين (أما) و (أن) يمين فيجوز أيضاً الفتح على مرادفه (أما) (حقا) والكسر على مرادفتها (ألا) ذكر ذلك س" انتهى كلامه. وما ذهب إليه المصنف من جواز انتصاب (حقاً) نصب المصدر الواقع بدلاً من اللفظ بفعله, و (أن) في موضع رفع على الفاعلية لا يجوز لأنه ليس من المصادر التي يجوز نصبها على إضمار فعل, لأن ذلك إنما يكون إذا أريد به الأمر وما أشبهه, أو الاستفهام ويكون نكرة ولا يكون معرفة, وقد قالوا: ألحق أنك ذاهب؟ فدل على أنه منصوب على الظرف, وما بعده مبتدأ وكأنه قال: أفيما يحق هذا؟ وتكون ظرفاً مجازيا/ بمنزلة (كيف) لأن معناها في أية حال. والدليل على أنه نصبه نصب الظرف قول الشاعر:

أفي حق مواساتي أخاكم ... مالي, ثم يظلمني السري فإن قلت: هل يجوز أن ينتصب على أنه أسقط منه حرف الجر, والعامل فيه (كائن) فيكون أولى من جعل ما ليس بظرف ظرفاً فيكون المعنى: أكائن أو مستقر فيما يحق هذا؟ ثم أسقط الحرف , فصار: أحقاً أنك ذاهب؟ قلت: المعنى لا يعمل مضمراً ألا ترى أنا أبطلنا أن يكون (مثلهم) من قوله: ...................... ... ....... وإذا ما مثلهم بشر حالاً, والعامل فيه الخبر المحذوف كأنه قال: في الوجود وإنما يعمل مضمراً ومظهراً الفعل. ويجوز أن تقول: أحق أنك ذاهب بالرفع وهو جيد قوي وهو الوجه لأنه ليس فيه جعل ما ليس بظرف ظرفاً وارتفاعه على أنه الخبر لأن (أن) تتنزل منزلة أعرف المعارف. وأما تجويز المصنف في "أما أنك ذاهب" فتح (أنك) أن تكون (أما) للاستفتاح وما بعدها بتقدير مبتدأ محذوف الخبر, كأنه قال: أما معلوم أنك ذاهب, فالشيء خالف فيه النحويين. ويبطله أنه لو كان على ما ذهب إليه لصرحت العرب بهذا الخبر الذي قدره في موضع ما مع (أن). وتقول: أما والله أنك ذاهب, بفتح (أن) وكسرها قال ابن هشام:" إذا كسرت جعلتها جواب القسم وإذا فتحت فقدره س: أعلم

والله أنك ذاهب وقدره الفراء وأبو العباس وجماعة: أحلف بالله على أنك ذاهب أي: على ذهابك" انتهى. وقالت العرب: شد ما أنك ذاهب وعز ما أنك منطلق, فقيل: تركب الفعل مع (ما) وغلب الحرف كما في (إذ ما) ووضع موضع المصدر المنصوب على الظرف كأنك قلت: حقا أنك ذاهب فهي بمنزلة (أما) لكنها مفتوحة أبداً. ويحتمل أمراً آخر وهو أن يغلب الفعل فيصير بمنزلة (حبذا) و (نعم) كأنك قلت: نعم العمل أنك ذاهب قاله في (البسيط) وفيه: " فإذا قلت (أما حقا فإنك ذاهب) صح الكسر لأنه من مواضع (إن) لأنه جواب الشرط, والفتح هنا ضعيف لأنك لم تضطر إلى الظرف كالأول" انتهى. يعني بـ (الأول) أحقاً أنك منطلق. وفي الشرح المنسوب لأبي الفضل الصفار ما ملخصه: الكسر هنا لا يجوز, ألا ترى أن (شد) و (عز) فعلان, فما بعدهما في موضع المعمول, و (ما) زائدة فالمعنى: عز ذهابك و (شق) و (شد) كذلك أي: شق لأنك الشيء إذا شد فقد شق. ويجوز أن تكون (ما) تمييزاً, وضمن (شد) معنى المدح و"أنك ذاهب" خبر مبتدأ ولا يجوز أن يكون مبتدأ لأن (أن) لا يبتدئ ويظهر من [قول] الخليل أن "شد ما" بمنزلة "حقا" ركب الفعل مع الحرف , وانتصب ظرفاً والمعنى: عزيزاً ذهابك وشديداً , أي: فيما يشق/ لأنه شبهها بـ (لو) حين جعلها بمنزلة (لولا) في أنه يبتدئ بعدها وإن لم تكن بمنزلتها وذلك أن (لو) لا يليها إلا الفعل , و (لولا)

الامتناعية لا يليها إلا الاسم المبتدأ فأجروا (لو) مجرى (لولا) فيبتدئ بعدها, أي: لشبهها بـ (لولا) انتهى, وفيه بعض تلخيص. وقوله وبعد (حتى) غير الابتدائية مقاله: عرفت أمورك حتى أنك فاضل فـ (حتى) تقدر بعدها مصدر, فإن كانت عاطفة كان في موضع نصب, وإن كانت جارة كان في موضع جر. واحترز بقوله " غير الابتدائية " ومن أن تكون ابتدائية, نحو قولك: مرض حتى إنه لا يرجى. وقوله وبعد (لا جرم) غالباً اختلف في "لا جرم": فذهب س إلى أنها بعل بمعنى (حق) قال س: "قال تعالى {لاَ جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ الْنَّارَ} و (جرم) عملت لأنها فعل, ومعناها: لقد حق أن لهم النار, ولقد استحق أن لهم النار. وزعم الخليل أن (جرم) إنما تكون جواباً لما قبلها من الكلام, يقول الرجل: كان كذا وكذا, وفعلوا كذا وكذا, فتقول: لا جرم أنهم سيندمون أو سيكون كذا وكذا" انتهى كلام س. فـ (أن) بعد (جرم) في موضع الفاعل بها, والوقف على (لا) عند س, ولا يجوز أن توصل بـ (جرم) لأنها ليست نفي (جرم). وذهب الفراء إلى أن _جرم) بمعنى كسب, قال: وركبت (لا) مع (جرم) وصارت بمنزلة "لا بد" و"لا محالة" والتركيب يحدث معه أمر لم يكن. ولا يقف على (لا) لأنها جزء مما بعدها و (جرم) بمعنى كسب معروف في اللغة ومنه قول الشاعر:

جريمة ناهض في رأس نيق ... ترى لعظام ما جمعت صليبا أي: أنها تكسب لفرخها الذي هو ناهض. وزعم أن قوله: ..................... ... جرمت فزارة بعدها أن يغضبوا على هذا المعنى, أي: كسبت لهم الغضب, قال: وليس قول من قال" حق لفزارة الغضب" بشيء, لأن (جرم) (حق) لم يثبت من لسان العرب, ولو كان "أن يغضبوا" فاعلاً بـ (جرم) لما أنث, فكان يكون (جرم) وتفسير المفسرين {لاَ جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ الْنَّارَ} بمعنى: حقاً أن لهم النار, لا يثبت أن (جرم) بمعنى حق, لأنهم فسروا المعنى. قال بعض أصحابنا: هذا الذي قاله حسن جداً. وأقول: لا يلزم ما قاله الفراء في "جرمت فزارة بعدها أن يغضبوا" من أنه يلزم أن يقول (جرم) ولا يؤنث, لأنه يكون أنث على معنى الغضبة, كما قال الشاعر: ........................ ... وقد عذرتني في طلابكم العذر

أي: المعذرة. (فزارة) في كلا القولين منصوب على إسقاط اللام. وقال المصنف:" إذا وقعت (أن) بعد (لا جرم) فالمشهور الفتح, وبه قرأ القراء. قال الفراء: (لا جرم) كلمة كثر استعمالهم إياهم حتى صارت بمنزلة (حقاً) وبذلك فسرها المفسرون, وأصلها من جرمت أي: كسبت/ وتقول العرب: لا جرم لآتينك, ولا جرم لقد أحسنت, فتراها بمنزلة اليمين" قال المصنف في الشرح:" ولإجرائهم إياهم مجرى اليمن حكي عن بعض العرب كسر (إن) بعدها" انتهى. ولقلة تصفحه كلام س جهل مذهب س في "لا جرم" وكلام الخليل فيها, ولم يبين موضع (أن) بعد " لا جرم" وقد ذكرنا أن مذهب س أنها في موضع رفع على الفاعل. وأما على مذهب الفراء فيظهر أن التقدير عنده: لا جرم من كذا كما تقول: لا بد أنك ذاهب, أي: من أنك ذاهب. وقوله وقد تفتح عند الكوفيين بعد قسم ما لم توجد اللام قد تقدم لنا ذكر الخلاف (أن) بعد القسم في أوائل هذا الفصل. وقال المصنف في الشرح:"ذكر ابن كيسان في نحو (والله إن زيداً قائم" بلا لام أن الكوفيين ويكسرون, والفتح عندهم أكثر. وقال الزجاجي في جمله):وقد أجاز بعض النحويين فتحها بعد اليمين واختاره بعضهم على الكسر, والكسر أجود وأكثر في كلام العرب والفتح جائز قياساً) وهذه العبارة تقتضي أن يكون الفتح

مستعملًا في كلامهم استعمالاً أقل من استعمال الكسر. ثم أشار إلى أن الفتح جائز قياساً. وليس كما قال, فإن الفتح يتوقف على كون المحل مغنياً فيه المصدر عن العامل والمعمول, وجواب القسم ليس كذلك, والكسر كذلك يوجب لـ (إن) الواقعة فيه الكسر قياساً, ولذلك اجتمعت القراء على كسر {إِنَّا جَعَلْنَاهُ} في أول الزخرف, و {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ} في أول الدخان مع عدم اللام فإن ورد (أن) بالفتح في جواب قسم حكم بشذوذه وحمل على إرادة (على) وعلى ذلك يحمل قول الراجز: لتقعدن مقعد القصي ... مني ذي القاذورة المقلي أو تحلفي بربك العلي ... أني أبو ذيالك الصبي في رواية من رواه بالفتح كأنه قال: أو تحلفي على أني أبو ذيالك الصبي" وأغفل المصنف وقوع (أن) بعد (مذ) و (منذ) فنقول: اتفق النحويون على فتح (أن) بعدهما, فتقول: ما رأيته مذ أن الله خلقني واختلفوا في جواز الكسر بعدهما: فمنهم من صرح بإجازته, وهو مذهب الأخفش. ومنهم من صرح بامتناعه ومنهم من صرح بجواز الفتح,

وسكت عن إجازة الكسر وامتناعه كـ (س) وابن السراج. فحجة من أجاز الكسر أن (مذ) و (منذ) يجوز وقوع الجملة الاسمية والفعلية بعدهما نحو: ما رأيته مذ قام زيد, ومنذ زيد قائم, والموضع الصالح للجملتين تكسر فيه (إن). وحجة مانع الكسر أن الجمل بعدهما تتقدر بمصدر والتقدير: منذ قيام زيد, ووضع الجملة موضع المصدر إنما جاء بعد أسماء الزمان أو (ذي) في قولهم:" اذهب بذي تسلم" أو (آية) في قولك: ائتني بآية يقوم زيد, ومن ذلك قوله: بآية الخال منها عند مفرقها ... وقول ركبتها قض حين تثنيها ولا ينقاس فيما عدا ذلك, لا يجوز: بلغني يقوم زيد, ولا: عجبت من يقوم زيد, تريد: بلغني قيام زيد, ومن قيام زيد. فلما كان وضع الجملة موضع المصدر غير منقاس إنما يتبع فيه السماع امتنع من جواز وضع (إن) واسمها وخبرها موضع المصدر لأنه لم يسمع وقوعها موقع المصدر في موضع. قال ابن عصفور: والصحيح عندي أن ذلك جائز, لأن وضع الجملة موضع المصدر بعد أسماء الزمان قد صار مطرداً فجاز لذلك أن يقاس في (إن) وإن لم يسمع ذلك فيها قياساً على غيرها من الجمل الاسمية.

وفي دخول (مذ) و (منذ) على الجمل الاسمية خلاف: ذهب س إلى أنهما اسما زمان, فجازت إضافتها إلى الجمل كسائر أسماء الزمان. وذهب الأخفش إلى أنه لا بد من تقدير اسم زمان محذوف لأن (مذ) و (منذ) لايدخلان إلا على أسماء الزمان ملفوظاً بها أو مقدراً. والصحيح مذهب س من أنهما يضافان إلى الجمل تارة, ويدخلان على أسماء الزمان أخرى. وسيأتي الاستدلال لذلك عند ذكر المصنف الكلام على (مذ) و (منذ) في " باب المفعول المسمى ظرفاً" إن شاء الله. والعجب للأخفش أنه يجبز كشر (إن) بعد (مذ) و (منذ) مع اعتقاده أن اسم الزمان محذوف قبلها, وإذا قدر اسم زمان قبل (إن) انبغى أن تكون مفتوحة لأن اسم الزمان مضاف إليها, فهي في تقدير مفرد, فتفتح. وأغفل المصنف أيضاً وقوع (إن) بعد (أما) إذا جاء بعدها ظرف أو مجرور, نحو: أما في الدار فإن زيداً قائم, والكسر على تقدير: فزيد قائم, ويتعلق المجرور بما في (أما) من معنى الفعل, والفتح بتقدير: فقيامك , والمجرور في موضع الخبر. ويمكن اندراج هذه المسألة تحت قوله"وفاء الجواب" فلا يكون المصنف أغفلها لأن (أما) في معنى الشرط, لكن التنصيص عليها أولى لأن المصنف لم ينص عليها.

-[ص: فصل يجوز: دخول لام الابتداء بعد (إن) المكسورة على اسمها المفصول, وعلى خبرها المؤخر عن الاسم, وعلى معمولة مقدماً عليه بعد الاسم, وعلى الفصل المسمى عماداً. وأول جزأي الجملة الاسمية المخبر بها أولى من ثانيهما. وربما دخلت على خبر (كان) الواقعة خبر (أن).]- ش: قوله يجوز دخول لام الابتداء هذه اللام عند البصريين هي لام الابتداء في الأصل التي في قولك: لزيد/ أخوك وهي تؤكد الجملة, وأخرت لكونها للتأكيد و (إن) للتأكيد, فلو جعلوها في أول الكلام لأدى ذلك إلى الجمع بين حرفين لمعنى واحد, والعرب لا تجيء بشيء من ذلك في كلامها إلا في ضرورة نحو قوله: فلا والله لا يلفي لما بي ... ولا للما بهم أبداً دواء فجمع بين اللامين, وهما بمعنى واحد وقول الآخر: فأصبحن لا يسألنني عن بما به ... أصعد في غاوي الهوى أم تصوبا فجمع بين (عن) و (الباء) وهما لمعنى واحد بل إذا أرادوا تأكيد الحرفين فصلوا بينهما بما يدخل عليه الحرف, نحو: مررت بزيد به.

وربما فصلوا بينهما بأكثر من ذلك, ومنه {وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا}. فلما تعذر جعلها أول الكلام لهذه العلة أخروها. والدليل على أنها لام الابتداء في الأصل أنها تعلق العامل عن عمله كما تعلقه لام الابتداء في نحو: علمت إن زيداً لقائم, وكان حقها أن تدخل أول الكلام فأخرت لما تعذر ذلك فيها لما ذكرناه. والدليل على ذلك أنك تقول: إن زيداً طعامك لآكل وإن في الدار زيداً لقائم فتقدم معمول الاسم الذي دخلت عليه اللام على اللام لأن اللام متقدمة في النية على ذلك المعمول, إذ لو كانت اللام واقعة في محلها لم يتقدم معمول ما بعدها عليها, ألا ترى أنك تقول: لمعطيك درهماً زيد, ولا يجوز: درهماً لمعطيك زيد, لأن اللام من حروف الصدر وقد وقعت موقعها فلو كانت لام (إن) واقعة موقعها لم يجز أن يتقدم عليها معمول ما بعدها عليها, كما لم يجز ذلك في اللام الداخلة على المبتدأ. وقال الأخفش: وإنما بدأوا بـ (إن) لقوتها وقوتها أنها عاملة, واللام غير عاملة, فجعلوا الأقوى متقدماً في الفظ وأخروا اللام على معناها مبتدئة. وقال ابن كيسان: التوكيد إنما هو لما بعد (إن) فجعلت اللام بعد ولم تجعل في الاسم- يعني المجاور لـ (إن) - لأنها إذا دخلت على أول الكلام قطعته عما قبله, فكان يبطل عمل (إن) فتكون (إن) غير عاملة في شيء. وذهب الفراء إلى أن اللام للفرق بين الكلام الذي يكون جواباً وبين الكلام الذي يستأنف على غير جواب, فتقول: إن زيداً منطلق بغير

لام وتقول: إن زيداً لمنطلق ولا يكون إلا جواباً لكلام قد مضى وهو جواب جحد, وذهب معاذ بن مسلم الهراء - وتبعه أحمد بن يحي -إلى أن قولك" إن زيداً منطلق" جواب: ما زيد منطلقاً و"وإن زيداً لمنطلق" جواب: ما زيد بمنطلق فـ (إن) بإزاء (ما) واللام بإزاء الباء. وذهب هشام وأبو عبد الله الطوال إلى أن اللام جواب للقسم, واليمين قبل (إن) مضمرة. وحكي هذا أيضاً عن الفراء. وقال المصنف في الشرح:" لام الابتداء هي المصاحبة للمبتدأ توكيداً نحو: لزيد منطلق وهي غير المصاحبة جواب القسم لدخولها على المقسم به في لعمرك وليمين الله, والمقسم به لا يكون جواب قسم, ولا استغنائها عن نون التوكيد في نحو {وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ} والمصاحبة جواب القسم لا تستغني في مثل (ليحكم) عن نون التوكيد إلا قليلاً في الشعر. ولما كان مصحوب اللام في الأصل المبتدأ وكان معنى الابتداء باقياً مع دخول (إن) اختصت بدخولها معها لذلك, ولتساويهما في التوكيد حسن اجتماع توكيدين بحرفين كما حسن اجتماعهما باسمين في نحو {فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ} موضعها في الأصل قبل (إن) لأنها تعلق أفعال القلوب وهي أقوى عملاً من (إن) فلو أخرت ولم ينو تقديمها لعلقت (إن) وإلا لزم ترجيحها على أفعال

القلوب وأزيلت لفظا عن موضعها الأصلي كراهية لتقديم مؤكدين مع أن حق المؤكد أن يؤخر عن المؤكد " انتهى كلامه, وفيه بعض مناقشة: من ذلك في قوله" وهي غير المصاحبة جواب القسم". وهذا غير مسلم, بل اللام المتلقي بها القسم إما أن تكون داخلة على المبتدأ والخبر أو على الفعل فإن كانت داخلة على المبتدأ والخبر فهي لام الابتداء نحو: والله لزيد قائم, ولا يمنع دخولها على المقسم به في (لعمرك) و (ليمن الله) أن تدخل على جواب القسم. وإن دخلت على الفعل, نحو: والله لقام زيد, والله ليقومن بكر, فليست لام الابتداء ومن ذلك قوله" وهي- أي اللام- أقوى عملاً من إن" وليس للام عمل في شيء البتة وإصلاحه: وهي أقوى تأكيداً من (أن) لأنها تعلق أفعال القلوب و (إن) إذا لم تكن معها اللام تكون مفتوحة لأجل فعل القلب قبلها. وقوله على اسمها المفصول (المفصول) يشمل الفصل بالخبر, نحو {وَإِنَّ لَكَ لأَجْراً} أو بمعمول الخبر, نحو: إن فيك لزيداً راغب أو بمعمول الاسم نحو: إن في الدار لساكن زيد. فأما الأولى فلا خلاف فيها, وأما الثانية ففيها خلاف, وأصحابنا لا يجيزون ذلك بناء منهم على أن المسألة قبل دخول اللام لا تجوز, وأما الثالثة ففيها نظر, والذي يقتضيه القياس المنع لأن فيه إعمال ما بعد اللام فيما قبلها ويمكن القياس على: إن زيداً طعامك لآكل فكما جاز تقديم ما بعد اللام التي في الخبر على الخبر كذلك يجوز تقديم ما بعد اللام في الاسم على معموله. ودخولها على الاسم مشروط بالفصل.

/ وحكى الكسائي عن العرب دخولها على الاسم غير مفصول بشيء حكي عن العرب: خرجت فإذا إن لغراباً وهذا شاذ وينبغي أن يتأول على أن ثم فصلاً محذوفاً وهو خبر (إن) تقديره: خرجت فإذا إن بالمكان لغراباً. وقوله وعلى خبرها المؤخر عن الاسم مثاله: {وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ} وفي بعض النسخ" وعلى خبرها المثبت". وقال في الشرح: " بينت أن اتصالها بالخبر مشروط بكونه مثبتا" ولا يحتاج إلى هذه الزيادة-أعني المثبت- لأنه سيذكر في هذا الفصل أنها لا تدخل على حرف نفي إلا في ندور , فيتقيد هذا بـ (المثبت) وسيأتي الكلام على الخبر إذا كان مصدراً بأداة نفي إن شاء الله. وشرط التأخير عن الاسم لأنه لو تقدم الخبر على الاسم لم يجز دخول اللام عليه, ولو قلت: إن لعندك زيداً وإن زيدا وإن غدا لعندنا زيداً لم يجز. وأطلق المصنف في قوله" وعلى خبرها المؤخر عن الاسم" فدخل فيه الاسم المفرد والظرف والمجرور والمضارع والجملة الاسمية. فدخلت على الاسم المفرد لأنه هو اسم (إن) في المعنى وعلى الظرف والمجرور لأنهما قائمان مقام (كائن) أو (مستقر) وهو اسم (إن) في المعنى, وعلى المضارع لأنه مشابه لاسم الفاعل الذي هو اسم (إن) في المعنى, وعلى الجملة الاسمية غير المنفية لأن اللام إذ ذاك تكون داخلة في اللفظ على المبتدأ الذي حقها أن تدخل عليه. هكذا عللوا هذه الأشياء. ثم قيد بعد ذلك أشياء من الخبر لا تدخل عليها, يأتي ذكرها إن شاء الله قال المصنف و"ولم أقيد تأخير بقرب ليعلم أبعده لا يضر كقول الشاعر:

وإنِّي على أن قد تجشمت هجرها ... لما ضمنتني أم سكنٍ لضامن وكقول الآخر: وإن امرأً أمسى ودون حبيبه ... سواس فوادي الرس فالهميان لمعترف بالنأي بعد اقترابه ... ومعذورة عيناه بالهملان ويعمل ما بعد اللام فيما قبله، نحو قوله تعالى {إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ}، وقال طرفة: وإن لسان المرء ما لم يكن له ... حصاة على عوراته لدليل " انتهى. فرع: أن بك كفيلين لأخواك. أجاز ذلك الكسائي، ومنعه الفراء لأن الاسم مرفوع بالفعل، فلا يحول بينهما باللام، وأجاز ذلك البصريون على أن (أخويك) خبر (إن). فرع: أجاز الفراء الجمع بين لامي توكيد وأن / تقول: إن زيداً للقد قام، وأنشد:

ولئن قوم أصابوا عزةً ... وأصبنا من زمانٍ رفقا للقد كانوا لدى أزماننا ... بصنيعين لبأسٍ وتقي وهذا خطأ عند البصريين، والرواية: فلقد. وقوله وعلى معموله مقدماً عليه بعد الاسم قال المصنف: "قيدت دخولها على معمول الخبر بكونه مؤخراً عن الاسم مقدماً على الخبر لأن المعمول كجزء من العامل، فإذا قدم كان كالجزء الأول، فإذا أخر كان كالجزء الآخر، فلذلك جاز: إن زيداً لطعامك آكل، وامتنع: إن زيداً آكل لطعامك. ومثال (إن زيداً لطعامك آكل) ما أنشد الكسائي: ولقد علمت فما أخاك سواء ... إن الفتي لحتفه مرصود وقول الآخر: إن امرأً خصني عمداً مودته ... على التنائي لعندي غير مكفور" انتهى. قال الأستاذ أبو علي: أتى س بالبيت شاهداً على: إن زيداً لفيها قائم، والعامل في (عندي) ما في "غير مكفور" كله من معنى الفعل، كأنه قال: معتمد عندي، ولا يكون العامل فيه (مكفور) وحده لأن تقديم المعمول يؤذن بتقديم العامل، ولا يصح تقديم العامل هنا لأنه مضاف إليه، وهو لا يتقدم على المضاف. وحمله قوم على أن ما بعد المضاف عمل فيما قبله لأنه في تقدير

(لا)، كما تقول - في زعمهم - أنا زيداً غير ضارب؛ لأنه في تأويل: لا ضارب. ولا يصح ذلك في (مثل) إذا قلت "مثل ضارب" لأنها ليست في تقديره، فقالوا: هذا البيت على ذلك. وقال ابن عصفور: قيل: وهذا إنما يجوز في الظرف والمجرور، كقوله: ......................... ... بضرب الطلي والهام حق عليم أي: عليم حقاً، فما كان من المضافات بتقدير المفرد جاز فيه ذلك إذا كان المعمول ظرفاً أو مجروراً، فإن كان مفعولاً صريحاً لم يجز. وقال الأستاذ أبو علي: "وهذا كسر للباب المطرد، وإذا أبقيناه على أصله كان أحسن، فنقول: العامل في الظرف معنى قوله (غير مكفور) أي: معتمد، وهذا معنى صحيح، وأما مثالهم فلا يصح على هذا لأن المعنى لا يعمل في المفعول الصريح" انتهى. وقال ابن الدهان: التقدير فيه: لعندي مشكور؛ لأن ما بعد المضاف لا يعمل فيما قبله وإن كان قد أجيز في (غير). قال الزجاج: أنا أجيز: أنا زيداً ضارب، ولا أجيز: أنا زيداً مثل ضارب / لأنه يقدر غيراً بـ (لا)، ويقدر مثلاً بالكاف.

وينبغي أن يتوقف في دخولها على المفعول به المتقدم على عامله الخبر، ولا يقاس على تقدم الظرف والجار والمجرور لأنه يتسمح فيهما مالا يتسمح في غيرهما، فلا يقال "إن زيداً لطعامك آكل" حتى يسمع نظيره من لسان العرب. وظاهر كلام المصنف وكلام غيره إطلاق معمول خبر ما يجوز دخول اللام عليه. وهذا الإطلاق ليس بصحيح لأن معمول الخبر إذا كان حالاً لم تدخل اللام عليه، نحو: إن زيداً لضاحكاً مقبل، فلا يجوز هذا، ولم يسمع من لسانهم، ونص الأئمة على منعه. ويشمل معمول الخبر أن يكون مفعولاً به، وظرفاً، ومجروراً، وحالاً، ومصدراً، ومفعولاً من أجله، وفي بعض هذه الأشياء خلاف، ونحن نذكر ذلك: أما الحال فقد ذكرنا حكمها، وأنها لا يجوز دخول اللام عليها وإن كان القياس يقتضيه، قال أبو بكر: لا يدخلون هذه اللام على الحال، ولا على صفة، ولا تأكيد، ولا بدل. وقال ابن ولآد: سألت أبا إسحاق: هل يجوز: إن زيداً في الدار لحاضراً قائم، فتدخل هذه اللام في الحال، وتقدم كما قدمت الظرف وهو ملغى؟ فسكت، ولم يجب. قال ابن ولآد: والجواب فيها أن اللام لا تدخل في الحال تقدمت أو تأخرت لأن الحال لا تكون خبراً وهي حال، كالظرف يكون خبراً وهو ظرف. وهذا الذي قاله ابن ولآد لا يتوجه على قول من قال في "ضربي زيداً قائماً" إنها حال سدت مسد الخبر كالظرف، وهو أيضاً معترض بالمفعول، وهو "إن زيداً لطعامك آكل"، فقد دخلت على الفضلة لما توسطت، ويمكن أن هذا هو الذي أسكت أبا إسحاق؛ ألا ترى أن المفعول به لا يكون خبراً، والقياس هنا على المفعول به ممكن لأنها

بمنزلته وبمنزلة الظرف أيضاً، إلا أنه لم يسمع، والله أعلم، وقد منعه الأئمة. انتهى من الإفصاح. وفي (البسيط): "وأما دخول اللام على الحال من الخبر ففيه خلاف، فمن راعى أنه فضلة كالظرف أجاز، ومن راعى أنه لا يكون خبراً بخلاف الظرف لم يجز، وينبغي ألا يجوز [في] المفعول " انتهى. وقال ابن خروف: وأما إن عندي لفي الدار زيداً، وإن عندي لقائماً صاحبك، فقياسه أن يجوز لتعلق الظرف والحال بما قبل الاسم، وأما "إن زيداً قائماً في الدار" فلا سبيل إليه لا باللام ولا بسقوطها لتقدم الحال على العامل، وهو معنى. وأما إذا كان الحرف وما دخل عليه علة للفعل، نحو: أن زيداً كي يقوم معترض، وإن زيداً ألا تغضب يأتيك، فأجاز دخول اللام على (كي) وعلى (أن) البصريون، ومنع ذلك/ الفراء. وفي (الغرة): "ذكروا أن هذا اللام لا تدخل على النواصب ولا الجوازم، وإنما تدخل على الحروف الملغاة فمنعوا من قولهم: إن زيداً لكي تقوم يعطيك، وأجازوا: إن زيداً كي تقوم ليعطيك، ولو تعرض لهذا بصري لأجاز هذه المسألة على قول من قال: كيمه؟ كما تقول: إن زيداً لفي الدار قائم، وتقول: إن زيداً لما لينطلقن، الأولى لـ (إن)، والثانية للقسم، وزيدت (ما) فيه فاصلة" انتهى. وأما إذا كان الظرف (مذ) في نحو "إن عبد الله مذ يومان غائب" فمنع ذلك الفراء، قال: لأن الفعل ليس بواقع على (مذ). ولا يجيز: إن عبد الله لمذ يومان غائب. وقال الكسائي: إذا كان الفعل آخذاً للوقت الذي بعد (مذ) كله.

أدخلتُ اللام في (مذ) وفي الفعل الذي بعدها، فأقول: إن عبد الله لمذ يومان سائر؛ لأنه يسير اليومين، ولا أقول: إن عبد الله لمذ يومان غائب؛ لأني أقول: هو مذ يومان يسير، ولا أقول: هو مذ يومان يغيب. قال الفراء: يلزمه أن يقول: إن عبد الله لحتى القيامة أخوك، ولا يقول: إن عبد الله لحتى القيامة مسيء لأن الأخوة تتصل به وهو ميت، ولا تتصل به الإساءة. وقال الفراء أيضاً: قبيح أن تقول: إن عبد الله لليوم خارج، اليوم وقت، والفعل ليس بواقع على المواقيت كوقوعه على الأسماء لأنها في تأويل الجزاء، فلذلك قبح، وهو جائز. ولا يجيز الفراء إدخال اللام على (حتى) ولا (مذ) ولا (إلى)، لا يجيز: إن سيرك لحتى الليل، ولا: لإلى الليل. وأجاز ذلك هشام والبصريون. وأجاز س والبصريون: إن زيداً لفيها قائم، جعل (فيها) ملغاة. ومنعه الكوفيون، قالوا: لأن (فيها) لو كانت لغواً لم تؤكد. واحتج س بقول العرب: إن زيداً لبك مأخوذ. وأما إذا كان المعمول مصدراً أو مفعولاً من أجله صراحاً، نحو: إن زيداً لقياماً قائم، وإن زيداً لأحسانا يزورك، فهو يندرج في عموم قولهم إنها تدخل على معمول الخبر. وفي (البسيط): "وتدخل على الخبر وفضلته، نحو: إنَّ زيداً لفي

الدار لقائم، ولا يجوز عند الكوفيين، وأجازه الزجاج، ولا تدخل على غيرهما" انتهى. وينبغي أن يتوقف في دخولها على المصدر والمفعول من أجله، ولا يقدم على جواز ذلك إلا بسماع. وإذا تأخر معمول الخبر، وأدخلت اللام على الخبر، لم يجز دخول اللام على المفعول، نحو: إن زيداّ لقائم في الدار. وأجاز ذلك الزجاج، وأجاز: أن زيداً لقائم لفي الدار. ومنع ذلك المبرد. وهو الصحيح لأن ذلك لم يسمع، ولمنعه وجه من القياس، وذلك أنك إذا كررت اللام فقد وكدتها وإن كان المقصود بهما توكيد الخبر، والعرب لا تؤكد الحرف إلا بما يدخل عليه، أو بضميره، نحو: / مررت بزيد، أو به، وهنا ليس كذلك. وإذا أجاز الزجاج ذلك قياساً على قوله: {وَإِنَّ كُلاًّ لَّمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ} اعتقد أن اللامين جواب القسم، وليس كذلك لأن الأولى هي لام (إن)، والثانية لام جواب القسم المحذوف. فرع: زعم الفراء أنه لا يجوز: إن زيداً لأظن قائم، ولا: إن زيداً لغير شك قائم، وإن زيداً لئن شاء الله قائم.

وقال ابن كيسان: لأنه كلام يعترض به من إخبارك عن نفسك كيف وصفت الخبر عن زيد شكاً كان عندك أو يقيناً، والتوكيد إنما هو لخبر زيد لا لخبرك عن نفسك لأن (إن) لا تتعلق بخبرك عن نفسك، وهي متجاوزة إلى الخبر. وقوله وعلى الفصل المسمى عماداً مثاله قوله تعالى {إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ}. قال المصنف: "وجاز أن تدخل عليه لأنه مقو للخبر، فرفعه يوهم السامع كون الخبر تابعاً، فنزل منزلة الجزء الأول من الخبر، فحسن دخولها عليه لذلك، ومع ذلك لا يتعين لإمكان جعله مبتدأ". وقال ابن عصفور: "تدخل على الفصل لأنه هو اسمها في المعنى". وقوله وأول جزأي الجملة الاسمية المخبر بها أولى من ثانيهما مثال دخولها على أول تلك الجملة قوله تعالى: {وَإنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ}، وقول الشاعر: إن الكريم لمن ترجوه ذو جدةٍ ... ولو تعذر أيسار وتنويل ومثال دخولها على ثانيهما قول الشاعر:

فإنك من حاربته لمحارب ... شقي، ومن سالمته لسعيد ومثله: إن الألي وصفوا قومي لهم فأصخ ... وعذبهم تلق من عاداك مخذولا قال المصنف في الشرح: "وقدا شذ دخولها على ثاني جزأي الجملة الاسمية". وهذا يخالف ظاهر قوله في الفص "أولى من ثانيهما" لأن الأولوية تشعر بالجواز إشعاراً حسناً دون شذوذ. وحكي أبو الحسن: أن زيداً وجهه لحسن. قال في (البسيط): وهو شاذ. وإنما كان صدر الجملة الاسمية أولى والقياس لأنها كصدر الجملة الفعلية، ومحل اللام من الفعلية صدرها، فكذلك من الجملة الاسمية. وفي (البسيط): أما دخولها على فضلة خبر المبتدأ إذا تقدم، أو الخبر إذا تقدم، نحو: إن زيداً لآتيه أبوه، أما الأول فجائز لأنه صار في مرتبة المبتدأ كما كان في حالة الابتداء، نحو: لطعامك زيد آكل، وأما الثاني فلكونه نفس الخبر، وهو ممنوع / فيه. وهل يصح أن تدخل على التأكيد، نحو: إن زيداً لنفسه قائم؟ لم يتعرض له، وفيه نظر. وقوله وربما دخلت على خبر (كان) الواقعة خبر (إن) مثاله ما ثبت في بعض نسخ البخاري من قول أم حبيبة رضي الله عنها: "إني كنت عن هذا لغنية"، قاله المصنف. وهذا من استدلال المصنف بما نقل في

الآثار، وقد أطلْنا الكلام معه في الاستدلال بذلك في كتابنا (التكميل)، فيوقف عليه هناك. -[ص: ولا تدخل على أداة شرط، ولا على فعلٍ ماضٍ متصرفٍ حالٍ من (قد)، ولا على معموله المتقدم، خلافاً للأخفش، ولا على حرف نفي إلا في ندور، ولا على جواب الشرط، خلافاً لابن الأنباري، ولا على واو المصاحبة المغنية عن الخبر، خلافاً للكسائي. وقد يليها حرف التنفيس، خلافاً للكوفيين، وأجازوا دخولها بعد (لكن)، ولا حجة فيما أوردوه لشذوذه وإمكان الزيادة، كما زيدت مع الخبر مجرداً أو معمولاً لأمسى، أو زال، أو رأى، أو أن، أو ما. وربما زيدت بعد (إن) قبل الخبر المؤكد بها، وقبل همزتها مبدلة هاءً مع تأكيد الخبر أو تجريده. فإن صحبت بعد (إن) نون توكيد أو ماضياً متصرفاً عارياً من (قد) نوى قسم، وامتنع الكسر.]- ش: إذا كان الخبر جملة شرطية لم يجز دخول اللام على الأداة، لا يجوز أن تقول: إن زيداً لئن يكرمني أكرمه، ولا: إن هند لمن يكرمها تكرمه، نص على منعه أصحابنا والفراء والكسائي؛ لأن الخبر إذ ذاك ليس هو المبتدأ ولا مشبهاً لما هو المبتدأ في المعنى. وقال المصنف في الشرح: "المانع من دخولها على أداة الشرط خوف التباسها بالموطئة للقسم، لأنها تصحب أداة الشرط كثيراً، نحو {لَئِن لَّمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ}، فلو لحقت لام الابتداء أداة الشرط لذهب الوهم إلى أنها الموطئة، وحق المؤكد ألا يلتبس بغير مؤكد" انتهى.

وكذلك لو اعترض الشرط بين اسم (إن) وخبرها، نحو: إن زيدًا- لئن أتاك أو لئن يأتك- محسن، لا يجوز دخول اللام على الشرط، نص عليه الفراء. وقوله ولا على فعل ماٍض متصرٍف خاٍل من (قد) احترز بقوله (متصرف) من الجامد، وبقوله: "خال من قد "من المصحوب بها، فإنه إن كان الفعل مصحوبًا بـ (قد)، أو غير متصرف، دخلت عليه اللام، نحو: إن زيدًا لقد قام، وإن زيدًا لنعم الرجل. قال المصنف في الشرح: "ولا تدخل هذه اللام على فعل ماض إلا أن كان مقرونًا بـ (قد)، أو كان غير متصرف، وذلك لأنها في الأصل للاسم، فدخلت على الفعل المضارع لشبهه به، ولم تدخل على الماضي لعدم الشبه، فإن قرن بـ (قد) قربته من/ الحال، فأشبه المضارع، فجاز أن تدخل عليه، نحو: إنك لقد قمت. وإن كان الماضي غير متصرف كـ (نعم) جاز أن تلحقه لأنه يفيد الإنشاء، والإنشاء يستلزم الحضور، فيحصل بذلك شبه المضارع، فجاز أن يقال: إن زيدًا لنعم الرجل "انتهى كلامه. وقال ابن عصفور: "إذا كان ماضيًا غير متصرف أشبه الإسم في عدم تصرفه، فدخلت عليه، أو متصرفًا لم يجز دخول اللام عليه إذا لم تدخل عليه (قد)، فإن دخلت عليه (قد) جاز دخولها عليه لأنها تقربه من الحال، فأجري في دخول اللام عليه مجرى الحال "انتهى كلامه. وهكذا أورد هذان الشيخان حكم الماضي في جواز دخولها عليه ومنعه، ولم يذكروا في ذلك خلافًا، وفي كلتا المسألتين خلاف:

أما إذا كان ماضيًا متصرفًا غير مصحوب بـ (قد) فذهب س والفراء إلى أنه لا يجوز أن تدخل اللام عليه، فلا يقال: إن زيدًا لقام. وأجاز ذلك الكسائي وهشام على إضمار (قد). قالوا: وحجة س في منعه أن حكم اللام أن تكون في أول الكلام، فلما أخرت وجب ألا تقع إلا على الاسم كما أن أول الكلام للأسماء، فوقعت على المضارع. وحجة الفراء أن (قام) فعل منقطع، ومعنى: إن عبد الله ليصوم ويصلي: إنه ليديم الصلاة والصوم، وليس هذا في الماضي. وأجاز أبو إسحاق: إن زيدًا لقام، على أنها لام قسم. وذهب خطاب بن يوسف الماردي صاحب كتاب (الترشيح) إلى أن هذه اللام لا تدخل على الفعل الماضي سواء أكان مصحوبًا بـ (قد) أو غير مصحوب بها، وأنه إذا وجد في كلامهم: إن زيدًا لقام، أو: إن زيدًا لقد قام، فإن هذه اللام لام القسم لا لام الابتداء. وعلل المنع بأن الفعل الماضي ليس له معنى اسم الفاعل. قال: وهذا مما يضرب عنه لدقته. والنحويون كالمجمعين على أن قولك "إن زيدًا لقد قام "اللام فيه هي اللام التي تصحب الخبر لا لام القسم إلا ما ذهب إليه خطاب. وفي (الغرة): منع الكوفي والبصري من قولهم: إن زيدًا لقام، على أن تكون لام الابتداء لبعد الماضي عن التعرب. وأما إذا كان الفعل جامدًا، نحو نعم وبئس وعسى فذهب س إلى أنه لا يجوز دخول اللام عليه، فلا يجوز: إن زيدًا لنعم الرجل، ولا: إن زيدًا لعسى أن يقوم.

وذهب الأخفش والفراء إلى إجازة: إن زيد لنعم الرجل. وحجة الأخفش أن (نعم) لا يتصرف، فأشبه الأسماء. وحجة الفراء أن (نعم) في مذهبه اسم. قال الفراء: تقول: إن نعم رجلاً زيد. وهذا لا يجوز عند البصريين ولا عند غير الفراء من الكوفيين إلا أن تأتي بالهاء. قال الفراء:/ ويجوز أن تقول: إن عبد الله لعسى أن يقوم. لأن (عسى) بمنزلة يعسي؛ ألا ترى أنها تطلب المستقبل، فلذلك لم ينطق العرب منها بـ (يفعل) إذ كان فعل منها ويفعل بمعنى واحد. وحكي أحمد بن يحيي أن الكسائي حكي: أعس بأن يفعل، وبالعسي أن يفعل. والمنقول عن الكوفيين جواز دخول هذه اللام على الفعل الجامد، وهو قول كثير من أصحابنا. وممن نص على أن مذهب س منع ذلك أبو جعفر الصفار وأبو محمد بن السيد. وينبغي أن يرجع عند الاختلاف إلى السماع، فإن وجد في كلامهم: إن زيدًا لنعم الرجل، ولعسى أن يقوم، قلناه، وإلا فلا. وفي كتاب أبي

الفضل الصفار أن الأخفش حكي: إن زيدًا لنعم الرجل، ولبئس الرجل. قال: "لأن هذا غير متصرف، فأشبه الاسم ". وينبغي أن يتثبت فيما حكاه عن الأخفش حتى يصح السماع من العرب. وقوله ولا على معموله المتقدم أي: معمول الفعل الماضي المتصرف الخالي من (قد)، مثال ذلك: إن زيدًا لطعامك أكل، لا يجوز ذلك، خلافًا للأخفش والفراء، فإنهما يجيزان ذلك. والصحيح المنع لأن دخول اللام على معمول الخبر فرع عن دخولها على الخبر، فلو دخلت على معموله مع أنها لا تدخل عليه لزم من ذلك ترجيح الفرع على الأصل. وقوله ولا على حرف نفي إلا في ندور قال المصنف في الشرح: "لو كان الخبر منفيًا لم يجز اتصالها به لأن أكثر النفي بما أوله لام، فكره دخول لام على لام، ثم جرى النفي على سنن واحد، فلم يؤكد بلام خبر منفي "انتهى. ونقول: أصل هذه اللام أن تدخل على الاسم المبتدأ، وإذا كان الاسم المبتدأ قد دخل عليه حرف النفي لم تدخل هذه اللام عليه ولا (إن) أيضًا، فإذا قلت: ما زيد منطلق، أو: لا رجل في الدار ولا امرأة، فلا يجوز أن تدخل لام الابتداء على هذا المبتدأ، فكذلك إذا كان الخبر منفيًا لا تدخل عليه هذه اللام. وقوله إلا في ندور إشارة إلى ما أنشده أبو الفتح:

وأعلم إن تسليمًا وتركًا ... للا متشابهان ولا سواء قيل: شبه (لا) بـ (غير). وقوله ولا على جواب الشرط، خلافًا لإبن الأنباري قال المصنف في الشرح: "لما كان الجواب غير صالح للتوطئة أجاز ابن الأنباري أن تلحقه لام الابتداء، إلا أن ذلك غير مستعمل، فالأجود ألا يحكم بجوازه " انتهى. فقوله (والأجود) عبارة غير جيدة، وإنما ينبغي أن يقول "فلا يحكم بجوازه "لأن العرب إذا لم تدخل عليه اللام فلا ندخلها نحن. ومثال دخولها على الجواب: إن زيدًا من يأته ليحسن إليه. ونص الكسائي والفراء على منع ذلك. وقوله ولا على واو/ المصاحبة المغنية عن الخبر، خلافًا للكسائي مثاله: إن كل ثوب لو ثمنه، وإن كل ثوب لو قيمته. وهذا خطأ عند البصريين. وقوله وقد يليها حرف التنفيس، خلافًا للكوفيين أجاز البصريون: إن زيدًا لسوف يقوم، ولم يجزه الكوفيون، وهو غلط قبيح عند البصريين لأن هذه قد دخلت على (سوف) للتوكيد في قوله تعالى: {ولَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى (5)}. وقال بعض أصحابنا: وأما السين فامتنعت العرب من إدخال اللام

عليها وإن كانت كحرف من حروف الفعل، ولذلك لا يفصل بينها وبين الفعل كراهية توالي الحركات في لسيتدحرج مضارع تدحرج، ثم حمل على ذلك ما لا تتوالى فيه الحركات. وقوله وأجازوا دخولها بعد (لكن)، ولا حجة فيما أوردوه لشذوذه وإمكان الزيادة نقل المصنف وابن عصفور أن الكوفيين أجازوا دخول اللام بعد (لكن)، قال المصنف: "اعتبارًا ببقاء معنى الابتداء معها كما بقي مع إن، واحتجاجًا بقول العرب: ................................ ... ولكنني من حبها لعميد ولا حجة لهم في ذلك، أما الأول فلأن اللام لم تدخل بعد (إن) لبقاء معنى الابتداء فحسب، بل لأنها مثلها في التوكيد، و (لكن) بخلاف ذلك. ولأن معنى الابتداء مع (لكن) لم يبق، فإنه مفتقر إلى كلام قبله، فأشبهت (أن) المفتوحة المجمع على امتناع دخول اللام بعدها، واللام تقطع عن كل سابق، حتى إنها تعلق الأفعال القوية. وأما: ................................ ... ولكنني من حبها لعميد فلا حجة فيه لشذوذ إذ لا يعلم له تتمة ولا قائل ولا راو عدل يقول: سمعته ممن يوثق بعربيته، والاستدلال بما هو هكذا في غاية الضعف، ولو صح إسناده إلى من يوثق بعربيته لوجه بجعل أصله: ولكن

إنني، ثم حذفت همزة (إن) ونون (لكن)، وجيء باللام في الخبر لأنه خبر (إن)، أو حمل على ان لامه زائدة "انتهى كلامه. وقال أبو جعفر النحاس: "واعلم أن اللام لا تدخل على شيء من أخوات (إن) إلا على قول الفراء، فإنه أجاز أن تدخل اللام في خبر (لكن)، وأنشد: ................................ ... ولكنني من حبها لعميد قال: وإنما جاز دخولها في (لكن) لأن معناه: لكن إن، فخففت نون (لكن)، وتركت الهمزة من (إن)، وسقطت نون (لكن) حيث استقبلت ساكنًا، كما قال: فلست بآتيه، ولا أستطيعه ... ولاك اسقني إن كان ماؤك ذا فضل " انتهى نقل أبي جعفر: فبين النقلين تخالف، وهو أن المصنف وابن عصفور نقلا ذلك عن الكوفيين، والنحاس نقله عن الفراء وحده، وهما نقلا دخول اللام بعد (لكن) /، فيظهر من ذلك أنه يجوز دخولها على اسم (لكن) وعلى الخبر والمعمول على التفصيل الذي تقدم، والنحاس نقل دخولها على الخبر. وفي (البسيط): لا نقول اتفاقًا: لكن عندي لزيدًا، وكذلك في الخبر. وفي كلام المصنف مناقشات: الأولى: أنه قال "إن الكوفيين أجازوا ذلك احتجاجًا بقول بعض العرب ". فقد أقر أنه قول بعض العرب. ثم قال: "ولا حجة فيه إذ لا

يعلم له تتمة ولا قائل ". وهذا لا يقدح في الإحتجاج، بل متى روي أنه من كلام العرب فليس من شرطه تعيين قائله. وأما كونه لا تتمة له فلا يقدح في ذلك لأنه إنما وقع الإعتناء بمكان الشاهد، فلا حاجة إلى معرفة ما قبله ولا ما بعده إذ لا شاهد فيه. وأما قوله "ولا عدل يقول: سمعته ممن يوثق بعربيته "فكفي بذلك نقل الكوفيين أو الفراء وإنشادهم إياه عن العرب، وفي كتاب س أبيات استشهد بها لا يعرف قائلها، ولا تروى إلا من (الكتاب)، واكتفينا بنقل س إياها واستشهاده بها. الثانية: قوله "فأشبهت أن المفتوحة المجمع على امتناع دخول اللام بعدها ". وليس كما ذكر، بل فيه خلاف شاذ عن المبرد، وهو مسموع من كلام العرب، قرا بعض القراء: {إلاَّ إنَّهُمْ لَيَاكُلُونَ} بفتح الهمزة، وقال الشاعر: ألم تكن حلفت بالله العلي ... أن مطاياك لمن خير المطي وأنشده قطرب: ألم تكن أقسمت بالله العلي وحكي قطرب أيضًا أن بعضهم قال: "فإذا أني لبه ". وأنشد ابن دريد عن أبي عثمان:

فنافس أبا الغبراء فيها ابن زارع ... على أنه فيها لغير منافس روي بفتح همزة (أن). وينبغي أن يحمل ذلك على زيادة اللام، ولا يقاس على ما ورد من ذلك. الثالثة: قوله: ولو صح إسناده إلى من يوثق بعربيته وجه "إلى آخر كلامه. وهذا هو قول الفراء في توجيه دخول اللام في خبر (لكن)، إلا أن المصنف أخذه وتبره، والفراء جوده، ويظهر ذلك من كلاميهما. وقد أغفل المصنف مما ذكره أصحابنا مواضع: أحدها: أن يكون الخبر جملة قسمية، فلا يجوز دخول اللام عليها، نحو: إن زيدًا لو الله ليقومن؛ لأن الخبر إذ ذاك ليس المبتدأ في المعنى ولا مشبهًا بما هو المبتدأ في المعنى. الثاني: أنها لا تدخل على واو الحال السادة مسد الخبر، وأجاز ذلك الكسائي، فأجاز: إن شتمي زيدًا لو الناس ينظرون، كما أجاز إدخالها على واو (مع)، نحو: إن كل ثوب لوقيمته. الثالث: أنها لا تدخل على الحال/ الصريحة التي تسد مسد الخبر، نحو: إن أكلي التفاحة نضيجة. وأجاز ذلك الكوفيون، فأجازوا: إن أكلي التفاحة لنضيجة. وقوله كما زيدت مع الخبر مجردًا يعني مجردًا من (إن) في نحو قوله: أم الحليس لعجوز شهربة ... ترضى من اللحم بعظم الرقبة وقد تقدم لنا أن الكسائي قال: وربما جاؤوا بها في الخبر وليس

في الكلام (إن). وأنشد هذا البيت، وهي عنده لام توكيد للخبر. قال المصنف: "وأحسن ما زيدت في خبر المبتدأ المعطوف بعد (إن) المؤكد خبرها بها، كقول الشاعر: إن الخلافة بعدهم لذميمة ... وخلائف طرف لمما أحقر" وقوله أو معمولاً لأمسى، أو زال، أو رأى، أو أن، أو ما مثال ذلك قول الشاعر: مروا عجالى فقالوا: كيف سيدكم ... فقال من سألوا: أمسى لمجهودا وقول الآخر: وما زلت من ليلى لدن أن عرفتها ... لكالهائم المقصى بكل مراد وقول الآخر: رأوك لفي ضراء أعيت، فثبتوا ... بكفيك أسباب المنى والمآرب وحكي قطرب: أراك لشاتمي، وقال تعالى {إلاَّ أنَّهُمْ لَيَاكُلُونَ

الطَّعَامَ} في قراءة مَن فتح (أنَّ)، وقولُ الشاعر: أَمْسَى أَيانُ ذَليلاً بعدَ عِزَّتِهِ وما أَبانُ لَمِنْ أَعْلاجِ سُودانِ وقال الكوفيون: اللام بمعنى إلا، التقدير: وما أَبانُ إلا مِن أَعْلاجِ سُودان. فعلى تقدير المصنف نفي أن يكون أَبانُ مِن أَعلاجِ سُودان، وعلى تقدير الكوفيين أَثبتَ أنه منهم على طريق الحصر. ويَتحمل عندي أن يكون قوله (وما أَبانُ) استفهاماً على سبيل التحقير، ويكون قوله (لَمِنْ أَعلاجِ سُودان) على إضمار (هو) أي: لَهُوَ مِنْ أَعلاجِ سُودان، واللام لام الابتداء، دخلت على مبتدأ محذوف، ويكون المعنى على تحقير شأن أَبان، كما أنه كذلك في تقدير الكوفيين جُملة، وفي تقديرنا جُملتان. وقوله وربَّما زيدتْ بعدَ (إنَّ) قبلَ الحبرِ الموكَّد بِها هذه مسألة خلاف: ذهب المبرد إلى أنه يَجوز دخول هذه اللام على معمول الخبر المقدَّم وعلى الخبر، فتقول: إنَّ زيداً لَطعامَك لآكلٌ، تعاد اللام توكيداً. وذهب الزجاج إلى منع ذلك. نَقل هذا الخلافَ ابنُ عصفور، وقال ابن عصفور: (المنع الصحيح لأنَّ الحرف إذا وُكِّدَ فإنما يُعاد مع ما دخل عليه أو مع ضميره، وأمّا أن يُعاد من غير إعادة ما دخل عليه فلا يَجوز إلا في الضرورة،

فينبغي إذا أُعيدت اللام أن يقال: إنَّ زيداً لَفي الدار قائمٌ [لَفِي الدارِ قائمٌ]) انتهى. والصحيح جواز ذلك لوجوده في لسان العرب نثراً ونظمًا: أمّا النثر فما رواه الكسائي والفراء أنَّ من كلام العرب: إنِّي لَيحَمْدِ اللَّهِ لَصالِحٌ، وحكي قطرب عن يونس: إنَّ زيداً لَببكَ لَواثِقٌ. وأما النظم فقولُه: إنِّي لَعِندَ أَذَى المَوْلَى لّذُو حَنَقٍ يُخْشَى، وحِلْمي إذا أُوذيتُ مُعْتادُ قال المصنف: (وذكر السيرافي أنَّ المبرد كان لا يرى تكرار اللام، وأنَّ الزجاج أجاز ذلك، واختار السيرافي قول المبرد، وليس بِمختار للشواهد المذكورة) انتهى. فقد اختلف نقلُ ابن عصفور ونقلُ السيرافي على ما نَقل عنه المصنف عن المبرد والزجاج، ويَمكن أن يكون لكل واحد منهما قولان. وقوله وقبل همزتها مبدلةً هاءً مع تأكيدِ الخبرِ أو تَجريدهِ مثاله مع توكيد الخبر قولُ الشاعر: لَهنَّكِ مِنْ عَبْسِيَّةٍ لَوَسِيمةٌ على هَنَواتٍ كاذِبٍ مَنْ يَقُولُها

هكذا أنشده المصنف، وأنشده أحمد بن يحيى: ....................... على هَنواتٍ، شانُها مُتتابِعُ وأنشده أبو زيد: لَهِنِّي لأَشْقَى الناسِ إنْ كُنتُ غارِمًا لدُومةَ بكْراً ضيَّعَتْهُ الأَراقِمُ وقولُ الآخر: أَبائنةٌ حُبَّي، نعمْ وتُماضِرٌ ... لَهِنَّا لَمَقْضِيٌّ علينا التهاجُرُ وقول الآخر: وأمَا لَهِنكَ مِنْ تَذَكُّرِ عَهدِها لعَلى شفَا يَاسٍ وإنْ لَمْ تيْأَسِ وقولُ الآخر: ......................... لَهِنَّكِ فِي الدنيا لَباقِيةُ العُمْرِ ومثالُها مع تَجَرُّد الخبر قولُ الشاعر:

ألا يا سَنا بَرْقٍ على قلَلِ الحمَى لَهِنَّكَ مِنْ بَرْقٍ عليَّ كَريمُ وفي هذه المسألة ثلاثة مذاهب: أحدهما: أنَّ اللام لام الابتداء، وجاز دخولها عليها لأنه قد أُبدل من همزتِها هاء، فتغير لفظها بالبدل، فجاز الجمع بينهما تنبيهًا بها على موضعها الأصلي. وإلى هذا ذهب بعض النحويين والمصنف. ورُدَّ ذلك بأنَّ إبدال همزة (إنَّ) هاء لا يُزيل عنها معنى التأكيد، وإذا لم يُزل عنها معنى التأكيد فلا يَجوز الجمع بينهما لِما في ذلك من الجمع بين حرفين لمعنّى واحد. ونَحا نَحوَ هذا المذهب أبو الفتح، فزعم أنَّ اللام في (لَهِنَّك) لام الابتداء، وزعم أنَّ الثانية زائدة كما زيدت في خبر (أنَّ) المفتوحة. الثاني: ما ذهب إليه س وابن السراج وجماعة، وقد نسب إلى

الفارسي، وهو أنَّ هذه اللام هي التي تدخل في جواب القسم لا لام (إنَّ). واستدلوا على ذلك بدخول اللام على الخبر، فدخولها على الخبر يدل على أنَّها ليست اللام الداخلة على الخبر، وإنما هي جوابٌ لقسم محذوف. قال س: (وهذه كلمة تَتَكلم بِها، وتقول: لَهِنَّك لَرَجُلُ صِدْقٍ، فهي (إنَّ)، ولكنهم أبدلوا الهاء مكان الألف، ولَحقت هذه اللام (إنَّ)، فاللام الأُولَى في (لَهِنَّك) لام اليمين، والثانية لام إنَّ). ورُدَّ هذا المذهب بأنَّ لام القسم معناها التأكيد، فلا ينبغي أن تجتمع مع (إنَّ) لأنَّ في ذلك جَمعًا بين حرفين لمعنَى واحد. الثالث: ما ذهب إليه قطرب والفراء والمفضل بن سلمة والفارسي، وهو أن يكون الأصل: لَهِ إنَّك، فهما كلمتان، ومعنى لَهِ: واللَّهِ، و (إنَّ) جواب القسم. ويدل على ذلك أنَّ أبا زيد حكي أنَّ أبا أدهم الكلابي قال: لَهِ رَبِّي لا أقولُ ذلك، يريد: واللَّهِ رَبِّي لا أقولُ ذلك، وحذفت همزة (إنَّ) تخفيفاً، كما حُذفت في قوله:

يا با المُغِيرةِ ....................... ............................. وقراءةِ مَنْ قرأ: (إنَّها لَحْدي الكُبَرِ). وحكي قطرب أنَّهم يقولون (لَهْ) بالإسكان، فعلى هذا يَجوز أن يكون الأصل: لَهْ إنَّك، فأُلقيت على الهاء حركة الهمزة، وحُذقت الهمزة، على حد قولهم في مَنْ آمَنَ: مَنَ امَنَ. وهذا المذهب اختاره الأستاذ أبو الحسن بن عصفور. وفيه شذوذ من وجوه: أحدهما: حذف حرف القسم وإبقاء الخبر من غير عوض. والثاني: حذف (أل) من لفظ (اللَّه). الثالث: حذف الألف التي بعد اللام. الرابع: حذف همزة (إنَّ). ويُضَعِّفه أيضًا أنه لم يَجئ ذلك مع إقرار همزة (إنَّ)، ولو كان على ما زعموا لجاء في موضع (لَهِ) إنَّك) بإثبات الهمزة. ويجوز دخول اللام على كأنَّ، قال الشاعر: قُمْتَ تَعْدُو لَكَأَنْ لَمْ تَشْعُرِ وقوله فإن صَحِبَتْ بعدَ (إنَّ) نونَ توكيدٍ، أو ماضيًا متصرفًا عاريًا من (قد)، نُوي قَسَمٌ، وامتنع الكسر مثال ذلك: إنَّ زيداً لَيَقومَنَّ، وإنَّ زيداً

لَقامَ، فهذه اللام جوابٌ لقسمٍ محذوف، التقدير: واللَّه لَيقومَنَّ، ووَاللَّهِ لَقامَ. ويعني بقوله وامتنع الكسر أي: إذا تقدم على (إنَّ) ما يَطلب موضعها فإنَّها تُفتح إذ ذاك، ولا تُكسَر، نحو: عَلِمتُ أنَّ زيداً لَقامَ، ولا يعني أنه يَمتنع الكسر على الإطلاق. وإنَّما فُتحت (أنَّ) لأنَّها إذا كانت اللام جواب القسم وقعت موقعها، ولم يُنْوَ بِها التقديم قبل (إنَّ) بخلاف اللام في نحو: عَلَمتُ إنَّ زيداً لَمُنطلقٌ، فإنَّ (إنَّ) تُكسر معها، ويُعَلَّق الفعل عن فتح (أنَّ) لأنها مُقَدَّمة في النية على (أنَّ)، وإنَّما أُخِّرت للعلة التي تقدر ذكرها، وهذه اللام تُزيل شَبهَ عَلِمتُ بأَعطيتُ، وإذا زال الشَّبَهُ حُكم لما بعدها بحكم الجملة لا بحكم المفرد، و (إنَّ) إذا وقعت في موضع هو للجملة كانت مكسورة، ولا يُمكن أن تقدر هذه اللام بعد (إنَّ) لأنَّها لو كانت في التقدير في ذلك الموضع لَلَزِمَ أن يَبطُل عمل (إنَّ) كما بَطَلَ بِها عملُ (عَلِمتُ)، فلَمّا أعملوها دَلَّ ذلك على أنَّ النية بِها أن تكون قبل (إنَّ) لا بعدها.

-[ص: فصل تُرادف (إنَّ) (نَعَمْ)، فلا إعمال، وتُخَفَّف فَيبطل الاختصاص، ويَغلِبُ الإهمال، وتلتزم اللام بعدها فارقةً إنْ خيفَ لَبْسٌ ب (إنِ) النافية، ولم يكن بعدها نفي. وليست غيرَ الابتدائية، خلافاً لأبي علي، ولا يليها غالباً من الأفعال إلا ماضٍ ناسخٌ للابتداء، ويقاس على نحو (إنْ قَتَلْتَ لَمُسْلِماً) وفاقاً للكوفيين والأخفش، ولا تَعمل عندهم ولا تؤكَّد، بل تُفيد النفي، واللام للإيجاب. وموقع (لكنَّ) بين مُتنافَيينِ بوجهٍ ما، ويُمنَع إعمالُها مُخففةً، خلافًا ليونس والأخفش. وتَلي (ما) (ليتَ)، فتُعمَل وتُهمَل. وَقَلَّ الإعمال في (إنَّما)، وعُدم سماعُه في (كأنَّما) و (لعلَّما) و (لكنَّما)، والقياس سائغ.]- ش: اختُلف في (إنَّ) هل تأتي بمعنى (نَعَمْ) حرفَ جواب، غلا يكون لها إذ ذاك عمل، أو لا تكون بمعنى (نَعَمْ) البتة؟ فذهب بعضهم إلى إثبات ذلك، وهو قول س والأخفش واختيار المصنف. وذهب بعضهم إلى إنكار ذلك، وهو قول أبي عبيدة واختيار ابن عصفور.

وزعم المصنف أنَّ الشواهد قاطعة بذلك من لسان العرب، فمِمّا أنشد قولُ حسان: يَقولونَ: أَعْمَى، قُلتُ: إنَّ، ورُبَّما أَكونُ، وإنِّي مِنْ فَتّى لَبَصيرُ وقولُ بعض طيئ: قالوا: أَخِفتَ، فقلتُ: إنَّ، وخِيفتِي ما إنْ تَزالُ مَنُوطةً بِرَجاءِ وما أنشده أحمد بن يحيى: ليتَ شِعْري هل لِلْمُحِبِّ شِفاءٌ مِنْ جَوَى حُبِّهِنَّ؟ إنَّ، اللِّقاءُ وقال ابن الزًّبِير الأسدي لعبدِ اللَّهِ بن الزُّبَير: لَعَنَ اللَّه ناقةً حَمَلَتْنِي إليك. فقال ابن الزُّبَير إنَّ وراكِبَها. وأنشد غير المصنف: قالوا: غَدَرتَ، فقلتُ: إنَّ، ورُبَّما نالَ المُنَى وشَفي الغَليلَ الغادرُ وقوله: بَكَرَ العَواذلُ في الصَّبًو ... حِ يَلُمْنَنِي وأَلُومُهُنَّهْ ويَقُلْنَ: شَيبٌ قد علا ... كَ، وقد كَبِرتَ، فقلتُ: إنَّه

وقال الأخفش في قوله تعالى {إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ}: إنَّ بِمعنى نَعَمْ. وما ذكروه لا ينهض أن يكون دليلاً على مرادفة (إنَّ) ل (نَعَمْ) إذ يحتمل أن تكون هي العاملة. فأمَّا قوله (فقُلتُ إنَّه) فهو من حذف خبر (إنَّ)، وقد تقدم أنه يَجوز لفهم المعنى، التقدير: إنَّه كما قُلْتنَّ. وأمّا قوله (إنَّ اللِّقاءُ) فهو من حذف الاسم لفهم المعنى، وقد تقدم أنه يَجوز، كما قال: .................................... ولكنَّ زَنْجِيٌّ عَظيمُ المَشافرِ والتقدير: إنَّه اللقاء، أي: إنَّ الشِّفاءَ اللقاءُ. وأما قوله: يَقولونَ: أَعْمَى، قُلتُ: إنَّ ............. ......................... و: قالوا: أَخِفْتَ؟ فقُلتُ: إنَّ ............. ....................... وقولُ ابن الزُّبَير (إنَّ وصاحِبَها)، و: قالوا: غَدَرْتَ، فقُلتُ: إنَّ ............. ........................

فهو مِمّا حُذف فيه الاسم والخبر لفهم المعنى, ولا يَجوز حذفهما معاً إلا في (إنَّ) , والتقدير: قلتُ إنَّ عَمايَ واقعٌ, وإنَّ خوفي واقعٌ, وإنَّها مَلعونةٌ وصاحبَها, وإنَّ غَدْري نافعٌ. وهذا المذهب أولَى لأنه قد تقرر فيها أنَّها تنصب الاسم وترفع الخبر, ولم يستقر فيها أن تكون بمعنى (نَعَمْ). فإن قلت: حَذْفُ الجملة حتى لا يبقى منها إلا حرف واحد-وهو أنَّ-إخلالٌ بِها. فالجواب: أنّ العرب قد فعلت مثل ذلك, نحوُ قوله: أَفِدَ التَّرَحُّلُ غيرَ أنَّ رِكابَنا ... لَمّا تَزُلْ بِرِحاِلنا, وكأنْ قَدِ يريد: وكأنْ قد زالت, فحذف لفهم المعنى. ومن كلامهم: قارَبتُ المدينةَ ولَمّا, ومثلُه قول الشاعر: قالتْ بَناتُ العَمّ: يا سَلْمَى وأن ... كانَ غَبِيّاً مُعْدِماً؟ قالتْ: وأن حَذَفَ فعل الشرط وجوابه لفهم المعنى, وأبقى الأداة وحدها, والتقدير: وإنْ كان غَبِيّاً مُعْدِماً تَمَنَّيتُه. فأمّا قولُ الشاعر: إذا قالَ صَحْبِي: إنَّك اليومَ رائحٌ ... ولم تَقْضِ منها حاجةً قلتُ: إنَّ لا فقيل: إنَّ التقدير: إنه لا تَتِمُّ لي حاجة. وقيل: (إنَّ) بِمعنى (نَعَمْ).وكذلك ما أنشد الكسائي:

أنَّ لا خَيرَ فيه أَبْعَدَهُ الله ... لَيُزْري بِنَفسِهِ ويَرِي قال الكسائي: (أنَّ) فيه بمعنى (نَعَمْ). وأُوَّلَ على حذف الاسم, ويدل على ذلك وجود اللام في (لَيُزْري). وقوله وتُخَفَّفُ فيَبْطُلُ الاختصاصُ, ويَغْلِبُ الإهمالُ يعني بِبُطْلِ الاختصاص أنَّها لا تَختص بالجملة الابتدائية كما كانت وهي مشددة, بل تليها الجملة الاسمية والجملة الفعلية على ما سيُبًيَّن إن شاء الله. فإذا خُفت جاز إعمالها على قلة, وحالها إذا أعملت كحالها وهي مشددة إلا أنَّها لا تعمل في الضمير إلا ضرورة بخلاف المشددة, تقول"إنك قائمٌ" بالتشديد, ولا يَجوز "إنْكَ قائمٌ" بالتخفيف. وأمّا في دخول اللام وغير ذلك من الأحكام فهي كالمشددة سواء, تقول: إنْ زيداً منطلقٌ, ولَمُنطلقٌ, وإنْ في الدار لَزيداً, إلى غير ذلك من الأحكام. ومنع الكوفيون إعمال (إنِ) المخففة, وهم محوجون برواية س والأخفش ذلك عن العرب, وعليه قراءة نافع: {وإنَّ كُلاًّ لَّمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمَالَهُمْ}. ويدل على أنَّها بمعنى المشددة قراءة ابن كثير وأبى عمرو الكسائي: {وإنَّ كُلاًّ لَّمَّا} بالتشديد. وقال س:"حدثنا مَن نثق أنه سمع من العرب مَن يقول: إنْ زيداً لَمُنطلقٌ, وهي مثل {إنَّ

كُلُّ نَفْسٍ لَّمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ} يُقرأ بالنصب والرفع". وملخص مذهب الكوفيين أنَّ (إنَّ) لا يَجوز تخفيفها وإعمالها, ولا يَجوز تخفيفها وإهمالها؛ لأنَّهم زعموا أنَّ (إنِ) المخففة هي (إنِ) النافية, أو بمعني (قد) على ما نبينه, إن شاء اللَّه. فالمخففة عند البصريين هي ثلاثية الوضع, وهي عند الكوفيين ثنائية الوضع, فلم يرد الخلافِ على (مَحَزِّ) واحد, فلا ينبغي أن يقال: اختلفوا في (إنَّ) إذا خففت هل يَجوز إعمالها أو لا؛ لأنَّ الكوفيين لا يذهبون إلى أنَّها إذا وليتها الجملة الاسمية أو الفعلية ولزمت اللام هي المخففة من الثقيلة, بل هي حرفِ ثنائي الوضع, وهى نافية. ويعني بِغَلَبة الإهمال أنه يكثر فيها, وإذا غلب الإهمال دل على أنَّ الإعمال قليل. وقوله وتَلزَمُ اللاُم بعدًها فارقهً إنْ خِيفَ لَبْسٌ بِ (إنِ) النافية, ولم يكن بعدها نفي كان ينبغي أن يبين محل لزوم اللام فيقول "في ثاني الجزأين", فتقول: إنْ زيدٌ في الدار لَزيٌد. وشَرَطَ في لزوم هذه اللام شرطين: أحدهما: أن يُخاف اللبس بِ (إنِ) النافية, قال المصنف في الشرح: "فلا تلزم مع الإعمال لعدم الالتباس, وكذلك لا تلزم في

الإهمال في موضع لا يصلح للنفي, كقول الطرماح: أنا ابنُ أُباةِ الضَّيمِ مِنْ آل مالكٍ ... وإنْ مالكٌ كانت كِرامَ المَعادنِ" انتهى. فلم يدخلها على (كانت) لأنه يقتضي البيت المدح, فلا تلبس (إنْ) فيه بـ (إنِ) النافية لأنه إذ ذاك يكون هجواً, فيُضادُّ أولُ البيت آخره. الشرط الثاني: ألا يكون بعدها نفي, نحو: إنْ زيدٌ لن يقوم, وإنْ زيدٌ لم يقم, أو ليس قائماً, أو ما يقوم, فهذا كله لا يَجوز دخول اللام عليه. وهذا الشرط الثاني غير محتاج إليه البتة لأنه إذا كان الخبر منفياً لم يدخل حرف النفي, فلا تالتبس فيه (إنِ) التي للتوكيد المخففة/ من الثقيلة بِ (إنِ) , النافية, فينبغي أن يُكتفي بالشرط الأول, وهو: إن خيف لبس بِ (إنِ) النافية. ثم قول المصنف"وتلزم" إلى آخره يدل علي إنه إذا خيف لبس أو كان يعدها نفي لا تلزم, وتحت هذا المفهوم شيئان: أحدهما الجواز. والآخر المنع. فكان ينبغي أن يبين محل الجواز, ومحل المنع, فمحلُّ المنع إذا كان الخبر منفياً, فلا تدخل اللام عليه أصلاً' ومحل الجواز إذا كانت عاملة, أو كانت في مثل بيت الطر ماح, أو فيما روى"إن كان رسولُ اللَّهِ يُحِبُّ الحَلْواءَ والعَسَلَ", المعنى على الإثبات, ولا يحتمل النفي لأنه قد عُلم من حاله صلى الله عليه وسلم.

وقوله وليستْ غيرَ الابتدائية, خلافاً لأبي علي اختلف النحويون في هذه اللام: فذهب س والأخفش سعيد بن مَسْعَدة والأخفش علىُّ بن سليمان وأكثر نحاة بغداد ومن أئمة بلادنا أبو الحسن بن الأخضر إلى أنَّها لام الابتداء التي كانت مع المشددة, لَزِمت للفرق , وهو اختيار ابن عصفور وهذا المصنف. وذهب الفارسي ومن أئمة بلادنا أبو عبد اللَّه بن أبي العافية والأستاذ أبو علي, واختاره من شيوخنا أبو الحسين بن أبي الربيع, إلى أنَّها ليست لام (إنَّ) المشددة التي لابتداء, بل هي لام أخرى اجتُلبت للفرق. واستدل أبو علي علي أنَّها ليست لام (إنَّ) بأنَّ لام (إنَّ) حكمها أن تدخل على (إنَّ) حتى تكون متقدمة على اسم (إنَّ) الذي هو مبتدأ في الأصل, فأُخرت للخبر لئلا يجتمع تأكيدان؛ إذا كان الخبر هو المبتدأ في المعنى أو ما هو واقع موقعة أو راجع إليه, وقد بُيِّنَ ذلك, و (إنْ) هذه تدخل علي الفعل, نحو قوله تعالى: {وإن وجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ} , والفعل ليس مبتدأ في الأصل.

وأيضاً فإنَّها يعمل ما قبلها فيما بعدها؛ ألا ترى أنَّ (وَجَدَ) نصب (فاسقين) , ولام (إنَّ) لا يعمل ما قبلها فيما بعدها, لو قلت"إنَّك قَتَلتَ لَمُسلِماً"لم يَجز. وأيضاً فإنَّها تدخل علي ما ليس مبتدأ ولا خبراً في الأصل ولا راجعاً إلى الخبر؛ ألا ترى أنَّها قد دخلت علي الفاعل في "إنْ يَشينُك لَنَفسُك", وعلي المفعول في قوله: .... إنْ قَتَلتَ لَمُسلِماً ... ................ ولام (إنَّ) لا تدخل علي شيء من ذلك. فإذا لم تكن لامَ الابتداء, ولا هي لام القسم, لأنَها لا تدخل على الاسم إلا إن كان مبتدأ, نحو: لَزيدٌ قائمٌ, فلم يبق إلا أن تكون لاماً اجتُلبت للفرق, وإذا كانت مُجتلَبة للفرق, ولم تكن اللام التي توجب التعليق, لم يمنع مانع من فتح (إنْ) إذا وقعت بعد (علمت). قال: "وإذا فُتحت لم تَحتج إلي اللام لأنَّها إذ ذاك لا تالتبس بـ (إنِ) النافية فتحتاج إلى الفرق".قال:"وإن شئت أَثبتَّ اللام على طريق التأكيد". واستدل ابن أبي/ العافية أيضًا بدخولها على الماضي، نحو: إن

زيداً لَقامَ. وسيأتي في ذكر دليل القول الآخر إنكار: إنْ زيدٌ لَقامَ, وأنه غير مسموع من العرب. وحكي ابن جني أنَّ أبا علي قال: ظننت فالناً انه نحوي مُحسِن حتى سمعتُه يقول: اللام التي تصحب (إنِ) الخفيفة هي لام الابتداء. قال: فقلت له: أكثرُ نَحْوِيِّي بغداد علي هذا. وقد استُدل للمذهب الأول بأنَّها لا تدخل في فصيح الكلام إلا علي ما هو خبر مبتدأ في الأصل؛ ألا ترى دخولها علي خبر (كان) وثاني معمولي (ظَنَّ) , ولا يوجد من كلامهم: إنْ نظن زيداً رجلاً لَعاقلاً؛ لأنَّ عاقلاً ليس بخبر مبتدأ في الأصل, ولذلك منع النحويون"إنْ ظننتُ زيداً لَفي الدار قائماً" إن جعلت"في الدار" من صلة (قائم) , فإن جعلته في موضع المفعول الثاني, وجعلت قائماً حالاً, جاز. وكذلك أيضاً منع الأخفش: إن زيدٌ ذهبَ, أدخلتَ اللام علي (ذَهَبَ) أو لم تدخلها؛ لأنك إن لم تدخلها التبس بـ (إنِ) النافية, وإن أدخلتها لزم أن تدخل لام (إنَّ) علي الخبر, وهو فعل ماضٍ متصرف, وذلك لا يَجوز, ولو كانت فارقة ولم تكن لام (إنَّ) لم يَمتنع دخولها على (ذهب) , فعدم وجود مثل"إنْ زيدٌ لَذَهَبَ" في كلامهم دليل علي ما ذكرناه من أنَّها لام (إنَّ) ألزمت الكلام للفرق, ولزم تثقيل (إنَّ) في: إنَّ زيداً ذَهب, وإعمالها. وعوملت معمولات النواسخ التي هي أخبار للمبتدأ في الأصل معاملة أخبار (إنَّ) , كما عوملت النواسخ في دخول (إنَّ) عليها معاملة المبتدأ والخبر. وإذا ثَبَتَ بِما ذكرناه أنَّها لام (إنَّ) لزم تعليقها الفعل عن (إنَّ) فإذا عَلَّقَتْه بقيت على كسرها بعده.

ومن دخول (علمت) علي (إنِ) المخففة من الثقيلة ما جاء في الحديث المشهور من قوله صلى الله عليه وسلم "قد عَلِمْنا إنْ كُنتَ لَمُؤْمِناً" بكسر (إنْ) علي مذهب أبي الحسن, وبفتحها علي مذهب أبي علي, والصحيح الكسر لِما ذكرناه. وقال س في باب عِدّه ما يكون عليه الكلم: "و (إنَّ) توكيد لقوله: زيدٌ منطلقٌ, فإذا خففت فهي كذلك تؤكد ما تكلم به, وتثبت الكلام, غير أنَّ لام التوكيد تلزمها عوضاً مما حذف منها" انتهى كلامه. ولام التوكيد عنده عبارة عن لام الابتداء. وقال الأخفش في كتاب (المسائل الكبير) نصاً: "إنَّ اللام الواقعة بعد المخففة هي الواقعة بعد المشددة". واستدل ابن الأخضر: بأنَّ لام الابتداء في الأصل لا تدخل إلا على المبتدأ, فلما أن صَحِبَت (إنَّ) جاز فيها ما لم يَجز مع الابتداء المحض من دخولها علي الخبر وعلي الفضلة المتوسطة وعلي الاسم مؤخراً, ولو قلت"في الدار لَزيدٌ"لو يَجز, فكذلك لا ينكر هنا دخولها علي الجملة الفعلية بحكم التتبع لـ (إنَّ) ,ولأنَّ ضرورة/ الفرق تفعل هنا أكثر مما تفعل مع (إنَّ) لذهاب الاسم. وثمرة الخلاف دخولُ (علمت) وأخواتِها, فإن كانت للفرق لم

تُعَلِّق, وإن كان للابتداء عَلَّقَت, ولهذا اختلف ابن الأخضر وبن أبي العافية في الحديث المشهور"قد عَلِمْنا إنْ كُنتَ لَمُؤْمِناً",كما اختلف فيه الأخفش الصغير والفارسي. فقال الأخفش: لا يَجوز إلا الكسر. وقال الفارسي: لا يَجوز إلا الفتح, كما قال ابن أبي العافية. وقال ابن الأخضر: قد ثبتت اللام في الرواية بلا شك, وهي لا تكون مع (أنَّ) المفتوحة أصلاً كما لا تكون مع (إنْ) إذا عملت لأنه لا احتياج للفرق. وقال ابن أبي العافية: كسر (إنْ) هو الأصل, فلما فُتحت بسبب (علمت) أبقيت اللام إشعاراً بأصلها. ورُدَّ عليه بأنَّ هذا بعيد لأنَّ (علمت) لا تدخل إلا علي ما كان قبلها في موضع الابتداء, فإذا دخلت غَيَّرَت ذلك, ولم يُشعروا علي الأصل بشيء, ونظير ما قال دخول اللام في: ظننت إنَّ زيداً لَقائٌم, ولا قائل به. قال بعض أصحابنا: وهذا لا يلزمه لأنَّ (ظَننتُ) لا تدخل علي اللام إلا مُعلّقة, ولا يقال أذهبت اللام بعد ما دخلت. وقد نوقض بأنَّ كل مفتوحة من مشددة أو مخففة أصلها الكسر, وإنما يفتحها العامل, وكان ينبغي أن تكون اللام مع كلِّ مفتوحة, ولم توجد مع المفتوحة. وهذا لا أراه يلزمه, يعتقد خلاص هذا المذهب, ولا حجة تقطع به. واحتج بن أبي العافية أيضاً: بأنَّها إذا خُففت فهي حرف ابتداء بلا خلاف, بمنزلة إنَّما وكأنَّما ولعلَّما وسائر حروف الابتداء الداخلة علي الجملتين؛ ولا شيء هنا تدخل عليه لام الابتداء, فكذلك (إنْ) هاهنا. وهذا لا يلزم عندي لأنَّ اللام من حروف الصدور, وتكون جواب القسم, فلا يتقدمها شيء كحرف النفي والجزاء والاستفهام والشرط في الصدر.

والمذهبان متكافئان لأنَّا إذا قلنا هي لام الابتداء كان ثباتُها واجباً. وإذا قلنا ليست لام الابتداء كان ثباتُها نوعا من المجاز والتوسع. والقول بالحقيقة أولىَ. وإذا قلنا إنَّها لام الابتداء قلنا دخلت علي الجمل الفعلية لوجهِ كذا, وهذا يَجوز. والقول إنَّها لم تدخل هو الحقيقة لأنَّ أصلها ألا تدخل هنا, وإنما قلنا بأنَّها خرجت عن أصلها في المشددة للسمع المقطوع به, فليس لنا أن نقول بخروج آخر لا دليل علية. وقال الأستاذ أبوعلي: الوجه عندي ما قال ابن أبي العافية لِما ذكر من الحجج. ثم قال: إذا قلت: "إنْ كنت لَقائماً" أشبه النفي, ولم يمكن سوق لام الابتداء/لأنَّ هذا ليس من مواضعها, فأتوا بلام فارقة, انتهى. وهذا وجهه انه قول ثالث يؤول إلى التفريق, فيقال: إذا دخلت علي جمله ابتدائية لزمت اللام الابتدائية للفرق, وإذا دخلت علي جملة فعليه أدخلوا لاماً للفرق, لأنَّ لام الابتداء لا تدخل علي الجملة الفعلية, فعلى هذا يكون في اللام ثلاثة مذاهب: لام ابتداء لزمت سواء أدخلت علي الاسم أم علي الفعل. ولام فارقة ليست لام ابتداء سواء أدخلت على الاسم أم علي الفعل. والتفصيل بين أن تدخل علي الاسم فتكون لام الابتداء أُلزمت للفرق, أو على الفعل فتكون اللام الفارقة. وقوله ولا يليها غالباً من الأفعال إلا ماض ناسخ للابتداء احترز بقوله"غالباً" من نحو: ........ إنْ قَتَلتَ لَمُسلِماً .................. واشترط المضي ليس بصحيح, بل قد يكون ماضياً, وقد يكون مضارعاً, فالماضي كقوله: {وإن كَانَتْ لَكَبِيرَةً} {وإن وجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ

لَفَاسِقِينَ} , والمضارع كقوله {وَإِن نَّظُنُّكَ لأَمِنَ الْكَاذِبِينَ} {وَإِن يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ} وفي قراءة أبي {وإنْ إخالُكَ يا فِرْعَوْنُ لَمَثْبُورًا}. وقال المصنف: ((ولا يكون ذلك الفعل إلا بلفظ الماضي, فإن كان مضارعا حفظ, ولم يقس عليه)). ولا أعلم أحدا من أصحابنا وافقه, بل أجازوا ذلك مع الماضي ومع المضارع. وأطلق المصنف في قوله ((ناسخ للابتداء)) , وكان ينبغي أن يقيد ذلك بالمثبت غير الواقع صلة, فلا تدخل علي (ليس) , ولا علي ما زال, وما انفك, وما فتئ, وما برح, ولا علي دام. وقوله ويقاس علي نحو (إن قتلت لمسلما) وفاقا للكوفيين والأخفش أشار بقوله ((إن قتلت لمسلما)) إلي قول الشاعر: شلت يمينك إن قتلت لمسلما وجبت عليك عقوبة المتعمد ونحو ما روي الكوفيون من قول العرب: إن قنعت كاتبك لسوطا, وإن يزينك لنفسك, وإن يشينك لهيه, وقرأ ابن مسعود: {إنْ لَبِثْتُمْ لَقَليلاً} , أدخل اللام علي مفعول (قتلت) , ومفعول (قنعت) ,

وفاعل (يزين) وفاعل (يشين) , وعلي {لَقَليلاً} معمول {لَبِثْتُمْ} وليست من نواسخ الابتداء. وقال المصنف: ((في (إن يزينك لنفسك) شذوذان: أحدهما أن الفعل مضارع. والثاني أنه من غير النواسخ, وهذا عند البصريين غير الأخفش من القلة بحيث لا يقاس عليه)). وجمعه بين الكوفيين والأخفش في قوله: ((وفاقا للكوفيين والأخفش)) ليس بجيد لأن المذكورين مختلفان, الأخفش يجيز ذلك علي أن (إن) هي المخففة من الثقيلة, واللام لام (إن) , والكوفيون يجيزون ذلك علي أن (إن) هي النافية, واللام كان صالحا لزيد, وإن ضرب زيدا لعمرو, وإن ظننت عمرا لصالحا. وقوله ولا تعمل عندهم ولا تؤكد, بل تفيد النفي, واللام للإيجاب ظاهر قوله (عندهم) أن يعود للمذكورين, وهم الكوفيون والأخفش, وليس كذلك, بل الأخفش يري إعمالها وإن كان الأكثر إهمالها, ويري أنها (إن) المخففة من الثقيلة, وأن اللام لام التوكيد علي ما نقل هذا المصنف يرون (إن) هي النافية, واللام بمعني (إلا). وأما غير هذا المصنف من أصحابنا وغيرهم فنقلوا أن الفراء زعم

أن (إن) بمنزلة (قد) , إلا أن (قد) تختص بالأفعال, و (إن) تدخل علي الأسماء والأفعال. وهذا باطل بدليل نصبها الاسم ورفعها الخبر في إحدى اللغتين, ولو كانت بمنزلة (قد) لم تعمل شيئا. ونقلوا أن الكسائي زعم أنها إن دخلت علي الأسماء كانت مخففة من الثقيلة , كما ذهب إليه البصريون, بسبب إعمالها في إحدى اللغتين, وإن دخلت علي الفعل كانت (إن) عنده للنفي, واللام بمعني (إلا). وهذا باطل لأن اللام لا تعرف في كلامهم بمعني (إلا) , فأما ما أنشدناه قبل: ......................... وما أبان لمن أعلاج سودان وروي: لمن أعلاج سوداء, فلا يعرف قائله, وإنما ثبت في كتاب (العين) , وكثير مما وقع فيه غير صحيح, وبتقدير ثبوته فقد ذكرنا تأويل المصنف فيه علي أن اللام زائدة. وتأولناه نحن علي أن (ما) استفهامية علي سبيل التحقير, و (لمن) علي إضمار مبتدأ, أي: لهو من أعلاج سوداء, علي حد ما ذهب إليه الزجاج في قوله: {لَسَاحِرَانِ} أي: لهما ساحران. وليس ما ذكره الفارسي من أن ذلك لا يجوز بشيء؛ لأنه زعم أن التأكيد بابه الإطالة والإسهاب, فهو من أجل ذلك مناقض للحذف فلا يجوز الحذف معه لأن هذا الذي ذكره إنما هو في التأكيد التابع, وأما الحروف التي وضعتها العرب للتأكيد فلا ينكر معها الحذف,

دليل ذلك قول العرب: إن مالا وإن ولدا, أي: إن لنا مالا وإن لنا ولدا, فحذفوا خبر (إن) مع أنها للتأكيد, فثبت إذا صحة مذهب أهل البصرة. وقال المصنف في الشرح: ((ومذهب الكوفيين أن (إن) المشار إليها لا عمل لها, ولا هي مخففة من (إن) , بل هي النافية, واللام بعدها بمعني (إلا) , ويجعلون النصب في {وَإِنَّ كُلاًّ لَّمَّا} بفعل يفسره (ليوفينهم) أو بـ (ليوفينهم) بنفسه. وبه قال الفراء. وكلا القولين محكوم علي أصولهم بمنعه في هذا المحل أو بضعفه؛ ولا يفسر عاملا فيما قبلها, ولذلك قال الفراء في كتاب (المعاني):/ (وأما الذين خففوا (إن) فإنهم نصبوا (كلا) بـ (ليوفينهم) , وهو وجه لا أشتهيه لأن اللام لا يقع الفعل الذي بعدها علي شيء قبله, فلو رفعت (كلا) لصلح ذلك كما يصلح: إن زيد لقائم, ولا يصلح أن تقول: إن زيدا لأضرب؛ لأن تأويله كقولك: ما زيدا لا أضرب, وهذا خطأ في اللام وإلا) هذا نصه. فقد أقرأ بأن حمل القراءة علي جعل (إن) نافية واللام بمعني (إلا) خطأ, ولا شك في صحة القراءة, فإنها قراءة المدنيين والمكيين, ولا توجيه لها إلا توجيه البصريين)) انتهي. يعني من أنها عملت وهي مخففة من الثقيلة. قال المصنف: ((وأما قولهم إن اللام بمعني (إلا) فدعوي لا دليل عليها, ولو كانت بمعني (إلا) لكان استعمالها بعد غير (إن) من حروف

النفي أولَى؛ لأنها أنص علي النفي من (إن) , فكان يقال: لم يقم لزيد, ولن يقعد لعمرو, بمعني: لم يقم إلا زيد, ولن يقعد إلا عمرو, وفي عدم استعمال ذلك دليل علي أن اللام لم يقصد بها إيجاب, وإنما قصد بها التوكيد كما قصد مع التشديد)) انتهي. ومنع أبو علي أن يضمر في (إن) المخففة من الثقيلة ضمير الأمر والشأن؛ لأنه إذا ضعف في المشددة فأحرى في المخففة. وهو ظاهر قول س لما حكي أنهم قالوا في الدعاء: ((أما إن جزاك الله خيرا)) علي معني: ألا إنه جزاك الله خيرا. قال: إذا كان هذا جائزا ههنا فالمفتوحة أجوز لأنها التي تحذف في الكلام, وتعوض, ولم يجئ ذلك في المكسورة إلا في هذا الموضع. وهو قول المبرد. وقد قال بعضهم: إذا دخلت علي الفعل فهي يضمر فيها. وهذا فاسد لأن اللام لا تدخل علي خبر (كان) , بل علي خبر (إن) , وقد صار خبرها (كان) وما بعدها, فتدخل عليه. وقد يقال في الجواب: كان الأصل هذا, لكن لما ولي (إن) فلو كان فيه اللام لاجتمع مع (إن) , ولا يجتمعان, فأخر إلي معموله كما في الخبر. انتهي من البسيط. وقوله وموقع (لكن) بين متنافيين بوجه ما قد تقدم من قولنا أن (لكن) إن كان ما بعدها يوافق ما قبلها لم يكن ذلك من كلام العرب, نحو: قام زيد لكن عمرو, وإن كان نقيضا أو ضدا جاز, وهو من كلام العرب, وإن كان خلافا نحو ((ما قام زيد لكن شرب عمرو)) فهي مسألة خلاف: من النحويين من أجاز ذلك, ومنهم من منع, وقال تعال: {وَمَا

كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ لشَّيَاطِينَ كَفَرُوا} , وقال: {وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيرًا لَّفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَلَكِنَّ اللهَ سَلَّمَ}. وقوله ويمنع إعمالها مخففة, خلافا ليونس والأخفش لم يسمع إعمالها مخففة عن العرب. قيل: وذلك لمبانية لفظها لفظ الفعل. علل بذلك المصنف. وقال أصحابنا: ألغيت لأنه زال/ موجب عملها - وهو الاختصاص - فصارت تليها الجملة الاسمية والفعلية. وحكي أبو القاسم بن الرمالك رواية عن يونس أنه يجيز إعمالها, وحكاه المصنف عن يونس والأخفش, وذلك قياس علي (أن) و (إن). وهو ضعيف. وحكي بعضهم عن يونس أنه حكي فيها العمل. وهذه الرواية لا تعرف عن يونس. وقوله وتلي (ما) (ليت) , فتهمل, وتعمل. وقل الإعمال في (إنما). وعدم سماعه في (كأنما) و (لعلما) و (لكنما) , والقياس سائغ. إذا اتصلت (ما) غير الموصولة بهذه الحروف, نحو: إنما زيد قائم, ففي ذلك أربعة مذاهب: أحدها: أنها تكفها عن العمل, ويرتفع ما بعدها بالابتداء والخبر, إلا (ليت) , فيجوز أن تتصل بها كافة, فلا تعمل كأخواتها, ويجوز أن

تتصل بها زائدة, فتعمل, وهذا منقول عن س والفراء, وهو مذهب الأخفش, وصححه أصحابنا. المذهب الثاني: أنه يجوز فيها كلها أن تكون (ما) معها كافة, فلا تعمل, وزائدة فتعمل, وهذا مذهب الزجاجي والزمخشري, ونقل عن ابن السراج. المذهب الثالث: أن (ليت) و (لعل) و (كأن) يجوز فيها الإلغاء والإعمال, نحو: ليتما زيدا قائم, ولعلما عمرا منطلق, وكأنما زيدا أسد. ولا يجوز في (إن) و (أن) و (لكن) إلا الإلغاء, وهو مذهب الزجاج, ونقل عن ابن السراج, وهو اختيار أبي الحسين بن أبي الربيع, ونسب في (البسيط) إلي الأخفش. والمذهب الرابع: أنه لا يجوز كف (ليت) و (لعل) بـ (ما) , بل يجب الإعمال. وهو منسوب إلي الفراء. والسماع بالوجهين الإهمال والإعمال إنما ورد في (ليت) , قال المصنف ما معناه: ((وهما جائزان فيها بالإجماع)) انتهى. وليس كما

ذكر؛ ألا ترى أن المذهب الرابع مذهب الفراء أنه لا يجوز في (ليتما) و (لعلما) إلا الإعمال, فليس جوازهما بالإجماع. وزعم ابن درستويه في قوله: .................. لعلما أضاءت .................... أن (ما) اسم بمنزلة المضمر المجهول, والجملة تفسره. ويظهر إلحاق (إنما) وأخواتها في ذلك بـ (لعلما) , فتكون (ما) عنده بمنزلة المضمر المجهول. قال ابن هشام: ((ولم يتنزل من الأسماء شيء بمنزلة هذا المضمر فيكون مثله, وقد عد النحويون وجوه (ما) في الاسمية, ولم يذكروا هذا, ولا وجدوا له نظيرا, فالقول به باطل, ولا حجة بمحل النزاع)) انتهي. وعادة أصحابنا المتأخرين أن يجعلوا (ما) في هذه الحروف إذا دخلت علي الفعل مهيئة وموطئة؛ لأنها هيأت هذه الحروف للدخول علي الفعل, وإذا دخلت علي المبتدأ والخبر جعلوها كافة؛ لأنها منعتها من العمل. وأما جعل (ما) في: إنما زيد قائم, وإنما قام زيد, نافية, و (إن) للإثبات/ دخلت علي النفي, فقول من لم يقرأ النحو, ولم يطالع قول أئمته.

وروي بيت النابغة: قالت: ألا ليتما هذا الحمام لنا ....................... بنصب (الحمام) علي الإعمال, ورفعه علي الإهمال. وأجاز س في هذا البيت أن تكون (ما) موصولة اسم ليت, وهذا: خبر مبتدأ محذوف, أي: ليت الذي هو هذا الحمام. وهو تأويل متكلف. وروي الأخفش والكسائي عن العرب ((إنما زيدا قائم)) بالإعمال علي زيادة (ما). وفي (العزة): ((بعضهم ينصب بليت ولعل و (ما) موجودة, وجوز الأخفش ذلك في كأن وإن وأن)) انتهي. فيكون للأخفش قولان: اختصاص ذلك بليت, والقول الثاني إلحاق كأن وإن وأن بهما. وقال أبو القاسم الزجاجي في باب حروف الابتداء من (كتاب الجمل): ((من العرب من يقول: إنما زيدا قائم, ولعلما بكرا قائم, فيلغي (ما) , وينصب بـ (إن) , وكذلك سائر أخواتها)) انتهي. وينبغي أن يحمل قوله ذلك علي أنه لما اقتضي القياس عنده ذلك نسبه إلي العرب؛ ألا تري أنه يجوز لك أن تقول: ((العرب ترفع كل فاعل)) وإن كنت إنما سمعت الرفع في بعض الفاعلين, لما اقتضي القياس عندك ذلك. واستدل للمذهب الأول بأن (ليت) لما لحقتها (ما) بقي اختصاصها

بالجملة الاسمية, بخلاف أخواتها, فإنها يجوز أن تليها الجملة الاسمية والجملة الفعلية, نحو قوله: {إِنَّمَا يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَآؤُا} , {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا} , {كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ} , وقال الشاعر: ولكنما أسعي لمجد مؤث ....................... في أحد الاحتمالات, وقول الشاعر: أعد نظرا يا عبد قيس, لعلما أضاءت لك النار الحمار المقيدا قالوا: فلما بقيت علي الاختصاص بالجملة الاسمية لم يقو فيها أن تلغي البتة, بل جوزت العرب فيها الإعمال رعيا لقوة اختصاصها, والإلغاء اعتبارا لدخول (ما) وإلحاقا لها بأخواتها. هكذا علل أصحابنا والمصنف, أعني باختصاص (ليتما) بالجملة الاسمية. ووقفت علي كتاب تأليف طاهر القزويني في النحو, فذكر فيه أن (ليتما) تليها الجملة الفعلية.

وقال الفراء: لعل وليت لم يجعلا حرفا واحدا بترك حمل معناهما إلي غيره, لا يجوز: ليتما ذهبت, ولعلما قمت. وتأول قوله: أعد نظرا. البيت علي أن المعني: لعل الذي أضاءت به لك النار الحمار المقيدا, فجعل (ما) ومصولة. قال أبو جعفر الصفار: ((وهذا خطأ عند البصريين, لو كانت (ما) بمعني (الذي) لوجب أن يقول: الحمار المقيد)) انتهي. وليس بخطأ؛ إذ يحتمل أن يكون/ خبر (لعل) محذوفا لفهم المعني. ويحتمل أن يكون خبر (لعل) منصوبا علي لغة بعض بني تميم, فيكون ((الحمار المقيدا)) خبر (لعل) , والبيت للفرزدق, وهو تميمي, فيحتمل أن سلك به لغة بعض قومه. وممن ذكر أن ذلك لغة بعض تميم أبو البركات عبد الرحمن الأنباري في كتابه المسمي بـ (لمع الأدلة). قال أبو جعفر: ((وقد أجاز البصريون الذي زعم الفراء أنه لا يجوز, أجازوا: ليتما ذهبت, ولعلما قمت, علي أن تكون (ما) كافة كما كانت في إنما)) انتهي كلامه. فهذا أبو جعفر ينقل عن البصريين أن ليتما ولعلما تليهما الأفعال, وتكون (ما) معهما كافة كـ (إنما). وأصحابنا والمصنف يزعمون أن (ليتما) تختص بالجملة الاسمة, ولا تليها الفعلية. وزعم الأخفش علي سعة حفظه أنه لم يسمع قط: ليتما يقوم زيد. وقال المصنف: ((وهذا النقل - يعني: إنما زيدا قائم, بالنصب - عن العرب يؤيد ما ذهب إليه ابن السراج من إجراء عوامل هذا الباب على

سنن واحد قياسا وإن لم يثبت سماع في إعمال جميعها. وبقوله أقول في هذه المسألة, ومن أجل ذلك قلت: والقياس سائغ)) انتهي. ووجه المذهب الثالث هو أنه لما جاز الوجهان في (ليتما) , وهي مغيرة معني الجملة, جاز ذلك في (لعلما) و (كأنما) لاشتراكهما معها في تغيير معني جملة الابتداء, بخلاف (إنما) و (أنما) و (لكنما) , فإنهن لا يغيرن معني الابتداء, فلم يقسن علي (ليت). و (ما) اللاحقة لهذه الحروف حرف, فإذا لم يكن عمل كان حرفا كافا عن العمل, كما كف (إن) (ما) عن العمل, فإن وليه فعل كان حرفا مهيئا, وإذا كان ثم عمل كان حرفا زائدا, لا يعتمد به كما لا يعتد به بين حرف الجر والمجرور في نحو قوله {عَمَّا قَلِيلٍ} , و {فَبِمَا نَقْضِهِم}. وزعم أبو محمد بن درستويه وبعض الكوفيين أن (ما) مع هذه الحروف نكرة مبهمة بمنزلة الضمير المجهول لما فيها من التفخيم, والجملة التي بعدها في موضع الخبر ومفسرة له, كما أن الجملة التي في موضع الخبر للضمير المجهول مفسرة له, ولم يحتج إلي رابط يربط الجملة بـ (ما) لأن الجملة هي (ما) في المعني, كما لم يحتج في الجملة الواقعة خبرا للضمير المجهول إلي رابط يربطها بالضمير لما كانت هي الضمير في المعني. ورد هذا المذهب بأنه لو كان الأمر علي ما زعموا لجاز استعمال (ما) معمولة لجميع نواسخ الابتداء, كما يجوز ذلك في ضمير الشأن. وفي (البسيط): دخول (ما) علي هذه الحروف لا يغير معناها عما كان إلا في (إن) المكسورة والمفتوحة, فإن الكلام ينتقل فيها إلى معنى

التأكيد والحصر, وقد قال أبو علي الفارسي: إنها نفي. واستدل بقوله: ................. وإنما يدافع عن أحسابهم أنا أو مثلي ولذلك صح أن يكون/ الفاعل ضميرا منفصلا, وضمير المتكلم يكون مستترا. وكل واحدة جارية علي ما كانت عليه, فالمكسورة المركبة تقع حيث يكون المفرد من الابتداء, كقولك: وجدتك إنما أنت صاحب كل حي, والمفتوحة المركبة تكون داخلة تحت فعل سابكة لما بعدها, وإنما يمتنع فيها العمل خاصة, كقوله تعالي: {إنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إلَيَّ أَنَّمَا إلَهُكُمْ إلَهٌ واحِدٌ}. انتهي وفيه بعض تلخيص. وما ذكره من انفصال الضمير في (إنما) ليس مذهب س, وقد أمعنا الكلام علي هذه المسألة في (باب المضمر) حين تعرض المصنف لانفصال الضمير وكونها تفيد الحصر.

-[ص: فصل لتأول (أن) ومعموليها بمصدر قد تقع اسما لعوامل هذا الباب مفصولا بالخبر, وقد تتصل بـ (ليت) سادة مسد معموليها, ويمنع ذلك في (لعل) , خلافا للأخفش. وتخفف (أن) , فينوي معها اسم لا يبرز إلا اضطرارا, والخبر جملة اسمية مجردة, أو مصدرة بـ (لا) , أو بأداة شرط, أو بـ (رب) , أو بفعل يقترن غالبا إن تصرف ولم يكن دعاء بـ (قد) , أو بـ (لو) , أو بحرف تنفيس, أو نفي.]- ش: مثال وقوعها اسما لهذه العوامل قولك: إن عندي أنك فاضل, وكأن في نفسك أنك فاضل. وذكر المصنف في الشرح أنه يلزم الفصل بالخبر بين أحد هذه العوامل و (أن). وهذا مذهب س, قال س: ((ألا تري أنك لا تقول: إن أنك ذاهب في الكتاب, ولا تقول: قد عرفت أن إنك منطلق في الكتاب؛ وذلك أن (أن) لا يبتدأ بها)). وذهب الأخفش إلي أنه يجوز: لعل أنك منطلق, ولكن أنك منطلق, وكأن أنك منطلق. قال الجرمي: وهذا كله رديء في القياس لأن هذه الحروف إنما تعمل في المبتدأ, و (أن) لا يبتدأ بها.

وأجاز هشام: إن أن زيدا منطلق حق, بمعني: إن انطلاق زيد حق. وأجاز الكسائي والفراء إدخال (أن) , وأنشد الكسائي: وخبرتما أن إنما بين بيشة ونجران أحوي, والجناب رطيب قال الفراء: ((أدخل أن علي إنما)). وقال الفراء: ((لو قال قائل (أنك قائم يعجبني) جاز أن تقول: إن أنك قائم يعجبني)). وهذا بناء من الفراء علي أن (أن) يجوز الابتداء بها, وقد تقدم ذلك من مذهبه ومذهب الأخفش وغيرهما في (باب الابتداء). وقوله وقد تتصل بـ (ليت) سادة مسد معموليها مثاله قول الراجز: يا ليت أنا ضمنا سفينة حتى يعود الوصل كينونه وقول الآخر: / فيا ليت أن الظاعنين تلفتوا ... فيعلم ما بي من جوي وغرام وقول الآخر, أنشده أبو علي الهجري: ألا ليت أني قبل بينك خيض لي ببعض أكف الشامتين سمام

وقول الآخر: صغيرين, نرعي إليهم, يا ليت أننا إلي اليوم لم نكبر, ولم تكبر إليهم وجاء بزيادة الباء في (أن) , قال: ندمت علي لسان كان مني فليت بأنه في جوف عكم ودخول (ليت) علي (أن) شاذ في القياس, لكنه كثير في السماع, قال الفراء: جاز ذلك لأن معناها: وددت. وسدت (أن) وصلتها مسد اسم (ليت) وخبرها, كما سدت مسد مفعولي (ظن) , كقوله تعالي: {الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلاقُوا رَبِّهِمْ} , وكما سدت مسد المبتدأ والخبر في نحو: {ولَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا} علي مذهب س. وفي (البسيط): وفيه الخلاف الذي في: ظننت أن زيدا قائم, فرأي الأخفش أن الخبر محذوف, كما أن المفعول الثاني محذوف, ورأي س أنها سدت مسد المفعولين في (ظننت) , فكذلك هنا. وفي (الغرة): تكتفي (ليت) بـ (أن) مع الاسم, ولا تكتفي بـ (أن) مع الفعل عند المحققين, كذا نص ابن السراج, وهما مصدران, وذلك لظهور الخبر مع (أن). وقوله ويمنع ذلك في (لعل) , خلافا للأخفش أجاز: لعل أن زيدا

قائم, بغير فصل بين (لعل) و (أن) , وقد تقدم أنه أجاز ذلك أيضا في (لعل) و (كأن). وقال المصنف وغيره: عامل الأخفش لعل معاملة ليت, ومباشرة ليت لـ (أن) شاذة, والقياس يقتضي المنع, لكنه جاء به السماع, فقبل, فلا يقاس عليه. وقد أدخل بعضهم (أن) علي المضارع مفي خبر لعل, فقال: لعل زيدا أن يقوم, قال الشاعر: لعلك يوما أن تلم ملمة عليك من اللائي تركنك أجدعا فقيل: شبهت لعل بـ (عسي) , كما شبه ليت بـ (وددت). وقيل: في الكلام محذوف, تقديره: لعلك صاحب الإلمام. وقيل: جعل الجثة الحدث علي سبيل الاتساع, كما قال: ................. فإنما هي إقبال وإدبار وقيل: الخبر محذوف, تقديره: لعلك تهلك لأن تلم ملمة, فحذف, و (أن) مفعول له. وهذه الأقوال ليست بشيء, ولو كان لم يرد في ذلك إلا هذا البيت لتؤول, ولكن جاءت منه أبيات كثيرة جدا حتى يكاد ينقاس زيادة (أن) في المضارع الواقع خبرا لـ (لعل) , قال الشاعر:

/ فعلك أن تنجو من النار إن نجا مصر علي صهباء طيبة النشر وقال: علك أن تذهب بعض الذي بقلبها من طول هذا التحير وقال الفرزدق: لعلك يوما أن يساعفك الهوي ويجمع شعبي طية لك جامع وقال آخر: لعلك يوما أن تود لو انني قريب, ودوني من حصي الأرض مخفق وقال: لعلك أن تلوم النفس يوما وتذكرنا وقد علن الصخاب وقد تعرض المصنف في الفص وشرحه لهذه المسألة في أثناء هذا الباب. وقوله وتخفف أن كان المناسب أن يذكر تخفيف أن وكأن عند ذكره تخفيف إن ولكن. وقوله فينوي معها اسم قال المصنف في الشرح: ((وتخفف (أن) فلا تلغي كما تلغي (إن) المخففة)) انتهي. ويوجد في بعض كتب النحو أن (أن) إذا خففت ألغيت, ولا يعنون بذلك إلا أنها لا يظهر لها عمل لا في

مظهر ولا في مضمر مثبت, بل في مضمر محذوف علي ما سيبين. فإن قلت: ما الذي أحوج إلي تقدير اسم لها محذوف وجعل الجملة بعدها في موضع خبرها؟ وهلا ادعيتم أنها ملغاة, ولم تتكلفوا حذفا؟ فالجواب: أن سبب عملها الاختصاص بالاسم, فما دام لها الاختصاص ينبغي أن يعتقد أنها عاملة, وكون العرب تستقبح وقوع الأفعال بعدها حتى تفصل لأجل ذلك بينها وبين الأفعال بالحروف التي يأتي ذكرها إلا أن تكون تلك الأفعال مشبهة بالأسماء لعدم تصرفها دليل علي أنها عندهم باقية علي اختصاصها, ولذلك لما حذفوا الضمير استقبحوا مباشرة الأفعال لها, ففصلوا بينهما إلا في ضرورة أو في قليل من الكلام لا يلتفت إليه. قال بعض أصحابنا: فإن قلت: لعل سبب الفصل جعل تلك الحروف عوضا من الضمير المحذوف. فالجواب: أنه لو كان ذلك السبب لزم الفصل بينها وبين الجمل الاسمية, وهم لا يفعلون ذلك. وقال ابن هشام: ((فتراهم إذا ذكروا الجملة الابتدائية لم يعوضوا من المحذوف, نحو: علمت أن زيد قائم. قيل: قد تكلم علي هذا س, وقال: (لأنهم لم يخلوا به ههنا؛ لأنهم ذكروا بعده المبتدأ والخبر, كما كانوا يفعلون لو شددوا, فأما/ إذا حذفوا وأولها الفعل الذي لم يكن يليها فكرهوا أن يجمعوا عليها الحذف ودخول ما لم يكن

يدخل عليها مثقلة, فجعلوا هذه الحروف عوضا). وبهذا استدل س علي أنها إذا خففت لم تدخل في حروف الابتداء لأن هذا التعويض إنما كان لحذف اسمها, فلو كانت ابتدائية لم يحذف لها اسم, فلم يكن تعويض كما لم يكن في (إن) المكسورة ولا في (لكن) ولا في سائر حروف الابتداء)) انتهي. ومما يبين لك أنها عاملة ظهور عملها في ضرورة الشعر علي ما سيأتي. وأجاز س أن تلغي لفظا وتقديرا كما ألغيت (إن) إذا خففت, وتكون حرفا مصدريا, ولا تعمل شيئا كبعض الحروف المصدرية, قال س: ((ولو خففوا (أن) , وأبطلوا عملها في المظهر والمضمر, وجعلوها كـ (إن) إذا خففت, لكان وجها قويا)) انتهي. وقوله لا يبرز إلا اضطرارا مثال ذلك قول الشاعر: فلو أنك في يوم الرخاء سألتني طلاقك لم أبخل وأنت صديق وقول الآخر:

لقد علم الضيف والمرملون إذا اغبر أفق, وهبت شمالا بأنك ربيع وغيث مريع وأنك هناك تكون الثمالا وقال بعض شيوخنا: يجوز أن يظهر عملها إذا خففت على ضعف, نحو: علمت أن زيدًا قائم, قال: وأكثر ما يكون هذا في الشعر, وأطلق بعض أصحابنا جواز إعمالها مخففة في الاسم الظاهر من غير اضطرار ولا ضعف. ونقل صاحب (رؤوس المسائل) منع إعمالها عن الكوفيين, قال: وأجازة البصريون, وينبغي أن يخصص هذا الجواز بما ذكروه من العمل في مضمر محذوف, ولا يلزم أن يكون ذلك الضمير المحذوف ضمير الشأن كما زعم بعض أصحابنا, بل إذا أمكن عوده على حاضر أو غائب معلوم كان أولى, ولذلك قدره س في قوله:} وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ (104) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا} كأنه قال: أنك قد صدقت, وفي قولهم: أرسل إليه أن ما أنت وذا؟ أي: بأنك ما أنت وذا؟ وفي قولك: كتبت إليه أن لا تقول ذلك, بالرفع, أي: أنك لا تقول ذلك. وفي (البسيط): "وأما عملها في غير المضمر فلم يسمع, وأظن أنه قد قرئ في الشاذ:} وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا} حملًا على كأن", وقال أيضًا: "وإذا كان اسمها غير ضمير الشأن فهل يكون الخبر معرفًا؟

فيه نظر" انتهى, يعني إذا حذف وكان غير ضمير الشأن. وقوله والخبر جملة اسمية مجردة مثاله: علمت أن زيد قائم, وهذه الجملة الاسمية المجردة قد تصدر بالمبتدأ كما مثلنا به, قال المصنف: "نحو} وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِين {, أو بخبر كقول الشاعر: في فتية كسيوف الهند قد علموا أن هالك كل من يخفي وينتعل" انتهى. وقد نص س على أن قولك "قد علمت أن زيد منطلق" لا يكادون يتكلمون به بغير الهاء, بخلاف: قد علمت أن لا يقول, لأن (لا) عوض من الهاء, فعلى هذا يكون تمثيل أصحابنا "علمت أن زيد قائم" قليلًا جدًا. وقوله أو مصدرة بـ (لا) أو بأداة شرط, أو بـ (رب) أمثلة ذلك قوله تعالى:} وَأَن لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ فَهَلْ أَنتُمْ مُّسْلِمُونَ {, وقوله تعالى:} أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ {, وقول الشاعر:

فعلمت أن من تثقفوه فإنه ... جزر لخامعة وفرخ عقاب وقوله: تيقنت أن رب امرئ خيل خائنًا أمين وخوان يخال أمينا وقوله أو بفعل يقترن غالبًا إن تصرف ولم يكن دعاًء بـ (قد) مثاله:} وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنَا {, و} أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ (104) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا} في أحد التأويلين, وقال زهير: دار لسلمى إذ هم لك جيرة وإخال أن قد أخلقتني موعدي وقول الشاعر: ألم تعلمي أن قد تجشمت في الهوى من أجلك أمرًا لم يكن يتجشم وقوله أو بـ (لو) مثاله} تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَن لَّوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ {,} أَنْ لَوْ نَشَاءُ أَصَبْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ} , وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَة} ,} أَن لَّوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعًا {. وقوله أو بحرف تنفيس مثاله:} عَلِمَ أَن سَيَكُونُ مِنكُم مَّرْضَى} وقوله أو نفي مثاله} أَفَلا يَرَوْنَ أَلاَّ يَرْجِعُ {,} أَيَحْسَبُ الْإِنسَانُ أَلَّن نَجْمَعَ

عِظَامَهُ {,} أَيَحْسَبُ أَن لَّمْ يَرَهُ أَحَدٌ (7) {. وقد أطلق المصنف في قوله "أو بحرف نفي", وقد مثلنا بورود ذلك في (لا) و (لن) و (لم) , ولا يحفظ ذلك جاء في (ما) ولا في (إن) ولا في (لما) , فينبغي ألا يقدم على جواز ذلك حتى يسمع, على أن بعض شيوخنا مثل جواز ذلك بـ (ما) , نحو: علمت أن ما يقوم زيد, وفي (الغرة): وقياس الماضي أن تنفيه بـ (ما) كيلا يلتبس بالدعاء, فتقول: علمت أن ما قام. واحترز بقوله غالبًا مما ورد بغير فصل, وقد اختلف النحويون في ذلك: فذهب بعضهم إلى أنه لا يرد بغير فصل إلا في ضرورة الشعر, وقال بعضهم: الأحسن الفصل, وقال بعض شيوخنا: إنه يجوز في ضعيف من الكلام حذف قد والسين وسوف في الإيجاب, وقال س: "واعلم أنه ضعيف في الكلام أن تقول: علمت أن تفعل ذلك, أو: علمت أن فعل ذلك, حتى تقول: ستفعل, وقد فعل" انتهى. قال بعض أصحابنا: "تضعيف س إنما هو ضعف قياس, ولم يجئ في كلامهم إلا ضرورة" انتهى. وقال بعض أصحابنا: لا يجوز ترك الفصل إلا في ضرورة الشعر أو

قليل من الكلام ينبغي ألا يقاس عليه, ومن شواهد "علمت أن فعل" قوله: وحدث بأن زالت بليل حمولهم كنخل من الأعراض غير منبق وحكي المبرد عن البغداديين: أردت أن يقوم زيد, بلا عوض, وأما قوله تعالى:} لَوْلَا أَنْ مَنَّ اللَّه عَلَيْنَا} فهي مصدرية, وقاله المازني, وزعم أبو علي الفارسي أنها مخففة من الثقيلة, استغنوا بـ (لا) قبلها عن العوض. ومما جاء بغير فصل قوله: علموا أن يؤملون, فجادوا ... قبل أن يسألوا بأعظم سول وقول الآخر: يحسب حاديهم إذ ابترعوا ... أن لا يجوزون وهم قد أسرعوا وقول الآخر: إني زعيم يا نويـ ـقة إن أمنت من الرزاح

ونجوت من عرض المنون ... من الغدو إلى الرواح أن تهبطن بلاد قوم, ... يرتعون من الطلاح وقول الآخر: يا صاحبي, فدت نفسي نفوسكما ... وحيثما كنتما لاقيتما رشدا أن تحملا حاجة لي, خف محملها وتصنعا نعمة عندي بها ويدا أن تقرآن على أسماء, ويحكما مني السلام وأن لا تشعرا أحدا وقول الآخر: أبينا, ويأبى الناس أن يشترونها ومن يشتري ذا علة بصحيح وقول الآخر: ونحن منعنا بين مر ورابغ من الناس أن يغزى, وأن يتكنف وقول الآخر: وإني لأختار القوا طاوي الحشا محاذرة من أن يقال: لئيم روي بنصب (يقال) ورفعه, حكي الروايتين فيه أبو بكر بن الأنباري

في كتاب (الواضح) له, وقول الآخر: إذا كان أمر الناس عند عجوزهم فلا بد أن يلقون كل بتوت ومما جاء من ذلك في قليل من الكلام قراءة مجاهد:} لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ} برفع} يُتِمُّ {. وهذا الذي أوردناه من رفع الفعل بعد (أن) بلا فصل ما كان قبل (أن) فيه فعل قلبي فهي (أن) المخففة من الثقيلة, وما كان قبلها فعل غير قلبي فهي عند الكوفيين المخففة من الثقيلة, وعند البصريين هي الناصبة للمضارع, أهملت حملًا على (ما) أختها, وقد أطلنا الكلام على ذلك في كتاب (التكميل) في (باب إعراب الفعل وعوامله). واحترز بقوله إن تصرف من الفعل الجامد, فإنه لا يفصل بينهما, نحو قوله تعالى:} وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى {,} وَأَنْ عَسَى أَن يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ {, وقال: أن يعم معترك الجياع إذا خب السفير وسابيء الخمر

واحترز بقوله ولم يكن دعاء منه إذا كان دعاء, فإنه لا يفصل بينهما, مثاله {وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَيْهِ}. وقد تكرر للمصنف الكلام على (أن) المخففة, فذكره هنا, وذكره في "باب إعراب الفعل وعوامله", قال في هذا الباب: "وينصب بأن ما لم تل علمًا أو ظنًا في أحد الوجهين, أو شرطية, أو مصدرة برب, أو فعل يقترن غالبًا -إن تصرف ولم يكن دعاء- بـ (قد) وحدها, أو بعد نداء, أو بـ (لو) , أو بحرف تنفيس, أو نفي", وزاد هنا "أو بعد نداء". ونقص هنا عن ذلك "أن تكون مصدره بلا", نحو {وَاَّن لَا إِلَاهَ إِلَّا هُوَ} , وعذر المصنف في تكراره أنه لم يصل في الشرح إلى (باب إعراب الفعل) , ولو وصل إليه لأسقط هذا الذي تكرر, والله أعلم. ولابن هشام تفصيل في دخول (أن) الخفيفة من الثقيلة على الجملة, قال: "إذا حذف اسمها كان خبرها جملة اسمية أو فعلية لا مفردًا, إن كان اسمية ففي الإثبات على حالة: علمت أن زيد قائم, وفي النفي: علمت أن ما زيد قائم, وإن كان فعلية مصدره بماض مثبت لزمه (قد): علمت أن قد قام زيد, أو منفي لزمته (ما): علمت أن ما قام زيد, أو حال مثبت لم يتغير حكمه: علمت أن يقوم زيد, أو منفي فـ (ما): علمت أن ما يقوم زيد, أو مستقل موجب لزمته السين أو سوف, أو منفي لزمته (لا) , وهذا اللزوم عوض ظهور الاسم, وقد رأى بعض النحويين أن هذا على الأكثر والأصح, ويظهر من كلام س" انتهى ملخصًا.

-[ص: وتخفف (كأن) فتعمل في اسم كاسم (أن) المقدر, والخبر جملة اسمية, أو فعلية مبدوءة بـ (لم) أو (قد) أو مفرد, وقد يبرز اسمها في الشعر وقد يقال: (أما إن جزاك الله خيرًا) , وربما قيل: أن جزاك, والأصل: أنه. وقد يقال في لعل: عل, ولعن, وعن, ولأن, وأن, ورعن, ورغن, ولغن, ولعلت. وقد يقع خبرها (أن يفعل) بعد اسم عين حملًا على (عسى) , والجر بـ (لعل) ثابتة الأول أو محذوفته, مفتوحة الآخر أو مكسورته, لغة عقيلية.]- ش: قوله كاسم أن المقدر يعني أنه لا يلزم أن يكون اسمها المحذوف ضمير الشأن. وقوله والخبر جملة اسمية نحو قوله: ووجه مشرق النحر كأن ثدياه حقان وقول الآخر: ويكأن من يكن له نشب يحبب, ومن يفتقر يعش عيش ضر وقوله أو فعلية مبدوءة بـ (لم) مثاله قوله تعالى: {كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ} , وقول الشاعر:

كأن لم يكن بين الحجون إلى الصفا أنيس, ولم يسمر بمكة سامر ووقع في شعر عمار الكلبي ابتداؤها بـ (لما) الجازمة في قوله من قصيدته الطويلة التي أولها: مرحبًا بالشيب من جند هجم في سواد الرأس مني, فانهزم بددت منها الليالي شملهم فكأن لما يكونوا قبل ثم فابتدأ بالجملة بعد (كأن) بقوله (لما) إجراء لها مجرى (لم) , وينبغي أن يتوقف في جواز ذلك حتى يسمع من العرب الذين كلامهم حجة. وقوله أو قد مثاله: أفد الترحل غير أن ركابنا لما تزل برحالنا, وكأن قد وقوله أو مفرد هو معطوف على قوله (جملة) من قوله "والخبر جملة", ومثال ذلك قوله: ويومًا تواقينا بوجه مقسم كأن ظبية تعطو إلى وارق السلم أي: كأنها ظبية, في رواية من رفع الظبية.

وقال المصنف: "وتخفف كأن, فلا تلغى, بل تعمل إعمال (أن) المخففة, إلا أن خبرها إذا قدر اسمها لا يلزم كونه جملة, بل قد يكون مفردًا, بخلاف خبر (أن) إذا قدر اسمها" فظاهر كلامه في الفص وفي الشرح أنه يجوز أن يحذف اسم كأن إذا خففت, ويكون خبرها مفردًا في فصيح الكلام, وكذلك إذا حذف وكان الخبر جملة ابتدائية كما سبق, والذي ذكر س أن ذلك يجوز في الشعر, قال س: "وروى الخليل -رحمه الله- أن ناسًا يقولون: إن بك زيد مأخوذ, فقال: هذا على قوله: إنه بك زيد مأخوذ, وشبهه بما يجوز في الشعر, نحو قوله: ويومًا توافينا, البيت وقال: أي: كأنها ظبية, وقال الآخر: ووجه مشرق النحر, البيت". ثم قال: "إنه لا يحسن ههنا إلا الإضمار", يعني من حيث رفع (الظبية) ورفع (حقان) , فظاهر كلام س أن إضمار اسم (كأن) وحذفه بعد التخفيف, وإخباره عنه بالمفرد أو بالجملة الابتدائية, يجوز في الشعر لا في الكلام, وهذا إذا كان الاسم غير ضمير الأمر. وقوله وقد يبرز اسمها في الشعر مثاله: .................... كأن ثدييه حقان وقوله:

كأن وريديه رشاء خلب وقوله: ....................... كأن ظبية تعطو إلى وارق السلم وظاهر كلام المصنف أن بروز اسمها يكون في الشعر لا في الكلام, وهو خلاف ظاهر كلام س, قال س: "وحدثنا من يوثق به أنه يسمع من العرب من يقول: إن عمرًا لمنطلق, وأهل المدينة يقرأون: {وَإِنَّ كُلاًّ لَمَّا} يخففون وينصبون, كما قالوا: ............................. كأن ثدييه حقان وذلك لأن الحرف بمنزلة الفعل, فلما حذف من نفسه شيء لم يغير عمله كما لم يغير عمل (لم يك) و (لم أبل) حين حذف" انتهى, فظاهر تشبيه س "إن عمرًا لمنطلق" بقوله "كأن ثدييه حقان" جواز ذلك في الكلام, وأنه لا يختص بالشعر. ونقل صاحب (رؤوس المسائل) أن (كأن) إذا خففت لا يجوز إعمالها عند الكوفيين, وأن البصريين أجازوا ذلك. وفي (البسيط): كأن إذا خففت لا تلغى لقوتها في معنى الفعلية, إذ يدل على معنى الفعل من التشبيه, ولقوة معنى الفعل فيها نصب بها الظاهر, واعتبر فيها ما ليس قصة ولا شأنًا, فمن الظاهر: ...................... كأن وريديه رشاء خلب و: ....................... كأن ظبية ............

وقد رُفع (ظبية) على الخبر, قال س: "على مثل الإضمار في: إنه من يأتنا نأته, أو يكون هذا المضمر هو الذي ذكر, كأنك قلت: كأنه ظبية, كما كان في المشددة" انتهى لفظ س. وقال صاحب (البسيط): "وأما ما هو الأفصح فكقوله: ..................... كأن ثدياه حقان ويجوز النصب, وقيل: إن غير الرفع لا يجوز إلا في الضرورة. وفيه نظر لأنها أقوى من (إن) , وهو جائز في الكلام". وفي كتاب أبي الفضل الصفار: "وأما (كأن) فإنما لزم عملها لأنه لم يحفظ ولايتها للفعل في موضع, وهي تعمل في الظاهر والمضمر مضمر الشأن وغيره؛ لأنها أقوى من (إن) في العمل لتغييرها معنى الابتداء, وإحداثها معنى لم يكن, وأشبهت الأفعال, فلهذا أعلموها, وأيضًا فإنها وإن اختلت بالحذف فالكاف زائدة فيها, كأنها عوض, فلم تختل بالجملة". انتهى. وقال ابن خروف: "أنشد أبو زيد في حذف اسم كان وخبرها: حتى تراها وكأن وكأن أعناقها مشددات في قرن" انتهى, ولا دليل في ذلك إذ يجوز أن يكون من باب تأكيد الحرف. وقوله ويقال: أما إن جزاك الله خيرًا, وربما قيل: أن جزاك, والأصل: أنه قال س: "وأما قولهم (أما جزاك الله خيرًا) فإنهم إنما

أجازوه لأنه دعاء, ولا يصلون ههنا إلى قد وإلى السين, ولو قلت (أما أن يغفر الله له) جاز لأنه دعاء", قال: "وسمعناهم يقولون: أما إن جزاك الله خيرًا, شبهوه بأنه". قال المصنف في الشرح: "و (أما) قبل (أن) المخففة المفتوحة بمعنى: حقًا, كما هي قبل المشددة, وهي بمعنى (ألا) قبل (إن) المخففة المكسورة, هذا هو مذهب س, ويجوز عندي أن تكون (أما) في الوجهتين بمعنى (ألا) , وتكون (إن) المكسورة زائدة, كما في قوله: ألا إن سرى ليلي فبت كئيبًا ...................... وفي المفتوحة على هذا وجهان: أحدهما: أن تكون المخففة, وتكون هي وصلتها في موضع رفع بالابتداء, والخبر محذوف, كما تقرر في (أن) الواقعة بعد (لو) على مذهب س, ويكون التقدير: أما من دعائي أن جزاك الله خيرًا, ثم حذف الخبر للعلم به. والثاني: أن تكون زائدة كما زيدت بعد (لما) , وقبل (لو) , وبعد كاف الجر في قوله: ........................ كأن ظبية تعطو ............. على رواية الجر, وفي قوله:

جَمُومُ الشد شائلة الذنابي وهاديها كأن جذع سحيق ويجوز أن تكون (إن) في قول الشاعر (ألا إن سرى) مخففة من (إن) ويكون الأصل: ألا إنه, ثم فعل به ما فعل بـ (أما إن جزاك الله خيرًا) في قول س". وقال ابن الطراوة في قولهم: أما إن جزاك الله خيرًا: وتخريج س على أنه (إن) المخففة من الثقيلة, والجملة غير المحتملة للصدق والكذب لا تقع خبرًا لـ (إن). قال في شرح أبي الفضل الصفار: "والذي سهل عندنا وقوعه دون فصل أن السين لا يمكن دخولها على هذه الصيغة, ولا (لا) لأنها نقيض المعنى؛ ألا ترى أن (لا) دعاء عليه, ولا (قد) لأنها لقوم ينتظرون الخبر, فمعنى (قد قام) أن الفعل الذي توقعته قد كان, والدعاء طلب فهي تناقضه. وقال ابن الطراوة: أما: استفتاح, وأن: زائدة, وكأنه قال: ألا جزاك الله خيرًا. وردوا عليه بأن (أن) لا تزاد بقياس إلا بعد (لما) , وهي هنا زائدة بغير قياس, ونقول بحذف القول الذي تجعله خبرًا, والقول كثيرًا ما يضمر, نعم رده في: أرسل إليه أن قم, وأن ما أنت وذا حق؛ لأنه وإن ثبت كما قال س من كلامهم فـ (أن) بمنزلة (أي) , فما الداعية إلى جعلها أن المخففة من الثقيلة" انتهى.

وما خرجوا / عليه ضعيف جدًا لأنهم قد حذفوا اسم (أن) , ثم حذفوا القول الذي هو الخبر, وهذا إجحاف كثير إذ فيه حذف الاسم والخبر معًا, وليس في مذهب ابن الطراوة غير دعوى زيادة (أن) , وهذا قريب, زادوها كما زادوا أختها (إن) بعد (ألا) للاستفتاح, قال: ألا إن بليل بان مني حبائبي ......................... وقوله وقد يقال في لعل: عل إلى آخرها, ذكر فيها عشر لغات, فأما (عل) فحكاها س وغيره, وقال الكسائي: هي لغة بني تيم الله من ربيعة, وقال الشاعر: لا تهين الفقير علك أن تركع يومًا والدهر قد رفعه واختلف في لا (لعل) الأولى: فقيل: اللام للتوكيد, وقيل: حذفت لأن كل ما زاد على ثلاثة في الحروف ليس بأصل, كما أن ما زاد على أربعة في الأفعال وعلى خمسة في الأسماء ليس بأصل. وقال السهيلي: "اللام الأولى أصل في (لعل) في أقوى القولين لأن الزيادة تصرف, والحرف وضع اختصارًا, والزيادة عليه تنافيه, ومجيئها بغير لام لغة, أو حذف الحرف الأصلي, والحذف من جنس الاختصار, فهو أولى من الزيادة". انتهى.

وفي (البسيط): "وأما لام (لعل) فهي أصلية عند الكوفيين وأكثر النحويين, وذهب قوم إلى زيادتها, وبعضهم إلى أنها لام الابتداء". وفي شرخ الخفاف: " (لعل) مركبة لأنهم قالوا (عل) في معناها, فلا يخلو أن تجعل اللام من أصل الكلمة, وتجعل (عل) محذوفة منها, أو يدعى أن اللام زائدة, ضمت إلى (عل) , فالأول لا ينبغي أن يقال به لأن الحروف لا يتصرف فيها, فلم يبق إلا أن تكون زائدة لغير معنى إلا لمجرد التكثير, ضمت إلى (عل) , وهذا القدر ليس بتصرف لأنا لم نضمها إليها على أن تكون من الكلمة على حد اللام في عبدل, بل ركبناها معها كما ركبنا (بعل) مع (بك) , وهذا ليس بتصرف لأنه ضم كلمة إلى كلمة" انتهى. والذي اختاره أنها بسيطة, وقد تصرف فيها أنواعًا من التصرف إذ ذكروا فيها عشر لغات. وأما قوله "إنها زيدت للتكثير" فهو ينافي قوله "إنه ضم كلمة إلى كلمة" لأن الكلمة إذا كانت حرفًا فلابد أن تدل على معنى في غيرها. وأما (لعن) فحكاها الفراء, وقال الفرزدق: ألستم عائجين بنا لعنا نرى العرصات أو أثر الخيام وأنشد الباهلي: ولا تحرم المولى الكريم فإنه أخوك, ولا تدري لعنك سائله وقوله "لعنا نرى العرصات" أصله: لعننا, فحذف كما حذف في إنا, وأصله: إننا.

وأما (عن) فحكاها الكسائي, وأما (لأن) فقال امرؤ القيس: عوجًا على الطلل المحيل لأننا نبكي الديار كما بكى ابن حذام وأما (أن) فحكاها الخليل وهشام, وجعلا منه قوله تعالى: {وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ} أي: لعلها, وحكي الخليل من قول بعض العرب: "ائت السوق أنك تشتري لنا شيئًا". واستشهد الأخفش على ذلك بقول الشاعر: قلت لشيبان: اذن من لقائه أنا نغدي القوم من شوائه وقال الكسائي: "سمعت رجلًا يقول: ما أدري أنه صاحبها, يريد: لعله صاحبها". وأما (رعن) فيمكن أن تكون الراء بدلًا من اللام, كما قالوا في وجل وأوجل: وجر وأوجر, والنون بدل من اللام, كما أبدلت اللام منها في أصيلال, وأصله أصيلان. وأما (رغن) و (لغن) فاختلفوا في الغين: فقيل: هي بدل من العين,

كما قالوا في ارمعل: ارمغل؛ لأنها قريبة منها, إذ هما من حروف الحلق, وإذ يجتمعان في القافية الواحدة, كقوله: قبحت من سالفة ومن صدغ كأنها كشية ضب في صقع وقيل: إنها لغتان, وليس الغين بدلًا من العين, وهو الأظهر لقلة وجود الغين بدلًا من العين. وقال المصنف: "والأربعة - يعني المتأخرة- قليلة الاستعمال, وأقلها استعمالًا لعلت, ذكرها أبو علي في التذكرة", انتهى. وزاد بعض أصحابنا (غن) بالغين المعجمة والنون, وفي الغرة (رعل) بالراء بدلًا من اللام. وقوله وقد يقع خبرها (أن يفعل) بعد اسم عين حملًا على عسى قال المصنف: "إذا كان الاسم في هذا الباب وغيره اسم معنى جاز كون الخبر فعلًا مقرونًا بـ (أن) كقولك: إن الصلاح أن يعصى الهوى, فلو كان الاسم اسم عين امتنع ذلك كما يمتنع في الابتداء, وقد يستباح في لعل حملًا على عسى, ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم (لعلك أن تخلف حتى ينتفع

بك أقوام ويضر بك آخرون") انتهى. وقد تقدم كلامنا على هذه المسألة, وذكرنا أبياتًا شواهد على ذلك. وقال آخر: لعل الذي قاد النوى أن يردها إلينا, وقد يدنى البعيد من البعد وهي لغة مشهورة كثيرة الوقوع في كلام العرب, حملوا (لعل) على (عسى) كما حملوا (عسى) على (لعل) في نصب اسمها ورفع الخبر في قوله: فقلت: عساها نار كأس, وعلها ........................ وقوله: يا أبتا علك أو عساكا وذلك للمشاركة بينهما في الترجي, إلا أن الترجي في (عسى) مشروط بمعنى المقاربة, والمقاربة إخبار, فمن ثم كانت من الله -سبحانه- واجبة لأن الخبر منه واجب, والترجي لا يجوز على الله تعالى, إنما هو مصروف إلى المخاطب. وقوله والجر بـ (لعل) إلى آخره, حكي الأخفش أن من العرب من يجر بـ (لعل) , وروى أبو زيد أن بني عقيل يجرون بـ (لعل) مفتوحة

الآخر ومكسورته, ومن ذلك قوله: لعل الله يمكنني عليها جهارًا من زهير أو أسيد وقال آخر: لعل الله فضلكم علينا بشيء أن أمكم شريم أنشده يعقوب بكسر اللام والجر بعدها, وقال آخر: فقلت ادع أخرى وارفع الصوت دعوة لعل أبي المغوار منك قريب وروى الفراء الجر بـ (عل) , وأنشد: عل صروف الدهر أو دولاتها يدلننا اللمة من لماتها وفي (الإفصاح): "وزعم أبو زيد أن من العرب من يجر بـ (لعل) , وهي لغة عقيل, ويبنونها على الكسر ليكون بناؤها على لفظ عملها, وقال أبو الحسن: ذكر أبو عبيدة أنه سمع لام لعل مفتوحة في لغة من يجر

بها. وظاهر كلام أبي زيد أنها لغة, فهي على هذا حرف جر زائد, كالباء في: بحسبك زيد, وكـ (لولا) في لغة من يقول: لولاي ولولاك في مذهب س" انتهى. وفي (البسيط): ويكون موضعها رفعًا, ولها محل, فتقل: لعل زيد قائم, كما تقول: بحسبك زيد, كأنك قلت: زيد قائم, كما لم تغير (إن) إلا اللفظ, بدليل الحمل عليها في العطف, وبقي الخبر مرفوعًا كما كان؛ إذ حرف الجر لا يعمل في اسمين, كما يقول الكوفي في أخواتها, فتكون على هذا زائدة, وأما إن لم تكن زائدة فتشكل. ومن الناس من تأول ذلك على تقدير مضاف محذوف, والتقدير: لعل قضاء الله فضلكم, ولعل جواب أبي المغوار, ولعل قضاء الله يمكنني عليها, حذف المضاف, وأقام ما أضيف إليه على إعرابه, على حد قراءة من قرأ {وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ}. وزعم الفارسي أن (لعل) خففت, وأعملت في ضمير الشأن محذوفًا, ووليها في اللفظ لام الجر مفتوحًا تارة ومكسورًا تارة, والجر به. وتأول بعض أصحابنا قوله "لعل أبي المغوار" على أن في (لعل) ضمير الشأن, و"أبي المغوار" مجرور بلام محذوفة, أبقي عملها, و (قريب) صفة لـ (جواب) محذوف, والتقدير: لعله - أي: الشأن - لأبي المغوار منك جواب قريب.

ولا يخفى ما في هذه التخاريج من التكلف, وحكاية الأخفش وأبي زيد وغيرهم أنها لغة لبعض العرب مانع من هذه التأويلات, ومرجح جواز الجر بها على مذهب من منع ذلك, وهم الجمهور, وما أحسن قول الجزولي في ذلك: "وقد جروا بـ (لعل) منبهة على الأصل", يعني أن القياس كان يقتضي لهذه الحروف أن تجر الأسماء بها لأنها مختصة بها, وقياس ما اختص بالاسم ولم يتنزل منزلة الجزء منه أن يعمل ما اختص بالاسم من الإعراب, وهو الجر. ومن غرائب المنقول أن الفراء ذهب إلى جواز الخفض بـ (لعل) , وإجازة نصب الخبر ورفعه, قال: والأصل: لعا لعبد الله, قال: فمن نصب قال: لا يكون الاسم مخفوضًا, وفعله مرفوع, ونصبه عنده على التفسير, كقولك: ما أظرفك رجلًا, ومن رفعه رفعه باللام, قال الفراء: فمن قال: لعا لعبد الله قائمًا, أو قائمًا, ثم كنى عن عبد الله, قال: لعله, فنصب لامه. وهذا عند البصريين خطأ؛ لأنه إن أراد أن يخفض بـ (لعل) جاء بخلاف ما جاء به القرآن وما نقله أهل اللغة, وإن أراد (لعا) التي تقال لمن عثر, بمعنى: نعشك الله, ضد تعسًا, فلا معنى لها هنا, ولا لذكرها مع (إن) وأخواتها, وقال الأعشى: ........................... فالتعس أدنى لها من أن أقول لعا وقد قيل: لعا مقلوب من علا, وهو دعاء في موضع: أعلاه الله.

فلا يُنون على هذا لأنه فعل, ولا يدغم لأنه لا تنوين فيه. -[ص: يجوز رفع المعطوف على اسم (إن) و (لكن) بعد الخبر بإجماع, لا قبله مطلقًا, خلافًا للكسائي, ولا بشرط خفاء إعراب الاسم, خلافًا للفراء, وإن توهم ما رأياه قدر تأخير المعطوف أو حذف قبله, و (أن) في ذلك كـ (إن) على الأصح, وكذا البواقي عند الفراء.]- ش: ذكر أنه يجوز في قولك "إن زيدًا منطلق وعمرو" رفع (عمرو) بالعطف على اسم (إن) بالإجماع, وفي قوله مناقشة من وجهين: أحدهما: قوله" رفع المعطوف على اسم إن", واسم إن منصوب, فكيف يجوز عطف المرفوع على المنصوب, وقد صرح في ألفيته بأن المعطوف المرفوع هو بالعطف على منصوب اسم (إن) قال فيها: وجائز رفعك معطوفًا على منصوب إن بعد أن تستكملا وإصلاحه أن يقول: "على اسم إن ولكن باعتبار الموضع", أو يقول: "على موضع اسم إن ولكن" لأن موضعه كان رفعًا قبل دخول إن ولكن. والثاني: قوله "بالإجماع", وليس بصحيح, بل العطف بالرفع على موضع اسم (إن) فيه خلاف, والصحيح أن ذلك لا يجوز, والرفع إنما هو على الابتداء, والخبر محذوف لدلالة الخبر قبله عليه, هذا هو المتفهم من كلام س, ونص عليه الجرمي في (الفرخ) , وإليه ذهب أصحابنا.

وأيضًا فقد نقل النحاس عن الفراء والطوال أنه إنما يرفع الثاني بالعطف على الاسم المستتر في فعل الأول, فعلى هذا يكون الإجماع إنما هو على جواز رفع الاسم, أما على ماذا ففيه خلاف. ونقول: الاسم الذي له موضع يخالف لفظه على ثلاثة أقسام: أحدها: أن يكون ذلك الموضع لا يظهر في فصيح الكلام, نحو: مررت بزيد, فـ (زيد) وإن كان مخفوضًا بالباء هو في موضع نصب لأنه مفعول في المعنى, يدل على ذلك نصبه في الاضطرار, فهذا النوع لا يجوز فيه العطف على هذا الموضع, فإن جاء ما ظاهره ذلك حمل على أنه منصوب على إضمار فعل. والثاني: أن يظهر في فصيح الكلام, نحو: ليس زيد بقائم, فيجوز (قائمًا) , وسواء أكان حرف الجر زائدًا كهذا, أو غير زائد, نحو قوله: فإن لم تجد من دون عدنان والدًا ودون معد فلتزعم العواذل فإنه يجوز فصيحًا: فإن لم تجد دون عدنان. والثالث: أن يظهر في فصيح الكلام, لكنه ليس محرز, نحو: هذا ضارب زيد غدًا, فيجوز نصب (زيد) , لكنه يحتاج إلى تنوين (ضارب) , فهذا النوع مختلف فيه: فمنهم من أجاز النصب في العطف على الموضع, ومنهم من نصب بإضمار فعل. ومن هذا النوع عند أصحابنا هو المعطوف بالرفع في باب (إن) , نحو: إن زيدًا قائم وعمروا, لأن موضع (زيد) رفع؛ إذ يجوز أن تقول في إن زيدًا منطلق: زيد منطلق, لكن هذا الموضع لا محرز له؛ ألا ترى أن الرافع لـ (زيد) قد زال بدخول (إن) , فعندهم أن رفع المعطوف إنما هو بالابتداء, والخبر محذوف لدلالة ما تقدم عليه.

وتلخص أن في العطف حالة الرفع مذاهب: أحدها: أنه مرفوع بالابتداء, والخبر محذوف متعين ذلك فيه. والثاني: أنه معطوف على موضع اسم إن؛ لأنه قبل دخول إن كان في موضع رفع, قال ابن خروف: وممن قال بالموضع أبو الحسن والمبرد, وأبو بكر, وأبو علي. والثالث: أنه معطول على (إن) وما عملت فيه. والرابع: أنه معطوف على الضمير المستكن في الخبر إن كان مما يتحمل الضمير. وكل من قال بشيء من هذه الأقوال الثلاثة متفقون على جواز القول الأول, ومن قال بالإسناد أو بالعطف على الموضع قدر له خبرًا محذوفًا مثل خبر الأول؛ لأن حكمه كحكمه. وعلى هذه المذاهب تفرع اختلافهم هل هذا العطف من قبيل عطف الجمل أم من قبيل عطف المفردات, فمن زعم أنه مرفوع بالابتداء والخبر محذوف اعتقد أنه من عطف الجمل, ومن زعم أنه معطوف على موضع اسم (إن) أو على (أن) وما عملت فيه اعتقد أنه من باب عطف المفردات, قال من نحا إلى هذا المذهب: الأصل في هذه المسألة من قبيل عطف الجمل, إلا أنهم لما حذفوا الخبر لدلالة ما تقدم عليه أنابوا حرف العطف منابه, ولم يقدروا إذ ذاك الخبر المحذوف في اللفظ لئلا

يكون جمعًا بين العوض والمعوض منه, فأشبه عطف المفردات من جهة أن حرف العطف ليس بعده في اللفظ إلا مفرد, ويدل على أنه من قبيل عطف المفردات قول العرب: زيد منطلق لا عمرو, وإن زيدًا منطلق لا عمرو, ولا يتصور أن يكون من قبيل عطف الجمل لأن (لا) لا يعطف بها إلا المفردات, ولو كان ما بعد (لا) مرفوعًا بالابتداء, وكانت (لا) حرف نفي مستأنفًا ما بعدها, لزم تكرارها. وقال ابن خروف في قولهم إن زيدًا منطلق لا عمرًا: يجوز فيه الوجهان المتقدمات في الرفع وإن لم يجز الابتداء بـ (لا) , ومن هنا وقع الخلاف؛ إذ لا يقال في الابتداء: لا عمرو قائم, فذكر (لا) هنا أوقع الخلاف بين النحويين في هذا المرفوع, وإنما دخلت (لا) هنا من حيث كان هذا الاسم بعدها بصورة المعطوف, فجاز فيه ما لا يجوز في الابتداء. وقال الأستاذ أبو علي: هذا دليل قاطع على أن س يجمل على الموضع, لم يقل أن تفسير (لا) كتفسير الواو؛ لأن (لا) لا يجوز فيها الحمل على الابتداء المستأنف, فيكون التقدير: إن زيدًا فيها لا عمرو فيها, فهذا محال لأن (لا) لا تدخل على الجملة إلا مكررة, فهي ههنا على مذهب ابن أبي العافية غير معملة لا ومكررة, وهذا فاسد لأنك لا تقول مبتدئًا "لا زيد قائم" إلا بأن تكرر, فبهذا علمنا أن س يريد الحمل على الموضع مع الواو ومع (لا) , فهذا دليل قاطع يدحض حجة ابن أبي العافية. وقال الأستاذ أبو علي أيضًا: فهم ابن أبي العافية منه أنه معطوف

على (إن) لا على الموضع, فألزم أن (لا) دخلت على الجملة, ولم تكرر, فزعم أنها للعطف, فقيل له: (لا) العاطفة لا تعطف الجمل, فقال: لما كثر حذف الخبر هنا أشبه المفرد, وهذا أيضًا لازم لهم لأن العطف على الموضع بمنزلة عطف الجملة؛ لأن العطف على مخبر عنه مخبر عنه أيضًا, ولا انفصال إلا بما انفصل به ابن أبي العافية. وقال من نحا إلى أنه من قبيل عطف الجمل -منهم ابن خروف- قال: من أقوى الأدلة على أن الحمل على الجملة لا على المفرد أنه لا يوصف على الموضع, ولا يؤكد عليه, ولا يبدل منه, ولا يحمل عليه عطف البيان, ولو كان لاسمها موضع لم يمتنع شيء من ذلك, كما لم يمتنع فيما له موضع, ومن الدليل أيضًا تغليط س العرب في قولهم: إنهم أجمعون ذاهبون, ولو كان المراعى الموضع لم يغلطهم, انتهى. وقال غيره: الدليل على ذلك أنه لم يستعمل إلا بعد تمام الجملة أو تقدير تمامها, فتمامها: إن زيدًا قائم وعمرو, وتقدير تمامها {إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى} , حمله س على التقديم والتأخير, التقدير: إن الذين آمنوا والذين هادوا من آمن منهم إلى آخر الآية والصابئون والنصارى كذلك. وحمله غير س على حذف الخبر, أعني خبر إن قبل قوله {وَالصَّابِئُونَ} , التقدير: إن الذين آمنوا آمنون فرحون والذين هادوا والصابئون من آمن إلى آخره, ورجح هذا التقدير بأن حذف ما قبل

العاطف لدلالة ما بعده مقطوع بثبوته في كلام العرب قبل دخول (إن) , نحو قوله: نحن بما عندنا, وأنت بما عندك راض, والرأي مختلف وبعد دخول (إن) , نحو قول الآخر: خليلي هل طب, فإني وأنتما وإن لم تبوحا بالهوى دنفان التقدير: نحن بما عندنا راضون, وفإني دنف, وقد قال س في قول الفرزدق: إني ضمنت لمن أتاني ما جني وأبي, فكنت وكان غير غدور "ترك أن يكون للأول خبر حين استغنى بالآخر". انتهى. ولو كان العطف من قبيل عطف المفرد لكان وقوعه قبل التمام أولى؛ لأن وصل المعطوف بالمعطوف عليه أولى من فصله, ولو كان من عطف المفردات لجاز رفع غيره من التوابع, ولم يحتج س إلى تأويل في قوله {قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَّامُ الْغُيُوبِ} بأن جعل {عَلَّامُ} مرفوعًا على أنه خبر مبتدأ محذوف, أو بدلًا من الضمير في {يَقْذِفُ}. وأيضًا فعمل الابتداء منسوخ بعد (إن) لفظًا ومحلًا كانتساخه بـ (كان) , و (ظن) , إلا أنها و (لكن) لما لم يتغير بدخولهما معنى

الجملة, وتغير بدخول باقي أخواتها, جاز أن يعطف بعد اسمهما وخبرهما مبتدأ مصرح بخبره, لازم الإثبات إن تباين الخبران, نحو {وإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ} , أو محذوفًا إن لم يتباينا, نحو: إن زيدًا قائم وعمرو, كما كان ذلك في الابتداء, نحو: زيد قائم وعمرو جالس, وزيد قائم وعمرو, وذلك بخلاف خبر كان وليت ولعل, فإنه مخالف لخبر المبتدأ المجرد بما حدث فيه من التشبيه والتمني والترجي, فلا يغني أحدهما عن الآخر. وفي قول المصنف "يجوز رفع المعطوف" دلالة على أن ذلك ليس على سبيل الوجوب, بل يجوز عطفه على لفظ الاسم, فتنصبه قبل ذكر الخبر, نحو قوله تعالى {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ} , وبعد الخبر, نحو قوله: إن الربيع الجود والخريفا يدا أبي العباس والضيوفا أراد: إن الربيع الجود والخريف والضيوف يدا أبي العباس. وجوزوا أيضًا الرفع من وجه آخر, وهو أن يكون معطوفًا على الضمير المستكن في الخبر إن كان الخبر مما يتحمل الضمير, لكن إذا

أريد هذا المعنى أكد ذلك الضمير، أو فصل بينه وبين المعطوف على الخلاف الذي بين البصريين والكوفيين. فإذا جردت من التأكيد والفصل كان ارتفاعه على غير العطف على الضمير أحسن، ويضعف رفعه عطفًا على الضمير. كان العطف على الضمير أظهر من جهة أنه يلزم في الوجه الأول الحمل على المعنى، ولا يلزم في هذا، ومن جهة تأكيد الضمير المستكن في الخبر من غير عطف عليه قليل في كلامهم جدًا. ومثاله العطف بالرفع على غير الضمير المستكن في الخبر قول الشاعر: فمن يك لم ينجب أبوه وأمه فإن لنا الأم النجية والأب وقول الآخر: إن النبوة والخلافة فيهم والمكرمات وسادة أظهار ومثال ذلك في (لكن) قول الشاعر: وما زلت سابقًا إلى كل غاية بها يقتضي في الناس مجد وإجلال وما قصرت بي في التسامي خؤولة ولكن عمي الطيب الأصل والخال وفي كتاب (التجريد لأحكام كتاب س) ما نصه- وهو لفظ س"- "وما يكون محمولًا على (إن)، فيشارك فيها الاسم الذي وليها، ويكون محمولًا على الابتداء: إن زيد ظريف وعمرو، فيرتفع على وجهين،

فأحدهما حسن، وهو أن يكون محمولًا على الابتداء؛ لأن معنى إن زيدًا منطلق: زيد منطلق، و (إن) توكيد. والآخر ضعيف، وهو أن يكون محمولًا على المضمر، وأحسنه أن تقول: هو وعمرو، فإن شئت جعلت الكلام على الأول، فقلت: إن زيدًا منطلق وعمرًا. (ولكن) المثقلة في جميع الكلام بمنزله (إن). وإذا قلت (إن زيدًا منطلق لا عمرو) فتفسيره كتفسيره مع الواو، وإذا نصب فتفسيره كنصبه مع الواو. و (لعل) و (كأن) و (ليت) يجوز فيهن جميع ما جاز في (إن)، إلا/ أنه لا يرتفع بعدهن شيء على الابتداء، ومن ثم اختار الناس: ليت زيدًا منطلق وعمرًا، وضعف عندهم أن يحملوا عمرًا على المضمر حتى يقولوا (هو). وتقول إن زيدًا فيها لا بل عمرو، وإن شئت نصبت، و (لا بل) تجري مجرى الواو" انتهى. وفي (الإفصاح) ما مخلصه: "اختلفت عبارة النحويين وأغراضهم: فمنهم من يقول: هو معطوف على (زيد) المنصوب؛ لأنه في الأصل مرفوع، وبقي على معناه وحكمه، وإنما نصبته (إن) تجوزًا، ولم يتغير له موضع، فيعطف عليه بحكم الأصل، فتقول (وعمرو) كما تقول: ما زيد بقائم ولا قاعدًا. ومنهم من قال: لا يشبهه لأن (إن) رفعت الابتداء، فلا يكون في موضع رفع، والرفع على موضوع (إن) وما عملت فيه؛ لأن (إن) أزالت

الاسم عن الابتداء، وهي وما عملت فيه في موضع ذلك الاسم إذا لم يدخل عليه ناسخ. وهذا الذي أشار إليه أبو علي في قوله في (الإيضاح): (فإن عطفت على إن وما عملت فيه). وزعم الشلوبين أن مذهب س الحمل على (زيد) لأنه في المعنى مبتدأ، ويجوز ظهور المبتدأ معه إذا زالت إن. قال: ولذلك يجيز ضارب زيد وعمرًا، على هذا، وإنما ذكر العطف على جهة الأولى. وزعم أن ذلك متفهم من كلام س. وقالوا قوم: إنما يعطف اسم على اسم، فيكون المعطوف محمولًا على العامل في ذلك الاسم، فإن كان له عاملان لفظي وتقديري حمل مرة على هذا ومرة على هذا، وإذا كانت (إن) في موضع الابتداء فلا يعطف اسم على حرف، ولا على حرف اسم، ولا على حرف ومعموله إذا كان أكثر من اسم، ولا حجة بمحل النزاع، ولا يحمل على شيء متوهم غير موجود، فإن فيه عملًا بلا عامل، وإن جاء منه شيء فموقوف على السماع ولا يقاس عليه. فقال هؤلاء: الرفع على الابتداء، والخبر محذوف لدلالة خبر الأول لأن المعنى واحد. وهذا الذي أخذته عن حذاق من قرأنا عليه، وهو مذهب ابن أبي العافية وابن الأخضر، وبه أخذ شيوخنا الذين حملوا هذا العالم عنهم أو عمن تحمله عنهم، وهو الذي تقرر عند المباحثة من كلام س، ولا يصح عنه غيره، وهو مذهب أبي الجرمي، نص عليه في (الفرخ) انتهى. فرع: إن زيدًا اختصم وعمرًا: قال أبو جعفر الصفار: لم يجزها أحد من النحويين علمته إلا محمد بن يزيد وابن كيسان، فإنهما أجازاه

لأن الثاني يدخل في معنى الأول وإن أفرد الفعل. قال ابن كيسان: وإنما لم يجز "إن زيدًا اختصم" لأن الاختصام لا يكون إلا من اثنين،/ وأنت إن نصبت الاثنين فقد تم المعنى، فلا يلتفت فيه إلى إفراد الفعل. قال ابن كيسان: ويجوز: إن زيد اختصما وعمرًا. وقوله لا قبله مطلقًا، خلافًا للكسائي يعني بقوله (مطلقًا) سواء أظهر فيه الإعراب أم لم يظهر، نحو: إن زيدًا وعمرو قائمان، وإن هذا وزيد قائمان. ووافق الكسائي على جواز ذلك أبو الحسن وهشام. واستدلوا على ذلك بقوله تعالى (إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ) الآية، وبما حكاه س عن العرب من قولهم: إنك وزيد ذاهبان. وحكي الأخفش في (مسائل الكبير): سمعت من العرب من يقول: إن زيدًا وأنت ذاهبان. وحكي الكوفيون الرفع في قوله تعالى (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ)، وهي قراءة محمد بن سليمان الهاشمي، فنقل أن الأخفش مضى إليه، فقال له: هذا لحن. فأعطاه، وحباه. فيكون للأخفش في المسألة قولان. واحتج من منع ذلك بأنه محال أن يعمل في الخبر (إن) والابتداء يأتي تأويله. فلو كان الخبر مفردًا، نحو "إن زيدًا وعمرو منطلق" فنقل أبو جعفر

النحاس الخلاف فيه، أجاز ذلك الخليل وس والكسائي وهشام، وأنشدوا قول الشاعر: فمن يك أمسى بالمدينة رحلة فإني وقيار بها لغريب واحتجوا بأن معنى "إن زيدًا منطلق" و"زيد منطلق" واحد. ومنع ذلك الفراء، قال: لأنهما اسمان قد وقعت عليهما أداة واحدة، وتبين فيها الإعراب، ولم يطل ما بينهما، فكرة أن يفرق بينهما بإعرابين مختلفين والمعنى فيهما واحد. وأجاز ذلك فيما لا يتبين فيه الإعراب كالمضمر والذي. قال: لأنه إنما يمتنع أن يجمع اسمان معربان يخالف بينهما. ونقول: إجازة س والخليل في حكاية النحاس "إن زيدًا وعمرو منطلق" ليس عطفًا على موضع (زيد)، ولكنه على التقديم والتأخير، أو على حذف الخبر خبر (أن). وقوله ولا بشرط خفاء إعراب الاسم، خلافًا للفراء دليله دليل الكسائي، وقال الشاعر: وإلا فاعلموا أنا وأنتم بغاة ما حيينا في شقاق ويشمل قوله "خفاء إعراب الاسم" أن يكون الاسم مبنيًا، وبه مثلوا،

وأن يكون معربًا لكن الإعراب فيه مقدر، كالمقصور والمضاف إليه ياء المتكلم، وهو يحتاج إلى نقل مذهب الفراء في ذلك. وقوله وإن توهم ما رأياه قدر/ تأخير المعطوف يعني فيما أمكن فيه ذلك، نحو: إن زيدًا وعمرو قائم، التقدير: إن زيدًا قائمًا وعمرو. أو حذف قبله، أي: قبل المعطوف، وذلك فيما لا يمكن فيه نية التأخير، نحو: إنك وزيد ذاهبان، التقدير: إنك أنت وزيد ذاهبان، فأنت: مبتدأ وزيد: معطوف عليه، والخبر: ذاهبان، والجملة من المبتدأ والخبر في موضع خبر (إن). و (إن) وأخواتها تثبت قوة شبهها بالأفعال لفظًا ومعنى واختصاصًا، ولذلك لم يبطل عملها بالفصل بالخبر الظرف والمجرور، ولا بالفصل بهما معمولين للاسم، ولا بحذفها وإبقاء عملها، كقراءة من قرأ {وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِنْ دَابَّةٍ آَيَاتٌ}، بخلاف (ما) المشتبهة بـ (ليس)، و (لا) المشتبه بـ (إن)، فإنهما ضعيفتا الشبه والعمل، ولذا لا تعمل (لا) في الخبر عند س، ويبطل عملها بالفصل بإجماع، ولضعفها لم تنسخ عمل الابتداء لفظًا ومحلًا، بل هو باقٍ تقديرًا بعد دخولها، ولهذا ينعت اسمها باعتبار المحل رفعًا، ولم يفعل ذلك باسم (إن). وإذا كان كذلك فهي كـ (كان) وأخواتها، فكما امتنع أن يكون لمعمولي (كان) إعراب باعتبار المحل فكذلك (إن). ولو جاز أن يكون اسم (إن) مرفوع المحل لجاز ذلك لخبر (كان) لتساويهما في أصالة الرفع وعروض النصب.

وقال المصنف في الشرح ما نصه: "غلط س من قال: إنهم أجمعون ذاهبون، وإنك وزيد ذاهبان، فقال: (واعلم أن ناسا من العرب يغلطون، فيقولون: إنهم أجمعون ذاهبون، وإنك وزيد ذاهبان، وذلك أن معناه معنى الابتداء، فيرى أنه قال: هم، كما قال: بدا لي أني لست مدرك ما مضى ولا سابق شيئًا وهذا غير مرضي منه- رحمه الله- فإن المطبوع على العربية كزهير قائل هذا البيت لو جاز غلطة في هذا لم يوثق بشيء من كلامه، بل يجب أن يعتقد الصواب في كل ما نطقت به العرب المأمون حدوث لحنهم بتغير الطباع، وسيبويه موافق على هذا، ولولا ذلك ما قبل نادرًا كلدن غدوة، وهذا حجر ضب خرب" انتهى كلام المصنف. وفهم من كلام س "أن ناسا من العرب يغلطون" حقيقة الغلط، وأنهم لحنوا في ذلك، ولا يوثق بهم في ذلك، ولا يبني عليه. ولم يرد س هذا المفهوم الذي فهمه المصنف، وإنما يريد أنه لم يشرك في الناصب، وكأنه لم يتقدم ناصب، بل ابتدأ بالاسم مرفوعًا، فأتبعه مرفوعًا، فصار كأنه لم يذكر الناصب، وسمي هذا غلطًا مجازًا لا على جهة الحقيقة. وفي (البسيط): "سماه غلطًا لخروجه عن القياس لما فيه من إعمال عاملين في واحد، والكوفيون/ يقولون: إن الخبر ليس معمولًا لـ (إن)، فلا يلزمهم هذا، وكذلك من يجوز عمل العاملين" انتهى.

ونظيره في كلامه قوله تعالى (فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ)، يسمى س هذا عطفًا على التوهم، كأنه قال: أصدق وأكن، ولا يريد س التوهم حقيقة إذ يستحيل على الله تعالى، وإنما يريد أنه لم يتبع الثاني الأول في الإعراب/ وكأنه غلط في أن ذكر الناصب ومقصوده الرافع ومراعاته. ولم يفهم أحد من الشراح ولا الشيوخ المأخوذ عنهم هذا العلم عن س ما فهمه هذا المصنف، كما لم يفهموا عنه حقيقة التوهم، وإنما المعنى في الغلط والتوهم ما ذكرناه من أنهم لا يلحظون اشتراك الثاني مع الأول، وكأن ذلك الأول ما دخل عليه المعرب الذي كان ينبغي للثاني أن يشاركه فيه، وإنما يحمل هذه الأشياء على ظاهرها من لم يأخذ العلم عن المشايخ، ولم يعرف مقاصدهم، فينظر في العلم وحده، فيفهم خلاف ما فهموه. وحكي لنا أستاذنا العلامة أبو جعفر بن الزبير- رحمه الله- أنه كان بمدينة مالقة شخص قد نصب نفسه لإقراء النحو، يعرف بابن الفخار، وقد رأيته أنا بمقالة، وحضرت مجلسه، فحين علم بي أني من تلاميذ ابن الزبير أنس، وتحدث، وقطع مجلسه بالحديث معي، ولم يقرئ في ذلك المجلس أحدًا. قال الأستاذ أبو جعفر: فسمع عني أني أذكر العطف على التوهم في القرآن، فأنكر ذلك، وشنع، وقال: كيف يكون التوهم في القرآن، والله- تعالى- منزه عن التوهم؟ وذلك لجهله بمصطلح أهل الفن ونظره وحده دون شيخ، وقد قلت في ذلك: يظن الغمر أن الكتب تجدي أخًا فهم لإدراك العلوم

وما يدري الجهول بأن فيها غوامض حيرت عقل الفهيم إذا رمت العلوم بغير شيخ ضللت عن الصراط المستقيم وتلتبس الأمور عليك حتى تصير أضل من (توما) الحكيم وقول المصنف (ولكن) يعني أن حكمها في العطف على موضع اسمها حكم (إن)، وذلك لأنها لك تغير حكم الابتداء، وإنما هي بمنزلة (بل). وبعضهم منع العطف على موضع اسم (لكن) لما فيها من معنى الاستدراك. ومن أجاز قال: إذا قلت "ما زيد قائمًا لكن عمرًا منطلق" هو بمنزلة قولك: عمرو منطلق، وهو مذهب س وقوله و (أن) في ذلك كـ (إن) على الأصح اختار المصنف جواز العطف بالرفع في نحو "علمت أن زيدًا قائم وعمرو" على اسم (أن)، كما جاز ذلك في (إن)، وقال بشر: أبي لبني خزيمة أن فيهم قديم المجد والحسب النضار قال ابن الدهان: "عطف على موضع (أن) الحسب". وقال في الشرح: "ومثل (إن) و (لكن) في رفع المعطوف على معنى الابتداء (أن) إذ تقدمها علم أو معناه، فمعناه قوله {وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ

وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ}، وصريح العلم كقول الشاعر: وإلا فأعلموا أنا وأنتم بغاة ما حيينا في شقاق تقديره عند س: فأعلموا أنا بغاة وأنتك كذلك، حمله على التقديم والتأخير كما حمل آيه المائدة، فسوى بين (إن) و (أن)، فصح أن من فرق بينهما على الإطلاق مخالف لسيبويه، وجعل من هذا القبيل {أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ}. وزعم قوم أنه إنما أورده بكسر الهمزة، وهي قراءة الحسن، وهو بعيد من عادة س، فإنه إذا استدل بقراءة تخالف المشهور لا يستغني عما يشعر بذلك، كما فعل إذ أورد {وَإِذًا لَا يَلْبَثُونَ خِلَافَكَ إِلَّا قَلِيلًا} انتهى.

وما زعمه قوم من أنه كسر الهمزة هو مضبوط في كتاب س بكسر الهمزة مصححًا في نسخ الشيوخ المأخوذ عنهم الكتاب رواية ودراية. ويدل على ذلك أنه إنما ذكر س في هذه الأبواب الحروف الخمسة، ولم يذكر في (باب ما كان محمولًا على إن) سوى (أن) و (لكن)، وقال في آخر الباب: "ولكن منزله إن". فلو كانت (أن) بمنزله (إن) في ذلك لذكرهما كما ذكر (لكن)، إلا أنه ذكر في آخر هذه الأبواب قول الشاعر: وإلا فاعلموا أنا وأنتم بغاة ............ وقال: كأنه قال: نحن بغاة ما بقينا وأنتم". ووجدت بخط ابن خروف: "هذا يشير إلى تخريج س البيت، نص في المفتوحة أنه يحمل معها على الابتداء" انتهى. وليس بنص؛ إذ يحتمل أن يكون من باب العطف على التوهم. ويحتمل أن يكون (وأنتم) معطوفًا على مبتدأ محذوف، تقديره: وإلا فأعلموا أنا نحن وأنتك بغاة، والجملة من قوله "نحن وأنتم بغاة" في موضع خبر (أنا)، كما تأولوا "إنك وزيد ذاهبان" على تقدير: إنك أنت وزيد ذاهبان. وأما على قراءة من قرأ {أَنَّ اللَّهَ برئ} بفتح همزة (أَنَّ) فيكون (إن) فيكون {ورسوله} معطوفًا على الضمير المرفوع المستكن في (برئ)، وحسن ذلك الفصل بين الضمير والمعطوف بالجار والمجرور.

وفي هذا العطف بالرفع ثلاثة مذاهب: أحدها: الجواز مطلقًا: وهو ظاهر كلام المصنف، والذي صححه. وجعل أبو الفتح والأستاذ أبو علي قول الشاعر: فلا تحسبني أني تخشعت بعدكم لشيء ولا أني من الموت أفرق ولا أنا ممن يزدهيه وعيدكم ولا أنني بالمشي في القيد أخرق من قبيل ما عطفت فيه الجملة على (أن) وصلتها، فجعلوا قوله "ولا أنا ممن يزدهيه وعيدكم" معطوفًا على (أن) وصلتها. قال الأستاذ أبو علي: وسوغ ذلك كون (تحتسب) من العوامل التي يصلح وقوع الجمل بعدها. ورد ذلك عليه بأن قوله "ولا أنا ممن يزدهيه وعيدكم" لا يجوز وقوعه بعد (تحسبوا)؛ ألا ترى أنه لا يجوز أن تقول: ولا تحسبوا أنا ممن يزدهيه، وإنما يجوز وقوع الجملة بعد (تحتسب) إذا كان فيها ما يوجب تعليق الفعل عنها، نحو: حسبت ما زيد منطلق. ويخرج البيت على أن يكون قوله "ولا أنا ممن يزدهيه وعيدكم" جملة اعتراض بين قوله "أني تخشعت" والمعطوف عليه الذي هو "ولا أنني بالمشي" إذ فيها تسديد وتأكيد؛ لأنه إذا كان لا يتخشع لشيء، ولا يفرق من الموت، ولا هو أخرق بالمشي في القيد، كان ولا بد ممن لا يزدهيه الوعيد.

وفي (الإفصاح): اختار ابن جني الجواز، واحتج برواية "ولا أنا ممن يزدهيه وعيدكم". ولا حجه فيه لأنه استئناف كلام. وهذا تخليط أوجبه عدم فهم كلام س، فقوله "فلا تحسبني ...... " البيت كلام تام، ثم استأنف: "ولا أنا ....... " البيت. وقوله "ولا أنني" استئناف آخر، أراد: ولا تحسبني أنني، فحذف لتقدم الذكر، وليس مما قال في شيء. المذهب الثاني: المنع مطلقًا، فلا يجوز العطف فيها على معنى الابتداء عند أكثر المحققين؛ لأن المفتوحة وما عملت به تتقدر باسم مفرد، فإذا قلت "بلغني أن زيدًا قائم وعمرو" على أن يكون (عمرو) مبتدأ، والخبر محذوف، لم يجز أن تكون الجملة معطوفة على موضع (أن) وصلتها؛ لأنها بتقدير اسم مفرد مرفوع على أنه فاعل، فلو عطفت عليه الجملة لزم من ذلك أن تكون فاعلة بـ (بلغ) من حيث كان المعطوف شريك المعطوف عليه، وذلك غير سائغ. وفي (البسيط): وأما (أن) فلا يعطف على موضعها عند المحققين كأبي علي الفارسي وغيره؛ لأنها لا بد لها من عامل آخر غير أن، فلا يبقى للابتداء فيها مساغ لدخول العامل اللفظي القوي، ولأن الفعل لا يتسلط إلا على ما عمل فيه (أن)، فلا تتدخل على المبتدأ، وأنت لو عطفت على الموضع لجعلت الجملة الابتدائية في موضع معمول الفعل، ولا يكون موضعه إلا بشرط دخول (أن)، فامتنع لذلك. المذهب الثالث: التفصيل بين أن يكون الموضع الذي وقعت فيه يجوز/ وقوع المفرد فيه ووقوع الجملة أو يكون لا يقع فيه إلا المفرد:

فإن كان مما لا يقع فيه إلا المفرد فلا يجوز العطف على موضع (أن) وصلتها، نحو: بلغني أن زيدًا قائم وعمرو، فإذا ورد مثل هذا كان الخبر محذوفًا، والجملة من المبتدأ للخبر معطوفة على الجملة التي هي "بلغني أن زيدًا قائم" عطف جملة اسمية على جملة فعلية. وإن كان الموضع يصلح للمفرد والجملة جاز العطف على موضع (أن) وصلتها، نحو قولك: أتقول أن زيدًا قائم وعمرو، تريد، وعمرو قائم؛ لأن (أتقول) يقع بعدها المفرد، نحو: أتقول أن زيدًا قائم، والجملة نحو: أتقول عمرو قائم. وهذا المذهب اختيار ابن عصفور. وقال الأستاذ أبو علي: اختلفت في (أن) المفتوحة، هل يجوز العطف على موضعها، فذهب الأكثرون إلى المنع، وهو الصحيح لأنها في تقدير المفرد، ولا تعطف جملة على مفرد؛ لأنها- وإن كانت مؤكدة- فقد غيرت المعنى بتغيير حكم الابتداء، وكذلك لا يجوز رفعه بالابتداء بعدها لأنه بمنزله العطف على الموضع سواء. وخرجوا كلام س، فقال بعضهم: إنما احتج بالكسر على قراءة ابن محيصن، فكأنه قال: ومثله (إِنَّ اللَّهَ) فيمن كسر، وقد ثبت في بعض النسخ بالكسر، ولكن الناس فتحوا، فوهموا. وقال بعضهم: (أن) هنا بمعنى (أن)، يبتدأ بها. وهذا ليس بشيء لأن الابتداء يوجب كسرها. وذهب ابن جنب إلى أنه يعطف على (أن) مطردًا لما كان بمعنى (إن)، وعليه حمل كلام س، واحتج بالبيت المتقدم، يعني: وإلا فأعلموا أنا ... وأنتم ............ وهذا قول حسن.

ثم قال الأستاذ أبو علي: لا حجة له في قوله "ولا أنا ممن يزدهيه" لأنه يكمن أن يكون جملة أخرى ليست معطوفة على (أني)، ولم تتكرر (لا) لأنها في معنى المكررة، كقوله: ................. حياتك لا نفع، وموتك فاجع وتكون "ولا أني" الثانية معطوفة على فاعل (يزدهيه). وقوله وكذا البواقي عند الفراء ذهب الفراء إلى أنه يجوز الرفع بالابتداء في العطف في كأن وليت ولعل، فأجاز: كأن زيدًا منطلق وعمرو، وليت زيدًا منطلق وعمرو، ولعل زيدًا قادم وبشر. وهذا لا يجوز فيه إلا النصب باتفاق من أهل البصرة، ولا يجيزون الرفع على الموضع، ولا على الابتداء والخبر محذوف. وعلة امتناع الحمل على الموضع أن غير (إن) و (لكن) قد غيرت المعنى أو الحكم؛ ألا ترى أن كان زيدًا قائم، وليت زيدًا ذاهب، ولعل زيدًا قادم، ليس شيء منها في معنى الابتداء والخبر، وكذلك "يعجبني أن زيدًا قائم" في معنى: يعجبني قيام زيد، فقد بطل حكم الابتداء، والخبر جملة. وأما امتناع الرفع على الابتداء والخبر محذوف فلأنك لا تحذف إلا ما هو مثبت، وهنا ليس كذلك لأن الجملة خبرها مشبه به أو متمني أو مترجي، والمحذوف ليس فيه شيء من ذلك، فلا يجوز كما لم يجز

"تبًا له وويح" على أن يكون (ويح) مبتدأ محذوف الخبر لدلالة (له) المتقدمة عليه؛ لأن (له) تبيين، وهذا خبر، فلم يوافق المثبت المحذوف. وزعم الأستاذ أبو علي أن ذلك ممتنع من جهة أخرى، وهو أن الجملة التي بعد العطف مخالفة لمعنى الجملة التي قبل العطف من حيث كان الخبر في الجملة الأولى غير ثابت، وفي الثانية ثابت، قال: ولا يجوز عطف الجمل بعضها على بعض حتى تتفق معانيها. وهذا الذي ذهب إليه من أن عطف الجمل مشروط فيه اتفاق المعاني هو مذهب جماعة من النحويين. وليس بصحيح، بل يجوز عطف الجمل بعضها على بعض من غير أن تتفق المعاني، ومن ذلك قول الشاعر: وإن شفائي عبرة إن سفحتها وهل عند رسم دارس من معول وقول الآخر: تناغي غزالًا عند باب ابن عامر وكحل مآقيك الحسام بإثمد وإلى جواز ذلك ذهب س، فأجاز أن تقول: جاءني زيد ومن أخوك، عطف الجملة على الجملة وإن لم يتفق معناهما، فثبت إذا أن المانع من ذلك ما ذكرناه من كون الخبر المثبت ليس في معنى المحذوف. فإن قلت: هلا جاز العطف مع هذه الحروف على موضع الابتداء لأنك قد تقول: ليته زيد قائم، ولعله زيد قائم، وكأنه زيد قائم، وبلغني أنه زيد قائم، فيكون (زبد) في جميع ذلك مبتدأ، ويكون معنى الكلام مع لحاق الضمير كمعناه قبل لحاقه.

فالجواب: أن ذلك لا يسوغ لأنك إن حملت على الموضوع كان العطف من قبيل عطف المفردات، فيكون المعطوف في حكم المفرد، فلا يجوز حمله على الجملة المفسرة بضمير الشأن، وضمير الشأن لا يفسر بالمفرد. وأيضًا فالمعنى مع ضمير الشأن ليس كالمعنى مع عدمه لأنه يؤتى به للتعظيم، وإذا سقط لم يكن في الكلام تعظيم. واستدل الفراء لمذهبه بقول الراجز: يا ليتني وأنت يا لميس في بلدة ليس بها أنيس إلا اليعافير والعيس وبقول الآخر: يا ليتني وهما نخلو بمنزله ... حتى يرى بعضنا بعضًا ونأتلف وهذا خطأ عند البصريين، وهو لا يجوز عندهم في (إن)، فهو في ليت وكأن ولعل أبعد .. وتأولوا هذا البيت على أن التقدير: يا ليتني وأنت معي، فحذف (معي)، وهو خبر/ (أنت)، والجملة حالية واقعة بيت اسم (ليت) وخبرها. ويحتمل أن يكون التقدير: يا ليتني أنا وأنت يا لميس، فيكون (أنا وأنت) مبتدأ، و (في بلدة) خبر، والجملة خبر (ليتني)، كما تأولوا "إنك وزيد ذاهبان" على معنى: إنك أنت وزيد ذاهبان. وعلى مذهب الفراء يخرج قول أبي محمد بن حزم:

كأني وهي والكأس والخمر والدجا حيًا وثري والدر والتبر والسج -[ص: والنعت وعطف البيان والتوكيد كالمنسوق عند الجرمي والزجاج والفراء. وندر: إنهم أجمعون ذاهبون، وإنك وزيدان ذاهبان. وأجاز الكسائي رفع المعطوف على أول مفعولي (ظن) إن خفي إعراب الثاني.]- ش: يعني بقوله (كالمنسوق) أنه إن كان النعت وعطف البيان والتوكيد بعد الخبر جاز الرفع عند الجرمي والزجاج والفراء ويعني بعد (إن) و (لكن)، فتقول: إن زيدًا قائم العاقل، وإن زيدًا قائم نفسه، وإن زيدًا قائم بطنه. وأما قبل الخبر فالذي يقتضيه مذهب الفراء جواز الرفع بشرط خفاء إعراب الاسم، نحو: إن هذا العاقل قائم، وإن هذا أخوك قائم، وإن هذا نفسه قائم. وأما مذهب الجرمي والزجاج فلا يجوز هذا عندهما لأنهما لا يريان العطف بالرفع قبل الخبر، فلا ريان إتباع الاسم بالنعت وعطف البيان والتوكيد. وقال الأستاذ أبو الحسن بن عصفور: "فإن أتبعت إن بتابع غير عطف النسق فالإتباع عند المحققين من أهل البصرة على اللفظ، نحو: إن زيدًا القائم منطلق، وإن زيدًا منطلق القائم، ولا يجوز غيره إلا أن يسمع فيحفظ، ولا يقاس عليه. وأما أهل الكوفة وبعض البصريين فالإتباع عندهم فيما عد (إن) و (لكن) على اللفظ ليس إلا لأنها حروف غيرت معنى الابتداء والخبر وحكمه.

وأما (إن) و (لكن) فإن أتبعت بعد الخبر جاز عندهم النصب على اللفظ، والرفع على المعنى. أو قبل الخبر فعلى مذهب الكسائي يجوز النصب على اللفظ، والرفع على الموضع، قياسًا على ما سمع من قولهم (إنهم أجمعون ذاهبون) بالرفع على موضع إن قبل دخولها. وعلى مذهب الفراء إن كان الاسم مبنيًا جاز النصب على اللفظ، والرفع على الموضع، نحو: إن هذا نفسه ذاهب، وإن كانا معربًا فالنصب على اللفظ ليس إلا، فقاس على قولهم (إنهم أجمعون) ما هو بمثله في البناء) انتهى. وفد تأول "إنهم أجمعون ذاهبون" على حذف المبتدأ، والتقدير: إنهم هم أجمعون ذاهبون، فأجمعون توكيد لقوله (هم) المحذوفة. وينبني جواز هذا التأويل على جواز حذف المؤكد، وفيه خلاف سيذكر في بابه إن شاء الله. وقوله وأجاز الكسائي إلى آخر الباب. مثاله: ظننت زيدًا صديقي وعمرو، هكذا مثل المصنف هذه المسألة. والذي حكاه الفراء عن الكسائي أنه أجاز: أظن عبد الله وزيد قاما/ وأظن عبد الله وزيد يقومان، وأظن عبد الله وزيد مالهما كثير، فيرفع زيدًا في كل ما كان خبره وخبر المنصوب مستويين، وكان لا يجيز: أظن عبد الله وزيد قائمين، ولا: قائمًا؛ لأن الرفع والنصب يستبين في (قائمتين). واحتج الكسائي بأن الخبر في (ظننت) كالمبتدأ إذا كان على هذه الجهات. قال الفراء: وقد ذهب مذهب عالم إلا أني لا أجد بدا إذا قلا "أظن عبد الله وزيد" بموضع رفع أو نصب، ولا أقدر على أن أعطل (يقومان) بغير إعراب ظاهر فيهما ولا مضمر، فإن كان في موضع نصب دخل عليه أن يقول: أظن عبد الله وزيد قائمين، ولا يجوز أن ترفع زيدًا وتنصب خبره، وإن قضيت عليه أنه في موضع رفع قلت: أظن عبد الله

وزيد قائمان، فكان أيضًا خطأ أن تنصب عبد الله وترفع خبره، ورأيته يلزمه ألا يعطف (قائمين) على (يقومان)، فيمنع الكلام مما يجوز فيه، فيمنعني من أن أقول: أظن عبد الله وزيد يقومان وقاعدين، لا برفع ولا بنصب. انتهى كلام الفراء ورده على الكسائي. والقول عند البصريين قول الفراء. واتضح من هذه المسألة أن تصوير المسألة الذي صوره المصنف وتمثيله الذي مثله خطأ، وتصحيحها أن يقول: وأجاز الكسائي رفع المعطوف على أول مفعولي ظن إذا كان المسند إليهما لا يستبين فيه الإعراب. وإذا عطفت الجملة على هذه الحروف ما عملت فيه فلا خلاف في جوازها، نحو: إن زيدًا قائم وعمرو منطلق، وكذا في ليت ولعل وكأن ولكن، لكن لا يكون داخلًا في معناها، فإذا قلت: "ليت زيدًا منطلق وعمرو قائم" لا يكون الانطلاق متمني، لكنه يضعف من جهة عطف غير مناسب. وهذه مسائل من أبواب (إن): الأولى: أجاز الأخفش: إن فيها جالسين أخويك/ بنصب (جالسين) على الحال. قال أبو العباس: وهذا خطأ. قال: ولا اعرفه للأخفش إلا في هذا الكتاب. يعني (الأوسط). وإنما جاز في الظرف لأن الحال في الظرف، فهو أعم. وحكي الكسائي: إن ههنا يلعبون صبيانًا، يجعل (يلعبون) في موضع الحال. قال الكسائي: فقلت لأبي العباس: لم تكره هذا والفعل قبل

اسم (إن) أقبح من الاسم في الحال؟ قال: إنما كرهت ذلك لأن حال المنصوب لا تحسن؛ ألا ترى أنك تقول: ضربت يضحك زيدًا، وبقبح: ضربت ضاحكًا زيدًا؛ لأن الاسم يوهمك أنه مفعول، وهذا يوهمك الحال أنها اسم (إن). وأجاز أبو العباس ذلك على أن (جالسين) اسم (إن) و (أخويك) بدل. وأجاز ذلك الكوفيون على أن يكون (أخويك) ترجمة. والثانية: أجاز ابن كيسان: إن فيها قائمًا ويقعد أخويك. قال: كما أقول: رب رجل وأخيه، فيكون في المعطوف/ ما لا يكون في المعطوف عليه. ومنع الكوفيون، قالوا: لأن (قائمًا) لا يقع موقعه هنا (يقوم)، فامتنع كما امتنع: سوف يقوم وقاعد عبد الله. الثالثة: إذا قدمت الظرف أو المجرور، فقلت: إن فيها زيدًا قائمًا، وإن أمامك عمرًا جالسًا، اختار س والكوفيون النصب في قائم وجالس. فإن بدأت بالاسم، نحو "إن زيد فيها قائم" اختاروا الرفع. وزعم أبو العباس أن التقديم والتأخير في هذا سواء. الرابعة: إذا تكرر الظرف، نحو "إن زيدًا في الدار واقفًا فيها" جاز الرفع والنصب عند البصريين، ولم يجز عند الكوفيين إلا النصب. وحجه البصريين أنك إنما تجيء به مؤكدًا، فأن اختلف فهو يجرى هذا المجرى، نحو: إن عبد الله في الدار جالسًا في صدرها، وجالس، عند البصريين، وهذا زيد في الدار راغبًا في شرائها، كما قال:

والزعفران على ترائبها ... شرقًا به اللبات والنحو والفراء لا يجيز إلا النصب، ويجعل "اللبات والنحر" كأنهما معهما عائدًا على الترائب. قال ابن كيسان: والرفع عندي جائز. وإنما أرادوا: والزعفران على الترائب في حال شروق اللبة والنحر به، وإذا رفع أراد: والزعفران شرق في لبتها ونحرها على الترائب منها، فبين موضع شروقه، كأن موضع النحر واللبه شرق بالغفران على هذا الموضع الآخر، أعني الترائب. الخامسة: أجاز الفراء أن يلي الفعل (ليت) لأنها بمعنى (لو)، فتقول: ليت زيد، وليت خرج عمرو، فلا يكون لها إذ ذاك عمل في شيء، كما أن (لو) لا عمل لها في شيء، وقد جاء في كلام العرب ما يدل على ظاهرة، نحو قوله: فليت دفعت اللهم عني ساعة فبتنا على ما خليت ناعمي بال ولا يجوز ذلك عند البصريين، وتأولوا ما ورد مما ظاهرة ذلك على أنه مما حذف فيه اسم (ليت)، إما على أن يكون ضمير الشأن، وإما على أن يكون ضمير الخطاب، أي: فليت، كما جاز الحذف في قوله: .............. ولكن زنجي عظيم المشافر

أي: ولكنك زنجي السادسة: إذا عطفت على اسم (إن) وأخواتها فالخبر على حسب المتعاطفين، تقول: إن زيدًا وعمرًا قائمان، ولا يجوز (قائم) إلا حيث سمع، نحو قوله: فمن يك سائلًا عني فإني جروة لا ترود ولا تعار وقوله: فمن يك أمسى بالمدينة رحلة فإني وقيارًا بها لغريب ونحو قوله: إن شرخ الشباب والشعر الأسـ ـود ما لم يعاص كان جنونًا / والوجه أن يكون: لا نرود ولا نعار، بالنون، ولغريبان، ما لم يعاصيا. واختلف في تخريج هذه الأبيات: فذهب الفارسي إلى أنهما لتلازمهما أخبر عنهما إخبار الواحد، فجعله من باب قوله: لمن زحلوقة زل ... بها العينان تنهل وقوله:

ولو رضيت يداي بها، وضنت ............... وخرجه أكثر النحويين على أنه من الحذف للدلالة، فحذف الخبر من الأول لدلالة الثانية عليه، فالتقدير: فإني لا أرود، وجروة لا ترود. ولما كان باب الحذف أن يكون من الثاني لدلالة الأول عليه، وكان هذا بالعكس، لم ينقس. وأما الكوفيون فجعلوا مقيسًا على أن تكون الواو عندهم واو (مع)، ولو كانت للعطف للزمت المطابقة من الخبر للمتعاطفين. واستدلوا على ذلك بقول الشاعر: فإنك والكتاب إلى علي كدابغة وقد حلم الأديم ألا ترى أن (كدابغة) لا يكون إلا خبرًا عن الكاف، ولو أخبر عن المتعاطفين لقال: كدابغة ودبغها، فيشبه الكتاب بالدبغة وكتابه بالبدغ، لكنه لما لم يرد بالواو إلا معنى (مع) لم يخبر إلا عن الاسم الأول. قال أصحابنا: ولا حجة في هذا لاحتمال أن يكون من حذف المعطوف، كقولهم: راكب الناقة طليحان، أي: والناقة طليحان. قال بعض أصحابنا: والصحيح أن واو (مع) كالواو العاطفة في

التشريك في الخبر بدليل قول العرب: كأن زيد وعمرًا كالأخوين، فعلى تقدير أن تكون واو (مع) وجبت المطابقة. السابعة: إذا جمعت بين ظرفين تام وناقص وقدمت التام، نحو: إن في الدار عبد لله بك واثقًا، أو إن زيدًا في الدار بك واثقًا، جاز الرفع والنصب. وزعم محمد بن سعدان أن هذا لا يجوز لأن (بك) في صلة (واثق). قال: ولا يجوز: إن فيك زيدًا راغب. وقال ابن كيسان: الرفع الاختيار لأن الحال في تقدير الأسماء، وتمامها يجب أن يكون بعدها، فلما قدمت (بك) - وهو من تمامها- اخترت إخراجها عن الحال لأن تجعلها خبرًا، وكذا: إن زيد في الدار عليك نازل، وفيك راغب. فإن قدمت الناقص، فقلت: إن فيك زيدًا في الدار راغب، أو إن فيك في الدار زيدًا راغب، أو إن زيدًا فيك في الدار راغب، جاز الرفع والنصب. والكوفيون لا يجيزون النصب لأنك حين بدأت بما هو من تمام الخبر قبل الظرف التام صرت كأنك بدأت بالخبر، أي كأنك قلت: إن عبد الله راغب فيك في الدار. وهذا لا يلزم لأن الظرف إنما هو تبيين عن موضع الفعل، فكأنه في تقدمه مؤخر. الثامنة: إن عبد الله في الدار طعامك آكل: أجاز أكثر النحويين

الرفع والنصب/. وقال ابن كيسان: لا يجوز عندي النصب لأن الظرف لاشتماله على الفعل تقديمه كتأخيره، والمفعول عندي إنما هو تمام الفعل كبعض حروفه، فليس هو قبله مثله بعده. التاسعة: إن من خير الناس أو خيرهم زيد: فيها ثلاثة مذاهب: أحدها: ما هذب إليه الكسائي وشيبه بن الوليد، وهو أنه برفع (خيرهم) وبنصب (زيد)، تجعل زيد اسم (إن)، و"من خير الناس" في موضع الخبر، و (خيرهم) مبتدأ محذوف الخبر، التقدير: إن من خير الناس زيدًا أو خيرهم هو. وجوازًا ارتفاع (خيرهم) على أنه خبر مبتدأ محذوف، التقدير: أو هو خيرهم، ففي التقدير الخبر أو المبتدأ محذوف لفهم المعنى، وفصل بين خبر (إن) واسمها بالجملة المعطوفة من الابتداء والخبر، فصار العطف قبل تمام معمول (إن). وفي جواز مثل هذا نظر، وهو من عطف الجمل، ولا جائز أن يكون من الإعمال، ولا من باب عطف المفردات: أما الإعمال فإنه لا يتأتى في الحروف ولا في المعاني لأن (إن) حرف، و"أو خيرهم" مرفوع بالابتداء، فيقال إن (إن) تطلي زيدًا منصوبًا، و"أو خيرهم" يطلبه مرفوعًا بما ذكرناه. وأما كونه من باب عطف المفردات فلا يجوز لأنه إما أن تعطفه على موضع اسم (إن)، وهو زيد، أو على موضع "من خيرهم"، وهو الخبر:

لا جائز أن يكون معطوفًا على موضع اسم (إن) لأنه لم يذكر بعد، إنما جاء اسمها متأخر، فيكون قد عطف على ما أتى بعده، والعطف من التوابع، لا يجوز أن يتقدم على المعطوف (عليه) إلا في الشعر، وبشروط هي مذكورة في موضعها، وليس هذا منها. ولا جائز أن يكون معطوفًا على الخبر الذي هو "من خير الناس" لأنه يلزم من ذلك تقدم الخبر الذي ليس بظرف ولا مجرور على اسم (إن)، وذلك لا يجوز بإجماع. المذهب الثاني: ما ذهب إليه أبو أحمد البلخي، وهو رفع (خيرهم) ورفع (زيد)، فرفع (زبد) على الابتداء، و"من خير الناس" في موضع الخبر، و"أو خيرهم" معطوف على الخبر، واسم (أن) محذوف ضمير الأمر، وحذفه في مثل هذا قليل، حكي الخليل عن العرب "إن بك زيد مأخوذ"، التقدير: إنه من خير الناس أو من خيرهم زيد، والعطف هنا من عطف المفردات لأنه "أو خيرهم" معطوف على الخبر المتقدم. والكلام كله على هذا جملة واحدة، وعلى مذهب الكسائي يكون الكلام جملتين. وهذا المذهب حسن. المذهب الثالث: ما ذهب إليه أبو محمد يحي بن المبارك اليزيدي، وهو نصب (خيرهم) ورفع (زيد)، فاسم (إن) محذوف لفهم المعنى ولدلالة ما بعده عليه، و (خيرهم) منصوب بإضمار (إن) لدلالة (إن)، التقدير: إن من خير الناس زيدًا أو إن من خير زيد، فحذف (زيدًا) لدلالة

(زيد) / الأخير بعده عليه، وحذف اسم (إن) لفهم المعنى جائز، فحذف من الجملة الأولى اسم (إن) للدلالة فيما بعده عليه، وحذف من الجملة الثانية (إن) للدلالة في الجملة الأولى عليها، وكل ذلك جائز، وقد أنشد أبو المطوق الإعرابي مثل هذا التركيب، وهو قول بعض المحدثين: فإن من خيرهم وأفضلهم ... خيرهم بتة أبو كرب فوافق عليها، وأجازها، وكان أبو المطوق ممن تؤخذ عنه العربية لفصاحته. العاشرة: أجاز س: إن زيدًا لفيها قائم، جعل (فيها) ملغاة. وهذا لا يجوز عند الكوفيين لأنها (فيها) لو كانت لغوًا لم تؤكد. والحجة لـ (س) قول العرب: إن زيدًا لبك مأخوذ. الحادية عشرة: أجاز الكسائي: إن بك لكفيلين لأخواك. ومنعه الفراء لأن الاسم مرفوع بالفعل، فلا تحول بينهما اللام. وهو جائز عند البصريين على أن ارتفاع (أخويك) هو على الخبر لـ (إن). الثانية عشرة: المعاني التي جاءت لها الحروف كلها لا تعمل في ظرف ولا حال، ولا يتعلق حرف جر. والدليل على ذلك أنك لو قلت "ليت زيدًا اليوم ذاهب غدًا" لم يجز، وذكر بعض أصحابنا في ذلك الإجماع. وقد نص الزمخشري في (مفصله) على أن ليت ولعل وكأن

ينصبن الحال، بخلاف أخواتها، أما (كأن) فبالاتفاق عليها. وقد علل منع ذلك الفارسي في (الحلبيات) بأنها في دلالتها على المعاني قصد بها غاية الإيجاز، فالألف تغني عن: أستفهم، و (ما) عن: أنفي، و (إن) عن: أؤكد، فلو أعلمت في الظرف والحال، ومكنت تمكين الفعل، لكان نقصًا لما قصد من الإيماء. انتهى. وقال بعض أصحابنا: ليس من الحروف ما يعمل في ظرف أو حال إلا (كأن) وكاف التشبيه، قال: كأنه خارجًا من جنب صفحته ود شرب نسوة عند مفتاد وتقول: كأن زيدً اليوم أسد. والفرق بينهما وبين سائر الحروف أن كل حرف معناه معنى الفعل، فمعناه في نفس المتكلم، فالمتمني هو الناطق بـ (ليت)، والمستفهم هو الناطق بـ (هل)، والفعل بخلافه، معناه مسند إلى ما دخل عليه من الاسم، فإذا قلت "قام زيد" فالقائم (زيد) لا المتكلم، فهذا فرق ما بين الحرف والفعل. وأما (كأن) ففيها دلالة على التشبيه والشبه، فالتشبيه معنى في نفس المتكلم، فمن هذا الوجه هي كسائر الحروف، والشبه مسند إلى (زبد) إذا قلت "كأن زيدًا أسد" أي: أشبه زيد كذا، فشاركت الأفعال من هذا الوجه، فعمل ذلك المعنى الذي/ هو الشبه المسند إلى (زيد) في الحال والظرف، وتعلق به حرف

الجر، وليس ذلك في التمني ولا التأكيد ولا النفي ونحوها، فمن هنا فارقت (كأن) أخواتها، فعملت بلفظها كعمل أخواتها في الأسماء، وعمل معناها في الحال والظرف، وفارقتها أيضًا في وقوعها نعتًا للنكرة حالًا من معرفة وخبرًا لـ (كان) وأخواتها، قال: فبت كأني ساورتني ضئيلة ................ الثالثة عشرة: هل يجوز تعداد خبر هذه الحروف أم لا تقتضي إلا خبرًا واحدًا؟ اختلف في ذلك: فالذي يلوح من مذهب س المنع؛ لأنه يزعم أنك إذا أتيت بالاسمين أتبعت الأول منهما، ثم رفعت الآخر، نحو: إن زيدًا الظريف منطلق، فإن لم تذكر الآخر رفعت، فنسب المنع إليه من حيث لم يذكر رفعهما، وهو الذي يدل عليه القياس، لا يقال: كما يجوز أن يكون للمبتدأ خبران يجوز لهذه الحروف؛ لأنها إنما شبهت بالفعل، فكما لا يقتضي الفعل مرفوعين فكذلك هذه، قيل: مع أنا لم نسمعه في موضع من المواضع فينبغي ألا يجوز. الرابعة عشرة: إن زيدًا وإن عمرًا منطلقان: لا يجوز من جهة أن الخبر إذ ذاك يكوم معمولًا لعاملين، وهو لا يجوز. الخامسة عشرة: أجاز الجمهور: إن زيدًا فيها قائمًا. ومنع ذلك ابن الطراوة لأنك إن جعلته خبرًا فلا اعتنيت به، وجعلته أولًا، ولا أخرته في موضعه جبريًا على مذهبه في منع: ضرب عمرًا زيد. انتهى. كذا هذه المسألة في (شرح أبي الفضل الصفار)، وينظر ذلك في (المقدمات) لابن الطَّراوة.

-[ص: باب (لا) العاملة عمل (إن) إذا لم تكرر (لا)، وقصد خلوص العموم باسم نكرة يليها غير معمول لغيرها، عملت عمل (إن)، إلا أن الاسم إذا لم يكن مضافا ولا شبيها به ركب معها وبني علي ما كان ينصب به، والفتح في نحو (ولا لذات للشيب) أولي من الكسر. ورفع الخبر- إن لم يركب الاسم مع (لا) - بها عند الجميع وكذا مع التركيب على الأصح.]- ش: (لا) علي أربعة أقسام: تكون للنهي، وتختص بالمضارع، نحو: لا تقم. وللدعاء، نحو: لا عذب الله زيدا. وزائدة، نحو {مَا مَنعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ}. ونافية، فتنفي الفعل، ولا عمل لها فيه، وتدخل علي الاسم، فيجوز أن تهمل ويجوز أن تعمل، وإذا أعملت فتارة تعمل عمل (ليس)، فترفع الاسم، وتنصب الخبر، وتقدم ذلك في فصل (ما) بشروطه، وتارة تعمل عمل (إن) بشروطه التي تذكر. فقوله باب (لا) يريد (لا) التي تنفي. وقوله/ العاملة احتراز من التي تهمل. وقوله عمل (إن) احتراز من التي تعمل عمل (ليس). وعملها عمل (إن) هو فرع فرع فرع؛ لأنها حملت على (إن)، فهي فرع، و (إن) حملت علي: ضرب زيدا عمرو، فـ (إن) فرع، و"ضرب زيدا عمرو" فرع

على: ضرب عمرو زيدا. وحمل (لا) علي (ليس) قوى في القياس لأنها نافية مثلها، وإذا جاز قياسها علي (إن) في العمل مع أنها نقيضتها فحملها علي نظيرتها أولي، لكن حمل (لا) علي (إن) في العمل أفصح وأكثر في الاستعمال. فإن قلت: كيف عملت (لا) في الاسم النكرة وليست مختصة إذ تدخل علي الفعل؟ قلت: إذا دخلت علي الاسم النكرة اختصت به إذا كانت للنفي العام، فإذا قلت: "لا رجل في الدار" فقد نفيت القليل والكثير من جنس الرجال، ولذلك لا يجوز: لا رجل في الدار بل رجلان وإنما يجوز ذلك في (لا) غير العاملة. وإذا ثبت أنها في النكرات للنفي العام ثبت أنها ليست الداخلة على الفعل؛ لأنها لا تنفي نفيا عاما بدليل أنك تقول: أنت لا تضرب زيدا ضربه، وأنت لا تضربه ضربتين، فلو كانت لنفي الضرب العام لم يسغ ذلك. ولما اختصت بما دخلت عليه كان القياس أن تعمل جرا، فلم تجر لئلا يتوهم أن الجر بـ (من) المنويه؛ لأنها في حكم الموجودة لظهورها في بعض المواضع، نحو قوله: فقام يذود الناس عنها بسيفه وقال: ألا لا من سبيل إلى هند ولأن عامل الجر لا يستقل كلام به وبمعمولة، ولا يستحق التصدير، و (لا) المذكورة بخلاف ذلك. ولم يكن عملها رفعا لأنه يوهم الرفع بالابتداء، ولئلا تلتبس بما لا يقتضى التنصيص علي العموم، وهو (لا) العاملة عمل (ليس)، فلذلك عملت نصبا. ولما لم تستغن عن جزء ثان عملت رفعا لأنه عمل لا يستغنى بغيره عنه في شيء من الجمل. وأيضا فإعمال (لا) هذه إلحاق لها

بـ (إن) لمشابهتها لها في التصدير والدخول على المبتدأ والخبر. قال المصنف في الشرح: "وإفادة التوكيد، فإن (لا) لتوكيد النفي، و (إن) لتوكيد الإثبات انتهى. وليس كما ذكر من أن (لا) لتوكيد النفي، بل هي لتأسيس النفي إذ لم تدخل علي شيء مثبت، فأكدت ذلك الإثبات. قال المصنف: " ولفظ (لا) مساو للفظ (إن) إذا خففت. وأيضا فإن (لا) تقترن بهمزة الاستفهام، ويراد بها التمني، فيجب إلحاقها بـ (ليت) في العمل، ثم حملت في سائر/ أحوالها علي حالها في التمني" انتهى. وهذا ضعيف لأن غالب أحوالها أنها لا تدخل عليها همزة الاستفهام ويراد بها التمني، بل غالب أحوالها لمجرد النفي، وإذا دخلت عليها الهمزة فقد تبقى على النفي، نحو: ألا طعان، ألا فرسان عادية ................................... ولا تحمل الحال الغالبة علي الحال النادرة، بل الباب في نحو هذا العكس.

وقوله إذا لم تكرر عدم التكرار شرط في وجوب العمل لأنها إذا كررت جاز إلغاؤها وإعمالها، فمن أعملها فلعدم تغير حالها وحال مصحوبها، ومن ألغاها فلشبهها بالمكررة مع المعرفة، فتلك لا تعمل، فكذلك هذه. وقوله وقصد خلوص العموم لأنه إذا لم يقصد خلوص العموم لم تعمل عمل (إن)، بل تعمل عمل (ليس)، أو يرفع ما بعدها بالابتداء، فتحتمل إذ ذاك نفي العموم، ونفي الوحدة، ونفي وصف الرجلة والنجدة، فإذا قلت"لا رجل: كان المعني النفي العام، أي: لا واحد من هذا الجنس ولا أكثر ولا قوي ولا ضعيف، وهي جواب لـ"هل من رجل"؟ وكما أن السؤال يقتضي العموم فكذلك الجواب. وقوله باسم نكرة احتراز من المعرفة، وسيأتي دخولها علي المعرفة وعملها فيه عند ذكر المصنف لذلك إن شاء الله. وقوله يليها احتراز من ألا يليها، وأنها إذ ذاك لا تعمل، نحو قوله تعالي {لا فِيهَا غَوْلٌ}. وفي (البسيط): شرط بنائها ألا يفصل بينها وبين (لا) بشيء، فغن فصلت رفعت وكررت، قال س: وإنما كان ذلك لوجهين: أحدهما: أنه صار بمنزلة خمسة عشر، فامتنع كما امتنع فيه. والثاني: أنه محمول علي السؤال، وأنت لا تقول فيه: هل من فيها رجل. وذهب الرماني إلى أنه يجوز الفصل، ويرجع على النصب والعمل، ويبطل البناء لحصول الفصل، ويكون جوابا لمن قال: هل فيها من رجل؟

ويدل عليه قولهم: لا كذلك رجلا، ولا كزيد رجلا، و: ............. لا كالعشية زائرا .................. أما الأول فعلى التمييز، كما تقول: لا مثله رجلا، والمنصوب بـ (لا) محذوف، أي: لا أحد كذلك رجلا، أو يكون محمولا علي المحذوف. وأما الثاني فقال س: "علي معنى: لا أرى كالعشية زائرا، كما تقول: ما رأيت كاليوم رجلا" أي: ما رأيت رجلا كرجل رأيته اليوم. وقوله غير معمول لغيرها احتراز من نحز قوله تعالي {لا مَرْحَبًا بِهِمْ}، ولا يحتاج إلى احتراز من هذا ولا إلى ذكره؛ لأن {مَرْحَبًا} لم يل (لا) إلا في اللفظ؛ ألا ترى أنه منصوب بفعل محذوف، فالذي ولي (لا) غنما هو ذلك الفعل المحذوف لا هذا الاسم النكرة. ولأنه أيضا قد/خرج مثل هذا بقوله"وقصد خلوص العموم باسم نكرة"، وفي قوله {لا مَرْحَبًا} لم يقصد ذلك باسم نكرة، فلا يحتاج على أن يحترز منه لأنه لم يندرج فيما قبله لما ذكرناه. وقوله عمل (إن) زاد غير المصنف شرطا آخر، وهو ألا تقع بين عامل ومعمول، نحو قولك: جئت بلا زاد؛ لأنها لك تكرر، وقصد بها قصد العموم بنكرة وليت (لا)، ومنع ذلك لا تعمل عمل (إن).

وقوله إلا أن الاسم إذا لم يكن مضافا ولا شبيها به ركب معها فالمضاف نحو: لا صاحب بر مذموم، والشبيه به نحو: لا راغبا في الشر محمود، منصوبان نصبا صريحا، والشبيه بالمضاف يسمى في الاصطلاح المطوَّل والممطول، من قولهم: مطلت الحديدة، أي: مددتها. والمطول في هذا الباب هو الاسم الذي يعمل فيما بعده عمل الفعل. فإذا لم يكن مضافا ولا شبيها به فهو المسمي عندهم بالمفرد، والمفرد في هذا الباب وباب النداء هو قسيم المضاف والمطول إذ المفرد يقال باصطلاحات. وفي وقول المصنف: ركب معها دليل علي البناء، وقد ذكره بعد، فإذا قلت"لا رجل" فهذه الحركة فيها، وسيأتي الكلام مع من ذكر أنها حركه إعراب عند تعرض المصنف لذلك. وذهب أكثر البصريين الأخفش والمازني والمبرد والفارسي إلى أنها حركة بناس، واختلفوا في موجب البناء: فقيل: بنيت لتضمنها معنى (من)، كأن قائلا قال: هل من رجل في الدار؟ فقال مجيبه: لا رجل في الدار، ولأن (لا) نفي عام فينبغي أن تكون جوايا لسؤال عام، ولذلك صرح بـ (من) في بعض المواضع، وصححه ابن عصفور. وقال شيخنا الأستاذ أبو الحسن بن الضائع:"كان يصح ما ذكر لو كان الاسم بعد (لا) هو المتضمن معنى الحرف، وليس كذلك. فيقال

له: (لا) هي المتضمنة معني (من) لا الاسم، فلا موجب لبناء الاسم، هذا إذا سلم أن الاستغراق في (لا) لنيابتها مناب (من)، بل قد قال السيرافي: إن (لا) لا تقتضي في النفي عموم النفي" وقيل: بني لتركبه مع (لا)، وصارا كالشيء الواحد مثل خمسة عشر. قال ابن عصفور:"والصحيح الأول لان ما بني من الأسماء لتضمنه معني الحرف أكثر مما بني لتركيبه مع الحرف، نحو قوله: أثور ما أصيدكم أم ثورين ... أم هذه الجماء ذات القرنين وقال ابن هشام:" ويقوي البناء للتركيب بناء الاسم مع صفته، على ما سيأتي" وهو ظاهر كلام س. وقال ابن هشام:"مذهب س والجماعة إن العرب ركبت (لا) مع الاسم، وجعلتها كلمه واحدة، فبنوا الاسم للتركيب كخمسة عشر. ودليل ذلك/ أنه فصل بينهما أعربوا الاسم، نحو: لا في الدار رجل ولا امرأة، وأن قوما من أهل الحجاز يقولون (لا رجل أفضل من زيد) في التزام التنكير وترك تقديم الخبر وعدم الفصل، وأن المعنى استغراق

الجنس وقد أعربوا، لكنهم لم يعتقدوا التركيب وفيها معنى (من) في هذه المواضع كلها لأنها تعطي الاستغراق" انتهى. وزعم بعضهم أنه بني لتضمنه اللام التي لاستغراق الجنس. وهو فاسد بوصفه بالنكرة، ولو كان علي ما زعم لوصف بالمعرفة، كما قالوا: لقيته أمس الدابر. وقوله وبني علي ما كان ينصب به يعني أنه عن كان مما ينصب بالفتحة بني على الفتحة، نحو: لا رجل في الدار، أو مما ينصب علي الياء بني عليها نحو المثنى، تقول: لا رجلين فيها، قال الشاعر: تعز، فلا إلفين بالعيش ... متعا ولكن لوراد المنون تتابع ونحو المجموع جمع سلامة، تقول: لا مساعدين لك، وقال الشاعر: يحشر الناس لا بنين ولا آباء إلا وقد عنتهم شؤون وقوله والفتح في نحو (ولا لذات للشيب) أولى من الكسر يعني أن ما جمع بالألف والتاء المزيدتين لا يتعين أن يبني مع (لا) علي ما ينصب به -وهو الكسرة- بل يجوز فيه أن يبني علي الفتح، وهو أولي من الكسر. وقوله (ولا لذات للشيب) قطعة من بيت لسلامة بن جندل، وقد أنشده المصنف:

إن الشباب الذي مجد عواقبة ... فيه نلذ، ولا لذات للشيب وقال:"يروى بكسر التاء وفتحها، والفتح أشهر". ورواه غيره: أودى الشباب الذي مجد عواقبه ........... "وبالوجهين أيضا أنشد قول الآخر: لا سابغات ولا جأواء باسلة ... تقي المنون لدي استيفاء آجال وإذا ثبت عن العرب البناء علي الفتح وعلي الكسر ظهر بطلان قول من أوجب البناء علي الفتحة وقول من أوجب البناء علي الكسر. وفرع بعض أصحابنا الفتح والكسر علي الخلاف في حركة" لا رجل"، فمن قال إنها حركة إعراب قال هنا"لا لذات" بالكسر، ومن قال هي حركة بناء: فالذي يقول إنه يبنى بجعله مع (لا) كالشيء الواحد قال"لا لذات" بالفتح، ولا يجوز عنده الكسر لأن الحركة ليست عنده لـ (لذات) خاصة، إنما هي لـ (لذات) و (لا). والذي يقول يبني لتضمنه معنى الحرف يقول في النصب"لا لذات" بالكسر. وحجته إن المبنى مع (لا) قد أشبه المعرب المنصوب، ولذلك نعت علي اللفظ، فكما الجمع بالألف والتاء في/حال النصب مكسور، فكذلك مع (لا)، وهو

الصحيح. قال هذا القائل:"وبه ورد السماع". ثم أنشد بيت ابن جندل، ونسبه لابن مقبل، وهو: ................... ........ ولا لذات للشيب قال:"فإنه روي بكسر التاء". وقال شيخنا أبو الحسن الضائع: "القياس يقتضى أن يبنى علي الكسر، ولابد؛ لأن هذا الجمع يفتح آخره معربا كان أو مبنيا، ولذلك زعم النحويون أن من قال (هيهاة) فبناه علي الفتح فهو عنده مفرد، تقلب تاؤه هاء في الوقف علي اللغة الفصيحة، ويقوي ذلك أن ها الجمع يجري مجري جمع المذكر السالم، فكما يقال: لا زيدين، فيكون بناؤه علي صيغة المنصوب كذلك يبنى جمع المؤنث السالم علي اللفظ المنصوب" انتهى. وقال أبو الحكم بن عذره: "اختلفوا في جمع المؤنث السالم: فمنهم من قال: يحكم له في حال البناء بما حكم له في الإعراب، فيجعل فتحه بالكسر كما كان نصبة، وهو قول الأكثر. وقال المازني والفارسي: ينبغي أن يفتح، فيقال: لا ورقات لك. قالا: لأن الحركة في حال الإعراب كانت للورقات نفسها، وهى الآن لمجموع المركب (لا) والاسم المنفي، وحركة المركبين الفتح. فأما س: فلا نص له علي أحد المذهبين أصلا. وما ذهب إليه المازني قياس جيد" انتهى.

ولما ورد الأستاذ أبو الحسن بن خروف الجزيرة الخضراء سأل طلبتها المشتغلين بالنحو، واستنهض منهم الأستاذ أبا عبد الله بن هشام الخضراوي، فقال: كيف تقول: لا مسلمات لك؟ قال: فقلت: أقول: لا مسلمات، بالخفض والتنوين؛ لأن هذه النون كنون (صالحين) بدليل {مِّنْ عَرَفَاتٍ} و: ............ أذرعات ........................ بالكسر والتنوين، فكما أقول "لا مسلمين لك" أقول "لا مسلمات". فقال ابن خروف: بهذا أجبت، وهو الحق. واعترض ابن هشام هذا، وقال: "لم أر هذا التنوين يثبت حيث يحذف غيره إلا هنا، ورأيته يحذف في النداء في: يا مسلمات، كما تقول: يا زيد، وأنت تقول: يا مسلمون، فتثبت النون، وتحذفه مع اللام، فتقول (المسلمات) كما تقول (الرجل)، وفي الوقف إذا قلت: جاءني مسلمات، وتقول (المسلمون) في الوصل والوقف، فقد رأينا هذه النون تنوينًا لا يخالف غيره إلا في هذا الموضع، فإذا جهلنا السماع في موضع ما حملناه على الأكثر، وقد جرى هذا التنوين مجرى غيره في كل موضع، فكما أجريته مجرى نون (رجل) في كل ما ذكرته، فكذلك تجريه هنا، فتقول: لا مسلمات، كما تقول: لا رجل، وتبنيه على الكسر لأنه نظير الفتح هنا، وهو علامة النصب، فيكون علامة للبناء، كما قال س/ في هيهات: من قاله بالفتح فهو مفرد مبني على الفتح، ومن قال بالكسر فجمع هيهاة، بناه على الكسر لأن الكسر في الجمع نظير الفتح في المفرد" انتهى. وقد اعتذر ابن هشام عن صرف (عرفات) بما يوقف عليه من كلامه.

وقال أبو علي: من يعتقد الإعراب في "لا رجل" قال "لا مسلماتِ لك" بحذف التنوين، وكانت الكسرة عنده علامة نصب، ومن بني بناها على الكسر لأن الكسرة هنا نظير الفتحة، واللفظ واحد، والحكم مختلف. وقال ابن جني في الخصائص: "لم يجز أصحابنا فتح هذه التاء إلا شيئًا قاسه أبو عثمان، فقال: أقول (لا مسلمات) بفتح التاء؛ لأن الفتحة الآن ليست لـ (مسلمات) وحدها، وإنما هي لها ولـ (لا) قبلها، وإنما يمتنع من فتح التاء ما دامت الحركة لها وحدها، فإذا كنت لها ولغيرها فقد زال طريق الحصر الذي كان عليها، فأقول (لا هيهات لك) بفتح التاء". وقال أبو الفتح: "وغيره [يقول]: لا هيهات لك، بالكسر على كل حال بلا تنوين" انتهى. وتلخص في "لا مسلمات" أربعة مذاهب: أحدها: الكسر والتنوين، وهو مذهب ابن خروف، وقد سبقه إلى ذلك قوم من النحويين، قاله ابن الدهان في (الغرة). والثاني: الكسر بلا تنوين، وهو مذهب الأكثرين. والثالث: الفتح، وهو مذهب المازني والفارسي. والرابع: جواز الكسر والفتح من غير تنوين في الحالين، وهو الصحيح إذ ورد به السماع، أعني الكسر والفتح من غير تنوين فيهما، ولو كانوا وقفوا على السماع ما اختلفوا.

وفي (البسيط) ما ملخصه: إن كان جمعًا على أصله لم يسم به ولم يضف بني على حركة إعرابه، وهي الكسرة. وقيل: ينبغي أن يفتح لأنه بناء للتركيب، فالحكم له لأنه حادث، وسببه (لا)؛ ألا تراه يشبه الإعراب، فيحمل على لفظه، وهذا البناء يكون على الفتح كخمسة عشر، فالحكم لهذا الحادث، وتلغى حالة الأصل، وبع قال الرماني والصقلي من المتأخرين. وقال ابن جني: "الكسر هو الوجه عند النحويين، وإنما قال ذلك بعضهم قياسًا". وإن أضيف لفظًا أو تقديرًا، نحو "لا مسلمات زيد" أو "لا مسلمات لك" كسر على الأصل لأنه معرب اتفاقًا. فإن ركبته مع اسم آخر، فقلت "لا سرح مسلمات"، وتقدم الاسم على الجمع، فعلى رأي الصقلي تفتح التاء لأن هذه فتحة لبناء التركيب، فالحكم له. وعلى قياس الأكثر تكسر عملًا بالأصل. وقد يقال: القياس يقتضي التنوين إذا كان للمقابلة لأنه نظير النون في الجمع، وأنت تقول: لا زيدين، فتبنيه على الياء لأنه للنصب،/ ويثبت التنوين، فكذلك الكسرة والتنوين. وربما قال به ابن خروف فيما حكي عنه بعض الأشياخ. فإن كان علمًا فعلى من جعل الإعراب في النون في الجمع حذف التنوين وفتح، فقال: لا مسلماتَ، وعلى من جعل الإعراب بالحروف كسر التاء، وحذف التنوين، وعلى قياس قول الرماني الفتح مطلقًا، وكذا على قول من لا يلاحظ التركيب الحادث، يكسر ليس إلا. وقوله ورفع الخبر -إن لك يركب الاسم مع لا- بها عند الجميع مثال ذلك: لا آمرًا بمعروف مذموم، ولا صاحب خبث مأمون، فرفع (مذموم) و (مأمون) هو بنفس (لا)، عملت في الاسم النصب وفي الخبر

الرفع. وذكر الأستاذ أبو علي الشلوبين أنه لا خلاف في رفع الخبر بها عند عدم تركيبها. والخبر في هذا الباب لا يكون إلا نكرة؛ لأنه إن كان معرفة أدى ذلك إلى الإخبار بالمعرفة عن النكرة، وذلك لا يجوز، وجاز ذلك على قلة في (إن) لأنها أقوى في العمل من (لا)، فعلى هذا لا يجوز: لا كريم أنت، ولا فاضل زيد، فأما ما حكاه الأخفش عن العرب من قولهم "لا موضع صدقة أنت" فـ (موضع) منصوب على الظرف لا على أنه اسم (لا)، وأنت: مبتدأ، وكان ينبغي تكرارها، لكنهم لم يكرروها لأن ذلك جرى في الكلام مجرى المثل، قاله المازني، والأمثال لا تغير؛ ألا ترى أنهم يقولون "وريت بك زنادي" لأنه مثل، ولا يقولون في الكلام إلا: ورت الزناد تري. وقوله وكذا مع التركيب على الأصح هذا الذي اختاره المصنف هو مذهب الأخفش والمازني وأبي العباس وجماعة، ذهبوا إلى أن (لا) هي العاملة في الخبر الرفع إجراء لها مجرى (إن)، وأنه يجوز أن تقول: لا رجل في الدار وامرأة، فتعطف على الموضع، كما يجوز أن تقول: إن زيدًا قائم وعمرو، فتعطف على الموضع.

واعترض على هذا المذهب بأن الحرف الذي ينصب الاسم ويرفع الخبر إذا غير معنى الكلام الذي دخل عليه لم يجز الحمل فيه على الموضع، ولذلك لم يجز في ليت ولعل وكأن، فكان ينبغي على هذا ألا يجوز العطف على الموضع مع (لا) لأنها غيرت معنى ما دخلت عليه من الإيجاب إلى النفي. فأجاب السيرافي عن ذلك بأن قال: (لا) حدث فيما دخلت عليه معنى النفي، ومعنى النفي لا يناقض الابتداء لأن حروف النفي يجوز دخولها على الابتداء، نحو قولك: لا رجل في الدرار ولا امرأة، وليست لعل وليت وكأن كذلك؛ لأنها لا يقع بعدها المبتدأ في شيء من كلامهم. وذهب/ غيره من النحويين إلا أنها لم تعمل في الخبر شيئًا، بل النكرة مع (لا) العاملة فيها في موضع رفع على الابتداء، والاسم المرفوع بعدها خبر للابتداء، كما أن النكرة مع (من) في قولك "هل من رجل قائم" في موضع رفع على الابتداء، والاسم المرفوع بعدهما خبر للمبتدأ. وهذا المذهب الأخير هو الظاهر من كلام س، وهو الصحيح. والدليل على ذلك أنه يجوز أن تحمل جميع توابعها على الموضع قبل أن تأتي بالخبر، كما يجوز أن تحمل توابع النكرة المجرورة بـ (من) في قولك "هل من رجل في الدار" على الموضع قبل الخبر، فتقول: لا رجل عاقل في الدار، ولا رجل وامرأة في الدار، كما تقول: هل من رجل عاقل في الدار؟ وهل من رجل وامرأة في الدار؟ فلولا أنهما مع (لا) محكوم لهما

بحكم اسم مبتدأ جاز الحمل على الموضع قبل الخبر، كما لم يجز الحمل على موضع (إن) قبل الخبر، بل من أجاز ذلك من البصريين في باب (إن) إنما يجيزه بعد الخبر. وثمرة الخلاف تظهر في نحو قولك: لا رجل ولا امرأة قائمان، فعلى مذهب الأخفش لا يجوز ذلك لأنه يؤدي إلى إعمال عاملين في معمول واحد، بيان ذلك: تقول: لا رجل في الدار، فالعامل عنده في الخبر (لا)، بمنزلة الخبر في (إن)، فإذا قلت "لا رجل ولا امرأة عاقلان" لزم أن يكون (عاقلان) يعمل فيه عاملان: (لا) من حيث هو خبر اسمها، وتعمل فيه (امرأة) من حيث هو خبرها، ولا يجوز ذلك. وعلى المذهب الآخر يجوز لأنهما اسمان مبتدآن معطوف أحدهما على الآخر، كما تقول: زيد وعمرو قائمان. وأما إذا كان الخبر مما يصلح أن يكون لأحدهما، نحو قول الشاعر: فلا لغو ولا تأثيم فيهما ......................... فـ (فيها) خبر عن الاسمين على ظاهر قول س، وخبر عن

أحدهما، وخبر الآخر محذوف على قول أبي الحسن. وقال المصنف في الشرح ما نصه: "وغير ما ذهب إليه س أولى لأن كل ما استحقت (لا) به العمل من المناسبات السابق ذكرها باق، فليبق ما ثبت بسببه، ولا يضر التركيب كما لم يضر (أن) صيرورتها بفتح الهمزة مع معمولها كشيء واحد، ولو كان جعل (لا) مع اسمها كشيء واحد مانعها من العمل في الخبر لمنعها من العمل في الاسم؛ لأن أحد جزأي الكلمة لا يعمل في الآخر، ولا خلاف في أن التركيب لم يمنع عملها في الاسم، فلا يمنع عملها في الخبر. وأيضًا فإن عمل (لا) في الخبر أولى من عملها في الاسم؛ لأن تأثيرها في معناه أشد من تأثيرها في معنى الاسم، والإعراب إنما جيء به في الأصل للدلالة على المعنى الحادث في العامل. وإنما لم يكن خلاف في ارتفاع الخبر بـ (لا) غير المركبة لأنه مانع التركيب هو كون الاسم مضافًا أو/ شبيهًا به، وكلاهما صالح للابتداء مجردًا عن (لا)، كما أن اسم (إن) صالح للابتداء به مجردًا عن (إن)، وليس كذلك مصحوب (لا) المركب، فإن تجرده من (لا) يبطل الابتداء به لأنه نكرة لا مسوغ لها، فإذا اقترنت بـ (لا) كانت بمنزلة نكرة ابتدئ بها لاعتمادها على نفي" انتهى ما رجح به المصنف ما اختاره من مذهب الأخفش، وتقدم بطلانه. وفي (الغرة): وقياس الكوفي أن يكون الخبر مرفوعًا بخبر الابتداء ظهر العمل في الاسم أو لم يظهر، كما يقول الكوفي ذلك في (إن).

وما ذهب إليه معظم النحويين من أن النكرة المبنية مع (لا) في موضع نصب بها نظير قولهم "يا بن أم"، و"يا بن عم"، فإنهم زعموا أنهما بنيا، وجعلا بمنزلة اسم واحد، وزعموا أن (عم) في موضع خفض بالإضافة، كما أن موضع الاسم النكرة نصب بـ (لا). وهذا في كلتا المسألتين مشكل جدًا، وذلك أنهما من حيث التركيب صار كل منهما كجزء كلمة، وجزء الكلمة لا يعمل في الجزء الآخر، ومن حيث العمل لا يكون كجزء كلمة، فتدافعا. ولهذا الإشكال -والله أعلم- زعم بعضهم أن حركته حركة إعراب لا حركة بناء، وسيأتي ذكر هذا المذهب، وإنما اضطروا إلى دعوى العمل لأنهم وجدوا هذه النكرة تتبع قبل الخبر رفعًا ونصبًا، فتقول: لا رجل وامرأة عندك، وسيأتي الكلام في ذلك إن شاء الله. وليسوا مضطرين إلى دعوى ذلك في "يا بن أم"، و"يا بن عم"؛ إذ يجوز ألا يكونا مركبين، بل يكونان متضايفين، والأصل: يا بن أما، ويا بن عما، وقد سمع ذلك، وحذف الألف المنقلبة عن ياء الإضافة، واجتزئ بالفتحة عنها، وسيأتي تحرير ذلك في باب النداء إن شاء الله تعالى. ص: وإذا علم كثر حذفه عند الحجازيين، ولم يلفظ به عند التميميين، وربما أبقي وحذف الاسم. ولا عمل لـ (لا) في لفظ المثنى من نحو: لا رجلين فيها، خلافًا للمبرد. وليست الفتحة في نحو (لا أحد فيها) إعرابية، خلافًا للزجاج

والسيرافي. ودخول الباء على (لا) يمنع التركيب غالبًا، وربما ركبت النكرة مع (لا) الزائدة. ش: قوله وإذا علم احتراز من ألا يعلم، ولا يدل عليه دليل، فلو قلت "لا رجل" في ابتداء الكلام، ولا دليل على حذف الخبر لا من لفظ سابق ولا من قرينة حالية، لم يكن كلامًا، بل يجب إثبات الخبر كقوله "لا أحد أغير من الله"، وقال الشاعر: ورد جازرهم حرفًا مصرمة ولا كريم من الولدان مصبوح فـ (مصبوح) عن س خبر. وزعم ابن الطراوة أنه يمكن أن يكون صفة، والخبر محذوف، أي: ولا كريم مصبوح في الوجود. ورد عليه بأن الشاعر إنما يصف عامهم بالمحل/، أي: ورد جازرهم حرفًا، أي: ناقة كالحرف، لضمورها تشبه بالنون، ومصرمة: صيرها مصرمة الأخلاف ضنانة باللبن لئلا يرضعها الفصيل إن كان فيها لبن، ثم قال: ولا كريم مصبوح، أي: ليس من كريم مصبوح، أي: ليس من كريم من يصبح، أي: يسقى اللبن في الصباح؛ لأنه ليس ثم لبن، فإذا كان كريم الولدان ذو المال والرفه لا يصبح فما ظنك بمن ليس بكريم، فإنما نفي أن يصبح الكريم، والنفس إنما يتوجه على الخبر.

والذي قال ابن الطراوة يكون معناه: ليس في الوجود كريم مصبوح، فالمنفي هو "في الوجود" لا المصبوح إذ الصفة لا تنفي، ولو قلت "ما زيد العاقل قائم" كان نفيًا للقيام لا لزيد العاقل، وكذلك الكريم المصبوح ليس في الوجود، بل مات، فكأنه قال: الكرام المصبوحون فقدوا، أي: كان ثم كران مصبوحون وفقدوا. وليس هذا مقصد الشاعر، إنما يريد أن كريم الولدان من هؤلاء القوم لا يصبح وإن كان يبقي عليه ويشفق لصغره. انتهى. فإذا علم بدلالة لفظ سابق أو قرينة حالية كثر حذفه عند الحجازيين، سواء أكان ظرفًا أم مجرورًا أم غير ذلك، وأكثر ما يحذفه الحجازيون مع (إلا)، نحو {لا إلَهَ إلاَّ اللَّهُ}. ومن حذفه دون (إلا) قوله {لا ضَيْرَ}، {فَلا فَوْتَ}، "لا ضرر ولا ضرار"، و"لا عدوى ولا طيرة". ومن حذفه للقرينة قولك للمريض: لا بأس، أي: لا بأس عليك. وإنما كثر الحذف في الخبر بعد (لا) هذه لأمرين: أحدهما: أنها مشبهة في العمل بـ (إن)، وخبر (إن) النكرة يكثر حذفه. والآخر: أن (لا) وما دخلت عليه جواب استفهام عام، والأجوبة

يقع فيها الحذف والاختصار كثيرًا، ولذلك يكتفون بـ (لا)، وبـ (نعم) في الجواب، ويحذفون الجملة رأسًا بعدهما. وقوله ولم يلفظ به عند التميميين ظاهر هذا أنه إذا علم الخبر لا يثبته التميميون مطلقًا، سواء أكان ظرفًا أم مجرورًا أم غيرهما. وقال في الشرح: "لا يلفظ به التميميون ولا الطائيون، بل الحذف عندهم واجب بشرط ظهور المعنى". قال: "ومن نسب إليهم التزام الحذف مطلقًا -يشير إلى الزمخشري- أو بشرط كونه ظرفًا -يشير إلى الجزولي- فليس بمصيب" انتهى. وقال الأستاذ أبو الحسن بن عصفور: "بنو تميم يلتزمون حذفه إذا كان اسمًا يظهر فيه الرفع". وقال في مكان آخر: "والخبر لا يخلو أن يكون ظرفًا أو مجرورًا أو غير ذلك، فإن كان ظرفًا أو مجرورًا جاز لك فيه وجهان: إن شئت حذفته، وإن شئت أثبتته. وإن كان غير ذلك فبنو تميم يلتزمون الحذف، وأهل الحجاز يجيزون الحذف والإثبات". فما ذكره/ ابن عصفور مخالف لما ذكره المصنف؛ لأن المصنف ذكر أن بني تميم يلتزمون الحذف مطلقًا إذا علم، وابن عصفور ذكر أنهم لا يلتزمون حذفه إلا إذا كان غير ظرف ولا مجرور. وفي كتاب "البديع) ما يوافق كلام المصنف، قال فيه: "أهل الحجاز يظهرون خبر (لا)، فيقولون: لا رجل أفضل منك، ويحذفونه كثيرًا، فيقولون: لا أهل، ولا مال، ولا بأس، أي: لك، وعليك، وبنو تميم لا يثبتونه أصلًا".

وقال س: "والذي بني عليه في زمان أو مكان، ولكنك تضمره، وإن شئت أظهرته: لا رجل، ولا شيء، تريد: لا رجل في مكان، ولا شيء في زمان. والدليل على أن لا رجل في موضع اسم مبتدأ قول العرب من أهل الحجاز: لا رجل أفضل منك، كأنه قال: ما رجل أفضل منك، وهل من رجل خير منك؟ كأنه قال: هل رجل خير منك" انتهى. وشرحه أصحابنا، فقالوا: يريد أن الخبر لهذا المبتدأ في السؤال أو الجواب يكون زمانًا أو مكانًا، أضمرته أو أظهرته، بحسب المبتدأ المنفي أو المسؤول عنه، إذ قد يكون شخصًا وغيره، وقد يكون الخبر غير طرف بدليل قول س بعد "لا رجل أفضل منك"، وإنما اقتصر أولًا على ذلك لأنه الأكثر، ولأن الكلام عليه أدل. وقول س "ولكنك تضمره" يعني في جميع اللغات. وقوله "وإن شئت أظهرته" يعني في لغة أهل الحجاز. ثم استدل على أنه في الموضعين مرفوع بظهور الخبر مرفوعًا، ومراده هنا أن يستدل على أن الاسم بعد (لا) ليس في موضع رفع بـ (لا) على لغة من يقول: ................................ ........................ لا براح وقال "في لغة بني تميم" لأنهم لا يظهرون الخبر، فصار الأمر محتملًا أن يكون مرفوعًا بـ (لا)، والخبر محذوف. وللخصم أن يقول: لو ظهر عندهم لكان منصوبًا، فاستدل بظهوره

في لغة أهل الحجاز. ووجه الدليل من ذلك أن بني تميم لم يعملوا (ما) البتة، وهي أقوى من (لا)، وإنما أعملها الحجازيون، وإذا كان أهل الحجاز يقولون "لا رجل أفضل منك" بالرفع وإبطال عمل (لا) فيما بعدها الرفع إذ لم ينصب بعدها الخبر فأحرى التميمي الذي لا يعمل بوجه ألا يعمل (لا) التي هي أضعف. وفي (الغرة): بنو تميم كثيرًا ما يحذفون الخبر، وأهل الحجاز يظهرونه، وكذا السيرافي في تأويل ما قال س. ومن حذف الخبر قولهم: لا أهل، ولا مال، ولا بأس، و"لا فتى إلا علي، ولا سيف إلا ذو الفقار"، وكل العرب يقول {لا إلَهَ إلاَّ اللَّهُ}، ولا حول ولا قوة إلا بالله، يضمرون: في الدنيا، أو: لنا، أو: في الوجود، وما أشبه ذلك في المعنى. ويجوز في ذي الفقار ونحوه الرفع على البدل/ من الموضع -وسيأتي الكلام في ذلك في باب الاستثناء- وعلى الصفة، ويجوز النصب على الاستثناء، فتقول: إلا ذا الفقار، وإلا اللهَ، بالنصب. ولا يجوز فيها كان معرفة نحو "إلا ذو الفقار" حالة الرفع أن يكون خبرًا لأنه معرفة، واسم (لا) نكرة، ولا خبر عن النكرة بالمعرفة، ولأن (لا) لا تعمل في المعارف، ولا تعمل في الموجب إذا فرعنا على قول من يقول إنها ترفع الخبر. وزعم أبو عمر الجرمي في (الفرخ) أنه لا يصح في {لا إلَهَ إلاَّ

اللَّهُ} إلا الرفع، قال: لأنه لم يتم الكلام، وكأنك قلت: الله إله، وزيد رجل، وهذا غير بين؛ لأن الكلام تام بالإضمار، وقد ذكر س "لا أحد فيها إلا زيدًا" بالنصب، وأجاز ذلك في قول الشاعر: .................... ولا أمر للمعصي إلا مضيعا وبلا شك أن الكلام تام. وما جاز فيه الإتباع جاز فيه النصب. وقوله وربما أبقي، وحذف الاسم أي: أبقي الخبر. قال س: "ونظير (لا كزيد) في حذفهم الاسم قولهم: لا عليك، وإنما يريد: لا بأس عليك، ولا شيء عليك، ولكنه حذف لكثرة استعمالهم إياه". وقال أيضًا س: "وتقول: لا كالعشية عشية، ولا كزيد رجل؛ لأن الآخر هو الأول، ولأن زيدًا رجل، وصار (لا كزيد) كأنك قلت: لا أحد كزيد، ثم قلت: رجل، كما تقول: لا مال له، ثم تقول: قليل ولا كثير، على الموضع، قال امرؤ القيس:

ويلمها في هواء الجو طالبة ولا كهذا الذي في الأرض مطلوب كأنه قال: ولا شيء كهذا، ورفع على ما ذكرت لك" انتهى. وإنما قل حذف اسم (لا) لأن (لا) قد تنزلت من النكرة منزلة (من) منها في السؤال، فكما لا يجوز حذف النكرة وإبقاء (من) فكذلك لا يجوز حذف النكرة وإبقاء (لا)، بل ما سمع من ذلك حفظ، ولم يقس عليه. وقوله ولا عمل لـ (لا) في لفظ المثنى من نحو (لا رجلين فيها)، خلافًا للمبرد في عبارة المصنف قصور لأنه قصر هذا الحكم على المثنى، والخلاف في الجمع الذي على حد التثنية كالخلاف في التثنية، فنقول: اختلفوا فيهما: فذهب المبرد إلى أنه لا يجوز أن يبنيا مع (لا). واستدل على ذلك بأنهما لم يجعلا مع ما قبلهما اسمًا واحدًا، ولا وجد ذلك في كلامهم كما لم يوجد المضاف ولا الموصول مع ما قبله بمنزلة اسم واحد، وإذا لم يجعلا معها بمنزلة اسم واحد كانا معربين بعدها. ولم يجز عنده في نعتهما إلا وجهان: النصب على اللفظ، والرفع على الموضع. وذهب س والخليل وأبو بكر وأبو إسحاق الفارسي وابن جني والجماعة إلى أنهما مبنيان مع (لا). واستدل الفارسي على ذلك

في (الحلبيات)، فقال: "قولك لا يدين بها لك بمنزلة لا رجل لك، و {لا قُوَّةَ إلاَّ/ بِاللَّهِ}؛ ألا ترى أنه ليس مضافًا إلى شيء، وإذا لم يكن مضافًا كان في حكم الأسماء المفردة المبنية على الفتح في هذا الباب، وكون حرف التثنية فيه لا يمنه من بنائه مع (لا) وجعله معها بمنزلة اسم واحد؛ ألا ترى أن حرف التثنية ليس بشيء مضاف إليه كـ (رجل) من قولك: لا غلام رجل، وإنما هو بمنزلة تاء التأنيث وألفيه وكياءي النسب، فكما أنك لو قلت: لا كرسي لك، ولا بصري عندك، ولا جمعة لك، لم يمتنع أن تبنى هذه الأسماء مع (لا)، وتجعلها معها كاسم واحد، كذلك لا يمتنع ذلك في المثنى والجمع. ومما يدل على جواز بناء ذلك مع (لا) أن آخر المجموع بمنزلة أواخر الكلم المعربة، فمن حيث جاز بناء سائر الكلم المعربة مع (لا) كذلك يجوز بناء المثنى والمجموع. فأما كون النون في الآخر في التثنية والجمع فليس بمانع من ذلك للحاقها ما يلحق سائر المبنية، كما لم تمنع الميم اللاحقة لقولهم (اللهم) أن يجري البناء المطرد في النداء على حرف الإعراب الذي قبله. وإذا كان كذلك كان (لا يدين بها لك) مثل (لا غلام لك)، ووقعت الياء في التثنية من حيث كانت الفتحة بمنزلة النصبة، فساوتها في لفظ التثنية كما تساوتا في لفظ الإفراد. وليس قول من قال إنه لا يجوز ذلك لأنك لم تجد مثله بمستقيم في هذا لأن الشيء إذا دلت الدلالة على صحته لم يقدح في دلالته أن لا نظير له وإن كان في إيجاد النظير بعض الإيناس".

وقال ابن عصفور: "استدل أبو العباس على ذلك بأن قال: لم يوجد اسم مثنى مبني في كلام العرب، وأما (هذان) و (اللذان) وأشباههما فصيغ تثنية، وليست بمثناة على الحقيقة، وأيضًا فإنهما قد طالا بالنون، والاسم المطول في باب (لا) معرب". ورد عليه بأنه وجد اسم مثنى مبني بدليل قولهم (اثنان) في العدد إذا لم يقصد الإخبار بل مجرد العدد، وبأنه لا طول بالنون لأنها هنا بمنزلة التنوين، فكما لا يطول به كذلك لا يطول بالنون. انتهى، وفيه بعض تلخيص. أما قوله في (اثنان) لمجرد العدد (إنه مبني) فينبغي أن يزيد فيه "بلا عطفية"؛ لأنه قد زعم في (القرب) أنه إذا كانت عطفية، وكان لمجرد العدد، معرب، وأنه دخله لقب من ألقاب الإعراب. وقال المصنف في الشرح: "خالف المبرد س في اسم (لا) المثنى، نحو: لا رجلين فيها، فزعم أنه معرب، واحتج بأمرين: أحدهما: أنه بزيادة الياء والنون أشبه المطول. والثاني: أن العرب تقول: أعجبني يومَ زرتني، فتفتح، وأعجبني يومُ زرتني، فتعرب. وعورض في الأول بأن شبه (لا رجلين) بـ (يا رجلان) أقوى من شبهه بـ (لا خيرًا من زيد)، وقد سوي بين (يا رجلان) / و (يا رجل)، فليسو بين (لا رجلين) و (لا رجل).

ورد الثاني بأن بناء (يوم) وشبهه حين أضيف إلى الجملة إنما كان لشبهه بـ (إذ) لفظًا ومعنى، فلما ثني خالفه بلحاق علامة التثنية، وبكون (اليوم) إذا ثني يصير موقتًا، والمحمول على (إذ) إنما يكون مبهمًا، أي: صالحًا للقليل والكثير، فإذا ثني زال الإبهام، فلم يصلح أن يحمل على (إذ) للزوم إبهامها وصلاحيتها لكل زمان ماض". وفي (البسيط): "قال أبو العباس: هما معربان بوجهين: [أحدهما] أنه لا يوجد مثنى ولا مجموع بني. والثاني: أنهما في معنى العطف، والعطف يمنع من البناء، ولأنه لو بني. لكان مركبًا مع (لا)، ولا يوجد في كلامهم مركب من شيئين يثني الآخر منهما ويجمع. ورد الأول بأن التثنية إذا بنيت إنما تنزل [منزلة] ما ارتجل للتثنية، كـ (هذان) و (اللذان). وعن الثاني بأن العطف معنى لا لفظ. وعن الثالث بأن التثنية كانت قبل البناء لا بعده" انتهى، وفيه بعض حذف. وقال في (الغرة): والمبرد يزعم أنه معرب، ويقول: المثنى لم يجعل مع غيره كالشيء الواحد. ورأيت أصحابنا يردون على المبرد من غير الوجه الذي قصده، وذلك أنهم يقولون عنه: إن المثنى والمجموع لا يكونان مبنيين؛ لأنه ما فيه النون بمنزلة ما فيه التنوين، وما فيه التنوين لا يكون مبنيًا. واعترضوا عليه بقولهم "يا زيدان"، وهو مبني، وفيه النون، لأن النون قد تكون بدلًا من الحركة حسب في قولك (الرجلان)، فيجوز أن تكون هنا بدلًا من الحركة حسب. وليس هذا بلازم للمبرد؛ لأنه قال: المثنى والمجموع لا يكونان مع ما قبلهما بمنزلة شيء واحد، وليس (زيدان) و (زيدون) في النداء كذلك. ولكن الجواب عما قاله أن العلة الموجبة لبناء المفرد هي موجودة مع

التثنية؛ ألا ترى أنك تقول: هما خيرا اثنين في الناس، تريد: إذا فضل الناس اثنين اثنين. وقوله وليست الفتحة في نحو (لا أحد) إعرابية، خلافًا للزجاج والسيرافي ذهبا إلى ما ذهب إليه الجرمي من أن حركة مثل (لا رجل) حركة إعراب، وتبعهما الرماني، وحذف التنوين منه تخفيفًا لا لأجل البناء، وزعما أن ذلك مذهب س بدليل قوله" فتنصبه بغير تنوين". واحتج الزجاج بقولهم: لا رجل وغلامًا لك، ولا رجل ظريفًا عندك، وقال: إنما شبهه س بـ"خمسة عشر"؛ لأنها تلزم ما تعمل فيه كلزوم "خمسة عشر". وما ذهبوا إليه فاسد؛ لأنه لو كان حذف التنوين تخفيفًا لكان حذفه من النكرة المطولة أولى؛ لأن المطول أولى بالتخفيف مما ليس فيه طول، فلما قالت العرب: ل خيرًا من زيد، ولم تحذف التنوين، دل على أن سبب الحذف البناء لا التخفيف./ وتأويلهم ذلك على س باطل؛ لأنه تجوز في تسمية الفتح نصبًا، وكثيرًا ما تجد ذلك في كلامه من استعمال ألقاب الإعراب لألقاب البناء لما كانت الصورة واحدة، وقد نص على البناء في (باب المنفي بلام الإضافة)، فقال: "وأعلم أن المنفي الواحد إذا لك يل (لك) فإنما يذهب منه التنوين كما أذهب من آخر خمسة عشر، لا كما ذهب من المضاف". وهذا نص على أن حذف التنوين منه إنما سببه البناء لا التخفيف.

وثمرة هذا الخلاف تظهر فيجمع المؤنث السالم، فمن زعم أن الفتحة إعراب قال "لا ورقات لك" بالكسرة، ومن زعم أنها بناء لزمه أن يفتح لأنه مركب معها، وحركة آخر المركب المبني إنما هي الفتح، نحو: خمسة عشر. وذهب الكسائي إلى أن السبب في نصب النكرات بعد (لا) أن النكرات يبتدأ بأخبارها قبلها لئلا توهمك أخبارها أنها صلات لها، فلما تقدم الاسم في باب (لا) التي للتبرئة، وتأخر الخبر، أرادوا أن يفصلوا بين ما ابتدئ بخبره وبين ما لا يكون خبره إلا بعده، فغيروه من الرفع إلى النصب، ونصبوه بغير تنوين لأنه ليس بنصب صحيح، إنما هو مغير، كما فعلوا في النداء حين خالفوا به نصب المضاف، فرفعوه بغير تنوين. وذهب الفراء إلى أن السبب في نصب النكرة بعدها أنها خرجت عن بابها، وذلك أن بابها أن تكون بمعنى (غير) في الخبر، وتقديرها أن تكون هي وما بعدها كالتابعة لضمير قبلها، ويكون بعدها مضمر يحمل عليه الاسم، وذلك عند قولك: زيد لا عالم ولا جاهل، أي: زيد رجل غير عالم وغير جاهل، أو: زيد لا هو عالم ولا هو جاهل. قال: فلما جاءت في معنى (ليس) أخرجوها من معنى (غير) بالنصب لئلا يتوهم السامع أنها محمولة على شيء قبلها، فجعلوا هذا علمًا لما أرادوا من خروجهم من معنى إلى معنى. وما ذهب إليه الكسائي والفراء باطل بدليل أن (لا) إذا وقعت بعدها النكرة، ولم يرد بها العموم، لم تنصبها (لا)، بل تكون مرفوعة على الابتداء، ويلزم تكرارها إذ ذاك، فتقول: لا رجل في الدار بل رجلان،

ولا امرأة بل امرأتان، مع أن النكرة مقدمة على خبرها، و (لا) أيضًا غير محمولة على شيء قبلها، ولو كان سبب النصب ما ذكراه للزم نصب النكرة في ذلك، فلما لم تنصب العرب النكرة بعدها إذا لم تكون عامة دل على أن سبب النصب هو ما ذكره البصريون من أنها نصبت لشبهها بـ (إن) من الجهات التي تقدم ذكرها. وقال المصنف في الشرخ رادًا على الزجاج والسيرافي ما ملخصه: "لو لم يكن في كلام العرب ما يبطله لبطل بكونه مستلزمًا/ مخالفة النظائر، فإن الاستقراء قد أطلعنا على أن حذف التنوين لا يكون إلا لمنع صرف، أو إضافة، أو دخول أل، أو من علم موصوف بـ (ابن) مضاف إلى علم، أو لملاقاة ساكن، أو لوقف، أو لبناء، و (لا رجل) يتعين أن حذف التنوين منه لبناء؛ إذ ليس واحدًا مما قبل البناء، كيف وقد روي عن العرب (جئت بلا شيء) بالفتح وسقوط التنوين، كما قالوا: جئت بخمسة عشر، والجار لا يلغى، ولا يعلق، فثبت البناء بذلك". ثم قال المصنف: "ومما يدل على أن الفتحة فتحة بناء لا فتحة إعرابها ثبوتها في: .............................. ............. ولا لذات للشيب في الرواية المشهورة. وتوجيه رواية الكسر على أن يكون (لذات) منصوبًا لكونه مضافًا أو مشبهًا بالمضاف على نحو ما يوجه به (لا أبا لك)، و (لا يدي لك).

وقال س: (واعلم أن التنوين يقع من المنفي في هذا الموضع إذا قلت (لا غلام لك) كما يقع من المضاف إلى اسم، وذلك إذا قلت: لا مثل زيد). فعلم بهذا أن فتحة ميم (لا غلام لك) كفتحة لام (لا مثل زيد) لأنهما عنده سيان في الإضافة، فعلى هذا تكون كسرة (لا لذات) كسرة إعراب لكونه مضافًا، واللام مقحمة". وقوله ودخول الباء على (لا) يمنع التركيب غالبًا مثال ذلك: جئت بلا زاد، وجئت بلا شيء. واحترز بقوله (غالبًا) مما روي عن العرب من البناء في قولهم "جئت بلا شيء" بالفتح. وفي (البسيط): وهذا الخبر هل تدخل عليه الباء للتأكيد كما تدخل في (ما)؟ فجوزه أبو علي في (التذكرة)، ومنعه بعضهم لأنها إنما دخلت في الخبر المنصوب، فلا يقاس عليه، وأما قولهم "لا خير بخير بعده النار، ولا شر بشر بعده الجمة" فمن جوزه جعله الخبر، و (بعده النار) صفة للخبر، ومن لم يجوزه تكون الباء في معنى (في)، وهو جائز، ومجرور (في) موضع الخبر، و (بعده النار) صفة للاسم، والتقدير: لا خير بعده النار خير. وقوله وربما ركبت النكرة مع (لا) الزائدة قال المصنف في الشرح: "وندر تركيب النكرة مع (لا) الزائدة، كقول الشاعر:

لو لم تكن غطفان لا ذنوب لها إذا للام ذوو أحسابها عمرا وهذا من التشبيه الملحوظ فيه بمجرد اللفظ، وهو نظير تشبيه (ما) الموصولة بـ (ما) النافية في قوله: يرجى المرء ما إن يراه وتعرض دون أدناه الخطوب" /ص: وقد يعامل غير المضاف معاملته في الإعراب ونزع التنوين والنون إن وليه مجرور بلام معلقة بمحذوف غير خبر، فإن فصلها جار آخر أو ظرف امتنعت المسألة في الاختيار، خلافًا ليونس. وقد يقال في الشعر: لا أباك. وقد يحمل على المضاف مشابهه بالعمل، فينزع تنوينه. ش: قال المصنف في الشرح: "المشهور الوارد على القياس أن يقال في اسم (لا) إذا كان أبًا أو أخًا: لا أب له، ولا أخ لك، كما قال نهار اليشكري: أبي الإسلام لا أب لي سواء إذا افتخروا بقيس أو تميم وأن يقال فيه إذا كان مثنى أو شبهه كما قال الشاعر:

تأمل، فلا عينين للمرء صارفًا عنايته عن مظهر العبرات وكما قال: أرى الربع لا أهلين في عرصاته ومن قبل عن أهليه كان يضيق وقد كثر في الكلام مع مخالفة القياس نحو: لا أبا لك، ولا أخا له، ولا غلامي لك، نحو قول الراجز: أهدموا بيتك لا أبا لكا وزعموا أنك لا أخا لكا وأنا أمشي الدألى حوالكا ومثال (لا غلامي لك) قول الشاعر: لا تعنين بما أسبابه عسرت فلا يدي لامرئ إلا بما قدرا ولم يرد هذا الاستعمال في غير ضرورة إلا مع اللام". وقوله غير المضاف يشمل أبا وأخا، والمثنى، وكل ما وليه لام جر في: لا غلام لك، ولا بني لك، ولا بنات لك، ولا عشري لك، كذا قال المصنف. وهذه المسألة فيها ثلاثة مذاهب: أحدها: ما ذهب إليه هشام وابن كيسان، واختاره المصنف، من أن هذه أسماء مفردة ليست بمضافة، والمجرور باللام في موضع الصفة لها، فيتعلق بمحذوف، وشبه غير المضاف بالمضاف في نزع التنوين من المفرد، والنون من المثنى والمجموع على حده.

المذهب الثاني: ما ذهب إليه الجمهور من أنها أسماء مضافة إلى المجرور باللام، وأن اللام مقحمة لا اعتداد بها، وليست اللام متعلقة بشيء، لا بمحذوف ولا بغير محذوف، بل هي كاللام في قوله: يا بؤس للحرب التي وضعت أراهط، فاستراحوا /والخبر على هذين المذهبين محذوف. والمذهب الثالث: ما ذهب إليه أبو علي الفارسي في أحد قوليه، وأبو الحجاج بن يسعون وأبو الحسين بن الطراوة ومن أخذ بمذهبهما في "لا أبا لك" و"لا أخا لك"، وشبههما من أنها أسماء مفردة، والمجرور باللام هو في موضع الخبر، وأن قولهم: لا أبا لك، ولا أخا لك، جاء على لغة من قصر الأب والأخ في الأحوال كلها، فقال: جاء أباك وأخاك، ورأيت أباك وأخاك، ومررت بأباك وأخاك. واستدل ابن يسعون على امتناع الإضافة بما وقع في (الكتاب) من قولهم "لا أخا -فاعلم- لك" من جهة أنه لا يسوغ عنده الفصل بين

المضاف والمضاف إليه، وزعم أن قولهم "لا يدي لك" إنما قاله النحويون بالقياس، وليس من كلام العرب. واستدل ابن الطراوة بأن قال: لو كانا مضافين لكان الخبر محذوفًا وذلك الخبر المحذوف لا يكون إلا زمانًا أو مكانًا، وذلك باطل لأنك لم ترد أن تنفي الأب والأخ في مكان أو وقت فيكونا واجبين في غير ذلك المكان والوقت. قال: ويدل على أن ذلك خبر على كل حال قول سليمان بن عبد الملك وقد سمع أعرابيًا يقول: رب العباد ما لنا وما لكا قد كنت تسقينا، فما بدا لكا أمطر علينا الغيث، لا أبا لكا فأخرجها سليمان أحسن مخرج، فقال: "أشهد أنه لا أب له ولا صاحبة ولا ولد"، فبين في هذا ما قصد الأعرابي. واستدل المصنف لمذهب هشام وابن كيسان -وهو الذي أختاره- بأن الإضافة المدعاة إن كانت محضة لزم كون اسم (لا) معرفة، وهو غير جائز، ولا عذر في الانفصال باللام؛ لأن نية الإضافة المحضة كافية في التعريف مع كون المضاف غير مهيأ للإضافة، نحو {وكُلاًّ ضَرَبْنَا لَهُ الأَمْثَالَ}، و {لله الأَمْرُ مِن قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ}، وما نحن بسبيله مهيأ للإضافة، فهو أحق بتأثير نية الإضافة فيه.

وإن كانت الإضافة المدعاة غير محضة لزم من ذلك مخالفة النظائر؛ لأن ذلك لا بد أن يكون فيما عمل عمل الفعل لشبهه به لفظًا ومعنى، نحو: هذا ضارب زيد، وحسن الوجه، أو معطوفًا على ما لا يكون إلا نكرة، نحو "رب رجل وأخيه"، والأسماء المشار إليها بخلاف ذلك. وأيضًا لو كانت إضافتها غير محضة لم يلق/ أن يؤكد معناها إقحام اللام لأن المؤكد معتنى بع، وما ليس محضًا لا يعتني به فيؤكد، ولذلك قبح توكيد الفعل الملغى لأنه مذكور في حكم المسكوت عنه، وقول من قال: يا بؤس الحرب ................... ........................... وهو يريد "يا بؤس الحرب" سهله كون إضافته محضة. على أن لقائل أن يجعل أصله "يا بؤسا للحرب"، ثم حذف الألف للضرورة، وهي مرادة، فلا إضافة، ولا إقحام. وأيضًا فلو كانت إضافة الأسماء المشار إليها غير محضة مع (لا) لكانت كذلك مع غيرها؛ إذ لا شيء مما يضاف إضافة غير محضة إلا وهو كذلك مع كل عامل، ومعلوم أن إضافتها في غير هذا الباب محضة، فيجب أن يكون في هذا الباب، وإلا لزم عدم النظير. ومما يدل على ضعف القول بكون الأسماء المشار إليها مضافة قولهم: لا أبا لي، ولا أخا لي، فلو كانوا قاصدين الإضافة لقالوا: لا أب لي، ولا أخ لي، فيكسرون الباء والخاء إشعارًا بأنها متصلة بالياء تقديرًا، فإن اللام لا اعتداد بها على ذلك التقدير، وإذ لم يفعلوا ذلك فلا

ارتياب في كونهم لم يقصدوا الإضافة، ولكنهم قصدوا إعطاء الأسماء المذكورة حكم المضاف إذا كانت موصوفة بلام الجر ومجرورها، ولم يفصل بينهما، وذلك أن الصفة يتكمل بها الموصوف كما يتكمل المضاف بالمضاف إليه، فإذا انضم إلى ذلك كون الموصوف معلوم الافتقار إلى مضاف إليه، وكون الصفة متصلة بالموصوف، وكونها باللام التي تلازم معناها الإضافة غالبًا، وكون المجرور صالحًا لأن يضاف إليه الأول، تأكد شبه الموصوف بالمضاف، فجاز أن يجري مجراه فيما ذكر من الحذف والإثبات، فمن ثم لم يبالوا بـ (فيها) أن يجري هذا المجرى، كقول الشاعر: وداهية من دواهي المنو ن، يرهبها الناس، لا فا لها فنصبه بالألف كما ينصبه في الإضافة. انتهى ما ذكره المصنف من الاستدلال لما اختاره في هذه المسألة. فأما ما ذهب إليه الفارسي في أحد قوليه وابن يسعون وابن الطراوة من أن "لا أبا لك" و"لا أخا لك" جاء على لغة القصر، و (لك) في موضع الخبر، فيحتاج إلى إثبات أن قائل "لا أبا لك" و"لا أخا لك" إذا استعملوهما مفردين لم يحذفوا لاميهما، وذلك شيء لا يعرف أحد نقله عن أرباب هذه اللغة. وأما استدلال ابن يسعون على امتناع الإضافة بقولهم "لا أخا -فاعلم- لك" من جهة الفصل بالجملة فلا دليل/ في ذلك؛ لأن الفصل بين المتضايفين بجملة الاعتراض سائغ، ومن ذلك ما حكاه أبو عبيدة من أنه سمع أبا سعيد -وهو أعرابي لقبه أو الدقيش- يقول: "إن الشاة

لتسمع صوت -علم الله- صاحبها، فتقبل إليه، وتثغو". بل الفصل في "لا أخا -فاعلم- لك" أسهل منه في قول أبي الدقيش لفصل اللام فيه بين الضمير وما أضيف إليه، فصار لذلك كأنه غير مضاف في اللفظ، وإذا ثبت ما حكاه الكسائي من قول بعضهم "أخذته بأري ألف درهم"، ففصل بين الباء والمجرور بجملة الاعتراض، فالفصل بين المتضايفين بها أسهل بكثير. وأما ما زعم من أن "لا يدي لك" قاله النحويون بالقياس ولي من كلام العرب فباطل، بل نقلوه من العرب، وحكى ذلك سماعًا الدينوري والسيرافي، ومن ذلك قول الكميت: وظاهر الكاشح الأقصى ليجعلني ردءًا له، لا يدي للصقر بالخرب وقول الفرزدق: فلو كنت مولى العز أو في ظلاله ظلمت، ولكن لا يدي لك بالظلم وتقدم ما أنشده المصنف من البيت الذي عجزه: ................................... فلا يدي لامرئ إلا بما قدرا وأما ما استدل به ابن الطراوة فليس التقدير كما ذكر، بل التقدير: لا أبا لك في الوجود، وإذا نفي أن يكون للمخاطب أب في الوجود كان معناه ومعنى "لا أبا لك" -إذا جعلت (لك) خبرًا- واحدًا. وأما تفسير سليمان قول الأعرابي على معنى الإخبار بالمجرور فلا يمنع من إجازة الوجه الآخر، بل حمل الكلام على أحد محتمليه.

وأما ما استدل به المصنف وترديده في الإضافة بين أن تكون إضافة محضة أو غير محضة فلا حاجة إلى هذا الترديد؛ لأن الذاهبين إلى أنها أسماء مضافة لم يذهب أحد منهم إلى أنها إضافة محضة، بل ذكروا أنها إضافة غير محضة، فكان ينبغي أن يرد عليهم مدعاهم أنها إضافة غير محضة. وأما رده كونها غير محضة بأنه يلزم من ذلك مخالفة النظائر فمخالفة النظائر كثيرة في لسان العرب، ولا يبالى بلزوم مخالفة النظائر، ومخالفة النظائر لازمة له في مذهبه لأنه يزعم أن التنوين يسقط [من] الصفة المشبهة للإضافة، وقد قرر هو في رده على الزجاج والسيرافي في دعواهما أن حركة "لا رجل" حركة إعراب بأن التنوين لا يحذف إلا لمنع صرف، أو إضافة، أو دخول أل، أو من علم موصوف بـ (ابن) مضاف إلى علم، أو لملاقاة ساكن، أو لوقف، أو لبناء، وسقوطه لما ذكر ليس واحدًا من هذه التي عدها، فقد/ لزم من ذلك مخالفة النظائر. ويزعم أيضًا أن نون المثنى والمجموع على حده لا تسقط إلا للإضافة، أو تقصير صلة، أو للضرورة، وهنا قد أسقطها في "لا يدي لك" و"لا بني لك" لغير ما ذكر، فقد لزم من قوله مخالفة النظائر. وأما حصره الإضافة غير المحضة فيما ذكر فليس كما ذكر؛ لأن لنا إضافة محضة غير ما ذكر، وهي إضافة (غيرك) و (مثلك) وأخواتها، وليست مما عمل عمل الفعل ولا معطوفًا على ما لا يكون إلا نكرة.

وأما قوله "لو كانت إضافتها غير محضة لم يلق أن يؤكد معناها بإقحام اللام؛ لأن المؤكد معتنى به، وما ليس محضًا لا يُعتني به فيؤكد" فممنوع قوله "وما ليس محضًا لا يُعتني به"، بل الإضافة غير المحضة يُعتني بها كما يُعتني بالإضافة المحضة، وكيف لا وهي قسيمة المحضة؟ وأما قوله "ومما يدل على ضعف القول بكون الأسماء المشار إليها مضافةً قولهم: لا أبالي، ولا أخالي" إلى آخره فلا يلزم ما ذكره من أنهم كانوا يقولون: لا أب لي، ولا أخ لي، بكسر الباء والخاء؛ لأن العامل في الضمير من نحو "لا أبا لك" الجر هو اللام لا الإضافة. وإنما كان عامل الجر هو اللام لا الإضافة لأمرين: أحدهما: أنها مُجاورة له، فهي أحق بالعمل فيه. والآخر: أنك إذا فعلت ذلك كان حرف الجر عاملًا في الضمير والمضاف عاملًا في موضع المجرور، كما عمل في موضع المجرور في قراءة الأعمش {وَمَا هُم بِضَآرِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ}، أي: وما هم بضاري أحدٍ به، وإذا جعلته مجرورًا بالمضاف بقي حرف الجر لا معمول له، وحرف الجر لا يُقطع عن المجرور إلا في الضرورة، نحو قوله: فخير نحن عند الناس منكم إذا الداعي المُثوب قال: يا لا أي: يا لفلان، فحذف المجرور، وأبقى حرف الجر، وسهل ذلك

كون ألف الإطلاق قد صارت عوضًا منه. فإذا تقرر أن عامل الجر في الضمير إنما هو اللام لم يلزم كسر ما قبل اللام لأجل الياء لأن العمل إنما هو للام، فلم تُباشر آخر الأب والأخ بالإضافة حتى يلزم كسره. وأما قوله "وذلك أن الصفة يتكمل بها الموصوف كما يكمل المضاف بالمضاف إليه"/ فليس بصحيح، وأين أحدهما من الآخر، المضاف إليه يقع من المضاف موقع التنوين أو النون، والصفة ليست كذلك. وأما ما استدل به الجمهور، وهو أن قالوا: قالت العرب "لا يدي لك بكذا"، فلا وجه لحذف هذه النون إلا الإضافة، وقالت العرب: " لا فا لزيدٍ" حكاه ابن كيسان، فلولا أنه مضاف لعوض من العين الميم، والإضافة عندهم في "لا أبا لك" ونحوه إضافة غير محضة؛ ألا ترى أنك لا تَنفي في الحقيقة أباه، وإنما تُريد بذلك الذم، قاله أبو علي في (التذكرة). وقال ابن التياني في (الموعب) له: زعم بعضهم أن قولهم (لا أبا لك) مدح، و (لا أم لك) ذم. وقيل: يكونان جميعًا في المدح والذم. وقال أبو فيدٍ السدوسي: (لا أم لك) [دم]، أي: أنت لقيط لا تعرف أمك، و (لا أبا لك) مدح، أي: لا كافي لك. وقال ابن جني: "يخرج مخرج الدعاء عليه، فإذا قلت (لا أبا

لك) فكأنك قلت: [أنت] أهل للدعاء عليك، وليس دعاء صريحًا؛ إذ لو كان دعاء صريحًا لما جاز أن يُقال لمن ليس له أب: لا أبا لك، كما لا يُقال للأعمى: أعماه الله، وقوله: يا تيم تيم عدي، لا أبا لكم لا يُلقينكم في سوأةٍ عمر أقوى دليل على ما ذكرناه؛ لأنه ليس لتيم كلها أب أحد، ولكن معناه: كلهم أهل للدعاء عليه". وكذلك أيضًا "لا أخا لك" لم يُرد به نفي الأخ حقيقة، قال: "ويؤكد ذلك قول الشاعر: أفي كل عامٍ بيضةٌ تفقؤونها وتترك أخرى فردةً لا أخا لها ولم يقل: لا أخت لها". فثبت إذًا بما ذكرناه أن المعنى ليس على ما يعطيه ظاهر اللفظ من نفي أب وأخ معينين؛ لأن المعنى ليس على ذلك، وإذا لم يُرد أبًا وأخًا مُعينين كانت الإضافة غير معرفة، فلم يزل من ذلك إعمال (لا) في اسم معرفة. وزعم ابن السراج أن الأب إنما لم يتعرف بالإضافة لأن إضافته في نية الانفصال، وأن الأصل قبل الإضافة: لا أبًا لك، والمجرور الذي هو (لك) من تمام الأب، ولذلك نون لطوله به، والخبر مضمر، إلا أنهم حذفوا التنوين استخفافًا، وأضافوا، وألزموا اللام لتدل على هذا المعنى،

قال: "وإنما فعل هذا في هذا الباب، وخص به". قال بعض أصحابنا: "وهذا الذي ذهب إليه ابن السراج باطل؛ إذ لو كان (لك) معمولًا لـ (أب) ومن تمامه، كما زعم، لم تسغ إضافته إليه؛/ ألا ترى أنه لا يجوز لك أن تقول: لا ناصح لزيدٍ في القوم" انتهى. وأقول: إن قول ابن السراج "إن المجرور الذي هو (لك) من تمام الأول" ليس بصحيح؛ لأن (لك) من تمام الأول" ليس بصحيح؛ لأن (لك) لا يكون من تمام الأول إلا لو كان الأول مما يُمكن أن يتعلق به حرف الجر، و (الأب) ليس من هذا القبيل، وإن عنى بالتمام أنه صفة للأول فهو يتعلق بمحذوف، فليس من تمامه، ولا يكون الأول مطولًا بالصفة، وإلا كان يجوز أن تقول: لا رجلًا ظريفًا، وتقول طال (لا رجلًا) بالصفة، فنصب، وهذا لا يجوز. فإن قلت: إذا كان الاسم نكرة، وإضافته غير محضة كما ذكرتم، فهلا قالت العرب (لا أباك) في فصيح كما يقولون: لا ضارب زيدٍ؟ فالجواب: أن الأب لما كان إذا أُضيف إلى عرفة في غير هذا الباب تعرف بها استقبحوا دخول (لا) النافية عليه، فلم يُدخلوها إلا بعد إقحام اللام بين المضاف والمضاف إليه إصلاحًا للفظ، وأعني بذلك أنه يجيء في اللفظ على صورة غير المضاف وإن كان مضافًا في التقدير، فهي معتدٌ بها من جهة أنها هيأت الاسم لعمل (لا) فيه، وغير معتد بها من جهة أنها لم تمنع الإضافة بدليل إثبات الألف التي لا تلحق الأب في حال نصبه في فصيح الكلام إلا في حال الإضافة، ولا يُقحمون بين المتضايفين في هذا الباب النداء نحو قوله: ................ يا بؤس للجهل ضرارًا لأقوام

من حروف الجر إلا اللام خاصة؛ لأنها مؤكدة لمعنى الإضافة في البابين على معنى اللام، فأقحموها لذلك. وأما قول الشاعر: وقد علمت أن لا أخا بعشوزنٍ ولا جار إذا أرهقتها بالحوافر فالأخ غير مضاف، وإنما جاء على لغة من يجعل أخاك بمنزلة عصاك، فلا يحذف لأمه أضيف أو لم يُضف. فإن قلت: إذا كان (الأب) من قولهم (لا أبا لك) مضافًا إلى ما بعده فكيف ساغ للعرب أن تقول (لا أبا لي) بإثبات الألف، و (لا أخا لي) قال الأعشى: فأنت أبي ما لم تكن لي حاجةٌ وإن عرضت أيقنت أن لا أبا ليا وقال آخر: وما راعني إلا زهاء معانقي فأي عنيق بات لي، لا أبا ليا / وقال آخر: وذي إخوةٍ قطعت أسباب بينهم كما تركوني مُفردًا لا أخا ليا والأب والأخ إذا أُضيفا إلى ياء المتكلم لم تُرد فيه اللام المحذوفة. فالجواب: أن الذي منع من رد اللام المحذوفة إذا قلت (أبي) إنما

هو ما يلزم في ذلك من ثقل التضعيف لأجل الإدغام في ياء المتكلم، إلا أنك لو رددتها -وهي الواو- لكسرته لأجل ياء المتكلم، وللزم أن تتبع حركة العين حركة اللام، فتقول (أبوي)، ثم تسكن الواو، وتقلبها ياء لانكسار ما قبلها، وتدغم الياء في الياء، فتقول (أبي)، فلما فصلت بين الألف وياء المتكلم اللام أمن التضعيف المستثقل، فأعادوا اللام المحذوفة كما يُعيدونها في حال الإضافة إلى غير ياء المتكلم. انتهى ما نُقل من كلام من ذهب إلى أن (لا أبا لك) وشبهه من الأسماء المضافة. وفي (الغرة): "لم يفعلوا ذلك مع غير اللام من حروف الجر، فأما قوله: وقد علمت أن لا أخا بعشرزنٍ ..................... فجاء بالباء، وهي شاذة" انتهى. فرع: من قال (لا أبا لزيدٍ) لم يقل (لا أبا لزيدٍ وأخا لعمرٍو)، فيُقحم اللام بين المعطوف على اسم (لا) وبين ما أُضيف إليه، نص على ذلك الفارسي في (البصريات). والسبب في امتناعه أن إقحامها بين المتضايفين خارج عن القياس، ولولا السماع لما قيل به، فلا ينبغي أن يُتعدى به موضع السماع، والأول في هذا الباب قد يختص بما لا يجوز في الثاني؛ ألا ترى أن اسم قد يُبنى معها، ولا يجوز ذلك في الاسم المعطوف عليه. وقد قال أبو جعفر بن مضاء مؤلف كتاب (المشرق): "شذت مسألة، وذلك قولهم: لا أخا لك، ولا أبا لك، ولا يدي لفلان، وتقدم أن (لا) لا تعمل إلا في النكرات العامة، وهذه الألف لا تلحق الأسماء الستة المعتلة إلا في حال الإضافة، فإن جعلت هذه الأسماء مضافة إلى الضمير

واللام زائدة لم يجز نصبها بـ (لا)، وإن قدرنا اللام ثابتة والأسماء نكرات فلم دخلت الألف وسقطت النون، لكن هكذا سُمعت من العرب" انتهى. واطرد إقحام اللام بين المتضايفين إذا كان المضاف إليه معرفة لكثرة ما جاء منه، فتقول: لا أبا لك، ولا حما لك، ولا يدي/ لك، ولا غلامي لك، ولا مُسلمي لك، ولا زيدي لك. ويجوز في قولك (لا غلام لك) و (لا جارية لزيد) أن يكون من هذا الباب، ويكون الخبر محذوفًا. ويجوز أن يكونا غير مضافين، والمجرور في موضع الخبر، ويكون حذف التنوين إذ ذاك لأجل بنائه مع (لا). قالوا: وتكون التثنية في هذا الباب من قبيل التثنية التي يُراد بها شفع الواحد، نحو (لبيك) و (حنانيك)؛ ألا ترى أن المراد بقولهم (لا غلامي لك) نفي ما قل وكثر من الغلمان؛ لأن (لا) النافية لا تعمل إلا إذا نُفي بها نفيٌ عامٍ، كما أن معنى (حنانيك) تحنن علينا حنانًا بعد حنان، و (لبيك) لزومًا لطاعتك بعد لزوم، وليس المراد حقيقة التثنية. وإقحام اللام في هذا الباب لازم، فلا يجوز حذف اللام وإبقاء الإضافة فيه لا في الكلام ولا في الشعر، ولا جاء شيء من ذلك في كلامهم إلا مع الأب في ضرورة الشعر. وقوله إن وليه مجرورٌ بلامٍ مُعلقةٍ بمحذوفٍ غير خبرٍ تقدم أن المُقحم لا يكون إلا اللام، وقال المصنف في الشرح: "بشرط كون اللام ومجرورها غير خبر، فإن كان هو الخبر تعين إثبات النون وحذف الألف بإجماع، وكذا إن لم تل اللام ومجرورها النكرة، أو كان في موضع اللام حرف غيرها". مثال ذلك (لا يدين لك) إذا كان (لك) هو الخبر،

و (لا أبا لك) و (لا غلامين ظريفين لك)، فلم تل (لك) (غلامين) إذ قد فُصل بينهما بالصفة، و (لا يدين بزيدٍ)، فالباء قد دخلت على المجرور، فهي في موضع اللام. فهذه المسائل كلها لا يجوز فيها إلا إثبات التنوين وبناء الاسم المفرد، نحو (لا غلام لك) على الفتح. وقوله فإن فصلها - أي اللام - جار آخر - نحو: لا يدي بها لك - أو ظرفٌ - نحو: لا يدي اليوم لك، ولا غلامي عندك لزيدٍ - امتنعت المسألة في الاختيار، خلافًا ليونس، فإنه أجاز ذلك في الاختيار، وأشار س إلى جوازه في الضرورة، هكذا قال المصنف. وفي كتاب س أن يونس يفرق في الفصل بين الظرف الناقص والتام، فالناقص يُجيز الفصل به في فصيح الكلام، وكأنه عنده لما لم يستقل الكلام به لم يذكر، والتام لا يُجيز الفصل به. ورد عليه س أنك لم تفرق بين الناقص والتام في الفصل بين (إن) واسمها، ولا في باب (كان)؛ ألا ترى أنك تقول: إن عندك زيدًا مقيمٌ، وإن اليوم زيدًا مسافرٌ، وكان عندك زيدٌ مقيمًا، على جعل/ (عندك) معمولًا للخبر، وكان اليوم زيدٌ مسافرًا، فإذا لا فرق بين الناقص والتام. وأجاز س الفصل بجملة الاعتراض، فقال: لا أبا - فاعلم - لك. وقوله وقد يقال في الشعر (لا أباك) قال أبو علي في (الإيضاح): "وربما حذف الشاعر هذه اللام للحاجة، والتقدير بها الثبات، قال الشاعر:

أبالموت الذي لا بد أني ملاقٍ لا أباك تُخوفيني" فظاهر كلام أبي علي هذا يدل على أن الشاعر قد يحذف هذه اللام المُقحمة بين المضاف والمضاف إليه إذا اضطر إلى ذلك. والصحيح أن ذلك لم يجئ في ضرورة ولا في غيرها إلا في (الأب) خاصة، وكذا قال المصنف في الشرح، قال: "ولا يُستغنى عن اللام بعدما أعطي حكم المضاف من الأسماء المذكورة إلا بعد الضرورة، كقول الشاعر: وقد مات شماخٌ، ومات مُزودٌ وأي كريمٍ لا أباك يُخلدُ وقول الآخر: أبالموت الذي لا بد أني ملاقٍ لا أباك تخوفيني أراد: لا أبا لك، ولا أبا لك، كذا زعموا. وهو عندي بعيد؛ لأنه إن كان الأمر كذلك لم يخل من أن يكون (أب) مضافًا إلى الكاف عاملًا فيها، أو يكون مقدر الانفصال باللام، وهي العاملة في الكاف مع حذفها. فالأول ممنوع لاستلزامه تعريف اسم (لا)، أو تقدير عدم تمحض الإضافة فيما إضافته محضة. والثاني ممنوع لاستلزامه وجود ضمير متصل معمول

لعامل غير منطوق به، وهو شيء لا يُعلم له نظير، فوجب الإعراض عنه والتبرؤ منه. والوجه عندي في (لا أبا لك) أن يكون دعاء على المخاطب لئلا يأباه الموت. وهذا توجيه ليس فيه من التكلف شيء" انتهى ما ذكره في (لا أباك) وتوجيهه إياه على أنه فعل ماض دخلت عليه (لا) للدعاء، وفاعله ضمير الموت المذكور في قوله: أبالموت الذي لا بد أني ............................. وضمير المصدر المفهوم من قوله: وقد مات شماخٌ ................. .................. والذي ذكر النحويون أن اللام المحذوفة مقدرة، وإن كانت إذا أتى بها مقحمة زائدة؛ لأنهم لما استعملوها في حال الإضافة إصلاحًا للفظ، ورفضوا ترك الإتيان بها - وإن كان الأصل - صار الإتيان بها كأنه الأصل، فلما اضطر الشاعر إلى إسقاطها قدرها، ونواها لذلك،/ وإذا كانت مقدرة وجب أن يكون خفض الضمير بها لا بالإضافة؛ لأن المنوي المقدر بمنزلة الثابت الملفوظ به، وأنت إذا لفظت باللام كان الخفض بها. ومما يبين أيضًا أن اللام منوية مقدرة قولهم (لا أباي)، حكي ذلك الأستاذ أبو بكر بن طاهر؛ ألا ترى أن اللام لو لم تكن مقدرة لقالوا (لا أبي) كما قالوا (لطمت في)، فلما لم تُكسر الباء في (لا أباي) دل ذلك على أن الكسرة التي توجبها ياء المتكلم ليست في اللام المردودة، وإنما هي في اللام المحذوفة المقدرة.

وأما تأويل المصنف (لا أباك) على أنه فعل ماضٍ، و (لا) للدعاء، والفاعل مضمر كما قرره، ففي غاية الفساد من وجوه: أحدها: أن العرب قالت (لا أباك) حيث لم تذكر موتًا، فلا يكون دعاء بالموت، قال: أمن أجل حبل - لا أباك - ضربته بمنسأةٍ، قد جر حبلك أحبلا وقال ابن الدمينة: فقلت لها: لا باك، هلا عذرتني لديها، فقد حانت علي ذنونب فليست هنا للدعاء بالموت. الثاني: أن العرب حذفت من الكلمة الهمزة في بيت ابن الدمينة، وحذفت مع الهمزة أيضًا الألف، فقالوا (لا ب شانيك)، يريدون: لا أبا لشانيك، ولو كان هذا فعلًا ماضيًا لم يجز حذف ذلك منه. وإنما جاز كثرة الحذف في (لا أبا لك) لكثرة دوره على ألسنتهم في هذا الباب. الثالث: يدل على أن (أباي)، فو كان فعلًا ماضيًا لقال (لا أباني)، فتلحقه نون الوقاية، وهذا قاطع ببطلان تأويل المصنف. وقوله وقد يحمل على المضاف مُشابهه بالعمل، فينزع تنوينه قال المصنف في الشرح: "لو تعلقت اللام بالاسم تعين الإعراب وتوابعه

غالبًا، نحو: لا واهبًا لك درهمًا. واحترزت بـ (غالبًا) من قول الشاعر: أراني -ولا كفران لله أيةً لنفسي - قد طالبت غير مُنيل أنشده أبو علي في (التذكرة)، وقال: إن أيةً منصوب بـ (كفران)، أي: لا أكفر لله رحمةً لنفسي. ولا يجوز نصب (أية) بـ (أويت) مضمرًا لئلا يلزم من ذلك اعتراض بين مفعولي (أرى) (أية) بـ (أويت) مضمرًا لئلا يلزم من ذلك اعتراض بين مفعولي (أرى) بجملتين، إحداهما (لا) واسمها وخبرها، والثانية (أويت)، ومعناه: رققت. وإلى (ولا كفران لله أيةً) أشرت بقولي "وقد/ يُحمل على المضاف مُشابهه بالعمل". ويُمكن أن يكون من هذا قول النبي - عليه السلام - "لا صمت يومٌ إلى الليل" على رفع (يوم) بالمصدر على تقديره بـ (أن) وفعل ما لم يُسم فاعله" انتهى. ويعني بـ (مشابهه بالعمل) المُطول، نحو: لا خيرًا من زيدٍ عندك، ولا ضاربًا بكرًا في الدار، ولا حسنًا وجهه لك، ولا عشرين درهمًا عندك. ولم يذكر المصنف في هذه المسألة في الفص ولا في الشرح خلافًا، أعني في جواز نزع التنوين من هذه المُثل ونحوها، وهذا مسألة خلاف: ذهب الجمهور إلى أن الاسم الواقع بعد (لا) إذا كان عاملًا فيما بعده لزم تنوينه.

وذهب ابن كيسان إلى أنه يجوز فيه التنوين وترك التنوين، قال: "فإذا قلت (لا ضاربًا زيدًا) جاز أن تنون ضاربًا وألا تنونه". وترك التنوين عنده أحسن. ووجه التنوين عنده أن زيدًا من تمام ضارب، فصار التنوين كأنه في وسط الاسم، فلم يُحذف لأن التنوين في هذا الباب إنما يُحذف من آخر الاسم المبني مع (لا). ووجه ترك التنوين عنده أن المفعول لو أمسكت عنه لجاز الكلام بضارب وحده، فلم يعتد لذلك بالمفعول، فعومل لذلك معاملة الاسم المفرد، فبني مع (لا)، وحذف منه التنوين. وكذلك أجاز في (لا خيرًا منك) التنوين وترك التنوين على التقديرين المذكورين، لكن التنوين في هذا أمثل منه في ضارب لأن تمام معناه إنما يحصل بـ (من). وهذا الذي ذهب إليه باطل من جهة أن الاسم العامل فيما بعده لم يُجعل مع غيره كاسمٍ واحد في غير هذا الباب، فيُحمل هذا الباب عليه، بل يجب إذا سُمع من ذلك شيء قد تُرك منه التنوين ألا يُجعل مع ما بعده معمولًا له، فإذا قلت "لا آمر يوم الجمعة لك"، ولم تنون، انتصب (يوم الجمعة) بالخبر الذي هو (لك)، أو بفعل محذوف يفسره قولك (لا آمر لك بالمعروف، فقدمت، وأضمرت عاملًا، أي: يأمر بالمعروف. والمصنف لم يأخذ بمذهب الجمهور ولا بمذهب ابن كيسان. أما مذهب الجمهور فلا يجوز نزع التنوين من المُطول تشبيهًا بالمضاف، وهو قد أجاز ذلك. وأما مذهب ابن كيسان فإن ترك التنوين عنده أحسن من

إثباته، والمصنف قال "وقد يُحمل على المضاف مُشابهُه بالعمل"،/ فدل لفظه على القلة في ذلك. وابن كيسان جعل نزع التنوين لأجل البناء وتركيب الاسم مع (لا)، والمصنف يدل ظاهر كلامه على أن الاسم معرب، فإن نزع التنوين منه إنما هو لمشابهته بالعمل للمضاف. وأما ما أنشده أبو علي من قوله: أراني ولا كُفران لله أيةً ........................... وزعمه واحتجاج المصنف أن (أيةٍ) منصوب بـ (كفران)، وأنه نُزع منه تنوينه مع بقائه عاملًا في المفعول له، فتخريجه على غير ما ذكراه، إذ يجوز أن يكون منصوبًا بمحذوف يدل عليه (لا كفران لله)، أي: لا أكفر أيةً لنفسي، ودل على هذا المحذوف ما قبله، كما خرجوا قوله تعالى {لاَ عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ} أي: لا عاصم يعصم اليوم. وأما منع أبي علي انتصاب (أيةً) على (أويت) مضمرة لأن ذلك يؤدي إلى الفصل بين مفعولي (أوي) بجملتين للاعتراض فهو شيء بناه أبو علي على مذهبه من أنه لا تعترض جملتان بين مقتضٍ ومقتضي. وقد رده المصنف عليه في آخر (باب الحال)، فقال: "وقد يعترض جُملتان، خلافًا لأبي علي). وسيأتي الدليل على صحة مذهب غير أبي علي - إن شاء الله - حيث يعرض له المصنف. وفي (البسيط): "معمولها -يعني معمول لا - إن كان عاملًا فيما بعده فيظهر العمل، ولا يصح البناء سواء كان مفردًا أم مثنى أم مجموعًا أم مشبهًا بالمجموع، نحو، لا عشرين درهمًا لك، والعاملُ عاملُ

خفضٍ كالمضاف، نحو: لا حسن وجهٍ، ولا مثل زيدٍ، ولا غلامي رجلٍ، ولا ضاربي قوم، وعاملُ نصب، نحو: لا ضاربًا زيدًا، ولا ضاربين عمرًا، ولا حسنًا وجهه، ولا مارًا بزيدٍ، وسواء أكان مفعولًا صريحًا أم ظرفًا أم مجرورًا أم فاعلًا. وجوز البغداديون بناءها وإن كانت عاملةً في ظرف بعدها أو مجرور، كقوله {وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ}. والأول قول الخليل وس. وإن كان غير عامل سواء أكان مفردًا أم مثنى أو مجموعًا فالجمهور على أن (لا) عاملة في الاسم على أنه مبني، وهو مذهب س. وقالت طائفة: هو معرب. ويُنسب إلى الزجاج والسيرافي وأهل الكوفة. والقائلون بالبناء على طريقين: أحدهما: أنه جوابٌ رُكب على السؤال، والسؤال مُستغرق بـ (من)، فالجواب مثله. والثاني: أن ما بعد (لا) مُفتقر إلى (لا) في أنه لا يكون إلا بعد نفي متقدم، فصار كالحرف، والحرف مفتقر إليه، فبُنيا لذلك. والقائلون بأنها لا تعمل/ على وجهين: أحدهما: أن (لا) وما بعدها مركب، صارا كشيء واحد، وبعض الشيء لا يعمل في بعضه. والثاني: أن الأصل (لا من كذا)، فموضعه رفع بمنزلة: هل من رجلٍ؟ وما من رجلٍ، فلما حذف (من)، وتضمنها الاسم، بقي مرفوعًا كحاله الأولى" انتهى، وفيه تلخيص.

وفي كتاب أبي الفضل الصفار: "وأجازوا - يعني الكوفيين - لا قائل قولًا حسنًا، ولا ضارب ضربًا كثيرًا، يبنون الاسم المُطول. وخرج هذا على إضمار: يقول قولًا حسنًا، ويضرب ضربًا كثيرًا، والإضمار للدلالة كثير". فرع: الاسم المركب من قبيل المُشبه بالمضاف من جهة أنه لا يجوز تركيبه مع (لا) وجعلهما كاسمٍ واحد لما يلزم من جعل ثلاثة أشياء كشيء واحد، وذلك لا نظير له في المركب، كما لا خمسة عشر لك) فـ (خمسة عشر) في موضع نصب بـ (لا)، وليست مركبة مع (لا)، والفتحة التي في راء (عشر) هي الفتحة التي كانت فيها قبل دخول (لا) عليها، وليست حادثة بسبب (لا). ومما يبين ذلك أنك لو أدخلت (لا) على (عمرويه) على حد دخولها على (هيثم) في قوله: لا هيثم الليلة للمطي لقلت: لا عمرويه، فأبقيت الاسم على كسره، ولم تفتح الآخر بسبب (لا).

-[ص: فصل إذا انفصل مصحوب (لا)، أو كان معرفةً، بطل العمل بإجماع، ويلزم حينئذٍ التكرار في غير ضرورة، خلافًا للمبرد وابن كيسان، وكذا التاليها خبرٌ مفردٌ أو شبهه. وأفردت في (لا نولك أن تفعل) لتأوله بـ (لا ينبغي). قد يؤول غير (عبد الله) و (عبد الرحمن) من الأعلام بنكرة، فيُعامل معاملتها بعد نزع ما فيه أو فيما أضيف إليه من ألفٍ ولام، ولا يُعامل بهذه المعاملة ضميرٌ ولا اسم إشارة، خلافًا للقراء.]- ش: (لا) هذه أضعف في العمل من (ما) الحجازية؛ لأن (ما) جوزوا الفصل بينها وبين اسمها بالخبر إذا كان ظرفًا أو مجرورًا على خلاف فيه، وبمعمول الخبر إذا كان أحدهما، نحو: ما اليوم زيدٌ سائرًا، و (لا) لا يجوز فيها ذلك. وإنما كان ذلك لأن شبه (ما) بـ (ليس) أقوى من شبه (لا) بـ (إن). ومثال الانفصال قوله تعالى {لا فِيهَا غَوْلٌ}. وكذلك لو عملت عمل (ليس) أيضًا لم يجز الفصل بينها وبين اسمها، نص على ذلك س. وقوله أو كان معرفةً إنما لم تعمل في المعرفة من قبل أن موضوع (لا) العاملة أنها/ تنفي نفيًا عامًا على سبيل النصية، و (لا) التي لا تنفي نفيًا عامًا لا خصوصية لها بالأسماء، وإذا لم تختص بالأسماء لم تعمل فيها؛ لأن الحرف إذا لم يختص فبابه ألا يعمل، ولهذه العلة لم تعمل

(لا) إذا دخلت على النكرة التي فيها معنى الفعل، نحو قولك: لا سلامٌ على زيدٍ، ومن ذلك قوله: ونُبئت جوابًا وسكنًا يسبني وعمرو بن عفرا، لا سلامٌ على عمرو يريد: لا سلم الله على عمرو. فإن قلت: هلا عملت (لا) في المعرفة إذا كانت بـ (أل) الاستغراقية. فقال المصنف: "لأنها بلفظ العهدية، فليس التنصيص بها على العموم كالتنصيص عليه بـ (من) الجنسية مذكورةً أو منوية". وقوله بطل العمل بإجماع إن رجع قوله (بإجماع) إلى قوله (أو كان معرفة) صح عند البصريين إذ أجمعوا على ذلك. وأجاز الكوفيون بناء الاسم العلم سواء أكان مفردًا، نحو: لا زيد ولا عمرو، أو مضافًا إليه، نحو: لا أبا محمد، ولا أبا زيد. وإن كان مضافًا إلى (الله) و (الرحمن) و (العزيز) أجازوا أن تعمل (لا) فيه، فيقولون: لا عبد الرحمن، ولا عبد الله، ولا عبد العزيز، وسيأتي الكلام في هذا. وإن عاد إلى هذه المسألة والتي قبلها من انفصال مصحوب (لا) فليس بصحيح؛ إذ قدم تقدم لنا النقل عن الرماني أنه إذا فُصل بطل البناء، وجاز النصب.

وفي (البسيط): قال س: ولا تعمل إذا فُصل بينها وبين اسمها ناصبةً ولا رافعة، وذلك لضعفها عن درجة (إن) و (ما)، وذلك أبين في المبنى لأنه فصل بين الشيء وجزئه. وأما الفصل فيما عداه فظاهر إطلاق س أنه لا يجوز، ولذلك قدر قوله: ................. لا كالعشية زائرًا ................... على: لا أرى، ولم يُقدره على: لا زائرًا كالعشية. وأما الفصل في (لا ضاربًا لك) - أعني بين العامل والمعمول - فيظهر أنه جائز وإن كان س قد شبه ذلك بـ (أفعل من كذا)، لكن من أجل اشتراط تعلق الثاني بالأول لا في جميع أحكامه، وسواء انفصل بالخبر وبالأجنبي. فأما (لا أبا لك) فلا يجوز الفصل إلا في ضرورة؛ إذ يكون من باب الفصل بين المضاف والمضاف إليه، فلا تقول (لا أبا فيها لك) إلا على قوله: كأن أصوات من إيغالهن بنا أواخر الميس أصوات الفراريج وقوله ويلزم حينئذ - أي: حين إذ بطل العمل إما لأجل الفصل وإما لكون الاسم/ معرفة - التكرار في غير ضرورة هذا مذهب س

والجمهور. وعلة ذلك قال المصنف: "ليكون التكرار عوضًا مما فاتها من مصاحبة ذي العموم، إن في التكرار زيادة كما في العموم زيادة، ثم حُمل في لزوم التكرار المفصولة على التي تليها معرفة لتساويهما في وجوب الإهمال". وقال غيره: يلزم تكرار (لا) غير العاملة إذا لم يكن الاسم الذي بعدها في معنى الفعل معرفةً كان أو نكرة؛ ولا يجوز أن تقول (لا زيدٌ عندك) حتى تكرر (لا)، فتقول (ولا عمروٌ). وسبب ذلك أن العرب جعلتها في جواب من سأل بالهمزة وأم، فكما أن السؤال بهما لابد فيه من العطف، فكذلك ما هو جواب له. فإن قلت: ما المانع من أن يقال (لا زيدٌ في الدار) من غير تكرار في جواب من قال: هل زيدٌ في الدار؟ فالجواب: أن العرب جعلت في جواب من قال (هل زيدٌ في الدار) (ما زيدٌ في الدار) و (ليس زيدٌ في الدار)، واستغنوا بذلك عن (لا). فإن كان الاسم في معنى الفعل لم يلزم تكرارها، نحو قولك (لا سلامٌ على زيد)؛ لأن معناه: لا سلم الله زيدًا، و (لا نولك أن تفعل)؛ لأنه صار بمنزلة: لا ينبغي لك أن تفعل، و (لا بك السوء)؛ لأنه في معنى: لا يسؤك الله، فحكموا لذلك بحكم ما هو في معناه، فلم يكرروها كما لم يكرروها في الفعل، كما حكموا لـ (يذر) بحكم (يدع) لما كان في معناه.

فإن قلت: لأي شيء لم تُكرر مع الفعل مع أنها غير عاملة فيه كما كُررت مع الاسم إذا لم تكن عاملة فيه؟ فذكر في الجواب: أنه إنما لم تُكرر مع الفعل لأنها تقع في جواب اليمين، واليمينُ قد تقع على فعل واحد. وأيضًا فإن (لا أفعل) نقيض (لأفعلن)، فمن حيث لم يجب ضم فعل آخر إلى (لأفعلن) لم يجب ذلك في نقيضه. وزعم أبو العباس أن السبب في عدم لزوم تكرارها مع الفعل أن الأفعال بعدها وقعت موقع الأسماء النكرات التي بُنيت مع (لا)، فكما لا يلزم تكرار (لا) معها فكذلك لا يلزم تكرارها مع الفعل. قال: "ولو قدرتها تقدير (لا رجل في الدار ولا غلام) لقلت: لا يقعد زيدٌ ولا يقوم، ولصارت جوابًا لقوله: أيقوم زيدٌ أم يقعد". وهذا الذي ذهب إليه باطل لأمرين: أحدهما: أن (لا) الداخلة على الفعل لا تنفي نفيًا عامً، فلا يجوز أن تُقدر تقدير التي بُني معها الاسم. وأيضًا فإن (لا) التي تنفي نفيًا عامًا لو جاز/ دخولها على الفعل لكانت غير مختصة، والحروف غير المختصة بابُها ألا تعمل. وكذلك أيضًا لم تُكرر العرب (لا) - وإن كانت غير عاملة - في قولهم "لا سواءٌ" في جواب من قال "هذان سواءٌ" لأنها جُعلت عوضًا

من المبتدأ المحذوف، ولذلك لم يقولوا "هذان لا سواءٌ" فيجمعوا بين العوض والمعوض منه، فلما جعلوا (لا) عوضًا من المبتدأ المحذوف أجروها مُجرى المبتدأ، فكما أنه لا يلزم التكرار في قولك "هذان سواءٌ" فكذلك لم يكرروا (لا) في قولهم "لا سواءٌ". وأما التي فُصل بينها وبين الاسم بخبر فامتنع إعمالها فيه من جهة أن (لا) العاملة تنزلت من الاسم الذي عملت فيه منزلة (من) الزائدة من الاسم الذي دخلت عليه في الجملة الاستفهامية التي وقعت (لا) جوابًا لها؛ فكما لا يجوز الفصل بين (من) الزائدة وما عملت فيه فكذلك لا يجوز الفصل بين (لا) وبين الاسم الذي عملت فيه، فوجب لذلك إذا فُصل بينهما ألا تعمل فيه، ويجب فيها أيضًا أن تُكرر لأن (لا) غير العاملة في الاسم إنما جعلتها العرب في جواب من سأل بالهمزة و (أم)، وقد تدخل على المعرفة، فيغني عن تكرارها حرف نفي غيرها، وهو قليل، قال الشاعر: وكان طوى كشحًا على مُستكنةٍ فلا هو أبداها، ولم يتجمجم وقوله في غير ضرورة مثال ما لم تُكرر فيه مع المعرفة قوله: بكت أسفًا واسترجعت، ثم آذنت ركائبها أن لا إلينا رجوعها ويروي: بكت جزعًا، وقوله: أشاء ما شئت حتى لا أزال لما لما أنت شائيةٌ من شأننا شاني ومثال ما لم تُكرر فيه مع الفصل قول الشاعر:

وقوله خلافًا للمبرد وابن كيسان أجاز المبرد وابن كيسان إذا فُصل بين (لا) وبين الاسم، أو جاء بعدها معرفة، ألا تُكرر، وذلك في السعة، ولا يختص ذلك بالضرورة، فأجازا: لا في الدار رجلٌ، وأجازا: لا زيدٌ عندك. فإن قلت: إذا قال القائل: أزيدٌ في الدار؟ فقلت: نعم، أليس يجوز أن يقال: نعم في الدار؟ فما المانع من أن يقال في الجواب: لا زيدٌ في الدار، كما قيل: نعم زيدٌ في الدار؟ فالجواب: أن الجملة في قولك (نعم زيدٌ في الدار) تأكيد لما تضمنته (نعم)، وكأنك قلت: نعم نعم، ولا يكون/ ذلك في (لا لأن قولك (زيدٌ في الدار) إيجاب؛ لأن (لا) قد استقلت بالجواب، فليست داخلة على هذه الجملة بعدها فتنفيها، وإذا كانت إيجابًا فلا يؤكد بها النفي. ولا حجة لهما في قول العرب (لا نولك أن تفعل) و (لا بك السوء) لما ذكرناه من أن معنى الاسم فيه الفعل. وقال السيرافي رادًا على المبرد ما نصه: فإن هذا الذي أورده: أغلامٌ عندك؟ جوابه: نعم، أو: لا، وأما أحد الاسمين فلا، إنما يُجاب بالاسم من سأل بالهمزة و (أم)، فحينئذٍ تقول: عندي غلامٌ، أو تقول: عندي جاريةٌ، أو تنفيهما، فتقول: لا هذا ولا هذا، فالتكرار لازم لـ (هذا)؛ ألا ترى أن الجواب بالاسم إنما يُرتب على من سأل بالهمزة و (أم).

قال بعض أصحابنا: وهذا الذي قاله السيرافي إذا حققته اضمحل، وذلك أن جواب من سأل بالهمزة خاصة إنما يكون بـ (نعم) أو بـ (لا) إذا كان السؤال ملفوظًا به، نحو: أغلامٌ عندك؟ فعندما تُجيب هذا تقول: نعم، أو: لا، وأما إذا قدرت سؤالًا فإنما يكون الجواب بالاسم؛ لأنه لا يدري أحد ما يُعني بـ (نعم) أو (لا)، فيتعين هنا الجواب بالاسم. فهذا الذي ذكرناه للمبرد أن يقوله، وهو حق، وإنما يُرد عليه بأن العرب لم تقل قط (لا غلامٌ) وتلغي (لا) دون تكرار إلا شذوذًا، نحو: ................... .............. أن لا إلينا رُجوعها فكونهم لا يقولون (لا زيدٌ) دليلٌ على أنهم قد عزموا على أن تكون هذه الملغاة جوابًا لمن سأل بالهمزة وأم، وإذا أرادوا جواب من سأل بالهمزة قالوا: ما زيدٌ عندي، أو: ما عمروٌ. فهذا الذي أراد س، فهو تعليل بعد السماع. فما ذهب إليه المبرد ساقط إذ لا سماع يعضده، ولا يُحفظ من كلامهم. انتهى. وقوله وكذا التاليها خبرٌ مفردٌ أو شبهه مثال ما وليها خبر مفرد قولك: زيدٌ لا قائمٌ ولا قاعدٌ. وأفهم قوله (مفرد) أنه إذا وليها الخبر وهو جُملة فلا يلزم تكرارها، وليس كذلك، بل إن كانت فعلية كان ذلك، نحو: زيدٌ لا يقوم، وإن كانت اسمية فيلزم تكرارها إلا في ضرورة. وشبه الخبر المفرد الحال والنعت، نحو: نظرت إليه لا قائمًا ولا قاعدًا، ومررت برجلٍ لا قائمٍ ولا قاعدٍ، فيلزم تكرار (لا) في هذه المواضع إلا في ضرورة، نحو قول الشاعر:

وأنت امرؤٌ منا، خلقت لغيرنا حياتك لا نفعٌ، وموتك فاجع وسهل هذا هنا أن (وموتك فاجع) في معنى: ولا موتك يسر، وقول الآخر: / قهرت العدا لا مُستعينًا بعصبةٍ ولكن بأنواع الخدائع والمكر وقول الآخر: إني تركتك لا ذا عُسرةٍ تربًا فاستعففن، واكف من وافاك ذا أمل وقوله وأفردت في (لا نولك أن تفعل) لتأوله بـ (لا ينبغي) النول من التنويل والنوال، وهو العطية، ضمن (لا نولك) معنى: لا ينبغي لك أن تفعل، فكما لا يلزم تكرار الفعل بعد (لا) كذلك لم يلزم تكريرها بعد ما هو في معنى الفعل. قال ابن هشام: "وأن تفعل: فاعلٌ بـ (نولك)، سد مسد الخبر لما كان في معنى الفعل، ونظيره (أقائمٌ الزيدان)، و (ما قائمٌ الزيدان)، فاعل سد مسد الخبر لما كان المعنى: أيقوم الزيدان؟ وما يقوم الزيدان" انتهى. والذي أذهب إليه أن (نولك) مبتدأ، و (أن تفعل) خبره، وليس مرفوعًا به رفع الفاعل؛ لأنه ليس اسم فاعل ولا اسم مفعول، وتقدم الكلام عليه في أوائل (باب الأفعال الرافعة الاسم الناصبة الخبر). وقوله وقد يؤول إلى قوله من ألفٍ ولام ذكر المصنف أن العلم غير الاسمين اللذين ذكرهما - وهما عبد الله وعبد الرحمن - قد يؤول بنكرة، فيُبنى مع (لا)، أو يُنصب إن كان مضافًا، فإن كانت فيه ألف ولام نحو

(العزى) نُزعت منه، نحو قول الراجز: إن لنا عزى، ولا عُزى لكم أو فيما أضيف إليه نُزعت أيضًا منه، نحو قول عمر (قضيةٌ ولا أبا حسنٍ لها). وأفهم قول المصنف "غير عبد الله وعبد الرحمن" أن هذين الاسمين لا يؤولا بنكرة، فيعاملان معاملتها، قال في الشرح: "للزوم الألف واللام في عبد الله، وكذا عبد الرحمن على الأصح؛ لأن الألف واللام لا يُنزعان منه إلا في النداء" انتهى. وقال الفراء: "إنما أجزنا (لا عبدالله لك) لأنه حرف مستعمل، يقال لكل أحد عبد الله، ولا نجيز: لا عبد الرحمن، ولا عبد الرحيم، لان الاستعمال لم يلزم هذين كما لزم عبد الله" انتهي. وكذلك سُمع: نعم عبد الله خالدٌ، وبئس عبد الله أنا إن كان كذا. ولا يجوز: نعم غلامٌ زيدٌ؛ لأن (عبد الله) ينطلق على كل أحد، فكأنه قال: نعم المرء خالدٌ. وكان الكسائي يقيس على (لا عبد الله لك) لا عبد الرحمن، ولا عبد العزيز. وقد حكي الفراء عن العرب: قُتل عبد العزيز وعرقل، فلا عبد عزيز ولا عرقل/ ليه، بحذف الألف واللام من (العزيز)، كما حُذفت في (قضيةٌ ولا أبا حسنٍ).

وفي (الغرة): وقوم من الكوفيين يُجيزون (لا زيد لك)، وأجروا (عبد الله) مُجرى النكرة، وعبد العزيز وعبد الرحمن يجريان مجرى عبد الله، إلا أنهم يُسقطون منهما الألف واللام، فيقولون: لا عبد عزيزٍ ولا عبد رحمن، ولا يعرف هذا بصري. وقوله فيعامل مُعاملتها يعني: فما كان مفردًا بُني على ما يُنصب به، وما كان منها مضافًا أو مُطولًا أعرب، فمما جاء من ذلك "إذا هلك قيصر فلا قيصر بعده"، وقول الراجز: لا هيثم الليلة للمطي وقول ابن الزبير الأسدي: أرى الحاجات عند أبي خبيبٍ نكدن، ولا أمية بالبلاد وقال الآخر:

تُبكي على زيدٍ، ولا زيد مثله سليمٌ من الحمى صحيح الجوانح وتنكير المعرفة على قسمين: أحدهما: أن يُجعل الاسم واقعًا في الحال على مسماه وعلى كل من أشبه مُسماه، فيكون إذ ذاك نكرة لعمومه، ومن هذا القبيل الأبيات التي تقدم ذكرها، أوقع (أمية) على الشخص الذي اسمه (أمية) وعلى كل من أشبهه، وكذلك (هيثم) و (زيد)، وإيقاع اسم الشخص على من أشبهه جائز في كلام العرب، نحو: زيدٌ زُهيرٌ، وعلى هذا الضرب تُنزع الألف واللام إن كانت فيه؛ لأن التنكير مع وجودهما غير جائز، ومنه (ولا أبا حسنٍ)، و (لا عبد عزيزٍ). والضرب الثاني: أن يكون (مثل) مضافًا إليه في التقدير، فعلى هذا تقول (قضيةٌ ولا أبا الحسن) بإثبات (أل) في الحسن، تريد: ولا مثل أبي الحسن، وتكون على هذا قد نفيت أن يكون للقضية أبو الحسن أو من يشبهه، على حد قولهم: مثلك من يفعل كذا، يريدون: أنت وأمثالك تفعلون كذا. ومن هذا الضرب ما حكاه الكسائي من قول بعضهم (لا أبا حمزة لك)، وأبو حمزة ليس مُنكرًا على الطريق الأول بدليل منعه الصرف، وإنما هو مُنكر على الطريق الثانية، والتقدير: لا مثل أبي حمزة لك، فحُذف (مثل)، وأقيم ما أضيف إليه مُقامه، ورُوعي المعنى بعد الحذف. وحكي الكسائي أيضًا (لا أبا محمد لك)، وكان القياس (لا أبا محمدٍ لك) على الضربين السابقين، فحمله بعض النحويين على أنه من قبيل/ الأسماء المركبة، نُقل من الإضافة إلى التركيب. وقال بعض أصحابنا: يجوز أن يكون ممنوع الصرف، وهو مما مُنع

لسبب واحد - وهو التعريف - نحو قوله: أنا أبو دهبل وهبٌ لوهب والتنكير على الضرب الأول أحسن من التنكير على الضرب الثاني؛ لأن العرب إذا حذفت المضاف وأقامت المضاف إليه مُقامه فإنما تجعل الحكم للملفوظ به، ولا تجعله للمحذوف إلا في قليل من الكلام، وبابه الشعر، نحو قوله: تأتي المُقيم وما سعى حاجاته عدد الحصى، ويخيب سعي الطالب نصب (عدد الحصى) على الحال، وهو معرفة في اللفظ، لما كان التقدير: مثل عدد الحصى. فإن قلت: ما الدليل على أن هذه الأسماء المعارف مؤولة بنكرة؟ ولعلها عملت فيها (لا) وهي باقية على تعريفها على سبيل الشذوذ، كما عملت (لا) في المعرفة عمل (ليس) على طريق الشذوذ، كما عملت (لا) في المعرفة عمل (ليس) على طريق الشذوذ. فالجواب: ما ذكره الفراء من أن من قال (لا أمية لك)، ثم نعت نعته بنكرة وإن كان له لفظ التعريف بترك إجرائه، فقال (لا أبا أمية عاقلًا لك)، ولا يقال (العاقل) لنيابته عن النكرة. وفي (الغُرة): فأما قول الشاعرك لا هيثم الليلة للمطي وقولهم (قضية ولا أبا حسنٍ) ففيه وجهان:

أحدهما: أنه جعل من جماعةٍ كل واحد منهم هيثم، فتنكر، كما تقول: زيدين. والآخر: أنه فيه حذف، تقديره: لا مثل هيثم. وقالوا على هذا (أما البصرة فلا بصرة لكم)، و (أما بغداد فلا بغداد لكم). وعلى القول الثاني لا يجوز وصفه عند الأخفش لأنه في موضع نكرة، فلا يجوز وصفه بالمعرفة، ولا يجوز وصفه بالنكرة وهو معرفة، فبطل الوصف. وقال المصنف في الشرح: "قدر قوم العلم المعامل بهذه المعاملة مضافًا إليه (مثل). وقدره آخرون بـ (لا مُسمى بهذا الاسم)، أو بـ (لا واحد من مسميات هذا الاسم). ولا يصح واحد من التقديرات الثلاثة على الإطلاق: أما الأول فممنوع من ثلاثة أوجه: أحدها: ذكر (مثل) بعده، نحو: تُبكي على زيدٍ، ولا زيد مثله ......................... فتقدير (مثل) قبل (زيد) مع ذكر (مثل) بعده وصفًا أو خبرًا يستلزم وصف الشيء بنفسه، أو الإخبار عنه بنفسه، وكلاهما ممتنع. الثاني: أن المتكلم بذلك إنما يقصد نفي مُسمي العلم المقرون بـ (لا)، فإذا قدر (مثل) لزم خلاف المقصود؛ لأن نفي مثل الشيء لا تعرض فيه لنفي/ ذي المثل.

الثالث: أن العلم المُعامل بها قد يكون انتفاء مثله معلومًا لكل أحد، فلا يكون في نفيه فائدة، نحو: لا بصرة لكم، ولا أبا حسنٍ لها، و "لا قريش بعد اليوم". وأما التقدير الثاني والثالث فلا يصح اعتبارهما مطلقًا، فإن من الأعلام المُعاملة بذلك ما له مُسميات كثيرة، كأبي حسنٍ وقيصر، فتقدير ما كان هكذا بـ (لا مُسمى بهذا الاسم)، أو بـ (لا واحد من مُسمياته) لا يصح لأنه كذب، فالصحيح ألا يُقدر هذا النوع بتقدير واحد، بل يُقدر ما ورد منه بما يليق به، وبما يصلح له، فيُقدر (لا زيد مثله) بـ: لا واحد من مُسميات هذا الاسم مثله، ويُقدر (لا قريش بعد اليوم) بـ: لا بطن من بطون قريش بعد اليوم، ويُقدر (لا حسنٍ لها) و (لا كسرى بعده، ولا قيصر بعده) بـ: لا مثل أبي حسنٍ، ولا مثل كسرى، ولا مثل قيصر، وكذلك: لا بصرة، ولا أمية، ولا عزى. ولا يضر في ذلك عدم التعرض لنفي ذي المثل؛ فإن سياق الكلام يدل على القصد". وقوله ولا يُعامل بهذه المعاملة ضميرٌ ولا اسم إشارة، خلافًا للفراء لم تقل العرب (لاك) ولا (لا إياك لنا). وأجاز الفراء (لا هو) و (لا هي) على أن يكون الضمير اسم (لا) محكومًا بتنكيره ونصبه. وهذا في غاية الضعف، فإن سُمع ذلك مع العرب كان تأويله على خلاف ما أجازه الفراء، فيكون (هو) مرفوعًا على الابتداء، وحُذف الخبر لدلالة المعنى عليه، ولم تتكرر (لا) على سبيل الشذوذ. وفي كتاب أبي الفضل الصفار: وأجازوا - يعني الكوفيين - دخول

(لا) على المضمر، وتكون بمنزلة (إن)، وبمنزلة (ليس)، فأجازوا في (لا هو) على الوجهين، وحكوا: إن كان أحدٌ سلك هذا الفج فلا هو بهذا. وفي (الغرة): وأجازوا - يعني قومًا من الكوفيين - دخولها على المضمر الغائب، وحكوا: إن كان واحدٌ في هذا الفج فلا هو. ولا يعرف هذا بصرىٌ وأنشد الفارسي: ولا هي إلا أن تُقرب وصلها علاةٌ كناز اللحم ذات مشاورة وأجاز الفراء أيضًا: لا هذين لك، ولا هاتين لك، على أن يكون اسم الإشارة اسم (لا) محكومًا بتنكيره. وما أجازه في اسم الإشارة منقول عن العرب، لكنه من الشذوذ والقلة بحيث لا يُقاس عليه. ص: ويُفتح أو يُرفع الأول من نحو (لا حول ولا قوة إلا بالله)، فإن فُتح فُتح الثاني أو نصب أو رفع، وإن رفع الثاني أو فتح. وإن سقطت (لا) الثانية فُتح الأول ورُفع الثاني/ أو نُصب، وربما فتح منويًا معه (لا). وتنصب صفة اسم (لا) أو تُرفع مطلقًا، وقد تُجعل مع الموصوف كـ (خمسة عشر) إن أُفردا واتصلا، وليس رفعها مقصورًا على تركيب الموصوف، ولا دليلًا على إلغاء (لا)، خلافًا لابن برهان في المسألتين. وللبدل الصالح لعمل (لا) النصب والرفع، فإن لم يصلح لعملها تعين رفعه. وكذا المعطوف نسقًا.

وإن كرر اسم (لا) المفرد دون فصلٍ فُتح الثاني أو نُصب. ش: مسألة: (لا حول ولا قوة إلا بالله) وما أشبهها فيها خمسة أوجه: [الأول]: لا حول ولا قوة، الفتح في (حول) وفي (قوة) على البناء، فتكون (لا) الثانية كالأولى، ومن ذلك {فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ}. الثاني: لا حول ولا قوةً، الفتح في (لا حول) على البناء، والنصب في (قوةً) على العطف على لفظ اسم (لا)، و (لا) الثانية زائدة لتأكيد النفي، مثلها في قولهم: ليس زيدٌ ولا أخوه عندك، ومن ذلك قول الشاعر: لا نسب اليوم ولا خُلةً إتسع الخرق على الراقع وقوله: رعت إبلي برمل عتود إذ لا مقيل بها ولا شربًا نقوعا وفي (الغرة): "النصب بالتنوين في المفرد المعطوف على المبني مع (لا) لا يُجيزه يونس وجماعة من النحاة إلا على الضرورة، كما لا

يُجيزون تنوين المنادى المفرد المعرفة، وغيرهم يُجيزه مع (لا)، يجعل (لا) الثانية زائدة مؤكدة، كما تقول: ليس زيدٌ قائمًا ولا عمروٌ منطلقًا، فتكون (لا) مؤكدة، يدلك على ذلك قولهم: ليس زيدٌ ولا عمروٌ ذاهبين. ولما اطرد في الأولى أن يكون المفرد بعدها مبنيًا على الفتح تنزلت منزلة المُحدث للفتحة، فحُمل الثاني على لفظ الأول، ولم يُبن الاسم الآخر على الفتح لأنه اعتُقد أن (لا) الثانية زائدة. وليس بصحيح أن يُبنى مع الأولى أيضًا لأجل عطف العطف، ولئلا تكون ثلاثة أشياء واحدًا، وهذا نظير (يا زيد والحارث) في عطف معرب مرفوع على معطوف منصوب الموضع؛ بخلاف المنادى لأنه مضموم اللفظ منصوب الموضع" انتهى. الثالث: لا حول ولا قوةٌ، الفتح في (لا حول) على البناء، والرفع في (قوةٌ) من وجهين: أحدهما: أ، يكون/ معطوفًا على موضع (لا) مع اسمها، و (لا) زائدة لتأكيد النفي، مثلها في قولهم: ليس زيدٌ ولا أخوه عندك. والوجه الثاني: أن تكون (لا) بمنزلة (ليس)، والنكرة مرفوعة اسمها. وعلى العطف على الموضع قوله:

بها العين والآرام لا عد عندها ولا كرعٌ إلا المغرات والربل وقوله، وهو جرير: بأي بلاءٍ يا نُمير بن عامرٍ وأنتم ذنابى، لا يدين ولا صدر وقول الآخر: هذا - وجدكم - الصغار بعينه لا أم لي إن كان ذاك ولا أب أنشده س وأبو علي على ذلك، وعدلوا إليه، ولم يذهبوا إلى أن (لا أب) ارتفع فيه (أب) على أن تكون (لا) بمنزلة (ليس)، ويكون (أب) اسمها، لما يؤدي إليه ذلك من كثرة الحذف؛ إذ يلزم حذف خبر ليس، وحذف شرط آخر، وحذف جوابه بتقدير جعل (لا) بمنزلة (ليس) لأنها مستأنفة، فيصير من عطف الجمل، ولا يريد انتفاء الأب على الإطلاق، بل انتفاءه على تقدير شرط، وهو: إن كان ذاك ولا أب. وفي الوجه الأول ليس فيه إلا حذف جواب الشرط الذي هو: إن كان ذاك، و (لا أب) من عطف المفردات، فلذلك رجحا حمل البيت على ما ذكرناه. الرابع: لا حولٌ ولا قوةٌ، نحو قوله {لاَّ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خُلَّةٌ}، وقول الشاعر: وما هجرتك حتى قلت معلنةً لا ناقةٌ لي في هذا ولا جمل

ولا يخلو النفي من أن يكون عامًا أو غير عام، إن كان غير عام لم تعمل (لا) شيئًا، وكان ارتفاع الاسمين على الابتداء. وإن كان عامًا جاز أن تكون (لا) الأولى و (لا) الثانية بمنزلة (ليس)، والنكرتان مرتفعتان بهما، وجاز أن تكون الأولى بمنزلة (ليس)، والثانية زائدة لتأكيد النفي في العطف، والنكرة بعدها معطوفة على النكرة قبلها. الخامس: لا حولٌ ولا قوة، يرفعون الأول لأن (لا) بمنزلة (ليس)، ويُفتح الثاني لأنها بمنزلة (إن)، وعلى هذا الوجه الخامس قوله: فلا لغوٌ ولا تأثيم فيها وما فاهوا به لهم مُقيم ولا يجوز أن تقول (لا حولٌ ولا قوةً) برفع الأول ونصب الثاني منونًا، ولا (لا حولًا ولا قوة) بنصب الأول وتنوينه إلا إن اضطر شاعر فنون، / نحو قوله: متى ما تزرنا تلقنا لا محالةً بقرقرةٍ ملساء ليست بقردد وقوله وإن سقطت (لا) الثانية فُتح الأول، ورُفع الثاني أو نُصب رفع الثاني على الموضع، ونصبه على اللفظ، ومنه قوله:

فلا أب وابنًا مثل مروان وابنه إذا هو بالمجد ارتدى وتأزرا وقوله وربما فُتح منويًا معه (لا) حكى أبو الحسن أن من العرب من يُسقط التنوين من المعطوف، فيقول: لا رجل وامرأة، وذلك على نية (لا)، وكأنه قال: ولا امرأة، فحذف (لا) لدلالة ما قبلها عليها، وأبقى الحكم على ما كان عليه، كما حذفوا في: ما كل سوداء تمرة ولا بيضاء شحمةً، حذفوا (كلا) لدلالة ما قبلها عليه، وأبقوا أثرها، وهو الخفض، وعلى هذا حمل أبو الحسن ما حكاه، وهي لغة ضعيفة. ولم يجز أن يجعل ذلك من باب التركيب كخمسة عشر، كما ركبوا في الصفة، لحجز حرف العطف بينهما، ولم يجز أن يُجعلا مع حرف العطف بمنزلة اسم واحد لأنه لا يوجد في الأسماء المركبة ما هو مركب من ثلاثة ألفاظ. وقوله وتنصب صفة اسم (لا) أو تُرفع مطلقًا مثال النصب: لا رجل ظريفًا عندك، ولا رجل ضارب زيدٍ في الدار، ولا رجل ضاربًا زيدًا في الدار. وهذا الوجه أكثر في الكلام وأحسن قياسًا على سائر المبنيات التي هي في موضع نصب بالعوامل الداخلة عليها؛ ألا ترى أن رجلًا من قولك (لا رجل) مبنيٌ في موضع نصب بـ (لا)، كما أن (هذه) من قولك (رأيت هذه) مبنية في موضع نصب بـ (رأيت)، فكما تقول: رأيت هذه العاقلة، فتنصب الصفة، فكذلك تقول: لا رجل عاقلًا لك، فتنصب الصفة. ومثال الرفع: لا رجل ظريفٌ عندك، ولا رجل ضارب زيدٍ، ولا رجل ضاربٌ زيدًا، فتجري الصفة على الموصوف في موضعه لأن موضع (لا) مع (رجل) رفع لأنه مبتدأ، فتجريه على الموضع.

ويعني بقوله (مطلقًا) أي: لتركيب وعدمه، وفي اتصال الصفة وانفصالها، وفي كونها مفردة أو مضافة أو مُطولة. ووقع لبعض أصحابنا وهم، وهو أن اسم (لا) إذا كان معربًا فلا يُتبع إلا على لفظه. وهو شبيه بما ذهب إليه ابن برهان، وسيأتي مذهبه. ووهم آخر، وهو أن النعت إذا كان مضافًا أو مطولًا فلا يجوز الإتباع فيه/ إلا على لفظ اسم (لا)، نحو: لا رجل صاحب دابةٍ في الدار، ولا رجل خيرًا من زيدٍ. وفي (البسيط) ما ملخصه: الظاهر أن اسم (لا) لا موضع له من الإعراب لفقدان الطالب؛ فكل ما دخل على الجملة الابتدائية للعمل أبطل معنى الابتداء، فارتفع حكمه، فلا موضع، إلا أن النحويين قالوا: إن زيدًا قائمٌ وعمروٌ، عطف على موضع (إن)؛ لأن هذا العامل ضعيف لم ينسخ معنى الابتداء، فكأنه لم يرتفع، بخلاف ليت ولعل وكأن، وفي حكم (إن) (لا) لأنها عامل ضعيف، لا يقال إنها تُغير معنى الابتداء لضعفها، فلا يكون لها موضع؛ لأنا نقول: النفي لا يُغير معنى الخبر إذ هو والإيجاب نوعان للخبر، بخلاف التمني والتشبيه، وإذا كان لها موضع فهو رفع، وهو على وجهين: إما (لا) وما بعدها في موضع مبتدأ، كما في (بحسبك)، وهو ظاهر كلام س. وإما أن يكون ما بعدها، أي: ما (لا) في موضع مبتدأ بمنزلة (إن زيدًا)، ولما كانت عاملةً النصب، ومنع

من ظهوره البناء، صارت عاملة في المحل بمنزلة: إن هذا قائمٌ، فصار لها محل، ولأن هذا الاسم صارت حركة بنائه بمنزلة حركة الإعراب، فصار له لفظ، كما في باب النداء في: يا زيد العاقل. فحصل من هذا أن الرفع له وجهان، والنصب وجهان. وقوله وقد تُجعل مع الموصوف كـ (خمسة عشر) إن أفردا واتصلا مثاله: لا رجل ظريف، جعل المنفي ونعته بمنزلة اسم واحد، كما جعل المنادى ونعته في قولك (يا زيد بن عمرو) بمنزلة اسم واحد؛ لأن باب النفي بـ (لا) شبيه بباب النداء من جهة أن علامة البناء في البابين شبه الإعراب لاطرادها. وسهل ذلك في هذا الباب كون بناء الاسم مع الاسم أكثر في كلام العرب من بناء الاسم مع الحرف؛ لأن تركيب الاسم مع الاسم قد جاء في هذا الباب وفي غيره كثيرًا، وتركيب الحرف مع الاسم إنما جاء في هذا الباب، ولم يجيء في غيره إلا قليلًا، ومنه: أثور ما أصيدكم أم ثورين فجعل (ما) مع (ثور) بمنزلة اسم واحد، ولذلك حذف التنوين، وتركيب الصفة مع الموصوف دون (لا)؛ لأنه لا يكون ثلاثة أشياء كشيء واحد، ولا يكون هذا التركيب بدون (لا) مع الوصف. وعلة البناء كون الوصف من تمام اسم (لا)، واسم (لا) وجب له البناء لتضمنه معنى الاستغراق، وهذا من تمامه، فصارا كأنهما تضمنا معنى (من)؛ ألا ترى/ أن غير المبني إذا كان مفتقرًا إلى مبني ليُتمه

اكتسب منه البناء، كظروف الزمان إذا أُضيف إلى الظروف المبنية. وقد يقال: لا يبعد أن يُحمل على لفظه في الإعراب لأنه أشبه حركة الإعراب، ولا يلزم من الحمل عليه أن يُبنى المحمول؛ لأنك لما جعلت الأول في حكم الإعراب ارتفع البناء حكمًا. وقد قيل: يجوز أن يُتبع بحذف التنوين، وتكون الفتحة إعرابًا، وحذف التنوين للمُشاكلة. فعلى هذا يكون محمولًا على محله وعلى لفظه. وفي (الغرة): "ويجوز أن تبني الصفة مع الموصوف، وتفك (لا) من البناء، فتقول: لا رجل ظريف. وإنما فككتها منه لئلا تجعل ثلاثة أشياء شيئًا واحدًا. ورأيت كلام الفارسي يدل على أن ثلاثة أشياء قد جُعلت شيئًا واحدًا، ذكره في كتاب (الإغفال)، قال: لأن فتحة فاء ظريف فتحة تركيب نائبة عن فتحة البناء مع (لا) النائبة مناب نصبه، وإنما فعلوا ذلك لشدة اتصال الصفة بالموصوف" انتهى. وشرط الإفراد في الموصوف وفي الصفة، فلو كان الموصوف مضافًا أو مُشبهًا بالمضاف فلا بناء. وشرط أيضًا الاتصال، فلو فُصل بينهما بشيء فلا بناء. وإنما لم يجز البناء مع المُطول والمضاف لأن العرب لم تُركب واحدًا منهما مع اسم آخر في موضع من المواضع لطولهما. ولم يجز البناء مع الفصل لحجز الفاصل بينهما. ولو قلت (لا رجل ظريفًا عاقلًا في الدار) لم يُبن (عاقلًا) مع (رجل) لحجز الوصف الأول بينهما، ولم تُركب الصفتان مع (رجل) لأن العرب لا تركب ثلاثة ألفاظ وتجعلها بمنزلة لفظ واحد في موضع من المواضع.

وقوله وليس رفعها مقصورًا على تركيب الموصوف أي: ليس رفع الصفة مقصورًا على تركيب الموصوف مع (لا)، بل يجوز الرفع سواء أكان الاسم مُركبًا مع (لا) أم مضافًا أو مُطولاً، فتقول: لا مثل زيدٍ ظريفٌ عندنا، ولا ضاربًا زيدًا ظريفٌ عندنا، كما تقول: لا رجل ظريفٌ عندنا. وقوله ولا دليلًا على إلغاء (لا) بل يكون الرفع مع الإلغاء ومع الإعمال كما مثلنا. وقوله خلافًا لابن برهان في المسألتين قال المصنف في الشرح: زعم ابن برهان أن صفة اسم (لا) لا تُرفع إلا إذا كان الموصوف مُركبًا مع (لا)، فإن رفعها دليل على إلغاء (لا). وحمله على ذلك أن العامل في الصفة هو/ العامل في الموصوف، والاسم الموصوف لا يعمل الابتداء فيه، فلا عامل له في صفته. والاسم المبني على الفتح إن نصبت صفته دل ذلك عنده على الإعمال، وإذا رفعت دل ذلك عنده على الإلغاء. وما ذهب إليه غير صحيح لأن إعمال (لا) المشار إليها عند استكمال شروطها ثابت بإجماع العرب، فالحكم عليها بالإلغاء دون نقصان الشروط حكمٌ بما لا نظير له. وقوله "لا عمل للابتداء في الاسم المنصوب" غير مُسلم، بل له عمل ي موضعه، كما له بإجماع عملٌ في موضع المجرور بـ (من) في نحو: هل من رجلٍ في الدار؟ فصح ما قلناه، وبطل ما ادعاه" انتهى كلام المصنف. وقوله وللبدل الصالح لعمل (لا) النصب والرفع مثال ذلك: لا أحد

فيها رجلٌ ولا امرأةٌ، بالرفع والنصب، وسواء أكان البدل مفردًا أم مضافًا أم مُطولًا، نحو: لا أحد فيها صاحب دابةٍ، بنصب (صاحب) ورفعه، ولا أحد فيها خيرًا من زيدٍ، بنصب (خير) ورفعه. ولا يجوز أن يُجعل المبدل منه والبدل بمنزلة اسم مركب، كما جاز ذلك في النعت؛ لأنه على نية تكرار العامل، فبينهما حاجز مقدر. وقوله فإن لم يصلح لعملها تعين رفعه مثاله: لا أحد فيها زيدٌ ولا عمروٌ، فلا يجوز في زيد ولا عمرو إلا الرفع حملًا على الموضع، ومنه {لا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ}. وقوله وكذا المعطوف نسقًا مثاله: لا غلام فيها ولا زيدٌ، لا يجوز في (زيد) إلا الرفع عطفًا على الموضع؛ لأن المعارف لا تعمل فيها (لا) الناصبة، وهذا بناء على أن المعطوف يحل محل المعطوف عليه. ومن لم يقل ذلك، وقال (كل شاةٍ وسخلتها بدرهمٍ)، قال: لا غلام ولا العباس، ولا رجل عندنا ولا أخاه. انتهى من البسيط. وقال س ما معناه: إنك إذا قلت: لا غلام، ثم جئت باسم علم أو مُعرف فلا سبيل إلا أن تحمله على الموضع؛ لأن (لا غلام) في موضع اسم مبتدأ، فيعمل في المعطوف الابتداء، ولو كانت (لا) بمنزلة (ليس) لم يجز الحمل أصلًا لأنه لا موضع ثم، فإنما كان يكون محمولًا على لفظ الاسم، فتكون (لا) عاملة، ولا تعمل في معرفة أصلًا، فلهذا يمتنع الا يُحمل على الموضع. ومن قال (كل شاةٍ وسخلتها) فحمل على محل المعرفة، وهي لا تدخل عليه، قال هنا: لا غلام لك ولا أخاه. وسوغ له التشريك أن دخل الثاني ما دخل الأول.

وقوله وإن كرر اسم (لا) المفرد دون/ فصل فتح الثاني أو نُصب قال المصنف في الشرح: "إذا كرر اسم (لا) المركب معها دون فصلٍ جازن تركيب الأول والثاني كما يُركب الموصوف والصفة، وجاز فيه النصب، وذلك كقولك: لا ماء ماء باردًا لنا، ولا ماء ماءً باردًا لنا" انتهى. ولم يبين المصنف إعراب هذا الاسم الثاني. وإنما قال "المفرد" احترازًا من المضاف والمُطول. وقال "دون فصل" لأنه إذا فُصل امتنع التركيب. وذكر وجهين: أحدهما البناء، والثاني نصب الثاني، وترك وجهًا ثالثًا، وهو الرفع، فتقول: لا ماء ماءٌ باردٌ. وتكرير النكرة هنا جرى مجرى النعت، وتكررت توطئة للنعت، كما جاءت توطئة للحال في قوله تعالى {فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ (4) أَمْراً مِّنْ عِندِنَا}. وجعل س تكرير الاسم بمنزلة الموصوف في: لا ماء ماءً باردًا، قال س: "ولابد من تنوين بارد لأنه وصفٌ ثانٍ". وقال ابن طاهر: "أراد به تأكيدًا - يريد التأكيد اللفظي - والصحيح أنه يوصف بالاسم إذا وُصف، نحو: مررت برجلٍ رجلٍ عاقلٍ". وإنما تجوز هذه الأوجه الثلاثة إذا قُدرت هذه النكرة توطئة للنعت، فإن قُدرت بدلًا من النكرة قبلها لم يجز البناء وجعلهما كاسمٍ واحد؛ لأن البدل على نية تكرار العامل، فيمنع ذلك العامل المقدر من بنائها وجعلها كاسم واحد. ص: ولـ (لا) مقرونةً بهمزة الاستفهام في غير تمنً وعرضٍ ما لها مجردةً، ولها في التمني من لزوم العمل، ومنع الإلغاء، واعتبار الابتداء، ما لـ (ليت)، خلافًا للمازني والمبرد في جعلها كالمجردة.

ويجوز إلحاق (لا) العاملة بـ (ليس) فيما لا تمني فيه من جمع مواضعها إن لم تُقصد الدلالة بعملها على نصوصية العموم. ش: إذا دخلت همزة الاستفهام على (لا) كانت على معانٍ: أحدها: أن يراد صريح الاستفهام عن النفي المحض دون تقرير ولا إنكار ولا توبيخ، خلافًا للأستاذ أبي علي إذا زعم أنها لا تقع لمجرد الاستفهام المحض عن النفي دون إنكار وتوبيخ. ورد على أبي موسى الجزولي إجازة ذلك. والصحيح وجود ذلك في كلام العرب، ولكنه قليل، ومنه قول العرب: أفلا قُماص بالعير، وقول الشاعر: ألا اصطبار لسلمى أم لها جلدٌ إذا ألاقي الذي لاقاه أمثالي / وظاهر كلام س أنه لا يشترط ما زعمه الأستاذ أبو علي. الثاني: أن يكون الاستفهام على طريق التقرير والإنكار والتوبيخ، نحو قول الشاعر، وهو حسان: ألا طعان، ألا فُرسان عاديةً إلا تجشؤكم عند التنانير

وقول الآخر: ألا ارعواء لمن ولت شبيبته وآذنت بمشيبٍ، بعده هرم وحكم (لا) في هذين المعنيين حكمها لو لم تدخل عليها الهمزة من جواز إلغائها، وإعمالها إعمال (إن)، وإعمال (ليس)، بجميع أحكامها في ذلك كله. وفي (البسيط): وقال أبو العباس: علل س البناء بكونه جوابًا لسؤال عام، فيلزم أن يكون هذا جوابًا لسؤال آخر متضمنًا لـ (من)، والسؤال لا يكون جوابًا عن سؤال. وهذا لا يلزم، فإن البناء قد وجب للكلمة قبل دخول الهمزة بالعلة المتقدمة، ولم تُغيره الهمزة، بل دخلت لمعنى زائد، وهو تقدير هذا الجواب، أو على سؤال عنه، كقوله: ألا طعان .............. البيت. وقد تدخل الفاء بينها، نحو: أفال قُماص بالعير، يُضرب مثلًا للعاجز الذي لا حراك به، فكذلك تدخل على (لا) غير العاملة، نحو: ألا رجلٌ في الدار. الثالث: أن تصير الكلمة بمجموعها للتخصيص، وعبر المصنف عن هذا المعنى بالعرض. فهذه إن جاء بعدها حُمل على إضمار فعل، وإن كان الاسم مما يُنون نون، وعلى هذا حمل الخليل قول الشاعر:

ألا رجلًا، جزاه الله خيرًا يدل على محصلةٍ تبيت زعم أنه ليس على التمني، ولكنه بمنزلة قول الرجل: فهلا خيرًا من ذلك، كأنه قال: ألا تُرونني رجلًا جزاه الله خيرًا. وزعم يونس والأخفش أنه نون مضطرًا. وظاهر كلام النحويين أن (ألا) التي للتخصيص مركبة من همزة الاستفهام و (لا) التي للنفي، ودخلها معنى التخضيض. والذي أذهب إليه أنها بسيطة، وُضعت لمعنى التخضيض، كما هي بسيطة إذا كانت للتنبيه والاستفتاح، وليست مركبة. الرابع: أن يدخلها معنى التمني: فمذهب س والخليل والجرمي أنها لا تعمل إلا عمل (إن) في الاسم خاصة، فيبنى الاسم معها إن كان مفردًا، ويُعرب إن كان مضافًا أو مطولًا، ولا يكون لها/ خبر لا في اللفظ ولا في التقدير، ولا يُتبع اسمها إلا على اللفظ خاصة دون الموضع، ولا تُلغى بحال، ولا تعمل عمل (ليس)، تقول: ألا غلام لي، وألا ماء باردً، وألا ماء بارد، وألا أبا لي، وألا غُلامي لي، وألا غلامين لي أو جاريتين، وألا ماء أو لبنًا، وألا ماء وعسلًا باردًا حلوًا، هذه مثل س في كتابه. وقال س: "ومن قال لا غلام أفضل منك لم يقل في ألا غلام أفضل منك إلا بالنصب؛ لأنه دخل فيه معنى التمني، وصار مُستغنيًا عن الخبر" انتهى.

وقوله ولها في التمني من لزوم العمل يعني عمل (إن) لا عمل (ليس). وقوله ومنع الإلغاء يعني أنها لا تُلغى البتة. ولا يحتاج لقوله (ومنع الإلغاء) لأن قوله (لزوم العمل) يدل على منع الإلغاء؛ لأنه إذا لزم أن تعمل عمل (إن) لم يكن إلغاء. وقوله واعتبار الابتداء هو معطوف على قوله (الإلغاء)، أي: ومنع اعتبار الابتداء، وليس معطوفًا على (منع) لئلا يلزم من ذلك أنه يعتبر الابتداء معها. ومذهب س أنه لا يُعتبر الابتداء معها في التمني، ما لا يُعتبر في (ليت). وقوله خلافًا للمازني والمبرد في جعلها كالمجردة يعني من الهمزة، فتكون وهي للتمني كهي لمحض النفي، فيكون لها خبر في اللفظ أو في التقدير، ويُتبع اسمها على اللفظ وعلى الموضع، ويجوز أن تعمل عمل (ليس) وأن تُلغى، فتكون أحكامها مرادًا بها التمني كأحكامها وهي تكون للنفي. قال المازني: "اللفظ يكون على ما كان عليه وإن دخله خلاف المعنى، كباب: غفر الله لزيدٍ، وحسبك، رفع بالابتداء، والمعنى معنى النهي". قال الأستاذ أبو الحسن: "وهذا - يعني مذهب المازني - باطل سماعًا وقياسًا:

أما السماع فلم يُسمع من العرب (ألا رجل أفضل من زيدٍ) برفع (أفضل)، فلو كان لها خبر لسُمع ولو في بعض المواضع، ولو كان للاسم بعدها موضع لرُفعت صفته في بعض المواضع. وأما القياس فإن الهمزة لا تخلو من أن تُقدرها داخلة على (لا) وحدها أو على الجملة، فإن قدرتها داخلة على الجملة لم يجز ذلك لأنا لم نجد جُملة يدخلها بجملتها معنى التمني، وقد وجدنا من الحروف ما له معنًى، فإذا رُكب كان له معنًى خلاف الذي كان له قبل التركيب، نحو (هلا) و (لولا). وإن قدرتها داخلة على (لا) وحدها، وحدث فيها معنى التمني، لم تحتج إلى خبر لأن المراد التمني نفسه. وإن كانت نافية/ لم يكن بُدٌ من خبر؛ لأن المنفي في المعنى إنما هو الخبر، ولا يُتصور نفي (الرجل). فثبت إذًا ما ذهب إليه س" انتهى رده على المازني. والفرق بين المذهبين من حيث المعنى أن في مذهب س يكون التمني واقعًا على الاسم، وفي مذهب المازني على الخبر، والمازني جعل (ألا) في التمني بمنزلة (ليت)، فتعمل عملها، فلها خبر مرفوع، وبمنزلة (إن) لفظًا، فيُتبع اسمها على اللفظ وعلى الموضع. ومثال ورودها في التمني قول الشاعر: ألا عمر ولي مستطاعٌ رجوعه فيرأب ما أثاث يد الغفلات فنصب (يرأب) لأنه جواب تمن مقرون بالفاء فإن قلت: قد زعمت أن الاسم مع (ألا) التي للتمني لا يجوز أن يُحمل النعت فيه إلا على اللفظ، وظاهر هذا البيت أنه حُمل على الموضع؛ ألا ترى إلى قوله (مُستطاعٌ رُجوعه) كيف رفع مستطاعًا، ولو كان حملًا على اللفظ لنصب، فقال: مُستطاعًا رجوعه.

فالجواب: أن قوله (مُستطاعٌ رجوعه) جملة من مبتدأ وخبر، قدم فيها الخبر على المبتدأ، والجملة بأسرها في موضع نصب على الصفة و (ألا) التي للتمني مركبة من الهمزة ومن (لا) التي للنفي، واستُعملت في معنى التمني لأن التمني مفقود، كما أن النفي كذلك. وإنما ادعينا التركيب في هذا لأن بعض أحكام (لا) وُجدت في (ألا) على رأي س، وجميع أحكامها على رأي المازني، فقد اتفقت (ألا) و (لا) من حيث المعنى ومن حيث الحكم، بخلاف (ألا) التي للتخضيض؛ لأنها وإن وافقت (لا) من حيث إن المحضوض عليه مفقود لم توافق من حيث الحكم، ألا ترى أنه لا عمل لها، وأن مُتعلق التحضيض الفعل لا الاسم، والنفي والتمني متعلقهما في اللفظ الاسم. وفي (البسيط): فإن قيل: كيف يصح معنى التمني مع البناء، والبناء يكون للجواب العام، والتمني إنشاء وابتداء، فيلزم أن يكون الابتداء لا ابتداء، ويعرب مع التمني، وأنت تقول: ألا ماء باردًا، على البناء؟ فالجواب: أن البناء هنا ليس هو لأجل التضمن للاستغراق، بل من أجل الحمل بالشبه على التضمن، كما حُملت (حذام) على (نزال)، فلما كان معنى التمني معنى داخلًا في الاستفهام لا تغيير معه، كان هذا كذلك، وأيضًا فمعناه من الاستغراق باقٍ، فإنه/ يتمنى أي رجل كان. وقوله ويجوز إلحاق (لا) العاملة بـ (ليس) إلى آخره. قال المصنف في الشرح: "ويجوز إجراء (لا) مُجرى (ليس) فيما لا يُقصد به تمن من مواضع إعمالها إن لم يُقصد التنصيص على العموم بلفظ ما وليها، فعند ذلك لا يجوز إجراؤها مُجرى (ليس)، لأنها إذا جرت مجرى (ليس) جاز أن يكون العموم مقصودًا وغير مقصود" انتهى كلامه.

وإذا عملت عمل (ليس) فمذهب أكثر النحويين أن خبرها لا يكون إلا منصوبًا كخبر (ليس). وذهب الزجاج إلى أنها تعمل في الاسم الرفع، ولا تعمل في الخبر شيئًا، كما لا تعمل الناصبة فيه شيئًا، بل النكرة مع (لا) العاملة فيها الرفع في موضع رفع على الابتداء، والاسم المرفوع بعدها خبر للمبتدأ، وزعم أن ذلك مذهب س، وقد نص على ذلك في شرحه مستغلق كتاب س. قال ابن عصفور: "والصحيح عندي أنها لا تعمل في الخبر شيئًا؛ لأن (لا) تنزلت من النكرة التي رفعتها منزلة (من) منها في الاستفهام، كما تنزلت (لا) الناصبة منها منزلتها، ولذلك لم يجز الفصل بين (لا) وما عملت فيه رافعةً كانت أو ناصبة، كما لا يجوز الفصل بين (ما) وما عملت فيه، فكما أن (قائمًا) من قولك (هل من رجلٍ قائمٌ) خبر للاسم المجرور بـ (من) لأن موضعه مع (من) رفع بالابتداء، فكذلك يكون (قائم) من قولك (لا رجل قائمٌ) خبرًا للاسم الذي عملت فيه؛ لأنه مع (لا) في موضع رفع على الابتداء" انتهى كلامه. وهذا الذي استدل به أبو الحسن بن عصفور ليس بصحيح؛ لأن (لا) لم تتنزل من النكرة التي رفعتها منزلة (من)، كالناصبة؛ إذ لو كانت كذلك لم يُجيزوا (لا رجلٌ في الدار بل رجلان)، ولسووا بين هذا وبين (لا رجل في الدار) بجامع ما اشتركا فيه من أن (لا) إذا عملت عمل (إن) أو عمل (ليس) كانت جوابًا لقولك: هل من رجلٍ في الدار؟ فكانت تكون في حاليها وُضعت للنص على العموم لأنها جواب نص على العموم، فكون النحويين فرقوا بينهما، فجعلوا العاملة علم (إن) نصًا في العموم، والعاملة عمل (ليس) محتملة للعموم، دليل على اختلاف الأحكام. ومما يشهد بصحة مذهب الجمهور وبطلان مذهب الزجاج واختيار/

ابن عصفور أن السماع ورد بنصب خبر (لا) العاملة عمل (ليس)، نحو قوله: تعز، فلا شيءٌ على الأرض باقيا ولا وزرٌ مما قضى الله واقيا وقد أنشدنا غير ذلك في (باب ما) مما يوقف عليه هناك. وإنما كررنا هذه المسألة لأن فيها مزيد فائدة، والله أعلم. تم بحمد الله - تعالى - وتوفيقه الجزء الخامس من كتاب "التذييل والتكميل" بتقسيم محققه، ويليه - إن شاء الله تعالى - الجزء السادس، وأوله: "باب الأفعال الداخلة على المبتدأ والخبر"

التذييل والتكميل في شرح كتاب التسهيل ألفه أبو حيان الأندلسي حققه الأستاذ الدكتور حسن هنداوي كلية التربية الأساسية- الكويت الجزء السادس كنوز إشبيليا للنشر والتوزيع

باب الأفعال الداخلة على المبتدأ والخبر

-[ص: باب الأفعال الداخلة على المبتدأ والخبر الداخل عليهما (كان) والممتنع دخولها عليهما لاشتمال المبتدأ على استفهام، فتنصبهما مفعولين. ولا يحذفان معًا أو أحدهما إلا بدليل. ولهما من التقديم والتأخير ما لهما مجردين. ولثانيهما من الأقسام والأحوال ما لخبر كان، فإن وقع موقعهما ظرف أو شبهه أو ضمير أو اسم إشارة امتنع الاقتصار عليه إن كان أحدهما، لا إن لم يكنه ولم يعلم المحذوف.]- ش: ما ذكره من أن هذه الأفعال داخلة على المبتدأ والخبر هو مذهب جمهور النحويين. وزعم أبو زيد السهيلي أن ذلك باطل، بل هذه الأفعال بمنزلة أعطيت في أنها استعملت مع مفعوليها ابتداء، قال: " والذي حمل النحويين على ذلك هو أنهم رأوا أن هذه الأفعال يجوز ألا تذكر، فيكون من مفعوليها مبتدأ وخبر". قال: "وهذا باطل بدليل أنك تقول: ظننت زيدًا عمرًا، ولا يجوز أن تقول: زيد عمروٌ، إلا على وجهة التشبيه، وأنت لم ترد ذلك مع ظننت؛ ألا ترى أنك لم ترد أن تقول إنك ظننت زيدًا شبه عمرو بل عمرًا نفسه". والصحيح ما ذهب إليه النحويون، وليس دليلهم على مذهبهم ما توهمه، بل دليلهم رجوع المفعولين إلى المبتدأ والخبر إذا ألغيت هذه الأفعال، وكان ينبغي ألا تؤثر في المبتدأ والخبر لأن العوامل الداخلة على الجمل لا تؤثر فيها، إلا أنهم شبهوها بأعطيت، فنصبت الاسمين.

وزعم الفراء أن هذه الأفعال لما طلبت اسمين شبهت من الأفعال بما يطلب اسمين، أحدهما مفعول به، والآخر حال، نحو: أتيت زيدًا ضاحكًا. واستدل على ذلك بوقوع الجمل والظروف والمجرورات موقع المنصوب الثاني في باب ظننت كما تقع موقع الحال، ولا يقع شيء من ذلك موقع المفعول به، فدل ذلك على أنه انتصابه على التشبيه بالحال لا على التشبيه بالمفعول به، ولا يقدح في ذلك كون الحال يتم الكلام دونها، والمنصوب الثاني في هذا الباب لا يتم الكلام دونه، لأنه ليس بحال حقيقي، بل مشبه بها، كما لا يقدح فيما ذهبنا إليه من أن انتصابه على التشبيه بالمفعول الثاني في باب أعطيت كونه لا يجوز الاقتصار عليه، والثاني في باب أعطيت يجوز الاقتصار عليه من جهة أنه ليس بمفعول حقيقي، بل مشبه به، والمشبه/ بالشيء لا يجري مجرى الشيء في جميع أحكامه. وما ذهب إليه البصريون هو الصحيح بدليل أن المفعول الثاني في هذا الباب يكون معرفة، ومضمرًا، واسمًا جامدًا، كالمفعول به، ولا يكون شيء من ذلك حالًا، ولا يقدح في ذلك وقوع الجمل والظروف والمجرورات موقعه لأن الظروف قد تنتصب على التشبيه بالمفعول به؛ وكذلك المجرور يكون في موضع المفعول، نحو: مررت بزيد، بدليل أنك إذا اضطررت إلى حذف حرف الجر نصبت الاسم، فقلت: مررت زيدًا. وكذلك أيضًا قد تقع الجمل موقع المفعول به في نحو: قال زيدٌ عمروٌ منطلقٌ.

فإن قلت: تشبيه ظننت وأخواتها بأعطيت مبنيٌّ على أن أعطيت وأشباهها متعدية إلى اثنين، ويزعم الكوفيون أن أعطيت وأمثالها تتعدى إلى واحد، والثاني منصوب بفعل مضمر. فالجواب: أن ما ذهبوا إليه فاسد، وسيأتي ذكر هذه المسألة في باب ما لم يسم فاعله، إن شاء الله. وما تقدم ذكره من أن عمل ظننت وأخواتها إنما هو للتشبيه بأعطيت ذكر ابن هشام أنه قول لبعض المتأخرين، قال: وذلك أن كل عامل يدخل على جملة فإنه لا يعمل فيها، نحو قلت وكنت إذا كانت الجملة في موضع خبرها، وكذلك أسماء الزمان إذا أضفتها إلى جملة المبتدأ والخبر، وكذلك المبتدأ إذا كان خبره جملة، وكان الواجب في هذه الأفعال أن تكون كذلك لولا هذا التشبيه، وقد أولع أبو علي الشلوبين بهذا المذهب، وهو لا يصح إذا حقق النظر فيه. ومذهب س أن ما دخل على الجملة مما شأنه وأصله أن يدخل على المفرد فالجملة تبقى على حالها حكاية لأنها بجملتها تنزلت منزلة المفرد، فالاسم فيها أو الفعل أحد جزئيها، فيتنزل منزلة بعض الكلمة، والعامل لا يعمل في بعض الكلمة، فبقيت على إعرابها حكاية. والذي ليس من شأنه أن يدخل على مفرد، مثل كان وأخواتها، وإن وأخواتها، وظننت وأخواتها، يصير مثل الفعل الداخل على اثنين، فما كان فعلًا جرى مجرى الأفعال لأجل التشبيه به، وما كان غير فعل عمل بالتشبيه، أو لم يعمل بحكم أصله، هذا مذهب س والنحويين المتقدمين. وقد رأينا العامل اللفظي يزيل الابتداء، نحو: زيدٌ قام، إذا قدمت

الفعل رفعت الاسم به، ولم تشغله بضميره كما يعمل إذا تأخر، وكذلك ما يدخل عليه طالبًا له من جهة وللخبر من جهة يخلع الابتداء، ويستأثر بالعمل لأنه/ أقوى منه، وإذا علمت الحروف، نحو: إن وأخواتها، وما، ولات، ولا، في هذه الجملة بما أدت معانيها فيها- فالفعل أولى بالعمل وأوجب أن يجوز فيه ذلك. انتهى. وقوله الداخل عليهما كان أحال على كان، وقد تقدم بيان ذلك في باب كان. وقوله والممتنع دخولها- أي: دخول كان -عليهما- أي: على المبتدأ والخبر -لاشتمال المبتدأ على استفهام، مثاله: أيهم أفضل؟ وغلام من عندك؟ فهذه لا تدخل عليها كان، وتدخل عليها ظننت، فتقول: أيهم ظننت أفضل؟ وغلام من ظننت عندك؟ ولا تدخل على هذه كان لأنها لا تتأخر؛ إذ هي -أعني أسماء الاستفهام- لها صدر الكلام. وقوله فتنصبهما مفعولين تقدم مذهب الفراء أن الاسم الثاني ينتصب على التشبيه بالحال والرد عليه. وقوله ولا يحذفان معًا أو أحدهما إلا بدليل الحذف يكون اقتصارًا واختصارًا، فحذف الاقتصار حذف الشيء لغير دليل، وحذف الاختصار حذف

الشيء لدليل. فإن حذفت المفعولين هنا اختصارًا جاز، ومنه قول الكميت: بأي كتابٍ أم بأية سنةٍ ترى حبهم عارًا علي وتحسب يريد: وتحسب حبهم عارًا علي. وإن حذفتها اقتصارًا فأربعة مذاهب: أحدها: مذهب الأخفش، وهو المنع. وحجته أن هذه الأفعال [تجري مجرى القسم، ومفعولاتها] تجري مجرى جواب القسم، والدليل على ذلك أن العرب تتلقاها بما يتلقى به القسم، قال تعالى {وظَنُّوا مَا لَهُم مِّن مَّحِيصٍ}، فكما أن القسم لا يبقى دون جواب، فكذلك هذه الأفعال، لا تستغني عن مفعولاتها. فأما قول الأخفش في كتابه المسمى بالمسائل الصغرى: "تقول: ضرب عبد الله، وظن عبد الله، وأعلم عبد الله، إذا كنت تخبر عن الفعل" انتهى- فظاهره مخالفة هذا النقل. وأول على أنه لم يقصد جواز الاقتصار مطلقًا، بل مع قرينة محصلة للفائدة، كقولك لمن قال: من ظنني ذاهبًا؟ ظن عبد الله، [ولمن قال]:

من أعلمك أني ذاهب؟ أعلم عبد الله، ولذلك قال "إذا كنت تخبر"، فإن الناطق بما لا فائدة فيه ليس بمخبر. قالوا: وما استدل به الأخفش لا حجة فيه لأن العرب لا تضمنها معنى القسم على اللزوم، فإذا امتنع حذف مفعوليها إذا دخلها معنى القسم لما ذكر فما المانع من حذفهما إذا لم تتضمن معنى القسم. وزعم المصنف في الشرح أن هذا الذي هو مذهب الأخفش هو مذهب س والمحققين ممن تدبر، كلامه كابن/ طاهر وابن خروف والأستاذ أبي علي الشلوبين، قال: "فلو لم يقارن الحذف قرينة تحصل بسببها فائدة، كاقتصارك على أظن من قولك: أظن زيدًا منطلقًا- فإنه غير جائز، فإن غرضك الإعلام بأن إدراكك لمضمون الجملة بظنٍّ لا يقين، فتنزل أظن من جزأي الحديث منزلة: في ظني، فكما لا يجوز لمن قال زيدٌ منطلقٌ في ظني أن يقتصر على في ظني، كذا لا يجوز لمن قال أظن زيدًا منطلقًا أن يقتصر على أظن، ولأن قائل أظن أو أعلم دون قرينة تدل على تجدد ظنٍ أو علمٍ بمنزلة قائل: النار حارة؛ إذ لا يخلو الإنسان من ظن ما ولا علم ما". "ومما يدل على ذلك من كلام س قوله [في] باب إضمار المفعولين اللذين يتعدى إليهما فعل الفاعل: (وذلك أن حسبت بمنزلة كان، إنما يدخلان على المبتدأ والمبني عليه، فيكونان في الاحتياج على حال؛ ألا ترى أنك لا

تقتصر على الاسم الذي بعدهما كما لا تقتصر عليه مبتدأ. فالمنصوبان بعد حسبت بمنزلة المرفوع والمنصوب بعد ليس وكان. وكذلك الحروف التي بمنزلة حسبت وكان)، هذا نصه، فصرح بأن حسب مع مرفوعها في الاحتياج إلى المنصوبين بمنزلة ليس وكان في احتياجهما إلى المرفوع والمنصوب، فكما لا يقتصر على ليس وكان دون المرفوع والمنصوب لا يقتصر على حسب ومرفوعها دون المنصوبين، وهذا واضح. وقال في الباب الذي يلي هذا الباب: (فلما صارت حسبت وأخواتها بتلك المنزلة جعلت بمنزلة إن وأخواتها إذا قلت إني ولعلي؛ لأن إن وأخواتها لا تقتصر على الاسم الذي بعدها)، فجعل افتقار حسب وأخواتها مع فاعلها [إلى الجزأين] كافتقار إن ولعل مع منصوبيهما إلى الخبر، وهذا أيضًا واضح. وفي هذا الكلام تسوية بين حسبت وأخواتها، فعلم أنه حين قال: (لأنك قد تقول ظننت فتقتصر) لم يقصد الإطلاق ولا الاختصاص، بل قصد التنبيه على أن بعض المواضع قد يقتصر فيه على الفعل ومرفوعه لقرينة تحصل بها الفائدة، واكتفى بـ (ظننت) اختصارًا واتكالًا على العلم بمساواة غير ظننت لظننت". وقال عبد العزيز بن جمعة: "منع الجرمي حذفهما محتجًا بأنه لا يكون حينئذ في الإخبار بهذه الأفعال فائدة إذ كل عاقل لا يخلو من علم أو ظن. وأجيب بأنا لا نسلم عدم الفائدة مطلقًا، وإنما يلزم إن لو لم تفد بإسنادها إلى الفاعل علمًا قطعيًا أو ظنيًا، ولأن ما ورد من الآيات والمثل يبطل ما ذهب

إليه"، وكان قد قدم/ جواز ذلك قياسًا على غيرها من الأفعال لأنها أفعال حقيقة تستقل بمرفوعها كلامًا، وبدليل قوله تعالى {وإنْ هُمْ إلاَّ يَظُنُّونَ}، {وظَنَنتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ}، وفي المثل: من يسمع يخل". انتهى. المذهب الثاني: مذهب الأعلم ومن أخذ بمذهبه، وهو التفصيل، فأجاز ذلك في ظننت وما في معناها، ومنع في علمت وما في معناها. وحجتهم أن كل كلام مبني على الفائدة، فإن لم توجد فيه فائدة لم يجز التكلم به، فإذا قلت ظننت كان مفيدًا لأن الإنسان قد يخلو من الظن، فيفيد بقوله ظننت أنه قد وقع منه ظن، وإذا قال علمت كان غير مفيد لأنه معلوم أن الإنسان لا يخلو من علم؛ إذ له أشياء يعلمها ضرورة، كعلمه أن الاثنين أكثر من الواحد. ورد هذا المذهب بأنه يجوز: علمت، وتحذف المفعولين اقتصارًا لأن الكلام إذا أمكن حمله على ما فيه الفائدة كان أولى، فإذا قال قائل علمت علمنا أنه أراد: وقع منه علم ما لم يكن يعلم؛ إذ حمله على خلاف ذلك غير مفيد. المذهب الثالث: مذهب أكثر النحويين، منهم ابن السراج والسيرافي، وهو جواز حذفهما مطلقًا.

قال الأستاذ أبو الحسن: "والصحيح أنه يجوز حذف المفعولين في علمت وظننت وما في معناهما حذف اقتصار، وقد جاء ذلك في كلامهم، حكي س أنهم يقولون: من يسمع يخل، أي: يقع منه خيلة، وقال تعالى {أَعِندَهُ عِلْمُ الغَيْبِ فَهُوَ يَرَى}، أي: يعلم، وليس في الكتاب جلاء عن مذهب س". المذهب الرابع: المنع قياسًا، والجواز في بعضها سماعًا، وهو اختيار أبي العلا إدريس، ويزعم أنه رأي س، فلا يتعدى الحذف في ظننت وخلت وحسبت. ويحتج على ذلك بأنها أفعال أتى بها لتفيد معنى في الجملة، فتركها دون الجملة رجوع عن المقصود، ولا يجوز كما لا يجوز حذف ما أتى به لمعنى؛ ألا تراهم لم يحذفوا التنوين من غازٍ، وحذفوا اللام، لكنه سمع في ظننت على ما حكاه س، وكذلك في خلت وحسبت. قيل: منه قوله تعالى

{وظَنَنتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ}، و"ظننت ذاك" بنصب المصدر. قال صاحب البسيط: "وأما خلت فيظهر اطراد الخلاف فيها بالمنع وعدمه، فالمنع حملًا على ظننت، والجواز لما فيها في نفسها". وأما حذف أحدهما فإما اقتصارًا أو اختصارًا: إن حذفته اقتصارًا لم يجز، لا خلاف في ذلك. وسبب ذلك أنها داخلة على المبتدأ والخبر، فكما لا يجوز حذف المبتدأ ولا الخبر اقتصارًا، فكذلك لا يجوز حذف أحدهما اقتصارًا. /وإن حذفته اختصارًا جاز ذلك على قلة عند الجمهور. وذهب الأستاذ أبو إسحاق بن ملكون إلى أنه لا يجوز حذف أحدهما اختصارًا كما لا يجوز اقتصارًا. واستدل على ذلك بأنها أفعال دخلت على المبتدأ والخبر، فهي بمنزلة كان وأخواتها، ولا يقتصر في باب كان على اسمها ولا على خبرها، فكذلك هذه. ورد بأن مرفوع كان كالفاعل، فلا يحذف، ولأن خبرها كالحدث لها، فصار عوضًا منه، فامتنع حذفه إذ صار كالجزء من الفعل. والصحيح ما ذهب إليه الجمهور من جواز الحذف، وقد ورد به السماع، قال الشاعر: ولقد نزلت، فلا تظني غيره مني بمنزلة المحب المكرم

أنشده أبو علي، وقدره: فلا تظني غير هذا حقًا، وقال: حذفه عزيزٌ، كما أن حذف خبر كان كذلك وإن اختلفت جهتا القبح. وقال آخر: تلذ لطعمه، وتخال فيه إذا نبهتها بعد المنام وقبله: كأن مشعشعًا من خمر بصري نمته البخت مشدود الختام ثم أتى بخبر كأن بعد بيتين وصف فيهما المشعشعة، فقال: على أنيابها بغريض مزنٍ تقبله الجباة من الغمام ثم وصف المزن ببيت، وبعده: تلذ لطعمه، فالتقدير: وتخال ما ذكرت فيه من المشعشعة الموصوفة. وقال آخر: من را مثل معدان بن يحيي إذا ما النسع جال على المطية التقدير: من را مثل معدان بن يحيي في الوجود. و"را" بمعنى علم، كذا قال الأستاذ أبو الحسن بن عصفور وصاحب البسيط؛ لأن العرب لا تحذف همزة "را" إلا إذا كانت بمعنى علم. انتهى. وذكر ابن سيده في المحكم

أنها تحذفها بمعنى أبصر، فلا يكون في البيت حجة؛ إذ يحتمل أن تكون "را" بمعنى أبصر. وقال آخر: كأن لم يكن بينٌ إذا كان بعده تلاقٍ، ولكن لا إخال تلاقيا التقدير: لا إخال الكائن تلاقيًا، أو لا إخال تلاقيًا بعد البين. وقال آخر: وأنت غريمٌ، لا أظن قضاءه ولا العنزي القارظ الدهر جائيا التقدير: لا أظن قضاءه واقعًا، أي: قضاء دينه واقعًا. وقال ابن عصفور: / "حذف أحد المفعولين للدلالة عليه قليل، فلا ينبغي أن يقاس عليه". وهذا منه جنوح إلى مذهب ابن ملكون. وفي الإفصاح: "زيدًا ظننته قائمًا، هذا مما يحذف منه أحد مفعولي ظننت لأنك تقدر: ظننت زيدًا قائمًا، فتحذف ظننت استغناءً بظننت هذه الظاهرة، وتحذف قائمًا استغناءً بقائم هذي الظاهرة. هذا كلام النحويين. وقد رأيت من قال: تقديره هنا خلاف ظننت مما يتعدى إلى واحد؛ لأن ظننت وأخواتها لا تستغني عن مفعوليها متى ما ذكرت أحدهما، فتقدر اتهمت،

أو تخيلت، وما أشبه ذلك. وإذا قال زيدًا علمته قائمًا قدر: عرفت زيدًا، ولك أن تقول: لابست. وهذه مخالفة للجمهور بلا دليل لأن العرب والنحويين إنما منعوا عن الاقتصار لا عن الاختصار. وتقول: أقائمًا ظننت زيدًا إياه؟ فتحذف الأول لأنك أظهرته هنا، والتقدير: أظننت زيدًا قائمًا ظننت زيدًا إياه؟ وهذا الفعل لا يجوز إظهاره ولا إظهار فاعله ومفعوله الأول لدلالة ما أثبت على ما أضمرت ونيابته عنه. ويقول لك القائل: ما ظننت زيدًا؟ فتقول: قائمًا، تريد: ظننته قائمًا، فتحذف للعلم، وإن شئت أظهرت هذا. وإذا قال: من ظننت قائمًا؟ قلت: زيدًا، ويجوز الإظهار هنا، فتقول: ظننت زيدًا قائمًا"، انتهى. وما ذكرناه من أن مذهب الجمهور جواز حذف أحدهما إذا دل الدليل عليه قد خالف فيه بعض معاصرينا؛ فقال: "وأما حذف أحدهما دون الآخر دون الآخر فمنعه الجمهور لأنهما متلازمان؛ لافتقار كل منهما إلى صاحبه؛ لأنهما مبتدأ وخبر في الأصل. ولا يقال: فهلا جاز حذف أحدهما كما جاز حذف المبتدأ والخبر عند وجود القرينة؛ لأنا نقول: إنما لم يجز حذف أحد مفعوليها لئلا يلتبس المتعدي منها إلى مفعولين بما يتعدى إلى مفعول واحد، بخلاف خبر المبتدأ، فأما قول الشاعر: وما أعرف الأطلال ............... ................... ، لكن إخالها فإخال هنا بمعنى أتوهم.

واعلم أنه لو ذهب ذاهب إلى جواز حذف أحد المفعولين عند وجود قرينة دالة عليه لما امتنع، كقوله تعالى {ولا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَّهُم}؛ لأن من قرأ بالياء فالمفعول الأول محذوف لدلالة الفعل عليه، والتقدير: البخل هو خيرًا لهم، ومن قرأ بالتاء فعلى حذف مضاف من الأول، أي: بخل الذين". انتهى من كلام/ ابن جمعة. وقوله ولهما من التقديم والتأخير ما لهما مجردين يعني أن الأصل تقديم المفعول الأول وتأخير الثاني، وقد يعرض موجب البقاء على الأصل، نحو: ظننت زيدًا صديقك، وعلمت خيرًا منك فقيرًا إليك، وما يوجب الخروج عن الأصل، نحو: ما ظننت زيدًا إلا بخيلًا، وأسباب البقاء والخروج مستوفاة في باب الابتداء، فأغنى ذلك عن ذكرها هنا. فإن لم يعرض موجب جاز التقديم والتأخير. وقوله ولثانيهما من الأقسام والأحوال ما لخبر كان أحال على خبر كان، وذلك مستوفى في باب كان، فأغنى عن إعادته هنا. وقوله فإن وقع موقعهما -أي موقع المفعولين- ظرف -نحو ظننت عندك- أو شبهه -نحو ظننت لك- أو ضمير - ظننته- أو اسم إشارة - ظننت ذاك-

امتنع الاقتصار عليه إن كان أحدهما -أي: أحد المفعولين؛ لأنه كما بيناه لا يجوز حذف أحدهما اقتصارًا- لا إن لم يكنه أي: إن لم يكن أحدهما، كأن تريد بالظرف مكان حصول الظن، وبـ"لك" القلة، وبالضمير ضمير المصدر، وباسم الإشارة الإشارة إلى المصدر. وقوله ولم يعلم المحذوف لأنه إن علم المحذوف جاز أن يكون الظرف أو المجرور أو الضمير أو اسم الإشارة أحدهما، ويكون الآخر حذف للعلم به. قال المصنف في الشرح: "وقال الفراء: ظننت ذاك، إشارة إلى الحديث، أجرته العرب مجرى المفعولين، يقول القائل: كان من الأمر كذا وكذا، فيقول المخبر: قد ظننت ذاك. قال ابن خروف: وهو قول لا بأس به. وقال أبو زيد في مصادره: خلت ذاك إخاله خالًا. والأظهر أن يكون إشارةً إلى الحديث لذكره المصدر بعد" انتهى. وقال ابن دستورية: يقول القائل: زيد فعل كذا، فتقول: علمت ذاك، تشير به إلى جميغ الخبر، فيستغني. وقال أبو علي: "وإذا قلت ظننت ذاك كان ذاك إشارة إلى المصدر المفهوم من الفعل، كأنك قلت: ظننت ذاك الظن". يعني أن العرب قد

تشير إلى المصدر المفهوم من الفعل كما تعيد عليه الضمير، ومن الإشارة إلى المصدر قوله تعالى {ولَمَن صَبَرَ وغَفَرَ إنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأُمُورِ} أي: إن صبره. وهذا مذهب س في: ظننت ذلك. وذهب الفراء والمازني إلى أن ذاك إشارة إلى المفعولين في نحو قولك: زيدٌ منطلقٌ ظننت ذاك؛ لأن العرب قد تشير بـ"ذاك" إلى اثنين، قال تعالى {لاَّ فَارِضٌ ولا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ}، أي: بين الفارض والبكر. وجاز اكتفاء "ظننت" بـ"ذاك" وهو مفرد في اللفظ من حيث كان المراد به/ الاسمين اللذين هما خبر ومخبر عنه في الأصل. قال بعض أصحابنا: والصحيح ما ذهب إليه س وأبو علي. ومما يبين صحة ذلك أن اسم الإشارة المفرد لا تجوز الإشارة به إلى اثنين بالنظر إلى اللفظ؛ بل بالنظر إلى المعنى، فقوله تعالى {عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ} محمول على المعنى، كأنه قال: عوان بين ما ذكر، فعلى هذا لا تجوز الإشارة بـ"ذاك" إلى الاسمين اللذين هنا خبر ومخبر عنه في الأصل إلا بالنظر إلى المعنى؛ فكأنك قلت: ظننت الحديث، فكما لا يجوز اكتفاء ظننت بـ"الحديث" -وإن كان المراد الخبر والمخبر عنه في المعنى- فكذلك لا يجوز اكتفاؤها بـ"ذاك"، وإنما جاز: ظننت أن زيدًا منطلقٌ -وإن كانت أن وصلتها بتقدير اسم مفرد -للطول ولجريان الخبر والمخبر عنه بالذكر في الصلة، وليس شيء من ذلك موجودًا في اسم الإشارة ولا في الحديث.

والمخبر عنه في المعنى -فكذلك لا يجوز اكتفاؤها بـ"ذاك"، وإنما جاز: ظننت أن زيدًا منطلقٌ- وإن كانت أن وصلتها بتقدير اسم مفرد- للطول ولجريان الخبر والمخبر عنه بالذكر في الصلة، وليس شيء من ذلك موجودًا في اسم الإشارة ولا في الحديث. -[ص: وفائدة هذه الأفعال في الخبر ظنٌ، أو يقينٌ، أو كلاهما، أو تحويلٌ: فللأول حجا يحجو، لا لغلبة، ولا قصد، ولا ردٍّ، ولا سوقٍ، ولا كتمٍ، ولا حفظٍ، ولا إقامةٍ، ولا بخلٍ. وعد، لا لحسبان. وزعم، لا لكفالة، ولا رياسة، ولا سمنٍ، ولا هزالٍ. وجعل، لا تصييرٍ، ولا إيجادٍ، ولا إيجابٍ، ولا ترتيبٍ، ولا مقاربةٍ. وهب غير متصرف.]- ش: الفعل الذي يفتقر مفعوله إلى ثانٍ مخبر به صالح للتعريف والتنكير، أو جملةٍ تقوم مقامه -هو من باب ظن، ويميزه وقوع الفصل بينهما ودخول اللام الفارقة. وأفعال هذا الباب نوع مختص بالظن، ونوع مختص باليقين، ونوع صالح لهما، ونوع للتحويل من وصف إلى وصف. وقوله فللأول -يعني النوع الذي هو مختص بالظن- حجا يحجو، قال: قد كنت أحجو أبا عمرو أخا ثقةٍ حتى ألمت بنا يومًا ملمات وقوله لا لغلبة إلى قوله ولا بخل حجا مشترك بين ظن - ويتعدى إلى مفعولين- وبين غلب في المحاجاة، وقصد، ورد، وساق، وكتم، وحفظ، وهي في هذه متعدية إلى واحد، وبين أقام، وبخل، ولا يتعدى.

وقوله وعد لا لحسبان قال في الشرح: "ومن أخوات حجا الظنية عد، لا بمعنى حسب، كقول الشاعر: فلا تعدد المولى شريكك في الغنى ولكنما المولى شريكك في العدم وكقول الآخر: /لا أعد الإقتار عدمًا ولكن فقد من قد فقدته الإعدام" انتهى. وفي عد "عد" من أفعال هذا الباب خلاف: مذهب الكوفيين أنها من أفعال هذا الباب. وقال بعض أصحابنا: وزاد فيها بعض النحويين عد، وجعل من ذلك قوله: تعدون عقر النيب أفضل مجدكم بني ضوطري، لولا الكمي المقنعا ولا حجة في ذلك لاحتمال أن يكون "أفضل مجدكم" بدلًا من: عقر النيب، و"تعدون" من العد الذي يراد به إحصاء المعدود، كما يقال: فلان يعد لنفسه آباء كرامًا.

وقال أيضًا: يجوز أن تجعل "تعدون" في البيت بمعنى: تحسبون، على طريق التضمين؛ لأنه إذا حسب عقر النيب في مآثره ومجده فقد حسب ذلك مجدًا، فضمن "وعد" التي للعدد معنى حسب التي للظن، فيكون "أفضل مجدكم" مفعولًا ثانيًا على التضمين، وهو جائز في الشعر. وقال أيضًا: "أفضل مجدكم" نعت لـ"عقر النيب"، وعد بمعنى حسب، كأنه قال: تحسبون عقر النيب الذي هو أفضل مجدكم مما تفخرون به. واختيار أبي الحسين بن أبي الربيع أن "عد" من أفعال هذا الباب كاختيار المصنف. وقوله وزعم، لا لكفالةٍ، ولا رياسةٍ، ولا سمنٍ، ولا هزالٍ قال المصنف في الشرح: "ومن أخوات حجا الظنية زعم الاعتقادية، كقول الشاعر: فإن تزعميني كنت أجهل فيكم فإني شريت الحلم بعدك بالجهل ومصدر زعم هذه زَعْمٌ وزُعْمٌ. ويقال زعم - بمعنى كفل- زعامة، ومنه قوله عليه السلام: (الزعيم غارمٌ)، وبهذا المعنى قال الشاعر: تقول هلكنا إن هلكت، وإنما على الله أرزاق العباد كما زعم

وبمعنى رأس، فتعدى إلى مفعول واحد مرة، وبحرف جر أخرى. ويقال زعمت الشاة، بمعنى سمنت، وبمعنى هزلت، ولا يتعدى" انتهى. ويقال: الزعم - بضم الزاي- هو الاسم لا مصدر. وذكر صاحب العين أن الأحسن في زعم أن توقع على أن، قال: "وقد توقع في الشعر على الاسم، وأنشد بيت أبي ذؤيب: فإن تزعميني كنت أجهل فيكم .................................... وقول الآخر: زعمتني شيخًا، ولست بشيخٍ إنما الشيخ من يدب دبيبا" /انتهى. ولهذا لم يجئ في القرآن متعديًا إلى اثنين، وإنما جاء بعده أنَّ وأنْ. وقال السيرافي: "الزعم قول يقترن به اعتقاد صح أو لم يصح". وقال ابن عطية المفسر: "قول لا دليل على فس 7 اده لا صحته ودركه على قائله". وقال ابن دريد: "أكثر ما يقع على الباطل". والدليل على أنه قد يقع على ما ليس بباطل قول كثير: وقد زعمت أني تغيرت بعدها ومن ذا الذي يا عز لا يتغير تغير جسمي، والخليقة كالتي عهدت، ولم يخبر بسرك مخبر

وفي الحديث (بئس مطية الرجل زعموا). وإذا قال س في كتابه "وزعم الخليل" قيل: فإنما يستعمله فيما انفرد به الخليل، وكان قويًا. وفي الإفصاح: و (زعم) قد قلنا إنها قد تكون بمعنى علم، وهو قول س. وقال غيره: تكون بمعنى اعتقد، فقد تكون علمًا، وقد تكون تقليدًا، وتكون أيضًا ظنًا غالبًا. وقيل: تكون بمعنى الكذب، كقوله تعالى {زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَن لَّن يُبْعَثُوا}، وقوله {هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ}. وقوله وجعل لا لتصيير قال المصنف في الشرح: "ومن أخوات حجا الظنية جعل الاعتقادية، كقوله تعالى {وجَعَلُوا المَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إنَاثًا} أي: اعتقدوهم. وهذه غير التي للتصيير - وسيأتي ذكرها- وغير التي بمعنى أوجد، كقوله تعالى {وجَعَلَ الظُّلُمَاتِ والنُّورَ}، وغير التي بمعنى أوجب، كقولهم: جعلت للعامل كذا، وغير التي بمعنى ألقى، كجعلت بعض متاعي على بعض، وغير التي للمقاربة، وقد ذكرت في بابها". وقوله وهب غير متصرف هذا أيضًا فيه خلاف: فذهب المصنف إلى أن

هب من أفعال هذا الباب، وأنها بمعنى حجا الظنية، وأنشد: فقلت: أجرني أبا خالدٍ وإلا فهبني امرأً هالكا وهو مذهب الكوفيين. واضطرب فيها الأستاذ أبو الحسن، فمرة قال: لا تتعدى إلا إلى واحد، والدليل على ذلك تنكير الثاني وأنه لا يأتي معرفة. ومرة قال: تتعدى إلى اثنين، ومن ذلك قوله: فهبها أمةً هلكت ضياعًا يزيد أميرها وأبو زيد قال: والدليل على أن الاسم الثاني مفعول مجيئه معرفة ونكرة، والدليل على أنه إذا كان معرفة ليس بدلًا من الأول مجيء الجملة في موضعه، نحو قوله: هبني أسأت ....................... .....................................

ومن ذلك قوله: /هبيني -يا معذبتي- أسأت وبالهجران قبلكم بدأت إلا أن ابن عصفور لم يجعلها بمعنى ظن، وإنما جعلها بمعنى اجعل التي بمعنى صير. وهي أمر من: وهبني الله فداك، أي: جعلني الله فداك، وإنما قال "غير متصرف" لأنه لم يستعمل منها غير فعل الأمر، لا ماضٍ ولا مضارع ولا اسم فاعل، ولا يكون فعل الأمر إلا بصيغة هب، ويتصل به الضمير لمؤنث ومثنى ومجموع، ولا يكون أمرًا باللام. -[ص: وللثاني علم لا لعلمةٍ ولا عرفان، ووجد لا لإصابةٍ ولا استغناءٍ ولا حزنٍ ولا حقدٍ، وألفى مرادفتها، ودرى لا لختل، وتعلم بمعنى أعلم غير متصرف.]- ش: يعني بـ"الثاني" النوع الذي يختص باليقين. واحترز بقوله لا لعلمةٍ من علم علمة فهو أعلم، أي: مشقوق الشفة العليا، قال الشاعر: وحليل غانيةٍ تركت مجدلًا تمكو فريصته كشدق الأعلم

وبقوله ولا عرفان من علم الموافق في التعدي عرف، نحو قوله {لا يَعْلَمُونَ شَيْئًا}. وإذا تعدت علم إلى واحد فأردت الماهية جاز وقوع الجامد مفعولًا لها، قال الفراء: لا تقول: قد سألت فعلمت عبد الله، إلا أن تريد: علمت ما هو، فلا بد من مشعر بالمعنى، كقولك: إنما سألت لأعرف عبد الله من زيد. وأما قوله تعالى {ولِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا}، و {فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا ولَيَعْلَمَنَّ الكَاذِبِينَ} -فقيل: لا يطلق العلم على الله بمعنى المعرفة. وأول قائل ذلك ما ورد من ذلك منسوبًا إلى الله تعالى على تقدير حال أو صفة، أي: وليعلمهم متميزين عن غيرهم بالإيمان أو بما ظهر من صبرهم. وقال السهيلي: المعرفة تقتضي التمييز وانحياز كل معلوم بتمييز يخصه، وعلم الله لا يكون كذلك. وتأول الآية على العلم بالخبر، والخبر محذوف لدلالة الكلام عليه، كأنه قال: لا تعلمهم منافقين، الله يعلمهم. وقوله ووجد كقوله {تَجِدُوهُ عِندَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا}، {وإن وجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ}، وقال:

فلما بلغنا الأمهات وجدتم بني عمكم كانوا كرام المضاجع ومصدرها وجدان عن الأخفش، ووجود عن السيرافي. واحترز بقوله لا لإصابة من نحو: وجد فلان ضالته وجدانًا ووجودًا. وبقوله ولا استغناء من وجد بمعنى استغنى، ومصدرها وَجْد ووُجْد وجِدَة. وبقوله ولا حزن/ من وجد بمعنى حزن، ومصدرها وَجْدٌ. وبقوله ولا حقد من قولهم: وجد على الرجل، ومصدرها موجدة. وقوله وألفى مرادفتها أي: مرادفة وجد التي تتعدى إلى اثنين. وهذه فيها خلاف: فمن النحويين من زعم أنها تتعدى إلى واحد، والثاني هو منصوب على الحال، فيكون ألفى بمعنى أصاب وصادف. وذكر أن الدليل على ذلك التزام العرب التنكير فيه، فلا تقول: ألفيت زيدًا الضاحك، بل: ضاحكًا، فدل على أنه حال، وإلى هذا ذهب ابن عصفور. وذهب غيره إلى أنها تتعدى إلى اثنين، وإياه اختار المصنف، وأنشد قول الشاعر: قد جربوه، فألفوه المغيث إذا ما الروع عم، فلا يلوى على أحد وقول الآخر: إذا أنت أعطيت الغنى، ثم لم تجد بفضل الغنى، ألفيت ما لك حامد

وقد ينازع في هذا الدليل من يرى أنها تتعدى إلى واحد، فيجعل الألف واللام في المغيث زائدة، وينصبه على الحال. وكذلك الجملة من قوله: ما لك حامد، يجعلها حالًا. وأما الذي يقطع بكونها تتعدى إلى اثنين فأن يجيء الثاني ضميرًا، أو يقع فصل بين المنصوبين، أو تدخل على أحدهما اللام الفارقة. وإلى إدخالها في هذا الباب ذهب الكوفيون. وقوله ودرى لا لختلٍ قال المصنف: "ومن ذوات المفعولين درى بمعنى علم، كقول الشاعر: دريت الوفي العهد، يا عرو، فاغتبط فإن اغتباطًا بالوفاء حميد وأكثر ما تستعمل معداةً بالباء، كقولك: دريت به، فإذا دخلت عليها همزة النقل تعدت إلى واحد بنفسها وإلى ثانٍ بالباء، قال تعالى {قُل لَّوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ ولا أَدْرَاكُم بِهِ}، ويقال: درى الذئب الصيد: إذا استخفى له ليفترسه، فيتعدى إلى واحد، وإليه أشرت بقولي: لا لختلٍ"، انتهى كلامه. ولم يذكر أصحابنا درى فيما يتعدى إلى اثنين. ولعل قوله "دريت الوفي العهد" من باب التضمين، ضمن ذلك معنى علمت، والتضمين لا ينقاس، ولا ينبغي أن يجعل أصلًا حتى يكثر ذلك، ولا يثبت ذلك ببيت نادر محتمل للتضمين. وقوله وتعلم بمعنى أعلم غير متصرف تعلم يكون أمرًا من تعلم يتعلم،

فيتعدى إلى واحد، تقول: تعلم الحساب، وهو فعل متصرف. ويكون/ أمرًا بمعنى أعلم المتعدية إلى اثنين، ولا يُستعمل منه ماض ولا مضارع ولا اسم فاعل ولا اسم مفعول ولا مصدر، قال الشاعر: تعلم شفاء النفس قهر عدوها فبالغ بلطق في التحيل والمكر والمشهور إعمالها في أن، قال: تعمل أنه لا طير إلا على مُتطير، وهي الثبور وقال: تعلم أن شر الناس حي ينادى في شعارهم: يسار وقال آخر: فقلت: تعلم أن للصيد غرة وإلا تضيعها فإنك قاتله

وقال: تعلمن ها - لعمر الله - ذا قسمًا فاقدر بذرعك، وانظر أين تنسلك لئن حللت بجو، في بني أسد في دين عمرو، وحالت بيننا فدك ليأتينك مني منطقٌ قذعٌ باق، كما دنس القبطية الودك علق "تعلمن" بالقسم. وما ذهب إليه المصنف من أن تعلم بمعنى أعلم غير متصرف، وكرره في تصانيفه - هو شيء ذهب إليه الأعلم، وليس بصحيح لأن يعقوب حكي، وقال: "تعلمت أن فلانًا خارج، بمعنى علمت". -[ص: وللثالث "ظن" لا لتهمة، و "حسب" لا للون، و "خال يخال" لا لعجب ولا ظلع، و "رأى" لا لإبصار ولا رأي ولا ضرب.]- ش: يعني بالثالث النوع الصالح لليقين وللظن، فأما ظن فالمشهور استعمالها في غير مُتيقن، قال تعالى {إِن نَّظُنُّ إِلاَّ ظَنّاً وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ}، وقال الشاعر: ظننتك إن شبت لظى الحرب صاليًا فعردت فيمن كان عنها معردا

وتستعمل ظن في المتيقن كثيرًا، قال تعالى: {الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلاَقُوا رَبِّهِمْ}. والظن ترجيح أحد الجائزين. وزعم بعض النحويين أن وقوع الظن بمعنى اليقين مجاز، كما يقال: قال الحائط. قال: ولا يجوز أن تقول: ظننت زيدًا منطلقًا ظنًا، إذا كان بمعنى اليقين كما لا يجوز أن تقول: قال الحائط قولًا، ومن ذلك قوله تعالى: {إِن نَّظُنُّ إِلاَّ ظَنّاً}، فقوله {ظَنّاً} يدل على أنه ليس بمعنى اليقين. ويعبر أكثر البصريين عن ظن أنها تكون شكًا ويقينًا، ويعنون بالشك ترجيح أحد الجائزين. وفرق بعضهم بين الظن والشك واليقين،/ قال: فالشك أن يستوي الأمران عندك، فلا تدري أن شيئًا منهما كان، فإن وقع عندك دليل من أحدهما فذلك مظنون. واليقين اعتقاد شيء بدليل. انتهى. وزعم الأستاذ أبو بكر محمد بن عبد الله بن ميمون العبدري - وهو صاحب كتاب "نفع الغلل" - أن الظن بمعنى العلم غير مشهور في لسان العرب، ولا معول عليه في حكاية من حكي ذلك عن العرب، وقال: كما

تباينا حكمًا واحدًا كذلك تباينا إطلاقًا وتعبيرًا. فأما {الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلاَقُوا رَبِّهِمْ} فالمؤمنون لما كانوا وجلين خائفين على إيمانهم حتى كان الصديقون يحذرون النفاق على أنفسهم حتى تمدحوا بذلك، فقال القائل: "ما خافه إلا مؤمن، ولا أمنه إلا كافر"، وقال تعالى {والَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وقُلُوبُهُمْ وجِلَةٌ}، فمدحهم بالوجل والإشفاق. وأما {فَظَنُّوا أَنَّهُم مُّوَاقِعُوهَا} فالظن هنا على بابه؛ لأن الكفار لما شاهدوا سعة رحمة الله وتغمده للذنوب والجرائم رجوا مع معاينة النار النجاة منها، فلم يقطعوا بمواقعتها، لكنهم ظنوا ظنًا، ساقه رجاؤهم لله وطمعهم في إجارته إياهم من النار. وكذلك {وَظَنُّوا أَن لاَّ مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلاَّ إِلَيْهِ}؛ لأن هؤلاء المخلفين كان لهم تعلق نفوس للنبي صلى الله عليه وسلم واستغفاره الله لهم، فبالتفاتهم إلى جهة الرسول عبر عن اعتقادهم ذلك بالظن. وكذلك قول الشاعر:

فقلت لهم: ظنوا بالفي مدجج سراتهم في السابري المسرد أمرهم بالظن لأنه أهول على النفوس، والمحذور المخوف أشد على مرتقبه ومتوقعه من وقوعه؛ لأن الخطوب إذا وقعت عيي لها الصبر، ووظنت لها النفس. وزعم الفراء أن الظن يكون شكًا ويقينًا وكذبًا. وأكثر البصريين لا يقولون إن الظن يكون كذبًا، إنما يكون عندهم شكًا ويقينًا. وعند الفراء أن قولهم فيما حكي الله عنهم {إِن نَّظُنُّ إِلاَّ ظَنّاً} من الظن الذي هو بمعنى الكذب، وعند البصريين من الشك. واحترز بقوله لا لتهمة من ظن بمعنى أتهم، فإنها تتعدى إلى واحد، تقول: ظننت زيدًا. وقوله وحسب لا للون أكثر استعمال حسب في غير المتيقن، قال تعالى {وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً}، {وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ}، وقال الشاعر: وكنا حسبنا كل بيضاء شحمة ليالي لاقينا جذام وحميرا / والمصدر من حسب حسبان. ويقل استعمال حسب في المتيقن، كقول الشاعر:

حسبت التقى والحمد خير تجارة رباحًا إذا ما المرء أصبح ثاقلا قول الآخر: شهدت، وفاتوني، وكنت حسبتني فقيرًا إلى أن يشهدوا وتغيبي واحترز بقوله لا للون من حسب الرجل: إذا أحمر لونه وأبيض كالبرص، وكذا إذا كان ذا شقرة، وهذا فعل لازم. وقوله وخال يخال أكثر استعمالها في غير المتيقن، كقول الشاعر: إخالك إن لم تغضض الطرف ذا هوى يسومك ما لا يستطاع من الوجد ومصدره خال خيلًا وخالًا وخيلة ومخالة وخيلانًا ومخيلة وخيلولة. واشتقاقها من الخيال، وهو الذي لا يتحقق. وتستعمل أيضًا بمعنى علمت، قال الشاعر: دعاني العذارى عمهن، وخلتني لي اسم، ولا ادعى به، وهو أول وقال آخر: ما - خلتني - زلت بعدكم ضمنًا أشكو إليكم حموة الألم أي: ما زلت بعدكم ضمنًا، حلتني كذلك. وقال: إذا الناس قالوا من فتى خلت أنني عنيت، فلم أكسل، ولم أتبلد

وقال: لو كان في الألف منا واحد، فدعوا من فارس؟ خالهم إياه يعنونا واحترز بقوله لا لعجب من خال بمعنى تكبر، وبقوله ولا ظلع من خال الفرس: ظلع، والمضارع منهما يخال، كالمتعدي إلى اثنين. وقيل: يأتي بمعنى نظر، كقوله: فبت لدى البيت العتيق أخيله .............................. فأما خال يخول - بمعنى عهد - فمن ذوات الواو. وقوله ورأى لا لإبصار ولا رأى ولا ضرب مثال ذلك قوله تعالى: {إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً وَنَرَاهُ قَرِيباً} أي: يظنونه بعيدًا، ونعلمه قريبًا، وأنشد أبو زيد: تقوه أيها الفتيان، أني رأيت الله قد غلب الجدودا رأيت الله أكبر كل شيء محاولة، وأكثرهم جنودا واحترز بقوله لا لإبصار من رأيته بمعنى أبصرته. وبقوله ولا رأي من رأيته بمعنى اعتقدته. وبقوله ولا ضربٍ من رأيت الطائر: إذا أصبته في رئته./ فهي في هذه المعاني الثلاثة متعدية إلى واحد.

وما ذهب إليه المصنف من أن "رأى" إذا كان بمعنى اعتقد يتعدى إلى واحد هو مذهب الفارسي. وذهب غيره إلى أنها تتعدى إلى اثنين، وجاء في كلام العرب ما يدل على ذلك، قال الشاعر: رأى الناس إلا من رأى مثل رأيه خوارج تراكين قصد المخارج -[ص: وللرابع "صير" و "أصار" وما رادفها من "جعل"، و "وهب" غير متصرف، و "رد" و "ترك" و "تخذ" و "اتخذ" و "أكان". وألحقوا بـ "رأى" العلمية الحلمية، و"سمع" المعلقة بعين، ولا يخبر بعدها إلا بفعل دال على صوت. ولا تلحق "ضرب" مع المثل على الأصح، ولا "عرف" و "أبصر"، خلافًا لهشام، ولا "أصاب" و "صادف" و" غادر"، خلافًا لابن درستويه.]- ش: يعني بالرابع النوع للتحويل. فأما صير وأصار فمنقولان من صار التي هي من أخوات كان، نقلت صير بالتضعيف، وأصار بالهمزة. وفي البسيط: إن كانت بمعنى انتقل ورجع تعدت بالتضعيف إلى اثنين، أحدهما، بحرف الجر، نحو: صيرتك إلى موضعك، أي: نقلتك إليه. وإن كانت بمعنى التغيير إلى وصف - كما هي في أخوات كان - تعدت إلى اثنين، أحدهما هو المبتدأ، ويصير مفعولًا به، نحو: صار زيد عالمًا، وصيرته عالمًا. وهذا دليل على أنها حين كونها ناقصة فيها معنى المصدر إلا أنه متروك استغناء بالخبر

لأنه هو التغيير في المعنى. ولم يُضعف من أخواتها سواها على هذا المعنى - وأما بيتناه وصبحناه ومسيناه فمعناه: أتيناه بياتًا وصباحًا ومساءً - إما لمانع لفظي كأصبح وأمسى، أو معنوي كالبواقي. ومن التعدية بالتضعيف قوله: فصيروا مثل كعصفٍ مأكول وقوله في أصار سقط أصار من نسخة بخط المصنف. ومثال جعل بمعنى صير {فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَّنثُوراً}. وقال في البسيط: وهذه إما تصيير لما له نسبه إليه، أو إلى ما يكون له ذاتًا أو كالذات، فالأول لابد فيه من أحد حروف النسبة، كقوله تعالى {وَيَجْعَلُونَ لِلّهِ مَا يَكْرَهُونَ}، وقد يقال: هو مجاز من الوضع والإلقاء. والثاني إما تصيير في الفعل بالذات، نحو: جعلت الطين خزفًا، وقد تدخل فيه "من" لأنه بمنزلة: خاتم من حديد، كقوله تعالى {وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ}، أو بالصفة، نحو:

جعلته عالمًا، ولا تدخل في هذا إلا على تأويل الأول قليلًا، وإما في الاعتقاد {وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثاً}. وإما في النيابة عن الشيء، جعلت/ البصرة بغداد، والكتان خزا. وإما في التسمية: جعلت حسني قبيحًا؛ إذ لا يكون في الاعتقاد ولا في الفعل، فرجع إلى اللفظ. وهي إذا كانت بهذه المعاني لم تؤثر إلا في المفعول الأول لأنه وقع به ذلك، ولا تستغني عن الثاني لأنه كالابتداء والخبر في الأصل أو ما هو منزل منزلته، لكنه قوي معنى الفعل، صار الأول مفعولًا، بخلاف ما تقدم، وكذلك في أخواتها. و"وهب"، حكي ابن الأعرابي: وهبني الله فداك، أي: صيرني، وهي لا تتصرف؛ إذ لم يُستعمل فيها بمعنى صير إلا الماضي فقط. ومثال "رد" {لَوْ يَرُدُّونَكُم مِّن بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً}، وقال الشاعر: رمى الحدثان نسوة آل سعد بمقدار، سمدن له سمودا فرد شعورهن السود بيضًا ورد وجوههن، البيض سودا و"ترك"، قال الشاعر: وربيته، حتى إذا ما تركته أخا القوم، واستغني عن المسح شاربه

وفي "ترك" خلاف: منهم من يجعلها تتعدى إلى واحد فقط، والثاني منصوب على الحال إن وجد. ومنهم من يجعلها بمعنى صير، فتتعدى إلى اثنين، وهو اختيار المصنف. وأنشد عليه البيت المتقدم. و"تخذ" و "اتخذ" الخلاف فيهما كالخلاف في ترك: فمنهم من قال: إنها تتعدى إلى واحد، كقولك: اتخذت عدة للسفر، وإلى اثنين بمعنى صير، كقوله تعالى {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ}، {وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً}، وهذا مذهب أبي علي. ومن تعديها إلى واحد قوله تعالى {كَمَثَلِ الْعَنكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً}، و {لَوْ أَرَدْنَا أَن نَّتَّخِذَ لَهْواً}. وذهب ابن برهان إلى أنها تتعدى إلى اثنين دائمًا، قال ابن برهان: "يقال لأبي علي: ألم تقل في قوله تعالى {اتَّخَذُوهُ وَكَانُوا ظَالِمِينَ}: إن التقدير: اتخذوه إلهًا، فحذف المفعول الثاني للدليل، فكذا التقدير في {اتَّخَذَتْ بَيْتاً}: اتخذت من نسجها بيتًا، وفي {أَن نَّتَّخِذَ لَهْواً}: أن تتخذ من شيء لهوًا". قال ابن برهان: " ولا أعلم اتخذ إلا يتعدى إلى مفعولين،

الثاني منهما بمعنى الأول". و"تخذ" قال تعالى {لاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً} في قراءة من قرأ كذلك وقال الشاعر: تخذت غران إثرهم دليلًا وفروا في الحجاز ليعجزوني غران: اسم جبل. وفي البسيط: اتخذ يتعدى إلى واحد بمعان: {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِن وَلَدٍ}، و {لَوْ أَرَدْنَا أَن نَّتَّخِذَ لَهْواً}، واتخذت خاتمًا: لبسته، واتخذت مالًا: كسبته، ويجمع ذلك كله معنى الملابسة من جهة الفاعل القاصد لذلك. وبمعنى جعل المصيرة/ {لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ}. والفرق بينها وبين تصيير جعل أنه يعود من ذلك [لنفسك من قبله شيء بحيث] لا يتغير المفعول به تغييرًا في نفسه، بخلاف جعل، فإنه لا يلزم أن يكون فيه ذلك، نحو: جعلت الرجل عالمًا، فإنه لا يتعدى لنفسك منه شيء، وإذا قلت اتخذته حبيبًا وصاحبًا عاد عليك؛ ألا ترى أنك لا تقول: اتخذت الطين خزفًا، ولأن المفعول في جعل يتغير بشيء من جهته، بخلاف هذا. وقد تدخل فيه "من"

كما في جعل، كقوله تعالى {أَلاَّ تَتَّخِذُوا مِن دُونِي وَكِيلاً}، {وَاتَّخِذُوا مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى}، فيكون من هذا النوع. وقد قال النحويون إنها من باب أعطى، ولذلك يقتصر فيها، فيقال: اتخذت أولياء، و {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِن وَلَدٍ} أي: من شيء ولدًا، وقال تعالى {ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ} أي: اتخذتم العجل إلهًا. والصحيح الأول لأنا نقول: لو كان منه لصح كون أحدهما موقعًا بالآخر فعلًا، ولا يكون لأنه هو، ولو كان الاقتصار على الباقي، ولم يكن، وما ذكروه حذف اختصارًا. وقوله أكان قال المصنف في الشرح: "ألحق ابن أفلح بـ (أصار) أكان المنقولة من كان بمعنى صار، وما حكم به جائز قياسًا، لكني لا أعلمه مسموعًا" انتهى. ولا أعلم أحدًا من النحاة يقال له ابن افلح، لكن في شيوخ الأعلم رجل اسمه مسلم بن أحمد بن أفلح الأديب، يكنى أبا بكر، أخذ كتاب سيبويه عن أبي عمر بن أبي الحباب.

وقول المصنف "وما حكم به جائز قياسًا" ليس متفقًا عليه، بل الظاهر من مذهب س أن النقل بالهمزة قياس في اللازم سماع في المتعدي، وكان بمعنى صار تجري مجرى المتعدي، فلا يكون النقل فيها بالهمزة قياسًا على ظاهر مذهب س. وزعم جماعة من المتأخرين -منهم خطاب الماردي - أنه قد يجوز أن يضمن الفعل المتعدي إلى واحد معنى صير، ويجعل من هذا الباب، فأجاز أن يقال: حفرت وسط الدار بئرًا، بمعنى: صيرت وسط الدار. قال خطاب: ولا يكون بئرًا تمييزًا لأنه لا تحسن فيه من. وكذلك أجاز: بنيت الدار مسجدًا، وقطعت الثوب قميصًا، وقطعت الجلد نعلًا، وصبغت الثوب غرابًا؛ لأن المعنى فيها صيرت، وجعل من ذلك قول أبي الطيب: فمضت، وقد صبغ الحياء بياضها لوني، كما صبغ اللجين العسجد قال: لأن المعنى: صير الحياء بياضها لوني، أي: مثل لوني. والصحيح أن هذا كله من باب التضمين، والتضمين لا يجوز بقياس في الكلام، وإنما يجئ في الشعر للضرورة، وإن جاء شيء منه في الكلام حفظ، ولم يقس عليه لقلة ما جاء منه. وقوله وألحقوا/ بـ "رأي" العلمية الحلمية أي: وألحقوا، يعني العرب، كذا قال في الشرح، قال: "فأدخلتها على المبتدأ والخبر، ونصبتهما مفعولين،

ومنه قول الشاعر: يؤرقني أبو حنش وطلق وعمار، وآونة أثالا أراهم رفقني، حتى إذا ما تفرى الليل، فانخزل انخزالا إذا أنا كالذي أجرى لورد إلى آل، فلم يدرك بلالا نصب بها أسمين معرفتين، هما مبتدأ وخبر في الأصل، كما يفعل بـ "رأى" بمعنى علم وبمعنى ظن. ومما يدل على صحة ذلك قوله تعالى {إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْراً}، فأعمل مضارع رأى الحلمية في ضمرين متصلين لمسمى واحد، وذلك مما تختص به علم ذات المفعولين وما جرى مجراها" انتهى. ولا حجة فيما ذكره: أما "أراهم رفقتي" فإنه يحتمل أن تكون أرى تعدت إلى واحد، وهو الضمير، و "رفقتي" في موضع الحال وإن كان ظاهره التعريف، فهو نكرة من حيث المعنى؛ لأن معنى الرفقة: الرفقاء، وهم المخالطون، فرفيق بمعنى مرافق، فهو بمعنى اسم الفاعل، فإضافته غير محضة كجليس وخليط. وأما {إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْراً} فلا يلزم مما ذكر أن يتعدى إلى مفعولين، بل يكون ذلك مما جاء في غير ما تعدى إلى مفعولين، نحو فقد، وعدم، ووجد بمعنى أصاب لا بمعنى علم، فإنك تقول فيها: فقدتني، ووجدتني، وعدمتني، فكذلك هذا، ويكون {أَعْصِرُ} في موضع نصب على الحال لا في موضع مفعول ثان

وقوله وسمع المعلقة بعين، ولا يخبر بعدها إلا فعل دال على صوت مثاله: سمعت زيدًا يتكلم. واحترز بقوله المعلقة بعين من المعلقة بمسموع، فإنها لا تتعدى إلا إليه فقط، نحو: سمعت كلامًا، وسمعت خطبة، قال تعالى {إِن تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءكُمْ}، {يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ}. سمعت "الناس ينتجعون غيثًا" .................................... أراد: سمعت هذا الكلام. وعطف المصنف "وسمع" على "الحلمية"، يعني: رأي الحلمية وسمع، وجعل الضمير في "ألحقوا" ضمير العرب، فدل كلامه على أن العرب هم الذين ألحقوا، والعربي إنما ينطق بجملة، فيقهم منها النحوي ما يفهم، وينسب ذلك إلى العرب لأنه فهمه عنهم. وفي هذه المسألة خلاف: ذهب الجمهور إلى أن سمعت لا تتعدى إلا إلى مفعول واحد، فإن كان مما يسمع فهو ذاك، وإن كان عينًا فهو المفعول، والفعل بعده في موضع نصب على الحال، وهو على حذف مضاف، أي: سمعت صوت زيد في حال أنه يتكلم، وهذه الحال مبينة، وهو اختيار الأستاذ أبي الحسن بن عصفور في شرح الجمل. / وذهب الأخفش، والفارسي، وابن بابشاذ إلى ما ذهب إليه المصنف،

وهو اختيار شيخينا أبي الحسن بن الضائع، وأبي الحسين بن أبي الربيع، وابن عصفور في شرح الإيضاح. وحجة هذا المذهب أن سمع لما دخلت على غير مسموع أتي لها بمفعول ثاني يدل على المسموع، كما أن ظن لما دخلت على غير مظنون في المعنى أتى بعد ذلك بمفعول ثان يدل على المظنون. وقد استدل لهذا المذهب بما ذكره الأخفش في (الأوسط) له، والنحاس في (صنعة الكتاب) من أن العرب تقول: سمع أذني زيدًا يتكلم حق، فيأتون بخبر المصدر، ولا يقولون: سمع أذني زيدًا يتكلم، على أن يسد "يتكلم" مسد الخبر، فدل على أنه مفعول ثان لا حال؛ إذا لو كان حالًا لسد مسده، كما سد في: ضربي زيدًا قائمًا. وهذا الذي ذكراه مخالف لما نقل س من قولهم: سمع أذني زيدًا يقول ذلك، فلم يأت بخبر لـ"سمع". وأجيب بأنه ليس في كلام س ما يدل على أنه كلام تام، بل لعله أراد أنه جزء كلام، فيكون موافقًا لما ذكره الأخفش والنحاس. وقال هذا المستدل: من جعلها تتعدى إلى اثنين ضمنها معنى عملت، فإذا قلت "سمعت زيدًا قارئًا" فكأنك قلت: علمت زيدًا قارئًا بسماع قراءته، كما أن نبأ تعدت إلى ثلاثة بالتضمين، وهي في الأصل تتعدى إلى واحد بنفسها، وإلى الثاني بـ "عن" وإلى الثالث بالباء، هذه المضمنة غير التي تتعدى إلى واحد، نحو: سمعت كلام زيد، ولم تلغ لأن ذلك ملبس بالحكاية؛ لأنك لو قلت "زيد

متكلم سمعت" لم يدر أنك سمعت هذا اللفظ أو أردت معنى: سمعت زيدًا يتكلم، ولهذه العلة لم تعلق؛ لأنك لو قلت "سمعت أزيد قرأ أم أنشد" تريد: علمت أزيد قرأ أم أنشد بسماع ذلك منه، لم يدر أأردت هذا المعنى أو أردت أنك سمعت هذا الكلام. وقال شيخنا أبو الحسن بن الضائع محتجًا لهذا المذهب: "لا يجوز أن تكون سمعت مما يتعدى إلى واحد؛ لأن حكمه جواز السكوت عليه، ولا يجوز: سمعت زيدًا، وفيما يتعدى إلى اثنين ولا يجوز الاقتصار على أحدهما دون الآخر ما يتعدى إلى واحد، هذه علم، تتعدى إلى اثنين على صفة، وتتعدى إلى واحد على صفة أخرى، وكذلك سمعت. وأيضًا فلو كان (يقول) من "سمعت زيدًا يقول كذا" حالًا لكان "زيد" هو المسموع حقيقة. وأيضًا فالحال لا تكون إلا بعد تمام الكلام، و"سمعت زيدًا" غير تام، وليس كونه غير تام مما عرض له هنا، كقوله: متى تبعثوها تبعثوها ذميمة ................................ بل هو كقوله: إن اليوم زيدًا راحلًا، وهو لا يجوز، فأما قولهم: سمعت زيدًا، أي: سمعت كلام زيد يتكلم، فبعيد جدًا،/ ويلزم أن تكون الحال عنه مؤكدة؛ لأنه معلوم أن "سمعت زيدًا" في تقدير: سمعت كلام زيد" انتهى ما احتج به.

فأما قوله "لأن حكمه جواز السكوت عليه، ولا يجوز: سمعت زيدًا" فالجواب أنه جائز، قال تعالى {هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ}، تقديره: هل يسمعونكم تدعون؟ ويحتمل أن يكون سمعت زيدًا على تقدير حذف مضاف، فيكون إذ ذاك متعلق السمع، فيقدر في سمعت زيدًا: سمعت كلام زيد، وحذف المضاف لفهم المعنى جائز. وأما قوله "وفيما يتعدى إلى اثنين" إلى آخره، ومثل ذلك بعلمت - فـ "سمع" لا يجوز أن يكون مثل علمت لما سيتبين بعد إن شاء الله. وأما قوله " إنه يلزم أن يكون زيد هـ المسموع حقيقة" فلا يلزم؛ لأنا قد بينا أن ذلك على حذف مضاف، وذلك المضاف هو المسموع حقيقة. وأما قوله "وسمعت زيدًا غير تام" فهذا غير مسلم، بل هو تام لأنه على حذف مضاف. وأما إلزامه أن يكون حالًا مؤكدة فلأنه قدر أن المحذوف في نحو "سمعت زيدًا يتكلم" هو الكلام، أي: سمعت كلام زيد في حال تكلمه، فتكون إذ ذاك حالًا مؤكدة. وأما غيره فإنه جعل المحذوف أعم من الكلام، وهو صوت، فعلى هذا لا تكون (يتكلم) حالًا مؤكدة، بل هي حال مبينة؛ لأن الصوت يكون كلامًا وغير كلام مما يتعلق به السمع. وقد احتج للمذهب الأول أبو بكر بن طاهر بأنه حكي: سمع أذني زيدًا يقول ذلك، فـ "يقول ذلك" يتعين أن يكون حالًا لأنه سد مسد الخبر، ولا

يجوز أن يكون مفعولًا ثانيًا: لأن المفعول الثاني لا يسد مسد الخبر، لو قلت ظني زيدًا عالمًا لم يستقل لأنه معمول المصدر، كما لا يستقل: ضربي زيدًا. واحتج له أيضًا أبو محمد بن السيد، وتبعه ابن عصفور، بأن سمع من أفعال الحواس، وأفعال الحواس كلها تتعدى إلى مفعول واحد، تقول: ذقت طعامًا، وشممت مسكًا، ولمست حريرًا، وأبصرت زيدًا، فينبغي أن تكون سمع مثلها، فإذا دخلت على غير مسموع أول على أنه على حذف مضاف. قال: "وأيضًا لا تخلو إذا كانت مما يتعدى إلى مفعولين من أن تكون من باب ظن أو من باب أعطى، فباطل أن تكون من باب أعطى لأن الثاني فعل، والفعل لا يكون في موضع المفعول الثاني في باب أعطى، وباطل أن تكون من باب ظن لأن ظن وأخواتها يجوز إلغاؤها وإعمالها، ولا يجوز إلغاء سمعت، فثبت أنها مما يتعدى إلى مفعول واحد. فأما قوله: سمعت: الناس ينتجعون غيثًا فقلت لصيدح: انتجعي بلالًا فهذا ليس بإلغاء، بل هو حكاية؛ إذ معناه: سمعت هذا الكلام، فهو نحو: سمعت/ زيد يتكلم، وإذا نصبت فالمسموع ليس هذا اللفظ الذي هو: زيد يتكلم، ولو أنه كان إلغاء كان المعنى واحدًا، كما أن قولك: زيدًا ظننت قائمًا، وزيد ظننت قائم، واحد". ويدل أيضًا على أنها تتعدى إلى واحد كونها لا تقع موقع الفعل معرفة.

قال الأخفش: تقولك سمعت زيدًا يتكلم، وسمعت زيدًا متكلمًا، ولا تقول: المتكلم. وأجيب عن هذا بأنه لعل الأخفش لم يسمعه، وسمعه غيره، ولا يلزم سماع كل لفظة إذا صححها القياس. وقد تضمن سمع معنى أصغى، فتتعدى بإلي، نحو قوله {لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلإٍ الأَعْلَى}، ومعنى استجاب باللام، نحو: سمع الله لمن حمده أجريت في ذلك مجرى ما ضمنته. وقوله ولا تلحق ضرب مع المثل على الأصح ذهب قوم إلى أن "ضرب" المعلقة بالمثل تكون من أفعال هذا الباب، وتكون بمعنى صير، قال تعالى {إِنَّ اللَّهَ لاَ يَسْتَحْيِي أَن يَضْرِبَ مَثَلاً مَّا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا}، وقال تعالى {وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلاً أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ}، و {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً عَبْداً مَّمْلُوكاً}، {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَّجُلَيْنِ}، فظاهر هذه الآيات أن "ضرب" بمعنى صير تتعدى إلى اثنين، ويكون (مثلًا) فيما يظهر هو المفعول الثاني، وما بعده هو المفعول الأول؛ لأن مثلًا نكرة لا مسوغ لها لجواز الابتداء بالنكرة، وما بعده إما معرفة وإما نكرة لها مسوغ للابتداء بالنكرة، وقد صرح بتقديمه على مثل أبو تمام، فقال:

لا تنكروا ضربي له من دونه مثلًا شرودًا في الندى والباس قال المصنف في الشرح: "والصواب ألا يلحق به لقوله تعالى {ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ}، فبني ضرب المذكورة لما لم يسم فاعله، واكتفت بمرفوعها، ولا يفعل ذلك بشيء من أفعال هذا الباب" انتهى. وهذا استدلال ظاهر، ويمكن تأويله على أن يكون المفعول حذف لدلالة الكلام عليه، أي: ضرب مثل ما يذكر، ويدل عليه {فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ} الآية. وقد يقال إن ضرب تكون بمعنى صير لا مع المثل خاصة، بل هو نحو: ضربت الفضة خاتمًا، وضربت الطين لبنًا؛ إذ المعنى: صيرت، إلا أنه ينبغي أن يستثبت في هذا الباب، أهو من كلام العرب أم من كلام المولدين. وقد ذهب إلى أن ضرب بمعنى صير فيتعدى إلى اثنين أبو الحسين بن أبي الربيع، قاله في: ضربت الفضة خلخالًا. وقوله ولا عرف وأبصر، خلافًا لهشام، ولا أصاب وصادف وغادر، خلافًا لابن درستويه ثبت أن هذه الأفعال تتعدى إلى واحد، فإذا جاء بعده اسم

منصوب حمل على أنه حال، والدليل على أنه حال التزام تنكيره. وكون هذه الأفعال من أفعال هذا الباب لا حجة على ذلك. وأدخل س وأبو علي الفارسي في أفعال هذا الباب أرى، ولم يذكرا فيه ما بني للمفعول من الأفعال التي تتعدى/ إلى ثلاثة نحو أعلمت. وسبب ذلك أن جميع ذلك استعمل مبينًا للفاعل؛ إلا أرى هذه، فإنها لم تستعمل إلا مبنية للمفعول؛ ألا ترى أن أرى بمعنى أظن، ولا يقال: أريت زيدًا عمرًا خير الناس، بمعنى: جعلته يظن ذلك، بل بمعنى: أعلمته ذلك، فلما لم تستعمل بمعنى الظن إلا مبنية للمفعول جعلاها من هذا الباب؛ لأنها لا يكون لها أبدًا إلا منصوبان، كما أن سائر أفعال هذا الباب كذلك. وقال بعض الناس: "يصح أن تكون خلق بمعنى جعل، فيكسبها ذلك قوة التعدي إلى مفعولين، ويكون قوله {ضَعِيفاً} من قوله {وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفاً} مفعولًا ثانيًا" انتهى. ولا أعلم أحدًا من النحويين ذهب إلى ذلك، بل الذي ذكر الناس أن من أقسام جعل أن تكون بمعنى خلق، فتتعدى إلى مفعول واحد، كقوله تعالى {وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ}، أما العكس فلم يذهب إلى ذلك أحد من النحويين فيما علمناه. والمتأخرون من النحاة الذين تتبعوا هذه الأفعال لم يذكروا ذلك.

-[ص: وتسمى المتقدمة على صير قلبية. وتختص متصرفاتها بقبح الإلغاء في نحو: ظننت زيد قائم، وبضعفه في نحو: متى ظننت زيد قائم، وزيد أظن أبوه قائمٌ، وبجوازه بلا قبح ولا ضعف في نحو: زيد قائم ظننت، وزيد ظننت قائم. وتقدير ضمير الشأن أو اللام المعلقة في نحو ظننت زيد قائم أولى من الألغاء. وقد يقع الملغي بين معمولي إن، وبين سوف ومصحوبها، وبين معطوف ومعطوف عليه. وإلغاء ما بين الفعل ومرفوعه جائز لا واجب، خلافًا للكوفيين. وتوكيد الملغي بمصدر منصوب قبيح، وبمضاف إلى الياء ضعيف، وبضمير أو اسم إشارة أقل ضعفًا. وتؤكد الجملة بمصدر الفعل بدلًا من لفظه منصوبًا، فيلغي وجوبًا، ويقبح تقديمه، ويقل القبح في نحو: متى ظنك زيد ذاهب؟ وإن جعل متى خبرًا لـ"ظن" رفع، وعمل وجوبًا. وأجاز الأخفش والفراء إعمال المنصوب في الأمر والاستفهام.]- ش: الإلغاء هو ترك العمل لغير مانع. وحيث يكون الإلغاء والإعمال اختلفوا: فذهب الجمهور إلى أنك مخير بين الأعمال والإلغاء، وهو اختيار الأستاذ أبي الحسن بن عصفور. وذهب أبو الحسن إلى أنه ليس على التخيير، وإنما هو لازم، إذا ابتدأت لتخبر بالشك أعملت الفعل على كل حال، سواء قدمته أم وسطته أم أخرته، وإذا بدأت وأنت تريد اليقين، ثم أدركك الشك بعد ما مضى كلامك على اليقين، رفعت وابتدأت، والمبتدأ مع الخبر كالفعل مع الفاعل، فلابد من الخبر، وتلغي

ظننت. وهو اختيار الأستاذ أبي الحسين بن أبي الربيع، قال: "جواز الإلغاء/ والإعمال بمقصدين مختلفين، فإذا قصدت أن تبني الكلام على الظن ثم توسطه اتساعًا، أعملت، وإن قصدت إلى البناء على الابتداء، وحدث لك الإخبار بما أنبنى الكلام عليه - ألغيت". وفي الإفصاح: به - أي بمذهب أبي الحسن - أخذ شيخنا أبو القاسم ابن القاسم، وقال: إنه مذهب س. وذهب ابن درستويه وابن كيسان إلى ما ذهب إليه أبو الحسن، لكن إذا وسطت، فإن قدمت الاسم لم تلغ، وأعملت الفعل في ضميره، ونصبت ما بعده، فقلت: زيد ظننته منطلقًا. وإن قدمت الخبر، وظهر فيه الرفع، ألغيت أيضًا لأنه فائت لا يسترجع، والخبر المبتدأ كما يطلب المبتدأ الخبر، نحو: قائم ظننت زيد. فإن كان مجرورًا أو جملة أعملت، ونويت في موضع الجملة والمجرور نصبًا، نحو: في الدار ظننت زيدًا، وأخوه منطلق ظننت زيدًا، لا يجوز عنده الرفع هنا، وقوله: ......................... وفي الأراجيز - خلت - اللؤم والخور

عنده من أقبح الضرورات. وغيره يرى أن التقدم الفائت كاللفظ الفائت، وأنه يطلب ما يطلبه اللفظ، وهو القياس. وذهب بعض النحويين إلى أنك إذا ابتدأت باليقين ألغيت على كل حال، سواء أوسطت أم أخرت، وإن ابتدأت على الشك، ولم تقدم الفعل، كنت مخيرًا. انتهى. ولا يعنون بذلك الاختصاص بفعل الشك؛ لأن من الأفعال التي تلغى ما هو لليقين، نحو علم، وإنما يعنون أنك تبني كلامك أولًا على سبيل الإخبار عن المبتدأ بالخبر، ثم يدركك أن تجعل ذلك في علم أو ظن أو حسبان أو خيلة، أو تبني كلامك أولًا على سبيل الإخبار بالفعل، وتذكر متعلقيه. ويدل على أن هذا المراد قول س في باب الاشتغال: "فإذا بنيت الاسم عليه قلت: ضربت زيدًا"، ولا معنى لـ" بنيت الاسم عليه" إلا: أعملته فيه. وقال بعد هذا: "فإذا بنيت الفعل على الاسم قلت: زيد ضربته"، ومعنى ذلك: أخبرت به عنه. وقوله وتسمى المتقدمة على صير قلبية يعني أنها تسمى أفعال القلوب؛ لأن العلم والظن إنما هما من أفعال القلب، ليس فيهما علاج، بخلاف صير فإنها فعل علاج. ولا تختص هذه التسمية بهذه الأفعال التي ذكر، بل أفعال القلوب أعم، تنطلق على ما يتعدى بحرف جر، نحو فكر، تقول: فكرت في الأمر. وعلى ما يتعدى إلى واحد، نحو عرف، تقول: عرفت زيدًا. وعلى ما يتعدى إلى اثنين، نحو ظن وعلم. وقوله وتختص متصرفاتها بقبح الإلغاء في نحو: ظننت زيد قائم متصرفات

هذه الأفعال هي أربعة عشر فعلًا. وأحترز بها مما لا يتصرف، وهو هب وتعلم. وهذا الاحتراز/ الذي ذكره المصنف لم يتعرض لذكره أصحابنا، فيمكن أن أهملوه لأن ما لا يتصرف منها يجوز في الإلغاء كالمتصرف، فيكون ذلك مخالفًا لما ذكره المصنف، ويمكن أن أهملوه لأن أكثرهم لم يعد فيها غير المتصرف، وإنما ذكروا تعلم في غضون كلامهم، وأهملوا ذكرها حين عدوا هذه الأفعال. ويقال: لما لم يتصرف هذان الفعلان في أنفسهما لم يتصرف فيهما بالإلغاء، بل أقر على أصل الأفعال من العمل. وقوله في نحو ظننت زيد قائم أي: في مثل ظننت زيد قائم. وكثيرًا ما يأتي هذا المصنف في كلامه بضبط قانون كلي بلفظة "نحو"، وهو في غاية الإبهام؛ لأن المثلية تكون بأدنى شبه، فلا ينبغي أن يضبط ذلك الحكم إلا بقانون كلي، وهو أن يقول في هذا في ظننت وأخواتها: إنها إذا وقعت صدر كلام فالإلغاء - هذا عند المصنف - قبيح، أعني أن تلغى متصدرة. وهذه مسألة فيها خلاف: ذهب البصريون إلى أنه لا يجوز فيها إذا تصدرت إلا الأعمال. وذهب الكوفيون والأخفش ومحمد بن الوليد وابن الطراوة إلى جواز ذلك، وإن كان الإعمال عندهم أحسن. هكذا أطلق أصحابنا النقل عن الكوفيين. والنقل عن الفراء أنه قال: لا يجوز تقديم الظن وأنت تريد به الاعتراض، يعني أنه لا يلغى متقدمًا.

قال البصريون: إنما لم يجز ذلك لأن تصديرك بالفعل دليل على الاعتماد عليه، وأنك جعلت ما بعده في حيز ما قدمت من علم أو ظن، فلا يسوغ إلغاؤها لذلك. قالوا: ويدل على ذلك أنه لا يحفظ إلغاء ظننت أو شيء من أخواتها إذا وقعت صدر كلام. وأما الكوفيون فاستدلوا على ذلك بقول الشاعر: كذاك أدبت حتى صار من خلقي أني وجدت ملاك الشيمة الأدب برفع مفعولي وجدت. قال ابن عصفور: "ولا حجة فيه؛ لأن وجدت متوسطة بين اسم أن وخبرها، وهي الجملة من قولك: ملاك الشيمة الأدب، ولم يعن بالتوسط إلا أن تجيء وسطًا لكلام لا صدره، وإن كان توسطها بين المفعولين أقوى" انتهى. فقول ابن عصفور "لأن وجدت متوسطة بين اسم أن وخبرها" لا يظهر؛ لأن الخبر في الظاهر هو وجدت، فلو قال " لأنها لم تتصدر أول الكلام" لكان أجود. ويمكن تصحيح كلامه على أن يكون "ملاك الشيمة الأدب" خبرًا كما زعم، لكن يحتاج إلى رابط، فيحتمل أن يكون ضميرًا محذوفًا، أي: ملاك الشيمة مني، أو تكون الألف واللام نابت عن الضمير على رأي الكوفيين.

ويحتمل أن يكون هذان التقديران في الأدب، أي: ملاك الشيمة الأدب مني، أو أدبي. قال ابن عصفور: "ومما يبين لك بطلان هذا المذهب/ أنه لا يحفظ إلغاء ظننت أو شيء من أخواتها إذا وقعت صدر كلام". وقال ابن هشام الخضرواي: "رأي بعض المتأخرين إلغاء الفعل متقدمًا لأنه جاء عنهم مثل: علمت زيد منطلق، وقد علمت إن زيدًا ذاهب، يعني بالكسر. وقال بعض المتأخرين: الأصل في ظننت ألا تعمل، فجعل هذا مما جاء على الأصل" انتهى. وما حكاه ابن هشام مخالف لقول ابن عصفور. وقد اختلف من هذا الأصل - وهو أن تتصدر أول الكلام - في مسائل: الأولى: ظننت يقوم زيدًا، وظننت قام زيدًا: ذهب الكوفيون والأخفش إلى أنه لا يجوز النصب في زيد، وأجاز ذلك سائر البصريين لأن النية بالفعل التأخير. الثانية: أظن نعم الرجل زيدًا، ووجدت نعم الرجل زيدًا: ذهب الفراء إلى جواز ذلك، وهو مقتضى مذهب البصريين، ولم يجز الكسائي ذلك في أظن، وأجاز ذلك في وجدت. الثالثة: ظننت قائمًا زيدًا: ذهب البصريون إلى جوازها، ومنعها الكوفيون إن أردت بقائم الفعل، وإن أردت الخلف جازت عندهم أكثرهم. قال ابن كيسان: هي قبيحة لأن الخبر يكون الاسم، فقبحت لأن الخبر مخالف للاسم، لأنه يقع موقع الجملة، ويلزم من أجازها أن يقول: ظننت يقوم زيدًا، فيولي الظن

الفعل، فيحل الفعل محل المفعول الأول، والفعل لا يكني عنه بالهاء كما يكنى عن المفعول، وكذلك الجمل. وذلك كله جائز عند البصريين على التقديم والتأخير كما جاز في كان. الرابعة: أظن آكلًا زيدًا طعامك، أجازها البصريون، ومنعها الكوفيون. الخامسة: طعامك أظن أكلًا زيدًا، أجاز ذلك البصريون والكسائي. وقال الكسائي: النية فيه: أظن زيدًا آكلًا طعامك. وقال الفراء: لا يجوز لأنك أوقعت الظن على فاعل الظن على فاعل لم يكن عنده معنى لفعل، فصار لا يتقدم عليه، و"طعامك" صلته، فلا يفرق بينهما بشيء. وقوله وبضعفه في نحو: متى ظننت زيد قائم يعني أنها إذا لم تتصدر وتقدمت على المفعولين. قال المصنف في الشرح: "وعدم تصدرها بكونها سبقها معمول لها، نحو: متى ظننت زيد منطلق، أو "ما" النافية، نحو قوله: ......................... وما - إخال - لدينا منك تنويل ألغى إخال وإن كانت متقدمة على المبتدأ والخبر لما لم تقع صدرًا، بل جاءت بعد "ما"، كأنه أراد أن يقول: وما لدينا منك تنويل، فاعترض بـ "إخال" بين "ما" والجملة المنفية بها، أو بـ "أن" نحو قوله: ....................... أني وجدت ملاك الشيمة الأدب" انتهى.

ولم يذكر س في «أين تظن زيدًا منطلقًا» إلا الإعمال، ويجوز الإلغاء على قلة، فإن كان المتقدم حرفًا/ لم يجز الإلغاء أصلاً، وذلك: أتظن زيدًا منطلقًا؛ لأنه لم يتقدم معمول أصلاً. وقول المصنف «وبضعه في نحو: متى ظننت زيد قائم» إبهام في التشبيه، وكان ينبغي أن يأتي بقانون كلي، وهو: ألا تتصدر، وأن تتقدم على المفعولين. وكلامه دائمًا كثير الإجمال والإبهام والتلفيف، هذا المثال الذي مثله أفهم أنه يضعف فيه الإلغاء، وهذا فيه تفصيل، ذكره النحويون، وهو أنه لا يخلو أن تجعل «متى» معمولة للخبر، أو معمولة لظننت، فإن كانت معمولة للخبر جاز إلغاؤها وإعمالها لأنها لم تقع صدر كلام، فإن اعملت فلبنائك على الظن، وإن ألغيت فلأنك أردت أن تقول: متى زيد منطلق، ثم اعترضت بظننت بين «متى» وبين «زيد منطلق». وإن كانت معمولة لظننت لم يجز إلا الإعمال؛ لأن الظن إذ ذاك لا يكون معترضًا به بين أجزاء الجملة، بل داخلاً على الجملة من المبتدأ والخبر واقعًا صدر كلام. ولم يذكر س في «أين تظن زيدًا منطلقًا» إلا الإعمال، وذكر غيره الإلغاء على قلة على ما فصل. فإن كان المتقدم حرفًا لم يجز الإلغاء، وذلك: أتظن زيدًا منطلقًا؛ لأنه لم يتقدم معمول أصلاً. ومن صور هذه المسألة- وهي ألا تتصدر ظننت، وأن تتقدم على المفعولين-

صورة لا يجوز فيها إلا الإلغاء، ولا يجوز الإعمال، وهي مقابلة المسألة المتأخرة قبل هذه المسألة، وتلك الصورة هي ما حكاه الأخفش: إن زيدًا لظننت أخوه منطلق، ألغى ظننت لما توسطت بين لام إن والجملة التي في موضع الخبر. ولا يجوز إعمالها هنا لأن لام إن إذ ذاك داخلة على ظننت، وهو ماضٍ متصرف، ولام إن لا يجوز دخولها على الماضي المتصرف إذا وقع خبرًا، فإذا لام الابتداء داخلة على الجملة الواقعة خبرًا لـ «إن»، وأعترض بظننت بينهما. وقوله وبجوازه بلا قبح ولا ضعف في نحو: زيد قائم ظننت، وزيد- ظننت- قائم يعني أنه يجوز الإلغاء والإعمال إذا تأخرت عن المفعولين، أو توسطت بينهما. قال ابن عصفور: والسبب في جواز إلغائها متأخرة ومتوسطة أنك إذا ابتدأت بغيرها تكون قد بنيت كلامك على الإخبار من غير أن تقصد جعل ذلك الخبر مما تعلمه أو تظنه، ثم تريد بعد أن يتبين أن ذلك في علمك أو في ظنك، فتأتي بالفعل معترضًا بين أجزاء الكلام، أو ملحقًا له آخر الكلام لتبين ما قصدت من ذلك. وأجاز الأستاذ أبو علي أن يكون السبب في إلغائها متوسطة أو متأخرة كونها ضعيفة العمل لما تقدم ذكره من أن عملها إنما هو بحق الشبه بأعطيت وأخواتها، والعامل إذا تقدم معموله/ عليه يضعف عمله، ولذلك يجوز أن تقول: لزيد ضربت، فتوصل ضربت إلى زيد باللام لما ضعفت بتأخيرها عنه، ولو كانت متقدمة عليه لم يحسن ذلك. قال: فلما كانت ظننت وأخواتها ضعيفة في العمل، وازدادت ضعفًا بتأخرها عن المعمول- جاز لذلك ألا يراعى شبهها بأعطيت، فتلغى عن العمل.

وقال ابن عصفور: هذا التوجيه باطل عندي، بل سبب الإلغاء ما قدمناه من أنه يجوز إلغاؤها مع تقدمها على المفعولين إذا وقعت حشوًا؛ ولو كان السبب ما ذكر لما جاز الإلغاء في مثل هذا؛ لأن المعمول فيه متأخر عن الفعل. ومن إلغاء الفعل متأخرًا قول الشاعر: هما سيدانا يزعمان، وإنما ... يسوداننا إن يسرت غنماهما وقول الآخر: آت الموت، تعلمون، فلا ير ... هبكم من لظى الحروب اضطرام وقول الآخر: القوم في أثري، ظننت، فإن يكن ... ما قد ظننت فقد ظفرت وخابوا ومن إلغائها متوسطة قول الشاعر: أبالأراجيز- يا بن اللؤم- توعدني ... وفي الأراجيز- خلت- اللؤم والخور هكذا أنشده س على أن القصيدة رائية، وأنشده الجاحظ: ................................. ... ........ خلت اللؤم والفشل

وهو للعين المنقري، وقبله: إني أنا ابن جلا إن كنت تنكرني ... يا رؤب، والحية الصماء والجبل وروي أيضًا: وفي الأراجيز رأس النوك والفشل. والذي قبله: الصماء في الحبل. وبعد هذا البيت: ما في الدوابر من رجلي من عنت ... عند الرهان، ولا أكوى من الفعل وهذا الذي ذكره المصنف من جواز الإلغاء مع التأخر والتوسط له شرطان، أهملهما: أحدهما: ألا تدخل لام الإبتداء على الإسم، فإن دخلت فلا يجوز إلا الإلغاء، نحو: لزيد قائم ظننت، ونحو: لزيد- ظننت- قائم. الشرط الثاني: ألا تكون منفية، فإن كانت منفية فلا يجوز إلا الإعمال، نحو: زيدًا منطلقًا لم أظن، وزيدًا لم أظن منطلقًا؛ لأنه لا يجوز لك إذ ذاك أن تبني كلامك على المبتدأ والخبر، ثم تعترض بالظن المنفي؛ ألا ترى أنه لا يجوز لك أن تقول «زيد منطلق» إلا وأنت عالم بصحة ذلك أو ظان له، وهذا المعنى لا

يتصور مع قولك لم أظن أو لم أعلم، فلم يبق إلا أن يكون الكلام مبنيًا على الظن المنفي أو العلم المنفي، ولا يبطل هذا الذي/ ذكرناه بقول الشاعر: ..................................... ... وما- إخال- لدينا منك تنويل بإلغاء «إحال» مع دخول أداة النفي عليها ظاهرًا؛ لأن أداة النفي إنما هي داخلة في المعنى على ما بعد «إخال» لا على «إخال»، كما تقدم تبيينه. ومن صور هذا الذي ذكرناه أن يكون الخبر جملة شرطية أو جملة اسمية، فتقدمه مع المبتدأ على الفعل، أو توسط الفعل بينهما، نحو: زيد أبوه منطلق ظننت، وإن تكرمه يكرمك خلت عمرو، فيجوز فيه الإلغاء والإعمال. وإذا جاز الإعمال والإلغاء وتوسطت اختلفوا: فقيل: الأرجح الإعمال؛ لأن الفعل أقوى من الإبتداء؛ لأنه عامل لفظي، والإبتداء عامل معنوي. وقيل: هما سواء؛ لأنه عادل قوتها تأخرها، فضعفت لذلك، فقاومها الإبتداء بالتقديم؛ ألا ترى حسن: لزيد ضربت، وقبح: ضربت لزيد. وإن تأخرت فالإلغاء أقوى عند الجميع؛ لأن المبتدأ قد وليه الخبر، فأزداد الفعل ضعفًا بالتأخير، بخلاف ما إذا توسطت. وقال س: «فإن أردت الإلغاء فالتأخير فيه أقوى»، أي: عبد الله ذاهب أظن، أقوى من قولك: عبد الله أظن ذاهب. ثم اعتل س، فقال: «لأنه إنما يجئ بالشك بعد ما يمضي كلامه على اليقين». وقال الفراء: إذا وقعت ظننت بين اسم وخبره بطلت مذاهبها، وكذلك

هي إذا تأخرت بعد الخبر. قال: وإنما بطلت مذاهبها إذا توسطت أو تأخرت لأنها في الأصل حكاية، والحكاية لا تنفرد بخبرٍ ولا بأسمٍ لأن الخبر والإسم كلمة، فلا تقع الحكاية على كلمة. وقول ابن سعدان قريب من كلام الفراء. ثم إن الفراء أجاز بعد أن يعمل الظن متوسطًا، فقال: وتقول: عبد الله أظنه قائم، فيسنح لك فيها أربعة معان: إن جعلت الهاء لعبد الله رفعته بعودتها عليه، ونصبت قائمًا لأنه حال للهاء. وإن شئت جعلت الهاء أنها لعبد الله، وألغيتها، ورفعت عبد الله وفعله، كأنك قلت: عبد الله قائم أظنه. وإن شئت جعلت الهاء كناية عن مصدر، فرفعت عبد الله وفعله، كأنك قلت: عبد الله أظن ذاك قائم. وإن شئت جعلت الهاء لرجل قد جرى له ذكر، فتنصب عبد الله لأنه خبر الهاء، وتنصب قائماً على القطع. انتهى. وتلخص من هذا الكلام أنها إذا توسطت أو تأخرت بطل الإعمال، إلا أن الفراء أجاز الإعمال مع التوسط، وهو في الوجه الرابع الذي ذكره أخرًا في هذه المسألة. وينبغي أنها إذا تأخرت أن تلغى، ولا يقدم على الإعمال إلا بسماع، وإن كان القياس يقتضيه. فرع: زيد ظننت ماله كثير، يجوز فيه الإلغاء والإعمال: فإن الغيت رفعت/ زيدًا، و «ماله كثير» خبر عنه لأن الظن متوسط. وإن أعلمت نصبت زيدًا، وكانت الجملة من قوله «ماله كثير» في موضع نصب على أنها المفعول الثاني. وزعم الفراء أن الإلغاء هنا قبيح، قال: لأن بعد الظن حرفين، فكأنها مبتدأة. يعني أن بعد «ظن» ما يمكن أن يعمل فيه، وهما جزأ الجملة، فكأنك هيأتها للعمل، ثم ألغيتها.

وقوله وتقدير ضمير الشأن أو اللام المعلقة في نحو ظننت زيد قائم أولى من الإلغاء وكان المصنف قد قدم أن حمل هذا على الإلغاء قبيح، ورأى هنا أن تأويله على إبقاء الفعل على عمله لأجل تقدمه أولى من حمله على إبطال عمله وهو متقدم، ويكون أصله: ظننته زيد قائم، فالمفعول الأول ضمير الشأن، والثاني الجملة، وهي في موضع نصب، كما حذفوه في قولهم: إن بك زيد مأخوذ، التقدير: إنه، أو يكون أصله: ظننت لزيد قائم، فحذف لام الإبتداء، وهي مرادة، فكان ظننت إذ ذاك معلقة، والجملة من قولك «لزيد قائم» في موضع معموليها، وعلى هذا الوجه خرجه س، وحمل عليه قول الشاعر: ............................... ... وإخال إني لاحق مستتبع بالكسر على تقدير: إني للاحق. وإنما كان هذان التاويلان أولى من تأويل الإلغاء فيه إبطال العمل لـ «ظن»، وهي متقدمة، وفي هذين إبقاؤها عاملة، إما في اللفظ إذا أضمرت ضمير الأمر، وإما في المعنى إذا علقت. فإن قلت: أي التأويلين أرجح؟ قلت: يظهر في باي الراي ترجيح الأول لأن ظننت فيه عاملة في اللفظ، وأما الثاني فهي عاملة في الموضع لا في اللفظ.

والذي يقتضيه النظر ترجيح ما ذهب إليه س لأنه كثيرًا ما يلحظ المعنى، ففي ما أختاره حذف حرف مؤكد لا عمل لـ «ظن» فيه، ولا موضع له من الإعراب، ولم يخل الفعل من العمل في الموضع. وفيما ذكره المصنف حذف اسم معمول لـ «ظن»، وحذف غير المعمول أولى من حذف المعمول. وأيضًا فإنه مبهم يفسره ما بعده، فالقياس يقتضي ألا يجوز حذفه، كما لم يجز بعد رب، ولا بعد نعم وبئس، ولا في باب التنازع. وأيضًا فحذف مفعولي ظن لدلالة المعنى على الحذف في غاية الندور. وأيضًا فكما لا يجوز حذف المفسر وإبقاء تفسيره فكذلك لا يجوز هذا. قال المصنف: «ومما ينبغي أن يحمل على هذا قول كعب بن زهير، رضي الله عنه: أرجو وآمل أن تدنو مودتها ... وما إخال لدينا منك تنويل التقدير: وما إخاله لدينا منك تنويل» انتهى. وهذا الذي ذكره المصنف محتمل، وتقدم التأويل فيه، وهو أن حرف النفي دخل على الجملة، ثم اعترض الفعل بين الحرف/ والجملة، ولا إضمار إذ ذاك في الفعل لأنه ملغى.

وهذا الترتيب -أعني: ظننت زيد قائم- قد ذكرنا تنازع ابن هشام وابن عصفور في سماع مثل هذا عن العرب، وقد أجازه س في كتابه على التأويل الذي ذكرناه من حذف لام الإبتداء، وجوازه لا يدل على سماعه؛ إذ يمكن أن أجازه بالقياس. وقوله وقد يقع الملغى بين معمولي إن، وبين سوف ومصحوبها، وبين معطوف ومعطوف عليه مثال الأولى قوله: إن المحب- علمت- مصطبر ... ولديه ذنب الحب مغتفر ومثال الثانية قوله: وما أدري وسوف- إخال- أدري ... قوم آل حصن أم نساء ومثال الثالثة قوله: فما جنة الفردوس اقبلت تبتغي ... ولكن دعاك الخبز- أحسب- والتمر والمسألة الأولى دخلت فيها بين ما أصله المبتدأ والخبر، بخلاف المسألتين الأخريين.

وقوله وإلغاء ما بين الفعل ومرفوعه جائز لا واجب، خلافًا للكوفيين مثال ذلك: قام أظن زيد، ويقوم أظن زيد. منع الكوفيون غعمال هذا، ووجوب الإلغاء جار على مذهبهم في منع إعمال مثل: ظننت يقوم زيد، وظننت قام زيد، وقد تقدمت هذه المسألة. قالوا: والصحيح مذهب البصريين في أنه يجوز في ذلك الإلغاء والإعمال، وبذلك ورد السماع، قال الشاعر: شجاك- أظن- ربع الظاعنينا ... ولم تبعأ بعذل العاذلينا ينشد برفع «ربع» ونصبه. والذي يقتضيه القياس أنه لا يجوز إلا الإلغاء؛ لأن الإعمال مترتب على كون الجزأين كانا مبتدأ وخبرًا، والجزآن هنا لا يكونان مبتدأ وخبرًا البتة؛ لأن النحويين منعوا من تقديم الخبر إذا كان رافعًا ضمير المبتدا المستكن أو البارز المتصل على المبتدأ، والإعمال يؤدي إلى ذلك، فلا يجوز. ومن الإلغاء قول الأفوه الأودي: ألا عللاني، وأعلما أنني غرر ... وما- خلت- يجديني الشفاق ولا الحذر هكذا روي برفع الشفاق.

وفي البسيط: وأما إن يكون الخبر فعلا وتقدم، نحو: يقوم ظننت زيد-فالبصريون على جواز الإلغاء والإعمال، لكن عند الإلغاء يجب على مذهبهم ان يرتفع الاسم بالفعل كما كان في الابتداء. وينبغي أن يقبح للفصل بالأجنبي؛ لأنه/ليس معمولا للفعل ولا مؤكدا لمعناه، والأحسن التأخير. وقال الكوفيون: لا يكون إلا إلغاء ظننت في هذا؛ لأن الأول يطلب فاعله، والاسم فاعل له في المعنى، فلا يمنع عنه؛ لأنه يكون إلغاء لما لا يجوز إلغاؤه. وقال بعض المتأخرين: إن صورة هذه المسألة تكون من باب إعمال الفعلين، فينبغي أن تجري على الخلاف فيه. وهذا الي ذكره لا يصح؛ لأنها لا تدخل في باب الإعمال إلا بتقدير أن تعمل ولا تلغى، وأما بتقدير الإلغاء فلا تدخل؛ لأنه لا يحتاج إلى إضمار فيها ولا حذف، فليست هذه الصورة داخلة في الإعمال مطلقا. وفي الإفصاح: منع الكوفيون: قام ظننت زيدا، أو يقوم خلت محمداً، وأجازوا الرفع على الفاعل لا على الابتداء وقالو: لا ينصب إلا ما كان مبتدأ قبل طننت، ولا يبتدأ بالاسم إذا تقدمه الفعل. والبصريون: أجازوا النصب لأن العامل الآن فعل، فلا يكون فعل أقوى منه. والمسألة عندي من إعمال الفعلين، فأما الرفع فاختلفوا فيه، والصحيح ما رآه الكوفيون؛ لأن الظن كلا شيء، والفعل قد تفرغ لما بعده. وقوله وتوكيد الملغى بمصدر منصوب قبيح مثاله: زيد ظننت ظنا منطلق.

والسبب عند س وحذاق النحويين في قبح إلغائه إذا عمل في صريح المصدر أن العرب قد تقيم المصدر إذا توسط مقام الظن، وتلغيه مع ذلك، وتجعله بدلا منه. فتقول: زيد ظنا بـ"ظننت"مضمرا، وجاز إضمار الفعل لدلالة الكلام عليه من جهة أنك إذا قلت زيد ظنا منطلق علم من ذلك أنك لم تقل هذا الكلام إلا بعد أن ظننته كذلك، فلما كانوا يجعلون المصدر إذا توسط ورفعوا الاسمين عوضا من ظننت كرهوا أن يجمعوا بينهما؛ لأن الجمع بين العوض والمعوض منه قبيح؛ ولذلك لم يظهرا الناصب لـ"سقيا لك"فلم يقولوا سقى الله سقيا لك لما جعلوا المصدر عوضا من ذلك الفعل الناصب له. وزعم ابن خروف أنه إنما قبح ذلك من جهة أنك تكون قد ألغيت الظن وأعملته، والإلغاء والإعمال متدافعان. وهذا الذي ذهب إليه باطل بدليل أنك تقول: زيد ظننت اليوم قائم، فتعمل ظننت في الطرف، وتلغيه عن المفعولين، ولا يستقبح ذلك، فلو كانت العلة ما ذكر لم يستقبح هذا. وقوله وبمضاف إلى الياء ضعيف مثاله: زيد ظننت ظني قائم. وقوله وبضمير أو اسم إشارة أقل ضعفا مثال الضمير: زيد ظننته منطلق. ولما قبح الجمع بين الفعل وصريح مصدره قبح أيضا بين الفعل وضمير المصدر

إجراء لضمير المصدر مجرى المصدر من حيث كان إياه في المعنى؛ إلا أن قبح الإلغاء مع المصدر أشد من قبحه مع ضمير/المصدر؛ لأن المجعول عوضا من الفعل إنما هو المصدر لا ضميره. وقال ابن خروف: زيد ظننته منطلق أحسن من قولك زيد ظننت ظنا منطلق من جهة ان الضمير مبني، لا يظهر لظننت فيه عمل. وهذا الذي ذكره ابن خروف هو على ما قدم من السبب في الأعمال في صريح المصدر وإلغاء ظن. وضمير المصدر يكون بلفظ المذكر المفرد كما مثلناه. وأجاز هشام وأصحاب س: عبدالله أظنها ذاهب، بمعنى: أظن الظنة، ونظيره قول الشاعر: فإنكما إن تنظراني ساعة ... من الدهر تنفعني، أرى أم جندب أي: تنفعني النظرة. وأجازوا: عبد الله أظنها ذاهب، أي: أظن الظنتين. وأجازوا: أظنهن، كناية عن الظنات. ولا يجيز الفراء التأنيث فيقوا"أظنها"إلا مع المؤنث. وهذا التخصيص لا معنى له؛ لأن القصد إنما هو إلى المصدر، والمصدر للمذكر والمؤنث واحد. وأجاز هشام: زيد ظان أنا قائم. وكذا: زيد أنا ظان قائم، يلغي الظن-يعني: وإن كان في جملة اسمية-كما يلغيه في جملة فعلية. قال: فإن أراد المصدر جاء بالهاء، فقال: زيد ظانه أنا قائم، وإن شاء قال: أنا ظانها، يريد: الظنة، وظانهن، يريد: الظنات.

وقال الفراء: كلام العرب: زيد ظانا أنا قائم، بالنصب لأن الظن معلق بالجملة. قال النحاس: جعل الفراء ظانا مصدرا مثل"اللهم عائذا بك من النار"،أي: عوذا. وهذا كله خطأ عند البصريين، و"فاعل"مصدرا لا يقاس عليه. والذي أجازه هشام لا يحسن إلا أن يكون من كلامين، فتقول: زيد ظان أنا قائم، أي: زيد قائم أنا ظان ذلك. ومثال اسم الإشارة: زيد ظننت ذاك منطلق. ولم يذكر الفارسي في"الإيضاح" "ذاك"إذا أردت به المصدر، وذكره س. وباتفاق هو أحسن في الإلغاء من لفظ المصدر عند من يجيز إلغاءه. واختلفوا أهو أحسن في الإلغاء من الضمير أو الضمير أحسن منه أو هما في ذلك سواء: فظاهر كلام س أنه أضعف في الإلغاء من الضمير لأنه اسم ظاهر منفصل، فهو أشبه بلفظ المصدر. وقال الزجاج: الهاء أضعف لأنه يتوهم منها أنها راجعة إلى زيد. وما قاله الزجاج لا يظهر لأن"ذلك"يمكن أن يكون إشارة إلى"زيد"أيضا. وقوله وتؤكد الجملة بمصدر الفعل بدلا من لفظ منصوبا، فيلغى وجوبا مثاله: زيد منطلق ظنك، أو: زيد ظنك منطلق، ناب ظنك مناب ظننت، ونصبه نصب المصدر المؤكد للجمل، فإلغاؤه واجب،/ فلا يجوز أن تقول: زيد أظنك منطلقا؛ لأن المفعولين إذ ذاك من صلة المصدر، وإذا كانا من صلته لم يكن

للفعل المضمر ما يدل عليه. وقوله يقبح تقديمه قال المصنف في الشرح:"لأن ناصبه فعل تدل عليه الجمله، فقبح تقديمه كما قبح تقديم حقا. من قولك: زيد قائم حقا، ولذلك لم يعمل؛ لأنه لو عمل وهو مؤكد لاستحق التقديم بالعمل، والتأخير بالتوكيد، واستحقاق شيء واحد تقديما وتأخيرا في حال واحد محال"انتهى. وهذا القبح الذي هنا هو بمعنى أنه لا يجوز. وأجاز ذلك الأخفش، قال: وتقول"ظنك عبد الله حسن"إذا ألغيت الظن، ونصبت ظنك بالفعل، كأنك قلت: عبد الله حسن تظن ظنك، أو: ظننت ظنك. ورد النحاس هذا على الأخفش بوجهين: أحدهما: أنه ألغى الظن في أول الكلام. ولا يلزمه ذلك لأن مذهبه أن تلغى ظننت متقدمة جوازا وإن لم يكن حسنا عنده، ولأنه النية به عنده التأخير، فليس مثل: ظننت زيد قائم؛ لأن ظننت هنا وقعت موقعها، ولا ينوى بها التأخير. والوجه الآخر: هو أنه لا يجوز إضمار مالا يعرف معناه. وهذا يجوز أن يكون المعنى على المضي وعلى الاستقبال؛ ألا ترى أنه قدر: تظن ظنك، أو: ظننت ظنك، وهذا لازم في حالة التوسط والتأخر، إذا قلت: زيد ظنك قائم، أو: زيد قائم ظنك-فينبغي ألا يجوز لعدم تعين الفعل المحذوف العامل في المصدر؛ إذ يحتمل أن يكون ماضيا ومتقبلا. وملخص هذا الكلام في المصدر أنه لا يخلو أن تأتي بالفعل معه أو لا تأتي

بالفعل: فإن أتيت بالفعل كان مؤكدا للفعل، ثم الفعل غما أن يكون متقدما فالإعمال، نحو: ظننت ظنا زيدا قائما، وسواء اتيت بالمصدر صريحا أم بضميره أم باسم إشارة إليه، أو متأخرا، فالفصيح الإعمال، ويجوز الإلغاء، وهو قليل جدا، فإن أتيت بصريح المصدر كان جائزا على قبح، أو بالضمير أو اسم الإشارة كان دون صريح المصدر في القبح. وإن لم تأت بالفعل فإما أن يتأخر المصدر أو يتوسط أو يتقدم، ولا يكون إذ ذاك إلا صريح المصدر، لا ضميره ولا اسم إشارة [إليه]:فإن تأخر أو توسط فالإلغاء، وهو إذ ذاك بدل من الفعل الملغى، فلا يجتمع معه، وإنما يجتمع مع الفعل العامل، ولا يكون بدلا من الفعل العامل فيعمل لكونه بدلا منه. وذهب أبو العباس والزجاج وأبو بكر على جواز إعماله، فعلى مذهبهم تقول: زيدا ظنك منطلقا، وزيدا منطلقا ظنك، فتعمله لأنه عندهم بدل من الفعل العامل. وإن تقدم فالصحيح/أنه لا يجوز التقديم. وأجاز الاخفش وغيره التقديم. واختلف مجيزوه في جواز إعماله، فمنهم من أجاز ذلك، فيقول: ظنك زيدا قائما. والصحيح عند أكثر من أجاز التقديم أنه لا يجوز الإعمال، قالو: لأنه لا دليل أذ ذاك على الفعل المحذوف. وهذا التفريغ كله على مذهب من يرى أنك مجيز في الإلغاء، وتقدم انه قول الجمهور. وأما على مذهب الأخفش ففيه التفصيل السابق.

وقوله ويقل القبح في: متى ظنك زيد ذاهب. قال المصنف في الشرح:"وكما قل القبح متى في متى تظن زيد ذاهب يقل في: متى ظنك زيد ذاهب"انتهى. ومن أجاز النصب في ظنك زيدا ذاهبا كان عنده هنا أجوز، فيقول: متى ظنك زيدا ذاهبا؛ لأن أدوات الاستفهام طالة للفعل، فجاز إضمار الفعل بعدها لذلك. وممن ذهب إلى إجازة ذلك ومنعه ظنك زيدا قائما بالإعمال ابن عصفور. وقوله: وإن جعل متى خبرا لظن رفع، وعمل وجوبا، فتقول: متى ظنك زيدا قائما؛ لأنه إذ ذاك ليس بمصدر مؤكد ولا بدل من اللفظ بالفعل، وإنما هو مقدر بحرف مصدري والفعل، وكما تقول: متى ضربك زيدا. وقوله وأجاز الأخفش والفراء إعمال المنصوب في الأمر والاستفهام قال المصنف في الشرح:"لأنهما يطلبان الفعل، نحو: ظنك زيدا منطلقا، ومتى ظنك زيدا منطلقا، بمعنى: ظن ظنك زيدا منطلقا، ومتى ظننت ظنك زيدا منطلقا"انتهى. وهذا الذي حكاه المصنف عن الأخفش والفراء هو القياس، فكما جاز ذلك في نحو: ضربا زيدا، أي: اضرب زيدا، وقوله: أعلاقة أم الوليد ...................... ...........................

أي: أتعلق أم الوليد، جاز ذلك في باب ظن. وقال صاحب الملخص:"تقول: ظنا زيدا منطلقا، كما تقول: ضربا زيدا، وتعمل ظنا كما تعمل ظننت إذا تقدمت، وكذلك لو وسطت ظنها أو أخرته فالإعمال، ولا يجوز الإلغاء لأنها في نية التقديم، ولأن الأمر طالب بالفعل، ومبنى الكلام عليه، فإن جئت بـ"ظنا"بعد ما بنيت الكلام على الإخبار بلا عمل لظن جاز، كما تقول: زيد منطلق ظن، تريد: ظن هذا موجودا، وتقول: أظنا زيدا منطلقا، ليس إلا الإعمال لتقدمها، فإن توسط أو تأخرت جاز الإلغاء والإعمال كما يجوز في الخبر". -[ص: وتختص أيضا القبيلة المتصرفة بتعديها معنى لا لفظا إلى ذي استفهام، أو مضاف إليه، أو تالي لام الابتداء أو القسم/أو (ما) أو (إن) النافيتين أو (لا)،ويسمى تعليقا.]- ش: التعليق ترك العمل في اللفظ لا في التقدير لمانع. وإنما قلنا"في اللفظ لا في التقدير"لأن الجملة التي لا يؤثر فيها العامل لفظا لها محل من الإعراب في التقدير. ويدل على ذلك أنه يجوز العطف على ذلك المحل، فيجوز أن تقول: علمت لزيد منطلق وعمرا قائما، فتعطف نصبا على محل: لزيد منطلق. وهذا التعليق هو بخلاف الإلغاء-كما قدمناه-ترك العمل في اللفظ والتقدير لغير مانع. وقال المصنف في الشرح:"التعليق عبارة عن إبطال العمل لفظا لا محلا على سبيل الوجوب، بخلاف الإلغاء، فهو إبطاله لفظا ومحلا على سبيل الجواز" انتهى.

ويرد عليه أن من التعليق شيئا يكون على سبيل الجواز لا على سبيل الوجوب، وسيأتي بيان ذلك حيث تكلم عليه المصنف. وقوله وتختص أيضا القبيلة الاختصاص ينافي قوله بعد"ويشاركهن فيه كذا وكذا"، فالاختصاص والمشاركة لا يجتمعان. وليس كل أفعال القلوب يعلق؛ ألا ترى أن الإرادة والكراهة ونحوهما من أفعال القلوب، ولا تعلق لأنها لا تدخل على الابتداء، ولا لها معنى يدخل على الابتداء بحسب الأصل. ثم اختلفوا: فقال السيرافي وجماعة: ما كان من هذه يجوز تعليقها مطلقا. وقالت طائفة: لا يكون منها معلقا بحق الأصل إلا ما جاز إلغاؤه، وهو المتعدي إلى اثنين، وهو رأي ابن السراج وأبي علي وابن الباذش وابن طاهر وجماعه، سواء أكان علما او ضده، وما عداه فبالحمل عليه. واحتجوا بأنه منع للعمل، وما لا يتعدى إلى اثنين كيف يمنع عنهما، ولأن التعليق لا يكون إلا فيما يستقل بغير الفعل، ومعمول ما يتعدى إلى واحد لا يستقل، فلا بد من تأويله. وذهب ابن كيسان وثعلب-وحكي عن المبرد-أنه لا يعلق إلا العلم منها،

وأما الظن ونحوه فلا يعلق. قال الأستاذ أبو العلا: وهو الوجه عندي. وزعم أنه رأي س على ما فهم عنه؛ لأنه ما مثل به في أبواب التعليق. قال أبو العلا: والذي يدل عليه أن آلة التعليق بالأصل حرف الاستفهام وحرف التأكيد، أما التحقيق فلا يكون بعد الظن لأنه نقيضه، ولذلك قال ثعلب: فإذا قلت: ظننت إنك لقائم، تريد ما غل عليك من اليقين، فتكون ظننت بمعنى علمت-فهو جائز، وإن أردت الشك كنت كالكذاب. وأما الاستفهام فالمراد الإبقاء مع أنك قد زال ترددك، فإذا دخلت ظننت بمعنى التردد فلا فائدة في/التسوية لأنك شاك مثله، فلا تدخلها على الاستفهام. فإن قيل: فقد قال س: ظننت زيدا أبو من هو، فعلق. قيل: هو بمعنى العلم إن سلمنا أنه تعليق، وإلا منعنا؛ لأنه إنما دخل على جملة خبرها الاستفهام، فعملت فيما يمكن أن تعمل، وبقي ما كان مستفهما على أصله. فإن قيل: قد حكى س عن الخليل ويونس أن هذه اللام لا تدخل على كل فعل، فلا تقول: وعدتك إنك لخارج، وإنما تدخل على العلم والظن وما كان نحوه.

قيل: يحمل الظن على العلم، أو يكون مذهبًا لهما. قال صاحب "البسيط": وهذا تكلف في التأويل، ولو سلمنا ذلك لقلنا: فما المانع من أن يعلق الظن بغير هذه من الحروف كـ (ما) و (لا) مما لا يعدم فيها ذلك. وقوله المتصرفة احتراز من تعلم بمعنى: اعلم، ومن هب بمعنى: ظن، على زعمه، وتقدم قول ابن عصفور: إن هب بمعنى اجعل التي بمعنى صير. وقوله إلى ذي استفهام يشمل ما يلي استفهاما، نحو: علمت أزيد في الدار أم عمرو، وعلمت أخرج عبد الله أم قعد، وما ضمن استفهامًا، نحو: علمت أيهم في الدار. وقوله أو مضاف إليه مثاله: علمت أبو أيهم زيد. وقال ابن كيسان: الفرق بين الظن والعلم هنا أن العلم يكون بالمسألة والبحث والنظر الذي يقع بعده الاستفهام، كأنك قلت: سألت فعلمت، ونظرت فعلمت، كما تقول، اسأل أيهما قام، أي: سل الناس فقل أيهم قام، والظن إنما هو شيء من نفسك وتمييز برأيك، وليس السؤال من غيرك، ثم يصير معلومًا. وذهب بعض النحويين إلى أن ذلك حسن في علمت وقبيح في غيرها. وقوله أو تالي لام الابتداء مثاله {ولَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ}، وظننت لزيد قائم.

وقوله أو القسم مثاله قول الشاعر: ولقد علمت لتأتين منيتي إن المنايا لا تطيش سهامها وأكثر أصحابنا لا يذكرون في التعليق لام القسم. وفي "الغرة": ولام القسم لا تعلق، كقوله: لقد علمت أسد أننا لهم يوم نصر لنعم النصر فهذه لام القسم، ولا تعلق علمت، كما تقول: علمت أن زيدًا ليقومن، فتفتح ان. وأنشد المصنف عقب إنشاده هذا البيت قول الشاعر: لقد علم الإخوان لو أن حاتمًا يريد ثراء المال أمسى له وفر ووجه إنشاده أنه جعل "لو" معلقة للفعل كما علقته لام القسم لأن "لو" تجيء بعد القسم. قوله أو ما مثاله {وظَنُّوا مَا لَهُم مِّن مَّحِيصٍ}، {لَقَدْ عَلِمْتَ مَا

هَؤُلاءِ يَنطِقُونَ}. وفي "البسيط": /ذهب الخليل وجماعة إلى أنه يعلق بـ"ما" النافية لأنها لها الصدر كالاستفهام، تقول: علمت ما عبد الله قائم، ولأنها تشبه إن واللام؛ لأنها يتلقى بها القسم، وهل يجوز ما تقدم من العمل في بعض والإلغاء عن بعض، كقولك: علمت زيدًا ما أبوه قائم؟ واختلف المجوزون: فقيل: لا تكون إلا التميمية؛ لأن الحجازية كالفعل، والفعل لا يدخل على الفعل، فلا تقول: علمت ليس زيد قائم. وقيل: يجوز لأنها ليست بفعل. وقيل إن (لا) بمعنى (ما) يجوز أن تعلق، نحو: علمت لا رجل في الدار ولا امرأة. وهل تكون فيه (لا) التبرئة؟ فيها ما في الحجازية لأنها عاملة، لكنها دونها لأنها محمولة على إن، وإنما تكون كـ (ما) التي بمعنى ليس. وفي كتاب الصفار: "الذي يعلق به اللام الداخلة على المبتدأ والخبر، واللام المقرونة بإن، واللام الداخلة على الفعل، نحو ليقومن في جواب القسم، و (ما) و (لا) في جوابه، على خلاف في (ما) و (لا). وهذه المعلقات كلها تكون في جواب القسم، ويحذف القسم، وتبقى دونه إلا (ما) و (لا)، فإنهما لا تبقى واحدة منهما دون القسم؛ لأنه لا يفهم القسم، بخلاف اللام وإن. والمعلق عن هذه الأشياء قيل: هذه الأشياء في موضع المفعول للفعل. وقيل: لما ضمنت معنى القسم لم تحتج إلى معمول. وقيل: القسم مضمر بعد

الأفعال، وهو وجوابه في موضع المعمول للفعل المعلق. والصحيح الأول. ورد الثاني بأنه يحتاج الفعل إلى معمول ضرورة، والثالث أنهم علقوا الفعل عما أوله (ما)، وقد قلنا إن القسم لا يحذف مع (ما)، فثبت أن الأفعال مضمنة معنى القسم" انتهى. وكنت قد ذكرت في "منهج السالك في الكلام على ألفية ابن مالك" أنه ظهر لي أن من المعلقات (لعل)، ومنه {ومَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيبًا}، {ومَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى}، {وإنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَّكُمْ}، ورأيت مصب الفعل في هذه الآيات على جملة الترجي، فهي في موضع نصب بالفعل المعلق، إلى أن وقفت لأبي علي الفارسي على شيء من هذا، قال وقد ذكر {ومَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى} {ومَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيبًا} ما نصه: والقول في لعل وموضعها إنه يجوز أن تكون في موضع نصب، وأن الفعل لما كان بمعنى العلم علق عما بعده، وجاز تعليقه لأنه مثل الاستفهام؛ ألا ترى أنه بمنزلته في أنه غير خبر، وأن ما بعده منقطع مما قبله، ولا يعمل فيه، وإذا كان كذلك لم يمتنع أن يقع موقع المفعول كما يقع الاستفهام موقعه، فعلى هذا تكون لعل وما بعدها بعد هذه الأفعال في موضع نصب. وقوله أو إن النافيتين مثاله {وتَظُنُّونَ إن لَّبِثْتُمْ إلاَّ قَلِيلاً}. وقوله أو لا من أمثلة ابن السراج: أظن لا يقوم زيد.

ولم يذكر /أصحابنا أن (لا) من المعلقات، وذكرها النحاس. وذكروا إن وفي خبرها اللام، نحو: علمت عن زيدًا لقائم. ويمكن اندراج هذه المسألة تحت قوله "أو تالي لام الابتداء". وكسر إن وفي خبرها اللام بعد علمت وظننت على سبيل التعليق هو قول جميع النحاة، إلا أن أبا العباس حكي عن المازني إجازة الفتح مع اللام في ذلك، وحكي أن سعيد بن جبير قرأ {إلاَّ إنَّهُمْ لَيَاكُلُونَ} بالفتح. وأجاز الفراء الفتح إذا طال الكلام، وأنشد لطرفة: وأن لسان المرء ما لم يكن له حصاة على عوراته لدليل وزعم أنه قرئ {إنَّ رَبَّهُم بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّخَبِيرٌ}. وفي هذه الجمل التي هي مصدرة بإن المكسورة وفي خبرها اللام، أو بلام الابتداء، أو بلام القسم، أو بـ (ما) النافية، أو بـ (لا) خلاف: فمذهب س والبصريين وابن كيسان أنها في موضع نصب. والحجة لـ (س) أن الاعتماد على خبر الظن، فصار المعنى إذا قلت ظننت ما زيد منطلقًا: في ظني، قال تعالى {وظَنُّوا مَا لَهُم مِّن مَّحِيصٍ}. قال ابن كيسان: ما هنا جحد، وهي وما بعدها في موضع مفعول الظن لأنه جملة، والجملة فيها اسم وخبر، فقد أدت عن

مفعولي الظن، كما تقول: ظننت أن يقوم زيد. وقال الكوفيون: أضمر بين الظن وبين هذه الحروف القسم. فعلى قولهم لا يكون لهذه الجمل موضع من الإعراب؛ لأن الجمل المتلقي بها القسم لا موضع لها من الإعراب، فإن كان مسموعًا من لسان العرب: علمت لزيد منطلق وعمرًا مقيمًا، بالنصب كان ذلك حجةً واضحةً على الكوفيين، وإلا فيحتمل ما قالوه. وقال أصحابنا: إن هذه الأفعال تضمن معنى القسم، فتتلقى بما يتلقى به القسم، وتعلق إذ ذاك عن العمل. وهذا جنوح لمذهب الكوفيين. وإذا ضمنت معنى القسم لم تكن تلك الجمل لها موضع من الإعراب؛ لأنه _وغن كان متعديًا_ ضمن معنى ما لا يتعدى، فلم يتعد، كما أن نبئت في الأصل لا تتعدى، فلما ضمنت معنى ما يتعدى إلى ثلاثة تعدت تعديته. وهذا الذي صححه ابن عصفور في "شرح الجمل"، وهو ضعيف جدًا؛ لأن هذه الأفعال تحتاج بوضعها إلى معمول، ولا تقول إنها خرجت بالكلية عن معناها حتى لم تبق تطلب معمولًا، وأنت ترى مضمون الجملة مقيدًا بالعلم أو بالظن، فلم تتنزل منزلة جملة القسم من كل جهة.

والصحيح مذهب س، وهو أن الجملة إذ ذاك لها موضع من الإعراب على حسب الفعل في التعدي /إلى واحد أو إلى اثنين. وأما مذهب الكوفيين _وهو إضمار القسم بين هذه الأفعال والحروف_ فلا أنقل عنهم أن تلك الجملة القسمية وجوابها في موضع المعمول. ونقل بعض أصحابنا أن القسم مضمر بين هذه الأفعال وهذه الحروف، لكنه لم يعزه للكوفيين ولا لمعين، ونقل أن مذهب هذا القائل أن القسم وجوابه في موضع معمول الفعل. وأبطل هذا المذهب بأنه علق الفعل عن الجواب الذي أوله (ما) و (لا)، والقسم لا يحذف مع (ما) و (لا) البتة؛ لأن القسم لا يفهم مع واحدة منهما إن حذف، بخلاف اللام وإن، فإنهما لا يكونان إلا في القسم، فلذلك ساغ أن يحذف القسم معهما. -[ص: ويشاركهن فيه مع الاستفهام نظر وأبصر وتفكر وسأل وما وافقهن أو قاربهن لا ما لم يقاربهن، خلافًا ليونس، وقد تعلق نسي.]- ش: قال المصنف في الشرح: "علق أيضًا مع الاستفهام نظر بالعين أو القلب"، ومثل بقوله تعالى {فَلْيَنظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا}، وقوله: {فَانْظُرِي مَاذَا تَامُرِينَ}. والضمير في "فيه" عائد على التعليق، فظاهر قوله "مع الاستفهام"

أن نظر وما ذكر معها لا تعلق إلا مع الاستفهام، فليس كذلك، بل قد أجاز النحويين في {أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِهِم مِّن جِنَّةٍ} أن تكون ما نافية، والجملة في موضع نصب، وتفكر ليست من الأفعال التي تتعدى لمفعولين، والذين ذكروا التعليق في أفعال القلوب لم يذكروا أن شيئًا منها يختص بالاستفهام. وهذا الذي ذكره من أن النظر بالعين يعلق هو قول ابن عصفور، قال: والتعليق يخص أفعال القلوب إلا انظر البصرية وسل، فإنهم قالوا: انظر أبو من زيد، وسل أبو من عمرو، لكونهما سببين للعلم، فأجري السبب مجرى المسبب. وقد نقد شيخنا الأستاذ أبو الحسن بن الضائع ذلك على ابن عصفور. قال أستاذنا أبو جعفر بن الزبير: لم يذهب أحد إلى تعليق انظر سوى ابن خروف، وتبعه أبو الحسن بن عصفور، وقد ذكر س تعليق انظر، لكن حمل الناس ذلك على النظر بمعنى التفكر، وصرح بذلك ابن عصفور في "شرح الكتاب"، وإنما الذي ذكره النحاة من غير أفعال القلوب "سل"، و"ترى" البصرية في قول المازني. وجعل ابن خروف من تعليق النظر البصري قوله تعالى {أَفَلا

يَنظُرُونَ إلَى الإبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ} من جهة تعدية النظر بإلى. قال: ولا يعدى بـ (إلى) إلا ما كان بمعنى الإبصار. وقوله وأبصر مثاله {فَسَتُبْصِرُ ويُبْصِرُونَ (5) بِأَيِّكُمُ المَفْتُونُ}. هكذا مثل المصنف، ولا يتعين أن يكون تعليقًا لأبصر؛ إذ يحتمل أن تكون (أيكم) موصولةً لا استفهاميةً، وتكون مفعولًا، والباء زائدة، وصدر الصلة محذوف، التقدير: فستبصر ويبصرون الذي هو المفتون منكم. وقد جاء تعليق "تبصر" بمعنى: انظر وتأمل، /قال الشاعر: تبصر خليلي، هل ترى من ضغائن سوالك نقبًا بين حزمي شعبعب والأظهر أنها هنا من الإبصار بالعين. وقوله وتفكر مثاله ما أنشد المصنف: حزق إذا ما القوم أبدوا فكاهةً تفكر آإياه يعنون أم قردا وتفكر هي من أفعال القلوب، فلا ينبغي أن تذكر مع نظر وأبصر البصريتين؛ لأنها قد اندرجت في قوله "وتختص أيضًا القلبية المتصرفة" الأفعال التي ذكرها في هذا الباب الذي هو باب ظن من أفعال القلوب، فيمكن أن تكون

"تفكر" من المشارك لها فيما ذكر. وقوله وسأل مثاله {يَسْأَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ}. وقوله وما وافقهن قال في الشرح: "أشرت بـ (ما وافقهن) إلى نحو: أما ترى أي برق هنا؟ بمعنى: أما تبصر، حكاه س" انتهى. وهذا الذي اختاره من كون ترى هنا بصريةً هو مذهب للمازني خاصة، وأما شرح "الكتاب" فحملوا ما حكاه س على أن ترى فيه بمعنى: تعلم، قال ابن عصفور: "ولا يعلق من غير أفعال القلوب إلا سل، نحو: سل زيدًا أبو من هو، وذلك أنه سبب لفعل القلب؛ ألا ترى أن السؤال سبب من أسباب العلم، فأجري السبب مجرى المسبب. وزعم المازني أنه يجوز أن تعلق رأيت بمعنى أبصرت، وإن لم تكن من أفعال القلوب، فتكون إذ ذاك بمنزلة سل؛ لأنها سبب من أسباب العلم. واستدل على ذلك بقول العرب: أما ترى أي برق ههنا، فإذا أمكن حمله على العلمية كان أولى؛ لأن التعليق بابه أن يكون في أفعال القلوب" انتهى كلام ابن عصفور.

وقول المصنف "بمعنى أما تبصر" من تمثيله لا من تمثيل س، وظاهر كلامه يشعر أنه من تمثيل س. وقال المصنف فى الشرح: "وإلى نحو {وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ} " يعني أن استنبأ معناها استعلم، فهي طلب للعلم. وقوله أو قاربهن قال المصنف: "أشرت إلى قوله {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} ". ولا يتعين ان يكون هذا تعليقًا، بل يجوز ان تكون {أَيُّكُمْ} موصولة، حذف صدر صلتها، فبنيت، وهي بدل من الخطاب بدل بعض من كل، والعائد محذوف، والتقدير: ليبلوكم الذي هو أحسن عملاً منكم. وقوله لا ما لم يقاربهن، خلافًا ليونس قال في الشرح: "أجاز يونس تعليق ما لم يوافقهن ولم يقاربهن، وجعل من ذلك قوله تعالى {ثُمَّ لَنَنزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ}، فضمة (أشد) عنده ضمة إعراب، وعند س ضمة بناء و (أي) موصولة، وقد مضى ذلك" انتهى./ ويعنى أنه مضى في " [3: 22/ب] باب الموصولات" وخلاف الناس في تخريج قوله {أَيُّهُمْ أَشَدُّ}. وقوله وقد تعلق نسى حملاً على ضدها، وهو الذكر بالقلب. وقال المنصف في الشرح: "وعلق نسى لأنه ضد علم، والضد قد يحمل على

الضد" انتهى. وليس ضد العلم النسيان، ولكن ضده الجهل، وضد النسيان الذكر بالقلب كما قلنا. وأنشد المصنف على تعليق نسي قول الشاعر: ومن أنتم؟ إنا نسينا من أنتم وريحكم من أي ريح الأعاصر؟! قال: "ومثله على أحد الوجهين قول الآخر: لم أر مثل الفتيان في غبن الأيـ ـام، ينسون ما عواقبها" ويعني بأحد الوجهين أن تكون (ما) في موضع رفع استفهامًا، وعُلِّقَ ينسون، والجملة في موضع مفعول لينسون. والوجه الآخر: أن تكون (ما) موصولة مفعولة بينسون، وارتفع (عواقبها) على أنه خبر مبتدأ محذوف، أي: هو عواقبها، وهذه الجملة صلة لـ (ما). وهذا الذي جوزه في هذا البيت يجوز في البيت الذي قبله، إذ يجوز أن يكون التقدير: إنا نسينا من هم أنتم، ولا تخصيص لذلك بالبيت الثاني. وإذا احتمل البيتان هذا التأويل لم يكن في ذلك حجة على تعليق نسي، ولذلك - والله أعلم - لم يذكر أصحابنا تعليق نسي. ص: ونصب مفعول نحو "علمت زيدًا أبو من هو" أولى من رفعه، ورفعه ممتنع بعد "أرأيت" بمعنى أخبرني. وللاسم المستفهم به والمضاف إليه مما بعدهما ما لهما دون الأفعال المذكورة.

ش: إذا تقدم على الاستفهام أحد المفعولين نحو ما مثله المصنف جاز أن ينصب باتفاق؛ لأن العامل مسلط عليه، ولا مانع يمنعه من العمل. واختلفوا في رفعه: فأجاز ذلك س، وإن كان المختار عنده النصب؛ وذلك لأنه من حيث المعنى مستفهم عنه، إذ المعنى: قد علمت أبو من زيد، وهو نظير قولك: إن أحدًا لا يقول ذلك؛ ألا ترى أن أحدًا إنما يقع بعد نفي، لكنه لما كان ضميره قد نٌفي عنه الفعل - وهو وضميره واحد - صار كأن النفي دخل عليه. وذهب ابن كيسان إلى أنه يجوز الرفع، قال: لأنك لا تقول: قد علمت زيد قائم، ولا بد من عمل علمت فيه. قال: ولو جاز هذا فيما خبره استفهام لجاز فيما خبره غير استفهام. والصحيح ما ذهب إليه س للقياس والسماع، أما القياس فهو ما ذكرناه من أن الشيء تجري عليه أحكام الشيء إذا كان إياه من حيث المعنى، كما ذكرنا في: إن أحدًا لا يقول ذلك. وأما السماع فقول الشاعر: فوالله ما أدري غريم لويته أيشتد إن قاضاك أم يتضرع / هكذا روي برفع غريم وإن كان نصبه أجود، وليس كونه مستفهمًا عنه في المعنى علة موجبة للتعليق، إذ لو كانت موجبة لما كان المختار النصب فيه - وقد نص السيرافي على أن التعليق في هذا أضعف الوجهين - وبه بدأ س، وقواه، وهو الجائز باتفاق، والرفع باختلاف.

وزعم الأستاذ أبو الحسن بن عصفور أن الأولى التعليق، قال: لأن الاعتناء بالمعاني أولى وآكد عندهم. وهذا التعليل الذي ذكره غير محصل أن الأولى التعليق؛ لأن معنى قولهم إن الاعتناء بجهة المعنى آكد أنه إذا كانت رعاية اللفظ تُخِلُّ بالمعنى، وكانت رعاية المعنى تُخِلُّ بجهة اللفظ - غلب رعي المعنى، أما إذا كان رعي اللفظ لا يخل بشيء من جهة المعنى أصلاً كمسألتنا، وكان رعي المعنى يُخِلُّ بجهة اللفظ - فلا ينبغي أن يُراعى المعنى أصلاً ويترك اللفظ، بل في مسألتنا رعاية للفظ والمعنى، فلأي شيء يترك اللفظ، وليس في رعيه إخلال بجهة المعنى بوجه؟ وقوله ورفعه ممتنع بعد أرأيت بمعنى أخبرني قال س: "وتقول: أرأيتك زيدًا أبو من هو، وأرأيتك عَمرًا أعندك هو أم عند فلان، لا يحسن فيه إلا النصب في زيد؛ ألا ترى أنك لو قلت: أرأيت أبو من أنت، أو أرأيت أزيد ثم أم فلان - لم يحسن لأن فيه معنى: أخبرني عن زيد، وهو الفعل الذي لا يستغنى السكوت على مفعوله الأول، فدخول هذا المعنى فيه لم يجعله بمنزلة أخبرني في الاستغناء، فعلى هذا أُجري، وصار الاستفهام في موضع المفعول الثاني" انتهى كلام س، ومحصوله أن أرأيتك دخلها معنى أخبرني، ولا يجوز في الاسم بعدها إلا النصب، ولا يجوز التعليق فيه فيرفع، كما جاز في: علمت زيد أبو من هو؛ لأنها في معنى أخبرني، وأخبرني لا تعلق. قال أبو إسحاق: "ولا يجوز الرفع لأن معنى هذه المسألة: أخبرني عن زيد، ففيه معنى الحرف، فلذلك لم يجز إلا النصب" انتهى. والجملة الاستفهامية بعد الاسم المنصوب في موضع المفعول الثاني، وليس

أرأيتك معلقًا عنها، إذ لو كان معلقًا عنها لجاز أن يعلق عن المفعول الأول كما جاز في علمت، بل هي كالجملة التي ليست استفهامية في نحو: ظننت زيدًا أبوه قائم. واستدل على أنه لا يجوز تعليقها بأنك لو قلت أرأيت أبو من أنت لم يحسن؛ لأنهم لم يجروها مجرى علمت في جواز التعليق ومجيء الجملة الاستفهامية سادة مسد المفعولين، ولوحظ فيه أصله من تعديه إلى اثنين، فلم يقتصر فيه على مفعول واحد، ولم يستغن به - وإن دخله معنى أخبرني - كما يستغني في أخبرني. وقال: / أبو علي الفارسي في كتابه (التذكرة): "أنبأ ونبأ ضًمنًا معنى أعلم، فيوافقاته، ولا يمتنع مع التضمين تعديتهما بحرف الجر على الأصل، كما لا تمتنع الحكاية بمعنى تقول، وكما لم يمنع أرأيت بمعنى أخبرني عن نصب مفعولين، لكن منع من التعليق، لا تقول: أرأيت زيد أبو من هو؛ لأنه بمعنى أخبرني، فحفظ له من الحكمين أقواهما، وهو الإعمال" انتهى كلام أبي علي. وقد انتقد كثير من النحاة على س، واعترضوا عليه، وقالوا: كثيرًا ما تعلق أرأيت، والدليل على ذلك السماع، قال تعالى {قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمْ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ}، {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ وَخَتَمَ عَلَى قُلُوبِكُمْ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ}، {قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً هَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ}، {قُلْ أَرَأَيْتُمْ

إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُهُ بَيَاتاً أَوْ نَهَاراً مَاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ}، {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ اللَّيْلَ سَرْمَداً إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَاتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلا تَسْمَعُونَ * قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ النَّهَارَ سَرْمَداً إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَاتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلا تُبْصِرُونَ}، َ {أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ * ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ * مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ}، {أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى * أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى}، فهذه مواضع من القرآن تدل على تعليق أرأيت، وهو خلاف قول س: "أرأيت أبو من أنت، وأرأيت أزيد ثم أم عند فلان، لم يحسن"، ولا يجوز أن تكون هذه الجمل الاستفهامية جوابًا للشرط؛ لأنه كان يلزم دخول فاء الجواب على تلك الجمل إلا ما كان منها بهمزة الاستفهام، فلا يجوز دخول الفاء عليها، ولا مجيء الفاء بعدها، ولا وقوعها جوابًا للشرط، بل جواب الشرط محذوف، ولذلك لم يأت فعل الشرط في هذه الآيات إلا ماضي اللفظ، ولم يجيء مضارعًا في موضع من المواضع. وقد انفصل أبو الحسن بن عصفور وغيره عما اعترض به على س من هذه الآيات بأن جعل المفعول الأول قد حذف حذف اختصار، كما يحذف في علمت حذف اختصار كما تقدم - وقد يحذفان اختصارًا - وتقديره: قل أرأيتكم عذابكم إن أتاكم، أي: أخبروني عنه كيف يكون، لو رديتموه ما جرؤتم هذه

الجرأة. قال: "ولا يمنع س هذا النوع من الحذف، وإلا فما يفعل في قوله تعالى {أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِي إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ}؛ ألا ترى أن المفعول الثاني محذوف، والمعنى: أرأيتك هذا الذي كرمت علىّ ما الذي أوجب له ذلك، فكما يحذف الخبر - وهو المفعول الثاني - كذلك يحذف المبتدأ، وهو المفعول الأول" انتهى كلامه. ولا يلزم في قوله {أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ} أن يكون المفعول الثاني محذوفًا، بل الظاهر في الآية أنه مذكور، / وهو قوله {لَئِنْ أَخَّرْتَنِي}؛ لأن اللام مؤذنة بجملة قسم محذوف، فهذه الجملة القسمية مع متعلقها هي في موضع المفعول الثاني، ألا ترى انعقاد ما بعد أرأيتك مبتدأ وخبرًا، أي: هذا الذي كرمت عليّ أقسم لئن أخرتني إلى يوم القيامة لأحتنكن. والذي عندي في هذه الآيات أنها تتخرج على الأعمال، وذلك أن فعل الشرط تنازع الاسم بعده، و"أرأيت" تنازعته، فأعمل فعل الشرط إذ هو الثاني، وأضمر في الأول منصوبًا، وحذف لأن الأفصح حذفه لا التصريح به مضمرًا، والتقدير في الآية الأولى: قل أرأيتكموه - أي: العذاب - أغير الله تدعون لكشفه. وفي الثانية: من إله غير الله يردهما عليكم. وفي الثالثة: هل يهلك به إلا القوم الظالمون. وفي الرابعة: الرابط مصرح به. وفي الخامسة: من إله غير الله يأتيكم بضياء بدله. وفي السادسة كذلك. وفي السابعة والثامنة الرابط مصرح به، ويضمر في أرأيت معمول فعل الشرط الذي يمكن تسلط أرأيت عليه. وهذا الذي تأولناه تأويل سهل، يقرر ما ذهب إليه س، وتقدم من قول س إن الجملة الاستفهامية بعد أرأيتك زيدًا في موضع المفعول الثاني لـ "أرأيتك زيدًا".

وقال ابن كيسان: "الذي أذهب إليه أنا أن "ما صنع" بدل من أرأيت زيدًا، فتفهمها، فإن فيها غموضًا، وذلك أنك لو قلت أرأيت زيدًا لم يكن كلامًا إلا أن تريد رؤية العين، ولكنه قال أرأيت زيدًا وهو يريد أن يقول: ما صنع زيد فيما ترى، فابتدأ أولاً بـ (أرأيت) ليعلمه أن سؤاله عن رأيه رأي له، كذا عملها في زيد؛ لأنه أراد: خبرني عن زيد، ثم ترك هذا، واعتمد على ما قصد له من صنعه. ومثله: ........ وحِنْتَ، وما حسبتك أن تحينا فـ "أن" مبدلة من الكاف، ولو اقتصر على الكاف لم يكن كلامًا، ولو قلت أرأيت ما صنع زيد، و (ما) استفهام، لم يكن كلامًا؛ لأنك أوقعت أرأيت على الاستفهام" انتهى كلامه. وتقدم الكلام في كاف أرأيتك هل لها محل من الإعراب أم لا ومذاهب الناس فيها في باس اسم الإشارة. وأرأيت هذه التي بمعنى أخبرني كثيرة الدور في القرآن، ولها أحكام شاذة، ونحن نذكر منها ما تيسر لنا، فنقول: من أحكامها أنها يجوز حذف الهمزة منها، فتقول: أريت، وقد قرأ بذلك الكسائي، وقال الشاعر:

أريت إن جاءت به أملودا وإذا كانت بمعنى أبصرت لم تحذف همزتها، هذا نص عليه الأخفش عن العرب، وكذلك قال الفراء: أريت زيدًا ما صنع، بترك همزتها من رؤية القلب، وما كان من رؤية العين أبقوا فيها الهمزة؛ لأن رأيت القلب مستعملة في الكلام. وقال النحاس: "هما عند البصريين واحد، فإن قلت أرأيت زيدًا ما صنع فهو أجود لأنه الأصل" يعني بالهمز. ومنها أنها تلزم الخطاب، فلا يقال: أرأى زيد عمرًا ما صنع، ويجوز ذلك على معنى: أعلم. وقد جاءت أرأيت ليس بعدها منصوب ولا استفهام بل جملة مصدرة بإذ، نحو قوله تعالى {أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ}، فزعم أبو الحسن أن (أرأيت) أُخرِجت عن بابها بالكلية، وضمنت معنى أما أو تنبه، فالتأويل: أما إذ أوينا إلى الصخرة فإني نسبت الحوت، أو: تنبه إذ أوينا، والفاء في (فإني) جواب (أرأيت) على تضمين ما ذكرناه، ولا يجوز أن يكون جوابًا لـ (إذ)؛ لأن إذ لا يصح أن يجازى بها إلا مقرونة بـ (ما) بلا خلاف. وعلى هذا خرج أبو الحسن قوله تعالى (أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُهُ)، قال: وقد يخرج لمعنى أما، ويكون أبدًا بعدها الشرط وظروف الزمان، والتقدير: أما إن أتاكم عذابه، والاستفهام جواب أرأيت لا جواب الشرط؛ إذ

لو كان جواب الشرط لما جاز دخول الهمزة على الفاء؛ ألا ترى أن العرب لا تقول: إن قام زيد أفتكرمه، بل إذا جاء الاستفهام جوابًا للشرط لم تأت إلا بما يصح وقوعه بعد الفاء لا قبلها، نحو: إن قام زيد فهل تكرمه، فقولهم: أرأيت إن جاء زيد أفتكرمه، فيدخلون الفاء على الهمزة - دل على أن الجواب لـ (رأيت) لا للشرط. وهذا الذي ذهب إليه أبو الحسن إخراج لـ (أرأيت) عن بابها بالكلية، ويمكن إقرارها على معنى أخبرني فيما ذكر. أما قوله تعالى {أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُهُ} فقد تقدم تخريجه. وأما {أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ} فيمكن أن يكون مما حُذف منه المفعولان لدلالة المعنى اختصارًا وإيجازًا، والتقدير: أرأيت أمرنا إذ أوينا إلى الصخرة ما عاقبته، فإني نسيت الحوت، وكان يوشع استخبر موسى عن أمرهما وما عاقبته؛ إذ كان قد جعل فقدان الحوت علامة للقي موسى الخضر، عليهما السلام، وحذف مفعولي ظننت وأخواتها اختصارًا جائز، وهو في أرأيت أجوز إذ قد أخرجت عن مدلولها إلى مدلول إلى مدلول أخبرني. وزعم أبو الحسن أن العرب لا تحذف معمول أرأيتك التي بمعنى أخبرني حتى تؤكد التاء في أرأيتك، فتقول: أرأيتك أنت ما صنعت، وأرأيتك أنت وزيدًا ما صنعتما. وزعم أن هذا التأكيد يقوم مقام المفعول بدليل أنهم يعطفون عليه المنصوب، وزعم أنهم لا يقولون: أرأيتك أنت وزيد، قال: "لأن

المعطوف على الفاعل فاعل، ولا تقول: أرأى زيد؛ لأن فاعلها لا يكون إلا مخاطبا وهذا كله سماع من العرب". وما ذهب إليه خارج جدا عن القواعد. والأسهل في تخريج هذا أن أنت في قولك" أرأيتك أنت ما صنعت" هوالمفعول الأول، واستعير ضمير الرفع لضمير النصب؛ إذ كان القياس أن تكون الضمائر كلها بصيغة واحدة، ولو أتيت بضمير النصب فإما أن تأتي به متصلاً أو منفصلاً: فإن أتيت به متصلاً قلت أرأيتك، ولا يخفى ما في هذا من اجتماع كلمتي خطاب/ بصورة واحدة. وإن أتيت به منفصلاً قلت: أرأيتك إياك ما صنعت، فيلزم من ذلك بحيء الضمير منفصلاً بعد الفعل، وهو لا يجوز، فلو قلت ضربت إياك لم يصح، فلما كان في مجيئه منصوبًا ما ذكرناه عدلوا إلى وقوع ضمير الرفع موقع ضمير النصب؛ إذ كانوا يؤكدون به المضمر المنصوب والمجرور، فيقولون: ضربتك أنت، ومررت بك أنت، كما يؤكدون به المرفوع، فيقولون: قمت أنت، فلما كان لهم فيه هذا التصرف أوقعوه موقع المفعول ٍالأول. والذي يدل على ذلك عطف المنصوب عليه في قولهم: أرأيتك أنت وزيدًا ما صنعتما، فلو كان توكيدًا للتاء لكان ضرورة في موضع رفع لا في موضع نصب، وجعله كذلك لا يمكن أن يعطف عليه منصوب البتة؛ لأن المنصوب لا يعطف على المرفوع، ولأنه على ما زعم أبو الحسن تأكيد للتاء، فيصير العطف في الحقيقة على التاء لأن التأكيد إنما جيء به تابعًا للأول. وأما في تأويلنا فهو - وإن كان بصيغة المرفوع - في موضع نصب على أنه المفعول الأول، فيصح العطف

عليه، ولهذه العلة امتنع أن تعطف عليه بالرفع، فتقول: أرأيتك أنت وزيد ما صنعتما، لأنه في موضع نصب، فلا يعطف عليه مرفوع، لا لما ذكر أبو الحسن من أنه يلزم أن يكون مرفوع أرأيتك اسمًا ظاهراً، وهو لا يكون إلا مخاطبًا. وأيضًا تأويل أبي الحسن يؤدي إلى ما ذكرناه من مخالفة القواعد، وإلى حذف المفعول، وتأويلنا لا يؤدى إلى حذف المفعول، مع الجريان على أكثر القواعد. وزعم ابو الحسن أن أرأيتك إذا كانت بمعنى أخبرني فلا بد بعدها من الأسم المستخبر عنه، ويلزم الجملة التي بعده الأستفهام؛ لأن أخبرنى موافق لمعنى الأستفهام. ولا يلزم ما قاله أبو الحسن، بل يجوز حذف المفعولين معًا وحذف أحدهما اختصارًا، كما ذكرناه في الآيات السابقة، وهو أسهل من آدعائه إخراجها بالكلية إلى معنى أمّا أو تنبه. ولا يلزم ما ذكر من مجيء الجملة الأستفهامية بعد المفعول الأول، بل يجوز مثل قولك: أرأيت زيدًا لئن جاءني لأكرمنه؛ بدليل قوله {أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِي إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ}. وقد قال الأستاذ أبو على: " يمكن أن يكون مراد س بقوله (لأن فيه معنى أخبرني) أنها قد دخلها هذا المعنى بالإنجرار، ولم تخرج عن أصلها، لأن قولك أعلمت زيدًا أبو من هو بمنعى: أعلمني وأخبرني، لكن راعت العرب هذا المقدار الذي دخل الكلام بالانجرار، ولم تعلقه، وتخرج الآيات/ كلها على

هذا ولا تخرج أرأيت عن موضوعها" انتهى كلام أبي علي، وهو شاهد لما ذكرناه في الآيات، وما تأولناه في قول العرب: أرأيتك أنت وزيدًا ما صنعتما، وأرأيتك أنت ما صنعت وقوله وللاسم المستفهم به والمضاف إليه مما بعدهما ما لهما دون الأفعال المذكورة يعني أن اسم الاستفهام لا يؤثر فبه ظننت وأخواته، بل يبقى على حاله من الإعراب، فإن كان مرفوعًا بالابتداء بقي كذلك، وإن كان مفعولاً به بقي مفعولاً به، وإن كان مصدرًا بقي مصدرًا، وإن كان ظرفًا بقي ظرفًا، وإن كان حالاً بقي حالاً. مثال المبتدأ والمفعول: علمت أي الناس صديقك، وعلمت أيهم ضربت. ومثال المصدر: علمت أي قيام قمت، ومنه قوله تعالى {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ}. وأجازوا أن تكون (أي) في الآية موصولة، أي: وسيعلم الذين ظلموا المنقلب الذي ينقلبونه، و (سيعلم) متعدية إذ ذاك غلى واحد. والأقوى من جهة المعنى واللفظ التعليق؛ لأنه ليس في الآية على هذا التقدير الأخير إبهام لفظي، والإبهام أوقع من جهة المعنى وأعظم عليهم، مع أنه لا يحتاج إلى حذف مفعول، ولأن إضافة أي الموصولة إلى النكرة قليل جدا. ومثال الظرف: علمت أين خالد، وعلمت متى قيام زيد، وعلمت اين ضربت زيدًا، وعلمت متى ضربت عمراً. ومثال الحال: علمت كيف ضربت زيدًا. وكذلك المضاف إلى اسم الاستفهام لا تؤثر فيه علمت، فتقول: علمت غلام أيهم ضربت، فـ (غلام) منصوب بضربت لا بعلمت.

-[ص: والجملة بعد المعلق في موضع نصب بإسقاط حرف الجر إن تعدى به، وفي موضع مفعوله إن تعدى إلى واحد، وسادة مسد مفعولين أن تعدى إلى اثنين، وبل من المتوسط بينه وبينها إن تعدى إلى واحد، وفي موضع الثاني إن تعدى إلى اثنين ووجد الأول.]- ش: أصل التعليق عن العمل أن يكون في ظننت وأخواتها لأنها داخلة على المبتدأ والخبر، ولهذا جاز فيها الإلغاء حيث جاز إبفاء لها على الأصل، فلما كان التعليق كالإلغاء فى عمل الفعل في معنى الجملة لا في لفظها لم يجيزوه إلا فيما كان من الأفعال معناه مسلط على الجمل، غير أنهم قد شبهوا بظننت الأفعال القلبية، فحملوا على الظن الفكر، والنظر بمعناه، والخاطر، ولم يجيزوا ذلك في الأفعال المؤثرة، ولذلك رد س قول يونس في اضرب أيهم أفضل إن الفعل معلق. وقول المصنف والجملة بعد المعلق في موضع نصب بإسقاط حرف / الجر إن تعدى به مثاله: فكرت أهذا صحيح أم لا، وقد مثل المصنف هذا بقوله تعالى {فَلْيَنظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَاماً}، وتقدم لنا أن نظر البصرية لا تعلق، فهي هنا بمعنى الفكر، كما تقول: نظرت في العلم، ولا ينبغي أن تُجعل البصرية كما ذهب إليه المصنف، فيكون حرف الجر المحذوف (إلى). والذي قاله المصنف من أن الجملة في موضع نصب هو المختار. وذهب بعض النحويين إلى أنها في موضع جر بذلك الحرف المحذوف.

وقوله وفي موضع مفعوله إن تعدى إلى واحد مثاله: عرفت أيهم زيد، فـ (أيهم زيد) في موضع نصب، وهو مفعول عرفت، فهو متعد إلى واحد كحاله لو لم يعلق، فإنه يتعدى إلى واحد. وذهب بعض النحويين إلى أن الفعل المعلق لا يكون إلا متعديًا إلى مفعولين بحق الأصل، نحو علمت، أو على جهة التضمين، فإذا قلت: فكرت أبو من زيد، وانظر أبو من زيد، وعرفت أبو من زيد - فجميعها متعد إلى اثنين لتضمينها معنى علمت. قال ابن عصفور: وهو الصحيح عندي؛ لأن الفعل المعلق متسلط على معنى الجملة، وإذا كان معمول الفعل معنى الجملة وجب أن يتعدى إلى مفعولين، كما أن علمت وأخواتها متسلطة على الجملة من جهة المعنى بدليل دخولها على ما اصله المبتدأ والخبر. وقد مثل المصنف في الشرح ما تعدى إلى واحد وعلق عنه بقول العرب: أما ترى أيُّ برقٍ ههنا. وقد قدمنا أن رأي البصرية لا تُعلق عند الجمهور، ولم يذهب إلى تعليقها إلا المازني، وتبعه هذا المصنف، ولم يحفظ الخلاف فيها فيذكره. وقوله وسادة مسد مفعولين إن تعدى إلى اثنين مثاله: علمت أزيد قائم أم عمرو.

