التذكرة بأحوال الموتى وأمور الآخرة

القرطبي، شمس الدين

باب النهي عن تمني الموت والدعاء به لضر نزل في المال والجسد

باب النهي عن تمني الموت والدعاء به لضر نزل في المال والجسد روى مسلم «عن أنس قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لا يتمنين أحدكم الموت لضر نزل به، فإن كان لا بد متمنياً فليقل: اللهم أحيني ما كانت الحياة خيراً لي وتوفني إذا كانت الوفاة خيراً لي» أخرجه البخاري، وعنه قال: «قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لا يتمنين أحدكم الموت ولا يدع به

من قبل أن يأتيه، إنه إذا مات أحدكم انقطع عمله، وإنه لا يزيد المؤمن عمره إلا خيراً» . وقال البخاري: لا يتمنين أحدكم الموت: إما محسناً فلعله أن يزداد خيراً، وإما مسيئاً فلعله أن يستعتب. البزار «عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لا تمنوا الموت فإن هول المطلع شديد، وإن من السعادة أن يطول عمر العبد حتى يرزقه الله الإنابة» . فصل: قال العلماء: الموت ليس بعدم محض ولا فناء صرف وإنما

هو انقطاع تعلق الروح بالبدن ومفارقته وحيلولة بينهما، وتبدل حال وانتقال من دار إلى دار، وهو من أعظم المصائب، وقد سماه الله تعالى مصيبة، وفي قوله {فأصابتكم مصيبة الموت} فالموت هو المصيبة العظمى والرزية الكبرى. قال علماؤنا: وأعظم منه الغفلة عنه، والإعراض عن ذكره، وقلة التفكر فيه، وترك العمل له، وإن فيه وحده لعبرة لمن اعتبر وفكرة لمن تفكر، وفي خبر يروى عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لو أن البهائم تعلم من الموت ما تعلمون ما أكلت منها سميناً» . ويروى أن إعرابياً كان يسير على جمل له فخر الجمل ميتاً، فنزل الأعرابي عنه وجعل يطوف به ويتفكر فيه ويقول: مالك لا تقوم؟ مالك لا تنبعث، هذه أعضاؤك كاملة وجوارحك سالمة. ما شأنك؟ ما الذي كان يحملك؟ ما الذي كان يبعثك؟ ما الذي صرعك؟ ما الذي عن الحركة منعك؟ ثم تركه وانصرف متفكراً في شأنه. متعجباً من أمره.

وأنشدوا في بعض الشجعان مات حتف أنفه: جائته من قبل المنون إشارةً ... فهوى صريعاً لليدين وللفم ورمى بمحكم درعه وبرمحه ... وامتد ملقىً كالفتيق الأعظم لا يستجيب لصارخ إن يدعه ... أبداً ولا يرجى لخطب معظم ذهبت بسالته ومر غرامه ... لما رأى حبل المنية يرتمي يا ويحه من فارس ما باله ... ذهبت مروته ولما يكلم هذي يداه وهذه أعضاؤه ... ما منه من عضو غداً بمثلم هيهات ما حبل الردى محتاجة ... للمشرفي ولا اللسان اللهذم هي ويحكم أمر الإله وحكمه ... والله يقضي بالقضاء المحكم يا حسرتا لو كان يقدر قدرها ... ومصيبة عظمت ولما تعظم

خبر علمنا كلنا بمكانه ... وكأننا في حالنا لم نعلم وروى الترمذي الحكيم أبو عبد الله في نوادر الأصول. حدثنا قتيبة بن سعيد والخطيب بن سالم. عن عبد العزيز الماجشون. عن محمد بن المنكدر قال: مات ابن لآدم عليه السلام فقال يا حواء قد مات ابنك. فقالت: وما الموت؟ قال: لا يأكل ولا يشرب. ولا يقوم ولا يقعد. فرنت. فقال آدم عليه السلام: عليك الرنة وعلى بناتك أنا وبني منها برآء. فصل: قوله: فلعله أن يستعتب. الاستعتاب طلب العتبى. وهو الرضى وذلك لا يحصل إلا بالتوبة والرجوع عن الذنوب.

قال الجوهري: استعتب: طلب أن يعتب تقول: استعتبته فأعتبني. أي استرضيته. فأرضاني. وفي التنزيل في حق الكافرين {وإن يستعتبوا فما هم من المعتبين} وروى عن سهل بن عبد الله التستري أنه قال: لا يتمنى أحدكم الموت إلا ثلاثة: رجل جاهد بما بعد الموت أو رجل يفر من أقدار الله تعالى عليه. أو مشتاق محب للقاء الله عز وجل. وروي أن ملك الموت عليه السلام جاء إلى إبراهيم عليه السلام خليل الرحمن عز وجل ليقبض روحه. فقال إبراهيم: يا ملك الموت هل رأيت خليلاً يقبض روح خليله؟ فعرج ملك الموت عليه السلام إلى ربه فقال قل له: هل رأيت خليلاً يكره لقاء خليله؟ فرجع فقال اقبض روحي الساعة. وقال أبو الدرداء رضي الله عنه: ما من مؤمن إلا والموت خير له فمن لم يصدقني فأن الله تعالى يقول: {وما عند الله خير للأبرار} وقال تعالى {ولا يحسبن الذين كفروا أنما نملي لهم خير لأنفسهم}

باب جواز تمني الموت والدعاء به خوف ذهاب الدين

وقال حيان بن الأسود: الموت جسر يوصل الحبيب إلى الحبيب. باب جواز تمني الموت والدعاء به خوف ذهاب الدين قال الله عز وجل مخبراً عن يوسف عليه السلام: {توفني مسلماً وألحقني بالصالحين} وعن مريم عليها السلام في قولها: {يا ليتني مت قبل هذا وكنت نسياً منسيا} «وعن مالك عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لا تقوم الساعة حتى يمر حتى بقبر الرجل فيقول فيقول: يا ليتني مكانه» . فصل: قلت: لا تعارض بين هذه الترجمة والتي قبلها لما نبينه.

أما يوسف عليه السلام. فقال قتادة: لم يتمن الموت أحد: نبي ولا غيره إلا يوسف عليه السلام حين تكاملت عليه النعم وجمع له الشمل: اشتاق إلى لقاء ربه عز وجل فقال: {رب قد آتيتني من الملك وعلمتني} الآية. فاشتاق إلى لقاء ربه عز وجل، وقيل إن يوسف عليه السلام لم يتمن الموت وإنما تمنى الموافاة على الإسلام. أي إذا جاء أجلي تو فني مسلماً. وهذا هو القول المختار في تأويل الآية عند أهل التأويل. والله أعلم. وأما مريم عليها السلام فإنما تمنت الموت لوجهين: أحدهما: أنها خافت أن يظن بها السوء في دينها وتعير، فيفتنها ذلك. الثاني: لئلا يقع قوم بسببها في البهتان والزور، والنسبة إلى الزنا،

وذلك مهلك لهم. والله أعلم. وقد قال الله تعالى عز وجل في حق من افترى على عائشة رضي الله عنها {والذي تولى كبره منهم له عذاب عظيم} وقال: {وتحسبونه هيناً وهو عند الله عظيم} وقد اختلف في مريم عليها السلام: هل هي صديقة لقوله تعالى: {وأمه صديقة} أو نبية لقوله تعالى: {فأرسلنا إليها روحنا} . وقوله: {إذ قالت الملائكة يا مريم إن الله اصطفاك} الآية. وعليه فيكون الافتراء عليها عظيم أعظم والبهتان في حقها أشد. وفيه يكون الهلاك حقاً. فعلى هذا الحد الذي ذكرناه من التأويلين يكون تمني الموت في حقها جائز، والله أعلم. وأما الحديث فإنما هو خبر: أن ذلك سيكون لشدة ما ينزل بالناس، من فساد الحال في الدين، وضعفه وخوف ذهابه، لا لضر ينزل بالمرء في جسمه أو غير ذلك، من ذهاب ماله مما يحط به عنه خطاياه. ومما يوضح هذا المعنى ويبينه قوله عليه السلام: «اللهم إني أسألك فعل الخيرات وترك المنكرات وحب المساكين وإذا أردت ـ ويروى أدرت ـ في الناس فتنة فاقبضني إليك غير مفتون» . رواه مالك ومثل هذا قول عمر رضي الله عنه:

اللهم قد ضعفت قوتي وكبرت سني وانتشرت رعيتي فاقبضني إليك غير مضيع ولا مقصر فما جاوز ذلك الشهر حتى قبض رحمه الله. رواه مالك أيضاً. وذكر أبو عمر بن عبد البر في التمهيد والاستذكار من حديث زاذان أبي عمر عن عليم الكندي قال: كنت جالساً مع أبي العباس الغفاري

باب ذكر الموت والاستعداد له

على سطح فرأى ناساً يتحملون من الطاعون فقال: يا طاعون خذني إليك يقولها ثلاثاً فقال عليم: لم تقول هذا؟ ألم يقل رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يتمنين أحدكم الموت فإنه عند ذلك انقطاع عمله ولا يرد فيسعتب» فقال أبو عباس: «أنا سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: بادروا بالموت ستا: إمرة السفهاء، وكثرة الشرط، وبيع الحكم، واستخفافاً بالدم، وقطيعة الرحم، ونشئاً يتخذون القرآن مزامير، يقدمون الرجل ليغنيهم بالقرآن وإن كان أقلهم فقهاً» . وسيأتي لهذا مزيد بيان في الفتن ـ إن شاء الله تعالى. باب ذكر الموت والاستعداد له النسائي «عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أكثروا ذكر هادم اللذات» يعني الموت. أخرجه ابن ماجه والترمذي أيضاً.

وخرجه أبو نعيم الحافظ بإسناده من حديث مالك بن أنس «عن يحيى بن سعيد بن المسيب عن عمر بن الخطاب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أكثروا من ذكر هادم اللذات قلنا يا رسول الله: وما هادم اللذات؟ قال: الموت» . ابن ماجه «عن ابن عمر قال: كنت جالساً مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاء رجل من الأنصاري فسلم على النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله: أي المؤمنين أفضل؟ قال: أحسنهم خلقاً قال: فأي المسلمين أكيس؟ قال: أكثرهم للموت ذكراً وأحسنهم لما بعدهم استعداداً أولئك الأكياس» أخرجه مالك أيضاً. وسيأتي في الفتن ـ إن شاء الله تعالى. الترمذي «عن شداد بن أوس قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: الكيس من دان نفسه، وعمل لما بعد الموت. والعاجز من أتبع نفسه هواها، وتمنى على الله» . وروي عن أنس قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أكثروا ذكر الموت. فإنه يمحص الذنوب، ويزهد في الدنيا»

وروي عنه عليه السلام أنه قال: «كفى بالموت واعظاً وكفى بالموت مفرقاً» . وقيل له يا رسول الله: «هل يحشر مع الشهداء أحد؟ قال: نعم، من يذكر الموت في اليوم والليلة عشرين مرة» . وقال السدي في قوله تعالى: {الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملاً} أي أكثركم للموت ذكراً، وله أحسن استعداداً ومنه أشد خوفاً وحذراً. فصل: قال علماؤنا رحمة الله عليهم. «قوله عليه السلام: أكثروا ذكر هادم اللذات الموت» كلام مختصر وجيز قد جمع التذكرة وأبلغ في الموعظة فإن من ذكر الموت حقيقة ذكره نغص عليه لذته الحاضرة، ومنعه من تمنيها في المستقبل وزهده فيما كان منها يؤمل، ولكن النفوس الراكدة، والقلوب الغافلة تحتاج إلى تطويل الوعاظ، وتزويق الألفاظ، وإلا ففي قوله عليه الصلاة والسلام: «أكثروا ذكر هادم اللذات» مع قوله تعالى: {كل نفس ذائقة الموت}

ما يكفي السامع له، ويشغل الناظر فيه وكان أمير المؤمنين عمر بن الخطاب كثيراً ما يتمثل بهذه الأبيات: لا شيء مما ترى تبقى بشاشته ... يبقى الإله ويودي المال والولد لم تغن عن هرمز يوماً خزائنه ... والخلد قد حاولت عاد فما خلدوا ولا سليمان إذ تجري الرياح له ... والإنس والجن فيما بينها ترد أين الملوك التي كانت لعزتها ... من كل أوب إليها وافد يفد؟ حوض هنالك مورود بلا كذب ... لا بد من ورده يوماً كما وردوا فصل: إذ ثبت ما ذكرناه. فاعلم أن ذكر الموت يورث استشعار الانزعاج عن هذه الدار الفانية، والتوجه في كل لحظة إلى الدار الآخرة الباقية، ثم إن الإنسان لا ينفك عن حالتي ضيق وسعة، ونعمة ومحنة، فإن كان في حال ضيق ومحنة. فذكر الموت يسهل عليه بعض ما هو فيه، فإنه لا يدوم. والموت أصعب منه، أو في حال نعمة وسعة فذكر الموت يمنعه من

الاغترار بها، والسكون إليها، لقطعه عنها. ولقد أحسن من قال: اذكر الموت هادم اللذات ... وتجهز لمصرع سوف يأتي وقال غيره: واذكر الموت تجد راحة ... في إذكار الموت تقصير الآمل وأجمعت الأمة على أن الموت ليس له سن معلوم، ولا زمن معلوم، ولا مرض معلوم. وذلك ليكون المرء على أهبة من ذلك، مستعداً لذلك. وكان بعض الصالحين ينادي بليل على سور المدينة: الرحيل. الرحيل. فلما توفي فقد صوته أمير المدينة فسأل عنه. فقيل: إنه قد مات فقال: ما زال يلهج بالرحيل وذكره ... حتى أناخ ببابه الجمال فأصابه متيقظاً متشمراً ... ذا أهبة لم تلهه الآمال وكان يزيد الرقاشي يقول لنفسه: ويحك يا يزيد، من ذا يترضى عنك ربك الموت؟ ثم يقول: أيها الناس ألا تبكون وتنوحون على أنفسكم باقي حياتكم؟ من الموت طالبه والقبر بيته. والتراب فراشه. والدود أنيسه. وهو

مع هذا ينتظر الفزع الأكبر يكون حاله؟ ثم يبكي حتى يسقط مغشياً عليه. وقال التيمي: شيئان قطعا عني لذة الدنيا: ذكر الموت. وذكر الموقف بين يدي الله تعالى. وكان عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه يجمع العلماء فيتذاكرون الموت، والقيامة، والآخرة، فيبكون حتى كأن بين أيديهم جنازة. وقال أبو نعيم: كان الثوري إذا ذكر الموت لا ينتفع به أياماً. فإن سئل عن شيء قال: لا أدري لا أدري.

وقال أسباط: ذكر عند النبي صلى الله عليه وسلم رجل فأثنى عليه فقال عليه السلام: «كيف ذكره للموت؟ فلم يذكر ذلك عنه. فقال: ما هو كما تقولون» . وقال الدقاق: من أكثر من ذكر الموت أكرم بثلاثة أشياء: تعجيل التوبة وقناعة القلب، ونشاط العبادة. ومن نسي الموت عوقب بثلاثة أشياء: تسويف التوبة، وترك الرضى بالكفاف، والتكاسل في العبادة، فتفكر يا مغرور في الموت وسكرته، وصعوبة كأسه ومرارته، فيما للموت من وعد ما أصدقه، ومن حاكم ما أعدله، كفى بالموت مقرحاً للقلوب، ومبكياً للعيون، ومفرقاً للجماعات، وهادماً للذات، وقاطعاً للأمنيات، فهل تفكرت يا ابن آدم في يوم مصرعك، وانتقالك من موضعك، وإذا نقلت من سعة إلى ضيق، وخانك الصاحب والرفيق، وهجرك الأخ والصديق، وأخذت من فراشك وغطائك إلى عرر، وغطوك من بعد لين لحافك بتراب ومدر، فيا جامع المال، والمجتهد في البنيان ليس لك والله

من مال إلا الأكفان، بل هي والله للخراب والذهاب وجسمك للتراب والمآب. فأين الذي جمعته من المال؟ فهل أنقذك من الأهوال؟ كلا بل تركته إلى من لا يحمدك، وقدمت بأوزارك على من لا يعذرك. ولقد أحسن من قال في تفسير قوله تعالى: {وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة} أي: اطلب فيما أعطاك الله من الدنيا، الدار الآخرة وهي الجنة، فإن حق المؤمن أن يصرف الدنيا فيما ينفعه في الآخرة، لا في الطين والماء والتجبر والبغي، فكأنهم قالوا: لا تنس أنك تترك جميع مالك إلا نصيبك الذي هو الكفن، ونحو هذا قول الشاعر: نصيبك مما تجمع الدهر كله: ... رداءان تلوى فيهما، وحنوط وقال آخر: هي القناعة لا تبغي بها بدلاً ... فيها النعيم وفيها راحة البدن انظر لمن ملك الدنيا بأجمعها ... هل راح منها بغير القطن والكفن؟ فصل: وقوله عليه الصلاة والسلام: «الكيس من دان نفسه» دان حاسب. وقيل: ذل.