وقوله وبدل من المتوسط [بينه وبينها] إن تعدى إلى واحد مثاله: عرفت زيدًا أبو من هو. واختلفوا ما موضع البدل، ولم يذكر المصنف في الفص ولا في الشرح غير هذا القول. واختاره ابن عصفور، وقال: "هو بدل شيء من شيء على حذف مضاف، التقدير، عرفت قصة زيد - أو أمر زيد - أبو من هو، واحتيج إلى هذا التقدير لتكون الجملة هي المبدل منه في المعنى؛ ألا ترى أن (أبو من زيد) هو في المعنى: قصة زيد". وقال شيخنا الأستاذ أبو الحسن بن الضائع: "يلزمه أن يجعل (عرفت زيدًا خبره) من هذا القسم لا من بدل الاشتمال، ويلزمه أن يجعل البدل كله قسمًا واحدًا؛ لأنك إذا قلت أكلت الرغيف نصفه فالمعنى على حذف المضاف؛ لأن المراد: أكلت بعض الرغيف نصفه، فإن كان أراد / أنه بالنظر إلى المعنى كذا فقد كان ينبغي أن ينبه عليه، كما فعله الأستاذ أبو علي، رحمه الله، ولم يُرِد هذا، بل هو غلط منه، والصحيح [أنه] من قسم: عرفت أخاك خبره" انتهى، يعني أنه من قسم بدل الاشتمال لا من بدل الشيء من الشيء، وهو هو. وذهب المبرد والأعلم وابن خروف وغيرهم إلى أن الجملة في موضع نصب على الحال. ورد هذا المذهب بأن الجملة التي في موضع الحال من المبتدأ والخبر يجوز دخول الواو عليها، ولو قلت عرفت زيدًا وأبو من هو لم يكن معناه ومعنى عرفت

زيدًا أبو من هو واحدًا. ويمكن أن يقال: لما كانت جملة الاستفهام في بعض المواضع تؤخر الواو عن أداته - وذلك مع الهمزة - كانت غير ضرورية في جملة الحال المرتبطة بما قبلها، فامتنع من المجئ بها. والذي يظهر أن المعنى ليس على الحال؛ إذ ليس المعنى على: عرفت زيدًا في هذه الحال، بل المعروف منه تلك الحال لا أنها هيئة للمعروف، ثم إنه إن صح في عرفت زيدًأ أبو من هو أن تقدره عرفته مكنيًا كما قدره ابن خروف فليس يصح تقدير الحال في جميع جمل الاستفهام الواقعة هنا، بل يصير تقدير الحال في كثير منها كالتسوية وغيرها، نحو: عرفت زيدًا أقائم هو أم قاعد. وذهب أبو علي - فيما حكاه ابن جني - وأبو عبد الله بن أبي العافية إلى أنه في موضع المفعول الثاني لعرفت على أنها ضمنت معنى علمت. وقد رد ذلك بأن التضمين بابه الشعر، وما جاء منه في الكلام يحفظ، ولا يقاس عليه. والذي اختاره هو هذا المذهب. والدليل على ذلك وأنه ضمن معنى علمت، فتعدت إلى مفعولين - جواز رفع الاسم بعد عرفت، وانعقاد جملة من مبتدأ وخبر بعد عرفت، فتكون إذ ذاك معلقة عنه لأنه مستفهم عنه في المعنى، فتقول: عرفت زيد أبو من هو، كما كان ذلك في علمت زيد أبو من هو، فزيد مبتدأ، و (أبو من هو) جملة في موضع الخبر، فإذا انتصب كان على هذا المعنى من أن أصله مبتدأ وخبر، وكان المنصوب مفعولاً أول، والجملة موضع المفعول الثاني، كما كان خبرًا حين ارتفع الاسم الأول. وقال س: "وإن شئت قلت: قد علمت زيد أبو من هو، كما تقول ذلك

فيما لا يتعدى إلى مفعول، وذلك قولهم: اذهب فانظر زيد أبو من هو، ولا تقول: نظرت زيدًا. واذهب فسل زيد أبو من هو، وإنما المعنى: اذهب فاسأل عن زيد، لو قلت اسأل زيدًا على هذا الحد لم يجز" انتهى. ويعني س أن ما أصله أن يتعدى إليه الفعل المعلق بحرف الجر لا يجوز أن يحذف الحرف وينتصب ذلك الاسم على أنه مفعول لذلك الفعل، فلا تقول: فكرت زيدًا أبو من هو؛ لأن فكرت لا يصل بنفسه إلى مفعول، وليس حذف / حرف الجر قياسًا، بل يرتفع على الابتداء، والجملة بعده في موضع الخبر، ولا يمكن أن يرتفع على الابتداء والجملة بعده في موضع الخبر إلا أن يعتقد أن الفعل هو مما يصلح أن يدخل على المبتدأ والخبر، و"نظر" الفكرية و"سأل" ليسا مما يدخلان على المبتدأ والخبر بأصل الوضع، فوجب أن يُعتقد فيهما أنهما ضمنا معنى ما يدخل على المبتدأ والخبر، وإذا كان قد جاز الابتداء والخبر بعد الفعل الذي لا يتعدى إلا بحرف جر فهو في الفعل الذي يتعدى إلى واحد بأصل الوضع أجوز أن يقع. وتحصل من هذا أن المنصوب بعد عرفت هو على معناه إذا كان مرفوعًا، وإذا كان مرفوعًا فالجملة الاستفهامية في موضع الخبر، فكذلك إذا كان منصوبًا تكون تلك الجملة في موضع المفعول الثاني، ولا تكون عرفت كذلك إلا بعد اعتقاد تضمينها معنى ما يتعدى إلى اثنين. وقوله وفي موضع الثاني إن تعدى إلى اثنين ووجد الأول مثاله: علمت زيدًا أبو من هو. وإنما قال "ووجد الأول" لأنه إن لم يوجد الأول كانت الجملة في موضع المفعولين، نحو: علمت أبو من زيد.

-[ص: وتختص القلبية المتصرفة و"رأى" الحلمية والبصرية بجواز كون فاعلها ومفعولها ضميرين متصلين متحدي المعنى، وقد يُعامل بذلك "عدم" و"فقد"، ويمنع الاتحاد عمومًا إن أضمر الفاعل متصلاً مفسرًا بالمفعول.]- ش: قوله المتصرفة احتراز من هب وتعلم، فلا يقال: تعلمك منطلقًا، أي: اعلمك منطلقًا، ولا: هبك صنعت كذا. قال المصنف: "مما تختص به أفعال القلوب غير هب وتعلم إعمالها في ضميرين متصلين لمسمى واحد" انتهى. وفي منع "هبك محسنًا، نظر، وما أظنه إلا مستعملاً في لسانهم. ومثال ذلك في ظننت وأخواتها: ظننتني خارجًا، وأنت ظننتك خارجًا، وزيد ظنه خارجًا، قال {إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى (6) أَنْ رَأَىهُ اسْتَغْنَى}، ففي (رأى) ضمير الفاعل عائدًا على الإنسان، والهاء ضمير المفعول الأول، و (استغنى) في موضع المفعول الثاني، وقال الشاعر: على مثلها أمضي إذا قال صاحبي ألا ليتني أفديك منها، وأفتدي وجاشت إليه النفس خوفًا، وخاله مصابًا، ولو أمسى على غير مرصد ففي "خال" ضمير فاعل، يعود على الصاحب، والهاء هي المفعول الأول، و"مصابًا" هو الثاني" وقال الآخر: هم أكرموني في الجوار، وخلتني إذا كنت مولى نعمة لا أضيعها

/ وقال مويلك المزموم: فحملتها، وحفرت عندك قبرها جزعًا، وكنت إخالنى لا أجزع وقال الآخر: وكائن رأيت من كريم مززًا أخي ثقة طلق اليدين وهوب شهدت وفاتوني، وكنت حسبتني فقيرًا إلى أن يشهدوا وتغيبي وقال الآخر: قد كنت أحسبني كأغنى واجد نزل المدينة عن زراعة فوم فهذا في الغائبين والمتكلمين، وأما في المخاطبين نحو ظننتك منطلقًأ فلا يحضرني شاهد من لسانهم عليه إلا ما يحتمله قول الشاعر: لسان السوء تهديها إلينا وحنت، وما حسبتك أن تحينا

فهذا البيت يحتمل ما ذكرنا، وتكون أن زائدة، و ((تحين)) في موضع المفعول الثاني، وقيل: الكاف هي المفعول الأول، و ((أن تحين)) في موضع البدل من الكاف، واكتفى به، ولم يحتج إلى الثاني لأن البدل هو المعتمد عليه. وقيل: الكاف حرف خطاب، و ((أن تحين)) سد مسد المفعولين. ولو وضعت مكان الضمير الثاني النفس، فقلت: ظننت نفسي عالمة- ففيها خلاف: ذهب أكثر النحويين إلى أنه لا يجوز ذلك. وذهب ابن كيسان إلى جواز ذلك، قال: وذلك قليل شاذ. وقد اعتل أبو الحسن لجواز ذلك في باب ظننت بأنك إنما تعتمد في الأخبار والفائدة على المفعول الثاني، فصارت كاللغو، ولم تكن كضربت التي يعتمد عليها في الإخبار، فضارعت غيرها من غير الأفعال، كقولك: إنني وليتي؛ إلا ترى أنك تقول: ما ظننت أحدًا يقول ذلك إلا زيدًا، وتقول: ما ضربت أحدًا يقول ذلك إلا زيدًا، لا غير؛ لأن المعنى الأول: ما أحد يقول ذلك إلا زيد في ظني، فكذا معي معنى حسبتي عالمًا: أنا عالم فيما أحسب. انتهى كلام أبي الحسن، وهو حسن. وحكي محمد بن الوليد عن أبي العباس الفرق بين باب ظن وضرب أن باب ظن الفاعل فيه بمنزلة المفعول؛ لأنك إنما رأيت شيًا فأظنك، فكأنك لم تجعل الفاعل مفعولًا في الحال. وإنما قال المصنف ((وتختص)) لأنه لا يجوز ذلك في غيرها، لا يجوز:

ضربتني، ولا: ضربتك، ولا: زيد ضربه، تريد: ضرب نفسه، عند س ولا أحد البصريين، بل تأتي في مثل هذا بالنفس، فتقول: ضربت نفسي، وضربت نفسك، وزيد ضرب نفسه، قال تعالى (قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي). واختلفوا في علة المنع: فقال/س: استغنوا عنه بالنفس. وقال أبو العباس: لئلا يكون الفاعل مفعولًا. حكاه عنه الأخفش الصغير. وحكى ابن كيسان عن أبي العباس انه كره ذلك ليكون المضمر قبل المظهر؛ لأنه إذا أضمر فاعلًا أو مفعولًا فلا بد من تقديمه إلى الفعل، فلما امتنع ذلك في المظهر والمضمر امتنع في المضمرين، فلم يجيزوا: ضربتني، ولا: ضرب زيد زيدًا؛ لئلا يوهمك غيره. وقال بعضهم: لم أقل ضربتني لئلا يجتمع ضميران يرجعان إلى شيء واحد، أحدهما رفع، والآخر نصب، وهما لشيء واحد، فصار الفاعل كالمفعول. قال: ولو قلت ضربت إياي كان أقرب من ضربتي، وضربتني لازمة في القياس. وقال الفراء: لما كان الأغلب المتعارف أن يفعل الفاعل بغيره لم يوقع فعلت على اسمه إلا لأن بفصل اسمه من اسمه. وقوله ورأي الحلمية مثاله قول الله تعالي (إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا)، (إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَاسِي خُبْزًا). وقوله والبصرية قال المصنف: هذا في رؤية البصر شاذ. ومثاله قول

عائشة- رضي الله عنها-: "لقد رأيتنا مع رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وما لنا من طعام إلا الأسودان"، ومنه قول قطري: لا يركنن أحد إلى الإحجام يوم الوغي متخوفًا لحمام فلقد أراني للرماح دريئة من عن يميني تارة وأمامي وقال عنتره: فرأيتنا ما بيننا من حاجز إلا المجن ونصل أبيض مقصل وقال عنتره: فرأينا ما بيننا من حاجز إلا المجن ونصل أبيض مقصل. وحسن رأيتنا كونه لم يتحد الفاعل والمفعول من كل وجه؛ لأن الفعل مفرد والمفعول ضمير جمعٍ وإن كانا معًا متكلمين. وقوله وقد يعامل بذلك عدم وفقد يعني بـ (ذلك) أنه يتعدى إلى ضميرين متصلين متحدي المعنى، حكي الفراء: فقدتني، ووجدتني، وعدمتني. قال بعضهم: وهذا على سبيل التمثيل، ولو كان ذلك على سبيل الحقيقة لكانت فاسدة؛ لأنك إذا قلت عدمت زيدًا فالذي تعدمه شيء لا يكون بحضرتك، ولا يجوز إلا أن يكون غيرك؛ لأنك لا تكون فاقدًا وأنت المفقود، ولا واجدًا وأنت الموجود، فصار معنى فقدتني: فقدني فيري، فلم يكن على حقيقته، فيكون مثل ضربتني.

قال المصنف: وأشذ منه- يعني رؤية البصر- قولهم: عدمتني وفقدتني، قال جران العود: لقد كان لي عن ضرتين- عدمتني وعما ألاقي منها متزحزح وقال الآخر: ندمت على ما كان مني- فقدتني- كما يندم المغبون حين يبيع ولم يحك المصنف وجدتني، وحكاها الفراء، وهي مسموعة من كلامهم، وكان المصنف أدرجها في باب ظننت لأن وجدت تكون بمعنى علمت، وقد ذكرها المصنف في أفعال هذا الباب، والفراء إنما أوردها فيما يتعدى إلى واحد. بمعنى وجدان الضالة، وكأنه فقد نفسه، ثم وجدها. وقال الشاعر: تلفت نحو الحي حت وجدتني وجعت من الإصغاء ليتا وأخدعا ويحتمل هذا البيت الوجهين. فأما قول الشاعر:

قد بت أحرسني وحدي، ويمنعني صوت السباع بع يصبحن والهام واحترز بقوله (متصلً) ومن أن يكون أحدهما منفصلًا، فإن ذلك لا يختص بظننت، بل يجيء ذلك فيها وفي غيرها من الأفعال، فتقول: إياك ظننت منطلقًا، وما ظننت منطلقًا إلا إياك، وإياك ضربت، وما ضربت إلا إياك. وفي البسيط: وأما قلت فالقياس يقتضي أن يكون كظننت في هذا، فتقول: قلتني منطلقًا، على معنى: (قلت إياي منطلقًا)، و (قلتك منطلقًا) على معني: قلت إياك منطلقًا، وأصل الابتداء: أنت منطلق، وأنا منطلق، لكن فيه نظر. وقوله ويمتنع الاتحاد عمومًا- يعني في باب ظن وغيره- إن أضمر الفاعل متصلًا مفسرًا بالمفعول مثاله في باب ظن: زيدًا ظن قائمًا، ومثاله في باب غير ظن: زيدًا ضرب، تريد: ظن نفسه، وضرب نفسه. وأحترز بقوله "متصلًا" من أن يكون منفصلًا، فأنه يجوز الاتحاد، نحو: ما ظن زيدًا قائمًا إلا هو، وما ظن زيد قائمًا إلا إياه، وما ضرب زيدًا إلا هو، وما ضرب زيد إلا إياه.

ذكر مسائل من هذا الباب المسألة الأولى: أجاز س وأصحابه والفراء: أظن أنك قائم، ولم يجيزوا: أظن قيامك. وأجاز ذلك الكسائي، قال: كما أقول: أظن ذلك. ورد عليه بأن "ذلك" يشار به إلى أثنين، قال تعالى: (عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ)، أي: الفارض والبكر. الثانية: إذا قلت ظننت أنك قائم فمذهب س أنه لا حذف فيه، وأنه لما جرى ذكر المسند والمسند إليه اكتفى به، واستغنى عن الحذف. وذهب أبو الحسن وأبو العباس إلى أن الخبر محذوف، والتقدير عندهما: يقتضي إحالة على قيام معهود، و"زيد قائم" ليس بينك وبين مخاطبك/ عهد في القيام، فإذا تقرر هذا علمت أن ظننت أن زيدًا قائم معناه عندهم على القطع: ظننت زيدًا قائمًا: فهذا القيام المظنون غير معهود، والذي يقدر مستقرًا أو ثابتًا

إنما يكون هذا القيام معهودًا (عنده)، وذلك تحريف لمقصود اللفظ، وهو أن القيام غير معهود، وأيضًا فيؤدي إلى حذف في الكلام لا دليل عليه. وحكي الفراء: أظن أنك قائم خيرًا لك، وأظن خيرًا لك أنك قائم، بمعنى: أظن خيرًا لك قيامك. وإنما احتيج إلى تصريح بالمفعول الثاني هنا لأنه ليس كونًا مطلقًا، أما إذا كان كونًا مطلقًا فلا يحتاج إليه ولا إلى تقديره؛ لأن "أنك قائم" وقد أنطوى على مسند ومسند إليه. الثالثة: أجاز الكسائي والفراء: أظن أن يذهب زيد. ولا يجوز ذلك عند البصريين إلا أن تأتي بعوض، نحو قد والسين وسوف ولا. الرابعة: أظن يذهب زيد، لا يجوز إلا على مذهب من مذاهب الفراء في قراءة من قرأ (وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا) بمعنى: أن سبقوا، وحذف (أن) لما عاد الذكر على الفاعلين، و (الذين) في موضع رفع، وشبهه بقوله: يريد يقوم، بمعنى: يريد أن يقوم: وهذا الذي قاله مخالف لأقوله؛ لأنه قال: إذا حذفت أن لم يكتف بشيء واحد حتى يستبين، و (سبقوا) شيء واحد.

الخامسة: ظننت زيدًا إنه قائم، بكسر إن في مذهب البصريين لا غير؛ لأنها في موضع الابتداء. وقال ابن كيسان: يجب فتح أن على البدل، قال الشاعر: ........ وجنت، وما حسبتك أن تحينا جعل أن بدلًا من الكاف على أحد ما وجه عليه. السادسة: أجاز الفراء حذف حرف الاستفهام مع الشك، قال الفراء: وتضمره العرب في حروف الشك خاصة، فيقولون: تراك منطلقًا؟ يريدون: أتراك؟ وكذلك: تظنك تخرج؟ لأن الاستفهام شك، وهذه شك، فاكتفى بواجد من صاحبه، وامتنع في ضربت وقتلت وسائر الأفعال لأنها إخبار، لا شك فيها. وتابعة قطرب على هذا القول، وزاد عليه أنه أجاز ذلك في غير هذه الأفعال. وذهب س إلى أن ذلك لا يجوز، قال س: إذا حذفت حرف الاستفهام انقلب المعنى، وهذا أقبح ما يقع فيه الغلط لأنه ذهاب البيان، وهو اللحن الحقيقي. وقد قيل: لم يؤخذ على ابن أبي ربيعة لحن إلا قوله:

ثم قالوا: تحبها؟ قلت: بهرًا عدد الرمل والحصى والتراب أي: تحبها؟ وقال أبو العباس: ليس الأمر عندي كذلك إنما هو إلزام، أي: ثم/ قالوا: أنت تحبها. وزعم الأخفش الصغير أن ما ذهب إليه الفراء إنما أخذه من كلامه العامة؛ لأنهم يقولون: ترى ذلك؟ فأما عن العرب فلا يعرف. السابعة: لزيد ظننت ظنًا قائم، المسألة ممتنعة لا بالرفع ولا بالنصب؛ لأنك إذا رفعت جمعت بين متعاقبين، وإن نصبت أدخلت لام الابتداء على الجملة الفعلية. ذكر هذه المسألة صاحب (الملخص). الثامنة: تقول: أظن زيد ذاهبًا بحقي باطلة، بنصب الباطل، والتقدير: أظن زيد باطلة ذاهبًا بحقي. وأجاز الفراء رفع الباطل، وأنشد لذي الرمة: أظن ابن طوثوت عتيبة ذاهبًا بعادتي تكذابه وجعائله

برفع التكذاب والجعائل، ونصبه بظن، ورغم أن المعنى: أظن ابن طرثوث أن يذهب بعاديتي، وجعل ذاهبًا بمعنى أن يذهب، كما قال "عسى الغوير أبؤسًا"، أردا: أن ييأس، فلما حذف أن تنصب أبؤسًا. وقال: لا يجوز أن تقول: أظن زيد قائمًا، وأنت تريد: أن يقوم؛ لأن (أن) تكفي من شيئين، فلا بد من شيئين إذا حذفتها، فتقول: ظننت قائمًا أنا، وأظن زيد قائم هو. قال ابن كيسان: ويجوز أن تنصب تكذابه بظن، وترفع جعائله إن كانت القافية مرفوعة على المعنى، أي: ويذهب بها جعائله. وشبهه بقول الشاعر: وجدنا الصالحين لهم جزاء وجناتٍ وعينًا سلسبيلًا لما تم الكلام على قوله "لهم جزاء" أضمر فعلًا للثاني، فكأنه قال: وجدنا لهم جنات وعينًا سلسبيلًا. وقد تقدم لنا الكلام على شيء من هذه المسألة في باب إن، وأمعنا هنا فيها. التاسعة: عبد الله ما علمت عالم، أجمعوا على جوازها. واختلفوا في: عبد الله ما رأيت عالم، أو ما ظننت، فمنع من ذلك الفراء وابن كيسان، وأجاز ذلك غيرهما. وقدر الفراء ذلك: عبد الله فيما أعلم. قيل له: وكذلك يقدر في الظن والحسبان. وقال ابن كيسان: المعنى: عبد الله مدة علمي عالم، وليس للظن هنا مشاركة للعلم؛ لأن الظن شيء يقع في النفس، يجوز أن يبطل وأن يحق، فلا تكون له مدة توجب الظن بثبات علم عبد الله.

العاشرة: أزيد زعمت أنه منطلق؟ هذا لا خلاف في جوازه. فإن نصبت زيدًا فهو خطأ عند البصريين، وأجاز ذلك الكسائي لأنه وجد (أن) تدخل وتخرج والكلام على معناه، فالمعنى عنده: أزيدًا زعمته آخاك؟ وحكي عن العرب دليلًا على صحة ذلك: كم زعمت أنك سائر؟ على أن كم/ في موضع نصب، وحكي أيضًا: من زعمت أنك ضارب؟ ولا حجة فيما ذكر لأنه يحمل على أن كم في موضع رفع على أن تريد: سائرة، وكذا: من زعمت أنك ضارب، أي: ضاربه، كما أنشد س" على ذنبًا كله لم أصنع أي: لم أصنعه. وقال البصريون: ((أن)) لا تعمل في شيء قبلها، فلا تفسر عاملًا. الحادية عشرة: كم زعمت أن الحرورية رجلًا، حكاه الكسائي على أن كم في موضع رفع. فقياسها: أبو من زعمت أن عمرًا؛ لأنك هنا يمكنك: أزعمت أن زيدًا قائم، ولا يمكنك في من وما وكم أن تجعل مثلها. وتابعة الأخفش، فقال: ومن قال هذا- يعني من قال: ................. ولكن زنجيًا- أضمر الخبر. قال: وإن شئت رفعت زنجيًا، فأضمرت الهاء. قال: ومن قال هذا قال: كم زعمت أن الحرورية رجلًا، ينصب الحرورية، ويضمر الخبر، كأنك قلت: أن الحرورية هو، ويكون ضمير كم، وكل ذلك قبيح.

وقال ابن كيسان: وهذا بعيد جدًا في القياس والحكم؛ لأنك إذا دخلت وجب أن يكون ما بعدها صلتها، وأن يكون حكمها وما بعدها حكم أسم واحد، وإذا قدمت شيئًا مما حكمه أن يكون بعدها فقد قدمت بعض الاسم، وأخرت بعضه، ولعل الذي سمع هذا سمعه بغير أن، وتورهم غير ما سمع، أو يكون المتكلم بها تكلم على الغلط. قال: ولو اعتذرنا لهذا لوجدنا له وجيهًا على أنه لم يعتد بـ (أن)، وأجراها مجرى أن التي في قوله عز وجل (وَلَمَّا أَنْ جَاءَتْ رُسُلُنَا)، أو يكون على أن يحذف أسم أن، ويرفع الحرورية على خبر أن، وتكون زعمت وما بعدها في موضع خبر كم، فتكون كم رفعًا بالابتداء، يريد: كم زعمت أنهم الحرروية رجلًا، قال: ............... ولكن زلنجي عظيم المشافر أي: ولكنك زنجي. وينشد: ولكن زنجيًا، على حذف الخبر، أي: ولكن زنجيًا لا يعرف قرابتي. ولو قلت: كم زعمت أنهم الحرورية، وأظهر ضمير كم لجازت المسألة، وكانت كم رفعًا. وكذا (لو) قلت: كم زعمت أن الحرورية هم، وأنهم الحرورية. وحسن الابتداء بالنكرة لأن فيها معنى الاستفهام. ولا يجوز أن تقول: كم زعمت أنهم رجلًا الحرورية، ولا: كم زعمت أن الحرورية رجلًا هم، ولا: كم زعمت رجلًا أن الحرورية، لا يكون المفسر إلا بعد الجملة أو قبل زعمت.

وتقول: كم رجلًا زعمت أن الحرورية هم، وكم زعمت أنهم الحرورية رجلًا. فإن قلت رجالًا كان توسيطه بين أسم أن وخيرها، وهو قبيح إلا مع الأفعال، نحو قولك: كم زعمت أن الحرورية رجالًا يخرجون هم، فيكون رجالًا حالًأ مما في يخرجون، ويكون يخرجون خبرًا/ للحرورية، ويكون هم مبتدأ، وهي مكني من كم، ويكون من زعمت التي موضع هم جملة، وكم خبر مقدم على هم، كأنك قلت: كم هي زعمت أن الحرورية يخرجون. وتقول: كم زعمت أن الحرورية خرجوا رجلًا، فاسدة على التقدير؛ لأنه ليس في قولك ((ن الحرورية خرجوا)) عائد على كم، ورجلًا مفسر على كم، و ((كم)) ابتداء لا خبر له. فإن قلت رجالًا جازت المسألة، وصارت ((كم)) سؤالًا عن الزعم، كأنه قال: كم مرة زعمت أن الحرورية، فإن جعلت رجالًا مفسرين كم فسدت المسألة. المسألة الثانية عشرة: ظننته زيد منطلق، لا خلاف في جوازها. فإن قدمت منطلقًا على زيد، فقلت: ظننته منطلق زيد، فالبصريون يرفعون على التقديم والتأخير، والكوفيون ينصبون منطلقًا، وهو خطأ عند البصريين لأن الهاء إذا كانت كناية عن الأمر لم يفسره إلا جملة، وقد تقدمت هذه المسألة في وسط الفصل الرابع من باب المضمر في أوائل الكتاب، وشرحناها هناك. الثالثة عشرة: ظننت زيدًا قائمًا حسنًا، لا خلاف في جوازها. فلو قلت ظننت زيدًا ظنًا حسنًا قائمًا أجاز البصريون، وقالوا: لو قلت زيد ظننت قائم جاز أن يعترض بالظن، فإذا كان الفعل بنفسه يقع هذا الموقع لم يمتنع أن يقع مصدره. ومنع ذلك الكوفيون، وقالوا: المفعول الأول والثاني بمنزلة مفعول واحد، فلا يقع مصدر الظن إلا قبلهما أو بعدهما.

الرابعة عشرة: ظننت زيدًا يوم الجمعة قائمًا، وظننت زيدًا خلفك قائمًا، إن جعلت الظرف ظرفُا للمفعول جازت بلا خلاف، وإن جعلته ظرفًا للظن أجاز ذلك البصريون، ومنعه الكوفيون، وحجتهم ما تقدم في المسألة قبلها. الخامسة عشرة: ظننت أن زيدًا ظنا حسنًا قائم، لا خلاف في منعها لأن ((أن)) جازت الاسم والخبر، فصارت كشيء واحد. السادسة عشر: طعامك ظننت أن عبد الله أكل، اختلفوا في جوازها: فمنعها الجمهور، وأجازها الكسائي، وحجته أن دخول ((أن)) وخروجها هنا سواء. وغلطوه في ذلك لأنك قدمت بعض الصلة. السابعة عشرة: ظننت زيدًا إنه منطلق، أوجب البصريون كسر إن، أجازه الكوفيون مع الفتح، فتقول: ظننت زيدًا أنه منطلق. واستدلوا بقراءة حمزة بن حبيب (وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ). وقد لحن البصريون هذه القراءة إلا بعض متأخريهم، فإنه تأولها، واحتج لها. وأجاز ابن كيسان النصب على أن يجعل "أنه" بدلًا من زيد، كقوله: ......... ................ وما حسبتك أن تحينا قال: كأنه قال: وما حسبت أن تحين، فجعل/ أن بدلًا من الكاف. وتقدم قبل أن ابن كيسان اوجب الفتح. الثامنة عشرة: ظننته إن زيد قائم، لا يجوز إلا كسر إن عند البصريين.

وأجاز ابن كيسان الفتح، قال: تجعلها بدلًا من الهاء، وتجعل الهاء كناية عن الخبر، كأنك قلت: ظننت ذلك أن زيدًا قائم، فـ ((أن زيد قائم)) هو ((ذلك)). وقال البصريون: وقع الظن على الهاء، والجملة الخبر، كما أنهم قد أجمعوا على أظنه زيد منطبق، فإذا جئت بـ ""إن"" وجب أن تكسرها. التاسعة عشرة: أظن عبد الله مختصًا وزيد، قال الفراء وأكثر النحويين: لا يجوز في زيد النصب. وأجازه بعض النحويين على أن يكون مفعولًا معه، أي: مع زيد، كما تقول: استوي الماء والخشبة. العشرون: أظن عبد الله مختصًا فزيدًا، وثم زيدًا، أو زيدًا، لا يجوز شيء من هذا عند الفراء والبصريين لأن هذا موضع الاجتماع، فلا يكون إلا بالواو. وأجاز الكسائي: أظن عبد الله ثم زيدًا مختصين، وكذلك الفاء وأو. وأنكر الفراء عليه، وقال: يلزمه أن يقول: اختصم زيد فبكر، بالفاء وبأو. الحادية والعشرون: أظن عبد الله وأظن زيدًا مختصين، أجاز الفراء على أن تلغي أظن الثانية، قال: فإن توهمت التكرار كان محالًا. والقول عند البصريين أنهما واحد. الثانية والعشرون: أنا ظان أن يقوم زيد، وإن شئت حذفت التنوين وأضفت. فإن قلت ((أنا ظان انك تقوم)) كان حذف التنوين قبيحًا ((أن)) التي تعمل في الأسماء لا تتمكن تمكن الخفيفة التي تعمل في الأفعال. قال الفراء: وإن جاءتك في شعر أجزتها. الثالثة والعشرون: أنا ظان إنك لقائم، لم تجز الإضافة، فإن قلت: أنا قائل إنك لقائم، ولتقومن، وما زيد بقائم، جاز حذف التنوين والإضافة.

الرابعة والعشرون: أخواك مظنونان أن يذهبا، قال الفراء: هي خطأ لأن الظن لا يقع على ثلاثة أشياء، وإذا وقع على أن فكأنه وقع على شيئين، فلا يجوز أن يقع على ثالث؛ ألا ترى أن المرفوع في مظنون قد ارتفع بوقوع الظن عليه. وهذا جائز على مذهب البصريين، كما تقول: أخواك يظنان أن يذهبا، غير أن الأجود أن تقول: أخوك يظن أن يذهبا، وأخوك مظنون أن يذهبا، أي: مظنون ذهابهما، فإن قلت "مظنونان" كانت أن بدلًا من الألف، كما قال: .......... ............. وحنت وما حسبتك أن تحيا الخامسة والعشرون: قول العرب: عرفت أيهم في الدار، فـ "عرفت" يقضي حصول المعرفة، و"أيهم في الدار" استعلام من الدار، وهذا الكلام يدافع أوله آخره؛ لأن حصول المعرفة ينافي طلبها، لأن الحاصل/ لا يطلب تحصيله، بخلاف قولك: عرفت ما زيد قائم، ولعمرو منطلق، فالعرفان معلق بالنسبة من إثبات أو نفس إذ هي خبرية، بخلاف النسبة الإسنادية في الاستفهام. والجواب عن هذا أنه في الصورة استفهام، وليس باستفهام في الحقيقة. وقال س في علمت أزيد ثم أم عمرو: "أردت أن تخبر أنك قد علمت أيهما ثم، وأردت أن تسوي علم المخاطب فيها كما استوى عملك في المسألة حين قلت: أزيد ثم أم عمرو" انتهى. فهذا نص على أنه لا يراد معنى الاستفهام. وقول س: "وأردت أن تسوي علم المخاطب فيها" معناه أنك إذا أخبرت أنك قد علمت أيهما ثم استوي عنده أن أحدهما ثم وإن لم يتعين له. ثم قال: "كما استوى علمك في المسألة" أي: حين كنت مستفهمًا حقيقة، ولم تدخل عملت لأنك لا تسأل هذا السؤال إلا وأنت قد علمت أن أحدهما ثم،

وإنما سألت عن تعيين من ثم. وجميع المثل التي أوردها س الاستفهامية في الصورة ليس المعنى على الاستفهام، نحو: قد علمت أعبد الله ثم أم زيد، وقد عرفت أبو من زبد، وقد عرفت أيهم أبوك، وأما ترى أي برق هنا، وليت شعري أعبد الله ثم أم زيد، وليت شعري هل رأيته، و (لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى)، (فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى)، إلى غير ذلك، المعنى: قد علمت من ثم زيد ومن عمرو، وقد عرفت الشخص الذي هو زيد أبوه، وقد عرفت الشخص الذي هو أبوك، وأما ترى البرق الذي هنا، وليتني أشعر بمن ثم من عبد الله ومن زيد، وليتني أشعر برؤيتك ذلك، ولنعلم الحزب الذي هو أحصى، وفلينظر الطعام الذي هو أزكى، وكذلك ما ورد من نحو ذلك، وكثير في لسان العرب ما يكون لفظ الكلام مخالفًا للمعنى الذي قصد به، كالأمر بصورة الخبر وعكسه. وكلام العرب على ثلاثة أقسام: أكثره وأعلاه أن يطابق اللفظ على المعنى، نحو: أظن أن تقوم، اتفقت. والقسم الثاني: أن يغلب اللفظ على المعنى، نحو: أظن أن تقوم، اتفقت العرب والنحاة على صحتها، وأبطل أكثر النحويين "أظن قيامك، ومعنى أن تقوم: قيامك، وإنما جاز ذلك لأن الظن لا يكتفي بكلمة واحدة، و"أن تقوم" كلمتان، فكأنك أتيت بما أصله المبتدأ والخبر الذي يكتفي بهما الظن، بخلاف "قيامك"، فإنه كلمة واحدة في اللفظ.

والقسم الثالث: تغليب المعنى على اللفظ، ومن ذلك مسألتنا في الاستفهام وإذا كانوا قد أتوا بصورة الاستفهام والمعنى غيره، ولم يدخلوا عليه ما يغيره من العوامل اللفظية- فأحرى وأولى أن يغير المعنى معها، وذلك نحو: أي رجل أنت؟ المعنى: ما أكملك رجلًا! فهو بصيغة الاستفهام، ومعناه/ التعجب؛ ولذلك لا يجاب مثل هذا الاستفهام. وكذلك "شر أهر ذا ناب" هو من تغليب المعنى على اللفظ. وقد نص الأستاذ أبو الحسن بن الباذش على ما يدل على قلناه، فقال: علمت أزيد عندك أم عمرو، و (لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ) ليس حرف الاستفهام هنا لمعنى الاستفهام لأنه يستحيل أن يستفهم عما أخبر انه يعلمه، وإنما معناه التسوية عند المخاطب لأنك لم تبين له من ثم، وأبهمت عليه، فنقلت بـ "علمت" معنى التسوية من نفسك إلى المخاطب؛ لأنك حين قلت "أزيد عندك أم عمرو" هما مستويان عندك، وإنما تطلب بالاستفهام العلم بأحدهما، فالتسوية أملك بالألف من الاستفهام وأخص؛ لأن الاستفهام لا يخلو من التسوية، والتسوية تخلو من الاستفهام، ويبين أن المراد به التسوية المجردة قوله تعالى (سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ)، (سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صَامِتُونَ).

وكان الأستاذ أبو بكر علي يحكي عن بعض المتأخرين أن هذا الكلام على حذف مضاف، أي: قد علمت جواب هذا الكلام، وكان يراه في بعض أقراءاته. وقال أبو عثمان المازني: "سأل مروان أبا الحسن الأخفش، فقال: إذا قلت "أزيد عندك أم عمرو" ألست قد علمت أن ثم كونًا ثابتًا، ولكن لا تدري من أيهما هو؟ قال: بلي. قال: فإذا قلت: "قد علمت أزيد عندك أم عمرو" أليس قد علمت ما جهلك؟ قال: بلي. قال: فلم جئت بالاستفهام؟ قال: جئت به لألبس على المخبر من علمت. فقال له مروان: وإذا قلت "قد علمت أنت" أردت أن تلبس عليه لأنه لا يعرف نفسه؟ قال: فسكت. يعني الأخفش. قال أبو عثمان: لا يزيد أن يلبس عليه لأنه يعرف نفسه، ولكنه أردا: قد علمت من أنت أخير أمرك أم شر، كما تقول: قد علمت أمرك، وكقولك: ما أعرفني بك، أي: قد علمت ما تذكر به، أو ما تثلب به". انتهى. فكأنه راجع إلى حذف مضاف، أي: علمت أحوال من أنت، ولذلك أبدل من "أخير أمرك أم شر". وهذه المسألة - أعني مسألة دخول العلم على ما صورته الاستفهام- كان سألني عنها قاضي القضاة أبو الفتح أبو الفتح محمد بن علي بن مطيع القشيري بديار مصر، فأجبته بما ذكرت، وقد أمعنت الكلام فيها في كتابي المسمى بـ "التذكرة" بأشبع من الكلام هنا.

ص: فصل يحكى بالقول وفروعه الجمل، وينصب به المفرد المؤدي معناها والمراد به مجرد اللفظ. وإلحاقه في العمل بالظن مطلقًا لغة سليم، ويخص أكثر العرب هذا الإلحاق بمضارع المخاطب الحاضر بعد استفهام متصل، أو منفصل بظرف، أو جار ومجرور، أو أحد المفعولين، فإن عدم/ شرط رجع إلى الحكاية، ويجوز إن لم يعدم. ش" "القول" مصدر "قال"، ومعناه النطق اللساني/ وينطلق على ما هو موضوع من مفرد وغيره، ولا ينطلق على المهل، فلا يرادف اللفظ، فينطلق على دير مقلوب زيد، ولا رفعج مقلوب جعفر، خلافًا لبعضهم إذا زعم أن "اللفظ" و"القول" مترادفان. وينطلق أيضًا على الاعتقاد والرأي، تقول: فلان يقول بقول الشافعي، تريد الرأي والاعتقاد؛ لأنه يحكي قوله. وينطلق أيضًا على حديث النفس، قال تعالى (وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلَا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ)، وقول الشاعر: قالت له النفس: إني لا أرى طمعًا وإن مولاك لم يسلم، ولم يصد ومثال الحكاية بالقول (وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَئِذَا كُنَّا تُرَابًا). وقوله وفروعه هي الماضي، نحو (وَقَالُوا سَمِعْنَا). والمضارع، نحو (يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آَمَنَّا). والأمر (قُولُوا آَمَنَّا). واسم الفاعل (وَالْقَائِلِينَ

لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا). وأسم المفعول، نحو قول الشاعر: تواصوا بحكم الجود حتى عبيدهم مقول لديهم: لا زكاة مال ذبي بخل وأسم المصدر، نحو: مقالك الله ربنا إقرار بالربوبية. وقوله وينصب به المفرد المؤدي معناها أي: معنى الجملة، كالحديث والقصة والشعر والخطبة، فتقول: قلت حديثًا، وأقول قصة، وهذا قائل شعرًا وخطبة، هكذا مثل المصنف المفرد المؤدي معنى الجملة. وقسم أصحابنا المفرد إلى مفرد في اللفظ لا في التقدير، وكفرد في اللفظ والتقدير، فإن كان مفردًا في اللفظ لا في التقدير حكي؛ إذا هو جملة في الأصل، فحكمه حكم الجملة المصرح بجزأيها، قال: إذا ذقت فاها قلت: طعم مدامة معتقة مما تجئ به التجر وروى بنصب طعم، فيكون من حكاية الجملة الفعلية، (التقدير) قلت: ذقت طعم مدامة، وروى برفعه، فيكون من حكاية الجملة الاسمية، التقدير: طعمه طعم مدامة. وإن كان مفردًا في اللفظ والتقدير: فإن كان مصدرًا عمل فيه النصب، وإن كان أسمًا للجملة عمل فيه، قالوا: كالحق والباطل، فتقول: قال فلان حقًا، وقال فلان باطلًا.

واختلف على ماذا ينتصب هذا: فقيل: إنه نعت لمصدر محذوف، أي: قولًا لاحقًا. وقيل: ينتصب على أنه مفعول به. وهو اختيار ابن عصفور وأبن الضائع، فالا: لأن "الحق" اسم جامد، والوصف بالجامد لا ينقاس، نحو: مررت برجل حجر الرأس. قال ابن الضائع: "والأولى أن يكون مفعولًا صحيحًا؛ لأن الحق هو المقول، فهو مفعول به صحيح". انتهى. فإن قلت: إذا قلت:/ قال فلان شعرًا، وقال خطبة، ونحوها، أيجوز أن ينتصب انتصاب المصادر النوعية، نحو: رجع القهقري، وقعد القرفصاء، أم يتعين نصبه على أن يكون مفعولًا به؟ قلت: يظهر الثاني لأنه اسم للجملة، فكما أن الجملة الواقعة بعد القول- وإن كانت محكية- هي في موضع المفعول به، فكذلك الاسم الذي بمعناه- وإن كان مفردًا- أريد به مجرد اللفظ، وهو الذي أراد المصنف بالقول خلاف: منهم من أجازه، ومنهم من منعه. واختار المصنف أن ينصب بالقول، قال: "كقولك: قلت كلمة". وسلفه في هذا القول الزجاجي والزمخشري وابن خروف، وجعلوا من ذلك قوله تعالى (يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ)، لو كان مبنيًا للفاعل لقيل: يقول له الناس إبراهيم، أي: يطلقون عليه هذا الاسم.

وقال الزجاجي في الجمل: "وإنما قلنا البعض والكل مجازًا". قال ابن خروف: "نصب البعض والكل على تقدير: وإنما قلنا هاتين الكلمتين؛ لأنك تقول: قلت كلمة، كما تقول قولًا، و"القول" يقع على ما يفيد وما لا يفيد" انتهى. فعلى قول هؤلاء ينصب اللفظ بالقول ولا يحكي. وقال ابن عصفور: "والصحيح أنه يحكي، ولا يجوز فيه غير الحكاية". قال: "لأن الحكاية إما أن ترجع إلى اللفظ أو إلى المعنى. باطل أن ترجع في مثل (قال زيدًا عمرًا) إلى المعنى؛ لأن عمرًا اسم شخص، والأشخاص ليست من جنس المقول، فلم يبق إلا أن ترجع الحكاية فيه إلى اللفظ. وإذا كان كذلك فينبغي أن يحافظ على لفظ المتكلم- يريد من رفع أو نصب أو خفض- ولا يغير. وأيضًا فإن هذه المفردات إنما تحكي من كلام المتكلم بها، وباطل أن يتكلم بالمفردات من غير أن يتلفظ بها في جملة، فإذا ثبت أنها مقتطعات من جمل فينبغي أن تعامل معاملة الجمل، وبذلك ورد السماع، قال: إذا ذقت فاها قلت: طعم مدامةٍ ............... وعلى هذا ينبغي أن يحمل قوله تعالى (يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ) على تقدير: يقال له إبراهيم، فحكي. ومن رأى الإعراب في المفرد يحمل إبراهيم على أنه مرفوع بيقال" انتهى.

وقال ابن عصفور أيضًا: "يحتمل أن يكون منادي محذوفًا منه حرف النداء، وأن يكون خبر مبتدأ مضمر، تقديره: أنت إبراهيم. وذهب بعضهم إلى أنه يكون مفعولًا للقول كحق وباطل. وزعم بعضهم انه مرفوع بالإهمال؛ لأنه لم يتقدمه عامل يؤثر في لفظه، إذ القول لا يؤثر فيه قي مهملًا، والمهمل إذ ضم إلى غيره أرتفع، نحو قولهم: واحد، اثنان، برفع (واحد) إذا عدوا، ولم يدخلوا عاملًا في اللفظ ولا في التقدير، وعطفوا بعض أسماء العدد على بعض، وهذا مذهب الأعلم. والصحيح إن المفرد الذي لا يقع من جهة المعنى على الجملة لا يقع بعد القول إلا على إضمار حتى يكون جملة" انتهى. والذي يقتضيه النظر أنه لا يقع بعد القول اللفظ المفرد الذي لا يؤدي معنى الجملة، ولا يكون مصدرًا، ولا يكون مقتطعًا من جملة، ولا يوجد في كلامهم: قال زيدًا عمرًا، ولا: قال فلان ضرب، من غير إسناد، ولا: قال فلان ليست، وإنما يقع القول في كلامهم لحكاية الجمل، وأما (يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ) فقد ذكر تأويله، فليس من قبيل: قال فلان عمرًا. وإذا حكيت الجمل فالأصل أن تحكي كما سمعت لفظ الجملة، فإذا قال زيد: عمرو منطلق، أو: انطلقت، قلت: قال زيد عمرو منطلق/ أو: قال زيد انطلق. ويجوز أن تحكي على المعنى بإجماع، فتقول: قال زيد منطلق عمرو، أو المنطلق عمرو. فإن كانت الجملة ملحونة حكيتها على المعنى بإجماع، فتقول قول زيد: "عمرو قائم، وقام عمرو"، بخفض عمرو: "قال زيد: عمرو قائم،

وقال عمرو، بالرفع" واختلفوا في الحكاية على اللفظ أتجوز أم لا، وصحح أبن عصفور أنها لا تجوز، قال: " لأنهم إذا كانوا يحكمون الجملة المعربة على المعنى فينبغي أن يلتزموا حكاية الجملة الملحونة على المعنى" انتهى. وإذا حكيت كلام متكلم عن نفسه بنحو "انطلقت" فلك أن تحكيه بلفظه من غير تغيير، فتقول: قال فلان انطلقت، ويجوز أن تقول: قال فلان انطلق، أو إنه انطلق، كل هذا جائز. وقوله والحاقة في العمل بالظن مطلقًا لغة سليم هذه اللغة حكاية أبو الخطاب، قال س" "وزعم أبو الخطاب- وسألته عنه غير مرة- أن ناسا يوثق بعربيتهم- وهم بنو سليم- يجعلون باب قلت أجمع مثل ظننت". وعلى هذه اللغة يروي قول آمري القيس: إذا ما جرى شأوين، وابتل عطفه تقول هزيز الريح مرت بأثاب وقوله ويخص أكثر العرب هذا الإلحاق يعني بالإلحاق في العمل بالظن. وقوله بمضارع احتراز من الماضي، نحو: أقلت زيد منطلق، فلا يجوز فيه إلا الحكاية. وذهب السيرافي إلى جواز إعمال الماضي بباقي شروط المضارع،

فأجاز: أقلت زيدًا منطلقًا. و"س" لم يستثن إلا أتقول، فيظهر منه اختصاصه بالمضارع، وعلى كونه شرطًا أخذه النحويين، فإن سمع من/ كلامهم ذلك في الماضي كان حجه للسيرافي، وإلا فلا يجوز. واحتراز أيضًا من الأمر، فإذا قلت "قل زيد منطلق" فلا يجوز فيه عند البصريين إلا الحكاية. وزعم الكوفيون أن الأمر من القول للمخاطب يجري مجرى الظن في غير لغة بني سليم، كما يجرون المضارع منه مجرى الظن إذا اجتمعت الشروط التي تكون في المضارع، وأنشدوا: إن سليمي من تنازع لبه ومن ينازعها فقله وقد خلج أي: فظنه قد خلع، فإذا استقبلوه بـ "إن" كسروها كما يكسرونها بعد القول، وهذا لا يعرفه الصريون. وقال الفراء: لم أر العرب أوقعت القول بالنصب في شيء من الفعل إلا في التاء، خاطبت بها أو أمرت، فإنهم يقولون: أتقول زيدًا ذاهبًا. وقال صاحب اللباب: "للعرب فيه ثلاثة مذاهب: إعماله مطلقًا، إعماله بشرط الخطاب، إعماله بالشروط المذكورة". وقد تأول بعض أصحابنا قوله "فقله قد خلج". على أنه يحتمل أن يكون الضمير في "فقله" مرفوعًا، والأصل: هو، فسكنت الواو، فإما أن تكون بقيت ساكنة إن كان روي بالسكون، فيكون نظير قوله:

وهو غيث لنا في كل عام يلوذ به المخول والعديم أو حذفت بعد السكون إن كان روى كذلك، فيكون مثل قوله: فبيناه بشرى رحله قال قائل ............ وقوله المخاطب احترازًا من أن يكون المضارع مسندًا لغائب ظاهر أو مضمر، أو متكلم، نحو: أيقول زيد عمرو منطلق، وزيد أيقول عمرو منطلق، وأأقول زيد منطلق، فهذا ليس فيه على لغة غير سليم إلا الحكاية. وقوله الحاضر يعني أن يكون مقصودًا به الحال، هكذا فسر المصنف هذا الشرط، ولم يذكره غيره فيما أعلم، إنما قالوا: يشترط فيه المضارع- والمضارع يكون للحال وللمستقبل- ولم يقولوا: شرط المضارع أن يكون للحال، بل الظاهر من حيث شرط الاستفهام أنه يكون مستقبلًا؛ ألا ترى إلى قوله: أما الرحيل فدون بعد غد فمتى تقول الدار تجمعنا فليس المعنى على الاستفهام عن ظنه في الحال أن الدار تجمعه وأحبابه، وإنما هو استفهام عن وقوع ظنه لا استفهام على الظن في الحال. وقوله بعد استفهام هو اعم من أن يكون بالهمزة أو بغيرها من أدوات الاستفهام، نحو: أتقول زيدًا منطلقًا، حكي الكسائي أنه سمع أعرابيًا يقول: أتقول

للعميان عقلًا، يقول: أتظن لهم عقلًا، ومنه قول عمرو بن معدي كرب: علام تقول الرمح عاتقي إذا أنا لم أطعن إذا الخيل كرت وفي رواية من نصب الرمح، وقال لآخر: متى تقول القلص الرواسما يدنين أم قاسم وقاسمًا وقوله متصل يعني أداة الاستفهام تتصل بـ "تقول". وقوله أو منفصل بظرف أو جار ومجرورـ أو أحد المفعولين مثال انفصاله بظرف قول الشاعر: أبعد بعد تقول الدار جامعة شملي بهم أم دوام البعد محتومًا ومثال الفصل بالجار والمجرور قولك: أفي الدار تقول زيدًا قائمًا. ومثاله بأحد المفعولين قول الشاعر: أجهالًا تقول بني لؤي لعمرو أبيك أم متجاهلينا وظاهر قول المصنف أنه لا يجوز الفصل إلا بأحد ما ذكر، وذكر غيره أنه يشترط ألا يفصل بين أداة الاستفهام وبين الفعل بأجني، قال: "وأعني بالأجنبي

ما ليس معمولًا للفعل، فإن كان معمولًا للقول ظرفًا أو غير ظرف لم يعتد بفصله، وأجرى القول مجرى الظن". فعلى هذا يجوز أن يفصل بينهما بالحال إذا كانت معمولة للفعل، نحو قولك: أمجد تقول هندًا راحلة، يجعل مجدًا حالًا من الضمير المستكن في أتقول. فإن كان الفصل بأجيني- وهو ما ليس يكون معمولًا للفعل- نحو قولك: أأنت تقول زيد منطلق، ولم يجز إجراؤه في لغتهم الظن لفصلك بين الأداة والفعل بأجيني منه لأنه ليس معمولًا له، وهذا على مذهب س والأخفش، لا يجوز فيه عندهما إلا بالرفع على الحكاية. وذهب الكوفيون وسائر البصريين إلى جواز النصب، ولم يعتدوا بالضمير فاصلًا. قيل: ووجه قول من لم يعتد هذا الفصل هو أن همزة الاستفهام تطلب الفعل، ف، "أنت" فاعل بفعل مضمر، وذلك الفعل واقع على الأسمين، فينصبهما. وهذا ليس بجيد لأن الحكم إنما هو للفعل الملفوظ به، وذلك الفعل المقدر لا حكم له إلا العمل في الاسم المشتغل عنه خاصة، وما عدا ذلك من الأحكام والعمل فيما عداه من المعمولات لهذا الظاهر، فـ "أنت" في هذه المسألة محمول على إضمار الفعل، غير أن العمل في المفعولين للظاهر، وهو لم تتصل به أداة الاستفهام، فلا ينبغي أن يعمل عمل الظن في الاسمين. فرع: إذا فصلت بينهما. بمعمول لها، نحو: أهندًا تقول زيدًا ضاربًا/، فالذي تقتضيه الأصول جواز الإعمال؛ لأنه كما جاز الفصل بالمعمول

يجوز الفصل بمعمول المعمول. وقد نقص المصنف والنحويين شرط آخر، نبه عليه أبو زيد السهيلي، فقال: "ويعود القول بمعنى الظن بأربعة شرائط، ذكر النحاة منها ثلاثة، والرابعة تدل عليه أصولهم مع استقراء كلام العرب: الأولى أن يكون الفعل لمخاطب. الثانية أن يكون مضارعًا. الثالثة أن يكون مستفهمًا عنه بأي حرف كان من حروف الاستفهام. الرابعة ألا يعدي الفعل باللام، نحو: أتقول لزيد عمرو منطبق؛ لأنك إذا عديته باللام بعد عن معنى الظن، ولم يكن إلا قولًا مسموعًا؛ لأن الظن من أفعال القلب" انتهى كلامه. ولم يشترط ألا يفصل بما ذكر، ولعله على مذهب من لا يعتبر الفصل البتة. فرع: إذا جاءت "إن" يعد القول فالذي يقتضيه قياس من أعمله إعمال الظن أن يفتحها كما يفتحها بعد الظن. ومن أجاز الحكاية يعد القول يكسرها كما يكسرها بعد القول عاريًا من شروط الإعمال. واختلف نقل النحاة عن العرب في ذلك: فحكي البصريون أن القول إذا أجرى مجرى الظن فتحت "أن" بعده في لغة بني سليم وغيرهم. وحكي الكوفيون أنها تفتح في لغة سليم، وتكسر في لغة غيرهم. قال الفراء: ليس يفتح أن من العرب في التاء إلا بنو سليم. واحتج بقراءة القراء (أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ).

ووجه ما حكاه البصريون أنه لما أجري مجري الظن في نصب المبتدأ والخبر أجري مجراه في فتح أن. ووجه ما حكاه الكوفيون أن القول لا يجري مجري الظن علي الاطلاق إلا في لغة بني سليم فإنهم لا يشترطون فيه شرطا، فلما استحكم إجراؤه مجري الظن في لغتهم فتحت أن كما تفتح مع الظن، وأما غيرهم من العرب فلا يجرونه مجري الظن إلا بشروط، فلم يستحكم في لغتهم إجراؤه مجري الظن، فلم يفتحوا إن بعده كما فتحوها بعد الظن؛ لأنها حرف استئناف وابتداء، فلم يقو على فتحها إلا الظن أو إجراؤه مجراه كامل بلا شرط كـ"حسب واختلف النحويون في القول الذي أجري في العمل مجري الظن، هل أجري مجراه في العمل خاصة أم في العمل والمعني معا: فذهب الجمهور إلي أنه لا يعمل عمل الظن حتى يضمن معني الظن في اللغة السليمة وغيرها، فإن لم يضمن معني الظن لم يعمل أصلا، ولا تفتح إن بعده، وهذا اختيار أبي الفتح. ويدل علي اشتراط أن يكون المعني علي الظن ان غير بني سليم اشترطوا تلك الشروط في إعماله لتقويتها معني الظن فيها؛ ألا تري أن الاستفهام يقوي معه معني الظن من جهة أن الاستفهام لا يكون إلا عن مظنون لا عن معلوم. وكذلك المستقبل، وقوعه مظنون لا مقطوع به، بخلاف الماضي، وكذلك الخطاب أيضا، يقوي معني الظن، وذلك أن الانسان أكثر ما يستفهم عن ظنه لا عن ظن غيره. والدليل علي أن القول أشرب معني الظن -وإن لم تكن فيه الشروط، وذلك في اللغة السليمة قول الحطيئة:

إذا قلت أني آيب أهل بلدة حططت بها عنه الولية بالهجر ألا ترى المعنى: إذا قدرت أو ظنت. وزعم النحويون أن القول قد يجري مجري الظن في العمل وإن لم يضمن معناه. واستدل علي ذلك بقول الشاعر: قالت وكنت رجلا فطينا ... هذا-ورب البيت-إسرائينا فليس المعني علي طننت؛ لأن هذه المرأة المخبر عنها رأت هذا الشاعر ضبا، فقالت: هذا إسرائين؛ لأنها تعتقد في الضباب انها من مسوخ بني إسرائيل، وقولها ذلك ليس عن ظن منها، وإنما هو عن اعتقاد اعتقدته، وقطعت به. وإلى هذا المذهب ذهب الأعلم وأبو الحسن بن خروف، واختاره صاحب البسيط. قال ابن عصفور:" ولا حجة في ذلك الاحتمال أن يكون القول في البيت غير مجري مجري الظن في العمل، بل يكون"هذا" مبتدأ، و"إسرائين" علي تقدير مضاف محذوف، هو الخبر، أى: مسخ إسرائين، فحذف المضاف، ولم يقم المضاف إليه مقامه في الإعراب، على حد قراءة من قرأ {تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا واللَّهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ} بخفض {الآخِرَةَ}. وقد يمكن أن يكون أراد بـ"قالت"ظنت، وكأنها قالت"هذا إسرائين" معتقدة أن الضباب من مسوخ بني إسرائين، ولم يكن اعتقادها ذلك عن دليل قاطع-جعل ما اعتقدته من ذلك ظنا منها"انتهى. وعلي إعمال"قالت"في الاسمين أنشد المصنف هذا البيت: علي لغة بني سليم. وإسرائين لغة في إسرائيل.

وقوله: فإن عدم شرط رجع إلي الحكاية تقدم تبيين ذلك. وقوله وتجوز عن لم يعدم أي: تجوز الحكاية بعد"أتقول" وإن كانت الشروط كلها موجودة، فليس إعمالها إعمال الظن واجبا، بل جائز، فتقول: أتقول زيد منطلق. وكذلك في لغة سليم، ليس العمل إعمال الظن عندهم واجبا، بل جائز، وأنشدوا بالوجهين قول الشاعر: علام تقول الرمح يثقل عاتقي ........... وقوله: .................. تقول هزيز الريح مرت بأثأب فالحكاية مراعاة للأصل، والعمل لما شابه من الظن. وعلى الحكاية قراءة من قرأ بالتاء {أَمْ تَقُولُونَ إنَّ إبْرَاهِيمَ}، و"أم" بمعني بل والهمزة، المعني بل أتقولون إن إبراهيم. وأما من قرأ بالياء فقد فات/شرط من شروط إعمالها إعمال الظن، وهو الخطاب، فلا يجوز فتح إن فيه إلا علي لغة سليم. ص: ولا يلحق في الحكاية بالقول ما في معناه، بل ينوى معه القول، خلافا للكوفيين. وقد يضاف:"قول" و"قائل" إلي الكلام المحكي. وقد يعني القول فى صله وغيرها عن المحكي لظهوره، والعكس كثير. وإن تعلق بالقول مفرد لا يؤدي معني جملة، ولا يراد به مجرد اللفظ-حكي مقدرا معه ما هو به جملة، وكذا عن تعلق بغير القول.

ش: الذي في معنى القول هو النداء والدعاء ونحوهما، فإذا وقعت بعد ناديت أو دعوت أو وصيت أو قرأت جملة فلا تحكى بهذه، بل يضمر القول بعد الفعل، نحو: {ونَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَب مَّعَنَا}. {فَأَوْحَى إلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ}. {دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنجَيْتَنَا}. {ونَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ}. وأنشد الفراء: إني سأبدي لك فيما أبدي لي: شجنان: شجن في نجد وشجن لي في بلاد الهند. فهذه المواضع ونحوها محكية عند البصريين بقول محذوف. أي: فقال يا بني، وقال لَنُهْلِكَنَّ، وقالو لَئِنْ أَنجَيْتَنَا، وقالو لِيَقْضِ، وأقول لي شجنان. قال المصنف: وهو الصحيح لأن حذف القول استغناء عنه بالمقول مجمع عليه في غير محل النزاع كقوله" فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُم". أى فيقال: فحذف لدلالة المعني عليه، فحذفه في محل النزاع أولي لأنه مدلول عليه بدلالتين: معنوية، ولفظية. وأيضا بقاء المحكي وحذف القول نظير بقاء المفعول وحذف الفعل، وذلك في الكلام كثير، فيلحق به النظير. وأيضا فقد جاء القول مصرحا به، فدل علي صحة التقدير عند عدم التصريح، نحو قوله {ونَادَى أَصْحَابُ الأَعْرَافِ رِجَالاً يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيمَاهُم قَالُوا

مَا أَغْنَى عَنكُمْ} {ونَادَى نُوحٌ رَّبَّهُ فَقَالَ رَبِّ} {إذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًا قَالَ رَبِّ} انتهى. وقوله" وأيضا بقاء المحكي وحذف القول نظير بقاء المفعول وحذف الفعل" ليس نظيرا، بل هو منه لأن المحكي هو مفعول، فكان الأجود أن يقول: وإبقاء المحكي وحذف الفعل من باب بقاء المفعول وحذف الفعل. والذى يظهر أن قول الكوفيين أرجح لأنه ليس فيه إضمار، ولأنه يكون في الفعل تكرار؛ لأنه يؤدى إلي صدور نداء وقول، ووحى وقول، ونفس النداء والدعاء والوحي هو معني القول، فقد حصل التكرار وإن لم يكن تكرار، فيلزم ما نودي به وما دعي به وما أوحي محذوفا، وأنت تري مصب النداء/ علي قوله {يَا بُنَيَّ ارْكَب}،ومصب الوحي على {لَنُهْلِكَنَّ}، ومصب الدعاء على قوله {لَئِنْ أَنجَيْتَنَا}، لا علي غيرها. فينبغى أن يعتقد فيها أن الجمل معمولة لها إذ هي محكية بها. وأما حيث صرح بالقول بعد هذه الأفعال وشبهها فيضطر إذ ذاك على جعل الجمل محكية بالقول. وينبغي أن يعتقد أن تلك الأفعال معمولاتها محذوفة، وأن مصبها غير مصب القول؛ لئلا يلزم من ذلك تكرار الفعل. وأيضا فإن تلك الأفعال هي أخص من مطلق القول، فلا يكون القول مفسرا لها. والذى يدل علي عدم الإضمار أن"أن" التفسيرية جاءت بعد هذه

الأفعال، نحو قوله {فَأَوْحَى إلَيْهِمْ أَن سَبِّحُوا}، ولو كان القول مضمرا لما جيء بـ"أن" التفسيرية؛ لأنهما لا تأتي بعد القول، ولكنه لما كان لهذه الأفعال اعتباران: أحدهما: مراعاة دلالتها أولا- وهي أنها لا تدل علي مطلق القول-احتيج إذ ذاك إلي تفسير، فجيء بعدها بـ"أن" المفسرة لذلك الفعل. والثاني: شبهها بالقول من حيث هي قول مخصوص، أجريت مجري القول، فحكي بها. وإلى اختيار مذهب الكوفيين ذهب ابن عصفور، قال:"وقد يجري مجري القول، فتحكي بعده الجمل (رأيت وسمعت) وكل فعل معناه القول، نحو قرأت ودعوت وناديت، ومنه {فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانتَصِرْ}، بكسر (إني)، وكذلك تقول: قرأت بالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ، ومنه قول الشاعر: تنادوا بـ "الرحيل غدا" وفي ترحالهم نفسي برفع الرحيل. ومنه بيت ذي الذمه: سمعت " الناس ينتجعون غيثا" ........................ " وما قاله ابن عصفور هو اختيار ابن الضائع وقوله: قال وقد ذكر أن سمعت ورأيت يحكى بهما، قال: " ويجري مجراه كل فعل معناه القول، كقرأت

ودعوت وناديت، قال تعالى {فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ} فيمن كسر إن، وتقول: قرأت الحمد لله، وبالحمد لله ومنه: تنادوا بـ (الرحيل غدا) البيت. وقوله وقد يضاف القول وقائل إلى الكلام المحكي وذلك أن قولا هو مصدر، فكما أن المصدر يضاف إلى مفعوله فكذلك القول، وذلك إذا كان يتقدر بحرف مصدري والفعل، ومن ذلك قول الشاعر: قول يا للرجال ينهض منا ... مسرعين الكهول والشبانا وأما "قائل" فهم اسم فاعل، حكمه حكمه، فحيث تجوز إضافة اسم الفاعل تجوز إضافة "قائل"، ومن ذلك قول الشاعر: وأجيب قائل كيف أنت بصالح ... حتى مللت، وملني عوادي ومن روى "بصالح" بالرفع فتقديره: بقول أنا صالح، فحذف القول، وأقيمت الجملة مقامه، ثم حذف صدر الجملة، وبقى عجزها. وقوله وقد يغني القول في صلة وغيرها عن المحكي لظهوره مثاله في الصلة قوله: لنحن الألى قلتم، فأنى ملتئم ... برؤيتنا قبل اهتمام بكم رعبا أى: قلتم تقاتلونهم أو نقاتلهم.

ومثاله في غير صلة قال المصنف: "قولك: أنا قال زيد، ولو رآني لفر، أى: قال زيد يغلبني" قال المصنف: "ومن الاستغناء في الصلة بالقول عن المحكي قول الشاعر: لم يا عرو لم تعذ بالذي قلـ ... ـت، فتلقاه إذ خذلت نصيرا" انتهى. وتقديره بالشخص الذي قلت أنا أعوذ به، أو إنك تعوذ به. وقوله والعكس كثير يعني الاستغناء بالمحكي عن القول، نحو {أَكَفَرْتُم}، {سَلامٌ عَلَيْكُمْ}، {مَا نَعْبُدُهُمْ}، أى: فيقال لهم أَكَفَرْتُم، ويقولون سَلامٌ ويقولون مَا نَعْبُدُهُمْ. وقد تقدمت الإشارة إلي حذف القول وإبقاء الجملة المحكية في أول الفصل الذي هو آخر فصول باب المبتدأ. وقوله وإن تعلق إلي قوله ما هو به جملة وذلك المقدر قد يكون ناصبا وحذف، كقوله {قَالُوا سَلامًا}، أو ما يقتضي المرفوع، كقوله {قَالَ سَلامٌ}. فيجوز أن يكون مبتدأ-أي: عليكم سلام-حذف خبره، أو خبرا-أي: تحيتكم سلام-وحذف مبتدؤه. ويجوز في العربية رفعهما، ونصبهما، ورفع الأول

ونصب الثاني، وهو عكس الآية، وقال الشاعر: مررنا، فقلنا: إيه سلم! فسلمت ... كما اكتل بالبرق الغمام اللوائح وقوله وكذا إن تعلق بغير القول أى: تضمر ناصبا إن كان ذلك المفرد منصوبا، أو ما يطلب الرفع بحالتيه من مبتدأ أو خبرإن كان مرفوعا، وذلك إن تعلق المفرد بغير قول. فيحكي ذلك النصب أو الرفع لأنه بعض جملة، فلو كان على خاتم منقوشا "محمد"، وعلقت به قرأت أو رأيت أو لمحت وشبهها- لقلت: قرأت في خاتمة محمد، فترفع علي حسب مراد الناقش ذلك في خاتمة، ويقدر ما يفهم من مراده، أى: صاحبه محمد، أو: محمد صاحبه ولو كان المنقوش"محمداً" بالنصب لقلت: قرأت في خاتمه محمداً، فتنصب على حسب/مراد الناقش؛ إذ الحكاية مستولى عليه في الوجهين. ومن ذلك قول الشاعر: وأصفر من ضرب دار الملوك ... يلوح علي وجهه جعفرا وصف دينارا نقش فيه اسم جعفر البرمكي، كأنه قال: يلوح على وجهه اقصدوا جعفرا، أي: هذا الكلام، فأسند"يلوح" إلى الجملة، والجملة فاعل "يلوح".

وإذا كان الفعل مما يمكن تعلقه بالخط وبالصورة فإنه تكون فيه الحكاية باعتبار الخط فقط، والإعراب باعتبار الصورة فقط، بخلاف ما إذا كان تعلقه باللفظ، كسمعت أو قرأت، أو بالخط ككتبت ومثاله: رأيت في خاتمه أسداً. فإن كان المرئي صورة أسد فلا يجوز فيه إلا الإعراب. كما تقول: رأيت زيدا، وهو مجاز؛ إذ المرئي ليس أسدا حقيقة، ولا يوصف إذ ذاك إلا بوصف مرئي فتقول: رأيت فيه اسدا مفتوح الفم. ولا يوصف بوصف معنوي في الأسد الحقيقي فلا يقال: رأيت فيه أسدا شجاعا، ولا أسدا أبخر، ولا أسدا خبيثا؛ لأن هذه الأوصاف لا تقوم بالأسد المصور. وصفته علي حسب إعرابه فتقول: في خاتمه أسد مفتوح الفم، ونظرت في خاتمه إلي أسد مفتوح الفم، [ورأيت في خاتمه أسدا مفتوح الفم]،و"في خاتمه" يتعلق رأيت، ويجوز أن يتعلق بمحذوف إذ كان صفة للأسد، فلما تقدمت كان فى موضع الحال. وإن كان المرئي خطأ فتقدمت أحكامه، وأنه يحكى بحسب الإعراب المقدر فيه؛ لأن المفرد ليس مصدرا ولا اسما للجملة لا يصح فيه إعراب إلا بتقدير تركيب جملة. فيحكي كما تحكي سائر الجمل، فإذا قلت"رأيت خاتمه أسدا" فنصبه بإضمار فعل، ورفعه بإضمار مبتدأ، ائتوا أسدا، وما أشبهه، وأنا أسدا، وما أشبهه مما تدل عليه حال صاحب الخاتم. ولا يوصف مثل هذا إلا بـ"مكتوب" أو "مكتوبه" أو ما في معناها. فإذا انثت ذهبت إلى الجملة، وإذا ذكرت ذهبت إلى الكلام. فتقول: رأيت في فصه أسداً مكتوبا أو مكتوبة، وهما منصوبان علي الحال. وكذلك: رأيت في فصه أسدٌ

مكتوبًا أو مكتوبة, لأن الجملة تصير بمنزلة العلم, وعومل بذلك لأنه ليس له ما يلتبس به. قال ابن الضائع: "ليس هذا التعليل بشيء, ألا ترى أن شمسًا ونحوه نكرة وإن لم يكن له ما يلتبس به, وإنما كان معرفة لأنه اسم للفظ المكتوب, كما تقول: "قام فعل ماض", فـ "قام" اسم علم للفظ, وكذلك "أسد" هنا اسم علم مكتوب, والمعنى فيهما التعريف, وهو ظاهر من قصد المتكلم, وإرادة التنكير به بعيد, فإن اقترن به ما يقربه جاز, ويكون (مكتوبًا) صفة" انتهى. قال ابن عصفور: "إن قيل: لم لم يقل ذهب إلى معنى الاسم أو الكلمة؟ فالجواب: أنه ليس في هذا الموضع باسم مفرد, بل هو جملة, ولو كان مفردًا لم تجز حكايته إذ حكاية المفرد شاذة, لا يقاس عليها, نحو "دعنا من تمرتان", و"ليس بقرشيا", والمجرور الذي هو "في فصه" متعلق بـ (رأيت) لا بمحذوف, لأنه - كما تقدم - إنما يحكى على معنى الجملة, ومعنى الجملة ليس بكائن في فصه, وإنما في الفص هذا الاسم خاصة, وهو على حذف, وذلك المحذوف مقدر في النفس, وليس في الفص شيء, والمحذوف مبتدأ, وهو: أنا, والذي هو (أسد) خبره". قال الأستاذ أبو الحسن بن الضائع: "لا فرق عندي بين المسألتين", يعني مسألة "رأيت في فصه أسدًا" على معنى الصورة, وعلى معنى الكتابة, قال: "بل يجوز أن يكون المجرور مع الجملة ظرفًا للجملة, كما هو ظرف للصورة, لأنك إذا قلت (رأيت أسدًا) إنما معناه: هذا الكلام, و (أسد) وحده ليس كلامًا, لكنه مع

ذلك المقدر كلام, وأنت لم تر إلا الاسم فقط لا ذلك المقدر, فكما أنك تقول: رأيت أسدًا, ومعناه (هذه اللفظة) التي هي في هذا الموضع جملة, فكذلك الفص ظرف لهذه اللفظة التي هي جملة من غير فرق في ذلك, وبهذا ينفصل عن اعتراض أن المرئي ليس ألا الاسم, فكيف تحكي الجملة وأنت لم ترها, لأن هذا الاسم المفرد جملة في هذا الموضع, فرؤية هذا الاسم المفرد رؤية للجملة, لأنه جملة هنا, فكذلك الفص ظرف لهذا الاسم الذي هو جملة, لا فرق بينهما" انتهى. والبيت الذي تقدم إنشاده "وأصفر" أنشده شيخنا ابن الضائع "وأحمر", قال: وأنشده (يلوح) بالياء, أي: يظهر على وجهه, فـ (جعفرًا) محكي, فنصب (جعفر) في الدينار إنما هو على تقدير: اقصدوا جعفرًا, فحكي, وأنشده الفراء بالتاء, واستشهد به على لحت الشيء بمعنى أبصرته, فيجوز على هذا أن يكون (جعفرًا) محكيا, ويجوز أن يكون (جعفرًا) مفعولًا صريحًا, كأنه أراد: تبصر على وجهه ضاربة, ويجوز أن يكون (جعفرًا) فاعلًا, أي: تلوح على وجهه هذه الجملة, ويجوز مع الياء أن يكون فاعل (يلوح) ضميرًا يعود على الدينار, و (جعفرًا) محكي فاعل بالمجرور, وهو في موضع نصب على الحال.

-[ص: فصل تدخل همزة النقل على "علم" ذات المفعولين, و"رأى" أختها, فتنصبان ثلاثة مفاعيل, أولها الذي كان فاعلًا, ويجوز حذفه, والاقتصار عليه على الأصح, وللثاني والثالث بعد النقل ما لهما قبله مطلقا, خلافًا لمن منع الإلغاء والتعليق.]- ش: هذه الهمزة تسمى همزة النقل, وهمزة التعدية, فتسمى همزة النقل لأنها تنقل الفعل من اللزوم إلى التعدية لواحد, ومن التعدية لواحد إلى التعدية إلى اثنين, ومن التعدية إلى اثنين إلى التعدية إلى ثلاثة, وذلك أقصى ما يتعدى إليه الفعل من المفعول به, وتسمى همزة التعدية لأنها تعدي بدخولها اللازم إلى واحد, والمتعدي لواحد إلى أثنين, والمتعدي إلى اثنين إلى ثلاثة. وقوله ذات المفعولين احتراز من "علم" المتعدية إلى واحد كـ "عرف", فإنها إن نقلت بالهمزة تعدت إلى اثنين, نحو: أعلمتك الحساب. وقوله و"رأى" أختها أي: بمعنى علم المتعدية إلى اثنين, واحترز بذلك من "رأى" المتعدية إلى واحد بمعنى أبصر, فإنها إن نقلت بالهمزة تعدت إلى اثنين, نحو: أريتك زيدًا. وقوله فتنصبان ثلاثة مفاعيل الأحسن أن يضبط "ثلاثة" بالتنوين, لأن "مفاعيل" صفة, ولا يضاف العدد إلى الصفة إلا في الشعر أو في قليل من الكلام, بل تتبع الصفة اسم العدد في الإعراب, فتقول: عندي ثلاثة قرشيون, وكان الشيخ بهاء الدين أبو عبد الله محمد بن إبراهيم النحاس الحلبي - رحمة الله - نبه على ذلك في قوله س " هذا باب الفاعل الذي يتعداه فعله إلى ثلاثة مفعولين"

حين قرأت عليه كتاب س, فقال: "ينبغي أن يضبط (إلى ثلاثة) بالتنوين, لأن (مفعولين) صفة لـ (ثلاثة) ". وقوله أولها الذي كان فاعلًا لأن الفعل كان قبل دخول الهمزة: علم زيد عمرَا قادمًا, ثم لما أدخلت الهمزة صار: أعلمت زيدًا عمرًا قادمًا, وكذلك في (رأى) أختها. وقوله ويجوز حذفه, والاقتصار عليه في الأصح مثاله أن تقول: أعلمت كبشك سمينًا, فتحذف المعلم, ومثال الاقتصار عليه: أعلمت زيدًا, وتحذف المفعولين, جرى هذا المفعول الأول في الحذف والاقتصار عليه مجرى المفعول الأول في باب (أعطى) بجامع ما اشتركا فيه من كونه فاعلًا في المعنى, كما جاز ذلك في كل مفعول أثر فيه الفعل, ولأن الفائدة لا تعدم في حذفه وإبقاء المفعولين, إذ من غرض المتكلم أن يعلم بالمفعولين, ولا يذكر المعلم, ومن غرضه أن يذكر المعلم, ولا يذكر ما أعلمه به. وذكر المصنف جواز الحذف والاقتصار عليه في الأصح, وهي مسألة خلاف كما ذكر, والذي اختاره هو مذهب أبي العباس, وأبي بكر, وابن كيسان, وخطاب الماردي, والأكثرين, وروي عن المازني, فيجوز الاقتصار عليه وعنه لأنه لا يرتبط بهما, ولا يرتبطان به, فصار مثل كسوت, وعرفت زيدًا, واحتج خطاب بقوله تعالى} قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ {. وقال أبو علي: "هذا لا يدل, وذلك أنه قد يجوز أن يكون عامله معاملة

الأصل, وأصله /الخبر, فجرى مجرى خبرني, كما أن رأيت - وإن دخلها معنى أخبرني - فإن ذلك لن يخرجها من احتياجها إلى المفعولين, فهذا يحتج به من لم ير الاقتصار فيها على المفعول الأول دون صاحبيه" انتهى. وأقول: ليست الآية مما يستدل به على ما زعم خطاب, لأن هذا الحذف للمفعولين والاقتصار على الفاعل ليس بحذف اقتصار, وإنما هو حذف اختصار, وهو جائز, و (نبأ) في الآية على بابها, ليست مضمنة معنى أعلم, ألا ترى إلى تعديتها أولًا بالباء في قوله} فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ {: نبأها بإفشائه عنه قالت من أنبأك هذا عني} قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ {, أي: نبأني عنك به العليم الخبير. وإلى جواز حذف الأول وإبقاء الأخيرين, وحذف الأخيرين وإبقاء الأول ذهب شيخنا أبو الحسن بن الضائع وأبو جعفر بن الزبير. وذهب س إلى أنه لا يقتصر عنه ولا عليه, والأول في أعلم كالفاعل في علم, فكما لا يقتصر على الفاعل في علم كذلك لا يقتصر في أعلم, وبهذا قال ابن الباذش, وابن طاهر, وابن خروف, والأستاذ أبو علي, وابن عصفور, وهو قياس قول أبي الحسن الأخفش - لا بد من الثلاثة - لأنه يرى الفاعل في أعلم لا يقتصر عليه, وعلمت وظننت في ذلك سواء, واحتج لذلك بأنها كلم دخلت لمعنى في الخبر, وما كان كذلك لا بد له من الخبر, مثل كان وحروف الابتداء.

قال الفارسي: فإن قيل إنها جملة, فتستغني مثل الجمل التي يتعلق بمعناها ما بعدها لا يستغني, كجملة القسم والشرط وما يحتاج إلى جواب, إلا أن هذا ينخرم بما ذكره س في: ظننت ذاك,} وَظَنَنتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ {, و"من يسمع يخل", إلا أن يجعل ورود مثل هذا قليلًا, وقد كثر غيره, ولا يحمل على القليل, وكان الفارسي يستحسن هذا المذهب في "الحلبيات" وغيرها من كتبه. ونقل عن الأستاذ أبي علي انه ذهب إلى أنه لا يجوز أن يقتصر على الأول, فتقول: أعلمت زيدًا, ولا عليه وعلى أحد الأخيرين, ويجوز الاقتصار على الأخيرين وحذف الأول, فتقول: أعلمت كبشك سمينًا, فصارت المذاهب ثلاثة: مذهب الجمهور, ومذهب س ومن تبعه, ومذهب الأستاذ أبي علي. وذكر بعض معاصرينا - وهو عبد العزيز بن جمعة بن زيد الموصلي - من نحاه بغداد ما نصه: "والأظهر انه لا يجوز حذف المفعول الأول من هذا الباب لأنه فاعل في المعنى, ولأنه يؤدي إلى اللبس في نحو: أعلمت زيدًا عمرًا عاقلًا.

ومنهم من أجازه لأنه فضله, وأما حذف الأخيرين فجائز على الأصح لأنهما في حكم مفعولي ظننت". والذي نختاره هو أن يرجع في ذلك إلى السماع, فإن وجد محذوفًا مبقى المفعولان دونه اقتصارًا, أو مبقى هو محذوفًا مفعولا الفعل - أجزناه, وإلا فالمنع. وفي البسيط: وكان ابن السراج لا يجيز الاقتصار في هذا المتعدي إلى الثلاثة, ويجوز فيها دخول الباء, فيقول: أعلمتك بزيد, كما في: علمت به, ولا تدخل على الأول كما لا تدخل في ضربت بزيد, ويقع بدلهما أن وأن على نحو ما تقدم في ظننت, ولا يكون ذلك في صيرت وأخواتها لقوة المفعولية. وقوله وللثاني والثالث بعد النقل ما لهما قبله مطلقًا يعني من جواز حذفهما وحذف أحدهما اختصارًا, ومنع حذفهما وحذف أحدهما اقتصارًا, ومن التقديم والتأخير, وغير ذلك من الأحكام التي سبقت لـ "علمت" وأخواتها, إجماعًا واختلافًا وتقسيمًا. وقوله خلافًا لمن منع الإلغاء والتعليق ذهب قوم إلى منع الإلغاء والتعليق في أعلم وأخواتها مطلقًا, سواء أبنيت للفاعل أم بنيت للمفعول, وخص بعضهم ذلك بالمبني للفاعل, وهو اختيار الجزولي. وقال الأستاذ أبو على: "المذهب الصحيح أنه لا يجوز الإلغاء عن المفعولين, سواء أبني للفاعل أم للمفعول, والعلة في أن لم تلغ هذه الأفعال إذا

بنيت للفاعل من كونها أفعالًا مؤثرة, بخلاف ظننت وبابه, موجودة فيها إذا بنيت للمفعول كوجودها إذا بنيت للفاعل, فكيف توجد العلة ثم لا يوجد حكمها, ولكن غر الجزولي ذكر س أرى, وهي مضارع أريت بمعنى أظننت, فتخيل أن باقي أفعال الباب كأرى", قال: " وإنما جاز إلغاء أرى وحدها لأنها بمعنى أظن, وأظن غير مؤثرة, فجرت مجراها في الإلغاء كما جرت مجراها في المعنى". قال المصنف في الشرح: "وحاصل قول الأستاذ أبي على أمران: أحدهما: أن أعلم مؤثر, فلا يلغى, كما لا تلغى الأفعال المؤثرة. والثاني: أن أرى ألغي لأنه بمعنى أظن, فوافقه في الإلغاء كما وافقه في المعنى. والجواب عن الأول أن يقال: من أجاز أعلم لم يجزه بالنسبة إلى المعلم, فيكون في إلغائها محذور, وإنما أجازه بالنسبة إلى المسند والمسند إليه, وهما غير متأثرين بأعلم, كما هما غير متأثرين بعلم, فلا يمتنع إلغاء أعلم عنهما, كما لم يمتنع إلغاء علم. والجواب عن الثاني أن يقال: إلحاق أرى بأظن لأنه بمعناه ليس بأولى من إلحاق أعلمت بعلمت, بل الأمر بالعكس, لأن مفهوم علمت مستفاد من أعلمت كاستفادة مفهوم أظن من أرى, فالمناسبتان مستويتان, وبين أعلمت وعلمت مناسبتان أخريان, وهما: رجوعهما إلى مادة واحدة, واستواؤهما في التصرف, بخلاف أرى وأظن, لأنهما مختلفتان في المادة وفي التصرف, أما التخالف في المادة فظاهر, وأما في التصرف فلأن أرى لم يستعمل له ماضٍ, فقد

بان أن مناسبة أرى لأظن أضعف من مناسبة أعلمت لعلمت, وأرى قد جرت مجرى أظن, فإذا جرت أعلمت مجرى علمت كان ذلك أحق وأولى" انتهى. وما ذهب إليه من أن أرى لم يستعمل منه ماض ليس بصحيح, نص على ذلك س, ولقلة اشتغال المصنف بكتاب س غاب ذلك عنه, وسيأتي ذكر ذلك في آخر هذا الباب. وقال أبو الحسين بن أبي الربيع: " لا يجوز الإلغاء في أعلم وأخواتها لأن مبني الكلام عليها, ولا تجيء بعد ما مضى الكلام على الابتداء فتلغى, ولا أعلم في هذا خلافًا" انتهى, وقد علمه غيره كالأستاذ أبي علي والمصنف. وفي البسيط: " أما الإلغاء في هذه فلا يكون لأنها عاملة في المفعول الأول لا بالنسبة, فليس أصلها ترك العمل بمنزلة ما تقدم من تلك الأفعال, وذلك ظاهر في أعلمت, لأنه لا يبقى بعدها كلام تام لأجل المفعول الأول إذ لا يكون مبتدأ, ولأن صير وبابه ليس من أفعال القلوب كما تقدم, ولا يصح إلغاء أعلمت عن المفعولين وإعمالها في الأول لأنه حكم بقوة وضعف معًا, ولا يكون, وجوزه الجزولي" انتهى. وقال عبد العزيز بن جمعة: "ولا يجوز تعليقها ولا إلغاؤها ولا إضمار الشأن فيها, فإن المفعول الأول معلم, وضمير الشأن لا يتصور إعلامه لكونه مجهولًا" انتهى. والحكم في هذا السماع, وهذه الأقيسة كلها طائحة, لكنا ذكرناها لئلا يخلو كتابنا عن علل النحاة وأقيستهم, وقد سمع الإلغاء في أعلم متوسطة,

قال الشاعر: وكيف أبالي بالعدا ووعيدهم وأخشى ملمات الزمان الصوائب وأنت - أراني الله - أمنع عاصم وأرأف مستكفى وأسمح واهب فألغى أرى متوسطًا, ومثله قول بعض من يوثق بعربيته: البركة - أعلمنا الله - مع الأكابر. وأما التعليق فاختار المصنف جوازه, واستدل على ذلك بقوله تعالى {هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ} , وقوله تعالى {وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ} , فعلى ينبئ وأدرى لأنهما بمعنى يعلم وأعلم, فتعليقهما لتضمنهما حروف يعلم وعلم أحق. قال المصنف: "ومن تعليق أفعال هذا الباب قول الشاعر: حذار, فقد نبئت إنك للذي ستجزى بما تسعى, فتسعد أو تشقى وقال صاحب الملخص: "أما التعليق فاختلف فيه: فمنهم من أجاز أعلمت زيدًا لعمرو شاخص مستدلًا بقوله تعالى {إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ} , ومنهم من ذهب إلى أنها لا يكون فيها تعليق, وجعل الآية بمنزلة قوله تعالى {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَات لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ} ,

فقوله {لَهُم مَّغْفِرَةٌ} جملة تفسير الموعود] به [, وكذلك {إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ} تفسير المنبأ به, وعلى هذا أكثر النحويين, وهو عندي المختار" انتهى كلامه. وممن أجاز التعليق عن المفعولين صاحب البسيط فيما كان من أفعال القلوب, نحو أعلمت, واستدل بالآية {إِذَا مُزِّقْتُمْ} لا جائز أن ينتصب بخبر إن, ولا بـ"يُنَبِّئُكُم"؛ لأنه يكون تقييدًا للتنبيء, لا على الظرف, ولا على الاتساع, بل بإضمار فعل, تقديره: تعلمون ذلك إذا مزقتم, وفصل به على سبيل الاعتراض. وجعل المصنف {وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ} من تعليق أدرى بمعنى أعلم. ولا حجة فيه على ذلك؛ لأن الأكثر في كلام العرب تعدية درى بحرف جر, تقول: دريت به, والأقل تضمينها معنى علم, فتقول: دريت زيدًا قائمًا, كما تقول: علمت زيدًا قائمًا, وإذا كان كذلك, ودخل عليها همزة التعدية - تعدت إلى واحد بنفسها, وإلى الآخر بحرف جر, كما هو الأكثر فيها قبل دخول همزة التعدية, قال تعالى {وَلا أَدْرَاكُمْ بِهِ} , فقوله تعالى {وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ} ليس قوله {مَا يَوْمُ الدِّينِ} سادا مسد المفعولين, فيكون بمنزلة أعلم في ذلك, وإنما سدت مسد المفعول الذي يتعدى إليه بحرف الجر, فهي جملة في موضع النصب, تنوب عن مفعول واحد, أصله بحرف الجر, والدليل على أن أدرى لا يكون في التعدية إلى ثلاثة كأعلم أن الذين استقروا كلام العرب من جميع النحويين والبصريين إنما أنهوها إلى سبعة أفعال, ولم يذكروا فيها أدرى بمعنى أعلم.

-[ص: وألحق بهما سيبويه نبأ, وزاد غيره أنبأ وخبر وأخبر وحدث, وزاد الأخفش أظن وأحسب وأخال وأزعم وأوجد, وألحق غيرهم أرى الحلمية سماعًا. وما صيغ للمفعول من ذي ثلاثة فحكمه حكم ظن إلا في الاقتصار على المرفوع.]- ش: المجمع على تعديته إلى ثلاثة أعلم وأرى, وزاد س نبأ, قال المصنف: "وزاد غيره أنبأ" , وذكر ابن هشام أن س زاد نبأ وأنبأ, وذكر أبو علي: والجرجاني هذه الأربعة فقط, وزاد الفراء أخبر وخبر, ذكر ذلك في معانيه, وزاد الكوفيون حدث, قالوا: ولم يحفظ عن العرب مما يتعدى إلى ثلاثة غيرها, وهذا يدل على خلاف ما ذهب إليه المصنف من جعل أدرى متعدية إلى ثلاثة كما ذكرناه قبل. وما زاده الفراء والكوفيون من أخبر وخبر وحدث لم يحص عند س, أو لم يسمعها, أو تأول ما سمع منها, ولم يذكرها المتقدمون من البصريين, وقد ذكرها جماعة من المتأخرين كالزمخشري وأكثر أصحابنا, وقياسها إذا صحت أن تكون محمولة على أعلم.

وذكر الحريري في (شرح الملحة) له فيما يتعدى إلى ثلاثة "علم" المنقولة بالتضعيف من علم المتعدية لاثنين. والذي ذكر أصحابنا أن "علم" المتعدية إلى اثنين لم تنقل إلا بالهمزة, وأن "علم" المتعدية إلى واحد لم تنقل إلا بالتضعيف ليفرق بذلك بين المعنيين, ولم توجد "علم" متعدية إلى ثلاثة في لسان العرب. وقال صاحب اللباب: "المستعمل من ذلك بلا خلاف أعلم وأرى, فأما أنبأ ونبأ فإلى واحد بنفسه, وإلى ثان بحرف جر, وأخبر وخبر وحدث كنبأ, وإنما تعدت إلى ثلاثة تشبيهًا بأعلم, وقد ذهب بعضهم إلى أن أنبأ تتعدى لاثنين بنفسها مستدلًا بقوله {مَنْ أَنبَأَكَ هَذَا} , ولا دليل فيه لأن استعماله بحرف الجر أكثر". وقال ابن ولاد: "أنبأ ونبأ يستعملا كثيرًا على أصلهما, فتقول: أنبأته عن كذا, وبكذا, وكذا نبأ", قال: "وتستعمل أعلم استعمالهما, فتقول: أعلمت زيدًا بأمرك, وعن خبرك". وكان الأستاذ أبو علي يقول في بعض إقراءاته بالثلاثة التي ذكر س, وهي أعلم وأرى ونبأ, ويقول في أنبأ وخبر وأخبر وحدث: إن الأصل تعديتها بحرف الجر, فإن سمع تعديها صريحًا فاتساع, وزعم أن حدث إنما سمعوا تعديتها إلى ثلاثة في قول الشاعر: أو منعتم ما تسألون, فمن ... حدثتموه, له علينا الولاء قال: ولا دليل فيه لأنه إنما وصل بالتضمين, وإذا لم يكن يصل بنفسه إلا

في هذا فلا دليل فيه, بل يكون كقوله: إذا رضيت على بنو قشير .............................. والظاهر من كلام س أن نبأ يتعدى إلى اثنين, ثانيهما بحرف جر, قال س: "وكما قال: نبئت زيدًا, يريد: عن زيد". وقال أبو العباس: "نبئت يتعدى لمفعولين كأعلمت, فيكون الأول مفعولًا, والجملة في موضع الثاني, ولا يدعى إسقاط الحرف لأنه لا يقاس". رد عليه أبو علي, فقال: "سمع الإسقاط, والأصل حر الجر, والتعدي إلى ثلاثة هو فرع, وإذا احتمال أصلًا وفرعًا حمل على الأصل". انتهى. واستدل المبرد على أن نبأ يتعدى إلى ثلاثة, أحدهما المفعول الذي لم يسم فاعله, والثاني والثالث مبتدأ وخبر - بقول الشاعر: ونبئت عبد الله بالجو أصبحت كرامًا مواليها, لئيمًا صميمها فكيف يستدل س على أن نبئت زيدًا هو على حذف حرف الجر - أي: عن زيد - بهذا البيت؟ ولا حجة له فيه إذ هو تعدى فيه إلا ثلاثة. قال أصحابنا: وما قاله المبرد خطأ لأن س لم يستدل بالبيت على ما ذكر, بل العرب تقول: نبئت زيدًا, على معنى: نبئت عن زيد, وأورد س البيت على أنه محتمل أن يكون قد حذف منه حرف الجر؛ لأن تعديته إلى ثلاثة إنما هي

بالتضمين معنى ما يتعدى إلى ثلاثة, والتضمين ليس بقياس, بل هو تجوز, وحذف حر الجر مجاز, فتكافأ عنده. ومما جاء دليلًا على ما ذكروا من تعدية هذه الأربعة الأفعال إلى ثلاثة قول الشاعر: نبئت زرعة - والسفاهة كاسمها - يهدي إلى غرائب الأشعار وقول الآخر: ونبئت قيسًا - ولم أبله كما زعموا - خير أهل اليمن وقول الآخر: وخبزت سوداء القلوب مريضة فأقبلت من أهلي بمصر أعودها وقول الآخر: ماذا عليك إذا أخبرتني دنفا وغاب بعلك يومًا أن تعوديني وقول الحارث بن حلزة: أو منعتم ما تسألون ... البيت. واختار المصنف في الشرح ألا تلحق هذه الأفعال الأربعة في التعدي بأعلم؛ لأنه لا يكون من باب إسقاط حرف الجر, كما قال س فيما حكى عن بعض العرب نبئت زيدًا, أي: عن زيد, واقتصر عليه, وكما جاء في قوله {مَنْ

أَنبَأَكَ هَذَا} , فحذف حرف الجر بعد نبأ مقطوع بثبوته, ويعد أنبأ؛ إذ لا يمكن أن يكون الثالث محذوفًا مقتصرًا على المفعولين؛ لأن الثالث هو خبر للمبتدأ على ما زعموا أنها تتعدى إلا ثلاثة, ولا يجوز الاقتصار على المبتدأ دون الخبر, ويكون المنصوب الثالث منصوبًا على الحال, وكذلك الجملة الواقعة الموقعة. قال المصنف: "وقد حمل س على حذف الحرف قول الشاعر: ونبئت عبد الله , البيت. مع إمكان إجرائه مجرى أعلمت, فدل ذلك على أن تقدير حرف الجر راجح عنده؛ إذ ليس فيه إخراج شيء عن أصله, ولا تضمين شيء معنى شيء, ولم يثبت الإجراء مجرى أعلم إلا حيث يحتمل حذف الحرف, فكان الحمل عليه أولى, هذا في نبأ مع كثرة استعمالها بالصورة المحتملة, وأما أخواتها فيندر استعمالها بتلك الصورة", قال المصنف: "هذا أراه أظهر وإن كان غيره أشهر" انتهى. وما قرره من أن هذه الأفعال الأربعة لا تلحق في التعدي بأعلم يعكر على استدلاله أن أعلم يجوز فيها التعليق عن مفعوليها مستدلًا بقوله تعالى {يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ} , وبقوله:

حذار, فقد نبئت إنك للذي, البيت. لأن نبأ هذه المعلقة ليست تتعدى إلا ثلاثة؛ إذ لم يثبت لها ذلك, فلا يكون في تعليقه على صحة ثبوته دليل على تعليق أعلم وأرى, فقد ناقض المصنف في الاستدلال على أن التعليق يجوز فيما يتعدى إلا ثلاثة, وزعم هنا أن ما استدل به على التعليق لا يتعدى إلا ثلاثة, وهذا تناقض واضح. ومن ذكر أن نبأ وأنبأ وأخبر وخبر وحدث تتعدى إلا ثلاث جعل ذلك من باب التضمين, وأن الهمزة والتضعيف ليس في هذه الأفعال للنقل والتعدية, بل الكلمة بنيت عليهما, ولم تقل العرب نبأ ولا خبر ولا حدث بمعنى علم فتتعدى إلى اثنين, وإنما نقلوا نبأ خفيفة بمعنى أخبر, فتتعدى تعديتها. ووقع لأبي علي الفارسي في (الإيضاح) أن هذه الأفعال منقولة بالهمزة أو بتضعيف العين من الفعل الذي يتعدى إلى مفعولين, ولا يجوز الاقتصار على أحدهما دون الآخر, وليس منهما ما نقل بالهمزة إلا أعمل وأرى, وما عداهما مضمن معنى أعلم عند من يقول بتعديها إلى ثلاثة. وأجاب بعضهم عن أبي علي بأنه اعتقد أن ما عدا أعلم وأرى منقول من فعل متعد إلى مفعولين, أصلهما المبتدأ والخبر, وإن لم ينطق به, كما أن يذر ويدع مضارعان لـ"وذر" و "ودع" وإن لم ينطق بهما, والذي حمله على ذلك أنهما لما أجريت مجرى أعلم, فعديت تعديتها - وجب أن تجعل منقولة كما أن أعلم كذلك, وادعاء التضمين أسهل من هذا الذي ذكر. وفي البسيط: "خبر وأخبر ونبأ وأنبأ وحدث استعملت في كلامهم على

ثلاثة أنحاء: متعدية إلى اثنين, أحدهما بحرف الجر, نبأت زيدًا عن حال عمرو, والثاني إلى اثنين {مَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا} , والثالث إلى ثلاثة. واختلفوا: فقيل: هي أصل فيما يتعدى إلى ثلاثة, وقيل: أصل فيما يتعدى إلى اثنين, وقيل: هي أصل فيما يتعدى إلى واحد وإلى الثاني بحرف الجر. والمضعف منها أو بالهمزة قيل: هي أصل بنفسها, ليس منقولة من فعل آخر تضعيفًا ولا بالهمزة لفظًا ولا تقديرًا؛ لأنه لم يسمع لها بأصل, وقيل: لا يبعد في المعنى أن يكون لها أصل لا يتعدى, فيدل على قيام الخبر بالنفس كما تقول ظننت, ثم أردت الخبر عند غيرك, فتعدى في المعنى, واستغنى عنه بغيره, فيكون مما لم ينطق لها بأصل كمذاكير ونحوه" انتهى وفيه بعض تلخيص. وقوله وزاد الأخفش أظن وأحسب وأخال وأزعم وأوجد هذا الذي ذكره الأخفش هو اختيار أبي بكر بن السراج, قال أبو بكر: تقول: أظننت زيدًا, فتسكت, كما تقول: أعلمت زيدًا, وهذا الذي ذكره الأخفش هو قياس, لا أنه مسموع من العرب, بل قاس ذلك على علم ورأي, فكما أنه نقل بالهمزة علم ورأى فكذلك يجوز ذلك في أخواتهما, والذي يظهر من مذهب س أن النقل بالتضعيف سماع في المتعدى واللازم, وبالهمزة قياس في اللازم سماع في المتعدي, ومن النحويين من ذهب إلى أن ذلك مقيس في التضعيف

والهمزة فيهما, ومنهم من ذهب إلى السماع فيهما. وقد رد مذهب الأخفش بأن الهمزة إنما يتعدى بها اللازم ليلحق بالمتعدي لواحد, والمتعدى لواحد ليلحق بما يتعدى إلى اثنين, وليس لنا ما يتعدى إلى ثلاثة بالأصالة فيلحق بها ما يتعدى إلى اثنين, فكان القياس ألا يعدى أعلم وأرى, لكن سمع فيهما التعدية على خلاف الأصل, فقبل, ولم يقس عليهما غيرهما, وقد وافق الأخفش على منع: أكسيت زيدًا عمرًا ثوبًا. وفي البسيط: التعدية بالتضعيف وحرف الجر ليس قياسًا, فلا يقاس على ما سمع منه وأما الهمزة فأربعة مذاهب: 1. ليس بقياس كالتضعيف والحرف. 2. قياس في كل فعل, وهو مذهب الأخفش والأعلم. 3. قياس من كل فعل إلا في باب علمت, وهو رأي أبي عمرو وغيره. 4. قياس من كل فعل غير متعد لم تدخله الهمزة لمعنى ما, وقيل: هذا رأي س, قال: "ليس كل فعل بمنزلة أولني, فلا تقول أخذني" أي: اجعلني أخذًا. ويظهر من كلامه في موضع آخر أنه قياس؛ لأنه ذكر أن الهمزة للتعدية, وذكر أمثلة, وقال: هو كثير, ومستند القياس الكثرة , وهو ظاهر رأي أبي علي. ومما كتب عن الأستاذ أبي جعفر بن الزبير: أجاز الأخفش النقل في

الأفعال كلها قياسًا فيما لا يتعدى, وفيما يتعدى إلى واحد, وفيما يتعدى إلى اثنين, والمبرد لا يجيزه قياسًا, ويقف على السماع, والفارسي يجيزه فيما لا يتعدى وفيما يتعدى إلى واحد قياسًا؛ لأن لهما أصلًا في الأفعال يشبهان به, ولم يجزه فيما يتعدى إلى اثنين لأنه ليس له أصل يشبه به؛ لأن ما يتعدى إلى ثلاثة فرع؛ إذ هو منقول, وأما س فأحسن ما فهم عنه أنه يجيز النقل فيما لا يتعدى, فيصير متعديًا إلى واحد قياسًا, مع أن من الناس من فعم عنه منع ذلك, بل يقف عن السماع, على نحو مذهب المبرد. وقوله وألحق بعضهم أرى الحلمية سماعًا قال المصنف في الشرح: "ومما ينبغي أن يلحق بأعلم وأرى أختهما أرى الحلمية, كقوله تعالى {إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلًا} , فإنه قد ثبت إجراء رأي الحلمية مجرى رأي العلمية - واستدللت على ذلك فيما سلف - فلزم من ذلك تعديتها إلا ثلاثة بهمزة النقل مع مساعدة الاستعمال, كما لزم ذلك في الفعلين الآخرين لصحة الاستعمال, وكان التنبيه عليها لثبوتها سماعًا دون معارض أولى من التنبيه على ما لم يثبت إلا بما فيه معارضة واحتمال. وأما أرى المنقولة من متعد إلى واحد فمتعدية إلى اثنين, ثانيهما غير الأول, وهي على ضربين: أحدهما من الرأي, كقوله تعالى {لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللهُ} , والثاني من رؤية البصر, كقوله تعالى {مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ}

انتهى كلامه. وما ذهب إليه من أن أرى الحلمية تتعدى إلى ثلاثة سماعًا مستدلًا بقوله {إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلًا} ليس بجيد؛ لأنا قد نازعناه في ثبوت أن رأى الحلمية تتعدى إلى اثنين كلعمت, وبينا أن استدلاله على ذلك بقوله {إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا} , وبقول الشاعر: أراهم رفقتي , البيت. لا حجة فيه, ولئن سلمنا أن رأى الحلمية تتعدى إلى اثنين فلا يلزم من ذلك أن تعدى بالهمزة إلى ثلاثة؛ ألا ترى أن ظن وزعم وحسب ووجد تتعدى إلى اثنين, ولا يجوز أن تعدى بالهمزة إلى ثلاثة, وإنما اضطر في رأى الحلمية لذلك على زعمه لتعديها إلى ضمير متصل, وقد رفعت الضمير المتصل, فاضطر إلى القول بذلك, وأما في قوله تعالى {إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلًا} فهذا المعنى مفقود, فانتصاب {قَلِيلًا} على الحال, والذي يدل على أنه حال جواز الحذف فيه والاقتصار على المنصوبين قبله, فتقول: أراني الله في منامي زيدًا, وكذلك قبل همزة النقل تقول: رأيت في منامي زيدًا, فلو كان مفعولًا ثالثًا لما جاز حذفه اقتصارًا؛ لأنه لا يجوز حذف الخبر اقتصارًا. وقوله وما صيغ للمفعول إلى آخره يعني أنه إذ ذاك يصير كظننت, فما جاز في ظننت جاز في أعلمت, قال المصنف: "إلا في الاقتصار على المرفوع, فإنه غير جائز في ظن وأخواتها لعدم الفائدة, جائز في أعلم وأخواتها لحصول الفائدة" انتهى.

وهذا على ما اختاره, وقد تقدم الخلاف في الاقتصار على فاعل ظننت وأخواتها, وأن في ذلك ثلاثة مذاهب, وتقدم أيضًا الخلاف في الاقتصار على فاعل أعلم الأول, والخلاف جار فيها إذا بنيت للمفعول, ومثال ذلك: أعلمت زيدًا قائمًا, وحدثت زيدًا منطلقًا, فأعلمت إعلام, وحدثت إخبار, وفعل واحد ليس إعلامًا ولا إخبارًا, وهو أريت بمعنى أظننت, فأريت لم ينطق لها بفعل مبني للفاعل متعد إلى ثلاثة, فهو مبني من فعل مسند للفاعل لم ينطق به, ولم ينطق أيضًا بأظننت الذي أريت بمعناها, وحكم المضارع حكم الماضي في ذلك, فتقول: أرى زيدًا ذاهبًا, ونرى زيدًا ذاهبًا, وقد نص س وغيره من النحويين على أنه فعل بني للمفعول, ولم يبن للفاعل, وهو في معنى أظن, ولا يكون مفعولها الأول إلا ضمير المتكلم على أكثر ما سمعت ماضية, نحو أريت, ومضارعًا نحو أرى ونرى, ويكون أيضًا ضمير المخاطب, نحو قولهم: كم ترى الحرورية رجلًا, ونحو قوله تعالى {وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى} في قراءة من ضم التاء.

باب الفاعل

-[ص: باب الفاعل وهو المسند إليه فعل أو مضمن معناه, تام, مقدم, فارغ, غير مصوغ للمفعول, وهو مرفوع بالمسند حقيقة إن خلا من "من" و "الباء" الزائدتين, وحكما إن جر بأحدهما, أو بإضافة المسند, وليس رافعه الإسناد, خلافًا لخلف, وإن قدم ولم يل ما يطلب الفعل فهو مبتدأ, وإن وليه ففاعل فعل مضمر يفسره الظاهر, خلافًا لمن خالف.]- ش: لما كان الكلام بنعقد من مبتدأ وخبر, وينشأ عنه نواسخ, ومن فعل وفاعل, وينشأ عنه الفعل والمفعول الذي لم يسم فاعله, وفرغ من المبتدأ ونواسخه - شرع في باب الفاعل, فحده بأنه "المسند إليه فعل", والمسند إليه أعم من أن يكون ظاهرًا أو مضمرًا, مصرحًا باسميته أو مقدرًا, فمثال المقدر أن وأن وما ولو عند من يثبت ذلك, فتقول: يعجبني أنك تقوم, وأن تقوم, وما قمت, و: ما كان ضرك لو مننت ... ............ التقدير: قيامك, ومنك, ولا يقدر بالاسم إلا حرف مصدري مع ما دخل عليه, وهذا مذهب أبي العباس وأبي علي وجمهور البصريين, لا يكون عندهم الفاعل إلا اسمًا أو مقدرًا به مع ما ذكر. وذهب هشام وثعلب وجماعة من الكوفيين إلى أنه يجوز أن يسند الفعل للفعل, فأجازوا: يعجبني يقوم زيد, وظهر لي أقام زيد/ أم عمرو.

واستدلوا بقوله {ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الآيَاتِ} , وقول الشاعر: وما راعني إلا يسير بشرطة وعهدي به قينا يفش بكير وقول الآخر: فإن كان لا يرضيك حتى تردني إلى قطري لا أخالك راضيًا وذهب الفراء وجماعة إلى جواز ذلك بشرك أن يكون العامل فعلًا قلبيًا. والصحيح المنع, وقد سبق الكلام على هذه المسألة في أول الكتاب, وأمعنا الكلام هناك في قوله "وصلاحيته بلا تأويل لإخبار عنه". وقال المصنف في الشرح: "الفاعل يكون اسمًا, وغير اسم, كقول الشاعر: يسر المرء ما ذهب الليالي ... وكان ذهابهن له ذهابًا وكقول الآخر: ما ضر تغلب وائل أهجوتها أم بلت حيث تلاطم البحران"

قال: "فلذلك قلت: المسند إليه, ولم أقل: الاسم المسند إليه". ويظهر منه مذهب هشام ومن ذكره معه؛ لأن البيت الذي هو: ما ضر تغلب وائل أهجوتها .................... هو نظير ما أجازه هشام من قوله: ظهر لي أقام زيد أم عمرو. والصحيح أنه لا يجوز, فينبغي تأويل البيت على ما يخرجه عن ظاهره, وإلا عد من الشذوذ بحيث لا يقاس عليه. وفي البسيط: "احتجوا بوقوعه مفعولًا, نحو: ظننت زيدًا يضرب, فيكون فاعلًا, وبأنه يكون بـ (أن) باتفاق, ولا زيادة لها في المعنى, وليس لها في اللفظ تأثير, ولا يخرج الفعل عن كونه فعلًا, فليجر دونها, ولأنه يقع بدلها الإشارة إليها, فتقل: وقع ذلك, وقيل ذلك, فتشير نحو جملة فناب عنها, ولا ينوب إلا عما يصح هناك, ولأنها تقام مقام المفعول الذي لم يسم فاعله في نحو: قيل إن زيدًا منطلق, ونحوه, وهو كالفاعل, وقال {ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ} , وقال {وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ} , وهو فاعل. وأجيب عن الأول بأنه على التشبيه, والأصل الابتداء, وعن الثاني بأنها دخلت للشك في المعنى ولإرادة المصدر, وبأن الإشارة ليست لها, إنما هي لمعنى الجملة, ولأن فعل القول عمل نصبًا معنى, فكان رافعًا معنى, وبأن الآية على التعليق, كما في الاستفهام في: سواء على أقمت أم قعدت, وطأ حرف التعليق للفعل, كما في: ظننت ليقوم زيد, فلا يجوز دون التعليق, وفي الآية

إضمار, أي: بدا لهم أمر أو بدو, فأضمره لدلالة الفعل عليه, وكذلك: قيل لهم قول هو هذا, وتبين لكم تبين" انتهى, وفيه بعض تلخيص. وقوله أو مضمن معناه الذي يرفع الفاعل غير الفعل هو اسم الفاعل وما أجرى مجراه في العمل من الأوصاف والجوامد بشرط الاعتماد, والصفة المشبهة وغير المشبهة, والأمثلة, والمصدر المنحل بحرف مصدري والفعل, والاسم الموضوع موضع الفعل مصدرًا كان أو غير مصدر, واسم الفعل, والظرف والمجرور إذا اعتمدا, خلافًا للأخفش في الاعتماد؛ لأنه لا يشترطه لا في اسم الفاعل ولا في الظرف والمجرور. وقوله تام احتراز من أن يكون ناقصًا, نحو كان وأخواتها, وقد سمي مرفوعًا س فاعلًا, ومنصوبها مفعولًا على سبيل التوسع. وقوله مقدم هذا حكم من أحكام الفاعل, فذكره في الحد لا يناسب, إنما يحد بالأشياء الذاتية, ولكونه حكمًا وقع فيه الخلاف: فذهب البصريون إلى أنه يجب تقديم العامل على الفاعل, وذهب الكوفيون إلى جواز ذلك, واستدلوا بقول الشاعر: فظل لنا يوم لذيذ بنعمة فقل في مقيل نحسه متغيب وبقول الآخر:

ولا بد من عوجاء تهوى براكب إلى ابن الجلاح شيرها الليل قاصد ويقول الآخر: ما للجمال, مشيها وئيدًا أجندلًا يحملن أم حديدًا وأنشده المصنف: سيرها وئيدًا, قالوا: التقدير: فقل في مقيل متغيب نحسه, وقاصدًا سيرها؛ إذ لو لم يكن التقدير هذا لقال: قاصدة؛ لأنه صفة لعوجاء, ووئيدًا مشيها. وتأول البصريون هذا السماع على أن "نحسه" مرفوع بـ"مقيل", و"مقيل" مصدر وضع موضع اسم الفاعل, يقال: قال نحسه: إذا سكن, كأنه قال: فقل في مكان أو في زمان سكن نحسه وغاب, فيكون معناه ومعنى "متغيب" واحدًا. وقيل: نحسه: مبتدأ, ومتغيبي: هبر على أن الياء ياء النسب, دخلت في الصفة للمبالغة, كما قالوا في أحمر: أحمري, وفي دوار: دواري, وخفف الياء في الوقف, كما قال: ............................. وبذاك خبرنا الغداف الأسودي فيمن رواه كذلك, يريد: الأسودي. وقيل: مقيل اسم مفعول من قلته بمعنى أقلته, أي: فسخت عقد مبايعته,

فاستعمل موضع متروك مجازًا, قال المصنف في الشرح: "وهو قول ابن كيسان". وأما "سيرها الليل" فمبتدأ وخبر, وقاصد صفة لعوجاء على حذف التاء, كما قالوا: ناقة ضامر, ويحتمل أن يكون قاصد صفة لراكب, و"سيرها الليل" جملة اعتراضية, لا في موضع الصفة العوجاء. وأما "مشيها وئيدًا" فمشيها بدل من الضمير المستكن في قوله للجمال؛ لأنه في موضع خبر المبتدأ الذي هو "ما" قال المصنف في الشرح: "يجعل سيرها مبتدأ, ويضمر خبر ناصب وئيدًا, كأنه قال: ما للجمال سيرها ظهر وئيدًا, أو ثبت وئيدًا, فيكون حذف الخبر هنا والاكتفاء بالحال نظير قولهم: حكمك مسمطًا, ولو كان مما لا يمكن تأويله لحمل على أنه مما تقدم فيه الفاعل على العامل ضرورة". وثمرة الخلاف تظهر في نحو: الزيدان قام, والزيدون قام, فالكوفيون يحيزون ذلك, والبصريون لا يحيزونه, هكذا ذكر الخلاف في هذه المسألة أصحابنا, وابن الذهان في (الغرة) , وكذا ذكر ابن كيسان عن ثعلب ما يدل على جواز ذلك. وقد رأيت في بعض التعاليق عن أبي القاسم الزجاجي أنه قال: "أجمع النحويون على أن الفاعل إذا قدم على فعله لم يرتفع به, فقال البصريون: يرتفع بالابتداء, ويصير الفعل خبرًا عنه, وضميره في الفعل يرتفع به, وللكوفيين فيه

ثلاثة أقوال: قال بعضهم: زيد يرفع بالمضمر الذي في قام, وقال آخرون: هو رفع بما عاد عليه من ذلك المضمر, وقال آخرون: هو رفع بموضع قام؛ لأن الموضع موضع خبر, وبه كان يقول ثعلب, ويختاره" انتهى ما لخصناه من كلام الزجاجي. وقوله فارغ قال المصنف في الشرح: "وخرج بـ"فارغ" المبتدأ إذا قدم خبره وفيه ضمير, ونحو: قائم زيد, {وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا} على القول بأن {الَّذِينَ ظَلَمُوا} مبتدأ مقدم خبره" انتهى. ولا يحتاج إلى هذا القيد أصلًا؛ لأنه ذكر في حد الفاعل أولًا أنه "المسند إليه فعل أو مضمن معناه" فبعد أن فرض أنه مسند إليه ما ذكر من الفعل أو المضمن معناه لا يمكن ذكر "فارغ" في القيد؛ لأن قائمًا من قولك "قائم زيد" على تقدير أنه خبر مقدم لم يسند لـ"زيد", إنما أسند إلى ضميره, وكذا (أسروا) على هذا التقدير لم يسند إلى {الَّذِينَ ظَلَمُوا} , إنما أسند لضميرهم, ولا فرق بين أن تقول "ما أسند إليه الفعل" وبين أن تقول "ما فرغ له الفعل" فلا حاجه إلى قوله بعد ذلك "فارغ". وقوله غير مصوغ للمفعول احترز به من نحو: ضرب زيد, فإن المفعول الذي لم يسم فاعله يشرك الفاعل فيما ذكر إلا في هذا الوصف, وقد يطلق عليه

بعض النحويين فاعلًا. وقوله وهو مرفوع بالمسند حقيقة إن خلا من "من" و "الباء" الزائدتين المسند هوا ما عددناه قبل من أن يرفع الفاعل, ومعنى حقيقة أي: لفظًا ومعنى. وقوله إن جر بأحدهما مثاله {مَا يَاتِيهِم مِّن ذِكْرٍ} , أي: ذكر, {وَكَفَى بِاللَّهِ} , أي: كفى الله. وقوله أو بإضافة المسند مثاله {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ} قال المصنف في الشرح: "وقلت بإضافة المسند, ولم أقل (بإضافة المصدر) لأن المسند الصالح للإضافة قد يكون اسم مصدر كما يكون مصدرًا, فالمصدر ظاهر, وغير المصدر كقول النبي صلى الله عليه وسلم (من قبلة الرجل امرأته الوضوء) , فالرجل مجرور اللفظ مرفوع المعنى بإسناد (قبلة) إليه, فإنهما قائمة مقام تقبيل, ولذا انتصب بها المفعول, وكذا المجرور بمن والباء, مرفوع معنى, ولو عطفت أو نعت لجاز في المعطوف والنعت الجر باعتبار اللفظ, والرفع باعتبار المعنى". انتهى. وجمهور البصريين لا يرون أن اسم المصدر يعمل, فإن صح (من قبلة الرجل امرأته الوضوء) فالنصب في (امرأته) يكون بمضمر, تقديره: يقبل امرأته, ولا يكون موضع الرجل رفعًا, بل هو مجرور, فكان الأولى على طريقة الجمهور أن يقول: أو بإضافة المصدر, وسيأتي حكم اسم المصدر في (باب إعمال المصدر)

إن شاء الله. وفي البسيط" ((الفعل يدل على الفاعل المطلق, فاحتاج إلى التعيين. واختلفوا في دلالته عليه: فقيل: هي كدلالته على مطلق الزمان والمصدر, وليست دلالته عليه بأضعف من المصدر والزمان, ولذلك كان الرتبة عليهما, وأقل ذلك أن يكون مثلهما؛ إذ لا يكون منهما. وقيل: إنما يدل عليه بالالتزام؛ لأنه لما دل على وجود شيء في زمان, وذلك الشيء معنى؛ لأن المصادر معان, والمعان لابد لها من محال, فدل على المحل بهذا الطريق كما دل على المكان, ولا نسلم أن دلالته ليست بأضعف؛ لأن دلالته على المصدر لفظية, وعلى الزمان صيغة, وليس الفاعل أحدهما, والاستدلال بعدم الاستغناء لا يدل على ذلك, بل على نقيضه؛ لأن ما دل عليه لا يحتاج إلى ذكره, فدل على أن الاحتياج إلى الفاعل ليس لقوة الدلالة بل لحصول الإفادة. وإذا ثبت أنه يدل عليه- وهو لا يخلو/ من أحوال- فهل يعين أحدها بوجه من وجوه الدلالات أم لا, فقيل: يعين ما كان أصلا للأسماء, كالإفراد والتذكير, ولذلك يحتاج مع غيرهما إلى زيادة في الفعل. والظاهر أنه لا يدل على ذلك, كما لا يدل على جنسيته لأنها أصل للتعيين, بل على المطلق في المصدر والزمان, بل إنما اسقطت منه العلامات لما سيأتي ذكره)) انتهى. وقوله وليس رافعه الإسناد, خلافا لخلف اختلفوا في رافع الفاعل: فذهب بعضهم إلى أنه بالمبتدأ, وذلك أنه يخبر عنه بفعله كما أن المبتدأ

يخبر عنه بالخبر. ورد بأن الشبه معنى, والمعاني لم يستقر لها عمل في الأسماء. وذهب بعضهم إلى أنه كونه فاعلا في المعنى. ونسبة القتبي إلى خلف. ورد هذا المذهب بقولهم: مات زيد, وما قام عمرو. وقال المصنف: وقد نسب إلى خلف أن العامل هو الإسناد, قال: ((الإسناد نسبة بين المسند والمسند إليه, وليس عملها في أحدهما بأولى من عملها في الآخر؛ لأن العمل لا ينسب إلى المعنى إلا إذا لم يوجد لفظ صالح للعمل, والفعل موجود, فلا عدول عنه)) انتهى. وذهب س إلى أن الرافع هو الفعل المسند إليه مفرغا له, أي: مفتقرا, وذلك أن الفعل أبدا طالب للفاعل, لا يستقر منه مع المفعول كلام حتى يكون فاعل, فإذا أخذ الفاعل استقل به, ولم يفتقر إلى المفاعيل, قال س: ((يرتفع المفعول كما يرتفع الفاعل لأنك لم تشغل الفعل بغيره, وفرغته له, كما فعلت ذلك بالفاعل)) , فظاهر كلام س أنه مرفوع بالفعل المفرغ, ولم يقل (ارتفع بالإسناد) لأنه ينبغي على أن يرتفع المفعول المذكور بعد الفاعل؛ لأن الفعل مسند إليه, فإنما ارتفع بالفعل المفرغ, ولما لم يكن مفرغا للمفعول لم يرتفع, فإذا فرغ له ارتفع. وإلى مذهب س ذهب المصنف, قال: ((رافع هو ما أسند إليه من فعل أو مضمون معناه)). وقوله وإن قدم ولم يل ما يطلب الفعل فهو مبتدأ الضمير في ((قدم)) لا يصلح أن يعود على المسند إليه الفعل أو ما ضمن معناه, لأنه لا يصح تقديمه مع كونه معمولا له, وإنما يعني: وإن قدم الاسم, وتأخر الفعل- كان الاسم مبتدأ, وبطل عمل الفعل لما تأخر لأنه تعرض لدخول العوامل النواسخ عليه, نحو: إن

زيدًا قام, فتأثر زيد بأن دليل على أن قام مشغول عنه بفاعل مضمر, وأن الرفع السابق فيه قبل دخول إن كان بالابتداء, وهو عامل ضعيف, ولذلك نسخة العامل اللفظي لقوته, ولو كان مشغولا/ بالفعل لا بضميره لما برز في تثنية وجمع, وسيأتي لحاق علامة التثنية والجمع لهذا الفعل وهو متقدم إن شاء الله. وتقدم مذهب الكوفيين في جواز تقديم الفاعل على فعله وتأويل ما احتجوا به. وقوله وإن وليه ففاعل فعل مضمر يفسره الظاهر أي: وإن ولي الاسم ما يطلب الفعل. والذي يطلب الفعل على قسمين: منه ما يطلبه على جهة اللزوم, ومنه ما يطلبه على جهة الأولى. فالأول نحو أدوات الشرط كلها, والثاني نحو أدوات الاستفهام, فإذا قلت: إن زيد قام أكرمتك, وأزيد قام؟ كان ارتفاع زيد على أنه فاعل بفعل محذوف يدل عليه الظاهر, كأنه قال: إن قام زيد قام أكرمتك, وأقام زيد قام, إلا أنه لم يرد هذا القسم الأخير وإن كان ((ما يطلب الفعل)) يشمله, وإنما عنى ما يطلب على اللزوم؛ لأنه لا خلاف بين النحويين في جواز إعراب (زيد) من قولك ((أزيد قام)) مبتدأ, و ((قام)) في موضع الخبر, فلم يتعين أن يكون فاعل فعل مضمر يفسره الظاهر وإن كان هو الأرجح في الإعراب. ومثل المصنف هذه المسألة بقوله} وإنْ أَحَدٌ مِنَ اَلمُشْرِكْيِنَ اسْتَجَارَكَ {, وبقول الشاعر: فمتى واغل ينبهم يحيو هـ, وتعطف عليه كأس الساقي

فسوى بين المسألتين, وليستا بسيين؛ لأن مثل} وإن أحد من المشركين استجارك {فصحيح مقيس, وهو أن يرتفع الاسم بعد إن بفعل محذوف يفسره الظاهر, لكن له شرط, وهو أن يكون الفعل ماضيا في اللفظ أو منفيا بـ ((لم)) فإن كان مضارعا فلا يجوز ذلك إلا في الشعر, نحو: إن زيد يقم أقم معه, وأما غيره (إن) من أدوات الشرط فلا يليه الاسم إلا في الشعر, مثل البيت الذي أنشده. وقوله خلافا لمن خالف الخلاف راجع إلى المسألتين, قال المصنف: ((فبعض الكوفيين أجاز في زيد قام أن يكون مرفوعا على الفاعلية)) انتهى. وحكاه أصبحنا عن الكوفيين. والمسألة الثانية خالف فيها الأخفش, فأجاز في إن زيد قام عمرو الرفع بالابتداء, وقال الأخفش: ((الرفع على فعل مضمر أقيس الوجهين)). قال: ((وزعموا أن قول الشاعر: أتجزع إن نفس أتاها حمامها ........................................ لا ينشد إلا رفعا, وقد سقط الفعل على شيء من سببه, وهذا قد ابتدئ بعد (إن) , وإن شئت جعلته رفعا بفعل مضمر)). هذا نصه. قال المصنف في الشرح: ((وأجاز الأعلم وابن عصفور رفع

وصال بيدوم في قوله: / ........................ وقلما وصال على طول الصدود يدوم لا بفعل مضمر, ويكون هذا من الضرورات)) انتهى. ((قل)) إذا لحقتها ((ما)) , وكان معناها على النفي المحض لا على مقابلة ((كثر)) - اختصت بالفعل, ولا يليها غيره, وهل هي فعل أو حرف, في ذلك نظر, والأظهر أنها فعل لثبوت ذلك فيها قبل لحوق ((ما)) واستعمالها للنفي المحض, لكنها لما استعملت استعمال ما لا يحتاج إلى فاعل لم يكن لها فاعل. وهذا الذي نسبه المصنف للأعلم وابن عصفور هو قول س؛ لأنه جعله من المستقيم القبيح الذي وضع في غير موضعه, وقد مثل س المستقيم القبيح في باب الاستقامة والإحالة بقوله ((كي زيد يأتيك)) , ولا وجه لهذا إلا تقديم الفاعل على الفعل, وكذلك هذا. وقال س لما ذكر الحروف التي لا يليها إلا الفعل, وذكر قلما, قال: ((وقد يقدمون الاسم في الشعر قال: صددت, فأطولت الصدود, وقلما وصال على طول الصدود يدوم)) فهذا نص من س على أن الاسم فيه مقدم, وأما من حمله على إضمار فعل فلا يتنزل كلام س عليه.

-[ص: وتلحق الماضي المسند إلى مؤنث, أو مؤول به, أو مخبر به عنه, مضافا إليه مقدر الحذف- تاء ساكنة, ولا تحذف غالبا إن كان ضميرا متصلا مطلقا, أو ظاهرا متصلا حقيقي التأنيث غير مكسر ولا اسم جمع ولا جنس. ولحاقها مع الحقيقي المقيد المفصول بغير ((إلا)) أجود, وإن فصل بها فبالعكس.]- ش: مثال المسألة الأولى قامت هند. وقوله أو مؤول به يريد: او مذكر مؤول. بمؤنث, مثاله ((فلان لغوب أتته كتابي فاحتقرها)) قيل للعربي الناطق بهذا: كيف تقول جاءته كتابي؟ فقال: أو ليس الكتاب بصحيفة, فأول المذكر بالمؤنث لما كان بمعناه. وهذا الذي ذكر أنه إذا أول المذكر بمؤنث فإنه تلحق الفعل المسند إليه التاء لا يجوز إلا في قليل من الكلام حملا على معنى التأنيث, وتذكيره هو المعروف, وقد نص النحويون على أن قوله: ......................... سائل أسد ما هذه الصوت من أقبح الضرائر لأن فيه تحريف اللفظ ورد الأصل المذكر إلى الفرع وإن كان الصوت مؤولا بالصيحة. وكذلك قوله: أتهجر بيتا بالحجاز , تلفعت به الخوف والأعداء من كل جانب أي: تلفعت به المخافة.

وقوله أو مخبر به عنه أي: أو مخبر بمؤنث عن مذكر, نحو قوله تعالى} ثُمَّ لَمْ تَكُنْ إلا أَنْ قَالُوا {في قراءة من قرأ بالتاء./ قال المصنف: ((الحق المصنف: ((ألحق التاء بالفعل, والفعل مسند إلى قولهم)) انتهى. والأصل أن يكون الفعل على حسب الاسم لا على حسب الخبر, لكنه سرى التأنيث إلى فعل المذكر لأنه أخبر عنه بمؤنث, والقول هو الفتنة, وهذا أولى من أن يقال: أنت على معنى المقالة, ويكون التقدير: ثم لم تكن فتنتهم إلا مقالتهم, فيكون أنت على المعنى, لما ذكرنا أن قولهم ((جاءته كتابي فاحتقرها)) قليل, و ((ما هذه الصوت)) ضرورة. وأنشد المصنف: ألم يك غدرا ما صنعتم بشمعل وقد خاب من كانت سريرته الغدر وأنشد غيره: أزيد بن مصبوح, فلو غيركم جنى غفرنا, وكانت من سجيتنا الغفر ويؤول على معنى: المغفرة. ولا يقال: يحتمل أن يكون أنت على معنى الغدرة بمعنى الغدر لما ذكرناه. قال المصنف: ((سرى من تأنيث الخبر التأنيث إلى المخبر عنه لأن كلا منهما عبارة عن الآخر)) انتهى. ولما أطلق

القول على الفتنة والغدر على السريرة أنث, كما قال: أو حرة ... عيطل ثبجاء مجفرة دعائم الزور, نعمت زوق البلد أنت الزوق- وهو مذكر- لأنه عنى به وكنى عن الحرة, وهو مؤنث, فألحق التاء في فعله. وفي (الغرة): ((بعض الكوفيين يجيز تأنيث هذه الأفعال إذا كان الخبر مؤنثا, كقوله: فمضى, وقدمها, وكانت عادة منه إذا هي عردت إقدامها)) انتهى. وينبغي أن يجعل هذا مما أنث لأجل الإضافة إلى مؤنث, كقوله: ..................... تسفهت أعاليها مر الرياح النواسم وما ذكره المصنف من إلحاق علامة التأنيث للفعل إذا كان لمذكر أخبر عنه بمؤنث ليس مذهبا للبصريين, وإنما يجوز ذلك عندهم ضرورة, والكوفيون يجيزون في سعة الكلام تأنيث اسم كان إذا كان مصدرا مذكرا, وكان الخبر مؤنثا مقدما عليه, نحو قوله: ........................ وقد خاب من كانت سريرته الغدر

فلو قلت ((كانت شمسا وجهك)) لم يجز, أو ((كانت الغدر سريرتك)) لم يجز. والمصنف لم يحرر القول فيما يؤنث فعله من مذكر أخبر بمؤنث عنه, فلم يقل بقول البصريين ولا بقول الكوفيين. قوله أو مضاف إليه مقدر الحذف أي: أو مذكر مضاف إلى مؤنث, مثاله ما أنشد المصنف من قول الشاعر/: مشين كما اهتزت رماح, تسفهت أعاليها مر الرياح النواسم وأنشد الفراء: قد صرح السير عن كتمان وابتذلت وقع المحاجن بالمهرية الذقن أنت فعل الوقع- وهو ذكر- لأنه ذهب إلى المحاجن, وألحق التاء تسفهت- وهو مسند إلى مر- لأن مرا مضاف إلى مؤنث, ويستقيم الكلام بحذفه, فلو لم يستقم الكلام بالحذف لم يجز إلحاق التاء, نحو: قام غلام هند. وأعلم أن المؤنث له الفعل من المذكر المضاف إلى المؤنث أقسام: أحدها: أن يكون بعض مؤنث, وهو مؤنث في المعنى, كقوله} تَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ {في قراءة من قرأ بالتاء, وقول العرب: قطعت بعض أصابعه,

وقول الشاعر: إذا بعض السنين تعرقتنا ................................. فبعض السنين سنون, وبعض السيارة سيارة, وبعض الأصابع أصابع. الثاني: أن يكون بعض مؤنث, ولا يكون مؤنثا في المعنى, مثاله قول الشاعر: وتشرق بالقول الذي قد أذعته كما شرقت صدر القناة من الدم وقول الآخر: لما أتى خبر الزبير تواضعت سور المدينة والجبال الخشع وقول الآخر: على قبضة موجوءة ظهر كفه فلا المرء مستحي, ولا هو طاعم وقولك: جدعت أنف هند. الثالث: أن يكون ليس مؤنثا في المعنى ولا بعض مؤنث, لكنه شارك القسمين قبله في أنه يجوز أن يحذف, وتلفظ بالمؤنث, وأنت تريده, ومنه

البيت الذي أنشده المصنف، وقولهم: اجتمعت أهل اليمامة؛ لأنك تقول: تسفهت أعاليها الرياح، تريد: مرها، واجتمعت اليمامة، تريد: أهلها، لا اجتماع الأبنية، وقال تعالى {إن تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ}، أنث المثقال لأنه لو أسقط يصح، فصار المثقال كاللغو، كما صار "أهل" كأنه لغو. ومثال قوله: .................... تسفهت ... أعاليها مر الرياح .................. قول الشاعر: طول السنين أسرعت في نقضي لأنك تقول: السنون أسرعت، وأنت تريد: طولها. وقد يتأول "مر الرياح"، و"طول السنين" على أنه مصدر، أريد به اسم الفاعل، أي: مار الرياح، وطويل السنين، فيصير من باب "رجل عدل" /للمبالغة. أو على حذف مضاف، أي: صاحب المر من الرياح، وذو الطول من السنين، فيكون من باب {تَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ}؛ لأن مار الرياح رياح، وطويل السنين سنون، ويكون إذ ذاك تأنيثه أسهل من تأنيث: اجتمعت أهل اليمامة. فلو كان المضاف إذا حذف لم يجز أن يكون مرادًا إذ لا دليل على حذفه البتة لم يجز تأنيثه، كقولك: قُطعت رأس هند؛ لأنك لو قلت "قُطعت هند" لم يفهم منه: قُطعت رأس هند، ولم يرد به ذلك.

وزاد الفارسي قسمًا رابعًا، وهو أن يكون المذكر المضاف إلى المؤنث هو كل المؤنث، نحو ما انشده س في باب "هذا أول فارس مقبل": ولهت عليه كل معصفة ... هوجاء، ليس للبها زبر هوجاء: صفة لـ"كل"، نص عليه س. ومن ذلك قول الآخر: جادت عليه كل عين ثرة ... فتركن كل حديقة كالدرهم وقال تعالى {ووُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ}. وزاد بعض أصحابنا تأنيث المذكر إذا كان فيه علامة تأنيث، فتقول قامت عشرةٌ، وعلى هذا جاء قوله: أبوك خليفةٌ، ولدته أخرى ... وأنت خليفةٌ، ذاك الكمال وعلى ذلك قول الآخر:

وعنترة الفلحاء جاء ملأمًا ... كأنه فندٌ، من عماية، أسود قال: الفلحاء، ولم يقل الأفلح. وقد أطلق النحويون في المؤنث الذي أضيف إليه مذكر مما يجوز تأنيثه لأجل تأنيث ما أضيف إليه، فظاهر هذا الإطلاق أنه يجوز ذلك سواء أكان المضاف إليه ظاهرًا أم مضمرًا، فعلى إطلاقهم يجوز: الأصابع قطعت بعضها؛ لأن الضمير مؤنث. وقال الفراء: "ومن استجاز قول الشاعر: ................................ ... كما شرقت صدر القناة من الدم لم يجز أن يقول (شرقت صدرها) إذا كنى عنها، وكذلك فافعل بكل ما كنيت عنه. وإنما منعهم من استجازته في الإضافة إذا كنوا عنه لأن المكني لا يفرد مما قبله، فيتوهم بالأول أنه قد سقط، واعتمد على الثاني ظاهرًا؛ ألا ترى أن العرب تقول: لك نصف وربع الدرهم، ولا يقولون: لك نصف وربعه؛ للكناية، وكذلك قال الشاعر: يا من رأى عارضًا يكفكفه ... بين ذراعي وجبهة الأسد ومحال أن يقول: بين ذراعي وجبهته. وقال الأعشى:

/ ...... إلا علالة أو بدا ... هة سابح نهد الجزارة ولو كنى لم يجز" انتهى. وقوله تاء ساكنة هذه التاء مختصة بالماضي وضعًا؛ لأن الأمر مستغن بالياء نحو اضربي، ولأن المضارع المخاطب كذلك، نحو تفعلين، والغائبة والغائبتين بتاء المضارعة. ولحقت الفعل، وكان حقها ألا تلحقه؛ لأن المعنى الذي جاءت له ليس للفعل، بل هو في الفاعل، وهو التأنيث، لكنه لاتصاله كجزء منه، فجعلت الدلالة على التأنيث فيه، ولأن تأنيث الفاعل غير موثوق به لجواز اشتراك المذكر والمؤنث في لفظ واحد، نحو ربعة وصبور، ولأن المؤنث قد يسمى بمذكر، والعكس، فاحتاطت العرب في الدلالة على تأنيث الفاعل بوصل الفعل بالتاء ليعلم تأنيث الفاعل أو ما جرى مجراه من أول وهلة، نحو: طهرت الجنب، وكانت الربعة حائضًا، وشنئت الهمزة. وهذا الفرق بين المذكر والمؤنث في الإخبار لا يكون في أكثر الألسن، فلا يوجد ذلك في لسان الفرس ولا لسان الترك، بل المذكر والمؤنث في ذلك سواء، ويتكلون على القرائن من غير دلالة لفظية على ذلك. وهذا من أحسن ما يعتذر به عن التذكير في قوله تعالى {فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي}، فأشار بلفظ المذكر لأنه حكى قول إبراهيم، ولم يكن في لسانه فرق بين المذكر والمؤنث، فحكى قوله على لغته، والله أعلم. وقد وافق لسان الحبشة لسان العرب في إلحاق تاء التأنيث الفعل الماضي عندهم دلالةً على المؤنث، قالوا: محط، في معنى ضرب، فإذا أسندوه إلى

مؤنث قالوا: محطت. وكذا لسان اليخمور، وقع فيه الفرق بين المذكر والمؤنث في الفعل الماضي، لكن بحرف غير التاء. وقوله ولا تحذف غالبًا إن كان ضميرًا متصلًا مطلقًا، أو ظاهرًا متصلًا حقيقي التأنيث مثاله: هند قامت، والشمس طلعت. واحترز بقوله "ضميرًا متصلًا" من أن يكون منفصلًا، نحو: ما قام إلا أنتِ. واحترز بقوله "ظاهرًا متصلًا" من أن يكون قد فصل بينهما، نحو قوله: إن امرأً، غره منكن واحدةٌ ... بعدي وبعدك في الدنيا لمغرور وقال آخر: لقد ولد الأخيطل أم سوءٍ ... على باب استها صلبٌ وشام وحكى س: "حضر القاضي اليوم امرأة"، وقال: "إذا طال الكلام كان الحذف أجمل". واحترز بقوله "حقيقي التأنيث" من أن يكون التأنيث مجازًا، نحو: طلعت الشمس، /وطلع الشمس، قال تعالى {ومَا كَانَ صَلاتُهُمْ عِندَ البَيْتِ}، وقال {كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ}، وقال {وجُمِعَ الشَّمْسُ والْقَمَرُ}.

واحترز بقوله "غالبًا" من قولهم: قال فلانة، حكاه س، ورده المبرد، وأجازه الأخفش والرماني، قال المصنف: "وعلى هذه اللغة جاء قول لبيد: تمنى ابنتاي أن يعيش أبوهما ... وهل أنا إلا من ربيعة أو مضر لأن الإسناد إلى المثنى كالإسناد إلى المفرد بلا خلاف" انتهى. وما ذكره لا حجة فيه وإن كان الحكم الذي ذكره صحيحًا، وهو أن المثنى من المؤنث حكمه حكم المفرد من المؤنث؛ لأنه يحتمل أن يكون "تمنى" فعلًا مضارعًا لا ماضيًا، وأصله تتمنى، فحذف التاء على حد قولهم: تذكر هند، أي: تتذكر. واحترز بقوله "غالبًا" أيضًا مما حذفت منه التاء مع الضمير المتصل، نحو قول الشاعر: فلا مزنةٌ ودقت ودقها ... ولا أرض أبقل إبقالها وقول الآخر: فإما تريني، ولي لمةٌ ... فإن الحوادث أودى بها وقول الآخر: إن السماحة والمروءة ضمنا ... قبرًا بمرو على الطريق اللائح

وهذه ضرورة، والفصيح: أبقلت، وأودت، وضمنتا. وقد تأول بعض النحويين "ولا أرض" على: ولا مكان، و"الحوادث" على: الحدثان، كما أنثوا الحدثان حملًا على الحوادث، قال: وحمال المئين إذا ألمت ... بنا الحدثان والأنق النصور وقول المصنف "وعلى هذه اللغة جاء قول لبيد" أثبت أنها لغة وبعض أصحابنا جعل ما حكي س من قولهم "قال فلانة" شاذًا، ولا يجوز إلا حيث سمع، ولا يقاس عليه. وإن ثبت أنها لغة فينبغي أن يقاس وإن كان قليلًا. وأما قول الشاعر: ألا لا يغرن امرأً نوفليةٌ ... عن الرأس بعدي أو ترائب وضح فزعموا أن النوفلية ليست بامرأة، بل مشطة تعرف بذلك، فهو مؤنث غير حقيقي. وقوله غير مكسر مثاله الجواري والهنود، فيجوز فيه: قامت الجواري، وقام الجواري. وقوله ولا اسم جمعٍ -مثاله نوح- ولا جنس مثاله/ نسوة، فيجوز فيه:

قامت النوح، وقامت نسوة، ويجوز: قام النوح، وقام نسوة، قال تعالى {وقَالَ نِسْوَةٌ فِي المَدِينَةِ}. ويدخل في اسم الجنس فاعل نعم في نحو: نعم المرأة هند، يقول ذلك من لا يقول: قال فلانة. واندرج تحت قوله "أو ظاهرًا متصلًا حقيقي التأنيث" غير ما ذكر مثنى المؤنث، نحو: قامت الهندان، وجمع السلامة منه، نحو: قامت الهندات، هذا مذهب أهل البصرة. وذهب أهل الكوفة إلى أن حكمه حكم جمع التكسير منه، فيذكر على معنى "جمع"، ويؤنث على معنى "جماعة". واختاره أبو علي. واستدلوا على ذلك بقوله تعالى {إذَا جَاءَكُمُ المُؤْمِنَاتُ}، وبقول الشاعر: عشية قام النائحات، وشققت ... جيوبٌ بأيدي مأتمٍ وخدودٌ وقول الآخر: فبكى بناتي شجوهن وزوجتي ... والطامعون إلي، ثم تصدعوا ولا حجة في ذلك: أما الآية فأجاب الأستاذ أبو علي بأنه وقع الفصل بالضمير، فحسن حذف التاء. وأما "قام النائحات" فشذوذ، كقولهم: قال فلانة، أو روعي فيه الموصوف المحذوف، أي: قام النساء النائحات. وأما "فبكى بناتي" فلأنه لم يسلم فيه لفظ الواحد، فجرى مجرى جمع التكسير.

وقال المصنف في الشرح: "حكم التاء في تصحيح المؤنث حكمها في مفرده ومثناه، فلا يقال قام الهندات إلا على لغة من قال: قال فلانة؛ لأن لفظ الواحد في جمع التصحيح على الحال التي كان عليها في الإفراد والتثنية، فيتنزل قولك قامت الهندات منزلة قولك قامت هند وهند وهند، هذا هو الصحيح" انتهى. وهو موافق لقول أهل البصرة إلا في قوله "فلا يقال قام الهندات إلا على لغة من قال: قال فلانة". وقوله ولحاقها إلى قوله فبالعكس مثال الفصل بغير إلا: قامت اليوم هند، وقام اليوم هند، الأجود لحاق التاء. ومثال الفصل بإلا: ما قام إلا هند، وما قامت إلا هند، الأحسن عند المصنف ألا تلحق، ويجوز عنده أن تلحق. وفي هذه المسألة الثانية -وهي الفصل بإلا- خلاف: فالذي ذهب إليه أصحابنا أنه يلزم الحذف، ولا يجوز "ما قامت إلا هند" إلا في ضرورة الشعر، نحو قول الراجز: ما برئت من ريبة وذم ... في حربنا إلا بنات العم قال الأخفش: يقولون: ما جاءني إلا امرأة، فيذكرون حملًا على المعنى في "أحد"، ولا يؤنثون إلا في الشعر، نحو قوله: ............................... ... فما بقيت إلا الضلوع الجراشع

وحكمها مع جمع التكسير/ وشبهه وجمع المذكر بالألف والتاء حكمها مع الواحد المجازي التأنيث. وحكمها مع جمع التصحيح غير المذكور آنفًا حكمها مع واحده، وحكمها مع البنين والبنات حكمها مع الأبناء والإماء. ويساويها في اللزوم وعدمه تاء مضارع الغائبة، ونون التأنيث الحرفية. وقد تلحق الفعل المسند إلى ما ليس واحدًا من ظاهر أو مضمر منفصل علامة كضميره". ش: جمع التكسير يشمل المذكر والمؤنث، نحو الزيود والهنود. ويعني بقوله وشبهه اسم الجمع في المذكر والمؤنث، نحو قوم ونوح. ويعني بقوله وجمع المذكر بالألف والتاء ما كان عاقلًا كالطلحات، وغير عاقل كحسامات ودريهمات. فهذه الثلاثة الأصناف يجوز أن تلحق التاء في فعله، ويجوز ألا تلحق، ومن ذلك قوله تعالى {كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ}، و {لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِّن قَوْمٍ}، {وكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ}. وقوله وحكمها مع جمع التصحيح غير المذكور آنفا أي: غير جمع المذكر بالألف والتاء، وهو ما جمع بالواو والنون، أو بالألف والتاء مع المؤنث، نحو الزيدون، والهندات، حكمه حكم واحده، فكما تقول قام زيدٌ تقول قام الزيدون، وكما تقول قامت هند تقول قامت الهندات، وكما لا تقول فصيحًا قام هند لا تقول قام الهندات، وكما لا تقول قامت زيدٌ كذلك لا تقول قامت الزيدون؛ لأنه بمنزلة: قام زيدٌ وزيدٌ وزيدٌ. وأجاز الكوفيون: قامت الزيدون، أجروا جمع المذكر السالم بالواو والنون مجرى جمع التكسير منه، فكما تجوز التاء في جمع التكسير كذلك تجوز في هذا الجمع.

والصحيح أنه لا يجوز؛ إذ لم يسمع من كلامهم: قامت الزيدون، والقياس يأباه. وقوله وحكمها مع البنين والبنات وهذا يجوز فيه إلحاق التاء وعدم إلحاقها؛ لأنه لم يسلم فيهما بناء الواحد؛ ألا ترى أنه لو جمع على لفظ المفرد لكان ابنون وابنات، فلما لم يسلم فيه جرى مجرى التكسير لتغيير لفظ الواحد كما تغير جمع التكسير، وقال الشاعر: قالت بنو عامرٍ: خالوا بني أسدٍ ... يا بؤس للجهل ضرارًا لأقوام وقال الآخر: حتمه بنو الربداء من آل يامنٍ ... بأسيافهم حتى أقر وأوقرا وقوله ويساويها في اللزوم وعدمه تاء مضارع الغائبة، مثاله: تقوم هند، وتضطرم النار، ويضطرم النار، وتحضر القاضي امرأة، ويحضر القاضي امرأة، وتقوم الهندات، ويقوم الهندات، وما تقوم إلا هند، وما يقوم إلا/ هند. ومثل: .............................. ... ولا أرض أبقل إبقالها قوله: وهل يرجع التسليم أو يكشف العمى ... ثلاث الأثافي والرسوم البلاقع لأن أحدهما مسند إلى ثلاث، والآخر مسند إلى ضميره، وكلا الفعلين الرواية فيه بالياء، فلم تلحق علامة التأنيث، وهي التاء.

فأما قوله: فقلت لها: فيئي، فما يستفزني ... ذوات العيون والبنان المخضب فضرورة عند البصريين، أو على حذف الموصوف، أي: النساء ذوات. ومقيس عند الكوفيين، يجيزون: يقوم الهندات، كما أجازوا: قام الهندات. وجميع ما ذكرنا مما تجوز فيه التاء ولا تجب إذا فصل بين الفعل وبين ما أسند إليه بـ"إلا" لا تجوز فيه التاء اللاحقة للماضي ولا تاء المضارع، وما روي من قراءة أبي رجاء ومالك بن دينار {فَأَصْبَحُوا لا تُرَى إلاَّ مَسَاكِنُهُمْ}. بالتاء وضمها ورفع {مَسَاكِنُهُمْ} قراءة شاذة ضعيفة في العربية. وقوله ونون التأنيث الحرفية مثاله: خرجن أو يخرجن الهندات، كما تقول: تخرج الهندات، وخرجت الهندات، وانكسرن القدور، وينكسرن القدور، كما تقول: انكسرت القدور، وتنكسر القدور. قال المصنف: "ومن التزم التاء في قامت هند -وهي اللغة المشهورة- لا يستغنى في نحو قامت الهندات عن التاء والنون الحرفية" انتهى، فيقول: تقوم الهندات، أو يقمن الهندات، أو قمن الهندات. وهذه النون الحرفية فرع من فروع لغة "أكلوني البراغيث"، فكان ينبغي ذكرها معها. وقوله وقد تلحق ... إلى آخره اللغة المشهورة ألا تلحق هذه العلامة الفعل إذا أسند إلى ما ذكر، ومن العرب من يلحقه ألف التثنية وواو الجمع ونون

الإناث. والمختار أنها علامات كتاء التأنيث، تدل على تثنية الفاعل وجمعه كما دلت التاء على تأنيثه. وهذه اللغة يسميها النحويون لغة "أكلوني البراغيث". واختلف النحويون في تخريجها: فذهب بعضهم إلى أنها ضمائر، وأن ما بعدها بدل منها. وذهب بعضهم إلى أنها ضمائر، وما بعدها مبتدأ، وتلك الجملة السابقة في موضع الخبر. والصحيح ما قدمناه من أنها حروف دالة على التثنية والجمع؛ لنقل أئمة العربية واتفاقهم على أنها لغة لقوم من العرب مخصوصين، قال س: "واعلم أن من العرب من يقول: ضربوني قومك، وضرباني أخواك". وحكى اللغويون أن أصحاب هذه اللغة هي طيئ، يلتزمون العلامة أبدًا، ولا يفارقونها. وحكى أيضًا بعض الرواة أنها من لغة/ أزد شنوءة. ولو كان على ما زعم بعضهم من أنها ضمائر لما اختصت به طائفة من العرب دون باقيهم. وقوله من ظاهر مثال ما جاء من ذلك في التثنية في الفعل الماضي: "التقتا

حلقتا البطان"، وقول الشاعر: تولى قتال المارقين بنفسه ... وقد أسلماه مبعدٌ وحميم وقول الآخر: ألفيتا عيناك عند القفا ... أولى فأولى لك ذا واقيه وفي الحديث من كلام وائل بن حجر: "ووقعتا ركبتاه على الأرض". ومما جاء من ذلك فيها المضارع قول وائل بن حجر: "قبل أن تقعا كفاه". ومما جاء من ذلك الماضي في الجمع المذكر قول الشاعر: بني الأرض قد كانوا بني، فعزني ... عليهم لآجال المنايا كتابها ومما جاء من ذلك فيه المضارع قول الشاعر: يلومونني في اشتراء النخيـ ... ـيل أهلي، فكلهم ألوم

ومما جاء من ذلك الماضي في جمع المؤنث قوله: نتج الربيع محاسنًا ... ألقحنها غر السحائب وقول الآخر: رأين الغواني الشيب لاح بمفرقي ... فأعرضن عني بالخدود النواضر ومما جاء من ذلك المضارع قول الشاعر: ولكن ديافي أبوه وأمه ... بحوران، يعصرن السليط أقاربه فرع ملخص من كلام ابن هشام: لو فكت التثنية أو الجمع في الضرورة لم تلحق علامة التثنية ولا الجمع، وكذلك لو منه مانع من المتفقين في اللفظ والمعنى من التثنية أو الجمع كبقاء الاسمين أو الأسماء على علميتهما أو علميتها، وكذلك لو جيء باسمين مختلفين أو أسماء مختلفة، فلا يجوز: قاما رجلٌ ورجل، أو قاما زيدٌ وزيد، وهما باقيان على علميتهما، أو قاما زيدٌ وعمرو، وجاءوا زيدٌ وعمرو وبكر. ويستدل بهذا على فساد من ذهب إلى أنها ضمائر، وأن ما بعدها مرفوع بالابتداء؛ إذ لو كان كذلك لم تمتنع هذه المسائل، ولو رفع الضمير المثنى وهو قبله لجاز أن يرفع ضمير المفرد وهو قبله، وجاز أن ننوي في الفعل من قولنا قام زيدٌ ضميرًا على حد التأخير، فيكون زيدٌ مبتدأ. قال ابن هشام: "وهذا لم يقل به/ أحد علمناه" انتهى.

وما ذهب إليه من أنه إذا جيء باسمين مختلفين أو أسماء مختلفة، نحو: قاما زيدٌ وعمرو، وجاءوا زيدٌ وعمروٌ وبكر، لم تلحق علامة التثنية ولا الجمع -ليس بصحيح، والسماع يرد عليه، وهو ما تقدم لنا إنشاده من قول الشاعر: تولى قتال المارقين بنفسه ... وقد أسلماه مبعدٌ وحميم وقال آخر: ذريني للغنى أسعى، فإني ... رأيت الناس، شرهم الفقير وأهونهم وأحقرهم عليه ... وإن كانا له نسبٌ وخير فهذه العلامة قد لحقت، وجاء بعدها اسمان مختلفان. فرع: الصفة تجري في هذه اللغة مجرى الفعل، قال س: "قال الخليل: فإن ثنيت أو جمعت فإن الأحسن أن تقول: مررت برجلٍ قرشيان أبواه، وبرجلٍ كهلون أصحابه". قال الخليل: "من قال أكلوني البراغيث أجرى هذا على أوله، فقال: مررت برجلٍ حسنين أبواه، ومررت بقومٍ قرشيين آباؤهم. وكذلك أفعل، نحو أعور وأحمر، تقول: مررت برجلٍ أعور أبواه، وإن شئت قلت: برجلٍ أحمران أبواه، تجعله اسمًا. ومن قال أكلوني البراغيث قلت على حدٌ قوله: مررت برجلٍ أعورين أبواه" انتهى. ولم يأت في هذا التمثيل إلا نكرة، فإن عرفت الوصف بأل فهل يجري هذا الوصف على لغة أكلوني البراغيث مجراه نكرة، فيرفع الظاهر، فيه خلاف:

قال شيخنا الأستاذ أبو الحسن بن الضائع: كل صفة ترفع الاسم الظاهر فالأفصح فيها إلا تثنى ولا تجمع جمع السلامة، ويجوز أن تثنى وتجمع على لغة أكلوني البراغيث، فتقول: إن القائمين أبواهما كانتا منطلقتين جاريتاهما، وفي الجمع: إن القائمين آباؤهم كن منطلقاتٍ جواريهم. وقال ابن عصفور: ويجوز في مسألة أبي القاسم -يعني الزجاجي- إن القائم أبوه كان منطلقة جاريته، تثنية القائمة ومنطلقة وجمعهما على لغة من قال أكلوني البراغيث؛ لأن اسم الفاعل إذا رفع الظاهر كان حكمه حكم الفعل إذا رفع الظاهر، فتقول: إن القائمين أبواهما كانا منطلقتين جاريتاهما، وإن القائمين آباؤهم كانوا منطلقاتٍ جواريهم. وحكي عن ابن عصفور أيضًا أنه إذا عرف هذا الوصف بأل لم يرفع الظاهر في هذه اللغة. وكان علة ذلك -والله أعلم- أنه إذا عرف بأل لم يقع موقع الفعل لأن الفعل نكرة، وقد تقدم لنا في أوائل باب الابتداء أن الوصف الرافع ما يغني/ عن الخبر لا يجوز تعريفه، فتقول: أقائم الزيدان؟ ولا يجوز: القائم الزيدان؟ وهذه اللغة عند جمهور النحويين ضعيفة، وقد ذكرنا أنها لغة طيئ، وهي لغة أزد شنوءة، فلا تكون ضعيفة. وقوله أو مضمر منفصل مثاله: الزيدان ما قاما إلا هما، والزيدون ما قاموا إلا هم، والهندات ما قمن إلا هن. وقوله علامة كضميره تقدم الخلاف في ذلك، وأن الأصح أنها حروف علامة لتثنية الفاعل وجمعه، كما أن التاء علامة لتأنيث الفاعل.

وفي البسيط: "كونها حروفًا أقرب؛ لأنه إما أن يكون ما بعدها فاعلًا، ولا يكون؛ لأن الفعل لا يكون له فاعلان. أو بدلًا، ولا يكون؛ لأنه يقدر حذف وتنزيل شيء منزلة آخر لا يحتاج إليه، والأصل عدمه. والصحيح أنه يحتمل في هذا، ويلزم أن تجعل النون كذلك إذا قلت: قمن الهندات، ولا يكون؛ لأنه فاعل بدليل تغيير آخر الفعل، ولا يكون للعلامة كما في قامت وضربت" انتهى. ولا يلزم حصره في أن يكون ما بعد هذه العلامات فاعلًا أو بدلًا؛ لأنه قد قيل إنه مبتدأ. وقوله كضميره يعني أنها ألف تثنية، وواو جمع، ونون جمع، كالضمائر سواء، تطابق ما بعدها كما تطابق لو كانت ضمائر. وقال السهيلي: "ألفيت في كتب الحديث المروية الصحاح ما يدل على كثرة هذه اللغة وجودتها، نحو ما جاء من قول وائل بن حجر في سجود النبي -عليه السلام- (ووقعتا ركبتاه إلى الأرض قبل أن تقعا كفاه)، ونحو قوله (يخرجن العواتق وذوات الخدور)، ونحو (يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار)، أخرجه في الموطأ. فالألف والواو والنون حروف، لكني أقول في حديث الموطأ: الواو فيه علامة إضمار؛ لأنه حديث مختصر، رواه البزار مطولًا مجردًا، فقال فيه (إن لله ملائكة يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار)، فـ (ملائكة) على هذه الرواية بدل من الضمير في يتعاقبون. وفي آخره

(وتركناهم وهم يصلون، فاغفر لهم اللهم يوم الدين)، وليس هذا في حديث مالك، فدل على أنه مختصر من ذلك الحديث" انتهى كلام السهيلي. ودل على خلاف ما يذهب المصنف إليه في قوله (يتعاقبون فيكم ملائكةٌ) من أنه على لغة: أكلوني البراغيث، حتى قال: "وقد تكلم بها النبي -عليه السلام- فقال: (يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار) ". وعلى ما رواه البزار لا يكون النبي تكلم بها؛ لأن قبله (إن لله ملائكة يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار)، وكثيرًا ما يقول المصنف: على لغة يتعاقبون فيكم. -[ص: ويضمر جوازًا فعل الفاعل المشعر به ما قبله، والمجاب به نفي أو استفهام. ولا يحذف الفاعل إلا مع رافعه المدلول عليه/، ويرفع توهم الحذف إن خفي الفاعل جعله مصدرًا منويًا، أو نحو ذلك.]- ش: مثال ذلك قراءة ابن عامر وأبي بكر {يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ والآصَالِ رِجَالٌ}، التقدير: يسبح رجال، فحذف "يسبح" لدلالة "يسبح" عليه؛ إذ لا يجوز أن يرتفع "رجال" بـ"يسبح" المبني للمفعول. قال المصنف: "ولا يجوز هذا الاستعمال إلا فيما كان هكذا"، يعني ألا يلتبس بالمفعول الذي لم يسم فاعله. قال: "فلو قيل: يوعظ في المسجد رجال، على معنى: يعظ رجالٌ -لم يجز لصلاحية إسناد يوعظ إليهم، فلو قيل: يوعظ في المسجد رجالٌ زيدٌ جاز لعدم اللبس". قال المصنف: "ومن الجائز لعدم

اللبس قول الشاعر: لبيك يزيد ضارعٌ لخصومةٍ ... ومختبطٌ مما تطيح الطوائح ومثله قول الآخر: حمامة بطن الواديين، ترنمي ... سقيت من الغر الغوادي مطيرها هكذا رواه الحفاظ، ومن قال (سقاك) فتاركٌ للرواية وآخذ بالرأي. ومن إضمار فعل الفاعل لكون ما قبله يشعر به قول الشاعر: أرى الأيام لا تبقي كريمًا ... ولا العصم الأوابد والنعاما ولا علجان، ينتابان روضًا ... نضيرًا نبته، عمًا، تؤاما" وهذا الذي ذهب إليه المصنف في هذه الأبيات لا يتعين: أما البيت الأول فيمكن أن يكون المفعول الذي لم يسم فاعله هو ضارع، ويكون يزيد منادى، أي: لبيك ضارعٌ -يا زيد- بفقدك، فإنه يصير كالمفقود الذي ينبغي أن يبكى إذ لا يجد مثلك، فلا يكون يزيد هو المفعول الذي لم يسم فاعله، وضارعٌ فاعلًا، تقديره: يبكيه ضارعٌ. وأما الثاني فيمكن أن يكون مطيرها بدلًا من الضمير المستكن في الغوادي إذ فيه ضمير يعود على الغر، أي: البواكي هي مطيرها، ولا يكون مطيرها فاعلًا بفعل محذوف، التقدير: يسقيها مطيرها.

وأما الثالث فيمكن أن يكون "ولا علجان" منصوبًا معطوفًا على المنصوب قبله، ويكون ذلك على لغة من يجري المثنى بالألف رفعًا ونصبًا وجرًا، وهي لغة طوائف من العرب، منهم بنو الحارث بن كعب. وأما قول المصنف "إن ذلك جائز إذا عدم اللبس" فالذي عليه جمهور النحويين أن مثل هذا لا يقاس. وذهب بعضهم إلى القياس فيه، وهو مذهب الجرمي وابن جني، فيجوز عندهم: أكل الطعام زيدٌ، وشرب الماء عمروٌ، وأوقد النار محمدٌ. وفي البسيط: فأما في الخبر -يعني إذا كان الفعل خبرًا- فإنه يجوز، يعني إضماره. قال: بشرط، وهو إذا كان في الكلام ما يدل عليه بأن يذكر فعل/ من معناه أو من لفظه ومعناه. وذكر آيتي التسبيح والتزيين، وقول الشاعر: "لبيك. البيت". وقوله: أسقى الإله عدوات الوادي ... وجوفه كل ملث غادي كل أجش حالك السواد

يريد: سقاها كل أجش، وكذا: زيدٌ، جواب: من ضرب؟ أي: ضرب زيدٌ. انتهى، وفيه تلخيص. وأجاز بعض النحويين: زيدٌ عمرًا، بمعنى: ليضرب زيدٌ عمرًا، إذا كان ثم دليل على إضمار الفعل، ولم يلبس. وقد منع س ذلك وإن لم يلبس؛ لأن إضمار فعل الغائب هو على طريق التبليغ، وإضماره يستدعي إضمار فعل آخر؛ لأن المعنى: قل له ليضرب، فكثر الإضمار، فرفضت. ولا يتعين ما قدره المصنف ولا غيره من أن {رِجَالٌ} مرفوع بـ {يُسَبِّحُ} مضمرة لدلالة {يُسَبِّحُ} عليه؛ لأنه يجوز أن يكون {رِجَالٌ} خبر مبتدأ محذوف، تقديره: المسبح رجالٌ، يدل عليه {يُسَبِّحُ لَهُ}. وفي البسيط: "ويجوز فيها أن تكون على تقدير ابتداء نزل على استفهام مقدرٌ فيما كان فيه إبهام، نحو قولك: لبيك زيد ............................ ... ...................................... فقيل: من الباكي؟ فقيل: الباكي ضارعٌ لخصومة. والمزين شركاؤهم، كما تقول: ألا رجل إما زيدٌ وإما عمرو. قال س: (كأنه قيل: من هذا المتمني؟ فقال: زيدٌ أو عمرو)، فكذلك تلك" انتهى. وقد خرج بعض النحويين قراءة من قرأ {وكَذَلِكَ زُيِّنَ لِكَثِيرٍ مِّنَ المُشْرِكِينَ قَتْلُ أَوْلادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ} مبنيًا للمفعول على إضمار فعل، تقديره: زينه شركاؤهم. ولا يتعين هذا التخريج إذ يمكن أن يكون ارتفاع {شُرَكَاؤُهُمْ}

على أنه فاعل بالمصدر، أي: أن قتل أولادهم شركاؤهم. قال بعضهم: والتخريج الأول أولى لأمرين: أحدهما: أن المصدر لا يضاف إلى المفعول مع وجود الفاعل إلا في قليل. والآخر: أن الشركاء ليسوا بقاتلين، إنما هم مزينون. ويدل على ذلك القراءة الثانية، وهي قراءة {زَيَّنَ} بفتح الزاي، ولا يكون الشركاء قاتلين إلا بمجاز. قال المصنف في الشرح: "ومثله: غداة أحلت لابن أصرم طعنةٌ ... حصينٍ عبيطات السدائف والخمر والخمر فاعل حلت مضمرًا لإشعار أحلت به" انتهى. واتبع المصنف في هذا البيت قول الزجاجي، قال الزجاجي في (الجمل): "ومنهم من يرويه برفع الطعنة ونصب العبيطات". وليس ذلك برواية، وإنما هو إصلاح من الكسائي، وذلك أن يونس بن حبيب سأل الكسائي عن إنشاد هذا البيت، فأنشده برفع/ الطعنة ونصب العبيطات، فقال له يونس: علام ترفع الخمر؟ فقال: على الاستئناف والقطع، فقال له: ما أحسن ما قلت لولا أن الفرزدق أنشدنيه مقلوبًا. يعني يونس أنه أنشده بنصب طعنة ورفع عبيطات السدائف، فيكون والخمر معطوفًا على عبيطات، فلا يكون مرفوعًا على فعل محذوف. ومعنى القلب هو أن جعل العبيطات والخمر هي التي أحلت طعنة، وفي الحقيقة الطعنة هي التي أحلت له أكل العبيطات وشرب الخمر.

قال المصنف في الشرح: "ومثله قول الشاعر: ولم تبق ألواء الثماني بقيةً ... من الرطب إلا بطن وادٍ وحاجر أنشده أبو علي في التذكرة، وقال: رفع على معنى: بقي بطن وادٍ وحاجرٌ" انتهى. ومثله قول الآخر: وعض زمانٍ -يا بن مروان- لم يدع ... من المال إلا مسحتًا، أو مجلف في رواية من روى "يدع" بفتح الدال، وجعل معناه: لم يبق إلا مسحتًا، ويرتفع مجلف على إضمار فعل، تقديره: أو بقي مجلف، على أحسن التأويلات الخمس في رفع مجلف. وقوله والمجاب به نفي مثاله قولك: بلى زيدٌ، لمن قال: ما جاء أحدٌ، التقدير: بلى جاء زيدٌ. ومثله قول الشاعر: تجلدت حتى قيل: لم يعر قلبه ... من الوجد شيءٌ قلت: بل أعظم الوجد أي: بل عراه أعظم الوجد.

وقوله أو استفهام مثاله قولك: زيدٌ، لمن قال: هل جاء أحدٌ؟ ومثله قول الشاعر: ألا هل أتى أم الحويرث مرسلي ... نعم، خالدٌ، إن لم تعقه العوائق أي: أتاها خالد. قال المصنف في الشرح: "فمثل هذا لا يرتاب في أن المجاب به مرفوع بفعلٍ مقدر؛ لأنه جواب جملةٍ قدم فيها الفعل، وحق الجواب أن يشاكل ما هو جوابٌ له". ثم قال المصنف بعد ذلك: "والحكم بالابتداء على الاسم المجاب به نفيٌ أو استفهام غير ممتنع؛ لأن مشاكلة الجواب لما هو جوابٌ في اللفظ غير لازمة، بل قد يكتفى فيه بمراعاة المعنى، ومنه قراءة غير أبي عمرو في السبعة {سَيَقُولُونَ لِلَّهِ} جوابًا لقوله {مَن رَّبُّ السَّمَوَاتِ} و {مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ} " انتهى. فقد ناقض قوله "لا يرتاب أن المجاب به مرفوع بفعل مقدر" إذ قد أجاز فيه الابتداء. قال المصنف في الشرح: "فإن كانت جملة الاستفهام مؤخرًا فيها الفعل فحق المجاب من جهة القياس أن يؤخر فيه الفعل لتتشاكل الجملتان لولا أن/ الاستعمال بخلافه، فلا يجيء مكملًا إلا والفعل فيه مقدم على الاسم، نحو {ولَئِن

سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ والأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ العَزِيزُ العَلِيمُ}، {مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ}، {مَن يُحْيِي العِظَامَ وهِيَ رَمِيمٌ قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا}. وينبغي إذا اقتصر في الجواب على الاسم أن يقدر الفعل متقدمًا؛ لأن المكمل أصل والمختصر فرع، فيسلك بالفرع سبيل الأصل، ولأن موافقة العرب بتقدير تقديم الفعل متيقنة، وموافقتهم بتقدير تأخيره مشكوك فيها، فلا عدول عن تقدير التقديم. ولما جرى به الاستعمال من تقديم الفعل في الجواب المكمل وجه من النظر، وهو أن حق الجملة الاستفهامية إذا كان فيها فعل أن يقدم؛ لأنه بمباشرة الاستفهام أولى من الاسم، فلما لم يمكن ذلك في نحو (من فعل) لاتحاد المستفهم به والمستفهم عنه جيء بالجواب مقدمًا فيه الفعل تنبيهًا على أن أصل ما هو له جواب أن يكون كذلك" انتهى. وقوله ولا يحذف الفاعل إلا مع رافعه المدلول عليه مثال ذلك قولك: زيدًا، جوابًا لمن قال: من أكرمُ؟ والتقدير: أكرم زيدًا، فحذف الفاعل مع الفعل. واعتل المصنف في الشرح لامتناع حذف الفاعل وحده بأنه "كعجز المركب في الامتزاج بمتلوه، ولزوم تأخره، وكونه كالصلة في عدم تأثره بعامل متلوه، وكالمضاف إليه في أنه معتمد البيان". قال: "بخلاف خبر المبتدأ،

فإنه مباين لعجز المركب وللصلة والمضاف إليه فيما ذكر؛ لأنه غير ممتزج بمتلوه، ولا لازم التأخر، ويتأثر بعامل متلوه، وهو معتمد الفائدة لا معتمد البيان. وأيضًا فإن من الفاعل ما يستتر، فلو حذف في بعض المواضع لالتبس الحذف بالاستتار، والخبر لا يستتر، فإذا حذف لدليل أمن التباس كونه مستترًا" انتهى كلامه. وما ذكره فيه خلافٌ، وإطلاق في موضع التقييد: أما الخلاف فذهب الكسائي إلى جواز حذف الفاعل وحده دون فعله لدلالة المعنى عليه، ومذهبه مشهور في ذلك في باب الإعمال في نحو: ضربني وضربت الزيدين، وسيأتي ذلك في بابه، ورجحه السهيلي، وابن مضاء من أصحابنا، ودليله هناك مذكور. وأجاز الكسائي حذفه في غير ذلك، واحتج له بأن حذف الاختصار لا يخرج الكلام إلى غير الإفادة، فكان كالمفعول، ولأن الاختصار يكون في المتلازمين كالمبتدأ والخبر، فكذلك هنا. وقول المانعين "إنه كالجزء منه" إن عنوا ذلك من جهة المعنى فمنقوض بالمصدر، أو من جهة اللفظ فقد يحذف من اللفظ الواحد بعضه للخفة. واستدل عليه بقول الشاعر/: فإن كان لا يرضيك حتى تردني ... إلى قطري لا إخالك راضيا ففاعل "يرضيك" محذوف، تقديره: لا يرضيك شيء. قالوا: ولا حجة فيه لاحتمال أن يكون أضمر لدلالة يرضي عليه، كأنه

قال: لا يرضيك مرضٍ، أو لأنه قد علم على ما يعود، كأنه قال: لا يرضيك هو، أي: شيء. قالوا: وإنما لم يجز حذف الفاعل لأنه إن حذف اقتصارًا لم يكن كلامًا، ولا يفيد لأنه لفظ مفرد، أو اختصارًا لم يجز؛ لأن العرب قد جعلته مع الفعل بمنزلة شيء واحد بدليل إسكانهم آخر الفعل له في ضربت. وأما الإطلاق في مكان التقييد فإنه كان ينبغي أن يقيد ويقول: "ما لم يكن الرافع مصدرًا ينحل بحرف مصدري والفعل"، فإنه إذ ذاك يجوز حذف الفاعل وحده دون رافعه، نحو قوله {أَوْ إطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ يَتِيمًا}. وأما حذفه في باب المفعول الذي لم يسم فاعله فإن الفعل يغير للمفعول الذي لم يسم فاعله، فلم يبق على صيغته التي كان لها وهو مبنيٌّ للفاعل، فلا يرد ذلك على المصنف. وقوله ويرفع توهم الحذف ... إلى آخره قال المصنف: "إذا توهم حذف فاعل فعل موجود فلا سبيل إلى الحكم بحذفه، بل يقدر إسناده إلى مدلولٍ عليه من اللفظ والمعنى، كقول الشاعر: تمشي تبختر حول البيت منتخيًا ... لو كنت عمرو بن عبد الله لم يزد

أي: لم يزد انتخاؤك" انتهى. وفي نسخة أخرى من شرح المصنف: "كذا قال الفارسي" انتهى. ولا حجة فيما ذكر، وليس البيت مما ذكر، بل الفاعل مضمر في "يزد" عائدًا على عمرو بن عبد الله، وذلك أن عمرو بن عبد الله اسم غائب، وقد أخبر به عن مخاطب، فيجوز فيما بعده أن تراعي المخاطب فيعود الضمير مخاطبًا، نحو: لو كنت أخا زيدٍ لصنعت كذا. ويجوز أن تراعي الاسم الغائب فيعود الضمير غائبًا، نحو: لو كنت أخا زيدٍ لصنع كذا. وهذا البيت من هذا القسم الأخير، وتقديره: لم يزد -أي: عمرو بن عبد الله- على انتخائك. قال المصنف: "وكقوله تعالى {ثُمَّ بَدَا لَهُم مِّنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ}. قيل: إن المعنى: بدا لهم بداء، كما قال: ................................. ... بدا لك من تلك القلوس بداء أي: ظهر لك فيها رأي. ولا يجوز مثل هذا الإسناد إلى مصدر الفعل حتى يشعر برأي، مثل ظهر وبان وتبين، أو يكون الفعل فعل استثناء، كقاموا عدا زيدًا، وخلا عمرًا، وحاشا بكرًا، أي: جاوز قيامهم زيدًا" انتهى. فأما الآية فظهر لي فيها تخريج حسن واضح سهل، وهو أن يكون الفاعل في {بَدَا} ضميرًا مستكنًا عائدًا على المصدر المفهوم من قوله {ولَئِن لَّمْ يَفْعَلْ مَا

آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ ولَيَكُونًا مِّنَ الصَّاغِرِينَ}، ويدل عليه/ أيضًا قوله {قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إلَيَّ}. وأما من قرأ {السَّجْنُ} بفتح السين على أنه مصدر فقد اتضح عود الضمير عليه. وأما قوله "أو يكون الفعل فعل استثناء" فهذا لم يذهب إليه أحد فيما علمناه، وإنما الفاعل عند النحويين لفعل الاستثناء ضمير مفرد يعود على البعض المفهوم من المعنى، أي: قام القوم حاشا هو -أي: بعضهم- زيدًا، وكذلك باقيها. وقد كان ظهر لي ما قاله المصنف، وأمليته في بعض كتبي القديمة، ولم أجد أحدًا يقوله، فأعرضت عنه. قال المصنف في الشرح: "ومن الإسناد إلى مدلولٍ عليه قول الشاعر: أقول إذا ما الطير مرت مخيلةً ... لعلك يومًا- فانتظر- أن تنالها أؤدرك من أم الحويرث غبطةً ... بها خبرتني الطير أم قد أنى لها أي: قد أنى لها ألا تدرك؛ لأن ذكر أم بعد الهمزة التي وليها أحد الضدين مشعر بأن ثانيهما مراد، وهذا شبيه بقوله تعالى {ومَا يُعَمَّرُ مِن مُّعَمَّرٍ ولا يُنقَصُ مِنْ عُمُرِهِ}؛ لأن ذكر المعمر مشعر بمقابله، وهو القصير العمر، فأعيدت هاء {عُمُرِهِ} إليه، ولم يذكر لإشعار مقابله به" انتهى.

فأما "أؤدرك. البيت" فإنه لا يتعين ما ذكر؛ إذ قد يحتمل ألا تكون أم معادلة للهمزة، بل تكون أم منقطعة بمعنى بل والهمزة، ويكون الفاعل بقوله أنى ضميرًا عائدًا على المصدر المفهوم من قوله أدرك، وكأنه استفهم أولًا، هل يدرك منها غبطة، ثم أضرب عن ذلك، واستفهم ثانيًا، هل قرب إدراكه لتلك الغبطة. وأما قوله "وهذا شبيه بقوله تعالى {وَمَا يُعَمَّرُ مِن مُّعَمَّرٍ} " فإنه جعل الضمير في قوله {وَلا يُنقَصُ مِنْ عُمُرِهِ} عائدًا على القصير العمر لفظًا ومعنى، ودل عليه مقابله، وهو {مِن مُّعَمَّرٍ}. والنحويون يقولون في مثل هذا إن الضمير عائد على {مِن مُّعَمَّرٍ} لفظًا دون معنى، نحو قولهم: له عندي درهم ونصفه، فالهاء في "ونصفه" عائد على درهم، والمراد به من حيث المعنى: ونصف درهم آخر، فهو عندهم عائد عليه لفظًا لا معنى، والمصنف جعله عائدًا على القصير العمر لفظًا ومعنى، ومتى دار الضمير بين أن يعود على شيء لفظًا دون معنى [وأن يعود على شيء لم يذكر] كان [أن يعود على شيء لفظًا دون معنى] أولى من أن يعود على شيء لم يذكر البتة. قال المصنف في الشرح: "ومثله قول الآخر: وما أدري إذا يممت أرضًا أريد الخير أيهما يليني فثنى الضمير قاصدًا للخير والشر، ولم يجر إلا ذكر أحدهما، ولكن الإشعار بما لم يذكر بمنزلة ذكره" انتهى. وهذا عندنا مما حذف منه الجملة المعطوفة/ لدلالة المعنى عليها، والتقدير: أريد الخير، وأجتنب الشر، فعاد الضمير على الخير والشر، وحذف الجملة

لدلالة المعنى كثير، كقوله تعالى {أَنِ اضْرِب بِّعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانفَلَقَ}، التقدير: فضرب فانفلق. وهذا الذي ذكره المصنف تكثير واستطراد تكثير واستطراد لغير ما عقد له أصل المسألة، ويقع في ذلك النزاع، فلا حاجة في ذكره. قال المصنف في الشرح: "ومن الإسناد إلى مدلول عليه قول بعض العرب: إذا كان غدًا فأتني، أي: إذا كان غدًا ما نحن عليه الآن من الوعد في غد فأتني، ومثله قول الشاعر: فإن كان لا يرضيك حتى تردني إلى قطري لا إخالك راضيًا أي: إن كان لا يرضيك ما تشاهده مني. ومن الفاعل المؤول قوله تعالى {وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ}، ففاعل {تَبَيَّنَ} مضمون {كَيْفَ فَعَلْنَا}، كأنه قيل: وتبين لكم كيفية فعلنا بهم. وجاز الإسناد في هذا الباب باعتبار التأويل، كما جاز في باب الابتداء، نحو {سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ}، فإنه أول بـ (سواء عليهم الإنذار وعدمه)، بل كما جاز في هذا الباب أن يقال: ما ضر تعلب وائل أهجوتها ...................................... ومثل {وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ}، {أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا}

على تأويل: أولم يهد لهم كثرة إهلاكنا" انتهى. وهذا الذي ذهب إليه المصنف - وهو أن يُسبك من الجملة المصدرة بـ"كم" اسم يكون في موضع الفاعل - هو مذهب بعض الكوفيين. وأما أصحابنا فإنهم خرجوا قوله تعالى {أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا} على أن فاعل يهدي مضمر، يعود على المصدر المفهوم من الفعل، وساغ ذلك لأن الهداية قد تستعمل استعمال الدلالة التي يراد بها الحجة والبرهان، وكأنه قال: أو لم يتبين لهم حجتنا، ويكون {كَمْ أَهْلَكْنَا} في موضع نصب بما دل عليه قوله {أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ} لأنه بمنزلة: أو لم يعلموا، فحمله على ذلك. ولا يكون الفاعل عند البصريين إلا صريح الاسام أو المقدر به من أن أو أن أو ما المصدريات فقط، كما قد بيناه في باب الفاعل. قال المصنف في الشرح: " ومن الإسناد إلى مدلول عليه قوله تعالى {إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا}، ففاعل {أَخْرَجَ} ضمير الواقع في البحر الموصوف، ولم يجر له ذكر، ولكن سياق الكلام يدل عليه" انتهى. وهذا ليس كما ذكر، بل هو يعود على محذوف مضاف إلى {ظُلُمَاتِ}، التقدير: أو كذي ظلمات، فحذف "ذي" لدلالة المعنى. قال المصنف في الشرح: "ومثله قول النبي - صلى الله عليه وسلم - (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن)،

ففاعل (يشرب) غير مذكور، لكنه/ مفهوم، كأنه قيل: ولا يشرب الخمر شاربها. وقد يغني عن الفاعل استحضاره في الذهن بذكر فعل ناصب لما لا يصلح إلا له، كقول الشاعر: لقد علم الضيف والمرملون إذا أغبر أفق، وهبت شمالا فأغني عن إظهار الريح استحضارها في الذهن بـ (هبت) ونصبه شمالًا على الحال، فكان ذلك بمنزلة التصريح بالريح. ومثله قول الآخر: وأكرم الضيف والجار القريب إذا هبت شامية، واشتدت القرر فنصب شامية، وأضمر الريح. وإلى هذه المواضع وأشباهها أشرت بقولي: ويرفع توهم الحذف إن خفي الفاعل جعله مصدرًا منويًا ونحو ذلك".

باب النائب عن الفاعل

-[ص: باب النائب عن الفاعل قد يترك الفاعل لغرض لفظي أو معنوي جوازًا أو وجوبًا، فينوب عنه جاريًا مجراه في كل ما له: مفعول به، أو جار ومجرور، أو مصدر لغير مجرد التوكيد ملفوظ به أو مدلول عليه بغير العامل، أو ظرف مختص متصرف، وفي نيابته غير متصرف أو غير ملفوظ به خلاف.]- ش: هذا الاصطلاح في باب المفعول الذي لم يسم فاعله بالنائب لم أراه لغير هذا المصنف، وإنما عبارة النحويين فيه أن يقولوا: باب المفعول الذي لم يسم فاعله، ولا مشاحة في الاصطلاح. وحد هذا المفعول الذي لم يسم فاعله هو حد الفاعل، إلا أنه يقول مكان "غير مصوغ للمفعول": مصوغ للمفعول. والغرض اللفظي الإيجاز، نحو {وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ}. وموافقة المسبوق للسابق كقول بعض الفصحاء: من طابت سريرته حمدت سيرته. وإصلاح النظم كقول الأعشى: علقتها عرضًا، وعلقت رجلًا غيري، وعلق أخرى ذلك الرجل وقول عنترة: فإذا شربت فإنني مستهلك مالي، وعرضي وافر، لم يكلم والغرض المعنوي كون الفاعل معلومًا، نحو قوله {وَخُلِقَ الإِنسَانُ

ضَعِيفاً}، ونحو {ضُرِبَ مَثَلٌ}، و"نصرت بالرعب"، و "نصرت بالصبا، وأهلكت عاد بالدبور" والجهل بالفاعل، كقول الرجل: نبئت بكذا، إذا لم يعرف من نباه. وألا يتعلق مراد المتكلم بتعيين الفاعل، كقوله {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ}، {وَإِذَا حُيِّيْتُم}، {إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا}، وقوله/: وإن مدت الأيدي إلى الزاد لم أكن بأعجلهم إذ أجشع القوم أعجل وتعظيم الفاعل بصون اسمه عن مقارنة اسم المفعول، كقوله: "من بُلي منكم بهذه القاذورة". وتعظيم المفعول بصون اسمه عن مقارنة

الفاعل كقولك: أوذي فلان، إذا عظمته، واحتقرت من آذاه، والستر على الفاعل خوفًا منه أو خوفًا عليه. فهذه عشرة أشياء ذكرها المصنف، كل واحد منها باعث على حذف الفاعل. وقد نظمت البواعث على حذف الفاعل في أرجوزتي المسماة "نهاية الإعراب في علمي التصريف والإعراب"، فقلت: وحذفه للخوف، والإبهام والوزن، والتحقير، والإعظام والعلم، والجهل، والاختصار والسجع، والوفاق، والإيثار وقال شيخنا الأستاذ أبو الحسن بن الضائع: "قولهم (يحذف الفاعل لكذا وكذا) هذيان من القول، وما ارتكبه المتأخرون في ذلك نازح عن الحق جملة، ولا فرق بين طلب العلة لذلك وطلب العلة في: لم بني الفعل للفاعل، ولا فرق بين السؤال: لم لم يذكر الفاعل، وبين السؤال: لم لم يذكر الظرف، أو: لم لم يذكر الزمان، أو شبيه ذلك". وقوله فينوب عنه جاريًا مجراه في كل ما له مفعول به يعني أنه يجري مجراه في الرفع، ووجوب تأخره عن الرافع، والتنزل منزلة الجزء، وامتناع الحذف، إلا أنه لا يجري مجراه في العامل؛ لأن الفاعل يرتفع باسم الفعل، وبالظرف، والمجرور، والأمثلة، والجامد الجاري مجرى المشتق، ولا يرتفع المفعول الذي لم يسم فاعله إلا بالفعل، واسم المفعول، وفي ارتفاعه بالمصدر الذي ينحل بحرف مصدري والفعل خلاف، فإذا لم يجر مجراه في كل ما له. وقوله أو جاز ومجرور مثاله: غضب على زيد. وهذا الذي ذكره المصنف

لم يذهب إليه أحد، وهو أن يكون الجار والمجرور يقوم مقام الفاعل، فيكونان معًا في موضع رفع، بل في ذلك مذاهب، ليس قول المصنف واحدًا منها: أحدها: مذهب جمهور البصريين، وهو أن المجرور في موضع رفع بالفعل، كما أنك إذا قلت "ما قام من أحد" فالمجرور بمن في موضع رفع بالفعل، وسواء عندهم في ذلك أن يكون الجر بحرف زائد، نحو: ما ضرب من أحد، أو بحرف جر غير زائد، نحو: سير بزيد. الثاني: مذهب الكوفيين وبعض البصريين، وهو أن ذلك لا يجوز إلا فيما حرف الجر فيه زائد، نحو "أحد" من قولك: ما ضرب من أحد. وأما إذا/ كان غير زائد فلا يجوز ذلك. واختلف هؤلاء في الذي يقام مقام الفاعل إذا كان حرف الجر غير زائد على أربعة مذاهب: الأول: ذهب بعض البصريين - ونص بعضهم على أنه ابن درستويه - إلى أن المفعول الذي لم يسم فاعله هو ضمير عائد على المصدر المفهوم من الفعل، والتقدير في نحو سير بزيد: سير هو، أي: السيرز وإلى هذا ذهب أبو زيد السهيلي وتلميذه أبو علي الرندي. واستدل السهيلي على امتناع إقامة المجرور مقام المفعول الذي لم يسم فاعله بأن المفعول الذي لم يسم فاعله إذا تقدم صار

مبتدأ، كما أن الفاعل إذا تقدم صار مبتدأ، فتقول: زيد ضرب، كما تقول: زيد ضرب، وأنت لا تقول: بزيد سير، فيكون بزيد مبتدأ، فإذا وجد من كلام العرب سير بزيد جعل المقام مقام الفاعل ضمير المصدر. وقال السهيلي أيضًا: ما ذهب إليه أبو القاسم - يعني الزجاجي - وزعم أنه قول الأكثرين، وهو أن يقام المجرور مقام الفاعل فيكون في موضع رفع، فيكون هو المخبر عنه - غير صحيح، ولو صح لقيل: سيرت بهند، وجلست في الدار. ولأن الظرف لا ينوب وهو ظرف مقدر بـ (في) حتى يجعل مفعولًا على السعة، فإذا لم ينب من أجل أن حرف الجر مقدر فيه فكيف ينوب وحرف الجر ظاهر ملفوظ به، وأي شيء ينوب إذا قلت: جلس عندك، وعندك لا يكون إلا ظرفًا، فلم يبق إلا المصدر. ولأنه لا يحسن: سير بزيد العاقل، كما حسن {مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ}، فيرفع الفاعل كرفع غيره. ولأنه لو كان في موضع الفاعل لما جاز: بزيد سير، وعن زيد سئل، لأن النائب إذا قدم كان مبتدأ كالفاعل إذا قدم، والمبتدأ لا يكون مجرورًا، وجاء في التنزيل {كُلُّ أُولئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً}، أي: مسؤولًا عنه، فليس (عنه) في موضع رفع كما

زعموا، ولو كان كذلك ما جاز تقديمه وهو مجرور. وهذا الذي ذكره السهيلي في سير بزيد يرد عليه في: لم يضرب من رجل، فإن هذا المجرور في موضع رفع لقيامه مقام الفاعل، ولو قدمته لم يجز، نحو: من رجل لم يضرب، فينبغي ألا يجوز ذلك. قال أصحابنا: والدليل على بطلان هذا المذهب أن العرب تقول: سير بزيد سيرًا، بنصب المصدر، فدل ذلك على أن المجرور هو الذي يقام مقام الفاعل. وإنما امتنع أن يكون (بزيد) مبتدأ لأن المبتدأ معرى من العوامل اللفظية، فلا يتقدمه عامل لفظي أصلًا، إلا أن يكون حرف جر زائدًا، والباء في (بزيد) ليست بزائدة، فلذلك امتنع أن يكون مبتدأ. وأما ما ذكره من امتناع "سير بزيد العاقل" بالرفع على الموضع فلأن/ هذا الموضع لا يجوز أن يلفظ به، وما كان هكذا فلا يجوز الإتباع عليه؛ ألا ترى أنك لا تقول: مررت بزيد الظريف، بالنصب؛ لأنه لا يجوز: مررت زيدًا، فكذلك هذا، وذلك بخلاف {مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ}. لأنه يجوز: ما لكم إله غيره، ففرق تجويزه "بزيد سير" فسيأتي ذكر اتفاق النحويين على منعه، وأنهم أجمعوا على منع التقديم، والإجماع حجة. وقال ابن طلحة: يقول السهيلي: يجوز أن يفرق بين وقوع هذا المجرور مبتدأ وبين وقوعه بعد الفعل، فإنه إذا وقع أولًا لم يكن للباء هناك معنى خبر، فلم يكن لها متعلق، ولا يقاس على قولهم: بحسبك درهم، وإذا وقع بعد الفعل أمكن أن يكون للباء هناك معنى خبر، فأمكن أن يكون لها متعلق، كما كان لها في

قولك {كَفَى بِاللَّهِ}، وهي داخلة على الفاعل، ولا يصح أن تقولك بالله كفى به شهيدًا، وعلى أن الباء في بحسبك زيد معنى المتعلق؛ لأن التقدير: اكتف بزيد، وهذا فرق بين يوجب إسناد الفعل إلى المجرور وبناء المجرور عليه، ويمنع من بناء الفعل على المجرور، وبهذا المعنى بعينه لم يصح تأنيث الفعل له؛ ألا ترى أنك تقول: كفى بهند من فاضلة، فلا تؤنث الفاعل، والباء زائدة على فاعل مؤنث. والمذهب الثاني: ذهب الكسائي وهشام إلى أن مفعول الفعل ضمير مبهم مستتر في الفعل، وجعلا الضمير مبهمًا من حيث كان محتملًا أن يراد ما يدل على الفعل من مصدر أو ظرف مكان أو ظرف زمان، ولم يقم دليل على أن المراد به بعض ذلك دون بعض. المذهب الثالث: ذهب الفراء إلى أن حرف الجر في موضع رفع، كما أن الفعل في "زيد يقوم" في موضع رفع. وهذا ينبني على قولهم: مر زيد بعمرو، فمذهب البصريين أن المجرور في محل نصب، فإذا بني مثل هذا للمفعول كان المجرور في موضع رفع. وذهب الفراء إلى أن حرف الجر في موضع نصب، فلذلك ادعى أنه إذا بنى للمفعول كان حرف الجر في موضع رفع. المذهب الرابع: ذهب قوم إلى أن قولك "سير بزيد" هو على إضمار الطريق؛ لأن السير لا يكون إلا في مكان، والمعنى: قطع به طريق.

واتفق النحويون على أن هذا الجار والمجرور في نحو سير بزيد، وزيد متعجب منه - لا يجوز تقديمه، فلا يجوز: يزيد سير، ولا: زيد منه متعجب. وعلة امتناعه عند البصريين أنه قد قام مقام الفاعل، فإن قدمته احتجت إلى أن تضمر مثله، فتضمر الخافض والمخفوض. وعلة الكوفيين أنه صلة، فلا تتقدم. ذكر هذا الاتفاق أبو جعفر النحاس. وقال ابن اصبغ: هي/ جائزة في القياس. يعني التقدم. وتقدم خلاف السهيلي في ذلك والرد عليه بالإجماع. وأما المفعول له فقيل: لا يجوز أن يبنى لما لم يسم فاعله مطلقًا، وهو رأي أبي علي، وابن جني، ولذلك لم يكن في قوله: يغضي حياء، ويغضى من مهابته فلا يكلم إلا حين يبتسم واحتجوا بوجهين: أحدهما: أن المجرور لا يقام مقام الفاعل، وهذا كذلك إما لفظًا أو معنى. الثاني: أنه بيان لعلة الشيء، ولا يكون إلا بعد ثبوت الفعل بمرفوعه. وقيل: يجوز إذا كان بحرف جر بناء على جواز الأصل، ولا يجوز إذا كان منصوبًا. وقوله أو مصدر لغير مجرد التوكيد ملفوظ به أو مدلول عليه بغير العامل إذا كان المصدر للتوكيد، نحو: قام زيد قيامًا - فلا يقام مقام الفاعل لعدم الفائدة؛

لأن المفهوم من المسند إليه يكون غير المفهوم من المسند، فإن كان مختصًا بنوع ما من الاختصاص، كتحديد العدد، والاختصاص بالوصف أو الإضافة، أو كونه اسم نوع - جاز ذلك لتغاير المسند والمسند إليه. ومثال الملفوظ به: سير سير شديد. ومثال المدلول عليه بغير العامل - وهو أن يكون المصدر غير ملفوظ به، لكنه دل عليه بغير الفعل - قولك: بل سير، لمن قال: ما سير سير شديد، فالضمير المستكن في سير هو مدلول عليه بغير سير، بل دل عليه بقول القائل: ما سير سير شديد، فلو كان مدلولًا بالعامل كقولك: جلس، أو ضرب، وأنت تريد: هو، أي: جلوس، وضرب - لم يجز. وفي كلام الزجاجي إشعار بجواز ذلك؛ لأنه قال: وقد أجازه بعضهم على إضمار المصدر المؤكد، وهو مذهب س، قال ابن خروف: "لا يجيز أحد من النحويين رد الفعل لما لم يسم فاعله على إضمار المصدر المؤكد، لا يجيز أحد: قعد، وضحك من غير شيء يكون بعد هذا الفعل. ثم ادعاؤه أنه مذهب س فاسد؛ لأن س لا يجيز إضمار المصدر المؤكد في هذا الباب، والذي أجازه س لا يمنعه بشر، وهو إضمار المصدر المعهود، مثل أن يقال لمتوقع القعود: قد قعد، ولمتوقع السفر: قد سوفر، أي: قعد القعود، وسوفر الذي ينتظر وقوعه، والفعل لا يدل على هذا النوع من المصادر، والدال عليه أمر آخر" انتهى.

وقال السهيلي ما ملخصه: "من اللازم ما لا ينبغي أن يجوز البتة، نحو: قعد، وضحك، أضمرت المصدر أو لم تضمره؛ لأن معناه: فعل ضحك، ولو صرح بهذا لم يفد، وكيف يحيز هذا س وقد منع: رجل قائم، إنما الذي أجاز: ضحك/ في الدار، وقعد عندك، وأجاز: سير بزيد فرسخًا، على إضمار السير. وحسن الإضمار عنده وعند المحققين في هذه المسألة لأن المكان والزمان المخصوصين قد يخلوان من الفعل، فإذا أخبرت أن قد كان فيه فعل حصلت به فائدة، هذا إن كان الزمان أو المكان معرفة، فإن قلت: قعد في مكان، أو ذهب في يوم - لم يجز. والدليل على إضمار المصدر مع الظرف والمجرور قولهم: سير بالقوم رويدًا، فـ (رويدًا) حال من السير الذي هو النائب، وكذلك: سير يزيد سريعًا، لا خلاف في جواز هذا، وكذلك تقول: إن سير بهند فهو خير لها، فيعود الضمير على السير، ولا خلاف في جواز هذا أيضًا، فينبغي ألا يكون خلاف في صحة ما ذهب إليه س" انتهى كلام السهيلي. ونقول: لا يجوز بناء الفعل للمفعول إذا لم يكن له معمول غير الفاعل، فلا يجوز في جلس زيد: جلس، ولا في ظرف زيد: [ظرف]. هذا مذهب أكثر النحويين من البصريين والكوفيين، وما نسبه الزجاجي إلى س من إجازة ذلك على إضمار المصدر غلط منه عليه، وقد أنكره النحاس وغيره على الزجاجي.

وزعم الكسائي والفراء وهشام أن ذلك يجوز، فكان الفراء يزعم أن الفعل فارغ لا شيء فيه، فقيل له: هل يخلو الفعل من فاعل؟ فقال له: إذا شرطت إسقاط الفاعل، وقلت لا تسمه، وجب ألا يكون في الفعل ذكر إذا أسقط فاعله. وكذلك كان يقول في ضرب ضربًا: إنه لا شيء مضمرًا في ضرب، وكذلك قعد قعودًا تعدى أو لم يتعد. وكان الكسائي وهشام يجيزان ذلك على أن في الفعل مجهولًا، لما حذف الفاعل أسند الفعل إلى أحد ما يعمل فيه مما هو سوى المفعول به: المصدر، أو الوقت، أو المكان، فلم يعلم أيها هو المقصود لأنه لم يظهر مع الفعل مرفوع به. قال أبو محمد بن السيد: "والأشبه في هذا لمن أجازه أن يضمر مصدر الفعل؛ لأن الفعل يدل على مصدره، كما قال الزجاجي، وما زعم الفراء أنه فارغ لا ضمير فيه خطأ. وقد احتج المانعون من جواز هذا بأن قالوا: الفعل يدل على مصدره، فلا فائدة في إضماره ولا في إظهاره. فرد عليهم من أجاز ذلك بأن قالوا: قد أجاز النحويون إقامة المصدر مقام الفاعل في الأفعال المتعدية إذا عدم المفعول به، وكان المصدر منعوتًا أو محدودًا أو معرفًا، فأجازوا: ضرب بزيد الضرب، وسير بزيد سير شديد، وقال تعالى {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ}. فكما جاز أن يقام المصدر

في هذه المسائل/ مقام الفاعل - وإن كان الفعل قد دل عليه وأغني عنه - كذلك تقول: جلس الجلوس، وقعد القعود، ولا فرق. ويؤكد جواز هذا أن الموجب لإقامة المصدر مقام الفاعل إنما هو عدم المفعول به، وهذا العلة بعينها هي موجودة في جلس وقعد. واحتجوا أيضًا بأن قالوا: هل معنى جلس زيد إلا أنه قد فعل جلوسًا وأحدثه، فإذا كان هذا معنى الكلام والغرض فيه فما المانع من أن يقال جلس وقعد، إذ معناه فعل الجلوس، وفعل القعود، كما أن قولنا: ضرب بزيد الضرب، إنما معناه: فعل بزيد الضرب. قالوا: والمفعول ليس يرتفع بما أوقع به فعل، كما أن الفاعل في صناعة العربية ليس يرتفع بما أوقع شيئًا وأحدثه، إنما يرتفع كل واحد منهما بالحديث عنه وإسناد الفعل إليه، فيجب على هذا أن يرتفع كل ما حدث عنه من مصدر أو ظرف، سواء أكان الفعل متعديًا أم غير متعد، والتفريق بين المتعدي وغير المتعدي في هذا لا وجه له. قالوا: ولو أن ملكًا أو نظيره ممن له أمر ونهي عهد ألا يجلس أو ألا يضحك في وقت من الأوقات لغرض له في ذلك دون أن يسمي جالسًا أو ضاحكًا لجاز ذلك، ولم يمتنع" انتهى كلام ابن السيد. وقد وجدت في لسان العرب ما يشهد بجواز جلس وقعد مبنيًا للمفعول دون أن يسند إلى شيء في اللفظ، والفعل لازم، قال الشاعر: وقالت: متى يبخل عليك، ويعتلل يسؤك، وإن يكشف غرامك تدرب فـ"يعتل" فعل لازم مبنى للمفعول، ولا مفعول له ظاهر، ولا جائز أن يكون المفعول "عليك" محذوفة لدلالة "متى يبخل عليك" عليه؛ لأن المفعول

الذي لا يسمى فاعله لا يجوز حذفه، كما لا يجوز حذف الفاعل، فالأولى أن يعتقد أن "يعتلل" مفعوله ضمير يعود على مصدر يدل عليه الفعل، ويجعل فيه اختصاص، أي: يعتلل هو، أي: الاعتلال المعهود. أو يجعل "عليك" محذوفة لدلالة ما قبلها عليها، وتكون في موضع نصب ليتخصص به المصدر المذكور، كما تقول: فلان يغضب عليك ويحقد، تريد: ويحقد عليك، فحذفت لدلالة ما قبله عليه، ولا تقدر للمقام مصدرًا مؤكدًا لئلا يتحد المسند والمسند إليه. وأجاز س اختصاص المصدر بوصف مقدر، فتقول "سير بزيد سير" إذا أردت به نوعًا من السير، فتحذف الصفة لفهم المعنى، كما قال {الآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ} أي: بالحق البين. وقال ابن عصفور: إن هذا مما انفرد به س. وقال غيره: إن أبا العباس قال: هذا فيه/ بعد إذا كنت تريد به ضربًا من السير. وقال غيره: يجوز ذلك إذا أردت به جمع سيره. قال النحاس: والأجود عند جميع البصريين النصب لما ذكرت أنه بمنزلة الفعل. وقال الأستاذ أبو الحسين بن أبي الربيع: "إذا كان المصدر مؤكدًا لم يبن له الفعل إلا أن يعلق به ظرف غير متصرف، نحو: جلس دونك، قال تعالى {وَحِيلَ بَيْنَهُمْ}، وقال الشاعر: فيا لك من ذي حاجة، حيل دونها وما كل ما يهوي امرؤ هو نائلة" النائب مضمر، يعود على المصدر المفهوم من حيل.

ولا يقام وصف المصدر مقام المصدر الموصوف، فيجوز: سير عليه سير سريع، وسير حثيث، ولا يجوز: سير عليه سريع، ولا: سير عليه حثيث، بل تنصبه، قال س: "سير عليه حثيثا وشديدًا، فالنصب في هذا على أنه حال". قال: "ولا يكون فيه الرفع لأنه لم يقع موقع الأسماء" إذا كان صفة. وكذا عنده: سير عليه طويلًا، وحديثًا، وكثيرًا، وقليلًا، وقديمًا، بالنصب لا غير. قال أبو إسحاق: التقدير: سير عليه في هذه الحال، فلهذا لم يجز فيه الرفع. ووهم ابن عصفور في قوله إن س انفرد بإقامة صفة المصدر، ونص ص أن ذلك لا يقوم مقام الفاعل. وأجاز الكوفيون في كل ما ذكرناه من كلام س الرفع على أنه أقيمت فيه الصفة مقام الموصوف، فتقول: سير عليه حسن، أي: سير حسن، ومر به سريع، أي: مرور سريع، إلا في شديد وبين، فإنهم لا يجيزون فيهما إلا النصب، فيقولون: سير عليه شديدًا وبينًا؛ لأن المعنى عندهم: سير عليه حقًا، وكذلك يقولون: ضرب أبين الضرب، وأشد الضرب، وأولع أشد الإيلاع، بالنصب عندهم فقط، ولا يجوز الرفع. وأجاز البصريون في مثل هذا الوصف المضاف الرفع إذا لم يضمر، فتقول: ضرب أبين الضرب، وضرب أشد الضرب. وقد نقص المصنف في إقامة المصدر شرطًا، وهو أن يكون المصدر متصرفًا، وكان ينبغي أن يذكره، ذكره في الظرف، فإنه إن كان المصدر غير متصرف لم يجز أن يقوم مقام الفاعل، نحو: معاذ الله وريحانه، وعمرك الله،

وأمثال ذلك؛ لأن العرب التزمت فيها النصب على المصدر. وقوله أو ظرف مختص متصرف شرط الاختصاص لأن غير المختص لا يقام مقام الفاعل، لا يقال في سرت وقتًا: سير وقت؛ لعدم الفائدة، وكذلك ظرف المكان، لا/ يقال: جلس مكان، في نحو: جلست مكانًا، فإن اختص جاز، نحو: سير وقت صعب، وزمان طويل وجلس مكان بعيد. وقوله متصرف احترز به من الظرف الذي لا يتصرف، وهو ما لزم الظرفية، نحو "سحر" من يوم معين، و "ثم"، فلا يقال سير سحر، ولا: جلس ثم: لأن قيامهما مقام الفاعل يخرجهما عن الظرفية، قال س: "سير عليه سحر لا يجوز فيه إلا أن يكون ظرفًا؛ لأنهم إنما يتكلمون به في النصب والرفع والجر بالألف واللام، يقولون: هذا السحر، وبأعلى السحر، وإن السجر خير لك من أول الليل". وقال س أيضًا: "سير عليه ضحى، إذا عنيت ضحى يومك". قال: "وكذلك سير عليه عتمة، إذا أردت عتمة ليلتك، وكذلك ضحوة يومك الذي أنت فيه، يجري مجرى عشية، وكذلك: سير عليه ليلًا، وسير عليه نهارًا، إذا أردت ليل ليلتك، ونهار نهارك" انتهى كلام س. والمعنى أن هذه الظروف التي ذكرها س إذا كانت نكرات جاز فيها الرفع على سبيل المجاز، والنصب على الأصل، فإذا أريد بها شيء بعينه لم تتمكن، فتركت على بابها منصوبة.

وأجاز الكوفيون الرفع فيما منعه س من رفع ضحى وضحوة وعتمة وعشية وليل ونهار معينات. وذهب الكسائي والفراء إلى أنك ترفع مع النكرات لا غير، تقول: موعدك يوم، ويومان، وساعة، فكذلك يجيء على قولهم: سير بزيد يوم، بالرفع لا غير، وكذلك ساعة. وأجاز البصريون في ذلك النصب، فإن وقته، فقلت: موعدك يوم العيد، جاز الرفع والنصب. وسواء عند البصريين أكان العمل في الظرف كله أم بعضه، يقيمونه مقام الفاعل. وزعم الكوفيون أنك إذا قلت سير به يوم الجمعة، فأردت أن السير كان فيه كله رفعت، وإن كان في بعضه نصبت، وهذا مبنى على أصل لهمن وهو أن الظرف إذا كان العمل في جميعه لا ينتصب انتصاب الظرف، إنما ينتصب انتصاب المفعول به. وأجاز س وعامة البصريين: سير عليه فرسخان يومين، وفرسخين يومان، وفرسخين يومين، ومنع كل ذلك بعض المتأخرين. وقوله وفي نيابته غير متصرف أو غير ملفوظ به خلاف قال المصنف في الشرح: "أجاز الأخفش نيابة الظرف الذي لا يتصرف، نحو أن تقول: جلس عندك. ومذهبه في هذه المسألة ضعيف. وأجاز ابن السراج نيابة الظرف المنوي" انتهى.

واختلفوا في صفة الظرف إذا حذف الظرف كالخلاف في صفة المصدر، فلم يجز فيه س إلا النصب، وأجاز الكوفيون الرفع، وأجاز س: سير عليه خلف دارك، بالرفع، ومنعه/ بعض المتأخرين. وتقول: ضرب زيد ظهره وبطنه، فيجوز في ظهره وبطنه عند س الرفع على البدل، والنصب بمعنى على. وكذلك إذا كان معرفًا بالألف واللام، نحو: ضرب زيد الظهر والبطن. وقال أبو العباس: نصب لأنه يشبه الظروف. وقال الفراء: لا يجوز فيهما إلا الرفع، سواء أضيفا أم كان فيهما الألف واللام. وحجته أنه غير مبهم، فلا يجيز النصب، كما لا يجيز: زيد البيت. وحجة س أنه أشبه الظرف من جهة عمومه؛ ألا ترى أن المعنى: عم بالضرب. واختلف النقل عن هشام: فحكى عنه أبو جعفر النحاس كمذهب س، يجيز الرفع والنصب، سواء أكان مضافًا أو فيه أل. ونقل أبو إسحاق بن أصبع في "مسائل الخلاف" أنه أجاز النصب مع الألف واللام، ومنعه مع الإضافة. ونقل أيضًا عن المبرد أنه منع النصب، كمذهب الفراء. وأجاز هشام: ضرب زيد ظهرًا وبطنًا، فينصب على التفسير، أي: ضرب ظهر زيد وبطن زيد، ولا يجيز التقديم. ويجوز عند المازني وأبي العباس. وهي مسألة من التمييز، جر إليها الكلام. ص: ولا تمنع المنصوب لسقوط الجار مع وجود المنصوب بنفس الفعل، ولا نيابة غير المفعول به وهو موجود، وفاقًا للأخفش والكوفيين.

ش: لم يتعرض المصنف في الشرح للمسألة الأولى هنا، وهي مسألة: اخترت زيدًا الرجال، فزيد تعدى إليه الفعل بنفسه، والرجال تعدى إليه لسقوط الجار، وكذلك ما كان مثله. فالذي نص عليه أصحابنا أنه لا يقام مقام الفاعل إلا زيد، وهو الذي تعدى إليه الفعل بنفسه، فتقول: أختير زيد الرجال، تريد: من الرجال. وكلام المصنف يجوز هذا، ويجوز أن تقول: اختير الرجال زيدًا. والسماع إنما ورد بإقامة الذي تعدى إليه الفعل بنفسه دون ما تعدى إليه بإسقاط الحرف، قال الشاعر: ومنا الذي اختير الرجال سماحة وجودًا إذا هب الرياح الزعازع والذي ذكره أصحابنا هو مذهب الجمهور، والذي المصنف هو مذهب الفراء، ترك الجمهور المقدر كالملفوظ به، فكما لا يجوز عندهم ترك المفعول به المسرح وقيام المقيد بالحرف لفظًا كذلك لا يجيزونه مع المقيد تقديرًا، وقد ذكرنا أن السماع ورد بذلك، وهو مذهب البصريين. وقال ابن أبي الربيع: "لا يجوز أمر الخير زيدًا إلا على القلب" وأما المسألة الثانية - وهي أن ينوب غير المفعول به من مصدر أو ظرف زمان أو ظرف مكان أو مجرور مناب الفاعل مع وجود المفعول به - فهذا لا يجوز عند البصريين.

قال ابن برهان: "لا يقام مقام الفاعل/ إلا المفعول به عند حضوره لأنه شريك الفاعل؛ وذلك أنه يخرج [المصدر] من العدم إلى الوجود، والمفعول به حافظ لوجوده، فلا يستقيم تجدد المصدر إذا فرضنا انتفاء واحد منهما، ولذلك لما جعلت العرب في الأفعال ما لا يتعدى، فلا يكون للمفعول به حظ فيه - أفردوا المفعول به بقبيل من الأفعال لا حظ للفاعل فيه قصاصًا، وذلك باب فعل". قال المصنف: "وأجاز ذلك الأخفش والكوفيون". قال: "وبقولهم أقول مع أنه وارد عن العرب". وقال غيره: "أجاز ذلك الكسائي والفراء وأبو عبيد، ومنعه الجمهور". واستدل مجيزو ذلك بقراءة أبي

جعفر {لِيَجْزِيَ قَوْماً بِما كَانُوا يَكْسِبُونَ}، وقول الشاعر: ولو ولدت قفيرة جرو كلب لسب بذلك الجرو الكلابا وقول الآخر: أتيح لي من العدا نذيرا به وقيت الشر مستطيرا وقول الآخر: وإنما يرضي المنيب ربه ما دام معنيا بذكر قلبه وقول الآخر في أحد الوجهين: لم يعن بالعلياء إلا السيدا ... ولا شجا ذا الغي إلا ذو الهدى وقال الأخفش في (المسائل): "ضرب الضرب الشديد زيدًا، وضرب

اليومان زيدًا، وضرب مكانك زيدًا، ووضع موضعك المتاع". ومن مسائله: أعطي إعطاء حسن أخاك درهمًا مضروبًا عنده زيدًا واستدلوا أيضًا بقراءة عاصم {وكذلك نجي المؤمنين}. وقال صاحب اللباب: "إقامة المصدر مع وجود المفعول به للبصريين فيه مذهبان: أحدهما: لا تجوز؛ لأن المصدر هو الفعل في المعنى، فهو غير لازم، بخلاف المفعول به. والآخر: تجوز؛ لأن الفعل يصل إليه بنفسه، كقراءة أبي جعفر {ليجزى قوماً}، وقراءة عاصم {نجي المؤمنين} أي: ليجزي الجزاء، ونجي النجاء". ونقل بعض أصحابنا عن الأخفش شرطًا في جواز إقامة المصدر وظرف الزمان مقام الفاعل مع وجود المفعول به، وهو أن يتقدما على المفعول به، فإن تأخرا لم يجز أن يقام إلا المفعول به، فأجاز أن يقال: ضرب الضرب الشديد زيدًا، وضرب يوم الجمعة زيدًا. وقد أهمل المصنف ذكر هذا الشرط، وعليه تمثيل الأخفش المثل المذكورة في المسائل، ونقل ذلك الشرط عن الأخفش/ ابن الدهانن وقال: هذا طريف

جدًا من الأخفش. ومن منع ذلك تأول هذه الشواهد: فأما قراءة أبي جعفر فتأولوها تأويلين: أحدهما: أن يكون التقدير: ليجزى هو، أي: الجزاء، ويكون {قَوْما} منصوبًا بفعل محذوف، تقديره: يجزيه قومًا، ونظيره {يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ. رِجَالٌ}، أي: يسبحه رجال. التأويل الثاني: أن يكون التقدير: ليجزى الخير قومًا، والخير: مفعول به، وهذا الفعل يتعدى إلى مفعولين، فأضمر الأول لدلالة الكلام عليه. وأما قراءة عاصم {نجي} فتأولوها على أنه أبدل النون الثانية جيمًا، وأدغمها في الجيم. وهذا التأويل ضعيف جدًا، ولا يتصور في قراءته (نجي) بفتح الياء. فالأولى أن يكون التأويل: نجي النجاء، وينتصب {الْمُؤْمِنِينَ} على إضمار فعل، أي: ننجي المؤمنين، كما تأولوا {ليجزي قوماً} على تقدير: يجزيه قومًا. وأما الأبيات فتحمل على الضرورة لقلتها، ولأن النصب جاء في آخر البيت أو في مصراع البيت. وقد تأولوا نصب الكلاب على أنه مفعول به بقوله: ولو ولدت، وجعلوا "جرو كلب" منادى مضافًا، التقدير: ولو ولدت قفيرة الكلاب - يا جرو كلب - لسب بذلك الجرو. وقال ابن خروف: "افسد ابن

بابشاذ بهذا التأويل اللفظ والمعنى" انتهى. والأولى في التأويل أن يجعل ذلك منصوبًا بإضمار فعل يفسره ما قبله، التقدير: يسبون الكلاب، وأباح نذيرًا. وأما قوله "معنيا بذكر قلبه" فانتصاب "قلبه" على التشبيه بالمفعول به، كما تقول: رأيت رجلًا مجدوعًا أنفه. وأما "إلا السيدا" فيحتمل أن يكون استثناء منقطعًان أي: لكن السيد عني بالعلياء. وقال النحاس: منع النحويون: ضرب زيدًا سوط. وحكى المهاباذي الاتفاق على ذلك. وتعليله ظاهر، وذلك أن السوط هو آلة، فتجوز به إلى أن نصب انتصاب المصدر، وكان الأصل: ضرب زيد ضربة بسوط، ثم حذفت الباء، وأضيفت الضربة إليه، ثم حذفت الضربة، وقامت الآلة مقامها، فكثر المجاز فيه، فلم يجز لذلك أن يقام مقام الفاعل، لا على مذهب من أجاز إقامة المصدر مع وجود المفعول به، ولا على مذهب من منع، فلذلك وقع الاتفاق على المنع. وذكر المهاباذي أيضًا الاتفاق على منع: حمل زيدًا فرسخ. والذي يقتضيه مذهب الأخفش والكوفيون جوازه. وتقرر من مذاهب البصريين أنه إذا وجد المفعول به مع غيره مما يجوز أن يقام مقام الفاعل فلا يقام سواه، فإذا لم يكن مفعول به فأنت مخير في إقامة ما شئت من البواقي، فقيل: يختار إقامة المصدر وترك ما عداه، وهو اختيار ابن عصفور. وقيل: يختار إقامة المجرور، وهو اختيار ابن معط.

والذي أختاره أن الأولى إقامة ظرف المكان، والسبب/ في هذا الاختيار أن المجرور مقيد بحرف الجر، وقد اختلف النحاة في جواز إقامته مقام الفاعل. وأما المصدر فلأن في الفعل دلالة عليه؛ إذا هو أحد مدلوليه. وكذلك ظرف الزمان، هو أحد مدلوليه؛ لأن الفعل بني له، ففي الفعل دلالة على الزمان، وأما ظرف المكان فدلالته عليه دلالة لزوم كدلالته على المفعول به، فهو أقرب إلى المفعول به من سائر هذه الأشياء، فلذلك اخترنا أن يكون أولى بالإقامة منها. -[ص: ولا تمنع نيابة غير الأول من المفعولات مطلقًا إن أمن اللبس ولم يكن جملة أو شبهها، خلافًا لمن أطلق المنع في باب "ظن" و "أعلم".]- ش: يعني بقوله مطلقًا سواء أكان الثاني من باب أعطى أم من باب ظن أم من باب أعلم، فاختار المصنف أنه إذا أمن اللبس، ولم يكن الثاني جملة أو شبهها من ظرف أو مجرور، أو الثالث كذلك - فإنه تجوز إقامة الثاني في باب أعطى وفي باب ظن، والثاني والثالث في باب أعلم. ومثال ذلك: أعطي درهم زيدًا، وظنت بازغة الشمس، وعلم بدر قمر الليلة، وجعل خير من ألف شهر ليلة القدر، واتخذ موضع صلاة مقام إبراهيم، وأعلم زيدًا كبشك سمينًا. فإن ألبس لم يجز ذلك، نحو: أعطي زيد عمرًا، وزيد عطية، وعمرو معطى، وظن صديقك زيدًا، وزيد هو الأول، وأعلم بشرًا زيد قائمًا، وبشر المعلم، فهذا كله لا يجوز لأجل اللبس. وكذلك إذا كان الثاني في باب ظن أو الثالث في باب أعلم جملة أو شبهها فلا يجوز: ظن في الدار زيدًا، ولا ظن زيدًا أبوه قائم، ولا يجوز: أعلم زيدًا غلامك في الدار، ولا: أعلم زيدًا غلامك أخوه سائر.

قال المصنف: "وإذا كان أمن اللبس مسوغًا لجعل الفاعل مفعولًا والمفعول فاعلًا في كلام واحد، نحو: خرق الثوب المسمار، و: ...................... ........ بلغت سوآتهم هجر فجواز هذه المسائل وأشباهها أحق وأولى" انتهى كلامه. فأما باب كسا وأعطى وأطعم وأسقى وشبهها مما الثاني فيه فاعل من حيث المعنى فلا خلاف في جواز إقامة الأول، نحو: كسي زيد جبة. وأما إقامة الثاني فقال المصنف: "لا خلاف في جواز نيابة ثاني المفعولين في باب أعطي إذا أمن اللبس، نحو: أعطيت زيدًا درهمًا، ولا في منعها إذا خيف اللبس، نحو: أعطيت زيدًا عمرًا، فيجوز في المثال الأول أن يقال: أعطي درهم زيدًا؛ لأن اللبس فيه مأمون، ولا يجوز في المثال الثاني أن يقال: أعطى عمرو زيدًا؛ لأن عمرًا مأخوذ، فيتوهم كونه آخذًا" انتهى. وما قاله من أنه لا خلاف في كذا ليس بصحيح؛ لأنك إذا قلت أعطيت زيدًا درهمًا ففي نصف درهم خلاف: ذهب الجمهور إلى أنه منصوب بأعطيت/ نفسها، وكذلك ما كان من بابها. وذهب الفراء وأبن كيسان إلى أن درهمًا ليس منصوبًا بأعطيت، وإنما هو منصوب بفعل آخر، تقديره: وقبل درهمًا، أو أخذ درهمًا. فعلى مذهب هذين

ومن تبعهما لا يجوز أن يقام هذا الذي هو ثان عند الجماعة مقام الفاعل، فكيف يقول: لا خلاف. وأيضًا فإن من النحويين من زعم أن أعطى وبابها إذا بنيت للمفعول لم ينتصب الثاني بالفعل المبني للمفعول، وإنما هو منصوب بفعل الفاعل، لما بني هذا للمفعول بقي "درهمًا" منصوبًا على أصله بفعل الفاعل، وإذا كان نصبه كذلك فكيف يجوز أن يقوم مقام الفاعل، ويؤثر فيه فعل ليس عاملًا فيه، فكيف يقال: لا خلاف فيه. وأيضًا فإن من النحويين من زعم أنه أنتصب على أنه خبر ما لم يسم فاعله، كما في: كان زيد قائمًا، فكما أن خبر "كان" لا يقوم مقام الفاعل، فكذلك خبر ما لم يسم فاعله. وهذه المذاهب وإن كانت ضعيفة - وسيقام الدليل على ضعفها في باب تعدي الفعل ولزومه إن شاء الله - تقدح في قول المصنف: لا خلاف في كذا. وأما مذهب الجمهور فهو ما ذكر المصنف من جواز إقامة الثاني إذا لم يلبس. ونسب أبو ذر مصعب بن أبي بكر الخشني لأبي علي الفارسي أنه لا يجيز إقامة الثاني مع عدم اللبس وهو نكرة مع وجود الأول وهو معرفة؛ لأنه لما كان المعنى واحدًا كان رفع المعرفة أولى، قياسًا على باب كان، والنحاة كلهم أجمعون يمثلون بأعطي درهم زيدًا. قال أبو عبد الله بن هشام: "لا أعرف هذا المذهب لأبي علي إلا من قول أبي ذر، وإن كان لم تسمع إقامة النكرة في هذا الباب كان ما ذكروه قياسًا"

انتهى. فأما قول الجرمي في (الفرخ): "بعض العرب يقول: كسي ثوب زيدًا، وأعطى درهم عمرًا"- فينبغي أن يحمل على ظاهره، ويكون ذلك حجة في إقامة الثاني نكرة مع وجود المعرفة، ويحتمل أن ينسبه إلى العرب لأنه اقتباسه، فجعله من كلام العرب لذلك. وعلى ما حكي أبو ذر أن مذهب الفارسي إذا كان الثاني نكره لا يجوز أن يقام مع وجود المعرفة لا يصح قول المصنف: لا خلاف. وحكي بعض أصحابنا عن الكوفيين أنه إذا كان الثاني نكرة قبح إقامته مقام الفاعل، نحو: أعطى ردهم زيدًا، وإن كان معرفة كالأول كانا في الحسن سواء، فأن شئت أقمت الأول، وإن شئت أقمت الثاني، وذلك إذا لم يلبس. والبصريون إقامة الأول عندهم أحسن. وأما باب الظن فاختلفوا في جواز إقامة الثاني: فذهب قوم إلى أنه لا تجوز لأن المفعولين إن كانا معرفتين أو نكرتين ألبس، وإن كان الثاني نكرة والأول معرفة فأكثر ما يكون مشتقًا، فيلزم تقديم المضمر على الظاهر، فعلى هذا لا يقوم إلا الأول/، وهو المبتدأ، لأنه أشبه بالفاعل، وإن مرتبته قبل الثاني، لأن مرتبة المبتدأ قبل الخبر، ومرتبة المرفوع قبل المنصوب، ففعل ذلك للمناسبة، وهذا اختيار الجزولي وابن هشام الخضراوي.

وذهب قوم إلى أن ذلك يجوز إذا أمن اللبس ولم يكن جملة ولا شبيهًا بالجملة، لكن إقامة الأول عندهم أولى، فإن كان الثاني جملة لم يقم بحضور المفعول الأول، وهذا اختيار أبي بكر طلحة، وابن عصفور، والمصنف. وشرط بعضهم في جواز إقامته ألا يكون نكرة، فلا يجوز: ظن قائم زيد. فإن عدم المفعول الأول، وبقيت الجملة- فمقتضى مذهب الكوفيين جواز ذلك، فتقول: علم أيهم أخوك، وقد أجاز ذلك السيرافي والنحاس في ترجمة س "هذا باب علم ما الكلم من العربية" إذا جعلت (ما) استفهامًا، ونونت العلم، ونويت فيه أنه لما لم يسم فاعله، فكان التقدير: هذا باب أن يعلم الكلم من العربي. ومنع ذلك الفارسي في "التعاليق". وإذا أقيم أحدهما، وبقس الآخر منصوبًا- فاختلفوا في ناصبه: فمذهب س والحذاق أنه منصوب بتعدي فعل المفعول إليه. وذهب بعضهم إلى أنه منصوب النصب الذي كان له قبل أن يبني الفعل للمفعول، وهو اختيار الزمخشري، قال: "إنما ينتصب بتعدي فعل الفاعل

إليه، فلما زال بقي على ما كان عليه قبل". ورده عليه أبو عبد الله الصدفي وابن عصفور بأن هذا كلام برأسه، وبنية أخرى غير ما كانت قبل عليه، وإنما نقدر عاملًا لمعمول ما إذا عدمنا عاملًا يعمل فيه. وكان الزجاجي يسميه خبر ما لم يسم فاعله، ففهم ابن عصفور أنه مذهب ثالث، ورد عليه بالأنا لا نسمي خبرًا إلا ما كان في الأصل خبر المبتدأ، لا ما جاء منصوبًا بعد مرفوع، وليس بخبر في الأصل. وليس منا فهم ابن عصفور؛ لأن الزجاجي لم يذكر ذلك في جملة إلا قصدًا للتقريب على المبتدئ، لا على أنه اختيار له ومذهب. وأما باب أعلم فاختلفوا في إقامة الثاني إذا لم يلبس: فذهب قوم إلى إجازة ذلك، واختاره المصنف. وذهب قوم إلى المنع، وأنه لا يجوز إلا إقامة الأول، وهو اختيار ابن هشام الخضراوي، وابن عصفور، وشيخنا أبي الحسن الأبذي، قالوا: لأنه مفعول صحيح، وأما المفعولان الباقيان فمبتدأ وخبر في الأصل، شبها بمفعولي

أعطى، فليسا بمفعولين صحيحين، وبإقامة الأول ورد السماع، قال: ونبئت عبد الله بالجو أصبحت ................ وأما المفعول الثالث ففيهم من كلام المصنف جواز إقامته إذا لم يلبس، ولم يكن جملة ولا شبهها، لأنه قال: "ولا تمتع نيابة غير الأول من المفعولات" إلى آخره. و"غير الأول" يندرج فيه/ ثاني ظن وثاني وثالث أعلم. وقد ذكر صاحب "المخترع" جواز ذلك عن بعضهم، فقال: لا تجوز إقامة الثاني والثالث في باب أعلم عند من أجاز ذلك إلا بشرط إلا يلبس، نحو: أعلم زيدًا كبشك سمينًا، وأعلم زيدًا كبشك سمين. وذكر ابن هشام الخضراوي الاتفاق على أنه لا يجوز في باب أعلم إقامة الثالث. ولا ينوب خبر "كان" المفرد، خلافًا للفراء، ولا مميز، خلافًا للكسائي. ولا يجوز: كين يقام، ولا: جعل يفعل، خلافًا له وللفراء. ش: قال المصنف في الشرح: "حكي السيرافي في شرح الكتاب أن الفراء يجيز: كين أخوك، في: كان زيد أخاك، ويزعم أنه ليس من كلام

العرب. ورد عليه بأن قيل: هو فاسد لعدم الفائدة، ولاستلزامه وجود خبر عن غير مذكور ولا مقدر" انتهى كلامه. ونقول: أختلف النحاة في بناء كان الناقصة لما لم يسم فاعله: فأجاز ذلك س، والسيرافي، والكوفيون: الكسائي، والفراء، وهشام. ومنع ذلك الفارسي مطلقًا. فأما س فقال في كتابه حين ذكر كان الناقصة ما نصه: "وتقول: كناهم، كما تقول ضربناهم، وتقول: إذا لم نكنهم فمن ذا يكونهم، كما تقول إذا لم نضربهم فمن يضربهم". ثم قال: "فهو كائن ومكنون، كما كان ضارب ومضروب". فتقول س "مكون" إنما هو مفعول من كين، ولم يتبين س ما الذي يقام مقام المحذوف، وأشكل كلام س على الناس، وهو أنه لا يجوز حذف أسميها، لأن أسميها مبتدأ، وخبرها خبره، وأسمها لا يحذفان اختصارًا، فكيف يحذفان اقتصارًا. وسأل أبو الفتح أبا علي عن قول س "ومكون"، فقال: "ما كان داء يعالجه الطبيب". وكان أيضًا يقول (وَكَأَيِّنْ مِنْ آَيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ

عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ). وحكي عنه أيضًا أن س إنما قصد أن يبين أن هذا الفعل متصرف، فـ "مكون" لم يمتنع من حيث عدم التصرف، بل إنما أمتنع لأمر آخر من خارج. وأما السيرافي فذهب إلى أنه إذا بنيت للمفعول حذف أسمها، وانحذف بحذفه خبرها، إذ محال وجود مسند يغير مسند إليه، وأقيم ضمير مصدرها مقام المحذوف. وقد رد أبن عصفور هذا المذهب بأن الصحيح أنه ليس لها مصدر؛ لأنه لم يسمع قط كلامهم: كان زيدًا قائمًا كونًا. وأختار ابن خروف مذهب السيرافي، وقال: يحذفان، ويقام مصدرها مقام الفاعل. واستدل على أنها ذات مصدر بقولهم: كن قائمًا، ومحال أن يؤمر بالزمان، وإنما يؤمر بالحدث، وبقولهم: عجبت من كونك قائمًا. قال بعض أصحابنا: ولا ننكر أن (كان) لها مصدر بمعنى أنها مأخوذة منه؛ لأن كل فعل إنما يكون أبدًا مأخوذًا من الحدث، فـ "كن قائمًا" إنما هو أمر بالكون، وإنما نعني/ بقولنا لا مصدر لها ما زعم الفارسي من أن الخبر قد قام لها وقام الحدث، فلا يقال: كان زيد قائمًا كونًا، ولا ينطبق لها به أصلًا، فهو بمنزلة وذر والوذر؛ ألا ترى أنهما لا يستعملان، إنما يقال يذر. وقد رد مذهب السيرافي بأنه لا يقام إلا معمولًا قد عمل فيه الفعل، وإن أقيم مصدر أو ظرف على جهة الاتساع فإنما أقيم من بعد ما عملت فيه اتساعًا، وأنت لا تقول: كان زيدًا كونًا، فتعديها إلى مصدرها، فإذا لم يجز لها أن

تنصبه فكيف ترفعه. وزعم الاستاذ أبو الحسن بن عصفور أنه يجوز أن يحذف معمولًا ها، وتبني لما لم يسم فاعله، ويقام ظرف أو مجرور، قال: "وإنما ذكر س مكون خاصة، ولم يقل مكون فيه؛ لأنه أراد أن يبين كيف بناء المفعول منه، فإذا أردت التكلم به لم يكن بد من أن تأتي بالظرف أو المجرور، ولم تقم الظرف أو المجرور إلا بعد أن جعلته معمولًا لها. والدليل على أنها يكون الظرف أو المجرور معمولًا لها قوله تعالى (أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا)، فـ (لِلنَّاسِ) متعلق بـ (كَان)، ولا جائز أن يتعلق بـ (عَجَبًا) ولا بـ (عَجَبًا) مصدر، و (أَنْ أَوْحَيْنَا) مقدر به، ولا تتقدم صلتها عليهما" انتهى. وما ذهب إليه قد ورده ابن السراج وغيره، وزعموا أنها لا تعمل في ظرف، ولا يتعلق بها جار ومجرور. وتؤولت الآية على أن (عَجَبًا) - وإن كان مصدرًا- فإنه بمعنى أسم الفاعل، فهو بمعنى معجب، فيتعلق (لِلنَّاسِ) به وإن تقدم عليه؛ لأنه لا محذور في ذلك. وعلى تقدير بقائه على المصدرية فإنه يتسع في الظروف والمجرورات ما لا يتسع في غيرها، فيجوز تقديمها عليه. وأما الكوفيون فقالوا: يجوز بناؤها للمفعول، فإذا قلت كان زيد يقوم فالكسائي يقول: كان يقام، يجعل في كان مجهولًا، ويرد الفعل إلى يفعل ويجعل فيه مجهولًا آخر.

وقال الفراء: كين يقام، (في كان زيد يقوم)، وكين قيم، في: كان زيد قائم، ولا يقدر في الفعل شيئًا. قال الفراء: فترك الفاعل في كان وفي يقام وقيم لأنه إذا ترك من كان لم يثبت في يقوم لأنهما جميعًا فعلان لأسم واحد. وقال هشام: كين يقام، وكان يقام، إن شئت ألزمت الأول ما يلزم الثاني، وتجعل فيهما جميعًا مجهولًا، وليس واحد من المجاهيل يرجع إلى صاحبه، وإن شئت تركت الأول على حاله. ولا يجوز عند البصريين إذا قلت زيد يقوم أو قام أن ترد هذا إلى ما لم يسمم فاعله؛ لأن في يقوم ضميرًا يعود على زيد، فإذا حذفت الاسم لم يعد الضمير على شيء. وأيضًا فإن الفاعل مع الفاعل جملة، ولا تقوم الجملة مقام الفاعل. فإن قلت كان عبد الله قائمًا، ثم رددته إلى ما لم يسمم فاعله، لم يجز على مذهب البصريين للضمير الذي قائم. وأجازه/ الكوفيون، قالوا: كين قائم. إلا أن الفراء قال: إن نويت بقائم أن يكون أسمًا بمنزلة زيد ورجل جاز أن تقول: كين قائم. قال النحاس: والبصريون يجيزون كين قائم على خلاف ذا، وذلك أن تريد: كين رجل قائم. فإن قلت كان زيد قائمًا أبوه لم يجز أيضًا على مذهب البصريين أن تردده إلى ما لم يسمم فاعله لما بينا، وجاز على مذهب الكوفيين. وكذا: كان زيد حسنًا وجهه. فإن قلت يحسن لم يجز في كل قول. وفرق الكوفيون بين هذا

وبين: كان زيد يقوم. وكذا لا يجوز في: كان زيد وجهه حسن، ولا في: كان زيد أبوه منطلق، ولا في: كان زيد قائم، على أن تضمر في كان ضمير الأمر؛ لأن الجملة لا تقوم مقام الفاعل إذا كان بعضها قد عمل في بعض. والذي تختاره من هذه المذاهب هو مذهب الفارسي، وهو أنه لا يجوز أن تبني كان وأخواتها للمفعول، ولم يسمع شيء من ذلك عن العرب، والقياس يأباه، فوجب أطراحه. ولم يتعرض المصنف لغير كان من الأفعال. والفعل جامد، فلا يبني للمفعول، ومتصرف لازم لم يعتد إلى شيء البتة، فقد مر الخلاف فيه، ومتعد، وتقدم الكلام فيه، وبقى شيء منه يتكلم عليه، وهو (قال) وما في معناها إذا لم يكن لها معمول في اللفظ إلا الجملة، و (ظن) وأخواتها إذا سدت أن ومعمولًا لها مسد مفعوليها، فتقول: الجملة بعد (قال) إما أن تكون أسمية أو فعلية: فإن كانت أسمية فإما أن يكون فيها ضمير يعود على فاعل قال، أو لا يكون فيها ضمير: إن كان فيها ضمير، نحو: قال زيد أبوه منطلق- لم يجز أن يبني للمفعول. وإن يكن فيها ضمير، نحو: قال زيد عمرو منطلق- فيجوز أن يبني للمفعول، فيقال: فيقال: عمرو منطلق، فذهب الكوفيون إلى أن الجملة في موضع المفعول الذي لم يسمم فاعله. وذهب البصريون إلى أنه ضمير المصدر الدال عليه قال، والجملة بعده في موضع التفسير لذلك الضمير، فلا محل لها من الإعراب. وإن كانت فعليه فإما يكون فيها ضمير يعود على فاعل قال أو لا: إن لم

يكن فيها ضمير، نحو: قال زيد قام عمرو- جاز أن يبني، فتقول: قيل قام عمرو والخلاف بين البصريين والكوفيين في الذي يقام على ما تقدم. وإن كان فيها ضمير، وهو غير غائب، نحو: قال زيد أقوم- فيجوز أن يبني قال للمفعول، وأنت مخير في الثاني، فإن شئت أقررته على حاله، فقلت: قيل زيد يقوم- بيتها معًا، فقلت: قيل يقام، هذا مذهب الكوفيين. وذهب البصريون إلى أنه لا يجوز ذلك فيما أدى إلى أن يغير الثاني لأجل تغير الأول، سواء أكان التغير واجبًا أم جائزًا. وحيث غير بناء الثاني لبناء الأول اختلف فيه: فذهب الكسائي إلى أن فيه ضمير مجهول. وذهب بعض البصريين إلى أن فيه ضمير المصدر. وذهب/ الفراء إلى أنه فارغ. وإذا سدت "أن" ومعمولا لها مسد مفعولي ظن فإن اشتملت الصلة على ضمير غيبة يعود على فاعل ظن، نحو: ظن زيد أنه قائم، أو ظن زبد أن القائم هو، أو أن القائم أخوه- لم يجز بناء هذا للمفعول. وإن لم تشتمل جاز، نحو: ظن أني عالم، أو أنك عالم، أو ظن أن زيدًا عالم، و"أن: وما بعدها تتقدر بمصدر، فهو القائم مقام الفاعل. فلو سدت "أن" الخفيفة مسد المفعولين، نحو: ظن زيد يخرج عمرو- فيجوز أن يبني، فتقول: أظن أن يخرج عمرو. وإن كان في الصلة ضمير غيبة يعود على فاعل ظن، نحو: ظن زيد أن يقوم- فلا يجوز إلا بناؤهما معًا، فتقول: ظن أن يقام. أو ضمير متكلم أو مخاطب، نحو: ظننت أن أقوم، وظننت أن تقوم- فتقول: ظن أن أقوم، وظن أن تقوم، ويجوز فيهما: ظن أن يقام، هذا مذهب الكوفيين. وخلاف الكسائي والفراء وبعض البصريين في يقام كهو في باب قال. والبصريون على مذهبهم في أنه لا يجوز تغيير بناء الثاني لتغيير بناء الأول، لا جوزًا ولا وجوبًا، و"أن" وصلتها تتقدر بالمصدر، وهو القائم مقام الفاعل.

وقوله ولا مميز، خلافًا للكسائي لا يقام في هذا الباب مفعول معه، ولا مفعول من أجله، ولا حال، ولا تتميز؛ لأنها لا يتسع فيها، بخلاف المصدر وظرفي الزمان والمكان. فمن الاتساع في المصدر ما حكاه س: ثماني حجج حججتهن بيت الله، وقال: ويوم شهدناه سليمًا وعامرًا ......... وحكي المصنف عن الكسائي جواز إقامة المميز، وقال في الشرح ما نصه: "وأجاز الكسائي في امتلأت الدار رجالًا: أمتلئ رجال. وحكي: خذه مطيوبة به نفس، ومن الموجوع رأسه، والمستفوه رأيه. والموفوق أمره" انتهى. وقال الأستاذ أبو الحسن بن عصفور وقد ذكر أن التمييز لا يقام مقام الفاعل في هذا الباب، فال: "فأما قوله تعالى (بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا)، و (سَفِهَ نَفْسَهُ) وأمثالها فالفراء يقول: هو ينتصب بتحويل الفعل عنه في الأصل، والأصل: بطرت معيشتها، وسفهت نفسه، والناصب له الحديث والمحدث عنه، ولم يجز إقامتها مقام الفاعل. وذهب الكسائي إلى أن ينتصب على التشبيه

بالمفعول به، وانتصب بخروجه عن الوصف، كغيره من المنصوبات، وأجاز أن يقام مقام الفاعل، وحكي عن العرب ما حكاه المصنف، ولم يجز تقديمه، فلم يجز: نفسه سفه زيد" انتهى. وتأتي بقية الأقوال في باب التمييز. فعلى ما حكاه ابن عصفور لا يكون انتصابه في مذهب الكسائي على التمييز، إنما انتصب عنده على التشبيه بالمفعول به، فإذا بناه للمفعول فلم يبن التمييز، إنما يني المشبه بالمفعول به، وهذا مخالف لما حكاه المصنف عن الكسائي أنه يجيز إقامة التمييز هنا. ووافق ابن أصبغ المصنف في النقل عن الكسائي أنه يقيم/ التمييز، فقال: لا يجيز البصريون بناء الفعل على التمييز، وأجازه الكسائي وهشام. وكذا قال أبو جعفر الصفار، قال: "وأجاز الكسائي وهشام إذا قلت: طبت بذلك نفسًا، وضقت ذرعًا، أن تقول" طيب بذلك نفس، وضيق به ذرع. قال هشام: شبه بالخارج من الوصف وإن كان مفسرًا؛ لأن الفعل يأتي بالمضي والاستقبال. وحكي الكسائي: خذه مطوية به نفس. ولا يجيز الكسائي مع ذلك تقديمه ولا إضماره لأنه ليس بمفعول صحيح. فأما البصريون والفراء فلا يجيزون من هذا شيئًا. فإن قلت وجع عبد الله رأسه لم يجز أيضًا: وجع رأسه: ولا: ألم بطنه، عند البصريين والفراء. وعلة البصريين أن فيه معنى (من)، وعلة الفراء أنه عنده مميز كالأول. وأجازه الكسائي، وأجاز فيه التقديم والإضمار لأنه قد قوي عنده" انتهى كلام الصفار، وهو مخالف لكلام ابن عصفور في قوله: ولم يجز تقديمه، والصفار يقول: وأجاز فيه التقديم. وقوله ولا يجوز: كين يقام، ولا: جعل يفعل تقدم الكلام في: كين يقام.

وأما قوله ولا جعل يفعل فـ "جعل" هذه من أفعال المقاربة، وهي من باب كان، وأصله: جعل زيد يفعل، والخلاف الجاري في "كين يقام" هو جار في "جعل يفعل". ومما يلحق بهذا الباب من الأفعال مما في جواز بنائه للمفعول خلاف ما ذكره بعض أصحابنا، وهي مسألة: اشتكى زيد عينه، ونحوه، قال: لا يجوز بناؤه للمفعول عند البصريين ولا الفراء، وأجازه الكسائي وهشام.

-[ص: فصل يضم مطلقًا أول فعل النائب، ومع ثانية إن كان ماضيًا مزيدًا أوله تاء، ومع ثالثه إن أفتتح بهمزه وصل. ويحرك ما قبل الآخر لفظًا إن سلم من إعلال وإدغام، وإلا فتقديرًا بكسر إن كان الفعل ماضيًا، ويفتح إن كان مضارعًا.]- ش: أخذ المصنف يذكر كيفية بناء الفعل للمفعول، وهو المطلب الرابع، إذ ذكر أولًا البواعث على حذف الفاعل، وثانيًا ما يقوم مقام الفاعل، وثالثًا أشار إلى بعض الأفعال التي لا تبني للمفعول على رأي بعضهم، وهي كان وأخواتها. فذكر في هذا أن الفعل المبني للمفعول يضم أوله مطلقًا، سواء أكان ماضيًا أو مضارعًا، فإن كان أوله تاء مزيدة بضم ثانية، فتقول في تعجل وتجوهر وتشيطين وتضارب: تعجل وتجوهر وتشيطن وتضورب، وتنقلب ياء تفعيل وألف تفاعل واوًا، كما انقلبت في فعيل وفاعل. وتقول في المضارع: يتعجل ويتجوهر ويتشيطن ويتضارب. وإن كان فيه همزة وصل ضم مع ضم أوله ثالثة، فتقول: أنطلق في الماضي، وينطلق في المضارع. وقوله ويحرك ما قبل الآخر لفظًا إلى آخره مثاله/ ضرب ويضرب. ومثاله في المعتل والمدغم قولك قيم ورد ويقام ويرد. وجماع القول في الماضي المعتل إنه إما أن يكون ثلاثيًا أو زيد: فإن كان ثلاثيًا فإما أن يكون معتل الفاء، أو العين، أو اللام: فإن كان معتل الفاء بالواو جاز قبلها همزة، سواء أكان مضعفًا أن غير مضعف، نحو أعد في وعده، وأود في ود، إلا أن المضاعف تحذف الكسرة من عينه، ويدغم، كما كان قبل تحويله للمفعول.

وإن كان معتل العين فيأتي حكمه عند كلام المصنف فيه إن شاء الله. وإن كان معتل اللام تتقلب ألفه ياء وإن كانت منقلبة عن واو، نحو غزي. ومعتل ألفًا بالواو واللام يجوز قلب واوه همزه، نحو أقي في وقي. ولغة لطيئ يقرون الألف في معتل اللام، فيقولون: رضا وزها، في رضي وزهي، ووقًا في وقي، وقال الشاعر: أفي كل عام مأتم تبعثونه على محمر، ثوبتموه، وما رضا وقد استعمل ذلك غير طيئ، قال علي بن عبد الرحمن بن علقمة بن عبده التميمي: زها الشوق حتى ظل إنسان عينه يفيض بمغمور من الماء متأق ومعتل العين واللام إن كانا مثلين جاز حذف الحركة في المثل الأول، وأدغم في الثاني، فتقول في حيي حي. وإن كان زائدًا على ثلاثة فإن كان معتل الفاء بواو جاز إبدالها همزة، فتقول أوعد في ووعد. وإن كانت واو ساكنة، وبعدها تاء أفتعل- جاز أن تبدل منها تاء وتدغمها في تاء أفتعل، فتقول في أوتعد من الوعد أتعد. وإن كانت الفاء ياء ساكنة أبدلت منها واوًا، فتقول في أيقن مبنيًا للمفعول أوقن. وإن كان بعدها تاء أفتعل أبدلت منها تاء، وأدغمتها فيها، فتقول في لغة من قال ايتبس منن اليبس: اوتبس، فتبدل منها واو، وفي لغة من قال اتبس: اتبس، بالإبدال والإدغام.

وإن كان معتل العين على وزن انفعل وافتعل فيأتي حكمه عند كلام المصنف فيه إن شاء الله. أو على غير ذلك، وصحت في فعل الفاعل- صححت في فعل المفعول، فتقول في استحوذ: استحوذ، وفي أطول: أطول، وفي أغيل: أغيل. وإن لم تصح- وإن كان أصل ما انقلبت الألف عنه ياء أو واوًا- فلا يجوز إلا الياء، نحو أبين واستبين وأعيد واستعيد. ومن قال من العرب اسطعت بحذف التاء في فعل الفاعل جاز له إذا بناه للمفعول أن يقول اسطيع واسطوع، ومن قال استطاع بالرد قال استطيع. ومعتل اللام يصير ياء، تقول: أعطي ورومي، في أعطى ورامي. ومعتل الفاء واللام إن كانت ألفًا ياء قبلت بعد الضمة واوًا، أو واوًا مضمومة جاز/ قلبها همزة، وتنقلب الألف ياء، فتقول في أيديت عنده يدًا: أودي عنده يد، وفي واريت: وروى وأروى، واستودي الحساب. ومعتل العين واللام كمعتل اللام خاصة، فتقول في أحيا واستحيا وأحييت وأحياييت وأغوى واستغوى: أحيي واستحيي وأحيوي وأحيويي وأغوي واستغوي، ويجوز أحي واستحي وأحيي وأحيوي. والمعتل اللام خاصة إذا ضوعف جري مجري المعتل العين واللام، فتقول في افعللت وافعاللت من رمي: ارمييت وارماييت، فإذا بنيا للمفعول قال: أرميي وأرمويي وأرمي وأرموي. وإن أسند شيء من ذلك إلى ضمير متكلم أو مخاطب أو نون إناث لم يجز الإدغام، نحو أحييت وأحييت واستحيين.

والمضارع من هذا كله مضموم أوله مفتوح ما قبل آخره، ويصير حرف العلة بعده ألفًا، وما كان منه محذوف ألفاء ترد، وما كان في عينه بالثقل كسره تصير ألفًا، فتقول: يتلافى ويحيا ويستحيا ويغوي ويحيايا ويوعد ويقام ويستقام. وما روى أبو زيد من قولهم: لم يجد، وبعضهم من قوله: ............ لم يدع من المال إلا مستحتا أو مجلف شاذ. وجماع القول في المضاعف الماضي أنه إما أن يكون ثلاثيًا أو أزيد: إن كان ثلاثيًا، وفك في الفاعل- فك في فعل المفعول، فتقول في مششت الدابة: مشش مشش كثير، وكذا نظيره الذي فك شذوذًا. وإن لم يفك فتحذف الكسرة، وتدغم، فتقول رد، وسنذكر لغة الكسر إن شاء الله عند ذكر المصنف لها. وإن كان زائدًا على ثلاثة أحرف، وهو مضعف العين، فكالصحيح، فتقول في خلص: خلص. أو مضاعف غير العين، والأول من المثلين بعد حرف ضم لأجل البناء للمفعول- فكالثلاثي المدغم، فتقول ارتد واضطر وانقد. ومن كسر في رد كسر هنا. أو الأول بعد حرف ساكن، والفعل ملحق- فكالملحق به، نحو جلبب كدحرج. أو غير ملحق، والساكن الصحيح- فلا يجوز إلا نقل الكسرة من أول المثلين إلى الساكن قبله، نحو قد أقشعر من هذا الأمر، واطمئن إلى زيد. أو حرف مد ولين لم يجز عند البصريين إلا حذف الكسرة من أول

المثلين والإدغام، نحو أحمور من الخجل، وخجول فلان. وزعم الكوفيون أنه يجوز أحمير وخيل، وأنه إذا تركت الهمزة في نحو أطمأنت جاز أن تقول أطمون وأطمين، كما قلت احمور وأحمير، قال الفراء: سمعت أبا ثروان يقول: قد أطمين عند. وهذا شيء لا يعرفه البصريون. وإن أسند شيء من هذا إلى ضمير متكلم أو مخاطب أو نون إناث زال الإدغام، وكسر الأول، تقول: رددت ورددت ورددن وارتددت وارتددن. والمضارع من جميع المضاعف يسكن أول مثليه بحذف الفتحة منه إن كان الساكن قبله/ حرف مد ولين، وتنقل منه إلى الساكن قبلها إن كان صحيحًا، ولم يكن الفعل ملحقًا، ثم يدغم أولهما في الثاني، فتقول: يرد ويرتد ويقشعر ويحمار ويخال. والملحق كالذي ألحق به، فتقول: يجلبب كيدحرج. وإن أسند شيء منه إلى نون الإناث زال الإدغام، وعاد الأول منهما إلى أصله من التحريك بالفتح، فتقول يرددن. -[ص: وإن أعتلت عين الماضي ثلاثيًا أو على انفعل أو افتعل كسر ما قبلها بإخلاص أو إشمام ضم، وربما أخلص ضمًا، ويمنع الإخلاص عند خوف اللبس. وكسر فاء فعل ساكن العين لتخفيف أو إدغام لغة، وقد تشم فاء المدغم، وشذ في تفوعيل تفعيل. وما تعلق بالفعل غير فاعل أو مشبه به أو نائب عنه منصوب لفظًا أو محلًا. وربما رفع مفعول به ونصب فاعل لأمن اللبس.]- ش: مثال ذلك قال وباع وانقاد واختار. وإطلاق المصنف لا يصح لأنهم يطلقون على ما فيه حرف العلة سواء أصح أم أعتل معتلًا، فيوهم أن مثل عور وصيد وأعتون يكون فيه الحكم الذي ذكره، وليس كذلك، بل حكم هذه التي صحت فيها العين حكم الصحيح، فتقول: عور في المكان، وصيد فيه، واعتون

فيه، فإزالة هذا أن يزيد فيه "بألف"، أي: وإن اعتلت بألف. وذكر المصنف في مثل قال وباع وانقاد واختار وجوها ثلاثة: الأول: كسر ما قبلها بإخلاص، فتقول: قيل وبيع وأنقيد وأختير، فالأصل في قيل: قول، استثقلت الكسرة على الواو، فنقلت إلى القاف بعد تقدير حذف حركتها، فسكنت الواو، فأنقلبت ياء لكسرة ما قبلها، نحو ميزان. والأصل في بيع: بيع، فاسثقلت الكثرة على الياء، فنقلت إلى الباء بعد تقدير حذف حركتها، فالعمل في ذوات الواو أكثر منه في ذوات الياء. وأصل أنقيد واختير: أنقود وأختير، فعمل في قيل وبيع. الوجه الثاني: كسر ما قبل عين الكلمة بإشمام ضم. وهذان الوجهان قرئ بهما في السبعة. وقال أبو الحكم بن عذرة: "ومن الناس من ذهب إلى أن الإشمام إنما يتصور في الوقف دون الوصل، وذلك أن معناه ضم الشفتين من غير صوت، وذلك لرأي العين لا للسمع. قال: والإشمام على هذا لا يتمكن أولًا لأنه لا بد لك أن تشوب الكسرة شيئًا من صوت الواو، فتغير صوت الناطق بهذه الكسرة إلى صوت الضمة، فتبطل حقيقة الإشمام. ومن القراء من زعم أن الإشمام يمكن أولًا من غير أن يتغير لفظ الكسرة، كما يكون الإشمام في الوقف، ولا تتغير الكسرة، وهذا ليس في قوة البشر، ولو تكلفت ذلك لم تستطعه.

وقد كان الأستاذ أبو الحسن- يعني أبن عصفور- يقول: لعل هذا المذكور يهيئ شفتيه للنطق بالضمة قبل النطق بالحرف، ثم ينطق به، فيكون الإشمام في غير الأواخر عكس ما هو في الآخر، وهو رأي فاسد؛ لأنه إذا قام الدليل على أن النية بالحركة أن تكون بعد الحرف وجب ألا يقع الإشمام إلا بعد نطق الحرف؛ إذ هو إشارة للحركة، فينبغي أن تكون تلك الإشارة في موضع الحركة، وأيضًا فقد اتفق في الوقف على الإشمام بعد النطق بالحرف، واختلف هنا، فينبغي أن يرد ما أختلف فيه إلى ما أتفق عليه، فإن تعذر ذلك كما تقدم وجب ألا يقال إنه إشمام، ولو قيل فيه أنه روم لكان صحيحًا؛ لأن الروم عبارة عن تضعيفك النطق بالحركة حتى يسمع لها صويت ضعيف يكاد يخفي، لكن يدركه الأعمى، وهذا موجود في مثل قيل وغيض، فينبغي أن يسمى رومًا، لكن عبارة من تقدم عنه بالإشمام كما ذكرت لك" انتهى كلام أبن عذره. وقال س: "وبعض العرب يقول: خيف وقيل وبيع، فيشم". قال ابن خروف: "الإشمام هنا صوت، كما تريد ذلك في رد؛ ألا ترى أنه لا يجري بضم الشفتين إلا صوت الواو، ولا بد منذ لك".وقال الأستاذ أبو علي: زعم أبو عمرو الداني أن الإشمام هنا. بمعنى الاختلاط، وأنه لا بد من سماعه، ومحال أن يكون الإشمام في مثل هذا الموضع من التي وقع الإشمام فيها في الوصل كالإشمام في الوقف. يريد غير مسموع. وقال: إنه لا يطوع بالنطق به لسان. قال الأستاذ أبو علي: وقد كان شيخًا أبو عمرو بن الطفيل المقرئ المجود يتقنه، ويشم الحرف

الموصول من غير أن يسمع إشمام، وقد سمعته يورده غير مرة، ولا يسمع لإشمامه صوت أصلًا. وقد قال س في باب من أبواب الأجزاء: "وسمعنا من العرب من يشم الضم". وهذا ظاهرة أن الإشمام في الموصول مسموع كما قال أبو عمرو الداني. وقوله ربما أخلص ضمًا قال المصنف: "وبعض العرب يخلص الضمة، فإن كانت العين واوًا سلمت لسكونها بعد ما يجانسها، وإن كانت ياء اقلبت واوًا لسكونها بعد ضمة، وعلى هذه اللغة قول الراجز: ليت، وهل ينفع شيئًا ليت ليت شبابًا بوع، فأشتريت ومثله الآخر: حوكت على نيرين إذ تحال تخبط الشوك، ولا تشاك" انتهى. وهذه لغة فقعس ودبير، وهما من فصحاء بني أسد، وهي موجودة في لغة هذيل. وهذه اللغات الثلاثة جارية في انقاد واختار إذا بنيا للمفعول. وقال/ أبو الحكم بن عذره. "لغة قول وبوع هي أراد اللغات لشذوذها استعمالًا وقياسًا، وهذه اللغة الثالثة إنما تكون في الثلاثي من الأفعال، فأما الزائد على ذلك فليس فيه

إلا النقل، نحو أنقيد" انتهى. فعلى هذا لا يجوز أنقود ولا أختور. وما ذكرناه قبل من جواز ذلك نقله الأستاذ أبو الحسن بن عصفور وشيخنا الأستاذ أبو الحسن الأبذي، كما نقله المصنف. وقوله ويمنع عند خوف اللبس قال المصنف في الشرح: "لا يجوز إخلاص الكسر ولا إخلاص الضم إذا أسند الفعل إلى تاء الضمير أو نونه إلا بشرط ألا يلتبس فعل المفعول بفعل الفاعل؛ بل يتعين عند خوف الالتباس إشمام الكسرة ضمًا. ومثال ما يخاف فيه الالتباس قولك في بيع العبد: بعت يا عبد، وفي عوق الطالب: عقت يا طالب، فإن هذا ونحوه لا يعلم كون المخاطب فيه مفعولًا إذا أخلصت الكسرة مما عينه ياء، والضمة مما عينه واو، بل الذي يتبادر إلى ذهن السامع كون المسند إليه فاعلًا، والمراد كونه مفعولًا، ولا يفهم ذلك إلا بالإشمام، فوجب التزامه في مثل هذا" انتهى كلامه. وهذا الذي ذكره المصنف من أنه يمنع الإخلاص عند خوف اللبس لم يذكره أصحابنا، ولم يعتبروه، قالوا: إذا أسند شيئًا من هذه الأفعال المعتلة المبنية للمفعول إلى ضمير متكلم أو مخاطب أو نون جماعة المؤنث فإن العرب تختار الكسر في الفاء إذا كانت فيما سمي فاعله مضمونة؛ فيقولون: طالما قدت، فيضمون الفاء إذا كان مسندًا إلى الفاعل، ويكسرونها إذا كان مسندًا للمفعول، ومنهم من يشم الضم تفرقه بين المعنيين، وقد يجوز أن تضم الفاء فيهما. وتختار العرب الضم في الفاء إذا كانت فيما سمي فاعله مكسورة، فيقولون: طالما ضمت إذا كان مسندًا للفاعل، وطالما ضمت وضمن إذا كان مسندًا للمفعول تفرقه بين المعنيين. ومن أشار إلى الضم في الفاء أشار إليه إذا حذف الياء، وقد

يجوز أن تكسر الفاء فيهما. انتهى ما نقلوه عن العرب، ولم يشترطوا في الإخلاص ألا يلبس، ولا تعين إشمام الكسرة ضمًا إذا ألبس، بل ذكروا في نحو قدت الكسر، وفي نحو بعت الضم، على سبيل الاختيار، ثم جواز الإشمام، ثم جواز الضم في نحو فقدت مبنيًا للمفعول، كالبناء للفاعل. وفي شرح المهاباذي: "لم يخف الالتباس في خفت إذا كان مبنيًا للمفعول، وجواز الكسر في بعت مبنيًا للمفعول؛ لأن الفرق بينهما حاصل تقديرًا وإن لم يكن فرق بينهما- يعني لفظًا- ومن ذلك ما حاكاه ذو الرمة عن أمة بني فلان: "غثنا ما شئنا"، وهو فعلنا؛ لأنه يقال: غبث القوم، فإذا رددته إلى نفسك فلت: غثت" انتهى. ولم يبالوا بالإلباس، كما لم يبالوا به حين قالوا "مختار" لأسم الفاعل واسم المفعول، والفارق بينهما تقديري لا لفظي. وأما س فلم يتعرض لهذا التفصيل الذي ذكره أصحابنا، ولا لما ذكره المصنف من أنه يمنع الإخلاص عند خوف الالتباس، بل أجاز فيها إذا أسندت إلى ضمير متكلم أو مخاطب أو نون إناث الأوجه الثلاثة التي هي في قيل وبيع إذا كانت مسندة لغير ضمير المتكلم ونون الإناث؛ قال س: "وإذا قلت فعلت أو فعلن أو فعلنا من هذه الأشياء ففيها لغات: أما من قال قد بيع وزين وخيفت وهيبت فإنه يقول: قد خفنا وبعنا وخفن وزن وبعت وهبت، يدع الكسرة على حالها، ويحذف الياء لأنه التقى ساكنان.

وأما من ضم بإشمام إذا قيل فعل فإنه يقول: قد بعنا، وقد رعن، وقد زدت. وكذا جميع هذا يميل الفاء ليعلم أن الياء قد حذفت، فيضم، وأمال كما ضموا وبعدها الياء لأنه أبين لفعل. وأما الذين يقولون بوع وقول وخوف وهوب فإنهم يقولون بعنا وهبنا وخفنا وزدنا، لا يزيدون على الضم والحذف، كما لا يزيد الذين قالوا رعن وبعن على الكسر والحذف" انتهى كلام س. وهذا هو الصحيح المنقول عن العرب: إذا قالت حذام فصدقوها فإن القول ما قالت حذام. وقوله وكسر فاء على ساكن العين لتخفيف أو إدغامه لغة قال المصنف في الشرح: "وقد يقال في فعل: فعل تخفيفًا دون نقل، وربما نقلوا بعد التخفيف، فقالوا في علم: علم" انتهى. وقوله وكسر فاء فعل ساكن العين لتخفيف أو إدغامه لغة قال المصنف في الشرح: "وقد يقال في فعل: فعل تخفيفًا دون نقل، وربما نقلوا بعد التخفيف، فقالوا في علم: علم: انتهى. والذين قالوا في ضرب ضرب، فسكنوا الرء، هم الذين يقولون في قيل وبيع: قول وبوع، لم ينقلوا في المعتل ولا في الصحيح، بل سكنوا فيهما، فينبغي أن تكون لغة ضرب بكسر الضاد ليس مفرغة على هذه اللغة؛ لأن هؤلاء ليس في لغتهم النقل ولا في المعتل ولا في الصحيح، بل يكون ذلك من لغة من كسر ما قبل الآخر، ثم سكن، ثم نقل الكسرة إلى الفاء، فقال ضرب. وقوله لغة أما كسر الفاء إذا سكنت العين تخفيفًا فإن مذهب الجمهور أنه لا يجوز، وحكي عن قطرب إجازته، فعلى مذهب الجمهور ليس بجائز، ولا هو لغة كما ذكر المصنف.

وأما كسر الأول من المضاعف إذا وجب الإدغام نحو رد فقد قاله غيره، فيقول في رد: رد بكسر الراء، نقلت حركة العين إلى الفاء بعد تقدير سكونها. وقال الجمهور: لا يجوز إلا الضم. وأجاز الكسر بعض الكوفيون، وهو الصحيح، وهو لغة لبني ضبة ولبعض بني تميم ومن جاورهم، يقولون: رد الرجل، وقد/ قميصه، وقرأ علقمة (رُدَّتْ إِلَيْنَا)، (وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا)، وهي في مذهب الذين قالوا قيل وحيل. إلا أن الوجه في فاء رد الضم، والوجه في فاء قيل وكيل الكسر. وقال المهاباذي: من أشم في قيل وبيع أشم في رد. فعلى هذا يكون في رد وجوه قيل وبيع: إخلاص الضم، والإشمام، وإخلاص الكسر.

مسائل في هذا الباب الأولى: يجوز في قولك "ضرب زيد قيامًا وقعودًا" أن يتقدم قيامًا وقعودًا - وانتصابهما على الحال- فتقول: قيامًا وقعودًا ضرب زيد؛ لأن العامل فعل متصرف، وفعل ما لم يسم فاعله يجوز أن يتعدى إلى الحال والظرف كفعل ما سمي فاعله، والتقدم والتأخير في مثل هذا سواء، هذا مذهب البصريين، وسواء عندهم أكان ذو الحال مضمرًا أم ظاهرًا. ومنع التقديم هشام. وأجازه الكسائي إن كانت الحال من مضمر، فإن كانت من مظهر منع. المسألة الثانية: يضرب أي رجل- بالنصب في أي- يجوز فيه التقديم والتأخير لأنهما حال عندهم. ومنع هشام التقديم، وقال: القطع لا يتقدم الاسم وفعله، ويجوز تأخيره. قال: تقطعه من المضمر. وأجاز التقديم الكسائي لأنه يقدم حال المضمر خاصة. وفصل الفراء، فقال: إن قدرت الكلام لا يتم إلا بالحال جاز التقديم، ومنع إن قدرته يتم دونها؛ لأن الحال عنده على ضربين، يقدمها في الناقص، ولا يقدمها في التام. المسألة الثالثة: ذهب الكوفيون، والمبرد، وابن الطراوة إلى أن صيغة الفعل المبني للمفعول أصل غير مغير من صيغة الفاعل. ونسب هذا المذهب ابن الطراوة إلى س. وذهب جمهور البصريين إلى أنه ليس بأصل، وأنه مغير من فعل الفاعل. وهذا الخلاف لا يجدي كبير فائدة. واستدل للمذهب الأول بأنه قد جاءت أفعال مبنية للمفعول، ولم تبن قط

للفاعل، نحو جن زيد، وزكم، وورد، من ورد الحمى، ولقي، من اللقوة، وفلج، ورهصت الدابة، ونحو ذلك، ولو كان فرعًا للزم ألا يوجد إلا حيث يوجد الأصل. وبأنهم همزوا الواو المضمومة في أوله، فقالوا في وعد: أعد، في وقتت، أقتت، ولو كان مغيرًا من باب الفاعل لكانت الضمة عارضة، فلم تهمز؛ إذا كان يحكم لها بحكم الأصل، وه ومن وعد ووقت، وليس يهمزه أحد لخفة الفتحة؛ ألا ترى أنهم لم يهمزوا واو (لَتَرَوُنَّ)، ولا (اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ) لعروض الضمة فيها، فدل على أن الضم أول الفعل أصل. ورد الأول بأن العرب قد تستغني بالفرع عن الأصل، الدليل على ذلك الجموع التي وردت ولا مفرد لها، كعباديد وشماطيط. وأجيب/ عن الثاني بأنه- وإن كان فرعًا- فقد صار بإزاء معنى، إذا استعمل ذلك المعنى كان هذا التغيير مطردًا لا بد منه، فصار كالأصل. وأيضًا فإنه كثيرًا ما يعتد بالعارض في لسان العرب، فهذا منه. واستدل للمذهب الثاني بقول العرب بويع وسوير، فلم يدغموا ذلك، والقاعدة أنه متى اجتمع ياء وواو وسبقت احدهما بالسكون أدغم في الآخر، فلما كان مغيرًا من ساير وبايع حمل على أصله، فلم يدغم لعروض هذا الاجتماع.

وأجيب عن كونه لم يدغم- وإن كان أصلًا- بأنه كان لو أدغم يلتبس فوعل بفعل، ولأنه يمكن أن يحمل سوير على ساير وإن لم يكن أصلًا، كما حملوا عور وصيد على أعور وأصيد، وليس ذلك أصلًا لهما، وسوير في معنى ساير، بمعنى أنه إذا سوير فقد سايره مساير. واستدل أيضًا لهذا المذهب الثاني بقولهم مدعو مراعاة للأصل الذي هو دعوت إذا زالت الكسرة، كما قالوا موازين جمع ميزان حيث زالت الكسرة، وكما قالت مياسير جمع موسر حيث زالت الضمة، وبأن طلب الفعل للفاعل من جهة المعنى أولًا وللمفعول ثانيًا، فينبغي أن تكون بنيته له أولًا، وللمفعول ثانية عن بنيته للفاعل. المسألة الرابعة: تقول العرب: مررت برجل كفاك بعه رجلًا، فـ "به" في موضع رفع على الفاعلية، ولو سقطت الباء لاستكن الضمير في كفاك إذ تقدم عليه مفسره، ولا يجوز رد هذا الفعل لما لم يسم فاعله في هذا الترتيب مع وجود "به". وأجاز ذلك الكسائي، فتقول: مررت برجل كفيت به رجلًا. وغلطه الفراء، وقال: الثاني في رفع، فكان ينبغي أن يسقط، وإن سقط ذهب المدح. وقوله وما تعلق بالفعل وليس بفاعل ولا شبيه به يعني بالشبيه بالفاعل أسم كان وأخواتها. وقوله أو نائب عنه هو المفعول الذي لم يسم فاعله. وقوله منصوب لفظًا يعني كالمصدر وظرف الزمان وظرف المكان والمفعول

به والحال والتمييز والمستثنى- بشرط جوزا نصبه- والمفعول معه والمفعول من أجله. وقوله أو محلًا مثاله المجرور بحرف زائد، نحو: ما رأيت من أحد، أو بغير زائد، نحو: مررت بزيد. وقوله ربما رفع مفعول به إلى آخره مثاله: خرق الثوب المسمار، وانتصب العود على الحرباء، وقول الشاعر: مثل القنافذ هداجون، قد بلغت نجران، أو بلغت سواتهم هجر والسوات هي البالغة، ن وهجر هي المبلوغة، وقول الآخر: إن سراجًا لكريم مفخرة تحلى به العين إذا ما تهجره. / وحقه أن يقول: يحلي بالعين، قال ثعلب" حلا الشيء في فمي يحلو: وحلي بعيني يحلي، وحلاوة فيهما جميعًا، وقول الفرزدق في ضيافته الذئب: وأطلس عسال، وما كان صاحبًا رفعت لناري موهنًا، فأتاني أي: رفعت له ناري، وقول النابغة:

على حين عاتبت المشيب على الصبا ................ أي: عاتبني المشيب على الصبا. وظاهر كلام المصنف أن ذلك جائز في الكلام على قلة إذا لم يلبس. وقلب الإعراب لفهم المعنى فيه مذاهب ثلاثة: أحدها: أنه يجوز ذلك في الكلام والشعر اتساعًا لفهم المعنى. واستدل لهذا المذهب بقوله تعالى (مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ)، وبقول العرب: إن فلانة لتنوء بها عجيزتها، فالعصبة والعجيزة لا تثقل، إنما يثقل بهما، والمعنى: لتنوء العصبة بها، ولتنوء فلانة بعجيزتها، أي: تثقل بها، وبقولهم: عرض الناقة على الحوض، وإنما يعرض الحوض على الناقة، وأدخلت القلنسوة في رأسي، والمعنى: أدخلت في القلنسوة. ومن القلب قوله: كانت فريضة ما تقول كما كان الزناء فريضة الرجم وقوله: وتركب خيل لا هوداة بينها وتشقى الرماح بالضياطرة الحمر. التقدير: كما كان الرجم فريضة الزني، وتشقى الضياطرة الحمر بالرماح وإلى هذا المذهب في الآية ذهب أبو عبيده وجماعة، وأنه على القلب.

وأجاز أبو علي في قوله تعالى {وآتَانِي رَحْمَةً مِّنْ عِندِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ} أن يكون من المقلوب، أي: فعميتم عليها. وكثيرًا ما يقول به أبو العباس في القرآن وغيره. المذهب الثاني: أنه لا يجوز إلا لمجرد الضرورة. المذهب الثالث: أنه لا يجوز إلا للضرورة وتضمين الكلام معنى يصح معه القلب، كقوله: .............................. ........... أو بلغت سواتهم هجر حمله على المعنى، فكأنه قال: أو حملت سواتهم هجر؛ لأنه إذا بلغت السوات هجر فقد حملتها هجر. والذي صححه أصحابنا أنه لا يجوز في الكلام، ولا يجوز في الشعر إلا في حال الاضطرار. والصحيح أن أكثر ما جاء من القلب سببه التضمين، وقد يجيء منه في الضرورة ما لا يلوح فيه وجه التضمين، بل قلب لمجرد الضرورة. وقد تأولوا {لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ}، ولتنوء بها عجيزتها، على أن الباء للتعدية، أي: لتنئ العصبة، ولتنيئها عجيزتها، كالباء في {لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ}، أي:

لأذهب سمعهم. وعلى /هذا خرج الآية الكسائي والفراء. وفي البسيط: وقد يجوز أن يتبادلا _يعني الفاعل والمفعول_ الإعراب، وذلك في موضعين: أحدهما: أن يكون كل واحد منهما فاعلًا من جهة المعنى، نحو: ضارب زيد عمرًا، وقوله: .............................. قرع القواقيز أفواه الأباريق والثاني: أن يكون مفهومًا من جهة المعنى، نحو: خرق الثوب المسمار، وكسر الزجاج الحجر. وقيل: وقد يجوز رفعهما معًا، ونصبهما معًا، لفهم المعنى، وأنشدوا: إن من صاد عقعقًا لمشوم كيف من صاد عقعقان وبوم فرفع عقعقان وبوم؛ لأنه قد عرف أنهما مصيدان، ومنه: قد سالم الحيات منه القدما

-[ص: فصل يجب وصل الفعل بمرفوعة إن خيف التباسه بالمنصوب، أو كان ضميرًا غير محصور، وكذا الحكم عند غير الكسائي وابن الأنباري في نحو: ما ضرب عمرو إلا زيدًا. فإن كان المرفوع ظاهرًا والمنصوب ضمير لم يسبق الفعل ولم يحصر فبالعكس. وكذا الحكم عند غير الكسائي في نحو: ما ضرب عمرًا إلا زيد، وعند الأكثرين في نحو: ضرب غلامه زيدًا. والصحيح جوازه على قلة.]- ش: مرفوع الفعل يشمل الفاعل والمفعول الذي لم يسم فاعله واسم كان وأخواتها، ويتنزل منزلة الجزء منه، والأصل أن يليه، والفصل بينهما بالمنصوب جائز ما لم يعرض موجب للبقاء على الأصل أو الخروج عنه. وخوف الالتباس بكونهما مقصورين أو مضافين إلى ياء المتكلم أو مشارين أو نحوهما مما لا يظهر فيه إعراب من غير دليل على تعيين الفاعل موجب لتقديم الفاعل على المفعول؛ هكذا قال ابن السراج في أصوله والجزولي والمتأخرون من أصحابنا. وقد نازعهم في ذلك أبو العباس الإشبيلي المعروف بابن الحاج، وكان من تلاميذ الأستاذ أبي علي، ورد ذلك على ابن عصفور في مقربه، وقال: "لا محصول لما ذكروا، ولا يوجد في كتاب سيبويه شيء من هذه الأغراض الواهية". قال: "وبيان ذلك أن في العربية أحكامًا مفرطة الكثرة، إذا حدثت طرأ منها لبس، ثم لا نقول بالقول المطلق إنه لا يجوز إحداثها، وذلك كتصغير عمر وعمرو، فإن اللفظ بهما واحد، ولا نقول لأجل ذلك لا يجوز تصغيرهما أو تصغير أحدهما، ولكن نقول أليس من المقاصد المعروفة بين العقلاء إجمال ما يتخاطبون به، وهذا

ليس خاصًا بلسان، بل هو عام في جميع الألسنة، ثم نقول: لا يبعد أن /يقصد قاصد لإفادة أن موسى ضرب عيسى، أو ضربه عيسى، فيأتي في ذلك باللفظ المحتمل، وهو لم يقصد إلا إعماء هذا الخبر، وبقيت فيه بعد فائدة أخرى، وهو أنه ضرب أحدهما الآخر من غير تعيين. ونقول أيضًا: لا يمتنع أن يتكلم به لغة، ويتأخر البيان لوقت الحاجة، فإن تأخير البيان يجوز عقلًا عند الكل، ويجوز شرعًا عند الأكثرين، قال به الشافعي وأكثر أصحابه والأقل من أصحاب أبي حنيفة وبعض أصحاب مالك وحذاق المتكلمين. نعم يمكن أن يقال هنا إذا أجملا فينبغي أن يبقي مع الظاهر من تقديم الفاعل، لكن ليس هذا قطعًا على منعه. قال الزجاج في معانيه في قوله سبحانه {فَمَا زَالَت تِّلْكَ دَعْوَاهُمْ}: يجوز أن يكون {تِّلْكَ} في موضع رفع على اسم {زَالَت}، وفي موضع نصب على خبر {زَالَت}، ولا اختلاف بين النحويين في الوجهين" انتهى. فعلى ما قاله ابن الحاج، واتبع فيه الزجاج، وذكر أن س لا يتعرض لشيء مما ذكره ابن السراج ومتأخرو أصحابنا _لا يجب تقديم الفاعل على المفعول وإن ألبس. ونفرع على المشهور، فنقول: إذا ألبس وجب تقديم الفاعل، ويزول الإلباس بقرينة معنوية، كولدت هذه هذه، تشير بالأولى إلى صغيرة، أو كقولك: أكل كمثرى موسى، أو لفظية كضربت موسى سعدي، وضرب موسى العاقل عيسى. وإنما قال "مرفوع الفعل" لأنه لو كان مرفوعًا بالاسم لم يجب اتصاله

بالاسم، مثاله: عجبت من ضرب زيد عمرًا، ومررت برجٍل راكٍب أبوه الفرس، فيجوز في هذين تأخير الفاعل عن المفعول. وقوله أو كان ضميرًا غير محصور مثاله: ضربت زيدًا، وأكرمتك. واحترز بقوله غير محصور من نحو: إنما ضرب زيدًا أنا. ويندرج تحت قوله أو كان ضميرًا غير محصور أيضًا مسألتان: إحداهما ممنوعة بإجماع، والأخرى فيها اختلاف: فالممنوع: أن يكون الضمير المتصل بالفعل عائد على المفعول، مثاله: الزيدين ضربا. والتي فيها اختلاف: أن يكون الضمير المتصل بالفعل عائد على ما اتصل بالمفعول، مثاله: ثوب أخويك يلبسان، فنقل المنع عن الأخفش والفراء، ونقل الجواز عن هشام، واختلف عن الكسائي والمبرد وأكثر البصريين: فنقل ابن كيسان عن الكسائي والمبرد الجواز. ونقل أحمد بن جعفر الدينوري المنع عن البصريين. ونقل النحاس منعها عن أكثر البصريين. وقال المبرد محتجًا للجواز: ليس هذا بأبعد من قولك: ضرب زيد غلامه. وقال أيضًا محتجًا للمنع: هو معلق بالثاني، والثوب /مضاف إلى الأخوين، فلو قال يلبسان ثوب أخويك لم يجز لتقدم المكني على الظاهر. وذكر غيره أن ذلك لا يجوز لأن المفعول فضلة، فيجوز الاستغناء عنه، وعود الضمير على ما اتصل به يخرجه عن ذلك؛ لأنه يلزم ذكر المفعول ليعود الضمير الفاعل على ما اتصل به، قالوا: ولهذا امتنع: زيدًا ظن قائمًا؛ لأن المفعول إذ ذاك يلزم ذكره ليعود الضمير الفاعل عليه، وذلك مخرج له عن أصل

وضعه؛ لأن المفعولين في باب ظننت يجوز حذفهما اختصارًا واقتصارًا. قال بعض أصحابنا: والصحيح في مثل غلام هند ضربت الجواز لأن المفعول لا يلزم، وإنما يلزم ما أضيف إليه المفعول؛ ألا ترى أنك لو قلت هند ضربت لساغ، وليس كذلك زيدًا ظن قائمًا؛ لأنه لا سبيل إلى حذف المفعول؛ إذ لو حذفته لم يبق للضمير ما يفسره. وقوله وكذا الحكم عند غير الكسائي وابن الأنباري في نحو ما ضرب عمرو إلا زيدًا يعني أن الحكم أن يتقدم الفاعل ويتأخر المفعول إذا كان المفعول محصورًا بحرف النفي وإلا، نحو ما مثل به من نحو: ما ضرب عمرو إلا زيدًا. وهذه المسألة كما ذكر فيها خلاف: فذهب قوم _منهم الجزولي والأستاذ أبو علي_ إلى أنه يجب فيها تقديم الفاعل، وهذا اختيار المصنف. وذهب البصريون والفراء والكسائي وابن الأنباري إلى انه يجوز تقديم الفاعل على المفعول وتأخيره عنه. وقوله عند غير الكسائي وابن الأنباري موهم أنه مذهب البصريين والكوفيين غير الكسائي، وليس كما ذكر، بل مذهب هؤلاء في هذه المسألة هو مذهب الكسائي. وإنما هو مذهب قوم منهم الجزولي. وقوله فإن كان المرفوع ظاهرًا إلى قوله فبالعكس مثاله: أكرمك زيد، والدرهم أعطيه عمرو. واحترز بقوله لم يسبق الفعل من نحو: إياك يكرم زيد، والدرهم إياه أعطى زيد عمرًا. ومعنى فبالعكس أنه يجب فيه تقديم المفعول على الفاعل، نحو: أكرمك زيد. واحترز بقوله ولم يحصر من نحو قوله: إنما يكرم زيد إياك.

وقوله وكذا الحكم عند غير الكسائي في نحو ما ضرب زيدًا إلا عمرو غير الكسائي هم البصريون والكوفيون وقوم منهم ابن الأنباري والجزولي والأستاذ أبو علي، ذهب هؤلاء إلى أنه إذا كان الحصر في الفاعل بحرف نفي وإلا وجب تقديم المفعول وتأخير الفاعل، وذهب الكسائي إلى أنه يجوز، ولا يجب. وتلخص في المحصور بالا ثلاثة مذاهب: 1 _مذهب الكسائي أنه يجوز التقديم والتأخير، سواء أكان المحصور الفاعل أم المفعول. 2 _ومذهب قوم منهم الجزولي أنه يجب تأخير /ما حصر بالا وتقديم ما لم يحصر، سواء أكان فاعلًا أم مفعولًا. 3 _ومذهب البصريين والفراء وابن الأنباري أنه إن حصر الفاعل وجب تقديم المفعول، وإن حصر المفعول جاز تقديم الفاعل وتأخيره. وإذا كان الحصر بـ"إنما" فذكر الشيخ بهاء الدين أبو عبد الله محمد بن إبراهيم بن النحاس أن النحاة أجمعوا على أنه متى أريد الحصر في واحد منهما وجب تأخيره وتقديم الآخر، فتقول "إنما ضرب عمرو هندًا" إذا أردت الحصر في المفعول، و"إنما ضرب هندًا عمرو" إذا أردت الحصر في الفاعل. فأما الكسائي فاستدل على صحة مذهبه بالسماع، قال الشاعر:

ولما أبى إلا جماحًا فؤاده ولم يسل عن ليلى بماٍل ولا أهل وقال الآخر: تزودت من ليلى بتكليم ساعةٍ فما زاد إلا ضعف ما بي كلامها وقال الآخر: وهل ينبت الخطي إلا وشيجة وتغرس إلا في منابتها النخل وقال الآخر: فلم يدر إلا الله ما هيجت لنا عشيةً آناء الديار وشامها وقال الآخر: ما عاب إلا لئيم فعل ذي كرٍم ولا هجا قط إلا جبأ بطلا وقال الآخر: نبئتهم عذبوا بالنار جارهم وهل يعذب إلا الله بالنار وفرق الكسائي بين إنما وحرف النفي وإلا بأن إنما لا دليل معها على الحصر في أحدهما إلا تأخير المحصور؛ فلم يجز تقديمه لئلا يلتبس المحصور بغير المحصور، بخلاف الحصر بحرف النفي وإلا، فإن اقتران الاسم بالا دليل على الحصر فيه تقدم أو تأخر.

وأما حجة من ذهب إلى أن المحصور منهما يجب تأخيره فإجراء لحرف النفي وإلا مجرى إنما. وأما مذهب البصريين فقالوا: لابد أن يتقدم غير المحصور ويتأخر المحصور ليحصل الفرق بينهما، وإنما جوزنا تأخير الفاعل إذا كان المفعول مقرونًا بالا للسماع الذي استدل به الكسائي، ولأن الفاعل إذا تأخر في اللفظ علم أنه مقدم في النية، فحصل للمحصور فيه تأخير من وجه، وهو النية، ولغير المحصور تقديم، بخلاف ما إذا كان الحصر في الفاعل، فإنا /لو قدمناه وأخرنا المفعول كان قد وقد في رتبته من التقديم، والمفعول قد وقع في رتبته من التأخير، فلا يكون واحد منهما منويًا به غير موضعه، فلا يحصل ما يقتضيه الموضع من تقديم غير المحصور لفظًا أو نية. وتأولوا ما استدل به الكسائي مما دخلت على الفاعل فيه إلا بأنه تم الكلام عند الاسم الذي دخلت عليه إلا، وما بعده على فعل، التقدير: درى ما هيجت، ويعذب بالنار. وأما قوله "إن إلا قرينة دالة على الحصر فيما اقترنت به، فلا يحصل لبس" فنقول: بل يحصل اللبس، وهو أن يظن أننا أردنا الحصر في الاسمين اللذين بعد إلا، وكأننا قلنا: ما ضرب أحد أحدًا إلا زيد عمرًا، فغنا إذا أردنا هذا المعنى قلنا هذا. فإن قلت: هذا يلزم إذا كان المفعول مقرونًا بالا، وجاز تأخير الفاعل. قلنا: لا يلزم لأنه _وإن تأخر لفظًا_ فالنية به التقديم، بخلاف المفعول مع الفاعل المقرون بالا، فإنك إذا أخرته كان مؤخرًا لفظًا ونيةً، فافترقا. ويظهر من ابن عصفور في (المقرب) اختيار مذهب البصريين، فإنه ذكر في القسم الذي يجب فيه تقديم المفعول أنه إذا كان الفاعل مقرونًا بالا يجب تقديم

المفعول، ولم يذكر في القسم الذي يجب فيه تقديم الفاعل أنه إذا كان المفعول مقرونًا بالا وجب تقديم الفاعل، ولا تعرض لذلك. وكذلك يظهر من ابن معط في فصوله. والذي نختاره هو مذهب الكسائي وقوفًا مع السماع، والتأويل فيه بعيد. وقوله عند الأكثرين إلى آخره هذه مسألة: ضرب غلامه زيدًا، وقد تقدم الكلام عليها مستوفى في أوائل الفصل الرابع من باب المضمر في أوائل الكتاب. وقال المصنف في الشرح هنا: "والصحيح جوازه لوروده في كلام العرب الفصحاء"، وأنشد ستة أبيات تدل على الجواز. وقال أبو جعفر النحاس: "فأما إنشاد أبى عبيدة: لما عصى أصحابه مصعبًا أدى إليه الكيل صاعًا بصاع فهذا لا يجوز عند أهل النظر من البصريين في شعر ولا غيره، ورواية الأصمعي: لما عصى المصعب أصحابه ................................. والبيت لأبى العباس السفاح. وأنشد هشام:

جزى ربه عني عدي بن حاتم جزاء الكلاب العاويات، وقد فعل وهذا البيت مصنوع، نحلة عمرو بن كلثوم، وقال هشام فيه: وهذا من متاع الشعر" انتهى كلام النحاس. ولو تقدم المفعول على الفعل، فقلت: زيدًا ضرب غلامه _لم يجز ذلك عند الفراء والكسائي، وأجازها هشام، وأجازها المبرد، يجعلها /بمنزلة: ضرب زيدًا غلامه. قال ابن كيسان: بينهما فصل عندي؛ لأنك غذا قلت: زيدًا ضرب غلامه، فنقلت زيدًا من أول الكلام إلى آخره _وقع بعد الكلام، فصار المضمر قبل المظهر، فبطلت، وقولك ضرب زيدًا غلامه في موضعه، لا ينقل، فيجعل بعد زيد لأن العامل فيه وفي الغلام واحد، فإذا كانا جميعًا بعد العامل فكل واحد منهما في موضعه وإن كان الفاعل أولى بالتقديم من المفعول.

باب اشتغال العامل

-[ص: باب اشتغال العامل عن الاسم السابق بضميره أو ملابسه إذا انتصب لفظًا أو تقديرًا ضمير اسم سابق مفتقر لما بعده أو ملابس ضميره بجائز العمل فيما قبله غير صلة، ولا مشبه بها، ولا شرط مفصول بأداته، ولا جواب مجزوم، ولا مسند إلى ضمير السابق متصل، ولا تالي استثناء، أو معلق، أو حرف ناسخ، أو كم الخبرية، أو حرف تحضيض، أو عرض، أو تمن بـ"ألا" _وجب نصب السابق إن تلا ما يختص بالفعل، أو استفهامًا بغير الهمزة، بعامل لا يظهر موافق للظاهر أو مقارب، وقد يضمر مطاوع للظاهر، فيرفع السابق.]- ش: مثال انتصاب الضمير لفظًا: زيد ضربته، ومثال انتصابه تقديرًا: زيد مررت به. واشتغال العامل يشمل الفعل، نحو ما مثلناه، ويشمل ما يعمل عمل الفعل هنا. قال شيخنا الأستاذ أبو الحسن بن الضائع: "لا يدخل هنا مما يعمل عمل الفعل ما عدا أسماء الفاعلين والمفعولين لامتناع تقدم معمولة، فالصحيح ألا يفسر في هذا الباب إلا ما يجوز أن يعمل فيما قبله، فلا اشتغال في الصفات المشبهة، ولا في المصادر، ولا في أسماء الأفعال" انتهى. فأما جمع أسماء الفاعلين والمفعولين فإن كان مسلمًا فالقياس يقتضي أن يدخل في أبواب الاشتغال، فنقول: زيدًا أنتم ضاربوه، وزيدًا أنتن ضارباته. وإن

كان مكسرًا فتكسيره يبعده عن شبه الفعل، ويلحقه بالأسماء المحضة، فلذلك أحتاج س إلى شواهد لإعماله من الكلام ومن الشعر، فقال بعض أصحابنا: ينبغي ألا يدخل في الاشتغال لأن عمله ملفق ضعيف، والاشتغال كذلك باب ملفق، فيضعف عن الدخول فيه لأنه لا يقوى على أن يفسر، ولذلك لم يمثل عليه س، ولا عرض له في مسألة من الاشتغال، وإنما ذكره بحكم الانجرار؛ لأنه لما ذكر اسم الفاعل واسم المفعول، ومنه جار وغير جار _ذكر أيضًا جمعهما المكسر من حيث إنه غير جار، وهو قد يعمل. ومن الناس من جوز أن يدخل في الاشتغال، قال: لأنه قد ثبت أنه يعمل، وقد ذكرها س في أبواب الاشتغال، فينبغي أن /يدخل فيه. والذي يقتضيه التحرز أنه لا يكون في الاشتغال إلا بسماع من العرب. وقد أبهم المصنف في الشرح، فقال: "واشتغال العامل يتناول اشتغال الفعل، نحو: أزيدًا ضربته؟ واشتغال غير الفعل، نحو: أزيدًا أنت ضاربه" انتهى. واحترز بقوله ضمير اسم سابق من أن يكون الاسم متأخرًا، نحو: ضربته زيدًا، على البدل، أو زيد، على الابتداء. واحترز بقوله مفتقر لما بعده من قولك: في الدار زيد فأكرمه. وقوله أو ملابس ضميره هو أن يكون مضافًا إلى الضمير، نحو: زيد ضربت أخاه، أو مشتملًا صفته عليه، نحو: هند ضربت رجلًا يبغضها، أو

الصلة عليه، نحو: هند أكرمت الذي يحبها، أو عطف عليه عطف بيان، نحو: زيد ضربت عمرًا أخاه، أو عطف عليه عطف نسق بالواو خاصة، نحو: زيد ضربت عمرًا وأخاه، او مضاف إلى واحد من هذه الخمسة. فلو أبدل منه لم يكن ملابسًا، أو عطف عليه بغير الواو لم يكن ملابسًا، أما البدل فلأنه على تكرار العامل فتخلو الجملة الواقعة خبرًا من الرابط، وأما العطف بـ"ثم" فلكون الفعل يستحيل أن يكون متحدًا في المعطوف والمعطوف عليه، بخلاف الواو؛ لأنها إذ ذاك تكون جامعة بمعنى "مع"، فكأنك قلت: ضربت رجلًا مع أخيه. ولا ينحصر الشاغل للفعل فيما ذكره المصنف من الضمير والملابس له، بل قد يشغله ظاهر هو الأول، نحو: إذا زيدًا لقيت زيدًا فأكرمه، تريد: لقيته، ولا يكون هذا إلا في الشعر، نحو قوله: إذا الوحش ضم الوحش في ظللاتها سواقط من حر، وقد كان أظهرا وقوله بجائز العمل فيما قبله أي: بعامل يجوز له أن يعمل في الاسم الذي قبله، يعني: لو لم يشتغل بالضمير أو السبي، فإنه مع اشتغاله بأحدهما لا يجوز له أن يعمل في الاسم الذي قبله، وهو الذي له الضمير أو الملابس، لو لم يشتغل بالضمير أو السببي _ليس حاصرًا لمسائل الاشتغال؛ لأن منها قسمًا لا يجوز فيه للعامل أن

يعمل في الاسم الذي قبله، وذكره المصنف في أواخر هذا الباب، ولهذا يقول أصحابنا: ولولا ذلك _أي: عمله في الضمير أو السببي_ لعمل في الاسم السابق أو في موضعه، وذلك نحو: إن زيد قام أكرمته، وأزيد قام؟ فيجيزون هنا الاشتغال وارتفاع زيد بفعل محذوف يفسره الفعل الذي بعده وإن كان لا يجوز أن يعمل قام في زيد لو فرضناه فارغًا من الضمير. ويشترطون في هذا الضرب أن يتقدم الاسم ما يطلب الفعل إما على اللزوم وإما على الاختيار. وذهب أبو القاسم حسين بن الوليد المعروف /بابن العريف إلى أنه لا يشترط ما يطلب الفعل، فيجيز في نحو "زيد قام" أن يرتفع زيد بإضمار فعل يفسره ما بعده، التقدير: قام زيد قام، وهذه نزعة كوفية. فإن قلت: كيف جاز أن يفسر ما لا يعمل؟ فالجواب: أنه لما قويت الدلالة هنا على الفعل بالحرف الطالب له جاز أن يفسر ما لا يعمل؛ إذ قد يعمل في اسم آخر في موضع ذلك الاسم، كالظرف مثلًا، فتقول: أخلفك زيد قام؟ وقال الأستاذ أبو الحسن علي بن جابر الدباج: "لا يبعد أن يقال إن

هذا الفعل يصح له العمل في الأول مقدمًا عليه، وذلك مع أداة تطلب الفعل، وذلك أن العامل متصرف في نفسه، فكذلك يتصرف في معمولة إلا أن يمنع من ذلك مانع، وذلك المانع في الفاعل هو أنه يلتبس بالمبتدأ في قولك قام زيد، وزيد قام، فإذا جاء حرف لا يليه إلا الفعل لفظًا أو تقديرًا زال ذلك اللبس، فيصح أن يكون فاعلًا مقدمًا إن قدرت الفعل فارغًا من الضمير، وفاعلًا بإضمار فعل إن قدرت الفعل مشغولًا بضمير". وهذا الذي قاله هذا الأستاذ إنما هو بناء منه على أن الفاعل لا يتقدم لأجل اللبس بالمبتدأ، فعلى هذا متى زال اللبس فينبغي أن يجوز تقديمه، ونحن نجد اللبس يزول، والفاعل مع ذلك لا يتقدم، وما سبب ذلك إلا أنه ينزل من الفعل كجزء منه مع اللبس المذكور في بعض المسائل، وحمل ما لا لبس فيه على ما فيه اللبس، لكنه يسوغ أن يفسر وإن لم يعمل لقوة طلب الفعل. وقوله بجائز العمل هذا متعلق بقوله إذا انتصب. قال المصنف في الشرح: "وخرج بذلك فعل التعجب، نحو: زيد ما أحسنه، وأسماء الفاعل، نحو: زيد تراكه، وأفعل التفضيل، نحو: زيد أكرم منه عمرو، فليس للاسم المتقدم على هذه إلا الرفع؛ لأنها لا تعمل فيما تقدم، وما لا يعمل لا يفسر عاملًا على الوجه المعتبر في هذا الباب، وهو كون العامل المشغول عوضًا في اللفظ من العامل المضمر دليلًا عليه، ولكونه عوضًا امتنع الإظهار؛ إذ لا يجمع بين العوض والمعوض منه، ولكونه دليلًا لزم أن يكون موافقًا في المعنى أو مقاربًا، فلو قصدت

الدلالة دون التعويض لم تكن المسألة من باب الاشتغال، كقول الراجز: يا أيها المائح دلوي دونكا فـ (دلوي) منصوب بعامل مقدر مدلول عليه بالملفوظ به. نص على ذلك س. وليس الملفوظ به عوضًا من المقدر. فلو جمع بينهما لم يمتنع. والحاصل أن المجعول دليلًا دون تعويض لا يلزم صلاحيته للعمل في موضع دلالته، بخلاف المجعول دليلًا وعوضًا، ومن كلام العرب: البهم أين هو؟ /فنصب قائل هذا] البهم [بفعل مضمر، وجعل (أين هو) دليلًا عليه مع عدم صلاحيته للعمل" انتهى. وشرط أصحابنا في العامل أن يكون متصرفًا، فإن كان غير متصرف لم يجز أن يفسر، وذكروا أن "ليس" يجيء فيها الاشتغال، ففي كتاب س: "أزيدًا لست مثله"، وقدروه: أباينت زيدًا لست مثله. وهذا لا يتخرج إلا على مذهب من يجيز تقديم خبر ليس، وقد نسب ذلك إلى س، وسبق ذكر الخلاف فيها في باب كان وأخواتها. وقوله فيما قبله أي: في الاسم الذي قبله، وهو الاسم السابق الذي ذكره

المصنف، ولو قال "بجائز العمل في ذلك الاسم" لكان أوضح، ولولا أنه فسر قوله "فيما قبله" بالاسم السابق لكنا نستنتج منه أن يدخل فيما قبله الاسم السابق، ومسألة: أزيد قام؟ فإن "قام" وإن لم يعمل في "زيد" الرفع فإنه يجوز أن يعمل في اسم آخر في موضعه، وقد بينا ذلك. وظاهر كلام النحويين أنه يشترط في باب الاشتغال تقدم الاسم وتأخر العامل، فعلى ظاهر ما ذكروه لا يجوز "ضربته زيدًا" على أن يكون انتصاب "زيد" على إضمار فعل يفسره ضربته، ويكون منويًا به التقديم، ومنويًا بـ"ضربته" التأخير؛ لأنه يلزم تقديم الضمير على ما يعود عليه، ولا مقتضي لتأخره عنه، وليس التفسير كالخبر؛ لأن الأصل في التفسير أن يتقدم على المفسر، ورتبة الخبر التأخير، وإن لم يكن ذلك شرطًا فينبغي أن يجوز، ووجهه أن المفسر هو في المعنى خبر. ويجوز رفع الاسم على الابتداء، وجعل هذه الجملة خبرًا. وقوله غير صلة هذا استثناء منقطع؛ لأن ما ذكر لا يندرج تحت قوله "بجائز العمل فيما قبله". ومثاله: زيد أنا الضاربة، وأذكر أن تلد ناقتك أحب إليك أم أنثى. وقوله ولا مشبه بها المشبه بالصلة الصفة والمضاف إلى الفعل، شبها بها في تتميم ما قبلهما بهما، فلا عمل لهما في الاسم على تقدير التفريغ، ولا يفسران عاملًا فيه مع الاشتغال، ومثال ذلك: ما رجل تحبه يهان، وزيد يوم تراه يفرح. وقوله ولا شرط مفصول بأداته مثاله: زيد غن زرته يكرمك؛ لأن أداة

الشرط لها صدر الكلام، فلا يؤثر ما بعدها فيما قبلها عملًا ولا تفسيرًا. واحترز بقوله مفصول بأداته من نحو: إن زيدًا زرته أكرمك، وسيأتي حكمه. وقياس مذهب من أجاز تقديم معمول الشرط على الأداة أن يجوز فيه النصب على الاشتغال. وفي شرح س لأبي الفضل البطليوسي أنه لا خلاف في منع التقديم لمعمول فعل الشرط على أداته، فلا يجوز: زيدًا من يكرم يكرم هندًا. وليس ذلك بصحيح. وقوله ولا جواب مجزوم /مثاله: زيد إن يقم أكرمه. ومن اجاز ذلك مطلقًا _وهو الكسائي_ أجاز فيه الاشتغال، فيقول: إن يقم زيد أكرمه. والمنع مذهب الجمهور. والتفصيل مذهب الفراء، فيجيز التقديم إن كان ظرفًا أو مجرورًا، ويمنع إن كان مفعولًا. فلو كان مرفوعًا جاز عند س إعماله في الاسم السابق مع التفريغ، وتفسيره عاملًا فيه مع الاشتغال؛ لأنه عنده مقدر التقديم، مدلول به على جواب محذوف، مثاله: زيدًا إن جاءك تضرب، فيجوز فيه الاشتغال، نحو: زيدًا إن جاءك تضربه.

ولا حاجة للفظ "مجزوم"، بل يكفي قوله "ولا جواب"؛ لأنه إذ ذاك يشمل المجزوم جوابًا لأداة الشرط والمرفوع جوابًا لـ"إذا" إذا لم تجزم في الشعر، نحو: إذا جاءك زيد تكرم عمرًا، فلا يجوز تقديم عمرو على إذا؛ لأن تكرم جواب إذا. وقوله ولا مسند غلى ضمير السابق متصل مثاله: أزيد ظنه ناجيًا؟ بمعنى: ظن نفسه، فلا يجوز نصب زيد لأنه يلزم من ذلك تفسير الفاعل _وهو عمدة_ بالمفعول الذي حقه أن يكون فضلة. فلو انفصل الضمير جاز، نحو: زيدًا لم يظنه ناجيًا إلا هو؛ لأن المنفصل كالأجنبي، فهو نحو: زيدًا لم يظنه ناجيًا إلا بشر، والأصل: لم يظنه أحد ناجيًا إلا هو، ولا يلزم توقف العمدة في مفهوميته على الفضلة كما لزم والمسند إليه ضمير مفسر بالمفعول. وقوله ولا تالي استثناء مثاله: ما زيد إلا يضربه عمرو. وقوله أو معلق مثاله: زيد كيف وجدته، وزيد ما أضربه، وعمرو لأضربنه، والدرهم للمعطيكه عمرو، وزيد إنك تكرمه. فإن كان المعلق "لا" فينبني على المذاهب التي في "لا". والأصح أنه إن كان في جواب قسم لم يتقدم معمول الفعل المنفي بها، فعلى هذا يجوز: زيدًا لا أضربه، ويمتنع: زيدًا _والله_ لا أضربه. وإن كان المعلق "إن" النافية فلا يجوز النصب في نحو: زيد غن اكرمه، بمعنى: ما أكرمه. وقوله أو حرف ناسخ مثاله: زيد ليتني أكرمته. أو كم الخبرية زيد كم لقيته، أجريت مجرى كم الاستفهامية. وقوله أو حرف تحضيض مثاله: زيد هلا ضربته. أو عرض، أو تمن بـ"ألا"

مثاله بعد العرض: عمرو ألا تكرمه، ومثاله بعد التمني بألا: العون على الخير ألا أجده. قال المنصف في الشرح: " هذا مذهب المحققين من العارفين بكتاب س، أعني إجراء التحضيض والعرض والتمنى بألا مجرى الاستفهام في منع تأثر ما قبلها بما بعدها. وإنما أجريت مجراه لأن معنى هلا فعلت، وهلا تفعل: لم لم تفعل، ومعنى ألا تفعل: أتفعل، مع أن هلا/ مركبة من هل ولا، وألا مركبة من الهمزة ولا، فوجب مع التركيب ما وجب قبله. وقد عكس قوم الأمر، فجعلوا توسط التحضيض وأخوته قرينة يرجح بها نصب الاسم السابق. وممن ذهب إلى هذا أبو موسى الجزولي، وهو ضد مذهب س" انتهى. وقال شيخنا أبو الحسن الأبذى: " الظاهلر من كلم س أن العرض والتحضيض لا يجوز في الاسم قبلهما إلا الرفع؛ لأنها حروف لا يعمل ما بعدها فيما قبلها، فلا يفسر. ومن التمنى ما لا يتصور خلاف في منع النصب فيه، وذلك: زيد ليتك أكرمته. وكذا قال ابن طاهر وابن خروف والأستاذ أبو على، نصوا على ذلك. ولا أدري من أين اختار الجزولي النصب، وهو لا يجوز، إلا أن يكون قاس التحضيض والعرض على الأمر والنهي؛ إذ هما لا يكونان إلا بالفعل، كما أن الأمر والنهي كذلك، وبينهما فرق، فإن الأمر والنهي يعملان

فيما قبلهما، والتحضيض والعرض والتمنى لا يعمل الفعل الذي بعدها في السم الذي قبلها لأنها حروف طالبة للفعل، فشبهت بأدوات الاستفهام والشرط، وهي لا يعمل ما بعدها فيما قبلها، ولا يفسر" انتهى. وفي البسيط" الحروف التي تقطع عن العمل حروف الاستفهام وأسماؤه، و"ما" في النفي، وحروف الشرط وأسماؤه، والقسم، وحروف التحضيض، وحروف العرض- وهو ألا- ولام الابتداء. وقد جوز بعضهم النصب في بعضها، ورجح الابتداء نحو: شرابنا ألا تشربه، وزيدًا إن تضربه يضربك" انتهى. وزعم ابن الطراوة وتلميذه السهيلي أن السين وسوف لا يتقدم عليهما معمول ما دخلتا عليه، نحو: زيدًا سأضرب أو سوف أضرب؛ لأنهما عندهما من حروف الصدر، فعلى مذهبهما لا يجوز: ألا زيدا سأضربه، أو زيد سوف أضربه، فيتعين الرفع في زيد، ولا يجوز النصب على الاشتغال. والصحيح جوازه. وفال المصنف في الشرح: " ومن موانع نصب الاسم السابق بالفعل المشغول وقوعه بعد (إذا) المفاجأة، نحو: خرجت فإذا زيد يضربه عمرو، ولا يجوز عندي في زيد وما وقع موقعه إلا الرفع؛ لأن العرب ألزمت إذا هذا ألا يليها إلا مبتدأ بعده خبر، أو خبر بعده مبتدأ، فمن نصب ما بعدها فقد استعمل ما لم تستعمل العرب في نثر ولا نظم، وقد ألحقها س بـ (أما) قياسا، فأجاز نصب الاسم الذي يليها بفعل مضمر يفسره المشغول بعده، نحو: خرجت فإذا زيدا يضربه عمرو، كما يقال: أما زبدا فيضربه عمرو. ولا ينبغي أن تلحق (إذا) بـ (أما)، فإن (أما) - وإن لم يلها فعل - فقد يليها معمول الفعل المفرغ كثيرًا، كقوله تعالى:

{فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ}، وقد يليها / معمول مفدر بعده مفسر مشغول، كقراءة بعض السلف {وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ}، ولم يل (إذا) فعل ظاهر ولا معمول فعل، بل إنما يليها ابدًا في النثر والنظم مبتدأ وخبره منطوق بهما، أو مبتدأ محذوف الخبر، فمن أولاها غير ذلك فقد خالف كلام العرب، فلا يلتفت إليه وإن كان سيبويه" انتهى كلامه. ونحن نذكر كلام س في المسألة وما قال الناس فيه، فنقول: قال س: "فإن قلت: لقيت زيدًا وأما عمرو فقد مررت به، ولقيت زيدًا وإذا عبد الله يضربه عمرو - فالرفع، إلا في قول من قال: زيدًا رأيته، وزيدًا مررت به؛ لأن أما وإذا يقطع بهما الكلام، وهما من حروف الابتداء، يصرفان الكلام إلى الابتداء، إلا أن يدخل عليهما ما ينصب، ولا يحمل بواحد منهما آخر على أول كما يحمل بثم والفاء؛ ألا ترى أنهم قرأوا {وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ}، وقبله نصب، وذلك لأنها تصرف الكلام إلى الابتداء، إلا أن يقع بعدها فعل، نحو: أما زيدًا فضربت" انتهى كلام س. وظاهره ما ذكره عن س المصنف من أنك إذا أتيت بعد حروف العطف بـ"أما" أو بـ"إذا" الفجائية فالرفع في ذلك الاسم هو الأولى والأوجه؛ والنصب

ضعيف على حده في البتداء؛ لأنهما يفصلان الكلام الواقع بعدهما من الذى قبلهما؛ ولأنهما لا يقع بعدهما فعل، الاسم هو الواقع بعدهما. قال بعض شيوخنا: " وهذا فيه إشكال، فإن النحويين - و (س) معهم - قالوا: إن إذا الفجائية لا يقع بعدها فعل البتة لا ظاهرًا ولا مضمرًا، ولا معمول فعل أصلاً، فكيف فال هنا (لا يجوز النصب إلا على حده في الابتداء) وكيف قال: (إلا أن يدخل عليهما ما ينصب) يعنى: معهما. اما (أما) فما قال فيها صحيح؛ لأنه وإن كانت لا يقع الفعل بعدها مظهرًا فيقع مضمرًا، ويقع الاسم بعدها معمولاً له. وأما (إذا) الفجائية فلا يمكن على ما قال س، وقرره هو ومن بعده - أن يقع بعدها الفعل لا مظهرًا ولا مضمرًا ولا معمول له" انتهى كلامه. وفسر السيرافي كلام س هنا على ظاهره. وخرجه ابن طاهر وابنخروف على أنه مما خلط فيه حكم الواحد بالآخر، على حد قوله تعالى {نَسِيَا جَوتَهُمَا}، و {يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ}، وإنما الناسي أحدهما، والذي يخرج منه أحدهما، فقال ابن خروف: "إن قوله (فالرفع إلا في قول من قال كذا) أجري فيه الحكم عليهما لاختلاطهما في الذكر أولا في المثال، وإن كان هذا الحكم لا يرجع إلا إلى (أما) خاصة". وهذا تخريج فيه بعد.

وخرجه الأستاذ أبو علي على أنه لما كانت/ (أما) و (إذا) الفجائية لابتداء الكلام وقطع ما تقدم فإنهما لا يقع بعدهما إلا الاسم، وإنهما لا يبقى معهما الحكم كما كان قبل ذكرهما سائغًا، فقال: " لأن أما وإذا يقطع بهما الكلام، ويرجع قوله (فالرفع) إلى ما يليق، وإلى ما يصح رجوعه، وذلك إلى اما لا إلى إذا. وقول س (إلا أن يدخل عليهما ما ينصب) ربما يتعلق به ابن طاهر وابن خروف، فإن أخذته راجعًا للمثال في إذا عبد الله يضربه زيد لم يكن فيه متعلق؛ لأنه يقول: يرجع عذا على الفعل إلا ان يكون ثم ما ينصب، فينصب حينئذ" انتهى. فال بعض أصحابنا: "ويمكن أن يتأول على وجه آخر، فيرجع إلى (أما) وإلى (إذا)، وكأنه تحرز من (إن) إذا وقع بعدها منصوب بـ (إن)، نحو: خرجت فإذا إن عمرًا يضربه زيد، فكأنه قال: الرفع الأحسن إلا أن يقع بعد أما معمول الفعل، نحو قوله تعالى {وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ}، وإلا إن وقع إن بعد إذا؛ إذ هى ناقصة" انتهى. وجل كلام الجماعة على أنهم لم يحملوا كلام س على ظاهره، بل تاولوه. والذي يظهر حمل كلامه على ظاهره، ويكون كلاما صحيحًا، ويكون إذ ذاك في أما وفي إذا الفجائية الوجهان: الأولى والأوجه: أنه يختار الرفع بعدهما وإن كان قد تقدم حرف العطف جملة فعلية، ولولا وجودهما لكان المختار في الاسم المشتغل عنه النصب رعيا لعطف جملة فغلية على جملة فعلية. والوجه الثاني: جواز النصب، وهو غير الأوجه، بل يتنزل جواز النصب

فيه تنزله في قولك: زيدًا ضربته، وذلك أن أبا الحسن الأخفش حكى عن العرب ان إذا الفجاجئية إذا كان الفعل مقرونًا بقد جاز ان يليها، فتقول: خرجت فإذا قد ضرب زيد عمرًا، وإن لم يكن مقرونًا بقد فلا يجوز ان يليها الفعل، ووجب أن يليها الاسم، وإنما أجري الفعل المقرون بقد مجرى الجملة الاسمية في ولايته إذا الفجائية لمعاملة العرب له معالة الجملة الاسمية في دخول واو الحال عليه؛ الا ترى انه يقال: جاء زيد وقد ضحك، كما يقال: جاء زيد وهو يضحك، ولو قلت" جاء زيد ويضحك" ويؤول على إضمار فد. وبعضهم تأوله على إضمار مبتدأ. فعلى هذا الذي نقله الأخفش كان حمل كلام س على ظاهره صحيحًا، وكان معنى قوله" إلا أن يدخل عليهما ما ينصب" محمولاً على ما يجوز له أن ينصب، والذي يجوز له أن ينصب في إذا هو الفعل المقرون بقد على ما نقل الأخفش عن العرب، ولم يقل س" إلا أن يدخل على إذا الفعل مجردًا من قد" فيلزمه ما فهم عنه المصنف. وتبين أن المصنف لم يطلع على/77 أنقل الأخفش عن العرب، فلذلك ادعى أن إذا الفجائية لا يليها فعل ظاهر ولا معمول فعل، وإنما يليها أبدًا مبتدأ وخبره منطوق بهما، أو مبتدأ محذوف الخبر، أولاها غير ذلك فقد خالف كلام العرب. وهذا كما ذكرناه ليس بصحيح؛ إذ يليها الفعل مقرونًا بقد كما نقل الأخفش، وانظر إلى جسارته حيث قال"يلتفت إليه وإن كان سيبويه" وكشف له الغيب أنه هو الذي لا يلتفت إليه، وأن كلامه مردود عليه. ونقص المصنف من الأشياء التي يرتفع الاسم المشغول عنه الفعل ولا يجوز أن ينتصب مجاء الفعل المشغول غير مصحوب بقد لا لفظًا ولا تقديرًا والاسم يلي

واو الحال؛ نحو: جاء زيد وعمرو يضربه بشر، فلا يجوز أن تقول: وعمرًا يضربه بشر؛ لأنه يكون التقدير: ويضرب عمرًا يضربه بشر، وواو الحال لا تباشر المضارع. او مجيئه خبرًا لذي لام ابتداء، نحو: لزيد يضربه عمرو، فلا يجوز فيها النصب لأن لام الابتداء لا تلى الفعل إلا في خبر إن، نحو: إن زيدًا ليقوم. وذكر المصنف مما يجب فيه الرفع بالابتداء مجاء الاسم بعد ليتما، نحو: ليتما زيد أضربه، بناء على أنه لا يليها الفعل، وتقدم ذلك في باب إن، فينظر هناك. ونقص المصنف أيضا من المواصع التي يجب فيها رفع الاسم ما إذا فصل بين السم والفعل المشتغل بالضمير أو السببي بأجنبي، نحو: زيد أنت تضربه، وهند عمرو يضربها، فـ"س" وهشام لا يجيزان النصب بحال للفصل بين العامل والمعمول بأجنبي، وهو لا يعمل فيه، فلا يفسر، فوجب رفع الاسم. وذهب الكسائي إلى أنه يجوز النصب قياسًا على آسم الفاعل؛ لأنهم أجازوا: زيدًا أنت ضارب. فيقال للكسائي: بينهما فرق، وذلك أن اسم الفاعل لا يعمل حتى يعتمد، فصار أنت ضارب بمننزلة أنت ضربت، فكأنك لم تفصل بين العامل والمعمول بشاء، بخلاف الفعل، فإنه يعمل غير معتمد. وقوله وجب نصب السابق إن تلا ما يختص بالفعل الذي يختص بالفعل هو كل ظرف زمان مستقبل، نحو إذا، وأدوات الشرط الجازمة، ولو بمعنى إن

الشرطية، أو التي لما كان سيقع لوقوع غيره، وأدوات التحضيض، فيجب إذ ذاك الحمل على إضمار الفعل، فتقول: إذا زيدًا تلقاه فأكرمه، وإن زبدًا رأيته فأكرمه، وأكرم زيدًا ولو عمرًا أهانه، ولو زيدًا رأيته ضربت، وهلاً زيدًا ضربت. ويحتاج قوله إن تلا ما يختص بالفعل إلى تفصيل، وذلك أن أدوات الشرط الجازمة إن كانت"إن" فيجوز في فصيح الكلام ان يليها الاسم على إضمار فعل، بشرط ألا يكون الفعل/ مجزومًا بها، نحو: إن زيدًا ضربته أكرمته، فلو قلت إن زيدًا تضربه أكرمه لم يجز ذلك إلا في الشعر، وأما غيرها من أدوات الشرط فلا يليها الاسم إلا في ضرورة الشعر، نحو قوله: صعدة نابتة في حائر أينما الريح تميلها تمل وقوله: فمتى واغل ينبهم يحيو هـ، وتعطف عليه كأس الساقى قال بعض أصحابنا: وهذا عندنا مقصور على السماع، ولا نقيسه في الشعر. والكوفيون يقيسونه في الشعر بشرط أن يكون الاسم المتقدم غير أداة الشرط في المعنى، فمثل هذين البيتين يقيسونه لأن الواغل خلاف متى، والريح خلاف أين. ولا يجوز عندهم: من هو يقم أقم معه؛ لأن (هو) هو (من)،فلا يجوز في شعر لأنه جمع بين جازمين. وهذا عندنا خطأ لأن المضمر لم يجزم قط، ولا ثم جازم سوى الأداة. وأما (لو) فاختلف في وقوع الاسم بعدها على إضمار الفعل أهو ضرورة

أم هو جائز قي الكلام؛ ومن ذهب إلى أن (إن) الشرطية و (إذا) وأدوات التحضيض يجوز الابتداء بعدها لا يوجب في مسائلها النصب، بل قياس مذهبه جواز الرفع على الابتداء، وجواز النصب، وهو عنده الأكثر. وكون (إذا) يقع بعدها الابتداء هو مذهب الأخفش والكسائي، وكون (إن) كذلك هو مذهب الكسائي. وقوله أو استفهامًا بغير الهمزة مثاله: هل مرادك نلته؟ فالنصب هنا واجب، وذلك أن (هل) إذا جاء بعدها اسم وفعل وليها الفعل دون الاسم، ولا يجوز أن يليها الاسم، لو قلت: هل زيدًا ضربت؟ لم يجز إلا في الشعر، فإذا جاء في الكلام: هل زيدًا ضربته؟ كان ذلك على الاشتغال، والتقدير: هل ضربت زيدًا ضربته؟ فتكون (هل) وليت الفعل، هذا مذهب س. وخالفه الكسائي، وذهب إلى أنه يجوز أن يليها الاسم وإن جاء بعده الفعل، وأجاز أن يرتفع بالابتداء، فتقول: هل زيد ضربته؟ فعلى رأيه يجوز رفع زيد، ونصبه على الاشتغال. ويشمل قوله بغير الهمزة أدوات الاستفهام، نحو (هل) و (متى) وغيرهما، فتقول: متى أمة الله تضربها؟ فإن وليت اسم الاستفهام الأفعال، نحو: من رأيته؟ فيحتمل أن يقدر بوجهين: أحدهما: تقدير الهمزة والاسم بعدها، كأنك قلت: أزيدًا رأيته؟

فيكون في موضع نصب. ويحتمل أن يقدر تقدير الاسم المتقدم على الاستفهام، كأنك قلت: زيد أرأيته؟ فلا يكون إلا الرفع. ولذلك يصح الرفع والنصب فيها. ويظهر ذلك في (أي) إذا قلت: أيهم ضربته؟ نصبًا ورفعًا. وكذلك أسماء الشرط. وإذا اجتمع بعد اسم الاستفهام الاسم والفعل قُدِّم الفعل كهو مع (هل). وقال / س: "إن قلت أيهم زيدًا ضرب قبح" انتهى. وقوله بعامل لا يظهر موافق للظاهر أي: لفظًا ومعنى إن أمكن، مثاله: إن زيدًا رأيته أحببته، التقدير: إن رأيت زيدًا. وهذا الذي ذكره هو مذهب البصريين. وذهب الكسائي إلى أن هذا الاسم منصوب بالفعل الذي بعده على إلغاء العائد. وهذا ليس بجيد لأن العائد قد يكون لا يتعدى إليه الفعل إلا بحرف جر، فكيف يُلغى، وينصب الظاهر، وهو لا يتعدى إليه أيضًا إلا بحرف جر، نحو: زيدًا غضبت عليه. وأيضًا فإن الفعل قد يكون متعلقه السببي، ولا يمكن أن يُلغى لأنه في الحقيقة هو مطلوب الفعل، نحو: زيدًا ضربت غلام رجل يحبه، فلا يمكن هنا أن يلغى السببي، وإنما يُتصور ما قاله إذا كان متعلق الفعل هو نفس ضمير الاسم، فيحتاج إلى تقدير عامل في هذه المسائل إذ لا يمكن أن يعمل في الاسم السابق نفس هذا العامل.

وذهب الفراء إلى أن الفعل عامل في الاسم وفي الضمير معًا. وهذا أيضا لا يتناول جميع مسائل الاشتغال، ويبطل بما بطل به مذهب الكسائي، وبأن الفعل المتعدي مثلاً إلى واحد صار يتعدى في باب الاشتغال إلى اثنين، وما يتعدى إلى اثنين يتعدى إلى ثلاثة، وهذا خرم للقواعد. وقد رد الفراء على البصريين بوجوه: أحدها: أنك تقول: أعبد الله هدمت داره؟ فلا يستقيم إضمار (هدمت) لأنك لا تقول: هدمت عبد الله. الثاني: أنه يلزم البصريين أن يقولوا: عبد الله فضربته، فتدخل الفاء في (ضربته) إذ كنت مضمرا للفعل قبله. الثالث: أنه ألزمهم أن يقولوا: أعبد الله ضاربًا له أنت؟ لأن الفعل المضمر قد عمل في (عبد الله) النصب، فإن كان ناقصًا فيكون نصب ضارب كنصب كان خبرها، وإن كان تاما فيكون نصب ضارب على القطع. وما احتج به الفراء ليس بشيء: أما الأول فلا يذهب البصريون إلي أنك تضمر (هدمت)، بل إذا لم يمكن أن يعمل فيه مثل لفظ الثاني عمل فيه (مثله) من المعنى، فالتقدير: أقصدت عبد الله هدمت داره؟ على أن من البصريين من قدر (هدمت) على حذف مضاف، الأصل: أهدمت دار عبد الله؟ ثم حذفت في {وَاسْأَلْ الْقَرْيَةَ}، وأما الثاني فلا يلزم البصريين أن يقولوا: فضربته؛ لأن (ضربته) بدل من

الفعل المضمر، ولا يحال بين البدل والمبدل منه. وأما الثالث فلا يلزمهم نصب (ضارب) لأنه إنما يضمر في هذا مثل الثاني، فالتقدير: أضارب أنت عبد الله ضارب له أنت. وأيضًا فإن النصب يمتنع من حيث إنه لا معنى له، كما يمتنع: قام عبد الله قائمًا. وقوله/ أو مقارب مثاله: إن زيدًا مررت به فأحسن إليه، وإن زيدًا كلمت أخاه أحسن إليك، التقدير: إن جاوزت زيدًا مررت به، وإن لابست زيدًا كلمت أخاه. فال المصنف في الشرح: "وقلت (بعامل) لأعم الفعل وشبهه، نحو: أزيدًا أنت ضاربه؟ التقدير: أضارب زيدًا أنت ضاربه" انتهى. ولم يبين المصنف إعراب هذا الكلام. وفي البسيط: إذا قلت: زيدًا أنت ضاربه، وأدخلت الحروف التي يعتمد عليها اسم الفاعل- جاز في الاسم النصب بإضمار فعل، وجاز أن يكون بتقدير اسم فاعل لصحة اعتماده قبل، ويجب أن يكون أنت مرتفعًا به؛ لأنه إما أن يكون اسم الفاعل مبتدأ به أو خبرًا متقدمًا، وهو في كل حال مفتقر إليه، ويرتفع (ضارب) الثاني بتقدير ابتداء آخر. وقد يقال: ومن أين يبعد أن يقدر اسم الفاعل معتمدا، والتقدير: أنت ضارب زيدًا أنت ضاربه. وفيه نظر. وقوله وقد يضمر مطاوع للظاهر، فيرفع السابق. فال المصنف في الشرح: "إن كان للفعل المشتغل مطاوع جاز أن يضمر، ويرفع به السابق، كقول لبيد:

فإن أنت لم ينفعك علمك فانتسب لعلك تهديك القرون الأوائل فـ (أنت) فاعل (لم تنتفع) مضمرًا، وجاز إضماره لأنه مطاوع (ينفع)،والمطاوع يستلزم المطاوع، ويدل عليه، فلو أضمر الموافق لنصب، وجاء بـ (إياك). ومثل هذا البيت ما أنشده الأخفش من قول الشاعر: أتجزع إن نفس أتاها حمامها فهلاً التي عن بين جنبيك تدفع فرع نفسًا بـ (مات) مقدرا لأنه لازم لـ (أتاها حمامها) كلزوم انتفع لنفع. وروي قول الشاعر: لا تجزى إن منفسًا أهلكته وإذا هلكت فعند ذلك فاجزعي بنصب المنفس على إضمار الموافق، ورفعه على إضمار المطاوع" انتهى كلامه. وهذا الذي قرره المصنف منعه أصحابنا. فلا يجيزون: إن الإناء كسرته فاغرمه، على تقدير: إن انكسر الإناء. فأما ما أنشده المصنف من قول لبيد: فغن أنت لم ينفعك علمك ............... فخرج على وجوه: أجدها: أن يرتفع (أنت) على الابتداء، وهو وجه ذكره س إذا كان الخير فعلًا، نحو: إن الله أمكننى من فلان، وذكره ابن جني عن الأخفش.

الثاني: أن يكون مما وضع فيه ضمير الرفع موضع ضمير النصب، كما وضع المنصوب موضع المرفوع، قالوا: لم يضربني إلا إياه، وفي الحديث" إذا هو إياه، وإذا هي إياه. وكلا هذين التخريجين للسهيلي. الثالث: أن يكون مرفوعا بإضمار فعل يفسر المعنى، ولا يكون من باب الاشتغال، وذلك أنه لا يحوز أن يحمل"أنت" على"علمك" لأنه يودي إلى تعدي فعل المضمر المتصل إلى مضمره المتصل، وذلك لا يجوز؛ ألا ترى [أنك] لو وضعت "أنت" مكان "علمك" لكان التقدير: فإن لم ينفعك. ولا يجوز ايضًا حمله على الكاف في "ينفعك" لأنه لو فعل ذلك لنصب، فقال: فإن إياك، فلم يبق إلا أن يكون محمولاً على إضمار فعل لفهم المعنى، فيخرج عن الاشتغال، كأنه قال: فإن ضللت لم ينفعك علمك، فأضمر "ضللت" لفهم المعنى، وبرز الضمير لما استتر الفعل، فقال: فإن أنت. وهذا تخريج الأستاذ أبي الحسن بن عصفور. وأما: لا تجزعي إن منفسًا أهلكته فرواية البصريين بالنصب، وهو الصواب. ورواية الكوفيين الرفع،

وهي خارجة عن القياس؛ لأن المفسر في هذا الباب عندهم كأنه العامل، وكأنه غير مشغول بالضمير عن العمل، وجعلته العرب كذلك لما لم تجمع العرب بينه وبين العامل، فعاقبه، وهي تحكم للمعاقب بحكم ما عاقبه، فإذا كان محكما له بحكم العامل غير مشغول بالضمير فرفع "منفس" مع "أهلكت" وهو عامل نصب، شيء لا ينبغي. ووجه رواية الكوفيين أن يرتفع بإضمار فعل، تقديره: إن هلك منفس أهلكته، ويكون ذلك على سبيل الشذوذ والقلة بحيث لا تبنى عليه قاعدة. وكذلك قوله: أتجزع إن نفس أتاها حمامها .................................... ويتحمل أن يرتفع "نفس" و"منفس" بالابتداء بعد "إن" الشرطية على ما ذكره س. -[ص: ويرجح نصبه على رفعه بالابتداء إن أجيب به استفهام بمفعول ما يليه، أو بمضاف إليه مفعول ما يليه، أو وليه فعل أمر، أو نهي، أو دعاء، أو ولي هو همزة استفهام، أو حرف نفي لا يختص، أو حيث، أو عاطفًا على جملة فعلية تحقيقًا أو تشبيهًا، أو كان الرفع يوهم وصفًا مخلاً.]- ش: إذا كانت الجملة الأولى تتضمن السؤال عنه فيترجح في الاسم أن يكون مبنيًا على الأول، إن كان مرفوعًا رفعت، وإن كان منصوبًا نصبت، سواء أكان السؤال ذا وجهين أو ذا وجه واحد، فلا يراعى إلا الاسم. فإذا قلت: من رأيت؟ وأيهم رأيت؟ قلت: زيدًا رأيته، فتنصب بحمله على "مَنْ " في الجملة كما تحمله في المفرد إذا قيل: من رأيت؟ فتقول: زيدً. فإن كان مرفوعًا رفعت، نحو: أيهم مضروبك؟ فتقول: زيد ضربته. وإذا قلت: أيهم ضربته؟

فكذلك أيضًا تحمله على الابتداء/، ولا يُحمل على الجملة الفعلية فيه، كما يأتي في العطف على الجملة التي لها وجهان. وجوز الأخفش الحمل على الفعلية كما في ذات الوجهين. ولا يجيزه س إلا على إجازته في الأصل. وكأن الأخفش سوى بين السؤال وغيره كما في ذات الوجهين. وتقول: هل رأيت زيدًا؟ فتقول: لا، ولكن عبد الله لقيته، فهذا في حكم الجواب وإن لم يكن هو المسؤول عنه، لكنه لما كان في الجملة جوابًا جرى مجرى الأول. وكذا لو عطفت، فقلت: لا، بل عمرًا لقيته، أو: نعم، وعمرًا لقيته. فإن كان بعد "لكن" جملة غير خبرية لم يُحمل على الأول، بل على أصلها، نحو: هل مررت بزيد؟ فتقول: لا، ولكن عمرًا امرر به. وقوله إن أجيب به استفهام مثال ذلك: زيدًا ضربته، جوابًا لمن قال: أيهم ضربت؟ وثوب زيد لبسته، جوابًا لمن قال: ثوب أيهم لبست؟ واحترز بقوله بمفعول ما يليه وما بعده من ن يجاب به استفهام بغير مفعول ما يليه، نحو: أيهم ضربته؟ وثوب أيهم لبسته؟ فإنه يُختار الرفع في الجواب، فتقول: زيد ضربته، وثوب زيد لبسته. وقوله أو وليه فعل أمر مثاله: زيدًا اضربه، وزيدًا ليضربه عمرو. ولام الأمر ليست من حروف الصدر، فيجوز أن يتقدم المعمول، فتقول: زيدًا ليضرب عمرو، كما تقول: زيدًا اضرب. وسواء أكان بصيغة الأمر كما مثلناه، أو بصيغة الخبر

الآتي بمعنى الأمر، نحو قولك: الأولاد يرضعهن الوالدات. واحترز بقوله فعل أمر من أن يكون اسم فعل أمر، نحو: زيد مناعه، فإنه لا يجوز فيه النصب، ويتعين الرفع لأنه لا يعمل فيه متقدمًا، فلا يجوز أن يفسر. وسواء في ذلك الأمر المراد بما قبله العموم أو الخصوص، نحو قولك: اللذين يأتيانك اضربهما، وزيدًا اضربه، هذا مذهب س، نص عليه في كتابه. وزعم ابن بابشاذ وأبو محمد بن السيد أن الأمر الذي يراد بما قبله العموم يُختار فيه الرفع، نحو قوله تعالى {وَاللَّذَانِ يَاتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا}، {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا}، قال: "فهذا القسم يختار فيه الرفع لشبهه بالشرط لما دخله من العموم والإبهام، والأمر الذي يراد به الخصوص يختار فيه النصب، نحو: زيدًا اضربه". وعند س أن الآيتين متأولتان على إضمار، وأن الكلام في ذلك جملتان، وأن التقدير: "فيما فُرض عليكم حُكم السارق والسارقة، فاقطعوا أيديهما"، و "في الفرائض الزانية ولازاني، فاجلدوا"، ونحو ذلك. وقوله أو نهي مثاله: زيدًا لا تضربه. وسواء في ذلك ما صيغته صيغة النهي وما صيغته صيغة الخبر، ومعناه النهي، نحو قوله/:

القائلين: يسارًا، لا تناظره غشًا لسيدهم، في الأمر، إذ أمروا ومن فروع الأمر: زيد أسمع به، لا يجوز نصب "زيد" ولا رفعه على الفاعلية ولا على الاشتغال، لا على مذهب البصريين، ولا على مذهب الكوفيين. وقوله أو دعاء سواء أكان بصورة الأمر أو بغير ذلك، مثاله: زيدًا قطع الله يده، وزيدًا أمر الله عليه العيش، وعمرًا ليجزه الله خيرًا، وزيدًا فأصلح شأنه [يا رب]، وقال أبو الأسود: أميران كانا آخياني كلاهما فكلاً جزاه الله عني بما فعل وفي البسيط: "وجرى مجرى الفعل ما كان من المصادر موضع الفعل، نحو: زيدًا جدعًا له وعقرًا، والله حمدًا له، وزيدًا ضربًا له. والمجرور هنا منصوب. وكذلك ما جرى مجرى الأمر من أسمائه، نحو: زيدًا ضرابه، والإبل مناعها، وكذلك الإغراء، نحو: زيدًا عليكه، فينصب بما يدل عليه ما بعده" انتهى. والنصب مع اسم الفعل وفي الإغراء لا يكون على مذهب البصريين، إنما يكون على مذهب الكسائي. وقوله أو ولي هو همزة استفهام الضمير في "هو" عائد على الاسم السابق الذي اشتغل عنه الفعل. أزيدًا ضربته؟ وإنما خص الهمزة بالذكر مع ما يُرجح النصب لأن غيرها من أدوات الاستفهام من موجبات النصب، وسواء أكان الفعل الذي ولي الهمزة من باب الظن أو غيره.

وقال الفراء: إذا قلت: أعبد الله ظننته قائمًا؟ فالرفع وجه الكلام؛ لأن من عادات العرب أن يلغوها إذا لم يكن فيها الهاء وهي بين اسمين، فتوهموا ذلك فيها وفيها الهاء. والنصب عند البصريين الوجه. واحترز بقوله أو ولي هو همزة آستفهام من أن يكون هو تليه الهمزة، فإنه لا يجوز فيه إلا الرفع نحو: زيدً أضربته؟ لآنه لا يجوز: زيدًا أضربت؟ وما لا يعمل لا يفسر. ولا يتخيل فرق بين الهمزة وغيرها من أدوات الاستفهام وإن كان قد جاز فيها أشياء لم تجز في سائر أدواته، وإذا كانوا مع اتساعهم فيها دون أخواتها لم يجيزوا أن يعمل ما بعدها فيما قبلها فأحلرى سائر حروفه. وحكى الأستاذ أبو علي عن أبي محمد بن حوط الله أنه كان يذب أبدًا إلى أن للألف مزية على سائر حروف الاستفهام، وأن ما بعدها يفسر ما قبلها. وقد كنت نبهته على هذا الموضع من كلام س، فلم يكن له بد من اللرجزع إليه. انتعي. ويعنى بـ"هذا الموضع" قول س في "هذا باب من الاستفهام يكون السم فيه رفعًا": "ألا ترى أنك تقول: زيد هذا أعمرو ضربه أم بشر، ولا تقول: عمرًا أضربت. فكما لا يجوز هذا لا يجوز ذلك" انتهى. وسواء فيما ولي الهمزة أكان السؤال عن الفعل،: أزيدًا / ضربته؟ أم عن الاسم، نحو: أزيدصا ضربته أم عمرًا، المختار في المسألتين النصب، وأنشد س: أثعلة الفوارس أم رياحا عدلت بهم طهية والخشابا

وزعم أبو الحسين بن الطراوة أنه إذا كان السوال عن الفعل فالمختار الحمل على الفعل، وإذا كان عن الاسم فلا يحمل على الفعل، بل على الابتداء. وزعم أن س اخطأ في استشهاده بقوله "أثعلبة الفوارس" إذ هو غلى خلاف ما ينبغي، فكأنه شاذ نادر لأن السؤال فيه عن الاسم، وهو قد نصب حملاً غلى الفعل، وإنما كان حقه ان يكون مرفوعًا. وقال شيهنا الأستاذ ابو الحسن بن الضائع: "لا يلزم من تقديم الاسم إذا كان السؤال عنه وجعله يلي الهمزة أن يكون ميتدأ، بل هو محمول على إضمار الفعل؛ لأن الهمزة تطلب الفعل اختيارًا، سواء أكان السؤال عن اسم أم كان عن فعل، إلا أنه إذا كان عن اسم يجعل الاسم في اللفظ خاصة يلي الهزة وأم، وإن كان عن فعل جعل يلي الهمزة وأم لفظًا وتقديرًا، ثم المسموع من العرب هو ما قعد س في هذا الباب وغيره من اختيار الحمل على الفعل، وفسد قول ابن الطراوة إنه يجب الرفع على الابتداء" انتهى. ويد على صحة ما ذهب إليه س قول العرب: أزيدًا ضربت أم عمرًا؟ بالنصب، وهو سؤال عن الاسم، فلو كان ما ذهب إليه ابن الطراوة صحيحًا لم يجز النصب، ولو جب الرفع على الابتداء، لكنه ينبغي أن يقدر الفعل متأخرًا عن الاسم في مسألة الاشتغال، فيقال في مثل "أزيدًا ضربته أم عمرًا" إن تقديره: ضربت ضربته أم عمرًا. والأخفش يجعل أدوات الاستفهام كالهمزة، فيختار النصب فيما يلي الأداة على الاشتغال، فيقول: أيهم زيدًا ضربه؟ ومن أمة الله ضربها؟ كما يقول: أزيدًا مررت به؟

وقال س:"وإن قلت: أيهم زيدا ضرب؟ قبح". وإنما قبح لأن أدوات الاستفهام غير الهمزة أشبهت أدوات الشرط غير إن، فكما يقبح ذلك مع فعل الشرط قبح معها. وقوله أو حرف نفي لا يختص مثاله: ما زيدا ضربته، ولا زيدا قتلته ولا عمراً. واحترز بقوله حرف نفي من"ليس"فإنها فعل، وإذا وليها الاسم السابق كان اسما لها، فيتعين رفعه، نحو: ليس زيد أضربه، فتخرج المسألة من الاشتغال. واحترز بقوله لا يختص من حرف نفي يختص، وذلك"إن"و"لم"و"لما"الجازمة؛ لأن الاسم لا يلي واحدا منها إلا في ضرورة، فيكون إذ ذاك محمولا على إضمار فعل علي جهة الوجوب، كما قال الشاعر: ظننت فقيرا ذا غنى، ثم نلته ... فلم ذا رجاء ألقه غير واهب /أي: فلم ألق ذا رجاء ألقه غير واهب. وما ذكره المصنف من أنه إذا ولي المشتغل عنه حرف نفي لا يختص يختار فيه النصب كحاله إذا ولي همزة الاستفهام مخالف لظاهر كلام س، فإن س لما ذكر النصب فيه قال بعد ذلك:"وإن شئت رفعت، والرفع فيه أقوى إذ كان يكون في ألف الاستفهام؛ لأنهن نفي واجب، يبتدأ بعدهن، ويبنى على المبتدأ بعدهن، ولم يبلغن أن يكن مثل ما شبهن به". وهكذا قال أبو بكر بن

طاهر في شرحه كلام س، وأن الرفع أقوى من النصب لأمن الرفع في حروف الاستفهام وقال الأستاذ أبو علي: حروف النفي متوسطة بين حروف الاستفهام والابتداء، فالرفع فيها قريب من النصب، فهي كحروف الاستفهام في أنها تخرج الواجب إلى حد النفي، كمان ان حروف الاستفهام تخرجه إلى حد الاستفهام، وهي محمولة على الابتداء لأنها تقتضيه ونفي له، وأنها تبقي لفظ الابتداء، فيبقى معها على حاله وقوة الرفع فيه. وقال ابن خروف: لما ضعف طلب حروف النفي للفعل شبهها بحروف الاستفهام؛ لأنها دخلت لنفي الواجب، كما أن الاستفهام غير واقع، ولم يشبهها بحمله على الشرط، فيجب أن يكون النصب هنا أضعف منه في الاستفهام، والرفع هنا أقوى منه الاستفهام، ولولا كثرة النصب هنا في كلامهم لكان الرفع فيه أقوى من النصب، فغايته أن يستوي معه، وكلام س محتمل في ذلك؛ إذا ضعفه عن الاستفهام الذي جعله مشبها بالشرط، والمشبه بالشيء لا يقوى قوته. وفي تعليق علي بن موسى بن حماد عن أبي الحسن بن الباذش أن الرفع والنصب مستويان كقولك: ما زيد ضربته، وما زيدا ضربته، فالنصب لأن النفي غير واجب كالاستفهام، والرفع لأنه نفي واجب، فيجري مجرى الواجب لأنه يقتضيه. وذكر ابن عصفور: أن مذهب الجمهور أن النصب أقوى من الرفع، واختار. واتبعهم المصنف.

فصار في المسألة ثلاثة مذاهب: استواؤها، وأرجحيه الرفع، وأرجحيه النصب. ومن غريب النقل ما ذكره ابن أصبغ من أن س وعامة النحويين أجازوا الرفع في قولك: ما ضربته ولا عمراً أكرمته، ومنعه بعض المتأخرين، وكأنه غلط، أو هو يتأول على معنى اختيار الرفع. وقوله أو حيث مثاله: حيث زيدا تلقاه يكرمك. وإنما كان النصب أرجح لأن"حيث"في معنى حروف المجازاة. وقوله: أو عاطفا على جملة فعلية تحقيقا مثاله: لقيت زيدا وعمرا كلمته. وسواء/أكان الفعل متعديا أم لازما، متصرفا أم جامدا، تاما أم ناقصا، نحو: لست أخاك وزيدا أعينك عليه، وكنت أخاك وعمرا كنت له أخا. وسواء أقدمت الفعل أم اخرته، نحو: عمرا لقيت وزيدا كلمته، وتقول: قام زيد وعمرا كلمته. وإنما كان راجحاً للمشاكلة؛ إذ يكون عطف جملة فعلية على جملة فعلية، قال تعالى {فَدَمَّرْنَاهُمْ تَدْمِيرًا. وقَوْمَ نُوحٍ لَّمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْنَاهُمْ}،وقال {فَرِيقًا هَدَى وفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ}، والتقدير: وأغرقنا قوم نوح، وأضل فريقا، وقال الشاعر: وتيماء، لم يترك بها جذع نخلة ... ولا أطماً إلا مشيدا بجندل

أي: وخرب تيماء، وهو معطوف على قوله: وأضحى يسح الماء عن كل فيقة ... يكب على الأذقان دوح الكنهبل وهذا لا اختلاف فيه بين النحويين. إلا أن الفراء قال: إن أردت أن تكون الجملة معطوفة على الجملة نحو: زيد هكذا وعمرو هكذا، اخترت الرفع. وإلا إذا كان الفعل لازما، نحو: قام زيد وعمرا ضربته، فاختار س وأصحابه النصب. قال الجرمى: واختار غير س الرفع وإلا في"ليس"،نحو: لست أخاك وزيدا أعينك عليه، فاختار س النصب؛ [لأنها فعل] تصرف في معناها تصرف كان. وقال الفراء: في ليس الرفع لا غير. وقوله أو تشبيها قال المصنف في الشرح:"وليس الغرض في ترجيح نصب ما بعد العاطف إلا اللفظ ظاهراً، ولولا ذلك لم يرجح بعد حتى؛ لأنها لا يعطف بها جملة بل مفرد على كل، فإذا قلت: ضربت القوم حتى زيدا ضربت أخاه، فـ (حتى) حرف ابتداء، ولكن لما وليها في اللفظ بعض ما قبلها أشبهت العاطفة، فأعطى تاليها ما أعطي تالي الواو. وتجعل ضربته توكيدا. فلو قلت ضربت زيدا حتى عمرو ضربته تعين رفع عمرو بزوال شبه حتى الابتدائية بالعاطفة؛ إذ لا تقع العاطفة إلا بين بعض وكل"انتهى كلامه.

ولم يذكر المصنف مما يشبه حرف العطف غير"حتى"،وكأنه قصد التمثيل لا الحصر في شبيه العطف. وذكر س حتى، ولكن، وبل، قال س:"ومما يختار فيه النصب قوله: ما لقيت زيدا ولكن عمرا مررت به، وما رأيت زيدا بل خالدا لقيت أباه، تجريه على قولك: لقيت زيدا وعمرا لم ألقه". وقال س أيضا:"ومما يختار فيه النصب لنصب الأول، ويكون الحرف الذي بين الأول والآخر بمنزلة الواو والفاء وثم، قولك: قد لقيت القوم كلهم/حتى عبد الله لقيته، وضربت القوم حتى زيدا ضربت أباه، وأتيت القوم أجمعين حتى مررت به، ومررت بالقوم حتى زيدا مررت به". وإنما اختير النصب لأنها حروف تشبه العاطفة من حيث غنها لا تكون إلا بعد كلام، ولا تبتدأ أصلا، ولأنها أيضا يعطف بها في المفردات، فاختيرت المشاكلة لذلك، كما اختير في حروف العطف. وقول المصنف في الشرح:"فإن قلت ضربت القوم حتى زيدا ضربته فالأجود أن تنصب زيدا بمقتضي العطف، وتجعل ضربته توكيدا"ليس بسديد؛ لأنك إذا جعلت ذلك من باب العطف اقتضى أن تكون الجملة توكيدا كما ذكر، وإذا جعلت زيدا منصوبا من باب الاشتغال كانت الجملة غير مؤكدة؛ ألا ترى أنها في نحو"زيدا ضربته"لا يقال إنها مؤكده، بل هي غير مؤكدة قطعا، بل هي مؤسسة، وإذا دار الأمر بين أن تكون للتأسيس كان جعلها للتأسيس أولى، بل لا يذهب للتأكيد إلا عند عدم احتمال التأسيس. وعلى أن المسألة من باب الاشتغال أوردها س:"لقيت القوم كلهم

حتى عبد الله لقيته"،جعله من باب الاشتغال، وإنما جعل س الجملة توكيدا حيث لم يمكن أن تكون مفسرة، وذلك عند جر الاسم بـ"حتى"، قال س:"وقد يحسن الجر في هذا، وهو عربي، وذلك قولك: لقيت القوم حتى عبد الله لقيته، فإنما جاء بـ (لقيته) توكيدا بعد أن جعله غاية، كما تقول مررت بزيد وعبد الله مررت به"انتهى. ولم يجز س في"ضربت القوم حتى زيدا ضربته"أن تكون توكيدا لأنها مفسرة مؤسسة، وحمل الجملة على التأكيد إنما يذهب إليه حيث لا يمكن التأسيس. وقد ذهب بعض نحاتنا إلى أنه لا يجوز التوكيد في نحو"ضربت القوم حتى زيد ضربته"؛لأن الجملة لا تكون توكيدا حتى تشتمل على ضمير ما عمل فيه العامل الأول، نحو: ضربت القوم حتى زيد ضربتهم. وهو مخالف لما ذهب إليه س. وقول المصنف في الشرح: أيضا"فلو قلت ضربت زيدا حتى عمرو ضربته تعين رفع عمرو لزوال شبه حتى الابتدائية بالعاطفة إذ لا تقع العاطفة إلا بين بعض وكل"- لم يتعرض س ولا غيره لهذا الشرط على إضمار فعل على سبيل الاشتغال حتى يكون فيها شرط (حتى) العاطفة من أن ما بعدها يكون جزءا مما قبلها. وفي البسيط:"وجعل بعضهم من الاستئناف (إذا) المفاجأة في قولك: جئت فإذا عبد الله تضربه، و (حتى) في/قولك: أكرمك القوم حتى زيد

أكرمته، إلا أن يكون حرف عطف، فيجري مجرى حروف العطف"انتهى. وهذا مما يؤيد قول المصنف. قوله أو كان الرفع يوهم وصفا مخلا قال المصنف في الشرح:"من مرجحات النصب أن يكون مخلصا من إيهام غير الصواب، والرفع بخلاف ذلك، كقوله تعالى {إنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ}؛فإن نصب (كل شيء) يرفع توهم كون (خلقناه) صفة لـ (شيء)؛إذا لو كان صفة له لم يفسر ناصبا لما قبله، وإذا لم يكن صفه كان خبرا، فيلزم عموما خلق الأشياء بقدر، خيرا كان أو شرا، وهو قول أهل السنة، ولو قرئ {كُلَّ شَيْءٍ} بالرفع لاحتمال أن يكون (خلقناه) صفة مخصصة، وأن يكون خبرا، فكان النصب لرفعه احتمال غير الصواب راجحا" انتهى كلامه. وهذا الذي ذكره المصنف من ترجيح النصب بالسبب الذي ذكر هو قول أكثر النحويين. وأما س: فإنه ذكر أن الرفع أقوى في نحو: إني زيد لقيته، وأنا عمرو ضربته، وليتني عبد الله مررت به. ثم قال بعد:"فأما قول الله عز وجل {إنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} فإنما جاء على قوله: زيدا ضربته، وهو عربي كثير، وقد قرأ بعضهم {وأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ}،إلا أن القراءة لا تخالف لأنها السنة" انتهى. فليس في كلام إشارة إلى ترجيح النصب بسبب، وإنما خرج ذلك على زيدا ضربته. وظاهر كلام المصنف و"س"أن قوله {إنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ} لم يقرأ إلا

بالنصب، وليس كذلك، بل قرئ بالرفع على الابتداء، وعلى ما يقتضيه أكثر كلام العرب. وروي عن الأخفش: أنه جعل {خَلَقْنَاهُ} في موضع الصفة. ولم يتم له ذلك إلا بقراءة الرفع؛ إذ يحتمل الصفة والخبر، وأما في قراءة النصب فلا يتصور ذلك؛ لان الفعل الواقع صفة لا يفسر. قال ابن خروف: وإنما اعتذر س بأن القراءة لا تخالف لضعف قراءة النصب؛ لكونها بمنزلة: زيدا ضربته. وقال ابن عصفور:"ثم قال-يعني س-: (وأما قول الله تعالى) يريد أن النصب فيه ضعيف، والرفع أحسن منه؛ لأنه ليس قبله ما يوجب النصب، فهو بمنزلة: زبد ضربته"انتهى. وقول ابن خروف وابن عصفور: إن النصب ضعيف، وقول ابن عصفور أيضا في قراءة {وأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ} يريد-يعني س-أن هذا أيضا جاء على الوجه الأضعف في النصب-ليس كما أنه وجه ضعيف ولا أضعف، بل هو الوجه العربي الكثير، لا الأكثر، قال س هنا:"وهو عربي كثير". وقال في أول أبواب الاشتغال:"وإن شئت قلت: زيدا ضربته". ثم قال:"وقرأ بعضهم {وأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ}،/وأنشدوا هذا البيت على الوجهين، على الرفع والنصب، قال بشر بن أبي خازم:

فأما تميم تميم بن مر فألفاهم القوم روبى نياما" ثم قال:"فالنصب عربي كثير، والرفع أجود"انتهى كلام س. وفهم من قوله"والرفع أجود"أن النصب جيد، وما كان عربيا كثيرا جيدا لا يقال فيه إنه ضعيف ولا أضعف. وظاهر كلام س"أن القراءة لا تخالف لأنها السنة"رجوع هذا التعليل إلى الآيتين. وزعم الأستاذ أبو علي وابن عصفور أن ذلك التعليل لقراءة {وأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ} فقط؛ لأن الآية الأولى فيها عندهما موجب ترجيح النصب، وهو موجب العموم، والرفع لا دليل فيه عليه لاحتمال أن يكون (خلقناه) صفة، ويكون (بقدر) هو الخبر. -[ص: وإن ولي العاطف جملة ذات وجهين-أي: اسمية الصدر فعلية العجز-استوى الرفع والنصب مطلقا، خلافا للأخفش ومن وافقه في ترجيح الرفع إن لم يصلح جعل ما بعد العاطف خبرا، ولا أثر للعاطف إن وليه"أما". وابتداء المسبوق باستفهام أولى من نصبه إن ولي فصلا بغير ظرف أو شبهه، خلافا للأخفش، وكذا ابتداء المتلو بـ"لم"أو"لن"أو"لا"،خلافا لابن السيد.]- ش: العاطف قد يكون من الحروف التي تشرك في عطف المفردات في الإعراب والحكم، وقد يكون فيما يشرك في الإعراب في عطف المفردات، مثاله: زيد ضربته وعمرو أكرمته، وزيد لقيته لا بل عمرو مررت به. وإذا قلت ما أحسن زيدا فليس حكمه عندهم حكم: زيد ضربته، لا

يلحظ في قوله أحسن زيدا ما يلحظ في ضربته، لأن فعل التعجب قد جرى مجرى الأسماء، ولذلك صغر، واعتقد الكوفيون فيه انه اسم، فلذلك يختار أن تقول: ما أحسن زيدا وعمرو مررت به، برفع عمرو على المختار، كأنه معطوف على جملة اسمية، أو كأنه مبدوء بجملته من غير عطف، وقد أهمل المصنف التنبيه على ذلك. وما أشبه العاطف حكمه كالعاطف، وقد اهمله المصنف في الفص وفي الشرح، نحو"حتى"، تقول: أنا أضرب القوم حتى عمرو أضربه. وإنما احتاج في تفسير ذات الوجهين إلى قوله"أي: اسمية الصدر فعلية العجز"لأن ذات الوجهين يراد بها كبرى وصغرى، فالصغرى في ضمن الكبرى، والصغر أعم من أن تكون اسمية أو فعلية، فبين أن المراد بقوله"ذات الوجهين"ما يجوز فيه الرفع باعتبار الكبرى، والنصب باعتبار الصغرى، ولا تكون كذلك حتى تكون اسمية الصدر فعليه العجز. وأهمل المصنف أن الوصف المخبر به/عن المبتدأ يتنزل منزلة الجملة الفعلية في ذلك، مثاله: هذا ضارب عبد الله وزيد يمر به، وزيد ضارب عمرو غدا وبشر سيضربه، وهذا ضارب القوم حتى زيد يضربه، إذا أردت معنى التنوين فجميع هذه المثل التي سردناها يجوز فيها الرفع والنصب. وقوله استوى الرفع والنصب هذا الذي قاله المصنف قاله الجزولي من أن الوجهين على حد سواء. وقال المصنف في الشرح في هذه المسألة:"جاز

رفعه ونصبه جوازًا حسنًا دون ترجيح؛ لأنه إذا رفع كان مبتدأ خبرًا عنه بجملة فعلية معطوفًا على مبتدأ مخبر عنه بجملة فعليه؛ وإذا نصب كان معمول فعل معطوفًا في اللفظ على معمول فعل، فمع كل واحد من العملين مشاكلة توجب عدم المفاضلة، ولكل منهما ضعف وقوة، فضعف الرفع لترتبه على أبعد المشاكلين، وقوته لصلاحية الثاني فيه لأن يسد مسد الأول، وضعف النصب لعدم صلاحية الثاني فيه أن يسد مسد المحمول عليه، وقوته لترتبه على أقرب المشاكلين، فحصل بذلك تعادل في مراعاة التشاكل» انتهى. وفي البسيط: هما على السواء على رأي س، وترجيح الرفع على رأي أبي علي. وقال بعض معاصرينا: لم يصرح س أنهما على حد سواء، إنما ذهب إلى ذلك الجزولي، والأظهر أن يكون الحمل على الفعل الذي في الجملة الصغرى أحسن من الحمل على الكبرى؛ لأن الصغرى أقرب، وهي التي تلي، وهم كثيرًا ما يراعون الجوار- وإن كان ينقض المعنى- كقولهم: هذا جحر ضب خرب. وطائفة أنكرت هذا ومنعت من الحمل على الصغرى البتة. ونسبه ابن عصفور للفارسي قولاً. والصحيح أنه لأبي بكر بن طاهر، وهو أن العطف على كل حال إنما هو على الكبرى، فإن كان مرفوعًا فلا كلام فيه، وإن كان منصوبًا فمحمول على الكبرى، ملاحظ فيه معنى الصغرى للمشاكلة، وكأنه نوع من التوهم، ولا يلزم إذا لحظت الصغرى من جهة أن يكون العطف عليها، بل هو معطوف على الكبرى، مشاكل بينها وبين الصغرى،

كقوله تعالى {فَأَصَّدَّقَ وأَكُن}، وقوله: ............... لست مدرك ما مضى ... ولا سابق شيئًا .......... واختار هذا القول ابن عصفور، إلا أنه مخالف لظاهر كلام س، فإن س قال: إذا كان منصوبًا فإنه محمول على الصغرى. والحمل لا يفهم منه إلا العطف. وقول المصنف «وإذا نصب كان معمول فعل معطوفًا في اللفظ على معمول فعل» ليس يجيد، فإنه كما يعطف على الجملة الصغرى المتضمنة منصوبًا كذلك يعطف على الصغرى وإن لم يكن/ فيها منصوب البتة، نحو: زيد قام أخوه وعمرًا كلمته، فمراعاة المشاكلة ليست لكون الصغرى فيها منصوب، بل لمجرد كونها فعلية. وقوله مطلقًا، خلافًا للأخفش ومن وافقه إلى قوله خبرًا الجملة المعطوفة على الجملة الصغرى إما أن يكون فيها ضمير يعود على المبتدأ الذي في الجملة الكبرى أو لا يكون، فإن كان فيها ضمير جازت المسألة، نحو: هند ضربتها وزيدًا كلمته في دارها، وإن لم يكن فيها ضمير فأربعة مذاهب: أحدها: ما ذهب إليه جماعة من القدماء والفارسي من جواز العطف على الصغرى، نحو: هند ضربتها وعمرًا أكرمته، وهو ظاهر كلام س.

قيل للفارسي: إذا عطفت على الصغرى لزم الرابط. قال: قد نجد ما يدل على ما قلت؛ ألا ترى أن (إن زيدًا وعمرو قائمان) لا يجوز في الحكاية، أي (زيد) لا يجوز، فإذا قلت: إنك وزيد قائمان، أو: من زيد- جاز. وإنما جاز ذلك مع الضمير الذي هو الكاف في (إنك) وفي (من)، ولم يجز في الإسم المعرب؛ لأنك إذا عطفت على معرب فيلزمك أن تحمل عليه من نوعه كراهية الخلاف، وإذا عطفت على ما لا يظهر فيه إعراب احتمل ذلك فيه؛ لأن الخلاف في ظاهر اللفظ قد أمن، وكذلك العطف على الجملة الصغرى جائز لأنها لا يظهر فيها إعراب من حيث هي جملة، فاحتمل عروها من الضمير كما احتمل في (إنك وزيد) الرفع، وفي الحكاية بـ (من)؛ حيث لا يظهر فيهما إعراب. وقال الفارسي أيضًا: قد نجد معطوفًا على شيء لا يلزم فيه ما يلزمه لو كان المعطوف عليه؛ ألا تراهم يقولون: رب رجل وأخيه، وكل شاة وسخلتها، ولا يقولون: رب أخيه، ولا: كل سخلتها. المذهب الثاني: ما ذهب إليه الأخفش والزيادي ومن تبعهما كالسيرافي، وهو أنه لا يجوز؛ لأن المعطوف على الخبر خبر، فكما لا يجوز خلو الجملة الأولى الواقعة خبرًا للمبتدأ من رابط يعود على المبتدا، فكذلك الجملة

المعطوفة عليها، فإن وجد النصب فيما عري من الرابط فليس لكونه معطوفًا على الجملة الصغرى، إنما ذلك لجواز «زيدًا ضربته» ابتداء من غير مراعاة عطف على الصغرى، ويكون من عطف الجملة الفعلية على الجملة الإسمية، وذلك جائز، لا خلاف فيه. والمذهب الثالث: ما ذهب إليه هشام، وهو أنه إن كان العطف بالفاء أو بالواو جازت المسألة لأن الفاء فيها تسبيب، فيحتمل أن يكون الرابط في الجملتين بضمير واحد، والواو فيها معنى الجمع. وإن كان/ العطف بغيرهما لم يجز. المذهب الرابع: ما ذهب إليه الجمهور، وهو أنه إن كان العطف بالفاء جاز المسألة، وإن كان بغير ذلك لم تجز. وما احتال به أبو بكر بن طاهر ومن تبعه من أن العطف في الحقيقة إنما هو على الكبرى، لكن إن نصب راعيت مشاكلة الصغرى- هو إحالة منه لصورة المسألة، فإن الفرض في المسألة أن العطف إنما هو على الجملة الصغرى. وأما س فإنه ذكر مثلاً، وأجاز فيها النصب والرفع، وليس في الجملة الثانية ضمير. فقيل: أتكل على فهم القاعدة من أن المعطوف على الخبر خبر، فيلزم في الثاني ما يلزم في الأول. واستدل لجواز النصب- وإن عريت الجملة من الضمير- بورود الوجهين في قوله {والْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ}، قرأه الحرميان وأبو عمرو بالرفع، وقرأه باقي السبعة بالنصب، وهو معطوف على قوله {والشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَا}، وليس في الجملة المعطوفة على الصغرى ضمير يعود على الشمس.

قال ابن عصفور والمصنف: أجمع القراء على نصب {والسَّمَاءَ رَفَعَهَا ووَضَعَ المِيزَانَ}، وهي معطوفة على (يسجدان) من قوله {والنَّجْمُ والشَّجَرُ يَسْجُدَانِ}، وليس فيها ضمير يعود على (النجم والشجر). وذكر ابن عصفور أن س وغيره من أئمة النحويين حكوا أن الإختيار في مثل هذا النصب، ولم يشترطوا ضميرًا. وليس في كتاب س أن الإختيار النصب، وإنما فيه ما نصه: «فإن حملته على الإسم الذي بني عليه الفعل كان بمنزلته إذا بنيت عليه الفعل مبتدأ، يجوز فيه ما يجوز إذا قلت: زيد لقيته، وإن حملته على الذي بني عليه الفعل اختير فيه النصب كما اختير فيما قبله، وجاز فيه ما جاز في الذي قبله، وذلك قولك: عمرو لقيته وزيد كلمته، إن حملت الكلام على الأول. وإن حملته على الآخر قلت: عمرو لقيته وزيدًا كلمته» انتهى. فلم يختر النصب على الرفع بالنسبة إلى المسألة إذا رفعت مراعيًا الجملة الكبرى، وإنما أختار النصب إذا راعيت الجملة الصغرى على الرفع إذا عطفت عليها، ولذلك قال: «وجاز فيه ما جاز في الذي قبله» يعني من الرفع. وإن كان العطف على الجملة الصغرى فيكون عطف جملة أسمية على جملة فعلية. فالنصب هو المختار؛ لأنه يكون عطف جملة فعلية على جملة فعلية، فيحصل التشاكل. وقال المصنف في الشرح: «جرت الجملة ذات المحل والتي لا محل لها مجرى واحدًا، كما أن اسم الفاعل حين لم يظهر الضمير المرتفع به جرى مجرى ما

لا ضمير فيه، فقيل في تثنيته (قائمان) / كما قيل (فرسان). وإذا كان اسم الفاعل قد يظهر ضميره إذا جرى على غير ما هو له، ثم أجري مع ذلك مجرى ما لا ضمير فيه لعدم ظهوره في بعض المواضع- كان ما لا يظهر إعرابه أصلاً أحق ألا يعتد به» انتهى. وكان ينبغي للمصنف أن يستثني من الجملة ذات الوجهين مسألة ذكرها س، وهي قولك: «ما أحسن زيدًا وعمرو قد رأيناه»، فالرفع أجود مراعاة للجملة الكبرى، ولا ينصب إلا على قولهم: زيدًا ضربته، ولا تراعى الجملة الضغرى؛ لأن هذا الفعل لم يستعمل منه مستقبل ولا اسم فاعل، بل قد لزم طريقة واحدة، ولم يضمر، فيبقى عمله كالأفعال، إذ لا تقول: ما زيدًا! تريد: ما أحسن زيدًا! ولا تقول: ما أحسنا! ولا: ما أحسنوا! فتلحقه الضمائر كالأفعال، ولا تقدمه، ولا تؤخره، إنما هو بمنزلة: لدن غدوة. وقوله ولا أثر للعاطف إن وليه «أما» أما تبطل حكم حرف العطف لأنها من أدوات الصدر، فلا ينظر إلى ما قبلها، بل يكون للإسم بعدها ما له مفتتحًا به، فلا تراعي مع «ما» الجملة الصغرى، ولذك قرا أكثرهم {وأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ} بالرفع، وقد تقدمته جملة ذات وجهين، فإن كان مع وجود «أما» له مرجح النصب سوى العطف عمل بمقتضاه، نحو: أما زيد فقام وأما عمرًا فأضربه، وإلا فالرفع راجح. وقوله وابتداء المسبوق باستفهام إلى قوله خلافًا للأخفش إن فصل

بينهما بغير ظرف أو شبهه، نحو: أأنت زيد تضربه؟ وأهند عمرو تضربه؟ فذكر المصنف في الشرح أنه يبطل حكم الإستفهام عند س لبعده من الفعل، ولا يبطل عند الأخفش لوجود الإستفهام في أول الكلام والفعل في آخره، فرفع «أنت» «تضرب» مقدرًا، ونصب به زيدًا، وعند سيبويه «أنت» مبتدأ، والجملة بعده خبره. وقد خطأ معظم النحويين الأخفش في اختياره النصب على الرفع، واختلفوا في الرد عليه: فزعم ابن ولاد أن الإشتغال لا يكون بالنظر إلى اسمين أصلاً، وأن س لا يجيز ما قاله الأخفش، وذلك أن الفعل المشتغل لابد أن يكون خبرًا عن الإسم، فإذا قلت أزيدًا ضربته؟ فـ «ضربته» خبر، وقد كان خبرًا له قبل الإشتغال حين قلت: زيد ضربته، ولو قلت: أأنت عبد الله ضربته؟ لم يكن «ضربته» خبرًا عن «أنت»، وإنما يكون خبره الجملة، فخرج عن الإشتغال. وقد اعترض هذا القول بقولك: أزيد أنت ضاربه؟ وليس خبرًا عن «زيد»، بل «أنت» وما بعده هو الخبر، وقد أجمعوا على جواز النصب. وينفصل عن هذا الإعتراض بأن «أنت» مع «ضارب» بمنزلة «ضرب»؛ لأنه لا يصح له عمل إلا معتمدًا بلا فاصل،/ وهذا بناء على منع هشام و «س»: زيدًا أنا ضربت، وإجازتهما: زيدًا أنا ضارب.

وزعم أبو جعفر بن مضاء أن امتناع ما أجازه الأخفش هو من أجل أنه يصير «ضربته» مفسرًا لعامل يطلب معمولين ملفوظًا بهما، وهما: عبد الله، وأنت، والتفسير لا يقوى هذه القوة. واعترض ابن خروف هذا القول بأن قال: وكذلك هو التفسير أبدًا؛ ألا ترى أنك إذا قلت: أعبد الله ضربته؟ فتقدر له فعلاً، يعمل في فاعل وفي المفعول المنطوق به. ورد هذا الإعتراض بأن المعمولين هنا منطوق بهما، وهناك لم يلفظ بالمعمول الواحد إلا حين لفظت بالعامل، ولم يكونا ملفوظًا بهما حتى يفتقرا إلى ما يفسر عاملهما، فليس هذا مثل ذلك. وزعم أبو بكر بن طاهر أن امتناع ذلك من أجل أنك إذا قلت: أعبد الله ضرب أخوه زيدًا؟ وترفع «عبد الله» بفعل مضمر يفسره ما بعده- فإنما تقول ذلك بحق الحمل للفاعل على المفعول، وإلا فلم يكن من حقه أن يفسره؛ إذ لا يصح له أن يعمل فيه، فإذا فسرنا به على ذلك كان على طرف من الضعف، فلا يتعدى به أكثر من ذلك، فإذا رفعت «أنت» بفعل مضمر يفسره الفعل المتصل بسببه- وهو التاء- فقد تجوزت به الأمر المتوسع فيه بأن فسرت به فعلاً يعمل فيه مع بعده منه ووقوع الفصل بينهما، وهم إنما تسامحوا في ذلك حين الإتصال. قال الأستاذ أبو علي: «وهذا أيضًا يقرب أن يكون مانعًا في المسألة من النصب، وأن يكون س منعه لهذا، ويحتمل أن لم يمنع س من ذلك إلا ما دام

«أنت» مبتدأ، وأنه إنما ذكر الوجه في المسألة التي وقعت فيها «أنت» مبتدأ، ولم يتعرض لهذا، وكأنه قال: لما كان فيها الفصل بالمبتدا بين الهمزة التي تطلب الفعل وبين الكلام صار كأنه لا همزة استفهام فيه» انتهى كلامه. وقال شيخنا الأستاذ أبو الحسن الأبذي: «وهذه المسألة جعل قوم فيها الخلاف بين س والأخفش- وعلى هذا انبنى رد ابن ولاد وابن مضاء وابن طاهر وغيرهم على الأخفش- وقال قوم: لا خلاف بين س والأخفش، بل هما مقصدان، فإذا أدخلت الهمزة على (أنت زيدًا ضربته) في حال نصبك لزيد فينبغي أن يكون (أنت) مرفوعًا بإضمار فعل يفسره الفعل المضمر الناصب لزيد، فيكون تقديره: أضربت ضربت زيدًا ضربته؟ فالأخفش يختار هنا النصب لأجل همزة الإستفهام، وليس بصواب. وظاهر لفظ س أنه لا يجوز عنده في (أنت) إلا أن يكون مرفوعًا بالإبتداء لا بإضمار فعل. وعلة ذلك أن همزة الإستفهام ليست مما تطلب الفعل بذاتها، إنما تطلب الفعل بالحمل على (إن) الشرطية؛ لأن الإستفهام كما يكون عن الفعل كذلك يكون/ عن الإسم، فتقول: أزيد أخوك؟ وأزيد قام؟ إلا إنه إذا كان خير المبتدأ فعلاً أختير حينئذ في الإسم الرفع بإضمار فعل، وأما إذا كان غير فعل فلا يجوز فيه إلا الرفع بالإبتداء، نحو: أزيد أخوك؟ والخبر في قولك: أأنت عبد الله ضربته؟ إنما هو الجملة الإسمية لا الفعل، والجملة لا تعمل، فلا تفسر، فهذا عند

س بمنزلة أن لو قلت: أزيد أبوه منطلق؟» انتهى. وما ذكره شيخنا أبو الحسن من أنه ينبغي أن يفسر فعلاً لـ «أنت» وفعلاً لـ «ضربت، ويكون الفعل الذي للفاعل هو الذي فسره المفعول- قول لم يسبقه إليه من فسر كلام الأخفش، وإنما جعلوا العامل الذي في الفاعل والمفعول واحدًا يفسره ما بعده، وأكثر الناس جعلوا ذلك خلافًا بين س والأخفش كما تقدم، وكما هو ظاهر كلاميهما، فـ (س) لا ينصب (زيدًا) في «أأنت زيدًا تضربه» إلا على من قال: زيدًا ضربته. قال الأستاذ أبو علي: في الحقيقة لا خلاف بينهما، وإنما منع س من الذي ذهب غليه الأخفش ما دامت (أنت) مبتدأ، وكذلك كان يقول الأخفش لو سئل عنه، فاما إذا جعلت (أنت) فاعلاً بالفعل الذي يفسره (ضربته) المتصل بسببيه فلا ينكر ذلك س، ولا يمنع منه. وقال أيضًا الأستاذ أبو علي: ومن خطا الأخفش على خطا. قال: والصحيح أن الاخفش غير معارض لـ (س)، وكلامهما واحد من غير خلاف بينهما، وإنما هو كالمتمم لا المعترض، والهمزة هنا- أعني في: أأنت عبد الله ضربته- تطلب الفعل اختيارًا على أصلها، وكأن س فرض هذه المسألة على الوجه الأضعف لئلا يتوهم أن ادوات الإستفهام لا يجوز أن يحمل ما بعدها غلا على فعل من حيث إنه لم يذكر فيما تقدم إلا مسائل محمولة على الفعل فيما ذكر منها بعد أداة تطلب الفعل اختيارًا؛ فكأنه هنا كالمنكت، وليري أن الهمزة إذا فصلت بينها وبين الإسم المشتغل عنه بمبتدأ لم تقو أن تطلب فعلا يعمل في المشتغل عنه من حيث الفصل، وليعلم أن هذا جائز من كلامهم وجيد، فإذا كان

على هذا _أعني على جعل (أنت) مبتدأ على الوجه الأضعف_ لا يجوز في (عبد الله) إلا الرفع على الوجه الأضعف كما قال؛ لأن الهمزة قد جعلها هنا كالعدم من حيث إنها لم تدخل على (عبد الله) _فلا يحمل (عبد الله) على فعل على الاختيار المعتاد في الهمزة لأنها لم تله، والأخفش اختار المختار في هذه المسألة الذي هو الوجه الأحسن الذي أهمله هنا س، ولم يذكره، وهو أن يكون (أنت) فاعلًا بفعل يفسره الفعل الأخير، ويكون (عبد الله) منصوبًا على المفعولية بالفعل الرافع لـ"أنت" على الفاعلية، وإذا كان فاعلًا /بفعل مضمر لا يجوز في (عبد الله) إلا النصب لأنه مفعول. فإن قلت: الأخفش قال: النصب في عبد الله أجود. يعني أن الرفع جائز. فالجواب: أن الأخفش إنما أراد أن يقول: إن الوجه المؤدي لنصب (عبد الله) على اللزوم أجود من الوجه المؤدي لرفعه على الاختيار" انتهى كلامه. وهذا الحكم الذي ذكره المصنف من أن ابتداء المسبوق بحرف نفي لا يختص حكمه كذلك، كما أنه مرجح للنصب كهمزة الاستفهام كذلك يكون الترجيح في الابتداء إذا سبق بحرف نفي لا يختص كالهمزة، ومثال ذلك: ما أنت زيد ضربته. ومن غريب المنقول ما حكاه صاحب "رؤوس المسائل" من اختلاف النحويين في جواز رفع "زيد" وشبهه من قولك: ما أنا زيد لقيته. ولعل هذا النقل غلط، أو يحمل على جواز اختيار رفع "زيد". واحترز المصنف بقوله بغير ظرف أو شبهه من أن يكون الفصل بظرف أو مجرور، فإنه كلا فصل؛ لأنه يتسع في الظروف والمجرورات ما لا يتسع في غيرهما.

ومثاله: أكل يوم زيدًا تضربه؟ وأفي الدار زيدًا تضربه؟ فالاختيار هنا النصب، وكأن همزة الاستفهام وليت الاسم. وكذلك: ما اليوم زيدًا تضربه، وما في الدار زيدًا تضربه. والعامل في الظرف والمجرور هو الفعل المفسر الناصب لزيد، فإن قدرته متقدمًا على الظرف والمجرور أو متأخرًا يلي الاسم المشتغل عنه جاز، وعلى التقدير هو فصل كلا فصل؛ لأن العامل في الظرف أو المجرور والمشتغل عنه واحد، بخلاف: أأنت عبد الله ضربته؛ لأن "أنت" مبتدأ، فهو فاصل. وفي البسيط: إن فصلت باسم آخر بين الاسم والحرف قوي الرفع، نحو أأنت عبد الله تضربه؟ لبعد الحرف الطالب للفعل، ويرجح على النصب كما كان قبل الاستفهام، وكان الاسم الذي يلي الحرف أيضًا على الابتداء للبعد بالثاني. فإن كان الاسم مما لا يفصل عندهم كالظرف لم يرتفع طلبًا للفعل، نحو: أكل يوم زيدًا تضربه؟ فإنه إذا لم يؤثر مع الفصل بين (ما) ومعمولها في جواز: ما اليوم زيد ذاهبًا، ولم يمنعها عن العمل _فألا يمنعها عن طلب الفعل أولى، وهذا رأي س. وأما الأخفش فيفرق بين أن يكون الاسم الفاصل له في الفعل ضمير أو لا يكون، فإن كان له ضمير بقي على ما كان من طلب الفعل، والاسمان معًا مبنيان على الفعل بحسب ما يطلبهما الفعل، نحو: أأنت عبد الله ضربته؟ فالأول له في الفعل التاء، فيكون على الفعل، فيكون الثاني كذلك. وكذلك أعبد الله أخوه يضربه؟ وعند الأخفش /الوجه النصب في الثاني. وإن كان الاسم ليس له في الفعل ذكر وافق س على الابتداء، ويرجحه على النصب، نحو:

أزيد أخوه تضربه؟ لأن الأول لا فعل له، فحينئذ لا يكون للحرف به طلب، فيتعين الابتداء. قال شيخنا _يعني أبا العلا إدريس_: ويترجح ما ذهب إليه س؛ فإن المضمر الذي لـ (أنت) في الفعل الظاهر المتأخر ليس طلبه له ضروريًا، بل قد يستغنى عنه، بخلاف طلب الضمير الآخر الذي لـ (عبد الله)، وإذا لم يكن ما يطلب (أنت) طلبًا لازمًا فهو في حكم الأجنبي، فرفعه ابتداء أولى؛ ألا ترى أنك لو قلت: أعبد الله ضربته، ولم تذكر (أنت) _لصح الكلام؛ لن التاء ليست طالبة لاسم تعود عليه، وترتبط به، كالهاء، فلا عبرة بها، فطلبه في المعنى كطلب فعل السبب للاسم الأول في قولك: أعبد الله أخوه يضربه؟ فكما لا يراعي هنا فعل السبب اتفاقًا فكذلك هناك، ولا فرق، ولذلك سوى بينهما س. وأما الفصل بحروف العطف فلا يمنع، نحو: أوزيدًا ضربته، ونحوه. وقوله وكذا ابتداء المتلو بلم أو لن أو لا، خلافًا لابن السيد مثال ذلك: زيد لم أضربه، وبشر لن أكرمه، وزيد لا أضربه، فذكر المصنف أن الاختيار هنا الرفع على الابتداء. وقال ابن السيد: "الجحد ينقسم ثلاثة أقسام: قسم لا يجوز فيه إلا الرفع: وهو أن يكون النفي بـ (ما)، ويتقدم الاسم قبلها، كقولك: زيد ما ضربته. وقسم يختار فيه النصب: وهو أن يكون فيه النفي بـ (لا) أو بـ (لم) أو

بـ (لن)، أو يتأخر الاسم بعد (ما)، كقولك: زيدًا لا أضربه، وزيدًا لم أضربه، وزيدًا لن أضربه، وما زيدًا ضربته. وقسم في جواز النصب فيه خلاف: وهو كقولك: أزيدًا لست مثله" انتهى كلامه. قال المصنف في الشرح: "ليس بصحيح"، يعني ما زعمه ابن السيد من رجحان النصب على الرفع. قال: "لأن تقدم الاسم على فعل منفي بغير (ما) كتقدمه على فعل مثبت، فإنهما متقابلان كتقابل الأمر والنهي، فكما يستوي المتقدم على فعلي الأمر والنهي كذلك يستوي المتقدم على فعلي الإثبات والنفي بغير (ما)، فلو كان النفي بـ (ما) لم يجز النصب لأنها من بين حروف النفي مخصوصة بالتصدير" انتهى. وفي الإفصاح: "أما حروف النفي في قولك: ما زيدًا ضربته، ولا عمرًا أكرمته _ففيه خلاف: أكثر النحويين على أنها من هذا القسم_ يعني من قسم ما يختار فيه النصب كهمزة الاستفهام _إلا أن النصب فيها_ وإن كان أقيس من الرفع _فهو دون النصب بعد أدوات الاستفهام. وقيل: هو من الذي يختار فيه الرفع، إلا أن النصب أقوى منه في ذلك الباب". ص: وإن عدم المانع والموجب والمسوي رجح الابتداء، خلافًا للكسائي في ترجيح نصب تالي /ما هو فاعل في المعنى، نحو: أنا زيد ضربته، وأنت عمرو كلمته. وملابسة الضمير بنعت أو معطوف بالواو غير معاد معه العامل كملابسته بدونهما، وكذا الملابسة بالعطف في غير ذا الباب.

ولا يمتنع نصب المشتغل عنه بمجرور حقق فاعلية ما علق به، خلافًا لابن كيسان. ش: يرجح الابتداء عند فقد ما ذكر، نحو: زيد رأيته، وإني زيد لقيته، وعمرو مهجور وزيد أحببته، وكنت زيد لقيته، وحسبتني عبد الله مررت به، وما أشبه ذلك. فلو تقدم على المشتغل عنه اسم هو وفاعل المشغول دالان على شيء واحد فذكر المصنف عن الكسائي أنه يرجح النصب؛ لأن تقديمه _وهو الفاعل في المعنى_ منبه على مزيد العناية بالحديث عنه، فكأن المسند إليه متقدم. ولا يرجح بذلك عند غيره؛ لأن ذلك الاسم لا يدل على فعل، ولا يقتضيه، فوجوده وعدمه سيان. ونقل ابن أصبغ أن النحاة اختلفوا في جواز رفع "زيد" في نحو: إني زيد لقيته. وكأن هذا النقل غلط، أو لعله "اختلفوا في اختيار رفع زيد"، فتصحف "اختيار" بـ"جواز". وقوله وملابسة الضمير بنعت أو معطوف بالواو تقدم تفسير ملابس الضمير، وأن الملابسة تكون بالإضافة إلى الضمير، أو باشتمال صفته، أو صلته عليه، أو عطفه عطف بيان، أو نسق بالواو، أو إضافة إلى شيء من هذه الخمسة.

وقوله غير معاد معه العامل احتراز من أن يعاد معه العامل، لو قلت "زيدًا رأيت عمرًا ورأيت أخاه" لم يجز، وكذلك لو عطفت بغير الواو، نحو: هندًا رأيت عمرًا ثم أخاها، أو أخاها. وقوله وكذا الملابسة بالعطف في غير ذا الباب أي: في غير باب الاشتغال، وهو باب الصفة والحال والخبر، نحو: مررت برجل قائم زيد وأخوه، وجاء زيد ضاحكًا عمرو وأخوه، وزيد قائم عمرو وأخوه، فلو عفت بغير واو أو كررت العامل لم يجز. وقوله ولا يمتنع نصب المشتغل عنه بمجرور إلى آخره مثاله: زيد ظفرت به، إذا كان المعنى أن زيدًا سبب الظفر، فتكون الباء على هذا باء السبب، ويكون المظفور به غير زيد، فيجوز على مذهب غير ابن كيسان نصب "زيد". ومنع ذلك ابن كيسان لكون المجرور فاعلًا في المعنى، هكذا قال المصنف. وهذا فرع من أصل كبير، اختلف النحويين فيه، وهو أن السببي أو الضمير إذا انتصب من وجه غير الوجه الذي ينتصب منه الاسم السابق هل تجوز المسألة في باب الاشتغال أم شرطه أن ينتصبا من جهة واحدة، وهي جهة المفعول به، إما أن يصل إليه الفعل بنفسه أو بواسطة حرف الجر. وهذا الفرع الذي نقل المصنف فيه مذهب ابن كيسان هو من هذا الأصل؛ إذ قولك "ظفرت به" الباء للسبب، فهو مفعول من أجله، و"زيدًا" /انتصب على أنه مفعول به، فقد اختلفت جهة الانتصاب، فاختلف في نصب زيد. ولو جعلت الباء

للتعدية انتصب "به" على أنه مفعول به، فلو كان "به" هو الذي تعلق بظفرت على أنه مفعول لم يختلف في نصب "زيد"؛ إذ يكون قد اتحدت جهة الانتصاب، وهي المفعولية. ونرجع إلى ذكر الخلاف في هذا الأصل، فنقول: ذهب أبو علي الفارسي، وأبو زيد السهيلي، والأستاذ أبو علي في أحد قوليه _إلى أن المشغول عنه لا ينصب إلا بفعل يفسره العامل في ضميره أو في سببيه على حسب انتصابه، إن نصب على الظرفية نصبه عليها، أو على المفعول به فكذلك. فعلى هذا لا ينتصب المشغول عنه نصب المفعول وضميره أو سببيه مفعول له، ولا ظرف، ولا مفعول معه، ولا خبر، ولا مصدر، فلو قلت: زيدًا قمت إجلالًا له، أو زيد جلست مجلسه، أو زيد قمت وأخاه، أو زيد كنت غلامه، أو زيد قمت قيامه_ لم يجز في "زيد" إلا الرفع فقط. قال السهيلي: لو قلت: زيد جلست عنده، أو حوله _لم يجز النصب في (زيد) لأن ضميره ليس بمفعول ولا في معناه، ولا (عند) و (حول) مما يحذف ويقام المضاف إليه مقامه، ومن ثم قال أبو علي: أزيد بكيت عليه: إن جعلت (علي) حرفًا نصبت (زيدًا)؛ لأن ضميره مفعول في المعنى، وإن جعلت (علي) اسمًا لم يجز النصب البتة؛ لأن الفعل وقع على الظرف المضاف إلى ضمير (زيد)، وهو ضمير، لا يصير مفعولًا أبدًا إذا كانت (على) ظرفًا، وقس على هذا جميع الظروف كفوق وتحت.

قال السهيلي: "وهذه تفرقة صحيحة، تركب عليها مسألة س حيث قال: آلخوان أكل اللحم عليه، بنصب الخوان لأن الفعل الظاهر قد تعدى إلى ضمير الخوان بحرف الجر، وهذا اعتماد من س على أن (على) في هذه المسألة حرف جر، ولو جعلناه اسمًا كـ (فوق) لم يجز نصب الخوان" انتهى. وذهب س والأخفش والأستاذ أبو علي في آخر قوليه إلى أنه يجوز نصبه وإن كان الضمير أو السببي ينتصب من غير الوجه الذي ينتصب المشغول عنه، قال س: أعبد الله كنت مثله، أي: أأشبهت عبد الله، وأزيدًا لست مثله، أي: أباينت. ومثل ذلك: كنت أخاك وزيدًا كنت له أخًا، فانتصاب (زيد) على جهة المفعول به، وانتصاب السببي من جهة أنه خبر. وهذا المذهب هو الصحيح، ويعضده نقل الأخفش عن العرب أنهم يقولون: أزيدًا جلست عنده؟ ذكره في "الأوسط" من تأليفه، فنصب "زيد" على إضمار فعل، تقديره: ألابست زيدًا جلست عنده، والسببي هنا انتصب انتصاب الظرف. وبهذه المسألة ونحوها يبطل قول المصنف في أول هذا الباب "بجائز العمل فيما قبله"، فإن "جلست" من قولك "زيدًا جلست عنده" لا يمكن أن يعمل في "زيد". ص: وإن /رفع المشغول شاغله لفظًا أو تقديرًا فحكمه في تفسير رافع الاسم السابق حكمه في تفسير ناصبه، ولا يجوز في نحو "زيد ذهب به" الاشتغال بمصدٍر منوي ونصب صاحب الضمير، خلافًا للسيرافي وابن السراج.

وقد يفسر الاسم المشغول عنه العامل الظاهر عاملًا فيما قبله إن كان من سببيه، وكان المشغول مسندًا إلى غير ضميريهما، فإن أسند غلى أحدهما فصاحبه مرفوع بمفسر المشغول، وصاحب الآخر منصوب به. ش: المسألة الأولى: إذا كان الرفع في الاسم على الابتداء أو على إضمار فعل _وينقسم ذلك انقسام المنصوب_ فينقسم إلى حمل على الابتداء فقط، وإلى حمل على الفعل فقط، وإلى راجح الرفع على الابتداء فقط، وإلى راجح الحمل على إضمار فعل، وإلى مساٍو. فمثال الحمل على الابتداء فقط: زيد قام، فهذا لا يجوز فيه إلا الرفع على الابتداء، ولا يجوز فيه الحمل على الفعل، خلافًا لابن العريف، وقد تقدم ذكر مذهبه. وقال المصنف: "وقد قسم الرفع _يعني على إضمار فعل_ إلى واجب وراجح ومرجوح ومساو. مثال المرجوح رفعه _يعني على إضمار فعل_ في نحو: زيد قام" انتهى. وهذا لا يقال فيه مرجوح، بل هو شيء لا يجوز البتة، بل يجب فيه الرفع على الابتداء، إلا أن يكون المصنف ذهب إلى ما ذهب إليه ابن العريف. ومثال الحمل على إضمار الفعل فقط قوله تعالى {وإنْ أَحَدٌ مِّنَ المُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ}، وهلا زيد قام، و {إذَا السَّمَاءُ انشَقَّتْ}، و"لو غيرك قالها

يا أبا عبيدة"، فهذا لا يجوز فيه إلا الحمل على إضمار فعل، ولا يجوز بعد أدوات الشرط الرفع على الابتداء به عند البصريين، ويجوز عند بعض الكوفيين والأخفش الرفع فيه على الابتداء. ومثال راجح الرفع على الابتداء على الحمل على إضمار فعل قولك: خرجت فإذا زيد قد ضرب عمرًا، على ما تقدم من نقل الأخفش في "إذا" الفجائية عن العرب. ومثال راجح الحمل على إضمار فعل: أزيد قام؟ حيث زيد يقوم قم، أنت قم، زيد ليقم، ما زيد قام. وقال المصنف في الشرح: "ذكر السيرافي في نحو (أزيد قام) أن الفاعلية راجحة عند الأخفش على الابتداء، مرجوحة عند الجرمي، وفي قول س احتمال. كذا زعم السيرافي. بل صرح برجحان الفاعلية، فإنه قال: (وتقول: أعبد الله ضرب أخوه زيدً، لا يكون إلا الرفع؛ لأن

الذي من سبب (عبد الله) فاعل، والذي ليس من سببه مفعول، فيرفع إذا ارتفع الذي من سببه كما ينصب إذا انتصب، ويكون المضمر ما يرفع، كما أضمرت في الأول ما /ينصب، فإنما جعل هذا المضمر بيان ما هو قبله). هذا نصه، فبان به خلاف ما زعم السيرافي" انتهى. فإن قلت: كيف أجاز س في قوله: أرواح مودع أم بكور أنت فانظر لأي ذك تصير أن يكون "أنت" فاعلًا يفسره "انظر"، ولا يفسر إلا ما يعمل، وما بعد الفاء لا يعمل فيما قبلها؟ فالجواب: أنه إذا كان ما قبل الفاء مقدمًا لإصلاح اللفظ جاز إعمال ما بعد الفاء؛ لأن النية به أن يكون مؤخرًا، ثم قدم لإصلاح اللفظ، فالأصل: تنبه فانظر انظر، قبل الاشتغال، ثم أضمر "انظر" كما تضمر "ضربت" في: زيدًا ضربته، فانفصل الضمير لأنه حذف عامله، فصار: تنبه فأنت انظر، ثم حذف "تنبه"، فصار الفاء صدرًا، فقدم ما بعدها عليها، فصار: أنت فانظر، وهذا سبيل ما جاء من نحو هذا في الاشتغال، نحو: زيدًا فامرر به، وزيدًا فاضربه. ومثال المساوي: زيد قام وعمرو قعد، فإن راعيت الكبرى رفعت عمرًا على الابتداء، وإن راعيت الصغرى رفعته على الفاعلية. وقوله ولا يجوز في نحو أزيد ذهب به إلى آخر المسألة: نحو هذه المسألة: أعمرو انطلق به. ذهب المبرد وابن السراج والسيرافي إلى أنه يجوز في

الاسم المشتغل عنه النصب، على أن يكون "به" في موضع نصب، لا في موضع رفع، ويكون المفعول الذي لم يسم فاعله ضمير المصدر الذي تضمنه الفعل، كأنه قيل: ذهب هو _أي: ذهاب_ بزيد. قال المصنف: "وهو رأي ضعيف لأنه مبني على الإسناد إلى المصدر الذي تضمنه الفعل، ولا يتضمن الفعل إلا مصدرًا غير مختص، والإسناد إليه منطوقًا به غير مفيد، فكيف إذا لم يكن منطوقًا به" انتهى كلامه. وقوله فيه "ولا يتضمن الفعل إلا مصدرًا غير مختص" مسلم، لكنه إذا أسند إليه إنما يفيد معرفًا بال، حتى إذا أضمر، فجعل المظهر مكانه، إنما يكون المظهر معروفًا بال، فلما أسند إليه ذهب أو إلى انطلق قدر ذلك المضمر العائد على المصدر بال؛ ألا ترى أن س في مثل "ضربت زيدًا شديدًا" لا يعرب "شديدًا" نعتًا لمصدر محذوف كما يقوله غيره، بل يعربه حالًا من المصدر المقدر، التقدير: ضربته _أي: الضرب_ في حال كونه شديدًا. وألا ترى إلى قوله تعالى {اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى}، لو صرح هنا بالمظهر لكان: العدل أقرب للتقوى. وكذلك: "من كذب كان شرًا له"، التقدير: كان هو، أي: الكذب. فإذا كان المصدر الدال عليه الفعل إذا أسند إليه لم يكن إلا مضمرًا أو مظهرًا بال فلا يكون الإسناد إذ ذاك إلى /غير مختص. و"أزيد ذهب به" من أمثلة س، فيرتفع "زيد" لأن المجرور في موضع رفع، التقدير: أذهب زيد ذهب به. وما أجازه المبرد ومن ذكر معه من النصب قال فيه الأستاذ أبو علي: "إنه

قد يكون، إلا أن سيبويه لم يفرض المسألة إلا على أن يكون المجرور المرفوع لا المصدر المقدر". وقال بعض أصحابنا: لا يجوز إلا ما قاله س؛ لأن المصدر الذي يقام لا يكون إلا المبين لا المؤكد؛ لأنه لا فائدة في إقامة المؤكد، ولا يقال: إنه قد يخصص بالمجرور الذي هو "به" من حيث إنه موقع به؛ لأنه إذ ذاك يكون من صلته، ولا يحذف الموصول وتبقى صله، فصح قول س، وبطل قول غيره. وقوله وقد يفسر إلى قوله ضميريهما مثال ذلك: زيد أخوه تضربه، أو يضربه عمرو، فزيد: مبتدأ، وأخوه: مبتدأ ثان، وتضربه: خبر عن أخوه، والجملة في موضع خبر الأول. ويجوز نصب المبتدأ الثاني بلا خلاف على الاشتغال، فتقول: زيد أخاه تضربه، تقديره: زيد تضرب أخاه تضربه. وفي نصب "زيد" _وهو الذي كان مبتدأ أول_ خلاف: فذهب س والأخفش إلى جواز النصب، فتقول: زيدًا أخاه تضربه. وذهب قوم من القدماء إلى أنه لا يجوز في "زيد" إلا الرفع، ولا يجوز النصب. نقل هذا القول عنهم الأخفش. ومنعوا النصب في "زيد" لأن المضمر عندهم لا يفسر المضمر. ورد عليهم بأن يقال: أليس المضمر الذي وقع على الأخ قد عرف إذ فسره الظاهر، واستبان حتى صار كأنه ملفوظ به، فكيف لا يفسر، ويكون هذا المظهر تفسيرًا لهما جميعًا.

قال ابن خروف: "وهذا الرد قيل: هو للأخفش. وهو بعبارة س أشبه". وقال ابن تقي: "يحتمل هذا في القياس وجهين: أحدهما: أن ينتصب الأخ بفعل يدل عليه الظاهر، ويكون هذا المضمر دالا على ما ينصب الأول، فيكون الظاهر قد دل على ما هو من لفظه ومعناه، وهو الضرب، ويكون المضمر دالا على ما هو من معناه، والدلالة على ما ليس من اللفظ أضعف، والمضمر أضعف من الظاهر، فتضعف الدلالة على ذلك، لكن هذا أحسن من أن يكون الظاهر يدل عليهما جميعًا في حالة واحدة، وقد يتجه هذا، فيكون قد دل على ما هو من لفظه ومعناه، وعلى ما هو من معناه، قياسًا على دلالته عليهما في مسألتين فكذلك يجوز أن يدل عليهما في مسألة واحدة؛ لأنهما لا يتناقضان. ومثل دلالة الشيء على معنيين مختلفين لجواز اجتماعهما في الموضع الواحد قوله تعالى {والشَّجَرَةَ المَلْعُونَةَ فِي القُرْآنِ}، فهذا يدل على الإخبار ابتداء عن لعنها، ويدل أيضًا /على معهودة مفروغ من لعنها؛ لأنه لم يجيء في القرآن ذكر لعنها في غير هذا الموضع" انتهى. وقال س: "ومن قال أزيدًا أخاه تضربه فإنما نصب زيدًا لأن ألف الاستفهام وقعت عليه، والذي من سببه منصوب"، أي: إن سببه منصوب فعل مضمر، وذلك المضمر يفسر الذي وقع على الأول بعد الهمزة. وهذه المسألة ليس نصب زيد فيها سماعًا عن العرب، وإنما هي مسألة قياسية، والقياس يقتضي منع النصب في "زيد"؛ لأنه إن نصب لزم أحد الأمرين، وكلاهما ممتنع:

أحدهما: أن يكون "ضربته" قد فسر فعلين، أحدهما ناصب للسببي، وهو الأخ، والآخر ناصب لزيد، ولا يجوز ذلك؛ لأنه _كما تقرر_ لا يفسر إلا ما يعمل، فلو لم يشتغل "ضربت" بضمير الأخ لنصب الأخ، وإذا نصب الخ لم يكن لينصب زيدًا؛ لأنه لا يتعدى إليه، بل يجب أن يقول: زيد أخاه ضربت. والأمر الثاني: أن يكون "ضربته" مفسرًا للفعل المحذوف العامل في الأخ، ويكون هذا الفعل المحذوف قد فسر الفعل الناصب لزيد، والمحذوف لا يفسر المحذوف؛ لأنه إنما حذف لدلالة المثبت عليه، ولا يحذف لدلالة محذوف؛ لأن المحذوف عدم، والعدم لا دلالة له. وقوله إلى غير ضميريهما لأن "تضربه" الفاعل هو المخاطب، وليس ضمير زيد، ولا ضمير أخيه. وقوله فإن أسند إلى أحدهما _أي: إن أسند الفعل إلى ضمير زيد أو إلى ضمير أخيه_ فصاحبه _أي: فصاحب الضمير_ مرفوع بمفسر المشغول، وصاحب الآخر مشغول به مثاله: أزيد أخوه يضربه؟ إن جعلت الفاعل في "يضرب" عائدًا على زيد، والهاء للأخ _رفعت زيدًا، ونصبت أخاه، فالمرفوع للمرفوع، والمنصوب للمنصوب، فقلت: أزيد أخاه يضربه؟ التقدير: أيضرب زيد أخاه يضربه؟ وإن جعلت الفاعل في "يضرب" عائدًا على الأخ، والهاء لزيد_ رفعت الأخ، ونصبت زيدًا، فقلت: أزيدًا أخوه يضربه؟ التقدير: أيضرب زيدًا أخوه يضربه؟ فالفعل المقدر في الصورة الأولى رافع لزيد وناصب لأخيه، وفي هذه الصورة ناصب لزيد رافع لأخيه.

مسائل من هذا الباب الأولى: النصب يتفاوت في هذا الباب، فـ"زيدًا ضربته" أقوى من "زيدًا ضربت أخاه". و"زيدًا ضربت أخاه" أحسن من "زيدًا مررت به". و"زيدًا مررت به" أحسن من "زيدًا مررت بأخيه". وسبب هذا التفاوت أن التفسير فيما عمل العامل في ضميره بنفسه يكون باللفظ والمعنى من غير أن يدخل الكلام مجاز، وفيما عمل في سببه بنفسه يكون باللفظ على المجاز، فتقدر: ضربت زيدًا ضربت أخاه، فتجعل ضربك أخا زيد ضربًا له مجازًا، وإن /شئت قدرت: أهنت زيدًا ضربت أخاه. وفي "زيدًا مررت به" يكون التفسير من المعنى، إلا أن الفرق بينه وبين "زيدًا ضربت أخاه" أن هذا فسر ناصب ناصبًا، وهناك فسر متعد بحرف جر ناصبًا، والتقدير: لقيت زيدًا مررت به. وتقدر في "زيدًا مررت بأخيه": لابست زيدًا مررت بأخيه، إلا أن دلالة "مررت" على "لقيت" أقوى من دلالتها على الملابسة؛ لأن اللقاء هو المرور، وليس بالملابسة. وزعم ابن كيسان أن النصب في "زيدًا مررت به" أحسن منه في "زيدًا ضربت أخاه". قالوا: ولم يحتج بشيء. ويمكن أن يحتج لابن كيسان بأنه في مسألة "زيدًا مررت به" اتحد متعلق الفعلين اللذين هما "مررت" و"لقيت"؛ لأن الضمير هو الظاهر، غاية ما في هذا أنه فسر من المعنى، وكلاهما لمتعلق واحد في المعنى، وفي مسألة "زيدًا ضربت أخاه" صار فيه تجوز في اللفظ وفي المعنى؛ لأن الضرب حقيقة لم يحل إلا بأخي زيد، وفسر "ضربت" فعلًا ينصب زيدًا، وسواء أكان "ضربت" أم "أهنت" فهو تجوز في الفعل المفسر وفي متعلقة، وأما في المسألة الأولى فليس فيه تجوز إلا في الفعل فقط لا في متعلقة، فلهذا كان أحسن. المسألة الثانية: كل مسألة تؤدي في الاشتغال إلى تعدي فعل المضمر المتصل

إلى مضمره المتصل، أو فعل الظاهر إلى مضمره المتصل _لا تجوز إلا في باب الظن والفقد والعدم. وكل مسألة تؤدي إلى تعدي فعل المضمر المتصل إلى ظاهره لا تجوز في باب من الأبواب، نحو: أزيدًا ضربه، وأزيدًا ظن قائمًا. فعلى هذا الذي تقرر نقول: الفعل الذي اشتغل عن الاسم إما أن يكون من الأبواب المستثناة أو غيرها. إن كان من الأبواب المستثناة فإما أن يكون للاسم ضمير، أو سببي، أو ضميران، أو سببيان، أو ضمير وسببي: فإن كان له ضمير أو سببي حملت عليه، فقلت: أزيدًا ظننته قائمًُا، وأزيدًا ظننت أخاه قائمًا. وإن كان له ضميران فإما أن يكونا متصلين، أو منفصلين، أو أحدهما متصلًا والآخر منفصلًا: فإن كانا متصلين حملت على المرفوع لا على المنصوب، فتقول: أزيد ظنه قائمًا. وإن كانا منفصلين حملت على أيهما شئت، فتقول: أزيدًا إياه لم يظن إلا هو قائمًا. وإن كان أحدهما متصلًا والآخر منفصلًا فإن كان المتصل مرفوعًا حملت عليه لا على غيره، فتقول: أزيدًا لم يظن إلا إياه قائمًا. وإن كان منصوبًا حملت على أيهما شئت، فتقول: أزيدًا ظن أخاه أبوه قائمًا. وإن كان له ضمير وسببي، والضمير متصل مرفوع، حملت عليه لا على السببي، فتقول: أزيد ظن أخاه قائمًا، أو منصوب حملت على أيهما شئت، فتقول: أزيد لم يظن أخاه /إلا هو قائمًا. وإن كان من غير الأبواب المستثناة فذلك التقسيم:

فإن كان له ضمير أو سببي حملت عليه، نحو: زيدًا ضربته، وزيدًا ضربت أخاه. أو ضميران متصلان فلا تجوز المسألة. أو منفصلان حملت على أيهما شئت، نحو: أزيد إياه لم يضرب إلا هو. أو أحدهما متصل والآخر منفصل حملت على المنفصل، نحو: أزيد لم يضربه إلا هو، وأزيدًا لم يضرب إلا إياه. أو سببيان حملت على أيهما شئت، فتقول: أزيدًا ضرب أخوه أباه، وأزيد ضرب أخوه أباه. أو ضمير وسببي، والضمير منفصل، حملت على أيهما شئت، فتقول: أزيدًا إياه ضرب أخوه، وأزيد إياه ضرب أخوه. أو متصل حملته عليه، ولا يجوز حمله على السببي، فتقول والضمير منصوب: أزيدًا ضربه أخوه، وتقول والضمير مرفوع: أزيد ضرب أخاه. وخالف ابن الطراوة إذا كان الضمير منصوبًا والسببي مرفوعًا، فزعم أنه جائز، واستدل على ذلك بقول الشاعر: فإن أنت لم ينفعك علمك فانتسب ................................. قال: ألا ترى أنه لا يجوز أن يكون الاسم المضمر بعد "إن" محمولًا على غير الفعل؛ لأن الشرط لا يليه إلا الفعل، فهو محمول على فعل، وله سببي، فهو محمول عليه، فكأنه قال: فغن لم تنفعك، فقد تعدى فعل المضمر المتصل إلى مضمره المتصل.

ولا يجوز ما ذكره عندنا، لا يجوز: أزيد ضربه أخوه؛ لأنه يكون في تقدير: أضربه زيد؟ وذلك لا يجوز. وما ذهب إليه أبو الحسين بن الطراوة وهم منه، فإنه إذا تعذر فيه الابتداء لم يلزم أن يكون من باب الاشتغال أصلًا؛ ألا ترى قوله: لا تجزعي إن منفس أهلكته ............................................. فرفع منفسًا، وليس له ضمير مرفوع ولا سببي فيحمل عليه، فعلى الوجه الذي يتخرج هذا يتخرج ذلك، وهو إضمار الفعل في غير الاشتغال، كأنه قال: فإن ضللت أو جهلت لم ينفعك علمك، فتكون هذه الجملة تفسيرًا لهذا الفعل المضمر. وكذلك: إن منفس أهلكته، أي: إن أهلك منفس، وقد تقدم تأويل هذا البيت على غير هذا الوجه. واعتبار هذه المسائل بأن تضع الاسم السابق موضع ما حملته عليه إن أمكن، وإن لم يمكن حذفت ما حملته عليه، وتركته موضعه ناويًا به التأخير، فإن جازت المسألة بعد ذلك فهي جائزة قبله، وإلا فهي ممتنعة. المسألة الثالثة: إذا كان الفعل يتعدى إلى مفعوله بحرف جر، فقلت: زيدًا مررت به، نصبت في الاشتغال زيدًا، ولا يجوز أن تقول: زيد مررت به، بالخفض؛ لأنه يؤدي على إضمار الخافض وإبقاء عمله، وهو أضعف العوامل، /لا يجوز: بزيٍد مررت به، فتأتي بحرف الجر؛ لأن الخافض ينزل من الفعل منزلة الجزء منه؛ لأنه به يصل إلى معمولة كما يصل بهمزة النقل، فكما لا يجوز إضمار بعض اللفظة وإبقاء بعضها، فكذلك لا يجوز هذا، ولما تعذر الخفض رجعوا إلى النصب بإضمار فعل لقرب النصب من الخفض؛ ألا ترى أنهما قد اشتركا في الضمير في نحو ضربتك، ومررت بك، وفي أن كل واحد منهما فضلة، والمجرور منصوب من حيث المعنى؛ إذ لا فرق في المعنى بين قولك: مررت بزيد، ولقيت زيدًا.

ومن النحويين من لم يراع هذا الشبه، فأجاز: بزيد مررت به، وعلى هذا حمل قراءة من قرأ {والظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا}. ولا حجة في ذلك لاحتمال أن يكون {والظَّالِمِينَ} متعلقًا بـ {أَعَدَّ} هذه الملفوظ بها، و {لَهُمْ} بدل منها. المسألة الرابعة: المصادر التي تعمل عمل الفعل اختلفوا في دخولها في باب الاشتغال على ثلاثة مذاهب: أحدها: أنه يجوز دخولها فيه، وتفسر، سواء أكانت مما تنحل بحرف مصدري والفعل أم كانت في باب الأمر والاستفهام، فتقول: زيدًا ضربه قائمًا، فتنصب زيدًا على إضمار فعل يفسره المصدر، وتقول: أما زيدًا فضربًا أباه، وأزيدًا ضربًا أخاه. والثاني: انه لا يجوز أن يفسر مطلقًا، سواء أكان ينحل أو يكون بدلًا من اللفظ بالفعل، ولا يتقدم عليه معمولة، ولا يفسر عاملًا فيه، وإنما يكون الاسم المشتغل عنه المصدر مبتدأ لا غير، ويصير من باب ما يتقدم كالاستفهام والصلة والشرط. والمذهب الثالث: التفصيل بين أن يكون منحلًا أو بدلًا، فإن كان منحلًا فلا يجوز أن يتقدم معمولة، ولا يفسر، فلا ينصب الاسم، وإن كان بدلًا جاز أن يفسر. والمبرد أجاز أن يعمل فيما قبله إذا كان نكرة غير موصوف.

قال ابن خروف: إذا كان بدلا من فعله فسر، ولا يعمل فيما تقدم عليه لأنه اسم، فلم يقو قوة الفعل في ذلك، ولم يمتنع أن يفسر لأنه معاقب للفعل وفي معناه، وليس في تأويل أن، وقد تفسر أشياء، ولا تعمل. ويأتي تمام القول في المصدر العامل في بابه إن شاء الله. المسألة الخامسة: من شرط المشغول عنه أن يكون مما يقبل أن يضمر ويتقدم، فلا يصح الشغل عن الحال، والتمييز، والمصدر المؤكد، ومجرور كاف التشبيه وحتى، وغير ذلك مما امتنع إضماره، فالظرف إن كان على التوسع في الفعل جرى مجرى المفعول به، واتصل بالفعل، نحو: يوم الجمعة صمته، رفعًا ونصبًا، فينصب إما على السعة، وإما على الظرف، فإن كان على الظرف قلت: يوم الجمعة ألقاك فيه، فرقًا بينه وبين المتسع فيه. /والمصدر إن كان متسعًا فيه جاز الشغل عنه، نحو: ضربت زيدًا الضرب الشديد، فتقول: الضرب الشديد ضربته زيدًا، رفعًا ونصبًا. والمطلق بمنزلته لأنه مفعول. والمفعول معه بمنزلة المجرور، تقول: الخشبة استوي الماء وإياها، فيصير بمنزلة: زيدًا ضربت عمرًا وأخاه، أي: لابس الماء الخشبة. وأما المفعول من أجله فإن كان اسمًا فكالمجرور، نحو: الله أطعمت كذا، وإن كان مصدرًا فإن جوزنا إضماره جاز، وإلا فلا، كمسألته في الإخبار. وتجري هذه المشغول عنها في الفصل والأدوات والأحكام على ما تقدم. ملخص من البسيط. المسألة السادسة: جمع التكسير من خواص الأسماء، فعمله ضعيف لأنه يبعده عن الشبه بالفعل، ويلحقه بالأسماء المحضة، ولذلك ساق له س شواهد من الكلام والشعر. وينبغي لهذا المكسر ألا يدخل في الاشتغال لأن عمله ملفق

ضعيف، والاشتغال كذلك باب ملفق، فيضعف عن الدخول فيه لأنه لا يقوى على أن يفسر، ولذلك لم يمثل عليه س، ولا عرض له في مسألة من الاشتغال، وإنما ذكره بحكم الانجرار؛ لأنه لما ذكر اسم الفاعل واسم المفعول، ومنه جار وغير جار، لكنه يعمل _ذكر أيضًا جمعهما المكسر من حيث إنه جار وغير جار، وهو قد يعمل كما يعمل المسلم. ومن الناس من جوز أن يدخل في الاشتغال، قال: لأنه قد ثبت له العمل، وقد ذكره س في باب من أبواب الاشتغال، فينبغي أن يدخل فيه. المسألة السابعة: ذهب الجمهور إلى أنه لا يجوز أن يفسر إلا ما يصح له العمل. وذهب ابن خروف إلى أنه يجوز أن يفسر ما لا يعمل، وزعم أنه مذهب س؛ لأنهم قالوا في "زيدًا عليكه": إن زيدًا انتصب بفعل محذوف، و"عليك" تفسير له، وإن كان "عليك" لا يجوز أن يعمل في "زيد" فقد قدروه مفسرًا للعامل. تم بحمد الله تعالى وتوفيقه الجزء السادس من كتاب التذييل والتكميل بتقسيم محققه، ويليه _إن شاء الله تعالى_ الجزء السابع، وأوله: "باب تعدي الفعل ولزومه"

باب تعدي الفعل ولزومه

-[ص: باب تعدي الفعل ولزومه إن اقتضى فعل مصوغاً له باطراد اسم مفعول تام نصبه مفعولاً به، وسمي متعدياً، وواقعاً ومجاوزاً، وإلا فلازماً، وقد يشهر بالاستعمالين، فيصلح للاسمين، وإن علق اللازم بمفعول به معنى عدي بحرف جر، وقد يجرى مجرى المتعدي شذوذاً، أو لكثرة الاستعمال، أو لتضمين معنى يوجب ذلك. واطراد الاستغناء عن حرف الجر المتعين مع ((أنْ)) و ((أنّ)) محكوماً على موضعهما بالنصب لا بالجر، خلافاً للخليل والكسائي، ولا يعامل بذلك لتعين الجار غيرهما، خلافاً للأخفش الأصغر، ولا خلاف في شذوذ بقاء الجر في نحوه ...................... أشارت كليبٍ/ بالأكف الأصابع ... [3: 92/ب]]- ش: التعدي لغة التجاوز، يقال: عدا طوره، أي: جاوزه. وفي الاصطلاح هو تجاوز الفعل فاعله إلى مفعول به، فإن تجاوزه إلى غير مفعول به من مصدر أو ظرف أو حال أو غير ذلك فلا يسمى متعدياً. ومعنى مصوغاً له باطراد اسم مفعول أي: اسماً مصوغاً له اسم مفعول، مثاله ضرب وقتل، تصوغ منهما اسم مفعول باطراد، فتقول مضروب ومقتول. واحترز بقوله باطراد من الفعل المتعدي بحرف جر، ثم حذف ذلك الحرف ضرورة، كقوله: تمرون الديار، ولم تعرجوا ... ................. فإنه إذا اضطر قال: الديار ممرورة.

وقوله تام احتراز مما يصاغ منه اسم مفعول، لكنه مفتقر إلى حرف الجر، فيعلم بذلك لزومه، نحو ذهل، فإنك تقول فلان مذهول عنه، طمع، فإنك تقول: فلان مطموع فيه، فذهل وطمع فعلان غير متعديين. وقال أصحابنا في رسم اللازم: إنه الذي لا يبني منه اسم مفعول، ولا يصح السؤال [عنه] بأي شيء وقع. وقوله نصبه مفعولاً به ظاهره أن العامل في المفعول به النصب هو الفعل أو ما جرى مجراه. وهذه مسألة خلاف: مذهب البصريين هذا. وقال هشام: العامل النصب فيه هو الفاعل. وقال الفراء: الفعل والفاعل معاً. وقال خلف الأحمر: معنى المفعولية. ويستدل لهشام بأنه إذا لم يوجد الفاعل لا في اللفظ ولا في التقدير لم يوجد النصب، فوجوده مع وجوده وعدمه مع عدمه دليل على العلية. ورد بوجود النصب مع المصدر وإن لم يكن فاعل لا في اللفظ ولا في التقدير. واستدل الفراء لمذهبه بأنهما كالشيء الواحد؛ بدليل الإسكان والتركيب في حبذا، ومنع العطف عليه- يعني في نحو قمت- والنسب إليهما، كما قالوا منتي، وما هو واحد، فإن عمل أحدهما كعمل بعض شيء، ولا يعمل لأنه غير مستقل، ولأن الفعل لو عمل لوليه، لكن لا يلزم، فلا يكون. انتهى. وما ذكروه فاسد: أما الأول فلا نسلم أنهما كشيء واحد من جميع الوجوه، ولو كان لما جاز الفصل بينهما بالمفعول. وقولهم ((لا يعمل بعض الشيء))

غير مسلم؛ فإنك تقول: قام الضارب زيداً، ولأن الحروف تعمل، وهي كالجزء مما دخلت عليه. وقوله ((لو [عمل] لوليه)) لا يلزم؛ لأنه منقوص بإن في الدار لزيداً؛ ولأنه يتقدم عليهما باتفاق، نحو: زيداً ضرب عمرو. وقال أبو علي: ويدل على فساد قول الفراء أنه يلزمه ألا يجوز قولك: ضرب زيداً عمرو، فيعمل النصب قبل تمام العامل، والعامل لا يعمل حتى يتم. ونقض مذهب الأحمر بما لم يسم فاعله، وبقولهم: لم أضرب زيداً، وبقولك: مات زيد، فإن وقع به في الحقيقة. واستدل البصريون/ بوجهين ... [3: 93/أ] أحدهما: أنه لا مستدعي له إلا الفعل، المستدعي له هو العامل، ولأن الفاعل لا يستدعي، فلا يكون عاملاً، ولا زائد غير الفعل. والثاني: لا يكون الفاعل هو العامل لأنه اسم مثله، فعمله فيه ترجيح من غير مرجح، ولا أولوية بينهما. قال أبو علي: ولأنه يختلف تصرفه بحسب تصرف الفعل، ولو كان ارتفاعه بالفاعل لم يختل بحسب اختلاف الفاعل. وقوله ويسمى متعدياً وواقعاً ومجاوزاً المشهور تسميته متعدياً. وقوله وإلا فلازماً أي: وإلا يقضه فيسمى لازماً، ويسمى أيضاً قاصراً، وغير متعد.

وقوله وقد يشهر بالاستعمالين- أي: بالتعدي واللزوم- فيصلح للاسمين، أي: لأن يسمى متعدياً ولازماً. قال المصنف في الشرح: ((ما تعدى تارة بنفسه وتارة بحرف جر ولم يكن أحد الاستعمالين متندراً فيه قيل فيه: متعد بوجهين، نحو: شكرته، شكرت له، ونصحته، ونصحت له)) انتهى. وهذا النوع من الفعل قسم برأسه، لما تساويا في الاستعمال صار أصلاً بنفسه. وزعم بعض النحويين أنه لا يتصور أن يوجد فعل يتعدى بنفسه تارة وبحرف جر أخرى على حد سواء؛ لأنه محال أن يكون الفعل قوياً ضعيفاً في حالة واحدة ولا المفعول محلاً للفعل وغير محل للفعل في حين واحد. وصحح الأستاذ أبو الحسن بن عصفور وغيره هذا المذهب، قال: ((فينبغي أن يجعل نصحت زيداً وأمثاله الأصل في أن يتعدى بحرف جر، ثم حذف حرف الجر منه في الاستعمال، وكثر فيه الأصل والفرع؛ لأن النصح لا يحل بزيد، فإن كان الفعل يجل بنفس المفعول ويجود تارة متعدياً بنفسه وتارة بحرف جر جعلنا الأصل وصوله بنفيه وحرف الجر زائداً، نحو: مسحت رأسي، ومسحت برأسي، وخشنت بصدره وصدره؛ لأن التخشين يحل بالصدر)). انتهى. وقال الأستاذ أبو عبد الله محمد بن علي بن محمد بن إبراهيم، عُرف بالشلوبين الصغير: ((دعوى الاستحالة باطلة؛ إذ يتصور أن يكون بعض العرب يلحظه قوياً بطبعه، فيوصله بنفسه، وآخر يضعف عنده، فيقويه بالحرف، ثم

اختلطت اللغات وتداخلت، بل يتصور أن يقع ذك من شخص واحد في زمانين، وإنما يستحيل ذلك في الفعل الواحد في الزمن الواحد من الشخص الواحد)). وذهب أبو الحسن طاهر بن بابشاذ إلى أنه إذا وجد فعل يتعدى تارة بنفسه وتارة بحرف جر فالأصل التعدي/ بحرف جر؛ لأن الزيادة لا يقدم عليها إلا بدليل، ولذلك اعتقدنا ان الحرف دخل لمعنى التعدية، ثم اتسع في الجار، فحذف. انتهى. ... [3: 93/ب] فتخلص في مثل نصحت زيداً ونصحت لزيد مما كثر استعمال الوجهين في ثلاثة مذاهب: أحدها: أنه قسم برأسه. والثاني أن الأصل فيه التعدي بحرف جر. والثالث: أن الأصل التعدي بنفسه، وحرف الجر زائد. ووجه تعدي نصح بنفسه أنه محمول على ضده، وهو غش، كما حمل في تعديه بحرف الجر على نظيره، وهو خلص، فإذا قال نصحت لزيد فمعناه خلص عملي له. وكذلك شكر، وجه تعديه بحرف الجر أن الشكر في اللغة هو الظهور، دابة شكور: ظهر أثر العلف عليها، والشكر ظهور الاعتراف بالنعمة، فكما أن ظهر تعدي بحرف جر كذلك شكر. ووجه تعديه بنفسه حمله على نظيره من الحمد لاجتماعهما في الثناء وإن كان متعلق الحمد راجعاً إلى المحمود في نفسه على شجاعته وحسبه وفضيلته المختصة بذاته، ومتعلق الشكر فيما تعدى منه إل غيره، فلذلك تقول: شكرت فلاناً على معروفه عندي، ولا تقول: شكرته على حسبه، فالحمد لكونه الأصل يتسع فيه، فيستعمل فيه الأمران، تقول: حمدته على فضيلته ومعروفه عندي.

وذكروا من هذه الأفعال أيضاً كال ووزن، تقول: كلت زيداً، وكلت لزيد، ووزنت زيداً ووزنت لزيد، وعددت زيداً، وعددت لزيد. وهذا النوع من الأفعال مقصور على السماع. وزعم ابن درستويه أن نصح من باب ما يتعدى لواحد بنفيه وللآخر بحرف الجر، والأصل: نصحت لزيد رأيه. واستدل على ذلك بأنه منقول من نصحت لزيد ثوبه، بمعنى: خطته، فشبه إصلاح الرأي لويد بخياطة الثوب لأن الخياطة إصلاح للثوب. وهذا فاسد لأنها دعوى لا دليل عليها؛ إذ لو كان الأمر على ما ذهب إليه لسمع في موضع: نصحت لزيد رأيه، بوصول نصحت إلى منصوب ومجرور، وحيث لم يسمع دل على فساده. وقال الأستاذ أبو الحسين بن أبي الربيع: ((الذي يتعدى تارة بنفسه وتارة بحرف جر ثلاثة أقسام: أحدها: أن يكون الأصل حرف الجر، ثم أسقط اتساعاً، نحو: شكرت لزيد وزيداً؛ وذلك أن الفعل يطلبه بحرف إضافة طلب الفضلات لأنه قد أخذ عمدته، فالفعل يطلبه بالنصب، وحرف الإضافة يطلبه بالخفض، فوجب ظهور عمل الحرف لأن الحروف لا تعلق، والأفعال تعلق، فإذا زال الحرف ظهر عمل الفعل. الثاني: أن يكون أصله التعدي بنفيه، ثم زيد حرف الجر توكيداً، نحو: قرأت السورة وبالسورة. الثالث: /أن يكونا أصلين، نحو: جئتم وجئت إليك فمن قال جئتك لحظ قصدتك، ومن قال جئت إليك لحظ وصلت إليك)). ... [3: 94/أ]

وقوله وإن عُلّق اللازم بمفعول به معنى عُدي بحرف الجر قال المصنف في الشرح: ((ما لا بد له من حرف الجر لازم، ولا يتميز المتعدي من اللازم بالمعنى والتعلق، فإن الفعلين قد يتحدان معنى وأحدهما متعد، والآخر لازم، نحو صدق وآمن ونسي وذهل وحب ورغب وأراد وهم وخاف وأشفق واستطاع وقدر ورجا وطمع وتجنب وأعض. وإنما يتميز باتصال كاف الضمير أو هائه أو يائه به باطراد، وبصوغ اسم مفعول تام باطراد. وبهذا علم أن ((قال)) متعد لاطراد نحو: قتله فهو مقول، ولو بمي من ذهل ورغب ونحوهما لقيل: مذهول عنه، ومرغوب فيه)) انتهى، وفيه بعض تلخيص. وما لا يتعدى بنفسه إلى مفعول به يجوز أن يُعدى بحرف جر، وكذلك ما يتعدى يجوز أن يُعدى إلى اسم غير ما ينصبه بحرف جر، فتقول: خرجت إلى زيد، وركبت الفرس إلى عمرو، هكذا تلقنا من الشيوخ. وقال ابن هشام: ((أما نحو خرجت إلى زيد، ووقفت إلى عبد الله- فلا ينبغي أن يسمى تعدياً؛ لأن الخروج لا يقتضي مخروجاً إليه ولا بد، وكذلك الوقوف. فأما خرجت من الدار فتعد؛ لأن خروجاً بلا مخروج منه لا يصح)) انتهى. وما قاله ليس بصحيح؛ لأن الفعل اللازم إذا عُدي بحرف الجر صار مقتضياً للاسم بوساطة حرف الجر، وكونه لا يقتضيه بخصوصه لا يدل على أنه لا يقتضيه مطلقاً؛ لأن الفعل قد يكون له متعلقات مخصوصة ومتعلقات مطلقة، كما ان الفعل المتعدي قد يكون له متعلق مخصوص بحس الوضع، ومتعلق مطلق، لكن

إذا ذكر أحد المطلقات تعلق به، وصار إذ ذاك واصلاً إليه بوساطة الحرف؛ ألا ترى أن سمع يقتضي مفعولاً مخصوصاً، وهو الصوت وما دل عليه، ثم إنه قد يتعدى بحرف جر لشيء لا يقتضيه على جهة الخصوص، فتقول: سمعت من داري صوت زيد. والذي يدل على أن حكم ما يقتضيه على جهة الخصوص وما يقتضيه على جهة الإطلاق حكمهما سواء بناء الفعل للمفعول منهما، فيجوز خرج إلى زيد، وخرج من الدار، ورُكب الفرسُ، ورُكب إلى زيد. وقوله وقد يجري مجرى المتعدي شذوذاً مثاله قول الشاعر: تحن، فتبدي ما بها من صبابةٍ ... وأخفي الذي لولا الأسا لقضاني قول الآخر: ... [3: 94/ب] كأني إذ أسعى لأظفر طائراً ... مع النجم في جو السماء يصوب وقال تعالى: {لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ}، و {أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ}، التقدير: لقضى علي، وبطائر، وعلى صراطك، وعن أمر ربكم، وهذا من تمثيل المصنف في الشرح. وقال الشاعر:

تمرون الديار، ولم تعوجوا ... طعامكم علي إذا حرام يريد: تمرون عن الديار. وقال المصنف في الشرح: ((يدل على صحة تقدي الحرف في لأظفر طائراً أنك لا تقول ظفرته فهو مظفور، بل تقول: ظفرت به فهو مظفور به، وكذا في الصراط، لا يقال إلا قعدت عليه فهو مقعود عليه)). وقوله أو لكثرة الاستعمال قال المصنف في الشرح: ((إن ورد حذفه وكثر قبل، وقيس عليه، نحو: دخلت الدار والمسجد، فيقاس عليه نحو: دخلت البلد والبيت وغير ذلك من الأمكنة، وإن لم يكثر ولم يقس عليه، نحو: توجه مكة، وذهب الشام، ومطرنا السهل والجبل، وضرب فلان الظهر والبطن، لا يقاس على هذه ما أشبهها)). وقوله أو لتضمين معنى يوجب ذلك مثاله قول نصر بن سيار: ((أرحبكم الدخول في طاعة الكرماني)) ورحب على وزن لا يجيء متعديا البتة، لكنه عداه لما ضمنه معنى وسع، فأجرى مجراه، وليس بقياس فيفعل ذلك في غيره دون سماع. وكذا قول علي: ((إن بسراً قد طلع اليمن))؛ لتضمينه معنى بلغ، فعداه تعديته. وإذا شيب اللازم معنى فعل متعد فأكثر ما يكون فيما يتعدى بحرف جر، فيصير يتعدى بنفسه، فمن النحويين من قاس ذلك لكثرته، ومنهم من قصره على

السماع لأنه يؤدي إلى عدم حفظ معاني الأفعال، والقائلون به جعلوا منه: أمرتك الخير، بمعنى كلفتك، وكلت بمعنى أعطيت، وكسبتك كذا، بمعنى أعطيتك، {وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ}، أي: لا تقعدوا، ونحوه كثير، والأصل حرف الجر، وإذا دخل التأويل فيما يتعدى بنفسه فنُقل إلى ما لا يتعدى بنفسه، كقوله تعالى {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ}، لما دخله معنى الخروج والانفصال تعدى بعن- فهنا أجوز؛ لأنه نُقل من الأضعف إلى الأقوى كما في أصل التعدي. والمنكرون يتأولونه على الحذف والاقتصار على الأول. ورد بأنه لو كان على ما ذكروا ما كان متصلاً بالأول إذ تقول أمرتُكه، ولو كان الحذف ما وقع إلى منفصلاً، ولم يقع كذلك، وهذا التأويل ينقل المتعدي بنفسه إلى حرف الجر، وبالعكس، وما تعدى بحرف إلى غيره، وكذلك ما يتعدى إل امصدر؛ لأنك إذا قلت ضربت، واقتصرت فالمعنى فعلت فعلاً، وهل يكون بالعكس، لم يُسمع إلا في قولهم: رحُبكم الدخول، بمعنى: وسعكم الدخول. وأنكره الأزهري. وقد حُكي أن بعض العرب يقول في قولك كاثرناهم: كثرناهم، وهو قبيح. وأما إذا لم يُشب معنى فعل آخر فإنه سماع، نحو: رجع زيد، ورجعته، بمعنى: جعلت له ذلك وهيأته، أو بمعنى: أفعلته. ملخص من البسيط. وقوله واطرد الاستغناء عن حرف الجر المتعين مع أنْ وأنّ مثال ذلك: غضبت ان تخرج، وعجبت أنك تقوم، التقدير: من ان تخرج، ومن أنك تقوم،

فلو أتيت بصريح المصدر فقلت عجبت من خروجك لم يجز حذف الحرف، وإنما جاز مع أنْ وأنّ لطولها بمتعلقهما، واستدعى الطول التخفيف. وفي محفوظي أن الكسائي أجاز حذف الحرف المتعين مع المصدر كما اجازه مع أنْ وأنّ. فإن لم يتعين الحرف بأن يكون الفعل يتعدى بحرفين مختلفي المعنى كرغب، تعدى بـ ((في))، وتعدى بـ ((عن)) - لم يجز حذفه، فلا يجوز أن تقول: رغبت أن تقوم؛ إذ يحتمل أن يكون التقدير: رغبت في أن تقوم، فتكن مؤثراً للقيام، ويحتمل أن يكون التقدير: رغبت عن أن تقوم، فتكون مختاراً عدم القيام، وقد جاء الحذف في قوله تعالى {وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنكِحُوهُنَّ}، فقدر بعضهم: في أن تنكحوهن، واستدل كل لمذهبه بما هو مذكور في كتب التفسير. وقوله محكوماً على موضعهما بالنصب لا بالجر، خلافاً للخليل والكسائي الأصل والأكثر أنه إذا حذف حرف الجر ألا يبقى له عمل البتة، ولا يُضمر، وإنما يكون على حسب طلب الموضع، فإن كان الموضع للرفع رُفع الاسم، نحو كفى بالله، وكفى الله، وما في الدار من أحدٍ، واحدٌ، وإن كان الموضع للنصب نُصب الاسم، هذا الأكثر، وإنما وقع الخلاف هنا لأن حرف الجر لم يظهر له عمل وتأثير فيما دخل عليه، وإنما ذلك مقدر بشيء لو ظهر لظهر فيه التأثير. وفي البسيط: أجاز الخليل وس أن يكون في موضع جر في نحو قوله {وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ}. وكذلك في المفعول من أجله، وهو قول الكسائي أيضاً. ومنع من ذلك الفراء. وأكثر النحويين على أنه إذا

حُذف كان المحل نصباً. وجوزه الكوفيون قياساً على ما سُمع إذ كان كثير الاستعمال للتخفيف وفهم المعنى، ومنه: ....................... ... حتى تبذخ فارتقى الأعلام يريد: إلى الأعلام. وذكر المصنف أن مذهب الخليل والكسائي أنهما بعد حذف الحرف في موضع جر، وأن مذهب س والفراء أنهما في موضع نصب، قال: ((وهو الأصح؛ لأن بقاء الجر بعد حذف عامله قليل، والنصب، كثير، والحمل على الكثير أولى من الحمل على القليل، وقد استشهد لمذهب الخليل والكسائي بما أنشده الأخفش من قول الشاعر: وما زرت سلمى أن تكون حبيبة ... إلى ولا دين بها أنا طالبه)) انتهى. ولا حجة في هذا البيت؛ إذ يحتمل أن يكون في موضع نصب، وعطف على توهم الجر، كما قال: ليسوا مُصلحين عشيرة ... ولا ناعقٍ .............. وما ذكره المصنف وصاحب البسيط من أن مذهب الخليل أنه بعد الحذف في موضع جر، وأنه في مذهب س في موضع نصب- ليس بصحيح، بل مذهب

الخليل أنه في موضع نصب، وهو منصوص في كتاب س، قال س في قوله ((هذا باب آخر من أن)): ((تقول: جئتك أنك تريد المعروف، إنما أراد: جئتك لأنك، ولكنك حذفت اللام)). ثم قال: ((وسألت الخليل عن قوله تبارك وتعالى {وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ}، فقال: إنما هو على حذف اللام)). قال: ((ونظيرها {لِإِيلافِ قُرَيْشٍ}؛ لأنه إنما هو: لذلك فليعبوا، فإن حذفت اللام من أن فهو نصب، كما أنك لو حذفت اللام من {لِإِيلافِ} كان نصباً، هذا قول الخليل رحمه الله)). ثم قال: ((وقال جل وعز {فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ}، وقال تعالى {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ}، أراد: بأني مغلوب، وبأني لكم نذير مبين، ولكنه حذف الباء)). ثم ذكر س مثلاً من ذلك. ((وتقول: لبيك إن الحمد والنعمة لله، وغن شئت قلت: أن، ولو قال

شئت قلت: أن، ولو قال إنسان إنّ أنّ في موضع جر في هذه الأشياء ولكنه حذف لما كثر في كلامهم، فجاز فيه حذف الجار كما حذفوا رب في قولهم: وبلد تحسبه مكسوحا لكن قولاً قوياً، وله نظائر، نحو قوله: لاه أبوك، والأول قول الخليل، رحمه الله)) انتهى. فقول س ((والأول))، أي: كونه في موضع نصب لا في موضع جر، وس إنما أورد كونه في موضع جر على سبيل أنه لو قيل، ولم يصرح أنه مذهب له كما صرح به صاحب البسيط وهذا المصنف أنه مذهب س. وقوله ولا يُعامل بذلك لتعين الجار غيرهما أي: غير أنْ وأنّ، خلافاً للأخفش الأصغر، هو علي بن سليمان البغدادي تلميذ ثعلب والمبرد، قال المصنف: ((وأجاز- يعني الأخفش هذا- أن يحكم باطراد حذف حرف الجر والنصب فيما ليس فيه، كقول الشاعر: ....................... ... وأخفي الذي لولا الأسا لقضاني والصحيح أن يتوقف فيه على السماع، قال س بعد أن حكى عددتك، ووزنتك، وكلتك: (ولا تقول وهبتك؛ /لأنهم لم يعدوه، ولكن وهبت لك). قال المبرد: لا يقال وهبتك لئلا يوهم كون المخاطب موهوباً، فإذا زال الإشكال، نحو وهبتك الغلام- جاز. وحكى أبو عمرو السيباني: انطلق معي أهبك نبلاً، يريد: أهب لك))، انتهى كلام المصنف. ... [3: 69/أ]

وتبع ابن الطراوة الأخفش، فأجاز حذف الحرف إذا تعين هو وموضعه. وأورد أصحابنا خلاف الأخفش هذا على غير ما أورده المصنف، فأوردوه فيما يتعدى إلى اثنين أحدهما بحرف جر، والآخر بنفسه، وأنا أورد ما ذكروه ملخصاً، فأقول: ما تعدى بحرف جر لا يجوز حذف الحرف منه ووصول الفعل إليه بنفسه إلى مع أنْ وأنّ، أو في أفعال مسموعة، تحفظ، ولا يقاس عليها، وهي: اختار، واستغفر، وأمر، وسمى، ودعا، وكنى، وزوج، وصدق، ومنها عير، تقول: اخترت زيداً من الرجال، واستغفرت الله من الذنب، والذنب، وأمرت زيداً بالخير، والخير، وأبا الحسن، وزوجته بامرأة، وامرأة، وصدقت زيداً في الحديث، والحديث، وعيرت زيداً بسواده، وسواده، فهذه الأفعال سُمع حذف حرف الجر منها، قال الشاعر: ومنا الذي اختير الرجال سماحة ... وجوداً إذ هب الرياح الزعازع وقال: أستغفر الله ذنباً لست محصيه ... رب العباد، إليه الوجه والعمل وقال: أمرتك الخير، فافعل ما أُمرت به ... فقد تركتك ذا مالٍ وذا نشب

وقال: وسميت بشراً بشر العظام ... وكان أبوك يسمى الجعل وقال: دعيني أخاها أم عمروٍ، ولك أكنْ ... أخاها، ولم أرضع لها بلبان وقال: أنا الذي سمتن أُمي حيده ... أضرب بالسيف رؤوس الكفرة وقال: وما صفراء تكنى أم عوفٍ ... كأن سويقتيها منجلان وقال: ... [3: 96/ب] /وعيرتني بنو ذبيان خشيته ... وهل عليك بأن أخشاك من عار وقال تعالى: {زَوَّجْنَاكَهَا}.

وزعم الجرجاني أن ((من باب اختار قولهم: كلته كذا وكذا جريباً، ووزنته كذا درهما، والأصل: كلت له، وونت له، ثم حُذفت اللام كما حُذف من والباء في اخترت وأمرت، فتعدى الفعل إلى مفعولين، وجرى مجرى أعطيت في الظاهر، قال تعالى {وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ}، والمعنى: كالوا لهم أو وزنوا لهم، ولم يذكر المكيل والموزون)) انتهى. وزعم ابن الطراوة وتلميذه السهيلي أن استغفر ليس أصلها التعدية إلى الثاني بحرف الجر، بل الأصل أن تتعدى إليه بنفسها، وأن تعديتها بـ ((من)) إنما هو ثان عن تعديتها بنفسها، وإنما عُدّيت بـ ((من)) لتضمينها معنى التوبة من الذنب والخروج منه، والأصل: استغفرت الله الذنب؛ لأنه من غفر إذا ستر، وتقول: غفر الله ذنوبنا، ولا تقل من ذنوبنا إلا أن تريد بعضها، ومعنى استغفر: طلب أن يغفر له، فهو بمنزلة استسقيت زيداً الماء، واستطعمت عمراً الخبز، أصله: سقاني زيد الماء، وأطعمني عمرو الخبز، فكما أن الماء والخبز في المثالين منصوبان في الحالتين كذلك يكون الذنب في الحالتين منصوباً في أحدهما مجروراً في الآخر، فإذا دخل حرف الجر دلّ على تضمينه معنى ما يتعدى بحرف الجر، فكأنك قلت: استتبت الله من ذنبي، أو سألته النجاة منه. قال السهيلي: ولذلك لا يجوز الاقتصار على الاسم المنصوب بعد إسقاط من، لا تقول استغفرت ذنبي حتى تذكر المستغفر المسئول منه التوبة والنجاة من الذنب.

وهذا الذي ذهبا إليه لا يلزم؛ إذ العرب تقول: استفهمت زيداً عن المسألة، وتقول: فهمني زيد المسألة، واستغفرت الله من الذنب كاستفهمت زيداً عن المسألة، ولم يجيء مجيء استعطمت، فلا يلزم من سين الاستفعال أن يتعدى الفعل بها إلى ما كان يتعدى إليه قبل دخولها. ويقطع ببطلان مذهبه أنّ س نقل أنّ بعض العرب يقول: استغفرت الله ذنبي، والجميع يقولون: استغفرت الله من ذنبي، فلو كان الأصل أن يتعدى بنفسه لكثر، ولقل تعديه بـ ((من)). فهذه الأفعال التي حُذف من مفعولها حرف الجر لا يقاس عليها غيرها، وجاز ذلك فيها لأن حرف الجر متعين، وموضع الحذف متعين، وهذه علة قاصرة لا تتعدى إلى غيرها من الأفعال. وزعم علي بن سليمان الأخفش- وتبعه ابن الطراوة- أنه يجوز حذف الحرف إذا تعين مكانه قياساً على تلك الأفعال؛ /وطرداً لتلك العلة حيث وجدت، فأجاز أن تقول: بريت القلم السكين، أي: بالسكين؛ لأنه قد تعين المحذوف، وهو الباء، ومكان الحذف، وهو السكين، ومن ذلك قول زهير: القائد الخيل منكوباً دوابرها ... قد أُحكمت حكمات القد والأبقا أي: أُحكمت بحكمات القد وبحكمات الابق. ومنه قوله تعالى: {أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلادَكُمْ}، أي: لأولادكم، دل على ذلك الاسترضاع؛ لأنه لا يكون إلا للأولاد.

فإن اختل الشرطان أو أحدهما منع، نحو: رغبت الأمر، لا يجوز؛ لأنه لا يعلم هل أردت رغبت في الأمر أو عن الأمر. وكذلك لا يجوز: اخترت إخوتك الزيدين؛ لأنه لا يعلم على أردت: إخوتك من الزيدين، أو: اخترت الزيدين من إخوتك. والصحيح أنه لا يقاس ذلك وإن وجد الشرطان، فلا يقال: أحببت الرجال زيداً، ولا: اصطفيت الرجال زيداً، والتقدير: من الرجال؛ لقلة ما وجد من ذلك؛ إذ لا يُحفظ إلا تلك الأفعال التي ذكرناها. وأما قوله: تمرون الديار، ولم تعوجوا ... كلامكم علي إذا حرام وقوله: تحن، فتبدي ما بها من صبابة ... وأخفي الذي لولا الأسى لقضاني وقوله: فبتّ، كأنّ العائدات فرشنني ... هراساً، به يعلى فراشي ويُقشب وقوله:

كأنها واضح الأقرب في لقحٍ ... أسمى بهن، وعزته الأناصيل وقوله: كأني إذ أسعى لأظفر طائراً ... مع النجم في جو السماء يصوب يريد: تمرون على الديار، ولقضى علي، فرشن لي، وعزت عليه، ولأظفر على طائر- فضرورة شعر لا يقاس عليها. وذهب السهيلي إلى أنه لا يجوز الحذف إلا إذا تؤول في الأول معنى فعل يصل بنفسه، ولا يكون إلا بشرط، وهو ألا يفصل بينه وبين الفعل؛ لأن عامله معنوي، فلا يقوى على الفصل، فلا تقول: أمرتك يوم الجمعة الخير. وكذلك لا يكون على حذف، فلا تقول: أمرتك زيداّ، تريد: بزيد، أي: بأمره وشأنه؛ لضعف المعنى، فلما كان معنى أمرتك كلفتك جاز/ انتهى. ... [3: 97/ب] وأصحابنا لم يشترطوا ما شرطه السهيلي، بل يجيزون حذف الحرف في تلك الأفعال مع الفصل كما يجيزونه مع عدمه. ولا خلاف في شذوذ بقاء الجر في نحو: ................... ... أشارت كليبٍ بالأكف الأصابع

أي: إلى كليب، وصدر البيت: إذا قيل: أي الناس شر قبيلةٍ ... ........................ ومثله قول الآخر: وكريمة من آل قيس ألفته ... حتى تبذخ، فارتقى الأعلام أي: إلى الأعلام.

-[ص: فصل المتعدي من غير بابي ظن وأعلم متعد إلى واحد، ومتعد إلى اثنين، والأول متعد بنفسه وجوباً، وجائز التعدي واللزوم، وكذا الثاني بالنسبة إلى أحد المفعولين. والأصل تقدم ما هو فاعل معنى على ما ليس كذلك، وتقديم ما لا يُجر على ما قد يُجر. وترك هذا الأصل واجبٌ وجائزٌ وممتنعٌ لمثل القرائن المذكورة فيما مضى.]- ش: تقدم الكلام على ظن وأعلم وأخواتها، وكلامه في هذا الفصل فيما تعدى من غيرهما، فقسم المتعدي إلى متعدّ لواحد، ومتعدّ إلى اثنين، والمتعدي إلى واحد متعدّ إليه أبداً، كضرب وأكل. وجائز التعدي واللزوم شرحه المصنف بأنه متعدّ بنفسه وبحرف الجر تارة، كشكر ونصح، ولغة القرآن في شكر ونصح التعدية بحرف الجر، وهذا الذي يتعدى بحرف الجر يصدق عليه أنه متعدّ، ولذلك قسّم أصحابنا المتعدي إلى متعدّ بنفسه، ومتعدّ بجرف جر، ومتعدّ بنفسه تارة وبحرف الجر أخرى. ولولا أنه شرح قوله ((وجائز التعدي واللزوم)) بما يتعدى تارة بنفسه وتارة بحرف جر كنصح شكر لتبادر الذهن إلى شرحه بنحو فغر وشحا ورجع، فإنها تستعمل متعدية بنفسها، فتقول: فغر زيد فاه، وشحا زيدٌ فاه،

ورجع فلان فلاناً، أي: فتح، ورد، وتارة لازمة، فتقول: فغر فم زيدٍ، وشحا، أي: انفتح، ورجع زيدٌ، أي: انقلب. وتقدم الكلام في شكر ونصح، ولغة القرآن تعديتهما بحرف الجر، قال تعالى: {أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ}، وقال تعالى: {وَأَنصَحُ لَكُمْ}. وقوله وكذا الثاني- أي: الذي يتعدى إلى اثنين- بالنسبة إلى أحد المفعولين أي: يتعدى إليه [إما] بنفسه، نحو كسا وأعطى، وإما بحرف جر، نحو اختار وأمر، وتقدم حكم باب اختار. وأمّا كسا فإنها تتعدى إلى اثنين، فلا يجوز أن يدخل على أحدهما حرف جر، وكذلك أعطى. فأمّا كسا فتعديها لاثنين بحق أصالة الوضع. وذهب الكوفيون إلى أنها تعدت بالحركة إلى اثنين، والأصل فيها: كسي زيد الثوب، كما تقول: لبس زيد اثوب، ثم إنها عُدّيت بالحركة إلى اثنين، كما قالوا: شترت عين/ الرجل، وشترها الله، فالنقل وقع بالتغيير من فعل إلى فعل. والصحيح أن كسا وشترها الله أصل، وأن النقل لا يكون بتغير الحركة. مما جاء في كسي بكسر السين قول الشاعر: وأن يعرين إن كسي الجواري ... فتنبو العين عن كرمٍ عجاف

وقد جاء ((كسا)) متعدية لواحد بمعنى غطى، قال: وأركب في الروع خيفانة ... كسا وجهها سعف منتشر واختلف النحويون في أقوى الأفعال بالنسبة للتعدي بعد إجماعهم على أن اللازم أضعف الأفعال، فقال بعضهم: أقواها ما تعدى إلى ثلاثة؛ لأنه قد صار إلى حالٍ عمل فيه ما لا يعمل غيره، وذهب عنه الإلغاء. وقال بعضهم: أقواها ما تعدى إلى اثنين يجوز الاقتصار على أحدهما. قال النحاس: وهذا هو القول الصحيح؛ لأن ما يتعدى إلى ثلاثة إنما هو مما يتعدى إلى مفعولين مما يلغى. ولم يتعرض المصنف إلى أنّ ما يتعدى بنفسه قد يجوز في بعضه أن يُعدى باللام في حال ما. ونقول: المتعدي بنفسه إلى واحد يجوز أن يتعدى إليه بحرف الجر، وهو الام، وذلك إذا تقدم على الفعل، تقول: لزيد ضربت، ولا يجوز: ضربت لزيد؛ بدخولها على المفعول متأخراً إلا ضرورة أو نادراً، قال الشاعر: فلما أن تواقفنا قليلاً ... أنخنا للكلاكل فارتمينا وقال: وملكت ما بين العراق ويثرب ... مُلكا أجار لمسلم ومُعاهد أي: أنخنا الكلاكل، واجر مُسلماً. قال الجرمي: قال الأخفش وأبو عمرو: تدخل تأكيداً إذا قُدم المفعول، ولا يجوز في غير ذاك إلا إذا اضطر شاعر، نحو قول النابغة:

ولم أقذف لمُسلمة حصانٍ ... بحمد الله مُوجبة عُضالا وظاهر كلام أبي الفتح أن دخول اللام في غير الشعر جائز، قال في ((التنبيه)): ((لك أن تجعل اللام موصلة إلى المفعول توكيداً، كقوله تعالى: {رَدِفَ لَكُمْ}، و {لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ}، غير أن هذا قُدم فيه المفعول، فحسنت اللام لإعانة الفعل)). انتهى. وكذا قال المبرد، قال: ((هذه اللام يجوز ان تدخل تقدم أو تأخر، لكن أحسنها إذا تقدم، ومنه قوله تعالى: {رَدِفَ لَكُمْ})) انتهى. ولا يجوز ان تدخل عليه إذا تقدم غير اللام إلا أن يحفظ، فيكون من باب ما زيد فيه حرف الجر، فلا يتجاوز مسحت رأسه/ وبرأسه، وخشنت صدره وبصدره، أو في ضرورة، نحو قوله: ... [3: 98/ب] هن الحرائر، لا ربات أحمرةٍ ... سُودُ المحاجر، لا يقرأن بالسور وقال الآخر: نضرب بالسيف، ونرجو بالفرج وإن كان مما يتعدى إلى أكثر لم يجز دخول اللام على شيء منها تقدم أو تأخر. وعلل بعض أصحابنا امتناع ذلك بأنه لو أدخلت اللام فإما أن تُدخلها

على كلها أو على بعضها، إن أدخلتها على كلها لم يكن لذلك نظير؛ لأنه لا يوجد فعل يتعدى إلى مجرورين أو مجرورات بحرف واحد، وغن أدخلتها على واحد وتركت ما بقي صار كأنه قوي ضعيف في حين واحد، قويّ من حيث قوي في حق الواحد، ضعيف من حيث لم يقو في حق الآخر، وذلك تناقض. وقال أبو عبد الله محمد بن علي الشلوبين الصغير: ((ليس هذا تناقضاً؛ إذ ليس الضعف من حيث القوة، ولا غرو أن يجتمع في الموصوف الواحد وصفان متناقضان باختلاف النسب وإنما التناقض أن لو كان من حيث قوي ضعف، فلم يحقق التناقض. وأما قوله (إن أدخلتها عليهما معاً أو عليها لم يكن لذلك نظير) فهذا غير لازم؛ إذ ليس كل ما سمع من العرب يوجد له النظير، فالأولى أن يعلل بامتناع دخول حرف واحد على اسمين ويؤثر فيهما. وإن شئت أن تقول: لعل العرب لم تقل ذلك لأن ما يتعدى إلى اثنين أو إلى ثلاثة قد طال لاتصال الكلام بعضه ببعض، فعسُر عليهم الزيادة في موضع الطول، هذا مما يناسب كلياتهم، وبعد ذلك لو سُمع لقبلناه، ولم يبعد أن يقولوا: لزيد أعطيت درهما)) انتهى كلامه. وهذا الذي ذكره أنه لم يبعد قد قالته العرب مع تأخير المفعول، فبالأحرى أن يجوز مع التقديم، قال الشاعر: أحجاج، لا تعط العصاة مناهم ... ولا الله يعطي للعُصاة مُناها فأدخل اللام على مفعول أعطى الأول، وهو متأخر عن الفعل، لكن ذلك من القلة بحيث ينبغي ألا يقاس عليه. وقوله والأصل تقديم ما هو فاعل معنى على ما ليس كذلك الأول من باب أعطى هو مفعول في اللفظ فاعل من جهة المعنى؛ لأنه آخذ، بخلاف الثاني، فإنه مفعول في اللفظ والمعنى، فأصله أن يتأخر، وأصل الأول أن يتقدم، والأصل تقديم ما يتعدى إليه الفعل بنفسه وتأخير ما يتعدى إليه بحرف الجر؛ لأن عامة ما

يتعدى بلا واسطة أقوى مما يتعدى إليه بواسطة، قال المصنف في الشرح: ((فلذلك يقال: أعطيت درهمه زيداً، /ولا يقال: أعطيت صاحبه الدرهم، إلا على قول من قال: ضرب غلامه زيداً)) انتهى. ... [3: 99/أ] وقال ابن عصفور: ((لا يجوز باتفاق: أعطيت مالكه الغلام، ولا: مالكه أعطيت الغلام، إلا عند الكوفيين، فإنه يجوز ذلك إذا قدرت أن الإعطاء آخذ للغلام أولاً، فالأول عندهم هو الذي يقدر الفعل آخذاً له قبل صاحبه. وتقول: ظننت زيداً ضارباً نفسه، وإن شئت: ظننت ضارباً نفسه زيداً، إلا عند الكوفيين، فإن ذلك لا يجوز لأن في ضارب ضميراً مرفوعاً يعود على ((زيداً))، وعند من يمنع من البصريين: أعطيته درهمه زيداً. فإن قلت ضارباً نفسه ظننت زيداً جاز عند كافة البصريين، ولم يجز عند الكوفيين لأجل الضمير المرفوع في ضارب. وتقول: ظننت في الدار صاحبها، ولا يجوز: ظننت صاحبها في الدار، ولا: صاحبها ظننت في الدار، عند أحد من البصريين، والكوفيون يجيزون ذلك إذا قُدر أن ظننت تناولت المفعول الذي هو خبر قبل المفعول الذي هو مبتدأ في الأصل. ولو قلت ظننت زيداً غلامه لم يجز لتقديم عند احد خوف التباس المعنى. وتقول أعلمت هنداً قائمة أباها، ولا يجوز أعلمتُ أباها هنداً قائمةً عند أحد من البصريين، وأما الكوفيون فيجيزون ذلك إذا قُدر أن الفعل تناول هنداً قبل تناول الأب. وتقول: أعلمتُ زيداً في الدار مالكها، ولا يجوز أعلمتُ زيداً مالكها في الدار إلا عند الكوفيين إذا قُدر أن أعلمت تناول في الدار قبل تناوله مالكها. وتقول: أعلمت زيداً هنداً في دارها، ويجوز اعلمتُ زيداً في دارها هنداً عند جميع النحويين إلا عند من منع من البصريين أعطيت درهمه زيداً)) انتهى كلامه.

وما ذكر المصنف في الشرح من أنه يجوز أعطيت درهمه زيداً فيه خلاف: ذهب البصريون إلى جواز ذلك لأن النية به التأخير لأنه مفعول ثانٍ، فهو نظير ضرب غلامه زيدٌ؛ إذ أصله: ضرب زيد غلامه. وذهب هشام إلى منع ذلك، قال هشام: محال أعطيت ثوبه زيداً؛ لتقدم المكني قبل زيد؛ لأن العامل في الثوب غير وصف زيد. وقال ابن كيسان: ((أعطيتُ درهمه زيداً قبيحة؛ لأن الدرهم وزيداً جميعاً يتصل بهما الفعل اتصالاً واحداً؛ لأن كل واحد منهما مفعول به، فليس أحدهما أولى بأن يكون الفعل أشد له مواصلة من اللآخر، إلا أنه لما كان المعلوم أن المقصود بالعطية هو زيد، وأنه من أحله اتصل الفعل بالدرهم- كان هو المقدم في الرتبة)) انتهى كلامه. ... [3: 99/ب] ولو قدمت على الفعل المفعول الثاني متصلاً به ضمير الأول فقلت ثوبه أعطيت زيداً جاز ذلك عند البصريي/ كحال توسطه. وتباعهم الفراء وأحمد بن يحيى. وقال هشام: هي محال، لا تجوز. وقال ابن كيسان: درهمه أعطيت زيداً أجود من أعطيت درهمه زيداً. وذكر ابن عصفور أن بعض البصريين منع أعطيت درهمه زيداً، وبنى معه على أن المفعولين في مرتبة واحدة، مرتبتهما أن يكونا بعد الفاعل، وأيهما تقدم فذلك مكنه، قال: ((فإن قلت درهمه أعطيت زيداً جازت المسألة بلا خلاف؛ لأن النية بالمفعول أن يكون بعد الفعل، فالنية فيه التأخير، وإذا كان النية به التأخير لزم أن يكون مقدراً بعد المفعول الذي يعود عليه الضمير؛ لأن ذلك المفعول الذي عاد عليه الضمير قد وقع بعد الفعل، فهو في محله)) انتهى. وما ذكره من أنه لا خلاف في جواز درهمه أعطيت زيداً فيه الخلاف كما ذكرنا، ونقل الخلاف فيه ابن النحاس.

قال ابن عصفور: ولو قلت أعطيت ما أراد زيداً جاز عند البصريين إلا عند من منع منهم أعطيت درهمه زيداً، وما أراد أعطيت زيداً جائزة عند جميع البصريين، ولا تجوز هذه والتي قبلها عند الكوفيين؛ لأن الضمير ضمير رفع. وقوله وتقديم ما لا يجر على ما قد يجر قال المصنف في الشرح: ((فلذلك يقال: اخترت قومه عمراً، ولا يقال: اخترت أحدهم القوم، إلا على قول من قال: ضرب غلامه زيداً)) انتهى. يعني أن قومه هو الذي أصله أن يدخل عليه حرف الجر، وقد اتصل به ضمير المفعول الأول، وهو عمرو، والنية به التأخير، فكأنه قال: اخترت عمراً قومه، أي: من قومه. وأما المسألة الثانية ففي المفعول الأول ضمير يعود على المفعول الثاني الذي هو يدخل عليه حرف الجر، وقد وقع المفعول الأول موقعه من الرتبة، فتقدم المفسر، وهو الضمير، على المفسر، وهو القوم؛ إذ أصله: اخترت من القوم أحدهم، فإذا قدمت أحدهم تقدم لفظاً ورتبة، فلا يفسر الضمير ما بعده، وصار نظير: ضرب غلامه زيداً، وهو لا يجوز عند الأكثرين. وقول المصنف على ما قد يجر يشعر أنه ليس مجروراً في الحال، ولو كان مجروراً فالحكم كذلك، لو قلت اخترت من قومه عمراً جاز، ولا يجوز: اخترت أحدهم من القوم، إلا على قول من قال: ضرب غلامه زيداً، وهذه المسألة فيها خلاف، فإذا قلت لبست ألينها من الثياب، وأخذت درهمه من زيد، وأنت تريد: لبست من الثياب ألينها، وأخذت من زيد درهمه- فذهب الكوفيون قاطبة إلى أن ذلك لا يجوز، قالا: إذا كان المكني من مخفوض، والمخفوض في غير تأويل المنصوب- لم يجز لمكنيه أن يتقدم عليه، ولذلك امتنع: دارها يسكن غلام هند،

وفي دارها غلام جاريتك، فأما إذا كان /المخفوض بمعنى المنصوب فلا اختلاف بينهم في تقديمه، نحو: في داره مرت بزيد. ... [3: 100/أ] وقال ان عصفور: ((لا يجوز: لبست ألينها من الثياب، كما لا يجوز: أعطيت صاحبها الجارية. ويجوز ذلك عند الكوفيين إذا قدرت أن الفعل تناول المجرور قبل، فإن قلت أتيت في داره زيداً جاز ذلك باتفاق)) انتهى. وهو مخالف لما حكيناه عن الكوفيين قاطبة أنه لا يجوز: لبست ألينها من الثياب من غير تفصيل. والذي حكيناه نقلناه عن أبي جعفر النحاس. وقال أبو جعفر النحاس: أكثر البصريين لا يجيز: لبست ألينا من الثياب. وحجته أن من الثياب بمنزلة الظرف، وحق الكلام أن يذكر الفعل ثم الفاعل ثم المفعول ثم الظرف، فإذا قلت لبست ألينها من الثياب فقد وضعت كل شيء موضعه، فلم يجز أن تنوي بشيء منه التأخير، فتقدم مكنياً على ظاهر. وقوله وترك هذا الأصل واجب وجائز وممتنع مثل الوجوب: ما أعطيت درهماً إلا زيداً، وأعطيت الدرهم صاحبه، وهما نظيراً: ما ضرب عمراً إلا زيدٌ، وضرب زيداً غلامُه. ومثال الامتناع: ما أعطيتُ زيداً إلا درهماً، وأضربتُ زيداً عمراً، بمعنى: جعلتُ زيداً يضرب عمراً، وهذان نظيرا: ما ضرب زيدٌ إلا عمراً، وضرب موسى عيسى. وما خلا من سبب الوجوب وسبب الامتناع جائز أن يبقى على الأصل، نحو: كسوتُ زيداً ثوباً، جاز أن يخالف الأصل، نحو: كسوت ثوباً زيداً، وهذه كلها مُثُل المصنف في الشرح، إلا أن قوله أضربتُ زيداً عمراً في جوازه نظر، فإن الظاهر من مذهب س ان التعدية بالهمزة قياس في اللازم سماع

في المتعدي، فعلى هذا يحتاج إلى سماع تعدية ضرب لمفعولين بالهمزة، وإلا لم يجز، وسيأتي حكم التعدية بعد هذا بقريب إن شاء الله.

-[ص: فصل يجب تأخير منصوب الفعل إن كان أن مشددة أو مخففة، وتقديمه إن تضمن معنى استفهام أو شرط، أو أُضيف إلى ما تضمنهما، أو نصبه جواب أما. ويجوز في غر ذلك إن عُلم النصبُ تأخيرُ الفعل غير تعجبي، ولا موصول به حرف، ولا مقرن بلام ابتداء أو قسم مطلقاً، خلافاً للكوفيين في [منع] نحو: زيداً غلامُه ضرب، وغلامه أو غلام أخيه ضرب زيدٌ، وما أراد أخذ زيدٌ، وما طعامك أكل إلا زيداٌ. ولا يُوقع فعلُ مضمرٍ متصلٍ على مفسره الظاهر، وقد يقع على مضاف إليه أو موصول بفعله.]- ش: منصوب الفعل أعم من أن يكون مفعولاً به أو ظرفاً أو غيرهما، ومعنى/ إن كان- أي منصوب- ان مشددة، فلا تقول في عرفت أنك منطلق: انك منطلق عرفت. أو مخففة فلا تقول في علمت أن سيخرج زيد: أن سيخرج زيد علمت. ... [3: 100/ب] وقياس ما أجازه هشام من: إن أن زيداً منطلق حق، وما أجازه الفراء من الابتداء بـ ((أن)) الثقلة، فتقول: أنك قائم يعجبني- يقتضي أني جوز: أنك منطلق عرفت. فأما قوله تعالى: {وأنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فاتقون}، {وَأَنَّ

الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا}، فزعم الأخفش أنه على إضمار لام الجر، ولأن أمتكم، ولأن المساجد، فهي في موضع جر باللام. وهو عند س أقوى من جعل أن في موضع نصب كما يراه الخليل؛ لأنه إذا قدر نصباً فلا يجوز التقديم كما لا يجوز في علمت أن زيداً منطلق تقديم ان على علمت، فإن المنصوب بعد حذف الحرف فرع لمنصوب بالتعدي، فلا يقع إلا حيث يقع. وقوله وتقديمه إن تضمن معنى استفهام مثال ذلك: من رأيت؟ وأيهم لقيت؟ ومتى قدمت؟ وأين أقمت؟ وهذا الذي ذكره المصنف من أنه يجب تقديم معمول الفعل إذا كان اسم استفهام هو مذهب البصريين، زعموا أن أسماء الاستفهام كلها لها الصدر، سواء أكان في ابتداء الاستفهام أم قصد بها الاستثبات، ولم يحفظوا مت تقديم العامل عليها في الاستثبات إلا قولهم: ضرب من منا، واعتقدوا شذوذه. وأما الكوفيون فإنهم فصلوا في الاستفهام فما كان في ابتداء الاستفهام وافقوا فيه البصريين، وما كان يقصد به الاستثبات فإنه لا يلزم اصدر، حكى الكسائي ضرب من منّا، بالإعراب، وضرب من منّا، ببناء من الأولى، وضرب غلام منٍ منا، بالإعراب، وضرب غلام من منّا، ببناء الأولى. وحكى الكوفيون أن العرب تفعل ذلك في ما، فيقولون لمن قال ضربت رجلاً: ضربت ما؟ وضرب ماذا؟ وضربت مه؟ ولمن قال ضربت الرجل: ضربت الما؟ وضربت الماذا؟ وضربت المه؟ بإدخال أل عليها، وبحذف الألف وإلحاق هاء

السكت لفظاً في الوقف، وخطا دون لفظ في الوصل، و (ما) في جميع ذلك مبقاة على بنائها. وحكى الطبري أن العرب يقولون: تفعل ماذا؟ تصنع ماذا؟ بنصب المضارع، وكذلك يفعلون بكل مضارع يقع قبل ماذا، إلا تريد، فيقولون: تريد ماذا؟ بالرفع، ولا يجيزون نصبه، ونصب تفعل وتصنع شبههما إنما هو بإضمار أن، و ((أن تصنع)) في موضع مفعول بفعل محذوف، تقديره: تريد أن تصنع ماذا؟ وتريد أن تفعل ماذا؟ وهذا هو الموجب لرفع تريد وامتناع نصبه؛ إذ لو جاز نصبه لكان يحتاج إلى إضمار تريد،/ فكان يكون التقديم: تريد أن تريد ماذا؟ وذلك لا يجوز. ... [3: 101/أ] وحكى الكوفيون أن العرب تفعل ذلك في أس، فيقولون لمن قال ضربت رجلاً ضربت أياً؟ ولم يقدموا العامل في الاستثبات على شيء من أسماء الاستفهام غير ما ومن وأي إلا ما حكاه بعض الكوفيين عن بعض العرب أنه قال: إن أين الماء والعشب؟ جواباً لمن قال: إن في موضع كذا ماءً وعشباً. فعلى هذا لو قال قائل: ضربت عشرين رجلاً، فأردت أن تستثبت قلت: كم ضربت؟ ولم يجز أن تقول: ضربت كم؟ وقوله أو شرط مثاله: من تكرم أكرمه، وأيهم تضرب أضربه. وقوله أو أضيف إلى ما تضمنهما مثال ذلك غلام من رأيت؟ وغلام أيهم رأيت؟ وغلام من تضرب أضربه. وقوله أو نصبه جواب أما مثاله {فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ}. ونقص المصنف مما يجب فيه تقديم منصوب الفعل عليه أن يكون ضميراً منفصلاً لو تأخر لزم اتصاله، مثاله {إِيَّاكَ نَعْبُدُ}، لو تأخر فجاز اتصاله لم يلزم

تقديمه؛ لأنه لو تأخر لم يجب اتصاله، بل يجوز، فتقول: الدرهم أعطيتك إياه، وأعطيتكه. ونقص المصنف أيضاً أن يكون المعمول كم الخبرية، فإنه يجب تقديمها على العامل، فتقول: كم غلام ملكت! تريد: كثيراً من الغلمان ملكت. وحكى الأخفش أنه يجوز تقديم العامل في كم الخبرية عليها في لغة ردية للعرب، فتقول: ملكت كم غلام! أي: ملكت كثيراً من الغلمان. ونقصه أيضاً أن يكون الناصب فعل أمر دخلت عليه الفاء، نحو: زيداً فاضرب، وجعفراً فاشتم، ذكر ذلك بعض أصحابنا فيما يلزم فيه تقديم المفعول. وقوله ويجوز في غير ذلك إن عُلم النصب تأخير الفعل سواء أعلم ذلك من جهة إعراب، نحو: زيداً ضرب عمرو، أو من جهة قرينة، نحو: حُبارى صاد موسى. فإن جهل النصب لم يجز، فلا تقول: موسى ضرب عيسى، فيكون موسى مفعولاً مقدماً، بل يُحمل على أنه هو الضارب، ويُعرب مبتدأ. وقوله غير تعجبي احتراز من نحو: ما أحسن زيداً! فلا يجوز: ما زيداً أحسن. وقوله ولا موصول به حرف مثاله: من البر أن تكف لسانك، لا يجوز ان تقول: لسانك أن تكف، ولا: أن لسانك تكف. وأطلق المصنف هذا الحرف، وينبغي أن يقيده بالناصب، فيقول: ((ولا موصول به حرف ناصب))، فإنه إذا لم يكن ناصباً جاز أن يتقدم على العامل، يجوز أن تقول في عجبت مما تضرب زيداً أن تقول: عجبت مما زيداً تضرب.

وقوله ولا مقرون بلام ابتداء مثاله: لسوف يرضي زيد عمراً، لا يجوز: /عمراً لسوف يرضي زيد. [3: 101/ب] وأطق المصنف في مكان التقييد، فكان [ينبغي أن] يقول: ((لا تصاحب خبر إن)) فإنها إذا صحبت خبر إن جاز التقديم، فتقول: إن زيداً عمراً ليضرب. وقوله أو قسم مثاله: والله لأضربن زيداً لا يجوز أن تقول: والله زيداً لأضربن. وقوله مطلقاً ليس رادعاً لقوله ((أو قسم)) - وإن كان ظاهره ذلك- بل هو راجع لقوله ((ويجوز في غير ذلك))، أي: إن خلا الفعل من ذلك جاز تقديم منصوبه عليه مطلقاً. وقله خلافاً للكوفيين هذه مسائل خمس أجاز البصريون فيها تقديم المفعول كما مثل المصنف، ومنع الكوفيون تقديم المفعول فيها. والصحيح مذهب البصريين لثبوت ذلك في لسان العرب، فمثال الأول قول الشاعر: كعباً أخوه نهى، فانقاد منتهياً ... ولو أبى باء بالتخليد في سقرا ومثال الثانية قول الشاعر: رأيه يحمد الذي ألف الحز ... م، ويشقى بسعيه المغرور ومثال الثالثة قول الشاعر: شر يوميها، وأغواه لها ... ركبت عنز بحدجٍ جملا

ومثال الرابعة قول الشاعر: ما شاء أنشأ ربي، والذي هو لم ... يشأ فلست تراه ناشئاً أبدا ومثال الخامسة قول الشاعر: ما المرء ينفع إلا ربه، فعلا ... م تستمال بغير الله آمال وقوله ولا يوقع فعل مضمر متصل على مفسره الظاهر مثاله: زيداً ضرب، ففي ضرب ضمير يعود على زيد، ولا خلاف أن هذا لا يجوز، قال أبو العباس: إنما لم يجز ذلك لأنه يصير المفعول لا بد منه، وبه علل امصنف. قال: ((لأن جوازه يستلزم توقف مفهومية ما لا يُستغنى عنه، وهو الفاعل على مفهومية ما يستغنى عنه، وهو المفعول)). وقال غير أبي العباس من البصريين: لا يجوز لأن المستعمل في هذا ضرب نفسه، ولا يسمون، يعني: ولا يسلطون العامل على الاسم. وقال الفراء: لا يجوز ذلك لأنك لو جعلت الكلام في موضعه لم يجز؛ لأنك كنت تقول: ضرب زيداً، فيتقدم مضمر على مظهر، قال المصنف في الشرح: ((فلو كان الفاعل ضميراً منفصلاً جاز إيقاع فعله على مفسره الظاهر، نحو: ما ضرب زيداً إلا هو؛ لأن الضمير المنفصل مقدر قبله ظاهر مبدل منه الضمير، فيقدر ما ضرب /زيداً إلا هو: ما ضرب زيداً أحد إلا هو، فقيام الضمير المنفصل مقام الظاهر المقدر سهل إيقاع فعله على مفسره الظاهر، فحكم بالجواز)) انتهى ... [3: 102/أ]

ولو أبرز ذلك الضمير المستكن، فقيل: زيداً ضرب هو- فأجاز ذلك الكسائي وحده، قال: لأن قولك ((هو)) بمنزلة الاجنبي، والذي تقتضيه الأقيسة أن ذلك لا يجوز؛ لنه ليس هذا من مواضع انفصال الضمير. وقوله وقد يقع على مضاف إليه مثاله: غلام هند ضربت، فاعل ضربت ضمير، قال المصنف: ((وجاز هذا لأنه في تقدير: ضربت هند غلامها)) انتهى. وفي جواز هذه المسألة خلاف: ذهب الأخفش والفراء إلى منعها، وذهب هشام إلى جواز، واختلف عن الكسائي والمبرد وأكثر البصريين، فنقل ابن كيسان عن الكسائي والمبرد الجواز، ونقل أحمد بن جعفر الدينوري المنع عن الكسائي، ومنعها المبرد في الشرح. ونقل الدينوري وابن عصفور جوازها عن البصريين، ونقل النحاس منعها عن أكثر البصريين. وقال المبرد محتجاً للجواز: ليس هذا بأبعد من قولك: ضرب زيداً غلامه. وقال أيضاً محتجاً للمنع: هو معلق بالثاني- يعني في مثل: ثوب أخويك يلبسان- والثوب مضاف إلى الأخوين، فلو قال يلبسان ثوب أخويك لم يجز لتقدم المكني على الظاهر. وذكر غيره أن ذلك لا يجوز لأن المفعول فضلة، فيجوز الاستغناء عنه، وعود الضمير على ما اتصل به يخرجه عن ذلك لأنه يلزم ذكر المفعول ليعود الضمير الفاعل عليه؛ وذلك مُخرج له عن أصل وضعه. قال بعض أصحابنا: ((والصحيح الجواز لأن المفعول لا يلزم، وإنما يلزم ما أضيف إليه المفعول؛ ألا ترى أنك لو قلت هند ضربت لساغ، وليس كذلك: زيد

أظن قائماً؛ لأنه لا سبيل إلى حذف المفعول؛ إذا لو حذفته لم يبق للضمير ما يفسره)) انتهى كلامه. والصحيح جواز المسألة لثبوتها في كلام العرب، قال الشاعر: أجل المرء يستحث، ولا يد ... ري إذا يبتغي حصول الأماني ففي يستحث ضمير فاعل به عائد على المرء الذي أضيف إليه المفعول، هو أجل، والمعنى: المرء في وقت ابتغاء الأماني يستحث أجله ولا يشعر. وقوله أو موصول بفعله أي: بفعل مسند إلى مفسر الضمير، نحو: ما أراد زيد أخذ، فما مفعول بأخذ، ويد فاعل بأراد، وأراد زيد: صلة لما، وفي أخذ ضمير يعود على زيد. وجاز هذا لأن التقدير: أخذ زيد ما أراد. ومثله قول الشاعر: ... [3: 102/ب] /ما حبت النفس مما راق منظره ... رامت، ولم ينهها يأس ولا حذر ولو اتصل بالمفعول ضمير يعود على الفاعل لم يلزم تأخير المفعول عند البصريين، وسوء أكان الضمير مرفوعاً أم منصوباً. وفرق الكوفيون بين أن يكون الضمير ضمير رفع أغيره، فإن كان ضمير رفع التزموا تأخيره، نحو: أخذ زيد ما أراد، ففي أراد ضمير رفع، هو صلة ما، وما: مفعول. والبصريون يجيزون: اخذ ما أراد زيد، ففي أراد ضمير يفسره زيد، وجاز ذلك لأن التقدير: أخذ زيد ما أراد. وإن كان غير ضمير رفع جاز التقديم عندهم كمذهب البصريين، نحو: ضرب غلامه زيد؛ إذ التقدير: ضرب زيدٌ غلامه.

-[ص: فصل يجوز الاقتصار قياساً على منصوب الفعل مستغنى عنه بحضور معناه، أو سببه، أو مقارنه، أالوعد به، أو السؤال عنه بلفظه أو معناه، أو عن متعلقه، وبطلبه، وبالرد عن نافيه، أو الناهي، عنه أو على مثبته، أالآمر به.]- ش: يعني بالقياس أنه لا يوقف فيه على مورد السماع. ومنصوب الفعل يشمل المفعول به وغيره من منصوباته وإن كان المقصود هنا التنبيه على الاقتصار على المفعول به، فتقول لمن قال من ضربت؟ زيداً، والتقدير: ضربت زيداً. ويجوز إظهار هذا الفعل. وتقول لمن قال متى ضربت زيداً؟ حين ظلم، أي: ضربته حين ظلم. وكذلك الحال والمفعول له، ولغير المفعول به موضع يستوفى فيه حذف الفعل العامل فيه إن شاء الله. فحضر المعنى قولك: زيداً، لمن رأيته قد شرع في عطاء مثلاً، أي: أعط زيداً، أو في ذكر رؤيا: خيراً، ولمن قطع حديثاً: حديثك، أي: ذكرت خيراً، وتمم حديثك. وسببه مثاله قوله: إذا تغنى الحمام الورق هيجني ... ولو تسليت عنها، أم عمار أي: ذكرت أم عمار؛ لأن التهييج سبب للذكر.

والمقارن لمن تأهب للحج: مكة، أي: أراد، أو سدد سهماً: القرطاس، أي: تصيب. أو كبر مرتقب الهلال: الهلال، أي: رأى. ومن هذا القبيل قوله: لن تراها- ولو تأملت- إلا ... ولها في مفارق الرأس طيبا أي: إلا وترى لها؛ لأن رؤية الشخص مقارنة لرؤية ما يشتمل عليه، و ((ترى)) المضمرة بمعنى تعلم؛ لأنها إن كانت بمعنى تبصر لزم من ذلك كونها حاسرة الرأس، و ((ترى)) المضمرة خبر مبتدأ، أي: وأنت ترى؛ لئلا يلزم من ذلك دخول واو الحال على المضارع المثبت، ولا يجوز عند الأكثرين. ومثل هذا البيت قول الشاعر: /وجدنا الصالحين لهم جزاء ... وجناتٍ وعيناً سلسبيلا وقول الآخر: ... [3: 103/أ] تذكرت أرضاً، بها أهلها، ... أخوالها فيها، وأعمامها وقول الآخر: قد سالم الحيات منه القدما ... الأفعوان والشجاع الشجعما

التقدير: ووجدنا له جنات، وصادفت على دمه، وتذكرت أخوالها، وسالمت القدم، فاستغنى بفعل أحدهما عن ذكر الآخر، ودل عليه. والوعد به: زيداً لمن قال: سأطعم. والسؤال عنه بلفظه: بلى زيداً، لمن قال: هل رأيت أحداً؟ وبمعناه: ((بلى، وجاذاً))، لمن قيل له: أفي مكان كذا وجذ؟ عن متعلقه {مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا خَيْرًا}، أي: أنزل. وبطلبه: ألا رجل إما زيداً وإما عمراً، أي: اجعله إما زيداً وإما عمراً، و ((اللهم ضبعاً وذئباً))، أي: اجمع فيها. وبالرد على نافيه: بلى زيداً، لمن قال: ما لقيت أحداً. أو النهاي عنه: ((بلى من أساء))، لمن قال: لا تضرب أحداً. أو على مثبته: ((لا، بل زيداً))، لمن قال: ضرب زيداً عمراً. أو الآمر به: لا، بل زيداً، لمن قال: اضرب عمراً، بإضمار: لقيت، واضرب، وضرب، واضرب. فهذا وفق اللفظ والمعنى. ومن المعنى دون اللفظ قوله تعالى {وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ}، أي: بل نتبع؛ لأن معنى كونوا هوداً أو نصارى: اتبعوا ملة الهود والنصارى. ص: فإن كان الاقتصار في مثل أو شبهه في كثرة الاستعمال فهو لازم. وقد يجعل المنصوب مبتدأ أو خبراً، فيلزم حذف ثاني الجزأين.

ش: مثال الاقتصار في مثل قولهم ((كل شيءٍ لا شتيمة حر))، أي: ائت ولا ترتكب، و ((هذا ولا زعماتك))، أي: هذا هو الحق، ولا اتوهم. وقدره بعضهم ولا أزعم زعماتك، ومعناه أن المخاطب كان يزعم زعمات، فلما ظهر خلاف قوله قال له قائل: هذا الحق، ولا أزعم، أو: ولا أتوهم زعماتك. و ((كليهما وتمرا))، وأصله أن إنساناً خير بين شيئين، فطلبهما، وطلب معهما تمراً، ثم استعمل لمن خير بين شيئين فطلبهما جميعاً، والتقدير: أعطني كليهما، وزدني تمراً. وقوله وشبهه في كثرة الاستعمال مثاله: حسبك خيراً لك، أي: وأت خيراً لك، ووراءك أوسع لك، أس: وأت مكاناً أوسع لك من /ورائك، و {فَآمِنُوا خَيْرًا لَكُمْ}، {انتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ}، أي: وأتوا خيراً لكم. وهذا فيه خلاف: ذهب الخليل وس إلى أن هذه الأشياء نصبها بإضمار فعل دل عليه الأول، فإنه ضده أو مثله، فإذا قال انته خيراً لك فإنما نهاه عن أمر لا خير فيه، وأمره بإتيان أمر فيه الخير، فدل الأول على الآخر وإن كان ضده. وإذا قال اتبع

الحق خيراً لك فكأنه قال اتبع الحق وأت خيراً لك، فدل الأول على الآخر لأنه نظيره ومثله. ومنه {فَآمِنُوا خَيْرًا لَكُمْ}. وذهب الكسائي إلى جعل هذا كله خيراً لـ ((كان)) مقدرة، كأنه قال: انته يكن ذلك خيراً لك، واتبع الحق يكن الاتباع خيراً لك، وآمنوا يكن الإيمان خيراً لكم. وهذا التقدير سهل إلا أن فيه إضمار لـ ((كان)) لا يطرد في نحو هذا؛ ألا ترى أنك إذا قلت ((انته يا فلان أمراً قاصداً)) لا يحسن فيه: انتهاؤك أمراً قاصداً؛ لأنك لم ترد هذا المعنى، وإنما أردت: انته عن هذا الأمر الذي ليس بقاصد ولا صواب، وأت أمراً فيه اقصد والصواب. وكذلك انته عن شتم الكريم شتم اللئيم، لم يحسن إلا على إضمار: وأت شتم اللئيم، ولو أضمرت كان لم يصح. قال السيرافي: ((وأيضاً فإنه ليس فيه دليل على أنه إذا نهاه عن شيء أو أمره به أنه يُدخله في أمر آخر، فينقله إليه كما يكون ذلك في تقدير الخليل؛ لأنه يأمره بالتزام شيء على طريق التوكيد والتثبيت، مع أن إضمار كان إنما ينبغي حيث يكون هناك حرف يطلب بالفصل، نحو: إن خيراً فخير)) انتهى. ورد الفراء على الكسائي بأنه لو صح تقديره لجاز أن يقال: انته أخانا، على تقدير: تكن أخانا. وذهب الفراء إلى أن خيراً منصوب باتصاله بالأمر لأنه من صفات الأمر. وصرح يعضهم عنه بأن انتصابه على أن صفة لمصدر محذوف، تقديره: انتهاءً خيراً لكم. قال الفراء: ((ويستدل على ذلك أنك ترى

الكناية عن الأمر تصلح قبل الخير، فتقول: اتق الله هو خير لك، فإذا أسقطت هو اتصل بما قبله، فنصب)) انتهى. ولا يكون نصبه على إضمار يكن في قوله {وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ انتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ} على ما قاله الكسائي؛ لأنه لا يقع على هذا دعاء إلى التوحيد، وليس المراد النهي عن التثليث فقط، ولكن المراد النهي عنه والتوجيه إلى التوحيد. ورد المصنف في الشرح على الفراء بقولهم: حسبك خيراً لك، وبقولهم: وراءك أوسع لك، ولا يتقدر هنا مصدر لأنه ليس قبله ما يكون عنه مصدراً، ولأن أوسع صفة لمكان لا لمصدر. ورد على الفراء بعض أصحابنا بأنه لا يحسن تقديره في {انتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ}؛ لأنه إن كان خيراً ضد /الشر قبح الوصف به لأنه اسم، ولا ينقاس الصف بالأسماء وغن كان أفعل التفضيل، فلا يحسن من حيث اللفظ لأنه ليس معه من، ولا من حيث المعنى لأن التقدير إذ ذاك: انتهوا انتهاءً خيراً لكم من تركه، فيلزم أن يكون في تركهم الانتهاء خير؛ لأن أفعل التفضيل يقتضي الاشتراك، وليس كذلك؛ ألا ترى أن النهي إنما هو عن الكفر؛ لنه يراد به ما تقدم من قوله {وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ}، والكفر لا خير فيه أصلاً. انتهى. [3: 104/أ] وفي البسيط: ((ومنه: انته أمراً قاصداً؛ لأنه لما نهاه علم أنه يرشده على غيره، فدل على: فأت أمراً قاصداً، وقال تعالى {فَآمِنُوا خَيْرًا لَكُمْ}، وقال {انتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ}، أي: ائتوا خيراً لكم؛ لأن الامر بالشيء أمر بما هو خير، وكذلك النهي أمر بإتيان بدله. وقيل: لا يكون مثل هذا في الخبر عند الخليل وس. وأجاز الكسائي مثله في الخبر، وزعم أنه سمع: لتقومن خيراً لك، ولا تبن البيت خيراً لي. وقد قيل: هو على وصف المصدر المحذوف. وزعم الكسائي أن

النصب بخروجه من الكلام، قال: والعرب تقوله بعد الكلام التام، فإن كان مطلوباً لغيره رفعوا، نحو: انته خير لك. وقال الفراء: ينصب؛ لأنه من تمام الأمر وصلته؛ ألا ترى أنك تقول: انته هو خير لك، فلما حذف هو اتصل. ولم يذكرا- أي الكسائي والفراء- وجه النصب. وقد قيل: هو على التمييز. ولا يصح. وقال أبو عبيدة: هو على إضمار يكن. وهو مردود؛ لن يكن لا تضمر- بخلاف غيرها من العوامل- إلا في مواضع)) انتهى. وفيه: وقد أجاز بن درستويه حذفها قياساً بعد الأمر في نحو قوله تعالى {مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ}. وقال ابن الوراق في قوله: تروحي أجدر أن تقيلي على تقدير: يكن أجدر. ولا يجوز عند س؛ لأنه كالأمر، وأنت لا تقول: عبد الله المقتول، تريد: كن عبد الله المقتل. قال أبو سعيد: ((إذ ليس قبله ولا بعده ما يدل عليه، ولا في الحال دلالة عليه)). ومن هذا عند س قول عمر بن أبي ربيعة:

فواعديه سرحتي مالكٍ ... أو الربا بينهما أسهلا نصب أسهل بإضمار فعل؛ لأنه لما قال واعديه دل على أنه يقول: ائتني مكان كذا. و ((أسهل)) يحتمل ان يكون يريد به مكاناً سهلاً فيه رمل وليس بخشن، ويحتمل ان يكون مكاناً بعينه بين سرحتي مالك والربا. وقيل: المعنى: يكون ذلك أسهل لك، أي: المواعدة من هذا وهذا؛ لأنه لم يلجئها إلى تعيين أحدهما، فيشق /ذلك عليها ويصعب. ولا يحسن هذا التقدير؛ لأنه يبقى قوله ((بينهما)) ظرفاً مفلتاً لا عامل له، إلا إن كانت أو بمعنى الواو، فيكون التقدير: فواعديه سرحتي مالك والربا بينهما، فيكون ((بينهما)) بدلاً من سرحتي مالك والربا. وجعل س من هذا القبيل قول ذي الرمة: ... [3: 104/ب] ديار مية إذ مي تساعفنا ... ولا يرى مثلها عجم ولا عرب قال س: ((كأنه قال: أذكر ديار مية، ولكنه لا يذكر أذكر لكثرة ذلك في كلامهم)). وقال س حين ذكر: قال: ((ونظير ذلك من الكلام قوله: انته أمراً قاصداً، إلا أن هذا يجوز لك فيه إظهار الفعل))، يعني أن انته أمراً قاصداً ليس مثل انته خيراً لك في كثرة الاستعمال، فيلتزم إضمار الفعل فيه كما التزم إضمار الفعل في ذلك. وقد غفل الزمخشري عن هذا، فجعل: {انتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ} وانته أمراً قاصداً سواء في وجوب إضمار الفعل، وقد نص س على أنه لا يجب إضمار الفعل في انته أمراً قاصداً، وعلل ذلك بأنه ليس في كثرة الاستعمال مثل انته خيراً لك.

قال المصنف في الشرح ((وقد تناول قولي (فإن كان الاقتصار في مثل أو شبهه في كثرة الاستعمال) نحو: إياي وكذا، بإضمار نح، ونحو: إياك وكذا، بإضمار اتق، وهذا المسمى تحذيراً. ولا يلزم إضمار الناصب فيه إلا مع إياك وأخواتها، ومع مكرر، نحو الأسد الأسد، ومع معطوف ومعطوف عليه، نحو: (ماز، رأسك والسيف). ولا يُحذف العاطف بعد إياك إلا والمحذور مجرور بمن، نحو: إياك من الشر، وتقديرها مع ان كاف، نحو: إياك أن تسيء، فحذفت من لأن مثل هذا في أن مطرد، فلو وقعت الإساءة موقع أن تسيء لم يجز حذف من إلا في الضرورة، كقول الشاعر: فإياك إياك المراء، فإنه ... إلى الشر دعاء، وبالشر آمر أراد: إياك أن تماري، ثم اوقع موقع أن تماري المراء، فعامله معاملة ما هو واقع موقعه. ويجوز ان يكون نصب المراء بفعل مضمر غير الذي نصب إياك، وعلى كل حال فلا يجوز مثل هذا إلا في الشعر. وليس العطف بعد إياك من عطف الجمل، خلافاً لابن طاهر وابن خروف، ولا من عطف المفرد على تقدير: اتق نفسك أن تدنو من الشر، والشر أن يدنو منك، بل هو من عطف المفرد على تقدير: اتق تلاقي نفسك والشر، فحذف المضاف، وأقيم المضاف إليه مقامه، /ولا شك في أن هذا أقل تكلفاً، فكان أولى. ويساوى التحذير في كل ما ذكته الإغراء، نحو: أخاك أخاك، بإضمار الزم وشبهه)) انتهى كلامه، وقد أدرج فيه التحذير والإغراء. ... [3: 105/أ]

ويجد في بعض نسخ هذا الكتاب القديمة باب معقود للتحذير والإغراء وما ألحق بهما، ومحله بين باب الاختصاص وباب أبنية الفعل، وقد أمعن المصنف فيه الكلام أكثر مما أمنعه هنا. ولما شرح ما شرح من الكتاب أسقط هذا الباب، واكتفى بما نبه عليه هنا من تناول قوله ((فإن كان الاقتصار في مثل أو شبهه))، ونحن أخرنا الكلام معه في هذا الفصل إلى أن نشرح ذلك الباب المعقود للتحذير والإغراء، فإن الغرض شرح ذلك مستوفى إن شاء الله في الموضع الذي ثبت فيه في النسخ القديمة. وقوله وقد يجعل المنصوب مبتدأ أو خبراً فيلزم حذف الثاني الخبرين فال س: ((من العرب من يرفع الديار، كأنه يقول: تلك ديار فلانة)). وقال أيضاً: ((ومن العرب من يقول: كلاهما وتمراً، كأنه قال: كلاهما لي وزدني تمراً. وكل شيء ولا شتيمة حر، كأنه قال: كل شيء أمم ولا شتيمة حر، وترك ذكر الفعل بعد لا)). والأحسن أن يقول: فيلزم حذف أحد الجزأين؛ لأنه إذا حذف المبتدأ فليس هو ثاني الجزأين.

-[ص: فصل يحذف كثيراً المفعول به غير المخبر عنه، والمخبر به، والمتعجب منه، والمجاب به، والمحصور، والباقي محذوفاً عامله. ما حذف من مفعول به فمنوي لدليل، أو غير منوي، وذلك إما لتضمين الفعل معنى يقتضي اللزوم، وإما للمبالغة بترك التقييد، وإما لبعض أسباب النيابة عن الفاعل.]- ش: لما ذكر في الفصل قبله حذف الفعل العامل في المفعول به جوازاً ووجوباً ذكر في هذا الفصل حذف المفعول به. وعنى المخبر عنه المفعول الذي لم يسم فاعله، وبالمخبر به الثاني في باب ظن وأعلم، والمتعجب منه مثاله: ما أحسن زيداً! والمجاب به مثاله: زيداً، لمن قال: من رأيت؟ والمحصور [مثاله]: ما رأيت إلا زيداً، والباقي المحذوف عامله مثاله: خيراً لنا وشراً لعدونا. والاستثناء في قوله ((غير المخبر)) ومفهوم الصفة في قوله ((يحذف كثيراً)) يدل على أن هذه الست تحذف قليلاً. والحكم ليس كذلك، بل المفاعيل الثلاثة الأخيرة لا يجوز حذفها البتة. وكذلك المخبر عنه، وهو المفعول الذي لم يسم فاعله؛ لأنه نائب عن الفاعل، فكما ان /الفاعل لا يحذف كذلك ما قام مقامه. فهذه الأربعة لا تحذف لا قليلاً ولا كثيراً، بل يجب إثباتها. ... 1/ب] وأما فعل التعجب فذكر في بابه أنه إذا علم جاز مطلقاً. وأقول: إن حذفه قليل عزيز، نحو قوله:

.................. ... بكاء على عمروٍ، وما- كان- أصبرا ويأتي الكلام على ذلك في بابه إن شاء الله. وأما المخبر به في باب ظن وأعلم فتقدم الكلام على ذلك في باب الأفعال، وان الحذف في باب ظن إما أن يكون اقتصاراً أو اختصاراً: إن كان الحذف اقتصاراً فإما على الفاعل دون المفعولين، وفيه ثلاثة المذاهب السابق ذكرها. وإما على الفاعل وأحد المفعولين، وذلك لا يجوز. وإن كان الحذف اختصاراً وحذفت المفعولين جاز، أو أحدهما فالجمهور على الجواز، وهو عزيز قليل. وخالف ابن ملكون، فقال: لا يجوز حذف أحدهما اختصاراً. وإن كان في باب أعلم فيجوز حذف ما شئت من الثلاثة اختصاراً وحذف ثلاثتها اختصاراً، وأما اقتصار ففيه المذهبان المذكوران في فصل أعلم وأرى. وقوله وما حذف من مفعول فمنوي لدليل هذا هو احذف اختصاراً، وهو حذف الشيء لدليل، ومثله المصنف بالضمير المنصوب العائد على الموصول، كقوله تعالى: {فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ}،أي: يريده. وقوله أو غير منوي، وذلك إما لتضمين الفعل معنى يقتضي اللزوم مثاله أن يضمن جرح معنى عاث، ومنه قول الشاعر: فإن تعتذر بالمحل من ذي ضروعها ... إلى الضيف يجرح في عراقيبها نصلي

أي: يعث في عراقيبها، ولذلك عداه بفي. وكتضمين أصلح معنى لطف في قولك: أصلح الله في نفسك؛ إذ لو لم يضمن لقال: أصلح الله نفسك، ومنه- والله أعلم- {وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي}، أي: الطف بي فيهم. وكما جاز أن يضمن اللازم معنى المتعدي فيصير متعدياً جاز أن يضمن المتعدي معنى اللازم، فيصير لازماً، ونصوا على أن التضمين ليس بقياس، وإنما يذهب إليه إذا كان مسموعاً من العرب. وقوله وإما للمبالغة بترك التقييد مثاله: فلان يعطي ويمنع ويصل ويقطع، فحذف المفعول هنا مبالغة في الاقتدار وتحكيم الاختيار، والمعنى أن هذا شأنه، ومنه: {لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ}. وقوله وإما لبعض أسباب النيابة عن الفاعل فللإيجاز: {وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا}، ولمشاكلة المجاور: {وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى (42) وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى}. ولإصلاح/ النظم قول الشاعر: ... 10/أ] وخالد يحمد ساداتنا ... بالحق، لا يحمد بالباطل أي: يحمده، بحذف الهاء للوزن، وللعلم {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا}، {وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ}، {فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ}، {إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ

وَيَصْبِرْ}، {فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى (31) وَلَكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى}، وهو كثير. وللجهل به: ولدت فلانة، وأنت لا تدري ما ولدت. ولكون التعيين غير مقصود {وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذَابًا كَبِيرًا}، (وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة، وإذا قتلتم فأحسنوا القتلة). ولتعظيم الفاعل {كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي}. ولتحقيره وتعظيم المفعول: شتم فلان. وللخوف منه: أبغضت في الله، ولا تذكر المبغض خوفاً منه.

-[ص: فصل تدخل في هذا الباب على الثلاثي غير المتعدي إلى اثنين همزة النقل، فيزداد مفعولاً إن كان متعدياً، ويصير متعدياً إن كان لازماً، ويعاقب الهمزة كثيراً، ويغني عنها قليلاً- تضعيف العين ما لم تكن همزة، وقل ذلك في غيرها من حروف الحلق.]- ش: لما كان هذا الباب معقوداً لباب تعدي الفعل ولزومه أخذ يذكر ما به بتعدى الفعل، واحترز بقوله ((في هذا الباب)) من باب علم ورأى؛ لأن الهمزة أوصلت فيه إلى مفعول ثالث، وتقدم ذكر ذلك. والغرض هنا ذكر ما تدخل عليه الهمزة من غير باب علم. وبين باستثناء المتعدي إلى اثنين أن كسوت ونحوه من المتعدي إلى اثنين لا تدخل عليه همزة النقل، ولا تضعف عينه على القصد المشار إليه بإجماع. ومثال ما ازداد مفعولاً بالهزة مما كان يتعدى إلى واحد قولك: أكفلت زيداً عمراً، وأغشيت الشيء الشيء. ومثال ما صار متعدياً مما كان لازماً: أزلت الشيء وأبنته. وظاهر كلام المصنف اقتياس التعدي بالهمزة فيما ذكر إلا في الأفعال التي أغنى التضعيف فيها عن الهمزة، وفيه أربعة مذاهب: أحدها: أنه سماع في اللازم والمتعدي إلى واحد، وهو مذهب المبرد. والثاني: أنه قياس فيهما، وهو مذهب أبي الحسن، وظاهر أبي علي، وظاهر كلام المصنف في غير المتعدي.

والثالث: أنه قياس في اللازم سماع في المتعدي، قال شيخنا أبو الحسين بن أبي الربيع: وهذا ظاهر مذهب س. والرابع: أنه قياس في كل فعل إلا في باب علمت، وهو مذهب أبي عمرو وجماعة. وقال السهيلي وقد ذكر الفعل اللازم فقال: والقتل بالهمزة مذهب س أنه مسموع، ومذهب غيره أنه مقيس على الإطلاق. /قال: ((والصحيح والتفصيل، فينظر إلى كل فعل اكتسب منه الفاعل صفة في نفسه لم تكن فيه النقل، ونحو قام وقعد ونام ومشى وجرى وفهم إلى غير ذك، ففي مثل هذا يقال أفعلته، أي: جعلته على الصفة، نحو أقمته، وأنمته، وأسمعته الحديث، وأعلمته الخبر، وأذكرته ربه إن أردت الذكر الذي هو ضد النسيان، فإن أردت الذكر الذي هو باللسان لم تقل أذكرته فلاناً، كما لا تقول أمدحته إياه، ولا أشتمته، وكذلك لا تقول أذبحته الكبش، أي: جعلته يذبحه؛ لأن الفاعل في مثل هذه الأفعال لم يصر منها على هيئة لم يكن عليها، ولا حصل منها في ذاته وصف باقٍ فيه؛ ألا ترى كيف تقول: أشربت الرغيف اللبن، وأشربت اليهود حب العجل؛ لأنه شيء خالط الفاعل، وهو الذي صار مفعولاً بعد دخول الهمزة، ويقبح أن تقول: أشربت زيداً ماءً، لكن تقول: أرويته؛ لأن الري صفة حاصلة فيه بعد الشرب، كما تقول في ضدها: أعطشته، فقس على هذا الأصل يتلئب هذا القياس)) انتهى كلامه.

وذكر س في آخر الكتاب أن العرب تزيد الهمزة للتعدي، فتقول: ذهب زيد، وأذهبته، وخرج، وأخرجته، وأكثر هناك من المثل، وهي كلها غير متعدية، ثم قال في أثر مثله: ((وهذا كثير)) انتهى. ولا شك أن مناط القياس الكثرة، فالظاهر أن مذهب س أنه ينقاس في كل فعلا لا يتعدى إذا لم تدخل عليه الهمزة لمعنى آخر. وقال س: ((وليس كل فعل كأولني؛ ألا ترى أنك لا تقول: آخذني درهماً)). فهذا نص على أنه لا يقال آخذني بمعنى اجعلني آخذ، وأخذ متعد، فمذهبه أنه لا ينقاس في المتعدي، وينقاس في اللازم. وقوله ويعاقب الهمزة كثيراً، ويغني عنها قليلاً- تضعيف العين مثاله أنزلت الشيء وأنزلته، وأبنته وبينته. في التعدية بالتضعيف مذهبان: أحدهما: أنه سماعي في المتعدي واللازم، وهو ظاهر مذهب س. والثاني: أنه قياس. وإذا عاقب التضعيف الهمزة في التعدية فهل هما بمعنى واحد أم معناهما مختلف؟ في المسألة خلاف: ذهب الزمخشري والسهيلي ومن وافقهما إلى أن التعدية بالهمزة لا تدل على تكرر والتمهل، ومن ثم جاء {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ}؛ لأنه أنزل فيها دفعة واحدة إلى سماء الدنيا، ثم قال {نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ}، و {وَنَزَّلْنَاهُ تَنزِيلًا}، يريد: تنزيله شيئاً بعد شيء على مكث

ومهل، فاللفظ مشاكل للمعنى، لما تكرر في اللفظ العين. دل على تكرر في المعنى، كما قالوا صر الباب، فإذا تكرر الصرير قالوا صرصر وصرر. ونحو منه ضراب فيمن تكرر منه الفعل. انتهى. وهذا المذهب فاسد بدليل قوله تعالى {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً}، فلو كان التضعيف يفيد التكرار لناقض أول الآية آخرها؛ لأنه إذا نزل جملة واحدة لا تكرار في نزوله، وإذا تكرر فيه النزول لم يكن نزوله جملة واحدة، وبدليل قوله/ تعالى {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ}، وأجمع المفسرون على أن {قوله وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ} هو قوله تعالى {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ}، وهذه الآية التي أخبر الله تعالى أنه نزلها لم يتكرر نزولها، إنما نزلت مرة واحدة، وكثرة معاقبة التضعيف للهمزة في مضارع ينزل في القرآن يدل على أنهما بمعنى واحد، فهذا المذهب هو الصحيح. وقوله ويغني عنها قليلاً مثاله قويت الشيء، وهيأته، وحكمت فلاناً وطهرت الشيء، ونظفته، وسلمته، وقدمته، وأخرته، وخلصته. وهذا النوع مع كثرة مثله قليل بالنسبة إلى النوع المستغنى فيه بأفعل عن فعل، قال المصنف: "ولذلك وجد في أفعل ما يتعدى إلى ثلاثة دون حمل على غيره، ولم يوجد ذلك في فعل إلا في نبأ وحدث، وهما محمولان على أعلم بتضمين معناها" انتهى.

ونقص المصنف خبر، فإنها في التضعيف مثل نبأ وحدث. وقول المصنف "ولم يوجد ذلك في فعل إلا في نبأ وحدث" ليس الاستثناء فيه صحيحا؛ لأنه لم يتعديا بالتضعيف إلى ثلاثة، فليس التضعيف فيهما نظير الهمزة في أعلم وأرى؛ لأن الهمزة في أعلم وأرى عدتهما من اثنين إلى ثلاثة، بخلاف التضعيف في نبأ وحدث وخبر، فإنه لم ينقلهما من تعديهما إلى اثنين إلى ثلاثة. وقوله ما لم تكن همزة يعني: فلا يعدى بالتضعيف، إنما يعدي بالهمزة، ومثاله أنايت وأنايت. وشذ التضعيف فيما عينه همزة، قال الشاعر: قطاة ككردوس المحالة، أشرفت إلى سند مثل الغبيط المذاب وقوله وقل ذلك في غيرها من حروف الحلق يعني أن الغالب التعدي بالهمزة في حلقي العين، نحو أذهبته وألحمته وأسعده وأوغله وأدخله. وقد يتعاقب في هذا النوع أفعل وفعل، نحو أوهنه ووهنه، وأمهله ومهله، وأنعمه ونعمه، وأبعده وبعده، وأضعفه وضعفه. ولم يذكر المصنف في هذا الفصل مما يعدى به الفعل إلا الهمزة والتضعيف للعين. وزاد بعضهم فيما يعدي تضعيف اللام، وهو غريب، وذلك نحو صعر خده وصعررته. والسين والتاء، نحو حسن زيد واستحسنته، وقبح الشيء واستقبحته، وطعم زيد الخبز واستطعمته الخبز. وألف المفاعلة، نحو سايرته وجالسته

وماشيته في سار وجلس/ ومشى. والتغيير بحركة العين، وذلك في مذهب الكوفيين، قالوا: شترت عين الرجل، وشترها الله، وكسى زيد الثوب، وكسا زيد عمرًا ثوبًا. فهذه أربع معديات، ولا يطرد شيء منها. وزادوا في المعديات الباء، لكنها حرف جر، وإنما ذكرنا هنا ما يظهر به للمفعول النصب، أما الباء فإنها- وإن كان ما بعدها مفعولاً في المعنى- فإنه ليس مفعولاً في اللفظ، وسيأتي الكلام عليها في باب حروف الجر إن شاء الله تعالى.

باب تنازع العاملين فصاعدا معمولا واحدا

-[ص: باب تنازع العاملين فصاعداً معمولاً واحدًا إذا تعلق عاملان من الفعل وشبهه متفقان لغير توكيد أو مختلفان بما تأخر غير سببي مرفوع عمل فيه أحدهما، لا كلاهما، خلافُا للفراء في نحو: قام وقعد زيد. والأحق بالعمل الأقرب لا الأسبق، خلافاً للكوفيين.]- ش: هذا الباب مصطلح عليه بباب الإعمال، وبباب التنازع، ولم يحده المصنف، بل أخذ ما حده به الناس أو معظمهم، وأبرزه في صورة شرطية، وهو قوله "إذا تعلق" إلى آخره، ومن هذه الصورة يفهم حد الإعمال. فقوله باب تنازل العاملين أطلق في العاملين، ثم قيد بعد بقوله "إذا تعلق عاملان من الفعل وشبهه". وشرط ابن عصفور في العاملين كونهما متصرفين. قال: "وإنما شرطنا أن يكون العامل متصرفا تحرزًا من إن وأخواتها من العوامل غير المتصرفة؛ فإنه لا يجوز فيها الإعمال". واقتضى شرطه هذا أن ذلك لا يكون في فعلي التعجب؛ لأن فعل التعجب غير متصرف. وقال بعض أصحابنا: قد لا يكون فيه فعل، نحو: هذا ضارب وشاتم عبد الله، وقد يكون أحدهما فعلاً والآخر غير فعل، نحو قوله تعالى {الْكَهْفِ مَرْيَمَ طه}، وتقول: تراك وبله زيدًا. وفي البسيط: "ولا يقال: هيهات هيهات العقيق .... ...................................

وشبهه من باب الإعمال كما قال الجرجاني، وقاله أبو علي. قال الجرجاني: (العقيق في البيت مرفوع بهيهات الثاني، والأول قد أضمر له على شريطة التفسير، فكأنه قال: هيهات العقيق هيهات العقيق) انتهى. لأنه يلزم إما حذف الفاعل وإما إضماره، والأول لا يجوز، وأما الثاني فلأن قولنا قام قام زيد ليس من باب الإعمال، إذ لا نسلم أن الثاني عامل؛ لأن هذا الباب لابد فيه من اجتذاب عاملين مختلفين، وهذا ليس كذلك" انتهى. وقوله فصاعدًا يعني: فأكثر، ولفظ فصاعدًا يشعر بأن يكون ثلاثة وما زاد من الأعداد، ومثال ثلاثة قول الشاعر: /أتاني، فلم أسرر به حين جاءني كتاب بأعلى القنتين عجيب وقول الآخر: سئلت، فلم تبخل، ولم تعط نائلاً فسيان لا ذم عليك ولا حمد وقول الآخر: أرجو، وأخشى، وأدعو الله مبتغياً عفوًا وعافيةً في الروح والجسد

وقول الآخر: جئ، ثم حالف، وثق بالقوم، إنهم لمن أجاروا ذرا عز بلا هون وقول الآخر: تمنت، وذاكم من سفاهة رأيها لأهجوها لما هجتني محارب وقول الآخر: بمثلها نروح نريد لهوًا ويقضي الهم ذو الأرب الرجيل ومن ذلك ما روي في الحديث: (كما صليت ورحمت وباركت على آل إبراهيم). وظاهر كلام المصنف وابن عصفور أن العوامل تكون أربعة وأزيد لقولهما "فصاعدًا"، ولم يوجد في هذا الباب عوامل أربعة فيما استقري، ولذلك قال الأستاذ أبو علي: "الإعمال أن يتقدم عاملان أو ثلاثة"، فنص على الثلاثة دون غيرها مما فوقها من رتب الأعداد. وقوله معمولاً واحدًا قال غيره: "فأكثر". والعذر للمصنف أن في كون المعمول أكثر من واحد خلافاً، وقد ذكره آخر الباب، فذكر هنا المجمع عليه، وهو أن يكون المعمول واحدًا. وقوله إذا تعلق عاملان من الفعل مثاله: {آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا}.

وقوله وشبهه مثل المصنف باسم الفاعل، نحو قوله: وإني- وإن صدت- لمئن وصادق عليها بما كانت إلينا أزلت ومثل أيضًا بالامتزاج من اسم الفعل والفعل، ومن اسم الفاعل والفعل، ونص غيره على اسم الفاعل واسم المفعول، قال: "وغيرهما". وفي قول المصنف "إذا تعلق العاملان" دلالة على أنه قد لا يتعلق العاملان بما تأخر، إذ يكون في اللف من الظواهر ما يستوفيه كل واحد منهما، فلا يتنازعان، كما جاء (اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، وبارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم وعلى آل ابراهيم)، أو بعضها ظاهر وبعضها مضمر، نحو: ضربني زيد/ وضربته، فالعاملان لا يجب إذا استدعيا شيئاً واحدًا أن يجعلا متنازعين، بل يجوز أن يفردا وأن يشركا ويرجح أحدهما بحسب القصد، فإذا أريد معنى التعظيم أفردا، وإذا أريد معنى الاختصار أشركا، فالإفراد نحو قوله: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}، والاختصار كقوله: {وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَمَا ظَنَنتُمْ أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَدًا}. وقوله متفقان يعني في العمل بأن يطلباه مرفوعًا أو منصوبًا أو مجرورًا بحرف جر.

وقوله لغير توكيد احتراز من أن يكون الثاني توكيدًا، فإنه يكون في حكم الساقط، وذلك مثل قول الشاعر: .................. أتاك أتاك اللاحقون احبس احبس قاله المصنف. وقال المصنف أيضًا: "لك أن تنسب العمل لهما لكونهما شيئاً واحدًا في اللفظ والمعنى، ولك أن تنسبه للأول وتلغي الثاني لفظًا ومعنى لتنزله منزلة حرف زيد للتوكيد، فلا اعتداد به على التقديرين، ولولا عدم الاعتداد به لقيل: أتاك أتوك اللاحقون، أو أتوك أتاك اللاحقون". ووافقه على اشتراط كونهما لغير توكيد شيخنا بهاء الدين أبو عبد الله محمد بن إبراهيم بن النحاس الحلبي، رحمه الله. وقال شيخنا الأستاذ أبو الحسين بن أبي الربيع: "قام قام زيد، زيد: فاعل بالثاني، وفاعل الأول مضمر، كأنه من باب الإعمال، أو يقال: إن زيدًا فاعل بقام الأول، والثاني لا يحتاج إلى مسند إليه؛ لأنه لم يؤت به لذلك، إنما جيء به لتوكيد الأول". قال: "وهذا الوجه الثاني حسن" انتهى. ولم يذكر أصحابنا هذا القيد من كونهما لغير توكيد، فإطلاقهم يدل على جواز أن يكون ذلك من باب الإعمال، وقد أجاز ذلك أبو على الفارسي في قول الشاعر: فهيهات هيهات العقيق وأهله .........................

قال: "ارتفع العقيق بهيهات الثانية، وأضمرت في الأولى، أو بالأولى، وأضمرت في الثانية". وأما قولك: ................................ أتاك أتاك اللاحقون احبس احبس فلا يلزم ما ذكر؛ إذ يجوز أن يكون أعمل الثاني، وأضمر في الأول مفردًا كما حكى س: ضربني وضربت قومك، أي: ضربني من ثم، فجعل المضمر مفردًا على المعنى، وإذا كان قد جاء ذلك في الكلام فأحرى أن يجييء في الشعر. وقوله أو مختلفان يعني في العمل، كأن يطلب أحدهما مرفوعًا والآخر منصوبًا أو مجرورًا بحرف جر. وقوله بما تأخر يشمل أن يكون المتأخر واحدًا أو أكثر، وظاهر/ كلام المصنف وأصحابنا أنه يشترط تقدم العاملين وتأخر ما يطلبانه عنهما، وقد نص على ذلك الأستاذ أبو علي: "فلو قلت ضربت زيدًا وضربني لم يكن من الباب". وقد أجاز أبو علي الفارسي في قوله: ................... مهما تصب أفقا من بارق تشم أن تكون من زائدة، ومن بارق: في موضع نصب بتشم، ومفعول نصب محذوف، وهو ضمير منصوب عائد على بارق. وهذا الذي ذكره أبو علي من إعمال الفعلين والمعمول متوسط، ويدل على أن التقدم في العاملين ليس بشرط، وقلما ذكروه.

ونظير ما ذكره الفارسي قولك: إن تجد يوم فراغ زيدًا تؤدب، المعنى: إن تجد زيدًا في يوم فراغ تؤدبه، فحذفت الضمير، وأعملت تؤدب في زيد وفي يوم، وحذفت من تجد ضمير ما أعملت فيه تؤدب، كأنك قلت: إن تجده، أو إن تجد فيه إن أردت اليوم. وقد ذكر بعض أصحابنا كون المعمول يتقدم على العاملين، نحو: أي رجل ضربت أو شتمت؟ فعلى هذا وعلى ما أجازه أبو علي لا يكون تقديم العاملين وتأخير المعمول شرطًا، بل يكون ذكره على أنه الأكثر والأغلب في لسان العرب. وقال المصنف في الشرح: "وفي قولي بما تأخر تنبيه على أن مطلوب المتنازعين لا يكون إلا متأخرًا؛ لأنك إذا قلت زيدًا أكرمت ويكرمني، وزيد هل أنت مكرمه فيشكرك، وزيد أنا مكرمه وتحسن إليه- أخذ كل واحد من العاملين مطلوبة، ولم يتنازعا" انتهى. وهذا يدل من المصنف على اشتراط تقدم العاملين، ومثل س كلها بتقديم العاملين. وقوله غير سببي مرفوع قال المصنف في الشرح: "ونبهت بقولي (غير سببي مرفوع) على أن نحو زيد منطلق مسرع أخوه لا يجوز فيه تنازع؛ لأنك لو قصدت فيه التنازع لأسندت أحد العاملين إلى السببي، وهو الأخ، وأسندت الآخر

إلى ضميره، فيلزم عدم ارتباطه بالمبتدأ؛ لأنه لم يرفع ضميره ولا ما التبس بضميره، ولا سبيل إلى إجازة ذلك، وإن سمع مثله حمل على أن المتأخر مبتدأ مخبر عنه بالعاملين المتقدمين عليه، وفي كل واحد منهما ضمير مرفوع، وهما وما بعدها خير عن الأول، ومنه قول كثير: قضى كل ذي دين، فوفى غريمه وعزة ممطول معنى غريمها أراد: وعزة غريمها ممطول معنى. وفي تقييد السبيي بمرفوع تنبيه على أن السببي غير المرفوع لا يمتنع من التنازع، كقولك: زيد أكرم وأفضل إياه" انتهى. وإنما أجاز/ المصنف ذلك في غير المرفوع لأن غير المرفوع لا يضمر، إنما هو يحذف، بخلاف المرفوع. وهذا الذي ذهب إليه المصنف من تقييد المعمول بغير سببي مرفوع لم يذكره معظم النحويين، ولا اشترطوه، وإنما اتبع فيه ابن خروف وبعض متأخري أصحابنا. قال ابن خروف: لا يمكن الإعمال في الأفعال والصفات إذا رفعت الأسباب، نحو زيد قام وقعد أبوه، وزيد قائم وقاعد أبوه؛ لأن الأب مضاف إلى ضمير زيد، وبه صح أن يجري الخبر على الأول، فإن أضمرت في الصفة الأولى على شريطة التفسير صار الضمير عائدًا إلى زيد، ولم يكن في الكلام دليل على أنه للأب. وأيضًا فإنك تخبر عن زيد بخبر غيره في المعنى، ولا ذكر له فيه، فلم يجز رفع أبوه إلا بالعامل الثاني لا الأول، فبطل الإعمال، والعوامل في هذا الباب تطلب معمولاتها باتفاق واختلاف. وقال الأستاذ أبو علي: وليس منه قوله: ...................... وعزة ممطول معنى غريمها

لأنه إن جعل منه كان ممطول ومعنى جاريين على عزة، وهما غيرها، وأحدهما لم يعد منه ضمير إليها، وذلك لا يصح؛ لأنه يصير بمنزلة: زيد قائم عمرو، وإنما التقدير: وغريم عزة ممطول معنى، ولكن قدم عزة اهتمامًا، فارتفعت بالابتداء، وصار غريمها مبتدأ آخر. وقال أبو محمد بن السيد: "الوجه عندي في هذا البيت أن يكون غريمها مرفوعاً بالابتداء، وممطول خبر مقدم، ومعنى صفة له، ولا يصح رفعه بممطول ولا بمعنى؛ لأنك إن رفعته بممطول كان خطأ أيضا؛ لأنه قد وصف ممطول بمعنى، والاسم الذي يعمل عمل الفعل إذا وصف لم يعمل شيئا، لا يجيز النحويون: مررت بضارب ظريف زيدًا، ونحو ذلك، وإن جاء من ذلك شيء فهو محمول على الضرورة، ولا يجب أن يحمل الشيء على الاضطرار إذا وجد له وجه صحيح" انتهى كلامه. ونقلت من خط أبي عبد الله النميري- وهو من تلاميذ الأستاذ أبي الحسن ابن الباذش، وغالب ظني أن ما كتبه هومن كلام ابن الباذش- ما نصه: "قضى كل ذي دين ........ .................................... البيت؛ رفع غريمها بممطول لا بمعنى، والتقدير: وعزة ممطول غريمها معنى، فتقديم معنى ضرورة، فبقى على حكم التأخير، وإنما لم يوجب له التقديم عملاً لأن الاسم إذا وصف بصفة سببه أو أخبر عنه بخيره ظهر ذلك السبب بعد الصفة والخبر في مثل/ قولك: مررت برجل قائم أبوه، وزيد قائم أبوه، فإذا أتوا بصفة ثانية أو خبر ثان لم يظهروا السبب وأضمروه، وخلت الصفة والخبر من عائد إلى الموصوف والمبتدأ، وكان العائد إلى الموصوف والمبتدأ من المعنى؛ لأنه ضمير يظهر

فيه عائد إلى الأول، وذلك قولك: مررت برجل قائم أبوه لا قاعد، وزيد قائم أبوه لا قاعد، والتقدير: لا قاعد أبوه، فأضمر الأب لتقدم ذكرهـ واقتضى العائد من لمضمر المعنى، ولم يقولوا في نحو هذا: مررت برجل قائم لا قاعد أبوه، وزيد قائم لا قاعد أبوه، على أن يضمروا في قائم، ويكون العائد في الصفة الأولى، هكذا كلام العرب. ووجه ذلك عندي أنهم أتوا بالصفة الأولى على ما يجب لها في اللفظ والمعنى، ثم استسهلوا بعد ذلك في الصفة الثانية الحمل على المعنى، وقد نص س على ذلك بقوله في قول العرب مررت برجل عاقلة أمه لبيبة إنه لا يصلح أن تقدم لبيبة مضمرًا فيها الأم، ثم تقول عاقلة أمه. ولا وجه لقوله هذا إلا ما عقدنا عليه كلامنا من أن الإضماء والحمل على المعنى في الصفة الثانية دون الأولى، وكذلك الخبر لما ذكرنا. ومن هذا الباب قول امرئ القيس: بليل التمام، أو وصلن بمثله مقايسة أيامها نكسرات أي: نكرات أيامها" انتهى كلامه. ونظير ذلك ما أنشده ابن الأعرابي: ليس أخو الفلاة بالهبيت ولا الذي يخضع كالسبروت ولا الضعيف أمره الشتيت غير فتى يصبح في المبيت يرتقب النجم ارتقاب الحوت أي: الشتيت هو، أي: أمره. وقال الشاعر:

صهب الظلال أتين التين عن عرض يزجين غيمًا ماؤه شبما أي: شبما هو، أي: ماؤه. وقال الآخر: بماء سحاب زل عن ظهر صخرة إلى بطن أخرى طيب ماؤها حصر يريد: خصر هو، أي: ماؤها. فهذا نظير: مررت برجل عاقلة أمه لبيبة. وقال أبو القاسم بن الأبرش: "ليس العطف في هذا الباب بأصل، ولا يراعى فيه اتفاق لفظ الفعل، ولا الفعل أيضًا نفسه، بل لك ترك العطف واختلاف اللفظ واستعمال ما جرى على الفعل دون الفعل، قال الله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ}، وقال عز من قائل: {قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا}. ومما جاء/ مما أعمل على غير الفعل قول الشاعر: قضى كل ذي دين، فوفى عريمه وعزة ممطول معنى غريمها ترفع غريمها بمعنى. وإن رفعته بمعنى وأضمرته في ممطول قلت في التثنية: وعزة ممطولان معنى غريماها، وفي الجميع: وعزة ممطولون معنى غرماؤها. وإن رفعته بممطول وأضمرته في معنى قلت في التثنية: وعزة ممطول معنيان غريماها، وفي الجميع: وعزة ممطول معنون غرماؤها، وهذا قول الكسائي. وهو ضعيف غير موافق لمذهب أهل البصرة في هذا الموضع، أعنى إعمال الثاني، وهو معنى؛ لأنه إذا أعمل الثاني لزمه إظهار ذلك المضمر؛ لأنه قد جرى على غير من هو، فلما كان إعمال الثاني مما يلزم في ممطول ما ذكرنا من إبراز الضمير، ولو أبرزنا الضمير لانكسر البيت- لم يكن إلا إعمال الأول لئلا ينكسر البيت، ولا يلزم مع إعمال الأول إبراز الضمير في معنى؛ لأن معنى حينئذ جار على من هو له" انتهى.

وذكر أبو علي في البصريات أن غريمها مرتفع بمعنى، ولو ارتفع بممطول لقال: ممطول معنى غريمها هو. قال: ولا يكون بد إذا أعمل الأول من أن يعمل الثاني على هذا الباب، ولا يكون على أن يعمل الأول ولا يعمل الثاني إلا في شيء حكاه س في قلت أن بعضهم قال: متى ظننت أو قلت زيدًا منطلقا. قال بعض أصحابنا: "هذا الذي ذكره أبو علي يكون في الفضلات، فأما ما لابد منه من الفاعل وما لم يسم فاعله فطريقه الإضمار لا الحذف، فإعمال الأول والثاني فيه سواء، فلو وجب إظهار الفاعل في معنى إذا حمل غريمها على ممطول لوجب إظهاره في ممطول إذا حمل على معنى" انتهى. وذكر أيضًا أبو علي الرفع بممطول، وقال: "لم يحتج إلى الإظهار في معنى لأنه جرى على الغريم، وهو هو، فإذا جرى عليه وكان إياه في المعنى ارتفع الضمير فيه به، ولم يحتج إلى إظهار لجريه على من هو له". قال بعض أصحابنا: "ولا يكون هذا كما ذكر أبو علي إلا إذا كان غريمها مبتدأ، ويكون معنى وممطول جارين على من هما له، فأما إذا ارتفع غريمها بأحدهما، وأضمر في الآخر- فهما جاريات على عزة" انتهى. وقيل: غريمها مرتفع بممطول، ومعنى خال منه. وقال الجرجاني: "لا يخلو غريمها من أن يرتفع بالأول أو بالثاني، فلا يجوز رفعه بالأول؛ لأنك لو رفعت به لكان مقدمًا في النية، مثل أن تقول: وعزة ممطول

غريمها، وإذا تقدم وجب إضماره في معنى الذي هو بعده، ومعنى قد جرى خيرًا على عزة، وهو فعل لغيرها، واسم الفاعل إذا جرى على غير من هو له أبرز ضميره، فلو كان في معنى ضمير لوجب أن يبرز، كما أنك إذا أتيت بمعنى عبد غريمها وجب أن/ تقول: معنى هو، فلما لم يبرز هذا الضمير كان غريمها مرفوعًا بالثاني، والأول قد أضمر له فاعل، حتى كأنه قيل: وعزة ممطول غريمها معنى غريمها. فإذا قلت: إذا اضمرت غريمها في ممطول وجب أن تبرز الضمير؛ لأن الوصف لغير عزة، وهو الغريم. فالجواب: أن ذلك لا يجب؛ لأنهم أرادوا من هذا الإضمار الاختصار، فلم يقولوا: ضربني عبد الله وضربت عبد الله، وقالوا: ضربني وضربت عبد الله؛ لئلا يعرى الكلام من الاختصار، والضمير المنفصل بمنزلة زيد وعمرو في كونه اسما ظاهرًا، فلما كان إظهار الضمير في مطول ونحوه يؤدي إلى مثل ما وقع الفرار منه- إذ كان هو اسمًا منفصلا كغريمها- ترك، وحسن ذلك لأجل أن ذكر الاسم في الثاني- وهو غريمها- يدل على أن الفعل ليس للمبتدأ، حتى لو وضعت موضع عزة اسمًا مذكرًا فقلت زيد ممطول معنى غريمه علم أن الفعل ليس لزيد، ولو كان الممطول له لكان المعنى كذلك لاتفاقهما في المعنى، ولو كان المعنى له لم يرفع الغريم به فقط". وفي البسيط في ذكر المتنازعين: إما أن يكون في اللفظ ما يرجح أحدهما، أو لا: إن كان- وذلك إذا كان الثاني معطوفًا بحرف الإضراب، نحو: ضربت بل أكرمت زيدًا- فيحب إعمال الثاني، وعكسه في لا، نحو: ضربت لا أكرمت زيدًا؛

لأنك لما أضربت عنه لم تعمله، وكيف تعمله وتترك الأصل المعتمد عليه. ومنه إذا كان العامل الثاني ملغي، والاعتماد على الأول، نحو: كان- أرى- زيد ذاهبًا، ونحوه. وقيل: منه قولك: زيد قائم وقاعد أبوه، إذا جعلتهما للأب، فيكون هنا إعمال الأول؛ لأنك لو أعملت الثاني لكان في الأول ضميره، وهو فاعل، فإما أن تذكره فيلزم إظهار ما هو مفرد، وإما أن يكون مستترًا فيلتبس أنه للأول. وأيضًا فإنه لا يعود على الأول منه ضمير لأنه للأب، وإنما يعود من المعطوف، وقد تقدم أنه ضعيف، فلا يكون. وأما قوله: ................ وعزة ممطول معنى غريمها فلا يلزم الأول لعدم الالتباس، ولا الثاني لأنه ليس معطوفًا، بل جعلا كشيء واحد، نحو: هذا حلو حامض، ولأنه يلزم أن يكون مرفوعًا بممطول، ولا مرفوع في معنى، ولا يكون لأنه عامل، وهو لا يحذف. وإن لم يكن في اللفظ ما يرجح أحدهما، والمنازعة على فاعل الأول، فيتعين عند الفراء إعمال الأول أولاً في فاعله، فالبصري يرجح الثاني، والكوفي الأول. وبعض النحويين يتساويان عنده لتعارض الترجيجين عنده. وتلخص من هذا الذي ذكرناه الخلاف في السببي المرفوع هل يتنازعه العاملان أم لا. وأما البيت: قضى كل ذي دين ........ ........................ ففيه ثلاثة أقوال: أحددها أنه ليس/ من باب الإعمال؛ إذ لا يصلح أن يرتفع غريمها بواحد من الوصفين. الثاني: أنه من الإعمال، ويجوز أن يرتفع بكل واحد من الوصفين. الثالث: أنه يجوز أن يرتفع بممطول، ولا يجوز أن يرتفع بمعنى.

وقوله عمل فيه أحدهما هذا جواب الشرط، وهو قوله "إذا تعلق"، وسواء أكان العاملان متفقي الطلب في الإعراب أم مختلفين. ولا يكفي ما ذكره المصنف في الإعمال من تعلق العاملين بالمعمول من حيث المعنى حتى تزيد في ذلك: ما لم يمنع مانع لفظي، كقول الشاعر: كأنهن خوافي أجدل قرم ولي ليسبقه بالأمعز الخرب فهذا من إعمال الأول، ولا يجوز أن يكون من إعمال الثاني؛ لأن الخرب حينئذ يكون مفسرًا للضمير الذي في ولى، ولام كي تمنعه أن يتخطاها إلى تفسيره، فإنه لا يتقدم ما بعدها عليها، وكذلك لا يفسر ما بعدها ما قبلها؛ لأن المفسر نائب مناب المفسر، فكأنه قد تقدم ما بعدها عليها حينئذ، وهذا التعلق أو الطلب أو الاقتصاد من جهة المعنى أقوى ما يكون بحرف العطف؛ لأن قولك ضربني وضربت زيدًا في معنى تضاربنا، فحسن لذلك فيه الفصل بين العامل ومعموله بجملة، ولولا الرابط في الباب بين العاملين- وإن كان في بعض المسائل أضعف منه في بعض- لم يجز الفصل، ولذلك يمتنع: ضربني ضربته زيد؛ لأنه لا رابط بين العاملين في ذلك، فلا يتنزلان منزلة الواحد. وكذلك قوله: {آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا}، العامل الثاني فيه جواب للأول، فهو مرتبط به بمنزلة قولك: إن تضرب أضربه زيدًا.

وقوله لا كلاهما، خلافا للفراء في نحو: قام وقعد زيد قال أبو علي: "هذا أقبح المذهبين"، يعني أن إعمال قام وقعد في زيد أقبح من مذهب الكسائي في إبقاء أحد العفلين بلا فاعل، والفراء رفعه بمجموعهما، فكل واحد منهما ليس له فاعل. قال بعض أصحابنا: وللفراء أن يقول: لم يخل الفعل من إسناد، والذي لا يصح كون الفعل غير مسند، فكما يسند للمبتدأ خيران، نحو: هذا حلو حامض، فكذلك يسند للفاعل فعلا، إلا أن هذه دعوى لا دليل عليها. وقال المصنف في الشرح: "جعل الفراء الرفع في نحو قام وقعد زيد بالفعلين معًا. والذي ذهب إليه غير مستبعد، فإنه نظير قولك: زيد وعمرو منطلقان، على مذهب س؛ فإن خير المبتدأ عنده مرفوع بما هو له خير، فيلزمه أن يكون منطلقان مرفوعًا بالمعطوف والمعطوف عليه؛ لأنهما يقتضيانه معًا. ويمكن أن يكون على مذهبه قول الشاعر: إن الرغاث إذا تكون وديعة يمسي ويصبح درها ممحوقا فلو كان العطف ب"أو" أو نحوها مما لا يجمع بين الشيئين لم يجز أن يشترك العاملان/ في العمل كقول الشاعر: وهل يرجع التسليم أو يكشف العمى ثلاث الأثافي والرسوم البلاقع

فليس هذا من التنازع؛ إذ لو كان منه لكان أحد العفلين بناء؛ لأن فاعله على ذلك التقدير ضمير مؤنث، فإنما يحمل على أنه أراد: وهل يرجع التسليم ما أشاهده، واستغنى بالإشارة، كما قالوا: إذا كان غدا فأنني، أي إذا كان ما نحن عليه فأنني. ثم أبدل ثلاث الأثافي من الضمير المنوي" انتهى كلامه. وإنما امتنع في مثل قام وقعد زيد أن يكون زيد مرفوعًا بهما لأنه لا يجتمع مؤثران على مؤثر واحد؛ لأنه يلزم بالضرورة أن يكون أحدهما لغوًا. وأما قول المصنف إن ما ذهب إليه الفراء غير مستبعد، وزعمه أن ذلك نظير زيد وعمرو منطلقان على مذهب س- فليس هو نظيره؛ لأنه فرق بين أن يجتمع مؤثران وليس كل واحد منهما جزء علة، وبين شيئين كل واحد منهما جزء علة، والعلة إنما تستقل بمجموعهما، فإنه لما ثنى الخير فقيل منطلقان لم يصلح أن يقع خيرًا لكل واحد من زيد وعمرو، فلذلك اجتمعا على رفعه وكونهما معًا مخيرًا عنهما به، بخلاف قام وقعد زيد؛ لأنه يصح إسناد قام وحده وقعد وحده إلى زيد. وكذلك عكس مسألة: زيد وعمرو منطلقان، نحو: هذا زيد وعمرو، لما ثنى المبتدأ أخبر عنه بما يطابقه من اثنين، فارتفعا بالمبتدأ المثنى، وهما شيئان مفترقان، كما ارتفع الخبر المثنى بالمبتدأ وهما شيئان مفترقان. وأما كلام المصنف في البيت الذي هو "وهل يرجع التسليم" فإن الناس خرجوه على الإعمال، وقالوا: اختار الكوفيون رفع ثلاث بترجع، واختار البصريون رفعه بيكشف. فعلى مذهب الفراء هو مرفوع بهما، وعلى مذهب

الكسائي الفاعل محذوف من الأول، فلا يحتاج إلى التأنيث؛ لأنه ظاهر مؤنث مجازي. وعلى مذهب البصريين يخرج على قوله: ....................... ولا أرض أبقل إبقالها ويحسنه في الأول أنه ضمير لم يعد على شيء سابق، وفي الثاني أن مفسره أيضًا متأخر عنه، فكأنه لم يسبقه ما يعود عليه. وممكن جوز فيه الإعمال أبو محمد بن السيد. وقوله والأحق بالعمل الأقرب لا الأسبق، خلافًا للكوفيين إعمال كل منهما مسموع من لسان العرب، والخلاف في الترجيح: فرجح البصريون إعمال الثاني بوجوه: أحدها: عدم توالي حروف الجر، نحو قولك: نبئت كما نبئت عن زيد بخبر، ولو أعمل الأول لقال: نبئت كما نبئت عنه به عن زيد بخير. الثاني: عدم كثرة الضمائر، تقول: ضربت وشتمت وقتلت زيدًا، ولو أعمل الأول لقال: ضربت وشتمته وقتلته/ زيدًا. الثالث: الفصل بين العامل والمعمول، والعطف على العامل قبل ذكر معموله. الرابع: أنه موافق لما تؤثره العرب من التعليق بالأقرب والحمل عليه وإن لزم من ذلك تفضيل زائد على غير زائد، نحو: خشنت بصدره وصدر زيد، فضلوا الجر لقربه على النصب حملاً على عمل خشنت لبعده. الخامس: أن في إعماله ضربًا من التعادل والاعتناء؛ لأنه قوبل التقديم للأول بالإعمال للثاني، ولو أعمل الأول لكان قد جمع له بين التعادلين والاعتنائين، فيكون ذلك إخلالاً بالثاني.

السادس: قال المصنف في الشرح: "ومما يدل على ترجيح الأقرب إذا كان ثانيًا التزام إعماله إذا كان ثالثًا أو فوق ذلك بالاستقراء، ولا يوجد إعمال غيره، ومن أجازه فمستنده الرأي" انتهى. وليس كما ذكر، ولا المستند الرأي، بل سمع إعمال غير الأقرب الثالث، وسيأتي ذكر ذلك في أواخر الباب. ورجح الكوفيون إعمال الأول لوجوه: أحدها: مراعاة السبق؛ ألا ترى إلى قولهم: ثلاث من البط ذكور، وثلاثة ذكور من البط، آثروا مقتضى البط لسبقه، فأسقطوا التاء، وآثروا مقتضى الذكور] لسبقه [، فأثبتوها. الثاني: أن إعمال السابق مخلص من تقديم ضمره على مفسره على مذهب أهل البصرة، نحو: ضربوني وضربت قومك، والمفسر مؤخر لفظاً ورتة، ومن حذ الفاعل على مذهب الكسائي. الثالث: قال المصنف: "إن إعمال اسابق موافق لما أجمع عليه في اجتماع القسم والشرط، فإن جواب السابق منهما مغن عن جواب الثاني، فليكن عمل السابق من المتنازعين مغنيًا عن عمل الثاني" انتهى. وليس كما ذكر من أنه أجمع عليه، بل قد ذهب بعض الكوفيين إلى أنه قد يتقدم القسم، ويكون الجواب للشرط، وستأتي هذه المسألة في باب القسم، وفي الجوازم، إن شاء الله، والتفصيل الذي هناك. وأورد بعضهم هذا الترجيح على خلاف ما أورده المصنف، فقال: "ومما يقوى به مذهبهم أنه متى اجتمع طالبان وتأخر عنهما مطلوب لهما من جهة المعنى

فالتأثير للمتقدم منهما. دليل ذلك القسم والشرط، إذا اجتمعا فإن العرب تبني الجواب على المتقدم منهما، وتحذف جواب الثاني لدلالة جواب المتقدم عليه". وأجيب عن ترجيحات الكوفيين: أما الأول- وهي مسألة العدد- فاعتبر فيها أيضًا القرب، وأتفق مع القرب السبق، فلا أثر له، ولا يلزم من مراعاة سابق قريب مراعاة سابق بعيد. وأما الثاني- وهو الإضمار قبل الذكر في بعض المسائل- قيقابله ما يؤدي إليه إعمال الأول من الفصل بين العامل والمعمول بجملة أجنبية في جميع المسائل؛ وذلك لا يجوز/ في باب من الأبواب إلا في هذه الباب خاصة لتداخل الجملتين باشتراكهما في المعمول؛ وما يؤدي إليه في بعض المسائل ووجد في كلامهم قليلاً أولى مما يؤدي إليه في كل المسائل ولم يوجد إلا في هذا الباب. وأورد المصنف الرد على هذا الترجيح بأن قال: "تقديم الضمير إذا كان على شريطة التفسير مجمع على جوازه في باب نعم، كقول الشارع: نعم امرا هرم، لو تعر نائبة إلا وكان لمرتاع بها وزرا وفي باب رب، كقول الآخر: واه رأيت وشيكا صدع أعظمه وربه عطبا أنقذت من عبطة وفي باب البدل، كقول بعض العرب: اللهم صل عليه الرؤوف الرحيم، وفي باب الابتداء وأبواب نواسخه، نحو: {قُلْ هُوَ اللَّهُ}، و {إِنَّهُ مَنْ يَاتِ رَبَّهُ

مُجْرِمًا}، فلجوازه في مسائل التنازع أسوة بتلك المواضع قياسًا لو لم يثبت به سماع، فكيف وقد سمع في الكلام في الكلام الفصيح" وأنشد أبياتًا، ستأتي إن شاء الله. انتهى. وما ذكره من الإجماع في باب نعم ليس بصحيح، بل مذهب الكسائي والفراء أن المرفوع بعد التمييز في باب "نعم امرا هرم" وشبهه فاعل بنعم، ولا ضمير فيها أصلاً، وسيأتي ذلك في باب نعم إن شاء الله. وما ذكره من الإجماع في باب البدل ليس بصحيح، بل فيه الخلاف، وقد ذكرنا ذلك في الفصل الرابع من باب المضمر. وقال أبو عبد الله الشلويين الصغير: "أما ما رجحوا به من أن الإضمار قبل الذكر موجود في غير هذا الباب كباب نعم وباب الأمر والشأن، وأن الفصل بين العامل والمعمول بأجنبي لم يوجد إلا في هذا الباب خاصة- فليس بباب ترجيح؛ لأن المعنى الذي اختص به الإضمار قبل الذكر مفقود في بابنا، وهو التعظيم أو المدح، وكأن الأمر ثابت في النفس، وقد فرغ منه، وليس في بابنا من ذلك شيء، وإذا كان الإضمار قبل الذكر المجمع عليه في اللسان يخالف بمنزعه الإضمار هنا فليس فيه طريق ترجيح، فهو باب بنفسه، امتزجت فيه الجملتان، وتداخلتا، فسوغ ذلك الإضمار قبل الذكر، كأنه في رتبة التأخير. وسوغ ذلك أيضا الفصل بين العامل والمعمول بناء على أنه يليه في الأصل، ولذلك أمكن إعادة الضمير من الثاني عند إعمال الأول".

وأما الثالث من ترجيح الكوفيين- وهو أن التأثير إنما هو للمتقدم من الطالبين- فقال المصنف في الشرح ما ملخصه: "مقتضى الدليل أن يستغنى بجواب المتأخر منهما لقربه من محل الجواب، فإذا كان القسم كان مؤكدا للشرط، فلا اعتداد به، بخلاف المؤكد، وهو الشرط، فأغنى عما هو من تمام معناه، فلما وجب] هذا الاعتبار أغنى [جعل الجواب/ للأول فيما إذا تأخر فيه القسم وأجري هذا المجري، وأخر فيه الشرط ليسلك في اجتماعهما سبيل واحدة، لكن الشرط لعدم صلاحيته للسقوط أبدًا فضل على القسم، فإنه إذا سبقهما مبتدأ كان الجواب له، وإنه قد يغني جوابه بعد قسم لا مبتدأ قبله، فهذا الفرق بين اجتماع الشرط والقسم وبين باب التنازع" انتهى. وقال الأستاذ أبو الحسن بن عصفور: "هذا غير مسلم على الإطلاق، بل لا يخلو أن يكونا عاملين أو غير عاملين، فإن كانا غير عاملين أو كان أحدهما عاملاً والآخر ليس كذلك فربما كان الأمر على ما ذكروه. وإن كانا عاملين معًا فإن المعمول للمتأخر منهما، نحو: إن لم يقم زيد قام عمرو، فالعامل لم بدليل أن أداة الشرط إذا جزمت الفعل فإنه يقبح استعمال الجواب غير مجزوم في اللفظ، بل لا يوجد إلا في الشعر أو في نادر من الكلام، وكونه من كلام العرب الفصيح دليل على أن الجازم لم دون إن لمجاورتها له، بل إذا كانوا قد لحظوا المجاورة مع فساد المعنى في قوله هذا جحر ضب خرب فالأولى أن يلحظوا المجاورة مع صلاحه".

واحتج أيضًا للبصريين بأن أكثر السماع على إعمال الثاني، وبه نزل القرآن، قال تعالى {آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا}، {هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ}، {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ}، {وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا}، {تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ}، {وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَمَا ظَنَنتُمْ أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَدًا}، وفي الحديث (إن الله لعن أو غضب على سبط من بني إسرائيل)، ولو كان على إعمال الأول لكان: أفرغه، واقرؤوه، ويفتيكم فيها في الكلالة، وكذبوا بها، يستغفر لكم إلى رسول الله، كما ظننتموه، أو غضب عليهم سبطاً؛ لأن المعمول مقدر الاتصال بعامله، فيلزم تقدير تقدمه على العامل الثاني، ولو كان في اللفظ كذلك لاتصل به ضمير المعمول، ووجبإبرازه إن كان مرفوعًا في حال التثنية والجمع، ومنصوبًا ومجرورًا على المختار على ما نبين إن شاء الله. قال الشلويين الصغير: "هذا تصور المذهبين واحتجاج كل فريق منهم لمذهبه، والمسألة خلافية، إلا أن خلافهم غير مجد لأنه في مكان الترجيح؛ لأن] كلا [الإعمالين موجود في فصيح اللسان، ولم يثبت بطريق حصر أن إعمال الثاني أكثر فيمال إليه لكثرته، ولا أيضًا أن إعمال الأول أكثر، وليس لهم في كونه

موجودًا في القرآن ولم يجدوا إعمال الأول فيه ما يقوي إعمال الثاني؛ لأن القرآن لم يلزم فيه أن تكون عباراته كلها جارية على الأكثر، ولا الأقوى في القياس، بل فيه ما لا يوجد إلا في الشعر، نحو قراءة ابن عامر {وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ}؛ ألا ترى إلى الفصل بين المضاف والمضاف إليه بالمفعول كيف لا يجوز إلا في نادر من الشعر، وغير ذلك من المواضع؛ لأنه في منزع الأخذ بالعموم وملافاة الكل بما تميل إليه طباعهم، فاختلفت فيه الأساليب، وكثر التفنن، وإنما يقوى الاحتجاج بلغة القرآن من جهة طريقه، وليس بمكان النظر هنا، وليس ما عابوه على الكوفيين من الفصل بين العامل والمعمول بأضعف مما عابه الكوفيون عليهم من الإضمار قبل الذكر" انتهى كلامه. وهو غير سديد في غير ما موضع منه. والذي يدل على ترجيح قول البصريين في اختيارهم إعمال الثاني نقل س عن العرب أن إعماله هو الأكثر، وأن إعمال الأول قليل، قال س: "ولو لم تجعل الكلام على الآخر لقلت: ضربت وضربوني قومك، وإنما كلامهم: ضربت وضربني قومك"، وظاهر إنما الحصر، فلولا أنه نص بعد على جواز إعمال الأول لدل على أنعم يلتزمون إعمال الثاني، قال: "وقد يجوز: ضربت وضربني زيدًا؛ لأن بعضهم قد يقول: متى رأيت أو قلت زيدًا منطلقًا، والوجه: متى رأيت أو قلت زيد منطلق" انتهى. فهذا تقل س مجردًا عن الرأي على أن إعمال الثاني هو الكثير في كلام العرب، وأن إعمال الأول قليل. قال المصنف: "ومع قلته لا يكاد يوجد إلا في الشعر، بخلاف إعمال

الثاني، فإنه كثير في النثر والنظم، وقد تضمنه القرآن في مواضع كثيرة" انتهى. وأنشد س على إعمال الثاني قول الشاعر: ولقد أرى، تغنى بها سيفانة تصبي الحليم، ومثلها أصباه وقول الآخر: ولكن نصفًا لو سببت وسبني بنو عبد شمس من مناف وهاشم وقول الآخر: وكمتا مدماة، كأن متونها جرى فوقها واستشعرت لون مذهب وعلى إعمال الأول قوله: إذا هي لم تستك بعود أراكة تنخل، فاستاكت به، عود إسحل وقول الآخر: وقد نغنى بها، فنرى عصورًا بها يقتدننا الخرد الخدالا وما ذكره المصنف من أن مذهب الكوفيين ترجيح إعمال الأول تظافرت النصوص على نقله عنهم، إلا أن أبا جعفر النحاس قال ما نصه: "حكى بعض النحويين/ أن الكوفيين يختارون إعمال الأول لأن الكلام به أتم، ولم أجد ذلك على ما حكى".

-[ص: ويعمل الملغى في ضمير المتنازع مطابقًا له غالبًا، فإن أدت مطابقته إلى تخالف خبر ومخبر عنه فالإظهار. ويجوز حذف المضمر غير المرفوع ما لم يمنع مانع، ولا يلزم حذفه أو تأخيره معمولاً للأول، خلافًا لآكثرهم، بل حذفه إن لم يمنع مانع أولى من إبقائه متقدمًا، ولا يحتاج غالبًا إلى تأخيره إلا في باب ظن، وإن ألغي الأول رافعا صح دون اشتراط تأخير الضمير، خلافًا للفراء، ولا حذفه، خلافًا للكسائي.]- ش: يعني بالملغى ما ألغي عن العمل في الاسم الذي تنازعاه، ويشمل العامل الأول والعامل الثاني، ومعنى "مطابقًا له" أن الضمير يطابق الاسم في إفراده وتثنيته وجمعه وتذكيره وتأثنيه، وضمير المتنازع يشمل المرفوع والمنصوب والمجرور، فمثال إعمال الأول الملغى في الضمير المرفوع قوله: جفوني، ولم أجف الأخلاء، إنني لغير جميل من خليلي مهمل ومثاله في المنصوب قوله: إذا كنت ترضيه، ويرضيك صاحب جهارًا، فكن في العيب أحفظ للعهد ومثاله في المجرور قوله: وثقت بها، وأخلفت أم جندب فزاد غرام القلب إخلافها الوعدا ومثال إعمال الثاني الملغى في الضمير المرفوع قوله: وقد نغنى بها ........... ............................. البيت. ومثاله في المنصوب قوله:

أساء، ولم أجزه عامر فعاد بحلمي له محسنا ومثاله في المجرور قوله: إذا هي لم تستك ......... ................................ البيت. ومن المحتمل إعمال الأول والثاني قوله: على مثل أهبان، تشق جيوبها وتعلن بالنوح النساء الفواقد وقوله في ضمير المتنازع ينفي أن يكون التنازع في التمييز وفي الحال؛ لأنهما لا يضمران، ولا يكون من باب التنازع: تصببت وامتلأت عرقًا، ولا: قمت وخرجت مسرورًا، وإنما ذلك على الحذف إن دل دليل. وقوله غالبًا احتراز من نحو قولهم: ضربني وضربت قومك، قال س: "وإن قال ضربني وضربت قومك فجائز، وهو قبيح أن يجعل اللفظ كالواحد". ثم قال: "ولا بد من هذا؛ لأنه لا يخلو الفعل عن مضمر أو مظهر مرفوع من الأسماء، كأنك قلت إذا مثلت: ضربني من ثم وضربت/ قومك. وترك ذا أجود وأحسن للبيان الذي يجيء بعده، فأضمر من لذلك، وهو رديء في القياس، يدخل فيه أن تقول: أصحابه جلس، تضمر شيئاً يكون في اللفظ واحدًا" انتهى كلام س، وهو واضح.

وقوله فإن أدت مطابقته إلى تخالف خبر ومخبر عنه فالإظهار مثاله: طناني منطلقاً وظننت الزيدين منطلقين، تظهر ثاني ظناني، وكذلك ظننت وظناني قائمًا الزيدين قائمين. فلو أضمرت لزمك أحد أمرين: إما أن تأتي بالضمير مطابقًا للمخبر عنه، فتفرد، فيخالف المفسر المفسر، أو مطابقًا للمفسر، فتخير عن مفرد بمثنى، وكلاهما ممتنع، فوجب الإظهار، وخرجت المسألة من باب التنازع؛ لأن كل واحد من العاملين قد استوفى معموليه في أصل الوضع، ولم يتنازعا شيئا فيحتاج إلى أن يعمل أحدهما فيه. ولا يجيز المبرد غير هذا الوجه، وهو الإظهار. وأجاز الكوفيون هذا الوجه، وأجازوا وجهين آخرين: أحدهما حذف الضمير، فتقول: ظناني وظننت الزيدين قائمين، وظننت وظناني الزيدين قائمين، والتقدير: وظناني قائمًا، فحذف قائمًا لدلالة قائمين عليه، كما جاز مثل ذلك في الابتداء، نحو قوله: نحن بما عندنا، وأنت بما عنـ ــــــدك راضٍ، والرأي مختلف التقدير: نحن بما عندنا راضون، نص على جوازه هشام. والثاني: المجيء بالضمير مؤخرًا مطابقًا للمخبر عنه، نحو قولك: ظننت وظناني الزيدين قائمين إياه، وظناني وظننت الزيدين قائمين إياه، فيدل عليه المثنى لأنه يتضمن المفرد. وأجاز بعض أصحاب أبي العباس إضماره متقدمًا، فتقول: ظننت وظناني إياه أخويك منطلقين، بقدره: وظناني منطلقًا، ثم يجعل إياه في موضع منطلق. وظاهر ما قيده المصنف أنه إذا لم تود مطابقة الضمير للمتنازع إلى تخالف ما ذكر أنه يضمر؛ فتقول على إعمال الثاني: ظننته إياه وظني زيد قائما، وعلى

إعمال الأول: ظننت وظنيه زيدًا قائمًا، أو: وظني إياه زيدًا قائمًا. وفي هذه المسألة ونحوها مما الفعل فيه من باب ظن لا يجوز حذف الضمير عند البصريين؛ لأنك لما عديت الظن إلى واحد لم يكن بد من ثان، وتحذف إياه على قول الكوفيين. وقال أصحابنا: إن كان المنصوب لا يجوز حذفه، وذلك كأحد مفعولي ظننت وبابه- ففيه ثلاثة مذاهب: منهم من أضمره قبل الذكر، أجراه كالمرفوع، فلم يجز حذفه، فيقول: ظننيه وظننت زيدًا قائمًا. ومنهم من أضمره مؤخرًا، وفرق بينه وبين الفاعل في ذلك، فإن الفاعل إذا أضمر كان مع الفعل كالشيء الواحد، فيقول: ظنني وظننت زيدًا قائمًا إياه. ومنهم من حذف لفهم المعنى، فيقول: ظنني وظننت زيدًا قائمًا./ قال ابن عصفور: "وهذا أسد المذاهب؛ إذ الإضمار قبل الذكر والفصل بين العامل والمعمول لم تدع إليه ضرورة، وحذف الاختصار في باب ظننت قد تقدم الدليل على جوازه في بابه" انتهى. ويقوي هذا ما أنشده س من قول الشاعر: إني ضمنت لمن أتاني ما جنى وأبي، فكان وكنت غير غدور فحذف خبر كان، وحذفه أصعب من حذف مفعول ظن؛ لأن هذا يجوز حذفه اختصارًا، وخبر كان لا يجوز حذفه إلا في هذا الباب لذكره في الجملة الثانية. ومذهب س يدر على من أضمر مفعول ظن مقدمًا أو مؤخرًا. وزعم أبو الحسين بن الطراوة أن الإضمار في باب ظن لا يجوز، فمنع ما أدي إليه من مسائل ظن؛ إذ ليس للمضمر مفسر يعود عليه؛ ألا ترى أنك إذا قلت ظننت وظننيه زيدًا قائمًا لا يمكن أن تكون الهاء في ظننيه عائدة على قائم؛ إذ يصير المعنى: وظنني ذلك القائم المذكور، وليس هو إياه؛ لأن قائمًا هو زيد، وليس المعنى:

وظَّنِني زيد نفسه، وهذا ممتنع. واستشنع ابن الطراوة إجازة هذا من النحوين لكونه لا يعُقل؛ إذ هو مثل هول هَبنَّقة الأحمق لأخيه: أأنا أنت، أو: أنت أنا. وقد رُدَّ هذا على ابن الطراوة بأن الضمير في هذا الباب يعود على قائم من حيث اللفظ لا من حيث المعنى، وذلك ثابت كثير في كلام العرب، فمن ذلك قولهم: عندي درهمٌ ونصفُه، وقولُ الشاعر: كأنّ ثِيابَ راكِبِهِ بِريحٍ خَريقٍ، وهيَ ساكِنةُ الهُبوبِ وقولُ الآخر: أرى كلّ قومٍ قارَبُوا قَيدَ فَحْلِهِمْ ونحنُ خَلَعْنا قَيدَهُ، فهو سارِبُ وقولُ الآخر: فسَقَى الغَضى والسَّاكِنِيهِ، وإنْ هُمُ شَبٌوهُ جَواِنحي وضلوعي وقولُ الآخر: قالتْ ألا ليتَما هذا الَحمام لنا إلى حَمامِتنا وِنصفُه، فَقَدِ فقد عاد الضمير في "ونِصفه" على درهم، وفي "قَيده" على فحلهم، وفي "وهي" على بريح، وفي "شبوه" على الغضا، وفي "ونصفه" على الحمام، من جهة اللفظ لا من جهة المعنى؛ إذ يمتنع ذلك، فكذلك يكون في"وظَننيه" عائدًا على قائم لفظًا لا معنًى.

وفي البسيط: "وإذا أُضمر في هذا الباب المفعول المشبَّه بخبر كان والثاني من ظننت/ فالضمير منهما يعود على اللفظ؛ كقولك: طننتُ وظَّننيه زيدًا قائمًا. والكسائي يمنعها؛ لأنه لم يتفطن لهذا النحو من العود" انتهى. وهذا الذي نقله عن الكسائي هو قول ابن الطراوة المنقول عنه قبل. والذي ينبغي أن يُسلك في هذا أن يُرجع فيه إلى السماع، فإن كانت العرب قد استعملت ذلك في ظنَّ في باب الإعمال اتُّبع، وإلا تُوقَّف في إجازة ذلك؛ لأنَّ عوده على شيء لفظًا لا معًنى هو قليل، وليس ذلك هو الأصل، وهو مع ذلك محتمل للتأويل، فينبغي ألاَّ يجعل أصلًا يقاس عليه، وتبني عليه المسائل. وقوله ويجوز حذف المضمر غير المرفوع يشمل الجواز في إعمال الأول وفي إعمال الثاني، ويشمل غير المرفوع المنصوب والمجرور، مثال ذلك في إعمال الثاني: ضربتُه وضربَني زيدٌـ ومررتُ به ومرَّ بي زيد، فيجوز حذف الضمير من ضربته وبه في الصورة المذكور. فأمّا إذا كان معمولاً للأول فسيذكر المصنف حكمه. وأمّا إذا كان معمولاً للثاني فأجاز بعض النحويين حذفه قليلاً، وخصه أصحابنا بالضرورة، قال: بِعُكاظَ يُعْشِي النَّاظِرِيـ ينَ إذا هُمُ لَمَحُوا شُعاعُةْ يريد: إذا هم لَمَحُوه. وقال آخر: يرنو إلى، وأرنو من أصادقه في النائبات، فأرضيه، ويرضيني يريد: وأرنو إليه. والمنقول في ذلك عن الكوفيين والبصريين جواز حذف هذا الضمير على اختلاف بينهم.

قال في المقنع: "وتقول: ضربني وضربتهم قومك، على إعمال الأول، فهذه لا اختلاف فيها على هذا اللفظ. فإن قلت فيها: ضربني وضربت قومك جاز عند الكوفيين على قول من قال: زيد ضربت، وهو عند البصريين جيد حسن على الحذف، كما قال تعالى: {وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ}، وزيد ضربت قبيح جدا" انتهى كلامه. وفي الإفصاح: "مذهب أبي علي أنك متى أعملت الأول أضمرت معمول الثاني وإن كان مفعولاً. ومذهب السيرافي أنه يجوز حذفه إذا كان مفعولاً جوازًا مطردًا لأنه فضلة، وكذا كان الأستاذ أبو ذر يقول لنا: لا شاهد في هذا كله" انتهى. يعني: في الاحتجاج على إعمال الثاني بما يمكن أن يكون مفعوله حذف اختصارًا. ومثال إثبات الضمير قوله: ولم أمدح لأرضيه بشعري لئيمًا أن يكون أفاد مالا وقول الآخر:/ قطوب، فما تلقاه إلا كأنما زوى وجهه أن لاكه فوه حنظل أضمر في لأرضيه إذ أعمل أمدح في لئيمًا، وأضمر في لاكه إذ أعمل في حنظل زوى، فرفعه به.

وفي البسيط: "وإذا كان إعمال الأول يرجح إعمال الثاني في جميع معمولاته فلك حينئذ أن تقدم منها ما شئت منفصلاً؛ كما يقدم منها ما لم يتنازعا فيه؛ فكما تقول: ضرب زيد وزيدًا ضرب خالدًا، على معنى: ضرب زيد خالدًا وضرب خالد زيدًا، كقوله: وقد نغنى بها، فنرى عصورًا بها يقتدننا الخرد الخدالا قدم "بها" وهي معمولة ليقتندننا، ولم يقع التنازع فيه. وقد يجوز الاشتغال فيه، فترفع، وتقول: ضرب زيد وزيد ضربه خالدًا، وكذلك تقول: ضربت وإياه ضرب عمرو خالدًا، على ذلك النحو. والأحسن أن تبقي المفعول الذي لم يتنازع] فيه [في موضعه. فإن كان العامل الثاني قدمته للأول، ولا تؤخره؛ إذ لا ضرورة تضم إلى الفصل بينه وبين عامله، بخلاف المتنازع فيه، فتقول: ضربت زيدًا وأكرم خالد عمرًا، وتقول: ظناني شاخصًا وظننت الزيدين شاخصين. ولك أن تؤخر، لكنه قبيح. ولو أعملت الأول لجاز تقديمه وتأخيره؛ لأنك فاصل إما بين أحد المفعولين والآخر وإما بين العامل والمفعولين معًا، فلا بد من أحدهما، بخلاف إعمال الثاني، فإنك لا تفصل، بل المفعول الأخير موضعه بعد الأول، كقولك: ظنني وظننتهما شاخصين الزيدان شاخصًا، وفي الثاني يقبح الفصل، فلا يؤخر معموله، فلا تقول:] ظنني [وظننتهما الزيدان شاخصًا شاخصين، وفي الجمع كذلك، نحو: ظنني وظننتهم شاخصين الزيدون شاخصًا، وعلى هذا فقس".

وقوله ما لم يمنع مانع مثاله: مال عني وملت إليه زيد، فلا يجوز حذف هذا الضمير؛ إذ يصير الظاهر أن يكون التقدير: مال عني وملت عنه زيد، وهو خلاف المراد، وقال الشاعر: مال عني تيهًا، وملت إليه مستعينًا عمرو، فكان معينا وكذلك لا يجوز الحذف من نحو: رغب في ورغبت عنه زيد؛ إذ لو حذف "عنه" لكان الظاهر: ورغبت فيه، وهو خلاف المراد. وقوله ولا يلزم حذفه أو تأخيره معمولاً للأول، خلافاً لأكثرهم مثال أصل المسألة: ضربته وضربني زيد، ومررت به ومر بي زيد، فعلى ما اختاره المصنف، وقد أنشد ما يدل على إبقاء هذا الضمير لا حذفه ولا إضماره متأخرًا. ومعنى قوله "ولا يلزم حذفه أو/ تأخيره" أنه يجوز إثباته، وأن الأكثرين على مذهبين: منهم من يلتزم حذفه، فيقول: ضربت وضربني زيد، وهو اختيار أصحابنا، لا يجيزون: ضربته وضربني زيد، إلا في ضرورة الشعر، وأنشدوا على ذلك قول الشاعر: ألا هل أتاها على نأيها بما فضحت قومها غامد وقول الآخر: علموني كيف أبـ ـــكيهم إذا خف القطين

وإنما لم يجز إبقاء الضمير لأنه مشتمل على تقديم ضمير هو فضلة على مفسر متأخر لفظًا ورتبة، فهو حر بالحذف، بخلاف أن لو كان مرفوعًا، فلا يحذف لآنه عمدة. وأما الكوفيون فلا فرق عندهم بين الفضلة والعمدة في المنع، لا يجيزون ضربته وضربني زيد، ولا: ضربوني وضربت قومك، وسيأتي الكلام معهم في العمدة. وزعم الأستاذ أبو الحسن بن الضائع شيخنا أن ما ورد من قولهم: كيف أبكيهم، وألا هل أتاها، وما جاء من هذا الباب- لا يلزم فيه أن يكون إضمارًا قبل الذكر كما ذكروا، بل يكون أعاد الضمير على ما في نفسه، فلما كانت غامد مذكورة في نفسه وحاضرة عنده أعاد الضمير، وكذا ما جاء من هذا الباب. ومن هذا القبيل مجيئهم بواو رب أول الكلام، إنما ذلك حمل على كلام مقدر في النفس، حكموا له بحكم المذكور، وكذا ما أتى من هذا، فلا حجة في شيء منه. انتهى. وما ذهب إليه خلاف الظاهر، ولا يطرد له في جميع ما ورد من ذلك، وإن كان ما ذكره محتملاً في بيت غامد فلا يحتمل في قول الشاعر، وهو ما أنشدنا قبل من قول الشاعر: إذا كنت ترضيه ويرضيك صاحب جهارًا فكن في الغيب أحفظ للعهد لتنكير صاحب، وليس مذكورًا في نفسه كغامد، وأم جندب في قوله: وثقت بها، وأخلفت أم جندب .....................................

لكونهما علمين يحضران في النفس لتعلق الغرض بهما في محبة وغيرها ولاختلاف التخاطب، فقوله: ألا هل أتاها، وعلموني، ووثقت بها- هو خطاب مع نفسه، فأمكن الإضمار، وأما قوله: إذا كنت ترضيه ويرضيك صاحب .................................. فهو خطاب لغيره، وإسناد لنكرة ليس معهودًا في النفس. ومن النحويين من لا يجيز تقديم المضمر، فيلزم تأخيره أو إظهاره إن لم يستغن عنه، نحو: ظنني وظننت زيدًا قائمًا إياه، أو: ظنني فاضلاً وظننت زيدًا إياه. وقوله بل حذفه إن لم يمنع مانع أولى من إبقائه متقدمًا يعني أن ضربت وضربني زيد أولى/ من ضربته وضربني زيد، وهذا اختيار هذا المصنف، وقد نبه هو على أن الأكثرين على خلافه. واحترز بقوله "إن لم يمنع مانع" من نحو: استعنت به واستعان على زيد، فلا يجوز حذف "به" لأنه يكون المتبادر إلى الذهن: استعنت عليه، فحذف "عليه" لدلالة قوله "علي" فيكون خلاف المراد. وقوله ولا يحتاج غالبًا إلى تأخيره إلا في باب ظن قال المصنف في الشرح: "حذف الضمير غير المرفوع إن تقدم أحسن من بقائه ما لم يكن] عامله [من باب ظن، فيظهر أو يؤخر، وكذا إن كان من غير باب ظن وكان الحذف موقعًا في لبس. ومثال ذلك والفعل من باب ظن: حسبني وحسبت زيدًا كريمًا إياه. ومثاله والفعل من غير باب ظن: استعنت به واستعان علي زيد".

وقوله وإن أُلغي الأول رافعًا صحَّ أي: إن أُلغي الأول عن العمل في الظاهر، وكان عاملاً طالب رفع صحَّت المسألة، واستكنَّ الضمير في فعل الواحد، وبرز في التثنية والجمع، فتقول: ضربني وضربتُ زيدًا، وضربَتْني وضربتُ هندًا، وضرباني وضربتُ الزيدَين، وضربوني وضربتُ الرجالَ، وضربَتاني وضربتُ الهندَين، وضربْنَني وضربتُ الهنداتِ، وهذا إضمار قبل الذكر، يفسِّره ما بعده، هذا مذهب س والبصريين. وذهب محمد بن الوليد إلى أنه ليس إضمارًا قبل الذكر، والتقدير عنده في ضربوني وضربتُ قومَك: ضربتُ قومَك وضربوني، فالضمير المتقدم لفظا هو منوي به التأخير. ورُدَّ عليه بأنه لو كان التقدير كما زعم لم يكن في المسألة خلاف، وكيف يكون هذا التقدير وإنما قيل لك إعمال الثاني، والثاني على هذا قد صار أولا، وإنما هو معطوف على الأول، وكيف يقدر بواو العطف التقديم وأن يكون قبل ضربوني في أول الكلام، ويلزمه أن يقول: ضربتُه وضربني زيدٌ، فيقدره: ضربَني زيدٌ وضربتُه، إذا أعمل الثاني، ويلزمه: مررتُ به ومرَّ بي زيدٌ، إذا أعمل الثاني، فيقدره: مرَّ بي زيدٌ ومررتُ به، وهذا لا يقوله أحد لأنه نقض للباب، ويلزمه إذا قال: عليك بما يُحِبَان ويَسُرُّ أخويك أن يكون قد فرق بين الصلة والموصول؛ لأنه يجب أن يكون التقدير عنده: عليك بما يَسُرُّ أخويك وما يُحِبّان.

وقوله دون اشتراط تأخير الضمير، خلافًا للفراء المنقول عن الفراء أنه لا يجيز كل مسألة تؤدي إلى الإضمار قبل الذكر في مرفوع أو إلى حذف المرفوع، فلا يجيز: ضربَني وضربتُ زيدًا؛ لأنك أضمرت في ضربَني مرفوعًا أو حذفته، وإنَّ ذلك ليس مسموعًا من كلام العرب، وأمّا مثل قامَ وقعدَ زيدٌ فقد تقدم قبلُ أنَّ مذهبه فيه أنَّ زيدًا مرفوع بالفعلي معًا، فلا إضمار في الأول، ولا حذف لمرفوع. ورددنا عليه ذلك. ويجب عند الفراء/ في مثل ضربَني وضربتُ زيدًا إعمال الأول [3:118/أ] ليخلص بذاك من حذف الفاعل ومن إضماره قبل الذكر. قال شيخنا بهاء الدين أبو عبد الله محمد بن إبراهيم بن النحاس: "لم يرو أحد من العلماء المتقدمين - فيما علمت- في مثل هذه المسألة عن الفراء إلا إيجاب إعمال الأول. وروى جمال الدين محمد بن مالك صاحبنا، رحمه الله- يعني المصنف- أن الفراء في مثل هذه المسألة يجيز إعمال الثاني في الظاهر، ويضمر في الأول كما يقول س وأصحابه، لكنه إذا أضمر في الأول أوجب أن يكون الضمير بارزًا بعد الثاني ومعمولة، فتقول مثلًا: ضربني وضربت زيدًا هو، وضربني وضربت الزيدين هما. ولم أقل على هذا النقل عن الفراء من غير كلام ابن مالك، وهو الثقة فيما ينقل. وكذلك أصحابنا نقلوا أنّ الفراء يمنع، ولم يذكروا أن المسألة تصح عند الفراء بشرط تأخير الضمير، إلا أنّ بعض متأخري أصحابنا قال: وقد رأيت مَن حكى عن الفراء أنه يُعمل الأول، أو يضمر الفاعل بعد الجملة المعطوفة" انتهى. واستدلوا على بطلان ما ذهب إليه الفراء بقول الشاعر:

وكُمتًا مُدَمّاةً، كأنَّ مُتُونَها جرى فوقَها واستَشعَرَتْ لونَ مُذهَبِ ففي جرى ضمير هو فاعل، ويفسره منصوب استشعرت، وهو: لون مذهب، هكذا أنشده س وغيره بنصب لون مذهب، ولا تُدفع هذه الرواية برواية الفراء وإنشاده بالرفع، وسيأتي أيضًا النص عن العرب بتصريح الإضمار قبل الذكر في صورة المسألة إن شاء الله. وفي البسيط: حكي عن الفراء أنَّ مثل ضربَني وضربتُ زيدًا يقصره على السماع، ولا يجعله قياسًا. وقوله ولا حَذفِه، خلافًا للكسائي ذهب الكسائي إلى أنَّ الفاعل محذوف، وقد تقدم ذكر دليله على جواز حذف الفاعل في باب الفاعل. وأما في صورة المسألة هنا فاستدلوا له على حذف الفاعل بقوله: لو كانَ حَيَّا قَبَلهُنَّ ظَعائنًا حَيَّا الحَطيمُ وُجُوهَهُنَّ وزَمْزَمُ وبقول الآخر: تَعَفَّقَ بالأَرطَى لها، وأَرادَها رِجالٌ، فبَذَّتْ نَبلَهُمْ وكَليبُ وقول الآخر: وهل يَرجِعُ التَّسليمَ أو يَكشِفُ العَمَى لاثُ الأَثافي والرُّسومُ البَلاقِعُ

ويتعين على هذا أن تكون هذه الأبيات من إعمال الثاني؛ إذ لو كانت من إعمال الأول/ لأضمر في الثاني ما يحتاجه، فكان يقول: حَيَّيَا الحَطيمُ وُجُوهَهُنَّ [3: 118/ ب] وزَمزَمُ، وكان يقول: وأرادوها رجالٌ، وكان يقول: أو تكشفُ أو يَكشِفنَ العَمى، فلمَا صحَّ أنها على إعمال الثاني، والأول طالب مرفوع، ولم يبرز الضمير، فيقول: حيَّيَا قبلهن، ولا: تَعَفَّفُوا بالأرطى، ولا: وهل ترجع أو يرجعن- دلَّ على أنه محذوف لا مضمر. وممن ذهب إلى مذهب الكسائي من الكوفيين هشام، ومن أصحابنا أبو زيد السهيلي وأبو جعفر بن مضاء صاحب كتاب "المشرق". وقال ابن مضاء: وهو أقيس من مذهب س في أنه مضمر؛ لأنَّ الإضمار قبل الذكر خارج عن الأصول. وردُّوا على الكسائي في دعواه أنَّ الفاعل يحذف بما تقدم في باب الفاعل، وتأولوا هذه الأبيات على أنه عاد الضمير فيها على المثني والمجموع كما يعود على المفرد، فمِمّا عاد على المثنى كما يعود على المفرد قولُه: لِمَن زُحلُوقةٌ زُلٌّ بِها العَينانِ تَنهَلٌّ وقولُ الآخر: ولو بَخِلَت يَدايَ بِها وضَنَّتْ لَكانَ عليَّ لِلقَدَرِ الخِيارُ وقولُ الآخر:

فكأنَّ في العَينَينِ حَبَّ قَرَنفُلٍ أو سُنبُلًا كُحِلَتْ بهِ فانهَلَّتِ فلم يقل: تنهَلّان، ولا: وضَنَّتا، ولا: كُحِلَتا. ومما عاد على المجموع كما يعود على المفرد قولهم: هو أحسنُ الفتيان وأجملُه، وأحسنُ بني أبيه وأَنبَلُه، وقولُه تعالى: {وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ}، وقال الشاعر: أَلْبانُ إبْلِ تَعِلَّةَ بْنِ مُسافِرٍ ما دامَ يَمْلِكُها عَلَيَّ حَرامُ وطَعامُ عِمْرانَ بْنِ أَوفَى مِثلُهُ ما دامَ يَسْلُكُ في البُطُونِ طَعامُ وقال آخر: ما دامَ يَسْلُكُ في البُطُونِ طَعامُ على عاجِزاتِ النَّهْضِ حُمرٍ حَواصِلُهْ وقال آخر: فيها خُطوطٌ مِن سَوادٍ وبَلَقْ كأنه في الجِلدِ تَتليعُ البَهَقْ وفي الأثر: (خيرُ النساء صَوالحُ نساءِ قُريش، أَحْناه على وَلَدٍ، وأَرْعاه على زَوجٍ في ذاتِ يَدِه)، فلم يقل: وأَجمَلُهم، ولا: وأَنبَلُهم، ولا: مِثلُها أو مِثلُهن،

ولا: ما في بطونها، ولا: حواصِلُها أو حواصِلُهنَّ، ولا: كأنَّها أو كأنَّهنَّ، ولا: أَحْناها وأَرْعاها أو أَحْناهنَّ وأَرْعاهنَّ. وقد أجاز س: ضربَني وضربتُ قومضك، بنصب قومك على إعمال/ الثاني [3: 119/ أ] والإضمار في ضربني ضمير مفرد، كأنه قال: من ثَمَّ، واستقبحه، وخرّجه على قولهم: هو أحسنُ الفتيانِ وأَجمَلُه، ونَصَّ على عدم القياس في: هو أحسنُ الفِتيانِ وأجمَلُه (. قال الأستاذ أبو الحسن بن عصفور: "الذي يدل على صحة مذهب س أنه قد حكى من كلام العرب: ضربوني وضربتُ قومَك، وضرباني وضربتُ أخويك، وهذا لا يتخرج إلا على مذهب س، وهذه الأبيات تخرَّج على هذا، ومثل ذلك قليل، فإنَّ الفصيح من كلام العرب: ضربوني وضربتُ قومَك" انتهى. ويعني بالأبيات ما استدلَّ به الكسائي، وبتخريجها على هذا أي: على أنه مما عاد فيها ضمير المثنى وضمير الجمع كما يعود على المفرد. وقد نازعه الشلوبين الصغير، فقال: "هذا السماع يشهد للكسائي، وهو بيِّن، وتأويل س ومن تمذهب بمذهبه في الأبيات ضعيف، وهذه مغالبة من أصحاب س، فإنه لم ينقل س ذلك عن العرب، بل هو مثال مخرَّج على مذهب من الإضمار، يعني: ضربوني وضربتُ قومَك". قال: "ولا يخفى عليك ضعف تأويلهم في الأبيات المتقدمة؛ لأنه خروج عن الظاهر، وغاية ما خرجوه عليه إذا وقع في موضعٍ أن يُتخيل في ذلك الموضع خاصة، ولا يُحمل عليه غيره". انتهى.

والإنصاف في هذه المسألة أنه يجوز حذف الفاعل، ويجوز إضماره؛ لثبوت الحذف في الأبيات التي استدلَّ بها للكسائي وقوفا مع الظاهر، ولثبوت الإضمار أيضا قبل الذِّكر في لسان العرب، وبروز ذلك في التثنية وجمعي التذكير والتأنيث، وقال الشاعر: خالَفانِي، ولم أُخالِفْ خَليلَيْـ ـيَ، فلا خَيرَ في خِلافِ الخَليلِ وقال الآخر: جَفوني، ولم أَجفُ الأَخِلَّاءَ إِنَّنِي لِغَيرِ جَميلٍ مِن خَلِيليَ مُهمِلُ وقال الآخر: هَوِيَنِني، وهَوِيتُ الخُرَّدَ العُرُبا أَزْمانَ كُنْتُ مَنُوطًا بِي هَوًى وصِبا وهذا الذي ذكره المصنف من أن مذهب الكسائي في هذه المسائل حذف الفاعل موافق لما قاله جمهور النحويين من أن مذهبه فيها حذف الفاعل. وقال الأستاذ أبو الحسن بن عصفور في "شرح الإيضاح" في باب الاستثناء: "حذف الفاعل لا يجوز عند أحد من البصريين ولا عند الكوفيين، وما حكاه البصريون عن الكسائي من أنه يجيز حذف الفاعل في نحو قولك ضربني وضربت الزيدين/ باطل، بل هو عنده مضمر مستتر في الفعل، مفرد في الأحوال كلها، وجعله مضمرًا في الفعل لا يجوز لأنه ليس له ما يفسره" انتهى. [3: 119/ ب]. وخالفَ نقله هنا ما نقل في شرح الجمل وغيره من أن مذهب الكسائي حذف الفاعل في باب الإعمال وفي غيره.

-[ص: ونحو "ما قام وقعد إلا زيدٌ" محمول على الحذف لا على التنازع، خلافًا لبعضهم. ويُحكَم في تنازعِ أكثرَ من عاملين بما تقدَّم من ترجيحٍ بالقُرب أو السَّبق، وبإعمال الملغي في الضمير، وغير ذلك. ولا يمنع التنازع تعدٍّ إلى أكثر من واحد، ولا كونُ المتنازعين فِعلَي تعجُّب، خلافًا لمن منع.]- ش: يعني بقوله محمولٌ على الحذف أنه من باب الحذف العام لدلالة القرائن اللفظية عليه، وهذا التركيب مسموع من العرب، ويقاس عليه، قال الشاعر: ما صابَ قلبِي، وأَضناهُ، وتَيَّمَهُ إلا كَواعِبُ من ذُهلِ بنِ شَيبانا وقال آخر: ما جادَ رأيًا، ولا أَجْدَى مُحاوَلةً إلا امرؤٌ لم يُضِعْ دُنيا ولا دينا واختلفوا في تخريجه، فزعم بعض النحويين أنه من باب الإعمال. وزعم بعضهم أنه ليس من باب الإعمال، وإنما هو من باب الحذف كما ذكرنا. واختار المصنف هذا المذهب، قال المصنف في الشرح: "على تأويل: ما قام أحدٌ ولا قعد إلا زيدٌ، فحذف أحد لفظًا، واكتفى بقصده ودلالة النفي والاستثناء عليه، كما كان في: {وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ}، {وَمَا مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَّعْلُومٌ}، {وَإِنَّ مِّنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا}، وقال الشاعر: نَجا سالِمٌ، والرُّوحُ منهُ بِشِدقِهِ ولم يَنْجُ إلا جَفْنَ سَيفٍ ومِئزَرَا

فالظاهر أنه أراد: ولم ينج شيء، فحذف لدلالة النفي والاستثناء بعده على منفي عام للمستثنى وغيره" انتهى. وليست المسألة من باب الآيات والبيت؛ لأنَّ المحذوف في الآيتين مبتدأ، وباب المبتدأ أنه مما يجوز فيه الحذف إذا دل الدليل عليه، فالتقدير: وما مِنَّا أحدٌ إلا له مقام، وإنْ مِن أهل الكتاب أحدٌ إلا ليؤمنَنَّ. وأمَّا قوله {وَإنِ مِّنكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا} فليست كالآيتين؛ لأنّ ما بعد إلا هو المبتدأ، وهو قوله {وَارِدُهَا}، لكن من حيث المعنى اشتركت الثلاثة في حذف أحد. وأما ما قامَ وقعدَ إلا زيدٌ فهي من باب حذف الفاعل، والفاعل لا يحذف، فقد تباين البابان في المحذوف. [3: 120/أ] وأمّا "نجا سالم" البيت، وزعمُ المصنف أن التقدير: /ولم ينجُ شيء- فليس بظاهر كما ذكر، ولم يحذف فيه الفاعل، وإنما حذفت فضلة مرادة، والتقدير: ولم ينجُ بشيء، والفاعل ضمير يعود على سالم، وعليه المعنى، وإذا حذفت الفضلة المرادة المجرورة انتصب ما بعد إلا على الاستثناء، تقول: ما مررتُ إلا زيدًا؛ لأنك أردت أنَّ اللفظ كان: ما مررتُ بأحدٍ إلا زيدًا. وإن جعلته استثناء مفرَّغًا ولم تلحظ المحذوف جررت، فقلت: ما مررت إلا بزيد، وعلى هذا تأوَّلَ البيتَ أصحابنا لا على ما تأوَّلَه المصنف.

وقال المصنف في الشرح: "وفاعل قعد ضمير أحد المقدر، ولذلك لا يثني ولا يجمع ولا يؤنث وإن كان ما بعد إلا مثنًّى أو مجموعًا أو مؤنثًا. وأيضًا لو كان من باب التنازع لزم في نحو ما قام وقعد إلا أنا إعادة ضمير غائب على حاضر، ولزم أن يقال على إعمال الثاني: ما قاموا وقعد إلا نحن، وعلى إعمال الأول: ما قام وقعدوا إلا نحن، وكان يلزم من ذلك إخلاء الفعل الملغي من الإيجاب؛ لأنَّ الفعل المنفيَّ إنما يصير موجبًا بمقارنة إلا لمعموله لفظًا أو معنًى، وعلى تقدير التنازع لم تقارن إلا معمول الملغي لفظًا ولا معنًى، فيلزم بقاؤه على النفي، والمقصود خلاف ذلك، فلا يصح الحكم بما أفضى إليه" انتهى. وإذا سلم أنه حذف الفاعل- وهو أحد- فإعراب ما بعد إلا يكون على طريق البدل، فإن جعلته بدلًا من الضمير العائد على أحد المحذوف على ما زعم المصنف فلا تنصب الفعل الأول على البدل. والذي يدل عليه المعنى أن الفعلي ينصبان على البدل، فالذي أختاره على تقدير حذف الفاعل أن المحذوف هو من الفعل الأول، وأن التقدير: ما قام إلا زيدٌ ولا قعد إلا زيدٌ، فحذف إلا زيد لدلالة إلا زيد الثاني عليه، وبذلك يصح المعنى لا بما يجعل بدلاً من أحد المحذوف أو من الضمير في قعد العائد على أحد المحذوف. وقال بعض أصحابنا: "ما قام وقعد إلا أنت لا يكون من الباب على مذهب س؛ لأنَّ الفاعل هنا لا يصح إضماره، ولا يجيز حذف الفاعل. ويكون من الباب على مذهبي الفراء والكسائي" انتهى. ويعني على اختلاف في التقدير؛ إذ ما بعد إلا في مذهب الفراء مرفوع بالفعلين، فلا حذف، وفي مذهب الكسائي الفاعل محذوف إما من الأول إن أعملت الثاني، وإما من الثاني إن أعملت الأول.

[3: 120/ب] وقوله ويُحكَم في تنازع أكثر من عاملين قال المصنف في الشرح: "قد تقدمت الإشارة إلى تنازع أكثر من عاملين في ترجمة الباب، وفي الشرح لا في المتن، ونبّه عليه في هذا المكان، وما ورد منه/ فبإعمال الآخر وإلغاء ما قبله، كقولِ الشاعر: سُئِلْتَ، فلم تَبْخَلْ، ولم تُعْطِ نائلاً ........................................... وقول الآخر: جِئْ، ثُمَّ حالِفْ، وثِقْ بالقومِ، إنَّهُمُ ............................................. ومثله: أَرجُو، وأَخشَى، وأَدعُو اللَّهَ مُبْتَغِيًا ............................................ فهذه الأبيات الثلاثة قد تنازع في كل واحد منها ثلاثة عوامل، أُعمل آخرها، وأُلغي أولها وثانيها، وعلى هذا استقر الاستعمال، ومَن أجاز إعمال غير الثالث فمستنده الرأي؛ إذ لا سماع في ذلك. وقد أشار إلى هذا أبو الحسن بن خروف في شرح كتاب س، واستقرأت الكلام فوجدت الأمر كما أشار إليه" انتهى. وما ذكره من تنازع أكثر من عاملين يجوِّز ثلاثة وأربعة فما زاد، والذي وقفنا عليه من المسموع إنما هو ثلاثة عوامل، وقد أشار الأستاذ أبو علي إلى ذلك، وما ذكره المصنف من أنه استقرأ الكلام فوجد على ما أشار إليه ابن خروف من أنه إذا كانت عوامل ثلاثة أُعمل آخرها، وأُلغي أولها وثانيها، وأنّ مجيز إعمال غير

الثالث مستنده الرأي لا السماع- غير صحيح، واستقراء ابن خروف والمصنف استقراء ناقص، وقد سمع في لسان العرب إعمال الأول، وإلغاء الثاني والثالث من لعامل، وشغله بما يناسب أن يشغله من الضمائر، قال أبو الأسود: كساك، ولم تستكسه، فاشكرن له ... أخ لك، يعطيك الجزيل، وناصر فهذه ثلاثة عوامل، اعمل فيها الأول الذي منع المصنف إعماله، ولذلك أضمر في كل من الثاني والثالث ما يحتاج إليه، فأضمر في تستكسه ضمير المفعول، وعدى اشكرن باللام إلى الضمير، ورفع أخ بكساك، وهو العامل الأول. وأيضاً فمن مذهب المصنف واختياره جواز حذف الضمير إذا لم يكن مرفوعاً ما لم يمنع مانع كما تقدم، فلا يتعين أن يكون العامل في قوله: سئلت، فلم تبخل، ولم تعط نائلاً ... .......................... أن يكون العامل هو الثالث كما زعم المصنف؛ إذ يجوز أن يكون العامل: سئلت نائلاً فلم تبخل به ولم تعطه. وكذلك قوله: أرجو، وأخشى، وأدعو، الله ...... ... ........................ يجوز أن يكون العامل الأول، ويجوز أن يكون الثاني كما جاز ان يكون الثالث، ويكون التقدير: أرجو الله وأخشاه وأدعوه، إذا أعملت الأول، وأرجو وأخشى الله وأدعوه، إذا أعملت الثاني، فإذ ذاك لا يكون حجة للمصنف في تعيين إعمال الثالث /في هذين البيتين. ... [3: 121/أ] وحكى بعض أصحابنا انعقاد الإجماع على جواز إعمال الأول والثاني والثالث قبل أن يُخلق ابن خروف وهذا المصنف؛ فثبت أن من أجاز ذلك ليس

مستنده الرأي ولا عدم السماع، بل مستنده الإجماع والسماع، لكن لا يحفظ سماعاً في إعمال الثاني وإلغاء الأول والثالث، لكن نص على الإجماع على جوازه. وقال بعض أصحابنا: اختار البصريون إعمال الآخر، والكوفيون إعمال الأول، وسكتوا عن إعمال الأوسط واحداً كان أو أكثر. وهذا النقل معارض بالإجماع على أنه يجوز إعمال الثاني وإلغاء الأول والثالث. وقوله بما تقدم من ترجيح بالقرب أو السبق، وبإعمال الملغى في الضمير، وغير ذلك مثال ذلك: ضربني وضربت ومر بي زيد، فإن أعملت مر بي أضمرت فاعلاً في ضربني، وأبرزت ضمير المفعول في ضربت، فقلت ضربته. وإن أعملت ضربني أضمرت الفاعل في ومر بي، والمفعول في ضربت، فقلت وضربته. إن أعملت الثاني لكونه أسبق من الثالث نصبت زيداً، وأضمرت في ضربني على مذهب س، وفي مر بي، وحذفت على مذهب الكسائي، ومنعت المسألة على مذهب الفراء، إلا أن تؤخر الضمير عن امفسر، فيلزم أن يؤخر الضميران على ما نقله المصنف عن الفراء؛ إذ إصلاح المسألة هو بتأخير الفاعل عن المفسر، فعلى هذا القياس تقول: ضربني وضربت ومر بي زيداً هو هو، فيكون هو الأول فاعلاً بضربني، والثاني فاعلاً بمر بي، والتثنية والجمع والتأنيث تجري على هذا المجرى. وقوله ولا يمنع التنازع تعد إلى أكثر من واحد قال المصنف في الشرح: ((منع بعض النحويين التنازع في متعد إلى اثنين أو ثلاثة بناء على أن العرب لم تستعمله. وما زعمه غير صحيح؛ فإن س حكى عن العرب: متى رأيت أو قلت زيداً منطلقاً، على إعمال رأيت، ومتى رأيت أو قلت زيد منطلق، على إعمال قلت، اعني بإعمالها حكاية الجملة بها)) انتهى.

وهذا الذي ذكره حجة فيما يتعدى إلى اثنين. ويحتاج إثبات التنازع في العامل الذي يتعدى إلى ثلاثة إلى سماع ذلك عن العرب، لكن المازني وجماعة قاسوه على ما يتعدى إلى اثنين وإلى واحد، فأجازوا فيه التنازع. وذهب الجرمي وجماعة إلى منع التنازع فيما يتعدى إلى ثلاثة، ونقل عنه أنه يمنع ما يتعدى إلى اثنين أيضاً. ولم يسمع عن العرب التنازع في ذوات الثلاثة في نظم ولا /نثر، وباب التنازع خارج عن القياس، فيقتصر فيه على المسموع. ... [3: 121/ب] قيل: إنما منعه لنه تطويل لكثرة المفعولات. وهذا فاسد؛ لن تطويل المسائل بالفرض لا يدل على منعها بالوضع إذا أجري على قياسهم؛ ألا تراه صح في الابتداءات الكثيرة فرضاً، ولم يكن دليلاً على منعه وضعاً لأنه قياس أصولهم، ويس في كتاب س في التنازع في ذوات الثلاثة نص ولا إشارة، فإذا فرعنا على جواز ذلك قلت في إعمال الأول: أعلمني أعلمته إياه إياه زيد عمراً قائماً، وفي إعمال الثاني: أعلمني وأعلمت زيداً عمراً قائماً إياه إياه، هذا على قول من لم يجز الاقتصار على المفعول الأول. ومن أجاز يقول في إعمال الأول: أعلمني وأعلمته زيد عمراً قائماً، وفي إعمال الثاني: أعلمني وأعلمت زيداً عمراً قائماُ. وكذلك إن قدمت أعلمت على أعلمني يجوز فيه التفريع على المذهبين، فتقول في إعمال الأول على رأي من لا يقتصر: أعلمت وأعلمني إياه إياه زيداً عمراً قائماً، وفي إعمال الثاني: أعلمت وأعلمني زيداً عمراً قائماً إياه إياه إياه. وفي إعمال الأول على رأي من يقتصر: أعلمت وأعلمني زيداً عمراً قائماُ، وفي إعمال الثاني: أعلمت وأعلمني زيد عمراً قائماً إياه. وقال أبو زكريا يحيى بن معطٍ في ((شرح الجزلية)): ((وأما في باب أعلمت فإن أعلمت الأول قلت: أعلمت وأنبأتهما إياهما منطلقين الزيدين العمرين

منطلقين، ليس لك إلا ذلك لاستغراق الضمير حالتي الاتصال والانفصال، فلم يبق للثالث إلا إعادته)). ثم قال بعد: ((ألا ترى أنك لو قلت في باب المخالفة أعلمت وأعلمني زيد عمراً شاخصاً وقعت المنازعة في ثلاثة، ويبين ذلك بأن تعمل الأول، فتقول: لأعلمت وأعلمنيه إياه زيداً بكراً شاخصاً، فلم تقع المنازعة في معمول واحد بل في ثلاثة)). قال شيخنا بهاء الدين بن النحاس: ((لا أعلم لم منع أولاً الإتيان به مضمراً، وعلل باستغراق الضمير حالتي الاتصال والانفصال، وإجازة هذا تحتاج إلى فضل تأمل. وبالثلاثة مضمرة مثل ابن الدهان في شرح الإيضاح)). وقوله ولا كون المتنازعين فعلى تعجب، خلافاً لمن منع قال المصنف في الشرح: ((منع بعض النحويين تنازع فعلي تعجب)) انتهى. وهذا ظاهر مذهب س، وهو الذي نختاره، قال س: ((هذا باب ما يعمل عمل الفعل، ولم يجر مجرى الفعل، ولم يتمكن تمكنه، وذلك قولك: ما أحسن عبد الله، زعم الخليل رحمه الله أنه بمنزلة قولك: شيء أحسن عبد الله، ودخله معنى التعجب، هذا تمثيل، ولم يتكلم به. ولا يجوز أن يتقدم عبد الله وتؤخر ما ولا تزيل شيئاً عن موضعه، ولا تقول فيه: ما يحسن، ولا شيئاً [مما] يكون في الأفعال سوى هذا)).

فظاهر/ هذا الكلام أنه لا يتصرف في هذا الفعل بغير هذا التركيب، ولهذا استقرأ النحويون أن مذهب س لا يجوز الفصل بين أحسن ومفعوله بالظرف المجرور والحال، وأنت إذا أعملت فصلت بالمعطوف إن أعملت الأول، وحذفت إن أعلمت الثاني. ... [3: 122/أ] وذهب المبرد إلى جواز التنازع في فعلي اتعجب، قال في ((كتاب المدخل)) ل: ((وتقول ما أحسن وأجمل زيداً، إذا نصبته بأجمل، فإن نصبته بأحسن قلت: ما أحسن وأجمله زيداً؛ لأنك أردت: ما أحسن زيداً وأجمله)). وإلى مذهب المبرد ذهب أبو غانم المظفر بن أحمد في ((كتاب المحلى)) من تأليفه. وقال المصنف في الشرح: ((والصحيح عندي جوازه، لكن بشرط إعمال الثاني؛ لأنك لو أعملت الأولى لفصلت ما لا يجوز فصله)). قال: ((وكذلك أحسن به وأعقل بزيد، بإعمال الثاني، ولا تعمل الأول فتقول: أحسن وأعقل به بزيد؛ للزوم فصل ما لا يجوز فصله)) انتهى. وهذا الذي ذكره ليس من باب الإعمال؛ لأن شرط الإعمال جواز إعمال أيهما شئت في المتنازع الذي يقتضيانه، وهاهنا لا يجوز من جهة اللفظ، وقد ذكرنا قبل أنه لا يكفي في الإعمال تعلق العاملين بالمتنازع فيه من جهة المعنى، بل يضم إلى ذلك أنه لا يمنع مانع لفظي من عمل أيهما شئت، فينزل المانع اللفظي منزلة المانع المعنوي من كون أحد العاملين لا يقتضي المعمول، كقوله: .................... ... كفاني، ولم أطلب، قليل من المال

بل من أورد هذا في الإعمال فلأنه شبيه به بكون العاملين اجتمعا وإن اختف مقتضى كل واحد منهما؛ لأن مطلوب كفاني قليل، ومقتضى ولم أطلب الملك. وإذا تقرر هذا فليس ما ذكره المصنف من باب الإعمال، فإجازة مثل أحسن به وأعقل بزيدٍ ونحوه لا تجوز، وكذلك: ما احسن وأعقل زيداً، فإن ورد سماع بذلك من العرب جاز، ويكون هذا الفصل كلا فصل لامتزاج الجملتين بحرف العطف واتحاد ما يقتضي العاملان، فهذا يكن وجهه إن سمع. قال المصنف: ((ويجوز على أصل مذهب الفراء: أحسن وأعقل بزيد، فتكون الباء متعلقة بأحسن وأعقل معاً، كما يكون عنده فاعل قام وقعد زيد مرفوعاً بالفعلين معاً)) انتهى. وليس ما ذكر على أصل مذهب الفراء؛ لأن مذهب الفراء أن بزيد في قولك أحسن بزيد هو في موضع نصب على أنه مفعول به، وقد نص المصنف على ذلك في باب التعجب، قال فيه: ((وموضعه رفع بالفاعلية، لا نصب بالمفعولية، خلافاً للفراء والزمخشري وابن خروف))، فإذا كان /مذهب الفراء أنه في موضع نصب فكيف يرتفع بالفعلين، فيكون مثل قام وقعد زيد. ... [3: 22/ب] قال المصنف: ((ولا يمتنع على مذهب البصريين أن يقال: أحسن وأعقل بزيد، على أن يكون الأصل: أحسن به وأعقل بزيد، ثم حذفت الباء لدلالة الثانية عليها، ثم اتصل الضمير، واستتر كما استتر في الثاني من قوله {أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ}، فإن الثاني يستدل به على الأول كما يستدل بالأول على الثاني، إلا أن الاستدلال بالأول على الثاني أكثر من العكس)) انتهى.

والاتفاق على أنه لا يكون التنازع في حبذا لعدم الفصل؛ لأنه صار كالمركب مع الإشارة. وأما باب نعم وبئس فإنك لو قلت: نعم في الحضر وبئس في السفر الرجل زيد، على إعمال الثاني- لكنت قد أضمرت في الأول، ولم يفسر، وهو لازم التفسير إذا أضمر، ولو أضمرت لم يكن متنازعاً لأنه استوفى جميع ما له على النحو المطلوب، وكذلك يلزم في الثاني، قاله في البسيط. وفيه: المتنازعان لا بد أن يكون الأول يجوز الفصل بينه وبين معموله بالعامل الثاني؛ فإن لم يجز الفصل أصلاً لم يجز التنازع، كالمضافين، فلا تقول: رأيت غلام وضارباً زيداً، تريد: غلام زيد وضارباً. [والمعمول في التنازع] فاعل ومفعول خاص أو عام، الفاعل لا يتنازعه فعلا متكلم، ولا مخاطب، ولا مختلط منهما، وفعلا الغائب يتنازعان، وما اتصل بهما من المفعولات لا يقع فيهما تنازع، ولا يتنازع فعلا متكلم ومخاطب الفاعل والمفعول المضمر إلا على صورة الغائب عند الفصل، نحو: ما قعد ولا قام إلا أنا، وما أضرب وأكرم إلا إياي، ولا يكون هذا عند الاختلاط بينهما وبين الغائب لاختلاف الفاعل. وأما المفعول به الصريح فتنازعه ثلاثة الأصناف والمختلط منها. وما تنازع منها الفاعل جاز ذلك فيه وفي المفعول معاً، نحو: ضرب وأكرم زيد عمراً، إلا إذا كانا في لفظ واحد؛ لأنه يكون تأكيداً. فإن كان أحدهما متعدياً والآخر لازماً جاز أن يفصل بينهما، نحو: قام وأكرم عمراً زيد، فيجوز رفع زيد بالأول

وبالثاني، فلو قلت قام وأكرم زيد عمراً فقيل: يتعين الثاني لأنه لا يفصل بين الثاني ومعموله بفاعل قام، وقيل: لا يتعين. وقيل: يتعين، فيكن قد فصل بينهما بزيد، وفي معنى ذلك إذا بنيا للمفعول أو أحدهما. والمجرور يتنازعه الثلاثة والمختلط، فإن كان لأحدهما فظاهر، نحو: ضربت ومررت بزيد، وإن كان لكل واحد واختلفا في الحرف فكقولك: انفصلت ومررت بزيد، أو اتفقا في المعنى فكقولك: صلى الله وبارك على محمد، أو اختلفا فيه فلا يجوز؛ /لأن الثاني لا يدل عليه لالتباسه، نحو: قمت وذهبت بزيد، تريد: قمت بسببه وذهبت به، إلا أن يفهم من قوة الكلام، كقولك: أطعمتك ووهبتك لله، ونحوه، فيجوز. [3: 123/أ] وما يتعدى إلى مفعولين مع مثله في مفعوليه معاً وفي أحدهما إما وحده وإما مع الفاعل، وما يتعدى إلى واحد في مفعول واحد أو مع الفاعل، نحو: ضرب وأعطى ثوباً عبد الله عمراً، ولو قدمت الفاعل لتعين اثاني كما تقدم. وباب ظننت يتنازع مع مثلها المفعولين أو أحدهما وحده أو مع الفاعل. وقيل: تتنازع مع اعطى إذا كان مفعولاها شخصين، وقد يقال: إنه يبعد لتباعد المعنيين؛ لأن أحدهما إخبار عن الآخر، وفي أعطى ليس كذلك، نحو: أعطى وطن زيد عمراً بكراً، كما لا يكون أحد المتنازعين خبراً والآخر دعاء، نحو: غفر الله ووهبتك لزيد. وقد يقال: إنه جائز؛ لن كليهما خبر، بخلاف هذا. وإذا جاز فيتنازعان في الجميع، وفي المفعولين وفي أحدهما وحده أو مع الفاعل. وأبعد من ذلك ما يتعدى إلى واحد في الفاعل وأحد المفعولين أو احد المفعولين أو الفاعل.

وأعلمت مع مثلها على مثل ظننت، فيتنازع ثلاث معمولات جمعاً أو تفريقاً، وحدها أو مع ثانٍ، وحكمها مع اعطى وضرب على ما ذكرنا. وكذلك حكم ضرب مع كان، والظاهر بعده لعدم مناسبته. وأما المفعولات العامة والمصدر فلا تتنازع لاختلاف الأفعال فيه إلا في الفعل الواحد المختلف بالفاعل أو المفعول، نحو: ضربت وضرب عبد الله ضرباً، إلا أنه لما لم يكن ضرورياً للأفعال لم يكن فيه دليل على التنازع؛ إذ التنازع لا بد من احتياج كل منهما إلى المعمول، إما ضرورياً كما في الفاعل، وإما لازماً لضعف الاستقلال دونه، كما في المفعول. وما عدا هذه من المعمولات فليس كذلك، كالظرف والحال ونحوهما، وإذا قلت ضربت زيداً وأكرمت عمراً يوم الجمعة فلا دليل على الإضمار في الأول، بل يحسن هذا الكلام وإن كان الأول في يوم آخر، بخلاف: ضربت وأكرمت عمراً. وقد يقرب منها إلى المفعول التمييز؛ لأن عامله يشبه اسم الفاعل، نحو: اشتريت ثلاثين وأعطيت ثلاثين ثوباً؛ لأن اسم العدد أقيم مقام ضاربين، فجاز لهذا المعنى، وخالف أخواته. وقد جوز بعضهم هذا في جميع المفعولات العامة والخاصة، فيجري في الظرف والحال ونحوهما.

مسائل من هذا الباب الأولى: أعطيت وأعطاني أخوك درهمين: مفعولا أعطيت يجوز /الاقتصار على كل واحد منهما، فهل يجوز أن يكون الأول معملاً بالنسبة إلى درهمين، فينصب الدرهمان به، وملغى بالنسبة إلى الفاعل الذي هو أخوك، ويكون الثاني معملاً بالنسبة على الفاعل، وملغى بالنسبة إلى الدرهمين، فتكون قد حذفت المفعول الأول للأول والمفعول الثاني للقاني، اختلف في ذلك: فذهب الكوفيون إلى جواز ذلك؛ لأن هذا الفعل مما يتعدى إلى مفعولين يجوز الاقتصار على أحدهما. وذهب البصريون إلى أنه خطأ؛ لأن السبيل في هذا إذا أعملت الثاني أن تحذف ما كان الأول. المسألة الثانية: كلمت وكلمني أخوك كلمتين: هذه المسألة من مادة المسألة الأولى، فعند البصريين لا يجوز أن تنصب كلمتين إلى بالفعل الثاني، ويجوز عند الكوفيين أن تنصبهما بالفعل الأول إذا كانتا في آخر الكلام. وهذا خطأ عند البصريين؛ لأنك إنما شرطت إعمال الثاني، فكيف تؤكد الأول، وتعمله، ويجب أن تقول: وكلمتهما، فيذهب إعمال الثاني، وتصير كأنك أعملت الأول، ولو أردت إعمال الأول لقلت: كملت وكلمتهما كلمتين أخاك، فإن قلت: كلمت أو كلمني كلمتين أخوك، فجئت بهما متوسطين- فلا اختلاف بين النحويين في أن تنصب كلمتين بالثاني لا غير. وسبب الاتفاق أنك لو نصبت كلمتين بالأول لكنت قد فصلت بين كلمني ومعموله الذي هو أخوك بأجنبي من كلمني وأخوك؛ لأنه معمول لكلمت، وهو لا يجوز. المسألة الثالثة: قول امرئ القيس:

فلو أن ما أسعى لأدنى معيشةٍ ... كفاني، ولم أطلب، قليل من المال اختلفوا فيه: فذهب جمهور البصريين إلى أنه ليس من الإعمال؛ لن شرطه أن يتنازع المعمول العاملان، قالوا: ولم يتنازعا لاختلاف المقتضى، وإنما لم يتنازعاه لأنك لو حذفت الجواب الأول وأقررت مكانه لم أطلب لفسد المعنى؛ إذ كان يكون التقدير: لو سعيت لأدنى معيشة لم أطلب قليلاً من المال، وليس كذلك، بل من سعى لأدنى معيشة طلب قليلاً من المال، وكفاه القليل، فلما كان جعله جوابا يُفسد المعنى لم يصح أن يكون من باب الإعمال. قال س: ((لو نصب لفسد المعنى)). وقال البصريون: المعنى: كفاني قليل من المال ولم أطلب الملك؛ لأنه ينتظم لو سعيت لأدنى معيشة لم أطلب الملك. ويوضح ان المراد هو هذا المعنى قوله بعد: ولكنما أسعى لمجد مؤثلٍ ... وقد يدرك المجد المؤثل أمثالي وقدره الكوفيون: ولم أطلب الكثير. وهو تقدير صحيح أيضاً، ولكن تقدير البصريين أمكن في المدح. فإن قلت: كيف جاء به أبو علي الفارسي على الإعمال؟ قلت: إنما أراد أنه يشبه الإعمال بتداخل الجملتين بالعطف، ونظير ذلك إنشاده لكثير:

وإني- وإن صدت- لمثن، وقائل، ... عليها بما كانت إلينا أزلت فما أنا بالداعي لعزة بالردى ... ولا شامتٍ إن نعل عزة زلت على أنه شبيه الإعمال؛ لأنه لما عطف فصل بين مثنٍ ومعموله، وفصل أيضاً بين قائل ومعموله بمعمول مثنٍ، ففعل الفارسي في البيت ما فعل هنا، وليس قوله ((ولم أطلب)) اجنبياً من الكلام، ولهذا فصل به، وإنما هو تسديد؛ لأن المعنى: ولم أطلب الملك. ولم يجيء به س على الإعمال، بل جاء به على أنه من غير الإعمال؛ ألا ترى إلى قوله: ((فإنما رفع لأنه لم يجعل القليل مطلوباً، وإنما المطلوب عنده الملك))، فالطلب لا يتوجه على القليل مطلوباً؛ ألا تراه يقول: ((ولو لم يرد ذلك ونصب لفسد)). ونظير هذا البيت قول الشاعر: عدينا بالتواصل منك إنا ... نحب- ولو مطلت- الواعدينا لأن مطلت لا يطلب الواعدينا، إنما يطلبه محب، وإنما أراد: نحب الواعدينا ولو مطلتنا، فلم يتوجه الثاني لما توجه الأول. ومثله ما قال أبو علي في ((التذكرة)) في قوله تعالى: {هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ}: إن الباء متعلقة بامْنُنْ؛ لأن المعنى: أعط من سعة، كقوله: {إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ}، أي: يعطي من سعة، ولا يقلق به الإمساك.

وذهب الأستاذ أبو ذر مصعب بن أبي بكر الخشني، والأستاذ أبو إسحاق بن ملكون في أحد قوليه، والأستاذ أبو علي فيما حكاه عنه أبو الفضل الصفار- إلى أنه من الإعمال، قالوا: لا يكون ولم أطلب جواباً للو معطوفاً على كفاني، بل يكون على استئناف الجملة، أي: وأنا لم أطلب قليلاً من المال، وتكون هذه الجملة مستأنفه كما ذكرنا معطوفة على الجملة المنعقدة من لو وجوابها. ورد الأستاذ أبو الحسن بن عصفور هذا القول ((بأن العاملين في هذا الباب لا بد أن يشتركا، وأدنى ذلك أن يكون بحرف العطف؛ حتى لا يكون افصل معتبراً، /أو يكون الفعل الثاني معمولاً للأول، وذلك قولك: جاءني يضحك زيد، فتجعل في جاءني ضميراً، أو في يضحك، حتى لا يكون هذا الفعل فاصلاً، فتكون الجملتان قد اشتركتا أدنى اشتراك، فيسهل الفصل، وأما إذا جعلت ولم أطلب معطوفاً على فلو أن ما أسعى فإنك تفصل بجملة أجنبية، ليست محمولة على الفعل الأول، فتكون إذ ذك بمنزلة: أكرمت وأهنت زيداً، والعرب لا تتكلم بهذا أصلاً)) انتهى. ... [3: 124/ب] وهذا الذي ذكره ابن عصفور من انحصار التشريك بين جملتي التنازع في العطف، وان يكون الفعل معمولاً للأول، وأنه لا يقع الإعمال إلا على هذين الوجهين- ليس كما ذكر، وقد تتبعت موارد التنازع، فوجدته لا ينحصر فيما ذكر؛ ألا ترى أنهم جعلوا من التنازع قوله: لو كان حيا قبلهن ظعائنا ... حيا الحطيم وجوههن وزمزم فتنازع حيا الأول وهو خبر كان، وحيا الثاني وهو جواب لو، ولا اشترك بينهما بحرف عطف، ولا حيا الثاني معمولاً لحيا الأول. وقول الآخر:

بعكاظ يعشي الناظريـ ... ـــــــــــــــــــــــن إذا هم لمحوا شعاعه تنازع يعشي ولمحوا، وليس ثم حرف عطف، ولا عمل للفعل الأول في الثاني. وقول الآخر: ولم أمدح لأرضيه بشعري ... لئيماً أن يكون أفاد مالا تنازع أمدح ولأرضيه. وقول الآخر: علموني كيف أبـ ... ــــــــــــــــــــــــــــــكيهم إذا خف القطين تنازع أبكي وخف. وقول الآخر: ألا هل أتاها على نأيها ... بما فضحت قومها غامد تنازع أتى وفضحت. وقول الآخر: أتاني، فلم أسرر به حين جاءني ... كتاب بأعلى القنتين عجيب تنازع أتاني وفلم أسرر وجاءني. وقوله تعالى: {وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَمَا ظَنَنتُمْ أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَدًا}، تنازع ظنوا ظننتم. وكذلك ما اجازه ابن ابي الربيع من الإعمال في قام قام زيد. وكل هذه لا تشريك بينهما بحرف عطف، ولا أول العاملين عامل في الثاني. ... [3: 125/أ] وذهبت بعض البصريين إلى أن البيت من الإعمال على تقدير أن يكون ((ولم أطلب)) معطوفاً على ((كفاني))، وأنه يصح أن /يكون جواباً للو لو أفرد دون كفاني، ويكون التقدير: لو سعيت لأدنى معيشة لم أطلب قليلاً من المال؛ لأن قليل

المال يمكنني دون طلب وكد لحصول القليل عندي، فلا أحتاج إلى تطلبه؛ لأن امرأ القيس كان ابن ملك، فلم يكن سبروتا البتة، بل كان عنده من ذخائر الملوك أبائه ما يغنيه عن طلب القليل، فالمعنى: لو كان غاية سعيي لقليل من المال لم أتعن لطلبه لكونه حاصلاً عندي. وهذا معنى حين سائغ يصح معه الإعمال. وعلى هذا المعنى يكون أيضاً الإعمال جائزاً على وجه آخر، وهو ألا يكون ((ولم أطلب)) معطوفاً على ((كفاني))، بل تكون الواو واو الحال، ويكون التقدير: لو كان غاية سعيي لأدنى معيشة كفاني قليل من المال غير طالب له لحصوله عندي. المسألة الرابعة: تقول: متى رأيت أو قلت زيداً منطلقاً، على إعمال الأول، تنصب الجزأين، وتحذف من الثاني، ولا تضمر فيه. وإن أعملت الأول رفعت الجزأين على الحكاية بقلت، وحذفت مفعولي رأيت، هذا مذهب س. وزعم أبو العباس أنك تقول على إعمال الأول: متى رأت أو قلت هو هو زيداً قائماُ، قال: وذلك أنك إذا أعملت الأول أضمرت في الثاني جميع ما يحتاج إليه. وما ذهب إليه س معتضد بالسماع والقياس: أما السماع فإنه قال في كتابه ما نصه: ((وقد يجوز ضربت وضربني زيداً؛ لأن بعضهم قد يقول: متى رأيت أو قلت زيداً منطلقاً. والوجه: متى رأيت أو قلت

زيد منطلق)). فهذا نص من السماع عن العرب أنها إذا أعملت الأول لم تضمر معمول القول المحكي. وأما القياس فإن الجملة إذا حكيت بالقول فالمعمول في الحقيقة إنما هو مضمون الجملة لا آحاد أجزائها؛ وإذا كان المعمول مضمون الجملة كان المعمول واحداً، فلا يمكن أن يضمر واحد؛ لأن واحداً لا يقم مقام اثنين، ولا يمكن إضمار الجملة لأن آحادها ليس هو المعمول، فلم يكن بد من الحذف. المسألة الخامسة: إذا قلت: ضربت وضربني زيد، فأعلمت الثاني- حذفت من الأول لأنه فضله يجوز حذفها، وكان الأصل: ضربت زيداً وضربني زيد، فيكرر بلفظه، إلا أن الأول هو كلام العرب الشائع، أعني أن تكون المسألة من الإعمال، ولا يجوز الأصل إلا على قلة وقبح، نحو قوله: يمنعها شيخ بخديه الشيب ... لا يحذر الريب إذا خيف الريب /وأجاز بعض النحويين تأخير المفعول بعد المرفوع، وذلك على إعمال الفعلين في الاسمين الظاهرين، فتقول: ضربت وضربني قومك قومك، تريد: ضربت قومك وضربني قومك، والشائع في لسان العرب حذف مفعول الأول، ولا يؤتى به ظاهراً. المسألة السادسة: ضربت وضربوني قومك: أجاز س رفع قومك على وجهين: أحدهما: على أنه الفاعل، والواو علامة جمع، على لغة: أكلوني البراغيث، لا ضمير.

والثاني: على أنه بدل من المضمر، قال: ((كأنه قال: ضربت وضربني ناس بنو فلان))، فيكون الضمير يفسره البدل. واستقبح هذا الوجه الفارسي، وذلك أنه إنما اجزنا الإضمار قبل الذكر في هذا الباب لضرورة إعمال الثاني، أما هذا فلا ضرورة تدعو إلى ذلك، فغما أن يكون س قال بمذهب الأخفش من تفسير الضمير بالبدل- والصحيح لا يجوز- وإما أن يكون أجاز البدل في هذا الباب خاصة لأنه عهد فيه الإضمار قبل الذكر وإن كان لا يجيزه في: يقومان الزيدان، وإما لأن المضمر يعود على المحذوف الذي قبله؛ لأنك حذفت قومك من الأول، وعاد عليه الضمير، وهذا يصير إلى أن هذا المضمر يفسره ما بعده؛ لأنه عائد على ما يفسره ما بعده. وقال س: ((وعلى هذا الحد تقول: ضربت وضربني عبد الله، تضمر في ضربني كما أضمرت في ضربوني))، أي: تجعل عبد الله بدلاً من الضمير المستكن في ضربني، ويفسره البدل. وهذا الذي ذكره لا يخلو أن يكون فيه تهيئة وقطع، وذلك مما يفر النحويون منه؛ لأن ضربني مهيأ أن يعمل في عبد الله، وهو قد قطع عنه. وأجاز س أيضاً: ضربوني وضربتهم قومك، بنصب قومك على البدل من ضمير النصب في ضربتهم، فيكون البدل قد فسر ضميرين، أحدهما مرفوع، والآخر منصوب، وهذا غريب جداً أن يفسر واحد ضميرين متقدمين عليه في الذكر، ولا يوجد ذلك في الضمائر التي يفسرها ما بعدها. وهذه المسائل وشبهها ينبغي التوقف في إجازتها حتى تسمع من العرب.

المسألة السابعة: تكلم س على الوجه الجائزة في المسألتين اللتين يدور عليهما الباب، وهما: ضربت وضربني، وضربني وضربت: فأما المسألة الأولى فأجاز فيها خمسة أوجه: فعلى إعمال الثاني الرفع من ثلاثة اوجه: أحدها على الفاعل بضربني، وهو الظاهر. والثاني على البدل من الضمير المستكين في ضربني، والجمع والتثنية على هذين الوجهين. والثالث على أن الواو والألف والنون علامة، والفاعل الاسم بعدها. وعلى /إعمال الأول وجهان: أحدهما مطابقة الضمير في ضربني للمنصوب بعده. والثاني ألا يطابق في الجمع. وأما المسألة الثانية فعلى إعمال الثاني وجهان: أحدهما: أن يضمر في ضربني ما يطابق المفسر، وينصب ما بعد ضربت به. والثاني: أن يُسلط ضربت على ضمير مطابق للمفسر مع نصب المفسر مع مطابقة الضمير في ضربني. وعلى إعمال الأول الرفع من ثلاثة اوجه: أحدها: ان تضمر في ضربت مطابقاً للمفسر، وترفع ما بعد ذلك الضمير بضربني. الثاني: أن تحذف ذلك الضمير المنصوب من الوجه الذي قبله. والثالث: أن تضمر في ضربني مطابقاً للمفسر، والظاهر المرفوع المفسر بدل من ذلك الضمير، أو فاعل، والألف والواو والنون علامات للتثنية والجمع.

وهذا تمثيل الصور: ضربت وضربني زيد، الرفع من وجهين، ضربت وضرباني الزيدان، الرفع من وجهين، وكذلك الجمع. وضربت وضربني زيداً، تضمر في ضربني مطابقاً للمفسر، أو مفرداً على كل حال. ضربني وضربت زيداً، وتضمر في ضربني وفق المفسر. ضربني وضربته زيداً، تطابق بين ضمير ضربني وضمير ضربته وبين المفسر. وضربني وضربته زيد. وضربني وضربت زيد. ضربني وضربته زيد. ضرباني وضربتهما الزيدان، فالرفع من وجهين في التثنية والجمع.

باب الواقع مفعولا مطلقا من مصدر وما جرى مجراه

-[ص: باب الواقع مفعولاً مطلقاً من مصدر وما جرى مجراه المصدر اسم دال بالأصالة على معنى قائم بفاعل، أو صادر عنه حقيقة أو مجازاً، أواقع على مفعول. وقد يسمى فعلاً وحدثاً وحدثانا. وهو أصل الفعل لا فرعه، خلافاً للكوفيين. وكذا الصفة، خلافاً لبعض أصحابنا.]- ش: إنما سمي مفعولاً مطلقاً لأنه لم يقيد بشيء؛ ألا ترى أن المفعول به والمفعول فيه والمفعول من أجله والمفعول معه كل واحد منها مقيد؛ بخلاف المصدر، وهو المفعول حقيقة لأنه هو الذي يحدثه الفاعل؛ لأن المفعول به هو محل للفعل خاصة، والزمان وقت يقع فيه الفعل، والمكان محل للفاعل والمفعول، ويستلزم أن يكون محلاً للفعل، والمفعول من أجله علة لوجود الفعل، والمفعول معه مصاحب للفاعل أو المفعول. وكون المفعول على هذه الأضرب من مفعول مطلق ومفعول به ومفعول فيه ومفعول معه ومفعول له هو مذهب البصريين. وأما الكوفيون فزعموا ان الفعل إنما له مفعول واحد، وهو المفعول به، وباقيها عندهم ليس شيء منها مفعولاً، /إنما هو مشبه بالمفعول، وزعموا أنه يأتي بعد الفعل لأنه يؤكده، أو يدل على قلة الفعل أو كثرته ونقصانه وزيادته، ولذلك لا يكنى عن المصدر، وهو آلة للفعل لتبين المعاني المذكورة؛ لأنه لا يعطي تلك المعاني إلا وهو ظاهر غير مستور لا مكني عنه. والصحيح أنه يكنى عنه، ويراد به التأكيد، قال الشاعر: من كل ما نال الفتى ... قد نلته إلا التحيه وقال آخر:

هذا سراقة للقرآن، يدرسه ... والمرء عند الرشا إن يلقها ذيب أي: قد نلت النيل، ويدرس الدرس، فأضمر المصدر، ولو صرح به لكان تأكيداً. وتسمية ما انتصب مصدراً مفعولاً مطلقاً هو قول النحويين فيما أعلم؛ إلا ما ذكره صاحب ((البسيط)) من تقسيمه المصدر المنتصب إلى مفعول مطلق، وإلى مؤكد، إلى متسع فيه. والمفعول المطلق عنده ما كان من الأفعال العامة، نحو فعلت وصنعت وعملت وأوقعت، فإذا قلت فعلت فعلاً فالواقع ذات الفعل؛ لأن الذوات الواقعه هنا هي هذا، ولا تقع هنا الجواهر والأعراض الخارجة عنا، فلا تكون مطلقة في حقنا، بل في حق الله تعالى، كقولك: خلق الله زيداً، فإنه مفعول مطلق، فلذلك كان المفعول المطلق أعم من المصدر المطلق. وحد المصدر المنتصب على الإطلاق بأنه المصدر، وما في تأويله، الواقع بعد فعل بمعناه، أو ما عمل عمله، بياناً للمعنى الصادر من الفاعل على جهة أنه فعله الفاعل. قال: وخصصنا هذا بقولنا ((على جهة أنه فعله)) احترازاً من المؤكد والممتنع، فإنه يصدق عليهما البيان. قيل: ويلزم أن يكون هذا المنصوب على الإطلاق غير حقيقي، يعني في المصدرية؛ لأنه ذهب به ذهاب الإنشاء؛ ألا تراه يصح جمعه وتثنيته، فهو إذا للواحد. وقيل: لا يلزم ذلك إلا بحسب القصد. وهذا النوع إن كان بعد فعل ليس من لفظه نحو فعلت ضرباً فبين أنه مفعول به، أو من لفظه نحو ضربت ضرباً، فقيل: أول في الفعل معنى عام، وهو فعلت، فكأنك قلت: فعلت ضرباً. وقيل: لا يؤول إما بأن تقدر فعلاً عاماً بعده، وإما بألا تقدر، بل تجعله بياناً، وذلك اشترط بعضهم في انتصابه بعد فعل من لفظه أن يكون مقيداً لتقع به الفائدة لفظاً، كقوله: {وَتَاكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلًا لَمًّا}، فوصفه،

{فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ}، فحدده، {فَقَبَضْتُ قَبْضَةً}. أو معنى، نحو: ضربت ضرباً، تريد نوعاً منه، كقوله: {إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا}، أي: ظناً ضعيفاً. وإن لم يكن مقيداً ينبغي أن يكون على التأكيد. والعامل في هذا النوع مما لا يتعدى قيل: العامل الأول بما فيه من العموم؛ لأن كل فعل ففيه معنى فعلت، وإذا كانوا يشيبون الأفعال معنى أفعال خارجة، فتعمل عملها، كقوله: سمعت إلى حديثه، أي: أصغيت إليه، فأجري فيما هو معناه العام. وأما من يقول إنه محذوف العامل، أي: ضربت ففعلت ضرباً- فلا يكون لوجهين: أحدهما: أنه لا يكون له نسبة الإطلاق إلى ذلك الفعل. والثاني: أنه منصوب بما لا يظهر ولا نائب عنه. وإذا قصد بالفعل الإطلاق فقيل: يجب أن يغير الفعل المتعدي إلى القصور؛ لأنه يلزم أن يكون بمعنى فعل، وهو لا يتعدى إلا إلى نفس الفعل، فتحذف المفعول به، فتقول: ضربت ضرباً، بمعنى: فعلت ضرباً، وهذا لا يعمل في المفعول به الأول، وهذا على رأي من يتأول افعل عاماً، ومن لا يتأول لا يلزمه القصور، كما لا يكن في الظرف. وقوله وما يجري مجراه يعني كاسم المصدر، نحو العطاء في معنى الإعطاء، وكبعض الصفات، وبعض الأعيان، نحو: عائذاً بك، وترباً، وجندلاً، ويأتي الكلام في ذلك إن شاء الله.

وقوله اسم دال بالأصالة على معنى قائم بفاعل مثاله: حسن حسناً، وفهم فهما. واحترز بقوله ((دال بالأصالة)) من اسم يساوي المصدر في الدلالة، ويخالفه بعملية، كجماد وحماد، أو بتجرده دون عوض من زيادة في فعله، كاغتسل غسلاً، وتوضأ وضوءاً. فهذه وأمثالها إذا عبر عنها بمصادر فإنما ذلك مجاز، والحقيقة أن يعبر عنها بأسماء المصادر. وقوله أو صادرٍ عن فاعلٍ حقيقة مثاله خط خطاً، وخاط خياطة. وقوله أو مجازاً مثاله: مات موتاً. وقوله أو واقعٍ على مفعول مثاله: ضرب زيد ضرباً. والمراد هنا بالفاعل والمفعول المصطلح عليه بذلك في النحو. وقوله وقد يسمى فعلاً وحدثاً وحدثاناً اما تسميته فعلاً فذلك باعتبار اللغة؛ لأن المصادر أفعال صدرت من فاعليها إما حقيقة وإما مجازاً، أو باعتبار تسميته بما هو جزء مدلول، وهو الفعل الصناعي. وأما تسميته حدثاً وحدثاناً فباعتبار اللغة وباعتبار اصطلاح س على تسميته بذلك، قال س: ((وأما الفعل فأمثلة أخذت من لفظ أحداث الأسماء))، يعني المصادر، وهو جمع حدث. وقال أيضاً س: ((واعلم أن الفعل الذي لا يتعدى الفاعل يتعدى إلى اسم الحدثان الذي /أخذ منه؛ لأنه إنما يُذكر ليدل على الحدث)). وقوله وهو أصل للفعل لا فرعه، خلافاً للكوفيين قال المصنف في الشرح: ((واتفق البصريون والكوفيون على أن الفعل والمصدر مشتق أحدهما من الآخر)) انتهى. ويعني اتفاق الأكثرين، وإلا فالمذاهب في الاشتقاق ثلاثة:

أحدها: مذهب الجمهور من الكوفيين والبصريين على أن الكلمات منها ما هو مشتق، ومنها ما ليس بمشتق. والثاني: أن كل لفظ مشتق، وعزله جماعة إلى الزجاج، وبعضهم إلى س. والثالث: أن كل لفظ ليس مشتقاً من شيء، بل كل أصل، لم يوجد شيء منه من شيء. وأما مسألتنا ففيها ثلاثة مذاهب: أحدها: مذهب جمهور البصريين أن المصدر أصل والفعل فرع عنه. والثاني: مذهب الكوفيين، وهو العكس. والثالث: مذهب ابن طلحة، وهو أنه ليس أحدهما مشتقاً من الآخر، بل كل واحد أصل بنفسه. وهذا الخلاف لا يجدي كبير منفعة؛ إذ ليس خلافاً راجعاً إلى نطق، ولا إلى اختلاف معنى نسبي. وذكر المصنف الاستدلال لمذهب البصريين من وجوه: أحدها: أن المصدر يكثر كونه واحداً، والأفعال ثلاثة، ولو اشتق المصدر من الفعل فإما من الثلاثة، وهو محال، أو من واحد منها، ويستلزم ترجيحاً دون مرجح. انتهى ملخصاً. وهو معارض بأنا قد وجدنا الفعل له مصادر كثيرة، كمصادر شت وقدر، فإنها تزيد على عشرة مصادر، فإما أن يشتق الفعل من أحدها، وهو ترجيح من غير مرجح، وإما من جميعها، وهو محال.

قال: ((الثاني: أن المصدر معناه مفرد، ومعنى الفعل مركب من حدث وزمان، والمفرد سابق للمركب، فالدال عليه أولى بالأصالة من الدال على المركب)) انتهى. ولقائل أن يمنع دعوى تركيب الفعل؛ لأن المفرد الموضوع للدلالة على خصوصية شيء لا يسمى مركباً. قال: ((الثالث: أن مفهوم المصدر عام، ومفهوم الفعل خاص، والدال على عام أولى بالأصالة من الدال على خاص)) انتهى. ومثل هاتين الدلالتين لا يسمى عاماً وخاصاً، إنما يسمى إطلاقاً وتقييداً. قال: ((الرابع: أن كل ما سوى الفعل والمصدر من شيئين أحدهما أصل والآخر فرع فإن في الفرع منهما معنى الأصل وزيادة، كالتثنية والجمع بالنسبة إلى الواحد، والعدد المعدول بالنسبة إلى المعدول عنه والفعل فيه معنى المصدر وزيادة تعيين الزمان، فكان فرعاً، والمصدر أصل. الخامس: أن من المصادر ما لا فعل له لفظاً ولا تقديراً، وذلك ويح وويل وويس /وويب، فلو كان الفعل أصلاً لكانت هذه المصادر فروعاً لا أصول لها، وذلك محال. وإنما قلنا إن هذه المصادر لا أفعال لها تقديراً لأنها لو صيغ من بعضها فعل لاستحق فاؤه في المضارع من الحذف ما استحق فاء يعد، ولأستحق عينه من السكون ما استحق عين يبيع، فيتوالى إعلال الفاء والعين، وذلك مرفوض في كلامهم، فوجب إهمال ما يؤدي إليه)) انتهى. وما ذكره من الملازمة في قوله ((وإنما قلنا إن هذه المصادر لا أفعال لها تقديراً إلى آخره)) لا يلزم؛ لأن التقدير لا جود لاه، فيقول لها أفعال في التقدير، ولا يلزم ما ذكر؛ لأنها لم يلفظ بها، إنما كان يلزم ما ذكره لو كانت أفعالاً موضوعة، أما من حيث التقدير فلا يلزم، فكم أص أهمل وفرع استعمل. قال: ((وليس في

الأفعال ما لا مصدر له مستعمل إلا وتقديره ممكن، كتبارك، وفعل التعجب؛ إذ لا مانع في اللفظ، ويقابل تلك الأفعال مصادر كثيرة، تزيد على الأفعال، كالأبوة والنبوة والخؤولة والعمومة والعبودية واللصوصية، وقعدك الله، وبله زيد وبهله، فبطلت المعارضة بتبارك ونحوه، وخلص الاستدلال بويح وأخواته)) انتهى كلامه. وقال الأستاذ أبو الحسن بن عصفور: ((استدل أهل البصرة بأن الفعل خاص الزمان والمصدر مبهم الزمان، والمبهم قبل الخاص، فالمصدر قبل الفعل، والبعدي مأخوذ من القبلي، والفعل مأخوذ من المصدر. وبأن المصدر منتشر الأبنية كثيرها، فلو كان مشتقاً من الفعل لكان يجري على أوزان محصورة لا يتعداها، كاسم الفاعل واسم المفعول المبنيين من الفعل، فلما كثرت أبنية وانتشرت دل ذلك على أنه أصل، وأن الفعل هو الذي اشتق منه. وبان المصدر من جنس الأسماء والأسماء قبل الأفعال، فالمصدر قبل الفعل، والبعدي مأخوذ من القبلي. والصحيح أن هذه الأدلة الثلاثة غير كافية في إثبات أن الفعل مشتق من المصدر؛ إذ لا تثبت أكثر من أن المصدر قبل الفعل، وأنه أصل بنفسه، وإذا كان أصلاً في نفسه أو كان قبل الفعل لم يلزم أن يكون الفعل مشتقاً منه؛ ألا ترى أن الحرف بعد الاسم، وليس مأخوذاً منه)) انتهى. ولا نقول إن الحرف بعد الاسم؛ لأن الواضع وضع الحرف كما وضع الاسم، فلا نقول إنه وضع الأسماء، ثم بعد ذلك وضع الحروف، ولا يلزم من كون الحرف تتوقف مفهوميته على متعلق أن يكون وضع بعد الاسم. ... [3: 128/ ب] ثم قال الأستاذ أبو الحسن: ((لكن الدليل القاطع أن يقال: استقريت المشتقات، /فوجدت تدل على ما اشتقت منه وزيادة، وتلك الزيادة معنى فائدة

الاشتقاق، نحو أحمر مشتق من الحمرة، ويزيد على ذلك بالشخص، وكذلك ضارب ومضروب يدلان على الضرب مع زيادة الشخص، والأفعال تدل على المصدر مع زيادة الزمان، فدل على أنها مشتقة منه)) انتهى. واستدل الكوفيون بأن الفعل عامل في المصدر؛ لأنه به انتصب، والعامل قبل المعمول، والبعدي مأخوذ من القبلي. وبأن المصدر مؤكد للفعل، والفعل مؤكد، والمؤكد قبل المؤكد. وبان المصدر يعتل باعتلال الفعل، ويصح بصحته، نحو قيام، اعتل، فقبلت واوه ياء، كما اعتل قام، وصح اجتوار لصحة اجتور، والفروع أبداً هي المحمولة على الأصول. وبأنه وجدت أفعال لا مصادر لها، فلو كان الفعل مشتقاً من المصدر لوجب ألا يوجد فعل إلا وله مصدر. ورد الأول بأن العامل إنما هو قبل عمله لا قبل معموله، وعمله إنما هو النصب، وإذا كان الفعل قبل النصب الذي في المصدر لم يلزم أن يكون قبل المصدر. وأيضاً فالعمل إنما حصل في المصدر بعد التركيب، ونحن إنما ندعي ان الفعل مأخوذ من المصدر قبل التركيب. وقال المصنف في الشرح: ((الحرف يعمل في الاسم والفعل، ولا حظ له في الأصالة)). ورد الثاني بان التأكيد إنما طرأ بعد التركيب، وهذه الأفعال إنما اشتقت من المصدر قبل ذلك. وأيضاً فالمصادر لا يلزمها أن تكن مؤكدة، إنما يكون ذلك فيها إذا انتصبت بعد أفعالها. وقال المصنف في الشرح: ((الشيء قد يؤكد بنفسه، نحو: زيد زيد قام، فلو دل التوكيد على فرعية المؤكد لزم كون الشيء فرع نفسه، وذلك محال)). ورد الثالث بأن الأصل قد يُحمل على الفرع فيما هو أصل في الفرع وفرع في الأصل؛ ألا ترى أن الأسماء تحمل على الحروف، فتبنى وإن كانت الأسماء قبلها؛

لأن البناء أصل في الحروف، فكذلك المصادر حُملت على الأفعال وإن كان المصدر قبلها؛ لأن الاعتلال أصل في الفعل. انتهى. ويمنع أن الأسماء قبل الحروف، وأن الاعتلال أصل في الفعل؛ إذ لا دليل على ذلك. وقال المصنف في الشرح: ((قد يُحمل أحدهما على الآخر وليس أحدهما أصلاً للآخر، كيرضيان، حُمل على رضيا، وأعطيا على يعطيان، حُمل ذو الفتحة على ذي الكسرة ليجريا على سنن واحد)). ورد الرابع بأن العرب قد ترفض الأصول، وتستعمل الفروع، نحو: كاد زيد يقوم، فيقوم في موضع قائم، ولا يستعمل قائم إلا ضرورة. ومثل ذلك/ كثير. ويعارضون أيضاً بوجود مصادر لا أفعال لها. ... [3: 129/أ] وقال السهيلي: ((في إجماع الكوفيين والبصريين على تسمية الحدث مصدراً دليل على أن الفعل صدر عنه، وهو فرع له، ولو كان الفعل الأصل لكان أولى أن يسمى مصدراً. فإن قيل: المصدر هو الصادر، وقيل مصدر كما يقال للزائر رزو، ورجل صوم وعدل، أي: صائم وعادل، والحدث صادر عن الفاعل، فسمي المصدر من قولك صدر صدوراً ومصدراً. قلنا: زيادة الميم تمنع من هذا القياس؛ ألا ترى أنك تقول رجل زور، ولا تقول: رجل مزار، وما أنت إلا سير، ولا تقول مسير. وقول النحاة: المصدر يكون بالميم، كقولك قتلت مقتلاً، وذهبت مذهباً- تسامح؛ لأن الميم دخلت لمعنى زائد على معنى الحدث، ولذلك تقول: ضربه وقتله، ولا تقول مضربة ولا مقتلة إلا في المكان، ولو كان المقتل بمعنى القتل على الإطلاق لم يمتنع هذا، ولم يمتنع رجل مزار،

وقد بينا سر الميم وما دخلت له، فمصدر ليس بمعنى صادر بوجه، ولا يعطيه سماع ولا قياس)) انتهى كلامه. واستدل لابن طلحة بوجود مصادر لا أفعال لها، وبوجود أفعال لا مصادر لها، فلو كان أحدهما أصلاً للآخر لتوقف وجود الفرع على وجود الأصل، وقد وجد أحدهما دون الآخر، فبطل بذلك قول البصريين والكوفيين. وقوله وكذا الصفة، خلافاً لبعض أصحابنا قال المصنف في الشرح: ((بعض ما استدللنا على فرعية الفعل بالنسبة إلى المصدر نستدل على فرعية الصفة بالنسبة إليه؛ لأن كل صفة تضمنت حروف الفعل فيها ما في المصدر من الدلالة على الحدث، وتزيد بالدلالة على ما هل له، كما زاد الفعل بالدلالة على الزمن المعين، فيجب كون الصفة مشتقة من المصدر لا من الفعل؛ إذ ليس فيها ما في الفعل من الدلالة على زمن معين، فبطل اشتقاقها من الفعل، وتعين اشتقاقها من المصدر)). -[ص: وينصب بمثله، أو فرعه، أو بقائم مقام أحدهما. فإن ساوى معناه معنى عامله فهو لمجرد التوكيد، ويسمى مبهماً، ولا يثنى ولا يجمع. وإن زاد عليه فهو لبيان النوع أو العدد، ويسمى مختصاً ومؤقتاً، ويثنى ويجمع. ويقوم مقام المؤكد مصدر مرادف واسم مصدر غير علم، ومقام المبين نوع أو وصف أو هيئة أو آلة أو كل أو بعض أو ضمير أو اسم إشارة أو وقت أو ما الاستفهامية أو الشرطية.]- ش: نصبه بمصدر مثله قوله تعالى {فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جَزَاءً مَوْفُورًا}، وعجبت من ضرب /زيد عمراً ضرباً، فهذا المصدر العامل يعمل في المصدر مؤكداً كان أو غير مؤكد. ... [3: 129/ب]

وفي البسيط: ((الظاهر أنه يعمل في المطلق والمتوسع فيه المفعول؛ لأنه بتقدير الفعل الأعم، فإذا قلت عجبت من ضرب زيد عمراً ضرباً فمعناه: من فعل زيد بعمرو ضرباً، وأما التأكيد فلا يكون لوجهين: أحدهما أنه إن عمل فيه عمل المؤكد في المؤكد، وإن لم يعمل فيه فإما مصدر أو فعل، فالأول يتسلسل، والثاني يؤدي إلى تأكيد المصدر بالفعل)) انتهى. ونصبه بفرع المصدر فباسم الفاعل، قوله تعالى: {وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا}، وقول ميمون الأعشى: فأصبحت لا أقرب الغانيا ... ت مزدجراً عن هواها ازدجارا وباسم المفعول: أنت مطلوب طلباً. وبالفعل {وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا}. وبالقائم مقام المصدر: عجبت من إيمانك تصديقاً، ومقام فرعه: أنا مؤمن تصديقاً، هذا شرح المصنف لكلامه إلا التمثيل القرآني. ونقول: والعامل في المصدر إما أن يكون من لفظه أو من غير لفظه: إن كان من لفظه فإما أن يكون جارياً أو غير جارٍ، فإن كان جارياً انتصب به، لا خلاف في ذلك، سواء أكان مبهماً أو مختصاً، هكذا قال بعضهم. وفي البسيط أنه إذا كان توكيداً وهو من لفظ الفعل فقيل: العامل فيه فعل لا يظهر وهو المؤكد، والمصدر معمول له على غير التوكيد لئلا يتسلسل، ثم حذف، ووضع موضعه، وهو رأس س؛ لأنه قال: ((ومما يجيء توكيداً وينصب قولك: سير عليه سيراً)).

ثم قال: ((وينصب على وجهين: أحدهما أنه حال))، يريد مؤكدة، ولم يذكر فيها إضمار فعل. ثم قال ((وإن شئت نصبت على إضمار فعل، كأنه قال: يسيرون سيراً))، فيظهر أن المؤكد غير الحال، وأن نصبه بإضمار فعل. وقيل: إنما كان العامل فعلاً مقدراً لأن المؤكد لا يعمل في المؤكد؛ لأن التابع لا يعمل فيه المتبوع. قال: ((ولا يبعد عندي أن يكون مصدراً مؤكداً للفعل كما تؤكد الحال، ويكون العامل فيه الفعل نفسه، ولا يلزم ما ذكروه من عمل المؤكد في المؤكد، كما لا يلزم في الحال المؤكدة على ما ذكره س)) انتهى. وقال أيضاً: ((إذا كان جارياً على الفعل، نحو: ضربت ضرباً، أو ما اشتق للمصدر كالمفعل من فعل- فلا خلاف في هذا لا يقدر له عامل غير الأول إلا ما قيل في التأكيد انتهى. وفي الإفصاح: لا خلاف في قعد قعوداً وبابه أنه منصوب بالفعل، إلا ما قاله ابن الطراوة من أنه مفعول به، وأن قولهم قعد قعوداً /بمعنى: قعد فعل قعوداً، هو منصوب عنده بفعل مضمر، لا يجوز إظهاره على هذا الوجه؛ لأن المؤكد عنده لا يعمل في تأكيده. وقال السهيلي كذلك، إلا أنه قال: أنصبه بقعد أخرى، لا يجوز إظهارها. وهذا كله تكلف بارد، وخروج عن الظاهر وقول الأئمة بلا دليل.

وإن كان غير جار كقوله: {وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الأَرْضِ نَبَاتًا}، وقول القطامي: وخير الأمر ما استقبلت منه ... وليس بأن تتبعه اتباعا فثلاثة مذاهب: أحدها: أنه منصوب بذلك الفعل الظاهر، وهو مذهب المازني. والثاني: أنه منصوب بفعل ذلك المصدر الجاري عليه مضمراً، والفعل الظاهر دليل على ذلك الفعل المضمر. وإلى هذا ذهب المبرد، وابن خروف، وزعم أنه مذهب س. قال ابن هشام: ونص س على أن أنبت نباتاً بإضمار فعل تقديره نبت. وأجاز أبو الحسن الوجهين. والثالث: التفصيل بين ما يكون معناه مغايراً لمعنى ذلك الفعل الظاهر، فننصبه بفعل مضمر يدل عليه الظاهر، فتقدر فنبتم نباتاً، وساغ إضماره لدلالة أنبت عليه؛ لأنه إذا أنبت فقد نبت. وإنما لم ينتصب عنده بالأول لأن الغرض به تأكيد الفعل الذي نصبه أو تبين معناه، والنبات ليس بمعناه، فكيف يؤكده أو يبينه. أو غير، مغاير فتنصبه بذلك الفعل الظاهر، نحو قوله: يلوح بجانب الجبلين منه ... رباب تحفر الترب احتفارا وقول الآخر:

وقد تطويت انطواء الحضب إذ الاحتفار والحفر بمعنى واحد، وكذلك التطوي والانطواء. اختار الأستاذ أبو الحسن بن عصفور أنه إن كان معناه مغايراً فنصبه بإضمار فعل، أو غير مغاير فيجوز نصبه بالفعل السابق، ويجوز نصبه بإضمار فعل، قال: وهو الذي يعطيه كلام س، فترجح نصبه بالسابق إذ ليس فيه تكلف إضمار، وترجح نصبه بالمضمر إذ يكون ذلك المصدر جارياً عليه. وإن كان المصدر من غير لفظ الفعل فثلاثة مذاهب: ذهب الجمهور إلى أن منصوب بفعل مضمر من لفظه. وحجته أن الأكثر مجيء المصدر من لفظ الفعل، والقليل ما جاء من غير لفظه، فحمل القليل على الكثير في كونه ينتصب بفعل من لفظه، ومن السماع قول الشاعر: ... [3: 130/ب] السالك الثغرة اليقظان كالئها ... مشي الهلوك، عليها الخيعل الفضل فـ ((مشي)) منصوب بمضمر دل عليه السالك؛ لأن السلوك والمشي بمعنى واحد، فلا جائز أن ينتصب بالسالك لأنه قد وصف باليقظان، فيلزم من عمله فيه وصف الموصول قبل استيفاء صلته، وذلك لا يجوز. وذهب المازني إلى أنه منصوب بالفعل الظاهر وإن لم يكن من لفظه وحجته أنه لما كان في معناه تعدى إليه كما يتعدى إلى ما هو من لفظه. وذهب أبو الفتح إلى التفصيل: فإن كان يراد به التأكيد عمل فيه الفعل المضمر الذي هو من لفظه، نحو: قعدت جلوساً، وقمت وقوفاً. إن كان يراد

به بيان النوع عمل فيه الفعل الظاهر. وإنما عمل فيه لما كان بمعناه، فعمل فيه كما يعمل فيما هو من لفظه، ولم يجز أن يعمل فيه إذا كان للتأكيد لأن تأكيد الفعل بالمصدر هو من قبيل التأكيد اللفظي؛ ألا ترى أن معنى قمت قياماً: قمت قمت، والاختلاف الذي بين المصدر والفعل في اللفظ غير مانع من أن يكون من قبيل التأكيد اللفظي؛ بدليل قوله تعالى {فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ}، فأمهل تأكيد لفظي لمهل، وليس لفظهما على صيغة واحدة، لكنهما اشتركا في كون الحروف الأصول واحدة، فلما كان تأكيد الفعل بالمصدر من قبيل التأكيد اللفظي لم يجز أن يكون منصوباً بالفعل الظاهر؛ بل بفعل مضمر من لفظه. وظاهر كلام الفارسي مثل مذهب أبي الفتح. وقد نوزع أبو الفتح في دعواه أن المصدر المؤكد من قبيل التأكيد اللفظي، قال شيخنا الأستاذ أبو الحسن الأبذي: ((ليس التوكيد هنا بمزلة إعادة الفعل؛ لأنه ليس من التأكيد اللفظي، وإنما التوكيد هنا يعني به البيان؛ لأنه يرفع المجاز، ويثبت الحقيقة، وكذلك التوكيد في المجاز، وعلى قوله تعالى {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا}، أي: حقيقة من غير واسطة)) انتهى. وقال ابن عصفور: الصحيح أنه إذا كان للتأكيد عمل فيه مضمر من لفظه للدليل الذي تقدم؛ وغن لم يكن للتأكيد فإما أن يكون وضع له فعل من لفظه، أو لم يوضع له فعل: فإن كان وضع فيجوز الوجهان، كقوله:

............................ ... ....... ، وآلت حلفة لم تحلل يجوز ان ينتصب بآلت، ويجوز أن ينتصب بحلفت مضمرة، فترجح الأول لعدم تكلف الإضمار، وترجح الثاني لجريان المصدر على الأكثر في كونه ينتصب بفعل من لفظه. وإن لم يوضع له فعل انتصب بالفعل الظاهر. قال: ((ولا يمكن أن ينتصب بفعل من لفظه لأنه لم يوضع)) انتهى. وهذا مذهب طائفة من /الكوفيين، يقدرون العامل في رجع القهقري: رجع يقهقر القهقرى، وفي يمشي الخطرى: يمشي يخطر الخطرى، ويسوغ ذلك فيما سمع له فعل. قال ابن عصفور: ((ولا يمكن أن يكون التقدير في مثل قعد القرفصاء، واشتمل الصماء: قعد القعدة القرفصاء، ولا اشتمل الاشتمالة الصماء؛ لأن لا يحفظ من كلامهم استعمال القرفصاء والصماء صفتين)) انتهى معنى كلامه. ومن النحويين من ذهب إلى أن ذلك على حذف الموصوف كما ذكر، قال: إلا أن الموصوف لم يستعمل مع هذه الأشياء لأنه يدل عليه دليلان: دليل الفعل، ودليل الصفة؛ إذ لا صفة إلا لموصوف، ولا فعل متصرف إلا ويدل على حدثه، وهو مذهب المبرد. وهذا ليس بجيد لأنه يلزم منه حذف الموصوف وجوباً، ولا يوجد في لسان العرب موصوف يجب حذفه. والظاهر من كلام المصنف أن المصدر الجاري وغير الجاري، والذي من لفظ الفعل ومن غير لفظه- ينتصب بنفس الفعل الظاهر؛ لقوله أو ((بقائم مقام أحدهما))،

وتمثيله في الشرح بقوله: ((عجبت من إيمانك تصديقاً، وأنا مؤمن تصديقاً، ولقاء الله مؤمن به تصديقاً))، ولقوله: ((وإن زاد معناه على معنى عامله فهو لبيان النوع، نحو: سرت خبباً وعدواً، ورجعت القهقري، وقعد القرفصاء))، بل قد نص على ذلك في الشرح. والصحيح في المصدر الموافق معنى لا لفظاً كونه معمولاً لموافقه معنى، فحلفة منصوبة بآلت لا بحلفت مضمرة؛ لقولهم: حلفت يميناً، و {فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ}، و {فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً}، {وَلا تَضُرُّونَهُ شَيْئًا}، ولا يمكن أن يقدر لها عامل من لفظها، فتعين أن يكون ما قبلها. ووجب اطراد هذا الحكم فيما له فعل من لفظه ليجري الباب على سنن واحد. وهذا الذي اخترته اختيار المبرد والسيرافي ومذهب المازني، ومن شواهد ذلك قراءة محمد بن السميفع {فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِنْ قَوْلِهَا}، ذكرها ابن جني في المحتسب. انتهى. ولا شاهد في ذلك؛ إذ المخالف يقول: انتصب ضحكاً بإضمار فعل من لفظه، أي: ضحك ضحكاً. وقوله فإن ساوى معناه معنى عامله فهو لمجرد التوكيد، ويسمى مبهماً، ولا يثنى ولا يجمع قال المصنف في الشرح: ((لأنه بمنزلة تكرير الفعل، فعومل معاملته في عدم التثنية والجمع؛ إذ هو صالح للقليل والكثير)) انتهى. وقد تقدم من

قول شيخنا أبي الحسن الأبذي أنه ليس التوكيد بمنزلة إعادة الفعل، وأنه يراد به البيان ورفع المجاز، قال: ((فإن قيل: قال الشاعر: ... [3: 131/ب] /بكى الخز من روح، وأنكر جلده ... وعجت عجيجاً من جذام المطارف والمطارف لا تعج حقيقة، فنراه قد أكد المجاز. فالجواب: أن هذا نادر لا يقاس عليه، لكنه أجرى المجاز مجرى الحقيقة مبالغة فيه)) انتهى. وقسم أصحابنا التوكيد إلى لفظي ومعنوي، فاللفظي يفيد تثبيت المعنى في النفس، والمعنوي إما لإزالة الشك عن الحديث- وهو التأكيد بالمصدر- أو عن المحدث عنه، وهو بالنفس والعين. وفي البسيط: يكون من لفظ الفعل أو ما في معناه من اسم فاعل، نحو: ضربت ضرباً، كأنك قلت: ضربت ضربت {وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا}، وكأنه قال: والذاريات الذاريات. ومن غير لفظه كقوله:

نظارة حين تعلو الشمس راكبها ... طرحاً بعيني لياحٍ، فيه تحديد أكد نظارة بـ ((طرحاً)) لأنها إذا نظرت علم أنها تطرح بصرها. ومنه: قعدت جلوساً. وحكى س: ((هو يدعه تركاً))، ومنه قوله تعالى: {أَفَنَضْرِبُ عَنكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا}. وقيل: منه قول الشاعر: يعجبه السخون والبرود ... والتمر حبّاً، ما له مزيد أكد بـ ((حبّاً)) يعجبه لأنه في معنى يحبه. وقوله وإن زاد عليه فهو لبيان النوع أو العدد، ويسمى مختصاً ومؤقتاً هذا التقسيم في المصدر إلى المبهم والمختص هو الصحيح، وتقسيمه إلى مبهم وعدد ومختص كما قسمه أبو موسى الجزولي من تبعه تقسيم غير صحيح؛ لأنه متداخل؛ إذ المعدود قسم من المختص، فلا يكون قسيماً له، إنه يدل على عدد المرات، هذا اختصاص. فالذي هو مختص يكن مختصاً بأل، وبالإضافة، وبالصفة، تقول في المختص بأل: ضربت الضرب، تريد ضرباً معهوداً بينك وبين المخاطب، كأنك قلت: الضرب الذي تعلم، قال الشاعر: لعمري لقد أحييتك الحب كله ... وزدتك حباً لم يكن قط يعرف

وقال بشر بن أبي خازم: فدع عنك ليلى، عن ليلى وشأنها ... وإن وعدتك الوعد لا يتيسر وقال مضري بن قرط المزني: فلو تعلمين العلم أيقنت أنني ... ورب الهدايا المشعرات- صدوق فقد اختص المصدر بالتعريف، والفعل لا يدل إلا على مصدر مبهم، والمختص لا يؤكد به المبهم لأنه ليس في معناه، ولا يتصور أن تكون أل في الأبيات جنسية؛ /لأن الجنس لا يمكن وقوعه، وإنما أريد بالحب أصناف الحب المعهودة من الناس، وبالوعد الوعد الذي كان يرجوه منا، وبالعلم العلم الذي يتوصل به إلى صدقه. ولكون المصدر المخصص المعرف لا يجوز أن يقع تأكيداً للفعل منه النحاة: ضربته أن أضربه، وزعموا أن قول الناس: لعنه الله أن يلعنه، لحن. ... [3: 132/أ] قال أبو إسحاق: امتنع في مثل هذا أن يؤكد به الفعل لأن أن تخلص الفعل لاستقبال، والتأكيد إنما يكون بالمصدر المبهم، وقد حُكي عن الأخفش إجازة ذلك، والذي ذكره في الكتاب الكبير إنما منعه. وقال بعض أصحابنا: الذي منع من وقوع أن والفعل مصدراً للفعل إنما هو كون أن يفعل يعطي محاوله الفعل، ومحاوله المصدر ليست بالمصدر، فلذلك لم يسغ لها أن تقع مع صلتها موقع المصدر.

وتقول في المختص بالإضافة: قمت قيام زيد، أصله: قياماً مثل قيام زيد، حُذف المصدر، ثم حذفت صفته، وقام مقامها المصدر، فأعرب بإعرابه. فإن قلت: يلزم أن يكون انتصاب قيام زيد على الحال لا على المصدر؛ لأنه قائم مقام مثل، ومثل المحذوفة حال من جهة أن المصدر إذا حُذف أُبقيت صفته انتصب على الحال لا على المصدر. فالجواب: أنه لا ينتصب على الحال إلا إذا لم يكن [صفة] خاصة بجنس الموصوف، نحو: ساروا شديداً؛ إذ شديد يكون صفة للسير وغيره، وليس كذلك: مثل قيام زيد؛ لأنه صفة خاصة بجنس الموصوف المحذوف، وهو قيام؛ ألا ترى أن مثل قيام زيد لا يكون إلا قياماً، فجاز أن يُقام مقام المصدر، وأن يعرب بإعرابه. وتقول في المختص بالوصف: قمت قياماً طويلاً، فبالصفة خرج من الإلهام كما خرج بالإضافة وبالألف واللام. قوله ويثنى ويجمع يعني المختص، فأما ما كان معدوداً فإنه يثنى ويجمع، فتقول: ضربت ضربتين، وضربات، لا خلاف في ذلك. وقال السهيلي: المحدود بالتاء يثنى ويجمع؛ لأنك إذا أردت المرة الواحدة لم تدل على القليل والكثير كما دل الضرب والقتل، لكن هنا تنبيه على أمر مغفول عنه، وهو أن المصادر لا يدخلها التحديد على الإطلاق في جميع أنواعها، وإنما يطرد إدخال هذه التاء إذا أردت المرة الواحدة في المصادر الظاهرة الصادرة عن الجوارح المدركة بالحس، نحو قومة وضربة وقعدة، وإذا كان من الأفعال الباطنة والخصال النفسية الثابتة كالظرف والحسن والجبن والعلم والجهل فلا يقال في شيء

من ذلك فعلة, /لا تقول علمت علمة، ولا فهمت فهمة, ولا صبرت صبرة, وكذلك الظن، لا يقال فيه ظنة، كما لا يقال من اليقين فعلة، وما أجازه بعض النحويين من قوله زيد ظننتها منطلق فغير مسموع من العرب, ولكنه قياس يبطله الأصل الذي قدمناه، فقياس الظن على العلم أولى من قياسه على الضرب والقتل. وأما غير المعدود من المختص فاختلفوا في تثنيته وجمعه عند اختلاف أنواعه, فمنهم من أجاز ذلك قياساً على ما سمع منه. ومنهم من قال: لا يثنى ولا يجمع لاختلاف أنواعه, كما لا يثنى ولا يجمع لاختلاف آحاده؛ لأنه كما يقع على الآحاد كذلك يقع على الأنواع، وكذلك أسماء الأجناس وإن لم تكن مصادر، فلو جاء العقول لم يقس عليه. وإلى هذا كان الأستاذ أبو علي يذهب، وهو ظاهر كلام س، قال س: «واعلم أنه ليس كل جمع يجمع، كما أنه ليس كل مصدر يجمع، كالأشغال والعقول والألباب والحلوم؛ ألا ترى أنك لا تجمع الفكر والنظر والعلم». قال أبو محمد بن الخشاب: نص س على المنع من قياس جمع الجمع، ولم يعتد في الاستعمال بالأفكار والعلوم حتى نفى أن يكونا جمعين لفكر وعلم؛ إذ كان الاعتداد عنده باستعمال العرب لا استعمال المولد من الكلام. وقال أبو زيد السهيلي: أما اختلاف أنواعه فإنه لا يختلف على الحقيقة؛ لأن الأفعال حركات الفاعلين، والحركات متماثلة لذواتها, لكن الاختلاف راجع إلى ما تعلقت به الأفعال المتعدية إلى أنفس المصادر، فإذا قلت العلوم والأشغال والحلوم فإنما هن المعلومات والأمور المشتغل بها والمرئيات في النوم, فأما الأمراض فعلل, فلذلك جمعت, وأما الحب من قول الشاعر:

ثلاثة أحباب: فحب علاقة وحب تملاق، وحب هو القتل فإنما جمع لأن الحب شغل القلب, ولذلك جاء على وزنه حتى تركوا القياس بالمصدر, فلم يقولوا: أحبته إحبابا, ولكن حبا, قال تعالى {أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي}، ولذلك عداه بعن، وجمع أهواء مرادا بها المذاهب. وقال صاحب البديع: ((المصدر لا يثنى ولا يجمع لأنه جنس، والجنس لا حصر له، إلا إذا اختلفت أنواعه جاز تثنيته وجمعه مبهما ومؤقتا: أما المؤقت - وهو المختص - فتقول فيه: ضربت ضربتين، وضربات، إلا أن الجمع أنقص توقيتا من المفرد والمثنى؛ لأن ضربات يصلح لعقود الفلة كلها، ولكنه لا يخرج عن حد التوقيت من حيث دلالته على عدد، بخلاف قولك: ضربت ضربا، فإنه / لا يدل على عدد، فإن قلت: ضربت ثلاث ضربات، كان مثل ضربة وضربتين في كمال التوقيت، إلا أن الفعل فيه واقع على ما هو مصدر من جهة المعنى؛ لأن العدد عبارة عن المعدود، وليس باسم له. وأما المبهم فلا يجوز جمعه، فلا تقول: قتلت قتولا، وضربت ضروبا، إلا على إرادة تفريق الجنس، واختلاف أنواعه، كقوله تعالى: {وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا}، وكقوله: {أَضْغاثُ أَحْلامٍ} , وكقول الشاعر: هل من حلوم لأقوام، فتنذرهم ... ما جرب الدهر من عضي وتضريسي

وكقولك: فلان ينظر في علوم كثيرة. وهذا النوع لم يطرد، فلم يقولوا السلوب والنهوب، وإنما يكون ذلك غالبا فيما ينجذب إلى الاسمية، نحو العلم والحلم والظن وأشباه ذلك. فإن قصدك بالمبهم الحدث فالأكثر الأعرف أن يقال: ضروبا من القتل، وضروبا من العلم. وأما التثنية فأصلح قليلا من الجمع، تقول: قمت قيامين، وقعدت قعودين، والأحسن فيهما أن يقال: قمت نوعين من القيام، وقعدت نوعين من القعود)). وقوله ويقوم مقام المؤكد مصدر مرادف مثاله: جلست قعوداَ، نحو قوله: ويوما على ظهرالكثيب تعذرت ... على، وآلت حلفة لم تحلل وقول رؤبة: لوحها من بعد بدن وسنق ... تضميرك السابق، يطوى للسبق وقوله واسم مصدر غير علم مثاله: اغتسلت غسلا، وتوضأت وضوءا. واحترز بقوله ((غير علم)) من اسم المصدر العلم، نحو حماد، فلا يستعمل مؤكدا ولا مبيَنَا، لا تقول: حمدت حماد، ونحو ذلك؛ لأن العلم زائد معناه على معنى العامل، فلا ينزل منزلة تكرار الفعل، ولأنه كاسم الفعل، فلا يجمع بينه وبين الفعل، قاله المصنف.

وقوله ومقام المبين نوع مثاله القهقرى والقرفصاء، وقوله تعالى: {وَالنَّازِعَات غَرْقًا} , وقول الشاعر: على كل موار أفانين سيرة ... شؤو لأبواع الجمال الرواتك وقوله أو وصف قال المصنف ((نحو: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا}، وقول ليلى الأخيلية: نظرت- ودونى من عماية منكب ... وبطن الركاء - أى نظرة ناظر ومثله (6): وضابع إن جرى أيا أردت به ... لا الشد شد, ولا التقريب تقريب)) /انتهى. ومذهب س أن انتصاب هذا الوصف هو على الحال؛ لأنه صفة غير خاصة بالموصوف، وإذا حذف الموصوف خرج الوصف عن أن يكون وصفَا لعدم التبعية، فكان على الحال؛ إذ شأنها عدم الإتباع، فإذَا لم يقم مقام الموصوف على هذا المذهب.

وقوله أو هيئة قال المصنف: ((نحو: يموت الكافرون ميتة سوء، ويعيش المؤمنون عيشة مرضية)). وهذا يعمل فيه الفعل المذكور. وقوله أو آلة مثاله: ضربته سوطا، ورشقته سهما، الأصل: ضربة سوطا، ورشقة سهم، حذف المضاف، وأقيمت الآلة مقامه، فأعرب بإعرابه. ويطرد في جميع أسماء آلات الفعل، فلو قلت: ضربته خشبة، ورميته آجرة - لم يجز؛ لأن الآجرة ليست آلة للرمي، ولا الخشبة آلة للضرب. وقوله أو كل مثاله:: {فلا تميلوا كل الميل}. أو بعض مثاله: {وَلَا تَضُرُّوهُ شَيْئً}. أوضمير مثاله: {لاَّ أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِّنَ الْعَالَمِينَ}. أو اسم إشارة مثاله: لأجدن ذلك الجد. والعامل هو المذكور أولا؛ لأن كلا وما ذكر محض اسم لا يشتق منه. قال المصنف: ((ولا بد من جعل المصدر تابعا لاسم الإشارة المقصود به المصدر، ولذلك خطئ من حمل قول المتنبى: هذي برزت لنا، فهجت رسيسا ................................. على أنه أراد: هذه البرزة؛ لأن مثل ذلك لا تستعمله العرب)) انتهى. وهذا خطأ، فمن كلام العرب: ظننت ذاك، يشيرون به إلى المصدر، ولذلك اقتصروا عليه؛ إذ ليس مفعولأ أول، ولم يذكروا بعده المصدر تابعا له، وعلى هذا خرجه س.

وقوله أو وقت مثاله ما أنشده المصنف: ألم تغتمض عيناك ليلة أرمدا .................................................... أراد: اغتماض ليلة أرمد. قال: ((حذف المصدر، وأقام الزمان مقامه، كما عكس من قال: كان ذلك طلوع الشمس، إلا أن ذلك قليل، وهذا كثير)). وقوله أو ما الاستفهامية مثاله ما أنشده المصنف: ماذا يغير ابنتى ربع عويلهما ... لاترقدان, ولا بؤسى لمن رقدا قال الجوهري: ((غاره يغوره ويغيره، أي: نفعه)) , بغين معجمة، يقول: لا يغير بكاؤهما علي أبيهما من طلب ثأره. ومثله: ما تضرب زيدَا؟ كأنك قلت: أي ضرب تضرب زيدَا؟ وقوله أو الشرطية مثاله ما أنشده المصنف في الشرح لجرير: نعب الغراب, فقلت: بين عاجل ... ما شئت إذ ظعنوا لبين فانعب ومثله: ماشئت فقم, كأنك قلت: أي قيام شئت فقم

وكان ينبغي للمصنف أن ينص على أنه يقوم مقام المصدر اسم العدد، فإنه واقع موقع المبين، وليس شيئاَ مما ذكر، تقول: ضربت ثلاثين ضربة، فتعرب ثلاثين مصدرا، وليس بمصدر لكونه عددا لما هو مصدر. وقد جاء إقامة أعيان وليست بآلات مقام المصدر، وهي على حذف مضاف، وذلك نحو قول الشاعر: حتى إذا اصطفوا لنا جدارا وقول الآخر: ولم يضع ما بيننا لحم وضم الأصل: اصطفاف جدار، وإضاعة لحم وضم، فحذف المصدر، وأقيم الاسم الذي كان مضافا إليه مقامه، فأعرب بإعرابه. وقال بعض أصحابنا: وغير التأكيدي ما أفاد معنى لا يستفاد من الفعل، وهو على سبعة وجوه: المحدود، نحو: ضربته ضربة، وضربتين، وضربات. والذي في معناه: ضربته سوطا، وسوطين، وثلاثة أسواط. والنوعي: قعد القرفصاء. والمصدر المعرف، وهو المعرف تعريف الجنس: زيد يجلس الجلوس، تريد الجنس، ويعنى به التكثير، ويجلس لا يفهم منه الكثرة، إذ يكون للقليل والكثير، وتعريف العهد: جلست الجلوس الذي تعلم. ويكون علما، نحو بره برة، وفجر به فجار، وهو معلق على الجنس.

والخامس الموصوف: قعد قعودا حسنا. والجاري مجراه: ضربت أي ضرب، تريد: شديدا، ويسير ضرب، وبعض ضرب، وكل ضرب، وهو السادس. والسابع: التشبيهي: ضربت ضرب الأمير اللص، وقد يرجع إلى معنى الموصوف، /كقوله تعالى: {فَأَخَذْنَاهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُّقْتَدِرٍ} المعنى: أخذا شديدًا، وقوله {وَسَعَى لَهَا سَعْيهَا وَهُوَ مُؤْمِن}، وقوله: طعنت ابن عبد القيس طعنة ثائر لها نفذ، لولا الشعاع أضاءها وهو الثائر نفسه، فالمعنى: وسعى لها سعيا يصلح للآخرة، وطعنت طعنة صالحة لأخذ الثأر، وقد يريد: مثل ما يطعن الثائر غيري. وإذا قلت: ضربت ضرباً مثل ضرب الأمير فضرب مصدر لضربت، لا خلاف في ذلك إلا خلافا لا يعباً به، فإذا قلت ضربت مثل ضرب الأمير فمذهب س أنه حال. وينبغي في القياس ألا يحذف مثل؛ لأنك إذا حذفت المضاف وأقمت المضاف إليه مقامه أعرب إعرابه، والمعرفة لا تكون حالا، والصفة في هذا المعنى لا ينصبها س إلا على الحال، والعامل عندي فيه الفعل، وقد رأيته لجماعة. وقال قوم: العامل فيه فعل أخر، أي: أوقع حسنا. وسار زيد شديدًا، تقديره عندهم: سار السير أوقعه شديدًا. وهو عندي تكلف.

فإن قلنا في ضربته شديدًا: نعت لمصدر محذوف، صح في ضربته مثل ضرب الأمير ذلك. وتحقيق ((نعت لمصدر محذوف)) أنه مصدر، كما تقول: رأيت النجار، فيكون مفعولا لأنه في الأصل نعت لمفعول. والنحويون يقولون: حذف الموصوف، وأقيمت الصفة مقامه، يعنون: يليه عامله، ويعرب بإعرابه، ف ((مثل)) مصدر، وإذا حذفت المضاف وأقمت المضاف إليه مقامه كان ذلك أيضًا، فيكون ضرب الأمير مصدرًا، والمصدر يكون معرفة ونكرة، فاستقامت المسألة. وأما س فلا يجعل ضرب الأمير حالا، ولذلك نجده يذكر هذا النوع في أمثلة المصادر، وقد قال في باب ما ينتصب به المصدر المشبه [به [: ((فإذا قلت: مررت به فإذا هو يصوت صوت الحمار، فعلى الفعل غير الحال)). وقال في قوله: إذا رأتني سقطت أبصارها ... دأب بكار، شايحت بكارها : يكون حالآ وغير حال. وقال في قول رؤبة: لوحها من بعد بدن وسنق تضميرك السابق، يطوى للسبق : يكون على الفعل. نفى عن تضميرك أن يكون حالا لتعريفه. فإن قلت: على ما قدمت يجب أن يكون حالا، فكيف هذا التناقض؟

قلت: المخلص منه أن يكون التقدير: ضمرها تضميًرا مثل تضميرك، فحذف ((تضميرا مثل)) حذفا /واحدًا لا بتدريج، ويقوم تضميرك مقامهما، فينتصب انتصاب تضمير، فيكون مصدرا لا حالا، كما كان تضميًرا، فلا يحذف أولا ((ضربا)) لما تقدم، ولا تحذف أيضا ((مثل)) وحدها؛ لأنه يصير التقدير: ضربًا ضرب الأمير، على حذف مثل، وقد كان مثل صفة، فيكون المضاف قائما مقامه، فصار صفة، كما أن {وسْئَلِ الْقَرْيَةَ}، القرية: مفعول؛ لأنك أقمتها مقام أهل، وكان مفعولا، فتصف النكرة بالمعرفة، وهذا أصعب، وهذا يتوجه على قول الخليل إذ أجاز: ((له صوت صوت الحمار))، على أن يكون صفة لصوت؛ لأنه على تقدير مثل، ومثل نكرة لا تتعرف بالاضافة، وقد خطأه س في هذا. انتهى، وفيه بعض تلخيص. -[ص: وبحذف عامل المصدر جوازا لقرينة لفظية أو معنوية، ووجوبًا لكونه بدلا من اللفظ بفعل مهمل، /أو لكونه بدلآ من للفظ بفعل مستعمل في طلب، أو خبر إنشائي، أو غير إنشائى، أو في توبيخ مع استفهام، ودونه للنفس أو لمخاطب، أو غائب في حكم حاضر، أو لكونه تفصيل عاقبة طلب أو خبر، أونائبا عن خبر اسم عين بتكرير أو حصر، أو مؤكد جملة ناصة على معناه، وهو مؤكد نفسه، أو صائر به نصًا، وهو مؤكد غيره، والأصح منع تقديمها.]- ش: مثال ما حذف لقرينة لفظية قولك: حثيثا، لمن قال: أي سير سرت؟ وبلى، قياما طويلا، لمن قال: ما قمت. ولقرينة معنوية قولك: ئأهبا مأموناً، لمن

رأيته تأهب لسفر، وحجا مبرورا، لمن قدم من حج، وسعيًا مشكورًا، لمن سعى في مثوبة. وقوله ووجوبا أي: ويحذف العامل على طريقة الوجوب؛ لكونه - أي: لكون المصدر - بدلًا من اللفظ بفعل مهمل، أي: ليس بموضوع في لسان العرب، بل أتت بالمصدر، ولم تستعمل منه وتشتق فعلا. وقسمه المصنف إلى مفرد، وإلى مضاف، وإلى ما يستعمل مفردًا ومضافًا، فذكر من المفرد أفة له وتفة، ودفرا بمعنى نتنا، وبهراً بمعنى تبا، كقول الشاعر: تفاقد قومي إذ يبيعون مهجتي ... بحارية، بهرًا لهم بعدها بهرا وبمعني: عجبا، قال عمر بن أبي ربيعة ثم قالوا: تحبها؟ قلت: بهرا ... عدد الرمل والحصي والتراب فأما أفة وتفة ودفرا فلم يستعمل منها فعل كما ذكر. والتفة في الأصل: ريح الأذن، والتفة: وسخ الأظفار (0) وأما بهرا بمعنى تبا فهكذا فسره س في البيت، بهراً لهم بهراً، أي: تبا لهم، فجعله لفظًا غريبًا؛ لأن بهرة في معنى خيبة غير معروف، فيحتمل أن تكون كلمة نادرة بمعنى التب، لا فعل لها على ما فسر. وقال أبو بكر بن طاهر في البيت: يعني بهراً: قهرا، أي: غلبوا غلبًا، كقولك: بهرني الشيء: غلبني، ومنه القمر الباهر: إذا تم ضوءه وغلب (0) وقال غيره بهرت فلانًا: غلبته، وبهرها بكذا: قذفها. وقال ابن الأعرابي: يقال للقوم إذا دعوت عليهم: بهرهم الله، والمبهور: المكروب، وأنشد بيت عمر بن أبي ربيعة:

ثم قالوا: تحبها؟ قلت: بهراً 00000000000000000000000000 انتهى. فعلى ما حكاه هؤلاء الأئمة لا يكون بهراً منصوبا بفعل مهمل، بل بفعل مستعمل، ويكون بهراً في بيت عمر ليس معناه عجباً كما زعم المصنف، بل معناه: غلبة، أ ي: بهرني حبها بهراً وقال ابن عصفور: ((هوبمعنى غلب، يستعمل في الخبر لا في الدعاء، فلذلك كان الأحسن /أن ينتصب بهرا بفعل من المعنى، تقديره: ألزمه الله)) انتهى. وليس بصحيح بدليل ما حكيناه عن ابن الأعرابي أنه يقال للقوم إذا دعي عليهم: بهرهم الله. وذكر المصنف من المضاف بله، وأنشد: تذر الجماجم ضاحيا هاماتها ... بلة الأكف، كأنها لم تخلق أي: تترك الأكف تركا، ويقال بهل مقلوبا. وقد ذكر المصنف أنها تنصب، فتكون اسم فعل بمعنى دع، وقد تكلمنا عليها في باب أسماء الأفعال والأصوات. وذكر أيضًا قولهم في القسم الاسعطافي قعدك الله إلا ما ذكرت كذا، أي: تثبيتك الله، ومثله: عمرك الله، في لزوم الإضافة والاستعطاف، قال: ((إلا أن هذا مختصر من التعمير مصدر عمرتك الله، بممعنى: نشدتك الله، ومنه قول الشاعر

عمرتك الله إلا ما ذكرت لنا ... هل كنت جارتنا أيام ذي سلم وأصله من العمر، وهو البقاء، والمتكلم به متوسل باعتقاد البقاء لله)) انتهى، وسيأتي الكلام على قعدك وعمرك في باب القسم، إن شاء الله. وإذا كان عمرك الله على ما ذكر المصنف مختصراَ من التعمير مصدر عمرتك الله فلا يكون منصوباَ بفعل مهمل؛ إذ عمرتك الله فعل مستعمل، فكان ينبغي للمصنف ألا يعده فيما ينتصب بفعل مهمل. وذكر المصنف مما يستعمل مفردا ويستعمل مضافا، قال: ((قولهم للمصاب المرحوم: ويحه، وويح فلان، وويح له، وفي الحديث: (ويح عمار، تقتله الفئة الباغية). وللمتعجب منه: ويبا له، وويبك، وويب غيرك، قال الشاعر: فلا تجبهيه، ويب غيرك, إنه ... فتى عن دنيات الخلائق نازح وكذا يقال: ويح غيرك، وويسه مثله أوقريب منه)) انتهى. قال الجزولي: ((ومنه مضافا ويحك - أي: ألزمك الله - وويسك كذلك، وهو استصغار واحتقار)). وقال ابن طاهر: وبح كلمة تقال رحمة، وويس كلمة تقال في معنى رأفة، وهي مضافة إلى المفعول، يدل على ذلك تفسيرها، وعليه كلام س وتفسيره، ومتى أضفتها ألزمتها النصب، ولا يجوز فيها الرفع؛ لأنه مبتدأ لا خبر له، فإذا فصلته من

الإضافة جاز فيه الرفع والنصب, تقول: ويح له وويحا له، وويل له, وويلا له، ولايقوى النصب فى هذا قوته فى غيره؛ لأن هذا مصدر لا فعل له, وإنما يقوى النصب فى المصدر الذى له فعل, نحو حمدا وشكرا, فالرفع فى ويح وويل قوى وقد استعمل منه لفظ /الفعل, أنشد ابن جنى: فما وال, ولا واس ... ولا واح أبو هند وتقول: ويح له وتب, وتبا له وويحا, فهذا ونحوه من الدعاء، إذا جمعوا بينهما غلبوا المتقدم، فالغالب على تب النصب، وعلى ويح الرفع إذا أفردوا، وس يختار أن يحمل كل واحد منهما على وجهه إذا أفرد، فاذا قالوا تبا له وويحا فلم يأتوا بخبر الآخر وافقهم س على النصب لعدم الخبر؛ لأن العرب لا تقول ويح ولا ويل إلا مع خبريهما. وقال أبو الحسين بن أبي الربيع ما ملخصه: ((تبا لك التزم نصبه، وويح لك التزم رفعه، وويل لك الوجهان، ولو قسنا لساوياه، لكن لا يتعدى السماع، فإن عطفت ويحا على تب نصبته للعطف، ولا يجوز رفعه لأنه لا خبر له، وإن عطفت تبا على ويح فكحاله قبل العطف، ويكون [عطف جملة] فعلية على اسمية لتساويهما في المعنى. وقول تبا له وويح له، فلا يكون في ويح إلا الرفع كحاله قبل العطف)) انتهى.

وقد رد المازني هذه الأمثلة، وقال: ((كيف يتصور أن يكون يدعو له وعليه في حين واحد؛ ألا ترى أن معنى تبا له: خسران له، ومعنى ويح له: رحمة له، فلا يصح هذا الكلام)) انتهى. وخرج هذا الكلام على وجهين: أحدهما: أن يكون ويح له لا يراد به الدعاء له، بل أخرج مخرج الدعاء، وليس معناه الدعاء، كما كان قوله {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ}، فالمعنى: خسران له، وهو لكونه ذا خسران ممن يجب أن يقال فيه: رحمة له. والوجه الثاني: أن يكون تبا له دعاء له على حد: قاتله الله ما أشعره! فلا يكون فيه تناقض، وهذا إذا فرض أن المثال من كلام العرب، ولعله مثال من أمثلة النحويين. وحكي عن أبي عمر منع هذا الباب جملة؛ لأنه يؤدي إلى أن يرفع ما شأنه النصب، وينصب ما شأنه الرفع؛ لأن ويح مناجاة فرفع، والثاني دعاء فنصب، كذا نقل عنه. وإذا قلت ويح له وتبا فالواو جامعة لأن الكلام جملتان، وويح وتب له الواو عاطفة لأنه كلام واحد. وقال س: ((وقولك: ويح لك وتب، وتبا له وويحا، جعل النحويون التب بمنزلة ويح، وجعلوا الويح بمنزلة التب، فوضعوا كل واحد منهما على غير الموضع الذي وضعته العرب. ولا بد لويح مع قبحها من أن تجعل على تب، فإذا قلت ويح له ثم ألحقتها التب فالنصب فيه أحسن، وإذا

قلت تباً له وويح له فالرفع ليس فيه كلام، ولا يختلف النحويون في نصب التب إذا قلت ويح له وتب له)). وتقول: ويل له ويل كثير، برفع الويلين وبنصبهما، وبرفع أحدهما ونصب الآخر. وذكر المصنف المصاب المغضوب عليه، قال: / ((ويله وويل له، وويل له ويل طويل، وويل له ويلاَ طويلاَ، وويل له ويلا كيلا, وويل له وعول, وويلك وعولك، ولا يفرد عول، ويفرد ويل منصوبا، قال (4): كسا اللؤم تيما خضرة في جلودها ... فويلا لتيم من سرابيلها الخضر وهذه الأسماء إذا أضيفت لزمها النصب، وإذا أفردت جاز رفعها ونصبها)) انتهى. والويل: الفضيحة والحسرة، وويب في معناها. ويقال: ويبا لك، أي: عجبا لك. وذهب بعض البغداديين إلى أن ويحه وويله وويسه منصوبة بأفعال من لفظها؛ وتقديره: واح ويحهه، ووال ويله، وواس ويسه، وأنشد البيت المتقدم، وهذا البيت مصنوع، ولا يعلم له قائل. وقال ابن عصفور: ويله وأخواته تستعمل مضافة فصيحا، وبابها اللزوم، ومضافها للتبيين، ك ((لك)) في: سقيا لك. وناصبها من غير لفظها، أو منه ملتزما إضماره. ويجب نصبها ما دامت مضافة. وفي البسيط: ((وأما المضاف فما كان منه أضيف إلى ما وقع عليه الدعاء فلا يجوز رفعه، قال المبرد: لأنه لا خبر له. وهذا على من يجعل الخبر في المجرور، فإن

كان محذوفاً فلا مانع منه إلا أن يكون في الكلام ما يدل عليه. وما كان منه أضيف إلى غير ذلك مع بقاء المجرور الذي يكون خبرا، كقولك: رحمة الله عليه ورضوانه وسلامه، ولعنة الله على الظالمين - فلا يكون فيه النصب على قول س, وأجازه المبرد)) انتهى. قال ابن عصفور: فإن فصل - يعني ويلا- وأخواته فالرفع، والمجرور خبر، قال تعالى: {وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ}، وقد نصبوا ويلا، قال: ..................................... فويلا لتيم من سرابيلها الخضر وأما ويح له فترفعه، إلا إن عطفته على ما له النصب فتنصب، نحو: تبا له وويحا، إتباعا، ولا ترفعه مبتدأ لأنه لا خبر له، ولا تقدره: ويح له، وتحذف ((له)) لدلالة ((له)) عليه في: تبا له؛ لأنها ليست في معناها فتدل عليه؛ لأن الأولى للتبيين والثانية في موضع الخبر، ولو قدمت ويحا لأتبعت تبا فرفعته، نحو: ويح له وتب. ومعنى ويحه وويبه: رحمة له، ومعنى ويسه وويله: حسرة له. وأماعولة فإتباع لويلة، ولا يستعمل بغير ويلة، فكأنه مشتق من العويل، وهو صوت الباكي. وفي البسيط: ((وتقول ويل له ويل طويل، على البدل أو صفة موطئة، وويل له ويلا طويلا، على الحال الموطئة، كأنه قال: ويل له دائما، أي: ثبت له الويل، وإنما هو حال من الويل وإن كان نكرة لأنه صار في حكم المعرفة، ولذلك ابتدئ به. وأجاز بعضهم في ويل له ويلا طويلا أن يكون جملتين، كأنك قلت: ويل له ألزمه الله ويلا طويلا، فيكون جملتي دعاء)) انتهى. وقال في البسيط: وكذلك إذا قال القائل: يا ويلاه! / فقال له السامع: نعم ويلا كيلا فويلا كيلا على الحال؛ لأن نعم جواب وتصديق لقوله، فتضمن كلاما،

فكأنه أضمر الجملة، فقال: ويل لك ويلا كيلا. وكذلك لو لم يذكر نعم، أي: لك ما دعوت به ويلا كيلا، أي: كثيرًا. قال س: ((وإن شاء حمله على قوله: جدعًا وعقرًا))، يريد فتنصب بالنيابة عن الفعل. وإذا اختلط ما يجب فيه الرفع مع ما يجب فيه النصب، وذكرت لكل ما يتم به - بقي كل منهما على قياسه، وكان عطف جملة على جملة، نحو: ويل له وتبا له، وبالعكس. ومع ذكر ما يتم به أحدهما دون الآخر فبدأت بما ينصب أتبعته الآخر، فقلت: تبا له وويلا، أو بما يرفع قلت: ويل له وتبً، على رأي النحوبين. ورأي س نصب تبا هنا، وهو أولى من الرفع؛ لأنه لا ضرورة تجعله مشار كا للأول؛ لأن المنصوب قد يستغني عن لك، وهذا قياس من النحويين لم يسمع من العرب شيء منه. وكذلك لو قيل: تبا وويح لك، لا يلزم رفعه ولا نصب الويح، وينتصب الويح على قول النحوين. ولو قلت: ويح وتبا لك، رفعت بناء على مذهب الجميع. وأما المعرف بأل فالرفع فيه أحسن من النصب للتعريف، قال س: ((وإنما استحبوا الرفع فيه لأنه صار معرفة، وهو خبر، فقوي في الابتداء، بمنزلة عبد الله والرجل)). وهو في رفعه بمنزلة رفع النكرة من معنى الفعل، وما بعده خبره، وهو قياس فيما يعرب، تقول: الويل لك، والخيبة لك، لكن إدخال أل ليس مطردًا في جميعها، وإنما هو سماع. قال س: ((ليس كل حرف تدخل فيه أل من هذا الباب، لو قلت: السقي لك، والرعي لك - لم يجز)).

وقال الفراء والجرمي بجواز رفعهما وأخواتهما، وكأنهما رأياه قياسًا في هذه (0). وفيه نظر؛ لأن الموضع للفعل، فإخراجه عنه ليس أصلاً، فلا يكون قياسًا. وقد قاسه بعضهم على: الحمد لله، وليس بشيء؛ لأنه ليس من مواضع الفعل؛ لأنه خبر، بخلاف الدعاء. وقال المصنف في الشرح: ((ومن المهمل الفعل اللازم للإضافة: سبحان الله، أي: براءة له من السوء، ولبس بمصدر لسبح، بل سبح مشتق منه كاشتقاق حاشيت من حاشى إذا نطق بلفظها، وكاشتقاق لوليت وصهصيت وأففت وسوفت وبأبأت ولبيت من لولا وصة وأف وسوف وبأبي ولبيك. وقالوا أيضا سبحل: إذا قال سبحان الله. وقد تفرد في الشعر سبحان منونة إن لم تنو الإضافة، كقول الشاعر: سبحانة، ثم سبحانا، نعوذ بة ... وقبلنا سبح جودي والجمد / وغير منونة إن نويت الإضافة، كقول الآخر: وأقول لما جاءني فخره ... سبحان من علقمة الفاخر أراد: سبحان الله، فحذف المضاف إليه، وترك المضاف بهيئته التي كان عليها قبل الحذف، كما قال الراجز: خالط من سلمي خياشيم وفا يريد: وفاها. وهذا التوجيه أولى من جعل سبحان علما.

ومثل سبحانك في المعنى وإهمال الفعل ((سلامك)) في قول الشاعر: سلامك ربنا في كل فجر بريئا ما تغنثك الذموم أي: براءتك ربنا من كل سوء، وبريئا: حال مؤكدة، وثغنتك أي: ما تعلق بك الذموم: جمع ذم)) انتهى. ولا يقال سبح مخففا، فيكون سبحان مصدرا له، ولا راح ريحانا بمعنى استرزق استرزاقا، بل سبحان الله، وريحان الله بمعنى استرزاق الله: مصدران وضعا موضع الفعل في الخبر، ولا يتصرفان، فإن أردت ب ((ريحان الله))، رزقه تصرف، وخرج عن أن تنتصب بفعل مضمر وجوبا، قال الشاعر سلام الإله، وريحانه ... ورحمته، وسماء درر وقال تعال: {فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ} وما ذكره المصنف من أن سبحانا المنون لم تنو فيه الاضافة، فصرف لجعله نكرة - مذهب لبعضهم وقيل: تنوينه ضرورة. وما ذهب إليه المصنف من أنه إذا لم ينون كقوله ((سبحان من علقمه)) هو مضاف، ترك بهبئته - هو قول بعض النحويين

وذهب بعضهم إلى آنه إذا نون كان مقطوعا عن الإضافة، فلما قطع عنها عاد إليه التنوين، ومن لم ينونه جعله بمنزلة قبل وبعد. ورد هذا المذهب بأن الأسماء المقطوعة عن الإضافة لا يترك تنوينها إلا إن كانت ظروفًا مبنية لقطعها عن الإضافة، نحو قبل وبعد، فإن كانت غير ظروف لم يكن بد من تنوينها، نحو كل وبعض. وفي البسيط: وأما ما لا يتصرف منها فضربان: مفردة، ومثناة، فالمفرد نحو: سبحان الله، ومعاذ الله وريحانه، وسلاما، وحجرا، فسبحان ليس بمصدر، بل اسم وضع موضعه، فجرى مجراه ومعناه التنزيه، وهو قول الليث والزجاج وغيرهما، مأخوذ من التسبيح، وهو التنزيه، وهو تبعيد الله - تعالى - في الاعتقاد عن الصفات غير اللائقة، وكأنه مغير من التسبيح بحذف زوائده، ثم زيدت عليه ألف ونون، ووضع بدل التسبيح، /فصار بمنزلة مصدر سبح الكائن على غير صدره، بمنزلة تكلم كلامًا، وليس مثله، قال س: ((لأنه لو كان مصدرًا يتصرف تصرفه كالسلام والكلام لعدم فعله وهو رأي س والجماعة، وجاء على فعلان كالطغيان ونحوه من المصادر.

واختلف فيه: فقيل: وضع نكرة جاريا مجرى المصادر يعرف بأل، كقوله: سبحانك ــــــ اللهم ــــــ ذا السبحان وبالإضافة، نحو: سبحان الله، وبقي نكرة، كقوله: .. ثم سبحانا، نعوذ به .................. وقد يتأول فيه التعريف، فيمنع من الصرف للزيادة والتعريف، إما معدولا عن أل أو الإضافة، كأجمع، وباب سحر، كقوله: .................................. سبحان من علقمة الفاخر وقال س: أصله الإضافة إلى اسم الله، واستعمل مقطوعا عنها، إما منونا في الشعر، وإما غير منون على تقدير التعريف والزيادة. وقيل: هو اسم للتسبيح ـــــــــ يعنون علما ــــــ فلم ينصرف للزيادة والتعريف ـــــــ وهو رأي المازني والمبرد ــــــ وتنوينه في الشعر ضرورة، وإضافته على تأويل التنكير، كما تقول: زيدكم. وكذا دخول اللام عليه، وهو قليل، وهو موضوع موضع المصدر. وعلى المذهبين هو منصوب بسبح ونائب عنه، ولم يستعمل معه مظهرا. ويحتمل أن يقال: هو مصدر على غير الصدر. وقال يونس: ((معناه: براءة الله من السوء))، والبراءة والتنزيه بمعنى واحد، وهر التبعيد، ولفظ السبح فيه هذا المعنى، يقال سبح في الأرض سبحا: أبعد فيها،

ومنه: {والسَّابِحَاتِ سَبْحًا}، يعني النجوم، تذهب في الفلك كما يذهب السابح في الماء. وإذا كان بمعنى البراءة فأما على معنى التنزيه فينتصب في المعنى بسبح، وإن كان بمعنى البراءة في نفسه، أي: برئ براءة من السوء ــــــ فيكون سبح على هذا ليس عاملآ؛ لأنه في المعنى من وصف الله بالبراءة والنزاهة، فيكون سبح أي: قال سبحان الله فهو بمنزلة حوقل وهلل. وقد نبه س على أن سبح ولبي وأفف لمن قال ذلك. وإنما نزله منزلة تسبيحا في النصب خاصة، والعامل حينئذ فعل مما يصلح له، أي: أعتقد براءة الله وأومن بها، أو من معناه، أي: برئ براءة، كما يقول: ............................... ...... ألت حلفة ............ أي: برئ سبحانا وقد يستعمل في قصد التعجب، كما تقول: سبحان الله أهذا يكون! وأما ((سُبْحَانَ الَّذِي يُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ)) فقيل: مضاف إلى ((ما))، و ((ما)) لمن يعقل. وقيل: سبحان مقطوعة، وما مصدرية ظرفية، أي: مدة تسخير كن. وقد يوضع موضع فعل الأمر، قال الفراء في قوله تعالى: {فَسُبْحَنَ الله حِينَ تُمْسُونَ} ((أى: فصلوا))، فكأنه قال: فسبحوا سبحانا عبر بها عن الصلاة.

وأما ((معاذ الله)) فهو مفعل للمصدر مرادف للعياذ، كأنهم قالوا: عياذا بالله، لكنه استعمل بدل فعله. وفيه /أمران: أحدهما: أنه لا يتصرف. والثاني: أنه مضاف بغير حرف الجر، والأصل: معاذا بالله. وأما ((ريحانه)) فقيل: ريحانه معناه الاسترزاق. وقيل: الطيب. والريحان في كلام العرب على هذين الوجهين، ومنه: {فَرَوْحٌ ورَيْحَانٌ}، وقوله: سلام الاله وريحانه ...................... لأن السلام كثيرا يكون بالطيب والعبق. وإذا كان بهذا المعنى تصرف وارتفع ودخلت أل. وبمعنى الاسترزاق لا يتصرف، ولم يخرج عن النصب والبدل من الفعل، ولا يكون إلا مضافا، ومعناه استرزاقا، ولم ينطق له بفعل من لفظه، فكأنه ناب عن فعل، إما من معناه: نحو: أسترزقه، وإما بتقدير فعل يصح به المعنى، أي: وأسأله استرزاقه. قيل: ولا يستعمل مفردا، بل مقترنا مع سبحان الله. وقيل: يستعمل وحده؛ لأن س لم يذكره مقترنا مع سبحان، ولا نبه على ذلك. ويحتمل أن يكون خبيرا، وهو الإقرار بالنعمة، كشكرا لك. ويحتمل ما احتمل سبحان من كونه مصدرا لا فعل له، أو اسما منزلآ منزلة المصدر علما أو غير علم، لكن للزوم بالإضافة لم يظهر فيه ما يوجب العلمية على رأي المبرد. وأصله فيعلان؛ لأنه من الروح، فحكمه حكم سيد من القلب والإدغام والتخفيف، وصار لازما للتخفيف بسبب الزيادة، بخلاف سيد، وحكى

الأزهري الإجماع على ذلك. وذكر ابن خروف أن أصله روحان على فعلان، وقلبت ياؤه على غير قياس. وأما ((سلامًا)) نقال أبو الخطاب: موضوع موضع تسلما، أي: براءة منكم، لا خير بيننا ولا شر. فإما أن يكون كسبحان الله اسما، وإما أن يكون بمنزلة الكلام والتكلم، وفعله تسلمنا تسلما. وقال: إذا لقيت فلانا فقل سلاما، فسره له [أبو [ربيعة بالبراءة منه. و ((السَّلامُ)) بمعنى التحية يصرف، ومعنى: سلامك- ربنا- في كل فجر ..................................... سلامتك، أي: براءتك من كل سوء، كما تقول: سلم سلامة من هذا الأمر، أي: لم يتشبث منه بشيء، فيكون على هذا مصدرا لكنه لا يتصرف؛ لأنه حذفت منه الهاء، فلزم النصب. وقال س: ((إن من العرب من يرفع سلاما، وهر يريد معنى المبارأة، كما رفعوا حنان، على تقدير الخبر، سمع من العرب من يقول: لا يكونن مني إلا

سلام فسلام ــ وهو استثناء منقطع ــــ أي: إلا أن تكون متاركة ومبارأة))، كأنه قال: إنما أمرنا سلام فسلام، أي: مبارأة فأخرى، يريد: مني ومنك، وكأنه قال: لا تكونن مني إلا مجانبا ومسالما، و ((كان)) هنا تامة؛ لأن النهي لا يكون في الناقصة كما لا يكون الأمر. وقد حمل على الناقصة، وهو للمبرد، فيكون ((مني)) متعلقا بمحذوف، هو الخبر لها، على معنى: لا تكن منسوبا إلي إلا بالمجانبة./ وقد يقال: إنها تامة، وهو في موضع الحال، كأنه قال: لا تكونن إلا وأنت مجانب لي. وأما ((حِجْرًا)) فكانه من الحجر، وهو المنع، فاستعمل مكسورا كاستعمال العمر في القسم مفتوحا، وهو من العمر. وقيل: هو الاسم، وأوقع موقع المصدر، فيكون على فعل من لفظه، كأنه قال: أحجر حجرا، أي: أمنعه عن نفسي وأبعده وأبرأ منه، ويقول الرجل للرجل: أتفعل هذا؟ فيقول: حجرا، أي: منعا. وقال س: ((أي سترا وبراءة من هذا))، والحجر يراد به الستر، ومنه {ويَقُولُونَ حِجْرًا مَّحْجُورًا}، أي: حراما، أي: الحرام ممنوع منه، ومحجور تأكيد، يريد به حجرا حجرا، لكنه أتى بصيغة المفعول، وهذا لا يتصرف إذا كان بمعنى المبارأة والتعوذ. فإن كان على أصله من المنع أو الستر من غير أن يشاب هذا المعنى تصرف، كقوله {لِّذِي حِجْرٍ}، يريد: لصاحب مانع يمنعه عن الباطل، أي: صاحب عقل، ولذلك فسر هنا بالعقل. فاما {بَرْزَخًا وحِجْرًا مَّحْجُورًا} فمعناه سترا، فلم يجعله موضع الفعل على ذلك المعنى. وقيل: هو هنا على الأصل المذكور نائبا عن فعل، كأنه لما جعل بينها

البرزخ وقدر ذلك بينهما تنافرا، فصار كل واحد منهما كأنه يكون للاخر حجرا محجورا متعوذا مبالغة في الحجر والانقياد، وكان المعنى على ما ذكرنا من الحذف. وذهب المبرد إلى أن حجرا يتصرف بما ذكرناه، والفرق ما أثبتناه. ومذهب س أن سبحان علم ممنوع من الصرف. وقيل: هو مبني، وكونه لا يتصرف ولا ينتقل عن هذا الموضع فأشبه الحرف. قال المصنف في الشرح: ((ومن المهمل الفعل اللازم للإضافة قولهم في إجابة الداعي: لبيك وسعديك، ومعناه: لزوما لطاعتك بعد لزوم. قال س: ((أراد بقوله لبيك وسعديك: إجابة بعد إجابة، كأنه قال: كلما أجبتك في أمر فأنا في الآخر مجيب))) انتهى. وهذان اللفظان من ألفاظ ذكرها النحاة مثناة، وأوردوها إيرادا واحدا، إلا أن المصنف ذكر منها لبيك وسعديك؛ إذ هما عنده مصدران، ينتصبان على إضمار الفعل المهمل، وباقيها ينتصب على إضمار الفعل المستعمل. ونحن نتكلم على جميعها كما تكلم النحاة، فنقول: هذه الألفاظ هي: حنانيك، لبيك وسعديك، ودواليك، هذاديك، وحجازيك، حذاريك وهي مصادر لا تتصرف، بمنزلة سبحان الله وأخواته في كونها لا تتصرف، وهي ملتزم فيها الاضافة والتثنية، فإن افرد منها شئ كان متصرفا، نحو قوله:

/فقالت: حنان، ما أتى بك هاهنا ... أذو نسب أم أنت للحي عارف وزعم ابن الطراوة أن ارفع في حنان أقيس، وأن قولك: الواجب علينا- آنس من: حننا عليك؛ لأن هذا علاج. ورد بأنه يمكن أن يكون حننا عليك واقعا، وليس بعلاج، فيكون على حد: الواجب علينا حنان، فهذا الباب لما كان مناجاة لا يستقل أحد فيه بالإخبار قوي فيه النصب؛ لأن الجامع بينه وبين الدعاء أن فعله ليس ماضيا، وهو مناجاة. واختلفوا في ((لبيك)) أهو مفرد أم مثنى: فذهب الخليل وس والجمهور إلى أنه تثنية لب، كما أن حنانيك تثنية حنان. وذهب يونس إلى أنه اسم مفرد، وأصله قبل الإضافة لبي مقصورا، وقلبت ألفه ياء لإضافته إلى المضمر، كما قلبوا في عليك ولديك. ورد مذهب يونس بأنه لو كان انقلاب الألف لأجل الضمير ما انقلبت مع الظاهر في قول الشاعر: دعوت لما نابني مسورا ... فلبي فلبي يدي مسور وزعم الفارسي أنه لا حجة في هذا البيت؛ لأنه يجوز في نحو هذه الألف التي تطرفت أن تقلب ياء في الوقف، فتقول: هذه أفعي، ومنهم من يجري الوصل

مجرى الوقف، فيمكن أن يكون ((لبي يدي مسور)) من ذلك، ومثل ذلك قول زهير: قفرا بمندفع النحائت من ... ضفوي أولات الضال والسدر قال الأصمعي: هو على لغة من يقول في أفعى أفعي. وزعم غيره أنها تثنية ضفا، وهو بمعنى الجانب، وهو مضاف. لما بعد. وهذا الذي ذهب إليه أبو علي كان يمكن لو سمع من كلامهم لبي زيد. واستدل أيضا على أن لبيك تثنية بأنه قد سمع في المفرد لب، ولم يسمع لبي، قال الشاعر: دعوني، فيا لبي إذا هدرت لهم؛ شقائق أقوام، فأسكتها هدري فقال: لبي، ولو كان أصله لبي لقال على الأكثر لباي، وعلى لغة هذيل لبي. وقال س بعد ما حكى عن بعض لب علي أنه مفرد لبيك غير أنه مبني كأمس لقلة تمكنه: ((وليس يحتاج إلى أن يفرد؛ لأنك إذا أظهرت الاسم تبين أنه ليس بمنزلة عليك ولديك؛ لأنك [لا] تقول: لبي زيد وسعدى زيد))

وفي كلام س هذا رد علي المصنف إذ زعم في الشرح أن إضافة لبي إلي الظاهر شاذة كإضافتها إلي المضمر الغائب، نحو قوله: إنك لو دعوتني، ودوني ... زوراء ذات منزع بيون لقلت: لبيه لمن يدعوني ألا ترى إلى سياقه س ذلك مساق المنقاس المطرد في قوله ((لأنك [لا] تقول لبي زيد وسعدى زيد)). والناصب لهذه المصادر أفعال من لفظها، وفي بعضها من معناها، وهي واجبة الإضمار، فكان التقدير: تحنن حنانيك، أي: تحننا بعد تحنن، وقد /نطق بفعله، قال: تحنن علي - هداك المليك - ... فإن لكل مقام مقالا ... وقد أفرد في قوله تعالى: {وحَنَانًا مِّن لَّدُنَّا}، وقال الشاعر: ويمنحها بنو شمجي بن جرم ... معيزهم، حنانك، ذا الحنان أي: رحمتك يا ذا الرحمة. وقوله:

ضربا هذاذيك وطعنا وخضا أي: يهذ هذاذيك. وقوله: إذا شق برد شق بالبرد مثله ... دواليك، حتى كلنا غير لابس أي: تداولنا دواليك، ودل علي تداولنا قوله ((إذا شق برد شق بالبرد مثله))، وهذا من فعل الجاهلية، إذا أراد الرجل أن يعقد (مودة) مع امرأة شق كل احد منهما ثوب الأخر ليؤكد المودة. ودواليك مأخوذ من المداولة. وسعديك أي: سعد إسعادا لآمرك بعد إسعاد، أي: كلما أمرتني أطعتك وساعدتك، ولا يستعمل سعديك وحده بل تابعا للبيك، كعولة بعد ويلة. ولبيك يجوز أن يستعمل وحده. وحجازيك أي: تحجز حجازيك، أي: تمنع. وحذاريك أي: تحذر. ولبيك أي: ألزم إجابيتك، وكأنه من ألب بالمكان: إذا أقام به، فهذا منصوب بفعل من معناه، بخلاف ما قبله، فإنه منصوب بفعل من لفظه. وقد شرح س معاني هذه المصادر، فقال: ((وإذا قال المجيب لبيك وسعديك فقد قال: قربا منك ومتابعة لك)). ثم [بره] س، ففسر القرب من الله تعالى

بقوله ((لا أنأى عنك في شيء تأمرني به)). وزعم أيضا أن معنى لبيك: ((إجابة بعد إجابة))، وتقدم ذلك. وقال س في خذاريك: ((أي: ليكن منك حذر بعن حذر))، أي: احذر ابدا. واختلفوا في هذه المصادر أهي تثنية يشفع بها الواحد أم تثنية يراد ما التكثير: فذهب السيرافي وجماعة إلى أنها يراد بها التكثير ومداومة الفعل، كقوله تعالى {ارْجِعِ البَصَرَ كَرَّتَيْنِ}، أي: كرات؛ لأن البصر لا ينقلب خاسئا وهو حسير من كرتين ثنتين، وكنى بالتثنية عن الكثير، كما كني عن الكثير بالثتين /في قولهم: إياك ثم إياك، قال السيرافي: ((وأصل التثنية العطف، وقد وجدناهم يريدون بعطف التثنية التكثر، كقولهم: جاؤوا رجلا رجلا، وادخلوا الأول فالأول، وأولآ فأولآ، ومرادهم في ذلك تكرير الشيء أبدا حتى يفنى بالغا ما بلغ، فكذلك أرادوا ... تثنية هذه المصادر)).

وذهب بعض النحويين إلى ألها تثنية حقيقية يشفع بها الواحد، فالمراد: حنان موصول بآخر، ومساعدة موصولة بأخرى، ولزوم طاعة موصول بآخر. وأما دواليك وهذاذيك فثنيا لأن المدوالة المشبهة بداوليك من اثنين. وكذلك الهذ المشبه بهذاذيك في البيت من اثنين، أي: هذا منا وهذا منهم، ومداولة منا مثل مداولتك، فجاء المصدران لذلك مثنيين حتى يكون المشبه وفق المشبه به. وإلى نحو من هذا ذهب السهيلي، زعم في حنانيك أن المراد رحمة في الدنيا ورحمة في الآخرة، وفي لبيك إجابة في امتثال الأوامر وإجابة في الازدجار عن المناهي. وهذا الذي ذهب إليه لا يطرد له، بل يستعمل /العرب ذلك في المخلوق الذي ليس له أخرى يرحم فيها، ويتكلم بذلك من لا يعتقد أخرى؛ ألا ترى إلى طرفة بن العبد - وهو جاهلي - يخاطب عمرو بن هند، وهو جاهلي أيضا: ................................... حنانيك، بعض الشر أهون من بعض فليس المعنى على أنه يطلب منه رحمة في الدنيا ورحمة في الآخرة. والكاف في لبيك وسعديك وحنانيك الواقع موقع الفعل الذي هو خبر في موضع المفعول؛ لأن المعنى: لزوما وانقيادا لطاعتك، ومساعدة وانقيادا لما تحبه. ومعنى قول العرب سبحان الله وحنانيه: أسبح الله وأسترحمه. والكاف في هذاذيك ودواليك وحنانيك إذا وقعت موقع الطلب في موضع الفاعل، كأنه قال: هذك ومداولتك وفي قول طرفة ((حنانيك)) كأنه قال: تحننك.

وزعم أبو الحجاج الأعلم أن الكاف حرف خطاب، فلا موضع لها من الإعراب، كهي في أبصرك والنجاءك وألستك وذلك، وحذفت النون لشبه الإضافة، ولأن الكاف تطلب الاتصال بالاسم كاتصالها باسم الإشارة، والنون تمنعها من ذلك، فحذفت النون لذلك. واستدل على ذلك أن الكاف إذا جعلت اسما فسد المعنى؛ وذلك أن المصدر إذا أضيف إلى غير فاعل الفعل الناصب له كان مصدرا تشبيهيا، نحو: ضربت ضربك، فالمعنى في البيت: تداولنا مداولتك، أي: مثل مداولتك، وفي سعديك: أجبتك إجابتك، أي: مثل إجابتك وفي لبيك أي: ألزم طاعتك لزومك طاعة غيرك، أي: مثل لزومه، والمعني ليس على المصدر التشبيهي. فإذا كانت الكاف حرف خطاب استقام المعنى. وردوا على الأعلم بأن جعل الكاف حرف خطاب لا ينقاس، وبأن النون لا تحذف لكاف الخطاب؛ ألا ترى إلى قولهم ذانك وتانك. وآما ما ذكره من أنه يلزم أن يكون المصدر تشبيها فقد التزمه بعضهم، وقالوا: يسوغ أن يكون المعنى في سعديك: أجبتك إجابتك لغيرك إذا أجبته، وفي لبيك: ألزم طاعتك لزومك طاعة غيرك إذا لزمها، وفي دواليك: تداولنا مثل مداولتك إذا داولت، ويكون مثل قولهم: دققته دقك بالمنحاز حب الفلفل، المعنى: مثل دقك إذا دققت. والذي يقطع ببطلان مذهب الأعلم مجيء الأسماء الظاهرة وضمير الغيبة مكان الكاف، ولا يمكن أن يقال إن الاسم الظاهر وضمير الغيبة للخطاب، وذلك قولهم:

........................... ....... فلبي يدي مسور وسبحان الله وحنانيه. وأيضا لم تجئ هذه الكاف حرفا متصلة باسم متمكن. فأما النجاءك/ فاسم فعل غير متمكن. وأما الإضافة فليست على معنى التشبيه، ووجهها أن المصدر لما ناب مناب فعله أضيف إلى ما يتصل بالفعل من فاعل أو مفعول، فحنانيك مضاف إلى الفاعل الراحم إذا قدرته تحنن وارحم، وإذا قدرته استرحامك فإلى المسترحم. وكذلك لبيك وسعديك إلى المجاب المتابع، كقوله: (وعَدَ اللَّهُ) لما ناب مناب وعد الله وعدا أضيف إلي الفاعل، ولو أظهر الفعل لقال: وعد الله وعده؛ إذ يصح إضافة المصدر إلى الفاعل؛ لأنه معلوم أنه لا يضرب زيد أو غيره إلا ضربه، وكذلك هذه المصادر. وانتصاب هذه المصادر المثتاة على المصدر بفعل من لفظها إن استعمل، وإلا فمن معناها كما تقدم. وذهب س إلى أنه يجوز في هذاذيك ودواليك في البيتين المتقدمين الحال، ونصبهما بفعل من غير لفظهما، كأنه قال: نفعله دواليك، أي: مداولة، وتوقعه هذاذيك، أي: هذا. ولا حاجة إلى تكلف كونهما حالين؛ إذ الظاهر أنهما مصدران في البيتين. وزعم ابن خروف وابن عصفور أنه إنما أجاز س ذلك لأنها مصادر تشبيهية، والمعنى: مثل دواليك، ومثل هذاذيك، فحذف المضاف، وأقيم المضاف إليه مقامه، والمعنى على إرادته، فكما أن مثلا وإن كان مضافا إلى معرفة نكرة فكذلك ما أقيم

مقامه، إلا أن القائم مقام مثل لا يجري مجرى مثل عند س إلا في الشعر، فلذلك أجاز ذلك في الشعر س، ومثل ذلك قول الشاعر: تأتي المقيم وما سعى حاجاته عدد الحصي، ويخيب سعي الطالب ... نصب عدد الحصى علي الحال- وهو مضاف إلي الحصى، وهو معرفة - إجراء له مجرى مثل؛ لأن المعنى: مثل عدد الحصي. وقد منع س ذلك في مسالة: ((له صوت صوت الحمار))، وهو أن يكون صوت الحمار صفة ل ((صوت)) على تقدير مثل. ورد على الخليل إجازته، ولذلك قال س ثم: ((وهو قبيح لا يجوز إلا في موضع الاضطرار)). وهذا الذي اعتذر به ابن خروف وابن عصفور عن س ليس بشيء؛ لأن التشبيه لا يكون في المصدر إلا إن انتصب نصب المصدر، أما إذا انتصب نصب الحال فلا يكون تشبيهيا؛ لأن الحال لا تكون تشبيهية، لا يقال: جاء زيد ضاحك بني فلان، تريد: جاء زيد ضاحكا مثل ضاحك بني فلان، هذا لا يجوز، وكذلك لا يجوز: جاء زيد مشي بني فلان، وأنت تريد: جاء زيد ماشيا مثل مشي بني فلان. وزعم الأعلم أن س إنما أجاز الحال في دواليك وهذاذيك لكونهما نكرتين؛ إذ الكاف حرف خطاب، وليست باسم قد أضيف /إليه المصدر، وبنى ذلك على مذهبه في أن الكاف حرف خطاب، وقد تقدم ذكر مذهبه والرد عليه. وقد وجه بعض أصحابنا تخريج س ذلك على الحال بأن قال: ((العرب قد نطقت بدواليك وهذاذيك في البيتين، ويحتمل تخريجها الوجهين، وكلا الوجهين

لا ينقاس، أعني جل المصدر المعرفة حالا، ووضع المصدر موضع فعله، فلما اجتمعا في أن كل واحد منهما لا ينقاس وتقاربا عنده أجازهما)) انتهى كلامه. وليس الوجهان سواء وإن اشتركا في عدم القياس؛ لأن المصدر ترجح بحمله على نظائره من المصادر المثناة، وهي لبيك وسعديك، وحذاريك، وحجازيك. وذكر صاحب البسيط في هذه الأسماء المثناة حواليك، فقال: ((وأما حواليك فبمعنى الإقامة والقرب، فكأنه أراد الإحاطة من كل جهة؛ لأنه يقال: أحواله. ويحتمل أنه يريد إطافة بك بعد إطافة، وليس له فعل من لفظه. ويجوز نصبه على الظرف لأنه بمعناه، وعلى الحال أيضا)) انتهى. وقال أيضا: ((وقد جاء منه في الأمر، تقول حذاريك، أي: ليكن منك حذر بعد حذر، كما قلت ذاك في الخبر والدعاء)) انتهى. قال المصنف في الشرح: ((وقد يغني عن لبيك لب مفردا مكسورا، جعلوه اسم فعل بمعنى أجيت)) انتهى. وليس باسم فعل كما زعم المصنف، وإنما هو مصدر مبني على الكسر، وقد تقدم من قول س إنه مفرد لبيك، فانتصابه على المصدر كما أن انتصاب لبيك على المصدر، ويكون في معنى إجابة لا في معنى أجبت. ويقطع بكونه ليس باسم فعل إضافته، قال الشاعر: دعوني، فيا لبي إذا هدرت لهم ............................................... البيت. وإنما غر المصنف في ذلك - والله أعلم - أنه لما رأى النحويين قدروه أجبت اعتقد أنه اسم فعل؛ وإنما فسروا العامل في هذا المصدر لا المصدر، كما

فسروا عامل حنانيك بتحنن. قوي ذلك عنده أن اسم الفعل لا عامل له، ولا تتسلط عليه العوامل لقيامه مقام ما لا يحتاج إلى عامل. ومذهب س وغيره أن اسم الفعل في موضع نصب بعامل مضمر، وقد ذكرنا الخلاف في ذلك في شرح ((باب أسماء الأفعال والأصوات)) من هذا الكتاب. وقوله او لكونه بدلا من اللفظ بفعل مستعمل في طلب قال المصنف في الشرح: ((منه مضاف، نحو: غفرانك، و {فَضَرْبَ الرِّقَابِ}. ومنه مفرد، وهو اكثر من /المضاف، وليس مقيسا عند س مع كثرته، وعند الفراء والأخفش مقيس بشرط إفراده وتنكيره، نحو: سقيا له ورعيا، وجدعا لعدوك، وتعسا، ومنه قول الشاعر: سقيا لقوم لدينا هم وإن بعدوا ... وخيبة للألي وجدانهم عدم ومثله في الأمر: فصبرا في مجال الموت صبرا ... فما نيل الخلود بمستطاع ومثله في النهي: قد زاد حزنك لما قيل: لا حربا ... حتي كأن الذي ينهاك يغريكا)) انتهى كلامه. وذكر اصحابنا هذه المصادر الموضوعة موضع فعل الدعاء، ولم يفصلوها فيذكروا منها ما العامل فيه فعل من معناه لكونه لم يستعمل منه فعل في مكان، وما

العامل فيه فعل من لفظه لكونه استعمل منه فعل في مكان، كما فعله المصنف؛ بل أوردوا ذلك إيرادا واحدا، فقالوا ما لخصته من كلامهم: ((المصادر المستعملة في الدعاء للإنسان أو عليه تنتصب بفعل من لفظ المصدر إن كان له فعل من لفظه، وإلا فمن معناه)). قالوا: ((وهي سقيا ورعيا، وخيبة، وجدعا وعقرا، وسحقا، وبعدا، وأفة وتفة ودفرا ونعسا وبؤسا ونتنا وبهرا)). قالوا: ((وقد يجوز أن يكون مالا يستعمل منه فعل منصوبا بفعل من لفظه إلا أنه لم يستعمل إظهاره)). وباب هذه المصادر أن تكون متعدية، وقد تجيء لازمة، فإن لم يجئ بعدها مجرور فالنصب، أو جاء نحو سقيا لك فكذلك، وقد جاء بعضها في الشعر مرفوعا، قال: أقام، أقوي ذات يوم، وخيبة ... لأول من يلقي، وشر ميسر فإن رفعت فالمجرور خبر لها، وإن نصبت فهو خبر ابتداء مضمر، أي: هذا الدعاء له، ولا يجوز أن يكون معمولا للمصدر؛ لأنه يلزم أن تقول: سقيا إياك، لا لك، كما تقول: سقاك الله، لا: سقى لك. ولا تستعمل هذه المصادر مضافة إلا في قبيح من كلام، بل إذا اضيفت فالنصب حتم، ومما جاء منها مضافا بعدك، وسحقك، أنشد الكسائي: إذا ما المهاري بلغتنا بلادنا ... فبعد المهارى من حسير ومتعب وفي البسيط: مما له فعل من لفظه: متعد، نحو: سقيا ورعيا، أي: سقاك الله سقيا، إذا دعوت له. وجدعا وعقرا، أي: جدعه الله، وهو القطع في الأنف، إذا

دعوت عليه. ولازم: بعدا، وسحقا، وتعسا، ونكسا، وبؤسا. والتعس:/ ألا ينتعش من عثرته، والنكس: الرجوع في المرض وكذاك: خيبة، وجوعا ونوعا، وتبا، أي: خسرانا، كأنك قلت: بعد، وجاع، وتعس، ونكس، وخاب، وتب. وما ليس له فعل من لفظه: دفرا، أي: نتنا، وأفة وتفة كذلك، أو قذرا؛ لأن الأفة وسخ الأذن، والتفة وسخ الأظفار. وبهرا، أ: تبا في قول س، ولم ينطق له بفعل في هذا المعني، وأنشد: تفاقد قومي إذ يبيعون مهجتي ... بحارية، بهرا لهم بعدها بهرا وقيل: كون بمعني التعجب، نحو قوله: ثم قالوا: تحبها؟ قلت: بهرا ... عدد الرمل والحصي والتراب وقيل: معناه جهرا لا أكاتم، من قوله بهرني الشئ: غلبني، والقمر الباهر أي: الغالب ضوءه. ويحتمل أن يكون هنا بمعني التب، كأنه قال: تبا لهم، لما انكروا عليه حبها، لأن قولهم ((تحبها)) على الانكار. ومنه قولهم: مرحبا وأهلا وسهلا، أي: رحبت بلادك، وأهلت أهلا وسهلت سهلا. ويحتمل إضمار المصادفة. ومذهب الأخفش والمبرد أنه قياسي في الدعاء، فتقول: ضربا له، أي: ضربه الله، وحذف، وقتلا، ونحوه؛ لأن هذا قد كثر فيها، وفهم المعني. قال شيخنا: ويظهر من قول س أنه ليس بقياس؛ لأنه منع القياس في الأسماء المنصوبة علي الدعاء، نحو: تربا وجندلا، وكذلك هذه لأنهما مفعولات بمنزلتها،

ويعضده القياس؛ لأن جعل الاسم في موضع الفعل ليس بقياس، وهذه قد جعلت بمعنى الفعل، فلا يكون قياسا. قلت: والفرق ظاهر؛ لأن المصدر له دلالة بلفظه على فعله، فكأن الفعل مذكور، وليس كذلك الأسماء، ولأن س قد جعل أسماء الأمر من الثلاثي قياسا، وهو أبعد من هذا، وينبغي أن يفصل فيقال: ما كان منها لها أفعال من لفظها فلا يبعد فيها القياس، وأما ما لم يكن لها فلا قياس فيها. ويدل عليه كون ارفع فيها، نحو: ويح، وويل، ولا يكون النصب أو يقل. قالوا منه: سلام عليك، فرفعوا ليس إلا، ولعنة الله عليه، وهو على فعل من لفظه. وبهذا استدل س على أن استعمالها سماع. انتهى ملخصا. وقد أدخل المصنف فيما هو منصوب بفعل مستعمل وهو بدل من اللفظ بالفعل غفرانك، واتبع في ذلك أبا القاسم الزجاجي. ورد علي الزجاجي ذلك. وقيل: هي من قبيل ما ينتصب بإضمار فعل، ويجوز إظهاره. واضطرب/في غفرانك كلام الأستاذ أبي الحسن بن عصفور، فمرة قال: هي منصوبة بفعل لا يجوز إظهاره، وعدها مع سبحان. ومرة قال: إنما منصوبة بفعل يجوز إظهاره. واختلفوا في الفعل الناصب لها، أهو بمعنى الطلب أم هو بمعنى الخبر:

فذهب الزجاج- ونسبه السجاوندي إلى س- إلى أن التقدير: اغفر غفرانك. وقال الزمخشري: «غفرانك منصوب بإضمار فعل، يقال: غفرانك لا كفرانك، أي: نستغفرك ولا نكفرك». فعلى التقدير الأول الجملة طلبية، وعلى التقدير الثاني الجملة خبرية. وأجاز بعض النحويين أن ينتصب على المفعول به، أي: نطلب أو نسأل غفرانك. وجوز بعضهم فيه الرفع على الابتداء أو إضمار الخبر، أي: غفرانك بغيتنا. وقد خلط المصنف في شرحه بين ما هو مصدر بمعنى فعل الأمر وبين ما هو مصدر يراد به الدعاء، كقوله: سقياً لك، و: فصبراً في مجال الموت صبراً .................. وغيره من النحويين ذكروا كل واحد منهما وحده، لكن المصنف لما رآهما قد اشتركا في الطلب خلطهما في كلامه. وقال المصنف: «ومثله في النهي:

قد زاد حزنك لما قيل: لا حرباً ...............» سمى هذا نهياً، ويريد- والله أعلم- أن المعنى على النهي، فهو تفسير معنى لا تفسير إعراب، ولا يجوز أن يكون تفسير إعراب؛ لأن «لا» التي للنهي من خصائص المضارع، فلا تدخل على الاسم، ولا يجوز أن يدعى أن فعلها محذوف وأن التقدير: لا يحرب حرباً؛ لأن فعل «لا» التي للنهي لا يجوز حذفه. والذي نختاره أن «لا» للنفي، ودخلت على حربٍ، فنفته، وهو مبني على الفتح معها، ونون ضرورة كما نونوا: سلام الله يا مطر عليها ........................ وهو نفي معناه النهي، كما جاء قوله تعالى: {لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} نفياً معناه النهي على أحد التأويلين. وقوله أو خبر إنشائي أو غير إنشائي قال المصنف في الشرح: «والوارد منه في خبر إنشائي نحو: حمداً وشكراً لا كفراً، وعجباً، وقسماً لأفعلن» انتهى. وقد تجوز المصنف في قوله «أو خبر إنشائي» لأن الخبر هو ما يحتمل الصدق والكذب لذاته، والإنشاء لا يحتمل الصدق والكذب، وكأنه يعني أن صورته صورة الخبر، والمعنى على الإنشاء. وما ذكره المصنف من أن حمداً وشكراً وعجباً إنشاء غير موافق عليه من بعض أصحابنا، قال الأستاذ أبو الحسن بن عصفور: «حمداً وشكراً وعجباً ثلاثتها

قائمة مقام أفعالها الناصبة لها، أي: أحمدك حمداً، وأشكرك شكراً، وأعجب/عجبا، وتفارق ما قبلها- يعني ويله وأخواتها- في أن معناها الخبر، وما قبلها معناه الدعاء، وتفارق سبحان الله وأخواتها- وإن كان معناها الخبر- من جهة أنها تتصرف، فتستعمل مرفوعة، نحو قوله: عجب لتلك قضية، وإقامتي فيكم على تلك القضية أعجب وتلك لا تتصرف». فظاهر كلام الأستاذ أبي الحسن أنها خبر لا إنشاء. وقد سردها س مع ما هو خبر، فقال: «هذا باب ما ينتصب على إضمار الفعل المتروك إظهاره. من ذلك قولك: حمداً وشكراً لا كفراً، وعجباً، وأفعل ذلك وكرامة ومسرة ونعمة عين، وحبا ونعام عين، ولا أفعل ذلك ولا كيداً ولا هما، ولأفعلن ذلك ورغماً وهواناً، فإنما ينتصب هذا على إضمار الفعل، كأنك قلت: أحمد الله حمداً، وأشكر الله شكراً، وكأنك قلت: أعجب عجباً، وأكرمك كرامة، وأسرك مسرة، ولا أكاد كيداً، ولا أهم هما، وأرغمك رغماً». ثم قال س: «وقد جاء بعض هذا رفعاً، يبتدأ ثم يبنى عليه». وأنشد س: عجب لتلك قضية .......... ... .......................... البيت. قال: «وسمعنا بعض العرب الموثوق بهم يقال له: كيف أصبحت؟ فيقول: حمد الله وثناء عليه، كأنه قال: أمري وشأني حمد الله وثناء عليه» انتهى.

فظاهر كلام س وما قرره ابن عصفور يدل على أن ما ذكره المصنف من أنه إنشائي ليس كذلك، بل هو خبر. وقد ذهب الأستاذ أبو علي إلى أن قوله حمداً وشكراً لا كفراً يراد به الإنشاء، كما ذهب إليه المصنف، فقال: إن قلت: كيف قال إن هذا لا يظهر فعله، ولا شك أنه يجوز أن تقول: حمدت الله حمداً، وأحمده حمداً؟ فالجواب: إنما تكلم س في حمداً الذي هو نفس الحمد- أعني الذي هو صيغة الإنشاء للحمد- وهذا لا يظهر معه الفعل، بل يتعاقبان، والذي أورده المعترض إنما هو محض الخبر عن الحمد لا نفس الحمد. وقال أبو عمرو بن تقي: قوله- يعني س- حمداً وشكراً لا كفراً كذا يتكلم بالثلاثة مجتمعة، وقد تفرد، وقوله عجباً مفرد عنها. وقال ابن عصفور: لا يستعمل كفراً إلا مع حمداً أو شكراً، ولا يقال أبداً حمداً وحده أو شكراً إلا أن يظهر الفعل على الجواز، ولا يلتزم الإضمار إلا مع لا كفراً، فهذه الأمور لما جرت مجرى المثل ينبغي أن يلتزم فيها ما التزمته العرب. وقال س: «مما ينتصب على إضمار الفعل/المتروك إظهاره، ولكنه في معنى التعجب- قولك: كرماً وصلفاً، كأنه يقول: ألزمك الله». ثم قال: «لأنه صار بدلاً من قولك: أكرم به وأصلف». قال المصنف في الشرح: «هذا أيضاً مما يتناوله الخبر الإنشائي» انتهى.

وتفسير س العامل بقوله «ألزمك الله» هو تفسير من حيث المعنى؛ لأنه لا يتعجب إلا مما صار للإنسان كالسجية إذ كثر ذلك منه. وقال بعض أصحابنا: «تنتصب بفعل من لفظها مضمر، تقديره: لكرم كرماً ولصلف صلفاً، ولم يظهر الفعل لنيابة المصدر منابه وتحمله الضمير، ولذلك قلنا إنه انتصب بكرم لأنه من أبنية التعجب؛ لأن أبنية التعجب ليس منها ما له مصدر إلا فعل» انتهى. وقوله أو غير إنشائي مثل المصنف في الشرح ذلك بقولك في وعد من يعز عليك: أفعل وكرامة ومسرة، وكقولك للمغضوب عليه: لا أفعل ولا كيداً ولا هما، ولأفعلن ما يسوءك، ورغماً وهواناً. انتهى. وهو بعض مثل س. ولا يكون «أفعل ذلك وكرامة» إلا جواباً أبداً، وكأن قائلاً قال: افعل كذا، أو: أتفعله؟ فقلت: أفعله وأكرمك بفعله كرامة وأسرك مسرة، ولا يستعمل مسرة إلا بعد كرامة. وكذا نعمى عين بعد حبا، لا يقال: مسرة وكرامة، ولا: نعمى عين وحبا. وحذف الفعل لأنه أبلغ من ذكره؛ إذ الفعل إنما يدل على زمان مخصوص، والمصدر مبهم، فكان أبلغ، ولما يرى المخاطب من حاله الدالة على ذلك. ويمكن أن يكون ما بعد الواو إنشاء. و «كرامة» هذا اسم موضوع موضع المصدر الذي هو الإكرام، كالعطاء مع الإعطاء. وكذلك نعمة عين، ونعام عين، وهو بفتح النون وضمها وكسرها،

وأنكر الأستاذ أبو علي الفتح، وهما اسمان في معنى إنعام، ولما كانت بمعنى المصدر ذكرت مع المصدر. وتفسير س العامل في «ولا كيداً» بقوله «ولا أكاد» في تفسيره خلاف: ذهب الأعلم إلى أن أكاد هذه التي عملت في كيداً هي الناقصة. وذهب الأستاذ أبو بكر بن طاهر إلى أنها هي التامة، والمعنى: ولا مقاربة. وقال ابن خروف: «يريد: ولا أكاد كيداً، وهي من أفعال المقاربة. ويحتمل أن تكون ناقصة، أي: ولا أكاد أقارب الفعل، وحذف الخبر للعلم له. ويحتمل أن تكون تامة، وهما من هممت بالشيء» انتهى. وقول س «ولأفعلن ذلك ورغماً وهواناً» جواب لمن قال: افعله وإن رغم أنفه رغماً وإن هان هواناً، وعلى النحو الذي جاء بها تستعملها، ولا تتعدى ذلك؛ إذ هي كالمثل، ويقال: أرغم الله/أنفه، ورغم الله أنفه. وفي قول س «وقد جاء بعض هذا رفعاً» وإنشاده «عجب لتلك قضية» دليل على أنه لا يطرد، وهو مخالف لكلام ابن عصفور إنها تستعمل مرفوعة، وعجب مبتدأ، والخبر في لتلك، وجاز الابتداء به لأن فيه معنى المنصوب الذي فيه معنى الفعل، كأنه قال: أعجب لتلك، وقضية: تمييز أو حال. وما ذهب إليه الأعلم من أن «عجب» مرفوعاً على الإهمال ليس بشيء، قال: لأنه لما دخله معنى الفعل لم يحتج إلى خبر؛ لأن الفائدة تمت بالمجرور، وهو الذي أفاد ما يفيده الخبر.

وقال صاحب كتاب «التمهيد»: يقال: نعم عين، ونعمى عين، ونعامى عين، ونعيم عين، ونعام عين، وإنما قدر الفعل الناصب لها رباعيا بالزيادة للدلالة على المعنى، لأن نعمك لا يقال، وإنما يستعمل بحرف الخفض، قال: نعم الله بالخيالين عيناً ... وبمسراك- يا أميم- إلينا وكذلك يقدر في كرامة ومسرة وإن كانت من لفظ الثلاثي. ] وقول س «وقد جاء بعض هذا رفعاً، يبتدأ، ثم يبنى عليه»، قال في البسيط: صارت هذه بدلاً من الفعل، كما كانت في الدعاء والأمر لا يجوز إظهاره فيها لكونها بدلاً؛ كباب سقياً، ولا يكون الإضمار هنا إلا بعد ما يجري ذكر للمبني عليه، أو المتعجب منه، أو المحبوب، أو قول يدل عليه، أو حالة تقتضي ذلك، فذلك هو المجوز للإضمار. وقد يرفع بعض هذه، وليس بقياس، إذا أردت معنى النصب كما كان في أخواته لأنه للفعل، خلافاً لبعضهم، قال: عجب لتلك قضية ............ ... ........................ وإنما يريد: أعجب لتلك القضية عجباً، أي: لأجلها، فلما أنبته عن الفعل صار المجرور بعد المصدر على نحو ما هو بعد سقياً ورعياً، ورفعه على ذلك، ولذلك كان نكرة في معنى الفعل، كما كان في الدعاء والخبر في المجرور.

ويحتمل أن يكون خبراً، كأنه قال: أمري عجب لتلك، ولما أهم ميز بقوله قضية. وقد رفعت على معنى: هي قضية. ونصبت على: أعني. وقيل: على التمييز. ولو قلت حمد لله لكان على الفعل، أو على: أمري حمد لله، وهو أبعد عن معنى الفعل. وأما إذا كانت معارف فالرفع فيها الوجه- كما كان النصب في النكرة [الوجه]- لأجل التعريف، فتقول في أل: الحمد لله، والعجب لك، والكرامة لك والمسرة. ويظهر أنه قياس فيها لأنها في الأصل خبر، بخلاف باب الدعاء. والرفع فيه معنى النصب، والمجرور خبر، أو صلة، والخبر محذوف، أي: شأني وأمري. ويجوز النصب نظراً إلى الأصل، فتقول: الحمد لله، قال س: «ينصبها عامة بني تميم وناس كثير من العرب». وكذلك العجب لك، و «لك» /بعده كما بعد النكرة، قال س: «كأنك قلت: حمداً وعجباً، ثم أتيت بلك لتبين من تعني». وأما المضاف فنحو: حمد الله وثناء عليه، أي: وشأني، قاله بعض العرب جواباً لمن قال: كيف أصبحت؟ وفيه معنى المنصوب، والرفع في هذا يفارق النصب بما ذكرناه في الدعاء].

وقوله أو في توبيخ إلى قوله أو [غائب] في حكم حاضر مثال التوبيخ مع الاستفهام قول الشاعر: أذلا إذا شب الغدا نار حربهم ... وزهواً إذا ما يجنحون إلى السلم ومثال التوبيخ دون الاستفهام قوله: خمولاً وإهمالاً، وغيرك مولع ... بتثبيت أسباب السيادة والمجد ومثاله للنفس قول عامر بن الطفيل يخاطب نفسه: «أغدة كغدة البعير، وموتاً في بيت سلولية». ومثاله لمخاطب قوله: أطرباً وأنت قنسري ومثاله لغائب في حكم حاضر قولك وقد بلغك أن شيخاً يلعب: ألعباً وقد علاك المشيب! وفي البسيط: لابد من مشاهدة الحال أو تقدير مشاهدتها، ففي الاستفهام لا يكون إلا مضمراً إنكاراً عند كونه ملتبساً بالفعل، أو تحسراً وتندماً، نحو: أطرباً وأنت قنسري أي: شيخ. والمقدر هنا فعل حال حاصلاً أو مقدراً.

والمصدر ينتصب في الأصل على الإطلاق، ولكن غيره معنى التنكير لتغييره الخبر. وقد قيل: إنه على الحال المؤكدة؛ لأنه قال س فيه: «ولكنه يخبر أنه في تلك الحال في جلوس وقيام»، وإنما يريد أنه في الزمان والحال في حال الجلوس، فأدخل في على المصدر، فهو حال. قلت: الفعل هو الحال، فعبر عنه بالمصدر والزمان، ولذلك قال: «وإنما أراد: أتطرب، أي: أنت في حال طرب؟» ففسر الفعل بالحال. وقد يجوز أن يكون حالاً. وقيل: يدل عليه أنه لا يجوز أن تقع هنا المعرفة، فلا تقول: الضرب والناس منطلقون؛ لأن الحال لا تكون معرفة، فلزوم التنكير دل على قصد الحال. ومثال التحسر قول عامر بن الطفيل: «أغدة» إلى آخره. ومثال الذم والتوبيخ: أعبداً حل في شعبى غريباً ... ألؤماً- لا أبا لك- واغترابا أي: أتلؤم لؤماً، وتغترب اغتراباً، أي: أتجمع بين الأمرين. قال س: «وهو كثير في كلام العرب». وفي غير استفهام إن تكرر نحو: زيد سيراً سيراً، فلا يجوز الإظهار، ويكون معرفة ونكرة. وإن أفراد: فإن لم يقصد معنى التكرير/والتنبيه على الخبر كان

الحذف على غير الوجوب لقرينة لفظية أو حالية، نحو: غضب الخيل على اللجم، كأنه قال: غضبت، إذ رآه غضبان. وإن لم يكن يقصد ذلك المعنى كان الوجوب، ومنه: وعدت وكان الخلف منك سجية ... مواعيد عرقوب أخاه بيترب ومنه: أوفرقاً خيراً من حب: أي: أفرقك فرقاً خيراً من حب، جواباً لمن قال: أتحبني؟ فقطعته عليه بـ «أو» وأنشد س في الإفراد الواجب: سماع الله والعلماء أني ... أعوذ بحقو خالك يا بن عمرو يريد: أسمع إسماعاً الله، قال س: «جعل نفسه في حال من يسمع، فصار بمنزلة من جعله في حال سير».

ولم يتعرض س للرفع في هذا النوع، ولا يبعد جوازه على تقدير الابتداء، أي: شأنك الطرب، والتعوذ، ونحوه، كما يرفع: حنان، وسمع وطاعة، وقد رفعوا: غضب الخيل على اللجم، على تقدير: غضبك غضب الخيل. وفي البسيط: «أما ما بين محتمل الجملة فما وقع: أنت قد ملكت فإما عدلاً وإما جوراً، ولو قلت فعدلاً أو جوراً لصح، ومنه: وقد كذبتك نفسك، فاكذبنها فإن جزعاً، وإن إجمال صبر وما لم يقع: إما أملك فعدلاً وإحساناً، أي: فأعدل وأحسن. وكذلك: ألم تعلم يا فلان مسيري فإتعاباً وطرداً. ولا يبعد أن يفرد ولا يكرر، فتقول: إما أعطي فمنا، على ما جاز: زيد سيراً، من غير تكرير، ولم أقف عليه. وأما ما يأتي لمقتضى الجملة فهو مشبه للتأكيد، لكنه قطعه عنه، وصيره إخباراً مستأنفاً، كقول جرير: ألم تعلم مسرحي القوافي ... فلا عيا بهن ولا اجتلابا فقد علم أن المسرح لها هو الذي يأتي بها من غير تكلف، ولا يعيا بها، ولا يجتلبها، لكنه لما قدر على ذلك أخبر بأنه لا يعيا بها عيا، ولا يجتلبها اجتلاباً، وقطعه بالفاء من الأول.

ويجوز الرفع في هذه، ونص س عليه؛ لأنه أجاز الرفع في «إن جزعاً وإن إجمال صبر» على: أمري ذلك» انتهى ملخصاً من البسيط. وقوله أو لكونه تفصيل عاقبة طلب مثاله: {فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً}. وقوله أو خبر مثاله/قول الشاعر: لأجهدن فإما درء واقعة ... تخشى، وإما بلوغ السؤل والأمل وقوله أو نائباً عن خبر اسم عين بتكرير أو حصر مثال التكرير قوله: أنا جداً جداً، ولهوك يزد اد، إذا ما إلى اتفاق سبيل ومثال الحصر قوله: ألا إنما المستوجبون تفضلاً ... بداراً إلى نيل التقدم والفضل قال المصنف في الشرح: «واشترط كون هذا بتكرير ليكون أحد اللفظين عوضاً من ظهور الفعل، فبينت بذلك سبب التزام إضمار الفعل، وقام الحصر مقام التكرير؛ لأنه لا يخلو من لفظ يدل عليه، وهو إنما، أو إلا بعد نفي، فجعل ذلك أيضاً عوضاً، ولأن في الحصر من تقوية المعنى ما يقوم مقام التكرير.

ويشترط كون المخبر عنه اسم عين لأنه لو كان اسم معنى لكان المصدر خبراً فيرفع، كقولك: جدك جد عظيم، وإنما بدارك بدار حريص، وإذا كان اسم عين لم يصلح جعل المصدر خبراً له إلا على سبيل المجاز، فإذا لم يصلح جعله خبراً تعين نصبه بفعل هو الخبر، فتقدير أنا جدًّا جدًّا: أنا أجد جدًّا، وتقدير إنما المستوجبون تفضلاً بداراً: إنما المستوجبون تفضلاً يبادرون بداراً. فلو عدم الحصر والتكرير لم يلزم الإضمار، بل يكون جائزاً هو والإظهار». والمصدر إن كرر وجب إضمار الفعل، نحو: زيد سيراً سيراً، وإن زيداً سيراً سيراً، وكان زيد سيراً سيراً، وكذا في أخواتهما. وفي النفي: ما أنت سيراً سيراً. وفي الاستفهام: أأنت سيراً سيراً؟ ويجوز أن يكون معرفاً، تقول: زيد السير السير. وسواء أخبرت عن نفسك أم غيرك، ولا يكون ذلك إلا إذا رأيته على تلك الحال، أو ذكر ذلك، أو قدرت ذلك لنفسك أو غيرك، وذلك على جهة الاتصال، أي: السير متصل بعضه ببعض، أي: توقعه سيراً متوالياً. ومثله في التكرير ما كان بغير لفظه، نحو: أنت قياماً قعوداً، إذا كان لا يريد أحدهما. وكذلك ما عطف عليه مصدر آخر بحرف عطف، نحو: زيد ضرباً وقتلاً، وزيد سيراً وردًّا. وكذلك غير الواو، نحو: أما تقول زيد إما قياماً وإما قعوداً. وإن لم يكرر والمصدر مثبت بعد نفي أو ما في معناه وجب إضمار/العامل، نحو: ما أنت إلا سيراً، وما أنت إلا السير، وإنما أنت سيراً، وما أنت إلا ضرب الناس، وضرباً الناس، على التشبيه، أي: تضرب ضرباً مثل ضرب الناس، وما أنت إلا شرب الإبل، على التشبيه والإضافة ليس إلا، والإخبار فيه على ما تقدم من مشاهدة الحال والاتصال.

وإن لم يكن مثبتاً بعد نفي أو ما في معناه، وكان فيه الاستفهام، نحو: أأنت سيراً؟ لم يجز إظهاره، قيل: لأن ما فيه من معنى الاستفهام الطالب للفعل كأنه ناب عن التكرير. وأما ما ليس فيه ذلك، نحو: زيد سيراً، وما زيد سيراً، ونحوه- فقيل: لا يجب إضمار العامل، بل يجوز إظهاره، وس قد نص على أنت سيراً أنه مما لا يجوز إظهاره؛ لأنه أدخله في الباب، فكذلك: ما أنت سيراً؛ لأنه لا يدل على الفعل. وقد أطلق بعضهم جواز ذلك، ولم يفرق بين الاستفهام وغيره. وهذا النوع- يعني ما نصب على الفعل الواجب إضماره- يجوز فيه الرفع على جهة المجاز والاتساع: أما ما كان غير مكرر فيجوز فيه. ويظهر من قول س أنه قياس مطرد، وكذلك في المعطوف، قال س: «وإن شئت رفعت هذا كله». وأنشد س: .................. فإنما هي إقبال وإدبار ولم يذكر س نصب المعطوف، لكنه يخرج من الرفع، والرفع فيه على معنى النصب من المشاهدة أو تقديرها لأنه مرفوع من هذه الغاية. وأما إنشاء الأخبار في هذا النوع نحو زيد عدل فلا يدخل هنا، بل يكون سماعاً، ولا تجعله إياه حتى تشاهد امتزاجه به حتى كأنه هو ثم تجوزت في التشبيه. ويجوز في المتكرر بالعطف

أن يتسع في الأول دون الثاني إذا كان أحدهما منفصلاً في المعنى من الثاني، نحو: ما زيد ضرب وقتلاً، أي: ولا يقتل قتلاً، أنشد س: لعمرك ما دهري بتأبين هالك ... ولا جزع مما أصاب، فأوجعا أنشده على التجوز فيهما؛ لأنه يريد: وما دهري دهر جزع، قال: «والنصب جائز». وأما إن لم ينفصلا، نحو: زيد سيراً ورداً؛ لأنك تريد: لا يثبت على حالة- فهذا المعنى لا يستقل به أحدهما، فلا بد من رفعهما، كقوله: .................... فإنما هي إقبال وإدبار وما كان مكرراً يضعف الرفع فيه لقوة دلالة الفعل على المعالجة، لكنه جائز، ولا يكون في أحدهما دون الآخر، بخلاف الآخر. انتهى ملخصاً من البسيط. وقوله أو مؤكد جملة ناصة إلى آخره قال المصنف في الشرح: «ومن المضمر عامله وجوباً المصدر المؤكد مضمون جملة، فإن كان لا يتطرق إليها احتمال/يزول بالمصدر سمي مؤكداً لنفسه؛ لأنه بمنزلة تكرير الجملة، فكأنه نفس الجملة، وهو كقوله: له علي دينار اعترفاً. وإن كان مفهوم الجملة يتطرق إليه احتمال يزول بالمصدر فتصير الجملة به نصاً سمي مؤكداً لغيره؛ لأنه ليس بمنزلة تكرير الجملة، فهو غيرها لفظاً ومعنى، وذلك كقولك: هو ابني حقاً» انتهى. وهذا المصدر المؤكد به في ضريبه يجوز أن يأتي نكره، ومعرفة بالألف واللام، وبالإضافة، فمما استعمل معرفة بأل ونكرة: الحق، والباطل، تقول: هذا

عبد الله حقاً، وهذا زيد الحق لا الباطل. وغير وقول تستعمل مضافة لمعروف، نحو: هذا القول لا قولك، وهذا القول غير ما تقول، ويجوز: هذا الأمر غير قيل باطل، وقال تعالى: {صُنْعَ اللَّهِ}، و {وَعْدَ اللَّهِ}؛ لأن الكلام الذي قبله صنع ووعد. وفي البسيط: فالنكرة هذا عبد الله حقاً وقطعاً ويقيناً. وقيل: منه: هو عالم جداً، كقوله: وإن الذي بيني وبين بني أبي ... وبين بني عمي لمختلف جداً وس يقول في قولك هو حسيب جداً: إنه على الحال؛ لأنه يجري عنده وصفاً في قولك: هو العالم جد العالم، فكان على الحال. ومنه لا إله إلا الله قولاً حقاً. والمعرفة: هذا عبد الله الحق لا الباطل، واليقين لا الشك، ولا يبعد أن يكون غير مردود، فتقول: هذا عبد الله الحق، وجوزه المبرد. وقد التزم في بعضها التعريف، فلا يستعمل على التأكيد إلا معرفة، نحو: البتة، كقولك: لا أفعله البتة، ومعناه القطع، ولا عودة له البتة، وأنت طالق البتة، لا يستعمل دون ألف ولام، فأما قوله:

وإني لآتيها، وفي النفس هجرها ... بتاتاً لأخرى الدهر ما طلع الفجر فهو على الحال. وقيل: من هذا الباب، وهو شاذ. وما كان من اللفظ في الإثبات، كقولك: هذا القول قول الحق، وهذا كلامك لا كلام الناس، وهذا القول لا قولك، وهذا زيد غير ما تقول، وهذا الأمر غير قيل باطل؛ لأن الأمر بمنزلة القول، أو لأن «غير قيل باطل». بمعنى حقاً. ومثله: غير ذي شك، وأصله الوصف، كأنك قلت: قولاً غير ذي شك. قال أبو علي: تقول: غير ذي شك زيد منطلق، فتقدم وتؤخر عن العامل فيه المعنى وإن كان متقدماً؛ لأن «غير ذي شك» نقيضة: ظني، وظني قد أجري مجرى الظرف، والظرف يعمل فيه المعنى متقدماً، نحو: أكل يوم لك ثوب، وكذلك هذا. فما كان مصدراً نصب بفعل من لفظه، كأنك قلت: أحق وأقطع وأبت. أو غيرها فبإضمار أقول، أي: أقول غير ما تقول. وأجاز/الفراء والمبرد رفع جميع ذلك، ولم ينص س إلا على الأول، يعني: ما كان توكيداً لنفسه. قال في البسيط: «ولا يبعد القياس عليه، وهو أولى؛ لأنه إخبار ثان بزيادة فائدة، ورفعه على ما ارتفع عليه الأول، وقرئ بالوجهين: {ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ} رفعاً ونصباً، والتقدير في الرفع: هذا القول قول الحق. وأجاز بعض النحويين أن يقع هنا الحق تأكيداً. وهذا لا يكون على التوكيد» انتهى.

وقال المصنف في الشرح: «وأما قولهم أجدك لا تفعل فأجاز فيه أبو علي الفارسي تقديرين: أحدهما أن يكون لا تفعل في موضع الحال. والثاني أن يكون أصله: أجدك أن لا تفعل، ثم حذفت أن، وبطل عملها. وزعم أبو علي الشلوبين أن فيه معنى القسم، ولذلك قدم» انتهى. فإن قلت: كيف أدخل س هذا في المصدر المؤكد لما قبله، وليس كذلك؛ لأنك إذا فرضته مؤكداً فإنما يكون مؤكداً لما بعده. قلت: إنما هو جواب لمن قال: أنا لا أفعل كذا، وبلا شك أن المتكلم يحمل كلامه على الجد، فهو مجد فيما يقول، فإذا قلت أتجد ذلك جداً فهو مؤكد لما قبله، لكنه لم يستعمل قط إلا مضافاً. وقال الشاعر: خليلي، هبا، طالما قد رقدتما ... أجدكما لا تقضيان كراكما وقال آخر: أجدك لن ترى بثعيلبات ... ولا بيدان ناجية ذمولا وقال آخر: أجدك لم تغتمض ليلة ... فترقدها مع رقادها استعمل لن ولم استعمال ما لأنها للحال. وقيل: ليس كذلك لأنه استفهم في الأول عن شيء مستقبل، وفي الثاني عن شيء ماض.

وقولهم أجدك لا تفعل كذا بمنزلة: أحقاً لا تفعل كذا، وكأنه قال: أجد جداً، كما تقول: أحق حقا. وقوله والأصح منع تقديمهما يعني أنه لا يجوز أن تقول: اعترافاً له علي دينار، ولا: حقا هو ابني، على الصحيح. وسبب ذلك أن العامل في هذا المصدر هو فعل يفسره مضمون الجملة المتقدمة من جهة المعنى؛ إذ تقديره: أعترف بذلك اعترافاً، وأحقه حقا، فأشبه ما العامل فيه معنى الفعل، فكما لا يجوز تقديم ما عمل فيه معنى الفعل على معنى الفعل كذلك لا يجوز تقديم هذا المصدر على الجملة المفسرة ما كان عاملاً فيه. والذي منع التقديم هو الزجاج ومن أخذ بمذهبه. /وأجاز توسيطه، فتقول: هذا حقا عبد الله. قيل له: كيف أجرت توسيطه ولم يتقدم شيء يدل على الفعل؟ قال: إذا تقدم جزؤه فلا بد له من جزء آخر ينضاف إليه، والجزء الأول المراد ضمه إلى غيره مبني على التحقيق، فقد تقدم ما يدل على الفعل، ويدل على التوسط قوله: وكذاكم مصير كل أناس ... سوف حقا تبليهم الأيام وقال: إني- ورب القائم المهدي- ما زلت حقا- يا بني عدي- أخا اعتلال، وعلى أدي أي: سفر. ومن ذهب إلى جواز التقديم استدل بقولهم: أحقا زيد منطلق؟ وذلك أن الهمزة تتعين أن تكون داخلة على الفعل الناصب للمصدر، فالمعنى: أأحق حقا؛

لأن تقدير دخولها على ما بعد المصدر، فيكون المعنى أزيد منطلق حقا- يؤدي إلى الفصل بين همزة الاستفهام والمستفهم عنه بجملة، ولا نعلم أحداً أجاز ذلك إلا يونس، قال في قوله: أحار، ترى برقاً، أريك وميضه .................... إن الهمزة للاستفهام لا للنداء، والمعنى: أترى- يا حار- برقاً. قال: «ولا يجوز أن يكون نداء؛ لأن المعنى في ترى على الاستفهام، ولا يجوز حذف حرف الاستفهام إلا أن يكون في الكلام ما يدل عليه، نحو: ......................... بسبع رمين الجمر أم بثمان» انتهى. وعلى تقدير صحة مذهبه يكون ذلك جائزاً في الشعر، فلا يدعى في الكلام، وتبين بذلك أنه قد تقدم مع أنه لم يتقدمه دليل. وأول من منع ذلك على أن قولهم: أحقا زيد منطلق؟ انتصب انتصاب الظرف لا انتصاب المصدر المؤكد، والمعنى: أفي حق زيد منطلق؟ وقد نص س في أحقا أنك منطلق على أنه ظرف خبر للمبتدأ الذي هو أن المفتوحة. وفي البسيط: قيل: يجوز أن يتوسط هذا المؤكد، فتقول: والله قسماً لأفعلن، وله علي عرفا ألف درهم. وقيل: مثله قول الأحوص: إني لأمنحك الصدود، وإنني ... قسماً إليك مع الصدود لأميل

وأصله: إنني لأميل قسماً. وعند الزجاج أن هذا النوع كله إنما يؤكد به لإزالة احتمال ما، ولو على بعد أو تقدير، وإلا لم تكن فيه الفائدة. وهي في كلها بإضمار أفعال من لفظ المصدر، كأنه قال: أعترف اعترافاً، وصبغ الله صبغة، وصنع صنعة، وكتب كتابه، ونحوه. ويجوز رفع ذلك كله بنص س على تقدير الابتداء، ويكون /لازم الإضمار كالفعل، كأنك قلت: ذاك صنع [الله]، وصبغته، أو: هو، ونحوه. -[ص: ومن الملتزم إضمار ناصبه المشبه به مشعراً بحدوث بعد جملة حاوية فعله وفاعله معنى دون لفظ، ولا صلاحية للعمل فيه، وإتباعه جائز، وإن وقعت صفته موقعه فإتباعها أولى من نصبها، وكذا التالي جملة خالية مما هو له.]- ش: يعني بقوله المشبه به المصدر المشبه به، ومثال ذلك: مررت به فإذا له صوت صوت حمار، ومررت به فإذا له صراخ صراخ الثكلى، قال: مقذوفة بدخيس النحض، بازلها ... له صريف صريف القعو بالمسد وقال الجعدي:

لها بعد إسناد الكليم وهدئه ... ورنة من يبكي إذا كان باكيا هدير هدير الثور، ينفض رأسه ... يذب بروقيه الكلاب الضواريا واحترز بقوله مشعراً بحدوث مما لا يشعر بتجدد حدوث، كقولك: له ذكاء ذكاء الحكماء. قال المصنف: «ولا يجوز النصب؛ لأن نصب صوت وشبهه لم يثبت إلا لكون ما قبله بمنزلة يفعل مسنداً إلى فاعل، فقولك مررت بزيد وله صوت بمنزلة قولك: مررت به وهو يصوت، فاستقام نصب ما بعده لاستقامة تقدير الفعل في موضعه، وإذا قلت مررت بزيد وله ذكاء فلست تريد أنك مررت به وهو يفعل، بل أخبرت عنه بأنه ذو ذكاء، فنزل ذلك منزلة: مررت به وله يد يد أسد، فكما لا ينصب يد أسد لا ينصب ما هو بمنزلته، فإن عبرت بالذكاء عن عمل دال على الذكاء جاز النصب» انتهى. وقال س: «فإنما انتصب هذا لأنك مررت به في حال تصويت، ولم ترد أن تجعل الآخر صفة للأول ولا بدلاً منه، ولكنك لما قلت له صوت علم أنه قد كان ثم عمل، فصار قولك له صوت بمنزلة قولك: فإذا هو يصوت، فحملت الثاني على المعنى». ثم قال: «كأنه توهم بعد قوله له صوت: يصوت صوت الحمار، أو يبديه، أو يخرجه صوت حمار» انتهى. فانتصابه على هذا هو على أن يكون مصدراً مبيناً إن قدرت العامل من لفظ صوت، أو على أن يكون حالاً إن قدرت العامل من غير لفظ صوت. قال س: «فانتصب» وهو مرفوع فيه، وعلته لأنه قدره: «يصوت» تارة، و «يبديه» أخرى، فإذا كان «يبديه مثل صوت الحمار» فهذه حال وقع عليها الفعل؛ لأن الصوت

ليس من جهة صفة الإبداء، وإذا كان «يصوت» كان حالاً وقع فيها الفعل بمعنى سقط؛ لأن الصوت الذي هو مثل صوت الحمار من صفة التصويت، وسيبويه يجعل الحال إذا كانت من صفة الفعل حالاً وقع فيها الفعل، نحو: جاء زيد مسرعاً؛ لأن السرعة من صفة المجيء، وإذا كانت من صفة الفاعل جعلها حالاً وقع عليها الفعل، نحو: جاء زيد ضاحكاً؛ لأن الضحك من صفة زيد لا من صفة المجيء. واحترز بقوله بعد جملة من أن يكون بعد مفرد، فإنه لا يجوز فيه النصب، مثاله: صوته صوت حمار. فإن كان المفرد يتضمن إسناداً معنوياً فهل يجري مجرى الجملة أم يجري مجرى المفرد؟ في ذلك نظر، مثاله: زيد له صوت صوت حمار، إذا جعلت صوت/مرفوعاً بالمجرور، ويكون التقدير: زيد كائن له صوت صوت حمار. واحترز بقوله حاوية فعله وفاعله معنى دون لفظ من نحو قوله: عليه نوح نوح الحمام؛ لأن الهاء في عليه ليست بفاعل، وفيها صوت صوت حمار، فـ «صوت حمار» بدل أو صفة. قال المصنف في الشرح: «ويضعف النصب لأنه إنما استحسن في له صوت صوت حمار لأن صوت بمنزلة هو يصوت لاشتماله على صاحب الصوت والصوت، فجاز أن يجعل بدلاً من اللفظ بيصوت مسنداً إلى ضمير، بخلاف فيها صوت، فإنه لم يتضمن إلا الصوت، فلم يحسن أن يجعل بدلاً من اللفظ بيصوت. ومع ذلك فالنصب جائز على ضعف؛ لأن الكلام الذي قبله وإن لم يتضمن اسم ما هو فاعل في المعنى فكونه جملة متضمنة للصوت كاف، فإنك إذا قلت فيها صوت علم أن فيها مصوتا لاستحالة صوت بلا مصوت».

قال س: «هذا صوت صوت حمار؛ لأنك لم تذكر فاعلاً، ولأن الآخر هو الأول». ثم قال: «وإن شبهت فهو رفع؛ لأنك لم تذكر فاعلاً يفعله». ثم قال: «ولو نصبت كان وجهاً؛ لأنه قد علم أن مع النوح والصوت فاعلين». وقال بعض أصحابنا: أفعال العلاج إما أن يتقدم فيها الضمير الذي هو فاعل في المعنى، نحو: فإذا له صوت صوت حمار، وإما أن يتأخر، نحو: فإذا صوته صوت حمار، وإما أن يذكر لا متقدماً ولا متأخراً، نحو: هذا صوت صوت حمار. واحترز بقوله ولا صلاحية للعمل فيه مما يكون فيه صلاحية للعمل فيه، نحو قولك: هو مصوت صوت حمار، فانتصاب صوت حمار بقولك مصوت، فهذه جملة تضمنت ما فيه معنى الفعل والصلاحية للعمل، فهو العامل للنصب فيه. وقال الأستاذ أبو علي: «مررت به فإذا له صوت صوت حمار من هذه المسألة، إن كان منكراً فنصبه على وجهين: على الحال، وعلى المصدر، وعلى الحال على وجهين: على حذف مثل، وتقدر إن شئت: له صوت يبديه مثل صوت حمار، أو: له صوت يصوت مثل صوت حمار. أو لا على حذف مثل، وتجعل صوت حمار بإزاء: منكر، وتأخذ منه المعقول لأنه جنس، ويكون التقدير: يبديه في حال أنه صوت حمار، أي: منكراً. أو تجعل صوت حمار صوته مجازاً، ولا تأخذ منه المعقول، بل تأخذه بإزاء نسبته إلى الحمار، كما تقول: فلان يضرب ضرب زيد أمس، فإن هذا لا يتصور إلا على حذف مثل، أو على هذا الوجه الأخير، كأنك جعلت ضرب هذا الضارب هو ضرب زيد أمس مبالغة واتساعاً. ولا يمكن أن تفعل فيه ما فعلت في

صوت حمار من حمله على الوجه الثاني؛ /لأنك فيه أخذت صوت حمار معقولاً ذهنياً، فيمكن أن يوقع، وهذا أخذته شخصياً حاصلاً في الوجود قد انقرض، فمحال أن يوقع. فهذه ثلاثة أوجه، وفي كل واحد منها تترك الصوت على وضعه من أنه الحقيقة الناشئة عن التصويت، لا تجعله بمنزلة التصويت الذي هو فعلك من تهيئة الأسباب الموجبة للصوت. وإن جعلته مصدراً تصورت فيه هذه الوجوه كلها، فيمكن أن تقدر: مررت به فإذا له صوت يصوت تصويتاً مثل تصويت حمار، ثم حذفت تصويتاً، وتركت مثل في الكلام، وكان صفة له، فصار نصبه على المصدر لأنها صفة مضافة إلى المصدر، بخلاف رويداً، ثم حذفت المضاف، وأقمت المضاف إليه مقامه، وأعربته مصدراً، ثم وضع الصوت موضع التصويت، هذا وجه. والوجه الآخر: أن يكون: فإذا له صوت يصوت صوت حمار، وجعل صوت حمار مصدراً يصل إليه يصوت بنفسه من غير حذف على التجويزين المتقدمين في الحال؛ ولا بد في هذا كله من إخراج صوت عن وضعه وتصييره في موضع التصويت. وأما إن كان معرفة فلا يتصور فيه إلا نصبه على المصدر» انتهى كلامه. فإن قلت: ما الداعي إلى أن يضمر ناصب لقوله صوت حمار؟ وهلا نصب بقوله صوت من قوله: له صوت، وكأنك قلت: له أن يصوت صوت حمار. فالجواب: أنه لم يرد بقوله فإذا له صوت أنه يعالج الصوت، ويخرجه على هذه الصفة، وإنما أريد به ما يسمع. وكذلك: له هدير، لم يرد أنه يحاول الهدير، إنما أريد ما يسمع. والصوت هنا ليس المصدر الذي ينحل بحرف مصدري والفعل، ولا الذي يكون بدلاً من لفظ الفعل في الأمر والاستفهام، وإنما يراد به ما هو ناشاء عن التصويت.

وقوله وإتباعه جائز يعني رفعه: فإن كان نكرة جاز فيه وجهان: أحدهما الصفة، والثاني أن يكون بدلاً. وقد أشار س إلى الوجهين في صدر المسألة حين قال: «ولم ترد أن تجعل الآخر صفة للأول ولا بدلاً منه». ويجوز أن يكون خبر مبتدأ محذوف، أي: هو صوت حمار. وإن كان معرفة كقوله: «لها هدير هدير الثور» فالبدل. ويجوز أن يكون خبر مبتدأ محذوف. ولا يجوز أن يكون صفة لأنه معرفة، وصوت قبله نكره. وأجاز ذلك الخليل؛ لأنه عنده في معنى النكرة، ألا ترى أنها في المعنى مضاف إليها مثل. وزعم س أن هذا قبيح ضعيف، لا يجوز إلا في موضع اضطرار. وهو الصحيح على ما يبين في باب النعت، إن شاء الله. واختلف في أيهما الوجه: النصب أم الرفع: فقال ابن/خروف: النصب في هذا الباب الوجه؛ لأن الثاني ليس بالأول، فيدخله المجاز والاتساع. وقال ابن عصفور: الرفع والنصب فيه متكافئان؛ لأن النصب فيه الإضمار وإن كان ثم ما يدل عليه، وفي الرفع المجاز؛ لأنه جعل الأول فيه الثاني، وليس به. وقوله وإن وقعت صفته موقعه فإتباعها أولى من نصبها مثال ذلك: له صوت أيما صوت، وله صوت مثل صوت الحمار، ذكر س أن الاختيار فيه الرفع. وكذلك إذا ذكرت صوتاً ووصفته، نحو قولك: له صوت صوت حسن؛ لأنك إنما أردت الوصف، فذكرت صوتاً توطئة له، فلما لم ترد أن تحمله على الفعل، وكان الآخر الأول- رفعت.

وقال س: «وإن قلت: له صوت أيما صوت، أو: مثل صوت الحمار، أو: له صوت صوتاً حسناً- جاز، زعم ذلك الخليل. ويقوي ذلك أن يونس وعيسى جميعاً زعما أن رؤبة كان ينشد هذا البيت نصباً: فيها ازدهاف ... أيما ازدهاف فحمله على الفعل الذي ينصب صوت حمار؛ لأن ذلك الفعل لو ظهر نصب ما كان صفة وما كان غير صفة» انتهى. فالتقدير: يصوت صوتاً حسناً، ويصوت أيما صوت، ويصوت مثل صوت الحمار. وقوله وكذا التالي جملة خالية مما هو له مثاله: هذا صوت صوت حمار، وعليه نوح نوح الحمام، وفيها صوت صوت حمار. ويعني بقوله وكذا أي: الإتباع أولى من النصب، وتقدم كلام المصنف على شيء من هذا. وقال: «ولو نصبت كان وجهاً؛ لأنه إذا قال: هذا صوت، أو هذا نوح، أو عليه [نوح]- فقد علم أن مع النوح والصوت فاعلين، فحمله على المعنى، كما قال: ليبك يزيد ضارع لخصومة ....................... قال المصنف في الشرح: «ويلحق بله صوت صوت حمار قول أبي كبير الهذلي:

ما إن يمس الأرض إلا منكب ... منه، وحرف الساق، طي المحمل ولذلك قال س: صار ما إن يمس الأرض بمنزلة: له طي». -[ص: وقد يرفع مبتدأ المفيد طلباً، وخبراً المكرر والمحصور والمؤكد نفسه والمفيد خبراً إنشائياً وغير إنشائي.]- ش: المفيد طلباً قولك: صبر صبر. ومنه غير مكرر قول حسان: أهاجيتم حسان عند ذكائه ... فغي لأولاد الحماس طويل وقول الآخر: يشكو إلي جملي طول السرى ... صبر جميل، فكلانا مبتلى/ ومثاله خبراً: أنت سير سير. ومثال المحصور: إنما أنت سير. ومثال المؤكد نفسه: له علي دينار اعتراف، ورفعه على إضمار مبتدأ، أي: هذا الكلام اعتراف. ومثال المفيد خبراً إنشائيا قول الشاعر: عجب لتلك قضية ................ ... ............................ ومثال المفيد خبراً غير إنشائي قول الشاعر:

أقام، وأقوى ذات يوم، وخيبة ... لأول من يلقى وشر ميسر -[ص: وقد ينوب عن المصدر اللازم إضمار ناصبه صفات كعائذاً بك، وهنيئاً لك، وأقائماً وقد قعد الناس، وأقاعداً وقد سار الركب، وقائماً قد علم الله وقد قعد الناس. وأسماء أعيان، كتربا وجندلا، وفاها لفيك، وأأعور وذا ناب. والأصح كون الأسماء مفعولات، والصفات أحوالاً.]- ش: أما عائذاً وقائماً وقاعداً فأسماء فاعلين في الأصل، وانتصابها على أنها أحوال مؤكدة لعاملها الملتزم إضماره، والتقدير: أتقوم قائماً، وأتقعد قاعداً، وأعوذ عائذا بالله. قال بعض أصحابنا: «وهي موقوفة على السماع». وقال غيره: زعم س أن هذا مقيس، يقال لكل من كان لازماً صفة دائباً عليها: أضاحكاً، وأخارجاً. وزعم المبرد أن انتصاب أقائماً وأقاعداً وعائذاً بك على أنها مصادر، وجاءت على فاعل، كقولهم: فلج فالجاً، نحو العافية والعاقبة، فكأنك قلت: أقياماً، وأقعوداً، وعياذاً. قال: لأن الحال المؤكدة تضعف. وما ذهب إليه المبرد ليس بصحيح؛ لأن الحال المؤكدة جاءت في أفصح كلام، قال تعالى: {وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا}، وقال: {وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ

وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ}. ولأنه ثبت أن عائذاً وقائماً وقاعداً أسماء فاعلين بلا خلاف، والمصدرية فيها دعوى لا دليل عليها. ولأنه لو كانت مصادر لوقعت في غير هذا المكان مصادر، فكنت تقول: قمت قائماً طويلاً، وقائم خاشع، والقائم المعروف، في معنى: قياماً طويلاً، وقيام خاشع، والقيام المعروف، وذلك لا يقال. ولأنه لو كانت مصادر لجاز أن تأتي معرفة ونكرة كما أتى: الحمد لله، والعجب لك. فكونهم التزموا فيها التنكير دليل على أنها أحوال لا مصادر، وهذه الأحوال تحملت ضميراً لما وضعت موضع الفعل الناصب لها، وصارت بدلاً منه، ولذلك لا يظهر معها الفعل، فلو أسندت إلى غير الضمير برز الفاعل، فكنت تقول: أقائماً زيد وقد قعد الناس، ومن ذلك قوله: /أتاركة تدللها قطام ... وضنا بالتحية والسلام فقطام فاعل بقوله أتاركه. ولما كانت المصادر نائبة عن الأفعال في الاستفهام وغيره جاءت هذه الأسماء كذلك، فمن الاستفهام: أتاركة تدللها قطام. ومن غيره قول الشاعر: ألحق عذابك بالقوم الذين طغوا ... وعائذاً بك أن يعلوا، فيطغوني التقدير: وأعوذ عائذاً بك، حذف الفعل، وأقام الحال كما كان يفعل بالمصدر لو قال: عياذاً بك. ومن العرب من يقول: عائذ بالله، يضمر له مبتدأ، أي: أنا عائذ بالله.

وأما «هنيئاً لك» فهنيء صفة للمبالغة، تقول هنأني الطعام، أي: ساغ لي وطاب، واسم الفاعل هاناء، وهنيء فعيل للمبالغة. ويجوز أن يكون صفة من هنؤ الطعام: إذا ساغ ولا تنغيص فيه، كما تقول: شرف فهو شريف. وكذلك مريئاً، يحتمل أن يكون من هنأني الطعام ومرأني، ومن هنؤ الطعام ومرؤ. فإذا لم يكن هنأني قلت: أمرأني، رباعياً، واستعمل مع هنأني ثلاثياً للإتباع. قيل: واشتقاق الهنيء من هناء البعير، وهو الدواء الذي يطلى به، ويوضع في عقره، قال الشاعر: متبذل، تبدو محاسنه ... يضع الهناء مواضع النقب والمريء: ما يساغ في الحلق، ومنه قيل لمجرى الطعام من الحلقوم إلى فم المعدة: المريء. قال س: «هنيئاً مريئاً صفتان، نصبوهما نصب المصادر المدعو بها بالفعل غير المستعمل إظهاره؛ المختزل للدلالة التي في الكلام عليه، كأنهم قالوا: ثبت ذلك هنيئاً مريئاً» انتهى. ومريئاً تابع لهنيئاً. وذهب الزمخشري في قوله تعالى: {هَنِيئًا مَرِيئًا} إلى أن انتصابه على أنه نعت لمصدر محذوف، أي: فكلوه أكلاً هنيئاً، أو على أنه حال من ضمير المفعول. وهو قول مخالف لقول أئمة العربية س وغيره، فعلى ما قاله أئمة العربية يكون: {هَنِيئًا مَرِيئًا} من جملة أخرى غير قوله: {فَكُلُوهُ}، ولا تعلق له به من حيث الإعراب، بل من حيث المعنى.

وجماع القول في هنيئاً أنها حال قائمة مقام الفعل الناصب لها، فإذا قيل: إن فلاناً أصاب خيراً، فقلت: هنيئاً له ذلك- فالأصل: ثبت له ذلك هنيئا، فحذف ثبت، وأقيم هنيئاً مقامه. واختلفوا إذ ذاك فيما يرتفع به «ذلك»: فذهب السيرافي إلى أنه مرفوع بذلك الفعل المختزل الذي هو ثبت، وهنيئاً حال من «ذلك»، وفي هنيئاً ضمير يعود على «ذلك». وإذا قلت هنيئاً، ولم تقل ذلك، بل اقتصرت على قولك هنيئاً ففي هنيء ضمير مستتر يعود على ذي الحال، وهو ضمير الفاعل/الذي استتر في ثبت المحذوفة. وذهب الفارسي إلى أن «ذلك» في قولك «هنيئاً له ذلك» مرفوع بـ «هنيئاً» القائم مقام الفعل المحذوف؛ لأنه صار عوضاً منه، فعمل عمله، كما أنك إذا قلت زيد في الدار رفع المجرور الضمير الذي كان مرفوعاً بمستقر لأنه عوض منه، ولا يكون في هنيئاً ضمير؛ لأنه قد رفع الظاهر الذي هو اسم الإشارة. وإذا قلت «هنيئاً» ففيه ضمير فاعل بها، وهو الضمير الذي كان فاعلاً لثبت، ويكون هنيئاً قد قام مقام الفعل المختزل مفرغاً من الفاعل. وإذا قلت «هنيئاً مريئاً» ففي نصب مريء خلاف: ذهب بعضهم إلى أنه صفة لقولك هنيئاً، وممن ذهب إلى ذلك أبو الحسن الحوفي. وذهب الفارسي إلى أن انتصابه انتصاب هنيئاً، فالتقدير عنده: ثبت مريئاً، ولا يجوز عنده أن يكون

صفة لـ «هنيء» من جهة أن هنيئاً لما كان عوضاً من الفعل صار حكمه حكم الفعل الذي ناب منابه، والفعل لا يوصف، فكذلك لا يوصف هو. وقد ألم الزمخشري بشيء مما قاله النحاة في هنيئاً، لكنه حرفه، فقال بعد أن قدم انتصابه على أنه وصف للمصدر أو حال من الضمير في فكلوه: «أي: كلوه وهو هنيء»، قال: «وقد يوقف على فكلوه، ويبتدأ هنيئاً مريئاً على الدعاء، وعلى أنهما صفتان أقيمتا مقام المصدر، فانتصابهما على هذا انتصاب المصدر»، ولذلك كأنه قال: هنيئاً ومريئاً، فصار كقولك: سقياً ورعياً، أي: هنأه ومرأه. والنحاة يجعلون انتصاب هنيئاً على الحال، كما ذكرناه عنهم، وانتصاب مريئاً على ما ذكرناه من الخلاف، إما على الحال وإما على الوصف. ويدل على فساد ما حرفه الزمخشري وصحة قول النحاة ارتفاع الأسماء الظاهرة بعد: هنيئاً مريئاً، ولو كانا منتصبين انتصاب المصادر المراد بها الدعاء ما جاز ذلك فيها، تقول: سقياً ورعياً، ولا يجوز: سقياً الله ذلك، وإن كان ذلك جائزاً في فعله، تقول: سقاك الله، ورعاك الله. والدليل على جواز رفع الأسماء الظاهرة بعدها قول الشاعر: هنيئاً مريئاً غير داء مخامر ... لعزة من أعراضنا ما استحلت وقول الآخر: هنيئاً لأرباب البيوت بيوتهم ... وللعزب المسكين ما يتلمس

فـ «ما استحلت» و «بيوتهم» مرفوعان إما بهنيئاً أو بثبت المحذوفة على الخلاف الذي بين السيرافي وأبي علي، وتقدم من قولنا إن مريئاً تابع لهنيء. وذهب بعضهم إلى أنه يستعمل وحده غير تابع لهنيئاً، ولا يحفظ ذلك من كلام العرب إلا في بيت فرق/بينهما، أنشده أبو العباس، وهو: كل هنيئاً، وما شربت مريئاً ... ثم قم صاغراً، فغير كريم وتقدم من قولنا إن هنيئاً ومريئاً اسما فاعل للمبالغة. وأجاز أبو البقاء العكبري أن يكونا مصدرين جاءا على وزن فعيل كالصهيل والهدير، وليسا من باب ما يطرد فيه فعيل في المصدر؛ لأن ذلك لا يكون في غير الأصوات إلا قليلاً كالنقير. وقد أورد المصنف هنيئاً مع: عائذاً بك، وأقائماً وقد قعد الناس، وهما وأشباههما منصوبات بأفعال مضمرة من لفظها. وهنيئاً ذكر فيه س تقديرين: أحدهما أنه منصوب بثبت. والتقدير الثاني أنه منصوب بهنأ، أي: هنأه ذلك هنيئاً. قال س: «فاختزل الفعل لأنه صار بدلاً من اللفظ بقولك هنأك»، فعلى هذا التقدير يكون هنيئاً موافقاً لقولك: عائذاً بالله، وأقائماً وقد قعد الناس، إلا أنه فيه معنى الدعاء. قال بعض أصحابنا: ونصبه بثبت أولى لكون الحال فيه مبينة، وإن نصبته بهنأ كان هنيئاً حالاً مؤكدة.

وقوله وأسماء أعيان كترباً وجندلاً انتصاب هذا على تقدير: ألزمك الله، أو أطعمك ترباً وجندلاً، قال س: «واختزل الفعل هنا لأنهم جعلوه بدلاً من قولك: تربت يداك»، ويعني س أنه لا يقال ترباً إلا في المعنى الذي يقال فيه: تربت يداك، لا أن تربت يداك هو الناصب لترباً؛ لأنه ليس بمصدر. ويجوز رفعه على الابتداء، و «لك» الخبر، قال الشاعر: لقد ألب الواشون ألباً بجمعهم ... فترب لأفواه الوشاة وجندل وهو في الرفع بمعنى النصب من الدعاء. ولا ينقاس الرفع في أسماء الأعيان التي يدعى بها، لو قلت: فوها لفيك، على قصد الدعاء- لم يجز. ولا تعريفها بالألف واللام؛ لأن الدعاء بالاسم قليل، والألف واللام للاسم الذي لم يوضع موضع الفعل. وفي البسيط: «وقد أدخلوا هنا الألف واللام، كما فعلوا في المصدر رفعاً ونصباً، فقالوا: الترب له، والترب له» انتهى. ولا يقاس هذا الباب، لا يقال: أرضاً، ولا جبلاً، بهذا المعنى. وقوله وفاها لفيك الضمير في فاها للداهية، قاله س. ويستعمل هذا في معنى: دهاه الله. وإنما قال لفيك لأن فم الإنسان في غالب أحواله منه يكون هلاكه، إما بأن يتكلم فيجني عليه كلامه، وإما أن الأغذية إنما تتوصل لهلاكه من فيه.

وجعل بعضهم الضمير في فاها عائداً على الخيبة. وانتصب فاها بإضمار فعل، تقديره: ألزم الله فاها لفيك، وجعل الله فاها لفيك، وأنشد س: /فقلت له: فاها لفيك، فإنها قلوص امرئ، قاريك ما أنت حاذره وقوله وأأعور وذا ناب قال المصنف في الشرح: «ومن نيابة المفعول به عن فعل الإنكار قول رجل من بني أسد: «يا بني أسد، أأعور وذا ناب»؟ يريد: أتستقبلون أعور وذا ناب، وذلك في يوم التقى فيه بنو أسد وبنو عامر، فرأى بعض الأسديين بعيراً أعور، فتطير، وقال لقومه هذا الكلام، فقضى أن قومه هزموا، وقتل منهم» انتهى. ويعرف هذا اليوم الذي التقيا فيه يوم جبلة، وكان بنو عامر قد جعلوا في مقدمتهم عند اللقاء جملاً أعور مشوه الخلق ذا ناب، وهو المسن، فعلوا ذلك ليتطير به الآخرون، فيكون ذلك سبباً لانهزامهم، فلما رأوه قال بعضهم: أأعور وذا ناب؟ أي: أتستقبلون هذا، وأنكر عليهم استقبالهم إياه، فلم يسمعوا منه، فهزموا، كأنه تطير بالناب، وتفاءل منه غماء وشدة، وبالعور؛ لأنه نقصان وتعور أمر، وكأنه قال: أتستقبلون من الأمر ما فيه عور وشدة، هذا تفسير المعنى، وتفسير الإعراب ما ذكره س، فانتصب على أنه مفعول به، والعرب تكره البعير الأعور إذا رأته في عسكر عدوها. وقيل: إنهم لقوا بعيراً أعور وكلباً. وقيل: بل البعير كان

له ناب طويلة. قال س: «ولو قال أعور وذو ناب كان مصيباً» انتهى. وارتفاعه على مبتدأ مضمر يقدر فيه ما يصلح للمعنى، أي: مستقبلكم، أو مقابلكم، أو مصادفكم أعور. وقوله والأصح كون الأسماء مفعولات والصفات أحوالاً أما الخلاف في الصفات فقد تقدم الكلام فيه، وأن المبرد يزعم أنها مصادر جاءت على وزن الصفة، وتقدم الرد عليه. وأما الأسماء التي هي: ترباً وجندلاً، وفاها لفيك، وأعور وذا ناب- فقد قدر س لها عوامل تنصبها نصب المفعول به، وهو الذي اختار المصنف، وهو تأويل الأكثرين. وذهب الأستاذ أبو علي وغيره إلى أن ترباً وجندلاً ينتصب كنصب المصادر؛ لأنها وإن كانت جواهر فقد وقعت موضع المصادر؛ لأن هذا المعنى كثر فيها، فلذلك قدرها س بألزمك الله، أو أطعمك، ثم قال: «لأنهم جعلوه بدلاً من تربت يداك». فالأول هو التقدير الأصلي، والثاني هو الطارئ الذي قلناه. وكذلك قدر في جندلاً فعلاً من لفظه ينتصب عليه، ولذلك تدخل فيه اللام، فتقول: ترباً لك، كما تقول: سقياً لك، وقصته قصته. وأما «أعور وذا ناب» فقد تقدم تقدير س له: أتستقبلون أعور وذا ناب، فظاهرة ما ذهب إليه المصنف /من أنه منصوب على المفعول به.

وقال الأستاذ أبو الحسن بن عصفور: قول س «أتستقبلون أعور» مشكل؛ لأن الأسماء التي ذكر في هذا الباب أحوال مبينة. وقال الأستاذ أبو الحسن بن خروف: ظاهره أنه مفعول، ولم يرد ذلك، إنما قاله على جهة التفسير والبيان، وحقيقة التقدير فيه: أتستقبلونه أعور وذا ناب، ولم يذكر في الباب مفعولاً، فإنما أراد ما يظهر في التفسير، ولم يقصد الإعراب ولا إلى الفعل الذي هذا الاسم بدل منه. وقال ابن عصفور: يتخرج ذلك على وجهين: أحدهما أن يكون تفسير معنى، وإنما أراد: أتستقبلونه أعور، وإذا استقبلوه أعور فقد استقبلوا الأعور. والثاني أن يكون حذف المفعول اقتصاراً أو اختصاراً، فيكون تفسير إعراب. وقد خلط المصنف في جمعه بين ترباً، وجندلاً، وفاها لفيك، وبين أعور وذا ناب، فذكرهما في فصل واحد، وس ذكر الثلاثة الأول في «باب ما جرى من الأسماء مجرى المصادر التي يدعى بها»، وذكر أعور وذا ناب في «باب ما جرى من الأسماء التي لم تؤخذ من الفعل مجرى الأسماء التي أخذت من الفعل»، فذكر في هذا الباب: أتميميا مرة وقيسياً أخرى، وأأعور وذا ناب، وقول الشاعر: أفي السلم أعياراً جفاء وغلظة ... وفي الحرب أشباه النساء العوارك

وقول الآخر: أفي الولائم أولاداً لواحدة ... وفي العيادة أولاداً لعلات ويجوز النصب في الخبر أيضاً، فتقول: تميميا مرة وقيسياً أخرى، وأنشد يعقوب: هلا غير عمكم ظلمتم ... إذا ما كنتم متظلمينا عفاريتاً علي وأكل مالي ... وجبناً عن رجال آخرينا ويجوز ارتفاع ذلك، فتقول: أتميمي مرة وقيسي أخرى؟ على إضمار مبتدأ، التقدير: أأنت تميمي مرة.

باب المفعول له

-[ص: باب المفعول له وهو المصدر المعلل به حدث شاركه في الوقت ظاهراً أو مقدراً، والفاعل تحقيقاً أو تقديراً. وينصبه مفهم الحدث نصب المفعول به المصاحب في الأصل حرف جر، لا نصب نوع المصدر، خلافاً لبعضهم.]- ش: مناسبة هذا الباب لما قبله أنه لما ذكر في الباب قبله المصدر وجملة من أحكامه ذكر المفعول له؛ لأن من شرطه على الأشهر أن يكون /مصدراً، ولأن بعضهم قد ذهب إلى أنه ينتصب انتصاب المصدر على ما سنذكره إن شاء الله. وقوله وهو المصدر هذا جنس يشمل المفعول له وغيره، وتظافرت النصوص من النحويين على اشتراط المصدرية في المفعول له، وذلك أن الباعث إنما هو الحدث لا الذوات. وزعم يونس أن قوماً من العرب يقولون: أما العبيد فذو عبيد، بالنصب، وتأوله على المفعول له وإن كان العبيد غير مصدر. وقبح ذلك س، وإنما أجازه على ضعفه إذا لم ترد عبيداً بأعيانهم، فلو قلت: أما البصرة فلا بصرة لك، وأما الحارث فلا حارث لك، لم يجز لاختصاصها. وقدر الزجاج في نصب العبيد تقدير الملك ليصيره إلى معنى المصدر، كأنه قال: أما تملك العبيد، أي: مهما تذكره من أجل تملك العبيد، وهذا كله مراعاة للمصدر.

والمصدر إن كان أجنبياً عن مصدر العامل بحيث لا يصدق عليه باعتبار مجازي فاللام، نحو: فعلت ذلك لأمر الله، وتركته لزجرك، ومنه {الرحمن الرحيم صدق الله}، إلا أن يكون مسبوكاً بأن وأن، نحو: (لبيك أن الحمد والنعمة لك)، وقوله: أتغضب أن أذنا قتيبة حزتا ........................ وقد حكي عن أبي علي جوازه، فتقول: جئتك ضرب زيد، أي: لضرب زيد، وقاسه على: جئتك طمعاً في الخير. وقيل: هو باطل؛ لأن الطمع فعل الجائي وإن كان لا يصدق عليه المجيء، بخلاف الضرب. وإن لم يكن أجنبياً حذفت اللام، نحو: ضربته تقويماً وتأديباً، وقعدت عن الحرب جبناً؛ ألا ترى أنه يصدق أن يقال: ضربي له تقويم، وقعودي عن الحرب جبن، كقوله: {وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا}، انتهى ملخصاً من البسيط. وقوله المعلل به حدث احترز به مما ينتصب من المصادر لا يعلل به حدث، كقولك: قعدت جلوساً، ورجع القهقرى. وقوله شاركه في الوقت ظاهراً مثاله: ضربت ابني تأديباً، فالفعل المعلل في هذا المثال ملفوظ به.

وقوله أو مقدراً مثاله ما جاء في حديث محمود بن لبيد الأشهلي: «قالوا ما جاء بك يا عمرو؟ أحدباً على قومك أم رغبة في الإسلام»، الحدث المعلل به هنا مقدر، تقديره: أجئت حدباً على قومك. وقوله والفاعل تحقيقاً مثاله أن تذكر الفاعل ظاهراً أو مضمراً. وقوله أو تقديراً مثاله أن يحذف الفاعل لبعض أسباب الحذف، ويبنى الفعل للمفعول، كقولك: ضرب الصبي تأديباً، فهذا يقدر أن الضارب هو المؤدب حتى يتحد الفاعل. قال بعض النحويين: «شرطوا في نصبه أربعة شروط: أن / يكون مصدراً، وعلى غير لفظ الفعل الأول، وسبباً له أو مسبباً عنه، وفاعلهما واحد. فالأول قد نص عليه س بقوله: «ما ينتصب من المصادر». وعلى الثاني بقوله: «وليس منه»، وعلى الثالث بقوله: «لأنه عذر له»، والعذر يكون سبباً ومسبباً. وعلى الرابع بقوله: «لأنه موقوع له». وإنما كان مصدراً لأنه علة، ولا يكون إلا معنى، ولو كان من لفظ الأول لانتصب انتصاب الأول لا السبب، ولو لم يكن عذراً لانتصب انتصاب: أتيته ركضاً. ولو كان فاعلهما مختلفاً لبطل الربط بينه وبين الفعل الأول، فلم يصح نصبه لأن الرابط إما لفظي أو معنوي، فاللفظي حرف الجر، وهو معدوم في النصب، فلم يبق إلا المعنوي، وهو ما ذكرنا». انتهى كلامه.

وزاد بعض النحويين في الشروط أن يكون المصدر غير نوع للفعل؛ إذ قد يكون المصدر من نوع الفعل وغير نوعه، فمثال ما تحرز منه: جاء زيد ركضاً، فإنه إذا قصد بهذا أن يكون باعثاً على الفعل فلا بد من اللام. وزاد بعض المتأخرين شرطاً آخر، وهو أن يكون من أفعال النفس الباطنة، ولا يكون من أفعال الجوارح الظاهرة، نحو: جاء زيد خوفاً، ورغبة، ولو قلت جاء زيد قراءة للعلم، وقتالاً للكافر، تريد جعل ذلك مفعولاً له- لم يجز لأنه من الأفعال الظاهرة. وزاد بعضهم أيضاً ألا يكون المصدر من لفظ العامل، نحو: أجللتك إجلالاً. وإنما امتنع ذلك لأن الشيء لا يكون علة لوقوع نفسه. ويمكن رد جميع هذه الشروط التي زيدت إلى معنى الشروط التي تقدمت. وقوله وينصبه مفهم الحدث نصب المفعول به المصاحب في الأصل حرف جر هذا مذهب س وأبي علي الفارسي، وهو الصحيح بدليلين: أحدهما: أنك إذا أضمرت المصدر المنصوب على أنه مفعول من أجله وصل الفعل إلى ضميره باللام، نحو: ابتغائي ثواب الله هو الذي تصدقت له، فدل الوصول للضمير باللام على أن الأصل أن يصل إلى الظاهر باللام؛ لأن المضمرات كثيراً [ما] ترد الأشياء إلى أصولها. والدليل الثاني: ما ذكره س وأبو علي من أنه في جواب لمه، والجواب أبداً على حسب السؤال في مختار كلامهم، فينبغي في جواب من قال: لم ضربت

زيداً؟ أن يجاب بضربته للتأديب، إلا أنه أسقط اللام ونصبه لشبهه بالمصدر؛ ألا ترى أنه دخل معنى ضربت زيداً تأديباً: أدبت زيداً بضربي له تأديباً، فانتصب لذلك؛ إذ الفعل قد تعدى تعدية الفعل الذي في معناه، ولذلك إذا انخرم شرط تعدى الفعل إليه بحرف السبب. وذهب الكوفيون إلى أنه ينتصب انتصاب المصادر، وليس على إسقاط الحرف، ولذلك لم يترجموا له استغناء بباب المصدر عنه، وكأنه عندهم من قبيل المصدر المعنوي، فإذا قلت ضربت زيداً /تقويماً له فكأنك قلت: قومت زيداً بضربي له تقويماً، وإذا قلت جئتك إكراماً لك فكأنك قلت: أكرمك بمجيئي لك إكراماً، وكذلك يتقدر عندهم كل ما جاء من هذا النوع. وكأن الذي حملهم على ذلك أنهم رأوا العامل إذا وصل إلى معمول بحرف الجر لم يجز حذف الحرف ووصول الفعل بنفسه باطراد إلا مع أن وأن لطولهما بالصلة؛ أو في ظرف الزمان والمكان، فلما رأوا المفعول له يصل إليه الفعل بنفسه باطراد، ولم يفهموا سبباً لذلك- حملوه على ما ذكرناه، ولم يحملوه على أنه منصوب بعد إسقاط حرف العلة. وقوله لا نصب نوع المصدر، خلافاً لبعضهم هذا المذهب نسبه المصنف إلى الزجاج، فقال في النسخة القديمة من هذا الكتاب: خلافاً للزجاج، وقال في النسخة القديمة من شرحه لهذا الكتاب: «وزعم الزجاج أن المفعول له منصوب نصب نوع المصدر، ولو كان كذلك لم يجز دخول لام الجر عليه كما لا تدخل على الأنواع، نحو: سار الجمزى، وعدا البشكى، ولأن نوع المصدر يصح أن يضاف إليه كل، ويخبر عنه بما هو نوع له، كقولك: كل جمزى سير، ولو فعل

ذلك بالتأديب والضرب من قولك ضربت تأديباً لم يصح، فثبت بذلك فساد مذهب الزجاج». وقال ابن عصفور: وذهب الزجاج إلى أن المصدر في المثل المذكور منصوب بفعل مضمر من لفظه، فالتقدير عنده في قولك جئت إكراماً لك: أكرمتك إكراماً، فحذف الفعل، وجعل المصدر عوضاً من اللفظ به، ذكر ذلك في «المعاني» له. وما ذكره أبو موسى الجزولي من أن أبا إسحاق يرى أن المفعول له ينتصب انتصاب المصدر الملاقي للفعل في المعنى دون الاشتقاق كما ذهب إليه الكوفيون وهم، وكأن أبا إسحاق امتنع من أن يجعله منصوباً على إسقاط الحرف لما ذكرناه قبل، يعني في اعتلال الكوفيين لذلك. قال ابن عصفور: «ورأى أيضاً أن المصدر إنما ينتصب بعد فعل من لفظه، نحو: قمت قياماً، أو من معناه، نحو قوله: ...................... ... ...... وآلت حلفة .......... ورأى أن الإكرام ليس من لفظ المجيء ولا معناه؛ إذ قد يكون المجيء إليه إكراماً وغير إكرام، فجعله منصوباً بفعل من لفظه، وجعل المصدر عوضاً من اللفظ بذلك الفعل، ولذلك لم يظهر» انتهى. وقال المصنف في النسخة الجديدة من شرح هذا الكتاب ما معناه: «إن الذي ذهب إلى أنه انتصب انتصاب نوع المصدر- وهو بعض المتأخرين- قال: وقد نسب إلى الزجاج، وليس بصحيح، بل مذهبه مذهب س» انتهى.

وما ذكره ابن عصفور عنه ليس هو مذهب س؛ لأن مذهب س أنه منصوب بالفعل قبله الذي هو علة له بعد إسقاط الحرف، ومذهب /الزجاج أنه منصوب بفعل مضمر من لفظه واجب الإضمار، وقال: «نص على ذلك في كتاب المعاني له»، فقد اختلف نقل المصنف ونقل ابن عصفور عن الزجاج. -[ص: وإن تغاير الوقت، أو الفاعل، أو عدمت المصدرية- جر باللام أو ما في معناها. وجر المستوفي لشروط النصب مقروناً بـ «أل» أكثر من نصبه، والمجرد بالعكس، ويستوي الأمران في المضاف. ومنهم من لا يشترط اتحاد الفاعل.]- ش: مثال تغاير الزمان قول الشاعر: فجئت وقد نضت لنوم ثيابها ... لدى الستر إلا لبسة المتفضل فنضت ماض، والنوم لم يقع، فعدي الفعل إليه باللام لما اختلف الزمان. وهذا لم يذكر المصنف فيه خلافاً لا في الفص ولا في الشرح. وذكر غيره فيه خلافاً، وأنه من اشتراط المتأخرين كالأعلم، شرط أن يكون مقارناً للفعل في الزمان، قال: ولم يشرط ذلك س ولا أحد من المتقدمين، فيجوز على هذا: أكرمتك أمس طمعاً غداً في معروفك.

ومثال تغاير الفاعل قول الشاعر: وإني لتعروني لذكراك هزة ... كما انتفض العصفور بلله القطر ففاعل تعروني هزة، وفاعل الذكرى الشاعر، أي: وإني لتعروني لذكراي إياك هزة. وذكر المصنف الخلاف في هذا الشرط بقوله: ومنهم من لا يشترط اتحاد الفاعل. وقال في الشرح: «وأجاز ابن خروف حذف الجار مع عدم اتحاد الفاعل من كل وجه، وزعم أنه لم ينص على منعه أحد من المتقدمين. قال: ومن حجة من أجازه شبهه في عدم اتحاد الفاعل بقولهم: ضربته ضرب الأمير اللص، فكما نصب الفعل في هذا المصدر وفاعلاهما غيران كذا ينصب جئت حذر زيد؛ إذ لا محذور في ذلك من لبس ولا غيره. وظاهر قول س يشعر بالجواز، قال بعد أمثلة المفعول له: «فهذا كله ينتصب لأنه مفعول له، كأنه قيل له: لم فعلت كذا؟ فقال: لكذا، ولكنه لما طرح اللام عمل فيه ما قبله كما عمل في دأب بكار ما قبله حين طرح مثل»، يشير إلى قول الراجز: إذا رأتني سقطت أبصارها ... دأب بكار شايحت بكارها فشبه انتصاب المفعول له بانتصاب المصدر المشبه به، وفاعل المشبه به غير فاعل ناصبه، فكذلك لا يمتنع أن يكون فاعل المفعول له غير فاعل ناصبه، وهذا بين» انتهى.

وليس هذا ببين؛ لأن س إنما شبهه في أنه نصب على إسقاط الجار كما نصب دأب بكار بعد إسقاط الخافض، وهو مثل، ولا يلزم من ذلك ما ذكره المصنف. وقال بعض /أصحابنا: اشترط المتأخرون كالأعلم أن يكون فعلاً لفاعل الفعل المعلل، قالوا: فإن لم يكن كذلك فلا بد من اللام أو الباء أو من، ولم يشترط ذلك س ولا أحد من المتقدمين، ومن لا يشترط يستدل بقوله: {وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا}، فالإراءة من الله، والخوف والطمع من المخلوقين، وبقول الشاعر، وهو ابن أحمر: مدت عليك الملك أطنابها ... كأس رنوناة وطرف طمر وقول الآخر: غشوا ناري، فقلت: هوان تيم ... تصلوها، فقد حمي الوقود أي: لهوان تيم، وقول النابغة: وحلت بيوتي في يفاع ممنع ... تخال به راعي الحمولة طائرا حذاراً على ألا تنال مقادتي ... ولا نسوتي حتى يمتن حرائرا وقول الآخر:

ومنا الذي اختير الرجال سماحة ................... وقول الآخر: أرى أم عمرو، دمعها قد تحدرا ... بكاء على عمرو، وما- كان- أصبرا فالملك ليس من أفعال الكأس، والهوان من فعل تيم لا من فعل الغاشين، والحذار منه لا من البيوت، والسماحة ليست من فعل الذي اختار. فأما من اشترط اتحاد الفاعل فتأول هذا كله: فتأول الآية على أن «خوفاً وطمعاً» مصدران في موضع الحال من المفعول، أي: خائفين وطامعين. أو في موضع الحال من الفاعل، وهما مصدران بمعنى الإخافة والإطماع، فهما مصدران على حذف الزيادة. وتأول المصنف الآية على أن معنى يريكم: يجعلكم ترون، ففاعل الرؤية فاعل الخوف والطمع في التقدير، فيتحد الفاعل. ويتأول بيت ابن أحمر على أن يكون «الملك» مفعول مدت عليك الخلافة أطنابها. وتؤول أيضاً على أن يكون الملك مصدراً معرفاً بالألف واللام في موضع الحال، نحو: أرسلها العراك، كأنه قال: مدت عليك مملكاً أطنابها، قاله السيرافي. ورد بأن الحال المعرفة لا تقاس. وتؤول «هوان تيم» على أن يكون منادى مضافاً حذف منه حرف النداء، التقدير: يا هوان تيم. وتؤول بيت النابغة بأن المعنى في قوله وحلت بيوتي: أحللت بيوتي، فالفاعل متحد في التقدير. وقيل: المراد بالبيوت هو وأهله، وكأنه قال: وحللنا في يفاع

ممنع حذاراً على ألا تنال مقادتي. وقيل: المراد بالبيوت القبائل، يقال: بيت فلان كريم، أي: قبيلته. وقيل: هو على حذف مضاف، أي: وحل أهل بيوتي، /كما قالوا: جاءت اليمامة، أي: أهل اليمامة. وقيل: مصدر في موضع الحال من الياء في بيوتي. وقيل: هو مفعول من أجله، والعامل فيه الفعل في البيت الذي قبله، وهو: سأكعم كلبي أن ينالك نبحه ... وإن كنت أرعى مسحلان فحامرا وهذا أظهر؛ لأنه أراد بأكعم أكف، وكلبي استعاره للسانه، فالمعنى: إني لا أهجوك وإن كنت في هذه المواضع؛ لأني لا أتخلص منك بها، فيكون كما قال: فإنك كالليل الذي هو مدركي ... وإن خلت أن المنتأى عنك واسع وأما «سماحة» فأول على أنه يمكن أن يكون من التمييز المنقول، والأصل: اختيرت سماحته، ثم صار: اختير هو سماحة. وأما «بكاء على عمرو» فيتخرج على أنه مصدر في موضع الحال. وقوله أو عدمت المصدرية مثاله {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا}، وقول الشاعر: فلو أن ما أسعى لأدنى معيشة ... كفاني ولم أطلب قليل من المال ويعني بالمصدرية أن يكون صريح المصدر، فلو كان اسم إشارة إليه أو ضميره لم ينتصب، وأن وأن وما تعلق بهما يصل الفعل إليهما بنفسه، وهما مقدران بالمصدر، مثاله: أزورك أن تحسن إلي، أو أنك تحسن إلي، وسواء أكان الزمان

متحداً أو متغايراً، سواء أيضاً أكان الفاعل متحداً أم متغايراً، وسواء أكان العامل فعلاً أم ما جرى مجراه أو معنى فعل؛ لأن حرف الجر قد اطرد حذفه معها كثيراً بشرط ألا يلبس، وأما مع المصدر فيصل إليه الفعل بنفسه أو ما جرى مجراه. وأما معنى الفعل فلا ينصبه، بل لا بد من حرف الجر، إلا مع أما في باب «أما سمناً فسمين» في مذهب الزجاج، وتبعه في ذلك ابن طاهر، وقصراه على هذا الباب. قال بعض أصحابنا: «وأنا أشك هل قصره أبو إسحاق على ذلك الباب أو أجاز أن يعمل فيه المعنى على الإطلاق» انتهى. وقوله جر باللام هذا هو الكثير، وهو أنه متى انخرم شرط جر باللام. وقوله أو ما في معناها الذي في معناها هو «من» التي للتسبب، كقوله تعالى {خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ}، والباء كقوله تعالى {فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا}. قال المصنف في الشرح: «وفي، كقوله عليه السلام: (إن امرأة دخلت النار في هرة)، أي: من أجل هرة». وقوله وجر المستوفي لشروط النصب مقروناً بأل أكثر من نصبه هذا يتضمن جواز مجيئه معرفة بالألف واللام، وهذه مسألة خلاف: ذهب س وجمهور البصريين إلى جواز ذلك، قال س: «وحسن فيه الألف /واللام لأنه ليس بحال، فيكون في موضع فاعل حالاً، ولا يشبه بما مضى من المصادر في الأمر والنهي ونحوهما» انتهى.

وذهب الجرمي والرياشي والمبرد إلى أن من شرطه التنكير، فإن وجدت فيه أل كانت زائدة؛ لأن المراد ذكر ذات السبب الحامل، فيكفي فيه النكرة، فالتعريف زيادة لا تحتاج. وهذا فاسد، فإن السبب الحامل قد يكون معلوماً عند المخاطب، فتحيله عليه، فتعرفه ذات السبب وأنها المعلومة له، ولا تنافي بينهما، ولا يلزم عدم الاختصار إلا فيما يذكر، ولا يحتاج إليه. والصحيح ما ذهب إليه س والجمهور. وقد كثر مجيئه بأل منصوباً، قال الراجز: لا أقعد الجبن عن الهيجاء ... ولو توالت زمر الأعداء وقال الشاعر: فليت لي بهم قوماً إذا ركبوا ... شدوا الإغارة فرساناً وركبانا وقال الآخر: لك الخير إن أزمعت صرمي وأصبحت ... قوا الحبل بتراً جذم الوصل جاذف وقال الآخر:

لما رأى نعمان حل بكرفئ ... عكر، كما لبج النزول الأركب التقدير: للجبن، وللإغارة، وللصرم، وللنزول. قال المصنف في الشرح: «ويمكن أن يكون القسط من قوله: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ} مفعولاً له؛ لأنه مستوف للشروط» انتهى. والظاهر أن (القسط) صفة للموازين؛ إذ هو مصدر وصف به، أي: الموازين العادلة المقسطة، والوصف بالمصدر أكثر من مجيء المفعول له منصوباً بأل. وقوله والمجرد بالعكس أي: المجرد من أل ومن الإضافة نصبه أكثر من جره، فمن النصب: {َتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ}، وقول حاتم: ................. وأعرض عن شتم اللئيم تكرما وزعم أبو موسى الجزولي أنه إذا كان نكرة لا يجوز جره، فلا يجوز: قمت لإعظام لك. قال الأستاذ أبو علي: «هذا غير صحيح، بل هو جائز، ولا مانع منه، ولا أعرف له سلفاً في هذا القول» انتهى. وقوله ويستوي الأمران في المضاف يعني أن نصبه وجره كثير، فمثال نصبه: {يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ}، وقول حاتم:

وأغفر عوراء الكريم ادخاره ......................... ومثال جره قوله تعالى: {لِإِيلافِ قُرَيْشٍ}. ويجوز تقديم المفعول له على عامله الفعل أو الجاري مجراه إن لم يكن فيه /مانع، وما تلزم فيه اللام يقوى فيه اللزوم في التقديم لضعف العامل، وأما ما تحذف منه فيقوى ذكر اللام عند التقديم، فتقول: للطمع جئتك، ويجوز تركها. ومنه تقديمه مع أما، نحو: أما تقويماً فأنا أضربك. ويجوز أن يكون العامل فيه الفعل الذي دلت عليه أما، ويكون أصله اللام، وحذفت هنا سماعاً. ومنع قوم تقديم المفعول له على العامل، منهم ثعلب. والسماع يرد عليهم، قال جحدر: فما جزعاً- ورب الناس- أبكي ... ولا حرصا على الدنيا اعتراني وهذه الإضافة محضة، خلافاً للجرمي والرياشي والمبرد؛ إذ ذهبوا إلى أنها غير محضه؛ لأنهم يلتزمون تنكيره قياساً على الحال والتمييز، وسيأتي ذلك في باب الإضافة إن شاء الله. وقال الكميت: طربت، وما شوقاً إلى البيض أطرب ... ولا لعباً مني، وذو الشيب يلعب فقدم شوقاً- وهو مفعول له- على العامل فيه، وهو أطرب.

فرع: اشتركت كي وحتى في أحد معانيها في أنهما للتعليل، مثال ذلك: أسلمت كي أدخل الجنة، وأسلمت حتى أدخل الجنة، ومع ذلك يجوز في كي وما بعدها أن يكون مفعولاً له، ولا يجوز ذلك في حتى. وإنما جاز ذلك في كي لأن لها محملين في لسان العرب: أحدهما: أن تكون حرف جر، فيكون النصب بإضمار أن بعدها، وهي في هذه الحال لا تكون مفعولاً له. والثاني: أن تكون حرف نصب، فتكون مصدرية كأن، فتكون في هذه الحال مفعولاً له. وأما حتى فلا تنصب بنفسها، إنما النصب بإضمار أن بعدها، فهي حرف جر لم ينسبك مصدر منها ومن الفعل الذي بعدها، إنما ينسبك من أن المضمرة بعد حتى ومن الفعل المنصوب بأن المضمرة، ولا يكون مفعولاً له إلا ما كان مصدراً أو مقدراً به منصوباً على الشروط التي تقدمت.

باب المفعول المسمى ظرفا ومفعولا فيه

-[ص: باب المفعول المسمى ظرفاً ومفعولاً فيه وهو ما ضمن من اسم وقت أو مكان معنى «في» باطراد لواقع فيه مذكور أو مقدر ناصب له. ومبهم الزمان ومختصه لذلك صالح، فإن جاز أن يخبر عنه أو يجر بغير «من» فمتصرف، وإلا فغير متصرف، وكلاهما منصرف وغير منصرف.]- ش: ما ضمن جنس يشمل الحال، والظرف، والسهل والجبل من قول العرب: مطرنا السهل والجبل. وقوله من اسم وقت أو مكان خرج بذلك الحال، كذا قال المصنف في الشرح؛ لأن الحال ليست مضمنة معنى في، إنما هي على معنى: في حال كذا، فإذا قلت جاء زيد راكباً فراكباً لم يتضمن معنى في. /وقوله معنى في باطراد خرج بذلك السهل والجبل من قولهم: مطرنا السهل والجبل، فإنه لا يقاس على ذلك لا في الفعل ولا في الأماكن، فلا تقول: أخصبنا السهل والجبل، ولا: مطرنا القيعان والتلول، بل يقتصر على مورد السماع، ولا يزاد عليه إلا إن عضد بسماع ممن يوثق به، وذلك بخلاف ما ينتصب على الظرفية، فإنه يجوز أن يخلف الفعل والاسم غيرهما، تقول: جلست خلفك، فيجوز: قعدت خلفك، ويجوز: جلست أمامك.

قال المصنف في الشرح: «ويتناول أيضاً قولي ضمن معنى في ما نصب بدخل من مكان مختص. وخرج بذكر الاطراد، فإن المطرد لا يختص بعامل دون عامل، ولا باستعمال دون استعمال، فلو كان نصب المكان المختص بدخل على الظرفية لم ينفرد به دخل، بل كان يقال: مكثت البيت، كما يقال: دخلت البيت، وكان يقال: زيد البيت، فينتصب بمقدر كما يفعل بما تحققت ظرفيته؛ لأن كل ما ينتصب على الظرفية بعامل ظاهر يجوز وقوعه خبراً، فينتصب بعامل مقدر، ولذا قال س بعد أن مثل بقلب زيد الظهر والبطن، ودخلت البيت: «وليس المنتصب هنا بمنزلة الظروف؛ لأنك لو قلت: هو ظهره وبطنه، وأنت تريد شيئاً على ظهره وبطنه- لم يجز» هذا نصه، وقد غفل عن هذا الموضع الشلوبين، فزعم أن نصب المكان المختص بدخل عند س على الظرفية، وهذا عجيب من الشلوبين مع اعتنائه بجمع متفرقات الكتاب وتبين بعضها ببعض» انتهى كلامه. وقوله ضمن من اسم الوقت أو المكان معنى في المفهوم منه أن الاسم يدل بالوضع على الزمان أو المكان، ويدل على معنى في بالتضمن، فيكون نظير أسماء الشرط والاستفهام، فإنك إذا قلت من يقم أقم معه فقد دلت من على شخص عاقل بالوضع، ودلت على ارتباط جملة بجملة وتوقفها عليها بتضمنها معنى إن الشرطية، ويلزمه على هذا أن يكون الظرف مبنياً؛ لأنه تضمن معنى الحرف،

وليس كذلك، والنحويون يقولون إن الظرف على تقدير في، وإنما فر المصنف من قول النحويين- والله أعلم- لأنه لا يلزمه من ذكر التضمين أن يجمع بين المتضمن والمتضمن، ووجد بعض الظروف لا يتقدر عنده، نحو عندك، فوقع في التضمين الذي يلزم منه بناء الظرف، ولا يلزم من قول النحاة إن الظرف يقدر بفي أنه يجوز دخول في عليه وأنه يتلفظ به، وكم من مقدر لا يلفظ به، نحو الفاعل في اضرب، فإنه مقدر، ونحو الفعل الناصب للمنادى في نحو: يا عبد الله، فإنه مقدر، وكلاهما لا يلفظ به. وقد ذكر المصنف في مكان آخر أن «المفعول فيه هو ما نصب من اسم زمان أو مكان مقارناً معنى في دون لفظها»، وزعم أن ذكر المقارنة أعم من ذكر تقدير /في؛ لأن من الظروف ما لا تدخل عليه في، كعند ومع، وهما مقارنان لمعناها ما داما ظرفين. وهذا كله بناء منه على أنه يلزم من تقدير في أن تدخل عليه لفظاً، وقد بينا أن ذلك لا يلزم. والذي يقطع ببطلان التضمن أنه لو كان كما زعم ما جاز الجمع بين في والظرف؛ لأنه يلزم منه الجمع بين المتضمن والمتضمن، وذلك لا يجوز؛ ألا ترى أن من الشرطية أو الاستفهامية لا يجمع بينهما وبين أداة الشرط ولا أداة الاستفهام، وهذان يجوز الجمع بينهما، تقول: جئتك يوم الخميس، وفي يوم الخميس، وجلست مجلس زيد، وفي مجلس زيد، لا خلاف في ذلك، فدل على بطلان التضمن. وقوله في الشرح: إن المكان المختص منصوب بدخلت نصب المفعول به لا نصب الظرف. ونقول: المذاهب في ذلك ثلاثة:

الأول: مذهب س والمحققين أنه منصوب على الظرف تشبيهاً للمكان المختص بالمكان غير المختص. الثاني: مذهب أبي علي الفارسي ومن ذهب مذهبه أنها متعدية في الأصل بحرف الجر- وهو في- إلا أنه حذف حرف الجر اتساعاً، فانتصب على المفعول به. الثالث: مذهب الأخفش وجماعة أنه مما تعدى تارة بنفسه وتارة بحرف الجر. وحجته أنك تقول: دخلت البيت، ودخلت في البيت، ودخلت في أمر فلان, ودخلت أمر فلان, وكثرة ذلك فيها تقضي بكون ذلك فيها أصلين إلا أن يقوم دليل على خلاف ذلك. وأيضاً لو كان دخل زيد الدار على تقدير إسقاط الحرف لوجب أن يكون أدخلت زيداً الدار على تقدير إسقاطه، وما حكمه كذلك لا يجوز أن يقام مقام الفاعل مع وجود ما ليس كذلك؛ ألا ترى أنه لا يجوز: اختير الرجال زيداً، بل: اختير زيد الرجال، ويجوز: أدخل الدار زيداً، وأدخل فوه الحجر، فدل على أنهما مفعولان صريحان، ليس الثاني منصوباً على إسقاط الحرف. والجواب عن هذا أن قولهم: أدخل فوه الحجر لا حجة فيه؛ لأنه إنما جاز بعد القلب، والتقدير: أدخل فوه [في] الحجر, وقد ثبت استعمال القلب في أدخل في فصيح الكلام، حكى س عنهم أنهم يقولون: أدخلت القلنسوة في رأسي.

وحجة من ذهب إلى أنه حذف اتساعاً أو تشبيهاً للمختص بالمبهم أن دخلت في معنى غرت، وغرت يتعدى بفي, فوجب أن يعتقد ذلك في دخلت. وأيضاً فإنهم نقلوه بالهمزة والباء, نحو أدخلته, ودخلت به, وما كان يتعدى تارة بنفسه وتارة بحرف جر كنصح لم يجز نقله, فأما قولهم أجاءه مع أنهم قالوا جئته وجئت إليه فإنما ساغ من جهة أن جاء لازمة, وأن الأصل في جئته جئت إليه. وأيضاً فتعديها بفي أعم من تعديها بنفسها؛ إذ تعديها بفي يكون في الأماكن وغيرها، وتعديها للمعاني لا يكون إلا بفي, / فدل على أن تعديها بفي هو الأصل، وذلك أن الدخول حقيقة لا يتصور إلا فيما له جوف كالدار والمسجد, وأما المعاني فالدخول فيها مجاز, وحذف حرف الجر مجاز, فكرهوا المجاز في المجاز. وأيضاً فنقيضها خرج، وخرج لازم, فينبغي أن تكون هي لازمة؛ لأن الشيء يجري مجرى ما يناقضه؛ ألا ترى إلى جوعان وعطشان حملا على نقيضهما شبعان وريان, وقام وابيض لازمان, وقعد واسود كذلك, وجهل ومدح يتعديان, وعلم وذم كذلك. وأيضاً مصدره الفعول، وفعول في الغالب للازم، وشكور قليل, فينبغي أن يحمل على الكثير. وأيضاً فجعل دخل مما يكون يتعدى إلى سائر معمولاته على السواء أولى من الاختلاف في التعدي؛ لكونها في الأماكن من قبيل ما تعدى تارة بنفسه وتارة

بحرف الجر؛ وفي المعاني من قبيل ما تعدى بحرف جر, فيكون مرة من باب مررت بالنظر إلى بعض المعمولات, و [مرة] من باب نصحت بالنظر إلى بعضها, ومثل ذلك قليل جداً, لم يجئ منه إلا بعث عند أكثر اللغويين, قالوا: يتعدى بنفسه إذا دخل على ما يصل بنفسه, وبالباء إذا دخل على ما لا يصل بنفسه, تقول: بعثت زيداً, وبعثت بالكتاب, ولا تقول: بعثت بزيد، ولا: بعثت الكتاب؛ لأن زيداً يصل بنفسه, والكتاب لا يصل بنفسه, ولذلك لحن أبو الطيب في قوله: فآجرك الإله على عليل ... بعثت إلى المسيح به طبيبا واعتذر عن أبي الطيب بأن العليل صار من الضعف بحيث لا يقدر أن يصل بنفسه. وظاهر كلام المصنف أن دخل ينصب المكان بعدها انتصاب المفعول به, وليس أصله أن يتعدى بفي، واتسع فيه كما يقول الفارسي، ولا أن أصله أن يتعدى تارة بفي, وتارة بنفسه, كما يقوله الأخفش فيما نقلناه عنه. وقد نقل عن الأخفش والجرمي أن قوله دخلت البيت مثل هدمت البيت، يعني أنه انتصب نصب المفعول به الصريح. وقد فصل السهيلي في دخل تفصيلاً لم أر أحداً ذكره غيره, وهو أنه إن اتسع المدخول فيه حتى يكون كالبلد العظيم كان النصب لا بد منه؛ كقولك: دخلت العراق، ويقبح أن تقول: دخلت في العراق, وإن كان كالبئر والحلقة كان النصب بعيداً جداً؛ لأن الدخول قد صار ولوجاً وتقحماً, نحو: دخلت في البئر,

وأدخلت إصبعي في الحلقة، والإبرة في الثوب، وقال: فقس عليه. وسكت عن المتوسط. وقياس تفصيله يقتضي أنه يجوز فيه الوجهان: التعدي بنفسه, والوصول بوساطة في. وأما ما استدل به المصنف من أن المطرد لا يختص بعامل دون عامل, ولا /باستعمال دون استعمال إلى آخره- فكلام صحيح، إلا أن قولهم إن دخل تتعدى إلى كل مكان مختص بنفسها دون وساطة «في» لا ينقض هذا؛ لأن ذلك عندهم جاء على سبيل الشذوذ, والاطراد ما ذكر. وأما قوله «ولذا قال س بعد أن مثل بقلب زيد الظهر والبطن، ودخلت البيت: وليس المنتصب هنا بمنزلة الظروف؛ لأنك لو قلت: هو ظهره وبطنه, وأنت تريد شيئاً على ظهره وبطنه لم يجز. هذا نصه» - فلا حجة له في ذلك على أنه ينتصب البيت بعد دخلت نصب المفعول به؛ لأن انتصاب الظهر والبطن ليس على تقدير في, إنما هو على تقدير على, والأصل قلب زيد على ظهره وبطنه, ولذلك قال في امتناع أن ينتصب على الظرف: «إنك لو قلت: هو ظهره وبطنه- وأنت تريد شيئاً على ظهره وبطنه- لم يجز» , فجعل المحذوف على, ولم يجعل المحذوف في؛ لأن حذف على ووصول الفعل إلى الاسم المجرور بها فينصبه لا يكون نصبه على الظرف, إنما هو مثل: مررت زيداً، ولا ينقاس ذلك، ولم يمثل س بدخلت, وإنما معنى قوله «وليس المنتصب هنا» أي: في مسألة: قلب زيد الظهر والبطن، ولذلك مثل بقوله: هو ظهره وبطنه, وقد نص س على خلاف ما ادعاه المصنف عليه من أنه ينتصب بعد دخلت انتصاب الظرف، قال س بعد أن ذكر تعدي الفعل إلى اسم المكان وإلى ما اشتق من لفظه اسماً للمكان، ومثل بقوله: ذهبت المذهب البعيد، وجلست مجلساً, وقعدت المكان الذي رأيت, وذهبت وجهاً من الوجوه, قال:

«وقال بعضهم: ذهبت الشام, فشبهه بالمبهم إذ كان مكاناً, وكان يقع عليه المكان والمذهب, وهذا شاذ, ليس في ذهب دليل على الشام, وفيه دليل على المذهب والمكان. ومثل ذهبت الشام: دخلت البيت» انتهى. فهذا نص على أن انتصاب البيت بعد دخلت مثل انتصاب الشام بعد ذهبت، والشام ظرف مكان مختص، وقد نص س على الشذوذ في ذهبت الشام؛ إذ وصل ذهبت إلى ظرف مختص, وليس مما اشتق من لفظه، ولا هو من لفظ المكان. ثم قال: «ومثل ذلك دخلت» , أي: مثله في الشذوذ ووصول دخلت إلى البيت, وهو ليس فيه دلالة على البيت؛ إذ ليس البيت مشتقاً من لفظ دخل, ولا هو لفظ المكان. وقوله «وقد غفل عن هذا الموضع الشلوبين» لم يغفل عنه الأستاذ أبو علي كما زعم المصنف, بل رأى أنه لا حجة فيه. وقد بينا أنه لا حجة فيه. وقوله «وهذا عجيب من الشلوبين مع اعتنائه بجمع متفرقات الكتاب وتبيين بعضها ببعض»، ليس هذا بعجيب، بل العجيب غفلة المصنف عن نص /س إن دخلت البيت مثل ذهبت الشام في الشذوذ. وأما قوله «مع اعتنائه بجميع متفرقات الكتاب» فإن الاعتناء بذلك هو الذي لم يجعله يقول بقول المصنف, ويغتر بما لا دليل فيه, ويترك النص الذي لا يحتمل تأويلاً، وأين المصنف من رجل يقال إنه ختم عليه كتاب س بحثاً ونظراً نحواً من ستين مرة، وأقرأ النحو نحواً من ستين سنة, ورحل إليه الناس من أقطار الأرض, ولم يكن في عصره بل في أعصار قديمة قبل عصره مثله, رحمه الله.

وقوله لواقع فيه مذكور أو مقدر ناصب له يعني أن الناصب له هو واقع فيه، فإذا قلت قمت يوم الجمعة فالقيام واقع في يوم الجمعة، وإذا قلت قمت أمامك فالقيام واقع في الأمام, وهذا العامل مذكور. والعامل المقدر مثل: زيد أمامك, والقتال يوم الجمعة, فالعامل فيهما كائن أو مستقر، وهو مقدر, وليس ملفوظاً به. وهذا التقسيم الذي قسمه المصنف في المفعول فيه أنه اسم وقت ومكان لا يصح إلا على مذهب البصريين؛ لأنهم يسمون المفعول فيه ظرفاً. وأما الكوفيون فلا يسمونه ظرفاً لأمرين: أحدهما: أن العرب لم تسم اسم المكان ولا اسم الزمان في موضع من كلامها بالظرف. والآخر: أن الظرف في اللغة اسم الوعاء, قالوا: والأوعية متناهية الأقطار, محاط بنواحيها، نحو الجراب والعدل, واسم المكان الذي يسمونه ظرفاً ليس متناهي الأقطار, نحو: زيد خلفك، وأمامك؛ ألا ترى أنه إذا كان كذلك لم ينتصب على الظرف، تقول: زيد في داره, وزيد في الحمام, ولا تقول زيد داره، ولا: زيد الحمام. ولا يلزم ما ذكروه؛ إذ لا مشاحة في الاصطلاح، مع أنه إنما يسمى ظرفاً على سبيل المجاز تشبيهاً بالظرف الحقيقي من جهة اشتماله على الفعل، كما سمي بالزمام الكتاب لضبط ما فيه كما تضبط الدابة بالزمام. وسمى الفراء وأصحابه المفعول فيه محلاً. والكسائي ومن أخذ بقوله يسمون الظروف صفات. ولا مشاحة في الاصطلاح.

وقد ذكر أصحابنا ظرف الزمان, فقالوا: هو اسم الزمان، نحو سرت اليوم، أو عدده، نحو: سرت عشرين يوماً، أو ما قام مقامه مما حذف قبله اسم الزمان وكان مضافاً إليه قبل حذفه، نحو: سرت قدوم الحاج، أي: وقت قدوم الحاج، وخفوق النجم، أي: وقت خفوق النجم، ونحو: لا آتيك معزى الفزر، ولا آتيك القارظ العنزي, أي: زمن تفرق معزى الفزر، وزمن فقد القارظ العنزي، أو كان صفة له، نحو: مشى عليه طويلاً, أي: زماناً طويلاً، فيجوز ذلك في صفة الظرف وإن لم تكن خاصة به ولا من الصفات التي استعملت استعمال الأسماء؛ كما جاز ذلك في الصفة المنتصبة على الحال أو ما شبه به، نحو قولهم: أحقاً /أنك قائم، قال: ألا أبلغ بني جشم رسولاً ... أحقا أن أخطلكم هجاني وقولهم: أالحق أنك قائم؟ قال عمر بن أبي ربيعة: أالحق أن دار الرباب تباعدت ... أو انبت حبل أن قلبك طائر

فأن في موضع مبتدأ، وحقاً والحق ظرف لأنه في تقدير في. ويدل على الابتداء أنهم إذا أبدلوا من أن أتوا بالمصدر بدل أن ورفعوه، قال: أحقا عباد الله جرأة محلق ... علي، وقد أعييت عاداً وتبعا والدليل على أن حقا منصوب على تقدير «في» تصريحهم بها في بعض الأماكن، قال: أفي حق مواساتي أخاكم ... بمالي، ثم يظلمني السريس وفي التصريح بـ «في» دليل على بطلان ما ذهب إليه أبو العباس في قولك: أحقا أنك قائم، من أن قولك أنك قائم في موضع رفع على الفاعلية. والصحيح ما ذهب إليه س من أن انتصابه على الظرف، وما بعده مبتدأ، فحق ليس اسم زمان، ولا عدده, ولا قائم مقامه, وإنما هو مشبه به من جهة أنه اسم معنى, كما أن اسم الزمان اسم معنى, وأنه مشتمل على المحقق كاشتمال الزمان على ما وقع. ويدل على أنه سلك به مسلك الزمان وقوعه خبراً عن المصادر لا عن الجثث. ومثل حقا أنك قائم قولهم: غير شك أنك قائم، وجهد رأيي أنك قائم, وظنا مني أنك قائم. وهذا النوع استعماله ظرفاً موقوف على السماع. أو ما أضيف إليه بشرط أن يكون إياه في المعنى, نحو: سرت جميع اليوم, أو بعضه, نحو: سرت بعض اليوم. وشرط أن يكون على تقدير في, واحترز بذلك من أن يكون مرفوعاً أو مخفوضاً أو منصوباً على غير تقدير في, فإنه لا يكون ظرفاً.

وذكروا أيضاً ظرف المكان, فقالوا: هو اسم المكان, نحو: خلفك وأمامك. أو عدده, نحو: عشرين ميلاً. أو ما قام مقامه: إما صفته, نحو: قعدت قريباً منك وأمامك, وإما ما كان الظرف مضافاً إليه, نحو: تركته بملاحس البقر أولادها، فملاحس مصدر بدليل نصب أولادها به، وهو هنا ظرف مكان، تقديره: مكان ملاحس. أو ما شبه به، نحو: زيد فوق عمرو في الشرف, ودون زيد في العلم, فليسا اسمي مكان, ولكنهما شبها بفوق ودون المكان. من ذلك ما حكاه الأخفش من قول العرب: هم هيئتهم، فنصب على أنه ظرف مكان على تقدير في، أي: هم في هيئتهم، والهيئة ليست مكاناً, لكنها شبيهة بالمكان لاشتمالها على ذي الهيئة كاشتمال المكان على ما يحل فيه. ويدل على أنها ظرف مكان وقوعها خبراً عن الجثث, وهذا النوع يحفظ, ولا يقاس عليه. وما أضيف إليه بشرط أن يكون إياه في المعنى نحو: سرت /جميع الميل, أو بعضه, [نحو]: سرت نصف الميل. وشرط أن ينتصب على تقدير «في» احتراز من رفعه أو جره أو نصبه لا على تقدير في، فإنه لا يكون ظرفاً. وقوله ومبهم الزمان ومختصه لذلك صالح أي: للظرفية صالح, فيتعدى إليه الفعل, وينصبه نصب الظرفية, والسبب في جواز تعدي الفعل إلى جميع ظروف الزمان قوة دلالته عليها, كما أن السبب في تعديه إلى جميع ضروب المصادر قوة

الدلالة عليها من حيث يدل عليها من جهة المعنى واللفظ؛ فالفعل يدل على المصدر بلفظه لتضمنه حروفه, ويدل على الزمان بلفظه من حيث إن الزمان إنما يتبين من صيغة الفعل. وفي البسيط: «حكي عن الكوفيين أنهم لا ينصبون المكان المطلق عن الفعل, فيقتضي القياس ذلك في الزمان, فلا تقول: قمت زماناً؛ لأنه مفهوم من الأول, فلا فائدة فيه, فإذا نصبت خصصت بالوصف. وذهب بعض النحويين إلى أن ما كان من الظروف معطياً غير ما أعطى الفعل- كالظروف المعدودة والموقتة- فنصبها نصب المفعول, على تقدير نيابتها عن المصدر، كأنه قال: سرت سيراً مقدراً بيومين, ونحوه؛ لأنه لا دلالة للفعل عليه. وقيل: هو بمنزلة: ضربته سوطاً, أي: سير يومين, فحذف. والصحيح أنه تعدى إليه بعد حذف الجار, فنصبه، وهو في جميع أنواع الظروف الزمانية مبهماً وغير مبهم» انتهى ملفقاً. وقال أيضاً ما معناه: «ينتصب المبهم على جهة التأكيد المعنوي؛ لأنه لا يريد على دلالة الفعل، بل دلالة الفعل أخص منه، ومن التأكيد ما جاء بعد فعل مخصص بزمان, نحو: ظللت نهاراً، وبت ليلاً، ومنه {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا}؛ لأن الإسراء لا يكون إلا بالليل, ولا ينكر التأكيد في الظرفين كما لا ينكر في المصدر والحال» انتهى. وهذا التقسيم الذي ذكره المصنف في الزمان إلى مبهم ومختص هو الصحيح. وقسمه بعضهم إلى مبهم ومعدود ومختص، فجعل المعدود قسيم المبهم والمختص، وهو في الحقيقة قسم من المختص.

فالمبهم: ما وقع على قدر من الزمان غير معين, نحو: وقت، وحين، وزمان. والمختص قسمان: معدود، وغير معدود. المعدود: ما له مقدار من الزمان معلوم، نحو: سنة, وشهر, ويومين, والمحرم, وسائر أسماء الشهور، والصيف, والشتاء. ولا يعمل في المعدود من الأفعال إلا ما يتكرر ويتطاول, لو قلت: مات زيد يومين- وأنت تريد الموت الحقيقي- لم يجز. والمختص غير المعدود أسماء الأيام, كالسبت, والأحد, وما يخصص بالإضافة, نحو: يوم الجمل, وبأل, نحو: اليوم، والليلة، أو بالصفة، نحو: قعدت عندك يوماً قعد عندك /فيه زيد، وما أضافت إليه العرب لفظة شهر من أعلام الشهور، وهي: رمضان، وربيع الأول, وربيع الآخر, فقط وسيأتي ذكر ذلك في هذا الفصل إن شاء الله. وقوله فإن جاز أن يخبر عنه أو يجر بغير من فمتصرف، وإلا فغير متصرف التصرف استعماله غير ظرف، كأن يكون فاعلاً أو مبتدأ، أو يرتفع خبراً، أو ينتصب مفعولاً، أو ينجر بغير من، نحو: سرني يوم الخميس، ويوم الجمعة مبارك، واليوم يوم الجمعة، وأحببت يوم الجمعة، و {لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ}، ومعنى «وإلا» أي: وإلا يخبر عنه أو يجر بمن فغير متصرف. لم يحكموا بتصرف ما جر بمن وحدها نحو عند وقبل وبعد لأن من كثرت زيادتها، فلم يعتد بدخولها على الظرف الذي لا يتصرف. وقوله وكلاهما منصرف وغير منصرف فيكون أربعة أقسام. ص: فالمتصرف المنصرف كحين ووقت، والذي لا يتصرف ولا ينصرف ما عين من سحر مجرد، والذي يتصرف ولا ينصرف كغدوة وبكرة علمين، والذي ينصرف ولا يتصرف بعيدات بين, وما عين من ضحى وضحوة وبكر

وسحير وصباح ومساء ونهار وليل وعتمة وعشاء وعشية, وربما منعت الصرف والتصرف. وألحق بالممنوع التصرف ما لم يضف من مركب الأحيان كصباح مساء، ويوم يوم. وألحق غير خثعم «ذا» و «ذات» مضافين إلى زمان. واستقبح الجميع التصرف في صفة حين عرض قيامها مقامه ولم توصف. ش: مثل المصنف المنصرف بحين ووقت، وفي الشرح بساعة وشهر وعام ودهر وحين وحينئذ ويومئذ، يقال: سير عليه حينئذ، ويومئذ, حكاهما س. أما الحين فإنه يقع على القليل والكثير من الزمان، قال: تناذرها الراقون من سوء سمها ... تطلقه حيناً، وحيناً تراجع أنشده أبو علي شاهداً على ذلك. وعن الأصمعي استعمال الحين في الكثير أكثر من استعماله في القليل. وقوله ما عين من سحر مجرد يعني بالتجريد تجريده من أل والإضافة, ويعني بالتعيين أن يكون من يوم بعينه, وسواء في ذلك أذكرت اليوم أو الليلة معه, نحو: أزورك يوم الجمعة سحر, أم لم تذكره, نحو: جئتك سحر, وأنت تريد ذلك من يوم بعينه, أو عرفت اليوم أو نكرته، نحو: جئت يوماً سحر, فإن نكر انصرف وتصرف.

وإنما لم يتصرف لخروجه عن نظائره من النكرات، وذلك أن نظائره من النكرات إذا عرفت أدخلوا عليها أل، أو أضافوها, فلما عرف هذا من غير أداة تعريف خالف نظائره, فلم يتصرفوا فيه لذلك, ولم يصرفوه أيضاً لعدله وتعريفه من غير أداة تعريف. /واختلف النحويون في سحر هذا أهو مبني أو معرب: فذهب بعضهم إلى أنه مبني لتضمنه معنى أل، كما بني أمس لتضمنه معناها، وهو مذهب صدر الأفاضل. وذهب ابن الطراوة إلى أنه مبني، وعلة بنائه عدم التقار، لا لتضمنه معنى الحرف؛ ألا ترى أنه لا يقع سحر إلا على سحر يومك, فلا تقول خرجت سحر إلا في يومك الذي خرجت في سحره، ولا تقول سحر في سحر (أمس) إلا أن تقيده، فتقول: خرجت يوم الخميس سحر، فهذا هو الذي أوجب البناء. انتهى. وتقدم الرد على القول بأن التقار علة للبناء في باب اسم الإشارة. وذهب الجمهور إلى أنه معرب، واختلفوا في سبب منع التنوين منه: فذهب بعضهم إلى أنه منوي فيه الإضافة, وهو معرفة بالإضافة؛ لأنك تريد سحر ذلك اليوم، فحذف التنوين كما حذف في أجمع وأكتع حيث كان مضافاً في المعنى.

وذهب السهيلي إلى أن حذف التنوين منه لأنه معرفة بنية الألف واللام؛ قال: «كأنك حين ذكرت يوماً قبله, وجعلته ظرفاً- أردت السحر الذي من ذلك اليوم, واستغنيت عن أل بذكر اليوم» وزعم أنه مذهب س. وذهب الجمهور إلى أنه حذف التنوين منه لأنه لا ينصرف، فأحد علتيه العدل عن تعريفه بأل، والعلة الأخرى قيل: العلمية، جعل علماً لهذا الوقت. وقيل: التعريف المشبه لتعريف العلمية. وقيل: لم يصرفوه لعدله وتعريفه من غير أداة تعريف، بل بالغلبة على ذلك الوقت المعين, وليس تعريفه تعريف علمية؛ لأنه في معنى السحر، وتعريف العلمية ليس في رتبة تعريف أل. ولا يجوز أن يكون تعريفه بأل التي عدل عنها؛ لأن أل التي يعدل عنها الاسم لا تعرفه؛ ألا ترى أنهم لما عدلوا أخر عن أل استعملوه نكرة؛ بدليل وصف النكرة في نحو: مررت بنسوة أخر، وإذا ثبت أنه غير متعرف بالعلمية ولا بأل التي عدل عنها لم يبق إلا أن يكون تعريفه بالغلبة كما ذكرنا؛ والتعريف بالغلبة في معنى التعريف بأل لاستعمالهم الأسماء الغالبة بأل تارة وبغير أل تارة، ومعناها في الحالين واحد، حكى ابن الأعرابي: هذا العيوق طالعاً، وهذا عيوق طالعاً، وكذلك سائر الأسماء الغالبة، ومن ذلك قول الشاعر: ونابغة الجعدي بالرمل بيته ... عليه تراب، من صفيح وجندل وللنحويين كلام كثير في سحر هذا، تركناه؛ إذ ليس فيه إلا اختلاف في تعليل وتقدير تلك التعاليل، وتفريق بينه وبين أمس، ولا يتضمن أحكاماً يرجع

فيها إلى النطق إلا ما ذكروا من أنه لا ينتصب سحر ظرفاً إلا إذا كان اليوم الذي قبله انتصب /على الظرفية، فإن ارتفع على الفاعلية أو انتصب على أنه مفعول به لم يجز أن ينتصب سحر على الظرف؛ بل يكون بدلاً من اليوم مضافاً لضميره، أو معرفاً بأل, فتقول: كرهت يوم السبت سحره، أو السحر منه, لا بد من أحد هذين في البدل. ولو قلت: سير بزيد يوم الجمعة سحر، وجعلته مفعولاً على السعة- لم يجز لعدم الرابط بينه وبين اليوم, فإن أردت هذا المعنى فقل: سير بزيد يوم الجمعة سحره، أو السحر منه، حتى يرتبط به. قال السهيلي: «لأنك لا تقدر أل إذا كان في الكلام ما يغني عنهما، وأما إذا كان اسماً متمكناً فلا بد من تعريفه كما تعرف الأسماء، أو تجعله نكرة، فلا يكون إذاً من ذلك اليوم. فإن قلت: فقد أجازوا: سير بزيد يوم الجمعة سحر، برفع اليوم ونصب سحر، فلم لا يجوز بنصب اليوم ورفع سحر؟ قلنا: لأن اليوم- وإن اتسع فيه- فهو ظرف في معناه، وهو يشتمل على السحر، ولا يشتمل السحر عليه, فلا يجوز إذا أن يتعرف السحر تعريفاً معنوياً حتى يكون ظرفاً بمنزلة اليوم الذي هو منه؛ ليكون تقديم اليوم مع كونه ظرفاً بمنزلة اليوم مغنياً عن آلة التعريف» انتهى. وقوله كغدوة وبكرة علمين قال المصنف في الشرح: «الذي يتصرف ولا ينصرف غدوة وبكرة علمين قصد بهما التعيين أو لم يقصد؛ لأن علميتهما جنسية، فيستعملان استعمال أسامة وذؤالة، فكما يقال عند قصد التعميم: أسامة شر السباع، وعند التعيين: هذا أسامة فاحذره- تقول عند قصد التعميم: غدوة وقت

نشاط، وقاصداً للتعيين: لأسيرن الليلة إلى غدوة، وبكرة في ذلك كغدوة. وقد يخلوان من العلمية فيتصرفان وينصرفان، ومنه قوله تعالى {وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا}» انتهى. وجعلت العرب بكرة وغدوة علمين لهذين الوقتين، ولم تفعل ذلك في نظائرهما كعتمة وضحوة ونحوهما. واختلف في تعريفهما: فقيل: هو من قبيل تعريف الجنس، كأم حبين وأسامة. وقيل: من قبيل تعريف العلمية لوقت بعينه من يوم معين. وكلا القولين يظهر من لفظ س في أبواب ما لا ينصرف من الأحيان. وقال ابن طاهر: هما علمان إذا أردتهما من معين، فإن لم ترد ذلك فهما نكرتان. والموضوع للنكرة هو غداة، نحو قولهم: نحن في غداة باردة، ونحن في غداة طيبة، ثم غيروا لفظ غداة إلى غدوة؛ لأن موضع التعريف بتغيير اللفظ، فيكون أول أحوال هذا اللفظ التعريف، ثم يجوز أن ينكر بعد ذلك. والدليل على ذلك أنا قد رأيناهم يضعون أسماء مشتقة موضوعة لمعارف لم تستعمل في شيء من النكرات، ولا تعرف معانيها/ منكورة، نحو سعاد وزينب وغير ذلك مما لا يحصى. وإن عرف ما اشتقت منه فغدوة قد اشتقت للتعريف من غداة، كما أن سعاد اشتق من السعادة لأن يوضع لمعرفة. والأصل في هذين الاسمين غدوة، وحملت بكرة عليها لاجتماعهما في المعنى وفي النية؛ كما حملوا يذر على يدع.

ويجوز أن تنكر اليوم وتعرف غدوة وبكرة، فتقول: رأيته يوماً غدوة؛ لأن غدوة وقتها من اليوم معروف، كأنك قلت: رأيته يوماً في هذا الوقت. وزعم أبو الحسن أنه يجوز أن تقول: آتيك اليوم غدوة وبكرة، وتجعلهما بمنزلة ضحوة. وزعم أبو الخطاب أنه سمع من يوثق به من العرب يقول: آتيك بكرة، وهو يريد الإتيان من يومه أو في غده، ومثله قوله تعالى {وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا}. قال السيرافي: «وهذا من تنكير العلم؛ لأن الأعلام يجوز تنكيرها بعد تعريفها، واللفظ واحد». قال الفراء في المعاني له: «قرأ أبو عبد الرحمن السلمي {بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ}، ولا أعلم أحداً قرأها غيره, والعرب لا تدخل الألف واللام في غدوة لأنها معرفة بغير ألف ولام, سمعت أبا الجراح يقول: ما رأيت كغدوة قط، يعني غداة يومه، وذلك أنها كانت باردة؛ ألا ترى أن العرب لا تضفيها، فكذلك لا تدخلها الألف واللام، وإنما يقولون: أتيتك غداة الخميس، ولا يقولون: غدوة الخميس، فهذا دليل على أنها معرفة». وقول الفراء «إنه لا يعلم أحداً قرأ (بالغدوة) غير السلمي» قد قرأها كذلك أبو رجاء العطاردي، وعبد الله بن عامر من قراء السبعة.

وفي البسيط: «زعم يونس عن أبي عمرو أنك تقول: أتيته العام الأول بكرة، ويوماً من الأيام بكرة، ولا تنون، سواء أقصدت بكرة يوم بعينه أم لم تقصد. وزعم أبو الخطاب أنه سمع من يوثق بعربيه صرف بكرة وغدوة، قيل: حملاً على عشية وضحوة ونحوهما، إذا أردت وقت يوم بعينه، فتنكرهما تنكيراً أصلياً. وقيل: هذا تنكير بعد التعريف، كما تقول: جاءني يزيد ويزيد آخر، كذلك هذا, كأنه جعل الوقت أوقاتاً، كل واحد منها بكرة, وكأنه قال: سرت بكرة من البكرات، أي: وقتاً من ذلك الحين، كما تقول: جاءني يزيد من اليزيدين. وأما قوله تعالى {وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا} فقيل: لما أتى بها في سياق عشيا، وهو منون، وكان يجوز فيها التنوين وحدها- نونوا هنا للسياق» انتهى. وقال الفراء أيضاً: «العرب تجري غدوة وبكرة، ولا تجريهما، وأكثر الكلام في غدوة ترك الجري، وأكثره في بكرة أن تجرى، فمن لم يجرها جعلها معرفة؛ لأنها اسم يكون أبداً في وقت واحد بمنزلة أمس وغد، وأكثر ما تجري العرب غدوة إذا قرنت بعشية، يقولون إني / لآتيهم غدوة وعشية، وبعضهم يقول غدوة، لا يجريها, وعشية, فيجريها، ومنهم من لا يجري عشية لكثرة ما صحبت غدوة».

وقال الزجاج: «بكرة وغدوة إذا كانتا نكرتين صرفتا, وإذا أردت بهما بكرة يومك وغدوة يومك لم تصرفهما». وتقول: سير بزيد يوم الجمعة غدوة، على الظرف فيهما جميعاً؛ لأنها بعض اليوم، وتقول: سير بزيد يوم الجمعة غدوة، كأنها بدل من اليوم، ولا تحتاج أيضاً إلى الضمير كما يحتاج في بدل بعض من كل؛ لأنها ظرف في المعنى، ولو قلت: كره يوم الخميس غدوة، على البدل- لم يكن بد من إضافة غدوة إلى ضمير المبدل منه؛ لأن اليوم ليس بظرف, فيصير كقولك: كرهت يوم الخميس سحره، إذا أردت البدل؛ لأن المكروه هو السحر دون سائر اليوم، وإنما تستغني عن ضمير يعود إلى اليوم إذا تركته ظرفاً على حاله؛ لأن بعض اليوم إذا كان لفعل كان جميع اليوم ظرفاً له. وقوله بعيدات بين قال المصنف في الشرح: «أي: أوقاتاً غير متصلة» انتهى. وبعيدات جمع بعد مصغرة، [تقول: لقيته بعيدات بين]، ومعناه: لقيته مراراً متفرقة قريباً بعضها من بعض، وجمع بعد يدل على ما أريد من المرار، وتصغيرها يدل على ما أرادوه من تقاربها؛ لأن تصغير الظرف المراد به التقريب. وقوله وما عين إلى قوله وعشاء هذه الأسماء نكرات أريد بها أزمان معينة، فوضعت موضوع المعارف وإن كانت نكرة، ولذلك لا تتصرف، وتوصف بالنكرة, يقولون: أتيتك يوم الخميس ضحى، فترفعه، ولقيتك يوم الجمعة عتمة متأخرة، وكذلك البواقي. ونظيرها في ذلك: لقيتك عاماً أول، وإنما تريد العام الذي يليه عامك، وكلها لا تتصرف إذا أريد بها زمان معين بلا خلاف.

وفي «الشيرازيات» عن الأخفش أنه قال: «ضحوة وعتمة إذا أريد بهما وقت بعينه أرفعه وأنصبه حتى أسمع العرب تركت فيه الرفع، فأقول: سير عليه عتمة وعتمة، وسير عليه ضحوة وضحوة». ورواية س فيه النصب. وقال: «لم يستعملوه على هذا المعنى إلا ظرفاً». فإن لم ترد بضحى وسائر ما ذكر معه معيناً بل شائعاً تصرف، فتقول: سير عليه ضحوة من الضحوات. وأجاز الكوفيون تصرف ما عين من عتمة وضحوة وليل ونهار، فتقول: سير عليه عتمة وضحوة، وسير عليه ليل ونهار، وتقدم ذكر هذا في باب النائب عن الفاعل. ولا يقاس على هذه الظروف، فلو أردت بيوم أو غيره واحداً بعينه جاز لك التصرف فيه، ولا يعلل هذا. وقوله وربما منعت الصرف والتصرف يعني عشية، فتصير إذ ذاك علماً, وينبغي على هذا ألا يقال: أتيتك عشية الخميس. وامتناعها الصرف للعملية والتأنيث، وعلميتها من جنس علمية / غدوة وبكرة، وامتناعها من التصرف كامتناعهما. وفي البسيط: «وغدوة وبكرة علمان وإن تقدم ذكر اليوم معرفة أو نكرة، وقد سمع فيهما الرجوع إلى الأصل، وقد سمع أيضاً في عشية وضحوة العلمية، والأكثر التنكير» انتهى.

ونقل الأخفش أن ضحوة وعشية يكونان معرفتين لفرط اقتران إحداهما بالأخرى، فتقول: عشية وضحوة اتفق كذا، والمعروف استعمال العرب لهما نكرتين. وجعل الفارسي فينة والفينة مما تعاقب عليه التعريفان العلمية والألف واللام، وليس فينة معدولاً؛ لأنهم يقولون الفينة. وقوله وألحق بالممنوع التصرف ما لم يضف من مركب الأحيان، كصباح مساء ويوم يوم احترز بقوله «ما لم يضف» من حالة الإضافة، فإنه إذا أضيف صدره إلى عجزه استعمل ظرفاً وغير ظرف، فمن استعماله ظرفاً قول الشاعر: ما بال جهلك بعد الحلم والدين ... وقد علاك مشيب حين لا حين أنشده س، وقال: «وإنما هو حين حين، ولا بمنزلة ما إذا ألغيت». ومثاله غير ظرف قول الشاعر: ولولا يوم يوم ما أردنا ... جزاءك، والقروض لها جزاء أنشده س. واحترز بقوله «من مركب الأحيان» من أن يكون معطوفاً بالواو، نحو: فلان يتعهدنا صباحاً ومساءً، إذ العطف أصل الإضافة في: صباح مساء، فإذا أضافوا أرادوا معنى العطف، فكان من إضافة الشيء إلى ما اقترن به، كما يضاف الشيء إلى ما يصاحبه ويقترن به، ولو لم يكن الأصل العطف ما وقع الفعل إلا في الأول،

كما يقع الضرب في ضربت غلام زيد على الغلام لا عليه وعلى زيد. ومثال التركيب كخمسة عشر قولك: فلان يزورنا صباح مساء, ويوم يوم, أي: كل يوم، وكل صباح ومساء. وفي هذه الحالة- وهي التركيب- لا يستعمل إلا ظرفاً, وقال الشاعر: ومن لا يصرف الواشين عنه ... صباح مساء يضنوه خبالا وقال آخر: آت الرزق يوم يوم، فأجمل ... طلباً، وابغ للقيامة زادا وإذا ركب كان المعنى: صباح أيامه ومساءها، وجاز أن يضاف وأن يبنى، كما فعل ذلك ببعلبك. وعلة بنائه تضمنه معنى حرف العطف. وقد اختلف فيه في العطف إذا قلت صباحاً ومساءً: فقال بعضهم: يعني واحداً غير معين؛ لأنه نكرة, أي: واحداً من هذا وواحداً من هذا، فمعنى العطف فيه غير معنى البناء والإضافة, وقول/س: «إنما معناه صباحاً ومساءً» لا يريد أن حرف العطف مضمر؛ لأنه قد قال في بابه: «إن حروف العطف لا تضمر». وتأول بعض الناس جواز ذلك من هنا، وهو فاسد لما ذكرت من أن معنى الإضافة والتركيب غير معنى ظهور الواو، وإنما أراد أن الأصل ذلك، ثم حذفوا، ولم يريدوا العطف، بل حذفوا إما للبناء أو الإضافة. وقال بعضهم: صباحاً ومساءً المراد به التكثير والمبالغة، وكل واحد فيه العموم بغير أداته, فلم يتمكن. وهذه الأسماء التي التزم فيها الظرفية لا يجوز فيها الاتساع.

وزعم الحريري صاحب المقامات أنه فرق بين قولك: زيد يأتينا صباح مساء، على الإضافة، ويأتينا صباح مساء, على التركيب, وأن الخواص يهمون في ذلك، فلا يفرقون بينهما، وأن الفرق هو أن المراد به مع الإضافة إليه: يأتي في الصباح وحده؛ إذ تقدير الكلام: يأتينا في صباح مساء، والمراد به عند تركيب الاسمين وبنائهما على الفتح أنه يأتي في الصباح والمساء, وكان الأصل: هو يأتينا صباحاً ومساءً، فحذفت الواو العاطفة، وركب الاسمان، وبنيا على الفتح لأنه أخف الحركات، كما فعل في العدد المركب من أحد عشر إلى تسعة عشر. انتهى ما ذكره في «درة الغواص» من تأليفه. ورد عليه ذلك أبو محمد بن بري، وقال: هذا الفرق ليس مذهب أحد من النحويين البصريين. قال أبو سعيد السيرافي: «يقال سير عليه صباح مساء، وصباح مساء، وصباحاً ومساءً، ومعناهن واحد». ثم قال: «وليس سير عليه صباح مساء مثل قولك ضربت غلام زيد في أن السير لا يكون إلا في الصباح كما أن الضرب لا يقع إلا بالأول- وهو الغلام- دون الثاني؛ لأنك إذا لم ترد أن السير وقع فيهما لم يكن في مجيئك بالمساء فائدة»، وهذا نص واضح. وقال س: «وتقول: إنه ليسار عليه صباح مساء، ومعناه صباحاً ومساءً». وهذا أيضاً نص واضح في أنه لا فرق في المعنى بين أن يكون صباح في المعنى مضافاً إلى مساء أو مركباً معه. وقوله وألحق غير خثعم ذا وذات مضافين إلى زمان يعني: وألحق جميع العرب ذا وذات مضافين إلى زمان بهذه الأسماء التي تقدمت في كونها ملتزماً فيها

النصب على الظرفية؛ ولا يتصرف فيها، إلا أن خثعم أجازت فيها التصرف، فتقول على لغة الجمهور: لقيته ذا صباح وذا مساء، وذات مرة، وذات يوم، وذات ليلة، وقال الشاعر: إذا شد العصابة ذات يوم ... وقال إلى المجالس والخصوم وعلى لغة خثعم يتصرف فيها، فتقول: سري عليه ذات ليلة، برفع ذات، وأما /على لغة غيرهم فينصب لأنه ملتزم فيه الظرفية، وقال بعض الخثعميين، وهو أنس بن مدرك: عزمت على إقامة ذي صباح ... لأمر ما يسود من يسود وهذا الذي ذكره المصنف من أن ذا وذات المذكورين يتصرفان عند خثعم هو مذهب س والجمهور. وزعم السهيلي أن ذات مرة وذات يوم لا يتصرفان في لغة خثعم ولا في لغة غيرها، وأن ما أنشده س من قوله: عزمت على إقامة ذي صباح .................... لا حجة فيه؛ لأن ذا صباح يعني به اليوم؛ لأن كل يوم ذو صباح، فالتقدير: عزمت على إقامة يوم. قال: وقد وجدت في حديث قيلة بنت مخرمة- وهو حديث طويل وقع في مسند بن أبي شيبة- أن أختها قالت لبعلها: «إن أختي تريد المسير مع حريث بن حسان ذا صباح بين سمع الأرض وبصرها». قال: «وهذا

يكون من باب ذات مرة وذات يوم، غير أنه ورد مذكراً لأنه يستثقل التأنيث مع الصاد وتوالي الحركات، فحذفوها، فقالوا: لقيته ذا صباح، وهذا لا يتمكن كما لا يتمكن ذات يوم وذات حين، ولا يضاف إليه مصدر ولا غيره». وهذا الذي ذهب إليه من أن ذات هي التي لا تتصرف، وأن ذا يتصرف إلا أن يكون محذوفاً من ذات- باطل؛ لأن ذات صباح إنما جاء في كلامهم بمعنى صباح على ما ذكرناه، وحديث قيلة يدل على ذلك، وما ادعاه من أن الأصل ذات وحذفت التاء لما ذكره دعوى لا دليل عليها, وما ذكره من التعليل غير موجب لحذف التاء في كلام العرب, وإذا تبين أن ذا صباح قد استعمل بمعنى صباح وجب أن يجعل ذلك في بيت أنس, وكأنه قال: عزمت على إقامة وقت, أي: وقت مسمى بهذا الاسم، والوقت المسمى بهذا الاسم هو صباح، ولا يحمل على ما ذكره؛ لأنه لم يثبت من كلامهم أن ذا صباح يراد به اليوم، وما توهمه من أن س إنما ادعى جواز الرفع في ذات في لغة خثعم بسبب بيت أنس غير صحيح، بل حكى عنهم أنهم يرفعون ذات مرة، فيقولون: سير عليه ذات مرة. وسبب التزام العرب الظرفية في ذات أنها صفة في الأصل لظرف محذوف، فالتقدير: لقيته قطعة ذات يوم, أو ذات مرة, وكذلك لقيته ذا صباح، أي: وقتاً ذا صباح، أي: صاحب هذا الاسم، فحذف الموصوف، وأقيمت صفته مقامه. ولم يتصرفوا في الصفة بعد حذف الموصوف لأمرين: أحدهما: أن الصفة إذا لم تكن خاصة لم يجز إجراؤها مجرى الموصوف، /وذو وذات بمعنى صاحب وصاحبة ليسا بخاصين بجنس الموصوف المحذوف؛ إذ قد يوصف بهما الزمان وغيره، فلم يجز لذلك أن يجريا مجرى الموصوف المحذوف

فيتصرف فيهما كما كان يتصرف فيه؛ كما أن صفة المصدر إذا لم تكن خاصة به وحذف موصوفها لم يجز إقامتها مقام المصدر، بل تبقى منتصبة على الحال. والآخر: أن إضافة ذات إلى مرة ويوم، وإضافة ذي إلى صباح- من قبيل إضافة المسمى إلى الاسم، وهي قليلة في كلام العرب، فلم يتصرفوا فيها لذلك, ولقيته صباحاً ويوماً ومرة في معنى: ذا صباح وذات يوم وذات مرة، استغني به عنه لما كان يؤدي معناه مع ما فيه من الاختصار. وزعم أبو بكر بن الأنباري أن قولك لقيته ذات مرة معناه: حقيقة مرة, وكذلك قال في قوله تعالى {وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ}، أي: غير حقيقة الشوكة. قال ابن عصفور: «وهذا باطل؛ لأنه لا يوجد في كلام العرب ذات بمعنى حقيقة، ولذلك لحن الزبيدي من قال: الذاتي بمعنى الحقيقي، ولو ثبت الذات بمعنى الحقيقة لم يكن ذلك لحناً» انتهى. ومعنى [غير] ذات الشوكة أي: غير الطائفة ذات الشوكة، أي: صاحبة الشوكة. وفي البسيط: ليس ذات مرة من أسماء الزمان، وإنما مرة مصدر من مر مرة، فنقل إلى الزمان، وذات هي في الأصل وضعت للمصدر، [تقول]: لقيته مرة, أي: واحدة، فلما صار مرة ظرفاً صارت ذات وصفاً لزمان، كأنك قلت: لقيته مدة ذات مرة، أي: واحدة، ثم حذف الموصوف، وأقيمت الصفة مقامه.

وذهب ابن جني إلى أن ذات صارت ظرفاً لإضافتها إلى مرة بعد ما تأول فيه الظرف، وجعله من باب إضافة المسمى إلى الاسم، أي: ذات الذي يقال فيها مرة، كقوله: إليكم- ذوي آل النبي- تطلعت .......................... يريد: ذوي الذي يقال لهم آل النبي، والأصل: لقيته مرة, وإليكم آل النبي. وقال أبو العباس: الذات هنا ليست تأنيث ذو، وإنما هي بمعنى النفس، كأنه قال: نفس مرة، ونفس يوم. وقال أيضاً في البسيط: «وربما كان في بعضها عدم التمكن، كظلاماً. ومنه: لقيته مرة، تريد: زمناً واحداً؛ لأن الزمن الواحد يلازمه الفعل الواحد كالمرة الواحدة، فوضع هذا المصدر موضع الزمن الواحد؛ إذ التاء للتحديد فيه، فدل على ذلك في الزمان». وفي الإفصاح: ذات مرة، الأصل في ذي أن تكون صفة بمعنى صاحب، وتؤنث بالتاء كما تؤنث الصفات، فكان الأصل: لقيته ساعة ذات مرة، فحذف الموصوف، وأقيمت الصفة مقامه، فضعف لذلك، ولم يستعمل إلا ظرفاً. هذا تعليل /الأستاذ أبي عبد الله بن أبي العافية، وهو موافق لكلام س؛ لأنه لا يجيء في صفات الأحيان إذا قامت مقام الموصوف إلا أن تكون ظروفاً. قال: «ومما يختار فيه أن يكون ظرفاً، ويقبح أن يكون غير ظرف صفة الأحيان». وذكر: سير عليه طويلاً، وحديثاً. ثم قال: «ولم يجز الرفع لأن الصفة لا

تقع مواقع الاسم، كما أنه لا تكون إلا حالاً، [نحو] قوله: ألا ماء ولو بارداً؛ لأنه لو قال ولو أتاني بارد كان قبيحاً». قال: «فكما لا تكون هذه الصفة إلا حالاً أو تجري على اسم كذلك هذه الصفات، لا تجوز إلا ظرفاً، ولم يجز أن تتمكن الصفة إلا أن تكون موصوفة على ضعف، نحو: سير عليه طويل من الدهر؛ لأنها إذا وصفت قربت من الأسماء، أو تكون صفة غلبت على الموصوف، وكثر استعمالها دونه، نحو: ملي من الدهر، وقريب». وقال غير ابن أبي العافية: الأصل في مرة أن تكون مصدراً، فلم تستعمل للحين إلا ظرفاً. والصحيح في مرة أنها تكون مصدراً وظرفاً، وقيل: ذات مرة من إضافة المسمى إلى الاسم، وهو قلب، ولم يجعلوه إلا ظرفاً، وقد ذكر س تمكن ذات في المكان، وقال: «تقول في الأماكن: سير عليه ذات اليمين وذات الشمال؛ لأنك تقول: داره ذات اليمين وذات الشمال»، فهذا يبطل تعليل أنها في الأصل صلة، أو أن العلة إضافة المسمى إلى اسمه؛ لأنها كذلك في المكان، وكأنه يقول إن مرة أصلها المصدر، وقد قال س إثر ذات مرة وذات ليلة وذات صباح: «فليس يجوز في هذه الأسماء التي لم تتمكن من المصادر التي وضعت للحين وغيرها من الأسماء أن تجرى مجرى يوم الجمعة وخفوق النجم». وقوله واستقبح الجميع إلى آخر المسألة: يعني جميع العرب، ومثال ذلك: سير عليه قديماً، أو حديثاً أو طويلاً، فهذه أوصاف عرض حذف موصوفها،

وانتصبت على الظرف، فلو تصرف فيها، فقيل: سير عليه قديم أو طويل- قبح ذلك. وأجاز الكوفيون فيها الرفع. واحترز بقوله «عرض قيامها مقامه» من صفة لم يعرض قيامها مقامه، بل استعملت ظرفاً، وهي في الأصل صفة، نحو: قريب، وملي, فإنه يحسن إذ ذاك التصرف, فتقول: سير عليه قريب, وسير عليه ملي, وملي صفة استعملت استعمال الأبطح والأبرق، وهو يلي العامل، ومعنى ملي من النهار: قطعة من النهار. واحترز بقوله «ولم توصف» من حالتها إذا وصفت، فإنه يحسن إذ ذاك فيها التصرف، تقول عليه: سير عليه طويل من الدهر؛ لأنه لما وصف ضارع الأسماء. -[ص: ومظروف ما يصلح جواباً لـ «كم» واقع في جميعه تعميماً أو تقسيطاً. وكذا ما يصلح /جواباً لـ «متى» إن كان اسم شهر غير مضاف إليه شهر. وكذا مظروف الأبد والدهر والليل والنهار مقرونة بالألف واللام. وقد يقصد التكثير مبالغة، فيعامل المنقطع معاملة المتصل. وما سوى ما ذكر من جواب «متى» فجائز فيه التعميم والتبعيض إن صلح المظروف لهما.]- ش: المظروف هو ما يقع في الظرف. والذي يصلح أن يقع جواباً لـ «كم» ولا يصلح أن يكون جواباً لـ «متى» هو ما كان موقتاً غير معرف ولا مخصص بصفة، نحو: ثلاثة أيام، ويومين؛ ألا ترى أن ذلك يقع جواباً لكم، تقول: كم سرت؟ فتجاب: ثلاثة أيام، أو يومين، فهذا النوع يكون العمل في جميعه، إما تعميماً وإما تقسيطاً، فإذا قلت: سرت يومين أو ثلاثة أيام- فالسير واقع في اليومين أو في الثلاثة من الأول إلى الآخر، وقد يكون في كل واحد من اليومين أو الثلاثة وإن لم يعم من أول اليوم إلى آخره، وهو الذي عنى المصنف بقوله «أو تقسيطاً». ومثل التعميم

بقولك: صمت ثلاثة أيام، والتقسيط بقولك: أذنت ثلاثة أيام، قال: «وقد يكون العمل صالحاً لهما، فيجوز أن يقصد المتكلم ما شاء منهما، كقولك: تهجدت ثلاثة ليال، فيجوز أن تريد الاستيعاب، ويجوز أن تريد إيقاع تهجد في بعض كل واحدة منهن» انتهى. وإذا قلت سرت يومين فلا يجوز أن تكون إنما سرت في أحدهما. وهذا النوع من الظروف لا يكون العامل فيه إلا ما يتكرر ويتطاول، ولو قلت: مات زيد يومين أو ثلاثة أيام، وأنت تريد الموت الحقيقي- لم يجز ذلك. وقال في البديع: «متى كان الظرف جواباً لـ «كم» كان العمل مستغرقاً له؛ لأنها سؤال عن عدد، فلا يقع جوابه إلا بجميع ما تضمنه سؤاله، وإن أجيب ببعضه لم يحصل غرضه، فإذا قال: كم صمت؟ قلت: يومين، مثلاً، فلا يكون صومك دونهما، ولا أكثر منهما، ويكون الجواب نكرة كهذا، ومعرفة كاليومين المعهودين». وأنكر ابن السراج أن يرد جواب كم معرفة، فقال: «ولا يجوز أن تقول: الشهر الذي تعلم؛ لأن هذا من جواب متى, ومتى كان الظرف جواب متى كان العمل مخصوصاً ببعضه؛ لأنها سؤال عن تعيين الوقت، فلا يجيء في جوابه إلا المخصوص، فإذا قال: متى قدمت؟ قلت: يوم الجمعة، ولو قلت يوماً لم يجز، ويجوز أن يقع معرفة باللام، فتقول: اليوم المعهود. فأما قولهم: سار الليل، والنهار, والدهر, والأبد- فهو- وإن كان لفظه لفظ المعارف- فإنه في جواب كم، ولا يجوز أن يكون في جواب متى؛ لأنه يراد به التكثير، وليس بأوقات معلومة محدودة، فإذا قيل: سير عليه الليل والنهار- فكأنه قيل: سير عليه دهراً طويلاً».

وقوله وكذا ما يصلح جواباً لـ «متى» إن كان اسم شهر غير مضاف إليه /شهر مثال ذلك المحرم وصفر وسائر أسماء الشهور، تقول: سرت المحرم، وسرت صفر، فالعمل يقع في جميع الشهر إما تعميماً أو تقسيطاً؛ لأن علم الشهر إذا أطلق هو بمنزلة الثلاثين يوماً، فتقول: اعتكفت المحرم، فهذا للتعميم، وتقول: أذنت المحرم، فهذا للتقسيط، فلا يمكن أن يخلو يوم منه من الأذان فيه. وظاهر قول المصنف «إن كان اسم شهر» العموم في جميع أسماء الشهور الاثني عشر. وظاهر قوله «غير مضاف إليه شهر» أنه يجوز أن يضاف شهر إلى جميعها، فتقول: شهر المحرم، وشهر صفر، إلى آخرها، وليس الحكم كما يدل عليه ظاهر كلامه، ولم تستعمل العرب من أسماء الشهور مضافاً إليه شهر إلا رمضان وربيع الأول وربيع الآخر، وأما غير هذه الثلاثة من باقي أعلام الشهور فلا يضاف إليه شهر، لا يقال: شهر المحرم، ولا: شهر صفر، ولا: شهر جمادى, إلا أن في كلام س ما يخالف هذا، وهو أنه أضاف شهراً إلى ذي القعدة، قال س: «ولو قلت: شهر رمضان، أو شهر ذي القعدة- صار بمنزلة يوم الجمعة»، ولهذا أخذ أكثر النحويين بجواز إضافة شهر إلى سائر أعلام الشهور، ولم يخصوا ذلك بالثلاثة التي ذكرناها. والشهر في أصل اللغة ليس للثلاثين يوماً، ولا للوقت الذي يشتمل عليها، وإنما هو اسم للهلال، حكى ذلك أبو عبد الله بن الأعرابي وغيره من اللغويين، وأنشدوا شاهداً على ذلك قول الشاعر:

فأصبح أجلى الطرف، ما يستزيده ... يرى الشهر قبل الناس، وهو ضئيل قالوا: وإنما قيل للثلاثين يوماً شهر لطلوع الهلال فيها. ودل كلام المصنف بمفهوم الصفة أنه إذا أضيف «شهر» إلى علم الشهر أنه لا يكون العمل في جميعه تعميماً ولا تقسيطاً؛ بل يجوز أن يكون العمل في جميعه، ويجوز أن يكون في بعضه، فتقول: صام زيد شهر رمضان، فيعم، وقدم زيد شهر رمضان، فيكون القدوم في بعضه، وسار زيد شهر رمضان، فيحتملهما. وما ذكرناه من التفرقة بين «رمضان» و «شهر رمضان» هو مذهب الجمهور. وزعم الزجاج أنه لا فرق بين رمضان وشهر رمضان، فإنه يجوز أن يكون العمل في بعضه، وأن يكون في جميعه. وهو مخالف لما قال س، قال س: «ومما أجري مجرى الدهر والليل والنهار: المحرم وصفر وسائر أسماء الشهور إلى ذي الحجة؛ لأنهم جعلوهن جملة واحدة لعدة أيام، كأنهم قالوا: سير عليه الثلاثون يوماً، ولو قلت شهر رمضان كان بمنزلة يوم الجمعة والبارحة، ولصار جواب متى» انتهى كلام س، وقد فرق بين ذكر رمضان وشهر رمضان /كما ترى، فجعل المحرم في جواب كم، وجعل شهر رمضان في جواب متى. وهذه التفرقة إنما تكون بالاستقراء والسماع، وليس للقياس هنا مجال. وفي الإفصاح: «ذكر س في أسماء الشهور كلها أنها لا تكون في كلامهم ظرفاً إلا بشرط أن يستوفيها الفعل، جعلوها أسماء لثلاثين يوماً موقتة، ومن غلط س في هذا فقد أساء؛ لأنه موضع سماع وإن أعطى القياس خلافه، وعليه أن يأتي من كلامهم بنحو: مات زيد رمضان، وقدم رمضان، وعمي رمضان، أو صفراً، أو المحرم، أو غيره من أسماء الشهور المعرفة» انتهى.

وقال بعض أصحابنا: «ومما يدل على أن شهر المحرم قد يكون العمل فيه كله وقد يكون في بعضه قوله تعالى {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ}، وإنزال القرآن إنما هو في بعضه؛ بدليل {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ}، وقوله تعالى {وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ (184) شَهْرُ رَمَضَانَ} في قراءة من نصب، والصيام إنما هو في جميعه، بخلاف رمضان من غير إضافة شهر إليه، فإن العمل لا يكون إلا في جميعه، نحو قوله عليه السلام (من قام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه)؛ إذ فهموا أن هذا الثواب الجزيل إنما جعل في مقابلة القيام في جميع رمضان لا في بعضه» انتهى. والسبب في أن كان العمل في جميع الشهر إذا أضيف إلى علم الشهر وفي بعضه أن الشهر بإضافته إلى الاسم العلم صار وقتاً عندهم؛ وخرج عن أن يكون معدوداً، وكأنه قال: سرت زمان رمضان، ووقت رمضان؛ لأن الشهر إذا أضيف إلى اسمه لم يرد به معنى العدد؛ لأن في اسمه معنى العدد؛ ألا ترى أن رمضان كما قدمناه بمنزلة قولك الثلاثين يوماً المسماة بالمحرم، فلو أضفت شهراً إليه مريداً به العدد كان بمنزلة: ثلاثي ثلاثين، وذلك لأنه لا وجه له، ولو أفردت شهراً، فقلت: سرت شهراً، أو سرت الشهر الذي تعلم- عم العمل جميعه؛ لأنه حالة الانفراد لا يراد به وقت، إنما هو بمنزلة الثلاثين يوماً إن كان معرفة، وبمنزلة ثلاثين يوماً إن كان نكرة.

وزعم ابن خروف أن الفرق بين «رمضان» و «شهر رمضان» من جهة أن رمضان علم، وشهر ليس كذلك، إنما هو معرفة بإضافته إلى رمضان، وكذلك سائر أسماء الشهور، والعلم واقع على الشخص بجميع صفاته، فكذلك أسماء الشهور كالأعلام، فلا يقع على بعض الشهر، قال: «وليس كالشهر لأنه واقع على جزء من الشهر منفرداً أو مجتمعاً»؛ من جهة أنه ليس عنده علماً، فأجاز على هذا القول أن تقول: سرت الشهر، وأنت تريد أن السير في بعضه. وأجاز أن يعمل في الشهر ما لا يتطاول، نحو: لقيتك الشهر. وكذلك زعم في أعلام الأيام أنها كأعلام /الشهور، فإذا قلت: سرت السبت، أو سرت الخميس- لم يكن العمل إلا في جميعها؛ لأنها علمان، فإذا أضيف إليها يوم أو ليلة, فقلت: سرت يوم الخميس- جاز أن يكون السير في بعض اليوم أو في جميعه؛ لأن تعريفه إنما هو بالإضافة. وأجاز كذلك أن يعمل في اليوم المضاف إليهما ما لا يتطاول، نحو قولك: لقيتك يوم الخميس، ولم يجز إعماله في السبت والخميس وسائر أيام الأسبوع، لا يجوز عنده أن تقول: لقيتك السبت، ولا: لقيتك الخميس. وهذا الذي ذهب إليه باطل؛ لأن الاسم يتناول مسماه بجملته نكرة كان أو غير نكرة، معرفة علماً أو غير علم، وإنما التفرقة بين المحرم وأسماء الشهور إذا أضيف إليها شهر وبينها إذا لم يضف إليها شهر؛ من جهة أنه إذا انفرد الشهر ولم يضف فالعمل في جميعه؛ لأنه يراد به ثلاثون يوماً، ولا يجوز أن يكون في بعضه كما زعم ابن خروف. وكذلك أسماء الأيام يجوز أن يكون في كلها وفي بعضها؛ لأنها من قبيل المختص غير المعدود، ويعمل فيه المتطاول وغيره، فسواء أضيف إليه يوم أو لم يضف، فتقول: مات زيد الخميس، ويوم الخميس، كما تقول: مات شهر رمضان، وصام زيد الخميس، ويوم الخميس، كما تقول: صام شهر رمضان.

وقوله وكذا مظروف الأبد والدهر والليل والنهار مقرونة بالألف واللام يعني أنها مثل رمضان إذا لم يضف إليه شهر يكون للتعميم، قال س: «ومما لا يكون العمل فيه من الظروف إلا متصلاً في الظرف كله قولك: سير عليه الليل والنهار، والدهر، والأبد». ثم قال: «لا تقول: لقيته الدهر، والأبد، وأنت تريد يوماً فيه، ولا: لقيته الليل، وأنت تريد لقاءه في ساعة دون الساعات» انتهى. وقوله وقد يقصد التكثير مبالغة، فيعامل المنقطع معاملة المتصل مثال ذلك: سير عليه الأبد، لا تريد التعميم، بل قصدت المبالغة مجازاً, وإن كان لم يقع السير في جميع الأبد، كما أنه إذا قال القائل: أتاني أهل الدنيا، لا يريد به الحقيقة، وإنما أتاه ناس منهم، نزلهم منزلة جميع أهل الدنيا على سبيل المبالغة والتجوز. والصيف والشتاء والربيع واقعة على فصول من السنة معلومة، ولم يقصد بها العدد، وكل ما وقع على معين ليس بعدد جاز أن يكون العمل في كله وفي بعضه، فإذا كان في كله كان جواب كم، وإذا كان في بعضه كان جواب متى، فيجوز: انطلقت الصيف، فهذا في جواب متى؛ لأن الانطلاق من الأفعال التي لا تتطاول، ويجوز: سرت الصيف، وأنت تريد التعميم؛ لأن السير مما يمتد، ويكون جواب كم، ومن ذلك قوله: فقصرن الشتاء بعد عليه ... وهو للذود أن يقسمن جار

يريد: قصر ألبان /الذود عليه في جميع هذا الفصل، ولم يرد أنه قصرها عليه في بعض الفصل. ومن استعمال الربيع ظرفاً قول الشاعر: كأن قتودي على قارح ... أطاع الربيع له الغرغر وقوله وما سوى ما ذكر من جواب متى إلى آخره تقدم له مما يصلح أن يكون جواب متى أعلام الشهور غير المضاف إليها شهر، والأبد، والدهر، والليل، والنهار. ثم قال: وما سوى ما ذكر، وذلك نحو: اليوم، والليلة، ويوم الجمعة، وليلة الجمعة، وأسماء أيام الأسبوع، وأشباه ذلك، تقول: صام زيد اليوم، ولقيت زيداً اليوم، وسار زيد اليوم، فالأول يعم، والثاني وقع الفعل في بعضه، والثالث يحتمل أن يكون السير مستغرقاً لليوم، ويحتمل أن يكون وقع في بعضه؛ لأن المظروف الذي هو السير صالح للتعميم والتبعيض. وكون ما يكون العمل في جميعه هو ظرف، وانتصب انتصاب الظروف- هو مذهب البصريين. وزعم الكوفيون أنه ليس بظرف، وأنه انتصب انتصاب المشبه بالمفعول؛ لأن الظرف عندهم ما انتصب على تقدير في، وإذا عم الفعل الظرف لم يتقدر عندهم فيه في؛ لأن في تقتضي عندهم التبعيض، فلا يجوز عندهم: صمت في يوم الجمعة، ولا: يوم الجمعة صمت فيه، ولا: سرت في ثلاثة أيام، إذا كان السير يستغرق الثلاثة الأيام، وإنما جعلوه مشبهاً بالمفعول لا مفعولاً به لأنهم رأوه ينتصب بعد الأفعال اللازمة.

وما ذهبوا إليه باطل؛ لأنهم بنوه على أن في تقتضي التبعيض، وهي إنما هي للوعاء، قال تعالى {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ}، فأدخل في على الأيام، والعمل متصل فيها؛ بدلالة قوله تعالى {سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا}، وقال تعالى {فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى}، فأدخل في على ضمير الأيام والليالي مع أن الرؤية متصلة في جميعها. وفي الإفصاح: «الكوفيون لا يجيزون: صمت في يوم الخميس، ولا: قرأت في يوم الخميس، إذا استوعبت، ويقولون: في تقتضي التبعيض، كما تقول: جلست في الدار. والكوفيون في ذلك على غير صواب؛ فإن العرب تقول: تكلمت في القوم أجمعين، وسرت في بعض النهار، وصمت النهار، فيستوعبه. وقبل هذا القول منهم ابن الطراوة، وزاد: إنك إذا نصبت ما لا تدخل عليه «في» في مذهبهم فإنما تنصبه على أنه مفعول به، نحو: سرت ميلاً، وفرسخاً، وبريداً، ونحو: صليت المحرم. وهذا كله ليس بشيء؛ لأن المقصود بالظرفية الوقوع في الوقت استوعبه أو لم يستوعبه» انتهى. وهذا تقسيم لظروف الزمان اختصرناه من كلام أصحابنا: ظرف الزمان ثلاثة أقسام: قسم يقع جواب /كم لا جواب متى، وهو ما كان موقتاً غير معرف ولا مخصص بصفة، والعمل فيه جميعه لا بعضه، ولا يعمل فيه إلا ما يتكرر ويتطاول.

وقسم يقع جواب متى، وهو ما كان معرفاً أو مخصصاً، وهو قسمان: غير معدود: ويكون العمل فيه جميعه، وفي بعضه، ومنه شهر مضاف إلى أسماء الشهور، وأسماء أيام الأسبوع. ويعمل فيه ما يتطاول وما لا يتطاول. ومعدود: ولا يكون العمل إلا في جميعه، ومنه أعلام الشهور غير المضاف إليها شهر، ولفظ شهر نكرة أو معرفاً بأل. وقسم لا يصح وقوعه جواباً لـ «كم» ولا جواباً لـ «متى»، وهو ما كان غير موقت ولا مخصص، نحو: حين، ووقت. وهذا النوع من قبيل ما يقع العمل فيه كله؛ لأنه يراد به من الزمان القدر الذي وقع فيه الفعل. وفي البسيط ما ملخصه: الظرف صالح للاتصال، وغير صالح له، ومحتمل الأمرين: الأول معدود ومفرد ومعطوف، المعدود كاليومين والشهرين وشهرا ربيع، وكذلك المجموع، لا تقول: لقيته يومين، ويصح: سرت يومين. والمفرد ما وضع للتكثير أو للعدد، والتكثير كالدهر والأبد، ويكون للاتصال حقيقة أو مجازاً. وللعدد أسماء الشهور كالمحرم، كأنه وضع لثلاثين يوماً، وكذلك الأسبوع. وقيل: منه أسماء الأيام، فلا تقول: لقيته الأربعاء؛ فإنه اسم لعدد الساعات، وتقول: سرت الأربعاء، فإن أردت عدم الاتصال قلت: لقيته يوم الأربعاء، وشهر رمضان لغير الاتصال، ورمضان للاتصال، خلافاً للزجاج؛ إذ ذهب إلى أن أسماء الشهور ليست للاتصال، بل هي كالسنة والعام، تكون لغير الاتصال، تقول: لقيته العام الأول، فكذلك هذه، فلا تفيد الاتصال إلا بالعطف، وقد ذكر س الاتصال في أسماء الشهور، فكان حجة على الزجاج. والمتسع فيه من هذا النوع لا يكون إلا للاتصال، نحو: القتال شهران. فأما {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} فعلى حذف، كأنه

قال: مواقيت الحج، أو الحج حج أشهر. وقالوا: الحر شهران، والبرد شهران. وأما: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْرًا} فعلى الحذف، أي: مدة حمله وفصاله. ومثل المحرم الشتاء والصيف، هو للاتصال المعطوف، [تقول]: سرت الليل والنهار، ولا تقول: لقيته الليل والنهار، والشتاء والصيف. ولا يلزم في هذه العطف؛ لأنه بانفراده دال على الاتصال، بخلاف الليل والنهار، فإن وقع ما لا يكون متصلاً يؤول، نحو: {وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلاثِينَ لَيْلَةً}، {وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً} يريد: تمام ذلك العدد، أو: تتمة هذا، ومثله: لقد أتى في رمضان الماضي ... جارية في درعها الفضفاض يريد: في شهر رمضان، ولذلك منع الزجاج أن يكون {أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ} منصوباً بـ {كُتِبَ}. /وأجازه الفراء وغيره، ومنه قولك: ولد لفلان الولد في ستين عاماً، أي: لاستكمال الستين. وقد يتجوز بالظرف على هذا المعنى كما قالوا: ولد له ستون عاماً.

وأما ما هو غير صالح للاتصال فالضيق من الزمان الذي لا يسع تكرار الفعل، كالآن والساعة والبكرة، وهذا يصح أن يقرن به فعل الاتصال، كسرت الساعة، وغير الاتصال، كلقيتك الساعة. وأما المحتمل فكاليوم والشهر والسنة والعام، فيصح أن يقع الفعل فيه كله، وفي جزء منه، فتقول: سرت العام، ولقيتك العام، وسواء أقارن الظرف في أم لم تقارن. فإن استغرق الفعل الظرف فالبصريون يجيزون فيه الظرف والتوسع، فتقول: الصوم يوم الخميس، رفعاً ونصباً. ومنع الكوفيون النصب، يعنون على الظرف. وإن كان في بعضه جاز الرفع والنصب، نحو: رحيلنا يوم الخميس، لكن النكرة الرفع فيها الأكثر، قال تعالى {غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ}. وذكر بعضهم أن الاتساع للاتصال لا لغيره، فتقول: القتال اليوم، ولا تقول: اللقيا اليوم. وجواب كم نكرة ومعرفة، يقول: كم سرت؟ فتقول: الشهر كله، أو: المحرم. وزعم ابن السراج أن جواب كم نكرة. ويحمل على أنه أراد الأصل، فتكون المعرفة فيه فضلاً وزائداً على الحاجة، والزيادة لا تفسد، كما يأتي في جواب «أزيد عندك أم عمرو» بالاسم، وإن كان الأصل: نعم، أو: لا. وجواب متى معرفة؛ لأن المراد التعريف بالوقت، بخلاف كم؛ لأن المراد العدد.

-[ص: فصل وفي الظرف ظروف مبنية لا لتركيب، فمنها إذ للوقت الماضي لازمة الظرفية، إلا إن أضيف إليها زمان، أو تقع مفعولاً بها، وتلزمها الإضافة إلى جملة، وإن علمت حذفت، وعوض منها تنوين، وكسرت الذال لالتقاء الساكنين لا للجر، خلافاً للأخفش. ويقبح أن يليها اسم بعده فعل ماض. وتجيء للتعليل، وللمفاجأة. وتركها بعد بينا وبينما أقيس من ذكرها، وكلاهما عربي. وتلزم بينا وبينما الظرفية الزمانية والإضافة إلى جملة، وقد تضاف بينا إلى مصدر.]- ش: لما تكلم قبل في الظروف المعربة والمبنية أخذ في الكلام على الظروف المبنية، فذكر منها إذ. والدليل على اسميتها الإخبار بها، والإبدال منها، وتنوينها في غير ترنم، والإضافة إليها بلا تأويل، نحو: مجيئك إذ جاء زيد، ورأيتك أمس إذ جئت، ويومئذ، و {بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا}. وبنيت لافتقارها إلى ما بعدها من الجمل، أو لما عوض منها، وعلى رأي المصنف لوضعها على حرفين. وقوله للوقت الماضي هذا أصل وضعها, وسيذكر المصنف خروجها عن هذا الوضع بمجيئها للتعليل وللمفاجأة /وبمعنى إذا الاستقبالية, إن شاء الله.

وقوله لازمة الظرفية يعني أنها لا تتصرف بأن تكون فاعلة أو مبتدأة. وقوله إلا إن أضيف إليها زمان لما كانت تدل على مطلق الزمان الماضي أضيف إليها ما يحصل لها به تخصيص، نحو يوم وليلة وساعة, أو مرادفها, نحو حين, فيكون من إضافة الشيء إلى مرادفه لاختلاف اللفظين, وكأنها لم تخرج بذلك عن الظرفية. وقوله أو تقع مفعولاً بها وكونها تقع مفعولاً بها جعله المصنف من الدلائل على اسميتها، ومثل ذلك بقوله تعالى {وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ}. وهذا الذي ذكره المصنف من أن إذ تقع مفعولاً بها ذهب إليه جماعة من البصريين، منهم الأخفش والزجاج، وخصوصاً فيما ورد من ذلك في القرآن، ولم يمكن عندهم أن ينتصب على الظرف؛ لأن اذكر مستقبل، ومحال وقوع المستقبل في الماضي. وفي البسيط: «إنه مفعول باذكر». قال: «ولا يريد تعيين الزمان، وإنما يريد الواقع فيه، واستغنى عن ذكر الواقع بكون إذ مضافة إليه» انتهى. والذي أذهب إليه أن استعمال إذ مفعولاً بها لا يجوز؛ إذ لا يوجد من كلامهم نحو: أحببت إذ قدم زيد، ولا: كرهت إذ قدم، وإنما ذكروا ذلك مع اذكر لما اعتاص عليهم ما ورد من ذلك في القرآن، وتخريجه سهل، وهو أن تكون إذ معمولة لمحذوف يدل عليه المعنى، أي: واذكروا حالكم أو قصتكم أو أمركم، وقد

جاء بعض ذلك مصرحاً به، قال تعالى: {وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ}، فـ «إذ» ظرف معمول لقوله: {نِعْمَةَ اللَّهِ}، وهذا أولى من إثبات حكم كلي بمحتمل بل بمرجوح. وقوله وتلزمها الإضافة إلى جملة الجملة تكون خبرية فعلية مصدرة بماض أو بمضارع في معنى الماضي، واسمية من مبتدأ وخبر، كقوله تعالى: {وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ}، فأما قولهم: «قمت إذ ذاك»، و «فعلت إذ ذاك»، كما قال: هل ترجعن ليال، قد مضين، لنا ... والعيش منقلب إذ ذاك أفنانا فليست مضافة إلى مفرد بل إلى جملة، والتقدير: إذ ذاك كذلك، كما حذف الخبر في قوله: أيام جمل خليلاً، لو يخاف لها ... هجراً لخولط منه العقل والجسد والتقدير: أيام جمل أكرم بها خليلاً. وإذا جاز هذا في أيام مع صحة إضافتها إلى المفرد فهو فيما لا يضاف إلا إلى الجملة أجدر؛ لأن الدلالة عليه أقوى.

ولا تضاف إلى الجملة الشرطية سواء أكانت فعلية، نحو قولك: أتذكر إذ إن تأتنا نكرمك، أو /اسمية, نحو قولك: أتذكر إذ من يأتك نكرمه، فإن اضطر شاعر جاز أن تليها الجملة الشرطية. وقوله وإن علمت حذفت وعوض منها تنوين أي: وإن علمت الجملة حذفت. والذي يظهر من قواعد العربية أن هذا الحذف جائز لا واجب، فإذا حذفت عوض منها تنوين. والدليل على العوضية كونهما لا يجتمعان. قال المصنف في الشرح: «حق تنوين العوض أن يكون عوضاً من بعض كلمة، كتنوين يعيل مصغر يعلى، فإنه عوض من لام الكلمة، وكتنوين جندل، فإنه عوض من ألف جنادل، فلما كانت الجملة التي تضاف إليها إذ بمنزلة الجزء منها، وحذفت- عوملت في التعويض منها معاملة جزء حقيقي». وقوله وكسرت الذال لالتقاء الساكنين لا للجر، خلافاً للأخفش وذلك أنهم لما عوضوا التنوين التقى الساكنان، هو وذال إذ، فكسر لالتقاء الساكنين، كما كسروا صه حين نونوه تنوين التنكير. وزعم أبو الحسن أن هذه الكسرة كسرة إعراب، وأن إذ معربة إذ ذاك، لما أضيف إليها اسم الزمان وحذفت الجملة بعدها أعربت، وجرت بالإضافة. قال المصنف: «وأظن حامله على ذلك أنه جعل بناءها ناشئاً عن إضافتها إلى الجملة، فلما زالت من اللفظ صارت معربة». وقد رد مذهب الأخفش بوجوه:

أحدها: أنه قد سبق لإذ حكم البناء، والأصل استصحابه حتى يقوم دليل واضح على إعرابه. الثاني: أن العرب قد بنت الظرف المضاف لإذ، ولا علة لبنائه إلا كونه مضافاً لمبني، فلو كانت الكسرة إعراباً لم يجز بناء الظرف. الثالث: أن العرب قالت: يومئذاً، بفتح الذال منوناً، عدل في البناء إلى الفتح لطلب التخفيف، فلو كان إذ منجراً بالإضافة إعراباً لم يجز فتحه؛ لأنه إذ ذاك مخفوض بالإضافة، فتظهر فيه الكسرة، ولما كان مبنياً بنوه مرة على الكسر على أصل التقاء الساكنين، ومرة على الفتح طلباً للتخفيف. الرابع: قول العرب: كان ذلك إذ، بغير إضافة شيء. وقال الشاعر: نهيتك عن طلابك أم عمرو ... بعاقبة، وأنت إذ صحيح وتأوله الأخفش على تقدير مضاف محذوف، أي: وأنت حينئذ صحيح. ورد هذا التأويل بأنه لا يحذف المضاف ويبقى المضاف إليه على إعرابه إلا بشرط أن يكون معطوفاً على مثله؛ نحو: ما مثل زيد ولا أخيه يقولان ذلك. فإن فات هذا الشرط /كان الحذف نادراً، نحو: رأيت التيمي تيم زيد، وقول

العرب «كان ذاك إذ» من الكلام الدائر في لسانهم، فلا ينبغي أن يحمل على النادر. ورد أيضاً بأن إبقاء المضاف إليه على إعرابه من الجر إذا حذف المضاف إليه قليل بالنسبة إلى إعرابه بإعراب ما أضيف إليه، وله مع إعرابه بإعراب ما أضيف إليه شرط، وهو أنه لا يصلح أن يؤدي ما يؤدي المحذوف؛ ألا ترى تباين أهل والقرية في قوله {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ}، فإذا كان شرطاً في هذا فأحرى أن يكون شرطاً فيما بقي مجروراً بعد الحذف، وحين وإذ معناهما واحد، وتصلح إذ لما تصلح له حين، فلا يجوز فيها الحذف. وقوله ويقبح أن يليها اسم بعده فعل ماض مثاله: كان ذلك إذ زيد قام، فهذا قبيح. فإن وليها اسم بعده مضارع، نحو: إذ زيد يقوم، أو ماض، نحو: إذ قام زيد، أو مضارع، نحو: إذ يقوم زيد- كان ذلك حسناً. وعللوا قبح ذلك بأنه لما كانت هي ظرف زمان لما مضى، وكان الفعل الماضي مناسباً له في الزمان وفي دلالة الماضي عليه بلفظه، وكانا في جملة واحدة- لم يحسن الفصل بينهما، بخلاف ما سواه من حيث الصيغة، وإن كان الزمان واحداً. وقوله وتجيء للتعليل ثبت في بعض النسخ: وتجيء حرفاً للتعليل. قال المصنف في الشرح: «كقوله تعالى {وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَاوُوا إِلَى

الْكَهْفِ}، وكقوله: {وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ}، {وَلَنْ يَنفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ}. ومثله قول الشاعر: فأصبحوا قد أعاد الله نعمتهم ... إذ هم قريش، وإذ ما مثلهم بشر وأشار إليها س، فقال في باب ما ينتصب على إضمار الفعل المتروك إظهاره في غير الأمر والنهي: (إن أن في قولهم أما أنت منطلقاً انطلقت بمعنى إذ، وإذ بمعنى أن، إلا أن إذ لا يحذف فيها الفعل، و «أما» لا يذكر بعدها الفعل المضمر)، هذا نصه» انتهى كلام المصنف. وقال الأستاذ أبو علي: قال بعض المتأخرين: إن إذ تستعمل بمجرد التسبيب معراة من الظرفية, وزعم أنه مراد س بقوله «لأنها في معنى إذ في هذا الموضع، وإذ في معناها أيضاً»، واستشهد على ذلك بقوله تعالى: {وَلَنْ يَنفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ}، وقال: محال أن تكون ظرفاً؛ لأن الفعل المستقبل لا يقع في الظرف الماضي، فإنما هي لمجرد التسبيب. ومثله قول الشاعر: ألا رجلاً، أحلوه رحلي وناقتي ... يبلغ عني الشعر إذ مات قائله

والجواب أن كلام س لا دليل فيه على ما ذكر، وإنما معناه: لأنها في معنى إذ في السببية ليس غير، بل ظواهر الكتاب في غير هذا الموضع تدل على أنها /لا تخرج من الظرفية. وأما البيت والآية فلا دليل فيهما؛ لأن العامل في إذ في الآية محذوف، والتقدير: ولن ينفعكم اليوم اشتراككم في العذاب وجب لكم ذلك إذ ظلمتم أنفسكم بالكفر والطغيان، فإذ ظرف ماض، فيه معنى التسبيب, وكذلك لا يكون التقدير في البيت وأمثاله. انتهى. ودل على أن ما اختاره المصنف هو قول لبعض المتأخرين، وأن ظاهر كلام س مخالف لهذا القول. وقوله وللمفاجأة ثبت في بعض النسخ بعد هذا ما نصه: وليست حينئذ ظرف مكان ولا زائدة، خلافاً لبعضهم. أما كونها للمفاجأة فذكر ذلك ابن جني، قال ابن جني في بينما زيد قائم إذ قعد عمرو: «قعد ينصب إذ؛ لأنها ليست بمضافة إليها، إنما هي الآن للمفاجأة، فهي على حد الشرط» انتهى. ويظهر من كلام المصنف في الفص والشرح أنها لا تكون للمفاجأة إلا بعد بينا وبينما. ومذهبه فيها أنها حرف إذا كانت المفاجأة. وذهب كثير من النحويين إلى أنها زائدة في مثل قوله: بينما نحن بالأراك معا ... إذ أتى راكب على جمله

وقوله: بينا كذلك، والأعداد وجهتها إذ راعها لحفيف خلفها فزع ويأتي تأويل هذا البيت وما أشبهه إن شاء الله. وحكى هذا المذهب السيرافي عن بعضهم. وحكى أيضاً أن بعضهم جعلها ظرف مكان، وكأن هذا قاسها على «إذا» إذا كانت للمفاجأة في نحو: خرجت فإذا الأسد، فإن كثيراً من أصحابنا ذهبوا إلى أنها ظرف مكان, وعزوه إلى س. وقال المصنف: «المختار عندي الحكم بحرفيتها». وإلى ذلك ذهب الأستاذ أبو علي في أحد قوليه. والذي نختاره نحن خلاف قوله, وأنها ظرف زمان على حالها التي استقرت لها, ولا نخرجها إلى الزيادة ولا إلى الحرفية ولا إلى كونها ظرف مكان؛ لأنه يمكن إقرارها ظرف زمان على ما نبينه، إن شاء الله. وقوله وتركها بعد بينا وبينما أقيس من ذكرها إنما كان أقيس لأن المعنى يستفاد بدونها، ولوضوح بيان العامل في بينا وبينما، وهو ما يشبه الجواب في نحو: بينما زيد قائم أقبل عمرو، فالناصب لـ «بينما» هو أقبل.

وبعضهم يطلق عليه جواباً، وليس بجيد؛ لأنّ ذلك ليس بشرط، ولو كان شرطاً لم يسغ أن يقال إنه يعمل فيه الجواب، وأمّا مع وجود إذْ فلا يمكن أن يعمل ما بعدها فيما قبلها، سواء أكانت حرفاً أم ظرفاً؛ لأنه إذا كانت حرفاً للمفاجأة فلا يعمل ما بعد المفاجأة فيما /قبلها، وإن كانت ظرفاً فما بعدها مضافٌ إليه، والمضاف إليه شيءٌ لا يعمل فيما قبله، فلذلك ذكروا أنّ بينما وبينا ينصبهما فعلٌ يقدَّر مما بعد إذْ، ويكون ما بعد إذْ يفسِّر ذلك العامل، فيقدّر في مثل بينما زيدٌ قاعدٌ إذْ أقبلَ عمرٌو العامل في بينما أقبلَ محذوفة، ويفسّرها قوله: إذْ أقبلَ عمرٌو، نص علي ذلك ابن جِنِّيْ وابن الباذَش وغيرهما من أصحابنا. وأمّا مَن جعل إذْ زائدة فالعامل في بينما وبينا العامل المذكور بعد إذ الزائدة، وذلك واضح. وإلي زيادة إذْ ذهب أبو عبيدة، وحمل عليه إذْ في القرآن في قوله {وَإِذْ قُلْنَا} حيث وقع في أول الكلام. وردَّه الزَّجّاج، وقال: «هذا إقدام منه في القرآن». وقال س: «بينا أنا كذا إذْ جاءَ زيدٌ، فهذا لِما تُوافِقُه وتَهجُم عليه». ومثال تركها بعد بَيْنا قول الشاعر: [فَبَينا نحُن نرْقبُهُ أَتانا ... مُعَلِّقَ وَفْضةٍ وزِنادَ راعِ]

وقال آخر: فَبَيْنا تَمارِينا وعَقْدُ عِذارِهِ ... خَرَجْنَ علينا كالجُمانِ المُثَقّبِ ومثالُ تركها بعد بَيْنَما قولُ الشاعر: [بينما نحنُ مُرْتعُونَ بفَلْج ... قالت الدُّلِّحُ الرِّواءُ: إِنيهِ] ومثالُ ذكرها بعد بَيْنا قولُ الشاعر: وكنتَ كَفَيْءِ الغُصْنِ، بَيْنا يُظِلُّنِي ... ويُعْجِبُنِي إذْ زَعْزَعَتْهُ الأَعاصِرُ ومثالُ ذكرها بعد بَيْنما قولُ الشاعر: بَيْنَما الناسُ علي عَلْيائها ... إذْ هَوَوْا في هُوَّةٍ فيها فَغارُوا وقال الآخر: اسْتَقْدِرِ اللهَ خيراً، وارْضَيَنَّ بهِ ... فبَيْنَما العُسْرُ إذْ دارَتْ مَياسيرُ

وقوله وكلاهما عربيّ يعني ألّا تأتي بإذْ وأن تأتي بها. وكان الأصمعي يؤثر تركها علي ذكرها. وعن أبي عمرو: ولا يجاوب بإذْ. وقال أبو علي: الظاهر أنه لا يجوز؛ لأنَّ العامل في بينما وبينا بعد إذْ، وهو مضاف، [وما بعد المضاف لا يعمل فيما قبله]. ثم أجازه أبو على علي إضمار عامل يدلُّ عليه المضاف، وشبهه بقوله تعالي {يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ} الآية، وقولِه {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ}، وقولِ الشاعر: أبا خُراشةَ .................... .............................. البيت، التقدير: إذا مُزِّقْتُم تُجَدَّدون، فإذا نُفخ في الصور يَتَناكَرون، وأتَفخَرُ أن كنت. [3: 172/ب] وقال الأستاذ أبو علي: اللغويون / يمنعون: بينما أنا كذلك إذْ جاء فلان، وقالوا: الصواب: جاء، دون إذ. وقد حكاه س. وهو مشكل لاحتياج بينَ إلي عامل، وكذلك إذْ، ولا يصح إعمال إذْ لأنه مضاف إليه، فلا يعمل فيما قبله.

قال الأستاذ أبو علي: وأقول: إنّ العامل في بينَ ما يُفهم من معني الكلام. وأقول في إذْ: إنها بدل من بين، أي: حينَ أنا كذلك حينَ جاء زيدٌ وافقتُ مجيءَ زيد. وقال الفراء في قوله تعالي: {إِذَا لَهُم مَّكْرٌ فِي آيَاتِنَا}: «العرب تجعل إذا تكفي من فعلت، وهذا الموضع من ذلك، اكتُفي بإذا من فعلوا». قال: «وكذلك يفعلون بإذْ». قال: «وأكثر الكلام أن تطرح إذْ». وقوله وتلزم بينا وينما الظرفية الزمانية أصل بينَ أن تكون ظرفاً للمكان، وتتخلل بين شيئين أو ما في تقدير شيئين أو أشياء، ثم إنها استُعملت لمّا لحقتها ما أو الألف ظرف زمان، وصرَّح بعض أصحابنا أنها ظرف زمان بمعني إذْ. وقوله والإضافة إلي جملة الجملة تارة تكون اسمية، نحو الأبيات التي أنشدناها، وتارة تكون فعلية، وذلك قليل، تقول: بينَما أَنصَفَنِي ظَلَمَنِي، وبينَما اتَّصَلَ بي قَطَعَنِي. وزعم ابن الأنباري أنّ بينَ يُشرَط بها في مثل هذين المثالين. وزعم بعض النحويين أنَّ «بَينا» إنما تضاف إلي الجملة الإبتدائية، وحَمل قولَه: بينا أُنازِعُهُمْ ثَوِبي، وأَجْذِبُهُمْ ... إذا بَنُو صُحُفٍ بالحَقِّ قد وَرَدُوا

وقول حُرْقة بنت النعمان: فبَينا نَسُوسُ الناسَ والأمرُ أمرُنا ............... وقول الشَّمّاخ (: بَينا كَذاكَ رَأّيْنَنِي مُتَعَصَّباً ... بالْخَزِّ فَوقَ جُلالةٍ سِرْداحِ علي تقدير: بَينا أنا، وقولَ الآخر: بَينا تُراعِيهِ بِكُلِّ خَميلةٍ ... يَجري عليها الطَّلُّ، ظاهِرُها نَدِي غَفَلَتْ، فَخالَفَها السِّباعُ، فلَمْ تَجِدْ ... إلا الإرهابَ، تَرَكْنَهُ بِالْمَرْقَدِ وقولَ زهيرَ: فَبَينا نُبَغِّي الصَّيدَ جاءَ غُلامُنا ... يَدِبُّ ويُخفي شَخصَهُ ويُضائلُهْ. علي إضمار نحن. ولا دليل. واختلف النحويون في الجملة التي تقع بعد بينا أو بينما علي ثلاثة مذاهب: أحدهما: أنها في موضع خفض بالإضافة، وبَينا وبَينَما مضافان إلي الجملة نفسها دون حذف مضاف له لكثرة وجود ذلك.

وذهب ابن جني وشيخه أبو علي إلي أنّ إضافتها إلي الجملة علي تقدير حذف زمان مضاف إلي الجملة؛ لأنّ المضاف إلي الجمل ظرف الزمان دون ظرف المكان، ولأنّ «بينَ» تقع علي أكثر من واحد؛ لأنها وسط، فلا بدَّ من اثنين فما فوقهما، / وتقديره: بَينا أَوقاتِ زيدٌ قائمٌ عمرٌو، وهو اختيار أبي الحسن بن الباذش. [3: 173/أ] المذهب الثاني: أنّ «ما» كافّة بدليل عدم الخفض بعدها. فإنْ وليها مفردٌ فبشرط المصدرية، ولا يجوز فيه سَمع الأصمعي غير الخفض. أو جملةٌ فلا موضع لها من الإعراب، وأنّ ألف بَينا إنْ وَلِيَتْها الجملة فالألف إشباع- والجملة في موضع خفض بالإضافة- لا كافّة ولا للتأنيث، فوزنها فَعْلاً، خلافاً لزاعمي ذلك؛ لأنَّ كون الألف كافّة لم يَثبُت، وثَبت كونها إشباعاً في رواية: بَينا تَعانُقِهِ الكُماة ............. .............. ولأنّ كون الألف للتأنيث فاسد؛ لأنّ الظروف كلها مذكّرة إلا ما شذّ، وهو قُدّام ووَراء، والقول بذلك يؤدي إلي الدخول في الشاذّ من غير داعية. وهذا هو المذهب المختار عند أصحابنا.

ورَدُّوا على ابن جِنِّيْ بأمرين: أحدهما: أنَّ العرب لا تحذف المضاف وتقيم المضاف إليه مقامه إلا في المفردات. والآخر: أنها لم تضفها لمفرد حتى يكون مصدراً، ولم تضفها لزمان، وقول ابن جني «إنّ الظرف في الزمان يشبه المصدر». ليس بمسوِّغ إضافة بينا إليه؛ لأنه ليس فيه دلالة علي معني الفعل المقتضي للجواب كما في المصدر دلالة عليه. فإن قلت: إنما تضاف بينَ إلي شيئين فصاعداً، فلذلك لزم أن يقدر: بَينا أوقاتِ زيدٌ قائمٌ. فالجواب: أنها قد تضاف إلي الواحد المتجزِّئ، فكذلك تضاف إلي الجملة، فـ «بَينا زيدٌ قائمٌ» في المعني بمنزلة: بَينا قيامُ زيد، وبَينا تضاف إلي المصدر لأنه متجزِّئ، فكذلك إلي الجملة. وقوله وقد تُضاف بَينا إلي المصدر اختصاصه بَينا دون يدلُّ علي أنَّ حكمهما في ذلك مختلف. فأمّا بَينما فجعلها بعضهم من قبيل ما لا يليه إلا الجملة، وهو ظاهر كلام المصنف. وذهب بعضهم إلي أنها من قبيل ما تليه الجملة تارة والمفرد أخري، فأجازوا بَينما قيامِ زيدٍ قامَ عمرٌو. والصحيح أنه لا يجوز؛ لأنه لم يُسمع، ولا يسوغ قياس بَينَما علي بَينا. وتخصيصه جواز إضافة بَينا إلي المصدر دليل علي أنه لا تجوز إضافته إلي الجُثَث، والحكم كذلك لا يجوز في الجثة الخفض بحال. والسبب في أنَّ بَينا لا يليها إلا الجملة، أو المفرد بشرط- أنها تستدعي جواباً، فلم يقع بعدها إلا ما يعطي معني الفعل، وذلك الجملة، والمصدر من المفردات.

ومثال إضافة بينا إلي المصدر قول الشاعر: بَينا تَمارِيهمُ أُرْسِلَتْ ... علي شَبَهِ الرَّأيِ لَمْ تَسْتَبِنْ وقول الآخر: /بَينا تَعانُقِهِ الكُماةَ ورَوْغِهِ ... يَوماً أُتِيحَ لَهُ كَمِيُّ سَلْفَعُ [3: 173/ب] قال المصنف: «ويروي تَعَنُّقُه بالرفع علي الابتداء، والخبر محذوف»، وأنشده المصنف تَعَنُّقه بالخفض، ولم يعرف الأصمعي في تَعانُقه الرفع، وزعم [أنَّ] ابن أبي طَرَفة الهذلي أنشده تَعانُقِه بالخفض، وكان من أفصح الناس. قال ابن عصفور: «وزعم أبو محمد بن السَّيْد أنَّ رواية الخفض غير جائزة؛ لأنَّ تَعانُقاً مصدر تَعانَقَ، قال: وتَفاعَلَ لا يتعدي. وهذا الذي ذهب إليه باطل، بل في ذلك تفصيل، وهو أنَّ التاء الداخلة علي فاعَلَ لا تخلو أن تكون داخلة عليه وهو متعدٍّ إلي اثنين أو إلي واحد، فإن كان متعدياً إلي اثنين صار يتعدي إلي واحد، نحو: عاطَيتُ زيداً الدرهمَ، وإذا أدخلت التاء قلتَ: تَعاطَيتُ الدرهمَ أنا وزيد. وإن كان متعدياً إلي واحد صار غير متعدٍ، نحو: ضارَبَ زيدٌ عمراً، تدخل عليه التاء، تقول: تَضارَبَ زيدٌ وعمرٌو، وقد تدخل علي المتعدي إلي واحد فيبقي علي حاله، نحو قولك: تجاوزني موضع كذا، ومنه:

تَجاوَزتُ أَحْراساً وأَهْوالَ مَعْشَرٍ ................. ووجهه عندي ألَّا تقدر التاء داخلة علي فاعَلَ، بل هي أصل بنفسها، فكذلك تَعانق يكون من هذا القبيل، إلا أن ذلك مما يحفظ ولا يقاس عليه» انتهي كلام ابن عصفور. ويعني بقوله «بل هي أصل بنفسها». أنها بُنيت الكلمة عليها، ونُطق بها أولُ علي تَفاعَلَ لا علي أنَّ الأصل كان فاعَلَ، ثم أُدخلت التاء. وقال استاذنا أبو جعفر بن الزبير: «لم يتعرض ابن السِّيْد لذكر خفض في تَعانُق ولا غيره، لا في النقد ولا في شرح الأبيات، إنما قال: «وقع في نسخ الكتاب تَعانُقه، وهكذا قرأناه، وهو غلط». وقال في شرح الأبيات: «ووقع في نسخ الجمل تَعانُقه بالألف وهو خطأ، والصواب تَعَنُّقه، وكذا وقع في شعر أبي ذؤيب؛ لأنَّ تَعانَقَ لا يتعدي إلي مفعول، إنما يقال: تَعانَقَ الرجلان».وقال في النقد مثل هذا. ويمكن أن ينفصل عنه بما ذكره ابن عصفور، إلا أنَّ ذلك غايته أن يكون علي الإمكان، فتمام هذا الانفصال إنما هو ما أبداه ابن سِيْدَه في «شرح الأبيات» من أنه يقال: تَعانَقتُه وتَعَنَّقتُه، بمعنًي واحد متعديين إلي مفعول» انتهي كلام الأستاذ أبي جعفر، رجمه الله. وبإضافة «بَينا». إلي المصدر احتج أبو عليَّ علي أنَّ «بَينا» ليست محذوفة من بينَما كما قال بعضهم؛ لأنَّ بينما لا تضاف، وإنما هي مكفوفة بـ «ما» داخلة علي الجملتين. وقد يُحذف الخبر الذي للمبتدأ في هذا الباب لدلالة المعني عليه، نحو قوله:

............... فبَينَما العُسْرُ إذْ دارَتْ مَياسِيرُ كما قد يُحذف الجواب لدلالة /المعني عليه، كما قال مَصَادُ ابن مَذعُور: [3: 174/أ] فَبَينا الفَتَي في ظِلِّ نَعْماءَ غَضّةٍ ... تُباكِرُهُ أَفْياؤها وتُراوِحُ إلي أَنْ رَمَتْهُ الحادِثاتُ بِنَكْبةٍ ... تَضيِقُ بِهِ مِنها الرِّحابُ الفَّسائِحُ -[ص: ومنها «إذا» للوقت المستقبل مضمَّنةً معني الشرط غالباً، لكنَّها لِما تُيُقِّنَ كونُه، أو رُجِّح، بخلاف «إنْ»، فلذلك لم تَجزم غالباً إلا في شعر، وربما وقعتْ موقع «إذْ»، و «إذْ» موقعها. وتضاف أبداً إلي جملة مصدَّرة بفعلٍ ظاهر أو مقدَّرٍ قبلَ اسمٍ يليه فعلٌ، وقد تُغني ابتدائيةُ اسمٍ بعدَها عن تقدير فعل وِفاقاً للأخفش. وقد تفارقها الظرفية مفعولاً بها، أو مجرورةً بحتي، أو مبتدَأةً. وتدلُّ علي المفاجأة حرفاً لا ظرفَ زمان، خلافاً للزَّجّاج، ولا ظرفَ مكان، خلافاً للمبرد، ولا يليها في المفاجأة إلا جملةٌ اسمية. وقد تقع بعد «بَينا» و «بَينَما».]- ش: استَدلَّ علي اسمية إذا بدلالتها علي الزمان دون تعرض للحدث، وبالإخبار معها بالفعل، نحو: القيامُ إذا طلعت الشمس، وبإبدالها من اسم صريح، نحو: أجيئك غداً إذا طلعت الشمس. قال المصنف في الشرح: «وبوقوعها مفعولاً بها، كقول النبي - صلى الله عليه وسلم - لعائشة، رضي الله عنها: (إني لأَعلَمُ إذا كُنتِ عني راضيةً، وإذا كُنت عليَّ غَضْبَي)» انتهي. ولا دليل في ذلك؛ لأنَّ مفعول علمت

محذوف، يدل علي المعني، وإذا ظرفٌ علي بابها، والتقدير: إني لأعلم حالك معي في وقت رضاك وفي وقت غضبك. وقوله مضمَّنةً معني الشرط غالباً ولتضمُّنها معني الشرط. وقعت الفاء بعدها علي حدٍّ وقوعها بعد أداة الشرط، نحو: إذا جاء زيدٌ فَقُمْ إليه. وكَثُرَ مجيء الماضي بعدها مراداً به المستقبل، وغيرها من الظروف نحو حين ووقت لا يجوز فيه ذلك، لو قلت: حينَ جِئتَنِي أَكرَمتُك، لم يكن إلا ماضي اللفظ والمعني. واحترز بقوله غالباً من ألا تتضمن معني الشرط في بعض مواردها، بل تتجرد للظرفية المحضة، نحو قوله تعالي {أَئِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا}، {وَاللَّيْل إِذَا سَجَى}، {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى}، والماضي بعدها بمعني المستقبل، كما كان إذا كانت شرطية. وزعم الفراء أنَّ «إذا» لا يكون بعدها الماضي إلا إذا كان فيها معني الشرط والإبهام، لو قلت: أكرمتُك إذا زُرتَنِي، تريد: إذ زرتَنِي لم يصحّ، وكذلك: لأضربَنَّ هذا الذي ضربَك إذا سَلَّمت عليه، فلو قلت: لا تضربْ إلا الذي ضربَك إذا سَلَّمت عليه، لجاز؛ لأنك أَبْهَمتَ، ولم تُوَقِّت. وكذلك: كنتَ صابراً إذا ضُربتَ، علي معني: كُلَّما ضُربتَ صَبَرتَ، ولو أردت زمناً مخصوصاً بمنْزلة إذْ لم يجز، [2: 174/ب] ومنه قوله /تعالي {وَقَالُوا لإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الأَرْضِ}، كأنه قال: كُلَّما ضَربوا في الأرض، أي: لا تكونوا كهؤلاء إذا ضَرب إخوانُهم في الأرض.

وقوله لكنَّها لِما تُيُقِّنَ كَونُه أي: وجوده، نحو: آتيك إذا احمرَّ البُسْرُ. أو رُجِّح، آتيك إذا دَعَوتَنِي، ولا تقول: آتيك إنِ احمرَّ البُسْرُ. وقد تُستعمل «إذا» في غير المقطوع بوقوعه، وذلك قليل، نحو قوله: إذا أنتَ لَمْ تَنْزِعْ عنِ الجَهلِ والخَنا ... أَصَبتَ حَليماً، أو أَصابَكَ جاهِلُ وقد يجوز أن تنْزع وألّا تنْزع، ولا يحيط علماً بأي ذلك يكون إلا الله تعالي. وقوله بخلاف إنْ يعني فإنها تدخل علي الممكن وجوده، وقد تدخل علي ما تُيُقِّنَ كونه، لكنه منبهم الزمان، كقوله تعالي: {أَفَإِين مِّتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ}. وهذا الاستدراك بـ «لكنَّها» من قوله «مضمَّنةً معني الشرط» لأنها من حيث ضُمِّنت معني الشرط كان مقتضي ذلك أن تكون كأدوات الشرط في دخولها علي الممكن أو المنبهم الزمان دون ما ذكر؛ فاستدرك لها هذه الحالة التي انفردت فيها بهذا الحكم. وقوله فلذلك لم تَجزم غالباً إلا في شعر الإشارة بـ «ذلك» إلي كونها تكون لما تُيُقِّنَ كونُه أو رُجِّحَ، وظاهر كلامه الاقتصار في عدم الجزم غالباً علي هذه العلة وحدها. وذكر في الشرح أنه لم يجزم بها لأمور ثلاثة: أحدها: هذا. والثاني: كونُ تضمُّن الشرط ليس بلازم لها؛ إذ تتمحض للظرفية خاصة، أو تتجرد عن الشرطية والظرفية معاً، نحو: (إني لأعلمُ إذا كُنتِ راضيةً). وقد رددنا عليه هذا الحكم، وتأوَّلْنا ما جاء في الحديث.

الثالث: إضافتها إلي ما يليها، والمضاف يقتضي جرّاً لا جزماً، وإذا جُزم بها في الشعر فليست مضافة إلي الجملة. انتهي. ويأتي الكلام معه علي هذه العلة الثالثة إن شاء الله، والاستدلالُ علي الجزم مذكور في أواخر باب عوامل الجزم. وقوله ورُبَّما وقعتْ موقعَ إذْ، وإذْ موقَعها هذا الذي ذكره المصنف هو قول بعض النحويين، والصحيح عند أصحابنا أنَّ كل واحدة منهما لا تقع موقع الأخرى، بل جعلوا إذْ بعد المضارع إلي معني المضي، نحو قوله: يَجزيِه رَبُّ العالَمِينَ إذْ جَزَي ... جَنَّاتِ عَدْنٍ في العَلالِيِّ العُلا قالوا: «كأنه قال: جزاه ربُّ العالمين إذ جَزي، وجعل الوعد بالجزاء جزاء، وهذا أَولَي من أن يُعتقد في إذْ أنها بمنْزلة إذا؛ لأنَّ صرف معني المبهم إلي الماضي بقرينة قد ثَبت من كلامهم، ولم يثبت وضعُ إذْ موضع إذا بقاطع». [3: 175/أ] وجعلوا أيضاً وقوع إذا بعد الماضي /مما يَصرف الماضي إلي الاستقبال، نحو قوله: ونَدْمانٍ، يَزيدُ الكأسَ طِيباً ... سَقَيتُ إذا تَغَوَّرَتِ النُّجُومُ قال بعضهم: «المعني: أسقيه إذا تَغَوَّرت النجوم». وهذا ليس بجيد؛ لأنَّ أكثر ما تدخل رُبَّ علي ما يكون العامل ماضياً من حيث المعني. والأَولي في مثل هذا البيت ما كان يُخَرِّجه عليه ونظائره أستاذنا أبو جعفر بن الزُّبَير من أنَّ «إذا».

معمول لفعل محذوف، يدلُّ عليه سَقيتُ، التقدير: وأَسقيه إذا تَغَوَّرَت النجوم، فلا يجعل العامل فيه لفظ سَقَيت لِمُضيِّه من حيث المعني، ولا يتأوله بالمستقبل لكونه جاء بعد رُبَّ. قالوا: «فأمّا قول الحطيئة: شَهِدَ الحُطَيئةُ حَينَ يَلْقِي رَبَّهُ ... أنَّ الوَليدَ أَحَقُّ بالعُذْرِ. فيحتمل أن يكون التقدير: يَشهد الحطيئة حين يلقي ربَّه». واستدلَّ المصنف علي دعواه أنَّ «إذا» تقع موقع «إذْ» بقوله تعالي: {وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ}، وبقوله: {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْواً انفَضُّوا إِلَيْهَا}، وقول الشاعر: حَلَلتُ بِها وِتْرِي، وأدْرَكتُ ثُؤْرِتي ... إذا ما تَناسَي ذَخْلَهُ كُلُّ غَيْهَبِ وقولِ الآخر: ما ذاقَ بُؤسَ مَعيشةٍ ونَعيمَها ... فيما مَضي أحدٌ إذا لم يَعْشَقِ واستدلَّ أيضاً علي دعواه أنَّ «إذْ» تقع موقع «إذْا» بقوله تعالي: {إِذْ قَالَ اللهُ يَا عِيسَى}، وهي بدل من: {يَوْمَ يَجْمَعُ}، وهو مستقبل المعني، فتعين استقبال

البدل. وبقوله: {فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ - إِذْ الْأَغْلَال فِي أَعْنَاقهمْ}. وبقوله: {يَوْمَئذٍ} بعد: {إذَا زُلْزِلَتِ}. وبقول الشاعر: متى يَنال الفَتَي اليَقْظانُ حاجتَهُ ... إذِ الْمُقامُ بأرضِ اللَّهوِ والغَزَلِ ويَحتمل ما استدلَّ به التأويلَ. وقوله وتُضاف أبداً إلي جملة مصدَّرة بفعلٍ ظاهر شرطه أن يكون مضارعاً مجرداً، كقوله تعالي: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ تَعْرِفُ}، أو مصحوباً بلَمْ، نحو قوله تعالي {وَإِذَا لَمْ تَاتِهِم بِآيَةٍ}، أو ماضياً، نحو قوله: {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ}. وقوله أو مُقَدَّرٍ قبلَ اسمٍ يليه فعلٌ نحو: {إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ - وَإِذَا النُّجُومُ انكَدَرَتْ}، فـ {الشَّمْسُ} مرفوع بـ {كُوِّرَتْ} مضمرة. وأكثر ما يكون الفعل المقدَّر موافقاً للفعل المفسَّر، وقد لا يوافق، نحو قوله:

إذا ابنُ أبي موسى بِلالاً بَلَغْتِهِ .................... في رواية من رفع ابن، التقدير: إذا بُلِغَ، مبنيَّاً للمفعول وإن كان المفسِّر مبنيّاً للفاعل، وارتفاع الاسم في نحو: {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ} / بفعل مضمر، أي: إذا انْشَقَّت السماءُ انْشَقَّت، [3: 175/ب] قال المصنف في الشرح: «لا يجيز س غير ذلك» انتهي. وقال السهيلي عن س: «إنه يجيز علي رداءةٍ الابتداء بعد إذا الشرطية وأدوات الشرط إذا كان فعلاً». انتهي. وما ذكره المصنف من أنَّ «إذا» تضاف أبداً إلي جملة هو مذهب الجمهور. وذهب بعض النحويين إلي أنها ليست مضافة إلي الجملة بعدها، بل هي معمولة للفعل بعدها، وليست معمولة بفعل الجواب كما ذهب إليه الجمهور. وهذا المذهب هو الذي نختاره لها علي أخواتها من أسماء الشرط؛ ألا تري أنك إذا قلت متى تقمْ أقمْ كان متى منصوباً بالفعل الذي يليه، يدلك علي قولك: أيَّاً تضربْ أضربْ. وما ذهب إليه الجمهور فاسد من وجوه: أحدهما: أنَّ «إذا» الفجائية تقع جواباً لـ «إذا» الشرطية، نحو قوله تعالي: {وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِّن بَعْدِ ضَرَّاء مَسَّتْهُمْ إِذَا لَهُم مَّكْرٌ فِي آيَاتِنَا}، وما بعد «إذا» لا يعمل فيما قبلها، وأجمعوا علي أنَّ جواب «إذا» هو «إذا» الفجائية مع ما بعدها كما أُجيب بها إنْ في قوله: {إذَا هُمْ يَقْنَطُونَ}.

الثاني: وقوع الجواب لـ «إذا» وقد قرن بالفاء، نحو: إذا جاءك زيدٌ فاضربْه، وما بعد فاء الجزاء لا يعمل فيما قبله. الثالث: أنَّ جوابها جاء منفيّاً، نحو قوله تعالي: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ مَّا كَانَ حُجَّتَهُمْ إِلَّا أَن قَالُوا}، وما بعد «ما» النافية لا يعمل فيما قبلها. الرابع: اختلاف الظرفين في بعض الصور؛ نحو: إذا جئتَنِي غداً أَجيئُك بعدَ غَدٍ، ولا يمكن إذ ذاك أن يكون الجواب عاملاً فيها وعاملاً في «بعد» لاستحالة وقوع الفعل الواحد في زمانين. وقوله وقد تُغني ابتدائيّةُ اسم بعدها عن تقدي فعلٍ وفاقاً للأخفش قال المصنف في الشرح: «اختار الأخفش ما أوجبه س، وأجاز مع ذلك جعل المرفوع بعد إذا مبتدأ، وبقوله أقول؛ لأنَّ طلب إذا للفعل ليس كطلب إنْ، بل طلبها له كطلب ما هو بالفعل أَولي مما لا عمل له فيه، كهمزة الاستفهام، فكما لا تلزم فاعلية الاسم بعد الهمزة لا تلزم بعد إذا، ولذلك جاز أن يقال: إذا الرجل في المسجد فظُنَّ به خيراً، ومنه قول الشاعر: إذا باهِلِيُّ تَحتَهُ حَنْظَلِيَّةٌ ... لهُ وَلَدٌ منها فَذاكَ الْمُذَرَّعُ جعل بعد الاسم الذي ولي إذا ظرفاً، واستغني به عن الفعل، ولا يفعل ذلك بما هو مختصّ بالفعل. ومما يدل علي صحة مذهب الأخفش قولُ الشاعر:

فأَمْهَلَهُ حتَّى إذا أنْ كأنَّهُ ... مُعاطي يَدٍ في لُجَّةِ الماءِ غامِرُ فأَولي إذا أنِ الزائدة، وبعدها جملة اسمية، ولا يُفعل ذلك بما هو مختصّ بالفعل، /وأنشد ابن جِنِّيْ لِضَيْغَم الأَسَديّ: [3: 176/أ] إذا هو لم يَخَفْنِي في ابن عَمِّي ... - وإنْ لَمْ أَلْقَهُ الرَّجُلُ الظَّلُومُ وقال في هذا دليل علي جواز ارتفاع الاسم بعد إذا الزمانية بالابتداء؛ لأنَّ هو ضمير الأمر والشأن، وضمير الشأن لا يرفع بفعل يفسِّرهما بعده. ومثل ما أنشده ابن جني قولُ الشاعر: وأنتَ امْرُؤٌ خِلْطٌ، إذا هيَ أَرسَلَتْ ... يَمينُكَ شيئاً أَمْسَكَتْهُ شِمالُكا لأنَّ هي ضمير القصة» انتهي كلام المصنف. واستُدِلّ للأخفش أيضاً بقول الشاعر: فهلّا أَعَدُّوِني لِمِثْلِي تَفاقَدُوا ... إذا الخَصمُ أَبْزَي مائلُ الرأسِ أَنْكَبُ

والصحيح أنَّ ذلك لا يجوز؛ إذ ما ذكروه محتمل للتأويل، ولا يتعين فيه الابتداء، ولا نُثبت قانوناً كليَّاً ونَخرج عن القانون المستقر الثابت في لسان العرب بالمحتمل. فأمّا قوله أولاً «لأنَّ طَلَبَ إذا للفعل» فتلك دعوي مخالفة لنص الأئمة أنَّ إذا وكل ظرف زمان مستقبل هو طالب للفعل كطلب إنْ. وأمّا ما استدلّ به من السماع فمتأوَّل: أمَّا: إذا باهِلِيٌّ تَحتَهُ حَنْظَلِيَّةٌ .................... فالمعني: استقرَّت تحته حنظليَّةٌ، فحَنْظَليَّةٌ: فاعل، لا مبتدأ، وتحته: خبر عنه، فباهِلِيٌّ بفعل يفسِّره الفعل في تحته. وأمّا: فأّمْهَلَهُ حتى إذا أنْ كأنَّهُ ............. فـ «أنْ» زائدة، و «كان» محذوفة بعد إذا، التقدير: حتى إذا كان كأنه، و «كان» تحذف بعد الشرط كثيراً، نحو: إنْ خيراً فخيرٌ. وأما «هو لم يَخَفْنِي» و «هي أَرسلَتْ» فذلك مرفوع بفعل محذوف يفسِّره ما بعده؛ أي: إذا لم يَخف هو، وإذا أرسَلتْ هي، ولمّا حذف الفعل انفصل الضمير، والرجل الظَّلومُ: بدل من هو، ويمينك: بدل من هي، وليسا فاعلين، ولا «هو» ولا «هي» ضميراً شأن وقصة، ويجوز الإضمار قبل الذكر في باب البدل، ويفسره البدل، حطاه الأخفش، وقد ذكر المصنف أنَّ مما يفسر الضميرَ المتقدم بدلُه، نحو: مررتُ به المسكين، واللهم صَلَّ عليه الرؤوفِ الرحيمِ. وأمّا:

....... إذا الخَصمُ أَبْزَي مائلُ الرأسِ أَنكَبُ فأَبْزَي: فعل ماض، وليس باسم، فيرتفع الخصمُ بإضمار فعل يفسره هذا الظاهر، ومائلُ الرأس: خبر مبتدأ محذوف، التقدير: هو مائلُ الرأس. وقوله وقد تفارقها الظرفية مفعولاً بها تقدم استدلاله علي ذلك بما ورد في الحديث من قوله (إنِّي لأعلم إذا كنت راضية) وتأويلنا له. وقوله أو مجرروة بحتي قال المصنف في الشرح: «انفردت بدخول حتى الجارة عليها، كقوله تعالي: {حَتَّي إِذَا جَاءُُوهَا}، كما انفردت إذْ بلحاق التنوين والإضافة إليها».ويعني «انفردت بدخول حتى الجارة» انفرادها دون إذْ، ولذلك قال «كما انفردت إذْ بلحاق التنوين والإضافة». ودخول حتى علي الجملة المصدرة بإذا الشرطية/ كثير في القرآن وكلام العرب. [3: 176/ب] وزعم المصنف أنَّ إذا في موضع جر بحتَّي، وهذا يُخرجها عن الظرفية، ويُصَيَّرها مع ما بعدها في حيز المفرد، ولا تبقي إذ ذلك جملة شرطية تستدعي جواباً؛ لأنها تصير إذ ذاك مع ما بعدها لما قبلها، وإذا كان الأمر علي ما زعم المصنف لم يأت بعدها جواب لاذا لأنها معمولة لما قبلها، وأنت تري جميع ما ورد في لسان العرب وكلام الله لا يخلو عن الجواب، فدلَّ ذلك علي أنها ليست معمولة لما قبلها ولا مجرورة بحتي، قال تعالي {هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ}، {وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَآءُ

الله إِلَى النار فَهُمْ يُوزَعُونَ - حتى إِذَا مَا جَآءُوهَا شَهِدَ}، {وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمرَاً حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا}، {حَتَّى إِذَا جَاءُوا قَالَ أَكَذَّبْتُم بِآيَاتِي}، {وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ}، {فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ}، {فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَاكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا}، فأنت تري هذه الآيات وما أشبهها «إذا» فيها باقية علي كونها شرطاً، ولذلك جاء لها جواب تارة بالفعل الماضي، وتارة بالفاء، وكما جاءت لو الإمتناعيه بعد حتي وهي شرط في الماضي كذلك جاءت إذا، ولا يدعي أحد أنَّ لو في موضع جر بحتي، ومثال ذلك في لو قول كُثَيّر: وما زالَ بي ذا الشَّوقُ، حتى لَوَ انَّنِي ... مِنَ الوِجْدِ أَسْتَبْكي الحَمامَ بَكي لِيا وإذا تقرر هذا فأقول: حتى هنا دخلت علي الجملة الشرطية؛ بدليل انتظام ما بعدها شرطاً وجزاءً كما رأيته في هذه الآيات؛ ونصَّوا علي أنَّ حتى إذا دخلت علي الجملة لا تعمل فيها ولا في شيء من أجزائها؛ بل تُخَرَّج علي أحد وجهين: أحدهما: أن تكون حرف ابتداء، وليس من شرط تسميتها حرف ابتداء ألا يليها إلا المبتدأ، بل المعني أنها يكون بعدها المبتدأ، كقوله:

...... وحتى الجِيادُ ما يُقَدْنَ بِأَرْسانِ أو يصلح أن يقع بعدها الابتداء وإن لم يكن بعدها المبتدأ، كقولك: ضربتُ القومَ حتى زيداً ضربتُه، بنصب زيد، فهي هنا حرف ابتداء؛ لأنه يصلح أن يكون بعدها المبتدأ، فتقول: حتى زيدٌ ضربتُه، كذلك في هذه المواضع يصلح أن يجيء بعدها الابتداء وإن لم يكن موجوداً فيها حالة النطق؛ ألا تري إلي صلاحية التقدير في قوله: {فَهُمْ يُوزَعُونَ}: حتى هم إذا ما جاؤوها شَهِدَ عليهم سمعهم. وقال ابن هشام في قول أبي علي في خطبة النصف الثاني من «الإيضاح»: «حتى ما تجد إلا فقيراً محبوراً أو غنيّاً موفوراً»: «حتى/ هنا ابتدائية». [3: 177/أ] والوجه الثاني أن تتقدر حتى بمعني الفاء، كما قدرها النحويون في قولهم: سرتُ حتى أدخلُ المدينة، برفع أدخل، وتقدير كونه قد وقع، قالوا: التقدير سرتُ فدخلتُ المدينة، فكذلك حتى في هذه المواضع التي جاءت بعدها إذا تتقدر بالفاء، ولا ينخرم منها موضع. فهذان وجهان يجوز أن تخرّج عليها هذه الآيات وما اشبهها من كلام العرب. والدليل علي بقائها شرطيّة اتفاق النحويين علي ذلك في قوله: {وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاؤُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا}، واختلفوا في الجواب: فقيل: الواو زائدة. وقيل: الجواب محذوف. وقد طالعت كثيراً من المبسوطات وغيرها في النحو، فلم أر من تعرض لهذه المسألة بخصوصها إلا

الزمخشري، فإنه أجاز فيها أن تكون حرف ابتداء، وأن تكون حارّة لـ «إذا» بمعني الوقت. وأمّا أبو البقاء فإنه جري علي القواعد، فقال في قوله تعالي {حَتَّى إِذَا جَاءُوكَ يُجَادِلُونَكَ}: «إذا في موضع نصب بجوابها. وهو يقول، وليس لِحَتَّى هنا عمل، وإنما أفادت معني الغاية، كما لا تعمل في الجمل». انتهي. وأمّا صاحب البسيط فإنه قال فيه: «وتقول: اجلسْ حتى إذا جاء زيدٌ أعطيتُك، فحتى هنا غير عاملة لأنها دخلت علي اسم معمول لغيرها؛ لأنَّ إذا في موضع نصب بالجواب علي الظرف، كأنك قلت: اجلسْ فإذا جاء زيدٌ أعطيتُك». وأمّا المصنف فتعرض لها علي قلة كلامه فيها وعدم جريه علي القواعد وكان بعض الأذكياء يستشكل مجيء هذه الجملة الشرطية من إذا وجوابها بعد حتى؛ ويذكر لي ذلك، ويقول: كيف تكون حتي غاية وبعدها جملة الشرط؟ فقلت له: الغاية في الحقيقة هو ما ينسبك من الجواب مرتباً علي فعل الشرط، فالتقدير المعنوي الإعرابي: فهم يُوزَعًون إلي أن يشهد عليهم سمعهم وأبصارهم وقتَ مجيئهم إلي النار فينقطع الوَزْع، وكذلك: وسيق الذين كفروا إلي جهنم زمراً إلي أن تُفتح أبوابها وقتَ مجيئهم فينقطع السَّوق. وأمّا إذا كانت حتى بمعني الفاء فيطيح هذا الإشكال؛ إذ لا تكون حتى إذ ذاك حرف غاية. وقوله أو مبتدأ مثاله {إذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ. لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ. خَافِضَةٌ رَّافِعَةٌ. إِذَا رُجَّتِ الأَرْضُ} في قراءة من نصب خافضةً رافعةً، فـ «إذا وقعت» مبتدأ،

و «إذا رُجَّت» خبر، و «ليس» و «خافضةً» و «رافعةً» أحوال ثلاثة، والمعني: وقتُ وقوعِ الواقعةِ صادقةَ الوقوعِ خافضةَ قومٍ رافعةَ آخرينَ وقتُ رَجِّ الأرض. قال المصنف: «هكذا أعربه أبو الفتح في المحتسب،/ وهو صحيح». انتهي [3: 177/ب] ولا يتعين ما قاله أبو الفتح؛ إذ يجوز أن تكون إذا باقية علي ظرفيتها، وتلك أحوال ثلاثة، و «إذا رُجَّت» بدل من «إذا وَقَعَت»، وجواب إذا {وَكُنْتُمْ أَزْوَاجًا ثَلَاثَةً} علي زيادة الواو، كما خَرَّجوا {حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا}، أي: فُتِحَتْ، وقولَ الشاعر: فَلمَّا أَجَزْنا ساحةَ الحَيِّ، وانْتَحَي ... بِنا بَطنُ حِقْفٍ ذي رُكامٍ عَقَنْقَلٍ أي: انْتَحَي. وهذا تخريج كوفيّ أخفشي. وإما أن يكون الجواب محذوفاً: فإما أن تقدره قبل «وكنتم»، أي: انقسمتم وكنتم، وحذفت هذه الجملة لدلالة الكلام عليها. وإما أن تقدره بعد {وَكُنْتُمْ أَزْوَاجًا ثَلَاثَةً}، وتقديره: عرفتم مراتبكم ومنازلكم. وإما أن يكون الجواب {فَأصْحَابُ

الْمَيْمَنَةِ} وما بعده، والمعني: فأصحابُ الميمنة ما أعظمهم وما أنجاهم، وأصحاب المشأمة ما أحقرهم وما أشقاهم. وهذا الوجه أحسن؛ إذ لا يحتاج فيه إلي تكلف حذف. وما ذكره من أنه تكون إذا مبتدأ ينبغي ألا يجوز؛ لأنّ إذا من الظروف التي لا يُتصرف فيها، ولا تكون فاعلة ولا مفعولة ولا مجرورة، فلا يجوز: سَرَّني إذا قام زيد، تريد: سَرَّني وقتُ قيام زيد، ولا يُحفظ من كلامهم: إذا جاء زيدٌ مباركٌ، تريد: وقتُ مجيءِ زيدٍ مباركٌ. وقوله وتدلُّ علي المفاجأة حرفاً لا ظرفَ زمان، خلافاً للزجاج، ولا ظرفَ مكان، خلافاً للمبرد وقال بعض الشراح للكتاب: «مذهب الرياشي والمبرد أنها ظرف زمان، ومذهب الفارسي وأبي الفتح أنها ظرف مكان، وقد نُسبا إلي س، وإلي أنها ظرف مكان ذهب س في باب عدة ما يكون عليه الكلم» انتهي. فيمكن أن يكون للمبرد قولان. ومذهب أبي بكر بن الخياط أنها ظرف مكان. فأما كونها حرفاً فهو قول الكوفيين. وأما كونها ظرف زمان فهو مذهب الرياشي والزجاج، واختاره ابن طاهر وابن خروف والأستاذ أبو علي، فإذا قلت خرجتُ فإذا زيدٌ فلا يصح أن تكون إذا خبراً عن زيد لأنه ظرف زمان، وزيد جثة، فيقدر من أجل هذا على حذف

مضاف، التقدير: خرجتُ فالزمانُ حضورُ زيدٍ، أو مفاجأةُ زيدٍ. وقالوا هذا ظاهر كلام س، قال س: «وتكون -يعني إذا للشيء توافقه في حالٍ أنتَ فيها، وذلك قولك: مررتُ فإذا زيدٌ قائمٌ». قال ابن طاهر: إذا علي بابها من الزمان، ودخلها معني المفاجأة، فلم تعدّ الأسماء. وقال الأستاذ أبو علي: الأَولي في إذا المفاجأة أنها ظرف زمان بقاء علي ما ثَبت، وإذا قُدِر علي إبقاء الشيء علي أصله من وجه من الوجوه فهو أولي. وأمّا كونها ظرف مكان فهو مذهب المبرد، واختاره بعض أصحابنا، وزعموا أنه مذهب س، قال المبرد: إذا قلت خرجتُ فإذا زيدٌ فهي خبر عن زيد، كأنك قلت: فبحضرتي زيدٌ،/ أو فبمكاني زيد. وقول س «وتكون للشيء توافقه في حالٍ أنت فيها». [3: 178/أ] هذا الأكثر، وهو التوافق في الزمان أو المكان علي الخلاف. وقال الفراء: وقد يتراخي هذا، نحو قوله تعالي: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنتُم بَشَرٌ تَنتَشِرُونَ}، ومنها قول أبي ذؤيب: ولقد حَرِصَتُ بأنْ أُدافِعَ عَنهُمُ ... فإذا المَنِيّةُ أَقْبَلَتْ لا تُدْفَعُ يريد: غير مدفوعة. واختلفوا في هذه الفاء الداخلة علي إذا التي للمفاجأة: فذهب الكازني إلي أنها زائدة. وذهب الزجاج إلي أنها دخلت علي حد دخولها في جواب الشرط وذهب أبو بكر مَبرَمان إلي أنها عاطفة

ورجَّح أبو الفتح قول المازني وذلك أنَّ إذا الفجائية فيها معني الإتباع، وكذلك كانت في جواب الشرط كما كانت الفاء، فقد اشتركت الفاء وإذا في هذا المعني، فدخول الفاء عليها دخول حرف زائد للتأكيد، ولا يعترض علي هذا بكون الفاء لا يجوز حذفها، فرُبَّ زائد يلزم، كقولهم: افعلْه آثراً ما. وقال بعض أصحابنا: «ولا يجوز أن تقول: خرجتُ إذا زيدٌ، ولكن مع ذلك إذا وجد له نظائر لم يبعد». انتهي. ويعني أنه قد وجد زوائد كثيرة حذفت. ورُدَّ مذهب الزجاج بأنَّ قولك خرجتُ فإذا زيدٌ إخبار عن حال ماضية قد انقضت؛ والشرط مبنيٌّ علي الاستقبال، ولأنه لو كان في الكلام معني الشرط لاستغني بما في إذا من معني الإتباع عن الفاء كما استغني عنها في قولك: إنْ تفعلْ إذا زيدٌ يفعل. ورُدَّ مذهب مَبرَمان بأنَّ مَبرَمان بأنَّ الجملة التي هي خرجتُ مركبة من فعل وفاعل، وقولك فإذا زيدٌ اسمية، وحكم المعطوف أن يكون وفق المعطوف عليه. فإن قلت: ألست تقول: قام زيدٌ وأخوك محمدٌ، فتعطف إحدى الجملتين علي الأخرى؟ فالجواب: أنَّ الواو يجوز معها ما لا يجوز مع غيرها من حروف العطف؛ ألا تري أنَّ الثاني في العطف بالفاء معلَّق بالأول، والواو ليست كذلك. انتهي معني كلام أبي الفتح. قال الشلوبين الصغير: «ويحتمل أن يُنتَصر لمبرمان بأن يقال له: امتناع قولك قامَ زيدٌ فعمرٌو جالسٌ لم يكن من جهة العطف، إنما كان من أجل [أنَّ] الفاء يصحبها في عطفها الإتباع، ولا إتباع هنا، فإذا صحَّ الإتباع فلا مانع من العطف،

ومسألتنا هذه الإتباع فيها بيِّن علي معني المبالغة، فكأنه لارتباط حضور الأسد عند الخروج معلل بالخروج وإن كان ليس معلَّلاً في الأصل، وإنما هي موافقة ومصادفة،/ ولكن للزوم العلة والمعلول جعل هذا مثله يعطف بالفاء، ومع أنَّ في قولك فإذا زيد معني: فحضرني زيد، وأنت لو قلت خرجتُ فحضرني زيدٌ لم يكن خَلفاً من الكلام، ولم يشك في أنَ الفاء عاطفة، فجاز هذا الجواز ذلك، فعلي هذا يكون توجيه مبرمان صحيحاً». انتهي. [3: 178/ب] والذي يقطع بأنّ الفاء عاطفة وقوع غيرها من حروف العطف مقامها، كقوله {ثُمَّ إذَآ أَنتُم بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ}، فـ «ثُمَّ» لا يصلح أن تكون دخلت دخولها في جواب الشرط؛ لأن ثُمَّ لا يُلَقَّي بها جواب الشرط، ودعوي الزيادة فيها علي خلاف الأصل، فثبت أنها عاطفة. وما ذهب إليه المصنف من أنَّ إذا الفجائية حرف هو اختيار الأستاذ أبي علي في أحد قوليه. قال المصنف: «وروي عن الأخفض أنها حرف دالٌّ علي المفاجأة، وهو الصحيح عندي، ويدل علي صحته ثمانية أوجه: أحدهما: أنها كلمة تدل علي معني في غيرها غير صالحة لشيء من علامان الأسماء والأفعال» انتهي. وما ذكر من أنها تدلُّ علي معني في غيرها ليس كما ذكر، بل مَن جعلها ظرف زمان قدر: فالزمان زيدٌ قائمٌ، أي: ففي الزمان الذي خرجتُ فيه زيدٌ قائمٌ. ومن جعلها ظرف مكان قدَّر: فبِحَضرَتي زيدٌ قائمٌ. فقد دلت بهذين التقديرين علي معني في نفسها.

وأمّا قوله غير صالحة لشيء من علامات الأسماء والأفعال فغير صحيح؛ لأنه ينعقد منها مع اسم مرفوع كلام، فقد وقعت خبراً، واستقلَّ الكلام منها، ولو كانت حرفاً لَمَا جاز أن ينعقد منها مع الاسم وحده كلام. قال المصنف: «الثاني: أنها كلمة لا تقع إلا بين جملتين، وذلك لا يوجد إلا في الحروف، كلكنْ وحتي الابتدائية» انتهي. وليس كما ذَكر، بل وجد الاسم بين جملتين، كقولك: ما رأيتُه منذُ خلقَ اللهُ كذا، فمنذُ اسم، وقد وقعت بين جملتين. قال المصنف: «الثالث: [أنها] كلمه لا يليها إلا جملة ابتدائية مع انتفاء علامات الأفعال، ولا يكون ذلك إلا جملة ابتدائية، بل قد حكي الأخفش أنه تليها الجملة الفعلية إذا كانت مصحوبة بقد، وقد أحكمنا ذلك في باب الاشتغال، فيطالع هناك. قال المصنف: «الرابع: أنها لو كانت ظرفاً لم يختلف مَن حكم بظرفيتها في كونها مكانية أو زمانية؛ إذ ليس في الظروف ما هو كذلك» انتهي. وهذا منقوض بـ «حيث»، فإنّ النحويين اتفقوا علي أنها ظرف، واختلفوا أتكون ظرف مكان فقط أم تأتي ظرف زمان، وقد ذكر المصنف وغيره في ذلك عن الأخفش قال المصنف: «الخامس: أنها لو كانت ظرفاً لم تربط بين جملتي الشرط والجزاء في نحو {وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ}؛ إذ لا يكون ذلك إلا حرفاً» انتهي. [3: 179/أ] ولا نسلّم الحصر في أنه لا يكون ذلك إلا حرفاً؛ لأنه يقال: إذا هنا رابطة، وهي اسم.

قال المصنف: «السادس: أنها لو كانت ظرفاً لوجب اقترانها بالفاء إذا صُدِّر بها جواب الشرط؛ فإنَّ ذلك لازم لكل ظرف صُدِّر به الجواب، نحو: إنْ تَقُمْ فحينَئِذ أقوم، وإنْ تُقِمْ فعندَ مُقامك أُقيم» انتهي. ولا يلزم ما ذَكر لأنَّ جوابها مخالف لجواب بقية أدوات الشرط، فكذلك اختلفا في هذا، مثال ذلك أنَّ الفعل إذا وقع مرفوعاً فلا يكون جوابَ بقية الأدوات إلا إن اقترنت به الفاء، نحو قوله {وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللهُ مِنْهُ}، ويصح وقوعه جواباً لـ «إذا» من غير فاء، كقوله تعالي {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ تَعْرِفُ}، ويقال: إنْ تزرْنا فما نحن نُكرمُك، فلا بدَّ من الفاء، وتقول: إذا تزورُنا ما نُكرمُك، فلا يحتاج إلي الفاء، قال تعالي {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ مَا كَانَ حُجَّتَهُمْ}. قال المصنف: «السابع: أنها لو كانت ظرفاً لأغنت عن خير ما بعدها، ولكان نصب ما بعده علي الحال كما كان مع الظروف المجمع علي ظرفيتها، كقولك: عندي زيدٌ مقيماً، وهنالك بشرٌ جالساً، والاستعمال في نحو مررت فإذا زيدٌ قائمٌ بخلاف ذلك» انتهي. وليس كما ذَكر، بل تغني عن خبرِ ما بعدها في نحو: خرجتُ فإذا الأسدُ، ولا خبر هناك محذوف، بل «إذا» هي الخبر، وقد تقدم تقرير هذا. وأمّا قوله «والاستعمال في نحو مررت فإذا زيدٌ قائمٌ بخلاف ذلك» ليس كما ذكر، بل الاستعمال في لسان العرب مثل الاستعمال في الظروف، تقول: خرجتُ فإذا زيدٌ قائمٌ، وقائماُ، بل روي الكوفيون: فإذا عبدُ الله القائمُ، والقائمَ، بالرفع والنصب.

قال المصنف: «الثامن: أنها لو كانت ظرفاً لم تقع بعدها إنَّ المكسورة غير مقترنة بالفاء، كما لا تقع بعد سائر الظروف، نحو: عندي أنك فاضلٌ، وأمرُ إنَّ بعد إذا المفاجأة بخلاف ذلك، كقوله: ............................... إذا إنَّهُ عَبدُ القَفا واللهازِمِ انتهي». قال الأستاذ أبو علي: وأمّا ما احتج به مَن جعلها حرفاً من كسر إنّ الواقعة بعدها، والظروف لا تقع إنّ بعدها فلا يلزم؛ لأنَّ الظروف إنما يمتنع وقوع إنّ بعدها إذا جُعل ما بعد إنَّ عاملاً فيها، وأمّا علي غير هذا فلا يمتنع، إذ لا مانع منه، ويمكن أن يكون العامل في الظرف مع الكسر معني الكلام الذي فيه إن، فلا حجة في وقوع إنّ المكسورة بعد إذا التي للمفاجأة لمن قال إنها حرف. [3: 179/ب]. قال المصنف: «فثبت الاعتراف بثبوت الحرفية وانتفاء/ الاسمية» انتهي. ويقال له: فثبت الاعتراف بثبوت الاسمية وانتفاء الحرفية. وقال بعض أصحابنا: «الإشكال الذي يرد في فإذا إنّ زيداً قائم أنّ إذا لابدَّ لها من عامل؛ فإن كانت فهي أبداً مضافة لما بعدها، فتحتاج لمضاف تضاف إليه، ثم لعامل يعمل فيها، فلا يعمل فيها ما بعدها لأنّ المضاف إليه لا يعمل في المضاف، ولا يعمل فيها ما قبلها، فإنّ الفاء تمنع. وإن كانت مكانية فقد كان يعمل فيها قائم لولا إنّ؛ لأنها غير مضافة، فلا يعمل فيها لمكان إنّ، ولا ما قبلها لمكان الفاء، فلا يمكن أن يقال إلا العامل محذوف، تقديره: خرجتُ فإذا انطلاقُ عمرٍو إنه منطلقٌ، ويكون المحذوف المبتدأ، والجملة مفسرة للمحذوف دالةً عليه» انتهى.

وقوله ولا يليها في المفاجأة إلا جملة اسمية ليس كما ذَكر، وقد نبَّهنا علي ذلك قبلُ، وذكرنا في باب الاشتغال أنها تليها الجملة الفعلية المصحوبة بقد، نقل ذلك الأخفش عن العرب. وقوله وقد تقع بعد بينا وبينما قال الأصمعي: «إذ وإذا في جواب بينا وبينما لم يأت عن فصيح» انتهي. ومثال قولُه. وبَينا نَسُوسُ الناسَ، والأمرً أمرُنا ... إذا نحنُ فيهم سُوقةٌ نَتَنَصَّفُ ومثالُه بعد بينما قولُ الشاعر: وبَينَما المرُ مَسروراً بِغبطَتِهِ ... إذا هو الرَّمسُ تَعلُوهُ الأَعاصيرُ وقولُ الآخر: بَينَما الْمَرءُ في فُنونِ الأَمانِي ... إذا زائرٌ الْمَنونِ مُوافِي وزعم أبو عبيدة أنّ إذا قد تزاد، واستدلَّ علي ذلك بقول الشاعر:

حتى إذا سلَكوهُم في قُتائدةٍ ... شَلّا كما الجَمّالةُ الشُّرُدا قال: فزادها لعدم الجواب، فكأنه قال: حتى سَلَكُوهم. وتؤول حتى حذف جواب إذا. ص: ومنها مُذ، ومُنذُ، وهي الأصل. وقد تُكسر ميمهما، ويضافان إلي جملة مصرَّحٍ بجزأيها، أو محذوف فعلُها، بشرط كون الفاعل وقتاً يُجاب به «متي» أو «كم» وقد يَجُرَّان الوقت، أو ما يُستَفْهَم به عنه، حرفين بمعني «مِن» إن صلَح جواباً لـ «متى»، وإلا فبمعني «في»، أو بمعني «مِن» و «إلي» معاً. وقد يُغني عن جواب «متى» في الحالين مصدرٌ معيَّنُ الزمان، أو أنَّ وصِلتُها. وليسا قبل المرفوع مبتدأين بل ظرفين، خلافاً للبصريين. وسكونُ ذال «مُذ» قبل متحرِّك أَعرَفُ مِن ضمِّها، وضمُّها قبلَ ساكنٍ أَعرَفُ مِن كسرِها. [3: 180/أ] ش: مُنذُ بسيطة، ومذُ محذوفة منها. وذهب الكوفيون إلي أنَّ/ منذُ مركبة، واختلفوا: فقال الفراء: أصلها: مِنْ ذُو، مِن الجارة، وذو التي بمعني الذي في لغة طييء. وقال غيره من الكوفيين: أصلها: مِنْ إذْ، فحذفت الهمزة، فالتقت نون مِنْ وذال إذْ، وهما ساكنان، فحُركت الذال لالتقاء الساكنين، وجُعلت حركتها الضمة لأنهم ضمنوها معني شيئين، وهما مِن وإلي؛ لأنَّ تأويلها إذا قلت ما رأيتُه منذ يومان: ما رأيتُه مِن أوّلِ هذا الوقت إلي آخره، فقامت منذ مقام مِن وإلي، فقَوِيَتْ لذلك، فحَمَلت الضم الذي هو اثقل الحركات، ولهذه العلة نفسها

قالوا: ما كلِّمتُه قَطُّ، فضموا الطاء لأنَّ المعني: ما كلَّمتُه مِن أوَّلِ دَهري إلي هذا الوقت، فنابت قَطُّ عن مِن وإلي، ثم ضّمُّوا الميم إتباعاً لحركة الذال. ومَن قال مُذْ، فحذف النونَ رَدَّ الذال إلي أصلها من السكون لزوال موجب تحريكها. ومَن قال مِنَ العرب: مُذُ يومان، ومُذُ اليوم أَتبَع. ورُدَّ مذهب الفراء بعُرُوِّ الصلة عن رابط، وبأنَّ ذو موصولة لا يَتكلم بها إلا طييء ومذْ ومنذُ يَتكلم بهما جميع العرب. ورُدَّ مذهب التركيب مِنْ «مِنْ» و «إذْ» بأنّ مِن لا يجوز دخولها علي إذ. وقوله وهي الأصل يعني أنّ مُنْذُ أصل مُذْ. واستدلّ المصنف علي كون منذ أصلاً لِمُذْ بدليلين، قال في الشرح: «أحدهما أنّ ذال مُذ تُضم لملاقاة ساكن، كما يُفعل بميم هُم، وليس ذلك إلا لأنّ أصلها مُنذُ بالضم، فرُوجِع به الأصل حين احتيج إلي تحريكها، فقيل: لم أره مُذُ الجمعة، كما رُجع إلي الأصل في نحو: هُمُ القوم، ولو لم يكن الأصل الضم لقيل مُذِ الجمعة، كما قيل: {قُمِ الَّيْلَ}، وقد يقال: مُذِ الجمعة، كما قد يقال: ................................... وهُمِ القُضاةُ ومِنْهُمِ الحُكّامُ والثاني: أنّ بني غَنِيّ يضمون الذال قبل متحرك باعتبار أنّ النون محذوفة لفظاً لا نِيّة، فلو لم يكن الأصل منذ لم يصح هذا الاعتبار. ونظير هذا قولهم في لَدُنْ وقَطٌّ لَدُ وقَطُ، بضم الدال والطاء بعد الحذف علي تقدير ثبوت المحذوف» انتهي. وقال ابن عصفور قريباً مما قاله المصنف، قال: وإنما جُعلت محذوفة منها لاتفاقهما في الحروف والمعني، ومما يبين صحة ذلك أنّ مِن العرب مَن يقول: ما

رأيتُه مُذُ يومان، فيُبقي الذال علي الضم الذي كان لها قبل النون، ويَجعل حذفها عارضاً، فلا يَعتدُّ به. فلا يَعتدُّ به. ومَن سكّن الذال اعتدَّ بالحذف، فرَدَّ الذال إلي أصلها من السكون لمّا زال موجي تحريكها، وهو النون الساكنة، ولو لم تكن محذوفة من مُنذُ لوجب أن تكون الذال ساكنة علي كل /حال؛ إذ لا موجب لتحريكها. [3: 180/ب] ولا حجة فيما ذهب إليه المصنف وابن عصفور لاحتمال أن تكون الضمة في ذال مُذُ اليوم ومُذُ يومان حركة إتباع؛ فمن سَكّن في مُذ يومان فعلي الأصل من البناء علي السكون، ومن كسر في مُذ اليوم فعلي أصل الساكنين ومن ضم فيهما فإتباع لحركة الميم. وقول المصنف «والثاني أن بني غَنِيّ يضمون الذال» عيّن بعضهم أن بني عُبَيْد من غَنِيّ يحركون الذال من مذ عند المتحرك والساكن. وذهب الأستاذ أبو إسحاق بن ملكون إلي أنَّ مذ ليست محذوفة من منذ، قال: لأنَّ الحذف والتصريف لا يكون في الحروف، ولا في الأسماء غير المتمكنة. وردَّ عليه الأستاذ أبو علي بأنه قد جاء الحذف في الحروف؛ ألا تري تخفيفهم لإنّ وأنّ وكأنّ، وقالوا في لعلّ عَلَّ، قال: «وقد جعل س عَلَّ من العلو». وقوله وقد تُكْسَرُ ميمُهما قال المصنف في الشرح: «وبنو سُليم يقولون مِنذُ ومِذ بكسر الميم» انتهي. وقال اللَّحياني في نوادره: «حُكي لي عن بعض بني

سُلَيم: ما رأيته مِنذُ سِتٌّ، بكسر الميم ورفع ما بعد، أراد: ستة أيام». قال: «وحُكي لي عن عُكْل: مِذُ يومان، بكسر الميم وطرح النون وضم الذال» انتهي. وقوله ويضافان إلي جملة الإضافة دليل علي الاسمية، وهما إذا ذاك ظرفاً زمان. واستدلّ ابن عصفور علي اسميتهما بارتفاع الزمان بعدهما في جواب مَن قال: كم لك لم تر فلاناً؟ فتقول: مذ يومان، أو منذ يومان، وهذه جملة، فهما اسمان لا حرفان؛ لأنّ الحرف لا ينعقد منه ومن الاسم كلام باتِّفاق إلا في النداء علي خلاف فيه سيأتي إن شاء الله. انتهي. ومن رفع يومان علي إضمار فعل صار الكلام بذلك الفعل جملة، وكان مذ ومنذ إذ ذاك غير مقوم لماهية الجملة، إلا أنّ هذا المذهب ضعيف، فيصح كلام ابن عصفور. وقوله مُصَرَّحٍ بجزأيها الجملة تارة تكون اسمية، وذلك قليل، قال الشاعر: وما زِلتُ مَحمولاً عليَّ ضَغِينةٌ ... ومُضْطَلِعَ الأَضْغانِ مُذْ أنا يافِعُ وقال أبو دَهْبَل الجُمحيّ: تَبوع لِهَمٍّ، لم يزل بي طامحاً ... إلي أَمْجَدِ الأَخلاقِ مُذْ أنا يافِعُ والفعلية أكثر، قال الشاعر: قالتْ أُمامةُ: ما لِجِسْمِكَ شاحِباً ... مُنذُ ابْتُذِلْتَ، ومِثلُ مالِكَ يَنْفَعُ

وقال الآخر: [3: 181/أ] /ما زالَ مُذْ عَقَدَتْ يَداهُ إزارَهُ .. فَسَما، فأَدْرَكَ خَمْسةَ الأَشْبارِ وما ذهب إليه المصنف من أنهما ظرفان مضافان إلي الجملة هو مذهب س والفارسي والسيرافي. وذهب أبو الحسن إلي أنهما إذا وليتهما الجملة لفظاً لا يكونان إلا مرفوعين علي الابتداء، ولا بدَّ من تقدير اسم زمان محذوف، يكون خبراً عنهما؛ لأنهما لا يدخلان عنده إلا علي أسماء الزمان ملفوظاً بها أو مقدرة، وهو اختيار ابن عصفور، قال: «مذ ومنذ لا تدخلان إلا علي الزمان، فإن دخلتا علي جملة فعل حذف اسم الزمان، فإذا قلت ما رأيته مذ زيدٌ قائمٌ فالتقدير: ما رأيته مذ زمنِ زيدٌ قائمٌ» انتهي. وفي البديع: «ولا يجوز أن ترفع إلا زماناً أو مقتضياً للزمان، قال ابن السراج: مذ إنما صيغت لتليها الأزمنة، فإذا وليها فعل فإنما هو لدلالة الفعل علي الزمان، فإذا قلت ما رأيته مذ قدمَ فلان فالتأويل: مذ يومُ قَدِمَ فلان، فإن لم يظهر لمذ عمل وعطفت علي ما عملت فيه [اسماً] حملته علي النصب دون حكم الإعراب المقدر بعد مذ، تقول: ما رأيته مذ قام ويومَ الجمعة، فإن ظهر العمل حملته علي لفظه، تقول: ما رأيته مذ يومان وليلتان، ولك نصب الثاني، كأنك

قلت: ما رأيته ليلتين، و [لا] تقول: ما رأيته مذ يومَ يومَ، فتبني كخمسةَ عشرَ، وقوم يجيزون: مذ يومُ يومُ، بلا تنوين، ولا يجيزون: مذ شهرُ شهرُ، ولا: دَهرُ دهرُ. قال ابن السراج: ولا أعرف الضم بلا تنوين في هذا من كلام العرب» انتهي. وقال س في باب ما يضاف إلي الأفعال من الأسماء ما نصه: «ومما يضاف إلي الفعل أيضاً قولهم: ما رأيتُه مذ كان عندي، ومنذ جاءني» انتهي. فهذا الكلام بدل علي أنهما مضافان إلي الجملة الفعلية لا علي حذف مضاف كما ذهب إليه أبو الحسن. وقال أبو علي في التذكرة شارحاً لكلام س: «مُذْ فيمن رفع بها بمنْزلة إذا وحيث، وجه الجمع بينهما أنه إذا رفع بها تصير اسماً من أسماء الزمان، كقولك: مذ يومان، وخبر المبتدأ يكون المبتدأ في المعني، فإذا كان كذلك علمت أنّ مذ إذا رَفعت اسم من أسماء الزمان، وإذا جُعل اسماً من أسماء الزمان جاز إضافته إلي الجملة كما جاز إضافة إذْ إليها، وذلك نحو قولهم: لم أره مذْ كان كذا، ومذْ خرجَ زيدٌ؛ أفلا تري أنّ مُذ المتصلة بالفعل لا تخلو من أن تكون اسماً أو حرفاً، فلا يجوز أن تكون حرف جرِّ لأنَّ حروف الجر لا تدخل علي الأفعال، فإذا لم يجز أن تكون حرف جرٍّ ثبت أنها اسم، وأنه أضيف إلي الفعل لمّا كان اسماً من أسماء الزمان» انتهي. وقوله أو محذوف فعلُها بشرط كون/ الفاعل وقتاً يُجاب به متى أو كم [3: 181/ب] مثال ما يجاب به متى: ما رأيتُه مذ يومُ الجمعة، وما يجاب به كم: ما رأيتُه منذ يومان

واحترز من الوقت الذي لا يجاب به متى ولا كم، نحو وقت وزمان. وهذا إذا جاء بعد مذ أو منذ زمان مرفوع في رفعه مذاهب: أحدها: مذهب الكوفيين، واختاره ابن مضاء، والسهيلى، وهذا المصنف، وهو أن يكون فاعلاً بفعل محذوف، تقديره: منذ مضي يومان، أو كان يومان. وحمل الفراءَ علي ذلك اعتقادُه أنّ مذ ومنذ أصلهما: مِنْ ذو، فما بعدهما في صلة ذو. وحمل غيرَه من الكوفيين علي ذلك اعتقادُه أنّ أصله: مِنْ إذْ، فما بعدهما مضاف إليهما، فعلي هذا المذهب يكون الكلام جملة واحدة. قال المصنف في الشرح: «والصحيح عندي أنهما ظرفان مضافان إلي جملة حُذف صدرها، والتقدير: مذ كان يومُ الجمعة، ومذ كان يومان، وهو قول المحققين من الكوفيين. وإنما اخترته لأنَّ فيه إجراء منذ ومذ في الاسمية علي طريقة واحدة مع صحة المعني، فهو أولي من اختلاف الاستعمال، وفيه تخلُّص من ابتداء بنكرة بلا مسوغ إن ادُّعي التنكير، ومن تعريف غير معتاد إن ادُّعي التعريف. وفيه أيضاً تخلُّص من جعل جملتين في حكم جملة واحدة من غير رابط ظاهر ولا مقدر» انتهي كلامه. وقد رُدَّ هذا المذهب بأنه مبني علي قول الكوفيين في أنها مركبة مِن «مِنْ» و «ذو» الطائية، أو مِن «مِن» و «إذ»، وتقدم بطلان هذين القولين. والذي ذهب إليه المصنف غير مذهب الكوفيين من حيث زعم أنَّ منذ بسيطة في أصل الوضع، وأنَّ المرفوع بعدها فاعل.

وقد رُدَّ هذا المذهب بأنَّ إضمار الفعل ليس بقياس. وأيضاً فإنَّ العرب تقول: ما رأيته مذْ أنَّ الله خلقَه، ومذْ إنَّ، بالفتح، وبالكسر، ولو كان كما زعموا لم يجز إلا فتح أنَّ، أي: إنّ الموضع الذي ينفرد بالاسم أو بالفعل تُفتح فيه أنّ ليس إلا، وهذا قد انفرد بالفعل، فكان يجب التزام فتحها، وهم قد كسروها فيه، وقد تقدم الكلام علي أنّ بعد مذ ومنذ في «باب إنّ» والخلاف فيه مشبعاً. المذهب الثاني: أنه مرفوع علي أنه خبر مبتدأ محذوف، وهو قول بعض الكوفيين؛ لأنها عنده مركبة مِن مِنْ وذو الطائية، والتقدير: ما رأيته من الزمن الذي هو يومان. وتقدم بطلان هذا المذهب من التركيب، فبطَل ما انبني عليه وعلي هذا المذهب، فالكلام جملة واحدة. المذهب الثالث: أنه مرفوع علي أنه خبر لِمُذْ ومنذ، ومذ ومنذ مبتدآن، وتقديرهما في المنكور: الأَمَد، وفي المعرفة: أولُ الوقت، وبه قال ابن السراج والفارسي، فإذا قلت/ ما رأيتُه مذ يومان فالتقدير: أمدُ انقطاع الرؤيةِ يومان، وإذا قلت: ما رأيتُه مذ يومُ الجمعة، فالتقدير: أولُ انقطاع الرؤية يومُ الجمعة.

المذهب الرابع: أنه مرفوع علي الابتداء، ومذ ومنذ الخبر، وهما منصوبان علي الظرف كما إذا أضيفا إلي جملة، وهو مذهب الأخفش والزجاج وطائفة من البصريين، والتقدير: بيني وبين لقائه يومان. وإنما ذهبوا إلي ذلك لأنك إذا جعلتهما مبتدأين والمرفوع بعدهما الخبر كانا من قبيل الأسماء الملتزَم فيها الرفع علي الابتداء، نحو ايْمُنُ الله، وما التعجيبة، وعلي مذهبهم كانا من قبيل الأسماء الملتزم فيها النصب علي الظرفية، نحو: بُعَيداتِ بين، وسَحَرَ من يوم بعينه، وعدمُ التصرف في الظروف أوسع منه في الأسماء التي ليست بظروف ولا مصادر، فكان حملها علي الأوسع أولي. قال بعض أصحابنا: والصحيح مذهب الفارسي وابن السراج من وجهين: أحدهما: أنهما مفردان، لم يُعطف عليهما غيرهما، كما أنّ الأمد وأول الوقت كذلك، فكان الحكم لهما بحكم ما يساويهما في الإفراد أولي، وليس كذلك بيني وبين لقائه؛ لأنهما اسمان منصوبان علي الظرف معطوف أحدهما علي الآخر. والوجه الثاني: أنّ تقديرهما بـ «بين» في بعض الصور لا يتصور، وذلك إذا قلت مثلاً يومَ الأحد: ما رأيت زيداً مذ يومُ الجمعة، فليس بينك وبين لقائه يوم الجمعة، بل قدر من الزمان أوله يوم الجمعة، وآخره الوقت الذي أنت فيه، ولا يقدر بيني وبين لقائه يوم الجمعة وما بعده إلي الآن؛ لأنّ فيه حذف حرف العطف والمعطوف، وهو قليل، وأيضاً فلم يصرحوا بهذا المعطوف المقدَّر في موضع ما، فدلَّ علي عدم إرادته. وعلي هذا المذهب الكلام جملتان وإذا فرَّعنا علي أنَّ الكلام جملتان فاختلفوا في الجملة من مذ أو منذ والمرفوع بعدهما هل لها موضع من الإعراب:

فذهب الجمهور إلي أنها لا موضع لها من الإعراب. وذهب أبو سعيد إلي أنها في موضع الحال، كأنه قال: ما رأيتُه متقدماً. وليس هذا بالوجه؛ لأنها خرجت مخرج الجواب، كأنه قيل له: ما أمدُ ذلك؟ فقال: يومان. ومما يبطل كونها حالاً أنّ الجملة إذا وقعت حالاً فلا بدَّ فيها من رابط يعود علي ذي الحال، أو من واو الحال، وهذه الجملة خالية من الضمير ومن واو الحال. وقوله وقد يَجُرّان الوقتَ أو ما يُستَفهَم به عنه مثال جرَّهما الوقتَ: ما رأيتُه مذْ يوم الجمعة، أو منذُ الجمعة. ومثال جرذَهما ما يُستفهم به عن الوقت: مُذْ متى رأيتَه؟ ومُذْ كَمْ فَقَدتَه؟ واللغة الفصيحة في منذُ الخفض علي كل حال، قال: قَفَا نَبْكِ مِن ذِكْرَي حَبيبٍ وعِرْفانِ ... ورَسْمٍ عَفَتْ آياتُهُ مُنذُ أَزْمانِ وقوله/ حرفين أمّا كونهما حرفين إذا انجرَّ ما بعدهما فهو مذهب الجمهور. [3: 182/ب] واستدلَّ علي ذلك بإيصالهما الفعل إلي كَمْ كما يُوصِل حرفُ الجر، نحو قولك: منذُ كَمْ سِرتَ؟ كما تقول: بِمَنْ تَمُرُّ؟ ولو كانا منصوبين علي الظرف لجاز أن يَستغني الفعل الواقع بعدهما عن العمل فيهما بإعماله في ضمير عائد عليهما؛ فكنت تقول: منذُ كمْ سِرتَ فيه؟ أو سِرتَه، إن اتَّسَعتَ في الضمير، كما تقول: يومَ الجمعة قمتُ فيه، أو قمته، وامتناع العرب من التكلم بذلك دليل علي أنهما حرفا جر، وكذلك قولهم: منذُ متى سِرتَ؟ وامتناعهم من قولهم منذ متى سِرتَ فيه، أو سِرتَه. وأيضاً فإنَّ مذْ ومنذ يتقدَّران في موضع بـ «في»، وفي موضع بـ «من»؛ إذ هما بمعناهما إذا جَرّا، و «في» و «من» حرف، فكذلك ما بمعناهما.

وذهب بعض النحويين إلي أنهما إذا انجرَّ ما بعدهما اسمان. واستدلَّ علي ذلك بأن قال: قد ثَبت لهما الاسمية إذا ارتفع ما بعدهما، فلا نُخرجهما عن الاسمية ما أمكن بقاؤهما عليها، وقد أمكن بأن يُجعلا ظرفين في موضع نصب بالفعل قبلهما. ورًدَّ هذا المذهب بأنَّ الظرف إذا نُفي عنه الفعل لم يقع الفعل في جزء منه، تقول: ما رأيته يومَ الجمعة، فانتفت الرؤية في جميع اليوم وفي جزء منه، وإذا قلت ما رأيته منذُ يومِ الجمعة أمكن أن تكون رأيته في بعضه، ثم انقطعت الرؤية، أو لم تره. وأيضاً فالظرف إذا نُفي عنه الفعل لم يَنتفِ إلا عنه خاصّة، فإذا قلت ما رأيته يومَ الجمعة انتفت الرؤية عن يوم الجمعة خاصّة، وأمكن أن [تكون] رأيته قبل إخبارك إلي آخر انقضاء يوم الجمعة، ومنذ ليس كذلك، فإذا قلت ما رأيته منذ يومِ الجمعة فالمعني انتفاء الرؤية منذ يوم الجمعة إلي زمان إخبارك. وأيضاً يبطُل هذا المذهب بأنهما موصلان الفعل إلي اسم الزمان المستفهم به واسم العدد دون ضمير عائد عليهما؛ كما تقدم في الاستدلال لمذهب الجمهور. وقوله بمعني مِن إن صلَح جواباً لـ «متى»، وإلا فبمعني «في» أو بمعني «مِن» و «إلي» معاً مثال ما صلَح جواباً لِمَتَى قولك: ما رأيته مذْ يومِ الجمعة، ومنذُ يومِ الجمعة، مذ ومنذ في هذين لابتداء الغاية في الزمان بمنْزلة مِن في: سِرتُ مِنَ البصرة، وهذا لمعني مِن، ولا تكون مذ ومنذ بمعني مِن إلا كان الزمان ماضياً معرفةً دالّاً علي وقت معلوم. ومثال كونهما بمعني في قولك: أنت عندنا مُذ الليلةِ، أو ما رأيتُه منذُ الليلةِ، وهذه بمعني في، ولا تكون بمعني في إلا إذا كان الزمان حالاً، وكان معرفة.

ومثال كونهما بمعني من وإلي معاً: ما رأيتُه منذُ أربعةِ أيام، ولا تكون بمعني مِن وإلي /إلا إذا كان الزمان نكرة، فيدخلان علي الزمان الذي وقع فيه ابتداء الفعل وانتهاؤه، كمِن في نحو قولك: أخذتُه مِن ذلك المكان. [3: 183/أ] وقال أصحابنا: اسم الزمان الواقع بعد منذ أو مذ إن كان مرفوعاً معدوداً فهما للغاية، أو غير معدود فهما لابتدائهما، وإن كان مخفوضاً فكذلك، إلا إن كان المخفوض حالاً، فإنَّ ما بعدهما يكون إذ ذلك غاية، ويكون معناهما كمعني مِن. وقالوا أيضاً: إن دخلا علي الحال فلا يكون إلا مخفوضاً، والحال هو اليوم والليلة والحين والساعة والآن وما أضفته إلي نفسك مثل يومنا؛ وما أشرت إليه من أسماء الزمان، ومعناهما إذ ذاك الغاية. وإن دخلتا علي الماضي فمذ يرتفع الاسم بعدها، وحكي الخفض قليلاً، ومنذ ينجرِّ الاسم بعدها، والرفع قليل. والظاهر من كلام المصنف أنّ الجر بهما قليل لقوله «وقد يَجُرّان حرفين» وأنهما يضافان إلي الجملة، وأنّ ما جاء بعدها مرفوعاً هو علي إضماء الفعل، فلم يخرجا عنده عن إضافتهما إلي الجملة إلا إذا جَرّا، فهما حرفان. وقال الأخفش: منذ لغة أهل الحجاز، يجرُّون بها كل شيء من المعرفة والنكرة، وبنو تميم وغيرهم يرفع بِمُذْ ما بعدها، فيقولون: لم أر زيداً مذ يومان، أي: بيني وبين لقائه يومان. والحجازيون يقولون في هذا: لم أره مذ يومين، فيجعلونها حرفاً بمنْزلة مِن. وأمَا عامة العرب فيقولون لشيء أنت فيه: لم أره مذ اليومِ، أو منذ العامِ، أو منذ الساعةِ، أو منذ الليلةِ، فيجرُّون. وإنما يختلفون فيما مضي، فيقول بنو تميم: لم أره منذ العامُ الماضي. وروي الكوفيون أنّ مذ يرفع بها الماضي تميم وأسد، ويخفضه بها مُزَينة وغَطَفان وعامِر بن صَعصَعة ومن جاورهم من قيس، وروَوَا عن جميع من ذكرنا الخفض بها في الماشي، فإن أدخلت النون فقلت منذ خفضتْ بها عامِر في الماضي، ورفعتْ بها هَوازن وسُلَيم.

قال اللحياني: الرفع بعد مذ أكثر من الخفض ومن الرفع بعد منذ، وضبَّة والرَّباب تخفض بِمُذْ ما مضي ومت لم يمض، وبعض العرب بيرفع ِبِمُنْذُ ما مضي وما لم يمض، وبنو عُبَيْد من غَنِيّ يحركون الذال من مذ عند المتحرك والساكن، ويرفعون بها ما بعدها، فيقولون: مُذُ اليومُ، ومُذُ يومان، وبعضهم يخفض الذال عند الساكن، فيقولون: مُذ اليومُ. وقال عبد الظاهر: «إذا رفعت ما بعدها جاز التنكير، نحو: ما رأيته مذ يومان، تريد أول الوقت وآخره، والتعريف علي أن تقصد ذلك أيضاً، نحو: ما رأيته مذُ المحرمُ، تريد أنك لم تره في الشهر كله. وينبغي/ أن تقول ذلك عند انسلاخ الشهر. والوجه الثاني أن تريد أول الوقت، نحو: ما رأيته مذ يومُ الجمعة، وإذا جررت لم يجز إلا هذا الوجه، وهو قصد أول الوقت، كمِن في الأمكنة» [3: 183/ب] وقال أبو البقاء العكبري: «إذا كانت للابتداء كان ما بعدها معرفة، نحو: ما رأيته مذ يومُ الجمعة؛ لأنه جواب متى. وإذا كانت لتقدير المدة كان ما بعدها عدداً نكرة، ما رأيته مذ يومان». وقال أيضاً: «الفرق بين التي للابتداء والتي لتقدير المدة أنّ الأولي لا يمتنع [معها] أن تقع في بعض اليوم؛ لأنّ اللازم أن تكون الرؤية انقطعت فيه، واستمر الإنقطاع إلي حين الإخبار به، والتي تقع بعدها المدة لا يجوز أن تكون الرؤية وجدت في بعضها؛ لأنّ العدد جواب كم، فكأنك قلت: كم زمانُ انقطاع الرؤية؟ فقال: يومان» انتهى.

وزعم أبو علي الفارسي وغيره أن الأغلب علي مذ أن تكون اسماً، قالوا: وذلك أنّ الحذف يكثر في الأسماء والأفعال، ويقل في الحروف، فلا يكاد يوجد الحذف فيها إلا في المضعف، نحو رُبّ وإنّ، فلما كانت مُذ محذوفة من مُنذ وليست من قبيل المضعف غَلَّبَتت العرب فيها جانب الاسمية. وإنما جعلت محذوفة منها لاتفاقهما في الحروف والمعني. ويبين صحة ذلك أنّ من العرب مَن يقول: ما رأيته مُذ يومان، مراعاة للأصل، ومَن سكن ردَّها إلي أصلها لما زال موجب تحريكها، وهو التقاء الساكنين، بحذف النون. ويبين أيضاً صحة ذلك أنّ الرفع بد مُذ أكثر من الخفض بها، ومن الرفع بعد مُنذ. انتهي. والعجب لهم أنهم يجعلون مُذْ فرعاً من مُنذُ وأنّ الغالب علي مُذ الاسمية، والغالب علي منذُ الحرفية. ويستدلون علي ذلك بأنّ الحذف في الأسماء أكثر منه في الحروف لأنه تصرف، والتصرف بابه أن يكون في الأسماء، وكون مُذ محذوفة مِن مُنذ يقتضي أن تكون مُنذُ اسماً؛ لأنها هي، ومحال أن يكون الشيء حرفاً، فإذا حذف منه شيء صار اسماً؛ لأنّ الحذف من الشيء لا يغيِّر الماهيّة؛ ألا تراهم حين حذفوا من حِرٍ الحاء وهو اسم بقي اسماً، وحين حذفوا من رُبَ الباء وهو حرف بقي حرفاً، وحين حذفوا من يَعِدُ الواو وهو فعل بقي فعلاً، فالذي ينبغي أن يقال: إنّ مُذْ إذا استعملت اسماً مرفوعاً ما بعدها فهي محذوفة من منذُ الاسمية أيضاً، لكن جاء الرفع بعدها أكثر مما جاء بعد مُنذ، وقد يغلب علي الفروع حكم يَقِلُّ في الأصول.

وقوله وقد يغني عن جواب في الحالين مصدرٌ معيَّن الزمان يعني بقوله في الحالين إذا كانا ظرفين، وإذا كانا حرفي جر. ومثاله: ما رأيته/ مذُ قدومِ زيد، فيرفع، ويجر، وهو علي حذف زمان، أي: مُذ قدومُ زيدٍ، ومذ زمنِ قدومِ زيد، حُذف المضاف، وأقيم المضاف إليه مقامه. [3: 184/أ] واحترز بقوله معيّن الزمان من أن يكون مبهم الزمان، نحو: ما رأيته مُذ قدومٍ، أو ما رأيته مُذ قدومِ رجلٍ. وقوله أو أنّ وصِلَتُها مثاله: ما رأيتُه مُذْ أنّ اللهَ خَلَقَنِي، فيُحكم علي موضعها بما حُكم للفظ المصدر من رفع أو جر؛ لأنها مؤولة به، ويكون ذلك علي حذف مضاف، تقديره: مُذ زمنُ أنّ اللهَ خلقني. قال ابن عصفور: «ويجوز أن تكون أنّ وما بعدها بتأويل المصدر الموضوع موضع الزمان، مثل: خفُوقَ النجم». وقوله وليسا قبل المرفوع مبتدأين، بل ظرفين، خلافاً للبصريين تقدمت المذاهب علي أيِّ شيء ارتفع ما بعدهما، أعلي الفاعلية، أو علي الابتدائية، أو علي الخبر لهما، أو علي الخبر لمبتدأ محذوف. إلا أنّ في كلام المصنف نقداً من حيث قال «بل ظرفين خلافاً للبصريين» وليس البصريون قالوا كلهم إنهما مبتدآن لا ظرفان، بل هم في ذلك فرقتان كما نقلناه قبل، إحداهما قالت بأنهما اسمان مبتدآن لا ظرفان، والأخرى قالت إنهما ظرفان منصوبان في موضع الخبر للمرفوع بعدهما.

وقوله وسكون ذال مُذ قبل متحرك أعرف من ضمها مثاله مُذْ يومان، ومُذُ يومان، تقدم أنّ الضم لغة بني عُبَيْد من غَنِيّ. وقوله وضمها قبل ساكن أعرف من كسرها مثاله مُذُ اليوم ومُذِ اليوم، وتقدم أن كسر الذال لغة لبعض بني عبيد من غني. انتهي شرح كلام المصنف. ولنذكر مسائل من باب مُذ ومُنذ، تكون كالتتمة لكلام المصنف. المسألة الأولي: مُذْ ومُنذُ لا يجرّان إلا الظاهر من اسم الزمان أو المصدر ما ُبيّن. وأجاز أبو العباس أن يجرا مضمر الزمان، يومْ الخميس ما رأيتك مُنْذُه أو مُذْه. والصحيح المنع لأنّ العرب لم تقله. المسألة الثانية: اسم الزمان المخصّص الواقع بعدهما إذا كان بمعني أوّل الوقت، نحو: ما رأيته مُذْ يومِ الجمعة ذهب الأخفش إلي أن الفعل لا يكون أبداً في جميعه بل في بعضه، فأنت قد رأيته في بعض يوم الجمعة، ثم فقدتَه بعد ذلك إلي الزمان الذي أنت فيه. واختلف النقل عن المبرد: ففي «المقتضب» ما يدل علي موافقة الأخفش، قال فيه: «إن قال قائل: ما بالي أقول: لم أرَك مُذْ يومِ الجمعة، وقد رأيتك يوم الجمعة؟ قيل:/ إنّ النفي إنما وقع علي ما بعد يوم الجمعة، والتقدير لم أَرَك مذ وقتِ رؤيتي لك يوم الجمعة، فقد أثبتَّ الرؤية، وجعلتها الحدَّ الذي لم تره منه». وقال ابن السراج عن أبي العباس: «إنه يجوز أن يكون نفي الفعل في جميعه، وأن يكون في بعضه». قال: «فيقال: كيف اجتمعا في النفي والإيجاب على أنّ

الرؤية واقعة في يوم الجمعة؟ والجواب في هذا أنك تقول: رأيت زيداً يومَ الجمعة، وإنما رأيتَه في بعضه أو في جميعه، فهل يستقيم علي هذا أن تقول: ما رأيته مذ يومِ الجمعة، فيقع النفي في جميعه كما كانت الرؤية مستقيمة في جميعه؟ ويجوز أن يكون النفي واقعاً علي بعضه». والصحيح ما ذهب إليه أبو الحسن وأبو العباس في مقتضيه؛ لأنك لا تقول ما رأيته مذ يومِ الجمعة إلا وقد وقع فقد الرؤية بعد دخول الوقت الذي يقال له يوم الجمعة؛ إذ لو كان فقد قبل طلوع الفجر لَمَا كان فاقداً للرؤية الجمعة بل ليلة الجمعة. المسألة الثالثة: مذ ومنذ لا يتقدمهما من الأفعال إلا الأفعال المنفية لفظاً ومعني، أو المنفية لفظاً، أو الأفعال الموجبة التي تقتضي الدوام، نحو: ما رأيتُ زيداً مذ يوم الجمعة، وما زلتُ أَصحَبُك منذ سنةٍ، أو صَحِبتُه مذ يومِ الجمعة، وسرتُ مذ يومِ الجمعة إذا أردت اتصال السير. قال أبو الحسن في «الكبير» له: لو قلت: رأيته مذ يومِ الجمعة، وأنت تعني أنك رأيته يوم الجمعة، ثم انقطعت الرؤية إلي ساعتك لم يجز. وقال أبو بكر في «الأصول» له: «تقول: أنا أراك مذ سنة تتكلم في حالة، إذا أردت أنك في حال رؤيته مذ سنة». قال: «ولذلك قلت أراك لأنك تخبر عن حال لم تنقطع، فإن أردت أنك رأيته ثم غَبَرتَ سنةَ لا تراه قلت: رأيتك مذ سنة؛ لأنك أخبرت عن رؤيةٍ مضت وانقطعت». وقال بن عصفور: والصحيح ما ذهب إليه أبو الحسن من أنه لا يراد بما بعدهما تبيين مدة الانقطاع، أو تبيين أول مدة الانقطاع إلا بعد الفعل المنفي. وأمّا إذا وقعا بعد الفعل الموجب فإنما يراد بهما تبيين مدة دوام الفعل أو تبيين أول مدة

دوامه، وسواء في ذلك كون الفعل علي صيغة الماضي أو صيغة المضارع. ويدلُّ علي صحة ذلك قول سَلَمة بن يزيم الفَهْمي: رأيتُ الناسَ مُذْ خُلِقُوا وكانوا ... يُحِبُّونَ الغِنِيّ مِنَ الرِّجالِ [3: 185/أ] ألا تري أنّ مراده أنه لم يزل يري الناس مذ خُلق يحبون الغني إلي ساعته التي قال فيها هذا البيت. والنفي إذا كان في المعني موجباً يجري مجري الموجب في ذلك، نحو قول الفرزدق: ما زالَ مُذْ عَقَدَتْ يَداه إزارَهُ ... فِسَماً، فأَدْرَكَ خَمْسة الأَشْبارِ يُدْنِي خوافِقَ مِنْ خوافِقَ، تَلتَقي ... في ظِلِّ مُعْتَرَكِ العَجاجِ مُثارِ مراده الإخبار عن الممدوح بأنه مُذْ عَقَدت يداه إزازه يُدني خَوافِق من خَوافق. وكذلك أيضاً حكمهما إذا جرّا الحال، نحو: ما رأيتُه مُذُ اليومِ، وأقامَ عندنا مُذُ اليومِ. قال أبو الحسن: ولا يحسن: قَدمَ فلانٌ يوم الجمعة، ولا: قَدمَ فلانٌ مُذْ اليومِ، إلا أن تكون العرب تُجيز هذا،، كأنك لم تذكر مذ، كما يقولون: رأيتُه مُذ اليوم، وهم يريدون: اليومَ. قال: وذلك قبيح إلا أن تدوم الرؤية. قال: وكذلك يقبح: ماتَ زيدٌ مُذ اليومِ، إلا أن تجعل الموت شيئاً دائماً له، وهو قبيح؛ لأنك لو قلت ماتَ مُذُ اليومِ، إلا أن تجعل الموت شيئاً دائماً له، وهو قبيح؛ لأنك لو قلت ماتَ مُذُ اليومِ إلي الساعة لم يَحسُن. المسألة الرابعة: إذا كانا حرفين فلا إشكال في بنائهما، وإذا كانا اسمين فللزومهما طريقةً واحدة كالحرف. المسألة الخامسة: اسم العدد الواقع بعدهما إذا كانا بمعني الأمد فيه للعرب مذاهب:

أحدها: أنه لا يُعتَدُّ به إلا إذا كان كاملاً. الثاني: أنه يُعتَدُّ بالأول والآخر وإن لم يكونا كاملين. قال أبو الحسن في «الكبير» له: يجوز أن يقول الرجل يومَ الاثنين لمن رآه الجمعة: ما رأيتُك مُذ يومان، ولا يحتسب بالاثنين ولا بالجمعة؛ لأنه قد رآه فيهما، رأيت بعض العرب يذهب إلي هذا، وبعضهم يقول: مُذ أربعةٌ، يحتسب الاثنين والجمعة من الأيام التي لم يره فيها لما كان قد ترك رؤيته في بعضها. وزعم أن أرباب هذه اللغة لا يقولون: ما رأيتُه مُذ يومان، لم رآه أمس، وإنما يقولون: مُذ أمسِ إلي اليوم. وإنما لم يقولوا ذلك لأنه يقع فيه لبس من جهة أنّ اليومين جميعاً لم يتمَا، فكل واحد منهما علي المجاز، ولم يحسن لمّا اجتمعا علي المجاز. المذهب الثالث: أن يعتدّ بالناقص الأول، ولا يعتد بالآخر، حكي أبو الحسن أيضاً في «الكبير» له أنه سأل بعض العرب عن قوله «لم أره مُذ يومان»: متي رأيتَه؟ فقال: أولَ مِن أمسِ. وإنما حمل ذلك علي الاعتداد بالناقص الأول لا الثاني أنهم لا يكادون يحتسبون بالذي هم فيه إذا كان ناقصاً؛ ألا تري أنه إذا قال ما رأيتُه مُذ اليوم كان/ قد فقد رأيته في اليوم، ولم يره في شيء منه؛ لأنّ معناه: ما رأيته في اليوم. هذا هو المختار. [3: 185/ب] وقد أجاز الأخفش بالقياس أن يحتسب بالناقص الثاني دون الأول، ويجعل العدد علي الليالي، فإن العدد علي ذلك يقع، قال: وهو قياس حسن. المسألة السادسة: لمّا كان النفي واقعاً في جميع ما بعد مُذ ومُنذُ إذا كانا بمعني أول الوقت منع أبو الحسن أن يُعطف علي اسم الزمان الواقع بعدهما اسم زمان مختصّ متقدم عليه أو متأخر عنه؛ فلا يقال: ما رأيته منذ شهرُ رمضان وشهرُ

شعبان، لأنّ قولك ما رأيته مذ شهرُ رمضان يقتضي أنك رأيته فيه، فكيف تقول: منذ شهرُ شعبان، وأنت لا تقول «من شهرُ شعبان» إلا وقد رأيتَه فيه، ثم لم تره إلي أن قلت: ما رأيته مذ شهرُ شعبان. وكذلك أيضاَ عنده: ما رأيتُه منذ شهرُ رمضان وشهرُ شوال؛ لأنك إذا قلت ما رأيتُه منذ شهرُ رمضان وقد جزت شهر شوال عُلم أنك لم تره في شهر شوال. قال: وكذلك لو قلت: ما رأيته منذ يومُ الجمعة ويومُ السبت [لم يجز]، ولو نصبت يوم السبت لم يجز أيضاً؛ لأنك إنما تريد إذ ذاك: وما رأيته يومَ السبت، وأنت إذا قلت يومَ الأحد: ما رأيته مذ يومُ الجمعة عُلم أنك لم تره يوم السبت، فإن كان ما بعد حرف العطف متقدماً علي الزمان الواقع بعدهما جاز عنده النصب، نحو: ما رأيته مُذْ يومُ الجمعة ويومَ الخميس، تريد: وما رأيته يومَ الخميس. قال ابن عصفور: ويجوز عندي بالقياس أن يقال: أَمَدُ انقطاع الرؤية يومُ الجمعة ويومُ السبت، وتكون الواو إذ ذاك لا تنوب مناب عامل يتكرر، مثلها في قولك: اختصَم زيدٌ وعمرٌو، وتكون إذ ذاك قد عرَّفت مخاطبك بعدّة مدة الانقطاع، وزدت مع ذلك تعريفاً لتلك المدة، إلا أنّ الذي منع أبا الحسن أن يذكر هذا الوجه ما حكاه عن العرب من أنها لا تَستعمل اسم الزمان المعرفة في كلامها بعد مُذْ ومُنذُ إلا إذا كانا بمعني أول الوقت. المسالة السابعة: منع أبو الحسن العطف إذا اختلف الاسمان الواقعان بعدهما بالتعريف والتنكير، فلا يجوز عنده: ما رأيتُه مُذْ يومْ الجمعة ويومان، ولا: ما رأيته مُذْ أمسِ ويومان، قال: لأنك لا تقول ما رأيتُه مُذْ أمسِ إلا وقد رأيته أمسِ،

وكذلك: ما رأيتُه مُذْ يومانِ وأمسِ. وإنما منع ذلك لأجل المخالفة؛ لأنّ اسم الزمان إذا كان معرفة بعدهما كانا بمعني: أوَّل، ولزم إذ ذاك أن تكون الرؤية قد وقعت في ذلك الزمان، وإذا كانت /نكرة كانا بمعني: أمَد، ولم يلزم إذ ذاك أن تقع الرؤية في الزمان الواقع بعدهما، فلمّا اختلف المعني امتنع العطف. [3: 186/أ] قال ابن عصفور: والعطف عندي أيضاً جائز في القياس مع الاختلاف علي الوجه الذي ذكرته مع الاتفاق؛ وذلك بأن تجعل مُذْ بمعني: أَمَدُ انقطاعِ الرؤيةِ يومُ الجمعةِ ويومان، وتكون الواو مثلها في: اختصمَ زيدٌ وعمرٌو. وزعم ابن السَّرَاج في «الأصول» له أن يجوز أن تقول: ما رأيتُ زيداً مُذْ يومان ويومُ الخميس، فالرفع علي تكرير مذ، والنصب كأنك قلت: وما رأيتُه يومَ الخميس. قال: وتنسق علي المعرفة المعرفة، فترفع إذا اتفق، وهو أحسن، ويجوز النصب، وتنصب إذا اختلف، وهو أحسن، ويجوز الرفع. قال ابن عصفور: والصحيح ما ذكره أبو الحسن مِن أنّ العطف ليس من كلام العرب، اتفق الاسمان في التعريف أو اختلفا، فكان أحدهما معرفة والآخر نكرة للعلة التي تقدم ذكرها. المسألة الثامنة: إذا وقع بعدهما اسم الزمان مختصاً، ولم يفد عِدّة مدة الانقطاع لم يقع بعدها إلا إذا كان المعني: أوّل، نحو: ما رأيتُه مُذْ يومُ الجمعة، تريد أنّ انقطاع الرؤية كان أوَّلُه يوم الجمعة، وإن أفاد فالمحفوظ من كلام العرب إذا وقع بعدهما أن يكونا بمعني: أوَّلُ الوقت، فتقول: ما رأيتُه مُنذُ الشهران الماضيان، تريد أنك رأيته في الشهرين الماضيين، ثم انقطعت الرؤية من أحدهما إلي وقت إخبارك.

قال ابن عصفور: ويجوز في القياس وقوعه بعد مُذْ ومُنذُ إذا كان تخصيصه لا يُخرجه عن أن يفيد عِدّة مدة انقطاع الرؤية؛ إلا أنّ العرب لم تَكَلّم بذاك. قال أبو الحسن في «الكبير» له: ولو قلت: ما رأيتُه مُذُ الشهران كما تقول: ما رأيتُه مُذْ شهران تريد: بيني وبين لقائه الشهران الماضيان كان جائزاً القياس وإن كان لا يُتَكلَّم به. تم بحمد الله تعالي وتوفيقه الجزء السابع من كتاب «التذييل والتكميل» بتقسيم محققه، ويليه إن شاء الله تعالي الجزء الثامن، وأوله: «ص: ومنها الآنَ لوقتٍ حضرَ جميعُه أو بعضُه»

التذييل والتكميل في شرح كتاب التسهيل ألفه أبو حيان الأندلسي (654 - 745 هـ) حققه الأستاذ الدكتور حسن هنداوي كلية التربية الأساسية- الكويت الجزء الثامن دار كنور أشبيليا للنشر والتوزيع

بسم الله الرحمن الرحيم

-[ص: ومنها "الآن" لوقت حضر جميعه أو بعضه, ظرفيته غالبة لا لازمة, وبني لتضمن معي الإشارة, أو لشبه الحرف في ملازمة لفظ واحد. وقد يعرب على رأي. وليس منقولاً من فعل, خلافًا للفراء.]- ش: "الآن" اسم في أصل وضعه واستعماله بدليل دخول أل وحرف الجر عليه. وألفه منقلبة عن واو لقولهم في معناه الأوان. وقيل: هي منقلبة من ياء لأنها من أن يئين: إذا قرب. وقيل: أصلها أوان, فقلبت الواو ألفًا, ثم حذفت لالتقاء الساكنين. وهذا بعيد لأن الواو قبل الألف لا تقلب, كالجواد والسواد. وقيل: حذفت الألف, وغيرت الواو إلى الألف, كما قالوا راح وراح, استعملوه مرة على فعلٍ, ومرة على فعالٍ, كزمن/ [3: 186/ ب] وزمان. وقال المصنف في الشرح: "مسمى الآن الوقت الحاضر جميعه, كوقت فعل الإنشاء حال النطق به أو الحاضر بعضه, كقوله تعالى {فَمَن يَسْتَمِعِ الآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَّصَدًا} , وكقوله {الآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنكُمْ} , وكقول النبي صلى الله عليه وسلم: (تصدقوا, فيوشك الرجل أن يمشي بصدقته, فيقول الذي أعطيها: لو جئتني بالأمس لأخذتها, وأما الآن فلا حاجة لي بها). ومثله قول علي كرم الله وجهه: (كان

ذلك والإسلام قل, وأما الآن فقد اتسع نطاق الإسلام, فامرأ وما اختار). ومثله قول الشاعر: فلو أنها إحدى يدي رزئتها ولكن يدي بانت على إثرها يدي))) فآليت لا آسى على إثر هالك قدي الآن من وجدٍ على هالكٍ قدى وثله قول عنترة: فإني لست خاذلكم, لكن سأسعى الآن إذا بلغت إناها وقوله وظرفيته غالبة لا لازمة أي: تغلب عليه الظرفية: أي عليه الظرفية, وليست لازمة؛ إذ يخرج عنها إلى باب الاسمية غير الظرفية, قال المصنف: (((ومن وقوعها غير ظرف قول النبي صلى الله عليه وسلم وقد سمع وجبة, قال: (هذا حجر رمى به في النار منذ سبعين خريفًا, فهو يهوى في النار, الآن حين انتهى إلى قعرها) , فالآن هنا في موضع رفع بالابتداء وحين انتهى: خبره, وهو مبني لإضافته إلى جملة مصدرة بفعل ماض. ومن وقوع "الآن" غير ظرف قول الشاعر:

أإلى الآن لا يبين ارعواء لك بعد المشيب عن ذا التصابي)) وقوله وبني لتضمن معي الإشارة لأن معنى الآن: هذا الوقت, وهذا قول الزجاج. وقوله أو لشبه الحرف في ملازمة لفظٍ واحد لأنه لا يثنى, ولا يجمع, ولا يصغر, بخلاف حين ووقت وزمان ومدة. وقال أبو علي: بني لتضمنه معنى لام التعريف؛ لأنها استعملت معرفة, وليست علمًا, والألف واللام فيها زائدتان. وقال المصنف في الشرح: "وضعف هذا القول بين؛ لأن تضمين اسم معنى حرف اختصار ينافي زيادة ما لا يعتد به, هذا مع كون المزيد غير المضمن معناه, فكيف إذا كان إياه". وقال المبرد وابن الشراج: "خالفت نظائرها لأنها نكرة في الأصل, استعملت من أول وضعها بالألف واللام, وباب اللام أن تدخل على النكرة". انتهى. ونسب المصنف هذا القول إلى الزمخشري, فقال: " وجعل/ [3: 187/ أ] الزمخشري سبب بنائه وقوعه في أول أحواله بالألف واللام؛ لأن حق الاسم في أول أحواله

التجرد منها, ثم يعرض تعريفه, فيلحقانه, كقولك: مررت برجلٍ فأكرمني الرجل, فلما وقع الآن في أول أحواله بالألف واللام خالف الأسماء, وأشبه الحروف. ولو كان هذا السبب بناء لبني الجماء الغفير, ونحوها مما وقع في أول أحواله بالألف واللام. ولو كانت مخالفة الاسم لسائر الأسماء موجبة لشبه الحروف واستحقاق البناء لوجب بناء كل اسم خالف الأسماء بوزن أو غيره؛ وعدم اعتبار ذلك مجمع عليه, فوجب أطراح ما أفضى إليه" انتهى. وبهذا الأخير وهو قول المصنف "ولو كانت مخالفة الاسم إلى آخره" يرد على المصنف في قوله "إنه بني لشبه الحرف في ملازمة لفظٍ واحد لأنه لا يثنى ولا يجمع ولا يصغر, بخلاف حين ووقت وزمان ومدة"؛ لأن مخالفة الآن في هذه الأشياء ليست موجبة لشبه الحرف واستحقاق البناء, فيرد على المصنف قوله بقوله. وقال الزجاج: بنيت لتضمنها معنى الإشارة؛ لأنك إذا قلت أصلي الآن فمعناه: في هذا الوقت. وذهب الفراء إلى أنه مبني لأنه نقل من فعل ماضٍ, فبقى على بنائه, وسيأتي ذكر مذهبه. وقوله وقد يعرب على رأي احتج من ذهب إلى ذلك بقول الشاعر: كأنهما م الآن لم يتغيرا وقد مر للدارين من بعدنا عصر أراد: من الآن, فخذف النون لالتقاء الساكنين, كما قال الشاعر:

ليس بين الحي والميت نسب إنما للحي م الميت النصب وكسر النون الآن لدخول من عليه, فعلم أنه معرب. قال المصنف: "وفي الاستدلال بهذا ضعف الاحتمال أن تكون الكسرة كسرة بناء, ويكون في بناء الآن لغتان: الفتح, والكسر, كما في شتان, إلا أن الفتح أكثر وأشهر" انتهى. وقوله وليس منقولاً من فعل, خلافًا للفراء زعم الفراء أن الآن منقول من آن بمعنى حان, واسصحبت فيه الفتحة, كقولهم: من شب إلى دب", (وأنهاكم عن قيل وقال). ورد المصنف في الشرح هذا القول بأنه لو كان مثل هذا لم تدخل عليه الألف واللام؛ كما لا تدخلان على شب ودب, وقيل وقال, ولاشتهر فيه الإعراب والبناء كما اشتهر في تلك, فإنه يقال: من شب إلى دب, وعن قيلٍ وقالٍ, كما قيل: من شب إلى دب, وعن قيل وقال.

و "أل" في "الآن" عند أصحابنا معرفة, ويصحبها الحضور. ورد بأنها لو كانت للتعريف لما لزمت, لكنها لازمة؛ إذ لم يقولوا: افعله/ [3: 187/ ب] أنا من الأنات. وقيل: لو لم تكن للتعريف أن تكون نكرة؛ لأنه لو لم يتعرف بأل لكان علمًا, ولا يكون علمًا لأنه لا يختص. وقال أبو إسحاق: تعرف بالإشارة, فتضمنها, ولذلك بنيت. ورد بأن ما تضمن حرف الإشارة بمنزلة اسم الإشارة, واسم الإشارة لا تدخل عليه أل. -[ص: ومنها قد للوقت الماضي عمومًا, ويقابله عوض, ويختصان بالنفي. وربما استعمل قد دونه لفظًا ومعنىً, أو لفظًا لا معنى. وقد يرد عوض للمضي, وقد يضاف إلى العائضين, أو يضاف إليه, فيعرب. ويقال قط وقط وقط وقط, وعوض وعوض.]- ش: قط اسم مبني, وأصله التشديد, نقلت من القط, وهو القطع 'لى الطرف, ألا ترى أنك إذا قلت ما رأيته قط معناه: ما رأيته فيما انقطع من عمري. وإنما بني لشبهه بالحرف في إبهامه؛ لأنه وقع على كل ما تقدم من الزمان؛ كما أن من إذا أردت التبعيض أتيت بها في كل متبعض. وقيل: بنيت لأنها أشبهت الماضي؛ لأنها لزمانه, ولأنها تضمنت معنى في؛ لأنها لا تحسن فيها, بخلاف الظروف. وقيل: تضمنت معنى منذ, فمعنى قولك ما رأيته قط: ما رأيته منذ خلقت.