قال أبو عبيد: دان نفسه: أي أذلها واستعبدها. يقال: دنته أدينه، إذ ذللته فيذل نفسه في عبادة الله سبحانه وتعالى، عملاً يعده لما بعد الموت، ولقاء الله تعالى، وكذلك يحاسب نفسه على ما فرط من عمره، ويستعد لعاقبة أمره، بصالح عمله، والتنصل من سالف زلله، وذكر الله تعالى وطاعته في جميع أحواله. فهذا هو الزاد ليوم المعاد. والعاجز ضد الكيس. والكيس: العاقل، والعاجز: المقصر في الأمور، فهو مع تقصيره في طاعة ربه، واتباع شهوات نفسه متمن على الله أن يغفر له. وهذا هو الاغترار فإن الله تعالى أمره ونهاه، وقال الحسن البصري: [إن قوماً آلهتهم الأماني حتى خرجوا من الدنيا وما لهم حسنة ويقول أحدهم: إني أحسن الظن بربي. وكذب لو أحسن الظن لأحسن العمل] وتلا قوله تعالى: {وذلكم ظنكم الذي ظننتم بربكم أرداكم فأصبحتم من الخاسرين} . وقال سعيد بن جبير: [الغرة بالله أن يتمادى الرجل بالمعصية، ويتمنى على الله المغفرة] .

في أمور تذكر الموت والأخرة ويزهد في الدنيا

وقال بقية بن الوليد: كتب أبو عمير الصوري إلى بعض إخوانه: أما بعد [فإنك قد أصبحت تؤمل الدنيا بطول عمرك، وتتمنى على الله الأماني بسوء فعلك. وإنما تضرب حديداً بارداً والسلام] . وسيأتي لهذا مزيد بيان في باب ما جاء أن القبر أول منازل الآخرة. إن شاء الله تعالى. في أمور تذكر الموت والأخرة ويزهد في الدنيا مسلم «عن أبي هريرة قال: زار النبي صلى الله عليه وسلم قبر أمه فبكى وأبكى من حوله فقال: استأذنت ربي أن أستغفر لها فلم يؤذن لي واستأذنته في أن أزور قبرها فأذن لي. فزوروا القبور فإنها تذكر الموت» وعن ابن ماجه، «عن ابن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: كنت نهيتكم عن زيارة القبور. فزورها. فإنها تزهد في الدنيا وتذكر الآخرة» .

فصل: زيارة القبور للرجال متفق عليه عند العلماء، مختلف فيه للنساء. أما الشواب فحرام عليهن الخروج. وأما القواعد فمباح لهن ذلك وجائز ذلك لجميعهن إذا انفردن بالخروج عن الرجال ولا يختلف في هذا إن شاء الله تعالى. وعلى هذا المعنى يكون قوله عليه الصلاة والسلام: «زوروا القبور» عاماً. وأما موضع أو وقت يخشى فيه الفتنة من اجتماع الرجال والنساء فلا يجوز ولا يحل،

فبينا الرجل يخرج ليعتبر فيقع بصره على امرأة فيفتتن، وبالعكس فيرجع كل واحد من الرجال والنساء مأزوراً مأجوراً وهذا واضح. والله أعلم. وقد رأى بعض أهل العلم: أن لعن النبي صلى الله عليه وسلم زوارات القبور كان قبل أن يرخص في زيارة القبور، فلما رخص دخل الرجال والنساء وما ذكرناه لك أولاً أصح والله أعلم. وروي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه خرج إلى المقبرة فلما أشرف عليها قال: ياأهل القبور أخبرونا عنكم، أو نخبركم. أما خبر من قبلنا: فالمال قد اقتسم، والنساء قد تزوجن، والمسكن قد سكنها قوم غيركم، ثم قال: أما والله لو استطاعو لقالوا: لم نر زاداً خيراً من التقوى. ولقد أحسن أبو العتاهية حيث يقول: ياعجباً للناس لو فكروا ... وحاسبوا أنفسهم أبصروا وعبروا الدنيا إلى غيرها ... فإنما الدنيا لهم معبر

لا فخر إلا فخر أهل التقى ... غداً إذا ضمهم المحشر ليعلمن الناس أن التقي ... والبر كانا خير ما يدخر عجبت للإنسان في فخره ... وهو غداً في قبره يقبر ما بال من أوله نطفة ... وجيفة آخره يفجر أصبح لا يملك تقديم ما ... يرجو ولا تأخير ما يحذر وأصبح الأمر إلى غيره ... في كل ما يقضي وما يقدر فصل: قال العلماء رحمة الله عليهم: ليس للقلوب أنفع من زيارة القبور وخاصة إن كانت قاسية فعلى أصحابها أن يعالجوها بأربعة أمور: أحدها: الإقلاع عما هي عليه بحضور مجالس العلم بالوعظ والتذكر، والتخويف والترغيب، وأخبار الصالحين. فإن ذلك مما يلين القلوب وينجع فيها. الثاني: ذكر الموت من ذكر هادم اللذات ومفرق الجماعات وميتم البنين والبنات كما تقدم في الباب قبل، يروى أن امرأة شكت إلى عائشة رضي الله عنها قساوة قلبها. فقالت لها: أكثري من ذكر الموت يرق قلبك. ففعلت ذلك فرق قلبها. فجاءت تشكر عائشة

رضي الله عنها. قال العلماء: تذكر الموت يردع عن المعاصي، ويلين القلب القاسي، ويذهب الفرح بالدنيا ويهون المصائب فيها. الثالث: مشاهدة المحتضرين، فإن في النظر إلى الميت ومشاهدة سكراته، ونزعاته، وتأمل صورته بعد مماته، ما يقطع عن النفوس لذاتها، ويطرد عن القلوب مسراتها، ويمنع الأجفان من النوم، والأبدان من الراحة، ويبعث على العمل، ويزيد في الاجتهاد والتعب. يروى أن الحسن البصري دخل على مريض يعوده فوجده في سكرات الموت فنظر إلى كربه، وشدة ما نزل به، فرجع إلى أهله، بغير اللون الذي خرج به من عندهم فقالوا له: الطعام يرحمك الله فقال: يا أهلاه عليكم بطعامكم وشرابكم. فو الله لقد رأيت مصرعاً لا أزال أعمل له حتى ألقاه. فهذه ثلاثة أمور ينبغي لمن قسا قلبه، ولزمه ذنبه، أن يستعين بها على دواء دائه، ويستصرخ بها على فتن الشيطان وإغوائه، فإن انتفع بها فذاك، وإن عظم عليه ران القلب، واستحكمت فيه دواعي الذنب، فزيارة قبور الموتى تبلغ في دفع ذلك مالا يبلغه الأول، والثاني، والثالث. ولذلك قال عليه السلام «زوروا القبور فإنها تذكر الموت والآخرة، وتزهد في الدنيا» ، فالأول: سماع بالأذن، والثاني: إخبار للقلب بما إليه المصير، وقائم له مقام التخويف والتحذير في مشاهدة من احتضر، وزيارة قبر من مات

من المسلمين معاينة، فلذلك كانا أبلغ من الأول والثاني. قال صلى الله عليه وسلم: «ليس الخبر كالمعاينة» رواه ابن عباس ولم يروه أحد غيره إلا أن الاعتبار بحال المحتضرين غير ممكن في كل الأوقات. وقد لا يتفق لمن أراد علاج قلبه في ساعة من الساعات، وأما زيارة القبور: فوجودها أسرع، والانتفاع بها أليق وأجدر، فينبغي لمن عزم على الزيارة أن يتأدب بآدابها، ويحضر قلبه في إتيانها، ولا يكون حظه منها الطواف على الأجداث فقط، فإن هذه حالة تشاركه فيها بهيمة ونعوذ بالله من ذلك. بل يقصد بزيارته: وجه الله تعالى، وإصلاح فساد قلبه، أو نفع الميت مما يتلوه عنده من القرآن. على ما يأتي بيانه إن شاء الله تعالى. ويجتنب المشي على المقابر، والجلوس عليها إذا دخل المقابر، ويخلع نعليه. كما جاء في أحاديث، ويسلم إذا دخل المقابر، ويخاطبهم خطاب الحاضرين. فيقول: «السلام عليكم دار قوم مؤمنين» ، كذلك كان عليه الصلاة والسلام يقول، وكنى بالدار عن عمارها وسكانها. ولذلك خاطبهم بالكاف والميم لأن العرب تعبر بالمنزل عن أهله. وإذا وصل إلى قير ميته الذي يعرف سلم عليه أيضاً فييقول: عليك السلام.

روى الترمذي في جامعه: «أن رجلاً دخل عبى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: عليك السلام، فقال صلى الله عليه وسلم: لا تقل عليك السلام، فإن عليك السلام تحية الميت» وليأته من تلقاء وجهه في زيارته كمخاطبته حياً، ولو خاطبة حياً لكان الأدب استقباله بوجهه. فكذلك ههنا. ثم يعتبر بمن صار تحت التراب، وانقطع عن الأهل والأحباب، بعد أن قاد الجيوش والعساكر، ونافس الأصحاب والعشائر، وجمع الأموال والذخائر، فجاءه الموت على وقت لم يحتسبه، وهول لم يرتقبه. فليتأمل الزائر حال من مضى من إخوانه، ودرج من أقرانه، الذين بلغوا الآمال وجمعوا الأموال. كيف انقطعت آمالهم، ولم تغن عنهم أموالهم، ومحا التراب محاسن وجوههم، وافترقت في القبور أجزاؤهم، وترمل بعدهم نساؤهم، وشمل ذل اليتم أولادهم، واقتسم غيرهم طريقهم وبلادهم. وليتذكر ترددهم في المآرب، وحرصهم على نيل المطالب، وانخداعهم لمؤاتاة الأسباب، وركونهم إلى الصحة والشباب، وليعلم أن ميله إلى اللهو واللعب كميلهم، وغفلته عما بين يديه من الموت الفظيع والهلاك السريع كغفلتهم، وأنه لا بد صائر إلى مصيرهم، وليحضر بقلبه ذكر من كان متردداً في أغراضه، وكيف تهدمت رجلاه. وكان يتلذذ بالنظر إلى ما حوله

وقد سالت عيناه، ويصول ببلاغة نطقه، وقد أكل الدود لسانه، ويضحك لمؤاتاة دهره وقد أبلى التراب أسنانه، وليتحقق أن حاله كحاله، ومآله كمآله، وعند هذا التذكر والاعتبار، يزول عنه جميع الأغيار الدنيوية، ويقبل على الأعمار الأخروية، فيزهد في دنياه، ويقبل على طاعة مولاه، ويلين قلبه، ويخشع جوارحه. والله أعلم. فصل: جاء في هذا الباب: حديث يعرض حديث هذا الباب. وهو ما خرجه أبو بكر أحمد بن علي الخطيب في كتاب السابق واللاحق، وأبو حفص عمر بن شاهين في الناسخ والمنسوخ له في الحديث بإسناديهما

عن عائشة رضي الله عنها قالت: «حج بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم حجة الوداع فمر بي على عقبة الحجون وهو باك حزين، مغتم فبكيت لبكائه صلى الله عليه وسلم ثم إنه طفر أي وثب فنزل فقال: يا حميراء استمسكي فاستندت إلى جنب البعير. فمكث عني طويلا ثم عاد إلي وهو فرح مبتسم فقلت له: بأبي أنت وأمي يا رسول الله. نزلت من عندي وأنت باك حزين مغتم فبكيت لبكائك يا رسول الله، ثم إنك عدت إلي وأنت فرح مبتسم فعن ماذا يا رسول الله؟ فقال: مررت بقبر أمي آمنة فسألت الله ربي أن يحييها فأحياها فآمنت بي ـ أو قال ـ فآمنت وردها الله عز وجل» لفظ الخطيب. وقد ذكر السهيلي في الروض الأنف بإسناد فيه

مجهولون [أن الله تعالى أحيا له أباه وأمه وآمنا به] . قال الشيخ المؤلف رحمه الله: ولا تعارض والحمد لله، لأن إحياءهما متأخر عن النهي بالاستغفار لهما. بدليل حديث عائشة رضي الله عنها: أن ذلك كان في حجة الوداع وكذلك جعله ابن شاهين ناسخاً لما ذكر من الأخبار.

قلت: ويبينه حديث مسلم «عن أنس أن رجلاً قال يا رسول الله: أين أبي؟ قال: في النار فلما قفا دعاه قال: إن أبي وأباك في النار» وحديث سلمة بن يزيد الجعفي وفيه: «فلما رأى ما دخل علينا قال: وأمي مع أمكما»

وهذا إن صح إحياؤهما. وقد سمعت: أن الله تعالى أحيا له عمه أبا طالب وآمن به. والله أعلم. وقد قيل: إن الحديث في إيمان أمه وأبيه موضوع يرده القرآن العظيم والإجماع قال الله العظيم {ولا الذين يموتون وهم كفار} فمن مات كافراً لم ينفعه الإيمان بعد الرجعة، بل لو آمن عند المعاينة لم ينتفع فكيف بعد الإعادة؟ وفي التفسير أنه عليه السلام قال: ليت شعري ما فعل أبواي فنزل {ولا تسأل عن أصحاب الجحيم} . قال المؤلف: ذكره الحافظ أبو الخطاب عمر بن دحية وفيه نظر، وذلك أن فضائل النبي صلى الله عليه وسلم وخصائصه لم تزال تتوالى وتتابع إلى حين مماته، فيكون هذا مما فضله الله تعالى وأكرمه به. ليس إحياؤهما وإيمانهما

بممتنع عقلاً ولا شرعاً. فقد ورد في الكتاب إحياء قتيل بني إسرائيل وإخباره بقاتله، وكان عيسى عليه السلام يحيى الموتى، وكذلك نبينا عليه الصلاة والسلام أحيا الله تعالى على يديه جماعة من الموتى، وإذا ثبت هذا فما يمنع من إيمانهما بعد إحيائهما زيادة في كرامته وفضيلته مع ما ورد من الخبر في ذلك ويكون ذلك خصوصاً فيمن مات كافراً، وقوله: فمن مات كافراً إلى آخر كلامه مردود بما روي في الخبر أن الله تعالى رد الشمس على نبيه عليه السلام بعد مغيبهما، ذكر

أبو جعفر الطحاوي وقال: إنه حديث ثابت فلو لم يكن رجوع الشمس نافعاً وأنه لا يتجدد الوقت لما ردها عليه، فكذلك يكون إحياء أبوي النبي صلى الله عليه وسلم نافعاً لإيمانهما وتصديقهما بالنبي صلى الله عليه وسلم. وقد قبل الله إيمان قوم يونس وتوبتهم مع تلبسهم بالعذاب فيما ذكر في بعض الأقوال وهو ظاهر القرآن. وأما الجواب عن الآية فيكون ذلك قبل إيمانهما وكونهما في العذاب. والله بغيبه أعلم وأحكم.

باب منه، وما يقال عند دخول المقابر وجواز البكاء عندها

باب منه، وما يقال عند دخول المقابر وجواز البكاء عندها أبو داود «عن بريدة بن خصيب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها. فإن في زيارتها تذكرة» ، وذكر النسائي «عن بريدة أيضاً عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من أراد أن يزور قبراً فليزره، ولا تقولوا هجراً» بمعنى سوءاً، وذكر أبو عمر «من حديث ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ما من رجل يمر بقبر أخيه المؤمن كان يعرفه فسلم عليه، إلا رد عليه السلام» روي هكذا موقوفاً عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: «فإن لم يعرفه وسلم: رد عليه السلام» .

مسلم «عن عائشة رضي الله عنها قالت: قلت يا رسول الله: كيف أقول إذا دخلت المقابر؟ قال: قولي السلام على أهل الديار من المؤمنين والمسلمين، ويرحم الله المستقدمين منا والمتأخرين. وإنا إن شاء الله بكم لاحقون» خرجه مسلم من حديث بريدة أيضاً. وزاد: «أسأل الله لنا ولكم العافية» ، وفي الصحيحين «أنه عليه السلام مر بامرأة تبكي عند قبر لها فقال لها: اتقي الله واصبري» الحديث. فصل: هذه الأحاديث تشتمل على فقه عظيم وهو جواز زيارة القبور للرجال والنساء والسلام عليها وورد الميت السلام على من يسلم عليه وجواز بكاء النساء عند القبر، ولو كان بكاؤهن وزيارتهن حراماً لنهى النبي صلى الله عليه وسلم المرأة ولزجرها زجراً يزجر مثله من أتى محرماً وارتكب منهياً. وما روي من نهي النساء عن زيارة القبور فغير صحيح.

والصحيح ما ذكرت لك من الإباحة إلا أن عمل النساء في خروجهن مما لا يجوز لهن من تبرج أو كلام أو غيره فلذلك المنهي عنه. وقد ذكرت لك في الباب قبل الفرق بين المتجالة والشابة فتأمله، وقد أبيح لك أن تبكي عند قبر ميتك حزناً عليه أو رحمة له مما بين يديه، كما أبيح لك البكاء عند موته. والبكاء عند العرب يكون البكاء المعروف وتكون النياحة. وقد يكون معهما الصياح وضرب الخدود وشق الجيوب. وهذا محرم بإجماع العلماء، وهو الذي ورد فيه الوعيد من قوله عليه السلام: «أنا بريء ممن حلق وسلق وخرق» خرحه مسلم. وأما البكاء من غير نياحة فقد ورد فيه الإباحة عند القبر، وعند الموت، وهو بكاء الرأفة والرحمة التي لا يكاد يخلو منها إنسان. وقد بكى النبي صلى الله عليه وسلم لما مات ابنه إبراهيم. وقال عمر: دعهن يبكين على أبي سليمان ما لم يكن نقع أو لقلقة] النقع: ارتفاع الصوت.

باب المؤمن يموت بعرق الجبين

واللقلقة: تتابع ذلك. وقيل: النقع: وضع التراب على الرأس. والله أعلم. باب المؤمن يموت بعرق الجبين ابن ماجه «عن بريدة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: المؤمن يموت بعرق الجبين» خرجه الترمذي وقال فيه: حديث حسن. وروى «عن سلمان الفارسي رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ارقبوا للميت عند موته ثلاثاً: إن رشح جبينه. وذرفت عيناه. وانتشر منخراه. فهي رحمة من الله قد نزلت به. وإن غط غطيط البكر المخنوق. وخمد لونه. وازبد شدقاه. فهو عذاب من الله تعالى قد حل به» خرجه أبو عبد الله الترمذي الحكيم في نوادر الأصول له. وقال: قال عبد الله: إن المؤمن يبقى عليه خطايا من خطاياه فيجازف بها عند الموت أي يجازي فيعرق لذلك جبينه.

وقال بعض العلماء: إنما يعرق جبينه حياء من ربه لما اقترف من مخالفته، لأن ما سفل منه قد مات، وإنما بقيت قوى الحياة وحركاتها فيما علا، والحياء في العينين وذلك وقت الحياء والكافر في عمى عن هذا كله، والموحد المعذب في شغل عن هذا بالعذاب الذي قد حل به. وإنما العرق الذي يظهر لمن حلت به الرحمة، فإنه ليس من ولي ولا صديق ولا بر إلا وهو مستحي من ربه، مع البشرى والتحف والكرامات. قلت: وقد تظهر العلامات الثلاث، وقد تظهر واحدة وتظهر اثنتان، وقد شاهدنا عرق الجبين وحده. وذلك بحسب تفاوت الناس في الأعمال، والله أعلم. وفي حديث ابن مسعود: [موت المؤمن بعرق الجبين تبقى عليه البقية من الذنوب فيجازف بها عند الموت] أي يشدد لتمحص عنه ذنوبه.

باب منه في خروج نفس المؤمن والكافر

باب منه في خروج نفس المؤمن والكافر خرج أبو نعيم «من حديث الأعمش، عن إبراهيم، عن علقمة، عن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن نفس المؤمن تخرج رشحاً، وإن نفس الكافر تسل كما تسل نفس الحمار، وإن المؤمن ليعمل الخطيئة فيشدد عليه عند الموت ليكفر بها عنه. وإن الكافر ليعمل الحسنة فيسهل عليه عند الموت ليجزى بها» . باب ما جاء أن للموت سكرات وفي تسليم الأعضاء بعضها على بعض وفيما يصير الإنسان إليه وصف الله سبحانه وتعالى شدة الموت في أربع آيات: الأولى: قوله الحق: {وجاءت سكرة الموت بالحق} . الثانية: قوله تعالى: {ولو ترى إذ الظالمون في غمرات الموت} . الثالثة: قوله تعالى: {فلولا إذا بلغت الحلقوم} .

الرابعة: {كلا إذا بلغت التراقي} . روى البخاري عن «عائشة رضي الله عنها: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت بين يديه ركوة أو علبة فيها ماء. فجعل يدخل يديه في الماء فيمسح بهما وجهه ويقول لا إله إلا الله إن للموت سكرات ثم نصب يديه فجعل يقول: في الرفيق الأعلى حتى قبض ومالت يده» . وخرج الترمذي عنها قالت: [ما أغبط أحداً بهون موت. بعد الذي رأيت من شدة موت رسول الله صلى الله عليه وسلم] . وفي البخاري عنها قالت: [مات رسول الله صلى الله عليه وسلم وإنه لبين حاقنتي وذاقنتي. فلا أكره شدة الموت لأحد أبداً بعد النبي صلى الله عليه وسلم] الحاقنة: المطمئن بين الترقوة والحلق، والذاقنة: نقره الذقن وقال الخطابي: الذاقنة: ما تناوله الذقن من الصدر.

وذكر أبو بكر بن أبي شيبة في مسنده «عن جابر بن عبد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: تحدثوا عن بني إسرائيل. فإنه كانت فيهم أعاجيب» . ثم أنشأ يحدثنا قال: [خرجت طائفة منهم فأتوا على مقبرة من مقابرهم فقالوا لو صلينا ركعتين ودعونا الله يخرج لنا بعض الأموات يخبرنا عن الموت قال: ففعلوا. فبينما هم كذلك إذا طلع رجل رأسه بيضاء، أسود اللون خلا شيء، بين عينيه أثر السجود فقال يا هؤلاء ما أردتم إلي؟ لقد مت منذ مائة سنة فما سكنت عني حرارة الموت حتى الآن. فادعوا الله أن يعيدني كما كنت] . وروى أبو هدبة إبراهيم بن هدبة قال: «حدثنا أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم

قال: إن العبد ليعالج كرب الموت وسكرات الموت وإن مفاصله ليسلم بعضها على بعض تقول: عليك السلام تفارقني وأفارقك إلى يوم القيامة» . وذكر المحاسبي في الرعاية: أن الله تعالى قال لإبراهيم عليه السلام: [يا خليلي كيف وجدت الموت؟ قال: كسفود محمى جعل في صوف رطب، ثم جذب قال: [أما إنا قد هونا عليك يا إبراهيم] . وروى أن موسى عليه السلام لما صار روحه إلى الله. قال له ربه: [يا

موسى كيف وجدت الموت] ؟ قال: وجدت نفسي كالعصفور الحي حين يقلى على المقلى لا يموت فيستريح ولا ينجو فيطير. وروى عنه أنه قال: وجدت نفسي كشاة تسلخ بيد القصاب وهي حية. وقال عيسى بن مريم عليه السلام: [يا معشر الحواريين ادعوا الله أن يهون عليكم هذه السكرة] يعني سكرات الموت. وروي: أن الموت أشد من ضرب بالسيوف ونشر بالمناشير، وقرض بالمقاريض. وذكر أبو نعيم الحافظ في كتاب الحلية من «حديث مكحول، عن وائلة ابن الأسقع عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: والذي نفسي بيده لمعاينة ملك الموت أشد من ألف ضربة بالسيف» وسيأتي بكماله إن شاء الله تعالى. وفي الخبر من حديث حميد الطويل، «عن أنس بن مالك، عن النبي صلى الله عليه وسلم أن الملائكة تكتنف العبد، وتحبسه، ولولا ذلك لكان يعدو في الصحاري والبراري من شدة سكرات الموت» .

وجاءت الرواية بأن ملك الموت عليه السلام إذا تولى الله قبض نفسه بعد موت الخلائق يقول: [وعزتك لو علمت من سكرة الموت ما أعلم ما قبضت نفس مؤمن] . ذكره القاضي أبو بكر بن العربي. وعن شهر بن حوشب قال: «سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الموت وشدته؟ فقال: إن أهون الموت بمنزلة حسكة كانت في صوف. فهل تخرج الحسكة من الصوف إلا ومعها الصوف» ؟ قال شهر: ولما حضرت عمرو بن العاص الوفاة قال له ابنه يا أبتاه؟ إنك لتقول لنا: ليتني كنت ألقى رجلاً عاقلاً لبيباً عند نزول الموت حتى يصف لي ما يجد. وأنت ذلك الرجل فصف لي الموت فقال: يا بني والله كأن جنبي في تخت. وكأني أتنفس من سم إبرة. وكأن غصن شوك يجذب من

قدمي إلى هامتي. ثم أنشأ يقول: ليتني كنت قبل ما قد بدا لي ... في تلال الجبال أرعى الوعولا وعن أبي ميسرة رفعه قال: [لو أن ألم شعرة من الميت وضع على أهل السماء والأرض لماتوا جميعاً] وأنشدوا: أذكر الموت ولا أرهبه ... إن قلبي لغليظ كالحجر أطلب الدنيا كأني خالد ... وورائي الموت يقفو بالأثر وكفى بالموت فاعلم واعظاً ... لمن الموت عليه قد قدر والمنايا حوله ترصده ... ليس ينجي المرء منهن المفر وقال آخر: بينا الفتى مرح الخطا فرح بما ... يسع له إذ قيل: قد مرض الفتى إذ قيل: بات بليلة ما نامها ... إذ قيل: أصبح مثخناً ما يرتجى إذ قيل: أصبح شاخصاً وموجها ... ومعللاً. إذ قيل: أصبح قد قضى

فصل: أيها الناس: قد آن للنائم أن يستيقظ من نومه، وحان للغافل أن يتنبه من غفلته قبل هجوم الموت بمرارة كأسه، وقبل سكون حركاته، وخمود أنفاسه، ورحلته إلى قبره، ومقامه بين أرماسه. وروى عن عمر بن عبد العزيز أنه كتب إلى أناس من أصحابه يوصيهم فكان فيما أوصاهم به أن كتب إليهم: [أما بعد: فإني أوصيكم بتقوى الله العظيم، والمراقبة له، واتخذوا التقوى والورع زاداً. فإنكم في دار عما قريب تنقلب بأهلها، والله في عرضات القيامة وأهوالها. يسألكم عن الفتيل والنقير. فالله الله عباد الله. اذكروا الموت الذي لا بد منه، واسمعوا قول الله تعالى: {كل نفس ذائقة الموت} . وقوله عز وجل: {كل من عليها فان} . وقوله عز وجل: {فكيف إذا توفتهم الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم} فقد بلغني ـ والله أعلم ـ أنهم يضربون بسياط من نار. وقال جل ذكره: {قل يتوفاكم ملك الموت الذي وكل بكم ثم إلى ربكم ترجعون} . وقد بلغني ـ والله أعلم وأحكم ـ أن ملك الموت رأسه في السماء ورجلاه

في الأرض وأن الدنيا كلها في يد ملك الموت كالقصعة بين يدي أحدكم يأكل منها. وقد بلغني ـ والله أعلم وأحكم ـ أن ملك الموت ينظر في وجه كل آدمي ثلاثمائة نظرة وستاً وستين نظرة. وبلغني أن ملك الموت ينظر في كل بيت تحت ظل السماء ستمائة مرة. وبلغني أن ملك الموت قائم وسط الدنيا فينظر الدنيا كلها برها وبحرها وجبالها وهي بين يديه كالبيضة بين رجلي أحدكم. وبلغني أن لملك الموت أعواناً الله أعلم بهم ليس منهم ملك إلا لو أذن له أن يلتقم السموات والأرض في لقمة واحدة لفعل. وبلغني أن ملك الموت تفزغ منه الملائكة أشد من فزع أحدكم من السبع. وبلغني أن حملة العرش إذا قرب ملك الموت من أحدهم ذاب حتى يصير مثل الشعرة من الفزع منه وبلغني أن ملك الموت ينتزع روح بني آدم من تحت عضوه وظفره وعروقه وشعره ولا تصل الروح من مفصل إلى مفصل إلا كان أشد عليه من ألف ضربة بالسيف. وبلغني أنه لو وضع وجع شعرة من الميت على السموات والأرض لأذابها حتى إذا بلغت الحلقوم ولي القبض ملك الموت. وبلغني أن ملك الموت إذا قبض روج مؤمن جعلها في حريرة بيضاء

ومسك أذفر. وإذا قبض روح الكافر جعلها في خرقة سوداء في فخار من نار أشد نتناً من الجيف. وفي الخبر إذا دنت منية المؤمن نزل عليه أربعة من الملائكة: ملك يجذب النفس من قدمه اليمنى وملك يجذبها من قدمه اليسرى، والنفس تنسل انسلال القطرة من السقاء وهم يجذبونها من أطراف البنان ورؤوس الأصابع. والكافر تنسل روحه كالسفود من الصوف المبتل. ذكره أبو حامد في كشف علوم الآخرة فمثل نفسك يا مغرور وقد حلت بك السكرات، ونزل بك الأنين والغمرات فمن قائل يقول: إن فلاناً قد أوصى وماله قد احصى، ومن قائل

يقول: إن فلاناً ثقل لسانه، فلا يعرف جيرانه، ولا يكلم إخوانه، فكأني أنظر إليك تسمع الخطاب، ولا تقدر على رد الجواب، ثم تبكي ابنتك وهي كالأسيرة، وتتضرع وتقول: حبيبي أبي من ليتمي من بعدك؟ ومن لحاجتي؟ وأنت والله تسمع الكلام ولا تقدر على رد الجواب وأنشدوا: وأقبلت الصغرى تمرغ خدها ... على وجنتي حيناً وحيناً على صدري وتخمش خديها وتبكي بحرقة ... تنادي: أبي إني غلبت على الصبر حبيبي أبي من لليتامى تركتهم كأفراخ زغب في بعيد من الوكر؟ فخيل لنفسك يا ابن آدم إذا أخذت من فراشك، إلى لوح مغتسلك فغسلك الغاسل، وألبست الأكفان، وأوحش منك الأهل والجيران، وبكت عليك الأصحاب والإخوان، وقال الغاسل أين زوجة فلان تحالله؟ وأين اليتامى ترككم أبوكم فما ترونه بعد هذا اليوم أبداً؟ وأنشدوا: ألا أيها المغرور ما لك تلعب ... تؤمل آمالاً وموتك أقرب وتعلم أن الحرص بحر مبعد ... سفينته الدنيا فإياك تعطب وتعلم أن الموت ينقص مسرعاً ... عليك يقينا طعمه ليس يعذب كأنك توصي واليتامى تراهم ... وأمهم الثكلى تنوح وتندب تغص بحزن ثم تلطم وجهها ... يراها رجال بعد ما هي تحجب