وبنيت على حركة لأن لها أصلاً في التمكن؛ لأنها منقولة من القط, وهو القطع كما قلناه. وكانت الحركة ضمة تشبيهًا لقط بقبل. ووجه الشبه بيتهما أنها تدل على ما تقدم من الزمان كقبل, وقبل حركت للساكنين, وضمنت لأنها نائبة عن منذ وما بعدها. وقيل: لشبهها بمنذ. وتأتي بقية اللغات فيه إن شاء الله. وذكر المصنف في الشرح أن قط بني لتضمنه معنى في ومن الاستغراقية على سبيل اللزوم, قال: "أو لشبه الحروف في الافتقار إلى جملة, وعدم الصلاحية لأن يضاف أو يضاف إليه أو يسند أو يستد إليه". قال: "وبني في التضعيف على حركة لئلا يلتقي ساكنان, وكانت ضمةً حملاً على قبل المنوي إضافته, أو لأنه لو فتح لتوهم النصب بمقتضى الظرفية, ولو كسر لتوهم الجر بمن المضمن معناها, وكان يعتذر عن زوال التنوين بكثرة الاستعمال". وذهب الكسائي إلى أن أصلها قطط بضم الطاء الأولى وسكون الثانية, فسكن الأولى, وجعل الآخر على حركة الأول. وقوله ويقابله عوض يعني أنه للوقت المستقبل عمومًا, وقال ابن السيد في بيت الأعشى: رضيعي لبانٍ ثدي أم, تحالفًا بأسحم داجٍ لا نتفرق "عوض: صنم كان لبكر بن وائل. وقيل: هو اسم من أسماء الدهر. وإذا كان من أسماء الدهر كان ظرفًا, كقولهم: لا آتيك عوض العائضين, كما تقول: دهر الداهرين, ثم كثر حتى أجروه مجرى القسم".

قال: "ومن جعل عوض اسم صنم جاز أن يكون في موضع نصب على/ [3: 188/ أ] ألا تقدر فيه حرف الجر, وتحذفه, كقولك: يمين الله لأفعلن. ويجوز أن يكون في موضع خفض على إضمار حرف القسم, وهو أضعف الوجوه, والباء في بأسحم بمعنى في. ومن جعل عوض من أسماء الدهر فوجهان: أحدهما: أن يكون القسم به لا بالأسحم, فالقول فيه كالقول فيه إذا كان اسم صنم. والثاني: أن يكون القسم بالأسحم, ويكون عوض ظرفًا, كأنه قال: لا نتفرق عوض, أي: لا نتفرق طول دهرنا" انتهى. وذكرت مسألة القسم مع عوض هنا لأن المصنف لم يتعرض لعوض في القسم, إنما ذكر هاهنا, فتبهنا على ذلك حيث تعرض لها المصنف. وقوله ويختصان بالنفي تقول: ما فعلته قد, ولا أفعله عوض, قال الشاعر: يرضى الخليط, ويرضى الجار منزله ولا يرى عوض صلدًا يرصد العللا وقوله وربما استعمل قط دونه لفظًا ومعنى أي: دون النفي, مثاله قول بعض الصحابة رضي الله عنهم: (قصرنا الصلاة في السفر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر ما كنا قط وآمنه).

وقوله لفظًا لا معنى مثاله ما روي في الحديث أن أبيا قال: (كأين سورة الأحزاب)؟ فقال عبد الله: (ثلاثًا وسبعين) , فقال: (قط) , أي: ما كانت كذا قط. وقوله وقد يرد عوض للمضي يعني: فيكون بمعنى قط, قال: فلم أر عامًا عوض أكثر هالكًا ووجه غلامٍ يسترى وغلامه وقوله وقد يضاف إلى العائضين أو يضاف إليه فيعرب كقولهم: ى أفعل ذلك عوض العائضين, أي: دهر الداهرين, وقال الشاعر: ولولا نبل عوضٍ في حظباي وأوصالي لطاعنت صدور القوم طعنًا ليس بلآلئ وقوله ويقال قط وقط وقط وقط, ذكر في الشرح لغة أخرى, وهي قط, بفتح القاف وتشديد الطاء مع الكسر. فأما قد فتقدم الكلام عليها. وأما البناء على الكسر فعلى أصل التقاء الساكنين, ولا التفات إلى توهم الجر؛ لأن

الكسرة لا تكون علامة جر إلا مع تنوين أو إضافة أو أل, ولا واحد منها في قط. وأما قط بضم القاف فإتباع. وأما قط فالتخفيف منوي فيه المحذوف, فلذلك اصطحبت الحركة معه, ومن خفف بالتسكين لم ينو فيه المحذوف, كما قالوا مذ, ونقل الكسر فيها. والتخفيف مع ضم الطاء أو تسكينه مخالف لما حتمه الأخفش من الضم, قال الأخفش: إذا أردت بها الزمان أضم أبدًا, فتقول: ما رأيت/ [3: 188/ ب] مثله قط, فإن قللت بقط شيئًا فاجزمها, تقول: ما عندك إلا هذا قط, فإن لقيت ألف وصل كسرت لالتقاء الساكنين, تقول: ما علمت إلا هذا قط اليوم, وما عندك إلا هذا قط الآن. وقوله وعوض وعوض قال ابن السيد في عوض: "زعم المازني أنه يضم ويفتح ويكسر" انتهى. وبني عوض لشبهه بالحرف في إبهامه؛ لأنه يقع على كل ما تأخر من الزمان. وقال المصنف: "وبني عوض لأنه مثل قط فيما نسب إليه مما سوى عدم الصلاحية لأن يضاف ويضاف إليه. وبني على حركة لئلا يلتقي ساكنان. ومن ضم فحملاً على بعد, أو لتحرك آخره بحركة تجانس ما قبله. ومن فتح كره اجتماع مستثقلين: الضمة, والواو. ومن كسر راعي أصل التقاء الساكنين. وأعرف حين يضاف أو يضاف إليه لأنه عومل بما لم يعامل مقابله مما هو خاص بالأسماء, فاستحق مزية عليه". ص: "ومنها" أمس مبنيًا على كسر بلا استثناء عند الحجازيين, وباستثناء المرفوع ممنوع الصرف عند التميمين, ومنهم من يجعل كالمرفوع

غيره. وليس بناؤه على الفتح لغة, خلافًا للزجاجي. فإن نكر, أو أضيف, أو قارن الألف واللام- أعرب باتفاق, وربما بني المقارن لهما. ش: "أمس" اسم معرفة متصرف, يستعمل في موضع رفع ونصب وجر, وهو اسم زمان موضوع اليوم الذي أنت فيه, أو ما هو في حكمه, في إرادة القرب وكونه معرفة, نحو قوله: أولئك قوم, قد نرى أمس فيهم مرابط للأمهار والعكر الدثر ولا يخلو إما أن يستعمل ظرفًا أو غير ظرف, فإن استعمل ظرفًا فهو مبني على الكسر عند جميع العرب. وعلة بنائه تضمنه معنى الحرف, وهو لام التعريف, ولم يبن غد- وهو معرفة كأمي- لأنه لم يتضمنها, وإنما يتضمنها ما هو حاصل واقع, وغد ليس بواقع. قال السهيلي: "هذا مذهب الخليل وس". وقال غير السهيلي: هذا هو الظاهر من تعليل س, وهو أنه ضمن معنى الحرف؛ إذا شبهه ب"أين" ألتي ضمنت معنى حرف الاستفهام, فبنيت. والفرق بين أمس وسحر أن سحر لما عدل عن السحر لم يضمن معنى الحرف, بل أنيب مناب السحر المعرف, فصار معرفة مثله بالنيابة, كما صار عمر معرفة بالنيابة عن عامر العلم. وقال ابن كيسان: بني لأنه في معنى الفعل الماضي, وأعرب غد لأنه في معنى الفعل المستقبل وظرف له, والمستقبل معرب كما أن الماضي مبني.

وقال قوم: علة بنائه شبه الحرف؛ إذا افتقر في الدلالة على ما وضع له إلى اليوم الذي أنت فيه, كما افتقر الحرف إلى غيره. وقال قوم: بني لشبهه بالأسماء المبهمة في انتقال معناه؛ لأنه لا يختص بمسمى دون آخر. وأجاز الخليل في لقيته/ [3: 189/ أ] أمس أن يكون التقدير: لقيته بالأمس, فحذف الحرفين الباء وأل, فتكون الكسرة على هذا كسرة إعراب. وزعم قوم منهم الكسائي لأنه ليس مبنيًا ولا معربًا, بل هو محكي, سمي بفعل الأمر من المساء, كما لو سمي بأصبح من الصباح, فهو لفظ محكي, كما قال: بئس مقام الشيخ أمرس أمرس فموضع أمرس موضع المبتدأ, كأنه قال: بئس مقام الشيخ المقام الذي يقال فيه أمرش أمرس, يريد مقام الاستقاء بالدلو. وكذلك: جئت أمس, أي: اليوم الذي كنا نقول فيه: أمس عندنا أو معنا, وكانوا كثيرًا ما يقولون ذلك للزور والخليط إذا أراد الانصراف عنهم, ولاسيما مع حبهم الأضياف, فكثرت هذه الكلمة على ألسنتهم حتى صار اسمًا للوقت واليوم الذي قبل يومك وليلتك, وتعريفه بالإشارة إلى أنه اليوم الذي قبل يومك, وخرج بذلك عن حكم الأسماء النكرات؛ لأن بابها أن تتعرف بلام التعريف.

وزعم أبو زيد السهيلي أن تعريفه بالإضافة معنى كتعريف أجمع, وسيأتي ذكر مذهبه في أجمع في باب التوكيد, إن شاء الله. وإن استعمل غير ظرف فذكر س عن الحجازيين بناؤه على الكسر رفعًا ونصبًا وجرًا, كما كان حال استعماله ظرفًا, فتقول: ذهب أمس بما فيه, وأحببت أمس, وما رأيتك منذ أمس, وعليه قوله: اليوم أعلم مل يجئ به ومضى بفصل قضائه أمس وما ذكرناه معنى ما ذكره المصنف بلا استثناء عند الحجازيين, يعني أنه مبني على الكسر سواء استعمل ظرفًا أو اسمًا غير ظرف. وقال المصنف في الشرح: "إذا قصد بأمس اليوم الذي وليه اليوم الذي أنت فيه بناه الحجازيون في موضع الرفع والنصب والجر على الكسر". فظاهر هذا الكلام اقتصار استعماله على اليوم الذي يليه اليوم الذي أنت فيه, وقد ذكرنا أنه يستعمل فيما قرب من يومك مما مضى, وهو مبني على الكسر في هذا الاستعمال. وقوله وباستثناء المرفوع ممنوع الصرف عند التميمين نقل س عن تمبم أنهم يوافقون الحجازيين حالة النصب والجر في بناء أمس على الكسر, ويعربونه

إعراب ما لا ينصرف حالة الرفع, فيقولون: ذهب أمس بما فيه, واستحسنت أمس, وما رأيك منذ أمس, وقال الشاعر على لغة تميم: اعتصم بالرجاء إن عن بأس وتناس الذي تضمن أمس قال س: "واعلم أن بني تميم يقولون في موضع الرفع: ذهب أمس بما فيه, وما / [3: 18/ب] رأيته منذ أمس, فلا يصرفون عن الرفع". ثم قال: " ألا ترى أن أهل الحجاز يكسرونه في كل موضع, وبنو تميم يكسرونه في أكثر المواضع في الجر والنصب. وقوله ومنهم من يجعل كالمرفوع غيره أي: ومن بني تميم من يجعل أمس في حالة النصب والجر غير منصرف كحالة الرفع, ولا يبنونه على الكسر في حالة النصب والجر. وهذا الذي ذكره المصنف مختلف فيه: ذهب بعضهم إلى أن بني تميم يعربونه إذا لم يكن ظرفًا في الرفع والنصب والجر إعراب ما لا يتصرف, وهو قول ابن عصفور في "شرح الجمل" قال ما نصه: "وبنو تميم يعربونه إعراب ما لا ينصرف". وذهب بعضهم إلى أنه معرب في الرفع عند بني تميم إعراب ما لا ينصرف, مبني على الكسر في حالة النصب والجر. قال الأستاذ أبو علي: أكثر الناس يغلطون في هذا, فينسبون لبني تميم أنهم يعربونه في كل وجه, كما أن

الحجازيين يبنونه في كل وجه, وإنما يجريه بنو تميم على الوجهين, يعربونه في الرفع, ويعللون منع صرفه بما تقدم في سحر- يعنى من علة العدل- ويبنونه فيما عدا ذلك, ويعللونه بعلة بنائه. والدليل على إعرابهم إياه في الرفع أنهم يجعلونه فيه على حركة أخرى, وليس لهم مبني على أكثر من حركة؛ لأن ذلك هو الإعراب. ويدل على بنائهم إياه في غير الرفع أنه لو كان عندهم معربًا لكان مفتوحًا في الجر والنصب, ولو كان منصرفًا لنونوه في الجر. وذهب بعضهم إلى ما ذكره المصنف من أن بني تميم تعربه في الرفع إعراب ملا ينصرف, وتبنيه في النصب والجر على الكسر, وأن بعضهم يعربه إعراب ما لا ينصرف مطلقًا في الرفع والنصب والجر. وإلى هذا ذهب الأستاذ أبو الحسن بن الباذش. قال المصنف: "وعليه قول الراجز: لقد رأيت عجبًا مذ أمسا". وهذا هو الصحيح, وهو ظاهر كلام س, وحكاها الكسائي, أعني أن بعضهم يمنعه الصرف في الأحوال الثلاثة. وزعم الزجاج أن هؤلاء يعربونه إعراب ما لا ينصرف وإن كان ظرفًا, كما فعل في سحر ظرفًا. وقال الكسائي أيضًا: ومنهم من ينونه في الأحوال الثلاثة. يعني تنوين الصرف، إلا في النصب على الظرف, فإنهم لا ينونونه. وحكي الزجاج أيضًا أن بعض العرب ينونه, وهو مبني على الكسر, قال: شبوه بغاق وشبهه من الأصوات.

فتلخص فيه خمس لغات: بناؤه على الكسر مطلقًا دون تنوين, وبناؤه على الكسر مطلقًا بالتنوين, وإعرابه منصرفًا مطلقًا, وإعرابه غير منصرف مطلقًا, وإعرابه غير منصرف رفعًا وبناؤه على الكسر نصبًا وجرًا. وقوله وليس بناؤه على الفتح لغة, خلافًا للزجاجي قبل المصنف في الشرح: " زعم أبو القاسم الزجاجي أن من/ [3: 190/أ] العرب من يبني أمس على الفتح, واستشهد بهذا الرجز, ومدعاه غير صحيح لامتناع الفتح في موضع الرفع, ولأن س استشهد بالرجز على أن الفتح في (مذ أمسا) فتحة إعراب, وأبو القاسم لم يأخذ البيت من غير كتاب سيبويه, فقد غلط فيما ذهب إليه, واستحق ألا يعول عليه". وقال ابن الباذش: "خرج الزجاجي عن إجماع النحاة بقوله: ومن العرب من يبنيه على الفتح, واستدل على ذلك بقوله: لقد رأيت شبحًا مذ أمسا ولا حجة فيه لأن أمس ليس بظرف, وإنما هو اسم دليل دخول حرف الجر عليه؛ لأن حرف الجر إذا دخل على الظرف انتقل عن الظرفية, وإذا كان غير ظرف فإن كان في موضع نصب أو خفض لم يجز فيه عندهما إلا البناء على الفتح أو الكسر, أو في موضع رفع فيجوز فيه عندهما الوجهان: البناء, وإعراب ما لا ينصرف. ودليلهما أن أمس إذا كان غير ظرف وكان في موضع نصب أو خفض يجوز فيه البناء على الفتح, نحو قوله: لقد رأيت عجبًا مذ أمسا

وهذا لا حجة فيه لأنه يمكن أن يكون معربًا إعراب ما لا ينصرف. وأيضًا فإن الدليل على انه ليس بمبني على الفتح أنه لم يأت إلا في موضع خفض, ولو كان مبنيًا لجاء مثل: شهدت زيدًا أمس" انتهى. وقال شيخنا الأستاذ حسن ابن الضائع:"قال أبو القاسم- يعني الزجاجي-: ومن العرب من يبنيه على الفتحة. هذه اللغة لم يحكها غيره, غير أن ابن عصفور حكي عن الزجاج ذلك, والذي رأيت الزجاج خلافه, قال في كتاب "الأنواء" لما أنشد: لقد رأيت عجبًا مذ أمسا (ترك صرفه من خفض بمذ) " انتهى. وقال س: "وقد فتح قوم أمس في مذ, لما رفعوا وكانت في الجر هي التي ترفع شبهوها بها, قال: لقد رأيت عجبًا مذ أمسا عجائزًا مثل الأفاعي خمسًا وهذا قليل" انتهى. قال بعض أصحابنا: "قوله (وقد فتح قوم) حمله قوم على انه يريد البناء فيه على حركة الفتح إذا جروه. وحملة قوم على أنه يريد الإعراب, أي: يعربونه في الجر, لكن مع مذ. (لما رفعوا) , أي كما أعربوه في الرفع أعربوه أيضًا في الجر, وهذا هو الأليق بالموضع؛ لأنه لو أراد البناء لم يكن لذكره الرفع معنى, ولا لقوله (وكانت في الجر هي التي ترفع). وإنما غلط من قال بالقول الأول لقوله (فتح قوم) ,

وإنما ذلك على عادته في إطلاق الفتح على النصب, أو لأن هذه الحركة ليست عن ناصب؛ لأن الجار لا يطلب النصبة" انتهى. فإن قلت: لعل مستند من حكي فيه إعراب ما لا ينصرف مطلقًا هذا الرجز, ولا تكون في ذلك حجة على أبي القاسم, وهو ظاهر كلام س. قلت: قد صرح غير س- وهو الكسائي- بأن منعه الصرف في الأحوال الثلاثة لغة, فحمل الرجز على ما استقر من منع الصرف فيه أولى من حمله على البناء على الفتح الذي لم يستقر فيه. وقوله فإن نكر/ [3: 190/ب] مثال التنكير: مضى لنا أمس حسن, لا تريد اليوم الذي قبل يومك, ولذلك نعته بنكرة. ومثال الإضافة: إن أمسنا يوم طيب. ومثال الألف واللام: إن الأمس ليوم حسن. وكذلك يعرب إذا ثنى أو جمع, قال الزجاج: يجمع على آمس وآماس كزند وأزند وأزناد في القلة, وعلى أموس في الكثرة. وأنشد: مرت بنا أول من أموس تميس ينا مشية العروس قال الزجاج: "فهذا جميع ما روينا في أمس". يعني من صيغ الجمع. وأما إذا صغر فذكر المصنف في "شرح الشافية الكافية" له ما نصه: "ولا خلاف في إعرابه إذا أضيف, أو معه الألف واللام, أو نكر, أو صغر, أو كسر" انتهى.

فذكر أنه لا خلاف في إعرابه إذا صغر, وهو مخالف لنص س وغيره من النحاة أن أمس لا يصغر, قال س: "وأما أمس وغد فلا يحقران", ثم ذكر, تعليل امتناع تحقيرهما, ثم قال: "كرهوا أن يحقروها كما كرهوا تحقير أين, واستغنوا عن تحقيرهما بالذي هو أشد تمكنًا, وهو اليوم والليلة" انتهى. ونصوص النحاة على ما قال س. وهذا يدل على قلة نظر هذا المصنف في كتاب س إذا ادعى الإجماع فيما الإجماع على خلافه. وفي البسيط: "لو سميت بأمس على لغة من أعرب في الأحوال [الثلاث] لصرفت. وقيل: ر ينصرف لأنه إنما كان الأصل في التسمية بأمس في حالة العدل أن تمنعها؛ لأنك نقلت من أمس المعدولة, ولا أصل لها سواه, فصار بمنزلة التسمية بالمعدول, فيكون معدولاً, والفرق بينه وبين سحر أن سحر له أصل في النكرة, يرجع إليه في التسمية, ويحمل عليه. وفيه نظر" انتهى. وقال بعض أصحابنا: "أمس إن كان بأل معرب مصروف, أو مضاف فالإعراب, أو غير مضاف مصغرًا فالإعراب والصرف, أو مكبرًا ظرفًا فالبناء ليس إلا. أو اسمًا فالحجاز تبنيه لتضمنه معنى أل, وتميم تعربه إعراب ما لا ينصرف. وقول الزجاجي في (مذ أمسا) "إنه مبني" ليس كما ذكر, بل هو لغة تميم. فإن سميت به فليس فيه علة, قال الفارسي: كتب إسماعيل القاضي إلي أبي العباس مسألة في قوله:

منع الرقاد تقلب الشمس وطلوعها من حيث لا تمسي وطلوعها بيضاء صافية وتغيب في صفراء كالورس اليوم أعلم ما يجيء به ومضى بفصل قضائه أمس فكتب إليه بالتقسيم الذي كتبناه قبل" انتهى. وفي كلامه أن أمس يصغر, والظاهر إتباع أبي على المبرد على ذلك, وكله ذهول عن نص س. وقد ذهل عنه أبو محمد بن/ [3: 191/أ] الدهان, فذكر في "الغرة شرح اللمع" ما نصه: ويبنى في الظرفية إجماعًا, هذا ما نص عليه الزجاج إذا كان معرفة بغير إضافة ولا لام تعريف مكبرًا مفردًا, فأما إذا عرف بالإضافة, أو باللام, أو صغر, أو نكر, أو ثني, أو جمع- فإنه معرب". وقوله وقد يبني المقارن لهما قال المصنف في الشرح: "ومن العرب من يستصحب البناء مع مقارنة الألف واللام, كقول الشاعر: وإني وقفت اليوم والأمس قبله ببابك حتى كادت الشمس تغرب فكسر السين, وهو في موضع نصب, والوجه فيه أن يكون زاد الألف واللام بغير تعريف, واستصحب تضمين معنى المعرفة, واستدام البناء, أو تكون هي المعرفة, وقد زال البناء لزوال التضمين ومشابهة ضمير الغائبة, فتكون الكسرة كسرة إعراب على تقدير باء حذفت وبقي عملها, كما حذفت من وبقي عملها في رواية من يروي: ألا رجلٍ جزاه الله خيرًا .............. " انتهى.

وقال الزجاج: "الأكثر في أمس إذا دخلت عليها الألف واللام الإعراب, فتقول: رأيت الأمس, كما قال نصيب: وإني حبست اليوم والأمس قبله ببابك حتى كادت الشمس تغرب فنصب الأمس بالعطف على اليوم, وقال العجاج: غضف طواها الأمس كلابي فنصب" قال: " وبعض العرب يقول: رأيته بالأمس", ثم ذكر تأويله على الوجهين الذين ذكرهما المصنف من الباء على زيادة أل, أو الإعراب على إسقاط حرف الجر, قال: كما قالوا: لاه أبوك, يريدون: لله أبوك, وكقول رؤية في جواب: كيف أصبحت؟::خيرٍ, عافاك الله". وفي البسيط: وقال بعضهم: لقيته الأمس الأحدث, فجره, وفيه الألف واللام, وهو لا يكاد يعرف.

-[ص: فصل الصالح للظرفية القياسية من أسماء الأمكنة ما دل على مقدر, أو مسمى إضافي محض, أو جارٍ باطراد مجرى ما هو كذلك. فإن جيء بغير ذلك لظرفية لازمة غالبًا لفظ "في" أو في معناها, ما لم يكن كمقعد في الاشتقاق من اسم الواقع فيه, فيلحق بالظروف, قياسًا إن عمل فيه أصله أو مشارك له في الفرعية, وسماعًا إن دل على قرب أو بعد, نحو: هو مني منزلة الشغاف, ومناط الثريا.]- ش: لما فرغ من الكلام على ظرف الزمان, وأن الفعل مطلقًا يتعدى إلى جميع ضروبه من مبهم ومختص- أخذ يذكر ظروف المكان, وأن الفعل يتعدى منها إلى أربعة فينصبها. وإنما قال القياسية لأن منها ما يتعدى/ [3: 191/ ب] إليه العامل على سبيل الشذوذ, وسيأتي ذكره. قوله ما دل على مقدر هذا هو الأول, وفي نسختي: مقدر, وثبت في بعض نسخ الشرح: على مقدار, وذلك ومقدر متقاربتان, وذلك نحو ميل وفرسخ وبريد وغلوة. وهذا النوع من الظرف المقدر اختلفوا فيه هل هو داخل تحت حد المبهم أم لا: فذهب الأستاذ أبو علي إلى أنه ليس داخلاً تحت حد المبهم؛ لأن المبهم كما ذكروا لا تكون له نهاية معروفة ولا حدود محصورة, وهذه الظروف المقدرة لها نهاية معروفة وحدوده محصورة؛ ألا ترى أن الميل مقدار معلوم من المسافة, وكذلك البريد والفرسخ والغلوة.

وذهب غيره إلى أنها داخلة تحت حد المبهم, وهو ظاهر كلام الفارسي. قال بعض أصحابنا: "وهو الصحيح؛ لأنه إنما يرجع تقديرها إلى الباع؛ ألا ترى أن الغلوة مئة باع, والميل عشر غلاء, والفرسخ ثلاثة أميال, والبريد أربعة فراسخ, والباع لا ينضبط إلا بتقريب؛ لأنه يزيد وينقص, ويلزم من ذلك أن تكون هذه المقدرات غير محققة النهاية والحدود, بل تحديدها على جهة التقريب. ويبين أنها لا تكون محصورة كحصر الدار والمسجد أن هذين لهما حدود محصورة, ما زاد عليهما غير داخل فيهما, وهذه المسافات ليست كذلك, بل تحتمل الزيادة والنقص. وأيضًا فإن كانت معلومة القدر على جهة التقريب كما ذكرنا فإنها مجهولة العين, بخلاف الدار والمسجد وأشباههما من الظروف المختصة, فإنها معلومة العين والقدر" انتهى. وقال س: "ويتعدى إلى ما كان وقتًا في الأمكنة كما يتعدى إلى ما كان وقتًا في الأزمنة؛ لأن وقت يقع في المكان, لا يخت به مكان واحد, كما أن ذلك وقت في الأزمان, لا يختص به زمن بعينه". ثم قال: "وذلك قولك: ذهبت فرسخين وسرت ميلين, كما تقول: ذهبت الشهرين, وسرت الميلين" انتهى. فمن حيث التوقيت ظاهره أنه مختص, ومن حيث قوله "لا يختص به مكان" ظاهره الإبهام. والصحيح أنه شبيه بالمبهم, ولذلك وصل إليه الفعل بنفسه. وما ذهب إليه المصنف من أن هذا المقدر ينصبه الفعل نصب ظرف المكان هو قول النحويين إلا السهيلي, فإنه زعم أن انتصاب هذا النوع انتصاب المصادر لا انتصاب الظروف, قال السهيلي:

"إن قيل: كيف نصبوا ميلاً وفرسخًا على الظرف والفعل لا يتضمنه كما يتضمن ما هو الوصف له؟ وكيف ثنوا الميل وجمعوه دون غيره من ظروف المكان؟ ولم لا ينخفض بفي, فيقال: سرت في ميل, كجلست في مكان؟ فالجواب: إن الميل ليس بظرف؛ ألا ترى أنه ليس كالجهات الست المضافة؛ لأن الجهة/ [3: 192/ أ] لا معنى لها إلا بإضافتها إلى من هي له, والميل لا يضاف, ولا معنى لإضافته شيء, والظرف مقدر بقي, وقد يصرح بها في المتمكن, والميل لا يقدر بفي, ولو قدر بفي لجاز إظهارها لأنه متمكن, يكون فاعلاً ومبتدأ, ويثنى, ويجمع, فما المانع من سرت في ميلٍ لو كان ظرفًا؟ وأيضًا فالظرف يعمل فيه كل فعل ناصب له, والميل لا يعمل فيه إلا ما كان في معنى المشي والحركة, لا تقول: رقدت ميلاً, ولا: قعدت ميلاً, فدل هذا كله على أنه من باب المصادر لا من باب الظروف, وإنما هو اسم لخطًا معدودة, فكما تقول: سرت خطوة وخطًا, ولا يكون هذا ظرفًا, إنما هو مصدر- فكذلك سرت ألف خطوة, أو ثلاثة آلاف ذراع, فالميل والفرسخ عبارة عن هذه الأعداد من الخطأ, كما أن القنطار عبارة عن أعداد كبيرة من الدراهم أو غيرها, فكما أقول: قبضت درهمًا, وقبضت قنطارًا, ولا يختلف الإعراب- فكذا ينبغي ألا يختلف إذا قلت: مشيت خطوة أو خطوتين, ومشيت ميلاً أو ميلين, ومحال أن يقع ظرفًا إذا كثر, ومصدرًا إذا قل, بل ينبغي إلا يختلف الإعراب كما لم يختلف المعنى. وسمي هذا القدر من الخطأ ميلاً لأنهم كانوا ينصبون على الطرق أميالاً كانوا بها مقادير الخطأ التي مشوها؛ فيجعلون على رأس كل ثلاثة آلاف ذراع بناء كهيئة الميل, يكتبون فيه العدد مما مشوه, أنشد أبو عبيد:

وعن صوا أميالها المواثل وقال هشام لأعرابي كان يسير معه: انظر في الميل, كم مشينا؟ وكان الأعرابي أميًا لا يقرأ, فنظر, ثم جاء, فقال: "فيه مخطف وحلقة, وثلاثة كأطباء الكلبة, وهامة كهامة القطا". فضحك هشام, وعلم أن في الميل خمسة. ذكر هذا الخبر قاسم بن ثابت, وكشف القناع عن الحقائق أولى من لزوم حضيض التقليد" انتهى كلام السهيلي. والنحاة سموا المسافة التي تقع فيها الخطأ المذكورة باسم الخطأ المذكورة, واللغة تساعد مذهب السهيلي؛ لأن اللغويين حين شرحوا الغلوة والميل والفرسخ والبريد شرحوها بالخطأ والأنواع. وفي البسيط: إذا حذف حرف الوعاء فيما من شأنه أن يحذف انتصب ظرفًا مؤكدًا إن كان مبهمًا؛ ومبينًا إن كان غير مبهم. وذهب الكوفيون إلى أنه لا يجوز نصب المبهم لعدم الفائدة, بل لابد من وصف يخصصه, أما ما في حكمه, نحو: قعدت مكانًا صالحًا, وكذلك في الجهة, فلا تقول: قعدت قدامًا, ولا خلفًا, إلا على الحال, كأنك قلت: متقدمًا, ومتأخرًا.

فإن خصصته بالإضافة / [3: 192/ ب] جاز، نحو: قعدت قُدامك، وخلفك، وهذا بناء على منع التأكيد، وهو فاسد. وذهب أبو زيد إلى أن ما خرج عن المبهم فإنما ينتصب نصب المفعول على النيابة؛ كأنه قال في سرت فرسخين: سرت سيرًا مقدرًا بفرسخين. وذهب ابن طلحة إلى تقديره بحذف المضاف، كأنه قيل: سير فرسخين، كما في قولك ضربته سوطًا، أي: ضربة سوط. وإنما قال ذلك لعدم دلالة الفعل عليه لخصوصه، فلا يكون ظرفًا. فإن كان مبهمًا دل عليه الفعل جاز. وقيل: لأنه ليس بظرف؛ لأنه لا يقال في جواب أين. وهذا فاسد: أما الأول فلأن المستدعي للعموم مستدعٍ لخاص في الجملة؛ لأن العام لابد له من الخاص، فيخرج مبينًا. وأما الثاني فلأن المعدود يقال في جواب كم، ولا يقال في جواب أين إلا غير المعدود، وكم يكون ظرفًا. وفرق أبو زيد بين مبهم الجهات والأمكنة، فجعل مبهم الجهات منتصبًا على معنى الفعل المأخوذ منها، كالخلف من تخلفت، والأمام من أممت، فله دلالة عليه بهذا النحو، فانتصب على هذا. وفيه نظر لأنه لا فرق بين استدعاء المكان والجهة إلا أن تجعل أن المكان من تمكنت، فيجري الكل مجرىً واحدًا، وهذا تكلف لا يحتاج إليه؛ لأنه لو نصب الفعل ما دل عليه بلفظه لم ينصب المفعول بهن ولا يقال ما دل عليه الفعل بلفظه انتصب نصب المصدر والزمان، وما لا يدل عليه انتصب نصب المفعول؛ لأنا نمنع هذا التقسيم، بل ما لم يدل عليه بلفظه ينقسم إلى الظرف وغيره.

وقوله أو مسمى إضافي محض قال الشارح: "أي لا تعرف حقيقته بنفسه، بل بما يضاف إليه، كمكان وناحية وأمام ووراء ووجه وجهة وكجنابتي في قول العرب: هما خطان جنابتي أنفها، يعنون خطين اكتنفا أنف الظبية، وكجنبي في قول الشاعر: نحن الفوارس يوم الحنو ضاحية جنبي فطيمة، ميلٌ ولا عزل وكأقطار في قولهم: قومك أقطار البلاد، وكمساليه في قول الشاعر: إذا ما نعشناه على الرحل يثني مساليه عنه في وراءٍ ومقدم قال س: (مسالاه: عطفاه، فصار كجنبي فطيمة) انتهى. وإنما تعدى الفعل إلى المبهم بنفسه لأنه يطلب من جهة معناه مكانًا مبهمًا؛ من حيث إن الفعل لابد أن يكون في مكان، وكل مكان يصدق عليه اسم جانب وناحية وخلف وقدام ووراء، وغير ذلك من أسماء الأماكن المبهمة غير المشتقة من لفظ الفعل؛ ألا ترى أن كل مكان خلف بالنظر إلى شيء، وقدام ووراء بالنظر إلى آخر.

واحترز بقوله محض من الإضافي الذي يدل بنفسه على معنى لا يصلح لكل مكان؛ نحو / [3: 193/ أ] جوف وباطن وظاهر وداخل وخارج، فإن هذه وما أشبهها من الأماكن المختصة إذا قُصد بشيء منها معنى الظرفية لازمة لفظ "في" أو ما في معناها. وقول المصنف في الشرح "كمكان" مكان: مفعل من الكون؛ لأنه الموضع الذي يكون فيه الكائن، ولزمت الميم، فصارت كالأصلي، فقالوا في الجمع أمكنة، كما قالوا في زمان أزمنة، كأن وزنه فعال، كذا قال الخليل. وقوله في الشرح "وكجنابتي في قول العرب: هما خطان جنابتي أنفها"، وهذه فيها خلاف: ذهب الفارسي إلى أن قولهم جنابتي أنفها من الأسماء المختصة المستعملة استعمال الظروف، وإن كان ذلك يحفظ، ولا يقاس عليه. وذهب س إلى أنه من قبيل الظروف المبهمة. قال بعض أصحابنا: والذي غلط الفارسي في ذلك هو أن الموضع الذي تقع عليه جنابة الأنف صغير ضيق، فتوهم لذلك أنه من قبيل المخصوص المحصور. والصحيح أنه من قبيل الاسم المبهم لأنه يقع على صفح الأنف وعلى ما اتصل به بغير تراخٍ أو بتراخٍ يسير، وليس له حد محقق ينتهي إليه، وإذا كان كذلك فهو من قبيل المبهم. والجيم من جنابتي تكسر وتفتح.

و "جنابتي" من الأسماء غير الظروف، جعل ظرفًا لأن جانب أنف الظبية ليس بمكان، كما أن خدها ليس بمكان؛ ألا ترى أنك لا تقول: رأيت خالًا خد زيد، فكان ينبغي ألا يقال جنابتي، لكن حظه الحفظ، فهو مما نصبته العرب على الظرف، وهو مبهم؛ لأنه بمعنى ناحية، وناحية مبهم وإن أضيف إلى معرفة. وأما "جنبي فطيمة" فهو موضع، فليس مما جُعل من الأسماء ظرفًا بغير قياس. وأما "أقطار البلاد" فأقطار جمع قطر، وهو الناحية، فالمعنى: قومك في نواحي البلاد. وأما "مساليه" فالمسال عند س العطف، وهو الجانب، وليس باسم مكان، فكان ينبغي ألا يكون ظرفًا، لكن استعمل ظرفًا، وشُبه بجنبي فطيمة، كما جُعل هما خطان جنابتي أنفها ظرفًا تشبيهًا له بجنبي فطيمة. والمعنى: إذا ما رفعناه على الرحل انثنى لينظر في جانبيه من وراء ومقدم. وزعم ثابت في كتاب "خلق الإنسان" له أن المسال ما هبط من الصدغ إلى العذار. ووجدت بخط ابن خروف: مسالا الرجل: جانبا لحيته، وأحدهما مسال، وأنشد ابن دريد:

فلو كان في الحي النجي سواده لما مسح تلك المسالات عامر وقسم أصحابنا المبهم إلى أربعة أقسام: قسم وضعته العرب عمومًا، وهو مكان وما في معناه من موضع، ومنزل، والجهات: فوق، وتحت، ويمين، وشمال، وأمام، وخلف. /الثاني: ما كان منسوبًا، نحو: شرقي الدار، وغربي المسجد. الثالث: ما اشتق من الفعل، نحو: المذهب، والمجلس الرابع: المصدر الموضوع موضع الظرف، نحو: هو قصدك. ونتكلم في هذين قريبًا إن شاء الله عند تكلم المصنف عليهما. وقد نصبت العرب على الظرف ما ليس بظرف، وهو يحفظ، والوارد من ذلك فوقك ودونك إذا أردت بهما الرتبة في الشرف لا المكان، وسواك ومكانك بمعنى بذلك، وجنابتي أنفها. وزاد الكوفيون: مثلك، وقرنك، وسنك، ولدتك، وموضع السمع عندهم مثلك. وما استدلوا به متأول عند البصريين. وقوله أو جارٍ باطراد مجرى ما هو كذلك قال المصنف في الشرح: "وذلك صفة المكان الغالبة، نحو: هم قريبًا منك، وشرقي المسجد، قال الشاعر: هبت جنوبًا، فذكرى ما ذكرتكم عند الصفاة التي شرقي حوارنا ومصادر قامت مقام مكان مضاف إليها تقديرًا، نحو قولهم: هو قرب الدار، ووزن الجبل، وزنته أي: مكان مُسامتته. والمراد هنا بالاطراد ألا تختص ظرفيته بعاملٍ ما، كاختصاص ظرفية المشتق من اسم الواقع فيه" انتهى.

قال ثعلب: "إن جعلت قريبًا من القرابة ثُني، وجُمع، وأُنث، أو من القرب أو خلفًا من موصوف فلا يُثنى ولا يُجمع ولا يؤنث" انتهى. وإنما امتنعت في ذاك تثنيته وجمع وتأنيثه لأنه خلف من موصوف مذكر، وهو مكان. ومما ينتصب ظرفًا بمعنى قريب الظرف قبلك، ونحوك، وقُرابتك بمعنى قريبًا، إلا أنه أشد مبالغة؛ ألا ترى أن ثعلبًا قال: "وتقول: عندي غلام يخبز الغليظ والرقيق، فإن أردت الجردق قلت: الرقاق"، فجعل الرقاق ما تناهى رقة، وكذلك الطويل والطوال، الطوال أبلغ في الطول. ومما يؤيد أن الفعال أبلغ من الفعيل أن س فسر قرابتك، فقال: "صار هذا بمنزلة قول العرب: هو حذاءه وإزاءه" فجعل قُرابتك بمعنى متصل به وموازٍ له، بخلاف قريب الذي يكون لما تأخر عنك. وذكر س: هم حواليك، وهي تثنية، لا شفع الواحد، معناها معنى أحوالك وحولك. وأما شرقي المسجد فمنسوب إلى الشرق، ومعناه: المكان الذي يلي الشرق، وهو من ذلك الموضع الذي تشير إليه بالشرق إلى منقطع العالم، فشرق الدار معرفة؛ لأن الشرق جزء من الدار، وكذلك غربها، وأما شرقيها فليس كذلك، بل الذي يلي الشرق منها غير معين، فصار شرقي من شرقٍ بمنزلة زيدي من زيد، عندما / [3: 194/ أ] دخلته ياء النسب انبهم. وأما قول المصنف "وزن الجبل وزنته، أي: مكن مسامتته" فقد فرق س بين وزن الجبل وزنة الجبل، فزعم أن معنى وزن الجبل: ناحية توازنه، أي: تُقابله،

كانت قريبة منه أو بعيدة، وزنة الجبل: حذاؤه، أي: متصلة به، وكلاهما يصل إليه الفعل اللازم بنفسه لإبهامهما. وذكر س من المصادر: هو قصدك، وحلة الغور. وذكر س أيضًا: هو صددك، وصقبك، وليسا مصدرين؛ لأن فعلهما على وزن فعل، فالمصدر صقب وصد، فهما اسمان في معنى المصدر. وقوله أو ما في معناها مثاله: قعد زيدٌ بالبصرة، فالباء الظرفية هي في معنى في. وقوله فإن جيء بغير ذلك لظرفيةٍ لازمه غالبًا لفظ في. معنى "بغير ذلك": بغير القدر، والإضافي المحض، والجاري باطراد مجراه، و"غير ذلك" هو الظرف المختص. قال بعضهم: وهو الذي له اسم من جهة نفسه، كالدار والمسجد والحانوت. وقال بعضهم: ما كان لفظه يختص ببعض الأماكن دون بعض. وقيل: ما كان له أقطار تحصره، ونهايات تحيط به. فهذا المختص لا يتعدى إليه الفعل إلا بوساطة "في" إذا أردت معنى الظرفية. وقوله غالبًا احتراز مما تعدى إليه الفعل بغير وساطة "في"، وذلك يُحفظ، وهو كل مكان مختص مع دخلت، وتقدم الخلاف في ذلك، و"الشام" مع ذهبت خاصة.

وزعم الفراء أن العرب أنفذت إلى أسماء الأماكن والبلاد دخلت وذهبت وانطلقت، وحكي أنهم يقولون: انطلقت العراق، وذهبت اليمن، ودخلت الكوفة. وهذا شيء لم يحفظه س ولا غيره من البصريين، والفراء ثقة فيما نقله. وذهب بعض النحويين إلى أن ذهبت الشام مقيس؛ لأنه إنما سُمي بهذا لأنه شأمة، فكما أن ذهبت شأمةً مقيس، فكذلك ذهبت الشام. وأجاز قياسًا على هذا: ذهبت اليمن؛ لأنه عنده إنما سُمي اليمن لكونه يمنة، فكما تقول: ذهبت يمنةً، ويكون ذلك مقيسًا، فكذلك تقول: ذهبت اليمن. وقوى بعض الناس هذا المذهب بأن العرب قد قالت في اليمن يمنة، قال: فبتنا يقينا ساقط الطل والندى من الليل بردا يمنةٍ عطران المعنى: برادان من اليمن. وألزم أبو سعيد قائل هذا أن يجيز: ذهبت العالية؛ لأنها في معنى علو. وهذا فاسد؛ لأن العرب لو سمت مكانًا مختصًا يمنة أو شأمة أو علو صار مختصًا، فلا يُوصل إليه إلا بوساطة في. وفي البسيط: قال المبرد: / [3: 194/ ب] "ذهبت الشام ليس من الباب، بل هو مما أُسقط منه حرف الجر - وهو إلى - لا حرف الوعاء". وما ذكره

محتمل، لكن إنما أتى به س على أن العمل فيه، ولا يكون ذلك [إلا حتى يفهمه عنهم]، وإلا لا حُجة فيه. قيل: ويدل عليه أنه يقال: داره الشام، أي: في الشام، ولو كان على حذف إلى لسمع في الكوفة ونحوها، ولا يقال إن ذهبت كنصح؛ لأنه لم يُسمع: ذهبت الدار، بمعنى: ذهبت فيها. وقيل: الأصل ذكر حرف الوعاء، لكنه حذف لا تشبيهًا بالمبهم، بل بمنزلة: مررت زيدًا. ورد بأنه لو كان لكان مفعولًا لا ظرفًا، ولو كان لما قلت: داره الشام، وجوازه دل على جواز الظرفية، فيكون من باب الظروف. وزعم الفراء أن ذهبت تصل بنفسها إلى أسماء الأماكن، نحو عمان ونجد والعراق، وحكاه عن العرب. وتُؤول على أنه في الشعر؛ لأن ما حكاه البصريون هو بالحرف. وقول العرب: رجع فلانٌ أدراجه، أي: في الطريق الذي جاء فيه، حكاه س، وقال الشاعر: لما دعا الدعوة الأولى، فأسمعني أخذت بُردي، واستمررت أدراجي فالأدراج ظرف مختص كالطريق.

وقول العرب: صيد عليه قنوين وقال آخر: أنصب للمنية تعتريهم رجالي أم هم درج السيول هذا ما حفظ في الاختيار. وأما قوله: لدن بهز الكف، يعسل متنه فيه كما عسل الطريق الثعلب وقول الآخر: قلن عسفان، ثم رحن سراعًا يتطلعن من نقاب الثغور وقول الآخر: فلأبغينكم قنًا وعوارضًا ولأقبلن الخيل لابة ضرغد

وقول الآخر: جزي الله بالإحسان ما فعلا بكم رفيقين قالا خيمتي أم معبد فضرورة؛ إذ الطريق وعُسفان وقنًا وعوارضًا وخيمتي أم معبد أماكن مختصة، وقد وصل إليها الفعل بغير وساطة في، وهي ظروف. وفي هذا خلاف: ذهب س إلى أن انتصابها على الظرف تشبيها للمختص بالمبهم، من جهة أم كل واحد منها اسم مكان محتو على ما فيه. وزعم الفارسي أن انتصابها نصب المفعول به بعد/ [3: 195/ أ] إسقاط حرف الجر تشبيها لها بالإناسي. وذهب بعض النحويين إلى أن انتصاب الطريق ظرفًا يجوز أن يكون في فصيح الكلام بناءً منه على أن كل موضع يُستطرق فيه طريق. وأخذ بهذا المذهب ابن الطراوة، فزعم أن تعدي الفعل إلى الطريق مشهور في الكلام جار على القياس، قال: ومنه قول العرب: "أبعده الله وأسحقه، وأوقد نارًا إثره"، وقوله: ......................... وقد قعدوا أنفاقها كل مقعد وقوله:

........................ يهوي مخارمها هوي الأجدل قال: ذهبت طريقي، ومروا طرقاتكم، فهذا السماع عنده. وأما القياس فإن الطريق اسمٌ لما يمكن أن يُستطرق، وإذا كان كذلك كان مبهمًا. وهذا باطل عند جمهور البصريين؛ لأن الطريق لا يقع لغة إلا على ما استطرق، لا على ما يمكن أن يُستطرق، فهو مختص. وأما "أوقد نارًا إثره" فالإثر ليس بالطريق، وإنما هو بمعنى وراءه، فهو من قبيل المبهم. وأما "وقد قعدوا أنفاقها"، ويهوي مخارمها"، فضرورة. وأما "ذهبت طريقي"، و"مروا طرقاتكم" - فقال الأستاذ أبو علي: الرد عليه تكذيبه. وجعل المصنف في الشرح قوله تعالى {لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ المُسْتَقِيمَ}، {واقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ} من الظروف المختصة التي حُذف منها "في" في الاختيار. وهذا مذهب الفراء. والصحيح أنه ليس انتصابه على الظرف، بل على المفعول به، على تضمين لأقعدن لأملكن، واقعدوا: املكوا، وباب التضمين أوسع من تعدي الفعل إلى المختص على سبيل الظرفية بغير في.

وقوله ما لم يكن كمقعد في الاشتقاق إلى قوله في الفرعية هذا هو النوع الرابع من الأنواع التي ذكرها المنصف، وهو ما دل على محل الحدث المشتق هو من اسمه، كمقعد ومرقد ومصلى ومعتكف، فمثال عمل أصله: قُعودي مقعد زيدٍ، ومثال عمل المشارك: قعدت مقعد زيدٍ، فلو عمل فيه غير الأصل أو المشارك، نحو: ضحكت مجلس زيدٍ، أي: في مجلس زيدٍ - لم يجز. وقوله وسماعًا إن دل على قربٍ أو بعدٍ قال المصنف: "عد من الشواذ: هو مني مقعد القابلة، ومقعد الإزار، ومناط الثريا، ونحو ذلك؛ لأن العامل ليس أصلًا للفعل، ولا شريكًا له في الرجوع إلى أصل واحد". ومن ذلك: هو مني منزلة الولد، أي: داني المنزلة، ومنزلة الشغاف، أي: لاصقًا بقلبي، و: ......... مقعد رابئ الضـ ـرباء ................... أي: مكانًا يُشرف منه عليه، وكذلك: مزجر الكلب، أي: مُقصى، ومناط الثريا،/ [3: 195/ ب] معناه: مرتفعًا. وهذا الذي يدل على قرب أو بعد فيه خلاف:

ذهب س والجمهور إلى أنه لا يقال منه إلا ما سُمع، قال س: "وليس يجوز هذا في كل شيء، لو قلت: هو مني مجلسك، ومتكأ زيدٍ، ومربط الفرس - لم يجز" انتهى. وقال غيره: "لا ينبغي أن تنصب هذه الأسماء المسموعة على الظرف إلا على حد ما سُمعت؛ فلا ينبغي على هذا أن يقال: هو مقعد الشعريين، ولا: هو مني معقد شراك النعل. وكذلك أيضًا لا ينبغي أن تُستعمل من غير أن يراد بها تمثيل القرب والبُعد، فلا ينبغي أن يقال: هو مني مزجر الكلب، تريد: هو في المكان الذي يُزجر فيه الكلب، ولا: هو مقعد القابلة، تريد: هو في الموضع الذي قعدت فيه القابلة؛ لأن العرب لم تستعملها إلا على معنى التمثيل للقرب والبُعد كما ذكرناه" انتهى. وقالوا: مكان السارية، وكان ينبغي ألا يجوز؛ لأن السارية في موضع له بقرب أو ببعد معلوم، فكما لا يجوز: هو مني مجلس زيدٍ، فكذلك هذا، لكن حكي أبو الحسن عن العرب أنهم يعنون به: مكان السارية من المنارة، فعلى هذا يكون مما استعمل في القرب. وقول س "في المكان الذي يقعد فيه الضرباء" كان ينبغي أن يقول "في المكان الذي يقعد فيه رابئ الضرباء"؛ لأن المسموع منهم: هو مني مقعد رابئ الضرباء، فإنما يتوجه على: هو مني مقعد الضرباء من الرابئ.

وكان قياس هذه الأسماء ألا تستعمل منصوبة على الظرف لاختصاصها، إلا أنه سهل ذلك أنها استعملت على طريق التمثيل للقرب والبعد، فإذا قلت "زيدٌ مني مناط الثريا" فالتقدير: مكانًا مثل مناط الثريا مني؛ بدليل قول الشاعر: .......................... مناط الثريا من يد المتناول أو الثريا من الدبران؛ بدليل قول الآخر: ......................... مناط الثريا من يد الدبران وكذلك باقيها، فحذف في جميع ذلك الظرف المبهم، وأُقيمت صفته مقامه، فأُعربت بإعرابه، وحُذف المضاف الذي هو مثل، وأُقيمت هذه الأسماء المشتقة من الفعل مقامه، وأُعربت بإعرابه، فانتصبت لذلك على الظرف من قبل ما قامت مقامه لا من قبل أنفسها. وانتصابها على الظرف مع ذلك شاذ؛ لأن المضاف إذا حُذف لم يقم ما أُضيف إليه مقامه، ولم يُعرب بإعرابه، إلا بشرط ألا يكون هناك ما يمنع من إقامتها مقامه، وهذا المانع موجود هنا من جهة أن مثلًا نكرة مبهم، فساغ انتصابه على الظرف، وهذا معارف مختصة، فلم يصلح أن تنتصب على الظرف. وذهب الكسائي إلى أن انتصاب هذه الأسماء المختصة المشتقة من الفعل انتصاب الظروف مقيس. وذلك نزعة من / [3: 196/ أ] الخليل؛ حيث أجاز في "له صوتٌ صوت الحمار" أن يعرب "صوت الحمار" صفة لـ"صوتٌ" حكمًا له بحكم ما ناب عنه، وهو مثل، ولم يجعل التعريف مانعًا من ذلك.

قال المصنف: "ومن العلماء من يحكم باطراد ما دل على بعد أو قرب من نحو: هو مني منزلة الشغاف، ونحو قول الشاعر: وإن بني حربٍ، كما قد علمتم مناط الثريا، قد تعلت نجومها على تقدير مكان موصوف بمثل مضاف إلى شغاف ومناط، ثم فعل به ما فعل بضربته ضرب الأمير اللص من حذف الموصوف وصفته وإقامة الثالث مقامهما، وهذا تقدير لائق، ولكن لا يقاس على نوعه لقلة نظائره ومغايرة لفظ باقية للفظ محذوفه، بخلاف: ضرب الأمير اللص" انتهى. وفي الإفصاح: "وقد رد هذا القول أبو علي الشلوبين بمثل ما رد به س على الخليل في إجازة الخليل: له صوتٌ صوت الحمار؛ لأنه آل في هذا التقدير إلى نصب المختص بالاستقرار، كما آل الحذف هناك إلى وصف النكرة بالمعرفة، فتقديرٌ يؤول إلى ما لا يجوز ينبغي ألا يجوز". وفي الإفصاح أيضًا: هذه كلها مختصات، أفرد لها س بابًا، وقال: (اتسعوا فيها، وأجروها مجرى المبهم). وفي مثل هذا يقال: شبهوا المختص بغير المختص؛ لأنها وقعت منصوبة أخبارًا عن المبتدأ، فهي ظروف بلا شك. وأصل نصبها بالاستقرار، ولا ينصب إلا الظروف.

وقيل: إنما كان ذلك فيها لأنها أمثال، المقصود باللفظ خلافه، فحمل على المعنى؛ لأن قولهم: أنت مني مناط الثريا، لم يرد: أنت في موضعٍ تعلق فيه الثريا، كما يقتضي وضع اللفظ، وإنما المراد: أنت مني مكانًا متباعدًا غاية البعد، فكما أنه لو تكلم بهذا جاز، فكذلك جاز لما أراد موصوفه. وكذلك: معقد الإزار، لا يراد أنه في ذلك الموضع، وإنما هو كناية عن غاية القرب. وكذلك مقعد القابلة، فكأنه قال: أن مني مكانًا على غاية القرب، وهذا قول حسن، وبه قال ابن الطراوة. وقال بعضهم: "هو على حذف، والتقدير: مكانًا مثل مكان مناط الثريا، صارت مثل ظرفًا لما نابت مناب الظرف لما حُذف الموصوف، وصار: مثل مناط الثريا، ثم حذف المضاف، فصار: أنت مناط الثريا، فالنصب في الحقيقة إنما هو لمكان، ثم صار للمناط بالنيابة، وهذا التقدير نحو مما في قولهم: ضربت رب الأمير اللص" انتهى. وشذ من أسماء الأمكنة المشتقة من الفعل ولم يعمل فيها ما اشتق منها ولا مشارك ولا يراد به تمثيل القرب والبعد ما حكاه س من قولهم: "هو مني مرأًى ومسمعًا"، بالنصب، وفي الضرورة نحو قوله: / [3: 196/ ب] بمحنيةٍ، قد آزر الضال نبتها مجر جيوشٍ غانمين وخيب نصب "مجر جيوش" على أنه ظرف في موضع صفة لـ"محنية"؛ إذ لم يمكنه أن يقول: في مجر جيوش.

وإذا قلت: هو مني مقعد القابلة من النفساء، وهو مني معقد الإزار من المؤتزر، وهو مني منزلة الولد من أبيه، وهو مني منزلة الشغاف من القلب، وهو مني مقعد رابئ الضرباء من الضرباء، وهو مني مناط الثريا من الدبران، وهو مني مزجر الكلب من الزاجر - فجميع ذلك تتعلق فيه "من" الأولى بالظرف لما تضمنه من معنى الفعل لوقوعه موقع الخبر؛ أي: هو كائن مني. وتتعلق "من" الثانية بنفس اسم المكان لما فيه من الدلالة على الفعل الذي اشتق منه. وجاز أن تتعلق "من" الثانية باسم المكان لأن المجرور يعمل فيه اللفظ بما يتحمله من معنى الفعل، ومن ذلك قوله: ما أمك اجتاحت المنايا كل فؤادٍ عليك أم فتعلق "عليك" بما في "أم" من معنى الفعل؛ إذ المعنى: كل فؤاد عليك مُشفق. فلو كان بعد اسم المكان مفعول به لم يعمل فيه، ولذلك جعل الفارسي مجرًا من قول النابغة: كأن مجر الرامسات ذيولها عليه حصيرٌ، نمقته الصوانع على حذف مضاف، أي: كأن موضع جر الرامسات ذُيولها.

وتعلق "من" الأخيرة باسم المكان هو مذهب س؛ بدليل أنه جعل مغارًا من قول الشاعر: وما هي إلا في إزارٍ وعلقةٍ مُغارَ ابن همامٍ على حي خثعما اسم زمان مع أنه قد عمل في: على حي خثعم، وكما عمل اسم الزمان فكذلك يعمل اسم المكان. وما ذهب المبرد والزجاج إليه من تخطئة س في جعله مُغارًا اسم زمان مع أنه عداه بـ"على" باطل؛ لأن المجرور يعمل فيه اللفظ المتضمن لمعنى الفعل. وتأويلها مغارًا على أنه مصدر، وهو على حذف مضاف، أي: وقت إغارة - لا يحتاج إلى ذلك، بل ما ذكره س أولى؛ لأنه لا يحتاج إلى حذف. وزعم ابن خروف أن حرفي الجر يتعلقان بمحذوفين تقديره: قَرُبَ زيدٌ مني قرب الشغاف من القلب، وبعد مني بعد مزجر الكلب من الزاجر، وكذلك باقيها. وما ذكره - وإن كان المعنى عليه - لا يساعده الإعراب، ولا يتنزل عليه، وإنما يُتصور ذلك في لغة من رفع اسم المكان، فحذف المصدر من الأول، وأقام المضاف إليه مقامه، فرفعه بالابتداء، وحذف المصدر من الثاني، وأقيم المضاف إليه مقامه، فرفع على الخبر. وذهب بعض النحويين إلى أن المختص الذي لا شكل له ولا صورة كـ"مزجر الكلب" و "مقعد القابلة" ونحوه على حذف الجار، كـ"أمرتك الخير" انتهى. وإذا لم تَذكر "من" الثانية، فقلت: هو مني مناط الثريا - / [3: 197/ أ] ففيما يتعلق به "مني" وجهان:

أحدهما: تعلقه بمحذوف، وهو خبر، أي: هو من أتباعي، ومناط الثريا خبر ثان. والثاني: أن يتعلق بما في الظرف من معنى القرب أو البعد، وكأنك قلت: هو قريب مني، والمجرور يعمل فيه المعنى وإن تقدم.

[4: 1/ ب] /ص: فصل من الظروف المكانية كثير التصرف، كـ "مكان" لا بمعنى بدل، ويمين، وشمال، وذات اليمين، وذات الشمال. ومتوسط التصرف، كغير "فوق" و "تحت" من أسماء الجهات، و"بين" مجردًا. ونادر التصرف كـ"حيث" و "وسط"، و"دُون" لا بمعنى رديئ. وعادم التصرف كـ"فوق" و "تحت" و "عند" و "لدن" و"مع" و"بين بين" دون إضافة، و "حول" و "حول" و"حوالي" و"حولي" و"أحوال"، "و"هنا" وأخواته، و"بدل" لا بمعنى بدليل، وما رادفه من مكان. ش: يعني بالترف استعماله غير ظرف، كأن يكون مبتدأ وفاعلًا ونائبًا ومضافًا إلي، وتقدم أن ظرف الزمان متصرف وغير متصرف، فكذلك ظرف المكان. وذكر من الظروف الكثيرة التصرف مكانًا ويمينًا وشمالًا وذات اليمين وذات الشمال، تقول: اجلس مكانك، ومكانك حسنٌ، جلس يمين زيدٍ، وشمال بكرٍ، ويمين الطريق أسهل، وشمال الطريق أقرب، وقال تعالى {تَّزَاوَرُ عَن كَهْفِهِمْ ذَاتَ اليَمِينِ وإذَا غَرَبَت تَّقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ}، وقالت العرب: منازلهم يمينًا وشمالًا، وقال الشاعر:

صددت الكأس عنا، أم عمرو وكان الكأس مجرها اليمينا وتقول: دارك ذات اليمين، ومنازلهم ذات الشمال، قال تعالى "عَنِ اليَمِينِ وعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ". واحترز بقوله "لا بمعنى بدل" من استعماله بمعنى بدل، فإنه إذ ذاك لا يتصرف، ويأتي ذكره. وقوله ومتوسط التصرف، كغير فوق وتحت من أسماء الجهات غير فوق هو: أمامك، وقدامك، ووراءك، وخلفك، وأسفل، وأعلى، تقول في استعمالها غير ظرف: أمام زيدٍ آمن من ورائه، قال الشاعر: فغدت كلا الفرجين تسحب أنه مولى المخافة خلفها وأمامها وقرئ {والرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنكُمْ}. وذكر المصنف أن هذا النوع متوسط التصرف. وزعم الجرمي أنه لا يجوز استعمال الجهات الست إلا ظرفًا، ولا يقاس على استعمالها اسمًا. ونُقل عنه أيضًا أنه لا يجوز كما نقلناه استعمال خلف وأمام اسمين إلا في الشعر، هذا نص النقل عنه. والقياس يقتضي التسوية بينهما وبين ما ذكر من غير فوق وتحت من الجهات. وذهب أبو علي الفارسي إلى أن استعمالهما ظرفين أحسن من استعمالهما اسمين. قال بعض أصحابنا: وسبب قلة تصرفهما وتصرف أمثالهما من الجهات المحيطة بالأشياء من أقطارها، نحو قدام ووراء وفوق وتحت وذات اليمين وأشباه

ذلك - / [4: 2/ أ] توغلهما في الإبهام، وذلك أن أسماء الأماكن المختصة تُستعمل أسماء كزيد وعمرو، ولا تستعمل ظرفًا إلا في الشعر أو في شاذً من الكلام، وإنما يُستعمل من أسماء الأماكن ظرفًا ما كان مبهمًا، فلذلك كان أكثر ما يُستعمل ظرفًا ما توغل في الإبهام، وإذا قرب من المختص كمكان زيد حسن فيه استعماله اسمًا. وهذه في استعماله استعمال الأسماء قسمان: أحدهما بلا تجوز، نحو: خلفك مجدبٌ، ووراؤك أوسع لك. والثاني بتجوز، نحو: زيدٌ خلفك، إما على إضمار، أي: مكان زيدٍ خلفك، وإما على جعله زيدًا مجازًا لما كان حالًا فيه، كقوله نهارك صائمٌ، وسواء في ذلك المعرفة والنكرة، وهذا مذهب البصريين. وأما الكوفيون فلا يكون ظرف المكان عندهم إلا معرفة بالإضافة أو مشبهًا للمعرفة بها، نحو: خلفك، وخلف حائط، فإن قيل وراء وقدامًا وخلفًا وبقعةً صالحةً ومكانًا طيبًا فليس بظرف، بل قام عبد الله خلفًا ووراء بمعنى متأخرًا، وقدامًا بمعنى متقدمًا، ومكانًا طيبًا وبقعةً صالحةً بمعنى شرفًا ومغتبطًا، فقولك: رأيتك مكانًا طيبًا، بمعنى: شرفًا، أو مغتبطًا. وإذا وقع اسم المكان عندهم خبرًا وكان مضافًا إلى معرفة فإن وقع خبر الأسماء المواضع جاز فيه الرفع والنصب، نحو: داري خلفك وخلفك، أو لغير ذلك لم يجز فيه عندهم إلا النصب، نحو: زيدٌ خلفك، وتقدم الكلام في شيء من ذلك في باب المبتدأ والخبر، فأغنى عن إعادته هنا. وقوله وبين مجردًا يعني من الظرفية، مثاله: هو بعيد بين المنكبين، نقي بين الحاجبين، وقال الشاعر:

يديرونني عن سالمٍ، وأديرهم وجلدة بين العين والأنف سالم وقال تعالى: {هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وبَيْنِكَ}، وقوله: {قَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ}، في قراءة من رفع، وقال: {مَّوَدَّةَ بَيْنِكُمْ} في قراءة من أضاف (مودة) إلى (بين). قال المصنف: "ومن تجرد بين عن الظرفية قول الشاعر: ولم يترك النبل المخالف بينها أخًا لأخٍ يُرجى، ومأثورة الهند بينها: في موضع رفع بإسناد المخالف إليه، إلا أنه بُني لإضافته إلى مبني مع إبهامه" انتهى. وقال الفراء في قول الشاعر:

فأدبرن كالجزع المفصل بينه بجيد معم، في العشيرة مخول "إن "بينه" في موضع رفع لأنه اسم ما لم يسم فاعله، وأُقر على نصبه ليدل على أصله. ولا وجه لرفعه بأن يقال "المفصل بينه" بضم النون؛ لأن "بين" ليست مفعولًا في حال تسمية الفاعل، إنما هي مثال محل، ولكنه سائغ إضمار "ما"، فتكون اسم ما لم يسم فاعله، ويقدر: / [4: 2/ ب] كالجزع المُفصل ما بينه" انتهى قول الفراء. ومعنى قوله "ليدل على أصله" أي: من غلبة الظرفية عليه. وقوله "لأن بين ليست مفعولًا في حال تسمية الفاعل" كلام يشعر بأنها لا يُتصرف فيها إلا فيما كان أصلها أن تنصب على الظرف فيه، ويدل على ذلك قوله "ولكنه سائغ إضمار ما" إلى آخره. وظهر من كلام الفراء أن بين إذا تصرف فيها لم تُستعمل مرفوعة اللفظ ولا منصوبة، إنما تكون في موضع رفع أو نصب مع كونها بحركة الفتح. قال المصنف: "وقد يكون بين ظرف زمان كما يكون ظرف مكان، فمن ذلك حيث ساعة يوم الجمعة (بين خروج الإمام وانقضاء الصلاة) ". وقوله ونادر التصرف كحيث قال المصنف: "وكونه مجردًا عن الظرفية كقول زهير:

فشد، ولم تفزع بيوتٌ كثيرةٌ لدى حيث ألقت رحلها أم قشعم وكقول الآخر: إن حيث استقر من أنت راعيـ ـه حمى، فيه عزةٌ وأمان" انتهى. جعل حيث اسم إن، وحمى: خبر. وهذا خطأ؛ لأن كونها اسمًا لأن فرع عن كونها يكون مبتدأ، ولم يُسمع ذلك فيها، ولا في لفظ واحد، لا يحفظ من كلامهم: حيث قعد زيدٌ فسيحٌ، يريدون: المكان الذي قعد فيه زيد فسيحن وهذا البيت الذي أنشده المصنف دلالة على أن حيث اسم إن لا حجة فيه على تصرف حيث، بل اسم إن هو قوله حمى، وحيث: في موضع خبر إن؛ لأنه ظرف، نحو: إن حيث زيدٌ قائمٌ عمرًا، التقدير: إن حمى فيه عزةٌ وأمانٌ حيث استقر من أنت راعيه. والصحيح أن حيث ظرف لا يتصرف، فلا يكون فاعلًا ولا مبتدأ ولا مفعولًا به، وجره بـ"من" كثير، وبـ"في" شاذ، نحو قوله: فأصبح في حيث التقينا شريدهم طليقٌ ومكتوف اليدين ومزعف وقوله ووسط هي ساكنة السين، قال المصنف: "وأما تجرده عن الظرفيه فقليل، لا يكاد يعرف، ومنه قول الشاعر يصف سحابًا: وسطه كاليراع أو سرج المجـ ـدل، طورًا يخبو، وطورًا ينير

فوسطه: مبتدأ، خبره كاليراع" انتهى. والبيت لعدي بن زيد. وقال الفرزدق: أتته بمجلومٍ، كأن جبينه صلاءة ورسٍ، وسطها قد تفلقا فرفعه بالابتداء. وقال القتال: / [4: 3/ أ] سائل ربيعة: هل رددت لقاحها والخيل مقعيةٌ على الأذناب من وسط جمع بني قريطٍ بعد ما هتفت ربيعة: يا بني جواب أسكن مع دخول حرف الجر عليه. ويروى في بيت عدي "وسطة كاليراع" بالنصب على الظرفية، والحكم بأن وسطه خبرٌ مقدم، والكاف اسم في موضع رفع بالابتداء. وفي البسيط: جعلوا الساكن ظرفًا والمتحرك اسم ظرف. وقال الفراء: إذا حسنت فيه بينٌ كان ظرفًا، نحو: قعدت وسط القوم، وإن لم تسحن فاسمٌ، نحو: احتجم وسط رأسه. وقال بعضهم: إذا كان الآخر هو الأول فهو اسم، نحو: وسط رأسه صلبٌ، وإلا فظرف، نحو وسط رأسه دهنٌ. وقد يحتملان نحو: وسط الدار آجر. وحكي عن الفراء أن المسكن والمحرك يكون اسمًا وظرفًا، وفرق بين ما يصلح فيه بين فسكنه، وما لا يصلح فيه فحركه، وجوز في كل واحد منهما الآخر. وفي شرح كتاب س المعزو للصفار: العرب تقول: زيدٌ وسط الدار، فهذا بلا شك ظرف، ويقولون: ضربت وسطه، فهذا اسمٌ مفعولٌ بمنزلة: ضربت ظهره،

وإذا أتوا بفي إنما يقولونه بالفتح، فدل على أن الظرف إنما هو المنصوب، وأن المجرور إنما هو اسم، فوسط عندنا بمنزلة بين، والوسط: منصف الشيء، فإذا قلت حفرت في وسط الدار بئرًا فمعناه: في منصفها، وهو بمنزلة النقطة من الدائرة، وتقول: جلست وسط الدار، إذا جلست في ناحية منها لا في منصفها، فهذا الفرق بينهما. وأما الكوفيون فلا يفرقون بينهما، ويجعلونهما ظرفين؛ ألا ترى ثعلبًا قال: "واحتجم وسط رأسه". وهذا عندنا لا يجوز؛ لأن احتجم لا يتعدى، وس يقول: ضربت وسطه، والكوفيون يقولون: هو ظرف بمنزلة وسط، ولا فرق بينهما، إلا أن وسط يقال في المفترق الأجزاء: نحو: وسط القوم، ووسط يقال فيما لا تتفرق أجزاؤه، نحو وسط الرأس. ولا يستعمل وسط مرفوعًا عندنا إلا في الشعر، نحو: .................... ............... وسطها قد تفلقا فهو شاذ عندنا من حيث استعمل اسمًا، وعند الكوفيين شاذ من حيث استعمل فيما لا تتفرق أجزاؤه، وهو الصلابة. وقوله ودون لا بمعنى رديء احترز بقوله "لا بمعنى رديء" مما حكي س أنه يقال: "هذا ثوبٌ دونٌ: إذا كان رديئًا"، فهذا ليس بظرف. أما إذا كان ظرفًا فسواء أكان حقيقة، نحو: جلست دون زيدٍ، أو مجازًا، نحو: زيدٌ دونك: إذا أردت في الشرف - فإنه لا يُرفع.

وهو ظرف لا يُتصرف فيه بغير من، وندر تصرفه، قال الشاعر: ألم تريا أني حميت حقيقتي وباشرت حد الموت، والموت دونها بالرفع، وقال آخر: [4: 3/ ب] /وغبراء، يحمي دونها ما وراءها ولا يختيطها الدهر إلا المخاطر وقال ذو الرمة: جاورت أرضًا يحسر الآل مرة فتبدو، وأخرى يحسر الآل دونها وقال الأخفش في قوله {ومِنَّا دُونَ ذَلِكَ}: "إن دون مبتدأ، وبني لإضافته إلى مبني". فظاهر قول الأخفش اطراد تصرف دون. وغير الأخفش يقدر: ما دون ذلك، يحذف ما. وقال س: "وأما دونك فإنه لا يُرفع أبدًا، وإن قلت: هو دونك في الشرف؛ لأن هذا إنما هو مثلٌ"، يعني به الانحطاط عن علو الشرف، فلازمه الظرفية أيضًا؛ لأن استعماله بذلك المعنى مثل استعماله في المكان الأدنى. وقال الفراء: سواك ومكانك وبدلك ونحوك ودونك لا تُستعمل أسماء مرفوعة، فإذا قالوا: قام سواك، وبدلك، ومكانك، ونحوك، ودونك - نصبوا، ولم

يرفعوا على اختيار، وربما رفعوا، قال أبو ثروان: أتاني سواؤك. قال الفراء: وسواك يجري مجرى قصدك ومكانك. وحكي: زيدٌ سوى عمرو، بمعنى: حذاء عمرو. قال الفراء: الرفع في سوى وبدل أقوى منه في دون؛ لأن انفراد هذه الحروف أكثر من انفراد دون، فقد قالوا: هما سواء وقد ينفرد دون، فيقال: هذا رجلٌ دونٌ، يريدون خسيسًا، فإذا قصدوا هذا غربوا دُونًا بوجوه الإعراب. وفي كتاب "الواضح" مسائل مبنية على تصرف "دون" بالجر، منها: فإن قيل مررت بابن عشرٍ أو دُونه جاز النصب والخفض. ومنها: مررت بابن عشرٍ ودونه، فخفض دون مع الواو أسبق، وقد يجوز: مررت بابن عشرٍ ودونه، بالنصب. وكذلك: منزلك بالحيرة أو دونها. ومنها: فإن قيل: ما مررت بابن عشرٍ إلا دونه، ففي دونه النصب والخفض. وقال: فتلخص من هذه النقول أن دون مختلفٌ فيها، والذي عليه س وأصحابه أنها لا تتصرف، ومذهب الأخفش والكوفيين أنها تتصرف، لكن ذلك فيها قليل. وقوله وعادم التصرف كفوق وتحت قال المصنف في الشرح: "ومن الظروف العادمة التصرف فوق وتحت، نص على ذلك الأخفش، فقال: (اعلم أن العرب تقول: فوقك رأسك، فينصبون الفوق لأنهم لم يستعملوه إلا ظرفًا). ثم قال: (وتقول: تحتك رجلاك، لا يختلفون في نصب التحت). هذا نصه، وقد جاء جر "فوق" بـ"على" في قول أبي صخر الهذلي:

فأُقْسِمُ بالله اهتز عرشه علي فوق سبع لا أعلمه بطلا وهذا نادر" انتهي. وقال ابن الأنباري: "قال بعض النحويين: يقال: فوقك رأسك، وفوقك قلنسوتك، وكذلك: تحتك رجلاك، وتحتك نعلك وفراشك، يعني أنه فرق / [4: 4/ أ] بين الرأس وما كان عليه، وبين الرجل وما كان تحته، فأجاز الرفع فيما أخبر به عن الرأس وعن الرجل، وجعل النصب فيما أخبر به عن القلنسوة والنعل. قال: وهذا عند أحمد بن يحيي مردود؛ لأن فوق ترتيبها النصب في كل الحالات إلا أن تختص في بعضها فوق برفع، ولا فرق عند أحمد بن يحيي بين: تحتك رجلاك، وتحتك فراشك" انتهي. وتتصرف"تحت" و "فوق" بجرهما ب"من"؛ قال تعالي {تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ}، وقال {فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِن فَوْقِهِمْ}، ولا تجر بالباء، ولذلك قال س في قولهم "أخذتنا-يعني السماء- بالجود وفوقه": لا يجوز إلا الحمل علي المعني؛ لأن فوق لا تجر بالباء، إنما تجر بمن، والمجرور بها الذي هو "بالجود" وقع حالاً، فله موضوع. وقد شذ جرها بالباء في قول الشاعر: كلفوني الذي أطيق؛ فإني لست وهنا بفوق ما أستطيع وأما قول الآخر:

وشبهنني كلباً، ولست يفوقه ولا مثله أن كان غير قليل فالباء زائدة. وقوله وعند ولدن ومع سيأتي الكلام علي هذه الثلاثة قريباً إن شاء الله. وقوله وبين بين دون إضافة مثاله قول الشاعر: نحمي حقيقتنا، وبعض القوم يسقط بين بينا الأصل: بين هؤلاء وبين هؤلاء، فزيلت الإضافة، وركب الاسمان تركيب خمسة عشر. واحترز بقوله "دون إضافة" من أن يضاف إليها، فإذا أضيف إليها تعين زوال الظرفية، ولذلك خطأ أبو الفتح من قال همزة بين بالفتح، وقال:"الصواب همزة بين بين، بالإضافة" انتهي. ولو أضيف صدر "بين بين" إلي عجزها جاز بقاء الظرفية، كقولك: من أحكام الهمزة: التسهيل بين بين، وزوالها، كقولك: بين بين أقيس من الإبدال. وقوله وجوال وحول وحوالي وحولي وأحوال قال الراجز: أهدموا بيتك، لا أبا لكا وأنا أمشي الدالي حوالكا وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (اللهم حوالينا ولا علينا)، وقال تعالي {فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ}، وقال الراجز:

يا إبلي ما ذامه فتأبيه ماء رواء، ونصي حوليه وقال امرؤ القيس: فقالت: يمين الله إنك فاضحي ألست تري السمار والناس أحوالي وتقول: م حوالي، ولا يقال: الثنية هنا شفع الواحد، ومعناها ومعني أحوالك/ [4: 4/ ب] وحولك واحد. وذكر س من المنتصب ظرفاً- وهو غريب: صدك، وصقبك، ووزن الجبل، أي: ناحية توازنه، أي: تقابله، كانت أو بعيدة، وزنة الجبل، أي: حذاءه متصلاً به، وهم قرابتك، أي: قريباً، وهو أشد مبالغة في القرب؛ إذ معناه الاتصال، وقريب قد يكون لما تراخي عنك، وقومك أقطار البلاد، أي: في نواحيها. وهذه كلها ينصبها الفعل اللازم لإبهامها، وهذه الغرائب يجوز أن تستعمل أسماء، إذ قياس كل ظرف أن يتصرف فيه إلا إن نقل أنه مما يلزم أن يكون ظرفاً. وقوله وهنا وأخواته أخواته هنا وهنا وهنت وثم، وتقدم الكلام عليها في آخر باب اسم الإشارة. وقوله و"بديل" لا بمعني بديل، وما رادفه من مكان مثاله: هذا بدل هذا، تريد: مكان هذا. ولم يذكر الكوفيون بدل ظرف مكان، وإنما ذكره البصريون. قال ابن خروف:"البدل والمكان إذا استعملا بمعني واحد لا يرفعان، فإن ذكر كل منهما في موضعه، ولم يحمل أحدهما علي الآخر في المعني- رفعا، نحو قولك: هذا مكانك، تشير إلي المكان، وهذا بدل من هذا، فترفع لأنك أشرت بـ"هذا" إلى

البدل، وهو هو. وإنما انتصب البدل والمكان ولم يجز فيهما الاتساع حين أخرج كل واحد منهما عن موضعه، فلزما طريقة واحدة" انتهي. وترك المصنف من ظروف المكان التي لا تتصرف سوي وسواء. وإنما لم يتصرفا لأنهما بمعني مكانك الذي يدخله معني عوضك وبدلك؛ ألا تري أنك تقول: مررت برجل سواك وبذلك، و "مكانك" بهذا المعني ليس بمكان حقيقي؛ لأن مكان الشيء حقيقة إنما هو موضعه ومستقره، فلما كانت الظرفية علي طريقة المجاز لم يتصرفوا فيه كما يتصرفون في الظروف الحقيقية، وتقدم نقلنا عن الفراء أنهما لا يرفعان في الاختيار، وسيأتي الكلام مشبعاً علي سوي حيث ذكره المصنف في آخر باب الاستثناء إن شاء الله. ومما أهما ذكره أكثر النحويين من الظروف التي لا تتصرف "شطر" بمعني"نحو" قال تعالي {شَطْرَ المَسْجِدِ الحَرَامِ}، وقال {فَوَلُّوا وجُوهَكُمْ شَطْرَهُ}، وقال الشاعر: ألا من مبلغ عني رسولا وما تغني الرسالة شطر عمرو أي: نحو عمرو، وقال الآخر: أقول لأم زنباع: أقيمي صدور العيس شطر بني تميم

وقال الآخر، وهو ابن أحمر: [4: 5/ أ] /تعدو بنا شطر نجد، وهي عاقدة قد كارب من إيفادها الحقبا وقال آخر: وأطعن بالقوم شطر الملو ك ................ أي: نحوهم، وقال آخر- وجرها بمن: وقد أظلكم من شطر ثغركم هول، له ظلم، تغشاكم قطعا والشطر أيضاً: نصف الشيء، والشطر أيضاً: الجزء من الشيء، فهو مشترك بين هذين وبين الجهة. ص: ف "حيث" مبينة علي الضم، وقد تفتح أو تكسر، وقد تخلف ياءها واو. وإعرابها لغة فقعسية. وندرت إضافتها إلي مفرد، وعدم إضافتها لفظاً أندر. وقد يراد بها الحين عند الأخفش. و"عند" للحضور أو القرب، حسا أو معني، وربما فتحت عينها، أو ضمت.

ش: زعم ابن سيده أن أصل حيث حوث بالواو. وعلة بناء حيث إذا كانت شرطية تضمنها معني حرف الشرط، وإذا لم تكن للشرط فعلة بنائها شبهها بالحرف في افتقارها؛ إذ لا تستعمل إلا مضافة، أو في إبهامها، كما أن الحرف مبهم. وحرك لئلا يلتقي ساكنين. فمن بناها علي الضم فلشبهها بقبل وبعد؛ لأنها مضافة إلي جملة، والإضافة في الحقيقة إنما هي إلي المفرد، فكأنها مقطوعة عن الإضافة. ومن بناها علي الفتح فطلباً للتخفيف. ومن بناها علي الكسر فعلي أصل التقاء لساكنين. وقوله وقد تخلف ياءها واو حوث هي لغة طيئ، قاله اللحياني، يقولون: حوث عبد الله زيد. ومن العرب من يفتح حوث. وقوله وإعرابها لغة فقعسية حكي ذلك عنهم الكسائي، يقولون: جلست حيث كنت، بالفتح، وجئت من حيث جئت، فيجرونها ب"من"، وصارت عندهم كعند. وأقرأ بعض القراء {سَنَسْتَدْرِجُهُم مِّنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ}، فتحتمل هذه القراءة أن تكون علي هذه اللغة، وتحتمل أن تكون علي لغة من بني حيث علي الكسر دائماً. وقال الكسائي: "سمعت في بني تميم من بني يربوع وطهيه من ينصب الثاء لي كل حال في الخفض والنصب والرفع، فيقول: حيث التقينا،

و {مِّنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ}، ولا يصيبه الرفع في لغتهم". قال: "وسمعت في. بني الحارث بن أسد بن الحارث بن ثعلبة، وفي بني فقعس كلها، يخفضونها في موضوع الخفض، وينصبونها في موضع النصب، فيقولون {مِّنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ}، وكان ذلك حيث التقينا". وقوله وندرت إضافتها إلي مفرد هذا مذهب البصريين، لا يجيزون إضافة حيث إلي المفرد، وما سمع من ذلك نادر، وأجاز الكسائي ذلك، وقال الراجز: أما تري حيث سهيل طالعا يروي برفع سهيل وجره، وقال الشاعر: [4: 5/ ب] /ونطعنهم تحت الحيا بعد ضربهم ببيض المواضي حيث لي العمائم فهذا عند البصريين نادر، لا تبني عليه القواعد، وقاس عليه الكسائي. والجملة التي تضاف إليها حيث شرطها أن تكون خبرية اسمية، أو فعلية مثبتة مصدرة بماض أو بمضارع مثبتين، أو منفي بـ"لم" أو "لا". وأما قوله:

........ من حيثما سلكوا أدنو، فأنظور فمن أجاز جرها المفرد فله أن يجعل ما مصدرية، ومن لم يجز ذلك إلا ضرورة جوز هذا، وجوز أن تكون ما زائدة، أي: من حيث سلكوا. ولا تستعمل غالباً إلا ظرفاً، وقد تجر بالباء، نحو قوله: ...................... كان منا بحيث تعكي الإزار أو من {ومِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ}، أو إلي: ....................... إلي حيث ألقت رحلها أم قشعم أو في: فأصبح في حيث التقينا شريدهم ...................... وقوله: علي فتخاء، تعلم حيث تنحو وما في تنحو من طريق وقد أضاف إليها في قوله:

............... بأذل حيث يكون من يتذلل وقوله وعدم إضافتها لفظاً أندر قال المصنف في الشرح: "أندر من إضافته إلي مفرد إضافته إلي جملة مقدرة، كقوله الشاعر، وهو أبو حية: إذا ريدة من حيث ما نفحت له أتاه برياها خليل يواصله أراد: إذا ريدة نفحت له من حيث ما هبت أتاه برياها خليل، فحذف هبت للعلم به، وجعل ما عوضاً كما جعل التنوين في حينئذ عوضاً" انتهي. ولا حجة في هذا البيت علي ما ادعاه؛ لأنه يحتمل أن تكون حيث مضافة إلي الجملة التي بعدها، وهي: نفحت لهن ويرتفع "ريدة" بفعل محذوف يفسره المعني، التقدير: إذا نفحت ريدة. وهذا التأويل أولي؛ لأنه ليس فيه إلا حذف رفع ل"ريدة"، دل عليه المعني، وفي تأويله حذف هذا الرافع، إذ التقدير: إذا نفحت ريدة نفحت له من حيث هبت، وحذف الجملة التي أضفيت إليها حيث، وفيه دعوي أن "ما" جاءت عوضاً مما تضاف إليه، كالتنوين في حينئذ، ولم يثبت ذلك فيها في غير هذا الموضوع فيحمل هذا عليه. وقوله وقد يراد بها الحين عند الأخفش استدل بقوله: للفتي عقل، يعيش به حيث تهدي ساقه قدمه ولا حجة في ذلك، بل الظاهر أنها في هذا البيت ظرف مكان؛ ألا تري أنه أضاف حيث إلي قوله "تهدي ساقه قدمه" وهو عبارة عن المشي، فكأنه قال: حيث مشى وتوجه.

[4: 6/ أ] /وقوله و"عند" للحضور أو القرب حسا أو معني قال المصنف في الشرح: " لا تستعمل إلا مضافة، ولا يفارقها النصب علي الظرفية إلا مجرورة بمن، وهي لبيان كون مظروفها حاضراً أو معني، أو قريبا حسا أو معني، وقد اجتمع الحضور المعنوي والحسي في قوله تعالي {قَالَ الَّذِي عِندَهُ عِلْمٌ مِّنَ الكِتَابِ}، وقال {فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًا عِندَهُ}. ومثال القرب الحسي {عِندَ سِدْرَةِ المُنتَهَى (14) عِندَهَا جَنَّةُ المَاوَى}، ومثال القرب المعنوي {وإنَّهُمْ عِندَنَا لَمِنَ المُصْطَفَيْنَ}، و {رَبِّ ابْنِ لِي عِندَكَ بَيْتًا}، ومن القرب المعنوي قول الرجل: عندي مئة، يريد أنه مالكها وإن كان موضعها بعيداً، ومنه قال تعالي {مَا عِندَكُمْ يَنفَدُ}. وقد يكون مظروفها معني، فيراد بها الزمان، كقوله عليه السلام (إنما الصبر عند الصدمة الأولي). وكسر عينها هو المشهور، ومن العرب من يفتحها، منهم من يضمها" انتهي. وإنما لم يتصرف "عند" لأنه أشد توغلا في الإبهام من خلف وأمام وأخواتهما؛ ألا تري أن "عند" تصدق علي الجهات الست، فلما بعد عن المختص الذي بابه أن يستعمل اسماً أكثر من بعد الجهات الست عنه لم تستعمل اسماً.

-[ص: و"لدن" لأول غاية زمان أو مكان، وقلما تعدم "من". وقد يقال لدن ولدن ولدن ولدن ولد ولد ولد. وإعراب اللغة الأولى لغة قيسية. وتجبر المنقوصة مضافة إلى مضمر. ويجر ما يليها بالإضافة لفظًا إن كان مفردًا، وتقديرًا إن كان جملة. وإن كان "غدوة" نصب أيضًا، وقد يرفع. وليست "لدي" بمعناها، بل بمعنى "عند" على الأصح. وتعامل ألفها معاملة ألف "إلى" و"على"، فتسلم مع الظاهر، وتقلب ياًء مع المضمر غالبًا.]- ش: "لدن" مبنية لشبهها بالحرف في لزومها استعمالًا واحدًا، وهو كونها مبدأ غاية، وامتناع الإخبار بها وعنها، فلا يبني عليها المبتدأ، بخلاف عند ولدي، فإنهما لا يلزمان استعمالًا واحدًا، بل يكونان لابتداء الغاية وغيرها، ويبنى عليهما المبتدأ، قال تعالى {وعِندَهُ مَفَاتِحُ الغَيْبِ}، وقال {ولَدَيْنَا كِتَابٌ يَنطِقُ بِالْحَقِّ}، {ولَدَيْنَا مَزِيدٌ}. وقوله لأول غاية زمان مثاله: لدن غدوة، وما رأيته من لدن ظهر الخميس. وقوله أو مكان مثله {آتَيْنَاكَ مِن لَّدُنَّا}، أي: من جهتنا ونحونا. وفي البسيط: هي بمعنى عند، لكنها أشد منها إبهامًا، يدل على ذلك أنها لا تقع جوابًا عن أين كما تقع فيه عند، ولذلك بنيت، بخلاف عند. وقيل: إن عند تكون لما هو حاصل أو في تقدير الحاصل، فتقول: هذا عندي، وإن لم يكن حاصلًا، ولا كذلك / [4: 6/ ب] لدنك، إنما هي للحاصل المتصل.

وقوله وقلما تعدم من أكثر مجيئها بمن، كقوله {وهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ}، {فَهَبْ لِي مِن لَّدُنكَ}. ومجيئها بغير من نحو قولهم: لدن غدوة، وما رأيته لدن شب. وقوله وإعراب اللغة الأولى لغة قيسية اللغة الأولى هي لدن، أعربتها قيس تشبيهًا بعند، وبلغتهم قرأ أبو بكر عن عاصم {لِّيُنذِرَ بَاسًا شَدِيدًا مِّن لَّدُنْهُ}، جر النون، وسكن الدال، وأشمها الضم، والأصل من لدنه بضم الدال. وحكي أبو حاتم {مِّن لَّدُنْهُ} بضم الدال وكسر النون. وتقول في النصب: لدنه، ولدنه، بضم الدال، وسكونها مشمة الضمة. وأما قول الراجز: تنتهض الرعدة في ظهيري من لدن الظهر إلى العصير فيجوز أن يكون كسر النون إعرابًا على هذه اللغة، ويجوز أن تكون مبنية على السكون، وكسر النون لالتقاء الساكنين. قال المصنف في الشرح: "ووفيها على غير اللغة القيسية تسع لغات: سكون النون مع ضم الدال أو فتحها أو كسرها، وكسر النون مع سكون الدال وفتح اللام أو ضمها، وفتح النون مع سكون الدال وضم اللام، وحذف النون مع سكون الدال وفتح اللام أو ضمها، وحذف النون مع ضم الدال وفتح اللام" انتهى.

ووجدت في طرة نسختي من هذا الكتاب - أعني أصلي الذي بخطي من كتاب تسهيل الفوائد مخرجًا- "وولت"، بلام مفتوحة وتاء مكسورة، وينبغي أن يكشف هذه اللفظة. وقوله وتجبر المنقوصة مضافةً إلى مضمر قال س: "أما لد فهي لدن محذوفة، كما حذفوا يكن؛ ألا ترى أنك إذا أضفته إلى مضمر رددته على أصله، تقول: من لدنه، ومن لدني" انتهى. ولا يجوز: من لدك، ولا من لده. وقوله ويجر ما يليها بالإضافة لفظًا إن كان مفردًا، وتقديرًا إن كان جملة جازت إضافتها إلى الجمل، وكان القياس ألا تضاف إلى الجمل؛ لأنها ظرف غالبه للمكان، ولا يضاف إلى الجمل من ظروف المكان إلا "حيث" و"لدن". وتضاف إلى الجملة الاسمية، نحو قوله: وتذكر نعماه لدن أنت يافع إلى أنت ذو فودين أبيض كالنسر وإلى الفعلية، قال: لزمنا لدن سالمتمونا وفاقكم فلا يك منكم للخلاف جنوح وقال: صريع غواٍن، راقهن، ورقنه لدن شب حتى شاب سود الذوائب

فأما قول الآخر: [4: 7/ أ] /وليت، فلم تقطع لدن أن وليتنا قرابة ذي قربى ولا حق مسلم فخرج على زيادة "أن" وإضافة "لدن" إلى الجملة الفعلية، وعلى جعل "أن" مصدرية، أي: لدن ولايتك إيانا. وقال ابن الدهان: ولا يضاف من ظروف المكان إلى الجمل إلا حيث وحدها، وقيل: لدن أيضًا. وليس كذلك، فأما قول الشاعر: وأن لكيزًا لم يكن رب عكةٍ لدن صرحت حجاجهم، فتفرقوا فـ "أن" مراده مع "صرحت" بدليل ظهورها معها في قوله: أراني لدن أن غاب رهطي ... ............... فأضافه إلى المفرد. وقوله وإن كان غدوة نصب أيضًا أي: وإن كان المفرد لفظ غدوة فيجوز الجر على الأصل، والنصب، قال الأخطل:

لدن غدوة، حتى إذا ما تغيظت هواجر من شعبان حاٍم أصيلها وقال آخر: ومازال مهري مزجر الكلب منهم لدن غدوةً حتى دنت لغروب وقد تزاد "ما" بين "لدن" و"غدوة" المنصوبة، قال الشاعر: وقفت بها القلوص، وقلت: عوجا فعاج الركب من قلٍص عجال لدن ما غدوةً حتى اكتسينا لمثنى الليل أثناء الظلال وقال يونس في كتاب "النوادر" له: "بعضهم ينصب ما بعد لدن، فيقول: لدن غدوةً، وبعضهم ينصب مع حذف النون، فيقول: لد غدوةً". ولا يعني يونس أنه ينتصب بعد لدن كل اسم، إنما المحفوظ نصب غدوة فقط، قال س: "لا ينصب لدن غير عدوة، فلا تقول: لدن بكرةً؛ لأنه لم يكثر في كلامهم" انتهى. وأما قوله: من لد شولًا فإلى إتلائها فهو على إضمار كان الناقصة، وتقدم الكلام على ذلك في باب كان.

وقال ابن خروف: الإضافة في لدن غدوة أكثر. وقد وجهوا نصب غدوةً بلدن بأنها شبهت نونها - وإن كانت من بنية الكلمة- بالتنوين؛ إذ صارت هذه النون تثبت تارةً وتحذف أخرى، فأشبهت ضاربًا، فكما قالوا ضارب زيدًا قالوا لدن غدوةً. وأجاز بعضهم انتصاب غدوةً على إضمار كان مضمرًا فيها اسمها، كما قال س في: "من لد شولًا"، أي: من لد كانت شولًا. وأجاز بعضهم انتصاب غدوةً بعد لدن على التمييز. وهو إعراب يعسر تعقله. وإذا انتصبت غدوة بعد لدن فالمحفوظ أنها منونة وإن كان حقها أن تمتنع من الصرف؛ وإنما / [4: 7/ ب] صرفوها لأنهم لما عزموا على إخراجها عن النظائر في حالها غيروها في ذاتها بالصرف. وأيضًا لو لم يصرفوها لفتحوا، فلم يعلم أمنصوبة هي أم مجرورة؛ لأنها لا تنصرف، فلما عزموا على نصبها وإخراجها لكثرة الاستعمال عن حال نظائرها صرفوها ليكون ظهور التنوين مع الحركة يحقق قصدهم. فإن قلت: فمن رفع، فقال: غدوة، وجر، فقال: غدوة، ما الذي دعاه إلى الصرف، ولا إشكال فيه كما في النصب؟ فالجواب: أنهم لما أوجبوا صرفها منصوبة - وهو الأكثر من أحوالها - حملوا الجر عليه لأنه أخوه، فصار لها تنوين في الحالين، فحملوا الرفع عليهما، والرفع هنا

دخيل على النصب، فلما كان فرعًا في هذا الموضع حمل على النصب في التنوين. انتهى ملخصًا من كلام ابن جني. وإذا عطفت على غدوةً المنصوبة بعد لدن، فقلت: لدن غدوةً وعشية - فقد أجاز أبو الحسن الجر في المعطوف والنصب: أما الجر قيل: فلان غدوة وإن لم يجر لفظًا فهو في موضع جر. وأما النصب فلأنه معطوف على منصوب، قال المصنف في شرح الشافية الكافية له: "والنصب في المعطوف بعيد عن القياس" انتهى. وهذه المسألة مما زادته "الشافية الكافية" على "تسهيل الفوائد". والذي أختاره أنه لا يجوز في المعطوف إلا النصب، ولا يجوز الجر لأن غدوةً عند من نصبه ليس في موضع جر، فليس من باب العطف على الموضع، وهو نصب صحيح، فإذا عطف عطف عليه، ولاسيما على مذهب من جعل غدوةً منصوبًا بكان مضمرة، فلا يتخيل فيه إذ ذاك جر البتة. فإن قلت: يلزم من ذلك أن تكون لدن قد انتصب بعدها ظرف غير غدوة، ولم يحفظ نصب بعدها إلا في غدوة. فالجواب: أنه يجوز في الثواني ما لا يجوز في الأوائل؛ ألا ترى أنك تقول: رب رجل وأخيه يقولان ذلك، وكل شاةٍ وسخلتها بدرهم، و:

أي فتى هيجاء أنت وجارها .............. ولا تقول: رب أخيه، ولا: كل سلختها، ولا: أي جارها، فكذلك هذه المسألة، لو باشرت المعطوف لدن لم يكن فيه إلا الجر، فلما كان معطوفًا جاز فيه النصب لأنه معطوف على معرب صحيح الإعراب، ولا موضع له، أعني غدوةً. وقوله وقد يرفع حكي الكوفيون رفع غدوة، وتأويله على تقدير كان، أي: لدن كانت غدوة، كذا قال بعضهم. والظاهر من كلام ابن جني أنه مرفوع بلدن، قال ابن جني: "وقد شبهه بعضهم بالفاعل، فرفع، فقال: لدن غدوة، كما تقول في اسم الفاعل: ضارب زيد، والقياس الجر بها لأنها ظرف، وقد أجراها بعضهم على القياس". وقوله / [4: 8/ أ] وليست "لدي" بمعناها بل بمعنى "عند" على الأصح صرح س بأن لدى بمعنى عند، وقد تقدم مخالفتها لـ "لدن" في كونها يخبر بها كـ "عند". وقوله وتعامل ألفها إلى آخره قال تعالى {إذِ القُلُوبُ لَدَى الحَنَاجِرِ}، وقال {ولَدَيْنَا مَزِيدٌ}، كما تقول: علينا وإلينا. وبعض العرب لا يقلب مع المضمر، بل يقر الألف معه كما يقرها مع المظهر، وكذلك إلى وعلى، قال الشاعر:

إلا كم - يا خناعة - لا إلانا عزا الناس الضراعة والهوانا فلو برئت عقولكم بصرتم بأن دواء دائكم لدانا ودلكم إذا واثقتمونا على نصر اعتمادكم علانا -[ص: و"مع" للصحبة اللائقة بالمذكور، وتسكينها قبل حركةٍ وكسرها قبل سكون لغة ربعية، واسميتها حينئذ باقية على الأصح. وتفرد، فتساوي "جميعًا" معنًى، و"فتًى" لفظًا لا يدًا وفاقًا ليونس والأخفش، وغير حاليتها حينئٍذ قليل.]- ش: قال المصنف في الشرح: "ومن الظروف العادمة التصرف (مع)، وهو اسم لمكان الاصطحاب أو وقته على حسب ما يليق بالمصاحب. ويدل على اسميته دخول من عليه في قولهم: ذهب من معه، حكاه س، ومنه قراءة بعض القراء {هَذَا ذِكْرُ مَن مَّعِيَ وذِكْرُ مَن قَبْلِي}. وكان حقه أن يبنى لشبهه بالحروف في الجمود المحض والوضع الناقص؛ إذ هو على حرفين بلا ثالث محقق العود، والمراد بالجمود المحض ما لزمه وجه واحد من الاستعمال، إلا أنه أعرب في أكثر اللغات لمشابهته عند في وقوعه خبرًا وصفة وحالًا وصلة ودالًا على حضور وعلى قرب، فالحضور كـ {ونَجِّنِي ومَن مَّعِيَ}، والقرب كـ {إنَّ مَعَ العُسْرِ يُسْرًا}، وكقول الراجز: إن مع اليوم أخاه غدوا"

وقوله وتسكينها قبل حركة مثاله: زيد مع عمرٍو، وكسرها قبل سكون مثاله: زيد مع القوم، ومع ابنك لغة ربعية، روى ذلك الكسائي عن ربيعة، قاله المصنف. وفي المحكم: "ربيعة وغنم يسكنون مع قبل حركة"، ولم يحفظ س أن السكون لغة، فزعم أن السكون لا يكون إلا في الاضطرار، نحو قول الشاعر: ريشي منكم، وهواي معكم وإن كانت زيارتكم لماما وحركة مع حركة إعراب، ولذلك تأثرت بالعامل في: من معه، ومن سكن بني، وهو القياس. وقوله واسميتها حينئذ باقية على الأصح أي: حين تسكن؛ لأن / [4: 8/ ب] معناها معربًة ومبنية واحد. وزعم أبو جعفر النحاس أن الإجماع منعقد على حرفيتها إذا كانت ساكنة. وليس ذلك بصحيح، بل الأصح كونها اسمًا إذ ذاك، وكلام س مشعر بذلك، وأن الشاعر إنما يسكنها اضطرارًا. وقوله وتفرد، فتساوي "جميعًا" معنًى أي: تفرد عن الإضافة، وتفوق بذلك عند لأنه تمكن ما، وعند لا تفرد. وأما مساواتها "جميعًا" معنًى فليس بصحيح.

وهذه المسألة جرت بين أحمد بن يحيى وأحمد بن قادم، وهما من شيوخ الكوفيين، سأل أحمد بن يحيى عنها ابن قادم، قال: فلم يزل يركض فيها إلى الليل، وفرق أحمد بن يحيى بأن جميعًا يكون للقيام في وقتين، وفي وقت واحد، إذا قلت قام زيد وبكر جميعًا احتمل الوجهين، و"معًا" لا يكون إلا في وقت واحد إذا قلت: قام زيد وبكر معًا. وقوله و"فتًى" لفظًا لا "ريدًا" وفاقًا ليونس والأخفش اختلف في فتحة معًا: فذهب الخليل وس إلى أنها فتحة إعراب كفتحتها حالة الإضافة، والكلمة ثنائية اللفظ حالة الإفراد وحالة الإضافة، فهي كالفتحة في: رأيت زيدًا. وذهب يونس والأخفش إلى أن الفتحة فيها كفتحة تاء فتًى، وأنها حين أفردت رد إليها المحذوف - وهو لام الكلمة- فصار مقصورًا، قال المصنف في الشرح: "وهو الصحيح"، يعني مذهب يونس والأخفش، قال: "لقولهم: الزيدان معًا، والعمرون معًا، فيوقعون معًا في موضع رفع كما توقع الأسماء المقصورة، نحو: هو فتًى، وهم عدًا، ولو كان باقيًا على النقص لقيل: الزيدان مع، والعمرون مع، كما يقال: هم يد واحدة، وهم جميع" انتهى. والصحيح ما ذهب إليه س والخليل؛ لأن الأصل أن المحذوف الآخر لا يرد لا في حالة الإفراد ولا في حالة الإضافة، وذلك نحو يد ودم وحر، وقد رد بعضها في حالة الإضافة، نحو أب وأخ، وأما أن يرد حالة الإفراد ولا يرد في الإضافة فلا يوجد له نظير سوى هذا الذي فيه الخلاف، فحمل معًا على ما يوجد له نظير كثير

أولى من حمله على ما لا نظير له. وإتمام معًا عكس أب وأخ؛ لأنه أتم في الإفراد، وحذف في الإضافة، فإذا معًا ليس من باب أب، وإذا لم يكن منه وجب حمله على باب يد ودم، وهذا كان يكون القياس في باب أب، وذلك على الخلاف الذي مر في باب أخ وأب حالة الإضافة، أهي لام الكلمة ردت أم هي إعراب أو إشباع، فلم يرد المحذوف فيصير على هذين القولين من باب يد ودم، ويكون كل ما حذف منه اللام جنسًا واحدًا لا يرد لا في إفراد ولا إضافة. وأما ما ذكره المصنف من أنه كان يلزم إذا وقع خبرًا للمبتدأ أن يرفع، / [4: 9/ أ] فيقال: الزيدون مع - هذا خطأ فاحش؛ لأن "مع" قد تقرر أنها ظرف لا يتصرف، وقد ذكر هو ذلك، فلا يستعمل مبتدأ ولا فاعلًا ولا مفعولًا، وإنما تصرف بدخول "من" عليه على سبيل الندور، ولم يزله ذلك عن عدم التصرف، فقولهم الزيدان معًا هو منصوب على الظرف الواقع خبرًا، كما تقول: الزيدان عندك، وإذا كان ظرفًا لا يتصرف فلا يرفع؛ ألا ترى أنه حالة الإضافة أيضًا لا يرفع إذا قلت: زيد مع بكر. وقوله، وغير حاليتها حينئذ قليل يعني أن الأكثر فيها أن تكون منصوبة على الحال، نحو: جاء زيد وبكر معًا، وجاء الزيدون معًا. وأما استعمالها في موضع رفع خبرًا فقليل، ومن ذلك قول الشاعر: أفيقوا - بني حرٍب- وأهواؤنا معًا وأرحامنا موصولة - لم تقضب

وقول الآخر: حننت إلى ريا، ونفسك باعدت مزارك من ريا، وشعباكما معًا وقول الآخر، وهو حاتم الطائي: أكف يدي عن أن ينال التماسها أكف صحابي حين حاجتنا معًا وأما قول علقمة: فأوردتها ماء، كأن جمامه من الأجن حناء معًا وصبيب فيظهر أنه انتصب على الحال من حناء وصبيب، وتقدم على أحد المتعاطفين ضرورة. ويحتمل أن يكون في موضع رفع على الصفة لهما، وتقدم على أحد المتعاطفين ضرورة. وذهب بعض النحويين إلى أن "معًا" في نحو "وأهواؤنا معًا" في موضع نصب على الحال، والخبر محذوف، وهو العامل في الحال، والتقدير: وأهواؤنا كائنة معًا. وهذا باطل بالإجماع على بطلان نظيره، لو قلت: زيد قائمًا، تريد: كائن - لم يجز.

-[ص: ويتوسع في الظرف المتصرف، فيجعل مفعولًا به مجازًا. ويسوغ حينئٍذ إضماره غير مقرون بـ "في"، والإضافة، والإسناد إليه. ويمنع من هذا التوسع - على الأصح- تعدي الفعل إلى ثلاثة.]- ش: ظاهر كلامه اختصاص الظرف المتصرف بالتوسع فيه بأن يجعل مفعولًا به على طريق المجاز؛ ولا يختص ذلك بهذا الظرف، بل يجوز ذلك في المصدر المتصرف أيضًا، فينصب مفعولًا به على التوسع والمجاز، ولو لم يصح فيه ذلك ما جاز أن يبنى لفعل ما لم يسم فاعله حين قلت: ضرب ضرب شديد؛ لأن بناءه لفعل [4: 9/ ب] /ما لم يسم فاعله فرع عن التوسع فيه بنصبه نصب المفعول به، وتقول: الكرم أكرمته زيدًا، وأنا ضارب الضرب زيدًا. قال في البسيط: "وهذا الاتساع إن كان لفظيًا جاز اجتماعه مع المفعول الأصلي إن كان له مفعول؛ وإن كان معنويًا بأن يوضع بدل المفعول به فإذا قلت ضرب الضرب فكأنك قلت: ضرب الذي وقع به الضرب ضربًا شديدًا، فوضعت بدله مصدره، فلا يكون فيما لا يتعدى - فلا يجتمع مع المفعول الأصلي لأنه كالعوض منه حال التوسع. وقيل: يجوز الجمع بينهما على أن يكون المفعول منصوبًا نصب التشبيه بالمفعول به؛ وإذا كان الاتساع معنى فلا يجمع بين المتسع فيه والمطلق. وقيل: لا يجوز الجمع بين شيئين من نوع واحد وإن اختلفا بالوصف؛ لأنه معنى واحد به أحد الأوصاف، فإذا أخذ مع أحدهما فلا يؤخذ مع غيره. وفيه نظر. وقد جوز س: سير عليه أيما سيٍر سيرًا شديدًا، وقال الشاعر:

فهي تنوش الحوض نوشًا من علا نوشًا، به تقطع أجواز الفلا" انتهى وفيه بعض تلخيص. وفي البسيط أيضًا: "المصادر يتوسع فيها، فتكون مفعولًا، كما يتوسع في الظروف، فتكون إذا جرت أخبارًا بمنزلة الأسماء الجامدة، ولا تجري صفة بهذا الاعتبار، وإن كان بمعنى فاعل جاز، يعني أن يكون صفة". قال: "وإذا توسع فيها فكانت عامة على أصلها لم تثن ولم تجمع رعيًا للمصدر، أو خاصة، نحو: ضرب زيد، وسير البريد - فربما جاز التثنية والجمع" انتهى. والظرف هنا يتناول ظرف الزمان وظرف المكان، وإنما شرط في الظرف التصرف لأن ما لزم الظرفية لا يجوز فيه التوسع؛ لأن التوسع مناف لعدم التصرف؛ إذ يلزم من التوسع فيه كونه يسند إليه، ويضاف إليه، وهذا لا يجوز في عادم التصرف. ويشمل المتصرف ما كان مشتقًا نحو المشتى والمصيف والمضرب، وما ليس مشتقًا نحو اليوم، فيجوز التوسع فيه كما جاز في اليوم. وكذلك المصدر الذي أوله ميم كالمضرب. ولا يمنع التوسع إضافة الظرف إلى الظرف المقطوع عن الإضافة المعوض مما أضيف إليه التنوين، نحو حينئٍذ وساعتئٍذ، فتقول: سير عليه حينئذ. وما ينصب من المصادر انتصاب الظرف، نحو: أتيتك خفوق النجم، ومقدم الحاج - يجوز فيه التوسع. ولا ينتصب انتصاب الظرف إلا المصادر المتمكنة، وأصل "بين" المصدر بأن يبين بينًا إذا افترق، ولما كان الافتراق يقتضي زمانًا وضع موضعه، ويجوز فيه التوسع، ومنه {لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ}.

وأما صفة الظرف، / [4: 10/ أ] نحو: سرت قليلًا - فيضعف فيه التوسع إلا إن وصف، وقد يحسن في بعضها إذا كثر فيها التصرف كقريب، وهو سماع. وقوله فيجعل مفعولًا به مجازًا هذا مذهب البصريين. وفصل الكوفيون، فزعموا أن ما كان العمل في جميعه انتصب على التشبيه بالمفعول به، ولا يجوز انتصابه على الظرف؛ لأن الظرف يلزم عندهم أن يكون العمل في بعضه من جهة أنه ينتصب على تقدير "في"، و"في" للتبعيض عندهم، وإن كان العمل في بعضه جاز أن يكون انتصابه على الظرف، أو على التشبيه بالمفعول به. وقوله ويسوغ حينئٍذ - أي: حين التوسع- إضماره غير مقرون بـ "في" وذلك أن أصل الظرف أن يتعدى إليه الفعل بوساطة في، ولذلك يجوز التصريح بها في كثير من الظروف، لكنه استغنى عن "في" بمعناها في الأسماء الظاهرة، فإذا أضمرت تعدي الفعل إلى الضمير بوساطة "في"؛ لأن الضمير غالبًا يرد الأشياء إلى أصولها؛ ألا ترى قولهم في لد زيد: لدنه، وفي لم تك صديقنا: إن لم تكنه فمن يكونه، وفي قعدت جبنًا: الجبن قعدت له، وفي المال لزيٍد: المال له، فرد النون في لدنه، وفي تكنه، واللام في له، وفتح اللام في له رجوعًا إلى الأصل - لأجل الضمير، فعلى هذا تقول: اليوم سرت فيه، فإذا جاء بمثل "اليوم سرته" علم أنه لم يقصد الظرفية، وإنما جعل مفعولًا به على سبيل التوسع. فمن التوسع في ظرف الزمان قوله: ويوٍم شهدناه سليمًا وعامرًا قليٍل سوى الطعن النهال نوافله وقول الآخر:

يا رب يوٍم لي، لا أظلله أرمض من تحت وأضحى من عله وقول الآخر: في ليلة يحبها الطعام ومن التوسع في ظرف المكان قوله: ومشرٍب، أشربه، رسيل لا آجن الطعم ولا وبيل فالضمير في "شهدناه" عائد على يوم، وفي "لا أظلله" عائد على يوم، وفي "يحبها" عائد على ليلة، وفي "أشربه" عائد على مشرب، وهو مفعل من الشرب، أي: مكان شرب، وكان الأصل: شهدنا فيه، ولا أظلل فيه، ويحب فيها، وأشرب فيه، فاتسع، ونصب الضمير نصب المفعول به مجازًا، ومن تمثيل س: سير عليه فرسخان. قال ابن هشام الخضراوي: الضمائر من الزمان والمكان لا تقع خبرًا للمبتدأ منصوبة كما يقع الظرف في شيء من كلام العرب؛ تقول: يوم الخميس سفري فيه، ولا تقول: / [4: 10/ ب] سفري إياه، ولا: إن سفري إياه، ولا: كان سفري إياه، إلا أن تدخل عليه "في". فدل هذا على أن الضمائر لا تنتصب

ظروفًا؛ لأن كل ما ينتصب ظرفًا يجوز وقوعه خبرًا إذا كان مما يصح عمل الاستقرار فيه، ولم أر أحدًا نبه على] ذلك [هذا التنبيه. وقوله والإضافة تارة يضاف إليه المصدر على طريق الفاعلية، كقوله تعالى {بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ}. وتارة على طريق المفعول به، كقوله تعالى {تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ}، أي: إمضاء أربعة أشهر بتربص. وتارة يضاف إليه الوصف على طريق الفاعلية، كقولهم: يا سارق الليلة أهل الدار وتارة على طريق المفعول به، كقولهم: يا مسروق الليلة أهل الدار، ذكرهما س، وقال: رب ابن عم لسليمى مشمعل طباخ ساعات الكري زاد الكسل وقال: فإن أنت لم تقدر على أن تهينه فدعه إلى اليوم الذي أنت قادره

قال الفارسي: "إذا أضفت إلى شيء منه، فقلت: يا سائر اليوم ويا ضارب اليوم - لم يكن إلا اسمًا، وخرج بالإضافة إليه عن أن يكون ظرفًا؛ لأنها إذا كانت ظروفًا كانت في مراده فيها ومقدرة معها؛ بدلالة ظهورها مع علامة الضمير، فإرادة ذلك فيها تمنع الإضافة إليها؛ ألا ترى أنك إذا حلت بين المضاف والمضاف إليه بحرف جر نحو اللام في غلام لزيٍد لم تصح الإضافة، ومنع منها الحرف". قال ابن هشام الخضراوي: "ولا يظهر عندي؛ لأن كل مضاف سوى باب الحسن الوجه يقدر باللام أو بمن، وعند قوم أن اللام أو من هو الخافض، ولم يمنع ذلك من الإضافة. وقولنا الظرف مقدر بفي معناه تصلح في اللفظ إن كان متمكنًا، لا نعني إضمارها لعدم الخفض، ولا تضمينها لعدم البناء، وإذا لم تضمر ولم تضمن فتقدرها تقدير معنى، كتقدير لام الملك في: غلام زيد، ومن التبيين في: ثوب خز، فكذا تقول هنا في الوعاء، ولا تمنع الإضافة كما لم يمنعها تقدير لام الملك. والذي أراد س أن الأول يخفض الثاني بالنيابة عن حرف الجر، فصار بمنزلته، وقام الدليل عند س على أن حرف الجر يخرج الظرف عن ظرفيته بدليل سين وسط، سكنوه متى جعلوه ظرفًا، وفتحوه غير ظرف، فإذا قالوا "في وسط" فكلهم يفتحها، ولا يسكنها أحد، وهذا وجدته لابن طاهر، وهو كلام صحيح، ولو قال الفارسي: الظرف إذا عمل فيه الفعل صح دخول الجر عليه، فإذا دخل لم يصح دخول آخر، وكذا إذا / [4: 11/ أ] أضيف إليه لم يصح دخول حرف الجر، ومعنى الظرفية مصاحب لجواز دخول الحرف أو تقدير دخوله - كان صحيحًا" انتهى.

وقال ابن عصفور: "هذا الذي استدل به - يعني الفارسي- هو الذي عول عليه أكثر النحويين، وهو عندي ضعيف؛ لأن العرب تفصل بين المضاف والمضاف إليه بحرف الجر ملفوظًا به في باب لا، نحو قولك: لا أبا لك، وفي باب النداء، نحو قوله: ................. يا بؤس للجهل ضرارًا لأقوام وإذا لم يعتدوا به فاصلًا وهو ملفوظ به فالأحرى ألا يعتدوا به فاصلًا وهو مقدر، وليس ما ذكروه من أن المقدر بمنزلة الملفوظ به صحيحًا؛ إذ لو كان كذلك لم يصل الفعل إلى نصب الظرف كما لا يصل إليه مع التلفظ بـ "في"، بل لقائل أن يقول: كما لم يعتدوا بـ "في" المقدرة، ولذلك نصبوا، كذلك ينبغي ألا يعتدوا بها إذا أضافوا، وإلى ذلك ذهب أبو موسى الجزولي، فإنه أجاز الإضافة مع بقاء الظرفية. فإن قال قائل: إنما جاز الفصل باللام لأنها مؤكدة لمعنى الإضافة من حيث كانت على معنى اللام، ولذلك لم يجز الفصل بغيرها من حروف الجر التي لا يوافق معناها معنى الإضافة، فأما قوله: وقد علمت أن لا أخا بعشوزن ولا جار إذ أرهقتها بالحوافر فالأخ ليس بمضاف، وإنما جاء به على لغة من يقول أخا كعصا، والظرف على تقدير في، ومعنى في غير موافق لمعنى الإضافة، فلذلك لم تجز الإضافة إلى الظرف.

فالجواب: أن الإضافة إلى الظرف من قبيل إضافة التخفيف، وليست على معنى اللام فيناقض معناها معنى في، وإنما المخفوض منصوب في التقدير. والدليل على أن الإضافة للتخفيف أن المضاف لا يتعرف بها وإن كان الذي أضيف إليه معرفة؛ ألا ترى أن طباخاً لم يتعرف بإضافته إلى ساعات الكرى، ولذلك أجري على النكرة. والصحيح عندي أنه لا يضاف إليه إلا بعد الأتساع فيه كما ذهب إليه أبو علي، لكن العلة فيه غير ما ذكره، وهو أن الظرف إذا دخل عليه الخافض خرج عن الظرفية؛ ألا ترى أن وسطاً إذا دخل عليها الخافض صارت اسماً بدليل التزامهم فتح سينها، و «وسط» المفتوحة السين لا تكون إلا اسماً. والسبب في خروج الظروف بالخفض عن الظرفية إلى الاسمية ما ذكره أبو الحسن في كتابه الكبير من أنهم جعلوا الظرف بمنزلة الحرف الذي ليس باسم ولا فعل؛ لشبهه به من حيث كان أكثر الظروف أخرج منها الإعراب، وأكثرها أيضاً لا يثنى ولا يجمع ولا يوصف، قال: فلما كانت كذلك كرهوا أن يدخلوا فيها ما يدخلون في الأسماء. وقوله والإسناد إليه قال المصنف في الشرح: «من ضروب المجاز التوسع بإقامة الظرف/ [4: 11/ب] المتصرف مقام فاعل الحدث الواقع فيه، ومقام المفعول الموقع به الحدث، فالأول كقوله تعالى {اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ}، وقوله {إنَّا نَخَافُ مِن رَّبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا}، وكقول الشاعر:

أقول للحيان، وقد صفرت لهم وطابي، ويومي ضيق الجحر معور والثاني كقولهم: ولد له ستون عاماً، وصيد عليه الليل والنهار، وكقول الشاعر: أما النهار ففي قيد وسلسلة والليل في جوف منحوث من الساج يعني نفسه، وكان مأسوراً، فأخبر أن نهاره مقيد، وليله مسجون، مبالغة ومجازاً» انتهى. وقد يتوسع فيه بأن يرتفع خبراً، نحو: الضرب اليوم. وزاد بعض الشيوخ وجهاً آخر مما يخالف فيه الظرف الظرف المتوسع فيه، وهو أن الظرف لا يؤكد، ولا يبدل؛ لأن الظرف زيادة في الكلام غير معتمد عليها، بخلاف المفعول. قال صاحب البسيط: «وفي هذا نظر» انتهى. وظاهر كلام المصنف أن كل ظرف يجوز فيه التوسع، فيجوز فيه ما ذكر من الأحكام. وفي البسيط: ليس هذا التوسع مطرداً في كل ما يكون ظرفاً من الأمكنة كما كان في الزمان؛ بل المتوسع فيه من الأمكنة سماع، وغير المتوسع فيه من الأزمنة سماع، يقال في المكان: نحي نحوك، وقصد قصدك، وأقبل قبلك، رفعوا، فدل على نصب التوسع، ولا يجوز في خلف وأخواتها، فتقول: ضربت خلفك، فتجعله مضروباً، وكذلك لا يتوسع فيها فتجعلها فاعلاً كما في ظرف الزمان، فتوسع الفاعل والمفعول غير مطرد في المكان، وإنما كان ذلك لأن ظروف الزمان

أشد تمكناً منها في هذا، وقد نبه عليه س. ولا يقال: ظروف المكان هي أشد تمكناً لقربها من الأشخاص؛ لأنا نقول: ظرف المكان أشد تمكناً من الزمان من وجه، وهو قربها من الأناسي، وهو الموجب لأن يتعدى الفعل لها بالوساطة إلا ما أبه الزمان منها، وظرف الزمان أشد منه تمكناً في الانتصاب بعد الفعل، والتوسع معلول به، فلذلك لم يكن هذا التوسع في المكان، وإنما كان معلولاً لقوة فهم المعنى والدلالة. وأما التوسع في الرفع بأنه خبر الابتداء فجائز في كلها إلا ما لزم الظرفية كدونك، وهو في هذا كظرف الزمان، وهو مذهب البصريين. وذهب الكوفيون والجرمي إلى أنه لا يجوز كما في الأول إلا في ضرورة من قافية، كقوله ......................... ............... خلفها وأمامها وقوله ويمنع من هذا التوسع على الأصح تعدي الفعل إلى ثلاثة [4: 12/أ] / هذه المسألة فيها ثلاثة مذاهب: أحدها: جواز ذلك، وهو مذهب الأخف، وهو ظاهر كلام س، وعزاه ابن خروف إلى س، قال ابن خروف: «وإنما قاسه س، ولم يقس النقل- يعني في باب أعلم- لأن النقل فيه نصب الفاعل، ولا ينصب الفاعل إلا تشبيهاً بما ثبت أصله في الكلام، كما نصب الفاعل في: حسنٍ الوجه، تشبيهاً بضارب زيداً. ونصب الظرف على الأتساع ليس فيه تغييره عما كان عليه، وجميعه مجاز في متعد لواحد

أو أكثر، والنقل كله حقيقة، فاقتصر فيه على السماع، بخلاف نصب الظرف على الأتساع، فإنه مجاز، ولا معنى لمراعاة التعدي وغير التعدي فيه» انتهى. قال س في «باب الفاعل الذي يتعداه فعله إلى ثلاثة مفعولين» ما نص: «واعلم أن هذه الأفعال إذا انتهت إلى ما ذكرت لك من المفعولين، فلم يكن بعد ذلك متعدى- تعدت إلى جميع ما يتعدى إليه الفعل الذي لا يتعدى الفاعل، وذلك قولك: أعطى عبد الله زيداً المال إعطاء جميلاً، وسرقت عبد الله الثوب الليلة، لا تجعله ظرفاً، ولكن كما تقول: يا سارق الليلة زيداً الثوب، لم تجعلها ظرفاً» انتهى. يريد س أنها- وإن وصلت إلى غاية التعدي- فلا يمنعها ذلك من أن تتعدى اتساعاً لما تعدى إليه اللازم والمتعدي لواحد ولاثنين في الاتساع من نصب الظرف والمصدر نصب المفعولية؛ وهذا مذهب الجمهور. المذهب الثاني: جواز ذلك في اللازم، وفي المتعدي إلى واحد، وفي المتعدي إلى اثنين، ولا يجوز في المتعدي إلى ثلاثة؛ وذلك أن الأتساع مع الفعل اللازم له ما يشبه به، وهو المتعدي إلى واحد، والأتساع مع المتعدي إلى واحد له ما يشبه به، وهو المتعدي إلى [اثنين، والأتساع مع المتعدي إلى اثنين له ما يشبه به، وهو المتعدي إلى] ثلاثة، وأما ما يتعدى إلى ثلاثة فليس له ما يشبه به؛ إذ ليس لنا فعل يتعدى إلى أربعة. وقال ابن عصفور: «ذا قول أكثر النحاة» انتهى. ونسب بعضهم إلى المبرد، وهذا هو اختيار المصنف، قال في الشرح: «جواز تعدي ذي ثلاثة إلى ظرف على أنه مفعول به يستلزم مشبهاً دون مشبَّه به؛

لأنه إذا فعل ذلك بما له مفعول واحد أو مفعولان لم يعدم أصلاً يحمل عليه، بخلاف نصبه بما له ثلاثة، فإنه يلزم منه فرع لا أصل له، ومشبه دون مشبه به، فوجب منعه، ولأن جواز ذلك في غير باب أعلم مرتب على ما سمع من إقامة الظرف مقام فاعل الحدث الواقع فيه، ومقام ما يوقع به في إخبار عنه وإضافته إليه، ولم يسمع من ذلك شيء في باب أعلم- فلا يحكم فيه بجواز ذلك المجاز لعدم سماع ما يترتب عليه» / [4: 12/ب] انتهى. وما ذكره المصنف وغيره من أن على جواز الأتساع ي التشبيه ليس بصحيح؛ وإنما جوز س ذلك من وجه آخر، وذلك أن تعدي الفعل إلى الظرف اتساعاً غير معتد به، ولا يراعي مراعاة تعديه إلى المفعول به غير المتسع فيه. ويدللك على ذلك تعدي ما لا يتعدى إليه، فلولا أنه لا يعتد به لم يجز في قام ونحوه مما لا يقتضي مفعولاً به، فلما كان كذلك صح الأتساع في الظرف فيما يتعدى إلى ثلاثة، ولم يلتفت س إلى ما يكون نظيراً في كلام العرب أصح أم لا؛ لأنه لا يلزم ذلك، ولا يعتد بهذا التعدي، فكأنه لم يجعل الظرف مفعولاً به، ولم يتوسع فيه؛ إذ ذاك مجاز لا حقيقة، ولولا ذلك لم يجز في قام ونحوه؛ لأن ذلك ممتنع في الحقيقة، وإنما جاز لضرب من المجاز. وأما قوله «لم يسمع من ذلك شيء في باب أعلم، فلا يحكم فيه بجواز ذلك المجاز لعدم سماع ما يترتب عليه» فهذا أمر لازم له فيما يتعدى إلى اثنين، وقد جوز والتوسع فيما يتعدى إلى اثنين، ولم يسمع من ذلك شيء فيما يتعدى إلى اثنين، فينبغي على ما قرر ألا يجوز ذلك، وقد جوز هو الأتساع فيما يتعدى إلى اثنين، فناقض.

المذهب الثالث: أنه لا يجوز الأتساع مع ما يتعدى إلى ثلاثة، ولا مع ما يتعدى إلى اثنين؛ لأنه ليس له أصل يشبه به؛ لأنه لا يوجد ما يتعدى إلى ثلاثة بحق الأصل؛ ألا ترى أن أعلم وأرى منقولان من علم ورأى، وما عداهما مما يتعدى إلى ثلاثة محمول عليهما ومضمن معنييهما، فإذا كان ما يتعدى إلى ثلاثة فرعاً كله فلا يحمل عليه غيره؛ لأن الحمل لابد أن يكون على الأصول لا على الفروع. قال ابن عصفور: «وهذا هو الصحيح قياساً وسماعاً: أما القياس فلأنه لما كان الظرف المتسع فيه مشبهاً بالمفعول به؛ بدليل وصول الفعل إلى ضميره بنفسه- وجب أن يكون العامل مشبهاً بالعامل في المفعول به. وأما السماع فلأنه قد سمع الأتساع فيما لا يتعدى، نحو: يوم الجمعة ضمته، وفيما يتعدى إلى واحد، نحو قوله: ويوماً شهدناه سليماً وعامراً ........................ ولا يحفظ فيما عدا ذلك» انتهى. وقد ذكرنا أن س لم يجز الأتساع من جهة التشبيه، فلا يلزم ما ذكر ابن عصفور. وأما السماع فهو كما ذكر، ولا يمتنع القياس؛ إذ الجامع كون الأتساع فيه إنما هو على سبيل المجاز لا على سبيل الحقيقة، وهذا شيء يشترك فيه المتعدي إلى ثلاثة وإلى اثنين مع المتعدي لواحد ومع اللازم. ولم يبين المصنف العامل الذي يتوسع في الظرف معه، والظرف تارة يعمل فيه الفعل أو ما جرى مجراه من الأسماء، وتارة يعمل في الحرف أو الاسم الجامد بما فيه من معنى الفعل، وذلك قليل، فإذا عمل/ [4: 13/أ] فيه الحرف أو الاسم الجامد

بما فيه من معنى الفعل فلا يتوسع فيه مع شيء منهما؛ لأن الظرف المتوسع فيه مشبه بالمفعول به، والعامل في المفعول به لا يكون رفاً ولا اسماً جامداً، فلا يعملان في المشبه به، وهو الظرف المتوسع فيه. فرع: هل يتوسع في الظرف مع كان وأخواتها؟ هو مبني على الخلاف في كان أتعمل في الظرف أم لا، فإن قلنا لا تعمل فلا يتوسع، وإن قلنا يجوز لها أن تعمل فيه فالذي يقتضيه النظر أنه لا يجوز التوسع في الظرف معها. وإنما قلنا ذلك لأنه يكثر المجاز فيها؛ لأنها إنما رفعت المبتدأ ونصبت الخبر تشبيهاً لها بالفعل المتعدي إلى واحد، فعملها بالتشبيه هو مجاز، فإذا نصبت الظرف على طريق الأتساع فهو مجاز أيضاً، فيكثر المجاز، فيمنع منه. ونظير ذلك قولهم: دخلت في الأمر، لا يجوز حذف «في» لأن هذا الدخول مجاز، ووصول دخل إلى الظرف بغير وساطة «في» مجاز، فلم يجمع عليها مجازان. وقال ابن عصفور: وأما كان وأخواتها فإنه يجوز معها، الأتساع في الظرف لأنها على كل حال فعل، والفعل قد يعمل في المفعول به. فرع: إذا جوزنا التوسع مطلقاً أو خاصاً فهل يجوز في كل فعل أن يتوسع فيه في أكثر من واحد؟ فإذا توسعنا معه في الظرف فهل يتوسع في المصدر؟ إن قلنا إنه توسع في اللفظ فلا يبعد، وإن قلنا إنه في المعنى فيبعد؛ لأنه لا يوضع شيئان بدل شيء واحد، بل إن توسعت في الظرف فلا تتوسع في غيره. فرع: إذا توسع في واحد فلا يتوسع فيه نفسه مرة أخرى، مثال ذلك أن تتوسع فتضيف إليه مثلاً، ثم تنصبه نفسه نصب المفعول توسعاً. ومن النحويين من ذهب إلى أنه لا يتوسع في شيء من الأفعال إلا إذا حذف المفعول الصريح إن كان التوسع في المعنى؛ وإن كان توسعاً في اللفظ فحينئذ يجوز

مطلقاً. وسببه أن التوسع في المعنى يجعل المتوسع فيه واقعاً به المعنى، ولا يكون معنى واحد في محلين من غير عطف ولا ما يجري مجراه. ورد بقولهم: يا سارق الليلة أهل الدار فذكر المفعول. وأجيب بأنه توسع في اللفظ. مسألة: لا خلاف أن الأتساع على وجهين: أحدهما: أن يكون على حذف المضاف، فإذا قلت: صيد عليه يومين، فأردت: وحش يومين- جاز بلا خلاف. والآخر: أن تجعل اليومين مصيدين مجازاً. وهذا مذهب س والجمهور. وزعم ابن كيسان أن هذا الأتساع لأمر يلطف إدراكه، وهو أن القائل: يوم الجمعة صمته- فإنما اتسعت على أنك اعتمدته بالصوم، ولم تصم غيره، ولو قلت صمت فيه احتمل أن تكون صمت فيه وفي غيره، فالأتساع على معنى/ [4: 13/ب] اختصاصه بالفعل، ودخل الفعل معنى اعتمدته بكذا، فانتصب على معنى اعتمدت. قال: والدليل على ذلك أنهم لا يفعلون ذلك إلا في الظرف

المختص، ولو قلت صمت الدهر لم يجز أن ينتصب على السعة. وزعم أنك لا تقول: الدر صمته؛ لأنه لا يمكن الاعتماد في هذا، وأثار هذا الاختلاف. أما إذا قلت «يوم الجمعة صمته» فمعناه على قول الأكثرين أن الصوم وقع بهذا اليوم؛ وعلى مذهب ابن كيسان لم يصم سواه. ومذهبه في الأتساع في ظرف المكان كمذهبه في ظرف الزمان. ويستدل بأنه لا يجوز ذلك إلا في المختص لا في المبهم، فإذا قلت سير عليه فرسخان فالمعنى: لم يسر عليه إلا هذين لا غيرهما، ولا يجوز: سير عليه مكان. والمصدر إذا اتسع فيه، فانتصب نصب الظرف، نحو: سير عليه خفوق النجم- فإما على إرادة: زمن خفوق النجم، وإما على جعل الخفوق حيناً. ولا يكون ذلك في ظرف المكان، لو قلت: سير عليه ضرب زيدٍ، تريد: مكان ضر بزيدٍ- لم يجز؛ لأن ظرف المكان يقع فيه قليلاً وكثيراً، والزمان قدر للفعل، إن قليلاً فقليل، وإن كثيراً فكثير، فاستسهل فيه ذلك، فصار يعبر بالمصدر عنه مطلقاً غير مقتصر بذلك على مصدر دون مصدر، وينبغي أن يرتكب في ذلك أنه على حذف المضاف لإطراده في جميع العربية. وزعم ابن كيسان أن الأتساع على الطريق الآخر، ويسهله ما ذكرناه من كونه مقداراً للزمان، ومعبراً عنه به. وينبغي أن [يكون] في «ولد له ستون عاماً» أقوى؛ إذ ليس فيه إلا تجوز واحد، وهنا قد تجوزت قبل السعة بأنه جعلت المصدر حيناً، فينبغي أن يكون الأتساع أبعد. والأتساع عندنا على طريق الحذف، وعند ابن كيسان على أن يكون المصدر مفعولاً.

باب المفعول معه

-[ص: باب المفعول معه وهو الاسم التالي واواً تجله بنفسها في المعنى كمجرور مع، وفي اللفظ كمنصوب معدي بالهمزة. وانتصابه بما عمل في السابق من فعلٍ أو عامل عمله، لا بمضمر بعد الواو، خلافاً للزجاج، ولا بها، خلافاً للجرجاني، ولا بالخلاف خلافاً للكوفيين. وقد تقع هذه الواو قبل ما لا يصلح عطفه، خلافاً لأبن جني. ولا يقدم المفعول معه على عامل المصاحب باتفاق، ولا عليه، خلافاً لابن جني.]- ش: قوله التالي واواً جنس يشمل واو العطف في نحو: مزجت عسلاً وماءً. وقال المصنف: «قلت في حده التالي واواً ليخرج التالي غير الواو مما يطلق عليه في اللغة مفعول معهن كالمجرور بمع وبباء المصاحبة، نحو: بعت الفرس بلجامه، وجلست مع زيد، فإن/ [4: 14/أ] عرف النحاة يقصر المفعول معه على المبوب له هنا» انتهى ملفقاً معناه من كلام المصنف. وجرى في ذلك على عادته كابن عصفور من ذكر الجنس أولاً، وأنه يحترز به من كذا، وقد تكلمنا معهما في أوائل هذا الشرح على أن الجنس لا يورد للاحتراز. وقوله تجعله بنفسها في المعنى كمجرور مع إلى بالهمزة هذا فصل يخرج به المعطوف بعد ما تفهم منه المصاحبة، نحو: أشركت زيداً وعمراً، ومزجت عسلاً وماءً، بخلاف: سرت والنيل، فإن المصاحبة لم تفهم إلا من الواو. ونبه بقوله وفي اللفظ كمنصوب معدى بالهمزة على أن الواو تعدي ما قبلها من العوامل إلى ما بعدها، فينتصب به بوساطة الواو، فعلاً كان ما عدته

كصنع، أو عاملاً عمل الفعل، نحو: عرفت استواء الماء والخشبة، والناقة متروكة وفصيلها، ولست زائداً حني يفعل. وس يسميه مفعولاً معه، ومفعولاً به. وقال ابن عصفور: "المفعول معه هو الاسم المنتصب بعد الواو التي بمعني مع المضمن معني المفعول به، وذلك نحو قولك: ما صنعت وأباك؟ ألا تري أن الواو بمعني مع، والأب في المعني مفعول به، كأنك قلت: ما صنعت بأبيك؟ ولو لم ترد هذا المعني لكان الاسم الذي بع الواو معطوفا علي الاسم الذي قبله" انتهي. وزعم بعض النحويين أنه لا يكون إلا مصاحب فاعل فعل مذكور أو مقدر؛ ليخرج منه مصاحب المفعول في قولك: ضربت زيدا وعمراً، وتخيل أنه من المعطوف ليس إلا، وأنه لو أريد المفعول معه هنا لأتي بالأصل، وهو مع؛ لأن فائدة النصب التنصيص علي المعية، ولما اشتبهت هنا وجب العدول إلي الأصل، فإن لم يعدل فيحمل علي العطف الأصلي. وبعضهم جوز فيه الأمرين. وبعضهم حمله علي العطف لأنه أولي وإن كان يجوز أن تكون بمعني مع، ولا تنكر المعية للمفعول، نحو قولهم: كفاك وزيداً درهم، وامرأ ونفسه. وشرط انتصابه أن يكون بعد تمام كلام. وزعم الصيمري أنه يجوز أنه يجوز أن ينتصب عن تمام الاسم، فأجاز: كل رجل وضيعته، وقاس ذلك علي قول العرب: كيف أنت وقصعة من ثريد؟ وهذا قياس فاسد؛ لأن جملة المبتدأ والخبر هنا في

معنى الفعل، فعوملت معاملته؛ إذا المعني: كيف تكون وقصعة؟ وإذا لم تكن الجملة في معني الفعل لم يجز النصب، لو قلت زيد أخوك وعمرا لم يجز، فإذا لم يجز بعد الجملة التي ليست في معني الفعل فكيف بعد المفرد. وأيضا المفعول معه فضلة، والفضلات هي من قبيل المفعولات، فلا تنتصب إلا بالفعل أو ما جري مجراه. وقوله وانتصابه بما عمل في السابق من فعل مثاله: جاء البرد والطيالسة، واستوي الماء/ والخشبة. وفي كان الناقصة خلاف: ذهب بعضهم إلي أن لمفعول معه لا يكون بعدها لأنها ليس فيها معني حدث يعدي بالواو، ولا تعمل إلا في اسمها وخبرها لا غير، وتأول ما ورد من ذلك بعد كان، نحو قوله: فآليت أنفك أحدو قصيدة تكون وإياها بها مثلاً بعدي وقول الآخر: فكونوا أنتم وبني أبيكم مكان الكليتين من الطحال وقول الآخر: فكان وإياها كحران، لم يفق عن الماء إذ لاقاه حني تقددا علي أن "كان" في هذه الأبيات تامة، ومثلاً والظرف والمجرور أحوالاً، وإلي هذا ذهب الأستاذ أبو علي.

وذهب الجمهور إلي جواز ذلك في "كان" الناقصة؛ لأن الصحيح أنها مشتقة، وأنها تدل علي معني سوي الزمان، فعلي هذا تعمل في الظرف، ويتعلق بها الجار، وتنصب المفعول معه كسائر الأفعال، وأنت تري افتقار" كان" في الأبيات المذكورة إلي ما بعدها افتقار المسند للمسند إليه، وجعل "مثلاً" و "مكان الكليتين" و "كحران" أحولا يفوت هذا المعني. والذي ينبغي أن يكون ذلك مقيساً في كل اسم يصح عطفه علي اسم كان الناقصة؛ لأنه كثر هذا فيها، كتلك الأبيات وغيرها. وقال في البديع: "المفعول معه يكون من الفعل المتعدي وغير المتعدي عند الأكثرين، تقول: لو خليت والأسد لأكلك، ولو تركت الناقة وفصليها لرضعها. وقال قوم: إن هذا لا يكون إلا مع غير المتعدي؛ لئلا يلتبس بالمفعول به، فلا يقال ضربتك وزيداً، وزيداً: مفعول معه". وقوله أو عامل عمله مثال ذلك: لست زائلاً وزيداً حني يفعل، وأعجبني استواء الماء والخشبة، والناقة متروكة وفصيلها، وأنشد أبو علي: لا حبسك أثوابي، فقد جمعت هذا ردائي مطوياً وسربلا وجعل سربالاً مفعولاً معه، وعامله مطويا. ومذهب س أنه لا ينصبه العامل المعنوي، كحرف التشبيه والظرف المخبر به والجار والمجرور واسم الإشارة، ولذلك لم ينصبه به"لك" في قوله: هذا لك وأباك، ولا في: حسبك وزيداً درهم.

وأجاز أبو علي في قوله "وسربلا" أن يكون العامل فيه "هذا". وهو خلاف ظاهر كلام سيبويه. وصح الفعل وما جري مجراه العمل في المفعول معه مع توسط الواو لما كانت حرف عطف في الأصل؛ فكما يصح للفعل العمل في المعطوف مع توسط / [4: 15/ أ] دليل مررت برجل قائم زيد وأبوه فكذلك هذا. قل أبو الحسن بن الباذش: "المفعول معه يعمل فيه الفعل بتوسط الواو، بمنزلة حرف الاستثناء، إلا أن حرف الاستثناء يسلط الفعل ومعني الفعل، ولا تسلط الواو بمعني مع إلا الفعل عند س، فهي متروكة علي العطف أبداً، إلا في الفعل، فإنها تنقل من العطف إلي التعدية، وتسلط الفعل" انتهي. ويعني أيضاً وما جري مجري الفعل من مصدر واسم فاعل ومفعول. وقوله لا بمضمر بعد الواو، خلافاً للزجاج فإذا قلت: ما صنعت وأباك؟ فالتقدير عنده: ولابست أباك، وإنما لم يجز عمل الفعل فيه لفصل الواو. وما ذهب إليه باطل؛ لأن في نصب الاسم بفعل مضمر إحالة لباب المفعول معه؛ إذ يصير منصوباً علي أنه مفعول به لا مفعول معه. وأيضاً فد بينا أن توسط الواو في العطف لا يمنع عمل العامل، فكذلك في هذا. وأيضاً فإذا كان الفعل يطلب المفعول علي معني يقتضي توسط حرف بينهما عمل فيه مع توسطه؛ ألا تري أنك تقول: ما ضربت إلا زيداً، فتنصب زيداً بتوسط إلا، ولم تبال بهذا الفصل، لأن المعني يقتضيه، وكذلك الفصل ب "إما"، نحو: ضربت زيداً وإما عمراً.

قال المصنف في الشرح: " ومما يبين فساد تقدير الزجاج أنه إما أن يقصد تشريك صنعت ولابست في الاستفهام، ولا يصح؛ لأن شرط عطف الفعل علي الفعل بعد اسم الاستفهام جواز الاستغناء بالثاني عن الأول، والأمر بخلاف ذلك في التقدير؛ إذ لا معني لقول القائل: ما لابست أباك؟ أو لا يقصد التشارك، ولا يصح؛ إذ لا تعطف جملة خيرية علي جملة استفهامية مع استقلال كل واحدة منهما، فألا يجوز ذلك مع عدم الاستقلال كما في المثال المذكور أحق وأولي" انتهي. وهذا مخالف لمذهب س، قد أجاز س التخالف في تعاطف الجملتين بالخبر والاستفهام، فأجاز: هذا زيد ومن عمرو. قال المصنف في الشرح: "وأيضاً لو كان كما قال الزجاج لم يحتج إلي الواو مع إضمار الفعل، كما لا يحتاج إليها مع إظهاره، لو قلت: ما شأنك لابس زيداً؟ دون واو صح، فينبغي مع الإضمار الاستغناء عنها، والاستغناء عنها باطل، وما أفضي غلي الباطل باطل" انتهي، وفيه بعض تلخيص. وقوله ولا بها، خلافاً للجرجاني شبهه الجرجاني- والله أعلم- أنه رآها مختصة بالاسم؛ إذ لا يقع الفعل بعدها، ولاختصاصها بما دخلت عليه من الاسم

أورد النحويون سؤالاً فيها، فقالوا: إن قيل: لم تخفض هذه الواو الاسم وهي مختصة به؟ فالجواب: أنها لم تخفضه لأن أصلها العطف، وحرف العطف لا يخفض / [4: 15/ ب] اختصاصه، فلذلك لم يجز لخفض بها، وسيأتي الدليل علي أنها حرف عطف في الأصل. وقال المصنف في الشرح: "وكان حق الواو إذ كانت معدية أن تجر ما عدت العامل إليه كما فعلت حروف الجر؛ إلا أنها أشبهت الواو العاطفة لفظاً ومعني، فلم تعط عملاً، بل أعطيت مثل ما أعطيت العاطفة من إيصال عمل ما قبلها إلي ما بعدها لا علي سبيل الإتباع. وكان في ذلك أيضاً تنبيه علي أن أصل المجرور بحرف أن يكون منصوباً، ولكنه جر لفظاً، ثم حكم علي موضوع معموله بالنصب؛ إذ لم تتمحض عالميتيه، فإنه معد، ولتظهر بذلك مزية المتعدي نفسه بنفسه علي المتعدي بواسطة" انتهي. فلما رأي الجرجاني اختصاصها بالاسم ادعي أن النصب بها نفسها. ورد هذا المذهب بأنها لو كامن هي العلة للنصفي الاسم لاتصل الضمير بها، ولم ينفصل في نحو: فكان وإياها كحران ........... ........................... كما اتصل بأن وأخواتها، فقلت: إنك وليتك، فأما قول ابن أحمر: وكنا رهم كابني سبات، تفرقا جميعا، وكانا منجداً وتهاميا

فالواو للعطف، والضمير ضمير رفع عطفاً علي الضمير في كنا، وليست واو مع، ولا "هم" بعدها ضمير نصب متصل. وبأنه حكم بلا نظير؛ لأنه ما من حرف ينصب إلا وهو مشبه بالفعل. أو مشبه بما شبه بالفعل. وبأنه لو كان كما زعم لم يشترط في وجود النصب تقدم فعل أو ما جري مجراه، فكان يقال: كل رجل وضيعته، بالنصب، وذلك لا يقال. وقوله ولا بالخلاف، خلافاً للكوفيين هذا الذي نسبه إلي الكوفيين هو قول بعضهم. ومعظم الكوفيين والأخفش ذهبوا إلي أن الواو مهيأة لما بعدها أن ينتصب انتصاب الظرف؛ لا بالخلاف كما نسبه المصنف إلي الكوفيين، قالوا: وذلك أن الواو في قولك جاء البرد والطيالسة إنما هي واقعة موقع مع، وكأنك قلت: جاء البرد مع الطيالسة، فلما حذفت مع، وقد كانت منتصبة علي الظرف، ثم أقمت الواو مقامها- انتصبت الطيالسة بعدها علي أمعني انتصاب مع الواقعة الواو موقعها؛ إذ لا يصح انتصاب الحرف، كما أنه في قوله تعالي {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إلاَّ اللَّهُ} ارتفع (الله) إذ لا يمكن أن يظهر الرفع في إلا؛ إذ الأصل: غير الله، فجعل الرفع الذي في غير اسم الله. وهذا المذهب باطل؛ إذ لو كان انتصاب هذا الاسم علي الظرف لكان إذا أضمر يتعدي إليه الفعل بوساطة في، وأنت لا تأتي به إلا منفصلاً، نحو قوله:

..................... تكون وإياها بها مثلا بعدي ولم يقل: تكون وفيها. وأما/ [4: 16/ أ] المذهب الذي عزاه المصنف إلي الكوفيين- وهو النصب بالخلاف- فالخلاف معني من المعاني، ولم يثبت النصب بالمعاني المجردة من الألفاظ، وأيضاً لو كان الخلاف ناصياً لقيل: ما قام زيد لكن عمراً، ويقوم زيد لا عمراً، ولا يقال، بل يرفع العرب عمراً في المسألتين. وقوله وقد تقع هذه الواو قبل ما لا يصح عطفه، خلافاً لابن جني قال المصنف في الشرح ما مخل خصه: " إن ابن جني زعم أن العرب لا تستعمل واو مع إلا في موضع يصلح أن تكون فيه عاطفة، وإن ابن خروف أنكر ذلك". قال: "والعرب تستعملها في مواضع لا يصلح فيها العطف، وذلك علي ضربين: أحدهما: ترك فيهما العطف لفظاً ومعني، كقولهم: استوي الماء والخشبة، ومازلت أسير والنيل، وقوله: فكان وإياها كحران ........ ........................... البيت. يصف رجلاً مات معانق امرأة بعد فراق. والثاني: استعمل فيه العطف لمجرد اللفظ كاستعمال النعت علي الجوار، ومنه قولهم: أنت أعلم ومالك، أي: أنت أعلم مع مالك كيف تدبره، ومالك معطوف

في اللفظ، ولا يجوز أن يكون مبتدأ محذوف الخبر؛ لأن المال ليخبر عنه بأعلم، وشرط عطف المبتدأ المضمر خبره أن يكون الخبر المضمر مثل خبر المعطوف عليه" انتهي. وهذا الذي اختاره المصنف وابن خروف من أن واو مع قد تقع قبل ما لا يصح عطفه؛ وأن استعمال العرب علي ذلك- ليس مذهب الجمهور، ولا ينبغي أن ينسب أنها لامتقع إلا قبل ما يصح عطفه لابن جني وحده، بل قول ابن جني محكي عن أبي الحسن الأخفش، وتلقاه جل النحويين بالقبول، وبه قال السيرافي والفارسي، وغيرهم، وكفي بهذا حجة، فكلام الأخفش وحده كالنقل عن العرب، فلا ينبغي أن يتعدي، وهذا اختيار الأستاذ أبي علي، واين عصفور، وابن الضائع، وغيرهم. وقد ادعي الإجماع علي ذلك أبو الحسن بن الباذنش، قال: "ويمتنع بإجماع أن يكون المفعول معه غير منقول من العطف، ولا يكون فيه إلا النصب في شئ من الأفعال، كما زعم أبو القاسم- يعني الزجاجي- في قولهم استوي الماء والخشبة أنه لا يجوز فيه النصب؛ لأن المعني: ساوي الماء الخشبة، وهذا خلاف ما الباب عليه من أن بعض المعطوف هو الذي لا يجوز فيه النصب" انتهى.

وفي البديع: " وتقول: جلست والسارية، والأخفش لا يجيز هذه. قال: ولا أقول: ضحكت وطلوع الشمس؛ حيث لا يصح فيه العطف؛ إذ الطلوع لا يكون منه ضحك، وأجاز: جاء البرد والطياليسة، لأن المجزئ يصح منها، وأجاز ابن جني ذلك جميعه". والدليل علي أنها حرف عطف في الأصل ثلاثة أشياء: الأول: أنه لو لم تكن العاطفة/ [4: 16/ ب] لكانت مختصة بالاسم، وللزم خفضه بها، فلما لم يخفض دل علي أنها حرف عطف في الأصل، فروعي ذلك، فليمنع. والثاني: امتنعا تقدم ما بعدها علي الفعل كما لا يتقدم المعطوف علي الفعل، ولو لم يكن أصلها العطف لتقدم كما تقدم سائر المفعولات. والثالث: أنه لا يجوز أن تستعمل إلا حيث يجوز فيه العطف حقيقة، نحو: جاء البرد والطيالسة، ما صنعت وأباك، أو مجازاً، نحو سار زيد والنيل؛ ألا تري أنه يصح عطفه علي المجاز من جهة أنه لا يفارق زيداً في حال سيره؛ كما لا يفارقه من سايره. وقد منعت العرب والنحاة إجازة: انتظرتك وطلوع الشمس، بالنصب؛ لأنه لا يجوز إسناد هذا الفعل إلي طلوع الشمس. فأما قولهم ما زلت أسير والنيل فلا متضاد النيل معه لا يبعد أن ينسب إليه السير، فمن حيث لا يفارقك جزء من النيل يمكن أن ينسب إليه أنه سائر معك. وأما استوي الماء والخشبة- بالنصب- فقد غلط الزجاجي في دعواه أنه لا يجوز فيوال خشبة إلا النصب؛ فزعم ابن عصفور أن الذي غلطه هو أنه لايجوز

استوى الماء واستوى الخشبةً. وهذا لا حجةً فيه؛ لأنه وإن لم يسمع ذلك - فلا يمتنع العطف، كما لم يمتنع: اختصم زيد وعمرو، بالرفع وإن لم يسمع: واختصم عمرو. وقال ابن الضائع: ((الأولى أن ينسب إليه - يعني الزجاجي - أن نسبةً الفعل إلى الخشبةً مجاز؛ لأنها لم تتحرك من موضعها، فالذي تحرك حتى ساواها هو الماء، فيقرب هذا - وإن لم يكن مثله - من قولهم: ما زلت أسير والنيل، فالأولى أن يقال: يضعف العطف في: استوي الماء والخشبةً، وألا يقطع فيه بالمنع من جهة القياس)) انتهى. وأما: فكان وإياه- كحران ............. .............................. فزعم أكثر النحويين أن المراد: كحران والماء؛ لأنه لا يشبه اثنان بواحد، فعلى هذا يصح العطف، فيجوز: فكان هو وهي كحران والماء. وقدره ابن الطراوة: كحرانين، قال: ((لأنه لا تشبه اثنين بواحد)). قال الأستاذ أبو علي: ((غلط ابن الطراوة في هذا التقدير، أراد أن يثني ما تعلق به المجرور، فالتبس عليه)). قال: ((والصحيح أن يقدر: فكان وإياها كاثنين كحران والماء، فغلط فقدر: كحرانين)). قال ابن الضائع: ((والغلط في هذا بعيد جدًا،

فالأولى أن ينسب لابن الطراوةً أن المعنى: شدة شرق كل واحد منهما إلى صاحبه، فكل واحد عنهما حران، فهما كحرانين مع الماء، غير أن نظير الماء أحدهما، فكل واحد منهما مع صاحبه كحران مع الماء، فكلاهما كحرانين مع الماء، فعلى هذا يصح أن يقدر: كحرانين)). وأما قولهم أنت أعلم ومالك فلما كان النظر في المال يلزم منه في الأكثر مجيء المال مع اختيار الناظر فيه صار مواتيا له، فنسب إليه العلم مجازا؛ على أنه [4:17 /ب] قد يمكن أن يكون المال مشتركًا مع أعلم، كأنه قال: أنت ومالك، ولاسيما على مذهب ابن خروف حيث يجعل كل رجل وضيعته ليس له خبر محذوف، بل خبر، المعطوف؛ لأنه كـ ((مع)، فتكون في المسألةً قد عطفت خبرًا على خبر، ويكون على تقدير: أنت أعلم ومالك، فاجتزأ باللفظ الأول؛ لأن المعنى يدل على ذلك، وحذف المبتدأ بحرف العطف؛ لأنه لو حذف وحده أدى إلى اجتماع حرفي عطف، فيقبح اللفظ، ونظير حذف الحرف والعطوف {اضْرِب بِّعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانفَلَقَ}، أي؛ فضربت فانفلق، وإني الكلام على هذه المسألة حيث ذكرها المصنف مشبعا إن شاء الله تعالى. وقوله ولا يقدم القعود معه على عامل المصاحب باتفاق قال المصنف في الشرح: ((قد تقدم بيان كون الواو التي بمعنى مع معدية وأن لها شبها بالواو

العاطفة في اللفظ والمعنى؛ ولذلك لم تعمل عمل حروف الجر في لفظ ما عدت إليه العامل، بل أوصلت إليه عمل العامل لفظا ومحلًا، فالتزمت محلًا واحدًا لشبهها بهمزةً التعدية، ولا تتقدم على عامل المصاحب كما تتقدم مَعً في قولهم: مَعً الخشب؛ استوي الماء)) انتهى. وملخصه أنه إنما لم تقدم على العامل تشبيها لها بواو العطف، لأنها واو عطف في الأصل، والجمهور منعوا ذلك من حيث هي واو عطف في الأصل، وقد تقدم الكلام في ذلك. وقوله ولا عليه، خلافًا لابن جني إنما لم يجز تقديمه على الفاعل فقط دون العامل فتقول استوي والخشبةً الماء لأنها حرف عطف في الأصل، ولا يجوز ذلك فيها في العطف إلا بشروط، وبابه الشعر، فلما أخرجوها عن أصلها من العطف المحض لم يتصرفوا فيها تصرفهم في الأصل. وقد عورضت هذه العلةً بأن الأصل في المفعول معه ألا يمتنع فيه التقدم، بخلاف المعطوف، فإنه تابع، والأصل في التابع ألا يتقدم على متبوعة، فليست في المفعول معه العلة المانعة عن التقدم، وإنما المانع فيه تشبيهه به، فإذا جاز قليلًا فيما هو الأصل في امتناع التقديم فجوازه فيما حمل عليه أولى؛ إذ ليس فيه العلةً المانعةً. وقال المصنف في الشرح: ((أشار في الخصائص - يعني ابن جني - إلى جوازه، وله شبهتان: إحداهما: أن ذلك قد جاز في العاطفةً، فليجز فيها؛ لأنها محمولةً عليها.

والثانية: أن ذلك قد ورد في كلامهم، قال: أكنيه حين أناديه لأكرمه ولا ألقبه، والسوءة اللقبا وقال الآخر: جمعت وفحشًا غيبة ونميمةً خصالًا ثلاثًا، لست عنها بمرعوي [17:4/ب] /ولا حجةً في الشبهة الأولى، لأن العاطفة أقوى وأوسع مجالا، فجعل لها مزية بتجويز التقديم، ففيه إبداء مزية الأقوى على الأضعف، فلو أشرك بينهما في الجواز خفيت المزية، ولأن واو مع وإن أشبهت العاطفة فلها شبه بهمزةً التعدية مقتضٍ لها لزوم مكان واحد كذا لزمت الهمزة مكانًا واحدًا. وأما السماع فلا يتعين ما ذكر فيه، بل قوله (جمعت وفحشًا) من باب العطف، وبه وجهه أكثر النحويين. وأما (ولا ألقبه والسوءة اللقبا) فهو من باب: .................... وزججن الحواجب والعيونا

الأصل: ولا ألقبه اللقب وأسوءه والسوءة فحذف أسوءه لدلالة ألقبه عليه، ثم قدم مضطرا، والتقدير على ما كان عليه)) انتهى كلامه، وفيه بعض اختصار وتلخيص. -[ص: ويجب العطف في نحو: أنت ورأيك، وأنت أعلم ومالك، والنصب عند الأكثر في نحو: ما لك وزيدا، وما شأنك وعمرا، والنصب في هذين ونحوهما بـ (كان)) مضمرةً قبل الجار، أو بمصدر ((لابس)) منويًا، بعد الواو، لا بـ ((لابس))، خلافًا للسيرافي وابن خروف، فإن كان المجرور ظاهرًا رجح الخطف، وربما نصب بفعل مقدر بعد ((ما))، أو ((كيف))، أو زمن مضاف، أو قبل خبر ظاهر في نحو: ما أنت والسي، وكيف أنت وقصعه، و: أزمان قومي والجماعة ............ ............................... و (ألا وإياه في لحاف).]- ش: أخذ المصنف يذكر مسائل هذا الباب بالنسبة إلى العطف والمفعول معه، وقد قسمها بعض أصحابنا أربعة أقسام: القسم الأول: يجب فيه العطف، ولا يجوز النصب على المفعول معه، وذلك قسمان: أحدهما: ألا يقدم الواو إلا مفرد، نحو: كل رجل وضيعته، وأنت ورأيك و ((الرجال وأعضادها، والنساء وأعجازها))، ((وإنك ما وخيرًا))، وقوله: ........................ فإني وجروة .......................... وكل هذا مسموع من العرب. والثاني: أن تتقدم الواو جملة غير متضمنة معنى فعل، نحو قولك: أنت أعلم ومالك.

وعبر المصنف، عن هذين القسمين بأن تكون الواو بمعنى ((مع)) بعد ذي خبر لم يذكر، أو ذكر وهو أفضل تفضيل. وعلل لزوم العطف فيه بعدم فعل وما يعمل عمله، قال: ((والمراد بعمله عمله أن يكون من جنس ما ينصب مفعولًا به)). قال: ((ولا خلاف في وجوب الرفع فيما أشبه المثالين المذكورين)) انتهى. يعني: أنت ورأيك، وأنت أعلما ومالك. وقد ذكرنا الخلاف عن الصيمري في جواز النصب في: كل رجل وضيعته، وهو جارٍ في: أنت ورأيك. فقول المصنف ((ولا خلاف)) ليس بجيد لوجود الخلاف. قال: ((ومن ادعي جواز النصب في نحو كل رجل وضيعته على تقدير: كل رجل كائن وضيعته - فقد ادعي ما لم يقله عربي، فلا التفات إليه، ولا تعريج/ [4: 158/ أ] عليه)) انتهى. فعلى هذا تكون المذاهب في هذه المسألة ثلاثةً: أحدها وجوب الرفع، وهو قول الجمهور والصحيح. والثاني جواز النصب بلا تأويل أن ما قبل الواو جملة بل مفرد، وهو مذهب الصيمري. والثالث هذا الذي حكاه، وهو جواز النصب على تأويل ما قبل الواو أنه جملة حذف ثاني جزأيها. فأما أنت أعلم ومالك فقد تقدم توجيه الرفع في ((وماك)) على وجهين: أحدهما: أن يكون معطوفًا على أنت، ونسب العلم إلى المال على سبيل المجاز وإن كانا في الحقيقةً لم يشتركا في العلم، وإنما المعنى: أنت أعلم بمالك، والواو للمصاحبةً.

والثاني: أن يكون ((ومالك)) مقدرا قبله مبتدأ، والتقدير: أنت أعلم وأنت ومالك. وقال أبو القاسم بن القاسم الخضراوي: ((أنت أعلم ومالك: لا يصح عطف ومالك على أنت على حد: أنت أعلم وزيد؛ لأنك تضمر في هذا خبرًا من جنس ما أظهرته، والمال لا يعلم. ولا يصح عطفه على أعلم لأن العطوف على الخبر خبر يصح انفراده، فلو قلت أنت مالك لم يصح. ولا يصح عطفه على الضمير في أعلم لاستتاره غير مؤكد، ولأن أفعل التفضيل لا يرفع الظاهر إذا وليه، فكذلك إذا عطف على مضمر رفعه، وقد يكونان هذان الوجهان بشذوذ، بمعني العطف دون توكيد، ورفع الظاهر)). قال: فإذا استحالت هذه الأوجه كان معطوفًا على أنت لا على ذلك الوجه، بل هو بمنزلة: شاة ودرهم، أي: معطوف في اللفظ، خبر في المعنى، لنيابته منابه. وهكذا أعرب المسألةً الجرمي في ((الفرخ))، قال: الشاء شاةً ودرهم. قال: من قال هذا جعل الشاء مبتدأ، وشاةً مبتدأ، ودرهم خبره، والجملةً خبر الأول. وقال أبو بكر بن طاهر: ((هو معطوف على أعلم؛ لأن الأصل: بمالك، فوضعت الواو موضع الباء، فعطفت على ما تبلها، ورفعت ما بعدها في اللفظ، وهو بمعنى الباء متعلقة بأعلم)). وهذا أقرب لتفسير كلام س؛ لأنه قال في الواو: ((يعمل فيما بعدها المبتدأ)). يريد أنك تعطفه على أعلم، فيعمل فيه ما عمل في أعلم، وهو المبتدأ.

وأما أنت أعلم وعبد الله فثلاثة أوجه: أحدها: أن تكون الواو بمعنى مع، وعطف بما في اللفظ مبتدأ حذف خبره وجوبا لوقوعه مرقع المجرور بـ ((مع)) والاستطالةً. والثاني: أن الواو لمجرد العطف، وعبد الله مبتدأ محذوف الخبر جوازا، والقدير: أنت أعلم بعد الله وعبد الله أعلم بك، ثم دخله الحذف كما دخل في: أأنت خير أم زيد، والأصل: أأنت خير من زيد أم زيد خير منك. والثالث: أن يكون عبد الله معطوفًا على أنت، وأعلم/ [18:4/ب] اخبر عنهما، كأنه قال: أنت وعبد الله أعلم من غيركما، فيشتركان في المعنى، ويكون أعلم خبرا لهما متوسطا بينهما. قال أبو الفضل البطليوسي في شرح كتاب س: ((فعلى هذا يجوز: زيد قائمان وعمرو، ولا مانع منه)) انتهى. ولا ينبغي أن يجوز إلا بسماع من العرب، والفرق بين المسألتين ظاهر، وذلك أن أعلم أفضل تفضيل، فيجري مفردًا مذكرًا على المفرد المذكر وفروعها، فلا يظهر في ذلك مخالفةً خبر لمخبر عنه، فتقول فيه: أنت وزيد أعلم، فلا يظهر مخالف، بخلاف ما يصح تثنيته وجمعه وتأنيثه إذا قلت: زيد قائمان وعمرو، إذ لا يصح: زيد قائمان، بخلاف: زيد أعلم، فالذي ينبغي منع زيد قائمان وعمرو؛ لأن فيه الفصل بين المعطوف والعطوف عليه بما م خبر لهما مخالف لفظه للفظ المبتدأ.

وأما: أنت ومالك، وأنت وشأنك، ونحوهما فذكر أبو الحسن في ((الأوسط)) اختلاف النحويين في توجيه ذلك: فذهب بعضهم إلى أن لا إضمار، وان الواو تسد مسد الخبر. ومنهم من أضمر، وقدر: مقرونان، وإلى تقدير مقرونان ذهب س والأكثرون، إلا أن ابن خروف زعم أن تقدير س ذلك تقدير معنى لا تقدير إعراب، وزعم أن س نص على أن الواو وما بعدها الخبر في: اشتريت، الشاء شاةً ودرهم. وقال ابن الضائع: ((لا نص في كلام س على ذلك، فإن زعم أن وضعيته ارتفع بكونه خبر المبتدأ لا بالتشريك مع الأول فيلزمه أن ينصبه في خبر كان ويرفعه في خبر إن، ولم تفعل العرب ذلك، بل قالت؛ إن رجلا وضيعته، وإنك ما وخبرا. وقال: فكان تنادينا وعقد عذاره ................................. ولو نصب ((وعقد عذاره)) لكان كنصب: كنت وزيدًا كالأخوين. وإن زعم انه [مرفوعا] بالتشريك [والعطف] فحكمه حكم ما عطف عليه؛ لأنه شريكه في العامل، فهو مبتدأ مثله، فلا بد من دلالة شيء عليهما في المعنى)).

قال ابن خروف: ((ويدل على عدم الإضمار أن الكلام لا يدل على الاقتران، بل يمكن أن يكونا غير مقرونين)). قال: ((فمعنى تقدير س مقرونان أي: إن وضعيته في موضع مقرونان، كما تقدر: زيد ضربته، في الاشتغال: تريد: أخوك؛ لتري أن ضربته في موضع الخبر)). قال: ((ولا دليل على ذلك الخبر)). وهذا باطل؛ فإن الواو التي بمعنى مع تدل على الاقتران، وليس يراد بالاقتران هنا الملامسةً والصلاح، وهذا الذي غلط ابن خروف، بل يراد به أن كل إنسان مع ضيعته، يفعل فيها ما يشاء من إصلاح أو إفساد. وأما قول س في شاةً ودرهم إنه خبر ف ((س)) قد يسمي ما ليس خبرًا خبرا إذا كان في معنى الخبر، وفي كلام س ما يدل على خلاف ما زعم ابن خروف، قال س في المسألة: ((إنه يريد: شاة بدرهم، وهذا المجرور خبر)). قال: ((فصارت الواو بمنزلة الباء في المعني)). فقوله ((في المعنى)) يدل على أنها ليست في اللفظ بخبر، وهذا ظاهر الدلالةً، وتقدم الكلام في هذه المسألة في باب الابتداء. وقوله والنصب عند الأكثر في نحو: ما لك وزيدًا، وما شأنك وعمرًا قال المصنف في الشرح: ((أشرت بذلك إلى كل جملةً آخرها واو المصاحبة وتاليها

وأولها (ما) المستفهم بما على سبيل الإنكار قبل ضمير مجرور باللام أو الشأن أو ما يؤدي ما يؤديانه)). ((ونسبت وجوب النصب إلى الأكثر لأن ابن خروف حكي عن الكسائي أنه قال: إذا أوقعت; ما بال، وما شأن، وما لٍ، على اسم مضمر، ثم عطفت عليه باسم ظاهر - كان الوجه في المعطوف النصب، والخفض جائز، فصرح الكسائي بجواز الجر، وبه أقول، لا على العطف، بل على حذف مثل ما جر به الضمير لدلالة السابق عليه)) انتهى. وهذا الذي أدرجه المصنف فيما يتعين فيه العطف عند الأكثر هو شيء من أحد الأقسام الأربعة التي قسم بعض أصحابنا مسائل هذا الباب إليها، وهو أن تكون الجملة فعليةً أو اسميةً متضمنةً معنى الفعل، وقبل الواو ضمير متصل مرفوع غير مؤكد بضمير رفع منفصل، وليس في الكلام طول يقوم مقام التأكيد، أو ضمير خفض متصل باسم لا يمكن عطف ما بعد الواو عليه، نحو قولك: ما صنعت وأباك، وما شأنك وزيدًا، ولا يجوز رفع الأب وخفض زيد إلا في ضرورة، ولا يجوز رفع زيد وعطفه على الشأن، فهذا القسم - وهو الثاني - يكون الاسم فيه مفعولًا معه، ولا يجوز فيه العطف إلا في الضرورةً. وقوله والنصب في هذين ونحوهما بـ ((كان)) مضمرةً قبل الجار، أو بمصدر لابس منويًا بعد الواو، لا ب ((لابس))، خلافًا للسيرافي وابن خروف تقدير كان وملابسه مصدر لابس في كتاب س، قال س: ((ومن نصب أيضًا قال: ما لزيد وأخاه، كأنه قال: ما كان شأن زيد وأخاه)). وقال أيضًا: ((فإذا أضمرت فكأنك قلت: ما شأنك وملابسةً زيد، [أو] وملابستك زيدًا)).

والذي ينبغي أن يجعل تقدير س ((وملابسة)) تفسير معنى لا تفسير إعراب؛ ويكون المضمر كان. ويدل على ذلك ترجمة الباب، قال س: ((هذا باب منه يضمرون فيه الفعل لقبح الكلام إذا حمل آخره على أوله وذلك قولك: ما لك وزيدًا، وزيدًا شأنك وعمرًا))، فقد بنى الباب على إضمار الفعل، هذا مع ما تقرر من أن مذهب البصريين أنه لا يجوز حذف / [4: 19/ب] المصدر وإبقاء معموله لأنه موصول، ولا يجوز حذف الموصول، وقد منع ذلك س في قوله: ............ .... إلا الفرقدان وبما اختاره المصنف من إعمال المصدر مضمرًا هنا قال الأستاذ أبو علي في قديم إقرائه؛ وحمل كلام س على ظاهره، واعتذر الأستاذ أبو علي عن إعمال المصدر مضمرًا بأنه هنا في قوة الملفوظ به لوضوح الدلالةً عليه، ودعاه إلى الاعتذار منع س ذلك في باب الاستثناء في ((إلا الفرقدان)) كما ذكرناه. وقال شيخنا الأستاذ أبو الحسن بن الضائع: ((آخر ما أخذت عن الأستاذ أبي علي في ذلك هو أن الاسم هنا منصوب على انه مفعول معه، وأن تقدير س معنوي لا إعرابي، بل تقدير الإعراب فيه: ما لك تلتبس وزيدًا))، قال: ((ويدل على أنه عند س كذا ذكر هذه المسألةً في باب المفعول معه، ولو كان النصب على أنه مفعول به لم يذكرها معه)) انتهى.

وإذا أخذ بظاهر كلام س في تقديره وملابسه زيدًا فلا يكون مفعولًا معه، إنما يكون مفعولًا به، وعلى هذا أخذ، أبو بكر بن طاهر وتلميذ، ابن خروف، غير أنهما قالا: الناصب لزيد فعل مضمر لا مصدر؛ لأنه لا يجوز حذف الوصول وإبقاء شيء من صلته، وقد نص على ذلك س، فتقدير الناصب له حقيقةً: وتلابس زيدًا، غير أن فيه قبحًا لعطف الفعل على الاسم، فلذلك لما أراد س إظهار الناصب قدره بما لا يقبح فيه- ونظير ذلك امتناع الحكايةً بـ ((أي)) وجوازها بـ ((من)) في الأعلام؛ لأنهم لو قالوا أي زيدًا لظهر القبح في اللفظ لاختلاف إعرابي المبتدأ والخبر واستتاره في: من زيدًا. وكذلك هذه المسألةً جاز عطف الفعل على الاسم مع الإضمار لاستتار القبح، فإذا أظهر غير، فهذا هو السبب في تقدير س الناصب مصدرًا. وأطال المصنف في الشرح الاستدلال على حذف المصدر وإبقاء معموله، وهو مذهب الكوفيين، قال: ((وحذفه إذا قويت الدلالةً عليه وارد في الكلام الفصيح، كقوله تعالى {وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ}، أي: وصد عن المسجد الحرام، وضعف عطفه على (سبيل الله) لأجل الفصل، وعطفه على الضمير لأن ذلك لا يجوز عند الأكثرين، ولأنه لا يصح أيضًا، من جهة

المعنى؛ لأن المشركين كانوا يعظمونه، إلا إن جعل تعظيمهم كلا تعظيم لكونه مستندا الى أهوائهم، وكقول الشاعر: لصونك من تعول أتم نفعا لهم، عن ضلةً وهوى مطاع ومثله: المن للذم داع، بالعطاء فلا تمنن، فتلفى بلا حمد ولا مال [4: 20/أ] /أي: صون عن ضلةً، ومن بالعطاء، والمحذوفان بدل من الموجودين، فاستغني بمعمول البدل كما استغني في الآية بمعمول المعطوف)). وما ذهب إليه المصنف من هذا الاستدلال لا حجةً فيه، وقد خرجنا الآية على العطف على الضمير، وأوردنا من لسان العرب كثيرا مما يدل على جواز ذلك في كتابنا في تفسير القرآن المسمى بـ ((البحر المحيط)). وأما البيتان فيتعلق المجرور فيهما بفعل محذوف يدل عليه المصدر، التقدير: تصونهم عن ضلةً، وتمن بالعطاء، فلم يتعين إضمار المصدر؛ إذ يحتمل إضمار هذا الفعل، وهو أولى- والعجب من جرأةً هذا الرجل على س حيث قال: ((ولو صرح س بمنع حذف المصدر مطلقًا لكان محجوبًا بثبوت ذلك عن العرب، فإن كلامهم هو المأخوذ به)) انتهى. وأين يثبت ذلك في كلام العرب؟ إنما استدل بشيء خلاف الظاهر وخلاف القواعد:

وإذا ما الجبان حل بأرض طلب الطعن وحده والنزالا وقوله فإن كان المجرور ظاهرًا رجح الخطف مثاله: ما لزيد وعمرو، وما شأن زيد وعمرو، وهذا هو شيء عن احد الأقسام الأربعة التي قسم بعض أصحابنا، وهو أن تكون الجملةً اسميةً مضمنةً معنى الفعل، وتقدم الواو اسم لا يتعذر العطف عليه، نحو قولك: ما شأن عبد الله وزيد، وما أنت وزيد، فالأحسن جر زيد في المثال الأول، ورفعه في المثال الثاني، وهذا هو القسم الثالث تختار فيه أن يكون معطوفًا، ويجوز فيه أن يكون مفعولا معه. وقوله وربما ينتصب بفعل مقدر بعد ((ما)) أو ((كيف)) ربما تدل على القلةً، فمثل ما شأن عبد الله وزيد الأرجح فيه العطف على عبد الله، ويجوز على قلة أن ينتصب مفعولا معه. وقد منع س ذلك بعض المتأخرين وقوفًا مع ظاهر قول س: ((فإذا أظهر الاسم فقال ما شأن عبد الله وأخيه يشتمه فليس إلا الجر؛ لأنه قد حسن أن تحمل الكلام على عبد الله؛ لأن المظهر المجرور تحمل عليه المجرور. وسمعنا بعض العرب يقول: ما شأن عبد الله والعرب يشتمها)). وهذا وهم منه، نظر إلى كلام س أولًا، ولم ينظر إليه أخرا، فقول س ((فليس إلا الجر)) يعني في الأفصح، ويدل على هذا التقييد بالأفصح قول س بعد ذلك: ((ومن قال ما أنت وزيد؛ قال ما شان عبد الله وزيدًا، وحمله على كان؛ لأن كان تقع هاهنا، والرفع أجود وأكثر، والجر في قولك ما شأن عبد الله وزيد أحسن وأجود، كأنه/ [4: 20 أ/ب] قال: ما شأن عبد الله وشأن أخيه، ومن

نصب أيضًا قال: ما لزيد وأخاه)) انتهى. فهذا نص من س على ترجيح العطف وتجويز النصب على أنه مفعول معه، وكلام س في هذا بين. وأشار المصنف بقوله ((في نحو وما أنت والسير)) لما أنشده س: وما أنت والسير في متلف يبرح بالذكر الضابط وكذلك: كيف أنت وقصعةً من ثريد، الرفع فيه هو الفصح الكثير، والنصب قليل، قال س: ((وزعموا أن ناسًا يقولون: كيف أنت وزيدا، وما أنت وزيدًا، وهو قليل في كلام العرب، لم يحملوا الكلام على ما ولا كيف، ولكن حملوه على الفعل، على شيء لو ظهر حتى يلفظوا به لم ينقض ما أرادوا من المعنى حين حملوا الكلام على ما وكيف، كأنه قال: كيف تكون وقصعةً من ثريد، وما كنت وزيدًا؛ لأن كنت وتكون يقعان هنا كثيرًا)) انتهى. وزعم ابن عصفور أن هذا مما يجب فيه النصب على المعيةً، فقال: ((ولا يجوز التشريك؛ لأنه يلتبس بالسؤال عن حال كل واحد عنهما على الانفراد)). قال ابن الضائع: ((وهذا غلط، بل قد نص س على اختيار الرفع، وذلك أنك إذا سألت من بينه وبين زيد اختلاط والتباس فهم المقصود، فلا يقع لبس، فقد

كان ينبغي ألا يجوز فيه النصب إذ لا ناصب له، لكن زعم س أنه جار على توهم كان أو تكون)) انتهى. وظاهر كلام س أن الرفع في; ما شأن عبد الله وزيدًا، وما أنت وزيدًا، وكيف أنت وزيدًا، إذا نصب ما بعد الواو هو على إضمار كان، وقد صرح بذلك س كما ذكرناه في نصه، وفي قوله أيضًا، قال: ((ما كان شأن زيد وأخاه))، فعلى هذا ارتفاع شأن بـ (كان) المضمرةً، وارتفاع أنت في: كيف أنت، وما أنت بـ (كان) المضمرةً، ولا يتخيل أن معنى ما أنت وزيدًا - وهو ما كنت وزيدًا - هو الذي بعمل؛ لأن المعاني لا تعمل في المفعولات الصحاح. واختلفوا في ((كان)) هذه المضمرةً؛ فنص أبو علي الفارسي وغيره على أنها التامةً؛ لأن الناقصة مجردةً للدلالةً على زمان نسبةً أمر إلى آخر فيما مضى، ولا تعمل، وإنما عملت في المبتدأ والخبر بالتنبيه، فلا تعمل في غيره. وهو اختيار الأستاذ أبي علي، وأبي عمرو بن تقي وعلى هذا ((كيف)) في موضع نصب على الحال، وأما ((ما)) فلا تكون حالًا؛ لأنها سؤال عن الذات لا عن الأحوال. وزعم بعضهم أنها مجردةً عن أصلها إلى السؤال عن الحال. والصحيح آن كان المضمرةً ناقصةً، وأنها ليست مجردةً من الحدث، فتكون كيف في موضع الخبر. وكذلك ما، التقدير: على أي حال تكون مع قصعة من ثريد، وأي شيء تكون مع زيد، وأي شيء يكون شان عبد الله مع زيد. وقال ابن [21:4 أ] /خروف: ((إن أنت ونحوه اسم كان، و (ما) الخبر، ولا يجوز أن تكون التامةً؛ لأنه تكون ما مبتدأ، وما بعدها الخبر، ولا ضمير فيه. ويجوز فيها مع كيف الوجهان، يعني لأن كيف تنتصب على الحال)) انتهى.

واختلف في تقدير س مع ((ما)) ((كنت))، ومع ((كيف)) ((تكون)): أذلك مقصود لـ ((ص)) أم لا: فزعم السيرافي أنه غير مقصود، ولو عكس لأمكن. ورد المبرد على س، وقال: يصلح في كل واحد منهما الماضي والمستقبل، نحو: ما تكون وزيدًا، وكيف كنت وزيدًا. وتابعه ابن طاهر، وقال: إنما قدر مع ما الماضي ومع كيف المستقبل لكثرة ذلك في الكلام، ولا يمنع في القياس العكس كما قال المبرد، إلا أن الاستعمال ورد على ما ذكر س، وتوقف عنده. ورد ابن ولاد على المبرد، فزعم أنه لا يجوز إلا ما قال س، وذلك أن ((ما)) دخلها معنى التحقير والإنكار، وليست سؤالًا عن مسألةً مجهولةً، ولا ينكر إلا ما ثبت واستقر، ولو كانت هنا لمجرد الاستفهام لجاز فيه الماضي والمضارع. وقال بعضهم: إن ذلك مقصود من س، وذلك أن قولهم ما أنت وزيد إنما يقال لمن أنكر عليه أن قال: خالطت زيدًا، أو لابسته، فيقال له: ما كنت وزيدًا؟ ولا يقال له إذا قال ما لابسته: ما أنت وزيدًا؟ لأنه لا ينكر ما لم يقع، إنما ينكر الواقع. وأما كيف أنت وقصعة من ثريد فإنما يقال على معنى: كيف تكون، كذا يستعمل عندهم، ولم ينقل خلاف هذا، فهذا النصب إنما يقال منه ما سمع.

وقال ابن خروف: إذا قال ما أنت فهو منكر عليه محقر أمره، وإذا قال كيف فهو يريد: على أي حال، ولما حقر أتي بـ (كان) ماضية مع ما، وأتى مع كيف بالمستقبل. وقال غيره: لما كان السواد إنما يقع في الأكثر عما يستقبل قرن المستقبل بكيف، ولما كان ما أنت وزيدا بمعنى التوبيخ على صحبته - وذلك في الأغلب إنما يقع على ما مضى - قرن الماضي بـ (ما). وقوله أو زمن مضاف مثله المصنف بقوله: ((أزمان قومي والجماعة))، وهذا من بيت أنشده س، وهو: أزمان قومي والجماعة ًكالذي منع الرحالةً أن تميل مميلا هكذا أنشده س في كتابه. وقال المصنف عن س إنه أنشده: ((كالذي لزم الرحالة)). ولعل ذلك وقع في نسخة من كتاب س وقعت للمصنف، وإلا فهو وهم منه، قال س: ((كأنه قال: أزمان كان قومي والجماعةً، فحمله على كان لأنها تقع في هذا الموضع كثيرا، ولا تنقض ما أرادوا من المعنى)) انتهى. ودل على الفعل هنا إضافةً الظرف إلى الاسم؛ لآن ظروف الزمان تضاف إلى الأفعال كثيرًا، [4: 21/ب] /فبإضمار الفعل صلح المعنى. وظاهر كلام س أن كان هي الرافعة لقومي، وأنها تامةً. وقيل: ناقصةً. والخلاف في هذا كالخلاف في: ما أنت وزيدًا، هل المضمر التامةً أم الناقصة.

وقال شيخنا أبو الحسن بن الضائع: ((ظاهر كلام س عندي أنه ليس كان في هذه المواضع محذوفةً، ويكون قومي مبتدأ، فكما آن توهم الباء في: ...... لست مدرك ما مضى ...................... لا يصير مدرك مخفوضًا [بها] فكذلك توهم كان هنا لا يصير قومي مرفوعا بها، وكذلك؛ ما أنت وزيدًا، وما مثله من الأبيات)) انتهى. وخبر ((كان قومي)) هو المفعول معه. وهو والجماعة - على مذهب ابن خروف في ((إنك ما وخيرًا)) أن ((وخيرًا)) هو الخبر لنيابته مناب الخبر. والصحيح أن خبر كان في البيت هو قوله: كالذي، ويريد: أزمان كان قومي مع الجماعة كالمتجسر بالرحل أو السرج المانعة أن يميل. أشار إلى لزوم قومه الجماعةً وترك الخروج عن طاعة السلطان. وقيل: إنه يصف استقامة الأمور وعدم الفتن قبل قتل عثمان. وقوله وقبل خبر ظاهر مثل المصنف بما ورد في الحديث من قول عائشةً رضي الله عنها (كان النبي - صلى الله عليه وسلم - ينزل عليه الوحي وأنا وإياه في لحاف). وروى

أبو محمد ثابت السرقسطي في "كتاب الدلائل" أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (أبشروا بالله, لأنا وكثرة الشيء أخوفني عليكم من قتله). قال ابن خروف: "لم يذكر س في كل رجل وضيعته وما أشبهه مما لم يتقدمه استفهام إلا الرفع, وبعض العرب ينصب إذا كان معه خبر, وذلك قليل لأنه يتوهم الفعل ومعنى مع". وقال المصنف في الشرح: "كأنها قالت: وكنت وإياه في لحاف, أو: وأنا كائنة وإياه في لحف, ويجوز عندي أن يكون إياه في موضع رفع عطفًا على أنا, على سبيل النيابة عن ضمير الرفع, كما ناب عن ضمير الجر في: مررت بإياك, وفي: هو الغداة كأنا" انتهى. وينبغي ألا تبنى على مثل هذه الآثار قاعدة نحو لجواز النقل بالمعنى, فلا يتعين أنه لفظ عائشة, ولا لفظ الرسول, ولكون الرواة قد يلحنون. ص: ويترجح العطف إن كان بلا تكلف ولا مانع ولا موهن, فإن خيف به فوات ما يضر فواته رجح النصب على المعية, فإن لم يلق الفعل بتالي الواو

جاز النصب على المعية وعلى إضمار الفعل اللائق إن حسن "مع" موضع الواو, وإلا تعين الإضمار. ش: قال المصنف في الشرح ما ملخصه: "أشرت بقولي بلا تكلف إلى نحو قوله: فكونوا أنتم وبني أبيكم ................ البيت, فيحسن العطف من جهة اللفظ, وفيه تكلف من جهة المعنى؛ لأن المراد: كونوا بني أبيكم, فالمخاطبون هم المأمورون, فإذا عطف كان التقدير: كونوا لهم وليكونوا لكم, وذلك خلاف المقصود, وكذا قول الآخر: إذا أعجبتك الدهر حال من امرئ فدعه, وواكل أمره واللياليا معناه: وواكل أمره لليالي, وتقدير العطف فيه تكلف". قال: "وأشرت بقولي ولا مانع إلى نحو: لا تنه عن القبيح وإتيانه, أي: مع إتيانه, فالعطف ها هنا ممتنع, وكذا في: استوي الماء والخشبة, وما زلت أسير والنيل ونحوهما" انتهى. وتقدم الكلام في هذه الواو, وأن الجمهور ذهبوا إلى أنها لا تقع إلا في مكان يصح فيه العطف حقيقة أو مجازًا, فتبين كيف العطف في: استوى الماء,

والخشبة، وفي: ما زلت أسير والنيل, فعلى ما قرره الجمهور لا مانع من العطف هنا, ولا يتعين كون الواو واو مع. قال المصنف: "وأشرت بقولي ولا موهن إلى نحو: ما صنعت وأباك, فنصبه مختار, وعطفه جائز على ضعف". وقوله فإن خيف إلى المعية مثاله: لا تغتذ بالسمك واللبن, ولا يعجبك الأكل والشبع, أي: مع اللبن, ومع الشبع, فالمعية تبين مراد المتكلم, والعطف لا يبينه, فتعين رجحان النصب للسلامة به من فوات ما يضر فواته, وضعف العطف؛ إذ هو بخلاف ذلك. وقوله فإن لم يلق (المسألة) قال المصنف في الشرح: "مثاله قوله تعالى {فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وشُرَكَاءَكُمْ}، فلا يجوز أن يجعل (وشركائكم) عطوفا؛ لأن أجمع لا ينصب إلا الأمر والكيد ونحوهما, ولك أن تجعل (وشركاءكم) مفعولًا معه, وأن تجعله مفعولًا فأجمعوا مقدرًا, كأنه قيل: فأجمعوا أمركم وأجمعوا شركاءكم, ومثله {والَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ والإيمَانَ}، فلك أن تجعل (الإيمان) مفعولًا معه, ولك أن تنصبه باعتقدوا مقدرًا. فإن كان الفعل غير صالح فيما بعد الواو, ولم تصلح "مع" في موضعها - تعين إضمار فعل صالح للعمل, فمن ذلك قول الشاعر:

إذا ما الغانيات برزن يومًا وزججن الحواجب والعيونا لأن زججن غير صالح للعمل في العيون, وموضع الواو غير صالح لمع" انتهى. فأما قوله "لأن أجمع لا ينصب إلا الأمر والكيد ونحوهما" فهذا على المشهور في اللغة, لا يقال: أجمعت شركائي, إنما هي بمعنى عزم, يقال أجمع أمره: إذا عزم عليه, وجمع بمعنى ضم المفترق, يقال جمع الدراهم: إذا ضمها, والشركاء: ضمهم, فعلى هذا يقال: جمعت شركائي, لا أجمعت شركائي, وقد حُكي أن أجمع بمعنى جمع, قال أبو ذؤيب: فكأنها بالحزم حزم نبايع وأولات ذي العرجاء نهب مجمع أي: مضموم ما تفرق منه, ومجمع: اسم مفعول من أجمع, فعلى هذا يقال: أجمعت/ [4: 22 ب] شركائي, وإذا جاز ذلك أمكن عطف الشركاء على الأمر, ولم يحتج إلى تأويل الآية, وإنما تؤول على أنها من هذا الباب على المشهور من اللغة. فإن قلت: إذا كان مذهب الجمهور أنه لا تكون مع واو إلا حيث يصلح العطف ففي هذه الآية لا يصلح العطف على مشهور اللغة؛ فكيف أجزتم فيه أن تكون واو مع؟

قلنا: إن كان لا يصلح العطف على "أمركم" فيصلح العطف على الضمير في فأجمعوا؛ إذ قد فصل بينهما بالمفعول, وقد قرأن برفع {وشركاؤكم} عطفًا على الضمير يعقوب الحضرمي. وأما قوله بإضمار الفعل جوازًا إذا كان لا يعمل فيما بعد الواو وتتقدر الواو بمع, ووجوبًا إذا كان لا يعمل فيما بعدها ولا تتقدر بمع, وتجويزه في (وشركاءكم) و (الإيمان) أن يكون مفعولًا معه, وعلى إضمار الفعل, وتعيينه الإضمار في: ................ وزججن الحواجب والعيونا ففي الحمل على إضمار الفعل اللائق خلاف: ذهب أبو عبيدة وأبو محمد اليزيدي والأصمعي والجرمي والمازني والمبرد وجماعة إلى أن الثاني معطوف على الأول, ويكون العامل قد ضمن معنى يتسلط به على المتعاطفين, قال أبو عمر في "الفرخ": يجوز في العطف ما لا يجوز في الإفراد, نحو: أكلت خبزًا ولبنًا, وأنشد: يا ليت زوجك قد غدا متقلدًا سيفًا ورمحًا إذ ضمن متقلدًا معنى حاملًا, وضمن يجدع في قوله: تراه, كأن الله يجدع أنفه وعينيه إن مولاه ثاب له وفر

معنى يذهب, لأنه إذا جدع أنفه فقد أذهبه, وضمن تسمع معنى تعلم في قول الشاعر: تسمع للأحشاء منه لغطًا وفي اليدين جسأة وبددًا وضمن أطفلت معنى وضعت في قوله: فعلًا فروع الأيهقان, وأطفلت بالجهلتين ظباؤها ونعامها وضمن وزججن معنى وحسن؛ لأن التزجيج تحسين, وضمن يحلين معنى يعطين ويناولن في قوله: غرائر في كن وصون ونعمة يحلين ياقوتًا وشذرًا مفقرًا وريح سنا في حقة حميرية تخص بمفروك من المسك أذفرا وذهب إلى الفراء, وجماعة من الكوفيين, والفارسي, وجماعة من البصريين, إلى أن ما جاء من هذا النوع محمول على إضمار فعل مناسب لتعذر.

عطفه على ما قبله؛ فيصير من عطف الجمل, فيضمرون: ويفقأ عينيه, وترى في اليدين, وباضت نعامها, وكحلن العيون. واحتج هؤلاء على المنع من عطف الاسم على الاسم الذي قبله بأنه لا يسوغ: علفتها ماء وتبًا, كما يقال: علفتها تبنًا وماء, قال الشاعر: فعلفتها تبًا وماء باردًا حتى شتت همالة عيناها فلو كان على التضمين لجاز هذا العطف, ولا حجة في قول الحطيئة: سقوا جارك العيمان لما جفوته وقلص عن برد الشراب مشافره سنامًا ومحضًا أنبتا اللحم, فاكتست عظام امرئ ما كان يشبع طائرة فالرواية المشهورة: قروا جارك, وعلى تقدير صحة رواية سقوا فلا حجة فيها؛ لأنهم كانوا يذيبون السنام في المحض ويشربونه. ولا حجة أيضًا في قول عنترة: ويمنعهن أن يأكلن منه حياة يد ورجل تركضان

لجواز أن يكون تركضان صفة للرجل, وثنى لأنه يريد الرجلين, كقولهم: عين حسنتان, كما قال امرؤ القيس: وعين لها حدرة بدرة شقت ما فيها من أخر والذي يدل على التضمين ويقطع ببطلان إضمار الفعل أنه قد وجد في كلامهم ما ادعوا أنه لا يوجد؛ وهو مثل: علفتها ماء وتبنًا, قال طرفة: أعمرو بن هند ما ترى رأي صرمة لها سبب ترعى به الماء والشجر ] و [: ونابغة الجعدي بالرمل بيته عليه صفيح من تراب وجندل ضمن صفيح معنى ستر, وكأنه قال: ستر من تراب وجندل. وإذا كانوا قد عطفوا ما لا يدخل في العامل لا بتضمين ولا غيره فلأن يعطفوا ما يدخل بتضمين أولى وأحرى, أنشد الأحْوَل:

ومستنبح بعد الهدو دعوته وقد حان من ساري الشتاء طروق يكابد عرنينًا من الليل باردًا تكف رياح ثوبه وبروق فالرياح تكف الثوب لا البروق, لكنه عطفها على الرياح لالتباسها بها. ومما يضعف مذهب الإضمار أنه جاء منه ما هو بعد مخفوض الإضافة, نحو قوله: شراب ألبان وتمر وأقط لأنه إذا أضمر وأكال تمر كان قد حذف المضاف, ولم يقم الثاني مقامه مع أنه لم يتقدم له ذكر في اللفظ, وهو غير سائغ, وأنه جاء منه ما هو مخفوض بحرف جر, نحو قوله: فلما دعت شيبًا بجنب عنيزة مشافرها في ماء مزن وباقل [4: 23/ ب] /فـ "شيب" في الماء لا في النبت, فإن أضمرت ورعت في باقل كان من قبيل: "خير, عافاك الله"، وهو في غاية الشذوذ. واختلف في هذا النوع من العطف أهو قياس أم سماع, والأكثرون على أنه قياس, وضابطه أن يكون الأول والثاني يجتمعان في معنى عام لهما.

-[ص: والنصب في حسبك وزيدًا درهم بـ "يحسب" منويًا, وبعد ويله وويلًا له بناصب المصدر, وبعد ويل له بـ " ألزم" مضمرًا, وفي: رأسه والحائط, وامرأ ونفسه, وشأنك والحج - على المعية, أو العطف بعد إضمار "دع" في الأول والثاني, و "عليك" في الثالث, ونحو "هذا لك وأباك" ممنوع في الاختيار.]- ش: قال س: "ومن ثم قالوا: حسبك وزيدًا درهم, لما كان فيه معنى كفاك, وقبح أن يحملوه على المضمر - نووا الفعل, كأنه قال: حسبك ويحسب أخاك درهم, وكذلك: كفيك" انتهى. كفيك هو من كفاه يكفيه, وكذلك قطك, تقول: كفيك وزيدًا درهم, وقطك وزيدًا درهم, وقال: .............. فحسبك والضحاك سيف مهند وليس هذا من باب المفعول كما زعم الزمخشري؛ لأن المفعول معه لا يعمل فيه إلا الفعل أو ما جرى مجراه, فليس حسبك مما جرى مجرى الفعل. وأما ما قاله ابن عطية من أن الكاف في موضع نصب فلا يصح؛ لأن حسبك إضافته محضة؛ إذ ليس باسم فاعل ولا مصدر, وإنما جاء س به حجة للحمل على الفعل للدلالة, فحسبك يدل على كفاك. ويحسبني مضارع أحسبني فلان: إذا أعطاني حتى أقول حسبي, فالناصب في هذا فعل يدل عليه المعنى, وهو في كفيك وزيدًا درهم أوضح؛ لأنه مصدر للفعل المضمر, أي: ويكفي زيدًا, وفي قطك وزيدًا درهم التقدير فيه أبعد؛ لأن قطك

ليس في الفعل المضمر شيء من لفظه, إنما هو ناصب مفسر من حيث المعنى فقط, وفي ذلك الفعل المضمر فاعل مضمر, يعود على الدرهم, والنية بالدرهم التقديم, فيصير من عطف الجمل. ولا يجوز أن يكون من باب الإعمال لأن طلب المبتدأ للخبر وعمله فيه ليس من قبيل طلب الفعل أو ما جرى مجراه ولا عمله؛ فلا يتوهم ذلك فيه. وزعم الزجاج أن حسبك اسم فعل, والكاف في موضع نصب, وهو خطأ لدخول العوامل عليه, تقول العرب: بحسبك درهم, وقال تعالى {فَإنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ}. فإن قلت: إذا دخلت عليه العوامل يكون غير اسم فعل, وإذا لم تدخل كان اسم فعل, كرويد وبله؛ ألا ترى أنهما بعدهما مخفوض لم يكونا اسم فعل, وإذا لم يجئ كانا اسمي فعل. فالجواب: أن رويد وبله جاءا في مكان تعين أن يكونا فيه اسمي فعل, وحسبك/ [4: 24/ أ] لم يقع في مكان يتعين فيه أن يكون اسم فعل, فبان الفرق. وقوله وبعد ويله وويلا له بناصب المصدر قال س: "وأما ويلًا له وأخاه, وويله وأباه - فانتصب على معنى الفعل الذي نصب, كأنه قال: ألزمه الله ويله وأباه" انتهى, لما امتنع أن يحمل على المخفوض وعلى ويلًا لأن المعنى

يأباه حمل على الفعل الذي انتصب عليه ويلًا, وكأنه قال: ألزمه الله ويلًا وأخاه, ويكون معطوفًا على مفعول ألزم الأول. وقوله] وبعد [ويل له بـ "ألزم" مضمرًا قال س: "وإن قلت ويل له وأباه نصبت؛ لأن فيه ذلك المعنى" انتهى, كأنك قلت: ويل له وألزم الله الويل أباه, ودل على هذا الفعل ويل له؛ لأنه في معنى المنصوب الذي هو: ويلًا له. وقوله وفي رأسه إلى قوله والثاني: قال س: "ومن ذلك: رأسه والحائط, كأنه قال: خل أو دع رأسه مع الحائط, فالرأس مفعول, والحائط مفعول معه, فانتصبا جميعًا. ومن ذلك قولهم: شأنك والحج، كأنه قال: عليك شأنك مع الحج. ومن ذلك: امرأ ونفسه, كأنه قال: دع امرأ ونفسه, فصارت الواو في معنى مع كما صارت في معنى مع قولهم: ما صنعت وأباك. وإن شئت لم يكن فيه ذلك المعنى, فهو عربي جيد, كأنك قلت: عليك رأسك, وعليك الحائط, وكأنه قال: دع امرأ ودع نفسه, فليس ينقض هذا ما أردت في معنى مع من الحديث" انتهى. وفي تجويز س كون المنصوب في هذه المثل على المعية رد على من يعتقد أن المفعول معه لا يكون إلا مع الفاعل. وهذا كله مقيس, أعني المعطوف والمعطوف عليه, لك أن تقول: زيدًا وعمرًا, وما كان نحوه, على إضمار الفعل الذي لا يظهر.

فإذا عطفت فالمعنى: دع رأسه مع الحائط, واترك الحائط مع رأسه, فالرأس والحائط متروكان, وهذا المعنى بعينه هو معنى مع, ولا فرق بينهما إلا أن مع يفهم منها أحد المعاني التي تحتملها الواو, وهو كونهما في حين واحد, وإذا كانت الواو عاطفة احتمل الكلام إلا أن تكون قرينة, فيكون ذلك من خارج لا من الواو نفسها, بخلاف واو مع. وقوله و "عليك" في الثالث يعني أن المحذوف في قولهم شأنك والحج هو لفظ الإغراء, وهو عليك, بمعنى: ألزم شأنك والحج, وغر المصنف في أن جعل الناصب لشأنك عليك محذوفة تمثيل س ذلك بعليك في قوله " ومن ذلك قولهم: شأنك والحج, كأنه قال: عليك شأنك مع الحج". وهذا الذي قدره س هو تمثيل وتقدير معنى لا تفسير إعراب, وتفسير الإعراب هو: ألزم شأنك, وبهذا قدره النحويون, وقالوا: لا يضمر عليك, وإنما يضمر الفعل. ويظهر لي في تعليل ذلك أنه لما كان أصل العمل في المفعول به للفعل, وأنابوا عليك منابه لكونه اسم فعل, وكان قياسه ألا يعمل - لم يتصرفوا فيه/ [4: 24/ ب] تصرف الفعل؛ لأنه فرع عنه, فلم يجيزوا إعماله مضمرًا لئلا تساوي الفروع الأصول؛ ألا ترى أن "ما" لما شبهت بـ "ليس" نقص عملها عن عمل ليس, و "لا" التي للنفي العام لما شبهت بـ "إن" نقص عملها أيضًا.

وقوله ونحو "هذا لك وأباك" ممنوع في الاختيار قال س: "وأما هذا لك وأباك فقبيح؛ لأنه لم يذكر فعلًا ولا حرفًا فيه معنى فعل حتى يصير كأنه قد تكلم بالفعل" انتهى. قال المصنف في الشرح: "كثر في كلام س التعبير بالقبح عن عدم الجواز, وقد استعمله قبل إذ قال في حسبك وزيدًا درهم: (لما كان فيه معنى كفاك وقبح أن يحملوه على المضمر - نووا الفعل). واستعمله أيضًا هنا, والحاصل أن س قد أفصح بأن اسم الإشارة وحرف الجر المتضمن معنى الاستقرار لا يعملان في المفعول معه؛ لأنه حكم على أن هذا لك وأباك قبيح, ومراده أنه غير جائز, ولو كان اسم الإشارة صالحًا عنده لنصب المفعول معه أو ما تضمن معنى الاستقرار من ظرف أو حرف جر لأجاز أن يقال: هذا لك وأباك, مخيرًا بين أن ينسب العمل لهذا أو لـ "لك"، وقد أجاز أبو علي في قول الشاعر: ................... هذا ردائي مطويًا وسربالًا أن ينصب السربال بـ (هذا) مفعولًا معه. وأجاز بعض النحويين أن يعمل في المفعول معه الظرف وحرف الجر" انتهى. وقد تم الكلام على انقسام مسائل هذا الباب على ما ذكره المصنف إلى: واجب العطف, وراجحه, وواجب المعية, وراجحها, ومتساوي العطف والمعية,

فصارت خمسة أقسام. وتقدم من تقسيم أصحابنا إلى واجب العطف, ومختاره, وواجب المعية, ومتساوي المعية والعطف, وقسم شيخنا الأستاذ أبو الحسن بن الضائع المسائل إلى ما قسمها المصنف. فالواجب المعية قولهم: جلست والسارية, ومازلت أسير والنيل؛ وذلك أن العطف هنا لو كان حقيقة من جهة المعنى لقبح من جهة اللفظ العطف على المضمر؛ على أنه لا يجوز: جلس عمرو والسارية؛ لأنه مجاز لا معنى له في هذا الموضع. والواجب التشريك: كل رجل وضيعته, وأنت وشأنك, خلافًا للصميري, فإنه أجاز فيه المعية, والصحيح مذهب الجمهور. والراجح المعية: ما لك وزيدًا. والراجح العطف: ما لزيد وعمرو, وما أنت وقصعته من ثريد. والمستوى فيه العطف والمعية: ما صنعت أنت وأبوك, ولو تركت هي وفصيلها لرضعها, انتهى ملخصًا غاية التلخيص. -[ص: وفي كون هذا الباب مقيسًا خلاف, ولما بعد المفعول معه من خبر ما قبله أو حاله ما له متقدمًا, وقد يعطى حكم ما بعد المعطوف, خلافًا لابن كيسان.]- ش: قال المصنف في الشرح: "بعض النحويين يقتصر في مسائل في هذا الباب على السماع, والصحيح استعمال القياس فيها على الشروط المذكورة" انتهى.

وقال أبو الحسن: "قوم يقيسون هذا في كل شيء, وقوم يقصرون على ما سمع منه"، قال ابن عصفور: "ويعني بالذين يقصرونه على السماع أنهم لا يجيزون ذلك إلا حيث لا يراد بالواو معنى العطف المحض؛ لأن السماع إنما ورد به هنالك. ويعني بالذين يقيسون أنهم يجيزون ذلك حيث يراد به معنى العطف المحض, نحو: قام زيد وعمرًا, وحيث لا يتصور معنى العطف أصلًا, نحو: قعدت وطلوع الشمس" انتهى. وقال الفارسي في التذكرة: "من لم يقس يقول إن الواو حرف غير عامل, كما أن إلا حرف غير عامل, وقد وصل الفعل بكل واحد منهما إلى ما بعده, فكما لا يقال على إلا غير الاستثناء كذلك لا يقاس: استوي الماء والخشبة, إلا ما سمع, والذي يقيس يقول: إن الواو حرف قد أبدل من الباء في نحو: والله, وفي نحو: لك الشاء شاة ودرهم, أي: بدرهم, فلما أشبه الباء في هذا, وقاربه في المعنى أيضًا - جعله بمنزلة حرف الجر". قال ابن عصفور: "والصحيح عندي أن ذلك لا يقاس في كل شيء, فلا يجوز انتصاب الاسم على أنه معه حيث لا يتصور معنى العطف أصلًا؛ لقيام الأدلة على أن واو مع واو عطف في الأصل, ولا حيث يراد معنى العطف المحض؛ لأنه لا موجب إذ ذاك للعدول عما يقتضيه العطف من المشاكلة إلى النصب, مع أن العرب تؤثر المشاكلة على غيرها, وإنما يجوز ذلك حيث يدخل المعطوف بالواو معنى المفعول به؛ لأن دخول ذلك المعنى فيه هو الذي سوغ نصبه" انتهى.

وقال الأستاذ أبو علي: "متى كان العطف نصًا على معنى مع, وكان حقيقة في المعنى - ضعف النصب, كقولك: قام زيد وعمرو, فهذا لا يقال بالنصب إلا إن سمع, ومنه على ما زعم قول الشاعر: فالشمس طالعة ليست بكاسفة تبكي عليك نجوم الليل والقمرا أي: مع القمر, فإذا كان العطف ليس بنص في المعنى, أو كان مجازًا - قوي النصب على المفعول معه". قال: "وفي هذين ينبغي أن يكون الخلاف, أقياس هو أم لا"، قال: "ومثال الأول: استوي الماء والخشبة, ومثال الثاني مشيت والنيل". قال: "فما حكي الفارسي في الإيضاح أن قومًا يقيسونه وآخرين يقصرونه على السماع ينبغي أن يكون مخصوصًا بهذين القسمين لا بالقسم الأول, فإنه ليس بمقيس أصلًا". وقال ابن هشام الخضراوي: المفعول معه اختلف: هل يقاس أم لا, والقياسون اختلفوا: فقيل: في كل ما جاز فيه العطف حقيقة أو مجازًا, وقيل: قياسه في المجاز, وسماعه في العطف الحقيقي. ومذهب الفارسي عدم القياس, والنصب بما قيل الواو من فعل أو معناه بتوسط الواو فيما جاء منه, وأنه لم يجز منه شيء إلا مع صلاحية العطف, فلا يجيز:

جلست والسارية, أي: مع السارية؛ لأنه ليس في معنى المعطوف, ولا: جلست وطلوع الشمس, وإن قلت مع طلوع الشمس, ولا: أنت وشأنك, بالنصب؛ لأنه لم يتقدم فعل, ولا: قام زيد وعمرًا, وإن كان سمع فيما هو في معناه, إلا أنه لا يقيسه, وعلى هذا أكثر النحويين, وهو ظاهر مذهب الكتاب. وأما نصبه بفعل ظاهر أو مضمر فنص من س لا يحتمل تأويلًا, ونصبه بمعنى الفعل فيه احتمال, وقد أجاز جماعة ما ذكرت على أبي علي منعه, والنص معدوم في كل ما خالف شروطه. وزعم السيرافي أن: استوي الماء والخشبة, وجاء البرد والطيالسة - لا يجوز فيهما إلا النصب, وهذا مطرد في كل ما كان مؤثرًا للأول, وكان الأول سببًا له, فالبرد سبب لاستعمال الطيالسة, وإذا قلت: جئت وزيدًا - أي: كنت السبب في مجيئه - فلا يجوز فيه إلا النصب, وهذا القول قول أبي العباس وأبي عمر, ونحو هذا: ما زلت وعبد الله حتى فعل, فألزموا النصب هنا, ولم يجيزوا العطف؛ لأن المعنى ليس عليه, والقصد الإعلام بتأثر الثاني عن الأول عندهم. وغيرهم يرى جواز العطف في هذا؛ لأن كل واحد منهما مشارك للأول في الاستواء والمجيء وإن كان في الثاني بعد تجوز. ورأيت الشلوبين يجيز القياس في هذا النوع, وفي قولهم: ما زلت أسير والنيل؛ لأن العطف في هذه الأشياء يجوز, فينبغي أن يقاس عليه. ورأيت لغيره من المتقدمين من أصحابنا مثل هذا فيما يقبح عطفه من جهة اللفظ لا المعنى؛ نحو: ما صنعت وزيدًا, وما لك وزيدًا؛ لأن العطف على الضمير

المرفوع دون توكيد وعلى ضمير الخفض على الإطلاق قبيح؛ فيقيسون في هذا الموضع لاختلال العطف. وهذان مذهبان ليسا مأثورين عن جلة المتقدمين, ولا مذهب السيرافي مشهور عمن كان قبله, والاتفاق على أن هذا مطرد في لفظ الاستواء والمجيء والصنع وفي كل لفظة سمعت. وينبغي عندي أن يقاس على ما سمع ما في معناه وإن لم يكن من لفظه؛ فتقيس وصل على جاء, ووافق على استوي, وفعلت على صنعت. وذكر س: لو تركت الناقة وفصيلها لرضعها, وما زلت وزيدًا حتى فعل, وهذا يجب نصبه في قول السيرافي. وما أنت وزيدًا, وكيف أنت وعبد الله, الأكثر في كلامهم في هذين الرفع, وقليل منهم نصب بإضمار: ما كنت, وكيف تكون؛ لاستعمالهم "كنت" بعد "ما", و "تكون" بعد "كيف" كثيرًا. وذكر: ما لك وزيدًا, وما شأنك وعبد الله, مما لا يصح فيه العطف, فإذا قلت: ما لزيد وعمرو, وما شأن زيد وعمرو - لم يجز فيه إلا الخفض, إلا في لغة/ [4: 26/ أ] من يقول: ما أنت وزيدًا, على إضمار: ما كان شأنك, وما كان لزيد. وحكي: حسبك وزيدًا وزيد درهم, وجعله على تقدير: يكفي, وويلًا له وأباه, على العطف, أي: ألزمه الله ويلًا له, وألزم أباه, وويل له وأباه, بالإضمار, أي: وألزم أباه الويل.

فهذه الفصول هي الجائزة في هذا الباب, وكذا ما في معناها, وما يمكن أن يقاس عليه وليس من ألفاظها ومعانيها لا ينبغي أن يجوز. وقوله ولما بعد إلى قوله متقدمًا مثال ما هو خبر لما قبله: كان زيد وعمرًا متفقًا, فمتفقًا: خبر كان, وهو مفرد كحاله لو تقدم فقلت: كان زيد متفقًا وعمرًا, ومثال ما هو حال لما قبله: جاء البرد والطيالسة شديدًا, فشديدًا حال من البرد, وهو مفرد كحاله لو تقدم فقلت: جاء البرد شديدًا والطيالسة. وقوله وقد يعطى حكم ما بعد المعطوف أي: وقد يعطى الخبر والحال مع المفعول معه حكمهما بعد الاسم المعطوف عليه بالواو؛ فيطابق الاسم والمفعول معه كما يطابق الاسم والمعطوف عليه, فتقول: كان زيد وعمرًا مذكورين, وجاء زيد وعمرًا ضاحكين, كما تقول: كان زيد وعمرو مذكورين, وجاء زيد وعمرو ضاحكين, وهذا مذهب الأخفش, واختاره المصنف, والإفراد معهما أولى كما يكون بـ "مع". وقوله خلافًا لابن كيسان يعني أن ابن كيسان لا يجيز مطابقة الاسم والمنصوب على المعية في الخبر والحال؛ بل لا يجعل ذلك إلا مطابقًا للاسم وحده دون ما بعد واو مع, قال المصنف في الشرح: "ومما يدل على أن مع يكون ما بعدها بمنزلة المعطوف بالواو قول الشاعر: مشق الهواجر لحمهن مع السري حتى ذهبن كلاكلا وصدورًا أراد: مزقت الهواجر والسرى لحمهن, فأقام مع مقام الواو" انتهى. وهذا لا ينهض أن يكون حجة على ابن كيسان.

وإجراء مع مجرى الواو العاطفة فيراعى مجرورها مراعاة المعطوف فيه خلاف: أجاز الكسائي وهشام: عبد الله مع جاريته قاعدان, على أن مع محمولة على الواو والتقدير: عبد الله وجاريته قاعدان, وأبطل هذا الفراء, وأجاز الكسائي وأصحابه: اختصم زيد مع عمرو, بمعنى: اختصم زيد وعمرو, ولم يجز الفراء. والذي نختاره مذهب ابن كيسان؛ لأن باب المفعول معه باب ضيق, وأكثر النحويين لا يقيسونه, فلا ينبغي أن يقدم على إجازة شيء من مسائله إلا بسماع من العرب. فرع: يجوز الفصل بين الواو العاطفة وبين معطوفها بالظرف, فتقول: قام زيد واليوم عمرو, وضربت زيدًا واليوم عمرًا, ولا يجوز ذلك في الواو التي بمعنى مع لا بظرف ولا بغيره, فإذا قلت قام زيد وعمرًا فلا يجوز فيه: واليوم عمرًا؛ لأنه قد صار بمنزلة مع عمرو كالجار والمجرور, فمنعوا الفصل بينهما.

باب المستثنى

-[ص: باب المستثنى [4: 26/ ب] /وهو المخرج تحقيقًا أو تقديرًا من مذكور أو متروك بألا أو ما بمعناها بشرط الفائدة؛ فإن كان بعض المستثنى منه حقيقة فمتصل, وإلا فمنقطع مقدر الوقوع بعد لكن عند البصريين, وبعد سوى عند الكوفيين.]- ش: جرت عادة النحاة س فمن بعده أن يبوبوا هذا الباب باب الاستثناء؛ وكأن المصنف إنما عدل إلى باب المستثنى لأنه أجراه على ما قبله من باب المفعول معه؛ فكما بوب لما بعد واو مع المفعول معه كذلك بوب لما بعد وإلا وما أشبهها بالمستثنى. وقوله وهو المخرج جنس, يدخل تحته المخرج بالاستثناء, والمخرج بالتخصيص, وغير ذلك من المخصصات. وقوله تحقيقًا مثاله: قام إخوتك إلا زيدًا. وقوله أو تقديرًا هو الاستثناء المنقطع, نحو قوله تعالى {مَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إلاَّ اتِّبَاعَ الظَّنِّ}، فإن الظن - وإن لم يدخل في العلم تحقيقًا - فهو في تقدير الداخل فيه؛، فإن الظن - وإن لم يدخل في العلم تحقيقًا - فهو في تقدير الداخل فيه؛ إذ هو مستحضر بذكره لقيامه مقامه في كثير من المواضع, فهو حين استثني مخرج مما قبله تقديرًا. وأتى المصنف في الشرح بمثل من الاستثناء المنقطع, من ذلك الفائق ما قبله مع اتحاد الجنس, نحو: له على الألف إلا ألفين, ذكره الفراء, قال المصنف في

الشرح: "فمثل هذا لم يكن داخلًا فيخرج بإلا, لكنه في التقدير مخرج؛ لأن المقر إذا اقتصر على مقدار بمنزلة المنكر غيره, فكأنه قال: له على ألف لا غير إلا ألفين, فبان بهذا أن ألفين مخرجان تقديرًا. ومن هذا القبيل {إنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إلاَّ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الغَاوِينَ} إذا لحظت في الإضافة معنى الإخلاص, فلم يندرج الغاوون فيهم فيخرجون, وتفاوت الغاوين أكثر من تفاوت ألفين بكثير, يدل عليه حديث بعث النار, فكأنه قيل: إن عبادي ليس لك عليهم سلطان ولا على غيرهم إلا من اتبعك من الغاوين, وقد يجعل متصلًا إذا كان العباد عامًا, والانقطاع قول ابن خروف, والاتصال قول الزمخشري. ومن المخرج تقديرًا {لا عَاصِمَ اليَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إلاَّ مَن رَّحِمَ} على أصح الوجوه, فالتقدير: لا عاصم اليوم من أمر الله لأحد, أو لما ذكر العاصم استدعى معصومًا, فكأنه قيل: لا معصوم عاصم إلا من رحم الله.

ومن ذلك المستثنى السابق زمانه زمان المستثنى منه, نحو {ولا تَنكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُم مِّنَ النِّسَاءِ إلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ}، لم يدخل (ما قد سلف) فيما قبله, لكنه جائز أن تبقى المؤاخذة به, فبين بالاستثناء عدم بقائها, فكأنه قيل: الناكح ما نكح أبوه مؤاخذ بفعله إلا ما قد سلف. ومن ذلك قولهم: لأفعلن كذا وكذا إلا حل ذلك أن أفعل كذا, مثل به س, ثم قال: "فأن أفعل كذا وكذا بمنزلة فعل كذا وكذا, وهو مبني على حل, وحل مبتدأ, كأنه قال: ولكن حل ذلك أن أفعل كذا وكذا". ولما كان حل مرفوعًا اعتذر عنه بأنه جملة, فلو كان موضعه مفرد كان منصوبًا, فالجملة في موضع نصب, ولذلك أحتاج إلى ذكر: والله لا أفعل إلا أن تفعل؛ لأنه فعل, فلم يظهر فيه حكم الاستثناء, وفسره س بـ "حتى تفعل"، وهو تفسير معنى؛ لأن أن قد نصبت الفعل, فهو مصدر, فلم تدخل حتى, فإنما الكلام على حذف مضاف, كأنه قال: لا أفعل ذلك إلا وقت فعل, فيكون استثناء من عموم الحكم. وزعم المبرد أن هذا على معنى: لا أفعل إلا بأن تفعل, أي: لا أفعل إلا بسبب فعلك. وما ذهب إليه يمكن أن يساعده المعنى, لكن إنما يقال ذلك بمعنى أن الفعل مقترن بالفعل الآخر غير متراخ عنه, ومذهب المبرد لا يتعرض لشيء من هذا, وإنما دل على أن الفعل بسبب هذا الفعل, فيمكن أن يكون بعده بزمان, فإن نقل أنه يقال في هذا المعنى كان حسنًا.

قال السيرافي: "إلا بمعنى لكن؛ لأن ما بعدها مخالف لما قبلها, وذلك أن قوله والله لأفعلن كذا وكذا عقد يمين عقده على نفسه, وحله إبطاله ونقضه, كأنه قال: علي فعل كذا معقودًا لكن أبطل هذا العقد فعل كذا". قال المصنف: "وتقدير الإخراج في هذا أن يجعل قوله (لأفعلن كذا) بمنزلة: لا أرى لهذا العقد مبطلًا إلا فعل كذا, فهذا استثناء منقطع بجملة". وجعل ابن خروف من هذا القبيل {لَسْتَ عَلَيْهِم بِمُسَيْطِرٍ (22) إلاَّ مَن تَوَلَّى وكَفَرَ (23) فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ العَذَابَ الأَكْبَرَ} على أن يكون (من) مبتدأ, و (يعذبه الله) خبره, ودخلت الفاء لتضمن المبتدأ معنى الجزاء. وجعل الفراء من هذا {فَشَرِبُوا مِنْهُ إلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمْ}، على تقدير: إلا قليل منهم لم يشربوا، واستحسنه ابن خروف. ومن هذا النوع قوله عليه السلام (ما للشياطين سلاح أبلغ في الصالحين من النساء إلا المتزوجون, أولئك المطهرون المبرؤون من الخنا).

ويمكن أن يكون من هذا {إلاَّ امْرَأَتَكَ إنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ} في قراءة من رفع, على أن يكون (امرأتك) مبتدأ, وخبره ما بعده, وبهذا التوجيه يكون الاستثناء في النصب والرفع من {فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ}، وهو أولى من أن يكون المنصوب من (أهلك)، والمرفوع من (أحد). ومن ذلك: إن لفلان مالًا أنه شقي, وما زاد إلا ما نقص, وما نفع إلا ما ضر, ولا تكونن من فلان في شيء إلا سلامًا بسلام, وهي من أمثلة س, ومن أمثلة غيره: جاء الصالحون إلا الطالحين, وجاء زيد إلا عمرًا, وما في الأرض أخبث منه إلا إياه. فالمستثنى في هذه الأمثلة ليس مخرجًا تحقيقًا بل تقديرًا, فكأنك قلت: عدم البؤس, ثم استثنيت من البؤس كونه شقيًا, وكأنك قلت, ما عرض له عارض, ثم استثنيت من العارض النقص, وكأنك قلت: ما أفاد شيئًا إلا ضرًا, وكأنك قلت: لا تعامله بشيء إلا متاركة, وكأن السامع توهم مجيء غير الصالحين, فأزلت توهمه بالاستثناء, وكأنك عرفت علم السامع بمرافقة زيد لعمرو, وقدرت أنه توهم أنك اقتصرت على زيد اتكالًا على علم السامع بترافقهما؛ فأزلت توهمه بالاستثناء, وكأنك قلت: ما يليق خبثه بأحد إلا إياه, وتسلم هذا السبيل فيما ورد من أمثال هذا.

[4: 27/ ب] /قال ابن السراج: "إذا كان الاستثناء منقطعًا فلا بد من أن يكون الكلام الذي قبل إلا قد دل على ما يستثننى, فتأمل هذا فإنه يدق, فمن ذلك {لا عَاصِمَ اليَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إلاَّ مَن رَّحِمَ}، فالعاصم الفاعل, ومن رحم قد دل على العصمة والنجاة, وكأنه قال: ولكن من رحم يعصم أو معصوم". وقال في ما زاد إلا ما نقص, وما نفع إلا ما ضر: "وإنما حسن هذا الكلام لأنه لما قال ما زاد دل على قوله: هو على حاله, فكأنه قال: هو على حاله إلا ما نقص, وكذلك: هو على أمره إلا ما ضر" انتهى, وفيه بعض تلخيص. وقوله من مذكور مثاله: قام القوم إلا زيدًا, فزيد مستثنى من مذكور, وهو القوم. وقوله أو متروك مثاله: ما ضربت إلا زيدًا, التقدير: ما ضربت أحدًا إلا زيدًا, فزيد مستثنى من متروك لا من مذكور, وهو أحد. وظاهر قول المصنف أن المستثنى مخرج من الاسم المستثنى منه مذكورًا كان أو متروكًا؛ وهذا مذهب الكسائي, زعم أنك إذا قلت قام القوم إلا زيدًا فمعناه الإخبار بالقيام عن القوم الذين ليس فيهم زيد؛ وزيد مسكوت عنه, لم يحكم عليه بقيام ولا بنفيه, فيحتمل أنه قام, ويحتمل أنه لم يقم. وذهب الفراء إلى أنه لم يخرج زيد من القوم, وإنما أخرجت إلا وصف زيد من وصف القوم؛ لأن القوم موجب لهم القيام, وزيد منفي عنه القيام. وذهب س وجمهور البصريين إلى أن الأداة أخرجت الاسم الثاني من الاسم الأول, وحكمه من حكمه.

وهذا الخلاف الذي ذكرناه هو في الاسم المتصل. واحتج الكسائي لمذهبه بقولك: قام القوم إلا زيدًا فإنه لم يقم, فلو كان قولك إلا زيدًا يقتضي نفي القيام عن زيد لكان قولك فإنه لم يقم فضلًا لا يحتاج إليه, ويدل على جواز هذا التركيب قوله تعالى {فَسَجَدُوا إلاَّ إبْلِيسَ لَمْ يَكُن مِّنَ السَّاجِدِينَ}، وبقوله {إلاَّ إبْلِيسَ أَبَى أَن يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ}. وأجيب عن قوله {لمْ يَكُن مِّنَ السَّاجِدِينَ}، وعن قولهم "إلا زيدًا فإنه لم يقم" - بأن ذلك جاء على طريقة التأكيد لا على جهة الإخبار بأحد المحتملين, وهو نظير قولهم: أكلت السمكة حتى رأسها أكلته, بخفض رأسها؛ ألا ترى أن أكلته تأكيد لما دل عليه الكلام الأول من أن الرأس مأكول؛ حتى إذا كان ما بعدها جزءًا مما قبلها كان داخلًا في حكم الأول إلا إن دل دليل على خلاف ذلك. واعترض هذا بأن المعاني التي تدل عليها الحروف لا تؤكد, فلا يقال: ما قام زيد نفيًا, ولا: أتقوم استفهامًا, تأكيدًا لمعنى ما, و "استفهامًا" تأكيدًا لمعنى الهمزو, ولا: ما قام زيد أنفي ذلك, ولا: أيقوم زيد أستفهم عن ذلك؛ لأن الحروف وضعت على الاختصار؛ ألا ترى أن الهمزة أخصر من أستفهم, و "ما" أخصر من أنفي, والتأكيد مبني على الإطالة, فلم يجمع بينهما للتناقض وهذا الاعتراض قوي. وأجيب عن قوله {أَبَى أَن يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ} بأن في هذه الجملة زيادة معنى لا تدل عليه/ [4: 28/ أ] إلا, فليست لتأكيد نفي السجود عنه فقط, وهو دلالتها على أن عدم سجوده إنما كان ناشئًا عن إبائه وتكبره, وهذا المعنى لا تدل عليه إلا, إنما تدل على انتفاء السجود, فلما كان في الجملة مزيد بيان جاز ذلك.

وهذا الذي أجيب به في هذه الآية مجاب به في قوله {لَمْ يَكُن مِّنَ السَّاجِدِينَ}؛ لأن نفي كونه من الساجدين أبلغ من نفي السجود؛ إذ نفي الكون يقتضي نفي الأهلية, ففرق بين قولك: ما كان زيد من الصالحين, وبين قولك: ما زيد صالح؛ لأن في الأول نفي الكون, وهو مشعر بنفي الأهلية, وفي الثاني نفي الصلاح فقط. قال بعض أصحابنا: "ويبطل مذهب الكسائي بالاستثناء المنقطع؛ لأن إلا أخرجت الثاني من حكم الأول ضرورة, ولولا ذلك لم يكن في الاستثناء فائدة, ولم يخرج الاسم من الاسم؛ إذ لم يندرج تحته أصلًا, وإذا ثبت ذلك في الاستثناء المنقطع كان ذلك في المتصل؛ لأن معنى إلا في الحالين واحد, وهو الاستثناء. ويبطل أيضًا بقولك: لا إله إلا الله؛ إذ هذا اللفظ مثبت الأهلية لله وحده فقط بإجماع الأمة, ولو كان ما بعد إلا مسكوتًا عنه لم يكن المتلفظ بذلك مقرًا لله بالإلهية, ولا مثبتًا للربوبية, بل ساكت عن ذلك. ويدل أيضًا على ذلك أن الذي يتبادر إلى الفهم في قولك "لا في إلا علي, ولا سيف إلا ذو الفقار" هو الثناء على علي وعلى ذي الفقار؛ ولو كان ما بعد إلا مسكوتًا عنه لما تبادر ذلك إلى الفهم" انتهى ملخصًا. والذي يقطع ببطلان مذهب الكسائي أنه لا يوجد من كلام العرب: قام القوم إلا زيدًا فإنه قام؛ إذ لو كان يحتمل ما بعد إلا القيام ونفي القيام لجاز أن يرد ذلك من كلامهم كما زعم أنه وجد: قام القوم إلا زيدًا فإنه لم يقم.

وحجة الفراء أنه قد ثبت في الاستثناء المنقطع أنه من الحكم لا من الاسم؛ فوجب أن يكون كذلك في الاستثناء المتصل؛ لأنك إذا قلت ما رأيت أحدًا إلا حمارًا فمحال أن يستثنى الحمار من الأحدين؛ لأنه ليس منهم, وإنما استثنيت رؤيته من الرؤية المتقدمة لأنها من جنسها. وأجيب بأنه قد يمكن أن يستثنى الحمار من أحد وإن لم يكن من جنسه على أوجه من المجاز تأتي إن شاء الله. قالوا: والصحيح مذهب س وجمهور البصريين؛ لأنه إذا ثبت أن الإخراج من الحكم ثبت إخراج الاسم من الاسم؛ إذ محال أن يكون حكم ما بعد إلا خارجًا عن حكم ما قبلها, ويكون الاسم داخلًا تحت الاسم الذي قبلها؛ ألا ترى أن معنى قام القوم إلا زيدًا: إخراج زيد عن القيام, فيلزم من ذلك ألا يكون داخلًا في القوم المحكوم عليهم بالقيام؛ لأنه يكون غير قائم قائمًا, وذلك لا يكون. وقول المصنف "وهو المخرج"، وقول النحاة "الاستثناء إخراج كذا" ليس بجيد أصلًا ولا بمحرر؛ فإن المستثنى قط ما دخل تحت الاسم الأول ولا تحت حكمه فيوصف بالإخراج؛ إذ لو دخل فيهم أو في حكمهم ما صح إخراجه البتة. وإصلاح ذلك أن يقال: المستثنى هو المنسوب إليه بعد الأداة/ [4: 28/ب] 1 مخالفة المنسوب إليه قبلها. وقوله بإلا قال المصنف في الشرح: "الباء في بإلا متعلقة بالمخرج, واحترز بذلك من إلا بمعنى غير, كقوله تعالى {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا}، والتي بمعنى الواو, كقوله تعالى {لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا}، أي:

ولا الذين ظلموا، قاله الأخفش، والتي بمعنى إن لم كقوله تعالى {بَعْضٍ إلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُن فِتْنَةٌ}، والزائدة كالأولى من اللتين في قول الشاعر: أرى الدهر إلا منجنونًا بأهله وما صاحب الحاجات إلا معللًا أي: أرى الدهر منجنونًا بأهله، أي: يتقلب بهم، فتارة يرفعهم، وأخرى يخفضهم، كذا قال ابن جني، ثم قال: (وعلى ذلك تأولوا أيضًا قول ذي الرمة: حراجيج، ما تنفك إلا مناخةً على الخسف، أو نرمي بها بلدًا قفرا أي: ما تنفك مناخة، وإلا زائدة). هذا قول ابن جني" انتهى كلام المصنف. فأما احترازه من "إلا" بمعنى "غير" فكان ينبغي أن يقيد غيرًا بالصفة؛ لأن غيرًا تكون استثناء، وتكون صفة. وأما قوله "والتي بمعنى الواو" فلا تكون إلا في معنى الواو في مذهب المحققين من النحويين؛ وقد تُؤول ما استدلوا به على أنه من الاستثناء المنقطع.

وأما قوله "والتي بمعنى إن لم" فليس توجد إلا البسيطة التركيب بمعنى "إن لم" بحال من الأحوال؛ والتي ذكر من قوله {إلاَّ تَفْعَلُوهُ} هي "إن" الشرطية و"لا" النافية، ولم تتركبا، بل كل واحدة منهما باقية على موضوعها، وليست بمعنى "إن لم" ولا دخلت إن الشرطية على فعل ماض منفي بلم، فقلبته مستقبلًا، بل دخلت على فعل منفي بـ"لا" مستقبل. وأما قوله "والزائدة"، وإنشاده: أرى الدهر إلا منجنونًا بأهله .............................. فليست إلا زائدة، بل هي باقية على إيجاب نفي سابق، و"أرى" منفي بـ"لا"، جواب قسم محذوف، ولا يجوز حذفها في جواب القسم، كقوله: فقلت: يمين الله أبرح قاعدًا ............................ أي: لا أبرح، فالتقدير في البيت: والله لا أرى الدهر إلا منجنونًا بأهله، فهو موافق في المعنى للرواية الشهيرة في البيت، وهو قوله: وما الدهر إلا منجنونًا بأهله ............................ وأما إنشاده البيت وأن آخره "معللًا" فالذي ينشده النحاة: ......................... وما صاحب الحاجات إلا معذبًا وأما: حراجيج ..... البيت - فقد أُول على عدة من التأويلات، ذُكرت في باب كان، وإنما خرجه على زيادة إلا الأصمعي، وكان يُضعف في النحو، وتبعه ابن جني على ما ذكر المصنف.

وبدأ المصنف بـ"إلا" لأنها أم الباب بدليل كثرة تصرفها في باب الاستثناء؛ إذ تُستعمل وما قبلها تام وغير تام، ولا يستعمل غيرها إلا حيث يكون تامًا، إلا غيرًا، فإنها تُستعمل استعمال إلا، إلا أن الغالب عليها الوصفية، بخلاف إلا، فإن / [4: 29/ أ] الغالب عليها الاستثناء. وتُستعمل إلا بين الصفة والموصوف، وبين الحال وصاحبها، ويقع بعدها كل ما يصح أن يكون صفة، كالجمل الاسمية، والفعلية، ولذلك قال س: "فحرف الاستثناء إلا"، يعني أنه حرفه الموضوع له الأصلي فيه. وقوله أو ما بمعناها هي الأدوات التي يأتي ذكرها في هذا الباب إن شاء الله. وقد قدم المصنف ذكر نوعي الاستثناء المتصل والمنفصل، وذكر أن الإخراج يكون بإلا أو ما بمعناها، ولا يستوي في الأدوات التي بمعنى إلا الاستثناء المتصل والمنفصل، فإن الأفعال التي يُستثني بها لا تقع في الاستثناء المنفصل، لا تقول: ما في الدار أحد خلا حمارًا، وكان ينبغي للمصنف أن يبين ذلك؛ إذ ظاهر كلامه يقتضي التسوية بين المتصل والمنفصل في إلا وفي بقية الأدوات. وقوله بشرط الفائدة نبه المصنف بهذا على أن النكرة لا يُستثنى منها في الموجب ما لم تُفد، فلا يقال: جاء قومٌ إلا رجلًا؛ لعدم الفائدة، وإن دخلت فائدة جاز، كقوله تعالى {فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إلاَّ خَمْسِينَ عَامًا}. وقال أصحابنا: لا يُستثني من النكرة غير العامة النكرة المجهولة عند السامع، نحو: قام رجالٌ إلا رجلًا، لا على الاتصال، ولا على الانقطاع، فإن تخصصتا جاز، نحو: قام رجالٌ كانوا في دارك إلا رجلًا منهم، فإن عمت جاز، نحو: ما جاءني أحدٌ إلا رجلًا.

ولا تستثنى المعرفة من النكرة التي لا تعم ولم تُخصص، نحو: قام رجال إلا زيدًا، فإن عمت، نحو: ما قام أحدٌ إلا زيدًا، أو تخصصت، نحو: قام رجالٌ كانوا في دارك إلا زيدًا منهم - جاز. ولا من المعرفة النكرة التي لم تخصص، نحو: قام القوم إلا رجلًا، فإن تخصصت جاز، نحو: قام القوم إلا رجلًا منهم. ونص أصحابنا على أنه لا يجوز أن يكون المستثني مستغرقًا للمستثني منه ولا زائدًا عليه؛ لا يجوز أن تقول: عندي عشرةٌ إلا عشرةً، ولا: عندي عشرةٌ إلا أحد عشر، وذكروا اتفاق النحاة على ذلك. وهذا مخالف لما نقله المصنف عن الفراء أنه يجوز: له علي ألفٌ إلا ألفين، وسيأتي الخلاف في قدر المستثني عند تعرض المصنف له إن شاء الله. واختلف النحويون في الاستثناء من العدد على ثلاثة مذاهب: أحدهما: أنه يجوز مطلقًا، وهو اختيار شيخنا الأستاذ أبي الحسن بن الضائع. والثاني: المنع مطلقًا، وهو اختيار ابن عصفور. والثالث: التفصيل بين أن يكون المستثنى عقدًا فلا يجوز، نحو: له عندي عشرون إلا عشرة، أو غير عقد فيجوز، نحو: له عندي عشرة دراهم إلا اثنين. فأما من أجاز ذلك فاستدل بقوله تعالى {فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إلاَّ خَمْسِينَ عَامًا}. فقد استثنى عددًا من عدد، وهو استثناء عقد، ففيه رد على من فضل فمنع استثناء عقد.

وأما من منع ذلك مطلقًا فقال: أسماء العدد نصوص، ولا يجوز أن ترد على ما وُضعت له، فكما لا يجوز أن تخرج عن النصية في غير الاستثناء فكذلك في الاستثناء، إلا إن كان اسم العدد قد أُخرج عن النصية إلى أن صار مما يُكثر به ولا يراد به ظاهره، فيصير إذ ذاك ظاهرًا في العدد، فيجوز /أن يستثنى منه؛ لأنه صار كسائر الظواهر التي يُستثنى منها، وعلى ذلك جاء قوله تعالى {فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إلاَّ خَمْسِينَ عَامًا}؛ إذ لو لم يستثن لجاز أن يكون قوله {أَلْفَ سَنَةٍ} يراد به الزمان الطويل، بل كان يكون ذلك راجحًا من حيث العادة؛ لأن حياة إنسان ألف سنة مما تُحيله العادة، والألف والمئة والسبعون مما يُكثر به من ألفاظ العدد، كما قال الشاعر:/ [4: 29/ ب] هو المنزل الآلاف من جو ناعط بني أسد، حزنًا من الأرض، أوعرا وقال الآخر: الواهب المئة المعكاء، زينها سعدان تُوضح في أوبارها اللبد وقال تعالى {إن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ}. ولما اختار ابن عصفور هذا المذهب رد عليه ابن الضائع على عادته معه؛ فقال: "وهذا الذي ذهب إليه فاسد، فقوله (أسماء العدد نصوص) يقال له: نعم،

ما لم يقترن بها ما يزيل نصيتها، وقد سلم ذلك في الأعداد التي يراد بها التكثير، ثم الآية دليل عليه، فإنه لم يرد بها التكثير، فقد أوقع الألف على ما دونه، وإبداؤه بعد سببًا على ما ظن لا يقدح في أن الألف ليس بنص إذا اقترن به الاستثناء؛ ثم ما ذكر ليس بسبب موجب، فلو كان يمتنع الاستثناء من العدد لنصيته لقال: تسعمئة وخمسين عامًا. فإن قال: لما كان العدد للكثير قد صار غير نص لكونه يستعمل في التكثير ولا يراد به تحقيق العدد. قلت: ما من عدد إلا ويتصور فيه التكثير بالنظر إلى ما دونه إذا كان المعدود يتعدد فيه، أو يقل مثل ذلك العدد، فقد يقول القائل لشخص ما: إنك لم تأتني اليوم، فتقول له: قد أتيتك عشر مرات، قاصدًا بذلك التكثير، وهذا موجود في الفطر، لا ينبغي أن يكون مختصًا بلغة دون لغة، وقد تقول لشخص: لم لم تنتظرني؟ فيقول لك: قد انتظرتك عشر ساعات أو أكثر، وهذا لا ينكره أحد. ثم النحويون مجمعون على جواز: عندي عشرة إلا واحدًا إلا ثلاثةً، ثم اختلفوا في المقر به: فزعم أكثرهم أنه أقر بستة، وزعم آخرون أنه أقر باثني عشر، وسيأتي بيانه. وقد تكلم ابن عصفور في هذه المسألة، وصحح الرأي الأول، ونسي مذهبه في امتناعه، إلا أن يكون تكلم على تسليمه على مذهب من أجازه". انتهى ما رد به ابن الضائع على ابن عصفور ومن قال بقوله. ورده ليس بشيء، وفيه تحامل كبير على ابن عصفور، وكان أستاذنا أبو جعفر بن الزبير يقول لنا: من كثرة ولوعه بالرد عليه قد نزل في بعض رده عليه،

وقد سلم ابن الضائع له أنها نصوص، وادعى أنه يقترن بها ما يزيلها عن النصية، وهذا أمر مدركه اللغة، ولا يكاد يوجد استثناء من عدد في شيء من كلام العرب إلا في الآية الكريمة لما كانت الألف مما يكثر به؛ وقد طالعت كثيرًا من دواوين العرب جاهليها / [4: 30/ أ] وإسلاميها فلم أقف فيه على استثناء من عدد؛ وأول ما رد به ابن الضائع هو من باب الجدال والمغالطة، ليس فيه شيء من التحقيق، وقوله "ما من عدد إلا يُتصور فيه التكثير" إلى آخره دعوى، لا يكثر بأربعة عشر ولا بسبعة لا بما أشبهها، إنما يكثر بما كثرت به العرب. وأما قوله "وهذا موجود في الفطر السليمة" فلا يسلم له ذلك؛ لأن اللغة ليست توجد من الفطر ولا من الذوق، بل هي تراكيب، وضعها أهلها، ولذلك نجد الفطر متساوية في نسب، ثم يختلف التركيب في تلك النسب بالتقديم والتأخير والحذف والإثبات وغير ذلك. وأما قوله "ثم النحويون مجمعون" كيف ينقل الإجماع والخلاف موجود، هذا عجب! وقال ابن عصفور: "فإن قال قائل: ما المانع من أن يقال: جاءني إخوتك العشرة إلا تسعةً منهم، وعندي عشرة إلا واحدًا، على أن يكون المخبر قد توهم أولًا أن الإخوة العشرة جاءوه، وأن العشرة عنده، ثم تذكر بعد ذلك أن الذي جاءه إنما هو واحد الإخوة، وأن الذي عنده هو تسعة، فاستثنى من الإخوة الذي تحقق أنه لم يجئه، ومن العشرة الذي تحقق أنه ليس عنده. فالجواب: أن العرب إنما تستعمل في هذا المعنى بل، فتقول: جاءني إخوتك العشرة بل واحد منهم، وعندي عشرة بل تسعة، ولا يُحفظ من كلامهم استعمال إلا في هذا المعنى، فإن وُجد من كلامهم استعمالها في هذا المعنى ساغ ذلك" انتهى. وأحال في جواز ذلك على استعمال العرب، وهو الصحيح.

وأما من فصل، فمنع ذلك في العقد، فلم يُجز: عندي مئة إلا عشرة - فلأن الكلام مبني على الاختصار، فقولك "عندي تسعون" أخصر، ويجوز عنده: عندي مئة إلا خمسة؛ لأنه ليس "عندي خمسة وتسعون" بأخصر منه. قال: ولذلك جاء في القرآن في الآية المتقدمة، وهذا مبني على جواز الاستثناء من العدد، وقد بينا أنه لا يجوز من الألفاظ التي يُكثر بها لخروجها عن النصية إلى الظهور. وأيضًا يلزمه في غير العقد مما يكون غيره أخصر منه ما يلزم في العقد من المنع؛ فتخصيصه العقد بالمنع غير سديد؛ ألا ترى أنه قال: له عندي تسعة إلا ثلاثة يقوم مقامه: له عندي ستة، وهو أخصر، فكان ينبغي له ألا يجوز الاشتراك هذا وما أشبهه مع العقد في علة الاختصار. وقوله فإن كان بعض المستثنى منه حقيقةً فمتصل، وإلا فمنقطع أي: فإن كان المُخرج. وهذا الذي ذكره المصنف من أنه إذا لم يكن بعض المستثنى منه حقيقة هو المنقطع هو مذهب الأستاذ أبي علي. ورده بعض أصحابنا بقوله تعالى {لا يَذُوقُونَ فِيهَا المَوْتَ إلاَّ المَوْتَةَ الأُولَى} فالموتة /الأولى هي بعض الموت، والاستثناء مع ذلك منقطع، ولا يمكن فيه الاتصال؛ لأن الجنة لا موت فيها، ولأن الموتة الأولى قد انقضت في الدنيا، وما انقضى في الدنيا لا يمكن أن يكون هو بعينه في الآخرة. وذهب أبو علي الفارسي إلى أن الاستثناء المنقطع ألا يكون المستثنى من جنس المستثني منه؛ أي: لا يكون المستثني من آحاد جنس المستثنى منه.

ورد ذلك بقوله {لا يَذُوقُونَ فِيهَا المَوْتَ إلاَّ المَوْتَةَ الأُولَى}، فهذا من جنس المستثني منه، وهو منقطع. وبقولك: رأيت ريدًا إلا وجهه، فالوجه ليس من جني زيد؛ لأنه ليس من آحاد جنسه، وهو مع ذلك استثناء متصل باتفاق من النحويين. والصحيح أن يقال: الاستثناء المنقطع هو ألا يكون المستثني بعض المستثنى منه، أو يكون بعضه إلا أن معنى العامل غير متوجه عليه. وهذا النوع من الاستثناء أنكره بعض الناس، وزعموا أنه غير جائز في الكلام؛ لأن معقول الاستثناء عندهم إخراج الشيء مما دخل فيه هو وغيره بلفظ شامل لهما؛ وذلك غير موجود فيما هو منقطع من الأول. وتأولوا ما استدل بظاهره على وجود ذلك في كلام العرب، فقالوا في قوله {مَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إلاَّ اتِّبَاعَ الظَّنِّ}: إن الظن يسمى علمًا، وقوله {إلاَّ رَبَّ العَالَمِينَ} بأنه اندرج تحت قوله {مَّا كُنتُمْ تَعْبُدُونَ (75) أَنتُمْ وآبَاؤُكُمُ الأَقْدَمُونَ}؛ لأنهم كانوا يعبدون الله، وقوله {إلاَّ إبْلِيسَ}؛ لأنه من الملائكة، وهو مندرج في عموم (اسجدوا) للملائكة، وقول النابغة:

إلا الأواري .................. .......................... بأن أحدًا في قوله: ........................ ........... وما بالربع من أحد هو يقع على ما يعقل، تقول: ركبت أحد الفرسين وهذه التأويلات كلها مدخولة، لا تصح في النظرة. وقد جاء هذا النوع فيما لا يمكن فيه تأويل على الاتصال أصلًا، نحو قوله تعالى {ومَا لأَحَدٍ عِندَهُ مِن نِّعْمَةٍ تُجْزَى (19) إلاَّ ابْتِغَاءَ وجْهِ رَبِّهِ الأَعْلَى}، فـ (ابتغاء وجه الله) ليس جزءًا من (نعمة) ترتبت لأحد غير الله. ونحو قوله {لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا ولا تَاثِيمًا (25) إلاَّ قِيلاً سَلامًا سَلامًا} استثنى القول الطيب الذي هو (سلامًا سلامًا) من اللغو والتأثيم، وليس من جنسهما. وقوله مُقدر الوقوع بعد لكن عند البصريين قال الأستاذ أبو الحسن بن الضائع: "المستثنى الذي ليس من جنس ما قبله ليس مستثنى منه حقيقة، فإذا قلت ما في الدار أحدٌ إلا حمارًا فلا شك في أن الحمار ليس بمستثنى من أحد، والدليل على ذلك أنه لا يصلح أن تقول: استثنيت الحمار منهم، فإذا هذه إلا توجد بمعنى لكن؛ وذلك أن ما بعدها مخالف لما قبلها، كما أن لكن كذلك، فاتسعوا فيها - أعني في إلا - فأجروها مجرى لكن، فهي بالحقيقة استدراك، غير أنهم

لما أوقعوا بعدها اللفظ المفرد كما يقع بعدها وهي استثناء سموها استثناء؛ فإذا قلت ما في الدار أحدٌ إلا حمارًا فالمعنى: لكن فيها حمارًا، ويُفهم هذا من مخالفة / [4: 31/ أ] ما بعدها لما قبلها، إلا أن لكن لا يجوز فيها ذلك حتى يقع بعدها كلام تام، إلا أن تكون عاطفة، فلذلك سموا لكن الخفيفة حرف ابتداء واستدراك، بمعنى أنها حرف يقع بعدها كلام مبتدأ، ولم يصح ذلك في إلا لأنها لا يقع بعدها كلام مستأنف، فلقبوها بالاستثناء تشبيهًا بها إذا كانت استثناءً حقيقة، وتفريقًا بينها وبين لكن لاختلاف حكمهما" انتهى كلامه. وتقدير إلا بلكن هو تفسير معنى؛ لأن لكن كما ذكر يكون بعدها كلام مستأنف، وإلا مع ما بعدها ليست بكلام مستأنف، فلم يبق إلا أن تكون من تمام الكلام الأول، وإذا كانت من تمامه وجب أن يُعتقد فيما بعدها أنه منصوب على الاستثناء؛ إذ ليس له نظير من المنصوبات إلا المنصوب على الاستثناء المتصل؛ ألا ترى أنه واقع بعد إلا، ومنتصب عن تمام الكلام الأول، وخارج عن حكم ما قبله، كما أن الاسم الواقع بعد الاستثناء المتصل كذلك، لا فرق بينهما أكثر من أن ما يبقى بعد إلا في الاتصال لولا الاستثناء لكان داخلًا فيما قبله، وفي الانقطاع ليس كذلك. وزعم بعض النحويين - ومنهم أبو الحجاج بن يسعون - أن إلا مع الاسم الواقع بعدها إذا كان منقطعًا من الأول تكون كلامًا مستأنفًا؛ فزعم أن مثل قوله: ...................... ............... وما بالربع من أحد إلا أواري ............... ...................................

"إلا" فيه بمعنى لكن، الأواري: اسم لها منصوب بها، والخبر محذوف، كأنه قال: لكن الأواري بالربع، وحذف خبر إلا كما حذف خبر لكن في قول الشاعر: فلو كنت ضبيًا عرفت قرابتي ولكن زنجيًا عظيم المشافر أي: لا يعرف قرابتي. وهذا المذهب غير صحيح، وقد رده الفارسي في بغدادياته بأنه لو كان المنصوب له خبر مقدر للزم أن يقدر خبرًا مرفوعًا بعد غير في قول ذي الرمة. عشية ما لي حيلةٌ غير أنني بعد الحصى والخط في الأرض مولع وذلك باطل لأنه ليس له ما يرفعه. انتهى. فإن قلت: تقدير الأداة في الاستثناء المنقطع بـ"لكن" يدل على مخالفة ما بعدها لما قبلها؛ فكيف ادعيتم الانقطاع في قول الشاعر: فتى كملت خيراته غير أنه جوادٌ، فما يُبقى من المال باقيا وتقدير غير بـ"لكن" لا يخالف قوله "كملت خيراته" فكيف صح التقدير: لكنه جواد. فالجواب: أنه ذهب إلى معنى: لكن عيبه الجود، كما يقول القائل: عيب زيدٍ جوده، على معنى: ليس فيه عيب؛ لأن الجود ليس بعيب، فإذا لم يكن فيه عيب إلا الجود فما فيه عيب، فكأنه قال: كملت خيراته لكن نقصه جوده، فيصير عيبه ونقصه مخالفًا / [4: 31/ ب] لقوله: كملت خيراته.

وقوله وبعد سوى عند الكوفيين قال في البسيط: الفراء يقدره بسوى، وبعضهم جعل إلا هنا بمعنى لكن، فيكون استدراكًا لا استثناءً. ولغة أهل الحجاز فيه النصب، وبني تميم البدل من الأول. وعند البصريين هو المقدر على معنى لكن المشددة. وإنما قُدر بلكن لأنها في حكم جملة منفصلة عن الأولى مستدركة. وانتصب لأنه اسم واقع بعد إلا مخالف حكمه لما قبله كالمتصل، فكان له إعراب المتصل. والعامل فيه الأول، وهو أقوى من البدل، حتى قال بعض النحويين: إن البدل ليس بشيء. فإن أراد أنه لا تشهد له قياسات أصل الاستثناء فمسلم، وإن أراد خلاف ذلك فممنوع، وقد حكاه س. وقال بعض النحويين: إنه إذا ظهرت لكن فلابد من ذكر الخبر، وقد يظهر الخبر وإن لم تكن لكن، كقوله تعالى {إلاَّ قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا}. فيظهر من هذا أن إلا عنده بمنزلة لكن. والاستثناء المنقطع يكون في الإيجاب كما يكون في النفي، تقول: ضربت القوم إلا الحمار، وحكي س على الانقطاع في الإيجاب: والله إن لفلانٍ مالًا إلا أنه شقيٌ على معنى: ولكنه شقي، أي: إلا شقاوته، أي: ولكن شقاوته لا تُبقيه، ولأفعلن كذا وكذا إلى حل ذلك أن أفعل كذا، معناه: والله لأفعلن كذا إلا إن فعلت كذا، فجعله حلًا ليمينه.

-[ص: وله بعد "إلا" من الإعراب إن تُرك المستثنى منه وفُرغ العامل له ما له مع عدمها؛ ولا يُفعل ذلك دون نهيٍ، أو نفيٍ صريحٍ أو مُؤول. وقد يُحذف على رأيٍ عامل المتروك. وإن لم يُترك المستثنى منه فللمستثنى بإلا النصب مطلقًا بها، لا بما قبلها معدي بها، ولا به مستقلًا، ولا بـ" أستثني" مضمرًا، ولا بـ"أن" مقدرة بعدها، ولا بـ"إن" مخففة مركبًا منها ومن "لا" "إلا"، خلافًا لزاعمي ذلك، وفاقًا لـ"س" والمبرد.]- ش: ذكر أن المستثنى يكون على حسب العامل، إن طلبه مرفوعًا رفعه، أو منصوبًا نصبه، أو مجرورًا بحرف جر جر به. وشرط في ذلك شرطين: أحدهما: أن يُترك المستثنى منه، وهو الذي كان تسلط عليه العامل بأحد الأعاريب. والثاني: أن يكون العامل قد فُرغ لما بعد إلا. ومعنى التفريغ: أنه يشغل بالعمل فيه. واحترز بالشرط الأول من أن يكون العامل قد أثر في المستثنى منه لكونه مفرغًا له؛ وبالشرط الثاني من أن يكون المستثني منه متروكًا، ولكن العالم لم يفرغ لما بعد إلا، نحو: ما قام إلا زيدٌ إلا عمرًا، وما قام زيدٌ إلا عمرًا، فإن ذلك قد تُرك فيه المستثنى منه، ولم يُفرغ العامل لقوله إلا عمرًا؛ إذ قد شُغل بقولك: إلا زيد، وكذلك التقدير في: ما قام زيدٌ إلا عمرًا، حُذف المستثنى منه، ولم يُفرغ قام لقولك إلا عمرًا؛ إذ قد شُغل بزيد: وتقديره: ما قام زيدٌ ولا غيره إلا عمرًا، / [4: 32/ ا] فعمرو مستثنى من هذا المقدر الحذف، وهو قولك: ولا غيره.

وقول المصنف وفُرغ العامل له فيه قصور؛ لأن المفرغ للمستثنى أعم من أن يكون عاملًا أو غير عامل، ولهذا كان قوله في ألفيته: وإن يُفرغ سابقٌ ................ ........................ أوجز من قوله هنا: وفُرغ له العامل. ومثال تفريغ العامل: ما قام إلا زيدٌ، ومثال تفريغ غير العامل قولك: ما في الدار إلا عمروٌ، فقولك "ما في الدار" يقتضي: إلا عمرو، وليس بعامل فيه الرفع، بل هو مرفوع بالابتداء، كقولك: ما في الدار زيدٌ. والتفريغ يكون في جميع المعمولات من فاعل ومفعول به وغيره إلا المصدر المؤكد؛ فإنه لا يكون فيه، ولذلك تؤول قوله تعالى {إن نَّظُنُّ إلاَّ ظَنًا} على حذف الوصف، أي: ظنًا ضعيفًا. أو على تضمين نظن معنى نعتقد، فيكون مفعولًا. أو على وضع إلا غير موضعها، والتقدير: إن نحن إلا نظن ظنًا، وعلى هذين التأويلين يُخرج قول الأعشى:

وحل به الشيب أثقاله وما اغتراه الشيب إلا اغترار وعند أكثر النحاة لا يكون إلا في غير الموجب، وهو النفي والنهي والاستفهام، والموجب ما عداها، نحو الخبر والأمر والتمني والشرط. وإذا فُرغ لشيء من أسماء الاستفهام فلا يُفرغ إلا لما يدل عليه، لو قلت: متى قام إلا زيدٌ؟ لم يصح؛ لأن التقدير: أشيء من الأزمان قام فيها إلا زيد؟ فيكون تفريغًا على الإيجاب، وهو لا يجوز. وزعم بعض المتأخرين أن غير الموجب هو الوجه الذي يكون فيه النفي، وما عداه ليس بموجب، وبني عليه أن التفريغ لا يكون إلا فيه، وعزاه إلى س لقوله "فأما الاسم بمنزلته قبل أن تلحق فهو أن تُدخل الاسم في شيء تنفي عنه ما سوه"، وهذا ينبغي أن يحمل النفي فيه على الترك الشامل للنفي والنهي والاستفهام المراد به النفي. وقوله ولا يُفعل ذلك أي: جعل ما بعد إلا بالنسبة إلى ما قبلها كحاله لو لم تدخل إلا. وقوله دون نهي مثاله: لا يقم إلا زيدٌ، {ولا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إلاَّ الحَقَّ}، ولا تمرر إلا بزيد. وقوله أو نفيٍ صريح مثاله {ومَا مُحَمَّدٌ إلاَّ رَسُولٌ}، وما قام إلا زيدٌ، وما ضربت إلا زيدًا، وما مررت إلا بزيد.

وقوله أو مؤولٍ ظاهره أن قوله "صريح أو مؤول" قيد في قوله "أو نفي" لا في قوله "أو نهي"، وبين في الشرح أن ذلك راجع إلى النهي، قال: كقوله تعالى: {ومَن يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إلاَّ مُتَحَرِّفًا لِّقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إلَى فِئَةٍ}، قال: "معناه لا تولوا الأدبار إلا متحرفين لقتال أو متحيزين إلى فئة". وذكر من النفي المؤول الاستفهام، نحو قوله تعالى {هَلْ يُهْلَكُ إلاَّ القَوْمُ الظَّالِمُونَ}، وقولك: زيدٌ غير آكلٍ إلا الخبز، وقوله: {وإنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إلاَّ عَلَى الخَاشِعِينَ}، قال: "المراد بالكبر هنا الصعوبة، كأنه قيل: لا تسهل إلا على الخاشعين". / [4: 32/ ب] وقولهم: قل رجلٌ يقول لك إلا زيدٌ، وأقل رجلٍ يقول ذلك إلا زيدٌ. وذكره هذين المثالين في النفي المؤول صحيح، لكنه بالنسبة لما يتكلم فيه ليس بصحيح؛ لأنه يتكلم في النفي المفرغٍ فيه العامل، وفي هذين المثالين لا يُفرغ فيهما العامل لما بعد إلا، فلا يجوز: قل إلا المال؛ لأن "قل" لفظة موجبة، فلا يمكن فيها التفريغ، أما "أقل" فلأنه لازم الإضافة، فلا يمكن أيضًا فيه التفريغ. فلو كان الموجب لازمًا له نفي، نحو لولا ولو - فذهب المبرد إلى جواز التفريغ، تقول: لولا القوم إلا زيدٌ لأكرمتك، ولو كان معنا إلا زيدٌ [لغلبنا]، قال: يقتضي القياس جوازه لأنه تفريغ كالبدل.

ورد ذلك في لولا بأن التفريغ يدخل في جملة بعد لولا، وهي ثابتة، والجواب خارج عما دخلت فيه إلا. وأما مسألة لو فيأتي الكلام فيها عند تعرض المصنف للوصف بإلا. ولابد أن يكون النفي محققًا في اللفظ أو في المتضمن، وكل منهما تارة يباشر ما دخلت عليه إلا، نحو: ما ضربت إلا زيدًا، وقلما يقوله إلا زيدٌ، أو غير مباشر، وشرطه أن يكون ما دخل عليه النفي غير مقصود النفي، بل دخل ليبين جهة ما في المنفي الذي هو الخبر، فيكون كالمباشر، وذلك إنما يوجد في أفعال القلوب في بعضها، وهي المفيدة في الجملة وجهًا من وجوه الاعتقاد، نحو: ما علمت أن فيها إلا زيدٌ، وكذا سمعت وشهدت، كأنك قلت: ما فيها أحدٌ إلا زيدٌ في علمي، وما يقول ذلك أحدٌ في ظني، وفي تفريغٍ لما بعد أن وقد تقدمه "ما علمت"، نحو: ما علمت أن فيها إلا يدًا، وهو مثال س - نظرٌ، وينبغي ألا يُقدم على إجازته إلا بسماع. وأجاز الأخفش التفريغ في نحو، ما علمته، وما ظننته يقول ذلك إلا زيد، والهاء ضمير الشأن. ومنعه غيره. وقال الأخفش: "لو قلت ما أرى، وما أعلم بقى من الشهر إلا يومان لم يحسن؛ لأنك جئت إلى جنب أرى بفعل، وإنما ينبغي أن تجيء باسم" انتهى.

وأما ما تقدم من قولهم أقل رجلٍ يقول ذلك إلا زيد، وقل رجلٌ يقول ذلك إلا زيد - وإن كانا موجبين صورة - فمعناها النفي، والبدل على المعنى لا على "أقل رجلٍ" وعلى رجل من "قل رجلٌ"؛ لأن المعنى: ما رجلٌ يقول ذلك. ويجوز النصب على الاستثناء. ودلً كلام المصنف على أن ما قبل إلا يتسلط على ما بعدها، كحاله لو لم تكن إلا، بشرط نهي أن نفي صريح أو مؤول، فدل ذلك على أن الموجب المحض لا يكون فيه ذلك، لا تقول: قام إلا زيدٌ، ولا: ضربت إلا زيدًا ولا: مررت إلا بزيدٍ. قال المصنف وغيره: "لأنه يلزم منه الكذب"، قال: "ألا ترى أن حقيقة قولك رأيت إلا زيدًا: عم نظري الناس إلا زيدًا، وذلك غير جائز. فلو كان في الإيجاب معنى النفي عومل معاملته، نحو: عدمت إلا زيدًا، وصمت إلا يوم الجمعة، فإنهما بمعنى: لم أجد، ولم أُفطر" / [4: 33/ أ] انتهى. وهذا الذي ذكره سائغ تقديره في كل موجب؛ إذ ما من فعل موجب إلا ويمكن نفي نقيضه، فيقدر قوله {ويَابَى اللَّهُ إلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ}: لا يريد الله إلا أن يُتم نوره، وتقدير قام إلا زيدٌ: لم يفعل إلا زيدٌ، أو: لم يجلس إلا زيدٌ. والذي يمكن ن يذهب إليه أن الفعل الموجب إذا أمكن تعلقه بعام محذوف جاز أن يُفرغ لما بعد إلا؛ فيعمل فيه، ما لم يكن ذلك العام مرفوعًا بالفعل، نحو: برئت إلا من ذمامك، التقدير: برئت من ذمام كل أحدٍ إلا من ذمامك، وقد جاء نحو من ذلك في أشعار المولدين، وينبغي ألا يُقدم على تجويز ذلك إلا بسماع من العرب.

ونقول: غير الموجب بالنسبة إلى تفريغه لما بعد إلا إما أن يكون ما قبل إلا تامًا في اللفظ، أو غير تام: إن كان تامًا فإنه يقتضي منصوبًا، أو مجرورًا، نحو: ما ضربت إلا زيدًا، وما مررت إلا بعمرو، فيجوز فيما بعد إلا وجهان: أحدهما: أن يكون معمولًا لما قبل إلا على سبيل التفريغ، فيكون زيدًا منصوبًا بضربت، وبعمرو متعلقًا بما مررت. والثاني: النصب فيهما على الاستثناء، ويكون معمول الفعل محذوفًا لأنه فضلة، والفضلات بابها أن يجوز فيها الحذف، ويكون مستثنى من ذلك المعمول المحذوف، ومن ذلك قوله: نجا سالمٌ، والنفس منه بشدقه ولم ينج إلا جفن سيفٍ ومئزرا وإن كان غير تام فإما أن يمكن أن يقدر له محذوف يتم به، أو لا يمكن: فإن أمكن وجب أن يرفع ما بعد إلا إن لم يقدر المحذوف، فإن قدرته جاز فيه الرفع والنصب، ومثال ذلك قوله: هل هو إلا الذيب لاقى الذيبا كلاهما يطمع أن يُصيبا روي برفع الذيب، ونصبه على تقدير: هل هو شيء إلا الذيب، فحذف خبر المبتدأ لدلالة المعنى عليه، ويجوز رفع الذيب على أن تجعله خبرًا للمبتدأ، ولا تقدر محذوفًا. فأما قوله:

يطالبني عمرو ثمانين ناقةً وما لي - عفراء - غلا ثمانيا فيحتمل أن تكون "ما" استفهامية، فلا يُقدر محذوف، وأن تكون نافية، فيقدر مبتدأ محذوف، أي: وما لي نوقٌ، كما قدر الخبر محذوفًا في: "هل هو إلا الذيب". وإن لم يمكن وجب رفع ما بعد إلا، نحو: ما قام إلا زيد، وإنما وجب الرفع لأنه فاعل، ولا يمكن أن يقدر ما قبل إلا محذوف؛ لأنه يكون فاعلًا، والفاعل لا يُحذف. وأجاز الكسائي في نحو هذا الرفع على الفاعل، والرفع على البدل / [4: 33/ ب] من الفاعل المحذوف، والنصب على الاستثناء وحذف الفاعل. وما أجازه من البدل ومن النصب مبني على جواز حذف الفاعل، وهو لا يجوز. ولا يجوز أن يُضمر فيكون التقدير: ما قام هو - أي: قائمٌ - إلا زيدٌ؛ لأنه يلزم أن يكون أحد ركني الإسناد مستفادًا من الآخر، فكأنك لم تأت إلا بالفعل خاصة، والفعل لا يكون منه كلام، ولذلك منع النحاة: رب الجارية سيدها؛ لما كان أحد الجزأين مستفادًا من الآخر. فأما قول الشاعر: لم يبق إلا المجد والقصائدا غيرك، يا بن الأكرمين والدا فروي بنصب المجد وفتح غير، فلا حجة فيه، ولا يكون التقدير: لم يبق أحدٌ غيرك، فحذف الفاعل؛ لاحتمال أن يكون غير مرفوعًا، وبُني لإضافته إلى مبني، كما بني [في] قوله:

لم يمنع الشرب منها غير أن نطقت حمائمٌ في غصونٍ ذات أو قال وأما قول العرب "ما قام إلا امرأةٌ" فلا حجة فيه على البدل من فاعل محذوف - وإن كان ظاهره يقتضي ذلك - من حيث أُسند الفعل بلا علامة تأنيث في فصيح الكلام؛ ولا يُلحقونها إلا في ضرورة، وهي لا تُحذف من فعل المؤنث الحقيقي إلا في نادر أو ضرورة؛ لأنه يحتمل أن يكون المسوغ لحذفها كون الكلام في معنى كلام لا تلحق الفعل فيه العلامة؛ ألا ترى أن "ما قام إلا امرأةٌ" في معنى: ما قام أحدٌ إلا امرأةٌ. وفي البديع: "أجاز قوم: ما قام إلا زيدًا"، وأنشد: يُطالبني عمرو .................. ................................. البيت. وفي الإفصاح ما نصه: وقد زعم بعضهم أن ما بعد العامل هنا بدل، فقولك: ما جاءني إلا زيدٌ، [زيدٌ]: بدل من فاعل دل عليه الفعل، أي: ما جاءني جاء إلا زيدٌ. وكذلك يُقدر في ما رأيت إلا زيدًا، [وما مررت إلا بزيدٍ]: ما رأيت مرئيًا إلا زيدًا، وما مررت بمرورٍ به إلا بزيدٍ. وقد ردوا هذا بقولهم: ما جاءني إلا امرأةٌ، ولم يقولوا غيره، وبامتناع النصب في الرفع، وقد حكاه أهل الكوفة، ولم يأت ما استشهدوا به إلا فيما يُؤول.

وقوله وقد يحذف على رأي عامل المتروك مثاله قول الشاعر: تنوط التميم، وتأبى الغبو ق من سنة النوم إلا نهارا خرجه الفارسي على أنه يريد: لا تغتذي الدهر إلا نهارًا، فحذف "لا تغتذي" وهو عامل في المستثنى المتروك، وهو الدهر، يصف امرأة بالتنغم وكثرة الراحة، فهي تأبى أن تغتبق - أي: تغتذي بالعشي - لئلا يعوقها عن الاضطجاع للراحة. وقال المصنف في الشرح: "وأولى من هذا التقدير أن يكون أراد: وتأبى الغبوق والصبوح، فحذف المعطوف، وأبقى المعطوف عليه، وهو كثير". وقوله وإن لم يُترك المستثنى منه فللمستثنى بإلا النصب مطلقًا بها أي: النصب في الموجب وغيره بـ"إلا". وقال المصنف في الشرح: / [4: 34/ أ] "يُنصب في الموجب وغيره، لكن في الموجب لا يُشارك النصب، وفي غير الموجب يشاركه بصحيح؛ لأنه يشاركه النعت على ما يبين، وقد ذكر هو ذلك. وقوله "وفي غير الموجب يُشاركه" لا يقتصر فيه على البدل، بل يجوز فيه النعت على ما يبين. وقوله لا بما قبلها مُعدي بها هذا مذهب السيرافي، وهو أن الناصب ما قبل إلا من فعل أو غيره بتعدية إلا.

ونقل ابن عصفور عن السيرافي وابن الباذش أنه منصوب بالفعل بوساطة إلا، وانتصب "غير" وما في معناه بالفعل من غير واسطة، وشبهه ابن الباذش في ذلك بالظروف، فكما أن الفعل يصل إلى الظرف المختص بحرف الجر فكذلك ما بعد إلا بمنزلته، فلا يصل الفعل إليه إلا بوساطتها، وغير لإبهامها مشبهة بالظرف المبهم، فكما أن الفعل يصل إلى الظرف المبهم بنفسه فكذلك غير وما في معناها. ونسب هذا المذهب شيخنا الحافظ أبو الحسن الأبذي إلى الفارسي وابن بابشاذ وأبى علي الرندي. وقال ابن عصفور: "ذهب جماعة من البصريين والفارسي في هذا الكتاب - بعني الإيضاح - إلى أن الناصب للاسم المستثنى الفعل أو معنى الفعل المتقدم في الجملة بوساطة إلا، وشبهه بالمفعول معه، وصل الفعل بوساطة إلا كما وصل بوساطة الواو". وقال الأستاذ أبو علي: "هو مذهب المحققين، والصواب نصبه بما قبله فعلًا كان أو غيره". قال أستاذنا أبو جعفر: هو مذهب س؛ لأنه قال: "انتصب بما قبله"، وشبهه بعشرين. وهو اختيار شيخنا ابن الضائع. وقال ابن عصفور: هو قول س، والفارسي في تذكرته، وجماعة من البصريين.

وقد رد المصنف مذهب من زعم أنه منصوب بما قبله من فعل أو غيره بوساطة إلا بصحة تكرير الاستثناء؛ نحو: قبضت عشرة إلا أربعة إلا درهمًا إلا رُبعًا؛ إذ لا فعل في المثال المذكور إلا قبضت، فإذا جعل معدي بـ"إلا" لزم تعديته إلى الأربعة بمعنى الحط، وإلى الدرهم بمعنى الجبر، وإلى الربع بمعنى الحط، وذلك حكمٌ بما لا نظير له، فإنه استعمال فعل واحد معدي بحرف واحد على معنيين متضادين. انتهى هذا الوجه من الرد. ولا حجة فيه؛ لأنه قد يُعدي الفعل بحرفٍ واحد إلى معنيين مختلفين إذا كان الحرف صالحًا لذلك؛ ولا فرق بين كونهما متضادين أو مختلفين، تقول: رأيت زيدًا بثيابه بالبصرة بقصدٍ مني، فالباء الأولى للمصاحبة، والثاني للظرفية، والثالثة للسبب، وكله تتعلق برأيت، فكذلك تعدى الفعل بوساطة إلا إلى هذه المنصوبات؛ لأنه قعد تقرر أن الاستثناء من الموجب منفي، ومن المنفي موجب، فمعنى إلا أربعة: لم أقبضها، ومعنى إلا درهمًا: فقبضته، ومعنى إلا رُبعًا: لم أقبضه. قال المصنف: "وكذا لو كررت إلا دون / [4: 34/ ب] تخالف في المعنى، نحو: قاموا إلا زيدًا إلا عمرًا، فإن الثاني موافق للأول في المعنى، فإن جُعلا منصوبين بالفعل مُعدي إليهما بإلا لزم من ذلك عدم النظير؛ إذ ليس في الكلام فعل مُعدي بحرف واحد إلى شيئين دون عطف، فوجب اجتنابه" انتهى. ورد ما نقله ابن عصفور عن السيرافي وابن الباذش بأنه قد ينتصب الاسم بعد إلا ولم يتقدمه فعل؛ نحو قولك: القوم إخوتك إلا زيدًا.

وقوله ولا به مستقلًا أي: ولا بما قبل إلا مستقلًا دون أن يكون تعدى إليه بوساطة إلا. وهذا ذكر المصنف أنه مذهب ابن خروف. وحجته في ذلك انتصاب غير إذا وقعت موقع إلا المنتصب ما بعدها بلا واسطة. قال: "فلو كان المنصوب على الاستثناء مفتقرًا إلى واسطةٍ لم تنصب غير بلا واسطة. وجرأة قول س في باب غير: (ولو جاز أن تقول أتاني القوم زيدًا تريد الاستثناء ولا تذكر إلا لما كان إلا نصبًا) ". وأجيب عن نصب غير في الاستثناء بأنها انتصبت على الحال، وفيها معنى الاستثناء، وسيأتي الكلام على نصب غير والخلاف في ذلك إن شاء الله. وأجيب عن كلام س بأنه يُحمل على حذف إلا وإبقاء عملها، أو على حذف غير وإقامة زيد مقامها في الإعراب، كما يفعل في كل مضاف إليه إذا حُذف المضاف وأقيم هو مقامه. وقوله ولا بـ"أستثني" مضمرًا هذا مذهب المبرد والزجاج فيما حكاه عنهما السيرافي. قال المصنف في الشرح: "وكلامه - يعني المبرد - في المقتضب بخلاف ذلك، فإنه قال في أول أبواب الاستثناء: (وذلك إنك إذا قلت جاءني القوم وقع

عند السامع أن زيدًا فيهم، فلما قلت إلا زيدًا كانت إلا بدلًا من قولك: لا أعني زيدًا، أ: أستثني ممن جاءني زيدًا، فكانت بدلًا من الفعل). فهذا نصه مبينًا بأن العامل إلا، فإنها بدلٌ من الفعل، ولو كان الفعل عاملًا لكان في حكم الموجود، ولزم من ذلك جمعٌ بين البدل والمبدل منه في غير إتباع ولا ضرورة. وقال أيضا: "هو مردود لمخالفته النظائر؛ إذ لا يُجمع بين فعل وحرف يدل على معناه لا بإظهارٍ ولا بإضمار، ولو جاز ذلك لنصب ما ولي ليت وكأن ولا بأتمنى وأشبه وأنفي، وفي الإجماع على امتناع ذلك دليل على فساد إضمار أستثني". وقوله ولا بأن مقدرة بعدها هذا المذهب معزو إلى الكسائي، عزاه إليه السيرافي. وقال ابن عصفور: "حكاه ابن بابشاذ عن الكسائي، وأن التقدير: إلا أن زيدًا لم يقم، فأضمر أن، وحذف خبرها. وهذا شيء لم يحكه أحد من أصحابه عنه، وإنما حكوا عنه أن المستثنى ينصب بخروجه من الوصف، ويعني بذلك أنه خرج عن معنى الجملة المتقدمة عليه من حيث لم يكن ركنًا من أركانها؛ بل فضلة مطلوبةً لها" انتهى. وهذا قريب من مذهب من زعم أنه منتصب بالجملة المتقدمة عليه بوساطة إلا؛ وهو الذي عزاه أستاذنا لـ"س"، وابن عصفور لـ"س" / [4: 35/ أ] والفارسي في "التذكرة".

ورد مذهب من ادعى إضمار أن بأنه يؤدي إلى إضمار الموصول وإبقاء صلته. وأيضًا فإنها بتأويل مصدر، فلابد لها من عامل، وذلك العامل الذي يعمل فيها ينبغي أن يُجعل عاملًا في الاسم نفسه، ولا يُتكلف إضمار أن. وأيضًا فإن العرب لا تُضمر أن وأخواتها وتُبقي عملها لضعفها عن العمل، ولا يُحفظ في كلامهم شيءٌ من ذلك. وقال ابن عصفور أيضًا: "ومنهم من ذهب إلى أنه انتصب لمخالفته الأول؛ ألا ترى أنك إذا قلت قام القوم إلا زيدًا كان ما بعد إلا منفيًا عنه القيام، وما قبله موجبٌ له القيام، وهو مذهب الكسائي" انتهى. وهذا هو الذي فهم الفراء عن الكسائي، وهو معنى ما حكي ابن عصفور عنه من أنه انتصب بخروجه من الوصف. ورد الفراء ذلك بأنه لو كان الخلاف يوجب النصب لأوجبه في قولك قام زيدٌ لا عمرو، وفي: ما قام زيدٌ لكن عمرو؛ لأن ما بعد لا ولكن مخالفٌ لما قبلها. وقوله ولا بـ"إن" مخففة مركبًا منها ومن لا إلا هذا المذهب عزاه السيرافي إلى الفراء، وهو أن إلا مركبةٌ من لا ومن إن مخففة من إن. وزاد ابن عصفور في تقرير هذا المذهب أن من نصب في نحو قام القوم إلا زيدًا غلب حكم إن، فجعل زيدًا منتصبًا بها، وخبرها محذوف، و"لا" كافية منه، والتقدير: إن زيدًا لم يقم. ومن رفع غلب حكم لا، فكان زيد معطوفًا بها على

القوم، وكأنه قال: قام القوم لا زيدٌ، قال: وإذا غلبت حكم إن مع المضمر اتصل الضمير بإلا، ومن ذلك قوله: وما علينا إذا ما كنت جارتنا ألا يُجاورنا إلاك ديار وإن غلبت حكم لا فصلت الضمير، فقلت: قام القوم إلا أنت، إجراء له مجرى قوله: قام القوم إلا زيد، ومن ذلك قوله: ويوم الحرب إذ حشدت معد وكان الناس إلا نحن دينا ورد هذا المذهب بأنك تقول: ما قام القوم إلا زيدٌ، برفع زيد ونصبه، فلو كان الرفع على ما ذكره من تغليب حكم لا لم يجز مع النفي؛ لأن "لا" لا يُعطف بها بعد النفي، لا يقال: ما قام القوم لا زيدٌ، ولو كان النصب على ما ذكره للزم اتصال الضمير المنصوب بها في الفصيح كما يتصل بأن، فتقول: قام القوم إلاك، والعرب لا تقول ذلك إلا في الضرورة، وأما في الفصيح فلابد من فصله: فتقول: إلا إياك. ورد المصنف هذا المذهب بأن التركيب دعوى لا دليل عليها. ولأنه لو صح التركيب لتغير العمل لتغير المعنى معه، كما تغير الحكم بتركيب إذ ما وحيثما، لما جوزي بهما زال معنى الإضافة والعمل اللائق بهما. ولأنه لو صح لم يلزم نصب ما ولي إلا في موضع، ولكان الإلغاء أولى كما كان قبل التركيب إذا خففت، بل كان يمتنع النصب لازدياد الضعف بالتركيب. ولأنه لو صح لوجب ألا يتم الكلام / [4: 35/ ب] بالمنصوب مقتصرًا عليه؛ كما لا يتم به بعد إن؛ لأن العامل المنقوص لا ينقص عمله. انتهى ملخصًا.

وقوله خلافًا لزاعمي ذلك قد ذكرنا من نُسبت إليهم هذا الأقوال. وقوله وفاقًا لـ"س" والمبرد أما هذا المذهب - وهو أن النصب بإلا نفسها - فعزاه المصنف إلى س والمبرد وعبد القاهر الجرجاني. قال ابن عصفور: ذهب المبرد والمازني ومن أخذ بمذهبهما إلى أن الناصب للمستثنى ما في إلا من معنى أستثني؛ ألا ترى أن قولك قام القوم إلا زيدًا بمنزلة قولك: قام القوم أستثني زيدًا. وهذا فاسد؛ لأن معاني الحروف لا تعمل لا في ظرف ولا مجرور ولا حال، إلا أن بعضها قد عمل بما فيه من معنى الفعل إذا أشبه الفعل، نحو كأن، فإنها تعمل في الحال، وأما المعنى مجردًا من اللفظ فلا يعمل في شيء في ذلك. وأيضًا فإنك قد تقول: قام القوم غير زيد، فيكون حكم غير في الإعراب كحكم الاسم الواقع بعد إلا، فكما أن معنى الاستثناء المفهوم من غير لا يصح إعماله فيها لأن ذلك يؤدي إلى أن يعمل في الكلمة معناها؛ فكذلك أيضًا لا ينبغي أن يجعل الناصب للاسم الواقع بعد إلا ما فيها من معنى الاستثناء، بل يكون الناصب له هو الناصب لغير. وقال الرُماني: "روي عن الزجاج أن نصبه بإلا لأنها بمعنى أستثني. ويبطل بنصب غير، ولا يصح معها تقدير أستثني لفساد المعنى، ولأن إعمال الحروف بمعانيها غير مطرد، كـ "ما" النافية، ولأنه ليس تقدير أستثني بأولى من تقدير تخلف أو امتنع مما يرفع، ولأن المستثني يُرفع في مواضع مع وجود إلا، ولأنا إذا قدرنا أستثني صار الكلام جملتين، وتقديره على الجملة الواحدة أولى" انتهى كلام الرماني. وظاهر نقل ابن عصفور عن المبرد غير موافق لما نقله المصنف عنه؛ لأنه نقل عنه من المقتضب أن إلا بدل من قولك: لا أعني زيدًا، أو: أستثني ممن جاءني زيدًا،

فكانت بدلاً من الفعل. وابن عصفور نقل أن النصب بما في إلا من معني أستثني. وغير موافق أيضاً لما يدل عليه كلام المصنف أنه منصوب بنفس إلا من غير مراعاة أن مدلولها أستثني، ولا أنها بدل من الفعل. وأما مذهب س فقد تقدم النقل أنه منصوب بالجملة المتقدمة عليه بوساطة إلا. وزعم المصنف أنه منصوب في مذهب س والمبرد والجرجاني بنفس إلا، وهو اختياره، قال: "وقد حفي كون هذا مذهب س علي جمهور الشراح لكتابه، وأنا أستعين الله علي بيان ما خفي عليهم من ذلك بنصوص يعضد بعضها بعضاً، فمن ذلك قوله: (إلا يكون الاسم بعدها علي وجهين: أحدهما: ألا تغير الاسم عن الحال التي كان عليها قبل أن تلحق، كما إن "لا" حين قلت: لا مرحبا ولا سلام، لم تغير الاسم عن حاله قبل أن تلحق، فكذلك إلا، ولكنها تجيء لمعني كما تجئ "لا" لمعني. والوجه الآخر: أن يكون الاسم بعدها خارجاً مما دخل فيه ما قبله، عاملاً فيه [4: 36/ أ] / ما قبله من الكلام، كما تعمل عشرون فيما بعدها إذا قلت: عشرون درهماً). فجعل "إلا" نظيرة "لا" المحمولة علي "إن" في أن ما تدخل عليه تارة تصادفه مشغولاً بعامل غيرها، فتؤثر في معناه دون لفظه، وتارة تصادفه غير مشغول بعامل غيرها فتؤثر في لفظة ومعناه. ثم صرح بأن العامل في زيد من نحو قاموا إلا زيداً ما قبله من الكلام، فإما أن يريد بما قبله "إلا" وحدها، أو الفعل وحده، أو كليهما، فدخول "من" مانع من أن تريد كليهما؛ لأنها للتبغيض لا لبيان الجنس؛ فإن التي لبيان الجنس لا تدخل بعد "ما: إلا علي نكرة، كقوله تعالي {ومَا خَلَقَ اللَّهُ

مِن شَيْءٍ}، {واعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَيْءٍ}، {ومَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ}،فلو كانت "من" في قول س لبيان الجنس لم تدخل علي الكلام معرفاً، بل كانت تدخل عليه منكراً، وإذا لم تدخل عليها إلا معرفاً فهي للتبغيض، ويلزم من ذلك انتفا أن تريد كليهما وثبوت إرادة الفعل وحده أو إلا وحدها، وإرادة "إلا" أولي؛ لأنها قبل المستثني لا قبل غيره، والفعل قبله وقبل غيره، فإرادته مرجوحة، وإرادة "إلا" راجحة. ولأن ما قبل الشيء إذا لم يرد به الجميع حمل علي الذي يلي، ولهذا إذا قال النجوى: (ياء التثنية مفتوح ما قبلها وياء الجمع مكسور ما قبلها) علم محل الفتحة والكسرة. ويعضد إرادة إلا قوله (كما تعمل عشرون فيما بعدها إذا قلت عشرون درهماً)، فجعل موقع المستثني من عامله موقع الدرهم من العشرين، فعلم أنه لم يرد الفعل لأنه منفصل مكتف، بخلاف إلا، فإنها مثل العشرين في الاتصال وعدم الاكتفاء، فكانت مرادة" انتهي ذكره النص الأول من كلام س واستدلاله. ولا دليل له في شيء منه، بل هو دليل عليه، وكلامه مدخول علي ما نبينه إن شاء الله، وكلام س يدل علي أن الناصب هو الجملة بوساطة إلا كما نسبه الجماعة إليه، فنقول: أما تشبيهه إلا في الاستثناء المفرغ بـ "لا" الداخلة علي "مرحبا وسلام" فليس فيه أكثر من أن ما بعد إلا مشغول بما قبلها، فهو علي حسبه، لا يجوز فيه إلا شغله بما قبله، فكأنك لم تذكر إلا، كما أن مرحبا مشغول بعامل له ناصب له

مضمر، فكأنك لم تذكر لا؛ لأنها دخلت علي متأثر بشيء قبلها، كما دخلت إلا علي شيء متأثر بشيء قبلها. وأما أن في ذلك إشعاراً بأن إلا هي العاملة النصب في المستثني فلا. وأما قوله "فجعل إلا نظيرة لا المحمولة علي إن" إلي آخره فليس كذلك، ليست لا هذه هي المحمولة في العمل علي إن، بل هي للدعاء في قولك: لا مرحبا بهم، ولا سلام علي عمرو، وليست للنفي العام؛ بدليل أن الجملة التي هي فيها ليست خبرية؛ لأنها لا تحتمل الصدق والكذب، بل في تشبيهها بـ"لا" التي للدعاء إشعاراً بأن إلا لا تعمل، كما لا تعمل لا التي للدعاء. وأما قوله المصنف "ثم صرح بأن العامل في زيد من نحو: قاموا إلا زيداً، ما قبله من الكلام" فهذا هو مدعي الجماعة ومستندهم أن مذهب س أن زيداً منصوب/ [4: 36/ ب] مما قبله من الكلام، وهي الجملة بأسرها، ولذلك عبر بعض أصحابنا عن هذا المعني [أنه انتصب عن تمام الكلام، وهو في ذلك بمنزلة التمييز. وأما ترديد المصنف في أن يريد ب"قبله" إلا وحدها، أو الفعل وحده، أو كليهما، وحصره ذلك في هذا التقسيم- فليس هذا التقسيم حاصرا؛ إذ بقي قسم، وهو أن ير يد ب"قبله" من الكلام الجملة بأسرها، وهو مدعي الجماعة في أنه مذهب س. وأما قوله المصنف "فدخول من مانع من أن تريد كليهما" فلا حاجة لهذا؛ لأنه لم يذهب أحد لم يذهب أحد إلي أن الاسم بعد المنصوب بالفعل وإلا معاً. وقوله "لأنها للتبغيض لا لبيان الجنس" الظاهر أنها لبيان الجنس، هذا إذا فرعنا علي أن من تكون لبيان الجنس، وأما علي من نفي ذلك المعني عنها فتكون

للتبعيض، ومعنى التبغيض هنا أن ما قبل إلا هو كلام من جملة الكلام، ولا يراد بالتبغيض هنا جزء الكلام، بل كلام من جملة الكلام. وأما قوله "فأن التي لبيان الجنس لا تدخل بعد ما إلا علي نكرة"، وذكره آيات من القرآن جاء فيها، بعد "ما" الاسم المجرور. بمن نكرة فلا يدل ذلك علي أنها لا تجر المعارف بعد "ما"، ليمنع أحد: اشتريت من عندك من الثياب، وما تريد من الفضة أعطيك، ونظرت إلي ما نظرت من الخيل، وأكلت ما أشبعني من اللحم، والقرآن ملآن من مجيء المعرفة بعد "ما"، قال تعالي {فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاءِ}، {ولا تَنكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُم مِّنَ النِّسَاءِ}، {ومَا أَنزَلَ عَلَيْكُم مِنَ الكِتَابِ والْحِكْمَةِ}، {أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ}، {واذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ والْحِكْمَةِ}، فاشتراط التنكير في ذلك ليس بشيء. وهكذا عادة هذا الرجل، يقعد قواعد يستبد فيها برأيه، ولا دليل عليها: ثم كلام المصنف بعد ذلك تكثير لا طائل تحته ولا فائدة. وقوله"ويعضد إرادة إي قوله كما يعمل عشرون" إلي آخره بل يعضد ما قال الجماعة؛ لأن لفظ س "عاملا فيه ما قبله من الكلام، كما تمل عشرون فيما بعدها" فشبه عمل الجملة بعمل عشرين، وليس في ذلك تشبيه إلا بعشرين.

ثم قال المصنف: "وأظهر من هذا قوله في خامس أبواب الاستثناء: (حدثنا أن بعض العرب الموثوق بعربتيه يقول: ما مرت بأحد إلا زيداً). ثم قال س: (فعلي هذا: ما رأيت أحداً إلا زيداً، فتنصب زيداً علي غير رأيت، وذلك أنك لم تجعل الآخر بدلاً من الأول، ولكنك جعلته منقطعاً مما عمل في الأول، فيعمل ما قبله كما عمل العشرون في الدرهم)، فصرح بأن نصب زيداً في المثال المذكور علي لغة من لا يبدل، إنما هو بغير رأيت فتعين نصبه بإلا، فلم يكتف بذلك التصريح حني قال (ولكنك جعلته منقطعاً مما عمل في الأول)، فهذان تصريحان لا يتطرق إليهما احتمال غير ما قلناه إلا بمكابرة وعناد" انتهي ما ذكره في هذا النص. وكلام س عليه لا له؛ لأنه إذا انتصب في الاستثناء لا يدعي س أنه منصوب بالفعل/ [4: 37/ أ] الناصب لأحد في قوله: ما رأيت أحداً، وإنما هو منصوب بالجملة نفسها لا بجزئها الذي هو الفعل، بخلاف جعله بدلاً، فإنه منصوب بالفعل وحده، إما نفس رأيت الناصب لأحد، وإما بتكرره علي الخلاف في العامل في البدل، وسيأتي. وقول المصنف "فتعين نصبه بإلا" لا يتعين من انتفاء نصبه بالفعل وحده أن يكون الناصب إلا، بل الجملة بأسرها. وقول س "ولكنك جعلته منقطعاً مما عمل في الأول" أي: لم يسلط عليه الفعل فينصبه أحداً. ثم قال"وعمل فيه ما قبله" أي: الجملة بكمالها، فهو منتصب عن تمامها لا عن جزئها، ولم يختلف كلام س في أن الناصب له ما قبله. وقول المصنف "هذان تصريحان" إلي آخره، نعم، هما تصريحان يشهدان بخلاف دعواه، وهو المكابر المعاند.

ثم قال المصنف: وقال - يعني س- في تاسع أبواب الاستثناء بعد أن مثل بأتاني إلا أباك: (وانتصب الأب إذا لم يكن داخلا فيما داخلاً فيما ما قبله، ولم يكن صفة، وكان العامل فيه ما قبله من الكلام)، والذي دخل فيه ما قبله إسناد المعني إلي المعني وتأثر اللفظ، فلزم من ذلك ألا يكون لفظ الأب منصوبا بلفظة أتي، كما لم يكن لمعناه حظ من معناه، فإذا لم يكن النصب بأتي تعين أن يكون بإلا، فحاصل س أن إلا هنا ناصبة ما استثني بها إذا لم يكن بدلاً ولا مشغولاً عنها بما هو أقوي منها، ومن نسب إليه خلاف هذا فقد تقول أو غلط فيما تأول" انتهي ما فهمه عن س في هذا الفصل. ولا حجة له فيه، بل هو حجة عليه؛ لأن س إنما نفي أن يكون داخلاً في الإتيان الذي دخل فيه القوم، ولم يكن صفة فيتبع ما قبله في الرفع، بل بقي فضلة من الفضلات، عمل فيه ما قبله من الكلام، فليس العامل فيه الفعل، ولا يتعين إذ ذاك في قوله "مقابله من الكلام" أن يكون العامل إلا، لأن ليست كلاماً، وس يقول "يعمل فيه ما قبله من الكلام"، فهذا هو النص علي أن العامل فيه الجملة بأسرها لا الفعل ولا إلا. وقوله "فحاصل كلام س أن إلا هي ناصبة" إلي آخره ليس بصحيح، بل حاصل كلام س أن الناصب لما بعد إلا ما قبله من الكلام، والذي قبله من الكلام هو الجملة.

وقوله "ومن نسب إليه خلاف هذا- أي خلاف أن الناصب إلا - فقد تقول أو غلط فيما تأول" وهو الذي تقول أو غلط قيما تأول، وكلامه هذا من ضن بنفسه، وهو جسور علي الرد علي الأئمة س فمن دونه، وهي عادة من نظر وحده، واستبد برأيه، وهذا الرجل قليل النظر في كتاب س، ويجهل كثيراً من مذاهبه ومن نقوله عن العرب، فيخالفه، وقد بينا من ذلك كثيراً في هذا الشرح، وحين أمعن النظر في كتاب س في هذه المسألة التي لا يجدي الخلاف فيها شيئا، لأنه خلاف ليس راجعاً إلي اختلاف في المعني - فهم كلام س غير ما فهمه المفتشون كتاب س / [4: 37/ ب] المنقرون عن معانيه، كالأستاذ أبي علي وأصحابه. ثم قال المصنف "وإذ قد بينت النصوص الشاهدة بأني فيما اخترته موافق ل (س)، فلم يبق إلا تليين ما يدل علي صحة ذلك". قلت: وأي نصوص شهدت بأنه موافق ل"س"؟ بل شهدت بمخالفته، وقد بينا ذلك. ثم خذ المصنف في الاستدلال علي أن إلا هي العاملة، وملخص ما طول به أنها مختصة بدخولها علي الاسم، وليست كجزء منه، فيجب لها العمل كوجوبه لسائر الحروف التي هي كذلك، ما لم تتوسط بين عامل مفرغ ومعمول، فتلغي وجوباً إن كان التفريغ محققا، وجوازاً إن كان مقدراً، نحو: ما قام أحد إلا زيد. ثم اعترض علي نفسه بأن إلا قد ثبت دخولها علي الفعل، فلا تصح دعوي الاختصاص. وأجاب بأن الفعل في موضع الاسم، فلم يزل اختصاصها،

نحو: نشدتك الله إلا فعلت، معناه: ما أسألك إلا فعلك، وما زاد إلا ما نقص، ومنافع إلا ما ضر، أي النقصان، وإلا الضرر، وما تأتيني إلا قلت حقاً، وما أتيتك إلا تكلمت بالجميل، وما زاد إلا نفع، وما قل إلا ضر، وما تكلم إلا ضحك، وما جاء إلا أكرمته، فجميع هذه أحوال، وهي أفعال مؤولة بالاسم، ولو كان مطلق الدخول علي يبطل الاختصاص بالاسم ما أضيف اسم إلي فعل؛ ولا وقع القول حالاً، ولا ثانياً لظن، ولا خير كان أو إن، لأن هذه مسلط عليها عامل الاسم، فكما لم يبطل اختصاص هذه بالأفعال لا يبطل اختصاص إلا بدخولها علي الفعل. ثم اعترض علي نفسه بأنها لو كانت عاملة لا تصل الضمير بها كما اتصل بإن، فكونه بقوله تعالي {ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إلاَّ إيَّاهُ}، وفي الاستثناء المنقطع: ما في الأرض أخبث منه إلا أيله- دليل علي أنها ليست بعاملة، وبهذا رد [علي] من ذهب إلي أن "إلا" هي الناصية. وأجاب بأنه انفصل تشبيهاً بالمنصوب علي التحذير والنداء من حيث هو منصوب لا مرفوع معه. وبأنه انفصل حملاً علي انفصاله في التفريغ ليجري الباب علي سنن واحد. وبأن إلا والمستثني بها في حكم جملة مختصرة، فكره واختصار الضمير باتصاله، والاختصار إجحاف. وبأن نسبة ما النافية في موافقة الفعل معني لا لفظاً، وفي الإعمال تارة والإهمال تارة، ومعمول ما إذا كان مضمراً كان منفصلاً، فألحقت بها. وبأن إلا تشبه لا العاطفة في لزوم التوسط

وجعل ما بعدها مخالفاً لمقابلها، والضمير بعد لا منفصل، فجرت في ذلك إلا مجراها، ومع ذلك فللمستحق بعد إلا النصب علي الاستثناء شبه بالمفعول المباشرة عامله، فكان له بذلك حظ في الاتصال إذا كان ضميراً، فنبهوا علي ذلك يقوله: .......................... ألا يجاورنا إلاك ديار وقوله: أعوذ بري العرش من فئة بغت علي، فما لي عوض إلاه ناصر [4: 38/ أ] /وليس هذا ضرورة لتمكن أن يقال: أن لا يكون لنا ظل ولا جار، وأن يقال: علي فما لي غيره عوض ناصر. وأيضاً فالمعروف من كلام العرب إيقاع المنفصل موضوع المتصل في الضرورة، نحو قوله: ............... قد ضمنت إياهم الأرض .............. والعكس غير معروف، فلو لم يكن الأصل في الضمير في الاستثناء الاتصال لم يسع في البيتين أن يصلا، كما لا يسوغ في المعطوف ولا في المفعول معه. قلت: قد نص المصنف في باب المضمر علي أن "إلاك" شاذ، وأما "إلاه ناصر" فلا يتعين أن يكون ضمير نصب، بل يجوز أن يكون ضمير رفع، حذف منه الواو، كقوله: فبينا هـ يشري رحله ........... .........................

والتقدير: إلا هو، وارتفع بعد إلا وإن كان مقدما كما ارتفع في قوله: ....................... فلم يبق إلا واحد منهم شفر وأما قوله "وليس هذا بضرورة" إلي آخره فهذا ليس بشيء؛ لأنه ليس من ضرورة إلا ويتمكن الشاعر من أن يبدلها بنظم آخر، فعلي هذا يستحيل أن توجد ضرورة فالمصنف لا يفهم معني الضرورة، وقد تكلمنا معه في ذلك في باب الجوازم كلاماً طويلاً في كتاب التكميل. ثم اعترض المصنف علي نفسه فقال: "فإن قيل: لو كانت عاملة لعلمت الجر، كما عمل غيرها من الحروف التي لا تشبه الفعل، ولذلك حكم بحرفية عدا وخلا وحاشا إذا جرت، وفعلي إذا نصبت". وأجاب بأنه لا يسلم ذلك، بل اللائق به عمل لا يصلح للفعل وهو جر أو نصب لا رفع معه، فكان النصب أولي بالأربعة؛ لأنه أخف من الجر، لكن منعت منه عدا وأختاها لأنهن يكن أفعالاً، فتستوجب النصب حينئذ، فلو عملته وهن أحرف لجهلت الحرفية، فتعين الجر بها إذا كن أحرفا، ولم يمنع من النصب مانع، فعملته. أيضاً فإن إلا مخصوصة بكثرة الاستعمال والتعرض للتكرار، فأوثر من بين أخواتها الحرفية بأخف الإعرابيين. انتهي ما لخص من كلامه.

وذكر شيخنا الأستاذ أبو الحسن بن الضائع الخلاف في ناصب المستثني, فقال: "زعم س أنه منتصب بما قبله, كما انتصب الدرهم في قولك: عشرون درهمًا", فظاهر هذا انتصب بعد تمام الكلام على التشبيه بالمفعول به, كما انتصب الدرهم. ثم ذكر مذهب السيرافي أنه انتصب بالفعل, ومذهب المبرد أنه انتصب بما في إلا من معنى الاستثناء, ومذهب الكسائي أنه انتصب بمخالفته للأول, ومذهب الفراء. وذكر ما ردت به هذه المذاهب. ثم قال: "المقصود في ذكر هذه العوامل ربط القوانين وتثبيتها في النفس, فأولى هذه بالنظر إلى ذلك المعنى أن يكون انتصابه بما تقدم أولاً على التشبيه, ويكون في ذلك كالتمييز, والأمر في ذلك قريب". -[ص: فإن كان المستثنى "بإلا" متصلاً مؤخرًا عن المستثنى منه المشتمل عليه نهي أو معناه, أو / [4: 38/ أ] نفي صريح, أو مؤول غير مردود به كلام تضمن الاستثناء- اختير فيه متراخيًا النصب, وغير متراخٍ الإتباع إبدالاً عند البصريين, وعطفًا عند الكوفيين. ولا يشترط في جواز نصبه تعريف المستثنى منه, خلافًا للفراء, ولا في جواز الإبدال عدم الصلاحية للإيجاب, خلافًا لبعض القدماء.]- ش: غرضه تبيين المواضع التي يشرك فيها بين النصب والبدل, وكان قد ذكر أنه يجوز في المستثنى بإلا النصب مطلقًا, أي: في موجب وغير موجب إذا ذكر المستثنى منه, وإذا حصر المشترك تعين النصب لما سواه.

واحترز بقوله بإلا من المستثنى بغيرها فإن له أحكامًا ستأتي. وبقوله متصلاً من الاستثناء المنقطع, فالنصب فيه راجح أو واجب. وبقوله مؤخرًا عن المستثنى منه من أن يكون مقدمًا عليه. وبقوله المشتمل عليه كذا من الموجب. وقال المشتمل, ولم يقل: الكائن معه, أو نحوه- تنبيهًا على أنه إذا انتقض النفي أو النهي فلا يكون له حكم, نحو: ما شرب أحد إلا الماء إلا زيدًا, ولا تأكلوا إلا اللحم إلا عمرًا. وكذا إن انتقض الحال, نحو: ما مررت بأحدٍ إلا قائمًا إلا زيدًا. فهذا وما أشبه بمنزلة ما لا نفي فيه ولا نهي؛ إذ المعنى: شربوا الماء إلا زيدًا, وأكلوا اللحم إلا زيدًا, ومررت بهم قائمين إلا زيدًا. ولا يجوز في قائمًا أن يكون صفة لأحد لأن "إلا" لا تعترض بين الصفة والموصوف. ولا حالاً من التاء؛ لأن معنى ما مررت إلا قائمًا: مررت قائمًا, ولو قلت مررت قائمًا بأحد لم يجز, فكذلك ما في معناه, فثبت أن قائمًا حال من أحد, وزيدًا منصوب؛ لأنه بعد إيجاب, ذكر هذا أبو علي في "التذكرة". وقوله أو معناه أي: معنى النهي. ومثل المصنف بقول عائشة رضي الله عنها (نهي عن قتل جنان البيوت إلا الأبتر وذو الطفيتين) , فهو محمول على تقدير: لا يقتل جنان البيوت إلا الأبتر, هذكا مثل المصنف هذا المسألة, وخرج هذا الأثر على أن التقدير: لا يقتل جنان البيوت 'لا الأبتر, فالرفع على البدل من

تقدير المرفوع الذي هو معمول لقوله "لا يقتل" الذي هو معنى نهى. ويمكن أن يكون الرفع من تحريف الرواة؛ لأنه لا وجه له؛ لأن [ما] قبله موجب. وإن صحت الرواية بالرفع فله تخريج غير الذي ذكره المصنف, وهو أن يرتفع صفة على الموضع؛ لأن "جنان البيوت"- وإن كان مجرورًا- هو مرفوع الموضع بإضافة المصدر المقدر أن ما ينحل إليه مبني للمفعول, والتقدير: نهى عن أن يقتل جنان البيوت إلا الأبتر وذو الطفيتين. وقوله والمؤول مثاله {ومَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إلاَّ اللَّهُ}، {ومَن يَقْنَطُ مِن رَّحْمَةِ رَبِّهِ إلاَّ الضَّالُّونَ} , فهذا هو استفهام في اللفظ ونفي في المعنى, وأكثر ما يكون ذلك في هل ومن, وقد جاء في أي, ولذلك عطف بعدها ب"ولا", قال: [4: 39/أ] / فأذهب, فأي فتى في الناس أحرزه عن حتفه ظلم دعج ولا جبل فلو قيل على هذا: أي الناس ينظر الغني إلا الجاهلون, على الإبدال من ضمير ينظر- لحسن. ومن النفي المؤول: قل رجل يقول ذلك إلا زيد, وأقل رجلٍ يقول ذلك إلا زيد, إذا أريد بهما النفي, وارتفاع زيد على أنه بدل من الضمير المستكن في يقول في المسألتين؛ لأن المعنى: ما يقول ذلك إلا زيد. ولا يجوز أن يكون بدلاً من رجل في: رجل يقول ذلك إلا زيد. وعلل الأستاذ أبو علي ذلك بأمرين:

أحدهما: أن قل لا تعمل إلا في نكرة, ولذلك قيد س قوله: "وقل من يقول ذلك" فقال "إذا جعلت من بمنزلة رجل" يعنى: نكرة. والثاني: أنها لا تعمل إلا في منفي, فهو بدل من الضمير محمول على المعنى, ولا يجوز في أقل رجلٍ يقول ذلك إلا زيد أن يكون "إلا زيد" بدلاً من "أقل"؛ لأن "أقل رجلٍ" لا يمكن تفريغه لقولك إلا زيد. وأجازه ابن خروف حملاً في المعنى. والمنع مذهب السيرافي، وهو الراجح؛ لأن أقل هي كلمة النفي, ولا يجوز الحمل على المعنى في البدل إلا أن بكون المبدل منه يبقى في اللفظ المقدر المحمول عليه؛ وأقل لا يبقى, فالبدل من الضمير. فإذا أردت بأقل رجلٍ التقليل لا النفي المحض فزعم ابن خروف أنه لا يجوز في إلا زيدًا إلا النصب؛ لأنه موجب المحض. وأجاز السيرافي فيه البدل؛ لأنه نفي للكثير, فالمعنى: ما يقول ذلك كثير إلا زيد, أي: ما يقوله إلا زيد. قال بعض شيوخنا: وظاهر كلام س قول السيرافي؛ لأنه لم يفصل في أقل بين أن يكون للنفي المحض أو للتقليل. ونقول: لا يحتاج فيه إلى التفصيل؛ لأنه قد تقرر أن الموجب لا يكون فيه البدل, فالذي يظهر أن مذهب ابن خروف هو الصواب. قال المصنف: "ومن التفي المؤول قراءة بعض السلف {فَشَرِبُوا مِنْهُ إلاَّ قَلِيلاً}؛ لأن قبله {فَمَن شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي}، فبذلك صار فشربوا بمعني: لم يتركوه" انتهى.

وزعم الفراء وتبعه ابن خروف أن ارتفاع (إلا قليل) على الابتداء, والخبر محذوف, التقدير: لكن قليل منهم لم يشربوا منه, ونظيره ما حكة س من قولهم: والله لأفعلن كذا إلا حل ذلك أن أفعل كذا, أي: لكن حل ذلك, وإلا منقطعة, وحل مبتدأ. وهذا الذي ذهبا إليه ضعيف؛ لأنه لا دليل على الخبر؛ لأن شربوا لا يدل على أن غيرهم لم يشربوا؛ ألا ترى أنه لو جاء هنا بخبر آخر غير لم يشربوا المقدر لأمكن, فيحتمل: إلا قليل اغترفوا غرفة, وبحتمل: إلا قليل لم يشرب. ولا تدل قراءة النصب على الاستثناء على أن يكون التقدير: إلا قليل منهم لم يشرب. ولا تدل قراءة النصب على الاستثناء على أن يكون التقدير: إلا قليل منهم لم يشرب؛ لأن لكل قراءة حكمها؛ ألا ترى أن س منع في: أكلت السمكة حتى رأسها, بالرفع على أن يكون مبتدأ محذوف الخبر؛ لاحتمال أن يكون الخبر لا يقدر ب"مأكول" وإن كانت حتى إذا عطفت أو جرت تدل/ [4: 39/ب] على أن ما بعدها داخل فيما قبلها؛ فلا تجعل قراءة الاستثناء دليلاً على تعين الخبر أنه: لم يشربوا, كما لم يجعل تعين الخبر بعد حتى أنه "مأكول" لأنها إذا جرت أو عطفت كان بعدها داخلاً فيما قبلها, وإذا لم يتعين ذلك فلا دليل على الخبر. وزعم الزمخشري أنه محمول على المعنى, أي: لم يبق إلا قليل منهم, كذا قدره. واستبعد ابن خروف قول الزمحشري لترك ظاهر اللفظ, وحذف فعل وفاعل, والبدل من شيءٍ مقدر, ولا يكون البدل إلا من ملفوظ به.

وزعم ابن عصفور أن قوله (إلا قليل) صفة للضمير في (فشربوا) , وأن الوصف بإلا يخالف جميع الأوصاف, فتكون صفة للضمير, وسيأتي الكلام على ذلك عند تكلم المصنف على الوصف ب"إلا" إن شاء الله. وقال شيخنا أبو الحسن بن الضائع: "الأولى عندي أن تكون بدلاً من الضمير, حكم لها بحكم غير, وأبدلت كما أبدلت غير, فلو قال فشربوا منه غير قليل منهم لجاز بالرفع على البدل, فكذلك يجوز في إلا. فإن قيل: فليجز أن تقول: قام إلا زيد, كما تقول: قام غير زيد. قلت: من شرط إجراء "إلا" مجرى "إلا" مجرى "غير" جواز الاستثناء في ذلك الموضع الذي تجري مجراها فيه؛ ومع ذلك يجوز الاستثناء؛ لأن الاسم المستثنى منه مذكور, فلا يجوز: قام إلا زيد؛ لأنه لا يجوز أن يكون استثناء هنا. فإن قيل: ليس أصل غير أن تكون بدلاً, فكيف تحمل على غير فيما ليس أصلاً فيها؟ قلت: "غير" صفة استعملت استعمال الأسماء, فحكمها أن يجوز فيها كل ما يجوز في الأسماء, فلم لا تكون "إلا" مثلها مع إبقاء جواز حكم الاستثناء فيها؟ ثم إن البدل يجوز في إلا في الواجب إذا تؤول فيه معنى النفي, فلم لا يجوز هنا على أن يتأول فيها حكم الغير؟ وهذا أقرب في تأويل الشاذ وتوجيهه" انتهى كلامه, وكان قد قدم أن قراءة {فَشَرِبُوا مِنْهُ إلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمْ} شاذة.

قال المصنف في الشرح: "ومن النفي المؤول ما أنشده الأخفش من قول الشاعر: لدمٍ ضائعٍ, تغيب عنه أقربوه إلا الصدى والجبوب ومن قول الآخر: وبالصريمة منهم منزل خلق .. عافٍ تغير إلا النؤى والوتد لأن تغيب بمعنى: لم يحضر, وتغير بمعنى: لم يبق على حاله" انتهى. وما ساغ من التأويل في {فَشَرِبُوا مِنْهُ إلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمْ} هو سائغ هنا ومحتمل. وقوله غير مردود به كلام تضمن الاستثناء مثاله قول القائل: قاموا إلا زيدًا, وأنت تعلم أن الأمر بخلاف ذلك, فتدخل ذلك, فتدخل النفي, وتأتي بالكلام مثل ما كان تعلق به المردود عليه, فتنصب زيدًا, / [4: 40/أ] ولا ترفعه؛ لأنك لم تقصد معنى: ما قام إلا زيد, فتقول: ما قاموا إلا زيدًا. وكذلك إذا قال: لي عندك مائة إلا درهمين, فأردت جحد ما ادعاه- فإنك تقول: ما لك عندي مائة إلا درهمين, فيكون هذا بمنزلة قولك: ما لك عندي الذي ادعيته. ولو رفعت الدرهمين لكنت مقرًا بهما جاحدًا الثمانية والتسعين؛ لأن المستثنى المبدل مما قبله في حكم الاستقلال, فكأنك قلت إذا رفعت: ما لك عندي إلا درهمان.

وهذا الشرط الذي هو "غير مردود به كلام تضمن الاستثناء" لم يذكره أصحابنا؛ إلا أن ابن عصفور ذكر عن ابن السراج أنه ذهب إلى أن قولك "ما جاءني القوم إلا زيد" إن قدر أن الأصل: ما جاءني القوم, ثم أتى بعد ذلك بالاستثناء- فالمختار الرفع. وإن قدر أن الأصل: جاءني القوم إلا زيدًا, ثم دخل حرف النفي- فالنصب؛ لأن حرف النفي لا يغير عمل العامل الذي يدخل عليه. قال ابن عصفور: وهذا الذي ذهب إليه من دخول حرف النفي في هذا الباب على إيجاب ملفوظ به قبل ذلك ليس من كلام العرب؛ بدليل أن قولك قام القوم إلا زيدًا معناه: قام القوم ولم يقم زيد, وأنت إذا نفيت قام القوم ولم يقم زيد احتمل الكلام ثلاث معان: أحدها ألا يكون واحد من القوم قد قام. والثاني أن يكون جميعهم قد قاموا. والثالث أن يكون بعضهم قد قام وبعضهم لم يقم. فلو كان النفي من قولك ما قام القوم إلا زيدًا داخلاً على الإيجاب كان الكلام محتملاً لهذه المعاني الثلاثة, وليس كذلك, بل لا يستعملون هذا الكلام إلا إذا أرادوا أن يجيزوا أن زيدًا قام من القوم ولم يقم غيره. وقوله اختير فيه متراخيًا النصب مثاله: ما ثبت أحد في الحرب ثباتًا نفع الناس إلا زيدًا, ولا تنزل على أحد من بني تميم إن وافيتهم إلا قيسًا؛ لأنه قد ضعف التشاكل بالبدل لطول الفصل بين البدل والمبدل منه, وهذا أيضًا لم يذكره المصنف. قال المنصف: "والأصل في هذا قول النبي صلى الله عليه وسلم (لا يختلي خلاها, ولا يعضد شوكها). فقال العباس: يا رسول الله, إلا الإذخر. فقال: (إلا الإذخر). وقد

يكون من هذا: (ما لعبدي المؤمن عندي جزاء إذا قبضت صفيه من أهل الدنيا ثم احتسبه إلا الجنة). وعلل قوم هذا النوع بعروض الاستثناء, قال ابن السراج: فإن لم تقدر البدل, وجعلت قولك: ما قام أحد, كلامًا تامًا لا تنوى فيه الإبدال من أحد, ثم استثنيت- نصبت, فقلت: ما قام أحد إلا زيدًا, فعلى هذا يكون للزوم النصب بعد النفي سببان: التراخي, وعروض الاستثناء" انتهى. وقول المصنف "فعلى هذا يكون للزوم النصب بعد النفي سببان) ليس بجيد لفظه ل"لزوم"؛ لأنه قال في الفص: "اختير النصير", فليس بلازم. وقوله وغير متراخ الإتباع مثاله: / [4: 40/ب] ما قام القوم إلا زيد, وما ضربت أحدًا إلا زيدًا، وما مررت بأحد إلا زيد. ونذكر تقسيم أصحابنا في المستثنى بالنسبة إلى الموجب وغير الموجب إذا ذكر المستثنى منه وكان المستثنى متصلاً مؤخرًا؛ فنقول: الموجب: ما ليس بمنفي في المعنى, وسواء أكان في اللفظ منفيًا أم لم يكن, فقام القوم إلا زيدًا, واضرب القوم إلا زيدًا, وإن قام القوم إلا زيدًا, وإن قام القوم إلا زيدًا قمت, وما أكل أحد إلا الخبز إلا زيدًا, وما جاء القوم إلا ركبانًا إلا زيدًا, وأمثال هذه- كل هذا موجب, وكل هذا نصب. وحكي الأخفش عن بعض العرب أنهم جعلوا الاستثناء من المخفوض مخفوضًا, فتقول: مررت بالقوم إلا بزبد. قال: "وهذا ضعيف؛ لأن الباء معدية, وغلا معدية, ولا يجمع بين معديين" انتهى. وينبغي أن تجعل الباء زائدة؛ لأن الجمع

بين أداتي تعدية ليست إحداهما في معنى الأخرى لا يجوز؛ فإن كانت في معناها فربما جاء ذلك في الشعر, نخو قوله: فأصبحن لا يسألنني عن ما به ............ وغير الموجب: ما هو منفي في المعنى, وسواء أكان في اللفظ منفيًا أم لم يكن, فما قام إلا زيد, ولا تضرب القوم إلا زيدًا, وهل قام أحد إلا زيد, وقل رجل يقول ذلك إلا زيد- كل هذا غير موجب, وحكمه اختيار الإتباع على ما يبين. فأما إذا دخل حرف النفي على المبتدأ, أو على نواسخه, أو كانت أداة النفي هي الناسخة- فسنذكره عند تعرض المصنف لذلك. مسألة مثل السابقة: قال أبو علي: وتقول: ما أكل أحد إلا الخبز إلا زيدًا. قال ابن هشام: هذا فصل عظيم المنفعة في هذا الباب, وذلك أنه قد تقدم أن المخرج في هذا الباب من المنفي موجب, ومن الموجب منفي, والاستفهام الذي بمعنى النفي كالنفي, والاستفهام الحقيقي إعرابه كالنفي, يفرغ لما بعد إلا العامل, ولا يفرغ, فإذا كان اللفظ نفيًا والمعنى إيجابًا, أو كان الأمر بالعكس, أو التفت هذا المعنى أم اللفظ- فالملتفت في هذا المعنى دون اللفظ, ولذلك لا يجوز في هذه المسألة إلا النصب وإن صدرت بالمنفي؛ لأنك إنما تستثنى زيدًا ممن أوجبت لهم أكل الخبز, وأخرجت زيدًا عنهم فيما أوجبته لهم, وصار المعنى: كلهم أكلوا الخبز إلا زيدًا, فإنه يأكل الخبز, أو أكله وغيره من الأطعمة, أو لم يأكل شيئًا أصلاً؛ إذ المعنى خروجه من حكم الأول, وعلى كل واحد من هذه المعاني يخرج من حكم الأول, فهذا ما تقتضيه جميعه "ما" و"إلا" من الحصر.

ومثل هذا: ما مررت بأحد إلا قائمًا إلا زيدًا, أوجبت لكل واحد منهم حالة القيام, ونفيت عنهم كل ما يتاقضه, وأخرجت زيدًا منهم فيما أوجبت لهم من القيام, فلم يجز فيه إلا النصب. ومثل ذلك: ما أتاني بنو محمد إلا بنو جعفر إلا خالدًا, فنفيت عن بني محمد الإتيان سوى بني جعفر, ثم أخرجت خالدًا- وهو/ [4: 41/أ] منهم- مما أدخلتهم فيه من الإتيان, فلم يكن فيه إلا النصب لا غير. وعكس هذه المسألة: أتاني بنو محمد إلا بني جعفر إلا خالد, ترفعه, تحمله على المعنى؛ لأنك حين استثنيت من إيجاب نصبت كما قدمنا, فبنو جعفر قد نفيت عنهم الإتيان, فكأنك قلت: ما أتاني بنو جعفر, ثم استثنيت منهم خالدًا, فأدخلته فيما نفيت, فصار موجبًا له عن نفي, فرفعه على المعنى. فإن قلت: قد رفعت, ولا ترفع هنا بعد "إلا" ما ترفعه قبلها, أو كان بدلاً من مرفوع. قلنا: هذه القسمة غير حاصرة, العرب تبدل في هذا الباب على التوهم, كأنك قلت: ما أتاني بنو جعفر, فلذلك قلت: إلا خالد, لاسيما البدل, فإنك تحمله على عامل آخر, فالتقدير: ما أتاني من بني عمك إلا خالد. ومن هذا الباب: أقل رجل يقول ذلك إلا زيد, فأفل موجب في اللفظ منفي في المعنى, فكأنك قلت: ما أحد يقول ذلك إلا زيد, فأقل: مبتدأ, وزيد: بدل منه على توهم: ما أحد يقول ذلك. ثم تقول العرب: قل رجل يقول ذلك إلا زيد, قال س: "فليس زيد بدلاً من الرجل في قل, ولكن قل رجل في موضع: أقل رجل, ومعناه كمعناه, وأقل

رجل: مبتدأ مبني عليه, والمستثنى بدل منه". يريد أن قل رجل لما كان في معنى أقل رجل حملت ما استثنى فيه على ما استثنى فيما هو في معناه؛ فيزيد هنا بدل من متوهم لا ملفوظ به حملاً على المعنى كما قدمنا. ومثل هذا: ما جئتني فأكرمك, نصبوه بأن, وعطفوه على متوهم من المعنى, لأن ما جئتني [بمنزلة]: لم يكن منك مجيء, ف"أن أكرمك" بمنزلة: فإكرام. انتهى. وتقدم الكلام في أقل رجل يقول ذلك, وقل رجل يقول ذلك. ومن هذا الفصل ما حكي الخليل وس عن العرب من قولهم: ما علمت أحدًا يقول ذلك إلا زيد, ترفع زيدًا بدلاً من الضمير في يقول من حيث كان منفيًا في المعنى وإن لم يدخل على فعله حرف النفي. ومن هذا الفصل قولهم: أبيت إلا الخروج, فسلطوا الفعل على ما بعد إلا في الإنجاب لأنه في معنى النفي, كأنه قال: ما أردت إلا الخروج, وقال تعالى {ويَابَى اللَّهُ إلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ}. ويقولون: أعطيته إلا ثيابي, أي: لم أمنحه. ويأتي هذا في كلامهم, ومنه عندي قول ابن اللبانة:

أنكرت إلا التواءات القيود به وكيف تنكر في الروضات حيات كأنه قال: لم أعرف, فلعله سمع هذا من كلامهم, وإن كان قاسه فقياس صحيح على ما تمهد مما أعطى أبو علي أصله وإن لم يمد فروعه. وقوله إبدالاً عند البصريين, وعطفًا عند الكوفيين مذهب س والبصريين أن تبعية المستثنى للمستثنى منه في مثل هذه المسألة هي على طريقة البدل, وهو بدل بعض من كل؛ لأنه على/ [4: 41/ب] تكرار العامل, فيتقدر ما قام القوم إلا زيد: ما قام إلا زيد, ولما كان معنى النصب على الاستثناء والتبعية على البدل واحدًا كان البدل أولى لما فيه من مشاكله الإعراب. ويدل على اختيار الرفع قراءة السبعة {ولَمْ يَكُن لَّهُمْ شُهَدَاءُ إلاَّ أَنفُسُهُمْ} بالرفع, وقراءة أكثرهم {مَّا فَعَلُوهُ إلاَّ قَلِيلٌ مِّنْهُمْ} , وقال أبو عمرة: الرفع في لغة العرب الوجه. وذهب الكسائي والفراء: إلى أنه تابع على العطفية لا على البدلية. وقد رد أحمد بن يحي ثعلب البدل؛ لأن البدل يكون على وفق المبدل منه في المعنى, وهذا مخالف؛ لأن الأول منفي عنه القيام, والثاني مثبت له القيام, والعطف توجد فيه المخالفة, نحو: ما قام بل عمرو, وما قام جعفر لكن خالد, ف"إلا" إذ ذاك حرف عطف.

قال شيخنا الأستاذ أبو الحسن الأبذي: "وهذا فاسد؛ لأن الذي يعني بالبدل هنا إنما هو بدل البعض من الكل, وبدل البعض من الكل الثاني فيه مخالف للأول في المعنى؛ ألا ترى إذا قلت رأيت القوم بعضهم فتكون رأيت القوم أولاً مجازًا, ثم تبينت بعد ذلك من رأيت منهم, وهو البعض, وإنما يشترط في البدل أن بكون شريك الأول في العامل خاصة, وأنت إذا قلت ما قام القوم إلا زيد كان زيد شريك القوم في العامل, والتقدير: ما قام إلا زيد" انتهى. وقد وجدنا من البدل ما يكون فيه الثاني مخالفًا للأول, نحو: مررت برجل لا زيد ولا عمرو, فهذا بدل, وليس بعطف؛ لأن من شرط "لا" العاطفة أن تكون مؤكدة, ولو جاز هنا أن تكون عاطفة لجاز: مررت برجل لا زيد, كما تقول: مررت بزيد بلا عمرو, فلزوم تكريرها دليل على أنها ليست بعاطفة. وكما جاز في النعت المخالفة إثباتًا ونفيًا, نحو: مررت برجل لا كريم ولا شجاع, كذلك جاز في البدل. فإن قلت: إذا كان بدل بعض من كل فلابد فيه من ضمير يعود على المبدل منه؛ حذف فذلك قليل, وهذا البدل لم نجد العرب تصرح [معه] بالضمير إلا قليلاً, كقوله {مَّا فَعَلُوهُ إلاَّ قَلِيلٌ مِّنْهُمْ}، {ولَمْ يَكُن لَّهُمْ شُهَدَاءُ إلاَّ أَنفُسُهُمْ}.

فالجواب: أنه أغنى عن الضمير في أكثر الكلام قوة تشبث المستثنى بالمستثنى منه بالأداة؛ لأنه إذا قيل ما قام القوم إلا زيد علم أن زيدًا من القوم, وأنه أوجب له ما نفي عنهم, ولقوة الاتصال بإلا جاز: ما قام زيد إلا قعد عمرو, فأغنت "إلا" عن الواو وقد, وإن كان الأصل: إلا وقد قعد عمرو. وقال ابن عصفور: "إلا مع الاسم المقرون بها بمنزلة غير لو أضيف لإلى ذلك الاسم؛ ألا ترى أنك لو قلت ما جاءني القوم إلا امرأة كان معناه ومعنى قولك ما جاءني القوم غير امرأة واحدًا, فكما أن (غير امرأة) بدل من القوم إذ لا يمكن أن يكون معطوفًا عليهم عطف نسق؛ إذ ليس في الكلام حرف عطف, ولا نعتًا له ولا [4: 42/أ] عطف بيان؛ لأنه نكرة, والقوم معرفة- فكذلك (إلا امرأة)؛ لأنه في /معناه" انتهى. وقد رد مذهب العطف بوجهين: أحدهما: أنه لو كانت إلا عاطفة لم تباشر العامل في نحو: ما قام إلا زيد, وحروف العطف لا تلي العوامل. والثاني: أنها لو كانت عاطفة لعطفت في الإيجاب كما عطفت في النفي. وهذا لا يلزم؛ لأن لبعض الحروف خصوصيات في العطف, فهذه "لا" يعطف بها في الإيجاب, ولا يعطف بها في النفي, وهذه لكن, يعطف بها في النفي, ولا يعطف بها في الإيجاب. وقوله ولا يشترط في جواز نصبه تعريف المستثنى منه, خلافًا للفراء ومذهب الفراء مردود بالسماع والقياس:

أما السماع فهو ما روى س عن يونس وعيسى جميعًا أن بعض العرب الموثوق بعربيتهم يقول: ما مررت بأحد إلا زيدًا, بالنصب بعد النكرة, ويرجح أن يكون من هذا قراءة من قرأ {ولا يَلْتَفِتْ مِنكُمْ أَحَدٌ إلاَّ امْرَأَتَكَ} في قراءة من نصب لتتفق القراءتان في الاستثناء من شيء واحد, ولأنه قيل: أخرجها معهم, وأمر ألا يلتفت منهم أحد إلا هي, فلما سمعت هدة العذاب التفتت, وقالت: يا قوماه. فأدركها حجر فقتلها. ويحتمل أن تكون قراءة النصب استثناء من {بِأَهْلِكَ} , فيكون من معرفة, فلا يكون في ذلك حجة على الفراء. قال المصنف في الشرح: "ويمكن في قراءة ابن كثير وأبي عمرو أن تجعل {امْرَأَتَكَ} مبتدأ, و {إنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ} خبره, والاستثناء منقطع" انتهى. وأما القياس فالنصب هو الأصل, والإتباع داخل عليه, وقد رجح عليه لطلب المشاكلة, فلو جعل تقدير ترجيحه عليه مانعًا منه لكان ذلك إجحافًا بالأصل, فضعف بهذا الاعتبار. وقوله ولا في جواز الإبدال إلى آخر المسألة حكي س عمن لم يسم أن المنفي إذا جاز في لفظه الإيجاب لم يجز فيه إلا النصب على الاستثناء, ولا يجوز البدل, نحو: ما أتاني القوم إلا أباك؛ لأنه بمنزلة: أتاني القوم إلا أباك.

واستدلوا على ذلك بأن الأصل قبل الحرف النافي النصب؛ فإذا دخل حرف النفي لم يتغير الإعراب عما كان عليه, وإنما يجوز ذلك عندهم فيما لا يصلح للإيجاب, نحو: ما جاء أحد إلا زيد. وما ذهبوا إليه مردود بالسماع والقياس: أما السماع فقوله تعالى {مَّا فَعَلُوهُ إلاَّ قَلِيلٌ مِّنْهُمْ} في قراءة الجمهور, وحكي يونس عن أبي عمرو أن الوجه في اللغة: ما قام القوم إلا عبد الله, بالرفع, و (فعلوه) و"قام القوم" يقع في الإيجاب. وأما القياس للنفي أحكام لا تكون في الوجوب, منها: حذف المستثنى منه وتفريغ العامل للمستثنى, قال س: " ولو كان حكم الواجب ما جاز: ما أتاني أحد" انتهى. ومسوغ جواز البدل فيما أجمع عليه صلاحيته للتفريغ, وهذا موجود في: ما أتاني القوم إلا زيد, كما هو موجود في: ما أتاني أحد إلا زيد, فوجب تساويهما في الحكم بجواز البدل, كما تساويا في تضمن المسوغ, وهو صلاحية التفريغ. وزعم/ [4: 42/ب] بعض النحويين أن البدل يختص بما يكون ما بعد إلا مستثنى مما يكون فيه المستثنى منه مفردًا؛ نحو رجل وامرأة. وقد رد بقوله تعالى {ولَمْ يَكُن لَّهُمْ شُهَدَاءُ إلاَّ أَنفُسُهُمْ} , فشهداء ليس مفردًا, بل هو جمع, وقد أبدل منه.

-[ص: وإتباع المتوسط بين المستثنى منه وصفته أولى من النصب, خلافًا للمازني في العكس. ولا يتبع المجرور ب"من" و"الباء" الزائدتين ولا اسم "لا" الجنسية إلا باعتبار المحل، وأجاز بنو تميم إتباع المنقطع المتأخر إن صح إغناؤه عن المستثنى منه, وليس من تغليب العاقل على غيره فيخص ب"أحد" وشبهه, خلافًا للمازني.]- ش: مثال ذلك: ما جاءني أحد إلا زيدًا خير منك, وما قام القوم إلا زيدًا العقلاء, وما بالبادية غنم إلا غنمك خير من غنمي, وما مررت بأحد إلا زيد خير منك, في زيد الإتباع بدلاً, والنصب على الاستثناء, كحاله لو تأخر عن الصفة, وكما كان المختار البدل حال التأخر كذلك هو المختار حال التقدم على الصفة, هذا ظاهر مذهب س, وهو اختيار المبرد أيضًا. واختلف النقل عن المازني, فالمشهور عنه أنه يجوز الوجهين, ويختار النصب على الاستثناء. ونقل ابن عصفور عنه في تصانيفه أنه لا يجيز فيه المازني إلا النصب على الاستثناء؛ وأن يونس وغيره أجازوا البدل. ونقل عنه في بعض تصانيفه أيضًا أنه يختار النصب, ولا يوجبه, واختلف اختياره: فمرة اختار البدل, ومرة اختار النصب على الاستثناء. فحجة من احتار النصب أن المبدل منه منوي به الطرح, فلا ينبغي أن يوصف بعد ذلك, بل إذا أردت الوصف نصبته على الاستثناء؛ لأن المستثنى منه إذ ذاك لا يكون منويًا به الطرح, وإذا لم يكن منويًا به الطرح ساغ وصفه.

وأيضًا فإن البدل على نية تكرار العامل, فإذا أبدلت كنت قد فصلت بين النعت والمنعوت بجملة, وإذا نصبت على الاستثناء كنت قد فصلت بينهما بمفرد معمول لما تقدم, فسهل الفصل به. وأيضًا فإن حكم البدل إذا اجتمع مع الصفة أن تكون الصفة مقدمة على البدل. وحجة من اختار الرفع أن الصفة فضلة, ولا اعتداد بالتقدم عليها, ولأن المستثنى في نحو ما جاء أحد إلا زيد إنما رجح إتباعه على نصبه لأنه إذا أتبع شاكل ما قبله وما بعده؛ فكان إتباعه متوسطًا أولى من إتباعه غير متوسط. قال المبرد: "والقياس عندي قول س؛ لأن الكلام إنما يراد لمعناه, والمعنى الصحيح أن البدل والمبدل منه موجودان معًا, لم يوضعا على أن يسقط أحدهما إلا في بدل الغلط, فإن المبدل منه بمنزلة ما ليس في الكلام". والبدل- وإن كان في تقدير جملة أخرى- إنما أتى به ليبين المبدل منه, كما أن النعت كذلك والموصوف لما فيها من / [4: 43/أ] تسديد الكلام وإن لم يكن لها موضع من الإعراب- فالأحرى أن يحسن بين المنعوت والنعت بالبدل؛ لأنه مفرد في اللفظ, وتابع لما قبله, ومبين له كالنعت, فالفصل به أيضًا بين المنعوت والنعت أسهل من الفصل بالاستثناء بينهما؛ لأن الاستثناء لا يشبه النعت. وقال ابن عصفور: "النصب أضعف من البدل؛ لأن فيه الفصل بينهما بالاستثناء". قال: "ولا يجوز الفصل بين الصفة والموصوف إلا في الشعر, كقوله:

أمرت من الكتان خيطًا, وأرسلت رسولاً, إلى أخرى, جريا, تعينها" ولولا السماع ما أجزنا: ما لي أحد إلا أباك صديق, وكان ينبغي ألا يجوز؛ ألا ترى أنه لا يجوز: ضرب زيد عمرًا العاقل. وقال شيخنا الأستاذ أبو الحسن بن الضائع: "إذا كان الفصل والموصوف بما هو من تمام الموصوف لم يكن ضعيفًا, والاستثناء من تمام المستثنى منه؛ لأنه بيان له, بل إن قيل إنه اتصالاً من البدل كان؛ ألا ترى أن أسماء العدد مع المستثنى قد صار لها دلالة أخرى خلاف ما وضعت له, فإن اسم العدد نص في معدودة, لا يجوز أن تقول: (عندي عشرة) وعندك تسعة, ومع المستثنى تصير العشرة اسمًا للتسعة إذا قلت: عندي عشرة إلا واحدًا, فقياس ابن عصفور الفصل بالاستثناء على ما ذكر فاسد. والصحيح في المسألة أن النصب في المستثنى المتقدم على صفة المستثنى منه أجود من النصب [فيه] متأخرًا ". وقال شيخنا الأستاذ أبو الحسن الأبذي: "من لحظ أن الصفة هي في المعنى الموصوف, فإذا تقدم الاستثناء عليها فكأنه تقدم على الموصوف- نصب. ومن لحظ أن المستثنى منه قد تقدم على المستثنى أحاز البدل كما أجازه في مثل قولك: ما قام القوم إلا زيد, والوجهان متكافئان" انتهى. ومن أمثلة هذه المسألة: ما لي أحد زيد صديق, ومن لي إلا زيد صديق, ف"إلا زيد" بدل مِن مَن, ومًن: مبتدأ, خبره: لي. ومثل س هذا بنصب صديق حالاً مِن مَن, فقال: من لي إلا أبوك صديقًا.

وزعم المبرد أن "إلا أبوك" خبر ل"من" كقولك: ما لي إلا أبوك, وأدخلت إلا على الخبر لأن الكلام في معنى النفي، فإذا أنكر أن يكون له أحد غير الأب صديقًا فكأنه قال: ما لي إلا أبوك, وصديقًا: حال متعلق به. وغره قول س: "لأنك أخليت من للأب", فتوهم أنه خبر له. ومقصود س أن يكون "من لي" مستقلاً, "ولي" هو الخبر, وكأنه قال: أي إنسان كائن لي, ففي "لي" ضمير مرفوع, ومنه استثني, وصديقًا: حال منه, والحال صفة في المعنى, فقد تقدم المستثنى على الصفة, وبهذا دخل في باب تقديم المستثنى على الصفة. والصحيح أنه بدل؛ لأنه يبقى مجرور لا عامل له؛ لأن من لا تعمل, وكذلك الأب, وقد فصل بين صديقًا وبين ما يعمل فيه بخبر المبتدأ فهو لحن, وس في مسألة تقديم المستثنى على/ [4: 43/ ب] الصفة بدأ بالبدل, ثم حكي النصب عن بعض العرب, ومن ذلك قول الشاعر: وإني لعبد الضيف ما دام نازلا وما شيمة لي غيرها تشبه العبدا وفي شرح أبي الفضل الصفار: "س فصل بتابع, فهو بمنزلة الصفة, ولا يجوز: ضرب زيد عمرًا العاقل, ولولا السماع ما أجزنا: ما لي أحد إلا أباك صديق؛ ألا ترى قوله: (وقال بعضهم: ما مررت بأحد إلا زيدًا خير منه) , فهو قد حكاه عن بعض العرب".

وقوله ولا يتبع إلى قوله إلا باعتبار المحل هذه مسائل ثلاث, مثالها: ما في الدار من أحد إلا زيد, ليس زيد بشيء إلا شيئًا لا يعبأ به, لا إله إلا الله. رفعت المبدل من "أحد" لأن أحدًا في موضع رفع بالابتداء, ولم تحمله على اللفظ فتجره لأن معرفة موجب, و"من" الزائدة لا تجر إلا منكرًا غير موجب. ونصبت المبدل من "بشيء" لأنه في موضع نصب إبليس, ولم تحمله على اللفظ فتجره لأنه خبر موجب, ولا عمل للباء الزائدة في خبر موجب. ورفعت المبدل من اسم "لا" لأنه في موضع رفع بالابتداء, ولم تحمله على اللفظ فتنصبه لأنه معرفة موجب, و"لا" إنما تعمل في منكر منفي. وهذا ظاهر قول س وأبي علي, ومقتضاه أنه يجوز في النكرة. وقد قال بعض النحويين إنه لا يجوز إجماعًا. وقال ابن هشام: "فإن قيل: إذا كان هذا الاسم نكرة, نحو: لا رجل في الدار إلا رجلاً من بني تميم أو إلا تميميًا- قلنا: قد كان يجوز لولا أمر آخر يمنع من جوازه, وهو أن "لا" لا تعمل في الواجب, بمنزلة من, فلذلك لا يجوز حمل البدل بعد إلا على اللفظ هنا في معرفة ولا نكرة. وهذا الموضع مما استفدته بنظري ومباحثتي, ولم أستفده بتعليم ولا من كتب القوم" انتهى. ومن الإتباع على محل الباء الزائدة قوله: يا بني لبيتى, لستما بيد إلا يدًا, ليست لها عضد والعطف والبدل من باب واحد, فكما تقول: ما أتاني من أحد لا عبد الله ولا زيد, ولا أحد فيها لا زيد ولا عمرو, فتحمل على الموضع لا على اللفظ- فكذلك تفعل في البدل.

وقال الأستاذ أبو علي: "إن قلت كيف يكون عبد الله في قوله لا أحد فيها إلا عبد الله بدلاً من أحد, وأنت لا يمكنك أن تحله محله؟ فالجواب: أن هذا إنما هو على توهم: ما فيها من أحد إلا عبد الله؛ إذ المعنى واحد, وبلا شك أن هذا يمكنك فيه الإحلال, والتقدير: ما فيها إلا عبد الله". قال ابن عصفور: "وهذا الإشكال الذي ذكره لا يتقدر في المسألة, وإذا لم يتقدر لم يحتج إلى الانفصال عنه؛ من جهة أنه لا يلزم أن يحل - إلا عبد الله) محل (أحد) الواقع بعد "لا"؛ لأن البدل إنما يلزم أن يكون على نية تكرار العامل, وقد حصل ذلك في هذه المسألة وأمثالها؛ ألا ترى أن (عبد الله) بدل من موضع (لا أحد) [4: 44/أ]، / فيلزم أن بكون العامل فيه الابتداء, كما أن العامل في موضع (لا أحد) الابتداء, وبلا شك أنك إذا أبدلته منه كان مبتدأ في التقدير, وخبره محذوف, وكذلك حرف النفي, لدلالة ما قبله عليه, والتقدير: لا أحد فيها لا فيها إلا عبد الله, ثم حذف, واختصر" انتهى. وهذا الذي ذكره المصنف في مسألة "ما الدار من أحد إلا زيد" هو على مذهب جمهور أهل البصرة؛ وكذلك مذهب الكوفيين في هذه المسألة لأنهم لا يجيزون دخول من الزائدة على معرفة, فلو كان نكرة جاز عندهم الحمل على اللفظ, نحو: ما أتاني من أحد إلا غلام. وفي البسيط: ذكر الفراء أن الكسائي يجوز هذا بالجر, فيقول: ما جاءني من أحد إلا رجلٍ, وما من إله إلا إله واحد. قال: وليس ذلك بشيء. وأما الأخفش فيجيز دخولها على النكرة والمعرفة في الواجب وغيره, فيجوز عنده حمل زيد على اللفظ.

فإن كان الحمل على اللفظ وعلى الموضع لأي يتعذر جاز فيه الوجهان, والاختيار الحمل على اللفظ لما فيه من المشاكلة في لفظ الإعراب, مثاله: ما خشنت بصدر رجل إلا صدر زيد, بخفض صدر على اللفظ, ونصبه على الموضع؛ لأن موضع صدر المتقدم نصب؛ ألا ترى أنه يجوز أن تقول: ما خشنت صدر رجل. ويجوز النصب على أصل الاستثناء, فتقول: لا رجل في الدار إلا زيدًا, وما جاءني من أحد إلا زيدًا, ومنه قوله: مهامهًا وخروقًا, لا أنيس بها إلا الضوابح والأصدقاء والبوما ويجوز جر الاسم فيما كان قبله مجرور, على أن تكون "إلا" وما بعدها صفة لذلك المجرور, وأنشدوا بيت النابغة بالخفض: إلا الأوراي لأيا ما أبينها والنؤي كالحوض بالمظلومة الجلد على الصفة ل"من أحد" من قوله: ............ عيت جوابًا, وما بالربع من أحد وأنشد الفراء والكسائي: أبني لبينى, لستما بيد إلا يد, ليست لها عضد

وأجاز هذا الفراء, ولم يجز مثل بيت النابغة. قال: "ورأيت الكسائي يخفضه, وأنزل إلا بعد الجحد بمنزلة غير, وحمله على (إلا يد) , وليس مثله؛ لأن الباء تدخل في الجحد في المعرفة". وقال بعض أصحابنا: ولا دليل فيه, ولا فرق بين المسألتين, والباء- وإن دخلت على المعارف- لا تدخل في الإيجاب, فهي لا يصح تقديرها داخلة على ما بعد إلا, وإذا كانت إلا لا تدخل بعدها الباء ولا من فقد استويا من هذا الوجه, وهو المطلوب هنا في الإثبات والنفي, وقد ذكرنا أن ذلك يجوز على الصفة, وإنما امتنع ذلك على تقدير البدل. وقوله أجاز ينو تميم إتباع المنقطع المتأخر إن صح إغناؤه عن/ [4: 44/ب] المستثنى منه مثال ذلك: ما في الدار أحد إلا وتد, فبنو تميم يجعلون المنقطع المؤخر من المستثنيات في غير الإيجاب كالمتصل, والحجازيون ينصبونه وجوبًا. واحترز بقوله "المتأخر" من أن يكون متقدمًا, نحو: ما في الدار إلا حمارًا أحد, فإنه لا يجوز فيه على مذهب البصريين إلا النصب, وسيأتي ذكر تقديم المستثنى على المستثنى منه فقط, إن شاء الله. واحترز بقوله" إن صح غناؤه عن المستثنى منه" من كونه لا يصح ذلك فيه, وهو كل استثناء منقطع لا يجوز فيه تفريغ ما قبل إلا للاسم الواقع بعدها, من ذلك قولهم: ما زاد إلا ما نقص, وما نفع إلا ما ضر, ففي زاد ونفع ضميران فاعلان, فالمعنى: لكنه نقص, ولكنه ضر, وما مصدرية, كأنه قال: ما زاد إلا النقص, وما نفع إلا الضر, قال س: "ف (ما) مع الفعل اسم" يعني: هي مصدرية, ولذلك شبهه بقولهم: ما أحسن ما كلم زيدًا! أي: ما أحسن كلامه زيدًا! فلو فرغت

العامل على النقص والضر لم يصح. فهذا النوع لا يجوز فيه عند جميع العرب إلا النصب. وزعم السيرافي أن المصدر المقدر مبتدأ, خبره محذوف, أي: لكن النقصان أمره, فكأنه قال: ما زاد النهر لكن النقصان أمره, وما نفع زيد لكن الضرر شأنه, ونقله عن مبرمان. ولو كان على ما ذهب إليه السيرافي لجاز عند أهل الحجاز: ما فيها أحد إلا حمار, على أن يكون مبتدأ, خبره محذوف. وزعم الأستاذ أبو علي أن المصدر هنا مفعول به حقيقة ل"زاد" والتقدير: ما زاد شيئًا إ النقصان, ثم فرغه له, كـ"ما ضرب إلا زيدًا" وجعله متصلاً, وكان الذي قام مقام الزيادة النقصان, ومقام النفع الضرر. ورد هذا بأن الضرر لا نسبة بينه وبين النفع. وجعل ابن طراوة ما زائدة, وخطأ س في جعل ما مصدرية؛ لأنه يكون المعنى: ما زاد إلا النقص, وما نفع إلا الضرر, وهذا خلف؛ لأن الضرر لم ينفع, والنقص لم يزد. ورد على ابن الطرواة بأن س لم يرد الاتصال, وهو جعله متصلاً, وإنما أراد س: ما نفع, لكن الضرر حصل أو وقع, فلم يجعل الضرر مفرغًا له العامل كما توهمه ابن الطرواة عليه, وإنما قال بزيادتها لأنه لم يفهم عن س إلا أن الفعل مفرغ. ووجه زيادتها بأن قال: فرقوا بين فعل الذي يكون حالاً, فلا تزاد فيه ما, وما ل يكون حالاً, فزادوا فيه ما. وهذا الذي قال لم يثبت نظيره, وفيه دعوى الزيادة من غير داعية إلى ذلك.

ومن هذا النوع عند المصنف قوله تعالى {لا عَاصِمَ اليَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إلاَّ مَن رَّحِمَ}، ف"من" في موضع نصب عنده؛ لأنك لو حذفت المستثنى منه- وهو عاصم- واستغنيت بالمستثنى عنه -/ [4: 45/أ] لم يصح. ومنه عنده قول الشاعر: ألا لا مجير اليوم مما قضت به صوارمنا إلا امرأ كان مذعنا ومن هذا النوع عند ابن عصفور قوله تعالى {لا يَذُوقُونَ فِيهَا المَوْتَ إلاَّ المَوْتَةَ الأُولَى}، فـ (الموتة الأولى) منصوبة على الاستثناء. ولا يجوز أن يجعل مع إلا بدلاً من الموت؛ لأنه لا يستقيم ذلك لفساد المعنى. وفي قوله وأجاز بنو تميم دلالة على أنه لا يتحتم عندهم البدل, بل الأفصح عندهم النصب, وأما البدل فهو ضعيف؛ لأن لا يتصور إلا على ضربين من التأويل: أحدهما: أن يكون مجازًا, وتنزيل ما ليس من الجنس منزلة ما هو من الجنس, فإذا قلت: ما في الدار أحد إلا حمار, جعلت الحمار في الدار قائمًا مقام الأناسي, على حد قولهم: عتابك السيف, وقول أبي ذؤيب:

فإن تمس في قبر برهوة ثاويا أنيسك أصداء القبور تصيح ويكون البدل في هذا الوجه من قبيل بدل بعض من كل. والثاني: أن يكون الاسم الذي قبل إلا ذكر توكيدًا, فمراده: ما في الدار إلا حمار, وذكر أحد توكيدًا ليعلم أنه ليس بها آدمي. والبدل على هذا من قبيل بدل الإضراب, بمنزلة قوله: ما أعانه إخوانه إلا إخوانكم. وهذان الضربان عامان في كل ما أبدل من الأول وليس بعضه. وزعم بعض النحويين أن البدل في الاستثناء المنقطع قد يجوز على وجه آخر؛ وهو ألا ترد نفي الأول خاصة, بل نفيه ونفي ما يلابسه؛ لأن الدار إذا علم أنه ليس بها أحد فليس بها ما يلابس الأحدين, كالأوراي وغيرها مما يلابسهم, فجاز لذلك إبدال "الأواري" في قوله: ........ وما بالربع من أحد إلا الأواري لأيا ما أبينها .......... من "أحد" لعمومه في المعنى, على الطريق بدل بعض من كل؛ لأن أحدًا إذ ذلك بمنزلة الخاص الموضوع موضع العام. وهذا المذهب لا يصح؛ لأنه لا يطرد في هذا الباب؛ إذا قد يكون ما بعد إلا ليس بعض الأول ولا ملابسًا له, نحو قوله: وبلدة ليس بها أنيس إلا اليعافير, وإلا العيس فاليعافير ليس بعض الأنيس ولا ملابسًا له.

وزعم بعض المتأخرين- ونقل ابن الضائع أنه الأستاذ أبو علي- أن البدل يتصور على تقدير حذف العطف والمعطوف، والتقدير: ما في الدار ولا غيره إلا الأوراي, والعرب قد تحذف المعطوف لفهم المعنى. قال الأستاذ أبو الحسن بن عصفور: "وهذا غير سائغ عندي لأمرين: أحدهما: أن حذف المبدل منه وإبقاء البدل لم يثبت من كلام العرب. والآخر: أنه لا يمكن/ [4: 45/ب] أن يكون التقدير: ولا غيره إلا الأواري, لفساد المعنى؛ لأنه لم يرد نفي غير الأحدين عنها؛ إذ معلوم أنه قد يكون بها نبات وشجر ووحش وغير ذلك مما هو غير الأحدين" انتهى. والوجه الأول قد تنازع فيه, فقد أجازوا: الذي ضربت زيدًا أخوك, استغنت الصلة بالبدل عن لفظ المبدل منه وسيأتي الكلام على هذه المسألة إن شاء الله في باب البدل حيث تعرض لها المصنف. وتقدير" ولا غيره" يخرج أن يكون ما بعد إلا من الاستثناء المنقطع, لأن قوله (الأواري) مندرج تحت عموم تقديره: ولا غيره, فهو تقدير يحيل الاستثناء المنقطع, فلا يجوز. وذكر المصنف أن بني يقرؤون {مَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إلاَّ اتِّبَاعَ الظَّنِّ} بالرفع, إلا من لقن النصب وهذا مخالف لما حكيناه عنهم من أن الأفصح عندهم النصب, قال: "وعلى لغتهم: وبلدة ليس بها أنيس .............

البيت, وقول الفرزدق: وبيت كريم قد نكحنا، ولم يكن لنا خاطب إلا السنان وعامله" قال المصنف: "ويلتحق لهذا إتباع أحد المتباينين الآخر، نحو: ما أتاني زيد إلا عمرو, وما إخوانكم إلا أخوانه, وهما من أمثلة س، والأصل: ما أتاني أحد إلا عمرو, وما أعانه أحد إلا إخوانه, فجعل مكان (أحد) بعض مدلوله, وهو: زيد, وإخوانكم, ولم يذكر زيد ولا إخوانكم فيمن نفي عنه الإتيان والإعانة لذاتهما, لكن ذكرا توكيدًا لقسطهما من النفي, ودفعا لتوهم المخاطب أن المتكلم لم يعرض له هذا الذي أكد به, فذكرهما توكيدًا" انتهى. وأنشد: والحرب لا يبقى لجا حمها التخيل والمراح إلا الفتى الصبار في النـ ـجدات والفرس الوقاح وأنشد أيضًا: عشية لا تغني الرماح مكانها ولا النبل إلا المشرفي المصمم

وقوله وليس من تغليب العاقل إلى قوله للمازني وذلك أن أحدًا من الألفاظ الخاصة بمن يعقل، فيقع على ما لا يعقل إذا اختلط بمن يعقل، نحو من، قال تعالى {ومِنْهُم مَّن يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ}. وهذا الذي ذهب إليه المازني لا يطرد في باب الاستثناء المنقطع؛ لأنهم قد يفعلون ذلك حيث لا يمكن تغليب، نحو قوله: ليس بيني وبين قيسٍ عتابٌ غير طعن الكلى وضرب الرقاب فالطعن والضرب ليسا من العتاب، وقد أبدلت "غير" المضافة إليهما مع أنه لا يمكن التغليب. وقال ابن خروف رادًا على قول المازني: "لا يُتوهم ذلك محصورًا في / [4: 46/ أ] لفظ أحد وما يشبهه؛ لأن ما جاء مما ليس بلفظ أحد أكثر من أن يحصى" انتهى. والاستثناء إن كان بلفظ "إلا" أو "غير"، وكان لا يمكن توجه العامل عليه - وجب النصب. أو يمكن فالحجاز تنصبه وجوبًا، وتميم تجيز فيه الإبدال، وهذا كما تقدم. وإن كان الاستثناء بأداة غير لفظ "إلا" و "غير" كان حكم الاسم المستثنى كحكمه إذا كان الاستثناء متصلًا في جميع ما ذكر؛ ومن الاستثناء المنقطع بأداة غير "إلا" و "غير" قول الشاعر: لم ألف في الدار ذا نطقٍ سوى طللٍ قد كاد يعفو، وما بالعهد من قدم

قوله "ذا نُطق" كلفظ "أحد"، و" سوى طللٍ" استثناء منقطع، فعلى هذا الذي تقرر تقول: ما بالدار أحدٌ ليس حمارًا، أو لا يكون حمارًا، أو عدا حمارًا، أو عدا حمارٍ، أو سوى حمارٍ، وكذلك باقي الأدوات. -[ص: وإن عاد ضمير قبل المستثنى بـ"إلا" الصالح للإتباع على المستثنى منه العامل فيه ابتداءٌ أو أحد نواسخه أُتبع الضمير جوازًا وصاحبه اختيارًا، وفي حكمهما المضاف والمضاف إليه في نحو: ما جاء أخو أحدٍ إلا زيدٌ. وقد يُجعل المستثني متبوعًا، والمستثني منه تابعًا. ولا يقدم دون شذوذ المستثنى على المستثنى منه والمنسوب إليه معًا، بل على أحدهما، وما شذ من ذلك فلا يقاس عليه، خلافًا للكسائي.]- ش: مثال ذلك في المبتدأ: ما أحدٌ يقول ذلك إلا زيدٌ. ومثال ذلك في الناسخ: ما حسبت أحدًا يقول ذلك إلا زيدًا، وما كان أحدٌ يجتزئ عليك إلا زيدٌ. فيجوز في هذه المسائل ونحوها أن تجعل زيدًا تابعًا للمبتدأ، أو المفعول الأول لحسبت، أو لاسم كان، فيكون بدلًا منه على حسب إعرابه؛ لأن المسوغ للإتباع هو النفي، وهو أقرب إلى الظاهر منه إلى المضمر، وهو المختار. ويجوز أن تجعل زيدًا تابعًا للمضمر الذي في الخبر، أو في المفعول الثاني، أو في خبر كان، فيكون بدلًا منه؛ لأن النفي متوجه عليه من جهة المعنى. ويشمل قوله وإن عاد ضميرٌ هذه المسائل التي عاد فيها الضمير من الخبر على المبتدأ، أو على المفعول الأول من الثاني لظننت، وعلى اسم كان من خبرها،

وقد مثلنا ذلك، والمسائل التي يعود فيها من صفة المبتدأ عليه، ومن صفة المفعول الأول عليه، ومن صفة اسم كان عليه، ومثال ذلك: ما فيهم أحدٌ اتخذت عنده يدًا إلا زيدٌ، وما ظننت فيهم أحدًا يقول ذلك إلا زيدٌ، وما كان فيهم أحدٌ يقول ذلك إلا زيدٌ، فحكم هذه المسائل في الصفة حكمها في الخبر، فالأولى الإبدال من الظاهر، ويجوز الإبدال من المضمر، وقال س / [4: 46/ ب] عن الخليل محتجًا على جواز الحمل على ما توجه عليه النفي في المعنى بقولهم: ما رأيته يقول ذاك إلا زيدٌ، وما ظننته يقوله إلا عمرو، فالهاء ضمير الأمر، وفاعل يقول ما بعد إلا، وجاز تفريغه وإن كان ليس فيه ضمير المبتدأ لأنه المنفي في المعنى. ومن ذلك قوله: يهدي كتائب خضرًا، ليس يعصمها إلا ابتدارٌ إلى موتٍ بإلجام ففي ليس ضمير الأمر، وابتدار: فاعل بيعصمها .. ويمكن حمل "ليس" هنا على "ما" فلا عمل لها. ويشمل قوله قبل المستثنى بإلا الاستثناء المتصل، كهده المسائل التي مثلنا بها، والاستثناء المنقطع، نحو: ما أحدٌ يُقيم بدارهم إلا الوحش، فلك أن تُتبع الوحش للمبتدأ، ولك أن تُتبعه للضمير في: يُقيم بدارهم. وكذلك: ما حسبت أحدًا يُقيم بها إلا الوحش، وما كان أحدٌ يُقيم بها إلا الوحش. والدليل على مجيء ذلك في الاستثناء المنقطع قول الشاعر:

ما أحسن الجيد من مليكة واللبات إذ زانها ترائبها! يا ليتني ليلةً، إذا هجع الناس، ونام الكلاب، صاحبها في ليلةٍ، لا نرى بها أحدًا يحكي علينا إلا كواكبها فـ "كواكبها" بدل من الضمير المستكن في يحكي، وهو استثناء منقطع؛ لأن أحدًا وضميره مختص بمن بعقل، و"نرى" هنا بمعنى نعلم، و"يحكي" في موضع المفعول الثاني لها، ومعنى يحكي علينا: يُخبر عنا. واحترز بقوله قبل المستثنى من أن يكون مذكورًا بعده، فإنه لا يُتصور فيه ذلك، نحو: ما أحدٌ إلا زيدًا يقول ذلك، فهذا لا يكون فيه إلا النصب على الاستثناء، ولا يجوز أن يكون بدلًا من الضمير في يقول. واحترز بقوله بإلا من أن يكون مستثني بأداة غير إلا، فإنه إن كانت الأداة اسمًا فالمستثنى مجرور بالإضافة، أو حرفًا فمجرور بالحرف، أو فعلًا فمنصوب، فلا يمكن فيه الإبدال. ولم يمثل النحويون إلا المستثنى بإلا، والذي يظهر أن غيرًا حكمها حكم المستثنى بإلا في ذلك، فيجوز: ما ظننت أحدًا يقول ذلك غير زيدٍ، بالنصب تبعًا لأحد، وبالرفع تبعًا للضمير في يقول. واحترز بقوله الصالح للإتباع من أن يكون ما بعد "إلا" لا يصلح للإتباع، وهو أن يكون استثناء منقطعًا لا يمكن أن يتوجه عليه العامل ولا يفرغ له، مثال ذلك: ما أحدٌ ينفع إلا الضر، وما مالٌ يزيد إلا النقص، فهذا يصدق عليه أنه عاد ضمير قبل المستثنى بإلا على المستثنى منه، إلا أن المستثنى بإلا لا يصلح أن يكون تابعًا، فهذا لا يجوز فيه إلا النصب على الاستثناء، ولا يجوز أن يكون بدلًا، لا من "أحد"، ولا من "مال"، ولا من الضمير في يزيد ولا في ينفع.

واحترز بقوله العامل فيه ابتداءٌ أو أحد نواسخه من أن يكون العامل فيه غير ذلك، مثاله: ما شكر رجلٌ أكرمته إلا زيدٌ، وما مررت بأحدٍ أعرفه إلا عمروٍ، / [4: 47/ أ] فيلزم إتباع الظاهر، ولا يجوز إتباع الضمير؛ لأن المعنى: ما شكر ممن أكرمتهم إلا زيدٌ، وما مررت ممن أعرفهم إلا بعمروٍ، ولا تأثير للنفي في أكرمت، ولا في أعرف، بل هما مثبتان، فلذلك امتنع إتباع معموليهما. والظاهر أن قوله "العامل فيه ابتداءٌ أو أحد نواسخه" يشمل أن يكون المبتدأ أو معمول أحد النواسخ نكرةً ومعرفة، لكن النحويون - فيما وقفت عليه - لا يمثلون إلا بالنكرة، والذي يظهر مساواة المعرفة للنكرة في ذلك، فتقول: ما القوم يقولون ذاك إلا زيدٌ، وما إخوتك يقولون ذلك إلا زيدٌ. وهل تجري الحال مجرى الصفة فيما ذكر، نحو: ما إخوتك في البيت عاتبين عليك إلا زيدٌ، فيكون يجوز في زيد أن يكون بدلًا من القوم، وأن يكون بدلًا من الضمير المستكن في عاتبين؟ في جواز ذلك نظر، والقياس يقتضيه؛ لأن الحال متوجه عليها النفي في المعنى. ويرد على قوله أو أحد نواسخه أن بعض النواسخ مما دخل عليه حرف النفي أو ما أشبهه لا يجوز فيه ما ذكر؛ وذلك ما زال وأخواتها، فإذا قلت: ما زال وفدٌ من بني تميم يسترفدنا إلا زيدٌ، فإنه لا يجوز في إلا زيد أن يكون بدلًا من وافد، ولا من الضمير؛ لأنه ليس هنا نفي حقيقة، بل هو نفي معناه الإيجاب، فكان ينبغي للمصنف أن يحترز منه؛ لأنه يصدق عليه جميع ما ذكر من القيود في المسألة. وذكر المصنف وغيره الإتباع في ذلك على البدل يدل على أن المبتدأ أو الناسخ يدخل عليه النفي أو ما جرى مجراه؛ فلا يحتاج في ذلك إلى نص على النفي؛ لأن البدل لا يكون إلا مع النفي أو ما أشبهه، كما ذكره بعضهم، فقال: وإذا توجه النفي على مبتدأ، أو على فعل داخل عليه، ووقع في الخبر ضمير له، ثم

استثنيت من ذلك المبتدأ اسمًا - فإنه يجوز أن تبدله من الظاهر، وأن تبدله من الضمير. وكذلك إذا وصفته بصفة يجوز الحمل على ضميرها. ومما يلحق بالنفي قولهم: أقل رجلٍ يقول ذلك إلا زيدٌ، فـ"زيدٌ" بدل من الضمير في يقول؛ لأن المعنى: ما يقول ذلك إلا زيدٌ. واختلفوا: هل يجوز أن يكون بدلًا من أقل؟ فذهب السيرافي إلى أنه لا يجوز أن يكون بدلًا من أقل؛ لأنه لا يمكن التفريغ إليه. وذهب ابن خروف إلى جواز ذلك حملًا على المعنى. والصحيح ما ذهب إليه السيرافي؛ لأن أقل هي كلمة النفي، ولا يجوز الحمل على المعنى في البدل إلا إن كان المبدل منه يبقى في اللفظ المقدر المحمول عليه، وأقل لا يبقى، فـ"زيد" بدل من الضمير. وإذا أردت بـ"أقل رجلٍ يقول ذلك" التقليل الذي يقابله التكثير لا النفي المحض فاختلفوا: هل يجوز البدل من الضمير أم لا؟ فأجازه السيرافي، ومنعه ابن خروف، وأوجب النصب في: إلا زيدًا. وهذا أظهر لأنه استثناء من موجب، فلا يجوز فيه البدل. وقال السيرافي: / [4: 47/ ب] "المعنى: ما يقول ذلك كثيرٌ إلا زيدٌ"، أي: ما يقوله إلا زيدٌ. والمسائل التي يجوز فيها الإبدال من الضمير يجوز فيها النصب على الاستثناء، والبدل أحسن من النصب، نص عليه السيرافي وغيره، وهو ظاهر كلام س.

ويظهر من كلام ابن عصفور أنهما مستويان؛ لأنه قال فيها: "حسن النصب والبدل، النصب بالنظر إلى اللفظ، والبدل بالنظر إلى المعنى". وقوله وفي حكمهما المضاف والمضاف إليه في نحو: ما جاء أخو أحدٍ إلا زيد، معناه: في حكم الظاهر والمضمر من إتباع "إلا زيد" ما شئت من المضاف، فترفع، ومن المضاف إليه، فتجر. وقوله وقد يجعل المستثنى متبوعًا والمستثنى منه تابعًا مثال ذلك ما حكاه س، قال: "حدثنا يونس أن بعض العرب الموثوق بهم يقولون: ما لي إلا أبوك أحدٌ، فيجعلون أحدًا بدلًا، كما قالوا: ما مررت بمثله أحدٍ، فجعلوه بدلًا" انتهى. وفي الإفصاح: "وقد قال جماعة: جعله س من باب الصفة وإبدال الموصوف منها، نحو: جاءني مُقبلٌ رجلٌ، أي: شخصٌ مقبلٌ رجلٌ، فهي (إلا زيد) التي تكون صفة. وهذا باطل أن يكون، مذهبه ما ذكرنا عنه قبل، وهو منصوص في كتابه، فلا يلي (إلا زيد) عامل إذا كان صفة؛ لأنه عنده كأجمعين، وإنما أراد أن هذا اللفظ جعلوه في تقدير الحلول محل (إلا) و (زيد) المتقدمين، وكأنه قال: ما أتاني إلا زيدٌ، والأولى أن يكون (إلا زيدٌ) فاعلًا، والثاني بدل، على تقدير: ما أتاني أحدٌ، وهو صريح مذهبه في البدل تكرير العامل" انتهى. وأنشد يونس والفراء: رأت إخوتي بعد الولاء تتابعوا فلم يبق إلا واحدٌ منهم شفر

وأنشد الفراء: مُقزعٌ أطلس الأطمار، ليس له إلا الضراء وإلا صيدها نشب وقال حسان: لأنهم يرجون منه شفاعة إذا لم يكن إلا النبيون شافع وقال الفراء: أنشدني أبو ثروان: ما كان منذ تركنا أهل أسمنةٍ إلا الوجيف لها رعيٌ ولا علف فنصب الوجيف، ورفعه غيره، وأنشدوا: ............... ليس له إلا بنيه، وإلا عرسه، شيع وينشد: إلا بنوه وإلا عرسه وهذا الذي ذهب إليه المصنف من جواز جعل المستثنى متبوعًا والمستثنى منه تابعًا فيه خلاف: قال الفراء في المعاني: "ومن العرب من يرفع الاستثناء / [4: 48/ أ] المتقدم على أن يجعل الثاني بدلًا من الأول".

وقال ابن أصبغ: "إذا قدمت المستثنى على المستثنى منه لم يجز عند البصريين إلا النصب خاصة، وأجاز البغداديون فيه الرفع". وقال ابن عصفور: "إذا قدمته على المستثنى منه لم يجز فيه إلا النصب، نحو: ما قام إلا زيدًا أحدٌ، ولا يجوز الرفع على الفاعلية وأحدٌ بدل منه؛ لأنه أعم من إلا زيد، والأعم لا يُبدل من الأخص، ولا على البدل وأحد فاعل بقام كما كان لو تأخر؛ لأن البدل لا يتقدم على المبدل منه". وأجاز الكوفيون الرفع، وأنشدوا شاهدًا على ذلك: .................... فلم يبق إلا واحدٌ منهم شفر والصحيح أن ذلك من القلة بحيث لا يقاس عليه. ووجهه أن يكون شفر بدلًا من أحد، ووضع العام موضع الخاص. وقال ابن عصفور أيضًا - وقد ذكر الدليل على امتناع أن يكون ما بعد إلا مبنيًا على ما قبلها - وحكي عن بعض النحويين جوازه، قال: "ويجوز ذلك على وضع العام موضع الخاص، فيكون من بدل الشيء من الشيء، إلا أنه لا يجوز ذلك إلا في ضرورة، مثل قوله: ....................... فلم يبق إلا واحدٌ منهم شفر ونظير ذلك من وضع العام موضع الخاص قوله: أحب ريا ما حييت أبدا ولا أحب غير ريا أحدا وقول الآخر:

نهاني أبي عن لذةٍ أن أنالها قلت: دع التقييد - ويحك - في الخمر فلست - على ما كان مني - براكبٍ حرامًا سواها ما حييت يد الدهر فأبدل أبدًا ويد الدهر من: ما حييت، وهما أعم، فكذلك في مسألتنا، تجعل أحدًا بدلًا من إلا زيدٌ، وهو أعم منه". وقال ابن عصفور أيضًا في "المقرب": "وإن قدمته على المستثنى منه لم يجز فيه إلا النصب على كل حال، نحو: ما قام إلا زيدًا القوم، وقد يجعل على حسب العامل الذي قبله، ويجعل ما بعده بدلًا، وذلك قليل" انتهى. وقد نص الفارسي وغيره من البصريين على أنه لا يجوز في المستثنى إلا النصب. قال ابن عصفور: "إنما يعني به إذا حملت الكلام على الوجه المختار وإلا فقد حكي يونس أن بعض العرب يقول: ما جاءني إلا زيدٌ أحدٌ؛ ألا ترى أن ذاك لغية ضعيفة، ووجهها أن يكون الاسم العام فيها قد أريد به الخصوص، فإذا قلت: ما جاءني إلا زيدٌ أحدٌ، كان المراد بأحد غير زيد من الآدميين". وقال شيخنا الأستاذ أبو الحسن بن الضائع رادًا على ابن عصفور: "واعلم أن الذي قاله خطأ، وذلك / [4: 48/ ب] أنه زعم أن أحدًا من قولنا ما قام إلا زيدٌ أحدٌ يراد به زيد، وهو بدل منه، وكذلك شفر في البيت، فيلزم على قوله أن يكون أحدٌ وشفر مستعملين في الواجب، وقد نص أئمة اللغة على خلاف ذلك، ولو كان ذلك لجاز: ما قام إلا أحدٌ زيدٌ، وما قام إلا شفرٌ عمرٌ، ووما بها إلا طوريٌ زيدٌ، وذلك غير جائز.

ويلزم على قوله إن قيس مثل هذا أن يقال: ما قام إلا زيدٌ إخوتك، وتريد بالإخوة زيدًا، وهو أقرب على بعده من ذلك الذي أجاز؛ لأن الإخوة ليس يمتنع مجيئه في الإيجاب، وهذا كله خطأ. والوجه فيه أن يقال: إنه بدل من الاسم مع إلا مجموعين، فيقدر العامل: لم يبق إلا شفر. فإن قلت: من أي أقسام البدل هو هذا؟ فالجواب: أنه شبيه ببدل الشيء من الشيء وهما لعين واحدة، فإذا قلت ما قام إلا زيدٌ فهو في قوة: غير زيدٍ، وغير زيدٍ هو أحد، فيصح انطباقه عليه" انتهى كلامه. وقال شيخنا الأستاذ أبو الحسن الأبذي: "لا يُتصور هاهنا في (إلا) أن تكون وما بعدها بدلًا؛ البدل تابع، ولا يتقدم على المبدل منه، ولا صفة لذلك، ولأن إلا التي للصفة لا تلي العامل لضعفها، فتعين النصب على الاستثناء، هذا هو المشهور من اللغة. وزعم يونس أن العرب قد تجيز فيه مع التقدم ما كانت تجيز فيه مع التأخير، فيقولون: ما قام إلا زيدٌ أحدٌ، وأنشد الكوفيون: ....................... فلم يبق إلا واحدٌ منهم شفر ويتخرج على أن يكون شفر بدلًا من واحد، وُضع العام موضع الخاص" انتهى. وقد رده ابن الضائع كما ذكرناه قبل، إلى آخر المسألة.

ومن مسائل هذا: ما أتاني إلا عمرًا إلا بشرًا أحدٌ، وهو جائز على ضعف، ويكون من وضع العام موضع الخاص. وما أتاني إلا بشرٌ إلا عمرًا أحدٌ، فنصوا على أنه لا يجوز؛ لأن فيه الفصل بالفضلة بين البدل والمبدل منه. ولا يقدم دون شذوذ إلى آخر المسألة مثاله: إلا زيدًا قام القوم، وهذه المسألة فيها خلاف: ذهب الجمهور إلى المنع، واستدلوا بأن ذلك لم يُسمع من كلامهم، وأن إلا مشبهة بلا العاطفة وواو مع، نحو: قام القوم لا زيدٌ، وجاء البرد والطيالسة، وهذان لا يتقدمان، فكذلك ما أشبههما. وذهب الكسائي والزجاج إلى جواز ذلك، واستدل له بقول الشاعر: خلا الله لا أرجو سواك، وإنما أعد عيالي شعبةً من عيالكا

وقول الآخر: وبلدةٍ ليس بها طوري ولا خلا الجن بها إنسي [4: 49/ أ] / ووجه الدلالة من هذا أن الاستثناء بإلا هو الأصل، وسائر الأدوات محمول عليها، وقد صح الاستثناء مقدمًا بها، ولا يقع الفرع في موضع لا يقع فيه الأصل، فلو لم يكن تقديم إلا جائزًا ما جاز ذلك في خلا؛ لأنه لا يتصرف في الفرع أكثر من التصرف في الأصل. واستدل الزجاج على جواز ذلك بقوله: خلا أن العتاق من المطايا أحسن به، فهن إليه شوس وهذا من الزجاج غلط بين؛ لأن الاستثناء لم يتقدم أول الكلام المستثنى منه؛ ألا ترى أن قبل هذا البيت قوله: إلى أن عرسوا، وأغب عنهم قريبًا، ما يُحس له حسيس ألا ترى أن المعني: ما يحس له حسيس خلا أن العتاق من المطايا أحسن به.

وقال من تأول السماع: قدر أنه قال: سواك خلا الله لا أرجو. وقدر أنه قال: ولا بها إنسيٌ خلا الجن، فاستجار مع المقدر ما استجار مع المحقق، وخلا الجن استثناء منقطع. ووهم ابن هشام وابن عصفور في زعمهما أن تقديم المستثنى وجعله أول الكلام لا يجوز باتفاق، لا يقال: إلا زيدًا قام القوم، وقد نص المصنف وغيره على إجازة الكسائي ذلك، ونقله غير المصنف عن الزجاج، ونقله ابن عصفور أيضًا في بعض تصانيفه عن الكسائي، فقال: "تقديمه أول الكلام لا يجوز عند أحد إلا الكسائي، فإنه أجازه، أجاز: إلا زيدًا ما أكل أحدٌ طعامك. والصحيح المنع قياسًا على التمييز في كونها انتصبا عن تمام الكلام" انتهى. وقال ابن أصبغ: إن قدمته على حرف النفي لم يجز عند الجمهور مطلقًا، وأجازه الفراء إلا مع المرفوع، ومنعه هشام إلا مع الدائم. وفي البسيط ما معناه: أجمع البصريون على أن المستثنى لا يتقدم على المستثنى منه، فلا تقول: إلا زيدًا ضرب القوم. وخالفهم طائفة من الكوفيين، فجوزوا ذلك. وأطن الاتفاق وقع على عدم تجويزه في المفرغ للفاعل. ولا يتقدم معمول ما بعد "إلا" عليها، لا تقول: ما قومك زيدًا إلا ضاربون، فإن وقع ففي الشعر، ويؤول على إضمار ناصب من جنس المذكور. ولا يجوز تقديم معمول معمولها عليه وبعدها، نحو: ما قام قومك إلا زيدًا ضاربين، أي: إلا ضاربين زيدًا، ولم نر نصًا لهم فيه؛ لأن "إلا" بمنزلة الحروف المعدية، ولا يُفصل بين الحرف والمفعول، كالباء وواو المفعول معه. وشمل قول المصنف والمنسوب إليه - أي: إلى المستثنى منه - أن يكون المنسوب إليه مسندًا إليه، نحو: قام إلا زيدًا القوم، والقوم إلا زيدًا ذاهبون، وفي

الدار إلا عمرًا أصحابك، وهاهنا إلا زيدًا / [4: 49/ ب] قومك، وأين إلا زيدًا قومك، وكيف إلا زيدًا قومك، وهذه الثلاثة من مُثل الأخفش. وواقعًا على المستثنى منه، نحو: ضربت إلا زيدًا القوم. ولما تنزل المستثنى منزلة الصفة المخصصة ومنزلة المعطوف بـ"لا" كان القياس ألا يجوز تقديمه؛ كما لا يتقدمان، إلا أنه احتمل ذلك إذا تقدم ما يُشعر بالمستثنى منه من مسند إليه أو واقع عليه. وحسن متقدم المستثنى على المستثنى منه إنما يكون في الرفع، فإن تقدم على المفعول لم يحسن، نحو: ضربت إلا زيدًا قومك، نص عليه الرماني. وإنما ضعف لأن طلب الفعل لما هو فضلة ليس كطلبه لما هو عُمدة، فتقدم ما يطلب العمد بمنزلة تقدمها بنفسها، ولا كذلك ما يطلب الفضلات. ويظهر من كلام المصنف أنه لا يجوز: ما إلا زيدًا في الدار أحدٌ. ونص على منع جوازه شيخنا الأستاذ أبو الحسن بن الضائع، وقال: "لا يجوز التقديم على المستثنى منه إلا أن يكون المستثنى متوسطًا بين أحد جزأي الكلام". ويظهر من كلام شيخنا الأستاذ أبي الحسن الأبذي [عدم] إجازته؛ لأنه قال في قوله: ....................... ولا خلا الجن بها إنسي

قال: "لم يقدمه على الكلام بجملته لأنه قد تقدم على الاستثناء (لا) النافية، والتقدير: ولا بها إنسيٌ خلا الجن". وفي البسيط: وقع الإجماع على جواز تقديمه على أحد جزأي الجملة من فاعل أو مفعول؛ فأما تقدم النفي أو حرف إن فيمنع من ذلك أنه لا يليها إلا، وقد جوزه بعضهم. ويظهر من كلام المصنف أنه لا يجوز: القوم إلا زيدًا جاؤوا؛ لأن "إلا زيدًا" تقدم على المنسوب إلا المستثنى منه وعلى المستثنى منه، وهو الضمير في جاؤوا؛ لأن زيدًا ليس مستثنى من القوم، بل هو مستثنى من الضمير المسند إليه المجيء. وقد مثل المصنف بجواز: القوم إلا زيدًا ذاهبون، وهو مستثنى مقدم على المسند، وهو اسم الفاعل، وعلى المستثنى منه، وهو الضمير المستكن في ذاهبون. وهذه المسألة أعني تقديم المستثنى على المستثنى منه وعلى العامل فيه إذا لم يتقدم، وتوسط بين جزأي كلام، فيها ثلاثة مذاهب: الأول: أنه لا يجوز ذلك على الإطلاق، سواء أكان العامل متصرفًا أم غير متصرف، فلا يجوز: القوم إلا زيدًا قاموا، ولا: القوم إلا زيدًا قائمون، ولا: القوم إلا زيدًا في الدار؛ لأن العامل الفعل واسم الفاعل والظرف بما فيه من معنى الفعل؛ وإنما لم يجز ذلك لأن المستثنى يشبه المفعول معه في نصب العامل له بوساطة الحرف الذي هو إلا؛ كما نصب المفعول معه بوساطة الحرف الذي هو الواو، فكما لا يجوز التقديم مع الواو فكذلك لا يجوز مع إلا، وهذا مذهب من يرى العامل في المستثنى الفعل ومعنى الفعل. المذهب الثاني: جواز ذلك على الإطلاق.

المذهب/ [4: 49/ ب] الثالث: التفصيل بين أن يكون العامل متصرفًا، فيجوز، نحو: القوم إلا زيدًا جاؤوا. أو غير متصرف، فلا يجوز، نحو: القوم إلا زيدًا في الدار، وهو مذهب الأخفش. قال بعض أصحابنا: "والصحيح جواز ذلك على الإطلاق؛ لأن الناصب للمستثنى إنما هو تمام الكلام، وإذا كان ذلك لم يتقدم على العامل؛ إذ قد تقدم جزء الكلام الذي انتصب التمييز عن تمامه، بل كان يتقدم على العامل لو كان أتى به أول الكلام، والدليل على جواز توسيطه - وإن أدى ذلك إلى تقديمه على المستثنى وعلى العامل فيه - قول ذي الرمة: معرسًا في بياض الصبح وقعته وسائر السير إلا ذاك منجذب فـ "إلا ذاك" مستثى من الضمير المستتر في منجذب، ومنجذب عامل فيه" انتهى. وقال الآخر: ألا كل شيءٍ ما خلا الله باطل وكل نعيمٍ - لا محالة - زائل فـ"ما خلا الله" استثناء من الضمير المستتر في باطل، وباطل عامل فيه ذلك الضمير. ومثل ذلك قول ابن أبي الصلت: كل دينٍ يوم القيامة عند الله إلا دين الحنيفة بور وقول الآخر:

تعلم بأن الوفد إلا عويمرًا هم الكاذبون المخلفو كل موعد والذي نختاره مذهب الأخفش؛ لأن السماع إنما هو محفوظ فيما كان العامل في المستثنى منه متصرفًا، أما إذا كان غير متصرف، نحو: القوم إلا زيدًا في الدار- فينبغي ألا يُقدم على جوازه إلا بثبت من العرب. وأما إذا تقدم المستثنى على المستثنى منه وحده، نحو: قام إلا زيدًا القوم - فلا خلاف في جوازه، ويصير الوجه الذي كان غير مختار في التأخير مختارًا في التقدم، وهو النصب. وإنما تبع في حال التأخر إعراب المستثنى منه لأنه شبيه ببدل بعض من كل، ولا يجوز في هذا التقدم، فكذلك لا يجوز فيما أشبه. وشبهه س بنعت النكرة المتقدم عليها، وهو تشبيه حسن، وذلك أنهما مؤخران تابعان ما قبلهما في الإعراب، ويجوز فيهما النصب على الاستثناء والحال ضعيفًا، فإذا تقدما لم يجز فيهما إلا النص، وبطل التبع. وعلل س لزوم النصب في الاستثناء المقدم وامتناع البدل بأن الأصل في الاستثناء أن يأتي بعد المستثنى منه؛ فحده أن يكون بدلًا لا مبدلًا منه؛ لأن البدل ثان عن المبدل منه، فلذلك لم يجز: ما أتاني إلا زيدٌ أحدٌ، على أن يكون أحدٌ بدلًا من إلا زيد، كأنه في التقدير: ما أتاني إلا زيدٌ ما أتاني أحدٌ، قال س: "فلما لم يكن حده أن يكون مبدلًا منه بل بدلًا، ولم يمكن مع التقديم أن يكون بدلًا - / [4: 50/ ب] حملوه على وجه قد يجوز فيه وهو مؤخر، وهو النصب". ويظهر من س أنه يمكن أن يكون المستثنى منه بدلًا من المستثنى، ولذلك علله بذلك التعليل.

وقد عدل النحويون عن تعليل س، فقالوا: امتنع البدل لأن الثاني أعم من الأول، فلا يجوز أن يقع بدلًا منه؛ لأنه لا بدل كل من بعض في كلامهم، ولذلك قال ابن خروف: "كرهوا أن يبدلوا الأكثر من الأقل"، يعني كلًا من بعض. فإن قلت: أقول: "إلا زيدٌ" أعم من "أحد"؛ لأن "إلا زيدٌ" بمعنى غير زيد، وغير زيد يكون من الأحدين ومن غيرهم، فإذا أبدلنا أحدًا من إلا زيد كان من إبدال البعض من الكل. فالجواب أن نقول: إن العرب لا تستعمل "إلا زيدًا" وتريد به كل ما عدا "زيد" من أي الأصناف كان؛ وإنما تريد ما عداه من صنفه؛ ألا ترى أنك لو قلت ما رأيت إلا زيدًا إنما تريد: ما رأيت غير زيد من الناس، ولولا ذلك لكان قولك ما رأيت إلا زيدًا كذبًا؛ لأنه معلوم أنك رأيت السماء والأرض وأشياء كثيرة هي غير زيد، وكذلك كل اسم يقع بعد إلا يراد به: إلا غير ذلك الاسم من صنفه، لا غير من أي صنف كان، وإذا ثبت أن المراد بقوله "إلا زيدٌ" غير زيد من صنفه كان أحد أعم منه؛ لأنه يقع عليه وعلى المغاير له من صنفه، ولم يجز لذلك إبداله منه. وقال شيخنا الأستاذ أبو الحسن بن الضائع: "وعندي أنهم لم يفهموا عن س، فاعلم أن البدل في الاستثناء إنما المراعى فيه وقوعه مكان المبدل منه، فإذا قلت ما قام أحدٌ إلا زيدٌ فليس (زيد) وحده بدلًا من (أحد)، و"إلا زيدٌ" هو

الأحد الذي نفيت القيام عنه، فـ"إلا زيدٌ" بيان للأحد الذي عنيت؛ ألا ترى أن (إلا زيدٌ) هو (غير زيد) في المعنى. وإذا قلت ما أتاني أحدٌ غير زيد فـ (غير زيد) بدل من (أحد)، بدل شيء من شيء، وهما لعين واحدة، فـ (غير زيد) هو الأحد الذي عنيت، و (إلا زيدٌ) هو (غير زيد) في المعنى، فعلى هذا البدل في الاستثناء أشبه ببدل الشيء من الشيء - وهما لعين واحدة - من بدل البعض من الكل. والدليل على ذلك أن يدل البعض من الكل إنما هو على أن وضعت الكل في موضع البعض مجازًا؛ ثم بينت بالبعض الذي أردته بالكل بيانًا، وليس كذلك في الاستثناء، بل البعض في الاستثناء ليس هو البعض الذي وضعت الكل موضعه، بل هو بعض آخر مخالف لذلك البعض في الحكم. وأيضًا فالبدل من شرطه وقوعه مكان المبدل منه، والبعض في الاستثناء لا يقع موقع المبدل منه وحده إلا مع إلا، فليس البدل إلا الحرف مع الاسم. والدليل على أن س أراد هذا الذي فسرت تشبيهه - أعني البدل في الاستثناء - بقولك: مررت برجلٍ زيدٍ، وهذا ليس بدل بعض من كل، ولا تعرض حيث ذكر البدل لبدل البعض من الكل أصلًا، وتعليله في منع البدل في المستثنى / [4: 51/ ا] المقدم دليل على ذلك، ولم يفهم عنه أحد مراده. ولو قيل إن البدل في الاستثناء قسم على حدته ليس من تلك الإبدال التي بينت في غير الاستثناء لكان وجهًا، وهو الحق وحقيقة البدل فيه؛ لأنه يقع موقع (إلا زيد) لا موع (زيد) وحده" انتهى.

وأنشد س على تقديم المستثنى على المستثنى منه قول الشاعر، وهو كعب بن مالك: الناس ألبٌ علينا فيك، ليس لنا إلا السيوف وأطراف القنا وزر وأنشد أبوا القاسم الزجاجي قول الكميت: وما لي إلا آل أحمد شيعةٌ وما لي إلا مشعب الحق مشعب فرع: إذا عطفت على المستثنى المقدم المنصوف اسمًا نصبت، نحو: قام إلا زيدًا وعمرًا القوم، ولا يجوز غير النصب، فإن أخرت المعطوف بعد المستثنى منه فالاختيار النصب، نحو: قام إلا زيدًا القوم وعمرًا، ويجوز أن يُرفع حملًا على المعنى؛ لأن قام إلا زيدًا القوم في معنى: لم يقم زيدٌ من القوم، فكما يجوز: لم يقم زيدٌ من القوم وعمرو، فكذلك يجوز: قام إلا زيدًا القوم وعمرو.

-[ص: فصل لا يُستثنى بأداةٍ واحدةٍ عطفٍ شيئان، وموهم ذلك بدلٌ ومعمول عاملٍ مُضمر لا بدلان، خلافًا لقوم. ولا يمتنع استثناء النصف، خلافًا لبعض البصريين، ولا استثناء الأكثر وفاقًا للكوفيين. والسابق بالاستثناء منه أولى من المتأخر عند توسط المستثنى، وإن تأخر عنهما فالثاني أولى مطلقًا، وإن تقدم فالأول أولى إن لم يكن أحدهما مرفوعًا لفظًا أو معنى، وإن يكنه فهو أولى مطلقًا إن لم يمنع مانعٌ.]- ش: مثال ذلك بحرف العطف: قام القوم إلا زيدٌ وعمرو، وضربت القوم إلا زيدًا وعمرًا، ومررت بالقوم إلا زيدًا وعمرًا. ومثاله دون حرف العطف: أعطيت الناس [المال] إلا عمرًا الدنانير، قال ابن السراج: "فهذا لا يجوز؛ لأن حرف الاستثناء إنما يُستثنى به واحد، بل تقول: أعطيت الناس الدنانير إلا عمرًا" انتهى. قال: "فإن قلت: ما أعطيت أحدًا درهمًا إلا عمرًا دانقًا، وأردت الاستثناء - لم يجز، فإن أردت البدل جاز، فأبدلت عمرًا من أحد، ودانقًا من درهم، كأنك قلت: ما أعطيت إلا عمرًا دانقًا" انتهى.

وهذا التقدير الذي قدره في البدل - وهو: أعطيت إلا عمرًا دانقًا - لا يؤدي إلى أن حرف الاستثناء يُستثنى به واحد، بل هو في هذه الحالة التقديرية ليس ببدل، إنما نصبهما على أنهما مفعولًا أعطيت، وأعطيت المقدرة لا تتوقف على وساطة إلا؛ لأنه استثناء مفرغ، فلو أسقطت إلا، فقلت: ما أعطيت عمرًا درهمًا - جاز علمها في الاسمين، بخلاف عمل العامل في المستثنى الواقع بعد إلا، فهو متوقف على وساطتها. وذهب الزجاج إلى أن البدل هنا ضعيف، قال: لأنه لا يجوز بدل اسمين / [4: 51/ ب] من اسمين، لو قلت: ضرب زيدٌ المرأة أخوك هندًا، لم يجز، وإنما جاز هنا تشبيهًا لأداة الاستثناء بحرف العطف، فكما يجوز: ضرب عمروٌ وزيدًا وبكرٌ سعدًا كذلك جاز هذا، إلا أنه ضعيف؛ لأن المشبه بالشيء لا يقوى قوة المشبه به. والسماع على خلاف مذهب الزجاج، وهو أنه يجوز إبدال اسمين من اسمين مع عدم إلا، قال الشاعر: فلما قرعنا النبع بالنبع بعضه ببعضٍ أبت عيدانه أ، تكسرا فقوله بعضه بدل من النبع، وببعض بدل من بالنبع. وأما قول الشاعر: وليس مُجيرًا إن أتى الحي خائفٌ ولا قائلًا إلا هو المتعيبا

فشاذ، وهو محمول على فعل آخر. وقال المصنف في الرد على ابن السراج ما نصه: "حاصل كلامه جواز أن يقال: ما أعطيت أحدًا درهمًا إلا عمرًا دانقًا، على أن يكون الاسمان بعد إلا بدلين لا منصوبين على الاستثناء. وفي هذا ضعف بين؛ لأن البدل في الاستثناء لابد من اقترانه بإلا، فكان لذلك أشبه شيء بالمعطوف بحرف، فكما لا يقع بعد حرف عطف معطوفان كذلك لا يقع بعد حرف الاستثناء بدلان؛ فإن ورد ما يُوهم ذلك قدر ناصب للثاني كما يقدر خافض للثاني في نحو: أكل امرئٍ تحسبين امرأ ونارٍ توقد بالليل نارا انتهى كلامه. وفيه تعقب؛ لأن قوله "لأن البدل في الاستثناء لابد من اقترانه بإلا" ليس بصحيح؛ لأنه إما أن يعني أن يُبدل من المستثنى منه أو من المستثنى، وكلاهما لا يلزم فيه؛ ألا تقول: ما ضرب القوم بعضهم إلا بعضًا، وما قام القوم إلا أخواتك بعضهم، وقد ذكر هو في الفصل بعد هذا الفصل أنه يجوز أن تكرر إلا على سبيل التوكيد، فتبدل ما يليها مما يليه، نحو: ما مررت إلا بأخيك إلا زيدٍ، ولا خلاف بين النحويين في جواز: ما مررت بأحدٍ إلا أخيك زيدٍ. وأما قوله "فكان لذلك أشبه شيءٍ بالمعطوف فكما لا يقع بعد حرف معطوفان كذلك لا يقع بعد حرف الاستثناء [بدلان] " فليس بصحيح؛ لأن

حرف العطف يقع بعده معطوفان وثلاثة، تقول: ضرب زيدٌ عمرًا وبشرٌ خالدًا، وضرب زيدٌ عمرًا بسوطٍ وبشرٌ خالدًا بجريدة، وأعلم زيد عمرًا كبشك سمينًا وبشرٌ خالدًا فرسك مُلجمًا، فهذا حرف العطف هنا قد عطف أربعةً على أربعة، والعجب للمصنف في ذلك. والنحويون من أجاز ذلك منهم علل الجواز بتشبيه إلا بحرف العطف، وجعل ذلك المصنف مانعًا. وإنما علل المنع منهم من منع بأن الحروف المؤدية معنى عمل العامل إلى المعمول لا يُوصل واحد منها العمل إلا إلى معمول واحد، نحو واو مع وحرف الجر، فإذا جعلناهما في مسألة / [4: 52/ أ] "ما أعطيت" بدلين لم تكن "إلا" وصلت أعطيت إليهما؛ لأن أعطيت يتعدى إلى مفعولين. وهذا الذي ذكر المصنف من أنه لا يجوز أن يُستثنى بأداة واحدة دون عطف شيئان قد أجازه قوم من النحويين؛ ذهبوا إلى إجازة: ما أخذ أحدٌ إلا زيدٌ درهمًا، وما ضرب القوم إلا بعضهم بعضًا. ومنع ذلك الأخفش والفارسي، واختلفا في إصلاحها: فتصحيحها عند الأخفش بأن تقدم على إلا المرفوع الذي بعدها، فتقول: ما أخذ أحدٌ زيدٌ إلا درهمًا، وما ضرب القوم بعضهم إلا بعضًا، وهذا موافق لما ذهب إليه ابن السراج والمصنف من أن حرف الاستثناء إنما يُستثنى به واحد. وتصحيحها عند الفارسي بأن تزيد فيها منصوبًا قبل إلا، فتقول: ما أخذ أحدٌ شيئًا إلا زيدٌ درهمًا، وما ضرب القوم أحدًا إلا بعضهم بعضًا. ولم ندر تخريجه لهذا التركيب، قيل: هو على أن يكون ذلك على البدل فيهما، كما ذهب إليه ابن السراج في: ما أعطيت أحدًا درهمًا إلا عمرًا دانقًا،

فتبدل المرفوع من المرفوع والمنصوب من المنصوب، أو هو على أن تجعل أحدهما بدلًا والثاني معمول عامل مضمر، فيكون "إلا زيدٌ" بدلًا من "أحد"، و"إلا بضعهم" بدلًا من "القوم" ودرهمًا منصوب بـ"أخذ" مضمرة، و"بعضًا" منصوب بـ"ضرب" مضمرة، كما اختاره المصنف. والظاهر من قول المصنف خلافًا لقوم أنه يعود إلى قوله: بدلان، فيكون ذلك خلافًا في التخريج لا خلافًا في صحة التركيب، والخلاف كما ذكرناه موجود في صحة التركيب، فمنهم من قال: هذا التركيب صحيح، ولا يحتاج إلى تخريج، لا بتصحيح الأخفش ولا بتصحيح الفارسي، وقد ورد السماع بإبدال اسمين من اسمين في الموجب في قوله: فلما قرعنا النبع بالنبع بعضه ببعضٍ .......................... فالمنفى جائز فيه ذلك، وكذلك الإيجاب بعد النفي، فتقول: ما قرعنا النبع بالنبع إلا بعضه ببعضٍ. وقوله ولا يمتنع استثناء النصف، خلافًا لبعض البصريين، ولا استثناء الأكثر وفاقًا للكوفيين اتفق النحويون على أنه لا يجوز أن يكون المستثنى مستغرقًا للمستثنى منه، ولا كونه أكثر منه، وأنه يجوز أن يكون أقل منه، نحو: قام إخوتك إلا زيدًا. واختلفوا فيما سوى ذلك: فأكثر النحويين على أنه لا يجوز إذا كان المستثنى قدر المستثنى منه أو أكثر، بل يكون أقل من النصف وهو مذهب البصريين، وإياه

اختار ابن عصفور في بعض تصانيفه، وشيخنا الأستاذ أبو الحسن الأبذي، وأكثر الكوفيين، وكثير من الفقهاء أجازوا ذلك، وهو مذهب أبي عبيد، والسيرافي، وإياه اختار ابن خروف، والأستاذ أبو علي، وابن عصفور في بعض تصانيفه، على تفصيل ذكره ابن عصفور في الأكثر: فقال: "إن جاز وقوع المستثنى منه على المنفي بعد الاستثناء فلا بعد في جوازه؛ لأن العرب قد توقع اسم الشيء على أقل / [4: 52/ ب] من نصفه، كقوله {تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ}، وإن لم يجز لم يجز الاستثناء، نحو: عندي إخوتك العشرة إلا تسعةً منهم؛ لأنك أوقعت الإخوة على واحد منهم، وذلك لا يجوز". وذهب بعض البصريين وبعض الكوفيين إلى أنه يجوز أن يكون المخرج النصف فما دون ذلك؛ ولا يجيزون أن يكون أكثر. واستدل من ذهب إلى جواز استثناء الأكثر بقوله {إنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إلاَّ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الغَاوِينَ}، والغاوون أكثر من الراشدين، وبقوله {ومَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إبْرَاهِيمَ إلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ}، وقوله {فَلا يَامَنُ مَكْرَ اللَّهِ إلاَّ القَوْمُ الخَاسِرُونَ}، وبقول الشاعر:

أدوا التي نقصت تسعين من مئةٍ ثم ابعثوا حكمًا بالحق قوالا وتأول من منع ذلك بأن قوله {إنَّ عِبَادِي} لا يراد به العموم، بل المراد المؤمنون، ويكون العباد جمع عبد، وأضافهم إليه، وهي إضافة تشريف وتقريب، كقوله {يَا عِبَادِ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ}، أو يكون جمع عابد، كنائم ونيام، وصاحب وصحاب، وكافر وكفار، قال: وشق البحر عن أصحاب موسى وغرقت الفراعنة الكفار ويكون الاستثناء على هذين منقطعًا، أي: لكن من اتبعك من الغاوين فلك عليهم سلطان، والخلاف إنما هو في الاستثناء المتصل. ويجوز أن يكون متصلًا، ويكون (عبادي) يعم الملك والإنس والجان، فيكون الاستثناء إذ ذاك أقل. وأما {فَلا يَامَنُ مَكْرَ اللَّهِ إلاَّ القَوْمُ الخَاسِرُونَ} فاستثناء منقطع، والإنكار وقع على كل من يرغب عن ملة إبراهيم، وكأنه قال: لكن من سفه نفسه يرغب عنها. وأما {إلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ} فاستثناء منقطع والإنكار وقع على كل من يرغب عن مله إبراهيم، وكأنه قال: لكن من سفه نفسه يرغب عنها. وأما {فَلا يَامَنُ مَكْرَ اللَّهِ إلاَّ القَوْمُ الخَاسِرُونَ} فاستثناء مفرغ، ولم يذكر المستثنى منه فيه، وعلى تقدير أن لو صرح بالمستثنى منه قدر عامًا، أي: فلا يأمن مكر الله أحدٌ، و"أحد" يعم العاقل ملكًا وإنسًا وجانًا. وأما البيت فليس فيه استثناء، لا بـ"إلا" ولا بما هو في معناها. واستدل من أجاز إخراج النصف فما دونه بقوله تعالى {قُمِ اللَّيْلَ إلاَّ قَلِيلاً (2) نِّصْفَهُ}، فـ (نصفه) عنده بدل من قوله (إلا قليلًا)، بدل شيء من شيء، وهما لعين واحدة، وكأنه قال: قُم الليل إلا نصفه، وأطلق القليل على النصف، وليس

القليل معلوم القدر، فأبدل منه النصف على جهة البيان لمقدار القليل، والضمير عائدة إلى الليل، والمعنى: قُم نصف الليل، فالضمير في منه عائد إلى النصف، وكذا الضمير في عليه، والتقدير - والله أعلم - قُم نصف الليل أو أقل منه أو أكثر منه، قاله ابن خروف، قال: "فخرج من هذا أن المستثنى النصف أو أقل منه أو أكثر، ولا يصح عود الضمير إلى القليل؛ لأنه غير معلوم القدر، فلا يُعلم نصفه، ولا يعود الضمير في منه ولا في عليه إلى الليل لفساد المعنى؛ لأنه يؤول إلى: قم أكثر من الليل". وقال ابن عصفور: "بل ضمير نصفه يعود إلى القليل، وهو بدل منه، بدل بعض من كل، وجاز - وإن كان القليل مبهمًا - لأن القليل قد تعين / [4: 53/ أ] بالعادة والعرف، أي: ما سمي قليلًا في العادة". قال: "ويدل على بطلان أن يكون القليل هو النصف أن النصف ليس بقليل، فمن قام نصف الليل لا يقال له فيه: قام الليل إلا قليلًا". ورد شيخنا الأستاذ ابن الضائع على ابن عصفور، فقال: "أما تعين القليل بالعادة فإن أراد به أن العادة قد عينت شخصه حتى صار يقع على ثلث الليل مثلًا أو جزء منه متعين فهو باطل، بل كل ما دون النصف قليل، فيقع على الثلث والربع والسدس إلى غير ذلك، وإن أراد خلاف ذلك، بل ما يقع عليه القليل، فلا فائدة لبيانه بأن يبدل منه نصفه، فلو قال قائل: أكلت قليلًا من الرغيف نصفه، يريد: نصف القليل - لم يكن له معنى؛ لأن القليل يتناوله".

قال: "والأولى أن يقال في الانفصال: إن النصف بدل من الليل بدل إضراب، وهو جائز على مذهب ابن خروف" انتهى. وقال شيخنا الأستاذ أبو الحسن الأبذي: "وهذا - يعني قول من استدل بالآية على جواز أن يُستثنى النصف - مردود؛ لأن النصف لا يقال فيه أبدًا قليل، فوجب ألا يُجعل من قليل، بل يكون مفعولًا بفعل مضمر، يدل عليه ما قبله، كأنه قال: قم نصفه إن شئت، فلا يكون النصف على هذا مستثنى" انتهى. وما قاله فيه نظر؛ وذلك أنه يكون قد أمره أولًا بقيام الليل إلا قليلًا، فيكون أمرًا بقيام أكثر الليل، وتقدير قم نصفه أو انقص منه قليلًا أو زد عليه أمرٌ بقيام نصف الليل أو أقل منه أو أزيد؛ وهو مخالف للأمر الأول، فيلزم أن يكون ناسخًا له، وليس كذلك؛ لأنه متصل به، وشرط الناسخ أن يكون الخطاب الثاني متراخيًا عن الأول، كما ثبت في أصول الفقه. وأجاز بعض النحويين أن يكون (نصفه) بدلًا من الليل، بدل بعض من كل، فيكون قد أُمر بقيام نصف الليل. وغاب عنه أن الليل لم يُرد به جملته، بل الليل المستثنى منه القليل، فيلزم أن يكون أُمر بقيام نصف الباقي من الليل، وذلك مبهم؛ لأن الاستثناء من المبهم مبهم.

والذي ينبغي أن يسلك في مقدار ما يخرج إنما هو ما سمع من لسان العرب؛ لأن هذه تراكب ينبغي أن يراعى فيها التركيب المسموع, والذي لا شك فيه أن المسموع من اللسان هو استثناء الأقل, ويبقى المستثنى منه بعد الإخراج أكثر من المستثنى, قال تعالى {فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلاَّ خَمْسِينَ عَاما}، وقال تعالى {إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ {59} إِلاَّ امْرَأَتَهُ}، وقال تعالى {فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا امْرَأَتَكَ}، ولم يثبت من اللسان أن يكون المستثنى قدر المستثنى منه ولا أكثر؛ لأن ما استدلوا به محتمل, وإذا دخل الدليل الاحتمال سقط به الاستدلال. وقد استدل بعض النحويين على هذا بأن قال: "إن الاستثناء في الموجب نظير الاستثناء في النفي, فكما أن المستثنى منه في النفي من نحو: ما قام أحد إلا زيد, وفي الاستفهام, نحو: هل قام أحد إلا زيدًا, ونحو ذلك - لا يكون ما يبقى بعد الاستثناء إلا أعم من المستثنى, فكذلك ينبغي أن يكون في الموجب, ويدل على صحة ما ذكرته أن أحدًا لا يجيز: قام زيد إلا عمرًا, وما قام زيد إلا عمرًا" انتهى. وقوله والسابق بالاستثناء منه أولى من المتأخر عند توسط المستثنى مثال ذلك قوله تعالى {قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا. نِصْفَهُ}، فـ (إلا قليلًا) قد توسط بين الليل ونصفه, فهو مستثنى من الليل؛ لأن تأخر المستثنى منه هو الأصل, ولا يعدل عنه إلا بدليل.

وقوله فإن تأخر عنهما فالثاني أولى مطلقًا قال المصنف: مثاله: غلب مئة مؤمن مائتي كافر إلا اثنين. ومعنى مطلقًا أنه سواء أكان الثاني فاعلًا أو مفعولًا مراعاة للقرب. وقوله وإن تقدم فالأول أولى إن لم يكن أحدهما مرفوعًا لفظًا أو معنى مثاله: استبدلت إلا زيدًا من أصحابنا بأصحابكم, فـ"إلا زيدًا" مستثنى من قوله: بأصحابكم. وقوله وإن يكنه فهو أولى مطلقًا أي: وإن يكن أحدهما مرفوعًا لفظًا أو معنى فهو أولى بأن يكون الاستثناء منه, مثال ذلك وأحدهما مرفوع لفظًا: ضرب إلا زيدًا أصحابنا أصحابكم, ومثال ذلك وأحدهما مرفوع معنى لا لفظًا: ملكت إلا الأصاغر عبيدنا أبناءنا, فـ"أبناءنا" فاعل من حيث المعنى؛ لأنهم هم المالكون للعبيد, فـ"إلا الأصاغر" استثناء منهم لا من عبيدنا. ومعنى مطلقًا أنه سواء أولى الاستثناء الفاعل لفظًا أو معنى, أم وليه الذي ليس فاعلًا لا لفظًا ولا معنى, نحو: ضرب إلا زيدًا أصحابكم أصحابنا, وملكت إلا الأصاغر أبناءنا عبيدنا. قال الرماني: ما ضرب إلا زيدًا قومك أصحابنا: إن استثنيته من قومك جاز, أو من أصحابنا لم يجز, والفرق أن الفاعل أصل في الجملة. وكذا قال الأخفش: إنه إذا تقدم الاستثناء على اسمين: أحدهما فاعل, والآخر مفعول - فالمستثنى من الفاعل, ولا يجوز أن يكون مستثنى من المفعول وإن كان المعنى قابلًا لذلك. فإذا قلت: ضرب إلا زيدًا القوم إخوتك, فـ"زيد" عنده مستثنى من القوم لا من الإخوة, وسبب ذلك أن الاستثناء من معمول الفعل إنما هو بالنظر إلى الفعل

لما تبين أن الاستثناء من الاسم والفعل لا من الاسم وحده كما ذهب إليه الكسائي. ولا من الفعل كما ذهب إليه الفراء, وإذا كان كذلك وجب أن يجعل من الفاعل؛ لأن طلب الفعل له أقوى من جهة أن الفعل مبني له لا للمفعول. وقوله إن لم يمنع مانع يعني: فيكون المستثنى على حسب المعنى, ولا يلحظ فيه تقديم ولا تأخير ولا توسيط, نحو: طلق نساءهم الزيدون إلا الحسنيات, فـ"إلا الحسنيات" استثناء من نسائهم؛ لأنه لا يمكن أن يكون مستثنى من الزيدون. وتقول: أصبى الزيدين نسائهم إلا ذوي النهى, فـ"إلا ذوي النهي" استثناء من الزيدين؛ لأنه لا يمكن أن يكون مستثنى من "نساؤهم", وتقول: استبدلت إلا زيدًا من إمائنا بعبيدنا, وضرب إلا هندا بنونا بناتنا, فهذه المسائل تركت فيها القرينة اللفظية لأن المعنى يمنع من الحمل عليها. -[ص: وإذا أمكن أن يشرك/ [4: 54/ أ] في حكم الاستثناء مع ما يليه غيره لم يقتصر عليه إن كان العامل واحدًا,] وكذا إن كان غير واحد والمعمول واحد في المعنى [.]- ش: قال المصنف في الشرح: "وإذا ذكر شيئان أو أكثر, والعامل واحد, فالاستثناء معلق بالجميع إن لم يمنع مانع, نحو: أهجر بني فلان وبني فلان إلا من صلح, فـ"من صلح" مستثنى من الجميع؛ إذ لا موجب للاختصاص. فلو ثبت موجب فعلى مقتضاه, نحو: لا تحدث النساء ولا الرجال إلا زيدًا, وقد تضمنت الأمرين آية المائدة {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} إلى {إِلاَّ ذَكَّيْتُمْ} ,

فاشتملت على ما فيه مانع, وهو (ما أهل) وما قبله, وعلى ما لا مانع فيه, وهو ما بين (به) و (إلا) , فـ (ما ذكيتم) مستثنى من الخمسة؛ إذ كانت تذكيته سبب موته" انتهى. وينبغي أن يكون الحكم كذلك إذا كرر العامل للتأكيد لا للتأسيس, نحو: اهجر بني فلان واهجر بني فلان إلا من كان صالحًا. ويعني بكون العامل واحدًا العامل الذي يعمل فيما يصلح أن يكون المستثنى منهما. وقوله وكذا إن كان غير واحد والمعمول واحد في المعنى قال المصنف في الشرح: "نحو قوله تعالى {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ} إلى {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا}. واختلف في الاستثناء] في [نحو: لا تصحبه ولا تزره ولا تكلمه إلا تائبًا من الظلم: فمذهب مالك والشافعي تساوي الاستثناء والشرط في التعليق بالجميع, وهو الصحيح للإجماع على سد كل منهما مسد الآخر في نحو: اقتل الكافر إن لم يسلم, واقتله إلا أن يسلم" انتهى. وهذه المسألة قلما تعرض لها النحويون, ولم أر أحدًا تكلم فيها فيما وقفت عليه غير هذا المصنف, وغير رجل يعرف بالمهاباذي, قال في "شرح اللمع" من

تصنيفه: "إذا استثنيت من جمل مختلفة لم يكن المستثنى إلا من الجملة التي تليه, نحو قوله {وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ {4} إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا} , فـ (الذين تابوا) مستثنى من الفاسقين لا غير, وحمله على أنه مستثنى من جميع الكلام خطأ ظاهر؛ لأنه لا يجوز أن يكون معمولًا لعاملين مختلفين, ويستحيل ذلك, ولأنك لو حملته على أنه مستثنى من جميع ما قبله لصار تقدير الكلام: فاجلدوهم ثمانين جلدة إلا الذين تابوا ولا تقبلوا لهم شهادة أبدًا إلا الذين تابوا وأولئك هم الفاسقون إلا الذين تابوا" انتهى كلامه, وهو مخالف لما قاله المصنف. وإنما أجاز المصنف أن يعود إلى الجميع لأن العامل عنده في المستثنى إنما هو إلا لا الأفعال السابقة المسلطة على المستثنى منهم, بخلاف قول المهاباذي, فإنه علل منهم ذلك بأنه لا يجوز أن يكون معمولًا لعاملين مختلفين, ويستحيل ذلك لأنه يفهم من كلامه أن المستثنى بعد إلا هو معمول لما هو عامل في المستثنى منهم, فلا يمكن أن تكون تلك العوامل جميعها عاملة في المستثنى. والذي نختاره هو أن الجملة الأخيرة هي المستثني منها. وأما تسوية المصنف الاستثناء بالشرك فليس بسديد؛ لأن الشرط ليس معمولًا لشيء قبله, بخلاف المستثنى, فإنه معمول لما قبله, وإن كانوا قد اختلفوا في العامل, وإذا كان كذلك ظهر الفرق بين الاستثناء والشرط, فلا يلحق به. ومذهب أبي حنيفة أن الاستثناء راجع إلى المسند إليه الحكم في الجملة الأخيرة؛ ولا يجوز أن يعود إلى الجمل كلها, وهذه المسألة تكلم عليها في أصول الفقه وفيها خلاف وتفصيل مذكور في ذلك العلم.

-[ص: فصل تكرر "إلا" بعد المستثنى بها توكيدًا, فيبدل ما يليها مما تليه إن كان مغنيًا عنه, وإلا عطف بالواو, وإن كررت لغير توكيد ولم يمكن استثناء بعض المستثنيات من بعض شغل العامل ببعضها إن كان مفرغًا, ونصب ما سواه, وإن لم يكن مفرغًا فلجميعها النصب إن تقدمت, وإن تأخرت فلأحدهما ما له مفردًا, وللبواقي النصب, وحكمها في المعنى حكم المستثنى الأول.]- ش: يقول إذا كررت "إلا", وكان معناها التوكيد - جعلتها كأنها زائدة لم تذكر, نحو: قام القوم إلا محمدًا إلا أبا بكر, إذا كان أبو بكر كنية لمحمد, وكقولك: ما قام القوم إلا زيد إلا أخوك, وشرط في هذا التكرار أن يكون الثاني يغني عن الأول, فإذا قلت: قام القوم إلا أبا بكر, أو ما قام القوم إلا أخوك - أغنى ذلك عن ذكر محمد, وعن ذكر زيد؛ لأن أبا بكر هو محمد, وأخوك هو زيد, وأنشدوا: ما لك من شيخك إلا عملة إلا رسيمه, وإلا رمله والرسيم والرمل ضربنا من العدو, وهما يغنيان عن قوله: إلا عمله, فلو قلت: ما لك من شيخك إلا رسيمه وإلا رمله أغنى. وقوله وإلا عطف بالواو أي: وإلا يكن مغنيًا عطف بالواو, ومثاله: قام القوم إلا زيدًا وإلا جعفرًا وإلا خالدًا, وقوله: وإلا رمله؛ لأن قوله "وإلا رمله" لا يغني عن قوله: عمله؛ لأن هذا من البدل التفصيلي الذي تجب في ثانية الواو, نحو قوله:

وكنت كذي رجلين: رجل صحيحة ورجل رمى فيها الزمان, فشلت وهو بدل شيء من شيء, وهما لعين واحدة وجعل "إلا رسيمه وإلا رمله" في البيت من البدل التفصيلي مذهب ابن خروف, وهما كل عمل الشيخ. وذهب السيرافي إلى أنه يعني: بالرمل في الطواف, وبالرسيم في السعي - والرسيم: الوطء بشدة - وزعم أنه بدل بعض من كل؛ لأن الرسيم والرمل بعض العمل. وتقول: ما أتاني إلا زيد وإلا عمرو, وما أتاني أحد إلا زيد وإلا عمرو, قال أبو علي: "ولا يجوز رفعهما جميعًا إلا أن تدخل حرف العطف, فتقول: وإلا عمرو", ويجوز أيضًا: وعمرو, دون إلا. وذكر أبو علي في "التذكرة" رفع الاسمين بغير حرف عطف, ورواه عن جماعة, وزعم أنه من إيقاع البعض موقع الكل, فقولك "إلا زيد" كقولك: أحد, فكأنك قلت: ما جاءني لا زيد ولا غيره, فرفعت إلا عمرو كما رفعته بعد أحد, وتنصبه/ [4: 55/ أ] كما تنصبه بعد أحد, قال: "ولو أظهرت أحدًا لم ترفع اثنين؛ لأن فعلًا واحدًا لا يرفع دون عطف"،قال: "وإلا زيد هو الفاعل, وليس قبله مضمر ولا محذوف". قال ابن هشام: "الأجود أن يحمل على حذف حرف العطف, وقد أجازه ابن الطرواة على غير هذا, بل حمل الثاني على المعنى؛ لأن معناه كمعنى الأول, وهو مستثنى منه؛ ألا تراه يجوز عطفه عليه بإلا وبغير إلا, والحمل على المعنى في هذا

الباب قوي. وقد ذكر س ما هو أبعد من هذا إذا تأملته,] إلا أن هذا إذا لم نجد غيره [، وقد ذكر س رفع الاسمين هنا, ولم يذكر في ذلك وجهًا من الثلاثة لما وجد مأخذًا أحسن منها, وأنشد لحارثة: يا كعب صبرًا على ما كان من حدث يا كعب لم يبق منا غير أجلاد إلا بقيات أنفاس, نحشرجها كراحل رائح, أو باكر غاد فجعل غيرًا هنا غير استثناء بل صفة كمثل, ورفعه على حذف الموصوف, ثم أبدل منه إلا بقيات, فصار كقولك: ما جاءني مثلك إلا زيد. وكذلك أنشد قول الفرزدق: ما بالمدينة دار غير واحدة دار الخليفة إلا دار مروانا جعل "غير" صفة لـ"دار" لا استثناء, و"إلا دار مروان": بدل من "دار" الأولى, قال: "ومن جعلها - يعني غيرًا - بمنزلة الاستثناء لم يكن له بد من أن ينصب أحدهما". وهنا قال س: "فأما إلا زيد فلا يكون بمنزلة مثل إلا صفة", يريد: لا تقول: ما جاءني إلا زيد إلا عمرو, على أن تجعل إلا زيد صفة قامت مقام الموصوف, ثم تبدل منها.

وما ذكره س من رفع الاثنين وتأوله على ما ذكرنا بلفظ غير لا يجوز, فإذا ما جاء إلا زيد إلا عمرو لا يصح على ما قال س, ولا يصح فيه ما تأول في غير. وإذا تأولنا تأويل أبي علي في ما جاءني إلا زيد أنه فاعل ليس في الكلام حذف ولا إقامة, و"إلا عمرو" بدل - فكذلك يجوز أن يكون صفة؛ لأنه متى صح البدل صحت الصفة, فيكون في المسألة إذا وجدت هكذا وسمعت أربعة أوجه" انتهى. و"إلا" المكررة إذا كانت للتوكيد فإما أن يكون ما بعدها هو الأول أو غيره: فإن كان الأول كان ما بعدها جاريًا على ما قبلها في الإعراب كما مثلناه. وإن كان غيره فجميعها مستثنى من الأول, ولا بد من العطف بالواو وتكرارها توكيدًا, ليس على سبيل التحتم, بل يجوز أن تكرر, ويجوز ألا يؤتي بها, فيبدل الاسم مما قبله, أو يعطف عليه بالواو, على حسب المثل السابقة, ومن تكرارها والعطف بالواو لكون الثاني لا يغني عن الأول قول الشاعر: هل الدهر إلا ليلة ونهارها وإلا طلوع الشمس ثم غيارها [4: 55/ أ] / وإنما وجب العطف لأن ما دخلت عليه إلا الثانية مباين بالكلية لما دخلت عليه إلا الأولى, فإن كان المتكلم غالطًا أو مضربًا جاز أن يكون بدلًا على جهة الغلط أو الإضراب, قال ابن عصفور: "ومن البدل على جهة الإضراب: أما قريش فلن تلقاهم أبدًا إلا وهم خير من يحفى وينتعل إلا وهم جبل الله الذي قصرت عنه الجبال, فما ساواهم جبل

فأبدل إلا الثانية مع الجملة التي دخلت عليها من إلا الأولى والجملة التي دخلت عليها وإن لم يتحد معنى الجملتين على جهة الإضراب" انتهى. ولا يعني بالإضراب أنه أضرب عن الجملة السابقة على جهة الإبطال, بل على جهة الانتقال من غير إبطال؛ على أنه لا يتعين هنا الإضراب, بل يجوز أن يكون إبدالًا صحيحًا؛ لأن قوله "إلا وهم خير من يحفى وينتعل" وصف لهم بأنهم خير الناس, وقوله "إلا وهم جبل الله" وصف لهم أيضًا بأنهم العالون في الناس, الراسخ قدمهم في العلياء, وهذا الوصف هو الأول من جهة المعنى, فهو بدل منه لا على جهة الغلط, ولا على جهة الإضراب, بل هُو هو من حيث المعنى؛ لأنه أراد بهاتين الحالتين تفوقهم على الناس. قال المصنف في الشرح بعد ما أنشد: ما لك من شيخك .... البيت. "ومثله قوله الفرزدق: ما بالمدينة دار غير واحدة دار الخليفة إلا دار مروانًا" انتهى. وليس مثله؛ لأن إلا لم تتكرر فيه, لكنه لما كان يقع موقع "غير" هنا "إلا" ذكر س البيت في باب تثنية المستثنى, قال س: "جعلوا غيرًا صفة للدار بمنزلة مثل, ومن جعلها بمنزلة الاستثناء لم يكن له بد من أن ينصب أحدهما, وهو قول ابن أبي إسحاق" انتهى. قال ابن خروف: "والوجهان متباينان؛ وذلك أنه إذا جعل (غير واحدة) صفة فقد أنبأ أنه ليس بالمدينة دار خليفة إلا دار مروان, وإذا جعله استثناء أخبر أنه

ليس بالمدينة دار إلا داران: إحداهما دار الخليفة, والأخرى دار مروان, وقد زعم بعضهم أنها دار الخليفة" انتهى. وما تقدم من قول س "لم يكن له بد من أن ينصب أحدهما" نص على أنه لا يجوز رفعهما على أن يكونا بدلين؛ لأنه إذا اجتمع صفة وبدل فالصفة أولى بأن تقدم, ويضعف تقديم البدل, هذا في الصفات المتمكنة, وأما في إلا فينبغي ألا يجوز لقلة تمكنها, على ما نبينه إن شاء الله, ولو جاز هذا لكان قول س "لم يكن بد من نصب أحدهما" خطأ. وأجاز أبو محمد بن السيد في هذا البيت ثلاثة أوجه: أحدهما ما ذكره س] 4: 56/أ [من أن غيرًا صفة, وإلا/ [4: 56/ أ] دار: بدل, والثاني أن تكون غير بدلًا, وإلا دار: صفة, وقد بينا ضعف ذلك, والثالث أن يكونا صفتين. قال شيخنا الأستاذ أبو الحسن بن الضائع: "ولو قال قائل: لا يجوز أن يكونا صفتين؛ لأنه لا يقال: مررت برجل غير زيد غير عمرو؛ لأن قولك (غير زيد وعمرو) أخصر, مع كراهة تكرير اللفظ الواحد في كلام واحد, وإذا لم يتمكن تكرير غير صفة فهو في إلا أبعد - فكذلك ينبغي ألا تجيء إلا صفة بعد غير. وزعم السيرافي أن المعنى في الرفع على وجهين: أحدهما: وهو جعل غير صفة - أن يريد: ما بالمدينة ليست دار بواحدة كدور الخلفاء إلا دار مروان, فدار الخليفة بدل, على معنى: مثل دار الخليفة, فمعنى هذا: ما بالمدينة دار تصلح للخلافة إلا دار مروان؛ لأنها بمنزلة دور الخلافة.

والثاني: أن تكون (غير) استثناء, أي: ما بالمدينة دار إلا واحدة, هي دار الخلافة, و (إلا دار مروان): توكيد, ويعني بدار مروان الواحدة التي هي دار الخلافة, فيكون كقولهم: ما فيها أحد إلا زيد إلا أبو عبد الله, وأبو عبد الله كنية زيد, كرره توكيدًا". وقوله إن كررت إلى قوله ونصب ما سواه مثال ذلك: ما قام إلا زيد إلا عمرًا إلا بكرًا, والذي يلي العامل من هذه الأسماء أولى أن يفرغ له العامل, ويجوز أن يفرغ للأخير, وتنصب المتقدمين, فتقول: ما قام إلا زيدًا إلا عمرًا إلا بكر, ويجوز أن يفرغ للمتوسط, فتنصب المتقدم والمتأخر, فتقول:] ما [قام إلا زيدًا إلا عمرو إلا بكرًا. ودل قول المصنف "شغل العامل ببعضها" على أنه لا يتعين ما يشغل به العامل, فيجوز أن تشغله بالمتقدم وبالمتوسط وبالمتأخر ولكن شغله بما يليه أولى. وهذا الذي ذكره المصنف من أنه إذا كررت إلا, ولم يمكن فيها استثناء ما بعدها مما قبلها, وفرغ العامل لما بعد إلا - فيه تفصيل, ذكره بعض شيوخنا, فقال: "إن كان المفرغ طالب فاعل أو مفعول لم يسم فاعله كان أحد المستثنيات على حسبه: فإن رفعت الأول جاز فيما بعده على الرفع على البدل بدل البداء, والنصب على الاستثناء, وإن رفعت الآخر نصبت المتقدم على الاستثناء, لأن التابع لا يتقدم على المتبوع. وإن رفعت المتوسط لم يجز فيما قبله إلا النصب على الاستثناء، ويجوز فيما بعده النصب على الاستثناء والرفع على التبعية بدل البداء, فتقول: ما قام إلا زيدًا إلا عمرو إلا بكرًا, وإن شئت: إلا بكر.

وإن لم يطلب فاعلًا ولا مفعولًا لم يسم فاعله فإن كان المعمول محذوفًا لفهم المعنى لم يجز في الأسماء التي بعد إلا إلا النصب على الاستثناء, نحو: ما ضربت إلا زيدًا إلا عمرًا, أي: ما ضربت أحدًا إلا زيدًا إلا عمرًا, وإن لم يقدر المعمول محذوفًا لفهم المعنى فلا بد من جعل أحد الأسماء الواقعة بعد إلا على حسب العامل, فإن جعلت الأول كان معمولًا لضربت, والباقي منصوب على الاستثناء أو على البدل المتقدم, وإن جعلته الآخر لم يجز فيما قبله إلا النصب على الاستثناء؛ لأن التابع لا يتقدم على المتبوع, وإن جعلته المتوسط كان منصوبًا على الاستثناء, وما بعده إما تابع وإما منصوب على الاستثناء, وكل موضع امتنع فيه البدل في حال انفراد الاستثناء على اللفظ فإنه يمتنع أيضًا ذلك فيه مع التكرار" انتهى. وتقول على هذا التفصيل: ما مررت إلا يزيد إلا عمرًا إلا خالدًا, وإلا عمرو إلا خالد, وما مررت إلا زيدًا إلا بعمرو إلا خالًا، وإلا خالد، وما مررت إلا زيدًا إلا عمرًا إلا بخالد. وقوله في هذا التفصيل "فإن كان المعمول محذوفًا لفهم المعنى" إلى آخره لا يجيء هذا التقسيم؛ لأنه فرض ذلك في تفريغ العامل, فإذا كان معموله محذوفًا لفهم المعنى فلا تفريغ إذ ذاك. ويجوز في نحو ما جاءني إلا زيد إلا عمرًا أن تعطف بالواو داخلة على إلا, فتقول: ما جاءني إلا زيد وإلا عمرو, وتعطف بغير إلا إن شئت, فتقول: ما جاءني إلا زيد وعمرو, وتزيد على الاثنين ما شئت. قال أبو علي: "ولا يجوز رفعهما جميعًا إلا أن تدخل حرف العطف: فتقول وإلا عمرو" قال: "لأن فعلًا واحدًا لا يرتفع به فاعلان إلا على جهة الاشتراك بالحرف", يعني حرف العطف.

وقد ذكر أبو علي في "التذكرة" رفع الاسمين بغير حرف العطف, ورواه عن جماعة, وقال: إنه موجود", وزعم أنه من إيقاع البعض موقع الكل, فقولك إلا زيد كقولك أحد, وكأنك قلت: ما جاءني أحد لا زيد ولا غيره, فرفعت إلا عمرو كما رفعته بعد أحد, وتنصبه كما تنصبه بعد أحد, قال: "ولو أظهرت أحدًا لم يرفع اثنين؛ لأن فعلًا واحدًا لا يرفع اثنين دون عطف, وإلا زيد هو الفاعل, وليس قبله مضمر ولا محذوف"، وتقدم الكلام على هذه المسألة وذكر مذهب ابن الطراوة فيها. وقوله وإن لم يكن مفرغًا فلجميعها النصب إن تقدمت مثاله: ما قام إلا زيدًا إلا عمرًا إلا خالدًا أحد, وما لي إلا الله إلا إياك ناصر, وقام إلا زيدًا إلا عمرًا القوم, ويعني المصنف بقوله "فلجميعها النصب" أي: على الاستثناء. وزعم ابن السيد أنه يجوز في ذلك أربعة أوجه: أحدهما: النصب على الاستثناء, كما نص عليه النحويون. والثاني: النصب على الحال فيهما, قال: لأنهما متأخرين يجوز أن يكونا صفتين, تقول: ما في الدار أحد إلا زيد, فيكون إلا زيد صفة لأحد, كما تقول: قام القوم إلا زيد, فإذا تقدم إلا زيد على موصوفه انتصب على الحال, وكذلك: قام إلا زيدًا القوم, يجوز أن يكون منصوبًا على الحال. الثالث: أن تجعل الأول حالًا والثاني منصوبًا على الاستثناء. والرابع: عكسه وهو جعل الأول منصوبًا على الاستثناء والثاني حالًا, انتهي. وهذا الذي ذهب إليه ابن السيد من جواز الحال لا يجوز؛ وذلك أنها غير متمكنة في الوصف بها, فلا تكون إلا تابعة لموصوفها في اللفظ, فلا يجوز تقديمها

عليه أصلًا, كما لا يجوز: قام إلا زيد, تريد: قام غير زيد, وإذا كان من شرط وقوعها صفة وقوعها بعد المستثنى منه امتنع فيها الحال عند التقدم. وأيضًا فنصبهما على الحال ممتنع من جهة أنه لا ينتصب حالان إلا على جهة التشريك, وأيضًا فإنه تضعف الحال في قوله "إلا الله" من قول الشاعر: ...................... وما لي إلا الله غيرك ناصر مع نصب غيرك على الاستثناء من جهة المعنى؛ لأنه يكون قد نص على أن المخاطب هو الناصر, وليس ذلك في الله تعالى من جهة اللفظ. ثم فيه من الضعف عكس ما عليه الأصل في إلا وغير, وهو أنه الأصل في إلا الاستثناء, والأصل في غير الصفة, وقد يمتنع الشيء عند زيادة الضعف. وينبغي على ابن السيد أن يجوز في قام القوم إلا زيدًا النصب على الحال, بل يكون ذلك أولى بالجواز من الذي قال؛ لأنه واقع بعد المستثنى منه. ومما يدل على أن إلا لا يجوز أن تكون صفة إلا والعامل فيها تبعها للموصوف من كلام س قوله فيها "لا يجوز فيها ذلك إلا صفة"، فلا يعني هنا بالصفة إلا التابعة بدليل تنظيرها بأجمعين, ونصه على أن أجمعين "لا يجري في الكلام إلا على اسم, ولا يعمل فيه رافع ولا ناصب"، يريد: إلا تبعها لاسم قبلها, وفي ذلك نظرها بأجمعين, وقد قال س في باب تثنية المستثنى: "وأما إلا زيد فلا يكون بمنزلة مثل إلا صفة"، وليس يعني بالصفة هنا إلا التابعة, ولا يريد الصفة المعنوية.

وقوله وإن تأخرت فلأحدها ما له مفردًا وللبواقي النصب مثال ذلك: قام القوم إلا زيدًا إلا عمرًا إلا بكرًا, وما جاء أحد إلا زيدًا إلا عمرًا إلا بكرًا, فيجوز في الإيجاب الرفع في الجميع على النعت, ونصب الجميع على الاستثناء, ورفع أحدها على الصفة ونسب الباقي على الاستثناء, هكذا قال شيخنا الأستاذ أبو الحسن الأبذي, واتبع في جعل إلا المكررة صفة فيهما ابن السيد, وقد تقدم رد شيخنا أبي الحسن بن الضائع على ابن السيد ذلك في قوله: ما بالمدينة دار ............ البيت. ويجوز في النفي الرفع على البدل فيها, والنصب على الاستثناء فيها, والرفع فيها على النعت, وتقدم رد ابن الضائع لذلك, ورفع أحدها على البدل أو النعت والباقي على الاستثناء. وقوله وحكمها في المعنى حكم المستثنى الأول يعني أن ما بعد الأول من هذا النوع مساو له في الدخول إن كان الاستثناء من غير موجب, وفي الخروج إن كان من موجب. -[ص: وإن أمكن استثناء بعضها من بعض استثنى كل من متلوه, وجعل كل وتر خارجًا, وكل شفع داخلًا, وما اجتمع فهو الحاصل, وكذا الحكم في نحو: له عشرة إلا ثلاثة إلا أربعة, خلافًا لمن يخرج الأول والثاني, وإن قدر المستثنى الأول صفة لم يعتد به, وجعل الثاني أولًا.]- ش: قال المصنف في الشرح: "نحو عندي مئة إلا خمسين [4: 57/ ب] /إلا عشرين إلا عشرة إلا خمسة, أخرج أول وثالث وما أشبهها في الوترية, وأدخل ثان ورابع وما أشبههما في الشفعية, فالباقي بعد الاستثناء بالعمل المذكور خمسة وستون؛ لأنا

أخرجنا من المائة خمسين لأنهما أول المستثنيات, فهي إذً وتر, وأدخلنا عشرين لأنها ثانية المستثنيات, فهي إذا وتر, فصار الباقي ستين, ثم أدخلنا خمسة لأنها ثالثة المستثنيات, فهي إذًا وتر, فصار الباقي ستين, ثم أدخلنا خمسة لأنها رابع المستثنيات, فهي إذا شفع, فصار الباقي خمسة وستين, وما زاد من المستثنيات عومل بهذه المعاملة" انتهى. ونقول: إذا أمكن استثناء بعضها من بعض فأربعة مذاهب: أحدها: أنها كلها راجعة إلى الاسم المستثنى منه, فإذا قال: له على مئة درهم إلا عشرة إلا اثنين, لزمه ثمانية وثمانون درهمًا, وإلى هذا ذهب أبو يوسف القاضي. المذهب الثاني: أن الأخير مستثنى من الذي قبله, والذي قبله مستثنى من الذي قبله, إلى أن تنتهي إلى الأول, ويكون المقر به على هذا اثنين وتسعين درهمًا, وهو مذهب أهل البصرة والكسائي. والمذهب الثالث: أن الاستثناء الثاني منقطع, ويكون المقر به أيضًا على هذا المذهب اثنين وتسعين؛ لأنه يصير المعني: له عندي مائة غير عشرة سوى الاثنين اللذين له, فإنها عندي, فيتحد مدلول الإقرار في هذا المذهب والمذهب الذي قبله وإن اختلف التخريج, وهذا مذهب الفراء, وإنما ذهب الفراء إلى الانقطاع لأنك إذا رددت المستثنيات إلى الأول, أو رددت بعضها إلى بعض إلى أن تصير إلى الأول - كان في ذلك من عي الطول والإسهاب ما لا يخفى؛ لأن قولك له عندي عشرة إلا أربعة أخصر من قولك: له عندي عشرة إلا ثلاثة إلا واحدًا, وله عندي عشرة إلا اثنين أخصر من قولك: له عندي عشرة إلا ثلاثة إلا واحدًا. والمذهب الرابع: أنه يجوز فيه الأمران, وهو أن تعود كلها إلى الاسم الأول, وأن يعود بعضها إلى بعض حتى تنتهي إلى الاسم الأول, وصحح بعض أصحابنا هذا المذهب, وقال: "إلا أن الأظهر فيه أن يكون الاستثناء من الاستثناء؛ لأنه يجيء عليه صرف الاستثناء إلى الأقرب" انتهى.

فعلى هذا إذا استثنيت من عدد عددًا يليه, ثم منه عددًا يليه, وهكذا إلى أن تنتهي إلى مبدأ العدد - فلا يخلو أن يكون المستثنى منه شفعًا أو وترًا: فإن كان شفعًا فحكمه حكم الوتر الذي تحته, وإن كان وترًا فحكمه حكم الشفع الذي فوقه, فإذا كان شفعًا فعد الأوتار, وأسقط لكل وتر واحدًا, فما بقي فهو الباقي المستثنى منه, وما سقط فهو المستثنى, وإن كان وترًا فعد الأشفاع, وأسقط لكل شفع, واحدًا, فما بقى فهو الباقي المستثنى منه, وما سقط فهو المستثنى, تمثيل ذلك في الشفع: له عشرة إلا تسعة إلا ثمانية إلا سبعة إلا ستة إلا خمسة إلا أربعة/ [4: 58/أ] إلا ثلاثة إلا اثنين إلا واحدًا, الأوتار تسعة وسبعة وخمسة وثلاثة وواحد، أسقط لكل وتر واحدًا، فيصير امسقط خمسة، ويصيؤ الباقي المقر به خمسة. وتمثيل ذلك في الوتر: له أحد عشرة إلا عشرة إلا تسعة إلا ثمانية إلا سبعة إلا ستة إلا خمسة إلا أربعة إلا ثلاثة إلا اثنين إلا واحدًا, فالأشفاع عشرة وثمانية وستة وأربعة واثنان، أسقط لكل شفع واحدًا، فيصير المسقط خمسة،, ويصير الباقي المقر به ستة. وطريقة أخرى, وهي أنك تجمع الأشفاع ضامًا كل شفع إلى ما يليه, وتضبط ما انتهى إليه جميعها من العدد, ثم تخرج مجموع الأوتار من مجموع الأشفاع, فما بقي هو الباقي. مثال ذلك في التمثيل المتقدم أنك تجمع الأشفاع عشرة وثمانية وستة وأربعة واثنين, فيصير الجميع ثلاثين, ثم تجمع الأوتار تسعة وسبعة وخمسة وثلاثة وواحدًا, فيصير الجميع ثلاثين, ثم تجمع الأوتار تسعة وسبعة وخمسة وثلاثة وواحدًا, فيصير الجميع خمسة وعشرين, ثم تخرجها الأشفاع التي هي ثلاثون, فالباقي خمسة, ومثال ذلك في التمثيل الثاني أنك تجمع الأوتار أحد عشر وتسعة وسبعة وخمسة وثلاثة وواحدًا, فيصير الجميع ستة وثلاثين, ثم تجمع الأشفاع عشرة وثمانية وستة وأربعة واثنين, فيصير الجميع ثلاثين, ثم تخرجها من الأوتار التي هي ستة وثلاثون, فالباقي ستة. وطريقة أخرى, أنك تأتي إلى آخر العدد, فتسقط واحدًا من اثنين, فيبقى واحدًا, فتسقطه من ثلاثة, فيبقى اثنان, فتسقطهما من الأربعة, فيبقى اثنان,

فتسقطهما من الخمسة, فيبقى ثلاثة, فتسقطهما من الستة فيبقى ثلاثة, فتسقطهما من السبعة, فيبقى أربعة, فتسقطهما من السبعة فيبقى خمسة, فتسقطهما من العشرة, فيبقى خمسة. وطريقة أخرى, أنك تسقط الاستثناء الأول من المستثنى منه, ثم تضيف ما بقي إلى ما بعد المسقط, ثم تخرج من الجميع ما بعده, ثم تضيف ما يبقى إلى ما بعد المسقط, إلى أن تنتهي إلى الآخر, فما بقي فهو المقر به, تمثيل ذلك المثال السابق, تسقط تسعة من عشرة, فيبقى واحد, تضيفه إلى ما بعد المسقط - وهو ثمانية - يصير تسعة, تخرج منها ما بعده - وهو سبعة - فيبقى اثنان, تضيفه إلى ما بعد المسقط - وهو أربعة - فيبقى سبعة, تسقط منها ما بعده - وهو ثلاثة - فيبقى أربعة, تضيفه إلى ما بعد المسقط - وهو اثنان - فيبقى ستة, تسقط منها ما بعده - وهو واحد - فيبقى خمسة, ولاستخراج ذلك طرق غير هذه الأربعة, وهذا كله مخرج على قول من أجاز استثناء الأكثر. وأما من لم ينجزه ففي ذلك وجهان: أحدهما: أن جميع الاستثناء باطل؛ لأن الأول قد بطل؛ لأنه استثناء الأكثر, فيبطل ما تفرع عليه. والوجه الثاني: أنه يبطل الأكثر إلى أن تصل إلى النصف, فيصح,/ [4: 58/ ب] ثم تنظر في الباقي على هذا السياق. ومخرج أيضًا على مذهب من أجاز الاستثناء من العدد, وقد تقدم أن فيه ثلاثة مذاهب, يفرق في الثالث بين أن يكون المستثنى عقدًا, فلا يجوز, أو يكون غير عقد, فيجوز, وأن الصحيح أنه لا يجوز إلا فيما كان اسم العدد قد أخرج عن النصية إلى أن كثر به وبولغ, فيجوز.

وعلى أنه يجوز مطلقًا بني الفقهاء مذاهبهم في الأقارير, ولا يلزم من ترتيب الأحكام على الألفاظ أن تكون التراكيب عربية, بل الأحكام تلزم بمقتضى الألفاظ, سواء أكان التركيب على قانون كلام العرب أم لم يكن, فلو قال: أنت طالق إن تدخلي الدار, فدخلت - لزمه الطلاق وإن لم يكن هذا التعليق على قانون كلام العرب؛ لأن العرب لا تحذف جواب الشرط لدلالة ما تقدم عليه إلا إذا كان فعل الشرط ماضيًا, يقولون: أنت ظالم إن فعلت, ولا يقولون: أنت ظالم إن تفعل. فإن قال قائل: ما المانع من أن تقول: جاءني إخوتك العشرة إلا تسعة منهم, وعندي عشرة إلا وحدًا, على أن يكون المخبر قد توهم أولًا أن العشرة جاءوه, وأن العشرة عنده, ثم تذكر بعد ذلك أن الذي جاءه إنما هو واحد من الأخوة, وأن الذي عنده إنما هو تسعة, فاستثنى من الأخوة الذي تحقق أنه لم يجئه, ومن العشرة الذي تحقق أنه ليس عنده. فالجواب: أن العرب إنما تستعمل في هذا المعنى بل, فتقول: جاءني إخوتك العشرة بل واحد منهم, وعندي عشرة بل تسعة, ولا يحفظ من كلامهم استعمال إلا في هذا المعنى, فإن وجد من كلامهم استعمالها في هذا المعنى ساغ ذلك. وقوله وكذا الحكم في نحو: له عشرة إلا ثلاثة إلا أربعة, خلافًا لمن يخرج الأول والثاني قال المصنف في الشرح: "أشرت بذلك إلى قول السيرافي: (فإن كان بعض المستثنيات أكثر من الذي قبله, نحو: له على عشرة إلا ثلاثة إلا أربعة, فالفراء يستثني الثلاثة, ويزيد على السبعة الباقية الأربعة, فيكون المقر به أحد عشر. وغير الفراء يستثنى من العشرة الأربعة إلا بعد استثناء الثلاثة, فيكون المقر به ثلاثة". قال المصنف: "وقول الفراء عندي هو الصحيح؛ لأنه جار على القاعدة السابقة, أعني جعل الاستثناء الأول إخراجًا والثاني إدخالًا". انتهى.

وهذه المسألة من المسائل التي لا يمكن استثناء بعضها من بعض؛ ألا ترى أن قوله "إلا أربعة" لا يمكن استثناؤه نم المستثنى الذي قبله, وهو "إلا ثلاثة", وقد تقدم لنا أنه إذا لم يمكن ذلك, نحو: قام القوم إلا زيدًا إلا عمرًا إلا بكرًا - كانت مستثنيات من الاسم الأول, فينبغي في العدد أن كذلك, وأنه إذا قال: لفلان عندي عشرة إلا واحدًا إلا ثلاثة, تكون مستثناة من الأول, فيكون مقرًا بستة, وإلى هذا ذهب أكثر النحويين. ولم يبين المصنف مذهب الفراء في كونه جعله مقرًا بأحد عشر, وذلك أنه لما لم يكن له أن يجعل وله/ [4: 59/ أ] "إلا أربعة" مستثنى من قوله "إلا ثلاثة" عدل إلى أنه من الاستثناء المنقطع, فالمعنى عنده: له عنده عشرة إلا ثلاثة سوى الأربعة التي له عندي, فلذلك كان مقرًا بأحد عشر. وقد رد على الفراء بأن حمله على الاتصال يمكن, فلا يحمل على الانفصال. وله أن يقول: يتعين الحمل على الانفصال؛ لأنه لو أراد استثناءهما منه لقال: إلا سبعة, فتخصصية الثلاثة بالاستثناء من الأول, ثم جاء بالأربعة - دليل على أن الأربعة تزاد على ما أقر به أولًا, وهي السبعة. وهذا] يكون [إذا لم يكن المستثنى الثاني بعض المستثنى الأول] كما في مسألة العدد, فأما إن كان بعضه [, نحو: قام القوم إلا إخوتك إلا زيدًا - وزيد بعض الإخوة - فهو مستثنى, ولابد, فيجب أن يكون زيد قد قام, ولا يجوز أن يكون مستثنى مع الإخوة؛ لأن الأخوة تشمله, فلم يحتج لتخصيصه.

وقوله وإن قدر المستثنى الأول صفة لم يعتد به, وجعل الثاني أولًا قال المصنف "إن له عندي مئة إلا عشرين إلا عشرة إلا خمسة, فالعشرون خارجة من المائة, فيصير ثمانين, والعشرة داخلة فيصير تسعين, والخمسة خارجة, فالباقي إذًا خمسة وتسعون" انتهى. وقوله "فالعشرون خارجة من المائة فيصير ثمانين" إلى آخره ليس بصحيح؛ لأن قوله "إلا عشرين" صفة, فكأنك قلت: إن له مائة تغاير عشرين, فلم تدخل العشرين في المائة فتخرج, ومتى كانت إلا مع ما بعدها صفة فليس فيها معنى الاستثناء, وكذلك "غير" إذا كانت صفة ليس فيها معنى الاستثناء, وهذا هو المفهوم من كلام س, ونص على ذلك ابن السراج, قال: "إذا قلت: لك عندي مائة إلا درهمين, فقد أقررت بثمانية وتسعين" قال: "وإذا قلت: له عندي مائة إلا درهما, فجعلت إلا صفة, فقد أقررت له بمائة؛ لأنك زعمت أن له عندك مائة غير درهمين؛ وذلك أن غيرًا نقيضة مثل, فإذا قلت: له عندي مثل درهمين, فأردت أن تنفي هذا قلت: أي: ليست مثل درهمين" انتهى, وسيأتي الفرق واضحًا بعد هذا - إن شاء الله - بين معنى إلا التي يستثنى بها وبين إلا التي يوصف بها.

-[ص: فصل تؤول "إلا" بـ"غير" فيوصف بها وبتاليها جمع أو شبهه منكر أو معرف بأداة جنسية, ولا تكون "إلا" كذلك دون متبوع, ولا حيث لا يصلح الاستثناء. ولا يليها نعت ما قبلها, وما أوهم ذلك فحال أو صفة بدل محذوف, خلافًا لبعضهم. ويليها في النفي فعل مضارع بلا شرط, وماض مسبوق بفعل, أو مقرون بـ"قد" ومعنى أنشدك إلا فعلت: ما أسألك إلا فعلك.]- ش: أصل "غير" أن تكون وصفًا, وأصل "إلا" أن تكون استثناء ثم قد تحمل إحداهما على الأخرى فيما هو أصل فيها. وقد اضطرب كلام النحويين في الوصف بإلا, فالظاهر أنه يراد به/ [4: 59/ ب] الوصف الصناعي, وهذا هو المتفهم من كلام الأكثرين. وقال بعضهم: "قول النحويين (إنه يوصف بها) يعنون بذلك أنه عطف بيان". والذين قالوا إنه وصف صناعي اختلفوا: فقال الأخفش في (الأوسط): إلا والاسم الذي بعدها تكون صفة للاسم الذي قبلها إذا كانت في معنى الاستثناء, أو كان الاسم نكرة, أو فيه ألف ولام, نحو: مررت بالقوم إلا أخيك, وجاءني القوم إلا أخوك, قال الشاعر:

................. قليل بها الأصوات إلا بغامها" انتهى. وقول الأخفش "إذا كانت في معنى الاستثناء" إن عنى به أنه يوصف بها حيث تصلح أن تكون للاستثناء فهو قريب, وقد ذكروا أن ذلك شرط في الوصف بإلا, وسيأتي ذلك عند ذكر المصنف لذلك, وإن عنى أن إلا تكون صفة للاسم حال كونها في معنى الاستثناء فليس بصحيح, وقد بينا ذلك قبل. وقال بعض أصحابنا: "إن الوصف بالا يخالف سائر الأوصاف بأنه يجوز أن يوصف بها الظاهر والمضمر والمعرفة والنكرة". وقال صاحب "الضوابط" أبو عبد الله محمد بن أبي الفضل السلمي ما معناه: "تجري إلا مجرى غير, فيوصف بها, وذلك إذا كان المستثنى منه نكره, نحو: قام كل أحد إلا زيد, فإن قلت: قام إخوتك إلا زيد, لم يجز إلا النصب, ولا يجوز الرفع على الصفة". وقال بعض أصحابنا: إن كان ما بعد إلا معرفة جرت مجرى غير إذا أضيفت إلى معرفة, فتجري وصفًا على النكرة, نحو قوله: وكل أخ مفارقة أخوة لعمر أبيك إلا الفرقدان يريد: وكل أخ غير الفرقدين مفارقة أخوه, وعلى المعرفة, نحو قوله: ................... قليل بها الأصوات إلا بغامها أي: قليل بها الأصوات غير بغامها.

وإن كان ما بعد إلا نكرة جرت مجرى غير إذا أضيفت إلا نكرة, فتجري وصفًا على النكرة دون المعرفة, فتقول: قام كل أحد إلا غلام من غلمانك, كأنك قلت: قام كل أحد غير غلام من غلمانك, ولا يجوز: قام القوم إلا غلام من غلمانك, كما لا يجوز ذلك مع غير لأنها مضافة إلى نكرة. وقد تجري إلا مع ما بعدها على المضمر قبلها, غلا أن ذلك لا يكون نعتًا؛ لأن المضمر لا ينعت, بل يكون ذلك عطف ببيان, وعليه قوله: وبالصريمة منهم منزل خلق عاف تغير إلا النؤي والوتد فـ"إلا النؤي" عطف بيان من المضمر المستكن في تغير. وقول من قال "إنه يوصف بها" فيه تجوز؛ لأن الحرف لا يوصف, ولا يوصف به, لكنه مع ما بعده يؤدي معنى الوصف, وهو المغايرة, فالصفة إنما استفيدت من مجموعهما, والشيئان حالة الاجتماع يحدث لهما حكم لا يكون في كل واحد منهما حالة انفراده, وهذا معنى قول المصنف "فيوصف بها وبتاليها". ولتأصل "غير" في الوصفية يوصف بها جمع, وشبه جمع, وما ليس جمعًا ولا شبه الجمع, نحو: جاء رجال غير زيد": وكفى بنا فضلًا على من غيرنا ............................ ورجل غيرك أحب إلي, وجاز أن يحذف الموصوف بها وتقام مقامة كما يحذف الموصوف بـ"مثل" وتقام مقامه, و"إلا" الموصوف بها لا يعامل بذلك. وقوله فيوصف بها وبتاليها جمع أو شبهه منكر أو معرف بأداة جنسية قال بان السيد: "الوصف حصل من إلا والاسم بعدها, وكل واحد بالانفراد لا

يعطيه, كما في قولك: دخلت إلى رجل في الدار, فإن كون في الدار صفة لم يكن إلا بالمجموع؛ لأنه يحدث مع المجموع معنى لا يكون في الإفراد, وكقولك: مررت برجل لا قائم ولا قاعد, إذ الصفة للمجموع من الاسمين بواسطة الحروف, ولا يكونان وصفًا إلا بها" انتهى. ومثال الجمع المنكر: جاءني رجال قرشيون إلا زيد, ومثال شبه الجمع: ما جاءني أحد إلا زيد, إذا أعربت "إلا زيد" صفة, إذا أعربت "إلا زيد" صفة, وقول الشاعر: لو كان غيري - سليمي - الدهر غيره وقع الحوادث إلا الصارم الذكر فـ"غيري" شبيه بالجمع المنكر, ووصف بقوله: إلا الصارم الذكر, التقدير: لو كان غيري غير الصارم الذكر غيره. ومثال المعرف بأداة جنسية قول الشاعر: ويوم الحزن إذ حشدت معد وكان الناس إلا نحن دينا أي: وكان الناس المغايرون لنا دينًا, وقول الآخر: أنيخت, فألقت بلدة فوق بلدة قليل بها الأصوات إلا بغامها أي: الأصوات غير بغامها, قاله س, وقد أثبت بها أصواتًا قليلة. وأجاز السيرافي أن يكون "قليل" بمعنى النفي, كأنه قال: ما بها أصوات إلا بغامها, وهو استثناء وبدل صحيح, كما تقول: أقل رجل يقول ذلك إلا زيد.

ورد ذلك عليه الأستاذ أبو علي, وقال: "لا يتصور البدل في هذا؛ لأنه يؤول إلى التفريغ, وذلك فاسد؛ ألا ترى أنه لم يرد أن يقول: ما بها إلا بغامها, وكيف يقول ذلك وبها القائل والراحلة ورحلها وغير ذلك, وإنما أراد: ما بها صوت مغاير لبغامها" انتهى. وهذا الذي اختاره المصنف من كون "إلا" لا يوصف بها إلا جمع أو شبهه منكر أو معرف بأداة جنسية تبع في ذلك ابن السراج, فإنه قال ما معناه: "إنها لا تكون وصفًا إلا بعد جماعة, أو واحد في معنى الجماعة, إما نكرة, وإما فيه الألف واللام على غير معهود". وقال الأستاذ أبو علي: "الأصوات - يعني في البيت السابق - جنس, فيجوز أن ينعت بغير, قال: ولا يجوز ذلك في المعهود غير الجنس/ [4: 60/ ب] إلا أن تريد بغير المعرفة". وقال المبرد في (المقتضب): "لا يوصف بها إلا ما يوصف بغير, وذلك النكرة, والمعرفة التي بالألف واللام على غير معهود, نحو: ما يحسن بالرجل مثلك أن يفعل ذلك, وقد أمر بالرجل غيرك فيكرمني" انتهى. وقال المصنف في الشرح: "وإنما وصفت الأصوات - وهي معرفة - بما في معنى غير - وغير نكرة - لأن التعريف بالألف واللام الجنسية, وتعريفها كلا تعريف, ولذلك وصف ما هما فيه بالجملة في قوله {وَآيَةٌ لَّهُمْ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ} , فكما وصف ما هما فيه بـ (غير) في قولهم: إني لأمر بالرجل غيرك

فيكرمني, وصف بـ (إلا) الواقعة موقعها وبما بعدها" انتهى, وقد تكلمنا معه في تخرج قوله {وَآيَةٌ لَّهُمْ اللَّيْلُ نَسْلَخُ} في باب المعرف بالأداة. وقال المصنف في الشرح: "وحاصل هذا الفصل أن إلا الموصوف بها لا يوصف بها مفرد محض, ولا معرفة محضة, فلا يجوز أن يقال: قام رجل إلا زيد, لأن رجلًا مفرد محض, ولا يجوز: جاء الرجال إلا زيد, على أن يكون الرجال معهودين؛ لأن تعريفهم تعريف محض, فلو قصد الجنس لم يمتنع" انتهى. وفي البسيط: "جمهور النحويين على جواز كون غير تجري على المعرفة, فكذلك إلا"، وفيه أيضًا: والظاهر أنها تقع فيما تقع فيه غير إلا الموضع الذي لا يتقدمها موصوف, سواء أكان في النفي أم الإثبات, أو منفردًا, أو مجموعًا, أو منكرًا, أو معرفًا على قصده في التعريف, ولما كانت غير من أخوات مثل وشبه, وكان يصح فيها قصد التعريف - صح جربها على المعرفة والنكرة, فكذلك إلا بمعناها, تجري على النكرة وعلى المعرفة, ويجوز فيها البدل إذا كانت بمعنى غير كما يجوز في غير. وهل يجوز فيها الحال كما في غير؟ فيه نظر, وأجازه ابن السيد, وقال: إنها قد تكون صفة للنكرة, وتتقدم, وتنتصب على الحال, فتقول: هذا رجل إلا ضاحك ثم تقول: هذا إلا ضاحكًا رجل, وكذلك أجاز في قوله:

.............. وما لي إلا الله غيرك ناصر أربعة أوجه: أن يكونا معًا حالين من ناصر, واستثناءين مقدمين, أو أحدهما استثناء والآخر حال, قال: "وأكثر النحويين ينكرون هذا" انتهى. وتمثيله هذا رجل إلا ضاحك على الصفة منازع فيه؛ لأنهم قالوا: "لا تكون صفة إلا حيث يصح أن تكون استثناء"، ولا يصح أن يكون (إلا ضاحك) استثناء. وأما س فإنه قال: "وهذا باب ما تكون فيه إلا وما بعدها وصفًا بمنزلة غير ومثل, وذلك] قولك [: لو كان معنا رجل إلا زيد لغلبنا, والدليل على أنه وصف أنك لو قلت: لو كان معنا إلا زيد لهلكنا - وأنت تريد الاستثناء - لكنت قد أحلت" انتهى. يعني س أن "لو" لا يفرغ معها العامل كما يفرغ مع النفي, وإذا كان كذلك فارتفاع "إلا زيد" على الصفة لا على البدل, فـ"لو" -وإن استلزمت امتناع الفعل - فلم تجرها العرب مجرى النفي؛ ألا ترى أنها لا يعمل الفعل بعدها في مختص بالنفي, كأحد وعريب وكتيع, ولا تزاد في النكرة بعد فعلها, ولا ينتصب الفعل بإضمار أن بعد الفاء جوابًا لها إلا إذا أشربت معنى التمني, و"لو" في اللفظ كالموجب؛ لأنها كان, ولا يجوز: إن قام إلا زيد قمت. وقال س: "ونظير ذلك قوله عز وجل {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} انتهى, يعني أنه ارتفع (إلا الله) على الوصف. وهذا الذي قاله س من أن "لو" لا يصح التفريغ معها ولا البدل واقفة عليه المبرد في كتابة "المقتضب", وأبو الحسن الأخفش.

ونقل أبو بكر بن السراج عن المبرد إجازة التفريغ والبدل, قال: "لو كان معنا إلا زيد لغلبنا أجود كلام وأحسنه". وقيل هذا النقل عن المبرد ابن ولاد, والأستاذ أبو علي وأصحابه. وأنكر ابن خروف ثبوته عن المبرد. وعلى تسليم هذا النقل عن المبرد شيوخنا الأستاذ أبو الحسن بن الضائع, والأستاذ أبو الحسن الأبذي, ونقله ابن عصفور عنه أيضًا, قال المبرد: "الدليل على ذاك أنك إذا قلت لو كان معنا إلا زيد لغلبنا فزيد معك, كقولك: ما معنا إلا زيد" قال: وكذلك {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا}. وقال السيرافي في قول س "لكنت قد أحلت": "لأنه يصير المعنى: لو كان معنا زيد لهلكنا؛ لأن البدل بعد إلا في الاستثناء موجب, وكذا لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا}، لو كان على البدل لكان التقدير, لو كان فيهما الله لفسدتا, وهذا فاسد" انتهى. قال الأستاذ أبو الحسن بن الضائع: "وفي هذا الذي قاله السيرافي نظر, فإنه لا يلزم أن يكون حكمه هنا في التفريغ حكم النفي, فإذا قلت ما قام القوم

إلا زيد فالمعنى إثبات القيام لزيد، وإذا قلت هل قام أحد إلا زيد فمن أين يلزم أن يكون المعنى: لو قام زيد لقمت، والبدل معناه معنى الاستثناء". وقد ذكر أبو جعفر بن مضاء في كتابه "المشرق" أن قول السيرافي "معنى ما قام إلا زيد: قام زيد" مسلم أن القيام موجب لزيد، وكذلك لو أسقطت لو وجوابها كان المعنى: كان معنا زيد، فكما تسقط "ما" في النفي تسقط "لو" وجوابها، وأما أن يعامل "لو كان معنا زيد" كـ "قام زيد" فخطأ فاحش؛ لأن لو عنها كان العموم، كما كان العموم في النفي لـ "ما"، فيجوز إذًا في زيد البدل والنعت. وقال الأستاذ أبو علي: معنى قول س (قد أحلت) أنك إذا قلت: لو كان معنا أحد إلا زيد لغلبنا فمعنى (غير) فيه: لو كان معنا أحد مكان زيٍد لغلبنا، فهذا معنى. وإذا جعلت إلا استثناء أو بدلًا فمعناه: لو كان معنا أحد ليس فيهم زيد لغلبنا، فأراد س: لو قلت إلا زيدًا أو إلا زيد، تريد البدل مع أنك تريد المعنى الأول، لأحلت، وإنما نزل المسألة على الآية، وذلك أنه لا يصح في الآية الاستثناء ولا البدل؛ لأنه يلزم أن يكون المعنى: لو كان فيهما آلهة ليس الله فيهم لفسدتا، ومقصود الآية: لو كان فيهما / [4: 61/ ب] آلهة لفسدتا، فاشترطا ألا يكون الله فيهم يفسد المعنى.

فإن قلت: إن الوصف أيضًا بهذا المعنى. فالجواب: أن الوصف قد يكون تأكيدًا، فلا يكون قيدًا وشرطًا فيما قبله، ولا يكون الاستثناء إلا كذلك. قال: فلا بد أن يكون المعنى في البدل والوصف: ليس الله فيهم، إلا أن الوصف قد يكون توكيدًا، وليس بشرط فيما قبله، ولا يفسد المعنى إلا بجعله شرطًا. قال: ولا يجوز أن يكون المعنى: آلهة ليسوا الله؛ لأنه لا يصح أن يقال: ليس الجمع الواحد؛ لعدم الفائدة". قال الأستاذ أبو الحسن بن الضائع: "هذا الذي زعم الأستاذ أبو علي من التفريق بين الوصف والبدل لا يصح على ما قال؛ لأنه إذا كان معنى الوصف: ليس الله فيهم، فهذا هو معنى الاشتراط، ثم هو اشتراط مناقض للمعنى المقصود؛ ألا ترى أن المعنى: لو كان فيهما آلهة مع الله لفسدتا، على الإطلاق، كان الله فيهم ومن جملتهم أو لم يكن، بل المراد: لو كان فيهما آلهة مع الله لفسدتا. وقولنا ليس الله فيهم نقيض هذا المعنى. وإذا كان المعنى في الوصف والبدل واحدًا فأي فائدة لمجيء الوصف مؤكدًا في غير هذا الموضع. ثم لقائل أن يقول: قد يكون البدل أيضًا مؤكدًا، وقد نص عليه س. فاعلم أنه لا يصح المعنى عندي إلا على أن تكون إلا في معنى غير التي يراد بها البدل، أي: لو كان فيهما آلهة عوض واحد، أي: بدل الواحد الذي هو الله لفسدتا، وهذا المعنى أراد س في المسألة التي جاء بها توطئة، ولذلك زعم أن البدل فيها محال على ذلك المعنى" انتهى كلام الأستاذ أبي الحسن.

ولا يريد الأستاذ أبو علي ما فهمه عنه؛ لأن معنى قول الأستاذ أبي علي "فلا بد أن يكون المعنى في البدل والوصف: ليس الله فيهم" إذا حملنا الوصف على التأسيس لا على التأكيد. ثم قال الأستاذ أبو علي: "إلا أن الوصف قد يكون توكيدًا"، فهذا فرق ما بين البدل والوصف، وهو أن البدل في باب الاستثناء إذا كان مفيدًا ما يفيده الاستثناء لا يمكن أن يراد به التوكيد؛ وقد بين الأستاذ أبو علي أنه لا يصح في الآية الاستثناء ولا البدل، وقد فال هو: "فاشتراط ألا يكون الله فيهم يفسد المعنى"، فإذا كان قد ذكر اشتراط ذلك يفسد المعنى فكيف يقدر في الآية: ليس الله فيهم، وإنما أشار إلى أن الوصف حقيقته هكذا، ثم قد يكون للتأكيد، فهو في الآية للتأكيد، ولا يريد أنه ليس في الآية للتأكيد كما فهم عنه الأستاذ أبو الحسن؛ لأنه قد ذكر أن تقدير ليس الله فيهم يفسد المعنى. وأما الذي اختاره الأستاذ أبو الحسن من أن المعنى: لو كان فيهما آلهة عوض الله وبدل الله، فهو قول الأستاذ أبي علي الذي قدمناه من أن قولك: لو كان معنا أحد إلا زيد لغلبنا، أي: مكان زيد. وقال الأستاذ أبو الحسن بن عصفور: زعم المبرد في المسائل التي ردها على س أن قوله تعالى {إلاَّ اللَّهَ} ينبغي أن يجعل (إل الله) بدلًا من (آلهة)؛ لأن ما بعد لو غير موجب في المعنى، والبدل / [4: 62/ أ] في الكلام غير الموجب أحسن من الوصف. واستدل على أن ما بعد لو غير موجب من جهة المعنى بأنك إذا قلت لو قام زيد قام عمرو كان قيام زيد غير واقع؛ كما أن القيام من زيد غير واقع إذا قلت: ما قام زيد. ومما لا يستدل لهذا المعنى أن يقال: الدليل على أن ما بعد لو غير موجب استعمال أحد بعدها، وهي من الأسماء التي تختص بالنفي، قال الشاعر:

لو كنت من أحٍد يهجى هجوتكم يا بن الرقاع، ولكن لست من أحد فاستعمل أحدًا بعد لو. ولا حجة له في شيء من ذلك؛ لأن أحدًا في البيت بمعنى ناس، حكي الكسائي أن العرب تقول: ما أنت من الأحد، أي: ما أنت من الناس، وأنشد: وليس يطلبني في أمر غانيةٍ إلا كعمرٍو، وما عمرو من الأحد وتعريفها بالألف واللام يدل على أنها ليست المختصة بالنفي؛ لأن تلك لا يجوز تعريفها. ومما يبين لك ذلك أن أخوات "أحد" التي لا خلاف في اختصاصها بالنفي كعريب وطوري لا يحفظ من كلامهم استعمالها بعد لو. وما ذكره من أن الفعل بعد لو غير واقع كما أنه بعد أداة النفي كذلك فصحيح، إلا انه - وإن كان غير واقع- فهو مقدر الوقوع، ومفروض الوقوع، وإذا كان كذلك فينبغي أن تكون الأحكام تابعة للفرض والتقدير، كما أن "إلا" إذا كان الفعل واقعًا لم يتبع ما بعدها لما قبلها على البدلية أيضًا. ومما يبين لك أن إلا وما بعدها وصف لا بدل أنه لم يسمع من كلامهم: لو قام إلا زيد قام عمرو، ولو كان بدلًا لما منع من ذلك مانع، فلما لم يسمع ذلك من كلامهم دل على أن إلا وما بعدها وصف؛ لأنها إذا كانت وصفًا لم يجز حذف الموصوف الذي جرت عليه.

وقال صاحب كتاب "المشرق": "لو كان عندنا رجل إلا زيد لغلبنا، إلا صفة، ولا يجوز أن يكون ما بعد إلا بدلًا مما قبل؛ لأنه لا يصلح أن يقال: لو كان عندنا إلا زيد لغلبنا، هذا مذهب س. وقال غير س: ذلك جائز. والدليل على جوازه دخول أحد في هذا الموضع، لو قيل لو كان عندنا أحد غير زيد لغلبنا لساغ، كما يسوغ قولنا: ما قام أحد غير زيد، فكما تقول ما قام إلا زيد كذلك تقول لو كان عندنا إلا زيد، ولو لم يصح الاستثناء لما صح أن تكون صفة؛ لأن إلا لا تكون صفة إلا في الموضع الذي يصلح أن تكون فيه استثناء. ومما يقوي صحة الاستثناء أن القائل إذا قال لو كان معنا رجل إلا زيد لغلبنا فإنه لو أسقط من كلامه إلا زيد وقعت الغلبة مع كون زيد معهم، فدل ذلك على أن زيدًا وغيره داخل في عموم رجل، فإذا أراد المتكلم أن يخرج زيدًا من هذا العموم، ويعلم أن زيدًا كان معهم، وأن كونه معهم هو الموجب لئلا يغلبوا - قال: إلا زيدًا، فكم زيد غير حكم غيره من الرجال؛ لأن غيره من الرجال / [4: 62/ ب] لو كان معهم لغلبوا، وكون زيد معهم هو الموجب لئلا يغلبوا، فهو إذًا بمنزلة: ما كان معنا رجل إلا زيد، في أن زيدًا لو سكت عنه لكان داخلًا تحت النفي، وباستثنائه خرج من النفي، وليس بمنزلة: معنا رجل إلا زيد، لو قيل؛ لأن رجلًا هو واقع على واحد بعينه، لو اقتصر عليه لاحتمل أن يكون زيدًا وغيره" انتهى. وما ذكره غير س ليس بصحيح: أما جواز دخول أحد الذي يختص بالنفي العام في هذا الموضع فليس بجائز، لا يحفظ من كلامهم: لو جاء أحد لكان كذا، وكذلك لا يحفظ من كلامهم ما بناه على الجواز من أنك تقول: لو كان عندنا إلا زيد، من التفريغ للفعل بعد لو.

وأما قوله "ولو لم يصح الاستثناء" إلا آخره فنحن نتكلم على ذلك، وهل من شرط الوصف بـ "إلا" أن تصلح للاستثناء، حيث تعرض له المصنف، إن شاء الله. وأما قوله "ومما يقوي صحة الاستثناء" إلى آخره فهو مبني على جواز إسقاط رجل وتفريغ الفعل بعد لو لما دخلت عليه إلا؛ وقد ذكرنا أن ذلك لا يحفظ من كلامهم. وأما التفرقة بين ذكر "إلا زيد" وعدم ذكره فذلك مستفاد من الصفة كما يستفاد من الاستثناء، و "رجل" الواقع في: لو كان معنا رجل إلا زيد لغلبنا، ليس موضوعًا في هذا التركيب للعموم الاستغراقي، إنما هو موضوع لعموم البدل، فالمعنى إذا وصفته بقولك "إلا زيد" أن زيدًا معهم هو من حيث مفهوم الصفة، فيكون وقوع الغلبة على تقدير وجود رجل ليس زيدًا معهم، ومفهومه أنه إذا كان ذلك الرجل زيدًا لم يغلبوا. أما لو حذفت "إلا زيد" فقلت: لو كان معنا رجل لغلبنا - فمن حيث عموم البدلية صلح أن يدخل تحته زيد، كما صلح أن يدخل تحته غير زيد، فتكون الغلبة تقع على تقدير وجود رجل أي رجل كان على سبيل البدل، و"زيد" صالح لإطلاق رجل عليه، فكانت الغلبة تقع على ذلك التقدير. وقوله ولا تكون "إلا" كذلك دون متبوع يعني أن موصوفها لا يحذف وتقام هي وما بعدها مقامه، وهذا حكم خالف فيه الوصف بـ "إلا" الوصف بـ "غير"، فلا يجوز أن تقول في قام القوم إلا زيد: قام إلا زيد، وتحذف الموصوف لدلالة المعنى عليه، وتسند الفعل لقولك: إلا زيد، ويجوز ذلك في غير، فتقول في قام القوم غير زيد: قام غير زيد. وعلة ذلك أن الوصف بها ليس بمتأصل، فلم يكونوا

ليحذفوا الموصوف بها ويقيموها مقامه، وقد نص س على منع ذلك، وشبه إلا هذه التي يوصف بها بأجمعين، في أنها لا تكون إلا تابعة، ولا ينكر أن تكون صفة لا يجوز أن تقام مقام موصوفها؛ ألا ترى أن الجمل والظروف والمجرورات إذا وقعت صفات لا تقام مقام موصوفها. والوصف بـ "إلا" يجوز فيما يجوز فيه البدل وفيما لا يجوز فيه. وزعم أبو العباس أن الوصف بـ "إلا" لم يجيء إلا فيما يجوز فيه البدل، ولذلك منع: قام إلا زيد، بحذف الموصوف وجعل إلا صفة؛ لأنه لا يجوز فيه البدل. وما / [4: 63/ أ] ذهب إليه خلف؛ لأنه قد جاء الوصف بـ "إلا" حيث لا يجوز البدل، نحو قوله: وكل أخ مفارقه أخوه - لعمر أبيك- إلا الفرقدان فـ "إلا الفرقدان" صفة، ولا يمكن فيه البدل. ورد عليه الزجاج بقوله: ................... قليل بها الأصوات إلا بغامها وقيل: وللمبرد أن يقول: يجوز هنا؛ لأن قليلًا قد تستعمل في النفي. وقوله ولا حيث لا يصلح الاستثناء هذا أيضًا من الفرق بين الوصف بـ "إلا" والوصف بـ "غير"، فيجوز أن تقول: عندي درهم إلا دانق، فتكون وصفًا؛ لأنك لو قلت إلا دانقًا لصح، ولا يجوز أن تقول: عندي درهم إلا جيد؛ لأنك لو قلت عندي درهم إلا جيدًا لم يجز. ويجوز ذلك في غير، فتصف بها ما يمكن من الاستثناء فيه وما لا يمكن، فتقول: عندي درهم غير دانق، وعندي درهم غير جيد.

وهذا الفرق الذي بين الوصف بـ "إلا" وبين الوصف بـ "غير" كالمجمع عليه من النحويين. وفي كلام س ما يقضي ظاهره بخلاف ذلك، وذلك قوله: لو كان معنا رجل إلا زيد لغلبنا، فـ "إلا زيد" عند س وصف لرجل، ولا يجوز أن يستثنى منه فتقول: إلا زيدًا، وقد منع س الاستثناء المفرغ فيه، وكذلك الاستثناء غير المفرغ. وسبب ذلك أن رجلًا في قولك لو كان معنا رجل ليس عامًا استغراقيًا، وإنما هو مطلق، فعمومه عموم بدل، فلا يصح الاستثناء منه. وكذلك قوله تعالى {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إلاَّ اللَّهُ}، لا يصح النصب فيه على الاستثناء؛ لأن (آلهة) ليس بعام عموم الاستغراق، فيندرج فيه ما بعد إلا، بل هو عام عموم البدل. وقد تكلم أهل أصول الفقه في الاستثناء أهو مما لو لم يستثن لوجب أن يدخل في حكم الأول، أو هو مما لو لم يستثن لجاز أن يدخل في حكم الأول، والأصح عندهم القول الأول. وأما النحويين فكالمجمعين على أن المستثنى المتصل لا بد أن يكون يندرج تحت المستثنى منه لو لم يستثن. وإذا تقرر هذا فما بعد إلا في تمثيل س وفي الآية ليس مما وجب اندراجه في رجل ولا في آلهة؛ فقولهم "إن الوصف بإلا شرطه صحة الاستثناء" لا يصح. وقد انفصل بعض أصحابنا عن ذلك بأنه لا يعني بصحة الاستثناء الاستثناء المتصل بل الاستثناء مطلقًا، سواء أكان متصلًا أم منفصلًا، قال: فإن قال قائل: الدليل على أن إلا مع ما بعدها ليس وصفًا في الآية أنه لا يجوز النصب على الاستثناء لما تقدم من أن الوصف لا يجوز إلا حيث يجوز

الاستثناء؛ وإنما امتنع النصب على الاستثناء لأن معنى الآية يكون إذ ذاك: لو كان فيهما آلهة ولم يكن الله في تلك الآلهة لفسدتا، وهذا المعنى غير مستقيم؛ لأنه يلزم عنه أنه لو كان فيهما آلهة فيها الله لم تفسدا، وذلك باطل. فالجواب أن تقول: إن الاستثناء إنما يمتنع في الآية إذا قدر متصلًا، وأما إذا قدر منقطعًا فمعنى الاستثناء / [4: 63/ ب] صحيح؛ لأن المعنى إذ ذاك يكون: لو كان فيهما آلهة لفسدتا، لكن فيهما الله، وهو واحد، فلم تفسدا، فلما ساغ الاستثناء المنفصل ساغ الوصف؛ لأن الوصف إنما يكون حيث يتصور الاستثناء على وجه من الوجوه، والاستثناء المنفصل في الآية سائغ، فالوصف أيضًا سائغ، ولذلك قال الجرمي والمبرد في قوله تعالى {فَلَوْلا كَانَ مِنَ القُرُونِ مِن قَبْلِكُمْ أُوْلُوا بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الفَسَادِ فِي الأَرْضِ إلاَّ قَلِيلاً مِّمَّنْ أَنجَيْنَا مِنْهُمْ}: لو رفع القليل على الصفة للمرفوع قبله لكان حسنًا لو قرئ به. فأجازا الوصف بـ "إلا" وما بعدها مع أن الاستثناء بها في الآية لا يكون إلا منقطعًا. ومما يدل على أن الوصف بـ "إلا" حيث لا يكون الاستثناء إلا منقطعًا سائغ قول أبي زبيد: لدم ضائع، تغيب عنه أقربوه إلا الصبا والجبوب فـ "أقربوه" موصوف بـ "إلا الصبا والجنوب"، والصبا والمعطوف عليه ليس من جنسه، قال أبو الحسن الأخفش: "والقصيدة التي منها هذا البيت مرفوعة" انتهى. وكما تؤول الآية يمكن أن يؤول المثال الذي ذكره س، وهو: لو كان معنا رجل إلا زيد لغلبنا، أي: لكن معنا زيد فلا نغلب.

وتقول: جاءني رجل غير زيد، ورجلان غير زيد، ورجال غير زيد، ولا تدخل إلا مكان غير. وما جاءني إخوتك إلا زيد أصلح منهم، وجاءني رجل غير صالح، لا تدخل إلا لأنه لا يصلح فيه الاستثناء. وما رأيت أحدًا إلا زيد خير منه، ولا أقوم إلا أن تقوم، لا تكون فيهما غير. وعندي أصحابك غير جلوس، لا يجوز: إلا جلوسًا، جعلوا الحال هنا كالصفة، و {غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ} من هذا عند بعض المتأخرين، أي: لا يستوي القاعدون أصحاء. ويدل على ذلك ذكر س الآية في (باب ما تكون فيه إلا وما بعدها صفة)، وذكره فيما لا يكون إلا صفة من الأمثلة، ثم فصل ما يجوز فيه الوجهان، ورجع لباقي الباب. وقوله ولا يليها نعت ما قبلها، وما أوهم ذلك فحال أو صفة بدل محذوف قال أبو الحسن في (كتاب المسائل): "لا يفصل بين الموصوف والصفة بإلا". ثم قال: "ونحو ما جاءني رجل غلا راكب تقديره: إلا رجل راكب، وفيه قبح لجعلك الصفة كالاسم". وقال أبو علي في (التذكرة): "تقول: ما مررت بأحد إلا قائما إلا أخاك، لا يجوز كون قائمًا صفة لأحد؛ لأن إلا لا تعترض بين الصفة والموصوف. ولا كونه حالًا من التاء؛ لأن معنى ما مررت إلا قائمًا: مررت قائمًا، ولو قلت مررت قائمًا بأحد لم يجز، فكذلك ما في معناه، فإذا بطل هذان ثبت أن قائمًا حال من أحد، وإذا ثبت ذلك تعين أن تنصب أخاك؛ لأنه بعد إيجاب صحيح".

قال المصنف في الشرح: "وما ذهبا إليه هو الصحيح؛ لأن الموصوف والصفة كشيء واحد، وشيئان هما كشيء واحد لا يختلفان بنفي الحكم عن أحدهما وإثباته للآخر، كالمتوسط بينهما إلا، فإن الصفة توضح موصوفها كما توضح الصلة / [4: 64/ أ] الموصول، وكما يوضح المضاف إليه المضاف، فكما لا تقع إلا بين الموصول والصلة، ولا بين المضاف والمضاف إليه - كذا لا تقع بين الموصوف والصفة، ولأن إلا وما بعدها في حكم جملة مستأنفة، والصفة لا تستأنف، ولا تكون في حكم مستأنف". وقوله خلافًا لبعضهم هو الزمخشري، قال في ما مررت بأحد إلا زيد خير منه: "يكون ما بعد إلا جملة ابتدائية واقعة صفة لأحد"، وزعم في الكشاف في قوله تعالى {ومَا أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ إلاَّ ولَهَا كِتَابٌ مَّعْلُومٌ} أن قوله {ولَهَا كِتَابٌ مَّعْلُومٌ} واقعة صفة لقرية، ووسطت الواو بينهما لتوكيد لصوق الصفة بالموصوف، كما يقال في الحال: جاءني زيد عليه ثوب، وجاءني وعليه ثوب. وفي البسيط: "ما ضربت أحدًا إلا عمرو خير منه، معناه: إلا مفضلًا عليه عمرو، فهي مفرغة للحال. وقال الزمخشري: (إن ما بعد إلا صفة لما قبله - وهو أحد- و (إلا) لغو في الكلام، معطية في المعنى فائدتها، جاعلة عمرًا خيرًا ممن ضربت). وإذا جاز أن تدخل على الجملة التي هي صفة على هذا صح أن تدخل على الصفة المفردة، فتقول: ما مررت برجل إلا صالح، فتكون إلا إيجابًا في العمد وفي

الفضلات وفي التمامات، ولا تدخل في البدل الذي هو عين الأول، ولا في عطف البيان، ولا في كل تابع هو الأول؛ لأن الشيء لا يكون منفيًا موجبًا. قال: وإنما كانت هذه في موضع الصفة لأنها لو كانت حالًا لدخلت الواو. وأجيب بأن إلا أغنت عن الواو لأجل الاتصال، ولأنه فيها ضمير الأول، وأنت تقول: مررت بزيد أبوه قائم" انتهى. وتابعه صاحب البديع وابن هشام. وقد رد عليه المصنف في قياسه في ذلك الصفة على الحال - وبينهما فروق- بجواز تقديمها على صاحبها، وتخالفها في الإعراب، وبالتنكير والتعريف، وإغناء الواو عن الضمير، وبأنه مذهب لم يعرف لبصري ولا كوفي، فلا يلتفت إليه، وبأنه معلل بما لا يناسب؛ لأن الواو تدل على الجمع بين ما قبلها وما بعدها، وذلك مستلزم لتغايرهما، وهو ضد لما يراد من التوكيد. ولأن الواو فصلت الأول من الثاني، ولولا هي لتلاصقا، فكيف يقال: إنها أكدت لصوقها. ولأن الواو لو صلحت لتوكيد لصوق الموصوف بالصفة لكان أولى المواضع بها موضع لا يصلح للحال، نحو: إن رجلا رأيه سديد لسعيد، فـ (رأيه سديد) جملة نعت بها، ولا يجوز اقترانها بالواو لعدم صلاحية موضعها للحال، بخلاف {ولَهَا كِتَابٌ مَّعْلُومٌ}، فإنها جملة تصلح في موضعها الحال؛ لأنها بعد منفي، والمنفي صالح لأن

يجعل صاحب حال، كما هو صالح لأن يجعل مبتدأ، وإذا ساغ في شبه النفي في قوله: لا يركنن أحد إلى الإحجام يوم الوغى متخوفًا لحمام فليجز بعد النفي، وهو أولى؛ لأن النهي لا يصحب المبتدأ، والنفي يصحبه. انتهى رده / [4: 64/ ب] على الزمخشري، وفيه تلخيص وبعض حذف. وقوله ويليها في النفي فعل مضارع بلا شرط يعني أنه لا يشترط في مجيء المضارع بعد "إلا" إلا وجود النفي، سواء تقدمه فعل أم اسم، نحو: ما كان زيد إلا يضرب عمرًا، وما خرج زيد إلا يجر ثوبه، وما زيد إلا يفعل كذا. وقوله وماض مسبوق بفعل، أو مقرون بـ "قد" مثال الماضي المسبوق بفعل قوله تعالى {ومَا يَاتِيهِم مِّن رَّسُولٍ إلاَّ كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ}. ومثال المقرون بفعل مصحوب بـ "قد" قوله: ما المجد إلا قد تبين أنه بندى وحكم لا يزال مؤثلا قال المصنف في الشرح: "وإنما أغنى اقتران الماضي بقد عن تقدم فعل لأن اقترانه بها يقربه من الحال، فيكون بذلك شبيها بالمضارع. وإنما كان المضارع مستغنيا عن شرط في وقوعه بعد إلا لشبهه بالاسم، والاسم بـ (إلا) أولى؛ لأن المستثني لا يكون إلا اسمًا أو مؤولا بالاسم. وإنما ساغ بتقديم الفعل وقوع الماضي

بعد إلا لأن تقدم الفعل مقرونا بالنفي يجعل الكلام بمعنى: كلما كان كذا وكذا كان كذا وكذا، فكان فيه فعلان، كما كان مع كلما" انتهى. وقال أبو بكر بن طاهر: لا يجوز: ما زيد إلا قام، فإن قلت إلا يقوم صح، ولم يقل من تقدم من النحاة أكثر من هذا. وأجاز المبرد: ما زيد إلا قد قام، قال: لأن قد تقربه من المضارع ومن الأسماء؛ ألا تراه يصلح للحال بها، ولا يصلح دونها. وقال شيخنا الأستاذ أبو الحسن الأبذي: "لا تدخل (إلا) إلا على الاسم، أو على الجملة الاسمية، أو على الفعل المضارع، فتقول: ما قام إلا زيد، وما زيد إلا أبوه قائم، وما زيد إلا يقوم. ولو قلت: ما زيد إلا قام، لم يجز، وسبب ذلك أن إلا إنما هي أبدا للاستثناء في اللفظ أو في المعنى، فلما كان الذي يتصور استثناؤه إنما هو الاسم لم تدخل (إلا) إلا عليه، أو على ما أشبهه، وهو المضارع؛ لأنه يشبهه، ولذلك أعرب. وكذلك الجملة الاسمية؛ لأن إلا إذا دخلت عليها كانت في اللفظ مباشرة للاسم، فأشبه دخولها على الجملة الاسمية دخولها على الاسم، ولما كان الماضي ليس باسم ولا يشبهه لم يجز دخولها عليه" انتهى، وفيه بعض اختصار. وولاية الفعل المضارع إلا والماضي بشرطه من الفوارق بين إلا وغير، فلا يلي غيرا فعل، وكذلك لا يليها جملة ابتدائية، وتلي إل، فتقول: ما رأيت أحدًا إلا زيد خير منه، ولا تقول: غير زيد خير منه، برفع زيد؛ لأن غيرًا لا تضاف إلى الجمل، فلو خفضت زيدًا بعد غير، ورفعت غيرًا بالابتداء، وخير خبر عنه - جاز

ذلك، واختلف مدلول إلا وغير؛ لأنه في مسألة إلا أن: كل من رأيته زيد خير منه، وفي مسألة غير المعنى: ما رأيت أحدًا متصفًا بأن غير زيد خير منه، ولم تقصد تفضيل زيد على أحد، وإنما نفيت أن يكون غير زيد خيرًا منه، وهذا معنى يخالف المعنى / [4: 65/ أ] الأول. وإن قلت: قد منع النحويون: ما زيد إلا قام، إلا بدخول قد على قام، فتقول: ما زيد إلا قد قام، وشرطوا في مجيء الماضي بعد إلا أن يتقدم إلا فعل منفي، نحو {ومَا يَاتِيهِم مِّن رَّسُولٍ إلاَّ كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ}، أو يكون النفي سابقًا على اسم دون فعل، ويكون ذلك الماضي مقرونًا بقد، نحو: ما زيد إلا قد قام. وإذا كان كذلك فما تصنع بقول الشاعر: وكلهم حاشاك إلا وجدته كعين الكذوب جريها واحتفالها قلت: قد زعموا أن كلهم في تأويل الجحد، والمعنى: ما منهم أحد حاشاك إلا وجدته، فهو نظير: أنشدك بالله إلا فعلت. وفي البديع: "لو قلت: ما زيد إلا قام - لم يجز، فإن أدخلت قد أجازها قوم". وقوله ومعنى أنشدك إلا فعلت: ما أسألك إلا فعلت: ما أسألك إلا فعلك أنشدك صورته صورة واجب، فكان القياس ألا تجيء بعده إلا، فكما لا يجوز ضربت إلا زيدًا كان ينبغي ألا يجوز: أنشدك إلا فعلك، لكنه كلام محمول على معنى النفي، كما جاء "شر

أهر ذا ناب" صورته صورة المثبت، والمعنى على لنفي المحصور فيه نسبة الحكم إلى المبتدأ، وقدر فعلت هنا بالمصدر وإن لم يكن فيه حرف مصدري لضرورة افتقار المعنى إلى ذلك، فهو كلام يعنون به النفي المحصور فيه المفعول، وقد صرح بـ (ما) المصدرية مع الفعل بعد إلا، قال الشاعر: عمرتك الله إلا ما ذكرت لنا هل كنت جارتنا أيام ذي سلم وقال بعض أصحابنا: "قولهم (بالله غلا فعلت) جاؤوا بإلا جوابًا للقسم؛ لأنها في الكلام على معنى الحصر، فدخلت هنا لذلك المعنى، وكأنك قلت: بالله لا تفعل شيئًا إلا كذا، فحذف الجواب، وترك ما يدل عليه؛ لأن الإيجاب لا بد أن يتقدمه نفي: وعمرتك بمعنى ذكرتك وسألتك به، وهو مثبت معناه النفي، أي: ما سألتك بالله إلا ذكرك لنا". وفي البسيط: "الصحيح أن إلا جواب القسم، والأصل: نشدتك الله لتفعلن كذا، ثم أوقعوا موضع المضارع الماضي، كما قالوا: غفر الله لفلان، ولم يدخلوا لام التوكيد لأنها لا تدخل على الماضي، فجعلوا بدلها إلا، ثم حملوا عليها لما. أو يقال: إنه لما امتنع دخول اللام بنفسها فصلوا بينهما بـ (ما)، فقالوا: لما فعلت، كما يقولون: ربما يكون كذا، فصارت موطئةً، ثم حملت عليه إلا لأنها في معناها من الإيجاب". وقال في البديع: "قد أوقعوا الفعل موقع الاسم المستثنى في قولهم: أقسمت عليك إلا فعلت، ونشدتك بالله إلا جئت، وعزمت عليك إلا أجبتني، ومنه قول

ابن عباس للأنصار - وقد نهضوا له- (بالإيواء والنصر إلا جلستم)، التقدير: ما أطلب إلا فعلك، ولا أريد إلا جلوسكم". -[ص: ولا يعمل ما بعد "إلا" فيما قبلها مطلقًا، ولا ما قبلها فيما بعدها إلا أن يكون مستثنًى، أو مستثنًى منه، أو تابعًا له، وما ظن من غير الثلاثة معمولًا لما قبلها قدر له عامل، خلافًا للكسائي / [4: 65/ ب] في منصوب ومخفوض، وله ولابن الأنباري في مرفوع.]- ش: قال المصنف في الشرح: "الاستثناء في حكم جملة مستأنفة؛ لأنك إذا قلت: جاء القوم إلا زيدًا، فكأنك قلت: جاء القوم ما منهم زيد، فمقتضى هذا ألا يعمل ما بعد (إلا) فيما قبلها، ولا ما قبلها فيما بعدها على الإطلاق، كما لا يعمل ما بعد (ما) فيما قبلها، ولا ما قبلها فيما بعدها، فاستمر على ما اقتضته هذه المناسبة من هذا المنع فيما تقدمها، نحو: ما زيد إلا أنا ضارب، فلا يجوز إعمال ضارب في زيد، بل تقدر هاء عائدة على زيد، وترفع زيدًا بالابتداء" انتهى. وقال الرماني: "لا يعمل ما بعد (إلا) فيما قبلها، كقولك: ما قومك زيدًا إلا ضاربون؛ لأن تقدم الاسم الواقع بعد (إلا) عليها غير جائز، فكذلك معمولة؛ لما تقرر أن المعمول لا يقع إلا حيث يقع العامل غذ كان تابعًا له وفرعًا عليه، فإن جاء ذلك في الشعر أضمر له فعل من جنس المذكور".

وقوله ولا ما قبلها فيما بعدها إلا أن يكون مستثنى يعني: مستثنى فرغ له العامل، نحو: ما قام إلا زيد. وإنما شرط في المستثنى كون العامل فرغ له لأنه إن لم يكن مفرغًا له فنصبه إنما هو بـ (إلا) على مذهبه. وقوله أو مستثنًى منه نحو: ما قام إلا زيد أحد، أو تابعًا له نحو: ما مررت بأحد إلا زيد خير من عمرو. وقوله وما ظن من غير الثلاثة هي المستثنى والمستثنى منه وتابعه معمولًا لما قبلها قدر له عامل فإذا وجد مثل: ما ضرب إلا زيد عمرًا، وما ضرب إلا زيدًا عمرو، وما مر إلا زيد بعمرو - قدر له عامل بعد إلا، يفسره ما قبله. وقوله خلافًا للكسائي في منصوب ومخفوض مثال تأخر المنصوب قوله: وما كف إلا ماجد ضير بائس أمانيه منه أتيحت بلا من ومثال تأخر المخفوض قوله تعالى {ومَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إلاَّ رِجَالاً نُّوحِي إلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إن كُنتُمْ لا تَعْلَمُونَ (43) بِالْبَيِّنَاتِ والزُّبُرِ}، التقدير: كف ضير بائس، وأرسلناهم بالبينات والزبر. وقوله وله ولابن الأنباري في مرفوع أي: وخلافًا للكسائي وابن الأنباري، ومثال تأخر المرفوع قوله: تزودت من ليلى بتكليم ساعة فما زادني إلا غرامًا كلامها وقول الآخر: وهل ينبت الخطي إلا وشيجه وتغرس إلا في منابتها النخل

وقول الآخر: مشائيم، ليسوا مصلحين عشيرةً ولا ناعبًا إلا ببين غرابها وهذه المسألة والخلاف فيها عن الكسائي في المنصوب والمجرور، وعنه وعن ابن الانباري] في المرفوع [- تكرر ذكرها للمصنف هنا، وقد سبق له ذكرها في آخر الفصل الثاني من فصلي باب / [4: 66/ أ] النائب عن الفاعل، وأمعنا الكلام عليها هناك، واخترنا هناك مذهب الكسائي. وذكر هنا المصنف في الشرح عن ابن الأنباري فرقًا بين المرفوع وغيره، وقد أشرنا غليه مختصرًا في آخر ذلك الفصل. قال ابن الأنباري: "الدليل يقتضي ألا يتأخر مرفوع ولا غيره؛ لأن مسائل الاستثناء المفرغ فيها العامل لما بعد إلا حقيقة بأن تختم بالمستثنى. فإن كان الواقع بعده مرفوعًا نوى تقديمه واتصاله برافعه لأنه كجزء منه، وتأخره لفظًا لا يمنع أن ينوى تقديمه، فإنه الأصل، ويلزم من ذلك تقدير المستثنى مختومًا به. وإن كان الواقع بعد المستثنى غير مرفوع لم يجز أن ينوى تقديمه؛ لأنه متأخر بالأصالة، وقد وقع في موضعه، فيلزم من تجويزه منع كون المستثنى المفرغ له العامل غير مختوم به لفظًا ولا تقديرًا" انتهى. وقد وافق الأخفش الكسائي في الظرف، والجار والمجرور، والحال، فأجاز: ما جلس إلا زيد عندك، وما مر إلا عمرو بك، وما جاء إلا زيد راكبًا، والقياس على قوله:

وما كف إلا ماجد ضير بائس ................. لا يمنع، بل هذا أولى، لأنه تسامح في الظرف والمجرور بالتقديم والتأخير والفصل ما لا يتسامح بغيره.

-[ص: فصل يُستثنى بـ"حاشا" و"خلا" و"عدا"، فيجررن المستثنى أحرفًا، وينصبه أفعالًا، ويتعين الثاني لـ"خلا" و "عدا" بعد "ما" عند غير الجرمي. والتزم سيبويه فعلية "عدا" وحرفية "حاشا"، وإن وليها مجرور باللام لم تتعين فعليتها، خلافًا للمبرد بل أسميتها لجواز تنوينها. وكثر فيها حاش، وقل حشا وحاش، وربما قيل: ما حاشا، وليس أُحاشي مضارع حاشا المستثنى بها، خلافًا للمبرد، والنصب في "ما النساء وذكرهن" بـ"عدا" مضمرة، خلافًا لمن أول "ما" بـ"إلا".]- ش: ذكر المصنف من أدوات الاستثناء حاشا وخلا وعدا، وأنه إذا انجر ما بعدهن كن حروفًا، وإذا انتصب كن أفعالًا. وإنما دل على تباين الماهية فيها بالعمل لأن الجر من عمل الحروف، والنصب من عمل الأفعال، ولا يمكن إذا انجر ما بعدهن أن يُدعى فيهن أنهن أسماء؛ لأن عمل الجر بالأصالة إنما هو للحروف، فلذلك أدعي فيها أنها حروف. ولو زعم زاعم أنها أسماء، وما بعدها انجر بالإضافة، واستثني بها كما استثني بغير وسوى، وشاركت الأفعال في الوزن - لم يكن ذلك ببعيد. وأما إذا انتصب ما بعدها فهي أفعال، وهي لا تتصرف حالة كونها استثناء، فلا يُستعمل منها مضارع ولا أمر. ولو زعم زاعم أنها حروف، نصبت ما بعدها حملًا على إلا؛ لأنهما متوافقان معنى - لم يبعد. ولا تكون حجة في اتصال نون الوقاية بها على فعليتها؛ لأن نون الوقاية قد تتصل بالحروف، نحو إنني وليتني. ولكنا نتكلم على ما قرره النحاة من كونها إذا أنجز ما بعدها حروفًا، وإذا / [4: 66/ ب] انتصب كن أفعالًا، وقد نظموا دليلًا على ذلك، فقالوا: يتعين أن يكن إذا انجر ما

بعدهن حروفًا لأنها لو كانت أسماء - وليست بظروف - لجاز أن يباشرن العوامل كما باشرتها غير، ولو كانت أفعالًا لم يباشرن الجر بغير واسطة حرف جر. ويتعين أن يكن إذا انتصب ما بعدهن أفعالًا لانتفاء الاسمية بما سبق، ولنصب ما بعدهن، ولسن من قبيل الأسماء العاملة، ولانتفاء الحرفية لاستلزام ثبوتها أن يلين العوامل، فكما تقول ما قام إلا زيدٌ كنت تقول: ما قام القوم خلا زيدٌ، بالرفع، ولم يقولوا ذلك. وإذا بطلت الاسمية والفعلية إذا انجر ما بعدهن تعينت الحرفية، وإذا بطلت الاسمية والحرفية إذا انتصب ما بعدهن تعينت الفعلية. وفي البسيط: مذهب س - وهو الأكثر - أنهما - يعني خلا وعدا - فعلان ضُمنا معنى الاستثناء، أما خلا فالأصل فيه ألا يتعدى، تقول: خلا المكان: بمعنى تفرغ، ويدخله معنى فارق وجاوز وانفصل، فتقول: خلوت من المكان، وخلوت المكان، بمعنى: فارقته وجاوزته، قالوا: خلاك ذم، أي: جاوزك، فلما لحقه معنى المفارقة والانفصال صار فيه معنى الخروج عن الشيء، فضمنوه ذلك، وأدخلوه في الاستثناء، فإذا قلت قام القوم خلا زيدًا فمعناه: خلا بعضهم زيدًان أي: جاوز بعضهم زيدًا، والبعض هنا خلاف زيد من القوم، كأنك قلت: جاوز أكثرهم زيدًا، بخلاف البعض المقدر في ليس ولا يكون؛ لأنه هو زيد في المعنى، فيكون في هذا بمنزلة ليس ولا يكون، بمعنى أنه محذوف الفاعل، وهو غير الأول، فلذلك لم يظهر، وهو بعيد لأن فيه حذف الفاعل، ولا يجوز. وقد يقال: إن خلا خرجت عن أصلها إلى معنى إلا، فصارت بمنزلتها سواء، فلا تحتاج إلى فاعل أصلًا. وأما عدا فالأصل فيه عدا من العدو، وهو ضرب من المشي السريع، وهو مما تلزمه المفارقة، فضمن ذلك، فصار على معنى: عدا زيدٌ عمرًا، فإن قلنا قام القوم عدا زيدًا كان المعنى: عدا بعضهم زيدًا، أي: جاوز.