وأقبل بالأكفان نحوك قاصد ... ويحثى عليك الترب والعين تسكب فصل: قول عائشة رضي الله عنها: «كانت بين يديه ركوة أو علبة» العلبة: قدح من خشب ضخم يحلب فيه، قال ابن فارس في المجمل وقال الجوهري في الصحاح العلبة محلب من جلد، والجمع علب وعلاب، والمعلب الذي يتخذها ... قال الكميت يصف خيلاً: سقينا دما القوم طوراً، وتارة ... صبوحاً لإقتار الجلود المعلب وقيل: أسفله جلد وأعلاه خشب مدور مثل إطار الغربال، وهو الدائر به، وقيل: هو عس يحلب فيه. والعس: القدح الضخم. وقال اللغوي أبو هلال الحسن بن عبد الله بن سهل العسكري في

كتاب التلخيص له: والعلبة: قدح للأعراب مثل العس، والعس يتخذ من جنب جلد البعير والجمع علاب، وقوله: إن الموت سكرات أي شذائد وسكرة الموت شدته. فصل: قال علماؤنا رحمة الله عليهم: فإذا كان هذا الأمر قد أصاب الأنبياء والمرسلين والأولين والمتقين فمالنا عن ذكره مشغولين؟ وعن الاستعداد له متخلفين؟ {قل هو نبأ عظيم * أنتم عنه معرضون} قالوا: وما جرى على الأنبياء صلوات الله عليهم أجمعين من شدائد الموت وسكراته، فله فائدتان. إحداهما: أن يعرف الخلق مقدار ألم الموت وأنه باطن وقد يطلع الإنسان على بعض الموتى فلا يرى عليه حركة ولا قلقاً ويرى سهولة خروج روحه، فيغلب على ظنه سهولة أمر الموت ولا يعرف ما الميت فيه؟ فلما ذكر الأنبياء الصادقون في خبرهم: شدة ألمه، مع كرامتهم على الله تعالى وتهونيه على بعضهم، قطع الخلق بشدة الموت الذي يعانيه ويقاسيه الميت مطلقاً لإخبار الصادقين عنه، ما خلا الشهيد قتيل الكفار على ما يأتي ذكره. الثانية: ربما خطر لبعض الناس أن هؤلاء: أحباب الله، وأنبياؤه ورسله،

فكيف يقاسون هذه الشدائد العظيمة؟ وهو سبحانه قادر أن يخفف عنهم أجمعين، كما قال في قصة إبراهيم: أما إنا قد هونا عليك. فالجواب: «أن أشد الناس بلاء في الدنيا الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل» كما قال نبينا عليه السلام. خرجه البخاري وغيره، فأحب الله أن يبتليهم تكميلاً لفضلاً لديه، ورفعة لدرجاتهم عنده، وليس ذلك في حقهم نقصاً، ولا عذاباً. بل هو كما قال، كمال رفعة، مع رضاهم بجميل ما يجزي الله عليهم، فأراد الحق، سبحانه أن يختم لهم بهذه الشدائد، مع إمكان التخفيف والتهوين عليهم، ليرفع منازلهم، ويعظم أجورهم قبل موتهم. كما ابتلى إبراهيم بالنار، وموسى بالخوف والأسفار، وعيسى بالصحارى والقفاز، ونبينا محمداً صلى الله عليه وسلم بالفقر في الدنيا ومقاتلة الكفار، كل ذلك لرفعة في أحوالهم،

وكمال في درجاتهم، ولا يفهم من هذا أن الله شدد عليهم أكثر مما شدد على العصاة المخلطين فإن ذلك عقوبة لهم، ومؤاخذة على إجرامهم فلا نسبة بينه وبين هذا. فصل: إن قال قائل: كل المخلوقات تجد هذه السكرات؟ قيل له: قال بعض العلماء قد وجب بحكم القول الصدق، والكلمة الحق، أن الكأس مر المذاق، وإن قد ذيق ويذاق ولكن ثم فريقان، وتقديرات وأوزان، وإن الله سبحانه وتعالى لما انفرد بالبقاء وحده لا شريك له وأجرى سنة الهلاك والفناء على الخلق دونه، خالف في ذلك جل جلاله بين المخلوقات، وفرق بين المحسوسات، بحسب ما خالف بين المنازل والدرجات، فنوع أرضي حيواني. إنساني وغير إنساني وفوقه عالم روحاني وملأ علواني رضواني، كل يشرب من ذلك الكأس جرعته. وبغتص منه غصته، قال الله تعالى: {كل نفس ذائقة الموت} . قال أبوحامد في كتاب الكشف علوم الأخرة: وثبت ذلك في ثلاثة

مواضع من كتابه، وإنما أراد سبحانه بالموتات الثلاث للعالمين: فالمتحيز إلى العالم الدنيوي يموت، والمتحيز إلى العالم الملكوتي يموت، والمتحيز إلى العالم الجبروتي يموت، فالأول آدم وذرتيه وجميع الحيوان على ضروبه، والملكوتي وهو الثاني أصناف الملائكة والجن، وأهل الجبروت هم المصطفون من الملائكة. قال الله تعالى: {الله يصطفي من الملائكة رسلاً ومن الناس} فهم كروبيون وحملة العرش وأصحاب سر دقات الجلال كما وصفهم الله في كتابه وأثنى عليهم حيث يقول {ومن عنده لا يستكبرون عن عبادته ولا يستحسرون * يسبحون الليل والنهار لا يفترون} وهم أهل حضرة القدس المعنيون بقوله تعالى: {لو أردنا أن نتخذ لهواً لاتخذناه من لدنا إن كنا فاعلين} وهم يموتون على هذه المكانة من الله تعالى والقربة، وليس زلفاهم بمانع لهم من الموت. قال ابن قسي: وكما تفرقت الطرق بهذه العوالم كذلك تفرقت طرقت

الإحساسات في اجتراع الغصص والمرارات فإحساس روحاني للروحانيات كما يجده النائم في سنته، أو الغصة الوجيعة تغصه في نومته فيغص منها في حال رقدته ويتململ ذلك إلى حين يقتظه، حتى إذا استيقظ لم يجده شيئاً ووجد الإنس عنده فأزال ألمه، ووافاه أمانه ونعمه، وإحساس علوي قدسي كما يجده الوسنان الروحانية. وهو ما لا يدركه العقل البشري إلا توهما، ولا يبلغه التحصيل إلا تخيلاً وتوسماً، وإحساس بشري سفلي إنسي وجني، وهو ما لا يكاد أن توصف شدائده، وغصصه، فكيف وقد قالوا بالغصة الواحدة منه كألف ضربة السيف فما عسى أن ينعت ويوصف وهذا الذي لا يمكن أن يعرف؟ والخلق أيضاً في هذا الإحساس فرق، يختلفون باختلاف المنازل والطرق، فالفرقة الإسلامية في نفسها لا تجد منه غير الإسلامية، ثم الإسلامية نفسها لا تجد منه النبوية، كما تجد التبعية. ثم النبوية في ذاتها ومقاماتها إحساساتها تختلف على حكم الكلمة وصدق القيا باختلاف التقديم والتفضيل، قال الله تعالى {تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض، منهم من كلم الله، ورفع بعضهم درجات} الآية. وقد نبهت الخلة الذاتية عزت سبحاتها،

وتقدست صفاتها، على صفة ذلك عن إبراهيم وأشارت إلى تهوين الأمر عليه، وتبين ما خفف عنه، صلوات الله وسلامه عليه، فقال: أما إنا قد هونا عليك يا إبراهيم وما وصفه الحق جل جلاله بالهون فلا أهون منه، كما ما كبره وعظمه فلا أكبر ولا أعظم منه، ولا فرق بين أن قال: موتاً هيناً وملكاً عظيماً كبيراً، وقال في نعيم الجنة {وإذا رأيت ثم رأيت نعيماً وملكاً كبيراً} فكما أنه لا أكبر من ملك الجنة. كذلك لا هون من موت الخلة، والله أعلم. فصل: إذا ثبت ما ذكرناه. فاعلم: أن الموت هو الخطب الأفظع، والأمر الأشنع والكأس التي طعمها أكره وأبشع، وأنه الحارث الأهذم للذات والأقطع للراحات، والأجلب للكريهات، فإن أمراً يقطع أوصالك، ويفرق أعضاءك، ويهدم أركانك، لهو الأمر العظيم، والخطب الجسيم، وإن يومه لهو اليوم العظيم. ويحكى أن الرشيد لما اشتد مرضه أحضر طبيباً طوسياً فارسياً

وأمر أن يعرض عليه ماؤه أي بوله مع مياه كثيرة لمرضى وأصحاء، فجعل يستعرض القوارير حتى رأى قارورة الرشيد فقال: قولوا: لصاحب هذا الماء يوصي. فإنه قد انحلت قواه، وتداعت بنيته، ولما استعرض باقي المياه أقيم فذهب، فيئس الرشيد من نفسه وأنشد: إن الطيب بطبه ودوائه ... لا يستطيع دفاع نحب قد أتى ما للطبيب يموت بالداء الذي ... قد كان أبرأ مثله فيما مضى مات المداوي، والمداوى، ... والذي جلب الدواء أو باعه، ومن اشترى وبلغه أن الناس أرجفوا بموته. فاستدعى حماراً وأمر أن يحمل عليه فاسترحت فخذاه. فقال: أنزلوني صدق المرجفون، ودعا بأكفان فتخير منها ما أعجبه وأمر فشق له قبر أمام فراشه ثم اطلع فيه فقال: ما أغنى عني مالية هلك عني سلطانية. فمات من ليلته، فما ظنك ـ رحمك الله ـ بنازل ينزل بك فيذهب رونقك وبهاك ويغير منظرك ورؤياك، ويمحو صورتك وجمالك، ويمنع من اجتماعك واتصالك، ويردك بعد النعمة والنضرة، والسطوة والقدرة، والنخوة والعزة، إلى حالة يبارد فيها أحب الناس إليك، وأرحمهم بك، وأعطفهم عليك، فيقذفك في حفرة من الأرض قريبة أنحاؤها مظلمة أرجاؤها، محكم عليك حجرها وصيدانها، فتحكم فيك هوامها وديدانها، ثم بعد ذلك تمكن منك الأعدام وتختلط

بالرغام، وتصير تراباً توطأ بالأقدام، وربما ضرب منك الإناء فخار، أو أحكم بك بناء جدار، أو طلي بك محس ما، أو موقد نار. كما روي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه يأتي بإناء ماء ليشرب منه فأخذه بيده ونظر إليه وقال: الله أعلم كم فيك من عين كحيل، وخذ أسيل. ويحكى أن رجلين تنازعاً وتخاصماً في أرض فأنطلق الله عزوجل لبنة من حائط من تلك الأرض فقالت: يا هذان فيم تتنازعان؟ وفيم تتخاصمان؟ إني كنت ملكاً من الملوك ملكت كذا وكذا سنة ثم مت وصرت تراباً. فبقيت كذلك ألف سنة ثم أخذني خزاف ـ يعني فخاراً فعمل مني إناء فاستعملت حتى تكسرت، ثم عدت تراباً فبقيت ألف سنة. ثم أخذني رجل فضرب مني لبنة، فجعلني في هذا الحائط. ففيم تنازعكما وفيم تخاصمكما؟ . قلت: والحكايات في هذا المعنى والوجود شاهد بتجديد ما دثر، وتغيير ما غير وعن ذلك أن يكون الحفر والإخراج، واتخاذ الأواني وبناء

باب الموت كفارة لكل مسلم

الأبراج، ولقد كنت في زمن الشباب أنا وغيري ننقل التراب على الدواب من مقبرة عندنا تسمى بمقبرة اليهود خارج قرطبة وقد اختلط بعظام من هناك وعظمهم ولحومهم وشعورهم وأبشارهم إلى الذيم يصنعون القرمد للشقف. قال علماؤنا رضوان الله عليهم: وهذا التغير إنما يحل بجسدك، وينزل ببدنك لا بروحك، لأن الروح لها حكم آخر، وما مضى منك فغير مضاع، وتفرقة لا تمنع من الاجتماع، قال الله تعالى: {قد علمنا ما تنقص الأرض منهم وعندنا كتاب حفيظ} وقال: {فما بال القرون الأولى * قال علمها عند ربي في كتاب لا يضل ربي ولا ينسى} . باب الموت كفارة لكل مسلم أبو نعيم، «عن عاصم الأحول، عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم الموت كفارة لكل مسلم» . ذكره القاضي أبو بكر ابن العربي في سراج المريدين له، وقال: فيه حديث صحيح حسن. فصل: إنما كان الموت كفارة، لكل ما يلقاه الميت في مرضه من الآلام

والأوجاع، وقد قال صلى الله عليه وسلم: «ما من مسلم يصيبه أذى، من مرض فما سواه إلا حط به سيئاته كما تحط الشجرة ورقها» . خرجه مسلم. وفي الموطأ «عن أبي هريرة: عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: من يرد الله به خيراً يصب منه» . وفي الخبر المأثور يقول الله تعالى: «إني لا أخرج أحدا من الدنيا، وأنا أريد أن أرحمه، حتى أوفيه بكل خطيئة كان عملها: سقما في جسده. ومصيبة في أهله وولده، وضيقاً في معاشه، وإفتاراً في رزقه، حتى أبلغ منه مثاقيل الذر فإن بقي عليه شيء شددت عليه الموت، حتى يفضي إلى كيوم ولدته أمه» . قلت: وهذا بخلاف من لا يحبه ولا يرضاه كما في الخبر يقول الله تعالى: «وعزتي وجلالي لا أخرج من الدنيا عبداً أريد أن أعذبه، حتى أعذبه، حتى أوفيه يكل حسنة عملها بصحة في جسده، وسعة في رزقه، ورغد في عيشه، وأمن في سربه، حتى أبلغ منه مثاقيل الذر، فإن بقي له شيء هونت عليه الموت، حتى يفضي إلي وليس له حسنة يتقي بها النار» . قلت: وفي مثل هذا المعنى ما خرجه أبو داود بسند صحيح فيما

ذكر أبو الحسن بن الحصار «عن عبيد بن خالد السلمي وكانت له صحبة عن النبي صلى الله عليه وسلم: موت الفجأة أخذة أسف للكافر» ، ورواه أيضاً مرسلاً. وروى الترمذي عن عائشة رضي الله عنها: إنها راحة للمؤمن وأخذه أسف للكافر. وروى عن ابن عباس أن داود عليه السلام مات فجأة يوم السبت وعن زيد بن أسلم مولى عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: [إذا بقي على المؤمن من ذنوبه شيء لم يبلغه بعمله شدد عليه الموت ليبلغ بسكرات الموت وشدائده درجته من الجنة، وإن الكافر إذا كان قد عمل معروفاً في الدنيا، هون عليه الموت ليستكمل ثواب معروفه في الدنيا ثم يصير إلى النار] .

ذكره أبو محمد عبد الحق. وخرج أبو نعيم الحافظ «من حديث الأعمش عن إبراهيم، عن علقمة، عن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: نفس المؤمن تخرج رشحاً، وإن نفس الكافر تسل كما تسل نفس الحمار، وإن المؤمن ليعمل الخطيئة فيشدد بها عليه عند الموت ليكفر بها عنه. وإن الكافر ليعمل الحسنة فيسهل عليه عند الموت ليجزي بها» ذكره أبو محمد عبد الحق، وذكر ابن المبارك أن أبا الدرداء رضي الله عنه ـ قال: [أحب الموت اشتياقاً إلى ربي، وأحب المرض تكفيراً لخطيئتي، وأحب الفقر تواضعاً لربي عز وجل] .

باب لا يموت أحد وهو يحسن بالله الظن وفي الخوف من الله تعالى

باب لا يموت أحد وهو يحسن بالله الظن وفي الخوف من الله تعالى مسلم «عن جابر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول قبل وفاته بثلاثة أيام: لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بالله» أخرجه البخاري. وذكره ابن أبي الدنيا في كتاب حسن الظن بالله وزاد: فإن قوماً قد أرادهم سوء ظنهم بالله فقال لهم تبارك وتعالى: {وذلكم ظنكم الذي ظننتم بربكم أرداكم فأصبحتم من الخاسرين} . ابن ماجه، «عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل على شاب وهو في الموت فقال: كيف تجدك؟ فقال: أرجو الله يا رسول الله وأخاف ذنوبي، فقال

رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا يجتمعان في قلب عبد مؤمن في مثل هذا الموطن إلا عطاء الله ما يرجو وأمنه مما يخاف» . ذكره ابن أبي الدنيا أيضاً، وخرجه الترمذي وقال: هذا حديث حسن غريب. وقد روى بعضهم هذا الحديث عن ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلاً. وذكر الترمذي الحكيم في الأصل السادس والثمانين من نوادر الأصول: «حدثنا يحيى بن حبيب عن عدي قال، حدثنا بشر المفضل عن عوف عن الحسن أنه قال: بلغني عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: قال ربكم عز وجل: لا أجمع على عبدي خوفين ولا أجمع له أمنين. فمن خافني في الدنيا أمنته في الآخرة ومن أمنني في الدنيا أخفته في الآخرة» . «حدثنا أبو بكر بن سابق الأموي قال أبو مالك الجنبي عن جويبر عن الضحاك عن ابن عباس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يذكر من مناجاة موسى عليه السلام أنه قال: يا موسى إنه لن يلقاني عبد لي في حاضر القيامة إلا

فتشته عما في يديه إلا ما كان من الورعين فإني أستحييهم وأجلهم فأكرمهم فأدخلهم الجنة بغير حساب» فمن استحيى من الله تعالى في الدنيا مما صنع استحيى الله تعالى من تفتيشه وسؤاله. ولم يجمع عليه حياءين، كما لا يجمع عليه خوفين. فصل: حسن الظن بالله تعالى، ينبغي أن يكون أغلب على العبد عند الموت منه في حال الصحة، وهو أن الله تعالى يرحمه ويتجاوز عنه ويغفر له وينبغي لجلسائه أن يذكروه بذلك حتى يدخل في قوله تعالى: «أنا عند ظن عبدي بي فليظن بي ما شاء» . وروى حماد بن سلمة، «عن ثابت، عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا يموتن أحدكم حتى يحسن الظن بالله. فإن حسن الظن بالله ثمن الجنة» وروى عن ابن عمر أنه قال: [عمود الدين وغاية مجده وذروة سنامة: حسن الظن بالله. فمن مات منكم وهو يحسن الظن بالله: دخل الجنة مدلاً]

أي منبسطاً لا خوف عليه. وقال عبد الله بن مسعود: [والله الذي لا إله إلا غيره. لا يحسن أحد الظن بالله إلا أعطاه الله ظنه وذلك أن الخير بيده] . وذكر ابن المبارك قال أخبر سفيان: أن ابن عباس قال: إذا رأيتم بالرجل الموت فبشروه ليلقي ربه وهو حسن الظن به، وإذا كان حياً فخوفوه وقال الفضيل: الخوف أفضله من الرجاء. ما كان العبد صحيحاً فإذا نزل به الموت، فالرجاء أفضل من الخوف. وذكر ابن أبي الدنيا: قال، حدثنا يحيى بن عبد الله بن البصري. قال حدثنا سوار بن عبد الله قال حدثنا المعتمر. قال: قال أبي حين حضرته الوفاة: يا معتمر حدثني بالرخص لعلي ألقى الله وأنا أحسن الظن به. قال: وحدثنا عمرو بن محمد الناقد. قال: حدثنا خلف بن خليفة عن حصين عن إبراهيم قال: كانوا يستحبون أن يلقنوا العبد محاسن عمله عند الموت، حتى يحسن ظنه بربه عز وجل.

وقال ثابت البناني: كان شاب به رهق فلما نزل به الموت انكبت عليه أمه وهي تقول: يا بني قد كنت أحذرك مصرعك هذا، قال: يا أماه إن لي رباً كثير المعروف، وإني لأرجو اليوم أن لا يعدمني بعض معروفه، فقال ثابت: فرحمه الله يحسن ظنه بالله في حاله تلك. وقال عمر بن ذر يوماً في كلامه ـ وعنده ابن أبي داود وأبو حنيفة ـ أتعذبنا وفي أجوافنا التوحيد؟ لا أراك تفعل. اللهم اغفر لمن لم يزل على مثل حال السحرة في الساعات التي غفرت لهم، فإنهم قالوا: {آمنا برب العالمين} فقال أبو حنيفة: رحمك الله القصص بعدك حرام. وكان يحيى بن زكريا إذا لقي عيسى بن مريم عليهما السلام: عبس، وإذا لقيه عيسى، تبسم، فقال له عيسى: تلقاني عابساً كأنك آيس؟ فقال

باب تلقين الميت لا إله إلا الله

له يحيى: تلقائي ضاحكاً كأنك آمن؟ فأوحى الله تبارك وتعالى إليهما: إن أحبكما إلي أحسنكما ظناً بي ذكره الطبري. وقال زيد بن أسلم: «يؤتي بالرجل يوم القيامة، فيقال: انطلقوا به إلى النار فيقول: يا رب فأين صلاتي وصيامي؟ فيقول الله تعالى: اليوم أقنطك من رحمتي كما كنت تقنط عبادي من رحمتي» . وفي التنزيل: قال: {ومن يقنط من رحمة ربه إلا الضالون} وسيأتي لهذا الباب مزيد بيان في باب سعة رحمة الله وعفوه يوم القيامة، إن شاء الله تعالى. باب تلقين الميت لا إله إلا الله مسلم «عن أبي سعيد الخدري. قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لقنوا موتاكم لا إله إلا الله» . وذكر ابن أبي الدنيا «عن زيد بن أسلم قال: قال عثمان بن عفان: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا احتضر الميت فلقنوه لا إله إلا الله فإنه ما من عبد يختم له بها موته إلا كانت زاده إلى الجنة» ، وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: احضروا موتاكم ولقنوهم: لا إله إلا الله وذكروهم فإنهم يرون ما لا ترون.

وذكر أبو نعيم «من حديث مكحول عن إسماعيل بن عياش بن أبي معاذ عتبة ابن حميد عن مكحول عن وائلة بن الأسقع عن النبي صلى الله عليه وسلم: احضروا موتاكم ولقنوهم لا إله إلا الله وبشروهم بالجنة فإن الحكيم من الرجال يتحير عند ذلك المصرع وإن الشيطان أقرب ما يكون من ابن آدم عند ذلك المصرع. والذي نفسي بيده لمعانية ملك الموت أشد من ألف ضربة السيف، والذي نفسي بيده لا تخرج نفس عبد من الدنيا حتى يتألم كل عرق منه على حياله» . غريب من حديث مكحول لم نكبته إلا من حديث إسماعيل. فصل: قال علماؤنا: تلقين الموتى هذه الكلمة سنة مأثورة عمل بها المسلمون. وذلك ليكون آخر كلامهم لا إله إلا الله فيختم له بالسعادة، وليدخل في عموم «قوله عليه السلام من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة» . أخرجه أبو داود من حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه، صححه أبو محمد عبد الحق، ولينبه المحتضر على ما يدفع به الشيطان، فإنه يتعرض للمحتضر ليفسد عليه عقيدته، على ما يأتي. فإذا تلقهنا المحتضر وقالها مرة واحدة فلا تعاد عليه

ليلاً بفجر، وقد كره أهل العلم الإكثار من التلقين، والإلحاح عليه إذا هو تلقنها أو فهم ذلك عنه. قال ابن المبارك: لقنوا الميت لا إله إلا الله فإذا قالها فدعوه. قال أبو محمد عبد الحق: وإنما ذلك لأنه يخاف عليه إذا لج عليه بها أن يتبرم ويضجر، ويثقلها الشيطان عليه، فيكون سبباً لسوء الخاتمة. وكذلك أمر ابن المبارك أن يفعل به. قال الحسن بن عيسى: قال لي ابن المبارك: لقني ـ يعني الشهادة ـ ولا تعد علي إلا أن أتكلم بكلام ثان، والمقصود أن يموت الرجل وليس في قلبه إلا الله عز وجل لأن المدار على القلب، وعمل القلب هو الذي ينظر فيه، وتكون النجاة به. وأما حركة اللسان دون أن تكون ترجمة عما في القلب فلا فائدة فيها، ولا عبر عندها. قلت: وقد يكون التلقين بذكر الحديث عند الرجل العالم كما ذكر أبو نعيم

أن أبا زرعة كان في السوق وعنده أبو حاتم، ومحمد بن سلمة. والمنذر بن شاذان وجماعات من العلماء، فذكروا حديث التلقين فاستحيوا من أبي زرعة فقالوا: يا أصحابنا تعالوا نتذاكر الحديث. فقال محمد بن سلمة: حدثنا ضحاك بن مخلد، حدثنا أبو عاصم، قال حدثنا عبد الحميد بن جعفر عن صالح بن أبي غريب ولم يجاوزه. وقال أبو حاتم: حدثنا بندار، حدثنا أبو عاصم، عن عبد الحميد بن جعفر، عن صالح بن أبي غريب ولم يجاوزه والباقوت سكوت. فقال أبو زرعة وهو في السوق: «حدثنا أبو عاصم عن عبد الحميد بن جعفر عن صالح بن أبي غريب، عن كثير بن مرة الحضرمي، عن معاذ بن جبل قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من كان آخر كلامه لا

إله إلا الله دخل الجنة» وفي رواية «حرمه الله على النار» وتوفي رحمه الله. ويروى عن عبد الله بن شبرمة أنه قال: دخلت مع عامر الشعبي على مريض نعوده فوجدناه لما، ورجل يلقنه الشهادة ويقول له: لا إله إلا الله وهو يكثر عليه فقال له الشعبي. ارفق به، فكلم المريض وقال: إن تلقني أو لا تلقني. فإني لا أدعها ثم قرأ {وألزمهم كلمة التقوى وكانوا أحق بها وأهلها} فقال الشعبي الحمد لله الذي نجى صاحبنا هذا. وقيل للجنيد رحمه الله عند موته: قل لا إله إلا الله فقال ما نسيته فأذكره. قلت: لا بد من تلقين الميت، وتذكيره الشهادة، وإن كان على غاية من

باب من حضر الميت فلا يلغو وليتكلم بخير وكيف الدعاء للميت إذا مات وفي تغميضه

التيقظ فقد ذكر أبو نعيم الحافظ «من حديث مكحول عن وائلة بن الأسقع عن النبي صلى الله عليه وسلم: احضروا موتاكم ولقنوهم: لا غله إلا الله، وبشروهم بالجنة، فإن الحكيم من الرجال والنساء يتحير عند ذلك المصرع، وإن الشيطان أقرب من ابن آدم عند ذلك المصرع والذي نفسي بيده لمعانية ملك الموت أشد من ألف ضربة بالسيف، والذي نفسي بيده لا تخرج نفس عبد من الدنيا حتى يتألم كل عضو منه على حياله» . وروي عن أبي هريرة قال: «سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: حضر ملك الموت رجلاً، قال: فنظر في قلبه فلم يجد فيه شيئاً، ففك لحييه فوجد طرف لسانه لاصقاً بحنكه يقول لا إله إلا الله فغفر له بكلمة الإخلاص» . ذكر ابن أبي الدنيا في كتاب المحتضرين بإسناده. وخرجه الطبراني بمعناه وسيأتي في آخر أبواب الجنة إن شاء الله. باب من حضر الميت فلا يلغو وليتكلم بخير وكيف الدعاء للميت إذا مات وفي تغميضه مسلم «عن أم سلمة رضي الله عنه قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذ حضرتم المريض أو الميت فقولوا: خيراً. فإن الملائكة يؤمنون على ما تقولون» . قالت: «

فلما مات أبو سلمة أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت يا رسول الله: إن أبا سلمة قد مات فقال: قولي: اللهم اغفر لي وله وأعقبني منه عقبى حسنة قالت: فقلت. فأعقبني الله من هو خير منه: رسول الله صلى الله عليه وسلم» . وعنها قالت: «دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على أبي سلمة وقد شق بصره فأغمضه ثم قال: إن الروح إذا قبض تبعه البصر فضج ناس من أهله، فقال: لا تدعوا على أنفسكم إلا بخير فإن الملائكة يؤمنون على ما تقولون ثم قال: اللهم اغفر لأبي سلمة وارفع درجته في المهديين، واخلفه في عقبه في الغابرين، واغفر لنا وله يا رب العالمين، وافسح له في قبره، ونور له فيه» . فصل: قال علماؤنا: قوله عليه السلام: «إذا حضرتم المريض أو الميت فقولوا خيراً» أمر ندب وتعليم بما يقال عند المريض أو الميت، وإخبار بتأمين الملائكة على دعاء من هناك، ولهذا استحب العلماء: أن يحضروا الميت الصالحون، وأهل الخير حالة موته ليذكروه، ويدعوا له ولمن يخلفه ويقولوا خيراً فيجتمع دعاؤهم وتأمين الملائكة فينتفع بذلك الميت ومن يصاب به ومن يخلفه.