والجملتان حكمهما ما تقدم في كونهما في موضع إعراب أم لا، لكن هل يجوز أن تكونا صفة؟ فيه نظر، ونص على منعه بعض النحويين؛ لأنهما لا يبقى فيهما معنى غير، أعني من احتمال الاستثناء. ومن الجر بـ"حاشا" قول الشاعر: من رامها حاشا النبي ورهطه في البحر غطمطه هناك المزبد وقول الآخر: في فتيةٍ جعلوا الصليب إلههم حاشاي إني مسلم معذور وقول الآخر: .................... وما لك حاشا بيت مكة من عدل [4: 67/ أ] / وقول الآخر: حاشا أبي ثوبان، إن أبا ثوبان ليس ببكمةٍ فدم عمرو بن عبد الله، إن به ضنًا عن الملحاة والشتم وأكثر النحاة يُركب صدر البيت الأول على عجز الثاني، فينشدونه كذا:

حاشا أبي ثوبان، إن به ضنا عن الملحاة والشتم وعلى الصواب أنشدهما ابن عصفور، والمصنف في الشرح، وهما للجميع الأسدي، وقبلهما: وبنو رواحة ينظرون إذا نظر الندي بأنفٍ خثم ثم استثنى، فقال: حاشا أبي ثوبان. وقال المرزوقي: روه الضبي: حاشا أبا ثوبان، بالنصب. ومن الجر بـ"خلا" قول الشاعر: خلا الله لا أرجو سواك، وإنما أعد عيالي شعبة من عيالكا ومن الجر بـ "عدا" قول الشاعر: تركنا في الحضيض بناتٍ عوجٍ عواكف، قد حضعن إلى النسور أبحنا حيهم قتلًا وأسرًا عدا الشمطاء والطفل الصغير ومن النصب بـ"حاشا" قول الشاعر:

حاشا قريشًا، فإن الله فضلها على البرية بالإسلام والدين وحكي أبو زيد الأنصاري، قال: كنا في جماعة، وفينا رجل يقال له أبو الأصبغ. والدعاء الذي دعا به الأعرابي روي أنه قوله: اللهم اغفر لي ولمن سمعني حاشا الشيطان وأبا الأصبغ. وروى هذا أيضًا أبو عمرو الشيباني، وغيره. وفي البسيط: مذهب س وأكثر البصريين أن حاشا حرف خافض دالٌ على الاستثناء كإلا. وزعم بعض الكوفيين والمبرد والفراء أنها فعل ناصبة للاسم بعدها بمنزلة: عدا زيدًا، وخلا عمرًا. واستدلوا بالتصريف حاشى يُحاشي، وبدخول حرف الجر، وبالحذف، قالوا حاش، وبحكاية الشيباني. ورد جميع ذلك، وأن ما حكاه الشيباني شاذ. وجوز المبرد في الاستثناء الوجهين. وقال بعض الكوفيين: هي فعل استعملت استعمال الحروف، فحذف فاعلها. والذي يظهر لي أن س لا يُنكر أن يُنطق بها فعلًا لغير الاستثناء، ففي الاستثناء حرف، وفي غيره فعل، تقول: قد فعل زيدٌ كذا، فنقول: حاشى له أن

يفعل كذا، ومعناه: جانبه ذلك الفعل. ويتعدى بنفسه وباللام: حاشاك السوء، وحاشى لك السوء، حكاه الجوهري. ومن النصب بـ"خلا" قول الشاعر: [4: 67/ ب] /وبلدةٍ ليس بها طوري ولا خلا الجن بها إنسي ومن النصب بـ"عدا" قول الراجز: يا من دحا الأرض، ومن طحاها أنزل بهم صاعقة، أراها تحترق الأحشاء من لظاها عدا سليمي، وعدا أباها ويحتمل أن تكون هنا جارة؛ لأن "سُليمي" مقصور، لا يظهر فيه إعراب، و"أباها" يحتمل أن يكون على لغة من استعمله مقصورًا، فقال: قام أباك، ورأيت أباك، ومررت بأباك. وأوضح من هذا في استعمالها ناصبةً قول الشاعر: تُمل الندامى ما عداني، فإنني بكل الذي يهوى نديمي مولع وقوله ويتعين الثاني بـ"خلا" و"عدا" بعد "ما" عند غير الجرمي أي: ويتعين النصب إذا قلت: قام القوم ما خلا زيدًا، وما عدا زيدًا، هذا قول الجمهور إنه يتعين النصب وكونهما فعلين. ومن النصب بعد "ما خلا" قول الشاعر: ألا كل شيءٍ ما خلا الله باطل وكل نعيمٍ لا محالة زائل وقال الفراء: "إذ استثنيت بـ (ما عدا) و (ما خلا) ضمير المتكلم قلت: ما عداني وما خلاني. ومن نصب بحاشا قال: حاشاني، ومن خفض قال: حاشاي".

و"ما" الداخلة عليهما مصدرية، وانتصاب الاسم بعدهما على أنه مفعول، وموضع ما والفعل نصب. واختلفوا في محل انتصابه: فزعم السيرافي أنه بتأويل مصدر منصوب، وأنه لا خلاف في ذلك بين البصريين والكوفيين، قال: "وهو مصدر موضوع موضع الحال، وجاز وقوع ما المصدرية مع صلتها موضع الحال إجراء لها مجرى المصدر الذي هي في تقديره، كما وصف بها في قولك: مررت برجلٍ ما شئت من رجلٍ، إجراء لها مجرى المصدر الموصوف به في نحو قولك: مررت برجلٍ عدلٍ". وزعم ابن خروف أن انتصابه على الاستثناء كانتصاب غير في قولك: جاءني القوم غير زيدٍ؛ ألا ترى أن "ما" وما بعدها بتقدير اسم فيه معنى إلا كما أن غيرًا كذلك. قال بعض أصحابنا: والصحيح ما ذهب إليه السيرافي بدليل أنها لا يُفرغ لها الفعل، لا يقال: ما جاءني ما خلا زيدًا، ولو كانت بمنزلة غير لجاز ذلك فيها كما يجوز في غير، فلما التزمت العرب فيها أن تكون في موضع نصب دل ذلك على أنها موقع الحال، ولما كانت (ما) مصدرية لم يكن بد من أن يكون لهذا المصدر موضع من الإعراب. وقال س: "ما هنا اسم، وعدا وخلا صلة له"، وقدره س: أتوني مُجاوزتهم زيدًا.

وقال شيخنا الأستاذ أبو الحسن بن الضائع: "قول السيرافي أقرب من قول ابن خروف لبقائه على ما استقر فيه قبل الاستثناء، وأقرب عندي من قول السيرافي أن يكون موضع / [4: 68/ أ] ما عدا نصبًا على الظرف، أي: قام القوم في وقت مجاورتهم زيدًا، ودخله معنى الاستثناء، وما المصدرية كثيرًا ما تكون ظرفًا، ولم يثبت فيها النصب على الحال" انتهى. وفي البسيط: ويحتمل أن ينصبا نصب الظرف، والمعنى: وقت خلوهم، كما تقول: أتاني مقدم الحاج، وخفوق النجم. وأجاز الكسائي، والجرمي، وأبو علي في "كتاب الشعر"، والربعي الجر بعد: ما خال، وما عدا، فعلى قولهم تكون ما زائدة، وخلا وعدا حرفا جر. قال بعض أصحابنا: "النصب هو الكثير الشائع، والجرمي يخفض، فإن كان ذلك منه قياسًا فهو فاسد؛ لأنه ليس من مواضع زيادتها، وإن كان حكي ذلك فهو شذوذ" انتهى. والجرمي حكاه عن العرب، ذكر ذلك في باب الجر من كتاب (الفرخ). فإن قلت: هلا جعلت ما زائدة في النصب كما جعلت زائدة مع الخفض؟ فالجواب: أن دخول ما المصدرية على الفعل جائز منقاس، وزيادة ما قبل الفعل لا تنقاس، فكان حملها على ما ينقاس أولى. وقوله والتزم سيبويه فعلية عدا وحرفية حاشا لما كان الجر بـ"عدا" قليلًا لم يعرفه س، وكذلك خلا، لم يعرف الجر بها س، وإنما نقل الجر بهما الأخفش، وقال

الأخفش في الأوسط: "كل العرب يجرون بخلا، وقد زعموا أنه ينصب بها، وذلك لا يعرف" انتهى. فهذا الذي التزمه س من النصب بـ"خلا" قال فيه الأخفش: "إنه لا يعرف". وقال الأخفش في الأوسط أيضًا: "وأما عدا فإنهم ينصبون بها ويجرون، فإذا جروا فهو حرف جاء لمعنى، وُضع للجر بمنزلة من، وإذا نصبوا فهو فعل، كأنك قلت: جاوز بعضهم زيدًا، وكذلك تفسير خلا" انتهى. وأما حاشا فلا يُجيز س في المستثنى بها إلا الخفض؛ لأنه لم يحفظ النصب بعدها، وأجاز النصب الأخفش، والجرمي، والمازني، والمبرد، والزجاج، وحكي ذلك بالنقل الصحيح عمن يوثق بعربيته، حكاه أبو زيد الأنصاري، والفراء، والأخفش، وأبو عمرو الشيباني، وابن خروف. وذهب الكوفيون إلى أن حاشا فعل. وهو فاسد لورود الجر، قال الشاعر: فلا أهل إلا دون أهلك عندنا وما لك حاشا بيت مكة من عدل وإذا كانت عدا وخلا وحاشا حروفًا فجرت ما بعدها فمن النحويين من ذهب إلى أنها تتعلق بالفعل أو معنى الفعل، فموضع الجار والمجرور نصب به. ومنهم من ذهب إلى أن الجار والمجرور في موضع نصب عن تمام الكلام.

وإذا كانت أفعالًا فنصبت فالنصب بـ"عدا" ظاهر؛ لأنها كانت متعدية قبل أن يُستثنى بها، قالت العرب: عدا فلانٌ طوره، أي: جاوزه. وكذلك حاشا، هي فعل متعد، حكي ابن سيده أن حاشيت بمعنى استثنيت، / [4: 68/ ب] وأُحاشي بمعنى أستثني. وزعم بعض أصحابنا أنها مشتقة من الحشي، وهي الناحية؛ لأن المستثنى بها لما خالفه المستثنى منه صار لذلك كأنه في حشي خلاف حشاه، أي: في ناحية خلاف ناحيته. وأما خلا فإنها في غير الاستثناء لا تتعدى البتة، ومعناها مخالف له في الاستثناء، لكنها ضُمنت معنى جاوز؛ لأن من خلا من شيء فقد جاوزه. واختلف النحويون في فاعل هذه الأفعال: فذهب س وأكثر البصريين إلى أنه ضمير مستكن في الفعل، لا يبرز، عائد على البعض المفهوم من الكلام، ولذلك لا يُثنى، ولا يُجمع، ولا يؤنث؛ لأنه عائد على مفرد مذكر، فإذا قلت قام القوم عدا زيدًا فالتقدير: عدا هو، أي: بعضهم زيدًا، فإذا كان البعض واقعًا على من عدا زيدًا من القوم فينبغي ألا يجوز ذلك على مذهب الكسائي وهشام؛ لأنهما زعما أن بعضًا لا يقع إلا على ما دون النصف، والصحيح وقوعه على أزيد مما ذاكره، قال الشاعر: داينت أروى، والديون تقضى فمطلت بعضًا، وأدت بعضا فـ "بعض" في هذا البيت لابد أن يكون واقعًا على النصف أو على أكثر منه، وحكي ابن الأعرابي عن العرب أنها توقع بعضًا على النصف.

وذهب المبرد إلى أن الضمير فيها واقع على "من" المفهوم من معنى الكلام المتقدم، فإذا قلت "قام القوم" علم المخاطب أن ثم من قام، وجعل في نفسه أن زيدًا بعض من قام، فإذا قلت "عدا زيدًا" فالتقدير: عدا هو، أي: عدا من قام زيدًا. وكأن الذي حمله على التقدير الفرار من إيقاع "بعض" على أكثر القوم. وذهب الفراء إلى أن حاشا فعل، ولا فاعل له - ويمكن القول في عدا وخلا بذلك - وأن النصب بعدها إنما هو بالحمل على إلا، والتزم فيه النصب لأنه لم يتمحض للحرفية، والفروع يُقتصر فيها على بعض الأحكام، ولا يُنكر أن يعرى الفعل من الفاعل إذا استعمل استعمال الحروف؛ ألا ترى "قلما" قد استعملت للنفي المحض، فاستغنت عن الفاعل، فتقول "قلما يقوم زيدٌ" إذا أردت معنى: ما يقوم، فلا تحتاج إلى فاعل، وكذلك هذه الأفعال، لما كانت معانيها في الاستثناء بمعنى إلا، ولم يظهر فرق من جهة المعنى بين قولنا: قام القوم إلا زيدًا، وقام القوم عدا زيدًا - أجريت مُجرى إلا في العرو عن الفاعل. وقال المصنف في الشرح: "يُقدر أكثر النحويين فاعل عدا وخلا (بعضهم). وفيه ضعف؛ لأن قولك قاموا عدا زيدًا إن جُعل تقديره جاوز بعضهم زيدًا لم يستقم إلا بأن يراد بالبعض [من] سوى زيد، وهذا - وإن صح إطلاق البعض على كل إلا واحدًا - فلا يحسن لقلته في الاستعمال. فالأجود أن يُجعل الفاعل مصدر ما عمل في المستثنى منه، فيُقدر قاموا عدا زيدًا: جاوز / [4: 69/ ب] قيامهم زيدًان ويُستمر على هذا السنن أبدًا إذا دعت إليه حاجة" انتهى.

وهذا الذي ذهب إليه لا يطرد له، فإن من صور الاستثناء ألا يتقدم فعل ولا ما جرى مجرى الفعل، نحو قولهم: القوم إخوتك ما عدا زيدًا، والقوم قُرشيون ما خلا زيدًا، فهاهنا لا يمكن أن يقدر: جاوز فعلهم زيدًا؛ لأنه لم ينسب إليهم فعل، وإذا كان كذلك بطل هذا التقدير، ورجعنا إلى تقدير ما هو عام في الاستثناء، وهو ضمير بعض يدل عليه سياق الكلام، إذ هو المطرد دون تقدير المصدر. واختلف النحويون هل لجملة عدا زيدًا، وخلا زيدًا، وحاشا زيدًا موضع من الإعراب أم لا: فجوز السيرافي أن تكون في موضع نصب على الحال، والماضي يقع موقع الحال، وكأنك قلت: خالين زيدًا، وعادين زيدًا، ومُحاشين زيدًا، أي: مجاوزًا هو - أي بعضهم - زيدًا. وجوز أيضًا أن تكون الجملة لا موضع لها من الإعراب وإن كانت جملة مفتقرة من جهة المعنى إلى الكلام الذي قبلها - من حيث كان معناها كمعنى إلا، ولا يُنكر ذلك؛ ألا ترى أن قولك "ما رأيته مُذ يومان" الجملة الابتدائية التي هي "مُذ يومان" لا موضع لها من الإعراب، وهي مفتقرة إلى ما قبلها، ولو قطعت "مُذ يومان" من الكلام الذي قبله لم يكن له فائدة. قال الأستاذ أبو الحسن بن عصفور: "والصحيح أنه لا يكون لها موضع من الإعراب؛ لأنك إذا جعلتها حالًا احتاجت إلى رابط يربطها بذي الحال، ولا رابط؛ لأن الضمير في عدا وخلا وحاشا ليس عائدًا على المستثنى منهم، وإنما هو عائد على البعض المفهوم، وهو مضاف إلى القوم، ولا يقال: إذا كان البعض مضافًا إلى القوم فقد حصل الرابط لأنه كالمصرح به، وكأنك قلت: عدا بعضهم زيدًا؛ لأن هذا هو ربط بالمعنى، والربط بالمعنى لا ينقاس؛ ألا تراهم قصروه على السماع في نحو: مررت برجلٍ قائمٍ أبواه لا قاعدين، ومنعوه في: مررت برجلٍ قائمين لا قاعد

أبواه، على إعمال قاعد في الأبوين، لأن الرابط بالمعنى إنما سُمع في الصفة الثانية لا في الصفة الأولى، فلم يتجاوزوا به موضع السماع، وعدا وخلا وحاشا لا يجوز فيها أن تكون صفة لما قبلها إن كان مما يوصف بالجمل، بل يلزم الاستثناء، ولذلك كان الضمير الذي تحملته مفردًا مذكرًا دائمًا". وذكر في البسيط الخلاف في "ليس" و"لا يكون" في الاستثناء، الجملة موضع من الإعراب أم لا. وحكمها في ذلك الخلاف حكم عدا وخلا وحاشا إذا نصبن، قال: "فقال قوم: لا موضع لها؛ لأنها جملة منفصلة، أُعطيت معنى الاستثناء بإعقابها الجملة الأخرى قياسًا على غيرها من الجمل. وقال قوم: لها موضع من الإعراب؛ لأن تغييرهم لها واختصاصهم هذه من سائر الجمل يدل على إرادة الاتصال كما بعد إلا. وإنما يكون ما كروه في الجمل التي لم تغير هذا النوع / [4: 96/ ب] من التغيير. وأيضًا فإنه كلام يجري تابعًا لا يكون ابتداءً، فدل على الافتقار إلى ما قبل وجعلها جزءًا منه. وهؤلاء قالوا: إنها في موضع الحال، والتقدير: أتوني غير مُلابسين زيدًا، أي: مستغنين عنه وغير كائنين معه. وفيه نظر، فإن هذا التقدير يدفع التقدير المتقدم في حذف الاسم، وإن الاسم البعض لا الأول، وسبك الجملة إنما يكون بما يبقي فيها المعنى الأول" انتهى. وقال بعض أصحابنا ما معناه: يدل على تشبث (ليس) و (لا يكون) في الاستثناء بما قبلهما أن العرب لو قصدت أن تكونا جملتين منفصلتين يحصل منهما الاستثناء بحكم الانجرار أو أن تكونا حالًا لأتت بالواو فيهما؛ لأن كلام العرب أن تذكر جملة بعد جملة حملتها الواو، فتقول: قام القوم وخرج عمروٌ، ولا تستعمل بغير الواو إلا قليلًا، كذا قال الأخفش. وكذلك لو قصدوا الحال لأتوا بالواو، ولو في موضع واحد، فكونهم لم يُدخلوا عليهما الواو قط دليل على أنهم لحظوا فيهما معنى الاستثناء، فلم يُدخلوا فيهما الواو كما لا يُدخلونها على إلا وغير، ولو قلت: قام القوم ولم يقم زيدٌ، أو: ونقص منهم زيدٌ، لجئت بالواو، فلم يلحظوا معنى الاستثناء إلا في هاتين الجملتين.

وقوله وإن وليها مجرور باللام لم تتعين فعليتها، خلافًا للمبرد، بل أسميتها لجواز تنوينها قال المصنف في الشرح: "إذا وليها مجرور باللام فارقت الحرفية بلا خلاف؛ إذ لا يدخل حرف جر على حرف جر، وإذا لم تكن حرفًا فهي إما فعل وإما اسم" انتهى. وذكر غيره أن الفراء زعم أن حاشا فعل، ولا فاعل له، وزعم أن الأصل: حاشى لزيدٍ، لكن كثر الكلام بها حتى أسقطوا اللام، وخفضوا بها. فإذا كان قد زعم في "حاشا زيدٍ" أنها فعل، وأن أصلها حاشى لزيدٍ - فهي فعل إذا وليها مجرور باللام، وإذا قلت حاشى لزيدٍ فليس معناها الاستثناء، وإنما يؤتي بها لتنزيه الاسم المذكور حيث يذكر فيه سوء أو في غيره، وقد يريدون تنزيه الاسم من السوء، فيبتدرون تنزيه اسم الله تعالى على جهة التعجب والإنكار على من ذكر السوء فيمن برؤوه منه، كقوله تعالى {قُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ} كـ"معاذ الله"، و"سبحان الله في ذلك المعنى. ويمكن أن يستدل للمبرد على فعليتها بأنها قد تثبت فعليتها في الاستثناء حالة النصب، ولم تثبت اسميتها قبل، وانتفت حرفيتها بدخول حرف الجر على الاسم، ولا يدخل حرف جر على حرف جر إلا في الشعر، بشرط أن يكون الفعل يتعدى تارة بهذا الحرف وتارةً بهذا الحرف، كقوله: فأصبحن لا يسألني عن بما به .....................

و"حاشى لزيدٍ" ليس مدلول حاشى مدلول اللام. ويلزم على مذهب المبرد أن تكون اللام في لزيدٍ زائدة؛ لأن حاشى تتعدى بنفسها، فيكون نحو قوله: ..................... /أنخنا للكلاكل، فارتمينا أي: أنخنا الكلاكل، وفاعل حاشى مضمر يفسره سياق الكلام، والمعنى: جاوز هو - أي: السوء - زيدًا. وذهب الزجاج إلى أن حاشى لله في معنى: براءة لله، وهو مشتق من الحشى، وهو الناحية، يقال: في حشي فلان، أي: في داره وناحيته، وهو من قوله: .................... بأي الحشي صار الخليط المُباين قال: فإذا قلت حاشى لزيد فالمعنى: قد تنحى زيدٌ من هذا وتباعد منه، قال: وكذلك تحاشى، أي: صار في حشي منه. وقال السيرافي: "وعلى هذا زعم بعض أصحابنا أن حاشا في معنى المصدر، قال: ويقال: حاشى الله، وحاش لله، كما يقال: براءة الله، وبراءةً لله".

وقال السيرافي للزجاج: "لم لم ينون حاشا لله إذا جعله مصدرًا؟ فقال: هو مبنى كـ"بله"، جعله س مصدرًا، وهو مبني". قال: "ويُنقص، فيقال: حاش لله، وحشا لله، كغدٍ في غدو". وقال المصنف في الشرح: "الصحيح أنها اسم منتصب انتصاب المصدر الواقع بدلًا من اللفظ بالفعل، فمن قال حاشى لله فكأنه قال: تنزيهًا لله. ويؤيد هذا قراءة أبي السمال "حاشى لله" بالتنوين، فهذا مثل قولهم: رعيًا لزيد، وقراءة ابن مسعود "حاشى الله" بالإضافة، فهذا مثل سبحان الله ومعاذ الله، فأما القراءة المشهورة "حش لله" بالا تنوين فالوجه فيها أن يكون (حاش) مبنيًا لشبهه بحاشا الذي هو حرف، فإنه شبيه به لفظًا ومعنى، فجرى مجراه في البناء كما جرى (عن) في قوله: ....................... من عن يميني تارةً وأمامي مجرى (عن) في نحو: رويت عن زيد. وقوله وكثر فيها حاش، وقل حشا يعني في التي تستعمل للتنزيه والبراءة من السوء. ولا يُحفظ حاش في المستثنى بها، وحفظ حشا، قال الشاعر:

حشا رهط النبي، فإن منهم بحورًا لا تكدرها الدلاء وفي كتاب أبي الفضل الصفار: ويقال: حاشا وحشا وحاش إلا أن حاش لا تستعمل في الاستثناء. وقوله وربما قيل ما حاشا قال المصنف في الشرح: "قد قيل: ما حاشا، في مسند أبي أمية الطرسوسي عن ابن عمر، رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أسامة أحب الناس إلى ما حاشا فاطمة) " انتهى. وقول المصنف "وربما قيل ما حاشا" يُوهم أن ذلك في حاشا المراد بها التنزيه لا المراد بها الاستثناء، وتمثيله بما ورد في الحديث يدل على أنه أراد في الاستثناء. وقد اختلف النحويون في جواز دخول "ما" المصدرية على "حاشا" في الاستثناء: فمنع من ذلك س، قال س: "لو قلت أتوني ما حاشا زيدًا لم يكن كلامًا". وأجاز ذلك بعضهم على قلة، وقد سُمع ذلك من كلامهم، ومن ذلك قول الشاعر: رأيت الناس ما حاشا قُريشًا فإنا نحن أفضلهم فعالا

[4: 70/ ب] /واختلف النحويون في جواز دخول إلا على حاشا: فذهب الكسائي إلى جواز ذلك إذا جرت حاشا، ومنع ذلك إذا نصبت، نحو: قام القوم إلا حاشا زيدٍ. ومنع البصريون ذلك على كل حال. وحكي أبو الحسن الأخفش عن العرب أنهم يقولون: قام القوم إلا حاشا زيدٍ. وهذا عندنا شذوذ لا ينبغي أن يقاس عليه غيره، وهو جمع بين أداتين على جهة التأكيد. وقوله وليس أحاشي مضارع حاشا المستثنى بها، خلافًا للمبرد استدل المبرد على فعليه حاشا بقول النابغة: ولا أرى فاعلًا في الناس يُشبهه ولا أحاشي من الأقوام من أحد قال المصنف في الشرح: "وهذا غلط؛ لأن حاشا إذا كانت فعلًا، وقُصد بها الاستثناء - فهي واقعة موقع إلا ومؤدية معناها، فلا تتصرف كما لا تتصرف عدا وخلا وليس ولا يكون، بل هي أحق بمنع التصرف؛ لأن فيها مع مساواتها للأربع شبهها بحاشا الحرفية لفظًا ومعنى.

وأما أُحاشي فمضارع حاشيت بمعنى استثنيت، وهو فعل متصرف مشتق من لفظ حاشا، كما اشتق سوفت من لفظ سوف، ولوليت من لفظ لولا، ولاليت من لفظ لا، وأيهت من لفظ أيها، وأمثال ذلك كثيرة" انتهى. وقال بعض شيوخنا: زعم المبرد أنها تكون فعلا كـ (خلا). واستدل على ذلك بتصريف الفعل: حاشيت زيدًا أُحاشيه، وبقولهم: حاشى لزيدٍ، ولو كانت حرف جر لم تدخل على حرف جر. قال السيرافي: "ولا حُجة له في حاشيت لأنه مشتق من (حاشا) حرف الاستثناء، كهلل، وبسمل، وسوف من سوف". وقوله والنصب في "ما النساء وذكرهن" بـ (عدا) مضمرة روي من كلام العرب: "كُل شيء مهمةٌ من النساء وذكرهن"، وخرجه المصنف على أن صلة ما محذوفة، وهي عدا، حذفوها، أبقوا معمولها، قال المصنف: "ومعناه: كل شيءٍ يسيرٌ ما عدا النساء وذكرهن". وقال غيره: والمهمة: الطراوة والنضارة، يقال: زان المرأة مههها، قال الراجز: إن سُليمى زانها مههها وإنما أضمر عدا لأنها مُتفق على فعليتها، بخلاف خلا وحاشا، فإنه مُختلف في فعليتها، فكان المتفق علي فعليته أولى بأن يكون هو المحذوف.

وقوله خلافًا لمن أول ما بإلا قال المصنف في الشرح: "وزعم بعض الناس أن ما هاهنا بمعنى إلا، وليس بشيء" انتهى. وإنما قال "وليس بشيء" لأن ما لم يثبت لها قط معنى إلا في لسان العرب، بخلاف كونها مصدرية، فهو ثابت في لسان العرب، وقد حصر النحويون مواقع ما في نيف على ثلاثين قسمًا، ليس منها أنها تكون بمعنى إلا. وقال أبو زيد السهيلي: "ليس ما تدخل فيه ليس تحسن فيه ما، فيستثنى بليس دون ما إلا في كلمة جاءت مثلًا، وهي: كل شيءٍ مهمةٌ ما النساء وذكرهن، أي: ليس النساء وذكرهن" انتهى. فهذا ثالث؛ لأنها عنده نافية، ليست مصدرية ولا بمعنى إلا، / [4: 71/ أ] واستعمال ما النافية كـ"ليس" في الاستثناء غير معهود، وحذف صلة ما المصدرية كذلك أيضًا، فتتكافأ دعوى إضمار عدا ودعوى كون ما بمعنى ليس مستثنى بها، ووقوع الشيء موقع الشيء لاشتراكهما في المعنى أقرب من حذف صلة ما، ولا يوجد حرف مصدري حُذفت صلته، فأما قول الشاعر: إذا ريدةٌ من حيث ما نفحت له أتاه برياها خليلٌ يواصله فقد قدره المصنف: من حيث ما هبت، فحذف صلة ما. وقد تكلمنا عليه في باب المفعول المسمى ظرفًا، وخرجناه على غير تخريج المصنف بما ظهر لنا أنه أرجح، فيُنظر هناك. وقال بعض أصحابنا: وزعم الفراء والأحمر أن العرب تستثني بـ (ما)، وحكيا من كلامهم: كل شيءٍ مهمةٌ ما النساء وذكرهن، وهذا شيء لا يُحفظ منه غير هذا

الذي حكيناه، وقد يتخرج على أن يكون (النساء) منصوبًا بفعل استثناء مضمر يدل عليه المعنى، فالتقدير: ما خلا الماء وذكرهن، فأبقى ما المصدريةً والمفعول وحذف الفعل، كما قالوا: أما أنت منطلقًا انطلقت معك، أبقوا أن المصدريةً، وحذفوا الفعل الذي هو كان، وأبقوا اسمها وخبرها. -[ص: ويستثنى بـ ((ليس)) و ((لا يكون))، فينصبان المستثنى خبرًا، واسمهما بعض مضاف إلى ضمير المستثنى منه لازم الحذف، وكذا فاعل الأفعال الثلاثةً. وقد يوصف على رأي المستثنى منه منكرًا او مصحوب أل الجنسية بـ (ليس)) و ((لا يكون))، فيلحقهما ما يلحق الأفعال الموصوف بها من ضمير وعلامةً.]- ش: مثال ذلك: قام القوم ليس زيدًا، وخرج الناس لا يكون عمرًا، و ((لا)) قيد في ((يكون))، وهو أن تكون منفيةً بـ ((لا))، فلو كانت منفيةً بما أو بلم أو لما أو لن أو إن لم تقع في الاستثناء؛ وتكون هي الناقصة ولا يدعى أنها أخرى ارتجلت للاستثناء؛ لأن كونها الناقصة التي تقررت ممكن فيها، فلا يعدل إلى غيره. ومن وقوع ليس استثناء قول الشاعر: عددت قومي كعديد الطيس إذ ذهب القوم الكرام ليسي يريد: ليسني. وقال أخر: فأصبح ما في الأرض مني ثقية لناظرها ليس العظام العواريا وذكر في الحديث قول النبي - صلى الله عليه وسلم - (يطبع المؤمن على كل خلق ليس الخيانة والكذب)، وعن علي بن أبي طالب كرم الله وجهه: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم

يخرج من الخلاء يقرأ القرآن، ويأكل معنا اللحم، ولم يكن يحجبه عن القرآن شيء ليس الجنابة). وقول واسمهما بعض مضاف إلى ضمير المستثنى منه لازم الخذف هذا الذي قاله لم يذهب إليه أحد من النحويين، وهو أن اسمها- كما قال - بعض مضاف إلى ضمير المستثنى منه لازم الحذف، بل اتفق البصريون والكوفيون على أنه مضمر فيهما ليس ظاهرًا محذوفًا،/ [71:4/ب] بل هو مضمر مفرد مذكر، قال البصريون: هو عائد على البعض المفهوم من الكلام السابق؛ لأن القائل ((قام القوم)) يسبق إلى فكرة أن بعضهم زيد، فقيل: ليس زيدًا، أو: لا يكون زيدًا، أي: ليس هو زيدًا ولا تكون هو زيدًا. وقال الكوفيون: هو عائد على الفعل المفهوم من الكلام السابق، ولذلك كان مفردًا مذكرًا على كل حال، كما أن الفعل كذلك، فإذا قلت قام القوم ليس زيد فمعناه: ليس هو زيدًا، أي: ليس فعلهم فعل زيد، فحذف المضاف، وأقيم المضاف إليه مقامه. ورد هذا المذهب بأن فيه دعوى مضاف محذوف لم يلفظ به قط. وأقول: قد يأتي الاستثناء بما حيث لا يقدر ما قدره الكوفيون، نحو قولك: القوم إخوتك ليس زيدًا، أو: لا يكون زيدًا، وما أشبه هذا، فهنا لا يمكن تقدير: ليس فعلهم فعل زيد؛ إذ لم يسند إليهم فعل البتة.

وإنما التزم إضماره لجريان هذه الأفعال بجري أداة الاستثناء التي هي أصل فيه، وهي إلا، فكما أنه لم يظهر بعد إلا سوى اسم واحد فكذلك بعد ما جرى مجراه. وإنما أفرد لكونه عائدًا على مفرد كما قررناه، ولذلك تقول: جاء الناس ليس الزيدين، أو: ليس الزيدين، أو: ليس هندًا، أو: ليس الهندات، وكذلك لا يكون، فأفرد إذ التقدير: ليس هو، أي: بعضنهم. وإنما لم يذهبوا إلى أن اسم ليس لا يكون ظاهرًا محذوفًا لأن اسم كان وأخوها لا بحذف لأنه مشبه بالفاعل، والفاعل لا يحذف، فكذلك ما شبه به، وإنما هو من باب الإضمار. إلا أن في البسيط ما يوافق قول المصنف، قال: هما باقيان على أصلهما في رفعهما الاسم ونصبهما الخبر، وإنما خرجا عن أصلهما تنبيها على معنى الاستثناء في أن اسمهما لا يظهر لفظًا ولا يثنى، ولا يجمع، وكأنه محذوف من باب حذف المبتدأ لدلالة الكلام، وليسا حرفي استثناء، وإنما فهم الاستثناء من التأليف وإعقابهما الجملة المتقدمةً، والجمل الباقيةً سواء في ذلك، إلا أنه اختصت هذه سماعًا بذلك، فلو أتيت بجملة نحو جاء القوم لكن زيدًا ما جاء لم يكن استثناء؛ لأنه لم يغير تغييرا يلزم عنه أن يكون في حكم أدواتهما، وهذا التغيير هو أن حذفوا الاسم، وذلك لقوة دلالة الكلام عليه، فإن القائل إذا قال جاء القوم فكأنه توهم عليه أن بعضهم زيد، فقال: لا يكون زيدًا، أي؛ لا يكون بعضهم زيدا، ولو حذفوا الخبر لجاز، لكنهم لم يقولوا إلا هذا لأنه أقوى، وفيه الفائدة. ويدل على أنه محذوف وجهان:

أحدهما: أنه لم يقدم ذكره فيضمر؛ لأنه ليس إلا ذكر القوم. والثاني: أنه لا يتبع الأول لا في التأنيث ولا في الجمع ولا في التثنية، تقول: جاء الرجال؛ لا يكون زيدًا، وجاءت النساء لا يكون هندًا. وقيل: إنما كان ذلك لأنها جعلت في معنى إلا، و ((إلا)) لا تغير بحسب ذلك، فلم يتغير ما هو بمعناه. ويدل على جعلها بمنزلة ((إلا)) إنك لا تقول: جاءني القوم ليس زيدًا ولا عمرا؛ لأنها صارت بمعنى إلا، وخرجت عن معنى الجحد الذي بسببه العطف بـ ((لا)). وقدره بعضهم لا يكون الآتي زيدًا، وليس القائم زيد، يقدره باسم الفاعل الذي تدل عليه الجملة. وهذا لا يطرد له في قولك: القوم إخوتك ليس عمرًا. وما ذهب إليه صاحب البسيط والمصنف من حذف اسم ليس واسم لا يكون لا يجوز لأنه مشبه بالفاعل؛ وأفعال هذا الباب - أعني باب كان - مشبهه بالمتعدي إلى واحد، فكما أن الفاعل لا يجوز حذفه، فكذلك أسماء هذه الأفعال. واختلف النحويون في ليس ولا يكون إذا استثني بهما هل لهما موضع من الإعراب أو لا موضع لهما عن الإعراب؟ والخلاف فيهما كالخلاف في عدا وخلا وحاشا إذا كن أفعالا، وقد سبق الكلام في ذلك. وقوله وكذا فاعل الأفعال الثلاثة يعني عدا وخلا وحاشا، فإن فاعلها بعض محذوف مضاف إلى ضمير المستثنى منه، وقد سبق لنا ذكر الخلاف في ذلك، وأنه اختار في الشرح غير ما ذكر في الفاعل مصدر أن الفاعل مصدر ما عمل في المستثنى

منه، فيقدر في قاموا عدا زيدًا؛ جاوز قيامهم زيدا، وظاهر كلامه هذا أن الفاعل مصدر لازم الحذف، كما ادعى أن ليس ولا يكون حذف اسمهما، وقد رددنا عليه ذلك. وقوله وقد يوصف على رأي الحق منه منكرًا أو مصحوب آل الجنسية بـ (ليس)) و ((لا يكون)) لفظ ((وقد)) يشعر بالقلة، وكذا لفظ س قال س: ((وقد يكونان صفةً، وهو قول الخليل، وذلك قولك: ما أتاني أحد ليس زيدًا، وما أتاني رجل لا يكون بشرا، إذا جعلت ليس ولا يكون بمنزلة قولك: ما أتاني أحد لا يقول ذلك)) انتهى. وقوله ((على رأي)) مشعر بالخلاف، ولم يذكر أحد ممن رأينا كلامه في هذه المسألة خلافا. وقال س: ((ويدلك على أنه صفة أن بعضهم يقول: ما أتتني امرأةً لا تكون فلانةً، وما أتتني امرأةً ليست فلانةً، فلو لم يجعلوه صفةً لم يؤنثوا؛ لأن الذي لا يجيء صفه فيه إضمار مذكر؛ ألا تراهم يقولون: أتيتني لا يكون فلانةً، وليس فلان، يريدون: ليس بعضهن فلانةً، والبعض مذكر)) انتهى. وقال السيرافي: ((أجازوا الوصف بليس ولا يكون لأنهما نص في النفي عن الثاني، وهو معنى الاستثناء، وليس ذلك في عدا وخلا إلا التضمين)) انتهى. فلا يقال: ما أتتني امرأةً، عدت هندًا، ولا: ما مررت بامرأة خلت دعدًا؛ لأنهما ليسا بلفظي جحد كليس ولا يكون. و ((خلا)) لا يتعدى إلى منصوب إلا هنا لا صفةً ولا حالًا.

وفي قول المصنف ((وقد يوصف على رأي المستثنى منه)) تجوز؛ لأنه إذا وصف بليس ولا يكون لم يكن إذ ذاك مستثنى منه؛ إذ لا تكون أداة استثناء ليس ولا يكون، وإذا لا تكون أداة استثناء فلا يكون ما بعدهما مشتى، وإذا لم يكن مستثنى لم يكن مستثنى منه. وينبغي أن يحمل قول المصنف ((المستثنى منه)) على الذي كان يكون مستثنى منه لو لم يوصف. وقال المصنف في الشرح: ((ولا يكون الموصوف إلا نكرةً أو معرفًا تعريف الجنس لا تعريف [72:4/ب] /العهد، وذلك قولك: أتتني امرأةً لا تكون فلانةً، وأتاني القوم ليسوا إخوتك، وهما عن أمثلة أبي العباس، مثل بهما بعد أن قال: (فإن جعلته وصفا فمد، وكان الجرمي يختاره)) انتهى. وتمثيله بقولك أتتني امرأةً لا تكون فلانةً ليس بصحيح فيما ادعاه؛ لأن قوله ((امرأةً)) في سياق النفي، فيصح أن تكون مستثنى منها، وس مثل بها في سياق النفي، فيصح أن تكون مستثنى منه؛ ألا تراه قال: ((ما أتتني امرأةً لا تكون فلانةً، وما أتتني امرأةً ليست فلانةً)). وقول النحويين ((إن ليس ولا يكون قد يوصف بهما)) إنما يعنون أنهما يكونان وصفين في المكان الذي يكونان فيه صالحين للاستثناء. وقول المصفف أيضًا ((إنهما يوصف بهما المعرف تعريف الجنس)) هذا بناء على مذهبه في جواز وصف المعرف تعريف الجنس بالجمل، وذلك عندنا لا يجوز؛ لأن الجمل نكرات، والمعرف تعريف الجنس عندنا معرفةً، فلا يوصف بالنكرات؛ ألا ترى أنه يوصف بالمعرفة. ولم يمثل س في استعمال ليس ولا يكون وصفين إلا وما قبلهما نكرة كما نقلناه عنه.

وقوله فيلحقهما إلى آخره بمعني أنه يطابق الضمير الذي في ليس ولا يكون في التذكير والتأنيث والإفراد والتثنية والجمع الاسم الذي جرتا صفةً عليه؛ ويلزم أن يطابق الضمير الاسم الواقع خبرًا، فتقول: ما جاءني نساء لسن الهندات، وما جاءني رجال ليسوا زيدًا، وما جاءني امرأةً ليت فلانةً، كما تقول إذا كان قبلهما ما لا يصلح للاستثناء، نحوت أتتني امرأةً لا تكون فلانةً، وجاءني رجال لا يكونون الزيدين، وصاحبني رجلان ليسا أخويك. والقياس يقتضي أنه إذا وقع قبلهما ما يصلح للاستثناء، وكان معرفةً، أن يكونا في موضع نصب على الحال، نحو: جاء القوم ليسوا إخوتك، وجاءتني النساء لسن الهندات. ونص على ذلك شيخنا الأستاذ أبو الحسن الأبذي. وتمثيل س في الصفة بـ (ليس)) و ((لا يكون)) من قوله: ((وذلك قولك: ما أتاني أحد ليس زيدًا، وما أتاني رجل لا يكون بشرًا))، واستدلاله على أنهما يكونان وصفين بالتأنيث في قولهم: ما أتتني امرأةً لا تكون فلانةً، وما أتتني امرأةً ليست فلانةً، وجعل ذلك بمنزلة قولك ((ما أتاني أحد لا يقول ذلك)) في موضع ((قائل ذلك)) - مما يدل على أن الضمير يطابق في التثنية والجمع كما طابق في التأنيث. وقد قال بعض أصحابنا: ((لا تجوز الصفة إلا أن يكون الثاني بعدد الأول)). يعني أنه إذا كان الأول جمعًا كان ما بعد ليس ولا يكون جمعًا، وكذلك في التثنيةً والإفراد، فتقول: ما قام رجال ليسوا الزيدين، ولا يكونون الزيدين، وكذلك ما أشبهه. وقال شيخنا الأستاذ أبو الحسن بن الضائع: ((أجاز س أن تكون ليس ولا يكون صفةً لما قبل، وزعم أنه قول الخليل، واستدل؛ على ذلك بقول بعضهم: ما

أتتني امرأةٌ لا تكون فلانةً. قال: (فتأنيث تكون دليل على أنه صفةً). قال: (لأن الذي لا يجيء صفةً فيه إضمار مذكر؛ بدليل قولهم: أتينني لا يكون فلانةً، وليس فلانة، يريد: لا يكون بعضهن). وقياس هذا أن يقال: أتوني ليسوا زيدا، ولا يكونون عمرًا، إلا أن يقول قائل: إنما أجازوا ذلك حيث لم يظهر ضميره في اللفظ، وقد قاسوه، وهو ظاهر)) انتهى. وقال الأستاذ أبو الحسن بن عصفور: ((ويجوز أن يكون الضمير الذي في ليس ولا يكون على حسب الذي تقدمهما، فلا يكونان إذ ذاك استثناءين، بل تكون واحدةً منها مع معموليها في موضع صفةً للاسم المتقدم، نحو قولك: جاءني نساء لسن الهندات، وجاءني رجال ليسوا الزيدين)) انتهى. وأما قولهم: قام القوم إلا أن يكون زيد، وما جاءني أحد إلا أن يكون زيد - فيجوز فما بعد يكون الرفع والنصب، فالرفع على أن ((يكون)) تامةً، فرفعه على الفاعلية، هذا هو الظاهر والقول عن الجمهور. وذهب أبو الحسن الأخفش إلى أنها يجوز أن تكون ناقصةً، ويجوز أن تكون تامةً، قال في قولك: ما جاءني أحد إلا أن يكون زيد: إنما رفعت زيدًا يكونه، وجعك الخبر مضمرًا في يكون، كأنك قلت: إلا أن يكونه زيد. وإن شئت لم نجعل ليكون خبر؛ لأن كان قد تجيء ولا خبر لها، نحو: كان الآمر، وكان الرجل

وهذا الذي ذهب إليه أبو الحسن من تجويز أن تكون الناقصةً، ويكون خبرها مضمرًا محذوفًا - لا يجيزه أصحابنا؛ لأنه لا يجوز عندهم حذف خبر كان ولا أخواتها للعلةً التي ذكرت في باب كان - قال س: ((فالرفع جيد بالغ وهو كثير في كلام العرب)) انتهى. والنصب جائز، قال س: ((وبعضهم ينصب، على وجه النصب في لا يكون، والرفع أكثر))،.بمعنى أنه يضمر في يكون ضميرًا مفردًا مذكرًا، لا يبرز في تثنية ولا جمع، ولا يؤنث، كما لا يكون ذلك في ((لا يكون)) إذا استثني بها، ويكون التقدير: إلا أن يكون هو - أي: بعضهم - زيدًا. وقال الأخفش: ((وقد يقول بعض العرب: ما ضربني أحد إلا أن يكون زيدًا، يضمر في يكون اسم الفاعل) انتهى. ويحتمل كلامه هذا أن يكون الفاعل الضمير العائد على أحد، ويحتمل أن يكون ضمير البعض المفهوم الذي في قولك: جاء القوم لا يكون زيدًا. فأما قوله تعالى: {إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةَ} وتأنيث (تكون)، فقرئ بالرفع والنصب والتأنيث ظاهر على قراءةً الرفع. وأما مع نصب التجارةً فالقياس لفظ التذكير؛ لأن المراعى البعض، وهو مذكر؛ ألا ترى أن الأول يكون مؤنثًا، والإضمار مذكر. ولأن المتقدم هنا (الذين) - وهو مذكر - فزعم السيرافي أن التأنيث على إضمار الأعواد، أي: إلا أن تكون الأموال؛ تجارةً، وحسنه أنه اللفظ المستعمل مع الرفع الذي هو أكثر كلام العرب.

وأداة الاستثناء في ((إلا أن يكون)) هي إلا، و ((أن يكون)) في موضع اسم منصوب في لغة أهل الحجاز؛ لأن الكون غير المستثنى منه، والتقدير: ما جاءني أحد إلا كون زيد، كقولك: ما جاءني أحد إلا حمارًا- وهو في لغة بني تميم مرفوع على البدل من أحد، وهو أقيس، وكذا قاله الأخفش في ((الأوسط)). وقال بعض شيوخنا: ((ينبغي أن تكون هنا تامةً حتى يكون المستثنى وجود زيد؛ لأن وجود الشيء يعبر به/ [73:4/ب] عن ذاته، بل هو ذاته في الحقيقةً، فيكون قولهم إلا أن يكون زيد في تقدير؛ إلا كون زيد، أي: إلا وجوده، أي: إلا زيدًا. ونظير التعبير بوجود الشيء عن ذاته في كلامهم قولهم: ما أحسن ما كان زيد، بالرفع، أي: ما أحسن كونه، أي: وجوده، ولا يتصور أن تكون هنا تامةً إلا برفع الاسم الذي بعدها، فالرفع في التعجب وهنا هو الوجه)) انتهى. وهو استثناء منقطع؛ لأن كون زيد ليس من جنس الذوات. وقد رام بعض أصحابنا أن يجعله استثناء متصلًا، فقال: ((أن يكون؛ في موضع نصب بإلا، كأنك قلت: إلا كون زيد. فإن قلت: ليس المعنى على استثناء كون زيد، وإنما المعنى على استثناء زيد. فالجواب: أنه يتصور على أن تكون أن وصلتها في موضع مصدر منصوب على الاستثناء، ويكون واقعًا موقع الاسم، وكأنك قلت: قام القوم إلا الكائن زيدًا، والكائن زيدًا هو زيد، وساغ لأن وصلتها أن تقع موقع الاسم كما يسوغ ذلك في المصدر الذي هي بتقديره، ومن ذلك قول الشاعر: لعمرك ما الفتيان أن تنبت اللحى ولكنما الفتيان كل فتى ندي فأوقع أن تنبت اللحى موقع النابتي اللحى)) انتهى.

وهذا الذي ذهب إليه من كونه استثناء متصلًا لا يسوغ؛ لأن المشهور الأفصح هو رفع زيد بعد: إلا أن يكون، وإذا كان الأفصح ذلك، و ((كان)) كما قررنا تامةً - فلا يمكن أن تقدر أن والفعل في موضع مصدر، ويكون واقعًا موقع اسم الفاعل؛ لأنه يلزم من ذلك إضافةً اسم الفاعل إلى الفاعل، وهو لا يجوز؛ إذ التقدير: إلا الكائن زيد، والكائن اسم فاعل من كان التامة، فلا يجوز أن يضاف إلى الفاعل. وأما إذا نصب زيد فينبغي أيضًا ألا يسوغ؛ لأن أن والفعل لا تجري مجرى المصدر في كل مكان، والمصدر أيضًا لا يجري مجرى اسم الفاعل بقياس، فلا بجري المقدر به مجراه. وأيضا فلا حجةً في البيت الذي قد استشهد به؛ لأنه يحتمل أن يكون على حذف مضاف، التقدير: لعمرك ما كمان الفتيان أن تنبت اللحى، فان تنبت اللحى باقٍ على وضعه، لا يراد به أنه يتقدر بالمصدر الموضوع موضع اسم الفاعل.

-[ص: فصل يستثنى بـ ((غير))، فتجر المستثنى معربه بما له بعد ((إلا))، ولا يجوز فتحها مطلقًا لتضمن معنى ((إلا))، خلافًا للفراء، بل قد تفتتح في الرفع والجر لإضافتها إلى مبني. واعتبار المعنى في المعطوف على المستثنى بها جائز. ويساويها في الاستثناء المنقطع ((بين)) مضافًا إلى أن وصلتها.]- ش: تقدم أن غيرًا أصل في الوصف، وأنها محمولةً في الاستثناء على إلا، كما حملت إلا في الوصف عليها. وقوله معربة بما له - أي: للمجرور بها. بعد إلا، فلغير من الإعراب ما للاسم بعد إلا من نصب واجب، أو جائز يرجح على الإتباع، أو مرجح الإتباع عليه، أو كونه مفرغًا للعامل، فيكون في الإعراب على نحو طلبه، فجميع ما يعرب به الاسم الواقع بعد إلا تعرب به غير، فتقول: جاءوني غير زيد، بنصبها، ويجوز الرفع على النعت للضمير على مذهب من يجيز ذلك، أو على عطف البيان عند [4: 74/أ] عن تأول ما ورد عن ذلك على أنه تابع عطف بيان. فإن قلت: هل يجوز أن تكون غير بدلًا في الإيجاب؛ لأنه يجوز فيه تكرار العامل كما جاز أن تكون بدلًا في النفي في نحو: ما قام القوم غير زيد، لجواز تكرار العامل، وهو في النفي بدل شيء من شيء، وهما لعين واحدةً؛ لأن غيرًا هي المستثنى منه، ولذلك قال س في أتاني القوم غير زيد: ((فغير هم الذين جاؤوا))، فليكن كذلك في الإيجاب؟

فالجواب: أن غيرًا إذا وقعت في الإيجاب الأولى بقاؤها على أصلها من الصفة، ولا تجعل بدلًا، وإنما قيل في النفي إنها بدل لما ضمنت معنى إلا، وظهر منهم إعرابها إعراب الاسم الذي بعد إلا؛ ألا ترى كثرةً النصب في الإيجاب وقلته في النفي، ولو كانت على أصلها لاستوي الإيجاب والنفي في ذلك. وتقول: ما جاءني أحد غير زيد، برفع غير، وهو أرجح من النصب. وما لزيد علم غير ظن، فتجيء فيه لغة الحجاز ولغة تميم. وما جاءني غين زيد، فيتعين أن يكون على حسب العامل. وإذا انتصب غير على الاستثناء، نحو: قاموا غير زيد - ففي انتصابه خلاف: ذهب أصحابنا إلى أن انتصابها انتصاب الاسم الواقع منصوبا بعد إلا، وأن الناصب له كونه جاء فضلة بعد تمام الكلام، وهذا موجود في غير. وذهب السيرافي وأبو الحسن بن الباذش إلى أنها منصوبة بالفعل السابق، وهي عند ابن الباذش مشبهةً بالظرف المبهم، فكما يصل الفعل إليه بنفسه فكذلك يصل إلى غير بنفسه. وهذا مردود بقولهم: القوم إخوتك غير زيد؛ إذ لا فعل ولا اسمًا جاريًا مجراه في الجملة السابقةً. وذهب أبو علي الفارسي في ((التذكرة)) إلى أنها منصوبةً على الحال، وفيها معنى الاستثناء، كما أن ما عدا في نحو قاموا ما عدا زيدًا يتقدر بمصدر في موضع الحال، وفيها معنى الاستثناء. قال المصنف: ((وهو الظاهر من قول س في (باب

غير) بعد تمثيله بأتاني القوم غير زيد: فغير الذين جاؤوا، ولكن فيه معنى إلا)، هذا نصه)). وقوله ولا يجوز فتحها مطلقًا لتضمن معنى إلا، خلافًا للفراء قال المصنف في الشرح: ((أجاز الفراء بناء غير على الفتح ضد تفريغ العامل، سواء أكان المضاف إليه معربًا أم مبنيًا، نحو: ما جاء غير زيد، وما جاء غيرك، بالنصب، ولم يذكر في الاحتجاج لذلك من كلام العرب غير مضاف إلى مبني، قال: (بعض بني أسد وقضاعة إذا كانت غير في معنى إلا نصبوها، تم الكلام قبلها أو لم يتم، فيقولون: ما جاءني غيرك، وما جاءني أحد غيرك). وكأن حامله على العموم جعل سبب البناء تضمن غير معنى إلا، وذلك عارض، فلا يجعل وحده سببًا، بل إذا أضيفت غير إلى مبنى جاز بناؤها، صلح موضعها بـ ((إلا)) أو لم يصلح، لكن بناؤها إذا أضمت إلى مبني وصلح موضعها لـ ((إلا)) أقوى من بنائها إذا ضيفت إل مبني ولم يصلح موضعها لـ (إلا). فمثال الأول قول الشاعر: [4: 74/ب] لم يمنع الشرب منها غير أن نطقت حمامة في سحوق ذات؛ أو قال السحوق: الشجرةً العاليةً. ومثال الثاني قول الشاعر:

لذ بقيس حين يأبى غيره تلفه بحرا مفيضًا خيره انتهى. وظاهر قول الفراء جواز قولك: قام غير زيد، بالنصب؛ لأنه عمم الحكم في قوله ((نصبوها تم الكلام قبلها أو لم يتم))، ونسبته ذلك إلى بني أسد وقضاعة تجعله مما اختصت يه هاتان القبيلتان من بين العرب، وأنا تمثيله بالمضاف إلى المبني فلا يحصر الحكم العام فيه. وقوله واعتبار المعنى في العطوف على المستثنى بها جائز تقول: ما أتاني إلا زيد وعمرًا، وجاءني القوم غير زيد وعمرًا، فيجوز في المعطوف وجهان: أحدهما: الجر عطفًا على المجرور بـ (غير)، وهو الأجود. والثاني: أن يكون إعرابه على حسب إعراب ((غير)) نفسها، ولا يكون إذ ذاك معطوفًا على ((غير)) نسها، قال س - وحكاه عن الخليل ويونس -: ((وذلك أن غير زيد في موضع إلا زيد وفي معناه، فحملوه على الموضع، وشبهوه يقول الشاعر: .................. فلسنا بالجبال ولا الحديدا وظاهر كلام س أنه عطف على الموضع؛ لأن غيرًا دخيلةً في باب الاستثناء، والأصل في الاستثناء أن يكون بأداته التي هي إلا، فمتى استثني بغيرها فليس ذلك بطريق التأصل، فالمستثنى بعد غير أصله أن يكون معمولًا لما قبل إلا، فالمجوز

موجود، وهو طالب الرفع أو النصب، وإن كانت غير قد أضيفت إلى الاسم، فانجز، فنظير الجر بعدها نظير الجر في رب والباء في خبر ليس من حيث إن طالب الرفع أو النصب موجود؛ وهو رب وليس، وطالب الموضع في الاستثناء موجود، وهو تمام الجملة تفريغا على الأصح المنصور، وجواز العطف هنا لا نعلم فيه خلافا، وأنشدوا: لم يبق غير طريد غير منفلت وموثق ي حبال القد مسلوب روي بخفض ((وموثق)) حملًا على لفظ طريد، وبالرفع حملًا على المعنى. وزعم الأستاذ أبو علي أن قول س في ((ما أتاني احد غير زيد وعمرو)) بالرفع ((إنه معطوف على الموضع))، لا يريد به أن زيدا في ((غير زيد)) موضعه رفع؛ لأنه لا عامل رفع هنا، فليس كقوله: ....................... فلسنا بالجبال ولا الحديدا ألا ترى أن أصل الجبال هنا النصب، وعامله حاضر يطلب به، قال: ((فإنما معناه أنه لما كان يجوز أن يقع في موضع ((غير زيد)) ((إلا زيد)) نطق بـ ((غير زيد))، وتوهم إلا زيد)). وهذا الذي ذهب إليه الأستاذ أبو علي يظهر من كلام ابن عصفور؛ لأنه لم يصرح بأنه عطف على الموضع، بل قال: إن ذلك حمل على المعنى. قال: لأن/ [4: 75 /أ] المعنى في جاءني القوم غير زيد وعمرًا؛ جاءني القوم إلا زيدًا وعمرًا، وفي ما جاءني أحد غير زيد وعمرو: ما جاءني أحد إلا زيد وعمرو. وأما المصنف فقال في الشرح: ((وذلك أن غير زيد في موضع إلا زيد، وفي معناها، فحملوه على الموضع، كما قال:

.................... فلسنا بالجبال ولا الحديدا فلما كان في موضع إلا زيد كان معناه كمعناه، وحملوه على الموضع. والدليل على أنك إذا قلت غير زيد فكأنك قلت إلا زيد أنك تقول: ما أتاني غير زيد وإلا عمرو)) انتهى. ولا يجوز أن يكون المعطوف - وإن أعرب إعراب غير - معطوفًا على ((غير)) نفسها مع إرادةً هذا المعنى؛ لأنه يلزم إذ ذلك تشريك المعطوف مع غير في العامل، ويصير معنى أخر غير ذلك المعنى، فإذا قلت: ما أتاني غير زيد وعمرو، وجعلته معطوفًا على غير - كان المعنى: ما أتاني غير زيد وما أتاني عمرو، وهذا خلاف ذلك المعنى؛ لأنك إذا لحظت في ((غير زيد)) معنى ((إلا زيد))، وعطفت مراعيًا لهذا المعنى - كان زيد وعمرو آتيين، وكأنك قلت: ما أتاني إلا زيد وعمرو، فيلزم من إرادة هذا المعنى أن تنزل غير منزلة إلا، ويعرب عمرو بإعراب ما بعد إلا، وبإعراب ما بعد غير، ومراعاة ذلك في العطف تقتضي مراعاةً ذلك في سائر التوابع، نحو النعت وعطف والبيان والتأكيد والبدل، فتقول على هذا: ما جاءني غير زيد نفسه، أو غير زيد العاقل، أو غير زيد أبي حفص، أو غير زيد أخيك، فالقياس يقتضي جواز هذا كله بالجر والرفع، ولم ينصوا إلا على العطف. إلا أن في لفظ ابن عصفور ما يقتضي العموم، لأنه قال: ((وأما المستثنى بغير- وهو الاسم الوقع بعدها - فلا يكون إلا مخفوضًا بالإضافةً، وكذلك تابعه، نحو قولك: جاءني القوم غير زيد وعمرو. وقد يجوز في تابعه أن يكون إعرابه على حسب إعراب غير نفسها حملًا على المعنى، فتقول: جاءني القوم غير زيد وعمرا، بنصب عمرو، وما جاءني أحد غير زيد وعمرو، برفع عمرو)) انتهى. وظاهر كلام المصنف أنه لا يراعى موضع مجرور غير إلا إذا كانت استثناء لا صفةً؛ لأنه قال: ((واعتبار المعنى في المعطوف على المستثنى بها جائز)).

وفي البسيط: ((وإذا كانت غير صفةً جاز العطف على موضع الاسم بعدها، وذلك إذا كانت صفةً في الموضع الذي تصح فيه إلا، تقول: ما جاءني غير زيد وعمرو، فلك أن تحمل على المعنى فترفع، لأن المعنى: ما جاء إلا زيد، وكذلك: جاء القوم غير زيد وعمرا، نصبا؛ لأن المعنى؛ جاءني القوم إلا زيدًا. وأما إن كانت صفةً فيما لا تصلح فيه إلا فلا موضع لها؛ لأنه تقدير تفريغ في الإيجاب. وأما إذا كانت استثناء فيجوز الحمل على اللفظ والحمل على الموضع، وهو أقوى من الصفةً؛ لأن الأول حمل على المعنى، وهذا على اللفظ، وهذا ذكره س، واحتج على جوازه انه في معنى إلا. وقال قوم: إنه خاص بالاستثناء، فلا يكون [75:4/ب] / في الصفةً. والظاهر جوازه، ولا فرق بينهما في المعنى أعني في الحمل على اللفظ والحمل على الموضع. ويجوز وجه أخر، وهو القطع على الابتداء كما كان في الاستثناء)). وإذا عطفت على المستثنى إلا فلا يجوز في المعطوف إلا مشاركة ذلك الاسم في الإعراب؛ فإذا قلت قام القوم إلا زيدا وعمرا فلا يجوز عمرو، بالخفض على تقدير: قام القوم غير زيد وعمرو؛ لأن زيدًا بعد إلا لا موضع له يخالف لفظه، بل لفظه وموضعه واحد. وقد ذهب بعض النحويين - ومنهم ابن خروف - إلى إجازة ذلك، وحمل عليه قول الشاعر: وما هاج هذا الشوق إلا حمامة تغنت على خضراء سمر قيودها

روي برفع سمر على لفظ حمامةً، وبجره، قال: على معنى: وما هاج هذا الشوق غير حمامة سمر قيودها. ومن منع ذلك تأول الجر في سمر على أنه خفض على الجوار أو على أن سمرا نعت لخضراء، والمراد بالقيود عروق الشجرة، وقد حكي ذلك لغة. وفي الاستدلال بقوله ((سمر قيودها)) على أن يكون نعتًا لحمامةً، على تقدير ((إلا حمامةً)) بـ ((غير حمامةً)) - دليل على إجراء النعت مجرى العطف؛ فعلى هذا يجوز أن يراعى المعنى في قولك: ما جاء غير زيد العاقل، برفع العاقل على معنى: ما جاء إلا زيد العاقل، فلا تتقيد المسألةً بالعطف كما قيدها المصنف وأكثر النحويين. وإذا كانت غير استثناء ففي العطف بعدها ب ((لا)) خلاف: فذهب أبو عبيدة والأخفش وابن السراج والزجاج وأبو علي والرماني إلى جواز ذلك، إما على تقدير زيادةً لا، وإما على الحمل غير المعنى؛ لأن الاستثناء فيه معنى النفي، فإن قولك جاءني القوم إلا زيدًا معناه: جاءني القوم لا زيد، وهو هنا أولى لأن غيرًا في أصلها تعطي المعني، ويدل عليه أنك تقول: أنت غير القائم ولا القاعد. وذهب الفراء وثعلب إلى أنه إذا كانت استثناء فلا يجوز العطف بعدها بـ ((لا)) كما لا يكون بعد إلا، فلا تقول: جاءني القوم غير زيد ولا عمرو، كما لا تقول: جاءني القوم إلا زيدًا ولا عمرًا.

وأجاز النحويون: عندي غير زيد ولا عبد الله، ولم يجيزوا: عندي سوى عبد الله ولا زيد. وأجاز بعضهم: أنت زيد غير ضارب، ولم يجيزوا: أنت زيد مثل ضارب، لجعلهم غيرا بمنزلة لا. مسألة: ما لي إلا زيدًا صديق وعمرو، بالنصب، وعمرو بالرفع، فالنصب عطف على إلا زيدا، والرفع على الابتداء، والخبر محذوف لأنه تقدمه ما يدل عليه، كأنه قال: وعمرو لي صديق أيضًا، وحذفت لأن معنى ما لي إلا زيدًا صديق في معنى: زيد صديقي، كما حذفت في: إن زيد قائم وعمرو؛ لأن معنى إن زيد قائم: زيد قائم، وهذا تخريج الخليل. وقال غيره: إلا زيدا كان يجوز فيه الرفع على أن يبدل منه صديق، كما جاز: ما لي إلا عمرو أحد، وهو ومنع العام موضع الخاص،/ [76:4/أ] وقد كان لو وقع في موضعه اختير فيه الرفع، فرفع الثاني حملًا عليه؛ ألا ترى أن ما لي صديق إلا زيد كان يختار فيه الرفع، وهذا قد وقع موقعه، فرفعوه بالعطف على التوهم، ولا يجوز على هذا: ما لي صديق إلا زيدًا وعمرو، ويعطف على زيد لأنه قد يرتفع؛ إذ لا ضرورة تدعو إلى ذلك، فإنما سمع الرفع في الآخر على هذه الصورة، وهو الفصل بينه وبين المستثنى الأول، فوجهت على ما ذكر. وقوله ويساويها في الاستثناء المنقطع بيد مضافًا إلى أن وصلتها قال المصنف في الشرح: ((مثاله قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (أنا أفصح من نطق بالضاد بيد أني من

قريش, واسترضعت في بني سعد))) انتهى. وكون ((بيد)) بمعنى ((غير)) كما ذكر هو المشهور. وذهب الأموي إلى أن معنى ((بيد)): ((على)) , وأورد الحديث المذكور. وقال في البديع: ((وأما بيد فأكثر ما تستعمل مع أن, تقول: ذهب الناس بيد أني لم اذهب, ومعناه معنى غير, وقد تكون بمعنى على, وقد تبدل من بائها ميم)). -[ص: ويساويها مطلقا سوى, وينفرد بلزوم الإضافة لفظا, وبوقوعه صلة دون شيء قبله, والأصح عدم ظرفيته ولزومه النصب. وقد تضم سينه, وقد تفتح, فيمد.]- ش: يعني بقوله ((ويساويها)) أي: يساوي غيرا, ويعني بقوله ((مطلقا)) أي: في الاستثناء المتصل, والاستثناء المنقطع, والوصف بها, فتقول: قام القوم سوى زيد, قال: كل سعي سوى الذي يورث الفو ز فعقباه حسرة وخسار وتقول: ما في الدار احد سوى حمار, وقال:

لم ألف في الدار ذا نطق سوى طلل ........................... وتقول: جاءني رجل سوى زيد, قال: أصابهم بلاء كان فيهم سوى ما قد أصاب بني النضير قال المصنف في الشرح: ((وتساويها أيضا في قبول تأثير العوامل المفرغة رافعة وناصبه [وخافضة] في نظم ونثر)) انتهى. وسنورد ما أورده المصنف في ذلك والخلاف فيه قريبا, إن شاء الله. وقوله وينفرد بلزوم الإضافة لفظا, وبوقوعه صلة دون شيء قبله أي: وينفرد سوى عن غير بلزوم الإضافة لفظا, يعني أنها لما ساوتها فيما ذكر من الاستثناء المتصل والمنفصل والوصف وتأثير العوامل انفردت عنها بأنها لازمة الإضافة لفظا دون معنى, وسيأتي ذلك إن شاء الله. ولا يعترض على سوى بقوله تعالى {مَكَانًا سُوًى} , فإنها هنا قد استعملت بلا إضافة لأنها مغايرة لها في المعنى, إذ هي هنا بمعنى مستو, فـ ((سوى)) لفظ مشترك. وأما وقوعه صلة فتقول: مررت بالذي سواك, فتصل به الموصول في فصيح الكلام, وسنذكر علة ذلك,/ ولا تصله بـ ((غيرك)) , لو قلت ((جاءني الذي غيرك)) لم يجز فصيحا إلا عند الكوفيين. وقوله والأصح عدم ظرفيته ولزومه النصب يعني انه لا يكون ظرفا البتة, ولا يلتزم فيه النصب, يعني انه مرادف ل، ((غير)) أبدا, فكما أن غيرا لا تكون ظرفا, ولا يلتزم فيها النصب, فكذلك سوى.

وهذا الذي ذهب إليه المصنف من أن الأصح عدم ظرفية سوى لا نعلم له سلفا في ذلك إلا الزجاجي, فإن شيخنا الأستاذ أبا الحسن بن الضائع نقل عنه أنها أسماء غير ظروف كغير, قال: ((وإنما غلطه في ذلك أنها ليست أمكنة)). والمشهور بل المنقول أن سوى ظرف. وإنما الخلاف فيه أهو متصرف أو غير متصرف, بمعنى انه يستعمل ظرفا وغير ظرف: فذهب س والفراء وأكثر النحويين إلى انه لازم الظرفية. وذهب بعضهم- ومنهم الرماني والعكبري- إلى انه ظرف متمكن, أي: يستعمل ظرفا كثيرا وغير ظرف قليلا. فعلى المذهب الأول لا يجوز أن يفرغ العامل لها كغير ظرف غير متمكن. وعلى المذهب الثاني يجوز, وحكاه شيخنا الأستاذ أبو الحسن بن الضائع عن ابن عصفور, قال: ((وزعم ابن عصفور أن سوى ظرف متمكن, ورد على أبي

عليٍّ الفارسي لأنه سوى بينها وبين الممدودة, وقد زعم س أن الممدودة غير متمكنة, فزعم ابن عصفور أن الأصل في الظروف التمكن, فلا يجوز أن يقال في شيء منها غير متمكن إلا بثبت, وقد اثبت س أن الممدودة غير متمكنة, ولم ينص في المقصورة على ذلك, فالأولى أن تحمل على الأصل)). قال شيخنا الأستاذ أبو الحسن: ((وليت شعري! ما الفرق بين النص من س على أن المقصورة متمكنة والنص على ذلك من أبي علي؟ فإن كان النص من س محمولا على أنه عن العرب فكذلك يكون عن أبي علي. فإن قال: س باشر العرب, فيحمل كلامه على النقل, وليس كذلك أبو علي. قلت: هما مستويان في النفي؛ فإن س إذا نفى تمكن سواء الممدودة فنحمله على الاستقراء, أي: لم يسمعها من كلامهم إلا كذا ظرفا, وأي فرق بين س وأبي على في ذلك؟ فكلام العرب مروى موجود, فنقول: يمكن لكل متأخر أن يتتبعه ويستقريه. وأيضا فكلام أبي علي إذا أطلقه كذا فقال ليس بمتمكن إنما يحمل على ما قد ثبت عنده- ولا بد- إما من استقراء كلام العرب أو من النقل من كلام الأئمة. ثم إذا كانت سوى في معنى سواء الممدودة فالقياس أن يكون حكمهما واحدا, فاللفظان المتفقان ينبغي- ولا بد- أن تكون أحكامهما متفقة, لاسيما والظرفية فيها ليست متمكنة)) انتهى كلام الأستاذ أبي الحسن شيخنا. ولا ادري من أي موضع نقل هذا الاختيار عن ابن عصفور, والذي نص عليه ابن عصفور في غير ما تصنيف له موافقة الجمهور من أن سوى ظرف غير

متمكن, قال ابن عصفور: ((ولم يتصرف سوى وسواء لأنهما بمعنى مكانك الذي يدخله معنى عوضك وبدلك؛ ألا ترى انك إذا قلت (مررت برجل سواك) فمعناه: مررت/ [4: 77/ أ] برجل مكانك, أي: عوضك وبدلك, ومكان إذا أريد به هذا المعنى لا يتصرف, فكذلك ما هو في معناه. وسبب ذلك أن مكانك بهذا المعنى ليس بمكان حقيقي؛ لان مكان الشيء حقيقة إنما هو موضعه ومستقره, فلما كانت الظرفية على طريقة المجاز لم يتصرفوا فيه كما يتصرفون في الظروف الحقيقية)). وقال: سوى وسواء لا يرفعان, لا يقال: قام سوى زيد, ولا: قام سواء زيد, ولا ينتصبان على غير الظرفية إلا أن يجئ شيء من ذلك في ضرورة شعر. وقال أيضا: ((سوى وسوى وسواء بمنزلة غير في المعنى, إلا أن يكون أبدا في موضع نصب على الظرف, فإذا قلت: قام القوم سواك وسواك وسواءك فكأنك قلت: القوم مكانك وبدلك. ولا تستعمل بعد عامل مفرغ, فلا تقول: ما قام سواك, كما تقول: ما قام غيرك, وكذلك لا تقول ما ضربت سواك, ولا: ما مررت بسواك, كما تقول: ما ضربت غيرك, وما مررت بغيرك؛ لأنها لزمت الظرفية)). وقال المصنف في الشرح ناصرا لمذهبه الذي اختاره: ((وتساويها أيضا في قبول تأثير العوامل المفرغة رافعة وناصبة وخافضة في نثر ونظم, كقول النبي عليه السلام: (دعوت ربي ألا يسلط على أمتي عدوا من سوى أنفسهم) , وقوله: (ما أنتم في سواكم من الأمم إلا كالشعرة البيضاء في جلد الثور الأسود, أو كالشعرة السوداء

في جلد الثور الأبيض) , وكقول بعض العرب: أتاني سواؤك, نقله الفراء, ومن أمثلته: أتيت سواك, وكقول أبي داود: وكل من ظن أن الموت مخطئه معلل بسواء الحق مكذوب وكقول الآخر: أأترك ليلى ليس بيني وبينها سوى ليلة, إني إذا لصبور وكقول الآخر: لديك كفيل بالمنى لمؤمل وان سواك من يؤمله يشقى وكقول الآخر: وإذا تباع كريمة أو تشتري فسواك بائعها, وأنت المشتري وكقول الآخر: ذكرك الله عند ذكر سواه صارف عن فؤادك الغفلات وكقول الآخر: فلما صرح الشر فأمسى وهو عريان ولم يبق سوى العدوا ... ن دناهم كما دانوا

وكقول الآخر: وقال نساء: لو قتلت لساءنا سواكن ذو الشجو الذي أنا فاجع وكقول الآخر: فقلت لهم: بني ذبيان عودوا كما كانت أوائلكم تعود على المولى بالا تخذلوه فإن أخا سوائكم الوحيد وجعل س سوى ظرفا غير متصرف, فقال في باب ما يحتمل الشعر مما لا يحتمل في غيره: (وجعلوا مالا يجري في الكلام إلا ظرفا بمنزلة غيره من الأسماء, وذلك قول المرار العجلي: ولا ينطق الفحشاء من كان منهم إذا جلسوا منا ولا من سوائنا) ثم قال: (فعلوا ذلك لان معنى سواء معنى غير). قلت: قد صرح س بأن معنى/ [4: 77/ ب] سواء معنى غير, وذلك يستلزم انتفاء الظرفية كما هي منتفية عن غير؛ فإن الظرف في العرف ما ضمن معنى في من أسماء الزمان والمكان, وسوى ليس كذلك, فلا يصح كونه ظرفا, ولو سلم كونه ظرفا لم نسلم لزوم الظرفية للشواهد التي تقدم ذكرها نثرا ونظما. فإن تعلق في ادعاء الظرفية بقول العرب: رأيت الذي سواك, فوصلوا الموصول بسواك كما وصلوه بـ (عندك) ونحوه من الظروف- فالجواب أن يقال: لا

يلزم من معاملته معاملة الظرف كونه ظرفا؛ فإن جرف الجر يعامل معاملة الظرف, ولم يكن بذلك ظرفا, وان سمي ظرفا فمجاز. وان أطلق على سوى ظرف إطلاقا مجازيا لم يمتنع, وإنما يمتنع تسميته ظرفا بقصد الحقيقة, وان كان ذلك مع عدم التصرف فامتناعه أحق. فإن قيل: فلم استجيز الوصل بـ ((سوى)) , ولم يستنجز بـ ((غير)) , وهما بمعنى واحد؟ فعن ذلك جوابان: أحدهما: أن هذا في النوادر كنصب غدوة بعد لدن, وكإضافة ذي إلى تسلم في قولهم: اذهب بذي تسلم. والثاني: أن ((سوى)) لازمة الإضافة لفظا ومعنى, فشبه لـ ((عند)) و ((لدى)) في ذلك مع كثرة الاستعمال, فعومل في الوصل به معاملتهما, ولم تعامل ((غير)) هذه المعاملة لأنها قد تنفك عن الإضافة لفظا. فإن قيل: فما موضع ((سوى)) من الإعراب بعد الموصول؟ قلت: يحتمل أن يكون موضعه رفعا على انه خبر مبتدأ مضمر, ويحتمل أن يكون موضعه نصبا على انه حال, وقبله ((ثبت)) مضمرا, كما اضمر قبل أن في قولهم: لا افعل ذلك ما أن حراء مكانه. ويقوي هذا الوجه قول من قال: رأيت الذي سواءك. ونظيره أيضاً قولهم: كل شيء مهة ما النساء وذكرهن. ولنا أن نجعل سواءك بعد الموصول خبر مبتدأ مضمر على أن يكون مبنيا لإبهامه وإضافته إلى مبنى, كما فعل ذلك بـ ((غير)) في قوله:

لذ بقيس حين يأبى غيره تلفه بحرا مفيضا خيره)) انتهى كلام المصنف في الشرح. وإنما كثر الشواهد على زعمه لأنه ذهب مذهبا قل أن يتبع عليه؛ لان مستقري اللغة وعلم النحو لا يكاد احد منهم يذهب إلى مقالته, وهي عندهم منصوبة على الظرف, ولا حجة فيما كثر به من الشواهد؛ لأنها كلها جاءت في الشعر, وهو محل ضرورة, ولم يجئ شيء منه في الكلام. وأما ما جاء في الحديث فقد تكلمنا معه في ذلك, وبينا أن النحاة لم يستدلوا بما ورد في الحديث على إثبات القواعد النحوية, وبينا العلة في ذلك. وأما رواية الفراء ((أتاني سواؤك)) فهو من الشذوذ بحيث لا يقاس عليه, وناهيك أن س حكي أن سواءك لا يجري في الكلام إلا ظرفا, وانشد بيت المرار على انه ضرورة, وكذلك عجز بيت الأعشى, وصدره: تجانف عن أهل اليمامة ناقتي وما قصدت من أهلها لسوائكا [4: 78/ أ] / وأما كلامه في تخريج ((سوى)) إذا كانت وصلا للموصول فهو في غاية التكلف ومخالف لكلام الناس. وذكر في البسيط أن الكوفيين ذهبوا إلى أنهما- يعني سوى وسواء-قد يكونان اسمين بمنزلة غير, واحتجوا بقوله: ولم يبق سوى العدوا ن .................................... وقوله:

................ وما قصدت من أهلها لسوائكا وقوله: ........................... معلل بسواء الحق مكذوب وقالوا في الكلام: أتاني سواؤك, أي: غيرك. وقال البصريون: هذا من الشاذ. وأما ((سواء)) من قوله {فَانبِذْ إلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ} , وقولهم ((مررت برجل سواء والعدم)) , وسواء على أقمت أم قعدت, و {فَرَآهُ فِي سَوَاءِ الجَحِيمِ}، و: ....................... ............ في سواء القبر ملحود وقوله {مَكَانًا سُوًى} - فهما اسمان لا ظرفان اتفاقا. وقال بعضهم: ((الفرق بين (سوى) و (غير) أن غيرا تضاف إلى المعرفة والنكرة, وسوى لا تضاف إلا إلى المعرفة)) انتهى. وما ذكر هذا القائل من أن ((سوى)) لا تضاف إلا إلى المعرفة فقد تقدم إنشادنا: ................. سوى طلل .................... و: .............................. سوى ليلة .................. وهما نكرتان.

وقوله وقد تضم سينه، وقد تفتح فيمد المعنى أن سوى الواقعة في الاستثناء تضم سينه، فيقال: قام القوم سوى زيد، وقد تفتح فيمد، فيقال: قام القوم سواء زيد، وروى ضم السين والقصر الأخفش، وروى فتح السين والمد س، ولم يذكر فيما يستثنى به منهن إلا سوى المقصورة المكسورة السين، وظاهر كلام الأخفش أنه يستثنى بالثلاثة. وذكر ابن الخباز الموصلي في "شرح ألفية ابن معط" لغة رابعة، وهي كسر السين مع المد. وقال ابن عصفور في الشرح الصغير: "الصحيح أن جميعها - يعني سوى وسوى وسواء- منتصب على الظرف، ولم يشرب منها معنى الاستثناء إلا سوى المكسورة السين، فإن استثنى بما عداها فبالقياس عليها" انتهى. ولذلك لم يمثل س إلا بـ "سوى" المكسورة السين، قال س في الاستثناء في باب لا يكون وليس: "وأما أتاني القوم سواك فزعم الخليل - رحمه الله- أن هذا كقولك: أتاني القوم مكانك، إلا أن في سواك معنى الاستثناء". وقال غير س: سوى وسوى لا يحكم على موضعهما إلا بالنصب؛ لأنهما ظرفان بمنزلة بدلك وموضعك، ومتى مددت ظهر الإعراب، إلا أنه لا يكون إلا نصبًا، نحو: قام القوم سواءك، وما مررت بأحد سواءك، ولا يجر إلا في الشعر. وزعم عبد الدائم بن مرزوق القيرواني أن سواء مبنية على الفتح. وكأنه لما رأى قولهم: قام القوم سواءك، وما مررت بأحد سواءك، يلتزم في همزة سواء الفتح، ولم تتغير تغير غير بوجوه الإعراب، وهي في هذه المواضع بمعنى غير - ادعى أنها مبنية.

و"سواء" المعربة إنما هي بمعنى مستو، نحو قوله تعالى {سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ}، أو بمعنى وسط، نحو قوله تعالى {فَرَآهُ فِي سَوَاءِ الجَحِيمِ}، أو بمعنى حذاء، نحو قولهم: زيد سواء عمرو، أي: حذاء عمرو. ولما ذكره عبد الدائم وجه من القياس، وهو أن /سواء بنيت لتضمنها معنى الحرف - وهو إلا- مع قلة تصرفها؛ ألا ترى أنها لا يبتدأ بها، ولا تكون مفعولًا صريحًا، ولا تجر إلا في الشعر ضرورة، بخلاف غير، فإنها يكون فيها ذلك. ويلزم عبد الدائم أن يقول ذلك في سوى وسوى، أو يبدي فرقًا بين هذين وسواء. والصحيح أن الفتحة في سواء هي فتحة إعراب، وهي ظرف ملتزم فيها الظرفية إلا في الشعر. -[ص: وقد يقال: "ليس إلا"، و"ليس غير"، و"غير" إذا فهم المعنى، وقد ينون، وقد يقال: "ليس غيره"، و"ليس غيره"، و"لم يكن غيره" و"غيره" وفاقًا للأخفش.]- ش: يجوز حذف ما بعد "إلا" وبع "غير"، وذلك بعد ليس خاصة، تقول: جاءني زيد ليس إلا، وليس غير، أي: ليس الجائي إلا هو، أو غيره. وتقول: قبضت عشرة ليس إلا، وليس غير وغير، فالأول على تقدير: ليس غير ذلك مقبوضًا، والثاني على تقدير: ليس المقبوض غير ذلك. وليس قولهم "جاءني زيد ليس إلا، وليس غير" استثناء من الأول؛ لأنه يكون تابعًا لما ليس متبعضًا كالشخص، ولأن ما بعد ليس هو الأول كيف كان.

وقدر س في "ليس غير" الخبر محذوفًا، و"غير" هو الاسم، أي: ليس غير ذلك جاءني. وجوز الأخفش أن يكون المحذوف الاسم، فيكون "غير" الخبر، لكنه مبني، كذا نقل في "البسيط". وذكر ابن خروف أن قول س "ليس غير" في "باب مجاري أواخر الكلم من العربية" روي بفتح الراء وضمها، والأخفش يجعلها معربة في الحالين، ونزع التنوين للإضافة، والمضاف إليه ثابت في التقدير. وكذا قال في "الإفصاح"، قال: قال أبو الحسن: ليس غير: غير اسم ليس، وحذفوا التنوين لاعتقاد الإضافة، والخبر محذوف للاختصار، والمعنى: ليس غير ذلك موجودًا. وروي فيه "ليس غير" بالنصب، قال: وهو خبر ليس على ذلك التقدير. وذكر أن بعض العرب ينون غيرًا مرفوعةً ومنصوبةً لأنه في اللفظ غير مضاف. وذهب الجرمي والمبرد وأكثر المتأخرين إلى أن قولك "ليس غير" الضمة فيه حركة بناء، وحكاه صاحب البسيط عن س. وكان البناء على الضم للقطع عن الإضافة، وتكون مبنية سواء أكانت اسم ليس أم خبرها تشبيهًا بقبل وبعد في الإبهام والقطع عن الإضافة ونية المضاف إليه. وإن شئت قلت: ضمنت معنى إلا؛ لأن العرب تقول في هذا الموضع: ليس إلا.

ويستدل للإعراب بتنوينها؛ لأنه إما أن يكون للصرف أو للعوض من المضاف إليه، وأيا ما كان لزم كون ما فيه معربًا؛ لأن تنوين الصرف لا يلحق مبنيًا، وتنوين العوض يبقى ما دخله على حاله السابق من إعراب، نحو كل وبعض، أو من بناء، نحو حينئذ. وتجوز إضافة غير، فيرفع أو ينصب، فيقال: ليس غيره، فتقول في تقدير الرفع: ليس الجائي غيره، وفي تقدير النصب: ليس الجائي غيره. وهذا التقدير يصح في "ليس إلا"، أي: ليس الأمر إلا ذاك، أو ليس الأمر إلا ذاك، فتحذف الاسم أو الخبر، وتقدره على ما يليق بالمعنى، والأجود التصريح مع "غير" بالمضاف إليه، فقولك قبضت عشرة ليس غيرها، أو ليس غيرها، أجود من ليس غير أو غير. واختلف / [4: 79/ أ] في الحذف، هل يجوز مع "لم يكن": فأجاز ذلك الأخفش، فأجاز أن تقول: لم يكن غيره أو غيره، فتحذف الاسم أو الخبر مع "غيره" مضافة كحذفهما مع ليس. ووافقه على ذلك المصنف. وزعم السيرافي أن هذا الحذف لا يجوز مع "لم يكن"؛ لأن حذف الاسم أو الخبر في "ليس" القياس فيه ألا يجوز؛ لأنها من باب كان، والأصل في كان وأخواتها ألا يجوز فيها حذف الاسم ولا حذف الخبر لعلة ذكرت في باب كان، فلا ينبغي أن يقاس على ما شذ من ذلك في ولهم: ليس إلا، وليس غير. ص: والمذكور بعد "لاسيما" منبه على أولويته بالحكم لا مستثنى، فإن جر فبالإضافة، و"ما" زائدة، وإن رفع فخبر مبتدأ محذوف، و"ما" بمعنى الذي. وقد توصل بظرف أو جملة فعلية، وقد يقال "لاسيما" بالتخفيف، ولا سواء ما.

ش: أدوات الاستثناء المتفق عليها والمختلف فيها: إلا، وغير، وسوى، وعدا، وخلا، وحاشا، وليس، ولا يكون، وسوى بضم السين، وسواء بالمد وفتح السين وكسرها، وما النافية، وبيد، وإلا أن يكون، وتقدم الكلام على هذه. ولاسيما، وبله، ولما، وفي كلام بعض الفقهاء الحنفيين ما يدل على أن "دون" من أدوات الاستثناء، ونحن نتكلم على هذه الأربعة، فنقول: أما "لاسيما" فعدها الكوفيون وجماعة من البصريين كالزجاج وأبي علي والنحاس، ومن أصحابنا أبو جعفر بن مضاء صاحب كتاب "المشرق" وغيره من أدوات الاستثناء. ووجه ذكرها في أدوات الاستثناء أنك إذا قلت قام القوم لاسيما زيد فقد خالفهم زيد في أنه أولى بالقيام منهم، فهو مخالفهم في الحكم الذي ثبت لهم بطريق الأولوية. والصحيح أن "لاسيما" لا تعد من أدوات الاستثناء لأنه مشارك لهم في القيام، وليس تأكيد القيام في حقه يخرجه عن أن يكون قائما، ولذلك لم يذكرها س إلا في باب النفي، ودخول الواو عليها يمنع أن تكون من أدوات الاستثناء. ويدل على بطلان كونها أداة استثناء عدم صلاحية "إلا" مكانها، بخلاف سائر الأدوات، فإنه تصلح إلا مكانها، وهذا واضح من دلالتها. وقال ابن هشام: لما كان ما بعدها بعضًا مما قبلها وخارجًا عنه بمعنى الزيادة كان استثناء من الأول؛ لأنه خرج عنه بوجه لم يكن له، وأقرب ما يشبه به قول النابغة: فتى كملت أخلاقه غير أنه جواد، فما يبقي من المال باقيا

لأن كونه جوادا خير، لكن زاد في هذا الخير على خيره بما هو خير. وقوله فغن جر فبالإضافة، و"ما" زائدة يعني: إذا قلت "لاسيما زيد" فمعناه: لا مثل زيد، وزيادة "ما" بين المضاف والمضاف غليه مسموعة من كلام العرب، وإن لم تطرد زيادتها بين كل مضاف ومضاف إليه، وهي في هذا المكان من المسموع عن العرب. ويجوز حذف ما، فتقول: / [4: 79/ ب] ولا سي زيد، نص عليه س. وقال ابن هشام في "شرح الإيضاح" عن س: إنه زعم أن ما زائدة لازمة لا تحذف. كأنه وقف على أول كلام س فيها، ولم يطالع آخره، فإن س زعم أن ما يجوز حذفها، قال س: "وإن حذفت ما ومن فعربي جيد". يريد "ما" من لاسيما زيد، و"من" من كائن. وزعم الأستاذ أبو علي أن الخفض ضعيف لزيادة ما، قال: "لأنه ليس من مواضع زيادتها". وما ذهب إليه ليس بجيد؛ لأن هذا مما علم زيادة "ما" فيه بالسماع فصيحًا، فكما نقول تطرد زيادة ما بعد إذا كذلك نقول تطرد زيادة ما في لاسيما زيد. و"لا" عاملة النصب في سي، وخبرها محذوف لفهم المعنى، والتقدير: لا مثل قيام زيد قيام لهم. وإنما قدرنا الخبر نكرة لان "لا" لا تعمل في المعارف، وإنما عملت في سي زيد لأن سيا بمعنى مثل، فهي لا تتعرف بما تضاف إليه. وزعم أبو علي في "الهيتيات" أن قولك قام القوم لاسيما زيد ليست "لا" عاملة النصب في سي، بل سي منصوب على الحال من الجملة السابقة، ولم

تتكرر "لا" وإن كان قياسها أن تتكرر، وذلك كما تقول: جاء زيد لا ضاحكًا ولا باكيًا، وكأنه قال: قام القوم غير مماثلين زيدا في القيام. وما ذهب إليه فاسد لجواز دخول الواو على لا، فتقول: قام القوم ولاسيما زيد، ولو كان منصوبا على الحال لم يجز دخول الواو عليه، كما لا يجوز: جاء زيد ولا ضاحكا ولا باكيا. ومن غريب القول ما حكاه صاحب "البديع"، وهو أن من النحويين من زعم أن "لا" في "لاسيما" زائدة. وقوله وإن رفع فخبر مبتدأ محذوف، و"ما" بمعنى الذي مثال ذلك: لاسيما زيد، فـ "ما" مخفوضة بالإضافة، وزيد خبر مبتدأ محذوف، تقديره: لا سي الذي هو زيد، ونظيره قول العرب: دع ما زيد، أي: دع الشخص الذي هو زيد. وهذا الوجه فيه ضعف من جهتين: إحداهما: حذف صدر الصلة من غير طول، وليس الموصول أيا، والتزام حذفه دائما، فلا يحفظ م كلامهم: لاسيما هو زيد. والثانية: إطلاق "ما" على آحاد من يعقل، والمشهور أن ذلك لا يجوز، وخبر "لا" محذوف، كما كان حين كان "زيد" مخفوضًا. هذا هو المشهور في إعراب "ما" إذا ارتفع ما بعد: لاسيما. وزعم الأخفش أن سي ليس مضافًا لـ "ما"، بل "ما" موصولة بمعنى الذي في موضع رفع، و"لا" مع "سي" كهي في قولك: لا رجل، و"ما" هو خبر"لا"، فكأنه قال: لا مثل الشخص الذي هو زيد.

وهذا فاسد لأن فيه عمل "لا" في خبرها، وهو معرفة، و"لا" لا تعمل في المعارف. وأجاز ابن خروف إذا ارتفع ما بعد لاسيما أن تكون "ما" نكرة موصوفة، وزيد: خبر مبتدأ محذوف، في موضع الصفة. ولم يذكر المصنف في إعراب ما بعد لاسيما إلا الخفض، وبدأبه لأنه أقيس وأقل تكلفا، والرفع، وكلاهما جائز في المعرفة والنكرة. ولم يذكر س غير الخفض والرفع. وأهمل المصنف وجها آخر ذكروا أنه جائز في النكرة، / [4: 80/ أ] وهو النصب، وقد ضبط بيت امرئ القيس: ألا رب يوم لك منهن صالح ولاسيما يوم بدارة جلجل بالرفع والنصب والجر، والنصب في النكرة على التمييز، وفي إعراب "ما" وجهان: أحدهما: أن تكون في موضع خفض بالإضافة، نكرة تامة، كأنه قال: ولا مثل شيء، ثم ميز وفسر بالنكرة المنصوبة، وهذا الإعراب الذي تلقفناه من أفواه الشيوخ. وقال الفارسي في تذكرته: "رووا في "ولاسيما يوم" الوجوه الثلاثة، النصب عندي ليس بالسهل، ووجهه أن تجعل ما بمنزلة شيء، وتنصب يوما عن تمام الاسم بالإضافة، مثل: أفضل الناس رجلا. ولا يجوز أن تجعل ما بمنزلة الذي، وتنصب اليوم على الظرف، فتقول: لا مثل الذي يوما بدارة جلجل، وتجعله صلة الذي" انتهى.

وفي البسيط: وذكر بعضهم أنه يجوز النصب في الاسم تمييزا، وتكون "ما" نكرة غير موصوفة، كأنك قلت: لا مثل شيء رجلا. وفيه ضعف؛ لأن مثل يضاف إلى معرفة ليتخصص، فيقال: لي مثله رجلا، وقد روي قول امرئ القيس: .......................... ولاسيما يوم بدارة جلجل بالثلاثة الأوجه. وقال أبو القاسم بن القاسم: هو ظرف صلة لـ "ما"، أراد: ولا مثل الذي اتفق يوما، فحذف للعلم. قال ابن هشام: وبهذا قال أكثر من رأيت، ومن كلامهم: قد عرفت الذي أمس، أي: الذي وقع واتفق. وحكي س في (باب ما حذف من المستثنى): هذا الذي أمس، قال: "يريد الذي فعل أمس". ومجيء الظرف صلة كثير إلا أن فيه قلقا؛ لأن اليوم لا يقع في اليوم، لكنه يتصور أن يريد: ألا رب وصل يوم، أو لذاذة يوم، فيتصور ذلك. والوجه الثاني: أن تكون "ما" لا موضع لها من الإعراب، وتكون حرفا كافا لـ "سي" عن الإضافة إلى ما بعدها، فأشبهت الإضافة في قولهم "على التمرة مثلها زبدا" من جهة منعه الإضافة إلى ما بعدها، وهذا توجيه الفارسي. وحكي عن الأستاذ أبي علي أنه كان يستحسنه. وقال المصنف في الشرح: "ولا بأس به في كل ما وقع بعد لاسيما من صالح للتمييز" انتهى. وجوزه أيضًا شيخنا أبو الحسن بن الضائع، قال: "ويجوز أن ينتصب يوما على

الظرف، كأنه أراد: ولا مثل ما كان لك في يوم بدارة جلجل، هذا تفسير المعنى، وتكون ما كافة". وقوله وقد توصل بظرف مثاله: يعجبني الاعتكاف ولاسيما عند الكعبة، أو: لاسيما إذا قرب الصبح، وقال الشاعر: يسر الكريم الحمد لاسيما لدى شهادة من في خيره يتقلب وجوز المصنف في الشرح في قول امرئ القيس: ........................ ولاسيما يوما بدارة جلجل أن يكون "يوما" ظرفًا صلة لـ"ما"، و"بدارة جلجل" /صفة لقوله "يوما"، أو متعلقا به لما فيه من معنى الاستقرار. وهذا الذي جوزه فيه بعد لأن "ما" إذ ذاك موصولة بمعنى الذي، ويعني بها اليوم، كأنه قال: ولا مثل اليوم يوما بدارة جلجل، أي: ولا مثل اليوم الذي في يوم بدارة جلجل. وقد جوزه أيضًا شيخنا الأستاذ أبو الحسن بن الضائع، فقدره: ولا مثل اليوم الذي ثبت لك في وقت بدارة جلجل. وجوز أيضًا أن يكون التقدير: ولا مثل الصلاح والحسن الذي في يوم بدارة جلجل، لما قال "ألا رب يوم لك منهن صالح" استدرك. وقوله أو جملة فعلية مثاله: يعجبني كلامك لاسيما تعظ به، وقال الشاعر: فق الناس في الخير لاسيما ينيلك من ذي الجلال الرضا

وقوله وقد يقال لاسيما بالتخفيف زعم ابن عصفور أنه لا يجوز تخفيف الياء من لاسيما؛ لأن ذلك لم يحفظ من كلام فصيح، ولا يقتضيه القياس؛ لأن تخفيفها يؤدي إلى إبقاء الإسم المعرب على حرفين، وثانيهما حرف علة، وذلك غير محفوظ في حال إفراد ولا في حال إضافة إلا ما جاء من قولهم فوك وذو مال، وهما خارجان عن القياس. وما منعه الأستاذ أبو الحسن بن عصفور قد حكاه الأخفش في «الأوسط»، قال فيه: «ومن العرب من يخفف لاسيما». وحكا أيضاً أبو جعفر النحاس، وأبو الفتح بن جني، وأبو عبد الله بن الأعرابي في نواره، قال: «يقال: ولاسيما، وقد تخفف، ويرفع بها ويخفض، من جعل سيما حرفاً واحداً رفع ما بعده، ومن جعل ما حشواً خفض به» انتهى كلامه. ونسبة الرفع إليها والخفض على طريق المجاز، ولا يعني أن لاسيما ترفع وتخفض حقيقة، إلا أنه لما كان الرفع في الاسم بعدها والخفض نسب ذلك إليها. وقال الشاعر في تخفيف الياء في لاسيما: ف بالعقود وبالأيمان لاسيما عقد وفاء به من أعظم القرب وإذا خففت الياء في لاسيما فما المحذوف؟ أعين الكلمة أم لامها؟ وذلك أن سيا عينها واو، ولامها ياء، فهي من باب طويت، وأصلها سوي؛ لأنها من سويت، فقلبت الواو ياء لسكونها وانكسار ما قبلها على حد ميزان، أو لوقوع الياء بعدها، أو لهما جميعاً، وأدغمت في الياء، فقيل سي. فذهب ابن جني إلى أن المحذوف هو لام الكلمة، وانفتحت الياء بإلقاء حركة اللام عليها، قال: فكان ينبغي أن ترجع واواً لأنها عين، وتصح كما صحت في عوض وحول، وأن يقال: لا سوما زيد، لكنها أقرت على قلبها دلالة على أن المراد سكونها ووقوع الياء بعدها، وإن شئت قلت لأنها الآن قد وقعت طرفاً، فضعفت.

قال ابن يسعون: «وإنما آثر القول بحذف اللام لأنها أولى بذلك» انتهى. وأولويتها بذلك لأن حذف/ اللام أكثر من حذف العين [4: 81/أ] والأحسن عندي الوقوف فيها مع الظاهر وأن يكون المحذوف العين وإن كان أقل من حذف اللام. وقد أبدلت العرب سين سيما تاء، فقالوا: لا تيما، كما قالوا في الناس: النات، وفي الأكياس: الأكيات، وقال بعضهم {قل أعوذ برب النات. ملك النات. إله النات}. وأبدلت أيضاً «لا» بـ «نا»، فقالوا: نا سيما، أي: لاسيما، كما قالوا: قام زيد نا بل عمرو، ويريدون: لا بل عمرو. وقوله ولا سواء ما أي: يقال: ولا سواء ما، فتقول: قام القوم لا سواء ما زيد. وإطلاقه يدل على جواز الرفع والجر بعد: لا سواء ما، كما جاز ذلك بعد: لا سيما. وحكي ابن الأعرابي في نوادره وأبو الحسن الهنائي في «المجرد» أن العرب تقول: «لا مثل ما» بمعنى: لاسيما، وأنهما بمعنى واحد. ونص ابن الأعرابي على أن ما بعد «لا مثل» يرفع ويخفض كما بعد: لاسيما. وقال الهنائي: «لا تر ما، ولاسيما، ولا مثل ما، يمعنى واحد». وذكر ابن الأعرابي «ولو تر ما» بمعنى: لاسيما، إلا أنه قال: «لا يكون فيها إلا الرفع»، يعني أن الاسم الذي بعد «تر ما» لا يكون فيه إلا الرفع. وذكر أن الأحمر ذكر «ولو تر

ما». وإنما لم يكن بعد «تر ما» إلا الرفع لأن «تر» فعل، فلا يمكن أن تكون «ما» بعدها زائدة، وينجر ما بعدها بالإضافة؛ لأن الفعل لا يضاف فينجر ما بعده بالإضافة، فـ «ما» موصولة بمعنى الذي، وهي مفعولة بـ «تر»، وزيد: خبر مبتدأ محذوف. و «تر» إن كان قبلها لا فتحتمل وجهين: أحدهما: أن تكون مجزومة بـ «لا»، فتكون لا للنهي، والتقدير: لا تر أيها المخاطب الذي هو زيد، فإذا قلت «قام القوم لا تر ما زيد» فالمعنى: لا تبصر الشخص الذي هو زيد، فإنه في القيام أولى به منهم. والوجه الثاني: أن تكون «تر» غير مجزومة، وتكون «لا» حرف نفي، وحذفت ألف «تر» على جهة الشذوذ، كما حذفت ياء أدري وأبالي في قولهم: لا أدر، ولا أبال، وهما منفيان، ولهذا قالوا حين أدخلوا الجازم على أبال: لم أبل، بجزم اللام. وإن كان قبل «تر» «لو» فخذف ألف ترى أيضاً هو على وجه الشذوذ كما ذكرنا حين قدرنا «لا» نافية، وتكون لو حرفاً لما كان سيقع لوقوع غيره، وجواب لو محذوف، والتقدير: ولو تبصر الذي هو زيد لرأيته أولى منهم بالقيام؛ إذ القيام بالنسبة إليه أولى منه بالنسبة إليهم. ونظير ذلك قولك: لقد جاد الناس ولو رأيت زيداً، ولقد قائل العبسيون ولو رايتا عنترة، فجواب لو محذوف، والتقدير: ولو رأيت زيداً لرأيت الجود العظيم، ولو رأيت عنترة لرأيت القتال البليغ، فمعنى هذا الكلام أن زيداً وعنترة هما أولى بالفعل ممن أسند إليهم.

فإن قلت: كيف أدت هذه الجملة الفعلية المركبة من «لا تر ما زيد» أو من «لو تر ما زيد» معنى لاسيما زيد، ولاسيما جملة اسمية؟ فالجواب: أن الشيء قد يشارك الشيء في تأدية المعنى وإن كانا مختلفي الحد؛ ألا/ [4: 81/ب] ترى أن خلا وعدا وحاشا إذا انتصب ما بعدها، وليس ولا يكون- قد أدت معنى «إلا» في الاستثناء وإن كانت قد خالفت «إلا» في الحد، فكما جاز الاستثناء بهذه وتأديتها معنى إلا كذلك جاز أن يدل قولهم «ولو تر ما» «ولا تر ما» على معنى «لاسيما» في دخول ما بعدها في الحكم الذي قبلها على طريق الأولوية. ولم أر لأحد من النحويين كلاماً على «لا تر ما» ولا «لو تر ما»، وإنما خرجنا ذلك على قواعد ما اقتضته صناعة العربية. ومن أحكام «لاسيما» أنه قد تجئ بعدها الجملة الشرطية، نحو قولك: السؤال يشفي من الجهل لاسيما إن سألت خبيراً، وقال الشاعر: أرى النيك يحلو الهم والغم والعمى ولاسيما إن نكت بالمدسر الضخم وحكي الأخفش أنهم يقولون: إن فلاناً كريم ولاسيما إن أتيته قاعداً، «ما» نائبة عن المضاف، تقديره: ولا مثله قاعداً. قال في البسيط: «يكون- يعني قاعداً- على هذا منصوباً على التمييز بعد «ما»؛ لأنها في المعنى ضمير، وكأن المستثنى محذوف، كأنه قال: في جميع حالاته إلا في هذا الحال فهو أكرم ما يكون» انتهى. وفي هذا التخريج نظر.

ومن أحكامها أنه لا تجئ بعدها الجملة بالواو، نحو ما يوجد في كلام كثير من العلماء المصنفين من قولهم: لاسيما والأمر كذلك، أو: لاسيما والحالة هذه، وما أشبه هذا التركيب. ولا حذف «لا» من لاسيما، وقد أولع بذلك كثير من المصنفين أيضاً، لأن حذف الحرف خارج عن القياس، فلا ينبغي أن يقال بشيء منه إلا حيث سمع، وسبب ذلك أنهم يقولون إن حروف المعاني إنما وضعت بدلاً من الأفعال طلباً للاختصار، ولذلك أصل وضعها أن تكون على حرف واحد، أو على حرفين، وما وضع مؤدياً معنى الفعل واختصر في حروف وضعه لا يناسبه الحذف، ولم يسمع حذف لا من قولهم لاسيما في كلام من يحتج به، فلا يجوز حذفها، وإنما سمع ذلك في أشعار المولدين، نحو قول الحسين بن الضحاك الخليع: كل مشتاق إليه فمن السوء فداه سيما من حالت الأحـ ـراس من دون مناه يريد: لاسيما. وأما «بلة» فمذهب جمهور البصريين أنه لا يجوز فيما بعدها إلا الخفض، وأجاز الكوفيون والبغداديون فيه النصب على الاستثناء، نحو: أكرمت العبيد بله الأحرار. وإنما جعلوه استثناء لأنهم رأوا ما بعدها خارجاً عما قبلها في الوصف من حيث كان مرتباً عليه؛ لأن معنى أكرمت العبيد بل الأحرار أن إكرامك للأحرار يزيد على العبيد. والصحيح أنها ليست من أدوات الاستثناء؛ بدليل انتفاء وقوع «إلا» مكانها، وأن ما بعدها لا يكون/ [4: 82/أ] إلا من جنس ما قبلها، وبجواز دخول حرف

العطف عليها ولم يتقدمها استثناء، قال شيخنا ابن الضائع: «ومما يضعف إدخال بله ولاسيما في أدوات الاستثناء أنهم لم يأتوا بـ «حتى» في الاستثناء؛ ألا ترى أن قولهم قام القوم حتى زيد قد أخرج زيداً عن القوم لصفة اختص بها في القيام لم تثبت لهم، فلو كان هذا المعنى حقيقة في الاستثناء للزم- ولابد- ذكر حتى في أدوات الاستثناء» انتهى. وما ذهب إليه الجمهور من البصريين من أنه لا يجوز فيما بعدها النصب ليس بصحيح، بل النصب بها محفوظ من لسان العرب، قال الشاعر: تمشي القطوف إذا غنى الحداة بها مشي الجواد، فبله الجلة النجبا وأنشد أبو الطيب عبد الواحد بن علي اللغوي في كتاب «شجر الدر» لجرير في النصب بـ «بله» يهجو الفرزدق: وهل كنت يا بن القين في الدهر مالكا لغير بعير، بله مهرية نجبا وقال آخر: تذر الجماجم ضاحيا هاماتها بله الأكف، كأنها لم تخلق روي بخفض الأكف.

وقد روي الرفع بعد بله على معنى كيف، فيرفع، ذكره قطر ب، وأنكره أبو علي. وفي نختصر العين: بله بمعنى كيف، وبمعنى دع. فأما الجر بعدها- وهو المجمع على سماعه من لسان العرب- فذهب بعض الكوفيين إلى أنها ذاك اسم بمعنى غير، فينجر ما بعدها بالإضافة، فمعنى قوله «بله الأكف»: غير الأكف، فيكون هذا استثناء منقطعاً. وذهب الفارسي إلى أنها مصدر لم ينطق له بفعل، وهو مضاف لما بعده، وهي إضافة من نصب. وذهب الأخفش إلى أنها حرف جر. وأما النصب فيكون على أنه مفعول، وبله مصدر موضوع موضع الفعل، أو اسم فعل ليس من لفظ الفعل، فإذا قلت «قام القوم بله زيداً» فكأنك قلت: تركا زيداً، أو دع زيداً. وأما الرفع فعلى الابتداء، وبله بمعنى كيف في موضع الخبر، وهو شبيه بقولهم: ما مررت برجلٍ مسلمٍ فكيف رجل راغب في الصدقة. وقال ابن عصفور: «فأما بله فإدخالها في باب الاستثناء فاسد؛ لأنك إذا قلت قام القوم بله زيداً فإنما معناه عندنا: دع زيداً، ولا يتعرض للإخبار عنه، وليس المعنى: إلا زيداً؛ ألا ترى أن المعنى في البيت: دع الأكف فهذه صفتها، ولم يرد استثناء الأكف من الجماجم». قال شيخنا الأستاذ أبو الحسن بن البضائع: «زعم- يعني ابن عصفور- أن معناها في البيت: دع الأكف فهذه صفتها، وهذا مناقض لقوله «كأنها لم تخلق»،

فإنما يريد: إذا كان فعلها في الجماجم كذا فالأكف أحرى بذلك، فكأنها لم تكن قط، فيقال إنها قطعتها، فلا فرق بين معنى لاسيما وبله» انتهى. وقالت العرب بهل في بله. وأما «لما» فتكون بمعنى إلا، وهي قليلة الدور في/ [4: 82/ ب] كلام العرب، وينبغي ألا يتسع فيها، بل يقتصر على التركيب الذي وقع في كلام العرب، نحو قوله تعالى {إن كُلُّ نَفْسٍ لَّمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ}، {وإن كُلٌّ لَّمَّا جَمِيعٌ} في قراءة من شدد الميم، فـ (إن) نافية، و (لما) بمعنى إلا. وممن حكي أن لما بمعنى إلا الخليل وس والكسائي، وقرأ ابن مسعود {ومَا مِنَّا إلاَّ لَهُ مَقَامٌ مَّعْلُومٌ}، أي: إلا له. وقالوا: نشدتك الله لما فعلت كذا، وعمرك الله لما فعلت كذا، وقعدك الله لما فعلت كذا، و «لما» مع هذه بمعنى إلا، وقد يحذف نشدتك أو سألتك وما أشبهه، فيقال: بالله لما صنعت كذا، أي: سألتك أو نشدتك بالله إلا صنعت كذا، قال الشاعر:

قالت له: بالله، يا ذا البردين لما غنئت نفساً أو اثنين فهذه التراكيب وما أشبهها من المسموع ينبغي أن تعتمد في مجيء لما بمعنى إلا. وزعم أبو القاسم الزجاجي حين ذكر أن لما تكون بمعنى إلا أن يجوز أن تقول: لم يأتني من القوم لما أخوك، ولم أر من القوم لما زيداً، تريد: إلا زيداً. وينبغي أن يتوقف في إجازة هذه التراكيب ونحوها حتى يثبت سماعها أو سماع نظائرها من لسان العرب، فأما قراءة حمزة: {وإنَّ كُلاًّ لَّمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ} بتشديد (إن) ونصب قوله (كلا) وتشديد (لما) فهي قراءة صعبة التخريج، ولذلك قال المبرد: هذا لحن، لا تقول العرب: إن زيداً لما خارج، ولا: إن زيداً إلا خارج. وقال الكسائي: «ما أدري ما وج هذه القراءة». وقال الفراء: «التقدير: لمن ما، فلما كثرت الميمات حذف منهن واحدة»، فعلى هذا القول هي لام التوكيد. وقال المازني: «إن بمعنى ما، ثم ثقلت». قال أبو جعفر النحاس: «يذهب المازني إلى أن إن إذا كانت خفيفة كانت بمعنى ما، ثم تثقل، كما أن «إن» المؤكدة تخفف، ومعناها الثقيلة» انتهى.

والحكم على هذه القراءة بأنها لحن ضعيف جداً؛ لأنها قراءة تلقفتها الأمة بالقبول لتواترها، وتقدير الفراء والمازني في غاية من الضعف، وقد لاح لي تخريجها على قواعد العربية، والحمد لله، فنقول: (إن) على حالها من كونها حرف توكيد ينصب الاسم ويرفع الخبر، و (كلا) أسمها، و (لما) هنا حرف جزم حذف فعله لدلالة الكلام عليه، والتقدير: وإن كلا لما يهمل، أو لما يترك سدى، وما أشبه هذا من التقدير، و (ليوفينهم) جواب قسم محذوف، والكلام يدل على هذا الفعل المحذوف بعد لما، وهذا جائز فصيح- أعني حذف المضارع المجزوم بعد لما لدلالة المعنى عليه- وذلك نحو قولهم: قاربت المدينة ولما، بخلاف حذفه بعد لم، فإنه لا يجوز إلا في ضرورة الشعر، وإذا كان الفعل بعد لما يجوز حذفه لدلالة الكلام عليه وضح تخريج هذه الآية عليه، ولم أر أحداً تنبه لهذا التخريج الذي خرجناه، إلا أني بعد هذا وصلت في تفسيري للقرآن في كتابي المسمى بـ «البحر المحيط» إلى هذه الآية، فرأيت/ [4: 83/أ] شيخنا مصنف كتاب «التحرير والتحبير» جمال الدين محمد بن سليمان بن حسن المقدسي- عرف بابن النقيب- حكي عن أبي عمرو بن الحاجب تخريج لما على نحو الذي خرجناه. وأما «دون» فقد تقدم ذكرها في ظروف المكان، فإذا قلت «قعد زيد دون عمرو» فالمعنى أن قعود زيد في مكان منخفض عن مكان قعود عمرو، وكذلك «زيد دون عمرو» معناه: المكان الذي فيه زيد ومنخفض عن المكان الذي فيه عمرو، هذه حقيقة هذه اللفظة. وقد يطلقون ذلك على المرتبة والمكانة، لكنه مجاز، فيقولون: زيد دون عمرو، يعنون في الشرف لا في المكان.

وقد تكون دلالتها علي المكان مجازية، ولا يراد بها حقيقة الجهة، كقوله تعالي {أَئِفْكًا آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ}، وقوله {ويَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنفَعُهُمْ ولا يَضُرُّهُمْ}، فدلالته في هذا ونحوه علي المكان هو علي سبيل المجاز. وأما قولهم "الموت دون بلوغ كذا" بمعني أن الموت يحول بينه وبين كذا يجتمعا فمجازه أن مكان الموت منخفض عن مكان بلوغ كذا، وإذا كان منخفضاً عنه لم يجمعنا؛ إذ كل منهما في مكان فير مكان الآخر، وإذا لم يجتمعا وقعت الحيلولة. وقد يتجوز بـ"دون"، فيصير كالوصف للأفعال، ولا يكاد يلحظ فيه المكان، فيقول: ضربت زيدًا دون عمرو، وأعطيته دون خالد، والمعني أنه ضرب زيدًا ضربًا دون ضرب عمرو، وأعطاه إعطاء خالد، كأن ضرب زيد منخفض، أي: أقل من ضرب عمرو، وكان إعطاءه منخفض وأقل من إعطاء خالد. وأما ما يتبادر إلي أفهام بعض الناس أنك إذا قلت ضربت زيدًا دون عمرو فمعناه أن الضرب حل بزيد دون عمرو- فليس بمفهوم عربي، ولهذا المفهوم زعم بعض الفقهاء أنه إذا قال القائل.

تم بحمد الله وتوفيقه الجزء الثامن من كتاب "التذييل والتكميل" بتقسيم محققة، ويليه- إن شاء الله تعالي- الجزء التاسع، وأوله "باب الحال"

فهرس الموضوعات تتمة باب المفعول فيه ... 5 - 98 - الآن: ... 5 - تأصيله ... 5 - مسماه ... 5 - ضرفيته غالبة لا لزمة ... 6 - بناؤه وعلته ... 7 - إعرابه الفراء في أنه منقول ... 9 -"أل" في الآن ... 10 - قط وعوض: ... 10 - تأصيل قط، ومعناه، وبناؤه ... 10 - معني عوض ... 11 - اختصاصهما بالنفي ... 12 - استعمال قط دون نفي ... 12 - ورود عوض للمضي، وإضافته، والإضافة إليه، وإعرابه ... 13 - اللغات في قط ... 13 - اللغات في عوض ... 14 - أمس: ... 14 - معناه، وتعريفه، واستعماله، وبناؤه وإعرابه ... 15 - تنكيره، وإضافته، واقترانه بالألف واللام، وإعرابه ... 22

- فصل: الصالح للظرفية القياسية من أسماء الأمكنة ... 26 - 49 1 - ما دل علي مقدر ... 26 2 - ما دل علي مسمي إضافي محض ... 31 3 - الجاري باطراد مجري الإضافي المحض ... 34 - ما يلازمه غالبًا لفظ في ... 36 4 - ما دل علي محل الحدث المشتق هو من اسمه ... 42 - فصل: ظروف المكان المتصرفة وغير المتصرفة ... 50 - 98 1 - ما كان كثير التصرف ... 50 2 - ما كان متوسط التصرف ... 51 3 - ما كان نادر التصرف ... 54 4 - ما كان عادم التصرف ... 59 -تفصيل القول في بعض الظروف: ... 64 - حيث ... 64 - عند ... 69 - لدن ... 70 - بناؤها ومعناها ... 70 - إعرابها، ولغاتها ... 71 - جبر المنقوصة مضافة إلي مضمر ... 72 - جر ما يليها ... 72 - حكم "غدوة" بعدها ... 73 - لدي: معناها وحكم ألفها عند الإضافة ... 77 - مع: ... 78 - معناها وإعرابها ... 78

- إفرادها ... 79 - خروجها عن الحالية بعد إفرادها ... 81 - التوسع في الظرف المتصرف: ... 83 -ما يسوع فيه إذا جعل مفعولاً به: ... 85 1 - إضمار غير مقرون ب"في" ... 85 2 - الإضافة ... 87 3 - الإسناد إليه ... 90 - ما يمنع هذا التوسع ... 92 - فرع: التوسع في الظرف مع كان وأخواتها ... 96 - فرع: عدم التوسع في الظرف مرتين ... 96 - مسألة: الاتساع علي وجهين ... 96 26 - باب المفعول معه ... 99 - 150 - تعريفه ... 99 - انتصابه والعامل فيه ... 101 - وقوع الولو قبل ما لا يصح عطفه ... 107 - عدم تقدمه علي عامل المصاحب ... 111 - عدم تقدمه علي المصاحب ... 112 - مسائل هذا الباب إلي العطف والمفعول معه: ... 114 1 - مايجب فيه العطف، ولا يجوز النصب علي المفعول معه 114 2 - ما يترجح فيه العطف، ويجوز النصب علي المفعول معه 124 3 - ما تجب فيه المعية، ولا يجوز العطف ... 131 4 - ما تترجح فيه المعية، ولا يجوز العطف ... 132 5 - ما يتساوي فيه العطف والمعية ... 132

- عامل النصب في نحو: حسبك وزيدًا درهم 139 - عامل النصب بعد: ويله، وويلاً له 140 - عامل النصب بعد: ويل له 141 - عامل النصب في: رأسه والحائط، وامرأ ونفسه، وشأنك والحج ... 141 - امتناع نحو: هذا لك وأباك، في الاختيار 143 - الاختلاف في كون باب المفعول معه مقيساً 144 - حكم ما بعد المفعول معه من خبر ما قبله أو حاله 149 - فرع: الفصل بين الواو وما بعدها ... 150 27 - باب لمستثني 151 - 380 - تعريفه ... 151 - الاستثناء من العدد ... 163 - الاستثناء المتصل والاستثناء المنقطع 167 - مذهب البصريين في المنقطع 169 - مذهب الكوفيين في المنقطع 172 - الاستثناء المفرغ ... 173 - إعرابه ... 173 - حذف عامله ... 182 - الاستثناء التام ... 182 - نصبه ... 182 - العامل فيه النصب، ومذاهب النحويين فيه ... 182 - المواضع التي يشرك فيها بين النصب والبدل ... 200 - اشتراط الفراء في جواز نصبه تعريف المستثني منه ... 214 - اشتراط بعضهم في جواز الإبدال عدم الصلاحية للإيجاب ... 215

- إتباع المتوسط بين المستثني منه وصفته أولي من النصب ... 217 - إتباع المجرور بمن والباء الزائدتين واسم "لا" الجنسية 221 - إجازة بني تميم إتباع المنقطع المتأخر 224 - حكم الضمير العائد علي المستثني منه قبل المستثني بإلا ... 231 - جعل المستثني متبوعًا والمسثني منه تابعًا 236 - لا يقدم دون شذوذ المستنثي علي المستني منه والمنسوب إليه معًا ... 241 - فرع: العطف علي المستثني منه والمنسوب إليه معًا 250 - فصل: 251 - 264 - لا يستثني بأداة واحدة دون عطف شيئان 251 - لا يمنتع استثناء النصف، ولا استثناء الأكثر ... 255 - السابق بالاستثناء منه أولي من المتأخر عند توسط المستثني ... 260 - تعدد المستني منه ... 262 فصل: تكرير إلا توكيداً ولغير توكيد 265 - 281 - تكريرها توكيداً ... 265 - تكريرها لغير توكيد: ... 271 - أ: عدم إمكان استثناء بعض المستثنيات من بعض ... 271 1 - في الاستثناء المفرغ 271 2 - في الاستثناء التام ... 273 -ب: ما أمكن فيه استثناء بعض المستثنيات من بعض ... 275 - الاستثناء من العدد 275 - حكم نحو: له عشرة إلا ثلاثة إلا أربعة ... 279 - فصل: تأويل "إلا" ب"غير" 282 - 309 - الوصف ب"إلا" وبتاليها 282

- ما يوصف بها وبتاليها ... 284 - عدم جواز حذف موصوفها وإقامتها هي وما بعدها مقامه 295 - لا يوصف بها حيث لا يصلح الاستثناء ... 296 - لا يليها نعت ما قبلها ... 299 - ما يليها في النفي 302 - معني: أنشدك إلا فعلت ... 304 - عمل ما بعد إلا فيما قبلها 306 - عمل ما قبل إلا فيما بعدها 307 - فصل: الاستثناء بـ "حاشا"، وخلا، وعدا، وليس، ولا يكون 310 - 340 - استعمال حاشا وخلا وعدا أحرفا تارة، وأفعالاً تارة أخري 310 - تعين نصب المستثني بخلا وعدا بعد "ما" عند غير الجرمي 315 - التزام سيبويه فعليه عدا وحرفية حاشا ... 317 - إن ولي حاشا مجرور باللام لم تتعين فعليتها، بل أسميتها 323 - اللغات في حاشا ... 325 - أحاشي ... 327 - النصب في "ما النساء وذكرهن" بـ "عدا" مضمرة 328 - الاستثناء بـ"ليس"، و "لا يكون" 320 - فاعل عدا وخلا وحاشا 333 - وصف المستثني منه "ليس" و"لا يكون" 334 - فصل: الاستثناء ب"غير" و "بيد"، و "سوي"، وأحكام المذكور بعد "لاسيما". و"بله"، و"لما"، و "دون" 341 - 380 - الاستثناء بـ"غير": 341 - إعرابها ... 341

- إجازة الفراء فتحها مطلقًا 343 - جواز اعتبار المعني في المعطوف علي المستثني بها ... 344 - الاستثناء بـ"بيد" في الاستثناء المنقطع 349 - الاستثناء بـ"سوي" 350 - ما ينفرد به "سوي" 351 - الأصح عدم ظرفية سوي ولزومه النصب 351 - اللغات في سوي 360 - جواز حذف ما بعد "ليس إلا"، و "ليس غير"، و "غير" 261 - قولهم "ليس غيره"، و "لم يكن غيره" 363 - أحكام المذكور بعد "لاسيما" 363 - أدوات الاستثناء ... 364 - حكم المجرور بعد "لاسيما" 365 - حكم المرفوع بعد "لاسيما" ... 366 - وصل "لاسيما" بظرف أو جملة فعلية 369 - "لاسيما" بتخفيف الياء ... 370 - لا سواء ما، ولا تر ما، ولا مثل ما 371 - وقوع الجملة الشرطية بعد "لاسيما" ... 373 - لا تجيء بعد "لاسيما" الجملة بالواو 374 - لا تحذف "لا" من "لاسيما" 374 - بله ... 374 - "لما" بمعني "إلا" ... 377 - دون ... 379

من إصدارات الدار للأستاذ الدكتور حسن محمود هنداوي • التذييل والتكملة في شرح كتاب التسهيل لأبي حيان النحوي الأندلس 1/ 8. [تحقيق]. • سر صناعة الإعراب لأبي الفتح عثمان بن جني (مجلدان). ... [تحقيق]. • إيضاح الشعر (شرح الأبيات المشاكلة في الإعراب) لأبي علي الفارسي (مجلد) [تحقيق]. • مناهج الصرفية ومذاهبهم (مجلد) ... [تأليف]. • المسائل الحلبيات لأبي علي الفارسي (مجلد) ... [تحقيق]. • المبهج في تفسير أسماء شعراء الحماسة لأبي الفتح عثمان بن جني ... [تحقيق]. • كتاب مقاييس المقصور والممدود لأبي علي الفارسي ... [تحقيق]. • المسائل الشيرازيات لأبي علي الفارسي (مجلدين) ... [تحقيقا]. • فهارس التراكيب النحوية في كتاب سيبويه ... [تأليف]. • المخترع في إذاعة سرائر النحو لأبي الحجاج يوسف الشنتمري ... [تحقيق].

باب الحال

-[ص: باب الحال وهو ما دَل على هيئهٍ وصاحبِها متضمنًا ما فيه معنى «في» غيرَ تابعِ ولا عُمدهٍ وحقٌه النصب, وقد يُجَر بباء زائدة. واشتقاقُه وانتقاله غالبان لا لازمان.]- ش: الحال تذكر وتؤنث, يقال: نحن في حالٍ حَسَنهٍ , وفي حالٍ حسن. والحال في إذاصطلاح قد رسمه المصنف فقوله ما دل على هيئه جنس يشمل الحال ونحو: تربعت, والقهقرى , ومتكئ في قولك: زيد متكئ , وراكب في قولك: مررت برجل راكب , فكل هذه تدل على هيئه. وقوله وصاحبها فصل يخرج الفعل واسم المعنى ,لأن تربع والقهقرى لا يدلان إذا على هيئه فقط لا على صاحبها. وقوله متضمنا ما فيه معنى «في» فصل يخرج ما ليس معنى «في» في نفسه ولا في جزء مفهومه مما هو يدل على هيئه وصاحبها , نحو: بنيت صومعة , فان هذا التركيب من مجموع بنيت صومعة يدل على هيئه وصاحبها , ولم يتضمن هذا التركيب شيئاً فيه معنى «في» , بخلاف الحال وما يحترز منه بعد.

واحترز بقوله ما فيه معنى «في» مما معنى «في» لمجموعه لا لجزء مفهومه , نحو: دخلت الحمام , فان معناه: دخلت في الحمام , فليس بعض الحمام أولى بمعنى «في» من بعض , بخلاف الحال وما يتحرز منه بعد , فان معنى «في» مختص بجزء مفهومه، لأنك إذا قلت جاء زيد ضاحكاً ف «ضاحك» دل على الهيئة وصاحبها , ويتقدر معنى «في» بجزء مفهوم ضاحك -وهو المصدر- على حذف مضاف , إذ التقدير: جاء زيد في حال ضحك. وقوله غير تابع احتراز من نحو: مررت برجل متكئ ,فانه يصدق عليه: في حال اتكاء. واختلفوا من أي باب نصب الحال: فقيل: نصب المفعول به , وهو قول أبى القاسم , يجعلها من أصول المفاعيل. وقيل: نصب الشبيه بالمفعول به , وهو قول أبى على وأبى بكر , وهو ظاهر مذهب س , لأنه قال: «وليس بمفعول كالثوب في قولك: كسرت الثوب زيداً» ولأن الظرف أجنبي من إذاسم , والحال هي إلاسم الأول.

وقوله ولا عمدة احتراز من نحو: زيد متكئ , فانه يصح تقديره: زيد في حال اتكاء. انتهى شرح هذا الرسم للحال , وهو في غاية الطول وكثره الفضول وهو منتزع من شرح المصنف له. وقال في الشرح: «ولا يعترض على هذا بما لا يجوز حذفه من إذاحوال , نحو: ضربي زيداً قائماً , فيظن أنه قد صار بذلك عمده , فان العمدة في إذاصطلاح: ما عدم إذاستغناء عنه أصيل لا عارض كالمبتدأ والخبر, والفضلة في إذاصطلاح: ما جواز إذاستغناء عنه أصيل لا عارض , كالمفعول والحال. وان عارض للعمدة جواز إذاستغناء عنها لم تخرج بذلك عن كونها (عمده , وان عرض للفضلة امتناع إذاستغناء عنها لم تخرج بذلك عن كونها) فضله .. انتهى. أما عروض امتناع إذاستغناء عن الفضلة فهو موجود في: ضربي زيدا قائماً, وقوله {وَإذا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ} [الشعراء:130] , وقوله {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالأرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ} [الدخان:38] , وما أشبه هذا. وأما عروض إذاستغناء عن العمدة فلا نعلمه موجوداً في لسان العرب , إذا إن كان يعنى بذلك الحذف , كحذف المبتدأ , أو الخبر , أو إذاغناء عنه بالفاعل , فيمكن ذلك , ولا نقول فيما حذف من العمد وهو مراد انه عرض له جواز إلاستغناء عنه.

وقوله وحقه النصب إنما كان ذلك لأنه فضله , وإعراب الفضلات النصب. وقوله وقد يجر بباء زائدة استدل المصنف على جواز جره بباء زائدة بقول رجل فصيح من طيئ: / كائن دعيت إلى بأساء داهية ... فما انبعثت بمزؤود ولا وكل ويستدل له أيضاً بقول الشاعر: فما رجعت بخائبة ركاب ... حكيم بن المسيب منتهاها التقدير عنده: فما انبعثت مزؤوداً ولا وكلاً , وتقدير البيت الثاني: فما رجعت خائبة ركاب. ولا حجه في هذا على ما ادعاه , إذا تحتمل الباء فيهما إذا تكون زائدة , بل الباء فيهما للحال: أما في البيت الأول فالتقدير: فما انبعثت ملتبسا بمزؤود , ويعنى بذلك المتكلم نفسه , إذا ترى أنه قد يسند الحكم إلى اسم ظاهر , ويعنى بذلك نفسه , نحو قوله: لقد صحبك منى رجل صالح , ولو جئتهم بى لجئت بفارس بطل , أي: لجئت ملتبسا بفارس بطل , وهو يعنى نفسه. وأما البيت الثاني فالتقدير: فما رجعت ملتبسة بحاجه خائبة ركاب. وإذا احتمل أن تكون للحال لم يكن في ذلك دليل على زعمه أن الحال قد تجر بباء زائدة. ولو فرضنا أن الباء زائدة في هذين البيتين لم يصح إطلاقه قوله «وقد يجر بباء زائدة» , لأن محسن دخول الباء الزائدة إنما هو تقدم النفي قبلها , كما جاء

ذلك محسناً في قوله {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَإذارْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ} , فكان ينبغي أن يقيد ذلك بالنفي. وذكر في (باب حروف الجر) أن «من» الزائدة ربما دخلت على حال , ومثل ذلك بقراءة من قرأ} ما كان ينبغي لنا أن نتخذ من دونك أولياء {مبنياً (نتخذ) للمفعول الذي يُسم فاعله , أي: نتخذ م دونك أولياء. وقوله واشتقاقه وانتقاله غالبان لا لازمان إذاشتقاق في الوصف كونه مصوغاً من إذاسم دإذا على معقولية إذاسم وشيء آخر لأجله كان الصوغ , حو راكب , فانه يدل على ذات متصفة بالركوب. وإنما قلنا «مصوغاً من إذاسم» ليشمل ما اشتق من المصدر , نحو راكب ومضروب , وما اشتق من إذاسم غير المصدر , نحو قولهم: رجل أظفر , أي طويل الظفر , ونحو قولهم: طين مستحجر , وبغاث مستنسر , فإنهما مشتقان من الحجر والنسر , وليسا مشتقين من مصدر. وإذانتقال هو كون الوصف غير لازم. وقال المصنف في الشرح: «ومن ورود الحال بلفظ غير مشتق قوله تعالى} فَانفِرُوا ثُبَاتٍ {, وفَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ {, و} فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً {» انتهى. ف (أربعين) عنده منصوب على الحال.

وانتصاب (أربعين) عندي على أنه تمييز منقول من الفاعل , والتقدير: فتمت أربعون لميقات ربه. ويجوز انتصابه على الظرف , لأن التقدير في قوله} ووعدنا موسى ثلثين ليله {: وواعدنا موسى المناجاة ثلاثين ليله , فتم ميقات ربه , وهو ما وقته وحدده له من المناجاة في أربعين ليله. وقال المصنف في الشرح: «ومن وروده دإذا على معنى غير منتقل قوله تعالى} وَهُوَ الَّذِي أَنزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا {» انتهى - ويحتمل أن يكون (مفصلاً) انتصب نعتاً لمصدر محذوف , أي: إنزإذا مفصلاً- قال} وَخُلِقَ إذانسَانُ ضَعِيفًا {,} وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا {,} طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ {, ومن كلام العرب: (خلق الله الزرافة يديها أطول من رجليها). ولما كانت الحال خبراً في المعنى , والخبر يكون مشتقاً وغير مشتق , ومنتقلاً وغير منتقل , جاءت الحال كذلك. وكثيراً ما يسميها س خبراً , وقد يسميها مفعولاً فيها , / وصفه , فسماها خبراً في تمثيله: فيها عبد الله قائماً , وفي: مررت بكل قائماً , وفي: هذا مالك درهماً. وسماها مفعولا فيها في

مسألة: كلمته فاه إلى في. وسماها صفه في: أما صديقاً مصافياً فليس بصديق مصاف. وقال الفارسي: «الحال تشبه الظرف من حيث كانت مفعولاً فيها , كما أن الظرف كذلك , وذلك قولك: جاء زيد راكباً , وخرج زيد مسرعاً , فمعنى هذا: خرج زيد في حال إذاسراع ووقت إذاسراع , فأشبهت ظرف الزمان». وإنما سماها مفعولاً فيها على طريق المجاز لشبهها بالمفعول فيه من جهة المعنى إذا أفادت ما يفيد «وفت كذا». كما سماها مفعولاً صحيحاً تشبيهاً بالمفعول به , إذا نصبها الفعل لا على تقدير «في» , ولا بعد واو «مع» , ولا على إسقاط لام العلة , كما نصب المفعول به كذلك. وقول المصنف «واشتقاقه وانتقاله غالبان لا لازمان» فيه الهام , ونحن نوضح القول في ذلك , فنقول: الحال قسمان: مبنية , ومؤكده , فالمبنية , لابد أن تكون منتقلة أو مشبهه بالمنتقلة , فالمشبهة بالمنتقلة نحو قولك: خلق زيد أشهل , وولد قصيراً , فالشهولة والقصر ليسا من إذاوصاف المنتقلة , لكنها شبيهه بالمنتقلة , فقد خلق وولد لأنه كان يمكن أن يخلق ويولد غير أشهل وغير قصير , وقال الشاعر:

فجاءت به سبط العظام , كأنما ... عمامته بين الرجال لواء ف «سبط العظام»:منصوب على الحال , وليست بمنتقلة , ولكنها مشبهه بالمنتقلة لمجيئها بعد «جاءت به» بمعنى: ولدته. وأما الحال المؤكدة فيجوز أن تكون غير منتقلة , ومنه قوله تعالى وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ {,} وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا {,} وَلا تَعْثَوْا فِي الأرض مُفْسِدِينَ {,} وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا {,} فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا} , وقال الشاعر: ولا عيب فيها غير شكله عينها ... كذاك عتاق الطير شكلاً عيونها فهذه أحوال مؤكده لا مبينه , لأنه لم ينبهم ما قبلها فتكون مبينه له , وإنما هي مؤكده لما قبلها. ولا يجوز أن تكون الحال غير منتقلة ولا شبيهه بالمنتقلة إذا إذا كانت مؤكده , فأما قوله: إذا قلت: هاتى نولينى , تمايلت ... على هضيم الكشح ريا المخلخل ف «هضيم» منصوب على المدح لا على الحال , لأنها صفه لازمه, وليست بمؤكده , وكذلك قوله تعالى} قَائِمًا بِالْقِسْطِ {. وأما قوله} إِلَهًا وَاحِدًا}

فبدل. وقد أنكر الفراء - وتبعه السهيلي - وجود الحال المؤكدة , وسيأتي الكلام على ذلك إن شاء الله عند ذكر المصنف الحال المؤكدة. وفي البسيط: أما الثابتة فقد اختلف فيها: فقال بعضهم: لا تكون حالا إذا بعد كلام تكون بالإضافة إليه ممكنه أن تكون وإذا تكون , نحو: ولد زيد أزرق , ولو قلت جاء زيد أزرق لم يجز , وجعلوا ما ورد من قولهم: خلق الله الزرافة يديها أطول من رجليها , وقوله: فجاءت / به سبط العظام ..... ... .................................................................. محمولاً على التأكيد لأنه في حكم المعلوم. وقال آخرون: لا يشترط فيها ذلك , لأنه لا يلزم أن تقيد الفعل تقييداً, بل تفيد وصفاً في الإسم , بخلاف المنتقلة , فإنها تفيد تخصيصاً في الفعل كالظرف , لذلك قدرت ب «في» بخلاف هذا , فتقول: مررت بزيد أكحل , ولقيته أسود , تريد: لقيته بهذا الوصف , وعلى هذه الحال , وهذه جبتك خزاً , {وَوَهَبْنَا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيًّا} [مريم:53] , ودعوت الله سميعاً.

-[ص: ويغني عن اشتقاقه وصفه , أو تقدير مضاف قبله , أو دلالته على مفاعله , أو سعر , أو ترتيب , أو أصالة , أو تفريع , أو تنويع , أو طور واقع فيه تفضيل. وجعل «فاه» حالا من «كلمته فاه إلى في» أولى من أن يكون أصله جاعلاً فاه إلى في , أو: من فيه إلى في. ولا يقاس عليه , خلافاً لهشام. ]- ش: مثال إغناء الوصف عن الانشقاق قوله تعالى} فتمثل لها بشراً سوياً { ومثال تقدير مضاف قبله قول العرب: «وقع المصطرعان عدلي عير , يريدون: مثل عدلي عير». قال المصنف في الشرح: «أو كقول الشاعر: تضوع مسكاً بطن نعمان أن مشت ... به زينب في نسوه خفرات» انتهى. يريد: مثل مسك. والأجود عندي أن يكون «مسكاً» منصوباً على التمييز , وهو منقول من الفاعل وهو أمدح.

ومثال دلالته على مفاعله: كلمته فاه إلى في , أي: مشافهه , وبايعته يداً بيد , أي: مناجزة , وفسر س , فقال: «بايعته نقداً» , وهو تفسير معنى , لأن المعنى على التعجيل والمناجزة. ولا يصح أن تقدر: جاعلاً يداً بيد , لأنك لم ترد أنك جعلت يدك في يده , ولا أن يكون اسما وضع موضع المصدر , لأنه لا مصدر له من لفظه , وهو حال من الضمير في بايعته , والمعنى: ذا يد , أي: في حال أنه ذو يدٍ على ملكه , ويصح أن يكون حالا من المبيع المحذوف , والمعنى: بايعته شيئاً في حال أن ذلك الشيء المبيع ذا يد , أي: مجعولاً عليه اليد. وبعته رأساً برأس , أي: مماثله. ولا يقتصر على «فاه» , ولا على «يداً» , ولا على «رأساً» , بل يلزم الجار فيه لزومه في مثل: سادوا كابراً عن كابر , وابتع هذا ناجزاً بناجز. ومثال دلالته على سعر قولهم: بعت الشاء شاه ودرهما , والبر قفيزاً بدرهم , والدار ذراعاً بدرهم , أي: مسعراً ويجوز رفع «شاه ودرهم , وقفيز بدرهم , وذراع بدرهم» على الابتداء , وهو مبتدأ محذوف منه الصفة ,التقدير: شاه منها , وقفيز منه , وذراع منه. فأما قولهم بعته ربح الدرهم درهم فلا يجوز فيه إذا الرفع , والجملة حال , أي: ومربوح الدرهم درهم. وكذلك: بعت دارى الذراعان بدرهم.

وأجاز بعض الكوفيين نصب / الربح والدرهم , ونصب الربح ورفع الدرهم , وذلك على إسقاط الباء , أي: بعت المتاع بربح الدرهم درهما , أي: بأن ربح الدرهم درهماً أن جعلت المصدر مضافا إلى الفاعل , وبرفعه وان جعلته مضافاً للمفعول , أي: بأن ربح الدرهم درهم. وتقول: قامرت فلاناً درهماً في درهم , أي: باذلاً , وأخذت منه الزكاه درهماً لكل أربعين , أي: فرضاً , وتصدقت بمالي درهما درهما. ومثال دلالته على ترتيب: ادخلوا رجلاً رجلاً , وتعلمت الحساب بابا بابا , أي مفصلاً أو مصنفاً , وادخلوا أول أول , أي: مرتبين واحداً بعد واحد. ولا يفرد شيء من هذه الألفاظ. وتقول: لك الشاء شاه بدرهم شاه بدرهم , وان ألغيت «لك» فلم تجعله خبر المبتدأ قلت: شاه بدرهم شاه بدرهم , وإذا قلت: الشاء لك - فيجوز الرفع والنصب. وفي نصب الثاني من المكرر نحو علمته الحساب باباً باباً خلاف:

ذهب أبو علي الفارسي إلى أن باباً الأول لما وقع موقع الحال جاز ان يعمل في الثاني. وذهب ابن جني إلى انه في موضع الصفة للأول , وتقديره: بابا ذا باب , ثم حذفت ذا , وأقمت الثاني مقامه , فجرى عليه جريان الأول , كما تقول: زيد عمرو , أي: مثل عمر , هذا نقل بعضهم. ونقل بعضهم أن الفارسي زعم أن بابا الأول حال , لكن لا يفهم التفصيل به وحده , فجعل الباب الثاني صفه للأول , لأنه لا يجوز أن يجعل توكيداً, إذا لو كان توكيداً لأدى ما أدى الأول , وزعم أن الاسمين مركبان. قيل له: فالتركيب ثلاثة أنواع: بناؤهما , نحو: خمسه عشر , والأعراب في الثاني: بعلبك , وإضافة الأول إلى الثاني: بعلبك , ولم يستقر رابع. قال: قد جاء التركيب بإعراب الاسمين , قال: تزوجتها راميه هرمزيه .............................................................................. وزعم الزجاج أن الباب الأول حال والثاني توكيد. قيل له: فكيف يكون توكيداً , ولا يفهم التفصيل إلا به؟

قال: قد قالت العرب: بعته الشاء شاه بدرهم , دون تكرار , وهو على معنى: شاه بدرهم , ولم تستعمل العرب: بينت له حسابه باباً باباً , إذا هكذا , ولو أفردت لفهمنا التفصيل كما فهمناه في: لك الشاء شاه بدرهم. قال بعض أصحابنا: «ومذهب الزجاج أرجح من مذهب الفارسي , لأن التكرار للتأكيد ثابت من كلامهم , وأما التكرار للتفصيل فلم يثبت في موضع. انتهى». والذي اختاره غير ما قالاه , بل كلاهما منصوب بالعامل قبله , لأن مجموعهما هو الحال لا أحدهما , ومتى اختلف بالوصفية أو بكونه معمولاً للأول لم يكن له مدخل في الحالية , والحالية مستفادة منهما لا من احدهما , فصارا يعطيان معنى المفرد , فأعطيا إعرابه , وهو النصب , ونظير ذلك قولهم: هذا حلو حامض , فكلاهما مرفوع على الخبرية , والخبر إنما حصل بمجموعهما , فلما نابا مناب الفرد الذي هو مز أعربا / بإعرابه , وهو الرفع , كذلك هذا. ولو ذهب ذاهب إلى أن النصب إنما هو بالعطف على التقدير حذف الفاء , وأن المعنى: بينت له الحساب باباً فباباً , وادخلوا أول فأول , لكان وجهاً حسناً عارياً عن التكلف , لأن المعنى: بينت له الحساب باباً بعد باباً , وادخلوا رجلاً بعد رجل. والذي يدل على إرادة الفاء كونه يجوز ذلك في المرفوع والمنصوب والمجرور , فمثال المرفوع قول الشاعر:

كرة وضعت لصوالجة ... فتلقفها رجل رجل أي: فرجل. ومثال المنصوب: (ونفلوا بعيراً بعيراً) , أي: فبعيراً. ومثال المجرور: (قيراط قيراط) , أي فقيراط. إذا انه يعكر على هذا المذهب ما زعم أبو الحسن من انه لا يجوز أن يدخل حرف العطف في شيء من هذه المكررات إذا الفاء في الموضع الذي يكون فيه الترتيب , نحو: ادخلوا الأول فالأول , ولا تقول: بينت له الحساب باباً فباباً , ولا بابا وبابا , ولا: ادخلوا رجلاً فرجلاً , ولا تقول لثلاثة: ادخلوا الأول فالأول , ولا لاثنين ادخلوا الأول فالأول. انتهى. والتكرار في نحو هذا لا يدل على أنه يراد به شفع الواجد , بل المراد به الاستغراق لجميع الأبواب والرجال ونحو ذلك. ومثال دلالته على أصالة قوله تعالى} أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا {, ونحو: هذا خاتمك حديداً , وهذه جبتك خزاً , وهما من أمثله س.

ومثال دلالته على فرعيه الشيء: هذا حديدك خاتماً. ومثال دلالته على النوع: هذا تمرك شهريزاً, وهذا خاتمك ذهباً. هكذا مثل المصنف في الشرح , وليس ذهباً دالا على نوع الخاتم , بل هذا المثال من باب ما دل على أصالة , نحو ما مثل به المصنف عن س من قوله: هذا خاتمك حديداً وهذه جبتك خزاً. ومثال ما دل على طور واقع فيه تفضيل قولك: هذا بسراً أطيب منه رطباً. وقوله وجعل «فاه» حالا من «كلمته فاه إلى في أولى» من أن يكون أصله: جاعلاً فاه إلى في , أو: من فيه إلى في قال المصنف في الشرح: «مذهب س أنه نصب على الحال , لأنه واقع موقع مشافهاً ومؤد معناه» انتهى. وزعم الفارسي أنه حال نائبه مناب جاعلا, ثم حذف , وصار العامل فيها كلمته , قال: «وهذا مذهب س» انتهى. وقال المصنف في الشرح: «ومذهب الكوفيين أن أصله: كلمته جاعلاً فاه إلى في - يعنى فهو مفعول به - ومذهب الأخفش أن أصله: من فيه إلى في» انتهى. ومال إلى قول الكوفيين أبو على في «الحلبيات».

فعلى مذهب س تكون «إلى في» ليست مبنية على «فاه» , إنما جاءت للتبيين , كـ «لك» بعد «سقياً» في قولهم: سقياً لك. وعلى مذهب الأخفش حذف منه الحرف كما / حذف في قوله} وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ {, أي: على عقده النكاح. وعلى مذهب الكسائي والفراء وهشام يكون قد دل كلمني أو كلمت على جاعل. ورد السيرافي على الكوفيين بامتناع: كلمته وجهه إلى وجهي , وعينه إلى عيني , ولو كان على الإضمار لم يمتنع هذا , لكنه لما كان على ما قال س لم يصح اطرداه , لأنه من وقوع الأسماء موقع الصفات , والأصل غير ذلك. انتهى. وأيضاً فالعرب ترفعه على المعنى الذي تنصبه , وليس للرفع وجه إذا الحال. وقال الكوفيون كلهم: يجوز كلمني عبد الله فوه إلى في , وقالوا: «إلى» خبر «فوه» وعله رفعه أن معه واوا مضمره , أي: وهذه حاله , فلو أدخلت الواو لم يجز النصب. وهذا الذي أجازه الكوفيون حكاه س عن العرب , وما قالوه من أن عله رفعه أن معه واوا مضمره لا يحتاج إلى هذه العلة , ولا يحتاج إلى تقدير واو مضمره بل يجوز الرفع على الابتداء دون الواو , لأن في الجملة ضميراً يعود على ذي الحال , وسيأتي الاحتجاج لذلك إن شاء الله. وذهب السيرافي إلى أن ذلك اسم وضع موضع المصدر الموضوع موضع الحال , ومعناه: كلمته مشافهه , وبذلك قدره س , فوضع «فاه إلى في» موضع

مشافهة، ومشافهة موضع مشافهاً , فهو عنده بمنزله «الجماء الغفير» و «قضهم» إذا أن هذا اسم في الأصل نقل إلى المصدر , وذلك لم يستعمل قط إذا مصدراً , فهذا هو الفرق بينهما. ورد ذلك بأن الاسم الذي تنقله العرب إلى المصدر لابد أن يكون نكره , كذا زعم س , وبأن الأسماء الموضوعة موضع المصادر لابد أن يكون لها مصادر من ألفاظها , كالدهن , والعطاء , و «فوه إلى في» ليس كذلك. وقال الفراء: «أكثر كلام العرب: فاه إلى في , بالنصب , والرفع مقول صحيح. وفيما أشبه هذا من قولهم: حاذيته ركبته إلى ركبتي , وجاورته منزله إلى منزلي , وناضلته قوسه عن قوسي , والأكثر فيه: ركبته , ومنزله , وقوسه , بالرفع. وإذا كان نكره فالنصب المؤثر المختار, نحو: كلمته فما لفم , وحاذيته ركبه إلى ركبه , وناضلته قوساً عن قوس. ورفعه وهو نكوه جائز على ضعف إذا جعلت اللام خبراً لفم , وكذلك غيرها من الصفات. وان وضعت الواو موضع الصفة , فقيل: كلمته فوه وفي , وحاذيته ركبته وركبتي , فالواو تعمل ما تعمل إلى , والنصب معها سائغ على أعمال المضمر». انتهى كلام الفراء ملخصاً.

ويعني بقوله «والنصب معها» أي: مع الواو في الثاني «سائغ على أعمال المضمر» يعنى: جاعلاً , فتقول: حاذيته ركبته وركبتي , وكلمته فاه وفي , أي: جاعلاً فاه , وجاعلاً ركبته. وقال المصنف في الشرح مرجحاً مذهب س ما معناه: «ليس في مذهب س إذا تنزيل جامد منزله مشتق , وهو موجود في هذا الباب وغير بإجماع , ولا يلزم منه ليس ولا عدم نظير. ومن الجامد / في هذا الباب: بعته يداً بيد , والبر قفيزًا بدرهم , والدار ذراعاً بدرهم , فلا خلاف في نصب هذه أحولا , لا مفعولاً بها بإضمار , ولا بعد إسقاط جار. وأما إضمار جاعل أو من فلا نظير له في هذا الباب. وفي تقدير من ضعف زائد , وهو أنه يلزم منه تقدير من في موضع إلى , ودخول إلى في موضع من , لأن مبدأ غاية المتكلم فمه لا فم المكلم , فلو كان معنى من مقصوداً لقيل: كلمته من في إلى فيه ,على إظهار من , وكلمته في إلى فيه , على تقديرها» انتهى. ورد بعد تسليم صحة معنى الكلام بأنه لم يوجد قط حذف حرف الجر ملتزماً. وأيضاً فانه من القلة بحيث لا يقاس عليه. وأيضاً فان العرب قد رفعته. وزعم المبرد أنه تقدير لا يعقل , لأن الإنسان لا يتكلم من فم غيره , إنما يتكلم كل احد من فيه , واليه أشار المصنف فيما نقلناه عنه قبل ,ومن المبرد أخذه.

وانفصل أبو علي عن هذا بأن العرب إذا ضمنت شيئاً ما معنى شيء علقت به ما يتعلق بذلك الشيء , دليله قولهم: زيد اليوم أفضل منه غداً , لا يتصور أن يعمل (أفضل) في ظرفي زمان , لكنه لما كان معناه: يزيد فضله اليوم على فضله غداً, جاز , فكذلك كلمته فاه إلى في , إنما يقال في معنى: كلمني وكلمته , فهو من ألمفاعله فإذا قلت كلمته فقد تضمن معنى كلمني, وكلمني من فيه صحيح , أي: لم يكلمني من كتابه ولا بوساطة, فصح لهذا النائب أن يتعلق به الجار. انتهى. فلو قدمت حرف الجر , فقلت: كلمني عبد الله إلى في فوه , لم يجز النصب بإجماع من الكوفيين , وتقتضيه قاعدة قول س في أن «إلى في» تبيين كـ «لك» بعد «سقياً» , وتقديم «لك» على «سقيا» لا يجوز , فينبغي إذا يجوز هذا. فلو قدمت «فاه إلى في» على كلمت فقلت: فاه إلى في كلمت زيداً - فأجازه س وأكثر البصريين لتصرف العامل , واتفق الكوفيون على منعه , وتبعهم بض البصريين , وعزى المنع أيضاً إلى س , ومن حجه منع أنها حال متأوله لم تقو قوه غيرها , ولم يسمع فيها تقديم. فلو قتل فوه إلى في كلمني عبد الله لم يجز ذلك عند أحد من الكوفيين , ولا أحفظ نصاً عن البصريين في ذلك , والقياس يقتضى الجواز. وقوله ولا يقاس عليه خلافاً لهشام يعنى أنه لا يقاس على «فاه إلى في» , بل يقتصر على مورد السماع , وهو ما حكاه الفراء قبل , وماحكاه ابن خروف عنه أنه حكى: صارعته جبهته على جبهتي , بالرفع والنصب. وأجاز هشام القياس

على ذلك , فتقول: ماشيته قدمه إلى قدمي , وكافحته وجهه إلى وجهي , ونحو ذلك. وذكر المصنف في الشرح عن الفراء: جاورته بيته إلى بيتي , بالرفع والنصب , وقال في الشرح: «ولا يرد شيء من ذلك , ولكن الاقتصار على السماع أولى , لأن / فيه إيقاع جامد موقع مشتق , ومعرفه موقع نكره , ومركب موقع مفرد».

-[ص: فصل الحال واجب التنكير , وقد يجئ معرفاً بالأداة , أو الإضافة , ومنه عند الحجازيين العدد من ثلاثة إلى عشره مضافاً إلى ضمير ما تقدم , ويجعله التميميون توكيداً , وربما عومل بالمعاملتين مركب العدد , و «قضهم بقضيضهم». وقد يجئ المؤول بنكرة علماً. ]- ش: قال المصنف في الشرح ما ملخصه: «انه لما كان الغالب على ذى الحال التعريف , والغالب عليها الاشتقاق , وهى خبر في المعنى - ألزمت التنكير لئلا يتوهم أنها نعت - يعنى إذا كان ذو الحال منصوباً , أو كانت هى لا يظهر فيها الأعراب - وأيضاً فلزومها ألفضليه استحق تثقيلها , فألزمت التخفيف بلزوم التنكير , إذا ترى أنها لا تقوم مقام الفاعل , بخلاف غيرها من الفضلات , فلذلك يعرف غيرها لأنه قد يقوم مقام الفاعل. ولا يعترض بدخول من على بعض التمييزات , فيجوز إذ ذاك حذف الفاعل وإقامته بدخول من عليه مقام الفاعل , نحو: امتلأ الكوز من ماء , فتقول: امتلئ من ماء , لندور هذا في التمييز. على أن الكسائى حكى: خذه مطيوبه به نفسى , فإذا كان التمييز قد تصرف فيه هذا التصرف وقد يلزم التنكير فأحرى أن يلزم ذلك في الحال» انتهى.

وزعم الأستاذ أبو علي أن سبب تنكيرها أنه يحصل بالتنكير ما يحصل بالتعريف , فلم تكن فائدة لتكلفه , ولذلك سبب تنكير التمييز. ورد ذلك عليه بأن قوله هذا يقتضى إمكان التعريف فيهما , واجتزأوا بالتنكير لما كان المعنى يحصل به , وليس التعريف فيهما بممكن , لأنك إذا قلت جاء زيد اقتضى الفعل حالا منكورة يجئ الفاعل عليها إسراع أو إبطاء أو غضب أو رضاً أو نحو ذلك , ولم يدل على حال مختصة ولا معهودة فتكون معرفه. وكذلك التمييز , وإذا قلت امتلأ إذاناء لما يكن بينك وبين المخاطب عهد في المالئ له , فلا يمكن أن يأتي معرفه , فلذلك وجب التنكير في الحال والتمييز. وزعم الفراء ومن أخذ بمذهبه أن موجب التنكير كونها مبنية على معنى الشرط متصرحاً , نحو: يجئ عبد الله راكباً , المعنى: إن ركب , ومتى ركب ,وغير متصرح في اللفظ , نحو: جاء زيد راكباً , لا يحسن: جاء زيد ان ركب , وحكمه حكم الشرط , لأن جاء مبنى على مجيء. قال: والشرط منبهم , فلذلك كانت الحال نكره , إذا ترى أن معنى راكباً: إن ركب , فهو ركوب غير محدود , ولا يحصل بتعيين , لأنه ممكن أن يكون وإذا يكون. ورد على الفراء قوله بأن مبنى الحال على الشرط دعوى لا دليل عليها , وبأن الحال قد تكون واقعه , فلا يدخلها إذا ذاك معنى الشرط الذي يمكن أن يقع وإذا يقع , نحو: جاء زيد / راكباً , فمعنى الركوب واقع فيما مضى.

وما ذكره المصنف من وجوب تنكير الحال هو مذهب الجمهور. وزعم يونس والبغداديون أن الحال يجوز أن تأتى معرفه , نحو: جاء زيد الراكب , قياساً على الخبر , واستدلا لاً بما روى عن العرب في ذلك مما نذكره بعد. وذهب الكوفيون إلى أن الحال إذا كان فيها معنى الشرط جاز أن تأتى على صوره المعرفة , وهى مع ذلك نكره , فأجازوا أن تقول: عبد الله المحسن أفضل منه المسيء , وعبد الله عندنا الغنى فأما الفقير فلا , وأنت زيداً أشهر منك عمراً , التقدير: عبد الله إذا أحسن أفضل منه إذا أساء , وعبد الله عندنا إذا استغنى فأما إذا افتقر فلا , وأنت إذا سميت زيداً أشهر منك إذا سُميت عمراً. فان لم يكن في الحال معنى الشرط لم يجز أن تأتى معرفه اللفظ , لا يقال: جاء زيد الراكب , لأنه لا يتقدر عندهم بالشرط , إذا ليس المعنى: جاء زيد إن ركب , ولأنه قلما جاء منها معرفه في اللفظ مبنياً على المفعول. وأجازوا أيضاً أنت تقول: عبد الله إياه أشهر منه إياها , على أن كل واحد من المكنيين منصوب على الحال لما في ضمير الغائب من الإبهام. ولا يجوز ذلك عندهم في مكنى المخاطب والمتكلم , ولا يقال: زيد إياي أشهر من إياك , على أن ايأي وإياك منصوبان على الحال , لأنهما محصوران على الأخبار والخطاب , لا يتسع فيهما كما يتسع في الغائب. دليل هذا قول العرب: رُبه رجلاً فاضلاً قد زارني , وربها امرأة عاقله قد أكرمتني , ولم يقولوا: رُبى ولا رُبك , لما في هاتين من الاختصاص.

وقال هشام: حكى الكسائي عن العرب: لذو الرمة ذا الرمـ ... ـــــــــــه أشهر منه غيلانا فانتصب (ذا الرمة) و (غيلان) على الحال , وهما علمان , لأن المعرفة سدت هنا مسد النكرة , وإبقاء (أل) في ذا الرمة وترك إجراء غيلان دليل على بقاء تعريفهما , ولو أمحضا التنكير لقيل: لذو الرمة ذا رُمه أشهر منه غيلاناً. قالوا: ونظير أقامه المعرفة مقام النكرة في هذا قول العرب: لا أبا حمزة عندك , ولا أبا عُمر لك , فنصبوا المعرفة كما نصبوا النكرة , ولم يجروا لأن أصله التعريف وأن يسد المعروف مسد المنكور. وحكي الفراء عن العرب: «ان كان أحد في هذا الفج فلا هو يا هذا» , فموضع «هو» نصب بـ (لا) وأنشد الفراء: فلا هي إذا ان تقرب وصلها ... علاه كناز اللحم ذات مشاره وقول حسان: إذا ما ترعرع فينا الغلام ... فما أن يقال له: من هوه /إذا لم يسد قبل شد الإزار ... فذلك فينا الذي هوه فأعمل (لا) في (هو) كما يعملها في النكرة.

قال الفراء: دليل على هذا حذف الخبر الذي لا يحذف إذا مع المنكور حين يقال: لا درهم ولا دينار , ولا يقال: لا الدرهم ولا الدينار , حتى يظهر الخبر على اختيار واستحسان وكثره في كلام العرب. وما ذهب إليه الكوفيون باطل عند البصريين , بل الحال عندهم أبداً بكره , والمحسن والمسيء في المثال الذي ذكروه منصوبان على خبر كان مضمره , أي: إذا كان المحسن أفضل منه إذا كان المسيء. و «ذا الرمة» و «غيلان» منصوبان على أنهما مفعولان لفعل مضمر يدل عليهما المعنى , التقدير: إذا سمى ذا الرمة أعرف منه إذا سُمى غيلان. وأما الضميران الغائبان فان سُمع ما أجازوه فهما منصوبان على خبر كان , أي: عبد الله إذا كان إياه أشهر منه إذا كان إياها , ولا يمكن حمل هذا التركيب على ظاهره , بل المعنى: عبد الله إذا كان مثله أشهر منه إذا كان مثلها. وأما «لا أبا عمر لك» وشبهه فعلى حذف «مثل» وذلك قليل , وقد أجازه الخليل في «له صوت صوت الحمار» في جعله نعتاً للنكرة مراعياً فيه مثل. وأما «لا هو» و «لا هي» فمبتدأ , والخبر محذوف , وذلك قليل , ولم تعمل , ولم تكرر. ويدل على أنهما مرفوعان كونهما ضميري رفع , ولو كان منصوبين لقيل: لا إياها ولا إياه. وقوله وقد يجئ مُعرفاً بالأداة ليس قوله «معرفاً بالأداة» بجيد , لأنه ليس معرفه على مذهب الجمهور , فكان ينبغي أن يقول «وقد يجئ فيه أل» , لأنهما وان كانت بصوره المعرفة نكره عندهم من حيث المعنى. والمسموع مما جاء من الحال مقروناً بأل قولهم: مررت بهم الجماء الغفير , وأوردها العراك , وادخلوا الأول فالأول. وعلى هذه قاس يونس والبغداديون , فأجازوا: جاء زيد الضاحك.

فأما «الجماء الغفير» فأل فيهما زائدة , وقد قالت العرب: جاؤوا جماء غفيراً , وجماً غفيراً. وحكي القإلى: الجماء الغفيرة , بالتاء , وجماء غفيره , بالتاء أيضاً والتنوين , وليس من بناء جماء غير منونه , وإنما هو فعال كالجبان والقذاف , وهمزته مجهولة , والمعنى واحد. وهو عند س اسم موضوع موقع المصدر , أي: مررت بهم جموماً غفيراً. وقد جعله غير س مصدراً , و (س) لا يرى ذلك لعدم تصرف الفعل منه. والجماء الغفير: هي البيضة التي تجمع الرأس وتضمه , قاله الكسائى , وابن الأعرابي. واختلفوا في هذه الأسماء المعارف لفظاً: فذهب الأخفش والمبرد إلى انها ليست بأحوال في الحقيقة , إنما الأحوال هي العوامل المضمرة الناصبة لها. واختلف

هؤلاء: فبعضهم قدر تلك العوامل أفعالا , والأفعال نكرات , وهو مذهب الفارسي. وبعضهم قدرها / أسماء مشتقه من تلك الأفعال. وذهب أبو بكر بن طاهر الخدب وتلميذه أبو الحسن بن خروف في جماعه إلى أنها ليست معمولة لعوامل مضمره , بل واقعه موقع أسماء فاعلين منتصبة على الحال مشتقه من ألفاظها أو من معانيها , وزعم ابن خروف أنه مذهب س. فيكون التقدير في نحو أرسلها العراك أما: تعترك العراك , أو معتركه العراك , أو معتركه , على حسب المذاهب التي ذكرنا. ورجع مذهب ابن طاهر بأنه ليس فيه تكلف إضمار. وعورض بأن وضع المصدر موضع اسم الفاعل إذا لم يرد به المبالغة لا ينقاس. وزعم ثعلب أن انتصاب «الجماء الغفير» ليس على الحال , بل ينتصب على المدح. وأجاز الجرمى نحو «مررت بإخوتك الجماء الغفير». قال أبو بكر بن الأنبارى: «ويجوز وجه ثالث , وهو مررت بإخوتك الجماء الغفير , بالرفع , كما تقول: مررت بإخوتك العقلاء الفاضلون , أي: هم. وإذا كانت هذه الأوجه الثلاثة جائزة , وليس فيها مستضعف , كان نصب الجماء الغفير على الحال غير مختارٍ ولا مؤثر , إذا لم يدع إليه اضطرار» انتهى. وقال الكسائى: العرب تنصب الجماء الغفير التمام , وترفعه في النقصان , قال:

كهولهم وطفلهم سواء ... هم الجماء - في القوم - الغفير وأما «أوردها العراك» فتقدم توجيه الحال فيه , وقال لبيد: فأوردها العراك , ولم يذدها ... ولم يشفق على نغص الدخال وزعم أحمد بن يحي أن العراك ليس منصوباً على الحال , وإنما انتصب على أنه مفعول ثان ل «أورد» , كما تقول: أوردتك الحرب , وأوردتك الأمر العظيم ,وقال تعالى} فأوردهم النار {, وقولهم «أرسلها العراك» مضمن عند الكوفيين معنى أوردها. وزعم ابن الطراوة أن قولهم أرسلها العراك ليس بحال , وإنما هو صفه لمصدر محذوف , والمعنى: الإرسال العراك , وكذا فعل في جميع هذه الأبواب. ورد عليه بأنه لم نجد صفه تلتزم فيها أل , بل المعهود في الصفات أن تكون معارف ونكرات. وأما «ادخلوا الأول فالأول» فـ «أل» زائدة في قول بعضهم , وليست للعهد , إذ لا عهد لك في الأول , والمعنى: ادخلوا مرتبين , وهذا ونحوه مما لا ينقاس

عند البصريين , ولذلك كانت قراءه من قرأ} ليخرجن الأعز منها الأذل {شاذة لمجيء (الأذل) حالا , وهو بصوره المعرفة. قال بعض أصحابنا: وأما الكوفيون فينبغي على مذهبهم أن يكون من قبيل ما ينقاس , لأن الحال عندهم إذا كانت في معنى الشرط يجوز أن تأتى على لفظ المعرفة. وذهب الأخفش إلى أنه ليس حالا , وهو منصوب بالفعل على أنه مشبه بالمفعول والتشبيه يكون في الفعل كما يكون في الصفات , كما ذهب إليه الكوفيون في} بطرت معيشتها {. وذهب يونس إلى أنه حال / بنفسه , وهو معرفه , وحكي أن العرب تقول: قدم زيد أخاك , وهذا زيد سيد الناس , ومذهبه أن الحال تجئ معرفه ونكره كالخبر. وذهب المبرد والسيرافي إلى أن «أل» معرفه لا زائدة , لكن الاسم لم يتعرف هنا على حد تعرف الأسماء , بل إنما يعلم كونه أولاً بعد ما يكون أولاً , فلما كانت «أل» على هذا الحد سهل ذلك فيها.

ومما خالفت فيه العرب القياس قولهم في الأمر للمؤنثات: ادخلن الأول فالأول , فالقياس: ادخلن الأولي فالأولي , لكنهم شذوا في إدخال أل. فإذا قالوا: دخلوا الأول فالأول - بالرفع - كان بدلا , فإذا قلت: ادخلوا الأول لم يتصور البدل؛ لأنك لا تقدر أبدا أمرا لام وفاعله مضمر لا ظاهر , فارتفاعه علي فعل دل عليه هذا , تقديره: ليدخل الأول. وقوله أو الإضافة هذا أيضا ليس بجيد؛ لأنه ليس علي مذهب الجمهور , بل أتي بصورة المعرفة وهو نكرة عندهم من حيث المعني , والمسموع من ذلك قولهم: كلمته فاه إلى في - وتقدم الكلام عليه - وطلبته جهدي وطاقتي , ورجع عوده إلى العشرة , وقضهم بقضيضهم. فأما طلبته جهدي وطاقتي , وفعل ذلك جهده وطاقته, فالتقدير: جاهدا ومطيقا , أو: أجتهد جهدي , وأطيق طاقتي , أو مجتهدا جهدي , ومطيقا طاقتي , علي اختلاف المذاهب السابقة. وزعم الكوفيون أن جهدي من قبيل المصادر المعنوية , التقدير: اجتهدت جهدي, وأطقت طاقتي.

وأما رجع عوده علي بدئه فعوده عندنا منصوب علي الحال , تقديره: رجع يعود عوده , أو عائدا علي اختلاف المذاهب. وزعم الكوفيون أن عوده منصوب علي المصدر , المعني: عاد عوده علي بدئه. وأجاز بعض النحويين نصبه علي المفعول به , أي: رد عوده علي بدئه. فإذا انتصب عوده علي الحال لم يجز تقديم المجرور عليه لأنه من صلته , وان كان مفعولا به جاز. ويجوز فيه الرفع , فتقول: رجع عوده علي بدئه. وفي رفعه وجهان: أحدهما أنه فاعل برجع. والثاني انه مبتدأ , وعلي بدئه في موضع الخبر , والجملة حالية. ويجوز تقديم المجرور علي عوده في حالتي رفعه. وأما مررت بزيد وحده , وجاء زد وحده , فذهب الخليل و «س» إلى أنه اسم موضوع موضع المصدر الموضوع موضع الحال , كأنه قال: أيحادا , أيحادا (وضع) موضع موحدا, فمع الفعل المتعدي هو حال من الفاعل , أي: موحدا له بمروري , ومفردا له بالضرب في: ضربت زيدا. وذهب المبرد إلى انه يجوز أن يكون حالا من المفعول , أي: ضربته في حال أنه مفرد بالضرب. ومذهب س أولي؛ لأن وضع المصادر التي تنوب عنها الأسماء موضع اسم الفاعل الأكثر من وضعها موضع المفعول.

وذهب ابن طلحة إلى أنه حال من المفعول ليس إلا؛ لأنهم إذا أرادوا الفاعل قالوا: مررت/به وحدي , كقوله: والذئب أخشاه أن مررت به ... وحدي , واخشي الرياح والمطرا وذهب جماعة من النحويين إلى أنه مصدر موضوع موضع الحال: فمنهم من قال: هو مصدر علي حذف حروف الزيادة , أي: أيحاده. ومنهم من قال: انه مصدر لم يلفظ له بالفعل كالأخوة. ورد قول من ذهب إلى أنه مصدر بأن المصادر التي وضعت موضع الحال لا تتصرف , وهذا يتصرف. وذهب يونس وهشام في أحد قوليه إلى أنه منصوب انتصاب الظروف , فيجريه مجري عنده فإذا قلت جاء زيد وحده فكأن التقدير: جاء زيد علي وحده , ثم حذف حرف الجر , ونصب علي الظرف , وحكي من كلام العرب: جلسا علي وحديهما. وإذا قلت زيد وحده فكأن التقدير: زيد موضع التفرد , وينبغي علي هذا أن يكون مصدرا لأن الأصمعي حكي عن العرب وحد يحد.

ورد مذهب يونس بأن حذف حرف الجر لا يجوز بقياس. وهذا ليس بشيء؛ لأن يونس لم يحذف الحرف بقياس , بل العرب حذفته , وذلك بعد ما أدخلته؛ ألا تري إلى ما يحكي يونس عن العرب: جلسا علي وحديهما , أي: موضع انفرادهما. والذي يدل علي أنه منتصب علي الظرف لي علي الحال قول العرب: زيد وحده , فجعلته العرب خبرا للمبتدأ لا حالا ولو قلت زيد جالسا لم يجز ذلك. وقد أجاز هشام في قول العرب زيد وحده وجها آخر , وهو أن يكون منصوبا بفعل مضمر يخلفه وحده , كما قالت العرب: زيد إقبالا وإدبارا , والمعني: يقبل إقبالا ويدبر إدبارا , وتأويله عنده: زيد وحد وحده , وقد تقدمت حكاية الأصمعي عن العرب: وحد يحد. قال هشام: ومثل زيد وحده في هذا المعني: زيد أمره الأول , وسعد قصته الأولي وحاله الأولي. يذهب هشام إلى خلاف هذا المنصوب الناصب كما خلف وحده وحد , وكان يسمي هذا منصوبا علي الخلاف للأول , وقال: لا يجوز: وحده زيد , كما لا يجوز: إقبالا وإدبارا عبد الله , وكذلك قصته الأولي زيد , من قبل أن الفعل لا يضمر إلا بعد الاسم. وأما علي قول هشام الذي وافق فيه يونس - وهو أنه ينتصب علي الظرف - فيجوز أن تقول: وحده زيد كما يجوز: عندك زيد. وأما «تفرقوا أيادي سبا» فيأتي الكلام عليه في آخر باب العدد أن شاء الله ومعناه: تبددا لا بقاء معه. وقوله ومنه عند الحجازيين العدد من ثلاثة إلى عشرة مضافا إلى ضمير ما تقدم أي: ومما جاء مضافا إلى معرفة , وانتصب علي الحال تقول: مررت بهم

ثلاثتهم , ومررت بالقوم خمستهم , فلغة الحجازيين نصب هذا علي الحال , ومذهب س فيه كمذهبه في وحده من أنه اسم موضوع موضع المصدر الموضوع موضع الحال , كأنك قلت: مخمسا لهم , فوضع خمسة موضع خمس الذي هو مصدر خمسة القوم خمسا , وخمسا موضوع موضع مخمس. وذهب يونس إلى أنها صفة في الأصل. / فتكون حالا بنفسها. ورد بأنه لا يكون صفه إلا نكرة. وذهب المبرد إلى أنه تقدر هنا لفظ الخمسة فعلا , تقول: مررت بالقوم فخمستهم. وهذا تكلف لم ينطق به. وذهب غيرهم إلى أنه ينتصب انتصاب الظرف , كما ذهب إليه في مررت بزيد وحده. والدليل علي صحة هذا المذهب ما روي ألكسائي أن العرب تقول: القوم خمستهم وخمستهم , وكذلك عشرتهم وعشرتهم فمن رفع الخمسة رفعها بالقوم , ومن نصب نصب علي الظرف , فكونهم جعلوه في موضع الخبر دليل علي أنه ليس بحال؛ لأن قولك زيد جالسا لا يجوز. وإذا أراد الحجازيون معني التوكيد لم يقولوا إلا كلهم وأجمعين , ولا يؤكدون بثلاثتهم إلى العشرة , وإنما ينصبوها علي الحال كما ذكرنا. ولم يذكر س اثنيهما , وقد قاسه بعضهم علي ثلاثيهم , وقد غلط فيه , قاله في البسيط , قال: «والفرق بين الموضعين أنك إذا قلت لقيتهما فقد علم عدة ذلك , فلا يحتاج إلى زيادة , وإذا قلت لقيتهم لم يعلم عدتهم , فاحتيج إلى ذلك ليبين هذا القدر».

وفيه نظر؛ فان المراد هنا بإتيان ثلاثتهم وأربعتهم تجريدهم عن الانضياف إلى الغير , بمنزلة قولهم منفردين , وبهذا المعني يحسن دخول اثنيهما قياسا , كقوله {فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ} لما أراد التحريد , وقوله تعالى {لا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ} لما أراد مجرد الاثنية. وقوله ويجعله التميميون توكيدا أي يتبعون ذلك لما قبله في الإعراب , فيقولون: قام القوم ثلاثتهم , بالرفع , ورأيت القوم ثلاثتهم , بالنصب , ومررت بالقوم ثلاثتهم , بالجر , وإذا أرادوا معني الانفراد بالمرور لم يقولوا الا: وحدهم , نحو مررت بالقوم وحدهم. والفرق بين النصب والإتباع أنك إذا نصبت كان التقدير أن المرور مقيد بهم خمسة , أما تقييد الحال علي مذهب س , وأما تقييد الظرف علي مذهب غيره , فلو مر بغيرهم معهم كانوا أكثر من خمسة إذا قلت: مررت بالقوم خمستهم , وإذا أتبعت جاز أن تكون مررت بغيرهم , وجاز أن تكون مررت بهم خاصة. وقال بعض شراح الكتاب: «إذا نصبت فعلي الحال, كأنك قلت: مررت بهم في حال أنهم ثلاثة , فمحال علي هذا أن يكون معهم غيرهم , وإلا فيكون الكلام كذبا , فالحال اقتضت هذا المعني. وأما الجر فعلي معني أنك مررت بالثلاثة كلهم ولا يقضي هذا أن يكون معهم غيرهم؛ لأنه إذا كان معهم غيرهم صح أن تقول: مررت بالثلاثة كلهم , ولا يكون كذبا , فلهذا فرق النحويون بينهما , أي: بين النصب والجر.

ويقولون في مررت بالقوم ثلاثتهم: إن ثلاثتهم توكيدا , واجمعوا علي ذلك , ولم يقل أحد انه بدل , وان كان يسبق إلى الخاطر جوازه. وحملهم علي ذلك أنه يقال في معني أن القوم ثلاثة , وكذلك أربعتهم والمعني أنهم أربعة , وكذلك ما بقي , فلو قلنا انه بدل كان من بدل الشيء , وفيه ضمير القوم فيكون فيه إضافة الشيء , وفيه ضمير القوم فيكون فيه إضافة الشيء إلى نفسه , واحتمل ذلك في التأكيد؛ / لأنه في معني كل وقد استسهل في كل إضافتها إلى ما هو هي , فيقولون كل القوم لأنها نقيضة بعض , فسهل ذلك فيها. فهذا هو الذي حملهم علي أنه تأكيد لا بدل» انتهي , وفيه بعض تلخيص. والمؤنث كالمذكر في ذلك , فتقول: قام النساء ثلاثهن , إلى: عشرهن. وقال المصنف في الشرح: «النصب عن الحجازيين علي تقدير جميعا , ورفعه التميميون توكيدا علي تقديرهم: جميعهم» انتهي. فيظهر من كلامه هذا أنه لا يقدر بين المعنيين إلا من جهة الصناعة , أنه في النصب يقدر بجميعا , وفي التوكيد يقدر بجميعهم , وهذا خلاف ما فرق به الناس بينهما مما ذكرنا قبل. وقوله وربما عومل بالمعاملتين مركب العدد يعني بالمعاملتين النصب علي الحال والأتباع علي التوكيد. وفي انتصاب مركب العدد انتصاب ثلاثتهم وأخواته خلاف: منهم من أجاز ذلك , ومنهم من منعه , والصحيح الجواز وفيه إذا فسر العدد بواحد منصوب ثلاثة أوجه: أحدهما: حذف ذلك المفسر وإضافة المركب إلى ضمير الاسم , فتقول: جاؤوا خمسة عشرهم , وجئن خمس عشرتهن , أي: جميعا , حكاه الأخفش في «الأوسط» عن بعض العرب. ومن أجاز ذلك قال: قام القوم عشرتهم.

والوجه الثاني: ألا تضيف العدد إلى ضمير , بل تأتي بالتمييز , فتقول: مررت بالقوم احد عشر رجلا. والثالث: إن تحذف التمييز فتقول: مررت بالقوم احد عشر , ومررت بالقوم عشرين. وقوله وقضهم بقضيضهم تقول: جاء القوم قضهم بقضيضهم , حكي س فيه الرفع والنصب , فإذا رفعنا فعلي التوكيد , فيتبع ما قبله في الرفع والنصب والجر , قال س: «ومثل خمستهم قضهم بقضيضهم , كأنه قال: مررت بهم انقضاضا. هذا تمثيل , وان لم يتكلم به , كأنه قال: انقض آخرهم علي أولهم. وبغض العرب يجعل قضهم بمنزلة كلهم , يجريه علي الوجوه» انتهي. وقد حكي لقضهم فعل , قالوا قضضت عليهم علي أولهم , قال الشماخ أتتني تميم قضها بقيضها ... تمسح حولي بالبقاع سبالها فهو من الانقضاض , أي: أتوني انقضاضهم , أي: منقضين , وهو كالجماء في أنه مأخوذ من الانقضاض لا مشتق للصفة , وهو بمنزلة جهدي في أنه للفاعل.

ويونس يجعله كالجماء وصفا فهو حال بنفسه , والإضافة غير محصنة , وهو ابعد من المصدر لكونه اسما. والمبرد يقدر الفعل. وقوله وقد يجئ المؤول بنكرة علما قالت العرب: جاءت الخيل بداد , وبداد علم جنس , وإنما جاز أن يقع حالا لتأويله بنكرة , ومعناه: جاءت الخيل متبددة. -[ص: ان وقع مصدر موقع الحال فهو حال لا معمول حال محذوف , خلافا للمبرد والأخفش , ولا يطرد فيما هو نوع للعامل , نحو: أتيته سرعة, خلافا للمبرد , بل يقتصر فيه وفي غيره علي السماع , إلا في نحو: أنت الرجل علما , وهو زهير شعرا, وأما علما فعالم. وترفع / تميم المصدر التالي «أما» في جوازا مرجوحا , وفي التعريف وجوبا. والمنكر مفعول مطلق عند الأخفش.]- ش: قال المصنف في الشرح: «تقدم التنبيه علي أن الحال خبر في المعني , وأن صاحبه مخبر عنه , فحق الحال أن يدل علي نفس ما يدل عليه صاحبه كخبر المبتدأ , وهذا يقتضي ألا يكون المصدر حالا لئلا يلزم الإخبار بمعني عن جثة , فان ورد عن العرب منه شيء حفظ ولم يقس عليه , كما يقاس علي وقوع المصدر نعتاً» انتهى.

ومجيء المصدر حالا أكثر من مجيئه نعتا , فمن المسموع (ثم ادعهن ياتينك سعيا) , و (الذين ينفقون أموالهم بإلىل والنهار سرا وعلانية) , (وادعوه خوفا وطمعا) , و (إني دعوتهم جهارا) , وقتلته صبرا , ولقيته فجاءة ومفاجأة , وكفاحا ومكافحة , وعيانا , وكلمته مشافهة , واتيته ركضا ومشيا وعدوا , وطلع بغتة , وأعطيته المال نقدا , وأخذت ذلك عنه سماعا وسمعا , ووردت الماء التقاطا , وقال الشاعر: فلأيا بلأي ما حملنا وليدنا ... علي ظهر محبوبك السراة محنب واختلف النحويون في تخريج هذه الكلم المسموعة وما أشبهها من المسموع: فذهب الكوفيون والأخفش والمبرد إلى أنها مفاعيل مطلقة , واختلفوا: فقال الكوفيون: أنها منصوبة بالأفعال السابقة , وليست في موضع الحال؛ لأن أعطيت في معني نقدت , وقلته في معني: صبره , وطلع بغتة في معني: بغت بغتة. وذهب الأخفش والمبرد إلى أن قبل كل مصدر منها فعلا مقدرا هو الحال , أي: زيد طلع يبغت بغتة , وقتلته أصبر صبرا , وأعطيته المال انقده نقدا وكذلك سائرها.

قال المصنف في الشرح: «وهذا ليس بصحيح؛ لأنه ان كان الدليل علي الفعل المقدر لفظ المصدر المنصوب فينبغي أن يجيزوا ذلك في كل مصدر له فعل , ولا يقتصروا علي السماع , ولا يمكن أن يفسره الفعل الأول؛ لأن القتل لا يدل علي الصبر , ولا اللقاء علي الفجاءة , ولا الإتيان علي الركض» انتهي. وذهب س وجمهور البصريين , إلى إنها مصادر في موضع الحال , أي: أعطيت زيدا المال منتقدا , وقتلته مصبورا , ودعوتهم مجاهرا , وكذلك باقيها. وظاهر قول المصنف في ألفيته: ومصدر منكر حالا يقع ... بكثرة ك «بغتة زيد طلع» انه ينافس؛ لأن الكثرة دليل الاقتباس , لكن قد نص هنا علي عدم القياس. وفي الإفصاح ما نصه: «وقد رأيت لبعضهم ان هذه مصادر علي حذف مضاف أي: لقيته لقاء فجاءه , وأتيته إتيان ركض , وسار سير عدو , فتقدر مضافا مصدرا من لفظ / الفعل , فيجيء (العراك) علي تقدير: إرسال العراك , وكذلك (جهدك) علي تقدير: طلبته طلب جهدك , ورجع عوده علي تقدير: رجوع عوده , فتكون هذه المعارف منتصبة انتصاب المصادر , فتكون معرفة علي الواجب , وهذا تقدير حسن سهل وكأنه حذف للعلم واستقباحا لتكرير اللفظ , وتكون المعارف علي هذا التقدير على وجهها.

ويصح أن يكون مررت به وحده علي هذا , أي: مرور أيجاد له , أي: اختصاص , وجاءوا الجماء , أي: مجيء الجماء , ودخلوا دخول الأول فالأول , وكلمته كلام فيه إلى في , فهذا عندي لا يبعد. وقد قيل: إنها أحوال علي حذف مضاف , أي: ذا فجاءه , وهذا يبطل بالمعارف المذكورة» انتهي. وقوله ولا يطرد فيما هو نوع للعامل , نحو: أتيه سرعة , خلافا للمبرد , بل يقتصر فيه وفي غيره علي السماع اجمع الكوفيون والبصريون في نحو هذه المصادر أنه لا يستعمل من ذلك إلا ما استعملته العرب , ولا يقاس علي المستعمل من ذلك غير المستعمل , وان كانوا قد اختلفوا في التخريج , فلا يجوز: جاء زيد بكاء , تريد: باكيا , ولا: ضحك زيد اتكاء , تريد: متكئا. وشذ البرد , فقال: يجوز القياس. وذلك علي خلاف في النقل عنه , فنقل بعض أصحابنا والمصنف باطراده فيما هو نوع للفعل , نحو: أتيته سرعة. والصحيح انه يقتصر في هذا ونحوه علي السماع , وقال س: «لا تقول: أتيته سرعة ولا رجلة , بل حيث سمع».

و «أن» والفعل - وان قدر بمصدر - لا يجوز أن يقع حالا؛ لأن العرب أجرتها مجري المعارف , سوي المضمر في باب الإخبار بكان , ولأن س نص علي أن أن إذا دخلت علي المبهم صيرته مستقبلا , والمستقبل لا يكون حالا. ولا يصح أن يكون حالا مقدره كقولهم في: مررت برجل معه صقر صائدا به غدا؛ لأنه إنما يكون ذلك في الحال التي يجعل مكانها فعل آخر يكون ذلك الفعل حالا , وأما في أن والمضارع فلا يمكن تقديره بعد أن إلا ويكون مستقبلا , فلا يجوز أن يكون حالا , وهذا مذهب س. وذهب ابن جني إلى انه أن تكون أن وما بعدها في موضع الحال , فقال في قول الشاعر: وقالوا لها: لا تنكحيه؛ فانه ... لأول سهم أن يلاقي مجمعا ما نصه. وقوله إلا في نحو أنت الرجل علما هذا الاستثناء هو من قوله «في هذا ونحوه علي السماع» يعني: إلا فيما ذكر من الأنواع الثلاثة , فانه لا يقتصر علي السماع , بل ينقاس , فذكر أولا أنت الرجل علما , فيجوز أن تقول: أنت الرجل

علما وأدبا ونبلا , والمعني: أنت الرجل الكامل في حال علم , وحال أدب , وحال نبل , وهذا معني قول الخليل: «أنت الرجل في هذه الحال». وذهب ثعلب إلى أن المصدر المنتصب في مثل هذا هو مصدر مؤكد لا حال , ويتأول الرجل باسم فاعل مما جاء بعده , فإذا قال أنت الرجل علما فهو بمنزلة: أنت / العالم علما , والمتأدب أدبا , والنبيل نبلا. ويحتمل عندي أن يكون منصوبا علي التمييز , كأنه قال: أنت الكامل أدبا؛ لأن الرجل يطلق ويراد به الكامل أدبه , ثم حول الكمال إلى ضمير المبتدأ الذي تحمله الرجل , وانتصب أدبا ونبلا وعلما علي التمييز. ولإجراء الرجل مجري الوصف بمعني الكامل أجازوا: أرجل عبد الله؟ علي أن يكون رجل مبتدأ , وعبد الله فاعل به لإجرائه مجري كامل , واغني عن الخبر؛ إذ لم يرد أن يستفهم عن عبد الله أهو رجل أم امرأة. وقوله وهو زهير شعرا هذا هو الثاني من أقسام المصدر الذي ينقاس وقوعه حالا , تقول: زيد حاتم جودا , والأحنف حلما , ويوسف حسنا , وما أشبه هذا التركيب , أي: مثل زهير في حال شعر , وكذلك باقيها. ومن هذا القبيل قول الشاعر:

تخبرنا بأنك أخوذي ... وأنت البلسكاء بنا لصوقا أي: مثل البلسكاء في حال لصوق. ويحتمل ان يكون هذا كله منصوبا علي التمييز؛ لأنه علي تقدير «مثل» محذوفة لفظا , مراده معني ضرورة ذلك أن ذات زيد ليست ذات زهير , والتمييز يأتي بعد مثل , نحو قولهم: علي التمرة مثلها زبدا , وفان الهوى يكفيكه مثله , صبرا وتخرج نصب هذه علي التمييز اظهر من نصبه علي الحال , وقد نصوا علي انه تمييز في قولك: زيد القمر حسنا , وثوبك السلق خضرة. وقوله وأما علما فعالم هذا هو الثالث من أقسام المصدر الذي ينقاس وقوعه حالا , والأصل في هذا أن رجلا وصف عنده شخص بعلم وغيره , فقال الرجل للواصف: أما علما فعالم , يريد: مهما يذكر إنسان في حال علم فالذي وصفت عالم كأنه منكر ما وصفه به من غير العلم. فالناصب لهذه الحال هو فعل الشرط المحذوف, وصاحب الحال هو المرفوع بفعل الشرط. وقال المصنف في الشرح: «ويجوز أن يكون ناصبه ما بعد الفاء , وصاحبه ما فيه من ضمير والحال علي هذا مؤكد , والتقدير: مهما يكن من شيء فالمذكور

عالم في حال علم , فلو كان بعد الفاء ما لا يعمل ما بعده فيما قبله تعين نصب ما ولي أما بفعل الشرط المقدر , نحو قولك: أما علما فلا علم له , وأما علما فان له علما , وأما علما فهو ذو علم» انتهي. وقال س: «وينتصب من المصادر لأنه حال صار فيه المذكور قولك: أما سمنا فسمين , أما علما فعالم , وأما نبلا فنبيل» ثم قال: «وعمل فيه ما قبله وما بعده , ولم يحسن في هذا الوجه الألف واللام , ومن ذلك: أما علما فلا علم له, وأما علما فلا علم عنده , وأما علما فلا علم , تضمر: له» انتهي. ومعني قوله «وعمل فيه ما قبله وما بعده» يعني أنك يجوز أن تقدر الناصب لقولك علما فعل الشرط المقدر قبله وويجوز أن يكون الناصب ما بعد الفاء , وهو فعا لم. ثم أتي بالصور التي يتعين أن يكون الناصب / ما قبله , وهو أما علما فلا علم له, ونحوه مما لا يمكن أن يعمل ما بعد الفاء فيما قبلها. وقول س «ولم يحسن في هذا الوجه الألف واللام» لأن انتصابه علي الحال , فلا يحسن فيه دخول أل , والمعني أنه لا يجوز ذلك. وقوله وترفع تميم المصدر التالي أما التنكير جوازا مرجوحا فيقولون: أما علم فعا لم , قال س: «وقد يرفع في لغة بني تميم , والنصب في لغتها أحسن» وتخصيصه الرفع بلغة تميم دليل علي أن غيرها من العرب ينصب المنكر , وليس فيه نص علي أن النصب لغة أهل الحجاز بعينهم , ونص عليه المصنف في الشرح , فقال: «ويلزمون - أي: أهل الحجاز - نصب المنكر».

وقوله وفي التعريف وجوبا فيقولون: أما العلم فعا لم , قال س: «فان أدخلت الألف واللم رفعوا» , يعني بني تميم , وعبارة س اخلص من عبارة المصنف لأنه قال «وفي التعريف» وهذا أعم من أن يكون التعريف بالألف واللام أو بغيرها , والمنقول إنما هو المعرف بالألف واللم. وقوله وللحجازيين في المعرف رفع ونصب ظاهره أنهما مستويان في الجواز , والذي يدل عليه كلام س أن الرفع هو الأكثر لأنه بدأ به , وتكلم في جمل من مسائله , ثم قال: «وقد ينصب أهل الحجاز في هذا الباب بالألف واللام , وذلك قولهم: أما النبيل فنبيل , وأما العقل فهو الرجل الكامل العقل والرأي , أي: هو للعقل والرأي وكأنه أجاب من قال: لمه؟ وأما بنو تميم فيرفعون , فيقولون: أما العلم فعا لم , كأنه قال: فأنا أو فهو عالم به» انتهي ملخصا بلفظ س. وإنما كان الرفع أكثر في لغة الحجاز والنصب أقل لأنه لما كان معرفا بال قويت فيه جهة ان يكون مسندا إليه , فكان جعله عمده أحسن من جعله فضلة. وقوله وهو في النصب مفعول له عند س أي: المعرف بأل في النصب مفعول من أجله عند س؛ ألا تري ان س قال: «كأنه أجاب من قال: لمه»؟ وهذا يتقدر المفعول من أجله , وذلك أنه لما انتصب وهو معرفة بأل لم يمكن أن يكون نصبه علي الحال لتعريفه , ولم يمكن أن يكون نصبه علي المصدر المؤكد لتعريفه أيضا؛ لان المصدر ألتوكيدي لا يكون نصبه معرفا؛ لأنه لا يدل إلا علي ما دل عليه الفعل , والفعل ايدل إلا علي مطلق الحدث , فكذلك توكيده , والمعرف يدل علي خصوصية الفعل , فلا يمكن أن ينتصب على أنه مؤكد لذلك.

وقوله وهو والمنكر مفعول مطلق عند الاخفش قال المصنف في الشرح: «الاخفش يجعل المنصوب مصدرا مؤكدا في التنكير والتعريف , ويجعل العامل فيه ما بعد الفاء ان لم يقترن بما لا يعمل ما بعده فيما قبله , فتقدير أما علما فعا لم في مذهبه: مهما يكن من شيء فالمذكور عالم علما , فلزم تقديمه كما لزم تقديم المفعول في (فأما إلىتيم فلا تقهر) , والأصل: مهما يكن من شيء / فاليتيم لا تقهر , أو: فلا تقهر اليتيم , وقد قال س في أما الضرب فضارب مثل قول الاخفش في أما علما فعا لم» انتهي. وأجاز بعضهم انتصاب المصدر نكرة ومعرفه علي انه مفعول به بفعل الشرط المقدر , فيقدر متعديا علي حسب المعني , فكأنه قال: مهما تذكر علما أو العلم فالذي وصف عالم , وهذا مذهب الكوفيين , ويجيزون: أما العبيد فلا عبيد لك , وان أردت عبيدا بأعيانهم. لأنهم يحملون هذا الباب كله علي تقدير فعل , كأنه قال: مهما تذكر العبيد , وهو عندهم فعل لا يظهر مع أما , كما لا يظهر الفعل في قول العرب: أما أنت منطلقا انطلقت معك , وحكوا: ما البصرة فلا بصرة لك , وأما أباك فلا أب لك. قال بعض أصحابنا: «وإذا صح ما حكوا فالقول قولهم , ولم يسمعه س , فجري عل الصنعة» انتهي. واختار هذا المذهب المصنف في الشرح , وصوبه وقال: «لأنه لا يخرج فيه شيء عن أصله؛ لان الحكم بالحالية فيه إخراج المصدر عن أصله ووضعه موضع

اسم فاعل». قال: «ولأنه لا يمنع من اطرده مانع , والقول بالحالية فيه عدم الاطراد لجواز تعريفه. وبخلاف الحكم بأنه الحكم بأنه مصدر مؤكد فانه يمتنع إذا كان بعد الفاء ما لا يعمل ما بعده فيما قبله. وأما الحكم بأنه مفعول به فلا يعرض ما يمنع منه في لفظ ولا معني , فكان أولي من غيره , وقد ذهب أل ذلك السيرافي في قول ابن ميادة ألا ليت شعري هل إلى ام مالك ... سبيل , فأما الصبر عنها فلا صبرا في رواية النصب فقدره: مهم ترم الصبر عنها فلا صبر». قال المصنف: «ويؤيد هذا التقدير في المصدر مجيئه فيما ليس مصدرا , نحو: أما قريشا فانا أفضلها رواه الفراء عن الكسائي عن العرب , وتقديره: مهما تذكر قريشا أو تصف قريشا فانا أفضلها. ومنه ما روي يونس عن القوم من العرب أنهم يقولون: أما العبيد فهو ذو عبيد , ومهما تذكر العبد فهو ذو عبد» انتهي ما اختاره المصنف وما رجح به.

وما ذهب إليه الأخفش من انتصاب النكرة والمعرفة نصب المصدر المؤكد , وما ذهب إليه بعضهم - واختاره المصنف من نصبه علي انه مفعول به - فاسدام علي ما نذكره ان شاء الله , ويتضح ان الصواب مذهب س رحمه الله , فنقول: الدليل علي فساد قول الاخفش من وجهين: احدهما ك أن المصدر المؤكد لا يكون معرفا بالألف واللام؛ لان الألف واللام يخرجانه من الإبهام إلى التخصيص , ودعوي زيادة أل علي خلاف الأصل. والثاني: انه لا يصح أن يكون مصدرا مؤكدا إذا كان ما بعد الفاء لا يمكن ان يعمل فيما قبلها , نحو: أما علما فلا / علم له. والدليل علي فساد المذهب الأخر الذي اختاره المصنف انه لو كان علي إضمار الفعل لمتعدي الناصب له لم يكن ذلك مختصا بالمصدر؛ أما علما فعا لم , أو بالصفات نحو: أما صديقا فصديق , علي ما سيأتي , وكان ذلك جائزا في كل الأسماء. وقد ينص س علي أن قولك: أما الحارث فلا حارث لك , وأما البصرة فلا بصرة لك , وأما أبوك فلا أب لك , لا يجوز فيه إلا الرفع , وذكر انه لا سبيل إلى النصب ولو كان علي ما اختاره المصنف لجاز النصب , فكنت تقول: أما البصرة فلا بصرة لك , أي: مهما تذكر البصرة فلا بصرة لك , فلما التزموا فيه الأوصاف والمصادر دل علي أن نصبه ليس نصب المفعول به. ولو كان أيضا علي ما زعموا من نصبه نصب المفعول به ما اختلفت فيه لغات العرب بالنسبة للتنكير والتعريف؛ وقد قال س: «هذا باب يختار فيه الرفع ويكون فيه الوجه في جميع اللغات , وذلك قولك: أما العبيد فذو عبيد , وأما العبد فذو عبد , وأما عبدان فذو عبدين.

وإنما اختير الرفع ما ذكرت لان ما ذكرت في هذا الباب أسماء , والأسماء لا تجري مجري المصادر؛ إلا تري انك تقول: هذا الرجل علما وفقهاء , ولا تقول: هو الرجل خيلا وابلا , فلما قبح ذلك جعلوا ما بعده خبرا له , كأنهم قالوا أما العبيد فأنت فيهم , أو أنت منهم ذو عبيد , أي: لك من العبيد نصيب». ثم قال س بعد كلام: «وزعم يونس أن قوما من العرب يقولون: أما العبيد فذو عبيد , وأما العبد فذو عبد , يجرونه مجري المصدر , وهو قليل خبيث؛ وذلك أنهم شبهوه بالمصدر كما شبهوا الجماء الغفير بالمصدر وشبهوا خمستهم بالمصدر , وكان هؤلاء أجازوا: هو الرجل العبيد والدراهم , أي: للعبيد والدراهم , فهذا لا يتكلم به , وإنما وجهه وصوابه الرفع وهو قول العرب وأبي عمرو ويونس , ولا اعلم الخليل - رحمه الله - خالفهما. وقد حملوه علي المصدر , فقال النحويون: أما العلم والعبيد فذو علم وذو عبيد , وهذا قبيح؛ لأنك لو أفردته كان الرفع الصواب». وقال س: «ولو قال: أما العبيد فأنت ذو عبيد , يريد عبيدا بأعيانهم قد عرفهم المخاطب كمعرفتك , كأنك قلت: أما العبيد الذين تعرف - لم يكن إلا رفعا» انتهي ما نقل من كلام س في هذه المسالة. ودل كلام س علي أن نصب «أما العبيد» إذا لم يرد بهم عبيد بأعيانهم خبيث قليل حيث اجري الاسم مجري المصدر , وفرق س بين المصدر والاسم , ولو كان النصب علي المفعول به لجاز كما قلناه في كل اسم , سواء أكان مصدرا أم غيره. وأما ما حكي المصنف من قولهم «أما قريشا فانا أفضلنا» فالنصب قد منعه س , وان صحت حكاية الكسائي ذلك عمن يحتج بكلامهم من العرب فهو قليل

جدًا, ويخرج علي إضمار المصدر وإبقاء معمولة , والتقدير: أما ذكرك قريشا فانا أفضلها , حذف المصدر , وابقي معمولة , كما حذفه الآخر في قوله: هل تذكرون إلى الديرين هجرتكم ... ومسحكم صلبكم , رحمان قربانا التقدير: وقولكم يا رحمان تقربنا إليك قربانا , ولا يقاس علي حذف المصدر وإبقاء معمولة. وأما قولهم «أما صديقا فصديق» فانتصابه عند س علي الحال , والحال فيها اظهر من الحال في المصدر؛ إذ هي صفة علي كل حال , وانتصابه أما بفعل الشرط المحذوف أو بالصفة التي بعد الفاء ووتكون إذ ذاك حالا مؤكده ز فلو قلت «أما صديقا فليس بصديق» فالنصب علي التقديرين. ومنع المبرد الوجه الثاني لاقتران الصفة العاملة بباء الجر. والباء الزائدة لا تمنع , تقول: ليس زيد عمرا بضارب , تريد: بضارب عمرا. ويمكن أن يكون تعليل منعه بان الصفة الواقعة خبرا ل «ليس» لا يجوز تقديمهما علي مذهبه علي ليس وإذا لم يجر تقديمها علي ليس لم يجر تقديم معمولها عليها.

وذهب الأخفش إلى أن انتصاب صديقا ب «أن يكون» مضمرة , فليس انتصابه علي الحل , والتقدير: أما أن يكون إنسان صديقا فالمذكور صديق. ورده المبرد , ولم يذكر له حجة. قال المصنف في الشرح: «والحجة أنا إذا قدرنا (أن يكزن) لزم كون أن وصلتها في موضع نصب علي المذهب المختار , وينبغي أن يقدر قلبه (أن يكون) آخر , ويؤدي ذلك إلى التسلسل , والتسلسل محال» انتهي. ولا يلزم ما قال من كون أن وصلتها في موضع نصب علي المذهب المختار كما قال؛ بل تكون في موضع رفع علي الابتداء , والتقدير: أما كون إنسان صديق , ولو فرضنا أن (أن يكون) في موضع نصب لم يلزم أن يكون منصوبا ب «أن يكون» مضمرة؛ لأنه إذ ذاك يكون العامل فيه النصب الوصف الذي بعد الفاء , ويكون «أن يكون» مفعولا له , والتقدير: أما لان يكون إنسان صديقا فالمذكور صديق , وكأنه قال: أما لكينونة الصداقة فالمذكور صديق , كما قال س في أما العلم فعا لم , أي: أما للعلم فعا لم. وإنما يرد مذهب الاخفش بان فيه إضمار المصدر وإبقاء معمولة , وقد ذكرنا أن ذلك من القلة والندور بحيث لا يقاس عليه. وقد خرج س حين صرح ب «أن يكون» بعد «أما» علي انه مفعول له , سبك من أن يكون مصدرا , وهو مفعول له , قال س: «وأما قول الناس للرجل أما أن

يكون عالما فهو عالم , وأما أن يعلم شيئا فهو عالم - فهذا يشبه أن يكون بمنزلة المصدر؛ لان «أن» مع الفعل الذي يكون صلة بمنزلة المصدر , كأنك قلت: أما علما وأما كينونة علم فأنت عالم». ومنع س أن تقع أن والفعل حالا ز ثم قال في آخر الباب: «فمن ثم تجريت مجري المصدر الأول الذي هو جواب لمه»؟ وتقدم من قولهم: أما العبيد فذو عبيد , فالعبيد: مبتدأ وذو: خبر مبتدأ تقدره علي حسب ما جري الكلام فيه من غيبة أو خطاب أو تكلم , أي: فهو أو فأنت أو فانا , والجملة في موضع خبر المبتدأ , ولا بد فيها من رابط , فلا يجوز ان يكون التكرار؛ لأنه يلزم أن يكون بال , فكان التركيب: أما العبيد فذو العبيد. وقال س: «التقدير فأنت / منهم أو فيهم ذو عبيد». ولا يظهر هذا التقدير؛ لأنه لا يوافق المعني المقصود من الكلام؛ إذ المعني: فأنت تملكهم , وملكهم ثابت لك , وقول س «فأنت منهم أو فيهم» معناه انه من صنف العبيد , وله عبيد , وهذا لم يقصد قط , لكن يتخرج ما قدره س علي أن يكون العامل في «فيهم ومنهم» ما في «ذو» من معني الملك , كأنك قلت: أما العبيد فأنت مالك فيهم أو منهم وذو عبيد: بمعني مالك عبيد. و (أما) «أما العبيد فذو عبيد» - بنصب العبيد - فذهب الزجاج إلى انه علي حذف مضاف , كأنك قلت: أما ملك العبيد فذو عبيد , ويكون مفعولا من اجله , ويعمل فيه مضمر يفسره ذو عبيد , كأنك قلت: مهما تصف ملك العبيد فهو ذو عبيد. أو تعمل فيه أما علي مذهب من رأى ذلك.

وذهب السيرافي إلى انه من وضع الاسم موضع المصدر , كما تقول: عجبت من دهنك لحيتك , أي من دهن , كأنه قال: أما التعبيد فهو ذو عبيد , وقد نطقوا بهذا المصدر , قال: يرضون بالتعبيد والتأمي وهذا هو ظاهر قول س؛ لأنه قال: «يجرونه مجري المصدر». وقال في قولهم أما العلم والعبيد: «حملوه علي المصدر» , أي: عطفوه عليه. ونظره ب «ويل له وتب» من حيث كان التب بابه النصب , فرفعوه حملا علي الويل , وهنا كان العبيد بابه الرفع , فنصب حملا علي العلم , شبهوه بالمصدر فنصبوه.

-[ص: فصل لا يكون صاحب الحال في الغالب نكرة ما لم يختص، أو يسبقه نفي أو شبهه، أو يتقدم الحال، أو يكن جملة مقرونة بالواو، أو يكن الوصف به علي خلاف الأصل، أو تشاركه فيه معرفة.]- ش: لما كانت الحال خبرا في المعني، وذو الحال مخبرا عنه، وكان يجوز الابتداء بالنكرة بشرط الفائدة - جاز أن يكون ذو الحال نكرة بشرط وضوح المعني وأمن اللبس. وقوله في الغالب احتراز من قولهم: عليه مئة بيضا، وفيها رجل قائما، فإن ذا الحال نكرة، وليس فيه شرط مما ذكر المصنف. ولا يشعر قوله «في الغالب» بأن ما ليس غالبا هل يجوز ذلك فيه قياسا مطردا أو يقتصر فيه علي السماع. وزعم بعض أصحابنا أنه إذا لم يقبح أن يكون وصفا للنكرة فالانتصاب علي الحال ضعيف جدا، نحو قول الشاعر: وما حل سعي غريبا ببلدة ... فينسب، إلا الزبر قان له أب انتهي. وليس كما زعم، بل قد ذكر س الحال من النكرة كثيرا قياسيا، وإن لم يكن بمنزلة الإتباع في القوة، والقياس قول يونس والخليل، وقد جاء من ذلك ألفاظ عن

العرب، منها: به داء مخالطه، ومرت بماء قعدة رجل، أي: ممسوحا بذلك، ووقع أمر فجاءة، وعليه مئة بيضا، وفي الحديث: (جاء رسول الله علي فرس سابقا). وقيل: لا يجوز في غير الموصوف إلا سماعا ما لم تتقدم عليه، وأنشد الفارسي: جنونا بها فيما اعتشرنا علالة ... علالة حب مستسرا وباديا /جعله حالا من حب، وهو نكرة 0 وقوله ما لم يختص الاختصاص يكون بالنعت نحو: مررت برجل تميمي راكبا، وحكي س: هذا غلام لك ذاهبا. وقال بعض أصحابنا: إن ذلك لا يجوز إلا أن تكون النكرة موصوفة بوصفين. ويرد عليه ما حكاه س، وقوله تعالي {فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ} [الدخان:4] {أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ} [الدخان:5] ، وقول الشاعر:

نجيت- يا رب - نوحا، واستجبت له ... في فلك ماخر في اليم مشحونا وعاش يدعو بآيات بينة ... في قومه ألف عام غير خمسينا ويكون الاختصاص بالإضافة كقوله {فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ} [فصلت:10]، {وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا} في قراءة من ضم القاف والباء. ويكون الاختصاص بالعمل نحو: مررت بضارب هندا قائما. والجه في هذه المسائل الإتباع لا الحال. وقوله أو يسبقه أو شبهه مثال النفي {وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا وَلَهَا كِتَابٌ مَعْلُومٌ} [الحجر:4]، حسن تقدم النفي هنا مجيء الحال من النكرة كما حسن الابتداء بها في نحو: ما قرية إلا لها كتاب معلوم. ومن ذلك: ما مررت بأحد إلا قائما إلا أخالك، وقد تقدم الكلام علي هذا المثال في الاستثناء، والكلام مع الزمخشري فيه في قوله {إِلَّا وَلَهَا كِتَابٌ مَعْلُومٌ}، وقال الشاعر: ما حم من موت مي واقيا ... ولا يري من أحد باقيا وقال الآخر: وما حل سعدي غريبا ببلدة ... ....................................

قال في البديع: «النكرة المنفية تستوعب جميع أنواعها، فتنزلت منزلة المعرفة». وشبه النفي هو النهي والاستفهام، نحو قول قطري: لا يركن أحد إلي الإحجام ... يوم الوعي متخوفا لحمام ونحو قول الآخر: يا صاح، هل حم عيش باقيا، فتري ... لنفسك العذر في إبعادها الأملا وقوله أو يتقدم الحال يعني: أو يتقدم الحال علي ذي الحال النكرة، ومثال ذلك: هذا قائما رجل، قال س «لما لم يجز أن توصف الصفة بالاسم، وقبح أن تقول: فيها قائم رجل، فتضع الصفة موضع الاسم، كما قبح: مررت بقائم، وأتاني قائم - جعلت القائم حالا، وكان المبني علي الكلام الأول ما بعده». ثم قال: «وحمل هذا علي جواز: فيها رجل قائما، وصار حين أخر وجه الكلام فرارا من القبح»، وأنشد س لذي الذمة:

وتحت العوالي في القنا مستظلة ... ظباء، أعارتها العيون الجاذر وأنشده لغيره: / وبالجسم مني بينا لو علمته ... شحوب، وإن تستشهدي العين تشهد وأنشد غير س: وما لام نفسي مثلها لي لائم ... ولا سد فقري مثل ما ملكت يدي وقال الآخر: فهلا أعدوني لمثلي- تفاقدوا - ... وفي الأرض مبثوثا شجاع وعقرب ويظهر من كلام س أن صاحب الحال في نحو «فيها رجل قائما» هو المبتدأ. وذهب قوم إلي أن صاحبه الضمير المستكن في الخبر. قال المصنف في الشرح: «وقول س هو الصحيح؛ لأن الحال خبر في المعني، فجعله لأظهر الاسمين أولي من جعله لأغمضهما» انتهي. وهذا الذي ذكره يستقيم لو تساويا، وأما إذا كان أحدهما معرفة والآخر نكرة فجعله حلا للمعرفة أولي. وزعم ابن خروف أن الخبر إذا كان ظرفا أو جارا ومجرورا لا ضمير فيه عند س والفراء إذا تأخر، وأما إذا تقدم فلا ضمير فيه. واستدل علي ذلك بأنه لو كان فيه ضمير إذا تقدم لجاز أن يؤكد، وأن يعطف عليه، ... وأن يبدل منه، كما فعل ذلك مع المتأخر.

ومع ذلك فنصب الحال المتقدمة من النكرة لا يكون إلا في قليل من الكلام؛ قال سس: «ومع ذلك أكثر ما يكون في الشعر، وأقل ما يكون في الكلام»، وإن كان قد أطلق القول في جواز وقوع الحال من النكرة، ولم يجعله في الشعر أكثر منه في الكلام. ويجوز أ، تقول «هذا قائم رجل» علي طريق البدل. وحكي الفراء: هذه خراسانية وخراسانية جارية، بنصب خراسانية علي الحال المتقدمة، وبالرفع علي طريق البيان. وقوله أو يكن جملة مقرونة بالواو مثاله {أو كالذي مر علي قرية وهي خاوية علي عروشها}، وقال مضي زمن والناس يستشفعون بي ... فهل لي إلي ليلي الغداو شفيع أو يكن الوصف به علي خلاف الأصل مثاله: هذا خاتم حديدا، وعندي راقود خلا، هكذا مثل المصنف، وقال: «ظاهر كلام س أن المنصوب في هذين المثالين وأشباههما منصوب علي الحل، وأن الذي سوغ ذلك مع تنكير ما قبله التخلص من جعله نعتا مع كونه جامدا غير مؤول بمشتق، وقد تقدم أن ذلك

يغتفر في الحال؛ لأنه بالأخبار أشبه منه بالنعوت. والمشهور في كلام غير س نصب ما بعد خاتم وراقود وشبههما علي التمييز. فلو كان ما قبله معرفة لم يكن إلا حالا، نحو: هذا خاتمك حديدا، وهذه حبتك خزا» انتهي. ومن مجيء الحال بعد ما يقبح الوصف به قولهم: مررت ببر قفيزا بدرهم، ومررت بماء قعدة رجل. وقوله أو تشاركه فيه معرفه نحو: هؤلاء ناس وعبد الله منطلقين، وهذا /رجل وعبد الله منطلقين. -[ص: يجوز تقديم الحال علي صاحبه وتأخيره إن لم يعرض مانع من التقديم، كالإضافة إلي صاحبه، أو من التأخير، كاقترانه ب «إلا» علي رأي، وكإضافته إلي ضمير ما لابس الحال. وتقديمه علي صاحبه المجرور بحرف ضعيف علي الأصح لا ممتنع.]- ش: لما كانت الحال خبرا في المعني تنزلت من صاحبها منزلة الخبر من المبتدأ، فالأصل فيها التأخير عن صاحبها، كما أن ذلك هو الأصل في خبر المبتدأ. ثم قد يعرض تأخيرها عنه وجوبا، وجوازا: فمن الوجوب إضافة العامل إلي صاحبها، نحو: عرفت قيام هند مسرعة، فلا يجوز تقديم مسرعة علي هند لما يلزم في ذلك من الفصل بين المضاف والمضاف إليه.

ومن ذلك قولهم: ما أحسن هندا متجردة، فيجب تأخير هذه الحال عن صاحبها، فلا يجوز: ما أحسن متجردة هندا، وفيه خلاف سيأتي في باب التعجب. ومما عرض فيه مانع من التأخير عند قوم فخرج عن الأصل اقتران ذي الحال بإلا، مثاله: ما قام مسرعا إلا زيد، أنشد الأخفش: وليس محيرا إن أتي الحي خائف ... ولا قائلا إلا هو المتعيبا ثم قال: فإن هذا ليس بحسن، وهو كلام يجوز في الشعر. وهو مثل: ما أكل إلا زيد الخبز، وما ضرب إلا عمرو زيدا، لا تريد به: ما أكل الخبر إلا زيد، وما ضرب زيدا إلا عمرو، ولكنك تضمر الفعل بعد المستثني علي قبحه، وإنما قبح لأن المخاطب إذا سمع «ما شرب إلا عمرو» ووضعه علي فعل لم يتعد إلي مفعول، فإذا ما هو؛ لأن «ما هو» في موضع المفعول. ولو جئت بعده. بما لا يغير العمل لجاز، نحو: ما ضربني إلا أبوك منهم؛ لأن «منهم» شيء زدت به المخاطب علما، ولم تفسد شيئا من العمل الذي مضي في أصل كلامك. وكذا لو جئت بالحال أو الظرف لجاز؛ لأن الظرف والحال يعمل فيهما الفعل المتعدي وغير المتعدي، وذلك أنك لو قلت: ما جلس إلا زيد عندك، وما جاء إلا زيد راكبا، وما جاء أمه الله راكبة -جاز، وليس شيء من هذا كان متقدماً.

وأما ما جاء راكبا إلا زيد فلا يجوز تأخيره؛ لأن هذه الحال تلتبس بالحال التي ليست مؤخرة؛ لأنك إذا قلت ما جاء راكبا إلا عبد الله فأنت تنفي عن الحال الركوب كل شيء إلا مجيء عبد الله، وإذا قلت ما جاء إلا عبد الله راكبا فلم تنف عن الركوب شيئا. هذا نص أبي الحسن في «المسائل». قال أبو الحسن: «ولو قلت «ما جاءني أحد راكبة إلا أمة الله» كان محالا، وليس مثل ما جاء راكبا إلا زيد؛ لأن المجيء هنا لزيد، ولم تجعله بدلا من شيء قبله، وفي ما جاءني أحد راكبة إلا أمة الله قد جعلته بدلا من أحد، ووقع الحال الذي هو ل «أمة الله» في موضع قد يكون فيه حال «أحد» فكره اللبس» انتهي. فإن وجد نحو ما قام إلا زيد مسرعا أضمر ناصب الحال بعد صاحبها، كقوله الراجز: / / ما راعني إلا جناح هابطا ... حول البيوت قوطه العلابطا التقدير: ما راعني إلا جناح راعني هابطا، وجناح: اسم رجل. وقوله وكإضافته إلي ضمير ما لابس الحال ما لابس الحال يشمل الملابسة بإضافة وبغيرها، مثاله: جاء زائر هند أخوها، وجاء منقادا لعمرو صاحبه. وقوله وتقديمه علي صاحبه المجرور بحرف ضعيف علي الأصح لا ممتنع أطلق المصنف في حرف الجر، وينبغي أن يقيد بأن يكون غير زائد، إذا كان زائدا جاز تقديم الحال عليه كما جاز ذلك في المفعول، ما جاء من أحد عاقلا، وكفي بزيد معينا، إذا أعربت معينا حلا فيجوز التقديم، فتقول: ما جاء عاقلا من أحد، وكفي معينا بزيد.

وقال المصنف في الشرح: «وإذا كان صاح الحال مجرورا لم يجز عند أكثر النحويين تقديم الحال عليه، نحو: مررت بهند ضاحكة، فيخطئون من يقول: مررت ضاحكة بهند. ودليلهم في منع ذلك أن تعلق العامل بالحال ثان لتعلقه بصاحبه، فحقه إذا تعدي لصاحبه بواسطة أ، يتعدي إليه بتلك الواسطة، لكن منع من ذلك خوف التباس الحال بالبدل، وأن فعلا واحدا لا يتعدي بحرف واحد إلي شيئين، فجعلوا عوضا من الاشتراك في الواسطة التزام التأخير. وبعضهم يعلل منع التقدم بالحمل علي الحال المجرور بالإضافة. وبعضهم يعلل بأن حال المجرور وبحرف شبيه بحال عمل فيه حرف جر مضمن معني الاستقرار، نحو: زيد في الدار متكئا، فكما لا تقدم الحال علي حرف الجر في هذا وأمثاله لا تقدم عليه في نحو: مررت بهند جالسة». وقد اعترض المصنف هذه العلل، فقال في الأولي: «لا نسلم ذلك الحق حتي يترتب عليه التزام التأخير تعويضا، بل حق الحال لشبه الظرف أن يستغني عن واسطة، علي أ، الحال أشد استغناء عن الواسطة، ولذلك يعمل فيها ما لا يعدي بحرف جر، كاسم الإشارة وحرف التنبيه والتمني». وقال في الثانية: «المجرور بحرف كالأصل للمحور بالإضافة، فلا يصح أن تحمل حال المجرور بحرف عليه؛ لئلا يكون الأصل تابعا والفرع متبوعا. وأيضا فالمضاف بمنزلة موصولة، والمضاف إليه بمنزلة صلة، والحال منه بمنزلة جزء صلة،

فوجب تأخيره كما يجب تأخير أجزاء الصلة، وحال المجرور بحرف لا يشبه جزء صلة، فأجيزة تقديمه إذ لا محذور في ذلك». وقال في الثالثة: «بين البابين بون بعيد، فإن جالسة من «مررت بهند جالسة) منصوب بمررت، وهو فعل متصرف لا يفتقر في منصب الحال إلي واسطة، كما لا يفتقر إليها في نصب ظرف أو مفعول له أو مفعول مطلق، وحرف الجر الذي عداه لا عمل له إلا الجر، ولا جئ به إلا لتغدية مررت، فالمجرور به بمنزلة منصوب، فيتقدم حاله كما يتقدم حال المنصوب، /ى ولكونه بمنزلة منصوب أجري في اختبار النصب نحو: أزيدا مررت به؟ مجري: أزيدا لقيته؟ وأما متكئا في المسألة {الثانية} فمنصوب ب «في» لتضمنها معني الاستقرار، وهي أيضا رافعة ضميرا عائدا علي زيد، وهو صاحب الحال، فلم يجز لنا أن نقدم متكئا علي في لأن العمل لها، وهي عامل ضعيف متضمن مني الفعل دون حروفه، فمانع التقدم في نحو (زيد في الدار متكئا) غير موجود في نحو: مررت بهند ضاحكة، وربما قدم الحال في نحو: زيد في الدار متكئا» انتهي ما ذكره المصنف في هذه العلل التي ذكرت أنها تمنع من تقديم الحال علي المجرور بالحرف غير الزائد. وقال غيره معللا للمنه: الباء في نحو مررت بهند ضاحكة من حروف الصفات، وتتعلق بالحدث، فكان الحدث مطلقا، ثم تقيده الباء، فصار الحدث مخصوصا بهند لا مطلقا، وضاحكة من صفات هند وقيد لها، فقد اجتمه صفتان: إحداهما الباء المفيدة للمرور، والأخري الحال المقيدة لهند، وإذا اجتمع صفتان لموصوفين لم يجز إلا أن تلي صفة أحدهما موصوفها، أو تلي صفة الموصوف الثاني صاحبها، وتلي صفة الأول صفة الثاني، تقول: مررت برجل علي فرس، فإذا

وصفتهما جاز أن تلي كل صفة موصوفها، فتقول: مررت برجل عاقل علي فرس أشهب، ومررت برجل علي فرس أشهب عاقل، ولا يجوز أن تلي صفة الأول الموصوف الثاني وتلي صفة الثاني صفة الأول، فلا يجوز: مررت برجل على فرس عاقل أشهب؛ لما يلزم في ذلك من إيلاء الصفة موصوفا غير موصوفها، فلو قلت «مررت ضاحكة بهند» كنت قد أوليت ضاحكة الذي هو من صفات هند المرور الذي هو غير موصوفها، وذلك لا يجوز. فإن قلت: الحال مشبهة بالظرف، والظرف يجوز فيه ذلك، فتقول: مررت بهند اليوم، ومررت اليوم بهند، فينبغي أن يجوز ذلك في الحال. فالجواب: أن الظرف مقدر ب «في»، وهو متعلق بالمرور، وليس بصفة لغيره، والحال هي هند، والشبه الذي بينهما إنما هو في المعني لا في اللفظ، والمشبه بالشيء لا يكون كالمشبه به. قالوا: وحجة من أجاز ذلك من جهة القياس هي أن العامل هو الفعل من حيث المعنى، إلا أن حرف الجر موصل معناه إلى الاسم، فهو من حيث المعنى مفعول لذلك الفعل، فالعامل في الحال هو العامل في صاحبها، وإن كان لم يقو على نصبه، فاحتاج في التوصل إليه إلى الحرف. قال المصنف في الشرح ما ملخصه: «أجزت ذلك للسماع، ولضعف دليل المنع، فالسماع {وما أرسلنك إلا كافة للناس} ف (كافة) حال من الناس.

وتأويل الزمخشري أن (كافة) صفة ل (إرسالة) حذفت، وقامت (كافة) مقامها، فيبطله نقل ابن برهان أن العرب لم تستعمل قط كافة إلا حالا. وتجويز الزمخشري ذلك شبيه بما أجازه في خطبه (المفصل) من إدخال باء الجر علي (كافة) والتعبير به عما لا يعقل، وشرط الصفة المستغني / بها عن الموصوف أن يعتاد ذكر موصوفها معها قبل الحذف، وألا تصلح الصفة لغيره، و (كافة) بخلاف ذلك. وتأويل الزجاج أنه حال من الكاف، فلا يعرف كونه حالا من مفرد في غير محل النزاع، ولا ينبغي أيضا ذلك لتأنيثه، ولا يقال إن التاء للمبالغة؛ لأنها لا تلحق غاليا إلا ما كان من صفات المبالغة، نحو نسابة وفروقة ومهذراة، ولحاقها هذه شاذ، ولحاقها ل (رواية) أشذ، فحمل علي رواية حمل علي شاذ الشاذ، وقول الشاعر: فإن تك أذواد، أصبن، ونسوة ... فلن تذهبوا فرغا بقتل حبال

وقول الآخر: لئن كان برد هيمان صاديا ... إلي حبيبا إنها لحبيب وقول الآخر: إذا المرء أعيته المروءة ناشيا ... فمطلبها كهلا عليه شديد وقول الآخر: تسليت طرا عنكم بعد بينكم ... بذكراكم حتي كأنكم عندي ففرغا حال، أي: فلن تذهبوا بدم حبال فرغا، وحبال رجل، وفمطلبها عليه كهلا شديد، وتسليت عنكم طرا.4 وربما قدم الحال علي صاحبه المجرور وعلي ما يتعلق به الجار، كقول الشاعر: غافلا تعرض المنية للمر ... ء، فيدعي، ولات حين إباء ومثله: مشغوفة بك قد شغفت، وإنما ... ختم الفراق، فما إليك سبيل أي، تعرض المنية للمرء غافلا، وشغفت بك مشغوفة».

وهذا الذي ذهب إليه المصنف من جواز تقديم الحال علي صاحبها المجرور بحرف شيء ذهب إليه من المتأخرين الفارسي وابن كيسان وابن برهان، ومن أمثلة أبي علي في «التذكرة»: زيد خير ما تكون خير منك، علي أ، المراد: زيد خير منك خير ما تكون، «خير ما تكون» حالا من الكاف المجرورة، وقدمها. وهذه المسألة فيها فصيل، وذلك أن صاحب الحال إما أن يكون مضمرا أو مظهرا: فإن كان مضمرا جاز تقديمها عليه، نحو: مررت ضاحكة بك، عند الكوفيين. وكذا إن كان لمضمرين أحدهما مجرور بحرف، نحو: مسرعين مررت بك، ومررت مسرعين بك. وإن كان مظهرا فإنما أن تكون الحال غير اسم، أو اسما. فإن كانت غير اسم، نحو «مررت بهند تضحك» جاز تقديم الحال علي المجرور، فتقول: مررت تضحك بهند، عند الكوفيين. وإن /كانت اسما فلا يجوز التقديم، لا يجوز: مررت ضاحكة بهند، ودخلت هاجرة إلي سعدي. وذكر ابن الأنباري الاتفاق علي أن ذلك خطأ، وأن الإجماع منعقد على ذلك.

ولا يجوز عند البصريين تقدم حال المخفوض بحرف غير زائد، سواء أكان المخفوض ظاهرا أم مضمرا؛ لأن حرف الجر عامل غير متصرف. وقد تؤول ما استدل به المصنف من السماع: أما {كافة الناس} فعلي أنه حال من الكاف، أو علي أنه صفة ل (إرسالة) محذوفة. وأما «فلن يذهبوا فرغا» فعلي تقديرا: ذهابا فرغا. وأما «هيمان صاديا» فمفعول ب «برد» وهو مصدر، والتقدير: لئن كان أن برد الماء هيمان صاديا حبيبا إلي، ويعني بهيمان صاديا نفسه. وأما «كهلا» فحال من فاعل المصدر المحذوف، ومجيء الحال من المحذوف لدليل المعني عليه جائز، كقوله {أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا}، والتقدير: تدل عليها «عنكم» المثبتة، التقدير: تسليت عنكم طرا عنكم. قال بعض أصحابنا: وعلي تقدير أن يبعد تأويل هذه الأبيات لا حجة فيها؛ لأن الشعر يجئ فيه ما لا يجوز في الكلام. وفي الإفصاح: «لم يجز س: مررت قائما بزيد؛ لأن الباء لما عدت الفعل، ولم يستغن عنها، وكان لها حظ من العمل في الاسم - لم يتقدم الحال عليها، ولم يسمع تقديمه هنا من كلام العرب. وقد قال أبو بكر بن طاهر: إن مذهب س أن

الباء هي العاملة، فلذلك لم تقدم عليها الحال، وهذا الذي ذكر مذهب أبي العباس، نص عليه» انتهي. ولم يتعرض المصنف في الأصل لتقديم الحال علي المجرور بالإضافة، وذكر ذلك في الشرح، فقال ما معناه «إن كانت الإضافة غير محضضة جاز تقديم الحال علي المضاف، نحو: هذا شارب السويق متلوثا الآن أو غدا؛ لأن الإضافة في نية الانفصال، فلا يعتد بها. وإن كانت محضة لم يجز تقديم الحال عليه بإجماع؛ لأن نسبة المضاف إليه من المضاف كنسبة الصلة من الموصول، فأما قوله: نحن وطئنا خسأ دياركم ... إذ أسلمت حماتكم ذماركم ف (خسأ) ليس حالا من المخاطبين فيكون بمعني بعداء من قوله {قِرَدَةً خَاسِئِينَ}،بل هو حال من ضمير المتكلم، جمع خاسئ بمعني زاجر، من خسأت الكلب. وأما قول الآخر: ليست تجرح فرارا ظهورهم ... وفي النحور كلوم ذات أبلاد ف (فرارا) ليس حالا من الضمير في ظهورهم، وظهورهم مرفوع بتجرح، بل تجرح مسند إلي ضمير الجماعة الموصوفة، فرارا حال من ذلك الضمير، وظهورهم بدل من ذلك الضمير بدل بعض من كل» وفي كلامه هذا تعقب في موضعين:

أحدهما: قوله «إن كانت الإضافة غير محضة جاز تقديم الحال /علي المضاف»، وليس كل ما إضافته غير محضة يجوز تقديم الحال فيه علي المضاف، نحو: هذا مثل هند ضاحكة. والثاني: قوله «وإن كانت الإضافة محضة لم يجز تقديم الحال علي المضاف بإجماع»، وامتناع جواز التقديم في هذا فرع عن جواز مجيء الحال من المجرور بالإضافة إضافة محضة، وليس كل ما أضيف إضافة محضة تجوز الحال فيه من المجرور بالإضافة؛ ألا تري إلي امتناع نحو: ضرب غلام هند ضاحكة. وإصلاح كلام المصنف أن يقال: تجوز الحال من المجرور بالإضافة إذا كانت الإضافة في تأويل الرفع والنصب، نحو: أعجبيني قيام زيد مسرعا، ويعجبني ركوب الفرس مسرجا، ومررت برجل راكب الفرس ضاحكا. -[ص: ولا يمتنع تقديمه علي المرفوع والمنصوب، خلافا للكوفيين في المنصوب الظاهر مطلقا، وفي المرفوع الظاهر المؤخر رافعه غير عامل الحال إلي صاحبه إلا أن يكون المضاف جزأه أو كجزئه.]- ش: مثال تقدمه علي المرفوع: جاء مسرعا زيد، وقال الشاعر: فسقي بلادك غير مفسدها ... صوب الغمام وديمة تهمي وقال الآخر: ترحل من أرض العراق مرقش ... علي طرب، تهوي سراعا رواحله

وقال الآخر: فما كان بين الخير لو جاء سالما ... أبو حجر إلا ليال قلائل وقال: يطير فضاضا بينهم كل قونس ... ويتبعها منهم فراش الحواجب وقال الآخر: تبين أعجاز إذا انتقضت ... وتقبل أشباها عليك صدورها ومثال تقديمه علي المنصوب: لقيت راكبة هندا، وقال الشاعر: وصلت، ولم أصرم مسيئين أسرتي ... وأعتبتهم حتي يلاقوا ولائيا وقال الحارث بن ظالم: وقطع وصلها سيفي، وأني ... فجعت بخالد طرا كلابا وقال آخر: لن يراني حتي يري صاحب لي ... أجتني سخطه يشيب الغرابا

أراد: لن يراني صاحب لي أجتني سخطه حي يري الغراب يشيب. وقال آخر: يرد حسري حدق العيون وقوله خلافا للكوفيين في المنصوب الظاهر مطلقا يعني بالإطلاق هنا سواء أكانت الحال اسما أم كانت فعلا، فلا يجوز عندهم: لقيت راكبة هندا، ولا: لقيت تركب هندا. وعلتهم في منع لقيت راكبة هندا وشبهه مما الحال فيه اسم توهم كون الاسم مفعولا، وما بعده بدل منه؛ لأن الاسم وقع موقع المفعول، فغلب الفعل عليه، وسبق إليه، فتناوله الفعل كما يتناول الطعام والماء في نحو: أكلت الطعام، وشربت الماء. وما ذهبوا إليه من اعتبار اللبس لا يلتفت إليه؛ لأن الذي يتبادر إليه الذهن إنما هو النصب علي الحال، ولو كان مثل هذا التوهم ملفتا إليه لم يجز: رأيت هنا ضاحكة؛ لاحتمال أن تكون ضاحكة بدلا من هند، وليس كذلك؛ لأن هذا الاحتمال ضعيف من جهة إبدال المشتق من الجامد، وقد تقدم ذكر السماع في الاسم، نحو: مسيئين أسرتي، وفي الفعل، نحو: يشيب الغرابا. وقوله وفي المرفوع الظاهر المؤخر رافعه عن الحال يعني: وخلافا للكوفيين أيضا في هذه المسألة، ومثالها: مسرعا قام زيد. وزعم بعض النحويين أن الكوفيين لا يمنعون تقديم حال المرفوع الظاهر إذا كان الفعل متقدما، نحو: قام مسرعا زيد، وإنما يمنعون تقديم حال المرفوع الظاهر

إذا كان الفعل متأخرا , نحو: مسرعاً قام زيد] , وسيأتي الكلام على تقديم الحال على العامل بعد هذا إن شاء الله. وقوله واستثنى بعضهم من حل المنصوب ما كان فعلاً أي: استثنى بعض الكوفيين مسألة: رأيت تضحك هنداً , يعنى: فأجازها؛ لأنه لا يتسلط رأيت على تضحك تسلط المفعول به , فلا تتوهم فيه المفعولية , وفي المنصوب بعده البدلية. وقوله ولا يضاف غير عامل الحال إلى صاحبه قال لمصنف في الشرح: (حق المجرور بالإضافة ألا يكون صاحب حال , كما لا يكون صاحب خبر؛ لأنه مكمل للمضاف وواقع منه موقع التنوين. فإن كان المضاف بمعنى الفعل حسن جعل المضاف إليه صاحب حال , نحو: عرفت قيام زيد مسرعاَ , وهو راكب الفرس عرياً ومنه {إلى الله مرجعكم جميعا} وقول الشاعر: تقول ابنتي: إن انطلاقك واحداً ... إلى الروع يوماً تاركي لا أبا ليا وقوله غلا أن يكون المضاف جزأه أو كجزئه أي: إلا أن يكون المضاف جزء ما أضيف إليه - وهو ذو الحال - أو مثل جزئه , قال المصنف: (نحو قوله {ونزعنا ما في صدورهم من غل إخوانا} , وقوله {أن اتبع ملة إبراهيم حنيفا}

وإنما حسن ذلك لأنه قد يستغنى به عن المضاف , لو قيل في الكلام: نزعنا ما فيهم من غلّ إخواناً , واتبع إبراهيم حنيفاَ - لحسن , بخلاف ما ليس جزءاً ولا كجزء , لو قلت , ضربت غلام هند جالسة , أو نحو ذلك - لم يجز بلا خلاف) انتهى. وقال أبو نصر أحمد بن أبى حاتم في قول طفيل:/ وأطنابه أرسان جرد , كأنها ... صدور القنا من بادئ ومعقب (أراد: إن أطناب البيت أرسان الخيل , وجرد: قصار الشعر , وقوله كأنها صدور القنا في طولها , وأراد: كأنها القنا , ثم قال صدور القنا , والعرب تفعل ذلك كقولك: جاء فلان على صدر راحلته , وإنما تريد: على راحلته) انتهى. وقال الشاعر: كأن حواميه مدبراً ... خضبن , وإن كان لم يخضب الحوامي: جمع حامية , وهى ما عن يمين الحافر وشماله وقال الآخر:

كسيف الفرند , أخلص القين صقله ... تراوحه أيدي الرجال قياما وقول المصنف (بلا خلاف) ليس كما ذكر , بل ذهب بعض البصريين إلى إجازة الحال من المضاف إليه الصريح. وقال في البديع: (فإ، لم يكن المضاف إليه فاعلاً ولا مفعول قلت في الحال منه , كقولك: جاءني غلام هند ضاحكة , ومنه قوله تعالى (أن دابر هؤلاء مقطوع مصبحين) فـ (مصبحين) حال من (هؤلاء) وأنشد الفارسي: عوذ وبهثة حاشدون , عليهم ... حلق الحديد مضاعفاً , يلتهب فـ (مضاعفاً) حال من الحديد) انتهى. ولا يتعين ما قال في الآية ولا في البيت. والذي نختاره أن المجرور بالإضافة إذا لم يكن في موضع رفع ولا نصب لا يجوز ورود الحال منه , وسواء أكان المضاف جزاه أو كجزئه أم لم يكن. وما استدل به المصنف لا حجة فيه؛ لاحتمال أن يكون (إخواناً) منصوباً على المدح , نحو قول الشاعر:

رهط ابن كوزٍ , محقبي أدراهم ... فيهم , ورهط ربيعة بن حذار ولاحتمال أن يكون (حنيفاً) حالاً من (مله) على معنى: دين إبراهيم , أو حالاً من الضمير في (اتبع) ومع هذا الاحتمال لايكون في الاستدلال بذلك حجة على إثبات قاعدة كلية , وهى أن المضاف إذا كان جزءاً من المضاف إليه أو كالجزء جاز أن تأتى الحال من المضاف إليه , ومثل هذه القاعدة لا يثبت بمثال أو مثالين , وهى تحتمل غير الحال احتمالا واضحا , إنما يثبت هذا باستقراء جزيئات كثيرة حتى يحصل من ذلك الاستقراء قانون كلى يغلب على الظن أن الحكم منوط به. وإنما لم تجز الحال م المجرور بالإضافة إذا كان ليس في موضع رفع ولا نصب , نحو: مررت بغلام هند ضاحكة؛ لما تقرر من أن العامل في الحال هو العامل في صاحبها , و (هند) الجار لها إماً معنى الإضافة , وهو نسبة الغلام إليها نسبة تقييدية , وغما اللام التي كانت قبل حصول الإضافة , وأيما قدرته منهما لا يصلح أن يكون عاملاً في الحال؛ لأنه يقيد هذه النسبة التي هي تقييدية بضحك هند , والنسبة ثابتة كانت هند ضاحكة أو لم تكن , فلذلك امتنع مجيء الحال من المضاف إليه الصريح الذي ليس في موضع فاعل ولا مفعول -[ص: يجوز تقديم الحال / على عاملها إن كان فعلاً متصرفاً أو صفة تشبهه ولم يكن نعتاً , ولا صلة لأل أو حرف مصدري , ولا مصدراً مقدراً بحرف مصدري , ولا مقروناً بلام الابتداء أو القسم.]- ش: لما فرغ من تقديم الحال على صاحبها وجوباً ومنعاً وجوازاً أخذ يتكلم في تقديم الحال على عاملها: وجوباً , ومنعاً وجوازاً:

فمن الجائز أن يكون العامل فيها فعلاً متصرفاً , نحو: جاء , وذهب , فيجوز: مسرعاً جاء زيد , وضاحكة خرجت هندً؛ لان العامل فيها - وهو الفعل - قوى لتصرفه , فكما يجوز تقديم المفعول به عليه فكذلك يجوز تقديم الحال , وهو في الحال أجوز لشبهها بالظرف , والظرف يتسع في غيره , هذا مذهب البصريين إلا الجرمي فإنه لا يجيز تقديم الحال على العامل , شبهها بالتمييز في ذلك. والقياس والسماع يردان عليه: أما القياس فما ذكرناه من شبهها بالمفعول فيه , وهو الظرف , والفرق بين التمييز والحال واضح؛ لأن الحال يقتضيها الفعل بوجه ما , فقدمت كما تقدم سائر الفضلات , وعلى أن في تقديم التمييز على العامل فيه إذا كان فعلاً أو ما جرى مجراه وسلم أن العامل فيه ذلك في تقديمه عليه خلاف , وسيأتي أن جواز تقديمه إذ ذاك هو الصحيح. وأما السماع فقوله تعالى (خشعاً أبصرهم يخرجون) وخشعاً حال , وذو الحال الضمير في يخرجون , والعامل يخرجون , وقد تقدمت الحال عليه , وقالت العرب: شتى تؤوب الحلبة , (فـ (شتى) حال من الحلبة , وقد تقدمت على تؤوب , وهو العامل فيها , وقال الشاعر: سريعاً يهون الصعب عند أولى النهى ... إذا برجاء صادق قابلوا اليأسا

فـ (سريعاً) حال من الصعب , وتقدمت على يهون , وقال الآخر: مزبداً يخطر ما لم يرني ... وإذا يخلو له لحمي رتع فـ (مزبداً) حال من الضمير في يخطر , وقد تقدم على العامل , وهو يخطر , وقال الآخر: دلق الغارة في إفزاعهم ... كرعال الطير أسراباً تمر فأسراباً حال من الضمير في تمر , وقد تقدمت على العامل , وهو تمر. وسواء أكانت الحال مصدراً , كقوله: فلأياً بلأي ما حملنا وليدنا ... على ظهر محبوك ظماء مفاصلة أم غير مصدر , كالآية والأبيات السابقة. ومؤكدة وغير مؤكدة , وفى المؤكدة خلاف كالخلاف في المصدر المؤكد. وقد منع الأخفش راكباً زيد جاء لبعدها عن العامل

وأما الكوفيون فيزعمون أن انتصاب الحال لانقطاعها من إعراب ذي الحال لتخالفهما بالتنكير والتعريف , فلما لزمها خلاف صاحبها , ولم يمكن أن يعمل فيها العامل في ذي الحال لاشتغاله به عنها - نصبت على القطع , وعمل فيها النصب عندهم الحديث والمحدث عنه كلاهما , ولذلك أجازوا أن تقول: قائماً في الدار أنت , ومسرعاً أقبلت , فقدموا الحال فيهما , ولم يفرقوا بين الفعل وغيره. وليس تقديم الحال وتوسيطها جائزاً على الإطلاق عندهم , بل لهم في ذلك تفضيل: فإن كان الحال من مرفوع ظاهر تأخرت وتوسطت والرافع قبلها ولم تتقدم على الرافع والمرفوع كليهما , فلا يجوز عندهم: راكباً جاء زيد. وحجتهم أن الحال مبناها على الشرط , فبطل راكباً يجيء زيد من حيث لم يجز إن يركب يجيء زيد , وإن ركب يجيء زيد , وإنما بطل هذا التقديم لأن كناية زيد مع حرف لا ينوى به تأخير , دليل ذلك انجزام يجيء بعد إن يركب , ومحال أن يجيء إن بعد الجزاء المجزوم , فإذا ثبت لها التقدم فسدت المسألة بتقدم المكنى على الظاهر. قالوا: وليس سبيل راكباً جاء زيد كسبيل غلامك ضرب زيد؛ لان الحال تخالف الغلام من جهة أن الغلام لا يخلو من نية التأخير؛ إذ هو منصوب لم

يدخل عليه ما يمنعه التأخير ويلزمه التقديم , والحال قد دخل عليها مذهب الشرط , وبنيت على معناه , فلزمها التأخير من حيث لا ينفك الشرط من نية السبق إذا وضع أول الكلام وأتى جوابه بعده. وإنما جاء توسط الحال في نحو جاء راكباً زيد لأنها إذا صرح بالشرط فيها لم يكن خطأ؛ ألا ترى أنه ليس بمحال أن يقال: يجيء أن يركب زيد , على أن زيداً رافعه يجيء , والشرط مبنى على التأخير إذا لم تدخل عليه علة تلزمه ألا يتأخر كما دخل عليه وهو أول ما أوجب له رتبة السبق , ومن هذه الجهة شاكل عندهم جاء راكباَ زيد ضرب غلامه زيد , وخالف راكباً جاء زيد غلامه ضرب زيد. وإن كانت من مرفوع مضمر جاز تأخيرها وتوسيطها وتقديمها على الرافع والمرفوع كليهما؛ فيجوز عنهم: في الدار أنت قائماً , وفي الدار قائماً أنت , وقائما في الدار أنت , وجئت راكباً , وراكباً جئت؛ لايلزم من تقديمها على الرافع والمرفوع تقدم مضمر على ظاهر , كما لزم ذلك إذ كانت من مرفوع ظاهر. وإن كانت من مخفوض ظاهر , جاز تأخيرها ولم يجز جعلها أول الكلام لما يلزم في ذلك من تقديم المضمر على الظاهر لفظاً ورتبة على مابين في المرفوع , ولا يجوز توسيطها إجراء للمخفوض مجرى المنصوب من حيث كان في موضع نصب , فكما أن المنصوب لا يجوز عندهم تقديم حاله عليه للعلة التي تذكر بعد , فكذلك ما هو بمنزلته , فيجوز عندهم: مررت بهند ضاحكة؛ ولا يجوز: مررت ضاحكة بهند , ولا: ضاحكة مررت بهندٍ

وإن كانت من مخفوض مضمر جاز تأخيرها وتقديمها أول الكلام , ولا يجوز توسيطها , نحو: مرت بي هند ضاحكاً , وضاحكاَ مرت بي هند , لأنه يلزم في ذلك تقديم مضمر على ظاهر , ولا يجوز: مرت ضاحكاً بي هند , كما لا يجوز توسيطها إذا كانت من منصوب. وإن كانت من منصوب ظاهر جاز تأخيرها عنه , نحو: لقيت زيداً مسرعاً , ولا يجوز تقديمها , لا يقال: ضاحكة لقيت هند؛ لما يلزم من تقديم المضمر على الظاهر , ولا توسيطها؛ لئلا يسبق أنها / مفعولة. وإن كانت من منصوب مضمر جاز تقديمها , نحو: ضاحكاَ لقيتني هند , وقد تقدم الكلام في بعض هذه الصور. وهذا الذي ذهبوا إليه من امتناع تقديم الحال أول الكلام إذا كانت من ظاهر باطل؛ لأنهم بنوا ذلك على أن الحال مبنية على معنى الشرط , وذلك شيء لم يستدلوا عليه بأكثر من أنهم وجدوها تكون خبراً عن المصدر في نحو: ضربي زيداً قائما , وأكثر شربي السويق ملتوتاً. ولا حجة في شيء من ذلك؛ لأن الحال ليست بخير المصدر , وإنما الخبر محذوف أقيمت الحال مقامه على ما بين في باب الابتداء. وقد تقدم الدليل على مجيء الحال متقدمة أول الجملة على الاسم المرفوع مظهراً , كما حكي الرياشي من قول العرب: شتى تؤوب الحلبة , وقول الشاعر:

سريعاً يهون الصعب ....................................... وما أشبههما , وقد تقدم الاستدلال على جواز: ضربت راكبة هنداً , وما أشبهه مما تقدم فيه حال المنصوب عليه وحده. فأما تقديم الحال على العامل في نحو ضاحكة لقيت هنداً مما ذو الحال فيه منصوب ظاهر فالقياس يقتضيه , كما جاز ذلك في المرفوع الظاهر , ولكنى لا أحفظ من المسموع ما يدل على ذلك. وفي البسيط: ذهب بعض الكوفيين إلى أنه لا يجوز - يعنى تقديم الحال على العامل - إذا كان أسم الحال اسماً ظاهراً؛ نحو: جاء زيداً راكباً , فإن كان مضمراً جاز , نحو: راكباً جئت. قالوا: لأن فيه تقديم المضمر على الظاهر , فإن في الحال مضمراً , بخلاف المضمر. وهو فاسد , أما السماع فمذكور , وأما ما ذكروه فلأنه إنما امتنع حيث لا يكون في حكم التأخير , بخلاف هذا. وحكي عن الفراء والكسائي المنع مطلقاً. واحتج بتقديم الضمير على من يعود عليه.

وهو جائز عندنا إذا كان مؤخراً معني , كقولهم: في أكفانه كفن الميت , وقال تعالى (فأوجس في نفسه خيفة موسى) وقوله أو صفة تشبهه شبهها للفعل من جهة تضمن معنى الفعل وحروفه وقبول علامات الفروع وقد نص س وغيره على جواز تقديمها على الفعل وما جرى مجراه من أسماء الفاعلين وما في حكمهما , تقول: مسرعاً زيد راحل , وزيد مجرداً مضروب , وزيد موسراً ومعدماً سمح , وذلك أن الحال تجيء يعمل فيها ما يصح أن يكون من باب الصفة المشبهة , قال: لهنك سمح ذا يسار ومعدماً ... كما قد ألفت الحلم مرضى ومغضبا فإذا قدمت الحال على سمح جاز. وقوله ولم يكن نعتاً أي: ولم يكن العامل نعتاً , قال المصنف في الشرح: (وإذا كان صفة تشبهه تتضمن معنى الفعل وحروفه وقبول علامات الفرعية فهو قوى , ويستوي في ذلك اسم الفاعل واسم المفعول والصفة المشبهة , فلو كان العامل القوي نعتاً لم يجز تقديمه , نحو: مررت برجل ذاهبة فرسه مكسوراً سرجها) انتهى.

وهذا نص من هذا المصنف انه / إذا كان العامل في الحال نعتاً لم يجز تقديم الحال عليه؛ فلا يجوز علي ما قرره أن تقول: مررت برجل ضاحكاً مسرعٍ , إذا أرت: مسرع ضاحكاً , ولا: جاءني رجل باكياً ماش , إذا أردت: ذاهباً مسرعا ولا ما أشبه هذه التراكيب. ولا يجوز في التركيب الذي ذكره: مررت برجل مكسوراً سرجها ذاهبة فرسه؛ لان مكسوراً حال , والعامل فيها: ذاهبة فرسه , وذاهبة فرسه: نعت لرجل. وهذا النص منه على منع ذلك غفلة ووهم , ونصوص النحويين على جوا تقديم معمول النعت عليه من مفعول به وحال وظرف ومصدر ونحوها , وإنما منعوا من تقديم معمول النعت عليه من مفعول به وحال وظرف ومصدر ونحوها , وإنما منعوا من تقديم المعمول على المنعوت لا على النعت العامل فيه , فيجوز في نحو مررت برجل يركب الفرس مسرجاً أن تقول: مررت برجل مسرجاً يركب الفرس , وكذلك تقول في جاءني رجل ضارب امرأة جائزاً ضارب امرأة , إذا تريد: يضربها في حال كونه جائزاً ويمتنع في هذه المسائل وأشباهها تقديم الحال على المنعوت بالعامل فيها , فلا يجوز: مررت مسرجاً برجل يركب الفرس , ولا: جاءني جائزاً رجل ضارب امرأة. وأما التمثيل الذي مثله المصنف فلم يمتنع تقديم (مكسوراً سرجها) من جهة أن العامل في مكسوراً النعت , وهو: ذاهبة فرسه. وإنما امتنع من جهة تقدم المضمر على ما يفسره؛ إذ يصير التركي: مررت برجل مكسوراً سرجها ذاهبة فرسه , وقد نص النحويون على منع تقدم المضمر في هذه المسألة وما أشبهها , وأنه مما يلزم فيه تأخير الحال؛ إذ ليس من المواضيع التي يفسر فيها المضمر ما بعده

وقوله ولا صلة لأل مثاله: الجائي مسرعا زيد , فلا يجو: ال مسرعا جائي زيد. وقوله أو حرف مصدري مثاله: يعجبني أن يقول زيد مسرعاً , فلا يجوز: يعجبني أن مسرعاً يقوم زيد. وقال المصنف في الشرح: (وكذا لو كان صلة لأل أو أن أو إحدى أخواتهما لم يجز أن يتقدم عليه ما يتعلق به من حال وغيره) انتهى. وقد أطلق في قوله (أو حرف مصدري) وترك ما شرطه الناس فيه من كونه يكون ناصباً؛ لأن من الحروف المصدرية (ما) وويجوز أن يتقدم معمول صلتها عليها لا على ما , نحو: عجبت مما يرى زيد باكياً , فيجوز عجبت مما باكياً يرى زيد , كما جاز ذلك في المفعول به , نحو: عجبت مما تضرب زيداً , فإنه يجوز: عجبت مما زيداً تضرب , فلو كان العامل صلة لغير أل ولا لحرف عامل جاز تقديم الحال عليها كما جاز تقديم المفعول , نحو قولك: من الذي جاء خائفاً؟ فتقول: من الذي خائفاً جاء؟ وقوله ولا مصدر مقدراً بحرف مصدري , نحو: يعجبني ركوب الفرس مسرجا , لا يجوز: يعجبني مسرجا ركوب الفرس. وقوله ولا مقروناً بلام الابتداء أو القسم مثاله: لأصبر محتسباً , ولأقومن طائعا. وينبغي أن يفهم قوله (ولا مقروناً بلام الابتداء) أن يكون العامل متصلا بلام الابتداء أو لام القسم , فإنه إذا لم يكن متصلا به جاز أن تتوسط الحال بين اللام وبين العامل , نحو: لمحتسباً أصبر , ولإلى زيد راغبا ًأذهب , كما يجوز ذلك في المفعول , فتقول: لزيداً أضرب. ووالله لزيداً أضرب

فإن كانت الابتداء في إن فقد منعوا دخول لام الابتداء على الحال فيه , نحو: إن زيداً لمسرعاً ذاهب , وقد تقدم الكلام على ذلك في باب إن. ونقص المصنف مسألة لا يجوز فيها تقديم الحال على العامل , وإن كان متصرفاً , ذكرها أصحابنا ,وهى إذا كانت الحال جملة معها الواو , نحو: جاء زيد والشمس طاعة , لا يجوز: والشمس طالعة جاء زيد. وحكي صاحب (رؤوس المسائل) ما نصه: (لا يمتنع عند الجمهور تقديم الجملة الحالية التي معها الواو على العامل فيها إذا كان فعلاً , ومنعه الفراء). وهذا النقل مخالف لما ذكرناه. -[ص: ويلزم تقديم عاملها إن كان فعلا غير متصرف , أو صلة لـ (أل) أو حرف مصدري , أو مصدراً مقدراً بحرف مصدري أو مقروناً بلام الابتداء أو القسم.]- ش: مثال الفعل غير المتصرف: ما أحسن هنداّ متجردة , فلا يجوز: ما متجردة أحسن هنداّ , وتقدمت أمثلة ما بعد الفعل غير المتصرف.

ولما كان قول المصنف (يجوز تقديم الحال على عاملها إن كان فعلا متصرفاً أو صفة تشبهه , ولم يكن - يعنى العامل - كذا ولا كذا) صار الجواز مشروطاً بشيء مثبت , وهو كون العامل متصرفاً أو صفة تشبهه , ومشروطاً بانتفاء العامل عما ذكر , وانتفاء العامل عما ذكر يكون بأحد أمرين: إما بوجوب تقديم الحال على العامل , وإما بوجوب تقديم العامل على الحال فلمسألة الأولى لم يتعرض إليها المصنف , وهى أن تكون الحال أسم استفهام , نحو (كيف) على الأصح , فإنه إذا وقعت حالا وجب تقديمها على العامل , نحو: كيف قام زيد؟ وكيف ضربت هنداً؟ وإنما قلت (على الأصح) لأن بعضهم يزعم أن انتصاب (كيف) على الظرف. والدليل على أنها حال جواز إبدال الحال منها , نحو: كيف قام زيد أضاحكاً أم باكياً؟ والمسالة الثانية تعرض لها المصنف. وما ورد على المصنف في قوله قبل (أو حرف مصدري) يرد عليه هنا , فإنه قال فيه (او حرف مصدري) فلم يقيد بكون الحرف عاملا كما لم يقيد قبل. ص: أو جامداً ضمن معنى مشتق , أو افعل تفضيل , أو مفهم تشبيه. واغتفر توسيط ذي التفضيل بين حالين غالباً وقد يفعل ذلك بذي التشبيه. فإن كان الجامد ظرفاً أو حرف جر مسبوقاً بمخبر عنه جاز على الأصح توسيط الحال بقوة إن كان ظرفاً أو حرف جر , وبضعف إن كانت غير ذلك. ولا تلتزم الحالية في نحو: فيها زيد قائماً بل تترجح على الخبرية , وتلتزم هي في نحو: فيك زيد راغب , خلافاً للكوفيين في المسألتين.

ش: قال المصنف في الشرح: (من العوامل التي لا يتقدم الحال عليها الجامد المتضمن معنى / مشتق , كأما , وحرف التنبيه , والتمني , والترجي , واسم الإشارة , واسم الاستفهام المقصود به التعظيم , نحو: ........................................... ... يا جارتا , ما أنت جاره والجنس المقصود به الكمال , نحو: أنت الرجل علماً , والمشبه به , نحو: هو زهير شعراً) انتهى. ولم يمعن الكلام على هذه التي ذكر أنها جوامد تضمنت معنى المشتق , ونحن نتكلم عليها , فنقول: قوله (كأماَ) يعنى بها في مثل: أما علماً فعالم , وقد تقدم الخلاف في هذه المسألة بأطرافها , وهل انتصب ما بعدها إذا كان مصدراً على أنه حال , أو أنه مفعول مطلق , أو على أنه مفعول به. وكذلك إذا كان بعد أما صفة. نحو: أما صديقاً. فأنت صديق , هل انتصابه على الحال , أو على إضمار (أن تكون) فهو خبر تكون. ونسبه العمل لأما هو سبيل المجاز؛ لأن الناصب غنما هو فعل الشرط المقدر. وزعم بعض النحويين أن لولا بمنزلة أما في تضمن الفعل؛ لأنه يتضمن معنى يمنع , فإذا قلت لولا زيد لكان كذا فالمعنى: لو لم يمنعني زيد لكان كذا , وعلى

هذا فتقول: لولا زيد لكان كذا , فيعمل فيه معنى الفعل وقالوا: لولا رأسك مدهوناً لكان كذا , وهذا مبنى على أن لولا مرتفع بها على الفاعلية , وهو رأى الكوفيين , ولا نقول به , بل هو مرتفع بالابتداء , ونصب الحال إنما يكون على جهة أن العامل فيها الخير , لكنه لازم الحذف لسد الجواب مسده , كأنه قال: لولا زيد مستقر قائماً لكان كذا , قاله في البسيط. وظاهر قوله (وقالوا: لولا رأسك مدهوناً) أنه سماع من العرب , ونقل الأخفش أن العرب لم تلفظ بحال المرفوع بعد لولا وأما قوله «وحرف التنبيه» فمثاله. هذا زيد قائماً , أجازوا أن يكون العامل حرف تنبيه , وأن يكون اسم الإشارة , وبنوا على ذلك فرعا , وهو: هل يجوز: ها قائماً ذا زيد؟ فقالوا: إن كان العامل حرف التنبيه جازت المسألة؛ لان الحال لم تتقدم على حرف التنبيه , وإن كان العامل اسم الإشارة لم تجز المسألة لتقدم الحال عليه وأبطلوا كلهم: قائما هذا زيد. وذهب ابن أبي العافية والسهيلى إلى أنه لا يجوز إن يكون العامل في هذه الحال حرف التنبيه , قال بن أبى العافية: «إنما لم يعمل الحرف بمعنى التنبيه لأنهم قد حذفوا لفظ الفعل , واستغنوا بحرف التنبيه عنه , فلم يكونوا ليعملوه عمل الفعل , فيكونوا قد رجعوا إلى ما خففوه من كلامهم , فيكون ذلك نقصاً لما قصدوا».

وقال السهيلي: «ها حرف, ومعنى الحروف لا يعمل فى الظروف ولا الاحوال». وقال ابن أبي العافية: «العامل هو اسم الإشارة, وإن كان بمعنى الفعل, كحرف التنبيه, لكن لم يفعلوا بالأسماء ذلك, بل أعملوها عمل الأفعال, وأجروها مجراها, وقدروا فيها معنى الفعل, نحو قولهم: ضارب زيدا, فلما كانت الأسماء قد أجريت مجرى الأفعال. وأخرجت إاليها, لم يكونوا ليمنعوها من العمل فى الحال؛ إذ قد أعملوها فيما هو أقوى من الحال». وقال السهيلى: «قولك هذا زيد قائما العامل فى الحال ما دل عليه الاسم /المبهم, إذا قلت (هذا) فإنك أشرت إلى المخاطب لينظر, فكأنك قلت: انظر إليه قائما, فانظر هى العاملة فى الحال, ولا يصح أن يكون العامل اسم الإشارة؛ لأنه غير مشتق من لفظ الإشارة ولا من غيرها, إنما هو كالمضمر, ولا يعمل (هو) ولا (أنت) بما فيه من معنى الإضمار فى حال ولا ظرف, فكذلك اسم الإشارة, وقد تكون الإشارة بيد أو رأس إلى جهة شئ بعينه, فيكون فى ذلك تنبيه له على النظر, فيعمل فى ذلك النظر فى الحال, كما حكى س (لمن الدار مفتوحا بابها) , ولم يقل: لمن هذه الدار, فدل على أن التوجه يقوم مقام الإشارة, ولا يكون العامل فى (مفتوحا بابها) ما تعلقت به اللام من الاستقرار أو معنى الملك لفساد المعنى؛ لأنك لو قدرت الاستقرار ظاهرا لم يكن له اختصاص بالحال, ولا هي ملك

لصاحبها في حال فتح بابها على الخصوص, ولذلك أعرض س عن ذلك المعنى, ولم يجعله عاملا فى مثل هذه الحال. ولا يجوز تقديم الحال على مثل هذا العامل المعنوى؛ لأنه ليس بفعل ملفوظ به فيشبه بالمفعول, ولا هو صفة كما تقدم. ولو جعلت مكان الحال (اليوم) , فقلت (هذا زيد اليوم) لم يجز, قدمت اليوم أو أخرته؛ لعدم الفائدة فى ذ لك الظرف؛ لأن المخاطب قد علم من التوجه والإشارة انك لا تريد إلا ذلك الحين الذى أشرت إليه, فلا معنى لتقييد هذا فى هذا المعنى بحين آخر, والحال ليست كذلك, إنما هى صفة تريد تنبيه المخاطب على النظر إلى زيد فيها لغرض مقصود, كما جاء في التنزيل (ءألد وأنا عجوز وهذا بعلى شيخا) , نبهت على الشيخ المانع من الولادة, فهذا الفرق بين الحال والظرف» انتهى. وتلخص فى العامل في قائما في نحو هذا زيد قائما على مذهب البصريين ثلاثة أقوال: أحدها: أنه يجوز أن يكون العامل خرف التنبيه أو اسم الإشارة, وهو قول الجمهور. الثانى: أنه العامل هو اسم الإشارة فقط. الثالث: أنه محذوف, تقديره. انظر إليه قائما. وسيأتى ما يرد على مذهب من أجاز أن يكون العامل فيها حرف التنبيه واسم الإشارة وحده, عند ذكر المصنف أنه قد يعمل فى الحال غير عامل صاحبها إن شاء الله. وأما مذهب السهيلى فيظهر في بادي النظر أنه أقرب من المذهبين؛ لأن فيه إبقاء العمل للفعل ونسبته إليه, إلا أن فيه تقدير عامل لم يلفظ به قط, ولأن الكلام يصير فى تقدير جملتين, وظاهر الكلام أنه جملة واحدة.

ولما كان قول البصريين فى دعواهم الحال في هذه المسألة لا يخلو من إشكال ارتكب الكوفيون طريقة أخرى فى هذه المسألة؛ فقال الفراء والكسائى: يقال: هذا زيد قائما, على أن قائما خبر التقريب الذى يشبه فيه «هذا» «كان» حين يقال: كيف تخاف الظلم وهذا الخليفة قادما؟ وكيف تجد البرد وهذه الشمس طالعة؟ يقرب «هذا» و «هذه» قدوم الخليفة وطلوع الشمس, ولم يكن «هذا» فى المعنى إشارة, لأن الخليفة لا يجهل ولا يشك فيه فتعرفه /الإشارة, وكذلك الشمس قد غنيت بشهرتها عن الإشارة التى تحددها وتعينها. وأجاز الكسائي أيضا فى هذا زيد قائما ما أجازه البصريون من أن قائما حال إما من اسم الإشارة وإما من زيد. فلو وسطت قائما بين اسم الإشارة وزيد, فقلت: هذا قائما زيد- فقال الكوفيون: انتصب على الحال إما من اسم الإشارة وإما من زيد. وأجاز الكسائى نصبه على أنه خبر التقريب. وقال الفراء: لاأنصب قائما هنا على الحال من زيد؛ لأنه لما جاور اسم الإشارة, وكان لاسم الاشارة رتبة السبق وقوة الابتدائية- غلب على الحال, فلم يصل معه إلى الأخير, فليس بجائز أن يقال هذا زيد على خبر التقريب؛ لأنه كلام يبنى على الجواب, وألفاظه لا تغير, وخبره لا يزال مكانه. قال الفراء: ولو أجزت هذا قائما زيد فى التقريب استغلق على القول فى المكني حين أقول: ها أنا ذا قائما, وها أنت ذا قائما, وها هو ذا قائما, وها هى ذ قائمه, وها أنت ذه قائمة, لأنى إذا أردت توسيط الخبر فإن جعل بين (أنا) و (ذا)

أفسد ترتيبه من أجل المكني خلط بهذا حين جعل بين (ها) و (ذا) , وإذا دخل بين المكني و (ذا) داخل فسد الاختلاط, وإن جعل بين (ها) و (أنا) لم يكن ذلك له موضعا؛ إذا داخل فسد الاختلاط, وإن جعل بين (ها) و (أنا) لم يكن لك له موضعا؛ إذ (ها) لا يعرف له مزيلة المكني, فكل هذا يدل على أن خبر التقريب لا يتوسط مع ظاهر ولا مكني. واتفق الكوفيون على إحالة «قائما هذا زيد» , على أن هذا يفيد الإشارة أو التقريب, وكذلك اتفق البصريون على منعها, وقد تقدم الكلام على شئ من هذا الذى يسميه الكوفيون تقريبا فى باب كان وأخواتها. وقد جاء السماع بنظير: قائما زيد, وها قائما ذا زيد, ودل ذلك على فساد ما ذهب إليه السهيلى من أنه لا يجوز أن تتقدم هذه الحال على شئ من أجزاء الجملة. ودل ذلك أيضا على فساد مذهب ابن أبى العافية حيث أوجب أن يكون العامل فى الحال اسم الإشارة. والدليل على سماع ذينك التركيبين من العرب قول الشاعر: أترضى بأنا لم تجف دماؤنا ... وهذا عروسا باليمامة خالد وقول الآخر: ها بينا ذا صريح النصح, فاصغ له ... وطع, فطاعة مهد نصحه رشد

وفي هذا البيت الثانى دليل على فساد ابن أبي العافية: إن اسم الإشارة عامل فى الحال؛ ألا ترى إلى تقدمها عليه, ولو كان عاملا فيها ما جاز تقديمها عليه. وأما قول السهيلى وابن أبى العافية «إن معنى الحرف لا يعمل فى الحال» فغير مسلم لهما؛ لأنه يرد على قولها إعمال كأن فى الحال, وهى حرف عملت بما فيها من معنى التشبيه. وكذلك كاف التشبيه تعمل فى الحال, وهى حرف جر على ما نبينه إن شاء الله. إلا إن قيد الحرف بأنه الذى لم يستقر له عمل فيخرج كان وكاف التشبيه؛ لأنهما قد استقر لهما عمل فى غير الحال. وأما قول الشارح فى الشرح: «والتمني والترجي واسم الإشارة» فتقدم قولنا فى اسم واختلاف /الناس فيه هل يعمل فى الحال أم لا. وأما حرف التمني والترجي - وهما ليت ولعل - فمختلف فيهما: فنص الزمخشرى على أن ليت ولعل وكأن ينصبن الحال, بخلاف أخواتها, وهى إن وأن ولكن, فإنهن لا ينصبن الحال. وقال بهذا القول هذا المصنف وابن عصفور, أعنى القول بأن ليت ولعل يعملان فى الحال. والصحيح أن ليت ولعل وباقي الحروف لا تعمل في الحال ولا ظرف, ولا يتعلق بها حرف جر إلا كأن وكاف التشبيه, قال النابغة: كأنه خارجا من جنب صفتحه ... سفود شرب نسوه عند مفتاد ويدل على ذلك أنك لو قلت: ليت زيدا اليوم ذاهب غدا, ونحوه - لم يجز ذلك بإجماع.

وعلل الفارسي منع ذلك في «الحلبيات» بأنها في دلالتها على المعانى قصد بها غاية الإيجاز, فالألف تغني عن أسفتهم' و «ما» عن أنفي, و «أن» عن أؤكد, فلو أعملت فى الظرف والحال, ومكنت تمكين الفعل - لكان نقضا لما قصد من الايماء. وهذا التعليل هو الذى نص عليه ابن أبي العافية في أن حرف التنبيه لا يجوز له أن يعمل فى الحال. وإنما اختصت كأن وكاف التشبيه بالعمل في الحال لأن فيها - وإن كانت حرفا - دلالة على التشبيه والشبه, فالتشبيه معنى فى نفس المتكلم, فمن هذا الوجه هى حرف كسائر الحروف؛ لأن معنى الحرف فى نفس المتكلم, بخلاف معنى الفعل, فإنه مسند إلى ما دخل عليه من الاسم, ولا يعمل هذا المعنى, والشبه مسند إلى زيد ونحوه إذا قلت: كأن زيدا أسد, فشاركت الأفعال من هذا الوجه فعمل ذلم المعنى الذي هو الشبه المسند إلى زيد فى الحال والظرف والجار والمجرور, وليس ذلك فى التمني ولا التأكيد ولا النفي ونحوها, فمن هنا فارقت كأن أخواتها, فعملت بلفظها كعمل أخواتها في الاسماء, وعمل معناها في الظرف والحال, وفارقتها أيضا فى وقوعها نعتا لنكرة, وحالا من معرفة, وخيرا لـ «كان» ونحوها, قال: فبت كأنى ساورتني ضئيلة ... من الرقش في أنيابها السم ناقع وقى البسيط: العامل عمل الفعل كأن وأخواتها وما: فقيل: لا يعمل واحد منها؛ لأن الشبه اللفظي الذي به عملت لا يؤثر في الحال.

وقيل: ما كان منها يفهم منه معنى فعل يكون مرفوعها فاعله ومنصوبها مفعوله عمل, وما لم بكن لا يعمل, فحكم بعمل كأن وحدها, وهو رأى أبي زيد - يعنى السهيلى - لأن معنى قولك كأن زيدا عمرو. يشبه زيد عمرا, وعليه أنشدوا: كأنه خارجا. البيت. ويجرى الظرف هذا المجرى, يعنى مجرى الحال. وقيل: ما كان منها فى معنى فعل يستدعي معموليها عمل, ولا يؤثر فى نفس الخبر, وماكان موجها نحو الخبر لا يعمل, فحكم بعمل كأن, وليت, ولعل؛ لأنها بمعنى أشبه. وأترجى, وأتمنى؛ لأنها لم يؤت لها بمعنى فى الخبر, بل بمعنى فى الاسمين, بخلاف /إن وما, فإنهما لفائدة فى الخبر من إثبات أو نفي, فضعف معنى الفعل فيهما. وفى البسيط أيضا ما ملخصه: كأن وليت ولعل تغير معنى الجملة, بخلاف الثلاثة الأخر, فلذلك اختصت بأمور في العمل لا تكون في تلك, فمنها ما قيل إنها تعمل فى الحال والظرف؛ لأنه إذا صح عمل المجرور والظرف بالنيابة عن الفعل و (ها) التى للتنبيه فهذه أولى وأقوى من جهة أن معناها تمن وتشبيه, فإذا قلت: إن هذا زيد منطلقا, وكأن هذا زيد منطلقا, فالأول انتصب على ماكان عليه في حال الابتداء؛ لأن إن ما غيرته, فانتصب بالإشارة, بخلاف كأن, فإنه حالة كونه

حالاً من الإشارة في الابتداء قد تغير إلى انه يشبه فى هذه الحالة , فلما غيرت معنى الخبر غيرت نسبة الحال , فكما عملت فى الأولين عملت فى الثالث بمنزلة الفعل المتعدى , فنصبت الحال لكونه من وصف معموله , كضرب زيد عمرا قائما وهذا الرأى يظهر من كلام س وقد انشد فى هذه بيت النابغة» كأنه خارجا» وهذا أخص من المشار , لانه لايعمل المضمر فى الحال بخلاف الإشارة وقال فى الظرف: يرى الثعلب الحولى فيها كأنه إذا ما علا نشزا حصان مجلل وقيل: العامل معناها من الأفعال ولا يصح لأن الحروف لا تعمل بمعانيها من الأفعال , بل بما لها من حكم الفعل , وهو تغيير الجملة وقيل: إمنا تعمل فى الحال (كأن) وحدها , وفيها سمع , وما عداه يحتمل أن يكون على الاشارة , لان المذكور بعدها هو الفاعل , والمفعول المعنى المقدر , فقولك: كأن زيدا عمرو , كأنك قلت: يشبه زيد عمرا , بخلاف ليت ولعل , إذ الفعال للفعل ليس مذكورا , فإنك تقدره: اتمنى , وأترجى وقيل: لايعمل شئ منها فيما عدا الاسمين , لان الاحوال لابد لخا من اقضتاء , ولا يقتضيها إلا المصدر , ولا تدل على ذلك , بل غاية اقتضائها تلك النسبة , فتعمل فيما هو ضرورى فى وجود النسبة , وهو المنتسبان. انتهى واما قول الشارح فى الشرح:» والاستفهام المقصود به التعظيم نحو:

...... ... يا جارتا , ما انت جارة» ف» جارة» عنده منصوب على الحال , والعامل فيها (ما) الاستفهامية بما تضمنت من معنى التعظيم , فكأنه قال: ما أعظمك جارة! وهذا تفسير معنى وتفسير الإعراب: اى عظيمة أنت فى حال كونك جارة. وهذا عجز بيت للاعشى ميمون بن قيس, وصدره: بانت لتحزننا عفارة ....................... ولا يتعين فيه ما زعمه المصنف من أن جازة انتصب على الحال , والعامل فيه اسم الاستفهام بما فيه من معنى التعظيم , بل اجاز فيه الفارسى أن يكون منصوبا على التمييز , وبدأ به واستدل على صحة التمييز فيه بصلاحية دخول من عليه كما دخل فى قول الشاعر يا سيدا , ما انت من سيد .............. وسياتى تقرير / التمييز فى مثل هذا فى بابه إن شاء الله وأجاز الفارسى أيضا ان ينتصب على الحال , كما ذهب إليه المنصف , قال:» ويجوز أن يكون موضعها نصبا على الحال , والعامل فيها ما فى الكلام من معنى الفعل. لان معنى م انت جارة: نبلت جارة» انتهى قال بعض اصحابنا:» ووجه جعل جارة حالا ان المخاطب كما انبهم عليه من أي أجناس النساء الممدوحات , فجعلها باحتياج لذللك إلى التمييز كذللك ايضا انبهم عليه الوصف الذى به مدحها , فاتى بجارة مبينا له , إلا ترى أنه قد فهم

منه أنه وصفها بحسن المجاورة , فلما كان جارة على هذا التقدير مفسرا للوصف الذى به وقع المدح كان حالا , لان الحال تفسير لما انبهم من الصفات , والدليل على صحة ما ذكره ابو على من ان العامل فى جارة اذا كان حالا ما فى الكلام من معنى الفعل قول الكميت: وانت ما انت فى غبراء مظلمة إذا دعتك إليها الكاعب الفضل ألا ترى أنه ليس فى البيت ما يصح ان يعمل فى المجرور إلا ما فى قوله من معنى المدح والتعظيم , كانه قال: عظمت حالا فى غبراء مظلمة , واذا صح إعماله فى المجرور من جهة ما ذكرنا جاز إعماله فى جارة» انتهى. وليست الحال كحرف الجر ولا كالظرف , لانهما يعمل فيهما روائح الافعال حتى الاسماء الاعلام بما فيها من معنى الشهرة و» ما» الاستفهامية - وان اريد بالاستفهام التعظيم - لاينبغى لها ان تعمل فى الحال كما لا تعمل همزة الاستفهام اذا صحبها معنى الإنكارأو التوبيخ , ولم يرد ثبت من كلام العرب بمجئ الحال بعد» ما انت» المراد به التعظيم , بل ذكروا ذلك على جهة التجويز فى قولهم» ما انت جارة» ولا حجة فيه لظهور كونه تمييزا , بدليل دخول من عليه وجوزوا ايضا فى قوله» ما انت جاره» ان تكون ما نافية , وجارة خبر انت , وهو مبتدا على لغة تميم , او خبر ما , فيكون فى موضع نصب على لغة الحجاز

واحتمل هذا النفي وجهين: احدهمنا أن يقول: ما انت جارة ليبنونتك عنا وفراقك لنا والوجه الثانى: ان يكون: ما انت جارة بل اعظم من ذلك. كقوله تعالى (ما هذا بشرا) , اى: هو اعظم من ذلك , بدليل قوله بعده (إن هذا إلا ملك كريم) فإذا كان قوله» ما انت جارة» محتملا هذا من كونه ما نافيه , ومن كون جاره منتصبا على التمييز على تقدير كون ما استفهاما - وهو الظاهر - فلا تثبت بذلك قاعدة كلية على ان اسم الاستفهام المراد به التعظييم ينصب الحال. فأما قول العرب» ما لك قائما» فقائما حال, والعامل فيها هو العامل فى الجار والمجرور وذهب الفراء إالى انه ينتصب على معنى كان , وجوز كونه معرفه , نحو ما لك الناظر فى امرنا , فينصب النكره والمعرفة كما تنصب كان وظن وانكر الزجاج هذا , وقال:» ما حرف من حروف الاستفهام , لا يعمل عمل كان , والموضع للحال , ولا تكون الحال معرفة , لو جاز: ما لك القائم لجاز: ما عندك القائم , وما بك القائم , وهذا خطأ بالإجماع , وما لك القائم / مثله» انتهى. مسألة:» ما شأنك قائما» يقال على معنيين: على السؤال المحض , لما رأه قائما وجهل السبب فى قيامه الأن , وهو يعلم منه على الدوام أنه لا يقوم إلا لسبب - سأل عن السبب , فالعامل فى الحال» شأنك» وكأنه قال: أي شيء

صنعك قائما. والثانى أن ينكر عليه القيام , فالعامل فيه» ما شأنك» كله , وكأنك قلت: لم صرت قائما؟ فإن قلت: كيف يعمل فى الحال معنى الكلام. وصحاب الحال قد عمل فيه:» شأنك:»؟ قلت: لانه مسلط من طريق المعنى على الاسم , لأنه إذا قال» لم صرت قائما:» فهو سلط عليه العامل. وعلى ذنيك المعنيين أيضا: ما لأخيك قائما , فعلى معنى الانكار العامل معنى الكلام , كانه قال: لم صار أخوك قائما. وعلى المعنى الاخر الذى هو السؤال المحض عن السبب العامل المجرور لنيابته مناب الخير , وكأنه قال: اى شئ كائن لاخيك قائما , اى: اى صنع له فى هذا الحال ويكون الصنع مسلطا على ذى الحال وأما قول الشارح» والجنس المقصود به الكمال نحو: انت رجل علما» فقد تقدرم الكلام على ذلك , ومذهب ثعلب فى كونه انتصب على المصدر. واختيارنا فيه انه اتنصب تمييزا واما قوله» والمشبه به نحو: هو زهير شعرا» فقد تقدم الكلام فيه وجواز ان يكون شعرا منصوبا على التمييز والعامل فيه هو» مثل» المقدرة , اذ المعنى هو مثل زهير شعرا

وقوله أو أفعل تفضيل يعنى إذا كان العامل فى الحال أفعل تفضيل لم يجز ان تتقدم الحال عليه , كما لا يجوز ان تتقدم على الجامد المضمن معنى المشتق إذا عمل فى الحال , قال المصنف فى الشرح» وأفعل التفضيل نحو: هو أكفاهم ناصرا , وكان حق أفعل التفضيل أن تجعل له مزية على الجوامد المتضمنة معنى الفعل , لان فيه ما فيهن من معنى الفعل , ويفوقهن بتضمن حروف الفعل ووزنه ومشابهة ابنيه المبالغة فى اقتضاء زيادة المعنى , وفيه من الضعب بعدم قبول علامة التأنيث والتثنية والجمع ما اقتضى عليه انحطاطه عن درجة اسم الفاعل والصفة المشبه فجعل موافقا للجوامد إذا لم يتوسط بين حالين» انتهى وقوله أو مفهم تشبيه مثاله: زيد مثلك شجاعا , وليس مثلك جوادا. قال المصنف فى الشرح:» وكذا إذا حذف مثل , وضمن المشبه به معناه , كقولك: زيد زهير شعرا , وأبو يوسف ابو حنيفة فقها , ومنه: فإانى الليث مرهوبا حماه ... وعيدى زاجرا دون افتراسى» انتهى. وتقول: زيد الشمي طالعة , وبكر القمر منيرا. فلا يجوز التقديم فى قول البصريين , لا تقول: زيد طالعة الشمس , وأجاز ذلك الكسائى لان الحال توسطت والمتوسطة كالمتأخرة وقوله واغتفر توسيط ذى التفضيل بين حالين يعنى أنه كان القياس إذا كان العامل أفعل التفضيل , واقتضى حالين أن تتأخر الحالان عنه , لأنه إذا كان يقتضي

حالا واحدة وجب تأخيرها عنه , ولا ينتصب الحالان مع افعل التفضيل إلا لمختلفى الذات مختلفى الحالين , / نحو: زيد مفردا أنفع من عمرو معانا , أو متفقى الحال , نحو: زيد مفردا أنفع من عمرو مفردا , أو إلا لمتحد الذات مختلف الحالين نحو: هذا بسرا أطيب منه رطبا , وزيد قائما أخطب منه قاعدا. فإن اشترك المتخلفان فى وصف هو لأحدهما أكثر على كل حال ارتفع الاسمان اللذان كانا انتصبا حالين فتقول: هذا بسر اطيب منه عنب , وصار بسر خبرا للمبتدأ , واطيب وما بعده جملة ابتدائية فى موضع الصفة لبسر , واطيب هو المبتدأ , وعنب خبره , وهو الاختيار لوقوع المبتدأ فى محله , ويجوز العكس , وهو ان يكون اطيب خبرا مقدما , وعنب مبتدا , وجاز الابتداء به وهو نكرة لأنه لا يراد به عنب بعينه , فدخله لذلك معنى العموم , فهو نظير: ثمرة خير من جرادة. واختلف النحويون فى العامل فى هذين الحالين: هذهب المبرد , والزجاج , وابن السراج , والسيرافى , والفارسى فى حلبياته - وهو اختيار ابن عصفور فى احد قوليه - ومن وافقهم إلى انهما منصوبان على إضمار (كان) التامة صلة ل «إذا» إن كانت الحالان مما يؤول إليه المحكوم , نحو هذا بسرا أطيب منه رطبا , إذا اشرت إليه وهو بلح , وصلة ل «إذ» إن كانت الحالان مما تقدم وجودهما , كالمثال المذكور إذا اشرت إليه وهو بلح وصلة ل «إذ» إن كانت الحالان مما تقدم وجودهما , كالمثال المذكور إذا اشرت إليه وهو تمر , فبسرا حال من الضمير المستكن فى «كان» الأولى ورطبا حال من الضمير المستكن فى «كان» الثانية , والعامل في الظرفين

أفعل التفضيل وإن كان احدهما متقدما عليه , لان الظروف والمجرورات تتقدم على العامل فيها وإن كان معنى فعل , وقالو: زيد يوم الخميس أحسن منه يوم الجمعة. وحكى ابو الحسن تقديم الظرف على أفعل التفضيل مسموعا , وقال الفرزدق: لاخت بنى ذهل غداة لقيتها ... فكيهة فينا منك أرغب فى الخير التقدير: لاخت بنى ذهل فكهية أرغب فينا غداه لقيتها منك فى الخير , وتقدم» منك» على» ارغب» قبيح جدا , لانه من كمال أفعل , لا يتم معناه إلا به فإن كان المشار إليه تمرا لم يحتج إلى إضمار , بل العامل فى بسر» هذا» بما فيه من معنى الإشارة. وقيل: حرف التنبيه. قد تقدم الكلام على إعمال حرف التنبيه فى الحال , وعلى إعمال اسم الإشارة فى الحال وقال بعض أصحابنا: يجوز أن تقدر (كان) المضمرة ناقصة , فيكون انتصاب بسرا ورطبا على انهما خبر (كان) الناقصة و (يكون) الناقصة المضمرتين. واستدل على ذلك بمجئ الاسم المنصورب معرفة , فيقال: زيد المحسن أفضل من المسئ وقد تقدم الكلام على هذه المسألة وقال المصنف فى الشرح» فيه إضمار ستة اشياء من غير حاجة» يعنى إضمار إذا , وإذ , وكان. أو يكون , والضمير المستكن فى كان , أو يكون. وقال:

«وبعد تسليم الإضمار يلزم إعمال أفعل فى إذ وإذ , فيكون ما وقع فيه شبيها بما فر منه» انتهى. وذهب المازنى فى الاظهر من كلامه والفارسى فى /تذكرته , وابن كيسان وابن جنى , وابن خروف - وهو اختيار ابن عصفور فى بعض كتبه - إالى أن أفعل التفضيل عامل فى الحالين معا , فبسرا حال من الضمير المستكن فى أطيب , ورطبا حال من الضمير المجرور فى منه , والعامل فيهما أطيب وزعم المصنف فى الشرح أن هذا مذهب س , قال: «قال س بعد تمثيله بهذا بسرا أطيب منه رطبا: (فإن شئت جعلته حينا قد مضى , وإن شئت جعتله حالا مستقبلا). ثم قال س: (وإنما قال الناس هذا منصوب على إضمار إذا كان فيما يسقبل , وإذ كان فيما مضى , لأن هذا لما كان ذا معناه أشبه عندهم أن يتنصب على إذا كان وإذ كان) فهذا نص منه على ان تقدير كان لم تدع إليه حاجة من قبل العمل , بل من قبل تقريب المعنى , والعالم إنما هو أفعل» انتهى. واحتج لهذا المذهب بأن أفعل أقوى من الألفاظ العامة بما تضمنه من معنى الفعل , من جهة أنها قد اشبهت الفعل فى أنها لا تثنى , ولا تجمع ولا تؤنث. كما أن الفعل كذلك , وانها على وزن الفعل. وان لفظ الفعل موجود فيها , وانها دلت على الفعل المعلق فى قوله تعالى (أعلم من يضل عن سبيله) التقدير: يعلم من يضل عن سبيله , فاستغنى بألعلم عن إضمار ذلك الفعل المعلق , فساغ لذلك عندهم

تقديم الحال التى عملت فيها عليها وإن لم يسغ ذلك فى الألفاظ التى عملت فى الحال بما تضمنته من معنى الفعل. قال بعض أصحابنا: «وهذا الذي ذهبوا إليه باطل من جهة أن هذه المشابهات لم تلحقها بالفعل , بدليل أنها لا تنصب المفعول به وإن كانت مشتقة من الفعل المتعدى , ولو كانت تجرى مجرى الفعل للاشباه التى ذكروها لنصبت المفعول به , فالصحيح إضمار إذ كان أو كان , وهو الذى ارتضاه الفارسى فى حلبياته وإن كان قد جوز الوجه الاخر إلا انه استضعفه» انتهى. ولا يلزم من إجراء أفعل مجرى الفعل فى العمل فى الحال والظرف للأشباه التى ذكرت أن تعمل فى المفعول به , إذ ما أشبه الشئ لا يعطى حكم ذلك الشئ كله , وما ادعوه من الإضمار لم ينطق به فى موضع من المواضع. والذى نختاره أن أفعل التفضيل عامل فى الحالين لأنه تضمن معنى فعل يتعلق بمصدرين , والتقدير: هذا يزيد طيبه بسرا على طيبه رطبا. هذا اصل الكلام , ثم حذف , وضمن أفعل التفضيل معنى يزيد المتعلق بمصدرين , فبسرا فى الحقيقة معمول لمصدر محذوف , وكذلك رطبا , فلما ضمن أفعل التفضيل معنى هذين المصدرين لدلالته على يزيد المتعلق بهما جاز أن يعمل فيهما مراعاة للاصل. وأيضا فالحلات فى اللفظ لا يرجعان الى ذى حال واحدة بل الى ذوى حال , ألا ترى ان الواحدة حال من الضمير المجرور. وكان القياس منع هذه المسألة على المذهبين لولا ان السماع ورد بها , لانا اذا ادعينا إضمار كان ادعينا ما لم تلفظ به العرب قط , ولا يعم ابضا جميع المسائل لانك لو اخبرت عن المحكوم عليه بأفعل التفضيل حالة التباسه بإحدى

الحالين لم يصح تقدير إذ كان ولا إذا كان , ويلزم من ذلك ايضا مخالفة سائر العوامل القوية فى العمل من حيث نصب أفعل التفضيل لظرفين من غير عطف ولا بدل. فيترجح بذلك العامل الضعيف على العامل القوى من جهة عمله فى حالين من غير عطف ولا بدل ولزم منه ابضا مخالفة ما عمل فى الحال من المتضمن لمعنى الفعل لجواز تقديم إحدى الحالين عليه , وذلك لا يكون فى غيره , وإذا كان المجرور ب» من» بعد أفعل التفضيل لا يجوز تقديمه عليه إلا فى شذوذ أو ندور فلان يمنع تقديم الحال عليه أولى ولا تختص هذه المسألة بكون أفعل التفضيل يقع خبرا للمبتدأ , بل قد يقع صفة وحالا , نحو: مررت برجل أخبث ما يكون أخبث منك أخبث ما تكون ومررت بزيد أخبث ما يكون أخبث منك أخبث ما تكون. ولا يجوز تأخير المنصوبين على الحال عن أفعل التفضيل ولا تقديمهما عليه , لا يقال: ثمر هذه النخلة أطيب منه بسرا رطبا , ولا: ثمر هذه النخلة بسرا منه رطبا أطيب , ولم يسمع ذلك من كلام العرب. وعلل الزجاج ذلك بأنهم ارادو أن يفصلو بين المفضل والمفضل عليه لئلا يقع الإلباس ولا يعلم أيهما المفضل , فلذلك قدم عنده المفضل , واخر المفضل عليه. وعلل ابو على الدينورى عدم تأخير العرب للحالين بأن المعنى: طيب هذا بسرا يزيد على طيبه رطبا , وهو صلة للمصدر ,وصلة المصدر لا يحال بينها وبينه بما ليس من الصلة , فكما لا يجوز عنده: طيب ها يزيد على طيبه رطبا بسرا , لما

يلزم فيه من الفصل - كذلك لم يجز عنده: هذا أطيب منه رطبا بسرا , حملا له على ما هو فى معناه. قال بعض أصحابنا: وهذا التعليل فاسد , لانه إذا عامل «أطيب منه» معاملة «طيبة يزيد على طيبه» من حيث كانت أفعل الى للمفاضلة تتضمن معنى المصدر والفعل لزمه ألا يقدم بسرا على أطيب كما لا يقدمه على المصدر الذى هو طيبه , وقوله غالبا أن الغالب اغتفال توسيط أفعل التفضيل بين حالين أن لنا صورة لا يتوسط , فيحتمل أن تتقدم الحالان على أفعل التفضيل , ويحتمل أن تتأخرا عنه , وقد ذكروا أن كلتا هاتين الصورتين لم تسمعا من لسان العرب. إلا ان بعض أصحابنا أجاز تأخير الحالين عن أفعل التفضيل على شرط أن تلى أفعل التفضيل الحالة الاولى مفصولا بها بينه وبين المفضل عليه , وتلى الثانية المفضل عليه , فتقول: هذا اطيب بسرا منه رطبا , وزيد اشجع اعزل من بكر ذا سلاح , فتقع الحال الاولى فاصلة بين المفضل والمفضل عليه إذ لا يكون بعدمن إلا المفضول , ولا يحتاج ذلك الى إضمار «إذ كان» ولا «إذا كان» لانه من الضرورة تدعو الى ذلك , وهذا الذى ذهب اليه هذا الذاهب حسن فى القياس , ويحتاج هذا التركيب الى سماع من العرب. وقوله وقد يفعل ذلك بذى التشبيه قال المصنف فى الشرح: وقد يتوسط هذا النوع بين حالين فيعمل فى إحداهما متأخرة وفى الاخرة متقدمة كقول الشاعر:

أنا فذا كهم جميعا , فإن أمـ ... ـدد أبدهم , ولات حين بقاء وقال أخر: تعيرنا أننا عالة ... ونحن صعاليك أنتم ملوكا أراد: ونحن فى حال تصعلكنا مثلكم فى حال ملككم , فحذف مثلا , واقام المضاف إليه مقامه مضمنا معناه واعمله بما فيه من معنى التشبيه» انتهى كلامه. وفيه مناقشتان: إحداهما: قوله: وقد يفعل ذلك. فدل على انه يقع ذلك قليلا , وهذا التركيب الذى ذكره لا يمكن فيه إلا ذلك ولا يجوز تقديمهمها ولا تأخيرهما , فما كان هكذا لا يقال فيه «وقد» لأنه يشعر بالقلة وأن الكثير غيره ,وذلك الذى يظن أنه كثير لا يقع البته , لا يجوز: زيد فقيرا غنيا مثلك , ولا: زيد مثلك فقيرا غنيا. والمناقشة الثانية: انه أشار بقوله ذلك من قوله وقد يفعل ذلك الى اغتفتار التوسط فى أفغل التفضيل , وقيده فى أفعل التفضيل بفوله غالبا , وهنا لا يمكن تقييد ذلك بقوله غالبا لامرين: احدهما: أن غالبا يدافع قوله وقد يفعل. لان الغلبة مشعرة بالكثرة , وقد يفعل مشعره بالقلة , فتدافعا والامر الاخر: انه قد أمكن إبراز صورة ما فى أفغل التفضيل على ما جوزه بعض أصحابنا مخالفة للغالب , وهى: هذا أطيب بسر منه رطبا , وهنا لا يمكن ذلك البته , لان اداة التشبيه لا يمكن أن يفصل بينهما وبين مجرورها بحال.

وما ذهب إليه المصنف من أن اداة التشبيه تعمل فى حالين تتقدم إحدامها عليها. وكذلك الضمير لقيامه مقام الاداة - لا يصح لانها ليست كأفعل التفضيل , لان من قال بإعمال أفعل التفضيل فى حالين وتوسطه بينهما لانه ناب مناب عاملين , واداة التشبيه ليست كذلك , ولان تقديم الحال على أداة التشبيه غير جائز , ولأن اعمال الضمير لا يجوز , فالصحيح أن ينتصب «فذا» و «صعاليك» على إضمار: إذا كان , كأنه قال: أنا إذا كنت فذا كهم جميعا , ونحن إذا كنا صعاليك فلا تعمل أداة التشبيه ولا الضمير. وقوله فأن كان الجامد ظرفا أو حرف جر مسبوقا بمخبر عنه جاز على الاصح توسيط الحال بقوة أن كان ظرفا او حرف جر , وبضعف إن كانت غير ذلك يعنى إذا جعلت «عند هند» حالا و «في بستانها» خبرا , و «زيد في بستان هند معها» إذا جعلت «في بستان هند» حالا و «معها» خبرا وكذلك إذا كان الخبر والحال ظرفين , أو كانا حرفى جر , ومثال كونها غير ظرف ولا حرف جر , زيد متكئا فى الدار. واحترز بقوله «مسبوقا بمخبر عنه» من كونه متأخرا عنه , فإنه لا خلاف فى جواز توسيط الحال بين العامل الظرف أو حرف الجر وبين المخبر عنه المتأخر , نحو: فى الدار عندك زيد. وفى الدار قائما زيد. وقوله جاز على الاصح مذهب الاخفش فى احد قوليه والفراء انه يجوز توسط الحال بين المخبر عنه المقتدم والخبر الظرف أو المجرور سواء أكانت الحال ظرفا أم اسما صريحا نحو ما مثلنا , ام جملة حالية بالواو نحو: زيد وماله كثير بالبصرة , لانه فى تقدير: زيد إذ ماله كثير بالبصرة

وحجة الأخفش السماع , فمن ذلك قوله تعالى (والسموات مطويات بيمينه) فى قراءة من نصب (مطويات) وقول النباغة الذبيانى: رهط ابن كوز محقبى ادراعهم ... فيهم , ورهط ربيعة بن حذار وقول الاخر أبنو كليب فى الفخار كدارم ... ام هل أبوك مدعدها كعقال وقول الاخر بنا عذا عوف , وهو بادى ذلة ... لديكم , فلم يعدم ولاء ولا نصرا وقول الاخر ونحن منعنا البحر ان تشربوا به ... وقد كان منكم ماؤه بمكان وقول عباس:» نزلت هذه الآية ورسول الله متواريا بمكة» ذكره المصنف فى الشرح مستدلا به لمذهب الاخفش على عادته فى الاستدلال بالمأثور فى الحديث على إثبات القواعد الكلية النحوية.

وذهب الجمهور من البصريين إلى منع ما أجازة الاخفش فى بعض كتبه والفراء من تقديم الحال متوسطه بين المخبر عنه المتقدم والخبر إذا كان الخبر ظرفا او حرف جر سواء أكانت الحال اسما صريحا أم ظرفا أم حرف جر أم جملة حالية بواو أو بغير واو , لان العامل ضعيف , فلا يتقدم زيد فى الدار , ولا: قائما فى الدار زيد بإجماع من البصريين , هكذا قال بعضهم , وسواء أكانت الحال لظاهر كما مثلنا , أم لمضمر , نحو: وقائما فى الدار أنت. وذهب الكوفيون إلى جواز توسطها إذا كانت من مضمر مرفوع , كما أجازوا ذلك فى التقديم على الجزأين إذا كانت من مضمر مرفوع , فأجازوا فى نحو أنت فى الدار قأما أن تقول: فى الدار قائما انت , وانت قائما فى الدار , وقائما فى الدار انت , وقائما انت فى الدار , لانه لا يلزم من تقديمها على الرافع والمرفوع تقدم مضمر على ظاهر كما لزم ذلك إذ كانت من مرفوع ظاهر. وقال أبو بكر بن طاره: لم يختلفوا - يعنى النحاة - فى امتناع: قائما فى الدار زيد. هكذا قال , وليس بصحيح. فإن الاخفش أجاز فى قولهم: «فداء لك أبى وأمى» أن يكون فداء منصوبا على الحال , والعامل فيه «لك» فهذا نظير: قائما على الدار زيد وذهب ابن برهان إلى التفصيل بين أن تكون الحال ظرفا أو حرف جر , فيصح تقديمها على العامل إذا كان ظرفا أو حرف جر , ومنه قوله تعالى (هنالك الولية لله الحق) , قال: (هنالك) ظرف مكان , وهي حال ,

و (الولية) مبتدأ , و (لله) فى موضوع الخبر , ولازم الجر عامل فى الحال مع تقدمها على اللام , لان الحال بلفظ الظرف» وهذا الذي ذكره ابن برهان يقتضى بجهة الاولى جواز التوسط , لانه إذا أجاز ذلك مع التقدم على الجزأين فلأن يكون ذلك أجوز مع التوسط واختار المصنف قولا مخالفا لهذه الاقوال , وهو أنه إذا كانت الحال اسما صريحا ضعف التوسط , وإذا كانت ظرفا أو مجرورا جاز التوسط. فتلخص فى هذه المسألة أقوال: المنع مطلقا , والجواز مطلقا , والتفضيل بين أن تكون من مضمر مرفوع فيجوز , أو غير ذلك فيضعف. قال المصنف فى الشرح» ولا يضعف القياس على تقديم غير الصريحة لشبه الحال فيه بخير إن إذا كان ظرفا , فكما استحسن القياس على» إن عندك زيدا مقيم» لكون الخبر فيه بلفظ الظرف الملغى , ولتوسعهم فى الظروف بما لا يتوسع فى غيرها بمثله - كذا يستحسن القياس على: ....................... وقد كان منكم ماؤه بمكان وغير الاخفش يمنع تقديم الحال الصريحة على العامل الظرفى مطلقا , والصحيح جوازه محكوما بضعفه , ولا يجرى مجرى العامل الظرفى غيره من العوامل المعنوية باتفاق لان فى العامل الظرفى ما ليس فى غيره من كون الفعل الذي

ضمن معناه فى حكم المنطوق به لصلاحتيه أن يجمع بيه وبين الظرف دون استقباح , بخلاف غيره فإنه لازم التضمن غير صالح للجمع بينه وبين لفظ ما تضمن معناه , فكان للعامل الظرفى بهذا مزية على غيره من العوامل المعنوية أو حبا له الاختصاص بجواز تقديم الحال عليه» انتهى. وكان قد ذكر قبل أن توسيط الحال عند الاخفش صريحة كانت الحال أو بلفظ ظرف أو حرف جر جائز إذا كان العامل ظرفا أو حرف جر , وقد ذكرنا نحن ان للاخفش فى ذلك قولين: الجواز والمنع. والصحيح منع التوسط مطلقا وهو صححه أصحابنا , وتأولوا ما ورد مما ظاهرة ذلك: فخرجوا نصب (مطويات) على الحال من (السموات) , و (السموات) هى العاملة فى الحال بنفسها لما فيها من معنى الفعل , وهو السمو ,لا المجرور الذى فى موضع الخبر , وذو الحال يجوز أن يعمل فى الحال إذا كان فيه معنى الفعل , فقد أجاز النحويون أن يقال: هذا قائما زيد. على ان يكون» قائما» حالا من هذا , وعمل فى قائم بما فيه من معنى الاشارة. وخرجوا «محقبى ادراعهم» على انه منصوب على المدح و «مدعدعا» و «بادى ذله» منصوبان على الذم - والدعدعة: زجر الغنم - ويكون قد اعترض

بالجملة التي تدل على المدح بين المتبدا والخبر. وقطع النكرات إذا جاءت بعد المعارف على المدح أو الذم جائز , ومن ذلك قوله: طليق الله لم يمنن عليه ... أبو داود وابن ابى كثير ولا الحجاج عينى بنت ماء ... تقلب طرفها حذر الصقور وخرج ذلك ايضا على النصب بإضمار أعنى , كأنه قيل أعنى مطويات. واعنى محقبى أدراعهم , واعنى بادى ذلة وأما إجازة الكوفيين: انت قائما فى الدار , وقائما فى الدار انت , وقائما انت فى الدار - فهو شئ قالو بالقياس ولم يصح سماعه من لسان العرب وأما ما ذهب إليه ابن برهان من تخريج (هنالك الولية لله الحق) على ان (هنالك) ظرف منصوب على الحال فهو خلاف ما جامع الكوفيون والبصريون وإجازة الكوفيين قائما فى الدار أنت إنما هو لانهم زعموا أن النصب على القطع ,وعمل فيها النصب عندهم الحديث والمحدث عنه كلاهما ,وهو مع ذلك لم يسمع من لسان العرب , فهو تركيب فاسد. وقوله ولا تلزم الحالية فى نحو: فيها زيد قائما فيها , بل تترجح على الخبرية أى: نصب قائما على الحالية فى نحو: فيها زيد قائما فيها , بل تترجح على الخبرية أى نصب قائما على الحالية أرجح من رفعه على الخبرية , وذلك بتقدم «فيها» لأنه من حيث التقدم الاولى به أن يكون عمدة لا فضلة قال المصنف في

الشرح «وإذا وقع اسم يحسن السكوت عليه من ظرف ظاو جار ومجرور وله ما يصلح للخبرية والحالية جاز جعله خبرا وحالا بلا خلاف إن لم يكرر ما فى الجملة من ظرف أو حرف جر» انتهى. ولا يخلو أن تقدم الظرف أو المجرور على الاسم أو لا: أن قدمت , نحو: فى الدار زيد قائم , وأمامك عمرو جالس - فاختار س والكوفيون النصب فى قائم وجالس ,وإن لم تقدم فاختارو الرفع فى قائم وجالس , نحو: زيد فى الدار قائم وعمرو أمامك جالس. وقال أبو العباس: التقديم والتأخير فى هذا واحد. وحكى ابن سلام فى» طبقات الشعراء» له أن عيسى كان يلحن النابغة فى قوله: ........................ ... ............... فى أنيابها السم ناقع ويقول: لا يجوز إلغاء الظرف مقدما لان التهمم به يناقض تقديمه ملغى ولا ينبغى أن يلحن العربى , وأيضا فقد سمع ........................ ...................... وعندى البر مكنوز

و: .......................... ... عليه الودع منظوم وجاء في كتاب الله تعالى (ولم يكن له كفوا أحد) فألغى (له) مع تقدمه , فإذا نصبنا قائما تعين أن يكون (فى الدار) الخبر , واذا رفعنا قائما جاز فى المجرور أن يكون فى موضع نصب متعلقا بقائم , وجاز أن يكون خبرا , ويكون مما اخبر فيه عن المبتدأ بخبرين على مذهب من يحيز ذلك وقد منع بعضهم هذا الوجه , قال: فإن قلت: ولم جعل س بيت النابغة و «فيها عبد الله قائم» على الإلغاء؟ وهلا جعله خبرا , ويكون الاسم له خبران بمنزلة: هذا الحلو حامض. قلت: لايجوز ذلك: لان الخبرين إنما جازا إذا كانا فى معنى خبر واحد. لما تقرر أنه لا يقضى الشئلا مما يطلبه اكثر من واحد , ويكونان بمنزلة الشلئ الواحد , فلا يجوز الفصل بينهما فلهذا جعله س على الإلغاء. وقال المصنف فى الشرح:» فإن كرر الظرف أو حرف الجر جاز الوجهان أيضا , وحكم برجحان النصب لنزول القرأن به , كقوله تعالى (وأما الذين سعدوا

ففي الجنة خالدين فيها) وكقوله تعالى (فكان عقبتهما أنهما فى النار خالدين فيها) انتهى. ولا فرق بين أن يتقدم الاسم على الظرف كالايتين , او يتاخر نحو: فى الدار زيد قائما فيها , أو قائم فيها وقال المصنف فى الشرح: وادعى الكوفيون أن النصب مع التكرار لازم , لأن القرأن نزل به لا بالرفع. وهذا لا يدل على أن الرفع لا يجوز , بل يدل على أن النصب أجود منه , فلو كرر الظرف والمخبر به لجاز الوجهان أيضا , وحكم برجحان الرفع , لنزول القرأن به فى قوله تعالى (وأما الذين ابيضت وجوههم ففى رحمة الله هم فيها خالدون)» انتهى وقال صاحب الانصاب ما ملخصه:» احتج الكوفيون بالسماع , وهو إجماع القراء على النصب فى (ففى الجنة خالدين فيها) و (انهما فى النار خالدين فيها) وبالقياس , وهو أن الفائة فى الظرف الثانى إنما تحصل مع النصب لا مع الرفع , لانه فى النصب يكون الظرف الاول خبرا. والثانى ظرف للحال , ويكون الصلة لقائم منقطعا عما قبله , ويكون كلاما مستقيما لم يلغ منه شئ. وفى الرفع بطلت فائدته فى الثانية لنيابة الاولى عناه فى الفائدة. وحمل الكلام على ما فيه فائدة أشبه بالحكمة

واحتج البصريون بأن الاجماع قد رفع على جواز الرفع والنصب إذا لم يكرر , فكذللك إذا كرر. وما ذكروه من اجماع القراء على النصب ليس بصحيح , بل قرأ الاعمش (ففى الجنة خالدون فيها) , وقرئ (أنهما فى النار خالدان فيها) وعلى تقدير إجماعهم على النصب لا يدل ذلك على أنه لا يجوز الرفع , ألا ترى إجماع القراء على لغة الحجاز فى (ما) فى نصب الخبر , ولا يبطل ذلك لغة تميم , بل هي المشهورة المقيسة. وأما أن التكرار مع الرفع يفيد ما أفادت الأولى فلا يصلح أن يكون ذلك مانعا , لانه تكرر على طريق التأكيد , والتأكيد فى كلام العرب شائغ , وهذا كقولهم: فيك زيد راغب فيك. ومع هذا التأكيد لا تمتنع صحة المسألة» انتهى. وقد وافق الكوفيين ابن الطرواه , فقال «لا يجوز: فى الدار زيد قائم فيها , بالرفع , إذ لا يكون لأحد الجارين متعلق , إذ لا يتعلقان بقائم , ولا يتصور التوكيد , إذ لا يؤكد الظاهر بالمضمر , ولا المضمر بالظاهر. إذ ليس من لفظه فإن أظهرت الضمير , فقلت: فى الدار زيد قائم فى ادار - جاز على التأكيد اللفظى» انتهى. وما قاله غير لازم. لان الظاهر هنا هو المضمر فى المعنى وإن كان بغير لفظة ك «مررت به أنت» ويحتمل أن يكون «في الدار» خبر مقدما. وقائم خبر ثان

و «فيها» متعلق بقائم , فلا يلزم ما قال من أنه لايكون لأحد الجارين متعلق , فلا مانع من جاوز الرفع وقد احتج بعضهم لجواز التكرار على سبيل التأكيد بقوله تعالى (وهم بالاخرة هم كافرون) , فكرر (هم) للتاكيد , فكذلك الظرف. وفرق بين «في الدار» وبين «هم» إذ لا يتعلق «هم» بشيء , بخلاف الظرف. وإن يختلف الظرف فهو يجرى هذا المجرى , تقول: زيد فى الدار جالس فى صدرها , وجالسا فى صدرها. وزيد فى الدار راغب فى شرائها ,وراغبها فى شرائها , فحكم المختلف حكم المكرر. وقال الشاعر: والزعفران على ترائبها ... شرقا به اللبات والنحر ويحيز الفراء فى هذا النوع إلا النصب , ويجعل اللبات والنحر كأن معمها عائدا على الترائب وقال ابن كيسان: «الرفع عندي جائز , وإنما أراد: والزعفران على الترائب فى حال شروق اللبة والنحر به , وإذا رفع أراد: والزعفران شرق به لبتها ونحرها على الترائب منها , فبين موضع شروقه. كأن موضع النحر واللبة شرق بالزعفران على هذا الموضع الاخر , أعنى الترائب» انتهى.

ويقتضي مذهب الكوفيين جواز الرفع والنصب فى هذه المسألة وهو إذا اختلف الظرفان , لانه لا يؤدى إلى إلغاء أحدهما ,فلا يكون توكيدا. وتخلص من هذه المسائل أن الظرف إذا تكرر بلفظه أو بضميره أو اختلف جاز فى الاسم الرفع والنصب عن البصريين , واذا كرر بلفظه أو بضميره أو اختلف لم يجز عند الفراء إلا النصب , وقياس مذهب الكوفيين جواز الرفع والنصب. قوله وتلتزم هى فى نحو: فيك زيد راغب اى: تلتزم الخبرية. ولا تجوز الحالية. وقال المصنف فى الشرح: «فإن كان ما تضمن الكلام من ظرف أو حرف جر غير مستغنى به تعين جعل المخيل للحالية والخبرية خبرا مع التكرر ودونه. نحو: فيك زيد راغب , وفيك زيد راغب فيك. وأجاز الكوفيون نصب راغب وشهه على الحال , وانشدوا: فلا تلحنى فيها , فأن بحبها ... أخاك مصاب القلب جما بلابله والرواية المشهورة: مصاب القلب جم , بالرفع , على أنا لا نمنع رواية النصب , بل نجوزها على أن يكون التقدير: فإن بحبها أخاك شغف أو فتن مصاب القلب , فإن ذكر الباء داخلة على الحب يدل على معنى شغف أو فتن , كما أن ذكر (فى) داخلة على زمان أو مكان يدل على معنى استقر , وليس كذلك ذكر (فى) داخلة على الكاف فى قولهم: فيك زيد راغب ونحوه» انتهى.

وقوله خلافا للكوفيين فى المسألين أى: انهم يوجبون النصب فى: فيها زيد قائما فيها , ويجيزونه فى: فيك زيد راغب. وإذا اجتمع ظرفان تام وناقص , فبدأت بالتام فقلت: إن عبدالله فى الدار بك واثقا , وإن فى الدار عبدالله بك واثقا , جاز الرفع والنصب وزعم ابن سعدان أن هذا لا يجوز: لان بك فى صلة واثق , قال: ولا يجوز: إن فيك زيدا راغب. وقال ابن كيسان: الرفع الاختيار , لان الحال فى تقدير الأسماء , وتمامها يجب ان يكون بعدها , فلما قدمت بك وهو من تمامها اخترت إخراجها عن الحال لأن تجعلها خبرا , وكذا إن عبدالله فى الدار عليك نازل , وفيك راغب. فإن قدمت الناقص فى أول الكلام , فقت: ان فيك عبدالله فى الدار راغب , أو ان فيك فى الدار عبدلله راغب , أو: إن عبدالله فيك فى الدار راغب - جاز الرفع والنصب. والكوفيون لا يجيزون النصب , لانك حين بدأت بما هو تمام للخبر قبل الظرف التام صرت كأنك بدأت بالخبر , اى كأنك قلت: ان عبدالله راغب فيك فى الدار. قال أبو جعفر النحاس: وهذا لا يلزم لأن الظرف إنما هو تبيين عن موضع الفعل , فكأنه فى تقدمه مؤخر. وإذا اجتمعا بعد المبتدأ , وتوسط بينهما اسم يجوز أن يكون خبرا, وقدمت التام , وكان مع الناقص ذكر عائد على التام - اختير نصب الاسم المتوسط عند

الجمهور , ووجب النصب عند الفراء , ومثاله: زيد فى الدار مفتن بها , فالجمهور يختارون انتصاب مفتنن لأن الظرف التام قد وقع موقع الخبر , فانتصب مفتتنا على الحال , ويجزيون رفعه , إما على أن يكون مفتنن خبرا بعد خبر , وإما» أن» يكون في الدار متعلقا , بمفتتن فإن قدمت التام على المبتدأ , واخرت الناقص , نحو: فى الدار زيد مفتتن بها - فالمسالة بحالها عند البصريين , والكوفوين جميعا يوحبون النصب فإن قدمت الناقص على العامل فيه وعلى التام , وأخرت التام على المبتدأ , نحو: زيد فيك راغب فى الدار , فهى عند البصريين كالتى قبلها , والكوفيون يوحبون الرفع. فإن قدمت الظرفين جميعا على المبتدأ , وبدأت بالناقص - فالبصريون على ما تقدم , وذلك فى نحو: فيك راغبا فى الدار زيد , وقياس قول الكوفيين إيجاب النصب , وحكى النحاس عنهم إيجاب الرفع فإن كان بدل الناقص مفعول للخبر , فقدمت المبتدأ ثم الظرف التام ثم المفعول , نحو: زيد فى الدار طعامك أكل - لم يجز عند البصريين إلا الرفع وأجاز الكسائى النصب , هذا نقل ابن أصبغ. وقال أبو جعفر النحاس: أكثر النحويين يجيز الرفع والنصب. وقال ابن كيسان: لا يجوز عندى النصب. لان الظرف لاشتماله على الفعل تقديمه كتأخيره , والمفعول إنما هو تمام الفعل كبعض حروفه , فليس هو قبله مثله بعده

-[ص: فصل يجوز اتحاد عامل الحال مع تعددها واتحاد صاحبها أو تعدده بجمع وتفريق , ولا تكون لغير الأثرب إلا لمانع , وإفرادها بعد» إما» ممنوع , وبعد «لا» نادر.]- ش: مثال ذلك: جاء زيد راكبا مسرعا. فزيد صاحب الحال , وقد تعددت , واتحد عاملها وقال المصنف فى الشرح ما معناه:» أن للحال شبها بالخبر والنعت , فكما جاز تعدد الاخبار والنعوت مع كون المخبر عنه والمنعوت واحدا جاز ذلك فى الحال» ثم قال: «وزعم ابن عصفور أن فعلا واحدا لا ينصب أكثر من حال واحد لصحاب واحد قياسا على الظرف , واستثنى الحال المنصوب بأفعل التفضيل , فإنه يعمل فى حالين كما يعمل فى ظرفين» ثم ذكر علة عمل أفعل التفضيل فى حالين وظرفين , واخذ المصنف يندد على ابن عصفور فى تمثيله جاء زيد ضاحكا مسرعا بقمت يوم الخميس يوم الجمعة , فقال: «تنظيره هذا بذلك لا يليق بفضله ,، ولا يقبل من مثله , لان وقوع قيام واحد فى يوم الخميس ويوم الجمعة محال ووقوع

مجيء واحد في حال ضحك وحال إسراع غير محال» ثم قال «ولكن المشرفى قد ينبو , واللاحقى قد يكبو» انتهى. وهذا الذى ذهب إليه ابن عصفور من امتناع تعدد الحال لذى حال واحدة واتحاد العامل , نحو: جاء زيد راكبا ضاحكا - هو مذهب كثير من المحققين , منهم أبو على الفارسى , ذهبوا إلى أنه لا يقضى العامل أزيد من حال واحد من غير واسطة حرف لذى حال واحد مع اتحاد العامل , فإذا جاء فى كلامهم مثل خرج زيد مسرعاه باكيا احتمل عندهم وجهين أحدهما أن باكيا صفة ل «مسرعا» الذي هو حل. والثانى أن باكيا حال من الضمير المستكن فى مسرعا. والعجب للمصنف وعدم إطلاعه على أن هذا مذهب الفارسى وكثر من محققى النحويين حتى ينسبه لابن عصفور وحدة , ويوهم لفظه أنه مما انفرد به ابن عصفور. وذهب أبو الفتح وجماعة إلى أنه يجوز أن يقضى العامل الواحد من الأحوال التى لذى حال واحد أزيد من حال واحدة من غير توسط حرف. ولم يختلفوا فى أن العامل إذا لم يكن أفعل التفضيل لا يقضى من ظروف الزمان ولا من ظروف المكان ولا من المصادر أزيد من شئ واحد إلا بحرف عطف , ولا يجوز إسقاط الواو فى ذلك كما لا يجوز فى نحو: ضربت زيدا وعمرا , واختلفوا فى الحال كما ذكرنا وحجة من منع ان الحال مع عاملها شبيهة بالمفعول والفعل المتعدى إلى واحد وشبيه بالظرف , وقد تقدم كيفية ذلك الشبه , فكما أن المتعدي إلى

واحد لا يتعدى إلى اثنين بغير وساطة حرف فكذلك الحال وعاملها , وكما ان الفعل لا يتعدى إلى ظرفين إلا بواسطة حرف العطف , فكذلك الحال , لانها فى تقدير: فى حال كذا , ولو صرحخت العطف , فتقول: فى حال كذا وفى حال كذا , ولا يلزم من إمكان أحوال لذى حال واحد جواز نسبة تلك الاحوال إليه بغير حرف العطف , كما لم يلزم ذلك فى نحو: مررت بزيد وبعمرو , وإن كان المرور الواحد يمكن وقوعه بمتعلق كثير , ومع ذلك لا يجوز: مررت بزيد بعمرو, فلا بد فيه من حرف العطف. وإذ قد انجز الكلام إلى ان العالم إذا لم يكن أفعل التفضيل لا يقضى من ظروف الزمان ولا من ظروف المكان ولا من المصادر أزيد من شئ واحد إلا بحرف عطف. وأنهم لم يختلفو فى ذلك , فهو نقل بعضهم , وقد وقع خلاف فى مسألة الكتاب , وهى قول س: وتقول: اعلمت هذا زيدا قائما العلم اليقين إعلاما: فذهب الفارسى إلى أن العلم اليقين منصوب بفعل مضمر يفسره أعلم , اى فعلم العلم اليقين وإعلاما مصدر لاعلم , وقد رد مذهب أبى على أبو الفتوح ابن فاخر العبدري

وذهب ابن الطرواة إلى ان أعلم تعدى ألى مصدرين: احدهما مبين. وهو العلم اليقين , وهو عنده مصدر على غير المصدر, والاخر مؤكد , وهو قوله إعلاما , فنصبهما من وجهين مختلفين واختاره ابن عصفور. وذعب بعضهم إلى ان العلم اليقين بدل من المفعولين ,قال: لان المفعولين اللذين أصلهما المبتدا والخبر هما المعلوم , فأبدل منهما , فكأنه قال المعلوم المتيقن. والذى نختاره أن انتصاب العلم اليقين مفعولا به على السعة , وإن كان اصله مصدرا مبينا فى الاصل فانتصب بأعلم على انه مفعول به إلى المصدر اتساعا. وتقرير هذه المذاهب والاستدلال لها وعليها ليس هذا موضعه , وإنما أردنا التنبيه على أن من النحاه من قال: يتعدى الفعل الى مصدرين إذا اختلفت جهتهما وقوله أو تعدده بجمع وتفريف ولاتكون لغير الاقرب إلا لمانع عطف «أو تعدده» على قوله» واتحاد صاحبها» فيعنى أنه اتحد عامل الحال وتعدتت هى , وتعدد صاحبها , ومثال ذلك فيما اتفق إعرابه وتعددها بجمع: جاء زيد وعمرو مسرعين , وضربت زيدا وعمرا مظلومين , ومررت بزيد وسعد باكين. ومنه (وسخر لكم الشمس والقمر دائبين) و «هذه ناقة وفصيلها راتعين» فيمن جعل فصيلها معرفة , وهى أفصح اللغتين , ومن جعله نكره قال» راتعان» على النعت

ومثال تعددها فيما اختلف إعرابه: لقي زيد عمرا ضاحكين، وقال الشاعر: / تعلقت ليلى، وهي ذات مؤصد ... ولم يبد للأتراب من ثديها حجم صغيرين، نرعى البهم، يا ليت أننا ... إلى اليوم لو تكبر، ولم تكبر البهم وقال الأخر: وأشعث، قد نبهته عند رسله ... مقيمين، بلوى شقه وتنائف وقال الأخر: متى ما تلقنى فردين ترجف ... روانف أليتيك، وتستطارا ومن فروع هذه المسألة اتفاق الكوفيين على إبطال: راكبين لقي زيد عمرا، ولقي زيد راكبين عمرا، ولقي راكبين زيد عمرا. وكل هذا جائز على قياس البصريين لان العامل فعل متصرف. ولا يجوز عند الكوفيين لقيت مسرعين زيدا ولا: مسرعين لقيت زيدا ويجوز عندهم: مسرعين لقيتك وراكبين لقيتنى ولا يجوز في قولهم: مر زيد مسرعين بسعد ولا: مسرعين مر زيد بسعد. ويجوز

عندهم: مسرعين مررت بك، ومررت مسرعين بك. ولا يجوز عند البصريين تقدر حال المخفوض ظاهر ولا مكنى. وهذه المسائل منفصل تقدم الحال على ذي الحال وعلى عامله، ومذهب الكوفيين انه متى أدى تقديم الحال إلا تقدم مضمر على ذي الحال وهو اسم غائب، أو شركه اسم غائب -فان ذلك لا يجوز، ولا يجمع الحالان حتى يصلح انفراد كل وصف بالموصوف، فان اختلفا في هذا المعنى لم يجمعا. وجاز الكسائى وهشام أن تجئ الحال مجموعه من مضاف ومضاف إليه، نحو «لقيت صاحبه الناقة طليحين» على أن طليحين حال الصاحب والناقة، إذا هما معنيان كلاهما والمختار عندنا أن طليحين حال من الصاحب ومن المعطوف المحذوف، التقدير: لقيت صاحب الناقة والناقة طليحين. وإنما لم يكن حالا من الصاحب والناقة المضاف إليه الصاحب لان المضاف اليه من تمام الأول وحال منه محل التنوين، ولم يقصد الإخبار عنه، إنما الإخبار عن المضاف، والحال خبر من الإخبار، فلذلك لما يكن طليحين حالا من المضاف والمضاف إليه، وهذه العلة هي المانعة من امتناع مجيء الحال من المخفوض الإضافة الذي ليس بفاعل ولا مفعول. وان تعدد ذو الحال وتفرق الحالان فيحوز أن يلي كل حال صاحبه، ويجوز أن يتأخرا عن صاحبيهما، فالأول نجو: لقيت مصعدا زيدا منحدرا، والثاني: لقيت زيدا مصعدا منحدرا، فيكون مصعدا حالا من زيد. ومنحدرا حالا من التاء في لقيت، فتلي الحال الأول ذا الحال الثاني، وتكون الحال الأخيرة لذي الحال الأول، وهذا هو الأول، لان فيه اتصال احد الحالين بصاحبه، وعاد ما فيه من

ضمير إلى أقرب المذكورين. واغتفر انفصال الثاني وعود ما فيه من ضمير إلى ابعد المذكورين إذ لا يستطاع غير ذالك مع ان اللبس مأمون حينئذ، ومن ذلك قول الشاعر: وإنا سوف أدركنا المنايا ... مقدره لما ومقدرينا وقول الأخر: عهدت سعاد ذات هوى معنى ... فزدت، وعاد سلوانا هواها ويتعين هذا أن خيف اللبس، فان امن اللبس جاز جعل الحال الأولى لأول الاسمين والثانية لثانيها، كما قال امرؤ القيس في إحدى الروايات: خرجت بها امشي تجر وراءنا ... على اثرينا ذيل مرط مرحل وقال صاحب التمهيد «لو قلت لقيت زيدا مصعدا منحدرا لجاز، وهو من كلام العرب تجعل ما تقدم من الحالين للفاعل الذي هو متقدم، وما تأخر للمفعول، ولو جعلت الأخر للأول جاز ما لم يلبس، ولذلك منع بعضهم: أعطيت ضاحكا زيدا، إذا لما يكن ضاحكا للتاء، وأجاز: أعطيت يضحك زيدا، لارتفاع اللبس مع الفعل. وما ذكره صاحب التمهيد مخالف لما قررناه قبل. وقال ابن السراج: «إذا أزلت الحال عن صاحبها، ولم تلاصقه، لم يجز ذلك إلا أن يكون السامع يعلمه كما تعلمه، فان كان غير ذلك لم يجز»

وقال أبو العباس في نحو لقيته مصعدا منحدرا» إذا كان احد كما مصعدا والأخر منحدرا» وكذلك قال في قولك: رأيت زيدا ماشيا راكبا: «إذا كان أحدكما ماشيا والأخر راكبا». وليس هذا بمعارض لما ذهب إليه ابن السراج وقررناه قبل من اشتراط العلم أو عدم اللبس، لان أبا العباس إنما تعرض لجواز ذلك في اللسان، ولم يتعرض للوجه الذي يجوز ذلك عليه، فهو مسكوت عنه. وفي البديع: «فان اختلفت حالاهما فلهما طريقان: احدهما: أن تقرن كل حال بصاحبها، وتقرن حال الثاني منهما به، فتقول: لقي زيد عمرا منحدرا مصعدا، ومنحدرا: حال لعمرو، ومصعدا: لزيد، لأنك لو لزمت الرتبة إلى للفعل معها لو توف أحدا منهما حقه. قال ابن السراج: إذا قلت رأيت زيدا مصعدا منحدرا تكون أنت المصعد وزيد المنحدر، فيكون مصعدا حالا للتاء. ومنحدرا حالا لزيد، وكيف قدرت بعد أن يعلم السامع من المصعد ومن المنحدر جاز» انتهي. وقد تجئ الحال مفرده من احد ما دل عليه ضمير التثنية أو الجمع لا من مجموع الضمير، نحو: زيد وهند خرجا طائفا بها، قال الشاعر يصف حمار وحش واتانا: /

صافا يطوف بها على قلل الصوى ... وشتا كذلق الزج غير مقهد وقوله: وإفرادها بعد إما ممنوع قال المصنف: «ويجب للحال إذا وقعت بعد إما أن تردف بالأخرى معادا معها إما، كقوله تعالى «انا هديناه البيل اما شاكرا وإما كفورا»، وإفرادها بعد إما ممنوع في النثر والنظم» انتهي. وما ذكره من انه يجب أن تردف بالأخر معادا معها «إما» ليس كما ذكر، بل قد ينوب عن إما «أو» فلا يتعين إذ ذاك الإتيان بإما، تقول: ايتنى إما راكبا أو ماشيا، وقد نص على ذلك النحويون، وقال الشاعر: وقد شقني أن لا يزال يروعني ... خيالك إما طارقا أو مغاديا وقوله بعد «لا» نادر تقوله: جئتك لا رغبا ولا راهبا، فتكرر لا، وقد تفرد في الشعر قال: قهرت العدا لا مستعينا بعصبه ... ولكن بأنواع الخدائع والمكر ص: ويضمر عاملها جوازا الحضور معناه أو تقدر ذكره في استفهام أو غيره، ووجوبا أن جربت مثلا، أو بينت ازدياد ثمن أو غيره شيئا فشيئا مقرونة بالفاء أو بثم أو نابت عن خبر، أو وقعت بدلا من اللفظ بالفعل في توبيخ وغيره.

ويجوز حذف الحال ما لم تنب عن غيرها، أو يتوقف المراد على ذكرها، وقد يعمل فيها غير عامل صاحبها، خلافا لما منع. ش: مثال ما حضر معناه قولك للراحل: رشدا مهديا، أي: تذهب، وللقادم: مبرورا مأجورا، أي: رجعت، وللمحدث: صادقا، أي: تقول، هذه مثل المصنف في الشرح. وذكر س هذه المثل، وذكر أيضا قولهم: مصاحبا معانا، أي: اذهب مصاحبا معانا، وتقول: متعرضا لعنن لم يعنه، أي: دنا من هذا الأمور متعرضا، تقول ذلك للرجل واقع أمرا وتعرض له. وذكر س جواز الرفع في هذا، وهو على إضمار مبتدأ، أي: أنت، وذكر أن الرفع في هذه الأشياء في هذه الأشياء هو على أن الذي في نفسك ما أظهرت، وأراد بذلك ترجيح الرفع على النصب، وذلك انك إذا أضمرت المبتدأ، وبقى الخير _ كان هو إياه، فقويت دلالته عليه من كل جهة، بخلاف الفعل، فان الدلالة عليه من جهة الحال فقط لأنه غير ما بقى ولقوه الرفع احتاج ان يستدل على النصب، فقال: «وان شئت نصبت، حدثنا بذلك عن العرب عيسى ويونس وغيرهما» وذكر كثره النصب في: راشدا مهديا، واعتل له بأنه صار بمنزله ما صار بدلا من

اللفظ بالفعل، أي: انه دخله معنى: رشدت راشدا، فصار بمنزله المنصوب على الفعل الذي لا يظهر، وان كان على معنى اذهب. وهذا النوع ليس بموقوف على السماع، بل كل ما فهم معناه يجوز إضمار الفعل فيه، ويجتزأ عن الفعل بما يفهم الحال. وقوله أو تقدم ذكره / في استفهام وغيره مثله المصنف بقوله «راكبا» لمن قال: كيف جئت؟ وبلى مسرعا، لمن قال: لم تنطلق، فالناصب لراكبا جئت في الاستفهام المتقدم، ولمسرعا انطلقت في غير الاستفهام. ومنه قوله تعالى «بن قدرين»، أي: نجمعها قادرين، حذف لدلاله ما تقدم قبله من قوله «أيحسب الإنسان ألن نجمع عظامه»،كذا قدره س. وذهب الفراء ال أن (قادرين) مفعول بـ (يحسب)، دل عليه قوله (أيحسب)، كأنه قيل: يلي فليحسبنا قادرين على أن نسوى بنانه، أي: على أزيد من ذلك. وقيل: معناه: نقدر قادرين، فيكون من باب: قائما علم الله فأوقعه موقع الفعل. ورد بأن الباب لابد فيه من مشاهده الحال، كما في: قائما وقد سار الركب، ولأنه بالواو والنون، ولا ينوب مناب الفعل إلا المفرد لأنه اقرب وأشبه بالمصدر. انتهي من البسيط.

وقوله وجوبا إن جرت مثلا مثاله: حظيين بنات صلفين كنات، أي: عرفتم. وإنما لم يجز إظهار العامل هنا لأنه مثل، والأمثال لا يجوز تغييرها عما وردت عليه، إلا ترى إلى قولهم: الكلاب على البقر، وقولهم: في كل واد بنو سعد، حيث لم يجز في الأول تقديم الخير، ولا في الثاني تقديم المبتدأ. وقوله أو بينت ازدياد ثمن قال المصنف في الشرح: كقولك: بعته بدرهم فصاعدا، تريد: فذهب الثمن صاعدا». وقوله أو غيره مثله المصنف في الشرح بقوله: «وتصدق بدينار فسافلا، تريد: فانحط المتصدق به سافلا» انتهي كلامه. ولم أر أحدا مثل في هذه المسألة بمثل: تصدق بدينار فسافلا، فان لم ينقل عن العرب فهو ممنوع لان حذف الفعل العامل في الحال وجوبا على خلاف الأصل.

وقال س: «أخذته يدرهم فصاعدا، وأخذته بدرهم فزائدا»، وقدر س الناصب: فزاد الثمن صاعدا، أو فذهب صاعدا وهذا الكلام إنما يقال جوابا لمن قال: بكن اشتريت هذا المتاع؟ فأخير إن أدناه مشترى بدرهم، ما وعداه أكثر من درهم، فلذلك قال: فزاد الثمن، أي: ثمن ما عدا الذي هو بدرهم زاد على الدرهم صاعدا، أي: زيادة مبهمة على السائل». وقال ابن خروف: «انتصب صاعدا على الحال، والمعنى انه لما اشتراه زاد ثمنه، فاشترى منه بأكثر من ذلك الثمن، ثم زاد، فاشترى منه بأكثر من ذلك الثمن، فاخبر بأدنى الثمن، وهو درهم، ثم زاد فاشترى منه بأكثر من ذلك الثمن، فاخبر بأدنى الثمن، وهو درهم، ثم زاد عليه، ولم يخبر بأعلى الثمن الذي انتهي إليه، ولا بمقدار الزيادة». وقال الأستاذ أبو على: «هذا الكلام بقوله من اشترى ثوبا مثلا بأثمان مختلفة أدناها درهم، ثم ترقى، والترتيب إنما هو في الأثمان لا في الأخذ فانه لا يعطى هذا انك أخذته بالدرهم ثم أخذته بدرهم، ثم أخذته بثلاثة، بل ممكن أن تكون أخذته أولا بثلاثة، وإنما تريد أن تقول: اقل من أخذت هذا الثوب بدرهم، فذهب الثمن بعد الدرهم صاعدا» انتهي. ولا يجوز الجر في قوله: فصاعد، أو: ثم صاعد. قال س: «حذفوا الفعل لكثره استعمالهم إياه. ولأنهم امنوا أن يكون على الباء لو قلت أخذته بصاعد

كان قبيحا لأنه صفه، ولا تكون في موضع الاسم. يعنى يقوله «قبيحا»: ممتنعا، ويعنى يقوله «لأنه صفه» أي: للثمن لا للدرهم، ومعنى «ولا تكون في موضع الاسم» أي: لا يلي العوامل لكونه صفه، ولما لم يمكن في الخفض لان الصفة لا تلي العوامل، ولأنه كان يكون المعنى انه اشتراه مرتين لمعلوم وبمجهول لان الفاء مرتبه، ولم يمكن الرفع - لم يبق إلا النصب، فقويت الدلالة عليه من جهة المعنى ومن جهة اللفظ. وقال ابن خروف: «وقد يجوز الجر بالفاء وثم على أقامه الصفحة مقام الموصوف» انتهي. وظاهر كلام س منع العطف. وقال بعض أصحابنا: «قال بعض المتأخرين: ما قدره س من إضمار ناصب لا يحتاج إليه، وبدرهم: في موضع الحال، والعامل فيه كائنا، وصاعدا معطوف عليه، والضمير فيه عائد على الثوب مجازا، وهو يريد ثمنه، على حذف المضاف وأقامه المضاف إليه مقامه، وهو كثير في كلامهم، وبهذا ينفصل عمن ألزم أن يظهر الضمير لان حامله جار على غير من هو له، والتقدير: أخذته مشترى بدرهم فصاعدا عليه، أي: في هذه الحال وفي هذه، وإحداهما قبل الأخرى». وهذا الذي قاله هذا المعترض فاسد من جهة اللفظ، كثير التكلف، غير مخلص من جهة المعنى، وذلك انه انتقد على س كونه قد عدل إلى الحذف، ثم عدل هو إلى حذف لا يجوز، وذلك انه قدر العامل في «بدرهم» مشترى، وترك الفعل الظاهر، وهو يكن أن يعمل فيه، وهو تكلف لا يجوز، فانه لم يقل احد من النحويين انك إذا قلت ضربته في الدار أن في الدار يعمل فيه كائن، لأنه تكلف لا يحتاج إليه، ثم اربي على س بالمجاز في ساعدا في إن أعاد الضمير على المثمن، وهو للثمن.

وأما من جهة المعنى فانه قدر المعنى بأنه أخذه في حالين: أحداهما كونه مشترى بدرهم، والأخرى كونه صاعدا ثمنه على الدرهم، وهذا لا يعطى كونه زائدا على الدرهم بأثمان شتى، بل يمكن إلا يزيد عليه إلا ربع درهم مثلا، فلفظه ليس بملخص للدلالة على هذا المعنى الذي قاله س فهما عن العرب، والذي قدره س مخلص للدلالة فانه قدره: فزاد صاعدا، أي: زاد وحاله البسوق بعد لم تقف، ف (س) أسعر بالمسألة من طرفيها اللفظي والمعنوي. وفي البسيط: «وقد قيل: أن صاعدا هنا في موضع المصدر، كأنه قال: فصعد صعودا» قال: «وفاعل من ابنيه المصادر، كالفالج، وكقوله «ليس لوقعتها كاذبة»، كما قال بعضهم في الهنيء: انه كالشهيق والصهيل» انتهي. وقوله مقرونة بالفاء أو بثم هذا شرط في نصب هذه الحال أن تكون مصحوبة بالفاء أو بثم، ولم يبين المصنف أيهما أكثر في لسان / العرب، ونص س على أن الفاء أكثر من ثم، وقال س: «وثم بمنزله الفاء، تقول: ثم صاعدا، إلا أن الفاء أكثر في كلامهم» انتهي. قال بعض أصحابنا: إنما كان ذلك لان في ثم مهله، وليس المعنى عليها.

ونصوا على أن الواو لا تكون هنا، لا يجوز أن تقول: وصاعدا، لا بالنصب ولا بالجر، وامتنع ذلك لان الواو لا تعطى هذا المعنى من جعل الدرهم أدنى الثمن، إذ يحتمل «أخذته بدرهم وصاعدا» أي: وذهب صاعدا قبل أخذيه بالدرهم، أي: أخذته بربع درهم مثلا، ثم ذهب صاعدا إلى الدرهم، وهو إنما أراد أن يجعل الدرهم الأدنى. وعن هذا عبر س بقوله: «ولكنك أخبرت بأدنى الثمن، فجعلته أولا، ثم فروت شيئا بعد شيء الأثمان شتى، فالواو لم يرد فيها هذا المعنى، ولم تلزم الواو الشيئين أن يكون احدهما بعد الأخر». وقوله أو نابت عن خبر مثاله: ضربي زيدا قائما، وقد تقدم الكلام مشبعا على هذه المسألة في باب الابتداء. وقوله أو وقعت بدلا من اللفظ بالفعل في توبيخ مثاله: أقائما وقد قعد الناس. وأقاعدا وقد سار الركب. وكذلك إذا أردت التوبيخ ولم تستفهم تقول: قاعدا قد علم الله وقد سار الركب. وتقول لمن لا يثبت على حال: أتميميا مره وقيسيا أخرى، أي: أتحول، ولمن يلهو وقرناؤه يجدون: ألاهيا وقد جد قرناوك. أي: أتثبت، وقال الشاعر:

أراك جمعت مسألة وحرصا ... وعند الحق زحارا انانا الانان: الأنين، والعامل فيه زحارا، لان زحر قريب المعنى من أن. وقوله وغيره أي غير توبيخ، مثاله: هنيئا مريئا، قال س: «وإنما نصبته لأنه ذكر خيرا أصابه إنسان فقلت هنيئا مريئا، كأنك قلت: ثبت له هنيئا مريئا، أو: هنأه ذلك هنيئا»، فتكون حالا مؤكده، وقد تقدم الكلام على ذلك مشبعا في باب المصدر الواقع مفعولا مطلقا. ومن غير التوبيخ مما عامله في الإنشاء مضمر قول الشاعر: الحق عذابك بالقوم الذين طغوا ... وعائذا بك أن يعلوا فيطعونى أراد: وأعوذ بك عائذا، حذف الفعل وأقام الحال مقامه. وقول النابعة: أتاركه تدللها قطام ... وضنا بالتحية والسلام وتقدم مذهب المبرد في: عائذا بك، وأقاعدا وقد سار الركب، ونحوهما، أنها مصادر جاءت على وزن فاعل. فرع: إذا كان العامل معنويا - أي فيه معنى الفعل- كالظرف والمجرور واسم الإشارة ونحوه، فلا يجوز حذفه عاملا في الحال لضعفه في نفسه، فهم ذلك أو لم يفهم، لأنه إنما عمل بالنيابة عن الفعل لفظا أو معنى، والفرع لا يقوى قوه الأصل، ولأنه مجتمع فيه تجوزان، فيبعد المفهوم، احدهما تنزل العامل منزله الفعل، والثاني حذفه، فلا يجوز: الدار زيد قائما، تريد فيها قائما.

وأجاز المبرد ذلك في الظرف، لأنه حمل: ..................... ......................... وإذ ما مثلهم بشر على إن مثلهم منصوب على الحال، وان التقدير: وإذ ما في الدنيا بشر مثلهم. وأباه الأكثرون، كما لا تتقدم الحال عليه لضعفه، إلا في نحو: ضربي زيدا قائما، وهي الحال إلى تنزلت الخبر عن المصدر، فهنا حذف المعنوي ونابت الحال عنه. وقوله يجوز حذف الحال ما لم تنب عن غيرها يعنى الحال إلى ما سدت مسد الخير، وما لم تقع بدلا من اللفظ بالفعل، وتقدم ذكرهما. وقوله أو يتوقف المراد على ذكرها مثاله «وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما لعين»، و «لا تقربوا الصلاة وانتم سكارى»، «ولا تمش في الأرض مرحا»، «وما أرسلناك إلا مبشرا ونذيرا»، «وإذا بطشتم بطشتم جبارين»، «وهذا بعلى شيخا»، و «هي رسول الله صلى الله عليه وسلم -عن بيع الحيوان اثنين بواحد»، أي: متفاضلا (9 (، وقال الشاعر (10):

[متى تبعثوها تبعثوها ذميمة ... وتضر إذا ضريتموها فتضرم وقول الأخر: فجزيت خير جزاء ناقة واحد ... ورجعت سالمة القرا بسلام وقول الآخر: عدوك من يرضيك مبطن إحنة ... ومبدي دليل البغض مثل صديق وقول الآخر: إنما الميت من يعيش كئيبا ... كاسفاً باله قليل الرخاء وكذلك الحال التي لا يفهم المراد إلا بثبوتها المجاب بها استفهام، نحو: جئت راكباً، لمن قال: كيف جئت؟ ولا ينكر كون الحال يعرض لها ما لا يجيز حذفها، فتصير إذ ذاك كالعمد وإن كان أصلها فضلة، كما عرض ذلك للمجرور وللصفة في قوله تعالى (ولم يكن له كفواً أحد)، وفي قولك: ما في الدنيا رجل يبغضك، ولو حذفت (له) و ((يبغضك)) انتفت الفائدة. وقوله وقد يعمل فيها غير عامل صاحبها، خلافاً لمن منع قال المصنف في الشرح ما ملخصه: ((الأكثر أن العامل في الحال العامل في صاحبها؛ لأنهما كالصفة والموصوف، ولكنهما أيضاً كالمميز والمميز، والخبر والمخبر عنه، والعامل ]

في هذين يكون واحدا وغير واحد، فكذلك الحال، فالواحد: طاب زيد نفسا، وان زيدا قائم، وجاء زيد راكبا. والمختلف: لي عشرون درهما، وزيد منطلق، على مذهب س، «إن هذه أمتكم أمه واحده»، فالعامل في «أمتكم» أن، وفي الحال اسم الإشارة». قال: «وتقدم من كلام س ما يدل على أن صاحب الحال في: لعزه موحشا طلل ................................................. هو المبتدأ لا الضمير المستكن في الخبر. ومن ورود الحال والعامل / فيها غير العامل في صاحبها قوله: ها بينا ذا صريح النصح، فأصغ له ... وطع، فطاعة مهد نصحه رشد» انتهي، يعنى أن قوله «غير عامل صاحبها» انه عامل في الحال النصب، ولا يكون عاملا في صاحبها، كاسم الإشارة في قوله «إن هذه آمتكم» هو أن، وليست عامله في (أمه واحده)، وكذلك انتصاب «بينا» بما في «ها» من معنى التنبيه، وليس عاملا في ذي الحال. ويظهر من كلام س أن اسم الإشارة يعمل في الحال في نحو: هذا زيد منطلقا، وانك إذا أدخلت عليه أن، كان الخبر معمولا لان، وكانت الحال معمولة لاسم الإشارة، فقد عمل في الحال غير العامل في صاحبها.

وممن ذهب إلى أن العامل في الحال قد يكون اسم الإشارة كما ذهب إليه المصنف ابن عصفور. وتقدم أن مذهب السهيلى أن الحروف سوى الكاف وكان لا تعمل في الأحوال ولا اسم الإشارة. ومذهب ابن أبى العافية ان حرف التنبيه لا يعمل في الحال. ومذهب الكوفيين في ان قولك هذا زيد منطلقا لم ينتصب منطلقا على الحال، وانه خبر التقريب. والذي تختاره مذهب الأكثرين، وهو أن العامل في ذي. وأقول أن حرف التنبيه واسم الإشارة لا يعملان في الحال. ويكون العامل في منطلقا من نحو هذا زيد منطلقا محذوفا تدل عليه الجملة السابقة، وتقديره: انظر إليه منطلقا وفي كتاب س وما يدل على ذلك، وينبغي أن يرد إليه ما ظاهره خلاف هذا، وذلك أن الحال قيد للمحكوم عليه من فاعل أن مفعول حاله وقوع الفعل منه أو به أو حاله نسبه الحك على المبتدأ بالخبر أن كان جامدا، فلو جعلنا حرف التنبيه عاملا في الحال كنا قد أعملنا شيئا لم يثبت له قط عمل لا في اسم الإشارة ولا في زيد ولا في غيرهما، وزيد الخبر عن اسم الإشارة منصف بالانطلاق وملتبس به، سواء انتهيت أنت لانطلاقه أم لم تنتبه، ولو جعلنا اسم الإشارة عاملا في الحال كنا قد حكمنا على اسم الإشارة بأنه زيد في حاله الانطلاق، والمشار إليه بأنه زيد ثابتة له الزيدية سواء أكان المشار إليه منطلقا أم غير منطلق، وقد سوى س في كتابه بين قولك: هذا زيد منطلقا، وهو زيد معروفا، فكما لا يدعى ان «هو» عامل في الحال فكذلك لا يدعى أن اسم الإشارة عامل في

الحال، وقد قال س: «كأنه قال أثبته أو ألزمه معروفا» وقال في هذا زيد منطلقا: «فكأنك قلت: انظر إليه منطلقا». وإذا تقرر هذا فلا يجوز: ها منطلقا ذا زايد، ولا: هذا منطلقا زيد. فان ورد شيء من هذا في كلامهم اضمر له ناصب، ولا يكون انتصابه على الحال العامل فيها حرف التنبيه ولا اسم الإشارة. وفي البسيط: «لا تعمل (ها) التنبيه لوجهين: احدهما: أنها زيادة لا عمده، وإنما دخلت لإبهام الإشارة، إلا تراها لا تدخل على /خاص، فلا تقول: ها زيد، وما لا يكون عمده في الكلام فلا يكون العامل. والثاني: أنها قد تحذف والعمل موجود، فتقول: من ذا قائما بالباب؟ وذلك الرجل ذاهباً». * ... * * *

-[ص: [فصل] يؤكد بالحال ما نصبها من فعل أو اسم يشبهه، وتخالفها لفظا أكثر من توافقهما. ويؤكد بها أيضا في بيان يقين أو فخر أو تعظيم أو تصاغر أو تحقير أو وعيد خير جمله جزاها معرفتان جامدان جمودا محضا. وعاملها أحق أو نحوه مضمرا بعدهما، لا الخبر مؤولا بمسمى، خلافا للزجاج، ولا المبتدأ مضمنا تنبيها، خلافا لابن خروف.]- ش: الحال أما أن تدل على معنى لا يفهم مما قبلها، وهي المبينة، أو تدل على معنى يفهم مما قبلها، وهي المؤكدة. وفي المؤكدة خلاف: ذهب الجمهور إلى إثباتها، وذهب الفراء والمبرد والسهيلى إلى إنكارها، قال الفراء: «الحال لا تكون إلا مبينة، ولا يدل عليها من قبلها ولا تخلو من تجدد فائدة عند ذكرها، كقولهم: عبد الله عندك قائما، ومحمد خلقك جالسا، لأنه ليس في عندك وخلقك دليل على جلوس ولا قيام». قال: «والمنصوب على القطع هو الذي يدل ما قبله عليه، ولا يفيد سواه، كقيلهم: عبد الله على الفرس راكبا، وسعد في الحمام عريانا، لا يغلف على «في الحمام» إلا الدلالة على العرى، وكذلك «على الفرس» لا يفيد غير الركوب، فانتصاب هذا وما يشبهه على القطع، وهو توكيد لما قبله، يجرى مجرى «سرت به سيرا» في أنهم ذكروا سيرا ليؤكدوا به سرت»

وزعم أيضاً أن القطع في موضعين آخرين يرجعان إلى معنى هذا , فقال: «إذا قال القائل: قام زيد الظريف , وبناؤه على أن زيداً لا يعرف إلا بالظريف - ففي الظريف مكنى من زيد , لأنه مشبه بالصالة مع الموصول. فان كان زيد يعرف دون الظريف فلا ضمير في الظريف من زيد , وهو مكرر عليه , لأنه كان تقديره: قام زيد قام الظريف , كما يقول القائل: نظرت إلى شيء بغل أو حمار , كأنه انصرف عن الشيء إلي البغل والحمار» , يعنى أنه أتى بعد الأول بأخر هو أكشف لمعناه وأبلغ لمقصده , والأول قد حصل معناه ولم ينعت. قال: «فإذا كان زيد لا يعرف إلا بالظريف , ثم سقطت الألف واللام منه , قيل: قام زيد ظريفاً , فينصب على القطع من زيد , لأن زيداً يدل عليه في حال نصبه , كما دل الظريف وهو مرفوع عليه , فهو بإزاء: عبد الله على الفرس راكباً. وإذا كان زيد يعرف دون الظريف , وسقطت منه أل , فهو نصب على الحال , لأنه لا دلاله عليه في زيد , فهو بإزاء: عبد الله في الدار قائماً , حين لم يكن في (عندك) ما يدل على قيام ولا جلوس». وقال أيضاً: «إذا قيل زيد قائم حقاً فحقاً مقطوع من الكلام كله , لأنه ليس زيد مختصاً بالحق دون قائم كما اختص زيد بالركوب , فلما وصف الكلام كله بالحق لم يصلح حمله على إعراب زيد , إذا لم يكن له دون قائم , فلزمه الضعف حين رايله أن يكون / وصفاً للمحدث عنه القوى , فنصبه قائم وزيد جميعاً». وقد رد مذهب الفراء من أن الحال لا تأتى مؤكده بقوله تعالى} ثم توليتم إلا قليلاً منكم وأنتم معرضون {, وبقول الشاعر:

طعناً زياداً في إسته وهو مدبر ... وثوراً أبادته السيوف القواطع فهاتان جملتان في موضع الحال بدليل دخول واو الحال عليهما , وهما مؤكدتان للكلام الذي قبلهما , فوجب أن يجعل عرياناً من قولك زيد في الحمام عرياناً حالاً , وكذلك أمثاله من المنتصب على الحال , لأن الحال قد ثبت أنها تكون مؤكده , ولم يثبت النصب على القطع. وأما «زيد قائم حقاً» وأمثاله فحق مصدر منصوب بفعل مضمر أتى به لتوكيد الكلام الذي قبله. وقد يمكن أن يدعى في قوله} وأنتم معرضون {أنها حال مبينه , لأن التولي قد يكون عن أعراض وعن غير أعراض , ولو فرضنا أن التولي واٌلإعراض مترادفان أمكن أن يختلفا باختلاف متعلقيهما , وقد قال ذلك المفسرون , قال. وأما «وهو مدبر» فيمكن أن يكون حالاً مبينه , لأن الطعن في الاست لا يدل على أن المطعون مدبر عن القتال , لأنه يمكن أن يجيئه الطعن ورائه في استه وهو مقبل على القتال وعلى أقرانه , فجاء قوله «وهو مدبر» حالاً مبينه أنه كع عن القتال , وولى دبره.

وقال السهيلي: «الحال التي يسمونها مؤكده للفعل , وزعموا أن منها قوله تعالى} وأرسلنك للناس رسولاً {,} وهو الحق مصدقاً {, إنما تظن منهم , ولا وجود للحال المؤكدة في كلام فصيح ولا تقول: ضربت زيداً مضرباً , ولا: تكلم عمرو متكلماً , لأن الفعل إنما يؤكد بفعل مثله أو بالمصدر الذي هو أصله , وهو مضمن في لفظه , وأما الحال فصفه للفاعل أو المفعول , فكيف يؤكد الفعل بما هو صفه لغير؟ وأيضاً فان في الحال ضميراً فاعلاً , فحكه حكم جمله من فعل وفاعل ,والشيء الواحد لا يؤكد بجمله ولا بما فيه زيادة على معنى الفعل , بل في الفعل زيادة على معنى المصدر , وهو المضي والاستقبال. فأما} هو الحق مصدقاً {فمعناه ناطقاً بالتصديق لما بين يديه , فناطقاً حال كسائر الأحوال , والعامل فيه ما في الحق من معنى الفعل , لأنه صفه مشتقه من حق يحق , أي: ثب , وقد يكون الشيء حقاً ولا يكون مصدقاً لغيره ولا مكذباً , والقران حق , وهو مع ذلك ناطق بتصديق ما سبق من الكتب المنزلة , فصح النصب في مصدق كما صح في ناطق. وأما} وأرسلنك للناس رسولاً {فلم يقل: وأرسلناك مرسلاً , فيكون لهم حجه , ألا تراه كيف قال} وكلم الله موسى تكليماً {, ولم يقل مكلماً ,} ونزلنه تنزيلاً {, ولم يقل منزلاً , فهذا كله يدل على أن الفعل لا يؤكد بالحال , فلا تقول: أرسل الله محمداً / مرسلاً , وتقول: أرسله للناس رسولاً , لأن الشيء المرسل قد لا يكون رسولاً , قال تعالى} أرسلنا عليهم الريح العقيم {, فالريح مرسلة

وليست برسول , وكذلك} أرسلنا عليهم حاصباً {,} فأرسلنا عليهم رجزاً {, فبين - تعالى - أنه - عليه السلام - ليس بعذاب أرسله , بل أرسله رحمه مبلغاً لرسالته , وحقيقة الرسول من جاءتك الرسالة والهداية على يديه أو على لسانه , كما قال} على لسان داود وعيسى ابن مريم {, ومن هنا صار الرسول كالجامد , ولم يكن مثل ضروب وقتول فيعمل عمل الفعل ,بل هو من باب الصبوب والحدور والهبوط وما يجري عليه الفعل , أو هو طريق له , ومن ثم قال س. (أريد أنت رسول إليه , لا يجوز أزيداً وان كان ضميره مجروراً لأنه مجرور لا يتعلق بفعل لفظي) , ولو قلت: أزيد أنت مرسل إليه لنصبت زيداً لأنه بمنزله من يقول: أأنت أرسلت إليه , وبمنزله: أزيداً مررت به؟ وإذا لاح الفرق بين رسول ومرسل بطل ما تعلقوا به من إثبات الحال المؤكدة , وإنما هي أحوال وقع الفعل فيها , ولم يؤكد بها , وكذلك جميع ما تخيلوا أنه حال مؤكده للفعل , إذا فحصت عنه لم تجده إلا كسائر الأحوال» انتهى. وأما دليل الجمهور فيأتي في الكلام على ما ذكره المصنف. وقوله وتخالفهما لفظاً أكثر من توافقهما مثال تخالفهما} قم وليتم مدبرين {,} ولا تعثوا في الأرض مفسدين {,} ويوم يبعث حياً} ,

{لا من من في الأرض كلهم جميعا} ,} فتبسم ضاحكاً من قولها {وقال لبيد: وتضئ في وجه الظلام منيرة ... كجمانه البحري سل نظامها وقال أيضاً: فعلوت مرتقياً على ذي هبوة ... حرج إلى أعلامهن قتامها وقال أخر: فإني الليث مرهوباً حماه ... وعيدي زاجر دون افتراسي فمرهوباً حال مؤكده للخبر , وهو العامل فيها بما تضمن من معنى التشبيه. ومن ذلك ما مثل به س من قولهم: «هو رجل صدق معلوماً ذلك» , أى: معلوماً صلاحه , ورجل صدق بمعنى صالح , فأجرى مجراه إذا قيل: هو صالح معلوماً صلاحه. ومن هذا القبيل قول أميه بن أبى الصلت: سلامك - ربنا - في كل وقت ... بريئا ما تغنثك الذموم

معنى ما تغنثك: ما تلزق بك , وبريئاً حال مؤكده لسلامك , ومعناه: البراءة مما لا يليق بجلاله , وهو العامل في الحال لأنه من المصادر المجعولة بدلاً من اللفظ بالفعل. ومثال توافقهما لفظاً} وأرسلناك للناس رسولاً {,} وسخر لكم الليل والنهار والشمس / والقمر والنجوم مسخرات بأمره {, ومنه قول امرأة من العرب: قم قائماً , قم قائماً ... صادفت عبداً نائماً وقول الشاعر: أصخ مصيخاً لمن أبدى نصيحته ... والزم توقى خلط الجد باللعب انتهى ما ذكره المصنف في الشرح من الحال المؤكدة ما نصبها من فعل أو شبهه. وذكر غيره أن الحال المؤكدة لا تكون إلا غير منتقلة , نحو قوله تعالى} وهو الحق مصدقاً {, يعنى القران , قال: ألا ترى أن قوله} مصدقاً {حال مؤكده من

جهة أنه قد علم أن الحق إذا توارد مع حق أخر على الأخبار بأمر فلابد أن يكون أحدهما مصدقا للأخر لا محالة , وقوله} وأن هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه {, فتصديق القران واستقامة الصراط حالان مؤكدان , إذ هما معلومان من الكلام الذي قبلهما , وهما وصفان لازمان. ومثل ذلك قول الشاعر: ولا عيب فيها غير شكله عينها ... كذاك عتاق الطير شكلاً عيونا ألا ترى أن شكله العين لازمه لها , وأن قوله «شكلاً عيونها» مؤكد للكلام , لأنه معلوم من قوله «كذاك عتاق الطير» أن عتاق الطير شكل العيون. وزعم المصنف في الشرح أن من قبيل ما اختلف لفظهما قولك: هو أبوك عطوفاً , وهو الحق بيناً , قال: «لأن الأب والحق صالحان للعمل , فلا حاجه إلي تكلف إضمار عامل بعدهما». ومثالهما في بيان يقين: هو زيد معلوماً , وقال: أنا ابن داره معروفاً بها نسبى ... وهل بداره - يا للناس - من عار كأنه قال: لا شك فيه. وفى فخر: أنا فلان شجاعاً , أو كريماً. وفى تعظيم: هو فلان جليلاً مهيباً. وفى تصاغر: أنا عبدك فقيراً إلى عفوك. وفى تحقير: هو فلان مأخوذاً مقهوراً. وفى وعيد: أنا فلان متمكناً منك فاتق غضبى , وقال الراجز:

أنا أبو المرقال عقا فظاً ... لمن أعادى مسراً دلظا قال المصنف في الشرح: «ولا تكون هذه الحال لهذه المعاني إلا بلفظ دال على معنى ملازم أو شبيه بالملازم. وأشرت بقولي (أو شبيه بالملازم في تقدم العلم به) إلي قول س: (وذلك أن رجلاً من إخوانك ومعرفتك (لو) أراد أن يخبرك عن نفسه أو غيره بأمر , فقال: أنا عبد الله منطلقاً , أو: هو زيد منطلقاً - كان محالاً , لأنه إنما أراد أن يخبرك بالانطلاق , فلم يقل هو ولا أنا حتى استغنيت أنت عن التسمية , لأن هو وأنا علامتان للمضمر , وإنما يضمر إذا علم أنك قد عرفت من يعنى). ثم قال: «إلا إن رجلاً لو كان خلف / حائط أو في موضع تجهله فيه , فقلت: من أنت؟ فقال: أنا عبد الله منطلقاً في حاجتك , كان حسناً). قال المصنف في الشرح: «الانطلاق في الأول مجهول , فالإعلام به مقصود غير مستغنى عنه , فحقه أن يرفع بمقتضى الخبرية , والاسم الذي قبله معلوم مستغنى عن ذكره , فحقه ألا يجعل خبراً , وإذا جعل خبراً ما حقه ألا يكون خبراً, وجعل فضله ما حقه أن يكون عمده - لزم كون الناطق بذلك محيلاً , وكون المنطوق به محالاً عما هو به أولى , فهذا معنى قول س (كان محالاً) , وإنما استحسن قول من قال أنا عبد الله منطلقاً في حاجتك لأن السائل كان عهده منطلقاً في حاجته من قبل أن يقول له: من أنت؟ فصار ما عهده بمنزله شيء ثبت له في نفسه كشجاع وكريم , فأجراه مجراه» انتهى.

وقوله خبر جمله يعنى أن الخبر إذا اسند إلى المبتدأ كان مشعراً بشيء من هذه الأحوال ودليلاً على معانيها , وأنه إنما قصد بذلك الخبر ونسبته إلي المبتدأ تيقن تلك الصفات في المبتدأ , فجاءت هذه الأحوال بعد الخبر تأكيداً له لما تضمنه من الدلالة على تلك الأوصاف. وقوله جزاها معرفتان لأن هذه الأحوال إنما تأتى تأكيدات لشيء قد استقر وعرف. قال في البسيط: «لأن التأكيد يكون للمعارف , وهى تؤكد الخبر , فيلزم كون الخبر معرفه , فيلزم أيضاً كون المبتدأ معرفه , ولأنها حال , والحال لا تكون إلا من معرفه. وقد يجوز أن يكون الخبر نكره تغليباً لطرف الحال. والمبتدأ يكون ضميراً , كقولك: هو زيدُ معروفاً , وهو الحق بينا , وأنا الأمير مفتخراً , ويكون ظاهراً , كقولك: زيد أبوك عطوفاً , وأخوك زيد معروفاً , والأول أقوى لشبهه بالمبهمات». وقوله جامدان جموداً محضاً احتراز من أن يكون شيء منهما ليس بجامد , فانه إذ ذاك تكون الحال غير مؤكده , إذ تكون معمولة لما يكون مشتقاً منهما أو في حكم المشتق. وقوله وعاملها أحق أو نحوه مضمراً بعدهما فإذا كان المخبر عنه غير «أنا» قدر العامل أحقه أو أعرفه , وان كان «أنا» قدر أحق أو أعرف أو أعرفني , وقد قدر س في قولك هو زيد معروفاً العامل في معروفاً «أثبته أو ألزمه معروفاً» , فجعل العامل في الحال غير المبتدأ وغير الخبر. وإنما كان يقدر بعدهما العامل في الحال لأن الدال عليه هو الجملة السابقة , فصار نظير: زيد قائم غير شك , فكما لا يجوز أن يقدر العامل في «غير شك» إلا بعد تمام الجملة كذلك لا يجوز ذلك هنا.

وقوله لا الخبر مؤولا بمسمى , خلافاً للزجاج وإنما رجح إضمار العامل في هذه الأحوال لأن ما قبلها لا يصلح أن يعمل في الحال , لأن الاسم / العلم لا يصلح أن يعمل في الحال , لأن لها شبهاً بالمفعول به , فهي أقوى من الظرف وان كان لها به شبه , فلم يقو الاسم الجامد الجمود المحض أن يعمل فيها. وقوله ولا المبتدأ مضمناً تنبيهاً المضمر بما هو مضمر لا يمكن أن يعمل في شيء البتة , حتى منع البصريون من أن يعمل في الجار والمجرور وان كان كنايه عما لو صرح به لجاز له العمل , فلا يمكن أن يضمن معنى التنبيه , وإنما ضمن معنى التنبيه الحروف لا الأسماء.

-[ص: فصل تقع الحال جمله خبريه غير مفتتحه بدليل استقبال مضمنه ضمير صاحبها. ويغنى عنه في غير مؤكده ولا مصدره بمضارع مثبت عار من «قد» أو منفى ب «لا» أو «ما» أو بماضي اللفظ تال لـ «إلا» أو متلو بـ «أو» واو تسمى واو الحال وواو الابتداء , وقد تجامع الضمير في العارية من التصدير المذكور.]- ش: احترز بقوله الخبرية من الجملة الطلبيه , فان وقع ما يوهم ذلك تؤول , نحو قول أبى الدرداء «وجدت الناس اخبر تقله» , وتأويله أنه معمول لحال محذوفة , أي: مقولاً فيهم عند رؤيتهم: اخبر تقله , وقول الشماخ بصف حمراً: فظلت بتموز كأن عيونها ... إلى الشمس هل تدنو ركي نواكز ركي: جمع ركية , على حد تمر وتمره , ونواكز: غائض ماؤها , التقدير: ناظره هل تدنو. وفى البسيط: «جوز الفراء وقوع الأمر ونحوه حالاً , تقول: تركت عبد الله قم إلية , وتركت عبد الله غفر الله له , على تقدير الحال». ويدخل تحت قوله خبريه جمله الشرط. وفى البسيط: «تقع جمله الشرط حالاً , نحو: افعل هذا ان جاء زيد , فقيل: تلزم الواو. وقيل بغير لزومها , وهو قول ابن جني».

واحترز بقوله غير مفتتحه بدليل استقبال من الجملة المفتتحة بحرف تنفيس كالسين وسوف , أو بلن , لا يجوز: أمر بزيد سيقوم , ولا: لن يقوم , فتكون حالأ. وترك المصنف قيداً آخر , وهو ألا تكون الجملة تعجبيه , فلا يجوز: مررت بزيد ما أحسنه! على الحال. وهذا القيد إنما هو على مذهب من يرى أن جمله التعجب خبريه. والجملة الواقعة حالاً تقع ابتدائية , نحو} قال اهبطوا بعضكم لبعض عدو {, أو مصدره بان} وما أرسلا قبلك من المرسلي ألا أنهم ليأكلون {, أو بكأن} نبذ فريق من الذين أوتوا الكتاب كتاب الله وراء ظهورهم كأنهم لا يعلمون {, وقال زهير: يلحن , كأنهم يدا فتاه ... ترجع في معاصمها الوشوم وقال ربيعه بن مقروم: فدارت رحانا بفرسانهم ... فعادوا كأن لم يكونوا رميما / وقال امرؤ القيس: فظللت في دمن الديار كأنني ... نشوان باكرة صبوح مدام أو بـ «لا» التبرئة , نحو} والله يحكم لا معقب لحكمه {, وقال بعض طيء:

مَنْ جاد لا من يقفو جوده حمداً ... وذو ندى من مذموم وإن مجداً أو بـ «ما» قال عنترة: فرأيتنا ما بيننا من حاجز ... إلا المحن وحد أبيض مقصل أو بمضارع مثبت عار من قد} ويمدهم في طغيانهم يعمهون {, أو مقرون ب «قد»} لم تؤذونني وقد تعلمون أنى رسول الله إليكم {, أو منفى ب «لا»} ومالنا لا نؤمن بالله {, أو منفى ب «ما» , نحو قوله: عهدتك ما تصبو , وفيك شبيبة فما لك الشيب صبا متيما وقوله: ظللت ردائي فوق رأسي قاعداً ... أعد الحصى , ما تنقضي عبراتي أو بـ «لم» نحو} فانقلبوا بنعمه من الله وفضل لم يمسسهم سوء {,} ورد الله الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيراً {, وقال زهير: كأن فتات العهن في كل منزل ... نزلن به حب الفنا لم يحطم

أو بماض تال لـ «إلا»} ما يأتيهم من رسول إلا كانوا به يستهزؤون {, أو متلو ب «أو» , نحو قوله: كن للخليل نصيراً جار أو عدلا ... ولا تشح عليه جاد أو بخلا قال س: «وتقول: لأضربنه ذهب أو مكث». «أو» خاصة تحذف معها أداه الشرط دون أدوات العطف , ولابد أن يكون الفعل ماضياً , لأن الجواب لا يحذف إلا بشرط مضى الفعل. ولا يجوز أن تقع ثم أم. ولا يجوز: لأضربنه أذهب أو مكث , ولا: لأضربنه يذهب أو يمكث , ولا: سواء على ذهب أو مكث. وقال أبو على في مسألة «لأضربنه ذهب أو مكث»: يجوز ظهور حرف الشرط لعدم البدل منه. أو مخالف لذينك , نحو} أو جاءوكم حصرت صدورهم {. انتهى ما لخصته من كلام المصنف فى الشرح في حصر موارد الجملة الحالية. وقوله في غير مؤكده يعنى أن /77 ب الواو لا تغنى عن الضمير إذا كانت الجملة الحالية مؤكده , نحو قولك: أبو بكر الخليفة قد علمه الناس , وقال امرؤ القيس: خالي ابن كبشه قد علمت مكانه ... وأبو يزيد , ورهطه أعمامي

وهو زيد لا شك فيه , فلا يجوز هنا دخول الواو والاستغناء بها عن الضمير العائد من جمله الحال على ذي الحال ولا دخولها مع الضمير. وقوله ولا مصدره بمضارع مثبت عار من قد يعنى أنه لا تغنى الواو عن الضمير فيما صدر بما ذكر , لا يجوز: جاء زيد ويضحك عمرو. وقوله /أو منفى ب «بلا» لا يجوز: جاء زيد ولا يضحك عمرو , فتغنى الواو عن الضمير. وقوله أو ب «ما» لا يجوز: جاء زيد وما يضحك عمرو. وقوله أو بماضي اللفظ تال لـ «إلا» لا يجوز: ما جاء زيد إلا وضحك عمرو. وقوله أو متلو ب «أو» لا يجوز: اضرب زيداً وذهب عمرو أو مكث. وقوله واو تسمى واو الحال وواو الابتداء ارتفاع «واو» على أنه فاعل بقوله «وتغنى عنه» , أى: وتغنى عن الضمير العائد من جمله الحال على ذي الحال في غير كذا واو. ومعنى قوله تسمى واو الحال أنه لما دخلت على الجملة الواقعة حالاً سميت باسم ما صحبته. وسميت واو الابتداء باعتبار أنه قد تجئ بعدها الجملة الابتدائية. وواو الحال أعم من واو الابتداء , لأنها إذا خلت على الجملة غير الابتدائية تكون واو الحال , ولا تكون واو الابتداء إلا بمجاز بعيد , وقدرها س ب «إذ». وإنما وقعت الجملة في مثل «جاء زيد والشمس طالعه» حالاً , وليست هيئه لزيد , على تقدير: جاء زيد موافقاً طلوع الشمس.

وواو الحال هذه ليست عاطفة , ولا أصلها العطف , خلافاً لمن زعم من المتأخرين أنها عاطفة كواو رب , قال: ويدل على ذلك أن (أو) لا يصح دخولها عليها , قال تعالى} أو هم قائلون {, فلو قلت: أو وهم قائلون لم يجز , فلو كانت خلاف العاطفة لم يمتنع ذلك فيها بحال , فهي , كواو رب , لا يجوز دخول حرف العطف عليها. وقوله وقد تجامع الضمير في العارية من التصدير المذكور العاري من التصدير المذكور من الجمل الحالية المشتملة على ضمير هو الجملة الابتدائية , والمصدرة ب «إن» , وب «كأن» , وب «لا» للتبرئة , وب «ليس» , والماضي وغير التالي ل «إلا» , والمتلو ب «أو» , فمثال الجملة الابتدائية} ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف {, ومثال إن قول الشاعر: ما أعطياني , ولا سألتهما ... إلا واني لحاجزي كرمى ومثال كأن: جاء زيد وكأنه أسد. ومثال «لا» للتبرئة قوله: نصبت له وجهي , ولا كن دونه ... ولا ستر إلا الأتحمي المرعبل

ومثال ليس {ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون ولستم بأخذيه}. ومثال الماضي غير التالي إلا والمتلو ب «أو» قوله تعالى} كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتاً فأحياكم {. -[ص: واجتماعهما في الاسمية والمصدرة ب «ليس» أكثر من انفراد الضمير. وقد تخلو منهما الاسمية عند ظهور الملابسة , وقد تصحب الواو المضارع المثبت عارياً من «قد» , والمنفى ب «لا» , فيجعل على الأصح خبر مبتدأ مقدر. وثبوت «قد» قبل الماضي غير التالي ل «إلا» والمتلو ب «أو» أكثر من تركها إن وجد الضمير , وانفراد الواو حينئذ أقل من انفراد «قد» , وان عدم الضمير لزمتا.]- ش: واجتماعهما أي: اجتماع الواو والضمير , ومثال ذلك /} وتنسون أنفسكم وأنتم تتلون الكتب {,} ولا تباشروهن وانتم عاكفون في المساجد {,} خرجوا من ديارهم وهم ألوف {,} لم تكفرون بآيات الله وانتم تشهدون {,} لم تكفرون بآيات الله والله شهيد على ما تعملون {,} ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون {, (لا يزنى الزاني حين يزنى وهو مؤمن) , وقال الشاعر:

أيقتلني والمشرفي مضاجعي ... ومسنونة زرق كأنياب أغوال وقال: ليالي يدعوني الهوى , فأجيبه ... وأعين من أهوى إلي روان وأنشد المصنف قول امرئ القيس: نظرت إليها , والنجوم كأنها ... مصابيح رهبان , تشب لقفال فيما اجتمع فيه الواو والضمير , وذلك وهم , لأنه ليس في الجملة الحالية ضمير عائد على الفاعل في نظرت , ولا على المجرور في إليها , بل هذا البيت مما استغنى فيه بالواو عن الضمير. ومثال اجتماعهما في المصدرة ب «ليس» قوله تعالى} ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون ولستم بآخذيه {, وقول الشاعر: أعن سيء تنهى , ولست بمنته ... وتوصى بخير , أنت عنه بمعزل وقول الأخر: وقد علمت سلمى , وان كان بعلها ... بأن الفتى يهذى , وليس بفعال وقوله:

صرفت الهوى عنهن من خشيه الردى ... ولست بمقلي الخلا ولا قال وقد تنفرد الواو في الجملة الاسمية وفى المصدرة ب «ليس» , مثال ذلك فى الجملة الابتدائية قوله تعالى} وطائفة قد أهمتهم أنفسهم {,} ونحن عصبه {,} وان فريقاً من المؤمنين لكارهو {,) كنت نبياً وادم بين الماء والطين) , وقال امرؤ القيس: وقد أغتدي , والطير في وكناتها ... بمنجرد قيد الأوابد هيكل

وقال: بعثت إليها , والنجوم طوالع ... حذارا عليها أن تقوم فتسمعا وقال: له الويل أن أمسى ولا أم هاشم ... قريب , ولا البسباسة بنة يشكرا وقال: إذا ركبوا الخيل , واستلاموا ... تحرقت الأرض , واليوم قر /وقال طرفه: أرق العين خيال لم يقر ... طاف , والركب بصحراء يسر وقال عنترة: يدعون: عنتر , والرماح كأنها ... أشطان بئر في لبان الأدهم ولا يقدر ضمير محذوف من هذه الجمل الواقعة أحوالا. وذهب ابن جني في «سر الصناعة» إلى أنه لابد من تقدير الضمير الرابط مع الواو , فإذا قلت جاء زيد والشمس طالعه فتقديره: والشمس طالعه وقت مجيئه , ثم حذف الضمير , ودلت الواو على ذلك. ومثال انفراد الواو في المصدرة ب «ليس» قول الشاعر:

دهم الشتاء , ولست أملك عده ... والصبر في السبرات غير مطيع وقول الآخر: تسلت عمايات الرجال عن الصبا ... وليس صباي عن هواها بمنسل وقوله أكثر من انفراد الضمير يعنى في الجملة الاسمية وفى المصدرة ب «ليس» , أما في المصدرة ب «ليس» فنحو قول جرير: إذا جرى فى كفه الرشاء ... خلى القليب ليس فيه ماء وقد ينوب الظاهر مناب الضمير في ليس , قال جرير: قتلت أباك بنو فقيم عنوه ... إذا جر , ليس على أبيك أزار كأنه قال: ليس عليه إزار. وأما انفراد الجملة الاسمية بالضمير ففي ذلك ثلاث مذاهب: أحدها: مذهب الفراء , وتبعه الزمخشري في أحد قوليه إلى أن ذلك نادر شاذ , ولذلك زعم الزمخشرى في قول العرب «كلمته فوه إلى في» أنه نادر. الثاني: مذهب الأخفش , وهو أن الجملة إذا كان خبر المبتدأ فيها اسماً مشتقاً متقدماً فلا يجوز دخول الواو عليه , فلا يجوز عنده: جاء زيد وحسن

وجهه , تريد: ووجهه حسن , لأنك لو أزلت الواو لا نتصب حسن , فكنت تقول: مررت بزيد حسناً وجهه. وهذا الذي قاله الأخفش ليس بلازم , لأنك إما أن تقدر الحال اسماً مفرداً , فتنصب كما ذكر , أو جمله ابتدائية تقدم خبرها على المبتدأ فيها , فترفعه على أنه خبر مقدم منوي به التأخير , فكأن الواو دخلت على المبتدأ , وقد سمع دخول الواو التي للحال على خبر المبتدأ , قال: وقد أغتدي , ومعي القانصان ... وكل بمربأه مقتفر وقال: / عهدي بها الحي الجميع وفيهم ... عند التفرق ميسر وندام والثالث: مذهب الجمهور , وهو جواز انفراد الجملة الابتدائية بالضمير , وهو فصيح كثير فى لسان العرب , قال تعالى} اهبطوا بعضكم لبعض عدو {, وقال} ويوم القيامة ترى الذين كذبوا على الله وجوههم مسوده {, وروى س: كلمته فوه إلي في , ورجع فلان عوده على بدئه , وقال الشاعر: حتى تركناهم لدى معرك ... أرجلهم كالخشب الشائل

وقال الآخر: وتشرب أساري القطا الكدر بعد ما ... سرت قربا أحناؤها تتصلصل وقال الآخر: لهم لواء بكفي ماجد بطل ... لا يقطع الخرق إلا طرفه سام وقال الآخر: راحوا بصائرهم على أكتافهم ... وبصيرتي يعدو بها عتد وأي وقال الآخر: ثم راحوا , عبق المسك بهم ... يحلفون الأرض هداب الأرز وقال الآخر: فغدت كلا الفرجين تحسب أنه ... مولى المخافة , خلفها وأمامها وقال الآخر

ظعنت أمامه قلبها بك هائم ... فاعص الذي يغريك بالسلوان وقال الآخر: ما بال عينك دمعها لا يرقأ ... وحشاك من خفقانه لا يهدأ وقال الآخر: أتاني المعلى عذره متبين ... فمن يعزه للبغي فهو ظلوم وقال الآخر: الذئب يطرقها في الدهر واحده ... وكل يوم تراني مديه بيدي وقال الآخر: نصف النهار الماء غامره ... ورفيقه بالغيب ما يدرى قال المصنف في الشرح: «وزعم الزمخشرى أن قولهم (كلمته فوه إلى في) نادر , وهى من /المسائل التي حرفته عن الصواب , وعجزت ناصره عن الجواب , وقد تنبه في الكشاف , فجعل قوله تعالى} بعضكم لبعضٍ عدو {في موضع نصب على الحال. وكذا فعل في} لا معقب لحكمه {, فقال: (جمله محلها النصب على

الحال , كأنه قيل: والله يحكم نافذاً حكمه , كما تقول: جاء زيد لا عمامة على رأسه ولا قلنسوة , تريد حاسراً). هذا نصه في الكشاف». قال: «وعندي أن أفراد الضمير أقيس من أفراد الواو , لأن أفراد الضمير قد وجد في الحال وشبهها , وهم الخبر والنعت , وأفراد الواو مستغنى بها عن الضمير لم يوجد إلا في الحال , فكان الأفراد الضمير مزية على أفراد الواو» انتهى. وقد يجب انفراد الضمير , ولا يجوز الإتيان بالواو معه , وذلك في الجملة الابتدائية الواقعة حالاً إذا عطفت على حال , وذلك كراهة اجتماع حرفي عطف , نحو: «جاء زيد ماشياً أو هو راكب» , لا يجوز: أو وهو راكب , قال تعالى} فجاءها بأسنا بياتاً أو هم قائلون {. وكذلك إذا وقعت الجملة الاسمية حالاً مؤكده لم يجز دخول الواو عليها , نحو: هو الحق لا ريب فيه , لا يجوز: ولا ريب فيه , على الحال , وقد تقدم ذكر هذه المسألة. وفى البسيط: من قال بوجوبها لفظاً في فصيح الكلام قال: أنها قد تحذف إذا وليها حرف عطف كراهة اجتماع حرفي عطف , وبعد (إلا) , كقولك: ما ضربت أحداً إلا عمرو خير منه , لأن الاتصال يحصل بالا. وقوله وقد تخلو منهما الاسمية عند ظهور الملابسة أي: وقد تخلو من الواو والضمير , قال المصنف في الشرح: «وحكي س الاستغناء عن الواو بنية

الضمير إذا كان معلوماً , كقولك: مررت بالبر قفيز بدرهم , أي: قفيز منه بدرهم. وجاز هذا كما جاز في الابتداء: السمن منوا بدرهم , على تقدير: منوان منه بدرهم , فلو قيل: بيع السمن منوان بدرهم , على تقدير منه وجعل الجملة حالاً , لجاز وحسن». ولا يريد النحويون بقولهم عريت الجملة من ضمير إلا أنه لا يكون مظهراً ولا مقدراً , وهذه المسألة مما فيه الضمير مقدر. فأما قول الحطيئة: يا ليله قد بتها ... بجدود نوم العين ساهر فتخريجه على حذف الضمير , أي: نوم العين منى ساهر , أو تغنى الألف واللام في العين عن الضمير على رأى الكوفيين , كأنه قال: نوم عيني ساهر وقال في البديع: «وفد جاءت بلا واو ولا ضمير , قال: ثم انتصبنا جبال الصفر معرضه ... عن اليسار , وعن أيماننا جدد فـ (جبال الصفر معرضه): حال من (نا) في انتصبنا» انتهى. وتخريجه كتخريج بيت الحطيئة , أي: عن اليسار منا , أو: عن يسارنا , ويدل عليه أيماننا.

وقوله وقد تصحب إلى قوله /مقدر مثاله ما حكاه الأصمعي عن بعض العرب: قمت وأصك عينه , وقال: علقتها عرضاً , وأقتل قومها ... زعماً , ورب البيت ليس بمزعم وقال: بلين , وتحسب آياتهـ ... ـــــن عن فرط حولين رقاً محيلا وقال: فلما خشيت أظافيرة ... نجوت , وارهنهم مالكا أنشدها المصنف في الشرح , وقال فيه: «ويمكن أن يكون من هذا قوله تعالى} قالوا نؤمن بما أنزل علينا ويكفرون بما وراءه {, و} إن الذين كفروا ويصدون عن سبيل الله {, وقراءه غير نافع} ولا تسئل عن أصحاب الجحيم {, وقراءه ابن ذكوان} فاستقيما ولا تتبعان {بتخفيف النون. والتقدير: وأنا أصك ,

وأنا أقتل قومها , وأنت تحسب آياتهن , وأنا أرهنهم , وهم يكفرون , وهم يصدون , وأنت لا تسأل , وأنتما لا تتبعان». ولم تدخل الواو على المضارع المنفى ب «لا» كما لم تدخل على مثبت , ولم تدخل على مثبت لأنه واقع موقع الاسم , والاسم إذا وقع حالاً لم تدخل الواو عليه , ولا فرق بين الاسم في ذلك والمضارع , إلا أنه يلزم تكرارها مع الاسم , فتقول: جاء زيد زيد لا ضاحكاً ولا باكياً , ولا يلزم ذلك مع المضارع , قال الحطيئة: توليت لا أسى على نائل امرئ ... طوي كشحه دوني , وقلت أواصره وفى البسيط ما معناه: إن كان منفياً ب «لا» حسن ترك الواو , فان كان المضارع منفياً فأما بلم أو لما , أو ما , أو إن: إن كان منفياً بلم وليس في الجملة ضمير وجبت الواو , نحو: جاء زيد ولم تطلع الشمس. وان كان فيها ضمير جاز أن يكتفي به , وجاز أن يجتمع هو والواو. وزعم ابن خروف أنه لابد فيها من الواو , كان فيها ضمير أو لم يكن , والمستعمل في لسان العرب خلاف ما زعم , قال تعالى} فانقلبوا بنعمه من الله وفضل لم يمسسهم سوء {,} ورد الله الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيراً {, وقال الشاعر:

كأن فتات العهن في كل منزل ... نزلن به حب الفنا لم يحطم وقال الآخر: فأدرك لم يجهد , ولم يثن شأوه ... يمر كخذروف الوليد المثقب وقال الآخر: إذا يتقون بي الأسنة , لم أخم ... عنها , ولو أنى تضايق مقدمي وقال الآخر: وأضرب القونس يوم الوغى ... بالسيف , لم يقصر به باعي /ومن أفراد الضمير قول الآخر: وقد كنت أخشى أن أموت ولم تقم ... قرائب عمرو وسط نوح مسلب وقول الآخر: ولقد خشيت بأن أموت ولم تدر ... للحرب دائرة على ابني ضمضم وقول الآخر:

إن التي ناولتني فرددتها ... قتلت , قتلت , فهاتها لم تقتل أي: فهاتها غير ممزوجة بالماء , يعنى الخمر. ومن اجتماع الواو والضمير قوله تعالى} أو قال أوحى إلي ولم يوح إليه شيء {,} أنى يكون لي غلام ولم يمسسني بشر {, وقال الشاعر: سقط النصيف , ولم ترد إسقاطه ... فتناولته , واتقتنا باليد وقال الآخر: لا تأخذني بأقوال الوشاة ولم ... أذنب , وان كثرت في الأقاويل وقال الأخر: بأيدي رجال لم يشيموا سيوفهم ... ولم تكثر القتلى بها يوم سلت وزعم ابن عصفور أن النفي ب «لم» نحو «قام زيد ولم يضحك» قليل جداً. وهذا السماع من القران وكلام العرب يرد عليه. وان كان منفياً ب «لما» فقال المصنف في الشرح: «المنفى ب (لما) كالمنفى ب (لم) في القياس , إلا أنى لم أجده مستعملاً إلا بالواو , كقوله تعالى} ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم {, وكقول الشاعر:

بانت قطام ولما يحظ ذو مقه ... منها بوصل ولا انجاز ميعاد» انتهى. وقال: فان كنت مأكولاً فكن خير أكل ... وإلا فأدركني ولما أمزق وقد وجدت مجيء لما بغير واو في الجملة الحالية في شعر بعض الفصحاء , إلا أنه يغلب على ظني أنه مولد , فلا يكون في ذلك حجه , قال عبد الله بن محمد بن أبى عيينة: أبعد بلائي عنده إذ وجدته ... طريحاً كنصل السيف لما يركب وقال أيضاً: ففللت منه حده , وتركته ... كهدبه ثوب الخز لما يهدب وقد أنشد بعض النحويين من شعر هذا الرجل مستدلاً به قوله: هبيني - يا معذبتي - أسأت ... وبالهجران قبلكم بدأت / وزعم ابن عصفور أن الأولى أن يكون النفي ب «لما» , نحو: جاء زيد ولما يضحك. وعلل ذلك بأن «لما يفعل» نفى لقوله: قد فعل. وإنما ادعى أن النفي ب «لما» أولى من النفي ب «لم» و «ما» لأن من مذهبه أن الماضي لا يقع حالاً إلا مع «قد» ظاهره أو مقدره , ولذلك علل بأن «لما» نفى لـ «قد فعل» , و «لما» تدل على نفى الفعل متصلاً بزمان الأخبار , و «قد» تقرب الماضي من زمان الأخبار , فلذلك قال «الأولى لما» حتى يكون النفي مناسباً للإثبات , ويأتي الخلاف في وقوع الماضي بنفسه حالاً إن شاء الله.

وإن كان منفياً ب «ما» فتقول: جاء زيد وما يضحك، وجاء زيد ما يضحك، وجاء زيد وما تطلع الشمس. وزعم ابن عصفور أن نفي المضارع ب «ما» قليل جداً. وذكر غيره نفيه ب «ما» و «لا» ولم يقل إن النفي ب «ما» قليل. والقياس يقتضي ألا يكون قليلاً جداً كما زعم ابن عصفور، لأن «ما» نفي للحال، فكما أن المضارع المثبت يقع حالاً كثيراً، فكذلك ينبغي أن يكون ما نفي ب «ما». وإن كان منفياً بإن، نحو: «جاء زيد إن يدري كيف الطريق» فلا أحفظه من لسان العرب، والقياس يقتضي جوازه، وكما جاز وقوع ذلك خبراً يجوز أن يقع حالاً، كما جاء: «حتى يظل أن يدري كم صلى». وقوله وثبوت «قد» إلى قوله إن وجد الضمير مثال اجتماع «قد» والضمير في الجملة المصدرة بالماضي المثبت غير التالي ل «إلا» ولا المتلو بـ «أو» قوله تعالى {وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ}، {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ}، {وقد بلغني الكبر}، {آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ}، وقال امرؤ القيس:

أيقتلني وقد شغفت فؤادها ... كماشغف المهنوءة الرجل الطالي وقال زهير: كأني وقد خلفت تسعين حجه ... خلعت بها عن منكبي ردائيا وقال علقمة: تكلفني ليلى وقد شط وليها ... وعادت عواد بيننا وخطوب ومثال ترك «قد» ووجود الضمير قوله تعالى {أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ} على أحد التأويلات، وقوله {هَذِهِ بِضَاعَتُنَا رُدَّتْ إِلَيْنَا}، {وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوا} في أحد التأويلين، {وَجَاءُوا أَبَاهُمْ عِشَاءً يَبْكُونَ} [يوسف:16] وقالت العرب: ما تأتيني إلا قلت حقا، وما أتيتني إلا تكلمت بالجميل، وما نكلم إلا ضحك، وما جاء إلا أكرمته، فجميع هذه أحوال، وهي بلفظ الماضي ونص س على أن الفعل

بعد «إلا» لا يقع إلا حين يكون مؤولاً باسم، وهو في هذه المواضع مؤول باسم فاعل في موضع الحال. وقال امرؤ القيس: له كفل كالدعص لبده الندى ... إلى حارك مثل الغبيط المذاب وقال: درير كخذروف الوليد، أمره ... تقلب كفيه بخيط موصل وقال: إذا قامتا تضوع المسك منهما ... نسيم الصبا جاءت بريا القرنفل وقال: فيا لك من ليل، كأن نجومه ... بكل مغار الفتل شدت بيذبل وقال طرفة:

وكَرِّي، إذا نادى المضاف، محنبا ... كسيد الغضى، نبهنتة، المتورد وقال النابغة: سبقت الرجال الباهشين إلى العلا ... كسبق الجواد اصطاد قبل الطوارد وظاهر قول المصنف أن «قد» لا تدخل على الماضي التالي ل «إلا» ولا المتلو ب «أو». ومثال التالي ل «إلا»: ما جاء زيد إلا ضرب عمرا، فعلى هذا لا يجوز إلا قد ضرب عمرا. ومثال المتلو ب «أو» لأضربن زيدا ذهب إو مكث. وعلة امتناع دخول قد على المتلو ب «أو» أن أصلة فعل شرط، وأصلة: لأضربن زيدا إن ذهب أو مكث، أي: ذاهبا أو ماكثا، والمراد على كل، فكما أن «إن» الشرطية لا تدخل على الماضي المصحوب ب «قد» فكذلك لا تدخل علية إذا كان حالا مراعاة لأصلة، فلذلك منع النحويون وقوع المضارع هنا، فلا يجوز: لأضربنة يمكث أو يذهب؛ لأن الشرط إذا حذف جوابه لزم أن يكون الفعل ماضيا. وهذا الذي ذكرناه من وقوع الماضي المثبت حالا فيه خلاف: فالذي في كتب أصحابنا المتأخرين، كابن عصفور، وأبى الحسن الأبذي، والجزولى أنة لابد من «قد» معه ظاهرة أو مقدرة.

وقال ابن أصبغ: لا يمتنع وقوع الماضي موقع الحال وإن لم يكن معه الواو ولا «قد» فى قول الجمهور. ومنعة أبو العباس المبرد. وقال صاحب «اللباب» وقد تكلم على المسألة خلافا للكوفيين: «فإنهم يجيزون ذلك دون «قد» لا ظاهرة ولا مضمرة، قالوا: لأن أكثر ما فيها أنها غير موجودة في زمن الفعل وذلك لا يمتنع كما لا تمتنع الحال المقدرة». وذكر بعض الناس أن وقوع الماضي حالا بغير «قد» ولا الواو مذهب الأخفش. وذكر بعضهم أن الفراء والمبرد يقولان بتقدير «قد» قبل الماضي الواقع حالا، وهو قول أبى على، ذكر ذلك في «الإيضاح» و «الإغفال». والصحيح جواز ذلك لكثرة ما ورد منة بغير «قد»، وتأويل الشيء الكثير ضعيف جدا؛ لأنا إنما نبنى المقاييس العربية على وجود الكثرة. وكان ينبغي للمصنف أن يستثنى من الماضي الفعل / الجامد، نحو ليس، فإنه لا تدخل علية «قد» كما لا تدخل على المتلو ب «أو». وقولة وانفراد الواو حينئذ أقل من إنفراد قد أي: حين إذ وجد الضمير، ومثالة {كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا فأحياكم}، {الذين قالوا

لإخوانهم وقعدوا}، {وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ}، {وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ} قال {قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا}، {قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الأَرْذَلُونَ} [الشعراء:111] ، وقال الشاعر: أراهن لا يحببن من قل ما لة ... ولا من رأين الشيب فيه وقوسا ومثال انفراد «قد»» مع وجود الضمير قول الشاعر: أتيناكم قد عمكم حذر العدا ... فنلتم أمنا، ولم تعدموا نصرا وقول الأخر: وقفت بربع الدار قد غير البلى ... معارفها والساريات الهواطل وقوله وإن عدم الضمير لزمتا أي: الواو ««قد»»، قال امرؤ القيس: فجئت وقد نضت لنوم ثيابها ... ............................

وقال النابغة: فلو كانت غداة البين منت ... وقد رفعوا الخدور على الخيام وقال علقمة: فجالدتهم حتى أتقوك بكبشهم ... وقد حان من شمس النهار غروب قال المصنف: «وكقوله: أيقتلني وقد شغفت فؤادها ... كما شغف المهنوءة الرجل الطالي» وهذا من المصنف وهم، لأنه لم يعدم الضمير في قوله: «وقد شغفت فؤادها»، فهي جملة حالية، وذو الحال هو ضمير النصف في يقتلني، كأنه قال: أيقتلني شاغفا فؤادها، وقد أنشده قبل على الصواب فيما اجتمع فيه الواو والضمير. وهذا الذي ذكره المصنف إنما يكون في الفعل الماضي المثبت، فإن كان منفياً فنفيه ب ««ما»»، فإن عربت الجملة من الضمير فلا بد من الواو، نحو: جاء زيد وما طلعت الشمس، وإن كان فيها ضمير جازت الواو، تقول: جاء زيد وما درى كيف جاء، وجاء زيد ما درى كيف جاء. مسألة: «زيد خلف هند ضاحكة» لا يجوز بإجماع، قاله بعض أصحابنا، لأنهلا يعمل الظرف في الحال إلا بالنيابة مناب الخبر، فلو قدرناه عاملاً في هند

كان عاملاً دون نيابة وذلك لا يجوز. ولو قلت «زيد خلف هند ضاحكا» جاز لأنه حال من الضمير في خلف، فهو يعمل بالنيابة. وكذلك أجمعوا على أنه لا يجوز: «قام غلام هند ضاحكة»، لأنه لا يعمل في الحال إلا معنى الفعل، إلا أن تريد بغلام هند خادم هند / فيجوز، كأنك قلت: يخدمها في هذه الحال، وكذلك «زيد خلف هند ضاحكة» يجوز إذا أردت يخلفها، فيكون عاملاً بما فيه من معنى الفعل، وأما إذا أخذته من طريق الظرفية فلا يكون عاملاً، لأن الظروف لا تعمل في الحال إلا من طريق النيابة، وهو هنا ليس عاملاً في هند بالنيابة، فلا يكون عاملاً في حالها. -[ص: لا محل إعراب للجملة المفسرة، وهي الكاشفة حقيقة ما تلته مما يفتقر إلى ذلك، ولا للاعتراضية، وهي المفيدة تقوية بين جزأي صلة أو إسناد أو مجازاة أو نحو ذلك. ويميزها من الحالية امتناع قيام مفرد مقامها، وجواز اقترانها بالفاء و ... ««لن»» وحرف تنفيس، وكونها طلبيه. وقد تعترض جملتان، خلافاً لأبي علي.]- ش: قال المصنف في الشرح: «لما انقضى الكلام على الجملة الحالية، وكان من الجمل جملتان تشبهانها وتغايرانها - وجب التنبيه عليها وعلى ما تتميزان به، فالجملتان هما المفسرة والاعتراضية، وكلتاهما لا موضع لها من الإعراب، فالمفسرة كقوله تعالي {خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ} بعد قوله {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ}،وكقول النابغة:

............ ... .............. يُكْوَى غيره، وهو راتع في قولة: لكلفتني ذنب امرئ، وتركته ... كذي العر، يكوى غيره، وهو راتع انتهى. وفى الشرح المنسوب لأبي الفضل الصفار: ««لا تفسر الجملة إلا بمثلها، ولا المفرد إلا بمثله، فإن جاء خلاف ذلك لم يكثر، وذلك قوله تعالى «لا تفسر الجملة إلا بمثلها، ولا المفرد إلا بمثله، فان جاء خلاف ذلك لم يكثر، وذلك قوله تعالى {كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ}، فهذه الجملة مفسرة ل «آدم»، وكذلك قوله {هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ}، ثم قال: {تؤمنون} انتهى. وما ذهب إليه من أن جملة التفسير لا موضع لها من الإعراب هو المشهور فيها. وذهب بعض النحويين إلى إنها على حسب ما كانت تفسيرا له، فإن كان له موضع من الإعراب كانت هي لها موضع من الإعراب على حسب ذلك المفسر؛ وإن لم يكن له موضع من الإعراب كان لا موضع لها من الإعراب، فمثال ما لها موضع من الإعراب قوله تعالى {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ} [المائدة:9]، فقوله {لهم مغفرة} في موضع نصب لأنه تفسير للموعود به، ولو صرح بالموعود به لكان في موضع نصب، فهذه الجملة التفسيرية له في موضع نصب.

قال الأستاذ أبو علي: «قول النحويين (إن التفسير لا موضع له من الإعراب) ليس على ظاهرة مطلقة، والتحقيق في ذلك أن من التفسير ما يكون له موضع وما لا يكون له موضع، وذلك أنه على حسب ما يفسر، فإن كان المفسر قد فسر ما له موضع كان له موضع، وإلا فلا، مثال ذلك: زيدا ضربته، فضربته فسر عاملا في زيد، وذلك العامل لا موضع له لو ظهر فقال: ضربت زيدا، والمفسر أيضا مثله لا موضع له. وكذلك قوله تعالى {{إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [القمر:49] ،/ للتفسير هنا موضع كما للمفسر؛ لأنه خبر إن». وعلى هذا مسألة أبي على: زيد الخبز أكله، فآكله مفسر للعامل في الخبز، وله موضع لكونه خبرا عن زيد، فكذلك تفسيره. وبيان ذلك ظهور الرفع في المفسر، وهذا دليل قوي على ما تقدم. وكذلك مسألة الكتاب: إن زيدا تكرمه يكرمك، فتكرمه تفسير للعامل في زيد، وقد ظهر الجزم، وهذا بديع»» انتهى. وقوله وهي المفيدة تقوية قال أصحابنا وهي التي تفيد تأكيدا وتسديدا للكلام الذي اعترضت بين أجزائه. وفي البسيط: ««شرطها أن تكون مناسبة للجملة المقصودة بحيث تكون كالتوكيد لها أو التنبيه على حال ما من أحوالها، وألا تكون معمولة لشئ من أجزاء الجملة المقصودة، وألا يكون الفصل بها إلا بين الأجزاء المنفصلة بذاتها، بخلاف المضاف والمضاف إلية؛ لأن الثاني كالتنوين منة»». وقوله بين جزأي صلة قال المصنف في الشرح: ««والاعتراضية الواقعة بين موصول وصلة، كقول الشاعر:

ماذا - ولا عتب في المقدور- رمت أما ... يحظيك بالنجح، أم خسر وتضليل وكقول الآخر: وتركي بلادي- والحوادث جمة - ... طريدا، وقدما كنت غير مطرود وكقول الآخر: ذاك الذي - وأبيك - يعرف مالكا ... والحق يدفع ترهات الباطل»» انتهى. وهذا الذي ذكره في الشرح لا يصدق على الجملة الاعتراضية فيه أ، ها بين جزأي صلة: أما البيت الأول فيحتمل أن تكون فيه ««ذا»» موصولة، فتكون قد وقعت بين موصول وصلته، فيكون موافقا لما في الشرح. ويحتمل أن تكون ««ماذا»» كلها استفهاماً في موضع نصب ب ««رمت»»، فلا تقع إذ ذاك بين موصول وصلته، إنما تقع بين مفعول وناصبه. وأما البيت الثاني فوقعت فيه بين الحال وبين العامل فيها الذي هو تركي، فليست واقعة بن جزأي صلة ولا بين موصول وصلته، لأن طريداً ليس صلة ولا جزء صلة، إنما هو معمول لما هو مقدر بموصول وصلة، وهو تركي. وأما البيت الثالث ففيه الفصل بين الموصول وصلته بالقسم، فليس في هذه الأبيات جملة اعتراض بين جزأي صلة كما ذكر في المتن. ومثال ذلك بين جزأي صلة: أحب الذي جوده - والكرم زين - مبذول للناس.

وقوله أو إسناد مثاله قوله: وقد أدركنني - والحوادث جمة - ... أسنة قوم لا ضعاف ولا عزل وقوله أو مجازاة قال المصنف في الشرح: «كقوله تعالى {إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلا تَتَّبِعُوا} انتهى. وهذا على قول من لم يجعل {فالله أولى / بهما} جواباً للشرط، وأكثر النحويين على هذا، فلا يكون إذ ذاك جملة اعتراض، ولذلك تكفوا الجواب في كون الضمير جاء مثنى في قوله {فالله أولى بهما}،إذ العطف ب «أو» يقتضى إفراد الضمير. ومن الفصل بجملة الاعتراض بين الشرط وجزائه قول عنترة: إما تريني قد نحلت، ومن يكن ... غرضاً لأطراف الأسنة ينحل فلرب أبلج مثل بعلك بادن ... ضخم على ظهر الجواد مهبل غادرته متعفراً أو صالة ... والقوم بين مجرح ومجدل

وقوله أو نحو ذلك يعني نحو الشرط وجوابه مما وقعت الجملة الاعتراضية فاصلة بينهما، كالقسم وجوابه، كقوله تعالى {فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ} [الواقعة:75] {وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ} [الواقعة:76] {إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ} [الواقعة:77] ،وقال الشاعر: لعمري - وما عمري على بهين - ... لقد نطقت بطلاً على الأقارع وكالنعت والمنعوت، نحو قوله {وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ} [الواقعة:76] وبين الفعل ومفعوله، نحو قوله: وبدلت - والدهر ذو تبدل - ... هيفا دبوراً بالصبا والشمال وبين كأن واسمها، قال: كأن - وقد أتى حول جديد - ... أثافيها حمامات مثول وبين الفاعل ومفعوله، نحو قوله: تعلم - ولو كاتمته الناس - أنني ... عليك - ولم أظلم بذلك - عاتب وبين الفعل والفاعل ومصدره، نحو قوله:

أويت - ولا كفران بالله - أية ... لنفسي لو طالبت غير منيل أي: رحمتها رحمة. وبين المفعول الأول والثاني، نحو قوله: أراني - ولا كفران بالله - أنني ... أواخي من الأقوام كل بخيل وبين إن وخبرها، نحو مسألة الكتاب: ««إنه - المسكين - أحمق»»،أي: هو المسكين، وقوله: إني - وأسطار سطرن سطرا - ... لقائل: يا نصر نصراً نصراً وبين المبتدأ والخبر، نحو قوله: وفيهن - والأيام يعثرن بالفتى - ... نوادب لا يمللنه ونوائح {هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ} [ص:57] وبين لعل واسمها وخبرها قوله: لعلك - والموعود صدق لقاؤه - ... بدا لك من تلك القلوص بداء وبين الصفة والموصوف، نحو: مررت بزيد - والله - الكريم. وفي البسيط: وقد سمع بين المضاف والمضاف إليه إذا كان ظاهر الانفصال بحسب اللفظ، من ذلك مسألة الكتاب: «لا أخا - فاعلم - لك»، لقوله «فاعلم»

اعتراض بين المضاف والمضاف إليه، كذا الظاهر. وأجاز أبو علي أن يكون ... «لك» خبراً، ويكون «أخا» اسما مقصوراً تاماً غير مضاف، كقولك: لا عصا لك. وقوله ويميزها من الحالية امتناع قيام مفرد مقامها جمل الاعتراض التي سردناها لا يقوم مفرد مقامها، بخلاف جملة الحال، فإنها لا يمتنع أن يقوم مقامها مفرد وهذا الذي ذكره لا يكون فارقا إلا بين جملة الاعتراض وجملة الحال، وأما جملة التفسير فلا يكون فارقاً إلا على المذهب المشهور من أن جملة التفسير لا موضوع لها من الإعراب وأما على مذهب من قال: قد يكون منها ما له موضوع من الإعراب، فلو / جئت مكان الجملة بمفرد جاز - فلا يكون فارقا، وذلك كقوله {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ} [المائدة:9]، لو كان في غير القرآن: لجاز: وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات مغفرة، كما قال تعالى وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا} [الفتح:29] وقوله وجواز اقترانها بالفاء و ««لن»» وحرف تنفيس قال المصنف في الشرح التمثيل بالفاء: «كقوله تعالى {فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا}، وكقول الشاعر: ألا أبلغ بني بني ربيع ... فأشرار البنين لهم فداء بأني قد كبرت، وطال عمري ... فلا تشغلهم عني النساء وكقول الآخر:

واعلم - فعلم المرء ينفعه - ... أن سوف يأتي كثل قدرا»» انتهى. وتقدم ذكرنا الخلاف في {فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا} أهو جواب الشرط أو جملة اعتراضية. ومثال اقترانها ب ««لن»» قوله تعالى {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا}. ومثال حرف التنفيس قول زهير: وما أدرى - وسوف، إخال، أدري - ... أقوم آل حصن أم نساء وتقدم كلامنا في المفتتح بحرف الاستقبال، وأن منه ما جاء يشهد ظاهره بوقوع مادخل عليه حرف التنفيس حالاً، فإن صح ذلك فلا يكون حرف التنفيس إذ ذاك فارقاً بين الجملة الحالية والجملة الاعتراضية. وقوله وكونها طلبية مثاله قول الشاعر: إن سليمي - والله يكلؤها - ... ضنت بشئ، ما كان يرزؤها «والله يكلؤها» دعاء. وجعل المصنف في الشرح من ذلك قوله {قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ}، قال: «هي معترضة بين {وَلا تُؤْمِنُوا}، و {أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ}» والخلاف فيها مذكور في كتب التفسير.

وقوله (ومن يغفر الذنوب الا الله) اعترضت بين (فاستغفروا) (لم يبصروا) , وهما متعاطفان في صله الذين , وليس هذه جمله طلبيه في الحقيقه , انما هي استفهاميه في الصوره , معناها الخبر , أي: لايغفر الذنوب الا الله. وقوله وقد تعترض جملتان , خلافا لابي علي قال المصنف في الشرح: «وزعم ابو علي ان الاعتراض لايكون الا بجمله واحده , وليس بصحيح ما زعم , بل الاعتراض بجملتين كثير , من ذلك قول زهير لعمر ابيك والانباء تنمي وفي طول المعاشره التقالي لقد باليت مظعن ام اوفي ولكن ام اوفي لاتبالي / ومنه قوله تعالي (وما ارسلنا من قبلك الا رجالا نوحي اليهم فسئلوا هل الذكر ان كنتم لا تعلمون * بالبينات والزبر) , وقال الزمخشري في الكشاف: ان (ولو اناهل القري امنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والارض ولكن كذبو فاخذناهم بما كانوا يكسبون) اعتراض بي ن قوله (ثم بدلنا) الايه وبين قوله (أفأمن)». قال: «وهذا اعتراض بكلام تضمن سبع جمل» انتهى.

وتسمية ما تضمنه هذا الكلام سبع جمل فيه تسامح , بل هي اربع جمل: جمله لو وجمله جوابها , وجمله الاستدراك , وجمله العطف عليها , وهو نظر الي ان (لو) الي (امنوا) جمله , (واتقوا) جمله , (ولفتحنا) جمله , و (لكن كذبوا) جمله , (فأخذناهم) جمله , (كانوا) جمله , (يكسبون) جمله. ولما كان المصنف قد تعرض للجمل التي لاموضع لها من الاعراب , وذكر انهما جملتان - اشعر ذلك بأن ما سواهما له موضع من الاعراب, وليس كذلك , فأردنا حصر الجمل في هذا الذي نذكره , وتبين ما هو منهاله موضع من الاعراب وما لا موضع له , فنقول: اصل الجمل هالا يكون لها موضع من الاعراب ,لان ماله موضع من الاعراب انما هو لوقوعه موقع المفرد , والاصل في الجمل هان تكون مستقله , لاتتقدر بمفرد. فتكون جزء كلام. والجمله التي لاموضع لها من الاعراب تنحصر في اثني عشر قسما: احدها: ان تقع ابتداء كلام لفظا ونيه , نحو: زيد قائم , وقام زيد , أو نيه لا لفظا , نحو راكبا جاء زيد. فأن انعكس هذا نحو (ابوه قائم زيد) كان لها موضع من العراب. الثاني: ان تقع بعد ادوات الابتداء , فتشمل الحروف المكفوفه , «واذا» الفجائيه , وهل , وبل , ولكن , والا , وأما , وما غير الحجازيه , وبينما , وبينا. الثالث: ان تقع بعد ادوات التحضيض. الرابع: ان تقع بعد ادوات التعليق غير العامله , نحو لولا , ولو , ولما على مذهب س.

الخامس: أن تقع جوابا لهذه الحروف السادس: ان تقع صله لاسم او حرف السابع: ان تقع اعتراضيه الثامن: ان تقع تفسيريه علي المشهور التاسع: ان تقع جوابا للقسم العاشر: ان تقع توكيدا لما لا موضع له الحادي عشر: ان تعطف علي ما لا موضع له الثاني عشر: ان تكون جمله شرطيه حذف جوابها لتقد الدليل عليه نفسه , او تقدم طالب الدليل عليه. والجمله التي لها موضع من الاعراب تنقسم بأنقسام نوع الاعراب: ففي موضع رفع بانفاق الواقعه خبرا للمبتدأ , أو ل (لا) التي لنفي الجنس , ول (أن) واخواتها , وصفه لموصوف مرفوع , ومعطوفه علي مرفوع , وبدلا من مرفوع. وباختلاف الوقعه في موضع الفاعل , وفي موضع مفعول لم يسم فاعله. وفي موقع نصب باتفاق الوقعه خبرا لكان اخواتها , وثانيا لظننت , وثالثا لأعلمت , خبرا ل (ما) الحجازيه , ول (لا) اختها , ومحكيه للقول , ومعلقا عنها العامل , ومعطوفه علي منصوب , وصفه , لمنصوب , وحالا. بأختلاف في الواقعه بعد مذ ومنذ: فذهب السيرافي الي انها في موضع نصب علي الحال , وذهب الجمهور الي انه لا موضع لها من الاعراب , في الواقعه في الاستثناء بالفعل , فقيل: لا موضع لها من الاعراب. وقيل: هي في موضع نصب

على الحال. وفي الجمله الوقعه استفهاما بعد ما يتعدي ال واحد , وقد اخذ مفعوله , فانفقوا علي انها في موضع نصب , واختلفوا: اهي في موضع بدل , أو مفعول ثان علي التضمين , او حال. وفي موضع جر: فبأتفاق ان تكون مضاف اليها اسماء الزمان غير الشرطيه التي لاتجزم , او تقع صفه لمجرور , او معطوفه علي مجرور, او ماهو في موضع جر. باختلاف في الواقعه بعد ذو في قول العرب «اذهب بذي تسلم» , فقيل: ذو موصوله , فلا موضع للجمله , وقيل ذو بمعني صاحب , فهي في موضع جر. في الموقعه بعد (ايه) بمعني علامه , فقيل الجمله في موضع جر بالاضافه وقيل «ما» المصدريه محذوفه. وفي الواقعه ابتداء بعد حتي , فالجمهور علي انها لا موضع لها من الاعراب , وذهب الزجاج ابن درستويه الي انها في موضع جر ب حتي. وفي موضع جزم الواقعه غير مجزومه. جوابا للشرط العامل , أو عطفت علي مجزوم , او علي ما موضعه جزم. هذا الاقسام كلها مذكوره وهي وامثلتها وفي كتاب «ومنهج السالك في الكلام علي الفيه ابن مالك) من تصنيفنا.

باب التمييز

-[ص: باب التمييز وهو ما فيه معني (من) الجنسيه من نكره منصوبه فضله غير متابع. ويميز اما جمله -وسيبين - اما مفردا عددا فتح , او مفهم مقدار ' او مثليه او غيريه او تعجب بالنص علي جنس المراد بعد تمام باضافه , او تنوين , أو نون تثنيه , أو جمع أو شبه.]- ش: يطلق علي التمييز التبيين والتفسير والمميز والمبين والمفسر. قوله ما فيه معني (من) جنس يشمل - علي زعمه -التمييز , وثاني منصوبي أستغفر ,والمشبه بالمفعول , وما اضيف اليه من التمييز , واسم (لا) التبرئه , وتابع عدد من الجنس المعدود , وصفه اسم (لا) المنصوبه. وقوله الجنسيه فصل يخرج مثل: استغفر الله ذنبا ................. ... ......................... فانه علي معني «من» , لكنها ليست جنسيه. وقوله من نكره فصل يخرج مثل: هو حسن وجهه فانه ليس بتمييز , بل هو منصوب علي التشبيه بالمفعول به. وقوله منصوبه فصل يخرج به ما أضيف اليه من نحو: رطل زيت فانه علي معني «من» الجنسيه , ولا يعرب تمييزا. وقوله فضله يخر به اسم لا , نحو: لا خير من زيد فيها.

وقوله غير تابع يخرج به مثل: قبضت عشره دراهم , فان دراهم فيه معني من الجنسيه , وهو نكره منصوبه فضله , لكنه تابع , فلم يتناول التمييز. ومثل: لا رجل ظريفا , فان ظريفا نكره فضله منصوبه ,بمعني من الجنسيه , لكنها تابع ,ففارقت التمييز. انتهي شرح هذا الحد , وهو منقود/ من وجوه: احدهما ذكر (ما) في الحد وهو لفظ مبهم , والحدود تصان عن الالفاظ المبهمه. الثاني قوله «فيه معني من الجنسيه» فان التمييز الذي هو منقول من الفاعل , ومن المفعول علي من اجازه , من المبتدأ , ونحو قولهم: داري خلف دارك فرسخا - ليس فيه معني من الجنسيه. وقد سبقه الي نحو كلامه العيدي , فقال: (التمييز يتقدر ب «من» من طريق المعني). واحترز بذلك المصنف علي زعمه - (من الحال , فانها تشاركه فيها سوي ذلك من القيود) الثالث: قوله من نكره وهذا قيد مختلف في اشتراطه , فلا يدخل فماهيه الحد. ونقول: ذهب البصريون الي اشتراط تنكير التمييز , وذهب الكوفيون

وابن الطراوة الي انه يجوز ان يكون معرفه , واستدلوا علي ذلك بقول الشاعر ,وهو اميه بن ابي الصلت: له داع بمكه مشمعل ... واخر , فوق رابيه ينادي الي ردح من الشيزي ملاء ... لباب البر يلبك بالشهاد وقول الاخر: رايتك لما ان عرفت وجوهنا ... صددت وطبت النفس ي قيس عن عمرو وقول الاخر: علام ملئت الرعب , والحرب لم تقد لظاها , ولم تستعمل البيض والسمر قالو: ولغه للعرب مشهوره: مافعلت الخمسه عشره دراهم , والعشرون الدرهم , وقالت العرب: سفه زيد نفسه , وألم رأسه , وغبن رأيه , و (وبطرت معيشتها) , فهذه , كلها منصوب علي التمييز , وهو ومعارف معارف بالاضافه او بأل. وتأول البصريون هذا كله , تأولوا (لباب البر) علي انه اسقط حرف الجر , فانتصب , وتقديره: ملاءه بالباب البر , او: من لباب البر. واما (وطبت النفس)

و «ملئت الرعب» فعلي زياده أل. وأما «سفه زيد نفسه» واخواتها فياتي الكلام عليه عند تكلم المصنف عليه ان شاء الله واما قوله في الشرح «وانه احترز به من المعرفه المنتصبه علي التشبيه بالمفعول به في نحو: هو حسن وجهه» فأن وفيه ما في (وهو حسن وجها) الا التنكير , ولا يحتاج الي ذكره ليحترز به مما ذكر , لان ماذكر لم يدخل تحت ما قبله فيحترز منه لانه منقول من الفاعل , والمنقول من الفاعل كما قدمنها , لا يكون فيه معني من الجنسيه. الرابع: قوله «منصوبه» لا يحتاج الي هذا القيد لانه يحد التمييز. وقوله «فضله» يغني عن «منصوبه» , لانه قد قد ذكر قبل باب المبتدأ , وقرر ان النصب للفضله , وعد الفضلات , فذكر فيها التمييز. الخامس: قوله: «غيرتابع» يحتاج اليه لانه اخذ في القيد كونه منصوبا , وانما يعني لازم النصب , والتابع الذي ذكره انما هو بحسب المتبوع , فليس فيه النصب ملتزما / فلا ينبغي ان يحترز منه. السادس قوله في الشرح انه احترز ايضا من ظريفا في نحو: لا رجل ظريفا ,: «فانه نكره منصوبه فضله بمعني من الجنسيه , ولكن تابع , ففارق التمييز» , ولايحترز من هذا لانه ليس ملتزم النصب فقط , اذا يجوز رفعه بخلاف التمييز «انه فضله منصوبه بمعني من الجنسيه» فمكابره , هب ان الاسم منصوب علي معني من الجنسيه , ان تكون الصفه منصوبه ايضا علي معني من الجنسيه؟ هذا لا يصح.

وقوله ويميز اما جمله وسيين هذا هو الذي يعبر عنه النحويون بأنه منتصب عن تمام الكلام , فقوله «ويميز اما جمله» فيه تسامح , لان الجمله لاتميز , انما هذا التمييز الاتي بعد الكلام هو مفسر لما انطوي عليه الكلام الذي قبله من جهه انك اذا قلت: تصبب زيد , وامتلأ الاناء - عرف ان المتصبب من زيد والمالي للاناء شئ , ففسر المتصبب بالعرق والمالئ باالزيت , والمنتصب عن تمام الاسم هو الذي يكون تفسيرا لاسم مبهم قبله , فقد اشتركا في ان كلا منهما يفسر مبهما , غير ان الذي يفسر عن تمام الكلام مبهمه غيرمذكور , بل هو مفهوم من مضمون الجمله , ولا يجوز انياتي بعد كل كلام منطو علي شئ مبهم الا في موضعين: احدهما: ان يؤدي الي اخراج اللفظ عن اصل وضعه , نحو قولك: ادهنت زيتا , لايجوز نصب زيتا علي التمييز , اذ الاصل ادهنت بزيت , فلو نصب علب التمييز لادي الي حذف حرف الجر , والزام تاتنكير في الاسم , ونصبه بعد ان لم يكن منصوبا وهذا كله اخراج للنص عن اصل وضعه , فلايجوز شئ من ذلك بقياس ,بل يوقف ماورد من ذلك علي السماع , والذي ورد من ذلك قولهم: امتلأ الاناء ماء , ونفق ذيد شحما , الاصل: من الماء , ومن الشحم , فحذفت من وأل , وانتصب تمييزا لا علي انه مفعول بعد اسقاط حرف الجر. ويدل علي انه تمييز التزام التنكير فيه , وكونهم لايقدمونه علي الفعل , علي خلاف في هذا الاخير ,ولو كان منصوبا علي المفعول بعد اسقاط الحرف لجاء معرفه ونكره , ولجاز تقديمه علي الفعل بإجماع.

والموضع الثاني: ان يؤدي الي تدافع الكلام , نحو (ضرب زيد رجلا) , اذا جعلت رجلا تفسيرا لما انطوي عليه الكلام المتقدم من ابهام الفاعل , فتنصب رجلا علي التمييز , اي: ان الكلام مبني علي حذف الفاعل , فذكره تفسيرا اخرم ندافع , لان ما حذف لايذكر. وقد ذهب الي اجازه ذلك بعض النحويين , خرج وعلي ذلك وقوله تعالي (وان كان رجل يورث كلاله) , فنصب (كلاله) علي التمييز لما انطوي عليه الكلام السابق منابهام الوارث , ف (كلاله) عنده تمييز يفسر الوارث لا الموروث , وقد يتخرج علي ذلك قول الراجز: / يبسط للاضياف وجها رحبا بسط ذراعين لعظم كلبا نصب (كلبا) تفسيرا لما انطوي عليه قوله «بسط الذراعين) ويكون قد نوي في المصدر بناءه للمفعول الذي لم يسم فاعله , ثم اضافه , والتقدير: يسطا مثلما بسط ذراعان فلما حذف الباسط للذراعين اتي بقوله «كلبا» تفسيرا لذلك الباسط المحذوف.

ويحتمل هذا البيت ان يكون من باب القلب , فأصله: بسط كلب ذراعين فقال: بيط الذراعين كلبا. وقوله وأما مفرد عددا مثاله: احد عشر رجلا , وعشرون امرأه ,وقد يكون سؤالا عن عدد كتمييز (كم) الاستفهاميه. وقوله او مفهم مقدار يعم الكيل والوزن والمسامحه وما وما اشبهها كمثقال ذره , وذنوب ماء , وحب برا ونحي سمنا , ومسأب عسلا , وراقود , خلا وجمام المكوك دقيقا. وجعل المصنف (مفهم مقدار) هو قول ابي علي الفارسي , وقال في الايضاح: (والمقادير علي ثلاثه اضرب: مسموح ومكيل وموزون) وكذا قال ابن عصفور. وادرج شيخانا ابو الحسن الابذي وابن الضائع تحت المقادير العدد , قال ابن الضائع: (والمقادير اربعه انواع: معدود ,ومكيل ,وموزون , ومسموح) وقال الابذي: (والمقادير المبهمه تحصرها المعدودات والمكيلات والموزونات». زمثلا المقدر في العدد بخمسة عشر.

وقال في البديع «والعدد ان كان مقدرا الا انه ليس له اله يعرف بها» اما قولهم (داري خلف دارك فرسخا) ف (س) يقول: هو تمييز علي مافهم عنه. والمبرد يجعله حالا , وخلف لا يكون مقدارا , انما يريد الاخبار بانها مستقر لا مقدار , فاقتضي احتمال الوصف بالبعد وغيره , وكان ما بعدها مفسرا للصفه المحتمله. وقد تؤول هذا علي س ايضا بأن يكون من الاحوال غير المشتقه. وقوله او مثليه مثاله قوله عليه السلام (دعوا لي اصحابي , فلو فلو انفق احدكم مثل احد ذهبا ما بلغ احدهم ولا نصيفه) , وقال بعضهم: مالنا مثله رجلا , ولنا امثالها ابلا , وقال الشاعر: فن خفت يوما ان يلج بك الهوي ... فأن الهوي يكفيكه مثله صبرا وعطف المصنف قوله (أو مثليه) علي قوله مقدار يدل علي ان مثلا ليس من المقادير , وهو مذهب الفارسي. وقد عدس مثله من المقادير , ووجهه ان مثل الشئ يساويه ويقادره في الشئ الذي اشبهه فيه , فاذا قلت (لي مثل زيد فارسا) فانت قد زعمت انلك من الفروسيه قدر فروسية زيد

وقال ابن الضائع: «ومما انتصب ايضا وهو شبيه بالمقدار قولهم: لي مثله رجلا , وذلك انه لما حذف موصوف مثله وانبهم اشبه بالقدر. وقد جعله س لشبهه بالمقادير منها ,قال: (لانك اذا قلت لي مثله فقد ابهمت الانواع / لان مثله يقع علي الشجاعه والفروسيه والعبيد والرجال , فاذا قلت عبدا او فارسا فقد اختصصت كما اختصصت الدرهم النوع المقدر بالعشرين, غير ان الفرق بينهما ان الفارس والعبد في قوله لي مثله عبدا هو المثل , وليس الدرهم بالعشرين) يعني انه يجوز في لي مثله عبدا ان يقدم التمييز ويصير مثله تابعا له , ولا يجوز ذلك في العشرين. فما جاز فيه جريان المفسر اذا قدم عليه جعله الاول , وما لم يجز فيه جريانه لو قدم عليه جعله غير الاول» وقال ابن العصفور: ومذهب الفارسي الاولي , لانا انما نريد بالمقدار ما صح اضافه المقدار اليه لفظا أونيه , و (مثل) لايصح فيها ذلك. وقال ابن الضائع: «وعلي التمره مثلها زبدا: هذا شبيه بالمقدار لان المعني: علي التمره قدر مثلها , كما ان المعني في رطل وقفيز: قدر رطل وقفيز , وهذا مما تم فيه الاسم بالاضافه. وقد يقال: ان هذا من مقدار المساحه أو من مقدار الوزن لأن المعني: قدر مثلها ومساحه او وزنا. واما موضع راحه فمن المساحه» «ونظير لي مثله رجلا قولهم لا كزيد فارسا , وقول الشاعر:

لنا مرفد سبعون الف مدجج فهل في معد فوق ذلك مرفدا لما حذف اسم لا وحذف المبتدأ انبهم المفسر , فأتي بقوله فارسا ومرفدا تمييزا» انتهي. س: «والعبد ضرب من الضروب التي تكون علي مقدار المثل». قال الاستاذ ابو علي «يعني من الضرب المقدره بمقدار المثل المقيسه عليه». وقال ايضا: (يعني ان المثل مقدار , اذا قلت مثل هذا فكانك قلت: مقدار هذا , الا نه مقدار معنوي , فالمثل مقدار, واضافه المقدار اليه هنا كاضافه الخاتم في قولك خاتم حديد لما انبهم هل هو مقدار حقيقي حسي أو مقدار حقيقي حسياو مقدار مثلي معنوي». وقوله او غيريه مثاله: لنا غيرها شاء. وقوله او تعجب مثاله: ويحه رجلا , وحسبك به رجلا , ولله دره فارسا , ابرحت جارا و: ................................ ... يا جارتا , ما انت جاره وقال بعض اصحابنا: الذي ياتي عن تمام الاسم يفسر عددا او مقدارا او مقدارا أو شبيها بالمقدار. وذكروا شبيه المقدار في نحو: ما في السماء موضع راحه سحابا , وعليه شعر كلبين دينا , وتقديره: مثل شعر قال: «ولا يجئ بعد ما

ليس بعدد ولا مقدار ولا شبيه به إلا قليلا، ولنا أمثالها إبلا، ولنا غيرها شاء، وأبرحت جارا، و «يا جارتا ما أنت جاره»، و: يا سيدا، ما أنت من سيد ... ........................................» انتهى. ومن التعجب الذي يجيء بعد التمييز المنتصب عن تمام الاسم قولهم: ويلمه مسعر حرب، وقولهم: يا طيبها ليلة، ويا حسنها ليلة، وقال الشاعر: يا نعمها ....................... ... .................................. /وقولهم: ناهيك رجلا، وقولهم: تالله رجلا، المعنى: تالله ما رأيت مثله رجلا، وقولهم: يا لك ليلا، قال الشاعر وهو جرير: فيا لك يوما خيره قبل شره تغيب واشيه، وأقصر عاذله وأما ما انتصب بعد تمام الكلام في التعجب فسأذكره - إن شاء الله - عند ذكر المصنف التمييز المنتصب عن الجملة.

ومما جاء تفسيرًا لغير ما ذكر المصنف تمييز «كم» الخبرية، وتمييز «كائن»، وتمييز «كذا»، وكلها تمميز مما انتصب عن تمام الاسم. وأما ما مثل به من قولهم: ويحه رجلا، وحسبك به رجلا، ولله دره فارسا - ف «س» جعلها شبيها بالمقادير، وذلك أنه لما ذكر زيد أو عمرو، وأردت التعجب به ونطقت بهذه الألفاظ وانبهم المعنى الذي تمنحه به، فجئت به تفسيرا لأنه قد يبرز في شيء على غيره، وينقص منه في آخر، فلزم تفسير ما فيه برز، فصار كقولك «ما مثله» إذا أردت الاستفهام. ويبين أنه تمييز جواز دخول «من» عليه، ويجوز نصبه على الحال. وأما «أبرحت جارا» فمن قول الشاعر: ............................... ... فأبرحت ربا، وأبرحت جارا أنشده س، وقال الأعلم: هو عجز بيت، وأوله: تقول ابنتي حين جد الرحيل: أبرحت ربا، وأبرحت جارا واختلف في هذا: وتقديره أبرح ربك، وأبرح جارك، فأسند الفعل إلي غيرهما، ثم نصبهما تفسيرا نحو: طاب زيد نفساً.

وذهب ابن خروف إلي أنه مما انتصب عن تمام الاسم، وعلى هذه أنشده س، وجاء به على أن الرب هو التاء في أبرحت، فهو خطاب الشاعر لممدوحه، ويقوي ذلك إنشاده إياه «فأبرحت» بالفاء، ولا يصح اتصاله بصدر البيت على أن يكون معمولا للقول، فلا يكون عجزا لذلك الصدر. ونظيره من أنشده س: ومرة يحميهم إذا ما تبدوا ويطعنهم شزرا، فأبرحت فارسا أي: فأبرحت من فارس، كأنه تعجب منه، وأبهم، ثم فسر. وليس هذا في هذا البيت منتصبا عن تمام الكلام، إذا ليس المعنى على: أبرح فارسك، بل فاعل أبرح التاء، غير أنه انبهمت ذاته المتعجب منها، ففسرت، كما انبهم العشرون. وأما ما أنشده الأعلم من قوله: «تقول ابنتي» البيت - فظاهر فيه ما قال، وكأن ابنته تعجبت من ممدوحه، والرب هنا الملك الممدوح وما رده به عليه ابن خروف من أنه أفسد المعنى، فصير الفعل للرب والجار - ليس بصحيح، بل المعنى على ما أنشده الأعلم صحيح. واختلف في اشتقاق أبرحت: فقال الأعلم: من البراح، أي: صرت في براح لاشتهار أمرك في فروسيتك. وقال السيرافي: من البرح، وهو الشدة المتعجب منها، أي: صرت ذا برح، ومنه البرحين والبرحاء، /فمعنى أبرحت:

جئت بما لم يأت به غيرك. وقيل: معناه تناهيت واشتهرت. وقيل: عظمت، فهذا تعجب. وقيل: دهوت. وقوله بالنص على جنس المراد يتعلق «بالنص» بقوبه «ويميز»، وينبغي أن النكرة إذا لم يكن فيها بيان ألا تقع تمييزا، وقد اختلفوا من ذلك في مسائل: منها «ما» في باب نعم، أجاز الفارسي أن تكون نكرة تامة بمعنى شيء، وتنتصي تمميزا. وتبعه الزمخشري. ومنع ذلك غيره، منهم أبو ذر مصعب بن أبي بكر الخشني. ومن ذلك «مثل»، أجاز س التمييز بها، فتقول: لي عشرون مثله، وحكى: لي ملء الدار أمثالك. وفي كتاب أبي الفضل البطليوسي: لي عشرون مثله لا يجيزه الكوفيون لأن التمييز إنما هو مبين، ومثل مبهمة، فلا ينبغي أن تقع موقع ما يبين به، وهكذا كما ترى، فإن س نقله عن العرب. وأيضا فالضمير في «مثله» يعلم على من يعود، فكأنه قال: مما يبين لهذا الشخص، ولا شك أن في هذا إفادة. ومنع ذلك الفراء.

ومن ذلك «غير»، أجاز يونس التمييز بها، فتقول: لي عشرون غيرك. ومنع ذلك الفراء. وهذا أحرى أن يمنعه الكوفيون لأنه أشد إبهاما، لكن تلقي س ... مذهب يونس بالقبول، ولم يرد عليه، فينبغي أن ينسب إليه جوازه لأنه لا يخلو من فائدة، إذ أفاد أن عنده ما ليس بمماثل لهذا، وهذا المقدار فيه تخصيص. ومن ذلك «أيما رجل»، أجاز التمييز بذلك الجمهور، ومنع ذلك الخليل وس. وينبغي ألا يجوز شيء من هذه المبهمات إلا بسماع من العرب. وقوله بعد تمام بإضافة مثاله: لله دره إنسانا، و {ملء الأرض ذهبا} {أو عدل ذلك صياما}. وقوله أو تنوين مثاله: وطل زيتا. وقالوا: يكون التنوين مقدار، وذلك المركب، نحو: خمسة عشر رجلا، فيكون التمام بالتنوين المقدر. وقوله أو نون تنثية مثاله: منوان سمنا. وقوله أو جمع مثاله {قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالا}، كذا مثل المصنف، فجعل هذا من التمييز الذي يميز مفردا، وهو المعبر عنه أنه منتصب عن تمام الاسم. وليس كذلك عند أصحابنا، وإنما هو من قبيل ما انتصب عن تمام الكلام.

وقوله أو شبهه أي: أو شبه نون الجمع، ومثاله {وواعدنا موسي ثلاثين ليلة}، قال المصنف: «وفهم من سكوتي عن نون شبه المثنى أن التمييز لا يقع بعده». انتهى. ويعنى بشبه المثنى «اثنان» و «اثنتان». -[ص: وينصبه مميزه لشبهه بالفعل أو شبهه. ويجره بالإضافة إن حذف ما به التمام. ولا يحذف إلا أن يكون تنويا ظاهرا في غير «ممتلئ ماء» ونحوه، أو مقدار في غير «ملآن ماء»، و «أحد عشر درهما»، و «أنا أكثر مالا»، ونحوهن، أو يكون نون تثنية، أو جمع تصحيح، ـو مضافا إليه صالحا لقيام التمييز مقامه في غير «ممتلئين أو ممتلئين غضبا».]- ش: قال المصنف في الشرح: «ثم قلت / (وينصبه مميزه) - والكلام فيما يميز مفردا - فمقال ما ينصبه لشبه الفعل نحو: هو مسرور قلبا، ومنشرح صدرا، وطيب نفسا باشتعال رأسه شيبا، وسرعان ذا إهالة. وأما ما ينصبه مميزة لشبهه بشبه الفعل فمميز المقادير وما ذكر بعدها إلا: أبرحت جاراً» انتهى.

والذي ذكر بعد المقادير، كمثقال ذرة خيرا، وذنوب ماء، وحب برا، ونحي سمنا، ومسأب عسلا، وراقود خلا، وجمام المكوك دقيقا، إلي سائر الأمثلة التي ذكرت بعد هذه مما يقتضي مثلية أو غيرية أو تعجبا. وإنما قال «إلا أبرحت جارا» لأن جارا هو منصوب بالفعل لا لشبه الفعل ولا لشبه شبه الفعل، ولذلك استثناه مما قبله. وما ذهب إليه المصنف من تمثيله ما ينصبه مميزة لشبه الفعل بقولة: هو مسرور قلبا، ومنشرح صدرا، وطيب نفسا باشتعال رأسه شيبا، وسرعان ذا إهالة - بعيد عن كلام النحاة ومغاير له، لأن المصنف جعل هذا التمييز مما يفسر المفرد، فهو منتصب عن تمام الاسم، وهذا عندهم مما انتصب عن تمام الكلام لا عن تمام الاسم، وكأنه التبس عليه مرادهم، وذلك أن الإبهام الذي يفسره التمييز ويبينه يشمل النوعين، لكن ما انتصب عن تمام الاسم يكون الإبهام حاصلا في الاسم خاصة، وما انتصب عن تمام الكلام يكون الإبهام حاصلا في الإسناد لا في السم الذي هو أحد جزأي الكلام، فإذا قلت «زيد مسرور» فمسرور ليس مبهما في نفسه، بل حصلت نسبة السرور إلي زيد، ولم يبين من أي جهة سروره، فإذا قلت «قلبا» زال الإبهام الذي في الإسناد، وليس كذلك ما انتصب عن تمام الاسم، لأن الاسم في ذاته وفي وضعه هو المبهم، فإذا قلت «عندي عشرون» فعشرون مبهم في وضعه، فإذا قلت «درهما» بينت العشرين ما هي. وكذلك إردب ورطل وذراع من المكيل والموزون والمسموح، الإبهام حاصل فيها من ذوات الأسماء وموضوعاتها من حيث النسبة. والتمييز في قوله منشرح صدرا، وطيب نفسا باشتعال رأسه شيبا، وسرعان ذا إهالة، جميعها عند النحويين مما انتصب عن تمام الكلام لا عن

تمام الاسم، فهي من التمييزات التي تفسر ما انطوى عليه الكلام من الإبهام - وهو الحاصل في نسبة الإسناد - لا من التمييزات التي تفسر الاسم المفرد. وأما «سرعان ذا إهالة» فواضح جدا أنه مما انتصب عن تمام الكلام، لأن «ذا» فاعل باسم الفعل الذي هو سرعان في معنى سرع، فهو محول من الفاعل، إذ أصله: سرعان إهالة هذا، فنسب السرعة إلي اسم الإشارة، ونصب إهالة تفسيرا لما انطوى عليه الكلام من الإبهام، فهو نظير: طاب هذا نفسا. وقال أصحابنا: إن الذي يفسر ما انتصب عن تمام الاسم ينصبه مفسره، فإذا قلت: عندي عشرون درهما، أو قفيز /برا، أو رطل سمنا، أو ذراع ثوبا - فالناصب للتمييز ما قبله من عشرين وقفيز ورطل وذراع. وجاز لها أن تعمل وإن كانت جامدة لأن عملها على طريق التشبيه. واختلف البصريون في الذي شبهت به: فقيل: شبهت باسم الفاعل لطلبها اسما بعدها كما أن اسم الفاعل بمعنى الحال والاستقبال كذلك. وقيل لشبهها ب «أفعل من» في طلبها اسما بعدها على طريق التبيين ملتزما فيه التنكير كما أنه كذلك، فالفعل هو الأصل، يعمل معتمدا وغير معتمدا، واسم الفاعل لا يعمل إلا معتمدا، ويعمل في السببي والأجنبي، والصفة المشبهة تعمل في المعرفة والنكرة، ولا تعمل إلا في السببي، و «أفعل من» لا تعمل إلا في النكرة، لكنها تتحمل الضمير، والمقادير وما أشبهها لا تعمل إلا في المنصوب، فكل واحد في هذه أضعف من الذي قبله من الجهات التي ذكرناها، فشبه هذه الأسماء ب «أفعل من» أقوى من شبهها باسم الفاعل، لأن الحمل على ما تمكن شبهه أولي من الحمل على ما ليس كذلك. وزعم أحمد بن يحيي أن درهما من قولك «له عندي عشرون درهما» إنما انتصب من جهة أن عشرين بمنزلة قولك: معدود، ودرهما بمنزلة قولك: عدداً،

فكما أنك إذا قلت «معدود عددا» كان عددا منتصبا بمعدود فكذلك انتصب درهم بعشرين. ورد هذا بأنه قد يجيء من المنتصب عن تمام الاسم ما لا يمكن فيه هذا التقدير، نحو قولة: ويحه رجلا، ولله دره رجلا. ولا نعلم خلافا في أن الناصب للمنتصب عن تمام الاسم هو المفسر الذي قبله، إلا في «البديع» لابن الأثير ما نصه: «عامل التمييز على ضربين: فعل محض محض، ومعنى فعل: فالفعل نحو: تصبب زيد عرقا، وطبت نفسا، وبابه. والمعنى: [الحاجز] المقدم ذكره في الأعداد والمقادير، وهو التنوين والنون والإضافة. وقيل: إن العامل في هذا النوع إنما هو الظرف، نحو: عندي قفيزان برا، والجار والمجرور في نحو: لي مثله رجلا، فيكون حينئذ لفظيا» انتهى. فظاهر هذا الكلام أن التنوين والنون والإضافة هي العامل، ولا نعلم أحدا ذهب إلي ذلك، وأما القول الذي حكاه فلم نجده إلا في هذا الكتاب. وفي البسيط: «النحويون جميعهم يرون أن العامل في قولك (أعطيت عشرين درهما) عشرون لشبهه بضاربين، وكذا ما تنزل منزلته كأحد عشر، لأن الاسم الثاني صار كالنون في عشرين. وكذلك ما كان فيه التنوين، نحو: راقود

خلا. والضابط فيه عندهم أن كل ما كان عن تمام جملة كان العامل فيه الفعل، وما كان عن تمام المفرد كان العامل فيه ذلك المفرد». وقوله ويجره بالإضافة إن حذف ما به التمام أي: ويجر التمييز بإضافة ما قبله إليه إن حذف ما به التمام، والذي به التمام هو: المضاف إليه، والتنوين، والنون التثنية، أو نون الجمع، ونون شبه الجمع. وقوله ولا يحذف إلا إن كان تنوينا ظاهرا / مثاله: رطل زيت، وإردب شعير، وذراع ثوب، وعلى ما مثله هو قبل: مسرور قلب، ومنشرح صدر، وطيب نفس. واحترز بقوله ظاهر من أن يكون التنوين مقدرا، فإنه له حكم سيذكره. وقوله في غير «ممتلئ ماء» احتراز من: ممتلئ ماء، فإن فيه تنويا ظاهرا، ولا يجوز جر تمييزه بإضافة ممتلئ إليه وإن كان عنده من قبيل تمييز المفرد المعبر فنه بانتصابه عن تمام الاسم، قال في الشرح: «ولا يفعل ذلك - يعنى الجر بالإضافة - في التمييز بتنوين ظاهر إن كان ما هو فيه مقدر الإضافة إلي غير التمييز، نحو: البيت ممتلئ برا، فإن تقديره: البيت ممتلئ الأقطار برا، فلما كان المميز في هذا الباب ونحوه مضافا إلي غير التمييز تقديرا امتنع أن يضاف إلي التمييز، كما لا يضاف إليه المضاف صريحا، فإن كان التنوين الظاهر فيما لا يقدر بذلك جاز بقاء التنوين ونصب المييز بالمييز، وزوال التنوين وإضافة المميز إلي المميز» انتهى.

وقوله ونحوه أي: ونحو: ممتلئ ماء، ومثاله: متفقئ شحما، أن انتصاب التمييز فيه هو فيما يميز مفردا، وهو المعبر عنه بأنه منتصب عن تمام الاسم كالجائي بعد العدد والمقدار حتى يستثنيه من ذي التنوين الظاهر - هو خلاف مذهب س ومن وقفنا على كلامه من النحويين، بل هذه الصفة جارية مجرى الفعل، فالتمييز منتصب عن تمام الجملة كما هو منتصب عن تمامها في فعله، وقد ذهب هو إلي ذلك في الفعل، وسيأتي ذكره ذلك في الفصل بعد هذا، وإنما هذا من قبيل ما التمييز فيه فاعل من حيث المعنى، وهو منتصب في الفعل وفي الوصف عن تمام الكلام، وقد بينا الفرق بينهما - أعني بين ما انتصب عن تمام الاسم وبين ما انتصب عن تمام الكلام - حين تكلمنا معه في تمثيله بقوله «هو مسرور قلبا» إلي آخره. إلا أن ابن خروف أشكل عليه كون المنصوب في: امتلأ الإناء ماء، وتفقأ زيد شحما - هو المرفوع في المعنى بالنظر إلي الأصل وبالنظر إلي اللفظ، قال: «لأن الأصل: من ماء، ومن شحم، فليس ما كان أصله الجر بحرف الجر مرفوعا عن حيث المعنى». وقال: «ولا يقال: امتلأ ماء الإناء، كما يقال: تصبب عرق زيد» انتهى. ولا يلزم ذلك من قال إنه فاعل في المعنى، لأنه لم يقل إنه فاعل في المعنى «امتلأ»، إنما أراد أنه فاعل في المعنى من حيث أنه مالئ للإناء، لأن المطاوع الذي

هو امتلأ يتضمنه الحامل الذي هو ملأ، وقد استعملت العرب: ملأ الماء الإناء، خلافا لمن أنكر استعماله، قال الشاعر: تصرم مني ود بكر بن وائل ... وما كان ظني ودهم يتصرم قوارص تأتيني، ويحتقرونها ... وقد يملأ الماء الإناء، فيفعم /فإذا أردت المطاوع قلت: امتلأ الإناء ماء. وقوله أو مقدرا في غير «ملآن ماء»، و «أحد عشر درهما»، و «أنا أكثر مالا»، ونحوهن أما ما كان غير الثلاثة التي ذكر فنحو: رأيت رجلا أشعت رأسا، وهند شنباء أنيابا، يجوز فيه النصب على التمييز والجر على الإضافة، فتقول: أشعت رأس، وشنباء أنياب. وهذا عندنا أيضا ليس من قبيل ما انتصب عن المفرد الذي عبر النحويون عنه بأنه منتصب عن تمام الاسم، وإنما هذا مما انتصب عن تمام الجملة والكلام، وقد تقدم الفرق بينهما، وهذا فاعل من حيث المعنى، تقول: زيد أشعت رأسه، وهند شنباء أنيابها، فهذا التمييز هو من التمييز المنقول من الفاعل، وسيأتي الكلام فيه إن شاء الله. وأما قوله ملآن ماء ف «ملآن ماء» هو عندنا من التمييز الذي هو فاعل من حيث المعنى، وانتصب عن تمام الجملة لا عن تمام المفرد. وأما أحد عشر درهما فهذا مما انتصب عن تمام المفرد لا عن تمام الكلام، ولا خلاف في ذلك.

وأما أنا أكثر مالا فهو عندنا من التمييز المنقول عن المضاف، وتقديره: مالي أكثر، وهو مما انتصب عن تمام الكلام لا عن تمام الاسم. وقال في الشرح: «ومن الممنوع الإضافة للتمييز للزوم تنوينه تقديرا أحد عشرا وبابه، وكذلك أفعل التفضيل المميز بسببي، نحو: زيد أكثر مالا، وعلامة السببي صلاحيته للفاعلية بعد تصيير أفعل فعلا، كقولك في زيد أكثر مالا: زيد كثر ماله، فإن لم يصلح ذلك تعينت الإضافة، كقولك: زيد أكرم رجل» انتهى. والذي أقول: إنه ليس في أحد عشر ولا في «أنا أكثر» تنوين مقدر البتة، فالذي منع الصرف منع منه التنوين، فكيف يقال: إن فيه تنوينا مقدرا؟ وكذلك أحد عشر مبني ومحكوم له بأنه اسم واحد، والتنوين الذي هو فيما يقابله هو تنوين الأمكنية، فكيف يقال: إن فيه تنوينا مقدرا؟ وقوله أو يكون نون تثنية مثالة: رطلا زيت. وقوله أو جمع تصحيح مثاله: هم حسنو وجوه، وذلك على ما قال في أن مثل هذا تمييز عن المفرد لا عن الجملة. وقال المصنف في الشرح: «ومما لا يضاف إلي مميزه عشرون وأخواته، فلا يقال: عشرون درهم، بل عشرون درهما، هذا هو المشهور. وحكي الكسائي أن من العرب من يقول: عشرون درهم». وبعض النحويين قاس على هذا الشاذ، فأجاز: عشرو درهم، وكذلك العقود بعدها.

وقوله أو مضافاً إليه صالحا لقيام التمييز مقامه قال المصنف في الشرح: «فإن كان أفعل مضافا إلي جمع بعده تمييز لا يمتنع بعده مكانا أفعل جاز بقاؤهما على ما كان عليه، وجاز حذف الجمع والإضافة إلي ما كان تمييزا، كقولك: زيد أشجع الناس رجلا» انتهى. واحترز بقوله «صالحا لقيام التمييز مقامه» من مضاف إليه لا يصلح إن حذف أن يقوم التمييز مقامه، مثاله: زيد لله /دره رجلا! ويا ويحه رجلا! لو حذفت المضاف إليه لم يصلح التمييز لقيامه مقامه، فلا يجوز حذفه وجر ما بعده، لا يجوز: لله در رجل، ويح رجل. وأما قول المصنف في الشرح «إن كان أفعل مضافا» إلي آخر كلامه، وتفسيره قوله «أو مضافا إليه صالحا لقيام التمييز مقامه» بقولك: زيد أشجع الناس رجلا، فيقرهما على ما كان عليه من إبقاء المضاف إليه ونصب التمييز، أو يحذف الجمع، ويضيف إلي ما كان تمييزا - فتخليط فاحش وسؤ فهم؛ لأنك إذا قلت زيد أشجع رجل فليس رجل هنا في هذا التركيب هو الذي كان في: زيد أشجع الناس رجلا، فحذفت الناس، وأضفت أشجع إلي تمييزه، بل لم يكن هذا تمييزا البتة، وإنما هو اسم مفرد قام مقام الجمع، والمعنى: زيد أشجع الرجال، فليس التمييز ل «أشجع»، ألا ترى أنه يجوز أن تأتي بالتمييز بعده، فتقول: زيد أشجع رجل قلبا، وأحسم رجل وجها، ولو كان هو التمييز لم يجز أن يكون لأشجع ولا لأحسن تمييزان اثنان.

وقال س في أثناء باب الصفة المشبهة: «فإن أضفت، فقلت: هذا أول رجل - اجتمع فيه لزوم النكرة وأن يلفظ بواحد، وذلك أنه إنما أراد أن يقول: أول الرجال، فحذف استخفافا واختصارا، كما قالوا: كل رجل، يريدون: كل الرجال فكما استخفوا بحذف الألف واللام استخفوا بترك بناء الجميع، واستغنوا عن الألف واللام بقولهم: خير الرجال: وأول الرجال». وقال س أيضا في باب كم، وقد ذكر تمييزها، فقال: «لو قلت كم لك الدرهم لم يجز كما لم يجز في قولك عشرون الدرهم، لأنهم إنما أرادوا عشرين من الدراهم. هذا معنى الكلام، ولكنهم حذفوا الألف واللام، وصيروه إلي الواحد، وحذفوا من استخفافا، كما قالوا: هذا أول فارس في الناس، وإنما يريدون: هذا أول من الفرسان» انتهى. وتبين من كلام س أن المجرور هو المفضل عليه زيد، لأنك إذا قلت زيد أشجع رجل فمدلوله: أشجع الرجال، فهو مفضل عليهم، ولذلك قدره س مرة بالجمع المعرف مضافا إليه أفعل، فقال: أول الرجال، وتارة قدره بالجمع المعرف مجرورا بمن، فقال: أول من الفرسان، وأتضح أن المجرور المفرد هو بمعنى الجمع المعرف، وهو المفضل عليه من سبق ذكره، والمفضل عليه لا يكون هو التمييز. وقوله في غير ممتلئين أو ممتلئين غضبا قال المصنف في الشرح: «ومما لا يضاف ممتلئان وممتلئون ونحوهما. والعلة في ذلك مفهومة مما ذكر في ممتلئ وملآن» انتهى.

هذا بناء منه على ما قال: إن مثل ما هو من تمييز المفرد المعبر عنه في الاصطلاح بأنه منتصب عن تمام الاسم. وفهم العلة هو أنه - عنده - مضاف من حيث المعني، أي: ممتلئا الأقطار، او: ممتلئو الأقطار غضبا. وسيأتي كلام أصحابنا فيما خالفهم فيه المصنف وقال: إنه تمييز عن مفرد، وهم / يقولون إنه تمييز عن جمله، في الفصل بعد هذا، إن شاء الله. -[ص: وتجب إضافة مفهم المقدار إن كان في الثاني معني اللام، وكذا إضافة بعض لم تغير تسميته بالتبعيض، فان تغيرت به رجحت الإضافة والجر علي التنوين والنصب، وكون المنصوب حينئذ تمييزا أولي من كونه حالا، وفاقا لابي العباس. ويجوز إظهار من مع ما ذكر في هذا الفصل إن لم يميز عددا، ولم يكن فاعل المعني.]- ش: المقادير اذا يراد بها الآلات التي يقع بها التقدير فلا يجوز إلا اضافتها، نحو: عندي منوا سمن، وقفيز بر، وذراع ثوب، تريد الرطلين اللذين يوزن بهما السمن، والمكيال الذي يكال به البر، والآلة التي يذرع بها الثوب فإضافة هذا النوع علي معني اللام لا علي معني من. وأفهم كلام المصنف أنه إذا لم يكن في الثاني معني اللام لا تجب الإضافة، وتحت نفي وجوب الإضافة المنع والجواز، ففي هذا المفهوم الهام، فكان ينبغي أن يبين الحال في المميز والمميز، لكنه قال في الشرح ما نصه: «لي ظرف عسل، وكيس دراهم، تريد ظرفا يصلح للعسل، وكيسا يصلح للدراهم، فالإضافة في هذا النوع متعينة، فلو اردت عسلا يملأ ظرفا، ودراهم تملا كيسا - جاز لك أن تضيف وتجر، وأن تنون وتنصب» انتهى.

وفي البسيط: «لا يكون النصب إلا اذا كان الأول مقدار: كيلا، وزنا، أو ما في حكمهما، ونويت فيه ذا المقدار، فان نقص أحدهما لم يجز النصب، والمقدار كالمثقال، والرطل، والكر، وعدل كذا، ووزن كزا، ونحوه. وقد تنزل أشياء منزله المقادير وإن لم تكن مقادير، نحو: عندي بيتان تبنا، وحزمتان بقلا، وجبتان حزا، وخاتمان ذهبا، لا تنصب الا حين ترد مقدار الجبتين من الخز، والخاتمين من الذهب، ولو أردت نفس ذلك لخفضت، كقولك: ما فعلت جبة الخز؟ وما فعلت جبتك الخز؟ اتباعا، إلا أن تقطع كالنعت والحال. وتقول: عندي قضيبان عوسج وشوحط، ترفع لأن القضيب وما أشبهه ليس مقدارا لشيء، فان نويت قدر قضيبين من ذلك جررت ذلك» انتهى. وقال أصحابنا: اذا أريد بالآلات الأشياء المقدرة بها جاز أربعه أوجه: أحدها: نصب ما بعدها على التمييز. وجاز النصب لأن الأصل في عندي رطل زيتا: عندي مقدار رطل زيتا، وكذلك في: قفيز برا، وذراع ثوبا، واضافه «مقدار» إلى تمييزه لا تمكن لحجز المضاف بينهما، فلما تقرر النصب لما ذكرناه حذفوا المضاف الذي هو مقدار، وأقاموا ما كان مضافا اليه مقامه، فأعربوه بإعرابه، وأبقوا النصب في التمييز علي ما كان عليه في الأصل. الوجه الثاني: الإضافة علي معني من، لأنه بعض ما أضيف اليه، وذلك أن القفير والرطل والذراع انما يراد بها المقدار المحذوف، وليس لها في اللفظ ما يمنعها من الإضافة ويحجز عنها، فأوثرت الإضافة على النصب.

الوجه الثالث: جعل ما بعد المقادير صفة لها، فتعرب بإعرابها، وهو قول س، وضعفه، تقول: عندي / منوان سمن، وقفيز بر، وذراع ثوب. وهذا الوجه ضعيف لأن أسماء الأجناس جوامد، والجامد لا يوصف به الا بعد أن تتكلف تضمينه معني المشتق، وذلك قليل فيه. انتهى. وقال ابن السراج: ويجوز أن تقول: عندي رطل زيت، وخمسه أثواب، ولي مثله رجل، علي البدل. الوجه الرابع: نصبه علي الحال، ويكون أيضا في هذا الوجه قد ضمن معني المشتق كما كان في الصفة. قيل: وحسن وقوع الحال بعد النكرة كونه غير وصف في الأصل، نحو: مررت بماء قعده رجل، ووقع أمر فجاءة. واعلم أن انتصاب التمييز عن تمام الاسم في الأعداد والمقادير انما يكون اذا تعذرت الإضافة، فان لم تتعذر لم يجز النصب لأن النصب في هذا الباب ضعيف لكونه في خامس رتبه من الفعل، لأن النصب بعدها مشبه بنصب أفعل من، وأفعل من مشبه بالصفة المشبهة، وهي مشبهة باسم الفاعل، وهو مشبه بالفعل، فلا يتكلف النصب الا عند تعذر الإضافة، تقول: ثلاثة أثواب، ومئة ثوب، وألف درهم، ولا يجوز التنوين والنصب الا في اضطرار الشعر. وانما نصبو في عشرين وأحد عشر وبابهما لأن الأصل: من الرجال، واختصروا تخفيفا بحذف (من) و (أل)، واجتزائهم بالمفرد المراد به الجنس عن الجمع اذ يدل علي ما يدل الجمع، وهو أخف، ونصبوه.

ولم يجيزوا: عشرو رجل، ولا أخد عشر رجل، لأن الإضافة علي معني من، ولو صرحت ب «من» عاودت الأصل، وهو الجمع بأل، فكما امتنع دخول من على المفرد امتنعت الإضافة اليه لأنه مفرد. وجاز النصب في «رطل سمنا» باعتبار أن الأصل: مقدار رطل سمنا، وتقدم تقرير ذلك. فرع: اذا كان المقدار مختلطا من الجنسين فقال الفراء: لا يجوز عطف أحدهما علي الاخر، بل تقول: عندي رطل سمنا عسلا، اذا اردت ان عندك من السمن والعسل مقدار رطل، لأن تفسير الرطل ليس السمن وحده ولا العسل وحده، وانما هو مجموعهما، فجعل سما عسلا اسما للمجموع علي حد قولهم: هذا حلو حامض. وذهب غيره الي العطف بالواو، وتكون جامعة، والواو الجامعة تصير ما قبلها وما بعدها بمنزلة شيء واحد، ألا تري انك تقول: هذان زيد وعمرو، فصيرت الواو الجامعة زيدا وعمرا خبرا عن هذان، ولا يمكن أن يكون زيد على انفراده خبرا، وعمرو خبر اخر عطف عليه، لأن كلا منهما مفرد، وهذان مثنى، والمفرد لا يكون خبرا عن المثنى. وكذلك: زيد وعمرو قائمان، الواو جامعة، لا يجوز أن يكون زيد مبتدأ علي انفراده، وعمرو معطوف عليه، لأن كلا منهما مفرد، ولا يكون المثنى خبرا عن المفرد. قال بعض أصحابنا: وكلا القولين سائغ عندي. وقوله وكذا إضافة بعض لم تغير تسميته بالتبعيض يعني أنه تجب إضافته، ومثل ذلك المصف في الشرح يجوز قطن، وحب رمان، وغصن ريحان، وتمره نخله، وسعف مقل، قال: «فهذا النوع إذا ميز بما هو منه فلا بد من إضافته إليه، لأن اسمه/ الذي كان له غير مستبدل به».

وقال ابن السراج: «إذا قلت ماء فرات، وتمر شهريز، وقضيبا بان، ونخلتا برني - فذلك ليس بمقدار معروف مشهور، وكلام العرب (الخفض)، والاختيار فيه الإضافة أو الإتباع، ولا يجوز فيه التمييز إذا لم يكن مقدارا». وقوله فإن تغيرت (به) رجحت الإضافة والجر علي التنوين والنصب إلى قوله لأبي العباس مثله المصنف في الشرح بجبة خز، وخاتم فضة، وسوار ذهب، قال: «فإن أسماءها حادثة بعد التبعيض والعمل الذي هيأها بالهيئات اللائقة بها، فلك في هذا النوع الجر بالإضافة، والنصب علي التمييز أو علي الحال، والثاني هو ظاهر قول س، وقد تقدم في باب الحال بيان شبهة س في جعله حالا، والأول قول أبي العباس، وهو أولي لأنه لا يحوج إلي تأويل. مع أن فيه ما في المجمع علي كونه تمييزا، بخلاف الحكم بالحالية، فإنه يحوج إلي تأويل بمشتق مع الاستغناء عن ذلك، ويحوج إلي كثره تنكير صاحب الحال، وكثرة وقوع الحال غير متنقلة، وكل ذلك علي خلاف الأصل، فاجتنابه أولي. فلو كان ما قبل خز وفضة معرفو رجحت الحالية، وقد تقدم ذلك في باب الحال» انتهى.

وهذا الذي ذكره المصنف في الفص والشرح غير موافق عليه، بل في ذلك تفصيل: قال بعض اصحابنا: «إذا قلت عندي جبة خز فإما أن تريد أن عندك مقدار جبة او الجبة نفسها التي نسجت من الخز: فإن أردت الأول كان بمنزلة: عندي رطل سمنا، تجوز فيه الأربعة الأوجه: الجر بالإضافة، والنصب علي التمييز، أو الحال، أو التبعية علي الوصف. وإن أردت الثاني فالجر بالإضافة. ولا يجوز النصب علي التمييز، بل إن جاء منصوبا فعلي الحال، وذلك لما تقدم من أنه لا يجوز النصب علي التمييز في هذا الباب إلا إذا تعذر الخفض في لفظ المسألة أو في أصلها، وخفض خز في هذه المسالة علي هذا التقدير بإضافة جبة إليه غير متعذر لا في اللفظ ولا في الأصل، لأنه لا تقدر علي هذا المعني إضافة مقدار إلي جبه، لأنه ليس عندك مقدار جبة، وإنما عندك الجبة بنفسها، وإذا لم يكن الأصل عندي مقدار جبة لم يكن في المسألة ما يمنع من الإضافة، ولهذا حمل س انتصاب خز في قول العرب عندي جبة خزا علي الحال، ولم يجعله علي التمييز، وخالفه في ذلك المبرد، وزعم أن انتصابه علي التمييز. والصحيح ما ذهب إليه ما س من أه منصوب علي الحال للعلة التي ذكرناها، ويكون إذ ذاك متضمنا معني المشتق، والعامل فيه ما في عندي من معني الفعل» انتهى. فعلى ما قاله هذا القائل لا يجوز في جبة خز، ولا سوار ذهب، ولا خاتم فضة - النصب علي التمييز إذا أريد بذلك أن الجبة منسوجه من الخز، وأن السوار مصوغ من الذهب، وأن الخاتم مصوغ من الفضة، وانما يجوز ذلك إذا أريد أن عنده من الخز مقدار جبة، ومن / الذهب مقدار سوار، ومن الفضة مقدار خاتم، وهذا مخالف لما قرره المصنف. ويجري إذ ذاك جبة خز وبابه مجري رطل زيت في التقسيم، إن أريد بها الآلات فالجر بالإضافة، أو المقادير فالوجوه الأربعة.

وفي الإفصاح: «ينون الأول، وينصب الثاني، وهو كثير، يعني في: ثوب خزا، ونحوه. ومذهب أبي العباس أنه تمييز، و (س) يجعله حالا، وهو الصحيح، لأنه يوصف به بدليل رفعه السبب. وإذا أتبع فقول س إنه صفة، وضعفه س، وذكر أن من العرب من يرفع به، فيقول: (مررت) بسرج خز صفته، وبكتاب طين خاتمه. وجعله غيره عطف بيان، وهو قول أبي العباس، والزجاجي. وقد قيل: إنه بدل، قال ابن هشام: وفيه نظر، لأن الثاني أعم من الأول بوجه، والأول أعم بوجه اخر، إذ ليس كل باب ساجا ولا كل ساج بابا، وهو جائز عندي علي حذف مضاف، أي: هذا باب (باب) ساج». وقوله ويجوز إظهار من مع ما ذكر في هذا الفصل يعني أنك تقول: ملء الأرض من ذهب، وإردب من قمح، وجمام المكوك من دقيق، ولي أمثالها من إبل، وغيرها من شاء، وويحه من رجل، ولله دره من فارس، وحسبك به من رجل، وأبرحت من جار، وما أنت من فارس، قال: يا سيدا! ما أنت من سيد ... موطأ الأكناف رحب الذراع وكذلك ما ذكرناه نحن، تقول: ويلمه من مسعر حرب، ويا طيبها من ليلة، ويا لك من رجل، قال:

فيا لك من ليل، كأن نجومه ... بكل مغار الفتل شدت ... بيذبل وناهيك من رجل، وما في السماء موضع راحه من سحاب، وعليه شعر كلبين من دين، وممتلئ من ماء. ولم يبين المصنف ما معنا «من» التي تظهر مع ما ذكر في هذا الفصل من المقادير وما اشبهها، واختلف النحويون فيها: فذهب بعضهم إلي أنها للتبعيض، ولذلك لم تدخل علي التمييز المنقول عنه الفعل، لأنه ليس أعم من المبهم الذي أتي به لتفسيره، فإذا قلت طاب زيد نفسا فـ «نفسا» ليس أعم من المبهم الذي انطوت عليه الجملة، وإذا لم يكن أعم لم تدخل عليه من التي معناها التبعيض. وقال الأستاذ أبو علي: ويمكن أن تكون (من) الداخلة علي التمييز بعد المقادير وما أشبهها زائده عن س كما زيدت في «ما جاءني من أحد»، لأنه جعل من في قوله «ويحه من رجل» موكده لمعني التبعيض، وشبهها في ذلك بقولهم: ما جاءني من أحد. قال: «إلا أن المشهور من مذهب النحوين ما عدا الأخفش أن من لا تزاد إلا في غير الواجب». قال ابن عصفور: «والصحيح عندي أنها ليست بزائده، لأن الاسم المنتصب بعد المقادير وما اشبهها يحتمل أن يكون حالا وأن يكون تمييزا، فإذا أتيت، (من) كان المعني معني التمييز لا الحال، لأن من لا تدخل علي الحال، فلما كانت من تعطي ما لا يعطيه النصب - وهو النص علي إرادة معني التمييز والتبيين - لم يجز جعلها زائده، لأن الزائد هو الذي يكون معني الكلام في حال ثبوته وسقوطه واحدا».

وقال ابن عصفور أيضا: «من هذه مؤكده لمعني التبعيض، وذلك أنك إذا قلت: عندي راقود خلا، ولي مقله رجلا، وعندي ذراع ثوبا، فمثله والذراع والراقود بعض هذه الاجناس المنتصب علي التمييز، فإذا أتيت بـ (من) كانت مؤكدة لمعني التبعيض المفعوم قبل الإتيان به، كما أن (من) في قولك ما جاءني من أحد مؤكده لمعني التبعيض الذي كان يعطيه الكلام قب دخول من، ألا تري أن المراد بقولك «ما جاءني أحد» نفي مجيء كل أحد من الناس منفرجا أو مع غيره، وبذلك حصل في هذا الكلام معني النفي العام، إذ لو كان المراد نفي مجيء الناس كلهم لم يلزم من ذلك نفي مجيء بعضهم، وإذا كان المعني علي ما ذكرناه فالموضع موضع تبعيض، لأن كل واحد من الناس بعض الناس، فأتي بـ (من) لتأكيد ما في الكلام من معني التبعيض». وقوله إن لم يفسر عددا أي: فلا تدخل عليه من، نحو: أحد عشر درهما، وعشرين رجلا، فلا يجوز: من درهم، ولا: من رجل. ويعني بذلك إذا بقي علي إفراده، فإن جمعته لزمته من والتعريف، فتقول: قبضت أحد عشر من الدراهم، ورأيت عشرين من الرجال. وإنما لم تدخل من علي تمييز الأعداد وهو مفرد لأن التمييز إذ ذاك لا يحتمل معنيين قبل دخول من، فيكون دخولهما مبينا أن المراد أحد المعنيين، كما كان ذلك في المقادير وفي كم، فإذا أدخلت من علي ما يبين الأعداد رددت الكلام إلى الأصل، فجمعت المبين، وعرفته بأل، ولم يكن إذ ذاك تمييزا لأنه معرفه، والتمييز لا يكون معرفه، فالذي بقي علي إفراده إذا دخلت عليه من في هذا الباب هو تمييز كم، وكل تمييز يجوز فيه أن ينتصب علي الحال، نحو: لي مثله فارسا، ولله دره عالما، وويحه راكبا، وعندي راقود خلا، وما أشبه ذلك.

وقوله ولم يكن فاعل المعني قال المصنف في الشرح: «نحو: زيد أكثر مالا، وطيب نفسا بتفجر أرضه عيونا» انتهى. وهذا بناء منه علي ما قرره من أن التمييز في هذه المثل ونحوها هو تمييز مفرد لا تمييز جمله، وسيبين في الفصل بعد هذا أن مثل هذا مندرج تحت تمييز الجملة لا تحت تمييز المفرد. وفي كلامه مناقشتان: إحداهما: أن قوله «فاعل المعني» ليس بجيد، لأن مقله أفعل التفضيل، فإذا قلت: زيد أكثر مالا، وأحسن وجها - فمالا ووجها ليسا فاعلين في المعني، إذ لا يتقدر بـ «كثر ماله» ولا بـ «حسن وجهه»، لأن كثر يدل علي مطلق الكثرة، وكذلك حسن، وأكثر وأحسن يدلان علي الأكثرية والأحسنية، ولم تبن العب فعلا يدل علي هذا المعني، فليس لنا لفظ فعل يتضمن / معني أفعل التفضيل، فلا يصح أن يقال إنه فاعل المعني، إذ لا فعل له، ولذلك ذهب بعض النحويين إلى أن هذا التمييز غير مقول لا من فاعل ولا من مفعول، وسيأتي إن شاء الله. المناقشة الثانية: أن من مثل المصنف في ضرحه: هو مسرور قلبا، وقلبا ليس فاعلا، فعلي ظاهر كلامه يجوز أن تدخل عليه من، ولا يجوز ذلك، وقلبا هو مفعول (لما) لم يسم فاعله، لكنه قد يكون عني: ولم يكن فاعل المعني ولا نائبا عنه. وأما تمثيله بقوله «طيب نفسا بتفجر أرضه عيونا» فهذا فاعل في المعني، إذ كان قبل صيرورته تمييزا: طيب نفسه بتفجر عيون أرضه، ف (عيون) و (نفس) حالة التمييز فاعلان من حيث المعنى.

وقد ضبط بعض أصحابنا ما تدخل عليه «من» وما لا تدخل، فقال: «إن كان التمييز جنسا بقي علي لفظه، نحو: ملؤه عسلا، ويجوز: من عسل. أو غير جنس - وكان مما لا يجوز جمعه - فكذلك، نحو: لي مقله خيرا منك، ومن خير منك أو جاز جمعه والمفسر واحد فكذلك نحو: لي مقله عبدا، ولله دره فارسا، ومن عبد، ومن فارس، حافظوا علي المشاكلة. أو جمع غير عدد جاز جمعه وإفراده، نحو: لي ملء الدار من عبد، ومن العبيد، وعبدا، وعبيدا، أو عدد غير (كم) انتصب مفردا، ودخلت من مردودا إلي الجمع المعرف بأل ونحو: عشرين درهما، أو: من الدراهم رفضت الأصل حين نصبت، ولم ترفضه في: لي ملء الدار رجالا، أو (كم) خبريه فيجوز فيها مع من الإفراد والجمع، أو استفهامية فالإفراد» انتهى ملخصا. *************

-[ص: فصل مميز الجملة منصوب منها بفعل يقدر غالبا إسناده إليه مضافا إلي الأول، فإن صح الإخبار به عن الأول فهو له أو لملابسه المقدر، وإن دل الثاني علي هيئة وعني به الأول جاز كونه حالا، والاجود استعمال (من) معه عند قصد التمييز.]- ش: قال المصنف في الشرح: «المراد بمميز الجملة ما ذكر بعد جملة فعلية مبهمة النسبة، نحو: طبت نفسا، واشتعل رأسي شيبا، {وفجرنا الأرض عيونا} وامتلأ الكوز ماء، وكفي الشيب ناهيا. وإنما أطلق مميز الجملة علي هذا النوع خصوصا - مع أن كل تمييز فضله علي جمله - لأن لكل واحد من جزأي الجملة في هذا النوع قسطا من الإبهام يرتفع بالتمييز، بخلاف غيره، فإن الإبهام في أحد جزأي جملته، فاطلق علي مميزه مميز مفرد، وعلى تمييز هذا النوع مميز جملة» انتهى. وهذا الذي شرطه المصنف في مميز الجملة أن يكون بعد جملة فعليه لم يشترطه النجاة، بل ذلك عندهم يكون بعد جمله فعليه، او جملة اسمية، أو اسم فعل، فمثل: زيد طيب نفسا، وأكثر مالا، ومسرور قلبا، وممتلئ غضبا، ومتفقئ شحما، وسرعان ذا إهالة، والزيدان حسان وجوها، والزيدون حسنون وجوها - كل هذا من قبيل ما انتصب عن الجملة، وهو الذي يعبرون عنه بأنه انتصب عن تمام الكلام. ولما أخذ المصنف في تمييز الجملة شرط الفعل جعل هذه الأمثلة جميعها / من قبيل تمييز المفرد، ولا نعلم له سلفا في هذا الاصطلاح. وتعليله تمييز الجملة يقتضي

اشتراك الجملة الاسمية مع الجملة الفعلية في ذلك، وهو قوله «لأن لكل واحد» إلي آخره. وقد ذكر شيوخنا تقسيم التمييز إلى ما هو منتصب عن تمام الكلام، وهوما كان واقعا بعد فعل، أو اسم فيه معني الفعل، نحو الصفة المشبهة باسم الفاعل وأفعل من، وتأتي تقاسيمه. ومنتصب عن تمام الاسم، وهو الذي يأتي بعد الأعداد والمقادير من المكيل والموزون والمسموح وما شبه بها، وذكروا أن هذا يكون تفسيرا لاسم مبهم قبله. وأن الذي عن تمام الكلام يكون مفسرا لما انطوي عليه الكلام الذي قبله. وملخص ما ذكروه أن هذا مبهم في النسبة، وذلك مبهم في الجزء لا في النسبة، وإذا فهم هذا المعني لم يكن لما قاله المصنف وجه، ولا لما اصطلح عليه وحده، إذ صار فيما اصطلح عليه أنه تفسير للمفرد تخليط في المعني، إذ جمع فيه بين ما الإبهام فيه من جهة النسبة بين ما الإبهام فيه من جهة الجزء، وفيما اصطلح عليه من تمييز الجملة قصور، إذ خص إبهام النسبة بالجملة الفعلية، وهو معنى تشترك فيه الجملة الاسمية والجملة الفعلية. وقوله منصوب منها بفعل أي: منصوب من الجملة بفعل، هذا علي ما اختاره. وأما اصحابنا فيقولون: منصوب بعد فعل أو مصدر ذلك الفعل أول ما اشتق منه من وصف، نحو: اشتعل الرأس شيبا، وزيد طيب نفسا، ومسرور قلبا، وأكثر مالا، وأفره عبدا.

ونصبه بالفعل أو ما جري مجراه من المصدر والوصف واسم الفعل، كقولهم: سرعان ذا إهالة، هذا مذهب س، والمازني، والمبرد، والزجاج، والفارسي. قال ابن عصفور: وذهب المحققون إلي أن العامل فيه هو الجملة التي انتصب عن تمامها لا الفعل ولا الاسم الذي جري مجراه. وإليه ذهب ابن عصفور، قال: والدليل علي ذلك شيئان: أحدهما: أنا وجدنا المنتصب عن تمام الكلام قد لا يتقدمه فعل ولا اسم يجري مجراه، نحو قوله: داري خلف دارك فرسخا، وليس فرسخا من قبيل ما انتصب عن تمام الاسم، فلا تنصبه داري لأنها ليست الفرسخ، ولا خلف لأن الخلف ليس بالفرسخ، إذ الخلف ليس له مقدار يحصره، والفرسخ معلوم المقدار، وإنما هو تفسير لما انطوى عليه الكلام من المسافة، فبينت بهذا التمييز. والآخر: أنه قد يكون في الكلام فعل، ولا يكون طالبا للتمييز، حو: امتلأ الإناء ماء، فليس الماء تبيينا للفعل ولا لمعموله الذي هو الإناء، وإنما هو تفسير لما انطوي عليه الكلام، ألا تري أنه إذا قلت «امتلأ الإناء» علم أن له مالئا إلا أنه لا يدري ما هو ففسرته بقولك ماء» انتهى ملخصا. وقد ينازع في هذين الدليلين: أما الأول فقد يدعي أن هذا المقال من قبيل ما انتصب عن تمام الاسم، وهو شبيه بقولهم: لي مثله فارسا، لأنه لما قال «لي مثله» انبهمت المثلية، ففسرت

بقوله فارساً، وكذلك لما قال «داري خلف دارك» انبهمت / مسافه الخلف، ففسرت بقوله فرسخا. وأما قوله «لأن الخلف ليس بالفرسخ» أما من حيث المدلول والقطع عن هذا التركيب فصحيح، وأما في هذا التركيب فليس بصحيح، بل مسافه خلف دارك هي الفرسخ. وأما الثاني فلا أسلم أن امتلأ لا يطلب ماء، بل هو طالب له من حيث إن المطاوع دال علي الحامل، فهو طالب له من حيث المعني وإن لم يصح إسناده إليه. وقوله يقدر غالبا إسناده إليه مضافا إلي الأول شمل قوله «إسناده إليه» أن يكون منقولا من فاعل، نحو: طابت نفس زيد، في قولك: طاب زيد نفسا، وقال الشاعر: تلفت نحو الحي حتي وجدتني ... وجعت من الإصغاء ليتا وأخدعا وأن يكون منقولا من المفعول، نحو {وفجرنا الأرض عيونا}، لأن إسناد الفعل إلي ما كان تمييزا وإضافته إلي ما كان انتصب بعدهما يشمل الإسناد إلي النوعين، لكن المصنف فسر في ضرحه أنه يريد بالإسناد إلي الفاعل، قال: «واحترزت بقولي يقدر غالبا من نحو {وفجرنا الأرض عيونا}، وامتلأ الكوز ماء، و {كفى بالله شهيدا}، وما أحسن الحليم رجلا». فأما قوله تعالي {وفجرنا الأرض عيونا} فقد استدل به علي مجيء التمييز منقولا من المفعول، وإلي أن التمييز يكون منقولا من المفعول ذهب أكثر المتأخرين، وبه قال ابن عصفور وهذا المصنف.

وقال الأستاذ أبو الحسن الأبذي: «هذا القسم لم يذكره النحويون، وإنما الثابت كون التمييز منقولا من الفاعل». وتأول كلام الجزولي علي أنه يمكن أن يريد بقوله «منقولا من المفعول» أي: من المفعول الذي لم يسم فاعله، نحو: ضرب زيد ظهرا وبطنا، وفجرت الأرض عيونا. وحمل الأستاذ أبو علي (عيونا) علي أنه منتصب علي الحال لا علي التمييز ن ويكون حالا مقدرة تسمية بالمآل، كقوله {إني أرنى أعصر خمرا} أي: صارت عيونا بعد التفجير. قال ابن الضائع: «والأولي أن يقال: إن التفجير وكونها عيونا متلازمان، ليس أحدهما قبل الآخر بالزمان، وإنما غلطه في ذلك كون التفجير سببا في كونها عيونا، فليست عيونا قبل التفجير، بل فجرت في حال أنها عيون» انتهى. وهذه الحال جامدة، ويتأول فيها الاشتقاق، وهو أن عيونا في معني محال أو حوامل للماء، وكثيرا ما تأتي الحال جامده، وقد نص علي ذلك س. قال الأستاذ أبو علي: «فعلى هذا لم يثبت التمييز منقولا من المفعول، فينبغي ألا يقال به» انتهى. وتأوله أبو الحسين بن أبي الربيع تأويلين:

أحدهما: أن انتصاب (عيونا) علي البدل من الأرض، أي: وفجرنا عيون الأرض، وحذف الضمير، أي: عيونها. والثاني: أن انتصابه علي إسقاط حرف الجر، والأصل: فجرنا الأرض بعيون، وغرست الأرض بشجر. ورد ذلك عليه بالتزام العرب التنكير في ذلك، ولو كان مفعولا علي اسقاط حرف الجر أو بدلا لجاز أن يأتي معرفة ونكرة، فتقول: فجرت الأرض عيونها، وغرست الأرض شجرها، وفجرت الأرض العيون، وغرست الأرض / الشجر، ولو كان معمولا علي إسقاط الحرف لجاز تقديمه علي الفعل. وأما «امتلأ الكوز ماء» فلا نعلم خلافا أن انتصاب ماء علي التمييز عن الجملة وعن تمام الكلام، ولا يجوز أن يكون ماء منصوبا علي إسقاط حرف الجر وإن كان أصله حرف الجر، ويجوز أن تصرح به فتقول: امتلأ الكوز من الماء، لأنه لو كان كذلك لجاز أن يأتي نكرة ومعرفة، ولجز تقديمه علي الفعل، ولكنه لما التزم فيه التنكير والتأخير عن الفعل دل علي أن العرب انما نصبته علي التمييز، وقد تقدم لنا أن الماء من حيت المعني هو فاعل، لكنه ليس فاعلا لـ «امتلأ»، إنما هو فاعل لـ «ملأ» الذي امتلأ مطاوعه. وكذلك تفقأ زيد شحما، هو مطاوع فقأ، فالشحم فاعل، لكنه بـ «فقأ»، كما أن الماء فاعلا بـ «ملأ»، والشحم غير المتفقئ، والماء غير الممتلئ، فهما بخلاف: طاب زيد نفسا، النفس هي الطيبة، وحسن وجها، الوجه هو الحسن، فكأنه قال: تشقق زيد من أجل الشحم أو به، وامتلأ الإناء بالماء أو من الماء. ويجوز أيضا التصريح في تفقأ زيد شحما بـ «من» فتقول: من شحم.

وأما {كفى بالله شهيدا} فهذا تمييز، يدل عليه جواز دخول من عليه، فتقول: كفي بالله من شهيد. وجعل المصنف هذا التمييز مما انتصب عن الجملة، ولا يصح أن يكون فاعلا بـ «كفي»، إذ ليس المعني علي: كفى شهيد الله. وهذا النوع فيه خلاف: عده المصنف مما انتصب عن تمام الجملة، وهو الظاهر في بادي الرأي. وعده بعضهم مما انتصب عن تمام الاسم، فذكر أن الذي يأتي عن تمام الاسم ثلاث أضرب: أعداد، ومقادير، ومحمول عليها، فذكر الأعداد والمقادير، ثم قال: «الضرب الثالث المحمول عليها، وذلك كقولك: حسبك به فارسا، ولله دره شجاعا، وكفي به ناصرا، {وكفى بالله وكيلا}، وويحه رجلا، ولي مقله رجلا، وعلي التمرة مثلها زبدا، فهذا النوع- وإن لم يكن داخلا تحت المقادير- فإنه يناسبها من حيث إنه يزيل الاحتمالات المبهمة، فإنك في قولك هذا قب دخول المميز متعجب من الاجناس التي احتملها، فإذا قلت فارسا أو شجاعا أو رجلا بينت المقصود. والباء في «حسبك به» يجوز أن تكون زائده، فتكون الكاف مفعولة والهاء فاعلة في المعني. ويجوز أن تكون غير زائدة، فتكون الكاف فاعلة في المعني، التقدير: اكتف به» انتهى. ويظهر من كلام الأخفش في الأوسط أن «كفاك به رجلا» من المحمول على المقادير، لأنه ذكره مع: حسبك من رجل، وناهيك من رجل، وهدك وشرعك وكفوك، قال الأخفش: «واعلم أن هدك وشرعك وكفيك لا تثني ولا تجمع ولا تؤنث. ويجيء فيها نحو كفاك ونهاك، تقول: هدوك وكفوك، وتقول:

أحسبوك وأحسباك، ولا يجيء ذلك في: شرعك. ومن قال كفاك به رجلا قال: كفاك بهم، للجميع، وكفاك بهما، للاثنين، لأن اسم الفاعل هو الذي بعد الباء، والباء زائدة» انتهى. وإذا استعملوا هدك ونهاك وكفاك وأحسبك وهي أفعال في معني هدك وناهيك وكفيك وحسبك ألحقوها الضمائر وعلامه التأنيث إذا أسندت إلي المثنى والمجموع / والمؤنث، وجاء بعدها التمييز كما جاء بعد الأسماء، والكلام فيها كالكلام في {كفي بالله شهيدا}. وقد ذكر بعض شيوخنا مع «أبرحت فارسا» «لله دره»، وقال: «وكذلك: {كفي بالله شهيدا} كـ (اكتف بالله شهيدا)، وكذلك قولهم: تالله رجلا» وأما «ما أحسن الحليم رجلا» فكان قبل همزه النقل: حسن الحليم رجلا، فهذا تمييز ليس منقولا من فاعل، فهو شبيه بقولهم: كفى بزيد ناصرا، فيمكن أن يجري فيه الخلاف كما جري في ذلك، فول قلت ما أحسن الحليم عقلا كان هذا من قبيل ما انتصب عن تمام الكلام بلا خلاف، لأن أصله: حسن الحليم عقلا، أي: حسن عقل الحليم، فهو منقول من الفاعل كـ «طاب زيد نفسا». وقد قسم بعض أصحابنا التمييز المنتصب عن تمام الكلام إلي: منقول من فاعل او مفعول أو مبتدأ، نحو: طاب زيد نفسا، {وفجرنا الأرض عيونا}، وزيد أحسن وجها منك، الأصل: طابت نفس زيد، وفجرنا عيون الأرض، ووجه زيد أحسن من وجهك، وهذه الثلاثة يحصرها أنها منقولة من مضاف. وإلي مشبه بالمنقول، وذلك نحو: امتلأ الإناء ماء، ونعم رجلا زيد. ووجه الشبه أن امتلأ مطاوع ملأ، فكأنك قلت: ملأ الماء الإناء، ثم صار تمييزًا بعد أن

كان فاعلاً. وأما نعم رجلا زيد فكان الأصل: نعم الرجل، قم أضمرت، وصار بعد أن كان فاعلا تمييزا. والى ما ليس بمنقول ولا مشبه بالمنقول، نحو: حبذا رجلا زيد. وزعم ابن الضائع أن التمييز في باب نعم وحبذا شبيه بالمنقول، فإذا قلت نعم رجلا زيد فالأصل: نعم الرجل، فلما أسندت الفعل إلي ضمير مبهم جئت برجل بيانا، وكذلك حبذا. قال: «والظاهر من كلام س أن التمييز في نعم رجلا زيد ونحوه أشبه بالمقادير». وقول ابن عصفور إنه أشبه بالمنقول ليس كذلك، بل هو كـ (ويحه رجلا) وبابه. ومنه أيضا: ربه رجلا، فهذا كله نمط واحد. وقوله فإن صح الإخبار به عن الأول فهو له أو لملابسه المقدر مثاله: كرم زيد أبا، فهذا يصح أن يقع أب خبرا لزيد، فتقول: زيد أب، فيجوز فيه وجهان: أحدهما: أن يكون زيد هو الأب أي: كرم زيد نفسه أبا، أي: ما أكرمه من أب، وإذ ذاك لا يكون هذا التمييز منقولا من الفاعل، ويجوز إذ ذاك دخول من عليه. والثاني: أن يكون التمييز ليس زيدا، وإنما هو أبوه، فيكون الأصل: كرم أبو زيد، أي: ما أكرم أباه، ويكون منقولا من الفاعل، ولا يجوز إذ ذاك دخول من عليه.

وقوله وإن دل الثاني علي هيئه وعني به الأول جاز كونه حالا إلي آخره مثال ذلك: كرم زيد ضيفا، إذا أريد زيدا هو الضيف جاز أن يكون ضيفا منصوبا علي الحال لدلالته علي هيئه، وجاز أن يكون تمييزا لصلاحية من. والأجود المجيء بـ «من» عند قصد التمييز رفعا لتوهم الحالية. وإن لم يعن به الأول، بل المعني: كرم ضيف زيد- لم يجز نصبه علي الحال، / بل يتعين أن يكون تمييزا، ولا يجوز دخول من عليه لأنه فاعل في الأصل. -[ص: ولمميز الجملة من مطابقة ما قبله إن اتحدا معني ما له خبرا، وكذا إن لم يتحدا، ولم يلزم إفراد التمييز لإفراد معناه أو كونه مصدرا لم يقصد اختلاف أنواعه، وإفراد المباين بعد جمع إن لم يوقع في محذور أولى.]- ش: مثال المسألة الأولي: كرم زيد رجلا، وكرم الزيدان رجلين، وكرم الزيدون رجالا، فالتمييز مطابق لما قبله في الإفراد والتثنية والجمع لاتحاده بما قبله في المعني كما يجعل مطابقا له في الإخبار، فأما قوله {وحسن أولئك رفيقا} فرفيق وخليط وصديق وعدو يخبر بها وهي مفردة عن جمع كثيرا، ويزيده هنا حسنا أنه تمييز، والتمييز قد اطرد في كثير منه الاستغناء بالمفرد عن الجمع. ويحتمل أن يكون الأصل: وحسن رفيق أولئك، فحذف المضاف، وأقيم المضاف إليه مقامه، وجاء التمييز علي وفق المحذوف. وقوله وكذا إن لم يتحدا أي: يطابق ما قبله في الإفراد والتثنية والجمع إذا كان غير متحد بما قبله من حيث المعني، ومثاله: حسن الزيدون وجوها. واحترز بقوله «ولم يلزم إفراد التمييز لإفراد معناه» من قولهم: كرم الزيدون أصلا، إذا كام أصلهم واحدا، فأصل لم يتحد من حيث المعني بالزيدين، س

وأصلهم واحد، فلا تجوز المطابقة لإبهام اختلاف أصولهم. فإضا كان الأصل واحدا لزم إفراده لإفراد مدلوله. وكذلك أيضا شرط ألا يكون التمييز مصدرا لم يقصد اختلاف نوعه، نحو: زكا الزيدون سعيا. فإن قصد اختلاف الأنواع في المصدر لاختلاف محاله جاء التمييز جمعا، كقوله {قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالا}، لأن أعمالهم مختلفة المحال، هذا خسر بكذا وهذا خسر بكذا، وكقولك: تخالف الناس آراء، وتفاوتوا أذهانا. وقوله وإفراد المباين إلى آخره مثاله {فإن طبن لكم عن شيء منه نفسا}، والزيدون قروا عينا، الإفراد هنا أولي من الجمعية لأنه أخصر، ولأنه يدل علي أنه أريد به الجمع لجمع ما قبله، 'ذ معلوم أن الجمع لا يكونون ذوي نفس واحدة ولا ذوي عين واحدة. ويجوز أن يأتي جمعا مطابقا للجمع قبله، فتقول: طابوا أنفسنا، وقر الزيدون أعينا. وقوله إن لم يوقع في / محذور شرط في كون إفراد المباين أولي من المطابقة في الجمع، ومفهوم الشرط أنه إذا أوقع في محذور كان الجمع أولي، وليس كذلك، بل إذا أوقع في محذور لزمت المطابقة، كقولك: كرم الزيدون آباء، بمعني: ما أكرمهم من آباء، لأنك لو أفردت لتوهم أن المراد كون أبيهم متصفا بالكرم. ويحتمل أيضا هذا المثال أن يكون المعني: كرم آباء الزيدين، فإذا أردت هذا المعني لزمت المطابقة. وقد يلزم الجمع أيضا بعد المفرد في المباين إذا كان معني الجمع يفوت بقيام المفرد مقامه، نحو قولك: نظف زيد ثيابا، لأنك/ لو قلت ثوبا توهم أنه له ثوب واحد نظيف.

فرع: طاب الزيدان أبا وأخا، تريد الأب لأحدهما والأخ للآخر، لا يجوز أن يجمع ولا أن يعطف، ولا يقال انه يجوز كما كان في النعت، كقولك: قام الزيدان الضاحك والعاقل، لأنا نقول: الأصل في التمييز الإضافة، وأنت لو قلت: طاب أخو الزيدين وأبوهما- وأنت تريد أخدهما- لم يجز. والتمييز في التعجب غير المبوب له، وفي باب نعم وبئس، وفي حبذا-يطابق المتعجب منه والمخصوص بالمدح والذم في الإفراد والتثنية والجمع والتذكير والتأنيث، فتقول: زيد لله دره رجلا! والزيدان لله درهما رجلين! والزيدون لله درهم رجالا! وهند لله درها امرأة! والهندان لله درهما امرأتين! والهندات لله درهن نساء! وكذلك: حسبك، وشرعك، وهدك، وكفيك، وويحه، وأبرحت، وما أنت. وتقول: نعم رجلين الزيدان، ونعم رجالا الزيدون، ونعم امرأه هند، ونعم نساء الهندات. وحبذا رجلا زيد، وحبذا امرأه هند، وحبذا رجلين الزيدان، وحبذا رجالا الزيدون. وأما التعجب المبوب له في النحو فإن كان المتعجب منه عينا والتمييز معني فالإفراد، إلا أن تقصد الأنواع فيجمع، نحو: ما أحسن زيدا أدبا! وما أحسن الزيدين أدبا! وما أحسن الزيدين أدبا! وكذلك أحسن بزيد أدبا! إلي آخره. وإن كان التمييز عينا طابق المتعجب منه في إفراد وفي تذكير وفروعهما، فتقول: ما أحسن زيدا رجلا! وما أحسن الزيدين رجلين! وما أحسن الزيدين رجالا! وكذلك: أكرم بزيد رجلا! إلي آخره. وأما أفعل التفضيل فإن كان التمييز معني فكتمييز المتعجب منه، وإن كان عينا جاز إفراده وجمعه، فتقول: الزيدون أحسن الناس وجها، وأحسن الناس وجوها، ومن كلام العرب: هم أحسن الناس وجوها وأنضرهموها.

وأما «كفى بزيد ناصرا» فيطابق ما قبله في إفراد وفي تذكير وفي فروعهما، قال تعالي {وكفي بنا حاسبين}، وتقول: كفي بالزيدين شاهدين. وكذلك هدك وأحسبك ونهاك. ويجوز في نحو «داري خلف دارك فرسخا» أن يثني ويجمع، فتقول: فرسخين، وفراسخ. والتمييز بعد (كم) و (كائن) و (كذا) و (ربه) يأتي ذكره عند ذكر هذه إن شاء الله. -[ص: ويعرض لمميز الجملة تعريفه لفظا، فيقدر تنكيره، أو يؤول ناصبه بمتعد بنفسه أو بحرف جر محذوف، أو ينصب علي التشبه بالمفعول به لا علي التمييز محكوما بتعريفه، خلافا للكوفيين. ولا يمنع تقديم المميز علي عامله إن كان فعلا متصرفا، وفاقا للكسائي والمازني والمبرد، ويمنع إن لك يكنه بإجماع، وقد يستباح في الضرورة.]- ش: قد تقدم لنا ذكر طرف من تعريف التمييز عند ذكر المصنف في حده «من نكرة»، وذكرنا اختلاف النحويين في ذلك. وتخصيص المصنف عروض التعريف. بمميز الجملة لا فائدة له، إذ الخلاف واقع في مميز المفرد ومميز الجملة، والسماع ورد في / بعض هذا وبعض هذا، فالتخصيص ليس بجيد. وقوله فيقدر بنكرة يعني انه إن كان بـ (أل) قدرت زائدة، وإن كان بالإضافة نوي فيها الانفصال، وحكم بتنكير المضاف، قال المصنف في الشرح «كما فعل

» في قولهم: كم ناقة وفصيلها لك فقدر: كم ناقة وفصيلا لها، وكما قال س [في] قولهم: كل شاة وسخلتها بدرهم، قال: «وإنما يريد: كل شاة وسخلة لها بدرهم»، وحكي عن بعضهم: هذه ناقة وفصيلها راتعان، علي تقدير: هذه ناقة وفصيل لها راتعين، ثم قال: «والوجه: كل شاة وسخلتها بدرهم، وهذه ناقة وفصيلها راتعين، لأن هذا أكثر في كلامهم، وهو القياس، والوجه الآخر قاله بعض العرب» انتهى. ولا يتخرج غبن زيد رأيه، ووجع بطنه، علي أنها إضافة يراد بها الانفصال، لأن هذا ضمير يعود علي معرفة، وليس من مواضع انفصال الإضافة، فهي إضافة محضة، ولا يسوغ قياسه على: كم ناقة وفصيلها لك، ولا على كل شاو وسخلتها بدرهم، وهذه ناقة وفصيلها راتعان، لأن الضمير في هذه عائد علي نكرة، فيمكن أن يلحظ فيه التنكير بالنسبة إلي ما عاد عليه من النكرة، وإن كان الأكثر أن يلحظ فيه التعريف، ألا تري إلي جعل س قول الشاعر: ...................................... أظبي كان أمك أم حمار من قبيل ما أخير فيه عن النكرة بالمعرفة، إذ الضمير في كان عائد علي ظبي، فهو نكرة من حيث المعني لعوده على نكرة.

وقوله أو يؤول ناصبه بمتعد بنفسه فيؤول غبن بـ «سوأ» أي: جعله سيئا، وألم بـ «شكا». وأما سفه نفسه فذكر بعضهم أنه متعد بنفسه، وأن معناه: أهلك نفسه. وقال المبرد: ضيع نفسه. وقال الزمخشري: امتهم نفسه. وجعله نظير قوله ? (الكبر أن تسفه الحق). ويدل علي أنهم أرادوا التعدية أنهم يقولون: سفه زيد وسفه، ولا يقولون في نصب الرأي إلا سفه بالكسر، ولما كان لا يتعدى لم يسقطوا معه حرف الجر. وقال صاحب «العجائب والغرائب» في قوله تعالى {ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه}: إن نسه توكيد لـ (من)، و (من) منصوب علي الاستثناء، كما تقول: ما قام أحد إلا زيدا نفسه. وقوله أو بحرف جر محذوف: كأنه قيل: غبن في رأيه، ووجع في بطنه، وألم في رأسه، قم أسقط حرف الجر، فتعدي الفعل ونصب.

وقوله أو ينصب علي التشبيه بالمفعول به فيحمل الفعل اللازم علي الفعل المتعدي، كما حملت الصفة اللازمة علي اسم الفاعل المتعدي، فقالوا: غبن رأيه والرأي، ووجع بطنه والبطن، كما قالو: هو حسن وجهه والوجه. قال المصنف في الشرح: «ومن ذلك قراءة بعضهم {فإنه ءاثم قلبه}، ومنه قول الشاعر: وما قومي بثعلبة بن سعد ... ولا بفزارة الشعر الرقابا» انتهى. ولا يتعين ما قاله في قراءة {فإنه ءاثم قلبه}، إذ يجوز أن يكون (قلبه) منصوبا علي البدل/ من اسم إن، أي: فإن قلبه آثم. وقال المصنف في الشرح: «إلا أن النصب علي التشبيه بالمفعول به شاذ في الأفعال مطرد في الصفات. وإنما كان الأمر كذلك لوجهين: أحدهما: أن الصفة اللازمة تساوي الصفة المتعدية في عمل الجر بالإضافة، بعد رفعها ضميرا، والجر أخو النصب وشريكه في الفضيلة، فجاز أن تساويها في استبدال النصب بالجر، والفعل بخلاف ذلك. الثاني: أن المنصوب علي التشبيه بالمفعول به لو حكم باطراده في الفعل اللازم كمان حكم باطراده في الصفة اللازمة لم يتميز لازم الأفعال من متعديها، بل كان اللازم يظن متعديا، ولا يعرض مثل ذلك إذا كان النصب على التشبيه

بالمفعول به مقصورا الاطراد علي الصفات شاذا في الأفعال. ومما شذ وروده في الفعل ما في الحديث من قول راويه (إن امرأه كانت تهراق الدماء)، أراد: تهراق دماؤها، فاسند الفعل إلي ضمير المرأة مبالغة، ثم نصب الدماء علي التشبيه بالمفعول به أو علي التمييز وإلغاء الألف واللام. ويجوز أن يكون أراد: تهريق الدماء، ثم فتح الراء، وقلب الياء ألفا لا لأنه فعل ما لم يسم فاعله، بل علي لغة طيئ، كما قال شاعرهم: نستوقد النبل بالحضيض، ونصـ ... ـــــــطاد نفوسا بنت علي الكرم وكما الآخر: أفي كل عام مأتم تبعثونه ... على محمر ثوبتموه، وما رضا إلا أن المشهور في لغة طيئ أن يفعل هذا بلام الفعل لا بعينه، وحرف العلة في تهراق عين، فمعاملته معاملة اللام علي خلاف المعهود» انتهى. وهذا تخريج في غاية البعد، لأن ذلك إنما تفعله طيئ بالياء المتحركة لفظا بالفتح، وتكون لام الكلمة، وهذا ليس كذلك، واصل هذا التخريج لأبي زيد السهيلي، زعم أن الدماء مفعول به صحيح، وأصله (أن امرأه كانت تهريق الدماء)، وهو في معني تستحاض، وهو مبني للمفعول به، فغسرت ياء تهريق في اللفظ فصار في اللفظ كتستحاض مبنيا للمفعول، ومرفوعه في المعني فاعل، والدماء مفعول صحيح.

وأما قوله تعالى {بطرت معيشتها} فخرجه المصنف في الشرح علي تقدير انفصال الإضافة والتنكير، وعلي اسقاط حرف الجر، وعلي أن يكون الأصل: بطرت مده معيشتها، ثم حذف المضاف، وأقيم المضاف إليه مقامه، فانتصب علي الظرفية، نحو {وإدبار النجوم}. وقوله لا علي التمييز محكوما بتعريفه، خلافا للكوفيين قد تقدم أن ابن الطراوة وافقهم علي ذلك، ومما استدل به علي ذلك باب الصفة المشبهة باسم الفاعل، ولا خلاف في جوازه فصيحا، وليس بتمييز عندهم، فان التمييز عندهم لفظة اصطلاحية منهم علي المفسر الذي لا يجوز فيه التعريف إلا شذوذا كمفسر المقادير، ولا يحفظ في لسان/ العرب: عندي رطل الزيت، ولا قفيز الشعير. وقوله ولا يمنع تقديم المميز علي عامله إن كان فعلا متصرفا تقدم الخلاف في العامل في التمييز في نحو: طاب زيد نفسا، وتصبب زيد عرفا، ونحوه، وأن ابن عصفور حكي أن مذهب المحققين أنه ليس منصوبا بـ «طاب» ولا بـ «تصبب» ولا لما اشبههما من الأفعال، وأنه منصوب عن تمام الكلام، فالعامل فيه هو تمام الكلام، وهو عامل معوي، وبني علي ذلك منع تقدمه علي الجملة بأسرها. واستدل علي صحه هذا المذهب بأن ما انتصب عن تمام الكلام قد لا يكون فيه فعل، نحو داري خلف دارك فرسخا، وبأنه قد لا يكون الفعل فيه طالبه، فكيف يكون ناصبا له، نحو: امتلأ الكوز ماء. وتقدمت منازعتنا له في المثالين. ولم يشعر المصنف بهذا الخلاف الذي ذكرناه، فلو يودعه فص كتابه ولا شرحه.

ولم يتعرض المصنف لتوسط التمييز بين الفعل ومرفوعة، نحو: طاب نفسا زيد وكرم أصلا عمرو، وحسن وجها عمرو، وضرب ظهرا وبطنا بكر، ولا نعلم خلافا في جواز ذلك في نحو هذا الفعل، قال زفر بن الحارث: فلو نبش المقابر عن عمير ... فيخبر عن بلاء أبي الهذيل يطاعن عنهم الأقران حتي ... جري منهم دما مرج الكحيل وقال آخر: تضوع مسكا بطن نعمان أن مشت ... به زينب في نسوه خفرات في أحد التوجيهين في مسكا. والتوجيه الآخر نصبه علي الحال. وقال الأستاذ أبو الحسن بن الضائع: «التمييز المنتصب بعد تمام الكلام العامل فيه الفعل يجوز توسيطه، فتقول تفقا شحما زيد، وحسن وجها عبد الله، وهو متفق عليه» انتهى. وقياس توسطه مع الوصف، فتقول أطيب نفسا زيد، وما حسن وجها عمرو، وما أحسن وجها منك أحد. ومن زعم أنه يكون منقولا من مفعول فقياس قوله أن يجيز التوسط، فيقول: غرست شجرا الأرض، وفجرت عيوناً الأرض.