باب منه وما يقال عند التغميض

باب منه وما يقال عند التغميض ابن ماجه. «عن شداد بن أوس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا حضرتم مؤتاكم فأغمضوا البصر فإن البصر يتبع الروح، وقولوا خيراً فإن الملائكة تؤمن على ما قال أهل الميت» . وذكر الخرائطي أبو بكر محمد بن جعفر قال: حدثنا أبو موسى عمران بن موسى قال، حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة. قال حدثنا إسماعيل ابن علية عن هشام بن حسان عن حفصة بنت سيرين عن أم الحسن قالت: كنت عند أم سلمة فجاءها إنسان فقال، فلان بالموت فقالت لها انطلقي فإذا احتضر فقولي السلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين. وخرج من حديث سفيان الثوري عن سليمان التيمي عن بكر ابن عبد الله المزني قال: إذا غمضت الميت فقل بسم الله وعلى ملة رسول الله صلى الله عليه وسلم وسبح. ثم تلا سفيان {والملائكة يسبحون بحمد ربهم} قال أبو داود: تغميض الميت إنما هو بعد خروج الروح. سمعت محمد ابن أحمد المقري قال سمعت أبا ميسرة، وكان رجلاً عابداً يقول: غمضت جعفر المعلم وكان رجلاً عاقلاً في حالة الموت فرأيته في منامي

باب ما جاء أن الميت يحضر الشيطان عند موته وجلساؤه في الدنيا وما يخاف من سوء الخاتمة

يقول: أعظم ما كان علي تغميضك قبل أن أموت. باب ما جاء أن الميت يحضر الشيطان عند موته وجلساؤه في الدنيا وما يخاف من سوء الخاتمة «روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أن العبد إذا كان عند الموت قعد عنده شيطانان الواحد عن يمينه والآخر عن شماله، فالذي عن يمينه على صفة أبيه، يقول له: يا بني إني كنت عليك شفيقاً ولك محباً، ولكن مت على دين النصارى فهو خير الأديان، والذي على شماله على صفة أمه، تقول له: يا بني إنه كان بطني لك وعاء، وثديي لك سقاء، وفخذي لك وطاء، ولكن مت على دين اليهود وهو خير الأديان» ، ذكره أبو الحسن القابسي في شرح رسالة ابن أبي زيد له، وذكر معناه أبو حامد في كتاب كشف علوم الآخرة، وإن عند استقرار النفس في التراقي والارتفاع تعرض عليه الفتن وذلك أن إبليس قد أنفذ أعوانه إلى هذا الإنسان خاصة واستعملهم عليه ووكلهم به، فيأتون المرء وهو على تلك الحال فيتمثلون له في صورة من سلف من الأحباب الميتين الباغين له النصح في دار الدنيا، كالأب

والأم والأخ والأخت والصديق الحميم، فيقولون له: أنت تموت يا فلان ونحن قد سبقناك في هذا الشأن فمت يهودياً فهو الدين المقبول عند الله تعالى، فإن انصرم عنهم وأبي، جاءه آخرون وقالوا له: مت نصرانياً فإنه دين المسيح وقد نسخ الله به دين موسى ويذكرون له عقائد كل ملة، فعند ذلك يزيغ الله من يريد زيغه وهو معنى قوله تعالى: {ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة} أي لا تزغ قلوبنا عند الموت وقد هديتنا من قبل هذا زماناً، فإذا أراد الله بعبده هداية وتثبيتاً جاءته الرحمة، وقيل: هو جبريل عليه السلام فيطرد عنه الشياطين ويمسح الشحوب عن وجهه فيبتسم الميت لا محالة، وكثير من يرى متبسماً في هذا المقام فرحاً بالبشير الذي جاءه من الله تعالى فيقول: يا فلان أما تعرفني؟ أنا جبريل وهؤلاء أعداؤك من الشياطين مت على الملة الحنيفية والشريعة الجليلة. فما شيء أحب إلى الإنسان وأفرح منه بذلك الملك، وهو قوله تعالى: {وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب} ثم يقبض عند الطعنة على ما يأتي. وقال عبد الله بن أحمد بن حنبل: حضرت وفاة أبي أحمد، وبيدي الخرقة لأشد لحييه، فكان يغرق ثم يفيق ويقول بيده: لا بعد لا بعد. فعل هذا مراراً فقلت له: يا أبت أي شيء ما يبدو منك؟ فقال: إن الشيطان قائم بحذائي عاض على أنامله يقول: يا أحمد فتني وأنا أقول لا. بعد لا. حتى أموت.

قلت: وقد سمعت شيخنا الإمام أبا العباس أحمد بن عمر القرطبي بثغر الإسكندرية يقول: حضرت أخا شيخنا أبي جعفر أحمد بن محمد بن محمد القرطبي بقرطبة وقد احتضر. فقيل له: قل: لا إله إلا الله، فكان يقول: لا. لا. فلما أفاق ذكرنا له ذلك فقال: أتاني شيطانان عن يميني وعن شمالي. يقول أحدهما: مت يهودياً فإنه خير الأديان، والآخر يقول: مت نصرانياً فإنه خير الأديان فكنت أقول لهما: لا لا إلي تقولان هذا؟ وقد كتبت بيدي في كتاب الترمذي والنسائي عن النبي صلى الله عليه وسلم «إن الشيطان يأتي أحدكم عند موته فيقول: مت يهودياً مت نصرانياً» فكان الجواب لهما لا لكما. قلت: ومثل هذا عن الصالحين كثير يكون الجواب للشيطان لا لمن يلقنه الشهادة، وقد تصفحت كتاب الترمذي أبي عيسى، وسمعت جميعه، فلم أقف على هذا الحديث فيه، فإن كان في بعض النسخ فالله أعلم. وأما كتاب النسائي فسمعت بعضه وكان عندي كثير منه. فلم أقف عليه وهو نسخ. فيحتمل أن يكون في بعضها. والله أعلم.

وروى ابن المبارك وسفيان عن ليث عن مجاهد قال: ما من ميت إلا تعرض عليه أهل مجالسه الذين كان يجالس، إن كان أهل لهو فأهل لهو، وإن كانوا أهل ذكر فأهل ذكر. وقال الربيع بن شبرة بن معبد الجهني وكان عابداً بالبصرة: أدركت الناس بالشام وقيل لرجل: يا فلان قل: لا إله إلا الله قال: اشرب واسقني، وقيل لرجل بالأهواز يا فلان قل: لا إله إلا الله فجعل يقول: ده يازده دوازده تفسيره: عشرة، أحد عشرة، اثنا عشر. كان هذا الرجل من أهل العمل والديوان، فغلب عليه الحساب والميزان. ذكر هذا التفسير أبو محمد عبد الحق. قال الربيع: وقيل لرجل ها هنا بالبصرة يا فلان قل: لا إله إلا الله فجعل

يقول: يا رب قائلة يوماً وقد لغبت ... أين الطريق إلى حمام منجاب قال الفقيه أبو بكر أحمد بن سليمان بن الحسن النجاد: هذا رجل قد استدلته امرأة إلى الحمام، فدلها إلى منزله فقاله عند الموت. وذكر أبو محمد عبد الحق هذه الحكاية، في كتاب العاقبة له فقال: وهذا الكلام له قصة، وذلك أن رجلاً كان واقفاً بإزاء داره، وكان بابه يشبه باب حمام فمرت به جارية لها منظر وهي تقول: أين الطريق إلى حمام منجاب؟ فقال لها: هذا حمام منجاب. وأشار إلى داره فدخلت الدار ودخل وراءها، فلما رأت نفسه معه في دار وليس بحمام علمت أنه خدعها أظهرت له البشر والفرح باجتماعها معه على تلك الخلوة وفي تلك الدار وقالت له: يصلح معنا ما نطيب به عيشنا وتقر به أعيننا فقال لها: الساعة آتيك بكل ما تريدين وبكل ما تشتهين، فخرج وتركها في الدار ولم يقفلها، وتركها محلولة على حالها ومضى، فأخذ ما يصلح لهما ورجع، ودخل الدار فوجدها قد خرجت وذهبت ولم يجد لها أثراً، فهام

الرجل بها وأكثر الذكر لها والجزع عليها وجعل يمشي في الطرق والأزقة وهو يقول: يا رب قائلة يوماً قد لغبت ... أين الطريق إلى حمام منجاب وإذا بجارية تجاوبه من طاق وهي تقول: هلا جعلت لها لما ظفرت بها ... حرزاً على الدار أو قفلاً على الباب فزاد هيمانه واشتد هيجانه، ولم يزل كذلك حتى كان من أمره ما ذكر. فنعوذ بالله من المحن والفتن. قلت: ومثل هذا في الناس كثير ممن غلب عليه الاشتغال بالدنيا والهم بها أو سبب من أسبابها، حتى لقد حكي لنا أن بعض السماسرة جاء عنده الموت فقيل له: قل: لا إله إلا الله. فجعل يقول: ثلاثة ونصف أربعة ونصف. غلبت عليه السمسرة.

ولقد رأيت بعض الحساب وهو في غاية المرض، يعقد بأصابعه ويحسب. وقيل لآخر: قل: لا إله إلا الله فجعل يقول: الدار الفلانية أصلحوا فيها كذا والجنان الفلاني اعملوا فيها كذا. وقيل لآخر: قل: لا إله إلا الله فجعل يقول: عقلك الحمارة وقيل لآخر: قل: لا إله إلا الله فجعل يقول: البقرة الصفراء، غلب عليه حبها والاشتغال بها. نسأل الله السلامة والممات على الشهادة بمنه وكرمه. ولقد حكى ابن ظفر في كتاب النصائح له قال: كان يونس بن عبيد [رحمه الله تعالى ـ بزازاً، وكان لا يبيع في طرفي النهار ولا في يوم غيم، فأخذ يوماً ميزانه فرضه بين حجرين فقيل له: هلا أعطيته الصانع فأصلح فساده؟ فقال: لو علمت فيه فساداً لما أبقيت من مالي قوت ليلة. قيل له: فلم كسرته؟ قال: حضرت الساعة رجلاً احتضر فقلت له: قل: لا إله إلا الله فامتعض، فألححت عليه فقال: ادع الله لي فقال: هذا لسان الميزان

باب ما جاء في سوء الخاتمة وما جاء أن الأعمال بالخواتيم

على لساني يمنعني من قولها. قلت: أفما يمنعك إلا من قولها؟ فقال: نعم. قلت: وما كان عملك به؟ قال: ما أخذت ولا أعطيت به إلا حقاً في علمي، غير أني كنت أقيم المدة لا أفتقده ولا أحتبره. فكان يونس بعد ذلك يشترط على من يبايعه أن يأتي بميزان ويزن بيده وإلا لم يبايعه. باب ما جاء في سوء الخاتمة وما جاء أن الأعمال بالخواتيم مسلم «عن أبي هريرة عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إن الرجل ليعمل الزمان الطويل يعمل أهل الجنة ثم يختم له عمله بعمل أهل النار، وإن الرجل ليعمل الزمان الطويل بعمل أهل النار ثم يختم له بعمل أهل الجنة» . وفي البخاري «عن سهل بن سعد، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن العبد ليعمل عمل أهل النار وإنه من أهل الجنة، ويعمل عمل أهل الجنة وإنه من أهل النار، وإنما الأعمال بالخواتيم» . قال أبو محمد عبد الحق: اعلم أن سوء الخاتمة ـ أعاذنا الله منها ـ لا

تكون لمن استقام ظاهره وصلح باطنه، ما سمع بهذا ولا علم به ـ الحمد لله ـ وإنما تكون لمن كان له فساد في العقل، أو إصرار على الكبائر، وإقدام على العظائم. فربما غلب ذلك عليه حتى ينزل به الموت قبل التوبة، فيصطلمه الشيطان عند تلك الصدمة، ويختطفه عند تلك الدهشة، والعياذ بالله، ثم العياذ بالله، أو يكون ممن كان مستقيماً، ثم يتغير عن حاله ويخرج عن سننه، ويأخذ في طريقه، فيكون ذلك سبباً لسوء خاتمه وشؤم عاقبته، كإبليس الذي عبد الله فيما يروى ثمانين ألف سنة، وبلعام بن باعوراء الذي آتاه الله آياته فانسلخ منها بخلوده إلى الأرض، واتباع هواه، وبرصيصا العابد الذي قال الله في حقه {كمثل الشيطان إذ قال للإنسان اكفر} . ويروى: أنه كان بمصر رجل ملتزم مسجداً للأذان والصلاة، وعليه بهاء العبادة وأنوار الطاعة، فرقي يوماً المنارة على عادته للأذان، وكان تحت المنارة دار لنصراني ذمي، فاطلع فيها فرأى ابنة صاحب الدار، فافتتن بها وترك الأذان، ونزل إليها ودخل الدار فقالت له: ما شأنك ما تريد؟ فقال: أنت أريد. قالت: لماذا؟ قال لها: قد سلبت لبي وأخذت بمجامع قلبي. قالت: لا أجيبك إلى ريبة. قال لها: أتزوجك. قالت له: أنت مسلم وأنا نصرانية وأبي لا يزوجني منك قال لها: أتنصر. قالت: إن فعلت أفعل.

فتنصر ليتزوجها، وأقام معها في الدار. فلما كان في أثناء ذلك اليوم رقي إلى سطح كان في الدار فسقط منه فمات، فلا هو بدينه ولا هو بها. فنعوذ بالله ثم نعوذ بالله من سوء العاقبة وسوء الخاتمة. ويروى أن رجلاً علق بشخص وأحبه، فتمنع عنه واشتد نفاره فاشتد كلف البائس إلى أن لزم الفراش، فلم تزل الوسائط تمشي بينهما حتى وعد بأن يعود، فأخبر بذلك ففرح واشتد فرحه وسروره، وانجلى عنه بعض ما كان يجده، فلما كان في بعض الطريق رجع وقال: والله لا أدخل مداخل الريب، ولا أعرض بنفسي لمواقع التهم فأخبر بذلك البائس المسكين فسقط في يده، ورجع إلى أسوأ ما كان به وبدت علامات الموت وأمارته عليه. قال الراوي: فسمعته يقول وهو في تلك الحال:

سلام يا راحة العليل ... وبرد ذل الدنف النحيل رضاك أشهى إلى فؤادي ... من رحمة الخالق الجليل قال: فقلت له: يا فلان اتق الله تعالى فقال: قد كان ما كان. فقمت عنه فما جاوزت باب داره حتى سمعت صيحة الموت قد قامت عليه. فنعوذ بالله من سوء العاقبة وشؤم الخاتمة. قال المؤلف رحمه الله: «روى البخاري عن سالم عن عبد الله قال: كان كثيراً ما

كان النبي يحلف: لا ومقلب القلوب» ومعناه يصرفها أسرع من مر الريح على اختلاف في القبول والرد والإرادة والكراهية وغير ذلك من الأوصاف. وفي التنزيل {واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه} قال مجاهد: المعنى يحول بين المرء وعقله حتى لا يدري ما يصنع. بيانه: {إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب} أي عقل، واختار الطبري أن يكون ذلك إخباراً من الله تعالى بأنه أملك لقلوب العباد منهم وأنه يحول بينهم وبينها إذا شاء، حتى لا يدرك الإنسان شيئاً إلا بمشيئة الله عز وجل. وقالت عائشة رضي الله عنها: «كان النبي صلى الله عليه وسلم يكثر أن يقول يا مقلب القلوب ثبت قلبي على طاعتك فقلت: يا رسول الله إنك تكثر أن تدعو بهذا الدعاء فهل تخشى؟ قال: وما يؤمنني يا عائشة وقلوب العباد بين أصبعين من أصابع الجبار إذا أراد أن يقلب قلب عبده قلب» .

قال العلماء: وإذا كانت الهداية إلى الله مصروفة، والإستقامة على مشيته موقوفة، والعاقبة مغيبة، والإرادة غير مغالبة، فلا تعجب بإيمانك وعملك وصلاتك وصومك وجميع قربك، فإن ذلك وإن كان من كسبك فإنه من خلق ربك وفضله الدار عليك وخيره، فمهما افتخرت بذلك، كنت كالمفتخر بمتاع غيره، وربما سلب عنك فعاد قلبك من الخير أخلى من جوف البعير، فكم من روضة أمست وزهرها يانع عميم. فأصبحت وزهرها يابس هشيم، إذ هبت عليها الريح العقيم. كذلك العبد يمسي وقلبه بطاعة الله مشرق سليم، فيصبح وهو بمعصية مظلم سقيم. ذلك فعل العزيز الحكيم الخلاق العليم. روى النسائي عن عثمان رضي الله عنه قال: [اجتنبوا الخمر فإنها أم الخبائث إنه كان رجل ممن كان قبلكم تعبد، فعلقت امرأة غوية فأرسلت إليه جاريتها فقالت له: إنا ندعوك للشهادة، فانطلق مع جاريتها فطفقت الجارية كلما دخل باباً أغلقته دونه حتى أفضت إلى امرأة وضيئة أي جميلة عندها غلام

وباطية خمر فقالت: إني والله ما دعوتك للشهادة ولكن دعوتك لتقع علي، أو تشرب من هذه الخمر كأساً أو تقتل هذا الغلام قال فاسقني من هذه الخمر؟ فسقته كأساً قال: زيدوني فلم يزل يشرب حتى وقع عليها وقتل الغلام. فاجتنبوا الخمر فإنه والله لا يجتمع الإيمان وإدمان الخمر إلا ليوشك أن يخرج أحدهما صاحبه] . ويروى أن رجلاً أسيراً مسلماً، وكان حافظاً للقرآن، خص بخدمة راهبين، فحفظا منه آيات كثيرة لكثرة تلاوته فأسلم الرهبان وتنصر المسلم. وقيل له: ارجع إلى دينك فلا حاجة لنا فيمن لم يحفظ دينه. قال: لا أرجع إليه أبداً فقتل، وفي الخبر قصته، والحكايات كثيرة في هذا الباب نسأل الله السلامة والممات على الشهادة. وأنشد بعضهم: قد جرت الأقلام في ذي الورى ... بالختم من أمر الحكيم العليم فمن سعيد وشقي ومن ... مثر من المال وعار عديم

بالب ما جاء في رسل ملك الموت قبل الوفاة

ومن عزيز رأسه في السها ... ومن ذليل وجهه في التخوم ومن صحيح شيدت أركانه ... وآخر واهي المباني سقيم كل على منهاجه سالك ... ذلك تقدير العزيز العليم وقال الربيع: سئل الشافعي عن القدر فأنشأ يقول: ما شئت كان وإن لم أشأ ... وما شئت إن لم تشأ لم يكن خلقت العباد على ما علمت ... ففي العلم يجري الفتى والمسن على ذا مننت وهذا خذلت ... وهذا أغنت وذا لم تعن فمنهم شقي ومنهم سعيد ... ومنهم قبيح ومنهم حسن ومنهم غني ومنهم فقير ... وكل بأعماله مرتهن بالب ما جاء في رسل ملك الموت قبل الوفاة ورد في الخبر: أن بعض الأنبياء عليهم السلام قال لملك الموت عليه السلام: أمالك رسول تقدمه بين يديك ليكون الناس على حذر منك؟ قال: نعم لي والله رسل كثيرة من الإعلال والأمراض والشيب والهموم وتغير السمع والبصر، فإذا لم يتذكر من نزل به ولم يتب، فإذا قبضته ناديته: ألم أقدم إليك رسولاً بعد رسول ونذيراً بعد نذير؟ فأنا الرسول الذي ليس بعدي رسول، وأنا النذير الذي ليس بعدي نذير. فما من يوم تطلع فيه شمس ولا

تغرب إلا وملك الموت ينادي: يا أبناء الأربعين، هذا وقت أخذ الزاد، أذهانكم حاضرة وأعضاؤكم قوية شداد. يا أبناء الخمسين قد دنا وقت الأخذ والحصاد. با ابناء الستين نسيتم العقاب وغفلتم عن رد الجواب فما لكم من نصير {أولم نعمركم ما يتذكر فيه من تذكر وجاءكم النذير} ذكره أبو الفرج ابن الجوزي في كتاب روضة المشتاق والطريق إلى الملك الخلاق. وفي البخاري، «عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي قال: أعذر الله إلى امرىء أخر أجله حتى بلغ ستين سنة» يقال أعذر في الأمر أي بالغ فيه أي اعذر غاية الإعذار بعبده وأكبر الأعذار إلى بني آدم بعثة الرسل إليهم ليتم حجته عليهم {وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً} وقال {وجاءكم النذير} قيل: هو القرآن. وقيل: هو الرسل إليهم. وعن ابن عباس وعكرمة وسفيان ووكيع والحسين بن

الفضل والفراء والطبري قالوا: هو الشيب فإنه يأتي في سن الاكتهال. فهو علامة لمفارقته سن الصبا الذي هو سن اللهو واللعب قال: رأيت الشيب من نذير المنايا ... لصاحبه وحسبك من نذير وقال آخر: تقول النفس غير لون هذا ... عساك تطيب في عمر يسير فقلت لها المشيب نذير عمري ... ولست مسوداً وجه النذير وقال آخر: وقائلة: تخضب فالغواني ... نوافر عن معاينة النذير وللقاضي منذر بن سعيد البلوطي رحمة الله تعالى عليه: كم تصابي وقد علاك المشيب ... وتعامى جهلاً وأنت اللبيب كيف تلهو وقد أتاك نذير ... وشباك الحمام منك قريب

يا مقيماً قد حان منه رحيل ... بعد ذاك الرحيل يوم عصيب إن للموت سكرة فارتقبها ... لا يداويك إذا أتتك طبيب ثم تثوى حتى تصير رهيناً ... ثم يأتيك دعوة فتجيب بأمور المعاد أنت عليم ... فاعلمن جاهداً لها يا أريب وتذكر يوماً تحاسب فيه ... إن من يذكر الممات ينيب ليس في ساعة من الدهر إلا ... للمنايا عليك فيها رقيب كل يوم ترميك منها بسهم ... إن يخطىء يوماً فسوف يصيب وله أيضاً رضي الله عنه: ثلاث وستون قد جزتها ... فماذا تؤمل أو تنتظر وحل عليك نذير المشيب ... فما ترعوي أو فما تزدجر تمر الليالي مراً حثصيثاً ... وأنت على ما ألاى مستمر فلو كنت تعقل ما ينقضي ... من العمر لاعتضت خيراً بشر فما لك ـ ويحك ـ لا تستعد إذن ... لدار المقام ودار المقر أترغب عن فجأة للمنون ... وتعلم أن ليس منها وزر فإما إلى الجنة أزلفت ... وإما إلى سقر تستعر

وللفقيه أبي عبد الله محمد بن أبي ذمنين رحمة الله تعالى آمين: الموت في كل حين ينشر الكفنا ... ونحن في غفلة عما يداوينا لا تطمئن إلى الدنيا وبهجتها ... وإن توشحت من أثوابها الحسنا أين الأحبة والجيران ما فعلوا ... أين الذين همو كانوا لنا سكنا

سقاهم الموت كأساً غير صافية ... فصيرتهم لأطباق الثرى رهنا وروي أن ملك الموت دخل على داود عليه السلام فقال من أنت؟ فقال من لا يهاب الملوك ولاتمنع منه القصور ولا يقبل الرشا، قال: فإذا أنت ملك الموت قال: نعم. قال: أتيتني ولم أستعد بعد؟ قال يا دواد أين فلان قريبك؟ أين فلان جارك؟ قال: مات، قال أما كان لك في هؤلاء عبرة لتستعد. وقيل: النذير الحمى. ومنه قوله صلى الله عليه وسلم «الحمى نذير الموت» أي رائد الموت. قال الأزهري معناه أن الحمى رسول الموت أي كأنها تشعر بقدومه وتنذر بمجيئه وقيل: موت الأهل والأقارب والأصحاب والإخوان، وذلك إنذار الرحيل في كل وقت وأوان وحين وزمان. قال: وأراك تحملهم ولست تردهم ... وكأني بك قد حملت فلم ترد وقيل: كمال العقل الذي تعرف به حقائق الأمور. ويفصل به بين الحسنات والسيئات، فالعاقل يعمل لآخرته، ويرغب فيما عند ربه، فهو نذير، والنذير بمعنى الإنذار والإعذار قريب يعضه من بعض، وأكبر الإعذار إلى بني آدم بعثه الرسل إليهم ثم الشيب أو غيره كما بينا. وجعل الستين غاية الإعذار لأن الستين قريب من معترك المنيا وهو سن الإنابة والخشوع والاستسلام لله، وترقب المنية، ولقاء الله ففيه إعذار بعد إعذار، وإنذار بعد إنذار. الأول: بالنبي صلى الله عليه وسلم. والثاني: بالشيب وذلك عند كمال الأربعين، قال الله تعالى: {وبلغ أربعين سنة قال رب أوزعني أن أشكر نعمتك} فذكر عز وجل: أن من بلغ الأربعين فقط أن له أن يعلم مقدار نعم الله عليه وعلى والديه ويشكرها. قال مالك رحمه الله: أدركت أهل العلم ببلدنا وهم يطلبون الدنيا

ويخالطون الناس حتى يأتي لأحدهم أربعون سنة فإذا أتت عليهم اعتزلوا الناس. تنبيه: هذا الباب هو الأصل في إعذار الحكام إلى المحكوم عليه مرة بعد أخرى، وكان هذا لطفاً بالخلق ولتنفيذ القيام عليهم بالحق. حكي عن بعض العلماء أنه كان يميل إلى الراحات وكثيراً وكان يخلو في بستان له بأصحابه فلا يأذن لأحد سواهم فبينما هو في البستان إذ رأى رجلاً يتخلل الشجر فغضب وقال: من أذن لهذا وجاء الرجل فجلس أمامه، وقال: ما ترى في رجل ثبت عليه الحق فزعم أن له مدافعة تدفعه عنه؟ فقال ينظره الحاكم بقدر ما يرى. قال السائل: قد ضرب له الحاكم أجلاً فلم يأت بمنفعة ولا أقلع عن اللدد والمدافعة: قال يقضي عليه. قال فإن الحاكم رفق به وأمهله أكثر من خمسين سنة فأطرق الفقيه وتحدر عرق وجهه وذهب السائل، ثم إن العالم أفاق من فكرته فسأل عن السائل فقال البواب: ما دخل أحد عليكم ولا خرج من عندكم أحد: فقال لأصحابه انصرفوا فما كان يرى بعد ذلك إلا مجلس يذكر فيه العلم.

فصل: وقد رأيت أن أصل بهذه الحكاية حكايات في الشيب على سبيل الوعظ والتذكير والتخويف والتحذير. حكي عن بعض المترفين أنه رفض ما كان فيه بغتة على غير تدريج، فسئل عن السبب فقال ما معناه: كانت لي أمة لا يزيدني طول الاستمتاع منها إلا غراماً بها فقلبت شعرها يوماً فإذا فيه شعرتان بيضاوان فأخبرتها فارتاعت: وقالت أرني فأريتها: فقالت {جاء الحق وزهق الباطل} ثم نظرت إلي وقالت: أعلم أنه لو لم تفترض علي طاعتك لما أويت إليك فدع لي ليلي أو نهاري لأتزود فيه لآخرتي، فقلت لا ولا كرامة. فغضبت وقالت: أتحول بيني وبين ربي وقد آذنني بلقائه؟ اللهم بدل حبه لي بغضاً قال: فبت وماشيء أحب إلي من بعدها عني وعرضتها للبيع فأتاني من أعطاني فيها ما أريد، فلما عزمت على البيع بكت فقلت أنت أردت هذا، فقالت: والله ما اخترت عليك شيئاً من الدنيا هل لك إلى ما هو خير لك من ثمني؟ قلت: وما هو قالت: تعتقني لله عز وجل، فإن أملك لك منك لي وأعود عليك منك علي، فقلت: قد فعلت. فقالت: أمضى الله صفقتك وبلغك أضعاف أملك وتزهدت فبغضت إلى الدنيا ونعيمها.

وقال عبد الله بن أبي نوح: رأيت كهلاً بمسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يزال يتفض الغبار عن جدرانه فسألت عنه فقيل إنه من ولد عثمان بن عفان رضي الله عنه وأن له أولاداً وموالي ونعمة موفورة، وأنه اطلع في امرأته فصرخ وجن ولزم المسجد كما ترى. وإذا أراد أهله أن يأخذوه ليداووه ويصونه هرب منهم وعاذ بالقبر المكرم فتركوه، فرقبته نهاراً فلم أرمنه اختلالا، ورقبته ليلاً فلما ذهب جنح من الليل خرج من المسجد فتبعته حتى أتى البقيع، فقام يصلي ويبكي حتى قرب طلوع الفجر، فجلس يدعو وجاءت إليه دابة لا أدري أشاة أم ظبية أم غيرها فقامت عنده وتفاجت فالتقم ضرعها فشرب ثم

مسح ظهرها وقال: اذهبي بارك الله فيك فولت تهرع فانسللت فسبقته إلى المسجد فأقمت ليالي أخرج بخروجه إلى البقيع ولا يشعر بي وسمعته يقول في مناجاته: اللهم إنك أرسلت إلي ولم تأذن لي فإن كنت قد رضيتني فائذن لي وإن لم ترضني فوفقني لما يرضيك قال: فلما حان رحيلي أتيته مودعاً فتهجمني فقلت: أنا صاحبك منذ ليال بالبقيع أصلي بصلاتك وأؤمن على دعائك قال: هل اطلعت على ذلك أحداً؟ قلت: لا. قال: انصرف راشداً قلت: ما الرسول الذي أرسل إليك؟ قال: اطلعت في المرآة فرأيت شيبة في وجهي. فعلمت أنها رسول الله إلي فقلت: ادع لي قال: ما أنا أهل لذلك، ولكن تعال

نتسول إلى الله برسوله فقمت معه تجاه القبر المكرم فقال ما حاجتك؟ قلت: العفو فدعا دعاء خفيفاً فأمنت، ثم مال على جدار القبر فإذا هو ميت فتنحيت عنه حتى فطن الناس له، وجاء أولاده ومواليه فاحتملوه وجهزوه وصليت عليه فيمن صلى. ويقال أن ملكاً من ملوك اليونان استعمل على ملبسه أمة أدبها بعض الحكماء فألبسته يوماً ثيابه وأرته المرآة فرأى في وجهه شعرة بيضاء فاستدعى بالمقراض وقصها فأخذتها الأمة فقبلتها ووضعتها على كفها وأصغت بأذنها إليها، فقال لها الملك: إلى أي شيء تصغين؟ فقالت: إنني أسمع هذه المبتلاة بفقد كرامة قرب الملك تقول قولاً عجيباً قال: ما هو؟ فالت: لا يجترى لساني على النطق به. قال: قولي وأنت آمنة ما لزمته الحكمة. قالت ما معناه أنها تقول: أيها الملك المسلط إلى أمد قريب إني خفت بطشك بي فلم أظهر حتى عهدت إلى بناتي أن يأخذن بثأري، وكأنك بهن قد خرجن عليك فإما أن يعجلن إلفتك بك وإما أن بنقصن شهوتك وقوتك وصحتك حتى تعد الموت غنماً فقال: اكتبي كلامك فكتبته فتدبره، ثم نبذ ملكه في حديث، وهذا المقصود منه

وفي معناه قيل: وزائرة للشيب لاحت بمفرقي ... ... فبادرتها خوفاً من الحتف بالنتف فقالت: على ضعفي استطعت، ووحدتي ... ... رويدك حتى يلحق الجيش من خلفي وفي الاسرائيليات أن إبراهيم الخليل لما رجع من تقريب ولده إلى ربه عز وجل رأت سارة في لحيته شعرة بيضاء، ومان عليه السلام أول من شاب على وجه الأرض فأنكرتها وأرته إياها فجعل يتأملها وأعجبته وكرهتا سارة، وطالبته بإزالتها فأبى، فأتاه ملك الموت. فقال: السلام عليك يا إبراهيم وكان اسمه ابرام فزاده في اسمه هاء والهاء في السريانية للتفخيم والتفظيم، ففرح بذلك فقال: أشكر إلهي وإله كل شيء. فقال له الملك: إن الله قد صيرك معظماً في أهل السموات وأهل الأرض وقد وسمك بسمة أهل الوقار في اسمك وفي خلقك. أم اسمك فإنك تدعى في أهل السماء وأهل الأرض إبراهيم، وأما خلقك فقد أنزل وقاراً ونوراً على شعرك. فأخبر سارة بما قال له الملك وقال هذا الذي كرهتيه نور ووقار، قالت: إني كارهة له. قال: لكني أحبه اللهم زدني نوراً ووقاراً فأصبح وقد ابيضت لحيته كلها. وفي الآثار النبوية: من شاب شيبة في الإسلام كانت له نوراً يوم القيامة.

باب متى تنقطع معرفة العبد من الناس وفي التوبة وبيانها. وفي التائب من هو؟

وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله ليستحي أن يعذب ذا شيبة» ، والأخبار في هذا الباب كثيرة. وكذلك الشعر اكتفينا منه بما ذكرنا وبالله توفيقنا. وقال أعرابي في الشيب والخضاب: يا بؤس من فقد الشباب وغيرت ... منه مفارق رأسه بخضاب يرجو غضارة وجهه بخضابه ... ومصير كل عمارة لخراب شيئان لو بكت الدماء عليهما ... عيناي حتى يؤذنا بذهاب إني وجدت أجل كل مصيبة ... فقد الشباب وفرقة الأحباب باب متى تنقطع معرفة العبد من الناس وفي التوبة وبيانها. وفي التائب من هو؟ باب متى تنقطع معرفة العبد من الناس وفي التوبة وبيانها. وفي التائب من هو؟ ابن ماجه «عن أبي موسى الأشعري: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم متى تنقطع معرفة العبد من الناس؟ قال: إذا عاين» .