ومن زعم أن قولهم دارى خلف دارك فرسخا هو من المنتصب عن تمام الكلام لا يجيز توسيطه بين الجزأين فلا يقول: دارى فرسخا خلف دارك. واما من يجعله منصوبا عن تمام الاسم فهو احرى بالمنع. وأما المسألة التى ذكرها المصنف، وهى انه يجوز تقدم التمييز على العامل اذا كان فعلا متصرفا فاحترز بقوله "متصرفا" من ان يكون غير متصرف، فانه لا يجوز وذكر المصنف الاجماع على ذلك ومثاله: ما أحسن زيد رجلا! وأحسن بزيد رجلا! فلا يجوز: ما رجلا أحسن زيدا ولا: رجلا أحسن بزيد. ونقص المصنف شرط اخر فى جواز التقديم على العامل اذا كام فعلا متصرفا وهو ان يكون التمييز غير منقول، فانه لا يجوز تقديمه على العامل فيه وان كان فعلا متصرفا وهو قولك: كفى بزيد ناصرا كفى بزيد باجماع ولا: شهيدا كفى بالله. وقد عده المصنف فى مميز الجملة، واما غيره فعده فيما انتصب عن تمام الاسم , فامتنع التقديم كما امتنع فيما انتصب عن تمام الاسم. وقد أثبت المصنف كون التمييز منقولا من المفعول , فيندرج جواز تقديمه على العامل اذا كان فعلا متصرفا فيجوز: شجرا غرست الارض وعيونا فجرت الارض. وأما ما العامل فيه الوصف فان المصنف جعله مما انتصب عن تمام المفرد , فقياس قوله يقتضى الا يجوز تقديمه على الوصف فلا يجوز: ما نفسا طيب زيد ولا: اغضبا ممتلئ عمرو؟ وقياس من جعل ذلك منتصبا عن تمام الكلام ان يجيز ذلك لجريان الوصف مجرى الفعل. أما فى أفعل التفضيل فانه لا يجوز تقديم التمييز عليه مجال لا مقال: ما وجها أحسن منك احد ولا: زيد وجها أحسن منك. والفرق بينه وبين الوصف الذى قبله ان الوصف له فعل بمعناه , وأفعل التفضيل لم تبن العرب فعلا بمعناه فضعف

عن أن يلحق بالوصف الذى ذكرناه ,ولضعفه اقتصر به على العمل فى الضمير غالبا, ولا يعمل المظهر الا فى لغة ضعيفة أو بشرط , وسياتى ذلك فى بابه ان شاء الله وقوله ... وفاقا للكسائىوالمازنى والمبرد يعنى ان الكسائى والمازنى والمبرد أجازوا: نفسا طاب زيد وعرقا تصبب بكر , وما اشبه ذلك وقال فى الشرح: "حكى ابن كيسان أن الكسائى أجاز: نفسه طاب زيد. وان الفراء منع ذلك" انتهى وما ذهب اليه المصنف فى نقله عن الكسائى أنه يجيز تقديم التمييز على العامل من حكاية ابن كيسان عن الكسائى "نفسه طاب زيد"زهم ,لان الكسائى ليس مذهبه فى ذلك أنه مشبه بالمفعول ولذلك اختلف هو والفراء فى ذلك فالفراء يعتققد أنه تمييز فمنع من تقديمه على الفعل ,والكسائى يعتقد انه مشبه بالمفعول, فيجيز تقديه ,ولذلك أجاز الكسائى بناء هذا للمفعول لاعتقاده أنه مشبه بالمفعول وحكى عن العرب: من المسفوه رأيه؟ ومن الرجوع ظهره؟ وخذه مطيوبة به نفس وقد بينا وهم المصنف على الكسائى فى ان يجيز بناء الفعل الذى لم يسم فاعله للتمييز فى باب النائب عن الفاعل فى قوله "ولا مميز خلافا للكسائى" وذكرنا ذلك ان الكسائى لايعتقد كونه تمييزا بل مشبها بالمفعول ,وقد وافق البصريون الكسائى فى جواز التقديم فى: رأسه وجع زيد ورايه سفه عمرو, وذلك لاعتقادهم أن غير تمييز.

ونقول: اختلف النحويونفى تقديمه على الفعل: فذهب س والفراء وأكثر البصريين والكوفيين الى منع ذلك ,وبه قال ابو على فى شرحه الابيات وأكثر نتأخرى أصحابنا. وذهب الكسائى - ان صح النقل عنه من غير طريق المصنف - والجرمى والمازنى والمبرد ومن اخذ بمذهبهم من البصريين وبعض الكوفيين الى جواز ذلك ,وهو اختيار هذا المصنف وهو الصحيح لكثرة ما ورد من الشواهد على ذلك وقياسا على سائر الفضلات , قال الشاعر: أتهجر ليلى للفراق حبيبها ... وما كان نفسا بالفراق يطيب

وقد تكلف المتأخرون فى تأويل هذا البيت على انه خبر كان على حذف مضاف أى: وما كان ذا نفس بالفراق يطيب أو على أنه خبر كان بغير اضمار لأن النفس يراد بها الانسان كما قالوا: ثلاثة أنفس ......................... ... .................................. حين أرادوا الذكر ,وعليه قراءة (بلى قد جائتك) بالفتح وفى يطيب ضمير النفس اذا الفعل للنفس: وقال ابن السيد:"لا حجة فيه لوجهين: أحدهما: أنه ضرورة ,بدليل أنه لم يسمع الا فى هذا البيت" قال"فكما أن جميع ما يرد من الضرائر لا يكون حجة على ما يستعمل فى فصيح الكلام فكذلك هذا" قال: " والوجه الثانى أن الزجاج قال: ان الرواية: .............................................. ... وما كان نفسى بالفراق تطيب" انتهى

أما الوجه الثاني فهو ضعيف جدا لأنه لا تعارض روايةبرواية لا بتخطئه ولا بتكذيب. واما الوه الاول فوافقه عليه ابن عصفور فقال "لم يجئ الا فى بيت واحد من الشعر, ولا حجة فيه لانه قد يتقدم فى الشعر ما لا يجوز تقديمه فى الكلام". وهذا من ابن السيد وابن عصفور ومن قال بقولهما عدم اطلاع على كلام العرب وتقليد ل "س" قال س: " وهو- يعنى -الفعل - فى انهم قد ضعفوه مثله " , يعنى مثل عشرين. وقال قبل ذلك:"ولا يقدم فيه المفعول فيقال ماء امتلأت ,كما لا يقدم فى الصفات المشبهة":قال ابن الضائع:"وهذا فصل قد جمع السماع والقياس فظاهر قوله (ولا يقدم) أنه ليس من كلامهم , وقاسه على الصفة لان الحكم فيهما واحد فى النقل زالتفسير ز وايضا فالصفة تعمل فيه معرفة ونكرة, فعملها اقوى وهذا لايعمل فيه الا نكرة فهو أحرى بمنع التقديم" انتهى. وهذا غير متجه لأن كلام س لم ينقل فيه المنع عن العرب , انما هذا من رايه, ولو اطلع على ما قالته العرب فى ذلك من التقديم لأتبعه ,لكنه هو لم يطلع على ذلك ,وقد جاء منه جملة فى كلام العرب تبنى القواعد الكلية على مثلها ,ولم

ينقل نصاً عن أحد من العرب انها تمنع ذلك ,فوجب القول بالجواز والحق أحق أن يتبع قال ربيعة بن مقروم الضبى: وواردة كانها عصب القطا ... تثير عجاجا بالسنابك أصبها رددت بمثل السيد نهد مقلص ... كميش اذا عطفاه ماء تحلبا وقال بعض طيئ: اذا المرء عينا قر بالاهل مثريا ... ولم يعن بالاحسان كان مذمما وقال اخر: ولست اذا ذرعا أضيق بضارع ... ولا يائس عند التعسر من يسر وقال اخر: أنفسا تطيب بنيل المنى ... وداعى المنون ينادى جهارا وقال آخر:

ضيعت حزمي فى ابعادى الأملا ... وما ارعويت ,وشيبا رأسى اشتعلا وحجة من منع ذلك انما هو عدم السماع على زعمه - وقد بينا كثرة ذلك - وأقيسته مدخولة منقوضة كلها ,معارضة للنصوص الواردة فى كلام العرب فلا التفات اليها وقد ذكرنا تلك الاقيسة ومعارضتها فى كتاب "منهج السالك فى الكلام على الفية انب مالك" فلا تطول بها هنا؛ اذ لا فائدة فى ذكرها ,والاقيسة انما ينبغى أن يستانس بها بعد تقرر السماع ولا يبنى عليها وحدها دون السماع حكم نحوى , وقد اطلنا الكلام على شئ من أقيسة النحاة فى ذلك الكتاب اخر التمييز فيطالع هناك. وقال المصنف فى الشرح: "زانتصر ل "س" بأن مميز هذا النوع فاعل فى الاصل وقد أوهن بجعله كبعض الفضلات ,فلو قدم لازداد الى وهنه وهنا, فمنع ذلك لأنه اجحاف". قال "وهذا الاحتجاج مردود بوجوه: أحدها: أنه دفع روايات برأى ولا دليل عليه فلا يلتفت اليه. الثانى: ان جعل التمييز كبعض الفضلات محصل لضرب من المبالغة, فقيه تقويه لا توهين ,فاذا حكم بعد ذلك بجواز التقديم ازدادت التقوية, وتأكدت المبالغة, فاندفع الاشكال. الثالث: أن أصالة فاعلية التمييز المذكور كأصالة فاعلية الحال فى نحو: جاء راكبا رجل فان أصله: جاء راكب على الاستغناء بالصفة, وجاء رجل راكب

على عدم الاستغناء بها, فالصفة والموصوف شئ واحد فقدم راكب , ونصب بمقتضى الحالية ,ولم يمنع ذلك تقديمه على جاء مع انه يزال على اعرابه الأصلى وعن صلاحيته للاستغناء به عن الموصوف ,فكما تنوسى الآصل فى الحال كذلك تنوسى فى التمييز - انتهى هذا الوجه ولا أعلم احدا ذهب الى ان الحال أصلها أن تكون فاعلة ولا أنها منقولة من الفاعل غير هذا الرجل. الرابع: أنه لو صح اعتبار الأصالة فى عمدة جعلت فضله لصح اعتبارها فى فضلة جعلت عمدة, فكان يجوز للنائب عن الفاعل من التقديم على رافعه ما كان يجوز له قبل النيابة والامر بخلاف ذلك؛ لان حكم النائب فيه حكم المنوب عنه, ولا تعتبر حال التى انتقل عتها فكذلك لا تعتبر الحال التى انتقل عنها التمييز المذكور. الخامس: أن منع تقديم التمييز المذكور عند من منعه مرتب على كونه فاعلا فى الأصل ذلكانما هو فى بعض الصور وفى غيرها هو بخلاف ذلك نحو: امتلأ الكوز ماء , "وفجرنا الارض عيونا" , وفى هذا دلالة على ضعف علة المنبع لقصورها عم عموم الصور. السادس: أن اعتبار أصالة الفاعلية فى منع التقديم على العامل متروك فى نحو, أعطيت زيدا درهما: فان زيدا فى الاصل فاعل ,وبعد جعله مفعولا لم يعتبر ما كان لو من منع التقديم ,بل أجيز فيه ما يجوز فيما لا فاعلية له فى الأصل, فكذا ينبغى ان يفعل بالتمييز المذكور" انتهى. وليس التمثيل باعطيت زيدا درهما نظيرا لطاب زيدا نفسا؛ لأن فتعلية زيد فى أعطيت زيدا درهما لم تكن لأعطيت انما كانت ل "عطا يعطو" بمعنى تناول وفاعلية نفس كانت ل "طاب نفسه ففرق بين ما يصح اسناده الى الفعل من غير

تغيير للفعل وبين ما لا يصلح اسنادهللفعل لأنه بعد النقل بالهمزة يمتنع ان يكون فاعلا لذلك الفعل ففاعلية زيد فى: أعطيت زيدا درهما , وأخرجت زيدا, قد أميتت ,وجئ بصيغة لا تقبله على طريقة الفاعلية, وفاعلية ذلك التمييز يقبلها الفعل فلا ينبغى أن يشبه طاب زيد نفسا بأعطيت زيدا درهما. وقوله ويمنع ان لم يكنه باجماع أى: ويمنع التقديم ان لم يكن العامل فعلا متصرفا باجماع قال المصنف فى الشرح: "أجمع النحويون على منع تقديم المميز على عامله اذا لم يكن فعلا متصرفا" وقال ايضا "فان كان كان عامل التمييز غير فعل أو فعلا غير متصرف لم يجز التقديم باجماع" انتهى. وكثيرا ما يتسرع هذا الرجل الى الاجماع, ويكون ف المسألة خلاف. أما قوله "فان كان عامل التمييز غير فعل" فان قوله "غير فعل" يشمل الوصف ويشمل غير الوصف من العدد والمقادير وما حمل على ذلك فأما الوصف فقد ذكرنا أن قياس من اجاز التقديم مع الفعل أن يجيزه مع الوصف الا فى أفعل التفضيل؛ وأما غير الوصف فان فى بعض صوره خلافا بين النحويين, وذلك اذا انتصب التمييز بعد اسم شبه الاول نحو: زيد القمر حسنا, وثوبك السلق خضرة فيجوز عند الفراء: زيد حسنا القمر وثوبك خضرة السلق, وذلك على ان يكون زيد وثوبك هما المبتدأ, والقمر ولسلق هما الخبران ,فان عكست لم يجز التقديم لان صلة الاسم لا تتقدم عليه ,والخبر مبنى على التصرف, فلو قلت مررت بعبد الله حسنا لم يجز تقديم حسنا على القمر؛ لأن القمر

ليس بخبر فهذا نوع من التمييز المنتصب عن تمام الاسم وقع فيه الخلاف؛ اذ العامل فيه هو القمر والسلق لقيامهما مقام مثل المحذوفة التى ينتصب عنها التتمييزفى قوله: زيد مثل زهير شعرا. وقد ارتكب مذهب الفراء فى هذه المسألة بعض الشعراء المحدثين, قال الخالديان من ابيات يمدحان بها سيف الدولة ممدوح المتنبى - وكان قد اهدى لهما هدية فيها وصيف ووصيفة: رشا أتانا, وهو حسنا "يوسف" ... وغزالة , هى بهجة "بلقيس" وقوله وقد يستباح فى الضرورة قال المصنف فى الشرح:"فان استجيز فى ضرورة عد نادرا كقول الراجز: ونارنا لم ير نارا مثلها ... قد علمت ذاك معد كلها أراد: لم ير مثلها نارا فنصب نارا بعد مثل بمثل كما نصبو زيدا فى قولهم: على التمرة مثلها زيدا, ثم قدم نارا على مثل مع كونه عاملا لا يتصرف, ولولا الضرورة لم يستبح" انتهى ولا ضرورة فيه على مذهبه لان الضرورة عنده هو ما لا يمكن ان يقع فيه تغيير, فان أمكن لم يكن ذلك ضرورة , وقد أمكن ذلك بأن يبنى ير لما لم يسم فاعله, ويرفع نارا به , ويكون مثلها صفة , فيقول: لم ير نار مثلها.

وتأول أصحابنا هذا البيتعلى أن تكون "لم ير" فيه علمية , و "مثلها" المفعول الاول ,وهو مرفوع ب"ير" وانتصب نارا على انه المفعول الثانى, والتقدير: لم يعلم مثلها نار. ووهم الأستاذ أبو الحسن بن عصفور فى شرحه الكبير, وفى نسخة كتابه "المقرب" القديمة ,وتبعه شيخنا الاستاذ أبو الحسن بن الضائع فى شرحه للجمل , فحملا هذ البيت على أنه من توسط التمييز بين الفعل العامل فيه ومعموله نحو: طاب نفسا زيد. وهو وهم فاحش؛ لأن هذا تمييز منتصب عن تمام الاسم وهو قوله "مثلها" والتمييز المنتصب عن "مثل" لا يجوز تقديمه فتقديمه فى البيت ضرورة. مسألة يجوز حذف التمييز اذا قصد ابقاء الابهام ,أو كان فى الكلام ما يدل عليه. ويجوز أن يبدل كقوله تعالى "ثلث مائة سنين", و "اثنتى عشرة أسباطا أمما". قيل: ويكون فى المعطوف عليه , نحو ثلاثةوعشرون درهما ونحوه الاصل: ثلاثة دراهم لكنهم تركوه تشبيها بخمسة عشر لدلالة ما بعده عليه.

ولا يجوز حذف المميز لأنه يزيل دلالة الابهام , الا أن يوضع غيره موضعه ,كقولهم: ما رأيت كاليوم رجلا. وقد يحذف من غير بدل , كقولهم: تالله رجلا أى: تالله ما رأيت كاليوم رجلاً.

باب العدد

-[ص: باب العدد مفسر ما بين عشرة ومئة واحد منصوب على التمييز ويضاف غيره الى مفسره مجموعا مع ما بين اثنين وأحد عشر ما لم يكن مئة فيفرد غالبا ,ومفردا مع مئة فصاعدا وقد يجمع معها وقد يفرد تمييزا وربما قيل: عشرو درهم وأربعو ثوبه, وخمسة أثوابا , ونحو ذلك ولا يفسر واحد واثنان و "ثنتا حنظل" ضرورة]- ش: مناسبة هذا الباب لما قبل هى أن بعض ما ينتصب عن تمام الاسم يكون تفسيرا لعدد فناسب ذكره بعقب باب التمييز ,وانجر معه ذكر أحكام العدد. و"ما بين عشرة ومئة" يشمل احد عشر واحدى عشرة, وتسعة وتسعين وما بينهما فتفسير هذا كما ذكر بواحد منصوب ,قال تعالى "انى رأيت أحد عشر كوكبا", فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا" , وواعدنا موسى ثلاثين ليلة" ,"واختار موسى قومه سبعين رجلا" ويتعين كونه واحدا عند جمهور النحويين فلا يجيزون فى التمييز المنصوب بعد العدد الجمع. وذهب الفراء الى أن ذلك جائز فتقول: عندى أحد عشر رجالا, وقام ثلاثون رجالا ويمكن أن يستدل له بقوله تعالى (وقطعناهم اثنتى عشرة أسباطا) فظاهر قوله (أسباطا) أنه تمييز وهو جمع وعلى ذلك حمله

الزمخشري قال: فان قلت: مميز ما عدا العشرة مفرد فما وجه مجيئه مجموعا"؟ وأجاب بان الرد: وقطعناهم اثنتى عشرة قبيلة وأن كل قبيلة أسباط لا سبط فأوقع أسباط موقع قبيلة كما قال: ..................................... بين رماحىمالك ونهشل قال المصنف فى الشرح:"فمقتضى ما ذهب اليه أن يقال: رأيت احدى عشرة أنعاما اذا أريد احدى عشرةجماعة كل واحدة منها أنعام ولا بأس برأيهلو ساعد استعمال لك قوله (كل قبيلة أسباط لا سبط) مخالف لما يقوله أهل اللغة: ان السبط فى بنى اسرائيل بمنزلة القبيلة فى العرب فعلى هذا معنى قطعناهم اثنتى عشرة أسباطا: قطعناهم اثنتى عشرة قبائل فأسباط واقع موقع قبائل لا موقع قبيلة فلا يصح كونه تمييزا وانما هو بدل والتمييز محذوف" انتهى وام يبين المحذوف وتقديره اثنتى عشرة فرقة ولا بين ما يكون بدلا منه ولا يجوز أن يكون بدلا من المحذوف لأن العامل فيه اذ ذاك يكون هو العامل فى المبدل منه أو تكريره فيلزم ما فررنا منه وانما هو بدل من اثنتى عشرة اى: وقطعناهم أسباطا أى: قبائل قال المصنف فى الشرح:"وأجاز بعض العلماء أن يقول القائل: عندى عشرون دراهم لعشرين, رجلا قاصدا أن لكل منهم عشرين درهما" قال المصنف قى الشرح: "وهذا اذا دعت الحاجة اليه فاستعماله حسن وان لم تستعمله

العرب لانه استعمال لا يفهم معناه بغيره" انتهى وكيف يكون استعماله حسنا ولم تستعمله العرب؟ وقوله "انه يفيد ذلك معنى أن لكل واحد عشرين دررهما "منازع فيه؛ لأن المفرد فى عشرين درهما واقع موقع الجمع فكم أن هذا المفرد لا يدل على ذلك المعنى فكذلك هذا الجمع لا يفيده بل لو صرح فيه بالتركيب العربى الذىلا خلاف فى جوازه وهو أن تقول عندى دراهم عشرون او: عندى عشرون من الدراهم لعشرون رجلا -لم يفد ذلك أن عنده لكل رجل عشرين درهما قال المصنف فى الشرح " ان وقع موقع تمييز شئ منها جمع فهو حال أو تابع ك (بنى مخاض) فى قول ابن مسعود) قضى رسول الله - فى دية الخطأ عشرين بنت مخاض وعشرين بنى مخاض وعشرين ابنة لبون وعشرين حقة وعشرين جذعة) ف (بنى مخاض) نعت أو حال انتهى. ويعنى أنه نعت لعشرن او حال منها ويكون التمييز محذوفا أى: وعشرين جملا بنى مخاض وهذا اذا صح أن بنى مخاض من كلام ابن مسعود وكثيرا ما يقع اللحن فى الحديث؛ لأن كثيرا من رواتبه يكونو لحانين وعجما. ولا يجوز الفصل بين التمييز والعدد الا فى ضرورة نحو قوله:

فى خمس عشرة من جمادى ليلة ... لا أستطيع على الفراش رقادى وقال الاخر على أننى بعد ما قد مضى ... ثلاثون للهجر حولا كميلا وقال اخر: ..................... ... وعشرون منها اصبعا من ورائيا فرع: ذكره فى البسيط: اذا أتيت بنعت مفرد جاز فيه الحمل على المفسر كالصفة نحو: عندى عشرون رجلا صالحا وعشرون درهما وازنا على اللفظ ووازنة على المعنى ووزن سبعة على المصدر وما صح منها أن يكون للعدد جار عليه نحو: عندى عشرون درهما وزن سبعة وان شئت رفعت على عشرون. وان كان جمعا: فان كان سالما فلا يكون الا على العدد نحو: عندى عشرون رجلا صالحون وان كام منكسرا جاز أن يكون للعدد وللتمييز نحو: عندى عشرون رجلا كراماً، وقال:

فيها اثنتان وأربعون حلوبة ... سواد كحافية الغراب الأسحم وقوله ويضاف غيره- أى غير مفسر ما ذكر- الى مفسره مجموعا مع ما بين اثنين وأحد عشر مثال ذلك: ثلاثة أثواب وثلاث ليل وعشرة أشهر وعشر سنين وكذا ما بينهما وتخصيصه ما ذكر بقوله "مجموعا"يدل على أنه يفرد مع غيره نحو: ألف درهم ومئة رجل وشذما حكى أبو زيد: شربت ثلاثة مد البصرة قال: أوقعو الواحد موقع الجمع وقوله ما لم يكن مئة أى: ما لم يكن المفسر للعدد مة فيفرد غالبا فتقول: ثلاثمئة وذلك بخلاف الألف فانه يجمع فتقول: ثلاثة الاف قال المصنف فى الشرح:"والقياس يقتضى أن يقال ثلاث مئات أو مئتين كما يقال: ثلاثة الاف الا ان العرب لا تجمع المئة اذا أضيف اليها عدد الا قليلا كقول الشاعر ثلاث مئين للملوك وفى بها ... ردائى وجلت عن وجوه الاهاتم ومن أجل هذا الوارد بجمع قلت فيفرد غالبا" انتهى وقال الاخر أنشده المبرد فى المقتضب: ثلاث مئين قد مررن كواملا ... وها أنا هذا أرتجى مر أربع وقال الاخر:

ثلاثة آلاف ونحن نصية ... ثلاث مئين ان كثرنا وأربع وقال الاخر: بخمس مئين من دراهم عوضت ... من العنز ما جادت به كف حاتم وما ذكره من أن القياس مت ذكر هو قول أبى على فى "الايضاح"قال: "وهكذا كان القياس فى ثلاثمئة وأربعمئة أتبين بالجمع فيقال: مئات أو مئين ولكنه مما استغنى فيه بلفظ الواحد عن الجميع" انتهى وكذا قال س قال "وأما تسعمئة وثلاثمئة فكان ينبغى أن تكون فى القياس مئين ومئات ولكنهم شبهوه بعشرين واحد عشر حين جعلوا ما بين به العد واحدا؛ لأنه اسم لعدد وليس بمستنكر فى كلامهم أن يكون اللفظ واحدا والمعنى جميع " انتهى قال بعض أصحابنا: انما استغنى بلفظ الواحد عن الجميع فى ثلاثمئة الى تسعمائة لينبهو بذلك على ان الاصل فى الاعداد أن تكون مينة بمفرد وذكر الفارسى فى "الشيرازيات" أن الاصل فى الاسماء التى تبين العدد ان تكون مفردة وذلك أن المعدود قد علم قدره بذكر العدد فانما يحتاج الى ما يبين جنسه والواحد يكفى فى ذلك ولفظه اخف من الجمع فكان التبيين به اولى وعلى ذلك جاء الاستعمال فى ضروب العدد الا ما كان الثلاثة الى

العشرة فإنه يبين بالجموع الموضوعة لاقل العدد وسبب ذلك مشابهتها للأحاد من جهة تكسيرها الأحاد وتحقيرها على لفظها كما تحقر الأحاد فتقول فى تصغير صبية صبية ,وفى تصغير أوطب وأبيات وأسقية: أويطب وأبيات وأسيقية , وتقول فى تكسيرها اواطب وأبابيتوأساق وليس تكسير جموع الكثرة فى الحسن كتكسير جموع القلة ومن جهة أنها توصف بها الاحاد نحو برمة أعشار وحبل أقطاع ,وثوب أخلاق. ومن جهة عودة الضمير المفرد المذكر عليها نحو قوله تعالى (وان لكم فى الانعام لعبرة نسقيكم مما فى بطونه) ومما حسن تبيينها بها مناسبتها لها فى القلة ومما يبين لك أن الاصل فى الاعداد من الثلاثة الى العشرة التبيين بالمفرد أنهم قد بينوا ضربا منها به وذلك قولهم ثلاثمئة واربعمئة الى الالف وجاء الاستعمال به فى حال السعة والاختيار وقلهم ثلاث مئين ومئات شاذ فى القياس وانما يجئ فى الشعر نحو قوله وأنشد البيتين اللذين تقدم ذكرهما ثم قال: فأما ضافة الثلاثة وأخواتها الى صيغ جمع الكثرة نحو قولهم ثلاثة شسوع وقوله تعالى (ثلاثة قروء) -فقليل وغير مقيس ومع ذلك فإنهم

رفضو العدد القليل من شسوع فلم يقولو اشساع واستغنو بلفظ الكثير عن ذلك انتهى كلام الفارسى فى الشيرازيات فعلى هذا قوله فى "الايضاح"وقول س ان القياس فى ثلاثمائة واربعمئة أن تبين بالجمع مخالف لما ذكر فى "الشيرازيات" من أن الاصل فى ذلك أن تكون مفردة والجمع بين القولين ان لنا قياسين: احمدهما اصل: وهو ان اصل التمييز فى العدد ان يكون واحدا والثانى: انهم حين خالفو هذا الاصل فاضافو فى ثلاثة وتسعة وما بنهما الى جمع- صار هذا اصلا ثانيا فلما اضافو ذلك الى مئة كان القياس فيها ان تجمع فترك هذا القياس واضيف ذلك الى لفظ المئة مفردة وزعم الفراء ان السبب فى افراد مئة فى العدد نحو ثلاثمئة الى تسعمئة أن العدد لما كان عقده من غير لفظ لعشرة فلم يقولو عشر مئة بل قالو الف الحق بباب عشرين وثلاثين حين خالف كل عقد منها ولم يعشر بلفظ العشرة الا برى انك تقول: تسع وعشرون ثم تقول ثلاثون وتقول تسع وثلاثون ثم تقول: أربعون فجرت المئى لذلك فى توحيدها مجرى الرهم واشباهه بعد عشرين وخمسين واشباهها وحكى ان بعض العرب يقول: عشر مئة فيجعل العقد من لفظ العشرة وأنشد فى ذلك: يوم يشد الغنوى أربه ... بعقد عشر مئة لن تتعبه قال:"وأهل هذه اللغة يقولون: ثلاث مئين وأربع مئين" انتهى

وفي كتاب الصفار عن الفراء "لا يقول ثلاث مئين الا من لا يقول الف وانما يقول عشر مئين ومن يوقول الف ولا يقول عشر مئين لا يقول: ثلاث مئين" انتهى وقول المصنف فى الشرح"الا ان العرب لا تجمع المئة اذا اضيف اليها عدد الا قليلا" يدل على جواز ذلك فى قليل من الكلام ويعضده ما حكيناه عن الفراء لانه زعم ان من لغته عشر مئة يجمع فيقول ثلاث مئين فجعلها لغة كما ترى وهو مخالف لما نص عليه أبو على فى "الايضاح" قال وربما جاء فى الشعر: ثلاث مئات واربع مئين" وتقدم قوله فى الشيرازيات "ان قولهم ثلاث مئات ومئين شاذ فى القياس وانما يجئ فى الشعر" ويظهر من كلام س جواز ذلك فى الكلام لانه شبه به ما يجوز فى الكلام قال س:"ومثل ذلك فى الكلام قوله تبارك وتعالى (فان طبن لكم عن شئ منه نفسا) وقررنا به عينا وان شئت قلت انفسا واعينا كما قلت ثلاثمائة وثلاث مئين ومئات" انتهى ... وهو قول بعضهم: انه يجوز فى الكلام والاكثرون يخصون ذلك بالشعر وتقدم فى باب التمييز علة الجر فى باب العدد فالاضافة فى ثلاثة اثواب ومئة درهم والف درهم جاءت على الاصل وعلة النصب فى عشرين وبابه والمركب تقدم ذكرها هناك وقوله ومفردا مع مئة فصاعدا مثاله: مئة دينار وألف درهم.

وقوله وقد يجمع معها اى: مع المئة ومن ذلك قراءة حمزة والكسائى (ثلاث مئة سنين) باضافة (مئة) وأجاز ذلك الفراء قال:"من العرب من يضع السنين موضع السنة" قال بعض اصحابنا "هو جمع شاذ فى الاستعمال خارج عن القياس ووجهه انه شبه مئة بعشرة من حيث كانت المئة تعشير العشرات كما ان العشرة تعشير لما تضاف اليه من المعدودات" انتهى وقال المبرد:" هو خطأ فى الكلامغير جائز وانما يجوز فى الشعر للضرورة" وجوزه على ان تريد بالجماعة الواحد كما يكون العكس فى قوله: كلوا فى بعض بطنكم تعفوا ... ........................................... قيل: ويحتمل ان تكون اضافة غير محضة بتقدير من كما كان ذلك فى خمس كلاب أى: ثلاثمائة من السنين. وقد أجاز ابو العباس فى قولهم "عليه مئة بيضا" ان يكون بيضا تمييزا ورد عليه الحالى من النكرة ألا ترى انه لو رفع لكان صفة للمئة والمئة مبهمة الوصف فلذلك كان النصب حالا والرفع صفة ومن قرأ يالتنوين فتخرج على عطف البيان او البدل قيل: ولا يجوز أن يكون (سنين) تفسيرا لانه يلزم أن يكون أقل ما لبثوا تسعمئة سنة سوى التسع فلا تجوز اضافة المئة الى السنين وقد قرئ به وهو ضعيف

وقوله وقد يفرد تمييزا اى: يفرد ما كان مجرورا مع مئة فينصب تمييزا وظاهرا كلامه انه يجوز ان تقول؟ عندى مئة رجلا وعندى مئة دينارا وقال المصنف فى الشرح:"وأشرت بقولى (وقد يفرد تمييزا) الى قول الربيع بن ضبع الفزارى: اذا عاش الفتى مئين عاما ... فقد ذهب المسرة والفتاء انتهى وانشد س: أنعت عيرا من حمير خنزرة ... فى كل عير مئتان كمرة وقال ايضا:" وهو يقوى ما ذهب اليه ابن كيسان من جواز: الالف درهما والمئة دينارا" انتهى وقال اصحابنا: لايجوز تنوين المئة ونصبالتهمييز الا فى ضرورة وكذلك ايضا تثنيتها فى لزوم اضافتها الى التمييز بمنزلتها نحو قولك: مائتا درهم ولا يجوز اثبات النون ونصب التمييز الا فى ضرورة شعر وانشدوا البيتين السابقين

قالو: وإثبات النون فى مئين ونصب التمييز أحسن من اثبات التنوين فى مئة ونصب التمييز لشبهمئين بعشرين فى ان اخرها النون كام ان اخر عشرين كذلك وقال س:"وقد جاء فى الشعر بعض هذا منونا " وتنشد البيتين قال المصنف فى تاشرح:"ومثله فى رواية من نصب مئة من قول حذيفة- فقلنا (يا رسول الله! اتخاف علينا ونحن ما بين الستمئة الى السبعمئة؟ فاجرى الالف واللم فى تصحيح نصب التمييز مجرى النون من" مئتين عامل" لاستوائهما فى المنع الاضافة" قال "ويروى: (ما بين الستمئة الى السبعمئة) بجر مئة, وفيه ثلاثة أوجه: احدهما: ان يكون أراد مئات على انه بدل ثم استعمل المفرد مكان الجمع اتكالا على فهم المعنى , كما قيل «ان المتقين فى جنات ونهر» والثانى ان تكون الالف واللام زائدتين فلم تمنعا من الاضافة كما تمنعا فى قول الشاعر: تولى الضجيع اذا تنبه موهنا ... كالاقحوان من الرشاش المستقي

الثالث أن يكون أراد: ما بين الست ست مئة ثم حذف المضاف وأبقى عمله كقراءة بعض القراء (والله يريد الاخرة) أى عرض الاخرة فحذف المضاف وابقى عمله" وقوله وربما قيل عشرو درهم واربعو ثوبه وخمسة اثوابا لما كان قد قرر أن تميز العقود مفرد منصوب وان تميز ما بين ثلاثة وأحد عشر مجموع مجرور نبه هنا على ما خال ذلك حكى الكسائى ان من العرب من يضيف العشرين واخواته الى المفسر منكرا ومعرفا وفى قوله "وربما" اشارة الى تقليل ذلك وانه جائز على قلة فاما "عشرو درهم" فهو عند اصحابنا شاذ لا تبنى على مثله قاعدة واما "عشرو درهم" فهو عند اصحابنا شاذ لا تبنى على مثله قاعدة واما قوله "خمسة اثوابا" فقالوا: المعدود من ثلاثة وعشرة وما بينهما اما أن يكون جامدا أو صفة: فان كان جامدا فالاحسن فيه الاضافة مثل: ثلاثة رجال ثم الفصل ب "من" نحو ثلاثة من الرجال ثم النصب على التمييز نحو: ثلاثة رجالا وقد ذكره س أن نحو ثلاثة اثواب قد ينون فى الشعر وينصب ما بعده ولم يجزه فى الكلام وأجازه الفراء قياسا وان كان صفة فالاحسن الاتباع نحو قولك ثلاثة صالحون ثم يليه النصب على الحال ثم الاضافة وهو اضعفها وسبب ضعفها انها استعملت استعمال الاسماء فى كونها تلى العوامل والصفة لا تستعمل كذلك بقياس

وقوله ولا يفسر واحد واثنان يعنى انع لا يقال: واحد رجل ولا: اثنا رجل ولا: واحد رجال ولا: اثنان رجال لا بمفرد ولا بجمع استغنو عن ذلك بالنص على المفرد والمثنى فقالو رجل لانه يدل على انه واحد وقالوا رجلان لانه يدل على التثنيه فكان ذلك اخصر واجود وقوله و "ثنتا حنظل" ضرورة يريد من قول الراجز: كأن خصييه من التدلدل ... ظرف عجوز فيه ثنتا حنظل وكان القياس ان يقول: فيه حنظلتان ولكنه اضطر جمع بين العدد والمعدود وغير مثنى ليكون للعدد فائدة ولا يضافان فى الشعر الى مثنى لا يقال: اثنا رجلين ولا: اثنتا امراتين وقوله ضرورة كان ينبغى أن يقول لا يضاف اثنان واثنتان الى معدود الا فى ضرورة او فى شذوذ من الكلام فالضرورة: ثنتا حنظل والشذوذ ما حكى أبو زيد: شربت قدحا واثننيه وشربت اثنى مد البصرة , يريد واثنى قدح واثنىمد ص: ولا يجمع المفسر جمع تصحيح ولا بمثال كثرة من غير باب مفاعل ان كثر استعمال غيرهما الا قليلا ولا يسوغ ثلاثة كلاب ونحوه تأوله بثلاث من كذا خلافا للمبرد زان كان المفسر اسم جنس أو جمع فصل ب"من" وان ندر مضافا اليه لم يقس عليه ويغنى عن تمييز العدد إضافته إلى غيره

ش: اللفظ الذي يؤدى معنى الجمع ان كان اسم جمع او اسم جنس فسياتى حكمه وان كان جمعا فاما أن يكون جمع تصحيح أوجمع تكسير: ان كان جمع تصحيح فلا يضاف اليه الا اذا لم يكن لذلك المفرد جمع غير هذا الجمع نحو قوله تعالى (سبع سموات) و (سبع بقرات) و (تسع ءايات) او كان له جمع غير هذا الجمع لكنه جاور ما اهمل فيه هذا الجمع نحو قوله تعالى (وسبع سنبلات خضر) لم عطف على (سبع بقرات) وجاوره حسن فيه جمعه بالالف والتاء وان كان له جمع تكسير فاما أن يكون نوعاه من القلة والكثرة موجودين للاسم أو أحدهما: فان كان لم يوجد الا أحدهما أضيف الى أحدهما نحو قوله تعالى (فى أربعة ايام) وثلاث ارجل وتقول: عندى ثلاثة رجال وثلاثة قردة وثلاثة صردان. وان وجدا معا فاما ان يكون الذى للكثرة من باب مفاعل أو من غيره:

إن كان من باب مفاعل أوثر على جمع التصحيح فتقول جاءنى ثلاثة أحامد وثلاث زيانب قال تعالى (أنبتت سبع سنابل) , (ولقد خلقنا فوقكم سبع طرائق) (سخرها عليهم سبع ليل) , (فكفارته اطعام عشرة مساكين) ويجوز التصحيح على قلة فتقول: ثلاثة أحمدين وثلاث زينبات. وان لم يكن من باب مفاعل فاما أن يكثر فيه غير التصحيح وغير جمع الكثرة أو يقل: ان كثر فيه غير التصحيح وغير جمع الكثرة فلا يجوز التصحيح وجمع الكثرة الا قليلا مثال ذلك: جاءنى ثلاثة زيود وثلاث هنود وعندى ثلاث افلس, قال تعالى (ثمانى حجج) , (يتربصن بانفسهن أربعة اشهر) ولا يجوز: ثلاثة زيدين ولا: ثلاث هندات ولا: ثلاث فلوس الا قليلا وان قلا فيه أوثر التصحيح وجمع الكثرة فتقول: ثلاث سعادات وثلاثة شسوع ويجوز على قلة ثلاث سعائد وثلاثة أشسع والذى يدل عليه كلام المصنف انه يقل جمع المفسر بالواو والنون وبالالف والتاء وببناء جمع الكثرة من غير باب مفاعل اذا كثر استعمال جمع التكسير وجمع القلة وانه يكثر جمع المفسر بواو ونون وبالف وتاء اذا قل استعمال جمع التكسير او جمع القلة ,فثلاثة زيدين وثلاث هندات, وثلاث فلوس قليل لكثرة زيود وهنود وأفلس وثلاث سعادات وثلاث شسوع كثير لقلة استعمال سعائد واشسع

وأما باب مفاعل فيدل كلام المصنف على انه مستثنى من جمع الكثرة وان حكمه مع جمع الكثرة غيره ومع جمع القلة الترجيح بان يضاف اليه فثلاث صحائف افصح واكثر من ثلاث صحف قال تعالى (سبع طرائق) و (سبع ليل) و (سبع سنابل) افصح من (سبع سنبلات) وثلاثة أحامد اكثر من ثلاثة احمدين وقال بعض شيوخنا اضا كان للاسم جمع قلة اضيف اسم العدد اليه ولا يجوز ان يضاف الى الكثير الا قليلا وجموع القلة لمذكر كان او مؤنث ولذلك تقول: ثلاثة احمدين ولا يحسن ثلاثة احامد وقد نص س على ان الجمع بالالف والتاء والواو والنون لتثليث اقل ادنى العدد الى تعشيره وهو الواحد. انتهى ملخصا وهو مخالف لما ذكرناه وذكره المصنف فى الشرح انه حقيق بان يجئ على مثال مفاعل من جمع التصحيح وقال ابن عصفور وكذلك ايضا يضاف الى جموع السلامة اذا لم يكن صفات نحو ثلاثة زيدين واربع هندات فان قلت فقد جاء قوله تعالى (ثلاثة قروء) مخالفا لهذا الذى قررته لانه جمع كثرة؟

فالجواب: أنه ليس مخالفا لان جمع القلة فيه اقراء وهو شاذ لان الواحد قرء بفتح القاف وجمع فعل الصحيح العين على افعال شاذ قال معناه المصنف فى الشرح. واما غيره فزعم تنه جمع قرء بضم القاف وفعل بالضم يطرد فيه فى القلة افعال فجاء هذا بجمع الكثرة على سبيل الاستغناء ببعض الجموع عن بعض وهو عنده قليل قال المصنف فى الشرح:"ومثل ايثار قروء على اقراء لخروجه عن القياس ايثار شهداء على اشهاد فى (لولا جاءو عليه باربعة شهداء) لان واحد شهداء اما شهيد واما شاهد ولكل واحد منهما نصيب فى افعال كشريف واشراف وصاحب واصحاب وكلاهما شاذ فعدل الى فعلاء كما عدل من اقراء الى قروء" انتهى فان قلت فكيف جاء (وسبع سنبلات خضر) وجاء (سبع سنابل) فالجواب انه قد تقدم انه يؤثر جمع التصحيح اذا جاور ما اهمل فيه مفاعل وهذا معطوف على (سبع بقرات) وجعل الزمخشرى هذا مما قد يستغنى فيه ببعض الجموع عن بعض ,نحو قروء.

وقوله ولا يسوغ الى قولة للمبرد قال المبرد فى المقتضيب (فإن قلت: ثلاثة حمير، وجعل من ذلك {ثلثة قروء} قال المصنف فى الشرح: (ولو جاز هذا لم يكن معنى فى الحجر بجمع القلة، لان كل جمع كثرة صالح لأن يراد بة مثل هذا، فكان يقال: ثلاثة فلوس، وثلاث من دور) وقوله وان كان المفسر اسم جنس او جمع فصل ب (من) مثال: من القوم، وقال تعالى {فخد أربعة من الطير}، وتقول: عندى ثلاث من الشجر وسبع من النخل. وقولة وان ندر مضافا اليه لم يقس علية قال المصنف في الشرح: (ان فسر عدد باسم جنس او باسم جمع لم يضف الية الا بسمع، كقوله (ليس فيما دون خمس ذود من الابل صدقة)، وكقول العرب: خمسة رجلة. والاصل ان يجاء بمفسر هذا النوع مقرونا بمن نحو: ثلاثة من القوم واربعة من الحى، وعشرمن البط) انتهى. وقال ابن عصفور فى لاشرح الصغير «العدد من الثلاثة الى العشرة اذا كان مفسرة جمبعا اضافتة لمفسرة اكثر من فصلة، وان كان اسم جمع او اسم جنس

فالفصل هو الفصيح، واضافتة اليهما قليل. فظاهر قولة «قليل» انة ليس بنادر لايصلح للقياس علية وكذلك ظاهر كلامة فى الشرح الكبير انة يضاف الى اسم الجمع المذكر كقوم ورهط، والمؤنث كذود وابل ونسوة، والى اسم الجنس. وقال ابضا فى موضع اخر: «وكذلك ايضا اضافوها الى اسماء الجمع التى تكون للقليل، فقالوا: ثلاثة نفر، وثلاثة ذود، قال الشاعر: ثلاثة انقس وثلاثة ذود ... لقد جار الزمن على عيالى وتسعة رهط، قال تعالى {وكان فى المدينة تسعة رهط}، ولم يقول ثلاثة بشر، ولا ثلاثة قوم، لان بشرا يكون للكثير، قوم يكون للقلبل والكثير، وليس كذلك ذود ورهط ونفر، لانها لاتكون الا للقليل فلذلك اضافوها اليها) انتهى. وقال محمد بن يزيد: ان بشرا يقع على الواحد والجميع، كقولة تعالى {ما انت الا بشر مثلنا} / اى من هذا الجنس، وكذلك {انما انا بشر مثلكم}، و {ما هذا بشرا}، فإن اضيفت هذى الاعداد الية لم يخل من ان يراد بة الواحد او الكثير فإن اريد بة الواحد لم تجز اضافة العدد الية من حيث لم تجز اضافة العددالى المفرد وان اريد بة الكثير ام تجز اضافتها الية ايضا من جهة انها لا تضاف في.

الأمر الشائع الى العدد الكثير، بل ثلاثة شسوع وثلاثة قروء ليس بالوجه ولا بالقياس. وقال الاخفش: «كل جمع لايبنى على الواحد لاتجوز اضافة العدد الية، وانما تأتى فية ب (من)، فتقول: ثلاثة من الخيل، واربع من الابل وان كان على لفظ الواحد، ولم يكن جمعة على القياس، نظرت مفردة، فإن كان مذكرا اثبت التاء، وان كان مؤنثا خذفتها، تقول: له خمسة من الطير وخمسة وخمس من البط ولا يضاف الى الاجناش لانها صالحة للمفرد، فلا تقول: ثلاثة رطب» انتهى وتلخص القول من هذة التقول اقوال: أحدها: ان اسم الجمع واسم الجنس لاتنقاس الاضافة إليهما من قول المصنف، واتفبع فية الاخقش. والثانى: أنة يجوز ذلك وينقاش وان كان قليلا والثالص / الفترقة بين ما يستعمل من اسم الجمع للقلة فيجوز، أو يستعمل للكثر أو للقلبل والكثير، فلايجوز. وفى البسيط / وأما اسم الجمع ففية شبه بالجمع، فذلك تقول: ثلاثة نفر، وثلاثة رهط وثلاثة ذود / فتضيف كالجمع، ولذلك صحت الاضافة الى مئة وكذلك اسم الجنس، نحو: ثلاث نخل. ومنع الاخفش إضافتة، وطريقة عندة ان يبين ب (من)، فتقول: ثلاثة من الذود، والحيث حجة علية وفية أيضا / والأحسن ان يضاف إلى ماعدا الجمع ب (من)، تقول: ثلاث من الشجر والنخل، وهو فى الجنس أكد من اسم الجمع. وقيل: إذا كان اسما لجنس لغير الآدميين فلا يكون إلأ ب (من)، نحو: ثلاث من البط / ومن الغنم، ونحوه.

وفي الإفصاح: قال أبو علي: إضافة العدد إلى أسماء الأجناس جائز: وإن لم تكثر، فقد جاء عنهم: خمس بنان قانئ الأظفار وضعفة ابوعمر. وقال ابن هشام: لايجوز: خمسة قوم، وثلاث إبل، وما أشبة هذا، الإما سمع. وكذلك أسماء الأجناس، ورطب وأرطاب / وعنب وأعناب، وطلح وطلاح، فصارت كالمفرد، فكما لابضاف إلى المفرد لاينبغى أن يضاف الى هذة / وتجرى مجرى أسماء الجموع، ويوقف ما أضيف العدد الية عل السماع، ولا يقاس ومن الدليل على هذا انك لاتضيف هذا العدد الى المصادر، وهى كانت احرى بذلك ـ رنها تقع على القليل والكثير بمنزلة ما لايجمع جمع قلة. وكدذا قال ابو على في التذكرة: لما كثر استعمال اسماء الاجناس استعمال الاحاد، وهى احاد، ووصقت بالاحاد - قل اضافة اسماء العدد اليها كما لايضاف الى الاحاد. وفى الافصاح: من النحويين من قال: انها تضاف الى الاسم المفرد اذا كان جمعا فى المعنى كما جاء ثلاث ذود، وتسعة رهط، وثلاث نفر، وخمس نسوة، وهذا كله مسموع.

ومن الناس من قصر هذا على ما سمع، قال ابو حاتم: ثلاث ذود شاذ. يريد انة ليس بالاصل ان يضاف الى اسم الجمع لانة مفرد، ولو صح هذا قلت ثلاثة جمع، وثلاثة ضيف، والعرب تقول: مئة جمع، ومئة ضيف، ومايضاف الى المئة لايضاف الى ثلاثة، والقياس الايضاف ثلاثة الى العشرة لمفرد ولا لما هو بمنزلتة، وهذا مذهب المبرد، وبة وقال السيرافى في «شرح الكتاب» لما ذكر ماجاء من ثلاثة نفر وتسعة رهط، وهذا ليس يستمر فى اسماء الجمع، لاتقول: ثلاث ابل، وخمس غنم، وثلاثة باقر، ولا: خمس نخل، غمنع الاضافة الى هذا النوع، وهو عندة اسم جمع، واحد من لفظة، كباقر وجامل. والصحيح انة اسم جنس، يقع لما لاينحصر كثرة، ويتقطع من المفرد بالتاء، وجعل من قول الشاعر: قد جعلت مي على الطرار ... خمس بنان قانئ الاظفار قال: وهذا بمنزلة قولة: ظرف عجوز فية ثنتا حنظل من ضرورة الشعر وقال قوم: اذا كان اسم الجمع لايقع الا للكثير لايضاف الية ادنى العدد وكذلك ان وقع للقليل والكثير، فان وقع للقليل فقط اضيف الية، وحكاه أبو

علي في (الشيرازيات) عن ابي عثمان، قال: «اضافو الى رهط ونفر، ولم يضيفوا الى بشر لانة يكون للكثير، ولا الى قوم لانة يكون للقليل والكثير. ووهم ابة عثمان فى قولة فى بشر: لايقع الا للكثير» وصرح س أنة لايقال: ثلاث غنم. وظاهر كلامة أنة لايقال: ثلاث ابل، ولا ثلاث بقر، ولا ثلاث بط ولا ثلاث شاء وقولة ويغنى عن تمييز العدد اضافتة الى غيرة مثالة: اقبض عشرتك وعضرى زيد، لانك لم تضف الى غير التمييز الا والعدد عند السامع معلوم الجنس، فاستغنى عن المفسر، ومن كلامهم: برئت اليك من خنس وعشرى النخاسين، وقال الشاعر: وما انت، ام مارسوم الديار ... وستوك قد كربت تكمل

-[ص: فصل تحذف تاء الثلاثة وأخواتها ان كان واحد المعدود مؤنث / المعنى حقيقة او مجازا، او كان المعدود اسم جنس او جمع مؤنثا غير نائب عن جمع مذكر / ولا مسبوق بوصف يدل على التذكير، وربما اول مذكر بمؤنث، ومؤنث بمذكر، فجئ بالعدد على حسب التأويل، وان كان فى المذكور لغتان فالحذف والاثبات سيان، وان كان المذكور صفة نابت عن الموصوف اعتبر غالبا حاله لاحالها.]- ش: تكلم النحويون فى العلة الموجبة لاثبات تاء التأنيث من ثلاثة عشرة من المذكر المضاف الية اسم العدد وحذفها من المؤنث، وذلك من الوضعيات / فقال المصنف فى لاشرخ: «الثلاثة واخواتها اسماء جماعات، كزمرة وامة وفرقة وعصبة وسربة وفئة وعشيرة وقبيلة وفصيلة، فالاصل ان تكون بالتاء لتوافق الاسماء التى هى بمنزلتها فاستصحب الاصل مع المعدود المذكر لتقدم رتبتة، وحذفت التاء مع المعدود المؤنث لتأخر رتبته» انتهى.

وهذا معنى ما قال بعضهم: اردوا التفرقة بين عدد المذكر وعدد المؤنث، واختص المذكر بالتاء لانة العدد كلة مؤنث لمذكر كان أو لمؤنث، وأصل المؤنث أن يكون بعلامة تدل على تأنيثة، والمذكر هو السابق بحق الاصالة فحصلت لة العلامة. وقال بعضهم: العدد كلة مؤنث، فجعلت تاء التأنيث فى المذكر لانة اخف من المؤنث، ولم يجعلوها فى المؤنث لانهم كرهوا ان يجمعو بين علامتى تانيث: علامة تانيق العدد، وعلامة تأنيث المعدود، فيقولوأ: ثلاثة جنفات، فحذفوا العلامة من عدد المؤنث، واثبتوها فى عدد المذكر هروبا من اجتماع العلامتين. وقال ابو القاسم الزجاجى وانب بابشاذ: وايضا فإن العدد مؤنث قبل دخول تاء التأنيث، فهو كعناق مؤنث مؤنث بالصيغة وكهند، بدليل أنة ائا سميت ب «ثلاث» من صلاص نسوة لم تصرفة للتعريف والتأنيث، فجرى مجرى هند ونحوها من الاسماء المؤنثة المعنى، فمن حيق لم يجز ادخال تاء التانيث على هذا، والمارد بها المؤنث، فكذلك ثلاث ونحوها من العدد لاتدخل التاء علية وهو مضاف الى مؤنث. وقال بعضهم: العدد من ثلاثة الى عشرة جمع، وقد وجدنا من الجموع ما هو مذكر، وجمع بتاء التانيث، نحو غراب وأغربة، وما هو مؤنث، ويجمع بغير تاء التانيث، نحو عقاب وأعقب.

وقال بعضهم: انما كان عدد المذكر بالتاء لانة كان بغير تاء لأوهم أنة مذكر، لانة مضاف الى مذكر، ولفظة لفظ المذكر، والعدد هو المعدود فى المعنى، وهم قد جعلوا العدد مؤنثا، فأدخلوا فية التاء ليرتفع الابهام. وهذا اختبار ابن عصفور. وهذة لااسماء اذا اردت بها مجرد العدد وضعتها العرب مؤنث بالتاء، وهى مسكنة. وبعض النحويين يقول انها مبنية على لاسكون./ كانت ساكنة كحروف الهجاء، فتقول: واحد اثنان ثلاثة اربعة، كام تقول: الف با تا ثا، ولهذا تقول: ثلاثة اربعة، فتطرح حركة الهمزة من اربعة على الهاء من ثلاثة، ولا تقبلها تاء. فأن اخبر بها أو عنها، او عطف بعضها على بعض اعربت، فتقول: هذا واحد، ورايت ثلاثة، ومررت بخمسة، كما تقول: هذاة باء وكتبت عينا، ونظرت الى جيم وحاء. واذا اخبرت عن عدد مجرد من المعدود كان كلة بالتاء، نحو قولك: وقد مر ذكر هذة المسألة فى «باب العلم» من شرح هذا الكتاب، وذكرنا خلافا فى منع الصرف هناك.

وإن أردت بالعدد المعدود فأما ان ثذكر المعدود فى اللفظ او لاتذكرة، فأن لم تذكرة فالفصيح ان يكون بالتاء لمذكر وبحذفها لمؤنث، فتقول: صمت خمسة، تريد: خمسة أيام، وسرت خمسا، تريد: خمس ليال. ويجوز ان تحذف تاء التأنيث، حكى الكسائى عن أبى الجراح: صمنا من الشهر همسا وحكى الفراء: افطرنا خمسا وصمنا خمسا، وصمنا عشرا من رمضان. وفال بعضهم: «وماحكى الكسائى من قولهم صمنا من الشهر خمسا لا يصح عن فصيح، ولا يلتف الية» انتهى. وعلى ذلك انشدو قول الشاعر: والا فسيرى مثلما سار راكب ... تيمم خمسا ليس فى سيرة امم قالوا: يريد: خمسة أيام، وفى الحديث: من صام رمضان، ثم أتبعة بست من شوال»، المعنى: بستة أيام وان ذكرت المعدود فى اللفظ فاسم العدد بالتاء للمذكر وبحذفها للمؤنث.

وقال بعض أصحابنا: شدت ثلاثة الفاظ من المؤنث، فجاء عددها بالتاء، فالوا: ثلاثة انقس، وثلاثة اعين / جمع عين بمعنى الربيئة، وهو الحافظ للقوم والحارسى، وثلاثة دواب، قال تعالى {من نفس وحدة}، وقالوا فى الربيئة: جاءت عين القوم: وقالو: هذة دابة. انفس لحظو معنى الشخص، وهو مذكر، وثلاثة اعين لحظة حارس القوم، وهو رجل، فهو مذكر، وثلاثة دواب، فالاصل: ثلاثة اشخاص دواب، حذف الموصوف انتهى مخلصا. وقال غيرة: ويقولون: ثلاثة انفس، فيحذفون التاء ـ وان عنوا رجالا ـ لاجل اللفظ، على ان النفس تذكر، وثلاثة انفس اذا عنوا مذكرا، وهذا فى كلامهم واشعارهم كثير فاش. ويقولون فى الربيئة: ثلاث اعين / وثلاث دواب، وثلاث دواب، حملا على اللفظ والمعنى، وحكى ثلاث دواب ابو زيد والجرمى. والمعتبر فى التذكير والتأنيث المفرد لا الجمع، سواء أكان كل واحد منهما حقيقة ام مجازا، ولا يعتبر تانيث الجمع، فلذلك تقول: ثلاثة سجلات، / وثلاثة دنينيرات، فخلافا لاهل بغداد، فانهم يقولون: ثلاث حمامات، فيعتبرون لفظ الجمع. وقال الكسائى: تقلو: مررت بثلاث حمامات، ورايت ثلاث سجلات ـ بغير هاء ـ وان كان الواحد مذكرا، لان به التاء، وقول العرب على قول س بالتاء.

وقال ابن الأنباري: «اذا قلت عندى ثلاث بنات عرس وثلاث بنات اوى فا لاولى ان تدخل التاء المذكر، لان الواحد ابن عرس وابن آوى» ـ جمعة بالتاء كما يجمع المؤنث، اخر جوة على اللفظ، وتركوا المعنى، وقاس علية ماكان مثلة ول يقل. ولا يعتبر ايضا تانيث المفرد اذا كان علما لمذكر، نحو طلحة وسلمة ـ لانة تانيث لاتعلق لة بالمعنى لاحقيقة ولا مجازا، ولذلك لايؤنث صمير ولا مايشار بة الية فتقول: الطلحات ذهبوا، وهذا طلحة قد ذهب. وقول مؤنث المعنى الحقيقى او مجازا مثالة: عندى ثلاث فتيات، وعشر خشبات، وخمس أعنق / وثلاث اذرع. وقولة أو كان المعدود اسم جنس الى قولة يدل على التذكير مثالة اسم جنس: عندى ثلاث من البط، وخمس من النخل، فالبط والنخل من اسم الجنس الذى استعملتة العرب مؤنثا فقط، ومدرك هذا النوع السماع. وزعم ابو موسى ان البقر مما استعمل مؤنثا لاغير، وهو خطأ، بل البقر يذكر ويؤنث، ومن تذكيرة {إن البقر تشابة علينا} فيمن قرأة فعلا ماضيا ومن تأنيثة قراءة من قرا {تشابة}، وجعلة فعلا مضارعا بالتاء، أي: تتشابه.

ومثاله اسم جمع: عندى ثلاث من الابل. واحترز بقولة «مؤنثا» من اسم جنس مذكر، ومن اسم جمع مذكر، قمثال اسم الجنس المذكر عنب وسدر وموز وقمح، نصوا على ان العرب استعملتها مذكرة، مدرك هذا السماع، واستعملت سائر اسماء لجنس مؤنثة ومذكرة، وقولوا: الغالب عليها التأنسث، فعلى هذا تقول / عندى ثلاثة من الموز، لان الموزمذكر، وتقول: عندى ثلاث من النخل، وثلاث من النخل، لانة استعمل مذكرا ومؤنثا. ومثال اسم الجمع المذكر ما كان منة لمن يعقل فحكمة حكم المذكر وقال صاحب التمهيد: «قد قالوا: ثلاث نفر، فانثوة، والاكثر التذكير» انتهى. وقال ابو موسى: «وكل اسم يقع على الذكور ممن يعقل فالاعم فية التذكير»: ومثل ذلك بالنفر والبشر والرهط. وقد جاء التأنيث ايضا فى القوم، وهو مختص بالرجال، لقولو تعالى {لا يسخر قوم من قوم عسى ان يكونو خيرا منهم ولا نساء من نساء عسى أن يكن خيرا منهن} وقال الشاعر: وما أدري، وسوف ـ لإدخال ـ أدرى ... أقوم آل حصن أم نساء وقولة تعالى {انا ارسلنا نوحا الى قومة} من باب تغليب المذكر.

وأما ما لا يعقل فحكمة حكم المؤنث، نحو ذود وابل. وشد من هذا النوع «اشياء» على مذهب س، فقالو: ثلاثة / أشياء، وكان قياسة حذف التاء، لأنة اسم جمع (لما) لايعقل، كالطرفاء والحلفاء، لكنة بنى العدد على المفرد، وهو شئ. وقد جاء من اسم الجمع لايعقل فقط ماهو مذكر / وذلك نحو جامل، قال الشاعر: وجامل خوع من نيبة ... زجر المعلى اصلا والسفيح وقال الآخر: فلا يحزنك أيام تولى ... تذكرها ولا طير ارنا وقال تعالى {فخذ اربعة من الطير}

وقال المصنف في الشرح: «واما قولهم ثلاثة اشياء وثلاثة رجلة ففيهما شذوذان: أحدهما: الاضافة الى المفسر، وكان حقة ان يفصل مقرونا ب (من) كسائر اسماء الاجناس. الثانى: ثبوت التاء فى عددهما، والقياس والحذف؛ لأن اسم الجنس أو الجمع لايعتبر فى التأنيث والتذكير واحدة بطة ذكر، ومع ذلك لم يقل ثلاثة بل ثلاث. وقد وجة ثبوت التاء فى عدد اشياء ورجلة بأنها نائبان عن جمع مقرديهما، فعدل فى جمع شئ على افعال الى فعلاء، وعدل عن جمع راجل من افعال كصاحب واصحاب الى فعلة وثبت التاء فى عدديهما كما كانت تثبيت مع المنوب عنة» انتهى. والرجلة بفتح الراء وكسرها، فإذا رالت التاء فالفتح لاقير، كالركب والصحب والسفر، قال: ورجلة يضربون البيض عن عرض ... ضربا تواصى بة الابطال سجينا واحترز بقول «ولا مسبوق بوصف يدل على التذكير» من قولك: لى ثلاثة ذكور من البط، واربع فحول من الابل، فإن تأخر الوصف الدال على التذكير لم يعتبر فتقول: عندى ثلاث من البط ذكور، واربع من الإبل فحول.

وظاهر كلام المصنف أنة اذا سبق الوصف الدال على التذكير لزمت التاء، وكذا نص علية الشرح، قال «فأءن توسط دليل تذكير لزم بقاء التاء نحو: لى ثلاثة ذكور من البط، واربعة فحول من الابل» وقال بعض اصحابنا: «فإن قدمت الذكور قلت: ثلاثة ذكور من البط لان الذكور جمع، المعتبر منة الواحد، وهو ذكر، ول قلت ثلاث / ولم تلخظ الذكور / ولحظت البط ـ كان جائزا، لكن الاولى ان تلحظ المقدم» انتهى. وهذا مخالف لما قال المصنف. وقال س: وتقول: لة ثلاث من الشاء، وثلاث شياة ذكور، وخمس من الغنم ذكور، والشياة والغنم أنثى». قال: «وتقول: له ثلاث ذكور من الغنم، وخمسة ذكور من الابل، لابتدائك بالمذكر» انتهى. فلو كان الفاصل غير متاقض لم يعتد بة، نحو: له ثلاث حسان من الخيل ذكور وقولة وربما اول الى قولة التأويل مثال الأول قولة:/ وان كلابا هذة عشر ابطن ... وانت برئ من قبائلها العشر أول الابطن بالقبائل وقال الآخر:

فكان مجني دون من كان أتقى ... ثلاث شخوص: كاعبان ومعصر أول الشخوص بالجوارى ومثال الثانى قولة: وقائع فى مضر تسعة ... وفي وائل كانت العاشرة وقال آخر ثلاث انفس وثلاث ذود .......... اول الوقائع بمشاهد، ولانفس باشخاص. وقول المنصف «وربنا» يدل على جواز ذلك ع قلة وقال صحاب البديع: «ويقولون ثلاث شخوص اذا عنوا مؤنثا حملا على المعنى». وقال ابن عصفو فى «المقرب» وقد ذكر شذوذ انفس، قال «والنفس مؤنثة، لكن عوملت معاملة المذكر حملا على معنى شخص، وما عدا ذلك فلا بحمل على المعنى الا فى ضرورة، نحو قولة: فكان مجنى ........................ ... ................................ البيت فاسقط التاء لأن الشخوص فى المعنى هى الكاعبان والمعصر»

وزعم يونس عن رؤبة «ثلاث أنفس» على تأنيث النفس، وذكر س ان العرب تقول: نفس واحد، وانها تقع مذكرة ومؤنثة، وقد جاء فى القرأن {من نس وحدة}، و {يأيتها النفس المطمئنة أرجعى}، وقرئ {بلى قد جاءتك ءايتى فكذبت بها واستكبرت وكنت} على التأنيث والتذكر. وقولة وان كان فى المذكور لغتان فالحذف والاثبات سيان مثال ذلك حال وعضد ولسان وأسماء والاجناس المميزة واحدها بالتاء دون ما التزم فية منها التذكير او التأنيث. وقولة فالحذف أى: ان راعت التأنيث حذفت، أو التذكير أثبت. وقولة وان كان المذكور صفة الى اخر المسالة مثال ذلك: ثلاثة ربعات، بالتاء إذا اردت رجالا، وثلاث ربعات، بسقوطها اذا اردت نساء. ومن اعتبار حال الموصوف قولة تعالى {من جاء بالحسنة فلة عشر امثالها}، اى فله عشرحسنات أمثالها قصد الحسنات لقال: عشر أمثالها؛ لأن واحد الأمثال مثل، وهو مذكر.

قال المصنف في الشرح: «ومن العرب من يسقط تاء العدد المضاف إلى دواب لتأنيث لفظها مع قصد تذكير الموصوف، لان الدابة صفة جرت مجرى الأسماء الجامدة فاعتبر في العدد لفظها، ومنة احترزت بقولي: اعتبر غالبا حالة لا حالها» انتهى، أي: حال الموصوف لا حال الصفة. وقال ابن عصفور: «وتقول: ثلاثة نسابات؛ لأنة صفة لمحذوف، التقرير: ثلاثة رجال نسابات، وكذلك تفعل فى أمثالة. فأما قولهم ثلاث دواب ذكور فعلى جعل الدابة اسما» وقال س: «تقول: ثلاثة نسابات؛ وهو قبيح لان النسابة صفة، كأنة قال: ثلاثة رجال نسابات»، استقبح حذف الموصوف.

-[ص: فصل يعطف العشرون وأخواته على النيف، وهو أن قصد التعيين واحد أو احد واثنان وثلاثة وواحدة أو إحدى واثنتان وثلاث إلى تسعة في التذكير، وتسع في التأنيث./ وان لم يقصد التعيين فيهما فبضعة وبضع. ويستعملان أيضا دون تنييف، وتجعل العشرة مع النيف اسما واحدا مبنيا على الفتح ما لم يظهر العاطف. ولتاء الثلاثة والتسعة وما بينهما عند عطف عشرين وأخواتها مالها قبل النيف. ولتاء العشرين في التركيب عكس ما لها قبله، ويسكن شينها في التأنيث الحجازيون، ويكسرها التميميون، وقد تفتح، وربما سكن عين عشر ,]- ش: قسم أصحابنا العدد الى أربعة أنواع: مفرد : وهو واحد واثنان للمذكر، وواحدة واثنتان ـ قال الجرمى: لغة الحجاز، وثنتان لغة تميم ـ للمؤنث. وعشرون والعقود بعدها الى مئة: ويستوي فيها المذكر والمؤنث. ومضاف: من ثلاث وعشرة وما بينهما / ومئة وألف ومركب: من احد عشر إلى عشرين.

ومعطوف: وهو العقود المعطوفة علي النيف من واحد وعشرين وتسعة وتسعين وما بينهما من ذلك. وتقدم للمصنف ذكر المضاف، وشرع هنا في ذكر المعطوف. فقوله وأخواته هي الثلاثون والأربعون والخمسون والستون والسبعون والثمانون والتسعون. وقوله علي النيف لا يقال نيف إلا لما بعده عشرة أو عشرون. وقال الجوهري: «النيف: الزيادة، يخفف ويشدد، وأصله من الواو، ويقال: عشرة ونيف، ومئة ونيف، وكل ما زاد علي العقد فهو نيف حتى يبلغ العقد الثاني، ونيف فلان علي السبعين، أي: زاد، وأنافت الدراهم، أي: زادت، وأناف: أشرف». وقوله واحد أو أحد فتقول: واحد وعشرون، وأحد وعشرون. وهمزة أحد هذا مبدلة، أصلها الواو لأنه من الوحدة، كما قالوا: أناة، وأصله وناة؛ لأنه مشتق من الوني، وهو الفتور. وقوله وواحدة أو أحدي فهو القياس لأنه تأنيث واحد، وأما بناء إحدى فليس القياس، كما أن أحدا بمعني واحد ليس القياس؛ ألا تري أن أول العدد هو الواحد، ولم يقولوا إذا عدوا: اثنان، إنما قالوا: واحد. وهمزة إحدى بدل من الواو، وهو بدل في اقتباسه خلاف، بخلاف همزة أحد، فإنما بدل لا ينقاس. والألف في إحدى هي للتأنيث، ولذلك منعت الصرف، فلم تنون، يدلك علي ذلك قولهم: إحدى وعشرون جارية،

وقوله وإن لم يقصد التعين فيها فبضعة وبضع أي: وإن لم يقصد تعيين العدد في المذكر والمؤنث فالنيف الذي يعطف عليه هو بضعة مع المذكر، فتقول: عندي بضعة وعشرون درهما، وبضع وعشرون جارية، فتفيد أن عندك زائدا على العشرين من الدراهم والجوارى، لكنه لا يتعين ذلك الزائد؛ لأن بضعة وبضعا يطلقان في اللغة على ثلاث إلى تسع. وظاهر كلام المصنف أن استعمال بضع وبضعة يكون مع المعطوف فقط، وليس كذلك على ما نبينه بعد. وهما بكسر الباء، مشتقان من بضعت الشيء: قطعته، كأنه قطعة من العدد. وقوله يستعملان أيضا دون تنييف أي: لا يكون بعدهما عشرة ولا عشرون، ومنه قوله تعالى {في بضع سنين} وقوله وتجعل العشرة مع النيف اسما واحدا يريد: أو العشر. والنيف يشمل ما قصد به التعيين / وما لم يقصد به التعيين، وهما بضعة وبضع، فكما تبنى أحد مع عشر وإحدى معها كذلك تبنى معها بضعة وبضعا، فتقول: جاءني بضعة عشر رجلا، واشتريت بضع عشرة جارية. وحين شرح المصنف كلامه قال في النيف: «أحد عشر وتسعة عشر وما بينهما»، ولم ينص على بضعة عشر وبضع عشرة، لكنه يشمل النيف ذلك، ولا يختص بالمعطوف ولا بالمركب، بل هو عدد مبهم من ثلاث إلى تسع، يجرى مفردا

ومع العشرة مجرى الثلاثة إلى التسعة في الإعراب والبناء، تقول: هؤلاء بضعة رجال، وبضع نسوة، قاله أبو على الفارسي. وقال الفراء: البضع لا يذكر إلا مع العشرة ومع العشرين إلى التسعين، كذلك رأيت العرب تقول، ولا يقولون: بضع مئة، ولا ألف، وهو نيف لما بين الثلاثة إلى التسعة، وإن كان للذكر قيل بضعة. وأما النيف فيكون بغير هاء للذكر والأنثى، يكون مع العقود بحسبها، وإن كان مع العشرة فما بين الواحد إلى أقل من العشرة، وإن كان بعد المئة فهو عشرة أو أقل، وبعد الألف عشرة فأكثر. والعرج: ما بين السبعين إلى التسعين من الإبل، وقال الأعلم في قول الشاعر: يوم تبدى البيض عن أسؤقها ... وتلف الخيل أعراج النعم الأعرج: جمع عرج، وهو ما بين الخمسين والمئة من الإبل. وقال أبو عمرو بن تقى: البضع ليس نصا في عدد بعينه، إنما هو من الثلاثة إلى التسعة، وهو اسم جمع كالنفر، ويستعمل وحده، كقوله تعالى {في بضع سنين}، مركبا ومعطوفا. وحكمه حكم العشرة فما دونها، تثبت فيه التاء في عدد المذكر، وتسقط في المؤنث، وهو من البضع: القطع، بفتح الباء المصدر،

وبكسرها اسم، كالذبح والذبح، وبمنزلته النيف، من أناف على الشيء: إذا زاد عليه، وهو ينطلق على الواحد إلى التسع، ولا يستعمل مفردا، بل تقول: عندي عشرة أو عشر ونيف. وقوله مبنيا على الفتح أما علة البناء فهي تضمن معنى الحرف، وهو حرف العطف الذي هو الواو؛ إذ أصل هذا العدد من أحد عشر إلى تسعة عشر العطف، إلا أن العرب اختصرت، فحذفت حرف العطف، وركبت الاسمين، وبنتهما على الفتح، وصار العدد إذ ذاك نصا في المجموع؛ إذ كان - لو أقروا العطف - يحتمل الكلام معنيين: أحدهما الحمل على أن المراد المجموع. والثاني الحمل على أن المراد التوزيع، فإذا قلت اشتريت هذا الثوب بتسعة وعشرة احتمل أنك اشتريته بمجموع ذلك، فتكون الواو إذ ذاك جامعة، واحتمل أنك اشتريته مرة بتسعة ومرة بعشرة، فتكون الواو عاطفة لا جامعة، فلما أرادوا أن يزيلوا هذا الاحتمال الثاني وينصوا على الأول - حذفوا الحرف، وركبوا، فلم يحتمل إلا هذا المعنى الواحد. ولم يبنوا فيما دون العشرة فيقولوا: اشتريت هذا الثوب بثلاثة أربعة، يريدون:/ بثلاثة وأربعة في وفت واحد؛ لأنهم وجدوا ما يغنى عن ذلك، وهو سبعة، إذ هي رتبة ناصة في العدد، وليس لهم اسم واحد موضوع لـ «خمسة عشر» وأخواته. ولم يركبوا في المعطوف لأنهم لم يجدوا له نظيرا في المركبات، لا يحفظ من كلامهم اسمان مركبان، وإحداهما جمع، نحو: زيد عمرين، وفي كلامهم مثل أحد عشر. وعشرون وأخوته بمنزلة جموع السلامة في الإعراب، فلم تركب مع الأسماء المفردة كما لم يركبوا جموع السلامة معها. ومنع من التركيب في جموع السلامة

أن التركيب يوجب البناء، وجمع السلامة لا يكون مبنيا إلا في موضع يحكم فيه للبناء بحكم الإعراب في الإتباع على اللفظ، وذلك في باب النداء وفي باب «لا»، فأما «الذين» فصيغة جمع، وليس بجمع. وأما كون بنائه على حركة فلأن المعرب إذا طرأ عليه ما يوجب بناءه كان بناؤه على الحركة. وكانت حركة الثاني فتحة طلبا للتخفيف، وكانت حركة الأول فتحة إما طلبا للتخفيف أو لشبه أخره بما هو في كنف تاء التأنيث؛ لأن الاسم الثاني بمنزلة تاء التأنيث، ولذلك منع الصرف مع العلمية، وحذف في النسب كما كان ذلك في تاء التأنيث. وبناء هذا المركب لازم. وأجاز الكوفيون إضافة النيف إلى العشرة، واستدلوا على ذلك بقوله: علق من عنائه وشقوته ... بنت ثماني عشرة من حجته قال بعض أصحابنا: «وهذه الإضافة لا معنى لها؛ لأن الإضافة المحضة إما على معنى اللام أو معنى من، ولا يتصور معنى ذلك في النيف؛ لأنه ليس للعشرة ولا منها، بل هو زيادة عليها، وإن صح البيت الذي أنشدوه فضرورة مشبهة بقولهم: كفة كفة، فإنهم قالوا: كفة كفة، بالإضافة فشبه به ثماني عشرة تشبيها لفظيا؛ إذ الإضافة في ثماني عشرة لا معنى لها، وفي كفة كفة لها معنى، أي: كفة منه لكفة منى» انتهى، وفيه بعض تلخيص.

قال بعض أصحابنا: «ليس في خمسة عشر إلا البناء عندنا؛ لأنه قد تضمن معنى الحرف، فليس فيه إلا البناء، وأجاز الكوفيون إضافة الأول إلى الثاني، واستحسنوا ذلك إذا أضيف، فقالوا: هذا خمسة عشر، وخمسة عشرك؛ لأن هذا تعربه العرب قليلا، فتقول: هذا خمسة عشرك، وهى لغة قليلة ردية. وهذا الذي ذهبوا إليه لا يحفظ من كلام العرب، ولا له قياس يجرى عليه» انتهى. وقوله ما لم يظهر العطف ظاهره أنه يقال: عندي خمسة وعشرة، فيمنع إذ ذاك البناء والتركيب. وقال المصنف في الشرح: «ومنه - يعنى من العطف المانع من البناء والتركيب- فول الشاعر: كأن بها البدر ابن عشر وأربع ... إذا هبوات السيف عنه تجلت» وهذا التركيب الذي في الشعر مخالف لتركيب أربع وعشر بتقديم النيف على عشر، فلا يصلح الاستدلال به على هذا التركيب، وإن كانت العرب فكت التركيب وردت ذلك إلى الأصل فينبغي أن يكون في كل واحد من النيف والعشر تاء التأنيث للمذكر وإسقاطها منهما للمؤنث،/وما أظن العرب فاهت بمثل: عندي خمسه وعشرة رجلا، ولا: عندي خمس وعشر أمة. وقوله ولتاء الثلاثة إلى قوله قبل النيف يعنى أنها تثبت للمذكر، وتسقط للمؤنث، فتقول عندي ثلاثة وعشرون عبدا وثلاث وثلاثون جارية. وقوله ولتاء عشرة في التركيب عكس ما لها قبله يعنى أنك تحذف التاء من عشرة في مركب المذكر، فتقول: ثلاثة عشر رجلا وثبتها للمؤنث، فتقول: ثلاث عشرة جارية، كانت عشرة قبل التركيب بالعكس، تثبت فيه التاء

للمذكر، وتحذف للمؤنث، فخالفوا في التركيب، ولم يجمعوا فيه بين علامتي تأنيث إلا فيما سيأتي ذكره. وقوله ويسكن شينها في التأنيث لأنها مع المذكر مفتوحة، فتقول: ثلاثة عشر. وقوله ويكسرها التميميون أي: يكسرونها في التأنيث، وعلى لغتهم قرأ بعض القراء {فانفجرت منه اثنا عشرة عينا}، وكان القياس في لغتهم ألا يكسروا الشين؛ لأن من لغتهم أن يقولوا في كبد: كبد، وفي علم: علم، فإذا كانوا قد سكنوا ما الكسر فيه بأصل الوضع فكان ينبغي ألا يكسروا ما أصل الوضع فيه الفتح؛ ألا ترى أن العرب قاطبة تميما وغيرها قالوا في العدد: عشرة رجال، لكن لما غير الحجازيون شينها في التركيب من الفتح إلى السكون غيرت ذلك تميم إلى الكسر. وزعم أبو العباس أن الحجازيون إذ قالوا عشرة إنما سكنوا الشين كما يقولون في فخذ: فخذ، وفي كتف: كتف. وهذا غلط منه؛ لأن الحجازيين لا يسكنون فخذا، وإنما ذلك لغة تميم.

وقوله وقد تفتح فتحها وهو الأصل، وكان ينبغى أن يقال: وقد تقر على أصلها من الفتح، وقرأ الأعمش {اثنتا عشرة} بالفتح. وقوله وربما سكن عين عشر قال في (التمهيد): «ومن العرب من يسكن لتوالى الحركات في كلمه واحده، فيقول: أحد عشر، بسكون العين» انتهى. وقرأ يزيد بن القعقاع {أحد عشر كوكبا} بسكون العين، وقرأ هبيرة صاحب حفص بسكون عين {اثنتا عشر شهرا} وهى أشذ من قراءة ابن القعقاع؛ لأن فيها التقاء الساكنين على غير حدهما. ومنهم من يسكن الحاء في أحد عشر استثقالا لتوالى الحركات. -[ص: ويقال في مذكر ما دون ثلاثة عشر: أحد عشر، واثني عشر، وفي مؤنثه: إحدى عشرة واثنتا عشرة، وربما قيل: وحد عشر، وواحد عشر، وواحدة عشر. وإعراب اثنا واثنتا لاف لوقوع ما بعدهما موقع النون، ولذلك لا يضافان، بخلاف أخواتهما وقد يجرى ما أضيف منها مجرى بعلبك أو ابن عرس. ولا يقاس على الأول، خلافا للأخفش، ولا على الثاني، خلافا للفراء، ولا يجوز بإجماع «ثماني عشرة» إلا في الشعر.]- ش: القياس أن يقال: واحد عشر؛ لأنه هو اسم العدد؛ ألا ترى أنهم إذا عدوا قالوا: واحد. اثنان. ثلاثة. أربعة، والغالب في الاستعمال في المركب «أحد»،

وتقدم الكلام في همزته. وذكر المصنف/ أنه قد يقال: وحد عشر، فلا يبدلون واوه همزة، كما لم يبدلوها حين استعمل صفة، نحو قوله: كأن رحلى، وقد زال النهار بنا ... يوم الجليل على مستأنس وحد وقوله وفي مؤنثه إحدى عشرة تقدم أن ألف إحدى للتأنيث، والتاء في عشرة للتأنيث، فكيف يجمع بين علامتي تأنيث في المؤنث، ولم يجمع بينهما في المذكر فيقال: ثلاثة عشرة؟ وأجاب المصنف في الشرح بأنه «استثقل ذلك في المذكر لأنهما بلفظ واحد وبمعنى واحد، فإن مدلول تاء ثلاثة وعشرة تذكير المعدود، فاتخذ لفظا ومعنى، فكرة اجتماعهما في شيئين كشيء واحد، بخلاف إحدى عشرة، فإن علامتيه مختلفتا اللفظ والمعنى، أما اللفظ فظاهر، وأما المعنى فلأن ألف إحدى داله على التأنيث وتاء عشرة داله على التذكير، وكذا واحده عشرة، فإن علامتيه - وإن اتخذتا لفظا - فقد اختلفتا معنى؛ لأن مدلول تاء واحده تأنيث، ومدلول تاء عشرة تذكير، فلم يكن اجتماعهما كاجتماع تاءي ثلاثة عشرة» انتهى كلامه. ويفهم من هذا الجواب في الجمع بين علامتي تأنيث في قولهم اثنتا عشرة، وهو أن التاء في اثنتا لتأنيث المعدود، وفي عشرة تدل على التذكير، فجاز الجمع بينهما لاختلاف معنييهما.

وقال بعض شيوخنا: جمع في ذلك بين علامتي تأنيث بلفظ واحد لأن إحدى الكلمتين معربه والأخرى مبينيه، فكأنهما قد تباينتا؛ ولأن اثنتا بمنزلة ثنتا، وتاء ثنتا للإلحاق، بمنزلة بنت وأخت، وإذا كانت للإلحاق، ولم تكن لخالص التأنيث - لم يكن جمعا بين علامتي تأنيث. وأما إحدى عشرة فالألف للتأنيث، وجاز الجمع بينها وبين التاء لأنهما في الحقيقة كلمتان مع أن لفظهما مختلف، وإذا كانوا قد قالوا خامسة عشر مع أن لفظهما متفق فأحرى إذا اختلف اللفظ. وقال المصنف في الشرح: «وبني عجز هذا المركب لتضمنه معنى الواو، وبني صدره لوقوع العجز منه موقع تاء التأنيث في ثلاثة عشرة وأخواته، ولشبهه بما هو كذلك في البواقي» انتهى. وهذا مخالف لكلام أصحابنا، فإنهم يقولون: «بني الاسمان لتضمنهما معنى حرف العطف»، والمصنف يقول: «بني العجز لتضمنه معنى الواو». فالموجب عند أصحابنا لبنائهما معا هو تضمن معنى الحرف؛ إذ العطفية نسبه بين المعطوف عليه والمعطوف، فلا يمكن أن يوجد العطف إلا بوجودهما، فكل منهما يطلب حرف العطف لحصول هذه النسبة، فليس العجز وحده هو الذي تضمن معنى الواو، ولما أفرد المصنف علة لبناء العجز بقى يحتاج إلى عله لبناء الصدر، فقال: «بني الصدر لوقوع العجز منه موقع تاء التأنيث» إلى أخره، وهذه عند أصحابنا عله لكون الصدر بني على الفتح، قالوا: لأن الاسم الثاني من الاسمين بمنزلة تاء التأنيث، فعنده أن المركب في علتا بناء: علة للصدر، وعلة للعجز، وعند أصحابنا هي علة واحدة. وهذا البناء في أحد عشر متحتم عندنا.

وأجاز / الكوفيون إضافة الأول إلى الثاني، واستحسنوا ذلك إذا أضيف، فقالوا: هذا خمسة عشر، وخمسة عشرك؛ لأن هذا تعربه العرب قليلا، فتقول: هذا خمسة عشرك. ويأتي ذكر هذه اللغة عند تعرض المصنف لها. وهذا الذي ذهبوا إليه من جواز إضافة الأول إلى الثاني - وإن لم يضف - لا يحفظ من كلام العرب، ولا له قياس فهو يجرى عليه. وقوله وإعراب اثنا واثنتا باق لوقوع ما بعدهما موقع النون هذا مذهب الجمهور، وهو أنهما معربان. وذهب ابن درستويه وابن كيسان إلى أنهما مبنيان كأخواتهما المركبات. ويدل على أنهما مثنيان كونهما بالألف رفعا وبالياء جرا ونصبا، ولو كان مبنيا لكان بالياء على كل حال، كما أن يدين من قولهم «لا يدين بها لك» لما بني على الحرف جعل بالياء لأنهما في التثنية نظير الفتحة في المفرد، فكما بني لا رجل في الدار على الفتحة بني لا يدين على الياء، وكما بني أحد عشر على الفتح في الصدر كذلك كان ينبغي أن يكون صدر اثني عشر مبنيا على الياء دائما لو كان مبنياً.

والذي منع من تركيبهما وتضمينهما معنى حرف العطف كإخوتهما أنه لم يوجد شيء من الأسماء المثناه قد ركب مع غيره من الأسماء؛ وسبب ذلك أن التركيب يوجب البناء، والأسماء ألمثناه لا تكون مبنية إلا في موضع يحكم فيه للبناء بحكم الإعراب في الإتباع على اللفظ، وذلك في باب النداء وباب (لا) فأما هذان واللذان واللتان فصيغ تثنية، وليست تثنية. وإنما لم يرجعوا إلى الأصل من العطف حين تعذر التركيب أنهم أجروا اثنى عشر مجرى أحد عشر وسائر أخواته في حذف حرف العطف، وجعل الاسمين بمنزلة اسم واحد، وبناء الأخر على الفتح في كل حال؛ فحذفوا الحرف، وحذفوا النون من اثنين، وجعلوا العشرة معاقبة لها وبنوها لوقوعها موقع النون - وهى حرف - على الفتح طلبا للتخفيف، وصار اثنا عشر ذلك بمنزلة اثنين، كما صارت ثلاثة عشر وأخواته بمنزلة اسم واحد، وبفي اثنان على إعرابه لأنه لا موجب لبنائه، كإعراب الاسم المضاف، حذفت النون منه لأجل الاسم الذي بعده كما حذفت النون من المثنى المضاف لأجل الإضافة، ولم تحذف النون فيه لأجل الإضافة؛ إذ لو كانت محذوفة لها للزم خفض عشر، وأيضا لأنه لا معنى لإضافة اثنين إلى عشرة لما تقدم من أن الإضافة على معنى اللام أو من، وكلاهما ممتنع هنا. وتعليل المصنف بقاء الإعراب في اثنا عشر واثنتي عشرة بوقوع ما بعدهما موقع النون حسن، فكأن النون موجودة، فكما أنه إذا كانت النون موجودة كان معربا فكذلك مع وجود معاقبها، وهو هذا الاسم. وفي البسيط: عشر مبنى لتضمنه حرف العطف كأحد عشر. وعلى هذا فتكون الإضافة لفظية. وقيل: هو مبنى لوقوعه موقع النون وهو حرف. ولا يكون مضمنا للعطف لأنه يمنع الإضافة/لفظا، فيمنعها تقديرا، وهو لا يكون لأنها مضافة إلى عشر عندهم.

واستدلوا على أنه غير مضاف بان الحكم المنسوب إلى المضاف غير منسوب إلى المضاف إليه، كقولك: قبضت درهم زيد، فزيد ليس مقبوضا، وهو منسوب إليه، إذا قلت: قبضت اثني عشر درهما، فالعشر مقبوضة، فليس مضافا. وقيل: لا يبعد أن تكون مضافة إلى عشر المبنى لتضمن الواو، وتضمنه يدل على أنها داخله في الحكم، فعلم ذلك من تضمنها الواو لا من الإضافة. وفي البسيط أيضا ما معناه: أضافوا إما إضافة حقيقية كما تقول أعطيته ثوبا لثوب، وزدته درهما لدرهم، أي: مضافا إلى درهمه، فكأنه قيل: أقنان لعشرة، ثم أضاف. وإما لفظية فلا يتأول هذا، بل يحذف، وتصير صورته صورة الإضافة تخفيفا. وقيل: هو مبنى لأن المضاف إليه ليس داخلا في حكم العامل في المضاف، والاختلاف بالعامل لا يدل على الإعراب كما في مبنى المبهمات، والنون هنا مثل التنوين، فحذفت من المبنى كما يحذف التنوين. ويدل على أنه مركب معه كخمسة عشر حذف الهاء من عشرة، ولو كانت مضافة لثبتت علامة على أصلها. انتهى، وفيه بعض تلخيص. وقال بعضهم: إنما أعرب اثنا عشر لأن التثنية لا تختلف حالها، ولا تتغير؛ لأنها للمذكر والمؤنث ومن يعقل وما لا يعقل على صورة واحدة، ولا يتصور في التثنية البناء؛ ألا ترى أن الاسم المبنى إذا ثنى أعرب، نحو: هذا وهذان وهذين، واللذان واللتان واللذين واللتين.

وقوله ولذلك لا يضافان أي: ولأجل وقوع ما بعدهما موقع النون لا سضافان، وذلك لأنه عاقب الاسم النون، فكأن النون موجودة، ولا تكون الإضافة مع وجودها. فإن قلت: هلا حذفت هذا الاسم، وأضيف اثنا واثنتا، كما تحذف نون المثنى ويضاف؟ فالجواب: أنه كان يعرض اللبس، فلا يدرى هل أضيف اثنا واثنتا، كما تحذف نون المثنى ويضاف؟ فالجواب: أنه كان يعرض اللبس، فلا يدرى هل أضيف اثنان فقط أو أضيف اثنا عشر، فلو قلت جاءني اثنان لم يدر هل المعنى: جاءني اثنان لك، أو جاءني اثنا عشر لك، ولما تعذرت الإضافة لم يبق إلا الفصل، وهو أن تقول: هذه اثنا عشر لك. وقال الأستاذ أبو على: سبب ذلك أن زيادتي التثنية لا تزدادان إلا معا، فإذا حذفت النون للتركيب طلبتها للزيادة الأولى لأنها لا تزاد إلا معها، فأقمنا الاسم المركب الذي كان سبب حذفها مقام النون، فكما لا يجمع بين النون والإضافة كذلك لا يجمع بين الاسم المركب والإضافة، وليس في بقية الأسماء المركبات ما يطلب بأن يقام الاسم الثاني من المركبين مقام التنوين كما كان في اثني عشر، فلذلك جازت إضافة جميعها إلا اثني عشر. وقوله بخلاف أخواتهما هي أحد عشر وثلاثة عشر إلى تسعة عشر، وكذلك المؤنث، فهذه تجوز إضافتها فيبقى الاسمان على تركيبهما، فتقول: قام أحد عشرك، ورأيت أحد عشرك، ومررت بأحد عشرك، أجروا الإضافة مجرى الألف واللام، فكما أن التركيب باق مع الألف واللام كذلك هو باق مع الإضافة؛ إذ كل من الألف واللام والإضافة / مختص بالاسم، والعرب مجمعون على بقاء التركيب مع الألف واللام.

وقال المصنف في الشرح / «والأجود فيما أضيف من هذا المركب أن يبقى مبنيا». وقال ابن عصفور: وبعض العرب يبقى الاسمين على بنائهما، فتكون الراء مفتوحة في جميع الأحوال، وذلك ضعيف. وفي البسيط: وأما الإضافة فيحذف فيها التنوين المقدر كما يحذف في قولك: «هن حواج بيت الله» لأنه لا ينصرف، وتبقيه مبنيا وهو القياس، وعليه أكثر كلام العرب، وفي المؤنث: ثلاث عشرتهن، وثماني عشرتهن. وقد يجرى ما أضيف منها مجرى بعلبك أو ابن عرس ولا يقاس على الأول، خلافا للأخفش، ولا على الثاني، خلافا للفراء قال في البسيط، وقوم من العرب يعربون، فيقولون هذه خمسة عشرك، ومررت بخمسة عشرك، وله وجيه، وهو أن ترده الإضافة إلى الإعراب كما ترد أمس، لأنك تقول: ذهب أمس بما فيه، فإذا أضفت قلت: ذهب أمسنا، فتعرب. وإنما كان الأول القياس لأن خمسة عشر نكرة، وما لم ترده النكرة إلى الأصل لا ترده المعرفة بالإضافة، وأما أمس وقبل وأخواتها من الغايات فمعارف، لو جعلتهمن نكرات لرجعن إلى الإعراب، نحو: من قبل ومن بعد، وكذلك في النداء، لما كان المنكور يرجع إلى أصله رجع المضاف، فلما أعربت قولك يا زيدا إذا نكرت أعربت يا زيدنا. قال المصنف في الشرح: «وحكي س عن بعض العرب إعراب المضاف مع بقاء التركيب، كقولك: أحد عشرك مع أحد عشر زيد، وهى لغة ضعيفة عند

س، فيبقى الصدر مفتوحا، وبغير أخر العجز بالعوامل، كما يفعل ببعلبك إذا دعت حالة إلى إضافته. والقياس على هذا الوجه جائز عند الأخفش، واستحسنه. ولا وجه لهذا الاستحسان، فإن المبنى قد يضاف، نحو: كم رجل عندك، و {من لدن حكيم خبير}، ورأيت أيهم في الدار، فلا تخرجه الإضافة إلى الإعراب. وأجاز الفراء إذا دعت حاجه إلى إضافة العدد المركب إضافة صدره إلى عجزه مزيلا بناءهما، وحكي أنه سمع من أبى فقعس الأسدى وأبى الهيثم العقيلى: ما فعلت خمسة عشرك؟ وإلى هذين الوجهين أشرت بقولي: وقد يجرى ... إلى أخره». ومعنى «مجرى بعلبك أو ابن عرس»: وفت أن يضافا، فإذا أضيف بعلبك تسلط العامل على أخر الجزأين، وبقى الأول مفتوحا، وإذا أضيف ابن عرس تسلط العامل على ابن، وبقى عرس مجرورا، فتقول هذه بعلبك زيد، وحللت بعلبك زيد، ومررت ببعلبك زيد، وهذا ابن عرسك، ورأيت ابن عرسك، ومررت بابن عرسك. وهذا الوجه الذي حكي المصنف عن س أنه حكاه عن بعض العرب، وقال: أنه لا يقاس عليه، وإن الأخفش قاسه- هو الذي اختاره ابن عصفور، وبدأ به، ورجحه، فال: «فإذا أضيفت - يعنى المركبة - فالأفصح فيها أن تعرب الاسم

الثاني وتبقي الاسم الأول على بنائه»، ثم ذكر الوجه الأخر، وهو بقاؤهما على البناء، وقال «هو / ضعيف»، كما ذكرنا عنه. ثم قال «والسبب في إعرابها إذا أضيفت أن الأسماء هي معربة في الأصل، ثم طرأ عليها ما يوجب بناءها، فإن الإضافة تردها إلى أصلها من الإعراب». وما ذكر المصنف من إعرابهما وأن الفراء قاس ذلك نسبه ابن عصفور إلى الكوفيين، قال «وزعم الكوفيون أن هذه الأعداد المركبة إذا أضيفت لم يجز فيها إلا الإعراب في الأول والثاني، فالأول على حسب العوامل، والتاني مجرور بالإضافة على كل حال. والسبب في ذلك عندهم أن الإضافة ترد الاسم الذي عرض فيه البناء إلى أصله من التمكن، فوجب لذلك رد النيف والعشرة إلى أصلهما من الإعراب. وذلك باطل عند البصريين لما ذكرناه من أنه لا وجه لإضافة النيف إلى العشرة» انتهى. وهذا الذي حكاه ابن عصفور عن الكوفيين حكاه في «شرح الجمل» عن الفراء، وقال: «وهذا الذي ذهب إليه الفراء باطل لأنه لم يسمع من كلامهم» انتهى. وقد ذكر المصنف أن الفراء سمع ذلك من أبى فقعس وأبى الهيثم. وقوله ولا يجوز بإجماع ثماني عشرة إلا في الشعر يعنى إضافة النيف إلى العقد في المركب دون إضافة، وظاهر اختصاص هذا اللفظ بهذا الحكم وحده دون سائر أخواته لأن هذا اللفظ جاء في الشعر مضافا وهو قوله: علق من عنائه وشقوته ... بنت ثماني عشرة من حجته

وهذا الذي ذكره من أنه لا يجوز بإجماع إلا في الشعر ليس بصحيح، وقد تقدم لنا النقل عن الكوفيين أنهم يجيزون إضافة الصدر إلى العجز في المركب مطلقا دون إضافة، وإن كان البناء هو الأجود، ولا يخصون ذلك بثماني عشرة كما يفهم من كلام المصنف، وأن أصحابنا البصريين حملوا ذلك على الضرورة على تقدير صحة النقل فيه -[ص: وياء الثماني في التركيب مفتوحة أو ساكنه أو محذوفة بعد كسرة أو فتحة، وقد تحذف في الإفراد، ويجعل الإعراب في متلوها، وقد يفعل ذلك برباع وشناح، وجوار وشبهها.]- ش: الياء في الثماني زائدة، وهو اسم أجرى في الإعراب مجرى المنقوص، فتقول جاءني ثمان، ومررت بثمان، ورأيت ثمانيا، قال الشاعر: ولقد شربت ثمانيا وثمانيا ... وثمان عشرة واثنتين وأربعا وقد تكلمنا عليها في أخر فصل في باب النسب من شرح هذا الكتاب، ففتحها في ثماني عشرة هو الوجه، لأنه لما ركب الاسمان فتحا، والياء قابله للفتحة إعرابا فكذلك تقلبها بناء، وسكونها كسكونها في معدي كرب حالة البناء، وسكونها في معدي كرب تشبيها بياء دردبيس؛ إذ معدي كرب جعل اسما لواحد كما أن دردبيسا كذلك. وأما حذفها فلأنها حرف زائد ليس من سنخ الكلمة، وأبقيت الكسرة قبلها لتدل على الياء المحذوفة. وأما فتحها فيظهر أن ذلك على لغة من حذف الياء في

الإفراد قبل أن تركب في العدد، فلما ركبت بنيت على الفتحة، كما أنها في /الإفراد في هذه اللغة تعرب حالة النصب بالفتحة. وقوله فيجعل الإعراب في متلوها أي: في متلو الياء، وهو النون، فتقول هذه ثمان، ورأيت ثمان، ومررت بثمان، وقال الشاعر: لها ثنايا أربع حسان ... وأربع، فثغرها ثمان وقوله وقد يفعل ذلك - أى: حذف الياء وجعل الإعراب في متلوها - برباع، الرباعى: ما فوق الثنى من الحيوان، وشناح وهو الطويل، وهذان الاسمان أجراهما معظك العرب مجرى المنقوص، فتظهر الفتحة في حالة النصب، وتقدر الضمة والكسرة في حالى الرفع والجر. وبعض العرب يحذف الياء، ويجعل الإعراب في العين والحاء، فيقول: هذا رباع وشناح، ورأيت رباعا وشناحا، وكررت برباع وشناح. ومسوغ حذف الياء كونها حرفا زائدا، فاستسهلوا حذفه. ويحتمل أن يكون قائل هذا بنى الكلمة على فعال كصباح لا على الفعإلى، فلا يكون ثم حذف، بل تكون هذه لغة، لا أن الكلمة بنيت على الياء، ثم حذفت. وقوله وجوار وشبهها يعنى من جمع فاعلة المعتلة اللام على فواعل، نحو: جارية وجوار، وغاشية وغواش، وناصيه ونواص. والفرق بين هذا الجمع وما قبله أن الياء في ثمان ورباع وشناح زائدة، والياء في هذا الجمع ليست كذلك؛ إذ هي في مفرده ياء إما أصلية وإما منقلبة عن واو أصلية، وقرأ ابن مسعود {وله الجوار} برفع الراء، وبعض السلف {ومن فوقهم غواش}

-[ص: وقد يستعمل «أحد» استعمال «واحد» في غير تنييف، وقد يغنى بعد نفي أو استفهام عن «قوم» أو «نسوة» وتعريفه حينئذ نادر. ولا تستعمل «إحدى» في تنييف وغيره دون إضافة. وقد يقال لما يستعظم مما لا نظير له: هو أحد الأحدين، وإحدى الإحد. ويختص «أحد» بعد نفي محض أو نهى أو شبههما بعموم من يعقل لازم الإفراد والتذكير، ولا يقع بعد إيجاب يراد به العموم، خلافا للمبرد. ومثله غريب وديار وشفر وكتيع وكراب ودعوى ونمى ودارى ودورى وطورى وطوئى وطوؤى وطأوى ودبى ودبيج ودبيج وأريم وأرم ووابر ووابن وتأمور وتؤمور. وقد يغنى عن نفي ما قبل «أحد» نفي ما بعده أن تضمن ضميره أو ما يقوم مقامه، وقد لا يصحب «شفر» نفيا، وقد تضم شينه.]- ش: هذه المسائل ليست من باب العدد، وإنما ذكرها استطرادا على عادته، ومثال استعمال أحد في معنى واحد قوله تعالى {وإن أحد من المشركين استجارك}، {قل هو الله أحد}، وقول الشاعر: وقد ظهرت، فما تخفي على أحد ... إلا على أحد لا يعرف القمرا أي: إلا على واحد، وقوله:

إذا ناقة شدت برحل ونمرق إلي احد بعدي فضل ضلالها أي: واحد بعدي. وقوله قد يغني بعد نفي أو استفهام عن قوم أو نسوه مثال إغنائه عن قوم أو نسوه مثال إغنائه عن قوم بعد نفي (فما منكم من احد عنه حاجزين). ومثال ذلك بعد استفهام قول أبي عبيده [156:4/ب] (يا رسول الله احد خير منا؟) ,أصله أأحد ,فحذف همزه ا الاستفهام ,أوقع فيها أحدا فيها موقع قوم. ومثال إغنائه عن نسوه {يا نساء النبي لستن كأحد من النساء} هذه مثل المصنف في الشرح لهذا الحكم الذي ادعاه في أحد ,وليس بصحيح, لأن أحدا هذا المستعمل في {فما منكم من احد} وفي قول أبي عبيده ليس هو أحد المستعمل في التنييف ولا في غير التنييف الذي ذكره , لأن هذا معناه واحد. فأما الذي في {فما منكم من احد} وفي {احد خير منا}؟ فهو من القسم الذي يذكره بعد ذلك في قوله «ويختص أحد بعد نفي محض أو نهي أو شبيههما بعموم من يعقل لازم الأفراد والتذكير» فقوله {فما منكم من أحد عنه حاجرين}

كقولك ما من احد يضرب عمرا ,وقوله «احد خير أمنا»؟ كقوله: هل أحد يضرب عمرا و «أحد» هذه التي لعموم من يعقل مخالفة في المادة ل «أحد» بمعني «واحد» الواقع في التنييف وفي غيره ,لأن ماده هذا «وح د» وماده الذي للعموم «همزه وحاء ودال» , نص النحاة عل ذلك. أما قوله {لستن كأحد من النساء} فالذي يظهر إن أحدا فيه واقع موقع واحده المراد بها وحدات , أو موقع واحده , والمعني: ليست واحده منكن كواحدة من النساء. ولا يؤنث احد إن أطلق علي مؤنث بالتاء احده وقوله وتعريفه حينئذ نادر أي: حين إذ يغني بعد نفي أو استفهام عن قوم أو نسوه ,وقال المصنف في الشرح: «وحقه إذ اغني عن قوم أو نسوه أن يكون نكره ,وقد ندر تعريفه في قول الشاعر: وليس يظلمني أمر غانيه ألا كعمرو , وما من الأحد قال الليحاني: قالوا ما أنت من الأحد ,أي: من الناس انتهي. وهذا يدل علي أن أحدا هنا هو الواقع في عموم من يعقل ولذلك ندر تعريفه , لان غالب ذلك لن يستعمل نكره. وقوله لا تستعمل «احدي» في تنييف وغيره دون إضافة لم يتعرض المصنف في شرحه لشرح هذا الكلام وبعضه وهم , لأن احدي تستعمل في التنييف دون الإضافة ,ألا تري انك تقول: احدي وعشرون امرأة ,وتقول في المركب احدي عشره جاريه , فقد استعملت احدي في التنييف دون الإضافة , وإصلاحه أن يقول: «ولا تستعمل احدي في غير تنييف دون إضافة» فهذا حكم صحيح , قال

تعالي {لإحدى الكبر} , {أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى} , {فجاءته إحداهما} , {قالت إحداهما يا أبت استأجره} ولها شرط في الإضافة أنها لا تضاف إلي العلم , فأما قول النابغة: أحدي بلي ,وما هام الفؤاد بها إلا السفاه , وإلا ذكره حلما وبلي: حي من قضاعة علم - فقد تؤول علي حذف مضاف ,تقديره احدي [157:4/أ] نساء بلي ,وقد النابغة في ذلك أبو تمام فقال: أيا ويح الشجي من الخلي ... ويا للدهر من احدي بلي يريد: من احدي نساء بلي. ومن إضافتها إلي غير العلم قوله {إلا احدي الحسنيين} , وقوله {احدي ابنتي هاتين} وقوله واحدي الإحد قال الراجز: حتى استثاروا بي احدي الإحد ... ليثا هزبرا ذا سلاح معتد

وقال ثعلب: يقال هو احدي الإحد , واحدي الأحدين وواحد الآحاد , علي معني: لا مثل له , وقالوا الأحد كما قالوا الكبر ,كما قالوا ظلمه وظلم وسدرة وسدر. وقوله ويختص احد إلي قوله والتذكير احد هذا هو الذي ذكر النحاة أن مادته «همزه وحاء ودال» وليس مشتقا من الوحدة 'وهو مخالف ل «احد» بمعني واحد ماده ومعني واستعمالا ,ومساق المصنف له مساق مادته وماده احد بمعني واحد سواء وقوله بعد نفي محض مثاله {لم يكن له كفوا احد}.واحترز بقوله «محض» من أليس وما زال ونحوهما قاله المصنف في الشرح , يعني: فلا يجوز: أليس احد يقوم؟ ولا: مازال احد يفعل كذا أما «أليس» فلا اعلم فيها خلافا. وأما «مازال احد يذكر كذا» فثلاثة مذاهب: احدها المنع , سواء أكان ذلك بالماضي أم المضارع وهو مذهب الفراء والثاني: إجازتها مطلقا وهو مذهب هشام. والثالث: التفضيل بين أن يكون بالماضي فيمتنع ,أو بالمضارع فيجوز, وهو مذهب الكسائي, وقد ذكرنا ذلك في «باب كان»

والصحيح مذهب الفراء ,لان هذا صورته صوره النفي, وليس بنفي ,ألا تري انه لا يجوز دخول إلا في خبره ,ولانصب الفعل بعد الفاء والواو في جوابه ,فكذلك لا يقع «احد» فيه. وقوله أو نهي مثاله «ولا يلتفت منكم احد» وقوله أو شبههما يريد شبه النفي وشبه النهي , فشبه النفي قوله تعالي «هل تحس منهم من احد» صورنه استفهام ,ومعاناة النفي ,أي: ما تحس منهم من احد , ونحو: قلما يقول ذلك احد إلا زيد ,وليتني اسمع احد يتكلم ,لان المعني: لا اسمع أحدا يتكلم ,ذكره الفراء في «كتاب الحد» ومن شبه النفي قول الراعي: لو كنت من احد يهجي هجوتكم يا ابن الرقاع , ولكن لست من احد أي: ما أنت من احد يهجي. وشبه النهي قول الفراء في «كتاب الحد»: لأضربن أحدا يقول ذلك ساقه سياقا يشعر بشهوته , والمعني فيه: لا يقل ذلك احد. وقوله بعموم من يعقل وذلك عموم الشمول والإحاطة , ولذلك لا يثني ولا يجمع ولا يؤنث ولا يعرف , لأنه قصد به حاله واحده , فاستغني عن علامة تدل علي غيرها , وغيره من النكرات - وان استعمل في النهي والنفي للعموم كاستعمال أحد فقد يستعمل ويراد به نفي الوحدة , فإذا قلت ما في الدار رجل احتمل العموم الاستغراقي واحتمل نفي الوحدة , ولهذا اصح إذا أريد به هذا الاستعمال أن تقول: بل رجلان.

وقوله ولا يقع إلي للمبرد أجاز المبرد: جاء كل أحد , ومنع ذلك / غيره: قال س: (ولا يجوز لأحد أن تضعه واجبا) أي: إنه وضع للنفي , فإذا قلت ما جاءني رجل احتمل نفي الوحدة , أو نفي مقابل المرأة , أو نفي الكمال في الرجولية فأذاق بت ما جاءني احد كان نفيا لهذا كله ومقابله. وزعم أبو العباس أن أحدا وضع علي العموم , فيصلح في كل موضع عام فتقول «كل أحدا يفعل كّذا» لأنه عام , ولا تقول «قام أحد» لأنه لا يتصور العموم هنا ألا تري انه لا يجوز أن يكون قام رجل دون امرأة , وأمراه دون رجل واثنان دون واحد ' وواحد دون اثنين دون واحد , وواحد دون اثنين , وقوي دون ضعيف ,وضعيف دون قوي فلما لم يتصور العموم هنا لم يتصور العموم هنا لم بجز لـ (أحد) أن يقع ثم. وردوا عليه لان أحدا الذي زعم أن يكون عاما لا يتصور في كل لأنه موجب , ألا تري أن الوجه الذي منع لأجله «قام احد» مستتب هنا , إذ لا يتصور أن تقول: كل احد يفعل كذا , وتريد الرجل دون المرأة , والمرأة دون الرجل , والواحد دون الاثنين , والاثنين دون الواحد ,إذا لا يتصور إن تجتمع المضادات في الإيجاب , ويتصور ذلك في النفي , لأنك إذا قلت ما يفعل ذلك أحد كان المعني ,لا يعل الرجل دون المرأة و, ولا المرأة دون الرجل ,ولا القوي دون الضعيف , ولا عكسه , لان المتضادات نعم ب النفي ولا يتصور عمومها بالإيجاب. برهن ذلك أن تقول: زيد لا اسود ولا ابيض ,ولا يصح أن تثوب: زيد اسود ابيض فالذي قاله أبو العباس خطأ

فإن قلت: لا ينكر من كلامهم كل احد بفعل كذا. فالجواب: أن أحدا هنا بمعني واحد أي: منفرد كما قال: يوم الجليل علي مستأنس وحد فأن قلت هذا لا يكون عاما وهو في «كل احد» عام ,فليس هو ذاك. فالجواب: أن الذي ادخله في العموم هو كل , ألا تري انك لو قلت «كل زيد» كان عاما لا يراد به واحدا , لان وضع كل اقتضي ذلك ' فالذي أورد المبرد هو الذي يكون بمعني واحد , وهو الذي يكون بمعني واحد , وهو يكون في الواجب لأنه لا يحيل معني , لا تري قوله: لقد بهرت عما تخفي علي احد إلا علي احد لا يعرف القمرا أي: إلا علي واحد ف الصحيح ما ذهب إليه وقوله ومثله عريب إلي آخر أي: ومثل احد في استعماله ذلك ألاستعمال بعد نفي أو نهي أو شبههما عريب. وذكر المصنف اثنين وعشرين كلمة.

وزاد غيره: طوراني , وصافر , ولاعي فرو , ونافخ ضرمه , وارم , وايرمي , وارمي , وابر, وعين بفتح الياء , وعين بسكونها , وعائن , وعائنة , وطارف , وأنيس , ودؤري , بالهمزة , وقال الليحاني: الهمزة غلط فهذه ست عشره كلمة. أنشد المصنف في الشرح أبيانا فيها استعمال شيء من هذه الأسماء الاستعمال المذكور وهي: ليت هذا الليل شهر ... لا نري فيه عربيا ليس إياي وإياك ... ولا نخشي رقيبا وبلده ليس بها طؤوي ولا خلا لاج بها انسي ويروي طوري. تلك القرون , ورثنا الأرض بعدهم ... فما يحس عليها منهم أرم يمينا أري من ال شيبان وابرا ... فيفلت مني دون منقطع الحبل أجد الحي فاحتملوا سراعا ... فما بالدار بعدهم كتيع

وقوله وقد يغني إلي قوله ضميره مثاله ما حكي س: إن أحدا لا يقول ذلك , فاستعمل أحدا بعد أن وهي للإيجاب لأنه داخل تحت «لا يقول» في المعني ف كأنه نقي , قال: «وهو ضعيف خبيث». وقول الشاعر إذا احد لا يعنه شأن طارق ... لعدم , فانا مؤثروه علي الأهل وقوله أو ما يقوم مقامه أي: مقام الضمير , ومثاله علي قول الشاعر: ولو سئلت عنها نوار وقومها ... إذا احد لا تنطق الشفتان أراد: إذ لم تنطق شفتاه , أقام الألف واللام مقام الضمير , هكذا قال المصنف في الشرح , وهو منزع كوفي. وإما تخريجه علي مذهب البصريين فنقول: حذف الضمير منه وتقديره: لم تنطق الشفتان منه وقوله وقد لا يصحب شفر نفيا مثاله قول الشاعر: ف والله لا تنفك منا عداوة ... ولا منهم مادام من نسلنا شفر

-[ص: فصل ولا يثني ولا يجمع من أسماء العدد المفتقرة إلي التمييز إلا مئة وألف ,واختص الألف بالتمييز به مطلقا , ولم يميز بالمئة إلا ثلاث واحدي عشرة وأخواتهما.]- ش: أسماء العدد إلي قسمين: مفتقر إلي تمييز , وغيره مفتقر إليه: فغير المفتقر أليه واحد واثنان , ولا يثني واحد إذا أريد به العدد , فيقال واحدان , ولا يجمع. اما امتناع التثنية فلإغناء اثنين عنه , وأما جمعه لا غناء اثنين عنه , وأما جمعه ف لإغناء ثلاث وما بعده من أسماء العدد عنه , وأما إذا كان صفه قوله «إنما الله اله واحد» فانه يجمع علي وحدان كقوله: ................................. ... طاروا إليه زرافات ووحدانا وقد جمع بالواو والنون في قوله ................................. ... وقد رجعوا كحي واحدينا وقد ثني في قوله: فلما التقينا واحدين علوته ... ............................

وكذلك اثنان لا يثني لأنه تثنيه , وان لم ينطق له بواحد , والمثني لا يثني , ولأنه يغني عنه أربعه , ولا بجمع أيضا وقول المصنف «من أسماء العدد المفتقرة إلي مميز» لا حاجه به إلي هذا القيد , لان أسماء العدد ما افتقر منها إلي تمييز / وما لم يفتقر لا يتثني ولا يجمع ما عدا مئة وألفا , وهكذا أطلق النحويون أن أسماء العدد لا تثني ولا تجمع إلا مئة وألفا. وإنما لم تثني الثلاثة وأخواتها ولم تجمع لان لكل منها لفظا يغني عن ذلك ان قصد , ألا تري أن ستة يغني عن تثنيه ثلاثة , وعشره يغني عن تثنيه خمسه ,وعشرون يغني عن تثنيه عشره , وكذلك أيضا ثلاثون فما بعدها أغنت جمع عشره ولما كانت ألف لم يوضع لها اسم يستغني به عن تثنيتها ولا عن جمعها ثنيت وجمعت فقيل: ألفان وألوف وآلاف ,فجرت إذا ذاك مجري سائر الأسماء في التثنية والجمع , وسواء أكانت مفسره نحو ثلاثة ألاف أم غير مفسره , نحو قوله (وهم ألوف) وقول الشاعر وهو المنزل الآلاف من جو ناعط ... بني أسد , حزنا علي الأرض أوعرا وأما مئة لم يوضع لها لفظ يستغني به تثنيتها , فلذلك ثنيت فقيل مئتان. وأما جمعها فانه لما كان له شبهان شبه بالثلاثة وأخواتها في أن لها لفظا بغني عن جمعها ان كانت المئة عشر مئات وهو ألف. وشبه بألف في إهمال ما يغني عن جمعها ان كانت دون عشره , فتوسط أمرها , فأفردت , فقيل خمسمائة , وجمعت فقي ثلاث مئين

وقوله واختص ألاف بالتمييز به مطلقا أي يميز به العدد المضاف والمركب والعقود والمعطوف , ثلاثة الألف واحد عشر ألفا , وعشرون ألفا , وثلاثة وثلاثون ألفا ,ومئة ألف , ألف ألف. وقوله ولم يميز بالمئة إلا ثلاث احد عشره وأخواتها يعني انه يقال: ثلاثمئة إلى تسعمئة وانه يقال: احدي عشره مئة إلي تسعه عشره مئة وكذا قال المصنف في الشرح. وقال فيه «ولا يقال عشر مئة» ,ولا عشرون مئة استغناء بألف وألفين» انتهي. وقد تقدم ما حكيناه عن الفراء ان بعض العرب يقول: عشر مئة , وان اهل هذه اللغه يقولون ثلاثه مئين وأربع مئين ,فيجمعون , فينبغي ان يحمل كلام المصنف «انه لا يقال عشر مئة استغناء بألف» علي لغة أكثر العرب ولا يكون هذا ممنوعا مطلقا. وأما ما ذكره المصنف من انه يميز المركب بمئة , فتقول: احدي عشره مئة , واثنتا عشره مئة , الي تسع عشره مئة - فانه يحتاج في ذلك إلي صحة نقل ان ذلك مسموع من كلام العرب ,بل المعروف في ذلك أن يقال: ألف ومئة , ألف ومئتان , ألف وثلاثمئة ,إلي ألف وتسعمئة. قال المصنف في الشرح «ومن تمييز المركب ب مئة قول جابر (كنا خمس عشره مئة) يعني أهل الحديبية وفي حديث البراء (كنا يوم الحديبية أربع عشره مئة) انتهى.

وما أظن هذا الرجل اخذ هذا الحكم ولا بناه إلا علي ما روي في ذلك من حديث جابر والبراء ,فان عادته ذلك ,وهو إثبات الأحكام النحوية بما وقع في كتب الحديث , وهذه عاده من لم يشتغل علي العلماء , بل ينظر بنفسه , ويستبد برأيه , وقد تكلمنا معه في ذلك / وأمعنا الكلام في «كتاب التكميل» , وبينا عله كون علماء العربية الذين أسسوا قوانينها وقواعدها لم يبنوا الأحكام علي ما ورد في الحديث كأبي عمرو بن العلاء والخليل ابن احمد ويونس ابن حبيب وسيبيويه والاخفش والجرمي والمازني والمبرد والكسائي والفراء وهشام والأحمر وثعلب وغيرهم رحمهم الله , وجاء هذا الرجل متأخرا في أواخر القرن سبعمائة ,فزعم انه يستدرك علي المتقدمين ما أغفلوه وينبه الناس علي ما أهملوه ولله در القائل: لن يأتي أخر هذه ألامه بأفضل ما أتي به أولها. -[ص: وإذا قصد تعريف العدد ادخل حرفه عليه ان كان مفردا غير مفسرا أو مفسرا بتمييز , وعلي الأخر أن كان مضافا , أو عليهما شذوذا لا قياسيا , خلافا للكوفيين , ويدخل علي الأول والثاني أن كان معطوفا ومعطوفا عليه , وعلي الأول ان كان مركبا وقد يدخل علي جزأيه بضعف , وعليهما وعلي التمييز بقبح]- ش: المفرد من العدد هو من واحد إلي عشره إذ لم تضف ثلاثة وما بعدها. والعقود عشرون وأخواته , ومئة وألف إذا لم يضافا. فإذا أردت تعريف هذا النوع أدخلت عليه أل كتعريف سائر الأسماء المفردة فتقو الواحد والاثنان والثلاثة والأربعة والعشرون والمئة والألف. ويشمل قوله غير مفسر ما لا يقبل التفسير كواحد واثنين وما يقبله كما بعدهما من الأعداد

وقوله أو مفسرًا بتمييز لسانه مثاله: العشرون رجلا. وقال المصنف في الشرح «والمئة درهما». ثم قال «وهذا علي لغة من يضيف ,عومل فيها ذو الألف واللام معامله المنون ,ذكر ذلك ابن كيسان وعليه ورد قول حذيفة «يا رسول الله أتخاف غلينا ونحن لين الستمئة والسبعمئة» انتهي. وقد تقدم كلاما معه في تجويزه ذلك في قوله في أوائل باب العدد «وقد يفرد تمييزا» وبينا انه ان قيل ذلك فهو من باب الضرائر , وافهم كلامه هنا أن ذلك لغة العرب وقال هناك , وقد انشد بيت الربيع: «ومثله في رواية من نصب مئة من قول حذيفة» , وأورد الحديث. وقال أيضا حين انشد بيت الربيع «وهذا يقوي ما ذهب إليه ابن كيسان من جواز الألف درهما والمئة دينارا». وهذا يشعر أن هذا تجويز من ابن كيسان انفرد به , فلا يكون ذلك لغة ونصوص أئمة العربية انه متي ذكر تمييز مئة وألف فلا يكون إلا مجرورا إلا ما حكي هذا المصنف عن ابن كيسان انه أجاز نصبه. وقوله عن الأخر أن كان مضافا أي: أن كان العدد مضافا ,مثاله ثلاثة الأثواب, مئة الدرهم ,وألف دينار. وقال المصنف (علي الأخر) ولم يقل غلي الثاني ,ليشمل ما إضافته واحده وما تضمن إضافتين فأكثر , نحو: قبضت خمسمئة ألف دينار فيتعرف الأول بالثاني كما تقول غلام الرجل , وهذا / التركيب لا خلاف في جوازه , وهو جار علي تعريف المضاف بما أضيف إليه وغليه جاء قول الشاعر

........................ ... ثلاث الأثافي والرسوم البلاقع وقول أخر: ........................... فسما فأدرك خمسه الأشبار وينبغي ان يقيد قوله «وعل الأخر أن كان مضافا» ب «ألا يكون المفسر مضافا إلي مالا يقبل أل» , فانه أن كان مضافا إلي ذلك لم يدخل حرف التعريف عليه , نحو عندي ثلاثة أثوابك , وقال الشاعر: ....................... فكان ثلاثة أشبارها وقوله عليها شذوذا لا قياسيا خلافا للكوفيين قال المصنف في الشرح» وروي الكوفيون إدخال حرف التعريف علي العدد المضاف إلي ما فيه الألف واللام , كقولك قبضت العشرة الدنانير ,واشتريت الخمسة الأثواب, وهو شاذ فيحفظ ولا يقاس عليه» انتهي. وحكي أبو زيد ذلك عن ثوم من العرب ليسو فصحاء وقال الفارسي: «حكي الكسائي: الثلاثة الأثواب» انتهي. وقاسه أهل الكوفة علي: الحسن الوجه فأما السماع حمله البصريون - إن صح - غلي زيادة الألف واللام في الأول. وإما القياس فقالوا: لا يشبه الحسن الوجه , لان الوجه مجرور اللفظ مرفوع التقدير لأنه: الذي حسن , وليس المعدود مع العدد كذلك. والدليل عليه أنهم قد

اتفقوا على المنع في أجزاء الدرهم , لا يجيزون: الثلث الدرهم , بالإضافة. فأن قلت: الثلاثة الأثواب , والعشرة الغلمان, علي البدل جاز , ولا خلاف في امتناع: الثلاثة أثواب. بإدخال أل علي الثلاثة ونزعها من الأخر كما امتنع: الغلام رجل , لان الباب أن يكتسي المضاف التعريف من المضاف إليه أما العكس فلا. وقال ابن عصفور: «وبعض الكتاب يجيزون ذلك , وهو قليل جدا ويقولون: عندي الخمسهه أثواب» انتهي. وينبغي - إن ورد مثل في قليل - انه لا يعتقد إضافة الخمسة إلي الأثواب , بل يكون الجر في أثواب علي تقدير مضاف أي: الخمسة خمسه أثواب علي تقدير مضاف أي: أي الخمسة خمسه أثواب ,فحذف خمسه لدلاله الخمسة عليه , وابقي أثواب مجرورة كحاله قبل الحذف ,كقول الشاعر: رحم الله أعظما دفنوها ... بسجستان طلحه الطلحات أي: أعظم طلحه. وقوله ويدخل علي الأول والثاني إن كان معطوفا ومعطوفا عليه هذا بإجماع , ومثال عليه قول الشاعر: إذا الخمس والخمسين جاوزت فارتقب ... قدوما علي الأبواب غير بعيد ولا يجوز دخولها علي التمييز. أجاز ذلك قوم ,فتقول: ما فعل ألخمسه والعشرون الدرهم؟

وأجاز بعض النحويين أن تدخل أل في المعطوف عليه ويترك إدخالها في العقد فأجاز أن تقول: الأحد والعشرون , وهو اختيار شيخنا أبا الحسن الابذي , قال «ويجوز:/ الثلاثة والعشرون رجلا , لان الثاني معطوف علي الأول فأشبها المركب الذي أصله العطف , ولو قلت ثلاثة العشر درهما لم يجز , لأن تعريف الثاني لا يغني عن الأول , وتعريف الأول يغني عن الثاني , وكذلك: ثلاثة والعشرون لا يجوز لهذه العلة , لان العطف لمنزله التركيب» انتهي. وهذا لا يجوز لان لا يتعرف الثاني بإدخال أل في الأول , لأنه ليس معه كالاسم الواحد فكل اسم منهما معرب علي حياله ,فإذا أردت تعريف الثاني فلابد من إدخال أل عليه. وقوله علي الأول ان كان مركبا أكثر أهل البصرة لا يجيزون في تعريف المركب إلا إدخال أل علي الأول منهما , فتقول: ما فعلت الأحد عشر درهما؟ وسبب ذلك ان المركب مبني ومحكوم له جميعه بحكم الاسم المفرد المعرب من حيث انه جميعه يكون في موضع رفع وموضع نصب وموضع جر , وإذا كان كذلك فلا يكون تعريفه إلا بإدخال أل في أوله , ولا تدخل أل في الاسم الثاني لأنه كوسط الاسم ,قال الفارسي: «وروي أبو عمرو عن الاخفش أن بعض العرب يقول ألخمسه عشر الدرهم , وقال وليس له وجه من القياس».

وقوله وقد يدخل علي جزأيه بضعف هذا جنوح من المصنف أل مذهب الاخفش والكوفيين , فان مذهبهم جواز تعريف الاسمين المركبين وحكاه الاخفش عن العرب , نحو: عندي الخمسة العشر درهما , فان الأصل فيهما العطف , فهما اسمان في اللفظ , فان أردت التعريف أدخلت أل علي كل منهما ألا تري انك لو فككت التركيب فعطفت احدهما علي الأخر لعرفت الاسمين , فكذلك هذا لانه في ضمنهما , وهذا الوجه جيد والأخر أقيس. وقال الفارسي «لا يجوز هذا لان الاسم لا يعرف بوجهين) قال: » وكذلك عرفته العرب ,قال ابن الأحمر تفقع فوقه القلع السواري وجن الخازباز به جنونا فعرف الاسم الأول من الاسمين» وقوله وعلي التمييز بقبح ذهبت طائفة من الكتاب أل إدخال أل علي المركبين والتمييز. وحكي ابن عصفور أن بعض النحويين أجاز ذلك وأن

الأخفش حكاه عن بعض العرب وحكاه صاحب البسيط عن الكوفيين , وقال المصنف في الشرح: «ولا يستعمل منه إلا ما سمع». وسوغ الفراء القياس علي ذلك. وينبغي أن يحمل ما سمع من ذلك علي زيادتها في ثاني المركبين وفي التمييز. وقد أجاز قوم من النحويين إدخال أل علي التمييز مناسب لمذهب الكوفيين

-[ص: فصل حكم العدد المميز بشيئين في التركيب لمذكرهما مطلقا أن وجد العقل , وإلا فلسابقهما بشرط الاتصال , ومؤنثهما أن فصلا ب (بين) وعدم العقل , ولسابقهما في الإضافة مطلقا. والمراد ب «كتب لعشر بين يوم وليله» عشر ليال وعشره أيام / وب «اشتريت عشره بين عبد وأمه» خمس اعبد وخمس آم.]- ش: مثال المسألة الأولي عندي خمسه عشر عبدا وأمه , وخمسه عشر جاريه وعبدا. ومعني بشيئين أي مذكر ومؤنث , ومعني مطلقا أي: لا يعتبر التقديم في المذكر ولا التأخير , ولا اتصال التمييز بالمركب أو فصله منهما ب (بين) , بل الحكم للمذكر إذا كان العقل في المذكر والمؤنث. وسواء اتصل التمييز بهما كما مثلنا أو انفصل منهما ب (بين) نحو: اشتريت ستة عشره بين عبد وأمه , أو ستة عشر بين أمه وعبد. ولا يشترط تنصيف العدد بينهما ولا كثره المذكر , بل لو كان عشر نساء ورجل واحد لقلت: احد عشر وغلبت المذكر. وقوله وألا أي: وان لم يوجد العقل فيهما فالحكم لما سبق من مذكر أو مؤنث بشرط اتصال التمييز بهما , مثاله / اشتريت ستة عشر جملا وناقة ,واشتريت ستة عشر ناقة وجملا. وقوله لمؤنثهما أن فصلا ب (بين) وعد العقل مثاله اشتريت ستة عشره بين ناقة وجمل , وستة عشر بين جمل وناقة , وقال الشاعر:

فضافت ثلاثاً بين يوم وليلة ... وكان النكير أن تضيف وتجارا ... قالوا إنما غلب المذكر فيما يعقل لأنه ليس تحته عدد يحتوي عدد يحتوي علي جمعين، ... وغلب في الثانية السابق لأن الحكم للأول كالمؤنث، وهذه التعاليل وجدتها بخط الخفاف، فلتنتظر. وقال س: «يجوز في القياس: خمسه عشر من بين يوم وليلة، وليس بحد كلام العرب «. قال أبو سعيد: (إنما جاز ذلك لأنا نقول: ثلاثة أيام، نريد: مع لياليها، قال تعالي {ألا تكلم الناس ثلثه أيام إلا رمزا}،وقال: {ألا تكلم الناس تلت ليال سويا}،وهي قصه واحدة» انتهي ... وظاهر كلام المصنف تخصيص هذه الأحكام بالعدد المميز. بمذكر ومؤنث في التركيب وظاهر كلام ابن عصفور أن ذلك لا يختص بالمركب، فأنه قال: «وإن نصبت المعدود المختلط بعد العدد»، فظاهر قوله «بعد العدد» أنه لا يخص بالمركب، فعلي هذا تجيء هذه التقاسيم في العدد المعطوف، فتقول: عندي أحد وعشرون عبدا وأمه، أو أمه وعبدا، واشتريت أربعه وعشرين بين عبد وأمه، أو بين أمه وعبد، فتجعل الحكم للمذكر لوجود العقل فيهما، وتقول اشتريت أربعه وعشرين جملا وناقة، واشتريت أربعا وعشرين ناقة وجملا، لأنه لم يوجد العقل فيهما، وقد اتصل التمييز بالعدد، وتقول: سرت أربعا وعشرين بين ليله يوم، أو بين يوم وليله، لأنه فصل بينهما ب «بين» وعدم العقل

فرع: لو أن أحد التمييز من مذكر أو مؤنث عاقلا، والآخر غير العاقل، فالذي يقتضيه القياس تغليب المذكر العاقل، لأنه إذا كان يغلب مع المؤنث العاقل فلأن يغلب مع المؤنث غير العاقل /أولي، مثاله: اشتريت أربعه عشر عبدا وناقة، واشتريت أربعه عشر ناقة وعبدا. فإن كان العاقل مؤنثا والذي لا يعقل مذكرا فالذي يقتضيه القياس تغليب المؤنث إن فصل ب «بين «،لأنه إذا كان يغلب المؤنث الذي لا يعقل المذكر غير العاقل فلأن يغلبه المؤنث الذي لا يعقل الذكر غير العاقل فلأن يغلبه المؤنث الذي يعقل أولي، مثاله: اشتريت أربع عشرة بين أمه وجمل، أو بين جمل وأمه ... فإن اتصل التمييز فالظاهر أنه يعتبر العاقل المذكر تقدم أو تأخر، لأنه إذا كان يغلب المذكر العاقل المؤنث العاقل فلآن يغلب المؤنث الذي لا يعقل أولي، ومثاله: اشتريت أربعه عشر ناقة وعبدا، أو عبدا وناقة ... والتمييز المختلط المنصوب أو المجرور ب «بين «فيما ذكرناه إن كان العد يقبل التصنيف كان التمييز منصفا بين المذكر والمؤنث، وإن كان لا يقبل التنصيف فيكون التمييز مجملا، نحو: اشتريت أحد عشر عبدا وأمه، أو بين عبد وأمه، وكذلك نحرت خمسه جملا وناقة، أو خمس عشرة بين جمل وناقة. ... وقوله ولسابقهما في الإضافة مطلقا أي: الحكم لما سبق من المذكر والمؤنث، فتقول: عندي عشرة أعبد وإماء، وعشر إماء وأعبد، وذلك فيما له تنصيف جمعي، وذلك عشرة وثمانية وستة، فإن لم يكن تنصيف جمعي عطفت علي العدد لا علي المعدود، وصار المعطوف مجهولا للمخاطب عدده، فتقول: عندي أربعه رجال ونساء، وعندي ثلاث جوار ورجال، نص علي ذلك أصحابنا وهو قول الكسائي

وحكى ابن سيده في «المخصص» من تأليفه أن الفراء لا يحيز أن ينسق علي المؤنث بالمذكر وعلي المذكر بالمؤنث، وذلك أنك إذا قلت عندي ستة رجال ونساء فقد عقدت أن عندي ستة رجال، فليس لي أن أجعل بعضهم مذكرا وبعضهم مؤنثا، وقد أنهم مذكرون. وقال صاحب البديع: «وبعضهم لا يحيز الجر فيما له نصف، لأنك إذا قلت ستة علم أنهم رجال، فكيف تجعل بعضهم نساء» انتهي. ... فإن جمعت بين المذكر والمؤنث ولم تضف العدد إليهما بل أخرته غلبت المذكر، فتقول: عندي رجال ونساء ستة، ونساء ورجال ستة. ... وقول والمراد ب «كتب» إلي قوله وخمس آم والفرق بينهما استتباع الليالي الأيام واستتباع الأيام الليالي، ألا تري إلي ما تقدم ذكره من قوله {ثلثه أيام إلا رمزا}، وقال: {ثلث ليال سويا} والقصة واحدة، وعدم استتباع العيد الإماء، فإذا قلت «سار خمس عشرة من بين يوم وليله «دخلت الأيام في الليالي، وإنما قوله «من بين يوم وليلة «توكيد، بعد ما وقع علي الليالي غلب التأنيب علي التذكير علي خلاف المعروف، وأعطاه خمسة عشر من بين عبد وجاريه، لا يكون في هذا إلا هذا، لأن المتكلم لا يجوز أن يقول خمسه عشر، فيعلم أن ثم من الجواري بعدتهم، ولو قال خمس عشرة لم يعلم أن من العبيد بعدتهن، فهذا الفرق بين المسألتين.

ص: فصل يؤرخ بالليالي لسبقها، فيقال أول الشهر: كتب لأول ليلة منه، أول لغرته، أو مهله، أو مستهله، ثم لليله خلت، ثم خلتا، ثم خلون، إلي العشر، ثم خلت إلي النصف من كذا، وهو أجود من لخمس عشرة خلت أو بقيت، ثم لأربع عشرة بقيت إلي عشر بقيت، إلي ليلة بقيت، ثم لآخر ليلة منه أو سلخه أو انسلاخه، ثم لآخر يوم منه أو سلخه أو انسلاخه. وقد تخلف التاء النون وبالعكس. ... ش: التاريخ عدد الليالي والأيام بالنظر إلي ما مض من السنة أو الشهر وإلي ما بقي منهما، وفعله أرخ وورخ، وهما لغتان، فلذلك جاء فيهما تأريخ وتوريخ كتأكيد وتوكيد، ولا يخلو أن تذكر الليالي والأيام من حيث هي لا بالنظر إلي شيء، فلا بد من ذكر التمييز، وقد يحذف لفهم المعني. نحو صمنا خمسه، وإن ذكرت التمييز فالعدد علي حسبه من تذكير أو تأنيث، فتقول: خمسه أيام، وثلاث ليال، وخمسه عشر يوما، وخمس عشره ليلة. فإن كان ما بعد العدد يجمع مذكورا ومؤنثا اثبت علي كل حال باعتبار رعيين أحدهما: الحمل علي المدد، فإذا قلت سرنا خمسا بين يوم وليلة فالتقدير: خمس مدد ثم فسرت المدد بالليالي الأيام. ... والتاني: الحمل علي الليالي والأيام، فيغلب المؤنث علي المذكر لأنه أخف من حيث كان عدده بغير تاء، كما غلب ضبع علي ضبعان، أو أسبق، لأن الليل أسبق من النهار، أو تذكير الليالي والأيام بالنسبة إلي السنة والشهر.

فإن ذكرت المعدود كان علي حسبه من تذكير أو تأنيث، فتقول: سرت من شهر كذا خمس ليال أو خمسة أيام، وإن لم تذكر المعدود فالعرب تستغني بالليالي عن الأيام، فتقول: كتبت هذا لخمس من رمضان، قال الشاعر: خط هذا الكتاب في يوم سبت لثلاث خلون من رمضان وإنما استغني بالليالي عن الأيام للعلم أن مع كل ليلة يوما، فإذا مضي عدد من الليالي مضي مثلهما الأيام، فيجوز إن يستغني بذكر احدهما عن الآخر. وكان الاستغناء بالليالي أولي لأن أول الشهر ليلة، فأول ما يقع التأريخ علي الليالي، وأرخوا ما بقي من الشهر بها، فإذا قيل: كتب لثلاث خلون من شهر كذا، فالمعني لخمس، فقصدت الليالي، وسكت عن الأيام للعلم بأن مع كل ليلة يوما. ... وذهب قوم منهم الزجاجي إلي أن هذا من تغليب المؤنث علي المذكر، وزعم أنه ليس في العربية موضع يغلب فيه المؤنث علي المذكر إلا في باب التأريخ، فأما سوي هذا فيغلب فيه المذكر علي المؤنث. ... وكلا القولين فاسد: ... أما أنه من باب التغليب فليس بصحيح، لآن التغليب إنما هو في لفظ يعم القبيلين، ويجري عليهما معا حكم أحدهما، كقوله تعالي {خلق كل دابة من ماء فمنهم} فأعاد ضمير الذكور العقلاء علي {كل دابة} علي سبيل التغليب.

وأما حصره التغليب للمؤنث علي المذكر في باب التأريخ ليس بصحيح، لأنه قد تقدم لنا تغليب المؤنث علي المذكر في: اشتريت خمس /عشرة بين جمل وناقة، أو بين ناقة وجمل. وكذا إن لم يقعا بعد «بين «، وانتصبا علي التمييز، وقدم المؤنث. وقوله فتقول أول الشهر: كتب لأول ليله منه أو، لغرته أو مهله أو مسهله وقال غيره: أذا أرخت أول ليلة من الشهر قلت: في أول كذا، أو في أول ليله من كذا، أو في غيره، أوفي مهل، أو في مستهل. وإن أرخت في أول يوم قلت: في أول يوم، أو غره يوم، وغره الشهر إذا مضي منه يوم ويومان وثلاثة، ومفتتح في أول يوم منه. ... و «هلال «فيه خلاف: منهم من يجعله مثل الغرة، ومنهم من يجعله في أول يوم، خفي ففي التاني، وهو الصحيح، لأنه من لفظ استهل، ولا يستهل بالهلال إلا في أول يوم، فإن خفي ففي التاني، ولا يسمي هلالا في هلوك الشهر إلا مجازا، وعليه قول الشاعر: ... أري مر السنين أخذن مني كما اخذ السرار من الهلال وقوله ثم لليلة خلت، ثم خلتا، ثم خلون إلي العشر وقال غيره: إذا أردت بعد مضي ليلة قلت: لليلة مضت. أو بعد مضي ليلتين قلت: لليلتين خلتا أو مضتا، أو بعد مضي يوم قلت: ليوم مضي، أو قلت: ليومين مضيا. انتهى.

وإنما قال خلون إلى العشر لأنه يريد: لثلاث ليال خلون، ولأربع ليال خلون، وكذا إلي العشر، فالعدد مضاف إلي معدود يرد به القلة، إذ من الثلاث إلي العشر هو قليل، وجمع القلة الأحسن فيه النون، نحو: الأجذاع انكسرن، وإنما كانت النون أحسن لأنها نص علي الجمعية والتأنيث، والتاء ليست كذلك. وقوله ثم خلت يعني من مضي أحدي عشرة ليلة تحسن التاء لأنه إذ ذاك جمع كثرة، فكما يحسن: الجذوع انكسرت، كذلك يحسن: لإحدى عشرة خلت، ويجوز: خلون. وهذا الذي ذكره المصنف هو ما لم يذكر التمييز، فإن ذكرته فإما ن ترد الإخبار إليه وإلي العدد المميز ,فإن رددته إليه قلت: خلت وبقيت إن كان مؤنثا وخلا وبقي إن كان مذكرا، نحو: لأحد عشر يوما، خلا أو بقي. وقوله إلي النصف من كذا أي: تؤرخ بالنصف، كتبته لنصف شهر كذا. وقوله وهو أجود أي: التأريخ بالنصف أجود من أن تقول: لخمس عشرة خلت أو بقيت. وقال المصنف في الشرح: «وقالوا فيما فوق العشر: خلت وبقيت لآن مميزه ليلة مقدرة، ولو ذكرت لكان بعها هكذا جيء بة مع تقديرها علي ما كان ينبغي له مع ذكرها. وقالوا في العشرة وأخواتها: خلون وبقين لأن مميزها في التقدير جمع مؤنث، ولو ظهر لكان خلون وبقين أولي من خلت وبقيت» انتهى.

وقوله ثم لأربع عشرة بقيت إلي عشر بقين إلي ليلة بقيت وقال بعض أصحابنا «في التأريخ خلاف: منهم يؤرخ بالنظر إلي ما مضي لأنه محقق، وما بقي غير محقق، والأكثرون يؤرخون بالقليل يما مضي أو بقي، فإذا تساويا أرخ بأيهما شاء، وهم علي مذهبين: منهم من يتحفظ فيما بقي، فيقول: إن بقيت و 0 منهم من لا يتحفظ». ... وقوله ثم في آخر ليلة منه إلي قوله أو /انسلاخه قال بعض أصحابنا: «والمنسلخ آخر يوم من الشهر، والداداء كذلك، وجمعه دآديء، وهي الثلاثة الأخيرة من الشهر، ويكتب العقب في أول يوم وفي الثاني وفي الثالث من الشهر، والعقب في الثلاثة الأخيرة من الشهر» ... وقوله وقد تخلف التاء النون بالعكس فتقول: لثلاث خلت، إلي عشر خلت، ولأحدي عشرة خلون، إلي تسع عشرة خلون ... فرع: تقول: كتبته في العشر الأولي والأول، والوسطي والوسط، ولا تقول: في العشر الأول ولا الأوسط، لأن العشر مؤنث، ولها لفظ مفرد، فيحمل عليه فيقال الأولي والوسطي وله معني جمع، فيحمل عليه، فيقال الأول والوسط. ... وقال بعض النحويين: وتقول: كتبت في العشر الآخرة أو الأواخر، ولا تقل: الأخرى والأخر، لئلا يلتبس بالثواني.

-[ص: فصل المطابق له، وقد يعرب الأول مضافا إلي الثاني مبنيا عند الاختصار علي ثالث عشر ونحوه، ويستعمل الاستعمال المذكور في الزائد علي عشرة الواحد مجعولا ... يصاغ موازن «فاعل» من اثنين إلي عشرة بمعني بعض أصله، فيرد أو يضاف إلي أصله، وينصبه إن كان اثنين لا مطلقا، خلافا للأخفش، وضاف المضوغ من تسعة فما دونها إلي المركب المصدر بأصله، أو يعطف عليه العشرون وأخواته، أو تركب معه العشرة تركبيها مع النيف مقتصرا عليه، أو مضافا إلي المركب حاديا]- ش: هذا الفصل هو المبوب له: هذا باب اسم الفاعل المشتق من العدد ومعني قوله من اثنين إلي عشرة يعني أنك تقول: ثان وثالث ورابع وخامس وسادس وسابع وثامن وتاسع وعاشر، ويكون في التذكير والتأنيث كاسم الفاعل، تقول المذكر: ثان، وفي المؤنث: وكذلك باقيها. ويجوز في خامس وسادس إبدالا السين ياء في المذكر والمؤنث، وقال الشاعر: مضت ثلاث سنين منذ حل بها وعام حل، وهذا التابع الخامي.

وقال آخر: بويزل عام قد أذاعت بخمسة وتعتدني إن لم بق الله ساديا ويجوز مع إبدال السين باء في سادس أن تبدل الدال تاء، فتقول: واحد وواحدة إلي آخرها. فقول المصنف يصاغ موازن «فاعل «من اثنين إلي عشرة بمعني بعض أصله لا يتصور في الواحد لأن الواحد نفسه هو اسم العدد، يبني علي صيغه فاعل، فليس له أصل يكون واحد الذي هو اسم الفاعل بعضا له، ألا تري أنه لا يقال: واحد واحد، فتضيف اسم الفاعل إلي اسم العدد، فلذلك أسقطه المصنف من اسم الفاعل، وعده غيره وأن لن يضعف لجريانه ع فعله كما حرى ثان وثالث وباقيها أفعالها تقول العرب وحد يحد فهو واحد كما تقول ثنى يثنى فهو ثان وثلث يثلث فهو ثالث وكذلك باقيها وقوله وينصبه إن كان اثنين مطلقا خلافا للأخفش أى وينصب أصله إن كان ذلك الأصل لفظ اثنين لا مطلقا الا كل بعض غير ثان فتقول هذا ثان اثنين ولا تقول ثالث ثلاثة ولا رابع ولا خامس خمسة إلى

آخرها، وتقول في المؤنث: ثانية اثنتين بالتنوين والنصب ولا تقول ثالثه ثلاثا إلى آخرها، ويكون قولك ثالث ثلاثة بمعنى أحد ثلاثة. ومع قول المصنف وينصبه إن كان اثنين ينبغى فيه التقييد بأن يقول «إن ف ثان الألف واللام» فان عرى عنهما، وكان بمعنى الحال أو الاستقبال نصب أصله ع سبيل الجواز لأنه فاعل، فحكمه حكمه. ويفهم من كلام المصنف أنه إذا كان اسم الفاعل ثانيا فانه ينصب اثنين، وليس ذلك بحتم، بل تجوز الإضافة ولا يتحتم. وأما غيره من النحويين فالمشهور أنه لا يجوز أعمال ثان ف موافقة في الحروف بل تجب إضافته كما تجب إضافة ثالث ورابع وخامس وباقيها إذا أضيف إلى موافقة ف الاشتقاق فتقول: ثانى اثنين بالإضافة كما تقول ثالث ثلاثة ورابع أربعه، وبالإضافة جاء القرآن، قال تعالي ثانى اثنين، وقال لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلثه. والمتحصل ف أعمال هذا النوع مذاهب: المشهور: انه لا يجوز. والثاني أنه يجوز مطلقا، فتقول: ثان اثنين، وثالث ثلاثة، اللي آخرها، وحكمه كاسم الفاعل. وهذا المذهب عزاه المصنف اللي الأخفش، وعزاه أصحابنا إلى ثعلب، وعزاه صاحب البديع اللي ألكسائي، وعزاه صاحب الإفصاح إلى الكسائي وقطرب.

والثالث: التفصيل بين أن يكون اسم الفاعل «ثانيا» أو غيره، إن كان «ثانيا» جاز بشرطه، وإن كان غيره وجبت إضافته، وهذا اختيار المصنف. حجه المشهور أن ثالثا وأخواته إذا جاء بعده موافقة في الحروف الأصلية لا تأتى العرب منه بفعل، فلا تقول ثلثت الثلاثة، ولا ربعت الأربعة، ولا خمست الخمسة، وكذلك باقيها، واسم الفاعل إنما يعمل إذا كان فعله يعمل، فإذا كانت العرب لا تقول ثلثت الثلاثة فكيف تقول ثالث ثلاثة، واسم الفاعل فرع ف العمل عن الفعل؟ وإنما لم يجز ذلك لأنه لو قيل ثلثت الثلاثة كان قد ثلث نفسه لأنه احد الثلاثة ن وهو لا يجوز لأنه يؤدى إلى تعديه فعل المضمر إلي ظاهره، مثل قوله «زيدا ضرب» إذا أردت أنه ضرب نفسه. وحجة الثاني أنه يكون معناه غذ ذاك: متمم ثلاثة ومتمم أربعة. وهذا ليس يجيد، لأنه يلزم منه أن يتمم نفسه، وفيه تعدى فعل المضمر ألي ظاهره لأنه أحد الثلاثة أن يتمم نفسه، وفيه تعدى فعل المضمر إلي ظاهره لأنه أحد الثلاثة، فيلزم أن يتمم نفسه وحجة ما اختاره المصنف أنه زعم أ، العرب تقول الرجلين إذا كنت ألثاني منهما، قال في الشرح: «فمن قال ثان اثنين هذا المعنى عذر لأن له فعلا، ومن قال ثالث ثلاثة لم يعذر لا، هـ لا فعل له» انتهى. وهذا الذي حكاه المصنف أن العرب تقول ثنيت الرجلين نقل النحاة ينفى ذلك، لأنهم نقلوا أن العرب لا تأتي بفعل إذا كان بعده ما يوافق اسم الفاعل في الحروف، فليس بمسموع من كلامهم: ثنيت الاثنين، كما أنه ليس بمسموع من كلامهم ثلثت الثلاثة، والقياس يأباه، فإن صح ما نقله المصنف أن العرب تقول ثنيت الرجلين وجب تأويله على حذف مضاف، تقديره: ثنيت أحد.

الرجلين، وأيضا فقولهم ثنيت الرجلين ليس نصا ف ثنيت حتى يبنى عليه ثان اثنين بالإعمال. وقوله ويضاف المصوغ من تسعه فما دونها إلي: حادي أحد عشر، وحاديه إحدى عشره. وتعرب اسم الفاعل لزوال التركيب، إذ كان أصله: تاسع عشر تسعه عشر، ولا يشعر كلام المصنف لا ف فصه ولا ف شرحه أن أصله التركيب ونص أصحابنا عليه، وهذا مسموع من العرب، كما أن ثاني اثنين وثالث ثلاثة مسموع من العرب. وقياس من أجاز الإعمال ف ثالث ثلاثة أن يجيزه هنا، إذ يصير المعنى عنده: هذا متمم تسعه عشر. وهذا الوجه أحسن من الذي يأتي بعده وهو حادي أحد عشر وإضافته إلي المركب بعده. وقوله أو يعطف عليه العشرون وأخواته فتقول: التاسع والعشرون، والحادي والعشرون وكذلك باقي أخوات العشرين. وإذا اختلط عدد مذكر بعدد مؤنث غلب المذكر، فتقول: حادي أحدى عشرة ولو عنيت امرأة منهن لقلت: حادية أحد عشر، إذ لو لم يذكر لم يدر أفيهم رجل أم لا. وقد يحكى يعقوب وغيره عن الفراء أنه حكي عن العرب: «كان معي عشر فاحدهن، أي: صيرتهن أحد عشر»

وقوله أو تركب معه العشرة تركبيها مع النيف مقتصرا عليه مثاله التاسع عشر، والحادي عشر، وكذلك ما بينهما، وتقول التاسعة عشرة، والحادية عشرة، بتاء التأنيث فيهما ف المؤنث. وقال ف الشرح: «إن هذا المركب يقتصر عليه غالبا» انتهى. وهذا الوجه الذي ذكره فيه خلاف، وقد أبطله أصحابنا، قالوا: وزعم بعض النحويين أنه يجوز بناء كل واحد من الاسمين لحلوله محل المحذوف من صاحبه. يعني أ، أصل المسألة: حادي عشر أحد عشر، فحذف عشر الأول وهي مراده، فبقى حادي ع بنائه، وحذف احد، وهي مراده، عشر الأول ع بنائه. قالوا وهذا باطل لأنه يتلبس باسم الفاعل المفرد غير المضاف فإنه مبني، فلا يعلم أنه الذي حذف منه عشر وأحد. وأجاز بعض النحويين حذف عشر من أحد عشر، وحذف أحد من أحد عشر وإعرابهما، فتقول: هذا حادي عشر، وثالث عشر، لزوال الموجب لبنائهما، وهو التركيب، ولأنه لا يلتبس باسم الفاعل غير المضاف، لأن إعرابه يدل على أنه لو كان غير محذوف لم يجز فيه الإعراب لما تضمنه من معنى الحرف وينبغي ألا يجوز ذلك إلا إن سمع من العرب، لأن هذا إجحاف كثير بالكلام.

واسم الفاعل المبني من النيف إن كان أخره ياء جاز فيه فتح الياء وإسكانها، فتقول: جاء حادي عشر، وثاني عشر. وإن لم يكن في أخره ياء لم يجز فيه ألا البناء ع الفتح. وهذا البناء لأجل التركيب لا لتضمن معنى حرف العطف. وقد خالفت هذا النوع ما كان البناء فيه جائزا نحو بعلبك، أنه خرج عن نظائره من المضافات لكونه ليس مضافا إليه ما بعده ولا معمولا له، لأن حادي عشر مثلا لو كان مضافا لو قع على واحد من عشرة، لأن المعنى يكون: واحد العشرة، وهو لا يقع إلا علي واحد من أحد عشر، لأنه لو كان معمولا له لكان له فعل يجري عليه بل هو مأخوذ من أحد عشر، ضم أليه عشر كما ضم أحد أليه ضم تركيب فلما خالف غيره بني مع أنه كثير الشياع، ألا ترى أنه يقع علي كل واحد من أحد عشر كائنا ما كان، وكذلك باقيها، نحو: تاسع عشر. وزعم ابن السيد أن أصله: حادي عشر أحد عشر، حذف عشر من الأول لدلالة الثاني عليه، وحذف أحد لدلاله حادي عليه، فبني الاسم لحول كل واحد منهما من صاحبه محل المحذوف. وكان الموجب لبنائه عنده وقوعه بني. وقوله أو مضافا ألي المركب المطابق له يعني أنه يضاف التاسع عشر ألي تسعه عشر، إلي حاديه عشرة احدي عشره، ولا يتغير اسم الفاعل المركب ولا ما أضيف إليه من العدد المركب بحسب العوامل لأنهما مبنيان لأجل التركيب. وقوله وقد يعرب الأول مضافا الي الثاني مبنيا عند الاقتصار ع ثالث عشر ونحوه وقال المصنف ف الشرح: «وقد يقتصر ع صيفه فاعل وتاليه.

مضافا ومضافا مع إعراب وبناء علي تقدير تركيبه مع ما صيغ منه فاعل، فيقال: هذا ثالث عشر، ورأيت ثالث عشر، ومررت بثالث عشر، فحذف الصدر، ونوى بقاؤه، فاستصحب بناء العجز، وهذا شبيه بقول من قال: لا حول وقوة إلا بالله، بالتركيب والبناء، ثم حذف لا ونوى بقاءها، فاستصحب البناء» انتهي. وهذا الذي ذكره المصنف من جواز هذا الوجه حكاه ألكسائي، وحكي من كلامهم: السواء ثالث عشر، بإعراب ثالث وبناء عشر، ووجه ما ذكر المصنف من انه جعل الثلاثة المحذوفة من قوله ثلاثة عشر مراده، فبني عشر من اجل ذلك، وحذف عشر من الأول، وهو لا يريده فأعرب ثالثا لذلك. وأصحابنا قالوا: هذا من الشذوذ والقلة بحيث عليه. وتلخيص في اسم الفاعل في هذه المسألة متفقا عليها ومختلفا فيها وجوه خمسه: أحدهما: حادي عشر أحد عشر، تبنيهما، وتضيف المبني الأول إلي الثاني وهذا هو الأصل، وهو أقلها استعمالا، وأنكره بعض النحويين. الثاني: حادي أحد عشر، بإعراب الأول وحذف عشر وبناء أحد عشر وهو أكثر استعمالا/من الأول. الثالث: حذف العقد والنيف وبناء ما بقي مرادا ما حذف منهما.

الرابع حذفهما وإعراب ما بقي. الخامس: إعراب اسم الفاعل مع حذف عقده، وبناء عشر ع حذف نيفه. وتقول ف المؤنث: ثالثه عشرة، ثلاث عشره، وثالثه عشره فيمن بناهما. قال صاحب البديع: «هذا مذهب س، يجمع بين تأنيثين. قال السيرافي ف شرحه: (ولا أعلم خلافا في جواز: حاديه عشر)، يعني بحذف التاء من الثاني، وقال الزمخشري): الأول والثاني والثالث، والأولى والثانية والثالثة إلي العاشر والعاشرة، والحادي عشر والثاني عشر بفتح الياء وسكونها والحادية عشره والثانية عشرة إلي التاسع عشر والتاسعة عشرة، تبنى الاسمين ع الفتح كما تبنيهما ف أحد عشر) ومعنى ثالث ثلاثة عشر: واحد من ثلاثة عشر، إلا أن بين المعنيين فرقا، وهو أنك مع لفظ الواحد لا يعلم هل هو الذي انتهى به العدد أم غيره، وأما مع ثالث ثلاثة عشر وثالث عشر وثالث ثلاثة فيعلم أنه الذي انتهى أليه العدد» انتهى كلام صاحب البديع. وقوله مجعولا حاديا يعني أن اسم الفاعل هـ حاد مكان واحد، فتقول: حادي عشر، وحاديه عشرة. وحكي الكسائي أنه سمع من الأزد أو بعض عبد القيس: واحد عشر. وهذا هو القياس إذ فعله وحد يحد

وحادي عشر مقلوب من واحد عشر، فاؤه مكان لامه، فانقلبت ياء لكسر ما قبلها، وجعلت عينه مكان فائه. وقال الفراء: ليس بمقلوب، بل هو من قولك يحدو، أي: يسوق، كأن الواحد الزائد يسوق العشرة، وهو معها. وأنشد الفراء: أسوق عشرا، والظليم حادي ... كأنهن بأعلى الوادي يرفلن في ملاحف جياد -[ص: وإن قصد بفاعل المصوغ من ثلاثة إلي عشرة جعل الذي تحت أصله معدودا به استعمل مع المجعول استعمال «جاعل»،لأن له فعلا، وقد يجاوز به العشرة، فيقال: رابع ثلاثة عشر ,أو رابع عشر ثلاثة. أو رابع عشر ثلاثة عشر، ونحو ذلك، وفاقا لسيبويه، بشرط الإضافة. وحكم «فاعل» المذكور في الأحوال كلها بالنسبة. ألي التذكير والتأنيث حكم اسم الفاعل.]- ش: إنما قال المصوغ من ثلاثة لأنه لا يصاغ من اثنين فاعل، فيضاف إلي واحد أو يعمل كاسم الفاعل، فلا يقال: هذا ثاني واحد، ولا ثان واحدا، هذا مذهب س، وإنما استعمل ثان مضافا إلي اثنين بمعني: أحد اثنين. وأجار ذلك بعض النحويين قياسا، حكي هذا المذهب بعض أصحابنا، وقال الأستاذ أبو علي: (0 هو يعقوب، قال) ;قول: ثاني واحد)،وأظنه قياسا منه، لأن س نفاه، وهو ضابط لمثل هذا» وقال ابن الضائع: «بل هو محكي عنهم» وقوله المصوغ من ثلاثة فيه تسامح وتقريب علي المتعلم، وبالحقيقة صوغه إنما هو من المصدر، وهو الثلث والربع، إلي التسع والعشر، وهذه المصادر علي وزن فعل كضرب لأن فعلها متعد، فيقاس المصدر فعل.

وقوله جعل الذي تحت أي: جعل الذي تحت أصل المصوغ معدودا به، ثالث اثنين، ورابع ثلاثة، وخامس أربعه، إلي عاشر تسعه. وقوله استعمل هو أي كالمصموغ مع المجعول استعمال جاعل يعني جاعل بمعني مصير، وبهذا قدره النحويون، أي: تصير الاثنين بع ثلاثة، وتصبر الثلاثة بع أربعه، وكذلك إلي عاشر تسعة، أي تصير التسعة به عشرة. قال المصنف في الشرح: «وأشرت باستعمال جاعل إلي أنه إذا كان بمعني المضي وجبت إضافته وإعماله، علي ما يفعل بجاعل وغيره من أسماء الفاعلين، وكان ذكر جاعل أولي لأنه موافق لفاعل المذكور وزنا ومعني» انتهي. وتفسير النحاة ذلك ب «مصير» أوضح من تفسير المصنف ذلك بجاعل، لأن جاعلا اسم فاعل من جعل، وجعل مشتركه بيم معان، فجاعل مشترك بخلاف مصير، فإنه نص من حيث المعني في ذلك. وقوله لأن لع فعلا أي يستعمل لاسم الفاعل مع العدد الذي تحته فعل، فتقول: ثلثت الاثنين، وربعت الثلاثة، فأنا ثالثهم رابعهم، وكذلك إلي العشرة، وقال تعالي {ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ولا خمسه إلا هو سادسهم}، {سيقولون ثلاثة إلا هو رابعهم كلبهم يقولون خمسة سادسهم كلبهم رجما بالغيب ويقولون سبعة وثامنهم كلبهم}

وأشار إلى استعمال رابع وثالث وأخواته اسم فاعل بقول لأن له فعلا إلي ان ما يكون له فعل مع العدد الذي يليه لا يكون حكمه حكم اسم الفاعل، كثالث ثلاثة لأن العرب لا تقول: ثلثت الثلاثة، ولا ربعت الأربعة. قال المصنف في الشرح: «وينبغي أن يتنبه بهذا إلي جواز: هذا ثالث تسعه وعشرين؛ لأنه يقال: كانوا تسعه وعشرين فثلثتهم أي: صيرتهم ثلاثين» انتهي. وقال أبو عبيد: «كانوا تسعة وعشرين فثلثتهم، أي: صرت لهم تمام ثلاثين، وكانوا تسعة وثلاثين فربعتهم، مثل لفظ الثلاثة والأربعة، وكذلك جميع العقود إلي المئة، فإذا بلغت المئة قلت: كانوا تسعة وتسعين فأمأيتهم، مثل أفعلتهم، وكانوا تسعمائة وتسعه وتسعين فألفتهم، ممدودة، وكذلك إذا صاروا هم كذلك قلت: قد أمأوا، وألفوا أي: صاروا مئة [ألفا]». وقال أبو عبيد أيضا: «كانوا ثلاثة فربعتهم، أي: صرت رابعهم، إلي العشرة. وكذلك إذا أخذت الثلث من أمولهم إلي العشر. وفي العدد يثلث ويخمس إلي العشرة، وفي الأموال يثلث ويخمس إلي العشر، إلا ثلاثة فأربعوا، أي: صاروا أربعة، إلي العشرة، علي أفعل» وهذا الذي ذكره النحويون في المختلف اللفظ من أن اسم الفاعل يجري مجري أسماء الفاعلين، فإن كان للمضي لم يعمل، وإن كان للحال أو الاستقبال.

جازت الإضافة، والعمل أجود قياسا علي أسماء الفاعلين علي /الإطلاق لم يذكر س فيه إلا معني المضي، ولم يذكر فيه إلا الإضافة، وقال: إنه قليل في كلام العرب، قال: «وتقول: هذا خامس أربعه ,وذلك أنك تريد أن تقول: هذا الذي خمس الأربعة، كما تقول: خمستهم وربعتهم».ثم قال: «وإنما تريد: هذا الذي صير أربعه خمسة، وقلما تريد العرب هذا، وهو قياس، ألا تري أنك لا تسمع أحدا يقول: ثنيت الواحد ,ولا: ثاني واحد».ثم قال في آخر الباب: «وتقول: هذا خامس أربع إذا أردت أنه صير أربع نسوة خمسة، ولا تكاد العرب تكلم به كما ذكرت لك. وعلي هذا تقول: رابع ثلاثة عشر، كما قلت: خامس أربعة». فهذا جملة ما تكلم عليه س في المختلف اللفظ، فلم يذكر فيه التنوين والنصب ,ولا معني الحال والاستقبال، ولم يذكر فيه إلا معني المضي، وذكر انه قلما تكلم به العرب، وجعله قياسا فيما سمع من الماضي، وقاس عليه: رابع ثلاثة عشر، ويأتي الكلام فيه بعد هذا إن شاء الله. وفي البسيط: وأما إن أضفته إلي غير لفظه، ثالث اثنين فهو علي معني الفعل أي: الذي صير الاثنين ثلاثة بنفسه، إلي عشرة، فتقول: عاشر تسعة، وكأنه مأخوذ من ثلثتهم وربعتهم وخمستهم، وقلله س كلام العرب، وذكر أنه قياس، ولم يذكر س النصب به، وتأوله علي الماضي، لأنه قال: «هذا الذي خمس الأربعة» فلم يجره مجري اسم الفاعل مطلقا، فإضافته علي هذا تكون محضة.

وذكر النحويين النصب به كالمبرد وغيره، وذلك - والله أعلم - قياس؛ لأنهم لم يسمعوه فيه، فتكون إضافته على هذا - إن قصد العمل بمعنى الحال والاستقبال - غير محضة. وفي شرح الخفاف: لم يذكر س في الوجهين إلا الإضافة، ولم يذكر التنوين والنصب في المختلف اللفظ، وقدره بالفعل، فقال: (هذا الذي خمس الأربعة، كما تقول خمستهم وربعتهم). وقال أيضا: (هذا الذي صير أربعة خمسة)، فقدره بالماضي، وصار بمنزلة: ضارب زيد أمس، ولو أراد العمل لقدره بالمستقبل , ونون، ونصب به، وقد ذكر غيره النصب، ويجعله بمنزلة اسم الفاعل، إذا كان بمعنى الماضي لم يكن إلا مضافا، وبمعنى المضارع أجازوا النصب والتنوين، ولم يستشهدوا على النصب بكلمة واحدة، فدل ذلك على أنه منهم قياس، وجاء القرآن بالإضافة في قوله تعالى {إلا هو رابعهم}، وفي قوله {رابعهم كلبهم}، إلا أن ابن السكيت حكي في ألفاظه عن الكسائى في ثاني اثنين وثالث ثلاثة إجازة النصب والتنوين، قال: (والخليل والفراء لا يجيزانه)، ولو حكاه عن العرب لم يسعهما منعه، فإذا كان قياسا منه فلا يعول عليه، مع أن إجازته ذلك فيما كان مضافا إلى جنسه لا يختلف في منعه، فلا يعول عليه. وقال في الإصلاح له: (هو مضاف إلى العشرة، ولا ينون، فإذا اختلفا كان الوجهان).

وقد زعم س أن المختلف اللفظ قليل في استعمال العرب. وقد ذكر الأخفش، قال: (ويقولون في هذا القياس: ثاني واحد وقال بعضهم: ثنيت الرجلين: صرت ثانيهما، ولا يقال: ثنيت فلانا، ولكن يقال: صرت له ثانيا، وثنيت الرجلين وأنت أحدهما ليس بقياس؛ لأن مثله لا يجرى على فعل، ولا ينون. ومن استعمال الفعل في خامس أربعة قول عبد الله بن الزبير الأسدى: ونحن قتلنا بالمنيح أخاكم ... وكيعا، ولا يوفي من الفرس البغل فإن تثلثوا نربع، وإن يك خامس ... يكن سادس حتى يكون لنا الفضل وإن تسبعوا نثمن، وإن يك تاسع ... يكن عاشر حتى يبيركم القتل وقال السيرافي: «أجمع النحويون على ذلك إلا ماحكاه ابن كيسان عن ثعلب أنه أجاز: ثالث ثلاثة، وثلثت الثلاثة، والمعروف قول الجمهور». وتقول في المؤنث: ثالثة ثلاث، تحكم لاسم العدد بالحكم الذي كان له حين كان مفردا، وتحكم لفاعل بحكمه أن لو انفرد. وقوله وقد يجاوز به العشرة يعنى أنه يستعمل مع المركب كما استعمل مع اثنين وثلاثة، فيكون اسم فاعل مع المركب كما كان مع العدد الموافق له في الاشتقاق.

وقوله فيقال رابع ثلاثة عشر وأصله: رابع عشر ثلاثة عشر، فحذف عشر من الأول، وأعرب رابع، وأضيف إلى المركب الذي هو ثلاثة عشر، وكذلك باقيها. وقوله ورابع عشر ثلاثة عشر هذا هو الأصل، فتجئ باسم الفاعل وعشر، وتبنيهما على الفتح، وتضيفه إلى ثلاثة عشر. وقوله وفاقا لـ «س» بشرط الإضافة أجاز س وجماعة معه صوغ اسم الفاعل مع المركب على الوجهين اللذين ذكرهما المصنف، وهما أن يحذف عشر من اسم الفاعل، ويضاف هو إلى العدد المخالف الذي هو دونه. وأن يثبت، ويبنى مع اسم الفاعل، ويضاف إلى ما بعده من العدد الذي هو دونه، وذلك بشرط الإضافة، فلا يجوز فيه أن ينصب ما بعده، سواء أحذف منه عشر أم أثبت، فلا تقول: رابع ثلاثة عشر، بتنوين رابع واعتقاد أن ثلاثة عشر في موضع نصب به، ولا: رابع عشر, فتعمله وهو مبنى، وتعتقد نصب ما بعده؛ لأن مثل هذا لم يسمع منه فعل، لا تقول: كانوا ثلاثة عشر فربعتهم، أي: صاروا بك أربعة عشر. وترك المصنف وجها ثالثا في هذه المسألة على مذهب س، وذلك أنه قال: «هذا المختلف مثل الموافق»، فكما جاز في حادي عشر أحد عشر وأخواته حذف العقد من الأول وإضافته إلى الموافق، وإثباته والإضافة إلى الموافق، وحذف العقد من الأول وحذف نيف الثاني- كذلك جاز هنا. والوجه الذي تركه المصنف هو: هذا خامس عشر، إما ببنائهما، وإما / بإعرابهما، على الخلاف الذي مر في الموافق. قال بعض شيوخنا: وفي هذا الوجه إلباس بالمتفق اللفظ، فلا يجوز وهذا الذي أجازه س هو قياس كما ذكرناه، ولم تتكلم به العرب، ولا هو مسموع

منها، وخالفه الجمهور الأخفش والمازنى والمبرد والفارسي، قال الأخفش: «إذا قلت رابع ثلاثة فإنما تجريه مجرى ضارب زيد ونحوه؛ لأنك تقول: كانوا ثلاثة فربعتهم، وكانوا خمسة فسدستهم، ولا يجوز أن تبنى فاعلا من خمسة وعشرة جميعا؛ لأن الأصل: خامس عشر أربعة عشر». وفي البسيط: قال الأخفش: ولا يجوز بمعنى العمل، فلا تقول: ثالث عشر اثني عشر. قالوا: لأنه إنما جاز في الإفراد على معنى العمل لأنهم اشتقوا فعلا منه، نحو: خمستهم، وثلثتهم، بمعنى صيرتهم، ولم يشتقوا من خمسة عشر فعلا بهذا المعنى، فلم يجز، وقاسه النحويون المتقدمون، فجوزوه. ومنعه الكوفيون في الوجهين محتجين بأنه لا يشتق من أكثر من اسم واحد. والذي يظهر أنهم إن قالوا هذا قياسا ففيه نظر، وإن سمع فيرجع إليه، ويكون وجهه أنهم إذا قالوا ثالث عشر ثلاثة عشر أنهم اشتقوا من ثلاثة عشر ثالث عشر، فقالوا: ثالث ثلاثة عشر، أي: أحد الثلاثة التي هي مع العشرة ثم أقحموا عشر بيانا بأنه ليس ثالث ثلاثة خاصا، فلا يلزم ما قال الكوفيون. فأما المجوزون في غير الموافق فيقولون: هذا ثالث عشر اثني عشر، اتكالا على المعنى، ولا يلتفت إلى خمستهم ونحوه؛ لأن القائل به لا يعمله، وإنما يكون

مضافا، كما تقول: خمسة عشر زيد؛ لما تقدم من أنه لا يشتق فعل منه، وإن كان معناه معنى المصير كما في اسم الفاعل بمعنى الماضي، لكنه لا يقصد هذا المعنى، وفيه نظر. انتهى. وقال المبرد: اسم الفاعل لا يكون من شيئين، والمختلف اللفظ في الآحاد جار على الفعل كاسم الفاعل. وقال أبو على في الإيضاح: «ومن قال خامس أربعة لم يقل: رابع ثلاثة عشر، ولا: رابع عشر ثلاثة عشر؛ لأن اسم الفاعل الجاري على الفعل لا يكون هكذا) يعنى أنه لا يبنى من شيئين، كما قال المبرد. وفي الإفصاح: هذا الوجه من القياس الذي قاسه س قال أبو العباس: «إنه مذهب المتقدمين»، قال: «وكان الأخفش لا يراه صوابا» , وبه قال المازنى وأبو بكر وأبو على. واستدل بما أشير إليه قبل من أن اسم الفاعل يكون جاريا على المضارع، فإذا كان اسم الفاعل مركبا لزم أن يكون المضارع مركبا ليصح جريانه عيه, والفعل لا يكون مركبا، فلا يصح جريان اسم الفاعل عليه، وجريانه عليه شرط لازم له، وإذا عدم الشرط عدم المشروط، وإذا لم يكن فعل لم يكن اسم فاعل؛ لأن اسم الفاعل لابد له من فعل يجرى عليه. وقد رد بعض المتأخرين على هذا القول بأن العرب إنما تشتق من الصدر الأول، فلا تركب، ومنه اشتقت ثالث عشر ثلاثة عشر، اشتقت ثالثا من ثلاثة، ثم ركبته بعد مع عشر. قال: والعرب تقول: ربعت الثلاثة عشر، أي: رددتهم أربعة عشر، فاشتقت من الصدر، ولم تركب الفعل، فكذلك تشتق/اسم الفاعل

من الصدر، ولا تركب. وإنما قال س رابع ثلاثة عشر، ولم يعلم أنه محذوف من تركيب، واسم الفاعل تابع للفعل. هكذا قال ابن الباذش. ولا أرى أبا على يصحح ربعت الثلاثة عشر، وقد حكاه بعض أهل اللغة، وبعض ينكره، ويمكن أن يكون س ممن يراه، فيصح هذا التوجيه. ويبعد عندي لأن العرب لم تتسع في الاشتقاق من اسم العدد هذا الاتساع؛ ألا ترى أنهم لم يقولوا؛ ثنيت الواحد, ولا ثالث ثلاثة، بالتنوين، لم يحكه س. وقال أبو الحسن: العرب لا تقول: خامس خمسة غدا، بالنصب، ولا: ثان اثنين غدا، بالنصب، وقد يجوز فيما دون العشرة أن تنون وتنصب، وأن تدخل الألف واللام، لأن ذلك بناء يكون في الأفعال، وإن كانت العرب لا تتكلم به هنا، ولكنه في القياس جائز أن تقول: الثاني اثنين أنا, والثالث ثلاثة أنا، وهذا نظير ما رواه الكسائى. وهو كله تقول على العرب, وكذلك التنوين والنصب. والمختلف اللفظ لم يصح به سماع، ومن قال رابع ثلاثة، وخامس أربعة - أشبه من ثالث اثنين بالتنوين؛ لأنك تريد: الذي جعل اثنين ثلاثة، ومع ذلك هو ضعيف لأنه ليس له فعل معلوم، إنما هو مشتق من العدد، وليس له مصدر معروف، فالوجه الإضافة، وإنما يجوز هذا في الألف واللام للضرورة لأن هذه الأشياء التي اتسعت فيها العرب مجراها مجرى الأمثال، ولا ينبغي أن يتجاوز بها استعمالهم، ومنع من قولك: أنا إياهما ثالث، وهؤلاء الثلاثة أنا إياهم رابع، وأشباه هذا وكل هذا حكاه أبو بكر عنه.

وقول س: «وعلى هذا تقول: رابع ثلاثة عشر»، ظاهره القياس، ولو لم يقس كان أجود. وقول أبى الحسن «مجراها مجرى الأمثال» حسن جدا، لا يقاس ما لم يسمع على ما سمع, لا على أنه موقوف كله، لكن يقاس على ما سمع على النحو الذي سمع. وقال س: «وليس قولهم ثالث ثلاثة عشر كثالث ثلاثة في الكثرة؛ لأنهم قد يكتفون بـ (ثالث عشر)»؛ ألا تراه قد قلل شيئا قياسه أن يكثر كثرة: ثالث ثلاثة، لكنه كما قال أولا استغنوا عنه بغيره. وقال السيرافي: «أما من يقول: هذا ثالث اثنين، وعاشر تسعة - فإن كثيرا من النحويين يمنعون أن يقال فيما جاوز العشرة من هذا, وذلك أن القوم إذا كانوا تسعة، فصرت عاشرهم، جاز أن تقول: عشرتهم، وإذا كانوا عشرة فكملتهم أحد عشر لم يكن من هذا فعل مشتق في تكميلك العشرة، وهذا هو القياس. ومنهم من يجيزه، ويشتقه من لفظ النيف، ويقول: هذا ثان أحد عشر، وثالث اثنى عشر، وينون». قال: «وقد حكي نحو من هذا عن العرب، قال الراجز: /أنعت عشرا والظليم حادى أراد: حادي عشر».

وقال ابن طاهر: «أجيز ثاني أحد عشر على إجازة أبى الحسن ثاني واحد، ونفي س لسماعه مع إجازته لقياسه حملا على ثاني اثنين». يريد أن س قاس على ثاني اثنين: ثالث اثني عشر؛ لأن كل رابع أربعة ونحوه يكون فيه رابع ثلاثة، فقياس المركب كالمضاف. وذكر أبو على أن الياء في حادي عشر وثاني عشر يجوز فيها الفتح، وقياس المركب إذا كان في آخره ياء أن تسكن ولا تفتح، لكنه لما كانت تفتح في حادية عشر وثانية عشر لأجل تاء التأنيث أجراها بعض العرب على ذلك في المذكر. وقوله وحكم فاعل إلى آخر الفصل يعنى أنه يكون بالتاء للمؤنث وبغير تاء للمذكر في جميع الأحوال؛ سواء أكان مفردا، نحو ثان وثالث، أم مضافا إلى غير مركب، نحو: ثالث ثلاثة، وثالث اثنين، وثالثة ثلاث، وثالثة اثنتين. أو معطوفا، نحو: الثالث والثلاثون رجلا، والثالثة والثلاثون امرأة. والثالث عشر ثلاثة عشر، والثالث ثلاثة عشر، وثالث عشر، والثالثة عشرة ثلاث عشرة، والثالثة ثلاث عشرة، وثالثة عشرة. وعلى مذهب س في المختلف تقدم تمثيل المذكر. وتقول في المؤنث: رابعة عشرة ثلاث عشرة، ورابعة ثلاث عشرة. وعلى الوجه الثالث: رابعة عشرة.

وبقي الكلام في العقود، فنقول: أما عشرون وسائر العقود إلى تسعين والمئة والألف فلم يسمع من العرب بناء اسم فاعل منها، لم يقولوا عاشر عشرين، ولا: ثالث ثلاثين، ولا: رابع أربعين، والقياس يقتضى ألا يقال من ذلك إلا ما سمع؛ لأن الاشتقاق من الأسماء الجامدة لا يقاس لقلته. والذي حكة من ذلك: هذا عاشر عشرين. وقال الكسائى: «تقول: هذا الجزء العاشر عشرين»، وقياسه: الثالث ثلاثين، والرابع أربعين، إلى آخره. وقال س والفراء: هذا الجزء العشرون، وهذه الورقة العشرون، على معنى: تمام العشرين، فتحذف التمام. وقال بعضهم: تقول هذا متمم عشرين، أو مكمل عشرين. وهذا ليس بشيء لأنه يلزم أن يتمم نفسه أو يكمل نفسه. وقال أبو على في العقود كلها: هو الموفي كذا، وهى الموفية كذا، كقولك الموفي عشرين، والموفية عشرين. وقال بعض أصحابنا: والصحيح أن تقول: هو كمال العشرين، أو تمام العشرين، أو تأتى بأسماء العقود، فتقول: العشرون، والثلاثون، والأربعون، إلى تمام العقود.

-[ص: فصل استعمل كخمسة عشر ظروف، كيوم يوم، وصباح مساء، وبين بين. وأحوال أصلها العطف، كتفوقوا شغر بغر، وشذر مذر، وخذع مذع، وأخول أخول، وتركت البلاد حيث بيث، وهو جاري بيت بيت، ولقيته كفة كفة، وأخبرته صحرة بحرة، وأحوال أصلها الإضافة، كبادي بدا، وبادي بدي، وأيدي سبا، وأيادي سبا. وقد يجر بالإضافة الثاني من مركب الظروف، ومن بيت بيت وتالييه، ويتعيين ذلك للخلو من الظرفية، وقد يقال: بادي بدء، وبادي بداء أو بدء، وبدء ذي بدء أو ذي بدأة أو ذي بداءة. /وقد يقال سبا بالتنوين، وحاث باث، وحوثا بوثا، وكفة عن كفة. وألحق بهذا: وقعوا في حيص بيص، وحيص بيص، والخازباز.]- ش: هذا الفصل ليس من أبواب العدد في شيء، إلا أنه استطرد إليه من حيث جعل اسمين اسما واحدا مركبا كخمسة عشر، ومناسب ما فيه من الظروف أن يذكر مع الظروف، وما فيه من الأحوال أن يذكر في باب الحال، وقد تكلم المصنف علي شيء من هذه الظروف في باب الظرف في الشرح، وأشار إليه في الفص في قوله «وألحق بالممنوع ما لم يضف من مركب الأحيان، كصباح

مساء، ويوم يوم»، وهذا النوع من الظرف المركب مسموع، والمسموع صباح مساء ويوم يوم، وأزمان أزمان، هذا من ظرف الزمان، ولا يقاس عليه فيقال: فلان يأتينا وقت وقت، ولا نهار ليل، ولا عام عام، ولا ساعة ساعة، وأما المسموع من ظرف المكان فبين بين، ولا يقاس عليه يقال: خلف خلف، ولا أمام أمام، وإذا لم ينقس ذلك في ظروف الزمان مع أنها أكثر فالأحري ألا يقاس علي ظرف المكان؛ إذ ظرف المكان تبع لها في هذا الحكم، كما أنه تبع لها في الإضافة إلي الجمل؛ إذ لم يضف منها إلا حيث، فأما ما جاء في حديث حذيفة من قول إبراهيم- صلي الله علي نبينا وعليه- (إنما كنت خليلا من وراء وراء) فمن رواه بالضم فهو قطع عن الإضافة، نحو: من تحت، ومن عل، والثاني توكيد، ومن رواه بالفتح كان ذلك بناء علي جهة الشذوذ، وكان القياس لما تصرف فيه بدخول من عليه ان يضاف الأول إلي الثاني، فيقال: من وراء وراء؛ لأنهم لما تصرفوا في مثل يوم يوم أضافوا الأول إلي الثاني، فقالوا: ولولا يوم يوم ......................... ... ........................................ وقال المصنف في الشرح» هذا - يعني الإضافة- حكم ما خرج عن الظرفية مما ركب من الظروف تركيب خمسة عشر». وقال: «وعلي هذا أنشد س: ولولا يوم يوم ما أردنا ... ............................................

البيت. قال: «وأنشد أيضا: ما بال جهلك بعد الحلم والدين ... وقد علاك مشيب حين لا حين أنشده، وقال (وإنما هو: حين حين، ولا بمنزلة ما إذا ألغيت)»،انتهي. فجعل المصنف «حين لا حين» من باب «ولولا يوم يوم»، وليس كذلك لوجهين: أحدهما: أن «يوم يوم» سمع فيه التركيب وجعلهما اسما واحدا في موضع نصب علي الظرف، ولم يسمع ذلك في «حين حين». والثاني: أن قوله «ولولا يوم يوم» تصرف فيه بالخروج عن الظرفية، واستعمل مبتدأ، و «حين لا حين» في البيت هي ظرف، لم يتوسع فيها في البيت بالخروج عن الظرفية. وقوله وأحوال أصلها العطف لما كانت الحال مشبهة للظرف حتى قيل فيها إنها مفعول فيها من حيث المعني أجريت مجراه في الجريان مجري خمسة عشر؛ والجامع بينهما تضمن معني حرف العطف، وتلك ألفاظ محفوظة لا يقاس عليها أيضا، وهي أكثر من الظروف، ولذلك كان منها أصله العطف وما أصله الإضافة، وليس في الظروف المركبة ما أصله /الإضافة. قال المصنف في الشرح: «وكان الحال جديرا بالغلبة لأن الواقع حالا من هذا النوع قائم مقام مفرد ومغن عنه، كما أن مركب العدد قائم مقام مفرد ومغن عنه، وذلك أن ما دون العشرة إذا زيد عليه واحد استحق مفردا يدل علي الزائد والمزي عليه، كقولنا للاثنين المزيد عليهما واحد: ثلاثة، وهكذا إلي التسعة المزيد

عليها واحد، وأما العشرة المزيد عليها فترك فيها هذا الأصل، واستغني بالمركب عنه، ثم رجع إليه في تصنيف العشرة وما فوقه. والأحوال المشار إليها بمنزلة مركب العدد في القيام مقام مفرد؛ لأن شغر بغر بمعني منتشرين، وشذر مذر بمعني متفرقين، وخذع مذع بمعني منقطعين، وأخول أخول في قوله: ........................................ ... سقاط شرار القين أخول أوخولا بمعني متفرقا، وحيث بيث بمعني مبحوثة، وبيت بيت بمعني مقاربا، وكفة كفة بمعني مواجها، والصخرة بحرة بمعني منكشفا، وبادي بدا أو بدي بمعني مبدوءا به. وسبب بناء ما أصله العطف كسبب بناء العدد المركب، وهو في مركب الأحوال أوكد؛ لأن تركبيه ألزم» انتهي. يعني: والبناء في مركب الأحوال أو كد منه مركب الظروف؛ لن تركبيه في الأحوال الزم منه في الظروف؛ لأن الظروف المركبة قد يفك عنها التركيب وتضاف. ويعني فيما أصله العطف. قال المصنغ في الشرح: «وأما ما أصله الإضافة فسبب بنائه شبهه بما أصله العطف في التركيب من شيئين يؤديان معني واحدا، وفي لزوم معني في، وامتناع الألف واللام والإضافة والتصغير. وبنيا علي حركة لأن لهما أصلا في لتمكن. وكانت الحركة فتحة لأن مع التركيب ثقلا، فكرهوا اجتماع ثقلين لو جئ معه بكسرة أو ضمة» انتهي. وفي البسيط ما ملخصه: إن حذف التنوين يكون من الثاني للإتباع، فيشبه بخمسة عشر، وليس بمنزلته، وحركة الإتباع ليست حركة إعراب، فهو

مخفوض في التقدير، والظروف والأحوال غير متمكنة، فكان ترك التنوين فيها أنسب، كما فعلوا ذلك في النداء، فقالوا: يا بن أم، ويا بن عم، ونحوه؛ لأن النداء باب لا تتمكن فيه الأسماء، فساغ لهم ذلك ترك التنوين، فهو محذوف لا للبناء، وذلك نحو: هو جاري بيت بيت، ولولا يوم يوم، وأتيتك صباح مساء، ولقيته كفة كفة، وبين بين. وقال بعض النحويين: «إنها مركبة بمنزلة خمسة عشر، وعلة البناء أن أصلها العطف بالواو، فحذفت الواو، وضمن معناها، فبني كخمسة عشر؛ إذ الأصل: أتيتك صباحا ومساء، ويوم يوم، وكذلك في أخواتها. وهو معزي إلي س لقوله (يجعله بعضهم كاسم واحد)، وليس يمتنع التنوين إلا بناء، وأيضا لا عهد بترك التنوين للإتباع. وما ذكروه عن س فالظاهر خلافه؛ لأنه قال فيها: (والآخر من الأسماء في موضع جر)، ولو كانت كخمسة عشر ما كان في موضع شيء، فدل علي أن الإضافة عنده أصلها، وأن هذا طارئ عليها، وإنما يريد بقوله (كاسم واحد) أي بحسب/ ظاهره. وقولهم إن التنوين لا يحذف للإتباع، قلنا: ليس الإتباع بما هو إتباع هو السبب، بل السبب جعله مع الأول كشيء واحد كخمسة عشر، فحذف من الآخر كما حذف التنوين من قولك: هذا زيد بن عمرو، وحكم الطرف كحكم الوسط، ولتأويله تأويل اللفظ الواحد جاز الإتباع فيه كما جاز في اللفظ الواحد» انتهى.

ونرجع إلى الكلام علي هذه الألفاظ: فقوله تفرقوا شغر بغر معناه: في كل وجه، وهذا معني قول المصنف «منتشرين»؛ لأنهم إذا انتشروا في الأرض كانوا قد تفرقوا في كل وجه، وكأن شغر مأخوذ من قولهم: شغر البلد: إذا خلا من الناس، وكأنهم حين فارقوا أماكنهم، وسلكوا جهات شتي - خلت أماكنهم منهم. ويقال: اشتغر في الفلاة: إذا أبعد فيها. وبغر النجم يبغر بغورا: إذا سقط وهاج بالمطر، والنجم: الثريا، وكأن بغر منه؛ لأنهم إذا تفرقوا في كل وجه سقطوا في تلك الأوجه. وقوله شذر مذر يقال: تفرقوا شذر مذر \ن بفتح الشين والميم، وبكسرهما، ومعناه: ذهبوا في كل وجه. ومذر إتباع، والشذر: قطع الذهب، والشذر: الؤلؤ الصغر، والشذرة: القطعة، كأنهم بتوجههم كل وجه تقطعة في نواحي الأرض. ومذرت البيضة: فسدت، ومذرت -بكسر الذال- معدته: فسدت، وكأنهم بتفرقهم وخروجهم إلي غير مواطنهم فسدت أحوالهم. وفي البسيط أن الميم في مذر بدل من الباء. وقوله خذع مذع. وأخول أخول معناه: شيءا بعد شيء، وقال الشاعر: يساقط عنه روقه ضارياتها ... سقاط حديد القين أخول أخولا

في المجمل» ذهب بنو فلان أخول أخول: إذا تفرقوا». وقوله وتركت البلاد حيث بيث يقال: استحاث واستباث: استخرج، واستحاث الشيء: إذا تطلبه وقد ضاع في التراب. ويقال: باث عن الشيء يبوث بوثا: بحث عنه، واستباث: استخرج، وابتاث عن الشيء: بحث عنه، مثل باث، وقال الشاعر: لحق بني شعارة أن يقولوا ... لصخر الغي: ماذا تستبيث ويقال: تركتهم حوثا بوثا، وحوث بوث، وحيث بيث، وحاث باث، وحيث بيث، بكسر الحاء والباء: إذا فرقهم زوبددهم، فيكون معني قول المصنف «تركت البلاد حيث بيث، أي: مبحوثة»، أي: أنها بحث أهلها، واستخرجوا منها. ويقال: أوقع بهم فلان فتركهم حوثا بوثا، أي: فوقهم. وقال الفراء: معني هذه الكلمات: أذللتهم ودققتهم. وقوله وهو جارس بيت بيت أي: ملاصقا، وبعض العرب يضيف، فيقول: بيت بيت، حكاه س. وقوله ولقيته كفة كفة قال الأحمر: لقيته كفة كفة مثل لقيته مواجهة. وقوله / وأخبرته صحرة بحرة شرحه المصنف: «منكشفا» / ويقال: أتيته صحرة بحرة: إذا رأيته وليس بينك وبينه ساتر. والمصاحر: الذي يقابل قرنه في

الصحراء، ولا يقاتله. ووقع في كلام بعض اللغوييين: «صحرة بحرة، غير مجراة»، فظاهره أنهما ممنوعان الصرف، وما أظنه يريد ذلك، وإنما أراد أنهما غير منونين؛ إذ هما مبينان. وقوله وأحوال أصلها الإضافة كبادي بدا وبادي بدي فسرها المصنف: «مبدوءا به» تقول: افعل هذا بادي بدا، أي: مبدوءا به. وبادي: اسم فاعل وبدا: مصدر، ولا همز فيهما، وجاء هذا علي لغة بدي علي وزن فعل بغير همز، وبدا هو مصدره؛ إذ ذلك لغة في بدأ، يقال: بدي، مثل بقي، وهو لغة الأنصار، قال راجزهم: باسم الإله، وبه بدينا والمشهور من اللغات الهمز. وبادي بدا مبنيان، والياء ساكنة كياء معدي كرب. وبادي بدي- بكسر دال الثاني- ينبغي أن يجعل اسم الفاعل، كشحي فهو شج، ويكون ل «بدي» اسم فاعل علي وزن فاعل، وهو بادي، وعلي وزن فعل، وهو بدي وقوله وأيدي سبا وأيادي سبا.

وقوله وقد يجر بالإضافة الثاني من مركب الظروف فيقال: جئتك يوم يوم، وصباح مساء، وبين بين. ومدلولها مدلول البناء، أي: كل يوم، وكل صباح، وكل مساء، وبين هؤلاء بين هؤلاء. وقوله ومن بيت بيت وتالييه أي: تقول: وهو جاري بيت بيت، وكفة كفة، وصحرة بحرة، والمعني معني المبني. وقوله ويتعين ذلك للخلو من الظرفية أي: تتعين الإضافة إذا استعمل غير ظرف، كقوله: ولولا يوم يوم ..................... ... ................................. أخرجه عن الظرفية باستعماله مبتدأ، فوجبت الإضافة.4 وقوله وقد يقال بادي بدء إلي ىخر اللغات فيه، أضاف الأول إلي الثاني، ولم يبنهما، كما أضاف في الظروف، والمعني واحد، والهمز فيه جاء علي اللغة الشهيرة. وقوله وقد يقال سبا بالتنوين أصله - كما تقدم- الهمز، فلما أبدلها ألفا، أضاف أيدي أو أيادي إليها، نونها، والمعني مع الإضافة والبناء واحد. وفي البسيط: ذهب الزمخشري إلي أن بدا وأيادي سبا من المركب تركيب ما لا ينصرف. وفيه ما تري؛ لأن ذلك لا يؤثر مع الأعلام. وقوله وحاث باث يعني أنهما بنيا علي الكسر، وفر قائل ذلك من توالي فتحات ست تقديرا؛ لأ، الألفين بمنزلة فتحتين، وقبلهما فتحتان، فإذا فتح

تالياهما اجتمعت ست فتحات تقيرا فأوثر تخلصا من توالي الأمثال، قاله المصنف في الشرح. ونقول: إنه بني الاسمين علي الكسر علي أصل التقاء الساكنين، وبنائهما علي الفتح طلب للتخفيف. وقوله وحوثا بوثا من قال حيث بيث أتبع الثاني الأول؛ إذ أصل الياء في بيث الواو، فصصار نظير: (لا دريت ولا تليت)، وأصله تلوت، فأتبعته دريت. ومن قال حوثا بوثا، أو حوث بوث، أتبع الأول الثاني، كما قالوا: وقعوا في حوص بوص، فأتبعوا الأول ووالثاني، وهو من ذوات الياء، علي ما سيبين إن شاء الله. ومن قال: حاث باث، أو حاث باث -فإنه بناه علي فل بفتح العين، فتحركت الياء والواو، وانفتح ما قبلهما، فقلبا ألفين. ومن قال حيث بيث فإن الواو في بيث انقلبت ياء لكسرة ما قبلها.

وقوله وكفة عن كفة فعلي هذا يكون في ذلك ثلاثة أوجه: كفة كفة، ببنائهما، وكفة كفة، بالإضافة، وكفة عن كفة. وقوله وألحق بهذا: وقعوا في حيص بيص أي: وألحق بهذا المبني- وهما اسمان - ما لم يقع ظرفا ولا حالا. وقال الفراء: حاص عنه يحيص حيصا وححيوصا ومحيصا وحيصا: إذا عدل وحاد، والانحياص مثله، يقال للأولياء: حاصوا عن العددو، والأعداؤء: وانهزموا. ويقال: وقعوا في حيص بيص، وحيص بيص، أي: في اختلاط من أمرهم، لا مخرج لهم منه، ويقال: في ضيق وشدة. وهما اسمان، جعلا اسما واحدا، وبنيا علي الفتح، مثل هو جاري بيت بيت وأنشد الأصمعي لأمية بن أبي عائذ الهذلي: قد كنت خراجا ولوجا صيرفا ... لم تلتحصني حيص بيص لحاص ومن زعم أن بيص من باص يبوص بوصا: إذا تقدم - أخرج البوص علي لفظ الحيص ليزدزجا. والحيص: الوراغ والتخلف، والبوص: السبق والفرار، ومعناه: كل أمر يتخلف عنه ويفر. وحكي أبو عمرو: وقعوا في حيص بيص، وحيص بيص، وحيص بيص. وحكي: إنك علي الأرض حيصا بيصا. ويقال: حيص بيص، قال الراجز يذكر خاطباً:

صارت عليه الأرض حيص بيص ... حتي يلف عيصه بعيصي وحاص باص لغة في حيص بيص. وقال المصنف في الشرح: «وقعوا في حيص بيص، أي: في شدة ذات تأخر وتقدم، وهو من حاص عن الشيء: تأخر عنه. وباص يبوص بوصا: تقدم، أتبع بوص حيصا. ومن قال في حوص وبوص أتبع حيصا بوصا، كقوله (مأزورات غير مأجورات) لأنه من الوزر» انتهي ملخصا. وفي كتاب الصفار البطليوسي: «حيص بيص: التزام في هذا المركب أحد الأوجه، وهو البناء، وق كان يجوز خلاف ذلك، لكن طريق ذلك السماع، وقد سلب كل واحد من الاسمين معناه، وصارا يدلان علي شيء واحد. وقعوا في حيص بيص، أي: في أمر شديد، ومع هذا هي قليلة التمكن، ومعني ذلك أنها قليل ما يتكلم يها، فلما قل دورها بنيت». وقوله / والخازبازي فيه سبع للغات، هذه واحدة، بناؤهما علي الفتح، وخاز باز، بنائها علي الكسر، وخاز باز، بفتح الأول وضم الثاني، وخاز باز، بكسر الأول وضم الثاني، وخاز باز بإعراب الاول و\غضافته إلي الثاني معربا، وخزباز علي وزن قرطاس معرب، وخازباء علي وزن قاصعاء، لا ينصرف، وهذه اللغات

لخمسة معان، أحدهما الذباب، الثاني صوته، الثالث نبت، الرابع داء يأخذ الإبل في حلوقها والناس، الخامس اسم للسنور، وأنشدوا في الذباب: تفقأ فوقه القلع السواري ... /147 أوجن الخازباز به جنونا وفي النبت: رعيتها أكرم عود عودا ... الصل والصفصل واليعضيدا /والخازباز السنم المحودا ... بحيث يدعو عامر مسعودا عامر ومسعود: راعيان. وفي الداء: يا خازباز، أرسل اللهازما ... إني أخاف أن تكون لازما وأنشد الأخفش: .............................. ... ورمت لهازمها من الخزباز

تم بحمد الله وتوفيقه الجزء التاسع من كتاب «التذييل والتكميل» بتقسيم محققه، ويليه- إن شاء الله تعالي- الجزء العاشر، وأوله «باب كم وكائن وكذا»

التذييل والتكميل في شرْحِ كِتَابِ التّسْهيْل ألّفَهُ أبو حيّان الأندلسي (654 - 745 هـ) حَقّقهُ الأستاذ الدكتور حسن هنداوي كلية التربية الأساسية- الكويت الجزء العاشر

باب كم وكأين وكذا

-[ص: باب كم وكأين وكذا كم: اسم لعدد مُبهم، فيفتقر إلى مميِّز، لا يُحذف إلا لدليل، وهو إن استفهم بها كمميز عشرين وأخواته، لكن فصله جائز هنا في الاختيار، وهناك في الاضطرار، وإن دخل عليها حرف جرٍّ فجرُّه جائز بـ «من» مضمرة لا بإضافتها إليه، خلافًا لأبي إسحاق. ولا يكون مميزها جمعًا، خلافًا للكوفيين، وما أَوهمَ ذلك فحال، والممِّيز محذوف.]- ش: مناسبة هذا الباب لأبواب العدد ظاهرة من حيث إنّ كم اسم لعدد مبهم، وكأّيِّن وكذا كذلك أيضًا، وكل منها مفتقر إلى تمييز. واختلف النحويون في كم: أهي مفردة، وهو قول الجمهور، أو مركبة من كاف التشبيه وما الاستفهامية، وحُذفت ألفها كما تُحذف مع سائر حروف الجر، كما قالوا: ِلمَ وِبمَ وعَمَّ، وكُثر الاستعمال لها، فأسكنت، وأجرت مجرى ما يكون مُسَكُنًا في الشعر، نحو قول الشاعر: فِلمْ دَفَنتُم عُبَيدَ الله في جَدَث ... ولِمْ تَعَجَّلتُم، ولِمْ ... تَرُوحُونا وهذا مذهب الكسائي والفراء. ورُدَّ هذا المذهب بأنه لو كان كما ذهب إليه لقيل في جواب من قال: كم ماُلك؟ كمالِ زيدٍ، كما يقال في جواب من قال: كمَن زيدُ؟ كبكرٍ، وهذا لا يقوله أحد، فدلَّ على فساد قوله. انتهى.

ولا حجة في هذا؛ لأنه يقول: هذا هو الأصل، ولما رُكّب الكاف و «ما» صُيِّرا شيئًا واحدًا، فحدَث لهما بالتركيب معنًي غير الذي كان لكل واحد منهما، كما قال النحويون في لولا وفي هلاُ، فإنهم زعموا أنها مركبة من «لو» ومن «لا»، ومن «هل» و «لا»، ثم صار لهما بالتركيب معنًي لم يُلحظ فيه معنَى كل واحد منهما، وحُكمُ لم يكن لواحد منهما، وصار مدلولهما غير مدلول كل واحد منهما، والكسائي لم يدَّعِ أنَّ كلاَّ من كاف التشبيه و «ما» الاستفهامية باقٍ على مدلوله قبل التركيب. ورُدَّ مذهبه أيضًا بدخول حرف الجر عليها، واستعمالِها مبتدأةً ومفعولةً في فصيح الكلام، فدلً على فساد مذهبه، لأنَّ كاف التشبيه لا تُستعمل اسمًا إلا في ضرورة الشعر. انتهى. ولا حجة في هذا؛ لأنَّ حرف الجر يدخل على «كذا»، وهي مركبة من كاف التشبيه ومن اسم الإشارة، فتقول: اشتريته بكذا، فلا ينافي دخول حرف الجر علي ما هو مركَب من كاف التشبيه وغيره؛ لأنه قد أُميت فيه مدلول حرف التشبيه وما رُكِّب معه الذي كان له قبل التركيب، وأريد به معنًى آخر، حدث بالتركيب. وكذلك استعملوا «كذا» مبتدأةً، فقالوا: له عندي كذا. وكذلك «كأيَن»، هي مركبة من كاف التشبيه و «أيّ»، واسُتعملت مبتدأَ ومفعولاً بها؛ لأنه حدث لها بالتركيب معنًى لم يكن لكل واحد منهما حالة الإفراد. ويؤنِّس ما قاله الكسائي من التركيب أنّ «كم» كناية مثل كأيِّن وكذا، فكما أنَّ كأيَّن وكذا مركبان /من كاف التشبيه وشيء آخر، كذلك ينبغي أن تكون «كم»؛ لتجري الكنايات علي نسق واحد في أنَّ أصلها كلمتان صُيِّرتا كالكلمة الواحدة، وصار لها معنًى خلاف ما كان لكلِّ واحد منهما قبل التركيب. وقوله اسمُ استبدالً علي اسميتها بدخول حرف الجر عليها، وبالإضافة إليها، وعودِ الضمير عليها، والإسناد إليها، وكونِها تكون معمولة لعوامل النصب.

ولا نعلم في اسميتها خلافًا إلا ما ذكره صاحب «البسيط» في الخبرية أن بعضهم ذهب إلى أنها حرف للتكثير في مقابلة «رُبَّ» الدالَّة علي التقليل؛ فقال: «وهو فاسد لوجوه: أحدها أنك تقول: كم رجلُ أفضل منك، فترفع، ولا يكون كلام بمرفوع واحد. ولأنَّ حروف الجر تدخل عليها، بخلاف رُبَّ، تقول: بكم مررت. وتقول: كم رجلاً ضربت، فتكون مفعولا، ولذلك فرّغت. ولأنها بمعنى كأيِّن، وهي اسم». وقوله لعدد مبهم، فيفتقر إلى ممِّيز «كم» تنظم العدد أولاً وآخرًا. قال الرماني: «الحكمة في وضعها الاختصار والعموم الذي لا يُستفاد بصريح العدد، لو قلت: أعشرون رجلاً جاؤوك؟ لم يلزمه أن يجيبك بكمية، بل يقول: لا، أو: نعم، وإن قال «لا» لم يحصل لك غرض السؤال مع الإطالة. ولو قلت: كم رجلاً جاءك؟ استغنيت عن لفظ الهمزة والعدد، وألزمت الجواب بالكمية» انتهى. وزعم بعضهم أنها في الاستفهام للتكثير. والصحيح أنها وُضعت مبهمة، تقبل قليل العدد وكثيره لصلاحية الجواب بالأقل، حكى الأخفش عن العرب: كم مكثَ عبد الله أيومًا أم يومين؟ وهي أشدُّ إبهاما من أسماء العدد؛ لأنه ينبهم معها العدد والمعدود، وأسماءُ العدد نصُّ فيه، فلا إبهام فيه، لكنها لا تدلُّ علي جنس المعدود، فيحتاج من أجل ذلك إلي ذكر جنسه ليتميز به العدد. واحتياجُ كم إلى مميِّز أشد من احتياج أسماء العدد. وقوله لا يُحذف إلا لدليل تقول: كم مالُك؟ وكم غلمانُك؟ وكم درهُمك؟ وكم سرتَ؟ وكم زيدُ ماكث؟ وكم جاءك بكرً؟ والتقدير: كم دينارًا أو درهًما ماُلك؟ وكم نَفْسًا غلمانُك؟ وكم دانِقًا درهُمك؟ وكم فَرسَخًا سرتَ؟ وكم يومًا أو شهرًا زيدُ ماكثُ؟ وكم مرةً جاءك بكرُ؟ وقال الشاعر:

ولم نَدْرِ ـ إن جِضْنا عن الموتِ جَيْضةً ـ ... كمِ العُمرُ باقٍ، والَمدَى مُتَطاوِلُ وظاهر قول المصنف ولا يحذف إلا لدليل يشمل تمييز الاستفهامية وتمييز الخبرية. ونصَّ بعض شيوخنا وأبو المحاسن مُهَلًب بن حسن في كتاب «نَظم الفَرائد وحَصر الشَّوارد» من تأليفه علي أنه لا يجوز حذف مميِّز الخبرية، قال مُهَلًب: «لأنَّ المضاف لا يُقتصر عليه دون المضاف إليه، فكما لا يجوز: عندي ثلاثُة، تريد: أثوابٍ، فكذلك لا تقول كم وأنت تريد: غلمانٍ، ولا يجوز حذفها وإقامة المضاف إليه مقامها لذهاب لفظ الكَمِّية وبُطلان المعنى لذلك» انتهي. وقال صاحب البسيط وابن عصفور: يجوز حذف تمييز الخبرية إذا دلً عليه الدليل. قال ابن عصفور: «ويَحسُن إذا كان ظرفًا، نحو: كَمْ عَمَّةُ لكَ ــــ يا جَريرُ ــــ وخالةُ ... ............................... في رواية من رفع».

ومَّثل صاحب البسيط بهذا البيت، وبقوله: كَمْ بجُودٍ مُقْرِفُ نالَ العُلا ... ........................... في رواية مَن رفع مُقْرفُ، وكم قد أتاني زيدُ، وكم عبدُك ضاربُ زيدًا. والذي ينبغي أن يقال في الحذف أنه إن قُدِّر تمييز الخبرية منصوبًا أو مجرورًا بـ «من» جاز الحذف لدليل، وإن قُدِّرَ مجرورًا بالإضافة فلا يجوز حذفه. وقيل: يَقُبح حذفه إلا أن يُقَدَّر منصوبًا. وقوله وهو إن استُفهِم بها كمميِّز عشرين وأخواته إنما قال «إن استُفهم بها» لأنها تأتي على قسمين: استفهامية، وخبرية. وشرعَ المصنف يذكر أحكام الاستفهامية، فبدأ منها بتمييزها، فذكر أنه كمميَّز عشرين وأخواته، يعني من العقود، أي: منصوب كما هو منصوب بعد عشرين. قال المصنف في الشرح: «لَّما كانت الاستفهامية بمنْزلة عددٍ مقرون بهمزة الاستفهام أشبهت العدد المركَّب، فأجريتْ مُجراه بأن جُعل ممَّيزها كمميَّزه في النصب والإفراد، ثم قصد امتياز الخبرية، فحُملت من العدد على ما يضاف إلي مميَّزه» انتهي. ويعني: فَجُرَّ التمييز وقال الرماني: نُصب تمييزها لأنها جُعلت بمنْزلة عدد متوسط، وهو من أحدَ عشرَ إلى تسعة وتسعين؛ لأنُ المستفهِم جاهل بالمقدار، فجُعلت للوسَط لقربه من القليل والكثير.

فإن قلت: لو كانت للوسَط لم يجز أن يُبدَل منها القليل ولا الكثير، وقد جاز: كم رجلاً جاءك أخمسةُ أم مئة؟ /قيل: الجيَّد أن يبدَل منها العدد الوسَط لِما ذكرنا، وإنما جاز خلافه لأنَّ كم مبهمة في نفسها، تحتمل القليل والكثير والوسَط، ولهذا يصحُّ الجواب بكلِّ منها، وإنما جُعلت بمنْزلة الوسَط في نصب التمييز فقط. وفي البسيط: «كم وُضعت وضعًا صالًحا لجميع المقادير، وعند بعضهم هي للتكثير، والظاهر الأول لصلاحية الجواب بالأقلِّ» انتهى. وقوله لكنَّ فصله جائز هنا في الاختيار، وهناك في الاضطرار أي: فصله من كم جائز في سعة الكلام، وأمَّا في عشرين وأخواته فلا يجوز إلا في ضرورة الشعر، وقد تقدَّم ما أنشدناه على ذلك. قال المنصف في الشرح: «وإنما كان الأمر كذلك لأنَ العدد المميَّز بمنصوب مُستَطال بالتركيب إن كان مركُبًا، وبالزيادتين في آخره إن كان ... العشرين أو إحدى أخواتها، فموقع التمييز منه بعيد دون فصل، فلو فصل منه ازداد بُعيدًا، فمنع الانفصال إلا في ضرورة، وكم بخلاف ذلك، فلم يلزم اتصال ممِّيزها» انتهى. فعلى هذا يجوز أن تقول: كم لك درهًما؟ وكم أتاك رجلاً؟ وكم ضربتَ رجلاً؟ ولكن اتِّصال التمييز هو الأصل، وهو أقوى. وزعم س أن السبب في جواز فصل تمييزها منها أنها لَمَّا لزمت الصدر، ونظيرُها من الأعداد التي ينصب تمييزها ليس كذلك، بل يقع صدرًا وغير صدر ـــ جُعل هذا القدر من التصرف فيها عوضًا من ذلك التصرف الذي سُلِبَتْه.

وزعم ثعلب أنه إنما جاز ذلك في المنصوب أن تجعله في آخر كلامك لأنه ليس مما يُسأل عنه، لأنك إذا قلت: كم ماُلك؟ فـ «كم» سؤال عن العدد، والمال مسؤول عن عدده، وقولك «درهما» إنما هو شيء تصنعه من قِبلك ليُعلم أنك إنما سألتَ عن عدد المال لتميِّزه به، ولو لم تذكره به لم يَعلم المسؤول ما يميِّز مالَه لك به؛ لأنه قد يكون له أموال مختلفة، فإذا قلت: كم ماُلك درهمًا؟ عُلم أنك إنما تريد الدراهم، وأنَّ عنايتك بها، وأنك إنما سألتَ عن المال من أجلها، فأنت محتاج إليه في تعريفه إياك العدد، وهو محتاج فيما سألتَه إلي معرفة النوع الذي تمِّيز له به العدد، فلذلك وُضع مخرجًا عن الجملة. قال ابن عصفور: «وهذا الذي ذكره عندي حسن جدَّا. فإن قيل: فلأيِّ شيء كان الأكثر في الكلام أن يتصل تمييز «كم» بها؟ فالجواب أن تقول: إنَّ السبب في ذلك كونها عاملة فيه، وهي من العوامل الضعاف، فكان الأحسن في ذلك ألاَّ يُفصَل بينهما، ومن فصل راعى المعنى الذي ذكره ثعلب» انتهى. وزعم الأخفش الصغير أنهم جعلوا ذلك الذي يقع به الفصل يقوم لـ «كم» مقام التنوين، فلذلك حسُن الفصل به في «كم» ولم يَحسُن في عشرين وأمثاله. ويعني أن الاسم الذي ينتصب تمييزه إنما ينبغي أن يكون منوَّنًا، فجعلوا ذلك الفصل كأنه عوض من التنوين في اللفظ، وكأنهم لم يكتفوا بنيَّة التنوين فيه. قال ابن عصفور: «وهذا التعليل فاسد؛ لأنَّ العرب لم تَرع ذلك، بدليل أنهم لم يُجيزوا الفصل في خمسةَ عشرَ وأمثاله في فصيح الكلام مع أنه غير منوَّن» انتهى.

وللأخفش أن يقول: الفرق بينهما أنَّ خمسةَ عشرَ وأمثاله كانت قبل التركيب منوَّنة جزآها، وبعد التركيب حكمها حكم المنوَّن، بخلاف كم فإنه ليس فيها تنوين لا في الأصل ولا في التقدير. وزعم السيرافي وأبو علي الدِّينَوَريّ /أنَّ السبب في ذلك أنهم أرادوا أن يجعلوا الفصل عوضًا من التمكين الذي سُلبته. وعنى بالتمكن الإعراب، قال ... 2: «وذلك أنها مستحقة للإعراب بحق الأصالة لأنها اسم، فمُنعت ذلك لعارِض عَرض فيها، فجُعل هذا التصرف عوضًا عن ذلك». واعتُرض عليه بخمسةَ عشرَ وبابه. فاعتذر بأن «كم» خَرجت عن التمكين أكثر من خروج الأعداد المركَّبة من حيثُ بناؤها على السكون، وتلك الأعداد مبنَّية على حركة. وأيضًا فـ (كم) كُثر استعمالهم لها لأنها تُستعمل في كل مستفهَم عنه من المقدار، وما يَكثر استعماله يَكثر تصرُّفهم. قال بعض أصحابنا: «وما ذهب إليه أقيس؛ لأن العِوض فيه من جنس المعرَّض منه، أعني أنك عوَّضت تصُّرفًا من تصرُّف، وليس الإعراب من جنس التصرف بالتقديم والتأخير» انتهى. وهذه كلها علل تسوَّد الأوراق، وليس تحتها طائل، وهي من العلل التي نحن ننكرها. وهذا الفصل يكثر بالظرف والمجرور، وقد يُفصل بالخبر، نحو: كم قد أتاني رجلاً. وبعاملها نحو: كم ضربتَ رجلاً. وإذا فصلتَ جاز دخول مِن على التفسير لُبعده عنها بالفصل، ويَقبح دونه لأنَّ من إنما تكون مع الجمع.

ويجوز أن تميز «كم» بـ «مثلك» و «غيرك» و «أفعل من»، فتقول: كم مِثله لك؟ وكم غيرَه لك؟ وكم خيرًا منه لك؟ قال س: «لأنه يجوز بعد عشرين فيما عم يونس» انتهى. وتقدَّم لنا ذكر الخلاف في باب التمييز، وأن الفراء منع: لي عشرون مثله، وعشرون غيرَه. وفي كتاب «رؤوس المسائل» لابن أصبغ: «أجاز س 1: كم غيره مثله لك؟ وحكاها عن يونس، ومنعها غيرهما» انتهي. ولم ينص علي المانع من هو، وهو مقتضى مذهب الفراء؛ إذ ذاك نصُّ منه، منع التمييز بمثلك وغيرك في العشرين. وقال س: «تقول: كم غيَره مِثلَه لك؟ انتَصب (غير) بـ (كم)، وانتصب المِثل لأنه صفة له» انتهي. فرع: لا خلاف في جواز قولك: كم رجلاً رأيتَ ونساءه، أو نساءهم، فإن قلت «وامرأته» أجازها الجمهور، ومنعها الفراء. وقوله وإن دخل عليها حرف جر فجره جائز بـ «من» مضمرة لا بإضافتها إليه، خلاًفا لأبي إسحاق هذه مسألة خلاف، وهو: هل يجوز حمل مميَّز الاستفهامية على مميِّز الخبرية؟ فمنهم من أجاز ذلك، ومنهم من منع، ومنهم من أجاز ذلك بشرط أن يدخل على «كم» حرف جر، مثاله: على كم جِذعٍ بيتُك؟ قال س ... : «وسألته ــــ يعني الخليل ـــــ عن قولهم: على كَم جِذعٍ بَتُك مَبنُّي؟ فقال: القياسُ

النصب، وهو قول عامَّة الناس. وأمَّا الذين جَرَّوا فإنَّهم أرادوا معنى مِنْ، ولكنَّهم حذفوها تخفيفًا، وصارت (على) عوضًا منها» انتهى. ومذهب س والخليل والفراء والجماعة أنَّ الخفض هو بإضمار من، إلا الزجاج، فإنَّ النَّحاس حكى عنه أنه مخفوض بإضافة كَم لا بإضمار مِن. قال ابن خروف: «ولا يكون الخفض بها؛ لأنَّها بمْنزلة عدد ينصب ما بعده قولاً واحدًا، فيجب لِما حُمل عليه ونُزِّل منْزلته أن يكون كذلك» انتهى. وقال شيخنا /أبو الحسن الأبَّذيّ: «حين خفضوا بعد الاستفهامية لم يَخفضوا إلا بعد تقدُّم حرف جر، فكونُهم لم يتعدَّوا هذا دليلُ لما ذكره س مِن أنَّ الخفض بإضمار من، وحُذفت تخفيفًا، وصار حرف الجر المتقدِّم عوضًا منه، أي: دليلاً عليه، إلا أنه عاِمل في كم خاصةً، وجِذْع مخفوض بإضمار من. ومثل س ذلك بقولهم: ها الله لا أفعلُ ذلك، يقول: مما حُذف منه حرف الخفض للعوض منه. وحين لم يكن عوضًا لم يخفضوا، كما قالوا: كم جذعًا؟ فنصبوا، فلما قالوا (على كم) أمكن أن يقولوا (جذعٍ) بالخفض لتقدُّم العوض» انتهى. ولا يلزم أن يقع العوض موقع المعوض منه، ألا ترى أنَّ التاء في زنادقة عوض من الياء في زَناديق، ولم تقع موقعها. والدليل على أنَّ حرف الجر عوض من «منْ» أنهما لا يجتمعان، فلا تقول: على كم مِن جِذعِ، والحذف للعوض كثير، كقولهم: آلله؟ ولا ها اللهِ، فالهمزة والهاء عوض من حرف القسم.

ولو كان الخفض هو على الإضافة، كما ذهب إليه الزجاج من أنها خُفضت حملاً على الخبرية، وأنه لو كان على إضمار من على الأصل لكان مجموعًا، فتقول: كم الأجذاع؟ كما تقول: عشرون من الدراهم ـــ لجاز الخفض مع عدم الحرف الداخل على كم. وأمَّا الحمل على الخبرية فلا يصح لأنهم لَمّا خَفضوا في الخبرية جعلوها بمنْزلة عدد مضاف، وهذا النوع يجوز فيه النصب، وأمَّا الاستفهامية فهي بمنْزلة ما فيه نون كعشرين، وهو لا يقبل الإضافة، فلا يُحمَل على الخبرية. وقول الزجاج «لو كان لَجُمع» لا يلزم؛ لأنَّا لو سَلَّمنا أنَّ الأصل الجمع لقلنا: حَذفوا الجمع حين حذفوا اللام، كما حذفوا في: أفضل رجل، وكان الأصل حذف مِن لما تقدم، لكنهم أَبقَوا عملها دونها ليخالفوا باب «عشرين رجلاً» لا من كل وجه، بل بالعمل فقط، ولَمّا كان الحذف مع العمل عَوَّضوا. وذهب بعض النحويين إلي أن مِنْ إذا حُذفت جاز فيما بعدها الجر والنصب في الاستفهامية والخبرية مطلقًا وهو قول الفراء وأكثر النحويين. وقال المنصف في الشرح: «لو خَفضت ما بعدها مرةً ونَصبته مرة لزم تفضيل الفرع على الأصل؛ لأنها بمنْزلة عدد يَنصب ما بعده، ولو كانت صالحة للجر بها إذا دخل عليها حرف جر لصَلَحت للجرِّ بها إذا عَرِيَتْ من حرف الجر؛ إذ لا شيء من المميزات الصالحة لنصب ممّيِزها ولجره بإضافتها إليه يُشترط في إضافته أن يكون هو مجرورًا، فالُحكم بما حَكم به الزجاجُ ومَن وافقه حُكمُ بما لا نظيرَ له، فخُولِف مُقْتَفِيه، ورُغب عنه لا فيه»

ونَصبُ التمييز هنا أجودُ في الاستفهامية، ويجوز فيه الخفض لتقدُّم حرف الجر ولم يذكر س الخفض إلا هنا، وذكره الفراء في كل موضع، كالنصب في الخبرية، وكذا ذكر أبو بكر والزجاج وجماعة، وعليه حَمل أكثرُهم: كَمْ عَمَّةً ............................ ... .......................... وقوله ولا /يكون ممَّيزها جمعًا خلافًا للكوفيين إلى آخر المسألة مثال ذلك؛: كم غلمانًا لك؟ وهذه المسألة فيها ثلاثة مذاهب: أحدها: مذهب جمهور البصريين أنه لا يجوز أن يكون تمييز الاستفهامية جمًعا. الثاني: أنه يجوز، وهو مذهب الكوفيين، حكاه عنهم الأخفش، كما يجوز ذلك في تمييز الخبرية. الثالث: أنك إذا أردت بالجمع أصنافًا من الغلمان جاز، فتقول: كم غلمانًا لك؟ تريد: كم عندك من هذه الأصناف، وهو مذهب الأخفش. وإليه جنح بعض أصحابنا، فقال: «كم الاستفهامية لا تُفسَّر بالجمع، إنما هو بشرط أن يكون السؤال بها عن عدد الأشخاص، وأمَّا إن كان السؤال عن الجماعات فيسوغ تمييزها بالجمع؛ لأنه إذ ذاك بمنْزلة المفرد، وذلك نحو: كم رجالاً عندك؟ تريد: كم جمعًا من الرجال عندك؟ إذا أردت أن تسأل عن عدد أصناف القوم الذين عندك لا

عن مبلغ أشخاصهم، ويسوغ باسم الجنس، نحو: كم بَطَّا عندك؟ تريد: كم صنفا من البطّ عندك؟» انتهى. وقال صاحب «رؤوس المسائل»: «لا خلاف في جواز: كم لك غلمانًا؟ فإن قلت: كم غلمانًا لك؟ جازت عند الكوفيين، وامتنعت عند البصريين» انتهى. أمَّا المسألة الأولى فيخرِّجها البصريون علي أنَّ غلمانًا انتصب على الحال، والتمييز محذوف مفرد، التقدير: كم نفسًا لك؟ و «لك» في موضع الخبر، وجاءت الحال جمعًا على المعنى؛ إذ يجوز أن يُراعى لفظ كم، فيفرد الخبر والحال، كما أجازوا في: كم لك غلامًا؟ نصب الغلام على الحال من الضمير في «لك» والتمييز محذوف، ويجوز أن يُراعى المعنى، فيكون ذلك على حسَبه. وأمَّا الكوفيون فذلك عندهم تمييز ل «كم»، وجاء جمعًا على مذهبهم في إجازة الجمع في تمييز الاستفهامية. وأمَّا المسألة الثانية فمعنها البصريون؛ لأنَّ انتصاب غلمانًا عندهم على الحال، والعامل فيها عندهم معنى الفعل، وهو: لك، وإذا كان العامل في الحال معنى الفعل لم يجز أن تتقدم الحال عليه. وأمَّا الكوفيون فذلك عندهم تمييز، وهو يجيء جمعًا ومفردًا، فجاء هذا جمعًا. والصحيح ما ذهب إليه البصريون من كون تمييز الاستفهامية لا يكون إلا مفردًا. والدليل على ذلك وجهان: أحدهما أنه لم يُسمع من كلامهم: كم غلمانًا

لك؟ والثاني هو أنه حين دخل عليه مِنْ لم يأت إلا مفردًا منكرًا، نحو: كم من رجلٍ عندك؟ بخلاف تمييز العدد من أحدَ عشرَ إلى تسعة وتسعين، فإنه إذا دخلت عليه مِن لزم جمعه وتعريفه بأل، هذا وإن كانت كم خَرت مجراه فالتزام التنكير فيه منصوبًا ومجرورًا بـ «منْ». وكذا إن كانت مجرورة بـ «مِنْ» مقدَّرة على مذهب س إذا دخل عليها حرف جر أو بالإضافة على مذهب أبي إسحاق دليلُ على أن إفراده شرط فيه. وبخط بعض أصحابنا ما نصه: «ويجوز في الباب: كم ثلاثٍة لك؟ وأعشرون ثلاثة لك؟ وأأربعون عبِدين لك؟ تجريها مجرى المفرد على قول أبي الحسن» انتهى. ومن أحكام الاستفهامية أنها تقتضي جوابًا، وإذا أُبدل منها أُعيد مع البدل همزة الاستفهام، وأنه يجوز حذف تمييزها إذا دلَّ الدليل عليه، وإذا دخلت إلا في حَّيزها كان إعراب ما بعدها /على حد إعراب كم، وأفادت معنى التحقير والتقليل، ولا يُعطف عليها بـ «لا». وزاد أبو المحاسن مهلَّب بن حسن ـــ من تلاميذ أبي محمد بن برِّي ــ أنه لا يتحكم فيها التكثير، بخلاف الخبرية، وسيأتي الخلاف في هذه المسألة ــ إن شاء الله ـــ عند الكلام على الخبرية. وتقول: كم ضربتَ رجلاً؟ فيجوز أن يكون رجلاً مفعولاً بضربتَ، وتمييز كم محذوف، فإذا دخلت مِن على رجل لزم أن يكون «مِن رجلٍ» هو التمييز. وقال الروماني: وقد تُرفع النكرة بعد كم إذا كانت استفهامًا، ويكون التمييز محذوفًا، ويقّدر ما يحتمله الكلام، كقولك: كم رجلُ جاءك؟ أي: كم مرة أو يومًا؟ ورجلُ: مبتدأ، وما بعده الخبر. وإذا رفعت لم يتعدد الرجل، بل تتعدد فَعَلاته.

-[ص: وإن أخبر بـ «كم» قصدًا للتكثير فممَّيزُها كممّيز عشرة أو مئة مجرورُ بإضافتها إليه لا بـ «من» محذوفة، خلافًا للفراء. وإن فُصل نُصب حملاً على الاستفهامية، وربما نُصب غيرَ مفصول، وقد يُجرُّ في الشعر مفصولاً بظرف أو جارِّ ومجرور، لا بجملة ولا بهما معًا.]- ش: هذا هو القسم الثاني لـ «كم»، وهو أن تكون خبرية. وما ذكره المصنف من كون كم الخبرية يراد بها العدد الكثير هو مذهب المبرد ومَن بعده مِن النحاة إلا أبا بكر بن طاهر وتلميذه ابن خروف، فإنهما زعما أنها تقع على القليل والكثير من حيث كان معناها معنى رُبَّ، فكما أنَّ ربَّ تكون للتقليل، وتكون للتكثير في مواضع المباهاة والافتخار، فكذلك كم. وزعما أنَّ ذلك هو مذهب س والكسائي، قال س: «ومعناها معنى ربَّ» وقال الكسائي: وتقول كم رجلٍ كريمٍ قد أتاني، فكم إخبار بمعنى رُبَّ، ورجل خفض بـ «كم»، وكريم: نعت، و «قد أتاني» خبر كم، والمعنى: رُبَّ رجلٍ كريمٍ قد أتاني، إلا أنَّ كم اسمُ مبتدأ، وقد أتاني خبره، ورُبَّ حرف. قالا: «فهذا نص منهما على أنها تقع على القليل والكثير، كما أنَّ ربَّ كذلك». قال ابن خروف: «ومن الدليل على وقوع كم على القليل ما حكاه الأخفش عن العرب: كم مكث عبد الله أيومًا أم يومين؟ ففسر بالواحد والاثنين». فوجه الدليل من ذلك عنده أنَّ كم الاستفهامية هي كم الخبرية في اللفظ والمعنى، لا تفارقها في أكثر من أنها متضمنة لحرف الاستفهام، وإلا فهما معًا واقعان على عدد مبهم، فكما أنَّ كم الاستفهامية تقع على القليل، فكذلك الخبرية؛ إذ لا يختلف مسمى الاسم بالنظر إلى الاستفهام والخبر.

قال ابن عصفور: «ومما ينبغي عندي أن يستدلَّ به على أنَّ كم الخبرية تقع على القليل والكثير قول الفرزدق: كَمْ عَمَّةٍ لك ـــ يا جَريرُ ـــ وخالةٍ ... فَدْعاءَ قد حَلَبَتْ عليَّ عِشاري شَغَّارةً، تَقِذُ الفصيلَ برجْلها ... فَطَّارةَ لقَوادِمِ الأَبْكار كُنَّا نُحاذِرُ أنْ تُضيعَ لِقاحَنا ... وَلْهَى إذا سَمِعَتْ دُعاءَ يَسارِ ألا ترى أنه لا يمكن أن يكون لجرير عمَّات وخالات كثيرة كلُّهن فُدْع يَقِذن الفُصلان بأرجلهن حالبات لِعشار الفرزدق كَلِفات براعيه يسار؟ ومما يبين أنه ليس يريد تكثير العمات /والخالات روايةُ من رَوى برفع عمّة وخالة؛ ألا ترى أنَّ العمة والخالة إذ ذاك لا يراد بهما إلا الإفراد، وأنَّ كم واقعة على المراد، فهذه الرواية مبنية ما ذكرته من أنه لم يُرِد تكثير العمات والخالات». وقوله فمُمَيَّزها كمميَّز عشرة أو مئة يعني أنه يكون جمعًا مجرورًا كمميز عشرة، ومفردًا مجرورٍا كمميَّز مئة، فمن الجمع قولُ الشاعر: كَم مُلُوكٍ بادَ مُلكُهُمُ ... ونَعيمِ سُوقَة بادُوا

وقولُ الآخر: كَم دُونَ سَلمى فَلَواتٍ بِيدِ ... مُنْضِيَةٍ للبازِلِ القَيْدُودِ والإفراد أكثر من الجمع، وقال الشاعر: وكَم لَيلةٍ قد بِتُّها غيرَ آثِمٍ ... بِساجِيةِ الحِجْلَينِ، مُفْعَمةِ القُلبِ وتشبيه المصنف تمييزها بتمييز عشرة وبتمييز مئة مُشعرُ بأنَّ سبب الإفراد والجمع هو التشبيه بهما في أنَّ تمييزها يكون مفردًا كتمييز مئة، وجمعًا كتمييز عشرة، وهو قول مخالف لِما نُقل عن النحويين في سبب ذلك؛ لأن بعضهم قال: جَرَتْ في تمييزها بالمفرد مجرى ثلاثمئة وأربعمئة، وهو قول الفارسي وجماعة، زعموا أنه لَّما كما معناها معنى التكثير جَرَت لذلك مجرى ثلاثمئة وأربعمئة، فكما أنَّ الثلاث والأربع يضافان إلى مئة ـــ وهي مفردة ـــ فكذلك كم. ومَن أضافها إلى الجمع فعلى قول مَن قال: ثلاثُ مِئين ...................... ... .................. ولذلك كانت إضافتها إلى المفرد أفصح، كما أنَّ ثلاثمئة أفصح من ثلاث مئين، وتقدَّم الخلاف في «ثلاث مئين» أهو مما لا يقال إلا في الشعر، أو هو لغة. وقال الفارسي 3: «والقياس أن تُبَيَّن بالواحد مِن حيث كان عددًا كثيرًا، أمَّا تبيينهم لها بالجمع فعلى القياس المتروك في ثلاثمئة ونحوها».

وقال بعضهم: سبب ذلك شبهها بـ «رُبَّ» في الوجوه التي سيأتي ذكرها عند الكلام على بنائها، فكما أنَّ رُبَّ تجرُّ المفرد والجمع أخرى، نحو قوله: ورُبَّ ... أُمورٍ ... لا ... تَضيرُكَ ... ضَيرةً ... ولِلقَلبِ مِن مَخْشاتِهِنَّ وَجِيبُ فكذلك كم. وإضافة كم إلى المفرد أكثر من خفضها للجمع لأنه أخفّ، وهو يفيد من المعنى ما يفيده الجمع، ولهذا السبب كان خفض رُبَّ للمفرد أكثر من خفضها للجمع. وإلى هذا ذهب ابن كيسان. ويمكن أن يقال: إنَّ المنصف ما قصد بالتشبيه السبب في أن جَرَّت الجمع والمفرد، وإنما قصد أنها تجُرُّهما كما أنَّ عشرة تَجُرُّ الجمع، ومئة تّجُرُّ المفرد، إلا أنَّ في كلام المصنف ما يشعر بتساوي الوجهين الجمع والإفراد، أو ترجيح الجمع على الإفراد؛ إذ قدمه، فقال «كمُمَيِّز عشرة»، ونصوص النحويين على خلاف ذلك؛ إذ ذكروا أن الإفراد أكثر وأفصح من الجمع، بل زعم بعضهم أنَّ تمييزها بالجمع شاذ، قال العكبري في «شرح الإيضاح»: «كم الخبرية تُمَيَّز /بالمفرد، وتُمَيَّز شاذا بالجمع. وإنما كان الإفراد أَولَى لأنَّ الخبرية تضاف إلى ما بعدها، والمضاف إليه كجزء من المضاف، فلم يَطُل الكلام به، وأمَّا العدد المنوّن والجاري مجراه فقد طال إمَّا بالتركيب أو بالنون، فلم يَطُل أيضًا بتمييزه بالجمع، فاقتصروا منه على واحد مَنكور تخفيفًا، وقد ذكرنا في باب التمييز أنه قد مُيَّزَ بالواحد ما يجوز تميزه بالجمع، كقوله تعالى {فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا} انتهى.

وقيل: يكون الجمع على معنى الواحد، فإذا قلت: كم رجالٍ، كأنك قلت: كم جماعةٍ من الرجال. وقوله مجرورُ بإضافتها إليه لا بـ «مِنْ» محذوفة، خلافًا للفراء قال المصنف في الشرح: «وزعم الفراء أنَّ الجر بعدها بـ (مِن) مقدرةً. ولا سبيل إلى ذلك، كما لا سبيل إليه فيما حُملت عليه، ولأنَّ الجر بعدها لو كان بـ (مِن) مقدرةً لكان جوازه مع الفصل مساويًا لجوازه بلا فصل؛ لأنَّ معنى مِن مراد، واستعمالها شائع مع الاتصال [فلو كان عملها بعد الحذف جائز البقاء مع الاتصال لكان جائز البقاء مع] الانفصال في النثر والنظم، وفي كون الواقع بخلاف ذلك دلالة على أنَّ الجر بالإضافة لا بـ (مِن) مقدرة» انتهى. وهذا المذهب الذي نسبه المصنف إلى الفراء نسبه غيره إلى الكوفيين، زعموا أنَّ الخفض هو بـ «من» مقدرة، وحُذفت، وأُبقي عملها، كقولِ العرب: «لاه أنتَ»، وكقولهم: «الله لأَفعَلَنَّ»، وقولِ الشاعر: رَسْمِ ... دارٍ ... ، ... وَقَفْتُ ... في ... طَلَلِهْ ... ............................

وقولِ الآخر: رأينَ خلِيسًا ... بعدَ أَحْوَى، تَلَفَّعَتْ ... بِفَوْدَيْهِ سَبعُونَ السَّنينَ الكَوامِل أي: سَبعُونَ مِن السَّنين. وقال الأعشى: يا ... عَجَبِ ... الدَّهرِ متى ... سُوَّيا ... كَمْ ضاحِكٍ مِنْ ذا، ومِنْ ساخِرِ قالوا: يريد: كَم مِن ضاحِكٍ مِن ذا، بدليل قوله: ومِن ساخِر. وضُعَّف مذهبهم بأنَّ إضمار حرف الجر وإبقاء عمله إنما هو في ضرورة أو شذوذ من الكلام، والخفض بعد كم فصيح، فدلَّ على أنه ليس على الإضمار. وبأنه لا حجة في البيت لأنه يحتمل أن يكون عامَل «كم ضاحك من ذا» ـــــ وإن كان مجرورًا بالإضافة ـــ معاملتَه في قولك: كم مِن ضاحكٍ من ذا، لَما كانا في معنَى واحد، فعطف عليه المجرور لذلك. وقوله وإن فُصل نُصب حملاً على الاستفهامية مثاله قول الشاعر: تَؤُمَّ سنانًا، وكَمْ دُونَهُ ... مِنَ الأَرضِ مُحْدَوْدِبًا غارُها

وقال الآخر: كَمْ نالَنِي مِنهُمُ فَضلاً على عَدَمٍ ... إذْ ... لا أَكادُ مِنَ الإقْتارِ أَحْتَمِلُ وزعم بعض قدماء النحويين أنَّ الأصل في تمييز كم الخبرية والاستفهامية النصب، ولا يكون الخفض فيهما إلا بتقدير مِن، كما تقدم في: على كم جِذعٍ؟ ويدلُّ عليه ظهورها. وقَوّاه /الخليل بأنَّ حروف الجر قد تُضمَر وتَعمل، كقوله «لاه أبوك» ولقيتُه أمسِ، تريد: بالأمس؛ لأنهم لا يستعملونه إلا بالباء؛ لأنه صار كالاسم للظرف، وقد تحذف رُبَّ، وتُبدَل منها الواو. وضَعَّف س هذا بوجوه: أحدهما: أنَّ الأكثر في الاستفهام النصب، فأُوَّل جَرُّها، والأكثر هنا الجر فلا يُؤَوَّل. والثاني: أنَّ إضمار حرف الجر ليس بقياس، فلا يُصار إليه. وأمَّا «لاهِ أبوك» فشاذ، وأمَّا «لَقيتُه أمسِ» فيحتمل أن تستعمله هنا ظرفًا كما في الأصل مراعاة لأصله، كما تقول: لَقيتُه بالأمس. فعلى هذا المذهب الذي لبعض القدماء لا يكون النصب في الخبرية حملاً على الاستفهامية، إنما يكون على الأصل، والخفض مُتَأَوَّل على إضمار مِنْ

وقوله وربما نُصب غير مفصول مثاله: كَمْ عَمَّةً لكَ ــــ يا جَريُر ـــ وخالةً ... .......................................... في رواية من نصب عَمَّة وخالةً. وزعم بعض النحويين أنَّ هذا النصب بلا فصل هو لغة تميم، وذكره س عن بعض العرب، وهي لغة قليلة. ولَّما حُملت في الخفض على ثلاثمئة فيمن علَّل بذلك أُجريت مُجرى ذلك إذا نوّن، فكما يقال ثلاثُ مئة قالوا: كم رجلاً. ومن علَّل الجر بجِّر رُبَّ ما بعدها قال: هي محمولة عليها أيضًا في لغة من قال: رُبَّه رجلاً، فكما انتصب رجلاً في هذه اللغة انتصب بعد كم. قال بعض أصحابنا: وهذا الوجه عندي أَولَى؛ لأنَّ (رُبَّه رجلاً) فصيحُ، وكذلك (كم رجلاً) فصيح، وإن كان (كم رجلٍ) أفصح منه، وأمّا (ثلاثُ مئة) فلا يُتكلم به إلا في ضرورة الشعر. وزعم بعض النحويين أنَّ السبب في نصب تمييزها في هذه اللغة الحمل على كم الاستفهامية؛ لأنها أصل لها من جهة أنها مبهمة، والإبهام يناسب الإبهام؛ لأن المستفهِم إنما يَسأل عمَّا انبهمَ عليه ليُفسَّر له، والخبر ليس بابه الإبهام؛ لأنه موضوع إبانه. وإلى ذلك ذهب السيرافي. وإذا نُصب تمييز الخبرية بفصل أو بغير فصل في هذه اللغة جاز أن ينصب مفردًا وجمعًا، كما كان ذلك حالة خفضه. ونصَّ على جواز الجمع في هذه اللغة القليلة السيرافي 4، وفي كتاب س ما يدلُّ على ذلك، قال س: «واعلم أنَّ ناسًا

من العرب يُعملونها فيما بعدها في الخبر كما يعملونها في الاستفهام، فينصبون، كأنها اسم منوَّن ويجوز لها أن تعمل في جميع ما عملت فيه رُبَّ» انتهى. ولا خلاف في أنَّ رُبَّ تعمل في المفرد والجمع. وذهب الأستاذ أبو علي إلى أنها إذا انتصب تمييزها التُزم فيه الإفراد. وحَمَلَه على ذلك أنه رأى كل ما يكون تمييزه من الأعداد أو الكنايات عنها ـ نحو كم الاستفهامية، وكذا وكذا، وكأيَّن ــ منصوبًا التَزمت العرب فيه الإفراد، فلمَّا كانت كم الخبرية كناية عن العدد ومميَّزه بمنصوب في هذه اللغة وجب عنده أن يكون تمييزها مفردًا. قال بعض أصحابنا: والصحيح جواز جمعه، كما كان ذلك حالة الجر؛ لحملها في النصب على رُبَّ أو على ثلاثمئة، كما يقال ثلاث مئين إذا نون العدد، وإنما يلزم الإفراد إذا /كان النصب واجبًا، وأمَّا في كم فيجوز نصبه وخفضه، فجاز أن يجيء مجموعًا في حالة النصب كما جاز ذلك في ثلاثمئة. ثم ذكر هذا المصحَّح أنَّ السيرافيَّ أجاز ذلك في هذه اللغة، وأنَّ في نص س دليلاً على ذلك. ولا حجة في كلام س إلا لو نصَّ على ذلك، وإنما أَخذ ذلك المصحَّح من عموم قول س «في جميع ما عملت فيه رُبَّ»، ولا حجة في هذا العموم؛ لأنَّ مِن مجرور رُبَّ الضمير، ولا تَجُرَّ كم الضمير، ومن مجرور رُبَّ «مَنْ»، كقوله: رُبَّ ... مَنْ ... أَنْضَجتُ ... غَيظًا ... صَدرَهُ ... ............................. ولا تُفَسَّر كم بِمَنْ وما ولا بنحوهما مما توغَّل في البناء، ولا بما توغَّل في الإبهام، نحو: شيء، وهذا منصوص عليه.

وفي «الإفصاح»: «ظاهر كلام أبي على وكلام س وأبى العباس أنه يجوز نصب مميَّز الخبرية مفردًا كان أو جمعًا، وعلى الظاهر حمله بعضهم». وقال ابن هشام: «لا يكون منصوب كم ــ يعني الخبرية ــ جمعًا لأنه تمييز، والتمييز يلزمه ألاَّ يُجمع إلا ما استُثني منه» انتهى، وفيه بعض تلخيص وتقديم وتأخير. وقوله وقد يُجَرُّ في الشعر مفصولاً بظرف أو مجرور مثال ذلك قول الشاعر: كَمْ ــ بِجُود ـــ مُقْرِفٍ نالَ العُلا ... وكَريمٍ، بُخْلُهُ قد وَضَعَهْ وقول الآخر: كَمْ ــــ في بَني بَكرِ بْنِ سَعْدٍ ـــ سَيَّدٍ ... ضَخمِ الدَّسيعِة، ماجِدٍ، نَفَّاعِ وقول الآخر: كَمْ ـــ فِيهمِ ـــ مَلِكٍ أَغَرَّ وسُوقةٍ ... حَكَمٍ بِأَرْدِيةِ ... المَكارِمِ يَحْتَبِي وهذه المسألة فيها مذاهب: أحدهما: ما ذهب إليه الكوفيون من أنه يجوز ذلك في الكلام؛ لأنَّ الخفض عندهم هو على إضمار مِنْ، فكما يجوز ذلك مع إظهارها، كقول الشاعر:

وكَمْ دُونَ بَيِتكَ مِنْ مَهْمَهٍ ... وَدَكْداكِ رَمْلٍ وأَعْقادِها كذلك يجوز مع إضمارها. وتقدَّم الكلام على خفض ما بعدَ كَم. وذكر صاحب «البسيط» أن مذهب الكوفيين هو رأي يونس؛ لأنَّ الفصل بين المضافين جائز في الضرورة، وأجوز منه بالظرف والمجرور، لكنه لَّما كانت هذه يجوز الفصل بينها وبين معمولها في النصب كان موطئا لجوازه في الخفض في غير الضرورة، ولأنها مجرورة بـ «مِن»، وذلك لا يختلف تقديمًا ولا تأخيرًا. المذهب الثاني: أنَّ ذلك لا يجوز إلا في الشعر؛ لأن في ذلك فصلاً بين المضاف والمضاف إليه، وذلك في الشعر، وهو مذهب جمهور البصريين، وسواء أكان الظرف والمجرور تامَّا أم ناقصًا. المذهب الثالث: أنه يجوز إذا كان الظرف أو المجرور ناقصًا، ولا يجوز إذا كان تامَّا، فتقول: كم بك مأخوذٍ أتاني، وكم اليومَ جائعٍ جاءني، تجعل بك متعلقا بمأخوذ، واليوم /منصوبًا بجائع، وهو مذهب يونس. وهو باطل؛ لأنَّ العرب لم تفرق بين الظرف التام والناقص في الفصل، بل تُجريهما مُجرًى واحدًا، وقال الشاعر: كَمْ ـــ دُونَ سَلْمَى ـــ فَلَواتٍ بِيدِ ... ..................................... وقال الآخر:

كَمْ ـــ دُونَ مَيَّةَ ـــ مَوْماةٍ، يُهال لها ... إذا تَيَمَّمَها الخِرِّيتُ ذو الَجلَدِ فصل بالظرف التامّ بين «كم» و «فَلَوات»، وبين «كم» و «مَوماة»، و «دُونِ» ظرف تامّ. وقوله لا بجملة مثاله: كم جاءني رجلٍ، بخفض رجل. وهذه المسألة فيها مذهبان: أحدهما: أنه لا يجوز في كلام ولا شعر؛ لأنَّ الفصل بالجملة بين المضاف والمضاف إليه لا يجوز البتة، وهو مذهب البصريين. والمذهب الثاني: أنه يجوز ذلك في الكلام، وهو مذهب الكوفيين. وبَنَوا جواز ذلك على أنَّ الجر للتمييز هو بإضمار مِنْ، وتقدَّم الكلام على ذلك. وحكى بعضهم خفض «فضل» من قول الشاعر: كَمْ ناَلنِي مِنهم فَضْلٍ على عَدَمٍ ... .................................. فإن ثبت فهو من الشذوذ بحيث لا يقاس عليه لا في كلام ولا في شعر. وظاهر كلام المبرد أنه يجيز الفصل بالجملة في الشعر؛ لأنه أنشد قول الشاعر: وكَمْ قد فاتَنِي بَطَلٍ ... كَمِيِّ ... وياسِرِ فِتيةٍ ... سَمْحٍ ... هَضُومِ قال: «ولولا أنَّ القافية مخفوضة لاختير الرفع أو النصب». فنصُّه بالاختيار ينبيء أنه يجيز الجر مع الفصل بغير الظرف في الشعر. وس يمنع ذلك. ورَوى س قوله:

وكَمْ ... قد ... فاتَنِي ... بَطَلُ ... كَمِىُّ ... ............................... بالرفع، ولم يجز فيه الجر. وقوله ولا بهما يعني ولا بالجملة والظرف أو المجرور، وإذا لم يجز بالجملة وحدها فلاًن لا يجوز بها وبالظرف أو المجرور أولى. ويجوز دخول مِنْ على تمييزها، ويَكثر اتصال تمييز الخبرية بها، نحو قوله تعالى {وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ}، {وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ}. ولا يكثر في الفصل، نحو: كم فيها مِن رجل، فلا يَكثر استعمال مِن فيه كثرته إذا اتَّصل. ولا يجوز أن يكون التمييز منفيَّا لا في الاستفهامية ولا الخبرية، لو قلت في الاستفهامية: كم لا رجلاً ولا رجلينِ جاءك؟ لم يجز، كما لا يجوز: له عشرون لا رجلاً ولا رجلين. ولو قلت في الخبر: كم لا رجلٍ ولا رجلينِ صحبتُ، لم يجز أيضًا، نصَّ على ذلك س. وأجاز بعض النحويين: كم لا رجلاً ولا امرأةً عندك، وعندي عشرون لا رجلاً ولا امرأةً. فإن أراد: كم عندك غيرَ رجل وامرأة، أي: كم عندك بهيمةً غير رجل وامرأة، جاز. وإن أراد أنَّ لا رجل هو الممِّيز فهو فاسد لا نبهامه، ولا يظهر ذلك من مقصده. وإن أراد أنَّ المجموع هو المميِّز على معنى بهيمة أو شيء يصح العطف عليه بلا فهو شيء لا يوجد. وإن أراد أن المميِّز محذوف للعلم به، فحُذف

المعطوف عليه، وتُرك المعطوف ـــ فهو سائغ. هكذا رَدَّد بعض أصحابنا في /كلام هذا المجيز. والذي يظهر أنه قصد به التمييز لا أنه معطوف؛ ألا ترى أنه أورده مع قوله: له عشرون لا رجلاً ولا امرأةً، على أنَّ هذا مما يحتمل حذف التمييز، وهو المعطوف عليه. والذي يقال إنه لم يسمع ذلك من كلام العرب. ويجوز أن يُعطَف على كم بالنفي، فتقول: كم أتاني لا رجلُ ولا رجلان، أي: كثيرُ أتاني لا رجلُ ولا رجلان. وكذلك: كم فَرَسٍ ركبتُ لا فرسًا ولا فرسَين، أي: كثيرًا من الأفراس ركبتُ لا قليلاً.

-[ص: فصل لَزِمَت «كم» التصدير، وبُنِيتْ في الاستفهام لتَضَمُّنِها معنَى حرفه، وفي الخبر لشبهها بالاستفهامية لفظًا ومعنًى. وتقع في حالتها مبتدأً، ومفعولاً ومضافًا إليها، وظرفًا، ومصدرًا.]- ش: قال المصنف في الشرح: أداة «الاستفهام منبهة للمستفهَم، ومؤذنة بحاجة المستفهم إلى إبداء ما عنده، فتنَزلت مما في حيزها منْزلة حرف النداء من المنادى في استحقاق التقدم، فلذلك امتنع تأخيرها، والتُزم تصديرها، ولا فرق في ذلك بين كم وغيرها، فذلك وجب رفع صاحب الضمير في نحو: زيدُ كم ضربتَه؟ كما وجب في نحو: زيدُ أينَ لَقيتَه؟ وبشرُ متى رأيتَه؟ والخبرية مجرى الاستفهامية في وجوب التصدير، فلذلك لا يجوز في نحو: زيدُ كم دراهمَ أعطيتُه، إلا الرفع» انتهى. فأمَّا ما ذكر من لزوم كم التصدير في الاستفهام والخبر فعليه مناقشتان فيهما: أمَّا في الاستفهام فإنه ذكر التزم تصدير كم، وأنه لا فرق في ذلك بين كم وغيرها. وهذا ليس على إطلاقه كما ذكر، بل بعض أدوات الاستفهام في الاستثبات يجوز ألاَّ تتصدر، وأن يتقدمها العامل اللفظي غير الجارّ، وذلك مَن وما وأيّ، فتقول لمن «لقيتُ زيدًا» إذا استثبت: لقيتَ من؟ ولمن قال أكلتُ خبزًا: أكلتَ ما؟ ولمن قال ضربتُ رجلاً: ضربتَ أيَّا؟ ومُجَوِّز ذلك هو أنَّ الذي تكلم

بالكلام قبلك قد كان أجرى الفعل في كلامه، فاستغنيتَ به عن إعادة آخر مثله، فوقع ذكرك لذلك الفعل كالتكرار، فكأنك لم تذكر قبل أداة الاستفهام فعلاً، ولذلك لم يفعلوه إلا في الاستثبات، ولا يجوز ذلك في بقية أدوات الاستفهام، يقول القائل: خرجتُ يومَ الجمعة، فتقول في الاستثبات: متى خرجتَ؟ ولا تقول: خرجتَ متى؟ ويقول: سرتُ ضاحكًا، فتقول في الاستثبات: كيفَ سرتَ؟ ولا تقول سرتَ كيفَ، ويقول: قعدتُ خلفَ بكر، فتقول في الاستثبات: أين قعدتَ؟ ولا تقول: قَعدتَ أين؟ وقد حكي في أين دخول العامل عليها في الاستثبات، وإجراؤها في ذلك مجرى مَن وما وأيّ، حكي من كلامهم: إنَّ أينَ الماءَ والعشبَ؟ جوابًا لمن قال: إنَّ في موضوع كذا الماءَ والعشبَ. وتقول لمن قال: اشتريتُ عشرين فرسًا، إذا استثبتَّ: كم فرسًا اشتريتَ؟ ولا تقول: اشتريتَ كم فرسًا. وقد يجيء ذلك في كم في العطف، حكي من كلامهم: قبضتَ عشرين وكم؟ إذا استثبتَّ من قال: قبضتُ عشرين كذا وكذا. ومحسِّن ذلك هو أنه يجوز في المعطوف ما لا يجوز في المعطوف /عليه. فهذه مناقشة على المصنف في نفس كم إذ جاز تقدم العامل عليها في العطف وكونها لم تلزم الصدر، وعلى قوله «ولا فرق في ذلك بين كم وغيرها»، وقد بيَّنَّا الفرق بينها وبين بعض أدوات الاستفهام في كون أيّ ومَن وما للاستفهام يجوز ألاَّ تقع صدرًا، وأن يتقدم عليها العامل في الاستثبات. وأمَّا في الخبر فإنه ذكر أنَّ الخبرية تجري مجرى الاستفهامية في وجوب التصدير. وهذا الذي ذكره بالنسبة إلى أشهر اللغات، وأمَّا في بعض اللغات فإنه يجوز ألاَّ تتصدر، ويتقدمها العامل، فتقول: فككتُ كم عانٍ، وملكتُ كم غلامٍ، وهي لغة قليلة، وهذه اللغة كانت القياس لأنها بمعنى كثير، فإذا قلت: كم عانٍ فككتُ، فالمعنى: كثير من العُناة فككتُ، فكما يجوز: فككتُ كثيرًا من العُناة،

وهو الأصل، أعني تقديم العامل هنا، فكذلك كان ينبغي أن يجوز في كم الخبرية. وهذه اللغة حكاها الأخفش. واضطُرِبَ في القياس عليها، فقيل: يقاس عليها، فيجوز: ملكتُ كم غلامِ. وقيل: هي من القلُة بحيث لا يُلتفت إليها. والأول هو الصحيح لأنها لغة، فينبغي أن يقاس عليها. ويناقض قولَ المصنف إنما لزمت التصدير قولُه بعدُ حين ذكر مَحالَّ إعرابها: «ومضافًا إليها»، فإنها إذا كانت مضافًا إليها لم تلزم التصدير؛ إذ قد تقدَّمها ما عمل فيها وما انخفضت بسببه. وكذلك إذا دخل عليها حرف جرّ لم تلزم التصدير، نحو: بكم درهمٍ اشريتَ ثوبك؟ لأنه دخل عليها عامل يخفضها، فكان ينبغي أن يقيِّد كلامه فيها، فيقول: كم لَزِمت التصدير إلا إذا أُضيف إليها، أو دخل عليها حرف جر، أو كانت استفهامًا وعُطفت في الاستثبات، فإنه يجوز ألاَّ تتصدر. أو كانت خبرًا في اللغة الشهرى، وأمَّا في اللغة الأخرى فيجوز ألاَّ تتصدر. وقوله وبُنيت في الاستفهام لتضمُّنها معني حرفه هذا الذي قاله هو قول النحاة وهو أنه لَّما تضمَّنت معنى همزة الاستفهام بُنيت، ومذهب المصنف يقتضي أنها بنيت في الاستفهام والخبر لمشابهتها للحرف في الوضع على حرفين، وقد نصَّ هو في الشرح على ذلك، فقال: «وهي أيضًا ــ يعني الخبرية ــ مساوية لها ــ أي للاستفهامية ـ في وجوب البناء لتساويهما في مشابهة الحرف وضعًا وإبهامًا)). وقوله وفي الخبر لشبهها بالاستفهامية لفظًا ومعنًى يريد بقوله ومعنًى أنها لعدد مبهم كما أنَّ الاستفهامية كذلك. وقال في الشرح حين ذكر تساويهما في

مشابهة الحرف وضعًا وإبهامًا، قال: «وتنفرد الاستفهامية بتضمَّن معنى حرف الاستفهام، والخبرية بمناسبة رُبَّ إن قُصد بها التكثير، وبمقابلتها إن قصد بها التقليل، وهو الغالب على رُبَّ» انتهى. وما ذكره المصنف في بناء كم الخبرية هو قولان للنحويين: زعم بعضهم أنها ُبنيت لشبهها بالاستفهامية في أن ... لفظهما واحد، وهي كناية عن عدد مبهم كالاستفهامية. وزعم بعضهم أنها بنيت لشبهها بـ «رُبَّ» في أنَّ كل واحدة منهما تُستعمل /في المباهاة والافتخار، ولذلك عُطف كم على رُبَّ، قال عُمارة بن عقيل بن بلال بن جرير: فإنْ تَكُنِ الأيامُ شيَّبْنَ مَفْرِقِي ... وكَثرْن أَشْجاني، وفَلّلْنَ مِنْ غَرْبِي فيا رُبَّ يومٍ قد شِرِبْتُ بمَشْرَبٍ ... شَفَيتُ به عَنِّي الظّما باردٍ عَذبِ وكَمْ لَيلة، قد بِتُّها غيرَ آثِمٍ ... بِساجِية ... الحِجْلَينِ مُفْعَمةِ ... القُلْبِ فاستعمل رُبَّ وكم في معنًى واحد حيث أراد أن يفتخر بكثرة الجواري اللواتي تمتَّع بهن. وقيل: حُملت على رُبَّ في البناء لأن ربَّ للتقليل، وكم للتكثير، والشيء يحمل على نقضيه كما يحمل على نظيره. وقال الأستاذ أبو علي: بُنيت لتضمنُّها معنَى حرفٍ للكثرة، فلم يُستعمل، وذلك أنهم كما جعلوا للتقليل حرفًا انبغى لهم أن يجعلوا للتكثير كذلك، كما

جعلوا للإيجاب حرفًا كما جعلوا للنفي، فلم يفعلوا ذلك، لكنهم ضمَّنوا كم معناه، فلذلك بُنيت. قال ابن هشام: ولا أعرف أحدًا قال هذه المقالة، ولا نظير له من كلامهم، والقياس لا يعطيه؛ لأنَّ التضمن فرع على الوجود، فإذا لم توجد الكلمة لم ينبغ أن تُضَمَّن كلمة معناها. وقوله وتقع في حالتيها مبتدأ حالاتها هما الاستفهام والخبر. أخذ المصنف في ذكر محاّلها من الإعراب لئلا يُتَوَهَّم أنها لَّما أشبهت رُبَّ كانت حرفًا. ومن استعمالها مبتدأة قول العرب: كم رجلٍ أفضلُ منك، برفع أفضل، ولا يقولون: رُبَّ رجلٍ أفضلُ منك، في فصيح الكلام، فأمَّا قوله: ........................ ... ......................... ورُبَّ قتل عارُ فـ ((عار)) خبر مبتدأ محذوف، أي: هو عارُ، وقد أظهره الشاعر في قوله يا رُبَّ هَيْجَا، هِيَ خَيرُ مِن دَعَهْ ... ...................................... وإنما جاز ذلك في رُبَّ تشبيهًا للصفة بالصلة، فكما لا يجوز ذلك في الصلة إلا في الطول، فكذلك في الصفة في باب رُبَّ، ولما كان تمييز كم مبهمًا كما أنها مبهمة كان ــ إذا كانت مبتدأة ــ الأحسن في خبرها أن يكون فعلاً أو اسمًا نكرة،

نحو قولك: كم رجلٍ قائمُ، وكم رجلٍ ذهب، وكم رجالٍ قاموا، وكم رجالٍ ذاهبون، ويقبح أن يكون خبرها اسمًا معرفة، نحو قولك: كم رجالٍ قومُك. وكم غلمانٍ غلمانُك، تريد قومًا معهودين أو غلمانًا معهودين. فإن لم تُرد ذلك، بل أردتَ أن تقول: كم رجالٍ هم قومُك، وكم غلمانٍ هم غلمانُك ــ جاز ذلك. وكذلك أيضًا لا يحس أن يُخَبر عنها بالظرف ولا بالمجرور؛ لأن في ذلك ضربًا من التخصيص؛ ألا ترى أنَّ قولك «كم غلمانٍ لك» معناه ومعني قولك «كم غلمانٍ غلمانُك» سواُء، فضعُف لذلك. ومما يبين لك أنَّ الأحسن في خبرها أن يكون مبهمًا أنه لا يجوز الإخبار عنها بالموقت، لوقلت: كم رجلٍ عشرون، وكم امرأةٍ ثلاثون ـــ لم يَسغ ذلك؛ لأنَّ الإخبار عنها بالموقت ينافي ما وُضعت له الإبهام. وإذا قلت: كم رجلٍ جاءني، فكم مبتدأ، وجاءني خبره. ونقل العكبري عن العبدي أنه أجاز أن يكون «أتاني» صفة لرجل، ويُحذف الخبر، ويُقَدَّر /بما يليق بالمعنى، قال ــ يعني العبدي ـ: «ويجوز ألا تحتاج إلي خبر؛ لأنَّ الصفة قد أغنت عنه، وهذا كقولهم: أقل رجلٍ يقول ذلك إلا زيد، فأقلُّ مبتدأ، ويقول صفة رجل، وأغنت الصفة عن الخبر» انتهى. ويظهر الفرق بينهما؛ لأنه لمدَّع أن يقول هو الخبر. ولئن سلمنا أنه صفة فإنما أغنت عن الخبر لأنَّ المعنى: قلَّ رجلُ يقول ذلك، بخلاف: كم رجلٍ جاءني، فلمَّا كان في معنى ما لا يحتاج إلى خبر أغنت الصفة عنه. وقال بعض أصحابنا: وجاز الابتداء بها ــ يعني الخبرية ــ لأنها ــ وإن كانت نكرة ــ محمولُة على الاستفهامية في مواضع، ولأنَّ تمييزها يبينها، فتصير مخصوصةً من جهة المعنى.

وقد يُحذف الخبر إذا دلَّ المعنى عليه، كقوله: وكَمْ مالىٍء عَينَيه مِنْ شيء غيرِهِ ... إذا راحَ نحوَ الجَمرِة البِيضُ كالدُّمَى كأنه قال: في الحج، أو: بِمِنَى، لدلالة الكلام عليه. وإذا كانت كم مبتدأة فلا يدخل عليها من العوامل إلا ما يعمل فيما قبله، نحو ظننت، تقول: كم ظننت إخوتك؟ وكم عبدًا علمتَ ملكًا لزيدٍ؟ وكم كان إخوتُك؟ ولا تعمل إنَّ وأخواتها ولا ما؛ لأنها لا تعمل فيما قبلها. وذكر أبو علي إعمال الظن فيها وإلغاءه، فقال: كم تُرى الحرورية رجلاً؟ بنصب الحرورية على الإعمال، ورفعها على الإلغاء، ويقدر بناؤها للمتعدي إلى ثلاثة، ولم يُستعمل ذلك، وإن لم يكن بُدُّ من تقديره. وقوله ومفعولاً يريد: ومفعولاً به، سواء أتعدّى الفعل إليه بحرف جر أو بنفسه، مثال ما وصل إليه الفعل بنفسه: كم غلامًا اشتريتَ؟ وكم غلامٍ اشتريتُ، فموضوع كم نصب على المفعول به، وكأنك قلت: أعشرين غلامًا اشتريتَ أم ثلاثين؟ وكثيرًا من الغلمان اشتريتُ. والدليل على أنَّ كم مفعول بها أنَّ اشتريت فعل متعدَّ إلى واحد، وهو مفرَّغ للعمل في كم؛ لأنه لم يشتغل بغيرها، فوجب لذلك أن يُحكَم عليها بأنها في موضوع نصب على المفعول باشتريت؛ لأنك لو لم تفعل ذلك لكنت قد هيَّأت العامل للعمل، وقطعتَه عنه، وذلك غير جائز. ومثال وصول الفعل بحرف جر: على كم مسكينٍ تصدقتُ، أو تصدقتَ؟

وقوله ومضافًا إليها مثاله: غلامَ كم رجلٍ ضربتَ؟ ورقبةَ كم أسيرًا فككتَ؟ قال بعض أصحابنا: وذلك بشرط أن يكون الاسم المضاف معمولاً لما بعدها، نحو ما مثًلنا به، فغلام معمول لضربت، ورقبة معمولة لفككت. وهذا الشرط الذي شرطه يقتضي ألاَّ يجوز: غلامُ كم رجلٍ قام، أو أتاك؟ ولا: غلامُ كم رجلاً دخل في ملكك؟ ولا أرى هذا إلا جائزًا. ولا فرق بين كم والمضاف إليها، فكما أنَّ كم تقع مبتدأة في: كم رجلٍ قام، أو زارك؟ وفي: كم غلامًا دخل في ملكك؟ فكذلك ما أضيف إليها. وقوله وظرفًا ومصدرًا مثال ذلك: كم ضربهً ضربتَ زيدًا؟ وكم ميلاً سرتَ؟ وكم يومًا صمتَ؟ فهذه خمسة مواضع ذكرها المصنف لموضع إعراب كم، وترك ثلاثة مواضع: أحدها: /أن تكون خبرًا للمبتدأ، مثاله: كم درهُمك؟ في أحد الوجهين، فإنه يجوز أن تُعرب كم مبتدأة، ويجوز أن تُعرب خبرًا، ودرهُمك هو المبتدأ، وهو أقيس الوجهين. الثاني: أن تكون خبرًا لـ «كان» وأخواتها المتصرفة في معمولها، نحو قولك: كم غلامًا كان غلمانُك؟ وكم كريمٍ كان قومُك. الثالث: أن تكون مجرورة بحرف جر، بشرط أن يكون ذلك الحرف متعلقًا بالفعل بعدها، نحو قولك: بِكَمْ درهمًا اشتريتِ ثوبك؟ وبِكَمْ جارية تمتعتُ، ولِكم غرضٍ قصدتَنِي. إلا أنَّ من قاس على اللغة التي حكاها الأخفش في الخبرية من أنه يتقدم عليها العامل في نحو «ملكتَ كم غلامٍ» يجوز في قوله أن يتقدم هنا الفعل الذي يتعلق به حرف الجر، فيقول: تمتعتُ بِكَمْ جاريٍة.

ويوجد في كلام س وأبي علي الفارسي أنه تكون فاعلةً، وليس المعنى أنه يتقدم الفعل مسندًا إليها، وإنما يعنون أنها تكون مبتدأة فاعلةً من حيث المعنى، نحو: كم رجلٍ أتاك، ولا تكون فاعلةً في اللفظ؛ لأنَّ ذلك يؤدي إلى إخراجها عما وُضعت عليه مِن أن تكون صدرًا. وزعم ابن هشام أنها أيضًا تكون مفعولاً لها، نحو: لكَمْ إكرامًا لك وصلتُ. قال: ولا بُدَّ من حرف العلة؛ لأنه لا يُحذف إلا في لفظ المصدر. وتوقف أبو عبد الله السُّوسي من نحاة تونس في إجازة ذلك. ولا نعلم أحدًا نصَّ على جواز ذلك غيره. قال ابن هشام: ولا تكون ــ يعني كم ــ مفعولاً معه؛ لأنه لا يتقدم. وهذه تنبيهات: قال بعضهم: إذا كانت كم استفهامًا نصبت النكرة الواقعة بعدها التي تحسن فيها مِن كما تنصب في العدد. وقال أيضًا: إذا قلت: كم درهمًا عندك؟ فالتقدير: أيُّ عدد من الدراهم حاصل عندك؟ فاختير للتمييز بصلاحية دخول مِن عليه. وقدَّر كم في المثال المذكور بقوله: أيُّ عدد؟ وتقول في الاستفهامية: كم مالُك إلا درهمان؟ وكم عطاؤك إلا عشرون؟ إذا كنت تستقلُّه، كما تقول: هل الدنيا إلا ظلُّ زائل، فما بعد إلا بدل، ترفعه إذا كانت كم رفعًا، وتنصبه إذا كانت نصبًا، نحو: كم أعطيتَ إلا درهمًا؟ وتجرُّه إذا كانت جرَّا، نحو: بكم أخذتَ ثوبَك إلا بدرهمٍ؟ ولا يكون هذا البدل في الخبرية لأنه استثناء من موجب.

وتقول في الخبرية: كم رجلٍ جاءك لا رجلُ ولا رجلان، فتعطف على كم بـ «لا» لأنَّ الكلام موجب، ولا يكون هذا في الاستفهامية لأنًّ «لا» لا يُعطف بها في الاستفهام. وتمييز كم يجوز دخول مِن عليه، سواء أكان متصلاً بها أم متأخرًا عنها، وسواء أكانت خبرية أم استفهامية، إلا إذا كان قد دخل على كم الاستفهامية حرف جر، فلا يجوز أن تدخل على تمييزها مِن؛ لأنَّ ذلك الحرف جُعل عوضًا مِن «مِن»، فلا يجتمعان. و «كم» لفظها مفرد، ومعناها الجمع، واللفظ يتبع تمييزها في التذكير والتأنيث، تقول: كم رجلٍ لقيتُه، وكم امرأةٍ رأيُتها، قال تعالى {وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا} .ويتبع المعنى، فيكون العائد جمعًا، فتقول: كم رجلٍ رأيتُهم، وكم امرأةٍ رأيُتهنَّ، / وقال تعالى {وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا}. والحمل على اللفظ هو الأقيس؛ لأنَّ الضمير والمظهر من قبيل الألفاظ. فإن كان التمييز جمعًا ــ وذلك في الخبرية ــ فلا يعود الضمير إلا ضمير جمع، نحو قوله: كَمْ مُلُوكٍ بادَ مُلْكُهُم ... ............................ ولا يعود مفردًا، لا تقول: كم رجالٍ قام. وقد تقدَّم ذكر المصنف الإشارة إلى الحمل على لفظ كم وعلى معناها من الجمع في باب الموصول في أوائل الكتاب في أول الفصل الثاني من الباب في شرح الحمل على مَنْ وما بالنسبة إلى اللفظ والمعنى.

وفي «الإفصاح»: إذا حملوا تارةً على اللفظ وتارة على المعنى، وسبق الحمل على اللفظ ــ فلا خلاف في جواز هذا وحسنه وكثرته، فإذا كان الأمر بالعكس فلا يخلو أن يكونا في كلام مرتبط متصل غير منفصل، أو في منفصل، فإن كان في منفصل فقد منعه قوم لأنه عدول عن مراعاة اللفظ، فالرجوع إلى ما عُدل عنه نكث، والصحيح أنه جائز لأنه الأصل. وقال بعضهم: أصل كم أن تكون استفهامًا، والخبر داخل على الاستفهام، فالاستفهامية أصل للخبرية، والدليل على هذا أنها إذا كانت خبريةً تلزم الصدرَ، فلا يعمل فيها ما قبلها، فلولا أنَّ الاستفهامية أصل للخبرية ما امتنع أن يعمل في الخبرية ما قبلها؛ لأنها في معنى: كثير من كذا عندك. قال شيخنا أبو الحسن الأُبَّذيّ: «وهذا يمكن أن يكون بالحمل للشبه اللفظي والمعنوي، فلا تكون إحداهما أصلاً للأخرى» انتهى. كلّ واحدة من «كم» و «رُبَّ» لا تُستعمل إلا في الماضي أو المستقبل المتحقق الوقوع، تقول: كم عالمٍ لقيتُه، ورُبَّ عالمٍ لقيتُه ولا تقول: كم عالمٍ سألقاه، ولا: رُبَّ عالمٍ سألقاه، وقال تعالى {رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ}، و (يَوَدُّ) مستقبل متحقق الوقوع ثابت، كما أنَّ الماضي متحققُ وقوعه. ومثلُه قول الشاعر: فإنْ أَهْلكْ فَرُبَّ فَتَى سَيبَكي ... عليَّ، مُخَضَّبٍ، رَخْصِ البَنانِ ولو وقعت كم هنا، فقيل: كم فَتى سيبكي ــ لساغ ذلك. وتقول: كم تُرى الحروريةَ رجلاً، إذا أعلمت تُرى، وهذا الكلام معزوّ إلى الحَجّاج بن يوسف. وكم يحتمل أن تكون استفهامية كما ذكره أبو علي في

الإيضاح، وخبرية كما أجازه في تذكرته، ولا يكون إذ ذاك قصده السؤال عن مبلغهم، بل تكثير عددهم، وتُرى مبنيَّة للمفعول، وتقدم الكلام عليها في باب ظننت. ويجوز إلغاؤها وإعمالها، فإن أعملتها فـ «كم» في موضوع نصب مفعول ثانِ لها، والحرورية الثالث، والضمير فيها المستكنّ هو المفعول الأول. وأجاز أبو علي في تذكرته أن تكون كم المفعول الأول مما دخلت عليه تُرى، والحرورية المفعول الثاني مما دخلت عليه تُرى، قال: لأنَّ كم ترتفع بالابتداء في نحو هذا؛ ألا ترى أنَّ س قد قال في: كم جَريبًا أرضك؟ إنَّ كم مبتدأ، ويكون في تُرى ضمير مرفوع بها مستترًا، وهو المفعول الأول الذي بُنيت له تُرى. وإن ألغيتَها كانت كم في موضع رفع على /الابتداء، والحرورية خبر، أو مبتدأ، وكم خبره. والأحسن: كم رجلاً تُرى الحرورية؟ أو كم رجلٍ تُرى الحَروريةّ. والحَروريّة صنف من الخوارج، يقال: إنّ عليَّا سّماهم بذلك نسبة إلى حَرُوراء ـ موضع ــ قالوا فيه حَرُوريّ، وهو من شاذّ النسب. وتقول: بكم ثوبُك مصبوغًا؟ النصب على الحال، وهو يسأل: كم يساوي الثوب في تلك الحال؟ ويكون خبر الابتداء في المجرور الذي قبله. وإن قال: بِكَمْ ثوبُك مصبوغُ؟ فهو يسأل: بِكَمْ صُبغ الثوبُ؟ فثوبك: مبتدأ، ومصبوغُ: خبره وبِكَمْ: متعلق بمصبوغ.

تقييد في إعراب كم: إن تقدم عليها حرف جر فهي مجرورة به، وإن لم يتقدم عليه حرف جر: فإن كانت كنايةً عن مصدر أو ظرف زمان أو ظرف مكان فهي في موضع نصب على المصدر، أو الظرف. وإن لم تكن كناية عن ذلك: فإن لم يكن بعدها فعل، أو كان فعل لازم بعدها، أو فعل متعدِّ مسندُ إلى ضمير كم أو إلى سببيَّها ــ فهي في موضع رفع على الابتداء، أو مسندُ لغير ضميرها وغير سببيِّها، ولم يأخذ معموله ـ فهي معمولة له، أو أَخذ معموله، فيجوز في كم الرفع على الابتداء والنصب على الاشتغال. جواب كم الاستفهامية يجوز أن يكون مرفوعًا وإن اختلف موضع كم من الرفع والنصب والجر. ويجوز أن يكون على حسب موضعها، إنْ رفعًا فرفعُ، وإنْ نصبًا فنصبُ، وإنْ جرَّا فجرُّ، وهذا هو الأولى والأجود. مثال ذلك: كم عبدًا دخلَ في ملكك؟ وكم عبدًا اشتريتَ؟ وبكم عبدًا استعنتَ؟ فيجوز في جواب هذه كلها أن تقول: عشرون عبدًا، ويجوز أن تقول في المثال الأول: عشرون، وفي المثال الثاني: عشرين، وفي المثال الثالث: بعشرين. وكذلك إذا كانت إذا كانت مما يَسوغ فيها الاشتغال، نحو: كم عبدًا اشتريتَه؟ يكون في الجواب إن اعتقدت أنَّ كم مبتدأة الرفع، وإن اعتقدت أنها منصوبة بإضمار فعل يكون في الجواب الرفع والنصب.

-[ص: فصل معنى «كأيِّن» و «كذا» كمعنى «كم» الخبرية، ويقتضيان مُمَيِّزًا منصوبًا مفردًا، والأكثرُ جرُّه بـ «مِن» بعد كأيِّنْ. وتنفرد من «كذا» بلزوم التصدير، وأنها قد يُستَفهَم بها، ويقال: كَيْءٍ، وكاء، وكَأ، وكَايٍ. وقلَّ ورود «كذا» مفردًا، أو مكررًا بلا واو. وكنى بعضهم بالمفرد المميَّز بجمع عن ثلاثة وبابه، وبالمفرد المميَّز بمفرد عن مئة وبابه، وبالمكرَّر دون عطف عن أحدَ عشرَ وبابه، وبالمكرَّر مع عطف عن أحد وعشرين بابه.]- ش: «كأيِّن» زعموا أنها مركبة من كاف التشبيه و «رأيّ» قال بعضهم: الاستفهامية، وحُكيت، وصارت كـ «بِزَيدٍ» لو سُمِّي به، فإن يُحكى، ويُحكم على موضعه بالإعراب. قال ابن عصفور: «والكاف فيها زائدة؛ ألا ترى أنك لا تريد بها معنَى تشبيه، وهي مع ذلك لازمة كلزوم ما الزائدة في قولهم: افعلْه آثًرًا ما، وقولهم: لا سَّيِما زيدٍ. وهي غير متعلقة بشيء؛ لأن حروف الجر الزوائد لا تطلب ما تتعلق به. والدليل /على أنَّ الكاف وأيَّا صُيِّرَتا كالكلمة الواحدة استعمالها مبتدأة، نحو قوله: كأين مِن رجلٍ ضربتُ،

ومجرورةً، نحو: بِكَأَيِّن من رجلٍ مررتُ، ولو لم يكونا كالكلمة الواحدة ما ساغ ذلك» انتهى. ولا تلزم «ما» في «لا سِيَّما زيدٍ» كما ذكر، وقد نص س علي أنِّ حذف ما في «لا سِيَّما زيدٍ» عربي. وقال بعض أصحابنا ــ وقد قرر أنها مركبة من كاف التشبيه ومن أيِّ الاستفهامية عن العدد، وصارت بمنْزلة كم في الخبر والاستفهام ــ قال: «ويحتمل أن تكون بسيطة» انتهى. وهو الذي كنتُ أذهب إليه قبل أن أقف على قول هذا القائل إنه يحتمل أن تكون بسيطة. ويدلُّ على ذلك تلاعب العرب بها في اللغات التي سيأتي ذكرها إن شاء الله تعالى. وأجاز ابن خروف أن تكون مركبة من كاف التشبيه ومن أيِّن، وهو اسم على وزن فَيْعِل، فالنون من أصل الكلمة. ولم يُستعمل هذا الاسم مفردًا بل مركًبا مع كاف التشبيه، وهو مبني على السكون من حيث استُعمل في معنى كم قبل. وهذا ليس بشيء؛ لأنَّ جَعْلَها مركبة مما استقرَّ في كلام العرب وعُرف معناه أَولى مِن جَعْلِها مركبة من كافِ الجر ولفظٍ لم يَستَقرّ في كلامهم، ولا عُرف له معنًى. وأمَّا «كذا» فقالوا هي مركبة من كاف التشبيه ومن «ذا» اسم الإشارة، أوقع على عدد مبهم. قال ابن عصفور: «الكاف في قولك كذا وكذا زائدة؛ لأنه لا معنَى للتشبيه في هذا الكلام، إنما معناه: لي عليه عدد ما، وزيادتها فيه كزيادتها في قولهم: فلان كذي الهيئة، يريدون: ذو الهيئة، ولزمت لزوم ما الزائدة في «آثرًا ما»، وذا مجرورة

بالكاف الزائدة كانجرارها بالكاف الزائدة في كأيِّن، ولا تتعلق بشيء، وصُيِّرت مع ذا كالشيء الواحد، وكُني بهما عن عدد مبهم. ويدلُّ على أنهما كالكلمة الواحدة أنّ ذا لا تختلف بحسب المشار إليه، تقول: له عندي كذا وكذا ملحفةً، ولا تقول: كذه وذه ملحفة، فجرت مجرى حبَّذا، وعلى هذا قالوا: إن كذا وكذا مالُك فرفعوا المال» انتهى، وفيه بعض تلخيص. وقال العكبري في «شرح الإيضاح»: «كذا مركبة من الكاف [وذا، والكاف] للتشبيه وذا اسم إشارة، أوقع على عدد مبهم. وإذا جعلت الكاف حرفًا لم تحتج إلى ما تتعلق به؛ لأن التركيب غيَّر حكمها كما غيَّر حكم كأنَّ. فإذا قال: له عندي كذا درهمًا، فـ (كذا) في موضع الصفة لمبتدأ محذوف، أي: شيء كالعدد، أو الكاف اسم مبتدأ كمثلٍ» انتهى. وإذا جعلنا كذا في موضع الصفة لزم أن تتعلق الكاف بمحذوف ضرورة، كما تقول: قام رجلُ كأسدٍ، أي: كائنُ كأسد، فلا يصح في كذا إذ ذاك دعوى التركيب. وقال صاحب (البسيط): «له عليَّ كذا وكذا درهمًا، أصلها ذا التي للإشارة، تقول: عنده ذا العددُ تشير إليه، ثم تَركبتْ مع كاف التشبيه، كأنك قلت: عنده عددُ كهذا العدد، ثم تركّيبا بمنْزلة حبَّذا وكأيِّن، فصارت اسمًا واحدًا مبينَّا بالتركيب، ودخله الإبهام، وصلاحيتُه /للأعداد بحسب أصله، وجُعل كالكنايات عن أعدادٍ معلومة؛ لأنَّ الإشارة إنما تكون إلى معلوم، أو تقيِّده، فجُعل مبهمًا في المعلوم منه، فلذلك كان كنايةً كـ (فلان)؛ لأنها كناية عن علم» انتهى. وتلخص لنا من هذه النقول الخلاف في كذا، أهي باقية على أصل وضعها مِن أنَّ الكاف للتشبيه وذا للأشارة، وهو المتفهم مِن جَعْل مَن جعَلها صفة لمبتدأ

محذوف إن كانت الكاف حرفًا، أو جعَل الكاف اسمًا مبتدأة عاملة الجر في اسم الإشارة، أم هي مركبة من كاف التشبيه الزائدة واسم الإشارة، وُجعلا كالكلمة الواحدة، أم هي مركبة من كاف التشبيه غير الزائدة واسم الإشارة، ثم جُعلت بالتركيب اسمًا واحدًا مبنيَّا. وقوله معنَى كأيَّن وكذا كمعنى كم الخبريَّة أمَّا «كم» فقد تقدَّم فيها الخلاف إذا كانت خبريَّة: هل موضوعها العدد الكثير، أو تكون للتقليل، وتكون للتكثير. وأمَّا «كأيِّن» فالذي يظهر من استعمال العرب لها أنها للتكثير. وأمَّا «كذا» فالذي يظهر أنها لم توضع للتكثير، بل هي مبهمة في العدد، سواء أكان كثيرًا أم قليلاً. ومما يدلَّ على أنَّ كأيِّن بمعنى كم الخبرية قولُ الكُميت: وكائنْ وكَم مِن مُحدِثٍ قد أَجَرْتُمُ ... بِلا سَبَبٍ دانٍ إليكم ولا صِهْرِ عطفَ كم على كائن توكيدًا، كأنه قال: كَمْ وكَمْ. وزعم س أنَّ معنى كأيَّن معنى رُبَّ. قال بعض أصحابنا: وذلك غير خارج عما قاله غيره من النحويين من أنها بمعنى كم؛ لأن معنى رُبَّ وكم وكأيِّن واحد؛ لأنَّ جميعها تستعمل في المباهاة والافتخار. وقوله ويقتضيان ممِّيزًا منصوبًا يعني أن كأيِّن وكذا تمَّيزان بمنصوب، مثال ذلك في كأيِّن قول الشاعر:

اطْرُدِ اليأسَ بالرَّجا، فَكَأَيِّنْ ... آمِلاً، حُمَّ يُسرُهُ بَعدَ عُسْرِ وقول الآخر: وكائنْ لنا فَضلاً عليكم ونِعمةً ... قَديمًا، ولا تَدرُونَ ما مَنُّ مُنعِمِ وقال س: «وكذلك: كأيِّنْ رجلاً قد رأيتُ، وزعم ذلك يونس، وكأيِّنْ قد أتاني رجلاً)). ومثالُ ذلك في كذا قوله: عِدِ النَّفسَ نُعْمَى بعدَ بُؤساكَ ذاكِرًا ... كذا وكذا لُطفًا به نُسِيَ الجَهدُ ولا يجوز أن تضاف كأيِّن وكذا إلي التمييز؛ لأنَّ المحكيَّ لا يضاف، ولأن في آخر كأيَّن تنوينًا، فهو مانع من الإضافة أيضا، وفي كذا اسم إشارة، واسم الإشارة لا يضاف. وقوله والأكثُر جَرُّه بـ «من» بعدَ كأيِّن قال س بعد أن ذَكر النصب، قال: «إلا أن أكثر العرب إنما يتكلمون بها مع مِن» انتهى. ويظهر من كلام س أنها لتأكيد البيان، فهي زائدة، وقد يقال: إنها لا تزاد في غير الواجب، فيقال: إنَّ هذا رُوعيَ فيه /أصله من الاستفهام، وهو غير واجب، ولَمَّا تعذَّرت الإضافة لم يَبق إلا النصبُ أو جرُّه بِمِنْ، وكان جرُّه بِمِنْ أكثر من استعماله منصوبًا؛ لأنَّها بمنْزلة كم الخبرية في المعنى، وكم الخبريةُ يقلُّ نصب تمييزها إذا لم يُحَلْ بينها وبينه. وذهب أبو العباس إلى أنَّ الاختيار في جرِّه بِمِنْ سببُه أنه مع عدمها لا يتعين أن يكون المنصوب هو التمييز، بل يحتمل في نحو قولك «كأيِّن رجلاً

ضربتُ» أن يكون رجلاً مفعولاً بضربت، ويكون التمييز محذوفًا، ويقدر: كأيِّن مرةً رجلاً ضربتُ، فيكون رجلاً واحدًا لفظًا ومعنًى. ويحتمل أن يكون تمييزًا، فيكون واحدًا في معنَى جمع، و «مِن» تَرفع هذا اللبس، فاستُعمل التمييز مقرونًا بها، وليست في ذلك مثل كم الخبرية؛ لأنَّ اللبس يرتفع بالإضافة، وكأيِّن لا تضاف إلى التمييز، بل إذا حُذفت مِن انتصب ما بعدها. انتهى، وفيه بعض تلخيص. وهذا الذي قاله أبو العباس مبنيُّ على أنه هل يجوز حذف تمييز كأيَّن أم لا يجوز؟ وإيراد النحويين كلام أبي العباس من غير اعتراض عليه في تقدير حذف التمييز دليل على جوازه. وقال صاحب البسيط: «وأمَّا حذفه فضعيف فيه لِلُزوم مِن؛ لأنه حذفُ عامل ومعمول» انتهى. ومَن يقول بجواز حذفه لا يلتزم أنه حُذف وهو مجرور بِمِنْ، بل حُذف وهو منصوب كما حُذف من كم الاستفهامية وهو منصوب. ولا يُحفَظ جرُّ التمييز بعد كأيِّن، فإن جاء كان بإضمار مِن، وهو مذهب الخليل والكسائي. ولا يُحمل على إضافة كأيِّن كما ذهب إليه ابن كسيان لِما تقدَّم مِن أنه لا يجوز إضافة كأيِّن إلى ما بعدها. وقال س: «وقال إنْ جَرَّها أحد من العرب فعسى أن يَجُرَّها بإضمار مِن» انتهى. وقال ابن خروف: «يكون في ممَّيزها النصب، ويجوز الجر بِمِنْ وبغير مِنْ، بفصل وبغير فصل، ومعناها التكثير، ولها حكم كم الخبرية في جميع أحوالها». والوقف عليها على ما زعم السيرافيُّ بغير تنوين، وهو القياس، وإنما كُتبت بالنون لَمَّا أشبهت اسمَ الفاعل مِن (كان) في الوزن واللفظ، ثم حُمل سائر اللغات عليها.

ويقتضي الاستقراء أنَّ تمييز كأيَّن لا يكون جمعًا، فليست مثل كم الخبرية في التمييز إذ الصحيح والمسموع أنه يكون جمعًا، وإن كان الأكثر أن يكون مفردًا. وأمَّا تمييز كذا فملتزَم فيه النصب. واختلف النحاة في الوقف على كأيَّن: فذهب السيرافي والفارسي وجماعة من البصريين إلى أنه بحذف التنوين؛ لأنه الذي كان في أيِّ. وذهب ابن كيسان، وتعبه ابن خروف، إلي أنها لَّما تَركّبتْ جُعل التنوين فيها كالنون الثابتة في الحرف، فوُقف عليها بالنون، وكُتبت بالنون. وقوله وتنفرد مِن كذا بلزوم التصدير يعني أنَّ كأيَّن تلزم الصدر، بخلاف كذا، فإنه لا يُلتزم فيه التصدير، بل يجوز أن تتقدم عليها العوامل، وقد تقدَّم في تمثيل ابن عصفور أنه يدخل عليها حرف الجر، فمثل بقوله: بكأيِّن مِن رجلٍ مررتُ وقد تقدَّم ابنَ عصفور إلى ذلك ابنُ قتيبة، فقال في «الكتاب الجامع» له في النحو: «كأيِّن. بمعنى كم، تقول: بكأيَّن /تبيع هذا الثوب؟ أي: بكَمْ تَبيعه؟». وقال ابن تقي: «كأيَّن أصلها أيُّ التي يُسأل بها عن كل شيء، فلمَّا دَخلت الكاف عليها لزمت بجملتها العدد، وزالَ معنى الاستفهام منها، فكان الأصل: كأيَّ عددٍ عددُ دراهمك؟ ثم حذفوا الثاني، ونَوَّنوا، ورَكَّبوا، وغَلَّبوا الاسمية، وصارت لا يعمل فيها ما قبلها؛ لأن أحد جزأيها في الأصل استفهام» انتهى. ويحتاج دخول حرف الجر عليها إلى نقل، ولا ينبغي أن تقاس في ذلك على كم الخبرية؛ لأنَّ قياس كأيَّن عليها يقتضي أن يُضاف إليها أيضًا كما يُضاف إلى

كم الخبرية، فتقول: غلاَم كأيَّن مِن صديقٍ أكرمتُ، كما تقول: غلامَ كم مِن صديقِ أكرمتُ، ولا يُحفظ هذا من كلامهم. وتكون مبتدأة، نحو {وكَأَيِن مِن نَبِىَّ قَتَلَ}، وقد استقرأت جملةً مما وقعتْ فيه مبتدأ، فوجدت الخبر لا يكون إلا جملة فعلية مصدَّرة بماضٍ أو مضارع، ولم نقف على كونها اسمًا مفردًا، ولا جملةً اسمية، ولا مصدَّرةً بمستقبل، ولا ظرفًا، ولا مجرورًا، فينبغي ألاَّ يُقْدَم على شيء من ذلك إلا عن سماع من العرب. ومفعولةً، نحو قوله: وكائنْ رَدَدْنا عَنكُمُ مِنْ مُدَجَّجٍ ... يَجيءُ أَمامَ القومِ يَرْدي مُقَنَّعا والقياس يقتضي أن تكون في موضع نصب على المصدر، وعلى الظرف، وعلى خبر كان، كما كان ذلك في كم. وفي «البسيط» أنها تكون مبتدأ وخبرًا ومفعولاً. وقوله وأنها قد يُستَفهَم بها الذي وقفنا عليه من كلام النحويين ينصُّ على أنَّ كأيِّن استُعلمت في الخبر، وهذا المصنف ذكر أنها قد يُستَفهَم بها، فقال في الشرح: «وانفردت كأيِّن أيضًا ــ يعني من كذا ــ بأنَّها قد يُستَفهَم بها، كقول أبي ابن كعب ــ - رضي الله عنه - ... ـ لعبد الله ـ - رضي الله عنه - ـ: (كأيِّنْ تقرأ سورة الأحزاب؟ أو: كأيِّنْ تَعُدُّ سورة الأحزاب؟). فقال عبد الله: (ثلاثًا وسبعين) فقال أُبَيّ: (قَطُّ). أراد: ما كانت كذا قِطُّ». انتهى كلامه.

ولم يَذكر دليلاً على أنه يُستَفهَم بها سوى هذا الخبر، وقد تقدَّم لنا الكلام معه في أنه مخالف للنحاة في إثبات القواعد النحوية بما ورد في الآثار، كهذا الأثر وغيره، وبيَّنَّا العلة التي عدَل النحويون لأجلها عن الاستشهاد بذلك. وقوله ويقال كَيْءٍ وكاءٍ وكَأٍ وكَايٍ تقدمت اللغة الأصلية التي ذكروا فيها أنها مركبة من كاف التشبيه ومن أيَّ، وهي أفصح اللغات فيها. وهذه اللغة بياء ساكنة بعد الكاف وبهمزة مكسورة منونة، وهذه اللغة حكاها المبرد، قال المصنف في الشرح: «وأصله كَيَّأٍ، بتقديم الياء على الهمزة، ثم عُوملت معاملة مَيَّت، فقيل: كَيْءٍ، ثم أُبدلت ياؤه ألفًا، فقيل: كاءٍ، وبه قرأ ابن كثير، ثم حُذفت ألفه، فقيل: كَأٍ. وأمَّا كَايٍ فمقلوب كَيْء، وبه قرأ ابن مُحيصن والأشهب» انتهى. ودلَّت قراءة ابن محيصن والأشهب بها على صحتها، وحكاها ابن كَيسان والأعلم. وزعم ابن خروف أنَّ الأعلم غلطَ فيها، وإنما هي كايٍ بالألف والياء. وليس ذلك بغلط لِما ذكرناه /مِن قراءةِ مَن قرأ بها، ولِحكاية ابن كيسان لها، وضبطًها ضبطًا لا يلبس، قال ابن عصفور: «وأمَّا ما قاله ابن خروف مِن أنها

كايٍ بالألف والياء، فلم يَحك ذلك غيره، وهي جائزة في القياس، كما أبدلوا الهمزة في راس، فقالوا راس، لَما كانت كَايٍ أبدلوها» انتهى. وليست جائزة في القياس، بل كونها مسهَّلة لقلبها ياءً بعد الألف هو على غير قياس. وأمَّا كائن فهي تلي كأيِّن في الفصاحة، واختلفوا في تعليل تغييرها من كأيَّن: فقال المبرد: حذفوا الياء الأولى من كأيَّن، وجعلوا التنوين عوضًا من الياء المحذوفة. والذي يوجبه مذهبه أنهم بنوا من كأيِّن اسمًا على وزن فاعِل، الكاف منه فاء الفعل، وبعد الكاف ألف فاعِل، وبعدها الهمزة التي هي أوّل أيّ في موضع عين الفعل، والياء الباقية في موضع لام الفعل، ودخل عليه التنوين الذي كان في أيّ، فسقطت الياء لاجتماع ساكنين، فصار كاء، ولزمت النون عوضًا. وقال الزجاج: لّما صَيَّروا الكاف مع أيَّ كالكلمة الواحدة أبدلوا الهمزة ألفًا، على حدِّ قولهم في سألَ: سال، وخفضوا الياء، فصار كايٍ، فدخل في باب قائل وبائع، فهُمز. وقال الفارسي: قلبوا، فصار: كَيَّأٍ، ولحق الهمزةَ التنوينُ كما لحق الياءَ المشددة، وجاز القلب فيما تركْب من كلمتين ــ وحكمُه أن يكون في كلمة واحدة، نحو قِسِيّ ــ لكونهما صارا كالكلمة الواحدة، ولكثرة الاستعمال، كما قالوا: رَعَمْلِي في لَعَمْرِي، ثم حُذفت الياء المتحركة كما حذفت من كَيّنُونة، فقالوا: كَيْنونة، فصار كَيْءٍ، مثال كَيْعٍ، وإذا كانوا قد حذفوها من أيِّ قبل التركيب في نحو قول الشاعر:

تَنَظّرتُ نَصْرًا والسِّماكَينِ أَيْهُما ... عَلَيَّ مِنَ الغَيثِ اسْتَهَلَّتْ مَواطِرُهْ فالأحرى بعد التركيب؛ لأنَّ الطول أدعى للتخفيف، ثم أبدلوا من الياء الساكنة ألفًا، كما قالوا في دُوَيْبَّة: دُوَابَّة، وكما قالوا طائيّ في النسب إلى طيِّئ. قال أبو علي في «البغداديات»: «وهذا قول بعض البصريين. إلا أنه لم يشرحه هذا الشرح». وقال ابن خروف: قلبوا الياء المتحركة قبل الهمزة، ثم قلبوها ألفًا لتحركها وانفتاح ما قبلها، وحذفوا الياء الساكنة، وكسروا الهمزة لَما صارت طرفًا، وكان السبب في حذف الياء الساكنة على هذا اجتماعها مع النون، وهي ساكنة. قال بعض أصحابنا: «وما ذهب إليه الفارسي أولى؛ لأنَّ ما ادَّعاه من القلب والتخفيف قد ثَبَتَ في هذه الكلمة سماعًا؛ بدليل قولهم فيه كَيْءٍ، فوجب أن يُجعل أصلاً لـ (كاءٍ) لقربه منه، وأن يُقَدَّر أن ألف كائن بدل من ياء على حدِّ دُوابَّة في دُوَيْبّة. وما ذهب إليه المبرد والزجاج وابن خروف لم يرد به سماع، وإنما أجازوه بالقياس من عندهم» انتهى. وفي الوقف أيضًا على كائن خلاف: فابن كيسان والمبرد يقفان بالنون. وعلة ابن كيسان ما تقدم في وقفه على كَأَيِّ. وعلة المبرد أنَّ النون صارت عوضًا من الياء المحذوفة، فلزمت لذلك. وذهبت جماعة إلى الحذف؛ لأنها التنوين الذي كان في أيَّ، فحُذف كما حذف. وأجاز الفارسي الوجهين، قال في «الحجة»: «فأمَّا النون فهو التنوين، وقياسه الحذف وتسكين الهمزة المجرورة للوقف، وقياسُ من قال مررت /بِزَيدِي أن يقول: كائي، فيبدل من التنوين ياء.

ولو قال قائل: إنه بالقلب الذي حدث في الكلمة صارت بمنْزلة النون التي من نفس الكلمة، كما جعلت النون في لدن بمنْزلة التنوين الزائد في قول من قال: لَدُنْ غُدْوةً ــ لكان قولاً». وقال ابن يسعون: «يمكن أن يكون كائن مشتقَّا من قولهم: كاءَ يكيء كَيْئا وكَيْئة: إذا رجع وارتدع، وأيضًا إذا هاب، فهو كاء من هذا اللفظ، كجاءٍ ونحوه، ثم أُلزم الاستعمال بمعنى كم من حيث كان الرجوع والارتداع تردُّدًا وانضمامًا واجتماع بعض الشيء إلي بعضه؛ وهذا المعنى قريب من العدد والكثرة» وينبغي أن يكون الوقف عليه في هذا القول بحذف النون لأنها تنوين. وهذا القول فاسد لأنها لو كانت اسم فاعل من كاءَ في الأصل لجاز إضافتها إلى التمييز كإضافة ما هي في معناه، وهي كم؛ إذ لا مانع من ذلك، لكنها بمنْزلة المحكي، فتمتنع الإضافة. وحكى قطرب عن يونس أن كائن اسم فاعل من كان، وعلى هذا تثبت النون وقفًا وخطَّا لأنها من نفس الكلمة. وهذا فاسد؛ لأنه لو كان كذلك لم يكن لبنائه وجه إلا حمله على كم من حيث استُعمل في معنى كم، ولو كان كذلك لوجب أن تكون نونه متحركة حتى يكون بناؤه على حركة؛ لأنه معرب في الأصل، طرأ البناء عليه. وأيضًا فإن قولهم فيه كَأَيِّنْ وكَيْءٍ يبين فساد ذلك.

وأمَّا كَيْءٍ فإنه لما قلب، وحذفت الياء تخفيفًا، لم تقلب الياء ألفًا. ومن قال كَايٍ فكأنه قلبُ من هذا مراجعة للأصل؛ إذ الهمزة في الأصل متقدمة على الياء، ولكثرة تلعبهم بهذه الكلمة. وأمَّا كَئنْ فانه كائن في الأصل حذفوا الألف منه اجتزاءً بالفتحة عنها، كما قالوا: أمَ والله لقد كان كذا، ولو تَرَ أهل مكة، أي: أمَا، ولو ترى. وقال ابن جني: «من قال كَأٍ فإنه حذف الياء من كَيْءٍ». وهذا الوجه يَرجح الأولَ بقلَّة العمل، ورَجَحه الأول بكون المحذوف قد بقي ما يدلُّ عليه بعد الحذف، وهو الفتحة. وفي الوقف على هذه اللغات خلاف: فمنهم من يحذف لأنه التنوين الذي كان في أيِّ، فحَكم له بحكمه. ومنهم من يُثبته لأنها كالنون التي هي من نفس الكلمة، فجعل الكاف مع أيِّ كالكلمة الواحدة. وإنما جُعلت هذه اللغات كلها مغيرة من كأيِّن لتقاربها في الحروف واتحادها في المعنى. وقد انتهى الكلام في تعليل هذه اللغات وجريانها على قوانين العربية، وذكرنا اختلاف الناس فيها، وهي جميعها تسويد للورق، وإكثار في الكلام، ولا طائل تحته، فالأولى ادَّعاء البساطة في هذه الكلمة؛ إذ هي الأصل، ويكون التغيير فيها كالتغيير الذي جاء في لَدُنْ، وفي رُبَّ، وفي حيث، وما أشبهها. ولو كانت أحكامُ نحوية مكان هذه التعاليل والاختلاف لكان الاشتغال بها أَولى وأنفع، ولكن كل علم لا بد فيه من فضول.

والأفصح اتصال تمييزها بها مجرورًا بـ «مِنْ» وكذا وقعت في القرآن {وكأين من نبي قتل} و {وكأين من ءاية في السموات والأرض} ... ، {فكأين من قرية أهلكنه، و {وكأين من قرية عنت} ... . ويجوز الفصل بينهما بالجمل، وبالجار /والمجرور، وبالظرف، قال الشاعر، وهو عمرو بن شأس: وكائنْ رَدَدْنا عَنكُمُ مِنْ مُدَجَّجٍ ... يَجيء أَمامَ الَحيِّ ... يَرْدي ... مُقَنَّعا وقال الفرزدق: وكائنْ اليكم قادَ مِن رأسِ فِتنةٍ ... جُنودًا، وأمثالُ ... الجِبالِ ... كَتائبهْ وقال السُّليك: وكائنْ حَواها مِن رئيسٍ، سِلاحُهُ ... إلى الرَّوعِ صَحْنٌ، مائلِ الشَّقَّ أَبْكَمِ وقال ذو الرمة: وكائنْ تَري مِن رَشْدةٍ في كَريهةٍ ... ومِن غَيَّةٍ تُلْقَى عليها الشَّراشِرُ وقال أيضًا:

وكائنِ ذَعَرْنا مِن مَهاةٍ ورامِحٍ ... بِلادُ العِدا ليستْ لهُ ... بِبِلادَ وقال الكميت: وكائنْ تَرَي فينا مِنِ ابْنِ أَخيذةٍ ... أَبَى العِتْقُ مِنْ خالاتِهِ أنْ تُغَيَّرَا وقال آخر: وكائنْ تَرَي فينا مِنِ ابْنِ سَبِيَّةٍ ... اذا لَقِيَ الأَبْطالَ يَضْرِبُهُمْ هَبْرَا وقال آخر: وكائنْ تَرَي مِنْ يَلْمَعِيِّ مُحَظْرَبٍ ... وليسَ ... لهُ عندَ العَزائمِ جُولُ وقال الآخر: وكائنْ ... بالأَباطِحِ ... مِنْ صَديقٍ ... يَرانِي ... لو أُصِبْتُ هو الُمصابا وقال الأدْهَم بن أبي الزَّعراء: وكائنْ بنا مِن ناشِصٍ قد عَلِمتُمُ ... إذا نَفَرَتْ كانتْ بَطيئًا ... سُكُونُها وجاءت هذه اللغة كثيرة في كلام العرب خصوصًا في أشعارها، وهي تلي في الفصاحة لغة كأيَّن، وقراءة الجمهور (كأين)، وقرأ ابن كثير بهذه اللغة.

ومن غريب الحكايات في هذه اللغة ما حدثني به بعض أدباء تونس ــ والعهدة عليه ــ أنَّ الفقيه المحدَّث أبا القاسم بن البراء كان يحرِّض شيخنا الأديب الحافظ المستبحر أبا الحسن حازم بن محمد بن حازم على أن يشتغل بالفقه، ويكفّ عن الأدب، فحضر حازم وجماعة عند المستنصر أبي عبد الله محمد ابن الأمير أبي زكرياء ملك إفريقية، وذكروا قراءة ابن كثير (وكائن)، واستغربوها، وقالوا: لم يجئ منها في كلام العرب إلا قول الشاعر: / وكائنْ بالأَباطِحِ مِنْ صَديقٍ ... .................................. فقال لهم حازم: قد جاء منها ما لا يُحصى. فطلبوا منه ذلك، فأنشدهم من هذه اللغة ألف بيت، فدفع له المستنصر ألف دينارٍ من الذهب، فجاء بها إلى ابن البراء، فقال له: هذه مسألة من الأدب، أخذت فيها ألف دينار، فأرنى أنت مسألة من الفقه حصل للمخبر بها ألف دينار؟ انتهى. والذي أقوله إنَّ هذه المسألة كانت ـــ والله أعلم ـ مبَّيتة، طُولِع فيها دواوين العرب أيامَا كثيرة، على أنَّ حازمًا كان من الحفظ في غاية لا يشاركه فيه غيره من أدباء عصره. وأمَّا ثلاث اللغات الباقية فنقلها النحويون، ولم يُنشدوا فيها شعرًا فيما علمت. وقوله وقلَّ ورود كذا مفردًا أو مكررًا بلا واو كنّا قد ألّفنا كتابًا في أحكام كذا، سميناه بـ «كتاب الشذا في أحكام كذا» بسؤال قاضي القضاة شمس الدين أبي عبد الله محمد بن عبد الوهاب الأنصاري الحنفي، عرف بابن الحريري،

أولَ قدومه من الشام متوليًا قضاء الديار المصرية، وجمعنا في آخره الأحكام مجردةً، ثم اخترنا منها ما قام عليه الدليل من لسان العرب، وأناالآن أسرد تلك الأحكام، وأذكر ما اخترناه منها، حرفًا بحرف من ذلك الكتاب، فنقول: أمَّا الكاف فأصلها التشبيه، و «ذا» أصلها أنها اسم إشارة للمفرد المذكر، فمتى أُبقيت كل واحدة منهما على موضوعها الأصلي فلا تركيب فيها، ولا تكون إذ ذاك كناية عن شيء، وإن أُخرجت عن موضوعها الأصلي فإنَّ العرب استعملتها كناية عن عدد وعن غير عدد، وفي كلتا الحالتين تكون مركبةً، ولذلك لا يثنَّى ذا، ولا يجمع، ولا يؤنَّث، ولا يُتبَع بتابع، لا نعت، ولا عطف، ولا تأكيد، ولا بدل، ولا تتعلق الكاف بشيء، ولا ًتدلُّ على تشبيه؛ لأنهما بالتركيب حدث لهما معنًى لم يكن قبله، ولا تلزم الصدر، ولا تكون مقصورة على إعراب خاصّ، بل تُستعمل في موضع رفع، وفي موضع نصب، وفي موضع جر بالإضافة وبالحرف. ومن النحويين مَن حكم على موضع الكاف بالإعراب، وجعلها اسمًا ومنهم مَن حكم عليها بالزيادة، ولزمت، وكل هذا فرار من دعوى التركيب فيها. فإذا كانت كناية عن غير عدد، فتكون مفردةً ومعطوفة، تقول العرب: مررتُ بدارِ كذا، ونزل المطرُ مكانَ كذا فمكانَ كذا، وقالت العرب: أمَا بمكانِ كذا وكذا وجْذٌ؟ فقال: بلي، وجاذًا. ولا يراد بالمتعاطفين أنَّ المكان يوصف بصفتين معطوفة إحداهما على الأخرى. وهو كناية عن معرفة، ومن وقوعه على النكرة قوله:

وأَسْلَمَنِي الزَّمانُ ... كَذا ... فلا طَرَبٌ ولا أَنَسُ أوقع كذا موقع الحال، وهي نكرة. وتقول العرب: مررت بدارٍ كذا، فتصف به النكرة، فدلّ على أنه نكرة، وبدارِ كذا، واشتريته بثمن كذا، وله عندي كذا. فإذا كانت كناية عن عدد فاختلف النحويون في ذلك: فمذهب البصريين أنَّ تمييزها يكون مفردًا، سواء أكانت مفردة أم معطوفة، وأريد بها عدد قليل أو عدد كثير، فتقول: له عندي كذا درهمًا، وله عندي كذا وكذا درهمًا. وبه قال ابن طاهر وابن خروف. وقد نازع ابنُ خروف في إفرادها /في العدد، فزعم أنه غير مستعمل في كلام العرب. وأمَّا الكوفيون فذهبوا إلى أنها تُفسَّر بما يُفسَّر به العدد الذي هي كناية عنه، فمن الثلاثة إلي العشرة بالجمع المخفوض، نحو: له عندي كذا جوارٍ، وتكون هي مفردة. وعن المركب بالمفرد المنصوب، وتُركّب هي، فتقول: كذا كذا درهًما. وعن العقود بالمفرد المنصوب، وتُفرد هي، نحو: له عندي كذا درهمًا. وعن المعطوف بالمفرد المصوب، وتكون هي معطوفةً علي مثلها، نحو: له عندي كذا وكذا درهمًا. وعن المئة والألف بالمفرد المجرور، وتُفرد هي، نحو: له عندي كذا درهمٍ. وقد وافق الأخفشُ ـــ على مت نقله صاحب البسيط ـــ والمبردُ وابنُ الدَّهَّان وابن مُعط وابن عصفور الكوفيين في هذا الفصل. وذكر أبو بكر عتيق بن داود اليماني موافقة الأخفش وابن كيسان والسيرافي في المركب والمعطوف

للكوفيين، إلا أنَّ ابن عصفور قال في الكناية عن الثلاثة إلى العشرة، وعن المئة والألف: «له عندي كذا من الدراهم»، فردَّ التمييز إلى الجمع، وعرَّفه، وأدخل عليه مِن، كما يفعل في العدد المركب وغيره من التمييز المفرد إذا أراد إدخال من عليه، تقول: له عندي أحدَ عشرَ من الدراهم. وأمَّا حكاية ابن السَّيْد من أنَّ الكوفيين والبصريين اتفقوا على أنَّ كذا وكذا كناية عن الأعداد المعطوفة، وأنَّ كذا كذا كناية عن الأعداد المركبة ــ فوجهُ الجمع بينه وبين ما نقلناه من مذهب البصريين أنَّ ابن السِّيْد وقف على قول المبرد أو على قول مَن حكى عنهم عتيقُ اليماني، فتوهم أنه قول البصريين؛ لأنَّ المبرد ومَن ذكر عنه ذلك من كبراء البصريين، ولم يحفظ خلاف غيرهم من البصريين، فجعل ذلك اتِّفاقًا. وقول ابن عصفور إنه يظهر له أنَّ اتفاق البصريين والكوفيين على أنَّ كذا وكذا كناية عن العدد المعطوف، وكذا كذا كناية عن العدد المركب ــ إما هو سماع من العرب، ولذلك لم يختلفوا فيه، بناء من ابن عصفور على ما نقل ابن السِّيْد من الاتفاق؛ لأنَّ ابن عصفور ذكر ذلك مستندًا إلى نقل ابن السِّيْد. وقد ذكرنا نحن أنَّ مذهب البصريين خلاف ما ذكره ابن السِّيّْد، وتأوَّلنا قول ابن السِّيْد في نقل اتفاقهم. وقد تقدَّم قول ابن خروف في: كذا كذا درهمًا، وزعمُه أنَّ ذلك لا يستعمل في كلام العرب. وتحصل مما لخصناه أنَّ المذاهب ثلاثة: مذهب البصريين غير المبرد ومن وافقه أنها كناية عن العدد مطلقًا، سواء أكان مركبًا أم معطوفًا أم عقدًا أم غير ذلك من سائر العدد.

ومذهب الكوفيين ومن وافقهم أنها كناية عن العدد، فتطابق هي وتفسيرها ما هي كناية عنه من إفراد وتفسير بجمع مجرور، أو تركيب وتفسير بمفرد منصوب، أو إفراد وتفسير بمفرد منصوب، أو عطف وتفسير بمفرد منصوب، أو إفراد وتفسير بمفرد مجرور. ومذهب ثالث ــ وهو مركب من هذين المذهبين ــ وهو موافقة الكوفيين في المركب والعقد والمعطوف، ومخالفتهم في المضاف، وهو الثلاثة إلى العشرة، والمئة والألف واللام مجرور بـ «مِنْ»، وهو اختيار ابن عصفور، وزعم /أنه مذهب البصريين. وقد اضطرب في ذلك قول أبي علي الفارسي، فمرة قال بقول البصريين على ما حكيناه نحن، ومرة قال بقول الكوفيين. فلمَّا اطَّلعنا على مذاهب الناس في هذه المسألة واختلافهم فيها رجعنا عند الاختلاف إلى السماع من العرب؛ فما وجدناه منقولاً عنهم أخذنا به، وما لم يُنقل من لسانهم اطَّرحناه، وذلك مذهبنا في إثبات القواعد النحوية، إنما نرجع فيها إلى السماع، فلا نثبت شخصيَّا من الأحكام إلا بعد إثبات نوعه، ولا نثبت شيئًا منه بالقياس؛ لأنَّ كل تركيب له شيء يخصه، فلو قسنا شيئًا على شيء لأوشك أن نثبت تراكيب كثيرة، ولم تنطق العرب بشيء من أنواعها والقياس الذي نذكره نحن في النحو إنما هو بعد تقرَّر السماع، فلا نُثبت الأحكام بالقياس، إنما نُثبتها بالسماع من العرب، ويكون في الأقيسة إذ ذاك تأنيس وحكمه لذلك السماع، ومَن تأمَّل كلام س وجده في أكثره سالكًا هذه الطريقة التي اخترناها من إثبات الأحكام بالسماع، فنقول: المسموع من لسان العرب أن «كذا» إذا كانت كناية عن غير عدد كانت مفردة، ومعطوفة خاصةً، ولا يُحفظ تركيبها، فإذا كانت

كناية عن عدد فلا يُحفظ إلا كونها معطوفة، ولا تحفظ مفردة ولا مركبة، ولذلك لم يمثَّل بها س والأخفش والفارسي في الأعداد إلا معطوفة. ثم ذكر س أنها كناية للعدد، فلم يحصّ عددًا من عدد، بل ذكر أنه مبهم في الأشياء، وبذلك ورد السماع، قال الشاعر: عِدِ النَّفسَ نُعْمَي بعدَ بُؤساكَ ذاكِرًا ... كذا وكذا لُطفًا به نُسِيَ الجهدُ وسائر التركيب التي أجازها الكوفيون ومن وافقهم ليست من لسان العرب؛ ألا ترى أنَّ ابن خروف قال عند ذكر قول المبرد: «هو دعوى وقياسُ في اللغة، وإن توقيفه كذا وكذا على المعطوف قياس في اللغة، ولا تؤخذ إلا عن أفواه العرب بالمشافهة». وقال ابن عصفور في إجازة الكوفيين: كذا درهمٍ، وكذا دراهمَ: «لم يرد به سماع، ولا يقبله قياس، ونهايتهم أن قالوه بالقياس». وقال ابن أبي الربيع حين حكى مذهب الكوفيين: «وهذا كله إما قالوه بنوع من القياس، ولم يرد به سماع». وقال أبو علي حين سأله أبو الفتح عن التفصيل في كذا وتنزيله على مذهب الكوفيين، فقال: «هذا من استخراج الفقهاء، وليس هو في النحو كذا، إنما كذا بمنْزلة عدد منوَّن». وقد خطّأ هو والزجاجيُّ وابن أبي الربيع وابنُ عصفور من جَرَّ التمييزَ بعد «كذا». وقال الزجاجي في «شرح مقدمة أدب الكاتب»، وقد بحث في كذا: «إنه عُملت عليه مسائلُ كالمصطلح عليها، وهي عندي غير جائزة». ثم سرد تلك التراكيب على مذهب الكوفيين.

وقال المصنف في الشرح، وقد ذكر التفصيل في كذا: «مستندُ هذا التفصيلِ الرأيُ لا الرواية». وقال ضياء الدين أبو عبد الله بن العلج، وقد ذكر موافقة الأخفش للكوفيين: «ما ذكره صحيح في القياس، فإن ساعده النقل أخذ به، /وإلا تُرك، وأمََّا تجويزهم بعد كذا الرفعَ فخطأ؛ لأنه لم يُسمع من لسانهم، وإنما تجويز ابن قتيبة الخفضَ بعد كذا وكذا المعطوف فمنصوص على أنه لحن؛ إذ هو مخالف لما حكي عن العرب من النصب بعد المعطوف، وأمَّا كذا درهمٍ بالخفض فلا يجوز، لا على الإضافة ولا على البدل، خلافًا لزاعميهما». فهذه النصوص كلها تدلُّ على أنَّ مذهب الكوفيين في ذلك وتفصيلهم ليس بمسموع، وإنما قالوه بالقياس. وقد ذكرنا أنَّ كل تركيب شخصي ليس له أصل في لسانهم من تركيب نوعيّ فهو ليس معدودًا من كلام العرب. فعلى هذا الذي اخترناه لو قال قائل: له عندي كذا وكذا درهمًا ــ لنَزَّلناه على درهم واحد، إلا أن قال: أردتُ به عددًا أكثر من ذلك ــ فُيرجع في ذلك إلي تفسيره. وكذلك لو قال «كذا كذا درهّما» لم نجعله تركيبًا، بل نجعله مما حُذف منه حرف العطف على مذهب من يُجيز ذلك. وكذلك لو قال «كذا درهمًا» لم نجعله مفردًا، بل يكون مما حُذف منه المعطوف، وإنَّ أصله: كذا وكذا. كل ذلك حفظُ لما استقرَّ في كلامهم من أنَّ «كذا» لا تُستعمل في العدد إلا معطوفة. وكذلك لو لحنَ، فخفض الدرهم، أو رفعه؛ لأن اللحن لا يبطل الإقرار.

وقد اختلف مذاهب الفقهاء في الإقرار بهذه الكناية اختلافًا كثيرًا جدّا، واذا لم يكن للناس عُرف فيها، ولا اصطلاح خاصُّ لبعضهم ـــ وجبَ حملها على اللغه، وإذا نظرنا في لغة العرب لم نجد لهم ما يتحقق إثباته فيها من التراكيب إلا ذلك التركيب الذي ذكرناه؛ فوجب الحمل عليه إذ ذاك. وقد ذكرنا في «كتاب الشذا» أقاويل الفقهاء في ذلك، والعجب أنه لم يقل أحد منهم بما يوافق اللغة. وفي قول المصنف وقلَّ ورود كذا مفردًا أو مكررًا بلا واو دليل على وروده كذلك في لسان العرب، لكنه لم يستشهد على ذلك بشيء. وتقدَّم من قولنا إنها إذا كانت كنايةً عن غير عدد كانت مفردة ومعطوفة، وإذا كانت كناية عن عدد فالعطف، فينبغي أنه وردت مفردة في غير العدد يؤول ذلك على حذف المعطوف، وإذا وردت مكررة بلا واو حُملت أيضًا على حذف حرف العطف، كما كانت كَيْتَ كَيْتَ بمنْزلة كيتَ وكيتَ، وذَيْتَ ذَيتَ كذَيِّةَ وذَيَّة.

باب نعم وبئس

-[ص: باب نِعْمَ وبِئْسَ وليسا باسْمَينِ فَيَلِيَا عواملَ الأسماء، خلافًا للفراء، بل هما فعلان لا يتصرفان للزومهما إنشاء المدح والذمّ على سبيل المبالغة. وأصلهما فَعِلَ، وقد يَردانِ كذلك، أو بسكون العين وفتح الفاء أو كسرها، أو بكسرهما، وكذا كل ذي عين حلقية من فَعِلَ فعلاً أو اسمًا، وقد تُجعل العين الحلقيَّة مُتبَعةَ الفاء في فَعيِل، وتابعتَها في فَعْل، وقد يُتبَع الثاني الأولَ في مثل نَحَوٍ ومَحَمُول، وقد يقال في بئس: بَيْسَ.]- ش: مناسبة هذا الباب لِما قبله هي أنَّ نِعمَ وبئسَ قد يكون معهما تمييز كما كان ذلك في الباب الذي قبله، وقد ذكره بعض النحويين عقب باب الفاعل، وهو مناسب وأفرد بالذكر لأنه جرى الفاعل فيهما على طريقة لم /في غيرها. وقوله وليسا باسْمَين إلى قوله بل هما فِعلان أورد النحويون الخلاف في نعم وبئس على طريقتين: الطريقة الأولى: قالوا: في كونهما فعلين خلاف: ذهب أكثر النحويين ومنهم البصريون والكسائي ــــ إلى أنهما فعلان. واستدلّوا على ذلك بوجوه: أحدها: أنه يرتفع بعدهما الفاعل كما يرتفع بعد الفعل، فتقول: زيدُ نِعمَ الرجلُ، وبكرُ بئسَ الرجلُ.

الثاني: أنه يُضمر فيهما كما يُضمر في الفعل، تقول: نِعمَ رجلاً زيدُ، ويبرز في بعض الكلام على ما حكي، وسيأتي بيانه، فتقول: نعما رجلَين الزيدان، ونِعمُوا رجالاً الزيدون، ونَعِمْن نساء الهنداتُ، حكاه الكسائي والأخفش. والثالث: أنهما تلحقهما تاء التأنيث مع المؤنث، وتسقط مع المذكر على حد غيرهما، فتقول: نعمَ الرجلُ زيدُ، ونعْمَت المرأةُ هندُ. والرابع: بناؤهما على الفتح كسائر الأفعال الماضية. والخامس: أنا لم نجد في كلامهم مضمرًا فيه المرفوع على شريطه التفسير إلا فعلاً، نحو: ضَربَني وضربتُ زيدًا. وذهب الفراء وكثير من الكوفيين إلى أنهما اسمان. واستدلُّوا على ذلك بوجوه: أحدها: كونهما لا مصدر لهما. الثاني: كونهما لا يتصرفان. الثالث: الإخبار عنهما بجعلهما مبتدأ، قال الرؤاسي: سمعت العرب تقول: فيك نِعمَتِ الخَصلةُ. الرابع: عطفهما على الاسم. قال الفراء: سمعت العرب تقول: الصالحُ وبئسَ الرجلُ في الحقِّ سواُء. الخامس: دخول حرف الجر عليهما، قال رجل من بني عُقيل، وقد وُلدت له بنت، فقيل له: نِعمُ الولدُ، فقال: «والله ما هي بِنِعْمَ الولدُ، نَصرُها بكاءُ، وبرُّها

سَرِقةُ». وقال بعضهم: «سِرتُ على عَيري هذا خمسةَ عشرَ ميلاً»، فقيل له: «نِعْمَ السَّيرُ على بِئسَ العَيرُ». وقال حسان بن ثابت: أَلَستُ بِنِعْمَ الجارُ، يُؤْلَفُ بَيتُهُ ... كذي العِرض ذا مالٍ كثيرٍ ومُصْرِما السادس: إضافتها إلى ما بعدها، قال الشاعر: صَبَّحَك الله بِخَيرٍ عاجلِ ... بِنعْمَ طَيرٍ، وشَبابٍ باكِرِ وقال آخر: فقد بُدِّلتُ ذاك بِنِعْمَ مالٍ ... وأيامٍ، لَياليها قِصارُ واستعمالها مبتدأ يقتضي دخول النواسخ عليها، فتقول: كان نَعمَ الرجلُ زيدًا، وإنَّ نِعمَ الرجلُ زيدٌ، وظننتُ نِعمَ الرجلُ زيدًا. السابع: النداء، قالوا: «يا نِعمَ المولى ويا نِعمَ النَّصيرُ». الثامن: دخول لام الابتداء عليها في خبر إنَّ، ولا تدخل على الماضي. التاسع: أنه سُمع فيها: نَعِيمَ الرجلُ، على وزن فَعِيل، وهو من أوزان الأسماء لا أوزان الأفعال.

وتأول القائلون بالفعلية جميع ما احتجَّ به هؤلاء: أمَّا كونهما لا يتصرفان فلا حجة في ذلك على الاسمية؛ /لأنَّ لنا ما لا يتصرف، وهو فعل بالإجماع بيننا وبينكم، وهو عسى، إلا قولاً شاذَّا إنَّ عسى حرف. وأمَّا كونهما لا مصدر لهما فلا حجة فيه أيضًا لوجهين: أحدهما أنهما في ذلك كعسى. والثاني على مذهبكم، وذلك أنَّ المصدر هو فرع عن الفعل في الاشتقاق، فلا يلزم من وجود الفعل أن يُشتق منه مصدر. وأمَّا دخول حرف الجر والنسق على الاسم فهو مما حُذف فيه الموصوف، وأقيمت الصفة مقامه، تقديره: فيك خَصلةُ نِعمَت الخَصلةُ، والصالحُ ورجلٌ بئسَ الرجلُ في الحقَّ سَواءُ. وحسَّن ذلك ـــ وإن كانت الصفة غير خاصة ـــ دلالة نِعمَت الخصلةُ وبئسَ الرجلُ على الموصوف المحذوف. ونظيرُ دخول حرف الجر على الفعل بإجماع قول الشاعر: واللهِ ما زيدٌ بِنامَ صاحُبِهْ ... ولا مُخالِطِ اللَّيَانِ جانِبُهْ تقديره: والله ما زيدٌ برجل نامَ صاحبُه. وأمَّا إضافتها إلى ما بعدهما فـ «نِعْمَ» في قوله «بنِعْمَ طيرٍ» و «بِنعْمَ بالٍ» اسم بدليل إضافتها إلى ما بعدها، ولا يضاف إلا الاسم، وكأنها في الأصل نِعْمَ التي

هي فعل، فسُمَّي بها، وحُكيت، ولذلك فُتحت الميم منها مع دخول حرف الجر. ونظير ذلك: قيلَ وقالَ، فإنَّ العرب لّما جعلتهما اسمين للقول حُكيا. وقالوا «ما رأيته مُذْ شُبَّ إلى دُبَّ»، فجعلهما اسمين، وحكي فيهما لفظ أصلها، وهو الفعل، وعرضت الاسمية فيهما كما عرضت في «لا» في قول الشاعر: بُثَينُ، الْزَمِي «لا»، إنَّ «لا» إنْ لَزِمْتِهِ ... على كَثرِة الواشينَ أَيُّ مَعُونِ فأوقع الزمي على «لا»، ثم أجراها مجرى اسم، فعاملها معاملة الأسماء، وأدخل عليها إنَّ ولا يلزم من ذلك أن يُحكم بالاسمية إذا لم يُستعمل هذا الاستعمال. وأمَّا دخول حرف النداء فلا حجة فيه لأنه يدخل على الفعل، نحو قوله: ألا يا اسْقِيانِي قَبلَ خَيلِ أَبي بَكرِ ... ................................ وعلي الحرف، نحو {يا ليتني كُنتُ مَعَهُمَ}، وقوله: فيا رُبَّ يومٍ قد لَهَوتُ ولَيلةٍ ... بِآنِسةٍ، كأنَّها خَطُّ تِمثالِ وعلى هذه الطريقة حكى الخلافَ فيهما المصنفُ في الشرح وأكثر أصحابنا.

وأمَّا دخول اللام عليها في خبر إنَّ فلأنها قرُبت من الأسماء بعدم التصرف والزمان والمصدر، فبعُدت عن الماضي، فجاز ذلك فيها. وهذا على مذهب مَن يُجوِّز ذلك فيها. ومِن النحويين مَن منع دخول اللام عليها في خبر إن. وأما كونها سمع فيها «نَعِيمَ» فهو من الشذوذ بحيث لا يقاس عليه فخُرّج على الإشباع، كقول الشاعر: ............................. ... يُحِبَّكِ عَظمٌ في التُّرابِ تَريبُ يريد: تَرِبُ، فأشبع، وكقوله ... : ............................. ... ................ تَنْقادُ الصَّياريفِ يريد: الصيارف، جمع صَيْرَف. والطريقة الأخرى من ذكر الخلاف فيهما حرَّرها الأستاذ أبو الحسن بن عصفور في تصانيفه المتأخرة، /قال: لم يختلف أحد من النحويين البصريين والكوفيين في أنَّ نِعمَ وبئس من قولك: نِعمَ الرجلُ زيدٌ، وبئسَ الرجلُ عمرٌو، وأشباه ذلك ـــ فعلان، وأنَّ الاسم المرفوع بعدهما فاعلُ بهما، وإنما الخلاف بين البصريين والكوفيين فيهما بعد إسنادهما إلى الفاعل: فذهبت البصريون إلى أنَّ «نِعمَ الرجلُ جملة»، وكذلك: بئسَ الرجلُ.

وذهب الكسائي إلى أنَّ قولك نِعمَ الرجلُ وبئسَ الرجلُ اسمان محكيَّان بمنْزلة: تأبَّطَ شرَّا، وبَرَقَ نَحرُه، فـ «نِعمَ الرجلُ» عنده اسم للممدوح، و «بئسَ الرجلُ» اسم للمذموم، وهما جملتان في الأصل، نُقلا عن أصلهما، وسُمَّي بهما. وذهب الفراء إلى أنَّ الأصل في نِعمَ الرجلُ زيدٌ، وبئسَ الرجلُ عمرٌو: رجلٌ نعمَ الرجلُ زيدٌ، ورجلٌ بئسَ الرجلُ عمرٌو، فحُذف الموصوف الذي هو «رجل»، وأقيمت الصفة التي هي الجملة من نِعمَ وبئسَ وفاعلهما مقامه، فحُكم لهما بحكمه، فنِعمَ الرجلُ، وبئس الرجلُ ـــ عندهما ـــ رافعان لزيد وعمرو، كما أنك لو قلت: ممدوحٌ زيدٌ، ومذمومٌ عمرٌو ـــ لكان زيد مرفوعًا بممدوح، وعمرو مرفوعًا بمذموم. وقد رُدَّ مذهب الكسائي والفراء بأنه لو كان محكومًا لهما بحكم الأسماء لوقعا في مواضعها في فصيح الكلام، فكنت تقول: إنَّ نِعمَ الرجلُ قائمٌ، وإنَّ بئسَ الرجلُ منطلقٌ، وظننت نِعمَ الرجلُ قائمًا، وظننتُ بئسَ الرجلُ منطلقًا، وكان نعمَ الرجلُ منطلقًا، وكان بئسَ الرجلُ ضاحكًا، فلمَّا لم يُسمع ذلك في فصيح الكلام دلَّ على بطلان ما ذهبا إليه. وقد يجاب عن ذلك بأنهما لَمَّا خَرجا عن أصلهما: إمَّا بكونهما صارا اسمين محكيين، أو صارا خلفًا من موصوف لم يُنطق بموصوفهما ــ التُزم فيهما طريقة واحدة في باب المبتدأ والخبر. فلم يُتصرَّف فيهما بالنواسخ لذلك، كما التُزم في بعض المبتدآت الرفع بالابتداء، فلم يتصرَّف فيه بدخول النواسخ عليه، نحو «ايْمُن» في القسم، ونولُك أن تفعل. وقال صاحب البسيط فيه: «القائلون بأنَّ نِعمَ وبئسَ اسمان فما بعدهما مما هو فاعل عندنا ينبغي أن يكون تابعًا عندهم لنِعمَ إمّا بدلاً أو عطفًا، ونِعمَ اسم يراد به

الممدوح، فكأنك قلت: الممدوحُ الرجلُ زيدٌ، وهو مشتقٌ لتضمُنه معنى المدح، وأصله أن يكون بالحرف، فكأنه تضمَّنه» انتهى. وقوله «ينبغي» يدلٌّ على أنه لم يقف على النقل في إعراب نعمَ الرجلُ زيدٌ على قولِ مَن قال بأن نِعمَ وبئسَ اسمان، والنقل عنهم في إعراب ذلك ما نقله ابن عصفور. وقد رُدَّ مذهب الكسائي بأنه إمَّا أن يكون اسمًا لممدوح معلوم أو لممدوح منكور، فالأول مقصور على السماع، لا يقاس عليه، نحو قولهم: شابَ قَرْناها، فإنه سُمِّي بذلك مِن فَوره، ولا يمكن أن يُدَّعى أنه لمعروف في الناس كتَأَبَّطَ شَرَّا، ولا لمنكور؛ إذ المعنى ليس عليه. وقوله (لا يَتَصرَّفان للزُومهما إنشاءَ المدح والذمّ على سبيل المبالغة) ووجه امتناع تصرُّفهما أنَّ نِعمَ لَزِمَت المدح، وبِئسَ لزمت الذمّ، فلم تخرجا عن المدح والذمّ، وقد كانا قبل أن يُرَكَّبا هذا التركيب يُستَعمَلان في غير المدح والذمّ؛ /لأنَّ نِعمَ منقولة مِن قولك نَعِمَ الرجلُ: إذا أصابَ نعمةً، وبئسَ منقولة مِن بَئِسَ: إذا أصاب بؤسًا. وقال العبديّ: هذان الفعلان قد خالفا سائر الأفعال الموضوعة للمدح والذمّ؛ لأنَّ كل فعل استعملته لجهة من المدح كان مقصورًا عليها لا يتعدى إلى غيرها، وكذلك الذمّ، نحو: كَرُمَ الرجلُ، إذا وصفتَ جوده، ولَؤمَ الرجل، إذا وصفتَ بخله، وسَخُفَ الرجل، إذا وصفتَ بذاء لسانه، وشَعُرَ إذا وصفتَ ما يختصُّ به النظم من بيانه، وليس كذلك نِعمَ؛ لأنَّ صفة كل مدح تدخل تحتها، وبِئسَ كل صفة ذم تدخل تحتها، ولذلك استُعمل معها الاسم الشائع. والمضمر هنا بمْنزلة الأجناس التي فيها الألف واللام، ولهذا فُسَّر بالنكرة.

وقال بعض أصحابنا: الفعل القاصر منه لزم معنًى من المعاني، وسُلبت عنه دلالته على الزمان بحسب صيغته، فامتنع التصرف فيه، وعلى المصدر، فلا ينصبهما، كأفعال المدح والذمّ. ومنه ما بقي على أصله، كغيرها من الأفعال. وإنما سُلبت ذلك لأنها لزمت المدح والذمّ، وهما لا يكونان إلا بما ثَبت واستمرّ، ولا يُمدح بمعدوم، فلزم الاستمرار، فدلّ على وقوع مستمرّ، ولذلك لا يقال: نِعمَ الرجلُ أمس أو غدًا أو الآن، وقد يُقطع استمرارها بـ (كان)، تقول: لقد كان نِعمَ الرجلُ، ويدلُ على الصيرورة إلى ذلك بـ (صار)، فتقول: لقد صار نِعمَ الرجلُ. وقال ابن أبي الربيع: «لم يتصرفا لنقلهما عما وُضعا له من الدلالة على الماضي؛ ألا ترى أنك إذا قلت: زيدُ نِعمَ رجلاً، أو بِئسَ رجلاً ــ فالمعنى أنه في حال مدح أو ذمّ، وإذا أردتَ الماضي أدخلتَ كان، فتقول: كان زيدُ نِعمَ رجلاً، وإذا أردتَ المستقبل قلتَ: سيكون زيدُ نِعمَ رجلاً» انتهى. ويجوز أيضًا: سيكون نِعمَ رجلاً زيدُ. وقوله إنشاءَ المدح والذمّ أي أنَّ نِعمَ لإنشاء المدح، وبئسَ لإنشاء الذمّ. وقد يُسند نِعمَ إلى مَن يراد تقديمه في أمرٍ ونفوذُه فيه وإن كان ذمّا، وبئسَ حيث يراد التأخر وعدمُ النفوذ وإن كان مدحًا، قال الحطيئة: فَنِعْمَ الشَّيخُ أنتَ لدى الَمخازي ... وبِئْسَ الشَّيخُ أنتَ لَدى الَمعالي وقوله على سبيل المبالغة ولذلك جاء في صفة الله تعالى والأنبياء. وربما تُوُهَّمَ أنَّ ذلك ليس على سبيل المبالغة في المدح والذم، روي أنَّ شُرِيك بن عبد

الله النَّخعي القاضي ذكر علي بن أبي طالب ـــ كرَّم الله وجهه ـــ فقال جليس له: نِعمَ الرجلُ عليُّ. فغضب، وقال: أَلعَليَّ تقول: نِعمّ الرجلُ؟ فأمسك القائل عن شريك حتى سكن غضبه، ثم قال له: يا أبا عبد الله! ألم يقل الله تعالى (ولقد نادانا نوح فلنعم المجيبون)، (فقدرنا فنعم القدرون)، (نعم العبد إنه أواب)؟ قال شريك: بلى. فقال: ألا ترضى لعليٍّ ما رضيه الله لنفسه ولأنبيائه؟ فنَّبهه على موضع غلطه. وقوله (وأصلهما فَعِلَ، وقد يردان كذلك، أوبسكون العين وفتح الفاء، أو كسرها، أو بكسرهما) قال المنصف في الشرح: «وفيهما أربع لغات: نَعِمَ وبَئسَ، وهو الأصل، /ونَعْمَ وبَاسَ بالتخفيف، ونِعِمَ وبِئِسَ بالإتباع، ونِعْمَ وبِئْسَ بالتخفيف بعد الإتباع، وهذه اللغة أقعد من الأصل وأكثر في الاستعمال. وحكى أبو علي: بَيْسَ، بياء ساكنة بعد فتحة، وهو غريب» انتهى. وأصل بَيْسَ: بَاسَ، أبدلت من الهمزة ياء على غير قياس.

وهذه الأوجه التي ذكروها جائزة فيهما وهما غير متصرفين كانت جائزةً فيهما وهما متصرفان. وتقدَّم قول من قال في نِعْمَ: نعيم، وأنه على سبيل الشذوذ، فلا يجعل ذلك لغةً. وظاهر قوله وقد يَردانِ كذلك إلى آخره أنه ورد كذلك من لسان العرب مسموعًا ذلك فيهما، والذي يظهر أنَّ بعض تلك الأوجه هو بالقياس، فأمَّا نِعْمَ فسُمع فيها الأصل، قال: فَفِداءٌ لَبِنِي قَيسٍ على ... ما أَصابَ الناسَ مِنْ سُرِّ وَضُرْ خالَتِي والنَّفسُ قِدْمًا إنَّهم ... نَعِمَ السَّاعُونَ في القومِ الشُّطُرْ وأمَّا نِعِمَ بالإتباع فقال تعالى {إن الله نعما يعظكم به}، و {إن تبدوا الصدقت فنعما هى}. وأمَّا نِعْمَ بالسكون بعد الإتباع فهي الكثيرة الفاشية، ووجه فشُوها أنَّ التغيير يأنس بالتغيير، وأنّ في الإتباع ثقلاً بتوالي كسرتين. وأمَّا نَعْمَ بفتح النون وسكون العين فلم يذكروا شاهدًا عليه من السماع. وأمَّا بِئْسَ فقال بعض أصحابنا: إنه لم يسمع فيها إلا لغتان: إحداهما بِئْسَ مخففة عن الإتباع، وبَيسَ مخففة عن الأصل، فدلَّ هذا على أنَّ بِئِسَ بكسر الباء والهمزة، وبَاسَ بفتح الباء وسكون الهمزة، غير مسموع، وأنه إنما قيل بالقياس.

وما حكاه المصنف أنَّ أبا علي حكى بَيْسَ ـــ وهو غريب ـــ قد حكاه الأخفش. ووجه ذلك أنَّ أصله بَئِس، فخُففت الهمزة بأن جُعلت بين الهمزة والياء، ثم سكنت بعد التسهيل، وأخلصت ياءً على حد قولهم في يومئذ: يوميذ. وفي كتاب أبي الفضل الصفار: «وأجاز السيرافيُّ في بِئْسَ: بِئِسَ وبِئسَ وبَأسَ، والمسموع إنما هو بِئْسَ، بالهمز وتركه، وحكى الأخفش: بَيْسَ» انتهى. قال بعض أصحابنا: الأفصح نِعْمَ، وهي لغة القرآن، ثم نِعِمَ، وعليه {فِنعِمَّا هِيَ}، ثم نَعِمَ، وهي الأصلية، ثم نَعْمَ، وهي في الرتبة الرابعة. وقوله (وكذا) إلى (أو اسمًا) مثاله شَهِدَ وسَئِمَ ونَعِمَ وسَخِرَ ووَغِرَ، ووَحِرَ، ووَحِلٌ وفَخِدٌ وسَهِكٌ ووَغِرٌ وفَئِرٌ ووَغِلٌ (¬10) وزَعِرٌ (¬11)، وسواء أكان الاسم اسمًا أو صفة، فكل هذه يجوز فيها ما ذكر المصنف. وقد أطلق المصنف وغيره هذا، وينبغي أن يقيد ذلك بشرط ألاَّ يكون مما شذَّت العرب في فكه، نحو: لَحِحَتْ عينُه (¬12)، أو اتَّصل بآخر الفعل ما يُسَكَّن له، نحو شَهِدتُ، أو كان اسمَ فاعلٍ من فَعِلَ معتلَّ اللام، نحو: ضِحٍ، من قولهم: ضَحِيَ

الثوبُ ضَحًى فهو ضَحٍ إذا اتَّسخ، وسَخًى فهو سَخٍ أيضًا إذا اتَّسخ، وسَخِيَ البعيرُ: ظَلَعَ مِن وُثوبه بالحِمل الثقيل، فتعترضه الريح بين الجلد والكتف، وهو بعير سَخٍ، فإنَّ هذه لا يجوز تسكين عينها. وأنشدوا: / لو شَهْدَ عادًا في زَمانِ عادِ ... لابْتَزَّها مَبارِكَ الجِلادِ وقال آخر: إذا غابَ عَنَّا غابَ عَنَّا رَبيعُنا ... وانْ شِهْدَ أجدى خَيرُهُ ونَوافِلُهْ وقوله (وقد تُجعَل العين الحلقيَّة متُبَعة الفاء في فَعيِل، وتابِعتَها في فَعْل) مثال المسألة الأولى شَهيد وضَئيل وبَعير وصَغير ونَحيف وسَخيف وبَخيل، وسواء أكان اسمًا أم صفة، ومؤنثًا بالتاء كبهيمة أو غير مؤنث، وسواء أكانت الصفة بمعنى فاعِلٍ أو بمعنى مفعول، نحو رَئيّ من الجن، فيجوز في هذه كلها إتباع فاء الكلمة في الحركة لحركة العين، وهي لغة تميم ومثال المسألة الثانية فَحْم وقَعْر ودَهْر ونَخْل وكَأس ووَغْد. وهذه المسألة فيها خلاف: ذهب البصريون إلي أنَّ هذا النوع مقصور على السماع؛ لأنَّ الوارد من ذلك هو مما جاء فيه لغتان: الفتح والسكون، فليس الأصل السكون، ثم عَرض له الفتح لأجل حرف الحلق، وليس أصله الفتح، ثم سُكَّن طلبًا للتخفيف.

وذهب الكوفيون إلي أنَّ بعضه فيه اللغتان، وبعضه أصله السكون، ثم فُتح لأنَّ الفتحة من الألف، وهو من حروف الحلق، فكان في جعلها على العين ـــ والعينُ حلقية مسبوقة بفتحة ــــ مشاكلةُ ظاهرة ومناسبات متجاورة، قاله المصنف في الشرح. وقوله (وقد يُتْبَعُ الثاني الأول في مثل نَحَو ومَحَمومٍ) قال المصنف في الشرح: «واختار ابن جني مذهب الكوفيين» ــ يعني في نحو فَحْم ــ قال: «مستدلاَّ بقول بعض العرب في نَحْو: نَحَو، وفي مَحْمُوم: مَحَمُوم، فقال: لو لم تكن الفتحة عارضة لزم انقلاب الواو ألفًا، لكنها فتحة في محل سكون، فعومل ما جاورها بما كان يعامل مع السكون، ولم يُعتدّ بها. وكذا فتحة مَحَموم، لو لم تكن عارضة لزم ثبوت مَفَعُول أصلاً، ولا سبيل إلى ذلك، لكن فتحة الحاء منه في محل سكون، فأُمن بذلك عدم النظير، وكان هذا التقدير أحسن تقدير» انتهى. وهذا في العُروض شبيه جَيْئَلَ وتَوْءمٍ ويَسَعُ ويَضَعُ وبُيوت إذا قلت: جَيَلُ وتَوَمٌ، فلم تقلب الياء والواو ألفًا لتحركها وانفتاح ما قبلها، ولم تقل يَوْسَعُ ويَوْضَعُ كَيوْجَلُ لعُروض هذه الفتحة؛ إذ الأصل يَوْسِعُ ويَوْضِعُ، ولم تَعتدّ بكسرة بِيُوت فاحتملتها لعُروضها، ولم تحتمل في فِعُل المفرد.

وقوله وقد يقال في بِئْسَ: بَيْسَ تقدَّم نقل ذلك عن أبي عليٍّ في كلام المصنف في الشرح، ونقلناه نحن عن الأخفش، وتقدَّم توجيهه. وقال المصنف في الشرح: «الوجه فيه أنَّ أصل بَيْسَ: بئْسَ، فخفف: بِيسَ، ثم فُتحت الباء التفاتًا إلى الأصل، وتُرك ما نشأ عن الكسرة؛ لأنَّ استعمالها أكثر، فكانت جديرةً بأن تُنوى مع رجوع الفتحة لشبهها بالعارضة في قلة الاستعمال» انتهى. وهو توجيه مخالف لما ذكرناه نحن في توجيه ذلك. -[ص: فاعلُ نِعْمَ وبِئْسِ في الغالب ظاهر معروف بالألف واللام، أو مضافُ الى المعرَّف بهما /مباشرًا أو بواسطة، وقد يقوم مقام ذي الألف واللام «ما» معرفًة تامةً، وفاقًا لسيبويه والكسائي، لا موصولةً، خلافًا للفراء والفارسيّ. وليست بنكرة ممّيزة، خلافًا للزمخشريّ والفارسيّ في أحد قوليه. ولا يؤكد فاعلهما توكيدًا معنويَّا، وقد يُوصَف، خلافًا لابن السّرّاج والفارسيّ، وقد ينكرّ مفردًا أو مضافًا.]- ش: تقدَّم القول في نِعمَ الرجلُ وبِئسَ الرجلُ في ذكر الخلاف، وكيف يكون إعرابهما على مذهب من ادَّعى فيهما الاسمية. وأمَّا القائلون ببقائهما على الفعلية فالأكثرون على أنَّ ما بعدهما مرتفع بهما على أصله من الفاعلية. وذهب ابن الطَّراوة إلى أنه مركب بمْنزلة حبَّذا للزومه طريقةً واحدة وتغيُّر الفعل عن أصله، وذلك يدلُّ على التركيب، فيكون عنده على مذهبه في تغليب الاسم في باب حبَّذا، فيكون بمعنى الممدوح، فَيقرُب من مذهب الكوفيين. ورُدَّ عليه بأنهم لو رَكَّبوا لَبَنَوُا الآخر علي الفتح كخمسةَ عشرَ، ولأنهم لم يلزموا به طريقةً واحدةً؛ ألا تراه يكون بالمضاف وبـ «من» و «ما» وبالنكرة على

مذهب من أجاز ذلك، فقد تصرَّف، ولم يُسمع مثله في حبَّذا، وبأنَّ التاء تلحق لتأنيث الفاعل، وكل ذلك لا يدلُّ على التركيب. وقوله في الغالب لأنه يجيء على خلاف ما ذكر مما سيذكر إن شاء الله. ومثالُ ما عُرِّف بأل {نعم المولي ونعم النصير}، {ولبئس المهاد} ومثال ما أضيف إلى ذي أل مباشرًا {ولنعم دار المتقين}، {فبئس مثوى المتكبرين}. ومثال ذلك بواسطة قول الشاعر: فإنْ تَكُ فَقْعَسٌ بانَتْ وبِنَّا ... فَنِعْمَ ذَوُو مُجامَلةِ الَخليلِ وقول الآخر: فَنِعْمَ ابنُ أُختِ القومِ غيرَ مُكَذَّبٍ ... زُهَيرٌ حُسامٌ مُفْرَدٌ مِن حَمائلِ ولم يتعرض المصنف لـ «أل» هذه، وفيها خلاف: ذهب الجمهور إلى أنها جنسية، واختلف هؤلاء: فقال قوم: هي جنسية حقيقية، فإذا قلت: نِعمَ الرجلُ زيدٌ، فالرجل عامّ، والجنس كله هو الممدوح، وزيد مندرج تحت الجنس لأنه فرد من أفراده، فأل فيه للجنس. واستدل على أنها للجنس بوجهين:

أحدهما: التزام أل في فاعلهما أو فيما أضيف إليه فاعلهما، ولو لم تكن للجنس لكان فاعلهما كل اسم، والمفرد المعروف بأل تكثير إرادة الجنس به، كما قالوا: أهلكَ الناس الدينارُ الصُّفْرُ والدرهمُ البيضُ، وقال تعالى {والعصر إن الإنسان لفي خسر إلا الذين آمنوا}، فاستثني من (الإنسان)، وهو مفرد، فلولا أنه أريد به الجنس لما حسُن الاستثناء، وقال الشاعر: بِهم هَدى اللهُ جميعَ الإنسانْ ... مِنَ الضلال، وهُم كالعُمْيانْ وقال آخر: إنْ تَبْخَلِي ــــ يا جُمْلُ ـــــ أو تَعْتَلِّي ... أو تُصْبِحي في الظاعِنِ المُوَلِّي /وكذلك المضاف إلى ما عُرِّف بهما، كقوله: (مَولى القومِ منهم)؛ ألا ترى أنه يريد بذلك جميع الموالي. والوجه الثاني: قول العرب في فصيح كلامها: نعمَ المرأةُ هندٌ، وبئسَ المرأةُ جُملٌ، فلا تلحقهما تاءَ التأنيث، ولا يقولون «قامَ فلانةُ» في فصيح الكلام، فدلَّ ذلك على أنَّ أل للجنس، فمن ذَكَّرَ فلأنَّ الجنس مذكر، ومن أَّنَّثَ فَرَعْيًا للَّفظ، كقولهم: قال النساء، وقالت النساء، أحدهما على الجمع، والثاني على الجماعة، كذلك هنا على الجنس واللفظ.

واختلف الذاهبون إلى أنَّ أل للجنس حقيقة في سبب كونه جنسًا وتوجيه المدح فيه للشخص مع أنه واقع على الجنس: فقيل: لَمَّا كان الغرض عموم المدح واستغراقه في الثبوت للممدوح المخصوص، وكان الأبلغ في إثبات الشيء أن يُجعل للنوع الذي الممدوح منهم، حتى لا يكون طارئًا عليه، ويحسب أنه يزول ويرتفع ـــ عدلوا إلى مدح الجنس، فكأنك قلت: زيدٌ نِعمَ جنسُه وقوله أي: ثَبَتَ لهم الوصف الجميل والصلاح، وما ثَبَتَ للجنس ثَبَتَ لأفراده، فَتثُبت للممدوح تلك الفضيلة، ولا تكون إلا بالاستغراق في واحد واحد، وهذا تأويل س، ولذلك قال: «لأنك تريد أن تجعله من أُمَّة كلُّهم صالحٌ»، ولذلك شبهه بقولك: زيدُ فارهُ العبد، تريد أنَّ في ملكه العبد الفارهَ لا عبدًا بعينه. وقد رُدَّ هذا بوجهين: أحدهما: أنك إذا مدحت الجنس جعلت المقصود بالمدح تبعًا لهم، فيصير المقصود غير مقصود، ولأنَّ ما ثَبت للشيء على جهة الشَّركة فيه لا يكون مدحًا يؤثر ميلاً إلى الممدوح بخصوصيته، والمراد بالمدح ذلك. والثاني من وجهي الرد: أنه يؤدي إلى التكاذب في مدح الجنس وذمه إذا قلت: نِعمَ الرجلُ زيدٌ، وبئسَ الرجلُ عمرٌو، ولا يكون الشيء ممدوحًا مذمومًا، وقال تعالى {نِعْمَ الَعَبَدُ} يعني أيوب، وليس كل العبد ممدوحا. وقيل: السبب في ذلك أنه لَما كان الفعل عامَّا في المدح جعلوا فاعله عامَّا ليطابق الفعل؛ إذ لا يكون الفعل عامَّا والفاعل خاصَّا.

وقيل: السبب في ذلك أنهم أرادوا الإبلاغ في المدح حتى تعدَّى إلى جنسه بسببه؛ كما يقال: شَقِيَ بابنه، وعَظُمَ بأخيه، إذا كان ذلك سبب تعظيمه لكونه بحيث يعظُم غيره بسبه، فمعناه: زيدٌ يُمدَح جنسه لأجله، فُترك هذا للعلم به، كما تقول لمن لبس ثيابًا: أنتَ الآن حسنٌ، تريد: بسبب ثيابك. وقد رُدَّ هذا بأنه لو كان المعنى على هذا لَلُفِظ بالسبب في بعض المواضع، ولم يُلفَظ به، فدلّ على فساد هذا القول. وقال قوم: هي جنسية مجازًا، فإذا قلت «زيدٌ نِعمَ الرجلُ» فزيدُ جعلتَه جميع الجنس مبالغةً، ولم تقصد غير مدح زيد بذلك، وكأنك قلت: نِعمَ زيدٌ الذي هو جنس الرجال، كقولهم: أكلتُ شاةً كلَّ شاة، جُعلت لَمِّا كانت هذه من الوفور والسَّمن كأنها كلُّ الشَّياة، وكقولهم: كُلَّ الصَّيدِ في جَوفِ الفَرا، وهو حمار الوحش، جُعل لجلالته كأنه بمنْزلة جميع الصَّيد. ووجه التثنية على هذا أنَّ /كل واحد من الشخصين كأنه على حدته جنس، فاجتمع جنسان، فثنِّيا، فأنك قلت: الزيدانِ نِعمَ الرجلان اللذان كلُّ واحد منهما جنس. وذهب بعض النحويين إلى أنَّ أل في نِعمَ الرجلُ زيدٌ، وبئسَ الرجلُ عمرٌو، عهدية. واختلف هؤلاء على مذهبين: أحدهما: أنه معهود ذهبي لا خارجي، كما نذكره في تعريف أل؛ إذ من أنواعها التعريف الذهني، فتشير إلى ما في الأذهان من تصور رجل، كما تقول:

اشتريتُ اللحمَ، ولا تريد الجنس ولا معهودًا تقدَّم، فكذلك هذا. وصحَّ أن يكون خبرًا على ما نذكره بعد إن شاء الله. المذهب الثاني: أنها للعهد في الشخص الممدوح، فكأنك قلت: زيدٌ نعمَ هو. وإلى هذا ذهب الأستاذ أبو إسحاق بن مُلكون من أصحابنا، وأبو منصور الجواليقي اللغوي من أهل بغداد. واستُدلَّ لهذا المذهب بتثنية المرفوع بهما وجمعه، فلو كانت أل للجنس أو للعهد الذهني لا الخارجي لم تجز تثنيته ولا جمعه؛ لأنها إذا كانت للجنس استَغرقت جميع أفراده، ولأنها إذا كانت للعهد الذهني كانت لمعقول الماهية، وذلك شيء مفرد، فلا يصحُّ فيها إذ ذاك لا تثنية ولا جمع. وهذا المذهب لا يتأتى إلا على مذهب الأخفش في كون الرابط يكون تكرار المبتدأ بغير لفظه، كما أجاز: زيدٌ قام أبو عمرو، إذا كان أبو عمرو كنية زيد. وقد أبطلوا مذهب الأخفش في كون الربط يكون بهذا، وما ابتنى على الباطل. وأمَّا على مذهب س في أنَّ أل للعموم فلا ينبغي أن تصح التثنية ولا الجمع. وأمَّا من جعله للجنس مجازًا فيسوغ له ذلك؛ لأنك تجعل كل واحد من المثَّنى والمجموع كأنه جميع الجنس مجازًا. وقد نُوزع أهل هذا المذهب في كون الجنس لا يثنَّى، وزعموا أنه قد جاء مثنَّى في قول الشاعر: فانَّ النارَ بالعُودَينِ ... تُذْكَى ... وانَّ الَحربَ أَوَّلُها ... الكَلاُم ألا ترى أنه لا عهد في قولك: فإنَّ النارَ بالعُودَين.

وقال بعض أصحابنا: «فإن قيل: كيف طريق الاستقراء في هذا، ولم يسمع النحوي سوى نِعمَ واسمٍ بعدها معرَّف بالألف واللام، والاسمُ المعرَّف بالألف واللام مشترك بين الجنس والعهد، فما الذي حمله على أن يقول: لا تكون إلا للجنس؟ فالجواب: أن ذكر حذف التاء في (نعمَ المرأةُ هندٌ) في الفصيح والتزام أل في فاعلها، ولا يُلتزم في اسمٍ من جهة الإخبار عنه إلا لأحد أمرين: إما لحصرِ الصنف، وإما لعهدٍ في شخص، وكلُّ ما تكون فيه أل للعهد يَسوغ زوالها منه وتصريفه على غير معنى العهد؛ إذ معنى العهد عارض في الكلام وراجع إلى وضعٍ باختيار من المتكلم، وأل الُمنبئةبالحصر لا يمكن زوالها؛ لأنها مبيِّنة لحقيقة الاسم، تنَزل من الكلام منْزلة بنية الجمع؛ ألا ترى أنه لا سبيل لك إلى هدم بنية الجمع من الإخبار؛ لأنه لا تؤدي بنية المفرد معناه، وأل العهدية ليس لها من جهة حقيقة الاسم في نفسه /زيادة سوى تخصيصه، والتخصيصُ أمرٌ زائد عليه، ووجدنا العرب قد التزمت أل هنا، فعرفنا أنها لم تلتزمها إلا لكونها تفيد في حقيقة الاسم ما لا يمكن تحصيله دونهما من جهة ضرورة الإخبار. فإن قيل: هاتان الدلالتان اللتان ذكرنا غايُتهما أن تؤثرا ظَّنا في الموضع لا قطعًا، وربما يُعترض فيهما، فيقال: قولهم: نِعْمَتِ الرأةُ، ونِعمَ المرأةُ في فصيح الكلام ــ إنما سقطت التاء لأنَّ الفعل غير متصرَّف فيه كما تُصُرَّفَ في سائر الأفعال، ولا يلزم عليه اطَّراد ذلك في ليس، وإن كانت لم تتصرف؛ لأنه ما ثبتَ فيه حكم أصل قوي لا يُسأل عنه لأي شيء ثبت فيه، إنما يُسأل عنه إذا لم يثبت فيه، فهذه الدلالة الواحدة معترضة. والدلالة الثانية كذلك؛ لأنَّ مجرد التزام أل لا

يدل على الجنس؛ إذ يمكن أن تكون للعهد، وتكون أولا موضوعة عليه، فإذا كان الكلام موضوعًا عليه كان المعنى لا يحصل دونه، فلا سبيل إلى إزالتها؛ لأنها أن أزيلت لم يبق ما يدل على ما وُضع الكلام عليه؛ ألا ترى أنَّ هذه الجملة ـــ أعني جملة المدح والذمَّ ـــ كيف التُزم فيها أن تكون خبرًا لمبتدأ، هو المخصوص بالمدح أو الذمّ إن تقدم، أو مفسَّرًا فاعلها به إن تأخر، فلا بدَّ من ذكره على كل حال، فتلك إحالة عليه، ولا مانع من هذا التصور. فإن قيل: قد ذكرت الدلالتين ومعارضتهما، وأوجبتَ عند ذاك أن تكون أل عهدية، أو حَّملت الموضع ذلك، فهلاً بسطت القول في معنى المحتملين؛ إذ هما متباينان، وتنسب ذلك لمعنى المدح أو الذمّ، فربما يلوح عند ذلك أحد المحتملين، فُيصار إليه، ويُعوَّل عليه، أو يتكافأ الامران، فتكون، المسألة مسألة خلاف. قلت: أمَّا المعنى المؤدَّى بأل الجنسية منسوبًا لمدح أو ذمّ في حق المخوص بأحداهما فهو بطريق سراية، ولهم في ذلك منْزعان: أحدهما: أنك إذا قلت زيدٌ نعمَ الرجلُ كنت مادحًا لزيد بإسنادك بنية المدح لجنسه، وإذا كنت قد مدحت جنسه ضمن ذلك مدحه، وهذا هو الذي جرى عليه أكثرهم، والجنس مع هذا مأخوذ على الحقيقة. والمْنزع الآخر: هو أن تجعل الممدوح هو جميع الجنس مبالغة، فإذا قلت: زيدٌ نعمَ الرجلُ، فكأنك قلت: زيدُ نِعمَ زيدُ، ولكن وضعتَ اسم الجنس موضعه مضمنًا تشبيه زيد بجنسه، والجنسية مستفادة على هذا. وجعل صاحب هذا المْنزع هذا المعنى من باب:

وليسَ لِلَّهِ بِمُسْتَنْكَرٍ ... أنْ يجمَعَ العالَمَ في واحدِ ومثل المعنى في قولهم «أكلتُ شاةً كلَّ شاةٍ» إذ جعلت الشاة المذكورة كأنها جميع الشياه مبالغةً. قال: ومثل قولهم: «كلُّ الصيَّد في جوف الفَرَا». قلت: هذا لا يُنكر في المعاني، وهو من قبيل المبالغة وتشبيه الأقل بالأكثر، وإقامة الجزء مقام الكل عند وصف فيه مستحسن من باب التجوز، ولكن لم ترد العرب هذا المعنى إلا /بألفاظ تنصّ عليه، وموضعنا هذا ليس فيه من التنصيص على هذا المعنى قليلُ ولا كثيرٌ، فهو حال لا يعوَّل عليه. واعلم أنَّ النحوي ليس في استطاعته فهم هذا من العربي إلا لو شرحه ونظره، وهذا لم يُنقل فعله عن العرب، فلا سبيل إليه إلا أن يكون المدح يسري إلى زيد من ذكر جنسه بعد صيغة المدح على المنْزع الأول. وأمَّا إذا أخذنا أل عهدية فتقول: زيدٌ نِعْمَ الرجلُ، أو نِعْمَ الرجلُ زيدٌ، وعنيت بالرجل زيدًا، وبزيد الرجل، كنت قد قرنت بنية المدح بالعبارة الداَّلة بمطابقة على الممدوح من غير تكلُّف. لكن بقي عليك أن يقال: ما فائدة ذكرك الرجل مع زيد إذ هو هو، هلاَّ قلت «نِعْمَ زيدٌ» إذا أردت مدحه، كما تقول: ما أحسنَ زيدًا! إذا أردت التعجب منه من غير زيادة شيء آخر؟ فنقول: قد كان ذلك لهم لو اختاروه، ولكن جرت طباعهم على أن يذكروا الممدوح أو المذموم بعبارتين، إحداهما ليس لها به اختصاص؛ لأنها صادقة على آحاد

جنسه، ثم يبينونها بالعبارة المختصة به ليكون أمداح له وأبين لحقيقته؛ إذ الاسم الدالُّ عليه مفردًا إذا اجتمع مع الاسم الذي يفهم بالجنس لم يبق إشكال على السامع. وهذا، وليناسب الإسهاب المألوف في المدح والترقي من الإبهام إلى الشهرة، وهو حسنُ. ومما يُسَنِّي هذا، بل يُنَزَّل منْزلة البرهان على أنَّ المقصود بالاسم المعروف بأل ذات المخصوص بالمدح والذم ــــ كونه يثنَّى بتثنيته، ويُجمع بجمعه، ويُفرد لإفراده، ولو كان عبارة عن الجنس ــــ كما زعموا ـــ لم يَسغ ذلك؛ ألا ترى أنَّ المستفيض: الزيدان نعمَ الرجلان، ونعمَ الرجلان الزيدان، والزيدون نعمَ الرجالُ، فقد وضح صحة هذا المعنى وسهولة المنْزع في اللفظ الدال عليه. نذكر ارتباط الجملة بالمبتدأ بعد هذا، إن شاء الله» انتهى كلامه، وهو ترجيح لمذهب من ذهب إلى أنَّ أل عهدية في الشخص خارجًا لا في الذهن. وقال أبوبكر خطّاب الماردي مؤلف كتاب «الترشيح في النحو»:)) كل شيء لا نظير له، ولا هو واحد من جنس يَشرَكه في اسم ـــ لا يجوز وقوع نعمَ وبئسَ عليه، لو قلت: نِعْمَت الشمسُ هذه، ونِعمَ القمر هذا ـــــ لم يجز من حيث جاز: نِعمَ الرجلُ، ولو قلت: نِعمَ القمرُ زيدٌ، ونِعمَت الشمسُ هندٌ، ــــ لجاز على التشبيه، ولو قلت: نِعمَ القمرُ ما يكون لأربعَ عشرةَ، ونِعمَت الشمسُ شمسُ السُّعود ــ جاز ذلك؛ لأنك أردت تفضل أحوالهما، كما تقول: هذه الشمس حارّة، وهذه الشمس باردة» انتهى. وهذا بناء على أنَّ أل جنسية، وشرط في الجنس أنه لا يكفي تصوره بل وجوده في الخارج في أشخاص.

وقوله وقد يقوم إلى قوله في أحد قوليه قال المصنف في الشرح «ما في نحو نِعمَ ما صَنَعتَ عند س والكسائي فاعلُ بمنْزلة ذي الألف واللام، وهي معرفة تامَّة، أي: غير مفتقرة إلى صلة. وهي عند الفراء 4 والفارسي فاعلة موصولة مكتفًى بها وبصلتها عن المخصوص. وأجاز الفراء أن تُرَكَّب نِعمَ وبئسَ مع ما تركيب حبَّ مع ذا، فيليهما مرفوع بهما، كقول العرب: بِئْسَما /تزويجُ ولا مهرَ. والصحيح جعلُ (ما) فاعلة ببئسَ، وكونهما خبر: تزويجُ ولا مهرَ، والتقدير: بئسَ الترويجُ تزويجُ مع انتفاء المهر. وجعل الزمخشري والفارسي ـــ في أحد قوليه ـــ ما نكرة مميزة، وسيأتي إبطال ذلك». وقال أيضًا (¬10) «ويَقَوِّي تعريف ما بعد نِعْمَ كثرةُ الاقتصار عليها في نحو: غَسَلتُه غَسلاً نِعِمَّا (¬11)، والنكرة التالية نِعمَ لا يُقتصر عليها إلا في نادر من القول، كقول الراجز (¬12):

تقولُ عِرْسِي وَهْيَ لِي في عَوْمَرَهْ ... بِئْسَ امْرأً، وإنَّنِي بئِسَ الَمرَهْ» انتهي. وليس بنادر كما قال، لقوله تعالى {بئس للظلمين بدلا}، فهذا كقوله: بئسَ امرأً. ولم يبيِّن المصنف ما موضع الجملة الفعلية بعد «ما» إذا كانت ما معرفةً تامَّة؛ ولا استوفى الخلاف في المسألة. وجماع القول فيها أنه إذا جاءت بعد نِعمَ وبئسَ «ما» فإمَّا أن يجيء بعدها اسم أوفعل: إن جاء بعدها اسم نحو: نِعِمَّا زيدٌ، وبئسَما عمرٌو، كانت تمييزًا نكرة غير موصوفة، وتكون نعمَ وبئسَ قد أُضمر فيها ما كانت «ما» تمييزًا له، والمرفوع بعدها هو المخصوص بالمدح أو الذمّ، والتقدير: بئسَ شيئًا عمرٌو، ونِعمَ شيئًا زيدٌ. وإن جاء بعدها فعلُ، نحو قوله تعالى {بئسما اشتروا به أنفسهم} كانت «ما» أيضًا تمييزًا نكرة موصوفة بالفعل الذي بعدها، وفيها ضمير مفسَّر بـ «ما»، والمخصصوص بعدها مذكور أو محذوف لدلالة المعنى عليه. هذا مذهب البصريين في نقل بعض أصحابنا. وقد قال س في قولهم «غَسَلتُه غَسلاً نِعِمَّا»: «أي: نِعْمَ الغَسلُ، وكقولهم: إني ممَّا أنْ أَصنعَ، أي: مِن الأمرِ أنْ أصنعَ»، فحَمل ما على أن تكون معرفةً كالموصول، ويكون قوله تعالى {فنعما هىَ} من هذا، أي: فِنعمَ الشيءُ هي، أي: بذلك الوصف من الإبداء. ويُروى جواز ذلك عن الكسائي في قوله «بِئسَما

تَزويجُ ولا مَهرَ»، أي: بئسَ التزويجُ تزويجُ عَرِيَ عن المهر، كما تقول: نِعمَ الرجلُ زيدُ. وكذلك: ساءَ ما صَنعتَ، أي: ساءَ الصنعُ صنعُك. وكذلك قدَّره المبرد في: دَقَقْتُه دَقَّا نِعِمَّا، أي: نِعْمَ الدَّقُّ. وكونها معرفةً تامَّة هو مذهب ابن السراج والفارسي وأحد قولي الفراء. وإذا كان النقل عن س والمبرد 1 وابن السراج والفارسي أنهما معرفة تامَّة فلا ينبغي أن يُطلق أنَّ مذهب البصريين أنها تكون نكرة منصوبة؛ إذ قول هؤلاء ــ وهم جِلَّة البصريين ـــ يخالف هذا القول. وقد أجاز الجرميُّ في نِعمَ ما صنعتَ أن تكون ما اسمًا تامَّا، كأنك قلت: نِعمَ الشيءُ صنعتَ، وأن يكون نكرة منصوبة، أي: نِعمَ شيئًا صنعتَه. قال صاحب «البسيط» فيه: «ورَدَّه بعض البصريين؛ لأنَّ ما لا تكون معرفة إلا موصولةً، وحملوا هذه على أنها نكرة منصوبة. وجوزه الكسائي أيضًا. والمعنى: ساءَ شيئًا صنعُك، وبئس شيئًا تزويجُ ولا مهرَ، كما تقول: نِعمَ رجلاً زيدٌ. وهذا أيضًا ضعيف؛ لأنها لا تكون نكرةً في كلامهم غير موصوفة، وإنما يجوز تأويلها بذلك في قوله تعالى {بئسما اشتروا به أنفسهم}، وكقوله تعالى {قل بئسما يأمركم به إيمنكم} انتهى. وقد أجاز /هذين الوجهين في «ما» ابن كيسان، أجاز أن تكون اسمًا تامًا مرفوعًا، وأجاز أن يكون منصوبًا، فيجرى مجرى المعرفة مرة ومجرى النكرة مرةً.

وقد ضُعَّفَ النصبُ على التمييز بأنَّ التمييز لا بُدَّ أن يكون قابلاً للألف واللام؛ وهذا معلوم بالاستقراء، وبأن التمييز إنما يجاء به لتبيين جنس المميَّز إذا أبهم، و «ما» في غاية الإبهام، فلا تكون تمييزًا، وقد قال س: «فأمَّا ما فإنها مُبهَمة تقع على كل شيء» وقد نص أصحابنا على أنه لا يُميَّز بالأسماء المتوغلة في البناء ولا بالأسماء المتوغلة في الإبهام كشيء وموجود وشبههما، ولا اسمَ أدخلُ في البناء والإبهام من «ما»، فلا يجوز التمييز بها. وقد ردَّ أبو ذَرَّ مُصعب بن أبي بكر الُخشَنِيّ على أبي علي الفارسيّ تخريجه قوله تعالى {فنعما هي} على أن تكون «ما» تامَّة في موضع نصب على التمييز، وكان يقول: هي كالمضمر المجهول الذي في نِعمَ، لا يُدرى ما يُعنَى به، وكذلك ما، ولا يُفَسَّر الشيء بما هو مثله في الإبهام، وإنما ينبغي أن تكون «ما» فاعلة نِعمَ، أي: فنِعمَ الشيء هي. وهذا الذي قاله أبو ذَرَّ مخالف لقول ابن مُلكون، قال: «(ما) هنا أشدُّ إبهامًا من (شيء)، وموقعها هنا أحسن موقع؛ لأنَّ القصد في المدح والذم تعميم جنس الممدوح والمذموم، فكأنه هنا مدح كل شيء لأجل الذي ذكر، أو ذم كل شيء» انتهى. وذهب قوم إلى أنَّ ما مع نِعمَ وبئسَ كالشيء الواحد، لا موضع لها من الإعراب، قالوا: والاسم الواقع بعدها مرفوع بِنعمَ وبئسَ، ومَن قال: بَئسَت المرأةُ هندٌ لم يقل: بِئسَتْ ما هندٌ، ومَن أجاز: نِعمَت المنْزلُ مكةُ لم يلزمه أن يقول: نِعمَتْ ما جاريتُك.

فإذا جئت بعدَ «ما» بالفعل، نحو: نِعمَ ما صنعتَ ــ فـ «ما» محذوفة، والتقدير: نِعْمَ ما ما صَنعتَ، فـ «ما» الأولى مبهمة، والثانية يفسِّرها ما في صلتها، وكفَت إحداهما عن الأخرى. واختلفوا في المحذوفة: فقال الكسائي: المحذوفة هي الثانية. وقال الفراء: المحذوفة هي الأولى. ولا يَحسُن في الكلام «بئسَ صنعُك» حتى تقول: بئسَ الصنعُ صنعُك، وهذا كما تقول: أظنُّ أن تقوم، لايَحسُن: أظنُّ قيامَك، وإن كان بمعناه، حتى تقول: أظنُّ قيامَك سريعًا، أو نحوه مما تريد من المعنى. وإنما حسُن: نِعمَ ما صنعتَ، وأظنُّ أن تقوم، حين صار الكلام على قسمين، وكفى من الاسمين اللذين بعد الظنّ ونعمَ. قالوا: فإن قدَّرت (ما) تقدير (الذي)، و (الذي) لا يجوز أن يلي نِعمَ وبئسَ، وليس الآن قبله ما تعتمد نِعمَ عليه من المفسر، فهناك (ما) محذوفة مكتفًى منها بالذي وصلت بالفعل، وتقديرها لو جيء بها تقدير المنصوب. وإن جعلتَ ما في معنَى ما فيه أل اكتفيتَ بها من التي في معنى الذي، فصارت كقول العرب: نِعمَ الرجلُ عندك، ونِعمَ الرجلُ أكرمت. انتهى نقل هذا المذهب. وهذا الذي ذُكرأنه من كلام العرب فيه خلاف، ذكره ابن أصبغ، قال: «أجاز الكسائي: نِعمَ الرجلُ يقوم، ونِعمَ الرجلُ عندي، ومنعه أكثر النحويين» انتهى. /وقد جاء في الشعر ما يدل على جواز: نِعمَ الرجلُ يقوم، قال الأخطل: إلى خالدٍ، حتي أُنِخْنَ بخالدٍ ... فنِعْمَ الفَتى يُرجَى، ونِعْمَ المُؤَمَّلُ

وقال الآخر: لَبِئسَ المَرءُ قد مُلِئَ ارْتِياعًا ... ويَأبَى أنْ يُراعي ما يُراعَى التقدير: فَتًى يُرجَى، ومَرءُ قد مُلئ، حَذف المبتدأ، وأقام الصفة التي هي فعل مقامه، كما قال: وما الدهرُ إلا تارتانِ: فمِنهما ... أَمُوتُ، وأُخرى أَبَتغي العَيشَ أَكْدَحُ أي: فمنهما تارةٌ أَموت فيها. وهذا الذي روي عن الكسائي من حذف الموصوف هو مع المرفوع، ومَنع من ذلك مع المنصوب، فيقول: نِعمَ الرجلُ يقوم، ولا يجيز: نِعمَ رجلاً يقوم. ويعني أنه يُجيز الحذف بعد الاسم الظاهر المرفوع بِنعمَ، ولا يُجيز الحذف بعد الاسم المنصوب بعد نِعمَ. وعلَّة ذلك عنده بعد النكرة أنَّ الاسم فاعل بنِعمَ، والفاعلُ لا يجوز حذفه وإقامة الفعل مقامه، وأمَّا بعد المرفوع فإنه مبتدأ. وتلخص من هذه النقول أنّ في [ما في] مثل «بِئْسمَا تَزويجُ ولا مَهْرَ» ثلاثة أقوال: فاعل، أو تمييز، أو تركيب مع بئسَ، وتزويج فاعل. وفي مثل «نِعِمَّا صنعتَ» سبعة أقوال: أن تكون ما فاعلاً اسمًا معرفة تامَّا، والمخصوص محذوف، والفعل صفة له، والتقدير: نِعمَ الشيءُ شيءُ صنعتَ، وهذا مذهب المحققين من أصحاب س، يجعلون التقدير: نعمَ الشيءُ شيءُ صنعتَ. أو تكون منصوبة على

التمييز موصوفة بالفعل، والمخصوص محذوف. أو منصوبةً على التمييز، والفعل صفة لمخصوص محذوف، التقدير: نعمَ شيئًا شيءٌ صنعته. أو موصولةً، والفعل صلتها، والمخصوص محذوف. أو موصولةً، وهي المخصوص، و (ما) أخرى تمييز محذوف، التقدير: نِعمَ شيئًا الذي صنعته. أو تمييزًا، والمخصوص (ما) أخرى موصولة، والفعل صلة لها. أو مصدرية، وينسبك منها مصدر تقديرًا، وهو فاعل نِعمَ. وقوله ولا يؤكّد توكيدًا معنويَّا قال المصنف في الشرح: «لا يؤكَّد فاعل نِعمَ وبئسَ توكيدًا معنويَّا باتَّفاق؛ لأنَّ القصد به رفعُ توهُّم إرادة الخصوص بما ظاهرُه العموم، أو رفعُ توهُّم المجاز بما ظاهرُه الحقيقية، وفاعلُ نِعمَ وبئسَ في الغالب بخلاف ذلك؛ لأنه قائم مقام الجنس إن كان ذا جنس، أو مؤوَّل بالجامع لأكمل خصال المدح اللائقة، أو لأكمل خصال الذمّ، والتوكيد المعنوي منافٍ للقصدين، فاتُّفق على منعه» انتهى. ومَن ذهب إلى أنَّ أل عهدية وأنَّ الرجل هو نفس المخصوص فلا تجيء هذه العلة على مذهبه؛ بل يمكن أن يُجيز أن يؤكَّد توكيدًا معنويَّا؛ لأنه لا يراد به الجنس، بل يصير نظير: جاءني رجلُ فأكرمتُ الرجلَ نفسهَ. وقال المصنف في الشرح: «وأمَّا التوكيد اللفظي فلا يمتنع لك أن تقول: نِعمَ /الرجلُ الرجلُ زيدٌ» انتهى. وينبغي ألا يُقدمَ على جواز ذلك إلا بسماع من العرب؛ لأنَّ فاعل نِعمَ وبئسَ له أحكام مغايرة لكثير من أحكام فاعلِ غيرها من الأفعال.

وقوله وقد يُوصَف، خلافًا لابن السراج والفارسي أمَّا مَن منعَ وصفه فهو قول الجمهور، وأجازه قوم، وقال أبو عبد الله النُّميَري: لا يجوز وصف نِعمَ وبئسَ عند البصريين لما في ذلك من التخصيص الذي ينافي الشياع المقتضى منه عموم المدح والذم. ومما استُدِلَّ به على جواز النعت قول الشاعر: نِعْمَ الفَتَى المري أَنتَ إذا هُمُ ... حَضَرُوا لَدَى الحُجُراتِ نارَ المُوقِدِ ومَن مَنع ذلك تأوَّله على البدل، فالتقدير عنده: نِعْمَ الفَتى نِعْمَ المُرَّيُّ أنت. وتخصيص المصنف من التوابع التوكيد المعنوي والوصف بالذكر دليل على جواز العطف والبدل، وينبغي ألا يجوز منهما إلا ما جاز أن تباشره نعمَ وبئسَ. وقال صاحب «البسيط» فيه: «والاسم المرتفع بهما الأحسن فيه أن يكون جامدًا؛ لأن المراد بيان الجنس على قول الأكثرين، وهو بيان ُ لذات، ولأنَّ الوصف يُشعر بأنه هو الممدوح به، وبابُ نعمَ وبئسَ عامّ، لا يذكر فيه الممدوح به» انتهى. وينبغي ألا يُفصل بين نعمَ وبئسَ وفاعلهما بظرف ولا مجرور ولا غيرهما إلا بسماع من العرب؛ وقد قال ابن أبي الربيع: «ولا يجوز أن يُفصل بين نعمَ وفاعلها بشيء ولا بالظرف ولا بالمجرور، ولا تقول: نعمَ في الدار الرجلُ زيدٌ، وتقول: نِعمَ الرجلُ في الدار زيدٌ».

وقال في البسيط: «ويصحُّ الفصل بين الفعل والفاعل لتصرُّفه في رفعه الظاهر والمضمر وعدم التركيب» انتهى. فإن كان معمولاً للفاعل، نحو: نعمَ فيك الراغبُ زيدٌ ــ فمنعَ ذلك عامَّة النحويين، وأجازه الكسائي. ورُدَّ لأجل الفصل، ولأنَّ فيه تقدم معمول صلة أل عليها، وقد جاء في الشعر ما يدلُّ علي الجواز، قال رِفاعةُ الفَقعَسِيُّ: يبادرن ... الدِّيارَ ... يَزِفْنَ ... فيها ... وبِئْسَ ... مِنَ الَملِيحاتِ البَدِيلُ ووجدتُ في شعر العرب الفصل بين بئسَ ومرفوعها بـ «إذًا»، قال الشاعر: أَرُوحُ، ولم أُحْدِثْ لِلَيلَى زِيارةً ... لَبِئسَ إذًا راعي الَموَدَّة ... والوَصْلِ وقوله وقد يُنَكَّر مفردًا أو مضافًا المشهور أنه لا يجوز في فاعلهما إذا كان ظاهرًا إلا كونه ذا أل أو مضافًا إلى ما هما فيه، فلا يجوز: نعمَ رجلٌ زيدٌ، ولا: نعمَ ابنُ رجل زيدُ، ولا: بئسَ غلامُ سفرٍ زيدٌ، وهو مذهب س؛ لأنَّ فاعل نعمَ وبئسَ عنده لا يكون واقعًا إلا على الجنس، لو قلت: أهلكَ الناسَ شاةُ وبغيرُ، على حد: الشاةُ والبعيرُ ــــ لم يَحسن. وحكى الكسائي أنه يقال: له بعيرٌ كثيرٌ وشاةٌ كثيرٌ، وهناك رغيفٌ كثيرٌ ولَبُونٌ كثيرٌ، في ألفاظ غير هذا، /فعلى هذا يمكن أن يكون فاعل نعمَ وبئسَ نكرة،

ويراد به الجنس، وقد ورد ذلك قليلاً جدَّا، فمن ذلك في النثر قول الحارث بن عباد: «نعمَ قتيلُ أصلحَ الله به بين ابْنَي وائل»، وقد روي: «نعمَ القتيلُ قتيلاً أصلحَ الله به» وأمَّا في الشعر فقوله: أَتَحْسِبُنِي شُغِفتُ بَغَيرِ سَلْمَى ... وسَلْمَى بِي مُتَيَّمةٌ تَهيمُ وسَلمَى أَكمَلُ الثَّقَلَينِ حُسْنًا ... وفي أَثوابِها قَمَرٌ ورِيمُ نِيافُ القُرْطِ، غَرَّاءُ الثَّنايا ... ورِئْدٌ لِلنِّساءِ، ونِعْمَ نِيْمُ ونُقل عن الأخفش أن ناسًا من العرب يرفعون بهما النكرة المفردة، نحو: نعمَ خليلُ زيدٌ. فأمَّا رفعهما النكرة المفردة وما أضيف إلى نكرة فأجاز ذلك الكوفيون والأخفش وابن السراج، ومنعه عامة النحويين إلا في الضرورة، وتقدَّم رفعهما النكرة المفردة.

ومما جاء في الشعر من رفعهما ما أُضيف إلى نكرة ما أنشده الَهجَرِيّ في نوادره، وأبو موسى الجزولي في «شرح الإيضاح» له من قول الشاعر: فَنِعْمَ مُناخُ أَزْفَلةٍ عِجافٍ ... ومُلْقَى نِسْعَتَينِ على رُحَيْل رِجالٌ مِنْ خُوَيْلِدَ آل عَوفٍ ... حِيالَ الشَّمسِ أو مَجْرَى سُهَيْلِ حِيال الشمس: جانب الشمس، يقال: قَعَدتُ حِيالَه أي: جانبه، وقولِ الآخر: مالَ قَتيلاً بينَ أَسيافِكُمْ ... شُلَّتْ يَدَا وَحْشِيَّ مِنْ قَاتِل غَداةَ جِبْريلُ وَزِيرٌ لَهُ ... نِعْمَ وَزِيرُ فارسٍ ... حامِلِ وقول الآخر: بِئْسَ قرينا يَفَنٍ هالِكٍ ... أُمُّ حُبَيْشٍ وأبو مالِكِ لعله: أمَّ حُبَيْن، ويروى: أُمُّ عُبَيْد، وقولِ الآخر: فَنِعْمَ صاحِبُ قَومٍ، لا سِلاحَ لهمْ ... وصاحِبُ الرَّكبِ عُثمانُ بنُ عَفَّانا

وقد كان يمكن تأويل هذه الأبيات على حذف التمييز عند من يجيز ذلك؛ وجعل المرفوع هو المخصوص، ورفعُ ما بعده على البدل حيث جاء بعده مرفوع لولا أن الأخفش حكى أنَّ ذلك لغة للعرب، قال الأخفش في «الأوسط»: «اعلم أنَّ ناسًا من العرب يرفعون النكرة إذا أضافوها إلى نكرة في باب نعمَ وبئسَ، فيقولون: نعمَ أخو قومٍ أنت، فمن قال ذا قال: نعمَ أخو قومٍ وصاحبُهم أنت، إذا جعلتَ الثاني نكرة، فإن جعلتَه معرفةً لم يَجز هاهنا؛ لأنَّ نعمَ لا تقع على معرفة إلا أن تكون بالألف واللآم، وتكون النكرة مفردةً ومضافة. ومنهم من يرفعها إذا كانت مضافة». وقال الأخفش أيضًا: «مَن قال: هذا رجلُ وأخوه ذاهبان، فرفع ــ أجاز: نعمَ غلامُ /قومٍ وصاحبُهم أنت، ومَن قال (ذاهبَين) على تعريف الأخ لم يُجز العطف هنا؛ لأنَّ نعمَ لا ترفع معرفةً إلا بالألف واللام، أو بإضافةٍ إلى ما فيه الألف واللام». وقال الفراء: «يجوز رفع النكرة المضافة إلى نكرة ونصبها، فتقول: نعمَ غلامُ سفرٍ غلامُك، ونعمَ غلامَ سفرٍ غلامُك». وما ذهب إليه صاحب «البسيط» من أنه لم يَرد نكرةً غيرَ مضافة ــ وإن كان المعنى واحدًا في النكرة المفردة وفي النكرة المضافة ـــ ليس بصحيح؛ وقد حكينا وروده نكرة مفردةً فيما تقدَّم. ويظَهر من كلام المصنف في قوله وقد يُنكَّر مفردًا أو مضافًا تساويهما في القلَّة، وليس كذلك، بل الوارد منه مفردًا قليل جدَّا، والنكرة المضافة أكثر من المفردة.

قيل: و «قد تأتي النكرة المفردة واقعة على الجنس، كقوله: فقَتْلاً ... بِتَقتِيلٍ، وعَقْرًا بِعَقْرِكُمْ ... جَزاءَ العُطاسِ، ... لا ينَامُ مَنِ اتَّأَرْ جعل قَتلاً للجنس، وعادَلَ به تَقتيلاً الذي هو للتكثير، فدلَّ على أنه يَسوغ وقوعه موقع الكثير، وهو معنى الجنس» انتهى. وأجاز بعض النحويين أن يكون فاعل نعمَ وبئسَ مضافا إلى ضمير ما فيه الألف واللام، فأجاز: القومُ نعمَ صاحبهم أنت، إجراءً للمضاف إلى ضمير ما فيه الألف واللام مجرى ما أضيف إلى ما هما فيه، وأنشد: فَنِعْمَ أخو الَهْيجا، ونِعْمَ شِهابُها ... ........................... وقال بعض أصحابنا: والصحيح المنع، وهذا يُحفظ، ولا يقاس عليه؛ إذ لا يكون إلا مما يجوز تنكيره، ومع إضافته للضمير لا يجوز تنكيره. ص: ويُضمر ممنوعَ الإتباع مفسَّرًا بتمييزٍ مؤخَّرٍ مطابقٍ قابل أل لازمٍ غالبًا، وقد يَرد بعد الفاعل الظاهر مؤكِّدًا وفاقًا للمبرد والفارسيّ، ولا يمنع عندهما إسناد نعمَ وبئسَ إلى «الذي» الجنسية، وندر: نعمَ زيدٌ رجلاً، ومرَّ

بقومٍ نِعْمُوا قومًا، ونِعْمَ بهم قومًا، ونِعمَ عبدُ الله خالدُ، وبئسَ عبدُ الله أنا إن كان كذا، وشهدتُ صِفِّينَ وبِئسَتْ صِفُّون. ش: لَّما فرغ من الكلام على فاعل نعمَ وبئسَ إذا كان ظاهرًا أخذ يتكلم فيه إذا كان مضمرًا، وينبغي أن يؤخذ قوله ويُضمَر على أنه ابتداء كلام، لا أنه معطوف على قوله وقد يُنَكَّر مفردًا أو مضافًا، وإن كان يوهم العطف عليه؛ لأنَّ ذلك قليل ومختلف فيه، وهذا عند البصريين كالمجمع عليه. ومثال رفعهما المضمر قولُه تعالى {بئس للظلمين بدلا}، وقول الشاعر: نِعْمَ امْرَأً هَرِمٌ، لَمْ تَعْرُ نائبةٌ ... إلا وكانَ لِمُرْتاعٍ بها ... وَزرَا وقولُ الآخر: لَنِعْمَ مَوئلاً الَمولَى إذا حُذِرَتْ ... بَاساُء ذي البَغْيِ واستِيلاءُ ذي الإحَنِ وعلى أنَّ في نِعمَ وبئسَ مضمرًا هو فاعلُ بهما في نحو «نِعمَ رجلاً زيدٌ» معظم البصريين: /س وغيره. وذهب الكسائي والفراء إلى أنَّ الفاعل هو زيد، والنكرة المنصوبه بعد نعمَ وبئسَ حالٌ عند الكسائي، وتمييز عند الفراء، وهو عنده من التمييز الذي هو من قبيل المنقول، والأصل عنده: رجلٌ نعمَ الرجلُ زيدُ فحُذف رجل، وقامت صفته مقامه، ثم نُقل الفعل إلى اسم الممدوح، فقيل نعمَ رجلاً زيدٌ.

ويقبح عنده تأخره؛ لأنه تمييز وقع موقع المرفوع، وأفاد إفادته؛ لأنَّ كلاً منهما بَّين الجنس الذي مدحتَ به زيدًا. ولا يجوز تقدُّمه على نِعمَ كما لا يجوز تقديم ما وقع موقعة. وأمَّا الكسائيُّ فيجيز تأخير النكرة عن زيد، فيقول: نعمَ زيدٌ رجلاً، ولا يجوّز تقديمها على نعمَ، كمذهب الفراء، وإن اختلفا في التوجيه، فعلى رأي الكسائي لا يجوز لأنَّ العامل في الحال عامل غير متصرف. قالوا: والصحيح مذهب س ومعظم البصريين لقولهم: نعمَ رجلاً أنتَ، وزيدٌ بئسَ رجلاً هو، ولو كان الضميرـ وهما أنت وهو ــ فاعلين لاتَّصلا بالفعل، ولم ينفصلا. ولقولهم: إخوتُك نعمَ رجالاً، فيقدمون الممدوح، ولا يضمرون في نعمَ ضميرًا يطابق المخصوص، فدلَّ على أنَّ في نعمَ ضميرًا مستترًا؛ إذ لا يخلو الفعل من الفاعل. ولقولهم: نعمَ رجلاً كان زيدٌ، فيُعملون فيه ناسخ الابتداء، ولو كان فاعلاً لم يعمل فيه ناسخ الابتداء. ونسب صاحب «البسيط» إلى الكوفيين أنَّ انتصاب رجلاً هو على التفسير للممدوح، ولا يحتاجون إلى تقدير فاعل، فكأنك قلت: زيدٌ الممدوحُ رجلاً، كما تقول: امتلاَ الإناءُ ماءً، والإناءُ ممتلئٌ ماءً. وذهب ابن الطراوة إلى أنه لا إضمار في الفعل، وأنَّ الفاعل محذوف؛ لأنه لا يَبرُز في التثنية ولا الجمع، ولأنه موضع إبهام لأجل استغراق المدح، ومواضع الإبهام يحسُن فيها الحذف، كقوله:

........................... ... فسَوفَ تُصادفُهُ أيَنَما حذف لإبهام المحل، كذلك هنا، وصار التفسير بدلاً من اللفظ به، وهو مركَّب مع الفعل على ما كان لو ظهر. ورُدَّ عليه بأنَّ الفاعل لا يُحذف إلا حيث يراد الفعل، على خلاف فيه، إلا على مذهب الكسائي. وأمَّا احتجاجه بعدم بروزه فِلعِلَّة تُذكَر، ويأتي الكلام على كونه حُكي إبرازه إن شاء الله. وما نقله صاحب «البسيط» من قوله: «وقال س: حذفوه لكثرة استعمالهم إياه لزومهًا كما ألزموا نِعم الإسكان، واكتفوا في ذلك بالذي يفسره» فظاهره حجة لابن الطراوة في الحذف، لكن عبارةُ س ليست كهذه التي نقل صاحب «البسيط»، قال س بعد أن قرر أنَّ في نِعم ضميرًا في عدة مواضع من كلامه، قال: «واعلم أنك لا تُظهر علامة المضمرين في نعمَ، لا يقولون: نعمُوا رجالاً، يكتفون بالذي يفسره، كما قالوا: مررتُ بكلِّ، وقال جل وعز {وكل أتوه دخرين}، فحذفوا علامة الإضمار، والتزموا الحذف كما ألزموا نِعْمَ وبئْسَ الإسكان» انتهى. يُفهم من هذا أنَّ المعنى أنهم لم يُبرزوا علامة الإضمار في الجمع، /لا أنَّ الفاعل محذوف. واختلف القائلون بالإضمار هل ذلك المضمر جنس أو شخص: فمن قال في نعمَ الرجلُ زيدٌ بالشخص يقول به هنا، وما بعده تمييز لذاته. ومن قال بالجنس اختلفوا هنا: فقال بعضهم: هو شخص، كأنك قلت: زيدٌ نعمَ هو رجلاً. وقيل: هو جنس.

احتجَّ من قال بالشخص في الموضعين بالتفسير بالمثنى والمجموع في نحو: نعمَ رجلَين الزيدان، ونعمَ رجالاً الزيدون، والجنس لا يُجمع ولا يثنى، فلا يفسَّر به، فدلَّ على أنه شخص. ومَن قال بأنه هناك على المجاز في الجنس كان كذلك هنا، كأنك أضمرت نوعين، ثم فسَّرت. وأجاب أصحاب الجنس بأنَّ التثنية هي على نحو: هما خيرُ اثنينِ في الناس، فيُضمر على ما أظهر. وقالوا: الذي يدلُّ على أنه ليس شخصًا كونه لا يَبرز في تثنية ولا جمع، فلولا أنه جنس ــ وهو لا يثنى ولا يجمع ـــ لَبَرز في التثنية والجمع. وأجيبوا بأنه كالمثل، نحو: أكرِمْ بزيدٍ! وأحسِنْ بعمرٍو! ولأنهم استغنَوا عن ذلك بتثنية المفسَّر وجمعه. واحتجُّوا أيضًا بالحمل على الظاهر، والأصل الظاهر، كما يكون في البدل في الشخص، نحو: مررتُ به زيدٍ، لكنه هنا امتنع التمييز لأنه شخص. قال صاحب «البسيط»: «وقد فرق بعض النحويين الظاهر والمضمر؛ لأنَّ المضمر على التفسير لا يكون في كلام العرب إلا شخصًا، نحو: لله درُّه فارسًا، وويحَه رجلاً، ورُبَّه رجلاً؛ ألا ترى أنَّ رُبَّ لَّما عملت في الظاهر كان نكرةً، ولَّما كانت مع المضمر كان شحصًا، ولو كان نكرةً لكان المعنى: رُبَّ رجلٍ، ولا يفيد المقصود من المدح، وهذا كذلك» انتهى. وقوله ممنوعَ الإتباع قال المصنف في الشرح: «هذا الضمير المجعول فاعلاً في هذا الباب سبيه بضمير الشأن في أنه قُصد إبهامُه تعظيمًا لمعناه، فاستَويَا لذلك في عدم الإتباع بتوكيد أو غيره» انتهى. فلا يجوز أن يؤكَّد بضمير، نحو: نعمَ هو رجلاً زيدٌ، ولا بغيره، ولا يُعطَف عليه، ولا يُبدل منه، فأمَّا ما رُوي من نحو «نعمَ

هم قومًا أنتم» فشاذُّ لا يُعَرَّج عليه، «وهم» تأكيد للضمير المستكنِّ في نعمَ على المعنى. وقوله مفسَّرًا بتمييز تقدَّم خلاف الكسائي في أنه حال؛ إذ مذهبه أنه لا إضمار في الفعل، بل هو رافع للمخصوص بالمدح أو الذم. وقوله مؤخَّرٍ يعني عن نعمَ وبئسَ، فلا يجوز له أن يتقدم عليهما، لا يجوز: رجلاً نعمَ زيدٌ، ولا: رجلاً بئسَ عمرُو. وأمَّا تأخيره عن نعمَ والمخصوص، نحو: نعمَ زيدُ رجلاً ــ فسيأتي الكلام عليه إن شاء الله. وقوله مُطابِقٍ يعني للمخصوص، فتقول: نعمَ رجلَين الزيدانِ، ونعمَ رجالاً الزيدون، وكذلك في التأنيث. وقوله قابلِ أل يشمل أن يكون مضافًا إلى نكرة، نحو: نعمَ غلامُ سفرٍ غلاُمك، وموصوفًا نحو: نعمَ رجلاً شجاعًا زيدُ، ومفردًا غير ذلك، نعمَ رجلاً زيدُ. وفي «البسيط»: «ويجوز وصف هذا المفسَّر، فتقول: نعمَ رجلاً صالحًا، وقالوا: حَسُنَ إيمانًا نَفِعَك، ورَجُحَ عقلاً رَدَعَك». وقال المصنف في الشرح: / «ونَّبهت على أنَّ ممِّيزة لا يكون إلا صالحًا للألف واللام، مع أنَّ كل تمييز لا يكون إلا كذلك بالاستقراء؛ لأنَّ أبا عليَّ والزمخشريَّ يُجيزان التمييز في هذا الباب بـ (ما)». «ونبهت بقول أل على أنه لا يجوز أن يكون بلفظ (مثل) ولا (غير) ولا (أي) ولا (أفعل من)؛ لأنه خَلَف عن فاعل مقرون بالألف واللام، فاشترط

صلاحيته لهما، وما ذكرته لا يصلح لهما، فلم يجز أن يخلف مقترنًا بهما» انتهى. ويَرِدُ على ما قاله ما كان مفردًا في الوجود؛ فانه يقبل أل، ولا يجوز أن يقع تمييزًا لهذا المضمر. ونقول: شرطَ أصحابنا في هذا التمييز شروطًا ثلاثه: أحدها: أن يكون مبينًا للنوع الذي قُصد فيه المدح أو الذم، فلو قلت: نعمَ غيرَك زيدُ ـــ لم يجز؛ لأنَّ «غيرك» لا يُبين النوع الذي قصدتَ مدح زيد فيه، فيندرج في هذا الشرط «مثلك» ونحوه مما هو متوغَّل في الإبهام. الثاني: ألا يكون فيه معنى المفاضلة، نحو أفعل التفضيل، لو قيل: نعمَ أفضل من زيد أنتَ، ونعمَ أفضلَ رجلٍ أنتَ ــ لم يجز؛ لأنَّ نعمَ لم تزد فيه شيئًا لم يكن قبل دخولها. الثالث: أن يكون عامَّا في الوجود، لو قلت: نعمَ شمسًا هذه الشمسُ، أو: نعمَ قمرًا هذا القمرُ ــ لم يجز؛ لأنَّ شمسًا وقمرًا مفردان في الوجود، فلو قلت: نعمَ شمسًا شمسُ هذا اليوم، ونعمَ قمرًا قمرُ هذه الليلة ــ جاز؛ لأنك أردت أن تمدح شمس اليوم المشار إليه في سائر الشموس التي تكون في الأيام. ولا يجوز أن يقع تمييزًا الأسماء المختصة بالنفي، ولا «أيّما رجل» ونحوه؛ لأنها ثناء فلا بدَّ من ذكر المُثْنَى عليه، وتقع صفة لأن الموصوف مذكور قبلها، وحالاً لأنَّ صاحب الحال مذكور، ولا تقع فاعلةً ولا مفعولةً لأنَّ المُثْنَى عليه لا يكون معها، وتقع في الابتداء، فتقول: أيُّما رجلٍ زيدٌ، وزيدٌ أيُّما رجلٍ؛ لأنَّ صاحب الصفة ـــ وهو زيد ــ مذكور معها.

وقوله لازمٍ غالبًا قال المصنف في الشرح: «وقلتُ غالبًا بعد التقييد بـ (لازم) احترازًا من حذف المميز في قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (من توَضَّأ يومَ الجمعةِ فَبِها ونِعْمَتْ)، أي: فبالسُنَّة، ونِعْمَت السُّنَّةُ سُنَّةً، فأضمر الفاعل على شريطة التمييز، وحذف المميَّز للعلم به» انتهى. ولفظ «لازم» و «غالبًا» متنافيان؛ لأنَّ اللزوم يدلُّ على الوجوب، والغلبة تدلُّ على الجواز، فتَنافَيا، وكان الأَولَى أن يقول: مذكورٍ غالبًا، أو: مُثبَتٍ غالبًا. وتقديره «ونِعْمَتِ السُّنَّةُ سُنَّةً» ليس بجيد؛ لأنه قدّم في التقدير المخصوص على التمييز، وصحة التقدير: ونعْمَتْ سُنَّة السُّنَّةُ. وهذا الذي ذكره من جواز حذف التمييز ذكره ابن عصفور، قال: «ولا بدَّ من ذكر اسم الممدوح أو المذموم، ومِن ذكر التمييز إذا كان الفاعل مضمرًا، وقد يجوز حذف ذلك لفهم المعنى، ومن كلامهم: إن فَعَلتَ كذا وكذا فَبِها ونِعْمِتْ، أي: ونِعْمَتْ فَعْلةً فَعْلُتك، فحذف التمييز واسم الممدوح» انتهى. وفي البسيط: «ولا يجوز حذف التمييز من المضمَر فاعلُه؛ لأنه كالعوض منه، إلا بعوض، كالتاء في نِعْمِتْ، /كقولك: إن تزوجتَ هذه فنِعْمَتْ هي. وقيل: يجوز لأنه تمييز، فيجوز حذفه، وقوله عليه السلام: (مَن توضَّأ فَبِها ونِعْمَت) حذف التمييز للعوض، وإنما منع في المفسَّر للمضمر لبقاء الإبهام، ولعدم عَوده على شيء» انتهى كلامه.

والصحيح أنه لا يجوز ذلك وإن فُهم المعنى، وقد نص بعض أصحابنا على شذوذ (فَبِها ونِعْمتْ)، فقال: «والتفسير واجب إن أُضمر الفاعل؛ لأنه إضمارُ قبل الذكر على شريطة التفسير، وقد شذّ (فَبِها ونِعْمَتْ) في قولهم: إن فعلتَ كذا فَبِها ونِعْمَتْ، أي: ونِعْمتِ الحاجةُ حاجتُك، فأضمر، ولم يأت بالتفسير» انتهى. وقد نصَّ س على وجوب ذكر هذا التمييز ولزومه، قال س بعد ما ذكر: نِعمَ رجلاً عبد الله، وبعد ما قال: ومثلُه: رُبَّه رجلاً، قال: «ولا يجوز لك أن تقول: نِعمَ، ولا: رُبَّه، وتسكت؛ لأنهم إنما بدأوا بالإضمار على شريطة التفسير، وإنما هو إضمارُ مقدَّم قبل الاسم، والإضمار الذي يجوز السكوت عليه إضمار بعد ما ذكر الاسم مظهرًا، فالذي تقدَّم من الإضمار لازم له التفسير حتى يبيِّنه» انتهى. والذي ورد في الحديث من قوله (مَنْ توضَّأَ يوم الجمعةِ فَبِها ونِعْمَتْ) جاء على سبيل ما ورد من قولهم: إنْ فَعلتَ كذا وكذا فَبِها ونِعْمَتْ، وقد اختُلف في تخريجه، فخرَّجه ابن عصفور على أنَّ التقدير: فبالرُّخصةِ أَخَذَ ونِعْمَتْ رخصةً الوضوءُ، فحذف التمييز والمخصوص. وخرْجه المصنف على ما حكيناه عنه، وقدَّره: ونِعْمَتِ السُّنَّة سُنَّةً. ونَّبهنا على أنه كان ينبغي أن يقدَّر على تخريجه: ونِعْمَتْ سُنَّةً السُّنَّةُ. وخرّجه ابن هشام على أنَّ القدير: نِعْمَتِ الفَعْلةُ الأخذُ بالسُّنَّة، قال: «فالفَعْلة فاعلُ نِعم، والأخذُ بالسُّنَّة مبتدأ، والخبر في الجملة المتقدمة». قال: «وجائز أن يكون خبر مبتدأ مضمر، حذف مع المبتدأ أيضًا لدلالة الكلام عليه». قال: «وكونه مبتدأ أقوى» انتهى. وهذا التخريج ليس جاريًا على قواعد البصريين؛ لأنه زعم فيه أنَّ الفَعلة فاعل نِعم، وهو محذوف، والفاعلُ لا يُحذف.

فرع: إذا كان المضمر مؤنثًا، وأتيت بتفسيره ـــ فهل تلحق نعمَ وبئسَ تاء التأنيث اعتبارًا بالتفسير أم لا تلحق، نصَّ المصنف في تمثيله في الشرح على لحوقها، فقال: «ويقع فاعل هذا الباب ضميرًا مستترًا مفسًّرًا بعده بتمييز مطابق للمخصوص بالمدح أو الذم، نحو: نِعمَ رجلاً زيدٌ، ونِعمَتِ امرأةً هندٌ، ونِعمَ رجلينِ الزيدان، ونِعْمَتِ امرأتين الهندانِ، ونِعْمَ رجالاً الزيدون، ونِعْمَ نساءً الهنداتُ». ونصَّ أبو الحسين بن أبي الربيع على أنه لا تلحق تاء التأنيث، وإن كان المفسَّر مؤنثًا، قال: «لا تقول: نِعْمَتِ امرأةً هندُ، إنما يقال: نِعْمَ امرأةً هندُ استَغنَوا بتأنيث المفسَّر» انتهى. فيكون لحاق التاء في قولهم إنْ فعلتَ كذا وكذا فَبِها ونِعْمَتْ على سبيل الشذوذ كما شَذُّوا في حذف التمييز. ونصَّ أبو غانم المظهر بن أحمد بن حمدان في كتابه «المحلى» على تأنيث /الضمير المستكنّ، وإلحاق العلامة في الفعل لتأنيث المفسرِّ، فقال: «وإن شئت قلت: بئْسَتْ جاريةً جاريتُك، ونِعمَتْ جاريةً جاريتُك». ونصَّ خطّاب المارديُّ على جواز إلحاق العلامة وعدم إلحاقها، فقال: «نِعْمَ جاريةَ هندُ، وإن شئت: نِعْمَتْ جاريةً هندُ، بنصب النكرة [على] الحال والتمييز، والفاعل مضمر» انتهى. فأجرى الضمير مجرى الظاهر المؤنث، فكما تقول: نِعْمَ المرأةُ هندُ ونِعْمَت المرأةُ هندُ ــــ فكذلك الفعل مع المضمر. ولا يجوز الفصل بين نِعْمَ ومفسرَّ المضمر، لا تقول: نِعمَ في الدار رجلاً زيدٌ، قاله ابن أبى الربيع. والصحيح أنه يجوز، قال تعالى {بئس للظلمين بدلا}، ففصَل بين (بئس) وتفسير المضمر بقوله (للظالمين).

وقوله وقد يَرِدُ بعد الفاعل الظاهر مؤكَّدًا وفاقًا للمرد والفارسي قال المصنف في الشرح: «منع س الجمع بين التمييز وإظهار الفاعل، وأجاز ذلك أبو العباس والفارسي، وقولهما هذا هو الصحيح، وحامل ُ س على المنع كون التمييز في الأصل مسوقًا لرفع الإبهام، والإبهامُ إذا ظهر الفاعل زائل، فلا حاجة إلى التمييز، وهذا الاعتبار يلزم منه منع التمييز في كل ما لا إبهام فيه، كقولك: له من الدراهم عشرون درهمًا، ومثل هذا جائز بلا خلاف، ومنه قوله تعالى {إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا} ، {واختار موسي قومه سبعين رجلا}، {فتم ميقت ربه أربعين ليلة} {فهي كاحجارة أو أشد قسوة}، فكم حُكم بالجواز في مثل هذا، وجُعل سبب الجواز التوكيد لا رفع الإبهام ـ فكذلك يفُعل في نحو: نِعمَ الرجلُ زيدُ، ولا يُمنع؛ لأنَّ تخصيصه بالمنع تحكُّم بلا دليل، هذا لو لم تستعمله العرب، فكيف وقد استعملته، كقول جرير يهجو الأخطل: والتَّغِلبِيُّونَ نِعمَ الفحلُ فحلُهمُ ... فَحلاً، وأُمُّهمُ زلاًء مِنْطِيقُ

ومثله لجرير يمدح عمر بن عبد العزير: فما كَعْب بْنُ مامةَ وابْنُ سُعْدَى ... بأجْوَدَ منكَ ... يا ... عُمَرُ الَجوادَا ومثله: نعْمَ الفَتاةُ فتاةً هندُ لو بَذَلَتْ ... رَدَّ التَّحيَّة ... نُطْقًا ... أو بإيْماءِ ومثله على الأظهر الأبعد من التكليف: تَزَوَّدْ مِثلَ زادِ ... أبيكَ فينا ... فَنِعْمَ الزَّادُ زادُ ... أَبيكَ زادَا ومن ورود التمييز للتوكيد لا لرفع الإبهام قول أبي طالب: ولقد علمتُ بأن دينَ محمدٍ ... مِن خير أَديانِ البَريَّةِ دِينا ومثله قول الآخر: / فأمَّا التي خَيُرها ... يُرتَجَى ... فَأَجْوَدُ ... جُودًا مِنَ اللاَّفِظَهْ» انتهي. وفي الأمالي أنَّ بُجير بن الحارث بن عُبَاد قتله مهلهل، فقال أبوه حين بلغه الخبر: «نِعْمَ القَتيلُ قَتيلاً أصلَحَ بين بَكر وتَغلب». هكذا جاء «قتيلاً» بالفتح، وهو شاهد لأبي العباس ومن قال بقوله؛ لأنه كلام غير شعر.

وبجواز الجمع بينهما قال ابن السراج. وما نسبه المصنف إلى س من المنع هو ظاهر كلامه، وبه قال السيرافي وجماعة، واختاره ابن عصفور، قال س: «فالذي تقدَّم من الإضمار لازمُ له التفسير حتى يبَّنه، ولا يكون في موضع الإضمار في هذا الباب مظهر». فظاهر هذا الكلام أنَّ الظاهر الفاعل والتمييز لا يجتمعان. وتأوَّل الفارسيُّ كلام س على أنَّ معناه: لا يكون الفاعل ظاهرًا حيث يلزم التمييز، بل الفاعل في حال لزوم التمييز مضمر لا غير؛ ألا ترى أنك تقول: نِعمَ الرجلُ رجلاً زيدُ، فلا يكون التمييز لازمًا. وأمَّا ما ذكره المصنف من أنَّ الحامل لـ «س» على المنع ما ذَكر فليس ذلك مذكورًا في كتاب س. وأمَّا تسوية جواز ذلك بجوازه فيما ذُكر من الآيات وأبيات الشعر التي ليست من هذا الباب فليس بجيد؛ للأنَّ الفرق ظاهر، وذلك أنَّ التمييز مبناه على التبيين، ثم يَعرض له في بعض المواضع أن يقترن بالكلام ما يُغني عنه، فيصير مؤكِّدًا؛ ألا ترى أنَّ عشرين وأربعين وأمثال ذلك محتاجة في أصل وضعها إلى التفسير، فإن اقَترن بها في بعض المواضع ما يبينها كان التمييز حينئٍذ مؤكِّدًا، وليس كذلك:

نِعمَ الرجل زيدٌ، فإنَّ الرجل غير محتاج إلى أن يبيَّن أنه رجل في موضع من المواضع، فبانَ الفرق بينهما، وهذا على تسليم أنَّ المضمر هو جنس كالرجل، فحينئذ يكون توكيدًا له لأنه قد تقدَّم لنا الخلاف في الضمير أهو جنس أم لا، وأنَّ القائلين بأن الألف واللام في الرجل في نِعمَ الرجلُ زيدٌ هي للجنس اختلفوا في هذا الضمير أهو جنس أم لا، وعلى تقدير التسليم أنه جنس لا يلزم أن تساوي حالة إضماره في البيان حالة إظهاره. وأمَّا السماع الوارد في نِعمَ وبئسَ فقد تأوَّله المانعون لذلك، وتأوَّلوا فحلاً وفتاةً على الحال المؤكَّدة لا على التمييز، وتأوَّلوا زادًا على أنه منصوب بـ «تَزَوَّدْ» على أنه مصدر محذوف الزوائد ـــ وقد حكى الفراء استعماله مصدرًا ـــ أو على أنه مفعول به، و «مثل» منصوب على الحال؛ لأنه لو تأخر لكان صفة، ولَّما تقدم انتصب على الحال، وفُصل بجملة الاعتراض التي هي «فنِعمَ الزادُ زادُ أبيك» بين تَزَوَّد ومعموله، أو على أنه بدل من «مثل»، كأنه أوقعه على الخصوص، أي: تَزَوَّدْ مثلَ زاد أبيك زادًا حسنًا ودلً على الصفة قوله: فِنعمَ الزادُ زادُ أبيك. وعندي تأويل غير ما ذكروه، وهو أقرب، وذلك أن يُدَّعى أنَّ في نِعمَ وبئسَ ضميرًا، وفَحلاً وفتاةً وزادًا تمييز لذلك الضمير، وتأخرَّ عن المخصوص على جهة الندور، كما روي نادرًا: نِعمَ /زيدٌ رجلاً، على نية التقديم، أي: نِعمَ رجلاً زيدٌ، والفحل والفتاة والزاد هي المخصوصة، وفَحلُهم وهندُ وزادُ

أبيك أبدال من المرفوع قبلها، والتقدير: والتَّغِلبِيُّون بئسَ فحلاً الفحلُ فَحلُهم، أي: بئسَ فحلاً فحلُهم، ونِعمَ فتاةً هندُ، أي: نِعمَ فتاةً هندُ، وفنعمَ زادًا الزوادُ زادُ أبيك، أي: فنِعمَ زادًا زادُ أبيك، كما تأوَّلنا نِعمَ زيدٌ رجلاً على التقديم والتأخير، أي: نِعمَ رجلاً زيدُ. وهذا تأويل سائغ سهل، وفيه إبقاءُ نِعمَ على ما فيها من الإضمار وتفسير ذلك المضمر بالاسم المنصوب. وفصَّل بعض أصحابنا، فقال: إن أفاد التمييز معنًى لا يفيده الفاعل جاز، نحو: نِعمَ الرجلُ رجلاً فارسًا زيدُ، لمًّا وصف التمييز بقوله فارسًا أفاد ما لم يُفده الفاعل. واستدلَّ هذا المفصَّل على ما اختاره بقول أبي بكر بن الأسود: ذَرِينِي أَصْطَبِحْ، يا هندُ، إنِّي ... رأيتُ الموتَ نَقَّبَ عن هِشام تَخَيَّرَهُ، ولَمْ يَعْدِلْ سِواهُ ... فَنِعْمَ الحيُّ مِنْ حَيِّ تَهامِي ويروى: فَنِعْمَ الَمرءُ مِنْ رَجُلٍ تَهامي، وبقول الكَرَوَّس بن حصْن: وقائلةٍ: نِعْمَ الفَتَى أنتَ مِنْ فَتًى ... إذا الُمرْضِعُ الهوجاءُ جالَ بَريمُها وصف حيَّا بتَهامٍ، فأفاد ما لم يُفده الفاعل. وأراد بفتًى مُتَفَتَّ، وأعمله في الظرف، فأفاد ما لم يُفده الفتى.

وقد تُؤُوَّلَ «مِن حَيِّ تَهام» على أنَّ «مِن» فيه مبعَّضة، فليس بتمييز، فكأنه قال: نِعمَ الحيُّ كائنًا مِن بعضِ الحيِّ التِّهاميّ، أي: فَخِذًا منه. وأمَّا «إذا» فالعامل فيها نِعمَ. ويحتمل أن يكون في نِعمَ ضمير، ومِن فتًى: تفسير لذلك الضمير، والفتي هو المخصوص، وأنتَ بدل منه، وليس هو الفاعل، والتقدير: نِعمَ مِن فًتى الفتى أنتَ، أي: نِعمَ مِن فًتى أنتَ. وقال بعض شيوخنا: «يجوز قليلاً على جهة التوكيد، حكي: نِعْمَ القتيلُ قتيلاً أصلحَ الله به بين فئتين». وتلخَّص لنا في هذه المسألة ثلاثة مذاهب: المنع، والجواز، والتفصيل بين أن يزيد معنًى على الفاعل فيجوز، أوْ لا فلا. ومِن أحكام هذا التمييز أنه لا تدخل عليه «مِن» إلا في ضرورة شعر، نحو: مِن حَيُّ تَهام، ومِن فتًى، فلا يجوز في الكلام: نِعمَ من رجلٍ زيدٌ. وقوله ولا يمتنع عندهما إسناد نِعمَ وبئسَ إلى «الذي» الجنسية ذكر المصنف في الشرح أنَّ ظاهر قول الأخفش أنه [لا] يجيز: نِعمَ الذي يفعل زيدٌ، ولا يجيز: نِعمَ مَن يفعلُ زيدٌ، قال: «ولا بنبغي أن يُمنع؛ لأنَّ (الذي يفعل) بمْنزلة (الفاعل)، ولذلك اطَّرد الوصف به، ومقتضى النظر الصحيح ألاَّ يجوز مطلقًا، ولا يُمنع مطلقًا، بل إذا قُصد به الجنس جاز، وإذا قُصد به العهد مُنِع» انتهى. فأجاز أبو العباس والفارسي أن تقول: نِعمَ الذي بُعث بالرسالة محمدُ - صلى الله عليه وسلم -، كما يقال: نِعمَ المبعوثُ بالرسالة محمدُ - صلى الله عليه وسلم -

ومنع ذلك الكوفيون، وجماعة من البصريين، منهم ابن السراج، وأبو عمر في «الفرخ»، قال: لا تكون الأسماء الموصولة فاعل نِعمَ على كل وجه، ولم يَرد /به سماع، والقياس المنع؛ لأنَّ كل ما كان فاعلاً لِنعمَ، وكان فيه أل ـــ كان مفسِّرًا للضمير المستتر فيها إذا نُزعت منه، و (الذي) ليس كذلك. وأمَّا مَنْ وما الموصولتان إذا أريدَ بهما الجنس فذهب قوم من النحويين إلى أنه يجوز أن تكونا فاعلَين لِنعمَ وبئسَ، واستدلُّوا على ذلك بالقياس والسماع ــ وهو اختيار المصنف، ذكر ذلك في شرحه ـــ قال صاحب «البسيط»: «أمَّا القياس فلأنهما بمعنى الذي والتي، وهما فاعلان لهما لوجود الألف واللام باتَّفاق لصحة معنى الجنس» انتهى. وهذا وهم من صاحب «البسيط» وعدم اطِّلاع في قوله «إنَّ الذي والتي يكونان فاعلَين لِنعمَ وبئسَ باتَّفاق»، وقد ذكرنا أنَّ المنع مذهب الكوفيين وجماعة من البصريين، وذكرنا أنه لم يَرد به سماع، ولا يقتضيه قياس. وأمَّا السماع فاستدلُّوا بقوله تعالي {فَنِعِمَّا هِىَ}، وتقدم الكلام على «ما» إذا اتصلت بنِعمَ وبئسَ، وفيه عدة أقول، وبقول الشاعر: وكيفَ أرهَبُ أمرًا، أو أُراعُ لَهُ ... وقد زَكَأتُ إلى بِشرِ بنِ مَرْوانِ؟

فَنِعْمَ مَزْكأُ مَنْ ضاقَتْ مَذاهِبُهُ ... ونِعْمَ مَنْ ... هُوَ في سِرِّ وإغْلانِ فظاهر «مَن» أنها موصولة، وقد وقعت فاعلة لنِعمَ، ووقع مَزكأ ــــ وهو مضاف لِمَنْ، وهي موصولة ــــ فاعلاً لنِعمَ. والصحيح المنع، ولا حجة في البيت لا حتمال أن تكون «من» مِن قوله «فنِعمَ مَزكأُ مَن ضاقت» نكرة موصوفة، كما قال: رُبَّ مَنْ أنْضَجْتُ غَيظًا صَدرَهُ ... ........................................... وتكون نِعمَ قد رفعت النكرة المضافة إلى نكرة على ما ثبت بنقل الأخفش وغيره أنَّ ذلك لغة للعرب. وأمّا «ونِعمَ مَن هو» فتأوَّله أبو عليّ على أنه تمييز، وفي نِعمَ ضمير، ومَن تفسير له، فهو في موضوع نصب. وقال المصنف في الشرح رادَّا على أبي عليّ: «لا يصحُّ لوجهين: أحدهما: أنَّ التمييز لا يقع في الكلام بالاستقراء إلا بنكرة صالحة للألف واللام، ومَن بخلاف ذلك، فلا يجوز كونها تمييزًا. الثاني: أنَّ الحكم عليها بالتمييز عند القائل به مرتب على كون من نكرة غير موصوفة، وذلك منتفٍ بإجماع في غير محل النِّزاع، فلا يصار إليه بلا دليل عليه» انتهى.

ولأبي عليّ أن يقول: مَن هنا نكرة غير موصوفة، وليس الجملة التي بعد مَن ـ وهي: هو في سِرِّ وإعلان ـــ في موضع الصفة لَمنْ، بل مَن تمييز، و «هو» هو المخصوص بالمدح، وهو عائد على بشر بن مروان، وهو الممدوح. وقوله ونَدَرَ نِعْمَ زيدُ رجلاً قال المصنف في الشرح: «وأمَّا ما رُوي من قول بعضهم نِعمَ زيدُ رجلاً فُيحمل على أنَّ الأصل فيه: نِعمَ رجلاً زيدُ، على أن الفاعل مضمر، ورجلاً مفسِّره، وزيدُ مبتدأ، خبره نِعمَ وفاعلها، وليس فيه شذوذ إلا بكون التمييز مسبوقًا بالمبتدأ، فيكون في ذلك نظير قول الشاعر: والتَّغْلِبِيُّونَ نِعْمَ ... الفَحْلُ فَحْلُهُمُ فَحْلاً .................................» البيت» انتهى وهذه المسألة فيها خلاف: /ذهب البصريون إلى أنه يجب تقديم التمييز على المخصوص، فلا يجوز: نِعمَ زيدُ رجلاً، وقد منعَ من ذلك س في كتابه. وذهب الكوفيون إلى جواز ذلك، وهو قبيح عند الفراء. وتقدَّم مذهبهم في ذلك، وهو أنه ليس في نِعمَ وبئسَ ضمير، وإنما هما رافعان لزيد، وانتصب رجلاً علي الحال عند الكسائي، وعلى التمييز عند الفراء. وقوله ومرَّ بقومٍ نِعْمُوا قومًا هذه أيضًا مسألة خلاف: ذهب س والبصريون إلى أنَّ الضمير الذي في نِعمَ رجلاً زيدُ شرطه أن يكون مفردًا، سواء أكان تمييزه مفردًا أم مثَّنى أم مجموعًا. وأجاز قوم من الكوفيين تثبية هذا الضمير وجمعه،

فتقول: قومُك نِعْمُوا رجالاً، وأخواك نِعْما رجلَين. وروى ذلك الكسائي عن العرب، وحكى الأخفش في كتابه «الكبير» عن أبي محمد وأبي صالح الأسديين: نِعْما رجلَين الزيدان، ونعْمُوا رجالاً الزيدون، ونِعِمْتُم رجالاً الزيدون، ونِعِمْتُم رجالاً، ونِعِمْنَ نساءً الهنداتُ، ثم قال: «إني لا آمن أن يكونا قد فُهِّما التلقين» انتهى. وقال س: «واعلم أنك لا تُظهر علامة المضمرين في نِعمَ، لا يقولون: نِعْمُوا رجالاً، يكتفون بالذي يفسَّره» انتهى. وقوله ونِعْمَ بهم قومًا قال المصنف في الشرح 6: «ومَن قال نِعمَ بهم فمراده نِعْمُوا، ولكن زاد باء الجر في الفاعل كما زيدت في كفى بالله» انتهى. وقوله ونِعمَ عبدُ الله خالدُ، وبئسَ عبدُ الله أنا إن كان كذا، وشهدتُ صفِّينَ وبئسَتْ صفُّون قال المصنف في الشرح: «وإذا ثبت أنَّ مميِّز هذا الباب قد يُحذف للعلم به أَمكنَ أن يُحمل عليه ما أَوهمَ بظاهره أنَّ الفاعل فيه عَلَمُ أو مضاف إلى عَلَم، كقول ابن مسعود ـــ - رضي الله عنه - ـــ أو غيره من العبادلة: (بئسَ عبدُ الله أنا إن كان كذا)، وكقول النبي ـــ - صلى الله عليه وسلم - ــ: (نِعمَ عبدُ اللهِ خالدُ بنُ الوليد)، فيكون

بئسَ ونِعمَ مُسنَدَين إلى ضميرين حُذف مفسراهما، وعبد الله مبتدأ، وأنا وخالد بدلان. ومن هذا النوع أيضًا قول سهل بن حُنيَف - رضي الله عنه -: (شَهدتُ صِفِّين وبئسَتْ صفُّونَ)» انتهى. يعني أن يكون التقدير: نِعمَ رجلاً عبدُ الله خالدُ، وبئسَ رجلاً عبدُ الله أنا، وبئستْ بقعةً صفُّون» انتهى. وهذا التخرج الذي خرَّجه مبنيّ على جواز حذف التمييز، وتقدم الكلام فيه، والصحيح منع حذفه. وما روي من نحو (نِعمَ عبدُ الله خالد) أجاز الجرمي القياس عليه، فأجاز: نِعمَ عبدُ الله زيدُ. ومنعَه عامة النحويين، وهو الصحيح؛ لأنه إن كان عَلَمًا فلا يجوز من حيث لم يجز: نِعمَ زيدٌ، وإن كان عبد الله واحدًا من العبيد أضيف إلى الله تعالى فلا يجوز أيضًا؛ لأنَّ اسم الله تعالى عَلَمُ وإن كانت فيه أل، فكما لا يجوز نِعمَ غلامُ زيدٍ عمرُو فكذلك لا يجوز: نِعمَ عبدُ الله هذا، وقد جاء في الشعر، قال: بِئْسَ ... قَومُ ... الله ... قَومُ ... طُرقُوا ... فَقَرَوْا ... جارَهم ... لَحْمًا ... وَحِرْ وسهَّل هذا كون «قوم الله» يقع على ما يقع عليه القوم إذا أدخلتَ عليه أل، وهو مع ذلك /مضاف في اللفظ إلى ما فيه أل. وإن لم تكن أل معرفة، ولا ينبغي أن يقاس على هذا؛ لأنَّ فاعل نِعمَ وبئسَ إذا كان مضافًا إلى ما فيه أل فإنه يجوز نزع أل وتنكيره وجعله تفسيرًا للضمير المستكنّ في نعمَ وبئسَ؛ فتقول في نعمَ أخو العشيرة زيدُ: نعمَ أخا عشيرٍة زيدُ، ولا يجوز مثل هذا في «بئسَ قومُ الله قومُ طُرقوا».

وأمَّا ما جاء من قولهم نِعمَ العُمَرُ عمرُ بن الخطاب فهو من تنكير العلم، كقولهم: لا هَيْثَمَ الليلةَ لِلْمَطِيَّ فكأنه قال: نِعمَ المتسمّون بهذا الاسم. وقد جاء اسم الإشارة معمولاً لبئسَ في الشعر، قال: بئسَ هذا الحيُّ حَيَّا ناصرًا ... ليتَ أَحياءَهُمُ فِيمَنْ هَلَكْ وهذا البيت فيه شذوذ من حيث رَفعت بئسَ اسم الإشارة، ومن حيث الجمع بين الفاعل الضاهر والتمييز. وهو محتمل التأويل على أنَّ في بئسَ ضميرًا، وحيَّا ناصرًا تفسيره، تأخر في الشعر، و «هذا الحيّ» هو المخصوص بالذم، والتقدير: بئسَ حيَّا ناصرًا هذا الحيُّ. ص: ويُدَلُّ على المخصوص بمفهومَي نِعمَ وبئسَ، أو يُذكَرُ قبلهما معمولاً للابتداء أو لبعض نواسخه، أو بعدَ فاعلِهما مبتدأً، أو خبرَ مبتدأ لا يظهر، أو أَوَّلَ معمولَي فعلٍ ناسخ. ومن حَقّه أن يختصّ ويصلح للإخبار به عن الفاعل موصوفًا بالممدوح بعد نِعمَ وبالمذموم بعد بئسَ، فإن بايَنَه أُوِّل. وقد يُحذف، وتَخلُفه صفتُه اسمًا وفعلاً. وقد يغني متعلِّقُ بهما. وإن كان المخصوص مؤنثًا جاز أن يقال: نِعْمَتْ وبِئسَتْ مع تذكير الفاعل.

ش: المخصوص هو المقصود بالمدح أو الذم. ومعنى يُدَلُّ عليه أي: يُحذف للدلالة عليه بما قبله، كقوله تعالى (إنا وجدنه صابرا نعم العبد)،أي: نِعمَ العبدُ أَيُّوبُ، وقال الشاعر: إنِّي اعْتَمَدتُكَ يا يَزيـ ... ـــــــــــدُ، فَنِعْمَ مُعْتَمَدُ الوَسائلْ أي: أنتَ. وفي «البسيط» ما نصه: ولا بُدَّ من ذكر الممدوح أو المذموم المقصود باسمه الخاصِّ به في جملة المدح أو الذمِّ إمَّا لقظًا أو نِيَّة، أمَّا النيَّة فكقوله تعالى (فنعم المهدون) أي: نحن، وقوله تعالى {نعم العبد} يريد: أَيُّوب. وذهب بعض المتأخرين إلى أنه لا يجوز نِيَّة إلا إذا تقدَّم ذكره؛ لأنه محتاج له ذكرًا لِما تذكره، ولا يُحذف نِيَّة لأنها لا تستقلّ، فهو كالعوض لها من التصرف، ولأنهم لَمَّا مدحوا الجنس، وأعرضوا عن المقصود ـــ وهو الشخص ـ كان ذكره بدلاً من الإعراض في الفاعل، فلو حُذف لَمَا عُلم الممدوح رأسًا، ولا يكون، وأمَّا الآيتان فقد فيهما ذكر المحذوف، لقوله (إنا وجدنه)، وقوله (والأرض فرشنها)، فلو لم يتقدم لم يجز، فكأنه قال: والأرضَ فرشناها فنحن 5 الماهدون). والأكثرون لم يشترطوا التقدم؛ لأنه خبر ابتداء، وهو يُحذف للعلم والاختصار. وقوله أو يُذكَرُ قبلَهما معمولاً للابتداء /مثاله: زيدُ نِعمَ الرجلُ، وعمرُو وبئسَ الغلامُ، وزيدُ نِعمَ رجلاً، وعمرُو بئسَ رجلاً، ولا خلاف أنَّ الجملة بعد المبتدأ

في موضع الخبر، سواء أقيل بفاعليَّة نِعمَ وبئسَ أم باسميَّتهما. وجَوَّزوا في قول من قال باسميَّة نِعمَ وبئسَ إعرابَهما مبتدأ، والمخصوص الخبر، والعكس. وفي الرابط لهذه الجملة بالمبتدأ أربعة مذاهب: أحدها: ما ذهب إليه الجمهور، وهو أنَّ الربط حصل بالعموم الذي في مرفوع نِعمَ وبئسَ؛ لأنَّ أل للجنس، والجنس انتظم زيدًا. قالوا: ومن الربط بالعموم قولُه تعالى {والذين يمسكون بالكتب وأقاموا الصلوة إنا لا نضيع أجر المصلحين}،، وقول الشاعر: فأمَّا الصُّدورُ لا صُدُورَ لِجَعْفَرٍ ... ولكنَّ ... أَعْجازًا شَديدًا ... ضَريرُها وقولُ الآخر: فأمَّا القتال لا قِتالَ ... لَدَيكُمُ ... ولكنَّ ... سَيرًا في عِراضِ الَمواكِبِ وتُؤُؤِّل هذا كله على أنَّ الرابط فيه ليس العموم، وإنما الرابط وضع الظاهر موضع المضمر، أي: فأمَّا الصدورُ فلا هي لجعفر، وأمَّا القتال فلا هو لديكم. وزعموا أنَّ الشاهد على الربط بالعموم قول الشاعر: ألا ليتَ شِعري هل إلى أُمِّ مالكٍ ... سبَيلُ، فأمَّا الصبَّرُ عنها فلا صَبْرَا وقال أبو زيد السهيلي: «لو صحَّ ذلك لجاز أن تقول: زيدُ لا رجلَ في الدار». وقال غيره: «وكذلك كان يصحُّ: ما زيدُ قائمًا أحدُ، وما زيدُ قائمًا ولا

ذاهبًا أحدُ، ونحو». وأُجيبَ عن هذا بأنه لم يوضع ما بعد هذه أن يكون للجنس كما وُضع في المدح والذم. وذهب أبو محمد بن السيِّيْد البَطَلْيَوْسي إلى أنَّ الرابط محذوف، والتقدير: زيدُ هو نِعمَ الرجلُ، فزيدُ: مبتدأ، وهو: مبتدأ ثانٍ، ونِعمَ الرجلُ جملة في موضع خبر هو، والجملة من قوله هو نِعمَ الرجلُ في موضع خبر زيد، والرابط هو، وهو المبتدأ الثاني. ورُد عليه بأنَّ «هو» هذا المقدَّر المعرب مبتدأ قد أخبرتَ عنه بقولك: نِعمَ الرجلُ، فيحتاج إلى تقدير هو أخرى، والقول في هو هذه الأخرى يحتاج إلى تقدير هو أخرى، فيؤدي إلى تقدير مبتدآت لا نهاية لها، وذلك لا يجوز. قال بعض أصحابنا: ولابنِ السِّيد أن يقول: لا يلزم هذا؛ لأنَّ الجملة إذا كانت خبرًا عن الاسم المصمر هي من جهة المعنى خبر عن الظاهر الذي المضمرُ كنايةُ عنه؛ وإذا كان كذلك لم يحتج الضمير إلى ضمير، وهذا صحيح، والربط معنوي، فلا يلزمه ذلك. وذهب ابن الطّراوة إلى أنه لا يحتاج إلى تقدير «هو» قبل الجملة، بل «نِعمَ الرجلُ» تحمَّل الضمير؛ لأنَّ مذهبه أنَّ التركيب أصاره اسمًا بمعنى الممدوح أو المذموم، فتحمَّل الضمير الذي يتحمَّله الممدوح أو المذموم. وذهب القائلون بأنَّ أل للعهد إلى أنَّ الربط حصل بتكرير المبتدأ باسمٍ هو المبتدأ من /حيث المعنى؛ وذلك جارٍ على مذهب أبي الحسن في إجازته: زيدُ قام أبو عمرو، إذا كان أبو عمرو كنيةً لزيدٍ، وكما جاز أن يربط بالظاهر الذي

ليس بالموصول جملة الصلة في نحو قولهم: أبو سعيدٍ الذي رويتُ عن الخدري، يريدون: رويتُ عنه ـ جاز ذلك هنا. وإذا قلت زيدُ نِعمَ رجلاً فتجيْ هذه المذاهب إلا على مذهب ابن الطراوة، فالرابط هو الضمير الذي رَفَعَتْه نِعمَ وبئسَ، لكنه حُذف. وقوله أو لبعضِ نَواسخه يعني أنَّ المخصوص يكون معمولاً لبعض نواسخ الابتداء، مثاله في باب كان قوله: إذا ... أَرسَلُوني عندَ ... تَقديرِ حاجةٍ ... أُمارِسُ فيها، كُنتُ نِعْمَ المُمارسُ ومثاله في باب إنَّ قوله: إنَّ ابنَ عبدِ الله نِعْـ ... ـــــــــمَ أَخُو النَّدى وابنُ العَشيرَهْ وقولُه: إنِّي إذا أُغْلِقَ بابُ الصَّيْدَن ... نِعْمَ شَفيعُ الزائرِ المُسْتأذِنِ ومثاله في باب ظنَّ: ظننت زيدًا نِعمَ الرجلُ، وقولُ زهير: يَمينًا لَنِعْمَ السِّيِّدانِ وُجِدتُما ... على كُلِّ حالٍ من سَحيلٍ ... ومُبْرَمِ

وقوله أو بعدَ فاعلِهما مبتدأً مثاله: نِعمَ الرجلُ زيدُ، وبئسَ الغلامُ عمرُو، والجملة قبلهما خبر عنهما، وذلك كما كانت خبرًا حالة تقدُّم المخصوص، وتقدَّمت الجملة كما تقدَّمت حين وقعتْ خبرًا للمبتدأ المتأخر في قول الشاعر: قد ثَكِلَتْ أُمُّه مَنْ كُنْتَ واحِدَهُ ... وصار مُنْتَشِبًا في بُرْثُنِ الأسَدِ ولذلك ساغ عود الضمير من الجملة على مَن، وإن كان متأخرًا في اللفظ؛ لأنَّ النية بالجملة التأخير. وإعرابه مبتدأ مع التأخر ـــ ولا يجوز غيره ـــ هو مذهب س، على ما نبيِّنه إن شاء الله، وهو اختيار ابن خروف وهذا المصنف. وقوله أو خبرَ مبتدأ لا يظهر هذا الإعراب نُسب إلى س، وممن نسبه إلى س هذا المصنف في الشرح، قال فيه: «وأجاز س كون المخصوص خبر مبتدأ واجب الإضمار». ثم أخذ في ردِّ هذا القول ناقلاً كلام ابن خروف من حيث المعنى. وأجاز هذا الإعرابَ فيه جماعة، منهم السيرافي وأبو علي والصَّيْمَريُّ وأجاز جماعة أن يكون مبتدأ حُذف خبره. وذكر ابن عصفور أنَّ هذين الإعرابين مذهب الجمهور.

وأبطل المتأخرون الأمرين بوجهين: أحدهما: أنه إمَّا أن تقدر مرفوعًا، هو الممدوح، وهو محذوف، أو لا، فإن لم تقدر كان الممدوح محذوفًا من جملة المدح لأنَّ ما بعده مستقلّ، وقد تقدَّم أنه لا بدَّ منه، ولا تستقلُّ بنفسها، وإن أضمر فيكون التقدير في قولك نِعمَ الرجلُ زيدٌ: زيد هو نِعمَ الرجلُ، ويقع الكلام في هو، فيؤدي إلى التسلسل، وقد أبطلنا ذلك في قولك: زيدٌ نِعمَ الرجلُ، في تقدير /ابن السِّيد: زيدٌ هو نِعمَ الرجلُ. والوجه الثاني: إمَّا أن يكون الضمير الكائن في الجملة الابتدائية يعود على شيء من جملة المدح أو لا، فإن عاد فليس فيها ما يعود عليه إلا الفاعل، وهو جنس، فلا يخبر عنه بالشخص، وإن لم يكن عائدًا على شيء من الجملة كان على غير متقدم ولا متأخر، وذلك لا يجوز. وقال ابن خروف: «ثبت باتفاق كونه مبتدأ بدليل جواز دخول ناسخ الابتداء عليه، ولا دليل على جواز الوجهين الآخرين مع تكلف الإضمار، فينبغي ألا يقال به» انتهى. ولو كان يجوز فيه أن يكون خبرًا لمبتدأ لانتصب في قولك: نِعمَ الرجلُ كان زيدُ؛ لأنَّ ذلك المضمر يصير اسمًا لكان، فيلزم نصب زيد، ولا تَّصل منصوبًا أو انقصل بكان في قولك: نِعمَ الرجلُ أنتَ، إذا أَدخلتَ كان، فكنت تقول: نِعمَ الرجلُ كانك أو كان إياك، ولا يقال، إنما يقال: نِعمَ الرجلُ كنتَ. ولو كان خبر مبتدأ محذوف للزمَ حذف الجملة رأسًا في نحو {نِعْمَ العَبدُ}؛ إذ يصير التقدير: أيُّوبُ الممدوح، ولا يجوز حذف الجملة رأسًا، إلا إن كان في الكلام ما ينوب عنها، نحو: نَعَمْ، وبِلِى، ولا، ونحوها من حروف الجواب.

وللزم أيضا كون هذه الجملة لا تكون متعلقة بالأولي؛ لأنها لا موضع لها من الإعراب، وليست مفسِّرة؛ إذ المفسِّرة يجوز أن يُستغنَى عنها بالجملة التي قبلها، ولا يجب ذكرها، وهذه ليست كذلك، ولا هي جملة اعتراض. وللزمَ أيضًا حذف جملتين لا دليل على حذفهما، وهي جملة السؤال وجملة الجواب. وأيضا فالمفهوم من قولك: نِعمَ الرجلُ زيدٌ، وزيدٌ نِعمَ الرجلُ ــ واحد، فكما لا يُتَوَهَّم في زيدُ نعمَ الرجلُ أنه على كلامين، فكذلك في: نِعمَ الرجلُ زيدٌ. وقال المصنف في الشرح: «ومن لوازم كونه خبرًا قبل دخول كان أن يقال: نِعمَ الرجالُ كانوا الزيدين، ونِعمَ النساءُ كُنَّ الهنداتِ، ونِعمَ الرجلُ ظَننته زيدًا، ونِعمَ الرجلان وُجدا إياكما، لكنَّ العرب لم تقل إلا: نِعمَ الرجالُ كان الزيدون، ونعمَ النساءُ كانت الهندات، ونعِمَ الرجلُ ظننتُ زيدًا، ونِعمَ الرجلان وُجدتما، فعُلم بهذا أنَّ المخصوص لم يكن قبله ضمير، فيكون هو خبره بل كان مبتدأ مخبرًا عنه بجملة المدح أو الذم». قال: «ومِن لوازم ذلك جواز دخول إنَّ؛ لأنَّ الخبر والمخبر عنه عند من يري صحة ذلك جملة خبرية أُجيب بها سؤال مقدر، وتوكيد ما هو كذلك بإنَّ جائز، والجواز هنا مُنتَفٍ مع أنه من لوازم الخبرية، فالخبرية إذًا منتفية؛ لأنَّ انتفاء اللازم يدل على انتفاء الملزوم. وأمَّا على القول بكول المخصوص مبتدأَ مقدَّم الخبر فيلزم منه موافقة الواقع، وهو امتناع دخول إنّ إلا مع تقدُّم المخصوص، كقولك: إنَّ زيدًا نِعمَ الفتى» انتهى، وفيه بعض تلخيص. ولقائلٍ أن يقول: الذي قال فيه إنه خبر مبتدأ محذوف لم يقل ذلك على سبيل الوجوب، بل على سبيل الجواز، ويمكن أن العرب حين أدخلت الناسخ لم تُراع هذا الجائز، بل راعت الجائز الآخر، وهو أن يكون مبتدأ؛ لأنها التزمت حذف

هذا المبتدأ، فلو راعت هذا الجائز الثاني /عند دخول الناسخ لكان نقضًا لِما اعتزما عليه من الحذف؛ لأنه إذا ذاك يَبرز في كان وأخواتها في التثنية والجمع، وفي ظننت وأخواتها. وقال الأستاذ أبو الحسن بن الباذِش: «لا يجيز س أن يكون المختصُّ بالمدح والذم إلا مبتدأَ في: نِعمَ الرجلُ زيدُ، وبئسَ الرجلُ عمرُو، كما كان في: زيدُ نِعمَ الرجلُ، وعمرُو بئسَ الرجلُ، وتكون الجملة في موضع رفع، وذلك أنَّ نِعمَ وبئسَ لا يتم المعنى المقصود بهما إلا باجتماع المختصَّ بالمدح والذم مع الجنس الذي هو منه، فلا يتقدر على هذا إلا مبتدأً، كما لا يتقدر ذهب أخوه زيدٌ إلا مبتدأ، وهذا يقتضي تشبيه نِعمَ به. ويدلُّ علي فساد الوجه الآخر أنَّ الاسم المختصَّ بالمدح والذم يجوز حذفه، فإذا كان خبر المبتدأ محذوفًا، ثم حُذف هو ـــ آل إلى حذف الجملة كلها، وذلك غير جائز» انتهى. وبهذا قوَّى أبو الفتح كونه لا يكون إلا مبتدأ. وقال س: «وأمَّا قولهم نِعمَ الرجلُ عبدُ الله فهو بمنْزلة: ذهبَ أخوه عبدُ الله، عَمِلَ نِعمَ في الرجل، ولم يَعمل في عبد الله. وإذا قال عبدُ الله نِعمَ الرجلُ فهو بمنْزلة: عبدُ الله ذهبَ أخوه». فسوَّى س بين التركيبين تأخير المخصوص وتقديمه. ثم قال س: «كأنه قال: نِعمَ الرجلُ فقيل له: مَن هو؟ فقال: عبدُ الله وإذا قال عبدُ الله فكأنه قيل له: ما شأنُه؟ فقال: نِعمَ الرجلُ» انتهى.

فلم يُرد س بقوله «من هو» أنَّ الكلام على جملتين إذا تأخر المخصوص، كما لم يُرد ذلك «إذا قال: عبدُ الله، فكأنه قيل له: ما شأنُه؟ فقال: نِعمَ الرجلُ» لأنَّ عبد الله حالة التقديم يستحيل أن يكون جملة، وإنما أراد أنَّ تَعَلُّقَ المبتدأ بالخبر والخبر بالمبتدأ تَعَلُّقُ لازم، فإذا بدأتَ بالمبتدأ احتجتَ إلى خبر، وإذا بدأتَ بالخبر احتجتَ إلى مبتدأ، لا أنَّ ذلك على جملتين، فإذا قلت «ذهب» فكأنه قيل لك: مَن الذاهبُ؟ وإذا قلت «زيدٌ» فكأنه قيل لك: ما شأنه؟ وبأن بهذا النص من س فساد نسبة ذلك لـ «س»، كما فعل المصنف في قوله إنّ س أجاز أن يكون خبر مبتدأ واجب الإضمار، وأنه لم يتصفح كلامه، أو قَلَّدَ مَن نَسب ذلك إلى س. وقال ابن عصفور: «الذي يدلُّ على أنه إذا تأخَّر لا يلزم فيه أن يكون مبتدأ والجملةُ خبر قولُهم: نِعمَ البعيرُ جملُ، ونِعمَ الإنسانُ رجلُ، ونِعمَ مالاً ألفُ، ومنه قوله ـــــ - عليه السلام - ـ: (نِعمَ المالُ أربعون، والكثيرُ ستُّون، وويلُ لأصحابِ المئين إلا مَن أعطى الكريمة، ومَنَحَ الغزيرة، ونَحَرَ السمينة، وأَطعَم القانعَ والُمعْتَزَّ)، فأربعون وألف ورجل وجمل أخبار لمبتدآت مضمرة، ولا يجوز أن تكون مبتدأة، وما قبلها خبر لها؛ لأنها نكرات، ولا مسوِّغ للابتداء بها، وإذا ثبتَ جعله خبرَ مبتدأ محذوف لفهم المعنى فلا مانع يمنع من جواز جعله مبتدأ، والخبر محذوف لفهم المعنى» انتهى كلامه. وما ذهب إليه من تعيُّن هذه الأسماء النكرات لأن تكون خبر مبتدأ محذوف، وامتناع أن تكون مبتدآت لكونها نكرات، ولا مسوَّغ للابتداء بها ــــ غير صحيح، بل فيها مسوِّغان: أحدهما ذكره هو في باب /المبتدأ والخبر، والآخر ذكره غيره:

فأمَّا الذي ذكره هو فهو أن تكون النكرة لا تُراد لعينها، فهذا عنده من المسوِّغات لجواز الابتداء بالنكرة، وجَعل من ذلك قول الشاعر: مُرَسَّعةُ ... بينَ ... أرْساغِهِ ... بهِ عَسَمٌ يبتَغي أرْنَبا قال: «النكرة هنا لا تراد لعينها؛ ألا ترى أنه لا يريد مُرَسَّعة دون مُرًسَّعة». وقال أيضًا: «وينبغي أن يزاد في شروط الابتداء بالنكرة أن تكون النكرة لا تُراد لعينها، نحو: رجلُ خيرُ من امرأة، تريد: واحدُ من هذا الجنس أيّ واحد كان خيرٌ من كل واحدة من جنس النساء، إلا أنَّ معناه يؤول إلى العموم، إلا أنه يخالف العموم في أنه يدلُّ علي كل واحد على جهة البدل، أعني أنه لا يتناول الجميع دفعةً واحدة، وكلُّ يتناول الجميع في دفعة واحدة» انتهى كلامه. فالمسوَّغ الموجود في قولهم: رجلُ خيرُ من امرأة، وتمرةُ خيرُ من جرادة، ومُرَسَّعةُ بين أرساغه ـــ هو بعينه موجود في قولهم: نِعمَ البعيرُ جملُ، ونِعمَ مالاً ألفُ؛ لأنهما نكرتان لا ترادان لعينهما، بل حُكم على واحدٍ من الجمال بأنه نِعمَ البعير، وعلى واحد من الألف بأنه نِعمَ المال. فعلى هذا الذي تقرر يجوز أن يتقدم، فتقول: جملُ نِعمَ البعيرُ، وألفُ نِعمَ مالاً. والمسوِّغ الذي ذكره غيره هو أنه يجوز أن يكون نكرة إذا كان خبره جملةً مشتملة على فائدة، إلا أنه يجب تأخيره، وذلك نحو: قصدَ غلامَه رجلُ، فإنه جائز جواز «عندك رجلُ»؛ لأنَّ في تقديم الجملة ما في تقديم الظرف من رفع توهُّم

الوصفية مع عدم قبول الابتداء، فعلى ما قَرَّرَ هذا المقرِّر يكون جملُ مبتدأ، وقد تقدَّمَتْه جملة مشتملة على فائدة، وهي: نِعمَ البعيرُ، إلا أنه لا يجوز تقديم هذا المبتدأ على هذا المسَّوغ؛ لأنَّ تقديم الخبر هنا مسوِّغُ لجواز الابتداء بالنكرة. واستشهد بعض النحويين على أنَّ المخصوص حالة التأخير خبر مبتدأ محذوف بقول العرب: شَدَّ ما أنك ذاهب، قال: فـ «ما» منصوبة على التمييز، وأنك خبر مبتدأ محذوف، كأنه قال: شَدَّ شيئًا، ثم أوضح، فقال: هو أنَك ذاهب. ولا يتوجه في «أنَّ» هنا إلا هذا الإعراب؛ إذ لا تكون مبتدأة. وقيل: يجوز أن تكون فاعلةً بـ «شَدَّ». وكذلك: عَزَّ ما أنك ذاهب. وقال الفارسي: «لا يظهر المبتدأ الذي زيدٌ خبره بعد: نِعمَ الرجلُ زيدٌ، لا يقال: هو زيدُ، وذلك لأنَّ هاتين الجملتين قد انعقدتا انعقاد الجملة الواحدة، فطالتا، فاستخَفوا حذف المبتدأ البتَّة، وقَوَّى على ذلك أنَّ الجملة الواحدة منهما قد يُضمر فيها الفاعل، فلا يظهر البتَّة، نحو: نِعمَ رجلاً زيدُ، فلمَّا كان موضع إضمار البتَّة كان أيضًا موضع حذف البتة» انتهى. وقد ردَّ بعض أصحابنا على مَن جوَّز أن يكون مبتدأ محذوف الخبر، وأنَّ التقدير: زيدٌ الممدوحُ ـــ بأنَّ الذي يقول نِعمَ الرجلُ زيدُ ليس في نفسه نِعمَ الرجلُ زيدٌ الممدوحُ، ولا يمكن أن يُحذف خبرُ مبتدأ إلا وهو مراد في النفس، فُيحذف للعلم به اختصارًا. وإنما حمل على هذا القائلَ به تجويزُ الإعراب من غير التفات إلى المعنى، وذلك ليس بشيء، بل لا ينبغي أن يوجَّه إعراب حتى يصح معناه. وقال /المصنف في الشرح رادَّا على من زعم أنَّ المخصوص مبتدأ محذوف الخبر ما نصه: «هذا غير صحيح؛ لأنَّ هذا الحذف مُلتَزَم، ولم نجد خبرًا يلتزم حذفه إلا ومحلُّه مشغول بشيء يسدّ مسدّه، كخبر المبتدأ بعد لولا، وهذا بخلاف ذلك، فلا يصح ما ذهب إليه».

وذهب ابن كسيان إلى أنَّ المخصوص بدل من المرفوع. وهو باطل لأنه لا يقال: نِعمَ زيدُ. وأيضًا فإنه يكون بدلاً لازمَ التبعية، وليس في الأبدال ما هو كذلك. وقوله أو أَوَّلَ مَعمُولَيْ فعلٍ ناسخٍ مثالُه قول الشاعر: لَعَمْري لئنْ ... أنْزَفْتُمُ أو صَحَوْتُمُ ... لَبِئسَ النَّدامَي كُنتُمُ، آلَ أَبْجَرَا وقال زهير: يَمينًا لَنِعْمَ ... السَّيَّدانِ وُجِدتُما ... على كُلِّ حالٍ مِن سَحيلٍ ومُبْرَمِ وقوله ومِن حَقَّه أن يختصّ قال المصنف في الشرح 3: «ومن حق المخصوص بالمدح والذم أن يكون معرفةً أو مقاربًا لها بالتخصيص، نحو: نِعمَ الفتي رجلُ من بني فلان، ونِعمَ العملُ طاعةُ وقولُ معروفُ» انتهي. ويَرد على ما قال قولُهم: نِعمَ البعيرُ جملُ، ونِعمَ الإنسانُ رجلُ، ونِعمَ مالاً ألفُ، و (نِعمَ المالُ أربعون)، فهذه مخصوصات بالمدح لم تختصّ. وقوله ويَصلح للإخبار به عن الفاعل موصوفًا بالممدح بعد نِعمَ وبالمذموم بعد بئسَ، فإن بايَنَه أوِّل قال في الشرح: «كقولك في نِعمَ الرجلُ زيدٌ: الرجلُ الممدوحُ زيدٌ، وفي بئسَ الولدُ العاقُّ أباه: الولدُ المذمومُ العاقُّ أباه» انتهى. وهذا الذي ذكره في الشرح لا يَسُوغ إلا إذا رَفع نِعمَ وبئسَ الظاهر، أمَّا إذا رَفع المضمرَ فإنه لا يَصلح ذلك فيه، بل يُعتبر ذلك في التمييز، فإذا قلت نِعمَ رجلاً زيدُ فالإخبار بما ذكر يكون في التمييز، فتقول: الرجلُ الممدوحُ زيدُ، وكذا في بئسَ.

وهذا الذي ذكره المصنف من اختيار المخصوص بأن يُخبَر به عن الفاعل موصوفًا بما ذكر هو معنى ما ذكره أصحابنا مِن أنَّ شرط المخصوص ألا يكون أعمّ ولا مساويًا؛ بل يكون أخصّ، فلو قلت: نِعمَ الرجلُ الإنسانُ، أو نِعمَ الرجلُ المرء، لم يجز، بل شرطه أن يكون أخصَّ من الفاعل؛ لأنه إذا كان أعمَّ أو مساويًا لم يكن في الإخبار فائدة. وقوله فإن بايَنَه أُوِّلَ قال أبو موسى: «ومِن شرطه أن يَصدُق عليه اسم الفاعل» أي: اسم المرفوع بنِعمَ وبئسَ، نحو: نِعمَ الرجلُ عبدُ الله، فلا تقول: نِعمَ الفرسُ الرجلُ. وكذلك أن يصدق عليه التمييز، فلو قلت نِعمَ فرسًا عبدُ الله لم يجز. «فأن وقعَ ما يُوهم خلاف هذا يُؤوَّل»، نحو قوله تعالى {بئس مثل القوم الذين كذبوا بايت الله}، تأوله أبو علي على وجهين: أحدهما: أن يكون (الذين) في موضع رفع على إضمار مثل، أي: مثلُ الذين، وهو المخصوص بالذم، وحذف، وقام (الذين) مقامه. والثاني: أن يكون (الذين) في موضع جر صفة للقوم، والمخصوص محذوف، أي: بئسَ مَثَلُ القومِ المكذبين مثلُ هؤلاء. وقد ضعف وصف ما يضاف إليه /فاعل نِعمَ وبئسَ لأنَّ فيه تخصيصًا، والتخصيص مباين لعموم الجنس. وقوله وقد يُحذَف وتَخلُفُه صفتُه اسمًا وفعلاً مثال حذفه والصفة اسم: نِعمَ الصديقُ حَليمٌ كريمٌ، وبئسَ المُصاحبُ عَذولٌ خذولٌ. قال المصنف في

الشرح: «ويكثُر ذلك إذا كانت الصفة فعلاً والفاعل ما، كقوله تعالى {قل بئسما يأمركم به إيمانكم} وكقوله {ولبئس ما شروا به أنفسهم}» انتهى. وقد تقدم الخلاف 4 في هذه المسألة، وهي إذا جاء بعد نِعمَ وبئسَ ما. وقال المصنف في الشرح 5: «ويَقلُّ إذا لم يكن الفاعل ما، نحو: نِعمَ الصاحبُ تَستعين به فُيعينك، التقدير: صاحبُ تَستعين به فُيعينك». وهذا الذي أجازه المصنف من «نِعمَ الرجلُ تستعين به» قد تقدَّم الخلاف فيه، وأنَّ الكسائى هو الذي أجازه، وأنَّ أكثر النحويين معنوه، وذلك عند الكلام على كون «ما» تكون فاعلةً تامَّةً على مذهب س. وقوله وقد يُغني متعلَّق بهما أي: يٌحذف الموصوف وصفته، ويبقى ما يتعلَّق بهما، أي: ما يقتضيهما من جهة المعنى، نحو قول الراجز: بئسَ مَقامُ الشَّيخِ أمْرِسْ أمْرِسِ ... إمَّا على قَعْوٍ وإمَّا اقْعَنْسِسِ تقديره: بئسَ مَقامُ الشيخِ مَقامُ مَقُولُ فيه أَمْرِسْ أمْرِسْ، فحُذف مَقام ـــ وهو الموصوف ـــ وصفته ـــ وهو: مَقُولُ فيه ــ وبَقيَ ما يطلبهما، وهو معمول القول الجملة الأمرية.

وقوله وإن كان المخصوص إلى آخر المسألة إذا كان المذكر كُني به عن مؤنث، أو المؤنث كُني به عن مذكر ــــ جاز أن تعامله معاملة ما كُني به عنه، فتقول: هذه الدارُ نِعمَتِ البلدُ، وهذا البلدُ نِعمَ الدارُ، قال س: «وأمَّا قولهم: هذه الدارُ نِعْمَتِ البَلَدُ، لّما كان البلدُ الدارَ أقحموا التاء، فصار كقولك: مَن كانت أُمَّك؟ وما جاءتْ حاجتَك؟ ومن قال نِعمَ المرأةُ قال نِعْمَ البلدُ، وكذلك: هذا البلدُ نِعمَ الدارُ، لَمّا كانت البلدَ ذُكِّرَتْ» انتهى. وقال الشاعر: أو حُرَّةٌ عَيْطَلٌ ثَبْجاءُ مُجْفَرَةٌ ... دَعائمَ الزَّور، نِعْمَتْ زَوْرَقُ البَلَدِ الحق علامةَ التأنيثِ والزَّورَقُ مذكر؛ لأنه كَنى به عن الحُرَّة، وهي الناقة. وقال الآخر: نِعْمَتْ كِساُء الضَّجيعِ شَهْلةٌ فُضُلٌ ... غرَّاءُ بَهْكَنةٌ شَنْباءُ عُطْبولُ وقال الراجز: نِعْمتْ جَزاءُ المُتَّقيِنَ الَجَّنهْ ... دارُ الأَمانِي والمَنى والمنَّهْ وترك التاء أجود إذا كان الفاعل مذكرًا قد كُني به عن مؤنث مراعاةً للفظ.

وفي كلام ابن عصفور في الشرح «الشرح الكبير» ما يوهم أنك إذا قلت «هذا البلدُ نِعمَ الدارُ» لا تلحق العلامة، وإن كان الدار عنيت بها البلد، والدار مؤنثة، والبلد مذكر. وما قاله ابن عصفور ظاهر من كلام س، وهو أنه لا يجوز في «هذا البلدُ نِعمَ الدارُ» التأنيث؛ لأنه قال: «فَلَزِمَ هذا في كلامهم»، لكن القياس يقبله، والنحويون قالوه، فُيحمل كلام س على أنه أراد بالزوم لزومًا أكثريَّا، كما /قال في «كأيِّنْ مِن رجلٍ» إنّ مِنْ لَزمَتْ، ثم صَّرح بأنَّ أكثر العرب هم الذين يُلحقونها لا كلهم. والأحسن في نِعْمَتِ الجاريةُ أختُك التاء، وكذلك في التثنية، وأمَّا في الجماعة من الإناث فالأحسن ترك التاء، نحو: نِعمَ النساءُ أخواتُك. وقال س: «واعلمْ أنَّ نِعمَ تُذَكَّر وتُؤَنث، تقول: نِعْمَتِ المرأةُ، ونِعْمَ المرأةُ، كما قالوا: ذهبَ المرأة، والحذف في نِعْمَتْ أكثرُ». يعني أكثر من الحذف في ذهبتِ المرأةُ؛ لا أنَّ الحذف في نِعْمَتْ إذا كان فاعلها مؤنثًا أكثر من الإثبات. -[ص: وتُلحَق ساءَ ببئسَ، وبها وبِنِعمَ فَعُلَ موضوعًا أو محوَّلاً من فَعَلَ أو فَعِلَ مضمَّنًا تعجُّبًا، ويَكثُر انجرارُ فاعلِه بالباء، واستغناؤه عن الألف واللام، وإضمارُه على وَفْق ما قبلَه.]- ش: قال المصنف في الشرح: «يقال: ساءَ الرجلُ أبو لهب، وساءتِ المرأةُ حمالةُ الحطب، وساءَ رجلاً هو، وساءتِ امرأةً هي، بإجراء ساءَ مُجري بئسَ في

كل ما ذكر، ولذلك استُغني بـ (ساءَ) عن بئسَ في قوله تعالي {ساء مثلا القوم}، وبـ (بئسَ) عن ساءَ في قوله تعالى {بئس مثل القوم}، وقد جُمعنا في قوله تعالى {بئس الشراب وساءت مرتفقا} انتهى. وفي كلامه نقد من وجهين: أحدهما: إفراد ساءَ بالذكر، وهي فرد من أفراد فَعُلَ المُجْرى مُجرى بئسَ ونِعمَ، وساءَ في الأصل فعلُ متعدَّ إلى واحد، متصرف، على وزن فَعَلَ، بفتح العين، تقول: ساءَ الأمرُ زيدًا يَسوءُه، فحُوِّل إلى فَعُلَ ــــ بضم العين ـــ لِما في ذلك من المباغة، فهو مندرج تحت قوله أو مُحَموَّلاً من فَعَلَ، فإفراده بالذكر لا وجه له. النقد الثاني: قوله «إنه استُغني ببئسَ عن ساء في قوله تعالى {بئس مثل القوم}. وليس هذا استغناءً؛ لأنَّ ما جاء على الأصل لا يقال إنه استُغني به عما ضُمِّنَ معناه، بل الأمر بالعكس، وهو الاستغناء بالمضمَّن عما ضُمِّن معناه، كما قال المصنف في ساءَ إنه استُغني بها عن بئسَ في قوله {ساء مثلا القوم}. وعلى باب بئسَ حمل أبو علي {ساء مثلا القوم}، وجعله غيرُه من باب: طابَ زيدُ نفسًا. وقال في «التذكرة»: «يكون انتصاب المَثَل على حد انتصاب الحمل في قوله {وساءهم يوم القيمة حملا}».

وجعل ابن دُرُسْتُوَيْه القومَ من جنس الَمثَل، وهو عنده من باب: حَسُنَ رجلاً زيدُ، فزيدُ من الرجال، وكذلك القوم عنده من المَثَل، ولذلك لم يكن: نِعمَ أمثالاً القومُ، كما تقول: نِعمَ رجالاً القومُ؛ لأنهم لَمَّا ضُرب بهم المَثَل صاروا مَثَلاً على الاتَّساع، فصار «مَثَلاً» جنسًا منه القوم الذين كَذَّبوا، كما تقول: نِعمَ رجلاً زيدٌ، فزيدٌ من جنس الرجال، فسُمِّي ما ضُرب به المَثَل مثَلاً على الاتِّساع، حكى هذا عن غيره، واستحسنه، وأجاز ما ذكر أبو علي. وقوله وبها ــ أي وبئسَ ــ ونِعمَ فَعُلَ موضوعًا مثاله: حَسُنَ الخُلقُ خُلُقُ خُلُقُ الحكماء، وقَبُحَ العنادُ عنادُ المبطلين، وشَنُعَتِ الوُجُوهُ وُجوهُ الكافرين. وقوله أو مُحَوَّلاً من فَعَلَ وفَعِلَ قال المصنف في الشرح: «فمنها قول العرب: لَقَضُوَ الرجلُ فلانُ، وعَلُمَ الرجلُ فلانُ، بمعنى: نِعمَ القاضي هو، ونِعمَ العالمُ هو انتهى. ومعني الإلحاق أنه يثبت لفَعُلَ سائر الأحكام التي لِنعمَ وبئسَ من الفاعل والتمييز /والمضمر ومجيء «ما» بعده، كقوله {ساء ما يحكمون}، ويُتأول مثل قوله {ساء مثلا القوم} ـــ أي: مَثَلُ القومِ ـــ لاختلاف التمييز والمخصوص. وفي كلام الشارح التمثيل في المُحَوَّل من فَعِلَ إلى فَعُلَ قوله «وعَلُمَ الرجلُ فلانُ»، ونصَّ النحويون على أنَّ الفعل إذا كان على وزن فَعَلَ أو فَعِلَ حُوِّلَ إلى فَعُلَ، وصار المتعدي منها لازمً، وإنَّ العرب شَذَّتْ في ثلاثة ألفاظ 5، فلم تُحَوَّلها،

بل أبقتها على أصلها من الوزن، واستعملَتْها استعمال نِعمَ من غير تحويل، لكن جعلتها لازمة، وهي عَلِمَ وجَهِلَ وسَمِعَ، فتقول: عَلِمَ الرجلُ زيدُ، وجَهِلَ الرجلُ عمرٌو، وسَمِعَ الرجلُ عمرٌو إذا أرادوا المباغة في عمله وجهله وسماعه. وذكر خَطَّاب بن يوسف المارِدِيّ شرطَّا في إلحاق فَعُلَ بِنعمَ وبئسَ، وهو أنه لا يُبنَي مُتَوَصَّلاً به إلى ما يجوز التعجب منه، قال في كتابه «الترشيح» حين تكلَّم علي لَفَعُل ما نصبه: «فإن تعجبت من الرباعي فصاعدًا أو الألوان والعاهات فانهم عدَلوا فيه عن الأصل في هذا البناء، واستغنوا عنه بقولهم: أَفْعَلُ الفعل فِعلُه، تقول: أَشَدُّ الحُمرةِ حُمرتُّه، وأسْرَعُ الانطلاقِ انطلاقُه، وأَفْحَشُ الصَّمَمِ صَمَمُه، والاسم الأول مبتدأ، والثاني مضاف إليه، وما بعد المضاف خبر وكان القياس أن يقولوا: لَفَحُشَ الصَّمَمُ صَمَمُه، ولَشَدَّتِ الحُمرةُ حمُرتُه، فيرفعوه من حيث رَفعوا: لَكَرُمَ الرجلُ زيدٌ، ولكنهم استَغنَوا عنه بما ذكرتُ لك» انتهى. وقوله مُضَمَّنًا تَعَجُّبًا اختلفوا في هذه الصيغة: فذهب الفارسيُّى وأكثر النحويين إلى إلحاقها بباب نِعمَ فقط، فعلى هذا تَثبت لها جميع أحكام نِعمَ. وذهب الأخفش والمبرد إلى أنه يجوز إلحاقها بباب التعجب. وفي «البسيط»: «المغَّير عن أصل صيغته للمدح لازمٌ لذلك المعنى الذي غُيِّر له بحيث صار من ألفاظ المدح وغيرُ لازم، الازم حَبَّذا، وعكسه لا حَبَّذا، وغير اللازم كل فعلٍ على ثلاثة أحرف يُبنى منه فَعُلَ، ويوضح للمدح والذمّ إن قبلهما في المعنى قياسًا، وهذا عامّ وخاصّ، العامّ ما كان معناه يَقُرب من معنى نِعمَ وبئسَ، أو

فيه نسبة إليهما، كعَظُمَ وصَغُرَ وساءَ وكَبُرَ ولَطُفَ وهانَ وعَزَّ وشَدَّ ونحوه، والخاصّ ما دلَّ على خصوصية ما مُح به، نحو: حَسُنَ وفَقُة، ورُدَّ إلى فَعُلَ ليكون من أفعال النحائر؛ إذ بها يقع المدح والذم، وليصير إلى ما لا يتعدى، وهو أصل الباب كنعمَ وحَبَّذا. واختلفوا في فاعلها: فقال الأكثرون كالأخفش وغيره: يكون بمْنزلة نِعمَ وبئسَ وحَبَّذا، يكون ظاهرا عامَّا، ومضافًا، أو مضمرًا مفسَّرًا، أو حرف إشارة مفسَّرًا وغير مفسَّرًا وغير مفسَّر، والاسم بعدها كما تقدم فيها، كقولك: عَظُمَ رجلاً زيدٌ، وتقول: حَسُنَ ذا زيدٌ، وهو يقلُّ لقلَّة ما يُبنى من هذا، وإنما سُمع منه حَبَّذا، وشَدَّ ما أنك ذاهب، وعَزَّ ما أنك منطلق، بُني مع ما، وصارا معًا بمنْزلة مصدر في موضع الظرف، كما تقول: حَقَّا أنك ذاهب، أي: في الحقَّ أنك ذاهب، أي: في الشَّدِّ والعِزِّ أنك ذاهب، كما صارت قَلَّما /غالبة عليها الحرفية لتركيبها معها. وقال بعضهم: يجوز أن يكون فاعلها كل اسم، وأجاز: حَبَّ زيدٌ. والخاصّ كالعامّ، نحو: فَقُهَ رجلاً زيدٌ، وحَسُنَ رجلاً عبدُ الله» انتهي ما لخص من البسيط. والصحيح جواز الاستعمالين، أعني استعماله استعمال نِعمَ وبئسَ، فيكون فاعله وأحكامه كأحكامها. واستعماله استعمال فعل التعجب، فلا يلزم فاعله أن يكون كفاعل نِعمَ وبئسَ في كونه ذا أل أو مضافًا إليه أو مضمرًا على شريطة التفسير، ويكون مخصوصه المرفوع به خاصة، حكى الأخفش الاستعمالين في الكبير له عن العرب. وفي «الإيضاح»: «ذكر أبو الحسن والفراء وأبو العباس وجماعة أنَّ العرب تنقل الثلاثي إلى فَعُلَ بالضم، وتجعله في العمل بمْنزلة نِعمَ وبئسَ، فيكون فاعله جنسًا فيه اللام، أو مضافًا إلى ما فيه اللام، أو مضمرًا مبهمًا مفسَّرًا بنكرة منصوبة،

والمعتل من الثلاثي يقدر فيه ذلك التقدير، فتكون ألفه منقلبة عن معتلِّ مضموم، نحو: عِلُمَ الرجلُ زيدٌ، وجَهُلَ الرجلُ عمرٌو، وعَلُمَ رجلاً زيدٌ، وباع وقال على ذلك الحد. فإن كان على فَعُلَ بالضم تُرك على حدّه. وكثيرًا ما تدخل اللام، فتقول: لَعَلُمَ رجلاً زيدٌ، وينبغي أن يكون جواب قسم، كما تقول لَنِعمَ الرجلُ زيدٌ» انتهى. وقال المصنف في الشرح: «فإذا قلت لَقَضُوَ الرجلُ فلانُ بمعنى: نِعمَ القاضي هو ـ ففيه معنى: ما أَقْضاه!» انتهى. وكيفية بنائه أنه إمَّا أن يكون صحيحًا عينه ولامه، أو معتلَّهما، أو معتلّ أحدهما، أو مضعَّفتهما: إن كان صحيحَهما على فَعُلَ وَضْعًا أو تحويلاً من فَعَلَ وفَعِلَ فإمَّا أن تُجريه مُجرى نِعمَ أو مُجرى فِعل التعجب، إن أَجريتَه مُجرى نِعمَ، نحو: حَسُنَ الوجهُ وجهك ـ فيجوز فيه إقرار ضمة العين، وتسكينها، ونقلها إلى فاء الكلمة. وإن أجريتَه مُجرى فِعل التعجب جاز الضم والتسكين، ولا يجوز النقل. وإن كان مضعقًا فالإدغام، فتقول: لَحَبَّ الرجلُ زيدٌ، ويجوز النقل إلى الفاء، فتقول: لَحُبَّ الرجلُ زيدٌ. وإن كان معتلَّهما من باب قُوَّة قلبتَ الضمة كسرةً واللامَ ياءً استثقالاً للواوين والضمة، فتقول: لَقَوِيَ الرجلُ زيدٌ. أو من باب شَوى، فتقلب الياءَ واوًا لضمة ما قبلها، وتفعل بها ما فعلت بباب قُوَّة، فتقول: لَشَويَ الرجلُ زيدٌ. ويجوز التسكين فيهما، فتقول: لَقَوْيَ الرجلُ زيدٌ، ولَشَوْيَ الرجلُ عمرُو، ولا يُدغم لأنه سكون عارض.

وإن كان معتلَّ العين، نحو جادَ وباعَ ــ لزم قبلها ألفًا لتحركها وانفتاح ما قبلها، فتقول للرجل إذا كان حسن القول أو البيع: قالَ الرجلُ زيدٌ، وباعَ الرجلُ عمرُو. وإن كان معتلَّ اللام، وكان على فَعُلَ وضعًا، نحو سَرُوَ، قلت: سَرُوَ الرجلُ عمرٌو، ويجوز التسكين. وإن كان أصله فَعَلَ وفَعِلَ نحو غزا ورمى ولَهِيَ وخَشِىَ، ففي ذلك خلاف: ذهب الجمهور إلى أنه يُحَوَّل إلى فَعُلَ، فتظهر الواو فيما أصله الواو، نحو غَزُوَ، وتنقلب الياء فيما أصله ياءٌ واوًا، فتقول: قَضُوَ. وذهب بعض النحويين إلى أنه يُقَرُّ على حاله، فتقول: لَرَمَى الرجلُ زيدُ، ولَغَزا الرجلُ الرجلُ /عمرُو؛ لأنَّ هذا الفعل يشبه الأسماء في عدم التصرف، فكما يُكره فيها أن يجيء في آخرها واو مضموم ما قبلها فكذلك كُره فيما أشبهها. وإذا أسكنت عين الكلمة مما لامه ياء لم تردّ اللام إلى أصلها من الياء وإن ذهبت الضمة التي أوجبتْ قبلها؛ لأنَّ هذا سكون عارض، كما لم يعتدُّوا بسكون قولهم: دُنْيَ له، أي: دُنِيَ له، فيردّوها إلى الواو إذ زال موجب قلبها ياء ــ وهو الكسرة ـ لأنه سكون عارض أيضًا. وقوله ويكثر انجرارُه بالباء قال المصنف في الشرح: «ولِكَون فَعُلَ المذكور مُضَمَّنًا تعجُّبًا استُحسِن فيه ما لم يُستَحسَن في نِعمَ من جرِّ فاعله بالباء حملاً على أفْعِلْ به في التعجب، فإذا قيل حَسُنَ بزيدٍ رجلاً نُزَّلَ منْزلة: أحسِنْ بزيدٍ رجلاً» انتهى. وقول المصنف «ما لم يُستَحسَن في نِعمَ» عبارة ليست بجيدة؛ لأنها تُشعر بجواز جرِّ فاعل نِعمَ بالباء، وهو لا يجوز، فتخليص العبارة أن يقال: «ما لا يجوز في

نِعمَ». حكى الكسائي عن العرب: «مررتُ بأبيات جادَ بهنَّ أبياتًا، وجُدْنَ أبياتًا» حَذف الباء، وجاء بضمير الرفع متصلاً، وقال الشاعر: حُبَّ ... بالزَّورِ ... الذي لا تُرَى ... منهُ ... إلا ... صَفْحةٌ أو لِمامْ وقال آخر: لَحَبَّ ... بنارٍ ... أوُ قِدَتْ بين مُحْلِبٍ ... وفَرْدَةَ، لو يَدنو مِنَ الَحبلِ واصِلُهْ وقال آخر: يُضيءُ سَناهُ الَهضْبَ هَضْبَ مُتالعٍ ... وحَبَّ بذاكَ البَرقِ، لو كانَ دانِيا وقال آخر: سَرَتْ تَخْبِطُ الظَّلماءَ مِن جانَبِيْ قَسًا ... وحُبَّ بها مِن خابِطِ الليلِ زائرِ وقال آخر: فقلتُ: اقْتُلُوها عَنكمُ بِمِزاجِها ... وحُبَّ بِها مَقتُولةً حينَ تُقتَلُ

وقال آخر: بَكَتْ عَينِي، وحُقَّ لها بُكاها ... وما يُغْنِي البُكاءُ ولا العَويلُ وقوله واستغناؤه عن الألف واللام مثاله ما تقدَّم ذكره من حكاية الكسائي: «جادَ بهنَّ أبياتًا، وجُدْنَ أبياتًا»، و «لَحَبَّ بنار»، وحَبَّ بذاكَ البرقِ»، وحُبَّ بها مِن خابط»، وحُبَّ بها مقتولةً»، وحُقَّ بكاها». وقوله وإضمارُه على وَفقِ ما قبلَه تقول: الزيدون كَرُمُوا رجالاً، تُنَزَّله منْزلة: الزيدون ما أَكْرَمَهم رجالاً، ولا يجوز هذا في نِعمَ وبئسَ، إنما تُضمر فيهما ضميرًا مفرًا مُسْتَكِنَّا، يُفَسَّره ما بعده، وهذا الضمير الذي فَعُلَ يكون على وَفقِ ما قبلَه مِن إفرادٍ وتثنية وجمع وتذكير وتأنيث. فأمَّا قوله {كبرت كلمة تخرج من أفوههم}، فيحتمل أن يكون مثل: نِعْمَتِ /امرأة هندٌ، وهو قول ابن بَرْهان، ويكون المبتدأ محذوفًا، كما قال {كبر مقتا عند الله أن تقولوا}، فظهر المبتدأ، وصَدَق عليه الأول، وتقديره: كبرت كلمةً كلمةٌ تخرج. وأن يكون فاعل {كَبُرَتَ} ضميرًا يرجع إلى {أتخذ الله ولدا}، وهو قول الزمخشري في «الكشاف».

وأجاز بعض النحويين في {كَبُرَ مَقْتًا عِندَ الله} أن ينتصب (مَقْتًا) على الحال، و (أن تَقولوا) فاعل (كَبُرَ). وفي {كبرت كلمة تخرج} أن تكون (كلمةً) حالاً موطِّئة بالصفة، والفاعل مضمر لتقدُّم ذكره. وتقدَّم مِن قولنا أنَّ فَعُلَ لا يُستعمل في الضمة النقل إلى فاء الكلمة إلا إذا كان للمدح أو الذمّ لا في التعجب، وأنشدا علي ذلك قول الشاعر: لم يَمْنَعِ الناسُ مِنَّي ما أَرَدتُ، ولا ... أُعْطِيهمُ ما أَرادُوا، حُسْنَ ذا أَدَبَا

باب حبذا

-[ص: باب حَبَّذا أصلُ «حَبَّ» من «حَبَّذا»: حَبُبَ، أي: صار حبيبًا، فأُدغِم كغيره، وأُلزِم مَنعِ التصرف وإيلاءَ «ذا» فاعلاً في إفرادٍ وتذكير وغيرهما. وليس هذا التركيب مُزيلاً فعليَّة حَبَّ، فيكون مع «ذا» مبتدأً، خلافًا للمبرد وابن السراج ومن وافقهما، ولا اسميةَ «ذا» فيكون مع حَبَّ فعلاً فاعلُه المخصوص، خلافًا لقوم. وتدخل عليها «لا»، فتحصل موافقهُ «بِئسَ» معنًى.]- ش: حَبَّذا ولا حَبَّذا من الصيغ التي وُضعت للمدح والذم عمومًا كِنعمَ وبئسَ، والعامّ ما أُجملت فيه الصفات المحمودة أو المذمومة بحيث لا يخصُّ اللفظ واحدًا منها إبلاغًا في ذلك؛ لأنَّ التخصيص يتطرق إليه احتمال أنَّ له الوصف الآخر. قيل: والفرق بينهما وبين نِغمَ وبئسَ أنَّ حَبَّذا تُشعر مع دلالتها على المدح بأنَّ الممدوح محبوب وقريب من النفس، ولا حَبَّذا بالعكس، ولا تُشعر بذلك نِعمَ وبئسَ. وقيل: ليستا للمدح والذم بالوضع، وإنما وَضعُها للمبالغة في تمكُّن الحب، فتكون أبلغ من أَحَبَّ، لكن الحبَّ قريب من المدح؛ لأنَّ المحبوب ممدوح في الأكثر. وقوله أصلُ حَبَّ من حَبَّذا حَبُبَ أي: صار حبيبًا يدلُّ على ذلك كونه لا يتعدى، ولأنَّ ما بُني للمدح من هذا النوع يكون على فَعُلَ أصلاً أو تحويلاً، ولأنه إذا لم يُستعمل مع «ذا» جاز نقل حركة العين إلى الفاء، وروي بالوجهين:

............... ... وحُبَّ بها ... مَقتُولةً ... حينَ ... تُقْتَلُ ولا يجوز مع ذكر «ذا» إلا الفتح، فتقول: حَبَّذا. وأصله قبل استعماله للمدح فَغَلَ، وهو متعدِّ، تقول: حَبَبْتُ زيدًا ــــ وهو أقلُّ من أَحْبَبْتُ ـــ فهو محبوب، وهو أكثر من مُحَبّ، وهو حبيب، أي: محبوب، وقرأ أبو رجاء العُطارِديّ {فاتَّبِعُوني يَحبَّكُمُ الله}، بفتح الياء وكسر الحاء، وكان قياسها الضم؛ لأنَّ المضعف من فَعَلَ المتعدي قياسُه يَفعُل، نحو شَدَّه يَشُدُّه. وقوله فأُدغِم كغيره متى كان ثلاثيَّا مضعفًا وجب الإدغام، وسواء أكان على وزن فَعَلَ كشَدَّ، أو فَعِلَ كشَلَّ، أو فَعُلَ كلَبَّ، وقد جاء في بعض ذلك الفك، نحو: لَحِحَتْ عينُه. وقوله وألزِمَ /منعَ التَّصَرُّف لأنه صار كالحرف الذي جيء به لمعنىً في غيره؛ إذ أصله ألا يدل على المدح، وذلك بخلاف غيره، فإنه يتصرف، نَحو: لَبَّ الرجلُ، تقول فيه: لَبُبْتَ ولم تَلْبُبْ، وفَعُلَ من المضاعف قليل النظير. وقولهوإيلاَء «ذا» فاعلاً أي: وأُلزِم إيلاءَ «ذا» فاعلاً، ذكر بعض النحويين الاتَّفاق على أنه لا يكون بعدها إلا «ذا» اسم الإشارة، وقد ورد فيها رفعها لغير الإشارة، كقوله:

......... وحُبَّ مَنْ يَتَجَنَّبُ .................................. فقيل: هو استعمال للأصل، وإنما الكلام بعد التركيب. وقوله في إفرادٍ وتذكير وغيرهما مثال الإفراد والتذكير: يا حَبَّذا جَبَلُ الرَّيَّانِ مِنْ جَبَلٍ ... .......................................... ومثال التثنية قوله: حَبَّذا أنتما خَليلَيَّ إنْ لَمْ ... تَعْذلانِي في دَمْعِيَ المُهَراقِ ومثال الجمع قوله: وحَبَّذا نَفَحاتٌ مِن يَمانِيةٍ ... تأتيكَ مِن جَبَلِ ... الرَّيَّانِ أحْيانا وتقول: حَبَّذا الزيدون. ومثال التأنيث: ألا حَبَّذا هندٌ وأَرضُ بِها هندُ ... ...................................... وقول الآخر: يا حَبَّذا القَمْراءُ واللَّيلُ الداجْ ... وطُرُقُ ... مِثلُ ... مُلاءِ ... النَّسَّاجْ وهذا الذي ذهب إليه المصنف من أنَّ «ذا» هو الفاعل هو على قولِ مَن لم يَّدعِ التركيب، وهو مذهب ابن كسيان، وابن دستوريه، والفارسي في

«البغداديات» وابن بَرهان، وابن خروف، وظاهر مذهب الخليل وس على زعم المصنف. واختلف الذاهبون إلى هذا المذهب في علة إفراد اسم الإشارة وتذكيره وإن اختلف المخصوص بالتثنية والجمع والتأنيث: فقيل: امتنع أن يطابق المخصوص لأنه جرى كالمثل، نحو: «أَطِرَّي فإنَّكِ ناعِلة، و «الصَّيفَ ضَيَّعْتِ اللَّبَنَ». وقال أبو علي: (ذا) جنس شائع، فلا يختلف كما لا يختلف الفاعل في نِعمَ وبئسَ إذا كان ضميرًا. وقال ابن كيسان: إنما كان (¬10) ذلك لأنَّ الإشارة فيه أبدًا إلى مذكر محذوف. والتقدير عنده: حَبَّذا حُسنُ زيدٍ، وحَبَّذا أمرُه وشأنُه، وكذلك تثنيةً وجمعًا وتأنيثًا، ثم حُذف المضاف، وأقيم المضاف إليه مقامه.

قال في «البسيط»: «وهذا فاسد من وجوه: منها: أنه دعوى لا دليل عليها؛ إذ لم يتكلموا به في موضع، وإنما يُدَّعَى الإضمار إذا تُكُلَّم به في موضع. الثاني: أنَّ ما بعد الإشارة وصف له، ولا يُحذف لأنه هو العمدة؛ لأنه لازم الوصف في مواضع الإبهام كما في النداء، ولأنه كالمضمر في التفسير. والثالث: أنَّ حذف المضاف مع الإقامة لا يُخرج الملفوظ به عن أن يُعتبر في التثنية والجمع والتأنيث، فتقول: اجتمعتِ اليمامةُ، ولا تقول: اجتمعَ اليمامةُ» انتهى. وعلى هذا الوجه اعتمد ابن عصفور في رده على /ابن كيسان، قال: «لأنَّ العرب إذا حَذفت المضاف، وأقامت المضاف إليه مُقامه، فإنما تجعل الحكم من تذكير وتأنيث وإفراد وتثنية وجمع على حسب الملفوظ به لا المحذوف، فتقول: اجتمعت اليامةُ، ولا تقول: اجتمعَ اليمامُة، وإن كان الأصل فيه قبل الحذف: اجتمع أهلُ اليمامةُ» انتهى. وهذا الذي ذكراه ليس كما ذكراه، بل إذا حُذف المضاف، وأقيم المضاف إليه مُقامه في الإعراب ـــ لا يتعين أن تكون الأحكام على حسب ما أُقيم مُقامه، بل في ذلك طريقان: أحدهما ما ذكراه، وهو الأكثر. والثاني مراعاة المحذوف، وقد جاء ذلك في أفصح كلام، قال تعالى {أو كظلمت في بحر لجي يغشه موج}، التقدير: أو كذي ظلمات، فأعاد الضمير على ذي المحذوف.

والرابع: لو كان كذلك لجار أن تقول: حَبَّذا، ويتم المقصود؛ لأنه ليس لازم الوصف لجواز الحذف بالفرض، ولأنَّ بعض العرب ينصب بها التمييز لما أراد بيان الذات، ولو كان كما قال لكان الأَولى ردّ الأصل» انتهى. وقوله وليس هذا التركيب إلى قوله ومَن وافقهما قال المصنف في الشرح: «صرَّح المبرد في (المقتضب) وابن السراج في (الأصول) بأنَّ حَبَّ وذا جُعلتا اسمًا مرفوعًا بالابتداء. ولا يصحُّ ما ذهبا إليه من ذلك؛ لأنهما مُقرَّانِ بفِعليَّة حَبَّ وفاعلية ذا قبل التركيب، وأنهما بعد التركيب لم يتغيرا معنًى ولا لفظًا، فوجب بقؤهما على ما كانا عليه، كما وجب بقاء حرفية (لا) واسمية ما رُكِّبَ معها في نحو: لا غلامَ لك، مع أنَّ التركيب قد أَحدثَ في اسمِ (لا) لفظًا ومعنًى ما لم يكن، فبقاءُ جزأي حَبَّذا على ما كانا عليه أولَى؛ لأنَّ التركيب لم يغيرهما لا لفظًا ولا معنًى. وأيضًا لو كان تركيب حَبَّذا مُخرجًا من نوع إلى نوع لكان لازمًا كلزوم تركيب إذما، ومعلوم أنَّ تركيب حَبَّذا لا يلزم لجواز الاقتصار على حَبَّ عند العطف، كقول بعض الأنصار - رضي الله عنه -: فَحَبَّذا ... رَبَّا، وحَبَّ ديِنا

أراد: وحَبَّذا دِينا، فحَذف ذا، ولم يتغير المعنى، ولا يُفعل ذلك بـ (إذْما) وغيرها من المركبات من المركبات تركيبًا مُخرجًا من نوع إلى نوع، فعُلم بذلك أنَّ تركيب حَبَّذا ليس مُخرجًا من نوع إلى نوع. وأيضًا لو كان حَبَّذا مبتتدأ لدخلت عليه نواسخ الابتداء كما تدخل على غيره من المبتدآت؛ فكان يقال: إنَّ حَبَّذا زيدٌ، وكان حَبَّذا زيدًا، وفي مَنعِ ذلك دلالة على أنَّ حَبَّذا ليس مبتدأ. وأيضًا لو كان مبتدأ لَلَزِمَ إذا دخلتْ عليه (لا) أن يُعطف عليه منفي بـ (لا) أخرى، فكان يمتنع أن يقال: لا حَبَّذا زيدٌ، حتى يقال: ولا المرضيُّ فِعلُه، ونحو ذلك، كما يُفعل مع المبتدأ الذي حَبَّذا مُؤَدِّ معناه. واختار ابن عصفور اسمية حَبَّذا مُستَدلاَّ بأنَّ العرب قد أكثرتْ من دخول (يا) عليها دون استيحاش؛ وزعم أنَّ فِعْلَ ذلك مع غيرها مما فِعلِيتَّه مُحَقَّقة مُستَوحَش منه، كقوله:/ ألا يا اسْقيِاني قَبلَ غارةِ سِنْجالِ ... ..................................... وعكسُ ما ادَّعاه أَولَى بالصحة؛ لأنَّ دخول (يا) على فعل الأمر أكثر من دخولها على حَبَّذا، فمن ذلك قراءة الكساني {ألا يا اسْجُدُوا}، قال العلماء:

تقديره: ألا يا قوم اسجدوا، فكذلك يكون التقدير في يا حَبَّذا: يا قومِ حبَّذا، أو نحو ذلك، فإنَّ حذف المنادى وإبقاء حرف النداء مُجَوَّز بإجماع، ومنه قول الشاعر: يا، لعنةُ اللهِ والأقوامِ كُلِّهِم ... والصالحينَ على سِمعانَ مِنْ جارِ وليس بشيء قولُ مَن قال في قراءة الكسائي: إنَّ معناها: ألا لَيِسْجُدوا، فحذف لام الأمر، وبقي الفعل مجزومًا؛ لأنه قد روي عن الكسائي أنَّ القاريء بروايته إذا اضطرَّ إلى الوقف على الياء يقف بالألف، ويبدأ بعدها (اُسْجُدوا) بضم الهمزة، فعُلِمَ بذلك أنه فعلُ أمرٍ قبلَه (يا). وقد جعل بعض العلماء (يا) في مثل هذا لمجلاد التنبيه دون قصد نداء، مثل (ها) ومثل (ألا) الاستفتاحية. وهذا هو الظاهر من كلام س في (باب عدَّة ما يكون عليه الكلم). ويؤيد هذا كثرةُ دخولها على (ليت) في كلام مَن لا يَحضره منادًى، ولا يَقصد نداًء، كقوله {يليتنى كنت معهم}، وكثرةُ معاقبتها لـ (ألا) الاستفتاحية قبل ليتَ وربَّ، كقول الشاعر:

ألا ليتَ شِعْرِي هل أَبِيتَنَّ ليلةً ... بِوادٍ وحَولِي إذخِرٌ وجَلِيلُ وكقول الآخر: يا ليتَ شِعْرِيَ هل يُقْضَى انْقضاءُ نَوَى ... فَيجمَعَ اللهُ بينَ الرُّوحِ والجسد وكقول امرئ القيس: ألا رُبَّ يومٍ صالحٍ لكَ منهما ... ولا سِيَّما ... يومٌ ... بِدارةِ ... جُلْجُلِ وكقوله أيضًا: فيا رُبَّ مَكْرُوبٍ كَرَرْتُ ... وَراءَهُ ... وطاعَنْتُ عنه الخَليلَ حتى تَنَفَّسَا» انتهى. قال س: «وزعم الخليل أنَّ حَبَّذا بمنْزلة حَبَّ الشيءُ، ولكنَّ ذا وحَبَّ بمنْزلة كلمة واحدة؛ نحو لولا، وهو اسم مرفوع، كما تقول: يا بنَ عَمَّ، فالعَمّ مجرور؛ ألا ترى أنك تقول للمؤنث حَبَّذا، ولا تقول حَبَّذه؛ لأنه صار مع حَبَّ على ما ذكرتُ لك، وصار المذكَّر هو اللازم؛ لأنه كالمَثَل». قال أستاذنا أبو جعفر بن الزبير ــ رحمه الله ــ «لا تَعَلَّقَ لِمن يَنسُب إليه أنَّ حَبَّذا كله اسم بهذا اللفظ؛ إذ ليس صريحًا، بل لو قيل إنَّ ظاهره رَعْي الفصل لكان الوجه؛ ألا ترى تنظيره بـ (ابن عَمَّ)، وقوله (فالعَمّ مجرور)، وتعويله على تعليل بقاء (ذا) مع المذكر والمؤنث على صورة واحدة، فلهذا عَوَّل ابن خروف وأبو علي الشلوبين على هذا المفهوم» انتهى.

وممن ذهب إلى أنه بمجموعه اسم السيرافي وغيره، /وحملوا كلام س في قوله «وهو اسم مرفوع» على أنَّ «وهو» عائد على قوله «ولكنَّ ذا وجَبَّ بمنْزلة كلمة واحدة» أي: وحبَّذا اسم مرفوع. والقائل الآخر يقول: «وهو» عائد على «ذا» وحده. واستَدلً مَن قال بِغَلَبة الاسم في التركيب بأنَّ جهة الاسمية أصل، والاسم أكثر تصرفًا؛ لأن الخبر يَستَقِلُّ به، ولأنَّ التركيب يكون من الأسماء، نحو بَعْلَبَكّ، ولا يكون من الأفعال. ونَسب أبو الحسين بن أبي الربيع إلى الخليل وس هذا المذهب، قال: «وعليه أكثر النحويين». وقال في «اللباب»: «استَدَلَّ من قال بالتركيب وجَعَلَهما في تقدير اسم مفرد بحسن ندائه، وبقولهم: ما أُحَيبِذَه، فصغروه تصغير المفرد، وبأنَّ ذا لم يُثَنَّ ولم يُجمَع، وبأنه لا يُحذف، ويضمر في الفعل كما فُعل بِنعمَ. وهذا لا يعتمد عليه؛ لأنَّ المنادى محذوف، ولأنَّ التصغير شاذّ، ولأنَّ إفراده لكونه جرى المثل، والأمثال لا تُغَيَّر عن أَوَّليَّتها». وظاهر كلام المصنف أنَّ حبَّذا مع كون «حَبَّ» فعلاً ماضيًا، و «ذا» فاعل به مركب؛ ألا ترى إلى قوله «وأنهما بعد التركيب لم يتغيرا معنًى ولا لفظًا»، وأنَّ تشبيهه بقولك: لا غلام. على أنه يحتمل أن يُتأوَّل كلامُه على أنه يريد بالتركيب نقلَه إلى معنى المدح العامّ، وكونَه لم يبق على مدلوله الأول من أنه يدلُّ على معنًى خاص من المحبة، وكونه كان متصرفًا. وينبغي هذا التأويل لنصهم على أنَّ من قال بأنه فعل وفاعل لا يدَّعي التركيب.

وقوله ولا اسمية ذا إلى قوله خلافًا لقوم استَدَلَّ مَن قال بغلبة الفعل على الاسم في التركيب في حَبَّذا بأنه هو المبدوء به، وهو أكثر حروفًا. ورَجَّحَ بعضهم هذا بأنه لا يبقي معه شذوذ، وهو كون أحدهما مفردًا والآخر مثنَّى، فلا يتبعه، نحو: حَبَّذا الزيدان، ولأنه يفسَّر، والمبتدأ ليس فيه إبهام حتى يكون التمييز من تمامه. وممن ذهب إلى كونه مركبًا وأنه كله فعل، والمخصوص فاعل ـ أبو الحسن الأخفش وأبو بكر خَطَّاب. وليس في قول العرب «لا تُحَبَّذْه» دلاله على أنَّ حَبَّذا كله فعل؛ إذ ليس مضارعَ حَبَّذا، وإنما هو مضارع لـ «حَبَّذْ»، ومعنى لا تُحَبِّذه: لا تقل له حَبَّذا، كما تقول: لم يُبَسْمِلْ زيدٌ، أي: لم يقل باسمِ الله. وقال بعض أصحابنا: استدلُ القائلون بالتركيب بإفرادِ اسم الإشارة، وبكونِ حَبَّ لا يتصرف بحسب المشار إليه، وبكونِ العرب لا تَفصل بين (حَبَّ) و (ذا) بشيء، لا تقول: حَبَّ في الدار ذا زيدٌ، وأنت تريد: حَبَّذا في الدار زيدٌ. وقوله وتَدخل عليها (لا) فتَحصل موافقة بئسَ معنًى إذا دخلتْ «لا» على حَبَّذا كانت للذمّ كما كانت دون «لا» للمدح، وقال الشاعر: لا حَبَّذا أنتِ يا صَنعاءُ مِنْ بَلَدٍ ... ولا شَعُوبُ هَوًى مِنِّي ولا نُقُمُ وقال الآخر: /

ألا ... حَبَّذا عاذِرِي في الَهوَى ... ولا ... حَبَّذا ... الجاهِلُ ... العاذِلُ وقال الآخر: ألا حَبَّذا أهلُ الَملا غيرَ أنَّه ... إذا ذُكِرَتْ مَيُّ فلا حَبَّذا هِيَا ودخول «لا» على حَبَّذا لا يخلو من إشكال؛ لأنك إمَّا أن تُفَرَّع على أنَّ حَبَّذا كلُه فعل، أو حَبَّ فعل، و «ذا» اسم، وكلاهما لا ينبغي أن تدخل عليه «لا»؛ لأنَّ «لا» لا تدخل على الماضي غير المتصرف، وتدخل على المتصرف قليلاً. أو تُفَرَّع على أنه بمجموعه اسم، ولا ينبغي أن تدخل عليه؛ لأنه إمَّا أن تقدِّره منصوبًا بها، وليس بجيد؛ لأن النصب على العموم، نحو: لا رجلَ، ولا يصح هنا لأنه خصوص. وإمَّا أن تقدَّره مرفوعًا، وليس بجيد؛ لأنَّ الأصح تكرار «لا»، فلا بُدَّ منه، ولا يجوز أن تكون غير مكررة إذا ارتفعت الأسماء بعدها بالابتداء إلا على مذهب الأخفش والمبرد. ص: ويُذكَر بعدهما المخصوصُ بمعناهما مبتدأً مخبرًا عنه بهما، أو خبرَ مبتدأ لا يظهر، ولا تعمل فيه النواسخ، ولا يُقَدَّم، وقد يكون قبلَه أو بعدَه تمييزٌ مطابق أو حالٌ عاملُه حَبَّ، وربَّما استُغني به أو بدليل آخر عن المخصوص. وقد تُفرَد حَبَّ، فيجوز نقلُ ضمة عينها إلى فائها، وكذا كلُّ فَعُلَ حلقيّ الفاء مُراد به مدحٌ أو تعجُّبٌ. وقد يُجَرُّ فاعلُ «حَبَّ» بباءٍ زائدة تشبيهًا بفاعِلِ أو أفْعِلْ تعجُّبًا.

ش: الضمير في «بعدهما» عائد على حَبَّذا وعلى لا حَبَّذا، ولَّما كان المصنف قد اختار أنَّ حَبَّ فعلٌ ماضٍ، وأنَّ الفاعل به «ذا» ـ فَرَّعَ الإعراب على ذلك، فيجوَّز فيه وجهين: أحدهما: أن يكون مبتدأً مخبرًا عنه بهما، والرابط للجملة بالمبتدأ هو اسم الإشارة، كقوله تعالى {ولباسُ الَتقْوَى ذَلِكَ خيرُ}، هذا إذا قلنا بأنَّ «ذا» أريد به الخصوص، وإن قلنا إنه شائع فالعموم هو الرابط. الوجه الثاني: أن يكون خبرَ مبتدأ محذوف واجب الحذف، كأنه قيل لمن قال حبَّذا: مَن المحبوب؟ فقال: زيدٌ، يريد: هو زيدٌ. قال المصنف في الشرح: «والحكم عليه بالخبرية هنا أسهل منه في باب نِعمَ؛ لأنَّ مصعِّبه هناك نشأ من دخول نواسخ الابتداء، وهي هنا لا تدخل؛ لأنَّ حَبَّذا جارٍ مجرى المثل، والمثل وما جرى مجراه لا يغيَّران». وقال ابن كيسان: ليس مبتدأ، بل هو تابع لـ «ذا» على البدل تبعًا لازمًا. وأمَّا من قال بالتركيب وتغليب الاسم فاختارأبو علي أن تكون حَبَّذا خبرًا، والمخصوص مبتدأ. وقال المبرد: حَبَّذا مبتدأ، والمخصوص خبره. وأباه أبو علي. وأجاز بعضهم فيه هذين الوجهين ووجهًا آخر، وهو أن يكون مبتدأُ محذوف الخبر كالأوجه الثلاثة التي أجازوها في: نِعمَ الرجلُ زيدٌ.

وذهب بعض النحويين إلى أنه عطف بيان، وبعضهم إلى أنه بدل لازم. وأبطل كونَه مبتدأَ محذوف الخبر أو خبرَ مبتدأ محذوف جوازُ حذف المخصوص، فيَلزم حذف الجملة بأسرها من غير دليل على حذفها، وكونها تكون جملةً مفلتة مما قبلها /لا موضع لها من الإعراب. ويُبطل عطفَ البيان مجيء المخصوص نكرة واسم الإشارة معرفةً، فقد اختلفا تعريفًا وتنكيرًا، وذلك لا يجوز في عطف البيان، ولذلك خطِّئ الزمخشري في إعرابه {مَقَامُ إبراهِيمَ} عطف بيان من {ءايت بينت} للتخالف في التنكير والتعريف. ومما جاء فيه التخالف في حبَّذا قول الشاعر: وحَبَّذا نَفَحاتٌ مِن يَمانيةٍ ... تأتيكَ مِن جَبَلِ الرَّيَّانِ أَحْيانا ويُبطل البدلَ أنه على نَّية تكرار العامل، ولا يجوز له أن يلي حَبَّ، وعدمُ مطابقة اسم الإشارة للبدل. وأمَّا مَن قال إنه كله فِعل، فغَلَّبَ جَنْبة الفعلية ــــ فإنَّ المرفوع بعد حَبَّذا فاعل به. ويُبطل هذا الإعرابَ أنه يجوز حذفُه، والفاعلُ لا يُحذف. وقوله ولا تَعمل فيه النواسخ فلا تقول: كان حبَّذا زيدٌ، لا برفع زيد ولا بنصبه، بخلاف نِعمَ وبئسَ، فإنه قد تقدَّم لنا ذكر جواز ذلك، فتقول: كان نعمَ الرجلُ زيدٌ. ولا تظهر علةٌ في منع ذلك، وإنما الرجوع في ذلك للاستقراء. وقوله ولا يُقَدَّم يعني أنه لا يقال: زيدٌ حَبَّذا، وذلك بخلاف نِعمَ وبئسَ، فإنه يجوز تقديمه عليهما، فتقول: زيدٌ نعمَ الرجلُ، مع أنَّ التقديم مرجوح في نِعمَ لانهم

أرادوا الإبهام، فكان التأخير أحسن لأنه موضع تفسير، ولَزِمَ في حَبَّذا تأخيره. وما نقصَ حَبَّذا من التصرف الذي في نِعمَ وبئسَ فلأنها فرع عنهما، فلا يكون فيها ما يكون في الأصل من وصفٍ وتأكيدٍ وتقديمٍ وغير ذلك، قاله في البسيط. وقال المصنف في الشرح ما معناه: «إنَّ علة امتناع دخول النواسخ على حَبَّذا وامتناع تقديم المخصوص عليها هو أنها جَرَت مجرى المَثَل، وما جرى مجراه لا يُغَيَّر. وأغفلَ أكثر النحويين التنبيه على هذين الحكمين، ونَبَّهَ ابن بابشاذ على امتناع التقديم، لكن جَعل سببَ ذلك خوف توهُّم كون المراد: زيدٌ أَحَبَّ ذا، وتوهُّمُ هذا بعيد، بل المانع إجراؤه مُجري الَمثَل» انتهى. وقوله وقد يكون قبله أو بعده تمييز مطابق مثال مجيء التمييز قبله قول الشاعر: ألا ... حَبَّذا قَومًا سُلَيمُ، فإنَّهُمْ ... وَفَوْا ... إذ ... تَواصَوْا بالإعانِة والنَّصْرِ ومثال مجيء التمييز بعده قول رجل من طِّيئ: حَبَّذا الصَّبرُ شِيمةً لامْرىٍء را ... مَ مُباراةَ مُولَعٍ بالَمعالي ومعنى قوله مطابق أي: للمخصوص المذكور بعد حَبَّذا، يطابقه في إفراد وتذكير وفروعهما، فتقول: حَبَّذا رجلاً زيدٌ، وحَبَّذا رجلين الزيدان، وحَبَّذا رجالاً الزيدون، وحَبَّذا امرأةً هندٌ، وحَبَّذا امرأتين الهندان، وحَبَّذا نساءً الهندات. وكذا لو تأخر التمييز عن المخصوص، فإنه يطابقه أيضًا، نحو: حَبَّذا زيدُ رجلاً، إلى آخر المُثُل. وظاهر قول المصنف وقد يكون قبله أو بعده /تمييز أن الأولى أن يتقدم التمييز على المخصوص، وذلك من حيث قُدِّم تقديمه على المخصوص على تأخيره

عنه، وقد صرَّح بذلك في الشرح، قال فيه: «وإذا قُدِّم عليه المخصوص، وأُخِّر هو ـــ يعني التمييز ـــ فهو سهل يسير، واستعمالُه كثير، إلا أنَّ الأوَّل أَولى وأكثر»، ويعني بالأوَّل تقديم التمييز على المخصوص. وهذا الذي اختاره المصنف هو مخالف لقول أبي علي الفارسي، قال أبو علي: «ضَعْفُ حَبَّذا رجلاً زيدٌ يؤكَّد عندك ضَعفَ حَبَّ؛ ألا ترى أنهم إنما ينصبون بعد تمام الكلام، ولّما لم يستقلّ حَبَّ بـ (ذا) ـــ وإن كان في الأصل فعلاً وفاعلاً ـ ضَعُفَ، نحو: حَبَّذا رجلاً زيدٌ؛ لأنَّ الجملة لم تتمّ بعد وإن كان قد تقدم فعل وفاعل، فإذا تأخَّر بعد زيد جاء بعد استقلال الكلام، فحسُن النصب» انتهى كلامه، ويظهر منه أنَّ الناصب لهذا المنصوب ليس حَبَّ، وإنما هو منتصب عن تمام الكلام من: حَبَّذا زيدٌ. وكذا المتفهَّم من كلام أبي محمد بن السِّيْد، قال في قوله: يا ... حَبَّذا ... جَبّلُ الرَّيَّانِ مِنْ جَبَلٍ ............................... «مِن جبلٍ: في موضع نصب على التمييز، والعامل فيه معنى الجملة المقدمة، كما قال الآخر: يا فارِسًا ما أنتَ مِن فارسٍ! ................................. كأنه قال: هو حبيب إلي من بين الجبال، أو اختصصته بمحبتي من بين الجبال، كذا قال الكسائي والفراء» انتهى كلام ابن السَّيْد. ونقول: مَن أَبقى «حَبَّ» و «ذا» على أصلهما من الفعل والفاعل ــ كما ذهب إليه المصنف ــ فالذي يقتضيه مذهبه هو ما قاله المصنف من أنَّ تقديمه أجود؛

وأنَّ تأخيره ضعيف؛ لأنَّ العامل فيه عنده هو حَبَّ، فيكون ذلك فصلاً بين العامل والمعمول بالمخصوص. ويَقوى ضَعفُه إذا أعربنا المخصوص خبر مبتدأ محذوف، فيصير فصلاً بجملة بين العامل والمعمول، وليست جملةً اعتراضية، فكان القياس يقتضي ألاً يجوز ذلك. وقوله أو حالٌ مثال مجيء الحال قبل المخصوص قول الشاعر: [يا حَبَّذا مَرْجُوَّا الُمثرِي السَّخِي ... مَنْ يَرْجُهُ فَعَيشُهُ العَيشُ الرَّخِي] ومثال تأخير الحال عنه قول الشاعر: يا حَبَّذا المالُ مَبذُولاً بلا سَرَفٍ ... في أَوْجُهِ ... البِرِّ إسْرارًا وإعْلانَا وقول الآخر: يا حَبَّذا الجَنَّةُ واقْتِراُبها ... طَيِّبَةً وباردًا شَرابُها على أنَّ طَيِّبةً يحتمل أن يكون حالاً من الضمير المجرور في «اقترابها». وحكم الحال في مطابقة المخصوص قبله وبعده حكم التمييز. وأمَّا التقديم للحال على المخصوص والتأخير عنه فيظهر من عطف قوله «أو حالٌ» أنها مساوية للتمييز، فيكون تقديمها أولى من تأخيرها. وقيل: التمييزُ ينبغي تقديمه، وأمَّا الحال فيستوي فيها /الأمران.

وقال المصنف في الشرح: «فأما التمييز فكثير ومتفق على استعماله». وقال أيضًا: «والتزم بعض المتأخرين كونَ المنصوب بعد (ذا) تمييزًا، وليس ذلك ملتزمًا؛ لأنَّ الحال قد أغنت عنه في النظم والنثر» انتهى. وهذا الذي ذكره المصنف من أنَّ التمييز مُتَّفَق على استعماله إن عنى الاتفاق من العرب على فهمه عنهم أنه تمييز فيمكن؛ وإن عنى أنَّ الاتفاق من النحاة فليس كذلك، فنقول: اختلف النحويين في هذا المنصوب بعد حَبَّذا: فذهب الأخفش، والفارسي، والرَّبعيّ، وخَطَّاب المارِدِيّ، وجماعة من البصريين ـ إلى أنه منصوب على الحال لا غير؛ وسواء أكان جامدًا أم مشتقَّا. وذهب أبو عمرو بن العلاء إلى أنه منصوب على التمييز لا غير، وسواء أكان جامدًا أم مشتقَّا. وأجاز نصبَه على التمييز الكوفيون وبعض والبصريين. وفَصَّل بعضهم، فزعم أنه حال إن كان مشتقَّا، وتمييز إن كان جامدًا. وقبول الجامد والمشتقّ دخول مِن عليهما يرجَّح أن ينتصبا على التمييز؛ لأنَّ الحال لا تدخل عليها مِنْ. والذي يظهر أنه إن كان جامدًا كان تمييزًا، وإن كان مشتقَّا فمقصدان للمتكلم: فإن أراد تقييد المبالغة في مدح المخصوص بوصف كان ذلك المنصوب

حالاً، ولا يصح دخول مِن عليه إذ ذاك. وإن أراد عدم التقييد بل تبيين جنس المبالَغ في مدحه كان ذلك المنصوب تمييزًا، مثال الأول: حَبَّذا هندٌ مُواصِلةً، أي: في حال مُواصلتها. ومثال الثاني: حَبَّذا راكبًا زيدٌ، وهذا الذي تدخل عليه من. وفي «البسيط» جواز نصب هذا المنصوب بإضمار «أعني». فلا يكون إذ ذاك لا تمييزًا ولا حالاً، بل هو مفعول بهذا الفعل المضمر، وهو قول غريب. وقوله ورُبَّما استُغني به أو بدليل آخر عن المخصوص فمثال ما استغنى بذكر التمييز عن المخصوص قول الراجز: باسمِ الإلهِ، وبهِ بَدِينا ... ولو عَبَدْنا غيرَه شَقِينا فحَبَّذا رَبَّا وحُبَّ دِينا أي: فحَبَّذا رَبَّا الإلهُ. ومثالُ ما حُذف فيه المخصوص لدليل آخر غير التمييز، وذلك للعلم به، كما حُذف في نِعْمَ وبئسَ إلا أنه في حَبَّذا قليل ـــ قولُ الشاعر: ألا حَبَّذا لولا الحياءُ ... ، ورُبَّما ... مَنَحتُ الَهوى مَنْ ليسَ بالُمتَقارِبِ يريد: ألا حَبَّذا حالتي معكِ، يشير إلى أنَّ هواه إياها، وزيارته لها، وما ترتَّب على ذلك في قوله:

هَوِتُكِ حتى كادَ يَقتُلُنِي الهَوى ... وزُرتُكِ حتى لامَنِي كُلُّ صاحِبِ وحتى رأي مِنَّي أدانِيكِ رِقّةً ... عليكِ، ولولا أنتِ ما لانَ جانِبِي وبعد ذلك البيت: بأهلي ظباٌء منْ رَبيعة عامر ... عِذابُ الثْنايا، مُشْرِفاتُ الحَقائِبِ وفي جواز حذفه دليلٌ على فساد قولِ مَن ذهب إلى أنَّ حَبَّذا كله فعل، وأنَّ المخصوص فاعل به؛ إذ الفاعل لا يجوز حذفه. ودليلٌ على أنه لا يكون خبرَ مبتدأ محذوف؛ إذ يلزم حذف /الجملة بأسرها من غير عِوض عنها ولا قائم مقامها، وذلك لا يجوز. ومِن أحكام حَبَّذا جوازُ الفصل بالنداء بينها وبين مخصوصها، كما قال كثَّير: فقلتُ ــ وفي الأحشاءِ داءٌ مُخامِرٌ ـــ ... ألا حَبَّذا ـــ يا عَزّ ـــ ذاكِ التَّشايُرُ وجواز تأكيدها التأكيد اللفظي، أنشد أبو الفتح في «المنصف»: ألا حَبَّذا حَبَّذا حّبَّذا ... حَبيبٌ تَحَمَّلتُ فيه الأَذَى ويا حَبَّذا بَرْدُ أنْيابِهِ ... إذا أّظْلَمَ اللّيلُ واجْلَوَّذا ومجيءُ المخصوص اسم إشارة مخالفًا في الرتبة لـ «ذا» المتصلة بحَبَّذا نحو ما أنشدناه من قوله:

................... ... ألا حَبَّذا ـــ يا عَزّ ـــ ذاكِ ... التَّشاُيرُ وقول الآخر: فقد بَسْمَلَتْ ليلى غَداةَ لَقِيتُها ... فيا حَبَّذا ذاك الحَبيبُ المُبَسْمِلُ ويُقَوِّي هذا كونَ حَبَّذا مركبة، وأنَّ «ذا» ليس فاعلاً بـ «حَبَّ»؛ لتحالفه مع «ذاك» رتبةً؛ لأنَّ «ذا» موضوع للقريب، و «ذاك» موضوع للبعيد على قول، أو للوسط على قول، ولا يمكن أن يكون الشيء في الحالة الواحدة قريبًا بعيدًا، أو قريبًا متوسطًا، إلا بتجوُّز. وأمَّا ما ذكره المصنف من أنه يجوز حذف ذا، واستدلاله على ذلك بقوله: فَحَبَّذا رَبَّا، وحَبَّ دِينا وتقديره «وحَبَّذا دينًا» فإنَّ القواعد تأبى ذلك؛ لأنه إن كان فاعلاً فلا يجوز حذفه، وإن كان جزءًا من المركب الذي حُكم عليه بأنه اسم كله أو الذي حُكم عليه أنه فعل كله فلا يجوز حذفُه؛ لأنه حالة التركيب صار جزءًا من أجزاء الاسم أو أجزاء الفعل، فكما لا يصحُّ حذف الاسم ولا بعض الفعل كذلك لا يصحّ في حَبَّذا. وأمَّا قوله «وحَبَّ دينا» فلا حجة فيه على حذف ذا؛ لأنَّ لِحَبَّ استعمالين: أحدهما: أن تليها «ذا»، وتُضَمَّن المبالغة في المدح. والثاني: ألا تليها «ذا»، وتكون مما بُني على فَعُلَ، وأجري مُجرى نِعمَ وبئسَ، ويتخرَّج «وحَبَّ دينا» على أن تكون «حَبَّ» استُعملت هذا الاستعمال الثاني، فيكون في حَبَّ ضمير يفسِّره قوله «دِينا»، ويكون قد حذف المخصوص،

وتقديره: وحَبَّ دينًا ديُننا، كما أنك تقول لمن ذكر زيدًا: نِعمَ رجلاً، تريد: نِعمَ رجلاً زيدٌ، فيكون مثل قول الشاعر: وزادَهُ كَلَفًا بالحُبِّ أَنْ مَنَعَتْ ... وحَبَّ شيئًا إلى الإنسانِ ما مُنِعا وإذا احتمل أن يكون من باب نِعمَ وبئسَ لم يكن في قوله «وحَبَّ دِينا» دليل على جواز حذف «ذا». ومِن ذهب إلى أنَّ «ذا» فاعل بـ «حَبَّ» في قولهم «حَبَّذا زيدٌ» فهو لا يجيز إتباعه لا بنعت ولا عطف ولا تأكيد ولا بدل؛ ويجوز ذلك في المخصوص. وقوله وقد تُفْرَدُ حَبَّ، فيجوز نقل ضمة عينها إلى حائها يعني أنها تفرد مِن ذا، فيجوز أن يكون مرفوعها /كل اسم يصحّ أن يكون فاعلاً، فيجوز أن تبقى الحاء مفتوحة استصحابًا لحالها من الفتح السابق فيها، ويجوز ضم الحاء نقلاً لضمة عين الكلمة إلى الفاء؛ إذ قد بُني حَبَّ على وزن فَعُلَ، ولا يسوغ هذا النقل إلا حيث لا يكون الفك، فإن كان الفك ــ كإسناد حَبَّ إلى ما يسكن له آخر الفعل ـ لم يجز النقل، فتقول: حَبُبْتَ يا هذا، وحَبُبْتِ يا هند، وكذلك ما أشبهه، وإنما يجوز النقل فيما لم يكن فيه فكٌّ، نحو حُبَّ زيدٌ في حَبَّ زيدٌ. وقوله وكذا كلُّ فَعُلَ حلقيّ الفاء مراد به مدح أو تعجُّب يعني أنه يجوز نقل ضمة فَعُلَ إلى الفاء إذا أريد به المدح أو التعجب. وقال المصنف في الشرح: «وهذا النقل جائز في كل فِعلٍ على فَعُلَ مقصود به التعجب، كقول الشاعر:

حُسْنَ فِعلاً لقاءُ ذي الثروة المُمْـ ... ــــــلقَ بالبِشْرِ ... والعَطاءِ الجَزيلِ» فخصَّ النقل بما قُصد به التعجب، وقال في المتن «مراد به مدح أو تعجب». وظاهر كلام المصنف أنَّ النقل مختص بما فاؤه حرف حلقيّ، نحو حَبَّ وحَسُنَ وخَبُثَ وغَلُظَ، وكان على وزن فَعُلَ مرادًا به مدحٌ أو تعجب. وليس مختصَّا بذلك، بل كل فَعُلَ أو تحويلاً لمدح أو ذم يجوز فيه النقل، فتقول: لَضُرْبَ الرجلُ، بضم الضاد. وقوله وقد يُجَرُّ فاعِلُ حَبَّ بباءٍ زائدة تشبيهًا بفاعِلِ أفْعِلْ تَعَجُّبًا ظاهر قوله وقد يُجَرُّ التقليل، وهو مخالف لظاهر ما قال في آخر باب نِعمَ وبئسَ بأنه يَكثُر انجرار فاعله بالباء، وبعض الشواهد التي استدلَّ بها هناك استدلَّ بها هنا، وذلك قول الشاعر: فقلتُ: اقْتُلُوها عَنكمُ بِمِزاجها ... وحُبَّ بها مَقتُولهً حينَ تُقتَلُ قال هنا في الشرح: «يُروى بضم الحاء وفتحها. وحكى الكسائي: (مررتُ بأبيات جادَ بهنَّ أبياتًا، وجُدْن أبياتًا)، فحذف الباء، وجاء بضمير الرفع، وهذا الاستعمال جائز في كل فعل ثلاثي مضمَّن معنى التعجب» انتهى. فبيَّن بهذا أنَّ الجر بباءٍ زائدة لهذا النوع ليس مختصَّا بفاعلِ حَبَّ. وتقدمت لنا شواهد كثيرة علي جواز جرِّ فاعل هذا النوع بباء زائدة في آخر باب نِعمَ وبئسَ، فأغنى ذلك عن إعادتها هنا.

باب التعجب

/ص: باب التعجب يُنصَب المتعجَّب منه مفعولاً بموازن «أفْعَلَ» فعلاً لا اسمًا، خلافًا للكوفيين غير الكسائي، مُخْبَرًا به عن «ما» بمعنَى شيءٍ لا استفهامية، خلافًا لبعضهم، ولا موصولة، خلافًا للأخفش في أحد قوليه. ش: التعجب لغوي واصطلاحي: فاللغوي هو التأثير الحاصل للنفس عند الاستطلاع على أمر خارج عن المعهود للمتأثر، فـ «التأثر» جنس إذ هو من قبيل الانفعالات كالفرح والغضب والحزن، فتقول: عَجِبَ وحَزِنَ وغَضِبَ، ولذلك لا يجوز من الله تعالى لعلمه بجميع الأمور، فلا يتأثر بشيْ لأنه قديم، لا يقبل الحوادث، وسيأتي الكلام فيما جاء من ذلك وتأويله إن شاء الله. و «الحاصل للنفس» فصل يَخرج به الحاصل للجسم كالاضطراب ونحو. و «عند الاستطلاع» فصل يَخرج به ما يكون عند غيره من وقوع ما يسرّ، فيحصل الفرح أو ضده، فيقع الحزن. و «على أمر خارج عن المعهود» لأنه إن لم يكن كذلك لم يوقع الانتقال لحصول العلم به قبل ذلك في الجملة، ولذلك لا يكون التعجب من الله؛ لأنه معلوم أنه لا يتناهى جلاله، ولا يدخل تحت حصر العقول جماله، وسيأتي ما ورد من ذلك في حقه تعالى وتأويله إن شاء الله. و «المعهود» أعمُّ من أن يكون له نظير، فتأثَّر استعظامي يقتضي تفضيله على نظيره بزيادة زادها عليه بعد حصول المشاركة، أو لا يكون له نظير؛ لأنه قد يوجد كذلك، والنظير: المِثل، فيكون ذلك مخترعًا بالنسبة للذي تعجب منه، وستأتي شروط الوصف الذي يُتَعَجَّب منه.

والاصطلاحي: هو التعجب الاستعظامي بتغيير الفعل الدال على المتعجَّب منه إلى صيغة أخرى قصدًا للتعجب لفظًا أو تقديرًا، فـ «التعجب» جنس، وهو نوع من اللغوي. و «استعظامي بتغيير إلى آخره» احتراز من اللفظ الذي وضع للتعجب من حيث هو تعجب، نخو عَجِبَ وتَعَجَّبَ، فإذا أرادوا ما يتعلق به عَدَّوه بـ «مِن»، نحو: عَجبت من زيد، وتعجَّبت منه. واحتراز أيضًا من التعجب الذي ضُمَّنَه الكلام معنًى وإن لم يكن في أصل الوضع له، فكلا هذين ليس بتغيير للفعل إلى صيغة أخرى، وهذا الأخير لم يُبَوَّب له باب في النحو، والتعجب فيه بعُرف أو بقرينة، وذلك ألفاظ كثيرة، منها: سُبحان الله! ولا إله إلا الله! وسُبحانَ الله من هو! ومررتُ برجلٍ أيِّما رجلٍ! وزيدٌ ما زيدٌ! ومنه {القارعة 1 ما القارعةـ} {الحاقة ما الحاقة}، ووَيْلُمَّه رَجُلاً! ولِلِه دَرُّه فارسًا! وحَسبُك به فارسًا! وكفاك بزيدٍ رجلاٍ! وسُبحانَ الله رجلاً، ولك أن تُدخل «مِن» في هذه الأربعة، والعظمةُ لِلِهِ مِن رَبَّ! وحَسبُك بزيد فارسًا! ويجوز حذف الباء، فترفع زيدًا. ولِلِه دَرُّه! واعْجَبُوا لزيدٍ رجلاً، ومن رجلٍ! وكاليومِ رجلاً! وكالليلةِ قمرًا! وكَرَمًا وصَلَفًا! ويا لِلماءِ! ويا لِلدَّواهي! ويا حُسْنَه رجلاً! ويا طيبَها مِن ليلة! ويا لكَ فارسًا! وإنك مِن رجلٍ لَعالمُ! وما أنتَ من رجلٍ! ولا يجوز حذف «مِن» في قولك: إنكَ مِن رجلٍ /لَعالُم! فأمَّا «ما أنتَ من رجلٍ» فقيل: لا تُحذف، وأمَّا «ما أنت من رجل» فقد خَرَّجوا: .......................... ... يا جارَتا، ما أنتِ جارَهْ

على أنَّ «جارة» تمييز، ويجوز: ما أنتِ مِن جارة. ولِلِه أنتَ! وواهًا له! ولِلِه لا يُؤخَّرُ الأجل! و «وا» في أسماء الأفعال، وأيُّ رجلٍ زيدٌ! و (كيف تكفرون بالله}! و (لأي يوم أجلت}! و {عم يتساءلون}! و: ......................... .... ... لا كَلعَشِيَّة زائرًا ومَزُورَا وقد رسم النحويون التعجب برسوم: فقال ابن طلحة في كتاب «الدلالة»: التعجبُ إفراطُ التعظيم لصفةِ المتعجَّب منه. وقال غيره: «التعجبُ تغييرٌ يَلحق النفس لِما خفي فيه السبب مما لم تَجرِ به عادة». وقال ابن عصفور: «التعجب استعظامُ زيادة في وصف الفاعل، خَفي سببها، وخرج بها المتعجَّب منه عن نظائره، أو قَلَّ نظيره» وقال غيره: «التعجبُ استعظامُ فعلِ فاعلٍ ظاهرِ الَمزِيَّة». وقوله يُنصب المتعجَّب منه مفعولاً بموازن أَفْعَلَ هذا مذهب س والبصريين أنَّ نصب الاسم في: ما أَظْرَفَ زيدًا! هو على المفعول به. وزعم الفراء ومن وافقه من الكوفيين أنَّ نصبه هو على حدِّ ما انتصب في قولهم: زيدٌ كريمُ الأبَ، فأصله: زيدٌ أظرَفُ مِن غيره، إلا أنهم أتو بـ «ما»، فقالوا: ما أظرَفُ زيد؟ على سبيل الاستفهام، ونقلوا الصفة من زيدٍ، وأسندوها إلى ضمير «ما»، وانتصب زيد بـ «أظرَفَ» فرقًا بين الخبر والاستفهام. والفتحة في «أَفْعَلَ» فتحة

إعراب، وهو خبر عن «ما»، وإنما انتصب لكونه خلاف المبتدأ الذي هو «ما»؛ إذ هو في الحقيقة حبرٌ عن زيد، وإنما أتي بـ «ما» ليعود عليها الضمير، والخبر إذا كان خلاف المبتدأ كان منتصبًا بالخلاف على رأي الكوفيين في: زيدٌ خلفَك. قال السيرافي: «وهذا قول لا دليل عليه، ويُفسده أنه نصب أحسنَ وهو اسم في موضع خبر المبتدأ، والتفريق بين المعاني لا يُحيل الإعراب عن وجهه». وزعم بعض الكوفيين أنَّ «أَفْعَلَ» مبنيّ وإن كان اسمًا؛ لأنه تضمَّن معنى التعجب، وأصله أن يكون للحرف. ورُدَّ هذا بأن التضمُّن إنما يكون للموجود لا للمعدوم، ولا حرف يدل على التعجب فيتضمنه الاسم. وقوله فِعلاً لا اسمًا خلافًا للكوفيين غير الكسائي يعني أنَّ أَفْعِلَ في التعجب هو فعل عند البصريين والكسائي، والهمزة فيه للنقل. وهو اسم عند الكوفيين غير الكسائي. ونقل بعض أصحابنا أنه اسم عند الكوفيين، ولم يستثن منهم الكسائي، فلعلَّ له قولين. واستدلُّوا على فعليته بكونه مبنيَّا على الفتح، وبنصبه المفعول به الصريح، وليس من قبيل الأسماء التي تنصب المفعول به، وبلزوم نون الوقاية له إذا نَصب ياء المتكلم، قال المصنف في الشرح: «ولا يَرِدُ على هذا عَلَيكَنِي ولا رُوَيدَني؛ فإنه

قد يقال فيهما: عليكَ بي، ورُوَيدَ لي، فُيستغنى فيهما عن نون الوقاية بالباء واللام، بخلاف: ما أَفْقَرَنِي، فإن النون فيه لازمة غير مستغنًى عنها بغيرها» انتهى. وما ذكروه من لزوم نون الوقاية لفعل التعجب هو على طريقة البصريين، وأمَّا الكوفيون فإنهم يجيزون: ما أَظْرَفِي! يجعلون نون الوقاية جائزة مع ياء المتكلم لا واجبة، وحكَوه سماعًا عن العرب. واحتجَّ من قال إنه اسم بكونه لا يتصرف، وبتصغيره، وبصحة عينه، فقالوا: ما أُحَيْسِنَه! وما أَطْوَلَه! كما قالوا: هو أَطْوَل من كذا، ولا يصحّ ذلك /في الفعل، وبكونهم تعجَّبوا من الله تعالى، فقالوا: ما أَعْظَمَ الله! ولا يصحّ: شيء أَعْظَمَ الله؛ لأنَّ عظمته لا سبب لها، ولا هي مجعولة. وأُجيب بأنَّ امتناع تصرفه لأنَّ معنى ذلك غير محتاج إليه؛ لأنه لَزِمَ طريقة واحدة، وما لَزِمَ طريقة واحدة لم يتصرف، كليسَ وعَسى. وبأنَّ تصغيره وصحة عينه لشبهه بأَفْعَل التفضيل في كون أَفْعَل التفضيل قد يكون للتعجب، ولأنَّ المشترك بنيَّة الزيادة والفضل، ولأنه على لفظه، وأنه يدُّل على المدح، ولذلك قد تسقط منه نون الوقاية. وقيل: تصغيره ملاحظة لمصدره؛ لأنه لمَّا لم يَجر عليه صار تصغيره بدلاً من جريانه عليه. وقيل: لأنه بدل من التصرف الممنوع له. قيل: ولا يقال في تصحيح عينه: إنه شذوذ؛ لوجوده في أَفْعَل، قالوا: أّطْوَلتِ، وأَغْيَمَتِ السماُء، ولأنه قد صحَّ في نحو حَوِلَ وعَوِرَ وصَيِدَ. وأمَّا التعجُّب من الله تعالى فعلى تأويل السبب المُعْلِم بالسبب الموجب، أي: ما أعظمَ قُدرةَ الله، وسيأتي الكلام فيه.

وقال مَن زعم أنَّ أَفْعَلَ في التعجب فِعل: لو كان أَفْعَل اسمًا فإمَّا أن يكون للمفاضلة على أصله أو لغير المفاضلة، لا جائز أن يكون للمفاضلة لعدم استعماله لِما ذكرنا من التعجب، ولا جائز أن يكون لغير المفاضلة لأنه لا يُعهد في كلام العرب أَفْعَل إلا اسمًا أو صفة، لا جائز أن يكون صفةً، فيكون التقدير: شيءٌ أَحْسَنُ زيدًا أي: حَسَنٌ زيدًا؛ لأنَّ المعنى ليس على هذا، ولأنَّ أَفْعَل للصفة غير المفاضلة لا يُشتَقُّ قياسًا، وأَفْعَل هذا في التعجب قياس. ولا جائز أن يكون اسمًا للتعجب؛ لأنه يصير المعنى: شيءٌ تعجبٌ، وليس ذلك مرادًا، فثبت بهذا كله أنه فِعل. وقوله مُخْبَرًا به عن «ما» بِمعنَى شيء، لا استفهامية، خلافًا لبعضهم أمَّا كونها بمعنى شيء، فتكون ما تامة، والفعل بعدها خبر عنها ـ فهو مذهب الخليل و «س» وجمهور البصريين، وأجمعوا على أنَّ ما اسم مرفوع بالابتداء إلا خلافًا شاذَّا، رُوي عن الكسائي أنه لا موضع لها من الإعراب. واستدلَّ من ذهب إلى أنها تامَّة نكرة خبرية بأنه قد وُجدت تامَّة في كلام العرب في قولهم: غَسَلتُه غَسْلاً نِعِمَّا، أي: نِعْمَ الغَسْلُ، وقولهم: إنَّي مِمَّا أنْ أَصنَعَ، أي: مِن الأمرِ أنْ أَصنَعَ، لكنَّها في باب نِعْمَ لا تكون نكرة لِما ذكرنا في باب نِعْمَ وهي هنا نكرة لزم لفظها التعجب. وذهب الفراء وابن درستويهِ 6 إلى أنَّ «ما» استفهامية، دخلها معنى التعجب. وتأوَّلَه ابن درستويه على الخليل، قال: «معنى قول الخليل في (ما أَحْسَنَ

زيدًا) إنه استفهام دخله معنى التعجب كأنه الذي من حقه أن يقال فيه: أيُّ شيءٍ حَسَّنَه؟». واستدلَّ عليه بإجماعهم على أنَّ قولهم (أيُّ رجلٍ زيدٌ) استفهام دخله معنى التعجب. وتقدَّم قول الفراء: إنَّ (ما أَحسَنَ زيدًا) أصله: ما أَحْسَنُ زيدٍ، وتقريره. وقال المصنف: «أمَّا كونها استفهامية ــ وهو قول الكوفيين ــ فليس بصحيح؛ لأنه إمَّا أن تكون مجردةً للاستفهام، أو له وللتعجب معًا كما هي في {فأصحب الميمنه ما أصحب الميمنة). فالأول باطل بإجماع، ولأنَّ اللفظ المجرد للاستفهام لا يَتوجَّه ممن /يَعلم إلى من يَعلم، وما أَفْعَلَه صالح لذلك، فلم يكن لمجرد الاستفهام. والثاني باطل؛ لأن الاستفهام المشوب بالتعجب لا يليه عالبًا إلا الأسماء، نحو {وأصحب اليمين ما أصحب اليمين)، {وأصحب الشمال ما أصحب الشمال)، {والحاقة ما الحاقة)، و {القارعة ما القارعة)، ونحو قول الشاعر (¬10): يا سَيَّدًا، ما أنتَ مِنْ سَيَّدٍ ... ................................

ومثله: ............................... ... يا جارَتَا، ما أنتِ جارهْ و (ما) المشار إليها مخصوصة بالأفعال، فعُلم أنها غير المتضمنة استفهامًا» انتهى. ويقول الكوفيون: لا نُسلَلِّم أنها مخصوصة بالأفعال؛ ألا ترى أنَّ مذهبهم في أَحْسَنَ أنه اسم. وهل هو معرب أو مبنيّ، فيه خلاف بينهم. قال المصنف في الشرح: «وأيضًا لو كان فيها معنى استفهام لجاز أن تخلفها أيُّ كما جاز أن تخلفها في نحو: .......... ما أنتَ مِنْ سَيَّدٍ ................................ لأنَّ استعمال أيِّ في الاستفهام المتضمن تعجبًا كثير، كقوله: أيُّ فَتَى هَيجاءَ أنتَ وجارِها ... ........................... وأيضًا فإنَّ قصد التعجب بِما أفْعَلَه مجمع عليه، وكونه مشوبًا باستفهام أو ملموحًا فيه استفهام زيادة لا دليل عليها، فلا يُلتفت إليها». وقال ابن الطراوة: الشيء إذا زاد على حده المتعارف، وخرج عما عليه نظائره ــ فإنَّ العرب تَضُمُّ له لفظًا ينقله عن بابه إلى معنى التعجب، وذلك قولهم في المتناهي الحسن: ما أَحْسَنَه! ومثله: ما أَشْجَعَه! وما أَظْرَفَه! ينقلون الفعل عمن هو له وبه إلى لفظ مبهم لا يَخُصُّ واحدًا من جمعٍ ولا جمعًا من تثنية؛ وهو (ما)، ولا تكون (ما) في الخبر بغير صلة إلا في هذا الباب؛ لأنَّ الصلة تبيِّن الموصول وتوضحه، والمتعجِّب لا يدري الضرب الذي تَعَجَّبَ منه كيف خَرج عن بابه، ولا

ما الذي أخرجه حتى صار إلى تلك الحال، ولو وَصل (ما) كان قد بَيَّنَ وأَوضح، وليس هذا طريق التعجب؛ ألا ترى أنهم لا يقولون: شيءٌ أَحسَنَ زيدًا؛ إذ كان (شيء) بهذا اللفظ يَخُصُّ الواحد، ويميز بينه وبين ما ليس بواحد، فعدلوا عنه لذلك إلى ما هو أعمُّ منه، وهو (ما). وقال المصنف في الشرح ــ وقد ذكر المذاهب في (ما) ـ: «والقول الأول قول البصريين، وهو الصحيح؛ لأنَّ قصد المتعجِّب الإعلام بأنَّ المتعجب منه ذو مزية، إدراكُها جَلِيُّ، وسبب الاختصاص بها خَفِيُّ، فاستَحَقَّت الجملة المعَّبر بها عن ذلك أن تُفتَتَح بنكرة غير مختصَّة ليَحصل بذلك إبهام متلوُّ بإفهام، ولا ريب في أنَّ الإفهام حاصل لإيقاع أَفْعَلَ على المتعجَّب منه؛ إذ لا يكون إلا مختصَّا، فتعيَّن كون الباقي مقتضيًا للإبهام، وهو (ما)، فلذلك اختير القول بتنكيرها، ولا يمتنع الابتداء بها ـ وإن كانت نكرة غير مختصَّة ـ كما لم يمتنع الابتداء بـ (مَن) و (ما) الشرطيتين والاستفهاميتين». وقوله ولا موصولة خلافًا للأخفش في أحد قوليه الأجود أن يقول: «في أحد أقواله»؛ لأنه روي عن الأخفش ثلاثة أقوال: أحدها: أنها نكرة تامة، كمذهب الجمهور. الثاني: أنها موصولة، وأَفْعَل صلة لها، وبه قال طائفة من الكوفيين، ويكون الخبر محذوفًا لازم الحذف. قال المصنف في الشرح: «فيتحصل أيضًا بقوله هذا

إفهام وإبهام، فحصول الإفهام بذكر المبتدأ وصلته، وحصول الإبهام بالتزام حذف الخبر، إلا أنَّ /هذا القول يستلزم مخالفة النظائر من وجهين: أحدهما: تقدُّم الإفهام وتأخُّر الإبهام، والمعتاد فيما تضمَّن من الكلام إفهامًا وإبهامًا تقديم ما به الإبهام وتأخير ما به الإفهام، كما قد فُعل بضمير الشأن ومفسَّره، وبضميري نِعمَ ورُبَّ، وبالعموم والتخصيص، وبالمميَّز والتمييز، وأشباه ذلك. الثاني: كون الخبر فيه مُلتَزَم الحذف دون شيء يسدُّ مَسَدَّه، والمعتادُ في الخبر المُلتَزَم الحذف أن يَسُدَّ مَسَدَّه، شيء تحصل به استطالة، كما كان بعد لولا، وفي نحو: لَعَمرُك لأَفْعَلَنَّ، فالحكمُ بموصولية ما وكون الخبر محذوفًا دون استطالة حُكمٌ بما لا نظير له، فلم يُعَوَّل عليه. ويقال له: الخبر المحذوف إن كان معلومًا فقد بطل الإبهام المقصود، أو مجهولاً فلا يصح حذفه، فإنَّ شرط صحة حذف الخبر ألا يكون مجهولاً» انتهى. والثالث من أقوال الأخفش: أنَّ «ما» نكرة موصوفة، وأَفْعَلَ صفتها، والخبر محذوف، والتقدير: شيءٌ حَسَّنَ زيدًا عظيمٌ. وقد رُدَّ مذهب الأخفش في كون «ما» موصولة، وأنَّ حذف الخبر قد يكون للإبهام ـ والمراد هنا الإبهام في وصف السبب ـــ كما حُذف للإبهام في قوله ... {أن الذين كفروا بالذكر لما جاءهم}، كما حذف جواب لو في قوله {ولو ترى إذ وقفوا)، {ولو تري إذ الظلمون} ــ بأن الإبهام تمنعه الصلة؛ لأنه لا تجتمع معه؛ لأنَّ المراد هنا إبهام ذات السبب لا إبهام ما يُنسب إليه، وحَذفُ الخبر مع وجود الصلة إبهام ما ينسب إليه، وإيضاح للذات؛ لأنَّ الصلة توضح الموصول.

وبهذا يُرَدُّ عليه في زعمه أنَّ «ما» نكرة موصوفة؛ لأنَّ الصفة تُخَصِّص الموصوف، فهي قريبة من الصلة، فالإبهام إذ ذاك ليس في ذات السبب، إنما هو في الخبر المنسوب إلى السبب. -[ص: وكأَفْعَلَ أَفعِلْ خبرًا لا أمرًا مجرورًا بعده المتعجَّب منه بباء زائدة لازمة، وقد تفارقه إن كان أنْ وصلتها. وموضعُه رفعٌ بالفاعلية لا نصب بالمفعولية، خلافًا للفراء والزمخشري وابن خروف. واستُفيد الخبر من الأمر هنا وفي جواب الشرط كما استُفيد الأمر من مُثبَت الخبر، والنَّهيُ من مَنفِيَّه، وربما استُفيد الأمر من الاستفهام. ولا يُتَعَجَّبُ إلا من مختصّ، وإذا عُلم جاز حذفه مطلقًا، ورُبَّما أُكَّدَ أَفْعلْ بالنون، ولا يؤكَّد مصدرٌ فعلَ تعجُّب ولا أفْعَلَ تفضيل.]- ش: لا خلاف في فعلية أَفْعِلْ؛ إذ هذا الوزن لا يوجد في الاسم إلا قليلاً جدَّا، نحو أصْبع إحدى لغات الإصبَع، هكذا نقلوا، وفي كلام ابن الأنباري ما يدلُّ على أنَّ أَفْعِل اسم لا فعل، قال: «وإذا قلت: ما أحسنَ عبدَ الله! فأرادت أن تُسقط ما وتتعجب قلت: أحْسِنْ بعبدِ الله! وإذا أردتَ أن تأمر من هذا قلت: يا زيدُ أَحْسنْ بعبد الله رجلاً، وإذا ثَّنيت قلت: يا زيدان أَحْسنْ بعَبدَي الله رجلين، ويا زيدون أَحْسِنْ بعبيد الله رجالاً، وتنصب رجالاً على التفسير، وأحْسِنْ لا يُثَنَّى، ولا يُجمع، ولا يؤنث؛ لأنه اسم، وأَحْسِنْ ليس بأمرٍ من هذا» يدلُّ على أنه أمر. وقوله أخيرًا «إنه اسم وليس بأمرٍ للمخاطب» يدلُّ على أنه تجوَّز /في قوله «وإذا أردت أن تأمر من هذا». وإذا قلنا إنه اسم فإنه يُشكل؛ لأنه يكون إذ ذاك مبنيَّا على السكون، ولا أدري ما موضعه من الإعراب. ويعني ابن الأنباري بقوله «لا يُثَنَّى ولا يُجمع ولا يُؤنث لأنه اسم» أي: لا يكون فيه ضمير تثنية ولا جمع ولا تأنيث.

وقوله خبرًا لا أمرًا أي: معناه معنى الخبر، وهو الفعل الذي هو على صيغة أفْعِلْ، والهمزة فيه للصيرورة، وإن كانت صورته صورة الأمر، لكنه ليس بأمر حقيقة، هذا مذهب جمهور البصريين، فإذا قلت أحْسِنْ بزيدٍ فمعناه: أحْسَنَ زيدٌ أي: صار ذا حُسْن، كقولهم: أبْقَلَتِ الأرضُ، أي: صارت ذات بَقْل، وهو خبر معناه التعجب، فمدلوله ومدلول ما أَحْسَنَ زيدًا من حيث التعجب واحد؛ إذ ليس المعنى أنه كانت منه صيرورة إلى التعجب منه فيما مضى؛ إذ لا تقول ذلك إلا وأنت مُنشىئ للتعجب منه لا على حقيقة الإخبار. وذهب الزجاج ومَن وافقه إلى أنه أمر حقيقة، وليس مرادًا به الخبر، والهمزة فيه للنقل، وسيأتي تقرير هذا المذهب. وقوله مجرورًا بعده المتعجَّبُ منه بباءٍ زائدةٍ وهو نظير قول العرب: كفى بالله. والدليل على زيادتها في كفى باللهِ جواز حذفها ورفع الاسم بعدها، قال: ....................... كَفَى الشَّيبُ والإسلامُ لِلْمَرءِ ناهِيا وسيأتي الخلاف في هذه الباء في حروف الجر إن شاء الله. وقوله لازمةٍ يعني أنه لا يجوز حذفها، فلا يقال: أحْسِنْ زيدٌ، ولا: أَحْسِنْ زيدًا، على مذهب من يعتقد أنه فعل أمرٍ حقيقة.

وقوله وقد تُفارقه أن كان أنْ وصلتَها أي: وقد تفارق الباءُ المجرورَ بها إنْ كان أنْ وصلَتها، فيجوز في أَجْوِدْ بأنْ يكتبَ زيدٌ أن تقول: أجْوِدْ أنْ يكتبَ زيدٌ، وقال الشاعر: وقالَ نَبِيُّ المسلمينَ: تَقَدَّمُوا ... وأَحْبِبْ إلينا أنْ نكونَ المُقَدَّما وقوله وموضعُه رفعٌ بالفاعلية أي: وموضع المجرور رفع بالفاعلية، وتقدَّم بيان ذلك. وقوله لا نصبٌ بالمفعولية، خلافًا للفراء والزمخشري وابن خروف هذا قولُ مَن ذهب إلى أن أَفْعِلْ أمر حقيقة، وليست الهمزة فيه للصيرورة، بل هي للنقل، كهي في: ما أَحْسَنَ زيدًا! والقائلون بأنه أمر حقيقة اختلفوا على قولين في الفاعل: فقيل: المخاطب الحُسن، وإليه ذهب ابن كيسان، فكأنه قيل: يا حُسْنُ أَحْسِنْ بزيدٍ، أي: الْزَمه ودُمْ به، ولذلك كان الضمير مفردًا على كل حال، ووجهّ الفعل إلى الاسم المبهم عند المتعجب، وهو السبب الخفيّ الذي حَسَّن زيدًا في عين المتعجِّب الذي هو (ما) في قولك: ما أَحْسَنَ زيدًا! وصار الذي أبهم على المتعجِّب من حُسن زيد كالشيء تخاطبه، كأنك قلت: أَحْسِنْ يا حُسْنُ بزيدٍ، وافعلْ ما شئت به، أي: أنت على ذلك قادر، فالْزَمه، وصَرِّفه كيف شئت من التحبيب إلينا.

قال ابن طلحة: «وهذا قول حسنٌ لتتوفر حقيقة اللفظ في الفعل وفي الاسم، فاللفظ لفظ الأمر، فيجب /أن يكون بين البابين نسب حتى تصح الاستعارة، ولم يتمحَّض فيه الأمر، لأنَّ المواجَه به غير محصَّل، فالاعتماد على المتعجَّب منه، ولذلك صار المعنى: حَسُنَ زيدٌ جدَّا، ولَّما لم يتمحَّض فيه معنى الأمر لم يصح أن يجاب، وأمكن أن يقطع فيه على أحد محتملين» انتهى وقال غيره في تقرير هذا القول: كان الأصل: حَسُنَ زيدٌ، ثم دخلت همزة النقل على معنى: أَحْسَنَ زيدًا أمرٌ ما وسببُ ما، ثم أرادوا أمر الفاعل بأن يقع به على جهة اللزوم مجازًا، فكأنهم أمروا السبب باللزوم، أي: الزمْه يا سببُ، فمعنى أحْسِنْ بزيد! أي: دُمْ له، فهو أمر حقيقة. وقد رُدَّ هذا المذهب بأنهم يصرَّحون بخطاب الشخص، فيقولون: يا زيدُ أَحْسِنْ بعمرٍو، فكيف يكون الضمير لمخاطبين. وقال المصنف في الشرح: «وقد يُتَوَهَّمُ أنَّ أَفْعِلْ أمرُ خوطب به المصدر على سبيل المجاز، كأنَّ من قال: أَحْسِنْ به! قائل: يا حُسْنُ أَحْسِنْ به، فلهذا لزم الإفراد والتذكير. أشار إلى هذا أبو علي في (البغداديات) منفَّرًا منه وناهيًا عنه. ومما يبيِّن فساده أنَّ من المصادر المصوغ منها أَفْعِلْ ما لا يكون إلا مؤنثًا كالسُّهولة والنَّجابة، فلو كان الأمر على ما تَوَهَّمَه صاحب هذا الرأي لَقِيل في أَسْهِلْ به، وأَنْجِبْ ِبه: أَسْهِلِي به، وأَنْجِبِي به، لكنه لم يُقَبلْ، فصحَّ بذلك فساد ما أدَّى إليه» انتهى.

ولا دليل في ذلك على فساد هذا القول؛ لأنَّ أصل المصدر ألا يجيء بتاء التأنيث، فرُوعِيَ في تذكير الضمير ما كان يستحقُّه المصدر من التذكير، وإن لم يُنطَق به مذكرًا، لكنه ذُكَّرَ على ما كان يستحقُّ أن يجيء عليه، ولأن يجري الأمر في ذلك مجًرى واحدًا، كما ذكروا في: ما أَحْسَنَ زيدًا! وإن كان مؤثِّر التعجُّب قد يكون مؤنثًا ولأنَّ ذلك جرى مجرى الأمثالُ لا تحتمل التغيير. والقول الثاني أنَّ المخاطب هو الشخص، فإذا قلت أَحْسِنْ بزيدٍ فالفاعل ضمير المخاطب، فكأنك قلت: أَحْسِنْ يا مخاطبُ بزيدٍ، ولا يبرز الضمير باختلاف المخاطب تثنية وجمعًا وتأنيثًا؛ لأنه جرى مجرى المَثَل، وكان الأصل: شيءٌ أَحْسَنَ زيدًا، أي: كان سببَه أو حَكَمَ بحسنه، ثم أَمروا المخاطب بذلك، فمعنى يا زيدُ أَحْسِنْ بعمرٍو، أي: احْكُمْ بحُسْنه، ولَزِمَت الباء في المفعول ليكون للأمر في معنَى التعجب حالة لا تكون له حالة غير التعجب. وقال بعض أصحابنا: ويحتمل أن تكون الهمزة لا للنقل، بل على معنَى أَقْطَعَ النخلُ، ثم أَدخَلوا الباء على معنى انه صيَّره كذلك، أي: صَيَّرَه ذا حُسْنٍ وذا كَرَمٍ أمرٌ ما، ثم أُمر السبب أو الشخص على النَّحْوَين المتقدِّمَين، فتكون الباء للتعديه. وقد استدلَّ القائلون بأنه ليس بأمر حقيقة على ذلك بعدم بروز الضمير إذا كان المخاطب مثنَّى أو مجموعًا أو مؤنثًا، ولأنَّ الهمزة إمَّا للتعدية فيجب نصب ما بعد الفعل، وليس كذلك. وإمَّا لغير التعدية كأَقْطَفَ الكَرْمُ، فيكون فاعلاً، والأصل فعلَ زيدٌ، وأنت تقول: فعلَ بزيد، فتُدخل الباء في الأصل، فكذلك دخلت في الفرع. وقال ابن طلحة: «الدليل على أنه ليس بأمر أنه محتمل للصدق والكذب؛ لأنَّ المخبِر به قد قطع على أحد /محتملين. ودليل آخر أنه لا يجاب بالباء، وما مِن

أمر إلا ويجوز أن يجاب بالباء، وإنما خصُّوا التعجب بلفظ الأمر لِما فيه مِن معنَى المبالغة، فقد قالوا: كُنْ ما شئتَ، إذا أرادوا المبالغة، وقال تعالى في التهديد والوعيد (قل كونوا حجارة أو حديدا}. وقال الصَّيْمَريّ: (معناه معنَى ما أَفْعَلَه، إلا أنك إذا قلت ما أَحْسَنَ زيدًا فأنت وحدك متعجَّب، وإذا قلت أَحْسِنْ بزيد فقد استدعيت غيرك إلى التعجُّب). فآخر كلام الصيمري ناقصُ لأوله؛ إذ جعله في أوله خبرًا محضًا، وفي آخره جعله أمرًا لقوله: فقد استدعيتَ غيرك للتعجب». انتهى. وقال المصنف في الشرح: «وفي أَفْعِلِ المتعجَّب به مع الإجماع على فعليتَّه قولان: أحدهما: أنه في اللفظ أمر، وفي المعنى خبر إنشائيُّ مسند إلى المتعجَّب منه المجرور بالباء. والثاني: أنه أمرُ باستدعاء التعجب من المخاطب مسندًا إلى ضميره، وهو قول الفراء، واستحسنه الزمخشريُّ وابن خروف. والأول هو الصحيح لسلامته مما يَرد على الثاني من الإشكالات: أحدها: أنه لو كان الناطق بأَفْعِل المذكور آمرًا بالتعجب لم يكن متعجبَّا، كما لا يكون الآمر بالحَلف والنداء والتنبيه حالفًا ولا منادًيا ولا منَّبهًا، ولا خلاف في كون الناطق بأَفْعِل الذكور متعَّجبًا، وإنما الخلاف في انفراد التعجب ومجامعته الأمرية. الثاني: أنه لو كان أمرًا مع الإجماع على فعليته لَزم إبراز ضميره في التأنيث والتثنية والجمع، كما يَلزم مع كل فعل أمر، متصرفًا كان أو غير متصرف. ولا

يعُتَذَر عن ذلك بأنه مَثَل أو جارٍ مجرى المثل؛ لأنَّ يلزم لفظًا واحدًا دون تبديل ولا تغيير، نحو «أَطِرِّي فإنَّكِ ناعِلة، و «خَلا لَكِ الَجوُّ، فَبِيضِي، واصْفِرِي». والجاري مجرى الَمثَل يلزم لفظًا واحدًا مع اغتفار بعض التغيير، نحو: حَبَّذا، ولِلِه دَرُّك، فالتزم لفظ حَبَّذا، ولِلِه دَرُّك، وأجيز أن تختم الجملتان بما كان للناطق بهما غرض في الختم به، وأَفْعِل المذكور لا يلزم لفظًا واحدًا أصلاً فليس مَثَلاً ولا جاريًا مجرى المَثَل، فلو كان فعلَ أمرٍ مُسنَدًا إلى المخاطب لبرزَ ضميره في التأنيث والتثنية والجمع، كما يَبرز مع غيره من أفعال الأمر العارية من المَثَلية. وقيدت أفعال الأمر بالعارية من المَثَلية احترازًا من «خُذْ ما صَفا، ودَعْ ما كَدِر»، و «زُرْ غِبَّا تَزْدَدْ حُبَّا»، على أنَّ قولهم «اذهبْ بِذِي تَسلَمُ» أشبه بالأمثال وأحق

بأن يجرى مجراها، ولم يمنع ذلك من بروز فاعلي الفعلين في التثنية والجمع والتأنيث، فلو كان أَفْعِل المذكور فعلَ أمرٍ جاريًا مجرى المَثَل لعوامل معاملة اذهبْ وتَسلَم. الثالث من الإشكالات: أنَّ أَفْعِل المذكور لو كان أمرًا مسندًا إلى المخاطب لم يجز أن يليه ضمير المخاطب، نحو: أَحْسِنْ بك! لأنَّ في ذلك إعمال فعلٍ واحد في ضميري فاعل ومفعول لمسمَّى واحد. الرابع من الإشكالات: أنَّ أَفْعِل المشار إليه لو كانت بمعنى الأمر لا بمعنى أَفْعَلَ تالي (ما) لوجب له من الإعلال إذا كانت عينه ياءً أو واوًا ما وجب لأَبنْ وأَقِمْ ونحوهما، /ولم يُقَلْ أبين به وأَقْوِم، فيلزم مخالفة النظائر، فإذا جُعلَ مخالفًا لأَبِنْ وأَقِمْ ونحوهما في الأمرية موافقًا لأَبْيَنَ وأَقْوَمَ من: ما أَبْيَنَة! وما أَقْوَمَه! في التعجب ـــ سُلك به سبيل الاستدلال، وأُمن الشذوذ من التصحيح والإعلال» انتهى. وتلخَّص من هذه النقول أنَّ أَفْعِلْ كالمجمع على فِعلَّيته، خلافًا لِما يَدُولَّ عليه كلام ابن الأنباريّ أنه اسم، وإذا كان فعلاً فهل هو أمرُ حقيقة أم أمرُ لفظًا بمعنَى أَفْعَلَ؟ قولان. وإذا كان أمرًا حقيقةً فهل الفاعل المخاطب أو ضمير المصدر الدالّ عليه أَفْعِلْ؟ قولان. وهل الهمزة في أَفْعِلْ للتعدية، فتكون الباء زائدة، أو للصيرورة فتكون الباء للتعدية؟ قولان. وإذا كان بمعنى أفْعَلَ فالفاعل هو المجرور بالباء، ولا ضمير في أَفْعِلْ. ولو ذهب ذاهبُ إلى أنَّ أَفْعِلْ أمرٌ صورةً خبرٌ معنًى، بمعنى أفْعَلَ، والفاعل فيه مضمر، يعود على المصدر المفهوم من الفعل، و «بزيد» في موضع، مفعول، والهمزة في أَفْعِلْ للتعدية ـ لكان مذهبًا، فإذا قلتَ أَحْسِنْ بزيدٍ فمعناه: أحسَنَ هو ـ أي: الإحسانُ ـ زيدًا، أي: جعلَه حسنًا، وكذلك: أَكْرِمْ بزيد، أي: أكْرَمَ هو ـ أي: الإكرام زيداً، أي: جعله كريماً، فيوافق في المعنى: ما أكرم زيداً! أي شيء جعل زيداً كريماً، وهو الإكرام.

ولا يُعترض على هذا بخطاب في قولك: يا زيدُ أَكْرِمْ بعمرٍو؛ لأنَّ الفاعل مخالف للمخاطب، فالمعنى: يا زيدُ أَكْرَمَ الإكرامُ عمرًا، أي: جعلَه كريمًا، كما تقول: يا زيدُ ما أَكْرَمَ عمرًا! أي: شيءٌ جعلَه كريمًا. وأُضمر الفاعل في أَفْعِلْ ليكون بإضماره إبهام، ويحصل بعدم التصريح به جَوَلان الفكر فيه بما هو. والدليل على أنَّ المجرور في موضع نصب شيئان: أحدهما: جواز حذفه اختصارًا، كقوله تعالى (أسمع بهم وأبصر)، واقتصارًا، نحو قوله: ............................. ... .......... وإنْ يَسْتَغْنِ يومًا فأَجْدِرِ والثاني: أنهم لَّما حذفوا الباء نصبوا الاسم، نحو قول الشاعر: ألا طَرَقَتْ ... رِجالَ ... القَومِ ... لَيلَى ... فَأَبْعِدْ ... دارَ ... مُرْتَحِلٍ ... مَزارَا وقولِ الآخر: ............................... وأجْدِرْ ... مثلَ ... ذلك أنْ يَكُونا

أي: ما أَبْعَد دارَ مرتحلٍ مزارًا! وما أجْدَرَ مِثلَ ذلك! وأيضًا فإنه لا تُعهد صيغة أمر ترفع الاسم الظاهر وإن كان خبرًا في المعنى دون لام الأمر؛ ألا ترى إلى قوله (فليمدد له الرحمن مد} كيف هو أمرٌ صيغة خبرٌ في المعنى، ولما رَفع الظاهر كانت فيه لام الأمر. وقد تأوَّلَ هذين البيتين مَن ذهب إلى أنَّ المجرور ليس في موضع نصب بأنَّ قوله «فأَبْعِدْ دارَ مُرتَحِلٍ» يمكن أن يكون «أَبْعدْ» فيه دعاءً؛ على معنى: أَبعَدَ الله دارَ مُرتَحِلٍ عن مزارِ محبوبه، كأنه يُحَرِّض نفسه على الإقامة في منْزل طُروق ليلى؛ لأنه صار بطروقها مَزارًا. وبأنَّ «فأَجْدِرْ» أمرٌ عارٍ من التعجب، أي: اجْعَلْ مِثلَ ذلك جديرًا، وأَجْدِرْ به! أي: اجعلْه جديرًا بأن يكون، أى: حقيقًا بالكون، يقال: /جدُرَ بكذا جدارةً، أي: صار جديرًا به، وأَجدَرتُه به، أي: جعلتُه جديرًا به، أي: حقيقًا. وأنه تعجُّب، ومثلَ في موضع رفع، وهو مبنيّ لإضافته إلى مبنيّ، نحو قوله {أنه لحق مثل ما أنكم تنطقون} في قراءة مَن فتح اللام. وقال المصنف في الشرح حيث اختار أَن فاعل أَفْعِلْ هو المجرور بالباء: «إنه لو اضطر شاعر فحذفها لرفع الاسم، وإنَّ الباء زيدت في الفاعل كما زيدت في فاعل كفى، إلا أنه بينهما فرق من وجهين: أحدهما أنه يجوز حذف الباء قي فاعل كفى فصيحًا، ويرتفع الاسم. والثاني أنَّ كفى قد يُسند إلى غير المجرور بالباء، فيكون هو في موضع نصب، نحو قوله:

فكَفَى بِنا فَضْلاً على مَن غَيرِنا ... حُبُّ النَّبِيَّ محمدٍ إيَّانا ولا يُفعل ذلك بأَفْعِلْ» انتهى ملخصًا. ولشيخنا أبي الحسن بن الضائع تخريج في هذا البيت، يأتي ـ إن شاء الله ـ في حروف الجر. وقوله واستُفيدَ الخبر من الأمر هنا وفي جواب الشرط لَّما اختار أنَّ أَفْعِلْ هنا ـــ وإن كان بصيغة الأمر ـ فمعناه الخبر، أخذ يذكر له نظيرًا، وهو ما وقع من ذلك في جواب الشرط، نحو قوله تعالى {قل من كان في الضللة فليمدد له الرحمن مدًا}، وقول النبي ـــ - صلى الله عليه وسلم - ـــ (مَنْ كَذَبَ عليَّ مُتَعَمَّدًا فَلْيَتَبَوَّا مَقْعَدَه من النار»، وفي رواية (فَلْيِلجِ النار»، أي: فَيمُدّ، وفيَتَبَوَّأ، وفَيَلج. وقوله كما استُفيد الأمرُ من مُثَبت الخبر والنهيُ مِن مَنْفيَّه أخذ يتأنس في هذا المجاز ـــ وهو وضعُ الأمر موضعَ الخبر ــ بأنه قد نُطق بِمُثَبت الخبر ومعناه الأمر، كقوله {والمطلقت يتربصن}، {والوالدات يرضعن}، والمعنى: ليَتَرَبَّصْنَ، ولُرْضعنَ. وُنطق بالمنفي، والمراد به النهي، كقوله {لا تضار ولدة بولدها) في قراءة من قرأ برفع الراء، فهذا منفيّ أُريد به النهي، أي: لا تُضارِرْ، أو: لا تُضارَرْ. والجامع بين الأمر والخبر أنَّ الخبر هو إخبار بالثبوت، والأمر طلب للثبوت. والجامع بين النفي والنهي أنَّ النفي هو سلب الثبوت، والنهي هو استدعاء لسلب الثبوت

وتركه، فهذه هي العلاقة التي بين كل واحد من الخبر والأمر، وكل واحد من النفي والنهي. وقوله ورُبَّما استُفيد الأمر من الاستفهام ومثاله {وقل للذين أوتو الكتب والأمين أسلمتم)}، وقوله {(فهل أنتم منهون} أي: أسْلمُوا، وانْتَهُوا. وقوله ولا يُتَعَجَّبُ إلا من مختصّ قال المصنف في الشرح: «المتعجَّب منه مُخبَر عنه في المعنى، فلا يكون إلا معرفة أو نكرة مختصَّة، فيقال: ما أَحْسَنَكّ! وما أَكْرَمَ زيدًا! وما أَسْعَدَ رجلاً اتَّقى الله! ولا يقال: ما أَحْسَنَ غلامًا! ولا: ما أَسْعَدَ رجلاً من الناس! لأنه لا فائدة في ذلك» انتهى. وقد وقع الخلاف في مسائل: الأولي: إذا كان معرفةً بأل للعهد، نحو: ما أَحْسَنَ الابنَ! تعني به ابنًا معهودًا بينك وبين المخاطب. ذهب الجمهور إلى جواز ذلك، ومنعه الفراء. الثانية: إذا كان أيَّا الموصولة، أذا كانت صلتها فعلاً ماضيًا، نحو: ما أَحْسَنَ أيَّهم قال ذلك! منعها الكوفيون والأخفش، وأجازها غيرهم. فإن كانت صلتها مضارعًا جازت عند الجميع، /نحو: ما أَحْسَنَ أيَّهم يقول ذلك. الثالثة: ما أَحْسَنَ ما كان ما كان زيدٌ! أجازها هشام، ومنعها غيره من الكوفيين. قال النحاس: وهي على أصل البصريين جائزة، أي: ما أَحْسَنَ ما كانت كينونة زيد، فالأولى في موضع نصب، والثانية في موضع رفع. الرابعة: ما أَحْسَنَ ما كان زيدٌ ضاحكًا. إذا كانت كان ناقصة أجاز ذلك الفراء، ومنعها البصريون. فإن جعلت كان تامَّة، ونصبت ضاحكًا على الحال ـــ جاز عند الجميع.

الخامسة: ما أَحْسَنَ ما ظننتُ عبدَ الله قائمًا. قال الفراء: إن شئت لم تأت بقائم لأنه نصبٌ على الحال لا غير. وهو عند البصريين خبر، فلا يجوز حذفه. السادسة: ما أَحْسَنَ أحدًا يقول ذلك. أجازها الكسائيّ، ومنعها الفراء والبصريون. وألزمه الفراء أن يقول: اضربْ أحدًا يقول ذلك، ولتضربَنَّ أحدًا يقول ذلك، وعليك بأحدٍ يقول ذلك. وهو إلزام صحيح؛ لأنَّ الكسائي شبَّه أحدًا بـ «أيّهم» من جهة الإبهام، وهو يجيز ما ألزمه في أيّهم، فإن جعلت أحدًا في معنَى واحدٍ صحَّت المسألة. السابعة: ما أَحْسَنَ ما ليس يذكرُك زيدٌ. قال بعض أصحابنا: يجوز. وقال: لا يجوز: ما أَحْسَنَ ما ليس زيدٌ قائمًا. وهو مذهب البغداديين. وقوله وإذا عُلم جاز حذفه مطلقًا يعني بقوله مطلقًا أي: معمولاً لأَفْعَلَ أو لأَفْعِلْ. فمثال حذفه بعد أَفْعَلَ قولُه: جَزى الله عنَّا ... بَخْتَرِيَّا ورَهطَهُ ... بَني عَبدِ عمرٍو، ما أَعَفَّ وأَمْجَدَا وقولُ الآخر: أَرى أُمَّ عَمرٍو، دَمْعُها قد تَحَدَّرا ... بُكاءً على عَمرٍو، وما ـــ كانَ ـــ أَصْبَرَا وقولُ الآخر: جَزى الله عنَّا، والجَزاُء بِفَضِلهِ ... رَبيعةَ خَيرًا، ما أَعَفَّ وأَكْرَمَا وقولُ الآخر:

خَلَّفْ على أَرْوَى السَّلامَ، فإنَّما ... جزَاءُ الثَّوِيِّ أن يَعِفَّ ويَحْمَدَا سأَرحَلُ عنها وامقًا غير عاشقٍ ... جَزَى الله خيرا، ما أَعَفَّ وأمْجَدَا أي: ماأعفَّهم وأمجدَهم، وما كان أصبَرها، وما أعفًهم وأكرمَهم، وما أعفْها وأمجدَها. ومثال حذفه بعد أَفْعِلْ قوله تعالى {أسمع بهم وأبصر}، {وأبصر به وأسمع)، وقال: أعْززْ بنا ... وأَكْف، إنْ دُعيِنا ... يومًا إلى نُصْرةِ مْن يَليِنا وقال آخر: تَرَدَّدَ فيها ضَوءُها وشُعاعُها ... فَأَحْصِنْ وأَزْيِنْ لامريئٍ إنْ تَسَرْبَلا وقال آخر: فذلكَ إنْ يَلْقَ المَنَّيةَ يَلْقَها ... حَميدًا، وإنْ يَسْتغْنِ يومًا فَأَجْدِرِ /أي: وأَبْصِرْ بهم، وأسْمِعْ به، وأكْفِ بنا، وفَأَحْصِنْ بها وأَزْيِنْ بها، وفَأَجْدرْ به. ومن زعم أنَّ المجرور في موضع رفع استعذر لحذفه بأن لّما لزمه الجر اكتسى صورة الفضلة، فلما عُرف جاز حذفه، ولأنه في المعنى كمعمول أَفْعَلَ، فجاز حذفه حملاً عليه.

وزعم الفارسيُّ وقومٌ من النحويين أنه لم يُحذف الفاعل في أَفْعِل، بل لمّا حُذف حرف الجر استتر الفاعل في أَفْعِلْ. ورُدَّ بأنه لو كان مستترًا في أَفْعِلْ لبرز في تثنية وجمع وتأنيث، فقلت: أَسْمِعْ بالزيدَينِ وأَبْصرا! وأَسْمِعْ بالزيديِنَ وأَبْصرُوا! وأَسْمِعْ بهند وأبْصِري! ولأنَّ من الضمائر ما لا يمكن استتاره، نحو ضمير المتكلم، تقول: أكْرِمْ بي! وأَعْزِزْ بنا! فلو حذفت الباء وحدها لقيل: أَكْرِمْتُ! وأَعْزِزْنا! ولم يُقَل، إنما قالوا: أَكْرِمْ! وأَعْزِزْ! فدل ذلك على أنَّ المحذوف هو حرف الجر ومعموله. ويكثر حذف هذا المجرور إذا كان ضميرًا معطوفًا عامله على ما قبله، وحذفُه دون عطف قليل. وزعم بعض أصحابنا أنه لا يجوز الاقتصار على الاسم بعدها إلا في باب العاملَين، نحو: ما أَحْسَنَ وأَجْمَلَ زيدًا. ويعني أنَّ كل فعل منها يطلب مفعولاً، فلا يجوز أن يُقتصر على اسم واحد إلا في باب التنازع. قال: «على خلاف فيه». وقوله ورُبَّمَا أُكَّدَ أَفْعِلْ بالنون تقدَّم له ذكر هذه المسألة في أول الكتاب عند شرحه قوله «ونونِ التوكيد الشائع». وفي قوله ورُبَّما دليل على قلة نحو: أَحْسِنَنَّ بزيدٍ. وقال المصنف هنا في الشرح: «ولشبه أَفْعِلْ بفعل الأمر جاز أن يؤكَّد بالنون، كقول الشاعر: ومُسْتَبْدل من بَعد غَضْبَى صُرَيْمةً ... فَأَحْر به بطُول فقرٍ، وأَحْرِيَا وهذا من إلحاق شيء بشيء لمجرد شبه لفظي، وهو نظير تركيب النكرة مع لا الزائدة لشيهها بـ (لا) النافية للجنس، ونظير زيادة أنْ بعد (ما) الموصولة لشبهها بـ (ما) النافية».

وقوله ولا يؤكِّد مصدرٌ فعلَ تعجبٍ ولا أَفْعَلَ تفضيل قال المصنف في الشرح: «ولَّما كان فعل التعجب دالاَّ على المبالغة والمزية استغنى عن توكيد بالمصدر، وكذلك أفعل التفضيل» انتهى. وأمَّا أَفعَلُ التفضيل فلا نحفظ فيه خلافًا أنه لا يؤكَّد بمصدر. وعلْة ذلك أنه ليس له فعل من معناه، فإذا قلت زيدٌ أفضلُ من عمرٍو فإنَّ العرب لم تَبنِ فعلاً يدلُّ على أفضلية زيد على عمرو كما دلّ عليه أفعل التفضيل. وأمَّا فِعلُ التعجب فذهب بعضهم إلى أنه يَنصب الحدث، فأجاز: ما أَحْسَنَ زيدًا إحسانًا! وأَحْسِنْ بزيدٍ إحسانًا! وهو مذهب الجرمي. وذهب الجمهور إلى المنع. والقياس الجواز. لكنه ــــ والله أعلم ـــ لم تستعمله العرب. ولم يذكر المصنف في باب التعجب من صيغ التعجب إلا صيغتين: ما أَفْعَلَه، وأَفْعِلِ به، وقد تقدم له في آخر باب نِعمَ وبئسَ صيغة فَعُلَ متضمّنة تعجبنًا، وتكلمنا عليها هناك. وكذا ذكر بعض أصحابنا أنَّ للتعجب المبوَّب له ثلاثَ صيغ: ما أفْعَلَه، وأَفْعِلِ به، ولَفَعُلَ. وزاد الكوفيون أَفْعَلَ بغير «ما» مسندة إلى الفاعل، نحو قوله:/ ومُرَّة يَحميهمْ إذا ما تَبَدَّدُوا ... ويَطْعُنُهُمْ شَزْرًا، فأَبْرَحْتَ فارِسا

قال بعض أصحابنا: وما ذكروه فيه معنى التعجب، لكنه ليس من هذا الباب، بل من باب: لِلِه دَرُّه فارسًا، وكَفى بك فارسًا، ولذلك فسَّره س بمعنى: كَفَيتَ فارسًا، فكأنه تعجَّب أولاً من أمر، ثم بيَّن من ماذا تعجَّب، لكنه يُستعمل في التعجب، كقولهم: زيدٌ أَيُّما رجل! وإنما يكون من هذا الباب لو ثبتَ أنَّ العرب تُغير الفعل إلى أَفْعَلَ تدلُّ به على المتعجَّب منه، فتقول أَكْرَمتَ بمعنى: ما أَكْرِمك! وأَحْسَنْتَ بمعنى: ما أَحْسَنَك! ويكون ما ينتصب بعده تمييزًا إن كان التعجب له، كما تقول: أَكْرِمْ به أبًا! فإن ثبت هذا فيكون من هذا بمعنى: وُجدْتَ ذا كرم، ولا بُدَّ من السماع. وزاد بعض النحويين في صيغ التعجب: أَفْعَل من كذا؛ لأنه بمعناه من الزيادة والمبالغة. وقال س: «والمعنى في أَفْعَلَ وأَفْعِلْ به وما أَفْعَلَه واحد». ولأنَّ قياسه فيما يُشتَقُّ منه كقياس ما أفْغَلَه وأَفْعِلْ به، ولذلك لا يجوز: زيدٌ أبيضُ من فلان، ولا: أَعْرَجُ منه، إلا شاذَّا، فهو مرتبط به، فلذلك كان بمعناه. قال بعض أصحابنا: «وردَّه المققون بأنه موضوع للمفاضلة، ويدخله معنى التعجب كما دخل: لِلِّهِ دَرُّه فارسًا، وليس من هذا الباب، وليس موافقته لأَفْعَلَ وأَفْعِلْ به تدلُّ على أنه موضوع للتعجب، بل لما كان فيه معنى المفاضلة، والتعجب كذلك، وباب المفاضلة هي التي يُشترط فيه تلك الشروط، سواء أكان تعجبنًا أم لا والاشتراك في الأعمَّ لا يوجب الاشتراك في الأخصِّ، لكنه يُستعمل للتعجب، وهو أولى فيه من غيره للمشاركات» انتهى.

-[ص: فصل همزةُ أَفْعَلَ في التعجب لتعديةِ ما عَدِمَ التعدي في الأصل أو الحال؛ وهمزة أَفْعِلْ للصيرورة، ويجب تصحيحُ عينيهما وفَكُّ أَفْعِل المضعف. وشذَّ تصغير أَفْعَلَ مقصورًا على السماع، خلافًا لابن كيسان في اطِّراده وقياسِ أفْعِلْ عليه. ولا يتصرفان، ولا يليهما غيرُ المتعجَّب منه إن لم يتعلّق بهما، وكذا إن تعلّق بهما وكان غيرَ ظرف وحرف جرّ، وإن كان أحدَهما فقد يلي، وفاقًا للفراء والجرميّ والفارسيَ وابن خروف والشلوبين، وقد تليهما عند ابن كيسان «لولا» الامتناعية.]- ش: مثال ما عَدِمَ التعدي في الأصل ــــ ويعني بذلك الأ يكون ينصب مفعولاً به فأكثر ــــ ظَرُفَ وجَمُلَ وفَزِعَ وجَزعَ ونَحَبَ وذَهَبَ، فإذا تعجبت من هذه ونحوها أدخلت همزة النقل، وصار الفاعل الذي كان لها قبل دخول الهمزة مفعولاً بها، فتقول: ما أَظْرَفَ زيدًا! ونحوه. والتعدي في الحال يعني به أن يكون متعديًا في الأصل، فإذا أردت التعجب منه أدخلت عليه همزة التعدي، وقُدَّر أنه قبل دخولها ضُمِّن معنَى ما لا يتعدى من أفعال الغرائز، فكانت الهمزة فيه للتعدي؛ إذ صيرت الفاعل الذي للفعل قبل الهمزة مفعولاً بعدها، وضعُف عن وصوله إلي المفعول /الذي كان له قبل دخول الهمزة إليه، فصار يتعدى إليه بواسطة حرف الجر، مثال ذلك: ضربَ زيدٌ عمرًا، فهذا متعدِّ، فإذا أدخلتَ عليه الهمزة قلتَ: ما أَضْرَبَ زيدًا لعمرٍو وكذلك: عرفَ

زيدٌ الحقَّ، تقول: ما أَعْرَفَ زيدًا بالحقَّ! وسيأتي تبيين ما يصل إليه الفعل المتعدي قبل التعجب إذا تُعُجِّبَ منه في حروف الجر إن شاء الله. واختلف النحويون فيما يتعدى وما لا يتعدى مما كان على وزن فَعَلَ أو فَعِلَ إذا تُعُجِّب منه، أَيُحوِّل إلى فَعُلَ، ثم تدخل عليه همزة النقل، أم تدخل عليه دون تحويل إلى فَعُلَ: فقيل: يُحَوَّل فَعَلَ وفَعِلَ إلى فَعُلَ. قالوا: والدليل على نقله إلى فَعُلَ شيئان: أحدهما: أنك إذا تعجَّبت مما يتعدى إلى مفعول واحد بقي متعدًيا إلى مفعول واحد، فلو كان غيرَ محوَّل إلى فَعُلَ لوجب تعديه إلى مفعولين كسائر الأفعال المتعدية إلى واحد، إذا دخلت عليها همزة النقل تعدت إلى اثنين، نحو: طَعِمَ زيدٌ اللحمَ، تقول: أطعمتُ زيدًا اللحمَ. والثاني: أنهم إذا أرادوا أن يتعجبوا من الثلاثي قالوا: لَشَرُبَ الرجلُ، ولَضَرُبَت اليدُ، فيحولون فَعَلَ وفَعِلَ إلى فَعُلَ. وإنما بُني على فَعُلَ لأنَّ التعجب موضع مبالغة، وفَعُلَ من أفعال الطبائع والغرائز، ومن المبالغة في الفعل أن يُجعل كأنه طبيعة في المتعجَّب منه. وقيل: لا يحتاج فَعَلَ وفَعِلَ إلى أن يُحَوَّلا إلى فَعُلَ، بل بناء أَفْعَلَ يكون منهما ومن فَعُلَ الموضوع، وهذا ظاهر كلام س؛ لأنه قال: «وهو مبنيّ من فَعَلَ وفَعِلَ وفَعُلَ». واستدلّ المصنف في الشرح على صحة هذا القول بوجهين:

«أحدهما: أنَّ فَعَلَ وفَعِلَ يشار كان فَعُلَ في اللزوم وقبول همزة التعدية، فتقدير ردهما إلى فَعُلَ لا حاجة إليه. الثاني: أنَّ من الأفعال ما رفضت العرب صوغه على فَعُلَ، وذلك المضاعف واليائي العين أو اللام، فلو قُصد بمضاعف معنًى غريزيُّ دَلُّوا عليه في غير شذوذ بفَعَلَ، نحو: جَلَّ يَجلُّ، وعَزَّ يَعِزُّ، وخَفَّ يَخفُّ، وقَلّ يَقلُّ، ونُسب إلى الشذوذ نحو لَبُبْت، واستغنوا في اليائي العين بفَعَلَ يَفْعِلُ، نحو: طابَ يَطيب، ولانَ يَلين، وضاقَ يضيق. وفي اليائي اللام عن فَعُلَ بفَعِلَ، نحو حَيِىَ يحيا، وعَيِيَ يعيا. فلو تعجَّبتَ من شيء من هذه الأفعال أَدخلت الهمزة، ولم تَرُدّها إلى فَعُلَ؛ لأنه فيها مرفوض» انتهى كلامه. ولا يلزم ما قاله؛ لأنَّ هذا التحويل هو أمر تقديريّ لا وجوديّ، والمقدَّرات ليست كالوجوديات، فقد يكون الشيء مقدَّرًا، ولا يُنطق به، ولا يُلفظ، وهذا كثير في هذه الصناعة؛ ألا ترى إلى المنصوب على الاشتغال، وإلى المرفوع أو المنصوب من النعوت المقطوعة ـــ كيف تُحكم بعواملها وتُقدر، وليست موجودة، ولا يُلفظ بها، ولا يُنطق في لسان العرب. والذي يدلُّ على التحويل تقديرًا أنهم إذا بنوا فَعُلَ من المضاعف أو اليائي العين أو اللام قدَّروه مبنيَّا على فَعُلَ، وإن كان لا يظهر / ذلك في اللفظ، فقالوا: لَجَلَ الرجلُ، ولَقَوِيِ، ولَشَوِيَ، ولَعَيِيَ، ولطابَ، وقدَّروا هذه كلها على فَعُلَ، وعرض فيها من الإعلال ما ردَّها إلى هذه الأوزان، وقد تبيّن هذا وفي باب نِعمَ وبئسَ حين بيَّنَّا أحكام فَعُلَ للتعجب وكيفية بنائه في الأفعال.

وإنما كان النقل بالهمزة، ولم يكن بالتضعيف؛ لأنَّ التضعيف فيه تكلُّف وعلاج، قاله بعض أصحابنا، يعني أنهم قالوا: ما أَحْسَنَ زيدًا! وما أَظرَفَه! ولم يقولوا: ما حَسَّنَ زيدًا، وما ظَرَّفه، بتضعيف العين. وإنما عدلوا إلى الهمزة لما في التضعيف من اجتماع الأمثال في نحو: ما شَدَّده، ومن الجمع بين المعتلّين والتشديد في: ما طَوَّلَه، وما بَيَّنَه، فعدلوا إلى الهمزة لأنَّ النطق بها أخف، نحو،: ما أَشَدَّه! وما أطْوَلَه! وما أبْيَنَه! وقوله وهمزةُ أَفْعِلْ للصيرورة قال المصنف في الشرح: «أي: لتحوّل فاعله ذا كذا، فأصل قولك أحْسِنْ بزيد! أَحْسَنَ زيدٌ، أي: صار ذا حُسنٍ تامّ، وهو نظير أثري الرجل: صار ذا ثروة، وأَتْرَبَ: صار ذا مالٍ كالتراب، وأَنْجَبَ، وأَظْرَفَ: صار ذا ولد نجيب، وذا ولد ظريف، وأخْلَتِ الأرضُ، وأَكْلأَتْ، وأَكْمَأَتْ: صارت ذات خلاً وكَلأٍ وكَمْأةٍ، وأَوْرَقَتِ الشجرةُ، وأَزْهَرَتْ، وأثْمَرَتْ: صارت ورقٍ وزهر وثَمر» انتهى. وهذا الذي ذكره هو مذهب جمهور البصريين. ومَنْ ذهب إلى أنَّ أَحْسِنْ فعلُ أمر حقيقة فليست الهمزة فيه للصيرورة، بل هي للتعديه. وإنما كثَّر المصنف المثل بأَفْعَلَ ـ أي: صار صاحب كذا ـــ لُيِرِيَ أنه باب متَّسع، فلا يُنكر أن يُدَّعى ذلك في أَحْسِنْ أنه بمعنى أَحْسَنَ، أي: صار ذا حُسْن، ومع ذلك فاقتياسه في فعل التعجب ـ أعني استعمال صورة الأمر بمعنى أَفْعَلَ، أي: صار ذا كذا ــ يدلُّ على أنه ليس منه؛ لأنَّ أَفْعَلَ بمعنى صار ذا كذا لا ينقاس وإن كان قد جاءت منه ألفاظ كثيرة. وقال بعض أصحابنا: وأَفْعِلْ محمول على أَفْعَلَ في التغيير من فَعُلَ. يعنى أنه من: حَسُنَ زيدٌ، ثم أَدخلتَ عليه همزة الصيرورة، فقلتَ: أَحْسَنَ زيدٌ، ثم أتيت بصورة أَفْعِلْ منه.

وقوله ويجب تصحيح عينيهما تقول: ماأَبْيَنَ الحقَّ! وما أَنْوَرَه! قال المصنف في الشرح: «وأصله الإعلال، لكن صُحِّحَ حملاً على أَفْعَلِ التفضيل، كما حُمل هو على المتعجَّب به في امتناع التأنيث والتثنية والجمع، فإنهما متناسبان وزنًا ومعنًى، فأُتبع أحدهما الآخر فيما هو أصل فيه، كما أُجري اسم الفاعل مجرى المضارع في العمل، وأُجري المضارع مجرى اسم الفاعل في الإعراب، وكما أجري الحسنُ الوجهَ على الضارب الرجلَ في النصب، والضاربُ الرجلِ على الحسنِ الوجهِ في الجر، ثم حُمل أَفْعِل المتعجَّب به على أخيه، فقيل: أَنْوِرْ بالحق! وأَبْيِنْ به! كما قيل: ما أَبْيَنَه! وما أَنْوَرَه!» انتهى. وهذا الذي ذكره تكثير لا طائل تحته، وما ذكره من وجوب تصحيح عيني أَفْعَلَ وأَفْعِلْ هو مذهب الجمهور. وذهب الكسائي إلى أنه يجوز في فعل الأمر في التعجب التصحيح كما ذهب إليه الجمهور، والإعلال، فتقول: أَطْوِلْ /بهذه النخلة! وأَطِلْ بها! في معنى: ما أَطْوَلَها! والصحيح المسموع من العرب في التعجب التصحيح، قال الشاعر: ......................... ... فَأَحْصِنْ وأَزْينْ لا مرىئٍ إنْ تَسَرْبَلا وقال الآخر: فَأَطْوِلْ بِأَيْرٍ مِنْ ... مَعَدَّ وثَروةٍ ... نَزَتْ ... بإيادٍ ... خَلفَ دارِ ... مُرادِ وقوله وفَكُّ أَفْعِل المضعَّف هذا أيضًا فيه خلاف: ذهب الجمهور إلى وجوب الفك في التعجب، فتقول: أَشْدِدْ بحمرِة زيدٍ! وأَعْزِزْ بعمرٍو! وذهب الكسائي إلى

جواز ذلك، فأجاز: أَجْلِلْ بزيدِ! وأَجلَّ بزيدٍ، والمسموع من العرب في التعجب الفكُّ، قال الشاعر: أعزِزْ عليَّ بأنْ أُرَوَّعَ شِبْهَها ... أو أنْ يَذُقْنَ ... على يَدَيَّ حِماما وقال المصنف في الشرح: «ولزمَ فَكُّ أَفْعِل المضاعف، نحو: أَجْللْ به وأَعْززْ! لأنَّ سبب الإدغام في هذا النوع إنما هو تلاقي المثلين متصلين متحركين تحركًا غير عارض؛ أو ساكنًا أحدهما سكونًا غير لازم، كسكون أَجْلِلْ إذا لم يكن تعجبًا؛ لأنه معرَّض للحركة في نحو: أَجْلِلِ الله، وأَجلاَّه، وأَجِلُّوه، وأَجِلَّيه، فلذلك لم يجب فكُّ أَجْلِلْ إذا لم يكن تعجبًا، ووجب إذا كان إياه» انتهى. ويعني أنه لزم الفكّ لأنه لم يتصل المثلان متحركين في التعجب؛ لأنه لا يجيء بعد الثاني ساكن فيتحرك آخر الفعل له، إنما يجيء متحرك، وهو المجرور بالباء، فلذلك لم يوجد فيه سبب الإدغام. وقوله وشذَّ تصغير أَفْعَلَ مقصورًا على السماع، خلافًا لابن كيسان في اطْراده قال المصنف في الشرح 2: «ولِشَبَهِ أَفْعَلَ المتعجَّب به بأفْعَلِ التفضيل أَقدمَ على تصغيره بعض العرب، فقال: يا ما أُمَيْلحَ غزلانًا، شَدَنَّ، لنا ... مِن ... هؤليَّائكُنَّ الضَّالِ والسَّمُرِ وهو في غاية الشذوذ، فلا يقاس عليه، فيقال في ما أجْمَلَه! وما أَظْرَفَه! ما أُجَيْملَه! وما أُظَيرفَه! لأن التصغير وصف في المعنى، والفعل لا يوصف، فلا بُصَغَّر. وأجاز ابن كيسان اطِّرادَ تصغير أَفْعَلَ» انتهى.

وهذا الذي ذكره عن ابن كيسان من اطِّراد تصغير أَفْعَلَ في التعجب هو نص كلام البصريين والكوفيين. أمَّا البصريون فنصَّوا على ذلك في كتبهم ـــ وإن كان خارجًا تصغيره عن القياس ــــ فقالوا: لم يُصَغَّر من الأفعال إلا أَفْعَل في التعجب. وقال س: «وسألتُ الخليل عن قول العرب: ما أُمَيْلحَه، فقال: لم يكن ينبغي أن يكون في القياس، وليس شيْ من الفعل ولا شيء مما يسمى الفعل به يُحَقَّر إلا هذا وما أشبهه من قولك: ما أَفْعَلَه» انتهى. فدلَّ قوله «إلا هذا وما أشبهه من قولك ما أفْعَلَه» على أنَّ تصغيره مقيس، فتقول: /ما أُظَيرِفَه! وما أُجَيمِلَه! وكذلك كل ما يقال فيه ما أَفْعَلَه. فرع: إذا تعجبت من نحو حَيِيَ، فقلت: ما أَحْيا زيدًا! ثم صغَّرته ــــ قلت: ما أُحيَّ زيدًا! وذلك أنَّ أصله: ما أُحَيِّيَ زيدًا! اجتمعت ثلاث ياءات: الياء التي للتصغير، والياء التي هي عين الكلمة، والياء التي هي لام الكلمة، فحذفت الأخيرة التي هي لام الفعل، وتحركت الياء التي بعد ياء التصغير بالفتح؛ لأنَّ الفعل الماضي مبنيّ على الفتح. ونظير ذلك أُحَيُّ ــــ تصغير أَحْوى ــــ عند من يحذف ويمنع الصرف؛ لأنه نوى ما حذف. وقوله وقياس أَفْعِلْ عليه أي: وخلافًا لابن كيسان في قياس أَفْعِلْ في التصغير على أَفْعَلَ، فيجيز: أُحَيْسِنْ بزيد! قياسًا على ما أُحَيْسنَ زيدًا! ولم يُسمع التصغير في أَفْعِلْ، إنما سُمع في أَفْعَلَ، وإذا كان تصغير أَفْعَلَ شاذَّا في القياس وخارجًا عن النظائر فلا يمكن القياس عليه البتة.

وقوله ولا يتصرفان يعني أنَّ «ما أَفْعَلَه» لا يقال منه مضارع ولا أمر، وكذلك أَفْعِلْ في التعجب، لا يُستَعمَل منه ماضٍ ولا مضارع، وليس أَفْعِلْ هذا أمرًا من أَفْعَلَ عند الجمهور لاختلاف مدلول الهمزة فيهما؛ لأنها في أَفْعَلَ للنقل، وفي أفْعِلْ للصيرورة. قيل: وإنما منع التصرف لأنه إنما يُتَعَجَّب مما وَقع لا مما يقع، فلمَّا كان معنى التعجب لا يختلف باختلاف الزمان لزم طريقهً واحدة، وهي المضيُّ إمَّا لفظًا ومعنًى، وإمَّا معنًى لا لفظًا، وذلك في أَفْعِلْ. وقيل: ضُمِّنَ معنَى التعجب، فأشبهَ الحرف؛ لأنَّ الموضوع للدلالة على المعاني إنما هي الحروف. وقال أبو الحسن بن الباذش: «الحرف الذي ضُمِّن أَفْعِلْ عند جماعة من النحويين هو اللام؛ لأنَّ الأصل في نحو أَحْسِنْ بزيد: لُحْسِنْ بزيدٍ، أي: ليُحْسِنْ زيدٌ، فدخلت اللام فيما أريد به معنَى التعجب كما دخلت فيما أريد به معنَى الأمر؛ ثم حذفت اللام وحرف المضارعة كما يُحذَفان من فعل الأمر، ورُدَّت الهمزة المحذوفة لسكون ما يليها؛ لأنَّ الأصل: لُيؤَحْسِنْ زيدٌ، وما أَفْعَلَ في عدم التصرف محمول على أَفْعِلْ به» انتهى. وما ذكره المصنف من كونهما لا يتصرفان صحيح، لكنْ في أَفْعَلَ بعد «ما» خلافٌ: ذهب البصريون إلى أنه يلزم فيه لفظ المضيّ، لا خلاف عنهم في ذلك. وأجاز هشام بن معاوية الضرير ـــ وهو من أئمة الكوفيين ـــ أن تأتي لهذا الماضي بمضارع في التعجب، فتقول: ما يُحْسِنُ زيدًا! قال هشام: «لأنه قد أحاط العلم بأنه يكون». وما قاله قياس، ولم يُسمع من العرب، فوجب اطِّراحه. وقوله ولا يليهما غيرُ المتعجَّب منه إن لم يتعلَّق بهما يعني أنه لا يُفصل بين أَفْعَلَ ومنصوبه ولا أَفْعِلْ ومجروره بشيء لا يتعلَّق بهما، وسبب ذلك ضعفهما

بكونهما لا يتصرفان، فأشبها إنَّ وأخواتها. وقيل: لأنهما مشبَّهان بالصلة والموصول لافتقار الأول إلى الثاني من جهة المعنى، فإذا كان ثمَّ ما /يتعلق بغيرهما فلا يجوز أن يليهما، ومثال ذلك: ما أَحْسَنَ آمرًا بمعروف! وما أَقْبَحَ ضاحكًا في الصلاة! فلو قلت: ما أَحْسَنَ بمعروف آمرًا! وما أَقْبَحَ في الصلاة ضاحكًا! لم يجز. وكذلك: ما أنْفَعَ معطيك عند الحاجة! وأَنْفِعْ بمعطيك عند الحاجة! وأَصْلِحْ بآمرِك بمعروف! وذكر المصنف في الشرح أنه لا خلاف في منع الفصل بذلك. وقوله وكذا إن تعلق بهما وكان غيرَ ظرف أو حرف جر قال المصنف في الشرح: «وكذا لا خلاف في منع إيلائهما ما يتعلق بهما من غير ظرف وجار ومجرور، نحو: ما أَحْسَنَ زيدًا مقبلاً! وأَكْرمْ به رجلاً! فلو قلت: ما أَحْسَنَ مقبلاً زيدًا! وأَكْرمْ رجلاً به! لم يجز بإجماع» انتهى. وهذا الذي ذكر أنه لا يجوز: ما أَحْسَنَ مقبلاً زيدًا، فتفصل بنهما بالحال بإجماع، تبعه في ذلك ابنُه بدر الدين محمد في «شرح الخلاصة» من نظم أبيه، فقال: «لا خلاف في امتناع الفصل بينه ــ أي: بين الفعل ــ والمتعجَّب منه بغير الظرف والجار والمجرور، كالحال والمنادى». وليس كما ذكرا، بل الخلاف في الحال موجود، ذهب الجرمي من البصريين وهشامٌ من الكوفيين إلى أنه يجوز الفصل بينهما بالحال. وأمَّا الفصل بالمنادى فذكر ابن المصنف 4 أنه لا خلاف في منع ذلك. وفي الكلام الفصيح ما يدلُّ على جواز ذلك، روي عن عليِّ بن أبي طالب ـــ كرَّم الله

وجهه ـــ قولُه لَمَّا قُتل عَمَّار: «أعْززُ عليَّ ـــ أبا اليَقظانِ ـــ أنْ أراكَ صَريعًا مُجَدَّلاً» 1 وقال المصنف في الشرح: «وهذا مُصَحِّح للفصل بالنداء». وأجاز الجرميّ الفصل بالمصدر، فأجاز: ما أحسَنَ إحسانًا زيدًا! ومنع ذلك الجمهور لمنعهم أن يكون له مصدر، وإجازته هو أن ينصب المصدر. وقوله وإن كان أحدَهما فقد يَلي وفاقًا للفراء والجرميّ والفارسّ وابن خروف والشلوبين انتهى. وهو مذهب المازنيّ. وذهب الأخفش، والمبرد، وأكثر البصريين إلى أنَّ ذلك لا يجوز، واختاره الزمخشريُّ، ونسبه الصَّيْمَرِيُّ إلى س. وحكى سلمة عن الفراء أنه أجاز: ما أَحْسَنَ عليك البياضَ! والجواز مذهب الجرميّ، وهو مشهور عنه، وهو مذهب الزجاج. وقال الأخفش في «الأوسط»: «لو قلت ما أَحْسَنَ زيدًا ومعه رجلاً! تريد: ورجلاً معه ـــ لم يجز؛ لأنك إذا عطفت رجلاً على زيد فكأنك قلت: ما أَحْسَنَ معه رجلاً! وذلك لا يجوز؛ لأنك لا تفصل بين [فعل] (¬10) التعجب (¬11) والاسم بشيء، لا تقول: ما أحْسَنَ في الدار زيدًا! ولا: ما أَقْبَحَ عندك زيدًا! تريد: ما أَحْسَنَ زيدًا في الدار! وما

أَقْبَحَ زيدًا عندك! لأنَّ أحْسَنَ فعل ضعيف لا يتصرف» انتهى كلام الأخفش. وحكى ابن خالويه أنَّ الأخفش أجاز أن تحجز بالظرف، فتقول: ما أَحْسَنَ في الدار زيدًا. فعلى هذا يكون للأخفش قولان: المنع، والجواز. وقال الأستاذ أبو عليى: «حكى الصَّيْمَرِيُّ أنَّ مذهب س منعُ الفصل بالظرف بين فعل التعجب ومعموله. والصوابُ أنَّ /ذلك جائز، وهو المشهور والمنصور. وقال السيرافي: [قول س (ولا تُزيلَ شيئًا عن موضعه): إنما أراد بذلك أنك تقدَّم ما وتُوليها الفعلَ، ويكون الاسم المتعجَّب منه بعد الفعل، ولم يتعرض للفصل بين الفعل والمتعجَّب منه]، [وكثير من أصحابنا يُجيز ذلك، منهم الجرمي، وكثير منهم يأباه، منهم الأخفش والمبرد]» انتهى. والصحيح جواز ذلك للقياس والسماع: أمَّا القياس فنقول: ليس فعل التعجب بأضعف من إنَّ، ويجوز الفصل بالظرف والمجرور بينهما وبين اسمها، وإنْ لم يكن خبرًا، فتقول: إنَّ بك زيدًا مأخوذٌ، وإنَّ اليوم زيدًا مسافرٌ، ولا يقال إنَّ باب إنَّ لما خرج من الضعف إلى القوة عومل معاملة القوي، بخلاف فعل التعجب، فإنه خرج من القوة إلى الضعف؛ لأنَّا تقول:

فعل التعجب قويّ الأصل، بخلاف أنَّ، فعادل قوة الأصل ضعف المراد، فلم يكن أضعفَ من إنَّ. وأيضًا فإنَّ الظرف والجارّ والمجرور يُغتفر الفصل بهما هنا أولى. وأيضًا فإنّ بئسَ أضعف من فعل التعجب، وقد فصل في نحو {بئس للظلمين بدلا)، فأن يُفصل هنا أولى. وأمَّا السماع فقولُ عليّ، وقد مر بَعمَّار، فمسح التراب عن وجهه: «أعْززْ عليَّ ـ أبا اليَقْظان ــ أنْ أَراكَ صَريعَا مُجَدَّلاً»، وقولُ عمرو بن معدي كربَ: «لِلِه دَرُّ بني مجاشع ـــ وروي: لِلِهَّ دَرُّ بني سُلَيم ـــ ما أَحْسَنَ في الهجاءِ لِقاءَها! وأَكْثَرَ في اللَّزباتِ عَطاءَها!»، وروري: «وأثَبَتَ في المَكْرُماتِ بَقاءَها»، ومِن كلامهم: «ما أَحْسَنَ بالرجلِ أنْ يَصدُق»، وقال الشاعر: حَلُمتَ، وما أَشْفَى لِمَنْ غِيظَ حِلْمَه! ... فآضَ الذي ... عاداكَ ... خِلاَّ ... مُوالِيا وقال: خَليلَيَّ ما أَحْرَى بِذِي اللُّبَّ أنْ يُرَى ... صَبُورًا! ولكنْ لا سبَيلَ إلي الصَّبْرِ وقال:

أعزِزْ عليَّ ... بأنْ ... أُرَوِّعَ ... شِبْهَها! ... أو ... أنْ ... يَذُقْنَ ... على يَدَيَّ حِماما وقال: أُقِيمُ ... بِدارِ الَحزْمِ ما دامَ ... حَزْمُها ... وأحْرِ ... إذا حالَتْ ... بأنْ ... أَتَحَوَّلا وقال: فَصَدَّتْ، وقالت: بَل تُريدُ فَضيحتي ... وأَحْبِبْ ... إلى قَلبي ... بِها مُتَغَضِّبا وقال: وقالَ نَبِيُّ ... المُسلمينَ: تَقَدَّمُوا ... وأَحْبِبْ إلينا أنْ نكُونَ المُقَدَّمَا وأجاز بعضهم الفصل على قبح. فتخلص من ذلك ثلاثة مذاهب: المنع، والجواز فصيحًا /والجواز على قبح. وقوله وقد تليهما عند ابن كيسان «لولا» الامتناعية أجاز: ما أحْسَنَ لولا بُخلُه زيدًا! وأحْسِنْ لولا بُخلُه بزيد! ولا حجة له على ذلك. واعلم أنه لا يجوز تقديم معمول فعل التعجب على الفعل ولا معمول أفعَلَ على ما، لا يجوز: زيدًا ما أَحْسَنَ! ولا: ما زيدًا أَحْسَنَ! ولا بزيدٍ أَحْسنْ! وإن كان في غير هذا الباب يتقدم في نحو هذا التركيب، لو قلت زيدٌ ضربَ عمرًا جاز زيدٌ عمرًا ضربَ، بلا خلاف، وجاز: عمرًا زيدٌ ضربَ، على خلاف، ولو قلت اعتصمْ بزيدٍ جاز بزيدٍ اعتصمْ. وعلة ذلك أنَّ فعل التعجب لا يَتصرف، وما لا يَتصرف في نفسه لا يُتصرف في معموله. وأيضًا فإنَّ المجرور في أَفْعِلْ بزيدٍ عند جمهور البصريين فاعل، والفاعل لا يجوز تقديمه على الفعل.

ولا يجوز تأكيد المضمر في أَحْسَنَ ولا في أَحْسِنْ على مذهب من اعتقد أنَّ فيه ضميرًا. قيل: لأنَّ المراد الإبهام في ذاته، والتأكيد يكون في غير المبهم الذات؛ ألا تراه لا يكون في النكرة، فلا يكون هنا. وقيل: لأنه فصل بين الفعل ومعموله. فعلى التعليل الأول لا يجوز مطلقًا، وعلى التعليل الثاني يجوز إذا كان بعد المعمول، نحو: ما أَحْسَنَ زيدًا نفسُه! ولا يجوز العطف على ذلك الضمير. وإذا اختلف متعلَّق ما أَفْعَلَ فلا يجوز حذف «ما»، لو قلت «ما أَحْسَنَ زيدًا وأقْبَحَ خالدًا» كان قبيحًا؛ لأنَّ هذا الباب لم يَتصرف فعله، فلزمَ طريقهً واحدة كالَمَثل، فلا تنوب الواو فيه عن «ما». وقال المصنف في الشرح: «ولمَّا كان فعل التعجب مسلوب الدلالة على المضي، وكان المتعجَّب منه صالحًا للمضيّ ـــ أجازوا زيادة كان إشعارًا بذلك عند قصده، نحو: ما ــــ كان ـــــ أَحْسَنَ زيدًا!» انتهى. فأمَّا قوله «إنَّ فعل التعجب مسلوب الدلالة على المضيّ» فهذه مسألة خلاف، وقد ذكرها بعض أصحابنا، قال: ذهب بعض النحويين إلى أنَّ زمانه هو للحال، فإذا قلت ما أَحْسَنَ زيدًا! فإنك لا تقول ذلك إلا وهو في الحال حسنٌ، ولذلك إذا أردت الماضي أدخلتَ كان، فقلت: ما ــــ كان ــــ أَحْسَنَ زيدًا! وذهب بعضهم إلى أنه بمعنى المضيّ إبقاءً للصيغة على بابها، ألا أنه يدلُّ على الماضي المتصل بزمان الحال، فإن أردتَ الماضي المنقطع أتيت بكان، وهو قول الأكثرين. وهذان القولان مبنيَّان على وجوب كون المتعجَّب منه ثابتًا، وقد اختُلف فيه:

فمنهم من أوجب الثبوت؛ لأنَّ التعجب تأثُّر عن مؤثر، ولابُدَّ من وجوده، وإلا وُجد المعلول دون علته، ومؤثَّرُه الصفة المشاهدة، ولأنه يدخله معنى المدح والذمّ، ولا يكون إلا من ثابت، ولأنَّ معنى الكلام الإخبار بحصوله، فلا يخرج عنه لكونه كذِبًا ولملازمته الماضي، وهو يدلُّ على الثبوت. وذهب بعضهم إلى جواز ذلك محتجَّا بقولهم: ما أَحْسَنَ ما تكون هذه الجارية! وما أَحْسَنَ ما يكون زيد! وما أطولَ ما يكون هذا /الزرع! ونحوه، مع أنه ليس بموجود. وأجاب الأوَّلون عن ذلك بأنه ربما يقال ذلك فيما لا بُدَّ من كونه، وأنه لا بُدَّ أن ينتهى إليه وجوبًا أو عادةً، كقوله تعالى (اسمع بهم وأبصر يوم يأتوننا}، وقال {فما أصبرهم على النار)، أو على حذف، أي: على عملِ أهل النار، أي: ما أجرأهم عليه. وكذلك قولهم: ما أكثرَ قيامَه في ساعة كذا وكذا! على أنه مما يفعل ذلك حتى كأنه واقع. وكذلك: ما أحسنَك إذا تزَّيْت! إن كان من عادته جاز، وإلا لم يجز. وإنما جاز في هذا لأنه لمَّا كان يبلغه صار كأنه حاضر وواقع. قال: والذي يقال إنه لا خلاف في أنَّ السبب لتأثُّر النفس لا بُدَّ أن يكون موجودًا أو مقدَّرًا، والنفس تتأثَّر للتقدير، كما تقول: عجبتُ مِن ضَربك غدًا، وإنما النظر في فعل التعجب نفسه، هل يلزم فيه المضيّ معنًى كما لزم لفظًا أو لا؟ فمَن قال لا يلزم كان على ضربين: منه ما يكون ماضيًا لفظًا ومعنًى، إمَّا متصل الآن أو منقطع الاتصال بكان، ومنه ما يكون ليس ماضيًا معنًى، نحو: ما أَحْسِنَ زيدًا غدًا! أي: شيء يُحسِنُ زيدًا غدًا، أتى بلفظ الماضي ليجعله كأنه قد وقع، سواء أكان مما

شأنه أن يصار إليه أم لا. ويدلُّ عليه أنه لو كان ماضيًا في المعنى حقيقة أو مجازًا لتناقض مع الظروف المستقبلة معنًى او لفظًا، فلا تقول: ما أحسَنَه إذا رَكب! و (إذا) للمستقبل، وكقوله تعالى (اسمع وأبصر يوم يأتوننا}، فدلَّ على أنه ماضٍ لفظًا، ولو تجوَّزتَ فيه لعلَّقتَه بظرف يناسبه، كقوله تعالى (وإذ قال الله}، ولمَّا لم يتجوَّز في معنى الفعل في قوله (حتى إذا فتحت} لم يقل: إذْ فُتحت. وأمَّا أَفْعِلْ به فصيغته صيغة المستقبل، ومعناه على القول الأول ــ لأنَّ المجرور فاعل ـــ إمَّا حال أو ماضٍ، وعلى القول الثاني مستقبل. انتهى. و «كان» هذه الداخلة بين «ما» و «أَفْعَلَ» فيها ثلاثة مذاهب: أحدها أنها زائدة، لا اسم لها ولا خبر ولا فاعل، وهو مذهب أكثر الكوفيين والبصريين، واختاره الفارسيّ. والثاني: أنها زائدة، وهي كان التامَّة، واسمها ضمير المصدر، أي: كان هو، أي: الكون، وهو مذهب السيرافيّ. وقيل: ضمير «ما». والثالث: أنها كان الناقصة، واسمها ضمير يعود على ما، وخبرها فعل التعجب، وهو مذهب الجرميّ، ونقله بعضهم عن البصريين، ولا يصحُّ ذلك عنهم.

وهذا أبعد هذه الأقوال من الصواب لظهور فساده، وذلك أنَّ العرب التزمت أن يكون خبر «ما» في التعجب على وزن أَفْعَلَ، ولأنَّ التعجب يكون واقعًا على كان، وليس مغيَّرًا إلى ما يدل على التعجب؛ إذ لا تقول: ما قامَ زيدٌ، تريد التعجب من قيامه. والأحسن مذهب الفارسي؛ لأنَّ زيادة المفرد أسهل من زيادة الجملة. وحُكي عن العرب إدخال «يكون» بين «ما» وأفعَلَ، حُكي: ما ـــ يكونُ ــ أهْوَنَ زيدًا اليومَ! وما ـــ يكونُ ـــ أَحْسَنَ زيدًا! قال الفارسيّ: إنما جاز دخول كان على فعل التعجب لأنه يقتضي دلالته علي الزمان لكونه كالاسم؛ والاسم لا يدلَّ على الزمان كدلالة الفعل، وإنما كان كالاسم لعدم /تصرفه، ولأنه يصح، فتقول: ما أقْوَلَه! كالاسم، فاحتيج إلى تبيين الزمان، ولذلك بُيِّن تامُّ الأفعال الدالة على الزمان المطلق، ولم يدخل في غيرها من أخواتها، نحو أصبح وأمسى وما يخصُّ وقتًا. واختلوا في زيادة غير «كان» بين «ما» و «أفْعَلَ»: فذهب الأخفش والكسائيُّ والفراء إلى جواز زيادة أَمسى وأَصبحَ بينهما، واستُدِلَّ بما حكي من كلامهم: ما ـــ أَصبَحَ ــــ أَبْرَدَها! وما ــــ أَمسى ـــ أَدْفَأَها! وحَمل جمهور البصريين ذلك على الشذوذ والاقتصار في ذلك على ما سُمع.

وذهب الفراء إلى جواز ذلك في كل فعل يحتاج إلى اسم وفعل، يعني في كل فعل يحتاج إلى اسم وخبر. وقال ابن عصفور: «وقاس الكوفيون عليها ــــ أي: على كان ــــ سائر أخواتها ما لم يناقض معنى الفعل المزيد معنى التعجب. وذهب بعض النحويين إلى إجازة زيادة كل فعل لا يتعدى مما لا يناقض، نحو: ما ــ قامَ ـــ أَحْسَنَ زيدًا! إذا أردت: ما أَحْسَنَ قيامَ زيدٍ فيما مضى. وحكى الكسائي عن العرب: ما ـــ مَرَّ ـــ أَغْلَظَ أصحابَ موسى!»، وذلك أيام موسى أمير المؤمنين؛ لأنهم مَرُّوا بغلظ وجفاءٍ، والمعنى: ما أغْلَظَ مرورَ أصحاب موسى! وحكى الكسائي أيضًا: ما ـــ يَخرجُ ـــ أطْوَلَه! ولا يجوز شيء من هذا عند البصريين. ومنع الفراء: ما ــــ مَرَّ ـــ أَغْلَظَ أصحابَ موسى! وأجاز الكسائي: ما أَظُنُّ أَظْرَفَك! وما ظَنَنتُ أَظْرَفَك، يجعل أَظُنُّ ناصبةّ في المعنى لـ «ما» ولـ «أَظْرَفَ»، ويوقع أَظْرَفَ على الكاف. وأجاز ذلك هشام في الظن وأخواته. وما ذهب إليه الكسائي فاسد؛ لأنه أَعملَ ظَنَّ في «ما» التعجبية، و «ما» مُلتَزَم فيها الرفع على الابتداء، فلا يدخل عليها ناسخ، ليس من كلامهم: كان ما أَحْسنَ فالأولى ألاَّ يجوز التوسط. ثم في قوله هذا إبطالٌ لِما روي عنه أنه قال: لا موضع لـ «ما». قال: ونصبت عبد الله بالتعجب، وهو تقدير المفعول به، وهو في المعنى فاعل. وهذا كله اضطراب وتخليط، فكيف يقول: إنَّ «ما» لا موضع لها، ثم يجيز: ما أَظُنُّ أَظْرَفَك! يجعل أَظُنُّ ناصبة في المعنى لأَظْرَفَ.

وقد تأوَّلَ بعض النحويين قول الكسائي «إنه لا موضع لها» على معنى أنها ليست مثل ما في قولك: ما عندك يُعجبني، وأنه لا يقع شيء في موضعها، فإنما أراد الإبهام، وهي عنده اسم، وقد تقدَّم ما حكيناه عن الفراء من جواز الفصل بين ما والفعل بكلِّ فعل يحتاج إلى اسم وفعل. ثم رأيناه قد ناظرَ الكسائيَّ في جواز ذلك على جهة الإنكار، قال الفراء: «أجاز الكسائي: ما ظننتُ أَحْسَنَ زيدًا! فرأيته يَلزمه أن يقول: ما مررتُ أَحْسَنَ زيدًا! فكَرِهَ ذلك الكسائيُّ، وقال: (ما ليس باسم صحيح، إنما يدخل عليه ما يبطل عنه). واعتلَّ الكسائي أنه لا يدخل الخفض عليه، كما قالت العرب: ما ضربتُ ما خلا زيدًا، وما قام ما خلا زيدًا، ولا يجوز: ما مررتُ ما خلا زيدًا؛ لأنَّ المخفوض لا يفارِق، والمرفوع والمنصوب يفارقان» انتهى ما نقله الفراء. وذلَّ هذا النقل على وجوه: أحدها: أنَّ الفراء حكي عن الكسائي إجازة: /ما ظننتُ أَحْسَنَ زيدًا! وقد تقدَّم من قول الفراء جواز ذلك، فيحتمل أن يكون للفراء قولان: أحدهما الجواز، والآخر المنع. ويحتمل أنه لَمَّا ناظره الكسائيُّ في جواز ذلك، واعتلَّ له بما قالت العرب ــــ جوَّز الفراء ذلك، وكان قبلَ هذه المناظرة في حالة التوقف في إجازة هذه المسألة. والثاني: قوله «إنما يدخل عليه ما يبطل عنه» أي: ما لا يعمل فيه، نحو كان وظننت، فدل ذلك على أنَّ ظننت ملغاة عن العمل نحو كان، فلا عمل لها في ما ولا في أَظْرَفَ، بخلاف ما حكى عن الكسائي أنه يجعل ظننتُ ناصبة في المعنى لـ «ما» وللفعل، فيكون له في ظننتُ إذا فصل بـ «ما» قولا: أحدهما أنها ملغاة، والثاني أنها مُعمَلة في ما وفي الفعل بعدها.

والثالث: أن يكون قول الفراء في جواز ذلك في كل فعل يحتاج إلي اسم وفعل ليس عامَّا، بل يعني به من باب كان، ولا يعني من باب كان وباب ظنَّ، ويفرق بين البابين بأنَّ باب كان إنما يزاد فيه الفعل خاليًا من مرفوعه دلالة على تقييد التعجب بحدث ذلك الفعل، وأمَّا: ما ظننتُ أَحْسَنَ زيدًا، وما أَظُنُّ أَحْسَنَ زيدًا ــــ فإنما فصل به وهو متعلق بمرفوعة، فلا يجوز، وسُمع ذلك في باب كان في كان وأمسى وأصبح، فجاز القياس عليها في أخواتها، ولم يُسمع في باب ظنَّ فامتنع، ولم يصح قياس باب ظنَّ على باب كان ــــ وإن اشتركا في النسخ للابتداء ـــ لتباين أحكامهما، ولا يجيز جمهور البصريين أن يفصل بين ما والفعل إلا بـ «كان» فقط. وإذا وقعت كان بعد ما أَفْعَلَ بصيغة الماضي دلَّت على بيان الانقطاع، أو بصيغة يكون دّلَّت على الاستقبال، على الخلاف في جواز ذلك، ولا بُدَّ من «ما» المصدرية داخلة عليها، فتقول: ما أَحْسَنَ ما كان زيدٌ! وما أَحْسَنَ ما يكون زيدٌ! وما بعد «ما كان» و «ما يكون» يرتفع على الفاعلية، وأَوقَعتَ الحُسن عليه، وأنت تريد ذات زيدٍ تجوُّزًا، كما تقول: أَخْطَبُ ما يكونُ الأميرُ قائمًا، فـ «كان» هذه تامَّة. وأجاز جماعة ــــ منهم المبرد ـــ أن تكون ناقصة، وينصب زيدًا، ويجعل ما بمعنى الذي، كما تقول: ما أَحْسَنَ الذي كان في الدار، أو يكون في الدار. ومَن منعَ وقوع ما على شخص مَن يعقل منعَ هذه المسألة، وجوَّزها فيما لا يتشخص.

وأما «مَنْ» فهل تقع هنا؟ الظاهر جواز ذلك، وقد جوَّزه جماعة، فتقول: ما أَحْسَنَ مَنْ كان زيدًا! ولو عطفتَ في مسألة «ما أَحْسَنَ ما كان زيدٌ» فالأقيس والأجود عودُ الضمير على الكون لا على الفاعل؛ فتقول: ما أَحْسَنَ ما كانت هندٌ وأجمَلَه! ليكون الفعل مع متعلَّقه معطوفًا على الفعل ومتعلَّقه، وهما لشيء واحد. ويجوز أن تقول: ما أَحْسَنَ ما كانت هندٌ وأجمَلَها! قاله الأخفش. وتقدَّم لنا أنه متى تباين متعلَّق الفعلين فإنَّ العطف يَقبُح، فأمَّا قوله: ما ... شَدَّ أَنفُسَهم ... وأَعْلَمَهم ... بما ... يَحمي ... الذَّمارَ به الكَريمُ المُسلِمُ فإن الأنفس هي الضمير من حيث المعنى، فكأنه قال: ما أَشَدَّهم وأَعْلَمَهم! وتقول: ما كان أَحْسَنَ ما كان زيدٌ! فيجوز ذلك على القياس السابق والتوجيه في رفع زيد ونصبه، ولا تكون الثانية /بخلاف الأولى، فلا يجوز: ما كانَ أَحْسَنَ ما يكونُ زيدٌ! للتناقض. -[ص: ويُجرُّ ما تعلَّق بهما من غير ما ذُكر بـ «إلى» إن كان فاعلاً، وإلا فبالباء إن كان من مُفهِمٍ عِلمًا أو جَهلاً، وباللام إن كانا من متعدَّ غيرِه، وإن كان من متعدَّ بحرف جرَّ فبما كان يتعدَّى به. ويقال في التعجب من كسا زيدٌ الفقراءَ الثيابَ، وظَنَّ عمرٌو بشرًا صديقًا: ما أَكسَى زيدًا للفقراءِ الثيابَ! وما أَظَنَّ عمرًا لبشرٍ صديقًا! وينصب الآخر بمدلولٍ عليه بأَفْعَلَ لا به، خلافًا للكوفيين.]- ش: أشار بقوله ما ذُكر إلى المتعجَّب منه والظرف والحال والتمييز، فما ليس واحدًا من هذا يجيء فيه التقسيم الذي ذكر

فقوله بإلى إن كان فاعلاً يعني فاعلاً في المعنى، مثال ذلك: ما أَحَبَّ زيدًا إلى عمرٍو! وما أَبْغَضَ 1 عمرًا إلى بكرٍ! وما أَمْقَتَ بكرًا إلى خالدٍ! فالتركيب قبل هذا: أَحَبَّ عمرٌو زيدًا، وأَبْغِضْ بعمرٍو إلى بكرٍ! وأَمَقِتْ ببكرٍ إلى خالدٍ. وقوله وإلا فبالباء إن كان من مُفهِمٍ علمًا أو جَهلاً أي: وإلا يُجَرّ بإلى يُجَرّ بالباء، مثاله: ما أَعْرَفَ زيدًا بالعلم! وما أَجْهَلَ عمرًا بالفقه! وما أَبْصَرَ خالدًا بالشعر. وتقول: أَبْصرْ بزيد بالشعر! وأَجْهلْ بخالد بالفقه! وقوله وباللام إن كانا من متعدَّ غيره أي: إن كان أَفْعَلَ وأَفْعِلْ من متعدَّ غيرِ ما يُفهِم عِلمًا أو جَهلاً، ويعني أنه قبل أن يُبنَى منه أَفْعَلَ وأَفْعِلْ كان متعديًا بنفسه إلى مفعول، وإلا إذا بُني منه أَفْعِلْ لا يكون إذ ذاك متعديًا على رأي جمهور البصريين؛ لأنَّ الهمزة إذ ذاك عندهم للصيرورة، وإذا كان كذلك أشكل أن يُعَدَّى أَفْعِلْ إلى المفعول باللام، ومثال ما ذكر: ما أَضْرَبَ زيدَّا لعمرٍو! وما أَحَبَّ 1 زيدًا لخالد! وما أَبْغَضَ زيدًا لبكر! وما أَمْقَتَ عمرًا لخالدٍ! وأَضْرِبْ بزيدٍ لعمرو! وتعدية أَضْربْ لعمرو باللام كما ذكرنا مشكلة؛ لأنَّ معناه: أَضْرَبَ زيدٌ، وأَضْرَبَ زيدٌ لا يتعدَّى، وينبغي ألاً يجوز هذا التركيب، ولا يُقْدَم عليه إلا بعد سماعه من العرب. وقوله وإن كان مما يَتَعَدَّى بحرف جرِّ فَبما كان يَتَعَدَّى به مثاله: ما أَعَزَّ زيدًا عليَّ! وما أزْهَدَ زيدًا في الدنيا. وتقول: أَعْزِزْ بزيدٍ عليَّ! وأَزْهدْ بزيدٍ في الدنيا! فالتركيب قبل هذا: زهِدَ زيدٌ في الدنيا، وعَزَّ زيدٌ عليَّ. وقوله ويقال في التعجب من كسا إلى آخر المسألة المتعدي إلى اثنين إن كان من باب أعطى جاز أن يُقتصر على ما كان فاعلاً في المعنى قبل التعجب، نحو:

ما أَعطَى زيدًا! وما أَكسَى خالدًا! وجاز أن تُعَدِّيه بعد ذلك إلى أحد المفعولين باللام، فتقول: ما أَكسَى زيدًا لعمرٍو! وما أَكسَى زيدًا للثياب! فإن جاء من كلامهم: ما أَعطَى زيدًا لعمرٍو والدراهمَ! وما أَكسَى زيدًا للفقراءِ الثيابَ! فمذهب البصريين أنه ينتصب بإضمار فعل، تقديره: أَعطاه الدراهمَ، وكَساهم الثيابَ. ومذهب الكوفيين أنه منصوب بنفس فعل التعجب. وإن كان من باب ظَنَّ فإنك تقتصر على الفاعل، فتقول: ما أَظَنَّ زيدًا! وما أَزْعَمَ زيدًا! هذا /مذهب البصريين. وأمَّا الكوفيون فيجيزون ذكرهما بشرط دخول اللام على الأول ونصب الثاني، هذا إن أُمن اللبس، نحو: ما أَظَنَّ زيدًا لبكرٍ صديقًا! أصله: ظَنَّ زيدٌ بكرًا صديقًا. وإن خيفَ لبسٌ أَدخلتَ اللام على كل من المفعولين، فتقول: ما أَظَنَّ زيدًا لأخيك لأبيك! أصله: ظَنَّ زيدٌ أخاك أباك. وقال المصنف في الشرح: «فإن كان قبل التعجب متعدًيا إلى اثنين جررت الأول باللام، ونصت الثاني عند البصريين بمضمر مجرد مماثل لتالي (ما)، نحو: ما أكسَى زيدًا للفقراءِ الثيابَ! والتقدير: يكسوهم الثياب. وكذا يفعلون في: ما أَظَنَّ عمرًا لبشرٍ صديقًا! يقدرون: يَظُنُّه صديقًا. والكوفيون لا يضمرون، بل ينصبون الثاني بتالي (ما) بنفسه. ذكر هذه المسألة ابن كيسان في (المهذب)» انتهى. وهذا النقل عن البصريين والكوفيين مخالف لِما ذكرناه نحن؛ لأنَّا حكينا أنَّ مذهب البصريين في نحو كسا أنك تنصب المتعجَّب منه، وهو الذي كان فاعلاً في كسا، ويتعدى لأحدهما فقط باللام، وأنه إن وجد الثاني منصوبًا فتأويله أنه ينتصب على إضمار فعل. وأمَّا في باب ظَنَّ فإنك تقتصر على الفاعل فقط، فتنصبه في التعجب، ولا يجوز أن يتعدَّى إلى شيء من الأول ولا من الثاني باللام، ولا إلى

الأول باللام وإلى الثاني بنفسه، هذا مذهب البصريين. وأمَّا مذهب الكوفيين في باب كسا فإنهم ينصبون ما كان قبلُ فاعلاً، ويُعَدُّون إلى الثاني باللام وإلى التالي بنفسه. وأمَّا في باب ظَنَّ فيفصلون بين أن يُلبَس الأول بالثاني أو لا، إن أَلبَس فإنهم يُعَدُّون فعل التعجب إلى كل منهما باللام، ويكون التقديم والتأخير مبينًا اللبس، فما تقدم هو الأول، وما تأخر هو الثاني، كحالهما إذا قلت ظَنَّ زيدٌ أخاك أباك. وإن لم يُلبس تعدَّى إلى الأول باللام، وإلى الثاني بنفسه. فلم يحقق المصنف مذهب البصريين ولا مذهب الكوفيين في المسألتين معًا، إذ حكي ما حكي عنهم فيهما، وليس بصحيح. وقال صاحب البسيط: وأمَّا ظَنَنتُ وأخواتها فيجوز بشرط الاقتصار على الفاعل، ثم تغَّير إلى فَعُلَ، فتقول: ما أَظَنَّنِي! ولا تذكر المفعولين ولا أحدهما، أمَّا الأول فلضرورة نقله إلى فَعُلَ، وأمَّا الثاني فلامتناع الاقتصار على أحد الجزأين، ولا يصح دخول اللام. فإن كان في موضع مفعوليه «أنَّ» جاز لأنه يتعدى إليه بحرف جرّ، كما تقول: ما أَضْرَبَ زيدًا لعمرٍو! على ما نذكره، فتقول: ما أَعْلَمَنِي بأنك قائم! وقد أجاز بعضهم حذف الباء، فتقول: ما أَعْلَمَنِي أنَّك قائمٌ. وأمَّا أَعلَمتُ فمَن جوَّزَ أَفْعَلَ جوَّز هذا بشرط الاقتصار على الفاعل؛ لأنَّ التعجب إنما يكون في الأكثر من صفة الفاعل، ولا يذكر ما عداه ولا أحدهما. ومَن منع في النقل أو على العموم مَنع هنا مع التباسه بـ «ما أَعْلَمَنِي»! مِن عَلمت، وهم يباعدون الالتباس هنا؛ لأنَّ مرادهم بيان ما التعجب منه ليكون عذرًا لهم فيه، فلا يكون فيما يَلتبِس.

-[ص: فصل بناءُ هذين الفعلين من فِعلٍ ثُلاثيِّ مجرَّدٍ تامَّ مُثَبتٍ متصرِّفٍ قابلٍ معناه للكثرة، غيرِ مَبنيِّ للمفعول، /ولا مُعَبَّرٍ عن فاعله بأَفْعَل فَعْلاء. وقد يُبنَيان مِن فِعلِ المفعولِ إنْ أُمنَ اللَّبسُ، ومِن فِعلِ أَفْعَلَ مُفهِمَ عُسر أو جَهل، ومن مَزيدٍ فيه، فإن كان أَفْعَلَ قيسَ عليه وفاقًا لـ «س». ورُبَّما بُنِيا من غيرِ فِعلٍ، أو فِعلٍ غيرِ متصرِّف. وقد يُغني في التعجُّب فِعلٌ عن فِعلٍ مُستَوفٍ للشروط، كما يُغني في غيره.]- ش: ذكر المصنف شروط ما يُبنى فعل التعجب منه، وهو ما اجتمع فيه سبعة شروط، وزاد غيره: أن يكون على وزن فَعُلَ أصلاً أو تحويلاً، وألاً يكون قد استُغني عن البناء في هذا الباب بغيره. وزاد آخرون: أن يكون واقعًا 3. وآخرون: أن يكون دائمًا. ونحن نتبع هذه الشروط شَرطًا شرطًا، فنقول: أمَّا صوغهما من فعلٍ فاحتراز من أن يُبنَيا من غير فِعل، قال المصنف في الشرح «وقد يُبنَيان من غير فعل، كقولهم: ما أَذْرَعَ فلانةَ! بمعنى: ما أَخَفَّها في الغَزْل! وهو من قولهم: امرأة ذَراع، وهي الخفيفة اليد في الغزل، ولم يُسمَع منه فِعل. ومِثلُه في البناء من وصفٍ لا فِعلَ له: أَقْمِنْ به! أي: أَحْقِقْ، اشتقُّوه من قولهم: هو قَمِنٌ بكذا، أي: حَقيق به. وهذان أشبههما شواذُّ لبنائهما من غير فِعل».

وقال أيضًا: «قُيِّدَ ما يُبنَى منه فِعلُ التعجب بكونه فعلاً تنبيهًا على خطأ من يقول من الكلب: ما أَكْلَبَه! ومن الحمار: ما أَحْمَرَه! ومن الجلْف: ما أَجْلَفَه!» انتهى. فأمَّا دعواه أنَّ ما أَذْرَعَ فلانة! بمعنى: ما أَخَفَّها في العزل، لم يُسمع منه فعلٌ ـــ فليست بصحيحة، قال ابن القَطَّاع: «ذَرُعت المرأة: خَفَّتْ يداها في العمل، فهي ذراعَ»، فعلى هذا لا يكون قولهم ما أَذْرَعَ فلانةَ شاذُّا؛ إذ هو مصوغ من فعلٍ. وأمَّا كون الفعل المصوغ منه أَفْعَلَ وأَفْعِلْ ثلاثَّيا فاحتراز من أن يكون رباعيَّا أصلاً أو مزيدًا، نحو: دَحرجَ وتدحرجَ، فإنه لا يمكن منه بناء أَفْعَلَ وأَفْعِلْ لهدمِ بنيته ولزومِ حذفِ بعض أصوله. وأمَّا كونه مجردًا فاحتراز من أن يكون غير مجرد، ويأتي الكلام فيما يُبنى من الثلاثي غير المجرد عند تعرُّض المصنف له إن شاء الله. وأمَّا كونه تامَّا فاحتراز من أن يكون ثلاثيَّا مجردًا غير تامّ، نحو كان الناقصة وظَلَّ وكَرَبَ وكادَ ونحوهن من أخوات كان. وهذا الشرط ذهب إليه الجمهور. وأجاز بناءه من كان الناقصة بعضهم، قال أبو بكر بن الأنباري: «وتقول: كان عبد الله قائمًا، فإذا تعجَّبت 5 منه قلت: ما أَكْوَنَ عبدَ الله قائمًا! فـ (ما) مرفوعة بما في أَكْوَنَ، واسم كان مضمر فيها، وعبد الله منصوب على التعجب، وقائمًا خبر كان، فإن طرحت وتعجبت قلت: أَكْوِنْ بعبد الله قائمًا! وأَكْوِنْ بعبدَي الله قائمين! وأَكْوِنْ بعبيدِ الله قيامًا!».

وقال صاحب «البسيط»: «أمَّا كان وأخواتها مما كان ثلاثَّيا أو غير ثلاثي فالأكثرون يمنعون فيها التعجب، فلا تقول: ما أَكْوَنَ زيدًا قائمًا! لوجوه: أحدها أنها ليست بقويَّة في الفعلية، بل هي لمجرد الزمان، ولا تدل على المصدر. وقيل: إن تُعُجِّبَ منها فإمَّا للمصدر أو للزمان، ولا يصحّ، أمَّا الأول فلأنها لا مصدر لها، وأمَّا الزمان فلا يُتعجَّب منه؛ لأنه لا فعل له، وليس كان فعلَه. وقيل: إن تُعُجِّبَ فلا بُدَّ من رده إلى فَعُلَ، فيُقتصر على أحد الجزأين، /ولا يكون، لا يقال: يؤتى بالخبر كما يؤتى بالخبر كما يؤتى بالمفعول، فتقول: ما أَضْرَبَ زيدًا لعمروٍ؛ لأنَّ اللام لا تدخل على الخبر، لا تقول: ما أَكْوَنَ زيدًا لقائم! وكذلك أخواتها. وأمَّا الفراء فجوَّز ذلك ـــ أعني بناءها للتعجب ــ حملاً على: ضربَ زيدٌ عمرًا؛ ولا يكون لما ذكرنا» انتهى. وفي الكتاب الذي انتخبه أبو مروان عبيد الله بن عمر بن هشام الحضرمي: ما أَكْوَنَ زيدًا قائمًا! عند الفراء جائز، ولم يُجزه أكثر النحويين، وهو الصحيح؛ لأنها موضوعة للزمان مجردة من معنى الحدث، ولا فائدة في التعجب بها، فلذلك امتنع أَفْعَلَ منها. وأمَّا كونه مُثْبَتًا فاحتراز من أن يكون منفيَّا؛ لأنه لا يُتَعَجَّب منه؛ لأنَّ فِعل التعجب هو مُثَبت، فمحال أن يُبنى من المنفيّ. وقال المصنف في الشرح: «وقُيِّدَ بكونه مُثبتًا تنبيهًا على أنه لا يُبنى من فعلٍ مقصودٍ نفيُه لزومًا، كـ (لم يَعِجْ)، أو جوازًا، كـ (لم يَعُجْ)» انتهى. ويعني أنَّ عاجَ يَعيج ـــ بمعنى انتفعَ ــــ لم تستعمله العرب إلا منفيَّا، وعاجَ يَعوج ــــ بمعنى مالَ ــــ استعملته العرب مثبتًا ومنفيَّا. وقد ذكر ثعلب في «الفصيح» قوله: «وشَربتُ دَواءً فما عجْتُ به، أي: ما انتَفَعتُ به».

وما ذهب إليه المصنف من أنَّ عاجَ ــ بمعنى انتفعَ ــ استعملته العرب منفيَّا لا مثبتًا ليس بصحيح، أنشد أبو علي القالي في «النوادر»، قال: أنشدنا أحمد بن يحيى عن ابن الأعرابي: ولم أرَ شيئًا بعدَ لَيلَى أَلَذُّهُ ... ولا مَشْرَبًا أَرْوَى بهِ، فأَعِيجُ وأمَّا كونه متصرفًا فاحتراز مما لا يتصرف، نحو يَذّرُ ويَدَعُ ونحوهما، فإنه لا يجوز أن يصاغ منه؛ لأنه إذا بُني منه كان تصرفًا فيه، والفرض أنه غير متصرف. وقال المصنف في الشرح: «ومثلهما في الشذوذ قولهم: ما أَعْساه! وأَعْسِ به! معناه: ما أَحَقَّه! وأَحْقِقْ به! فبَنَوا فعل التعجب من عَسى، وهو فعل غير متصرف» انتهى. ويعني بقوله «ومثلُهما» أي: ومثل أَقْمِنْ به! أي: أَحْقِقْ. وأمَّا كون معناه قابلاً للكثرة فاشترطه الفراء، وهو صحيح واحتراز من الأفعال التي لا تقبل الزيادة، نحو مات وفَنِيَ وحدثَ، فلا تقول: ما أَمْوَتَ زيدًا! ولا: أَمْوتْ به! وقد شذَّ من الألفاظ الثابتة التي لا يقبل معناها الزيادة قولهم: ما أَحْسَنَه! وما أَقْبَحَه! وما أَقْصَرَه! وما أَطْوَلَه! وما أَهْوَجَه! وما أَشْنَعَه! وما أحْمَقَه! وما أنْوَكَه! وسيأتي اختيار المصنف في بعض هذه الألفاظ إن شاء الله.

وأمَّا صفات الله ـــ تعالى ــــ فلا يجوز التعجب منها، لا يقال: ما أَعْلَمَ الله! لأنَّ علمه ـــ تعالى ـــــ لا يقبل الزيادة، وقالت العرب: ما أَعْظَمَ الله وأجَعلَّه! وقال الشاعر: ما أَقْدَرَ الله أن يُدْني على شحَطٍ ... مِنْ دارُهُ الحزنُ مِمَّنْ دارُهُ صُولُ وتأوَّلَ النحويون قول العرب على وجوه. وأَما كونه غير مبنيَّ للمفعول فلأنه لا يجوز: ما أَضْرَبَ زيدًا! وأنت تتعجب من الضرب الذي حَلَّ بزيد. وعلة المنع كونه يلتبس بفعل الفاعل، هكذا علَّله بعضهم، فيظهر من صاحب هذا التعليل أنه يجيز التعجب من فِعل المفعول إذا عُدم اللبس، /فيكون قول الرماديّ: ولا شِبلَ أَحْمَى مِن غَزالٍ، كأنَّهُ ... من السُّمرِ والأحراس في خِيْسِ ضَيْغَمِ جائزًا لأنه قد عدم اللبس. وما صحَّ فيه «أَفْعَلُ مِن» صَحَّ فيه «ما أَفْعَلَه». وإلى هذا ذهب خَطَّاب المارِدِيّ، قال: وقد جاء مثله، قال كعب بن زهير: فَلَهْوَ أَخوَفُ عندي إذْ أُكَلِّمُهُ ... وقيلَ: إنَّكَ مَسلُوبٌ ومَقتُولُ مِنْ ضَيْغَمٍ بِضِراءِ الأَرضِ، مُخْدَرُهُ ... بِبَطْنِ عَثَّرَ غيلٌ، دُونَهُ غِيلُ

وعلًل المنعَ بعضُهم بأنَّ المفعول ليس له فيما أُقع به من التعجب كَسْبٌ، فأشبه بذلك الخِلَق والألوان إذ ليست من كَسْبِ المتعجَّب منه. فمَن علًل بهذا كان بيت الرماديّ عنده لحنًا. وقد علًل ذلك بعضهم بأنه إنما امتنع ذلك لأنَّ الفعل هنا يُرَدُّ إلى فَعُلَ، وفِعْلُ المفعول يكون على فُعِلَ، فإن صيغ على فَعُلَ كان خروجًا عن القياس، فلا يجوز. والصحيح أنه لا يجوز، وأنه لا يُتَعَدَّى ما سُمع منه، بل يُقتصر عليه. ومَن أجاز ذلك قال: ما كان مستعملاً في الأصل على فُعِلَ فكأنه للفاعل، فلا يُلبس، نحو: شُغِلَ، وجُنَّ، وأُولِعَ به، فصار كظَرُفَ، وما لم يكن في الوضع على فُعِلَ فلا بُدَّ من الفارق بينه وبين فعل الفاعل، فلذلك قالوا في الفاعل: ما أَمْقَتَه لي! وما أَبغَضَه لي! وما أَحْظاها لي! ونحوه، فالتزموا اللام للفاعل، وإلى ونحوها من الظروف نحو عندي وفي عيني للمفعول، فوقع الفرق. وسيأتي اختيار المصنف في ذلك إن شاء الله. وأمَّا كونه لا يُعَبَّر عن فاعله بأَفْعَل فَعْلاء فاحتراز من نحو: شَنِبَ ودَعِجَ ولَمِيَ وعَرِجَ، ولا فرق بين أن يكون عيبًا، كبَرِص وبَرِشَ وحَوِل وعَمِي وعَوِر، وبين ما كان من المحاسن، كشَهِل وكَحِلَ ودَعِج ولَمِي.

وعلة منع ذلك أنَّ حق الفعل الذي يُبنى للتعجب أن يكون قبل التعجب ثلاثيَّا محضًا؛ وأصل الفعل في هذه أن يكون على وزن افْعَلَّ، ولذلك صحَّت عينه في الثلاثي اللفظ، نحو حَوِلَ، وعوِرَ، وهَيفَ، وجَيِدَ، وصَيِدَ، مع استحقاقه ذلك لوجود العلة الموجبة لقلبه، وهي تحرك حرف العلة وانفتاح ما قلبه، فحملوه على افْعَلَّ، نحو احْوَلَّ واعْوَرَّ، وجودًا ذلك فيه أو تقديرًا، فصحَّت فيه كما صحَّت في افْعَلَّ، كما صححوا اجْتَوَرُوا حملاً على تجاوَرُوا، ومِخْيَط حملاً على مخياط. وهذا التعليل هو المشهور عند النحاة. وقال المصنف في الشرح ما نصه: «وعندي تعليل آخر أسهل منه، وهو أن يقال: لَمَّا كان بناء الوصف من هذا النوع على أَفْعَلَ ـــــ يعني نحو أَعْوَرَ وأَهْيَفَ ـــ لم يُبنَ منه أَفْعَلُ تفضيل لئلا يلبس أحدهما بالآخر، فلما امتنع صوغ أَفْعَلِ التفضيل امتنع صوغ فعل التعجب لتساويهما وزنًا ومعنًى، وجريانِهما مجرى واحدًا في أمور كثيرة، وهذا الاعتبار هِّين بيِّن، ورجحانه متعّين» انتهى. وقد اختُلف مما عُبَّر عن فاعله بأَفْعَلَ في نوعين: أحدهما: العاهات، /فذهب جمهور البصريين إلى أنه لا يجوز أن يُبنى من أفعالها ــ وإن كانت ثلاثية ــــ فعل التعجب. وأجاز ذلك الأخفش وبعض الكوفيين ـــ منهم الكسائيّ وهشام ــــ أجازوا: ما أَعْوَرَه!

النوع الثاني: الألوان، منعَ التعجب منها البصريون، وللكوفيين فيها قولان: أحدهما: أنه يجوز من جميع الألوان، فأجاز الكسائي وهشام: ما أَحْمَرَه! من الحُمرة، إلا أنَّ الأجود عندهما: ما أَشَدَّ حُمرتَه! والقول الثاني: إجازته في السواد والبياض خاصةً دون سائر الألوان المجيء ذلك فيه؛ ولكونهما أصلَي الألوان، والأصول يكون فيها ما لا يكون في الفروع، والمحفوظ من ذلك ما روى الكسائي أنه سَمع: ما أَسْوَدَ شَعرَه! وقالت أُمُّ الهيثم ـــ وهي من العرب الذين يُستشهد بكلامهم ـ: «هو أَسْوَدُ مِنْ حَنَكِ الغُراب»، وفي الحديث في صفة جهنم: (لهي أَسْوَدُ من القار)، وقال الراجز: يا ليتَني مِثلُكِ في البَياضِ ... مِثلُ الغَزالِ زِينَ بالخَضاضِ قَبَّاءُ ذاتُ كَفَلٍ رَضْراضِ ... أَبيَضُ مِنْ أُختِ بَني أَباضِ جاريةٌ في رَمَضانَ الماضي ... تُقَطِّعُ الحَديث بالإيماض

وأنشد الكسائي: أمَّا الُملُوكُ فأنتَ اليومَ أَلأَمُهُمْ ... لُؤْمًا، وأَبْيَضُهُمْ سِرْبالَ طَبَّاخِ وهذا كله عند البصريين من الشذوذ بحيث لا يقاس عليه. وقد تأوَّل بعضهم قوله «وأَبيضهُم سِربالَ طَبَّاخِ» على أنه ليس أَفْعَلَ التفضيل، بل من باب أَفْعَل فَعْلاء، نحو أحْمرَ، فـ «سِربالَ طَبّاخ» منصوب على التشبيه بالمفعول به، نحو: حَسَنٌ الوجهَ، فالأصل: أنت مُبْيَضُّ سِربالُ طبَّاخِك، ثم نُقل، ونُصب على التشبيه بالمفعول به. قيل أو على التمييز. وقد رُدَّ هذا التأويل بأنه لا يجوز أن يقال: هذا رجلٌ حسنُ الناسِ وجهًا، ولا: ظريفُ القومِ ثوبًا، ولا أَسْوَدُهم جُبَّةً. وقال س في تعليل منع التعجب مما له فعل زائد لا يكاد ينخرم فيه، وهو أفعال الألوان، فإنها تكون على فَعِلَ وفَعُلَ، نحو أَدِمَ وشَهُبَ، ولا يكاد يخلو عن افْعَلَّ وافْعالً، بل قد يستغنون عن الثلاثي بها، نحو اصْفَرَّ، وما ليس كذلك من الخلق الثابتة، نحو حَوِلَ وعَرِجَ، وقالوا: احْوَلَّ واعْوَرَّ، ولم يقولوا اعْرَجَّ، وحُمل على عَوِرَ وعَرِجَ وعَمِيَ، قال س: لما جاء على أفْعَلَّ، وهو وزن خاص بالفعل؛ ألا ترى أنه لم يكن في الأسماء بل في الصفات لقربها من الفعل، فكان فيها الوزن

ومعنى الفعل، فصارت هذه المعاني كأنً لها أفعالاً زائدة، ولا يُتَعجَّب منها لزيادتها لو تحقق، فكذلك ما نُزِّل منْزلته، ولذلك قال: «وكرهوا فيه ما لا يكون في فعله أبدًا» ما نقل عن س. وهي أصل للعلَّة الأولَى التي هي مشهور قول النحاة. وقال الخليل 1: لما كانت أشياءَ ثابتةً، على حالة واحدة في الأكثر أَشبَهَت ما لا فعل له كالرأس والرِّجل واليد؛ لأنها كذلك ثابتة، وهذه لا يُتَعَجَّب منها بالأصل، فكذلك تلك. /قال: ولأنَّ هذه الأشياء لا تُدخله في بناء الزيادة والتكثير كمِفْعال وفَعُول وفَعَّال، فكأنها أشبهت ما لا يقبل الزيادة، كالخؤولة والعُمومة ونحوها، وهي لا يُتَعَجَّب منها. وأمَّا كونه قبل دخول الهمزة على وزن فَعُلَ أصلاً أو تحويلاً، فتقدَّم الكلام عليه عند ذكر المصنف له. وأمَّا كونه قد استُغني عن البناء في هذا الباب بغيره فسيأتي عند تعرض المصنف له. وأمَّا كونه واقعًا فالصحيح أنَّ ذلك ليس بشرط، تقول: ما أَحْسَنَ ما يكون هذا الطفل! وما أَطْوَلَ ما يكون هذا الزرع! وما أَكْيَسَ ما يكون هذا! فتتعجب من أمر لم يقع إذا ظهرت مَخايلُه. وأمَّا كونه دائما فالصحيح أنَّ ذلك ليس بشرط؛ إذ قد يُتَعَجَّب من سرعة الرمي ولمع البرق ووقوع الصاعة، وهي من الأفعال التي لا تدوم، فتقول: ما أسْرَعَ رميَ زيدٍ!

وقوله وقد يُبنَيانِ مِن فِعلِ المفعول إن أُمِنَ اللَّبس قد تقدَّم لنا ذكر الخلاف في ذلك في شرح قوله: غير مبني للمفعول. وقال المصنف في الشرح: «وقد يُبنَى فعل التعجب من فِعل المفعول إن أُمن الالتباس بفعل الفاعل، نحو: ما أَجَنَّه! وما أَبْحَتَه! وما أَشْغَفَه! وهذا الاستعمال في أَفْعَلِ التفضيل أكثر منه في التعجب، كأَزْهَى مِن ديك، وأَشْغَل من ذاتِ النِّحْيَينِ، وأَشْهَر من غيره، وأَعْذَر، وأَلْوَم، وأَعْرَف، وأَنْكَر، وأَخْوَف، وأَرْجَى، مِن: شُهِرَ، وعُذرَ، ولِمَ، وعُرِفَ، ونُكِرَ، وخِيفَ، ورُجي. وعندي أنَّ صوغ فعل التعجب وأَفْعَلِ التفضيل مِن فِعلِ المفعول الثلاثيّ الذي لا يلتبس بفعل الفاعل لا يُقتَصَر فيه على المسموع، بل يُحكَم باطَّراده لعدم الضمائر وكثرة النظائر» انتهى. والمسموع من ذلك: ما أَشْغَلَه! وما أَجَنَّه! وما أَجَنَّه! وما أَوْلَعَه! وما أَجَبَّه! وما أَخْوَفَه! وما أزْهاه! وما أَجْبَبَه برأيه! وما أَبْخَتَه! وما أَشْغَفَه! وما أَخْصَرَه! من شُغِلَ، وجُنَّ، وأُولِعَ، وحُبَّ، وخِيفَ، وزُهِيَ، وأُعجِبَ، وبُخِتَ، وشُغِفَ، واخْتُصِرَ. وفي: ما أَخْصَرَه! شذوذ من وجهين: أحدهما أنه من المفعول، والثاني أنه من المزيد، وهو أَخْتُصِرَ. وزاد بعضهم فيها: ما أَبْغَضَه! وما أَمْقَتَه! من أُبْغِضَ ومن مُقِتَ. وقد قيل فيهما: إنهما من فعل الفاعل؛ لأنه سمع: بَغُضَ الرجلُ فهو بَغيض، ومَقُتَ مَقاتةً فهو مقيت. فعلى هذا المسموع لا يكون ما أَفْعَلَه إلا مقيسًا بلا خلاف. وتقدم لنا أنَّ الصحيح قول الجمهور، وهو قصر ذلك على السماع.

وقوله ومن فِعلِ أَفْعَلَ مُفْهِمَ عُسر أو جَهل قال المصنف في الشرح: «الإشارة بذلك إلى حَمِقَ، ورَعِنَ، وهَوِجَ، ونَوِكَ، ولَدَّ: إذا كان عسر الخصومة. وبناء الوصف من هذه الأفعال على أَفْعَلَ في التذكير وفَعْلاَء في التأنيث، لكنها ناسبت في المعنى جَهِل وعَسِر، فجرت في التعجب والتفضيل مجراهما، فقيل: ما أَحْمَقَه، وأَرْعَنَه، وأَهْوَجَه، وأنْوَكَه، وأَلَدَّه، وهو أَحْمَقُ منه، وأَرْعَنُ، وأَهْوَجُ، وأَنْوكُ، وأَلَدُّ» انتهى. وتقدم لنا في الشواذ: ما أَهْوَجَه! وما أَشْنَعَه! وما أَحْمَقَه! وما أنْوَكَه! وعلى ذلك حمله /أكثر أصحابنا. وقال بعضهم في ما أَحْمَقَه وإخوته: يظهر من كلام س أنهم إنما قالوا فيه ما أَفْعَلَه لأنه من باب العلم وضدّه لا من باب الخلقة في الجسد؛ فدلَّ على أنَّ هذه تخالف حكم الخلق، بل هي أوصاف غير ظاهرة، فخرجت عن الألوان والخلق. وهذا فرق على تعليل الخليل، وأمَّا على تعليل س فإنهم ــــ وإن قالوا فيها ما أَفْعَلَه ــــ فلأنه ليس أَفْعَل أصلاً فيها، بخلاف اللون والخلقة، بل أصلها أنْ تكون على فَعيل وفَعِلٍ وفاعِل كما في عَليم وفَهِمٍ وجاهِل، فروعي فيها ذلك المعنى، فُتُعجِّبَ من لفظها. وقال خطّاب الماردي: قولهم ما أَحْمَقَه! وما أَرْعَنَه! وما أَنْوكَه! وما أَلَدَّه! من الخَصِم الأَلَدّ، إنما جاز فيه هذا ـــ والاسم منه أَفْعَلُ، وهو في معنى العاهات والأدواء ـــــ لأنهم أخرجوه عن معنى العلم ونقصان الفطرة، وليس بلون ولا خلقة في الجسد، وإنما هو كقولك: ما أَنْظَرَه! تريد نظر الفكر، وما أَلْسَنَه! تريد البيان والفصاحة.

وقوله ومِن مزيدٍ فيه ذكروا من ذلك: ما أغْناه! وما أَفْقَرَه! وما أَتْقاه! وما أقْوَمَه! وما أَمْكَنَه! وما أَمْلأَه! وما آبلَه! وما أَشَدَّه! وما أَحْوَلَه! وما أَخصَرَه! وما أشْهاه! وما أَحْياه! وما أَرْفَعَه! من استَغنَى، وافْتَقَرَ، واتَّقَى، واسْتَقامَ، وتَمَكَّنَ، وامتَلأَ، وتَأبَّلَ، واشْتَدَّ، واحْتال، واختصِرَ، واشْتَهى، واسْتَحْيا، وارتَفَعَ. وقال الأخفش في «الأوسط»: «وقالوا: ما أَفْقَرَه! وما أَغْناه! وقد ذُكر أنه يقال فَقُرَ وغَنِيَ» انتهى ويدلَّ على ذلك قولهم فَقِير وغَنِيّ، وقالوا تَقِيّ لقولهم تَقِيَ، فكأنَّ أتْقَى مبنيّ منه. وقد نُقل شَهِيَ الشيءَ: اشتهاه، وحَيِيَ الرجلُ: اسْتَحيا، فعلى هذا لا يكون ما أَشْهاه! وما أَحْياه! شاذَّا. قال المصنف في الشرح: «وممن خفيَ عليه استعمال حَيِيَ بمعنى اسْتَحيا أبو عليّ الفارسيّ. وممن حفيَ عليه استعمال فَقُرَ وفَقِرَ سيبويه. ولا حجة في قول من خفي عليه ما ظهر لغيره، بل الزيادة من الثقة مقبولة، وقد ذَكر استعمال ما ادَّعيتُ استعماله جماعةٌ من أئمة اللغة» انتهى. وهذا الذي تبجَّح بالاطلاع عليه لا يقدح فيما قاله س؛ لأن س إنما ينقل فصيح اللغة ومستعملها لا شاذَّها، فالذين قالوا ما أَفْقَرَه! تكون لغتهم افتَقَرَ لا فَقُرَ ولا فَقِرَ؛ ألا ترى إلى قول الأخفش: «وقد ذُكر أنه يقال فَقُرَ وغَنِيَ»، فالأخفش أيضًا مع جلالته وسماعه من العرب لم يسمعه من العرب، إنما قال: «وقد ذُكر أنه يقال فَقُرَ»، وإنَّ شيئًا غابت معرفته عن س لجدير بأن يُطرح، وقال فتًى لأبي الأسود: «إنه قد وقع إليَّ حرف من اللغة لم يصل إليك، ولا عرفَته»، أو كلامًا

هذا معناه، فقال له أبو الأسود: «لا خير فيما لا يعرفه أبو الأسود»، أو كلامًا قريب المعنى من هذا. وفي «الطُّرَر» التي بخط أحمد بن يوسف الأُشُوني: «نُقل عن الأخفش أنه يجيز التعجب من كل فعلٍ مزيد، كأنه راعى أصله؛ لأن أصل جميع ذلك الثلاثي. وقال بعضهم: إنما أجاز ذلك الأخفش على استكراه، كما أجاز ذلك س في أَفْعَلَ» انتهى. وقوله فإن كان أَفْعَلَ / قيس عليه وفاقًا لسيبويه إذا كان الفعل على وزن أَفْعَلَ ففي حكم التعجب منه ثلاثة مذاهب: أحدهما: أنه لا يجوز أن يُبنى منه أَفْعَلَ ولا أفْعِلْ على الإطلاق، وهو مذهب أبي الحسن، والمازنيّ، والمبرد، وابن السَّرّاج، والفارسيّ. والثاني: أنه يجوز، وهو مذهب الأخفش فيما قيل، ونُسب إلى س، وصححه ابن هشام الخضراوي. والثالث: التفصيل بين أن تكون الهمزة للنقل فلا يجوز، وبين ألاَّ تكون للنقل فيجوز، ونُسب إلى س، وصححه ابن عصفور. وقد جاءت ألفاظ من «أَفْعَلَ تُعُجَّبَ منها والهمزة لنقل ولغير نقل، فمن الأول قولهم: ما آتاه للمعروف! وما أعطاه للدراهم! وما أولاه بالمعروف! وما

أضْيَعَه لكذا! ومن الثاني قولهم: ما أَنْتَنَه! في لغة من قال أنْتَنَ، وما أَخْطَأَه! وما أَصْوَبَه! وما أَيْسَرَه! وما أَعْدَمَه! وما أَسَنَّه! وما أَوْحَشَ الدارَ! وما أَمْتَعَه! وما أَسْرَفَه! وما أَفْرَطَ جهلَه! وما أَظْلَمَه! وما أَضْوَأَه! فمن نظر إلى مجيء ذلك في النوعين قاس عليه، ومن رآها قليلةً جعلها شاذَّة، ومن فصَّل قال: الذي همزته للنقل لا تدخل عليه همزة نقل، والذي همزته لغير النقل تُحذف، ويؤتى بهمزة النقل، ولذلك يصير الفاعل مفعولاً، نحو: أَظْلَمَ الليلُ، تقول: ما أَظْلَمَ هذا الليلَ! وقال س: «وبناؤه أبدًا من فَعَلَ وفَعِلَ وفَعُلَ وأَفْعَلَ، فشُبِّه هذا بما ليس من الفعل، نحو لاتَ وما. وإن كان من حَسُنَ وكرُم وأعْطَى» انتهى. فظاهر كلام س هنا أنه يجوز التعجب من أَفْعَلَ. وقد زعم بعضهم أنَّ قول س «وأفْعَلَ» صحَّفه الرواة، وأنَّ أصله وأفْعِلْ، يعني أنه ذكر ما أَفْعَلَه، وأنَّ بناءه من فَعَلَ وفَعِلَ وفَعُلَ، ثم قال «وأفْعِلْ»، وهو معطوف على: ما أَفْعَلَه، أي: من صيغة: ما أفْعَلَه، وأَفْعِلْ. لكن يدفع هذا القول قول س بعده: «وإن كان من حَسُنَ وكَرُمَ وأَعطى». وقال المصنف في الشرح: «المزيد على وزن أَفْعَلَ لم يُقتصر في صوغ فعل التعجب منه على المسموع، بل يُحكَم فيه بالاطَّراد وقياس ما لم سُسمع منه على ما سُمع ما يمنع مانع آخر. هذا مذهب س والمحققين من أصحابه، ولا فرق بين ما همزته للتعدية كأَعطى، وبين ما همزته لغير التعدية كأَغفى» انتهى. وقوله «ما لم يمنع مانع» احتراز من نحو أَوْدى بمعنى هَلَك، فإنَّ معناه غير قابل للكثرة، ومن نحو أَصبحَ وأَمسى وأَضحى، فإنها نواقص، وشرطُ المتعَّجب منه التمام. وقال المصنف في الشرح: «ومن تصريح س باطَّراد ما أَعطاه وشبهه قوله في الربع الأخير من كتابه: (هذا باب ما يُستغنَى فيه عن ما أَفْعَلَه بِما أَفْعَلَ

فِعْلَه). ثم قال: (كما استُغنِي بتَرَكْتُ عن وَدَعْتُ، وكما استُغنِي بِنسْوة عن أن يجمعوا المرأة على لفظها، وذلك في الجواب؛ ألا ترى أنك لا تقول: ما أَجْوَبَه! وإنما يقولون: ما أَجْوَدَ جوابَه!). ثم قال: (وكذلك لا تقول: أَجْوِبْ به! وإنما تقول: أَجْودْ بِجَوابه! ولا يقولون في قالَ يَقيل: ما أَقْيَلَه! استَغنَوا بما أكَثَرَ قائلَتَه! وما أَنْوَمَه في ساعة كذا! كما قالوا تَركتُ، ولم يقولوا وَدَعتُ) هذا نصبُّه. فجعل استغناءهم عن ما أَجْوَبَه بما أَجْوَدَ جوابَه! مساويًا لا ستغنائهم عن وَدَعتُ ماضي يَدَعُ بتَرَكتُ، / وعن ما أَقْيَلَه بما أَكثَرَ قائلتَه! مع العلم بأنَّ عُدولهم عن وَدَعَ إلى تَرَكَ، وعن ما أَقْيَلَه إلى أن يكون ما أَجْوَبَه موافقًا للقياس، وهذا بِّين، والاعتراف بصحته متعّين. وإنما استحقَّ أَفْعَلَ مساواةَ الثلاثيِّ المحض في هذا الاستعمال دون غيره من أمثلة المزيد فيه لشبهه به لفظًا، ولكثرة موافقته له معنًى: أمَّا شبهه به لفظًا فمِن قِبَلِ أنَّ مضارعه واسم فاعله واسم زمانه واسم مكانه كمضارع الثلاثي واسم فاعله وزمانه ومكانه في عدة الحروف والحركات وسكون الثاني؛ بخلاف غيره من المزيد فيه. وأمَّا الموافقة في المعنى فكثيرة: فمن موافقته لِفَعَلَ سَرى وأَسرى، وطَلَعَ على القوم وأَطلَعَ، أي: أَشرَفَ، وطَفَلَتِ الشمسُ وأَطفَلَتْ، أي: دَنَتْ للغروب، وعَتَمَ الليلُ وأَعتَمَ، أي: أَظلَمَ، وعَكَلَ الأمرُ وأَعْكَلَ، أي: أَشْكَلَ. ومن موافقته لفَعلَ غَطشَ الليلُ وأَغطَشَ، أي: أَظلَمَ، وعَوزَ الشيءُ وأَعْوَزَ، أي: تَعَذَّرَ، وكذلك الرجل إذا افتَقَرَ، وعَدِمَ الشيءَ وأعدَمَه، أي: فَقَدَه، وعَبِسَتِ الإبلُ وأَعْبسَتْ، أي: دَنِسَتْ أدبارُها.

ومن موافقته لَفعُلَ خَلُقَ الثوبُ وأَخْلَقَ، أي: بَلِيَ، وبَطُؤَ وأَبْطَأ معلوم، وبَؤسَ وأَبْأَسَ، أي: ساءت حالُه، ونظائر ذلك كثيرة. فلكون أَفْعَلَ مختصَّا من بين الأفعال المغايرة للثلاثي بمشابهته لفظًا وموافقته معنًى أجراه س مجراه في اطَّراد بناء فِعلَي التعجب منه» انتهى. وما ذكره المصنف من الاستدلال على جواز التعجب من أَفْعَلَ مطلقًا بأنه قد استُغنيِ عن ما أَفْعَلَه بما أَفْعَلَ فِعلَه، وقوله «لا تقول: ما أَجْوَبَه، فإنما يقولون: ما أجْوَدَ جوابَه، ولا تقول: أَجْوِبْ به، وإنما يقال: أَجْوِدْ بجوابه» ــــلا دليل فيه على جواز التعجب من أَفْعَلَ مطلقًا؛ لأنَّ همزة أَجابَ ليست للنقل، وإنما هي لغير النقل كأَظْلَمَ، فلا حجة فيه على جواز التعجب من أَفْعَلَ على الإطلاق. وقوله وربَّما بُنِيا مِن غيرِ فِعلٍ تقدَّم الكلام معه في دعواه أنَّ قولهم «ما أذْرَعَ فلانة» مصوغ مما يُسمع منه فِعل، ورددنا عليه دعواه ذلك. وقوله أو فِعلٍ غير متصرَّف تقدَّم تمثيل ذلك. وقوله وقد يُغني إلى آخره الفعل المستوفي للشروط، واستغنت العرب عن التعجب منه بغيره ـــــ هو: قامَ، وقعدَ وجلسَ ضدّا قامَ ونامَ، وسَكِرَ، وقالَ من القائلة، وغضبَ، وحكى الأخفش في «الكبير» له عن بعض العرب: ما أَغْضَبَه! وهو قليل، قال: «وسألنا عنه التميميين والقيسيين، فلم يقولوه». قال المصنف في الشرح: «استغنت العرب فيهن بما أشَدَّ سُكْرَه! وما أكْثَرَ قُعودَه وجُلوسَه وقائلتَه! عن: ما أَسْكَرَه وأقْعَدَه وأجْلَسَه وأقْيَلَه» انتهى.

وقال غيره: وذلك لأجل الالتباس، فما أَقْوَمَه ملتبس بما أَقْوَمَه من اسْتَقام، وما أقْعَدَه ملتبس بقولهم: ما أَقْعَدَه بأب، من القُعْدُد، وما أَجْلَسَه محمول على ضدَّه أو مثله، وما أَسْكَرَه ملتبس بما أَسْكَرَ النهرَ! إذا كَثُرَ فيه السَّكْر، قال الجوهري: «السَّكْر ـــــ /بالإسكان ــــ مصدر سَكَرتُ النهرَ أَسْكُرُه سَكْرًا: إذا سَدَدته». فعلى هذا يكون التعجب من فعل المفعول لا من فعل الفاعل. وذكر الاستغناءَ عن ما أسْكَرَه وأقْعَدَه وأجْلَسَه ابن بَرْهان. وأمَّا الاستغناء عن ما أَقْيَلَه فمشهور، ذكره س وغيره. وذكر الاستغناء عن السبعة من أصحابنا ابن عصفور وغيره. وعدُّهم نامَ فيها ليس بصحيح؛ لأنَّ س حكى 5: ما أَنْوَمَه! وقالت العرب: هو أنْوَمُ مِن فَهْدٍ. ص: ويُتَوَصَّلُ إلى التعجُّب بفعلٍ مثبتٍ متصرِّفً مَصُوغٍ للفاعل ذي مصدر مشهور إن لم يَستوف الشروط بإعطاء المصدر ما للمتعجَّب منه مضافًا إليه بعد «ما أَشْددْ» ونحوهما. وإن لم يَعدَم الفعلُ إلا الصَّوغَ للفاعل جيءَ به صلة لـ «ما» المصدرية آخذةً ما للمتعجَّب منه بعد «ما أَشَدَّ» أو «أَشْدِدْ» أو نحوهما.

ش: يقول: إنه يُتوصل إلى التعجب مما لا يجوز التعجب منه لفقد شروط جواز ذلك إذا كان له مصدر مشهور بإعطاء ذلك المصدر الذي للفعل لا يجوز أن يُتَعَجَّب منه حُكمَ الاسم الذي كان منصوبًا بعد أَفْعَلَ، ومجرورًا بعد أَفْعِلْ، مضافًا ذلك المصدر إلى الاسم، مثال ذلك: ما أَكْثَرَ حُمْرَةَ زيدٍ، وأَكْثِرْ بحُمْرةِ زيدٍ، وما أَسْوَأَ عَوَرَ زيدٍ، وأَسْوِئْ بَعَورِ زيد! وما أَبْيَنَ بُلْجةَ عمرٍو! وأَبْيَنْ بِبُلْجة عمرٍو! وما أَحْسَنَ استخراجَ زيدٍ للدراهم! وأَحْسِنْ باستخراجِ عمرٍو للدراهم! وما أَفْجَعَ موتَ عمرٍو! وأَفْجِعْ بموتِ عمرٍو! وما أَحْسَنَ كون هندٍ متجردةً! وأَحْسِنْ بكونِ هندٍ متجردةً! وما أشَدَّ دحرجَته! وما أَشْددْ بَدحرَجته! واحترز بقوله ذي مصدر مشهور من أن يكون الفعل قد فقد بعض الشروط، وليس له مصدر مشهور، وذلك نحو يَذَوُ ويَدَعُ، فإنهما ليس لهما مصدر مشهور، وقد روي لهما مصدر، وذلك الوَدْعُ، ولم يتعرض المصنف لحكم هذا، وحكمُه أنَّ الفعل يُجعَل صلةً لـ «ما» المصدرية، ويُتعجب منه، فتقول: ما أَكْثَرَ ما يَذَوُ زيدٌ الشرَّ! وما أَكْثَرَ ما يَدَعُه، وأَكثِرْ بما يَذَرُ زيدٌ الشرَّ، وأَكْثِرْ بما يَدَعُه. فإن كان المانع كونه مبنيَّا للمفعول فهذا له مصدر، ولكن إن أضفته إلى المفعول وكان التبس بالمضاف إلى الفاعل، فإنَّ الفعل يُجعل في صلة ما، فتقول: ما أكْثَرَ ما ضُرِبَ زيدٌ! وأكْثِرْ بما ضُرِبَ زيدٌ! وإن لم يلتبس جاز المجيء بالمصدر، فتقول: ما أكْثَرَ شُغْلَ زيد! وأكْثِرْ به!

ولا يختصُّ هذا الحكم بما فُقد فيه شرط من الشروط، بل يجوز هذا الحكم فيما استوف الشروط، فتقول: ما أَكْثَرَ ضَرْبَ زيدٍ لعمرٍو! وأَكْثِرْ بِضَربِ زيدٍ لعمرٍو! وما أَكْثَرَ ما ضَرَبَ زيدٌ عمرًا! وأَكْثِرْ بما ضَرَبَ زيدٌ عمرًا. فإن كان المانع كونه منفيَّا جعلتَه في صلة أنْ، نحو: ما أَقْبَحَ ألاَّ تأمرَ بالمعروف! وأَقْبِحْ بألاَّ تأمرَ بالمعروف! وإنما كان ذلك لأنه لا ينسبك من الفعل المنفيِّ مصدر. فلو كان الفعل من بابِ كانَ مما لَزِمَه النفي لكونه وُضع له ـــــ وهو ليس أو لكونه لا يُستعمل إلا مقرونًا بحرفه أو بحرف النهي /والدعاء، نحو: ما زالَ ـــ ففي ذلك خلاف: ذهب البغداديون 2 إلى إجازة: ما أَحْسَنَ ما ليسَ يَذكرُك زيدٌ! وما أَحْسَنَ ما لا يزالُ يذكرُنا زيدٌ! وتابعهم أبو بكر بن السَّراج. ويقوِّي ذلك في «ليس» أنها قد وقعت صلةً لـ «ما» المصدرية، قال: ............................ ... بِما ... لَسْتُما أَهلَ ... الخِيانِة والغَدْرِ ويقوِّي ذلك في «لا يزال» أنه صورته صورة النفي، وهو موجب من حيث المعنى، وكأنَّ كان الفعل نِعمَ وبئسَ وغيرهما مما لا يَتصرف فلا يقع صلة لـ «ما» ولا لـ «أنْ». مسائل من هذا الباب: الأولى: لا يجوز حذف الهمزة من أَفْعَلَ في هذا الباب، وشذَّ من كلامهم: ما خَيرَ اللَبنَ للصحيح! وما شَرَّهُ للمبطون! وأصلهما: ما أخْيَرَه، وما أَشَرَّه.

فأمَّا ما خَيْرَهُ فإنه لَمَّا حذف الهمزة احتاج إلى أحد أمرين: إمَّا حذف ألف ما لالتقائها ساكنه مع الخاء الساكنة، وإمَّا تحريك الخاء وإبقاء الألف التي في ما، فينتفي التقاء ساكنين، فمنهم مَن حَذف الهمزة وألف ما، فقال: مَخْيَرَكَ! ومَحْسَنَكَ! وسَمع الكسائيُّ: مَخْبَثَهُ! ومنهم مَن حرَّك الخاء بحركة الياء، وأبقى ألف ما، فقال: ما خَيْرَ اللبنَ! وسهّل ذلك في ما أَخْيَرَ وما أَشَرَّ تشبيهُهما بخَيرٍ وشَرِّ أَفْعَلَي التفضيل، وإن كان حذف الهمزة فيهما في التفضيل هو الفصيح المستعمل. وأمَّا ما شَرَّهُ للمبطون! فإنه ليس فيه إلا حذف الهمزة، وليس فيه التقاء ساكنين ولا نقل حركة الراء إلى الشين لأجل حذف الهمزة، إنما كان النقل لأجل الإدغام، وقال الشاعر: ما ... شَدَّ أنفُسَهم ... وأَعْلَمَهم ... بما ... يَحمي الذَّمارَ به الكريمُ ... المُسلِمُ ولا يقاس على شيء مما حُذفت فيه الهمزة، والقياس عليه خطأ عند البصريين، قاله النحاس. المسألة الثانية: إذا اتَّصل بأفْعَلَ في التعجب ضمير المتكلم، نحو: ما أَحْسَنَنِي! وما أَظْرَفَنِي! وما أجْمَلَنِي! فالذي تقتضيه قواعد البصريين أنه لا يجوز حذف نون الوقاية، كما لا يجوز في: أَكرمَنِي زيدٌ، وضَربني خالدٌ. وحكى الكوفيون: ما أحْسَنِي! بحذف نون الوقاية، فينبغي أن يُحمل على الشذوذ، ولا يقاس عليه. وقال أبو الحسن بن عصفور: «واعلم أنَّ كل فعل يتصل به ضمير المتكلم فإنه تلزمه نون الوقاية إلا فعل التعجب، فإنك في إلحاقها بالخيار. ووجهُ حذفها شبهُه بالاسم، فإذا كانوا قد يتركونها في مثل:

...................... ... يَسُوءُ الفاليِاتِ إذا فَلَيْني مع أنه لم يخرج عن أصله كفعل التعجب ــــ فأقلُّ مراتب هذا أن يجوز ذلك فيه» انتهى. المسألة الثالثة: إذا كان آخر أَفْعَلَ نونًا، ولقي نون الوقاية، نحو: ما أَحْسَنَنِي! وما أَلْيَنَنِي! فيجوز فيه الفكُّ والإدغام، أمَّا الفكُّ فلكونهما غير لازمين؛ لأنهما من كلمتين. وأمَّا الإدغام فكراهة اجتماع المثلين. فإن جاء بعد هذا الفعل ضمير المتكلمين، /نحو: ما أَحْسَنَنا! وجب الفكُّ، وإنما لم يَجز الإدغام كراهة الالتباس بقولهم ما أَحْسَنَّا إذا نفيتَ الإحسان عنك وعن غيرك. وإذا استفهمت قلت: ما أحْسَنُنا؟ برفع النون، ويجوز الإدغام، فتقول: ما احسنَنَّا؟ فيكون الفرق بين النفي والاستفهام بلزوم الإشمام إذا أَدغمت لأنه مرفوع، قال بعض أصحابنا: ولذا اتَّفق القرَّاء على الإشمام في {مالك لا تأمنا على يوسف)، فهنا أولى. المسألة الرابعة: ما شَذُّوا فيه، فقالوا فيه: ما أَفْعَلَه، نحو: ما أَمْلأَ هذه القِرابةَ! وما أَمْكَنَه عند الملك! لا يجوز أن يُبنَى منه لَفَعُلَ في التعجب، فلا يقال: لَمَلُؤَتِ القِربةُ! ولا لَمَكُنَ زيدٌ! وذلك أنَّ فَعُلَ في التعجب قليلة الاستعمال، فلم يَجز لذلك استعماله إلا حيث تُستَعمل ما أَفْعَلَه بقياس. المسألة الخامسة: مَن ذهب إلى أنه يجوز التعجب مما كان على وزن أَفْعَلَ وهمزتُه ليست للنقل؛ ويجعل ذلك مقيسًا ــــ لا يُجيز أن يُبنَى منه فَعُلَ للتعجب، فلا يقال: لَخَطُؤَ الرجلُ! ولا: لَصابَ الرجلُ! وإن كانوا قد قالوا: ما أَخْطَأَه! وما أَصْوَبَه!

المسألة السادسة: ما أَحْسَنَ زيدًا لا ما أَشْرَفَه! وما أَحْسَنَ زيدًا لا أَشْرَفَه! مَنع من إجازتهما الكسائي. وقال أبو جعفر النحاس: وهذا جائز على أصول البصريين؛ لأنَّ حُكم (لا) أن تكون بعد الإيجاب. المسألة السابعة: ما أَحْسَنَ وأجْمَلَ زيدًا! فيها ثلاثة مذاهب. تفصيل في الثالث، فيجوز بشرط إعمال الثاني، ويُمنع على إعمال الأول، وتقدَّم ذكرها في باب الإعمال، فأغنى عن إعادته.

باب أفعل التفضيل

-[ص: بابُ أَفْعَلِ التفضيل يُصاغُ للتفضيل مُوازِنُ «أَفْعَلَ» اسمًا مما صيغَ منه في التعجب فعلاً على نحو ما سبقَ من اطِّرادٍ وشذوذٍ ونيابِة أَشَدَّ وشبهه، وهو هنا اسمٌ ناصِبٌ مصدرَ المُحْوِجِ إليه تمييزًا. وغَلَبَ حذفُ همزِة أَخْيَرَ وأَشَرَّ في التفضيل، ونَدَرَ في التعجب.]- ش: أَفْعَلُ التفضيل هو الوصف المصوغ على أَفْعَلَ الدالّ على زيادةِ وصفٍ في محلِّ بالنسبة إلى محلِّ آخر. فـ «الوصف» جنس يشمل ما كان من الأوصاف على وزن أَفْعَلَ، و «الدالّ على زيادة إلى آخره» فصل يَخرج به أَحْمَرُ وأَرْمَلٌ. وفي «البسيط»: أَفْعَلُ التفضيل هو الاسم المشتقّ لموصوف قائم به معنًى ليدلَّ على زيادة فيه على غيره. فقولنا «لموصوف» خرج منه الزمان والمكان، وقولنا «ليدلَّ إلى آخره» يَفصله مما عداه. ولما قدَّم المصنف الكلام على التعجب أحالَ هنا في الصوغ على فِعلَيه، وكان قد ذكر ما شذَّ فيه في التعجب، وما يجوز القياس عليه، فكذلك الحكم هنا، فكما شذَّ قولهم أقْمِنْ به مما لم يُصَرَّح له بفعل شذَّ هنا قولهم: هو أقْمَنُ به، أي أحَقُّ، وقالوا «أَلَصُّ من شظاظ»، أي: أكثر لُصُوصِيَّة، وهو /رجل من ضَبَّة، وأَقْيَرُ من هذا، أي: أَمَرُّ، وأَوَّل، وآخَر، ولا فعل لها. قال المصنف في الشرح: «ومن أمثلة س فيما لا فِعل له: أَحْنَكُ الشاتين والبَعيرَين، أي: آكَلُهما، وآبلُ الناس، أي: أَرعاهم للإبل، وفي أمثالهم: آبلُ من

حُنَيْفِ الحَناتِم. ومن أمثلة غيره: هذا التمر أَصْقَرُ مِن غيره، أي: أَكثَرُ صَقْرًا، وهذا المكان أَشْجَرُ مِن هذا، أي: أَكثَرُ شَجَرًا، وفلان أَضْيَعُ مِن غيره، أي: أَكثَرُ ضياعًا. والصحيح أنَّ أَخْتَك من قولهم: احْتَنَكَ الجرادُ ما في الأرض، أي: أكلَه، ولكنه شاذُّ لكونه من افْتَعَلَ، فهو نظير أَشَدَّ من اشتَدَّ، ونظير قولهم: هو أَسْوى من فلان، بمعنى: أَشَدُّ استواء. والصحيح أنَّ آبل من قولهم أَبِلَ الرجلُ إبالةً وأَبِلَ أَبَلاً: إذا دَرِبَ بسياسة الإبل والقيام عليها، فلا شذوذ فيه أصلاً. وكذا الصحيح أنَّ أَصْقَرَ من صَقِرَ الرُّطَبُ: إذا كان ذا صَقْر، فلا شذوذ فيه أيضًا. أَشْجَر هو من قولهم أشجر المكان، أَي: صار ذا شجر، ولا شذوذ فيه على مذهب س» انتهى. وقد تقدَّم الخلاف في نسبة هذا المذهب إلى س. فأمَّا قولهم «فلان أضيع من غير» من قولهم أَاع الرجل: كثر ضياعه، وقولهم هو أعطاهم للدراهم وأولاهم بالمعروف، وأَكرَمُ لي من زيد، أي: أَشَدُّ إكرامًا، وأَفلَسُ من ابن المُدَلَّق، وهذا المكانُ أَقْفَرُ من ذلك، وقول عمر «فهو لِما سواها أَضْيَعُ» ــ فهي كلها من أَفْعَلَ، والخلاف الذي في التعجب فيه جارٍ في بناء أَفْعَلِ التفضيل منه.

وشذَّ مما هو أَفْعَلُ فَعْلاَء قولُهم: أَسْوَدُ مِن حَنَكِ الغُرابِ، و (أَبْيَضُ مِن الَّلبَنِ)، وأَحْمَقُ مِنْ هَبَنَّقةَ، وأَهْوَجُ مِن زيد، وأَنْوَكُ منه. وشذَّ من بناء المفعول من المزيد: هو أَخْصَرُ، من اختُصِرَ، وهو أَصْوَبُ مِن غيره، من أُصِيب بمكروه. ومن الثلاثي: هو أَشْغَلُ مِن ذاتِ النِّحْيَينِ، وهو أَعْذَرُ منه، وأَلْوَمُ، وأَشْهَرُ، وأَعْرَفُ، وأَنْكَرُ، وأَرجَى، وأَخْوَفُ، وأَحْمَدُ في أحد تأويليه، وأَزْهَى، وأَهْيَبُ، وأنا بهذا أَسَدُّ منك، وهم بشأنه أَعْنَى. وخلاف المصنف في هذا كهو في فعل التعجب، قال: «فإن اقترن بما يمنع من قصد الفاعلية جاز وحسن، نحو قولهم: أَكْسَى مِن بَصَلة، وأَشْغَلُ مِن ذاتِ النِّحْيَينِ». قال 5: «فيصح على هذا أن يقال: عبدُ الله بنُ أُبَيِّ أَلْعَنُ مِمَّن لُعِنَ على لسان داود، ولا أحْرَمَ ممن عدم الإنصاف، ولا أَظْلَمَ مِن قَتيل كَرْبَلاء. فلو كان مما لَزِمَ بناءَ ما لم يُسَمَّ فاعلُه أو غَلَب عليه لم يُتَوَقَّف في جوازه لعدم اللبس وكثرة النظائر، كأَزْهَى وأَعْنَى» انتهى. فأمَّا تمثيله بقولهم «أَكْسَى مِن بَصَلة» فلا يتعين أن يكون من المبنيِّ للمفعول ــــ وهو كُسِيَ ــــ لأنَّ العرب تقول: كَسِيَ الرجلُ ــــ بفتح الكاف ــــ مَبينَّا للفاعل، بمعنى اكْتَسى، قال:

............................ ... واقْعُدْ؛ فإنَّكَ أنتَ الطاعِمُ الكاسي وقال: وأنْ ... يَعْرَيْنَ ... إنْ ... كَسِيَ ... الجَواري ... ..................................... فيحتمل أن يكون قولهم «أَكْسَى من بَصَلة» /من كَسِيَ المبنيَّ للفاعل لا كُسِيَ المبنيِّ للمفعول. وأمَّا قوله «لم يُتَوَقَّف في جوازه» فهذا الحكم عنده، وأمَّا غيره فإنه لا يُجيز ذلك، وإن ورد منه شيْ فهو شاذّ. وأمَّا قوله «مما لَزِمَ بناءَ ما لم يُسَمَّ فاعلُه» فمن ذلك: ثُلِجَ فؤادُ الرجل: إذا كان بليدًا، وُختَ الرجلُ: إذا سَعدَ، وجيس: إذا فُعل به فعل قوم لوط مختارًا». وأمَّا قوله «أو غَلَبَ عليه» فمنه قولهم: نُخِيَ الرجلُ نخوةً: إذا تكبَّر، ونَخا نَخْوًا، لغة حكاها ابن القطاع، وشُهِرَ، وبُهِتَ. وقوله مما صيغَ منه في «صيغَ» ضمير يعود على مُوازن أَفْعَلَ، والضمير في «منه» عائد على «ما» في قوله «مما»، أي: من اللفظ الذي صيغَ مُوازنُ أَفْعَلَ منه. وقوله ناصبٌ مصدرَ المُحْوِجِ إليه تمييزًا أي: مصدرَ اللفظ الُمحْوج إلى نيابة أَشدَّ ونحوه، فتقول: هو أَشَدُّ دحرجةً، وأَصَحُّ تعليمًا، وأَكْثَرُ اقترابًا، وهو أَفْظَعُ موتًا، وهو أَقْبَحُ عَوَرًا، وهو أَحْسَنُ كُحْلاً. وقوله وغَلَبَ حذفُ همزِة أخْيَرَ وأَشَرَّ في التفضيل وحذفت الهمزة لكثرة الاستعمال نحو: هو خيرٌ من فلان، وشرُّ من فلان. وجاء الحذف في غيرهما نادرًا، قال:

وزادَني كَلَفًا في الحُبِّ أَنْ مَنَعَتْ ... وحَبُّ شيءٍ إلى ... الإنسانِ ما مُنِعا يريد: وأَحَبُّ شيءٍ. وندر إتمام خَير وشَرّ، قرأ أبو قِلابة {مَنِ الكذَّابُ الأَشَرُّ}، قال: بلالُ خَيرُ الناسِ وابنُ الأخْيَرِ وقوله ونَدَرَ في التعجب يعني حذف همزة أَخْيَرَ وأَشَرَّ، قالوا: ما خَيْرَ اللَّبن للصحيح! وما شَرَّهُ للمَبطُون! وتقدَّم ذكر هذا. كما ندر حذفها في قوله: ما شَدَّ أَنْفُسَهُمْ وأَعْلَمَهُمْ بِما ... ..................................... -[ص: ويَلزَمُ أَفْعَلَ التفضيل عاريًا الإفرادُ والتذكيرُ، وأن يَليَه أو معمولَه المفضولُ مجرورًا بـ «مِن»، وقد يسبقانه، ويلزم ذلك إن كان المفضولُ اسمَ استفهام أو مضافًا إليه، وقد يُفصَل بين أَفْعَلَ و «مِنْ» بـ «لو» وما اتَّصل بها. ولا يخلو المقرونُ بـ «مِنْ» في غير تهكُّم من مشاركِة المفضَّل في المعنى أو تقديرِ مشاكته. وإن كان أَفْعَلُ خبرًا حُذف للعلم به المفضولُ غالبًا، ويقلُّ ذلك إن لم يكن خبرًا. ولا تُصاحب «مِن» المذكورةُ غيرَ العاري إلا وهو مضافٌ إلى غير مُعْتَدِّ به، أو ذو ألف ولام زائدتين، أو دالَّ على عارٍ تتعلقَّ به «مِنْ»، أو شاذُّ.]- ش: يعني بقوله عاريًا أي: من أل ومن الإضافة، فيلزمه إذ ذاك أن يكون مفردًا مذكرًا، سواء أكان لمذكر أو مؤنث، لمفرد، أم مجموع، فتقول: زيدٌ أفضَل من عمرٍو، والزيدان أَفضَلُ من عمرو، والزيدونَ أَفْضَلُ من عمرٍو، وهنٌ أَفضَلُ من دعد، والهندان أَفضَلُ من دعد، والهنداتُ أَفضَلُ من دعد.

قال أبو الفتح في «كتاب القد» له ما مختصره: «إنما كان بلفظٍ واحد مع مِنْ لأنَّ الغرض إنما هو تفضيل كَرَمِ زيدٍ على كَرَمِ عمرو، فهو في المعنى إخبار عن المصدر، فوجب التذكير لغلبته على المصدر، فرُفِض فيه فُعْلَى» انتهى. وهذه علةُ عدم تثنيته /وجمعه. وقوله وأنْ يَليَه أو معمولَه المفضولُ مثال أن يليه: زيدٌ أَفضَلُ من عمرو، ومثال أن يليه المعمولُ قولُه تعالى (النبى أولى بالمؤمنين من أنفسهم}، وقوله {وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتب الله من المؤمنين)} 1، وقال تعالى {قال رب السجن أحب إلى يدعوننى إليه)، وقال الشاعر: فلأنتَ أَسْمَحُ لِلْعُفاةِ بِسُؤْلِهِمْ ... عندَ الشَّصائبِ مِنْ أَبٍ لِبَنينا وقال: ما زِلْتُ أَبْسَطَ ــــ في غَضِّ الزَّمانِ يَدًا ... لِلنَّاسِ بِالخَيرِ ــــ مِنْ عَمرٍو ومِنْ هَرِمِ وقال الراجز: لأَكْلةٌ مِنْ أَقِطٍ وسَمْنِ ... ألْيَنُ مَسَّا في حَوايا البَطْنِ مِنْ يَثْرَبَّياتٍ قِذاذٍ خُشْنِ ... يرمي بِها أَرْمَى مِنِ ابْنِ تِقْنِ

وقال كثِّير: سَبُعُ الدارِ أَشْجَعُ حينَ يُبلَى ... لَدَى الهَجاء مِنْ لَيثٍ بِغابِ ففي الآيتين الفصل بجارّ ومجرور، وفي البيت الذي يليهما الفصل بجارّين ومجرورين وظرف، وفي البيت الذي يليه بتمييز وجار ومجرور، وفي الذي يليه بظرفين، وكل ذلك معمول لأَفْعَلِ التفضيل. وقوله وقد يسبقانه مثال ذلك قول ذي الرمة: ولا عَيبَ فيها غيرَ أنَّ سَريعَها ... قَطُوفٌ، وأنْ لا شيءَ منهُنَّ أَكْسَلُ وقال آخر: فقالتْ لنا: أَهلاً وسَهْلاً، وَزَوَّدَتْ ... جَنَى النَّحلِ أو ما زَوَّدَتْ مِنهُ أَطْيَبُ وقال آخر: إذا سايَرَتْ أَسماءُ يومًا ظَعينةً ... فأَسماءُ مِن تلكَ الظَّعينِة ... أَمْلَحُ وقال الآخر: ولولا النُّهى أَنْباتُك اليومَ أنَّنِي ... من الطابنِ الطَّبِّ المُجَرِّبِ أَعْلَمُ وقال الآخر:

فقلتَ لها: لا تَجزَعي، وتَصَبَّري ... فقالتْ بِحَقِّ: إنَّني منكَ أَصْبَرُ فقلتُ لها: واللهِ ما قلتُ باطلاً ... وإنِّي بِما قد قُلتِ لي منكِ أَبْصَرُ ومن علم الكوفيين قال الفراء وأصحابه في إنَّ عبدَ الله لمنكَ أفضَلُ: مستقبَح؛ لأنَّ أفْضَلَ لا يَقوَى على مِن كقوَّة الفعل على المجاز، ومنْ مع أَفْعَلَ موضع المفسِّر الذي موضعه آخر الكلام، فقبُح هذا لإشباهه إنَّ عبدَ الله لَوَجهًا حَسَنٌ. وهذا خَلْفٌ من القول لتقديم المفسِّر الذي موضعه التأخير، وأصله الخفض، وأن يقال فيه: إنَّ عبدَ الله لَحَسَنُ الوجه، فلما أشبهتْ «مِن» ما يأتي مفسَّرًا من النكرات ضعُف مذهب تقديمها، وازداد الكلام اختلالاً /بدخول اللام على ما يشبه حرفًا أصله الخفض والمجيء بعد الخبر. وقال الفراء: إنَّ عبدَ اللهِ منك لأفضَلُ أَقَلُّ قبحًا من الأول؛ لأنَّ اللام لَمَّا دخلتْ على الخبر حصلتْ في موضعها، وأشبهتْ «مِن» في تقديمها في قيلهم: إنَّ عبدَ اللهِ منك لهاربُ، واستقبحَ: إنَّ منك لأفضلُ عبدَ الله، فإن جُوَّزَتْ على ما فيها من القبح شُبِّهت بإن بالجاريةِ لكفيلاً عبد الله. وقال الفراء: إنَّ منك عبدَ الله لأفضلُ أَحسَنُ مِنَ التي قبلها لحصول اللام في مكانها المعروف لها. وقوله ويَلزَم ذلك إن كان المفضولُ اسمَ استفهام مثال ذلك: مِمَّنْ أنتَ خيرٌ؟ ومن أيِّ الناس زيدٌ أفضلُ؟ ومِمَّ قوامُك أَعْدَلُ؟ والإشارة بـ «ذلك» إلى تقدُّم مِن والمفضول على أَفْعَلَ. وينبغي أن ننبّه على سَبْقه أيضًا ما كان أَفْعَلُ خبرًا له، نحو ما مثًلنا، ونحو: ممَّنْ كان زيدٌ أَفضَلَ؟ ومِمَّنْ ظَنَنتَ زيدًا أَفضَل؟ لئلا يُتَوَهَّمَ أنه يجوز توسُّطهما بين المُخبَر عنه والخبر، فإنه لا يجوز: زيدٌ ممَّن أَفضَلُ؟ ولا: كان زيدٌ ممَّنْ أَفضَلَ؟ ولا: ظَنَنتُ زيدًا مِمَّنْ أَفضَلَ؟

وقوله أو مضافًا إليه مثاله: مِنْ وَجهِ مَنْ وَجهُك أَجْمَلُ؟ ذكر أصلَ هذه المسألة أبو عليّ الفارسيّ في «التذكرة»، قال المصنف في الشرح: «وهي من المسائل المغفول عنها» وقوله وقد يُفصل بين أَفْعَلَ ومِن بـ «لو» وما اتَّصل بها لَمَّا ذَكر أنه قد يُفصل بمعمولٍ لأَفعَلِ التفضيل ذَكر أنه قد يُفصَل بغير المعمول له، فذَكر الفصل بـ «لو» وما اتَّصل بها، نحو قوله: ولَفُوكِ أَطْيَبُ لو بَذلْتِ لنا ... مِنْ ماءِ مَوْهَبةٍ على خَمْرِ المَوْهَبة: غديرُ ماء في صخرة. وجاء الفصل بالمنادى، قال جرير: لم يُلْقَ أَخْبَثُ ـــــ يا فَرَزْدَقُ ـــ مِنكُمُ ... لَيلاً، وأَخْبَثُ بالنَّهار نَهارَا وقوله ولا يخلو المقرون بـ «مِن» في غير تهكُّمٍ من مشاركةِ المفضَّل في المعنى يعني أنه إذا قيل سيبويهِ أنْحَى من الكسائيُّ مشارك لسيبويه في النحو وإن كان سيبويه قد زاد عليه في النحو. قال المصنف في الشرح 1: «فيقال: الخبرُ أَغذَى من السَّويق، والعسلُ أَحلَى من التَّمر، ولا يقال: الخبزُ أَغذَى من الماء». إنما ذلك ـــ على زعمه ــــ لأنَّ الماء لا يَغذو، فلم يُشارك الماءُ الخبز في ذلك، كما أنَّ الخبز لم يُشارك الماءَ في الريّ، فامتنعت عنده المسألتان. فليس الأمر كذلك، بل يجوز أن تقول: الخبزُ أَغذَى من الماء، والماءُ في لغة العرب يَغذو، قال الشاعر:

كَبِكْرِ مقُاناةِ ... البَياضِ بِصُفْرةٍ ... غَذَاها ... نَميرُ ... الماءِ غير الْمُحَلَّلِ واحتزاز بقوله في غير تهكُّم من قول الراجز: /لأَكْلةٌ مِن أَقِطٍ وسَمْنِ ... أَلْيَنُ مَسَّا في حَوايا البَطْنِ مِنْ يَثرَبيَّاتٍ قِذاذٍ ... خُشْنِ وقول الشاعر: الحَزْمُ والقُوَّةُ خَيرٌ مِنَ الـ ... ــــــــــــــــــــــــــــــــإدْهانِ والفَكَّةِ والهاعِ الفَكَّة: الضَّعف، والهاع: الجُبْن. وزعم بعض العلماء أنه يقال: العسلُ أَحلَى مِنَ الخَلِّ. ووجَّهه المصنف بثلاثة أوجه: أحدها: أن يكون قائل هذا أراد بالخَلَّ العنبَ، وسمّاه خلاَّ لمآله إليه، كما سُمي خمرًا في قوله تعالى {إنى أرئنى أعصر خمرًا}. الثاني: أن يكون أَحْلَى من حَلِيَ بالعين: إذا حَسُنَ منظرُه. الثالث: أن يكون أوقَعَ أَحلَى موقع أَطْيَبَ؛ لأنَّ الخَلَّ يُتأدَّم به، فله من الطَّيب نصيب، لكنه دون طيب العسل.

وقوله أو تقديرِ مشاركتِه يعني بوجهٍ ما، كقولهم في النقيضين: هذا أَحَبُّ إليَّ من هذا، قال تعالى {قال رب السجن أحب إلى مما يدعوننى إليه)، وفي الشَّرَّينِ: هذا خيرٌ من هذا، وفي الصَّعبَينِ: هذا أَهْوَنُ مِن هذا، قال الراجز: أَظَلُّ أَرعَى، وأَبِيتُ أَطْحَنُ ... الَموتُ مِن بَعضِ الَحياةِ أَهْوَنُ وفي القبيحين: هذا أحسنُ من هذا، وقال الراجز: عُجَيِّيزٌ لَطْعاءُ دَرْدَبِيسُ ... أَحْسَنُ مِن مَنْظَرِها إبليسُ والمعنى: أَقَلُّ بُغضًا، وأَقَلُّ شَرَّا، وأَهْوَنُ صُعوبةً، وأَقَلُّ قُبحًا. وقال بعضهم: الصَّيفُ أَحرُّ مِن الشتاء، ووجِّه ذلك بوجهين: أحدهما: أن يكون أَحَرُّ من قولهم: حَرَّ القتلُ: إذا اسْتَحَرَّ، أي: اشتَدَّ، فكأنه قيل: أَشَدُّ اسْتِحْرارًا من الشتاء؛ لأنَّ حروبهم في الصيف كانت أكثر. والثاني: أنه يُتَحَيَّل لفصل الشتاء باتخاذ ما يقي البرد، والصيف لا يُحتاج فيه إلى ذلك، فحَرُّه أشدُّ من حرِّ الشتاء، أو يُعتبر بذلك حَرّ الأمزجة، فهو في الصيف أَحَرُّ منه في الشتاء. وقوله وإن كان أَفْعَلُ خبرًا حُذف للعلم به المفضولُ غالبَّا قال تعالى {أتستبدلون الذى هو أدنى بالذى هو خير}، {ذلكم أقسط عند الله

وأقوم للشهادة وأَدنى ألا ترتابوا}، {والله أعلم بما وضعت}، {وما تخفى صدورهم أكبر}، {والبقيت الصلحت خير عند ربك ثوابا وخير أملا}، {أى الفريقين خير مقاما}، {فسيعلمونأُ من هو شر مكانا وأضعف جندا}، ... وهو كثير، وقال الشاعر فَخَرَتْ بَنو أَسَدٍ بِمَقْتَلِ مالكٍ ... صَدَقَتْ بَنو أَسَدٍ، عُتَيبةُ أَفْضَلُ أي: من الجماعة الذين قُتلوا به. وقال آخر: إذا ما سُتُورُ البيتِ رْخِينَ لم يَكُنْ ... سِراجٌ لنا إلا ووَجهُكِ أَنْوَرُ وقال آخر: / وما مَسَّ كَفُّ مِن يدٍ طابَ ريحُها ... مِنَ الناس إلا ريحُ كَفِّكَ أَطْيَبُ وقال آخر (¬10): إذا المرءُ عَلْبَى، ثم أصبَحَ جلْدُهُ ... كَرَحْضِ غَسيلٍ، فالتَّيمُّنُ أَرْوَحُ

أي: فدَفنُه على اليمين أَرْوَحُ له، وعَلْبَى: شَنِجَ علباؤه. وإنما قال «حُذف للعلم به» لأنه إن لم يكن المفضول به معلومًا لم يَجز حذفه. وإنما قال «غالبًا» لأنه يجوز التلفظ به مع العلم به، قال تعالى {وإذا رأوا تجرة أو لهوا انفضوا إليهاوتركوك قائما قل ما عند الله خير من اللهو ومن التجرة}. وشمل قوله «خبرًا» خبر المبتدأ، وخبر كان، وخبر إنَّ وثاني ظننت، فتقول: كان زيدٌ أفضلَ، فتحذف المفضول للعلم به، قال الشاعر: سَقيناهُمُ كأسًا سَقَوْنا بِمِثْلِها ... ولكنَّهم كانوا على الموتِ أصْبَرَا يريد: أَصْبَرَ منَّا. وتقول: إنَّ زيدًا أَفضَلُ، قال تعالى {إنما عند الله هو خير لكم}. وتقول: ظننتُ زيدًا أفضلَ، قال تعالى {تجدوه عند الله هو خيرٍا وأعظم أجرا} وقوله ويَقِلُّ ذلك إن لم يَكُن خبرًا مثاله قولُه تعالى {فإنه يعلم السر وأخفي}، وقول الشاعر: أي: دنوتِ أجملَ من البدر وقد خِلناكِ مثلَه، فأجمَل منصوب على الحال، والعامل فيها دنوتِ، وقال:

ليُلْفِكَ ... مَنْ ... أَرْضاك قِدْمًا أَجَدَّ في ... مَراضية، فالَمسبوقُ إنْ زادَ سابقُ وقال رجل من طِّيئ: عَمَلاً ... زاكِيًا تَوَخَّ ... لِكَي تُجْـ ... ــــــــــزَى ... جَزاءً ازْكَى، وتُلْفَى حَمِيدَا أي: أزكى من العمل الزاكي. وقال: تَرَوَّحي أجْدَرَ أنْ تَقِيلِي قال المصنف في الشرح 1: «أي: تَرَوِّحي واتِي مكانًا أَجدَرَ بأن تَقيليه، أي: بأن تَقيلي فيه، وهذا أغرب من الذي قبله لكثرة الحذف فيه» انتهى. فإن كان أَفْعَلُ التفضيل في موضع الفاعل أو في موضع اسم إنَّ ففي ذلك خلاف: أجاز البصريون حذق المفضول للعلم به، ومنعه الكوفيون. ومثال ذلك: جاءني أفضلُ، وإنَّ أكبرَ الله. وزعم الرماني أنه لا يجوز الحذف إلا في الخبر، نحو: الله أكبرُ، قال: وأمَّا في الصفة فلا يُحذف، نحو: مررتُ برجلٍ أفضلَ من عمرو. وقوله ولا تُصاحب مِن إلى آخره مثال الجمع بين الإضافة ومِن للتفضيل قول الشاعر: نحنُ بغَرْسِ الوَدِيِّ أعْلَمُنا ... مِنَّا بِرَكْضِ الجياد في السَّدَفِ

/يريد: أعْلَمُ مِنَّا. وأُوَّلَ على أنه نوى طرح المضاف إليه، وهذا معنى قول المصنف «غيرِ معتدِّ به». ومثال المجيء بـ «من» مع أل قوله: ولَستَ بالأَكْثَرِ مِنهُم حَصًى ... وإنَّما العِزَّةُ لِلكاثِرِ وأَوِّل علي زيادة «أل». أو على تعلّقها بأكثرَ محذوفًا دَلّ عليه «الأكثر»، التقدير: ولستَ بالأكثرِ أكثرَ منهم حَصًى، كتأويل بعضهم في {وكانوا فيه من الزاهدين}، وهذا أَولى لجواز تقدُّم الدليل على المحذوف، وهناك تأخَّر. أو على أنَّ مِن للتبيين، كأنه قال: لستَ مِن بينهم بالأكثرِ حَصًى، كقول ابن الزَّبِير الأسديّ: أعِكْرِم ... إنْ كانتْ ... بِعَينكَ كُمْنةٌ ... فَعندي لِعَينَيكَ الأَمَضُّ مِنَ الكُحْلِ وإذا كان أفعل التفضيل مصوغًا مما يتعدَّى بـ «مِن» تعدَّى بها مجردًا ومضافًا ومع أل، قال الكميت: فَهُمُ الأَقْرَبُونَ مِنْ كُلِّ خَيرٍ ... وَهُمُ الأَبْعَدُونَ مِنْ كُلِّ ذامِ ويُجمع بينها وبين «مِن» الداخلة على المفضول إذا جُرِّد، تقول: زيدٌ أقرَبُ مِن كلِّ خيرٍ مِن عمرٍو. وإذا جُمع بينهما فيجوز تقدُّم «مِن» الداخلةِ على المفضول

على «مِن» الذي يتعدَّى أَفْعَلُ به، فتقول: زيدٌ أَقربُ مِن عمرٍو مِن كلِّ خيرٍ؛ لأنَّ كلاَّ مِن الجارَّين يتعلَّق بأَفْعَلَ. وكذلك لو كان حرف الجر غير «مِن»، نحو: زيدٌ أَبصَرُ مِن عمرٍو بالنَّحو، وزيدٌ أَضْرَبُ مِن عمرٍو لِزيد، وبه جاء السماع، قال تعالى {ونحن أقرب إليه من حبل الوريد}. فإن اختلف المتعلَّق، نحو: زيدٌ أَضْرَبُ لِعمرٍو مِن خالدٍ لِجعفرٍ، وزيدٌ أَبْصَرُ بالنحو منه بالفقه ــــ فالذي يظهر أنه لا يجوز تقديم المجرور الثاني على «مِن»، فلو قلت: زيدُ أَضْرَبُ لِعمرٍو لجعفرٍ مِن خالد، وزيدٌ أَبْصَرُ بالنحوِ بالفقهِ منه ـــ لم يجز. وعلَّة ذلك ــــ والله أعلمُ ــــ أنَّ أَفْعَلَ التفضيل متضمَّن معنَى شيئين، أحدهما مصدر، فمتى اختلف المتعلُق أدَّى إلى تقدُّم معمول المصدر المتضمَّن عليه، فالمعنى: زيدٌ يزيدُ ضربُه لعمرٍو على ضربِ خالدٍ لجعفر، وكذلك: زيدٌ يزيدُ بَصَرُه بالنحوِ على بَصَرِه بالفقه، وكان القياس يقتضي منع التقديم على أَفْعَلِ التفضيل إذا اتَّحد المتعلُق، نحو: زيدٌ بالفقه أَبْصَرُ من عمرو، إذ التقدير: زيدٌ يزيدُ بَصَرُه بالفقهِ على بَصَرِ عمرٍو به، ولولا أنَّ السماع ورد به لُمنع، قال: ............................. ... وإنِّي لِما قد قُلتِ لي منكِ أَبْصَرُ

-[ص: فصل إن قُرِنَ أَفْعَلُ التفضيلِ بحرفِ التعريف، أو أُضيفَ إلى معرفةٍ مطلقًا له التفضيلُ، أو مؤوَّلاً بما لا تفضيل فيه ــــ طابَقَ ما هو له في الإفراد والتذكير وفروعهما، وإن قُيِّدت إضافته بتضمينِ «مِن» جاز أن يُطابِق وأن يُستَعمَل استعمالَ العاري، ولا يتعين الثاني، خلافًا لابن السراج، ولا يكون حينئذ /إلا بعضَ ما أُضيف إليه، وشَذَّ «أظْلَمُهْ». واستعمالُه عاريًا دون «مِن» مجردًا من معنَى التفضيل مؤوَّلاً باسمِ فاعلٍ أو صفةٍ مشبهةٍ مُطّرِدٌ عند أبي العاس، والأَصَحُّ قصْرُه على السماع، ولزومُ الإفرادِ والتذكيرِ فيما وردَ كذلك أكثرُ من المطابقة.]- ش: مثال اقترانه بأل ومطابقته ما قبله في الإفراد والتثنية والجمع والتذكير والتأنيث قولك: زيدٌ الأفضلُ، والزيدان الأفضلان، والزيدون الأفضلون أو الأَفاضِل، وهندٌ الفُضلى، والهندان الفُضْلَيان، والهنداتُ الفُضْلَيات أو الفُضَل. وإنما لزمت المطابقة لأنه نقصَ شَبَهُه بأَفْعَلَ المتعجَّبِ به بكونه قُرن بأل، ولم يُطابق إذا استُعمل بـ «من» لشَبَهه إذ ذاك لفظًا ومعنًى، فلمَّا دخلت عليه «أل» صار كسائر الأوصاف. وقسم المصنف ما أُضيف إلى معرفة ثلاثة أقسام: أحدها: أن يكون جاريًا على مَن أُطلق له التفضيل، فلا يُنوى بعده «مِن». والثاني: أن يؤوَّل بما لا تفضيل فيه.

وهذان القسمان يلزم فيهما المطابقة، ولا يلزم أن يكونا بعض المعرفة المضاف إليها هما. مثال القسم الأول: يوسفُ أحسنُ إخوته، أي: حَسَنُهم، أو الأحسنُ من بينهم، فهذا على الإخلاء من معنى «مِن» وإضافته إلى ما ليس بعضًا منه؛ لأنَّ إخوة يوسف لا يندرج فيهم يوسف. ومثال القسم الثاني: زيدٌ أعلمُ المدينة، تريد: عالم المدينة. وهذان القسمان فيهما خلاف: أمَّا الأول فمذهب البصريين أنَّ أَفْعَلَ التفضيل متى أضيف إلى معرفة فإنه لا بُدَّ أن يكون بعضَ ما أُضيف إليه، ولا يجوز عندهم: يوسفُ أفضلُ إخوته. وأجاز ذلك الكوفيون؛ لأنه عندهم على معنى «مِن إخوته»، كما قالوا في زيدٌ أفضلُ القومِ إنه على تقدير «مِن القوم» وأنه لا يتعرف، وقد جاء قوله: يا خيرَ إخوانِهِ وأَعْطَفَهُمْ ... عليهمُ راضِيًا وغَضْبانَا وقال جماعة ــــ منهم الزمخشري ــــ: هذا جائز على أنَّ أَفْعَلَ هنا كقولك فاعِل، فيضاف لمجرد التخصيص كقولك: فاضلُ إخوتِه. وقد أثبتَ أَفْعَلَ صفةً لا للتفضيلِ والاشتراكِ في الصفة أبو العباس، ومنه عنده «اللهُ أكبرُ»؛ إذ لا كبير معه، ومنه {وهو أهون عليه}، وقولُه:

لَعَمْرُكَ ما أَدري، وإنَّي لأَوْجَلُ ... ....................................... أي: وَجلٌ. وبه قال الفراء في قوله {أصحب الجنة يوميذ خير مستقرا} وجعل الزمخشري من هذا: «هو أَشْعَرُ أهلِ جِلدتِه». وليس منه؛ لأنك تقول: بعضُ أهلِ جِلدته، وتقول: زيدٌ أَفضَلُ جماعِة إخوتِه؛ لأنه واحد من جماعتهم، ولا يكون واحدًا من إخوته. وعلى هذا خرَّج ابنُ طاهر: يا خيرَ إخوانِه، أي: يا خيرَ جماعةِ إخوانِه. وقال جماعة: خيرٌ وشَرُّ قد يكونان صفتين لا يراد بهما تفضيل ولا اشتراك، فيخرجان من هذا الباب، بخلاف أَخْيَرَ وأَشَرَّ، وعليه الآية. /وتقول: هندٌ خَيْرةُ النساءِ وشَرَّتُهنَّ، قال تعالى {فيهن خيرات حسان} جمع خَيْرة. وقال أبو العباس في البيت: «ليس بحجة لأنه لغير عربي ولمن لا يُحتَجُّ به؛ لأنه لأبي عبدالرحمن المعني» انتهى. وقد جاء مثل هذا من شعر العرب، قال زِيادة الحارثي:

لَمْ أَرَ قَومًا مِثلَنا خَيرَ قَومِهِمْ ... أَقَلَّ ... بهِ ... مِنَّا ... على ... قَومِنا ... فَخْرا وأمَّا القسم الثاني ـــ وهو أن يُؤَوَّل بما لا تفضيل فيه البتة ويصير كاسم الفاعل أو الصفة المشبهة ــــ فهذا شيء ذهب إليه المتأخرون، واستدلُّوا على صحة ذلك بقولِه تعالى {هو أعلم بكم إذ أنشأكم من الارض}، وقوله تعالى {وهو أهون عليه} وقولِ الشاعر: إنَّ الذي سَمَكَ السماءَ بَنَى لنا ... بَيتًا، دَعائمُهُ أَعَزُّ وأَطْوَلُ وقولِ الآخر: وإنْ مُدَّتِ ... الأَيدي إلى الزادِ لم أَكُنْ ... بأَعْجَلِهِمْ؛ إذْ أَجْشَعُ القَومِ أعْجَلُ قالوا: التقدير: هو عالمٌ بكم؛ إذ لا مشارك لله في علمه بذلك، وهو هَيِّن عليه؛ إذ لا تَفاوُتَ في نسب المقدورات إلى قدرته، ودعائمُه طويلةٌ عزيزة، ولم أكن عَجِلاً، ولم يُرِدْ: لم أكنْ أَكثَرَهم عَجَلةً؛ لأنَّ قَصْد ذلك يستلزم ثبوت العجلة غير الفائقة، وليس غرضه إلا المدح بنفيِ العجلة قليلها وكثيرها. وأنشدوا أيضًا: لئنْ كُنتَ قد بُلِّغْتَ عنى رِسالةً ... لَمُبْلغُكَ الواشي أَغَشُّ وأَكْذَبُ أي: غاشُّ كاذبٌ، ولا يريد: أَغَشُّ مِنِّي. وقال حسان: أتَهجُوهُ وليستَ لَهُ بِكُفْءٍ ... فَشَرُّكُما لِخَيرِ كُما الفداءُ

أي: فخَبيثُكما لطَيِّبكما. وقال آخر: قُبحْتُمُ يا آلَ زيدٍ نَفَرَا ... أَلأَمَ قَومٍ أَصْغَرًا وأَكْبَرَا أي: صغيرًا وكبيرًا. وقريب منه قوله: ................................... ... وَرِثْنا الغِنَى والْمَجْدَ أَكْبَرَ أَكْبَرَا وقال الشافعي ـــــ - رضي الله عنه - ــــــ: تَمَنَّى رِجالٌ أَموتَ، وإنْ أَمُتْ ... فتِلكَ سَبيلُ، لَستُ فيها بِأَوْحَدِ وقال آخر: ......................... ... قَسَمًا ... إليكَ مَعَ ... الصُّدودِ ... لأَمْيَلُ أي: مائل. وقال تعالى {هولاء بنلتى هن أطهر لكم} أي: طاهراتُ، وقال {لا يصلها إلا الأشقى} أي: الشقيّ. فأَفْعَلُ هذا إذا أُضيف إلى معرفة طابقَ ما قبله في الإفراد والتثنية والجمع والتذكير والتأنيث كما يُطابق اسمُ الفاعل والصفةُ المشبَّهة؛ ولا يلزم أن يكون بعضَ المعرفة التي أضيف إليها. وهذا الحكم الذي ذكروه من المطابقة وكون /ما يضاف إليه لا يكون هو بعضها تفريع على ثبوت ذلك فيه حالة التنكير؛ وهو شيء

ذهب إليه أبو عبيدة، قال: «يكون أَفْعَلُ بمعنى فَعيل وفاعِل غير موجب تفضيل شيء على شيء». واستدلَّ بقولِه تعالى {وهو أهون عليه}، وبقولِ الأحوص: إنِّي لأَمْنَحُكَ الصُّدُودَ، وإنَّني ... قَسَمًا إليكَ مَعَ الصُّدُودِ لأَمْيَلُ وزَرَى النحويون على أبي عبيدة هذا القول، ولم يسلِّموا له هذا الاختيار، وقالوا: لا يخلو أَفْعَلُ من التفضيل. وعارضوا حججه بالإبطال، وتأوَّلوا ما استدلَّ به. ذَكر هذا عن أبي عبيدة والنحويين أبو بكر بن الأنباريّ. فأمَّا ما استدلُّوا به على كون أفْعَلَ يكون بمعنى فاعِل أو بمعنى الصفة المشبهة فهو محتمل فيه التفضيل. وقوله وإن قُيَّدَتْ إضافُته بتضمين «مِنْ» جاز أن يُطابق وأن يُستَعمَل استعمالَ العاري قال المصنف في الشرح: «إن أُضيفَ مَنويَّا بعده مِنْ فإنَّ له شبهًا بالعاري الذي حُذفت بعده مِنْ وأُريدَ معناها، فجاز استعماله مطابقًا لِما هو له بمقتضى شبهه بذي الألف واللام، وجاز استعماله غير مطابق بمقتضى شبهه بالعاري، ولا يكون حينئذ إلا بعض ما يضاف إليه، فيقال على الإخلاء مِن معنى مِنْ: يوسفُ أَحسَنُ إخوته» انتهى. وكونُ إضافته بتضمين «مِنْ» مبنيٌّ على أنَّ إضافته غي محضة، وأنه يُنوي بها الانفصال، وأنَّ أَفْعَلَ أحد ما يضاف إليه ــــ هو مذهب ابن السراج والفارسيّ

وسيأتي تقرير ذلك والحجة لهذا المذهب وعلته في باب الإضافة إن شاء الله. وإلى أنَّ الإضافة على معنى «مِن» ذهب الكوفيون. وقوله ولا يَتَعَيَّنُ الثاني، خلافًا لابن السرَّاج أي: يُستعمل استعمال العاري، فيبقى مفردًا مذكرًا، ولا يطابق ما قبله. ورُدَّ على ابن السراج بالسماع والقياس، قال تعالى: {ولتجدنهم أحرص الناس على حيوة ومن الذين أشركوا}، وقال تعالى: {وكذلك جعلنا في كل قريه أكبر مجرميها}، فأفرد (أَحْرَصَ)، وجمع (أكابِر)، وفي الحديث (ألا أُخبرُكم بأَحِّبكُم إلي وأَقرَبكُم مِنَّي مَجالسَ يومَ القيامة؟ أَحاسنُكُم أخلاقًا، المُوَطَّؤون أكنافًا، الذين يألَفون ويُؤلَفون)، فأَفردَ «بأَحَبِّكم» و «أَقرَبكم»، وجمع «أَحاسنكم». وأمَّا القياس فشَبَهُه بذي الألف واللام أقوى من شَبَهِه بالعاري من حيثُ اشتراكُهما في أنَّ كلاَّ منهما معرفة؛ فإجراؤه مُجراه في المطابقة أَولى من إجرائه في الإفراد والتذكير مُجرى العاري؛ فإذا لم يُعطَ الاختصاص بجريانه مَجراه فلا أقَلَّ مِن أن يُشارك، وإلا لَزِمَ ترجيح أضعف الشَّبَهين أو ترجيح أحد المتساويين دون مرجِّح. وزعم أبو منصور الجواليقي أنَّ الأفصح من الوجهين المطابقة، فردَّ على ثعلب /في قوله: «فاخترنا أَفْصَحَهُنَّ». وقال: «كان الأولى أن يقول: فاخترنا فُصحاهُنَّ؛ لأنه الأَفصح، كما شَرَطَ في الكتاب».

وقال ابن الأنباري: «الإفراد والتذكير أَفصَح». قال: «أغنَى تثنيةُ ما أُضيف إليه وجمعُه وتأنيثُه عن تثنية أَفْعَلَ وجمعِه وتأنيثه». وقال: «هذا المحكيّ عن العرب». ثم قال: «وقد بُني أَفْعَلُ على فاعِل، فُيعطى حكم اللفظ، فُيثَنَّى ويُجمَع ويؤنَّث، فيقال: أَخَواكم أفضَلاكم، وإخوتُكم أفضَلُوكم وأَفاضِلُكم، وهندٌ فُضْلَى قومِها، والهندان فُضْلَيا قومِهما، والهنداتُ فُضْلَياتُ قومِهنَّ، وفُضَلُ قومِهنَّ». وفي «البديع»: «الثالث ــــ يعني من تقسيم أَفْعَلَ التي للتفضيل ـــ أن يكون مضافًا، نحو: زيدُ أفضلُ القومِ، ولا يخلو أن تُضمنه معنى مِن أو لا تُضمنه، فإن تضمنه فلا تُثَنيه ولا تجمعه ولا تؤنثه حملاً على ظهوره، وهذا هو الأكثر الأشهر، ومنه قوله تعالى {ولتجدنهم أحرص الناس على حيوة} و {وأكثرهم الفسقون} و {أكثرهم لا يومنون} وكقول الشاعر: وَمَيَّةُ أَحسَنُ الثَّقَلينِ جِيدًا ... .................................. وكقوله: أَلَسْتُمْ خَيرَ مَنْ رَكِبَ الَمطايا ... .......................................... وكقوله: ............................. ... وهُنَّ ضْعَفُ خَلْقِ للهِ أَرْكانا وإن لم تُضمنه معنى مِن، وقَصدتَ بهذه الإضافة أنه المعروف بالفضل، كأنك قلت: زيدٌ فاضلُ القومِ ــــ فليس داخلاً فيهم، ولا يجب أن يكون مفضَّلاً ولا أنهم

شاركوه في الفضل، بل يكون قد فُضَّل على غيرهم، وعُرف بذلك، فقيل: هو الأفضل، كما تقول: هو الفاضل، ثم نَزعتَ الألف واللام وأَضَفتَه، ويكون معرفة بخلاف الثاني، فلا يجوز أن يجوز أن تصف به النكرة، وحينئذ تُثنِّيه وتجمعه وتؤنِّثه، بخلاف الذي ضُمِّنَ معنى مِن، فإضافته قد جعلته واحدًا من القوم ومشاركًا لهم في الفضل، وفضلته عليهم بالزيادة فيما اشتركوا فيه، وتصف به النكرة. وفعْلَى أَفْعَلَ ليست مطردة، ولا تقول منه إلا ما قالوا. وبعضهم يجعله مُطَّردًا. والأول أكثر. ومن هذا النوع قوله تعالى {أكبر مجرميها} و {إلا الذين هم أراذلنا}. فإذا قلت: هندٌ أكبرُ بناتك، إن كان على معنى مِنْ لا تكون هند من بناته، كأنك قلت: هندٌ أكبرُ من بناتك. وإن جعلته على معنى غير مِنْ لم يجز أن تقول أَكْبَر، وإنما تقول كُبرى بناتك، أي: إنه الكبيرة منهم» انتهى، وفيه بعض تلخيص. وقوله ولا يكون حينَئذٍ إلا بعضَ ما أُضيف إليه، وشَذَّ «أَظْلَمي وأَظْلَمُه» أي: حين تنوي معه مِنْ، وذلك على اختياره أنها على معنى مِنْ، والصحيح أنها ليست على معنى مِنْ على ما يُبَيَّن في باب الإضافة. وقال ابن عصفور: الصحيح عندي أنها ليست أحدَ ما تضاف إليه. فإن قلت: يدلُّ على ذلك امتناعُ: زيدٌ أفضلُ الحجارة، وجوازُ: الياقوتُ أفضلُ الحجارة. فالجواب: أنَّ العرب لا تضيفها إلا لِما يصلح أن تكون بعضًا له في غير المفاضلة، فلذلك جاء: زيدٌ أفضلُ القومِ، وامتنع زيدٌ أفضلُ الحجارةِ، ولهذا لا يجوز:

/زيدٌ أفضلُ الرجلين، ولا: زيدٌ أفضلُ الثلاثةِ، وأنت تريد التفضيل؛ لأنه أحد الرجلين وأحد الثلاثة، وإذا كان أحدَ ما يضاف إليه لزِم من ذلك أن تُفضله على نفسه. وإلى امتناع ذلك ذهب المبرد بدليل ما حكاه النحاس في «صنعة الكُتَّاب» له أنه منع أن يقال: «هذا الكاتبُ أفضلُ الثلاثةِ»، قال: «لأنه لا يُفَضَّل على نفسه». وقد ذكرنا الخلاف بين البصريين والكوفيين في جواز: يوسفُ أحسنُ إخوتِه. وقولُهم: يوسفُ أحسنُ إخوانِه، ونُصيبٌ أَشعَرُ أهلِ جلدته، وعليُّ أفضلُ أهلِ بيِته، على ما قرروه ـــ لا يجوز لأنه ليس بعضًا مما أضيف إليه. وتأوَّله على أنَّ أحْسَنَ بمعنى حَسَن، وأشْعَرَ بمعنى شاعر، وأَفْضَلَ بمعنى فاضل. وأمَّا قول الراجز: يا رَبَّ مُوسَى، أَظْلَمِني وأَظْلَمُهْ ... سَلِّطْ عليهِ مَلَكًا لا َرْحَمُهْ فهو شاذُّ مِن حيث أضاف إلى ياء المتكلم وضمير الغائب، وكان قياسه أن يقول: أظْلَمُنا. وقوله واستعمالُه عاريًا دون مِنْ مُجردًا مِن معنى التفضيل قد تقدَّم الكلام على ذلك وانه شيء ذهب إليه المتأخرون. وقوله مؤوَّلاً باسمِ فاعل مثاله {هو أعلم بكم إذا أنشأكم من الأرض} أي: عالمٌ بكم.

وقوله أو صفةٍ مشبهةٍ مثاله {وهو أهون عليه} أي: هَيِّن عليه؛ إذ لا تفاوت في نسب المعلومات والمقدورات إليه تعالى. وقوله والأصحُّ قصرُه على السماع إنما كان ذلك عنده لقلَّة ما ورد من ذلك، فلم يجعله قياسًا مطردًا. وقوله ولزومُ الإفراد والتذكير إلى آخره مثالُ إفراده وتذكيره قولُه تعالى {أصحب الجنة يوميذ خبر مسقرًا وأحسن مقيلا} وقوله تعالى {نحن أعلم بما يستمعون} و {نحن أعلم بما يقولون}. ومثالُ المطابقة قولُ الشاعر: إذا غابَ عنكمْ أسْوَدُ العينِ كُنتُمُ ... كِرامًا، وأَنتمْ ما أَقامَ ألائمُ أي: وأنتم ما أقامَ لئامٌ، فأَلائم جمع أَلأَم بمعنى لَئيم. قال المصنف في الشرح: «فلذلك جمعه، إلا أنَّ تركَ جمعه أجود؛ لأنَّ اللفظ المسقرَّ له حُكم إذا قُصد به غير معناه على سبيل النيابة لا يُغَيَّر حكمُه، ولذا لم يُغيَّر حُكم الاستفهام في مثل: عَلِمتُ أيُّ القوم صديقُك، ولا حكمُ النفي في قوله: ألا طِعانَ ولا فُرسانَ عادِيةً ... .........................................

وإذا صحَّ جمع أَفْعَلَ العاري لتجرده من معنى التفضيل إذا جَرى على جمعٍ جاز أن يؤنَّث إذا جَرى على مؤنث. ويجوز أن يكون من هذا قول حُنَيف الحَناتم في صفات الإبل: سرعى وبُهْيَا وغُزْرَى. وكان الأجود أن يقال: أَسْرَع وأَسْرَع وأَبْهَى وأَغْزَر، إلا أنه لَمَّا لم يَقصد التفضيل جاء بفُعْلَى في موضع فَعيلة، كما جاء قائل ذلك البيت بألائم في موضع لئِام. /وعلى هذا يكون قول ابن هانئ: كأنَّ صُغْرى وكُبْرَى ................... ... .............................. صحيحًا؛ لأنه لم يؤنث أصغَرَ وأكْبَرَ المقصود بهما التفضيل، وإنما أنث أَصْغَرَ بمعنى صَغير وأَكْبَرَ بمعنى كَبير». -[ص: ونحو: هو أفضلُ رجلٍ، وهي أفضلُ امرأةٍ، وهما أفضلُ رجلين أو امرأتين، وهم أفضلُ رجال، وهنَّ أفضلُ نسوةٍ ـــ معناه ثبوتُ المزيَّة للأوَّل على المتفاضلين واحدًا، أو اثنين اثنين، أو جماعةً جماعةً. وإن كان المضاف إليه مشتقَّا جاز إفرادُه مع كون الأول غيرَ مفرد.]- ش: إذا أُضيف في التفضيل أَفْعَلُ إلى نكرة بقي أَفْعَلُ مفردًا مذكرًا كحاله إذا كان بِمِنْ، وكان معنى قولك هو أفضلُ رجلٍ: أفضل مِن كلَّ رجلٍ قيسَ فضلُه بفضله، وفي التثنية: أفضل مِن كلَّ رجلين قيسَ فضلُهما بفضلهما، وفي الجمع: أفضل مِن كلَّ رجالِ قيسَ فضلُهم بفضلهم، فحُذف «مِنْ» و «كلّ»، وأُضيف أَفْعَلُ

إلى ما كان «كلُّ» مضافا إليه. والكلام في المؤنث كهو في المذكر. ولزم إفرادُه وتذكيره لشبهه بالعاري في التنكير وجواز ظهور مِنْ بعدها جارَّةً لـ «كُلّ». ولا يجوز أن تكون النكرة المضاف إليها أَفْعَلُ إلا من جنس ما أُسند إليه أَفْعَلُ، فلا يقال: زيدٌ أفضلُ امرأةٍ. والمجرور بالإضافة مطابق لِما قبلَ أَفْعَلَ في الإفراد والتثنية والجمع والتذكير والتأنيث. وزعم الفراء أنه يجوز أن تؤنَّث أفْعَلُ وتثنَّى إذا أُضيفت إلى نكرة مُدناة من المعرفة بصلة وإيضاح، فتقول: هندٌ فُضْلَى امرأةٍ تقصدنا، ودعدٌ خُورَى امرأةٍ تُلِمُّ بنا، والهندانِ فُضْلَيا امرأتينِ تَزورانِنا. وأجاز الفراء أيضًا تأنيث المضاف إلى نكرة وتثنية المضاف إليه مع كون كلمه التفضيل خبرًا عن مفرد، فأجاز: هندٌ فُضلَى امرأتين تَزورانِنا، قال: شبَّهوا جاريتُك فُضلَى جاريتين مَلَكُتهما بـ «صاحبُك أكرمُ صاحبَينا» لإدناء الصلة الموصول من المعرفة. ويعنون بالصلة هنا الفعل الواقع صفة، وبالموصول هنا النكرة؛ إذ مِن مذهبهم أنَّ النكرة توصل بالفعل. وقال أبو بكر بن الأنباري: إذا أُضيف أَفَعَلُ التفضيل إلى نكرة توافق معناه كان كلَّها، فقيل: أبوك أفضلُ عالمٍ، وأخوك أكملُ فارسٍ، وتقديره: أبوك العالمُ الأفضل، وأخوك الفارسُ الأكملُ، فأُضيف أَفْعَلُ إلى ما هوَ في المعنى كما فُعل ذلك في: حبة الخضراءِ، وليلة القَمراء، ومسجد الجامع، وباب الحديدِ. ولهذا قال هشام والفراء: إذا أُضيف أَفْعَلُ إلى نكرة فهو جميع النكرة، إلا أنه يحتمل في الإضافة إلى النكرة طريقًا آخر يخالف المعنى الذي فسَّرناه، وهو أنه إذا أُضيف إلى نكرة تخالف معناه كانت النكرة حُكمها حُكمُ المميِّز والمفسَّر، تحتمل من النصب والخفض ما يحتمله المميِّز والمفسِّر، فتقول: أخوك أَوسَعُ دارٍ، ودارًا، وأخوك أبسَطُ جاهٍ، وجاهًا. مَن خَفض عمل على إضافة أَفْعَلَ إلى المفسَّر، وإنَّ حكمه الخفض كما يُرى مخفوضًا في: ثلاثةِ / أثوابٍ، ومئةِ دينارٍ، وعشرين دينارًا،

أصله: عشرو دينارٍ، وانتصب الدينار ادخول النون. ومَن نَصب فقال أبوك أَوسَعُ دارًا لزم الدارَ النصبُ حين سدَّت مسدَّ المضاف إليه، ولو ظهرتْ مِن لم يكن في الدار إلا النصب؛ لأنه لا يضاف حرف إلى حرفين مفردين متباينين. والفرق بين هذا والذي قبله أنَّ المنكور بعد أَفْعَلَ في ذا الباب لا يثنَّى كما لا يثنَّى المفسَّر، وهو في الباب الأول لا يمتنع من التثنية، فمن قال أبوك أَوسَعُ دارًا لا يجوز له أن يقول: أبوك أَوسَعُ دارَين، وأخوك أكبَرُ دارَين، والباب الأول يثنَّى فيه ما بعد أَفعَلَ، فيقال: أَخواك أَكمَلُ فارسَينِ، وعَمَّاك أنبَلُ عالمَينِ. واتفق النحويون على إبطال الخفض في «أنت أَكرَمُ أبًا من غيرك» للعلة التي ذكرت، فإن لم تذكر «مِنْ» كان الكلام على قسمين: إن نويت «مِن» نصبت الأب، وإن لم تنو خُفض، فكلام العرب: أنت أَكرَمُ أَب، وأبًا، والله أصدَقُ قيلٍ وقيلاً. فإنْ قيلَ «أحْسَنُ قيلاً مِنَ المخلوق» كان محالاً خفضُ القِيل مع ظهور مِن. والمنكور الذي يضاف أفعَلُ فيه الذي يوافق معنَى أَفْعَلَ ولا يكون جنسًا إذا أُريدَ نصبه كان حالاً للفاعل، فقيل: أبوك أَكمَلُ فارسًا، وأخوك أَكرَمُ إنسانًا، فتنصب فارسًا على الحال، ولا يُنصب إنسان هنا إلا على الحال؛ لأنه وصف الأخ، وما لنصب التفسير هنا وجه؛ إذ كان نعت المحدَّث عنه والتثنية مستعملة فيه، وما يثَّنى المفسر، وما ينبغي أن يغلط في قول العرب «هو أنظفُ ثوبين» غالط؛ لأنَّ ثوبين هنا بمنْزلة ثوب؛ إذ كان أهل الحزم لا يُعرَف لهم إلا لبس ثوبين، فجرى ذلك مجرى: هو أحسنُ نَعلَين، وأنظفُ خُفَّينِ؛ لأنَّ الخُفَّينِ في ذا المعنى كالار المفردة مما لا يُحَدُّ، هو مفسُّر، وما يثَّنى ويُحَدُّ فهو حال، وفي قول العرب كم مِن درهمٍ عندك وامتناعهم من أن يقولوا كم مِن دراهم عندك دلالةٌ على استحقاق المفسَّر التوحيد وما يُشَكُّ في أنَّ الذي تدخل عليه مِن في هذا المكان تمييز. انتهى ما لُخِّصَ من كلام ابن الأنباريّ

وما ذكر من جواز الجر والنصب في النكرة بعد أفعَلَ إذا كانت تخالف ما قبل أفْعَلَ في نحو: أخوك أوسَعُ دارٍ، ودارًا، وأخوك أبسَطُ جاهٍ، وجاهًا، والله أصدَقُ قيل، وقيلا، وذلك إذا لم تُذكَر مِنْ، فإن ذُكِرتْ مِنْ فالنصب لا غير ـــ شيء لا نعرفه، ولا يُنقل فيه عن شيوخنا إلا النصب، فلا يجوز في زيدٌ أحسنُ وجهًا ولا أوسعُ دارًا إلا النصب، ولا يجوز في ذلك الجر. وإن كان الاسم يحتمل وجهين، نحو: زيدٌ أشرفُ أبٍ ـــــ فيجرّ إن كان زيد هوالأب، وينُصب أن كان المقصود ذكر شرف أبيه؛ لأنَّ أباه ليس إياه. فروع: للكوفيين ... / ............................ وقوله وإن كان المضافُ إليه مشتقَّا إلى آخره قال المصنف في الشرح: «ولابُدَّ مِن كون المضاف إليه ـــ أي: إلى أَفْعَلَ ــــ مطابقًا لِما قبلَ المضاف ما لم يكن المضاف إليه مشتقَّا، فيجوز إفراده مع جمعية ما قبل المضاف، ومنه قول تعالى {ولا تكونوا أول كافر / به}، وقد تضمَّن المطابقةَ والإفراد ما أنشد الفراء من قول الشاعر: فإذا هُمُ طَعِمُوا ... فَأَلأَمُ ... طاعِمٍ ... وإذا ... هُمُ ... جاعُوا ... فَشَرُّ ... جِياعِ

وإنما جاز الوجهان مع المشتقَّ لأنه وأَفْعَلَ مقدَّران بِمَنْ والفعل، ومَن المعنيُّ بها جمع يجوز في ضميرها الإفراد باعتبار اللفظ والجمع باعتبار المعنى» انتهى. ويدلَّ قوله مع كون الأول غير مفرد وتعليلُه جواز ذلك أنه يجوز الإفراد والمطابقة إذا كان قبل أَفْعَلَ تثنية، فتقول: الزيدان أَفضَلُ مؤمنٍ، وأفضلُ مؤمنَين. وقد تُؤُوَّلَ قوله {أول كافر} علي حذف موصوف هو جمع في المعنى: أوَّلَ فريقٍ كافرٍ. فأمَّا قوله تعالى {ثم رددنه أسفل سفلين} فأتى جمعًا، والذي قبله مفرد ـــ فالذي سوَّغ ذلك كون ذلك المفرد أُريدَ به الجنس، فليس مفردًا بالشخص، وهو قوله {لقد خلقنا الإنسن}. والدليل على أنَّ المراد به الجنس كونه استُثني منه، فقيل {إلا الذين امنوا وعملوا الصلحت}. وحسن الجمع هنا على الإفراد لأنه فاصلة، فناسب {أسفل سفلين} قوله قبل {والتين والزيتون وطور سنين} وبعده {فلهم أجر غير ممنون} إلى آخر السورة. وفي قوله {ولا تكونوا أول كاف به} ليس فاصلة، فاختير فيه الإفراد لأنه أخفَّ، ويُغني عن الجمع. وقال بعض أصحابنا: علَّةُ لزوم التنكير أنَّ أَفْعَلَ بعضُ ما يضاف إليه، فلا بُدَّ أن يكون المضاف إليه أفْعَلُ جمعًا؛ لأنَّ الواحد لا يكون بعضًا لواحد، فلما لزم أن يكون جمعًا، وعلم ذلك من جهة أفْعَلَ ــــ اختُصر، فصُيَّرَ المفرد في موضعه لعدم

اللبس، ولم يمكن أن يكون فيه أل لأنه مفرد في معنى جمع، والمفرد إذا كان في موضع جمعًا لا بُدَّ أن يكون نكرة، فإن أتيت بالجمع فلا بُدَّ من أل؛ لأنهم إن آثروا الرجوع إلى الأصل من الجمع لم يكونوا ليرجعوا في بعض ولا يرجعوا في آخر؛ فلا يجوز: أفضلُ رجالٍ. وإنما لم يجز لأنه لا فائدة فيه؛ ألا ترى أنَّ كل شخص لا بُدَّ أن تكون له جماعة مجهولة يفضلها، وهذا غير مستنكَر، وإنما الفائدة في أن تقول: أفضلُ الرجالِ، تريد الجنس أو جماعةً بأعيانهم. فأمَّا قوله {ثم رددنه أسفل سفلين} فيتخرج على أن يكون ما أُضيفت إليه أَفْعَلُ محذوفًا، وقامت صفته مقامه، أي: أَسفَلَ قومٍ سافلين، ولا خلاف في أنه يضاف إلى اسم الجمع، فتقول: أفضلُ القوم، وأفضلُ الناس، ويجوز: أفضلُ قوم، وأفضلُ ناسٍ، تريد: أفضلُ القومِ، وأفضلُ الناس. وجاز تنكير هذا ولم يَجز في الجمع لأنَّ القوم ليس من ألفاظ الجموع، وإنما هو من الألفاظ المفردة، فلهم أن يخففوه بترك أل. -[ص: وأُلحق بـ «أَسْبَقَ» مطلقًا «أَوَّلُ» صفةً، وإن نُيتْ إضافتُه بُني على الضمَّ، ورُبَّما أُعطي مع نِيَّتها ما له مع وجودها، وإن جُرِّدَ عن الوصفيَّة جَرى مَجرى أَفْكَل. وأُلحق «آخَرُ» بـ «أَوَّلَ» غير المجرَّد فيما له مع الإفراد /والتذكير وفروعهما من الأوزان، إلا أنَّ «آخَرَ» يُطابق في التعريف والتنكير ما هو له، ولا تليه «مِنْ» وتاليها، ولا يضاف، بخلاف «أَوَّلَ». وقد تُنَكَرُ «الدُّنيا» و «الجُلّى» لِشَبَهِهِما بالجوامد، وأمَّا «حُسنْى» و «سُءَى» فمصدران.]- ش: «أوَّلُ» صفة أَفْعَلُ تفضيل، فيُفرد إذا أُضيف إلى نكرة أو استُعمل بِمِنْ، فتقول: هذا أَوَّلُ رجلٍ وردَ إلينا، قال تعالى {إن أول بيت وضع للناس}، وتقول:

ما رأيتُه مُذْ أَوَّلَ مِن أمسِ. ويضاف إلى معرفة، كقوله {وأنا أول المومنين}. وتقول: الأَوَّلانِ والأوَّلون والأَوائل، والأُولى والأُولَيانِ والأُوَل. ويَثبت له جميع أحكام ما ثبت لأَفْعَلِ التفضيل، وإنما هو فرع من أصل أَفْعَلِ التفضيل، وإنما أُفرِد بالذكر لأنه قد يُجَرَّد عن الوصفيَّة، فيصير له حكم آخر. وقوله وإن نُويتْ إضافُته بني على الضم قال س: «وتقول ابدا بهذا أَوَّلُ»، يعني فيضمّ، والمعنى: أوَّلَ الأشياء، فُنويت الإضافة، وقُطع عنها، وبُني على الضم كما بُني {من قبل ومن بعد}، ولا يجوز ذلك في غيره من أَفْعَلِ التفضيل، لا يجوز: ابدا بهذا أَسْبَقُ، تريد: أَسْبَقَ الأشياء. وحكى الفارسي: ابدا بهذا مِ أَوَّلُ، بالضم ـــ وتقدَّم توجيهه ـــ وبالفتح، مُنع الصرف للوصف والوزن، وبالجر من غير تنوين على تقدير الإضافة إلى مقدَّرِ الثبوت، كما قال الراجز: خالَطَ مِنْ سَلْمَى خَياشِيمَ وَفَا حَذف المضاف إليه، وقَدَّر ثبوته، وترك المضاف على حاله. وقوله وإنْ جُرِّدَ عن الوصفيَّة جَرى مجرى أَفْكَلٍ يعني أنه اسم لا صفة، فيكون مصروفًا إذ ليس فيه إلا علَّة واحدة، وهي وزن الفعل، فهو كأَفْكَلٍ، وهي الرِّعْدة، فهو مصروف نحو: ما له أولٌ ولا آخِرٌ. وفي محفوظي أنَّ مؤنث هذا أوَّله. إلا أن سُمَّي به فيمتنع الصرف، كما لو سَمَّيتَ بأَفْكَل، وصار فيه علتان: وزن الفعل، والعلمية، وقال الشاعر:

أُوَمِّلُ أنْ أَعيشَ، وأنَّ يَومِي ... بأَوَّلَ، أو بِأَهظءوَنَ، أو جُبَار فـ «أوَّلَ» هنا علم ليوم الأحد ممنوع الصرف، قال معناه المصنف، ولا يلزم من كون أَوَّلَ علمًا ليوم الأحد أن يكون منقولاً من أَوَّلَ الذي هو وصف ممنوع الصرف. وفي البسيط: وتقول: لقيتُه أَوَّلَ مِن أمس، فهو على معنى: لقيتُه يومًا أَوَّلَ من أمسِ، فحذف. وأَوَّلُ يكون صفة بمعنى أَفْعَلَ، ويكون اسمًا، كقولك: ما تركَ له أَوَّلاً ولا آخرًا، وظرفًا، نحو: مُذْ عامٌ أَوَّلَ، كأنك قلت: عامًا قبلَ عامنا، فتقول العرب على ما قاله اللحياني: مضى عامُ الأَوَّلِ بما فيه، والعامُ الأَوَّلُ، وعامُ أَوَّلٍ، وعامُ أَوَّلَ بما فيه، وعامٌ أَوَّلٌ، وعامٌ أَوَّلُ، فتضيف العام إلى أَوَّل، فتصرف ولا تصرف، وترفعه على النعت، فتصرف ولا تصرف؛ لأنَّ أول يكون معرفة /ونكرة. ويكون ظرفًا واسمًا، فتقول: ابدا بهذا أَوَّلُ، فتبنيه على الضم، والحمدُلله أَوَّلاً وآخِرًا، يُعرب وُصرف نكرة، وفعلتُ ذلك عامًا أَوَّلَ، وعامَ أَوَّلٍ وأَوَّلَ وقوله وأُلْحِقَ آخَرُ بأَوَّلَ غيرِ المجرَّد يعني من الوصف، بل أُلحق بِأَوَّل الوصف. ومعنى فيما له مع الإفلااد والتذكير وفروعهما من الأوزان فتقول: الآخَر والآخران والآخرون والأواخِر، والأُخرَى والأُخْرَيان والأُخْرَيات والأُخَر. وقوله إلا أنَّ آخَرَ يُطابق في التعريف والتنكير ما هو له يعني أنه إن كان جاريًا على نكرة كان نكرة، أو على معرفة كان معرفة، نحو: مررتُ بزيدٍ ورجلٍ آخَرَ، ورجلَين آخَرَين، ورجالٍ آخَرِين. وكذلك في التأنيث.

وكان مقتضى جعله من باب أَفْعَلِ التفضيل أن يلازمه في التنكير لفظ الإفراد والتذكير، وألاَّ يؤنث ولا يثنَّى ولا يُجمَع إلا معرَّفًا كما كان أَفْعَلُ التفضيل، فمُنع هذا المقتضى، وكان بذلك معولاً عما هو به أَولى، فلذلك مُنع آخَرُ من الصرف، وأجري مُجرى ثُلاثَ وأخواته. وقوله ولا تليه مِنْ وتاليها وإنما لم تلها مِنْ وتاليها لأنه لا دلالة فيه على تفضيل بنفسه ولا بتأويل كما صلح في أَوَّلَ أَسْبَقُ، وفي أَلَصَّ أَسْرَقُ، وفي أَقْيَرَ أَمَرُّ. وقوله ولا يضاف بخلاف أَوَّلَ تقول: أَوَّلُ الفُرسانِ، وأَوَّلُ أصحابِك، ولا يجوز ذلك في آخَرُ رجلٍ، ولا آخَرُ الرجالِ، ولا آخَرُ أصحابِك. وقوله وقد تُنَكَّرُ الدُّنيا والُجلَّى لشَبَههما بالجوامد الدُّنيا والجُلَّى مؤنَّثا الأَدنَى والأَجَلّ، فحقهما ألا يُنَكَّرا إلا إذا ذُكَّرا، لكنهما كُثر استعمالهما استعمال الأسماء المحضة، فلذلك جاز تنكيرهما، كقولِ الراجز: في سَعْيِ دُنيا طالما قد مُدَّتِ وقولِ الآخر: وإنْ دَعَوتِ ... إلى ... جُلَّى ... ومَكْرُمةٍ ... يومًا سَراةَ ... كِرامِ ... الناسِ فادْعِينا وقولُه ... وأمَّا حُسْنَى ... وسُوءَى فمصدران قرئ في الشاذّ {وقولوا للناس حُسْنَى}، وهو مصدر على فُعْلى كالرُّجْعى، والحُسْنُ والحُسْنَى، والعُذْرُ والعُذْرَى، والسُّوءُ والسُّوءَى ــــ من المصادر التي جاءت على فُعْلٍ وفُعْلَى بمعنًى واحد.

-[ص: فصل لا يَرفَعُ أَفْعَلُ التفضيل في الأعرَفِ ظاهرًا إلا قبلَ مَفضولٍ هُوَ مذكورٍ أو مقدَّرٍ، وبعدَ ضميرٍ مذكورٍ أومقدَّرٍ مفسَّرٍ بعدَ نَفي أو شبهِه يُصاحب أَفْعَل. ولا ينصبُ مفعولا به، وقد يدلُّ على ناصبه، وإن أُوَّلَ بما لا تفضيلَ فيه جازَ على رأيٍ أن ينصِبَه، وتتعلَّقُ به حروفُ الجرَّ على نحوِ تعلُّقِها بأَفْعَلَ المتعجَّبِ به.]- ش: لأَفْعَل التفضيلِ شَبَهٌ بأَفْعَلَ في التعجب، فلذلك قَصُر عن الصفة المشبهة في الفظ بالتزام لفظ واحد حالة تنكيره، /وفي العمل بكونه لا يعمل رفعًا في اسم ظاهر. واحترز بقوله في الأعرف مِن لغةٍ ضعيفةٍ يَرفع فيها الظاهرَ، فتقول: مررتُ برجلٍ أَفضَلَ منه أبوه، أي: زائد عليه في الفضل أبوه، حكاها س وغيره. وقوله إلا قبلَ مفضولٍ هُو هو مذكورٍ يعني أنه يرفع الظاهر بهذه الشروط التي ذكرها، وذلك عند جميع العرب، والمثال في ذلك: ما رأيتُ رجلاً أَحسَنَ في عينه الكُحلُ منه عينِ زيدٍ، فالكحلُ فاعلٌ بأحسنَ، والمفضول هو الكحل، وهو مذكور بقوله «منه»، وهو الزائد في الفضل، فهو هو، ولكنه اختلف محلُّه. وقال الشاعر: ما ... عَلِمتُ امرأً أَحَبَّ إليه الْـ ... ــــــــــــــبَذْلُ منهُ إليكَ يا بْنَ ... سِنانِ وقال الآخر:

لا قَولَ أَبعَدَ عنه نَفعٌ منه عن ... نَهْي ... الخَلِيَّ ... عن الغَرامِ مُتَيَّمَا أو مُقَدَّرٍ مثاله: ما رأيتُ كزيدٍ رجلاً أَبغَضَ إليه الشرُّ، التقدير: ما رأيتُ رجلاً أَبعَضَ إليه الشرُّ منه إليه كزيدٍ، فحذف المفضول، وهو: منه، وحذف «إليه»، للعلم بهما. وقال الشاعر: مَرَرتُ على وادي السِّباعِ، ولا أَرَى ... كَوادي السِّباعِ حينَ يُظْلِمُ وادِيا أَقَلَّ ... بهِ ... رَكْبٌ ... أَتَوْهُ ... تَئيَّة ... وأَخْوَفَ، إلا ما وَقَى الله، سارِيا الأصل: ولا أَرى واديًا أَقَلَّ به رَكبٌ منه بوادي السِّباع، فحُذف المفضول للعلم به، ولم يُقَم مقامه شيء. وقال الآخر: ما إنْ رأيتُ كعبدِ الله مِن أحدٍ ... أَولَى بهِ الحَمدُ في وَجْدٍ وإعْدامِ وقد يُحذف ما دخلت عليه مِنْ، فتدخل على المحلّ أو على صاحب المحلّ، مثال ما تدخل على المحلّ: ما رأيتُ رجلاً أَحسَنَ في عينه الكُحلُ مِن عينِ زيدٍ، التقدير: مِن كُحل عين زيد، حذف كُحلاً، وأَقامَ المضاف إليه مُقامَه. ومن ذلك قولهم: ما رأيتُ كذبةً أَكثَرَ عليها شاهدٌ مِن كَذبةِ أميرٍ على منبرٍ، التقدير: مِن شُهودِ كَذبِة أميرٍ، فحَذف شهودًا، وأَقام المضاف إليه مُقامه. ومثال ما تدخل على ذي المحلّ: ما رأيتُ رجلاً أَحسَنَ في عينه الكُحلُ مِن زيدٍ، والتقدير: مِن كُحلِ عينِ زيدٍ، فحَذف مضافين كما حذف في قولهم: لا أَفعَلُ ذلك هُبَيرةَ بنَ سعدٍ، فحذف مضافين، أي: مدةَ مَغيبِ هُبَيرة.

وقال المصنف في الشرح: «وقد يُستَغنَى عن تقدير مضاف في: ما رأيتُ أحدًا أحسنَ في عينه الكحلُ مِن زيدٍ، بأن يقال: إنَّ تقديره: ما رأيتُ رجلاً أحسنَ بالكحلِ مِن زيدٍ. فأدخلوا مِنْ على زيد مع ارتفاع الكحل على حدِّ إدخالها عليه مع جَرِّه لأنَّ المعنى واحد. /وهذا وجه حَسَنٌ لا تَكَلُّفَ فيه، وله نظائر يُلحظ فيها المعنى، ويُرَتَّب الحكم عليه مع تناسي اللفظ. ومن نظائره قوله تعالى {أولم أن الله الذى خلق السموات والأرض ولم يعى بخلقهن بقدر}، فدخلت الباء على خير أنَّ لتقدُّم {أولم يروا} ... وجعلها الكلام بمعنى: أَوَليسَ الذي خلقَ السموات والأرضَ بقادرٍ. وعلى هذا التقرير يقدَّر: ما رأيتُ كَذبةً أَكثَرَ عليها شاهدٌ مِن كَذبةِ أميرٍ على منبرٍ. وكذلك ما أشبه ذلك حيث ما ورد» انتهى. وينبغي ألا يجوز هذا الوجه الذي أجازه؛ لأنه ليس نظير ما مثَّل به؛ لأنَّ الباء في {بقدر} زائدة؛ لأنه خبر أنَّ، وليس بموضع زيادتها، ولكنه لمَّا انسحب النفي المقدم زيدت، ولا يقاس على زيادتها ما ليس بزائد؛ ألا ترى أنَّ الباء في تقدير ما رأيتُ رجلاً أَحسَنَ بالكحلِ ليست بزائدة، وهذا التقدير تركيب آخر من حيث اللفظ ومن حيث المعنى، أمَّا من حيث اللفظ فظاهر، وأمَّا من حيث المعنى فلأنه في قولك ما رأيتُ رجلاً أحسَنَ في عينه الكحلُ مِن زيدٍ المحكومُ عليه بالأَحسَنيَّة هو الكحل باعتبار محلَّيه، وأمَّا في التقدير فالمحكوم عليه بالأحسَنيَّة هو الرجل إذا حَسُنَ مسندًا إلى ضميره، وبالكحل فضله تُبين مِن أيِّ جهة حَسُنَ. ويحتمل أن تتعلق الباء بأحسن، وتكون الباء سببيَّة. ويحتمل أن تكون للحال، فوضح قُبح هذا الوجه الذي ذكره المصنف لا حُسنه.

وقوله وبعدَ ضميرٍ مذكورٍ أي: مذكورٍ بين أَفْعَلَ والظاهر المرفوع، وهو عائد على الموصوف بأَفعَلَ كما تقدَّم في المُثُل المذكورة، كقوله: أَحَبَّ إليه البَذلُ، وقوله: أَبعَدَ عنه نفعٌ، وقوله: أَحسَنَ في عينه الكحلُ، وقوله: أَكثَرَ عليها شاهدٌ، وقوله: أَبغَضَ إليه الشرُّ، وقوله: أقَلَّ به رَكبٌ، وقوله: أَولَى به الحمدُ. وقوله أو مقدَّرٍ يعني أنه يجوز أن يُحذف الضمير إذا كان معلومًا، ومِن المسموع في ذلك قولُ بعضهم: ما رأيتُ قومًا أشْبَهَ بعضٌ ببعضٍ مِن قومِك، قدَّره المصنف في الشرح بقوله: «ما رأيتُ قومًا أَبْيَنَ فيهم شَبَهُ بعضٍ مِن شَبَهِ بعضِ قومِك ببعضٍ، ثم كمل الاختصار لوضوح المعنى» انتهى. وعلى التقدير الذي تقدَّ ذكره يكون التقدير: ما رأيتُ قومًا أَبْيَنَ فيهم شَبَهُ بعضٍ ببعضٍ منه في قومِك، ثم حُذف الضمير الذي هو «من» العائد على شَبَه، وأُدخلت مِنْ على شَبَه، فصار التقدير: مِن شَبَه بعضِ قومِك ببعض، ثم حُذف «شَبَهٌ» و «بعض»، وأُدخلت «مِنْ» على «قومك»، وحُذف متعلَّق شَبَهٍ ـــ وهو ببعض ـــ كحذف ما تعلَّق به، فبقي: مِن قومِك، وهو على تقدير حذف اسمين. وقال المصنف في الشرح 2: «ومَن قَدَّرَ (ما رأيتُ رجلاً أَحسَنَ في عينه الكحلُ مِن زيدٍ) بـ (ما رأيتُ أحدًا أحسنَ بالكحلِ مِن زيدٍ) يُقَدِّر هذا: رأيتُ قومًا أَشَدَّ تَشابُهًا مِن قومِك» انتهى. وقد تقدَّم لنا أنَّ هذا التقدير لا يسوغ لمخالفته في التركيب والمعنى. وقوله مفسَّرٍ بعدَ نَفي أو شبهِه يُصاحب أَفْعَلَ أي: مفسَّر ذلك الضمير /المذكور أو المقدَّر يصاحب أَفْعَلَ، أي: المرفوع بأَفْعَلَ، وهو الكحل، فالضمير في «عينه» عائد على الموصوف، والضمير في «منه» عائد على الكحل.

قال المصنف في الشرح: «والسبب في رفع أَفْعَلِ التفضيلِ الظاهرَ في هذه الأمثلة ونحوها تَهَيُّؤه بالقرائن التي قارنَتْه لمعاقبةِ الفعلِ إيَّاه على وجهٍ لا يكون بدونها؛ ألا ترى أنَّ قولك: ما رأيتُ أحدًا أحسنَ في عينه الكحلُ منه في عين زيدٍ، لو قلت بدله: ما رأيتُ أحدًا يَحسُن في عينه الكحلُ كحُسِنِه في عينِ زيدٍ ــــ لكان المعنى واحدًا، بخلاف قولك في الإثبات: رأيتُ رجلاً أَحسَنَ في عينه الكحلُ منه في عينِ زيدٍ، فإنَّ إيقاع الفعل فيه موقع أَفْعَلَ يغيِّر المعنى» انتهى. وهذه خطابة، وليس معنى أَحْسَنَ يَحسُنُ، بل معناه: يَزيد حُسنُ الكحلِ في عينه على حُسنه في عين زيد، وعلى تقديره بـ «يَحسُن» لا يغيّر المعنى إلا من حيث إنَّ الإيجاب يغاير النفي، ولو جاء ذلك في الإثبات لكان صحيح المعنى، والتقدير: رأيتُ رجلاً يَحسُن الكحلُ في عينه كحسنه في عينِ زيد، وهذا معنَّى صحيح لا ينكره عاقل. وقال المصنف في الشرح: «فكان رفع أَفْعَلَ للظاهر لوقوعه موقعًا صالحًا للفعل على وجه لا يغيِّر المعنى بمنْزلة إعمال اسم الفاعل الماضي معنًى إذا وُصل بالألف واللام؛ فإنه كان ممنوع العمل لعدم شبهه بالفعل الذي في معناه، فلمَّا وقع صلة قُدِّر بفعل وفاعل ليكون جملة؛ فإنَّ المفرد لا يُوصَل به موصول، فانجبرَ بوقوعه موقع الفعل ما كان فائتًا من الشبه، فأُعطي العمل بعد أن مُنعه، فكذلك أَفْعَلُ الواقع المشار إليه، حدث له بالقرائن التي قارنته فيه معاقبتُه للفعل على وجه لم يكن بدونها، فرفعَ الفاعلَ الظاهر بعد أن كان لا يرفعه. وأيضًا فإنه حدثَ له في الموقع المشار إليه معنًى زائدٌ على التفضيل، وذلك أنك إذا قلت: ما الكحلُ في عين زيد أحسن منه في عين عمرو، لم يكن فيه تعرض

لنفي المساواة، وإنما تعرض فيه لنفي المزية، بخلاف قولك: ما رأيتُ أحدًا أحسنَ في عينه الكحلُ منه في عين زيد، فإنَّ المقصود منه نفي المساواة ونفي المزية، ولهذا قدره سيبويه بما رأيتُ أحدًا يَعمل في عينه الكحلُ كعمله في عين زيد، فكان لأَفعَلَ في هذا الموضع ما للصفة المشبهة من تناول المساواة والمزية، فاستحقَّ بذلك التفضيل على أَفعَلَ المقصور على المزية، ففُضِّل برفعه الظاهر» انتهى. وهو كلام فيه تكثير لا طائل تحته، ودعوى أنَّ قولك ما رأيتُ أحدًا أحسنَ في عينه الكحلُ منه في عينِ زيدٍ قُصد به نفي المساواة ونفي الزية لا دليل على ذلك؛ بل لا فرق بين قولك «ما رأيتُ أحدًا الكحلُ في عينه أحسنُ منه في عينِ زيد» وبين المثال السابق، كلاهما فيه نفي المزية لا نفي المساواة، وأَفْعَلُ التفضيل /سواٌء أَرَفَعتِ المضمرَ إنما تدلُّ على الزيادة في ذلك الوصف، فإن كان الكلام مثبتًا كانت تلك الزيادة ثابتة، وإن كان نفيًا كانت تلك الزيادة منفيَّة، ولا يدلُّ انتفاء تلك الزيادة على انتفاء المساواة بوجه. وأمَّا قول المصنف «ولهذا قدَّره سيبويه إلى آخره» فليس على ما فهمه، وإنما أراد س أن يبيِّن أنَّ رفع الكحل بأَحسنَ هو على طريق الفاعلية، وأنه جرى في ذلك مجرى الفعل، فكما رفع الفعلُ الظاهرَ كذلك رفعه هنا أَفعَلُ التفضيل، وأمَّا أن يريد بذلك أنه انتفت المزية والمساواة فلا. وأمَّا قوله «فكان لأَفْعَلَ في هذا الموضعِ ما للصفة المشبهة من تناول المساواة والمزية، فاستحق بذلك التفضيل على أَفعَلَ المقصورِ على المزية، ففُضِّل برفعه الظاهر» ـــــ فلا أدري كيف كان للصفة المشبهة تناول المساواة والمزية. وقال المصنف في الشرح: «وأيضًا فإنَّ قاصد المعنى المفهوم من ما رأيتُ أحدًا أحسنَ في عينه الكحلُ منه في عينِ زيدٍ إمَّا أن يجعل أفعلَ صفة لِما قبلها رافعة

لِما بعدها، وإمَّا أن يجعله خبرًا للكحل. فهذا الوجه ممتنع بإجماع العرب لا ستلزامه الفصل بالمبتدأ بين أَفعَلَ و «مِنْ» مع كونهما بمنْزلة المضاف والمضاف إليه. والوجه الآخر لم يُجمع العرب على منعه، بل هو جائز عند بعضهم، فلما أَلجأت الحاجة إليه اتُّفق عليه» انتهى. وقوله «مع كونهما بمنْزلة المضاف والمضاف إليه» ليس بصحيح؛ ألا ترى إلى جواز بينهما بالتمييو، والظرف، والمجرور، ولو ومتعلقها، وغير ذلك، وإلى جواز تقديم مِن ومجرورها على أَفعَلَ في موضع وجوبًا، وكل هذا دليل على أنهما ليسا كالمضاف والمضاف إليه. وقال المصنف في الشرح أيضًا: «فإن قيل: لا نسَلِّم الالتجاء إليه لإمكان أن يقال: ما رأيتُ أحدًا الكحلُ أَحسَنُ في عينه منه في عينِ زيد. فالجواب: أنَّ إمكان هذا اللفظ مسلَّم، ولكن ليس بمساَّم إفادته ما يفيده اللفظ الآخر من اقتضاء المزية والمساواة معًا، وإنما مقتضى ما رأيتُ أحدًا الكحلُ أَحَسنُ في عينه منه في عينِ زيد نفيُ رؤيةِ الزائدِ حُسنُه لا نفيُ رؤية المساوي، وإذا لك يُتَوَصَّل إلى ذلك المعنى إلا بالترتيب المنصوص عليه صحَّ القول بالالتجاء إليه» انتهى. وقد بينَّا أنَّ ذلك دعوى لا تصح البتة، ولا فرق بين تقدُّم الوصف ورفع الاسم به، أو تأخُّره وجعله خبرًا للاسم؛ ألا ترى أنه لا فرق بين ما رأيتُ رجلاً قائمًا أبوه، ولا بين: ما رأيتُ رجلاً أبوه قائمٌ. وفي «الإفصاح»: لو رفعت أَحْسَنَ هنا فإمَّا بالابتداء، وخبره الكحل، أو تعكس، و «في عينه» و «منه في عين زيد» كله في صلة أَحسَنَ متعلَّق به، /فيفرق بينه

وبينها بـ «الكحل» الذي هو مبتدأ أو خبر. وسبيله أن يكون مؤخَّرًا عن الجميع أو مقدَّما، فإنْ أخَّرته فالهاء في (منه) للكحل، وقد قدَّمته على الكحل، ولا يجوز إن كان خبرًا لتقدُّمه لفظًا ومعنى، ويجوز إن كان مبتدأ، ويمتنع للفصل بين (أَحسَنَ) وبين (في عين)، فلمَّا كان رفع (أَحسَنَ) مع التقديم يؤدي إلى ما لا يجوز امتنع، ولزم حمله على الصفة، ولهذا قال جماعة من النحويين: إنَّ الإتباع هنا للموصوف ضروريّ ورفع الكحل به. فإن أرادوا ذلك والمسألةُ على ما هي عليه فصحيح، وإن أطلقوا فباطل، لا يمتنع تأخير الكحل مبتدأ وأَحسَنُ خبره، فتقول: أَحسَنُ منه في عينِ زيدٍ الكحلُ، كأنك قلت: برجلٍ الكحلُ أَحسَنُ في عينه منه في عينِ زيدٍ، فلم تَفصل هنا، ولم تقدَّم ضميرًا على متأخر في اللفظ والتقدير، وقد ذكر هذا أبو العباس. وإنما منعها س على جهة الابتداء والخبر على ما هي عليه كما سمعها من العرب. وفي «البسيط»: أصل هذه المسألة أنَّ التفضيل إن كان للشيء الواحد على نفسه فيكون باختلاف صفاته وأحواله؛ والصفات تكون أحوالاً وغير أحوال، وبالجملة فيؤخذ من حيث هو فاضلٌ بأمر لا يؤخذ به من حيث هو مفضول، وذلك إمَّا بزمان أو مكان أو حال أو شرط، فتقول: الصومُ في أيام ذي الحجَّة أَحَبُّ إلى الله منه في شَوَّال، وزيدٌ في داره أَحسَنُ منه في السوق، ومثله: الكحلُ في عينِ زيدٍ أَحسَنُ منه في عينِ عمرٍو، وهي أصل المسألة، ويجوز: الكحلُ في عينِ عمرٍو أحسَنُ منه الكحلُ في عينِ زيدٍ، وكلُّ ذلك لا مانع فيه من الابتداء والخبر. ويجوز في أصل المسألة: زيدٌ الكحلُ في عينه أَحسَنُ منه في عينِ عمرٍو، وكان أيضًا على الابتداء. فإذا قلت: زيدٌ أَحسَنُ في عينه الكحلُ منه في عينِ عمرٍو، امتنع هنا

الرفع بالابتداء، فكذلك لو قلت أولاً: عمرٌو أَحسَنُ في عينه الكحلُ من عينِ زيدٍ، لم يَجز لِما نذكره، لكنه ينقلب المعنى، ولا يجزي على أصله إلا في النفي على ما نذكره؛ لأنَّ أَحْسَنَ لا يخلو إمَّا أن يكون خبرًا أو مبتدأ، فإن كان مبتدأً فصَلتَ بينه وبين ما هو صلته ـــــ وهو مِنْ ـــــ بأجنبي، وهو الكحل، ولو قدّمت مِنْ لعاد الضمير على الكحل، وهو متأخر لفظًا ومعنًى، ولا يجوز. وإن كان خبرًا فكذلك يوجد الفصل، فلزم رفعه بأحسَن حتى يكون من الصلة، وصار بمنْزلة الحال من النكرة إذا تقدَّمت، لم يجز غيره؛ لأنه لا يتأتى فيه الأصل، فكذلك الاستثناء المقدَّم في النفي إذا قلت: ما قام إلا زيًدا أحدٌ؛ لأنه لا يتأتى الأصل، كذلك هذا لَمَّا لم يُمكن القطع ـــــ وهو الأصل ــــ ارتفع بالأول مع جواز ذلك في الأصل، وهذا ظاهر كلام النحويين. وقوله بعدَ نفيٍ أو شِبْهِه النفي تقدَّم التمثيل به في الصور السابقة، وشِبهُ النفي هو النهي والاستفهام. قال المصنف في الشرح: «ولم يَرد هذا الكلام المتضمن ارتفاع الظاهر بأَفْعَلِ التفضيل /إلا بعد نفي، ولا بأس باستعماله بعد نهي أو استفهام فيه معنى النفي، كقولك: لا يَكُنْ غيرُك أَحَبَّ إليه الخيرُ منه إليك، وهل في الناس رجلٌ أَحَقُّ به الحمدُ منه بِمُحسِن لا يَمُنّ» انتهى. وإذا كان لم يرد هذا الاستعمال إلا بعد نفي وجب اتِّباع السماع فيه والاقتصار على ما قالته العرب؛ ولا يقاس عليه النهي ولا الاستفهام الذي يراد به النفي، لا سيما ورفعه الظاهرَ إنما جاء في لغة شاذَّة، فينبغي أن يُقتصر في ذلك على مورد السماع، على أنَّ إلحاقهما بالنفي ظاهر في القياس، ولكن الأَولَى اتَّباع السماع.

وقوله ولا يَنصب مفعولاً به يعني أنه إذا كان مشتقَّا من مصدرٍ يتعدَّى فعلُه إلى مفعول به فإنه لا يَنصب المفعول به، بل يتعَدَّى إليه باللام إن كان الفعل يتعدَّى إلى واحد، تقول: زيدٌ أَبْذَلُ للمعروف، فإن كان الفعل يُفهم جهلاً أو علمًا تعدَّى بالباء، نحو: زيدٌ أَعْرَفُ بالنحوِ وأَجْهَلُ بالفقِه. وإن كان مبنيَّا مِن فِعل المفعول تعدَّى بإلى إلى الفاعل معنًى، نحو: زيدٌ أَحَبُّ إلى عمرٍو مِن خالدٍ، وأَبْغَضُ إلى بكرٍ من عبدِ الله، وب «في» إلي المفعول، نحو: زيدٌ أَحَبُّ في من خالدٍ، وأبْغَضُ في عمرٍو مِن جعفرٍ. وقوله وقد يَدُلُّ على ناصبه مثاله قولُ الشاعر: فلم أَرَ مِثْلَ ... الحَيِّ ... مُصَبَّحًا ... ولا مِثْلَنا ... يومَ ... الْتَقَينا ... فَوارِسا أَكَرَّ وأَحْمَى لِلحَقيقةِ ... منهمُ ... وأَضْرَبَ مِنَّا بِالسُّيوفِ، القَوانِسا وقولُ الآخر: فما ظَفِرَتْ نَفسُ امرئٍ يَبتَغي المُنَى ... بأَبْذَلَ مِن يحيى، جَزيلَ المَواهِبِ أي: نَضربُ القَوانس، ويَبذلُ جَزيلَ المواهب. قال المصنف في الشرح: «ومنه قوله تعالى {الله أعلم حيث يجعل رسالته} ... ، فـ (حيث) هنا ليس بظرف، وإنما هو مفعول به، وناصبُه فعلٌ مدلولٌ عليه بـ (أعْلَم)، والتقدير: الله أَعلَمُ يَعلَمُ مكانَ جعلِ رسالتِه» انتهى.

وقد خرَّجناه نحن في كتابنا في التفسير المسمى بـ «البحر المحيط» على أن تكون حيثُ باقية على بابها من الظرفية؛ لأنَّ حيثُ من الظروف التي لم يُتَصَرَّف فيه بابتدائيَّة ولا فاعليَّة ولا مفعوليَّة، فَنصبُها على المفعولَّية بفعلٍ محذوفٍ مُخْرِجٌ لها عن بابها، والتخريجُ الذي خرَّجناه عليه هو. /وقال المصنف في الشرح: «وإنْ كان من متعدِّ إلى اثنين عُدِّي إلى أحدهما باللام، وأُضمر ناصب للثاني، كقولك: هو أَكْسَى للفقراءِ الثيابَ، أي: يَكسوهم الثيابَ» انتهى. وينبغي ألا يقال هذا التركيب إلا إن كان مسموعًا من لسانهم. وقوله وإنْ اوِّلَ بما تَفضيلَ فيه جاز على رأي أن ينصبه هذا الرأي ضعيف؛ لأنه وإنْ أُوِّلَ بما لا تفضيل فيه فلا يلزم منه تَعَدِّيه كتَعَدِّيه، والتراكيبُ خصوصيات؛ ألا ترى أنَّ فَعُولاً وأخواتها تعمل، وفَعِيل لا يعمل، نحو شَرِيب وطَبيخ، لا يقال: هذا شَرِيبٌ الماءَ، ولا: طَبِيخٌ الطعامَ، وإن كان يقال: هذا شَرَّابٌ الماء، وطَبَّاخٌ الطعامَ. وقوله وتتعلق به حروف الجر إلى آخره قال المصنف في الشرح: «فيقال: زيدٌ أَرغَبُ في الخير مِن عمرٍو، وعمرٌو أَجَمعُ للمال مِن زيدٍ، ومحمدٌ أَرْأَفُ بنا مِن غيره» انتهى. وليس قوله «وعمرٌو أَجمَعُ للمال مِن زيدٍ» من هذا الفصل، بل

من باب ما يتعدَّى الفعل فيه إلى مفعول به، فتقول: جَمَعَ زيدٌ المالَ، فـ «أَجْمَعُ للمالِ» من فصل: أَضْرَبُ لزيدٍ، وأَشْرَبُ لِلماءِ.

باب اسم الفاعل

-[ص: باب اسم الفاعل وهو الصَّفةُ الدالَّة على فاعِلٍ جاريةً في التذكير والتأنيث على المضارع من أفعالها لمعناه أو معنى الماضي. ويُوازن في الثلاثي المجرَّد فاعِلاً، وفي غيرِه المضارعَ مكسورَ ما قبلَ الآخر مبدوءًا بميمٍ مضمومة. ورُبَّما كُسِرَتْ في مُفْعِلٍ أو ضُمَّتْ عينُه، ورُبَّما ضُمَّتْ عينُ مُنْفَعِلٍ مرفوعًا. ورُبَّما استُغنِيَ عن فاعِلٍ بِمُفْعِلٍ، وعن مُفْعَلٍ بِمَفعُولٍ فيما له ثلاثيٌّ وفيما لا ثُلاثيَّ له، وعن مُفْعِلٍ بفاعِلٍ ونحوه، أو بِمُفْعَلٍ، وعن فاعِلٍ بمُفْعَلٍ أو مِفْعَلٍ. ورُبَّما خَلَفَ فاعِلُ مَفعُولاً، ومَفعُلٌ فاعِلاً.]- ش: قوله وهو الصفة هذا جنس يشمل جميع الصفات من اسم فاعل واسم مفعول وصفة مشبَّة وغير مشبَّهة وأمثلة المبالغة. وقال المصنف في الشرح: «ذِكُر الصفة مُخرج للأسماء الجامدة» انتهى. والجنس لا يُذكر لإخراج شيء, إنما يُذكر لإخراجِ الشيءِ الفصلُ، والجنسُ إنما يؤتى به جامعًا لأشياء، ثم تخرج بالفصل حتى يتميز المحدود. ثم قد ذَكر هو ما استُعمل وصفًا وهو جامد، كلَوْذَعِيّ وجُرْشُع وشَمَرْدَل وصَمَحْمَح وغير ذلك في باب النعت، وهي جوامد؛ إذ ليست مشتقَّة من شيء، ولكن العرب استعملتها صفات، وأُجريت مُجرى ما ليس بجامد من المشتقَّات. وقوله الدالَّةُ على فاعِل فصلٌ مُخرجٌ لا سم المفعول، وما أدَّى معناه، كالمصدر الموصوف به في نحو: هذا درهمٌ ضَربُ الأميرِ. ...

وقوله جاريةً في التذكير والتأنيث على المضارع من أفعالها يعني في الحركات والسكنات وعدد الحروف، وهو شامل لا سم الفاعل لفظًا لا معنًى، نحو: ضامِر الكَشح، ومُنطَلِق اللسان، ولنحو أَهْيف وأَعْمى /من الصفات التي على أَفْعَلَ وفعلُها على فِعِلَ. وهو فصل يَخرج به ما ليس بجارٍ على المضارع مما هو جارٍ على الماضي، كفَرِحٍ ويَقظٍ وما ليس بجارٍ عليه، كسَهْلٍ وكَريم. وخَرج به أيضًا باب أَهْيَفَ؛ لأنَّ مؤنثه على فَعْلاء، فلم يَجر على المضارع إلا في حال التذكير، بخلاف اسم الفاعل، فإنه لا تتغير بنيته، فالجريان يصحبه في التذكير والتأنيث؛ لأنَّ التأنيث بالتاء في نيَّة الانفصال. وخَرج به أيضًا أمثلة المبالغة. وقوله لمعناه أي: لمعنى المضارع من الحال والاستقبال، أو معنى الماضي. وهذا فصل يَخرج به بابُ ضامِر، فإنه لا يُنوى به استقبال ولا مضيّ، وإنما يراد به معنًى ثابت، قال المصنف في الشرح: «ولذلك أضيف إلى ما هو فاعل في المعنى كما تضاف الصفة التي لا تجري على المضارع، فيقال: ضامِرُ الكَشْح، كما يقال: لَطيفُ الكَشْح». وقوله ويُوازِنُ في الثلاثيَّ الْمُجَرَّدِ فاعِلاً يعنى: المجرَّد من حروف الزيادة. وهذا الذي ذكر هو القياس، فإذا أردت أن تبني اسم الفاعل من نحو فَرِحَ وثَقُلَ وهو مذهوب به مذهب الزمان قلت فارِحٌ وثاقِلٌ، فتأتي به على مناسبة المضارع في الحركات والسكنات وعدد الحروف. وهذا الذي ذكر المصنف من أنَّ اسم الفاعل من الثلاثيِّ يكون على فاعِلٍ شاملٌ لأَضرُبه الثلاثة: فَعَلَ، وفَعِلَ، وفَعُلَ. وقال النحويون: قد جاء اسم الفاعل من فَعِلَ المتعدي على غير فاعِل، ولا ينقاس، فجاء على فَعِيل، نحو عَشِيق، وعلى فَعِلَة، نحو عَلِقَةٍ، وفَعَلْنة، نحو عَلَقْنة، من عَلِقَتْ نفسُه الشيء، وعلى فَعِلٍ، قالوا رَضِعَ فهو رَضِعٌ.

وأمَّا مِن فَعِلَ اللازمِ ففاعِلٌ فيه قليل، نحو: سَلِمَ فهو سالِمٌ. وقد جاء فيه فَعِيل، نحو حَزِين وسَمين. وقال المصنف في بعض تصانيفه: «قياسه فَعِلٌ وفَعْلانُ وأَفْعَلُ، نحو: أشِرٍ وصَدْيانَ وأَجْهَزَ». وقال بعض أصحابنا: قياسه أن يكون في الآفات والخِلَق والألوان على أَفْعَلَ، نحو: عَمِيَ فهو أَعْمَى، وشَنِبَ فهو أَشْنَبُ، وشَهِبَ فهو أَشْهَبُ. وفي الامتلاء وضدَّه على فَعْلانَ، نحو: رَيَّانَ وصَدْيانَ، وفيما سوى ذلك على فَعِلٍ نحو أَشِرٍ. وإذا كان معتلَّ اللامِ لَزِمَ فَعِيلاً، نحو: حَيِيَ فهو حَيِيُّ، وغَنِيَ فهو غَنِيٌّ، وشَقِيَ فهو شَقِيُّ. وقد جاء اسم الفاعل من فَعَلَ على غير زنة الفاعِل، ففي المتعدي على فُعَلٍ، نحو قُطَعٍ، من قَطَعَ رَحِمَه، وفَيْعِلٍ، نحو سَيَّد، من سادَ قومَه. وفي اللازم على فَعِيلٍ، نحو عَرِيف وعَرِيج، من عَرَفَ وعَرَجَ. وفَعَّالٍ، نحو جَوادٍ، مِن جادَ. وفَيْعِلٍ، نحو مَيِّتٍ، من ماتَ، وفَيْعِلان، نحو بَيَّحان، من باحَ، وقد خُفِّفا، فقيل: مَيْتٌ وبَيْحان. وفَعْلان، قالوا: نَعْسان ونَعْسى، من نَعَسَ. وفَوْعَلٍ، نحو خَوْتَعٍ، مِن خَتَعَ: صار تحت الظُّلمة. /وأمَّا فاعلٌ من فَعُلَ فقليل، قالوا في نحو حَمُضَ ومَثُلَ وكَمُلَ وطَهُرَ وفَرُهَ وفَضُلَ ووَدُعَ: حامِضٌ وماثِل وكامِل وطاهِر وفارِه وفاضِل ووادِع، وقال

ابن خالويه: لم يشذ إلا قولهم فَرُهَ فهو فارِه، وباقيها فيها الفتح والضم، فاستُغني باسم الفاعل من فَعَلَ عن اسم الفاعل من فَعُلَ. وذكروا أنَّ باب اسم الفاعل من فَعُلَ بابه فَعِيل، وهو القياس، ولا ينقاس فيه غيره. وقال المصنف في بعض تصانيفه: جاء فيه فَعْلٌ، نحو: سِهْلٍ وحَزْنٍ وصَعْبٍ. ومَن قاسه لعدم السماع فمُصيب. وقد جاء فيه على غير هذين الوزنين، فجاء فيه جَبَانٌ وشُجاعٌ وفُراتٌ وأشْجَعُ وشُجَعَةٌ وصَرْعانُ وحَصِفٌ وحَسَنٌ ووُضَّاءٌ وعَفِرٌ وغَمْرٌ وحَصُورٌ، أي: ضاقَ مجرى لبنها، وماضيها كلها على فَعُلَ. وقوله وفي غيره ـــــ أي: في غير الثلاثي ـــ المضارع إلى آخره نحو مُكْرِم ومُقْتَدر ومُستَخرج، وكذا من باقي أوزان ما زاد على ثلاثة. وقوله ورُبَّما كُسِرت في مُفْعِل أي: كُسرت الميم، قالوا أنْتَنَ فهو مُنْتِن، على القياس، وقالوا أيضًا مِنْتِن، بإتباع الميم العين، ومُنْتُن باتباع العين الميم، وقالوا في الُمغِرة مِغِيرة. وقوله ورُبَّما ضُمَّتْ عينُ مُنْفَعِلٍ مرفوعًا حكاه ابنُ جِنِّيْ وغيرُه في مُنْحَدِر مرفوعًا.

وقوله ورُبَّما استُغنِي إلى آخره قالوا: حَبَّه فهو مُحِبٌّ، ولم يقولوا حابُّ. ومثالُ الاستغناء عن مُفْعَل بِمَفْعُول فيما له ثلاثي قولُهم: أَحْزَنَه الأمرُ فهو مَحزُون، أَغْناهم عن مُحْزَن، وأَخَبَّه فهو مَحُبوب، أَغْناهم عن مُحَبّ، وندرَ قولُ عنترة: ................................. ... مَّني بِمَنْزلةِ الْمُحَبِّ الْمُكْرَمِ ومثالُه فيما لا ثلاثيَّ له قولُهم مَرْقُوق، مِن أَرَقَّه، أي: مَلَكَه، وقول الشاعر: مَعِي رُدَيْنيُّ أَقْوامٍ، أَذُودُ بهِ ... عن عِرْضِهِمْ، وفَريصِي غيرُ مَرعُودِ ولم يقولوا: رَعدَ ولا رَقَّ، إنما قالوا: أُرعِدَت وأُرِقَّ. ومثال الاستغناء عن مُفْعِلٍ بفاعِلٍ ونحوه قالوا: أَيْفَعَ الغلامُ ـــــ إذا شَبَّ ــــ فهو يافِعٌ، وأَوْرَسَ الرَّمثُ ــــ وهو شجرٌ ـــ: إذا اصفرَّ، فهو وارِسٌ، وأَقْرَبَ القومُ فهم قارِبون: إذا كان إبلُهم قوارِب، ولا يقال: هم مُقْرِبُون، وأَوْرَقَ الشجرُ فهو وارِق، كما قال: .................................. ... ......... تَعْطُو إلَى وارِقِ السَّلَمْ والقياس مُوفِعٌ ومُورِسٌ ومُقْربٌ ومُورِقٌ، وقد سُمع: وَرِسَ الشجرُ، ويَفَعَ الغلامُ، فيكونون قد استغَنوا عن اسم فاعل أَوْرَسَ وأَيْفَعَ باسم فاعل يَفَعَ ووَرِسَ.

وقالت العرب: أعَقَّتِ الفَرَسُ فهي عَقُوقٌ: إذا حَمَلَتْ، قال أبو علي القالي: «ولا يقال مُعقّ». وقالوا: أَحْصَرَتِ الناقةُ فهي حَصُور: إذا ضاقَ مَجرى لبنها، وقالوا عَقَّتْ وحَصرتْ، فيكون ذلك من باب الاستغناء. ومثالُ ما استُغنِي فيه بمُفْعَل أَسْهَبَ الرجلُ في الكلام ــــ إذا كَثُرَ كلامُه ــــ فهو مُسْهَبٌ، وكذلك إذا ذهبَ عقلُه من لدغ الحية، وأَلْفَجَ ــــ ذهبَ مالُه ـــ فهو مُلْفَجٌ، وفي الحديث: (ارْحَمُوا مُلْفَجيكم)، وأَحْصَنَ فهو مُحْصَنٌ، وقالوا أُلْفِجَ ذو المال، وأُسْهِبَ اللديغُ، وأُحْصِنَ، /مبنيَّا للمفعول، فيكون في بنائه للفاعل قد استَغنَوا باسم المفعول عن اسم الفاعل. وقالت العرب: اجْرَأَشَّتِ الإبلُ ـــــ إذا سَمِنَت ــــ فهي مُجْرَأَشَّة، بفتح الهمزة، وهو شاذّ. ولم يَرد في «أَسْهَبَ في الكلام» إلا مبنيَّا للمفعول، وإذا كان أَسْهَبَ بمعنَى فَصُحَ، أو بَلَغَ الرَّملَ في حفره، أو أَكَثرَ العطاءَ، أو تغيَّرَ وجهُه، أو نزولَ السَّهْبَ ـــــ أي: المكانَ السَّهل ـــ أو أَسْهَبَ الفرسُ: سَبق ــــ فاسم الفاعل منه بكسر الهاء على القياس. ومثالُ ما استُغنِي فيه عن فاعِلٍ بِمُفْعِلٍ أو مِفْعَلٍ قولُهم: عَمَّ الرجلُ بمعروفه، ولَمَّ متاعَ القوم، فهو مُعِمُّ ومِعَمٌّ، ومُلِمٌّ ومِلَمٌّ، ولم يُقل بهذا المعنى عامٌّ ولا لمٌّ، ولا نظير لهما، حكاه ابن سيده.

ومثالُ ما خَلَفَ فاعِلٌ مَفعولاً قولُ الشاعر: لقد عَيَّلَ الأَيتامَ طَعنةُ ناشِرَهْ ... أَناشِرَ، لا زالتْ يَمينُكَ آشِرَهْ أي: مأشورة، والمأشورة: المقطوعة بالمئشار. ومثالُ ما خَلفَ مَفعُولٌ فاعِلاً قولُهم: قَطَّ السَّعرُ: غلا، فهو مَقْطُوطٌ، ولم يقولوا قاطُّ، ذكره ابن سيده وهو نادر. وقال المصنف في الشرح: «كاسٍ بمعنى مَكْسُوّ» انتهى. والأصحُّ أنَّ كاسٍ اسمُ فاعِلٍ من كَسِيَ الرجلُ، كما قال: وأنْ يِعْرَيْن إن كَسِيَ الجواري ... ...........................................

-[ص: فصل يَعملُ اسمُ الفاعلِ غيرُ المصغَّرِ والموصوفِ، خلافًا للكسائي، مفردًا وغيرَ مفردٍ عَمَلَ فِعلِه مُطلقًا.]- ش: اختلفوا في اسم الفاعل إذا كان ماضيًا بغير أل هل يرفع الفاعل، فالظاهر من كلام س أنه يرفع الفاعل، وأنَّ الماضي وغيره مشتركان في ذلك. ومن النحويين من قال: لا يرفع الفاعل، وإنه صار كالكاهل. وهذا الخلاف في الفاعل الظاهر. والجمهور على أنه يرفع المضمر. وبعضهم قال: ولا يرفع المضمر. وإذا صُغَّر اسم الفاعل ففي إعماله في المفعول به خلاف: ذهب البصريون والفراء إلى أنه لا يعمل، وأنه تجب إضافته، فتقول: هذا ضُوَيْرِبُ زيدٍ. وعلَّة منعه من ذلك أنه إذا صُغِّرَ دخلته خاصَّة من خواصَّ الاسماء، فَبعُدَ عن شبه المضارع بتغيير بنيته التي كانت عمدة في الشبه. وذهب الكسائي وباقي الكوفيين، وتابعهم أبو جعفر النحاس ــــ إلى أنه يجوز إعماله مصغَّرًا؛ لأنه ليس من أصول الكوفيين شبهه له في الصورة بل في المعنى. واستدلَّ الكسائي على ذلك بقول العرب: أَظُنُّنِي مُرتَحِلاً فَسُوَيْئِرًا

فَرْسَخًا. ولا حجة فيه؛ لأنه لم يعمل في مفعول به صريح، وإنما عمل في الظرف، وروائحُ الأفعال قد تعمل في الظروف والمجرورات. وقال النحاس: ليس تصغيره أعظم من تكسيره، وهو يعمل إذا كان مكسَّرًا، فأحرى أن يعمل إذا كان مصغَّرًا؛ لأنَّ التصغير قد يوجد في ضرب من الأفعال، والتكسير لا يوجد فيها. والجواب عما قاله أنَّ التكسير إنما وقع في اسم الفاعل بعد اسقرار العمل فيه قبل التكسير بسبب الجريان، فلم يؤثر فيه. والصحيح أنه لا يجوز إعماله مصغَّرًا؛ لأنَّ /ذلك لم يُحفظ من كلامهم. وقال بعض شيوخنا: إذا كان الوصف لا يُستعمل إلا مصغَّرًا ولم يُلفظ به مكبَّرًا جاز إعماله، ومن ذلك قول الشاعر: فما طَعْمُ راحٍ في الزُّجاجِ مُدامةٍ ... تَرَقْرَقُ في الأيدي كُمَيْتٍ عَصيرُها وقوله والموصوف هذا معطوف على المصغر، أي: وغيرُ الموصوفِ. إذا وُصف اسم الفاعل قبل أن يأخذ معموله؛ لأنه زال شبهه للمضارع بالوصف؛ لأنه من خواص الأسماء ــــ فإنْ أخذَ معموله جاز أن يوصف بعد ذلك، فلا يجوز: هذا ضاربٌ عاقلٌ زيدًا، ويجوز: هذا ضاربٌ زيدًا عاقلٌ. هذا مذهب البصريين والفراء.

وأجاز الكسائيُّ وباقي الكوفيين إعماله موصوفًا قبل أن يأخذ معموله، فأجازوا: هذا ضاربٌ عاقلٌ زيدًا. وأجاز الكسائيُّ أن يقال: أنا زيدًا ضاربٌ أيُّ ضارب، على أن يكون زيد منصوبًا بضارب وقد وُصف بـ «أيّ ضارب»، وهي صفة لا يُفصل بينها وبين موصوفها بشيء لا بمعمول ولا بغيره. واستدلَّ مَن أجاز ذلك بالسماع، قال: إذا فاقِدٌ خَطْباءُ فَرخَينِ رَجَّعَتْ ... ذَكَرْتُ ... سُلَيْمَى ... في الخَلِيطِ الُمبايِنِ وقال الآخر: وقائلةٍ تَخْشَى عليَّ: أَظُنُّه ... سَيُودِي بهِ ... تَرْحالُهُ وجَعائلُهْ وقال الآخر: وراكِضةٍ ما تَسْتَجِنُّ بِجُنَّةٍ ... بَعيرَ حِلالٍ، غادَرَتهُ، مُجَعْفَلِ فـ «فَرخَين» عندهم منصوب بـ «فاقد»، وقد وُصف بـ «خَطباء»، و «أظنُّه» معمول لـ «قائلة»، وقد وُصف بـ «تخشى عليَّ»، و «بعير» منصوب بـ «راكِضة»، وقد وُصف بـ «تَستَجِنُّ». وتأوَّلَ مَن منعَ هذا كلَّه.

أمّا ما أجازه الكسائيُّ من التمثيل المذكور فلم يَقل إنه رواه عن العرب، وإنما هو من تمثيله، على أنه لو كان سماعًا من العرب لجاز أن يكون منصوبًا بضارِب، وضارِب خبر عن أنا تقدَّم معموله، و «أيُّ ضاربٍ» خبرٌ ثانٍ لا وصفٌ لضارِب. وأمَّا «إذا فاقدٌ خَطْباءُ فَرخَين» فتُؤوِّلَ على أنَّ فَرخَينِ منصوب بإضمار فعلٍ يفسِّره فاقدٌ، ويدل عليه، وتقديره: فَقَدَتْ فَرخينِ. ويؤيد أنه ليس منصوبًا بفاقد أنَّ فاقدًا صفة غير جارية على الفرخين في التأنيث؛ ألا ترى أنَّ اسم الفاعل إذا لم يَجر على الفعل في تذكيره وتأنيثه لم يعمل، لا يجوز: هذه امرأةٌ مرضعٌ ولدَها؛ لأنَّ اسم الفاعل لا يُذهب به إذ ذاك مذهب الفعل، إنما ذُهب به مذهب النسب، فإذا قلت امرأةٌ مُرضعٌ فالمعنى ذات رَضاع، كما تقول: رجلٌ دارِعٌ، أي: ذو دِرع، فإن ذَهبتَ بمُرْضِعٍ مذهبَ /الزمان فلا بدَّ من التاء، ويعمل إذ ذاك، كما قال: فأمَّا البيتان الآخران فُتؤُوِّلا على أنَّ قوله: ما تَستَجِنُّ بِجُنَّة، وتَخشى عليَّ ـــ حال من الضمير المستكنِّ في اسم الفاعل. أو معمولان لمحذوف، تقديره: قالتْ أو تقول أَظُنُّه، أو رَكَضَتْ بَعيرَ [حِلالِ].

وقال المصنف في الشرح ما نصه: «ووافق بعضُ أصحابنا الكسائيَّ في إعمال الموصوف قبل الصفة؛ لأنَّ ضعفه يحصل بعد ذكرها لا قبلها، فأجاز: أنا زيدًا ضاربٌ أيُّ ضاربٍ، ومنع: أنا ضاربٌ أيُّ ضاربٍ زيدًا. واستدلَّ صاحب هذا الرأي بقول الشاعر: وَوَلَّى ... كَشُؤْبُوبِ العَشِيِّ ... بِوابلٍ ... ويَخْرُجْنَ ... مِن جَعْدٍ ... ثَراهُ ... مُنَصَّبِ فرفع ثَراه بِجَعْدٍ، ثم نعته بِمُنَصَّب» انتهى. وهذا الذي ذكره لا نعلم فيه خلافًا من أنه إذا وُصف بعد أخذه مفعولَه جاز ذلك؛ وليس وصفه بعد أن أخذَ معمولَه قادحًا في عمله. ويظهر من كلام المصنف أنه متى وُصف لم يعمل، ولذلك ذكرَ وصفَه بعد العمل عن بعض أصحابنا. وقوله مفردًا وغيرَ مفرد أي: يعمل مفردًا ومثَّنى ومجموعًا جمع سلامة وجمع تكسير، وإذا جاز أن يعمل مكسَّرًا وقد تغيرتْ فيه بنيته التى بها أَشبَهَ المضارعَ فعملَ فالأَولى أن يعمل مع جمع التصحيح والتثنية؛ إذ لم يتغير نظم المفرد فيهما. وإذا كان اسم الفاعل مثنَّى أو مجموعًا جمع سلامة بالواو والنون في موضع يعرى فيه الفعل فلا يعمل، تقول: مررتُ برجلٍ ضارباه الزيدان، وبرجالٍ ضاربوهم إخوتهم، صار كالاسم، كقولك: مررتُ برجلٍ أخواه الزيدان، وعليه

(أوَ مُخْرِجِيَّ هُمْ)، فلا يجوز: مررتُ برجلٍ ضاربين غلمانُه زيدًا، بل يُقطع على مذهب س والخليل وجماعة النحويين. وخالف المبرد، وقال: إنه يعمل؛ لأنه حالَ اللحاق قَوِيَ شبهُه بالفعل؛ لأنه لحقه ما لحق الفعل، وسلم بناؤه، وإذا كان في المكسَّر لا يُقطَع وقد تغيَّر بناؤه فأحرى فيما لا يتغير بناؤه. ورُدَّ عليه بأنه لا يشبهه؛ لأنه لحقه شيء لا يلحق الفعل لو كان ثمة، ولأنَّ الفرق بينه وبين المكسر أنَّ المكسَّر حُكمُه حُكمُ مفرده؛ لأنه لا يُعرب وفيه هذه الحروف، ويُصغر وغير ذلك، فجرى مجرى المفرد، بخلاف المسلَّم، فلذلك كان القطع فيه دون المكسَّر. انتهى من البسيط. ويأتي في آخر الصفة المشبهة الكلام على إسناد الصفة للظاهر بعدها. وقوله عَمَلَ فِعلِه مطلقًا يعني أنه إن كان فعله لا زمًا كان اسم الفاعل لازمًا، وإن كان متعديًا إلى واحد كان اسم فاعله متعديًا إلى واحد، وإن كان لاثنين كان اسم الفاعل متعديًا إلى اثنين، وإن كان إلى ثلاثة تعدى اسم الفاعل إلى ثلاثة. -[ص: وكذا إنْ حُوَّل للمبالغة من فاعِلٍ إلى فَعَّال أو /فَعُولٍ أو مِفْعال، خلافًا للكوفيين. ورُبَّما عَمِلَ مُحَوَّلاً إلى فَعِيلٍ وفَعِلٍ. ورُبَّما بُنِيَ فَعَّالٌ ومِفْعالٌ وفَعِيلٌ وفَعُولٌ مِن أَفْعَلَ.]- ش: هذه تسمى بالأمثلة الخمسة، وهي فَعُولٌ وفَعَّالٌ ومِفْعالٌ وفَعِيلٌ وفَعِلٌ. وهذه الأمثلة في إعمالها خلاف: ذهب الكوفيون إلى أنها لا تعمل؛ لأنها لَمَّا جاءت للمبالغة زادت معنًى على الفعل؛ لأنَّ أفعالها لا مبالغة فيها، فلا يجوز إعمالها.

وذهب س إلى جواز إعمالها بالشروط التي هي مُشتَرَطة في اسم الفاعل. ومنعَ أكثرُ البصريين ــــ منهم المازنيُّ، والزَّياديُّ، والمبردُ ــــ إعمالَ فَعِيلٍ وفَعِلٍ. وفرق الجرمي بينهما، فأجاز إعمال فَعِلٍ، ولم يُجز إعمال فَعِيلٍ. وفرق أبو عمرو بينهما، فأجاز إعمال فَعِلٍ على ضعف، وخالف في فَعِيلٍ، قال: تقول: أنا حَذِرٌ زيدًا وفرِقٌ عمرًا، تريد: مِن زيدٍ ومِن عمرٍو. والصحيح مذهب س لورود السماع بذلك نثرًا ونظمًا، فمِن إعمال فَعُولٍ ما رواه الكسائي عن العرب من قولهم: أنتَ غَيُوظ ما عَلمتُ أَكبادَ الرجال، وقال الشاعر: هَجُوم عليها نَفْسَه غيرَ أنَّهُ ... مَتَى يُرْمَ في عَينَيةِ بالشَّبْحِ يَنْهَضِ وقال الآخر: عَشِيَّة سُعْدَى ... لو تَراءتْ لِراهبٍ ... بِدَوْمةَ ... ، تَجْرٌ عندَه ... وحَجِيجُ

قلى دِينَهُ، واهْتاجَ للِشَّوقِ، إنَّها ... على الشَّوقِ إخْوانَ العَزاءِ هَيُوجُ وقال الآخر: ضرُوبٌ بِنَصْلِ السَّيفِ سُوقَ سِمانِها ... إذا عَدمُوا زادًا ... فإنَّكَ ... عاقِرُ وقال الآخر: بَكَيتُ أخا لاوراءَ، يُحْمَدُ يَومُهُ ... كرَيمٌ، ... رُؤُوسَ الدَّارِعِينَ ضَرُوبُ وقال الآخر: ................................ ... على جَرْداءَ مِسْحَلَها عَلُوكا وقال الآخر: طَحُورانِ عُوَّارَ القَذَى، فَتَراهُما ... كَمَكْحُولَتَيْ مَذْعُورةٍ ... أُمِّ ... فَرْقَدِ وقال آخر في جمع فَعُول: ثُمَّ زادُوا أَنَّهُمْ في قَومِهِمْ ... غُفُرٌ ذَنْبَهُمُ غَيرُ فُخُرْ

فغَفُور مفرد غُفُر. ومن إعمال فَعَّال قولُ مَن سمعه س: «أمَّا العَسَلَ فأنا شَرَّابٌ»، وقال الشاعر: أخا الحَربِ لبَّاسًا إليها جِلاَلها ... وليسَ ... بِوَلاَّجِ ... الَخوالِفِ ... أَعْقَلا وقال الآخر: / رأى الناسَ إلا مَن رأى مثلَ رَأيِه ... خَوارِجَ تَرَّاكينَ قَصدَ الَمخارِجِ وقال الآخر: أَبْيَض ضَرَّاب بِجَدّ الَمْنصُلِ ... قَوانِسَ البَيضِ كَنَقْفِ الَحنْظَلِ وقال رؤبة: حتى وَقَمْنا كَيدَهُ بالرِّجْزِ ... بِرَاسِ دَمَّاغٍ رُؤوسَ العِزِّ وقال آخر: أَبابيلُ دَبْرٍ شُمَّسٍ دُونَ لَحْمِهِ ... حَمَتْ لَحْمَ شَهَّادٍ عَظيمَ الَملاحِمِ

ومِن إعمال مِفْعال قولُ بعض العرب: إنه لَمِنْحارٌ بَوائكَها، وقال الشاعر: شُمِّ مَهاوِينَ أبْدانَ الَجزُورِ مَخا ... مِيصِ العَشِيَّاتِ، لا خُورٍ ولا قَزَمِ فمَهاوين جميع مِهْوان، وكان أصله مُهِينًا، فبُني على مِفْعال لقصد المبالغة، واستُصحِب العمل له مفردًا ومجموعًا كما أَعمَلوا فُعُلاً جمع فَعُول. ولو كُسِّر فَعَّالٌ لاستُصحَب له العمل، إلا أنَّ العرب استَغنَت بتصحيحه عن تكسيره. وقوله ورُبَّما عَمِلَ مُحَوَّلاً إلى فَعِيلٍ وفَعِلٍ مثالُ ذلك في إعمال فَعِيلٍ قولُ بعض العرب: إنَّ الله سَميعُ دُعاءَ مَن دَعاه، رواه بعض الثقات، وقالوا: هو حَفيظٌ عِلمَه وعِلمَ غيره، وقال الشاعر: فَتاتانِ: أَمَّا مِنهُما فَشَبِيهةٌ ... هِلالاً، وأُخرَى منهُما تُشْبِهُ الشَّمْسَا أَعملَ شَبيهة مؤنث شَبيه مع كونه مِن أشْبَهَ، كنَذِير مِن أَنْذَرَ. وقد يقال إنه على إسقاط حرف الجر، أي: فشَبِيهةٌ بِهلالٍ؛ لأنَّ شبيهًا يتعدى بالباء، قالوا: ما زيدٌ كعمرٍو ولا شَبيهًا به.

وفي «البسيط»: «وحكي: وهو السَّميعُ الدعاءَ. وكلُّ ما جُمع فيه بين الألف واللام والإضافة فإنه يجوز نصبه، نحو: الضاربُ الرجلَ، والحسنُ الوجهَ، ولا يقال إنَّ السَّميع الدعاءَ بمنْزلة الحسن الوجهَ؛ لأنَّ الوجه في الأصل فاعل، والدعاء ليس كذلك. وحكى اللحياني في نوادره: اللهُ سَميعٌ دُعائي ودعاءكَ» انتهى. ومِن إعمال فَعِلٍ قول زيد الخيل: أتانِي أَنَّهُمْ مَزِقُونَ عرضي ... جحاشُ الكِرْمِلَينِ لها فَديدُ فأعمل مَزِق، وهو مصروف للمبالغة من مازق، وأنشد س: حَذِرٌ أُمُورًا، لا تَضِيرُ وآمنٌ ... ما ليسَ مُنْجِيَهُ مِنَ الأَقْدارِ وقد طُعن في هذا البيت بما رواه المازني، وهو أنَّ اللاحقي قال: سألني س عن شاهد في تعدي فَعِلٍ، فعلمتُ له هذا البيت. ويُنسب مثل هذا القول أيضًا إلى ابن المقنع. /وكونهم اختلفوا في تسمية هذا الواضع دليل على أنها رواية موضوعة. وأيضًا فقد أقرَّ هذا الواضعُ على نفسه بالكذب والوضع على العرب، فلا يُقبل قوله. وأيضًا فلم يكن س ليروي عن وَضَّاع، وإنما يروي عن ثقة. وأنشد س قول ساعدة بن جُؤَيَّة: حتى ... شآها كَلِيلٌ ... مَوْهِنًا ... عَمِلٌ ... باتتْ طرابًا، وباتَ الليلَ لم يَنَمِ

على إعمال فَعِيل، ففهم منه أصحابنا أنَّ كَليلاً بمعنى مُكِلّ، ومَوهِنًا منصوب على أنه مفعول به، أي: يُكلَّ أوقاتَ الليل من كثرة العمل. وتوزعوا في ذلك، فقيل: كَليل بمعنى كالّ، ومَوهِنًا منصوب على الظرف. وهذا التأويل ليس بجيد؛ لأنه يتنافى صدر البيت وعجزه؛ لأنه قال: وباتَ الليلَ لم ينم، ولا يمكن أن ويوصف بأنه كالَّ في أوقات الليل. وأيضًا فانه قال: عَمِلٌ، وهو يدلُّ على كثرة العمل. ولا التفات إلى قول أبي الحكيم بن بَرَّجان اللغويّ من أنَّ عَمِلاً في البيت معناه تَعِبٌ؛ لأنَّ آخر البيت يدفع هذا التأويل. وقال السهيلي: «لم يوجد قطُّ كَليل في نظم ولا نثر إلا بمعنى حَسيرٍ أو تَعِبٍ، وإنما هو من كَلَلْتُ من الإعياء، وهو غير متعدَّ، ولم يوجد بمعنى مُكيِلّ، فيكون موهنًا مفعولا به، ولا نقول انتصب مَوهِنًا على الظرف، بل هو مرفوع في المعنى، والمعنى: كَليلٌ مَوهِنُه، كما تقول: نائم لَيلُك، ثم تنصبه كما تنصب وجهًا في: حَسَنٌ وجهًا، إمَّا على التمييز، وإمَّا على التشبيه بالمفعول به». وأنشد س:

أو مِسْحَلٌ شَنِجٌ عِضَادةَ ... سَمْحَجٍ ... ........................................ البيت. ففَهم منه أصحابنا أنه أعمل شَنِج بمعنى مُشْنِج في عِضادة، فهي منصوبة مفعولاً. وخرَّجه أبو عمرو بن العلاء على أنه منصوب على الظرف؛ لأنَّ شَنِجًا لا يتعدى، أي: متقبَّض في عِضادة سَمْحَجٍ. وهذا ضعيف لأنَّ الأسماء لا تنصب ظروفًا بقياس. وقال المصنف في الشرح «إنما ذكر س هذا البيت ـــــ يعني: حتى شآها كَليلٌ مَوْهِنًا ـــــ شاهدًا على أنَّ فاعِلاً قد يُعدَل به إلى فَعيلٍ وفَعِلٍ على سبيل المبالغة، كما يُعدَل به إلى فَعُولٍ وفَعَّالٍ، فذكر هذا البيت لاشتماله على كَليل للعدل به عن كالَّ، وعلى عَمِلٍ للعدل به عن عامِل، ولم يتعرض لوقوع الإعمال» انتهى. وقال بعض أصحابنا: أمَّا فَعِلٌ وفَعيلٌ، نحو ضرِبٌ زيدًا، ولَبيسٌ الثيابَ ـــــ فغير مشتقِّ من المتعدي، هذا على جهة الإعمال، وكيف يُتكلم على ما لم يسمع من العرب؟ وكيف يَتركب الخلاف على غير موجود؟ وهل هذان إلا كضَرْوَب وضَيْرَب وضَرْيَب وغير ذلك من الأبنية التى لم تكلم بها العرب، ولا سُمعت من العرب في معنى اسم الفاعل، وما لم يُسمع لا يقاس على ما سمع، ولا يُبنَى عليه اتفاق ولا اختلاف.

وقال ابن عصفور: «حكى ابن سِيْدَه عن العرب: هو عَليمٌ علمَك وعِلمَ غيرك». قال: «وهو نَصُّ لا يحتمل التأويل» انتهى. ويحتمل /أن يكون مصدرًا تشبيهيَّا، نحو: هو ضارِبٌ ضَربَك، أي: عَليمٌ عِلمًا مثلَ عِلمِك وعِلمِ غيرِك. وإنما وافق الجرميُّ س في إعمال فَعِلٍ لأنه على وزن الفعل، فجاز أن يجري مجراه، ويحق أن يكثر استعماله لأنه مقصور فاعِل، ومنه قول الشاعر: أَصبحَ قلبِي صَرِدَا ... لا يَشتَهي أنْ يَرِدَا إلا عَرَدًا عَرِدَا ... أو صِلِّيانًا بَرِدَا أراد: عارِدًا، وبارِدًا. وكثُر ذلك في المضاعف، كقولهم بَرُّ وسَرٌّ، بمعنى: بارّ وسارّ. وذهب ابن وَلاَّد وابن خروف وبعض النحويين إلى أنَّ فعِّيلاً من أبنية المبالغة يجوز له أن يعمل كما أُعمل فَعَّال وأخواته؛ فأجاز: هذا رجلٌ شِرِّيبٌ الماءَ، وطِبيخٌ اللحمَ. والصحيح المنع؛ لأنه لم يُسمع. والإنصافُ في هذه المسألة القياسُ على فَعُولٍ وفَعَّالٍ ومِفْعالٍ، والاقتصارُ في فَعِيلٍ وفَعِلٍ على مورد السماع.

وأمَّا الكوفيون فتأوَّلوا السماع على أنه على إضمارِ فعلٍ يفسِّره المثال، فتقول في نحو: أنتَ غَيُوظٌ ما علمتُ أكبادَ الرجالِ، أي: تقديره: تَغيظُ أَكبادَ الرجالِ، وكذلك في الباقي. قالوا: وهذه الأمثلة خارجة عن بناء الفعل وجارية مجرى الأسماء التى يُمدَح بها ويُذَمّ، ولذلك لا يجوز تقديم المنصوب بعد هذه الأمثلة؛ لأنَّ الفعل إنما أُضمر في هذا الباب لدلالة الاسم المنصوب لم يكن له ما يدلُّ على الفعل. وما ذهبوا إليه فاسد لكثرة ورود السماع به، فالأصل أن يكون معمولاً لهذه الأمثلة؛ لأنَّ الإضمار على خلاف الأصل؛ ولأنَّ تقديم هذا المفعول على المثال مسموع، وقد تقدَّمت شواهد على ذلك. ولَّما كانت هذه الأمثلة موضوعة للتكثير فلا يقال: هذا قَتَّالٌ زيدًا، ولا من الموت موَّات، ويقال: هذا قّتَّالٌ الناسَ، فأمَّا قول حُميد بن ثَور: مُحَلاًةُ طَوقٍ لَم يَكُنْ عن ... تَميمةٍ ... ولا ضَرْبِ صَوَّاغٍ بِكَفَّيهِ ... دِرْهَمَا فأعلموا صَوَّاغا في درهم، وهو واحد ـــــ فالمراد هنا: درهًما فما فوقه، كما تقول: ما رأيتُ نافِخَ ضَرَمةٍ كزيد واحدًا فما فوقه. وهذا العموم يكون مع النفي كما كان في البيت حيث قال: ولا ضَرْبِ صَوَّاغٍ. وأحكام هذه الأمثلة أحكام اسم الفاعل، إلا أنّ ما كان منها بغير أل في جواز إعماله خلاف: ذهب أبو بكر بن طاهر وتلميذه ابن خروف إلى جواز إعماله ماضيًا، وذلك لِما فيه من المبالغة وللسماع الوارد بذلك، قال:

بَكَيتُ أخا لاواء .................. ... .................................... البيت؛ ألا ترى أنه يَندب ميِّتًا، فدلَّ ذلك على أنه يريد بضَرُوب معنى الماضي. ورُدَّ هذا بأنه محمول على حكاية الحال، كما قالوا في قوله {وكلبهم بسط ذراعيه}. /وقوله ورُبَّما بُني فَعَّال إلى آخره مثال ذلك: دَرَّاك مِن أَدْرَكَ، وساِّر مِن أَسأَرَ، ومِعْطاء ومِهْداء ومِعْوان مِن أعطى وأَهدى وأَعان، ونَذير وأَليم وسَميع مِن أنْذَرَ وآلَمَ وأَسْمَعَ، ومنه قول الشاعر: أَمنْ رَيحانةَ الدَّاعي السَّميعُ ... يُؤَرِّقُنِي، وأَصْحابِي هُجوعُ ورَهُوق من أَرْهَقَ، قال الشاعر: جَهُولٌ، وكانَ الَجهلُ منها سَجِيَّةً ... غَشَمْشةٌ، لِلقائدينَ رَهُوقُ يصف ناقة، ومعنى غَشَمْشة: عزيزة النفس، ورَهُوق: كثيرة الإرهاق لمن يقودها. ص: ولا يَعمل غيرُ المعتمِد على صاحبٍ مذكورٍ أو منويِّ، أو على نفيٍ صريحٍ أو مؤوَّلٍ، أو استفهامٍ موجودٍ أو مقدَّرٍ، ولا الماضي غيرُ الموصول به

«أل» أو محكيُّ به الحال، خلافًا للكسائي، بل يَدُلُّ على فعلٍ ناصبٍ لِما يقع بعدَه مِن مفعولٍ به يُتَوَهَّمُ أنه معموله. وليس نصبُ ما بعدَ المقرونِ بـ «أل» مخصوصًا بالمضيِّ، خِلافًا للرُّمَّانيَّ ومَن وافَقَه، ولا على التَّشبيه بالمفعول به، خِلافًا للأخفش، ولا بفعلٍ مُضمَرٍ، خِلافًا لقومٍ. ش: أمَّا اشتراط اعتماده على ما سنذكر فهو مذهب جمهور البصريين، وذهب الأخفش والكوفيون 1 إلى أنه لا يُشترط في إعماله الاعتماد. واستدلَّ الأخفش على إعماله غيرَ معتمد بقوله تعالى {ودانية عليهم ظللها} في قراءة من رفع (دانية)، فـ (دانيةٌ) عنده مبتدأ، و (عليهم) متعلق به، و (ظلالُها) فاعل بـ (دانية). وقد تقدَّم هذا المذهب في باب المبتدأ. ولا حجة له في هذه الآية لاحتمال أن تكون (دانيةٌ) خبرًا مقدمًا، و (ظلالُها) مبتدأ. ومثال اعتماده على صاحبٍ مذكورٍ ما مثْل به المصنف من قوله: زيدٌ مُكرِمٌ رجلاً طالبًا العلمَ مُحَقِّقًا معناه، فمَثًلَ بما وقع خبرًا وصفةً وحالاً، واكتفى بقوله مُكرِمٌ رجلاً عن أن يعتمد ثانيًا لأداة النسخ، نحو: كان زيدٌ ضاربًا عمرًا، وإنَّ زيدًا ضاربٌ عمرًا، وأعلَمتُ زيدًا عمرًا ضاربًا جعفرًا. وأصحابنا يفصَّلون الاعتماد، فيقولون: شرطه أن يعتمد على أداة نفي أو أداة استفهام، أو يقع صلةً أو صفةً أو حالاً أو خبرًا لذي خبر، أو ثانيًا لظننتُ، أو ثالثًا لأَعلَمتُ.

ولو تقدَّم الوصف على ما هو خبر له، نحو: مررتُ برجلٍ ضاربٌ أخوه زيدًا، على معنى: أخوه ضاربٌ زيدًا، بالابتداء والخبر ـــ لكان قبيحًا. ومنهم من جوَّزه على ضعف. ومثالُ اعتماده على صاحب مَنْوِيِّ قولُ الشاعر: وما كُلُّ ذي لُبِّ بمُؤْتِيكَ نُصْحَهُ ... وما كُلُّ مُؤْتٍ نُصْحَهُ بِلَبِيبِ وقولُ الآخر: / إنِّي حَلَفْتُ بِرافِعِينَ ... أَكُفّهُمْ ... بينَ الَحطيمِ وبينَ حَوضَيْ ... زَمْزَمِ وقولُ الآخر: فَريقانِ: مِنهم جازِعٌ بَطْنَ نَخْلةٍ ... وآخَرُ مِنهمْ قاطِعٌ نَجْدَ كَبْكَبِ وقولُ الآخر: إنَّ النَّدَى وأبا العَباسِ فارتْحِلُوا ... مِثلُ الفراتِ إذا ما مَوْجُهُ زَخَرَا إن تَبْلُغُوه تَكُونُوا ... مِثْلَ مُنْتَجِعٍ ... غَيْثًا ... يَمُجُّ ثَراهُ ... الماءَ ... والزَّهَرَا وقال السهيلي: «يقبح إعماله في المفعول إذا جعلتَه فاعلاً أو مبتدأ، أو أدخلتَ عليه عوامل الأسماء كحروف الجر، أو جعلتَه مفعولاً لِما تمحض معنى الاسم» انتهى كلامه. ولذلك شرط في إعماله أن يعتمد على أداة نفي أو استفهام، أو يقع صلةً أو صفةً أو حالاً أو خبرًا. قال السهيليُّ: «وأمَّا:

وكَمْ مالِئٍ عَينَيهِ مِنْ شيءِ غَيرِهِ ... إذا راحَ نحوَ الَجمرةِ البيضُ كالدُّمَي فحَسُنَ إعماله لأنه نعت، والمعنى: وكم رَجُلٍ مالئٍ عينيه. ولا يشبه: هذا غلامُ ضاربٍ زيدًا وإن كان معناه: هذا غلامُ رجلٍ ضاربٍ زيدًا؛ لأنك إذا حذفت المنعوت بعد «كم» كانت كم هي ذلك الاسم في المعنى، بخلاف قولك: غلامُ رجلٍ ضاربٍ زيدًا؛ لأنَّ الغلام ليس هو الرجل في المعنى، فمِن ثَمَّ لم يَنُب مَنابَه إذا حُذف؛ لأنه غيره، فهذا الفرق بينهما. ويجوز على هذا القياس: كلُّ مُكرِمٍ زيدًا فأَكرمْه؛ لأنَّ كلاَّ بمنْزلة كم في النيابة عن المنعوت؛ إذا ليس بغير له» انتهى. والسماع في الأبيات السابقة يردُّ على السهيليَّ ما قاله. وقوله أو مؤوَّل يعني بالنفي الصريح، ومن ذلك قولُ الشاعر: وإن امرأ لم يُعْنَ إلا بصالحٍ ... لغَيرُ مُهِينٍ نَفسَهُ بالمطامِعِ وفي البسيط: «وأمَّا ما هو معمول للتابع الحقيقي فهل هو في حكم ما هو تابع، كقولك: مررتُ برجلٍ غيرِ ضاربٍ أخوه عمرًا، وهذا رجلٌ غيرُ ضاربٍ أخوه عمرًا، فجوَّزه بعضهم لم يجوز هذا، بل قال: يحتاج فيه إلى اعتماد. وإنما جاز هذا المثال المذكور لأنَّ غيرًا فيها معنى النفي، فهو معتمد على النفي، فلو قلت زيد مثلُ ضاربٍ أخوه عمرًا لم يجز، وفيه نظر». وقوله أو استفهامٍ موجودٍ مثاله قوله: أناوٍ رِجالُكَ قَتلَ امْرئٍ ... مِنَ العِزِّ في حُبِّكَ اعْتاضَ ذُلاً وقوله أو مُقَدَّرٍ مثاله: ليتَ شِعْري مُقيمٌ العُذْرَ قَومي ... لِيَ أَمْ هُمْ في الُحبَّ لِي عاذِلُونا /تقديره: أَمُقيمٌ.

وذكر المصنف في غير هذا الكتاب من وجوه الاعتماد أن يعتمد على حرف النداء، وأنشدَ قول الشاعر: فيا مُوِقدًا نارًا لغيرِكَ ضَوءُها ... ويا حاطِبًا في غَيرِ حَبْلِكَ تَحْطِبُ ولم يذكر ذلك أصحابنا. وقد نازع المصنفَ ابنُه بدر الدين، فقال: «المسّوغ في النداء هو اعتماده على موصوف محذوف، وليس حرف النداء؛ لأنه ليس كالاستفهام والنفي في التقريب من الفعل؛ لأنَّ النداء من خواص الأسماء». وزاد بعض النحويين في وجوه الاعتماد أن يعتمد على إنّ، فأجاز: إنَّ قائمًا زيدٌ، على أن يكون قائمًا اسم إنَّ، وزيد فاعل به أغنى عن الخبر. ونسبه الصَّيْمَريُّ إلى البصريين. والصحيح أنَّ «إنَّ» حرفٌ غيرُ طالب للفعل، وأنه يختصُّ بالمبتدأ، ولا يُبطل عملَه تأخيرُه؛ لأنه قويُّ كالفعل. وذهب بعض النحويين إلى أنه إذا تباعد عنه معموله مقدَّمًا عليه لم يعمل فيه، كقولك: عبدَ اللهِ جاريتُك أبوها ضاربٌ، وأكثر النحويين يجيزونه، كأبي العباس وغيره.

وقوله ولا الماضي غيرُ الموصول به إلى آخر المسألة اسمُ الفاعل إذا كان ماضيًا وليست فيه أل في إعماله خلاف: ذهب البصريون إلى منع إعماله؛ لأنَّ اسم الفاعل إنما شثبَّهَ بالمضارع، فهو يعمل بمعنى الحال والاستقبال. وفي البسيط: «الماضي يُشبِه فِعلَه في المعنى في أنَّ له تعرُّضًا للزمان الخاصَّ به، وما ليس كذلك يُشبِهه في أمرٍ معنويِّ، وهو تعرضه للزمان الخاصِّ به، ولفظيِّ، وهو مشابهته في عِدَّة الحروف وموازنة الحركات، فيكون هذا الضرب أقوى في قصد الفعل، ويبعد به عن الوصف، لكنَّ شبهته أنه لَمَّا اشتُقَّ للصفة في أنه دالَّ على حصول معنًى في محلِّ صحَّ جريانه وصفًا، والماضي أَبعَد، فيَقرُب من الوصف، فلذلك لا خلاف في إعمال الأول لحصول المشابهة، واختلفوا في إعمال الماضي» انتهى. وذهب الكسائيُّ وهشام وأبو جعفر بن مضاء صاحب «كتاب الُمشرق» ـــــ قيل: والعراقيون ــــ إلى جواز إعماله ماضًيا. ويسميه العراقيون إذا عمل فِعلاً، وإذا لم يعمل اسمًا، ولا مُشَاحَّةَ في الاصطلاح. واستدلُّوا بأنه إنما عَمل لكونه في معناه ومشتقُّا منه، ولأنه يَطلب ما يَطلب الفعل، والفعلُ إنما عَمل لكونه يَطلب في المعنى، وكذلك هذا، فليعمل، ولا يتخصص به ماضٍ من مستقبل. واستدلُّوا على جواز

ذلك من السماع بقوله تعالى {وكلبهم باسط ذراعيه بالوصيد} وبقول الشاعر: ومَجْرٍ ... كَغُلاَّنِ الأُنَيْعِمِ ... بالغٍ ... ديارَ ... العَدُوِّ ذي ... زهُاءٍ ... وأَرْكانِ وبقول الآخر: فَرِيقانِ: مِنهُم جازِعٌ بَطْنَ نَخْلةٍ ... ......................................... البيت. فـ «باسِطٌ» بمعنى بَسَطَ؛ لأنه إخبار عما مضى. وواو رُبَّ كرُبَّ، تخلص ما تدخل عليه إلى الماضي. و «جازِعٌ بَطنَ نخلة» إخبار عما مضى؛ بدليل قوله: / ولِلِه عَيْنَا مَنْ رأى مِنْ تَفَرُّق ... أَشَتَّ وأَنْأَى مِنْ ... فِراقِ ... الْمُحَصَّبِ وقالت العرب: هذا مارُّ بزيد أمسِ فَسُوَيْئرٌ فَرْسَخًا. وتأوَّلَ مَن منع ذلك هذا السماعَ بأنَّ ذلك حكاية حال، قالوا: والدليل على أنَّ اسم الفاعل إذا أُعمل والمعنى على المضيَّ المرادُ به حكاية الحال أنه لا يوجد عاملاً إلا في موضع يَسوغ فيه وقوع الفعل المضارع؛ نحو قولك: كان زيدٌ ضاربًا

عمرًا، فالضرب ماضٍ من جهة المعنى، وقد عَمل اسم الفاعل، ولو صَرَّحتَ هنا بالفعل كان مضارعًا. ووقوعُ الماضي ضعيف، فلولا أنهم أرادوا حكاية الحال في هذا الموضع ما كان وجهٌ لوقوع المضارع فيه. وكذلك: جاء زيدٌ واضعًا يدَه على رأسه، لو أتيتَ بالفعل لقلت: جاء زيدٌ يضعُ يدَه على رأسه، فدلَّ على أنهم قصدوا حكاية الحال. ولذلك أعربه النحويون في هذا الكلام حالاً وإن كان المعنى على المضيَّ. فالواو في {وكَلُبهُم بسِطُ} واو الحال، فهو إذًا من المواضع التي يقع فيها المضارع وإن كان ماضيًا من جهة المعنى، تقول: جاء زيدٌ وأبوه يَضحك، ولا يَحسُن: وأبوه ضَحِكَ. وأمَّا «بالغٍ ديار» فساغ ذلك لأنك لو أتيت مكانه بمضارع لساغَ؛ لأنَّ؛ لأنَّ رُبَّ تَصرف معناه إلى المضيِّ دون لفظه. وخرَّجه ابن طاهر على إضمار فعل، أي: يَبلُغ ديارَ العدوّ. وإنما يثبت ما قال الكسائيُّ ومَن معه أنْ لو حُكي من كلامهم: هذا ضاربٌ عمرًا أمسِ؛ لأنك لو أتيت منها بالفعل وجب أن يكون ماضيًا، فكنت تقول: هذا ضربَ زيدًا أمسِ، ولا يحسُن: هذا يضرب زيدًا أمسِ. وأمَّا هذا مارُّ بزيدٍ أمسِ فلا حجة فيه؛ لأنه عَمل في المجرور، وليس بمفعول صحيح، والظرف والمجرور يعمل فيهما اللفظ المتحمَّل لمعنى الفعل وإن لم يكن مشتقَّا، فالأَحرى أن يعمل فيه اسم الفاعل بمعنى المضيِّ لأنه مشتقّ. ومما يُبين فساد هذا المذهب أيضًا تعريف اسم الفاعل الماضي بالإضافة إلى المعرفة؛ ولو كانت إضافتُه مِن نصبٍ لم يتعرَّف، كحاله إذا كان بمعنى الحال أو الاستقبال؛ ومن تعريفه بالإضافة قول الشاعر: لئن كنتَ قد بُلَّغْتَ عَنِّي خِيانةً ... لَمُبْلِغُكَ الواشي أَغَشُّ ... وأَكْذَبُ

فـ «مُبْلِغُكَ» اسم فاعل بمعنى الماضي، وقد تعرَّف بالإضافة، ولذلك وصفه بالمعرفة، وهو الواشي، ولا يوجد من لسانهم: مررتُ بضارب هندٍ أمسِ ضاحكٍ. وزعم الفراء 1 أن َّ مِن العرب مَن لا يُعَرَّف اسم الفاعل بمعنى المضيَّ بالإضافة، كما أنه بمعنى الحال والاستقبال كذلك، وأنشد: يا رُبَّ ... هاجي ... منْقَرٍ ... يَبتَغي به ... لِيَكْرُمَ ... لَمَّا ... أَعْوَزَتْهُ ... الْمَكارِمُ واستدلُّوا على المضيَّ بقوله: لَمَّا أَعْوَزَته. قال: «وسَمع أعرابيًا يقول بعد انصرام /رمضان: يا رُبَّ صائمِه لن يَصومَه وقائمه لن يَقومَه». قال: وكَثُرَ في كلامهم: الضارِبُه والشاتِمُه، لّما لم يتعرَّف بالإضافة. وهذا عند البصريين متأوَّل، أمَّا «يا رُبَّ هاجِي منْقَر» فقد يكون هاجي أضيف بمعنى الحال. وأمَّا «يا رُبَّ صائمه» فيريد: يا رُبَّ مُقَدِّر في نفسه صومَه، والعرب تقول: إنه مسافرٌ غدًا، أي: يُقَدَّرُ في نفسه السفرَ غدًا، ومنه: مررتُ برجلٍ معه صقرُ صائدًا به غدًا. وأمَّا «الضاربُه» فالهاء عند البصريين مفعوله. وإنما بَنى الفراء على أصله في جواز: الضاربُ زيدٍ. وحكى بعض شيوخنا الإجماع على أنَّ اسم الفاعل الماضي يتعرف بما أضيف إليه. وهذا الخلاف الذي ذكرناه في عمل اسم الفاعل الماضي دون «أل» هو بالنسبة إلى المفعول به، فأمَّا هل يرفع الفاعل فمسألة خلاف: ذهب بعضهم إلى أنه

لا يعمل في الفاعل كما لا يعمل في المفعول به، وبه قال ابن جني، قال في حرف الواو من «سر الصناعة» له: «إنَّ اسم الفاعل بمعنى المضي لا يرفع الظاهر». وهو اختيار الأستاذ أبي علي والمتأخرين من أصحابنا. وذهب بعضهم إلى أنه يرفع الفاعل. واختاره ابن عصفور. وهذا الخلاف إذا كان الفاعل ظاهرًا. فإن كان مضمرًا فحكى ابن عصفور اتفاق النحويين على أنه يرفعه. وليس كما ذكر، بل في ذلك خلاف: ذهب الجمهور إلى أنه يرفعه. وذهب أبو بكر بن طاهر وابن خروف إلى أنه لا يرفع المضمر. والذي تلقفناه أنه لا شتقاقه يتحمل الضمير. وهنا فرع اختلف فيه البصريون، وهو إذا كان اسم الفاعل ماضيًا، وكان فعله مما يتعدَّى إلى أكثرَ من واحد، وذلك نحو: هذا مُعطي زيدٍ درهمًا أمسِ، فذهب الجرميَّ والفارسيُّ والجمهور إلى أنَّ الثاني منصوب بفعلٍ مضمرٍ يفسِّره اسمُ الفاعل. ووقفوا في ذلك مع الأصل، وهو أنَّ اسم الفاعل بغيرِ «أل» لا يعمل إذا كان ماضيًا، فالتقدير: أعطاه درهًما.

وذهب السيرافيُّ والأعلمُ وبعض المحققين كأبي عبد الله بن أبي العافية والأستاذ أبي عليَّ وأكثر أصحابه إلى أنه منصوب بنفس اسم الفاعل وإن كان بمعنى الماضي. وهو اختيار أبي جعفر بن مضاء. قالوا: لأنه قَوِيَ شَبَهُه بالفعل هنا، وذلك أنه يطلب ما بعده من جهة المعنى، ولايُمكِنُ إضافتُه إليه؛ لأنه قد استقلّ لإضافته إلى الأول، فأشبهَ الفعلَ بهذا؛ لأنَّ الفعل يطلب ما بعده، ولا يُمكن إضافته إليه، وصار في ذلك كالمعرَّف بالألف واللام، فكما أن َّ اسم الفاعل المعرَّف بالألف واللام يعمل ـــ وإن كان بمعنى المضي ـــــ لنيابته مناب الفعل، على ما سيذكر إن شاء الله ـــ فكذلك يَعمل في الثاني إذا كان معرَّفًا بالإضافة إجراءً له مُجراه لِشَبَهِه به من حيث كونه معرفة مثله. واستُدِلً لصحة هذا القول باسم الفاعل من باب ظَنَّ إذا قلت: /هذا ظانُ زيدٍ قائمًا أمسِ، فظانّ يطلب اسمين، ولا يجوز حذف أحدهما اقتصارًا، فلو نصبتَ قائمًا بمضمر لزِمك حذف الثاني الذي يطلبه ظانّ، ولا يجوز حذفه اقتصارًا، فيبقى حذفه اختصارًا، والمحذوف اختصارًا بمنْزلة الثابت، فيلزم أن يكون اسم الفاعل عاملاً فيه، أو تقدّر لذلك المحذوف عاملاً فيه، أو تقدّر لذلك المحذوف عاملاً، فيلزم حذف الثاني لاسم الفاعل، ويرجع الكلام في هذا المحذوف الثاني، وبتسلسل إلى ما لا نهاية له. وبهذا اعتَرضَ أبو الفتح على أبي عليِّ، فسكت. قال بعض أصحابنا: «وإذا لزم إعمال ظانّ بمعنى الماضي في الاسم الثاني وجب أن يُعتقد مثل ذلك في مُعطي زيدٍ أمسِ درهمًا وأمثاله. وهذا الإلزام لا مخلص

منه لمن يعتقد أنّ الثاني منصوب بفعل مضمر إلا أن تقول إنَّ العرب لا تقول هذا ظانُّ زيدٍ أمسِ قائمًا. وإنما استغنت عنه بقولها: هذا ظَنَّ زيدًا أمس قائمًا، وفي ذلك خروج عما عهد في الأفعال المنصرفة من أنه يجوز أن يعني اسم الفاعل منها الحال والاستقبال والمضي» انتهى كلامه. وسألت شيخنا الأستاذ أبا الحسن بن الضائع عن هذه المسألة، وذكرتُ له هذين المذهبين واعتراض ابن جني وسكوت أبي علي عنه، فقال: سكوت أبي علي استهزاء به وبضعف اعتراضه لا قصور، والصحيح ما ذهب إليه أبو علي. ثم أملى عليَّ ما نصه: «فإن قيل: هذا لا يُتَصَوَّر في باب الظن مِن قَبَلِ أنه لا يجوز فيه الاقتصار، وكذلك الاختصار؛ لأنَّ المحذوف اختصارًا كالمنطوق به، فإن قدَّرتَ عاملاً لزم التسلسل. فالجواب من وجهين: أحدهما: أنَّ قولهم هذا ظانُّ زيدٍ إنما يكون على حد قولهم: ظننتُ بزيد، ثم جئت باسم الفاعل منه، فقلت: هذا ظانُّ زيدٍ، فأصله: ظانُّ بزيدٍ، ولا يحتاج هذا مفعولين ثم حَذفتَ وأَضَفتَ، فـ «زيد» في الموضعين ليس مذكورًا على أنه مفعول به، بل على أنه محلَّ لوقوع الظن» انتهى هذا الوجه، وهو إحالة لصورة المسألة؛ لأنَّ الخلاف إنما وقع في اسم الفاعل الماضي المضاف إلى المفعول الأول والجائي بعده المفعول الثاني منصوبًا؛ فهل يُنسب العمل في الثاني إليه أو إلى فِعلٍ محذوف؟ ولم يقع الخلاف في هذا التركيب إلا على هذا التقدير. وأمَّا إجازته على أنه اسم فاعل من قولهم ظننتُ بزيدٍ، أي: جعلتُه مَوضِعَ ظَنَّي، ولا يتعدى إذ ذاك إلى مفعولين، نحو قوله

فَقُلتُ لهمْ: ظُنُّوا بأَلْفَيْ مُدَجَّجِ ... سَراتُهُمُ في السَّابِريَّ الُمسَرَّدِ فليس المتنازع فيه، بل تخريج هذا التركيب على هذا التأويل هو إقرار بصحة الإلزام. وقد تنبه المصنف في الشرح لقريب مِن هذا التخريج الذي خَرّجه شيخنا أبو الحسن، فقال: «وأمَّا هو ظانُّ زيدٍ فاضلاً ـــــ يعني وهو ماضٍ ـــــ فليس فيه إلا حذف أوَّل مفعولي ظنّ /المدلول عليه بظانّ، وذلك شبيه بحذف ثاني مفعولي ظنَّ المحذوف في: أزيدًا ظننتَه فاضلاً، وأمَّا ظانّ فليست إضافته على نية العمل فيطلب مفعولا ثانيًا، ولكن إضافته كإضافة اسم جامد، وكاستعماله غير مضاف في نحو: هذا ظانُّ أمس زيدًا فاضلاً، على نصب زيد وفاضل بـ «ظَنَّ» مدلولاً عليه باسم الفاعل، فهذا وأمثاله لا خلاف في جوازه، وبه يُتَخلَّص من إعمال اسم الفاعل الماضي غير موصول به الألف واللام» انتهى كلامه. والوجه الثاني من الوجهين اللذين ذكرهما الأستاذ أبو الحسن: «أنَّ حذف الاقتصار إنما امتنع حيث لا يذكر المفعول الثاني، فأمَّا إذا كان قد اشتمل على المعمولين معًا ــــ وإن لم يذكر الثاني على أنه مفعول بذلك الفعل ـــــ فإنه يجوز، كقولهم: ظننتُ أنَّ زيدًا منطلقُ، لّما اشتمل الكلام على ذكر المفعولين معًا ــــ وإن لم يكن لظننت إلا مفعول واحد هنا ــــ جاز، فكذلك مسألتنا، قد اشتمل الكلام فيها على ذكر المفعولين معًا، وكذلك في الاشتغال إذا قلت: أزيدًا ظننتَه منطلقًا، فلا يحتاج هنا تقدير مفعول ثانٍ لظننتُ المحذوفة؛ لأنَّ المفعول الثاني قد ذُكر مع المفسَّر، ولذلك لم يحتج في أقائمٌ أخواك لتقدير خبر؛ لأنه قد اشتمل على ذكر الخبر والمخبر عنه. وكذلك قولهم: عسى أن تقوم، لا تحتاج إلى تقدير خبر لعسى؛ لأنَّ اسمها قد اشتمل على ذكر الاسم والخبر».

قال شيخنا أبو الحسن: «انفصل بهذا شيخنا أبو زكرياء بن ذي النون عما ألزم أبو علي في قوله: إنه منصوب بإضمار فعل، وهو انفصال صحيح، ولم أره لغيره» انتهى. وهذا الوجه الذي انفصل به أبو زكرياء عن الاعتراض قد تقدَّمه إلى مثله الأستاذ أبو جعفر أحمد بن الإمام أبي الحسن بن الباذش، نقلتُ من خطه: «مما يدلُّ على أنَّ قوله {وجاعِلُ اللَّيلِ سَكَنًا} منصوب بإضمار فعل ما يذهب إليه أبو علي قولُهم: عبدَ الله أظنُّه ذاهبًا، ولولا التباس إحدى الجملتين بالأخرى ما جاز أن تقول: أظنُّ عبدَ الله؛ لأنَّ الاقتصار لا يجوز، ولكنَّ الحذف لدلالة المفعول في الجملة الثانية» ما نقلته من خطه. ولما كان هذا الاعتراض قويَّا عند الأستاذ أبي الحسين بن أبي الربيع أنكرَ مجيء ذلك من لسان العرب، وقال: «لايجوز: هذا ظانُّ زيدٍ شاخصًا أمسِ؛ لأنك إن نصبتَ شاخصًا بإضمارِ فعلٍ كنتَ قد اقتصرتَ على واحد، ولا يجوز في باب ظنَّ، وإن نصبتَ بظانّ أعلمتَ اسم الفاعل بمعنى الماضي، وهذا لم يثبت». وقال أيضًا: «كان الأستاذ أبو علي يأخذ في الانفصال عنه وجهين، يعني عن اعتراض ابن جني على أبي علي:

أحدهما: أن يُفرق بين باب ظننتُ، فينصب باسم الفاعل لعدم جواز الاقتصار، وبين باب أعطيت، فينصب فيه بإضمار فعل لجواز الاقتصار. الثاني: أن يُدَّعى أنَّ العرب لا تقول: هذا ظانُّ زيدٍ شاخصًا أمسِ، وإنما تقول: هذا الظانُّ زيدًا /شاخصًا أمسِ؛ لأنَّ شاخصًا يتعذر أن يُنصب بظانّ؛ لأنه بمعنى الماضي، واسمُ الفاعل بمعنى الماضي لا يعمل، ويتعذر أن يُنصب بإضمارِ فعلٍ لِما فيه من الاقتصار حيث لا يُقتصر» انتهى، وفيه بعض تلخيص. وقال أبو عبد الله بن هشام الخضراوي: «انقطاع أبي عليَّ لأنَّ الفعل متصرف متعدِّ إلى اثنين، فيقاسه أن يجوز كسائر الأفعال المتصرفة، ولو رَكب أصله فقال: هذه المسألة لا تجوز لهذا الذي ذكرته، لم يُثبت فسادَ قوله إلا سَماعُها، وقد بحثتُ عن هذه المسألة، فما رأيتُ أحدًا حكاها مسموعة». وفي «الإفصاح»: ويتخلص أبو علي بعد إجازة هذه المسألة لوجه قاله الناس، وشيخه ممن خالف فيه، وهو أنَّ ما حُذف واستُغنِي عنه لمفسَّر يُفَسِّره إنما يُقَدَّر للاحتياج إليه وإصلاحًا للَّفظ لا لعمل يعمل فيه طالبه من جهة المعنى؛ نحو ما يجوز في الشعر من قوله: كي زيدٌ يقومَ، وقوله: ................................. ... أينما ... الريحُ ... تُمَيِّلْها ... تَمِلْ فـ «زيدٌ» يرتفع عندهم بالفعل المقدَّر، وذلك الفعل غير منصوب بـ «كي»، وكذلك «الريحُ» مرفوعة بـ «تَميل» مقدرة، وهي غير مجزومة، والمنصوب الفعل الظاهر. وكذلك قوله: زيدٌ الخبزَ آكلُه، إذا نُصب الخبز بآكِل مضمرة لا يكون ذلك المضمر خبرًا لزيدٍ ولا مرفوعًا به، وهذا الظاهر هو الخبر المرفوع بالمبتدأ. وكذلك: هذا مُعطي زيدٍ، وظانُّ زيد، قد عُلم مفعولهما، ولا يجوز ظهورهما في اللفظ لإغناء المذكور عنهما، ولا يُقَدَّر فيهما عمل كما تقدَّم، فإذا لم يُقَدَّر في محذوف ظانّ عمل، وكان في حكم الموجود ــــ لم يلزم فيه إجازته.

وقد مثَّل السيرافي بظانّ زيدٍ قائمًا، وذكر أنَّ النحويين ينصبون قائمًا، وذكر أنَّ النحويين ينصبون قائمًا بالمضمر، فلا يكون هذا القول إلا على هذا الوجه. إلا أنَّ شيخه أبا بكر كان يقول: العامل في الظاهر كي أخرى، وأينما أخرى، وضاربًا ذُكر عوضًا مما أُضمر. ويقول في آكِل الظاهر: هو خبر مبتدأ، والضمير هو خير الأول. وكان ابن خروف يقول في هذه المسألة: «الظاهر تابع للمضمر في إعرابه المقدَّر». وخطَّأه أشياخنا حين قال هذا القول؛ لأنَّ التابع لم يوجد بدلاً من المتبوع. وقد رأيت أبا بكر بن طاهر أشار إلى هذا القول، فقال في «طُرَره على الإيضاح»: «هذا عالُم زيدٍ أخاك، تنصبه بقول مضمر، وتحذف من الأول ما يكون في الثاني كما تحذف من الثاني». يعني: إذا قلت: هذا ظانُّ زيدٍ منطلقًا وعمرٍو ــــ تحذف منطلقًا لدلالة الأول عليه، وأصله أنَّ ما حذف من هذا فالمذكور عوض منه، وهو غير مقدَّر، كحذف الاستقرار في: زيدٌ عندك، وحذف الفاعل في: ضُرِبَ زيدٌ، والمفعول في: وُلد له ستون عامًا. وقوله وليس نَصبُ ما بعدَ المقرون بـ «أل» مخصوصًا بالُمضِيِّ، خلافًا للرُّمَّانيِّ ومَن وافَقه اسم الفاعل إذا دخلتْه «أل» عمل مطلقًا ماضيًا ومستقبلاً وحالاً. /وإنما عمل ماضيًا ـــــ وإن كان لا يشبه المضارع ــــ لأنَّ عمله بالنيابة، فنابت أل عن الذي وفروعه، وناب اسم الفاعل عن الفعل الماضي، فقام تأوُّله بالفعل مع تأوُّل «أل» بـ «الذي» مقام ما فاته بالشبه اللفظي، كما قام لزوم التأنيث بالألف وعدم النظير في الجمع مقام سببٍ ثان في منع الصرف؛ وصار وقوعه صلة لـ «أل» مصححًا لعمله بعد أن لم يكن عاملاً، وقال الشاعر في إعماله ماضيًا:

والله لا يَذهَبُ شَيخي باطِلا ... حتى أُبِيرَ مالِكًا وكاهِلا القاتلِينَ الَملِكَ الُحلاحِلا ... خَيَر مَعَدِّ حَسَبًا ونائلا وزعم قوم منهم الروماني أنه إذا دخلتْه «أل» لا يعمل إلا ماضيًا، ولا يعمل حالاً ولا مستقبلاً. وحملهم على ذلك أنَّ س حين ذكر اسم الفاعل بـ «أل» لم يُقَدِّره إلا بـ «الذي فعل». وس إنما أراد أن يبين أنه إذا دخل عليه «أل» عمل بمعنى الماضي؛ لأنه كان قبل دخولها لا يعمل وهو ماضٍ، وأمَّا إذا كان بمعنى المضارع فإنه لا يحتاج إلى ذكره؛ لأنه كان قد صحَّ له العمل قبل أل، فإذا اقترنت به أل كان أحقَّ بالعمل وأَولَى؛ لأنها إذا كانت مصحِّحة لعملِ ما كان لا يعمل فأَحْرَى أن يكون أَولَى بالعمل ما دخلت عليه مما كان عاملاً دونها، وقد وردَ السماع بذلك، قال الشاعر: إذا ... كُنتَ مَعْنِيَّا بِجُودٍ ... وسُؤْدَدٍ ... فلا تَكُ إلا الْمُجْمِلَ القَولَ والفِعْلا وقال عمرو بن كلثوم: وأنّا الُمنْعِمُونَ إذا قدَرْنا ... وأنّا الُمهْلكونَ إذا أُتِينا وأنَّا الشَّارِبُونَ الماءَ صَفْوًا ... ويَشْرَبُ غيرُنا كَدَرَّا وطِينا وقال تعالى {والحفظين فروجهم والحفظت والذكرين الله كثيرا والذكرات}. ولقائل أن يقول: عمل في الظرف، ورائحة الفعل تعمل في الظرف، وما عمل في المفعول احتمل أن يكون بعضه ماضيًا.

ومما يدلُّ على عمله غيرَ ماض قوله: الشاتِمَيْ عِرْضي، ولَمْ أَشْتُمْهُما ... والناذِرَينِ إذا لَمَ الْقَهُما دَمِي وقوله ولا على التشبيه بالمفعول به، خلافًا للأخفش أل عند الجمهور إذا دخلت على اسم الفاعل كانت موصولة. وذهب الأخفش إلى أنها ليست موصولة، بل هي حرف تعريف كهي في الرجل، ودخولُها على اسم الفاعل يُبطل عمله كما يُبطله التصغير والوصف؛ لأنه يَبعُد عن الفعل بدخول ما هو من خواصَّ الاسم عليه، والمنتصف بعده إنما هو على التشبيه بالمفعول به، ومثل الوجه في قولك: الحسنُ الوجهَ، فلذلك لا يتقدم /عليه، كما لا يتقدم الوجه على الحسن. ورُدَّ هذا المذهب بأنَّ المنصوب بالصفة المشبهة لا يكون إلا سببيَّا مشروطًا فيه شروط تُذكر في باب الصفة المشبَّهة؛ وهذا ينصب السَّبَبِيَّ والأجنبِيَّ، نحو: مررتُ بالضاربِ غلامَه، وبالضاربِ زيدًا. ورُدَّ أيضًا بأنَّ اسم الفاعل بمعنى المضيَّ لو كان المنتصب بعده على طريق التشبيه لجاز أن ينتصب الاسم بعده وإن لم تدخل عليه أل؛ فلمَّا لم ينتصب بعده دلَّ على بطلان مذهبه. ويبين أنه مفعول باسم الفاعل ـــــ وعمل اسم الفاعل كما قلنا إذا لحقته أل في الأحوال الثلاثة ــــ أنَّ عمله إذ ذاك من جهة أنه ناب مناب الفعل لا للشَّبه، فإذا قلت الضارب فهو في معنى: الذي ضرب، أو: الذي يضرب. ويدلُّ على ذلك عطف الفعل عليه في نحو {إن المصدقين والمصدقت وأقرضوا}، والرجوع إلى الفعل في الضرورة، قال:

ما أنت بالَحكَمِ التُّرْضَى حُكُومتُهُ ... .................................... وأصحاب الأخفش يقولون: إن قُصد بأل العهد فالنصب على التشبيه، وإن قُصد معنى الذي فالنصب باسم الفاعل. وقوله ولا بفعلٍ مضمرٍ، خِلافا لقوم فإذا قلت: جاءني الضاربُ زيدًا، فيقدرونه: ضربَ، أو: يضربُ زيدًا. وهذا إضمار غير محتاج إليه، فلا يُتَكَلَّف. وتبيَّنَ بذكر هذا الخلاف في إعمال اسم الفاعل وفيه «أل» عدمُ اطَّلاع بدر الدين محمد ابن المصنف، فإنه ذكر في شرحه أرجوزة أبيه ما نصه: «وإعمال اسم الفاعل مع الألف واللام ماضيًا كان أو حاضرًا أو مستقبلاً جائز، مرضيُّ عند جميع النحويين». -[ص: يُضافُ اسمُ الفاعلِ المجردُ الصالُح للعمل إلى المفعول به جوازًا إن كان ظاهرًا متصلاً، ووجوبًا إن كان ضميرًا متصلاً، خلافًا للأخفش وهشام في كونه منصوبَ المحلّ. وشذَّ فصلُ المضافِ إلى الظاهرِ بمفعولٍ أو ظرفٍ.]- ش: يعني بـ «المجرد» العاريَ من «أل»، وستأتي إضافة المقرون بـ «أل». والصالحُ للعمل احتراز من الذي يُراد به المضيّ، فإنه يضاف إلى متعلقه وجوبًا كإضافة الأسماء الجوامد، ويسقط منه التنوين والنون للإضافة كما تسقط من نحو غلام وغلامين، وتبين، فتقول: هذا ضاربُ زيدٍ أمسِ، وهذان ضاربا زيدٍ أمسِ. وقال بعض المتأخرين في هذا قاتلُ عمرٍو أمسِ: «هي محال». ولا أدري ما الذي جعله به محالاً. وقوله إلى المفعول يعني أو ما يشبه المفعول، نحو ما قال الخليل: هو كائنُ أخيك، وكان ينبغي ألا يضاف؛ لأنَّ الشيء لا يضاف إلى نفسه، والخبر هو

الاسم في باب كان، وكونهم قد أضافوه دليل على أنَّ الإضافة على نية التنوين، ولولا ذلك ما ساغت الإضافة. وقوله جوازًا يعني أنه تجوز الإضافة، / ويجوز النصب، فيثبت التنوين والنون، قال تعالى {هديا بلغ الطكعبة}، وقال {غير محلى الصيد}، وقال {إنك جامع الناس}، وقال تعالى {ولا ءامين البيت الحرام}، وقال {والله مخرج ما كنتم تكتمون}. ولا يجوز حذف النون من المثَّنى والمجموع إلا شاذَّا، كقراءة أبي السَّمَّال العَدَوِيّ {إنكم لذآيقوا العذاب الأليمـ} بالنصب، وقال أبو زيد: لَحَنَ أبو السَّمَّال في هذا الحرف بعد أن كان فصيحًا. ولا ينبغي أن يُلَحَّن؛ لأنَّ غيره قد قرأ {غير معجزي الله} بالنصب، و {إنا مرسلو الناقة}، وقال سُوَيْد (¬10): ومَساميحُ بِما ضُنَّ بِهِ ... حابِسُو الأَنْفُسَ عن سُوءِ الطَّمَعْ وقال آخر (¬11):

يقولون: ارْتَحِلْ قَتِّلْ قُرَيشًا ... وهُمْ مُتَكَنَّفُو البيتَ الَحراما بنصب الأنفس والبيت، والأمثلةُ الخمسة حكمُها في ذلك كاسم الفاعل. وظاهر كلام س يدلُّ على أنَّ النصب أَولى من الجرّ، وقال الكسائي: «هما سواء». والذي يظهر لي أنَّ الجر بالإضافة أَولى؛ لأنَّ الأصل في الأسماء إذا تعلق أحدهما بالآخر الإضافة، والعمل إنما كان بجهة الشَّبَه للمضارع، فالحملُ على الأصل أَولى، وهو الإضافة. واحتراز بقوله متصلاً من ألاَّ يتصل المفعول باسم الفاعل، فانه إذ ذاك ينتصب لا غير، كقوله {إنى جاعل في الأرض خليفة}. ومثالُ ما كان ضميرًا متصلاً قولك: زيدٌ مُكرمُك، وهذان مُكرماك، وهؤلاء مُكرِمُوك. ويعني باتصاله أن يتصل باسم الفاعل، فإن لم يتصل فالنصب، نحو قوله: لا تَرْجُ أو تَخْشَ غيرَ اللهِ، إنَّ أَذًى ... واقِيكَهُ ... الله ... لا يَنْفَكُّ ... مَأمُونا فالهاء في «واقيكَهُ» ضمير لم يتصل باسم الفاعل، فهي في موضع نصب لا غير. وما ذكرناه من أنه تجب الإضافة إذا كان ضميرًا متصلاً باسم الفاعل هو مذهب س والمحققين. وذهب الأخفش وهشام إلى أنَّ الضمير في موضع نصب، وأنَّ التنوين والنون حُذفا لِلَطافة الضمير. قالا: وموجب النصب المفعوليَّة، وهي محقَّقة، وموجب الجر الإضافة، وهي غير محقَّقة؛ إذ لا دليل عليها إلا حذف التنوين

والنون، ولحذفها سبب غير الإضافة، وهو صون الضمير المتصل من وقوعه منفصلاً. وما ذكراه ضعيف؛ لأنَّ النصب الذي تقتضيه المفعوليَّة لا يلزم كونه لفظيَّا، بل يُكتفى فيه بالتقدير، ولذلك جاز أن يزاد بعض حروف الجر مع بعض المفعولات، نحو {رَدِفَ لَكُم}، وخَشَّنتُ بصدره، ولو كان كما ذكراه لا متنعت إضافة اسم الفاعل إلى المفعول في نحو: هذا ضاربُ زيد، ولو جب النصب؛ لأنَّ مقتضي النصب موجود، وهو المفعوليَّة، وذلك لم يمتنع، فدلَّ على أنه ليس النصب لازمًا عن المفعوليَّة. وأمَّا جعل سبب حذف التنوين والنون صون الضمير /المتصل من وقوعه منفصلاً فمستغنًى عنه؛ لأنَّ غلإضافة تحصّل ذلك، ولأنَّ مقتضى الدليل بقاء الاتصال بعد التنوين والنون؛ لأنَّ نسبتهما من الاسم نسبة نون التوكيد من الفعل، فاتصال الضمير لا يزول بنون التوكيد، فكذلك لا يزول بالتنوين والنون. والصحيح ما ذهب إليه س؛ لأنَّ الظاهر هو الأصل، والمضمر نائب عنه والظاهر إذا حذف التنوين والنون من اسم الفاعل كان مجرورًا، فكذلك المضمر الذي ناب عنه، وإذا كانوا قد نسبوا الجر للمضمر حيث لا يصلح للظاهر في نحو لولاك وعساك فأَحرى أن يَنسبوا لما يظهر الجر في ظاهره. وفي «البسيط»: وإنما يظهر الفرق بين المذهبين بالسماع، ولم أقف عليه، وذلك في العطف، فلو سمعناه معطوفًا عليه لظهر إمَّا الخفض وإمَّا النصب، وقال تعالى {إنا منجوك وأهلك} نصبًا، لكن لا حجة فيه لاحتمال أن يكون {وَأَهّلَكَ} منصوبًا بفعل مضمر، أو على الموضع.

ومما استُدلَّ به لـ «س» من جهة السماع أنَّ النون قد تثبت قليلاً مع المضمر، فدلَّ على أنه محذوف لا للمعاقبة، وجاء على الأصل مَنبَهة. وذُكر أنَّ الأخفش استدلَّ على ذلك بأنَّ هذه الضمائر يلزم حذف التنوين لها لكونها لا تستقلُّ، فصارت بمنْزلة الألف واللام، والإضافة في المعاقبة هنا إنما هي تخفيف، وقد انحذف، فلزم النصب. وأجاز هشام إثبات النون والتنوين وإن كان الضمير متصلاً، فأجاز: هذا ضاربُنك وضاربُني وضارِبانِي وضارِبونِي، وأنشد: وما أَدري ــــ وظَنِّي كُلَّ ظَنِّ ــــ ... أَمُسْلِمُنِي إلَى قَومِي شَراحِ وقال آخر: وليسَ بِمُعْيينِي، وفي الناسِ مُمْتَعٌ، ... رَفيقٌ، إذا أَعيا رَفيقٌ ومُمْتَعُ وقال آخر: أَمُسْلِمُنِي لِلمَوتِ أنتِ فَمَيِّتٌ ... ....................................... وقال الآخر: ................................. ... وليسَ حامِلُنِي إلا ابْنُ حَمَّالِ وقال آخر: ولم يَرْتَفِقْ، والناسُ مُحْتَضِرُونَهُ ... جَميعًا، وأَيدِي الُمعْتَفِينَ رَواهِقُهْ

وقرأ بعضهم {هل أنتم مُطْلِعُونِ}، حذف نون الجميع، وأثبت نون الوقاية على سبيل الشذوذ، والوجه: هل أنتم مُطْلِعِيَّ، كقوله: (أَوَمُخْرِجِيَّ هُم). وحمل غيره من النحويين هذا على أنه إنما جاء في الشعر، ولا يجوز في الكلام، وإثبات التنوين أو إدخال نون الوقاية تشبيهًا لاسم الفاعل بالفعل ضرورة. ويَرد على قول المصنف ووجوبًا إن كان ضميرًا متصلاً وقد فسَّر هو الاتصال بأن يكون الضمير يتصل باسم الفاعل مسألة يكون فيها الضمير متصلاً باسم الفاعل، ويجوز فيه الجر بالإضافة، والنصب، تقول: زيدٌ كائنٌ أخاك، وزيدٌ كائن أخيك، أَجرَوا اسم الفاعل مِن كان الناقصة وخبره مُجرى اسم الفاعل /من غيرها والمفعول، فإذا أتيتَ بالضمير بعد اسم الفاعل من كان الناقصة جاز فيه وجهان: أحدهما الجرّ بالإضافة، فتقول: المحسنُ زيدٌ كائنه. والثاني نصبه، فينفصل، فتقول: المحسنُ زيدٌ كائنٌ إياه، فهذا ضمير قد اتصل باسم الفاعل، ولم يجب فيه الإضافة. وله أن يقول: كلامنا إنما هو في اسم الطالب مفعولاً به، وهذا ليس بمفعول به حقيقة، وإنما هو مشبَّه بالمفعول. وقوله وشَذَّ فصلُ المضافِ إلى ظاهرٍ بمفعولٍ أو ظرف مثالُ الفصل بالمفعول قراءةُ من قرأ {مخلف وعده رسله} بنصب (وعده) وجر (رسله). ومثالُ الفصل بظرف قولُ الشاعر:

وكَرَّارُ خَلفَ الْمُجْحَرِينَ جَوادِهِ ... إذا لَمْ يُحامِ دونَ أُنْثَى حَليلُها وقول الآخر: رُبَّ ابْنِ عَمِّ لِسُلَيْمَى مُشْمَعِلْ ... طَبَّاخِ ــــ ساعاتِ الكَرَى ـــــ زادِ الكَسِلْ فصل بالظرف بين المثال والمجرور المضاف إليه، وحكمه حكم اسم الفاعل. -[ص: ولا يُضافُ المقرونُ بالألف واللام إلا إذا كان مثنَّى، أو مجموعًا على حدِّه، أو كان المفعولُ به معرَّفًا بهما، أو مضافًا إلى معرَّفٍ بهما، أو إلى ضميره ولا يُغني كونُ المفعول به معرَّفًا بغير ذلك، خلافًا للفراء، ولا كوُنه ضميرًا، خلافًا للرمانِيِّ والمبرِّد في أحد قوليه.]- ش: اسم الفاعل ذو «أل» مثنَّنى أو مجموعًا جمع سلامة لمذكر يجوز أن يضاف إلى المفعول مطلقًا، سواء أكان نكرة أم معرفة، بأيِّ جهة تعرَّف، وذلك إذا كان يليه، وإن لم يله فالنصب، وإذا وليَ فإن أثبتَّ النون فالنصب، وإن حذفتَها وقدَّرتَ حذفها للإضافة فالجرّ، وهو الأكثر، ولذلك أكثر القراء على الحرّ في قوله تعالى {والمقيمى الصلوة}، وقال الشاعر في المجموع: ليسَ الأَخِلاَّءُ بِالْمُصْغِي مَسامِعِهِمْ ... إلى ... الوُشاةِ ... ولو كانُوا ذَوِي رَحِمِ وقال آخر في المثنَّى: إنْ يَغْنَيا عَنِّيَ ... الُمسْتَوطِنَا عَدَنٍ ... فإنَّنِي لَستُ ... يومًا ... عنهما ... بِغَنِي وإن حذفتَها وقَدَّرتَ حذفها للطول تخفيفًا نصبتَ وإن كان لم يجز ذلك قبل دخول أل؛ لأنَّ اسم الفاعل بأل من قبيل الموصولات، فكما أنَّ حذف النون يجوز من الموصول في الذين واللذين لطوله بالصلة فكذلك يجوز في هذا، وقال:

الحافِظُو عَورةَ العَشيرةِ لا ... يَأتِيهمُ مِن وَرائنا وَكَفُ وقال آخر: / قَتَلْنا ناجِيًا بِقَتيل عَمرٍو ... وخيرُ الطالِبِي التِّرةَ الغَشُومُ هكذا رواه ابن جني بنصب التَّرة، وقرأ الحسن وبعض رواة أبي عمرو {وَاَلَمُقِيمِى الصلاةَ}، بنصب التاء، وأنشد المصنف دليلاً على النصب في المثنَّى قولَ الشاعر: خَلِيلَيَّ، ما إنْ أنتما الصَّادِقا هَوًى ... إذا خِفْتُما فيه عَذُولاً ... وواشِي ولا دليل فيه لاحتمال أن يكون هوًى مجرورًا؛ لأنه مقصور، لا يظهر فيه نصب ولا جرّ وقوله أو كان المفعولُ به معرَّفًا بهما يعني أنَّ اسم الفاعل إذا كان بأل وليس مثنَّى ولا مجموعًا فإنه تجوز إضافته إلى ما يليه مما ذكر؛ فمثالُ إضافته إلى ما فيه أل قول الشاعر: أَبَانا بِها قَتْلَى، وما في دِمائها ... شِفاءٌ، وهُنَّ الشافِياتُ الَحوائمِ ومثالُ إضافته إلى مضافٍ إلى عُرِّفَ بهما قولُه:

لقد ظَفِرَ الزُّوَّارُ أَقْفِيةِ العِدَا ... بما جاوَزَ الآمالَ مِ القَتلِ والأَسْرِ وقوله أو إلى ضميره أي: يضاف اسم الفاعل إلى مضاف لضمير ما فيه أل. وهذه مسألة خلاف: ذهب المبرد إلى أنه لا يجوز في هذا إلا النصب، ومنع الجرّ. والصحيح الجواز بدليل قوله 2: الوُدُّ أنتِ الْمُسْتَحِقَّةُ صَفْوِهِ ... مِنِّي وإنْ لَمْ أَرْجُ مِنكِ نَوالا هكذا رُوي بإضافة «المستَحِقَّة» إلى «صَفوِه»، و «صَفوه» مضاف لضمير مقرونٍ بأل، وهو الوُدّ. والأفصح في هذه المسائل الثلاث ترك الإضافة والنصب. وقوله ولا يُغني كونُ المفعول به معرَّفًا بغير ذلك، خلافًا للفراء يعني بغير ذلك من أل؛ إذ الإضافة إلى معرَّف بهما أو إلى مضاف إلى ضمير ما عُرِّفَ بهما، فتعريف الإضمار والعلمية والإشارة والمضاف لضمير اسم الفاعل يجري عنده مجرى المضاف لواحد من تلك الثلاثة، نحو: هذا الضارِبُك، والضاربُ زيدٍ، والضاربُ ذَينك، والضاربُ عبده، فيجيز في هذه كلها الجرّ. ومثَّل المصنف في الشرح بقوله: «المعينُ اللذين نصراك»؛ لأنَّ أل فيه عنده زائدة. ومَن ذهب إلى أنه تعرَّف بأل كان ذلك عنده من قبيل «هذا الضاربُ الغلامِ» في الجواز. وقال المصنف في الشرح 2: «ولا مستند له ـــــ يعني للفراء ــــ في هذا نثر ولا نظم، وله من النظر حظُّ، وذلك بأن تقدر الإضافة قبل الألف واللام عند قصد التعريف، فإنَّ مانع اجتماعهما مع الإضافة إنما هو توفِّي اجتماع معرِّفين، /وهو مأمون فيهما نحن بصدده، فلم يضر جوازه، ولا يلزم من ذلك جواز: الحسنُ وجهِه؛

لأنَّ المضاف والمضاف إليه فيه وفيما أشبهه شيء واحد في المعنى، فحقه أن يمنع هو وغيره مما إضافته كإضافته، إلا أنَّ المستعمل مقبول وإن خالف القياس، وما خالفَ القياس ولم يُستعمل تعيَّن اجتنابه، كالحسن وجهِه». وقوله ولا كونُه ضميرًا إلى آخره مثال ذلك، جاء الضاربُك والضارباك والضاربوك والضُّرَّابُك والضارباتُك والضَّواربُك. فإذا كان اسم الفاعل غير مثنَّى ولا مجموع جمع سلامة في المذكر ففي الضمير خلاف: ذهب س والأخفش إلى أنه في موضع نصب؛ لأنَّ الظاهر أصل، والمضمر نائب عنه، فلو جعلت مكانه اسمًا ظاهرًا لم يكن إلا منصوبًا، فكذلك الضمير هو موضع نصب. وذهب أبو العباس في أحد قوليه والرمانيُّ والفراءُ إلى أنه في موضع جرّ. أمَّا الفراء فإنه يُجيز فيه الجرَّ والنصب على أصله في إجراء المعارف كلها مُجرى ما فيه أل، أو ما أضيف إلى ما هما فيه، أو إلى مضاف إلى ضمير ما عُرِّف بهما كما تقدَّم. وأمَّا الرمانيُّ وأبو العباس في أحد قوليه فإنهما يلزمان الحكم بالجرّ. وتبعهما في ذلك الزمخشريُّ مع منعه جرَّ الظاهر الواقع موقعه.

والذي يقتضيه النظر أنه لا ينبغي أن ينجرّ بعد اسم الفاعل بالإضافة إلا ما كان يسقط من اسم الفاعل لأجلها ما يسقط للإضافة من غيره؛ وهو التنوين أو نون التثنية والجمع، لكنه وجدت الإضافة إذا كانت فيه أل، وكان بعده معرَّف بها، أو مضاف إلى معرف بها، أو إلى ضمير ما عُرِّفَ بها وإن لم يسقط من اسم الفاعل شيء، حملاً على: الحسن الوجِه، والحسن وجهِ الأخِ، كما حُمل: الحسن الوجهَ، والحسن وجهَ الأخِ، في النصب، على اسم الفاعل، فينبغي فيما ورد من ذلك الاقتصار عليه دون التعدي إلى سائر المعارف. فإن كان اسم الفاعل مثَّنى أو مجموعًا جمع سلامة في المذكر فقال المصنف في الشرح: «وأمَّا الضمير في نحو جاء الزائراك والمكرموك فجائز فيه الوجهان بإجماع؛ لأنهما جائزان في الظاهر الواقع موقعه» انتهى. وإنما جاز لأنه يمكن حذف النون منهما للإضافة، فيكون في موضع جرّ، ويمكن حذفها منهما للطول، فيكون في موضع نصب، وقد تقدَّم أنَّ الجرَّ في الظاهر هو الأكثر، فالمضمر كالظاهر في ذلك لأنه نائب عنه. ودعوى المصنف الإجماع على جواز الوجهين باطلة، بل في المسألة الخلاف: مذهب س ما ذكر من جواز الوجهين. وخالفه الجرمي والمازني والمبرد وجماعة، فجعلوا الضمير في موضع جرّ فقط، وكان سقوط النون أصلها أن يكون

للإضافة، واحتمل هنا أن تسقط للإضافة، واحتمل أن تسقط للطول، فحملناه على الأصل إذ لا ضرورة تدعو إلى ذلك، بخلاف الظاهر، فإنَّ ما ظهر فيه من النصب أحوج، واضطرنا إلى تقدير سقوطها /لغير الإضافة، ولا ضرورة تدعو هنا إلى ذلك، فالوقوف مع الأصل هو الواجب. وفي «الإفصاح» تعليل منع تقدير النصب ما نصه: «لأنَّ النصب لا يكون إلا بالنون أو تقديرها، وإذا لم يصحّ هنا اللفظ بالنون فكذلك لا يصحّ تقديرها؛ لأنَّ ذلك يفصل، وإذا لم تكن نون ولا تقديرها وجب الاتصال، وهي الإضافة. وإنما تعاقبت الضمائر المتصلة مع التنوين لأنها متصلة لا تنفرد، فضارعت التنوين، ولأنَّ التنوين يفصل، وهي متصلة، فلم يجمعوا بين اتصال وانفصال» انتهى. وفي «البسيط»: «وحاصل المذاهب في المتصل أربعة: فقيل: في موضع نصب مطلقًا، وهو ظاهر قول المبرد. وقيل: في موضع جرّ مطلقًا، إلا ما فيه تنوين إذا دخلت عليه الألف واللام، فإنه في موضع نصب. وقيل: ما فيه نون وألف ولام فيه الوجهان: النصب على تقدير حذف النون للتخفيف، والجرّ على تقدير الحذف للإضافة، وما عدا ذلك إن كان بغير لام التعريف فهو جرّ، وإن كان بها فهو نصب، وربما عُزي إلى س. والرابع: أن يكون في موضع جرّ مطلقًا، وهو قول الزمخشري» ولا يجوز إثبات النون مع الضمير إلا في ضرورة، نحو قوله: هُمُ القائلونَ الخيرَ والآمِرُونَهُ ... إذا ما خَشُوا مِنْ مُحْدَثِ الأمرِ مُعْظَما

وقد تأوَّل هذا البيتَ أبو العباس، وزعم أنَّ الهاء في «الآمِرونَهُ» هاء السكت، لحقت نون الجمع، فأصله: وألآمِرُونَهْ، ثم حرُكَّتَ بالضم على سبيل الضمير كما حركوها في قوله: يا مَرْحَباهُ بِحِمارِ ناجِيَهْ ... إذا دَنا قَرَّبْتُهُ لِلسَّانِيَهْ وقيل: هو مصنوع، فلا حجة فيه. وقياس مذهب هشام في جواز ضاربانِك أن يجيز ذلك في اسم الفاعل إذا كان مقرونًا بأل. -[ص: ويُجَرُّ المعطوفُ على مجرورِ ذي الألف واللام إن كان مثله، أو مضافًا إلى مثله، أو إلى ضميره، لا إن كان غير ذلك، وِفاقًا لأبي العباس.]- ش: مثال المسألة الأولى: جاء الضاربُ الغلامِ والجارية، ومثال الثانية: جاء الضاربُ الغلامِ وجاريِة المرأةِ، ومثال الثالثة: جاء الضاربُ المرأةِ وأخيها؛ لأنه بمنْزلة: جاء الضاربُ المرأةِ وجارية المرأة، فالضمير عائد على المرأة، وقال: الواهِبُ المِئةِ الهِجانِ وعَبدِها ... عُوذًا، تُزَجِّي خَلْفَها أَطفالَها

قال المصنف في الشرح: «فالمسائل الثلاث جائزة بلا خلاف» انتهى. وفي المسألة الثانية والثالثة خلاف، وهي أن يكون المعطوف مضافًا إلى ما فيه أل، أو إلى ضمير ما فيه أل، نحو: هذا الضاربُ المرأةِ وغلامِ الرجلِ، وهذا الضاربُ المرأةِ وغلامِها. قال الأستاذ أبو الحسن بن عصفور: «وخالف المبرد في المضاف إلى ضمير ما فيه الألف واللام، فلم يُجز إلا النصب على الموضع، ومنعَ الجر، كما خالفَ في مفعول اسم الفاعل إذا كان مضافًا إلى ما فيه الألف /واللام. والسماع يردُّ عليه، قال: الواهبُ المِئةِ الهجانِ وعَبدِها ... .................................... روي بنصب (وعبدها) وخفضه». وحكى الأستاذ أبو علي عن المبرد جواز: هو الضاربُ الرجلِ وغلامِه، وكأنَّ حكمه حكم ما فيه أل، وأنه بذلك المعنى جاز عنده، وعليه البيت، وأنَّ جوازه عند س لكونه تابعًا، والتابع يجوز فيه ما يجوز في المتبرع. فبين حكاية ابن عصفور والأستاذ أبي علي عن المبرد اختلاف، ويمكن أن يكون القولان له، واطلَّع كل واحد منهم على ما حكى عنه. وقوله لا إن كان غير ذلك وِفاقًا لأبي العباس أي: لا إن كان غيرَ واحد من المسائل الثلاث، كأنه يكون المعطوف علمًا، أو اسمَ إشارة، أو مضافًا إلى معرفة غير مصحلابة بأل، أو إلى ضمير ما يعود على أل، نحو هذا الضاربُ الرجلِ وزيدٍ.

قال المصنف في الشرح «فإنَّ س يجيز جرَّه، ومنعَ من ذلك أبو العباس ، وهو المختار عند أبي بكر بن السراج 3، وهو عندي أصحُّ القولين؛ لأنَّ العاطف كالقائم مقام العامل في المعطوف عليه. واسم الفاعل المقرون بالألف اللام على مذهب س وغيره من البصريين لا يَجُرُّ زيدًا ونحوه، فلا يصح أن يُعطف على المجرور به، ولا حُجَّة في نحو: رُبَّ رجلٍ وأخيه، ولا: أيُّ فَتَى هَيجاءَ أنتَ وجارِها ... ............................... لأنهما في تقدير: رُبَّ رجلٍ وأخٍ له، وأَيُّ فَتَى هيجاءَ أنتَ وجارٍ لها، ومثلُ هذا التقدير لا يتأتى فيما نحن بسبيله، فلا يصحُّ جوازه» انتهى. ومثل ما حَكى المصنف عن س حَكى الأستاذ أبو على، قال: «مذهب س جواز: هذا الضارب الرجل وزيدٍ، وهو الذي منع المبرد». وكذا قال صاحب «رؤوس المسائل» في مسائل الخلاف من تأليفه: «أجاز س: هذا الضاربُ الرجلِ وزيدٍ، وهذا الضاربُ الرجلِ وعبدِ الله، ومَنع ذلك المبرد» انتهى. والذي يدل عليه ظاهر كلام س أنَّ مثل «هذا الضاربُ الرجلِ وزيدٍ» سماع من العرب، قال س: «والذي قال: هو الضاربُ الرجلِ ـــــ قال: هو الضاربُ الرجلِ وعبدِ الله» وكان قد قدَّم قبل هذا: «ولا يكون: هو الضاربُ عمرٍو كما لا يكون: هو الحسنُ وجهٍ 8، ثم ساق مسألة العطف. فظاهر قوله: «والذي قال

كذا إلى آخره» هو سماع من العرب. وأَرى س أنَّ حكم التابع بخلاف حكم المتبوع، وأنَّ الاسم بعينه يجوز فيه تابعًا ما لا يجوز فيه لو لم يكن تابعًا، وعلى هذا أَنشد: أنا ابنُ ... التارِكِ ... الَبكرِيِّ بِشْرٍ ... ................................... وفَرَّ مما يلزم فيه على أن يكون بدلاً إلى أنه عطف بيان. وقد أَجحَفَ المصنفُ في حكم تابع معمول اسم الفاعل، فلم يَذكر من التوابع إلا العطف، ولم يَذكر إلا حكمه مع اسم الفاعل الذي فيه الألف واللام، ونحن نبسط الكلام في ذلك، ونستوفيه بالنسبة لاسم الفاعل وبالنسبة للتابع لمعموله، فنقول: إذا أَتبعتَ معمولَ اسم الفاعل الصالح للعمل فإمَّا أن يكون منصوبًا أو مخفوضًا، /إن كان منصوبًا كان التابع منصوبًا، فتقول: هذا ضاربٌ زيدًا وعمرًا، لا يجوز في التابع إلا النصب. وأجاز الكوفيون والبغداديون الخفض، نحو: هذا ضاربٌ زيدًا وعمرٍو، حملاً على موضع زيد؛ لأنه يكون مخفوضًا، وحملوا على ذلك قول امرئ القيس مستدلِّين به، وهو: وَظَلَّ طُهَارةُ اللَّحمِ مِنْ بَينِ مُنْضِجٍ ... صَفِيفَ شِواءٍ أو قَدِيرٍ مُعَجَّلِ عطفوا «أو قديرٍ» على موضع «صفيفَ»؛ لأنه يجوز خفضه بإضافة «مُنضِجٍ» إليه.

ولا حجة في ذلك ولا في كونه معطوفًا على الجواز، خلافًا لمن خرَّجه على ذلك؛ لأنه يمكن حمله على مُنْضِجٍ على تقدير محذوف، أي: ومُنْضِجِ قدير، فحُذف، وجُعل كالثابت لتقدُّم ذكره، وأو بمعنى الواو؛ لأنَّ «بينَ» تقتضي ذلك. وخرَّجه بعض أصحابنا أيضًا أن يكون معطوفًا على «شِواءٍ»، وتكون أو بمعنى الواو. وهذا ليس بشيء؛ لأنَّ الَينيَّة إنما هي في الطهارة لا في معمول اسم الفاعل، فصار نظير: الناسُ بين قارئٍ كتابَ أصولٍ ونحو. وإن كان المعمول مخفوضًا فإمَّا أن يكون التابع نعتًا أو تأكيدًا أو بدلاً أو عطفًا: إن كان نعتًا أو تأكيدًا فمن النحويين مَن قال: يتبع على اللفظ فقط، نحو: هذا ضاربُ زيدٍ الفاضلِ نفسِه. ومنهم من قال: يتبعه على اللفظ والموضع، فتجرّ أو تنصب. وإن كان بدلاً أو عطفًا فإمَّا أن يكون اسم الفاعل عاريًا من أل أو مقرونًا بها: إن كان عاريًا من أل فالجرُّ والنصب، نحو: هذا ضاربُ زيدٍ أخيك وعمرٍو، وهذا ضاربُ زيد أخاك وعمرًا. وهذا عند مَن لم يشترط الُمحْرز للموضع كالأعلم، وأمَّا من شَرَطَه فلا يجيز النصب، بل إن نَصب في العطف أَضمر له ناصبًا، وهو ظاهر قول س، قال س: «وإن شئتَ نصبتَ على المعنى، تُضمر له ناصبًا». وإن كان مقرونًا بأل فإمَّا أن يكون مثنَّى أو مجموعًا جمع سلامة في المذكر أو غيرها، إن كان مثَّنى أو جمع سلامة في المذكر فقال ابن عصفور: «جاز الخفض على اللفظ، والنصب على الموضع، نحو: هذان الضاربا زيدٍ أخيك وعمرٍو،

وهؤلاء الضاربو زيدٍ أخيك وعمرٍو، ويجوز النصب في البدل والمعطوف، فتقول: أخاك وعمرًا». وقال شيخنا الأستاذ أبو الحسن الأُبَّذِيّ ذلك في مسألة العطف، قال: «والخفض والنصب». قال: «إذ يُتَصَوَّرُ أن يكون مُحْرِزًا على أن يكون حذف النون للطول، نحو: هذان الضاربا زيدٍ وعمرًا وعمرٍو، وهؤلاء الضاربو زيدٍ وعمرًا وعمرٍو». وقال أيضًا في البدل: «على اللفظ وعلى الموضع، نحو: هذان الضاربا زيدٍ أخيك وأخاك، وهؤلاء الضاربو زيدٍ أخيك وأخاك» انتهى. وما أجازاه لا يجوز لفقد الُمحْرِز، وما ظنَّه شيخنا أبو الحسن مُحْرزًا ليس بمُحْرز، وقد وهم في ذلك لأنَّ النون تتنَزل منْزلة التنوين، فحذفها للإضافة كحذفه، فإذا حُذفت للإضافة لم يبق مُحْرِز للنصب؛ لأنَّ النصب لا يجوز مع تقدير حذفها للإضافة، كما أنه لا يجوز النصب مع حذف /التنوين. وغرّهما أنه يجوز النصب مع حذف النون للطول. وفرق بينهما؛ لأنَّ حذف النون للطول يجوز معه النصب كإثباتها، فتقديرها كالملفوظ بها، بخلاف حذفها للإضافة، فإنه لا يجوز فيه إلا الخفض، وهذا فرق فيه دِقَّة. وإن كان غيرها ــــــ وهو أن يكون مفردًا أو مكسرًا أو مجموعًا جمع سلامة في المؤنث ــــ فإمَّا أن يكون التابع عاريًا من أل، أو من إلإضافة إلى ما هي فيه، أو إلى ضمير يعود على ذي أل، أو شيئًا من ذلك: إن كان عاريًا فالنصب، نحو: هذا الضاربُ الرجلِ أخاك وزيدًا، والضُّرَّاب الرجلِ أخاك وبشرًا، والضاربات الرجلِ أخاك وبكرًا، ولذلك أعربوا: أنا ... ابنُ التارِكِ البَكْرِيِّ بِشْرٍ ... ....

عطف بيان، ولم يعربوه بدلاً؛ لأن عطف البيان يجري مجرى النعت، والبدل على نيَّة تكرار العامل. ولا يجوز إضافة شيء من ذلك إلى أخيك. وأجاز س العطف على اللفظ في ذلك، ومعه أبو العباس. وإن لم يكن عاريًا من شيء من ذلك فتقدَّم اختلاف النقل عن المبرِّد في مسألة عطف المضاف إلى ما فيه أل، وعطف المضاف إلى ضمير ما فيه أل. مسائل تتعلق باسم الفاعل: الأولى: يجوز تقديم معمول اسم الفاعل عليه، فتقول: هذا زيدًا ضاربٌ تريد: ضاربٌ زيدًا، إلا إن كان موصولاً بـ «أل» فلا يجوز تقديم معموله عليه، وقد سُمع التقديم للظرف والمجرور عليه. وفي إجازة ذلك وتأوُّله خلاف. أو مجرورًا بإضافٍة أو بحرفِ جرِّ غير زائد فكذلك، لا يجوز في: جاءني غلامُ ملازمٍ بابَك، ومررتُ بضاربً زيدًا ــــ إلا تأخيرُ المفعول. وأجاز بعض النحويين التقديم إذا كان مضافًا إليه: غير، أو جدّ، أو حَقّ، أو أَوَّل، فأجاز: هذا زيدًا غيرُ ضاربٍ، وهذا زيدًا جدُّ ضاربٍ، وهذا زيدًا حَقُّ ضاربٍ، وهذا زيدًا أَوَّلُ ضاربٍ. والصحيح أنَّ ذلك لا يجوز. وإن كان مجرورًا بحرف جر زائد، نحو: ليس زيدٌ بضاربٍ عمرًا ــــ فالمشهور والصحيح جواز التقديم، فتقول: ليس زيدٌ عمرًا بضاربٍ. وحُكي عن أبي العباس منعه.

الثانية: يجوز تقديم المفعول على المبتدأ إذا عَرِيَ المبتدأ من مانعِ تقديم، مثاله: زيدًا عمروٌ ضاربٌ، في: عمرُو ضاربٌ زيدًا. فإن كان المعمول لشيء من سبب المبتدأ، نحو: زيدٌ ضاربٌ أبوه عمرًا ـــــ ففي تقديمه على المبتدأ خلاف: أجاز ذلك البصريون والكسائيّ، فتقول: عمرًا زيدٌ ضاربٌ أبوه، كما جاز ذلك حين رفع الضمير ولم يرفع السببِيّ. ومنع ذلك الفراء. فإن كان اسم الفاعل خبرَ مبتدأ هو من سبب المبتدأ الأول، نحو: زيدٌ أبوه ضاربٌ عمرًا ــــــ فمنعَ تقديَمه على المبتدأ الأوَّل الكسائيُّ والفراء، وأجاز ذلك البصريون. الثالثة: إذا كان اسم الفاعل وما عُطف عليه من اسمِ فاعلٍ خبرًا عن مثنَّى أو جمع، نحو: هذان ضاربٌ زيدًا وتاركُه ـــــ فالمنصوص /أنه لا يجوز تقديم المفعول على اسم الفاعل، فلا تقول: هذان زيدًا ضاربٌ وتاركُه. قالوا: لأنَّ الفعل لا يصلح هنا، لو قلت: هذان يضربُ زيدًا ويتركُه ـــ لم يَجُز. وعلى هذا الذي نَصُّوا يجري المنع في: مررتُ برجلينِ ضاربٍ عمرًا وتاركِه، وجاءني رجلانِ ضاربٌ عمرًا وتاركُه. الرابعة: يجوز فصيحًا في معمول اسم الفاعل المتأخَّر أن يُجَرَّ باللام، ولا يجوز ذلك في الفعل إلا مع التقديم، وأمَّا مع التأخير فبابُه الشعر، قال: ومُشَقِّقاتٍ لِلْجُيُو ... بِ، عليَّ كالبَقَرِ الَحوائمْ

وكذلك في أبنية المبالغة، قال تعالى {فعال لما يريد} {وما ربك بظلم للعبيد} وقال الشاعر: ........................ ... قَؤُولٌ لِما قالَ الكِرامُ فَعُولُ

-[ص: فصل يَعمل اسمُ المفعول عملَ فعلِه مشروطًا فيه ما شُرِطَ في اسم الفاعل. وبناؤه من الثلاثيِّ على زِنةِ مَفْعُول، ومِن غيره على زِنةِ اسمِ فاعلِه مفتوحًا ما قبلَ آخره، ما لم يُسْتَغْنَ فيه بمَفْعُولٍ عن مُفْعَلٍ.]- ش: الضمير في قوله عَمَلَ فِعلِه عائد على المفعول، أي: عَمَلَ الفعلِ الذي لم يُسَمَّ فاعلُه، فيرفع المفعول به لفظًا أو محلاَّ، وما جاز أن يُقام مُقام الفاعل في الفعل جاز هنا. وقوله مشروطًا فيه ــــ أي: في عمله ـــ ما شرطَ في اسم الفاعل يعني من كونه لا يعمل إلا معتمدًا، ولا يكون مصغَّرًا ولا موصوفًا قبل العمل. وحُكمُه في ذلك وفي اعتبارِ الزمان والحملِ على الموضع واتِّصالِ الضمائر به حُكمُ اسم الفاعل اتِّفاقًا واختلافًا، تقول: هذا مشروبٌ ماؤه، وممرورٌ به، ومَكْسُوٌّ ابنُه جُبَّةً، ومَظنونٌ أبوه قائمًا، ومُسَمَّى ابنُه زيدًا، ومُعْلَمٌ أخوه عمرًا ذاهبًا. ومما جاء منه معتمدًا على موصوف منويِّ قولُ الشاعر: ونحن تَرَكْنا تَغْلبَ بْنةَ وائلٍ ... كَمَضْرُوبةٍ رِجْلاهُ مُنْقَطِعِ الظَّهْرِ وقول الآخر: فَهُنَّ مِن بَينِ مَتروكٍ، بهِ رَمَقٌ ... صَرْعَى، وآخَرَ، لم يُتْرَكْ بهِ رَمَقُ

أي: كرَجُلٍ مضروبةٍ رِجلاه، ومِن بينِ رَجُلٍ مَتروكٍ به رَمَقٌ. وذكر المصنف في أرجوزته أنه قد يضاف هذا ـــ[أي] اسم المفعول ـــ إلى الاسم المرتفع به معنًى، فقال: وقد يُضافُ ذا إلى اسمٍ مُرتَفِعْ ... مَعنًى، كـ «مَحمُودُ الَمقاصِدِ الوَرِعْ» وهذا بخلاف اسم الفاعل، فإنه لا يجوز إضافة اسم الفاعل إلى فاعله، لا تقول في مررتُ برجلٍ ضاربٍ أبوه زيدًا: برجلٍ ضاربِ أبيه زيدًا، ويجوز ذلك في اسم المفعول، فيجوز في مررتُ برجلٍ مضروبٍ غلامٌ شتمَه أن تقول: مررتُ برجلٍ مضروبِ /غلامٍ شتمَه، لكن الصحيح أنَّ هذه الإضافة إنما هي من منصوب لا من مرفوع، وتبيين ذلك في باب الصفة المشبهة إن شاء الله. وإذا تقرَّر هذا فإذا أضيف اسم المفعول إلى ما كان في الأصل مرفوعًا به فإن كان مما يتعدَّى لواحد فلا إشكال، نحو: مررتُ برجلٍ مضروبِ الظهرِ، أصله على الصحيح: مضروبٍ الظهرَ، فالإضافة من نصب. أو مما يتعدَّى إلى اثنين فأكثر فقياس هذا أن تقول: مررتُ برجلٍ مكسوِّ الأبِ جبَّةً، ومَظنونِ الأخِ قائمًا، ومُعْلَمِ الغلامِ عمرًا ضاحكًا، وقد منعوه. والسبب في منع ذلك أنَّ الإضافة هي من نصب على الصحيح، ورفضوا ذلك لأنه من حيث انتصابُ الثاني والثالث يكون حكمُه حكمَ اسم المفعول الذي يتعدَّى إلى المفعول به، ومن حيث انجرارُ ما يليه يكون حكمُه حكمَ الصفة المشبهة، ويختلف إذ ذاك حكمه بالنظر إلى المنصوبات؛ ألا ترى أنه يجوز في ذلك تقديم المنصوب لأنه مفعول به، ويلزم ألاَّ يجوز تقديم ما يلي اسم المفعول لو نُصب لأنه معمول الصفة المشبهة، وكل ما يُجرّ في باب الصفة

يجوز أن يُنصَب؛ لأنَّ الجر هو من النصب، ولا يوجد في كلامهم عامل يَنصب اسمين أحدهما مفعول به والآخر مشبَّه بالمفعول به فيتقدم المفعول به عليه؛ ولا يتقدم المشبَّه به، بل ما وُجد من ذلك يجوز تقديمه على العامل، فإذا قلت: هذا ضاربٌ اليومَ زيدًا، واتَّسعتَ في اليوم، فنصبتَه على التشبيه بالمفعول به ـــ فإنه يجوز تقديمه على ضارِب كما تُقدم زيدًا عليه، فلمَّا كان ذلك مؤديًا إلى المنع في باب اسم المفعول المضاف إلى ما بعده وما بعده منصوب رُفض جواز ذلك. وقوله وبناءه من الثلاثي على زنة مَفْعُول تقول: زيدٌ مَضروبٌ، وعمرٌو مَمْرُورٌ به، وبَكرٌ مَغضُوبٌ عليه، وهذا مُطَّرِد لا ينكسر. ويعني المصنف بقوله من الثلاثي أي: المتصرِّف، فإن كان لا يتصرف لم يُبْنَ منه اسم مفعول، نحو يَدَعُ. وذكر بعض أصحابنا أنه قد بُني مَفعُول من غير فِعل، قالوا: رجلٌ مَفْؤُودٌ، ولم يُصَرَّف منه فِعل. وذكر الأهوازي النحوي، وليس بأبي علي الأهوازي المقرئ، في «شرح الموجز» للرماني أنَّ نفعَ من الثلاثي المتعدي لا تقول في المفعول منه زيدٌ مَنفُوع. فإن كان ذلك نقلا عن العرب وقفنا عنده، وإلا فالقياس لا يمنع منه. وفي «البسيط» اسم المفعول جارٍ على فعله ــــ يعني المضارع ـــ في الحركات والسكنات، وهو فيما كان زائدًا على الثلاثة والشبه فيه حاصل وغير جارٍ فيعمل

لأنه في معنى الجاري. وأصله أن يكون من الثلاثي على وزن مُفْعَل، ثم عُدل عنه إلى مَفعول. قيل. لأنه يلبس بما هو من أَفْعَلَ، فأصل مَفعُول مُفْعَل بالزيادة، وكان الثلاثيُّ أَولى بالزيادة لِخِفَّتِه. وهو على قسمين: منه ما هو مبنيّ للمفعول. ومنه ما /اشتُقَّ له اسم من الفعل على رأي ليس بجارٍ، وذلك نحو الحَلَب: اسم المحلوب، والطَّرَد: اسم للمطرود، وليس ذلك بقياس فتفعله في مَضروب من ضرب، والظاهر أنه يجري مجرى مَفعول في أنه لا يُراعى عدم جريانه، ولا يُذكَر مثله في الفاعل، أعني أن يشتقَّ له ما ليس جاريًا. وقوله ومِن غيره ــــ أي: من غير الثلاثي ــــــ على زِنةِ اسمِ فاعِله فتقول مُكْرَم ومُسْتَخْرَج ونحوهما. وقوله ما لم يُسْتَغْنَ فيه بمَفْعُولٍ عن مُفْعَلٍ مَثَّله المصنف بِمَزْكُوم ومَحمُوم ومَحْزُون، قال: «ومنه مَحْبُوب في الأكثر». وقد تقدَّم له ذكرُ هذا الاستغناء في أوائل باب اسم الفاعل. -[ص: ويَنوبُ في الدّلالة لا العملِ عن مَفعُولٍ بقلَّةٍ فِعْلٌ وفَعَلٌ وفُعْلَةٌ، وبكثرة فَعيلٌ، وليس مَقيسًا، خلافًا لبعضهم، وقد يَنوبُ عن مُفْعَل.]- ش: مثالُ فِعْلٍ ذبْحٌ وطِحْنٌ ورِعْيٌ وطِرْحٌ. ومثالُ فَعَلٍ قَبَضٌ ونَقَضٌ ولَقَطٌ ولَفَظٌ. ومثالُ فُعْلةٍ أُكْلةٌ وغُرْفةٌ ولُقْمةٌ ومُضْغةٌ. هذا كله بمعنَى: مَذبُوح ومَطحُون ومَرعِيّ ومَطرُوح ومَقُبوض ومَنقُوض ومَلقُوط ومَلفُوظ ومأكُول ومَغرُوف ومَلقُوم ومَمضُوغ.

ولا يجوز لشيء منها أن يَرفع الفاعل، فلا يقال: مررتُ برجلٍ ذِبْحٍ كَبشُه، ولا: طِحْنٍ بُرُّه. وفي كلام ابن عصفور ما يدلُّ على الجواز، قال في «شرح المقرب» في آخر باب ما لم يُسَمَّ فاعله: «واسم المفعول وما كان من الصفات بمعناه حُكمُه بالنظر إلى ما يطلبه من المعمولات حُكمُ الفعل المبنيِّ للمفعول» انتهى. ويحتاج ذلك إلى سماع. ومثالُ نيابة فَعِيلٍ جَريحٌ وقَتِيلٌ وصَرِيعٌ ودَهِينٌ ورَمِيُّ وأَخِيذٌ ولَدِيغٌ وغَسِيل، وهو كثير في لسان العرب، ومع كثرته لا ينقاس، لا يقال ضَرِيب في مَضرُوب، ولا عَليِم في مَعلُوم، ولا قَوِيل في مَقُول، ولا بَيِيع في مَبِيع. فعلى ما ذكره المصنف لا يجوز أن تقول: مررتُ برجلٍ أبوه؛ لأنه جرى مجرى مَفعول في المعنى لا في العمل، وقد أجازه ابن عصفور، ويحتاج في ذلك إلى سماع. وقوله وليس مقيسًا، خلافًا لبعضهم ظاهره أنه أجاز بعضهم القياس على ما سُمع من ذلك، وكان ينبغى أن يقيّد ذلك، فإن الذي أجاز القياس على ما سُمع من ذلك شَرطَ فيه ألاَّ يكون له فَعِيل بمعنى فاعِل، فإن كان له ذلك لم يُجِزْه، نحو عَليِم بمعنَى عالِم، وقَدير بمعنى قادِر، وحَفيظ بمعنى حافِظ، فلا يُجيز أن يقال عَليم بمعنى مَعلوم، ولا قَدير بمعنى مَقدور، ولا حَفيظ بمعنى مَحفوظ؛ لئلا يُلبس، ويُجيز ذلك في نحو قَتيل، فإنه لا يُلبس. وقد غاب عن ابن المصنف الخلافُ في هذه المسألة، فقال في شرحه أرجوزة أبيه: «فَعيل بمعنى مَفعول كثير في كلام العرب، وعلى كثرته لم يُقَس عليه

بإجماع». وقد ذكر أبوه الخلاف فيه، وقد تكرر لأبيه ذكر هذه المسألة في «باب التذكير والتأنيث». ودلَّ قولُ المصنف إنه يَنوب في الدّلالة لا العمل أنه لا يجوز أن يَعمل فتقول: مررتُ برجلٍ كَحيلٍ عينُه، ولا: مررتُ برجلٍ قَتيلٍ أبوه، فترفع /العين والأبَ كما يجوز ذلك إذا قلت: مررتُ برجلٍ مَكحولةٍ عينُه ومقتولٍ أبوه، ويحتاج في منع ذلك أو إجازته إلى نقل صحيح عن العرب. وقوله وقد يَنوبُ عن مُفْعَلٍ مثالُه قولهم: أَعْقَدتُ العَسَلَ فهو عَقِيدٌ، بمعنَى مُعْقَد، وأَعَلَّه الَمرَضُ فهو عَليِلٌ، بمعنَى مُعَلّ. تم بحمد الله ــــ تعالى ـــــ وتوفيقه الجزء العاشر من كتاب «التذييل والتكميل» بتقسيم محققه، ويليه ـــ إن شاء الله تعالى ــ الجزء الحادي عشر، وأوله: «باب الصفة المشبهة باسم الفاعل»

التذييل ولتكميل في شرح كتاب التسهيل ألفه أبو حيان الأندلسي (654 - 745 هـ) حققه الأستاذ الدكتور حسن هنداوي كلية التربية الأساسية - الكويت الجزء الحادي عشر دار كنوز اشبيليا للنشر والتوزيع

باب الصفة المشبهة باسم الفاعل

-[ص: باب الصفة المشبهة باسم الفاعل وهي الملاقية فعلاً لازماً ثابتاً معناها تحقيقاً أو تقديراً، قابلة للملابسة والتجرد والتعريف والتنكير بلا شرط، وموازنتها للمضارع قليلة إن كانت من ثلاثي، ولازمة إن كانت من غيره، ويميزها من اسم فاعل الفعل اللازم اطراد إضافتها إلى الفاعل معنى.]- ش: الملاقية فعلاً جنس يشمل الصفة وغيرها من اسم الفاعل اللازم وغير اللازم. وقال المصنف في الشرح: "احترز به من نحو قرشي وبتات". يعني: فإنهما لا يلاقيان فعلاً، فلا يكون من باب الصفة المشبهة، وسيذكر هو في آخر الباب أنه قد يكون المنسوب من باب الصفة المشبهة. واحترز بقوله لازماً من الصفة المتعدية الملاقية فعلاً متعدياً، وسيذكر هو في آخر الباب صوغ هذه الصفة من فعل متعد، ونستوفي الكلام فيه. واحترز بقوله ثابتاً معناها تحقيقاً من نحو قائم وقاعد. وقال أصحابنا: اسم الفاعل الذي لا يتعدى كقائم وجالس ونائم يدخل في هذا الباب. وكذلك اسم المفعول كمضروب. وكذلك ما زاد على الثلاثة، نحو: منطلق الأب، ومنقطع القرابة، ومتكسر الثنايا. وفي "البسيط": "معنى الثبوت أنه خلاف الحدوث".

وعنى بقوله أو تقديراً مقدر الثبوت وإن لم يكن ثابتاً، نحو متقلب، فإنه يكون صفة مشبهة. قال المصنف في الشرح: "واحترز بقبول الملابسة والتجرد من أب وأخ". يعني أنهما وصفان لا يقبلان الملابسة والتجرد لمن جريا عليه. ولا ينبغي أن يحترز منهما لأنهما لم يدخلا في قوله "الملاقية فعلاً"؛ ألا ترى أنهما لم يلاقيا فعلاً بمعناهما، فلم يدخلا فيما قبل ذلك فيحترز منهما. وأيضاً فقد أخذ في الحد "ثابتاً معناها"، وما كان ثابتاً معناه لا يكون قابلاً للملابسة والتجرد، لو قلت مررت بزيد الطويل الأنف لم يقبل هذا الوصف الملابسة والتجرد بالنسبة إلى زيد؛ لأنه وصف ثابت المعنى له. قال المصنف في الشرح: "واحترز بقبول التعريف والتنكير بلا شرط من أفعل التفضيل". ولا ينبغي أن يحترز منه؛ لأنه لم يدخل فيما قبله؛ ألا ترى أنه قد قال "هي الملاقية فعلاً لازماً" وهي لا تلاقي فعلاً لا لازماً ولا متعدياً؛ لأنه لم يوجد فعل يدل على معنى التفضيل حتى تكون أفعل تلاقيه، ولا مصدراً بمعناه، وإنما هو مشتق من مصدر ليس بمعناه كما اشتق اسم الفاعل واسم المفعول ونحوهما. ومعنى قوله بلا شرط أن أفعل التفضيل/ يقبل التعريف والتنكير بشرط، وهو إذا كان بـ"من" منكر، وإذا كان بأل معرف، وإذا كان مضافاً فإما إلى نكرة فنكرة، أو إلى معرفة فمعرفة، وذلك على ما أحكم في بابه. وقوله وموازنتها للمضارع قليلة إن كانت من ثلاثي مثاله: ضامر الكشح، وساهم الوجه، وخامل الذكر، وحائل اللون، وظاهر الفاقة، وطاهر العرض.

وزعم الزمخشري أن الصفة المشبهة هي التي لا تجري على فعلها، نحو حسن وشديد، وهو ظاهر كلام أبي علي في "الإيضاح". وهذا خلف؛ ألا تراهم متفقين على أن قوله: من صديق أو أخي ثقة ... أو عدو شاحط دارا على أن شاحط صفة مشبهة، وقال الشاعر: ....................................... ... وإني إليك تائب النفس باخع وفي قول المصنف قليلة دليل على أن الكثير ألا تكون جارية على المضارع، نحو ضخم ولين وجميل وخشن وحسن ويقظان. وقوله ولازمة إن كانت من غيره نحو: منطلق اللسان، ومطمئن القلب، ومغدودن الشعر، ومستسلم النفس، وقال الشاعر: أهوى لها أسفع الخدين مطرق ... ريش القوادم، لم تنصب له الشرك وقال رجل من طيئ: ومن يك منحل العزائم تابعاً ... هواه فإن الرشد منه بعيد

وقوله ويميزها من اسم فاعل إلى آخره قال في الشرح: "يخرج بهذا اسم الفاعل الذي لا يتعدى، ولا يصلح أن يضاف إلى ما هو فاعل في المعنى، كماش وجالس ومنطلق إلى كذا ومستكين ومبسمل ومتجاهل" انتهى. وقد تقدم لنا أن أصحابنا يجعلون اسم الفاعل اللازم من باب الصفة المشبهة، نحو: قائم وجالس ونائم. وقوله اطراد إضافتها إلى الفاعل معنى ظاهر كلامه يدل على أن الإضافة من رفع، وكذا ذكر في أرجوزته، قال: صفة استحسن جر فاعل ... معنى بها المشبهة اسم الفاعل وهذه مسألة خلاف: فمن النحاة من زعم أن الإضافة من نصب لا من رفع، فإذا قلت مررت برجل حسن الوجه فأصله: حسن الوجه، بالنصب؛ لشبه الوصف اللازم بالوصف المتعدي، فنصب، ثم جر المنصوب كما جر منصوب اسم الفاعل المتعدي إذ كان قد استكن في الصفة المشبهة ضمير، وبقي الوجه فضلة، فانتصب، فجاز جره. وإلى هذا ذهب أبو محمد بن السيد والأستاذ أبو علي وأكثر أصحابه، فالخفض عندهم ناشئ عن النصب، والنصب ناشئ عن الرفع. /وذهب أبو زيد السهيلي إلى أن الإضافة من رفع، والنصب من خفض، فالخفض ناشئ عن الرفع، والنصب ناشئ عن الخفض.

وذهب الأستاذ أبو الحسن علي بن جابر الأنصاري - شهر بالدباج - وأبو عبد الله بن هشام الخضراوي إلى أنه يمكن أن تكون الإضافة من رفع؛ ويمكن أن تكون من نصب. قال الدباج: لما قلت: مررت برجل حسن وجهه، بالرفع - وهو الأصل - أردت أن تنقل الضمير إلى حسن مبالغة في الوصف، فبقي الوجه دون إعراب؛ إذ إعرابه قد انتقل إلى الضمير في حسن، فإما أن تنصبه على التشبيه ثم تخفضه بعد ذلك، وإما أن تخفضه من أول وهلة. وقد رد كونه يكون الخفض من رفع بأنه يلزم في ذلك إضافة الشيء إلى نفسه. وأجاب الدباج عن هذا بأنه إنما يلزم ذلك لو قلت: حسن وجهه، من غير نقل للضمير، أما بعد النقل فقد صار الحسن هو الضمير لا الوجه، فخفض الوجه بالإضافة على ما يجب في الأسماء من إضافة بعضها إلى بعض. ورد أيضاً هذا المذهب ابن عصفور، واستدل على أن الخفض من نصب بأن الجر إنما جاء على كونه من نصب لا من رفع بقولهم: مررت بامرأة حسنة وجهها، كما تقول: مررت بامرأة حسنة وجهها، فإلحاق التاء في حسنة مع الخفض دليل على أن الخفض من النصب، ولو كان من الرفع لكان بغير تاء. وقال بعض أصحابنا المتأخرين: ليس دخول التاء مع النصب بأولى من دخولها مع الخفض، وليس استحقاق دخولها مع الخفض لأجل ما كان الخفض منه، بل مقتضى دخولها حالة النصب والخفض هو كون الصفة مفرغة للأول مستكناً فيها ضميره؛ وفي حالة الرفع الوصف مفرغ للمرفوع، فيجري على حكمه من التذكير أو التأنيث، فإذا كان دخول التاء إنما كان مع الوصف غير المفرغ لما بعده

لم يكن في ذلك دليل على أن الخفض من نصب ولا رفع، وإنما كان يظهر الفرق بين الحالتين لو كان الخفض من الرفع والخفض من النصب متباينين، فكان يؤدي أحد الخفضين إلى معنى يلحظ فيه معنى المفعولية، كهو في اسم الفاعل، وكان الخفض الآخر يؤدي إلى معنى كما يؤدي الرفع، ولكن العربي إنما يتكلم بالخفض، ولا يتضح من كلامه فرق بين أن يكون الخفض من رفع أو نصب. وقد اختلف الناس في قول س: "وقد يجوز أن تقول في هذا: هو الحسن الوجه، على: هو الضارب الرجل، فالجر في هذا الباب على وجهين": فخرجه الدباج على أنه جر من رفع، وجر من نصب. وخرجه الأستاذ أبو علي على أن خفض الصفة للوجه قد يكون بإضافة أولية بحكم الأصل، كقولك: نزلت بنفس الجبل، وقبضت كل الدراهم، لأن إضافة حسن من جهة المعنى لما ثبت واستقر، فهي صحيحة من هذه الجهة، وإضافة ضارب بمعنى الحال والاستقبال غير صحيحة لأنها غير ثابتة، ولما لم يتصور ذلك في الضارب الرجل جعل مشبهاً، وعلى هذا قد يضاف الحسن الوجه المشبه بالضارب الرجل كإضافة الضارب الرجل، /فيكون محمولاً على الحسن الوجه الذي الألف واللام فيه داخلة بعد الإضافة. قال: وهذا معنى قول س. فقول س "على هو الضارب الرجل" أي: على حكمه، على أن تجعل الحسن الوجه الذي الألف واللام فيه داخلة قبل الإضافة مشبهاً بالحسن الوجه الذي الألف واللام فيه داخلة بعد الإضافة عوضاً من التعريف الذي منع. وقد أجاز المازني أن يكون النصب في الضارب الرجل بوجهين: حكم الأصل الداخل عليه الخفض، وبالتشبيه بالحسن الوجه، ينصبونه نصبه كما خفضوه خفضه.

-[ص: وهي إما صالحة للمذكر والمؤنث معنى ولفظاً، أو معنى لا لفظاً، أو لفظاً لا معنى، أو خاصة بأحدهما معنى ولفظاً، فالأولى تجري على مثلها وضدها، والبواقي تجري على مثلها لا ضدها، خلافاً للكسائي والأخفش.]- ش: الأولى كل صفة يصلح معناها للمذكر والمؤنث، وقد بنت العرب من اسمها لفظاً للمذكر والمؤنث، وذلك نحو الحسن والقبح والكرم والبخل. والثانية كل صفة يصلح معناها للمذكر والمؤنث، واختص كل واحد منهما بلفظ، وذلك نحو كبر الألية، فهذا معنى مشترك فيه، لكن خص المذكر بلفظ آلي، والمؤنث بلفظ عجزاء. والثالثة كل صفة معناها خاص بالمذكر أو المؤنث، واللفظ من حيث الوزن صالح للمذكر والمؤنث، وذلك نحو الحيض والخصاء، فمعنى الحيض مختص بالمؤنث، والصفة منه حائض على وزن فاعل، والخصاء معنى مختص بالمذكر، والصفة منه خصي على وزن فعيل، وهذان الوزنان صالحان للمذكر والمؤنث. والرابعة كل صفة معناها ولفظها خاص بالمذكر أو المؤنث، وذلك نحو الأدرة والكمرة، معناها خاص بالمذكر، واللفظ خاص به، تقول منهما في الوصف: آدر وأكمر. ونحو الرتق والعفل، معناها خاص بالمؤنث، واللفظ خاص به، تقول في الوصف: رتقاء وعفلاء. وقوله فالأولى تجري على مثلها وضدها يعني أنها يجري مذكرها على المذكر وعلى المؤنث، ومؤنثها على المؤنث والمذكر، وهو الذي يعبر عنه النحويون بأنه

يشبه عموماً، تقول: مررت برجل حسن الأب، وبرجل حسن الأم، وبامرأة حسنة الأم، وبامرأة حسنة الأب. وقوله والبواقي تجري على مثلها تقول: مررت برجل آلي الابن، وبامرأة عجزاء البنت، وبرجل خصي الابن، وبامرأة حائض البنت، ومررت برجل آدر الابن، وبامرأة رتقاء البنت، وهذا يعبر عنه النحويون أنه يشبه خصوصاً. وقوله لا ضدها، خلافاً للكسائي والأخفش يعني: فإنهما يجيزان جريان هذه الصفة على ضدها في الأقسام الثلاثة، فتقول: مررت برجل عجزاء بنته، وبامرأة آلي ابنها، وبرجل حائض بنته، وبامرأة خصي ابنها، وبرجل رتقاء بنته، وبامرأة آدر ابنها. وما ذكره المصنف من أن الخلاف في ثلاثة الأقسام/ غير موافق عليه، أما ما لفظه ومعناه خاص بالمذكر أو بالمؤنث نحو آدر وعذراء، أو ما معناه خاص بالمذكر أو المؤنث واللفظ من حيث الوزن صالح لهما - فنقل بعض أصحابنا اتفاق النحويين على أنه لا يشبه إلا خصوصاً، فيجري المذكر على المذكر والمؤنث على المؤنث، وأن الخلاف إنما هو عن الأخفش في الصفة التي هي مشتركة من جهة المعنى واللفظ مختص بالمذكر أو المؤنث نحو آلي وعجزاء. وأما ما ذكره من أن الكسائي أجاز ما ذكر فقد خالفه أبو جعفر النحاس في بعض الصور، قال أبو جعفر: "أجاز الأخفش: مررت برجل حائض المرأة، ومجصص الدار، وبامرأة خصي الزوج، ولا يجيز ذلك الكسائي ولا الفراء ولا أحد من البصريين غيره" انتهى. وهذا موافق لنقل أصحابنا عن الأخفش ونص عن الكسائي أنه لا يجيز ذلك، وهو خلاف لما نقل المصنف. وقال الجرمي في "الفرخ": "واعلم أنه محال أن تقول: مررت بامرأة خصية البعل، ومررت برجل حائض المرأة، لا يكون من الخصاء تأنيث، ولا من الحيض تذكير. وكذلك إذا كان الوصف مجموعاً والموصوف مفرد، وبالعكس، نحو:

مررت برجل كرام آباؤه، لا تقول: مررت برجل كرام الآباء، وكذلك برجال كريم أعمامهم، لا تقول: برجال كريم الأعمام" انتهى. ومن الناس من أجاز هذا كله اعتماداً على أن المعنى للسيي، وحملوا عليه قول الشاعر: فهل تسلين لهم عنك شملة ... مداخلة، صم العظام، أصوص جعلوا "صم العظام" نعتاً لـ"شملة"، وهي مفردة، وثم جمع أصم. وقد نوزع في هذا التخريج، فقيل: صم بدل من الضمير في مداخلة. وقيل: مرفوع بمداخلة على حذف العائد. ويقوي هذا رواية النصب في صم على التشبيه. قيل: وأما الرفع على النعت فبعيداً جداً. انتهى. ومثل المصنف هذا الفصل كله في الشرح برفع ما بعد الصفة، فقال: مررت برجل حسن بشره، وبامرأة حسن بشرها، وبامرأة حسنة صورتها، وبرجل حسنة صورته، ومررت بامرأة عجزاء أمتها، أتوم جارتها، عفلاء كنتها، فدل ذلك كله على أنه أدرج في الصفة المشبهة صورة رفع ما بعدها. وهذه مسألة خلاف: من النحويين من ذهب إلى أن الصفة إذا رفعت هي صفة مشبهة كحالها إذا نصبت أو خفضت؛ وهو اختيار الأستاذ أبي علي، ويظهر من كلام ابن جني. فعملها الرفع إنما هو بالحمل على اسم الفاعل لا على الفعل؛ لأنها ليست بجارية على الفعل، ولا يعمل عندهم الاسم رفعاً ولا نصباً ولا خفضاً

بالحمل على الفعل حتى يكون جارياً عليه، ولهذا لم يجز من ذهب إلى هذا إعمال اسم الفاعل بمعنى المضي لا في مرفوع ولا منصوب ولا مخفوض؛ فلم يجيزوا: مررت برجل ضارب زيداً أمس، ولا: قائم أبوه أمس. وإذا كانت كذلك تبين أن هذه الصفات/ إنما رفعت بالحمل على اسم الفاعل؛ لأنها غير جارية على الفعل. ومن النحويين من ذهب إلى أنها لا تكون صفة مشبهة إلا حالة النصب والجر، وهو اختيار ابن عصفور. فإذا رفعت هذه الصفة فبالحمل على الفعل، ولا يشترطون في الصفة إذا رفعت الجريان على الفعل في الحركات والسكنات وعدد الحروف؛ وإنما يشترطون ذلك فيها إذا عملت نصباً أو خفضاً، ويجيزون أن يقال: مررت برجل قاعد أبوه أمس. وقد تقدم لنا ذكر الخلاف في إعمال اسم الفاعل الماضي في المرفوع في "باب اسم الفاعل". ولم يتعرض المصنف لزمان هذه الصفة، وذكر ذكر في أرجوزته، فقال: وصوغها من لازم لحاضر ... كطاهر القلب جميل الظاهر وهي مسألة خلاف: ذهب أكثر النحويين إلى أنه لا يشترط أن تكون بمعنى الحال. وذهب أبو بكر بن طاهر إلى أنها تكون للأزمنة الثلاثة، وأجاز أن تقول: مررت برجل حاضر الابن غداً، فتكون بمعنى المستقبل. وذهب السيرافي إلى أنها أبداً بمعنى الماضي. وهو ظاهر كلام الأخفش، قال: الصفة لا يجوز تشبيهها إلا إذا ساغ أن يبنى منها قد فعل.

وذهب ابن السراج والفارسي إلى أنها لا تكون بمعنى الماضي. وهو اختيار الأستاذ أبي علي، قال: "وسواء أرفعت أم نصبت، لأنك إذا قلت مررت برجل حسن الوجه فحسن الوجه ثابت في الحال، لا تريد مضياً ولا استقبالاً؛ لأنها لما شبهت باسم الفاعل لم تقو قوته في عملها في الزمانين". وقد جمع بعض أصحابنا بين قول السيرافي وقول ابن السراج بأن قال: لا يريد السيرافي بقوله (إنها للماضي) أن الصفة انقطعت، وإنما يريد أنها ثبتت قبل الإخبار عنها، ودامت إلى وقت الإخبار. ولا يريد ابن السراج أنها إنما وجدت وقت الإخبار، فلا فرق بين القولين على هذا. وفي "البسيط": قال بعضهم: والصفة المشبهة باسم الفاعل تفارقه في أنها لا توجد إلا حالاً. وتقدم أن ذلك ليس على جهة الشرط، بل إن وضعها كذلك لكونها صفة دالة على الثبوت، والثبوت من ضرورته الحال، وأما على جهة الشرط فتكون حينئذ يصح تأويلها بالزمان، ولا يشترط إلا الحاضر لأنه المناسب. انتهى. * * *

-[ص: فصل معمول الصفة المشبهة ضمير بارز متصل، أو سببي موصول أو موصوف يشبهه، أو مضاف إلى أحدهما، أو مقرون بأل، أو مجرد، أو مضاف إلى ضمير الموصوف أو إلى مضاف إلى ضميره لفظاً أو تقديراً، أو إلى ضمير مضاف إلى مضاف إلى ضمير الموصوف.]- ش: ذكر أن معمول هذه الصفة يكون أحد عشر قسماً: الأول: مثاله مررت برجل حسن الوجه جميله، فمعمول جميله ضمير بارز متصل، وقال الشاعر: [5: 50/ب] /حسن الوجه طلقه أنت في السلـ ... ـم، وفي الحرب كالح مكفهر الثاني: مثاله: رأيت رجلاً جميل ما اشتمل عليه من الصفات. وأصحابنا عند ما عدوا معمول هذه الصفة لم يعدوا فيها الموصول. وذكر بعض شيوخنا أن من النحويين من أجاز أن يكون من وما الموصولتين. وذكر بعض أصحابنا عن بعض النحويين أن يكون السببي من الموصولة. واستدل على ذلك بقوله: ومهمه هالك من تعرجا يريد: من تعرج عليه. قال: ولا حجة فيه؛ لأن هالكاً واقع موقع مهلك، فليس بصفة مشبهة، بل من مفعول به، وفاعل قد يقع موقع مفعل، نحو وارس ويافع، من أورس وأيفع.

وهذا تخريج لا ينبغي؛ لأن "فاعل" بمعنى "مفعل" إنما أورد مورد الشذوذ، فلا ينبغي أن يخرج عليه، وقالت العرب: ورس ويفع، فجاء وارس ويافع على هذا الثلاثي، واستغنى به عن اسم فاعل من الرباعي لأنه بمعناه. وإنما يخرج على أنه اسم فاعل من هلك المتعدية، فإنه سمع متعدياً ولازماً. والصحيح أن الموصول يكون معمولاً لهذه الصفة، وورد به السماع، قال عمر بن أبي ربيعة: أسيلات أبدان، دقاق خصورها ... وثيرات ما التفت عليه الملاحف وقال آخر: إن رمت أمنا وعزة وغنى ... فاقصد يزيد العزيز من قصده الثالث: مثاله: رأيت رجلاً طويلاً رمح يطعن به. ولم أر أحداً من أصحابنا ذكر في معمول هذه الصفة أن يكون موصوفاً غير صاحب كتاب "التمهيد". والصحيح جواز ذلك، وقال الشاعر: أزور امرأ جما نوال أعده ... لمن أمه مستكفياً أزمة الدهر ومعنى قول المصنف "يشبهه" أن يكون موصوفاً بما يوصل به الموصول من جملة أو شبهها. الرابع: مثاله: رأيت رجلاً غني غلام من صحبه، وقال الشاعر: فعجتها قبل الأخيار منزلة ... والطيبي كل ما التأثت به الأزر

الخامس: مثاله: رأيت رجلاً حديد سنان رمح يطعن به. السادس: مثاله: (وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ). السابع: مثاله: مررت برجل حسن وجهه. الثامن: مثاله: مررت برجل حسن وجهه. التاسع: مثاله: مررت برجل حسن شامة خده، هذا مضاف إلى مضاف إلى الضمير لفظاً. العاشر: [مثاله]: مررت برجل حسن شامة الخد، قال: خفيضة أعلى الصوت، ليست بسلفع ... ولا نمة خراجة حين تظهر /فهذه مضافة إلى الضمير تقديراً، يريد: أعلى صوتها. الحادي عشر: مثاله: مررت بامرأة حسنة وجه جاريتها جميلة أنفه، فـ"أنفه" هو المعمول لجميلة، وهو مضاف إلى ضمير هو عائد على وجه، ووجه مضاف إلى جارية، وجارية مضافة إلى ضمير يعود على المرأة. وكذلك: مررت برجل حسن شامة خده شديد حلكتها. ويحتاج إلى إجازة هذا التركيب إلى سماع من العرب. وبقي تركيب آخر، قد ذكره المصنف في أثناء كلامه في الشرح، وهو أن يكون المعمول مضافاً إلى ضمير معمول صفة أخرى، نحو: مررت برجل حسن الوجنة جميل خالها، وهو تركيب نادر، قال الشاعر:

سبتني الفتاة البضة المتجرد الـ ... ـلطيفة كشحه، وما خلت أن أسبى -[ص: وعملها في الضمير جر بالإضافة إن باشرته وخلت من "أل"، ونصب على التشبيه بالمفعول به إن فصلت أو قرنت بـ"أل"، ويجوز النصب مع المباشرة والخلو من "أل" وفاقاً للكسائي. وعملها في الموصول والموصوف رفع ونصب مطلقاً، وجر إن خلت من "أل" وقصدت الإضافة. وإن وليها سببي غير ذلك عملت فيه مطلقاً رفعاً ونصباً وجراً، إلا أن مجرور المقرونة بـ"أل" مقرون، أو مضاف إلى المقرون بها، أو إلى ضمير المقرون بها. ويقل نحو: حسن وجهه، وحسن وجهه، وحسن وجه، ولا يمتنع، خلافاً لقوم.]- ش: إذا كان المعمول ضميراً فإما أن يكون مرفوعاً أو غير مرفوع، فإن كان مرفوعاً استتر في الصفة، وارتفع بها، مثاله: مررت برجل مؤشر الثغر صاف، تريد: صاف هو، أي: الثغر. وإن كان غير مرفوع، وباشرته الصفة، وخلت من أل - فالضمير مجرور بالإضافة، نحو: مررت برجل حسن الوجه جميله. وأجاز الفراء التنوين والنصب، فيقول: جميل إياه. وهو فاسد؛ إذ لا يفصل الضمير ما قدر على اتصاله. وقوله ونصب على التشبيه بالمفعول به إن فصلت مثاله: قريش نجباء الناس ذرية وكرامهموها. ولا خلاف في نصبه إذا كانت الصفة منفصلة منه بضمير، وروى الكسائي عن العرب: هم أحسن الناس وجوهاً وأنضرهموها. وقوله أو قرنت بأل مثاله: مررت بالرجل الحسن الوجه الجميلة، ففي هذا الضمير خلاف - وهذا إذا كانت الصفة منصرفة في الأصل - فمن النحويين من قال: الضمير في موضع نصب. ومنهم من قال: في موضع جر. واعتبر بعضهم ذلك

بوضع الظاهر موضع الضمير، فما جاز فيه جاز في الضمير، فإذا قلت: مررت بالرجل الحسن وجهاً الجميلة، فهذا الضمير في موضع نصب؛ لأنك لو قلت الجميل وجه، وجررت - لم يجز، وإذا قلت: مررت بالرجل الحسن الوجه الجميلة - جاز في الضمير النصب/ والجر؛ لأنك لو جعلت مكانه الوجه جاز فيه الجر والنصب، وهذا إذا كانت الصفة منصرفة في الأصل. وإن كانت الصفة غير منصرفة في الأصل، وقرنت بأل، نحو: مررت بالرجل الحسن الوجه الأحمره، فالضمير في موضع نصب عند س، ويظهر من كلام الفراء ترجيح الجر على النصب، وعن المبرد الجر، ثم رجع إلى النصب. وقوله ويجوز النصب مع المباشرة والخلو من أل وفاقاً للكسائي قال المصنف في الشرح: "إذا جردت الصفة المتصل بها ضمير بارز فقد تقصد إضافتها إليه، وقد لا تقصد، فإن قصدت حكم بالجر، وإن لم تقصد حكم بالنصب على التشبيه بالمفعول به. وإنما يمكن القصدان والمعمول ضمير إذا كانت الصفة غير منصرفة، نحو: رأيت غلاماً حسن الوجه أحمره، فالجر بالإضافة، والنصب على التشبيه بالمفعول به جائز عند الكسائي، والجر عند غيره متعين. ومذهب الكسائي هو الصحيح؛ لأنه روى عن بعض العرب: لا عهد لي بألأم منه قفا ولا أوضعه، بفتح العين، وبمثل هذا يظهر الفرق بين قصد الإضافة وغيرها، وعلى هذا يقال إذا قصدت الإضافة: مررت برجل أحمر الوجه لا أصفره، وإذا لم تقصد الإضافة قيل: مررت برجل أحمر الوجه لا أصفره، إلا أن هذا الوجه لم يجزه من القدماء غير الكسائي" انتهى. وذكر ابن عصفور في هذه المسألة الوجهين، ولم يعز جواز النصب للكسائي.

وقوله وعملها في الموصول والموصوف رفع ونصب مطلقاً يعني بقوله مطلقاً أنه يستوي الرفع والنصب سواء أكانت الصفة مقرونة بأل، نحو: رأيت الرجل الجميل ما اشتملت عليه ثيابه، وقول الشاعر: ..................................... ... فاقصد يزيد العزيز من قصده فيجوز الحكم على من بالرفع والنصب، ونحو: رأيت الرجل الطويل رمح يطعن به. أم غير مقرونة، نحو: رأيت رجلاً جميلاً ما التفت عليه ثيابه، وقول الشاعر: عذ بامرئ بطل من كان معتصماً ... به، ولو أنه من أضعف البشر فيجوز في من الرفع والنصب، هكذا أنشده المصنف في الشرح شاهداً على ما ذكرناه. ويجوز في من أن تكون شرطية، وحذف الجواب لفهم المعنى، وتقديره: نجا وسلم. وكذلك الموصوف، نحو: رأيت رجلاً طويلاً رمح يطعن به، وطويلاً رمحاً يطعن به. وقوله وجر إن خلت من أل وقصدت الإضافة أي: إن خلت الصفة من أل، فتقول: رأيت رجلاً جميل ما اشتملت عليه ثيابه، ورأيت رجلاً طويل رمح يطعن به. وقوله وإن وليها سببي غير ذلك عملت فيه مطلقاً رفعاً ونصباً وجراً أي: غير الضمير والموصول والموصوف، وذلك ثمانية أنواع، وقد تقدم لنا تمثيلها. ويعني بقوله "مطلقاً" أكان في الصفة أل أو لم تكن وفي المعمول أل، أو كان مجرداً أو مضافاً، فالرفع على الفاعلية، والنصب إن كان نكرة، قال المصنف/ في الشرح: "على التمييز"، وقال غيره: على التمييز، ويجوز على التشبيه بالمفعول به. وإن كان

معرفة بالإضافة فالنصب على التشبيه بالمفعول به، وسيأتي الخلاف فيه. أو بأل فعلى التشبيه أيضاً، وأجاز بعضهم أن يكون نصبه على التمييز. وقوله إلا أن مجرور المقرونة بأل مقرون، أو مضاف إلى المقرون أو إلى ضمير المقرون بها مثاله: رأيت الرجال الحسن الوجه، أو الحسن أنف الوجه، أو الكريم الآباء الغامر جودهم، وهذا الأخير نادر، وقد تقدم الاستدلال عليه. وقوله ويقل نحو: حسن وجهه، وحسن وجهه، وحسن وجه، ولا يمتنع، خلافاً لقوم أما الجر فمن شواهده ما روي في الحديث من قوله (أعور عينه اليمنى)، وفي حديث أم زرع (وصفر وشاحهها، وملء ردائها) أو (ملء كسائها 9، وفي وصف رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (وشثن أصابعه)، وفيه أيضاً (شثن الكفين والقدمين طويل أصابعهما)، وأنشد س للشماخ:

أمن دمنتين، عرج الركب فيهما ... بحقل الرخامي، قد عفا طللاهما أقامت على ربعيهما جارتا صفا ... كميتا الأعالي، جونتا مصطلاهما وقال الأعشى: فقلت له: هذه هاتها ... إلينا بأدماء مقتادها وقال أبو حية النميري: على أنني مطروف عينيه، كلما ... تصدى من البيض الحسان قبيل وقال: تمنى لقائي الجون مغرور نفسه ... فلما رآني ارتاع، ثمت عردا ولم يجز س الجر إلا في الشعر، ومنعه المبرد مطلقاً، وأجازه الكوفيون مطلقاً. والصحيح جوازه على قلة كما ذهب إليه المصنف. وأما النصب فمن شواهده ما أنشده الكسائي وأبو عمر الزاهد:

أنعتها، إني من نعاتها ... مدارة الأخفاف مجمراتها غلب الذفارى وعفرنياتها ... كوم الذرا، وادقة سراتها وقال آخر: لو صنت طرفك لم ترع بصفاتها ... لما بدت مجلوة وجناتها وقال المصنف في الشرح: "وأما رأيت رجلاً حسناً وجهه فهو مثل قراءة بعض السلف (وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آَثِمٌ قَلْبُهُ) بالنصب انتهى. ولا يتعين ذلك؛ إذ يجوز أن يكون انتصاب/ (قلبه) على أنه بدل من اسم إن. وأما مررت برجل حسن وجه فأجازه الكوفيون، ومنعه أكثر البصريين، والمنع اختيار ابن خروف. ومما استشهد به على جواز الرفع ما أنشده الفراء عن بعض العرب: بثوب ودينار وشاة ودرهم ... فهل أنت مرفوع بما هاهنا رأس وقال الراجز:

ببهمة منيت شهم قلب ... منجذ، لا ذي كهام ينبو وقول ابن هشام في نحو هذا "لا يجوز الرفع في قول أحد؛ إذ لا ضمير في السبب ولا ما يسد مسده" - ليس بصحيح؛ إذ جوازه محكي عن الكوفيين وبعض البصريين. وقد انقضى شرح كلام المصنف في هذا الفصل، وكنا قد تكلمنا على معمول هذه الصفة في كتاب "منهج السالك" من تأليفنا، ونحن نلخص من ذلك شيئاً فنقول: المعمول إما أن يكون مضمراً أو ظاهراً، إن كان مضمراً فقد أمعنا الكلام عليه في أول الفصل المفروغ من شرحه آنفاً. وإن كان ظاهراً فإن كان مقروناً بأل أو مضافاً إليه فالصفة إما مقرونة بأل أو غير مقرونة، إن كانت غير مقرونة بأل، نحو: مررت برجل حسن الوجه، وبرجل حسن وجه الأخ - فالأجود الخفض، ثم النصب، ثم الرفع، على الخلاف الذي سيأتي، وقال الشاعر في الخفض: خفيضة أعلى الصوت، ليست بسلفع ... ولا نمة خراجة حين تظهر وقال آخر في النصب: أهوى لها أسفع الخدين مطرق ... ريش القوادم، لم تنصب له الشبك وقال آخر في الرفع:

ونأخذ بعده بذناب عيش ... أجب الظهر، ليس له سنام وإن كانت مقرونة مثناة أو مجموعة جمع سلامة في المذكر وتثبت النون فالنصب؛ نحو: مررت بالرجلين الحسنين الوجوه، وبالرجال الحسنين الوجوه، وبالرجلين الأشمين أنوف الوجوه، وبالرجال الطويلين أنوف الوجوه. أو تحذف النون فالجر والنصب، نحو: مررت بالرجلين الحسني الوجوه، وبالرجلين الأشمي أنوف الوجوه، ومررت بالرجال الحسني الوجوه، وبالرجال الطويلي أنوف الوجوه. وذهب بعض أصحابنا إلى أنه لا يجوز حذف النون من الصفة ونصب المعمول، قال: ومن أجاز ذلك فهو مخطئ؛ لأنه لم يسمع منهم، ولا يقبله قياس؛ ألا ترى أن الذي سوغ ذلك في قولك (الضاربو زيد) مفقود هنا؛ لأنها ليست في معنى (الذي) فيخفف بحذف نونه للطول. وإنما لم يكن هنا بمعنى (الذي فعل) لأن الفعل نفسه لا يشبه. وظاهر/ كلام س جواز حذف النون والنصب. أو غيرهما، نحو: مررت بالرجل الحسن الوجه، والحسن وجه الأخ، فالأجود النصب على التشبيه، وأجازه بعض البصريين على التمييز، وهي نزعة كوفية، ثم الجر، ثم الرفع على الفاعلية، والضمير محذوف، أي: الحسن الوجه منه. هذا

مذهب س والبصريين. و"أل" عوض من الضمير مذهب الكوفيين، ونسبه صاحب كتاب "رد الشارد" إلى س والبصريين. وزعم أبو بكر بن طاهر أن الكوفيين حكوا: مررت برجل ظريف الأب، بالرفع، وتنوين الصفة، وكريم الأخ، وحسن وجه الأخ، وكريم الأب. وذهب أبو علي في "الإيضاح" إلى أن ارتفاعه على البدل من الضمير المسكت في الصفة على زعمه، وجوز في "البغداديات" الوجهين. ويبطل مذهب الكوفيين جواز المجيء بالضمير مع أل، قال الشاعر: رحيب قطاب الجيب منها، رفيقة ... بجس الندامى، بضة المتجرد وأيضاً لو كانت "أل" عوضاً من الضمير هنا لاطرد، فقلت: زيد الغلام حسن، تريد: غلامه، ولا يجو، فكذلك هنا. ويبطل مذهب أبي علي ما حكاه الفرء من قولهم: مررت بامرأة حسن الوجه، وحكى الكوفيون: بامرأة قويم الأنف، برفع الوجه والأنف؛ ألا ترى أنه لا يجوز أن ينوي في حسن ضمير المرأة والوجه بدل منه؛ لأنه لو كان كذلك لكانت

الصفة مؤنثة لتأنيث الضمير. وكذلك: مررت برجل مضروب الأب، لا يجوز رفعه على البدل؛ لأنه ليس بدل شيء من شيء، ولا بدل بعض من كل؛ إذ ليس إياه ولا بعضه. وإن كان المعمول مجرداً أو مضافاً غليه والصفة بأل مقرونة مثناة أو مجموعة جمع سلامة في المذكر فالحكم حكمه إذا كان المعمول مقروناً بأل أو مضافاً إليه؛ والخلاف في حذف النون والنصب هنا مثله هناك. وإن كانت غير المثناة والمجموعة ذلك الجمع وثم رابط مذكور، نحو: مررت بالرجل الحسن وجه منه، أو الحسن خال وجنة منه - فالرفع، ويجوز النصب ضرورة، ولا يجوز الخفض، فلا تقول: بالرجل الحسن وجه منه، كما لا تقول الحسن وجهه. أو محذوف فلا يجوز الخفض، لا تقول: مررت بالرجل الحسن وجه، ولا الرفع، لخلو الصفة من عائد مذكور، بل يجب النصب، فتقول: بالرجل الحسن وجهاً، أو وجه أخ. أو غير مقرونة بأل وصرحت بالرابط فالرفع، ويجوز النصب والجر ضرورة، نحو: مررت برجل حسن وجه منه، أو حسن وجه أخ له. ويجوز في الشعر: وجهاً منه، ووجه منه. أو لم تصرح فالاختيار الخفض، نحو: برجل حسن وجه، قال حميد الأرقط:

أحقب شحاج مشل عون ... لاحق بطن بقرا سمين وقال آخر: ... [5: 53/ب] ألكني إلى قومي السلام تحية ... بآية ما كانوا ضعافاً ولا عزلا ولا سيئي زي إذا ما تلبسوا ... إلى حاجة يوماً مخيسة بزلاً ويجوز النصب، نحو: حسن وجهاً، قال: هيفاء مقبلة، عجزاء مدبرة ... محطوطة، جدلت، شنباء أنيابا ولا يجوز الرفعولا يجوز الرفع لخلو الصفة من ضمير مذكور يعود على الموصوف، هذا مذهب أكثر البصريين، وأجازه الكوفيون، وتقدم الاحتجاج بالسماع عليه. وإن كان المعمول مضافاً إلى ضمير الموصوف، والصفة مقرونة بأل مثناة أو مجموعة بالواو والنون، وأثبت النون، نحو: [مررت] بالرجلين الحسنين وجوههما، وبالرجال الحسنين وجوههم - فالرفع على لغة "أكلوني البراغيث"، والنصب في الشعر، ولا يجوز الجر. أو حذفتها فالرفع على تلك اللغة، والنصب والجر في الضرورة. أو غير مثناة ولا مجموعة بالواو والنون، نحو: [مررت] بالرجل الحسن وجهه - فالرفع، يجوز النصب ضرورة، ويمتنع الجر. أو غير مقرونة بأل، نحو:

حسن وجهه - فالرفع، ويجوز النصب والجر ضرورة. وتقدم ذكر الخلاف عن الكوفيين والمبرد. وإن كان المعمول مضافاً إلى مضاف إلى ضمير الموصوف فحكمه حكم ما قبله، وتقدمت شواهده، وقال الشاعر: تراهن من بعد إسآدها ... وشد النهار وتدآبها طوال الأخادع خوص العيون ... خماصاً مواضع أحقابها وإن كان المعمول مضافاً إلى ضمير اسم مضاف إلى مضاف إلى ضمير الموصوف، أو مضافاً إلى ضمير معمول صفة أخرى، أو موصوفاً أو مضافاً إليه، أو موصولاً أو مضافاً إليه فقد تقدم الكلام عليها مستوفى. ولم يذكر س إلا أنها تعمل فيما كان من سببها معرفاً بأل أو نكرة، وأهمل المضاف إلى ذي أل لأنه في رتبة ما فيه أل، والمضاف لضمير ما فيه أل لأنه محكوم له بحكم ما فيه أل، ولم يذكر المضاف إلى ضمير لأنه لا يجيزه إلا في الشعر. وقسم ابن المصنف الشيخ بدر الدين محمد في شرحه أرجوزة أبيه مسائل هذا الباب إلى: ممتنع، وهو: الحسن وجهه، أو وجه أبيه، أو وجه، أو وجه أب. وإلى قبيح، وهو: حسن وجه، أو وجه أب، والحسن وجه، أو وجه أب.

وإلى ضعيف، وهو: حسن الوجه، أو وجه الأب، وحسن وجهه، أو وجه أبيه، وحسن وجهه، أو وجه أبيه. وإلى حسن، وهو [حسن الوجه، أو وجه الأب، وحسن وجهه، أو وجه أبيه، وحسن وجهاً، وحسن وجه أب، وحسن الوجه، أو وجه الأب، وحسن وجه، أو وجه أب، والحسن الوجه، /أو وجه الأب، والحسن وجهه، أو وجه أبيه، والحسن الوجه، أو وجه الأب، والحسن وجهه، أو وجه أبيه، والحسن وجهاً، أو وجه أب، والحسن الوجه، أو وجه الأب]، انتهى ملخصاً. وتلقفنا عن شيوخنا أن ما تكرر فيه الضمير من المسائل أو عري منه فهو ضعيف، وما وجد فيه ضمير واحد فهو قوي إلا ما وقع الاتفاق على منعه، وهو: الحسن وجه، والحسن وجهه. وقد نظمت هذا الذي تلقفناه في أرجوزتي المسماة بـ"نهاية الإعراب في علمي التصريف والإعراب"، ولم يكمل نظمها، فقلت مشيراً إلى الصفة والمعمول: عرفهما، أو نكرن، أو عرفن ... الوصف أو معموله، ولتعربن معموله بضمة وكسره ... وفتحة تبلغ ثمان عشره يقبح ما منه حذفت المضمرا ... أو كان فيه مضمر تكررا ونحو "داجي شعره" قد وردا ... في الشعر، فاقبل، ودع المبردا ونصب "شعره" دليل الجر ... والنصب في النثر أتى والشعر ويمنع اثنان، كـ"هم بالحسن ... عذاره"، لا بـ"القبيح ذقن" وقال الفراء: القياس يقتضي جوازه. يعني جواز: الحسن وجه؛ لأن الإضافة لما لم يكن لها تأثير في لحاق التعريف بالإضافة إلى النكرة لا يكون لها تأثير في لحاق التعريف أيضاً.

وقال السيرافي: "لا تبعد إضافة المعرف إلى المنكر، نحو قولنا: يا حسن وجه، وحسن معرف بالنداء". قيل: وهذا غلط؛ لأن المنادى هو المجموع من المضاف والمضاف إليه بمنزلة عبد الله اسماً. وأنشد النحاة في شواهد هذا الباب مما لم يتقدم لنا ذكره قول الأغلب العجلي: ليست بكرواء ولا بدحدح ... ولا من السود القصار الرمح قباء، غرثى موضع الموشح وقول الآخر: ومنهل أعور إحدى العينين ... بصير أخرى، وأصم الأذنين وقول لخرنق: لا يبعدن قومي الذين هم ... سم العداة وآفة الجزر النازلين بكل معترك ... والطيبون معاقد الأزر وقول الفرزدق:

أأطعمت العراق ورافديه ... فزارياً أحذ يد القميص وقول عروة بن الورد: /وما طالب الأوتار إلا ابن حرة ... طويل نجاد السيف عاري الأشاجع وقول الآخر: فما قومي بثعلبة بن سعد ... ولا بفزارة الشعر الرقابا وقول الراجز: الحزن باباً والعقور كلباً ومن أحكام هذا الباب أنه يجوز الفصل بين هذه الصفة وبين معمولها إذا كان مرفوعاً أو منصوباً، كقوله تعالى (مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوَابُ)، قال معناه في

"البسيط". وفي "شرح الخفاف": لم يفصلوا بين الصفة المشبهة ومعمولها فيقولو: كريم فيها حسب الآباء، إلا في الضرورة، كما قال: ....................................... ... والطيبون، إذا ما ينسبون، أبا وقد أغفل المصنف الكلام على تابع معمول الصفة المشبهة، فنقول: يجوز أن يتبع بجميع التوابع ما عدا الصفة، فإنه لم يسمع من كلامهم، هكذا زعم الزجاج، فلا يجوز: جاءني زيد الحسن الوجه الجميل، وقد جاء في الحديث في صفة الدجال (أعور عينه اليمنى)، فاليمنى صفة لعينه، وعينه معمول الصفة، فينبغي أن ينظر في ذلك. وعلل منع ذلك بعض شيوخنا بأن معمول الصفة محال أبداً على الأول، فأشبه المضمر؛ لأنه قد علم أنك لا تعني من الوجوه إلا وجه زيد في نحو: مررت بزيد الحسن الوجه. وحكى لي هذا التعليل أيضاً الشيخ بهاء الدين أبو عبد الله محمد بن النحاس الحلبي - رحمه الله - عن عبد المنعم الإسكندراني من تلاميذ ابن بري، قال لي: وقد كان ظهر لي ما يشبه هذا، وهو أن الصفة هي في الحقيقة للوجه وإن أسندت إلى زيد مثلاً، فقد تبين الوجه بالصفة، فلا يحتاج إلى تبيين. قلت له: الصفة قد تكون لغير التبيين، كالمدح والذم وغيرهما، فهلا جاز أن يوصف بصفات هذه المعاني؟

فقال: أصل الصفة أن تأتي للتبيين، ومجيئها لما ذكرت هو بحق الفرع، وإذا امتنع الأصل فأحرى أن يمتنع الفرع. وقال بعض أصحابنا: "امتنع ذلك لأنها ضعيفة في العمل؛ لأنها عملت تشبيهاً باسم الفاعل العامل بشبهه للفعل، فلم تقو أن تعمل في الموصوف والصفة معاً" انتهى. ويضعف هذا بعملها في المؤكد والتوكيد، إلا إن فرق بينهما بأن المؤكد والتوكيد كأنهما شيء واحد؛ لأن التوكيد لم يدل على معنى زائد في المؤكد، بخلاف الصفة. فإذا أتبعت المعمول وهو مرفوع رفعت، أو منصوب نصبت، أو /مجرور جررت، ولا يجوز أن يتبع المجرور على الموضع من نصب أو جر. وأجاز الفراء أن يتبع المجرور على موضعه من الرفع، فأجاز: مررت بالرجل الحسن الوجه نفسه، وهذا قوي اليد والرجل، برفع نفسه والرجل مع جر المعمول، كأنك قلت: الحسن وجهه نفسه، وقوي يده ورجله. وقد صرح س بمنع ذلك، وأنه لم يسمع منهم في هذا الباب. وأما أن يعطف على معمولها المجرور نصباً فنصبوا على أنه لا يجوز، لا تقول: هذا حسن الوجه والبدن، وذلك بخلاف اسم الفاعل، فإنه يجوز وإن اختلف التأويل فيه، فبعضهم يقول: هو عطف على الموضع، وبعضهم يقول: هو على إضمار فعل، وهو الصحيح. وأما هنا لا يجوز لا على الموضع ولا على إضمار الفعل؛ لأن الفعل لا يشبه، إنما يشبه الوصف لا فعله. ولا يجوز إضمار صفة تنصب؛ لأن الصفة المشبهة لا تعمل مضمرة، بخلاف اسم الفاعل، فإنه يعمل مضمراً، تقول: أنا زيداً ضاربه، فتقديره: أنا ضارب زيداً ضاربه. فهذا من الفوارق التي بين الوصف المشبه واسم الفاعل المشبه به.

وأجاز البغداديون الخفض في المعطوف على المنصوب، فتقول: هذا حسن وجهاً ويد؛ لأن الإضافة قد كثرت، فكأنها ملفوظ بها. ومنها أنه لا يجوز تقديم معمولها عليها، ولا الفصل بينهما، وأنه لا يكون إلا سببياً، وأنه يقبح أن يضمر فيها الموصوف ويضاف معمولها إلى مضمره، وأنها إذا كانت ومعمولها داخلاً عليهما أل كان الأحسن الجر، وذلك إذا قدرنا أل دخلت بعد الإضافة. وأما اسم الفاعل فيجوز تقديم معموله عليه بشرطه المذكور في بابه، والفصل بينهمان فتقول: زيد ضارب - في الحرب - الأبطال. ومعموله يكون سببياً وأجنبياً، ولا يقبح أن يضمر فيه الموصوف، ويضاف معموله إلى ضميره. والأحسن في نحو "الضارب الغلام" النصب كما يكون أحسن في معمول الصفة المشبهة إذا قدرت دخول أل فيهما قبل الإضافة. * * *

-[ص: فصل إذا كان معنى الصفة لسابقها رفعت ضميره، وطابقته في إفراد وتذكير وفروعهما ما لم يمنع من المطابقة مانع، وكذلك إن كان معناها لغيره ولم ترفعه، فإن رفعته جرت في المطابقة مجرى الفعل المسند إليه، وإن أمكن تكسيرها حينئذ مسندة إلى جمع فهو أولى من إفرادها، وتثنى وتجمع جمع المذكر السالم على لغى (يتعاقبون فيكم ملائكة)، وقد تعامل غير الرافعة ما هي له إن قرن بأل معاملتها إذا رفعته.]- ش: الصفة إذا كان معناها للموصوف حقيقة أو مجااً رفعت ضمير الموصوف، وطابقت الموصوف في الإفراد والتثنية والجمع والتذكير والتأنيث، تقول: مررت برجل عاقل، وبرجلين عاقلين، وبرجال عاقلين أو عقلاء، /وبامرأة عاقلة، وبامرأتين عاقلتين، وبنساء عاقلات أو عواقل. وقوله ما لم يمنع من المطابقة مانع يعني أن من الصفات ما لا يقبل ذلك، فيكون على حسب السماع في تلك الصفات، وعلى حسب الاشتراك في ذلك الوصف أو الاختصاص، إما من جهة اللفظ أو من جهة المعنى، وتقدم أولاً ذكر شيء من هذا. ومنها ما لا يقبل التذكير كـ"ربعة"، ومنها ما لا يقبل التأنيث كـ"جريح"، ومنها ما لا يقبل التثنية ولا الجمع ولا التأنيث كـ"أفعل من"، وكالمصدر إذا وصف به في أفصح اللغتين. وقوله وكذلك إن كان معناها لغيره ولم ترفعه هذا الذي ذكرنا إنما يكون للموصوف مجازاً، ويعني أنه تطابق الصفة الموصوف قبلها إن كانت مما يقبل المطابقة، وإلا فعلى حسب السماع، فتقول: مررت برجل حسن الغلام، وبرجلين حسني الغلمان، وبرجال حسني الغلمان، وبامرأة حسنة الغلام، وبنساء حسان الغلمان.

وقوله فإن رفعته جرت في المطابقة مجرى الفعل المسند إليه أي: إن رفعت السببي جرت مجرى الفعل. قال المصنف في الشرح: "فيقال مررت برجلين حسن غلاماهما، وبرجال حسن غلمانهم، وبامرأة حسن غلامها، وبرجل حسنة جاريته، وبنساء حسن غلمانهن، كما يقال: حسن غلاماهما، وحسن غلمانهم، وحسن غلامها، وحسنت جاريته، وحسن غلمانهن" انتهى تمثيل المصنف. وقوله وإن أمكن تكسيرها حينئذ - أي: حين أن ترفع السببي - مسندة إلى جمع فهو أولى من إفرادها من الصفات ما لا يمكن تكسيره، فيكون الإفراد فيه أحسن، نحو فعال، فتقول: مررت برجل شراب آباؤه. ومثال ما يمكن تكسيره كريم وحسن، فتقول: مررت برجال حسان غلمانهم. وظاهر كلام المصنف أنه إذا كان السببي جمعاً وأمكن تكسير الصفة كان التكسير أحسن من الإفراد، وسواء أكان ما قبل الصفة مفرداً أم مثنى أم مجموعاً، نحو: مررت برجل حسان غلمانه، وبرجلين حسان غلمانهما، وبرجال حسان غلمانهم، فهذا عنده أولى من أن تقول: مررت برجل حسن غلمانه، وبرجلين حسن غلمانهما، وبرجال حسن غلمانهم، فتفرد الصفة. وجماع القول في الصفة إذا رفعت السببي أن تقول: إن كان السببي مفرداً أفرد الوصف: نحو: مررت برجل قائم أبوه، أو مثنى أفرد أيضاً في الفصيح، نحو: مررت برجل قائم أبواه، وبرجل أعور أبواه، وتجوز التثنية على لغة قوله: ألفيتا عيناك عند القفا ... ................................ فتقول: مررت برجل قائمين أبواه، وبرجل أعورين أبواه.

وفصل الكوفيون، فقالوا: إن كانت الصفة مما لا يجمع بالواو والنون وجب تثنيتها، نحو: مررت برجل أعورين أبواه، وإن كانت مما لا يجمع بهما أفردت. وإن كان السببي جمعاً والصفة تجمع الجمعين أو تجمع جمع تكسير فقط فالأحسن التكسير؛ نحو: مررت برجل كرام أعمامه، وبرجل صبر آباؤه، ويجوز الإفراد، فتقول: برجل كريم أعمامه، وبرجل صبور آباؤه، ويضعف فيما جمع الجمعين: برجل كريمين أعمامه. أو لا تكسر فالإفراد، نحو: مررت/ برجل ضراب آباؤه، ويجوز: ضرابين آباؤه، على لغة "أكلوني البراغيث". والسببي غير العاقل كالعاقل، التكسير فيه الأحسن، تقول: مررت برجل حسان أثوابه، ويجوز الإفراد، فتقول: حسن أثوابه. وأوجب الكوفيون الجمع فيما لا يجمع جمع سلامة وهو لعاقل، وفيما هو لغير عاقل، فلا يجيزون إلا: مررت برجل عور آباؤه، وحسان أثوابه، ولا يجوز عندهم: أعور آباؤه، ولا: حسن أثوابه. وهم محجوجون بالسماع من العرب، قال الشاعر: ورجال حسن أوجههم ... من إياد بن نزار بن معد وقال الآخر: وكنا ورثناه على عهد تبع ... طويلاً سواريه، شديداً دعائمه وقال آخر:

قرنبي يحك قفا مقرف ... لئيم مآثره فعدد وقال س: "وتقول: مررت برجل أعور آباؤه، وأحسن من هذا: أعور قومك؟ ومررت برجل ثم قومه" انتهى. وقال الله تعالى (خُشَّعًا أَبْصَارُهُمْ)، وقرئ (خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ)، وخشع أكثر في كلام العرب. وذهب بعض شيوخنا إلى أن الإفراد أحسن من التكسير، قال: "لأن العلة في ذلك أنه قد تنزل منزلة الفعل إذا رفع الظاهر، والفعل يثنى ولا يجمع، فانبغى أن تكون الصفة مفردة، نعم، التكسير أجود من جمع السلامة؛ إذ لا تلحقه علامة جمع، فهو كالمفرد؛ لأنه معرب بالحركات مثله، بخلاف جمع السلامة، وإلا فالفعل لا يجمع لا جمع سلامة ولا جمع تكسير، فكيف يكون أحدهما أحسن من الإفراد" انتهى. وما ذكره هو القياس، لكنه ذهل عن نقل س في ذلك. وقال بعض من عاصرناه من أصحابنا ما نصه: "جمع التكسير عند النحويين دون المفرد. ومذهب أبي العباس أن التكسير أولى من المفرد. وكلام س في ذلك محتمل، وغايته أن جعل المكسر بمثابة المفرد ومبايناً للمسلم، من غير أن ينص على ترجيح المكسر، إلا أنه وقع في بعض نسخ الكتاب ما نصه: (واعلم أن ما كان يجمع بغير الواو والنون، نحو حسن وحسان - فإن الأجود فيه أن تقول: مررت برجل حسان قومه. وما كان يجمع بالواو والنون، نحو منطلق ومنطلقين - فإن الأجود فيه أن يجعل بمنزلة الفعل المقدم، فتقول: مررت برجل منطلق قومه). وذكر السيرافي أن هذا الفصل ليس من كلام س. وقال الأستاذ أبو علي: الإفراد أولى من التكسير".

قال هذا المعاصر: "وهذا كله من غير أن يعرضوا للموصوف وينظروا هل يكون جمعاً أو غير جمع، فربما إذا كان جمعاً حسن الجمع المكسر بعض حسن، فيكون لذلك أولى من الإفراد للمشاكلة لما قبله ولما بعده، نحو: مررت/ برجال حسان قومهم، وكان ذلك أولى من: مررت برجال حسن قومهم. وإن كان مفرداً كان الإفراد أحسن من التكسير؛ لأنه تكلف جمع في موضع لا يحتاج إليه؛ لأنه إذا رفع فقوته قوة الفعل، وطريق الجمع في الفعل مكروه، فينبغي أن يكره ذلك في الاسم" انتهى. وتلخص لنا من هذا أن في الصفة إذا كانت مما يجمع الجمعين وكان المعمول جمعاً ثلاثة مذاهب: أحدها: أن يكون التكسير أولى من الإفراد، وهو نص س في بعض نسخ كتابه، ومذهب المبرد، واختيار أبي موسى، وصاحب "التمهيد"، وهذا المصنف. والثاني: العكس، وهو مذهب الجمهور، واختيار الأستاذ أبي علي، وشيخنا أبي الحسن الأبذي. والثالث: أن الصفة إن كانت تابعة لجمع كان التكسير أولى من الإفراد، وإن كانت تابعة لمفرد أو مثنى كان الإفراد أحسن من التكسير.

وفي "البسيط": وخالف المبرد، فقال: إن الأولى أن يعمل المسلم لأنه كالفعل من حيث إنه تلحقه الزيادة التي تلحق الفعل؛ ويسلم بناؤه معها، والجمع المكسر يتغير، ولا يكون في الفعل مثله، فلذلك كان المسلم أولى. وهذا فاسد من جهة السماع والنظر: أما السماع فقوله تعالى (خُشَّعًا أَبْصَارُهُمْ)، وهي قراءة الجماعة حاشا أبا عمرو، والأبيات التي أنشدها س، كقوله: بمطرد، لدن، صحاح كعوبه ... وذي رونق، عضب، يقد القوانسا وأما النظر فلأن الجمع المسلم إن كان كالفعل فهو يمنع من الشبه في العمل، ويظهر من مذهب الكوفيين مثله. وقوله وقد تعامل إلى آخر المسألة قال المصنف في الشرح: "قد يقال: مررت برجل حسنة العين، كما يقال: حسنة عينه، حكى ذلك الفراء في معاني سورة (ص وَالْقُرْآَنِ)، قال: (والعرب تجعل الألف واللام خلفاً من الإضافة، فيقولون: مررت على رجل حسنة العين قبيح الأنف، فالمعنى: حسنة عينه، قبيح أنفه).

قلت: فعلى هذا يقال: مررت برجل حسان الغلمان، وبرجل كريمة الأم، وبامرأة كرام الآباء، وكريم الأب، كما يقال: مررت برجل حسان غلمانه، وبرجل كريمة أمه، وبامرأة كرام آباؤها، وكريم أبوها، ومنه قول الشاعر: أيا ليلة، خرس الدجاج، سهرتها ... ببغداد، ما كادت عن الصبح تنجلي فقال: خرس الدجاج، كما يقال: خرساً دجاجها. ومثله قول الآخر: فماحت به غر الثنايا، مفلجاً ... وسيماً، جلا عنه الطلال، موشماً أراد: فما غر الثنايا، فجمع مع الألف واللام كالجمع مع الضمير إذا قيل: فماحت به فما غرا ثناياه. ومثله قول الآخر في وصف عقاب: يأوي إلى قنة خلقاء راسية ... حجن المخالب، لا يغتاله الشبع /فقال: حجن المخالب، كما كان يقول: حجن مخالبها" انتهى. وذكر المصنف من وقوع أل خلفاً من الضمير قوله (فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَاوَى)، و (فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَاوَى)، وقول الأعشى القيسي:

وأما إذا ركبوا فالوجو ... هـ في في الروع من صدأ البيض حم أي: مأواه، وفوجوههم. وقال الآخر: ولكن نرى أقدامنا في نعالكم ... وآنفنا بين اللحى والحواجب أي: بين لحاكم. وقال ذو الرمة: تخللن أبواب الخدور بأعين ... غرابيب، والألوان بيض نواصع أي: وألوانهن. قال المصنف: "وقد سوى س بين: ضرب زيد ظهره وبطنه، وضرب زيد الظهر والبطن، وبين مطرنا سهلنا وجبلنا، ومطرنا السهل والجبل. فالظاهر من قوله أنه موافق لقول الفراء، وليس هذا على تقدير (منه)؛ إذ لو كان كذلك لاستوى وجود الألف واللام وعدمها، كما استويا في مثل: البر الكر بستين، فكان يجوز أن يقال: ضرب زيد ظهر وبطن، ومطرنا سهل وجبل، كما جاز أن يقال: البر كر بستين، والتمر منوان بدرهم؛ لأن البعضية مفهومة مع عدم الألف واللام كما هي مفهومة مع وجودها. ومن الاستغناء عن الضمير بالألف واللام (مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوَابُ)، أي: مفتحة لهم أبوابها" انتهى.

وهذه نزعة كوفية في أن أل تخلف الضمير، وأنشدوا على كون أل تعاقب الضمير: لهم شيمة، لم يعطها الله غيرهم ... من الناس، والأحلام غير عوازب أي: وأحلامهم. وتقول على هذا: زيد أما المال فكثير، وأما الوجه فحسن. وتقدم الرد على هذا المذهب وأما تجويز المصنف: برجل كريمة الأم، وبامرأة كرام الآباء، بالنصب أو بالجر - فهي مسألة خلاف، منع بعض النحويين أن تقول: مررت برجل كرام الآباء، وبرجال كريم الأعمام، وعليه أصحابنا المتأخرون، لا يجيزون إذا رفعت الصفة الضمير وانتصب المعمول أو انجر إلا مطابقة الصفة للموصوف. وقد تأول الفارسي قوله "خرس الدجاج" على أن الليلة لطولها كالجمع، فكأن كل جزء منها ليلة، كقولهم: ثوب أخلاق، وبرد أسمأل، وبرمة أعشار. وحكى يعقوب عن الأصمعي أن العرب تقول: ليلة خرس - على وزن عنق - إذا لم يسمع فيها صوت، والعرب تخفف فعلاً، فيكون خرس في البيت مما

وصف به المفرد وهو مفرد، فلا يحتاج إلى تأويل الفارسي، وتقدم منع الجرمي ذلك. ومثل "خرس الدجاج" قوله: وإن التي هام الفؤاد بذكرها ... رقود عن الفحشاء، خرس الجبائر [5: 57/ب] لأنها امرأة واحدة. وقال لبيد يصف السهم:/ مرط القذاذ، فليس فيه مصنع ... لا الريش ينفعه ولا التعقيب سكن الراء، وهو جمع أمرط، فأجراه على الواحد لقوله "فليس فيه". ومن النحويين من أجاز هذا كله اعتماداً على أن المعنى للسببي، يجعل الوصف إذا انتصب المعمول أو انجر كهو إذا رفع السببي. ويعضد هذا المذهب ظاهر قول الشاعر: فهل تسليم الهم عنك شملة ... مداخلة، صم العظام، أصوص فقال: صم العظام، ولم يقل صماء العظام، وكأنه قال: ثم عظامها، وتقدم تأويل هذا البيت. وقوله في البيتين: "غر الثنايا"، و"حجن المخالب"، ولم يقل: أغر الثنايا، ولا: حجناء المخالب - أجرى المعمول المجرور مجرى المرفوع.

وقول المصنف "وقد تعامل" يدل على قلة ذلك، وينبغي ألا يمنع، لكن في القياس على ما سمع منه نظرز وأبعد من هذا قوله: ولولا خيله لنزلت أرضاً ... عذاب الماء، طيبة ثراها جمع صفة أرض، وأتى بعدها بمفرد، فقال: عذاب الماء، ولو رفع الماء لم يجز، فينبغي ألا يجوز إذا نصب أو جر، وهذا نظير قولك: مررت بامرأة حسان الخلق، فلو نصبت الخلق أو جررت لم يجز. وينبغي أن يجعل الماء هنا اسم جنس حتى يفيد معنى الجمع، وقد قالوا: ماءة، فيكون الماء اسم جنس بينه وبين مفرده تاء التأنيث، ودل على معنى الجمع، فيشبه "حجن المخالب"، و"صم العظام". -[ص: وإذا قصد استقبال المصوغة من ثلاثي على غير فاعل ردت إليه ما لم يقدر الوقوع. وإن قصد ثبوت معنى اسم الفاعل عوامل معاملة الصفة المشبهة ولو كان من متعد إن أمن اللبس وفاقاً للفارسي. والأصح أن يجعل اسم مفعول المتعدي إلى واحد من هذا الباب مطلقاً، وقد يفعل ذلك بجامد لتأوله بمشتق.]- ش: يعني أنه إذا كان اسم الفاعل من الثلاثي على غير فاعل، نحو: شرف فهو شريف، وشجع فهو شجاع، وحسن فهو حسن، وشبع فهو شبعان، وسمن فهو سمين، وما أشبهها من الأوزان التي للثلاثي على الإطلاق، سواء أكان على وزن فعل أم فعل أم فعل - فإذا قصدت الاستقبال في اسم الفاعل بنيت تلك الأوزان على وزن فاعل، فتقول شارف وشاجع وحاسن وشابع وثاقل. وظاهر

كلام المصنف في الفصل والشرح أن هذا الصوغ إلى فاعل مخصوص بقصد الاستقبال، ووقف في ذلك مع ظاهر قول الفرء، قال الفراء: "العرب تقول لمن لم يمت: إنك مائت عن قليل، ولا تقول لمن قد مات: هذا مائت، إنما يقال في الاستقبال. وكذا يقال: هذا سيد قومه، فإذا أخبرت أنه سيسودهم قلت: هو سائد قومه عن قليل. وكذا الشريف والطمع وشباههما، إذا قصد بها الاستقبال/ صيغت على فاعل" انتهى. وكذا قال بعض أصحابنا: إن ذهب به مذهب الزمان كان على فاعل، نحو حسن يحسن فهو حاسن غداً، فقيد بناء فاعل بالظرف المستقبل، وكان ينبغي أن يحرر العبارة فيقول: إن ذهب به مذهب الزمان المستقبل، وإلا فقوله يدل على أنه إذا ذهب به مذهب الزمان مطلقاً، وسواء أكان الزمان ماضياً أم حالاً أم مستقبلاً. ومن هذا الرد قوله تعالى (فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ)، ومن كلامهم: أحسن إن كانت حاسناً، وقال الشاعر: وما أنا من رزء وإن جل جازع ... ولا بسرور بعد موتك فارح وقال الآخر، وهو الحكم بن صخر: أرى الناس مثل السفر، والموت منهل ... له كل يوم وارد ثم وارد إلى حيث يشقي الله من كان شاقياً ... ويسعد من في علمه هو ساعد وقال قيس بن العيزارة:

فقلت لهم: شاء رغيب وجامل ... فكلكم من ذلك المال شابع وقال آخر: لقد ألف الحداد بين عصابة ... تساءل في الأسجان: ماذا ذنوبها بمنزلة: أما اللئيم فسامن ... بها، وكرام القول باد شحوبها وقال آخر حسبت التقى والحمد خير تجارة ... رباحاً إذا ما المرء أصبح ثاقلاً وقرأ بعض السلف (إِنَّكَ مائتٌ وَإِنَّهُمْ مائتونَ). وأما على قراءة الجمهور فالمعنى: إنك وإياهم وإن كنتم أحياء فأنتم في عداد الموتى، وإلى قراءة الجماعة (إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ) أشار المصنف بقوله "ما لم يقدر الوقوع"، فإنه يبقى على صوغه الأول، ولا يرد إلى فاعل، كقراءة الجمهور. وقوله وإن قصد ثبوت معنى اسم الفاعل عومل معاملة الصفة لمشبهة قد تقدم له هذا المعنى في أول هذا الباب في قوله "ثابتاً معناها"، إلا أنه كرر هذا لقوله "وإن كان من متعد إن أمن اللبس وفاقاً للفارسي". وفي "الإفصاح": وقد جاء في المتعدي، قالوا: ضريب قداح، مبالغة في ضارب، وهذا عريف القوم، أي: كثير المعرفة بهم. وهذا نادر لا يقاس. وذكره عريف القوم وهم؛ لأنه ليس مضافاً للفاعل.

وقال المصنف في الشرح: "يقال: زيد ظالم العبيد خاذلهم، راحهم الأبناء ناصرهم، إذا كان له عبيد ظالمون خاذلون، وأبناء راحمون ناصرون. [5: 58/ب] قال أبو علي في (التذكرة): من قال زيد الحسن عينين فلا بأس/ أن يقول: زيد الضارب أبوين، والضارب الأبوين، والضارب الأبوان، والأبوان فاعل على قولك: الحسن الوجه. ومثله الضارب الرجل إذا أردت الضارب رجله. ولم يقيد أبو علي بأمن اللبس، والصحيح أن جواز ذلك متوقف على أمن اللبس، ويكثر أمن اللبس في اسم فاعل غير المتعدي، فلذلك سهل فيه الاستعمال المذكور، ومنه قول ابن رواحة: تباركت إني من عذابك خائف ... وإني إليك تائب النفس باخع ومنه قول رجل من طيئ: ومن يك منحل العزائم تابعاً ... هواه فإن الرشد منه بعيد ومن ورده في المصوغ من متعد قول الشاعر: ما الراحم القلب ظلاماً وإن ظلما ... ولا الكريم بمناع وإن حرما" انتهى. وما قاله المصنف من أنه إذا كان الوصف متعدياً وأمن اللبس جاز أن يكون من باب الصفة المشبهة يدل ظاهره وإطلاقه على أنه يجوز ذلك من كل متعد، سواء أتعدى بحرف جر أم بنفسه، لواحد أم اثنين أم ثلاثة.

ونقول: إن كان متعدياً إلى أكثر من واحد، كأن يتعدى إلى اثنين أو إلى ثلاثة - فلا خلاف أنه لا يجوز تشبيهه، فإذا قلت مررت برجل معطى أبوه درهماً، أو معلم أبوه زيداً قائماً، فلا يجوز: معطى الأب درهماً، ولا معلم الأب زيداً قائماً. وإن تعدى لواحد بحرف جر فذهب الأخفش إلى جواز ذلك، وصححه ابن عصفور، فتقول: مررت برجل مار الأب بزيد، بنصب الأب أو بجره. ويستدل بقولهم: "هو حديث عهد بالوجع"، فقوله بالوجع متعلق بحديث، وهو صفة مشبهة. وذهب الجمهور إلى المنع، وتأولوا ذلك على أن "بالوجع" متعلق بـ"عهد" لا بالصفة، فإن جاء من كلامهم مررت برجل غضبان الأب على زيد علقوا "على زيد" بفعل محذوف تدل عليه الصفة، أي: غضب على زيد. وإن تعدى لواحد بنفسه فحكى الأخفش إجازته عن طائفة من النحويين، يقولون في: هذا ضارب أبوه زيداً: هذا ضارب الأب زيداً. وذهب كثير من النحويين إلى المنع. وفصل آخرونن فقالوا: إن لم يحذف المفعول اقتصاراً لم يجز، وإن حذف جاز، وهو اختيار ابن عصفور وابن أبي الربيع. وهذا تفصيل حسن؛ لأنه إن لم يحذف المفعول أو حذف اختصاراً فهو كالمثبت، فيكون الوصف إذ ذاك مختلف التعدي والتشبيه، وهو واحد، وذلك لا يجوز. وبيان ذلك أنه من حيث نصب السببي أو جره يكون مشبهاً باسم الفاعل المتعدي؛ ومن حيث نصب المفعول به يكون اسم فاعل متعدياً مشبهاً بالمضارع، فاختلفت جهة تعديه وتشبيهه من حيث صار شبيهاً بأصل في العمل شبيهاً بفرع في العمل؛ فصار فرعاً لأصل وفرعاً لفرع، ولا/ يكون الشيء الواحد فرعاً لشيئين،

ثم إنه إنما سمع استعمال المتعدي صفة مشبهة حيث حذف المفعول اقتصاراً، نحو قوله: ما الراحم القلب ظلاماً وإن ظلما ... ........................................... مع أن هذا البيت يحتمل التأويل. والأحوط ألا يقدم على جواز ذلك حتى يكثر فيه السماع، فيقاس على الكثير؛ لأن القليل يقبل الشذوذ. وفي كتاب الصفار وقد أنشد: الحزن بابا والعقور كلبا من عقر الرجل غيره، وعقر كلبه غيره، فتكون الصفة متعدية، وحذف مفعولها رأساً، ولم يرد ثم شبهت، ولا خلاف في تشبيه هذا، وإنما الخلاف فيما يتعدى عند ذكر مفعوله. وقوله والأصح أن يجعل اسم مفعول المتعدي إلى واحد من هذا الباب مطلقاً يعني في رفع السببي ونصبه وجره على ما تقرر في غير اسم المفعول، وما يمتنع من ذلك، وما يجوز، وما يقبح ويقل، وقد تقدم إنشادنا الأبيات التي فيها دليل على ذلك، نحو قوله "مغرور نفسه" و"ومجلوة وجناته" و"مرفوع بما هاهنا رأس". وقوله والأصح يدل على خلاف في المسألة، ولا نعلم أحد منعها. وقوله وقد يفعل ذلك بجامد لتأوله بمشتق مثاله: وردنا منهلاً عسلاً ماؤه، وعسل الماء، أي: حلواً، ومررنا بقوم أسد أنصارهم، وأسد الأنصار، أي: شجعان، ومررت بحي أقمار النساء، أو أقمار نساؤهم، أي: حسان، وقال الشاعر:

فلولا الله والمهر المفدى ... لأبت وأنت غربال الإرهاب وقال الآخر: مئبرة العرقوب إشفى المرفق وقال الآخر: فراشة الحلم، فرعون العذابن وإن ... يطلب نداه فكلب دونه كلب أي: مثقب، وحديدة، وطائش ومهلك. ومن ذلك النسب، تقول: مررت برجل هاشمي أبوه تميمية أمه، وتضيف فتقول: هاشمي الأب تميمي الأم؛ لأنه مقدر بمنتسب إلى هاشم، ومنتسبة إلى تميم. وفي "الغرة": مررت برجل أسد، إذا شبهته به، لا يرفع ظاهراً، لا تقول: برجل أسد أبوه، فأما قول الشاعر: سل المرء عبد الله إذ فر هل رأى ... كتيبتنا في الحرب كيف قراعها ولو قام لم يلق الأحبة بعدها ... ولاقى أسوداً هصرها ومصاعها فقال قوم: هصرها ومصاعها بدل من: قراعها. وقيل: هما مرفوعان بأسود. مسألة: مشيوخاء ومعلوجاء وصفان، واختلف في جواز الرفع بهما، فذهب الفارسي إلى جواز ذلك، ثم اعترض على نفسه بعدم الجريان، وانفصل بأنه قد يعمل/ غير الجاري، نحو: مررت بأعور أبوه. ورد هذا بأن أعور وبابه - وإن

كان غير جار - مشبه للجاري؛ ألا ترى أنه يثنى ويجمع، وله مؤنث، ومشيوخاء لا يشبه الجاري؛ ألا ترى أنه لا يثنى ولا يجمع ولا يؤنث. فإن قلت: ينبغي أن يرفع كما يرفع عور، فإنه أيضاً لا يشبه الجاري. قلت: هو وإن لم يشبه الجاري هو جمع لما يشبه الجاري، فكيف ما كان يعمل، وأما هذا فلا يشبه الجاري، ولا هو جمع للجاري ولا للمشبه الجاري، ومشيوخاء يوصف به لأنه من لفظ الشيخ، والشيخ صفة، فأمر الوصف به بين، وأما معلوجاء فمن لفظ العلج، والعلج في الأصل هو الغليظ، لكن قد جرى مجرى الأسماء، فالوصف به على توهم أصله. مسألة نختم بها الباب: اختلفوا في تشبيه الفعل اللازم بالفعل المتعدي كما شبه وصفه باسم الفاعل المتعدي؛ فأجاز ذلك بعض المتأخرين، فتقول: زيد تفقا الشحم، أصله: تفقا شحمه، فأضمرت في تفقا، ونصبت الشحم تشبيهاً بالمفعول به. واستدل بما روي في الحديث: (كانت امرأة تهراق الدماء). ومنع من ذلك الأستاذ أبو علي، وقال: لا يكون ذلك إلا في الصفات وأسماء الفاعلين والمفعولين، وقد تأولوا الأثر على أنه على إسقاط حرف الجر أو على إضمار فعل، أي: بالدماء، أو: يهريق الله الدماء منها. وهذا هو الصحيح إذ لم يثبت ذلك من لسان العرب. * * *

باب إعمال المصدر

-[ص: باب إعمال المصدر يعمل المصدر مظهراً، مكبراً، غير محدود، ولا منعوت قبل تمامه، عمل فعله. والغالب إن لم يكن بدلاً من اللفظ بفعله تقديره به بعد "أن" المخففة أو المصدرية أو "ما" أختها. ولا يلزم ذكر مرفوعه. ومعموله كصلة في منع تقدمه وفصله. ويضمر عامل فيما أوهم خلاف ذلك. أو يعد نادراً.]- ش: قال المصنف في الشرح: "عمل المصدر عمل الفعل لأنه أصل، والفعل فرعه، فلم يتقيد عمله بزمان دون زمان، بل عمل عمل الماضي والحاضر والمستقبل لأنه أصل لكل واحد منها، بخلاف اسم الفاعل، فإنه عمل للتشبيه، فتقيد عمله بما هو شبيهه، وهو المضارع" انتهى. والذي قال غيره في كونه لا يتقدر عمله بزمان وأنه لا يشترط في عمله أن يعتمد على ما يعتمد عليه اسم الفاعل أنه إنما يعمل بالنيابة عن الفعل؛ والفعل لا يشترط فيه ذلك. والتحرير أنه لم ينب مناب الفعل وحده بل مناب حرف مصدري والفعل. وحكي لي عن أبي عبد الله بن أبي العافية أنه منع من إعماله ماضياً. ولعل الذي منع ذلك غيره. وغر مانع ذلك قول س: "هذا باب من المصادر جرى مجرى الفعل المضارع في عمله ومعناه". وإنما خص س الفعل المضارع لأنه ذكر قبل هذا الباب اسم الفاعل، وهو إنما يعمل /عمل المضارع، فأجرى هذا عليه. ثم إن س

نص آخر الباب على أنه يعمل ماضياً وحالاً ومستقبلاً، فقال: "وتقول: عجبت له من ضرب أخيه، يكون المصدر مضافاً فعل أو لم يفعل، ويكون منونا" انتهى. وقد تأول بعض أصحابنا قول س "الفعل المضارع"، وقال: "لا يريد بالمضارع المصطلح على تسميته مضارعاً، وإنما المضارع هنا على إطلاقه لغة، وكأنه قال: جرى مجرى المشابه له، فإن كان ماضياً جرى مجراه، وكذلك إن كان حالاً أو مستقبلاً". وقوله مظهراً احتراز من ضميره، فإنه لا يعمل، قال المصنف في الشرح: "لما ترتب عمل المصدر على الأصالة اشترط في كونه عاملاً بقاؤه على صيغته الأصلية التي اشتق منها الفعل؛ فلزم من ذلك ألا يعمل إذا غير لفظه بإضمار، ولا بتصغير، ولا برده إلى فعلة قصداً للتوحيد، ولا بنعت قبل تمام مطلوبه" انتهى. وفي إعماله مضمراً خلاف: ذهب الكوفيون إلى جواز إعماله، فأجازوا: مروري بزيد قبيح وهو بعمرو حسن، فيعلقون "بعمرو" بقوله و"هو"، أي: مروري بعمرو. واستدلوا على ذلك بقول الشاعر: وما الحرب إلا ما علمتم وذقتم ... وما هو عنها بالحديث المرجم أي: وما الحديث عنها. وذهب البصريون إلى منع إعمال ضمير المصدر، وتأولوا هذا البيت على أن "عنها" متعلق بمحذوف، تقديره: أعني عنها، أو على أنه متعلق بالمرجم على سبيل الضرورة، أو على أن يكون التقدير: وما هو مرجماً عنها، وحذف لدلالة الثاني عليه.

وحكى عاصم بن أيوب عن الفارسي أنه أجاز أن يعمل المكني في المجرور، وذكر ابن ملكون أنه وقف على إجازة ذلك من كلام أبي علي. وأجاز ذلك الرماني وابن جني في "خصائصه". ومنع ابن جني عمله في المفعول الصريح، نحو: ضربي زيداً حسن وهو عمراً قبيح. وقياس عمله في المجرور يوجب عمله في الظرف؛ إذ لا فرق بينهما، وقد أجازه جماعة. وتأوله المصنف في الشرح على أن يكون التقدير: وما هو الحديث عنها. فيتعلق "عنها" بـ"الحديث"، والحديث بدل من هو، ثم حذف البدل، وترك المتعلق به دالاً عليه. وأشار المصنف إلى تكلف هذا التأويل؛ لأن البدل هو المقصود بالنسبة، ولا يذكر متبوعه غالباً إلا توطئة له، فلا يناسب أن يحذف، ولأنه يلزم من ذلك حذف المصدر وهو موصول وإبقاء معموله، وهو لا يجوز إلا في الضرورة. والذي يقطع بالكوفيين أنه لا يحفظ من كلام العرب: أعجبني ضرب زيد عمراً وهو بكراً، أي: وضربه بكراً. ثم العجب منهم أنه يحكى عنهم أنهم لا يُعملون صريح المصدر على اختلاف في النقل سيأتي، وأن ما ظهر بعده من العمل إنما هو بفعل مضمر يدل عليه المصدر، ثم يعملون /ضمير المصدر، هذا غريب. وقوله مكبرا احتراز من أن يكون مصغراً، فلا يقال: عرفت ضريبك زيداً، قال المصنف في الشرح: "لأن التصغير يزيل المصدر عن الصيغة التي هي أصل

الفعل زوالاً يلزم منه نقص المعنى؛ بخلاف الجمع، فإن صيغته - وإن زال معها الصيغة الأصلية - فإن المعنى معها باق ومتضاعف بالجمعية؛ لأن جمع الشيء بمنزلة ذكره متكرراً بعطف، فلذلك منع التصغير إعمال المصدر وإعمال اسم الفاعل، ولم يمنع الجمع إعمال المصدر ولا إعمال اسم الفاعل" انتهى. أما المصدر إذا كان مجموعاً ففي إعماله خلاف: ذهب قوم إلى جواز ذلك كما ذهب إليه المصنف، وهو اختيار ابن عصفور. وذهب قوم إلى منع إعماله مجموعاً، وإلى ذلك ذهب أبو الحسن بن سيده. ومما استدل به من أجاز ذلك قول العرب: "تركته بملاحس البقر أولادها"، فملاحس جمع ملحس بمعنى لحس، وقول الشاعر: وقد وعدتك موعداً، لو وفت به ... مواعد عرقوب أخاه بيترب فمواعد جمع موعد. وقول أعشى قيس يمدح هوذة بن علي الحنفي: قد حملوه فتي السن ما حملت ... ساداتهم، فأطاق الحمل، واضطلعا وجربوه، فما زادت تجاربهم ... أبا قدامة إلا الحزم والفنعا فتجاربهم جمع تجربة، ونصب به أبا قدامة. وقول ابن الزبير الأسدي: كأنك لم تنبأ، ولم تك شاهداً ... بلائي وكراتي الصنيع ببيطرا

فكراتي جمع كرة، ونصب به الصنيع، وهو اسم فرسه. وقول أعشى قيس أيضاً: إن عداتك إيانا آتية ... حقا، وطيبة ما نفس موعود فعداتك جمع عدة، وقد أعمله، فنصب به الضمير. ومن منع إعمال المصدر مجموعاً تأول هذا السماع على أن المنصوب في ذلك ينتصب بإضمار فعل، تقديره: لحست أولادها، ووعد أخاه، وجربوا أبا قتادة، وكررت الصنيع، وإيانا تعد. وأما قوله "فما زادت تجاربهم أبا قدامة" فلا يتعين أن يكون "أبا قدامة" منصوباً بتجاربهم؛ إذ يحتمل أن يكون أبا قدامة منصوباً بزادت، ويكون من وضع المظهر مكان المضمر على سبيل التفخيم لذكر الممدوح بكنيته. ويحتمل أن يكون أبا قدامة بدلاً من مفعول زادت المحذوف لدلالة الكلام عليه، أي: فما زادته تجاربهم أبا قدامة إلا كذا، كما حذف في: ضربت الذي ضربت زيداً، تريد: ضربته زيداً. وفي "البسيط": "وقد يخرج إلى ترك العمل بالتثنية والجمع، وكذلك إذا توسع فيه أو وصف، فأما عمله في التمييزات فقد يكون مجموعاً لدلالته على الفعل؛ لأن التمييز قابل لعمل الضعيف فيه كالأحوال والظروف، فتقول: عجبت من تصبباته/ عرقاً؛ لأنه في معنى: من أن تصبب عرقاً. وكذلك في الخبر. ويحتمل أن يكون منه قوله عليه السلام (ألا أخبركم بأحبكم إلي وأقربكم مني مجالس، محاسنكم أخلاقاً)، فإن المحاسن جمع محسن، لم يتكلم له

بواحد كمذاكير، وهو عامل في التمييز. وإذا كانت الصفة عاملة في التمييز جمعاً فهنا أحرى. وبالجملة فشرطه بعضهم في العمل - أعني الإفراد - وربما جاء مجموعاً معملاً، كقولهم: أتيته بملاحس البقر أولادها، وقولهم: مواعيد عرقوبن وقول أشجع السلمي: وما كنت أدري ما فواضل كفه ... على الناس حتى غيبته الصفائح" انتهى. والقياس يقتضي أنه إذا جمع لا يعمل؛ لأن عمله إنما هو لكونه ينحل بحرف مصدري والفعل، والفعل الذي ينحل إليه إنما يدل على مطلق المصدر، لا دلالة له على خصوصيات، وإذا جمعته زال ذلك الإطلاق، فينبغي ألا ينحل للحرف والفعل، فلا يعمل، وأما أشجع فمولد لا يحتج بشعره. وقوله غير محدود لا يقال: عجبت من ضربتك زيداً، فإن سمع من موثوق بعربيته حكم بشذوذه، فمن ذلك ما أنشده أبو علي في "التذكرة": يحايي بها الجلد الذي هو حازم ... بضربة كفيه الملا نفس راكب وقال كثير: وأجمع هجراناً لأسماء إن دنت ... بها الدار، لا من زهدة في وصالها

أنشده المصنف شاهداً على ذلك. والذي يظهر أن زهدة في البيت لا يريد به المرة الواحدة، بل يظهر أنه مرادف لزهد. وفي بيت ابن الزبير في قوله "وكراتي الصنيع" شاهد على إعمال المصدر المحدود؛ لأن كراتي جمع كرة، وهي موضوعة للوحدة. وقوله ولا منعوت قبل تمامه أي: قبل استيفائه ما يتعلق به من مفعول مجرور وغير ذلك؛ وذلك أن هذا المصدر منحل بحرف مصدري والفعل، ومتعلقاته تتنزل منزلة متعلقات الفعل الموصول، فكما لا يفصل بين الفعل الموصول ومتعلقاته فكذلك لا يفصل بين المصدر ومتعلقاته. وفي قول المصنف "ولا منعوت" قصور، وكان ينبغي أن يقول "ولا متبوع بتابع" ليشمل النعت والعطف والتوكيد والبدل، فلا يجوز: عجبت من ضربك الكثير زيداً، ولا: عجبت من شربك وأكلك اللبن، ولا: عجبت من ضربك نفسه زيداً، ولا عجبت من إتيانك مشيك إلى زيد، فلو أخرت هذه التوابع عن متعلقات المصدر جاز، قال: إن وجدي بك الشديد أراني ... عاذراً من عهدت فيك عذولا /وقال: فلو كان حبي أم ذي الودع كله ... لأهلك مالاً، لم تسعه المسارح فـ"الشديد" نعت لـ"وجدي"، و"كله" توكيد لـ"حبي"، وكل منهما قد أخذ معموله. فإن ورد ما يوهم خلاف ذلك تؤول على أن يجعل متعلقاً بفعل يفسره المصدرن كما قال الحطيئة:

أزمعت يأسا مبينا من نوالكم ... ولن يرى طارداً للحر كالياس تقديره: يئست من نوالكم. وقول الآخر: وإني زعيم إن رجعت مملكا ... بسير، ترى منه الفرانق أزورا على لاحب، لا يهتدى بمناره ... إذا سافه العود النباطي جرجرا أي: أسير على لاحب. وقول الآخر: ولا تحسبن القتل - محضاً شربته - ... نزاراً، ألا إن النفوس إسعاف أي: قتلت نزاراً؛ لأنه فصل بالمفعول الثاني بين القتل ونزار، فاحتيج إلى التأويل. وقال الآخر: بضرب يزيل الهام شدة وقعه ... بكل حسام ذي صبي ورونق تقديره: كائن بكل حسام، ولا يجوز أن يتعلق بـ"ضرب"؛ لأنه قد وصف بقوله: يزيل الهام، ولذلك رد أبو علي الفارسي على أبي سعيد السيرافي ما أجازه في قوله: أرواح مودع أم بكور ... أنت، فانظر لأي ذاك تصير من أن "أنت" مرفوع على الفاعلية بالمصدر، قال: لأن المصدر المنحل لـ"أن" والفعل لا يوصف؛ لأنه كان عند النحويين بمنزلة المضمر، فكما أن المضمر لا يوصف فكذلك هذا.

وزاد الأستاذ أبو علي أن قال: إذا ارتفع أنت على الفاعلية بقي المبتدأ الذي هو المصدر بلا خبر. وأقول: هذا لا يلزم؛ إذ هو نظير: أقائم الزيدان؟ فالفاعل سد مسد الخبر. وقال شيخنا الأستاذ أبو الحسن الأبذي: يمتنع أن يكون أنت مرفوعاً على الفاعلية بالمصدر؛ لأنك لا تقول: ضرباً أنت، فيكون فاعلاً، فكذلك لا تقول: أضرب أنت؟ من حيث إن الفاعل شديد الاتصال، والضمير يمكنك اتصاله، فتقول: ضربي زيداً حسن، فيلزم اتصاله لا فصله، كما فعلت العرب في الفعل في: ضربت زيداً؛ لأن التنوين يقطع الاسم عما بعده، فيجب امتناعه. وقد خرج رفع "أنت" على وجوه: أحدها أنه فاعل بفعل محذوف يفسره قوله "فانظر". أو مبتدأ محذوف الخبر، أي: أنت الهالك. أو خبر محذوف المبتدأ، أي: الهالك أنت. وهذه الأوجه لـ"س". وأجاز السيرافي والأعلم أن يكون أنت مبتدأ، وخبره رواح، إما على المبالغة، /نحو: زيد رضا، أو على الحذف، أي: أنت ذو رواح. وقوله عمل فعله فإن كان الفعل قاصراً كان المصدر قاصراً، وإن كان متعدياً بحرف تعدي به، أو إلى واحد أو شبيه بما عدى إلى واحد، نحو كان، أو اثنين أو ثلاثة - فكذلك مصدره، وتمثيل ذلك سهل، وقد مثل ذلك المصنف في الشرح، فذكر أن المصدر يرفع النائب عن الفاعل، نحو: سرني إعطاء الدينار الفقير، وهذه مسألة خلاف، سيأتي الكلام فيها إن شاء الله تعالى.

وقوله والغالب إلى آخر المسألة قال المصنف في الشرح: "وليس تقدير المصدر العامل بأحد الأحرف الثلاثة شرطاً في عمله، ولكن الغالب أن يكون كذلك. ومن وقوعه غير مقدر بأحدها قول العرب: سمع أذني زيداً يقول ذلك، وقول أعرابي: (اللهم إن استغفاري إياك مع كثرة ذنوبي للؤم، وإن تركي الاستغفار مع علمي بسعة عفوك لغي)، وقول الشاعر: عهدي بها الحي الجميع وفيهم ... قبل التفرق ميسر وندام وقول الراجز: ورأي عيني الفتى أخاكا ... يعطي الجزيل، فعليك ذاكا وقول الآخر: لا رغبة عما رغبت فيه ... مني، فانقصيه، أو زيديه ومن أمثلة س: متى ظنك زيداً أميراً؟ وذكر س في (باب من المصادر جرى مجرى الفعل المضارع): عجبت من ضرب زيد عمراً، إذا كان هو الفاعل، ثم قال: (كأنه قال: عجبت من أنه يضرب زيد عمراً)، ولم يقدر في الباب بغير أن

الثقيلة. وإذا ثبت أن عمل المصدر غير مشروط بتقدير حرف مصدري أمكن الاستغناء عن إضمار في نحو: له صوت صوت حمار" انتهى. والذي تقرر عند أصحابنا أن شرط عمل هذا المصدر أن يقدر بحرف مصدري والفعل، فقدر الحرف س بـ"أن" الثقيلة المسندة إلى ضمير الشأن؛ لأنه يعم أن تكون الصلة ماضية وحالاً ومستقبلة، فتقدر في الماضي: من أنه ضرب زيد عمراً، وفي المضارع: من أنه يضرب؛ لأنه يصلح للحال والاستقبال. وقدره بعضهم بـ"أن" الناصبة للفعل؛ لأن صلتها تكون بالماضي، نحو: عجبت من أن قام زيد، وبالمضارع فتخلصه للاستقبال، نحو: عجبت من أن يقوم زيد. وبـ"ما"؛ لأنها تصلح للحال، وتوصل به، نحو: عجبت مما تضرب زيداً. وأما ما زعم أنه لا يتقدر بحرف مصدري فليس كما زعم، بل كلها تتقدر بحرف مصدري والفعل؛ لأن قوله: سمع أذني زيداً يقول ذلك، و"عهدي بها الحي الجميع"، و"رأي عيني الفتى" - من باب: ضربي زيداً قائماً، وهو يتقدر بحرف مصدري والفعل كما يتقدر: ضربي زيداً قائماً. وكذلك "إن استغفاري" و"لا رغبة" /أي: إن أن أستغفرك، ولا أن أرغب. وكذلك: متى ظنك؟ أي: متى أن تظن. وفي البسيط: "اختلفوا في تقدير الفعل: هل من شرطه تقديره بالحروف السابكة أو ليس من شرطه ذلك؟ فمنهم من يقدر نفس الفعل. ومنهم من يقدره بأن. ومن لم يقدره قال: إنما نقدره حيث يكون المصدر مطلوباً لشيء متقدم؛ لأنه حينئذ إذا نزل منزلة الفعل - والفعل لا يكون معمولاً للأول - يكون مقدراً بأن، وإذا إذا ابتدئ فلا يحتاج إليه. قيل: وهذا أصح للقياس والسماع: أما القياس فمن حيث إن الفعل إذا قدر بـ"أن" كان معناه المصدر، فلم يقع المصدر موقع الفعل، وإنما وقع موقع نفسه.

وأما السماع فإنا نجوز: ضربي زيداً قائماً، ولو قلت أن أضرب زيداً قائماً لم يكن كلاماً إلا بخير، وإنما كان الحال خبراً مع ظهور المصدر لصحة كون الحال كالزمان، والزمان يكون خبراً عن المصادر، فلما خرج عن لفظه لم يكن ذلك" انتهى. ولا يلزم من تقدير الشيء كونه ينطق به في الكلام، فكم من مقدر لا ينطق به، وكثيراً ما في كتاب س من تقدير، ويقول: "فهذا تمثيل ولا يتكلم به". وقوله إن لم يكن بدلاً من اللفظ بفعله سيأتي حكم المصدر الذي هو كذلك. وقوله تقديره به بعد أن المخففة أو المصدرية أو ما قال المصنف في الشرح: "احترز من المصدر المؤكد والمبين النوع والهيئة، فالمخففة بعد علم - وهو مخصوص بالمخففة - غير صالح للمصدرية، فيجوز مضيه وحضوره واستقباله، فمضيه قول الشاعر: علمت بسطك بالمعروف خير يد ... فلا أرى فيك إلا باسطا أملا وحضوره قول الراجز: لو علمت إيثاري الذي هوت ... ما كنت منها مشفيا على القلت واستقباله قول الشاعر: لو علمنا إخلافكم عدة السلـ ... ـم عدمتم على النجاة معينا

وكذا المقدر بـ"ما" المصدرية، فمضيه (كَذِكْرِكُمْ آَبَاءَكُمْ)، وقول الشاعر: وعذبه الهوى حتى براه ... كبرى القين بالسفن القداحا وقول الآخر: مدمن الخمر سوف يأخذه با ... ريه أخذه ثمود وعادا وحضوره (تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ)، وقول الفرزدق: وددت - على حبي الحياة - لو أنها ... يزاد لها في عمرها من حياتيا واستقباله قول الشاعر:/ ومن يمت وهو لم يؤمن يصل غداً ... شواظ نار دوام النار في سقرا والمقدر بـ"أن" المصدرية ما وقع بعد لولا أو فعل إرادة أو كراهة أو خوف أو رجاء أو طمع أو شبه ذلك، ولا يكون المقدر بهذه إلا ماضي المعنى، كقوله: أمن بعد رمي الغانيات فؤاده ... بأسهم ألحاظ يلام على الوجد أو مستقبله، كقول الفرزدق:

فرم بيديك هل تستطيع نقلاً ... جبالاً من تهامة راسيات" انتهى ملخصاً. وجعله المصدرية قسيمة للمخففة ليس بجيد؛ لأن أن المخففة مصدرية أيضاً؛ لأنها مخففة من الثقيلة، والثقيلة مصدرية، والحروف المصدرية هي: أن، وأن، وما، وكي، فلا اختصاص لـ"أن" الموضوعة على حرفين بالمصدرية؛ إذ هو قدر مشترك بين جميع هذه الحروف. وقوله أختها يعني أخت أن المصدرية، لأن "ما" لها أقسام كثيرة، فمن أقسامها أنها تكون حرفاً مصدرياً، فهي كـ"أن". وإنما تعاقب المصدر والفعل مقروناً بحرف مصدري لقوة النسبة بينهما؛ إذ في الفعل دلالة على المصدر، والمصدر أيضاً دال على المعنى الذي عمل به الفعل، فانتسبا إلى أصل واحد وإن كان بينهما رتبة بتقدم وتأخر من جهة الاشتقاق؛ وتلك الرتبة أورثته أن لم يحل محل المصدر إلا باقتران حرف معه، ولم يحتج المصدر في تلبسه بأثرة الفعل إلى اقتران حرف به. ولما كان هذا المصدر استعملته العرب في مواضع من الابتداء والفاعلية والمفعولية والإضافة، فصار كالأسماء المتمكنة غير المصادر، ووجدناه مع ذلك ينصب كما ينصب الفعل، فنظرنا هل تلك المواضع يحلها الفعل حتى يكون عمل المصدر بنيابته عنه، فلم يحلها إلا مقروناً بحرف مصدري، فعلمنا أن النصب بعد المصدر إنما هو بمعنى ذلك الفعل المقرون به الحرف المصدري، وذلك التعاقب هو الذي سوغ أن ترد كل عبارة إلى أختها، فتقول مثلاً: الفعل مع أن في تأويل المصدر، وتقول: هذا المصدر يتقدر بأن والفعل. وظاهر كلام المصنف في "ألفيته" أنه إذا لم يحل المصدر محل أن أو ما والفعل لم يعمل، وأن ذلك شرط في إعماله، نحو: يعجبني العدل وأكره الجور، وله

ذكاء ذكاء الحكماء، فهذه مصادر قصد بها حقائق مدلولاتها من غير اعتبار علاج، فجرت مجرى الأسماء التي لا يصح لها عمل، والمصدر العامل إنما عمل بالنيابة مناب الفعل المقدر بحرف مصدري، ولا تكون النيابة إلا مع العلاج، ولذا قالوا: إذا قلت سرني ضرب زيد فيحتمل وجوهاً، منها أن يكون زيد معرفاً للضرب، لا يقصد به دلالة المخاطب على أنه/ ضارب ولا مضروب. [5: 63/ب] وقوله ولا يلزم ذكر مرفوعه وذلك بخلاف الفعل، فإنه لابد له من مرفوع، فقد يستغني عن المرفوع وغيره من معمولاته، كقوله تعالى (وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ)، وقد يستغني عنه فقط، ويبقى المعمول، نحو (أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ). وخص المرفوع لأن الاستغناء عن غيره جائز مع كل عامل غير ناسخ. وعم بالمرفوع الفاعل والنائب واسم كان وأخواتها. ويدل قوله "ولا يلزم ذكر مرفوعه" على أنه ليس كالفعل وما أشبهه مما يعمل؛ لأنه لا يستغني عن مرفوع ظاهر أو مضمر، وأنه يجوز أن يذكر مرفوعه، فيرفع الفاعل بالمصدر المنون، وينصب المفعول أو المفعولان أو الثلاثة على حسب تعدي الفعل الذي هذا مصدره، وإن كان لازماً رفع الفاعل، وتعدى إلى غير المفعول به كتعدي فعله، فيجوز أن تقول: عجبت من قيام زيد، ومن ضرب زيد عمراً، ومن إعطاء زيد عمراً درهماً، ومن ظن زيد عمراً قائماً، ومن إعلام زيد عمراً بكراً قائماً. هذا مذهب البصريين. وأجاز جمهورهم أن ينوى في المصدر أنه منحل لحرف مصدري والفعل الذي لم يسم فاعله؛ فيرتفع ما بعده على أنه مفعول لم يسم فاعله، فأجازوا أن

تقول: عجبت من جنون بالعلم زيد، ومن أكل الطعام، أي: من أن جن بالعلم زيد، ومن أن أكل الطعام. وجوزوا في عجبت من ضرب زيد أن يكون فاعلاً بالمصدر أو مفعولاً لم يسم فاعله. وذهب أبو الحسن الأخفش إلى أنه لا يجوز أن ينوى في المصدر انحلاله لحرف مصدري والفعل الذي لم يسم فاعله؛ فإذا قلت عجبت من ضرب زيد فهذا عنده مرتفع على الفاعل لا على أنه مفعول لم يسم فاعله. وذكر شيخنا أبو الحسين بن أبي الربيع أن مذهب أكثر النحويين أن المفعول به لا يكون مع المصدر المنون إلا منصوباً؛ وإلى هذا كان الأستاذ أبو علي يذهب. واستدل من أجاز رفعه على المفعول الذي لم يسم فاعله بعد المصدر بقول الشاعر: إن قهراً ذوو الضلالة والبا ... طل عز لكل عبد محق تقديره: أن يقهر ذوو الضلالة. وذهب الكسائي إلى أنه لا يجوز ذلك إلا حيث لا يلبس. وعلى ما تقرر من مذهب البصريين في جواز إعمال المصدر فيجوز عندهم أن تقدم فيه المفعول على الفاعل؛ فتقول: عجبت من ضرب زيداً عمرو. ويجوز عندهم ألا تذكر الفاعل، فتقول: عجبت من ضرب زيداً، قال تعالى (أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ (14) يَتِيمًا)، وقال الشاعر:

فلولا رجاء النصر منك ورهبة ... عقابك قد كانوا لنا كالموارد وقال آخر:/ ... [5: 64/أ] بضرب بالسيوف رؤوس قوم ... أزلنا هامهن عن المقيل وقال الفرزدق: فرم بيديك هل تستطيع نقلا ... جبالاً من تهامة راسيات وقال زياد الأعجم: ببذل في الأمور وصدق بأس ... وإعطاء على العلل المتاعا وحكى هشام: عجبت من أكل الخبيص، إذا كنت تخاطبه، قال: إلا أنه ينتصب بإضمار تأكل. قال: فإن لم تخاطبه رفعت. قال: وأحب إلى أن يفرق بينهما بشيء. والبصريون لا يضمرون في مثل هذا ويجيزون النصب وإن كان لغير المخاطب إذا جرى ذكر. ثم اختلف البصريون في الفاعل: فذهب الجمهور إلى أن الفاعل محذوف، فاعترضوا بإنكارهم على الكسائي حذف الفاعل في باب الإعمال، ففرقوا بين حذفه من المصدر وحذفه من الفعل واسم الفاعل وما جرى مجراه مما يجري مجرى الفعل بأن الموجب لحذفه من الفعل إنما هو جعل ضميره كالجزء من العامل؛ بدليل تسكينهم له آخر الفعل في ضربت، وفصلهم به بين الفعل وإعرابه في نحو يفعلان، فكما لا يجوز حذف الجزء من الكلمة بقياس، فكذلك لا يجوز حذف الفاعل إذا

كان مضمراً متصلاً، ثم حمل الظاهر والضمير المنفصل في امتناع الحذف على المضمر المتصل، فلما كان المصدر لا يتصل به ضمير فاعل لم تكن نسبة فاعلة منه نسبة الجزء من الكلمة فيمتنع حذفه لم يحمل الظاهر والضمير المتصل في امتناع الحذف عليه. وقد علل المصنف في الشرح كونه لا يذكر معه بل يحذف بخلاف الفعل، وأبدى فرقاً بين الفعل وما أشبهه وبينه بأن الفعل لو ذكر دون مرفوع لكان حديثاً عن غير محدث عنه، وليس كذلك المصدر؛ لأنه إذا عمل الفعل المنسوب إليه بإجماع لم يكن إلا في موضع غير صالح للفعل، فجرى مجرى الأسماء الجامدة في عدم تحمل الضمير، وجاز أن يرفع ظاهراً لكونه أصلاً لما لا يستغني عن مرفوع. انتهى. ولا يلزم من حذف الفاعل مع الفعل أن يكون حديثاً عن غير محدث عنه؛ لأن المحذوف كالملفوظ به الموجود. وذهب قوم إلى أن الفاعل مضمر في المصدر، وأن المصدر يتحمل الضمير كما يتحمله اسم الفاعل والصفة المشبهة والظرف؛ لأنه يعمل في الظاهر، فيعمل في المضمر. ونسب ذلك بعض أصحابنا إلى الكوفيين. قال ابن هشام: "وأهل البصرة متفقون على أن لا إضمار، وأهل الكوفة يضمرون الفاعل، ويقولون: لابد من ذلك؛ لأنه كاسم الفاعل والصفة المشبهة والفعل ما عمل في الظاهر رفعاً، فلابد له أن يرفع ظاهراً أو مضمراً، إلا من رأى منهم أنه لا يعمل. /وحجة البصريين أنه قد يضاف إلى فاعله، فمحال أن يرفع حينئذ، فقد خرج بهذا عن الفعل وعن كل ما أشبهه، والصفة حين أضيفت لفاعلها تخلصت للموصوف، ورفعت ضميرها، وليس المصدر كذلك" انتهى.

وذهب أبو القاسم خلف بن فرتون الشنتريني - عرف بابن الأبرش - إلى أن الفاعل منوي إلى جنب المصدر، والتقدير: أو إطعام إنسان، ودل عليه ذكر الإنسان قبله. قال: "ولا يجوز أن يقال: إن الفاعل مضمر؛ لأن المصدر لا يضمر فيه؛ لأنه بمنزلة أسماء الأجناس. فإن قيل: إذا كان بمنزلة أسماء الأجناس فكيف يعمل عمل الفعل؟ فالجواب: أنه عمل عمل الفعل لوجود لفظ الفعل فيه؛ ألا ترى أنه إذا أضمر بطل عمله، ولا يجوز أن يقال: محذوف؛ لأن الفاعل لا يحذف" انتهى كلامه. وذكرت هذا لشيخنا الأستاذ أبي الحسن بن الضائع، فقال: عجبت من ركوب الفرس، الفاعل هنا ليس منويا، ولا يدل عليه ذكر شيء قبله، بل هو هنا محذوف ولابد. وذهب السيرافي إلى أنه يجوز ألا يقدر فاعل، بل ينتصب المفعول بالمصدر كما ينتصب التمييز في عشرين درهماً من غير أن تقدر فاعلاً. ثم اعترض على نفسه، فقال: فإن قلت: فإذا نصبت يتيماً ولم تقدر فاعلاً في إطعام فقد جعلته تمييزاً. فالجواب: أنا - وإن نصبناه من غير أن نقدر فاعلاً - فإنما ينتصب تشبيهاً بالمفعول الذي ينصبه الفعل، ولا يلزم من ناصبه أن يكون مثل الفعل في جميع أحكامه، تقول: عجبت من إطعام زيد عمراً، فتنصب عمراً بإطعام، وتقيم زيداً مقام التنوين، وهو مجرور، ولا تقدر فاعلاً غير زيد، فقد بطل في المصدر لفظ الفاعل الذي هو مرفوع في الفعل لا محالة، ولم يكن المصدر بمنزلة الفعل في هذه الحال، فكذلك ما ذكرنا.

ورد على السيرافي بما رد هو على الكسائي في باب الإعمال، وهو أن يقال له: إما أن يكون الفاعل مراداً أو غير مراد، فإن قال إنه غير مراد فهذا باطل بالضرورة؛ لأنه لابد للإطعام من مطعم من جهة المعنى، وإن قال إنه مراد فقد أقر بأن المصدر يقتضيه كما يقتضيه الفعل، وأنه مخالف لعشرين درهماً، فيلزمه أن يكون مقدراً فيه وإن لم يصح إضماره فيه ولا إبراز لفظ المضمر. وذهب الفراء إلى أنه لا يجوز أن يلفظ بالفاعل بعد المصدر المنون. قالوا: وحمله على ذلك أنه لم يسمع. ورد البصريون عليه هذا، واستدلوا على ورورد ذلك بقول الشاعر: حرب تردد بينهم بتشاجر ... - قد كفرت آباؤها - أبناؤها قالوا: التقدير: بتشاجر أبناؤها قد كفرت آباؤها، أي: لبست الدروع. وهذا البيت لا حجة فيه، بل الظاهر أن قوله "آباؤها أبناؤها" مبتدأ وخبر، أي: آباؤها في ضعف الحلوم مثل أبنائها؛ /ألا ترى أن قبله ما يدل على هذا المعنى، وهو قوله:

هيهات قد سفهت أمية رأيها ... فاستجهلت، حلماؤها سفهاؤها إذ التقدير: حلماؤها مثل سفهائئها، فكذلك يكون تقدير: "آباؤها أبناؤها". ويلزم أيضاً في تخريج البيت على قول البصريين أن يفصل بين المصدر ومعموله بقوله: "قد كفرت أبناؤها". والذي يظهر لي مذهب الفراء؛ لأن كل ما أورد س وغيره من المصدر المنون في لسان العرب لم يذكر بعده فاعل، ولم يذكره س إلا في نفس عبارته، قال: "وذلك عجبت من ضرب زيد عمراً"، وليس في لفظه ما يدل على أنه محكي عن العرب، فيحتمل أن يكون ذلك رأياً منه، بل هو ظاهر كلامه وقياس منه؛ لأنه قال: "لأنك كما تقول: عجبت من أن ضرب زيد عمراً ينبغي أن تقول: عجبت من ضرب زيد عمراً". وكأن س لم ير مانعاً يمنع من ذلك إذ نزل منزلة: أن يفعل، والفاعل يظهر مع أن يفعل، فينبغي أن يظهر مع ما نزل منزلته، وكونه يذكر مضافاً إليه المصدر يقضي بذكره معه غير مضاف إذ لا فرق. والذي ينبغي أن يعول عليه مذهب الفراء؛ لأنه سامع لغة من العرب، وقد نفى ذلك عن لسانهم، مع أن الكوفيين أوسع سماعاً وأتبع لشواذ كلام العرب من البصريين. وللفراء أن يقول: المصدر - وإن نزل منزلة أن يفعل - فليس ينبغي أن تجرى عليه أحكام لفظه من ذكر الفاعل معه وغير ذلك، إنما يتبع في ذلك موجب الأدلة السمعية، فليس موضع قياس، ومع أن المصدر اسم صراح لم يبن للفاعل، ولا وضع له - فذكر الفاعل بعده بمثابة ضم اسم إلى اسم من غير جامع بينهما، فإذا أضيف

إليه أمكن اتصاله به، وصارت بينهما علاقة من جهة اللفظ مع العلاقة التي من جهة المعنى، فأمكن ذلك، ولذلك سمع مضافاً إلى الفاعل، ولم يسمع غير مضاف والفاعل مذكور بعده. وقوله ومعموله كصلة يعني أن المصدر لكونه ينحل لحرف مصدري والفعل هو كالموصول، ومعموله كالصلة، فكما أن صلة الموصول لا تتقدم عليه، فكذلك معمول هذا المصدر لا يتقدم عليه. وأيضاً فكما لا يفصل بين الموصول وصلته بأجنبي فكذلك لا يفصل بين المصدر ومعموله. وقوله ويضمر عامل فيما أوهم ذلك أو يعد نادراً أي: فيما أوهم تقديم المعمول أو أوهم الفصل، فمما أوهم تقديم المعمول قول تميم العجلاني: لقد طال عن دهماء لدي وعذرتي ... وكتمانها أكني بأم فلان وقول عمر بي أبي ربيعة: ظنها بي ظن سوء كله ... وبها ظني عفاف وكرم وقوله: طال عن آل زينب الإعراض ... للتعزي، وما بنا الإبغاض /وقول الآخر: وبعض الحلم عند الجهـ ... ـل للذلة إذعان ومما أوهم الفصل قوله تعالى (إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ (8) يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ)، فظاهره أن (يوم) منصوب بـ (رجعه)، وقد فصل بينهما بقوله (لقادر)، وهو أجنبي منهما،

فيضمر عامل يتعلق به: عن دهماء وبي، وعن آل، وللذلة، وهو مصدر يفسره المصدر بعد هذه المجرورات، ويقدر: يرجعه يوم تبلى السرائر، أو يعلق بنفس المصدر على نية التقديم والتأخير، أو على أنه يجوز في المصدر ذلك وإن لم يجز في الموصول، كما جاز حذف معموله وإن لم يجز حذف صلة الموصول. فأما قوله: فهن قيام، ينتظرن قضاءه ... بضاحي عذاة أمره، وهو ضامز فـ"بضاحي" متعلق بـ"قضاءه" لا بـ"ينتظرن". وأما قوله: ليت شعري إذا القيامة قامت ... ودعا للحساب أين المصيرا فقال الشجري: "التقدير: ليت شعري المصير أين هو، فحذف المبتدأ، وفصل المصدر مما عمل فيه". قال المصنف في الشرح: "وأسهل من ذلك أن يكون التقدير: أين يصير المصير، أو: أين هو؟ أعني المصير" انتهى. وقول المصنف "وأسهل من ذلك" دليل على تجويز ما قاله الشجري، وهو لا يجوز؛ لأن "شعري" في "ليت شعري" إنما استعملته العرب معلقاً عن جملة الاستفهام، ولم تلفظ له بمنصوب، فتجويزهما أن يكون "المصير" معمولاً لـ"شعري" خطأ وخروج عن لسان العرب، فيتعين على هذا أن ينتصب المصير بفعل محذوف.

وأما قول الشاعر: وإني لأبكي اليوم من حذري غدا ... فراقك، والحيان مجتمعان فالظاهر أن "غدا" ظرف لقوله "فراقك"، وذلك لا يجوز. وتخريجه على أن يكون "غدا" مفعولاً بـ"حذري"، و"فراقك" بدل منه بدل اشتمال. وقد تساهل بعض النحويين في الجار والمجرور والظرف، فجوز تقديمهما على المصدر المقدر بحرف مصدري والفعل دون الحرف المصدري والفعل. وعن الأخفش نقل غريب، وهو أنه يجيز تقديم المفعول به على المصدر، فيقول: يعجبني عمراً ضرب زيد. -[ص: وإعماله مضافاً أكثر من إعماله منوناً، وإعماله منوناً أكثر من إعماله مقروناً بالألف واللام. ويضاف إلى المرفوع أو المنصوب، ثم يستوفى العمل كما كان يستوفيه ما لم يكن الباقي فاعلاً فيستغنى عنه غالباً، وقد يضاف إلى ظرف فيعمل بعده عمل المنون.]- ش: قسم هذا/ المصدر إلى مضاف ومنون ومعرف بأل، ولا خلاف في إعمال المضاف بين البصريين والكوفيين، وفي كلام بعض أصحابنا ما ظاهره خلاف هذا، قال ما نصه: "مذهب البصريين أنه يعمل على جميع وجوهه، ومن الكوفيين من يرى أن إعماله باللام لا يجوز، ومنهم من يرى أنه لا يعمل على كل حال، وما وجد بعده من العمل فبإعمال فعل دل عليه". وقوله أكثر من إعماله منونا هذا راجع إلى الاستقراء. قال المصنف في الشرح: "وإعمال المضاف أكثر من إعمال غير المضاف؛ لأن الإضافة تجعل

المضاف إليه كجزء من المضاف، كما يجعل الإسناد الفاعل كجزء من الفعل، وتجعل المضاف كالفعل في عدم قبول التنوين والألف واللام، فقويت بها مناسبة المصدر الفعل، فكان إعماله أكثر من إعمال عادم الإضافة، وهو المنون والمقترن بالألف واللام، إلا أن في المنون شبها بالفعل المؤكد بالنون الخفيفة، استحق به أن يكون أكثر إعمالاً من المقترن بالألف واللام" انتهى. وذهب الزجاج والفارسي والأستاذ أبو علي والأكثرون إلى أن أقوى عمله إذا كان منوناً؛ لأن ما شبه به نكرة، فكذلك ينبغي أن يكون نكرة. وهذا لا تحقيق فيه؛ لأن عمله ليس بالشبه إنما هو بالنيابة عن حرف مصدري والفعل، وذلك المنوب عنه في رتبة المضمر. وذهب الفراء وجماعة إلى أن الأحسن المضاف ثم المنون؛ لأن المصدر ما عمل للشبه، والأصل في عمل الأسماء الإضافة، فصار المضاف أولى لوجود أصل العمل الخاص بالأسماء، والمنون دونه لوجوده على حالة ليست للأسماء بالأصالة. قال الفراء: ولذلك لا تجد المنون في كتاب الله تعالى إلا بفاصل؛ لأنه يبعد من العمل المخالف للإضافة. قال: ولم تجده إلا في الشعر. قال: وأما المضاف فكثير، قال تعالى (لَا يَسْأَمُ الْإِنْسَانُ مِنْ دُعَاءِ الْخَيْرِ)، (وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ)، و (مَكْرُ اللَّيْلِ)، و (لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ). وأما المنون المنفصل فقوله (أَوْ

إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ (14) يَتِيمًا)، وقوله (مَا لَا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقًا مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ شَيْئًا). انتهى من البسيط. وذهب بعض النحويين إلى أن إعماله مضافاً ومنوناً على حد سواء. وذكر بعض النحويين أن المصدر إذا قصد به المضي كان الخفض أحسن حملاً بوجه ما على اسم الفاعل، والمنون في الاستقبال أحسن منه في المضي، وخفض المفعول أحسن من الفاعل حملاً على ذلك. وذهب الأستاذ أبو الحسن بن عصفور إلى أن إعمال المعرف بالألف واللام أقوى من إعمال المضاف في القياس؛ وأطال الاحتجاج في ذلك بما لا يجدي نقله كبير فائدة. وترك إعمال المضاف وذي أل عندي هو القياس؛ لأنه قد دخله خاصة من خواص الاسم، فكان قياسه ألا يعمل، وكذلك المنون؛ لأن الأصل في الأسماء ألا تعمل، فإذا التقى /الاسم بالاسم على سبيل التعلق فالأصل الجر بالإضافة، ولذلك تصح الإضافة بأدنى ملابسة. وأما المصدر المنون ففي إعماله خلاف: ذهب البصريون إلى جواز إعماله، فيرفع به الفاعل، وينصب المفعول أو المفعولان أو الثلاثة على حسب الفعل الذي هو مصدره، وتقدم ذكر الخلاف في كونه ينحل لحرف مصدري والفعل المبني للمفعول. وفي الإفصاح: "أجاز جماعة أن يذكر مرفوعاً ويقدر بأن والفعل المسند للمفعول. ومن الناس من منعه، وهو الصحيح؛ لأن ما يرفع الفاعل من الفعل

والصفة لا يكون على صيغة ما يرفع المفعول، والمصادر لا تختلف صيغها، فلا يصلح فيها ذلك. وكان ابن خروف يقول: يجوز ذلك إذا لم يقع لبس. وهذا كله خطأ؛ لأنه لم يسمع، والقياس يبطله" انتهى. وذهب الكوفيون إلى أن المصدر المنون لا يجوز إعماله، وأنه إن وقع بعده مرفوع أو منصوب فإنما هو محمول على فعل مضمر يفسره المصدر من لفظه؛ فإن وجد مثل عجبت من ضرب زيد عمراً فالتقدير: ضرب زيد عمراً. وقالوا في قوله تعالى (أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ (14) يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ): إن التقدير: يطعم. وقالوا: المصدر إذا نون انقطع عن أن يحدث إعراباً، وصارت قصته قصة زيد وعمرو. وقال الفراء: "إن نونت فليس من كلام العرب إلا مستكرها في الأشعار، فإذا رأيته في شعر فهو على نية كلامين" انتهى. ويرد عليه وجوده في أفحص كلام منوناً كما مر من قوله (أَوْ إِطْعَامٌ). ومن فروع مذهب الكوفيين أنه يختار في المنون أن يكون السابق المفعول والمتأخر الفاعل، نحو: يعجبني ضرب في الدار زيداً عمرو، قاله هشام. ومن فروعهم أنه إذا نون المصدر، وجرى بعده الفاعل والمفعول - فسبيله أن يفصل بينهما وبينه، فيقال: يعجبني قيام أمس زيد، وهو أحسن من قولك: قيام زيد. ومن فروعهم أنه إذا رفع الاسم بعد المصدر المنون المحجوز اختير أن يكون ذلك في المدح والذم؛ كقولك: عجبت من قراءة في كل حال القرآن، أي: يقرأ

القرآن، وأنكرت صيدا في كل ساعة صلاة ظبي، أي: يصاد ظبي، فهذا أجود عندهم من قولك: يسوءني ضرب في كل حال زيد، أي: يضرب زيد. وذهب الكوفيون إلى إجازة خفض الاسم بعد المصدر المنون، فتقول: يعجبني ضرب زيد، التقدير: ضرب ضرب زيد، فحذف الثاني لدلالة الأول عليه. ولا يجوز ذلك عند البصريين. وقد رد بعض أصحابنا على الكوفيين في دعواهم أن ما جاء بعد المصدر المنون من فاعل ومفعول هو على إضمار فعل يفسره المصدر؛ وأن ذلك معمول للمصدر نفسه، فقال: الدليل على صحة ذلك أنه لا يجوز: عجبت من ضرب أمس زيد عمراً أول من أمس، تريد: عجبت أمس من ضرب زيد عمراً أول من أمس، فدل ذلك على أن ما بعد المصدر معمول له، فلذلك لم يستجيزوا الفصل بينه وبين المصدر بمعمول الفعل، ولا ورد شيء من ذلك في كلامهم، ولو كان ما بعد المصدر معمولاً/ لفعل مضمر من لفظ المصدر لم يمنع من ذلك مانع؛ لأنه لا يلزم من تأخير معمول الفعل بعد المصدر فصل ما بين الموصول وما هو من صلته. وأما المصدر المعرف بأل ففيه مذاهب: أحدها: مذهب س، وهو إجازة إعماله كالمصدر المنون، فيرتفع به الفاعل وينتصب المفعول، فتقول: أعجبني الضرب زيد عمراً، ولا قبح في ذلك، وصححه بعض أصحابنا. الثاني: مذهب الكوفيين، وهو أنه لا يجوز إعماله كالمنون، وما ظهر بعده من معمول فإنما هو على إضمار فعل يفسره المصدر كما قالوا في المنون؛ حتى إنهم أجازوا خفض الاسم بعده على حذف مصدر، قالوا: قالت العرب: يعجبني

الإكرام عندك سعد بنيه، أي: إكرام سعد بنيه. وحكى الفراء عن العرب: أما والله لو تعلمون العلم الكبيرة سنه الدقيق عظمه، أي: علم الكبيرة سنه. ولا يجيز البصريون ذلك. ووافق الكوفيين على منع إعماله معرفاً بأل جماعة من البصريين، منهم ابن السراج، وإن اختلفوا في استدلال المنع. ونقل أبو إسحاق بن أصبغ في "مسائل الخلاف" من تأليفه أن مذهب الفراء جواز إعماله بأل كمذهب س وكافة البصريين، وأن ذلك مستقبح. ومنع البغداديون إعماله البتة. الثالث: مذهب الفارسي وجماعة من البصريين، وهو جواز إعماله على قبح. الرابع: مذهب ابن الطراوة وأبي بكر بن طلحة، وهو التفصيل بين أن تكون أل معاقبة للضمير فيجوز إعماله، نحو: إنك والضرب خالداً لمسيء إليه، أو لا تكون معاقبة للضمير، فلا يجوز إعماله، نحو: عجبت من الضرب زيد عمراً. وهذا المذهب هو الصحيح على ما يتضح إن شاء الله. ونحن نذكر ما وقفنا عليه من الشواهد السمعية، فمن ذلك ما أنشد س للمرار الأسدي: لقد علمت أولى المغيرة أنني ... كررت، فلم أنكل عن الضرب مسمعا وأنشد س أيضاً:

ضعيف النكاية أعداءه ... يخال الفرار يراخي الأجل وقال أمية بن أبي عائذ: فأصبحن ينشرن آذانهن ... في الطرح طرفاً يميناً شمالاً وقال علي بن أمية: وداعي الصباح يطيل الصياح السـ ... ـلاح السلاح، فما يستفيق وقال كثير: تلوم امرأً في عنفوان شبابه ... وللترك أشياع الصبابة حين وقال الأخطل: فإنك والتكليف نفسك دراماً ... كشيء مضى لا يدرك الدهر طالبه وقال آخر: فإنك والتأبين عروة بعد ما ... دعاك وأيدينا إليه شوارع /لكالرجال الحادي، وقد تلع الضحى ... وطير المنايا فوقهن أواقع وقال آخر: فإلا يكن جسمي طويلاً فإنني ... له بالفعال الصالحات وصول

وقال آخر: وقد يحسن التيمي عقد نجافه ... ولا يحسن العقد القلادة بالمهر وقال آخر: ....................................... ... وكيف التوقي ظهر ما أنت راكبه وأنشد القالي في أماليه: قل الغناء إذا لاقى الفتى تلفا ... قول الأحبة: لا يبعد، وقد بعدا أي: قل أن يغني قول الأحبة شيئاً إذا لاقى الفتى تلفا، رفع به الفاعل، ونصب به الظرف، وحذف المفعول المنصوب، وهو شيئاً. فهذه مصادر معرفة بأل، وهي معاقبة فيها للضمير، وانتصب بعدها المفعول، التقدير: فلم أنكل عن ضربي مسمعا، وضعيف نكايته أعداءه، وفي طرحهن طرفا، وصياحه السلاح السلاح، ولتركه أشياع، وتكليفك نفسك، وتأبينك عروة، وبفعالي الصالحات، وعقده القلادة، وتوقيك ظهر. ولم يرد ما ظاهره رفع الفاعل بعد المصدر المعرف بأل فيما وقفنا عليه غير بيت واحد، أنشده صاحب "المرشد" وغيره، وهو قول الشاعر:

عجبت من الرزق المسيئ إلهه ... وللترك بعض المحسنين فقيرا بنصب المسيء ورفع إلهه بالرزق، وهو مصدر رزقه يرزقه رزقاً كذكرا، ورزقا كضربا. وقد أنكر ابن الطراوة وغيره أن يكون رزقا بكسر الراء مصدراً، وقالوا: الرزق بمعنى المرزوق كالرعي والطحن، وردوا على الفارسي في زعمه أن رزقاً مصدر ينصب شيئاً في قوله تعالى: (مَا لَا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقًا مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ شَيْئًا)، فعلى ألا يكون الرزق مصدراً، ويكون بمعنى الذي يرزقه الإنسان - ينتصب المسيء، ويرتفع إلهه بإضمار فعل يفسره الرزق، أي: يرزق المشيء إلهه، ويكون البيت لا حجة فيه على رفع الفاعل بالمصدر؛ إذ الرزق ليس بمصدر. وقوله "وللترك بعض" أل فيه معاقبة للضمير، أي: ولتركه بعض. و"أل" هذه الداخلة على المصدر لا نعلم خلافاً في أنها للتعريف، إلا ما ذهب إليه صاحب "الكافي في الإفصاح" من أنها في المصدر المقدر بحرف مصدري والفعل ينبغي أن يدعى زيادتها كما يدعى في الذي والتي وما جرى مجراهما؛ وكذلك "الآن"، قال: "لأن التعريف /في هذه الأشياء بغير أل، فيدعى فيها الزيادة؛ إذ لا يجتمع على الاسم تعريفان". قال صاحب "الكافي": "المصدر المقدر بأن والفعل معرفة - وإن كان منونا - لأنه في معنى ما هو معرفة؛ بدليل الإخبار عنه بالمعرفة في غير ما موضع، قال

تعالى (إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا)، وقال تعالى (ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوأَى أَنْ كَذَّبُوا بِآَيَاتِ اللَّهِ)، فالألف واللام الداخلتان على المصدر كالألف واللام الداخلتين في الذي والتي؛ لأن تعريف هذا بالصلة، وكذلك في (الآن)؛ لأن تعريفها بالإشارة كتعريف ثم، فإذا صح التعريف بغير الألف واللام ثبت أنهما زائدتان. وهذا الذي ذكرته في المصدر المقدر بأن والفعل. وأما إذا قلت: أعجبني العلم، ولم تأخذه في شخص بعينه - فيلزم لذلك ألا يقدر بأن والفعل، وكذلك الحلم والعقل، وكرهت البذاء، وما أحسن الحياء! وكما جاء في الأثر (الحياء من الإيمان)، فالألف واللام هنا للتعريف بمنزلتهما إذا دخلتا على جميع الأسماء، نحو: الرجل خير من المرأة، والتمرة خير من الجرادة. وهذا المصدر الذي لم يوجد لشخص بعينه، وإنما أخذ حقيقة مجردة عن موادها - لا يعمل لا برفع ولا بنصب، ويكون معرفاً بالألف واللام على طريق الجنس. وإذا صح أن الألف واللام زائدتان في هذا المصدر المقدر بأن والفعل صح أن وجود المصدر دونهما أحسن من وجودهما فيه. وكذلك إذا صح أن الإضافة هنا تخفيف صح أن وجود هذا المصدر منونا أحسن وأقوى في القياس، إلا أن الإضافة للتخفيف أقرب من زيادة الألف واللام، ولذلك كان إعمال هذا المصدر بالألف واللام ضعيفاً".

وقال أيضاً في المصدر المضاف: "هذه الإضافة المقصود بها التخفيف، والمعنى في: عجبت من قيام زيد، ومن قيام زيد - سواء؛ لأن الموصول لا يكون إلا معرفة؛ ألا ترى أنك إذا قلت: يعجبني أن يقوم زيد - فأن يقوم في تقدير مصدر معروف" انتهى كلامه. وفي دعواه أن المصدر المنون معرفة، وأن ما فيه أل معرفة بغير أل، وفي أن الإضافة في المضاف للتخفيف مع كون المصدر معرفة - نظر، وقد نص النحاة على أنه إذا كان منوناً نكرة، وأن الإضفة محضة، وأن أل معرفة. وقوله ويضاف إلى المرفوع أو المنصوب مثال إضافته إلى المرفوع قوله تعالى (فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ)، (وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ)، (وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ)، (لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ)، (يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ (4) بِنَصْرِ اللَّهِ). ومثال إضافته إلى المفعول (لَا يَسْأَمُ الْإِنْسَانُ مِنْ دُعَاءِ الْخَيْرِ)، (لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ). وقوله ثم يستوفى العمل كما كان يستوفيه العمل أي: إن أضيف إلى /فاعل انتصب بعده المفعول، نحو قوله تعالى (كَذِكْرِكُمْ آَبَاءَكُمْ)، (وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ

النَّاسَ)، (وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ)، (وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ)، ونحو ذلك مما يكثر وجوده. وإن أضيف إلى مفعول ارتفع الفاعل، وهذا ليس بالكثير، ولم يجيء في القرآن منه إلا ما رواه يحيى بن الحارث الذماري عن ابن عامر أنه قرأ: (ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا)، بضم الدال والهمزة، وفي الحديث "وحج البيت من استطاع إليه سبيلاً"، وقال الأقيشر الأسدي: أفنى تلادي وما جمعت من نشب ... قرع القواقيز أفواه الأباريق وقال آخر: رد إضناؤك الغرام الذي كا ... ن عذولا ممهدا لك عذرا وقال آخر: ألا إن ظلم نفسه المرء بين ... إذا لم يصنها عن هوى يغلب العقلا وقال آخر: أمن رسم دار مربع ومصيف ... لعينيك من ماء الشؤون وكيف

فمربع مرفوع برسم، ورسم مصدر عند أبي علي، وقد تؤول على خلاف هذا. فأما قول الحطيئة: أرسم ديار من هنيدة تعرف ... بأسقف من عرفانها العين تذرف فخرجه ابن عصفور على أنه من باب إضافة المصدر للمفعول به ورفع الفاعل بعده. ولا يتعين ما قاله؛ إذ يحتمل أن تكون العين مبتدأ، وفاعل عرفانها محذوف، وهو ضمير المخاطب، والإضافة إلى المفعول مع وجود الفاعل جائزة، لكن إضافته إلى الفاعل مع وجود المفعول أحسن؛ لأنه لا يتصور ذلك حتى يزال الفاعل عن رتبته فيقدم عليه المفعول، ولشدة طلب المصدر للفاعل استسهل الفصل بالمفعول بينه وبين الفاعل مبقى على اقتضائه من إضافته إليه، وجعلوه كلا فصل. وذهب بعض النحويين إلى أن إضافته للمفعول ورفع الفاعل بعده لا تجوز إلا في الشعر. وقال أبو الحسين بن أبي الربيع: "لا أعلمه جاء في القرآن، لكنه جاء في الشعر وفي قليل من الكلام" انتهى. وقد نص س على إجازة ذلك في الكلام.

وفي "البسيط": وإذا حصر الفاعل والمفعول فالأحسن الإضافة إلى المفعول. قال: وفيه نظر، ولم يظهر من كلام س ترجيحن ورجح بعضهم إضافته إلى الفاعل؛ لأنه أخص به من المفعول؛ إذ المفعول كالفضلة، ولأنه مستبد بالفاعل بالاتصالز وكذلك/ يضاف إلى ما أقيم مقام الفاعل، كقوله تعالى (وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ)، ويجوز تقديم أحدهما على الآخر حيث لا يلبس. وقوله ما لم يكن الباقي فاعلا فيستغنى عنه غالباص تقدم تمثيله في نحو (لَا يَسْأَمُ الْإِنْسَانُ مِنْ دُعَاءِ الْخَيْرِ). وقوله وقد يضاف إلى ظرف فيعمل بعده عمل المنون المصدر يضاف إلى الظرف كثيرا، نحو قوله تعالى (تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ)، (فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ)، (بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ)، وذلك على حسب التوسع في أن اجري المصدر في التوسع مجرى الفعل، لا أن ذلك على تقدير الإضافة بـ"في" كما ذهب إليه المصنف في باب الإضافة، وسيأتي الكلام معه - إن شاء الله - على ذلك. وإذا أضفت المصدر إلى الظرف فإنه يجوز لك أن تكمل عمله بالرفع والنصب معاً إن شئت؛ قال الشاعر: رب ابن عم لسليمى مشمعل ... طباخ ساعات الكرى زاد الكسل

وتقول: عرفت انتظار يوم الجمعة زيد عمراً، ذكره س. ومن منع من ذكر الفاعل والمصدر منون منع هذه المسألة ونحوها. -[ص: ويتبع مجروره لفظاً ومحلاً ما لم يمنع مانع. فإن كان مفعولاً ليس بعده مرفوع بالمصدر جاز في تابعه الرفع والنصب والجر. ويعمل عمله اسمه غير العلم، وهو ما دل على معناه، وخالفه بخلوه لفظاً وتقديراً دون عوض من بعض ما في فعله، فإن وجد عمل بعد ما تضمن حروف الفعل من اسم ما يفعل به أو فيه فهو لمدلول به عليه.]- ش: الإتباع يشمل النعت والتأكيد والبدل والعطف، والمجرور يشمل الفاعل الذي أضيف إليه المصدر، والمفعول الذي أضيف إليه. ومثال إتباعه لفظاً: يعجبني أكل زيد الظريف الطعام، وأكل زيد نفسه الخبز، وأكل زيد أخيك الخبز، وأكل زيد وعمرو الخبز. ويعجبني شرب اللبن الصرف زيد، وشرب اللبن كله زيد، وشرب اللبن لبن الضأن زيد، وشرب اللبن والعسل زيد. وقوله ومحلا يعني أنه إن كان المضاف إليه المصدر فاعلاً رفعت التابع، أو مفعولاً نصبت التابع، وإن اعتقدت في المصدر أنه يضاف إلى المفعول الذي لم يسم فاعله - وهو مذهب المصنف - رفعت التابع أيضاً، فتقول: يعجبني اكل زيد الظريف الخبز، ويعجبني شرب اللبن الصرف زيد، ويعجبني ركوب الفرس المسرع، وكذلك في باقي التوابع. وظاهر كلام المصنف جواز مراعاة المحل في جميع التوابع، وهذه مسألة خلاف، فيها ثلاثة مذاهب: أحدها: مذهب س ومحققي البصريين، وهو أنه لا يجوز فيه الإتباع على المحل.

والثاني: مذهب الكوفيين وجماعة من البصريين، وهو أنه يجوز الإتباع على المحل، وقد ذكرنا/ أنه ظاهر كلام المصنف، إلا أن الكوفيين في الإتباع على محل المجرور المفعول يلتزمون ذكر الفاعل، ولا يجوز عندهم هنا حذف الفاعل، فتقول: عجبت من شرب الماء واللبن زيد. والثالث: مذهب أبي عمر، وهو التفصيل، فأجاز ذلك في العطف والبدل، ومنع ذلك في النعت والتوكيد. وحجته في ذلك أن العطف والبدل عنده من جملة أخرى، فالعامل في الثاني غير العامل في الأول، وأما الصفة والتأكيد فالعامل فيهما واحد، ومحال - وهما شيء واحد - أن يكون الشيء مجروراً مرفوعاً أو مجروراً منصوباً. وأما مذهب س فمبني على أن الحمل على الموضع إنما يكون حيث محرز الموضع لا يتغير عند التصريح بالموضع، وهنا لو صرحت برفع الفاعل أو نصب المفعول لتغير العامل بزيادة تنوين فيه. وأما مذهب الكوفيين ومن وافقهم من البصريين فاستدلوا على ذلك بالسماع، قرأ الحسن (أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ)، قال الفراء: "هو جائز كقولك: أن يلعنهم الله"، وقال زياد العنبري:

قد كنت داينت بها حسانا ... مخافة الإفلاس والليانا يحسن بيع الأصل والقيانا وقال لبيد: حتى تهجر في الرواح وهاجه ... طلب المعقب حقه المظلوم وقال امرؤ القيس: أحار ترى برقاً أريك وميضه ... كلمع اليدين في حبي مكلل يضيء سناه أو مصابيح راهب ... أهان السليط في الذبال المفتل وقال النابغة: فانشق عنها عمود الصبح جافلة ... عدو النحوص تخاف القانص اللحما تحيد من أستن سود أسافله ... مشي الإماء الغوادي تحمل الحزما أو ذو وشوم بحوضى بات منكرسا ... في ليلة من جمادى أخفضلت ديما وقال:

يا، لعنة الله والاقوام كلهم ... والصالحون على سمعان من جار في رواية من رفع "والأقوام". وقال: هويت ثناء مستطابا مؤبداً ... فلم تخل من تمهيد مجد وسؤددا وقال: لقد عجبت، وما في الدهر من عجب ... أني قتلت وأنت الحازم البطل /السالك الثغرة اليقظان سالكها ... مشي الهلوك، عليها الخيعل الفضل وقال: ما جعل امرأ لقوم سيدا ... إلا اعتياد الخلق الممجدا وفي الحديث (أمر بقتل الأبتر وذو الطفيتين). وقال الفراء: عجبت من تساقط البيوت بعضها على بعض، الخفض على اللفظ، والرفع على المعنى. فقوله (والملائكة) عطف على محل (الله)، و"الليانا" عطف على محل "الإفلاس"، و"القيانا" عطف على محل "الأصل"، و"المظلوم" نعت على محل "المعقب"، و"أو مصابيح" عطف على محل "اليدين"، و"أو ذو وشوم" عطف على محل "النحوص"، و"الأقوام" عطف على محل "الله"، و"سؤددا" عطف على محل "مجد"، و"الفضل" نعت على محل "الهلوك"، و"الممجدا" نعت على محل "الخلق"،

و (ذو الطفيتين) عطف على محل (الأبتر)، و"بعضها" بدل على محل "البيوت". فظاهر ما ورد عن العرب من هذا كله يجوز الإتباع على المحل، ويحتاج مانع ذلك إلى تأويل. وقد تؤول ذلك على إضمار فعل يفسره المصدر. وتأول السيرافي "والليانا" على أنه معطوف على "مخافة"، على تقدير حذف مضاف، أي: ومخافة الليان، فحذف المضاف، وأقيم المضاف إليه مقامه. وتأوله ابن يسعون على أنه مفعول معه، أي: مخافة الإفلاس مع الليان. وتأول قاسم بن ثابت السرقسطي رفع "المظلوم" على أنه فاعل بطلب، و"المعقب" مفعول بطلب، والمعقب: هو الماطل في هذا التأويل. وتأوله أبو حاتم على أنه بدل من الضمير المستكن في المعقب. وتأوله أبو علي في "التذكرة" على أنه فاعل بقوله: حقه، وحقه: فعل ومفعول، والمظلوم: فاعل. وتؤول "أو مصابيح" على أنه عطف على "سناه" على التشكيك، وهو منزع عجيب، من "البديع". وتؤول "أو ذو وشوم" على أن التقدير: أو عدوها عدو ذي وشوم، فحذف المبتدأ، وأبقى خبره، وحذف المضاف، وأقيم المضاف إليه مقامه. وتأول بعضهم رفع "الفضل" على أنه مرفوع على الجوار، كما خفضوا على الجوار في قولهم: هذا جحر ضب خرب.

ومن جوز الإتباع على المحل من البصريين فالاختيار عندهم الحمل على اللفظ، وأما الكوفيون فكذلك إن لم يفصل بين التابع والمتبوع بشيء، فإن فصل اعتدل عندهم الحمل على اللفظ والحمل على الموضع، نحو: يعجبني ضرب زيد عمرو وبكراً، بنصب بكر وخفضه، وقيامك في الدار نفسك ونفسك، بالجر والرفع على حد سواء في الجودة. هذا ما لم يكن المفعول المضاف إليه المصدر ضميراً، فالعطف على الموضع، ولا يجوز على الخفض إلا في ضرورة الشعر، نحو: يعجبني إكرامك زيد وعمراً، بنصب عمرو خاصة، وكذلك: /يسرني جلوسك عندنا وأخوك. قال ابن الأنباري: لو قيل قيامك في الدار وزيد كان مكروهاً مستقبحاً بملاصقة الكاف وبالبعد عنها؛ لقبح عطف ظاهر على مكني مخفوض، وليس بمستحيل؛ لأن بعض العرب قاله. وقرأ قارئون: (تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ)، عطف على الهاء. وقال الفراء: عجبت من ضرب عبد الله ومحمد - مستكره، ويجوز في الشعر. وكذا النعت والتوكيد عنده، فإن فرقت حسن عنده، فقلت: عجبت من ضرب عبد الله زيداً ومحمد. وقال هشام نحوه، إلا أنه لم يقل: يجوز في الشعر، فكأنه جائز عنده في الشعر وفي غيره. وقوله ما لم يمنع مانع احتراز من نحو: عرفت قربك، فإنه لابد في العطف عليه من إعادة المضاف. وقوله فإن كان إلى قوله والجر أي: فإن كان المجرور بالإضافة مفعولاً - مثاله: عرفت تطليق المرأة - فيجوز في نعتها والعطف عليها والبدل والتوكيد الجر

على اللفظ، والنصب على تقدير المصدر بفعل الفاعل، والرفع على تقديره بفعل ما لم يسم فاعله. وهذا الذي ذكره هو على ما اختاره من جواز الإتباع على المحل، ومن جواز اعتقاد بناء المصدر للمفعول الذي لم يسم فاعله. وقوله ويعمل عمله اسم غير العلم أي: اسم المصدر، واسم المصدر على ضربين: علم، وغير علم: فالعلم: ما دل على معنى المصدر دلالة مغنية عن أل لتضمن الإشارة إلى حقيقته، كيسار وبرة وفجار، فهذه وأمثالها لا تعمل عمل الفعل؛ لأنها خالفت المصادر الأصلية بكونها لا يقصد بها الشياع، ولا تضاف، ولا تقبل أل، ولا توصف، ولا تقع موقع الفعل ولا موقع ما يوصل بالفعل، ولذلك لم تقم مقام المصدر الأصلي في توكيد الفعل وتبيين نوعه أو مراته. وغير العلم: ما ساواه في المعنى والشياع وقبول أل والإضافة والوقوع موقع الفعل وموقع ما يوصل بالفعل وقوله وهو ما دل على معناه إلى قوله في فعله يعني أن اسم المصدر غير العلم هو ما دل على معنى المصدر، وخالفه في اللفظ أو في التقدير من بعض ما في الفعل، كوضوء وغسل، هما مساويان للتوضؤ والاغتسال في المعنى والشياع وجميع ما نفي عن العلم، وخالفاه بخلوهما من بعض ما في فعلهما، وهما توضأ واغتسل، وحق المصدر أن يتضمن حروف الفعل بمساواة، كتوضأ توضؤا، أو بزيادة عليه، كأعلم إعلاماً، ودحرج دحرجة. واحترز بقوله لفظاً وتقديراً من فعال مصدر فاعل كقتال، فإنه مصدر مع خلوه عن المدة الفاصلة بين فاء فعله وعينه؛ لأنها حذفت لفظاً، واكتفي بتقديرها بعد الكسرة، وقد تثبت فيقال: قيتال.

واحترز بقوله دون عوض من عدة، فإنه مصدر وعد مع خلوه من الواو؛ لأن التاء التي في آخره عوض /منها، فكأنها باقية. وكذا: تعليم، فإنه مصدر علم مع خلوه من التضعيف، فكأنه باق، ولذلك إذا جيء بالمصدر مضعفاً ككذب كذاباً استغني عن التاء. ونسب التعويض إلى تاء تعليم دون يائه لأن ياءه مساوية لألف إكرام واستماع وانطلاق واستخراج ونحوها من المدات التي قصد بها ترجيح لفظ المصدر على لفظ الفعل الزائد على ثلاثة أحرف دون حاجة إلى تعويض. ومن المحكوم بمصدريته مع خلوه من بعض حروف فعله كينونة وثواب وعطاء وطاعة وطاقة وجابة، الأصل كيونونة وإثواب وإعطاء وإطاعة وإطاقة وإجابة، فهذه وأمثالها مصادر لقرب ما بينها وبين أصلها، بخلاف ما بينه وبين الأصل بعد وتفاوت، كعون وعشرة وكبر وعمر وغرق وكلام، بالنسبة إلى: إعانة ومعاشرة وتكبر وتعمير وإغراق وتكليم، فهذه وأمثالها أسماء مصادر. وأما ما ليس فيه إلا غرابة وزنه، كدعابة ورغباء وغلواء - فهو مصدر، وجعله اسم مصدر تحكم بغير دليل. ومن إعمال "ثواب" قول حسان: لأن ثواب الله كل موحد ... جنان من الفردوس فيها يخلد ومن إعمال "عطاء" قول القطامي: أكفراً بعد رد الموت عني ... وبعد عطائك المئة الرتاعا وفي حديث الموطأ (من قبلة الرجل امرأته الوضوء)، ومنه قول الشاعر:

إذا صح عون الخالق المرء لم يجد ... عسيراً من الآمال إلا ميسراً وقول الآخر: بعشرتك الكرام تعد منهم ... فلا ترين لغيرهم ألوفا وقول الآخر: قالوا: كلامك دعدا وهي مصغية ... يشفيك، قلت: صحيح ذاك لو كانا انتهى الكلام على اسم المصدر، وهو من كلام المصنف في الشرح، وفي بعض ما ذكر خلاف، فنقول: اسم المصدر يقال باصطلاحين: أحدهما: ما ينقاس بناؤه من الثلاثي على مفعل، ومما زاد على صيغة اسم المفعول على ما تقرر في بابه، وهذا يعمل عمل المصدر، قال: ومغزاه قبائل غائظات ... على الذهيوط في لجب لهام وقال:

فظلت بملقى واحف جرع المعى ... قياماً تفالى مصلحما أميرها وقال: /ومجنبنا جرداً إلى أهل يثرب ... عناجيج، منها متلد ونزيع وقال: جزى الله أبناء العشيرة لامة ... بمتركهم آثارنا يوم قطقط وقال: كأن مجره الأبطال قسراً ... إلى أشباله حطب رفيت وقال: ومفحصها عنها الحصى بجرانها ... ومثنى نواج، لم يخنهن مفصل وقال: ألم تعلم مسرحي القوافي ... فلا عيابهن ولا اجتلابا وقال:

أظلوم إن مصابكم رجلاً ... أهدى السلام تحية ظلم وقال: يا دار مية من محتلها الجرعا ... هاجت لي الهم والأحزان والوجعا وقال: فأصبح في مداهن باردات ... بمنطلق الجنوب على الجهام وقال: مستعان العبد الإله يريه ... كل مستصعب من الأمر هينا ولا خلاف بين البصريين والكوفيين أن كل فعل تجاوز ثلاثة أحرف فإنه يجوز أن يأتي اسم مصدره على قياس مفعوله قياساً مطرداً. فهذا النوع من اسم المصدر يجري مجرى المصدر في جميع أحكامه. والاصطلاح الثاني: ما كان أصل وضعه لغير المصدر كالثواب والعطاء والدهن والخبز والكلام والكرامة والكحل والرعي والطحن ونحوها، وهي الأسماء التي أخذت من مواد الأحداث، فهذه وضعت لما يثاب به، ولما يعطى، ولما يدهن به، وللجمل المقولة، ولما يكرم به، ولما يكحل به، ولما يرعى، ولما يطحن. فهذا النوع من اسم المصدر فيه الخلاف بين البصريين والكوفيين:

ذهب البصريون إلى أن شيئاً من هذه لا يعمل. وذهب الكوفيون والبغداديون إلى جواز إعمالها، فأجاز الكسائي والفراء وهشام: عجبت من كرامتك زيداً، ومن طعامك طعاماً. واستثنى الكسائي من ذلك ثلاثة ألفاظ، فلم يعملها، وهي الخبز والقوت والدهن، فلا /تقول: عجبت من خبزك الخبز، ولا عجبت من دهنك رأسك، ولا من قوتك عيالك. وأجاز ذلك الفراء. وقال هشام: ولا يمتنع القياس. وقال الفراء: سمعت أبا ثروان يقول: أتيته لكرامته إياي. وجاء أيضاً ما أنشدنا من قوله: ....................................... ... وبعد عطائك المئة ............. و: لأن ثواب الله كل موحد ... ...................................... و: قالوا: كلامك دعدا ........................ ... ........................................ وقول ذي الرمة: ألا هل إلى مي سبيل وساعة ... تكلمني فيها من الدهر خاليا فأشفي نفسي من تباريح ما بها ... فإن كلاميها شفاء لما بيا ولا يجوز هذا عند البصريين إلا إن اضطر شاعر، فيستعمل اسم المصدر استعمال المصدر. وتحقيق الخلاف بين الفريقين هل ينقاس أن يطلق اسم المصدر مجازاً على المصدر ويعمل عمل المصدر أم لا؟ فقال البصريون: لا يجوز إلا إن اضطر شاعر إلى ذلك، فيطلقه عليه، ويعمله. وقال الكوفيون والبغداديون: ينقاس ذلك.

وما ذكرناه من أن ثواباً وعطاء وكلاماً هو من اسم المصدر مخالف لما ادعاه المصنف أنها مصادر. وكذلك دعواه أن عوناً وعشرة وكبراً وعمراً وغرقاً وكلاماً أسماء مصادر، ليس عندنا كذلك، بل هي مصادر جاءت على غير قياس، وليس كل ما خالف القياس من المصادر يقال فيه: إنه اسم مصدر، وإلا كانت أسماء المصادر أكثر من المصادر. والذي أذهب إليه في هذا المسموع من هذا النوع أن المنصوب بعده ليس منصوباً باسم المصدر، ولا أجري مجرى المصدر في العمل، لا في ضرورة ولا في غيرها، بل هو منصوب بإضمار فعل يفسره ما قبله، كما أذهب إلى أن المصدر الذي لفعل لازم إذا جاء بعده مفعول لم يكن منصوباً بذلك المصدر؛ إذ ليس هو مصدراً للفعل المتعدي، وذلك نحو ما حكى الكسائي عن العرب: الحمد لله على غناه إياي، التقدير: أغناني، فلما حذف العامل الذي هو أغنى انفصل الضمير. وجعل ابن عصفور "أظلوم إن مصابكم رجلاً" من اسم المصدر الذي لا يعمل إلا حيث سمع. وذلك وهم فاحش؛ لأن مصاباً من اسم المصدر القياسي من أفعل المعتل العين؛ ألا ترى أن فعله أصاب، فهو من المقيس الذي أجمع عليه البصريون والكوفيون. وذكر ابن المصنف في شرحه أرجوزة أبيه أن اسم المصدر هو ما أوله ميم مزيدة لغير مفاعلة، كالمضرب والمحمدة، أو كان لغير ثلاثي بوزن ما للثلاثي، كالغسل والوضوء، وهذا الثاني عندنا مصدر لا اسم مصدر.

وقوله فإن وجد إلى آخر المسألة مثال ما يفعل به: الدهن، والكحلن يطلق على ما يدهن بهن وما يكحل به. ومثال ما يفعل فيه ما استعمل اسم مكانن نحو (كِفَاتًا) من قوله تعالى: (أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفَاتًا (25) أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا). ونقص /المصنف أن يقول: أو من اسم ما يفعل، نحو الخبز والطعام والطحن والرعي. وقوله فهو لمدلول به عليه أي: لفعل دل عليه باسم ما يفعل به أو فيه، وكل هذا يطلق عليه اسم مصدر، ومعناه اسم أصل وضعه ألا يكون مصدراً بل مفعولاً به أو فيه من حيث الوضع الأول، ثم أطلق ويراد به المصدر مجازاً، فهذا هو الذي وقع في إعماله الخلاف الذي تقدم ذكره، وقد روي عن العرب مثل: أعجبني دهن زيد لحيته، وكحل هند عينها، وقال تعالى: (أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفَاتًا (25) أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا)، فالدهن والكحل والكفات ليس مصادر؛ إذ الدهن ما يدهن به، والكحل ما يكحل به، والكفات ما تكفت فيه الأشياء، أي: تجمع وتحفظ، فهذا ونحوه محمول على إضمار فعل، أي: دهن لحيته، وكحلت عينها، وتكفت أحياء وأمواتاً. قال المصنف في الشرح: "ولك أن تنصب أحياءً وأمواتاً على التمييز؛ لأن كفات لشيء مثل وعائه، والموعى ينتصب بعد الوعاء على التمييز" انتهى. وأما قول النابغة:

كأن مجر الرامسات ذيولها ... عليه حصير، نمقته الصوانع فيتخرج على حذف من الأول، أو حذف العامل، فتقدره: كأن موضع مجر الرامسات ذيولها، فيكون مجر اسم مصدر، وانتصب به ذيولها. أو يكون تقديره: تجر ذيولها، ويكون مجر اسم مكان. وكذلك قوله: كأن مجره الأبطال ........... ... ................................ وأما قوله: فظلت بملقى واحف جرع المعى ... .................................. فتقديره: بموضع لقاء واحف جرع المعى. والمصدر الذي يجعل زماناً لا يقوى قوة المصدر، ولا يعمل عمله؛ لأنه قد انتقل معناه، نحو: أتيتك خلافة بني العباس، وخفوق النجم. * * *

-[ص: فصل يجيء بعد المصدر الكائن بدلاً من الفعل معمول، عامله على الأصح البدل لا المبدل منه، وفاقاً لسيبويه والأخفش.]- ش: هذا هو المصدر الذي أشار إليه بقوله في أول الباب "إن لم يكن بدلاً من اللفظ"، ولكونه بدلاً من العامل لا يظهر معه ناصبه، ولا يتقدر معه بحرف مصدري، وتقدمت مواقعه في باب المفعول المطلق، وهنا يبين مواقعه متعدياً. واختلف في هذا المصدر هل ينقاس أم لا على ثلاثة مذاهب: أحدها: ما ذهب إليه أكثر المتأخرين من أن مذهب س أنه لا ينقاس، وأنه يقصره كله على السماع. والمذهب الثاني: أنه ينقاس في الأمر والدعاء والاستفهام بتوبيخ وبغيره، وفي التوبيخ بغير استفهام، وفي الخبري المقصود به الإنشاء أو الوعد، وهو اختيار المصنف في الشرح، وزعم أن في كلام س ما يدل على أنه منقاس فيما كان منها أمراً أو دعاء أو توبيخاً أو إنشاء. والمذهب الثالث: أنه ينقاس في الأمر والاستفهام فقط، وبه قال بعض أصحابنا، وحكاه المصنف في باب ظن عن الأخفش والفراء. فمما جاء منه أمراً قول /الشاعر، أنشده س:

على حين ألهى الناس جل أمورهم ... فندلاً - زريق - المال ندل الثعالب وقول الآخر: هجراً المظهر الإخاء إذا لم ... يك في النائبات جد معين ودعاء قول الشاعر: يا قابل التوب غفراناً مآثم، قد ... أسلفتها، أنا منها مشفق وجل وقول الآخر: إعانة العبد الضعيف على الذي ... أمرت، فميقات الجزاء قريب واستفهاماً بتوبيخ قوله: أعلاقة أم الوليد بعد ما ... أفنان رأسك كالثغام المخلس وقوله: أبغياً وظلما من علمتم مسالماً ... وذلا وخوفاً من يجاهركم حربا وقوله: أبسطاً بإضرار يميناً ومقولاً ... ومدعياً مجداً تليداً وسؤددا وتوبيخاً بغير استفهام قوله: وفاقاً بني الأهواء والغي والونى ... وغيرك معني بكل جميل على هذا أنشده المصنف في الشرح، ويحتمل أن يكون حذفت منه همزة الاستفهام، والتقدير: أوفاقاً؟

قال المصنف في الشرح: "ويكثر أيضاً وقوعه موقع فعل خبري مقصود به الإنشاء، كقول من أبصر ما يتعجب منه: عجباً، وكقول المعترف بالنعمة: حمداً وشكراً لا جحوداً وكفراً، ومنه قول الشاعر: حمداً الله ذا الجلال وشكراً ... وبداراً لأمره وانقيادا وقد يقع الخبر به وعداً، كقوله: قالت: نعم، وبلوغاً بغية ومنى ... فالصادق الحب مبذول له الأمل وهذه الأنواع عند الأخفش والفراء مطردة صالحة للقياس على ما سمع منها. وبذلك أقول لكثرته في كلام العرب ولما في ذلك من الاختصار". وهذه المصادر التي هي بدل من اللفظ بالفعل منصوبة بأفعل منها واجبة الإضمار؛ فإذا قلت: ضرباً زيداً، بمعنى: اضرب زيداً - فالناصب للمصدر اضرب واجبة الإضمار، وانتصابه/ على أنه مصدر. وفي الإفصاح: "إن ما كان بمعنى الأمر، نحو: ضرباً زيداً، وشتماً عمراً - فالمعنى: اضرب زيداً، واشتم عمراً، الناصب له عند س الزم ضرباً زيداً، فهو مفعول بإضمار فعل لا يجوز إظهاره، وناصب لأنه صار عوضاً من اضرب. وغيره يرى أن الناصب له: اضرب". وقوله عامله على الأصح البدل إلى آخره اختلف في العامل في المعمول: فذهب س والأخفش والزجاج والفارسي إلى أن المصدر نفسه هو الناصب للمفعول، لما جعلته العرب بدلاً منه ورث العمل الذي كان للفعل. وإلى هذا مال حذاق المتأخرين.

وذهب المبرد والسيرافي وجماعة إلى أن النصب في المفعول هو بالفعل المضمر الناصب للمصدر. وذكرت هذين المذهبين لشيخنا الأستاذ أبي الحسن بن الضائع، فرجح مذهب س، وقال: "الدليل على أن انلعامل في المنصوب بعد المصدر هو المصدر إضافته إليه". وانبنى على هذا الاختلاف الاختلاف في تقديم المنصوب على هذا المصدر؛ فمن رأى النصب بـ"اضرب" المضمرة أجاز التقديم، فيقول: زيداً ضرباً. وممن يرى جواز التقديم أبو العبس وأبو بكر وعبد الدائم القيرواني، وقد تؤول ذلك على س. ومن جعل العمل للمصدر لنيابته مناب الفعل، وهو مذهب أبي الحسن والفراء، قال أبو الحسن في هذا الباب: وكل شيء كان في موضع الفعل فلا يجوز أن تأمر به لغائب، ولا تقدم فيه. قيل: وهذا ظاهر مذهب س. ونقل ابن أصبغ عن أبي الحسن جواز التقديم، فيكون عنه القولان. وقد أجاز بعض من رأى العمل للمصدر تقديم مفعوله عليه. وفي "الإفصاح": "ومن يضمر الزم، ويعمل ضرباً بالنيابة - لا يرى تقديم معموله، وقد رأى بعضهم تقديمه على هذا الوجه" انتهى.

وفي البسيط: "وأما كونه نائباً عن فعله في الدعاء والأمر، نحو: ضرباً زيداً، وسقياً زيداً - فقيل: يعمل لأنه ناب عن فعله، فهو أقوى منه إذا كان غير نائب، فلا يشترط فيه أن، وإذا عملت الحروف بالنيابة فالمصادر أولى، هذا إن جعلته نائباً عن اضرب. وأما إن جعلت المصدر منصوباً بفعل غيره، كالزم ونحوه مما ترك إظهاره - وقد نسب هذا القول إلى س في الأمر - فلا يبعد تقديره هنا بأن والفعل، فيكون التقدير: الزم أن تضرب زيداً، ولا يبعد حمل الدعاء عليه؛ لأن الدعاء بصيغة الأمر. فإن كان العامل المصدر بالنسابة صح تقديم معموله عليه، نحو: زيداً ضرباً، وإن كان عاملاً هنا لا بالنيابة بل بأنه في تأويل أن - وهو معمول للفعل - لم يجز التقديم. فأما قوله تعالى (فَضَرْبَ الرِّقَابِ) فليس على معنى: فاضربوا الرقاب. وقال المبرد: هو على معنى: (فاضربوا الرقاب ضرباً). وقيل: فاضربوا ضربا مثل ضرب الرقاب. وقال س في قوله: أعلاقة أم الوليد ............... ... ........................................ (ناب عن: أتعلق أم الوليد). وقد قيل: لا يعمل. /والأول أصح" انتهى. ونص س على قبح: زيداً حذرك، وجعله في القبح مثل: زيداً عليك. وقال الأستاذ أبو علي: منع س من تقديم منصوب حذرك لأنه لم يستعمل إلا في الأمر، ولم يفارقه، فصار بمنلة: عليك زيداً، الذي لا يجوز تقديم الاسم فيه. والأحوط أنه لا يقدم على التقديم في نحو ضرباً زيداً إلا بسماع من العرب.

وقد جاء المصدر خبراً صرفاً عارياً مما ذكر، ومنه: وقوفاً بها صحبي على مطيهم ... يقولون: لا تهلك أسى، وتجمل تقديره: وقف وقوفاً بها صحبي. ولا ينقاس مثل هذا لقلته. وأما قول الشاعر: عهدي بها الحي لم تخفف نعامتهم ... ........................................ فجعله المصنف من المنصوب المراد به الماضي، أي: عهدت. ويحتمل أن يكون مرفوعاً، ويكون من باب: ضربي زيداً قائماً، والجملة من قوله "لم تخفف نعامتهم" في موضع الحال. وقد جاء نوع من هذا المصدر النائب عن الفعل مصغراً، وذلك قولك رويداً في أحد استعمالاته، فيعرب إذ ذاك، وتجوز إضافته إلى الفاعل، فتقول: رويداً زيداً، ورويدك زيداً. وتجوز أيضاً إضافته إلى المفعول، فتقول: رويد زيد. واختلفوا في النصب به: فذهب المبرد إلى أنه لا يجوز؛ لأن تصغيره يمنع من ذلك كما منع اسم الفاعل من العمل؛ لأن التصغير من خواس الأسماء، فالنصب بعده إنما يكون بالفعل الناصب لرويداً. وذهب غيره إلى أنه يجوز النصب به. واختلفوا في السبب الذي عمل لأجله وهو مصغر، ولم يعمل اسم الفاعل المصغر: فذهب الفارسي إلى أنه إنما عمل وهو مصغر حملا ًعلى رويد اسم الفعل، لما شابهه في اللفظ عمل، كقوله:

رويد عليا، جد ما ثدي أمهم ... إلينا، ولكن ودهم متماين وهذا يقتضي أن أبا علي يمنع من إعمال المصدر الموضوع موضع الفعل المصغر فيما عدا رويداً. وزعم أبو بكر بن طاهر وابن خروف أن السبب في جواز إعماله أن عمله ليس بالشبه كاسم الفاعل، وإنما عمل لوضعه موضع الفعل، فلا يقدح التصغير في إعماله، بخلاف اسم الفاعل، فعمله لشبهه بالفعل المضارع، والتصغير يبعده عن شبه الفعل، فوجب ألا يعمل مصغراً. قال بعض أصحابنا: وهذا هو الصحيح عندي، وسواء في ذلك رويداً وغيرها من المصادر المصغرة الموضوعة موضع الفعل. مسألة: اختلفوا في حذف المصدر وإبقاء معموله، فمنهم من منع ذلك لأنه موصول، والموصول لا يحذف. ومنهم من أجاز حذفه إذا كانت الدلالة عليه قوية؛ لأنه في معنى المنطوق، كما قد يحذف المضاف لدلالة الأول عليه، ويبقى عمله في المضاف إليه، قيل: ومنه قوله تعالى: (هل تستطيع ربك)، على قراءة الكسائي، التقدير: هل تستطيع سؤال ربك، حذف سؤال، وأقام ربك مقامه، فأعربه بإعرابه، و (أَنْ يُنَزِّلَ) معمول للسؤال المحذوف؛ /لأنه لا يتعلق بـ (تستطيع)؛ لأن الفعل للغير، ولا يقال: هل تستطيع أن يقوم زيد، فدل على تعلقه بالسؤال المحذوف. * * *

باب حروف الجر سوى المستثنى بها

-[ص: باب حروف الجر سوى المستثنى بها فمنها "من"، وقد يقال "منا"، وهي لابتداء الغاية مطلقاً على الأصح، وللتبعيض، ولبيان الجنس، وللتعليل، وللبدل، وللمجاوزة، وللانتهاء، وللاستعلاء، وللفصل، ولموافقة الباء، ولموافقة "في"، وتزاد لتنصيص العموم أو لمجرد التوكيد بعد نفي أو شبهه جارة نكرة مبتدأ، أو فاعلاً، أو مفعولاً به، ولا يمتنع تعريفه ولا خلوه من نفي أو شبهه، وفاقاً للأخفش. وربما دخلت على حال. وتنفرد "من" بجر ظروف لا تتصرف، كقبل وبعد وعند ولدى ولدن ومع، وعن وعلى اسمين. وتختص مكسورة الميم ومضمومتها في القسم بالرب، والتاء واللام بـ"الله"، وشذ فيه: من الله، وتربي.]- ش: الحرف إن لم يختص بما يدخل عليه فالأصل ألا يعمل فيه، نحو: هل، وبل، والهمزة للاستفهام، وإن اختص وتنزل منزلة الجزء مما دخل عليه لم يعمل، كـ"أل" وحرف التنفيس، وإن لم يتنزل منزلة الجزء فإن اختص بالفعل فقياسه أن يعمل الجزم؛ لأن الجزم مختص بالفعل، وإن اختص بالاسم فقياسه أن يعمل الجر؛ لأن الجر مختص بالاسم، فعمل المختص المختص، أي: عمل الحرف المختص الإعراب المختص بما دخل عليه الحرف، وحروف الجر اختصت بالأسماء، فعملت الإعراب الذي اختص بالأسماء، وهو الجر.

ويسميها الكوفيون حروف الإضافة لأنها تضيف الفعل إلى الاسم؛ ألا تراه يربط بين الاسم والفعل، وحروف الصفات لأنها تحدث صفة في الاسم، فقولك: جلست في الدار، فـ"في" دلت على أن الدار وعاء للجلوس. وعملت هذه الحروف لشبهها بالفعل في الاختصاص بما دخلت عليه. وكان عملها الجر لأن ما دخلت عليه فضلة، فلم تعمل رفعاً؛ لأن الرفع من إعراب العمد، ولم تنصب لأن ما دخلت عليه موضعه نصب؛ بدليل الرجوع إليه في الضرورة، فلو نصبت لاحتمل أن يكون النصب بالفعل، ودخل الحرف لإضافة معنى الفعل إلى الاسم، كما في: ما ضربت إلا زيداً، فلما تعذر الرفع والنصب لم يبق إلا الجر. وقوله سوى المستثنى بها تقدم ذلك في الاستثناءن وهي: خلا وحاشا وعدا إذا انجر الاسم بعدها، وأن س لا يكون حاشا عنده إلا حرفاً. وذهب الفراء إلى أنها لا تكون إلا فعلاً، وأن الاسم الذي بعدها إذا انخفض كان على تقدير اللام، والأصل عنده: قام القوم حاشا لزيد، فحذفت اللام، وبقي الاسم مخفوضاً. وذهب الأخفش والمبرد والزجاج إلى أنها تكون حرفاً، وقد تكون فعلاً. وهو الصحيح لثبوت النصب بها من كلام العرب. وأما "عدا" فـ"س" يقول: هي فعل، والأخفش يجعلها مثل خلا. وخلا فيها خلاف، ونقل المهاباذي عن الأخفش أنها حرف، وهو نص الأخفش فيها وفي حاشا في كتابه "الوسطى"، قال الأخفش: /"اعلم أن كل ما استثنيته بحاشا وخلا وسوى وسواء فهو جر أبداً". وقد تقدم النقل عن الأخفش أن حاشا تكون فعلاً، فيكون عنه القولان في حاشا، أحدهما موافق لمذهب س.

وذهب الجمهور إلى أن خلا تكون فعلاً وحرفاً، وقد وهم من نقل اتفاق النحويين على أن خلا يكون الاسم بعدها مخفوضاً ومنصوباً، وأن النصب أكثر من الخفض. وكان ينبغي للمصنف أن يقول: "وسوى ما ذكر في باب الظروف"، وهما مذ ومنذ، فإنه ذكر أنهما حرفان إذا انجر ما بعدهما. وقوله فمنها من وقد يقال منا من ثلاثية عند الكسائي، وثنائية عندنا، وزعم أن أصلها منا، فحذفت الألف لكثرة الاستعمال. واستدل على هذه الدعوى بقول بعض بني قضاعة: بذلنا مارن الخطي فيهم ... وكل مهند ذكر حسام منا أن ذر قرن الشمس حتى ... أغاث شريدهم فنن الظلام قال: فرد من إلى أصلها لما احتاج إلى ذلك لأجل الوزن؛ ألا ترى أن المعنى: من أن ذر قرن الشمس. وقال المصنف في الشرح: "حكى الفراء أن بعض العرب يقول في من: منا، وزعم أنه الأصل، وخففت لكثرة الاستعمال" انتهى. وأظن الفراء أخذ ذلك من هذا البيت الذي أنشده الكسائي. وقد تأوله أبو الفتح على أن "منا" مصدر منى يمني: إذا قدر، ويكون مصدراً استعمل ظرفاً، نحو: خفوق النجم، أي: تقدير أن ذر قرن الشمس وموازنته إلى آخر النهار لا يزيد ولا ينقص.

وقوله وهي لابتداء الغاية مطلقاً على الأصح يعني بقوله "مطلقاً" أي: تدخل لابتداء الغاية في المكان والزمان وغيرهما، مثالها في المكان (مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى). وكونها لابتداء الغاية في المكان مجمع عليه. ومثال ابتداء الغاية في الزمان (مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ)، (لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ). وقال الأخفش في "المعاني": "قال بعض العرب: من الآن إلى غد"، وفي الحديث (من نصف النهار إلى صلاة العصر)، وفيه: (من صلاة العصر إلى مغرب الشمس)، وفيه: (فمطرنا من جمعة إلى جمعة)،

ومنه في حديث عائشة (ولم يجلس عندي من يوم قيل في ما قيل)، وقول أنس: "فلم أزل أحب الدباء من يومئذ"، وفيه: قال - عليه السلام - لفاطمة: (هذا أول طعام أكله أبوك من ثلاثة أيام)، وقال النابغة: تخيرن من أزمان يوم حليمة ... إلى اليوم، قد جربن كل التجارب وقال جبل بن جوال: وكل حسام أخلصته قيونه ... تخيرن من أمان عاد وجرهم وقال الراجز:/ تنتهض الرعدة في ظهيري ... من لدن الظهر إلى العصير

وقال بعض الطائيين: من الآن قد أزمعت حلماً، فلن أرى ... أغازل خوداً، أو أذوق مداما وقال: ألفت الهوى من حين ألفيت يافعاً ... إلى الآن ممنوا بواش وعاذل وقال: ما زلت من يوم بنتم والها دنفا ... ذا لوعة، عيش من يبلى بها عجب وقال: ونجوت من عرض المنو ... ن من الغدو إلى الرواح وقال: كأنهما م الآن لم يتغيرا ... وقد مر للدارين من بعدنا عصر وقال: لمن الديار بقنة الحجر ... أقوين من حجج ومن دهر وقال:

من غدوة حتى كأن الشمسا ... بالأفق الغربي تكسى ورسا وقال: من الصبح حتى تطلع الشمس لا ترى ... من القوم إلا خارجياً مسوما وقال: أتعرف أم لا رسم دار معطلا ... من العام تمحاه، ومن عام أولا وقال: من عهد عاد كان معروفاً له ... أسر الملوك وقتلها وقتالها وكونها لابتداء الغاية للزمان مختلف فيه: منع ذلك البصريون، وأثبته الكوفيون، وهو الصحيح، وقد كثر ذلك في لسان العرب نثرها ونظمها كثرة تسوغ القياس، وتأويل البصريين لذلك مع كثرته ليس بشيء. وذهب ابن الطراوة إلى أنك إذا أردت الانتهاء في الزمان والابتداء فيه أتيت بإلى ومن؛ كما أن ذلك يكون في المكان كذلك، فلابد من "من" إذا أردتهما. قيل له: إذا أردت ذلك في الزمان استعملت مذ، فتقول: ما رأيته مذ يوم الجمعة إلى يوم الأحد. فزعم أن هذا لا يجوز؛ لأن قولك: ما رأيته مذ/ يوم الجمعة، يفهم منه أن انقطاع الرؤية اتصل إلى آخر الإخبار، فلا يحتاج هنا إلى حرف

الانتهاء، وإنما يحتاج إليه حرف لا يستغرق الوقت نحو من، فلابد من دخول من على الزمان في هذا الموضع. ومثال دخولها لابتداء الغاية في غير المكان والزمان: قرأت من أول سورة البقرة إلى آخرها، وأعطيت الفقراء من درهم إلى دينار، وتقول إذا كتبت كتاباً: من فلان إلى فلان، وفي الحديث: (من محمد رسول الله إلى هرقل عظيم الروم). واختلف النحويون في "من" بعد أفعل التفضيل، نحو: زيد أفضل من عمرو: فذهب س إلى أنها لابتداء الغاية، ولا تخلو من التبعيض. وذهب المبرد والأخفش الصغير إلى أنها لابتداء الغاية، ولا تفيد معنى التبعيض. وصححه بعض أصحابنا. ومنع ابن ولاد في رده على المبرد أن تكون من لابتداء الغاية، واستدل على ذلك بأن ابتداء الغاية لا يكون إلا بأن يكون لها انتهاء، كقولك: خرجت من الكوفة إلى البصرة، ولا يجوز: زيد أفضل منك إلى جعفر. وزعم س أن من تكون غاية، فقال: "تقول: رأيته من ذلك الموضع، تجعله غاية رؤيتك كما جعلته غاية حيث أردت الابتداء"، يريد أن من هنا دخلت على المحل الذي وقع فيه ابتداء الرؤية وانتهاؤها، ولذلك سماه غاية لما كان محيطاً بغاية الفعل؛ لأن الغاية هي مدى الشيء، أي: قدره، فيمكن أن يكون في: زيد أفضل من عمرو كذلك، أي: ابتدأ التفضيل منه، وانتهى به.

وقال بعض أصحابنا في قولهم: زيد أفضل من عمرو: "أردت أن تعلم أن زيداً يبتدأ في تفضيله من عمرو، ويكون الانتهاء في أدنى من فيه فضل؛ إذ العادة أن يبتدأ في التفضيل مما يقرب من الشيء ويدانيه في الصفة التي تقع فيها المفاضلة". انتهى. وسيأتي الكلام على من في أفعل التفضيل عند تعرض المصنف لذلك في الشرح إن شاء الله. وقوله وللتبعيض قال المصنف في الشرح: "ومجيء من للتبعيض كثير، كقوله تعالى (تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ)، وكقوله تعالى (خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ). وعلامتها جواز الاستغناء عنها بـ (بعض)، كقراءة عبد الله (لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ) " انتهى. وفي "البديع": "وقيل: إن من لأقل من النصف، كقوله تعالى (مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ) انتهى. وما ذكره المصنف من أن "من" تأتي للتبعيض ليس متفقاً عليه، زعم المبرد والأخفش الصغير وابن السراج وطائفة من الحذاق والسهيلي من أصحابنا أنها لا

تكون إلا لابتداء الغاية؛ وأن سائر المعاني التي ذكروها راجع إلى هذا المعنى؛ ألا ترى أنك إذا قلت: أكلت من الرغيف، إنما أوقعت الأكل على جزء، فانفصل ذلك الجزء من الجملة، فآل معنى الكلام إلى ابتداء الغاية. وذهب الفارسي والجمهور إلى أن من تكون للتبعيض. قال ابن عصفور: "وهو الصحيح/ بدليل أنك لو جعلت مكانها بعضاً لكان المعنى واحداً؛ ألا ترى أنه لا فرق بين قولك: أخذت من ماله، وأخذت بعض ماله، وقبضت من الدراهم، وقبضت بعض الدراهم، ولو وضعتها موضع من التي لابتداء الغاية في نحو: سرت من الكوفة - لم يسغ أن تقول: سرت بعض الكوفة" انتهى. وما ذهب إليه ابن عصفور من أنه لا فرق بين من التبعيضية وبعض رده بعض شيوخنا، فقال: "يتعلق الأكل بالرغيف على وجهين: أحدهما أنه عمه. والثاني أنه خصه، ولم يقع بجملته، فلحقت من لبيان ذلك. وإذا فهمت هذا فهمت الفرق بين من وبعض، فإنك إذا قلت: أكلت بعض الرغيف - فليس الرغيف متعلق الأكل، وإنما متعلقه البعض، وسيق الرغيف لتخصيص ذلك البعض وزوال شياعه. وإذا قلت: أكلت من الرغيف - فـ"من" دلت على أن الأكل وقع بالرغيف على جهة التبعيض، والرغيف متعلق الأكل، ودلت من على أنه لم يعمه". قال: "وقد صعب هذا على بعض الطلبة، فأراد أن يسوي بين من وبعض، وفيما ذكرته فرق لمن تدبره" انتهى. ومن قال لا فرق جعلهما مترادفين، ويمتنع الترادف بين مختلفي الحد.

وقوله ولبيان الجنس قال المصنف في الشرح: "ومجيئها لبيان الجنس كقوله تعالى (يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا مِنْ سُنْدُسٍ)، (خَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ) " انتهى. وكونها لبيان الجنس مشهور في كتب المعربين، ويخرجون عليه مواضع من القرآن، وقال به جماعة من القدماء والمتأخرين، منهم النحاس، وابن بابشاذ وعبد الدائم القيرواني وابن مضاء. واستدلوا على ذلك بقوله (فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ)، وقوله (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ)، وقوله (وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ)؛ ألا ترى أن الأوثان كلها رجس، فأتى بـ"من" ليبين بما بعدها الجنس الذي قبلها، فكأنه قيل: فاجتنبوا الرجس الذي هو الأوثان، أي: الرجس الوثني. وكذلك: الذين آمنوا الذين هم أنتم؛ لأن الخطاب هو مع المؤمنين، فلذلك لم يتصور أن تكون تبعيضية. وكذلك التقدير: من جبال هي برد؛ لأن الجبال هي البرد لا بعضها. وقد أنكر ذلك أكثر أصحابنا، وزعموا أنها لم ترد لهذا المعنى، ولا قام دليل على ذلك من لسان العرب. وكذلك قال من زعم أنها لا تكون إلا لابتداء

الغاية. وقالوا هي في قوله تعالى (فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ) لابتداء الغاية وانتهائها؛ لأن الأوثان نحاس مصنوع أو ذهب أو غير ذلك، فليس الرجس ذاتها، ولا الجنس الذي صنعت منه، وإنما وقع الاجتناب على عبادتها، ووصف بالرجس المعبود منها، وتكون من في الآية كهي في قولك: أخذته من التابوت؛ ألا ترى أن اجتناب عبادة الوثن ابتداؤه وانتهاؤه في الوثن. /وأما (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ) فلا يتعين أن يكون الخطاب خاصاً، بل يقدر الخطاب عاماً للمؤمنين وغيرهم. وأما (مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ) فـ (مِنْ جِبَالٍ) بدل من (السَّمَاءِ) بدل اشتمال، و (مِنْ بَرَدٍ) بدل من (جِبَالٍ) بدل شيء من شيء، فيؤول التقدير إلى أن يكون المعنى: وينزل من برد السماء، فتكون من فيه للتبعيض. وأما ما استدل به فـ"من" في (مِنْ ذَهَبٍ) في موضع الصفة، فهي للتبعيض، وكذلك (مِنْ سُنْدُسٍ). وأما (مِنْ صَلْصَالٍ)، و (مِنْ مَارِجٍ) فلابتداء الغاية، أي: ابتداء خلق الإنسان من صلصال، وابتداء خلق الجان من مارج. وأما (مِنْ نَارٍ) فللتبعيض. وأما: أخزى الله الكاذب من زيد وعمرو - ففيها معنى التبعيض، وفيها معنى التبيين، وهي تلزم في اللفظ أو التقدير، وتلزم العطف في الظاهر، ولا تلزم في الضمير؛ لأنك تقول: منا. وقوله وللتعليل قال المصنف في الشرح: "ومجيئها للتعليل كقوله تعالى: (يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آَذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ)، و (مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي

إِسْرَائِيلَ)، ومنه قول عائشة: (فما أستطيع أن أقضيه إلا في شعبان، الشغل من رسول الله، صلى الله عليه وسلم)، وكقول الشاعر: ومعتصم بالحي من خشية الردى ... سيردى، وغاز مشفق سيؤوب" انتهى. وقال الفرزدق: يغضي حياء، ويغضى من مهابته ... فما يكلم إلا حين يبتسم ومنه: مات من علته، وضحك من كلام زيد، وغضب مما قيل له، ومنه (أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ)، أي: بسبب الجوع. ومن لا يرى ذلك في الآية قال بالتضمين، أي: خلصهم بالإطعام من جوع وبالأمن من خوف. وقوله وللبدل قال المصنف في الشرح: "التي للبدل كقوله تعالى: (أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآَخِرَةِ)، (وَلَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَا مِنْكُمْ مَلَائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ)، ومنه قول الشاعر:

أخذوا المخاض من الفصيل غلبة ... ظلماً، ويكتب للأمير أفيلا" وقوله وللمجاوزة فتكون بمعنى عن واستدل على ذلك بعضهم بقوله تعالى: (فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ) أي: عن ذكر الله، وقول العرب: حدثته من فلان، أي: عن فلان. وقال المصنف في الشرح: "ومجيئها للمجاوزة نحو: عذت منه، وأنفت منه، وبرئت منه، وشبعت ورويت. ولهذا المعنى صاحبت أفعل التفضيل، فإن القائل: زيد أفضل من عمرو - كأنه قال: جاوز زيد عمراً في الفضل. وهذا أولى من أن يقال: إنها لابتداء الارتفاع في نحو: أفضل منه، أو الانحطاط في نحو: شر منه، كما زعم س؛ إذ لو كان الابتداء مقصوداً لجاز أن تقع بعدها إلى. وقد أشار س إلى أن ابتداء الغاية قد /يقصد دون إرادة منتهى، فقال: (تقول: ما رأيته مذ يومين، فجعلتها غاية، كما قلت: أخذته من ذلك المكان، فجعلته غاية، ولم ترد منتهى). هذا نصه. والصحيح أن من في نحو: أخذته من ذلك المكان، للمجاوزة؛ إذ لو كان الابتداء مقصوداً مع أخذت كما هو مقصود مع حملت في قولك: حملته من ذلك المكان - لصدق على استصحاب المأخوذ أخذ كما يصدق على استصحاب المحمول حمل.

وأما مذ في: ما رأيته مذ يومين، ونحوه - فقد جعلها بعضهم بمعنى في وليس كذلك؛ لأن المراد بما رأيته مذ يومين ونحوه نفي الرؤية في مدة أنت في آخرها، والابتداء والانتهاء مقصودان، واليومان معينان. ولو جيء بـ (في) مكان مذ لم يفهم تعين ولا ابتداء ولا انتهاء. وقد تقع من موقع مذ في مثل هذا، كقول النبي - صلى الله عليه وسلم - لفاطمة، رضي الله عنها: (هذا أول طعام أكله أبوك من ثلاثة أيام)، فلو كان المجرور بمذ أو منذ حاضراً غير مثنى ولا مجموع صح قصد معنى في، كقوله - عليه السلام - للملكين: (طوفتماني مذ الليلة). انتهى. وقد تقدم مذهب س ومذهب المبرد ومن تبعه في "من" التي تكون مع أفعل التفضيل. وما رد به المصنف على س هو قول ابن ولاد. وقد رد على ابن ولاد بأنه لا يلزم من ذكر الابتداء ذكر الانتهاء، فقد لا تذكره، إما لكونك لا تعلم إلى أين انتهى، وإما لكونك لا تريد أن تخبر به، نحو: خرج زيد من البصرة، وكذلك: زيد أفضل من عمرو، يكون الابتداء معلوماً والانتهاء مجهولاً، ويكون ذلك أمدح في حق المفضل؛ إذ لا يقف السامع على محل الانتهاء. وقال المصنف في الشرح أيضاً: "وأشار أيضاً - يعني س - إلى قصد التبعيض بالمصاحبة أفعل التفضيل، فقال في: هو أفضل من زيد: (فضله على بعض، ولم يعم).

ويبطل كون هذه للتبعيض أمران: أحدهما عدم صلاحية بعض في موضعها. والثاني صلاحية كون المجرور بها عاماً، كقولنا: الله أعظم من كل عظيم، وأرحم من كل رحيم. وإذا بطل كون المصاحبة أفعل التفضيل لابتداء الغاية وللتبعيض تعين كونها بمعنى المجاوزة كما سبق" انتهى. وما رد به على س لا يلزم؛ لأن س لم يدع في نحو زيد أفضل من عمرو أنها للتبعيض فقط، إنما قال: "إنها لابتداء الغاية، ولا تخلو من التبعيض"، يعني حيث يمكن التبعيض. وتمثيله بقوله: هو أفضل من زيد، وقوله "فضله على بعض، ولم يعم" معناه: فضله على زيد، وهو بعض من الناس. وهذا قول صحيح، لا شك أن زيداً ليس بلفظ عام، وإنما هو بعض من عام. وأما كونها لا تصلح مكان بعض فقريباً من كلام المصنف قول ابن عصفور، قال: "الصحيح عندي أن التبعيض ليس مفهوماً في أفعل من، وإنما فهم ذلك من جهة أنك إذا أدخلت من التي لابتداء الغاية/ على الموضع الذي ابتدأ منه التفضيل علم أنك لم ترد التعميم في التفضيل؛ وإنما أردت أن تذكر الموضع الذي ابتدأت منه التفضيل، وليست كذلك طريقة من في إفادتها التبعيض، وإنما طريقها أن تدخل على اسم ما تريد بعضه؛ ألا ترى أنك إذا قلت قبضت من الدراهم أفدت بذلك أنك قبضت بعض ما دخلت عليه من؛ وهو الدراهم، وليست كذلك في: زيد أفضل من عمرو، لأنك لم ترد بعض ما دخلت عليه من" انتهى كلام ابن عصفور. ولم يرد س إلا أن ما دخلت عليه من ليس بعام، وأنك إذا أردت العموم حذفتها، فما دخلت عليه من بعض، لا أنها دلت على التبعيض فيما دخلت عليه، بل ما دخلت عليه هو البعض، فالتبعيض لفظ مشترك، يراد به أن ما دخلت عليه يكون بعضاً من عام، ويراد به أن ما دخلت عليه يكون عاماً، فتفيد تسليط العامل على بعضه.

وأما ما ذكره المصنف من امتناع أن تدل على التبعيض، كقوله: الله أعظم من كل عظيم - فهو قول المبرد في رده على س ادعاءه أنها لا تخلو من التبعيض؛ واستدلاله أنك تقول: زيد أفضل الناس أجمعين، ولم يدع س أنها يصحبها التبعيض في كل مكان، بل قال ذلك حيث أمكن التبعيض، وهو قوله: هو أفضل من زيد، فزيد بعض الناس، وإذا قلت زيد أفضل من العمرين فهما بعض الناس، وإذا قال أفضل من الرجال فقد فضله على جماعة معلومين، فإذا أراد العموم حذف من، فقال: أفضل الرجال، وأفضل الناس، ولذلك جعل س [من] في قولك أفعل من لا يستغني عنها، يريد: إذا أريد معنى التبعيض، فإذا أريد العموم حذفت من كقولهم: هو أكذب من دب ودرج. وقوله وللانتهاء قال المصنف في الشرح: "ومجيء من للانتهاء كقولك: قربت منه، فإنه مساو لقولك: تقربت إليه. وقد أشار س إلى أن من معاني (من) الانتهاء، فقال: (وتقول: رأيته من ذلك الموضع، فجعلته غاية رؤيتك كما جعلته غاية حين أردت الابتداء). قال ابن السراج: (وحقيقة هذه المسألة أنك إذا قلت: رأيت الهلال من موضعي - فـ (من) لك، وإذا قلت: رأيت الهلال من خلل السحاب - فـ (من) للهلال، فالهلال غاية لرؤيتك، فلذلك جعل س من غاية في قولك: رأيته من ذلك الموضع) " انتهى.

ومن أثبت لـ"من" هذا المعنى - وهم الكوفيون - استدل عليه بقول الشاعر: أأزمعت من آل ليلى ابتكارا ... وشطت على ذي نوى أن تزارا المعنى: أأزمعت إلى آل ليلى. وبقول العرب: شممت الريحان من الطريق، ورأيت الهلال من خلل السحاب، فـ"من" لانتهاء الغاية؛ لأن الشم لم يبتدئ من الطريق، ولا الرؤية ابتدأت من خلل السحاب، إنما ابتدأا من غيرهما، وانتهيا إليهما. ويبين ذلك أنك/ تقول: شممت الريحان من داري من الطريق، ورأيت الهلال من داري من خلل السحاب، فـ"من" الأولى للابتداء، والثانية للانتهاء. وقد رد أصحابنا هذا المعنى، وقالوا: لا تكون لانتهاء الغاية، فأما تأويل المصنف على س، وأنه أشار إلى أنها للانتهاء - فليس س مصحراً بأنها للانتهاء، إنما قال: "جعلته غاية رؤيتك"، ومعناه أنه محل لابتداء الفعل وانتهائه معاً. وكذلك: أخذته من زيد، زيد أيضاً هو محل ابتداء الأخذ وانتهائه معاً. فتحصل من هذا أن من تكون في أكثر الموضع لابتداء الغاية فقط، وفي بعض المواضع لابتداء الغاية وانتهائها معاً. وأما البيت فخرج على أن المعنى: أأزمعت من أجل آل ليلى ابتكاراً؟ لأنه إذا أزمع ابتكاراً إليهم فقد أزمعه من أجلبهم، وحذف المضاف لدلالة المعنى سائغ. وأما قولهم: شممت الريحان من داري من الطريق، ورأيت الهلال من داري من خلل السحاب - فتأولوه على أن كلا منهما لابتداء الغاية، فتكون الأولى لابتداء الغاية في حق الفاعل، والثانية لابتداء الغاية في حق المفعول؛ ألا ترى أن ابتداء وقوع رؤية الهلال من الفاعل إنما كان في داره، وأن ابتداء وقوع الرؤية بالهلال إنما كان في خلل السحاب؛ لأن الرؤية إنما وقعت بالهلال وهو في خلل

السحاب. وكذلك أيضاً ابتداء وقوع الشم إنما كان من الدار، وابتداء وقوعه بالريحان إنما كان من الطريق؛ لأن الشم إنما تسلط على الريحان وهو في الطريق. ونظير هذا ما جاء في بعض الأثر: (كتب أبو عبيدة بن الجراح إلى عمر بالشام: الغوث الغوث)، وأبو عبيدة لم يكن في وقت كتبه بالشام، بل الذي كان بالشام عمر، فـ"بالشام" ظرف للفعل بالنظر إلى المفعول؛ لأن الكتب إلى عمر إنما كان وعمر بالشام. وزعم بعض النحويين أن من الطريق، ومن خلل السحاب - من فيهما لابتداء الغاية، إلا أنه جعل العامل محذوفاً، وليس شممت، ولا رأيت، وتقديره: كائناً من الطريق، وظاهراً من خلل السحاب. قال السهيلي: "ولا حجة في قولهم: شممت الريحان من الطريق، ورأيت الهلال من خلل السحاب؛ لأن معنى الكلام أن الريحان شم من الطريق حتى شممت رائحته، وأن الهلال لاح من خلل السحاب حتى نظرت إليه)) انتهى. فكأنه قال: ناما أو فائحاً من الطريق، ولائحاً من خلل السحاب. ورد هذا التأويل بعض أصحابنا بأن المحذوف الذي يقوم المجرور مقامه إنما يكون مما يناسب معناه الحرف؛ و"من" الابتدائية لا يفهم منها الكون ولا الظهور، فلا ينبغي أن يجوز حذفهما منه. وقوله وللاستعلاء قال المصنف في الشرح: "وقد جاء من بمعنى على في قوله تعالى: (وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا)، كذا قال أبو الحسن الأخفش" انتهى. والأحسن ألا يضمن الحرف /معنى الحرف، ويضمن الفعل

معنى الفعل، فتكون من على بابها، ويكون التقدير: ومنعناه بالنصر من القوم الذين كذبوا بآياتنا. وهذا الذي ذكره عن الأخفش هو قول الكوفيين وبعض اللغويين. وقوله وللفصل قال المصنف في الشرح: "وأشرت بذكر الفصل إلى دخولها على ثاني المتضادين، نحو (وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ)، و (حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ)، ومنه قول الشاعر: إذا ما ابتدأت امرأً جاهلاً ... ببر فقصر عن فعله ولم تره قابلاً للجميل ... ولا عرف العز من ذله فسمه الهوان، فإن الهوان ... دواء لذي الجهل من جهله" انتهى. ومنه: لا يعرف قبيلاً من دبير. وليس من شرطها الدخول على المتضادين، بل تدخل على المتشابهين، تقول: لا يعرف زيداً من عمرو. وقوله ولموافقة الباء هذا قول كوفي. قال المصنف في الشرح: (يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ)، قال الأخفش: (قال يونس: أي: بطرف

خفي، كما تقول العرب: ضربته في السيف، أي: بالسيف) " انتهى. يريد أنهم جعلوا من بمعنى الباء كما جعلوا في بمعنى الباء. ولا حجة لما قاله يونس؛ إذ يحتمل أن تكون فيه من لابتداء الغاية، أي: ابتداء نظرهم هو من طرف خفي. وقوله ولموافقة في وهذا قول كوفي أيضاً. قال المصنف في الشرح: "أشرت إلى نحو قول عدي بن زيد: عسى سائل ذو حاجة إن منعته ... من اليوم سؤلا أن ييسر في غد انتهى. ولا حجة في ذلك؛ إذ يجوز أن تكون من للتبعيض على حذف مضاف، أي: إن منعته سؤلاً من مسؤولات اليوم أو من مسؤولاتك اليوم، يعني: من الأشياء التي تسألها اليوم. وزعم بعض النحويين أن من تكون بمعنى في، وجعل من ذلك قوله تعالى: (أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ)، أي: في الأرض. وزعم أبو عبيدة أنها تقع بمعنى عند، وجعل من ذلك قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا). ولا حجة في شيء من ذلك؛ إذ يحتمل التأويل. وزعم السيرافي والأعلم وابن طاهر وابن خروف أن "من" إذا كان بعدها "ما" كانت بمعنى ربما، وزعموا أن س يشير بهذا لهذا المعنى كثيراً في كلامه، كقوله في "باب ما يكون في اللفظ من الأعراض": "اعلم أنهم مما يحذفون".

وكان الأستاذ أبو علي لا يرتضي هذا المذهب لكون س إذا ذكر "مما" إنما يريد التكثير، فلا يحسن إذ ذاك استعمال رب إذ كان معناها يناقض المراد. واحتج الذاهبون إلى ذلك بأنه قد سمع ذلك منهم، قال:/ وإنا لمما نضرب الكبش ضربة ... على وجهه، تلقي اللسان من الفم قالوا: المعنى: لربما. وخرج الأستاذ أبو علي وأصحابه ذلك على أن "ما" مصدرية، و"من" لابتداء الغاية، وكأنهم خلقوا من الضرب لكثرة ما يقع منهم، كما قال تعالى: (خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ)، جعل كأنه مخلوق من العجل لكثرة وقوع العجل منهم. فأما قول الشاعر: نصحت أبا زيد، فأدى نصيحة ... إلي، ومما أن تغر النصائح وقول الآخر: ألا غنيا بالقادسية، إننا ... على النأي مما أن ألم بها ذكرا فلا يمكن أن تكون ما مصدرية لأجل أن، قالوا: فمعناها ربما. وتأوله من منع ذلك على أن ما نكرة موصوفة بالمنسبك من أن وما بعدها، وهو مصدر، كأنه قال: إننا على النأي من شيء إلمام بها ذكره، فجعلهم من إلمامهم ذكراً لكثرة إلمامهم. وكذلك النصيحة للإنسان تشق عليه، فكأن النصح مخلوق مما يشق على الإنسان.

وهذا التأويل بعيد، ولا يجوز الوصف بأن والفعل، لا يجوز: مررت برجل أن يصوم، تريد: برجل صوم. وعلة ذلك أن الوصف بالمصدر هو على سبيل المجاز، ونيابة أن والفعل عنه مجاز، فكثر التجوز، فلذلك امتنع. والأولى أن ما مصدرية، وجمع بينها وبين أن المصدرية لاختلاف لفظيهما، وذلك في الشعر كما جاء قوله: فأصبحن لا يسألنني عن بما به ... ............................................ وإذا جمعوا بين حرفي الجر مع كونهما عاملين فلأن يجمعوا بين م لا عمل له - وهو ما المصدرية - وما له عمل - وهو أن - أولى. وقوله وتزاد لتنصيص العموم أو لمجرد التوكيد بعد النفي أو شبهه جارة نكرة أما ما تزاد لتنصيص العموم فهي الداخلة على نكرة لا تختص بالنفي، نحو رجل وامرأة وغيرهما، فإذا قلت ما قام رجل احتمل نفي الجنس على سبيل التعميم، أي: لم يقم فرد من أفراد الرجال لا واحد ولا أكثر. واحتمل أن يكون النفي سلط على رجل بقيد الوحدة، فعلى الأول تقول: ما قام رجل بل امرأة، وعلى الثاني تقول: ما قام رجل بل اثنان، فإذا أدخلت من زال احتمال نفي الوحدة، ولذلك يخطأ من قال: ما قام من رجل بل اثنان، ودل دخولها على أنه أريد النفي العام. وأما ما تزاد لمجرد التوكيد فهي الداخلة على نكرة لم تستعمل إلا في النفي العام أو ما يشبهه، نحو أحد الموضوع لعاقل، وديار وطوري، وقد تقدمت في باب العدد في آخر الفصل الثاني منه، فدخولها فيه إنما هو لمجرد التوكيد؛ لأن النفي العام لا يفهم بدونها.

وقال المصنف في الشرح: "وأشار س إلى أن من الزائدة قصد بها التبعيض؛ لأنه قال بعد تمثيله بما أتاني من رجل: (أدخلت من لأن هذا موضع تبعيض، فأراد أنه /لم يأت بعض الرجال)، هكذا قال، يريد أن من دلت على شمول الجنس، فلكل بعض منه قسط من المنسوب إلى جميعها، فالتبعيض على هذا التقدير مقصود. وهذا غير مرضي؛ لأنه يلزم منه أن تكون ألفاظ العموم للتبعيض. وإنما المقصود بزيادة من في نحو ما أتاني من رجل جعل المجرور بها نصاً في العموم، وإنما تكون للتبعيض إذا لم يقصد عموم، وحسن في موضعها بعض، نحو (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آَمَنَّا) الآية، و (مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ)، و (فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ)، وقد صرح س بهذا المعنى، فقال: (وتكون للتبعيض، نحو: هذا منهم، كأنك قلت: هذا بعضهم) " انتهى. وما فهمه الشارح المصنف عن س ليس بصحيح؛ لأن س لم يرد بقوله "لأن هذا موضع تبعيض" أنه حين زيدت كان الكلام بزيادتها استفيد منه التبعيض، وإنما يريد أنها زيدت ناصة على العموم؛ لأن الكلام قبل الزيادة كان يفهم منه التبعيض، ولم يكن نصاً على العموم كما هو بزيادتها. وقد يمكن إجراء لفظ س على ظاهره، فيكون قوله "لأن" تعليلاً لدخول من الزائدة، وأنها يستفاد من دخولها

التبعيض، فإذا قلت ما قام من رجل كان نفياً لجنس الرجال أن يقوم أو يقوم منه شيء، فكأنك قلت: ما قام بعض الرجال في حال من الأحوال لا وحده ولا مع غيره. وتقسيم المصنف وغيره "من" هذه الزائدة إلى أنها تكون لاستغراق الجنس ولتأكيد استغراق الجنس ليس مذهب س؛ بل قولك: ما جاءني من أحد، وما جاءني من رجل، من في الموضعين لتأكيد استغراق الجنس. وهذا هو الصحيح؛ لأن من لم تدخل في قولك ما جاءني من رجل إلا على قولك: ما جاءني رجل، المراد به استغراق الجنس. وزعم علي بن سليمان أن "من" الزائدة لابتداء الغاية، فإذا قلت ما قام من رجل ابتدأت النفي من هذا النوع دون غيره، ثم عرض لها - وإن كانت لابتداء الغاية - أن يقتصر بها على هذا النوع. وقال أبو العباس في ما جاءني من رجل: لا ينبغي أن يقال فيها زائدة؛ لأن الزائد لا يفيد معنى، و"من" هنا تفيد استغراق الجنس، فإنك إن حذفتها احتمل الكلام وجوها، ولم يكن نص على استغراق الجنس، فإذا قلت ما جاءني من أحد فهي زائدة؛ لأنك إذا حذفتها لم تخل بمعنى. قال ابن هشام: وهذا الذي ذكره صحيح، إلا أنها لما كان العامل يطلب موضعها ولم تكن معدية جعلها س بهذا الاعتبار زائدة. وقوله بعد نفي أو شبهه جارة نكرة مبتدأ وفاعلاً ومفعولاً به يريد بقوله "بعد نفي" سائر أدوات النفي لم ولما وما ولا ولن وإن. وشبه النفي يريد به النهي، وحرفه كما تقرر لا، والاستفهام، وليس ذلك عاماً في جميع أدواته، إنما يحفظ ذلك مع هل، وفي إلحاق الهمزة بها نظر، ولا أحفظه من /لسان العرب، ولو قلت:

كيف تضرب من رجل؟ أو: أين تضرب من رجل؟ أو: كيف خرج من ضيف أتاك؟ لم يجز. وذكره جارة نكرة هذا مذهب جمهور البصريين، وهو أن لزيادتها شرطين: أحدهما: أن يكون الكلام غير موجب، ويعنون به النفي والنهي والاستفهام على ما شرحناه. والثاني: أن يكون المجرور بها نكرة. ومثال زيادتها في المبتدأ (مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ)،: ........................................ ... .......... ألا لا من سبيل إلى هند إلا أن زيادتها بعد لا في المبتدأ قليلة، بخلاف ما. (هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ). ومثال زيادتها في الفاعل (مَا يَاتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ)، وهل قام من رجل؟ ولا يقم من أحد. وحكم اسم كان وأخواتها حكم الفاعل، فتقول: ما كان من أحد قائماً، وليس من رجل قائماً، قال تعالى: (وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ). ومثال زيادتها في المفعول (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ)، (هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ)، ولا تضرب من أحد.

وشمل قوله المفعول ما سمي فاعله، وما لم يسم فاعله، والمفعول الأول والثاني من باب أعطى، والأول من باب ظن، والأول من باب أعلم. وفي دخولها على ثاني أعلم نظر، ولا تدخل على ثاني ظن، ولا على ثالث أعلم، ولا على خبر كان وأخواتها. وتدخل على المتسع فيه من ظرف ومصدر، نحو: ما ضرب من ضرب شديد، وما سير من ميل، وما صيم من يوم. فرع: إذا قلت: قلما يقول ذلك رجل، وقلما أضرب رجلاً - إن جعلت قلما مقابلة كثر ما لم يجز دخول من على رجل؛ لأن الكلام موجب، وإن جعلت قلما للنفي المحض جاز زيادة من؛ لأن الكلام غير موجب، واستعمال قلما بالوجهين شائع في كلام العرب. وزعم بعض البصريين أنها تزاد في لشرط، فيجري مجرى النفي والنهي والاستفهام، ويكون ما تدخل عليه نكرة كهي مع تلك، فتقول: إن قام من رجل قام عمرو، وإن ضربت من رجل ضربك. وحجته أن الضرب غير واقع، كما أنه كذلك في: ما ضربت رجلاً. والصحيح المنع؛ لأنه وإن لم يكن واقعاً مفروض الوقوع، ولا يمكن أن يفرض إلا ما لا تناقض فيه، فيصير المعنى إن قدر وقوع هذا الخبر: الذي هو قام من رجل قام عمرو، و"قام من رجل" لا يمكن؛ لما قاله بعض أصحابنا من أنه يلزم اجتماع الضدين في الواجب، على ما يتضح عند بيان اشتراط الشرطين عند جمهور أهل البصرة. فإن كل فعل الشرط منفياً، أو كان قد دخل على النفي ما صيره تقريراً - فيحتاج في دخول من على النكرة - أي في سياق ذلك - إلى نظر، والذي يظهر المنع.

وزعم لكذة - ويقال لغذة - الأصبهاني - واسمه [الحسن بن عبد الله أبو علي]- أن "من" في قول الهذلي: فما العمران من رجلي عدي ... وما العمران من رجلي فئام زائدة، وأن هذا لا يجوز، وأنه منحول، وليس من شعر الهذلي. قال: لأنه لا يقال: ما زيد من رجل الحرب، ولا: ما زيد من رجلي الحرب. وعلة منعه لذلك اعتقاده أن من زائدة في خبر المبتدأ/ إن كانت "ما" تميمية، أو في خبر "ما" إن كانت حجازية، و"من" لا تزاد في الخبر. وما ذهب إليه في البيت لكذة غير صحيح؛ لأنه بناه على أن "ما" نافية، وهو خلاف ما قصد الشاعر؛ لأنه قصد المدح، فكيف تكون نافية؟ فيصير إذ ذاك هجواً، وإنما "ما" هنا استفهامية، معناها التعجب والتعظيم والتفخيم للشأن، كقولك: عبد الله ما عبد الله، تريد: أي رجل عبد الله، وكذلك أراد الشاعر: أي رجلي عدي، وأي رجلي فئام العمران، و"من" هنا نظيرتها في قول الشاعر: يا سيداً، ما أنت من سيد ... موطأ الرحل، رحيب الذراع فـ"من" داخلة على التمييز؛ إذ يجوز: يا فارساً ما أنت فارساً، و"عدي" في بيت الهذلي في معنى العداة، كما قال الشنفي: له وفضة، فيها ثلاثون سيحفا ... إذا ما رأت أولى العدي اقشعرت وزعم بعض النحويين أن "من" إذا دخلت على قبل وبعد تكون زائدة، وزعم أن المعنى بسقوطها وثبوتها واحد. وليس كما زعم، بل المعنى مختلف، فإذا

قلت جئت من قبل زيد كان مجيئك مبتدأ من الزمان المتعقبه زمان مجيء زيد، فإذا قلت جئت قبل زيد كان مجيئك سابقاً على مجيء زيد، واحتمل أن يكون تعقبه زمان مجيء زيد، أو كان بينهما مهلة كثيرة أو قليلة؛ لأنه يدل على مطلق السبق. وإذا قلت جئت من بعد عمرو ابتدأ مجيئك من الزمان المتعقب زمان مجيء عمرو، وإذا قلت جئت بعد عمرو احتمل أن يتعقب وأن يتأخر بمهلة كثيرة أو قليلة، فـ"من" لابتداء الغاية في القبلية والبعدية، فلو جاء شخص ظهراً وآخر عصراً حسن فيه قبل وبعد، ولم يحسن من قبل ولا من بعد؛ إذ لا اعتقاب في الزمانين. وقوله ولا يمتنع تعريفه ولا خلوه من نفي أو شبهه وفاقاً للأخفش وافق المصنف الأخفش، وذكر جملة ما استدل به لهذا المذهب في شرحه نثراً ونظماً، فمن ذلك قوله تعالى: (وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ)، (يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ)، (وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ)، (يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ)، (تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ)، وفي لابخاري من كلام عائشة (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يصلي جالساً، فيقرأ وهو جالس، فإذا بقي من قراءته نحواً من كذا)، هكذا ضبط بخط من يعتمد. أي: ولقد جاءك نبأ، ويحلون أساور، ويكفر عنكم سيئاتكم، يغفر لكم ذنوبكم، تجري تحتها، فإذا بقي قراءته نحواً من كذا. وقال عمر بن أبي ربيعة:

وينمي لها حبها عندنا ... فما قال من كاشح لم يضر وقال جرير: لما بلغت إمام العدل قلت لهم ... قد كان من طول إدلاج وتهجير /وقال آخر: وكنت أرى كالموت من بين ساعة ... فكيف ببين كان موعده الحشر وقال آخر: يظل به الحرباء يمثل قائما ... ويكثر فيه من حنين الأباعر أي: فما قال كاشح، وقد كان طول إدلاج، وكنت أرى بين ساعة، ويكثر فيه حنين [الأباعر]. ورأى زيادة "من" في الإيجاب الكسائي، وخرج عليه "إن من أشد الناس عذاباً المصورون". وابن جني، وخرج عليه قراءة ابن هرمز (لَمَا آَتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ)، تقديره عنده: لمن ما، فأدغمت نون من في ميم ما، فاجتمعت ثلاث ميمات، فحذفت ميم من، وبقيت الثانية التي كان نوناً مدغمة في ما. انتهى ما لخص من شرح المصنف.

وأما الكوفيون فاختلف النقل عنهم: فقال بعض أصحابنا عنهم: إنها تزاد في الواجب وغيره بشرط أن يكون مجرورها نكرة، وحكوا عن العرب من زيادتها في الواجب: قد كان من مطر، وقد كان من حديث فخل عني، أي: كان مطر، وقد كان حديث. وقال الكسائي وهشام: من زائدة في قوله (يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ)، (وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ)، و (يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ)، (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً)، كما قال الأخفش، فلم يشترطا أن يكون المعمول نكرة. ووافقهم الفارسي على زيادتها في قوله: (وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ)، أي: جبالاً فيها برد. وجعل أبو عبيدة في "المجاز" له "من" زائدة في قوله: (أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ)، أي: خير من ربكم. واستدل أيضاً على زيادتها بغير الشرطين بقوله: (فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ). وما احتج به لهم لا حجة فيه:

أما (وَلَقَدْ جَاءَكَ) فالفاعل مضمر، أي: ولقد جاءك هذا النبأ، و (مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ) في موضع الحال، أي: كائناً من نبأ المرسلين؛ لأن قبله: (وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا)، فأخبره تعالى أن هذا النبأ الذي جاءك هو من نبأ المرسلين، فتأس بما جرى لهم. وأما (مِنْ أَسَاوِرَ) فـ (مِنْ) للتبعيض. وأما (وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ)، و (يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ) - فالذي يكفر بعض السيئات، والذي يغفر بعض الذنوب؛ لأن ما كان فيه تبعة لآدمي لا يكفر، ولأن المغفور بالإيمان ما اكتسبوه من الكفر لا ما يكتسبونه في الإسلام، وذلك بعض الذنوب، فـ (مِنْ) فيهما للتبعيض. وكذا هي للتبعيض في (أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ)، إذ أصله: أن ينزل الله عليكم من خير، أي: بعضاً من خير، ثم بني للمفعول، وأقيم المجرور مقام الفاعل، وجعل الظاهر بدلاً من الضمير لما حذف الظاهر الذي كان يعود عليه الضمير، وهو اسم الله. وكذا هي للتبعيض أيضاً في (مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ)؛ لأنه لا يمكن/ أن يأكل كل ما أمسكن؛ إذ منه ما يموت فرقاً، ولم ينفذ مقاتله، ولا أثر فيه بناب ولا ظفر. وأما (مِنْ تَحْتِهَا) فلابتداء الغاية. وأما (فإذا بقي من قراءته)، و ((بما قال من كاشح))، و ((قد كان من طول))، و ((يكثر فيه من حنين))، و ((قد كان من مطر))، و ((قد كان من حديث)) - فخرج على أن تكون "من" في ذلك كله مبعضة، ويكون الفاعل مضمراً اسم فاعل يفسره الفعل كما فسر في قوله: (ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الْآَيَاتِ)، أي: هو، أي: البداء، فكذلك يكون التقدير: فإذا بقي هو، أي: باق من قراءته نحواً من كذا، ومما

قال هو، أي: قائل من كاشح، وقد كان هو، أي: كائن من طول، ويكثر فيه هو، أي: كاثر من حنين، وقد كان هو، أي: كائن من مطر، وقد كان هو، أي: كائن من حديث، ومجيء اسم الفاعل فاعلاً يدل عليه الفعل شائع في كلام العرب، قال تعالى: (سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ)، وقال يزيد بن عمرو بن الصعف: ونسب ابن عصفور هذا البيت للنابغة، وهو وهم. وقال بعض أصحابنا في قولهم: قد كان من مطر، وقد كان من حديث: "فحذف الموصوف، وقامت من مقامه؛ إذ هي في موضع الصفة، وذلك يحسن في الكلام وإن كانت الصفة غير مختصة" انتهى. وهذا تخريج فاسد؛ لأنه يلزم من ذلك أن يكون المجرور فاعلاً، والمجرور الذي يجر بحرف غير زائد لا يكون فاعلاً. وأما "من بين ساعة" فـ"من" للسبب، أي: أرى شيئاً عظيماً كالموت من أجل بين ساعة، فكيف يكون حالي ببين موعده الحشر؟ أي: بسبب بين موعده الحشر. وأما (إن من أشد الناس عذاباً) ففي إن ضمير الشأن محذوف. وقد خرجه على ذلك المصنف في الشرح في باب "إن". وأيضاً لا يمكن زيادتها من حيث الشرع لأن ثم من هو أشد عذاباً من المصورين، كقتلة الأنبياء ونحوهم، ولا يمكن أن يكون المصورون هم أشد الناس عذاباً.

وأما تخريج ابن جني قراءة ابن هرمز فتخريج أعجمي، لا يحتمل مثله في القرآن، وكونها على ما استقر في لما ظاهر، إما على الظرف، أي: حين آتيناكم، وإما كونها حرف وجوب لوجوب، و (آتيناكم) التفات من الغيبة إلى الخطاب، ولو جرى على الغيبة لكان: لما آتيناهم. ولا يظهر معنى لتخريج ابن جني: لمما آتيناكم من كتاب وحكمة. وأما قوله (وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ) فالتقدير: ولهم فيها مطعوم أو فاكهة من كل لثمرات، لما تقدم ذكر المشروب ذكر المطعوم، وحذف المبتدأ لدلالة المعنى عليه جائز، ولاسيما إذا كانت له صفة. وأما (يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ) فـ (مِنْ) للتبعيض؛ لأنهم لم يؤمروا بغض الأبصار، وإنما يغض منها ما كان في النظر بها امتناع شرعي. وكذلك هي للتبعيض في (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً). وأما (وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ) فتقدم تخريجه. والشرطان اللذان شرطهما جمهور البصريين إنما ذلك في فصيح الكلام، وأما في ضرورة الشعر فيجيزون زيادتها في الواجب وفي المعرفة والنكرة، نحو قوله: أمهرت منها جبة وتيسا وقال بعض أصحابنا: ومما جاءت فيه "مِنْ) زائدة على مذهب الأخفش والكوفيين قول البرج بن مسهر الطائي:

ونعم الحي كلب غير أنا ... رزئنا من بنين ومن بنات وقول عنترة: وكأنما ينأى بجانب دفها الـ ... ـوحشي من هزج العشي مؤوم وقول الآخر: إذا مر من يوم ولم أرج منكم ... أوائل أيام رجوت التواليا وقول تأبط شراً: وإني لمهد من ثنائي فقاصد ... به لابن عم الصدق شمس بن مالك وقول الأسود بن يعفر: هوى بهم من حينهم وسفاههم ... من الريح، لا تمري سحاباً ولا قطرا وقول جزء بن ضرار: أمهرت منها جبة وتيسا أي: رزئنا بنين وبنات، وينأى هزج العشي.

ويدل أنه في موضع رفع الإبدال منه مرفوعاً في قوله: هر جنيب، كلما عطفت له ... غضبى اتقاها باليدين وبالفم وإذا مر يوم، ولمهد ثنائي، وهوى الريح، وأمهرتها. ويخرج "من بنين ومن بنات" و"من ثنائي" على أنها للتبعيض، أي: بعضاً من بنين، وبعضاً من ثنائي. وبيت عنترة على أن التقدير: ناء من هزج، وكذا هاو من الريح، ومار من يوم. والمجرورات بـ"مِنْ" كانت في موضع الصفة، ثم أضمر ذلك الفاعل، وصار المجرور في موضع الحال، وقد تقدم أنه لا يستنكر أن يكون الفاعل اسم فاعل يدل عليه الفعل. واشتراط هذين الشرطين ليس لمجرد السماع، بل قد أبدى بعض أصحابنا لذلك علة أوجبت ذلك، فقال: "أما التزام التنكير فلأن المفرد الواقع بعد (من) الزائدة في معنى جمع، والمفرد لا يكون في معنى جمع إلا إذا كان نكرة، نحو قول العرب: عندي عشرون رجلاً، ولو كان معرفة لم يجز ذلك إلا في ضرورة، نحو: في حلقكم عظم وقد شجينا أي: في حلوقكم. وأما التزام كون الكلام غير موجب فلأنه ينتفي في قولك: ما جاءني من رجل، مجيء واحد ومجيء أكثر من واحد، فلو قلت: جاءني/ من رجل، لزمك أن يكون قولك من رجل على حده بعد النفي، فتكون كأنك قلت في حين واحد: جاءني رجل وحده ولم يجيء رجل وحده بل أكثر من رجل واحد، وذلك تناقض؛

لأنه يلزمك اجتماع الضدين في الواجبن وهو مجيء الرجل وحده مع غيره، ولا يلزم ذلك في غير الواجب إذ قد يجوز اجتماع الأضداد فيما ليس بواجب؛ ألا ترى أنك تقول: ما زيد أسود ولا أبيض، ولو قلت زيد أسود وأبيض لم يتصور ذلك". وزعم الأخفش الصغير أن السبب في ذلك أن "من" لا تدخل على النوع، فلم يجز أن تقول: جاءني من رجل؛ لآنه لا يجوز أن يجيئك النوع. وما ذكره لا يطرد؛ بدليل أن العرب لا تقول: يموت من رجل، مع أن موت النوع كله لابد من وقوعه، وإنما السبب ما ذكرناه. وقوله وربما دخلت على حال مثاله قراءة زيد بن ثابت وأبي الدرداء وأبي جعفر وزيد بن علي والحسن ومجاهد (مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاءَ)، بفتح الخاء وضم النون، أي: أولياء. ومحسن ذلك انسحاب النفي عليه من حيث المعنى كما انسحب عليه في قراءة الجماعة حين كان مفعولاً، شبه ذلك بانسحاب النفي على الفعل المتعدي إلى مفعوله، كقوله تعالى: (مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ). وقوله وتنفرد من بجر ظروف لا تتصرف كقبل وبعد إلى وعلى اسمين زعم المصنف في الشرح أن من زائدة في نحو: من قبل، ومن بعد، ومن لدن، ومن عن، قال: ((لأن المعنى بثبوتها وسقوطها واحد)). وقد تقدم لنا الرد على من ذهب إلى أنها زائدة في: من قبل، ومن بعد، وأبدينا فرقاً لثبوتها لا يكون مع

سقوطها، وأنها لابتداء الغاية في قبل وبعد. وكذلك نقول في: من لدن، ومن عن: إنها فيهما لابتداء الغاية، فإذا قلت قعد زيد عن يمين عمرو فمعناه: ناحية يمين عمرو، واحتمل أن يكون قعوده ملاصقاً لأول ناحية يمينه، واحتمل ألا يكون ملاصقاً لأولها، فإذا قلت من عن يمينه كان ابتداء القعود نشأ ملاصقاً لأول الناحية. وذكر أن دخول من على عند ولدي ومع وعلى لابتداء الغاية، قال: "وعن بعد دخول من بمعنى جانب، وعلى بمعنى فوق، قال جرير: وإني لعفت الفقر مشترك الغنى ... سريع - إذا لم أرض داري - انتقاليا جريء الجنان، لا أهال من الردى ... إذا ما جعلت السيف من عن شماليا وقال آخر: من عن يميني مرت الطير سنحا ... وكيف سنوح واليمين قطيع وقال آخر: ولقد أراني للرماح دريئة ... من عن يميني تارة وأمامي" وقال آخر: فقلت للركب لما أن علا بهم ... من عن يمين الحبيا نظرة قبل وقال آخر:

فقلت: اجعلي ضوء الفراقد كلها ... يميناً، ومهوى النسر من عن شمالك وقال الراجز: جرت عليها كل ريح سيهوج ... من عن يمين الخط أو سماهيج وقد تجر "عن" بـ"على"، قال الشاعر: على عن يميني مرت الطير سنحا ... وكيف سنوح واليمين قطيع وقال آخر: وهيف تهيج البين بعد تجاوز ... إذا نفحت من عن يمين المشارق وقال آخر: هوى ابني من على شرف ... ......................................... وقال آخر:

غدت من عليه بعد ما تم ظمؤها ... تصل، وعن قيض بزيزاء مجهل وقال آخر: غدت من عليه تنفض الطل بعد ما ... رأت حاجب الشمس استوى، فترفعا وكان القياس أن يقول: من علاه، كما تقول: فتاه؛ لأن المقصور من الأسماء لا يتغير مع المظهر والمضمر، وإنما روعي أصلها. وزعم الفراء ومن وافقه من الكوفيين أن عن وعلى إذا دخلت عليهما من حرفان كما كانتا قبل دخولها؛ وزعموا أن "من" تدخل على حروف الجر كلها سوى من واللام والباء وفي. وجاز ذلك عندهم لأنها تسد مسد الاسم المخفوض، فإذا قلت: نظرت إلى زيد - فـ"إلى" عندهم تسد مسد "وجه زيد" أو ما جرى مجراه من المفعولات الخافضة لما يليها. وإذا قلت: زيد في الدار - نابت [في] مناب حال الدار، أو ساكن الدار، أو ناحية الدار، أو جانب الدار، وكذلك يفعلون بسائر الحروف. ولم تدخل على الباء واللام لقلتهما، ولا على "في" لأنها تدل على كل محل أنه موضع وليس باسم، فلما كان دخولها على الحرف يبعدها من مذاهب الأسماء كانت في أجدى أن تبعد من الأسماء. وقالوا: لو كانت عن وعلى اسمين إذا دخلت عليهما من كما يقوله البصريون لقيل: عندك مرغوب فيه، يعني به: ناحيتك مرغوب فيها. وهذا لا يلزم

كما لا يلزم في الأسماء؛ إذ فيها /ما لا يتصرف، نحو: ايمن الله، وسبحان الله، ومعاذ الله، ولا يلزم من كون "عن" في معنى ناحية أن يتصرف تصرف ناحية؛ إذ قد يكون الاسمان مترادفين، وأحدهما متصرف، والآخر غير متصرف، مثال ذلك: سبحان، نحو قوله: .................................... ... سبحان من علقمة الفاخر فـ"سبحان" لا يتصرف، ومعناه براءة، وبراءة يتصرف. ويبطل مذهب الفراء من أن عن وعلى إذا دخلت عليهما "من" باقية على أصلها من الحرفية أن من حرف خفض؛ وحروف الخفض لا يجوز قطعها عن الخفض، وإذا كان ذلك لا يجوز كانت عن وعلى في موضع خفض بها، وإذا كانتا في موضع خفض وجب أن تكونا اسمين؛ لأن الحرف لا موضع له من الإعراب. وما ذكروه من دخول "من" على حروف الجر كلها سوى ما استثنوا لا يعرفه البصريون، فإن ثبت كان ذلك دليلاً على أن جميع الحروف تكون أسماء سوى ما استثنوا. واستدل الأخفش على اسمية "على" بقول العرب: سويت علي ثيابي. ووجه الدلالة أنه قد تقرر أن فعل المضمر المتصل لا يتعدى إلى مضمره المتصل لا بنفسه ولا بواسطة؛ فلا تقول: زيد ضربه، تريد: ضرب نفسه، ولا فرحت بي، تريد: فرحت بنفسي، وفي "سويت علي" قد تعدى إلى ضميره المتصل، فوجب أن يعتقد في "على" أنها اسم؛ لأنه يجوز: سويت فوقي ثوبي، وسرت أمامي. قال بعض أصحابنا: وكذلك ينبغي أن يجعل "على" اسماً في قول الشاعر:

هون عليك، فإن الأمور ... بكف الإله مقاديرها للعلة التي ذكرها الأخفش. وكذلك في قوله: دع عنك نهبا صيح في حجراته ... ولكن حديثاً ما حديث الرواحل وهذا الذي ذهب إليه الأخفش وبعض أصحابنا لا يطرد، بل هو أمر غالب، لكنه قد جاء ذلك التعدي، قال تعالى: (وَهُزِّي إِلَيْكِ)، وقال تعالى: (وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ)، ومن كلامهم: ....... فيئي إليك ..................... ... ....................................... ولم يذهب أحد إلى أن "إلى" اسم، فكذلك نقول في: سويت علي، وفي: هون عليك، وفي: دع عنك: إنها حروف كـ"إلى"، لكن تلك التعدية قليلة، فلا تكون تلك التعدية دلالة على اسمية عن وعلى. وما ذكره المصنف من أن "على" إنما تكون اسماً إذا داخل عليها "من" هو مشهور قول البصريين. وذهب ابن الطراوة وابن طاهر وابن خروف وأبو علي الرندي وأبو الحجاج بن معزوز والأستاذ أبو علي في أحد قوليه إلى أنها لا

تكون حرفاً؛ وزعموا أن ذلك مذهب س؛ لقوله في "باب عدة ما يكون عليه الكلم": "وهو اسم، ولا يكون إلا ظرفاً". وقد صنف ابن معزوز جزءاً في عشرين ورقة استدل فيه على أن "على" لا تكون حرفاً بل اسماً. وأما من أثبت ذلك فاستدل بحذفها في ضرورة الشعر ونصب ما بعدها /على أنه مفعول به؛ نحو قوله: تحن، فتبدي ما بها من صبابة ... وأخفي الذي لولا الأسا لقضاني وقال: بخلت فطيمة بالذي يرضيني ... إلا الكلام، وقلما يجديني وقال الأفوه: ألا عللاني، واعلما أنني غرر ... وما - خلت - يجديني الشفاق ولا الحذر وما - خلت - يجديني أساتي وقد بدت ... مفاصل أوصالي، وقد شخص البصر وقال:

ما شق جيب، ولا ناحتك نائحة ... ولا بكتك جياد عند أسلاب وقال: كأنها واضح الأقراب في لقح ... أسمى بهن، وعزته الأناصيل أي: لقضى علي، وقلم يجدي علي، ويجدي علي الشفاق، ويجدي علي أساتي، ولا ناحت عليك، وعزت عليه، أي: اشتدت. وقد أجاز أبو الحسن حذفها في الكلام ونصب ما بعدها مفعولاً به، وجعل من ذلك قوله تعالى: (لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ)، أي: على صراطك. وهذا الاستدلال يمكن أن تتأول فيه الأفعال على تضمين ما لا يتعدى بعلى، فلا يتم الاستدلال. واستدل أيضاً من أثبت الحرفية بحذفها مع الضمير في الصلة، نحو: ركبت على الذي ركبت، ونحو قوله: فأصبح من أسماء قيس كقابض ... على الماء، لا يدري بما هو قابض أي: عليه. وقوله: وإن لساني شهدة، يشتفى بها ... وهو على من صبه الله علقم أي: عليه. ولو كانت اسماً لم يجز ذلك، لو قلت: قعدت وراء الذي قعدت، تريد: وراءه - لم يجز. وقال شيخنا أبو الحسين بن أبي الربيع: إذا قلت: جلست فوق زيد - لا يقتضي أنك باشرت زيداً؛ إذ قد تكون في ارتفاع وزيد تحتك، وإنما يطلب الفوق

مكاناً له بنسبة، فجئت بذلك لتخصصه، وجلست على زيد، (على) فيه موصلة الفعل إليه كما توصل حروف الجر، نحو: خرجت من الدار إلى المسجد، وكتبت بالقلم، فالقلم متعلق الكتب، والباء موصلته إليه، والعرب كثيراً ما تخرج الأضعف إلى الأقوى إذا لم يكن بينهما قرب، و (على) وإن خالفت (فوق) فهي قريبة منها؛ لأن (على) تدل على الاستعلاء، و (فوق) تدل على مكان لنسبة الاستعلاء، وقد تقول: جلست فوق زيد، كما تقول: على زيد، وإن كان ذلك لا يفهم من فوق، وإنما يفهم من أمر خارج، فلذلك لقرب أدخلوا عليها /من كما أدخلوها على فوق. وقوله وتختص إلى بالرب تقول: من ربي لأفعلن، ومن ربي إنك لإنسي، ولا يجوز ضم الميم إلا في القسم، ولا تجر غير الرب فيه. وذكر المصنف في باب القسم أن "من" مثلت الحرفين، يعني أنه بفتح الميم والنون، أو بكسرهما، أو بضمهما، لكن ظاهر كلامه هناك أن "من" هذه المثلثة الحرفين هي بقية من "أيمن" الداخلة على "الله" غالباً؛ فليست "من ربي" تلك، بل هذه حرف مختص بدخولها على الرب، فيكون هذا مذهباً ثالثاً، وفي المضمومة الميم، وهي أنها اسم بقية "أيمن" إذا كانت مثلثة الحرفين، وحرف إذا كانت مكسورة الميم أو مضمومتها. والنحويون قد ذكروا الخلاف في "مُن" المضمومة الميم، هل هي بقية أيْمُن، فهي اسم أو حرف جر: فالذي ذهب إلى أنها بقية ايْمُن استدل عل ىذلك بأن هذه الكلمة قد اتسعت فيها العرب بالتغيير والحذف؛ فقالوا: ايمن وايم وايم، فـ"من" بقية "ايمن"، وهذا أولى من جعلها حرف خفض؛ لأنه لم يستقر ذلك في موضع من المواضع.

واستدل من ذهب إلى حرفيتها بدخولها على "الرب"، وهم لا يدخلون ايمن على الرب، فلو كانت بقية ايمن لما دخلت على الرب. وبأنها لو كانت بقية ايمن لكانت معربة؛ لأن المعرب لا يزيله عن إعرابه حذف شيء منه، فبناؤها على السكون دليل على حرفيتها وأنها ليست بقية ايمن. وقوله والتاء واللام بـ"الله" أي: مختصان بـ"الله"، فتقول: تالله ليكونن كذا، ولله لا يبقى أحد. وقوله وشذ فيه: من الله، وتربى أي: شذ في القسم دخول من على "الله"، وشذ دخول التاء على "الرب"، روى ذلك الأخفش. وما ذكره من شذوذ "من الله" لم يذكره المبرد على سبيل الشذوذ، قال المبرد في "المدخل": "وتقول: لله لأفعلن، ومن الله لأفعلن، ومن ربي لأفعلن". وقال المبرد أيضاً: "وإنما دخلت اللام ومن - يعني في القسم - لأن حروف الخفض يبدل بعضها من بعض، نحو: فلان بمكة، وفي مكة، (وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ)، أي: على جذوع النخل". وقال ابن عصفور في "الشرح الكبير": "وتاء القسم لا تجر إلا اسم الله تعالى، وذلك أنها لا تجر إلا بحق العوضية؛ لأنها عوض من الواو التي أبدلت من الباء، فلم يتصرف فيها، واقتصر على اسم الله، وقد حكى دخولها على الرب، قالوا: ترب الكعبة لأفعلن، وذلك قليل جداً". وقال في "المقرب": "إن التاء تجر اسم الله، وقد حكى دخولها على الرب، ولم يتعرض لقلة ولا شذوذ" انتهى. وقالوا: تالرحمن، وتحياتك.

-[ص: ومنها "إلى" للانتهاء مطلقاً، وللمصاحبة، وللتبيين، ولموافقة اللام، وفي، ومن، ولا تزاد، خلافاً للفراء.]- ش: قال المصنف في الشرح: "أردت بقولي للانتهاء مطلقاً شيئين: أحدهما عموم الزمان والمكان، كقولك: سرت إلى آخر النهار، وإلى آخر المسافة. والثاني أن منتهى العمل بها قد يكون آخراً وغير آخر، نحو: سرت إلى نصف النهار، وإلى نصف المسافة" انتهى. وهذا الذي ذكره من أن "إلى" منتهى لابتداء الغاية هو مذهب س والمحقيين، /وظاهر كلام الفارسي يخالفه؛ لأنه قال: "وإلى معناها الغاية"؛ لأن غاية الشيء في اللغة هي مداه، و"إلى" لا تدخل على ما تكون فيه غاية للفعل، وإنما تدخل على ما يكون منتهى لابتداء غاية الفعل. وكلام الفارسي راجع إلى ما ذكره النحويون؛ لأنه إذا جعلت للغاية فهم أن جملة الفعل قد وقعت من أجل أن انتهاء الفعل لا يتصور إلا بوقوع الفعل بجملته، ولا يجوز أن يقال فيها: إنها غاية، بمعنى أنها دخلت على ما يقع فيه ابتداء الفعل وانتهاؤه؛ لأن ذلك لم يثبت فيها. فأما دعوى ابن خروف ذلك، واستدلاله بقوله تعالى: (وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِلَى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ) قال: "لأن الأمة المعدودة هي الزمان الذي وقع فيه تأخير العذاب لا الزمان الذي وقع فيه نهاية تأخيره؛ ألا ترى أن المعنى: ولئن أخرنا

عنهم العذاب أمة معدودة" - فدعوى غير صحيحة؛ لأنه يجوز فيها أن تكون إلى لانتهاء الغاية على تقدير حذف مضاف، أي: إلى انقضاء أمة معدودة، وحذف المضاف سائغ إذا دل عليه معنى الكلامن ووجب حمل الآية على ذلك لأن الثابت في كلام العرب أن تكون إلى داخلة على ما يكون منتهى لابتداء غاية الفعل؛ وإذا ثبت أن إلى تكون لانتهاء الفعل فجائز أن تقع على أول الحد، فلا يكون الفعل فيما بعدها. وجائز أن يكون الفعل فيما بعدها، ولكن يمتنع أن يجاوز الفعل ما بعدها؛ لأن النهاية غاية، وما كان بعده شيء لم يسم غاية. وما ذكره المصنف في الشرح من أن منتهى العمل بها قد يكون آخراً وغير آخر فيه تفصيل واختلاف، فنقول: "إلى" إما أن يقترن بما بعدها قرينة تدل على أنه داخل في حكم ما قبلها أو خارج عنه، إن اقترن بذلك قرينة كان على حسبها، نحو قول الشاعر: وصرنا إلى الحسنى، ورق كلامنا ... ورضت، فذلت صعبة أي إذلال ألا ترى أنه قد دخل في الحسنى. ونحو قولهم: اشتريت الشقة إلى طرفها، فالطرف داخل في الشقة؛ إذ لم يعهد أن الإنسان يشتري الشقة دون طرفها. ونحو و (أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ)، واشتريت الفدان إلى الطريق، فالليل غير داخل في الصوم، والطريق غير داخل في الشراء. وإن لم يقترن به قرينة فالذي عليه أكثر المحققين أنه لا يدخل في حكم ما قبله؛ فإذا قال اشتريت البستان إلى الشجرة الفلانية لم تدخل الشجرة في المشترى.

وذهب بعض النحويين إلى أنها تدخل إذا انتفت القرينة. وقال عبد الدائم القيرواني: "إذا لم تكن قرينة، وكان ما بعدها من جنس ما قبلها - فيحتمل أن يدخل وألا يدخل، والأظهر أنه لا يدخل". والصحيح المذهب الأول؛ لأن الأكثر في كلامهم إذا اقترنت قرينة ألا يدخل ما بعدها في حكم ما قبلها، تقول: ذهبت إلى زيد، ودخلت إلى بكر، وقمت إليك، فلا يكون ما بعدها داخلاً في الفعل الذي قبلها في شيء من ذلك ولا في أمثاله، وقد يكون بخلاف ذلك، فإذا عري عن القرينة وجب الحمل على الأكثر. وأيضاً فإن ما بعدها منتهى/ لما قبلها، والشيء لا ينتهي ما بقي منه شيء، إلا أن يتجوز فيجعل القريب من الانتهاء انتهاء، وإذا كان ذلك مجازاً وجب أن يحمل على أنه غير داخل؛ لأنه لا يحمل على المجاز ما أمكنت الحقيقة، إلا أنه تقترن قرينة ترجح المجاز عليها، فيحمل عليه. وقوله وللمصاحبة هذا مذهب الكوفيين، نقله ابن عصفور عنهم وابن هشام، وزاد: "وكثير من البصريين". وقاله المفسرون في قوله تعالى (مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ). قال الفراء: "وهو وجه حسن". قال الفراء: "وإنما تجعل (إلى) كـ (مع) إذا ضممت شيئاً إلى شيء، كقول العرب: الذود إلى الذود إبل، فإن لم يكن ضم لم يكن الجمع، فلا يقال في: مع فلان مال كثير: إلى فلان مال كثير". وأنشد المصنف على مجيئها بمعنى مع قول الشاعر:

برى الحب جسمي ليلة بعد ليلة ... ويوماً إلى يوم، وشهراً إلى شهر وقال آخر: ولقد لهوت إلى كواعب كالدمى ... بيض الوجوه، حديثهن رخيم وقال آخر: وإن امرأً قد عاش تسعين حجة ... إلى مئة لم يسأم العيش جاهل وقال آخر: فلم أر عذراً بعد عشرين حجة ... مضت لي، وعشر قد مضين إلى عشر وقد استدل على ذلك أيضاً بقوله: (وَلَا تَاكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ)، وبقول امرئ القيس: له كفل كالدعص، لبده الندى ... إلى حارك مثل الغبيط المذأب وبقول ابن مفرغ: شدخت غرة السوابق فيهم ... في وجوه إلى اللمام الجعاد أي: مع اللمام.

قال بعض شيوخنا: "ذهب البصريون في هذا إلى التضمين، وهو الصحيح". يعني: فتبقى "إلى" على حكمها من انتهاء الغاية، أي: لا تضموا أموالهم إلى أموالكم، فيكون سبباً لأكلها، لما كان المراد ألا يخلط مال اليتيم بماله، وأن يبرزه، محافظة على أن ينمى ولا يتعدى فيه - أتى بـ"إلى" ليدل على هذا المعنى، وهذه فائدة لا تكون مع "مع". و (مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ) المعنى: من يضيف نصرته لي إلى نصرة الله، ولو قلت من ينصرني مع فلان لم يدل على أن فلاناً وحده ينصرك ولابد، بخلاف إلى، فإن نصرة ما دخلت عليه محققة واقعة مجزوم بها؛ إذ المعنى على التضمين: من يضيف نصرته إلى نصرة فلان. وأما "له كفل" البيت. أي: كفل مضاف إلى حارك؛ لأنه بإضافة حارك على هذه الصفة إلى الكفل حسن الحارك - فلو كان الحارك منخفضاً /والكفل هكذا لكان الفرس قبيحاً، وهذا المعنى لا تحرززه مع؛ لأنه لو قال: له كفل مع حارك - لم يكن فيه إلا أن له عضوين حسنين ليس أحدهما شرطاً في زينة صاحبه. وقال ابن عصفور: أي: ولا تضيفوا أكل أموالهم إلى أموالكم، ومن ينضاف في نصرتي إلى الله. وفي قوله تعالى (إِلَى نِسَائِكُمْ): الإفضاء إلى نسائكم؛ إذ لو لم يكن مضمناً لكان: الرفث بنسائكم، أو: مع نسائكم؛ لأنه إنما يقال: رفث بالمرأة، أو مع المرأة. والذود مضافاً إلى الذود إبل. (وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ)، أي: ساروا إلى شياطينهم.

وأما بيت ابن مفرغ فالمعنى: شدخت غرة السوابق في وجوههم إلى اللمام، أي: ملأت اللمام، أي: ملأت الوجه حتى انتهت إلى اللمم. وقولهم: إن فلاناً لظريف عاقل إلى حسب ثاقب، تقديره: إن فلاناً ينضاف ظرفه وعقله إلى حسب ثاقب. قال: "ولو كانت إلى بمعنى مع لساغ أن تقول: زيد إلى عمرو، تريد: مع عمرو، فلما لم تقل العرب ذلك وأمثاله دل على أنها ليست بمعنى مع، فوجب أن يتأول جميع ذلك". وقوله وللتبيين قال المصنف في الشرح: "نبهت بقولي وللتبيين على المتعلقة في تعجب أو تفضيل بحب أو بغض مبينة لفاعلية مصحوبها، كقوله تعالى: (قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ)، وكقول النبي صلى الله عليه وسلم: (وايم الله، لقد كان خليفاً للإمارة، وإن كان من أحب الناس إلي) " انتهى. وتقدم له ذكر ذلك في "باب التعجب". وقوله ولموافقة اللام قال المصنف في الشرح: "أشرت بموفقة اللام إلى نحو (وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ)، واللام في هذا هو الأصل، كقوله تعالى (لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ)، (وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ)، و (هَلْ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ).

ومثل "إلى" من (وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ) فيم وافقة اللام "إلى" المعدية بعد الهدى، كقوله تعالى: (يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ)، فإنها موافقة للام (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا)، وللام (قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ)، و (إِنَّ هَذَا الْقُرْآَنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ) " انتهى. ولا يتعين في قوله (وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ) أن تكون بمعنى اللام، بل هي باقية على معناها من الغاية، أي: الأمر مضاف إليك ومنته إلى رأيك، لما استفتتهم في أمر سليمان عليه السلام، وجعلتهم أهل شورى، وأجابوا بأنهم أولو قوة وأولو بأس شديد، فلنا مقاومة بمن عاداك - أضافوا الأمر إليها أدباً مع ملكتهم، فقالوا (وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ) لما قالت (أَفْتُونِي فِي أَمْرِي). قال ابن عصفور: "وقد تكون إلى لانتهاء الغاية في الأسماء كما تكون لانتهاء الغاية في الأفعال، في نحو قولك: إنما أنا إليك، أي: أنت غايتي". ومن ذلك قوله تعالى: (فَهِيَ إِلَى الْأَذْقَانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ)، المعنى: فأيمانهم إلى الأذقان، أي: مضمومة إلى الأذقان، وعاد الضمير على الأيمان، ولم تذكر من جهة أن الغل لا يكون إلا في /اليمين والعنق جميعاً، فكفى ذكر أحدهما من صاحبه، كما قال (فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ)، فضم الورثة إلى الوصي، ولم يذكروا لأن الصلح إنما يقع بين الوصي والورثة. ويدل

على أن الضمير ضمير الأيمان قراءة عبد الله: (إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلَالًا فَهِيَ إِلَى الْأَذْقَانِ)، فكفت الأيمان من ذكر الأعناق في قراءة عبد الله كما كفت الأعناق عن ذكر الإيمان في قراءة العامة. وقوله وفي أنشد المصنف شاهداً على أن "إلى" تكون بمعنى "في" قول النابغة: فلا تتركني بالوعيد كأنني ... إلى الناس مطلي به القار أجرب وقول النمر: إذا جئت دعداً لا أبين كأنني ... إلى آل دعد من سلامان أو نهد سلامان: من طيئ، ونهد: من قضاعة. وأنشد غيره لطرفة: وإن يلتق الحي الجميع تلاقني ... إلى ذروة البيت الرفيع المصمد واستدلوا أيضاً بقوله تعالى (هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى)، وبقول العرب: جلست إلى القوم، أي: فيهم. قال ابن عصفور: "لو كانت إلى بمعنى في لساغ أن تقول: أدخلت الخاتم إلى إصبعي، وزيد إلى الكوفة، أي: في إصبعي، وفي الكوفة، فلما لم تقل العرب ذلك

وجب أن يتأول جميع ذلك. فأما الآية فإنه لما كان قوله (هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى) دعاء منه - عليه السلام - لفرعون صار تقديره: أدعوك إلى أن تزكى. وضمن مطلياً معنى مبغض؛ لأن الجمل الأجرب المطلي بالقطران يبغضه الناس، ويطردونه خوفاً من عدواه، فأجراه في التعدي مجراه. وكذلك التقدير: وجدتني آوياً إلى ذروة. وجلست مضافاً إلى القوم. وكونها بمعنى في مذهب كوفي" انتهى. وقوله "من سلامان أو نهد" هما عدوان لآل دعد، فالمعنى: كأنني بغيض إلى آل دعد، كما قال: لقد زادني حباً لنفسي أنني ... بغيض إلى كل امرئ غير طائل قيل: ومنه (لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ)، قالوا: التقدير في الناس، وفي آل دعد، وفي ذروة، وفي يوم القيامة. وهذا الذي ذهب إليه المصنف هو قول القتبي، واستدل بيتي النابغة وطرفة. وقال بعض شيوخنا: هي لانتهاء الغاية، كأنه قال: وجدتني مضافاً إلى ذروة المجد. وكذلك: كأنني إلى الناس، أي: إنني أشبه الجمل المطلي إذا أخذت مضافاً إلى الناس، ولا أشبهه في غير تلك الحالة، فـ (إلى) متعلق بـ (مضاف)، وحذف لدلالة الكلام عليه بمنزلة قوله تعالى (إِلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ)، ويكون المضاف المحذوف منصوباً على الحال، /والعامل ما في كأن من التشبيه.

وقوله ومن هذا أيضاً قول الكوفيين والقتبي، زعم أن "إلى" تكون بمعنى "من"، وأنشد هو والمصنف في الشرح وغيرهما شاهداً على ذلك قول ابن أحمر: تقول وقد عاليت بالكور فوقها ... أيسقى، فلا يروى إلى ابن أحمرا أي: فلا يروى مني. ويتخرج على التضمين، أي: فلا يأتي إلي للرواء؛ لأنه إذا كان لا يروى ولا يشفى غلته لم يأت إليه. وخرجه ابن عصفور على أنه أراد: يسقى فلا يروى ظمؤه إلي، فحذف المضاف، وأقام الضمير مقامه، فاستتر في الفعل. والعامل في "إلي" ظمأ المحذوف، كقولهم: البر أرخص ما يكون قفيزان بدرهم، أي: ملء قفيزين، فالعامل في أرخص ملء المحذوف، ولا يمكن أن يعمل البر ولا القفيزان لجمودهما، ويكون من عمل ظمأ وهو مصدر محذوف، وذلك يجوز في الضرورة. وقوله ولا تزاد خلافاً للفراء زعم الفراء أنها زائدة في قراءة بعضهم (فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ) بفتح الواو، ونظرها باللام في قوله تعالى (رَدِفَ لَكُمْ).

قال المصنف في الشرح: "وأولى من الحكم بزيادتها أن يكون الأصل تهوي، فجعل موضع الكسرة فتحة، كما يقال في رضي: رضا، وفي ناصية: ناصاة، وهي لغة طائية، وعليها قول الشاعر: نستوقد النبل في الحضيض، ونصـ ... ـطاد نفوساً بنت على الكرم" انتهى. وهذا تخريج لا يجوز؛ لأنه ليس كل ما آخره ياء قبلها كسرة يجوز إبدالها ألفاً وفتح ما قبلها، فليس من لغة طيئ أن تقول في يجري: يجرى، ولا في يرمي: يرمى، ولا في يشتري: يشترى، وقد نقدنا عليه ذاك في قوله في آخر فصل من فصول التصريف، في قوله: "وفتح ما قبل الياء الكائنة لاماً مكسوراً ما قبلها وجعلها ألفاً لغة طائية"، وبينا أن ذلك ليس على إطلاقه، وإنما هو مخصوص بنحو رضي وبنحو الناصية فقط. وتتخرج هذه القراءة على تضمين تهوى معنى تميل؛ لأن من هوي شيئاً مال إليهه، فكأنه قيل: تميل إليهم بالمحبة والهوى. وزعم الكوفيون والقتبى أن "إلى" تكون بمعنى "عند"، تقول: هو أشهى إلي من كذا، أي: عندي، قال أبو كبير الهذلي: أم لا سبيل إلى الشباب، وذكره ... أشهى إلي من الرحيق السلسل قال: أراد: أشهى عندي. وأنشد غيره قوله:

لعمرك إن المس من أم خالد ... إلي - وإن أوقعته - لبغيض وقال: ثقال إذا راد النساء، خريدة ... صناع، فقد سادت إلى الغوانيا وقال حميد بن ثور الهلالي: ذكرتك لما أتلعت من كناسها ... وذكرك سبات إلي عجيب لما أتلعت: رفعت رأسها، يعني غزالة، والسبات: الأوقات، واحدها سبة. وقال آخر: فكان إليها كالذي اصطاد بكرها ... شقاقاً وبغضاً، أو أطم وأهجرا أي: فكان عندها. وخرج قوله "أشهى إلي" على التضمين بمعنى: أقرب إلى اشتهاء. وخرج أيضاً على التضمين، ضمن أشهى معنى أحب. و"سادت" معنى: صارت أحب الغواني إلي. و"بغيض" تعدى إلى قوله "إلي". وأما "فكان إليها" فمتعلق بمضمر تقديره: فكان كرهها إلي؛ لأنه يصف بقرة وحشية أكل السبع ولدها، فتعرض لها ثور كرهته لحزنها على ولدها ككراهية السبع الذي اصطاده، أو أعظم من كراهتها له. وزعم الأخفش أن "إلى" تأتي بمعنى الباء، وخرج على ذلك قوله تعالى (وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ)، (وَإِذَا خَلَا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ)، أي: بشياطينهم،

وببعض. وتقول: خلوت إلى فلان في حاجة، أي: بفلان. ويتخرج ذلك على التضمين أيضاً، أي: وإذا انتهوا إلى شياطينهم في الخلوة. -[ص: ومنها اللام للملك وشبهه، وللتمليك وشبهه، وللاستحقاق، وللنسب، وللتعليل، وللتبليغ، وللتعجب، وللتبيين، وللصيرورة، ولموافقة "في" و"عند" و"إلى" و"بعد" و"على" و"من". وتزاد مع مفعول ذي الواحد قياساً في نحو: (لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ)، و (إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ)، وسماعاً في نحو: (رَدِفَ لَكُمْ). وفتح اللام مع المضمر لغة غير خزاعة، ومع الفعل لغة عكل وبلعنبر.]- ش: مثال اللام للملك: المال لزيد. ومثالها لشبه الملك: أدوم لك ما تدوم لي، وقال الشاعر: ما لمولاك كنت كان لك المو ... لى، ومثل الذي تدين تدان ومن هذا النوع المفهمة ما يحب مقابلة لـ"علي"، كقوله تعالى (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا)، وكقول الشاعر: فيوم علينا، ويوم لنا ... ويوم نساء، ويوم نسر ومثال لام التمليك: وهبت لزيد ديناراً. ومثال شبه التمليك (وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً). ومثال لام الاستحقاق: الجلباب للجارية، والجل للفرس. ومثال لام النسب: لزيد عم هو

لعمرو خال، ولعبد الله ابن هو لجعفر حم. ومثال لام التعليل (لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ)، و (لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ)، وقول لشاعر: ولو سألت للناس يوماً بوجهها ... سحاب الثريا لاستهلت مواطره والجارة اسم من غاب حقيقة أو حكماً عن قائل قول يتعلق به، نحو (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آَمَنُوا لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ)، أي: من أجل، (وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ)، (الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا)، (وَقَالَتْ أُولَاهُمْ لِأُخْرَاهُمْ)، (وَلَا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ)، وقول لشاعر: وقولك للشيء الذي لا تناله ... إذا ما هو احلولى: ألا ليت ذا ليا وقال آخر: كضرائر الحسناء، قلن لوجهها ... حسداً وبغياً: إنه لدميم ومثال التبليغ وهي الجارة اسم سامع قول أو ما في معناه نحو: قلت له، وبينت له، وفسرت له، وأذنت له، واستجبت له، وشكرت له، ونصحت له، إلا

أن هذين قد يستغنيان عن اللام، فيقال: شكرته ونصحته، والمختار تعديتهما باللام، وبه نزل القرآن. ومثال التعجب قول الشاعر: شباب وشيب وافتقار وثروة ... فلله هذا الدهر كيف ترددا ومثله: فلله عينا من رأى من تفرق ... أشت وأنأى من فراق المحصب واللام في القسم بابها التعجب، وقد استعملها بعض العرب مع غير التعجب فيه، حكاه س في آخر "باب الإضافة إلى المحلوف به"، قال س: "ويقول بعض العرب: لله لأفعلن". ومثال التبيين - وهي الواقعة بعد أسماء الأفعال والمصادر التي تشبهها مبينة لصاحب معناها، والمتعلقة بحب في تعجب أو تفضيل مبينة لمفعولية مصحوبها - نحو (هَيْتَ لَكَ)، و (هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ)، وما أحب زيداً لعمرو! (وَالَّذِينَ آَمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ). ومثال لام الصيرورة (فَالْتَقَطَهُ آَلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا)، وقول الشاعر:

فللموت تغدو الوالدات سخالها ... كما لخراب الدور تبنى المساكن ومثله: لا أرى حصناً سينجي أهله ... كل حي لفناء ونفد وموافقة "في" (وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ)، (لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ)، وقال مسكين الدرامي: أولئك قومي قد مضوا لسبيلهم ... كما قد مضى لقمان عاد وتبع [و]: وكل أب وابن وإن عمرا معاً ... مقيمين مفقود لوقت وفاقد وموافقة "عند" كقراءة الجحدري: (بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ)، قال أبو الفتح: "أي عند مجيئه إياهم، كقولك: كتب لخمس خلون". وأنشد غير المصنف للعجاج: تسمع للجرع إذا استحيرا ... للماء في أجوافها خريرا /أي: عند الجرع، والاستحارة: الجرع، والخرير: صوت الماء. وموافقة "إلى" (سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ)، (كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى).

وموافقة (بعد) (أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ)، أي: بعد زوالها، وقال: فلما تفرقنا كأني ومالكا ... لطول اجتماع لم نبت ليلة معاً أي: بعد طول اجتماع. وموافقة "علي" (يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا)، و (دَعَانَا لِجَنْبِهِ)، (وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ)، وقال الشاعر: تناوله بالرمح، ثم أنني له ... فخر صريعاً لليدين للفم وموافقة "من" كقول جرير: لنا الفضل في الدنيا، وأنفك راغم ... ونحن لكم يوم القيامة أفضل أي: ونحن منكم. ومثله ما أنشده ثعلب: وإن قرين السوء لست بواجد ... له راحة ما عشت حتى تفارقه أي: بواجد منه راحة. وقال: إذا الحلم لم يغلب لك الجهل لم تزل ... عليك بروق جمة ورواعد

انتهت مثل معاني لام الجر، وهي منقولة من شرح المصنف باختصار. فأما أن اللام تكون للاستحقاق فهي عبارة س. وعبر عن هذا المعنى الفارسي بالتحقيق، ويريد به أن الشيء حق لهذا، فقولهم: سرج للدابة، أي: حق للدابة أن يكون لها سرج. وقال المبرد: "معنى اللام جعل الأول لاصقاً بالثاني". وأبطل ذلك بأنها لو كانت للإلصاق لكانت بمعنى الباء؛ لأنها تجعل الأول لاصقاً بالثاني في نحو: أمسكت بزيد، وسطوت بعمرو، وللزم أن تستعمل حيث استعملت الباء، فتقول: سطوت لزيد، ولا يقال ذلك، فدل على بطلانه. قال بعض أصحابنا: والصحيح ما قاله س من أنها للاستحقاق، وهو معناها العام؛ لأنه لا يفارقها، وإنما جعلت للملك لأنه ضرب من الاستحقاق، وقد تدخلها مع ذلك معان أخر. وأما كونها للصيرورة - ويعبر عنها أيضاً بالعاقبة والمآل - فأورد ذلك أصحابنا على أنه مذهب مردود، وهو منسوب للأخفش. وتقرير مذهبه أن الالتقاط لم يكن لكونه عدواً لهم وحزناً، بل الالتقاط كان ليكون حبيباً وولداً، فآل أمره إلى أن كان لهم عدواً، فاللام للصيرورة. ورد بأنه حذف السبب وأقيم المسبب مقامه. وأما كونها بمعنى "على"، وبمعنى "مع"، وبمعنى التعليل، وبمعنى "بعد"، وبمعنى "من"، وبمعنى "في"، وبمعنى "إلى" - فهو مذهب الكوفيين، وتبعهم القتبي.

وأما كونها بمعنى "على"، وبمعنى "مع"، وبمعنى التعليل، وبمعنى "بعد"، وبمعنى "من"، وبمعنى "في"، وبمعنى "إلى" - فهو مذهب الكوفيين، وتبعهم القتبي. وأرادوا من كونها بمعنى "على" قوله تعالى (لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا)، (وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا)، (وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ)، (ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ)، (وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ)، وفي الحديث: (واشترطي لهم الولاء). ومن كونها بمعنى "بعد" (صوموا لرؤيته). وبمعنى "إلى": أوحى له، أي: إليه. وتأول ما استدلوا به بعض شيوخنا، فأما: .............................. ... فخر صريعاً لليدين وللفم وما أنشده القتبي من قول الشاعر:

كأن مخواها على ثفناتها ... معرس خمس، وقعت للجناجن فلما كانت اليدان تتقدمان سائر البدن صار ذلك شبيهاً بما يسقط بسقوط غيره؛ فدخلت اللام لملاحظة ذلك الشبه. وبهذا يتأول - والله أعلم - (وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ). وأما "لطول اجتماع" واستدلالهم بأن المعنى: بعد طول اجتماع - فإنما يريد: كأني ومالكاً لم نجتمع، وأوجب له هذا القول وهذا الشبه طول اجتماعهم قبل ذلك، ولولا الاجتماع قبل لما صح أن يقول: كأني ومالكاً لم نبت ليلة معاً، فكأنه قال: أشبهت من لم يجتمع لأجل ما كان منا من طول اجتماع، ولولا ذلك لم يقل أشبهت. وأما كونها للتعليل في نحو: فعلت ذلك لك، أي: من أجلك، وقول العجاج: تسمع للجرع إذا استحيرا ... للماء في أجوافها خريرا ففيها معنى الملك؛ لأن الشيء إذا وقع بسبب الشيء ومن أجله فهو له. وأما: كتبته لثلاث خلون، وقول الراعي: حتى وردن لتم خمس بائص ... جداً، تعاوره الرياح، وبيلا وقوله: خط هذا الكتاب في يوم سبت ... لثلاث خلون من رمضان

فلأنها لم تخل من معناها؛ لأن الكتب صار متصلاً بالثلاث، و"بعد" لا يفهم ذلك؛ لأنك إذا قلت كتبت بعد كذا لم تقتض الاتصال، وكتبت لثلاث معناه الاتصال بالثلاث، فلما كان لمضي الثلاث وقع الكتب، فكأنها أوجبت الكتب من حيث إنه وجد عندها، فصار شبيهاً بما وجد بوجود غيره، وهذا من طريق الاستعارة لما بينهما من الشبه. وقال بعض شيوخنا: "اختلف الناس في زيادتها، فأما س فلم يذكر ذلك، وتابعه عليه أبو علي. وذهب أبو العباس إلى زيادتها، واستدل بقوله تعالى: (قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ)، المعنى: ردفكم، وبقوله: (إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ)؛ لأنك تقول: عبرت الرؤيا، ولا تقول: عبرت للرؤيا، كما لا تقول: ضربت لزيد. ثم تأوله على تضمين ردف معنى تهيأ" انتهى. قال: وفي كتاب البخاري: ردف بمعنى قرب. وهذا يدل على أن مأخذه فيه التضمين. وأما (لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ) فهو مقو لوصول الفعل إلى الاسم لتقدمه، فإذا تأخر /عنه الفعل ضعف، فاحتيج إلى حرف يصل به. ويدلك على أن الفعل إذا تأخر ضعف قولهم: زيد ضربت، ولا تقول: ضربت زيد. قال بعض أصحابنا: إنما معناها العام الاستحقاق، وإنما جعلها النحويون للملك لأنه ضرب من الاستحقاق، والتي تداخلها مع الملك والاستحقاق معان أخر، فإن الداخل منها على الاسم الصريح خمسة أنواع:

أن تكون للسبب؛ ألا ترى أن المسبب مستحق بسببه. وللقسم إذا كان في الكلام معنى التعجب، نحو: لله لا يبقى أحد؛ ألا ترى أن اسم الله - تبارك وتعالى - مستحق لأن يقسم به. والاستغاثة أو ما يجري مجراها - وهو التعجب - ألا ترى أنه مستحق لأن يستغاث به ولأن يتعجب منه. ولتقوية عمل العامل، وهي الداخلة على المفعول إذا تقدم على العامل فيه. وزائدة في باب "لا"، وباب النداء، [نحو]: لا أبا لك، ويا بؤس لزيد، وفي نحو: ضربت لزيد، ونحو قوله: وملكن ما بين العراق ويثرب ... ملكاً أجار لمسلم ومعاهد وأنشد الفراء: يذمون للدنيا وهم يرضعونها ... أفاويق حتى ما يدر لها ثعل وقول الآخر: فلما أن تواقفنا قليلاً ... أنخنا للكلاكل، فارتمينا وقد يجيء ذلك في الكلام إلا أنه قليل لا يقاس عليه، قال تعالى (قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ).

ومما استدل به الكوفيون على أن اللام تكون بمعنى "إلى" قوله تعالى: (بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا)، وقال تعالى: (وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ)، وبقول العرب: أوحى له، وأوحى إليه، بمعنى واحد، وبقولهم: هداه لكذا، وهداه إلى كذا. وتأول على أنه إذا عدي بإلى أوحى كان بمعنى: أشار، ومنه: فأوحت إلينا، والأنامل رسلها ... ........................................... أي: أشارت. وبمعنى: أرسل، يقال: أوحى إليه بكذا، أي: أرسل إليه. وبمعنى: ألهم، قال تعالى (وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ)، أي: ألهمها؛ لأن الإلهام إشارة في المعنى. ويكون أوحى بمعنى: أمر، فيتعدى إذ ذاك باللام، ومنه (بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا)، أي: أمرها. وإنما تعدت باللام إذا كانت بمعنى أمر لأن أمر الله - تعالى - للأرض قول في المعنى، قال تعالى: (إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ)، فكأنه قال: بأن ربك قال لها: حدثي أخبارك. وكذلك هدى، تكون بمعنى: وفق، فتتعدى إذ ذاك تعديها باللام، فيقال: هداه الله للدين، المعنى: وفقه الله للدين. وبمعنى: بين، فتتعدى تعديها، قال تعالى: (أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ)، قال أبو عمرو بن العلاء: معناه أولم يبين لهم. وقد تكون بمعنى: عرف، فتتعدى إذ ذاك إلى مفعولين بنفسها، فتقول: هديته /الطريق، أي:

عرفته الطريق، قال تعالى: (وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ). ولا يعديها إلى مفعولين بنفسها إلا أهل الحجاز، وغيرهم من العرب يقول: هديتهم للطريق، يجعلونها بمعنى أرشدتهم. ولا ينكر اختلاف تعدي الفعل بسبب ما يشرب من المعاني؛ ألا ترى أنهم يستعملون "بكيت" غير متعد إذا أشربوه معنى "نحت"؛ لأن البكاء نوح في المعنى، وقد يقال: بكيت زيداً، فيتعدى إلى مفعول واحد إذا أشرب معنى رثيت، وإلى مفعولين، فيقال: بكيت زيداً دماً، يضمنونه معنى: أتبعت زيداً دماً. والدليل على أن دماً مفعول به قوله: ولو شئت أن أبكي دماً لبكيته ... عليك، ولكن ساحة الصبر أوسع فإضماره يدل على أنه ليس من جنس التمييز. وتأول "فخر صريعاً لليدين وللفم"، و"وقعت للجناجن" على أن اللام تتعلق بمحذوف، أي: مقدماً لليدين، ووقعت مقدمة للجناجن. وأما بيت متمم فتقديره: لفقد طول اجتماعنا، أو لانقطاع طول اجتماعنا. وأما كتبته لثلاث خلون فهو على تقدير: لانقضاء ثلاث، ولانقضاء تم خمس. وقوله وتزاد مع مفعول ذي الواحد قياساً قال المصنف في الشرح: "ومن لامات الجر الزائدة، ولا تزاد إلا مع مفعول به بشرط أن يكون عامله متعدياً إلى واحد، فإن كانت زيادتها لتقوية عامل ضعف بالتأخر، نحو (إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ)، أو بكونه فرعاً في العمل، نحو (إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ) - جاز

القياس على ما سمع منها. وإن كانت بخلاف ذلك قصرت على السماع، نحو (رَدِفَ لَكُمْ)، ومنه قول الشاعر: ومن يك ذا عود صليب رجا به ... ليكسر عود الدهر فالدهر كاسره" انتهى. وقد تقدم الكلام على كونها تكون زائدة والخلاف في ذلك بين س وأبي العباس. وقوله وفتح اللام مع المضمر لغة غير خزاعة يعني أن لغة العرب غير خزاعة فتح اللام مع المضمر، نحو: لنا، ولكم، ولها، وله. وأما خزاعة فلام الجر عندهم مكسورة كما هي إذا دخلت على المظهر، تقول: لنا، ولكم، ولها وله. وكان ينبغي للمصنف أن يستثني من صور المضمر ياء المتكلم، فإن اللغتين اتفقتا على كسر اللام معها، فيقولون: لي. ودل كلام المصنف بالمفهوم من نصه هذا أن المظهر متفق على كسر اللام إذا دخلت عليه؛ وقد نص هو في الشرح على ذلك، قال فيه: "وكل العرب يفتحون لام الجر الداخلة على مضمر إلا خزاعة، فإنها تكسرها مع المضمر كما تكسر مع غيره في اللغات كلها" انتهى. وليس كذلك، بل الكسر مشهور كلام العرب إلا مع المستغاث به غير المعطوف على غيره بغير تكرير ياء فالفتح. وحكى أبو عمرو ويونس وأبو عبيدة

وأبو الحسن أنهم سمعوا العرب تفتحها مع الظاهر على الإطلاق، فيقولون: المل لزيد، بفتح الام. /وما حكاه المصنف عن خزاعة أنها تكسر مع المضمر حكاه اللحياني عن بعض العرب، يقولون: المال له، كما يقولون: به، وذلك قليل جداً. وقوله ومع الفعل لغة عكل وبلعنبر قال أبو زيد: سمعت من يقول: (وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ) بفتح اللام، وقرأ سعيد بن جبير فيما حكى عنه المبرد (وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ)، وفتحها، حكاه مكي بن أبي طالب عن بني العنبر، كما حكاه المصنف، وأنشدوا: وتأمرني ربيعة كل يوم ... لأشريها وأقتني الدجاجا الرواية بفتح لام لأشريها. ص: وتساوي لام التعليل معنى وعملاً "كي" مع "أن"، و"ما" أختها والاستفهامية.

ش: قال المصنف في لاشرح: "كي على ضربين: مصدرية تذكر في إعراب الفعل، وجارة تساوي لام التعليل، ولا تدخل إلا على "أن"، كقوله: فقالت: أكل الناس أصبحت مانحاً ... لسانك كيما أن تغر وتخدعا أو على "ما" المصدرية، كقوله: إذا أنت لم تنفع فضر، فإنما ... يراد الفتى كيما يضر وينفع أو على "ما" الاستفهامية، كقولك سائلاً عن العلة: كي مَ فعلته؟ وفي الوقف: كيمة؟ كما تقول: لم فعلت؟ ولمة؟ انتهى". فقوله "إن كي تساوي لام التعليل معنى"، أي: تجيء للتعليل كما تجيء اللام للتعليل. وقوله وعملاً يعني أنها تكون جارة كما أن اللام جارة، إلا أن اللام تجر الاسم الصريح، وتدخل على المضارع مقدراً أن بينها وبينه، فينصب بإضمار أن، وتكون أن المقدرة والفعل ينسبك منهما مصدر، هو في موضع جر بكي، ولا يجوز أن يصرح به بعد كي. وما ذكره المصنف من أنها تكون "كي" في أحد قسميها جارة هو مذهب البصريين، إلا أن ظاهر كلامه يدل على أنها لا تكون جارة إلا إذا دخلت على أن لفظاً، وعليه أنشد "كيما أن تغر وتخدعا"، وهذا ليس مذهب البصريين، بل مذهبهم أنها إذا كانت جارة كانت أن مضمرة بعدها وجوباً، وأن العرب التزمت إضمار أن بعدها، فأما "كيما أن تغر" فإنما أظهرت على سبيل الشذوذ ومنبهة على الأصل.

وظاهر كلامه أيضاً أنها تكون جارة إذا دخلت على "ما" المصدرية، وعليه أنشد "كيما يضر وينفع"، فـ"ما" عنده مصدرية، ينسبك منها ومن الفعل بعدها مصدر، يكون في موضع جر بـ"كي"، ولما كانت "أن" عاملة نصبت تغر، و"ما" غير عاملة فارتفع الفعل بعدها، وهو: يضر وينفع. وما ذهب إليه المصنف من أن "ما" مصدرية في هذا البيتت غير موافق عليه؛ بل ذهب أصحابنا إلى أن "ما" كافة لـ"كي" عن العمل، وأن "كي" في البيت هي الناصبة بنفسها لا الجارة، وأن "ما" كفتها عن العمل كـ"ما" اللاحقة لـ"رب" في قوله: (رُبَمَا يَوَدُّ)، فيكون الفعل الواقع بعدها مرفوعاً، وعليه أنشدوا "كيما يضر وينفع". وأما إذا انتصب الفعل بعد "كي" المتصل بها "ما" فـ"ما" عندهم زائدة، كما زيدت "ما" بين الخافش ومخفوضه زادوا "ما" بين الناصب ومنصوبه، وكما فصلوا بينهما بـ"لا" النافية، قال تعالى: (لِكَيْ لَا تَاسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ)، وقال الشاعر: أردت لكيما يعلم الناس أنها ... سراويل قيس، والوفود شهود وقال آخر:

حبسنا، ولم نسرح لكي لا يلومنا، ... على حكمه صبراً معودة الحبس وقال الآخر: أردت لكيما تجمعيني وصاحبي ... ألا لا، أحبي صاحبي، وذريني وقد يفصل بهما معاً، قال: أردت لكيما لا ترى لي عثرة ... ومن ذا الذي يعطى الكمال فيكمل وذهب الكوفيون إلى أن "كي" لا تكون حرف جر، لا إذا دخلت على الفعل ولا إذا دخلت على "ما" الاستفهامية، بل هي حرف نصب على كل حال. وقالوا: إضمار أن وهي مخفوضة قبيح شاذ، ولا يحسن أن تقول: أمرت زيداً بيحسن، فلما جاء الفعل منتصباً بعدها في فصيح الكلام دل على أنها ليست حرف جر. وأما زعم البصريين أنها تجر اسم الاستفهام في قولهم: كيمه؟ واستدلالهم بذلك على أنها حرف جر - فلا حجة في ذلك؛ لأن "مه" ليست مخفوضة، وإنما هي منصوبة على مذهب المصدر، يقول القائل: أقوم كي تقوم، فيسمعه المخاطب، ولا يفهم تقوم، فيقول: كيمه؟ يريد: كي ماذا؟ أي: كي تفعل ماذا؟ فموضع "مه" نصب بفعل مضمر على جهة المصدر والتشبيه به، وليس لـ"كي" فيه عمل، وقد أجمعنا على أن "كي" هي الناصبة للمضارع في قولك: جئت لكي تغضب، فيلزم على ما ذهبتم إليه من أنها تكون جارة أن تكون من عوامل الأسماء والأفعال؛ وهذا فاسد لأن عوامل كل واحد من صنفي الأسماء والأفعال مختصة به لا تعمل في غيره.

وأما البصريون فاستدلوا على أن "كي" جارة في قولهم "كيمه" بحذف ألف "ما" الاستفهامية، ولا تحذف إلا مع حروف الجر، نحو (عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ)، (فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا)، (فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ): علام تقول الرمح يثقل عاتقي ... ......................................... فأما قول الشاعر: ألا مَ تقول الناعيات، ألا مه ... ألا فانعيا بيت الندى والكرامه فحذف ألف "ما" الاستفهامية بعد ألا، وليست حرف جر، فإن ذلك على سبيل الضرورة، بخلاف حذف ألفها بعد "كي"، فإنه في فصيح الكلام، ولا يحذف في فصيح الكلام إلا مع حروف الجر. وأيضاً ما ادعاه الكوفيون من إضمار الفعل بعد "كي" في قولهم "كيمه" دعوى. وأيضاً فيلزم من ذلك تقديم الفعل على "ما" الاستفهامية وحذف ألفها بعد غير حرف /الجر، ولا يجوز حذف معمول الحرف الناصب للفعل وإبقاء الناصب، كما لا يجوز حذف معمول الحرف الجار للاسم وإبقاء الحرف. -[ص: ومنها الباء للإلصاق، وللتعدية، وللسببية، وللتعليل، وللمصاحبة، وللظرفية، وللبدل، وللمقابلة، ولموافقة "عن" و"على" ومن" التبعيضية. وتزاد مع فاعل ومفعول وغيرهما.]- ش: ظاهر كلام المصنف في معاني هذه الحروف أنها وضعت مشتركة بين ما نذكر أنها وردت له؛ وأصحابنا لا يثبتون ذلك، بل يأتون في أكثرها بأنها يجيء

الحرف منها لمعنى، ثم إنه قد يستعمل لذلك المعنى، وينجر معه معنى آخر، فليس الحرف موضوعاً لتلك المعاني بجهة الاشتراك. قال أصحابنا: الباء غير الزائدة لا تكون إلا بمعنى الإلزاق والاختلاط حقيقة أو مجازاً، فقد تتجرد لهذا المعنى، وقد تدخلها مع ذلك معان أخر. وحركة الباء الكسر، وربما فتحت مع الظاهر، فقالوا: بزيد، حكاه أبو الفتح عن بعضهم. وقوله للإلصاق مثل ذلك المصنف في الشرح، وقال: "هي الواقعة في نحو: وصلت هذا بهذا". وقال أصحابنا: التي لمجرد الإلزاق والاختلاط نوعان: أحدهما: الباء التي لا يصل الفعل إلى المفعول إلا بها، نحو: سطوت بعمرو، ومررت بزيد. والإلزاق في مررت بزيد مجاز، لما التزق المرور بمكان بقرب زيد جعل كأنه ملتزق بزيد. والآخر: الباء التي تدخل على المفعول المنتصب بفعله إذا كانت تفيد مباشرة الفعل للمفعول؛ وذلك نحو: أمسكت بزيد، الأصل: أمسكت زيداً، فأدخلوا الباء ليعلموا أن إمساكك إياه كان بمباشرة منك له، وذلك أنك تقول أمسكت زيداً إذا منعته من التصرف بوجه ما، ولم تكن مباشراً لذلك، فإذا قلت أمسكت بزيد أفدت بالباء أنك باشرت إمساكه. ولم يذكر س للباء معنى غير الإلصاق، وذكر أصحابنا المتأخرون وغيرهم لها معاني غير الإلصاق، ونسرد ما ذكروا منجرا مع كلام المصنف.

وقوله وللتعدية قال المصنف في الشرح: "هي القائمة مقام همزة النقل في إيصال الفعل اللازم إلى مفعول به، كالتي في (ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ)، و (لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ) ". وذكر أصحابنا أن التي تدخلها مع معنى الإلزاق والاختلاط معان أخر ستة أنواع: أحدها: أن تكون للنقل. قال بعضهم: "وأعني بذلك أن تدخل على الفاعل، فيصير مفعولاً". قال بعض شيوخنا: "وإذا نظرت إلى هذه الباء التي بمعنى الهمزة وجدت فيها الإلصاق والاختلاط؛ لأنك إذا جعلته يدخل فقد ألصقت الدخول به، فالإلصاق عام فيها حيث ما وقعت، وتلك المعاني تصاحب في موضع، وتفارق في آخر، فينبغي أن يدعى أنها وضعت بإزاء المعنى المصاحب في كل حال، لا بإزاء المعنى الذي يكون بحكم الانجرار لا بحكم الوضع" /انتهى. وقول المصنف في التي للتعدية "إنها هي القائمة مقام همزة النقل في إيصال الفعل اللازم إلى مفعول به" ليست مختصة بالفعل اللازم؛ فقد وجدت في المتعدي، تقول: دفع بعض الناس بعضاً، وصك الحجر الحجرن ثم تقول: دفعت بعض الناس ببعض، وصككت الحجر بالحجر، فتقول من قال "هي الداخلة على الفاعل، فيصير مفعولاً" أسد؛ لأنها وجدت مع الفعل المتعدي كما وجدت مع اللازم. وقوله وللسببية قال المصنف في الشرح: "هي الداخلة على صالح للاستغناء به عن فاعل معداها مجازاً، نحو (فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا)،

و (تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ)، فلو قصد إسناد الإخراج إلى الهاء من قوله (فَأَخْرَجَ بِهِ)، وإسناد الإرهاب إلى الهاء من قوله (تُرْهِبُونَ بِهِ)، فقيل: أنزل ما أخرج من الثمرات رزقاً، وما استطعتم من قوة ترهب عدو الله - لصح وحسن، لكنه مجاز، والآخر حقيقة. ومنه: كتبت بالقلم، وقطعت بالسكين، فإنه يصح أن يقال: كتب القلم، وقطع السكين. والنحويون يعبرون عن هذه الباء بباء الاستعانة. وآثرت على ذلك التعبير بالسببية من أجل الأفعال المنسوبة إلى الله تعالى، فإن استعمال السببية فيها يجوز، واستعمال الاستعانة فيها لا يجوز" انتهى. وقال أصحابنا: هي الباء التي تدخل على سبب الفعل، وهو أحد المعاني الست التي تنجر مع الإلصاق، قالوا: نحو عنفت زيداً بذنبه، فالتعنيف اتصل بزيد بسبب ذنبه، ومنه قول لبيد: غلبت تشذر بالذحول، كأنها ... جن البدي رواسياً أقدامها أي: تشذر بسبب الذحول. قال بعض شيوخنا: ذكر القتيبي أن الباء تكون بمعنى: من أجل، وأنشد بيت لبيد. قال: والإلصاق لا يفارقها؛ لأنها إذا تشذرت - أي: تصعبت - بسبب الذحول فبلا شك أن الذحول هيجها، وجعلها تشذر، فقد صارت الباء هنا بمنزلتها في: تحركت بكذا، وسكنت بكلامك، فكما لا خفاء في هذا أن الإلصاق بها كذلك في البيت.

وما ذهب إليه المصنف من أن ما ذكره النحويون من أن الباء تكون للاستعانة مدرج في باء السببية قول انفرد به؛ وأصحابنا فرقوا بين باء السببية وباء الاستعانة، وجعلوا الاستعانة من المعاني الستة التي انجرت مع الإلصاق، فقالوا في باء السبب ما تقدم من أنها التي تدخل على سبب الفعل، وقالوا في باء الاستعانة: إنها التي تدخل على الاسم المتوسط بين الفعل ومفعوله الذي هو آلة، وذلك: كتبت الكتاب بالقلم، وعمل النجار الباب بالقدوم، وبريت القلم بالسكين، وخضت الماء برجلي، ولا يمكن أن يقال إن سبب كتابة الكتاب هو القلم، ولا سبب عمل النجار الباب هو القدوم، ولا سبب بري القلم هو السكين، ولا سبب /خوض الماء هو الرجل، بل السبب غير هذا، فجعل هذا سبباً ليس بواضح. ومثل أصحابنا باء السبب بقولك: مات الرجل بالغيظ وبالجوع، وحججت بتوفيق الله، وأصبت الغرض بفلان. وقوله وللتعليل قال المصنف في الشرح: "هي التي تحسن غالباً في موضع اللام، نحو قوله تعالى: (إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ)، و (فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا)، و (إِنَّ الْمَلَأَ يَاتَمِرُونَ بِكَ)، وكقول الشاعر: ولكن الرزية فقد قرم ... يموت بموته بشر كثير واحترزت بقولي غالباً من قول العرب: غضبت لفلان، إذا غضبت من أجله وهو حي، وغضبت به، إذا غضبت من أجله وهو ميت" انتهى.

ولم يذكر أصحابنا أنها تكون للتعليل، وكأن التعليل والسبب عندهم شيء واحد، ويدل على ذلك أن المعنى الذي سمى المصنف به باء السبب هو موجود في باء التعليل؛ ألا ترى أنه يصلح أن ينسب الفعل لما دخلت عليه باء التعليل كما يصح ذلك في باء السبب؛ ألا ترى أنه يصح: ظلم أنفسكم اتخاذكم العجل، وحرم على اليهود طيبات ظلمهم. وأما قوله تعالى (يَاتَمِرُونَ بِكَ) فليست باء التعليل، بل التعليل هو قوله: (لِيَقْتُلُوكَ)، والباء ظرفية، أي: يأتمرون فيك، أي: يتشاورون في أمرك لأجل القتل، ولا يكون للائتمار علتان. وأما قوله "يموت بموته" فلا شك أن الباء هنا لسبب، ويعكر على ما قعد المصنف من أن هذه الباء يصح أن ينسب الفعل إلى ما دخلت عليه مجازاً؛ لأنه لا يصح ذلك هنا. وقوله وللمصاحبة قال المصنف في الشرح: "هي التي تحسن في موضعها (مع)، وتغني عنها وعن مصحوبها الحال، كقوله تعالى: (قَدْ جَاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ)، أي: مع الحق، ومحقاً، وكقوله: (اهْبِطْ بِسَلَامٍ مِنَّا)، أي: مع سلام، ومسلماً. ولمساواة هذه الباء (مع) قد يعبر س عن المفعول معه بالمفعول به" انتهى. وهذا المعنى قد ذكره أصحابنا، وهو أحد الستة المعاني التي تنجر مع الإلصاق. وقوله وللظرفية هي التي تحسن مكانها "في"، كقوله تعالى: (وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ)، (إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا)، (نَجَّيْنَاهُمْ بِسَحَرٍ). وهذا أحد المعاني الستة التي تنجز مع الإلصاق.

وبقي من المعاني الستة التي ذكرها أصحابنا باء القسم، نحو: بالله لأقومن فهذه الباء ألزقت فعل القسم المحذوف بالمقسم به؛ ألا ترى أن الأصل: أقسم بالله لأقومن، إلا أن فعل القسم لما حذف وقام المجرور مقامه أفادت الباء ما كان يفيده الفعل لو ظهر. وقوله وللبدل قال المصنف في الشرح: "هي التي يحسن في موضعها (بدل)، كقول رافع بن خديج: (ما يسرني أني شهدت بدراً بالعقبة)، ومثله قول الشاعر: فليت لي بهم قوماً، إذا ركبوا ... شنوا الإغارة فرساناً وركباناً /ومثله قول الآخر: يلقى غريمكم من غير عسرتكم ... بالبذل بخلا، وبالإحسان حرماناً" انتهى. قال بعض أصحابنا: "وزاد بعض المتأخرين في معاني الباء أن تكون بمعنى البدل والعوض، نحو قولك: هذا بذاك، أي: هذا بدل من ذاك وعوض منه". قال: "والصحيح عندي أن معناها السبب؛ ألا ترى أن التقدير: هذا مستحق بذلك، أي: بسببه". وقوله وللمقابلة قال المصنف في الشرح: "هي الداخلة على الأثمان والأعواض، كقولك: اشتريت الفرس بألف، وكافأت الإحسان بضعف. وقد تسمى باء العوض".

وقوله ولموافقة "عن"، و"على"، و"من" التبعيضية أما كونها بمعنى "عن" فمنقول عن الكوفيين، وذلك بعد السؤال، ولم يقيد المصنف ذلك بالسؤال. واستدل الكوفيون على ذلك بقوله تعالى (فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا)، وبقول علقمة: فإن تسألوني بالنساء فإنني ... بصير بأدواء النساء طبيب وبقول مالك بن خريم: ولا يسأل الضيف الغريب إذا شتا ... بما زخرت قدري له حين ودعا وبقول الآخر: دع المغمر، لا تسأل بمصرعه ... واسأل بمصقلة البكري: ما فعلا واستدل القتبي بقول ابن أحمر: تسائل بابن أحمر: من رآه؟ ... أعارت عينه، أم لم تعارا واستدل المصنف في الشرح بقوله تعالى: (وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ). وبقوله: (يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ)، [كذا] قال الأخفش. ومثله (فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا). ومثله قول الشاعر:

هلا سألت بنا فوارس وائل ... فلنحن أسرعها إلى أعدائها وكان الأستاذ أبو علي يتأول، فيقول: اسأل بسببه خبيراً، وبسبب النساء، أي: لتعلموا حالهن، وكذلك بيت ابن أحمر. قال بعض أصحابنا: ولو كانت الباء بمعنى (عن) لجاز: أطعمته بجوع، وسقيته بعيمة، تريد: عن جوع، وعن عيمة، وتعدية السؤال بالباء على سبيل التضمين، أي: فاعتن به، أو اهتم به؛ لأن السؤال عن الشيء اعتناء به واهتمام. وأما كونها بمعنى "على" فمنقول عن الكوفيين أيضاً، واستدلوا بقول الشاعر: بودك ما قومي على أن تركتهم ... سليمى إذا هبت شمال وريحها "ما" عندهم زائدة، والمعنى: على ودك قومي على أن تركتهم. واستدل المصنف في الشرح على ذلك بقوله تعالى: (مَنْ إِنْ تَامَنْهُ بِقِنْطَارٍ)، (مَنْ إِنْ تَامَنْهُ بِدِينَارٍ)، أي: على قنطار، وعلى دينار. قال: "كذا قال الأخفش، وجعل مثله قولهم: مررت به، أي: عليه، قال تعالى: (وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ)، قال تعالى: (يَمُرُّونَ عَلَيْهَا)، (وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ)، (هَلْ آَمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلَّا كَمَا أَمِنْتُكُمْ عَلَى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ) ". وبقول الشاعر:

أرب يبول الثعلبان برأسه ... لقد هان من بالت عليه الثعالب وقال بعض أصحابنا: فأما (بودك ما قومي) البيت فليست (ما) فيه زائدة كما ذهبوا إليه؛ ألا ترى أنه لو أراد: على ودك قومي سليمى على أن تركتهم - لم يكن لقوله (إذا هبت شمال وريحها) وجه، وإنما الود والود هنا الصنم، وما: استفهامية، والتقدير: أسألك بودك - أي: بصنمك - ما قومي؟ أي: أي شيء قومي إذا هبت شمال وريحها في وقت اشتداد الزمان، وعنى بريح الشمال النكباء، كما قال: ................................... ... إذا النكباء ناوحت الشمالا وقوله "على أن تركتهم" أي: على أن فارقتهم؛ لأن هذا الشاعر يخاطب سليمى، وكانت امرأته، ونشزت عنه، فطلقها، فارتحلت إلى قومها، فسألها بصنمها أن تخبر بما شاهدته من قومه في وقت هبوب الشمال ومناوحة النكباء، وهو وقت اشتداد الزمان. وأما كونها بمعنى "من" التبعيضية فمذهب كوفي أيضاً، وهو قول القتبي. واستدلوا بقوله تعالى: (يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ)، وبقول الشاعر:

شربن بماء البحر، ثم ترفعت ... متى لجج خضر، لهن نئيج ويقول عنترة: شربت بماء الدحرضين، فأصبحت ... زوراء، تنفر عن حياض الديلم واستدل المصنف في الشرح بقوله: فلثمت فاها آخذاً بقرونها ... شرب النزيف ببرد ماء الحشرج وقال: "ذكر ذلك أبو علي الفارسي في (التذكرة)، وروى مثل ذلك عن الأصمعي في قول الشاعر: شربن بماء البحر. البيت". قال المصنف في الشرح: "والأجود أن يضمن شربن معنى روين، كما ضمن يحمى معنى يوقد، فعومل معاملته في (يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ)؛ لأن المستعمل أحميت الشيء في النار" انتهى. وقال بعض أصحابنا ما ملخصه: "لو كانت الباء للتبعيض لقلت: زيد بالقوم، تريد: من القوم، وقبضت بالدراهم، أي: من الدراهم، والباء في (يَشْرَبُ بِهَا) ونظيره بمعنى (في)، وهو أولى من قول من جعلها زائدة؛ لأن زيادة الباء في المفعول لا تنقاس" انتهى.

وفي البسيط: "ولم يذكر أحد من النحويين أن الباء للتبعيض. وقيل: تكون له، نحو قولك: مسحت بالمنديل، ومسحت المنديل، و"أخذت زمام الناقة، وأخذت بزمامها" انتهى. وزعم بعض النحويين - ومنهم ابن هشام - أن الباء تدخل على الاسم حيث يراد التشبيه، نحو: لقيت بزيد الأسد، ورأيت به القمر، أي: لقيت بلقائي إياه الأسد، أي: شبهه. والصحيح أنها للسبب /أي: بسبب لقائه، وبسبب رؤيته. وزعم أيضاً أنها تدخل على ما ظاهره أن المراد به غير ذات الفاعل أو ما أضيف إلى ذات الفاعل، نحو قوله: ..................................... ... ولم يشهد الهيجا بألوث معصم وقوله: يا خير من يركب المطي، ولا ... يشرب كأساً بكف من بخلا فظاهره أن "بألوث معصم" غير فاعل يشهد، وأن ما أضيف إليه الكف - وهو: من بخل - غير فاعل يشرب، والمراد في الحقيقة أن فاعل يشهد هو: ألوث معصم، وفاعل يشرب هو: من بخل، كأنه قال: ولا يشرب من نفسه كأساً بكف من بخل، أي: يشرب كأسه بكفه، وليس ببخيل. والصحيح أنها باء الاستعانة في: بكف من بخل؛ لأنها توسطت بين لفعل ومفعوله كما هي في قولك: شربت بكفي. وكذلك في: بألوث معصم. وقوله وتزاد مع فاعل ومفعول وغيرهما مثالها مع الفاعل: أحسن بزيد! و (وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا)،:

... ... وحب بها مقتولة وقول الشاعر: ألم يأتيك- والأنباء تنمي- ... بما لاقت لبون بني زياد ألا هل أتاها- والحوادث جمعة- ... بأن امرأ القيس بمن تملك بيقرأ و: ........ ... أودى بنعلي وسرباناليه وزيادتها مع المفعول {وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ} {وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ} {فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ} {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ} و {تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ} في قراءة ابن كثير وأبي عمرو، و {يَذْهَبُ بِالأَبْصَارِ} في قراءة أبي جعفر، وقول الشاعر: شهيدي سويد، والفوارس حوله ... وما ينبغي بعد ابن قيس بشاهد ومثله:

فلما رجت بالشرب هز لها العصا ... شحيح، له عند الإناء نهيم ومثله: فكفى بنا فضلا على من غيرنا ... حب النبي محمد إيانا أي: كفانا وكثرت زيادتها في مفعول عرف وشبهه، وقلت زيادتها في مفعول ذي مفعولين، كقول حسان: تبلت فؤادك في المنام خريدة ... تسقى الضجيع ببارد بسام ومثال زيادتها في غيرهما: بحسبك، وفيما ذكر في باب "باب كان". وهذا ملخص من كلام المصنف في الشرح. وقال الفراء: "تقول العرب: هزه، وهز به، وخذ الخطاك وبالخطام، ورأسه وبرأسه، ومده ومد به، ومنه {فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ} " انتهى. فأما ما ذكره المصنف من أن الباء {كَفَى بِاللَّهِ} في زائدة فهو مذهب ش. وأجاز ابن السراج، وأجاز وجها آخر، وهو أن تكون غير

زائدة، وفاعل كفى ضمير مستتر عائد على الاكتفاء المفهوم من كفى، كأنه قال: كفى هو بالله. وهذا فاسد لأنه لا يكون للباء ما تتعلق به إلا/ الضمير، والضمير لا يجوز إعماله. ورد ذلك ابن جنى من جهة أن معمول المصدر من كماله، فهو ومعمول كذلك بمنزلة اسم واحد، فلو أضمرت المصدر، وجعلت المجرور متعلقا بضميره- لأدى ذلك إلى أن يكون بعض الاسم مظهرا، وذلك غير جائز. قال بعض أصحابنا: "وهذا الاستدلال فاسد؛ لأن الموصولات كلها صلاتها تمام لها، فكان يلزم على هذا ألا يكون في صلة الموصول ضمير يعود عليه؛ لئلا يؤدي إلى أن يكون بعض الاسم مضمرا وبعضه مظهرا، فلما وجدنا الموصول لابد له في صلته من ضمير يعود عليه دل ذلك على بطلان ما استدل به" انتهى وقد منع س من إعمال المصدر مضمرا، وإعماله مذهب البغداديين وبعض البصريين. وما ذكره المصنف من زيادة الباء في فاعل "كفى" فقد قيد ذلك أستاذنا أبو جعفر بن الزبير، فقال: "لا تزاد الباء في فاعل كفى إلا إذا كانت بمعنى حسب، وأما إذا كانت بمعنى وقى فلا تزاد، نحو قوله تعالى: {وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ} انتهى وأما سياق المصنف الأبيات التي فيها "بما لاقت"، و"بأن امرأ القيس" و"أودى بنعلي" مساق {وَكَفَى اللَّهُ}، وأحسن بزيد؛ و"حب بها" فذلك عند أصحابنا لا سواء؛ لأن زيادة الباء في الأبيات مخصوص عندهم بالضرورة.

وقد خرج بعض شيوخنا "ألم يأتيك" البيت على الإعمال، فيكون "ربما لاقت" متعلقا ب"تنمي" - أي: ترتفع- ويكون قد أضمر في يأتيك ضميرا يفسره قوله: بما لاقت. قال بعض أصحابنا: ولا تحفظ زيادتها في المبتدأ إلا في: بحسبك زيد، أي حسبك، وفي قول الراجز: أضرب بالسيف على نطابه ... أتى به الدهر بما أتى به ف "ما" مبتدأ، والباء زائدة، بدليل عودة الضمير عليها من الجملة التي قبلها، فدل على أن النية بها التأخير؛ إذ لو لم يكن منويا بها التأخير لم تجز عوجة الضمير منها على ما بعدها؛ لأن الضمير لا يتقدم على ما يعود عليه لفظا ونية إلا في أبواب معلومة، ليس هذا منها؛ وإذا كانت النية بها التأخير كانت ما مبتدأة، والجملة في موضع خبرها، والتقدير: ما أتى به الدهر أتى به. وزعم بعض النحويين أن الباء في {بِأَيِّيكُمُ الْمَفْتُونُ} زائدة في المبتدأ، والتقدير: أيكم المفتون. ولا ينبغي حمله على ذلك لقتله. ويخرج على أن يكون المفتون مصدرا مبتدأ، والخبر في المجرور، والتقدير: بأيكم الفتون، أو صفة، والباء بمعنى في، والتقدير: في أيكم الفريق المفتون. وأما: فكفى بنا فضلا على من غيرنا ... ........

فأكثر أصحابنا خرجوه على زيادة الباء في المفعول. وخرجه بعض شيوخنا على أنه من زيادة الباء في الفاعل، وجعل "حب النبي" بدل استمال من المجرور بالباء، والتقدير: فكفينا حب النبي. وذكروا أيضا من زيادة الباء: قرأت/ بالسورة، وقول الشاعر: هن الحرائر، لا ربات أحمرة ... سود المحاجر، لا يقرأن بالسور وقوله: نضرب بالسيف ونرجو بالفرج وقوله: ضمنت برزق عالينا أرماحنا ... ....... وخرج الأستاذ أبو علي "قرأت بالسورة" على أن الباء للإلصاق، أي: ألزقت قراءتي بالسورة. وخرج غيره "ونرجو بالفرج" على تضمين: ونطمع بالفرج؛ لأن طمع يتعدى بالباء، قال:

طمعت بليلى أن تريع، وإنما ... تقطع أعناق الرجال المطامع وضمنت برزق: تكفلت برزق. وزعم الأخفش أنها زائدة في خبر المبتدأ في قوله تعالى {جَزَاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا}، أي: مثلها. وأستدل بقوله في الآية الأخرى {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا}. وخرج على أن التقدير: حاصل بمثلها أو يعلق {بِمِثْلِهَا} بقوله {جَزَاءُ}، والخبر محذوف، التقدير: ثابت لهم. ومن زيادة الباء في خبر المبتدأ قول الشاعر: فلا تطمع- أبيت اللعن- فيها ... فمنعكها بشيء يستطاع أي: شيء يستطاع. وذكر صاحب "البديع" أنها تزاد في المجرور، وقال: "وأما المجرور فقد جاء في الشعر شاذا، أنشد الفارسي: فأصبحن لا يسألنني عن ما به ... ...... البيت. وعلى زيادتها خرجه ابن جنى، وسيأتي الكلام فيه

-[ص: ومنها "في" للظرفية حقيقة أو مجازا، وللمصاحبة، وللتعليل، وللمقايسة، ولموافقة "على" والباء.]- ش: مثال كونها حقيقة: زيد في البيت، والمال في الكيس. ومثال كونها مجازا: زيد ينظر في العلم، {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ}، {لَقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِلسَّائِلِينَ}. وقوله وللمصاحبة هذا مذهب الكوفيين، وتبعهم الفتبي والمصنف. ومذهب س والمحققين أنها لا تكون إلا للوعاء حقيقة أو مجازا. وأستدل الكوفيون والقتبي على أنها للمصاحبة بمعنى "مع" بقول الآخر: ولوح ذراعين في بركة ... إلى جؤجؤ رهل المنكب أي: مع بركة. وقول خراشة بن عمرو العبسي. كأن ريقتها بعد الكرى اغتبقت ... من سكر قد بناه النحل في النيق أو طعم عادية في جوف ذى حدب ... من ساكن المزن، يجري في الغرانيق

أي مع الغرانيق، وساكن المزن: المطر، والغرانيق: طير الماء؛ لفرحها به تجرى معه، شبه بقولهم: يمشي في أصحابه. وقد يكون من المقلوب، أي: تجري الغرانيق فيه. وقال/ القتبي: "يقال: فلان عاقل في حلم". وقال المصنف في الشرح: "، اي: مع أمم، {قَالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ}، {وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ}، {وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ}، {فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ} ومنه قول الشاعر: كحلاء في برج، صفراء في نعج ... كأنها فضة، قد مسها ذهب ومثله: شموس ودو في حياء وعفة ... رخيمة رجع الصوت، طيبة النشر" وتأولوا "في بركة" و"في الغرانيق" على حذف مضاف، أي: في جاني بركة، وفي مجرى الغرانيق. قال بعض شيوخنا: "أما قوله فلان عاقل في حلم ف (في) تفيد هنا ما لا تفيده (مع)؛ لأنك إذا قلت فلان ذو عقل مع حلم لم يقتض أن عقله كان له في

حال اتصافه بالحلم؛ إذ قد يقال هذا لمن حلم في وقت، وظهر فيه عقل في وقت آخر، وإذا قلت فلان عاقل في حلم فالمعنى أن حلمه تصرف بالعقل على حسب مقتضاه، فكأنه دخل فيه. وأما قول الجعدي (ولوح ذراعين في بركة) فكأنه قال: داخلان في بركة؛ ألا ترى أنه لا يقال في كلام العرب: ولوح ذراعين في كفل؛ لأن الذراعين لا يكونان في الكفل، و (مع) تصلح هنا، لو قلت له ذراعان مع كفل لكان ذلك صحيحا، وتقول: له رجلان في كفل، ولا تقول: رجلان في بركة، ويصلح أن تقول: مع بركة" انتهى. وأما استدل به المصنف فكله محمول على الظرفية المجازية، ويحتمل أن يكون {فِي أُمَمٍ} على حذف مضاف، أي: في عذاب أمم، ويكون {فِي النَّارِ} بدلا. وقوله للتعليل قال المصنف في الشرح: "كقوله تعالى، {لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ}، {لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ}، {فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ} (عذبت امرأة في هرة جبستها)، ومنه قوله الشاعر: فليت رجالا فيك قد نذورا دمي ... وهموا بقتلي- يا بثين- لقوني

ومثله: لوى رأسه عني، ومال بوده ... أغانيج خود، كان فينا يزورها ومثله: أفي قملي من كليب هجوته ... أبو جهضم تغلي على علي مراجله ومثله: بكرت باللوم تلحانا ... في بعير، ضل، أو حانا" وقوله وللمقايسة قال المصنف في الشرح: "هي الداخلة على تال يقصد تعظيمه وتحقير متلوه، كقوله، {فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ}، وكقوله - عليه السلام -: (ما أنتم في سواكم من الأمم إلا كالشعرة البيضاء في جلد الثور الأسود)، وكقول الخضر لموسى - عليه السلام -: (ما علمي وعلمك في علم الله إلا كما أخذ هذا الطائر بمنقاره من البحر)، ومنه قول الشاعر:/

وما جمعكم في جمعنا غير ثعلب ... هوى بين لحيي أخزر العين ضيغم ومثله: كل قتيل في كليب حلام ... حتى ينال القتل آل همام" انتهى. ولا تظهر لي المقايسة في هذا البيت الأخير، والحلام: الجدي. وقوله لموافقة على هذا مذهب الكوفيين، وتبعهم الفتبي، واستدلوا بقوله تعالى {وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ}، أي: على جذوع النخل. وبقول امرأة من العرب: هم صلبوا العبدي في جذع نخلة ... فلا عطست شيبان إلا بأجدعا أي: على جذع نخلة. وببقوله عنترة: بطل، كأن ثيابه في سرحة ... يحذي نعال السبت، ليس بتوءم

أي: على سرحة. وبما حكي يونس عن العرب من أنها تقول: نزلت في أبيك، يريدون: على أبيك. وقال القتبي: "تقول: لا يدخل الخاتم في إصبعي، أي: على إصبعي" وقال المصنف: "ومنه قول حسان: بنو الأوس الغطارات، أزرتها ... بنو النجار في الدين الصليب قال بعض أصحابنا: ولو كانت (في) بمعنى (علي) لجاز أن تقول: في زيد دين، أي: على زيد دين، فأما الآية والأبيات فإن جذع النخلة بمنزلة المكان والمحل للمصلوب لاستقراره فيها، فصلح لذلك دخولها عليه كما تدخل على الأمكنة. وأما ما حكاه يونس فعلى حذف مضاف، والتقدير: نزلت في كنف أبيك أو في ذرا أبيك ف "في" للوعاء، ولم تخرج عن بابها. وأما (أدخلت الخاتم في إصبعي) فقال بعض شيوخنا: إذا دخل على الأصبع فهو بلا شك. وقوله والباء هذا أيضا مذهب كوفي، وتبعهم القتبي وهذا المصنف. واستدلوا على ذلك بقول زيد الخيل: ويركب يوم الروع فيها فوارس ... بصيرون في طعن الأباهر والكلى

أي: بطعن الأباهر. وبقول الآخر: وخضخضن فينا البحر حتى قطعنه ... على كل جال من غمار ومن وحل أي: بنا البحر. وبقول الآخر، وهو أحد طيئ: نلوذ في أم لنا ما تغتضب ... من السحاب ترتدي وتنتقب أي: بأم يعني: بأم سلمى أحد جبي طيئ. وبقول أعشى بني بكر: ربي كريم، مما يكدر نعمة ... وإذا تنوشد في المهارق أنشدا /أي: بالمهارق. تنوشد: حلف له، والمهارق: صحف الأنبياء. واستدل المصنف في الشرح بقوله تعالى {يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ}، أي: به وبقول الأفوه الأودي: أعطوا غواتهم جهلا مقادتهم ... فكلهم في جبال الغي منقاد ومثله: وأرغب فيها عن لقيط ورهطه ... ولكنني عن سنبس لست أرغب

أي: بحبال، وأرغب بها، وحكى يونس، عن بعض العرب: ضربته في السيف، أي: بالسيف. فأما "بصيرون في طعن" فقال بعض أصحابنا: ضمن معنى ما يصل ب "في" والتقدير: ماهرون أو متقدمون على غيرهم في طعن الأباهر والكلى؛ لأن البصير بالشيء ماهر فيه ومتقدم فيه على غيره. وقال بعض شيوخنا: إذا كانوا عارفين بذلك، وأنه أحسن الطعن وأثبته كما قال الأفوه: تخلى الجماجم والأكف سيوفنا ... ورماحنا بالطعن تنتظم الكلى فهم لا شك ناظرون فيه في وقت الطعن؛ لأنهم يعلمون أن ذلك الطعن أثبت. وفي جعل (في) في هذا الموضع فائدة ليست للباء لو ذكرت؛ لأنه لو قال بصيرون بطعن لم يقتضى أكثر من العلم به، وقد يكون بصيرا به، فإذا كان وقته ذهل خاطره عن ذلك لما هنالك من الشدة، فيصفهم مع معرفتهم بأن الطعن في الأباهر أعظم الطعن بأنهم ثابتو الخواطر عند الطعن، و (في) تقتضي ثبوت خواطرهم. انتهى. وقال لنا الأستاذ أبو جعفر: ضمن بصيرون معنى متحكمون؛ لأن من كان له بصر بالشيء كان له فيه تحكم، فكأنه قال: متحكمون في طعن الأباهر والكلى. وأما قوله "وخضخضن فينا البحر" فحمله بعض أصحابنا على تقدير مضاف، أي: في سيرنا البحر، ف "في" للوعاء على بابها. وكذا تأوله ابن جنى، قال: "في سيرهن بنا"

وأما قوله "نلوذ في أم" فخرج على أنه ضمن ما يتعدى ب"في" وكأنه قال: نسمك أو نتوقل في أم لنا ما تغتضب؛ لأنه عنى بالأم سلمى أحد جبلي طيئ، وإذا لاذ بها فقد سمك وتوقل فيها. وأما "وإذا تنوشد في المهارق" فخرج على أن "في المهارق" في موضع الحال، والمجرور الذي يطلبه تنوشد محذوف، والتقدير: وإذا تنوشد بكلام الله- تعالى- في المهارق، اي: مكتوبا في المهارق، وأنشد أي: أجاب، فيكون مثل قول الآخر: يعثرن في حد الظبات، كأنما ... كسيت برود بني تزيد الأذرع أي: يعثرن بالأرض في حد الظبات، اي: وهن في حد الظبات، ف "في" للوعاء. قال بعض شيوخنا: "وإذا حلفوا في المهارق- وهي الصحائف المكتوبة- فقد جعلوا أيمانهم، إلا أن ل "في" معنى لا تقتضيه الباء، وذلك أنه لو قال حلف بالمصحف فيقتضي أنه/ أحضر له المصحف عند اليمين" انتهى وأما "فكلهم في حبال الغي منقاد" فمضمن معنى موثق، وموثق يتعدى بـ"في" قال:

...................... وموثق في حبال القد مسلوب وأما "وأرغب فيها عن لقيط" فهو على حذف مضاف، أي: وأرغب في إمساكها عن لقيط. وزعم الكوفيون والقتبي أن "في" تكون بمعنى إلى. واستدلوا على ذلك بقوله تعالى {فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ}، أي: إلى أفواههم. وخرج على وجهين، كلاهما فيه "في" باقية على بابها: أحدهما: أن يرد بالأيدي الجوارح، ويكون معنى الآية: إذ ردوا أيديهم في أفواههم، وعضوا أناملهم لما نالهم من الغيظ، كما تعالى {عَضُّوا عَلَيْكُمُ الأَنَامِلَ مِنَ الغَيْظِ}، ومحال أن يعضوا أناملهم بأفواههم إلا بعد إدخالها في الأفواه والآخر: أن يراد بالأيدي النعم، ويعني ب هنا بلغتهم الرسول عن الله- تعالى- من الأمر بما فيه خير لهم، والنهي عما فيه شر لهم؛ لأن ذلك نعمة، فلما لم يقبلوا الكلام من الرسل صاروا كأنهم ردوا كلامهم في أفواههم، والعرب تقول: رد كلام فلان، إذا لم يقبل منه. وقال بعض شيوخنا: " المعنى: أدخلوا أيديهم في أفواههم؛ لأن رد اليد إلى الفم يكون على وجهين: أحداهما بالإدخال، والثاني بغير ذلك، ولو قال: فردوا أيديهم إلى أفواههم- لم يكن فيه ما يدل على أنهم أدخلوا أيديهم في أفواههم، وإدخال اليد في الفم أدخل في الرد" انتهى والذي أقوله: إن هذه كناية عن عدم قبولها ما جاءت به الرسل، أي: صيروا أيديهم في أفواه الرسل، بمعنى: أسكتوهم، وسدوا أفواه الرسل بأيديهم

وأبطلوا ما تكملوا به، فكأنهم لم يسمعوا منهم كلاما؛ لأن أفواههم مسدودة بأيديهم. وزعك الكوفيون أيضا والقتبي والأصمعي أنها تأتي بمعنى "من" واستدلوا على ذلك بقول امرئ القيس: وهل يعمن من كان أحدث عصره ... ثلاثين شهرا في ثلاثة أحوال أي: من ثلاثة أحوال وخرجه ابن جنى على حذف مضاف، والتقدير عنده: في عقب ثلاثة أحوال. قال بعض أصحابنا: "والصحيح عندي أن تكون الأحوال جمع حال لا جمع حول، وكأنه قال: في ثلاثة حالات، ويكون المراد بالأحوال الثلاثة: نزول الأمطار بها، وتعاقب الرياح فيها، ومرور الدهور عليها". قال: "وإنما لم يسغ عندي ما ذهب إليه أبو الفتح لأن المضاف لا يحذف إلا كان عليه دليل، ولا دليل في البيت على ذلك المضاف الذي ادعى حذفه؛ لاحتمال أن يكون كراده ما ذكرناه فلا يحتاج إذ ذاك إلى حذف" وقال بعض شيوخنا: "إنما يريد أن أحدث عهده خمس/ سنين ونصف، فلذلك قال: في ثلاثة أحوال، أي: مداخلة فيها، انتهى وزعم بعض أصحابنا- وتبع أبا علي- أن "في" تأتي زائدة في ضرورة الشعر، قال: "ومن ذلم قول سويد بن أبي كاهل:

أنا أبو سعد إذا الليل دجا ... تخال في سواده يرندجا قال: "ألا ترى أن المعنى: تخال سواده يرندجا، إلا أن ذلك من القلة بحيث لا يقاس عليه" -[ص: ومنها "عن" للمجاوزة، وللبدل، وللاستعلاء، وللاستعانة، وللتعليل، ولموافقة "بعد" و "في". وتزداد هي و "علي" و "الباء" عوضا.]- ش: قال المصنف رحمه الله- في الشرح: "استعمال عن للمجاوزة أكثر من استعمالها في غيرها، ولاقتضاها المجاوزة عدي بها صد وأعرض وأضرب وانحرف وعدل ونهى ونأى ورحل واستغنى وغفل وسها وسلا؛ ولذلك عدى بها رعب ومال ونحوهما إذا قصد ترك المتعلق به، نحو: رغبت عن الأمر، وملت عن التواني. وقالوا: رويت عن فلان، وأنباتك عنه، لأن المروى والمنبأ بهم جاوز لمن أخذ عنه. ولاشتراك عن ومن في معنى المجاوزة تعاقبا في تعدية بعض الأفعال، نحو: كسوته عن عري، ومن عري، وأطعمته عن جوع، ومن جوع، ونزعت الشيء عنه ومنه، وتقبل عنه ومنه، ومنع عنه ومنه، ومن هذا قراءة بعض القراء: {فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ}، فأوقع عن موقع من، والمعنى الواحد، والله أعلم" انتهى ونقول: عن جرف جر بدليل حذفها مع الضمير في نحو: رضيت عمن رضيت، تريد: عنه، فلو كانت اسما لم يجز حذفها مع الضمير ولا حذف الضمير وحده، لو قلت صعدت فوق الذي صعدت فوقه لم يجز حذفه "فوقه" ولا حذف

الضمير وحده، وبدليل جواز حذفها ووصول الفعل إلى ما دخلت عليه كما يحذف غيرها من الحروف، وذلك في ضرورة الشعر، قال: تمرون الديار، ولم تعوجوا ... كلامكم على إذا حرام أي: عن الديار، وليس المعنى: بالديار؛ لقوله: ولم تعوجوا. وقال الآخر: كأن عيني وقد بانوني ... غربان في جدول منجون أي: بانوا عني ولا تخرج عن الحرفية إلا بدليل، وذلك إذا دخل عليها "من" أو "على" ويدل على أنها الغالب عليها الحرفية أنهم إذا جعلوها اسما لم يعربوها، بل يقرونها على ما كانت عليه من البناء. ومعناها اسما كانت أو حرفا المجاوزة، فإذا قلت: أطعمته عن جوع - فقد جعلت الجوع مجاوزا له ومنصرفا عنه. وكذلك: سقيته عن العمية، / وكسوته عن العري، ورميت عن القوس، فالعمية والعري قد تراخيا عنه، وقذفت سهمك عن القوس فجاوزها، وجلست عن يمينه أو من عن يمينه: تراخيت عن يمينه وجاوزتها. وقد تقدم ذكر الخلاف فيها إذا دخل عليها حرف الجر. وقوله وللبدل استدل المصنف في الشرح على كونها للبدل بقوله تعالى: {وَاتَّقُوا يَوْمًا لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا}، وبقولهم: حج فلان عن أبيه، وقضى عنه دينا، وقول الشاعر:

كيف تراني قالبا مجني ... قد قتل الله زيادا عني أي: كان قتل الله زيادا بدل قتلي إياه. ومثله قول الآخر: حاربت عنك عدا قد كنت تحذرهم ... فنلت بي منهم أمنا بلا حذر وما استدل به المصنف يحتمل التأويل؛ ألا ترى أنه يقال: ضمن قتل الله معنى صرف، أي: صرف الله بقتله زيادا عني. وكذلك: حاربت عنك: صرفت بالمحاربة عنك. وقوله وللاستعلاء هذا مذهب كوفي، وقال القتبي وهذا المصنف، واستدلوا بقول الشاعر: لاه ابن عمك لا أفضلت في حسب ... عني، ولا أنت دياني، فتخزوني أي: على. وقال آخر: لو أنك تلقي حنظلا فوق بيضهم ... تدحرج عن ذي سامه المتقارب أي: على سامه. واستدل المصنف بقولهم: بخل عنه، أي: عليه. وخرج ذلك على التضمين، فقال بعض أصحابنا: ضمنه معنى: ما انفردت بحسب عني؛ إذا أفضل عليه في الحسب- أي: زاد- فقد انفرد عنه بتلك الزيادة

وأما "عن سامه" فباقية على موضعها؛ لأن تدحرجه؛ لأن تدحرجه عن ذي سامه المتقارب انتقال عن بعضه إلى بعض. وقال بعض شيوخنا: "إذا كان أفضل، وكان فوقه في الحسب، فقد زال عنه وصار في حيز، فكأنه قال: لاه ابن عمك ما زال قدرك عن قدري، ولا ارتفع شأنك عن شأني" انتهى. وأما "بخل عنه" فالتقدير: بخل بماله عنه، فضمن بخل معنى: رغب بماله عنه، أو كف ماله عنه، وكل منهما يتعدي ب"عن". وقوله وللاستعانة هذا مذهب كوفي أيضا، وقال القتبي وهذا المصنف، زعموا أنها تكون بمعنى الباء. واستدلوا على ذلك بقوله تعالى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى}، أي: بالهوى، وبقول امرئ القيس: تصد وتبدي عن أسيل، وتتقي ... بناظرة من وحش وجرة مطفل أي: بأسيل. وقال المصنف في الشرح: "واستعمال عن للاستعانة كقول العرب:/ رميت عن القوس، كما يقولون: رميت بالقوس، حكى ذلك الفراء/ وحكى أيضا: رميت على القوس، وأنشد:

أرمي عليها، وهي فرع أجمع ... وهي ثلاثة أذرع وإصبع ونازعهم البصريون فيما استدلوا به، فقال بعض أصحابنا في قوله: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى} "عن فيه باقية على معناها؛ لأن المعنى: ما صرف نطقه عن الهوى". وقال بعض شيوخنا: "هو بمنزلة: أطعمتك عن جوع؛ لأنه نفى- تعالى- عن رسوله - صلى الله عليه وسلم - أن يكون نطقه كنطق غيره الذين ينطقون عن الهوى، فهو كما تقول: ما تكلم عن حرج". وأما "عن أسيل" فليست عن فيه متعلقة ب"تصد" كما توهموا، بل ب" تبدي"، وكأنه قال: وتبدي عن أسيل، كما قال الآخر: يهيل، ويبدي عن عروق، كأنها ... أعنة خزار جديدا وباليا وإنما عدى تبدي ب"عن" لأنه إذا أبدى عن الشيء فقد صرف عنه ما يستره. ويرجح كون "عن أسيل" متعلقا ب"تبدي" لا ب"تصد" أنه يؤدي إعمال تصد فيه أن يحذف معمول تبدي، وذلك لا يجوز إلا في ضرورة، ولا حاجة تدعو إلى ارتكابها. وقال بعض شيوخنا: "وأما البصيرون فيذهبون إلى التضمين؛ لأنه إذا أبدت فقد أزالت الستر، فكأنه قال: تصد وتزيل الستر عن أسيل" وأما ما استدل به المصنف من قول العرب: رميت عن القوس، ورميت بالقوس، بمعنى واحد، وأن عن للاستعانة- فغير مسلم، وقد بينا كون عن في رميت

عن القوس للمجاوزة. وأما رميت بالقوس فالباء فيه للاستعانة، فكل واحد منها موضوع في مكانه. وقوله وللتعليل قال المصنف في الشرح: " واستعمال عن للتعليل كقوله تعالى: {وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ}، وقوله تعالى: {وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ}،ومنه قوله ضابئ البرجمي: وما عاجلات الطير تدني من الفتى ... نجاحا، ولا عن ريثهن يخيب"انتهى وهذا الذي ذكره المصنف هو مذهب للكوفيين، زعموا أن "عن" تكون بمعنى: من أحل، قالوا: ومن ذلك: أطعمه عن جوع، أي: من أجل جوع، وقول الشاعر: بسير، تقلص الغيطان عنه ... يبذ مفازة الخمس الكمال يريد: من أجله، وقول الآخر

ولقد شهدت إذا القداح توحدت ... وشهدت عند الليل موقد نارها عن ذات أولية أساود ربها ... وكان لون الملح فوق شفارها يريد: من أجل ذات أولية، والأولية: جمع ولي، وهو الثاني من الوسمي، ويريد به الربيع الذي يكون عنه. وتابع أبو بكر بن السراج على كون "عن" بمعنى "من أجل" في قولهم: أطعمنهم عن جوع. وليس على ما ذهبوا إليه، بل كل واحدة من "عن" و "من" باقية على معناها، فإذا/ قالوا: أطعمته من جوع- فإنما يريدون: من أجل الجوع، وإذا قالوا: أطعمه عن جوع- فإنما أتوا ب "عن" لأن الإطعام بعد الجوع، وإذا كان بعد الجوع فقد تجاوز وقته وقت الجوع. وكذلك "بسير تقلص الغيظان" لأنها إنما تقلص بعد وقوع السير، فقد تجاوز وقت القلوص وقت السير. وأما "عن ذات أولية" ف"عن" فيه متعلقة بأساود، وأساود مضمن معنى أسائل؛ ومساودته له في حقها سؤال عنها. ويمكن أيضا أن يضمن أساود معنى أخادع؛ لأنه إنما ساود ربها ليخدعه عنها، قاله بعض أصحابنا. وأما ما استدل به المصنف من قوله تعالى: {إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ}، و {عَنْ قَوْلِكَ}، وقول ضابئ "ولا عن ريثهن يخيب"- فمتأول على أن المعنى: إلا بعد موعده، وبعد قولك، وبعد ريثهن، وإذا كان ذلك بعد فقد تجاوز الوقت الوقت.

وقوله ولموافقة بعد هذا أيضا مذهب كوفي، وتبعهم القتبي وهذا المصنف. واستدلوا بقوله تعالى: {لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ}، أيه: بعد طبق، وقول امرئ القيس: وتضحى فتيت المسك فوق فراشها ... تؤرم الضحى، لم تنطق عن تفضل يريد: بعد تفضل، وقول الآخر: ومنهل وردته عن منهل يريد: بعد منهل. قال المصنف: ومنه قول الشاعر: قربا مربط النعامة مني ... لقحت حرب وائل عن حيال ومثله: لئن منيت بنا عن غب معركة ... لا تلفنا عن دماء القوم ننتفل أي: ننثني قال بعض شيوخنا: "والذي يظهر أن الانتطاق لما كان بعد التفضل صار شبيها بما يكون مسببا عنه، فصار يقرب من قولك: كلمته عن حرج، وأكلت عن جوع، وشربت عن عطش. وكذا الكلام في قوله:

ومنهل وردته عن منهل وينبغي على قول الكوفيين ومن تبعهم أن تكون عن ظرفا؛ لأنها بمعنى بعد، ولا أعلم أحدا قال فيها إنها اسم إلا إذا دخل عليها حرف الجر" انتهى وقال بعض أصحابنا: "وقعت في هذه المواضع (عن) موقع (بعد) لتقارب معنييهما؛ لأن (عن) تكون لكل عدا الشيء وتجاوزه، و (بعد) لما تبعه وعاقبه، فإذا جاء الشيء بعد الشيء فقد عدا وقته وقته وتجاوزه" انتهى. وهذا التأويل سائغ في: "عن حيال"، و"عن غب معركة". وقوله وفي قال المصنف في الشرح: "واستعمال عن موافقة ل (في) كقول الشاعر: وآس سراة الحي حيث لقيتهم ... فلا تك عن حمل الراعة واني أي: في حمل الرباعية وانيا. وجعلت هنا الأصل (في) كقوله تعالى: {وَلا تَنِيَا فِي ذِكْرِي} " انتهى. وتعدية وني ب (عن) مستعمل في لسان العرب، وفرق بين: ونى عن كذا، وونى في كذا، فإذا قلت ونى عن ذكر الله فالمعنى المجاوزة وأنه لم يذكره، وإذا قلت ونى في ذكر الله فقد التبس بالذكر، ولحقه فيه فتور وأناة. قال بعض أصحابنا: "وهذا الذي ذهب إليه الكوفيون باطل؛ غذ لو كانت لها معاني هذه الحروف لجاز أن تقع حيث تقع هذه الحروف، فكنت تقول: زيد

عن الفرس، تريد: على الفرس، وجئت عن العصر، تريد: بعد العصر، وأتيك عن زيد، تريد من أجل زيد، وتكلم عن خير، تريد: بخير. فلما لم تفعل العرب ذلك دل على أنها ليست لها معاني هذه الحروف، وإذا لم تكن لها معاني هذه الحروف وجب أن يتأول جميع ما استدل به الكوفيون. وقوله وتزداد هي وعلى الباء عوضا أنشد المصنف على زيادة عن عوضا قول الشاعر: أتجزع إن نفس أتاها حمامها ... فهلا التي عن بين جنبيك تدفع وقال: "قال ابن جنى: (أراد: فهلا عن التي بين جنبيك تدفع، فحذف عن، وزادها التي عوضا) ". وأنشد على زيادة "على" عوضا قول الراجز: إن الكريم- وأبيك- يعتمل ... إن لم يجد بوما على من يتكل وقال: "قال ابن جنى: (أراد: إن لم يجد يوما من يتكل عليه، فحذف عليه، وزاد على قبل من عوضا) " انتهى ولا يتعين هذا التأويل؛ لاحتمال أن يكون الكلام تم عند قوله: إن لم يجد يوما، أي: إذا لم يجد ما يستعين به اعتمل بنفسه، ثم قال: على من يتكل؟ و"من" استفهامية، كأنه قال: على أي شخص يتكل؟ أي: لا أحد يتكل عليه،

فيحتاج أن يعتمل بنفسه لإصلاح حاله، ف "على" من قوله "على من" ب"يتكل وأنشد المصنف على زيادة الباء عوضا قول الشاعر: ولا يواتيك فيما ناب من حدث ... إلا أخو ثقة، فأنظر بمن تثق وقال:"أراد: من تثق به، فحذف (به) وزاد الباء قبل من عوضا" انتهى. ولا يتعين هذا التأويل الذي ذكره لاحتمال أن يكون الكلام تم عند قوله "فانظر"أي: فانظر لنفسك، ولما تقدم أنه لا يواتيه إلا أخو ثقة استدرك على نفسه، فاستفهم على سبيل الإنكار على نفسه حيث قرر وجود أخي ثقة، فقال: بمن تثق، أي: لا أحد يوثق به، فالباء في بمن متعلقة ب"تثق". قال المصنف في الشرح: "ويجوز عندي أن تعامل بهذه المعاملة: من واللام وإلى وفي، قياسا على عن وعلى الباء، فيقال: عرفت ممن عجبت، ولمن قلت، وإلى من أويت، وفيمن رغبت، والأصل: عرفت من عجبت منه، ومن قلت له، ومن أويت إليه، ومن رغبت فيهن فحذف ما بعد من، وزيد ما قبلها عوضا". انتهى وهذا الذي أجازه المصنف قياسا لم يثبت الأصل الذي يقاس عليه؛ ألا ترى إلى ما ذكرناه من التأويل فيما استدل به، ولو كانت لا تحتمل التأويل لكانت من الشذوذ والندور والبعد من الأصول بحيث لا يقاس عليها ولا يلتفت إليها.

وما ذهب إليه المصنف من أن "عن" و"على" تكونان زائدتين ليس بصحيح، وقد نص س على أن "عن" و"على" لا يزادان لا عوضا ولا غير عوض. فأما قول الشاعر: فأصبحن لا يسألنه عن ما به ... أصعد في غاوي الهوى أم تصوبا فالذي ينبغي أن يحمل عليه البيت أن الباء زائدة التوكيد؛ لأن الباء معهود زيادتها، ولم يعهد زيادة عن، وإنما زيدت للتأكيد لأنك تقول: سألت عنه، وسألت به"، فمعناها قريب من معنى. وقد نص ابن جنى على زيادة الباء في "عن بما في" كما زادوا اللام للتأكيد في قول الشاعر: فلا والله لا يلفى لما بي ... ولا للما بهم أبدا دواء -[ص: ومنها للاستعلاء حسا أو معنى، وللمصاحبة، وللمجاوزة، وللتعليل، وللظرفية، ولموافقة "من" و "الباء" وقد تزاد تعويض.]- ش: أي: ومن الحروف الجر "على". وهذا الذي ذكره من أن "على" حرف جر هو لمشهور عند النحاة، وقد مر ذكر الخلاف فيها ومذهب من زعم أنها لا تكون أبدا إلا اسما. وقال في "الإفصاح" وقد اختلف أشياخنا إذا كانت اسما أمعربة هي أم مبنية؛ فقال أبو لقاسم بن القاسم: هي مبينية، والألف فيها كالألف في هذا وما؛ بدليل عن إذا كانت اسما وكاف التشبيه ومنذ ومذ، يبنى كل واحد منهما لتضمنه معنى الحرف الذي يكونه؛ لأنهما بمعنى واحد.

وكذا كان يقول أبو الحسن بن خروف، كان يقول: لا تكون إلا اسما، وكل من أدركنا ممن يقول لا تكون إلا اسما يجعلها معربة، وهو القياس؛ لأنها تخرج عن شبه الحرف؛ إذا لا حرف في معناها، وقلة تصرفها لا توجب لها البناء، كعند وذات مرة وبعيدات بين. وقد قال بعض أشياخنا: "هي معربة وإن كانت تكون حرفا؛ لأنه لم تظهر فيها علامة البناء، فينبغي أن تحمل على أصل الأسماء من الإعراب، وما ذكره أبو القاسم هو الوجه والقياس" انتهى ومثال الاستعلاء حسا قوله تعالى: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ}، {وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ}. ومثاله معنى {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ}، {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ} / {بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ}. قال المصنف في الشرح: "ومن هذا النوع المقابلة اللم المفهمة ما يحب، كقول الشاعر: فيوم علينا، ويوم لنا ... ويم تساء، ويوم نسر ومثله قول الآخر: عليك لا لك من يلحاك في كرم ... مخوفا ضرر الإملاق والعدم ومثله: لك لا عليك من استغنت، فلم يعن ... إلا على ما ليس فيه ملام

ومن هذا النوع وقوع (على) بعد وجب وشبهه؛ لأن وجب عليك مقابلة لوجب لك. وكذا وقوعها بعد كذب وشبهه. ومن الاستعلاء المعنوي وقوعها بعد كبر وصعب وعسر وعظم مما فيه ثقل. وكذلك ما دل على تمكن، نحو {أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ}، (وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت) " انتهى قال بعض أصحابنا: وقد يعرض فيها إشكال في بعض المواضع، فيظن أنها فارقت معنى الاستعلاء وليس كذلك، فمن تلك المواضع: زوت زيدا على مرضي، وأعطيته على أنه شتمني، ومنه قول فيس الرقيات: ألا طرقت من آل بثنة طارقة ... على أنها معشوقة الدل عاشقة وخفي على كذا، وأشكل على كذا، وتقول عليه، وحمل عليه كذا، قال: وما زالت محمولا على ضغينة ... ومضطلع الأضغان مذ أنا يافع واتصل بي هذا على لسان فلان، وجازاه على كذا، وعاقبه على كذا، وكر عليه، وعطف عليه، ورجع عليه، وحنى عليه. وهذا كله من المجاز وتشبيه المعقول بالمحسوس. وقوله وللمصاحبة هذا مذهب كوفي، وقال به الفتبي وهذا المصنف، واستدل في شرحه بقوله تعالى: (وءاتى المال على حبه ذوي القربى)

{وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ}، {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ}، {فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ}، {أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ}،.ومنه (وبشره بالجنة على بلوى تصيبه)، أي: مع بلوى تصيبه. انتهى ما استدل به. واستدل الكوفيون والقتبي بقول لبيد: كأن مصفحات في ذاره ... وأنواحا عليهن المآلي أي: معهن المآلي، وقول الآخر: وبردان من خال وسبعون درهما ... على ذاك مقروظ من القد ماعز أي: مع ذلك. وتأول أصحابنا ما استدلوا به، فقال بعضهم: "عليهن المآلي"، "على" فيه/ على معناها؛ لأن العرب تجعل ما أشرف على جزء من الجسم مشرفا على الجسم

كله، فتقول: جاء زيد وعليه خف. ويمكن أن يكون على حذف مضاف، أي على أيديهن المآلي، وعلى رجليه خف. وأما "على ذاك" فهو خبر لمقروظ، فيتعلق بمحذوف، والتقدير: زائد على ذلك مقروظ، هذا إذا كان مراده أن يعطي مع الأشياء التي ذكرها قبل جلدا مقروظا، أي: مدبوغا بالقرظ. وإن كان مراده عيبة من جلد مدبوغ بالقرظ فيه البردان والسبعون درهما كانت (على) في موضعها؛ أنها إذا كانت في المقروظ فالمقروظ عليها. وقال بعض شيوخنا في قول لبيد: كأن مصفحات في ذراه ... وأنواحا عليهن المآلي هذا عند البصريين على التضمين؛ لأنه يصف سحابا، والذرا: أعالي السحاب، والأنواح: جمع نوح، وهي النائحات، والمآلي: الخرق التي تجفف بها الخرق، وهي عليها، لأنهن إذا بكين وجففن عيونهن بالمآلي وضعنها على أكتافهن وعلى وجوههن ف"على" في موضعها، وهذا من عكس التشبيه؛ لأن الدموع هي التي تشبه بالأمطار، كما قال امرؤ القيس: فدمعها سكب، وسح، وديمة ... ورش، وتوكاف، وتنهلان وأما ما استدل به المصنف فلا دليل فيه، ويمكن حمل "على" في ذلك على موضعها مجازا.

وقوله وللمجاوزة هذا أيضا مذهب كوفي، وتبعهم القتبي وهذا المصنف، قال في الشرح: "واستعمالها للمجاوزة موقوعها بعد بعد وخفى وتعذر واستحال وحرم وغضب وأشباهها، ولمشاركتها عن في المجاوزة تعاقبتا في بعض المواضع، نحو: رضي عنه وعليه، وأبطأ عنه وعليه، وأحال بوجهه عنه وعليه: إذا عدل عنه، وولى بوده عنه وعليه، قال الشاعر: وإن بشر يوما أحال بوجهه ... عليك فحل عنه وإن كان دانيا وقال آخر: إذا ما أمرؤ ولى على بوده ... وأدبر لم يصدر بإدباره ودى ويروى: لم يدبر. إذا رضيت على بنو قشير ... لعمر الله أعجبني رضاها وقوله: أرمي عليها وعي فرع أجمع وقوله:

لم تعقلا جعفرة على، ولم ... أوذ صديقا، ولم أكن طبعا وقوله: إذا ما أمرؤ ولى على بوده ... ...... وتأول البصريون ذلك: فأما "إذا رضيت علي" فمضمن معنى العطف، لأنه إذا رضي عنه فقد عطف عليه. أو أجرى رضي مجرى ضده، وهو سخط، فعداه تعديته، فكما يقال سخط عليه قيل رضي عليه. وأما "أرمى عليها" فيه على بابها؛ لأنه إذا رمى بالقوس جعل سهمه عليها، فكأنه قال: أرمى السهم بالرمي عنها. ومن قال رميت بالقوس، فأدخل الباء على القوس لأنها آلة للرمي. وأما "لم تعقلا جفرة علي" ف"على" متعلقة بفعل محذوف، كأنه قال: لم تعقلا جعفرة تعتدان بها علي، ف"على" باقية فيه على بابها. وأما "ولى على بوده" فمضمن معنى ما يتعدى بعلى- وهو بخل- لأنه إذا ولى بوده عنه فقد بخل به عليه. وقوله وللتعليل قال المصنف في الشرح: "كقوله تعالى {وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ}، ومنه قول الشاعر:

على مورثات المجد تحمد، فاقنها ... ودع ما عليه ذم من كان قد ذما وعليه قول الآخر: على م تقول الرمح يثقل عاتقي ... إذا أنا لم أطعن إذا الخيل كرت أي: لأي سبب؟ ومنه قول ضريب بن أسد القيسي: على م قلت نعم حتى إذا وجبت ... ألحقت (لا) بـ (نعم)، ما هكذا الجود" انتهى. وزعم الكوفيون والقتبي أن "على" تكون بمعنى اللام، واستدلوا بقول الراعي: رعته أشهرًا، وخلا عليها ... فطار الني فيها، واستعارا أي: خلا لها. وتأوله البصريون على تضمين "خلا" معنى وقف؛ لأنه إذا خلا لها فقد وقف عليها. يصف إبلًا سمنت بسرعة، والني: الشحم، واستعار: يريد استعر من السعير، وهو افتعل، أشبع الفتحة، فتولد منها ألف. وقوله وللظرفية هذا مذهب كوفي، وتبعهم القتبي وهذا المصنف. واستدلوا بقوله: {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ}، أي: في ملك سليمان، وبقوله: {وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ}، وقال الشاعر:

يمرون بالدهنا خفافًا عيابهم ... ويخرجن من دارين بجر الحقائب على حين ألهى الناس جل أمورهم ... فندلًا-زريق-المال ندل الثعالب وتأول البصريون (تتلو) على تضمينها معنى تتقول وتكذب، وتقول: قال عليه ما لم يقل، أي: كذب عليه؛ لأنها إذا تلت فيه ما ليس بصحيح فقد تقوله، وقالت/عليه ما ليس بصحيح. وأما ((على حين)) فللاستعلاء المجازي، لما تمكن من الدخول أو الخروج في ذلك الوقت صار مستعليًا عليه على سبيل المجاز. وقوله ولموافقة من هذا مذهب كوفي أيضًا، وتبعهم القتبي وهذا المصنف. واستدلوا بقوله: {إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ}، أي: من الناس، وقوله: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ، إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ}، المعنى: من أزواجهم. فأما {إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ} فعلى ما ذكره الفراء، وهو أن من وعلى اعتقبا مع اكتال؛ لأنه حق [عليه]، فإذا قال اكتلت عليك فكأنه قال: أخذت ما عليك، وإذا قال اكتلت منك فكأنه قال: استوفيت منك. وقال بعض شيوخنا: "والبصريون يذهبون إلى التضمين، وكأن المعنى-والله أعلم-: إذا حكموا على الناس في الكيل استوفوا؛ لأن ذلك لا يكون حتى يلوا الكيل بأنفسهم" انتهى.

وأما {إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ} فضمن {حَافِظُونَ} معنى: قاصرون-والله أعلم- أي: والذين هم قاصرون فروجهم إلا على أزواجهم، تقول: قصرت أمري على فلان. وقوله والباء هذا أيضًا مذهب كوفي، وتبعهم القتبي وهذا المصنف. واستدلوا بقوله تعالى: {حَقِيقٌ عَلَى أَنْ لا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ}، أي: بألا أقول. وقرأ أبي بن كعب: {أَنْ لا أَقُولَ}، فكانت قراءته مفسرة لقراءة الجماعة، وبقول أبي ذؤيب: وكأنهن ربابة، وكأنه ... يسر يفيض على القداح ويصدع وبقول الآخر: شدوا المطي على دليل دائب ... من أهل كاظمة بسيف الأبحر أي: يفيض بالقداح، وبدليل دائب. وقالت العرب: اركب على اسم الله، أي: باسم الله. فأما {حَقِيقٌ عَلَى أَنْ لا أَقُولَ} فخرج على تضمين (حقيق) معنى حريص، أي: حريص على ألا أقول على الله إلا الحق.

وأما "يفيض على القداح"، و"على دليل"، و"على اسم الله"-فخرج على تعليق ((على)) بمحذوف، أي: يفيض صائحًا على القداح، واركب معتمدًا على اسم الله، وشدوا المطي معتمدين على دليل. وقوله وقد تزاد دون تعويض إنما قال "دون تعويض" لأنه كان قد قدم أن عن وعلى والباء تزاد عوضًا، وتقدم لنا تأويل ما استدل به، ودعواه زيادة "عن"و"على" مخالف لنص س، قال س: عن وعلى لا يزادان. واستدل المصنف بقول حميد بن ثور: أبى الله إلا أن سرحة مالك ... على كل أفنان العضاه تروق قال: ((وزاد على لأن راق متعدية مثل أعجب، تقول: راقني حسن الجارية، وأعجبني عقلها، وفي الحديث (من حلف على يمين)، والأصل: حلف يمينًا، قال/النابغة: حلفت يمينًا غير ذي مثنوية ..................................)) انتهى.

ولا دليل فيما استدل به؛ لأنه يحتمل التضمين، فضمن تروق معنى تفضل وتشرف، أي: تشرف على كل أفنان العضاه. وأيضًا فنسبة إعجابها كل أفنان العضاه لا تصح إلا بمجاز بعيد؛ لأن الأفنان لا تعجب، لو قلت: أعجبت شجرتك هذا الشجر-لم يصح إلا بتكلف جعل الشجر نزل منزلة العاقل حتى يصير يعجب. وأما (من حلف على يمين) فإن صح أنه من لفظ الرسول فهو مضمن معنى جسر، أي: من جسر بالحلف على يمين. قال بعض أصحابنا فيما ذهب إليه الكوفيون ومن تبعهم من أن (على) تأتي بمعنى عن، ومعنى اللام، ومعنى الباء، ومعنى مع، ومعنى في، ومعنى من: لو كان لها هذه المعاني لوقعت موقع هذه الحروف، فكنت تقول: زلت عليه، أي: عنه، وعلى زيد مال، أي: لزيد مال، وكتبت على القلم، أي: بالقلم، وجاء زيد على عمرو، أي: مع عمرو، والدرهم على الصندوق، أي: في الصندوق، وأخذت الدرهم على الكيس، أي: من الكيس، فلما لم تقل العرب ذلك دل على أنها ليست لها معاني هذه الحروف، فوجب أن يتأول جميع ما استدلوا به. -[ص: ومنها "حتى" لانتهاء العمل بمجرورها أو عنده، ومجرورها إما بعض لما قبلها من مفهم جمع إفهامًا صريحًا أو غير صريح، وإما كبعض. ولا يكون ضميرًا، ولا يلزم كونه آخر جزء أو ملاقي آخر جزء، خلافًا لزاعم ذلك. ويختص تالي الصريح المنتهي به بقصد زيادة ما، وبجواز عطفه، واستئنافه. وإبدال حائها عينًا لغة هذيلية.]- ش: "حتى" عاطفة، ويأتي حكمها في حروف العطف. وحرف ابتداء، يجيء بعدها المبتدأ والخبر، وهل ذلك المبتدأ والخبر في موضع جر أو لا موضع له من الإعراب؟ الأول مذهب الزجاج وابن درستويه،

والثاني مذهب الجمهور، وسنتكلم على ذلك إن شاء الله تعالى آخر كلام ((حتى)) الابتدائية. وجارة، وهي على قسمين: تارة تدخل على الفعل المضارع المنصوب، كقوله تعالى: {حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ}، فيكون المجرور مصدرًا مقدرًا، وحكمها مذكور في الحروف التي ينتصب الفعل بإضمار أن بعدها، وقد أمعنا الكلام فيها هناك. وتارة تدخل على الاسم الصريح، فتجره، وهي التي نتكلم فيها هنا، نحو قوله تعالى: {سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ}، و {لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ}. وكونها جارة بنفسها هو مذهب البصريين. وقال الفراء في "كتاب الحدود": "حتى خافضة لنيابتها عن (إلى)، كما في واو القسم لنيابتها عن الباء، وواو رب، وربما أظهروا (إلى) في بعض المواضع، قالوا: جاء الخير حتى إلينا، وجمعوا بينهما بتقدير إلغاء أحدهما، وقد يجمعون بين الحرفين إذا اختلف اللفظان، فيقولون: رأيتك/من غير لا فحش ولا ريبة، وقالوا: جئت لكي تقوم، فجمعوا بين اللام وكي، وأنشدني أبو ثروان: أرادت لكيما لا ترى لي غفلًة ... ومن ذا الذي يعطي الكمال فيكمل وقد جمعوا بين ثلاثة أحرف لمعنى، أنشدني الكسائي: أردت لكيما أن تطير بقربتي ... فتتركها شنا ببيداء بلقع

وأنشدني بيتًا فيه: لا إن ما رأيت ............................. ... ............................ جمع بين ثلاثة أحرف للجحد". وقوله لانتهاء العمل بمجرورها أو عنده قال في الشرح: "نحو: ضربت القوم حتى زيد، فزيد مضروب، انتهى الضرب به، ويجوز أن يكون غير مضروب، لكن انتهى الضرب عنده، وإذا كان انتهاء الضرب به ففي ذكر القوم غنًي عن ذكره، لكن قصد التنبيه على أن فيه زيادة ضعف أو قوة أو تعظيم أو تحقير"انتهى. وقال صاحب "الذخائر": "إذا جرى على الغاية فيحتمل أن يكون ما بعدها داخلًا فيما قبلها أو غير داخل؛ لأن المعنى الانتهاء، فإذا قلت: ضربت القوم حتى زيد-فمعناه: حتى انتهى إلى زيد، فيجوز أن يكون معهم وألا يكون، إلا أن يدل دليل عليه" انتهى. يعني أنه على حسب الدليل من دخول أو خروج. وجماع القول في حتى هذه بالنسبة إلى ما يجوز في الاسم بعدها من الإعراب أن الاسم الواقع بعدها إما أن يقع بعده ما يصلح أن يكون خبرًا أو لا؛ إن لم يقع فإما أن يتقدم ما يصلح أن يكون ما بعد حتى غاية له أو لا يتقدم، إن لم يتقدم نحو: العجب حتى الخز يلبس زيد-فأجاز الجر فيه الكسائي والفراء، ومنعه البصريون. وإن تقدم ما يصلح أن يكون ما بعد حتى غاية فإما أن يكون جزءًا لما قبلها أو لا، إن لم يتقدم ما يصلح أن يكون جزءًا له فالجر، نحو: نمت حتى الصباح. أو تقدم واحتفت به قرينة تدل على أنه غير داخل في حكم ما قبله فالجر، نحو: صمت

الأيام حتى يوم الفطر، أو لم تحتف به قرينة فالجر، وحمل على تشريكه لما قبله في الحكم، ويجوز العطف، وهو لغة ضعيفة، فيتبع، إلا إن اقترنت به قرينة تدل على أن المراد العطف، فلا يجوز الخفض إذ ذاك، نحو: ضربت القوم حتى زيدًا أيضًا؛ لأن "أيضًا" تدل على إرادة تكرار الفعل، وهذا المعنى لا يعطيه إلا العطف، كأنك قلت: ضربت القوم حتى ضربت زيدًا أيضًا. ولا يجيز البصريون رفعه على الابتداء والخبر محذوف، وأجازه بعض الكوفيين. ورد بأنه لم يسمع، والقياس يأباه. قال الأستاذ أبو علي: لأن حتى مهيأة للعمل في الاسم من حيث هو مفرد، ثم قطعتها عنه، ولأنه يلزم من ذلك إعمال العامل المعنوي وترك العامل اللفظي مهيأ للعمل فيه؛ واللفظي أقوى من المعنوي. أو وقع اسمًا مفردًا فلا يجوز إلا أن تكون حرف ابتداء، نحو: ضربت القوم حتى زيد مضروب. أو ظرفًا أو مجرورًا فالابتداء والجر والعطف، /نحو: القوم عندك حتى زيد عندك، والقوم في الدار حتى زيد فيها. أو جملًة اسمية وما بعدها شريك لما قبلها في المعنى فتلك، نحو: ضربت القوم حتى زيد هو مضروب، أو غير شريك فالرفع بالابتداء لا غير، نحو: ضربت القوم حتى زيد أبوه مضروب. وأجاز الكوفيون الجر في نحو: ضربت القوم حتى زيد فتركت. ومنعه البصريون. أو فعليًة وهو غير شريك فالابتداء والحمل على إضمار فعل يفسره ما بعد حتى؛ نحو: ضربت القوم حتى زيد ضربت أخاه. أو شريك والفعل عامل في ضمير الاسم الذي قبل حتى فالجر والعطف، نحو: ضربت القوم حتى زيد ضربتهم، أو في

ضمير ما بعد حتى فالابتداء، والجملة خبره، وحمله على إضمار فعل يفسره الفعل بعده، فالجر والعطف، نحو: ضربت القوم حتى زيد ضربته، ومن ذلك: ألقى الصحيفة كي يخفف رحله ... والزاد حتى نعله ألقاها وزعم بعض شيوخ الأندلس أن الخفض والعطف في هذه المسألة لا يجوزان، وزعم أن الضمير في "ألقاها" عائد على الصحيفة، ولا يجوزان إلا إذا كان الضمير عائدًا على ما قبل حتى. والصحيح جواز ذلك، وتكون تأكيدًا معنويا من حيث كان زيد شريكًا لهم في الضرب، فضربته توكيد لما اقتضاه معنى الكلام من أنك ضربت زيدًا. وزعم الكوفيون أنه لا يجوز الجر في نحو: ضربت القوم حتى زيد ضربته، إلا أن تقول: فضربته. وأجاز الجر فيهما البصريون. قال المصنف في الشرح: "ويجوز كون تالي الصريح منتهًى عنده لا به كما يجوز مع إلى، فإنهما سواء في صلاحية الاسم المجرور بهما للانتهاء به والانتهاء عنده؛ أشار إلى ذلك س والفراء وأبو العباس أحمد بن يحيي، وقال أحمد بن يحيي: (قوله {إِلَى الْمَرَافِقِ}) مثل حتى للغاية، والغاية تدخل وتخرج، يقال: ضربت القوم حتى زيد، فيكون مرة مضروبًا وغير مضروب، فيؤخذ هنا بالأوثق). يريد أن

كون المرافق مدخلة في الغسل هو المعمول به؛ لأنه أحوط الحكمين. ومن شواهد استواء حتى وإلى أن قوله تعالى: {فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ}، قرأه عبد الله {فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ} ومن شواهد خروج ما بعد حتى مع صلاحيته للدخول قول الشاعر: سقى الحيا الأرض حتى أمكن عزيت ... لهم، فلا زال عنها الخير محدودا" انتهى. وقد تقدم من قولنا أنه إذا لم تحتف قرينة تدل على أن ما بعد حتى إذا كان مجرورًا غير داخل في حكم ما قبلها فإنه يكون داخلًا في حكم ما قبلها، نحو: ضربت القوم حتى زيد، ولا حجة له في قراءة عبد الله {فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ}؛ لأنه لم يذكر قبل حتى ما يصلح أن يكون ما بعدها جزءًا له، فهو من التالي غير الصريح، كقولك: نمت حتى الصباح، /فالصباح لم يقع فيه نوم. وكذلك لا حجة في البيت وإن كان قد تقدم ما يصلح أن يكون ما بعد حتى جزءًا؛ لكن احتفت به قرينة تدل على عدم دخوله في حكم ما قبل حتى، وهي قوله: "فلا زال عنها الخير محدودا". قال أصحابنا: وما بعد (حتى) لا يكون إلا داخلًا في معنى ما قبلها، إلا أن تقترن بالكلام قرينة تدل على خلاف ذلك. وفي "الإفصاح": اختلف الناس فيما بعد حتى إذا كانت جارة هل يدخل فيما قبلها أم لا: فمذهب أبي العباس وأبي بكر وأبي علي أنه داخل على

كل وجه. وقال الفراء والرماني وجماعة: يدخل ما لم يكن غير جزء منه، نحو قولهم: إنه لينام الليل حتى الصباح. واتفقوا على أنها إذا عطفت دخل ما بعدها فيما قبلها. واتفقوا على أنها لا تعطف إلا حيث تجر، ولا يلزم العكس. واتفقوا على أنه إذا لم يكن قبلها ما يعطف عليه لم يجز إلا الخفض، نحو {حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ}، و {حَتَّى حِينٍ}. وصرح س أن ما بعدها داخل فيما قبلها ولابد، لكنه مثل بما هو بعض مما قبله. وقال أبو العباس: "أكلت السمكة حتى رأسها، فالرأس قد دخل في الأكل؛ لأن معناها عاملًة وعاطفًة واحد". وقوله ومجرورها إلى قوله أو غير صريح قال المصنف في الشرح: "وعنيت بالصريح كونه بلفظ موضوع للجمعية، فيدخل في ذلك الجمع الاصطلاحي واللغوي كرجال وقوم. وعنيت بغير الصريح ما دل على الجمعية بغير لفظ موضوع لها، كقوله تعالى: {لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ}، فإن مجرور حتى فيه منتهًى لأحيان مفهومة غير مصرح بذكرها". وقوله وإما كبعض مثاله: ألقى الصحيفة ............................ ... .................................

البيت؛ لأن النعل ليست بعضًا من الصحيفة والزاد، لكنها كبعض باعتبار أن إلقاء الصحيفة والزاد إنما كان ليخلو من ثقل وشاغل، والنعل مما يثقل ويشغل، فجاز عطفها لذلك؛ لأنه بمنزلة أن تقول: ألقى ما يثقله حتى نعله. ويروي "نعله" بالأوجه الثلاثة. وقوله ولا يكون ضميرًا أي: ولا يكون المجرور بحتى ضميرًا. هذا مذهب س. وأجاز الكوفيون والمبرد جرها للمضمر، واستدلوا بقول الشاعر: فلا والله لا يلقى أناس ... فتى حتاك، يا بن أبي يزيد وهذا البيت عند البصريين ضرورة. ومن أجاز أن تجر المضمر أدخلها على المضمرات المجرورات كلها، نحو: حتاي وحتاه وحتاهما وحتاكما وحتاكم وحتاهم وحتانا وحتاكن. ولا ينبغي القياس على حتاك من هذا البيت، فيقال ذلك في سائر الضمائر. وانتهاء الغاية في حتاك هنا لا أفهمه، ولا أدري ما غيي هنا بحتاك، فلعل هذا البيت مصنوع. وقوله ولا يلزم إلى قوله خلافًا لزاعم ذلك قال المصنف في الشرح: "والتزم الزمخشري كون/مجرورها آخر جزء أو ملاقي آخر جزء، وهو غير لازم، ومن دلائل ذلك قول الشاعر: إن سلمى من بعد يأسي همت ... بوصال، لو صح لم يبق بوسا

عينت ليلًة، فما زلت حتى ... نصفها راجيًا، فعدت يؤوسا" انتهى. وما نقله عن الزمخشري هو قول أصحابنا، قال بعضهم: "ولا يكون الاسم الذي انجر بها إلا آ×ر جزء من الشيء، نحو قولك: أكلت السمكة حتى رأسها، أو ملاقيًا لآخر جزء منه، نحو قولك: سرت النهار حتى الليل، ولو قلت: أكلت السمكة حتى وسطها، وسرت النهار حتى نصفه- لم يجز ذلك، بل إذا أردت ذلك المعنى أتيت بإلى، فقلت: أكلت السمكة إلى وسطها، وسرت النهار إلى نصفه، فـ (إلى) في استعمالها لانتهاء الغاية أقعد من (حتى)؛ لأنها تدخل على كل ما جعلته انتهاء غاية، وسواء في ذلك أن يكون آخر جزء من الشيء أو ملاقيًا لآخر جزء، أو لا يكون، ولما كانت أقعد منها في ذلك جروا بها الظاهر والمضمر، ولم يجروا بحتى إلا الظاهر" انتهى. وما استدل به المصنف من قوله "عنيت ليلةً" البيت، لا حجة فيه؛ لأنه لم يتقدم حتى ما يكون ما بعدها جزءًا له، ولا ما يكون ما بعدها ملاقيًا لآخر جزء منه في الجملة المغيا العامل فيها بحتى، فليس البيت نظير ما مثل به أصحابنا من قولهم: أكلت السمكة حتى وسطها؛ لأنه تقدم السمكة في الجملة المغيا العامل فيها بحتى، وليس الوسط آخر جزء في السمكة ولا ملاقيًا لآخر جزء منها، فلو صرح في الجملة بذكر الليلة فقال: فما زلت راجيًا وصلها تلك الليلة حتى وسطها-كان ذلك حجة على الزمخشري. ونحن نقول: إذا لم يتقدم في الجملة المغياة بحتى ما يصح أن يكون ما بعد حتى آخر جزء منه، أو ملاقيًا آخر جزء منه-جاز أن تدخل على ما ليس بآخر جزء ولا ملاق آخر جزء إذا تقدم على الجملة مالغياة ما يصلح أن يكون ما بعد حتى جزءًا من ذلك السابق على الجملة، ولا يعتبر فيه كونه آخر جزء منه ولا ملاقيًا لآخر جزء منه، كذلك البيت الذي أنشده المصنف.

وقوله ويختص إلى بزيادة ما قد تقدم شرح المصنف لهذه الزيادة بأنها ضعف أو قوة أو تعظيم أو تحقير. وقوله وبجواز عطفه العطف لغة ضعيفة، وستأتي أحكامها في العطف إن شاء الله تعالى. وقوله واستئنافه قال المصنف في الشرح: "نحو: ضربتهم حتى زيد، فزيد مبتدأ محذوف الخبر، ويروي بالأوجه الثلاثة قول الشاعر: عممتهم بالندى حتى غواتهم ... فكنت مالك ذي غي وذي رشد ويروى بالأوجه الثلاثة أيضًا قوله: ................ ... ................... حتى نعله ألقاها" انتهى. وقد تقدم لنا أن البصريين لا يجيزون فيه أن يكون مبتدأ إلا إذا كان ما بعده يصلح أن يكون خبرًا، وأن مجيز ذلك بعض/الكوفيين، وذكرنا علة امتناع ذلك. وإن صح في ((غواتهم)) الرفع عن العرب كان حجة لهذا المذهب. وأما "حتى نعله ألقاها" فلا حجة فيه؛ لأنه صرح بما يصلح أن يكون خبرًا للنعل، وهو قوله: ألقاها. وقوله وإبدال حائها عينًا لغة هذيلية كرر المصنف إبدال حائها عينًا في الفصل الرابع من "باب تتميم الكلام على كلمات مفتقرة إلى ذلك"، فقال حين تكلم على نعم: "وكسر عينها لغة كنانية، وقد تبدل حاء، وحاء حتى عينًا"، لكنه هنا نسب الإبدال إلى لغة هذيل.

وقال المصنف في الشرح: ((وفي قراءة ابن مسعود: {لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ}، وسمع عمر-رضي الله عنه-رجلًا يقرأ: {حَتَّى حِينٍ}، فقال: من أقرأك؟ قال: ابن مسعود. فكتب إليه: إن الله أنزل هذا القرآن، فجعله عربيًا، وأنزله بلغة قريش، فلا تقرئهم بلغة هذيل، والسلام" انتهى. وأما "حتى" الابتدائية فهي التي تجيء بعدها الجملة من المبتدأ والخبر، أو الشرط والجزاء، أو الفعل ومرفوعه، فمن مجيء المبتدأ والخبر قول الشاعر: فيا عجبا، حتى كليب تسبني ... كأن أباها نهشل أو مجاشع وقول الآخر: فما زالت القتلى تمج دماءها ... بدجلة، حتى ماء دجلة أشكل وقول الآخر: سريت بهم حتى تكل مطيهم ... وحتى الجياد ما يقدن بأرسان وقال ابن طاهر: إنها في "حتى كليب" عاطفة، والمعنى: يسبني الناس حتى كليب. وقال في "وحتى الجياد": إن العطف للواو، وجردت حتى للغاية كما تجرد لا للنفي في: ما قام زيد ولا عمرو، ولكن للاستدراك في: ما قام زيد ولكن عمرو. ومن مجئ الشرط قوله تعالى: {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ}. وهذا أول موضع وقع في القرآن من دخول حتى على إذا، وهو كثير

في القرآن، وتقدم لنا الرد على المصنف في زعمه أن إذا مجرورة بحتى، وذلك في الفصل الأول من باب المفعول المسمى ظرفًا. ومن مجئ الفعل ومرفوعه قوله تعالى: {ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوا}. وكذلك إذا جاء المضارع بعدها مرفوعًا، نحو قوله: {وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ}، وقولهم: سرت حتى تطلع الشمس، بالرفع. وليس معنى قولهم "حرف ابتداء" أنه يصحبها المبتدأ دائمًا، إنما معناه أنها بصدد أن يأتي بعدها المبتدأ، كما قال: هي ولكن وبل من حروف الابتداء، وإن كان يقع بعدها غير المبتدأ، وإنما المعنى أنها يصلح أن يقع بعدها المبتدأ. وقد وقع للمصنف وهم في أول شرحه في حتى، فقال: "والجارة مجرورها إما اسم صريح، نحو {لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِين}، و {سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ}، أو مضارع، نحو: {حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ} ". فزعم أن مضمرة بعد حتى في قوله (حتى عفوا).

ونحن نقول: إنها حرف ابتداء، والذي نقول: إنها في مثل هذا حرف ابتداء، ولولا ظهور النصب في المضارع بعد حتى لم ندع أن مضمرة بعدها، ولهذا قال بعض شيوخنا: "ضابط حتى أن تقول: إذا كان بعدها مفرد مخفوض أو فعل مضارع منصوب فهي حرف جر، وإذا وقع بعدها اسم مفرد مرفوع أو منصوب فهي حرف عطف، فإن وقع بعدها جملة فهي حرف ابتداء". وقال أيضًا: "اعلم أنها إذا كانت حرفًا من حروف الابتداء فإنها تقع بعدها جملة من فعل وفاعل، وجملة من مبتدأ وخبر. وإذا وقع بعدها إن كانت مكسورة، بخلاف الجارة والعاطفة، فإنها تكون مفتوحة. وإذا قلت: سرت حتى أدخل المدينة، ورفعت أدخل-كانت حتى حرف ابتداء، وكان معناها معنى الفاء، كأنك قلت: سرت فأنا الآن أدخلها لا أمنع من ذلك، وسرت فدخلتها، ثم وضع المضارع موضوع الماضي، كما جاء: لعمري لقوم قد ترى أمس فيهم ................................... " انتهى. وقد تقدم لنا ذكر الخلاف في الجملة الابتدائية أهي في موضع جر أم لا موضع لها من الإعراب، ومذهب الجمهور أنها لا موضع لها من الإعراب. وإنما لم يجز أن تكون الجملة في موضع جر لأن الجمل لا تدخل عليها حروف الجر في فصيح الكلام، لا يقولون: عجبت من يقوم زيد، ولا: عجبت من زيد قائم؛ لأن ذلك ضرب من تعليق حروف الجر، وحروف الجر لا تعلق؛ ألا ترى كيف فحش س: أشهد بلذاك.

-[ص: ومنها الكاف للتشبيه، ودخولها على ضمير الغائب المجرور قليل، وعلى أنت وإياك وأخواتهما أقل. وقد توافق "على". وقد تزاد إن أمن اللبس. وتكون اسمًا، فتجر، ويسند إليها. وإن وقعت صلًة فالحرفية راجحة. وتزاد بعدها "ما" كافًة وغير كافة، وكذا بعد "رب"و"الباء"، وتحدث في الباء المكفوفة معنى التقليل، وقد تحدث في الكاف معنى التعليل، وربما نصبت حينئذ مضارعًا، لا لأن الأصل "كيما". وإن ولي ربما اسم مرفوع فهو مبتدأ بعده خبره، لا خبر مبتدأ محذوف و ((ما)) نكرة موصوفة بهما، خلافًا لأبي علي في المسألتين. وتزاد "ما" غير كافة بعد "من" و"عن".]- ش: أي: ومن حروف الجر الكاف. والدليل على حرفيتها وصلهم الموصول بها في حال السعة، تقول: جاءني الذي كزيد، كما تقول: جاءني الذي في الدار. وليست الكاف كعلي وعن وفي ونحوها من الحروف التي تجر المضمر، فيجوز حذفها وحذفه في الصلة، نحو: غضبت علي الذي غضبت، تريد: عليه؛ لأن جرها المضمر لا يكون إلا ضرورة. ولا هي/مما إذا جرت الظاهر يجوز حذفها، فيصل الفعل إلى مجرورها، فينصبه نصب المفعول، كما قال: ................................ ... ......... لقضاني يريد: لقضى علي، فيستدل على حرفيتها بأحد هذين، فلذلك عدل النحويون إلى الاستدلال على حرفيتها بكونها يوصل بها في فصيح الكلام. وقد استدل أيضًا على حرفيتها وانتفاء كونها اسمًا بمجيئها على حرف واحد؛ ولا تجيء على حرف واحد الأسماء الظاهرة إلا محذوفًا منها وعلى سبيل الشذوذ؛ وسيأتي خلاف الأخفش فيها إن شاء الله تعالى. والدليل القاطع على حرفيتها زيادتها، ولا يزاد إلا الحروف.

ومن حيث هي حرف جر لابد لها مما تتعلق به. وذهب الأخفش-وتبعه ابن عصفور في بعض تصانيفه-إلى أن الكاف لا تتعلق بشيء، قال ابن عصفور: "جاءني الذي كزيد، ليس للكاف ما تتعلق به ظاهرًا؛ إذ ليس في اللفظ ما يمكن أن يعمل فيه، ولا مضمرًا؛ إذ لا يحذف ما يعمل في المجرور إذا وقع صلة إلا ما يناسب الحرف، نحو: جاءني الذي في الدار، تريد: الذي استقر في الدار؛ لأن (في) للوعاء، والاستقرار مناسب للوعاء، ولو قلت: جاءني الذي في الدار، تريد: الذي ضحك في الدار، أو أكل في الدار- لم يجز؛ لأنه ليس في الكلام ما يدل على ذلك، فلا يمكن أن يكون المحذوف مع الكاف إلا الذي يناسبها، وهو التشبيه. ولو قلت: جاءني الذي أشبه كزيد-لم يجز؛ لأن أشبه لا تتعدى بالكاف بل بنفسها، وأيضًا فإن العرب لم تلفظ بالشبه ولا بما تصرف منه مع الكاف في موضع أصلًا، فدل ذلك على أن الكاف لا تتعلق بشيء" انتهى. وما ذهب إليه ليس بصحيح، بل العامل في الكاف مضمر في المثال الذي ذكره، فإذا قلت جاءني الذي كزيد فالعامل فيه مضمر، وهو الكون المطلق، وهو الذي يقدر مع سائر الحروف إذا وقعت أخبارًا وكانت تامة، نحو: زيد كعمرو، وزيد من بني تميم، وزيد على الفرس، والأمر إليك، والمال لزيد، فجميع هذا وأمثاله العامل فيه مضمر، وهو الكون المحذوف المطلق، فإذا قلت زيد كعمرو فتقديره: زيد كائن كعمرو، وكذلك جاءني الذي كزيد، تقديره: جاءني الذي كان كزيد، فإن كان حرف الجر ناقصًا لم يعمل فيه إلا الكون المقيد، ولا يجوز حذفه إلا إن أتى ضرورة، كما أنه لا يثبت الكون المطلق إلا في قليل من الكلام، لو قلت: زيد عنك، تريد: راض عنك، وزيد فيك، تريد: محب فيك-لم يجز. وقوله ودخولها على ضمير الغائب المجرور قليل قال المصنف في الشرح: "الكاف من الحروف التي تجر الظاهر وحده كـ (حتى)، واستغنى في الغاية مع المضمر

بإلى عن حتى، واستغني في التشبيه مع المضمر بـ (مثل) عن الكاف، إلا أن الكاف خالفت أصلها في بعض الكلام لخفتها، فجرت ضمير الغائب المتصل، كقول الشنفرى: لئن كان من جن لأبرح طارقا ... وإن كان إنسا ما كها الإنس تفعل /أي: ما مثلها الإنس تفعل. ومثله قول الراجز في وصف حمار وحش وآتن: ولا ترى بعلا ولا حلائلا ... كه ولا كهن إلا حاظلا" انتهى. وقد تقدم لنا ذكر الخلاف في جر حتى المضمر وأنه مذهب الكوفيين والمبرد. ودل كلام المصنف في المتن وفي الشرح أنه يجوز أن تجر الكاف مضمر الغائب على قلة، وأصحابنا يخصونه بالضرورة، ولا يخصون الجر في الضرورة بمضمر الغائب، بل يطلقون المضمر، وأنشدوا: وأم أوعال كها أو أقربا وقال آخر:

وإذا الحرب شمرت لم تكن كي ... حين تدعو الكماة فيها: نزال أدخل كاف التشبيه على ضمير المتكلم. وشذ إدخالها أيضا عليه وعلى ضمير المخاطب في قول الحسن: أنا كك وأنت كي. وأما ما استدل به هو وبعض أصحابنا من قوله: كه ولا كهن إلا حاظلا فلا حجة فيه؛ إذ يحتمل أن يكون الأصل: كهو، فسكن، وحذف، و"هو" ضمير رفع، كما قالوا: ما أنا كأنت ولا أنت كأنا. وحركة الكاف الفتح إلا مع الياء للمتكلم إذا دخلت عليه في الضرورة فالكسر، وقال س: "كي، وكي خطأ". وقوله وعلى أنت وإياك وأخواتهما أقل قالت العرب: ما أنا كأنت ولا أنت كأنا، وقال الشاعر: قلت: إني كأنت، ثمت لما ... شبت الحرب خضتها، وكععتا وأنشد الكسائي: فأحسن وأجمل في أسيرك إنه ... ضعيف، ولم يأسر كإياك آسر وأخوات أنت هي الضمائر المرفوعة المنفصلة، وأخوات إياك هي الضمائر المنصوبة المنفصلة، ولا يعني بـ"أخوات أنت" ضمير المخاطب المرفوع المنفصل، وبـ"إياك" ضمير المخاطب المنصوب المنفصل. والحكم بالأقلية على أنت وإياك وأخواتهما، وعلى ضمير الغائب المجرور بالقليلية، ليس كما ذكر. أما دخولها على إياك وأخواته فهو أقل من دخولها على

ضمير الغائب المجرور، وأما دخولها على أنت وأخواته فليس أقل من دخولها على ضمير الغائب المجرور، ودخولها على أنت إن لم يكن أكثر من دخولها على ضمير الغائب المجرور فلا أقل من أن يكونا سيين. وفي البسيط: "وقد ورد أيضا في ضمير الرفع أيضا في قولهم: أنت كأنا، وأنت كهو، قال الشاعر: فلولا المعافاة كنا كهم ... ولولا البلية كانوا كنا وأنكر الكوفيون، وقال الفراء: البيت مولد لا حجة فيه" انتهى. وعلى تقدير أنه من كلام العرب لا حجة في البيت؛ لأن "هم" و"نا" مشتركة بين ضمير الرفع والنصب والجر، فلا يتعين أن يكون "هم" و"نا" ضميري رفع، بل يجوز أن يكونا ضميري جر. وقوله وقد توافق على هذا/ مذهب للكوفيين والأخفش، زعموا أن الكاف تجيء بمعنى "على". وحكى الأخفش عن بعض العرب أنه قيل له: كيف أنت؟ فقال: كخير. وحكى الفراء: كيف أصبحت؟ فقال: كخير، يريد: على خير. وعلى هذا خرج الأخفش قولهم: كن كما أنت. قال: ولا يتصور أن تكون الكاف للتشبيه؛ لأنه لا يشبه بحاله، والتقدير: كن كالحال الذي أنت عليه، والكاف بمعنى على، و (ما) موصولة، و (أنت) مبتدأ محذوف الخبر، والجملة صلة لـ (ما). ولا حجة في هذا كله. أما "كخير" فيحتمل أن يكون على حذف مضاف، لما قيل له: كيف أنت؟ قال: كخير، أي: كصاحب خير.

وأما ((كن كما أنت)) فتحتمل "ما" أن تكون زائدة، "وأنت" في موضع خفض بالكاف، ووقع ضمير الرفع المنفصل بعد الكاف، كقولهم: ما أنا كأنت، وتقدم ذلك، ومنه قوله: .................................. ... وأكرومة الحيين خلو كما هيا وقوله: ................................. ... فتتركه الأيام، وهي كما هيا وقد زيدت "ما" بين الكاف ومجرورها، قال الكميت: يركضن في المهمه اليباب كما ... أقرب أرض منها أباعدها أي: كأقرب أرض لها أبعد أرض منها. وقال الأعشى: كما راشد تجدين امرأ ... تفكر، ثم ارعوى، أو قدم وتكون على هذا شبهته فيما يستقبل بنفسه بما قبل ذلك، ولا ينكر تشبيه الشيء بنفسه في حالين مختلفين. ويحتمل أن تكون"ما"كافة لها عن العمل ومهيأة لها الدخول على الجمل، مثلها في ربما، وأنت مبتدأ، والخبر محذوف، والتقدير: كن كما أنت عليه. وقدره بعض شيوخنا: كما أنت كائنه، أو كائن إياه. وقدره بعضهم: كما أنت معلوم، وحذف الخبر، ونظيره قول الشاعر:

وإن بنا - لو تعلمين - لغلة ... إليك، كما بالحائمات غليل والكاف لتشبيه معنى الجملة التى قبلها بمعنى الجملة التى بعدها، وكأنه أمره أن يكون منه فيما يستقبل كون يشبه كونه في الحال، وتكون المسألة نظير قوله: {اجْعَل لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ} فوقع بعد الكاف جملة يفهم منها ما كان يفهم من المنخفض بها من التشبيه. ويحتمل أن تكون (أنت) مرفوعة بفعل مضمر، التقدير: كن كما كنت، فلما حذف العامل انفصل الضمير، ونحو ذلك ما رواه هشام من قول الشاعر: وما زرتنا في الدهر إلا تعلة ... كما القابس العجلان، ثم يغيب أي: كما يزور القابس العجلان؛ ألا ترى قوله (ثم يغيب)، معطوف على ذلك الفعل المحذوف. والكاف في هذا الوجه أيضا على معناها من التشبيه. وقيل: التقدير: كالذي هو أنت، مثل قراءة من قرأ {تَمَامًا عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ}. وقوله وقد تزاد إن أمن اللبس مثاله/ {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ}، أي: ليس مثله شيء، ولا يجوز ألا تكون زائدة؛ لأنه يقتضي إثبات مثل الله، ولا مثل له تعالى. ومن الناس من جعل مثلا في الآية زائدة، وزعم أن مثلا تزاد، ومنه قول العرب: مثلك يفعل هذا، تريد: أنت تفعل هذا. وهذا ليس بشيء، فر من زيادة الحرف إلى زيادة الاسم، وهو مبني على مذهب الكوفيين من أن العرب قد تزيد

الأسماء، وجميع ما استدلوا به متأول. وأما مثلك يفعل هذا فكلام صحيح، و"مثلك" فيه باقية على مدلولها؛ لأن المقول له هذا له مثل موجود أو مقدر، بخلافه في الآية. ويحتمل ألا تكون الكاف في الآية زائدة، ويراد بـ"مثل" الصفة؛ لأن مثلا ومثلا قد يراد بهما الصفة، ولما كان قد تقدمت أشياء من صفاته تعالى قيل: ليس شيء - أي: من الصفات - كصفته {وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ}، فنفى شبه صفات العالم لصفته تعالى، وهذا معنى صحيح. فأما قوله تعالى {وَحُورٌ عِينٌ، كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ} فزعم المصنف في الشرح أن الكاف زائدة، كهي في قوله {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ}. وكذلك زعم أنها زائدة فيما روي في الحديث (يكفي كالوجه واليدين)، يريد: يكفي الوجه واليدان، وهي الرواية الأخرى. وزيادتها لا تنقاس، فتارة تزاد خارجة عن معنى التشبيه، قال: لواحق الأقراب فيها كالمقق المعنى: فيها مقق، أي: طول؛ لأنه إنما يقال: في الشيء طول، ولا يقال: فيه كالطول.

ومثله ما حكاه الفراء من أنه قيل لبعض العرب: كيف تصنعون الأقط؟ فقال: كهين. يريد: هينا. وتارة يراد بها إذا زيدت التأكيد للتشبيه، كقوله: فصيروا مثل كعصف مأكول زاد الكاف لتأكيد التشبيه المدلول عليه بمثل، والكاف مع ما جرته في موضع خفض بمثل. وأما قوله: وصاليات ككما يؤثفين فالكاف الثانية زائدة لتأكيد التشبيه. وذهب بعض شيوخنا إلى أن الزائدة للتأكيد هي الأولى، والثانية هي اسم بمعنى مثل، وزعم أن "ما" موصولة، قال: وذلك أنه يريد أن يشبه أثافي قد قدمت بأثافي مستعملة، فيكون التقدير: وصاليات مثل اللائي يؤثفين الآن، أي: ينصبن، فيوقد عليهن؛ لأن هذه قد انتقل أهلها عنها، وبقيت لا يوقد عليها، إلا أنها مسودات، ومعها رمادها لم يتغير، فصارت بذلك مشبهة لما يوقد عليه منها، والضمير في يؤثفين راجع إلى "ما" على المعنى. قال: وهذا أحسن من أن تجعل ما مصدرية، فيكون التقدير: كإثفائهن، وفيه تشبيه العين بالمعنى، فيحتاج إلى تأويل في اللفظ وحذف مضاف، وعلى جعل"ما" موصولة اسمية لا تقدير فيه ولا حذف. وقوله وتكون اسما/ فتجر، ويسند إليها لا خلاف نعلمه في أن كاف التشبيه تكون حرفا إلا ما ذهب إليه صاحب كتاب "المشرق" - وهو أبو جعفر بن

مضاء - من أن الأظهر في الكاف أن تكون اسما أبدا؛ لأنها بمعنى مثل، وما هو بمعنى اسم فهو اسم. وقد تقدم لنا ذكر الدليل على حرفيتها. واختلفوا هل تكون اسما في الكلام؟ فأثبت ذلك الأخفش، وهو اختيار المصنف وظاهر قول الفارسي. وذهب س إلى أنها لا تكون اسما بمنزلة مثل إلا في ضرورة الشعر. فمما جاءت فيه مجرورة بالحرف قول الشاعر: بكاللقوة الشغواء جلت، فلم أكن ... لأولع إلا بالكمي المقنع وقول الآخر: وزعت بكالهراوة أعوجي ... إذا ونت الرياح جرى وثابا وقول الآخر: ورحنا بكابن الماء، يجنب وسطنا ... تصوب فيه العين طورا، وترتقي وقول الآخر، وهو ذو الرمة:

أبيت على مي كئيبا، وبعلها ... على كالنقا من عالج يتبطح وقول الآخر: على كالخنيف السحق، يدعو به الصدى ... له قلب عفى الحياض أجون وقول الآخر: قليل غرار العين، حتى تقلصوا ... على كالقطا الجوني، أفزعه الزجر وقول الراجز: يبسمن عن كالبرد المنهم ومما جاءت فيه مجرورة بالإضافة قول الشاعر: تيم القلب حب كالبدر، لا بل ... فاق حسنا من تيم القلب حبا ومثال كونها يسند إليها فاعلة قول امرئ القيس: وإنك لم يفخر عليك كفاخر ... ضعيف، ولم يغلبك مثل مغلب وقول الأعشى:

أتنتهون، ولن ينهى ذوي شطط ... كالطعن، يذهب فيه الزيت والفتل وقول الآخر: فيا عجبا! إن الفراق يروعني ... به كمناقيش الحلي قصار /وقول الآخر: وما هداك إلى أرض كعالمها ... وما أعانك في غرم كغرام وتقع اسم كان، قال: لو كان في قلبي كقدر قلامة ... فضلا لغيرك ما أتتك رسائلي ومبتدأة، قال: بنا كالجوى مما نخاف، وقد نرى ... شفاء القلوب الصاديات الحوائم وقال امرؤ القيس: متقلدا عضبا مضاربة ... في متنه كمدبة النمل وقال بعض شيوخنا: إنها تكون مفعولة، وذلك في قول النابغة:

لا يبرمون إذا ما الأفق جلله ... برد الشتا من الأمحال كالأدم وقوله: وإني لأقى من ذوي الضغن منهم ... وما أصبحت تشكو من الوجد ساهرة كما لقيت ذات الصفا من حليفها ... وما نفكت الأمثال في الناس سائرة فالكاف في "كالأدم" مفعولة ب"جلله" وفي "كما لقيت" مفعولة بقولة "لألقى". ومن النحويين من تأول هذا السماع جميعه على حذف الموصوف وإقامة المجرور الذي هو صفته مقامه، وقد أجاز ذلك الفارسي. فمن نظر إلى كثرة هذا السماع استدل به على اسمية الكاف في الكلام. ومن نظر إلى أنه لم يقع في النثر خص ذلك بالشعر، أو تأوله، فقدره: بفرس كالقوة، وكالهراوة، وكابن كالقطا، وعن ثغر كالبرد، وحب محبوب كالبدر، وفاخر كفاخر ضعيف، وناه كالطعن، ومروع كمناقيش، وهاد كعالمها، وموضع كقدر قلامة، وبنا حب كالجوى، وأثر كمدبة. والذي أختاره ذلك في الكلام على قلة؛ لأن هذا تصرف كثير فيها من كونها تكون فاعلة واسم كان ومفعولة ومبتدأة ومجرورة بحرف جر وبإضافة؛ وهكذا شأن الأسماء المتصرفة، تتقلب عليها وجوه الإسناد والإعراب. وفي

"البديع": "مثل س على اسميتها: كلا كزيد أحدا، بالنصب على أنه بدل من الكاف" وقوله وإن وقعت صلة فالحرفية راجحة مثال وقوعها صلة قول الراجز: ما يرتجي وما يخاف جمعا ... فهو الذي كالغيث والليث معا قد تقدم لنا الدليل على حرفيتها كونها تقع صلة في فصيح الكلام، بخلاف مثل؛ لأنها حرف جر، وحرف الجر يقع صلة في فصيح الكلام، وأما مثل فلا تقع صلة لأنها مفردة، فإن/ جاء مثل "جاءني الذي مثل عمرو" فهو على إضمار مبتدأ، ولا تقع إلا شذوذا أو نادرا إذا لم يكن في الكلام طول، ولا وقع في صلة، أي: على ما قرر في الموصولات. وقوله وتزداد بعها "ما" كافة وغير كافة فإذا كانت كافة وليتها الجمل الاسمية، وتكون من حروف الابتداء، قال الشاعر: أخ ماجد، لم يخزني يوم مشهد ... كما سيف عمرو لم تخنه مضاربه وقال الآخر: ألم تر أن البغل يتبع إلفه ... كما عامر واللؤم مؤتلفان وقال الآخر:

وإن بنا- لو تعلمين- لغلة ... إليك كما بالحائمات غليل وقال آخر: لقد علمت سمراء أن حديثها ... نجيع كما ماء السماء نجيع وقال زياد الأعجم: لعمرك إنني وأبا حميد ... كما النشوان والرجل الحليم أريد هجاءه، وأخاف ربي ... وأعلم أنه عبد لئيم وكون "ما"تكون كافة إذا وليتها الجملة الاسمية هو مفرع على أن"ما" المصدرية لا توصل إلا بالجملة الفعلية؛ أما إذا فرعنا على أنها توصل بالجمل الاسمية فإن"ما" لا تكون كافة في نحو هذه الأبيات، بل تكون مصدرية ينسبك منها مع الجملة التي بعدها مصدر، يكون في موضع جر بالكاف، وتكون إذ ذاك الكاف غير مكفوفة، وإذا كانت كافة انجر الاسم بكاف التشبيه، وقد تقدم لنا ذكر ذلك في بيتي الأعشى والكميت. وأنشد أبو علي القالي: وننصر مولانا، ونعلم أنه ... كما الناس مجروم عليه وجارم قال س: "وسألته عن قولهم: هذا حق كما أنك هاهنا، فزعم أن العامل في (أن) الكاف، و (ما) لغو، إلا أنها لا تحذف كراهة أن يجيء لفظها كلفظ كأن".

وقد كررت «ما» بعدها زائدتين، قال: كما ما امرئ في معشر غير قومه ... ضعيف الكلام، شخصه متضائل وقوله وكذا بعد رب والباء يعني أن "ما" تزداد بعد رب وبعد الباء كافة وغير كافة، فمثال زيادتها بعد رب وهي كافة قول أبي دواد: ربما الجامل المؤبل فيهم ... وعناجيج، بينهن المهار وسيأتي الخلاف في هذه المسألة. ومثالها غير كافة قوله: ماوي، يا ربتما غارة ... شعواء كاللذعة بالميسم وقوله: ربما ضربة بسيف صقيل ... بين بصري وطعنة نجلاء وقوله: لقد رزئت كعب بن عوف، وربما ... فتى لم يكن يرضى بشئ يضيمها وقد اقتصروا بـ"ربما" عن ذكر شيء بعدها، كقوله:

فذلك إن يلق الكريهة يلقها ... حميداً، وإن يستغن يوما فربما وقد اقتفى ذلك أبو تمام، فقال: عسى وطن يدنو بهم، ولعلها ... وإن تعقب الأيام فيهم فربما ومثال زيادتها كافة بعد الباء قوله: فلئن صرت لا تحير جواباً ... لبما قد ترى وأنت خطيب ومثال زيادتها غير كافة قوله تعالى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ}، {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ}. وقوله وتحدث في الباء المكفوفة معنى التقليل قال المصنف في الشرح: «وتحدث (ما) الكافة في الباء معنى ربما، فمعنى لبما قد ترى وأنت خطيب: ربما قد ترى. ومثله قول كثير: مغان بهيجن الحليم إلى الهوى ... وهن قديمات العهود دواثر بما قد أرى تلك الديار وأهلها ... وهن جميعات الأنيس عوامر أراد: ربما أرى، و"قد" مع المضارع تفيد هذا المعنى، ولكن اجتمعتا توكيدا كما اجتمعت عن والباء التي بمعناها في قول الشاعر: فأصبحن لا يسألنه عن بما به .................................. " انتهى.

وما ذهب إليه من أن «ما» فيما ذكر كافة وأنها أحدثت معنى التقليل غير صحيح، بل «ما» في ذلك مصدرية، والباء للسببية المجازية، والمعنى على التكثير لا على التقليل، ونظيره قول الآخر: فلئن فلت هذيل شباه ... لبما كان هذيلا يفل والفعل الذي تتعلق به الباء مقدر مما قبلها، والتقدير: لانتفاء إحارتك جوابا برؤيتك وأنت خطيب، وهن قديمات العهود دوائر برؤيتي تلك الديار، لفلته بما كان يفلها. والسببية ظاهرة في هذا البيت، وأما في البيتين قبله فسبب خرسه بالموت كونه كان خطيبا في الحياة؛ إذ ينشأ عن الحياة الموت؛ إذ مصير كل حي إلى الممات. وكذلك البيت الثاني، سبب دثور الديار كونها كانت عامرة بأهلها؛ إذ مصير العمران للخراب، ولذلك جاء: لدوا للموت، وابنوا للخراب ................................ وقوله وقد تحدثت في الكاف معنى التعليل/ يعني: وقد تحدثت «ما» الكافة في الكاف معنى التعليل، فتخرج بذلك عن التشبيه. ومثل ذلك المصنف في الشرح بقوله تعالى: {وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ}. وتقل ذلك عن الأخفش في قوله: {كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا} الآية، أي: كما أرسلنا فيكم

رسولا فاذكروني، [أي]: لما فعلت هذا فاذكروني. وعن ابن برهان في {وَيْكَأَنَّهُ لا يُفْلِحُ}، أي: أعجب لأنه لا يفلح. ومثل بعضهم بقوله تعالى: {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ}، وقوله {اجْعَل لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ}، ومثل: جئني كما جئتك. وزعم الخليل أن الكاف إذا لحقها إذا "ما" الكافة قد تجعلها العرب بمعنى لعل، وتصيرها"ما" للفعل كما صيرت ربما للفعل، وجعل من ذلك قولهم: انتظرني كما آتيك، قال: "والمعنى: لعلي آتيك". وجعل من ذلك قول الشاعر: قلت لشيبان: ادن من لقائه ... كما نغدي القوم من شوائه أي: لعلنا. وقول الآخر: لا تشتم الناس كما لا تشتم أي: لعلك لا تشتم. وحكى س: "كما أنه لا يعلم فتجاوز الله عنه"، أي: لأنه لا يعلم. وذهب الفراء إلى أن قولهم: "انتظرني كما آتيك"، و «"لا تشتم الناس كما لا تشتم"، الكاف فيهما للتشبيه، والكاف صفة لمصدر محذوف، أي: انتظرني انتظارا

صادقا مثل إتياني لك، أي: ف لي بالانتظار كما أفي لك بالإتيان، وانته عن شتم الناس كانتهائهم عن شتمك، وتشبيه الحدث بالحدث في مجرد كونه حدثا أمر مستبرد، إلا أن س نقل عن العرب أن من معاني «مررت برجل مثلك»: تشبيه بأنه رجل كما أنك رجل، فالتشبيه في مجرد الجنسية، ولو كانت للتشبيه حقيقة لصرحوا بالمصدر؛ إذ "ما" مصدرية، ولم يظهروه قط فيقولوا: انتظرني كإتيانك، فلو كان الفعل هنا مع "ما" بمعنى المصدر لنطق به يوما ما، فهذا حمل س والخليل على أنها بمعنى لعل. والكاف في قولهم "انتظرني كما آتيك" عند الخليل وس غير جارة وغير متعلقة بشيء لكونها قد جعلت بمنزلة لعلما، وهو مذهب ابن طاهر وتلميذه ابن خروف. وقال الزجاج: يشير س إلى الكاف غير عاملة، وقال: عي عندي عاملة في الموضع، مثل: مررت برجل يقوم، فـ"يقوم" في موضع جر. وزعم بعض النحويين أن «كما» تأتي ظرفا، قالوا: ائت المسجد كما يؤذن المؤذن، أي: حين يؤذن، واخرج كما يسلم الإمام، أي: حين يسلم. وقوله وربما نصبت مضارعا لا لأن الأصل كيما يعني أنها حين إذ حدث فيها معنى التعليل تنصب المضارع، وقد تقدم في "كما آتيك" و "كما لا تشتم" مجيء المضارع بعدها مرفوعا. وقال المنصف في الشرح: "وإذا حدث فيها معنى التعليل، ووليها مضارع- نصبته لشبهها بكي، كقول الشاعر:

وطرفك إما جئتنا فاصرفنه ... كما يحسبوا أن الهوى حيث تنظر /وزعم الفارسي أن الأصل كيما، فحذفت الباء. وهذا تكلف لا دليل عليه، ولا حاجة إليه» انتهى. وكان ينبغي أن يقول «ووليها مضارع نصبته على قله» كما قال في المتن "وربما" عن تقييده في الشرح. وقوله "وزعم الفارسي» هذا الذي ذهب إليه الفارسي هو مذهب الكوفيين، زعموا أن "كما نغدي" من قوله: كما نغدي القوم من شوائه في موضع نصب بـ"كما"، و"كما" محذوفة من كيما، وسكنوا ياء نغدي ضرورة. واستدلوا بقوله «كما يحسبوا»، يريد: كيما يحسبوا، ولذلك حذف النون. وقوله "وهذا تكلف لا دليل عليه، ولا حاجة إليه" ليس كما ذكر، بل هو تأويل عليه دليل، وإليه حاجة، وذلك أنه لم يثبت النصب بـ"كما" في موضع خلاف هذا المختلف فيه، فيحمل هذا عليه، والنصب ثابت بـ"كيما". والعلة في كيما أصل، وفي كاف التشبيه المكفوفة بـ"انتظرني كما آتيك" بين الخليل والفراء، فالأولى أن يعتقد أن أصلها كيما لظهور التعليل فيها، ولثبوت النصب بكيما. وقوله وإن ولي ربما اسم مرفوع إلى آخر المسألة: هذا الذي ذهب إليه المصنف هو مذهب المبرد، زعم أنه تليها الجملة الاسمية والفعلية نحو إنما، تقول: ربما قام زبد، وربما زيد قائم، كما تقول في إنما.

قال المصنف في الشرح: "زعم- يعني الفارسي- في قول الشاعر: ربما الجامل المؤبل فيهم ... وعناجيج، بينهن المهار أن «ما» فيه نكرة موصوفة بمبتدأ مضمر وخبر مظهر. والصحيح أن «ما» فيه زائد كافة، هيأت رب للدخول على الجملة الاسمية كما هيأتها للدخول على الجملة الفعلية في قوله تعالى: {رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ}، وفي قول الشاعر: لا يضيع الأمين سرا، ولكن ... ربما يحسب الخؤون أمينا» انتهى. وهذا الذي قاله عن الفارسي هو مذهب الجمهور. وابن عصفور خرج البيت تخريج أبي علي، وهو الصحيح؛ إذا لو كان على ما اختاره المصنف لسمع من كلامهم: ربما زيد قائم، بتصريح المبتدأ والخبر، ولم يسمع ذلك فيما أعلم، فوجب تخريج البيت على ما خرجه الفارسي وابن عصفور. ومثل قوله: ربما الجامل ... البيت قول الآخر: طالعات ببطن فقرة بدى ... ربما ظاعن بها ومقيم وقول الآخر:

أم الصبيين! ما بدربك أن ربما ... عيطاء، قلتها شماء قرواح العيطاء: الهضبة، وشماء: مرتفعة، وقرواح: جرداء. ويتأول هذان البيتان تأويل: /ربما الجامل. ومذهب س أنها إذا كفت بـ «ما» فلا يليها إلا الفعل، ولا تدخل على الجملة الابتدائية. وظاهر كلامه جواز دخولها على المستقبل، وقاله كثير من النحويين. وزعم جماعة أن "ربما" لا تكون إلا للماضي، كقول الشاعر: ربما أوفيت في علم ... ترفعن ثوبي شمالات وقال ابن يسعون في قوله تعالى: {رُبَمَا يَوَدُّ}: "قد تكون (ما) نكرة موصوفة، أي: رب ود يوده الذين كفروا". قال ابن هشام: وهذا باطل؛ لأن (لو) تحتاج على هذا التقدير إلى جواب، ولا يكون إذا من جنس ما قبلها، ولا يصح هنا، وإنما هي بمنزلة أن معمولة لما قبلها، كقوله تعالى: {وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ}، و {يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الأَرْضُ}، و {وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ}. وقال الفراء: هي بمنزلة أن.

وقال بعض شيوخنا: "وأما إذا كانت كافة"، يعني ما إذا جاءت بعد رب، قال: «فإنها حينئذ تصير من الحروف الطالبة بالجمل الفعلية، فلا يقع بعدها إلا الفعل، ولا يكون إلا ماضيا، ولا يكون إلا مقدما، نحو: ربما قام زيد، وربما ضربت زيدا، ولا تقول: ربما عمرا ضربت إلا أن تأتي في الشعر، فيقصر على موضعه، ولا تجد من حروف الجر ما كف عم مجروره إلا رب وكاف التشبيه على أحد الوجهين في قوله: كن كما أنت. وأكثر ما يكون الكف في الحروف الداخلة على الجمل المؤثرة فيها». وقال أيضا: "إلا أن العرب تدخلها على المضارع، فيصير ماضيا" انتهى. وقال الشاعر: ربما أوفيت في علم ... ترفعن ثوبي شمالات وتلخص من كلام أشياخنا أن رب إذا كفت بـ"ما" فلا تليها الجملة الاسمية، بل الفعلية المصدرة بماض أو مضارع في معنى الماضي. ومن أجاز أن تدخل رب على ما يكون العامل فيها مستقبلا لم يحتج إلى تأويل في قوله تعالى: {رُبَمَا يَوَدّ} ومن خصه بالماضي- وهم أكثر النحويين- قالوا: لا تخرجها (ما) عن المضي، كما لم يخرج "لم" إلحاق (ما) الزائد عن الدخول على لفظ المضارع، تقول: لم تقم، ثم تقول: لما تقم، وتأول الآية على أنها حكاية حال تكون، وساغ دخول ربما على يود لصدق الوعد وقرب الدنيا من الآخرة من حيث لا فصل بينهما، فجعل لذلك ودهم بمنزلة الماضي الواقع. والكوفيون يجعلون ذلك على إضمار كان، أي: ربما كان يود. وبه قال أبو بكر. ولا يجوز ذلك على مذهب س.

وقوله وتزداد "ما" غير الكافية بعد «من» و «عن» مثاله بعد من {مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا}. ومثاله بعد عن قوله: {عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نَادِمِينَ}، وقال الشاعر: وأعلم أنني عما قريب ... سأنشب في شبا ظفر وناب وإذا كانوا قد زادوا "ما" بين المضاف والمضاف إليه مع شدة الاتصال بينهما لأنه كالجزء منه فلأن يزيدوها بين حرف الجر والمجرور أولى؛ ومن ذلك قول سحيم: مساعير ما حرب وأيسار شتوة ... إذا الريح ألوت بالكنيف المستر وقول الخرنق: من غير ما فحش يكون بهم ... في منتج المهرات والمهر -[ص: ومنها "مذ" و "منذ"، وقد ذكرا في باب الظروف. ومنها "رب"، ويقال: رب ورب ورب وربت وربت وربت ورب ورب وربت. وليست اسما، خلافا للكوفيين والأخفش في أحد قوليه، بل هي حرف تكثير وفاقا لسيبويه، والتقليل بها نادر. ولا يلزم تصديرها وتنكير مجرورها. وقد يعطف على مجرورها وشبهه مضاف إلى ضميريهما.]- ش: تقدم الكلام على مذ ومنذ كما ذكر المصنف

وقوله ومنها رب أي: من حروف الجر، ويأتي ذكر الخلاف فيها أهي اسم أم حرف. وذكر المصنف في الشرح أن "في رب عشر لغات: أربع بتشديد الباء، وست بتخفيفها، وقد ذكرت" انتهى. وضيطها على ما يناسب: رب وربت ورب وربت ورب وربت ورب وربت ورب ورب. وزاد غيره رب وربتا. وهذه أوردها من أوردها من النحويين على أنها لغات في رب. وزعم أبو الحسن علي بن فضال المجاشعي- وهو صاحب كتاب "الهوامل والعوامل"- أن فتح الراء في الجميع شاذ، وأن أبا حاتم نقل فتح الراء وتخفيف الباء مع فتحها ودون التاء ضرورة لا لغة. واستدل على ذلك بأن كل حرف على حرفين لا يكون إلا ساكن الثاني، نحو هل وبل. ولا حجة فيما ذكر؛ لأنا لا ندعي أن أصل رب وضع على حرفين، بل هي ثلاثية الوضع، وخففت، بخلاف هل وبل ونحوها، فإنها وضعت في أصل الوضع على حرفين. وإذا وقفت على ما فيه التاء منها فالوقوف بالتاء، خلافا لمن يقلبها هاء. وقوله وليست اسما خلافا للكوفيين هكذا نقله عنهم غيره، ووافقهم على ذلك ابن الطراوة، فهي عندهم اسم مبني يحكم على موضعه بالإعراب كسائر الأسماء المبنية. واستدلوا على ذلك بالإخبار عنها، قال الشاعر: إن يقتلوك فإن قتلك لم يكن عارا عليك، ورب قتل عار

فـ «رب» عندهم مبتدأ، وعار: خبره. وفي الإفصاح: زعم الفراء وجماعة من الكوفيين أن رب اسم معمولة لجوابها كـ"إذا" و "حين" في الظروف، وتقدمت عندهم لاقتضائها/ الجواب. وهي مبنية؛ بدليل أن من العرب من يسكن آخرها. فقالوا: وقد يبتدأ بها، فيقال: رب رجل أفضل من عمرو، ويقال: رب ضربة ضربت، بتقدير المصدر، ورب يوم سرت، بتقدير الظرف، ورب رجل ضربت، مفعول، ورب رجل قام، مبتدأ، كما يكون ذلك في كم. وأجيب بأنه لا يمتنع أن يخبر عن مجرورها بخير مفرد، فـ"رب قتل" مبتدأ، دخل عليه حرف الجر، و"عار" خبره، وكذلك أفضل. ورب ضربة ضربت، منصوب بضربت، وكذا باقيها. وذهب البصريون إلى أن "رب" حرف. واستدلوا على بطلان مذهب الكوفيين بأنها لو كانت اسما لتعدى إليها بحرف الجر الفعل المتعدي بالحرف، فكما تقول في المعتدي: رب رجل أكرمت، فتكون رب مفعولا بها على زعمهم، فكان ينبغي أن يجوز: برب رجل عالم مررت؛ إذ ليس في كلامهم اسم يتعدى إليه الفعل بنفسه إلا ويجوز أن يتعدى إليه الفعل المتعدي بحرف الجر به. وبأنه لو كانت اسما لأخير عنها، وأضيف إليها، وعادت الضمائر عليها، فجميع علامات الأسماء اللفظية منتفية عنها. وأما ما استدلوا به على اسميتها فلا حجة فيه؛ لأن الرواية المشهورة هي «وبعض قتل عار»، ولئن صحت تلك الرواية فعار خبر مبتدأ محذوف، تقديره: هو عار، والجملة في موضع الصفة لقتل، أي: ورب قتل هو عار أوقعته بهم، وقد أظهر هذا المبتدأ المضمر في قول الشاعر:

يارب هيجا هي خير من دعه وهذا على تقدير القول بأن معمول رب تلزمه الصفة، وأما على مذهب من لا يلزمه الصفة فـ «عار» خبر عن مجرور رب، إذ هو في موضع مبتدأ. وكذلك الجملة من قوله "هي خير من دعه" هي: خبر عن هيجا المجرورة برب. ومثال حذف الضمير المبتدأ الواقع هو وخبره صفة قول الشاعر: قلت: أجيبي عاشقا ... بحبكم مكلف أي: هو بحبكم مكلف. وقال الأستاذ أبو علي: ومن الدليل على أنها حرف أنهم وبين المجرور كما فصلوا بين كم وما تعمل فيه في الخبر مع الجر. وقوله بل هي حرف تكثير وفاقا لسيبويه والتقليل بها نادر هذا خلاف ما يذهب إليه أصحابنا من أنها حرف تقليل. قال المصنف في الشرح: "وأكثر النحويين يقولون: معنى رب التقليل". وكذا ذكر غيره أنه مذهب الجمهور. وقال بعض شيوخنا: هو مذهب البصريين. وزعم صاحب كتاب العين أنها للتكثير، ولم يذكر أنها تجيء للتقليل. وذهب الفارسي في "كتاب الحروف" له إلى أنها تكون تقليلا وتكثيرا. وهو مذهب الكوفيين. وذهب بعض النحويين إلى أنها حرف إثبات، ولم توضع لتقليل ولا تكثير، بل ذلك مستفاد/ من سياق الكلام. وأصحابنا يزعمون أنها للتقليل في جنس الشيء أو لتقليل نظيره.

وزعم بعضهم أنها تكون للتكثير في مواضع المباهاة والافتخار. فتلخص فيها أقوال: للتقليل، للتكثير مطلقا. للتكثير في مواضع الافتخار، لهما، لم توضع لهما، بل حرف إثبات. والذي نختاره هذا المذهب، وهو أنه لا دلالة لها على تكثير ولا تقليل، وإنما يفهم ذلك من خارج. فمثال ما فهم من السياق التقليل قوله: ألا رب مولود، وليس له أب ... وذي ولد لم يلده أبوان وذي شامة غراء في حر وجهه ... مجللة، لا تنقضي لأوان يعني عيسى وآدم- عليهما السلام- والقمر. وقول الآخر، وهو زهير: وأبيض فياض، يداه غمامة ... على معتفيه، ما تغب فواضله يعني حصن بن حذيفة بن بدر الفزاري؛ بدليل قوله: حذيفة ينميه وبدر كلاهما ... إلى باذخ، يعلو على من يطاوله وقول خوات بن جبير:

وذات عيال واثقين بعقلها ... خلجت لها جار استها خلجات يعني ذات النحيين وحدها. وقول صخر بن الشريد: وذي أخوة قطعت أقران بينهم ... كما تركوني واحدا لا أخا ليا يريد بيذي الأخوة دريد بن حرملة المري، وهو الذي قتل أخاه معاوية، فلما قتله بأخيه قال هذا الشعر، وقوله "كما تركوني واحدا لا أخا ليا" يبطل توهم الكثرة هنا؛ لأن الذين تركوه بلا أخ هم بنو حرملة، ولم يكن أخ قتل غير معاوية وحده. ونسبه المصنف في الشرح لعمرو بن الشريد أخي الخنساء، كذا قال. ونسبه ابن عصفور لصخر بن الشريد كما نسبناه نحن. وقول الآخر: ونار قد حضأت بعيد وهن ... بدار، ما أريد بها مقاما يصف قصة جرت له وحده مع الجن على زعمه. وقول الآخر: ويوم على البلقاء، لم يك مثله ... على الأرض يوم في بعيد ولا دان يريد يوما كانت وقعة بين غسان ومذحج في يوم يعرف بالبلقاء. وقال أبو طالب يمدح رسول الله - صل الله عليه وسلم: وأبيض يستسقي الغمام بوجهه ... ثمال اليتامى، عصمة للأرامل / ومما جاء فيه رب لتقليل النظير قول امريء القيس:

وإن أمس مكروبا فيا رب قينة ... منعمة أعملتها بكران وقول أبي كبير الهذلي: أزهير! إن يشب القذال فإنه ... رب هيضل مرس لففت بهيضل ومما ظاهره استعمال رب في التكثير قول عمارة بن عقيل بن بلال بن جرير ابن الخطفي: فإن تكن الأيام شبين مفرقي ... وأكثرن أشجاني، وفللن من غربي فيا رب يوم قد شربت بمشرب ... شفيت به عني الصدى، بارد عذب وكم ليلة قد بتها غير آثم ... بساجية الحجلين مفعمة القلب ومن تأول ذلك جعل رب لتقليل النظير، وراعى في كم التكثير. وقال المصنف في الشرح: "الصحيح أن معنى رب التكثير، ولذا تصلح كم في كل موضع وقعت فيه رب غير نادر". وأنشد عدة أبيات، يصلح وضع كم فيها موضع رب. ونسب هو وابن خروف هذا المذهب إلى س، واستدلا على ذلك بقوله في "باب كم ": "أعلم أن لكم موضعين: أحدهما

الاستفهام، والآخر الخبر. ومعناها معنى رب". بقوله في الباب:"واعلم أن كم في الخبر لا تعمل إلا فيما تعمل فيه رب؛ لأن المعنى واحد، إلا أن كم اسم، ورب غير اسم". قال المصنف في الشرح: "وهذا نص س، ولا معارض له في كتابه، فعلم أن مذهبه كون رب مساوية ل"كم"الخبرية في المعنى، ولا خلاف في أن معنى كم الخبرية التكثير. والذي دل عليه كلام س من أن معنى رب التكثير هو الواقع في غير النادر من كلام العرب نثره ونظمه، فمن النظم الأبيات التي تقدم ذكرها، ومن النثر قوله- عليه السلام- "يارب كاسية في الدنيا عارية يوم القيامة"، وقوله- عليه السلام: "رب أشعث أغبر، لا يؤبه له، لو أقسم على الله لأبره"،ومنه قول الأعرابي الذي سمعه الكسائي يقول بعد الفطر: رب صائمه لن يصومه، وقائمه لن يقومه. وقال الفراء: يقول القائل إذا أمر فعصى: أما والله لرب ندامة لك تذكر قولي فيها" انتهى. أما قول المصنف "وهذا نص س، ولا معارض له في كتابه" فقال صاحب "البسيط": "س يصرح في مواضع من كتابه بأن كم بمنزلة رب، وكذلك في كائن، فيحتمل أن يريد في الجر، أو في جميع أحوالها معنى ولفظا" انتهى. وإذا كان كلام س محتملا فكيف يقول المصنف: إنه نص.

وقال في "البسيط": ذهب/ البصريون إلى أنها للتقليل، كالخليل وسيبويه وعيسى بن عمر ويونس وأبي زيد وأبي عمرو بن العلاء وأبي الحسن الأخفش والمازني وابن السراج والجرمي والمبرد والزجاج والزجاجي والفارسي والرماني وابن جني والسيرافي، وجملة الكوفيين كالكسائي والفراء وابن سعدان وهشام، ولا مخالف لهؤلاء إلا صاحب العين، فإنه صرح بكونها للتكثير دون التقليل، ولا ذكره لغيره. وذكر الأعلم أنها للتقليل، إلا أن التقليل يكون للذات تارة وللوجود أخرى وإن كثرت ذاته وعظمت، كقوله مفتخرا: رب غارة أغرت، ورب ناقة كوماء نحرت. وقال ابن السيد: الشيء الذي له نقيض مستعمل في التقليل، [نحو]: ربه رجلا- على أصله، وهو كثير في كلامهم. وأما موضوع التفخيم والتعظيم، نحو: رب يوم سرور شهدت- فهو للتكثير، ومنه:

ألا رب يوم صالح لك منهما ... .............................................. وفي "الإفصاح": مذهب أبي عثمان وأبي العباس وأبي بكر وأبي إسحاق والرماني وابن جني والصيمري والسيرافي وأبي على أنها للتقليل، وهو قول عيسى بن عمر ويونس وأبي زيد الأنصاري وأبي عمرو بن العلاء والأخفش والجرمي، وجلة الكوفيين، كالكسائي والفراء ومعاذ الهراء وهشام وابن سعدان. وبه قال من المتأخرين الزمخشري. وقيل: أنها للتكثير. وبه قال جماعة، منهم صاحب العين وابن درستويه، ويروى عن الخليل، وقال به كثير من المتأخرين. وقال بعض المتأخرين: هو من الأضداد، يكون للتقليل والتكثير. وقال ابن الباذش: هي لمبهم العدد، تكون تقليلا وتكثيرا. وبه قال ابن طاهر. وقال بعض أصحابنا: أكثر ما تقع للتقليل. وبنحو هذا قال أبو نصر الفارابي في "كتاب الحروف" له. وقوله ولا يلزم وصف مجر ورها، خلافا للمبرد ومن وافقه من وافقه هم ابن السراج والفارسي والعبدي وأكثر المتأخرين، منهم الأستاذ أبو علي. وفي "البسيط" أنه رأي البصريين.

وذهب الأخفش والفراء والزجاج وأبو الوليد الوقشي وابن طاهر وابن خروف إلى أنه لا يلزم الوصف. قيل: وتضمين رب القلة والكثرة يقوم مقام الوصف. ووافقهم هذا المصنف. وهو ظاهر مذهب س، ونص الأخفش والمبرد فيما نقل ابن هشام، واختيار ابن عصفور. واحتج من قام بلزوم الوصف بأن رب أجريت مجرى حرف النفي، وحكم حرف النفي أن يدخل على جملة، فالأقيس في المجرور أن يوصف بجملة لذلك، وقد يوصف بما يجري مجراها من ظرف أو مجرور أو اسم فاعل أو مفعول. ويدل على جريانها مجرى حرف النفي أنها لا تقع إلا صدرا، ولا يتقدم عليها ما يعمل في الاسم المجرور/ بعدها، بخلاف سائر حروف الجر، وأن المفرد الذي يجوز جمعه إذا وقع بعدها قد يدل على أكثر من واحد كما يكون ذلك في النفي. وقالو أيضا: رب للتقليل، والنكرة بلا صفة فيها تكثير بالشياع والعموم، ووصفها يحدث فيها التقليل بإخراج الخالي منه، فلزم الوصف لذلك. وأيضا فقولك رب رجل عالم لقيت رد على من قال: ما لقيت رجل عالما، فلو لم تذكر الصفة لم يكن الرد موافقا.

وقال العبدي: "إنما وجب الوصف على طريق العوض من العامل المحذوف". يعني أن العامل الذي يتعلق به مجرور رب محذوف في الغالب، فلزمه الوصف ليكون عوضا منه متى حذف. وما استدلوا به لا حجة فيه، أما قولهم "إنما جرت مجرى حرف النفي لكونها لا تقع إلا صدرا" فليس بصحيح، وقد وقعت خبرا ل"إن"، وخبرا ل"أن" المخففة من الثقيلة، قال الشاعر: أماوي إنى رب واحد أمه ... أخذت، فلا قتل لدى ولا أسر وقال الآخر: تيقنت أن رب امريء، خيل خائنا، ... أمين وخوان يخال أمينا وأما قولهم "إنه لا يتقدم عليها ما يعمل في الاسم المجرور" فهو تفريغ على أن ل"رب" ما تتعلق به؛ وهو شيء مختلف فيه، وسيأتي، وعلى تقدير أنها لها ما تتعلق به فلا يدل عدم تقدمه عليها على أنها مشبهة بحرف النفي؛ لأن لنا ما لا يتقدم على المجرور الذي يتعلق به، ولا يلزم أن يكون جاريا مجرى حرف النفي، نحو قولك: بكم درهم تصدقت، تريد الخبرية. وأيضا فحرت النفي على قسمين: منه"ما"، وهو الذي امتنع أن يتقدم عليها ما يعمل في الاسم المجرور. ومنه ما ذلك فيه هو الوجه، نحو: لم ولما ولن ولا وإن، نحو: لم أمر بزيد. وأما قولهم "إن المفرد إذا وقع بعد رب قد يدل على أكثر من واحد كما يكون ذلك في النفي" فالقلة والكثرة لا تدل عليهما رب بالوضع؛ وإنما ذلك يفهم من سياق الكلام، كما يراد العموم من النكرة في المثبت في نحو قوله تعالى: {عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ}، وليس ذلك من مدلول النكرة في الإثبات، كذلك النكرة في رب.

وأما قولهم "رب للتقليل" إلى آخر الاستدلال بذلك فقد تقدم النزاع في أنها وضعت للتقليل. وأما قول العبدي ودعواه أن العامل الذي تتعلق به رب محذوف في الغالب، والوصف عوض عنه- فليس ذلك بصحيح، بل الغالب ذكره لا حذفه، ولو كانت الصفة عوضا من المحذوف ما اجتمعا، وقد اجتمعا، فدل على أنه ليس بعوض. وأما قولهم: "إنها جواب لمن قال: ما لقيت رجلا عالما"- قال المصنف في الشرح: "والصحيح أن تكون جوابا وغير جواب، وإذا كانت/ جوابا فقد تكون جواب موصوف، وجواب غير موصوف، فيكون لمجرورها من الوصف وعدمه ما للمجاب، فيقال لمن قال: ما رأيت رجلا: رب رجل رأيت، ولمن قال: ما رأيت رجلا عاما: رب رجل عالم رأيت. وإذا لم تكن جوابا فللمتكلم بها أن يصف مجرورها وألا يصفه. ومن وقوعه غير موصوف قول أم معاوية: يارب قائلة غدا ... يالهف أم معاوية ومثله: ألا رب مأخوذ بإجرام غيره ... فلا تسأمن هجران من كان مجرما ومثله: رب مستغن، ولا مال له ... وعظيم الفقر وهو ذو نشب" انتهى. وهذه الأبيات التي أنشدها دلالة على أن مجرور رب لا يحتاج إلى صفة لمدع أن يقول: إن الموصوف محذوف لفهم المعنى؛ ألا ترى أن جميع ذلك صفات، وهي: قائلة، ومأخوذ، ومستغن، فالتقدير: يارب امرأة قائلة، ورب إنسان مأخوذ، ورب إنسان مستغن.

واستدل ابن طاهر على أنه لا يلزمه الوصف بقوله: ألا رب مولود، وليس له أب ألا ترى أن مولودا لم يوصف. قال ابن عصفور: ومما يبين أنه لا يلزمه الوصف أنك تجد أماكن إن جعلت ما بعد المخفوض صفة لم يبق للمخفوض ما يعمل فيه لا في اللفظ ولا في التقدير؛ لأن معنى الكلام لا يقتضي عاملا محذوفا، بل تجد المعنى مستقلا من غير حذف، نحو قول امريء القيس: فيارب يوم قد لهوت وليلة ... بآنسة، كأنها خط تمثال ألا ترى أن المعنى مستقل بما في اللفظ خاصة، وإن رمت أن تتكلف حذف عامل، فقدرت: ظفرت بهما، أو تمتعت بهما- كانت زائدة غير مفيدة؛ لأن ذلك المعنى حاصل من غير حذف؛ لأن لهوك بالآنسة في ذلك اليوم وتلك الليلة ظفر بهما وتمتع. ومما يدل على ذلك أيضا أنك متى وصفت المخفوض برب. بما لا يحتمل غير الوصف تعلقت النفس بزيادة بيان؛ ولم تكتف بالصفة؛ ألا ترى أنك إذا قلت رب رجل قائل ذلك لم يجز الاكتفاء، بل لا بد من عامل مقدر، به يتم الكلام. وإذا قلت رب رجل يقول ذلك وجدت اللفظ مستقلا غير مفتقر إلى حذف. وكون رب قد عوملت معاملة حرف الفنفي لا يلزم عنه لزوم الوصف للمخفوض بها؛ لأن العامل في الاسم المجرور بها يتنزل منها منزلة الجملة المنفية من حرف النفي. وهذا الذي ذكرناه من/ أن المخفوض برب لا يلزمه الوصف هو الذي يعطيه كلام س؛ ألا ترى أنه قال في "باب الجر": "وإذا قلت رب يقول ذلك فقد

أضفت القول إلى الرجل برب"، فدل ذلك من كلام س على أنه لم يجعل "يقول ذلك" صفة ل"رجل"؛ لأن اتصال الصفة بالموصوف يغني عن ذلك. وقال المصنف في الشرح: "والذي يدل على أن وصف مجرورها لا يلزم عند س تسويته إياها ب"كم"الخبرية، ووصف مجرور كم الخبرية لا يلزم، فكذا وصف ما سوي بها، وتصريحه بكون "يقول" مضافا إلى الرجل برب مانع كونه صفة؛ لأن الصفة لا تضاف إلى الموصوف، وإنما يضاف العامل إلى المعمول، ف"يقول"إذا عامل في "رجل" بواسطة رب، كما كان مررت من مررت بزيد عاملا في زيد بواسطة البادء، وكما كان أخذت من أخذته من عبد الله عاملا في عبد الله بواسطة من، وهما من أمثلة س في باب الجر" انتهى. وكان الأستاذ أبو علي يتأول كلام س بأن يقول: لا يصح أن يكون إلا صفة لرجل، لأن فعل المضمر لا يتعدى إلى ظاهرة؛ ألا ترى أنك لا تقول: بزيد افتخر، تريد: بنفسه افتخر زيد؛ لأن فاعل افتخر ضمير يعود إلى زيد، فكذلك فاعل "يقول"ضمير يعود إلى رجل، فكيف يتعدى إلى رجل بحرف الجر، فلا بد من متعلق محذوف إلا أنه لم يظهر، ونابت الصفة منابه، فلما كان كذلك قال س: إن رب وصلت يقول إلى رجل وإن كانت إنما وصلت وجدت المحذوفة، ونابت يقول منابها. ومن النحويين من خطأ س في تمثيله: رب رجل يقول ذلك.

وقال ابن خروف: قول س"فقد أضفت القول إلى الرجل برب" كلام حسن، وهو كقوله: "فقد أضفت الكينونة إلى الدار بفي"، وكقوله:"فقد إليه الرداءة بفي"، يعني قوله: أنت في الدار، وفيك خصلة سوء، فرب أوصلت القول إلى قليل الرجال وكثيرهم كما أوصلت في الكينونة إلى الدار، واستقرار الرداءة إلى المخاطب. وموضع المخفوض برب مبتدأ، ويقول: خبره، فكأنه على تقديره: كثير من الرجال يقول ذلك. وقال المصنف في الشرح: "وقد يسر لي- بحمد الله- تخريجه بوجه لا تخطئة فيه ولا تكلف، وذلك بأن يجعل يقول مضارع قال، بمعنى: فاق في المقاولة، ويجعل ذلك فاعلا أشير به إلى مرئي أو مذكور، كأنه قال: رب رجل تفوق ذلك الرجل في المقاولة. فيهذا التخريج يؤمن الخطأ والتكلف، ويثبت استغناء مجرور رب عن الوصف" انتهى. وإنما أمن من الخطأ لأنه يكون إذ ذاك الفاعل غير ضمير رجل، فيكون رب رجل يقول ذلك كقوله: رب رجل ضرب زيد، فلم يتعد فعل فاعل الضمير المتصل إلى ظاهره. لكن هذا التخريج بعيد إرادته من قول/ س: "رب رجل يقول ذلك"، بل المتبدر إلى الذهن أن "ذلك"منصوب لا مرفوع، وأن الفاعل ب"يقول" هو ضمير عائد على رجل، ولما كانت رب حرفا محكوما له بحكم الزيادة لم يتنزل منزلة الحرف الذي لم يحكم له بحكم الزيادة، لم يتنزل منزلة الحرف الذي لم يحكم له بحكم الزيادة، فاحتمل أن عاد الضمير فاعلا على مجرورها، فليس نظير: بزيد افتخر؛ لأن بزيد في موضع نصب، وهذا ليس في موضع نصب، بل في موضع رفع بالابتداء، ورب كأنها حرف زائد.

وقال ابن خروف أيضا: "لا يفتقر إلى الصفة كما زعموا؛ لأن معنى التقليل والتكثير الذي دلت عليه يقوم مقام وصف مخفوضها كما كان ذلك في كم؛ ولذلك قلت: كم غلام عندك، فابتدأت بنكرة". يعني أن ما دلت عليه كم من التكثير سوغ الابتداء بها مع أنها نكرة. وقوله ولا مضى ما تتعلق به اختلفوا في زمان ما تتعلق به رب: فالمشهور أنه ماضي المعني، وهو مذهب المبرد والفارسي، واختاره ابن عصفور، وتأول قوله {رُبَمَا يَوَدُّ}، وسيأتي الكلام عليه. وذهب بعض النحويين إلى أنه يجوز أن يكون مستقبلا وحالا، والمضي أكثر. وهو اختيار المصنف، قال في الشرح: "وأما كونه- يعني المضى- لازما لا يوجد غيره فليس بصحيح، بل قد يكون مستقبلا، كقول جحدر اللص: فإن أهلك فرب فتي سيبكي ... على مذهب اللص رخص البنان وكقول هند أم معاوية: يارب قائلة غدا ... يالهف أم معاويه

وكقول سليم القشيري: ومعتصم بالحي من خشية الردى ... سيردى، وغاز مشفق سيؤوب وقال الراجز: يارب يوم لي، لا أظللله ... أرمض من تحت، وأضحى من عله وقال آخر: يارب غابطنا لو كان يطلبكم ... لاقى مباعدة منكم وحرمانا قال: "وقد يكون ما وقعت عليه رب حالا، كقولك لمن قال: ما في وقتنا امرؤ مستريح: رب امريء في وقتنا مستريح، ومنه قول ابن أبي ربيعة: فقمت ولم تعلم على خيانة ... ألا رب باغي الربح ليس برابح / ومثله: ألا رب من تغتشه لك ناصح ... ومؤتمن بالغيب غير أمين" وقد تأول بيت جحدر من ذهب إلى التزام مضيه بأن يكون على حكاية المستقبل بالنظر إلى المضى؛ قال: "وكأنه قال: فإن أهلك فرب فتى بكي علي فيما مضى وإن كنت لم أهلك، فكيف يكون بكاؤه على إذا هلكت؟ فأوقع سيبكي موقع بكى لأجل الحكاية، وحذف ما يتم به الكلام لفهم المعنى. والدليل على أن

المستقبل قد يحكى بالنظر إلى ما مضى أنك تقول: لم تركت زيدا وقد كان سيعطيك؟ ومن ذلك قول امرأة من العرب ترثي زوجها: ياموت لو تقبل افتداء ... كنت بنفسي سأفتديه وهذا التأويل إنما يحتاج إليه إن قدر سيبكي جوابا لرب لا صفة للمخفوض بها؛ وأما إن قدرته في موضع الصفة للمخفوض برب، وجعلت لها جوابا نحذوفا يراد به المضي- فلا يحتاج إليه، ويكون التقدير إذ ذاك: فرب فتى سيبكي على مخضب رخص البنان لم أقض حقه، فحذف ذلك لدلالة ما بعده عليه، وهو قوله بعد: ولم أك قد قضيت حقوق قومي ... ولاحق المهند والسنان" انتهى وأما استدلال المصنف بقول أم معاوية فقولها "يارب قائلة غدا" هو من الوصف بالمستقبل لا من باب تعلق رب. بما بعدها. وأما "ومعتصم" فإن "سيردي" محتمل أن يكون صفة لا متعلقا به رب. وأما "لا أظله" فهو صفة أيضا. وكذلك "يارب غابطنا". فجميع ما استدل به على استقبال ما تتعلق به رب لا دليل فيه. وأما قوله "فقمت" البيت، وقوله "ألا رب"البيت- فهما مما وصف فيهما المجرور بالحال لا مما تعلقت به رب. وفي قول المصنف "ولا مضى ما تتعلق به" نص على أنها تتعلق كحروف الجر غير الزوائد، وهذه مسألة اختلف فيها: فذهب الرماني وابن طاهر إلى أنها لا تتعلق بشيء، وحكاه شيخنا أبو الحسين بن أبي الربيع عن بعض المتأخرين، قال: "إذا قلت: رب رجل عالم قد

لقيته- فرب حرف دخل على المبتدأ وخفضه، وهو بمنزلة: بحسبك زيد، فدخل حرف الجر، فانخفض المبتدأ، فكما أن المجرور هنا لا يحتاج إلى متعلق كذلك رب رجل عالم لا يحتاج إلى متعلق". وذهب الجمهور إلى أنه يتعلق. واختلفوا في موضع المجرور بها: فذهب الزجاج إلى أنه في موضع نصب أبدا، فإذا قلت: رب رجل قد ضربت، ورب رجل قد أتاني- كانت في موضع نصب بضربت وأتاني. وإن جعلتهما صفة كانت في موضع نصب بعامل محذوف. ورد على ذلك بأنه يؤدي إلى تعدي الفعل المتعدى بنفسه إلى مفعوله/ بواسطة رب، وهو لا يحتاج في تعديه إليها. وأجاب الرماني بأنها دخلت على معمول الفعل كما دخلت اللام في "إن كنتم للرءيا تعبرون"، لكن هذا على سبيل الجواز لما كان التقديم والتأخير جائزين، ولما وجب تقديم الفضلة المجرورة برب على الفعل وجب دخول رب عليها. ورد بأن العامل إذا تقدم معموله عليه لم يقو في وصوله إليه باللام. ورد أيضا مذهب الزجاج بأنه يؤدي إلى تعدي الفعل المتعدي إلى ضمير المفعول وإلى ظاهره في نحو: رب رجل عالم لقيته، ولا يجوز: بزيد لقيته، وبأنه إذا كان المفعول يلزم تقديمه لم يلزم أن يقوى بالحرف، فيجوز: لأي رجل ضربت؟ وأي رجل ضربت؟

وذهب الأخفش والجرمي إلى أنها تزاد في الإعراب، ويحكم على موضع مجرورها بالنصب والرفع على حسب العامل بعدها، ويجوز فيه الاشتغال إذا كان العامل قد عمل في ضميره أو سببه نصبا، ويعطف على لفظه وعلى موضعه، فإن كان رفعا رفع المعطوف، أو نصبا نصب. قال ابن عصفور: "ومن العطف على الموضع قول الشاعر: وسن كسنيق سناء وسنما ... ذعرت بمدلاج الهجير نهوض عطف سنما على موضع سن لأنه في موضع نصب على المفعول". وقال الأعلم: "السناء: الارتفاع، وكذلك، فعلى هذا يكون وسنما معطوفا على سناء". وقال أبو بكر عاصم بن أيوب البطليوسي: "من جعل سنما اسما للبقرة عطفه على موضع وسن؛ لأنه في موضع المفعول بذعرت؛ أراد: ذعرت بهذا الفرس ثورا وبقرة، وهو بعيد عند بعض النحويين أن يجعل لرب موضع من اإعراب. انتهى". ويدل هذا على أنها زائدة في الإعراب قولهم: رب رجل عالم يقول ذلك، فلولا أن "رب" زائدة فب إعراب ما جاز ذلك؛ لما يلزم من تعدي فعل الضمير المتصل إلى ظاهره، فجعل "رب رجل" في موضع رفع بالابتداء هو الذي سوغ ذلك. لا يقال: كيف يقال في رب إنها زائدة في إعراب وهي تدل على معنى زائد؛ لأن الزائد على قسمين: قسم إذا أزيل لم يتغير المعنى؛ لأنه إنما جيء [به] للتأكيد،

وقسم إذا أزيل تغير المعنى، ويسمى زائدا في الاصطلاح باعتبار أنه يتخطى العامل إليه. مثال الأول: ليس زيد بقائم، ومثال الثاني: جئت ليلا بلا زاد، فيقول النحويون إن "لا زائدة، وهي لو أزيلت لتغير المعنى من النفي إلى الإثبات. ف"رب" إذا كان معمولها مبتدأ لا تتعلق بشيء، ونظيرها في ذلك "لولا" مع المضمر، و"لعل" في لغة من جر بها في أنهما لا يصل بهما عامل إلى معموله، وكذلك رب رجل عالم في الدار ف "في الدار"خبر عن "رجل"، ولم يصل ب"رب"عامل إلى معموله. فأما رب رجل عالم لقيت فإنما قلنا إن رب رجل في موضع مفعول لأن العامل في ذلك يطلبه/ على جهة المفعولية، بخلاف "لولا" مع المضمر، و"لعل" في لغة من جر بها، فإنه لا يكون ذلك أبد إلا في موضع لا يتعلق فيه بعامل. وأما قول س في رب رجل يقول ذلك: "إنك قد أضفت القول إلى الرجل برب"- فمعناه أن يقول: إضافته رب إلى الرجل على معنى التقليل أو التكثير على الخلاف، كما تقول في لعل زيد قائم: إن لعل أضافت القيام إلى زيد على طريق الترجي. وحروف الجر غير الزائدة متعلقة كانت أو غير متعلقة معناها الإضافة، فإن كانت متعلقة أضافت العامل إلى المعمول، وإن كانت غير متعلقة أضافت الابتداء إلى المخفوض بها على المعنى الذي لها. وحذف الفعل الذي يكون خبرا لمجرور رب، أو عاملا في موضعه، أو مفسرا لعامل- نادر وفاقا ل"س"والخليل، لا كثير، خلافا للفارسي والجزولي، ولا ممنوع، خلافا للكذة الأصبهاني؛ إذ زعم أن ذكره واجب، ولحن ما ورد من ذلك، وزعم أنه منحول للعرب.

قال س في باب ما يجزم من الجوابات: "وزعم الخليل- رحمه الله- أنه وجد في أشعار العرب رب لا جواب لها، ومن ذلك قول الشماخ: ودوية قفر تمشي نعامها ... كمشي النصارى في خفاف اليرندج ألا ترى أنه قد علم أن مراده: قطعتها، أو نحوه ". وقول الخليل يدل على بطلان ما قاله الفارسي ولكذة. ومما يرد على لكذة قولهم: رب رجل قائم، ورب ابنة خير من ابن، وفي المثل السائر: رب لائم مليم، وقول الشاعر: ألا رب من تغتشه لك ناصح ... ومؤتمن بالغيب غير أمين وقال أبو الحسين بن أبي الربيع: ((لا يمكن أن تجعل رب زائدة؛ لأنها تحزر معنى، والزائد لا يحزر معنى، وإنما هو مؤكد، ولا كل حرف خافض لا يكون إلا موصلا، وإنما خفض إذا كان زائدا ليبقى عليه عمله الذي أنس به، وما زادته العرب للتوكيد وليس له أصل فلا يكون خافضا؛ لأنه ليس موصلا، و"رب" خافضة، فلابد أن تكون موصلة، أو منقولة منها إن جعلتها زائدة، فقد صح. بما ذكرته أنها لا بد لها من فعل تتعلق به، فلابد أن يكون ظاهرا أو محذوفا، وإذا كان محذوفا فيكون على وجهين:

أحدهما: أن يكون قد ناب منابه شيء، فلا يظهر. الثاني: ألا ينوب منابه شيء، فيجوز أن يظهر، ويجوز أن تحذفه، فيكون ظاهرا إذا لم يكن معك ما يدل عليه، وإذا كان معك ما يدل عليه، ولم تكن الصفة تقوم مقامه- فانت بالخيار، إن شئت حذفته وإن شئت أظهرته. وإذا كانت الصفة تقوم مقامه فلا يجوز إظهار الفعل. فمثال ما أنت فيه بالخيار أن تسمع إنسانا يقول لك: ما لقيت رجلا عالما، فتقول: رب رجل عالما لقيت، ولك ألا/ تذكر لقيت، فتقول: رب رجل عالم، وتكتفي بكونه جوابا. فإن كان ذلك منك ابتداء فلابد من إظهار الفعل. وأكثر ما تكون جوابا، وإذا كانت غير جواب فهي تقدير على ذلك، إلا أن الفعل يظهر لأ سامعك لا يعلم ذلك الفعل إذا حذفته. ومثال ما يكون الفعل فيه لا يظهر لأن الصفة تقوم مقامه قولك: رب رجل يفهم هذه المسألة، لمن يقول لك: قد فهمتها، فالتقدير: رب رجل يفهم هذه المسألة وجدت، لكن مثل هذا لا يظهر. وبهذا كان الأستاذ أبو علي يتأول كلام س، وهو: "إذا قلت: رب رجل يقول ذلك، فقد أضفت القول إلى الرجل برب"،فكان يقول: إن يقول لا يصح أن يكون إلا صفة لرجل؛ لأن فعل المضمر لا يتعدى إلى ظاهره، فلابد من متعلق محذوف، إلا أنه لا يظهر، ونابت الصفة منابه، فلما كان كذلك قال س: إن رب وصلت يقول إلى رجل، وإن كانت إنما وصلت وجدت المحذوفة، ونابت يقول منابها"، انتهى ما نقلناه من كلام أبي الحسين. فصارت المذاهب في الفعل المقدر عاملا في رب بالنسبة إلى الحذف خمسة: الندور، وهو مذهب س والخليل. والكثرة، وهو مذهب الفارسي. والمنع، وهو

مذهب لكذة. ونقل صاحب "البسيط" عن بعضهم أنه يلزم الحذف، فقال: "وادعى بعضهم لزوم الحذف لأنه معلوم، كما حذف في: باسم الله، وتالله لأفعلن". والتفصيل، وهو ما ذهب إليه ابن أبي الربيع. وقوله بل يلزم تصديرها إن عني أنه يلزم تصديرها علي ما تتعلق به علي ما تتعلق به علي ما زعم فهو صحيح، لا يوجد في كلامهم: لقيت رب رجل عالم. وإن عنى أنه يلزم تصديرها أول الكلام فقد بينا أن ذلك ليس بصحيح، وأنها قد وقعت خبراً ل "إن" ول "أن" المخففة من الثقيلة. وقوله وتنكير مجرورها يعني أن ذلك ليس بصحيح، وأنها قد وقعت خبراً ل "إن" ول "أن" المخففة من الثقيلة. وقوله وتنكير مجرورها يعني أنه إذا كان مجرورها ظاهراً فإنه يكون نكرة، سواء أكان معرباً أم مبنياً، نحو: رب من أنضجت غيظاً صدره ................................ وزعم بعض النحويين أنها تجر الاسم المعرف بأل، فتقول: رب الرجل لقيت، وأنشدوا في ذلك قوله: ربما الجامل المؤبل فيهم وعناجيج بينهن المهار بخفض الجامل. وقال من منع ذلك: الرواية الجامل بالرفع علي أن تكون ما في موضع اسم نكرة، والجامل خبر مبتدأ محذوف، أي: هو الجامل، والجملة في موضع الصفة ل "ما". وقد تقدم تخريج المصنف الرفع علي أنه مبتدأ، و "ما" كافة ل "رب". قالوا: فإن صحت وراية الجر خرج علي زيادة أل، كأنه قال: ربما جامل مؤبلٍ فيهم، كما قالوا: إني لأمر بالرجل مثلك فأكرمه، أي: برجل مثلك.

وقوله وقد يعطف علي مجرورها وشبهه مضاف إلي ضميريهما مثال ذلك: رب رجلٍ وأخيه رأيت. وشبه مجرورها هو المجرور بعد كم، نحو: كم عبد وأخيه أعتقت، وقال الشاعر: وكم دون بيتك من مهمه ... وكداك رمل وأعقادها وكذا أي وكل، قال: فأي فتى هيجاء أنت وجارها ... .................... وكذلك كل، قالوا: كل شاة وسخلتها بدرهم. وشرط جواز ذلك أن يكون في العطف من التوابع، وأن يكون العطف بالواو خاصة. وزعم الفارسي أنه يجوز ذلك في البدل، وأنشد: كأنهم صابت عليهم سحابه ... صواعقها "لطيرهن دبيب" جملة في موضع الصفة، والجملة نكرة وصفت بها المعطوف، فدخله حكم المعطوف عليه" انتهي. ولا يثبت مثل هذا الحكم بهذا التأويل؛ لأن الأولي والظاهر أن يكون صواعقها مبتدأ لا بدلاً، و "لطيرهن دبيب" خبره، والجملة من "صواعقها" وخبره صفة لسحابة.

وسوغ دخول رب المضاف إلي ضمير مجرورها لأن الإضافة غير محضة، فلم تتعرف النكرة بإضافتها إلي المعرفة، والعرب لا تحكم للمضاف إلي ضمير النكرة بحكم النكرة إلا بشرط أن يكون بعد لفظ يطلب بالتنكير، ك "رب" و "كل" و "أي" فيما ذكرنا، وشرط أن يكون المضاف إلي النكرة معطوفاً علي نكرة متقدمة معمولة ل "رب" و "كم" و "أي" و "كل". وقال س: "وهو علي ج=وازه ضعيف". وحكى الأصمعي ما هو أشد من هذا، وهو مباشرة رب للمضاف إلي الضمير، قال: قلت لأعرابية: ألفلان أب أو أخ؟ قالت: رب أبيه، رب أخيه، تريد: رب أخ له، رب أب له، فجعلت إضافتهما إلي الضمير في نية الانفصال. ووجه ذلك أن الأخ والأب لما كانا من الأسماء التي يجوز الوصف بها قدر فيهما الانفصال، كما قالوا: مررت بفرس قيد الأوابد، إلا أن هذا من القلة بحيث لا يقاس عليه باتفاق. وكذلك: رب واحد أمه. ولو كان العطف بالواو في غير رب وكل وأي وكم، نحو قولك: هذا رجل وأخوه، تريد به الانفصال، أي: وأخ له، ويكون الأخ نكرة- ففي ذلك خلاف، قبل: والصحيح أنه يجوز؛ لأنه قد يشترك المعطوف مع المعطوف عليه، فينسحب عليه حكم ما عطف عليه، إلا أنه لا يثبت بذكر مثل هذا نصاً كما يثبت برب وكم وأي وكل؛ لأن هذه لا تدخل إلا علي نكرات، فيتبين فيها نصاً التنكير، ولا يتبين في مثل: هذا رجل وأخوه

-[ص: وقد تجر ضميراً لازماً تفسيره بمتأخرٍ منصوب علي التمييز مطابقٍ للمعني. ولزوم إفراد الضمير وتذكيره عند تثنية التمييز وتأنيثه أشهر من المطابقة.]- ش: أجروا "ربه رجلاً" في الإضمار قبل الذكر علي شريطة التفسير مجرى نعم لتقارب معنييهما، من حيث كان ربه رجلاً يستعمل في الثناء والمدح، كما أن نعم رجلاً كذلك. وقال الزجاج: "قولهم ربه رجلاً معناه: أقلل به في رجال، وإنما فعلوا ذلك لما في الإضمار قبل الذكر من الإبهام، والإبهام كثيراً ما يستعمل في موضع التعظيم" انتهي. ف "ربه رجلاً" أفخم وأمدح من: رب رجل. وفي قول المصنف "وقد تجر" إشعار بأن ذلك قليل، بل قد نص في غير هذا الكتاب من مصنفاته أن جر رب المضمر شاذ. والنحويون أوردوا ذلك علي سبيل الجواز وأنه فصيح لا شاذ ولا قليل، إلا إن كان عنى بالشذوذ شذوذ القياس، وبلقلة بالنسبة إلي جرها الظاهر، فهو صحيح؛ لأن القياس في مضمر الغائب أن يتقدمه مفسره، وجرها الظاهر النكرة أكثر من جرها الضمير. وقد اختلفوا في هذا الضمير أنكرة هو أو معرفة: فذهب الفارسي وكثير من النحاة إلي أنه معرفة، وجرى مجرى النكرة في دخول رب عليه لما أشبهها في أنه غير معين ولا مقصود قصده. وذهب بعض النحويين إلي أنه نكرة، وهو اختيار ابن عصفور، قال ما ملخصه: "ضمير النكرة معرفة إذا فسرته نكرة متقدمة عليها لنيابتها مناب

المعرفة، نحو: لقيت رجلاً فضربته؛ لأنه نائب مناب: فضربت الرجل، فأضمروه فراراً من التكرار. فإن فسر بنكرة متأخرة فقد تضعه العرب موضع ظاهر معرفة، فيكون معرفة لوقوعه موقعها، نحو: نعم رجلاً زيد، فالضمير في نعم واقع موقع ظاهرٍ معرف بألٍ أو مضافٍ إلي ما هي فيه. وقد تضعه موضع موضع ظاهر نكرة، فيكون نكرة لوقوعه موقعها، وذلك: ربه رجلاً؛ لأن المخفوض ب (رب) إذا كان ظاهراً لا يكون إلا نكرة، وكأنك قلت: رب شيء، ثم فسرت الشيء الذي تريده بقولك رجلا" انتهى. وقد خالف الفارسي في: نعم رجلاً زيد، فزعم أن المضمر فيه لا يجوز إظهاره، وأن قولك: نعم الرجل زيد- ليس إظهاراً للضمير الذي في: نعم رجلاً. واستدل علي ذلك بقولهم: ربه رجلا، من جهة أن الضمير معرفة، فلو كان واقعاً موقع الظاهر لوجب أن يكون ذلك الظاهر معرفة، و "رب" لا تعمل في المعارف. وما ذهب إليه الفارسي من كون هذا الضمير معرفة هو الجاري علي مهيع النجاة من أن الضمير معرفة. وقوله لازماً تفسيره هذا التفسير مخالف لتفسير الضمير في نعم؛ لأنه في نعم قد روي حذفه لدلالة الكلام عليه، وهنا لا يجوز حذفه، لو قيل ذلك: هل رأيت رجلاً عالماً؟ لم يجز أن تقول: ربه، وأنت تعني: ربه رجلاً عالماً رأيت. وقوله بمتأخر منصوب قال: ربه امرأ بك نال أمنع عزةٍ ... وغنى بعيد خصاصة وهوان ونصب هذا التمييز هو المعروف في لسان العرب، وقد سمع جره، قال:/

واهٍ رأبت وشيكاً صدع أعظمه وربه عطب أنقذت من عطبه ووجه الجر أنه نوى من، كأنه قال: وربه من عطب، كما قالوا: نعم من رجل، وذلك علي سبيل الشذوذ، لا أنه جائز في الكلام. وقوله مطابقاً للمعنى أي: مطابق للذي يقصده المتكلم من إفراد وتذكير وغيرهما، فليس مطابقاً للفظ الضمير؛ لأن لفظ الضمير مفرد مذكر، والتمييز مطابق لما يريده من المعنى بالنسبة إلي التأنيث والتثنية والجمع. وقوله ولزوم إفراد الضمير إلي آخره مذهب البصريين أن الضمير مفرد مذكر وإن كان مميزاً بمؤنث أو مثنى أو مجموع؛ فتقوله: ربه رجلاً، وربه رجلين، وربه رجالاً، وربه امرأة، وربه امرأتين، وربهن نساءً. قال ابن عصفور: "وأجاز أهل الكوفة تثنية وجمعه قياساً، وذلك عندنا لا يجوز؛ لأن العرب استغنت بتثنية التمييز وجمعه عنه، كما استغلوا بترك عن وذر وودع" انتهى. ولم يجتزه الكوفيون قياساً، بل حكوه عن العرب. ومثال قولهم ربه رجالاً قول الشاعر: ربه فتية دعوت إلي ما يورث الحمد دائماً، فأجابوا

ومن ذهب إلى أن مجرور رب النكرة لابد له من الوصف لم يذهب إلي ذلك في: ربه رجلاً. وسبب ذلك فيما ذكره ابن أبي الربيع أنه استغنى بما دل عليه الإضمار من التفخيم عن الوصف، فصار قولك ربه رجلاً بمنزله رب رجلٍ عظيمٍ لا أقدر علي وصفه. وما يتعلق به ربه رجلاً حكمه عندي حكم رب رجل من ان حذفه ينبغي أن يكون ناداً؛ إذ ظاهر قوله "ربه امرأ" وما رووا أيضاً من قوله "وربه عطباً أنقذت من عطبه" بالنصب والجر، وقوله "ربه فتية" الأبيات- فيه ذكر الفعل الذي تتعلق به رب. وزعم ابن أبي الربيع أن حذف هذا الفعل في ربه رجلاً لازم، قال: "يحتاج إلي ما تتعلق به رب في ربه رجلاً كما تحتاج: رب رجل، وما تتعلق به محذوف، تقديره علي حسب ما يكون جواباً له، إلا أنه لا يظهر؛ لأن الحذف في رب رجلٍ عالمٍ أكثر من الإظهار، فلزم في ربه رجلاً لما فيه من زيادة التعظيم". -[ص: قد يلي عند غير المبرد "لولا" الامتناعية الضمير الموضوع للنصب والجر والمجرور الموضع عند سيبويه؛ مرفوعه عند الأخفش والكوفيين. ويجر ب "لعل" و "عل" في لغة عقيل، وب "متى" في لغة هذيل.]- ش: المشهور أنه إذا ولي لولا الامتناعية ضمير أن يكون ضمير رفع منفصلاً؛ لأنه ناب مناب الظاهر، والظاهر مرفوع، فوجب أن يكون/ ضمير رفع، قال تعالى: {لَوْلا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ}. والخلاف فيه كالخلاف في

الظاهر، أهو مرفوع بلولا، أو مرفوع بفعل محذوف، أو مبتدأ أغنى الجواب عن خبره، أو خبره محذوف لزوماً، أو فيه تفصيل. وقوله عند غير المبرد زعم أن ذلك لحن، وأن النحويين أخذوا ذلك من قوله يزيد بن الحكم، وقد أنشده س. وكم موطن لولاي طحت كما هوى ... بأجرامه من قلة النيق منهوي قال: "وهذه القصيدة فيها لحن كثير". قال الأستاذ أبو علي: "اتفق أئمة البصريين والكوفيين، كالخليل وسيبوبه، والكسائي والفراء- علي رواية لولاك عن العرب؛ فإنكار المبرد هذيان، وإن يكن يزيد بن الحكم لحاناً كما قال فقد قال رؤبه: لولاكما لخرجت نفساهما" انتهى.

وأنشد الفراء: أتطمع فينا من أراق دماءنا ... ولولاك لم يعرض لأحسابنا حسن وأنشد أيضاً: ...................... ... لولاك هذا العام لم أحجج وقال الأخطل: أستمعتكم يوم ادعو في موداة ... ولاكم شاع لحمي عندها ودمي وقال آخر: ويوم بجي تلافيته ... ولولاك لاصطلم العسكر

وقال جحدر: خليلي! إن العارمي لعارم ... ولولاه ما قلت لدي الدراهم ويحتمل أن يكون "ولولاه" من باب: فبينا هـ يشري ................... ...................... أي: فبينا هو يشري. فأما قوله: ولولا هم لكنت كحوت بحرٍ ... هوى في مظلم الغمرات داج فيحتمل "هم" أن يكون ضمير رفع وضمير جر؛ لأن "هم" ضمير يكون مرفوعاً ومنصوباً ومجروراً. وعلي هذه اللغة تقول: لولاي ولولانا، ولولاك ولولاك ولولاكما ولولاكم ولولاكن، ولولاها ولولاهما ولولاهم ولولاهن. وقول الامتناعية احتراز من "لولا" التحضيضية، فإن التحضيضية لا يليها غلا الفعل ظاهراً أو مضمراً أو معموله. وقوله مجرور الموضع عند سيبويه لأن هذا الضمير لا جائز أن يكون منصوباً؛ لأنه لو كان منصوباً لجاز أن توصل بنون الوقاية ياء المتلكم كالضمائر المتصلة بالحروف، ولا جائز أن يكون مرفوعاً؛ لأنها ليست من ضمائر الرفع، فتعين الجر.

وقوله مرفوعه عند الأخفش والكوفيين/ ذهبوا إلي أنه مما استعير الضمير المجرور عوضاً عن الضمير المرفوع، كما عكسوا في قولهم: ما أنا كأنت، ولا انت كأنا. وفي هذا المذهب إقرار "لولا" علي ما استقر فيها من مجيء المرفوع، كما عكسوا في قولهم: ما أنا كأنت، ولا أنت كأنا. وفي هذا المذهب إقرار "لولا" علي ما استقر فيها من جيء المرفوع بعدها، ويترجح بهذا وبأن الضمير فرع عن الظاهر، وإذا لم تجر الاصل فكيف تجر الفرع، وبانك لو جعلتها حرف جر احتاجت إلي شيء تتعلق به، ولا شيء تتعلق به، ولأن مدلول لولا أنت ولولاك واحد، وفي لولا أنت يكون الكلام جملتين، وفي لولاك يكون الكلام جملة واحدة. وقال المصنف في الشرح: "وفي ذلك- أي في الجر مع شذوذه- استيفاء حق ل (لولا)، وذلك أنها مختصة يالاسم غير مشافبهة للفعل، ومقتضي ذلك أن تجر الاسم مطلقاً، لكن منع من ذلك شبهها بما اختص بالفعل من أدوات الشرط في ربط جملة بجملة، وأرادوا التنبيه علي موجب العمل في الأصل، فجروا بها المضمر المشار إليه" انتهى. وقوله "إنها مختصة بالاسم" ليس كذلك؛ لأنها إنما هي داخلة علي الجملة الابتدائية، فلم تختص بالاسم، وإذا لم تكن مختصة بالاسم فليس مقتضى ذلك أن تجر الاسم كما ذكر. وإذا قلنا بأن الضمير في لولاك وشبهه مجرور لولاك فذكر بعضهم أنها لا تتعلق بشيء، وهو مشكل؛ لأن حرف جر ليس بزائد لابد أن يتعلق. وذهب بعضهم إلي أنها تتعلق بفعل واجب الإضمار، فإذا قلت: لولاي لكان كذا- فالتقدير: لولاي حضرت، فألزقت ما بعدها بالفعل علي معناها من امتناع الشيء، ولا يجوز أن يعمل فيها الجواب؛ لأن ما بعد اللام لا يعمل فيها قبلها. انتهى.

وكأنه لما رأى أن لولا إذا ارتفع ما بعدها كان الخبر واجب الإضمار جعل الفعل الذي تتعلق به لولا واجب الإضمار. وما ذهب إليه فاسد لأن في ذلك التقدير تعدي الفعل الرافع للضمير إلي مضمره المجرور، وهو يجري مجرى المنصوب، فلا يجوز: في فكرت، ولا يجوز: لولاي حضرت. والذي يظهر أنها لا تتعلق بشيء؛ ألا ترى أن لعل إذا جرت لا تتعلق بشيء، ولا يلزم من عمل الحرف الجر أن يتعلق بشيء وغن كان الغالب التعلق؛ ألا ترى أن الزائد لا يتعلق بشيء، فكذلك بعض الحروف التي ليست بزائدة، والعمل إنما هو تأثير لفظي، فجاز أن يكون المجرور بعد لولا كالمرفوع؛ ألا ترى أن الفراء ذهب إلى أن المرفوع بعد لولا هو مرفوع بها، فكذلك يكون مجروراً بها، ولا يحتاج إلي تقدير، كما لا يحتاج المرفوع عند الفراء إلي تقدير شيء محذوف. وقوله ويجر بلعل وعل في لغة عقيل تقدم له الكلام في ذلك في آخر الفصل الرابع من باب إن وأخواتها، وذكرنا أن بعض النحويين أنكر ذلك، وتأول قول الشاعر: .............................. لعل أبي المغوار منك قريب والصحيح ثبوت ذلك لغة، حكاها الاخفش والفراء، وذكر أبو زيد أنها لغة عقيل./ وقد قال أبو موسى الجزولي في "قانونه": "وقد جروا بلعل منبهة على الأصل".

وقوله وبمتى في لغة هذيل أما متى فإنها ظرف زمان، وتكون شرطاً واستفهاماً، ونقل بعضهم أن متى تكون بمعنى وسط، فتجر ما بعدها، وحكى: وضعها متى كمه، أي: وسط كمه. وقال أبو سعيد السكري: "متى بمعنى من"، ولم ينسبها لهذيل، وأنشد لأبي ذؤيب: شربن بماء البحر، ثم ترفعت ... متى لجج خضر لهن نئيج وأنشد أيضاً لغيره: متى ما تعرفوها تنكروها ... متى أقطارها علق نفيث قال أبو سعيد: "أي: من لجج، ومن أقطارها" انتهى. ويحتمل أن تكون هنا في البيتين بمعنى وسط، فتبقى علي ما استقر فيها من الظرفية وإن لم تكن شرطاً ولا استفهاماً. وقال المصنف في الشرح: "وأما متى فهمي في لغة هذيل حرف جر بمعنى من، ومنه قول الشاعر: شربن بماء البحر ...................... ... ................................... " البيت. قال: "ومن كلامهم: أخرجها متى كمه، أي: من كمه".

-[ص: فصل في الجر بحرف محذوف يجر برب محذوفة بعد الفاء كثيراً، وبعد الواو أكثر، وبعد بل قليلاً، ومع التجرد أقل. وليس الجر بالفاء وبل باتفاق، ولا بالواو، خلافاً للمبرد ومن وافقه.]- ش: مثال الجر بعد الفاء قول امرئ القيس: فمثلك حبلى قد طرقت ومرضعاً ... فألهيتها عن ذي تمائم مغيل وقول ربيعة بن مقروم: فإن أهلك فذي حنق لظاه ... يكاد علي يلتهب التهابا وقول بعض طيئ: إن يثن سلمى ابيضاض الفود عن صلتي ... فذات حسن سواها دائماً أصل وقول الهذلي: فإما تعرضن- أميم- عني ... وينزعك الوشاة أولو النباط فحورٍ قد لهوت بهن عينٍ ... نواعم، في المروط وفي الرياط

وقوله وبعد الواو أكثر هذا لا يحتاج إلي مثال؛ لأن دواوين العرب ملأى منه. وقول المصنف يجر برب محذوفة بعد الفاء كثير، بل هو قليل، يكاد ألا يوجد منه إلا هذا الذي أنشدناه. ومصال ذلك بعد بل قول الراجز: بل جوز تيهاء كظهر الحجفت /وقول الآخر: بل بلد ملء الفجاج قتمه ... لا يشترى كتانه وجهرمه /وقوله الآخر: بل بلد ذي صعد وأصباب وقوله ومع التجرد أقل يعني: ومع التجرد من الفاء والواو وبل، ومثاله قول ذي الرمة: أصهب، يمشي مشية الأمير ... لا أوطف الرأس ولا مقرور وقول الآخر:

رسم دار وقفت في طلله ... كدت اقضي الغداة من جلله أي: رب أصهب، ورب رسم دارٍ. وقوله وليس الجر بالفاء وبل بالاتفاق قال المصنف في الشرح: "ولا خلاف في أن الجر في (فذي حنقٍ)، و (بل بلدٍ)، و (رسم دارٍ)، وأشباهها- برب المحذوفة" انتهى. زقال ابن عصفور: "ولم يختلف أحد من النحويين في أن الخفض بعد الفاء وبعد بل بإضمار رب". فعلى هذين النقلين يظهر وهم من عد الفاء وبل في حروف الجر، وأن الجر بها لنيابتها مناب رب. وذكر صاحب "كتاب الكافي" أنه لا يعلم خلافاً بين النحويين في أن الجر بعد الفاء برب مضمرة لابالفاء. وذكر أن العرب تحذفها، وتبقي عملها بعد واو العطف، ولا يجوز إظهارها بعدها، قال: "وقد أجرت العرب الفاء مجرى الواو، فحذفت بعدها رب". قال: "وقد حذفت قليلاً بعد ثم، والأصل في هذا كله واو، والعرب أقامتها مقام رب في الموضع الذي ذكرت، ثم أجرت العرب الفاء مجرى الواو، وكذلك أجرت العرب ثم. وسبب ذلك أن هذه الثلاثة من حروف العطف ليست بجامعة إلا في اللفظ". وقوله ولا بالواو خلافاً للمبرد قال المبرد: الواو بمنزلة رب، والخفض بها، ولا ينكر أن يكون للحرف الواحد معان كثيرة. ويدل علي أنها ليست للعطف مجيئها في أول القصيدة، نحو قوله:

وقاتم الأعماق خاوي المخترق ووافق المبرد لعض الكوفيين. ورد ذلك بأنها لو كانت بمنزلة رب، ولا تقول: ووخصم، وليس امتناع ذلك كراهة اتفاق اللفظين؛ لأنهم قد قالوا: ووالله، فأدخلوا واو العطف علي واو القسم. وبأنها قد أضمرت بعد الفاء وبل وثم، ولم يختلفوا أن الجر بها لا بهذه الحروف، فللواو أسوة بها. ولا يمنع كونها للعطف مجيئها في أوائل القصائد؛ لإمكان إسقاط الراوي شيئاً قبلها من القصيدة، أو لإمكان عطفه علي ما في خاطره مما يناسب ما عطف عليه، ومثال ذلك قول زهير: دع ذا، وعد القول في هرم ..................................................... العرب تنشد هذه القصيدة، وأولها عندهم: دع ذا، ولا يعرفون قبلها شيئاً، فهذا قد أشار ب "ذا" إلي شيء في نفسه؛ إذ كانوا يستفتحون القصائد بذكر شيء من الغزل وذكر الأطلال وغير ذلك مما يجري في أوئل/ قصائدهم. ومن العرب من يجعل أول قصيدة زهير. دع ذا، وعد القول في هرم ... ....................................................... العرب تنشد هذه القصيدة، وأولها عندهم: دع ذا، ولا يعرفون قبلها شيئاً، فهذا قد أشار ب "ذا" إلي شيء في نفسه؛ إذ كانوا يستفتحون القصائد بذكر شيء من الغزل وذكر الأطلال وغير ذلك مما يجري في أوائل /قصائدهم. ومن العرب من يجعل أول قصيدة زهير: لمن الديار بقنة الحجر ... ............................................................. والحجة في رواية من روى أولها: "دع ذا وعد القول في هرم". وإضمار رب بعد الواو والخفض بها مضمرة مذهب البصريين.

-[ص: ويجر بغير رب أيضاً محذوفاً في جواب ما تضمن مثله، أو في معطوف على ما تضمنه بحرف متصل، أو منفصل ب "لا"، أو "لو"، أو في مقرون بعد ما تضمنه بالهمزة، أو "هلا"، أو "إن" أو الفاء الجزائيتين. ويقاس علي جميعها، خلافاً للفراء في جواب نحو: بمن مررت؟]- ش: هذه مسائل ذكرها المصنف، وزعم أنه يجوز حذف حرف الجر فيها وإبقاء عمله. مثال الأولى: زيد، في جواب من قال: بمن مررت؟ قال: "ومنه قوله- عليه السلام-: (أقربهما منك باباً)، جواباً لمن قال له: فإلى أيهما أهدي؟ وكذلك: بلى زيد، لمن قال: ما مررت بأحد، أو هل مررت بأخذ؟ ". ومثال الثانية قوله تعالى: {وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ}، وفي آخر الآية قوله: {آيَات}، فجر {اخْتِلافِ} ب "في" لاتصاله بالواو لتضمن {وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ} لفظ في. ونظيره: في الدار زيد والقصر عمرو، أي: وفي القصر. ومثله قول الشاعر: ألا يا لقومي، كل ما حم واقع ... وللطير مجرى، والجنوب مصارع

وقول الآخر: أخلق بذي الصبر أن يحظى بحاجته ... ومدمن القرع للأبواب أن يلجا وقول الآخر: كالتمر أنت إذا ما حاجة عرضت ... وحنظل كلما استغنيت خطبان وقول الآخر: حبب الجود للكرام، فحمدوا ... وأناسٍ فعل اللئام فليموا وقول الآخر: لك مما يداك تجمع ما تن ... فقه، ثم غيرك المخزون وقال المصنف في الشرح: "ومن شواهد إضمار الجار في العطف بغير الواو قول الشاعر: أية بضمرة أو عوف بن ضمرة أو ... أمثال ذينك، أية تلف منتصرا" قال: "أراد: أو بأمثال ذينك اية". ولا يتعين ما قال؛ إذ يحتمل أن يكون "أو أمثال ذينك" معطوفاً علي ما قبله، و "أيه" توكيد لقولك "أيه" المتقدمة.

ومثال الثالثة قول الراجز: ما لمحب جلد إن هجرا ... ولا حبيب رأفة فيحبرا ومثال الرابعة قول الشاعر: متى عذتم بنا ولو فشة منا ... كفيتم، ولم تخشوا هواناً ولا هنا وحكى الأخفش في "المسائل" أنه يقال: جئ يزيد أو عمرو ولو كليهما، وأجاز في كليهما الجر علي تقدير: ولو بكليهما، والنصب بإضمار ناصب، والرفع بإضمار رافع. قال المصنف في الشرح: "وأجود من هذا المثال الذي ذكر الأخفش أن يقال: جئ يزيدٍ وعمروٍ ولو احدهما؛ لأن المعتاد في مثل هذا النوع من الكلام ان يكون ما بعد لو أدنى مما قبلها في كثرة وغيرها، /كقول النبي- صلي الله عليه وسلم-: (التمس ولو خاتماً من حديد)، وكقولهم: اثنتي بدابة ولو حماراً". وجوز س الجر علي ضعف. ومثال الخامسة: يقال: مررت بزيد، فتقول: أزيد بن عمرو؟ ومثال السادسة: يقال: جئت بدرهم، فتقول: هلاً دينار. حكاهما الأخفش في "المسائل"، قال: وهذا كثير. ومثال السابعة قولهم: مررت برجل صالح غلا صالح فطالح، علي تقدير: إلا أمر بصالح فقد مررت بطالح، حكاه يونس، وأجاز: امرر بأيهم هو أفضل إن

زيد وإن عمرو، علي معنى: إن مررت بزيد وإن مررت بعمرو. قال س: "وهو قبيح". قال المصنف في الشرح: "وجعل س إضمار الباء بعد إن لتضمن ما قبلها إياها أسهل من إضمار رب بعد الواو، فعلم بذلك اطراده عنده. وشبيه بما روى يونس ما في البخاري (من كان عنده طعام اثنين فليذهب بثالث، وإن أربعة فخامس او سادس)، ويجوز رفع (أربعة) على حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه، وجرها علي حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه، وجرها علي حذف المضاف وبقاء عمله، ونظائر الرفع أكثر". وقوله خلافاً للفراء قال المصنف في الشرح: "ومنعه الفراء في نحو: زيد، لمن قال: بمن مررت؟ والصحيح جوازه كقوله- عليه السلام-: (وأقربهما منك باباً) - بالجر- إذ قيل له: فإلي أيهما أهدي؟ وكقوله العرب: خير- بالجر- لمن قال: كيف أصبحت؟ بحذف الباء وبقاء عملها؛ لأن معني كيف: بأي حال؟ فجعلوا معني الحرف دليلاً، فلو لفظ به لكانت الدلالة أقوى، وجواز الجر أولى". انتهت هذه المسائل التى ذكرها المصنف، وينبغي أن يتثبت في جوازها؛ لأن أصحابنا نصوا علي أنه لا يجوز حذف حرف الجر وإبقاء عمله إلا إذا عوض منه،

وذلك في "باب القسم" و "باب كم" علي ما قرر في "باب كم"، ويقرر في "باب القيم"، وعلي خلاف في ذلك. وجعلوا قول العرب: "خير، عافاك الله"، جواب: كيف أصبحت؟ من النادر الشاذ الذي لا يقاس عليه. وفي "البسط": "الهمزة لا يحكى بها، ولا يرفع ما بعدها علي لغة بني تميم لأنها حرف، فإذا استثبت بها فلك أن تعيد عامل الرفع وعامل النصب، ولك ان تحذفهما، فتقول في ضربت زيداً، أضربت زيداً؟ وأزيداً، وكذلك في الرفع. فأما من قال: مررت بزيد- فتقول إذا حذفت الفعل: أبزيد؟ ولا يجوز غيره، بخلاف المحكي" انتهى. يعني أنه لا يجوز حذف حرف الجر، فلا تقول: أزيد؟ بخلاف المحكي، فإنه يجوز أن تقول لمن قال مررت بزيد: من زيد، وما ذكره مخالف لما قرره المصنف من جواز: أزيد بن عمرو؟ لمن قال: مررت بزيد، فتحذف حرف الجر بعد الهمزة. وقال في "البسيط": "إذا أردت استئناف الجملة بأسرها فلا يكون إلا بالهمزة وحدها، نحو: أضربت زيداً؟ " انتهى. ويجوز ب "هل"، فتقول: هل ضربت زيداً؟ -[ص: وقد يجر بغير ما ذكر محذوفاً، ولا يقاس منه إلا علي ما ذكر في باب "كم"، و "كان"، و "لا" المشبهة بإن، وما يذكر في "باب القسم". وقد يفصل في الضرورة بين حرف جر ومجرور بظرف أو جار ومجرور بظرف أو جار ومجرور، وندر في النثر الفصل /بالقسم بين حرف الجر والمجرور، والمضاف والمضاف إليه.]- ش: مثال الجر بغير ما ذكر محذوفاً قول الشاعر: وكريمة من آل قيس ألفته ... حتى تبذخ، فارتقى الأعلام

وقول الآخر: إذا قيل: أى الناس شر عصابة ... أشارت كليب بالأكف الأصابع وقول الآخر: سألت الفتى المكي ذا العلم ما الذي ... يحل من التقبيل في رمضان فقال لي المكي: أما لزوجة ... فسبع، وأما خلة فئمان أى: في الأعلام، وإلى كليب، ولخلة. قال المصنف في الشرح: "وهذا أجود؛ لأن فيه حذف حرف ثابت مثله فيما قيله، ولكن لا يقاس عليه لكون العاطف مفصولاً بأما، وهي تقتضي الاستئناف". وقال أيضاً في الشرح: "وفي صحيح البخاري قول النبي- صلى الله عليه وسلم-: (صلاة الرجل في جماعة تضعف على صلاته في بيته وسوقه خمسٍ وعشرين ضعفا)، بخفض خمس، على تفدير الباء. ومثله في (جامع المسانيد) على أحد الوجهين قول النبي- صلى الله عليه وسلم-: (خير الخيل الأدهم الأقرح الأرثم المحجل ثلاث)، على أن يكون المراد: المحجل في ثلاث. والأجود أن يكون أصله: المحجل محجل ثلاث، فحذف البدل، وبقي مجروره، كما فعل بالمعطوف في نحو: ماكل سوداء تمرة ولا بيضاء شحمة)) انتهى. وهذا على عادته بإثبات القواعد النحوية بما روته رواة الحديث، وقد تكلمنا معه في هذه المسألة.

مسألة: قالت العرب: لاه أبوك، يريدون: لله أبوك، حذف لام الجر وأل، وهو شاذ لا يقاس عليه. ثم قالوا: لهي أبوك، وأصله لاه أبوك، قلبوا، وأبدلوا من الألف باء، كما قالوا في قلب قفا: قوف، ووجه: جاه، ردوا اللام إلى موضع العين. وإنما قلبوا إلى الباء لأنهم لما أرادوا أن يكون على بناء لاه لزم تحريك الألف، وكانت إلى حرف الياء أخف، والفتح للبناء كأين، فصارت اللام في لهي فاء الكلمة؛ لأنه لا يصح أن تكون للتعريف؛ لأن الاسم تضمنها، فلا تظهر، ولا تكون الجاوة؛ لأنها تكسر مع المظهر، وهذه مفتوحة. ولا يقال: فتحت لأجل الألف في لاه؛ لأنا نقول: يجب أن تكسر في لهي أبوك لزوال الألف. ولا يقال: لما قلب روعي بناء الكلمة الأولى وأصلها؛ لأنا نقول: لا يراعى في القلب ذلك؛ إذ لا يلزم في القلب أن يكون الثاني على مثال الأول؛ لأنهم قد قالوا في قلب قفا: قوف، فثبت أنها فاء الكلمة. من ((البسيط)). وزعم ابن ولاد أن قولهم ((لاه أبوك)) محذوف من إله، ثم قالوا لهي أبوك، قلب، وشبهت الألف الزائدة بالمنقلبة عن الأصل. وهذا فاسد؛ لأن الزائدة لا يفعل بها هذا، ولا دليل/عليه. وزعم المبرد أن المحذوف من لاه أبوك لام التعريف ولام الأصل، والباقية لام الجر، وبقي من الكلمة حرفان أصليان، وهما ما الألف منقلبة عنه والهاء. قال: لأن لام الجر لمعنى، وفتحت للألف، وهذا أولى من أن يقال: حذف حرف المعني- وهو حرف الجر- وأبقى عمله. وأيضاً فإن حذف حرف الجر شاذ جداً خارج عن

القياس، وهو أيضا حرف معنى، فلا يحذف. وأما اللام الأصلية فتحذف تخفيفا لأنها لا تحرز في الموضع معنى، وفد يحذفون من الأصول كثيرا، كيد ودم، وأما لام التعريف فلا معنى تحرزه في الموضع؛ لأن الكلمة قد صارت علما، فلا تفتقر إليها. ورد على المبرد بقولهم: لهي أبوك؛ إذ كان ينبغي أن ترجع اللام لأصلها من الكسر، وقد نص س على أن هذه اللام الباقية هي الأصلية، وأن المحذوف لام الجر ولام التعريف. وقد استدل ل ((س)) ببناء لهي، ولا وه لبنائه إلا تضمنه معنى حرف الجر المحذوف، كما بنوا أمس لتضمنه معنى لام التعريف. ولأبي العباس أن يقول: بني لكثرة ما تصرف فيه من الإخراج عن وضعه، وإذا كانوا يبنون ((أيهم)) لخروجه عن نظائره فأحرى هذا، وكان بناؤه على الفتح تخفيفاً؛ إذ كان آخره باء. وقوله ولا يقاس منه إلا على ما ذكر في ((باب كم)) ذكر في "باب كم" أنه يجوز الجرب ب ((من)) مضمرة في تمييز الاستفهامية إذا دخل عليها حرف جر؛ خلافا لأبي إسحاق؛ إذ الجر فيه عنده بإضافة كم إليه، وأنه يجوز جر تمييز الخبرية بإضمار من على مذهب الفراء. وقوله و ((كان)) مثل المصنف هذا بقوله ((ولا سابق شيئا))، وذلك في بيت زهير: بدا لي أني لست مدرك ما مضى ... ولا سابق شيئا إذا كان جائيا

وتقدم لنا الكلام علي هذا البيت، وأنه من العطف علي التوهم، وأن العطف علي التوهم لا ينقاس، فقياس المصنف ذلك ليس بجيد. وقوله و "لا" المشبهة بإن مثل المصنف ذلك في الشرح بقوله: إلا رجل جزاه الله خيراً .............................. وهذا من الندور والشذوذ بحيث لا يقاس عليه، والتقدير: ألا من رجل. وهذا المصنف كثيراً ما يتبع الشواذ والنوادر، ويقيس عليها. وقوله وما يذكر في بابا القسم هو لفظ الجلالة دون عوض، ويأتي ذكر الخلاف للكوفيين إن شاء الله. وقوله وقد يفصل إلى ومجرور مثال الفصل بالظرف ما أنشده أبو عبيدة: إن عمراً لا خير في- اليوم- عمرو ... إن عمراً مخبر الأحزان ومثاله بالجار والمجرور قوله: مخلقة، لا يستطاع ارتقاؤها ... وليس إلي- منها- النزول سبيل/ وقوله: رب- في الناس- مؤسرٍ كعديم ... وعديم يخال ذا إيسار

وقول الآخر: يقولون: في الأكفاء أكبر همه ... ألا رب- منهم- من يعيش بمالكا وأبعد من ذلك الفصل بالمفعول بينهما، قال الفرزدق: وغني لأطوي الكشخ من دون من طوى ... وأقطع بالخرق الهبوع المراجم أي: وأقطع الخرق بالهبوع المراجم. وقوله وندر في النثر إلي آخره: حكى الكسائي الفصل بين الجار والمجرور بالقسم، نحو: اشتريته بوالله درهم، وهذا غلام- والله- زيد. وحكى أبو عبيدة: إن الشاة تعرف ربها حين تسمع صوت- والله- ربها. انتهى. ولا يجوز الفصل بالقسم بين رب ومجرورها، وأجاز الأحمر الفصل به بينها وبين المجرورها النكرة، نحو: رب- والله- رجل عالم لقيت. والأحمر هذا هو علي بن المبارك الاحمر الكوفي تلميذ الكسائي ومسائل سيبوية مع الفراء في المجمع الذي جرى فيه ذكر المسألة الزنبورية.

ووهم ابن عصفور، فنسب هذا المذهب لأبي محرز خلف الأحمر البصري، فقال: "وأجاز خلف الأحمر". ووهمه في ذلك إطلاقهم الأحمر، فظن أنه خلف. ولا يبعد ما قاله الأحمر من جواز الفصل بين رب ومجرورها النكرة بالقسم؛ لأنه قد فصل به بين الباء ومجرورها في النثر مع أن الباء علي حرف واحد، ورب ثلاثية الوضع. وأيضاً فقد فصل بينهما بالجار والمجرور غير القسم، فلأن يفصل بالقسم أقرب، ولكن الاحتياط ألا يقدم علي ذلك إلا بسماع من العرب.

باب القسم

-[ص: باب القسم وهو صريح وغير صريح. وكلاهما جمله فعلية أو اسمية. فالفعلية غير الصريحة في الخبر كعلمت وواثقت مضمنة معناه، وفي الطلب كنشدت وعمرتك، وأبدل من اللفظ بهذه: عمرك الله بفتح الهاء وضمها، وقعدك الله، وقعيدك الله كما أبدل في الصريحة من فعلها المصدر أو ما بمعناه.]- ش: القسم استعمل منه فعل غير جار عليه، وهو أقسم، كأشبه وأثنى من الشبه والثناء. ويردافه الخلف، واستعمل منه فعل جار، تقول: حلف. والإيلاء: واستعمل منه فعل جار، قالوا: آلى. والأولية: وليس له فعل جارٍ، إنما الفعل آلى. اليمين: ولم يستعمل منه فعل لا جارٍ ولا غيره؛ لأنه ليس بمصدر في الأصل فيشتق منه، وإنما هو اسم للجارحة، ثم سمي القسم يميناً؛ لأنهم كانوا إذا تحالفوا أكدوا بأيمانهم بضرب كل واحد منهم بيمينه على يمين صاحبه تأكيداً للعقد؛ حتى سمي الحلف يميناً. وينحصر الكلام في هذا الباب في القسم، وفي المقسم به، وفي حروفه، وفي المقسم عليه، وفي حروفه، وفي المقسم عليه، وفيما يتلقى به القسم. فأما القسم فهو جملة تؤكد بها أخرى خبرية غير تعجبية. /فقولنا "جملة" يعني في اللفظ، نحو: أقسمت بالله، أو في تقدير، نحو: بالله، التقدير: أقسمت بالله. وتشمل الجملة الإنشائية، نحو: أقسمت، والخبرية، نحو: علمت لزيد قائم، وأشهد لعمرو خارج، فالنحويون يقولون في هذا إنه جملة قسمية، والخبرية، نحو: علمت لزيد قائم، وأشهد لعمرو خارج، فالنحويون يقولون في هذا إنه جملة قسمية، وهي جملة خبرية تفيد الإخبار بالعلم وانك شاهد وعالم، لكنها لما جاءت توكيداً وتثبيتاً لمعنى الجملة التي بعدها سميت قسماً.

وقولنا "تؤكد بها أخرى" احتراز من قولنا: زيد قائم زيد قائم، فإنه يصدق عليها أنها جملة، لكنها ليست أخرى، بل هي هي، وقولنا "خيرية" احتراز من غير الخبرية؛ لأنها لا تقع مقسماً عليها. وقولنا "غير تعجبية" احتراز من التعجبية، فإنها خبرية تحتمل الصدق والكذب عند بعضهم، وأما من لا يجعلها خبرية فلا يحتاج إلي ذكرها. والمقسم به كل اسم معظم إن كان المقسم يريد تحقيق ما أقسم عليه وتثبيته، فإذا كان مقصوده الحنث أقسم بغير معظم، نحو قوله: وحياة هجرك غير معتمدٍ ... إلا ابتغاء الحنث في الحلف ما أنت أحسن من رأيت، ولا ... كلفي بحبك منتهى كلفي أقسم بحياة هجرها، وهو غير معظم عنده، رغبه في أن يحنث فيموت هجرها. قال ابن عصفور: "إلا أن القسم علي هذا الطريق يقل". وأما حروفه، والمقسم عليه، وما يتلقى به- فيأتي مفصلاً في شرح كلام المصنف إن شاء الله. وقسم المصنف القسم إلي صريح وغير صريح، قال: "والقسم الصريح ما يعلم بمجرد لفظه كون الناطق به مقسماً، كأحلف بالله، وانا حالف بالله، ولعمر الله، وايمن الله. وغير ذلك الصريح ما ليس كذلك، نحو: علم الله، وعاهدت، وواثقت، وعلي عهد الله، وفي ذمتي ميثاق، فليس بمجرد النطق بشيء من هذا الكلام يعلم كونه قسماً بل لقرينة، كذكر جواب بعده، نحو: علي عهد الله

لأنصرن دينه، وفي ذمتي ميثاق لا أعين ظالما، وكفوله: (وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ)، وكقول الشاعر: إني علمت على ما كان من خلق ... لقد أراد هواني اليوم داود وكقول الآخر: أرى محرزا عاهدته ليوافقن ... فكان كمن أغريته بخلاف وقول الآخر: واثقت مية لا تنفك ملغية ... قول الوشاة، فما ألغت لهم قيلا ومنه (وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ)، و (نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ). ويدل على أنه قسم كسر إن بعده، وتسميته يمينا في قوله تعالى: (اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً). ومنه قراءة ابن عباس: (شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ). وقال الفراء في (وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ) ((صار قوله (وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ) يمينا، كما

تقول: حلفي لأضربنك، وبدا لي لأضربنك، وكل ما هو بتأويل: بلغني، وقيل لي، وانتهى إلي_ فاللام تصلح فيه)) انتهى. وقال س: ((يَعْلَمُ اللُّه)). قال الأستاذ أبو علي: ((ليس في هذا قسم لا ملفوظ به ولا مقدر، لكنه لما أشبه القسم من جهة أنه تأكيد للخبر الذي بعده أجيب بجوابه)). قال ابن خروف: ((دخول معنى القسم في علم ويعلم لا يكون إلا مع اسم الله تعالى، ولا يؤخذ ذلك إلا بالسماع)). وما ضمن معنى القسم من نحو علمت وأشهد فقيل: الجملة في موضع المعمول لعلمت وأشهد. وقيل: ليست معمولة؛ لأن القسم لا يعمل في جوابه، وهذا مضمون معناه، فلا يعمل، فإن كانت معلقة ولم تضمن معنى القسم فهي في موضع معمول ولا بد. وقوله وفي الطلب كنشدت قال المصنف في الشرح: ((ومن القسم غير الصريح نشدتك وعمرتك، فللناطق بهما أن يقصد القسم وألا يقصده، فليس مجرد النطق بهما يدل على كونه قسما، لكن يعلم كونه قسما بإيلائه (الله)، نحو: نشدتك الله، وعمرتك الله، ولا يستعملان إلا في قسم فيه طلب، نحو: نشدتك الله إلا أعنتني، وعمرتك الله لا تطلع هواك. ويستعمل أيضا في الطلب عزمت وأقسمت، لذلك قلت (كنشدت) تنبيها على أن لنشدت من الأفعال أخوات سوى عمرت)) انتهى. وتسمية هذا قسما لم أره إلا لهذا المصنف.

وأما أصحابنا فالجملة المقسم عليها لا تكون إلا خبرية عندهم كما قررنا، فإن كانت غير خبرية لم تقع جوابا للقسم، لا يجوز أن تقول: بالله هل قام زيد، فأما قول الشاعر: بالله ربك إن دخلت فقل له ... هذه ابن هرمة واقفا بالباب وقول الآخر: بدينك هل ضممت إليك ليلى ... وهل قبلت قبل الصبح فاها فليسا بقسمين؛ لأن ما بعد المجرور ليس جملة خبرية، والمراد استعطاف المخاطب، وتقديره: أسألك بدينك، وأسألك بالله، أضمروا الفعل لدلالة المعنى عليه. وقد يحذفون الباء وينصبون ضرورة، وقال: أقول لبواب على باب دارها ... أميرك، بلغها السلام، وأبشر وفي بعض شروح الكتاب وقد ذكر عمرتك وعمرك وقعدك وقعدك وقعيدك ما نصبه: ((وزعم بعض النحويين أن هذا ليس بقسم كونه لم يجئ في كلام العرب وقوع الحرق الخاص بالقسم، نحو التاء، لم يقولوا: تالله هل قام زيد، وأن الفعل المختص بالقسم

لم تعلق به الباء، فلا يقال: أقسم/ بالله هل قام زيد، وأن القسم لا يخلو من حنث أو بر، ولا يتصور ذلك إلا فيما يصح اتصافه بالصدق والكذب. فأما قوله: أجهالا تقول بني لؤي ... لعمرك أبيك أم متجاهلينا وقول الآخر: أيا خير حي في البرية كلها ... أبالله هل لي في يميني من عقل فف ف ((لعمر أبيك)) من ألفاظ القسم الخاصة به، وقد جاءت في جملة الاستفهام، و ((بالله)) أتي بعده بجملة استفهامية. والجواب أن جواب ((لعمر أبيك)) محذوف، تقديره: لتخبرني، وحذف لدلالة الاستفهام عليه؛ لأن المستفهم إنما يستفهم ليخبر. ولم يجعل ((أبالله)) يمينا، وإنما معناه: أسألك بالله هل لي في يميني إن حلفت أنك خير حي من عقل؟ فإذا تقرر هذا فقولهم: نشدتك الله، وعمرتك الله، وقعدك الله_ ليس بقسم؛ لأن ما استفهام، وأمر، ونهي، وأن، وإلا، ولما بمعنى إلا، والأصل في ذلك نشدتك بالله، إي: سألتك به، وطلبت منك به، لأنه يقال نشد الرجل الضالة: طلبها. وكان جوابها تلك لأن الأمر والنهي والاستفهام كلها بمعنى الاستدعاء. وكذلك أن؛ لأنها في صلة الطلب، كقولك: نشدتك الله أن تقوم، وكذلك: نشدتك الله قم، ونشدتك الله لا تقم، ومن كلامهم: أنشدك إلا فعلت، وقال:

عمرتك الله إلا ما ذكرت لنا ... هل كانت جارتنا أيام ذي سلم وقال آخر: عمرتك الله الجليل، فإنني ... ألوي عليك لو أن لبك يهتدي وقد يحذف هذا الفعل، نحو قوله: قالت له: بالله يا ذا البردين ... لما غنثت نفسا أو اثنين وإذا كان في الجواب ((إلا)) فالفعل قبلها بصورة الموجب، وهو منفي في المعنى. وقد تقدم كلامنا على ((نشدتك إلا فعلت)) في باب الاستثناء. قال المصنف في الشرح: ((ومعنى نشدتك الله: سألتك مذكرا الله، ومعنى عمرتك الله: سألت الله تعميرك، ثم ضمنا معنى القسم الطلبي)) انتهى. فإن عنى المصنف أنه تفسير معنى لا إعراب فيمكن، وإن عنى تفسير إعراب فليس كذلك، بل نشدتك الله انتصاب الجلالة فيه على إسقاط الخافض، لما سقط وصل إليه الفعل فنصبه، فليس منصوبا بمذكر. وأما عمرتك الله فلفظ الجلالة منصوب بإسقاط الخافض، ووصل الفعل إليه، /فنصبه، والتقدير: عمرتك بالله، أي: ذكرتك بالله تذكيرا يعنر القلب ولا يخلو منه. وقوله وأبدل من اللفظ بهذه عمرك الله بفتح الهاء وضمها الإشارة بهذه إلى قولك عمرتك، وعمرك مصدر على حذف الزوائد، والتقدير: تعميرك الله، أي:

تذكيرك بالله، قال الشاعر: أيها المنكح الثريا سهيلا ... عمرك الله، كيف يلتقيان وقال آخر: عمرك الله_ يا سعاد_ عديني ... بعض ما أبتغي، ولا تؤيسيني وقال آخر: يا عمرك الله إلا قلت صادقة ... أصادقا وصف المجنون أم كذبا وقال آخر: عمرك الله ساعة حديثنا ... ودعينا من ذكر ما يؤذينا وقال آخر: عمرك الله، أما تعرفني ... أنا حراث المنايا في الفزع وحكى بعض الثقات عن أعرابي: عمرك الله، برفع الله. قال أبو علي: ((والمراد عمرك الله تعميرا، فأضيف المصدر إلى المفعول، ورفع به الفاعل)).

وقال الأخفش في ((الأوسط)): ((أصله: [أسألك] بتعميرك الله، وحذف زوائد المصدر والفعل والباء، فانتصب ما كان مجرورا بها)). ويدل على ما قاله الأخفش إدخال باء الجر عليه، قال عمر بن أبي ربيعة. بعمرك هل رأيت لها سميا ... فشاقك، أم لقيت لها خدينا وفي (اللباب): إذا قلت عمرك الله بنصب اسم الله ففي إعرابه وجهان: أحدهما: أن التقدير: أسألك تعميرك الله، أي: باعتقادك بقاء الله، فتعميرك مفعول ثان، والله منصوب بالمصدر. والثاني: أن يكونا مفعولين، أي: أسأل الله تعميرك)) انتهى. وحكى ابن الأعرابي: عمرك الله، برفع راء عمرك الله، وعلى النصب رواه أهل العربية. وفي ((البسيط)): ((وأما ما لم يتصرف فنحو: عمرك الله، وقعدك الله وريحانه، وحنانيك، وهو على الدعاء، أي: عمرك الله، فقيل: هو مصدر محذوف الزوائد، كأنه بدل من قولك: تعميرك الله، وفعله عمر، وهو العامل فيه. ومعنى عمرك الله: سألت الله أن يعمرك تعميرا مثل تعميرك إياه نفسك، أي: مثل سؤالك الله تعمير نفسك، فحذف العامل ومعموله_ وهو التعمير_ وصفته، وأقيم التعمير محذوف الزوائد بمنزلة ذلك، ثم حذفت نفسك، /وأبدلت من إياه الظاهر، وهو اسم الله تعالى، فقلت: عمرك الله، فالكاف للفاعل. وهو تقدير أبي على. وربما حذف

المفعول الثاني؛ لأنه بمنزلة أعطيت، وجاز بناء المصدر على حذف الزوائد كما أنشد أبو علي: فإن يبرأ فلم أنفث عليه ... وإن يهلك فذلك كان قدري أي: تقديري. ومنه على رأي: قيد الأوابد، أي: تقييد الأوابد)) انتهى. ولا يقال هو قسم بمنزلة قولك: عمر الله لأفعلن، كما ذهب إليه بعضهم؛ لأن هذا مصدر عمر الرجل يعمر: إذا امتد بقاؤه. ولم يستعملوا في القسم إلا المفتوح، والأول من التعمير، ولا قسم فيه. ويدل على ذلك أنه لا جواب له لا ظاهرا ولا مقدرا، وإنما أنت داع له، كقولك: ........................... ... عمرك الله كيف يلتقيان و: عمرتك الله الجليل ....... ... ........................... ويجوز: لعمر الله، وعمر الله لقد كان كذا، ولا يجوز: لعمرك الله. وقد أجاز أبو العباس وأبو سعيد أن ينتصب هذا أيضا على تقدير القسم، كأنه قال: أقسم عليك بعمرك الله، أي: بتعميرك الله، أي: بإقرارك له بالدوام والبقاء، ويكون محذوف الجواب، فتكون الكاف في موضع رفع. قيل: ويحتمل أن يكون نصبا على معنى: أسألك تعمير الله إياك فحذف الفاعل، وأضاف إلى المفعول، وانتصب لفظ الجلالة بإضمار فعل آخر. والظاهر من كلام س أنه مصدر موضوع موضع الفعل على أنه مفعول به، كما قال المبرد.

وقال بعض أصحابنا: عمرك الله بمعنى تعميرك، وفعل يأتي بمعنى التفعيل، قال: فإن ينجو فلم أنفث عليه ... وإن يهلك فذلك كان قدري أي: تقديري. ومعناه: سألتك بعمرك كما تسأل الله بعمره، فهو مصدر تشبيهي على حد: ضربتك ضرب زيد، فالمصدر مضاف إلى الفاعل، والجلالة مفعول، وكأنه قال: سؤالك الله بعمره، أي: ببقائه، فعمرتك متعد إلى واحد، فيكون عمرك الله كذلك. فإذا قلت عمرتك الله فالكاف مفعولة، والجلالة منصوب بمصدر، كأنه قال: عمرك الله، ويكون من حذف الموصول وإبقاء الصلة، ولا يجوز إلا في الشعر، هكذا يتنزل إعرابه، وهذا هو المعنى. وقد يكون ((عمرتك الله)) متعديا إلى اثنين، كأنه قال: سألت الله تعميرك مثل ما تسأل الله تعميرك، فيكون ((عمرك الله)) على هذا يحتمل وجهين: أحدهما: أن تكون الكاف مضافا إليها على أنها فاعلة، وكأنك قلت: سؤالك الله عمرك، ويحذف المفعول الثاني. والثاني: أن تكون الكاف مفعولة، وكأن المعنى: سؤالك الله نفسك، أي: حفظ نفسك، ثم قدمت نفسك، فاتصل، وكأنك قلت: تعميرك أنت الله. وأما ((قعدك الله)) فمتعد إلى اثنين، والمعنى: سألت الله تقعيدك، أي حفظك، كما تسأل الله أنت حفظك، وفسر/ القعيد بالحفيظ؛ لأن اللغة نطقت بذلك، قال تعالى: (عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ (17) مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ)، القعيد: الحافظ. وهذا مذهب أبي علي الفارسي.

وقوله وقعدك الله وقعيدك قال المصنف في الشرح: ((قيل: هما مصدران بمعنى المراقبة، كالحس والحسيس. وانتصابهما بتقدير أقسم أي: أقسم بمراقبتك الله. وقيل: قعد وقعيد بمعنى الرقيب الحفيظ، من قوله تعالى: (عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ)، أي: رقيب حفيظ. ونظيرهما خل وخليل، وند ونديد. وإذا كانا بمعنى الرقيب والحفيظ فالمعنى بهما الله تعالى، ونصبهما بتقدير أقسم معدى بالباء، ثم حذف الفعل والباء، فانتصبا، وأبدل منهما الله)) انتهى. وقال أبو الحسن بن سيده: ((المعنى: أسألك بقعدك الله، وتقعيدك الله ومعناه: بوصفك الله بالثبات والدوام، وهو مأخوذ من القواعد التي هي الأصول لما يلبث ويبقى، ولم يصرف منه فيقال: قعدتك الله، كما قالوا: عمرتك الله؛ لأن العمر في كلام العرب معروف، وهي كثيرة الاستعمال له في اليمين، فلذلك تصرف، وكثر مواضعه)) انتهى. وكلام ابم سيده يدل على أنهما مصدران. وفي ((البسيط)): ويدل على القسم فيها قولهم: قعدك الله لأفعلن. ويحتمل أن يكون بمعنى عمرك الله في الدعاء، أي: أثبتك الله، وإن لم يتكلم له بفعل من لفظه بمنزلة بهرا المقدر له. وهو عند س بمنزلة: عمرك الله، وكأنه وضع موضع فعل، كأنه قيل: قعدتك الله، أي: سألتك ببقاء الله وثباته. وعن الأزهري: قالت قريبة الأعرابية:

قعيدك، عمر الله، يابنت مالك ... ألم تعلمينا نعم مأوى المحصب قال الأزهري: ((ولم أسمع بيتا جمع فيه بين العمر والقعيد إلا هذا)). وروى أبو عبيد عن الكسائي: يقال: قعدك الله، مثل: نشدتك الله. وقال أيضا: قعدك الله، أي: الله معك. ومثله قعيد، وقيل: القعيد: المقاعد، كأنه قال: أنت مقاعد الله، أي: هو معك. وقال أبو عبيد: يقال: قعيدك لتفعلن كذا. وقال أبو الهيثم: قعيدك وقعدك بفتح القاف، ولا أعرف كسرها. وأنشد: بقعدك ألا تسمعيني ملامة ... ............................. البيت. وأنشده الأصعمي: قعيدك. ويقال: قعدت الرجل وأقعدته: خدمته، وقال الفرزدق: قعيدكما الله الذي أنتما له ... ألم تسمعا بالبيضتين المناديا وقال قيس العامري: قعيدك رب الناس، يا أم مالك ... ألم تعلمينا نعم مأوى المحصب / وقال آخر: قعدك الله، هل علمت بأني ... في هواك استطبت كل معنى

وقال آخر: فقعدك ألا تسمعيني ملامة ... ولا تنكئي قرح الفؤاد فييجعا وقوله كما أبدل في الصريحة من فعلها المصدر أو ما ما بمعناه فالمصدر نحو قسم وألية، والذي بمعناه يمين وقضاء ويقين وحق وغير ذلك، قال الشاعر: قسما لأصطبرن على ما سمتني ... ما لم تسومي هجرة وصدودا وقال: ألية ليحيقن بالمسيء إذا ... ما حوسب الناس طرا سوء ما عملا وقال: يمينا لنعم السيدان، وجدتما ... على كل حال من سحيل ومبرم وحكى ثعلب أن العرب تنصب قضاء الله، وتجعله قسما، فتقول على هذا: قضاء الله لأقومن، وقال: ويقينا لأشربن بماء ... وردوه فهاجلا وتئيه وقال تعالى: (فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ (84) لَأَمْلأَنَّ). فهذه كلها نابت مناب أقسم وأحلف. ص: ويضمر الفعل في الطلب كثيرا استغناء بالمقسم به مجرورا بالباء، ويختص الطلب بها، وإن جر في غيره بغيرها حذف الفعل وجوبا، وإن حذفا معا نصب المقسم به، وإن كان ((الله)) جاز جره بتعويض ((آ)) ثابت الألف، أو ((ها)) محذوف الألف أو ثابتها، مع وصل ألف ((الله)) وقطعها، وقد تستغنى في التعويض

بقطعها، ويجوز جر ((الله)) دون عوض، ولا يشارك في ذلك، خلافا للكوفيين، وليس الجر في التعويض بالعوض، خلافا للأخفش ومن وافقه. ش: مثال إضمار الفعل: بالله لا تخالف، بالله وافق، التقدير: نشدتك بالله. وقوله ويختص الطلب بها يعني بالباء، فلا يستعمل فيه الواو والتاء واللام من حروف القسم. وقوله وإن جر في غيره بغيرها أي: في غير الطلب بغير الباء من الحروف_ وهي الواو والتاء واللام_ حذف الفعل وجوبا قال تعالى: (وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ)، (قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا)، من ربي إنك لأشر، لله لا يؤخز الأجل، وأنشد س لعبده مناة الهذلي: لله يبقي على الأيام ذو حيد ... بمشمخر، به الظيان والآس وهذا الذي ذكره المصنف من أنه يضمر الفعل وجوبا إذا جر المقسم به بغير الباء في بعضه خلاف: ذهب ابن كيسان إلى أنه يجوز إظهار الفعل مع الواو، فأجاز: حلفت/ والله لأقومن، وأقسمت والله لأخرجن. وهذا لا يحفظه البصريون، فإن جاء تؤول على أن [يكون] ((حلفت)) كلاما تاما، ثم أتى بعد ذلك بالقسم، ولا يجعل ((والله متعلقا ب ((حلفت)).

وقوله وإن حذفا معا نصب المقسم به أي: وإن حذف فعل القسم وحرف الجر نصب المقسم به، وهو أعلم من أن يكون المقسم به لفظ الجلالة أو غيره. وظاهر كلام المصنف نصب المقسم به فقط. وذكر بعض أصحابنا أنه يجوز فيه وجهان: الرفع على الابتداء، والخبر محذوف. والنصب بإضمار فعل القسم، لما حذف حرف الجر وصل إليه الفعل، فتقول: يمين الله لأفعلن، وعهد الله لأقومن، بالرفع، ومن الرفع قوله: إذا ما الخبز تأدمه بلحم ... فذاك، أمانة الله، الثريد وقيل: هذا البيت مصنوع، صنعه النحويون. وتقول: يمين الله لأقومن، وقال: فقلت: يمين الله أبرح قاعدا ... ولو قطعوا رأسي لديك وأوصالي روي برفع يمين ونصبه. وقدر بعضهم الرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف، أي: قسمي يمين الله. وزعم ابن عصفور في ((شرح الجمل)) تابعا لابن خروف أنه يجوز فيه إذا نصب أن ينتصب بفعل القسم كما ذكرناه، وأن ينتصب بفعل مضمر يصل بنفسه، تقديره: ألزم نفسي يمين الله.

وإذا نصبت لفظ ((الله))، فقلت: الله لأفعلن_ فيجوز عند ابن خروف أن يكون الأصل: ألزم نفسي يمين الله لأفعلن، ثم حذف المضاف، وأقيم المضاف إليه مقامه. ورد هذا المذهب بأن ((ألزم)) ليس بفعل قسم، وتضمين الفعل معنى القسم ليس بقياس، وساغ حذف الحروف ووصول فعل القسم بنفسه لكثرة الاستعمال وطول الكلام بالجواب؛ كما ساغ حذف الفعل نفسه لذلك، ولأنه لما قال في كلامهم إضمار الفعل المتعدي بحرف الجر وإبقاء الحرف في غير هذا الباب حذفوا الحرف؛ وأوصلوا الفعل المضمر بنفسه، ولذلك إذا أظهروا لم يحذفوا الحرف. وشبه س ذلك بحذف الحرف في قولهم: إنك ذاهب حقا، والأصل بحق، فحذف الحرف، ونصب الاسم ب (ذاهب). ووجه الشبه أن المحلوف به يؤكد به الحديث كما يؤكد ب (حق) في: إنك ذاهب حقا وقال الأستاذ أبو علي: ينبغي أن ينصب بفعل من المعنى، كما قال الزجاجي: ألزم نفسي يمين الله. ويضعف أن يقال: ما كان يتعدى إليه بالحرف أوصل بنفسه كما قال الفارسي؛ لأنه لا يعمل ظاهرا إلا بحرف، فكي يكون مضمرا أقوى منه مظهرا وحجة الفارسي في ذلك أن يقول: قد أتسع في هذا الباب كثيرا، ولكن الاولى ما قلنا. وذكر ابن عصفور في بعض تصانيفه أنه إذا حذف الحرف /ولم يقدر لزم نصب المقسم به بفعل القسم المضمر بعد إسقاط الحرف كما ذكره أبو علي؛ فإذا قلت: الله لأقومن، أو يمين الله لأخرجن، فالتقدير: أحلف الله، وأحلف يمين.

وفي قول المصنف ((وإن حذفا معا)) دلالة على جواز حذف الفعل والحرف. وليس كذلك، بل إنما يجوز حذف الحرف بشرط ألا يدخل الكلام معنى التعجب، فإذا قلت متعحبا: تالله لا يبقى على الأيام أحد، أو لله_ لم يجز حذف التاء ولا حذف اللام. وقوله وإن كان ((الله)) _ أي: وإن كان المقسم به لفظ ((الله)) _ جاز جره بتعويض ((آ)) ثابت الألف قال في الشرح: ((جاز جره مع تعويض همزة مفتوحة تليها ألف، نحو: الله لأفعلن)). وأصحابنا يعبرون عن هذه الهمزة بهمزة الاستفهام، وليس استفهاما حقيقة. وقوله أو ((ها)) محذوف الألف أو ثابتها مع وصل الألف وقطعها فتجيء صور أربع: هالله، ها الله، هألله، ها ألله: وأصحابنا يعبرون عن هذا ب ((ها)) للتنبيه. وقوله وقد يستعنى في التعويض بقطعها يقول القائل: والله لأخرجن، فتقول: أفألله لتخرجن؟ وإن شئت: فألله، بغير همزة استفهام، فهمزة القطع عوض من الحرف 0 ولا تستعمل هذه الأعواض إلا في اسم الله تعالى، ولا يجوز معها إلا الجر، فلو جئت بشيء من هذه الأعواض الثلاثة فيما يقسم به من غير لفظ ((الله))، وحذفت حرف الجر الموضوع للقسم_ لم يكن إلا النصب، تقول: آلعزيز لأفعلن، ومن كلامهم: لا ها الله، وإي ها الله، يريدون، وإي والله. ومن مد، فقال: ها الله، فجمع بين الساكنين لأن الثاني مشدد أجراه مجرى دابة. ومن حذف

الألف فهو القياس؛ لأن العرب لا تجمع بين ساكنين في الوصل والأول حرف مد ولين والثاني مشدد إلا إذا كانا في كلمة واحدة. ومن قال ها ألله فإنه لما قطع همزة الوصل فليس بقياس، وقد حكاه الجرمي، لكنه توهم أن همزة الوصل قد ذهبت ولم تقطع، فحذف. وقوله ويجوز جر ((الله)) دون عوض حكى س: الله لأفعلن، يريد: والله وحكى الأخفش في معانيه أن من العرب من يجر اسم الله مقسما به دون جار موجود ولا عوض. وذكر غيره من الثقات أنه سمع بعض العرب يقول: كلا الله لأخرجن، يريد: كلا والله. وأنشدوا على جره دون حرف ولا عوض قول الشاعر: ألا رب من تغتشه_ الله_ ناصح ... ومؤتمن بالغيب غير أمين وأما رفعه فأجازه بعضهم، تقول: الله لأقومن. ومنعه بعضهم. قيل: لأنه لا خبر له. / وليس بشيء؛ لأنه يصح تقدير خبر له، كأنه قال: الله قسمي به. قال صاحب ((البسيط)): وإنما امتنع لأن هذا الموضع للفعل، فلا يكون فيه من الاسم إلا مافيه معنى الفعل، كباب سقيا ورعيا، ولا تقع فيه الجملة التي مرفوعها ليس بمعنى الفعل ولا صرح فيه بالفعل إلا سماعا، نحو إيمن الله. وقد أجازه الكوفيون في غيره.

وقد لحق هذا اللفظ أنواع من التغيير في القسم، قالوا: وله لا أفعل، ووله لا أفعل، كما غيروا في: لله أبوك، قالوا: لاه أبوك، ووله أبوك، ولهي أبوك، كما قالوا: له ربي، أي: الله ربي. وقوله ولا يشارك في ذلك، خلافا للكوفيين قال المصنف في الشرح: ((زعم بعض أئمة الكوفة أن الأسماء كلها إذا أقسم بها محذوفا منها الواو تخفض وترفع، ولا يجوز النصب إلا في حرفين، يعني: كعبة الله، وقضاء الله، وأنشد: لا، كعبة الله، ما هجرتكم ... * ... إلا وفي النفس منكم أرب ومذهب البصريين أن المقسم به إذا حذف جاره بلا عوض، ولم ينو المحذوف_ جاز نصبه كائنا ما كان)). وقال بعض شيوخنا: ولا يجوز إذا أسقطت الفعل إلا النصب في جميع الأسماء. يعني إذا حذف حرف الجر. قال: إلا في اسم الله، فيجوز أن يحذف حرف الجر ويبقي مجرورا، ولا ينبغي أن يقاس عليه جميع الأسماء التي يقسم بها؛ لأن لهذا الاسم اختصاصا في هذا الباب بأشياء لا تكون لغيره لكثرة ما استعملته العرب، فمنها ما ذكرته من حذف حرف الجر وإبقاء عمله. وجاء الزمخشري، وقاس عليه غيره، وأجاز في جميع ما أقسم به من الأسماء أن يحذف حرف الجر ويبقي مخفوضا. وليس هذا بصحيح، إنما يوقف عند ما سمع، ولا يتعدى؛ إذ لم يجئ على القياس.

وفي ((البسيط)) ما معناه: يجوز الجر في اسم الله من غير عوض، وأما في غيره فلا يجوز على رأي البصريين، ويجوز على رأي الكوفيين وبعض البصريين. وفي ((الإفصاح)): حكى أبو عمر أن من العرب من يضمر حرف الجر مع كل قسم، كما أضروا رب مع الواو وغيرها. وقوله وليس الجر إلى آخره: ذكر الأخفش في ((الأوسط)) أن الجر بالعوض، وهو اختيار جماعة، منهم من المتأخريم ابن عصفور وابن أبي الربيع. وانتصر لهذا القول بأنه شبيه بتعويض الواو من الباء، والتاء من الواو، ولا خلاف في أن الجر بالواو والتاء، فكذلك ينبغي أن يكون الجر بهذه الأعواض. قال المصنف في الشرح: ((والأصح كون الجر بالحرف المحذوف وإن كان لا يلفظ به، كما كان النصب بعد الفاء والواو وأو وكي الجارة ولام الجحود ب ((أن)) المحذوفة وإن كانت لازمة الحذف)). وفي البسيط: ((وقد يستغنون عن البدل_ يعني بالبدل ما هو بدل من باء القسم_ بقطع همزة الوصل. وهو عند/ الكوفيين مخفوض بتقدير الباء، والهمزة للاستفهام، يخفضون بالباء بعدها، فإذا قلت (ألله) فكأنك قلت: أبالله، وعليه ينشد قول أبي بكر (رضي الله عنه): أجدك، ما لعينك لا تنام ... كأن جفونها فيها كلام)) ص: فإن ابتدئ في الجملة الاسمية بمتعين للقسم حذف الخبر وجوبا، وإلا

فجوازا. والمحذوف الخبر إن عري من لام الابتداء جاز نصبه بفعل مقدر، وإن كان ((عمرا)) جاز أيضا ضم عينه ودخول الباء عليه، ويلزم الإضافة مطلقا. ش: المتعين للقسم في الجملة الاسمية هو لعمرك ولايمن؛ لأنهما لا يستعملان مقرونين باللام إلا مقسما بهما مرفوعين بالابتداء، فالتزم حذف الخبر لفهم المعنى مع سد الجواب مسده، وكذا غيرهما مما تقترن به قرينة تعينه أن يكون مقسما به يكون مبتدأ محذوف الخبر وجوبا؛ كقول من استحلف: لعهد الله لقد كان كذا. وإنما أعرب لعمر ولايمن مبتدأ، خبره مضمر، تقديره: لعمرك ما أقسم به، ولم يعرب خبر مبتدأ محذوف_ لدخول لام الابتداء عليه، ولا تدخل على الخبر إلا ضرورة، وليست هذه اللام جوابا لقسم محذوف؛ لأن الجملة التي هي عمرك وخبره المحذوف قسم، والقسم لا يدخل على القسم، كذا قال بعضهم. ورد بقوله: (وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا الْحُسْنَى)، فهذا قسم قد دخل على قسم. وقوله وإلا فجوازا أي: وإلا يكن المبتدأ به في الجملة الاسمية متعينا للقسم فإنه يحذف الخبر جوازا؛ كقول من لم يتعين عليه يمين: على عهد الله، ويمين الله تلزمني، فيجوز في هذا حذف ((علي)) وحذف ((تلزمني))؛ لأن ذكر الجواب دليل على أنك مقسم، وقد حكى س: ((علي عهد الله))، فأظهر الخبر، وهذا نص، فلا يلتفت إلى كلام من أنكر من المتأخرين: علي عهد الله، فيظهر الخبر 0 وقوله والمحذوف الخبر يعني: إذا حذفت اللام من لعمر ولعهد الله وشبههما جاز نصبه بفعل مقدر؛ وهو فعل القسم. وإنما قال ((جاز)) لأنه قد يقر مبتدأ، ويكون خبره محذوفا، قال أبو شهاب الهذلي:

فإنك_ عمر الله_ إن تسأليهم ... بأحسابنا إذ ما تجل الكبائر ينبوك أنا نفرج الهم كله ... بحق، وأنا في الحروب مساعر وقال آخر: فلا عمر الذي أثني عليه ... وما رفع الحجيج إلى إلال لما أغلفت شكرك، فانتصحني ... وكيف، ومن عطائك جل مالي يروى بنصب عمر ورفعه، فالرفع على الابتداء، والنصب بإضمار أحلف بعد / إسقاط الباء، الأصل: فلا بعمر الذي. وقال أبو جعفر النحاس: إذا قلت: عمر الله، وعمرك_ جاز الرفع والنصب، وقد يجوز الخفض، تجعل الواو للقسم، وتقول: وعمرك. واستعمال عمر دون لام قليل. فأما قول الطائي: عمري لقد نصح الزمان، وإنه ... لمن العجائب ناصح، لا يشفق فيحتمل أن يكون مرفوعا على الابتداء، وخبره محذوف. ويحتمل أن يكون منصوبا بفعل محذوف. وقوله وإن كان عمرا أي: وإن كان الذي كان متعينا للقسم عمرا، وحذفت لامه_ جاز ضم عينه، فتقول: عمرك لقد كان كذا، وكذا كان القياس مع اللام، لكن العرب التزمت الفتح لأنه أخف من الضم. وقوله ودخول الباء عليه قال:

رقي! بعمركم، لا تهجرينا ... ومنينا المنى، ثم امطلينا وقال آخر: أأقام أمس خليطنا أم سارا ... سائل بعمرك أي ذاك اختارا وهكذا أنشدهما المصنف شاهدا على أنه تدخل الباء على عمر في القسم. وهذا كما بيناه أول الباب ليس بقسم، بل هو من باب السؤال والطلب؛ ألا تراه كيف جاء بعد ((بعمركم)) جملة النهي، وهي قوله ((لا تهجرينا))، وكيف قال ((سائل بعمرك))، فعلقه ب ((سائل))، وليس من أفعال القسم. وقوله ويلزم الإضافة مطلقا يعني إلى الظاهر والمضمر مع اللام ودونها. وإنما حذفوا خبر ((لعمرك)) لزوما لأنه ليس بخبر حقيقة، إنما يراد به القسم، وهذا من التركيب الذي لفظه لا يكون طبق معناه، بل لوحظ فيه المعنى، وهو أنه مقسم به، فلم يكن له خبر موجود، كما قالوا حسبك، فاستعملوه مبتدأ بلا خبر ملفوظ به لأنه في معنى الأمر. وفي معنى عمر هنا قولان: أحدهما: ما ذهب إليه البصريون من أنه بمعنى البقاء، تقول: طال عمرك وعمرك، وألزموه الفتح مع اللام في القسم، فعلى هذا يكون المجرور بعده فاعلا، ويكون المصدر مضافا إليه. والثاني: ما ذهب إليه بعض الكوفيين والهروي في ((الغريبين)) من أنه مصدر ضد الخلو، من عمر الرجل منزله، والمقسم يريد تعمير القلب بذكر الله تأكيدا للصدق وتحذيرا من الغفلة والوقوع في المأثم والحنث. قال أبو زيد السهيلي:

ولذلك قالوا: عمرتك الله إلا ما ذكرت لنا ... ........................... أي: ذكرتك تذكيرا يعمر القلب، ولا يخلو منه؛ لأن الذكر قد يكون باللسان دون القلب، فعلى هذا لعمر الله ي معنى التذكير به، فهو مفعول في المعنى، أي: ذاكر أو مذكر. ونحو منه: ((قعدك الله))، و: قعيدكما الله الذي أنتما له ... ..................... أي: إنه /ثابت معك، يطلع على عيبك، فاذكره، ولا تحنث. وهذا القول إذا تدبرته هو لا شك مقصود العرب بهذه الكلمة؛ لأنهم فتحوا أولها كالمصادر الثلاثية، واشتقوا منها الفعل، فقالوا: عمرتك الله، كما يشتق من المصادر. وقوى هذا المعنى قولهم: قعدك الله. ولو كان العمر هنا محلوفا به لقالوا: وعمر الله، كما قالو: وعهد الله، ولو كان صفة الله يحلف بها لوجدت في الكلام في غير القسم، ولو كان بمعنى البقاء لقالوا: وبقاء الله، وهم لا يحلفون ببقائه ولا قدمه، لكن بعزته وعظمته؛ لما في ذلك من التعظيم. وأشنع ما حكى أصحاب هذا القول أن العمر إنما هو للإنسان يعمره الله ما يشاء، ولا يضاف العمر إلى الله، إنما يوصف بالبقاء. ص: وإن كان ((ايمن)) الموصول الهمزة لزم الإضافة إلى ((الله)) غالبا، وقد يضاف إلى الكعبة والكاف والذي، وقد يقال فيه مضافا إلى ((الله)): ايمن وايمن وايمن وايم وايم وام، و ((من)) مثلث الحرفين، و ((م)) مثلثا، وليست الميم بدلا من واو، ولا أصلها ((من))، خلافا لمن زعم ذلك، ولا ((ايمن)) المذكور جمع يمين،

خلافا للكوفيين. وقد يخبر عن اسم الله مقسما به ب ((لك)) و ((علي)). وقد يبتدأ بالنذر قسما. ش: يريد: وإن كان المبتدأ في الجملة الاسمية المتعين للقسم ايمن الموصول. ويعني بالموصول الذي همزته همزة وصل، واحترز من أيمن الذي همزته همزة قطع جماع يمين. وحكمه حكم واحده إذا أقسم به من جواز جره بالحرف، ونصبه إذا حذف الحرف. ويدل على أن همزته همزة وصل سقوطها إذا كان قبلها متحرك، قال الشاعر: فقال فريق القوم لما نشدتهم: ... نعم، وفريق: ليمن الله ما ندري ولا خلاف نعلمه أن ايمن اسم إلا ما حكى عن الرماني أنه حرف جر، وهذا خلاف شاذ. وجمهور النحويين على أن ((ايمن الله)) في القسم التزمت العرب فيه الرفع على الابتداء، ولا يستعمل إلا كما استعملته العرب. وذهب ابن درستويه إلى أنه يجوز أن يجر بواو القسم، قال في كتابه المسمى ب ((الهداية)): ((واعلم أن ما عدا الباء والواو والتاء أسماء يقسم بها كما يقسم ب (الله)، وتدخل عليها الواو، إلا من ربي، ومن ربي، فتقول: وأيمن الله، ويمين الله، وعهد الله)). قال: ((ومن ربي ومن ربي إنما هما ايمن، حذفت منه الهمزة والياء. وكذلك: ام الله، إنما هي يمين أو ايمن)). قال: ((ولا يدخل على هذه الثلاثة حرف جر؛ لأنها أشبهت حروف المعاني لما حذفت)).

وقال ابن عصفور: وهذا الذي ذهب إليه لم يرد به سماع من كلام العرب، فاجازته لذلك إنما هي بالقياس على الأسماء التي استعملتها العرب في هذا الباب مبتدأة وغير مبتدأة. والذي عليه جمهور النحويين أنه لا يستعمل في هذا الباب إلا مبتدأ كما استعملته العرب؛ لأنه اسم غير متصرف، ولعدم تصرفه شبه بالحرف، / ففتحت همزة الوصل الداخلة عليه كما تفتح إذا دخلت على الحرف في مثل الرجل والغلام، ووجه الشبه بينهما أن العرب لم تستعمله في موضع من المواضع التي تستعمل فيها الأسماء، فإذا تصرف فيه كما يتصرف في الأسماء، فاستعمل مبتدأ وغير مبتدأ_ لم يكن وجه لفتح همزة الوصل الداخلة عليه وقوله وقد يضاف إلى الكعبة والكاف والذي تقول: ايمن الكعبة لأقومن، ومن كلام عرورة بن الزبير حين قطعت رجله لداء كان اقتضى قطعها: ((ليمنك لئن ابتليت لقد عافيت، ولئن أخذت لقد أبقيت))، وفي الحديث من قول رسول الله (صل الله عليه وسلم): (وايمن الذي نفسي بيده). وقد أضيفت لغير ما ذكره المصنف. وزعم الفارسي في غير ((الإيضاح)) أنها لا تضاف إلا إلى ((الله)) وإلى ((الكعبة)). وهذا الذي ذكره هو الأكثر، وقد تضاف إلى غيرهما، أنشد الكسائي: ...................... ... ليمن أبيهم لبئس العذرة اعتذروا

وهي عند البصريين معربة ملتزم فيها الرفع على الابتداء. وقد تقدم مذهب ابن دستورية في جواز جرها بواو القسم 0 وحكى المفضل عن العرب: ليمن الله، بكسر النون إذا لقيها ساكن، فإن لم يلقها ساكن سكنت النون كما في قوله ((ليمن أبيهم))، فعلى هذه الحكاية تكون مبنية. وسبب بنائها هو السبب في فتح همزتها، وهو شبهها بالحرف. وقد تصرف العرب في لفظ ايمن تصرفا كثيرا، وذلك لكثرة استعمالهم؛ لأن كثرة الاستعمال مدعاة إلى الحذف. فتلخص من كلام المصنف فيه ثلاث عشرة لغة، هي مستخرجة من كلامه. فأما ايم_ بفتح الهمزة وضم الميم وحذف النون_ فمنقولة عن تميم. وأما ايم_ بكسرها_ فمنقولة عن سليم. وضمة الميم في هاتين اللغتين علامة رفع. وروي: ايم الله، بكسر الهمزة والميم، وكسرة الميم جر عند الأخفش بحرف قسم مقدر، وهو نحو: الله لأقومن. ورد بأنه محذوف من ايمن، والعرب لم تستعمل ايمن في القسم إلا مرفوعا على الابتداء. قال هذا الراد: والوجه عندي أن يكون مبنيا على السكون في لغة من بناها على السكون، وكسرت لالتقاء الساكنين. وأما ام_ بكسر الهمزة وميم مضمومة_ فمنقولة عن أهل اليمامة. وعن بعض العرب ام، بكسر الهمزة والميم. وعن بعضهم: أم الله، بفتح الهمزة وضم الميم. وعن بعضهم: أم الله بفتح الهمزة وكسر الميم، وفتح الميم وكسرها لالتقاء الساكنين، كما قيل في ايم. ونقل الفارسي: ام الله، وام الله، وام الله، بكسر الهمزة وفتح الميم وضمها وكسرها. وأغربها: هم الله، بإبدال الهمزة هاء، كما أبدلوا في إياك، قالوا: هياك.

/وأما من الله_ بضمهما وفتحهما وكسرهما_ فحكاها الجوهري عن العرب. وقال بعض أصحابنا: ينبغي أن يعتقد في فتح النون وكسرها أن من الله ومن الله مبنيان على السكون كايمن في لغة من بناها على السكون، والفتحة والكسرة حر كتا التقاء الساكنين لا علامتا إعرب؛ لأنهما محذوفان من ايمن. وأما م الله وم الله فحكاها الكسائي والأخفش، وسئل رجل من بني العنبر: ما الدهدران؟ فقال: م ربي الباطل. وحكى الهروي: م الله، بالفتح. وهو عند الأخفش مبني لأن الميم حرف واحد، قال: وإذا كان الاسم على حرف واحد لم يعرب. فهذه تماني عشرة لغة. وزعم بعض النحويين أن ((من)) و ((م)) بلغاتها حرفان، وليسا بقية ايمن. واستدب من ذهب إلى أن من حرف جر لا بقية ايمن بأنها لو كانت بقية ايمن لم تستعمل مضافة إلا إلى ((الله)) كما أن ايمن كذلك، وهم يدخلونها على ((الرب))، فيقولون: من ربي لأفعلن. قال المبرد في ((المدخل)): وتقول: الله لأفعلن، ومن الله لأفعلن، ومن ربي لأفعلن. وأيضا لو كانت بقية ايمن لكانت معربة؛ لأن الاسم المعرب إذا حذف منه شيء بقي معربا، ومن مبنية على السكون، ولذلك كسرت حين دخلت على ((الله))، فقالوا: من الله؛ لالتقاء الساكنين. وقال المبرد: إنما دخلت اللام ومن_ يعني في القسم_ لأن حروف الخفض يبدل بعضها من بعض، نحو: فلان بمكة، وفي مكة. ومن ذهب إلى أنها بقية ايمن قال: قد تصرف في ايمن تصرفا كثيرا، فيكون هذا منه، وهو أولى من إثبات حرف خفض لم يستقر فيها في موضع من المواضع.

واستدل من ذهب إلى أن ((م)) حرف جر بأن الاسم المعرب لا يجوز حذفه حتى لا يبقى منه إلا حرف واحد؛ بل لا يحفظ من ذلك إلا ما حكاه ابن مقسم من قولهم: شربت ما، يريدون: ماء، فبطل أن يكون ((م)) اسما بقية ايمن. وأيضا فالاسم المقسم به إذا حذف منه حرف الجر نصب باتفاق، أو رفع على خلاف سبق ذكره، ولا يجوز جره؛ لأن إ 1 مار الخافض وإبقاء عمله لا يجوز إلا في ضرورة أو نادر كلام، فلو كان ((م)) اسما لكان منصوبا أو مرفوعا، لا يقال بني على الكسر وهو في موضع نصب أو رفع؛ لما تقدم من أن الاسم المعرب إذا حذف منه شيء بقي معربا. وإذا ثبت أن الميم المكسورة حرف خفض فكذلك المضمومة والمفتوحة. وقوله وليست الميم بدلا من واو يعني من واو القسم. قال المصنف في الشرح: ((وزعم بعضهم أن الميم المفردة بدل من واو (والله)، كالتاء. وليس بصحيح؛ لأنها لو كانت بدلا منها لفتحت كما فتحت التاء، ولأن التاء إذا أبدلت من الواو في القسم فلها نظائر في غير القسم مطردة، كاتصف واتصل، وغير مطردة، كتراث وتجاه، وليس لإبدال الميم من الواو إلا موضع شاذ، وهو فم، وفيه مع شذوذه /خلاف)) انتهى. أما قوله ((لو كانت بدلا منها لفتحت كما فتحت التاء)) فهو وغيره قد ذكروا الفتح فيها؛ ألا تراه قد قال: ((وم مثلثا))، فهي قد فتحت، ثم تلاعبت العرب بها، فضموها وكسروها. وأما قوله ((ولأن التاء ....)) إلى آخره فهو مرتب على أن التاء بدل من الواو، وهذا قول غيره من النحويين.

وقال السهيلي: ((يحتمل أن تكون حرفا موضوعا للقسم، خص باسم الله_ تعالى_ كما خص بأشياء لا تكون لغيره)). ثم ذكر أشياء كثيرة مما اختص به هذا الاسم الشريف. ثم قال: ((ويضعف عندي أن تكون بدلا من الواو لما فيها من معنى العطف، وليس ذلك في التاء، ولسر آخر، وهو أن التاء إنما أبدلت من الواو حيث كثرت زيادتها في تصاريف الكلمة؛ كتراث وتخمة وتترى وتولج؛ لأنهم قالوا: توارث توارثا، وتواتر، واتلج يتلج اتلاجا، فكثر في التصاريف حتى قالوا: أتلج أي: أدخل. ونحو منه ريحان، قلبوا الواو ياء لكثرة انقلابها في مادة الكلمة، نحو الريح والرياح ويريح ويستريح، حتى صار كأنه من ذوات الياء، فجعلوا الواو ياء وإن لم يكن قبلها كسرو لما ذكرناه، وواو القسم لا تقلب تاء لعدم هذا الأصل)) انتهى. وزعم جمهور النحويين أن الواو بدل من الباء، وأن الباء هي الأصل في حروف القسم، قالوا: ((وإنما أبدلت منها لأمرين: أحدهما: أن معنى الباء قريب من معنى الواو؛ لأن الواو للجمع، والباء للإلصاق، والإلصاق جمع في المعنى. والثاني: أنها من حروف مقدم الفم. ولما كانت بدلا منها لم تتصرف تصرف الباء؛ لأن الفرع لا يتصرف تصرف الأصل فجرت الظاهر خاصة، ولم تجر المضمر)). وقال بعض أصحابنا: ليست الواو بدلا من الباء؛ إذ لو كانت بدلا ما اختلفنا في الحركة، كما لم تختلف حركة الهمزة المبدلة من الواو في وشاح حين قالوا إشاح. وأيضا لم توجد قط الواو بدلا من الباء؛ لأنها ليست من مخرجها، ولما بينهما من المضادة؛ إذ في الواو لين، وفي الباء شدة.

وزعم السهيلي ان واو القسم هي في الأصل واو العطف كواو رب، تعطف على منوي إيجازا، إذ كانوا يحلفون بأسماء كثيرة كما جاء في القرآن 0 قال: ((ويقوى ذلك أن واو العطف لا تدخل على مضمر مخفوض البتة، وكذا واو القسم. فإن قلت: فكيف تقول: ووالله لأفعلن؟ فالجواب أن الواو إنما دخلت على الفعل المضمر، فكأنك قلت: وأحلف بالله، ثم عطفت)) انتهى. وهو قول متكلف جدا؛ إذ يحتاج في كل مكان يبدأ فيه بالقسم بالواو أن يتكلف قبل ذلك مقسم به محذوف وهو والفعل الذي يتعلق به حرف الجر؛ وهذا بعيد جدا. وقوله ولا أصلها من، خلافا لمن زعم ذلك قال المصنف في الشرح: ((وزعم الزمخشري أنها (من) المستعملة مع (ربي)، فحذفت نونها. وليس بصحيح؛ لأنها لو كانت إياها لاستعملت في النقص مع استعملت في التمام على الأشهر، كما لم / تستعمل ايمن في النقص إلا مع ما استعملت في التمام على الأشهر. واحترزت ب (الأشهر) من رواية الأخفش عن بعض العرب: من الله، ومن: ايمن الكعبة، وايمنك، وايمن الذي بيده. وقال الزمخشري في م الله: (ومن الناس من زعم أنها من ايمن). قلت: لم يعرف من الذي زعم ذلك، وهو س، فإنه قال في (باب عدة ما يكون عليه الكلم): (واعلم أن بعض العرب يقول: م الله لأفعلن، يريد: ايم الله). وفي عدم معرفة الزمخشري بأن صاحب هذا القول هو س دليل على أنه لم يعرف من كتابه

إلا ما يعرف بتصفح وانتقاء لا بتدبر واستقصاء؛ فما أوفر تبجحه وأيسر ترجحه! عفا الله عنا وعنه)) انتهى كلام المصنف في الشرح. وما رد به على الزمخشري غير صحيح، وعنى أنه لو كانت محذوفة من ((من)) الداخلة على الرب لدخلت على الرب، ولم يقولوا: م ربي، وقد تقدم لنا أن بعض العرب قال ((م ربي الباطل)) حين سئل: ما الدهدران؟ فقد دخلت ((م)) على ما دخلت عليه ((من)) من لفظ ((الله)) ولفظ ((الرب)). وأما قوله ((إن الزمخشري لم يعرف من الذي زعم ذلك، وهو س))؛ لقوله: ((ومن الناس من زعم أنها من ايمن)) - فليس كما ذكر المصنف، بل لا يدل ذلك على الجهل بقائله، بل الظاهر أنه لما كان عنده هذا القول ضعيفاً تأدب مع س، فقال: ((ومن الناس))، ولم يصرح باسمه إعظاماً له لما خالفه. وأما قول المصنف عن الزمخشري: ((إنه لم يعرف من كتابه- يعني س- إلا ما يعرف بتصفح وانتقاء لا بتدبر واستقصاء)) فهو كما قال، ولذلك وقع في ((مفصله)) أغلاط ومخالفة لـ ((س))، وقد رد الناس عليه ذلك. لكن ما ذكره المصنف عن الزمخشري هو مشارك له فيه، فكم مكان خالف فيه نصوص س عن العرب، وكم نقل جهله عنه، وكم مفهوم فهمه خلاف ما فهمه المعتنون بكتاب س والتفقه فيه، على أنه -رحمه الله- لم يقرأ كتاب س على أحد، إنما كان يتصفح منه مواضع، وقد رحل الزمخشري من خوارزم إلى مكة قبل العشرين وخمس المئة لقراءة كتاب س على رجل من أصحابنا من أهل الأندلس، يعرف بأبي بكر بن طلحة

اليابري، كان مجاوراً بها، عالماً بكتاب سيبويه، وله تصانيف، فقرأ عليه الزمخشري جميع الكتاب. وأما قوله ((فما أوفر تبجحه وأيسر ترجحه))! فهو كما قال وافر التبجح، يسير الترجع، معظم نفسه على طريقة أمثاله من أهل بلاده. وقوله ولا ايمن المذكور جمع يمين، خلافاً للكوفيين قال المصنف في الشرح: ((رأيهم في هذا ضعيف؛ لأن همزة الجمع مقطوعة، وهذه همزة وصل لسقوطها مع اللام في: ليمنك، وليمن الله، وليس هذا بضرورة لتمكن/ الشاعر من إقامة الوزن بتحريك التنوين والاستغناء عن اللام، ولأن من العرب من يكسر الهمزة في الابتداء، وهمزة الجمع لا تكسر، ولأن منهم من يفتح الميم، فوزته افعل، ولا يوجد ذلك في الجوع)) انتهى. وما نسبه المصنف للكوفيين من أن ايمن جمع يمين صحيح، لا خلاف عنهم في ذلك، وإن كان أبو القاسم الزجاجي نسب ذلك إلى الفراء، فما ذلك- والله أعلم- إلا لأنه هو الذي أثاره، وشهر به. وقال بعض شيوخنا: ((لو كان ايمن جمع يمين لجاز فيه من الإعراب ما جاز في يمين، وهم قد رفعوا ونصبوا في يمين، والتزموا الرفع في ايمن)) انتهى. ولا حجة في ذلك؛ لأنهم قد يختصون بعض الألفاظ بأحكام، كما اختصوا غدوة بأن نصبوها بعد لدن، وكما اختصوا بكرة وغدوة بمنع الصرف دون ضحوة، وكما اختصوا لعمرك بفتح العين. واحتج للكوفيين بأن همزتها مفتوحة، وهمزة الوصل في الأسماء لا تكون مفتوحة، وبأنها على وزن أفعل، وأفعل بناء جمع، لا يزجد في أبنية الأسماء أفعل

مفرداً، وقال س: لا يكون أفعل مفرداً. وأما وصل همزتها في نحو لا يمن فإنما وصلت لكثرة الاستعمال، على أن وصلها ليس حتماً، حكى أبو الحسن في ألفه القطع، وزعم أنه جمع يمين وإن كان س قد حكى الوصل، فتحصل بحكايتهما أن للعرب فيها الوصل والقطع. ويدل على أن أصلها القطع كونهم أبدلوا منها الهاء، فقالوا: هيم الله، لو كانت في الأصل همزة وصل لم تبدل منها الهاء. وأما كسرها في قولهم ايمن فهذا لا يدل على أنها ليست في الأصل أفعل الجمع؛ لأن العرب تلاعبت بهذه الكلمة حتى غيرتها نحواً من ثمانية عشر تغييراً على ما حكيناه، فهذا من بعض تلك التغييرات. وزعم أبو الحسن فيما حكاه عنه بعضهم أن همزة ايم الله همزة وصل، وهمزة إيم الله همزة قطع، قال: ولا أحملها على ايم الله؛ لأن تلك قد علمت أنها وصل بقولهم: ليم الله، وليست همزة الوصل مطردة في الاسماء. قال بعض أصحابنا: ((والصواب أن يعتقد فيها أن ألفها موصولة؛ لأنه لا يحفظ من كلامهم لإيم الله بإثبات الهمزة)). قال: ((وكذلك ينبغي أن يعتقد في ايمن الله؛ لأنه لا يحفظ من كلامهم لإيمن الله)). وقال بعض شيوخنا: وأما ايمن الله -بكسر الهمزة- فلا أعلم خلااً أن الألف فيها ألف وصل؛ لأنها لو كانت جمعاً لما أمكن كسر الهمزة، ولأن إفعلاً ليس في الكلام، لا مفرداً ولا جمعاً، ولا صفة ولا مصدراً، ولا اسماً ولا فعلاً، وأما

ما حكوه من إصبع فلم يثبت عند النظار في الأبنية. وقال بعض أصحابنا: ((فإن قال قائل: لا حجة في حذف همزتها في الدرج على أنها همزة وصل لاحتمال أن تكون حذفت/ تخفيفاً لكثرة الاستعمال. فالجواب أن تقول: التزام حذفها في الدرج يدل على أنها همزة وصل؛ إذ لو كانت همزة قطع إلا أنها حذفت تخفيفاً لجاءت مثبتة في الوصل في بعض الأحوال؛ ألا ترى أنالعرب لما حذفت همزة ((شيء)) مع ((أي)) في قولهم: أيش لك؟ تخفيفاً، وويلمه- لم تلتزم ذلك فيه؛ بل يجوز أن تقول: أي شيء لك؟ وويل أمه، وكذلك جميع ما حذف تخفيفاً يسوغ إثباته)) انتهى. وما ذكره من أنه لم تقطع همزته ليس بصحيح؛ إذ قد حكى الأخفش فيها القطع، وقد تقدم لنا ذكر ذلك. وأما دعواه أن جميع ما حذف تخفيفاً يسوغ إثباته فليس بصحيح؛ ألا ترى أن قيودة ونظائرها هي في الأصل فيعلولة على مذهب البصريين، فالأصل قيودودة، اجتمعت وارو وياء، وسبقت إحداهما بالسكون، فأدغمت، فصارت قيدودة، ثم خففت بحذف عين الكلمة، فصار قيدودة، ومع هذا فلا يجوز فيه ولا في نظائره أن يرد إلى أصله فيقال قيدودة بالإدغام. وقال الأستاذ أبو علي: ايمن مغير كامرئ وابن، فلا يطالب بوزنه وأنه ليس في الكلام مثله، كما لا يطالب بذلك في ابن وامرئ إلا أنه لم ينطق بالأأصل. فقال أبو بكر بن طاهر: هو عنده- أي عند س -مغير من يمين. وقال غيره: بل هو مغير من فعل، اسم مشتق من اليمن، كامرئ المغير عن مرء، وهو أظهر. وقال ابن خروف: قال الأخفش: إن سميت بايمن ثم صغرته قلت يمين. وهو قول صحيح.

وقوله وقد يخبر عن اسم الله مقسماً به بـ ((لك)) و ((علي)) مثال ذلك قول الشاعر: لك الله لا ألفى لعهدك ناسياً ... فلا تك إلا مثل ما أنا كائن وقول الآخر: لقد حليتك العين أول نظرة ... فأعطيت مني- يا بن عم- قبولاً أميراً على ما شئت مني مسلطاً ... فسل- فلك الرحمن- تمنع سولا أي: لا تمنع سولا. وقول الآخر: نهى الشيب قلبي عن صباً وصباية ... ألا- فعلي الله - أوجد صابيا أي: لا أوجد صابيا. وقوله وقد يبتدأ قسماً مثاله قول الشاعر: علي إلى البيت المحرك حجة ... أوافي بها نذراً، ولم أنتعل نعلا لقد منحت ليلى المودة غيرنا ... وإن لها منا المود ة والبذلا وقال آخر: على أخد من كل نذر هدية ... تحلله ما قلتها يا مهاجر /ص: المقسم عليه جملة مؤكدة بالقسم، تصدر في الإثبات بلام مفتوحة، أو ((إن)) مثقلة أو مخففة، ولا يستغن ى عنهما غالباً دون استطالة، وتصدر في

الشرط الامتناعي ب ((لو)) أو ((لولا))، وفي النفي ب ((ما)) أو ((لا)) أو ((إن))، وقد تصدر ب ((لن)) اة ((لم))، وتصدر في الطلب بفعله أو بأداته أو ب ((إلا)) أو ((لما)) بمعناها. وقد تدخل اللام على ((ما)) النافية اضطرارا. ش: الذي يتلفى به القسم في الإثبات هو اللام المفتوحة وإن، وفي النفي ((ما)) و ((لا)) و ((إن))، وذكر المصنف أنها قد تصدر بلن ولم. وفي الشرط الامتناعي بلو أو لولا، ويأتي الكلام على ذلك مفصلا، إن شاء الله. وزعم الأخفش أن القسم يجوز أن يتلقى بلام كي، وجعل من ذلك قوله تعالى: (يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ)، وقوله تعالى: (وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ)، والمعنى عنده: ليرضنكم ولتصغين، وقال ابن عناب الطائي: إذا قال: قدني قلت: بالله حلفة ... لتغني عني ذا إنائك أجمعا واختلف قول أبي علي: فأجاز ذلك في ((العسكريات))، ورجع عن ذلك في ((البصريات)) و ((التذكرة))، قال في ((العسكريات)): قول ابن عناب: ((بالله خلفة لتغني)) بالله: قسم، وهو مبتدأ به فلا بد له من جواب، وليس متوسطا

فيحذف جوابه، نحو: زيد_ والله_ منطلق، ولا جواب له في هذا البيت ولا فيما بعده، فتعين أن يكون الجواب ((لتغني))، ولا يمنع من ذلك كونه في تقدير مفرد؛ لأن الفعل والفاعل اللذين جريا في صلة ان سدا مسد الجملة، كما سد في قوله: (الم (1) أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا)، وعلمت أن زيدا منطلق، ولو أنك جئتني لأكرمتك، وأقائم زيد)). وقال في ((البصريات)): لا يجوز تلقي القسم كي، ولا ورد منه شيء في كلام العرب، ف ((ليرضوكم)) متعلق ب ((يحلفون))، ولم يرد القسم، إنما أراد أن يخبر أن الذين يؤذون النبي يحلفون بالله للمسلمين ما عابوا النبي ليرضوهم بذلك. وأما (ولتصغي) فمحمول على ما قبله من المصدر، وهو (غرور)، والتقدير: للغرور ولتصغي. وأما (لتغني عني) فيحتمل أن يكون ((بالله)) متعلقا بفعل مضمر لا يكون قسما، أي: حلفت بالله لتغني عني. ويحتمل أن يكون قسما، وجوابه محذوف، أي: لتشربن لتغني عني، وحذف الجواب لدلالة الحال عليه، فيكون إذ ذاك نحو ما حكى أبو الحسن من قولهم: أما والله، ويحذفون ما يقسم عليه. ورواه أبو علي في ((البصريات)): إذا قال قدني قلت آليت حلفة ... .................................. فيحتمل أن يكون ((لتغني)) متعلقا بآليت، ولا يراد بها القسم بل الإخبار.

ورواه ثعلب ((لتغنن عني))، وهي لام الأمر، وجاء على لغة طيئ، ولغة غيرهم: لتغنين عني، والمعنى: أغنين عني، فآليت لا يراد بها القسم. وزعم بعض القدماء من النحويين أن القسم قد يتلقى ب ((بل))، واستدل بقوله تعالى: (ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ). وهذا /باطل؛ لأنه بنى جواز ذلك على الآية، ولا حجة فيها؛ إذ يحتمل أن يكون الجواب قوله: (كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ)، وحذف اللام_ أي: لكم_ لطول الفصل، كما حذفها من قوله تعالى: (قُتِلَ أَصْحَابُ الأُخْدُودِ)، وهو جواب: (وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ). وقال الفراء: ((ص معناها: وجب والله، ونزل والله، وحق والله، فهي جواب لقوله (وَالْقُرْآنِ)، كما تقول: نزل والله)). يريد أنها جواب للقسم من جهة المعنى لا من جهة اللفظ، بل الجواب محذوف لدلالة (ص) عليه، كما أن الجواب في قولك نزل والله محذوف لدلالة نزل عليه. وزعم ابن عصفور أن من الحروف التي تربط القسم بالمقسم عليه ((أن))، قال في ((المقرب)): ((وأما الحروف التي تربط المقسم به بالمقسم عليه ف (أن) إن كانت

الجملة الواقعة جوابا للو وما دخلت عليه؛ نحو قوله: أما والله أن لو كنت حرا ... وما بالحر أنت ولا القمين)) ورد عليه شيخنا أبو الحسن بن الضائع، فقال: ((نص س على أن أن في جواب القسم كاللام الأولى في: والله لئن فعلت لأفعلن، فليست الرابطة للجواب بالقسم، وإنما جواب القسم على هذا ما زعم ابن عصفور أنه جواب لو، ولذلك لم تدخل اللام عليه في قوله تعالى: (أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ)؛ لأنه جواب القسم. ويدل على صحة ذلك أن لو كـ (إن)، فكما لا يجوز أن تكون (إ،) وجوابها جواباً للقسم فكذلك لو، بل يكون جوابهما هو جواب القسم. وأما امتناع: والله لقام زيد لو قام عمرو، وجواز: والله ليقومن زيد إن قام عمرو- فالمضي والاستقبال فعلا ذلك؛ لأنه يجوز: يقوم زيد إن قام عمرو، ولا يجوز: قام زيد لو قام عمرو. وأظن هذا هو الذي غلطه، على أن في لفظ السيرافي ما يقتضي أن أن مع لو جواب كما زعم ابن عصفور، فلينظر)) انتهى. وقوله ((بل يكون جوابهما هو جواب القسم)) يريد به: بل ما كان يكون جوابهما لولا القسم هو جواب القسم، ولا يريد أن نفس جواب إن ولو هو بعينه جواب القسم.

وقد رجع ابن عصفور عما في ((المقرب)) إلي ما قاله س، فقال: ((وقد يدخلون أن على لو توطئه يجعل الفعل الواقع بعدها جوابا للقسم، كما يدخلون اللام على إن الشرطية؛ أقسم أن لو قام زيد لقام عمرو، ومن ذلك قوله: فأقسم أن لو التقينا وأنتم لكان لنا يوم من الشر مظلم)) انتهى. والذي يظهر من نص س أن أن ليست رابطة كما ذهب إليه ابن عصفور في ((المقرب))، ولا توطئة كما ذكره شيخنا ابن الضائع وابن عصفور في ثاني قوليه، بل زائدة، دخولها كخروجها. قال في ((هذا باب أن وإن)) بعد كلام ذكر فيه بعض أقسام أن، فقال: ((ووجه آخر تكون فيه لغوا)). ثم قال: ((فأما الوجه الذي تكون فيه لغوا فنحو قولك: لما أن جاء [ذهبت]، وأما والله أن لو فعلت لأكرمتك)) انتهى. وقوله/ وتصدر في الإثبات بلام مفتوحة ظاهر هذا الكلام إطلاق الإثبات في الجملة الاسمية والفعلية، وكلامه في الشرح، وفي قوله بعد: ((وإن كان أول الجملة مضارعا))، وقوله بعد: ((ولا يخلو دون استطالة الماضي المثبت)) _ يدل على أنه هنا عنى الجملة الاسمية، قال في الشرح: ((كقوله تعالى: (ثُمَّ لَنَحْنُ

أَعْلَمُ)، وكقول حسان: فلئن فخرت بهم لمثل قديمهم ... فخر اللبيب به على الأقوام (إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى)، (إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ). ويستغنى عنهما قليلا دون استطالة في المقسم به، كقول أبي بكر: (والله أنا كنت أظلم منه))). وذهب بعض النحويين إلى أنه لا يتلقى القسم ب ((إن)) إلا إذا كان في خبرها اللام، فإن لم تكن اللام فتحت أن، وتقدم لنا نقل المذاهب في ذلك في الفصل الأول من ((باب إن وأخواتها)). وقوله دون استطالة إن كان طال ما بين القسم وجوابه فظاهر كلام المصنف انه يستغنى عن إن وعن اللام. وليس كذلك، بل الأكثر الفصيح أنه لا بد من أحدهما، وقد توسغ الاستطالة الحذف. وقال في الشرح: ((فلو كان فيه استطالة لحسن الحذف، وكان جديرا بكثرة النظائر، كقول بعض العرب: (أقسم بمن بعث النبيين مبشرين ومنذرين، وختمهم بالمرسل رحمة للعالمين، هو سيدهم أجمعين)، وقول ابن مسعود (رضي الله عنه): (والذي لا إله غيره هذا مقام الذي أنزلت عليه سورة البقرة)، والأصل: لهذا،

فحذف اللام لاستطالة القسم والخبر بالصلتين، ومن قول الشاعر: ورب السموات العلا وبروجها ... والأرض وما فيها المقدر كائن أي: للمدر كائن)). ولم يذكر أحد من أصحابنا الاستغناء عن اللام أو عن إن في الجملة الاسمية، فينبغي أن يحمل ذلك على الندور بحيث لا يقاس عليه. وقوله وتصدر في الشرط الامتناعي بلو أو لولا تقدم لنا أن اصحابنا لا يجعلون لو شرطا إلا إذا كانت بمعنى إن، وأما إن كانت تعليقا في الماضي فليست شرطا. ومن التصدير ب ((لو)) قول سويد بن كراع: فتالله لو كنا الشهود وغبتم ... إذا لملأنا جوف خبرائهم دما ومن التصدير ب ((لولا)) قول عبد الله بن الزبير: فوالله لولا خشية النار بغتة ... علي لقد أقبلت نحري مغولا وقالت امرأة: فوالله لولا الله تخشى عواقبه ... لزعزع من هذا السرير جوانبه /وقال راجز: والله لولا الله ما اهتدينا وكلام المصنف يقتضي أن جواب القسم لو ولولا وما دخلتا عليه،

وكلامه في الفصل الأول من ((باب عوامل الجزم)) يقتضي أن جواب القسم محذوف يغني عنه جواب لو، وأن الجواب ل ((لو)) في نحو: والله لو قام زيد لقام عمرو، ول ((لولا)) في: والله لولا زيد لأكرمتك، فاضطرب كلام المصنف في هذه المسألة، وقد تكلمنا عليها هناك حيث تعرض المصنف لها. ونقول: إن كلام أصحابنا نص في أن القسم ولو أو لولا إذا اجتمعا وتقدم القسم كان الجواب له؛ كتقدمه على أداة الشرط، فليست الجملة المتصدرة لو أو لولا جوابا له، ولا الجواب للو ولا للولا، ولكنه للقسم، ويلزم أن يكون ماضيا، فوجب أن يكون الدال عليهما ماضيا، فتقول: والله لو قام زيد لقام عمرو، ووالله لو قام بكر ما قام خالد، وكذلك لولا. قال بعض أصحابنا: وقد يحذفون القسم قبل لو ولولا، ويكون مرادا، وذلك إذا كان الجواب موجبا، ودخلت عليه اللام، فتكون اللام والفعل جواب القسم المحذوف، ولا يجوز موجبا، ودخلت عليه اللام، فتكون اللام والفعل جواب القسم المحذوف، ولا يجوز حذفها، ويدل على حذف القسم قبل لولا إدخالهم لام التوطئة الدالة على القسم المحذوف عليها كما تدخل على إن الشرطية، قال: للولا حصين عينه أن أسوءه ... وأن بني سعد صديق ووالد وقال آخر: للولا قاسم ويدا بسيل ... لقد جرت عليك يد غشوم إلا أن ذلك لم يجئ إلا في الشعر كراهيو اجتماع لامين. وإن لم تقدر قبلهما قسما محذوفا كانت اللام جوابا لهما، ويجوز حذفها إذ ذاك.

فلو كان الجواب منفيا ب ((ما)) لم يجز حذف القسم؛ لأنه لا يحذف إذا كان جوابه منفيا، فقولك: لو قام زيد ما قام عمرو، هو جواب للولا لقسم محذوف، ولو قلت: لو قام زيد لما قام عمرو كان جواب لو؛ لأنه إذا كان جواب قسم لم تدخل اللام على ((ما)) إلا في ضرورة، وهم يقولون لو قام زيد لما قام عمرو في فصيح الكلام وفي الشعر، ومنه قول الشاعر: ولو نعطى الخيار لما افترقنا ... ولكن لا خيار مع الليالي ولو قلت: لو قام زيد لم يقم عمرو، كان جواب لو؛ لأن القسم لا يجاب بلم. انتهى، وفيه بعض تلخيص. وقوله وفي النفي ب ((ما)) أو ((لا)) أو ((إن)) أما الجملة الاسمية فتنفي ب ((ما)) ولا ننفي ب ((لا))، والنظر يقتضي أن تنفى ب ((إن))، فتقول: والله إن زيد قائم، أي: ما زيد /قائم. وذكر المصنف في ((شرح الشافية الكافية)) له أن الجملة الاسمية تنفي بما وإن ولا، قال: ((لا فرق في ذلك بين الجملة الفعلية والاسمية، إلا أن الاسمية إذا نفيت ب (لا)، وقدم الخبر، أو كان المخبر عنه معرفة_ لزم تكرارها في غير الضرورة، نحو: والله لا زيد في الدار ولا عمرو، ولعمري لا أنا هاجرك ولا مهيينك)) انتهى. وكون الجمله الاسمية تنفى ب ((لا)) غلط ووهم. والثلاثة تنفة بها الجملة الفعلية، إلا أن ((لا)) لا تدخل على الماضي، فلا تقول: والله لا قام زيد. وزعم المصنف في الشرح أنه ينفى ب ((لا))، قال: ((ومن وروده في المنفى ب ((لا)) قول الشاعر: ردوا، فوالله لا ذدناكم أبدا ... ما دام في مائنا ورد لنزال))

وقد بحتنا معه في تأويل هذا البيت في آخر الباب الأول من هذا الكتاب بما يوقف عليه هناك. وإذا تقدم الماضي المنفي بما أو بإن قسم يليه شرط صار ذلك الماضي مستقبل المعنى، كقوله: (وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ)، وقوله (وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ). وقوله وقد تصدر بلن أو لم قال المصنف في الشرح: ((وندر نفي الجواب بلن في قوله أبي طالب: والله لن يصلوا إليك بجمعهم ... حتى أوارى في التراب دفينا وب ((لم)) فيما حكى الأمعي أنه قال لأعرابي: ألك بنون؟ قال: نعم، وخالقهم لم تقم عن مثلهم منجبة)) انتهى. لا يقاس على شيء من ذلك البتة. وليس للمتصف سلف فيمن أجاز ذلك إلا ما حكى عن ابن جني أنه زعم أنه قد يتلقى القسم بلم وبلن في الضرورة. واستدل على ذلك بقول زياد بن منفذ.

رويق! إني وما حج الحجيج له ... وما أهل بجنبي نخلة الحرم لم ينسني ذكركم مذ لم ألاقكم ... عهد، سلوت به عنكم، ولا قدم وبقول الأعشي: أجدك لم تغتمض ساعة ... فترقدها مع رقادها أجدك عنده من قبيل الأقسام. وقال آخر: أجدك لن ترى بثعيلبات ... ولا بيدان ناجية ذمولا وهذا غلط من ابن جني؛ لأن القسم بعد إن يجوز فيما بعده أن يكون خبرا لأن، ويحذف جواب القسم، ويجوز أن يكون جوابا للقسم، فيكون القسم وجوابه في موضع خبر إن. وقوله ((لم ينسني)) ليس جوابا للقسم، بل هو خبر إن، وجواب القسم محذوف، فهو نظير قولك: إن /زيدا_ والله_ لقائم، فقوله ((لم ينسني)) لا يصلح أن يكون جوابا للقسم كما لا يصلح ((لقائم))، وفي قولك: إن زيدا والله ليقومن، فيتعين أن يكون ليقومن جواب القسم. ومنه ما يحتمل الوجهين، نحو قول طرفة: إني وجدك ما هجوتك والـ ... ـأنصاب يسفح بينهن دم يجوز أن يكون ((ما هجوتك)) خبرا لإن، ويحتمل أن يكون جوابا للقسم. وقال الكميت: إني لعمر أبي سوا ... ك من الصنائع والذخائر

وقال الآخر: إنك والله لذو ملة ... يطرفك الأدنى عن الأبعد فهذا يتعين أن يكون خبرا لإن. وأما قول العرب: أجدك لم تفعل كذا، ولن تفعل كذا، فلا يراد به القسم، وهو عند س من باب ما ينتصب من المصادر توكيدا لما قبله، نحو قولك: هذا عبد الله حقا، قال س في هذا البا: ((ومثل ذلك في الاستفهام: أجدك لا تفعل كذا؟ كأنه قال: أحقا لا تفعل كذا))؟ قال: ((وأصله من الجد، كأنه قال: أجدا؟ ولكنه لا يتصرف، ولا يفارق الإضافة، كما كان ذلك في لبيك ومعاذ الله)). قال بعض أصحابنا: ((وإنما جعله_ يعني س _ من هذا الباب وإن كان أجدك ليس قبله كلام يؤكد؛ لأن الكلام الذي بعده النية به أن يكون مقدما عليه من جهة أن المصدر في هذا الباب منصوب بفعل مضمر تدل عليه الجملة التي المصدر توكيد لها؛ وذلك الفعل احق أو ما جرى مجراه، وذلك أنك إذا قلت (هذا عبد الله) فالظاهر أن يكون هذا الكلام قد جرى على يقين منك وتحقيق، فدل الكلام بظاهره على أحق أو ما في معناه، فلما كانت الجملة دالة على الفعل المضمر الناصب للمصدر كان الوجه فيها ان تكون متقدمة على المصدر؛ لأن الدليل بابه

أن يكون متقدما على المدلول، وإنما التزم في أجدك لا تفعل كذا تقديم المصدر لأنه خالف المصادر المؤكدة لما قبلها في التزامهم فيه الإضافة؛ والتغيير كثيرا ما يأنس بالتغيير، فلم يتصرفوا فيه لذلك، بل ألزموه طريقة واحدة، فجعلوه مجاورا لهمزة الاستفهام مقدما على ما يؤكده، وصار التقديم الذي كان في غيره ضعيفا لا يجوز غيره فيه)) انتهى. والمحفوظ أن الفعل المنفي بعد أجدك يكون نفيه ب ((لم)) وب ((لن)) كما أنشدنا قبل، وب ((لما))، قال زهير: أفي كل أخدان وإلف ولذة ... سلوت، وما تسلو عن ابنة مدلج وليدين، حتى قال من يزغ الصبا: ... أجدك لما تستحي أو تحرج وب ((لا)) كما قال س: أجدك لا تفعل كذا؟. / وأما ما استدل به المصنف من قول العربي ((نعم، وخالقهم لم تقم عن مثلهم منجبة)) فليس ((لم تقم)) جوابا للقسم، بل جواب القسم محذوف، يدل عليه سؤال السائل: ألك بنون؟ فقال: نعم، وخالقهم لبنون لي، ثم أستأنف مدحهم، وأخبر أنه لم تقم عن مثلهم منجبة. فهذا الذي ذهب إليه المصنف من أنه قد تصدر في النفي بلم ولن لا سلف له فيه إلا ابن جني، فإنه أجاز ذلك في الضرورة، واستدل بما ذكرناه، وتقدم الرد عليه.

وكان أبو عبد الله محمد بن خلصة الكفيف يجيز أيضا أن يتلقي القسم بلم. وقد رد عليه ذلك أبو محمد بن السيد 0 واعتلوا لكون ((لن)) لم يتلق بها القسم_ وإن كانت ك ((لا)) في نفي المستقبل_ بأن قولك ((لن يفعل)) نفي ل ((سيفعل))، فلما كانت في مقابلة السين لم يتلقوا بها القسم كما لا يتلقى بالسين. وقوله وتصدر في الطلب بفعله أو بأداته أو بإلا أو لما بمعناها تقدم لنا الكلام على ما يكون جوابا لفعل الطلب وأنه ستة أشياء في أوائل هذا الباب؛ ومثال فعل الطلب قول الشاعر: بعيشك_ يا سلمى_ ارحمي ذا صبابة ... أبي غير ما يرضيك في السر والجهر ومثال الاداة قوله: بربك، هل للصب عندك رأفة ... فيرجو بعد اليأس عيشا مجددا ومثاله بإلا قوله: بالله ربك إلا قلت صادقة ... هل في لقائك للمشغوف من طمع ومثال لما: قالت له: بالله_ ياذا البردين_ ... لما غنثت نفسا او اثنين وقوله وتدخل اللام على ((ما)) النافية اضطرارا مثاله قول الشاعر:

لعمرك_ يا سلمى_ لما كنت راجيا ... حياة، ولكن العوائد تخرق وقال النابغة: فلا عمر الذي أثني عليه ... ........................... البيتان، وتقدم إنشادهما 0 -[ص: وغن كان أو الجملة مضارعا مثبتا مستقبلا غير مقارن حرف تنفيس ولا مقدم معمولة لم تغنه اللام غالبا عن نون توكيد؛ وقد يستغني بها عن اللام، وقد يؤكد المنفي ب ((لا)). ويكثر حذف نافي المضارع المجرد مع ثبوت القسم، ويقل مع حذفه. وقد يحذف نافي الماضي إن امن اللبس، ويكثر ذلك لتقدم نفي على القسم، وقد يكون الجواب مع ذلك مثبتا. وقد يحذف لأمن اللبس نافي الجملة الاسمية، /وقد يكون الجواب قسما.]- ش: قال المصنف في باب نوني التوكيد ما نصه: ((وهما خفيفة وثقيلة، تلحقان وجوبا المضارع الخالي من حرف تنفيس المقسم عليه مستقبلا مثبتا غير متعلق به جار)) فكرر معظم أحكام المضارع، وخالفه بأنه قال هناك ((تلحقه وجوبا))، وقال هنا ((لم تغنه اللام غالبا)). وقال هناك ((غير متعلق به حار)) وقال هنا ((ولا مقدم معموله)). وقد شرحنا ما في باب نوني التوكيد، ونتكلم على هذا هنا، فنقول: اخترز بقوله ((مثبتا)) من أن يكون منفيا، وذكر بعد أنه قد يؤكد المنفي ب ((لا)). واحترز بقوله ((مستقبلا)) من أن يكون حالا. قال المصنف في الشرخ. ((فإن أريد به الحال قرن باللام، ولم يؤكد بالنون؛ لأنها مخصوصة بالمستقبل، فمن

شواهد إفراد اللام لكون الحال مقصودا قول الشاعر: لئن تك قد ضاقت عليكم بيوتكم ... ليعلم ربي أن بيتي واسع ومثله: لعمري لأدري ما قضى الله كونه ... يكون، وما لم يقض ليس بكائن ومثله: وعيشتك_ يا سلمى_ لأوقن أنني ... لما شئت مستحيل ولو أنه القتل ومثله: يمينا لأبغض كل امرئ ... يزخرف قولا، ولا يفعل)) انتهى. واورد المصنف هذه المسألة كأنها مجمع عليها، وهي مسألة خلاف: فمنهم من قال: إن الحال لا يجوز أن يقسم عليه؛ لأن مشاهدته أغنت عن أن يقسم عليه 0 وحكاه الزجاج عن المبرد، قال: ولذلك لم تدخل عليه إحدى النونين. ورد ذلك عليه بأن قال: لو كان امتناع دخول النون على الحال لأنها لا يحلف عليها لكان كل من يحلف عند القاضي لا يجب أن تقبل يمينه؛ لأنه يحلف أنه في حال ليس عليه شيء، ولامتنع قولك: والله لأنت أفضل الناس؛ إذ هو في حال فضل، وقولك: والله لزيد يصلي بحذائي ولامتنع (وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ).

وقال ابن عصفور وقد ذكر مذهب من منع ان يقسم علي الحال، قال: "وهذا باطل؛ لأنه قد يعوق عن المشاهدة عائق، فيحتاج إذ ذاك إلي القسم، نحو قولك: والله إن زيداً في حال قيام، لمن لا يدرك قيام زيد. والصحيح انه يجوز أن يقسم عليه، إلا أنه إن كان موجباً فإنك تنشئ من الفعل اسم الفاعل، وتصيره خبر المبتدأ، ثم تقسم علي الجملة الاسمية، فتقول: والله غن زيداً لقائم، والله إن زيداً قائم، والله لزيد قائم. وإنما لم يجز ان تبقي الفعل علي لفظه وتدخل اللام لأنك لو قلت والله ليقوم زيد لأدى ذلك إلي الإلباس/ في لعض المواضع؛ وذلك أنك إذا قلت والله ليقوم زيد لأدى ذلك إلي الإلباس/ في بعض المواضع؛ وذلك أنك إذا قلت إن زيداً والله ليقوم لم يدر هل يقوم خبر إن أو جواب القسم. ولا يجوز إدخال النون فارقة فتقول: إن زيداً والله ليقومن؛ لأن النون تخلص للاستقبال. وقد تدخل عليه اللام وحدها، ولا يلتفت إلي اللبس، إلا أن ذلك قليل جداً، بابه الشعر، قال الشاعر: تألى ابن أوسٍ حلفةً ليردني ... إلي نسوةٍ، كأنهن مفائد" وقال ابن عصفور أيضاً: "وإن كان المقسم عليه حالاً موجباً دخلت عليه اللام، ومن ذلك قراءة قنبل {لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ}، والأكثر فيه إذ ذاك أن يجعل خيراً لمبتدأ، فتصير الجملة اسمية". وقال في "المقرب": "وإن كان موجباً فلابد من وقوعه خبراً لمبتدأ، فتكون الجملة إذ ذاك اسمية، نحو: والله إن زيداً ليقوم الآن". وقال ابن أبي الربيع: "وأما في الإيجاب فترد الفعلية اسمية بتقديم الفاعل،

فتقول: والله لزيد يقوم". وقال أيضاً: "وقد ياتي قليلاً: والله ليقوم زيد، كما قال: كذبت، لقد أصبي علي المرء عرسه ... وأمنع عرسي أن يزن بها الخالي" وقوله غير مقارن حرف تنفيس احتراز من أن يقترن به حرف تنفيس، فإنه إن اقتران به دخلته اللام فقط، قال تعالى: {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى}، وقال الشاعر: فوربي لسوف يجزى الذي أسلفه المرء سيئاً أو جميلاً وحكم السين في ذلك حكم سوف، فتقول: والله لسيقوم زيد. هذا مذهب البصريين، قالوا ذلك بالقياس علي سوف، ولم يسمع. ولا يجيز ذلك الفراء، قال: لأن اللام كالجزء مما تدخل عليه، ولذلك جاز في فصيح الكلام: لهو قائم، بتسكين الهاء تخفيفاً إجراء لها مجرى عضد، فلو قلت والله لسنقوم لأدى ذلك إلي توالي أربعة أحرف بالتحريك فيما هو كالكلمة الواحدة، وذلك مرفوض في كلامهم، ولذلك سكنوا آخر الفعل في ضربت. قال بعض أصحابنا: "والصحيح جوازه بدليل قول العرب: (والله لكذب زيد كذباً ما أحسب أن الله يغفره له)، فكما احتملوا ذلك في هذا وامثاله، ولم يجعلوا اللام كالجزء من الكلمة- فكذلك يجوز: والله لسيقوم زيد" انتهى.

وينبغي أن يزيد: "ولا قد"، فإنه تدخله اللام فقط، نحو: والله لقد يقوم زيد، حكم قد حكم سوف. وقوله ولا مقدم معموله احتراز من أن يتقدم المعمول، فإنه إن تقدم دخلته اللام فقط، ومنه قوله تعالى: {لَإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ}، وقال الشاعر:/ يميناً ليوم يجتني المرء ما جنت ... يداه، فمسرور ولهفان نادم وقال الآخر: جواباً به تنجو اعتمد، فوربنا ... لعن عملٍ أسلفت لا غير تسأل وقال آخر: قسما لحين تشب نيران الوغي ... يلفي لدي شفاء كل غليل ولو قال المصنف "غير مفصول بينه وبين اللام لم تغنه غالباً" كان أخصر واحصر؛ إذ نقصه أن يقترن ب "قد". وقوله لم تغنه اللام غالباً عن نون توكيد هذا الذي اختاره هو مذهب الكوفيين، وأما البصريون فلابد عندهم من اللام والنون إلا في الضرورة، فقد يستغنى بإحداهما عن الأخرى. وتبع أبو علي الكوفيين، فأجاز أن تذكرهما معاً أو أحدهما معاً أو احدهما، أي شيء أردت منهما. وادعى ابن هشام الإجماع على انه لابد منهما، وأن أبا علي لم يسبقه أحد إلي ما ذهب إليه. وليس كما ذكر؛ إذ مذهب الكوفيين جواز تعاقبهما كما ذكرنا، ونصوص س علي لزومهما معاً.

فمثال ما النفي فيه باللم وحدها قول الشاعر: تألى ابن أوسٍ حلفة ليردني ... ......................... وقد تقدم إنشاد ابن عصفور هذا على أن "ليردني" فعل حالٍ دخلت عليه اللام، وذلك قليل جداً، وأنشده علي أنه فعل مستقبل، فاضطرب في فهمه فيه. قال المصنف في الشرح: "وقلت (في الغالب) احترازا من قول النبي- صلي الله عليه وسلم- (ليرد علي أقوام أعرفهم ويعرفوني)، ومن قول الشاعر: تألى ابن أوس حلفة ليردني .................................. ومن قول ابن رواحة رضي الله عنه: فلا وأبي لنأتيها جمعياً ... ولو كانت بها عرب وروم" وقوله وقد يستغنى بها عن اللام مثاله قوله: وقتيل مرة أثأرن، فإنه ... فرغ، وإن اخاكم لم يثأر

وأنشده الأستاذ أبو علي "وإن أخاكم لم يضهد"، وأنشده غيره "لم يقصد"، وأنشد قبله: ولأثأرن بمالكٍ وبمالكٍ ... وأخي المروراة الذي لم يسند وقال آخر: وهم الرجال، وكل ملك منهم ... تجدن في رحبٍ وفي متضيق وقال آخر:/ ليت شعري! وأشعرن، إذا ما قربوها منشورة، ودعيت وقال آخر: فليأزلن، وتبكأن لقاحه ... ويعللن وليده بسمار وقد اعتل الفارسي في "تذكرته" لعدم دخول إحدى النونين مع السين

وسوف حين يتقدم المعمول، نحو {لَإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ}، ومع "قد" علي المنفي ب "لا"- بما ملخصه: "أن كلا من السين وسوف ولا تخلص الآتي من فعل الحال، فاستغنى عن النون إذ هي مخلصة أيضاً، وبأن قد حرف غير عامل كالسين وإن كانت قد خالفتها في أنها لا تدل علي الاستقبال" انتهى. ويعني أن "قد" حرف مختص بالفعل، جعل كالجزء منه كالسين. وقوله وقد تؤكد المنفي ب "لا" قال المصنف في الشرح: "إن كان المضارع المجاب به القسم منفياً لم يؤكد بالنون إلا إن كان نفيه ب "لا"، فحينئذ قد يؤكد بها، كقول الشاعر: تالله لا يحمدن المرء محتنبا ... فعل الكرام وإن فاق الورى حسبا والأكثر الا يؤكد، كقوله تعالى: {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ} " انتهى. ولو حذفت "لا" كان كإثبات في تأكيد الفعل بنون، كما قال الشاعر: بإصر يتركني ................... ... .......................... وقوله ويكثر إلي قوله مع حذفه مثاله قوله تعالى: {تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ}، وقال حسان:

أقسمت أنساها، وأترك ذكرها ... حتى تغيب في الضريح عظامي ولو كان الفعل المنفي ب "لا" مركداً بالنون لم يجز حذف "لا" لإلباسه بالمثبت؛ بل الذي يتبادر إلي الذهن هو الإثبات. وقد أطلق المصنف في نافي المضارع المجرد مع ثبوت القسم، ولا يخلو من ان يكون النافي "لا" أو "ما"، فإن كان "لا" فالحكم كما ذكر، وإن كان "ما" فمن النحويين من أجاز حذفهما حملاً علي "لا"، ومن النحويين من منع ذلك لعدم ورود السماع به، ولما فيه من اللبس؛ لأنه لا يعلم إذا حذفت هل القسم علي النفي في الحال أو في المستقبل. ومثال حذف "لا" والقسم محذوف قول الشاعر: وقولي إذا ما أطلقوا عن بعيرهم ... تلاقونه حتى يؤوب المنخل أراد: والله لا تلاقونه. إلا أنه لا يجوز حذفها والقسم محذوف غلا إذا كان المعنى لا يصح إلا بتقدير النفي، كالبيت الذي أنشدناه، هكذا قال المصنف، وفهم ان قبل "تلاقونه" قسماً محذوفاً. وقال بعض اصحابنا: "ولا يجوز حذفها منه- أي حذف/ لا من المضارع- في غير القسم إلا في ضرورة؛ لأنه لا يوجد فيه من كثرة الاستعمال والتفرقة اللازمة بين الإيجاب والنفي ما يوجد في القسم. ومما جاء من ذلك قول النمر بن تولب: وقولي إذا ما أطلقوا .............. ..................................... البيت. يريد: لا تلاقونه. وقول الآخر:

تنفك تسمع ما حييت بهالك حتى تكونه يريد: لا تنفك" انتهى. فلم يجعل تلاقونه ولا تنفك جواب قسم محذوف. وقوله وقد يحذف نافي الماضي إن أمن اللبس مثاله قول أمية بن أبي عائذ الهذلي: فإن شئت آليت بين المقا ... م والركن والحجر الأسود نسيتك ما دام عقلي معي ... أمد به أمد السرمد قال المصنف في الشرح: "أراد: لا نسيتك، فحذف النافي لأن المعنى لا يصح إلا بتقديره، وأنه لو أراد الإثبات لقال: لقد نسيتك، أو لنسيتك. وهذا النوع مع ظهور المعنى دون تقدم نفيٍ آخر علي القسم قليل" انتهى. وقال بعض أصحابنا: إن دخلت علي لفظ الماضي، نحو قولك: والله لا فعلت هذا أبداً- لم يجز حذفها إلا في ضرورة، لا يجوز ان يقال في الكلام: والله فعلت هذا أبداً. ومما جاء في الضرورة قوله: فلا وأبي دهماء زالت عزيزة ... علي قومها ما فتل الزند قادح يريد: فلا وأبي دهماء لا زالت عزيزة. وزعم الكوفيون أن "لا" غير محذوفه في البيت، وإنما هى مقدمة من تأخير، والتقدير: فوأبي دهماء لا زالت عزيزة. وما ذهبوا إليه باطل؛ لأن الحروف التي يتلقى بها القسم لا يجوز تقديمها علي القسم. ومما يدلك علي أن "لا" محذوفة في البيت رواية من روى: لعمر أبي دهماء زالت عزيزة ... ...................................................

وقوله ويكثر ذلك لتقدم نفي علي القسم أي: ويكثر حذف نافي الماضي، قال: فلا والإله نادى الحي ضيفي ... هدوا بالمساءة والعلاط أي: فلا والإله لا نادى، فحذف الثاني استغناء عنه بالأول. وقد يجتمعان، قال تعالى: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ}، وكقول أبي ذر: (فلا والله لا أسألهم دنيا، ولا أستفتيهم عن دين). وقوله وقد يحذف لأمن اللبس نافي الجملة الاسمية مثاله قول الشاعر: فوالله ما نلتم، وما نيل منكم ... بمعتدل وفق ولا متقارب أراد: ما ما نلتم، فحذف "ما" النافية، وأبقى "ما" الموصولة، وجاز ذلك لدخول الباء الزائدة/ في الخبر ولدلالة العطف. ويجوز علي مذهب الكوفيين أن تكون "ما" الباقية النافية والمحذوفة الموصولة، ولا يجوز هذا علي مذهب البصريين؛ لأنهم لا يجيزون بقاء الصلة بلا موصول في اللفظ وغن دل عليه دليل، قاله المصنف في الشرح.

ونصوص أصحابنا علي أن "ما" و"إن" النافية إذا دخلتا علي الجملة الاسمية لا يجوز حذف واحدة منهما؛ فلا يجوز في: والله ما زيد قائم، ولا: والله إن زيد قائم، أن تقول: والله زيد قائم. وقوله وقد يكون الجواب قسماً مثاله قوله تعالى: {وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا الْحُسْنَى}، التقدير: والله ليحلفن. منع بعض أصحابنا أن يكون القسم جواباً للقسم، قال: لأن القسم لا يدخل علي القسم، قال ذلك في لعمرك، وقد تقدم. -[ص: ولا يخلو دون استطالة الماضي المثبت المجاب به من اللام مقرونة ب "قد" أو "ربما" أو "بما" مرادفتها إن كان متصرفاً، وإلا فغير مقرونة، وقد يلي "لقد" و "لبما" المضارع الماضي معني، ويجب الاستغناء باللام الداخلة علي ما تقدم من معمول الماضي كما استغني بالداخلة علي ما تقدم من معمول المضارع.]- ش: قال "دون استطالة" لأنه إذا كان ثم استطالة جاز حذف اللام، كقوله تعالي: {قُتِلَ أَصْحَابُ الأُخْدُودِ}، وهو جواب لقوله {وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ}، وقوله {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا} جواب {وَالشَّمْسَ}. ولا يحتاج إلي هذا القيد، فقد جاء في كلام الفصحاء حذف هذه اللام وإبقاء "قد"، قال الشاعر، وهو زهير:

تالله قد علمت قيس إذا قذفت ... ريح الشتاء بيوت الحي بالعنن أن نعم معترك الحي الجياع إذا ... خب السفير ومأوى البائس البطن وقال أيضاً: تالله قد علمت سراة بني ... ذبيان عام الحبس والأصر أن نعم معترك الجياع إذا ... خب السفير وسابئ الخمر واحتراز بقوله "المثبت" من المنفي، فإنه لا تدخله اللام إلا اضطراراً، وتقدم ذكره، ولا ينفى إلا ب "ما" و "إن"، ولا يجوز نفيه ب "لا"؛ لأن "لا" لا ينفى بها الماضي في غير القسم إلا في قليل من الكلام أو في ضرورة شعر، فلم يسمع لذلك نفي الماضي بها في القسم إلا أن يكون الماضي واقعاً موقع المستقبل، فيجوز أن ينفى ب "لا" رعيا لمعناه، فتقول: والله لا فعلت كذا أبداً، أي: لا أفعل. وقوله مقرونة بقد مثاله {تالله لقد ءاثرك الله}. وظاهره أنك مخير أن تأتي ب "قد" وحدها أو اللام. وغيره يقول: ويجوز أن تصل اللام بقد إذا كنت مخاطباً لمن يتوقع خبرك، فتقول: والله لقد قام زيد. ومثال اقتران اللام بربما قول الشاعر:/ لئن نزحت دار لليلى لربما ... غنينا بخير، والديار جميع وقوله أو ب "ما" مرادفتها انشد شاهداً علي ذلك قول عمر بن أبي ربيعة: فلئن بان أهله ... لبما كان يؤهل وتقدم لنا الكلام في نظائر هذا البيت في حروف الجر عند قوله "وكذا بعد رب والباء، وتحدث في الباء المكفوفة معنى التقليل".

وملخص ما ذكرناه أن ثم بعد اللام فعلاً محذوفاً لدلالة ما قبله عليه، وتقديره في هذا البيت: لبان بما كان يؤهل، فاللام دخلت علي ذلك الفعل المحذوف، والباء سببية، و "ما" مصدرية، فعلى هذا لا تكون "لبما" بمعنى ربما. وقوله إن كان متصرفاً احتراز من ان يكون جامداً، فإنه لا يقرن ب "قد" ولا ب"ربما" ولا ب "ما"، ولا كان غبر متصرف، فتقول: والله لقام زيد، قال تعالى: {وَلَئِنْ أَرْسَلْنَا رِيحًا فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا لَظَلُّوا}، وفي الحديث من كلام امرأة من غفار (والله لنزل رسول الله- صلي الله عليه وسلم- إلي الصبح فأناخ)، وفي حديث سعيد بن زيد: "أشهد لسمعت رسول الله- صلي الله عليه وسلم- يقول: (من اخذ شبرا من الأرض ظلماً) " الحديث، وقال الشاعر: لكلفتني ذنب امرئ، وتركته ... كذي العر، يكوى غيره، وهو راتع وحكى س، "والله لكذب". ولا يجوز حذف اللام و "قد"، فتقول: والله كذب. وفصل ابن عصفور، فقال: "إن كان قريباً من زمان الحال أدخلت عليه

اللام وقد، فقلت: والله لقد قام زيد؛ لأن قد تقربه من زمان الحال. وإن كان بعيداً أتيت باللام وحدها، فقلت: والله لقام زيد، قال: حلفت لها بالله حلفة فاجرٍ ... لناموا، فما إن من حديث ولا صال ومن النحويين من ذهب إلي أنها لابد أن تصحبها "قد" ظاهرة أو مقدرة، وقاسها علي اللام الداخلة علي خبر إن، فكما لا تدخل تلك علي الماضي كذلك لا تدخل هذه". ورد ذلك بأن لام إن قياسها ألا تدخل علي الخبر إلا إذا كان هو المبتدأ في المعنى، نحو: إن زيداً لقائم، أو مشبهاً بما هو المبتدأ في المعنى، نحو: إن زيداً ليقوم؛ وذلك أنه لما تعذر دخولها علي المبتدأ دخلت علي ما هو المبتدأ في المعنى أو ما هو مشبه به، وليست كذلك اللام التي في جواب القسم. قال ابن عصفور: "وأيضاً فغن قد تقرب من زمان الحال، فإذا /أردنا القسم علي الماضي البعيد من زمن الحال لم يجز الإتيان بها". وقوله وقد يلي لقد ولبما المضارع الماضي معنى مثال "لقد" قوله: لئن أمست ربوعهم يبابا ... لقد بدعو الوفود لها وفودا ومثال "لبما" قوله: فلئن تغير ما عهدت .... ... ............................. البيتان.

وتقدم لنا تأويل لبما. وقوله ويجب الاستغناء باللام الداخلة علي ما تقدم من معمول الماضي مثاله قول أم حاتم: لعمري لقدما عضني الجوع عضة ... فآليت ألا أمنع الدهر جائعا وقوله في مثل هذا "إنه استغناء باللام" ليس استغناء، بل هذه اللام هي الداخلة علي الماضي، فصل بينهما بمعموله. وقوله كما استغني بالداخلة علي ما تقدم من معمول المضارع قال المصنف في الشرح: "وقد اجتمع في قول عامر بن قدامة: فلبعده لا اخلدن، وما له بدل إذا انقطع الإخاء، فودعا شذوذان: أحدهما عدم الاستغناء بتقدم اللام عن النون، والثاني دخولها علي جواب منفي، فلو كان مثبتاً لكان دخولها عليه مع تقدم اللام اسهل" انتهى. يعني لو قيل: زيد والله لبعده أقوم- كان أسهل. ص: وإذا توالى قسم وأداة شرط غير امتناعي استغني بجواب الأداة مطلقاً إن سبق ذو خبر؛ وإلا فبجواب ما سبق منهما، وقد يغني حينئذ جواب الأداة مسبوقة بالقسم. وقد يقرن القسم المؤخر بفاء، فيغني جوابه. وتقرن أداة الشرط المسبوقة بلام مفتوحة تسمى الموطئة، ولا تحذف والقسم محذوف إلا قليلاً. وقد يجاء ب "لئن" بعد ما يغني عن الجواب، فيحكم بزيادة اللام.

ش: كرر المصنف مسألة توالي القسم وأداة الشرط في الفصل الأول من "باب عوامل الجزم" فقال: "وإن توالى شرطان أو قسم وشرط استغني بجواب سابقهما، وربما استغني بجواب الشرط عن جواب قسم سابق، ويتعين ذلك إن تقدمهما ذو خبر أو كان حرف الشرط لو أو لولا" انتهى ما ذكر في هذه المسالة في ذلك الفصل، وكنا شرحناه في "كتاب التكميل لشرح كتاب التسهيل"، ونحن نتكلم علي ما ذكر هنا، وغن كان قد تكلمنا عليه هناك، فلعلنا نأتي بمزيد في الشرح، فنقول: قوله غير امتناعي هو قوله هناك "أو كان حرف الشرط لو أو لولا"، ومذهبه في ذلك انه يستغنى بجواب لو ولولا فالجواب للقسم، وجواب لو ولولا محذوف /لدلالة جواب القسم عليه. وقوله مطلقاً إن سبق ذو خبر يعني أن الجواب لأداة الشرط سواء أتقدم القسم علي الشرط عليه إذا تقدمهما ذو خبر؛ وهو قوله هناك: "ويتعين ذلك- أي الاستغناء بجواب الشرط- إن تقدمهما ذو خبر". وتمثيل ذلك: زيد والله إن يقم أقم معه، وزيد إن يقم والله أقم معه. وذكر غيره ان ذلك ليس علي سبيل التعيين بل علي سبيل الجواز، فيحوز أن تقول: زيد والله إن قام يقم عمرو، وزيد والله إن قام ليقومن عمرو. وقال المصنف في الشرح: "فإن تقد عليهما ذو خبر استغني بجواب الشرط، تقدم علي القسم أو تقدم القسم عليه. وكان الشرط حقيقاً بأن يغني

جوابه مطلقاً لأن تقدير سقوطه مخل بالجملة التي هو منها، وتقدير سقوط القسم غير مخل لأنه مسوق لمجرد التوكيد، والاستغناء عن التوكيد سائغ، ففضل الشرط بلزوم الاستغناء بجوابه مطلقاً إذا تقدم عليه وعلي القسم ذو خبر". وقوله وإلا فبجواب ما سبق منهما وهذا هو قوله هناك "استغني بجواب سابقهما". ومعنى قوله "وإلا" أي: وإلا يسبق ذو خبر. مثاله: والله إن قام زيد لأقومن، وإن قام زيد والله أقم. وإذا أغنى جواب القسم عن جواب الشرط لزم أن يكون جواب القسم مستقبلاً؛ لأنه مغن عن مستقبل ودال عليه، ولزم أن يكون فعل الشرط بصيغة الماضي او منفياً بلم؛ لما تقرر من ان جواب الشرط لا يحذف إلا إذا كان فعل الشرط علي ما ذكر، فلا يجوز أن تقول: والله إن يقم زيد لأقومن، ولا: والله إلا يقم زيد لأقومن، ولا: والله إن قام زيد لقمت، إلا أن يكون الماضي وقع موقع المستقبل، نحو قوله تعالى: {وَلَئِنْ أَرْسَلْنَا رِيحًا فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا لَظَلُّوا}، أي: ليظلن. وإذا تقدم علي القسم وحده ما يطلب خبراً أو ما يطلب صلة جاز أن يبنى ما بعده علي طالب الخبر وطالب الصلة؛ وجاز أن يبنى علي القسم، ففي الأول يكون جواب القسم محذوفاً لدلالة الخبر والصلة عليه، وفي الثاني يكون الخبر والصلة القسم وجوابه. مثال ذلك: زيد والله يقوم، وجاءني الذي والله يقوم، وزيد والله ليقومن، وجاءني الذي والله ليقومن. وقوله وقد يغني حينئذ جواب الأداة مسبوقة بالقسم هذا هو قوله هناك: "وربنا استغني بجواب الشرط عن جواب قسم". قال المصنف في الشرح: "ولا يمتنع الاستغناء بجواب الشرط مع تأخره، ومن شواهد ذلك قول الفرزدق:

لئن بل لي أرضي بلال بدفعة ... من الغيث في يمنى يديه انسكابها أكن كالذي صاب الحيا أرضه التي ... سقاها، وقد كانت جديبا جنابها ومنها قول ذي الرمة:/ لئن كانت الدنيا علي كما أرى ... تبارح من مي فللموت أروح ومنها قول الأعشى: لئن منيت بنا عن غب معركةٍ ... لا تلفنا عن دماء القوم ننتفل" انتهى. وهذا الذي اجازه المصنف هو مذهب الفراء، وقد منعه اصحابنا والجمهور، وقالوا: لا يجوز جعل الفعل جواباً للشرط المتوسط بينه وبين القسم. قالوا: فأما قول الأعشى: لئن منيت بنا. البيت، وقول امرأة فصيحة من بني عقيل: لئن كان ما حدثته اليوم صادقاً ... أصمم في نهار القيظ للشمس باديا وأركب حماراً بين سرج فروةٍ ... وأعر من الخيتام صغرى شماليا فاللام في "لئن" ينبغي أن تكون زائدة كالتي في قوله: .............................. ... ....................... أمسى لمجهودا وكالتي في قراءة سعيد بن جبير: {إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَاكُلُونَ الطَّعَامَ}، وكالتي في قوله:

طعامهم لئن أكلوا معن ... وما إن تحاك لهم ثياب وعلي ذلك حملها الفارسي. وأما قول الآخر: حلفت لها إن تدلجي الليل لا يزل ... أمامك بيت من بيوتي سائر فليس "حلفت" فيه قسماً كما ذهب إليه الفراء، بل هو خبر محض غير مراد به معنى القسم إذا تقدم علي الشرط بني الجواب عليه، ولم بين علي الشرط. وإنما لم يبن الجواب علي المتأخر منهما لأنك لو فعلت ذلك لكنت قد حذفت جواب الأول لدلالة الثاني علي؛ والباب في المحذوفات التي يفسرها اللفظ ألا يحذف منها شيء إلا لتقدم الدليل عليه. وقوله وقد يقرن القسم المؤخر بفاء، فيغني جوابه قال المصنف في الشرح: "فيجب الاستغناء بجوابه؛ لأن الفاء تقتضي الاستئناف وعدم تأثر ما بعدها بما قبلها، ومنه قول قيس بن العيزارة: فإما أعش حتى أدب علي العصا ... فوالله أنسى ليلتي بالمسالم وأجاز ابن السراج أن تنوى هذه الفاء، فيعطى القسم المؤخر بنيتها ما أعطي بلفظها، فأجاز أن يقال: إن تقم يعلم الله لأزورنك، علي تقدير: فيعلم الله لأزورنك، ولم يذكر عليه شاهداً، فلو لم تنو الفاء لألغي القسم، فقيل: إن تقم يعلم الله أزرك" انتهى.

وقول المصنف "فيغني جوابه" وقوله في الشرح "فيجب الاستغناء بجوابه" يدل علي أن للشرط جواباً محذوفاً؛ أغنى عنه جواب القسم. وليس كذلك، بل الجملة القسمية هي نفس جواب الشرط، ولذلك دخلت الفاء، ولم يغني عنه جواب الشرط لأنه مصرح به، فكيف يقال إنه يغني عنه جواب الشرط، وذلك أن جواب الشرط قد يكون بالقسم، /نحو: إن تجئني فو الله لأكرمنك، فلذلك لزمت الفاء؛ لأنها تلزم كل جواب لا يمكن أن تباشره أداة الشرط. وأما تجويز ابن السراج حذفها فينبغي ألا يجوز؛ لأن حذف فاء جواب الشرط لا يجوز غلا في الضرورة، نحو قوله: من يفعل الحسنات الله يشكرها ............................................ وقوله وتقرن أداة الشرط إلي قوله إلا قليلاً أداة الشرط أعم من أن تكون إن أو غيرها، إلا أن قرنها بإن كثير، قال تعالى: {لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا}، {لَئِنْ أُخْرِجُوا لا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ}. ومثال رزقت ليأتينك سيبه ... جلبا، وليس إليك ما لم ترزق وقول الآخر:

لمتى صلحت ليقضين لك صالح ... ولتجزين إذا جزيت جميلا وعلي ذلك حمل المصنف وغيرها تعالى {النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ}. وقوله المسبوقة أي: بقسم ملفوظ به أو مقدر، فالملفوظ به {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ}، والمقدر {لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ} الآية. وقوله تسمى الموطئة أي: وطأت الجواب للقسم المذكور قبلها أو المنوي، وتسمى أيضاً المؤذنة، أي: آذنت بالقسم. وقوله ولا تحذف والقسم محذوف إلا قليلاً وقال س: "فلابد من هذه اللام مظهرة او مضرة". وقال أصحابنا: أنت بالخيار في إدخال هذه اللام علي الأداة. ومن حذفها قوله تعالى: {وَإِنْ لَمْ يَنتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ}، {وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ}، {وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنّ}، وقال الشاعر: فإن لم تغير بعض ما قد صنعتم ... لانتحين العظم ذو أنا عارقه لم يقل: فلئن.

وقد شبه بعضهم إذ يإن، فأدخل عليها هذه اللام، قال: غضبت علي وقد شربت بجزةٍ فلإذ غضبت لأشربن بخروف وهذه اللام زائدة للتأكيد، وموطئة لدخول اللام علي الجواب، ودالة على القسم إذا حذف، وليست التي يتلقى بها القسم، هذا مذهب البصريين. وزعم الفراء أن هذه اللام لما دخلت علي الشرط أجيبت بجواب القسم. واستدل لمذهب البصريين بجواز إسقاطها، وبرفع الفعل بعدها في نحو قول كثير: لئن عاد لي عبد العزيز بمثلها ... وأمكنني منها إذا لا أقيلها فرفع أقيلها يدل علي اعتماد القسم عليه، ولو كانت لام لئن هي جواب القسم لانجزم: لا أقيلها، كما تقول: إن تقم إذا لا أقم. وقال بعض أصحابنا: "ومما يدل للبصريين أن الفعل الواقع جواباً للقسم المحذوف إذا كان منفياً لم يجز حذفها إذ ذاك؛ لأنها لو حذفت /لم يكن في اللفظ ما يدل علي القسم المحذوف، فإذا وجد من كلام العرب (إن قام زيد لا يقوم عمرو) لم يحمل علي القسم، بل لابد من إدخال اللام علي أداة الشرط إذا أريد به معنى القسم، كما جاء في بيت كثير، وقوله تعالى: {لَئِنْ أُخْرِجُوا لا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لا يَنْصُرُونَهُمْ} " انتهى. وينبغي أن يقيد قول المصنف "ولا تحذف والقسم محذوف إلا قليلاً" بهذه المسألة السابقة؛ إذ يجب إثباتها، وذلك إذا كان الفعل الواقع جواباً منفياً بـ"لا".

وقوله وقد يجاء بلئن إلي أخره: مثال ذلك قول عمر بن أبي ربيعة: ألمم بزينب، إن البين قد أفدا ... قل الثواء لئن كان الرحيل غذا وقول الآخر: فلا يدعني قومي صريحاً لحرة ... لئن كنت مقتولاً ويسلم عامر اللام في لئن زائدة، وما قبل لئن دليل علي جواب الشرط المحذوف. -[ص: لا يتقدم علي جواب قسم معموله إلا إن كان ظرفا أو جاراً ومجروراً. ويستغنى للدليل كثيراً بالجواب عن القسم، وعن الجواب بمعموله أو بقسم مسبوق ببعض حروف الإجابة، والأصح كون "جير" منها، لا اسماً بمعنى حقاً، وقد تفتح راؤها، وربما أغنت هي و "لا جرم" عن لفظ القسم مراداً، وقد يجاب ب"جير" دون إرادة قسم.]- ش: قال المصنف في الشرح: "إن تعلق بجواب القسم جار ومجرور أو ظرف جاز تقديمه عليه، كقوله {عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نَادِمِينَ}، وكقول الشاعر: رضيعي لبنا ثدي ام، تحالفا بأسحم داجٍ عوض لا نتفرق فغن تعلق به مفعول لم يجز تقديمه، فلا يجوز في والله لأضربن زيداً: والله زيداً لأضربن" انتهى. وقد أطلق المصنف في جواب القسم، وجواب القسم إن كان ب "ما" أو ب "إن" فلا يجوز أن يتقدم المعمول عليهما، فإذا قلت: والله ما يقوم زيد الآن، أو في

البيت أو: والله إن زيداً قائم الآن، او في البيت- لم يجز تقدم "الآن" ولا "في البيت" علي "ما يقوم"، ولا علي "إن زيداً قائم". وإن كان ب "لا" داخلة علي الموضوع ففي المسألة خلاف: منهم من أجاز تقديم المعمول مطلقاً من ظرف ومجرور ومفعول عليه. ومنهم من منع ذلك مطلقاً، وهو الصحيح. و'ن كان باللام داخلة علي جملة اسمية فلا يجوز التقديم أيضاً مطلقاً. هذا نص أصحابنا. وإن كان ما دخلت عليه اللام مضارعاً فالنص من أصحابنا انه لا يجوز مطلقاً. وأجاز هذا المصنف ذلك، ومثل به في قوله: {عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نَادِمِينَ}. وفي "البسيط": "وهذه اللام لا يعمل ما بعدها فيما قبلها، /وقد أجازه الفراء وابو عبيدة، ومنه قوله تعالى {فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ} {لَأَمْلأَنّ}، جوزوا في الاول أن يكون منصوباً ب {لَأَمْلأَنّ}، كأنه قال: لأملأن حقاً. والصواب انه منصوب بفعل القسم، أما اللام فهي لام الجواب، وليست لام الابتداء" انتهى. وقوله ويستغنى للدليل كثيراً بالجواب عن القسم قال المصنف في الشرح: "كوقوعه بعد (لقج)، أو بعد (لئن)، أو مصاحباً بلام مفتوحة نون توكيد" انتهى. ووجدت بخطي أن ذلك لا يجوز إلا بشرط أن يكون الجواب باللام أو بإن،

فليس يحذف القسم إذا كان متلقى بحرف غيرهما، ك "ما" و "لا" و "إن". وقد اختلف في نحو قولك "لزيد منطلق" من غير قسم في اللفظ: فالمنقول عن البصريين أنها ليست لام قسم بل لام ابتداء. وقال الكوفيون: هي لام قسم. قالوا: والدليل عليه أنها تدخل علي الفضلات، كقولك: لطعامك زيد آكل، وليس الطعام بمبتدأ. وحجة البصريين أن اللام إذا دخلت علي مفعول ظننت ارتفع بالابتداء، ولا يمكن تقدير القسم فيه لأن ظننت لا يلغى بالقسم، فعلم ان تعليق ظننت لتحقق الابتداء كما تعلق بالاستفهام، كقولك: علمت أيهم قائم، وأما قولهم لطعامك زيد آكل فإنما جاز لأنها في حيز الخبر؛ إذ كان معموله متقدماً عليه، فكأنها داخلة علي المبتدأ. وقوله وعن الجواب بمعموله قال المصنف في الشرح: "ويستغنى عن الجواب بمعموله، كقوله تعالى: {يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ}، أي: لتبعثن يوم ترجف الراجفة" انتهى. ولا يتعين ما قاله في الآية، ولا يثبت هذا الحكم بمحتمل؛ إذ يجوز أن يكون جواب {وَالنَّازِعَاتِ}، قوله: لتبعثن، حذف لدلالة ما بعده عليه، ولا يكون {يَوْمَ تَرْجُفُ} معمولاً لقوله لتبعثن، حذف لدلالة ما بعده عليه، ولا يكون {يَوْمَ تَرْجُفُ} معمولاً لقوله لتبعثن، بل منصوباً بقوله {تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ}. ويجوز أن يكون منصوباً بقوله {وَاجِفَةٌ} من قوله {قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ}، وكرر {يَوْمَئِذٍ} علي سبيل التوكيد. ويحتمل أن يكون جواب القسم قوله {قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ}، وحذف اللام لطول الكلام، أي: والنازعات لقلوب يومئذ واجفة، ويكون {يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ} {6} {تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ} اعتراضاً بين القسم وجوابه. ويجوز أن يكون معمولاً ل {وَاجِفَةٌ}، وسهل تقديمه كونه ظريفاً، وكون اللام التي هي في الجواب محذوفة.

وقوله أو بقسم مسبوق ببعض حروف الإجابة قال المصنف في الشرح: "وهي: بلى، ولا، ونعم، ومرادفاتها: إي وإن واجل وجير، كقوله تعالى: {أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا}، وكقولك لمن قال: أتفعل كذا؟ لا والله، ونعم والله، وإي والله، وإن والله، وأجل والله، وجير والله" انتهى. وتقدم لنا ذكر الخلاف في "إن"، هل تكون من حروف الإجابة، في شرح أول الفصل الثالث من "باب الأحرف الناصية الاسم الرافعة الخبر". /وظاهر كلام المصنف أنه يستغنى عن الجواب بأحد هذين، إما بالمعمول أو بقسم مسبوق ببعض حروف الإجابة. والضابط انه لا يستغنى عنه إلا إذا وقع القسم بين متلازمين، كالشرط وجزائه، والمبتدأ وخبره، والموصول وصلته، وما أشبه ذلك، أو عقب كلام يدل عليه. وقوله والأصح كون جير منها لا اسماً بمعنى حقاً، وقد تفتح راؤها قال المصنف في الشرح: "زعم قوم أن جير اسم بمعنى حقاً. والصحيح أنها حرف بمعنى نعم؛ لأن كل موضع وقعت فيه جير يصلح أن توقع فيه نعم، وليس كل موضع وقعت فيه يصلح أن توقع فيه حقاً، فإلحاقها بنعم أولى. وأيضاً فإنها أشبه بنعم الاستعمال، ولذلك بنيت، ولو وافقت حقاً في الاسمية لأعربت، ولجاز أن تصحبها الألف واللام، كما أن حقاً كذلك، ولو لم تكن بمعنى نعم لم يعطف عليها في قول بعض الطائيين: أبي كرماً، لا آلفا جير أو نعم ... بأحسن إيفاء، وأنجز موعد

ولا أكدت "نعم" بها في قول طفيل الغنوي: وقلن علي البردي أول مشرب ... نعم، جير، إن كانت رواء أسافله ولا قوبل بها (لا) في قول الراجز: إذا يقول (لا) أبو العجير ... يصدق، لا إذا يقول (جير) فهذا تقابل ظاهر، ومثله في التقدير قول الكميت: يرجون عفوي، ولا يخشون بادرتي ... لا جير لا جير، والغربان لم تشب أراد: لا يثبت مرجوهم، نعم تلحقهم بادرتي. وقريب منه اجتماع (أجل) و (لا) في قول ذي الرمة: تري سيفه لا ينصف الساق نعله ... (أجل) (لا)، ولو كانت طوالا محامله" انتهى. وكان قد شنع علي الزمخشري في قوله "ومن الناس" بأنه جهل من هو قائل ذلك، وهوس، فيقال له: وأنت أيضاً جهلت من قال فيها "إنها اسم"- وهو س- بقولك: "وزعم قوم". وقد استدل علي أنها اسم بتنوينها.

قال الأستاذ أبو علي: "ويمكن أن يكون التنوين في جير في البيت جاء شاذاً كمجيء التنوين في اسم الفعل في الخبر في قولهم: فداء لك، بكسر الهمزة. وأيضاً فيمكن أن يكون من تنوين الترنم الذي يلحق القوافي عوضاً من ياء، ولابد منها في الوزن". وقال بعض أصحابنا: "وأما عوض وجير فمبنيان، حذف منهما حرف القسم، فيجوز أن يحكم علي مواضعهما بالنصب بإضمار فعلٍ، أو بالرفع علي الابتداء أو علي خبر ابتداء مضمر، قياساً علي نظائرهما من الأسماء المحذوف منها حرف القسم. /وما ذكره الزجاجي من أن عوض تستعمل في القسم مذهب كوفي، والبصريون لا يعرفون القسم به" انتهى. ومما لخصته من كتاب "الملخص": "يعوض من القسم (عوض) اسم دهر مبنياً علي الضم لقطعه عن الإضافة، أو علي الفتح لأنه اخف، كحيث، ولا يقال: عوض والله لأفعلن، وإن جاء فقليل إذ هو الأصل، وفيه الجمع بين العوض والمعوض منه. و (جير)، وليست حرفاً بمعنى نعم لتنوينها، خلافاً لزاعمه. وقيل: مصدر، والمعنى: حقاً لأفعلن. وبنيت لقلة تمكنها؛ لأنها لآ تستعمل إلا في القسم، بخلاف سبحان؛ لأنها لا تخص باب التعظيم، قد توجد تعجباً وإنكاراً.

وقيل: اسم فعل، وبنيت لأنه الأصل علي الكسر، علي أصل التقاء الساكنين. وقيل: ظرف، وبني لقلة تمكنه، وكأنه قال: لا أفعل هذا أبداً، وتكون بمنزلة عوض. وهذه الأقوال [الثلاثة] تتقارب، والأول يبعد لأن تنوينها للتنكير، وهو لا يوجد إلا في الصوت واسم الفعل، فيغلب علي الظن أنها اسم فعل" انتهى. والذي يظهر أنها من حروف الإجابة للدلائل التي استدل بها المصنف. وقوله وربما أغنت هي و "لا جرم" عن لفظ القسم مراداً مثال الاستغناء ب "جير" قول الشاعر: قالوا: قهرت، فقلت: جير ليعلمن ... عما قليل أينا المقهور وحكي الفراء أن العرب تقول: لا جرم لآتينك، ولا جرم لقد أحسنت. يريد أنهم يستغنون بها عن القسم قاصدين بها معنى حقاً، وقد صرح بعض الأعراب بالقسم مع: لا جرم، قال لمرداس: لا جرم والله لا فارقتك. فاما قوله تعالى {لا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ}، ف (لا) عند الخليل وسرد، و (جرم) فعل، فاعله أن وما بعدها. وقال الكوفيون: لا: نافية، وجرم: اسم لا، وأن علي تقدير من.

وقوله وقد يجاب ب"جير" دون إرادة قسم قال الشاعر: وقائلة: أسيت، فقلت: جير ... أسي، إنني من ذاك إنه يجاب بها كما يجاب بأخواتها إلا "إي"، فلا يعلم استعمالها إلا مع قسم. مسألة: قالت العرب: لا ها الله ذا، فالخليل يجعل ذا من جملة ما أقسم عليه، والتقدير: للأمر ذا. والاخفش يجعله توكيداً للقسم، كانه قال: ذا قسمي. ويدل علي صحة هذا القول ذكر المقسم عليه بعد "ذا"، فيقولون: لا ها الله ذا ما كان كذا، وإتيانهم بعده بالمقسم عليه نفياً، ولو كان هو المقسم عليه لم يكن مطابقاً، وأنشد س: تعلمن ها- لعمر الله- ذا قسماً ... فاقدر بذرعك، وانظر أين تنسلك أي: لعمر الله للأمر ذا أقسم قسماً، فتأكيد القسم بعده يدل علي انه المحلوف عليه. /وقال الأستاذ أبو علي: "وأما قولهم (ذا) فزعم غير الخليل أنها من جملة ما أكد المقسم به، أي: هذا ما أقسم به، فإن جاء بعده جواب صح هذا القول، وإن لم يجيء عنهم أصلاً صح قول الخليل. وتلخيصه ان أصل الكلام: إي والله للأمر هذا، ثم حذف حرف القسم،

وقدمت "ها" من "هذا" كما قدمت في: ها أنا ذا، وحذفت لام القسم مع المبتدأ وإن كانت لا تحذف وحدها، وهذا له نظائر لحذف الشيء الذي لا يجوز حذفه مفرداً إذا حذف معه ما يسوغ حذفه، نحو قوله تعالى: {فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ}، هذا مذهب الخليل". انتهى. وقال أبو عمرو بن تقي: جعلها الخليل إشارة إلي المحلوف عليه، وهو الجواب، أشار إليه قبل ذكره لأنه أمر وشأن. وجعلها الأخفش إشارة إلي المقسم به؛ لأن موضع الإشارة إنما هو الأسماء لا الجمل. وقال أبو عمرو بن تقي: جعلها الخليل إشارة إلي المحلوف عليه، وهو الجواب، أشار إليه قبل ذكره لأنه امر وشأن. وجعلها الأخفش إشارة إلي المقسم به؛ لأن موضع الإشارة إنما هو الأسماء لا الجمل. وقال السيرافي: " وأبو الحسن يجعل ذا هو المحلوف به، وهو من جملة القسم، والتقدير عنده: ها الله ذا قسمي. قال: والدليل علي ذلك أنهم يقولون: ها الله ذا لقد كان كذا، وها الله ذا لتفعلن". وقال الفارسي في "التذكرة": "الذي يعضد مذهب الخليل انه قد ورد: لا ها الله ذا، فهذا إن كانت فيه ذا كما قال أبو الحسن فسيكون كمن يقول (والله)، ولا يأتي بالمقسم عليه، وهذا لا يجوز، فتعين انه مقسم عليه، فأما (لا ها الله ذا لأفعلن) فعلى قسم آخر، كما يجوز أن تقول مبتذئاً: لأفعلن". انتهى. والذي أختاره مذهب الأخفش، ويدل عليه مجيء المقسم عليه بعده، وحمله علي إضمار قسم آخر خلاف الظاهر، وقال زهير: تعلمن ها لعمر الله ذا قسما .................................................... وجوابه قوله بعد ذلك: ليأتينك منى منطق قذع ........................................................

ووجه الدلالة أنه أكد مضمون الجملة القسمية- وهي: لعمر الله ذا- بقوله "قسما"، كما تقول: له علي دينار اعترافاً. وجاز ذلك بعد قوله "ذا"، فلو كان "ذا" من الجملة المقسم عليها لم يفصل بين جملة القسم ومصدره المؤكد به بالجملة المقسم عليها، فدل علي أن "ذا" إشارة إلي القسم وتوكيد له كما أكد بقوله قسماً. ويحققه الإتيان بجواب القسم بعده. وأما إن سمع "لا ها الله ذا" مقتصراً عليه فإنما ذلك من حذف الجملة المقسم عليها لدلالة معنى الكلام عليه؛ وعليه (لا ها الله ذا لا يعمد إلى أسد من أسد الله يقاتل في سبيل الله، فيعطي غيره سلبه)، وهو من كلام أبي بكر الصديق، فالظاهر أن "لا يعمد" هو الجواب. وقال الأعلم: "تقديره: لعمر الله هذا ما أقسم به". فاختار مذهب الأخفش. مسألة: إذا أخبرت عن قسم غيرك فلك أن تقول: أقسم زيد ليضربن عمراً، ولك أن تحكى فتقول: لأضربن. مسألة: {{وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى} {وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى} {وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالأُنْثَى} {إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى}، الواو في {وَالنَّهَارِ}، وفي {وَمَا خَلَقَ} - للعطف لا للقسم؛ إذ لو كانت للقسم لاحتاج كل قسم إلي جواب علي حدة، وكان كل قسم مستأنفاً منفصلاً مما قبله، ولما كان المقسم عليه واحداً لم يقو أن تقدر منه جواباً لكل قسم؛ لأن في ذلك من التكرار لغير فائدة ما لا خفاء به، وإنما أراد: وهذه الأشياء

جملة إن سعيكم لشتى. ولو نويت بها القسم مستأنفاً لكنت تأتي بواو العطف؛ ألا ترى أنك تقول: والله لأفعلن، ووالله لأفعلن، فإذا كانت واو قسم مستأنف لم تجيء بواو العطف قبل ذكر جواب الأول، وكما لا يجوز مررت بزيد بعمرو إلا بالتشريك فكذلك هذا؛ لأن المقسم عليه واحد، وغنما يجوز ترك التشريك في الجمل، نحو: زيد قام عمرو ذاهب، وإنما أقسم علي شيء واحد، فالكلام جملة واحدة. ودليل ما قال الخليل أن العرب لا تقول: تالله بالنبي لأفعلن كذا، فلا تأتي بقسم حتى توفي الأول جوابه، فتقول: تالله لأفعلن، بالكعبة لأفعلن. وقال الفارسي: "ليس هذا خلافاً ل"س"؛ لأنه قد أجازه في آخر الباب علي التأكيد، إلا أنه ضعيف" انتهى. وليس كما قال، إنما أجاز ذلك مع اتحاد حرف القسم والمقسم به، قال: التأكيد، إلا أنه ضعيف" انتهى. وليس كما قال، إنما أجاز ذلك مع اتحاد حرف القسم والمقسم به، قال: "ولو قال وحقك وحقك علي التوكيد جاز، وكانت الواو واو جر". وقال الأستاذ أبو علي: تلخيص كلام الخليل أنه لا يجتمع مقسم بهما إلا أن يكون الثاني هو الأول علي التوكيد؛ ودليله أنا إذا قلنا: وحقك وحق زيد لأفعلن كذا، إذا لم تجعل الواو عاطفة فهو يحتمل وجوهاً أربعة: الأول: أن تجعل "وحق زيد" توكيداً لجملة المقسم به. وهو فاسد؛ لأنه ليس /توكيداً لفظياً ولا معنوياً؛ إذ ليس لفظ الأول ولا معناه. والثاني: أن تجعله متعلقاً بمحذوف، والجملة توكيد لجملة المقسم به. وفيه

تأكيد الشيء قبل أن ييتم، ولا يؤكد الشيء، ولا يحمل عليه شيء من الأشياء إلا بعد استقلاله، والمؤكد هنا هو جملة القسم والجواب، فهما في هذا القصد كالمفرد بالتوكيد، وذلك لا يجوز. والثالث: أن تجعلهما جملتين منقطعتين، لكن جوابهما واحد. وهو واضح الفساد؛ إذ كل قسم لابد من جواب لأنهما منقطعان، إذ ليس الثاني تأكيداً للأول. والرابع: أن تقدرهما جملتين، ولكل واحد جواب، إلا أنه حذف جواب أحدهما، وأكدت بإحداهما الأخرى بعد أخذ الجواب. ولا يخلو في هذا الوجه أن تجعل جواب الأول هو المحذوف، والذي في اللفظ جواب الثاني، أو تعكس. فإن قدرت الأول ففيه مضعفان: حذف الأول لدلالة الثاني، وليس مطرداً، فإنه كالإضمار، فليس إلا في نحو أبواب الاشتغال، وبالجملة فهو لا ينبغي؛ إذ لا يحذف الشيء حتى يكون قد علم. والمضعف الثاني التأكيد مع الحذف، وهما متناقضان. فقد امتنع أن تكون الواو هنا واو قسم علي الوجوه الثلاثة من كل وجه، وعلي الرابع يضعف، ويكون شاذاً، فلم يبق إلا العطف. ولهذا الرابع تعرض الخليل أن يتكلم عليه، وضعفه، فتدبره؛ لأن الآخر بين الفساد. انتهى، وفيه بعض تلخيص. مسالة: الاستحلاف يجري مجرى اليمين إلا فيما يذكر، ففاعل الفعل في الجواب علي حسب الفاعل في غيبة وخطاب وتكلم، نحو: والله ليقومن زيد، والله لتقومن، والله لأقومن. وفي الاستحلاف يجوز: أستحلفه ليفعلن، ولأفعلن، هذا في الغائب، واستحلفتك لتفعلن، ولأفعلن، في المخاطب

تم بحمد الله- تعالى- وتوفيقه الجزء الحادي عشر من كتاب "التذييل والتكميل" بتقسيم محققه، ويليه- إن شاء الله تعالى- الجزء الثاني عشر، وأوله: "باب الإضافة"

§1/1