فصل: قوله: إذا عاين يريد إذا عاين ملك الموت أو الملائكة والله أعلم، وهو معنى قوله عليه السلام في الحديث الآخر: «إن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر» خرجه الترمذي أي عند الغرغرة وبلوغ الروح الحلقوم يعاين ما يصير إليه من رحمة أو هوان ولا تنفع حينئذ توبة ولا إيمان، كما قال تعالى في محكم البيان {فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا} وقال تعالى {وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إني تبت الآن} فالتوبة مبسوطة للعبد حتى يعاين قابض الأرواح، وذلك عند غرغرته بالروح، وإنما يغرغر به إذا قطع الوتين. فشخص من الصدر إلى الحلقوم. فعندها المعاينة، وعندها حضور الموت فاعلم ذلك. فيجب على الإنسان أن يتوب قبل المعاينة والغرغرة. وهو معنى قوله تعالى: {ثم يتوبون من قريب} . وقال ابن عباس والسدي: من قريب: قبل المرض والموت. وقال أبو مجلز والضحاك وعكرمة وابن زيد وغيرهم:

قبل المعاينة للملائكة والسوق وأن يغلب المرء على نفسه. ولقد أحسن محمود الوراق حيث قال: قدم لنفسك توبة مرجوة ... قبل الممات وقبل حبس الألسن بادر به غلق النفوس فإنها ... ذخر وغنم للمنيب المحسن قال علماؤنا ـ رحمهم الله ـ وإنما صحت منه التوبة في هذا الوقت لأن الرجاء باق ويصح الندم والعزم على ترك الفعل. وقيل: المعنى: يتوبون على قرب عهد من الذنب من غير إصرار. والمبادرة في الصحة أفضل وألحق لأمله من العمل الصالح والبعد كل البعد الموت. وأما ما كان قبل الموت فهو قريب. عن الضحاك أيضاً. وعن الحسن: لما هبط إبليس قال: بعزتك لا أفارق ابن آدم ما دام الروح في جسده. قال الله تعالى «وعزتي لا أحجب التوبة عن ابن آدم ما لم تغرغر نفسه» .

والتوبة فرض على المؤمنين باتفاق المسلمين لقوله تعالى: {وتوبوا إلى الله جميعاً أيها المؤمنون لعلكم تفلحون} وقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا توبوا إلى الله توبة نصوحاً} . ولها شروط أربعة: الندم بالقلب، وترك المعصية في الحال، والعزم على أن لا يعود إلى مثلها، وأن يكون ذلك حياء من الله تعالى وخوفاً منه لا من غيره فإذا اختل شرط من هذه الشروط لم تصح التوبة. وقد قيل: من شروطها: الاعتراف بالذنب وكثرة الإستغفار الذي يحل عقد الإصرار ويثبت معناه في الجنان لا التلفظ باللسان. فأما من قال بلسانه: أستغفر الله وقلبه مصر على معصيته فاستغفاره ذلك يحتاج إلى استغفار وصغيرته لا حقة بالكبائر. وروي عن الحسن البصري أنه قال: استغفارنا يحتاج إلى استغفار.

قال الشيخ المؤلف رحمه الله: هذا مقوله في زمانه فكيف في زماننا هذا الذي يرى فيه الإنسان مكباً على الظلم حريصاً عليه لا يقلع والبحة في يده زاعماً أنه يستغفر من ذنبه وذلك استهزاء منه واستخفاف. وهو ممن اتخذ آيات الله هزؤا وفي التنزيل {ولا تتخذوا آيات الله هزواً} . وروي عن علي رضي الله عنه أنه رأى رجلاً قد فرغ من صلاته وقال: اللهم إني أستغفرك وأتوب إليك سريعاً فقال له: يا هذا إن سرعة اللسان بالاستغفار توبة الكذابين وتوبتك تحتاج إلى توبة. قال يا أمير المؤمنين: وما التوبة؟ قال: إسم يقع على ستة معان: على الماضي من الذنوب، الندامة ولتضييع الفرائض الإعادة، ورد المظالم إلى أهلها، وإئاب النفس في الطاعة كما أذابتها في المعصية، وإذاقة النفس مرارة الطاعة كما أذقتها حلاوة المعصية، وأن تزين نفسك في طاعة الله كما زينتها في معصية الله، والبكاء بدل كل ضحك ضحكته. وقال أبو بكر الوراق: التوبة أن تكون نصوحاً. وهو أن تضيق عليك الأرض بما رحبت، وتضيق عليك نفسك كالثلاثة الذين خلفوا.

وقيل: التوبة النصوح هي رد المظالم واستحلال الخصوم وإدمان الطاعات. وقيل: غير هذا، وبالجملة فالذنوب التي يثاب منها إما كفر أو غيره، فتوبة الكافر إيمانه مع ندمه على سالف كفره وليس مجرد الإيمان نفس التوبة، وغير الكفر: إما حق الله وإما حق لغيره. فحق الله تعالى يكفي في التوبة منه الترك غير أن منها ما لم يكتف الشرع فيها بمجرد الترك، بل أضاف إلى ذلك في بعضها قضاء، كالصلاة والصوم. ومنها ما أضاف إليه كفارة كالحنث في الإيمان وغير ذلك. وأما حقوق الآدميين فلا بد من إيصالها إلى مستحقيها فإن لم يوجدوا تصدق عنهم، ومن لم يجد السبيل لخروج ما عليه لإعساره فعفو الله مأمول وفضله مبذول. فكم ضمن من التبعات وبدل من السيئات بالحسنات. وعليه أن يكثر من الأعمال الصالحات ويستغفر لمن ظلمه من المؤمنين والمؤمنات فهذا الكلام في حقيقة التوبة. وقد روي مرفوعاً في صفة التائب من «حديث ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال وهو في جماعة من أصحابه أتدرون من التائب؟ قالوا: اللهم لا. قال:

إذا تاب العبد ولم يرض خصماؤه فليس بتائب، ومن تاب ولم يغير لباسه فليس بتائب، ومن تاب ولم يغير مجلسه فليس بتائب. ومن تاب ولم يغير نفقته وزينته فليس بتائب، ومن تاب ولم يغير فراشه ووساده فليس بتائب، ومن تاب ولم يوسع خلقه فليس بتائب، ومن تاب ولم يوسع قلبه وكفه فليس بتائب» ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم: «فإذا تاب عن هذه الخصال فذلك تائب حقاً» قال العلماء: إرضاء الخصوم يكون بأن يرد عليهم ما غصبهم من مال أو خانهم أو غلهم أو اغتابهم أو خرق أعراضهم أو شتمهم أو سبهم فيرضيهم بما استطاع ويتحللهم من ذلك، فإن انقرضوا فإن كان لهم قبله مال رده إلى الورثة، وإن لم يعرف الورثة تصدق به عنهم ويستغفر لهم بعد الموت ويدعو: اللهم عوض الذم والغيبة لا خلاف في هذا، وأما تغيير اللباس فهو أن يستبدل ما عليه من الحرام بالحلال. وإن كانت ثياب كبر وخيلاء استبدلها بأطمار متوسطة، وتغيير المجلس: هو بأن يترك مجالس اللهو واللعب والجهال والأحداث.

ويجالس العلماء ومجالس الذكر والفقراء والصالحين ويتقرب إلى قلوبهم بالخدمة وبما يستطيع ويصافحهم. وتغيير الطعام بأن يأكل الحلال وبجانب ما كان من شبهة أو شهوة. ويغير أوقات أكله، ولا يقصد اللذيذ من الأطعمة. وتغيير النفقة هو بترك الحرام وكسب الحلال، وتغيير الزينة بترك التزين في الأثاث والبناء واللباس والطعام والشراب. وتغيير الفراش بالقيام بالليل عوض ما كان يشغله بالبطالة والغفلة والمعصية كما قال الله تعالى: {تتجافى جنوبهم عن المضاجع} . وتغيير الخلق هو بأن ينقلب خلقه من الشدة إلى اللين ومن الضيق إلى السعة ومن الشكاسة إلى السماحة. وتوسيع القلب يكون بالإنفاق ثقة بالقيام على كل حال، وتوسيع الكف بالسخاء والإيثار بالعطاء. هكذا يبدل كل ما كان فيه كشرب الخمر بكسره وسقي اللبن والعسل والزنا بكفالة الأرملة واليتيمة وتجهيزهما ويكون مع ذلك نادماً على ما سلف منه ومتحسراً على ما ضيع من عمره. فإذا كملت التوبة به على هذه الخصال التي ذكرنا والشروط التي

بينا تقبلها الله بكرمه وأنسى حافظيه وبقاع الأرض خطاياه وذنوبه. قال الله تعالى: {وإني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحاً ثم اهتدى} . والأصل في هذه الجملة: حديث أبي هريرة رضي الله عنه في الرجل الذي قتل مائة نفس ثم سأل: هل له من توبة؟ فقال له العالم: ومن يحول بينك وبينها، انطلق إلى أرض بني فلان فإن بها ناساً صالحين يعبدون الله، فاعبد الله معهم، ولا تعد إلى أرضك فإنها أرض سوء. الحديث أخرجه مسلم في الصحيح وفي مسند أبي داود الطيالسي: «حدثنا زهير بن معاوية، عن عبد الكريم الجزري، عن زياد وليس بابن أبي مريم، عن عبد الله بن مغفل قال: كنت مع أبي وأنا إلى جنبه عند عبد الله بن مسعود فقال له أبي: أسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: أن العبد إذا اعترف بذنبه ثم تاب إلى الله عز وجل تاب الله عليه؟ فقال: نعم سمعته يقول: الندم توبة» . وفي صحيح مسلم والبخاري «عن عائشة رضي الله عنها قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن العبد إذا اعترف بذنبه ثم تاب إلى الله تاب الله عليه» .

وروى أبو حاتم البستي في المسند الصحيح له «عن أبي هريرة رضي الله عنه وأبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جلس على المنبر ثم قال: والذي نفسي بيده ثلاث مرات ثم سكت فأكب كل رجل منا يبكي حزيناً ليمين رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال: ما من عبد يؤدي الصلوات الخمس ويصوم رمضان ويجتنب الكبائر السبع إلا فتحت له أبواب الجنة الثمانية يوم القيامة حتى أنها لتصفق. ثم تلا {إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم} » . قال الشيخ المؤلف رحمه الله: فدل القرآن على أن في الذنوب كبائر وصغائر، خلافاً لمن قال: كلها كبائر، حسب ما بيناه في سورة النساء، وأن الصغائر كاللمسة والنظرة تكفر باجتناب الكبائر قطعاً بوعده الصدق وقوله الحق، لا أنه يجب عليه ذلك، لكن بضميمة أخرى إلى الاجتناب، وهي إقامة الفرائض كما نص عليه الحديث. ومثله: ما رواه مسلم «عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان مكفرات ما بينهن إذا اجتنبت الكبائر» على هذا جماعة أهل التأويل وجماعة الفقهاء وهو الصحيح في الباب. وأما الكبائر فلا يكفرها إلا التوبة منها والإقلاع عنها كما بينا، وقد اختلف في تعيينها ليس هذا موضع ذكرها،

باب لا تخرج روح عبد مؤمن أو كافر حتى يبشر وأنه يصعد بها

وسيأتي في القصاص. وفي أبواب النار جملة منها إن شاء الله تعالى. باب لا تخرج روح عبد مؤمن أو كافر حتى يبشر وأنه يصعد بها ابن المبارك قال: أخبرنا حيوة قال: أخبرني أبو صخر عن محمد بن كعب القرظي قال: إذا استنقعت نفس العبد المؤمن جاءه ملك الموت فقال: السلام عليك يا ولي الله، الله يقرئك السلام ثم نزع بهذه الآية {الذين تتوفاهم الملائكة طيبين يقولون سلام عليكم} . وقال ابن مسعود: إذا جاء ملك الموت ليقبض روح المؤمن قال: ربك يقرئك السلام. وعن البراء بن عازب في قوله: {تحيتهم يوم يلقونه سلام} فيسلم ملك الموت على المؤمن عند قبض روحه، لا يقبض روحه حتى يسلم عليه. وقال مجاهد: إن المؤمن ليبشر بصلاح ولده من بعده لتقر عينه. ابن ماجه «عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: تحضر

الملائكة فإذا كان الرجل صالحاً قالوا: أخرجي أيتها النفس الطيبة كانت في الجسد الطيب. أخرجي حميدة وأبشري روح وريحان ورب راض غير غضبان. فلا يزال يقال لها ذلك حتى تخرج، ثم يعرج بها إلى السماء، فيفتح لها فيقال: من هذا؟ فيقولون: فلان بن فلان فيقال: مرحباً بالنفس الطيبة كانت في الجسد الطيب. ادخلي حميدة وأبشري بروح وريحان ورب راض غير غضبان. فلا يزال يقال لها ذلك حتى تنتهي إلى السماء التي فيها الله تعالى. فإذا كان الرجل السوء قال: اخرجي أيتها النفس الخبيثة كانت في الجسد الخبيث. أخرجي ذميمة وأبشري بجحيم وغساق لآخر من شكله أزواج. فلا يزال يقال لها ذلك حتى تخرج، ثم يعرج بها إلى السماء فيستفتح لها فيقال: من هذا؟ فيقال: فلان. فيقال: لا مرحباً بالنفس الخبيثة كانت في الجسد الخبيث. ارجعي ذميمة فإنها لا تفتح لك أبواب السماء. فترسل من السماء ثم تصير إلى القبر» . خرجه عن أبي بكر بن أبي شبيبة. قال: حدثنا شبابة بن يسار، سوار عن أبي ذئب عن محمد بن عمرو بن عطاء، عن سعيد بن يسار، عن أبي هريرة وهذا إسناد صحيح ثابت اتفق على رجاله البخاري ومسلم ما عدا ابن أبي شيبة فإنه لمسلم وحده خرجه عبد بن حميد أيضاً «عن ابن أبي ذئب قال محمد بن عمر، فحدثني سعيد بن يسار عن أبي هريرة عن

النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن الميت تحضرة الملائكة، فإذا كان الرجل الصالح قالوا: اخرجي أيتها الروح الطيبة» فذكره مسلم «عن أبي هريرة قال: إذا خرجت روح العبد المؤمن تلقاها ملكان يصعدان بها» . قال حماد: فذكر من طيب ريحها وذكر المسك: قال ويقول أهل السماء: روح طيبة جاءت من قبل الأرض. صلى الله عليك وعلى جسد كنت تعمرينه. فينطلق بها إلى ربه ثم يقول: انطلقوا بها إلى آخر الأجل، وإن الكافر إذا خرجت روحه قال حماد: وذكر من نتنها وذكر لعناً. ويقول أهل السماء: روح خبيثة جاءت من قبل الأرض قال: فيقال: انطلقوا بها إلى آخر الآجل قال أبو هريرة: فرد رسول الله صلى الله عليه وسلم ريطة كانت عليه على أنفه هكذا. البخاري. عن عبادة بن الصامت عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه، ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه» ، فقالت عائشة ـ أو بعض أزواجه: إنا لنكره الموت فقال: «ليس ذاك ولكن المؤمن إذا حضره الموت بشر برضوان من الله وكرامته فليس شيء أحب إليه مما أمامه فأحب لقاء الله وأحب الله لقاءه وإن الكافر إذا حضره الموت بشر بعذاب الله وعقوبته فليس شيء أكره إليه مما أمامه فكره لقاء الله وكره الله لقاءه،» أخرجه مسلم وابن ماجه من حديث عائشة وابن المبارك من حديث أنس رضي الله عنه.

فصل: هذا الحديث. وإن كان مفسراً مبيناً. فقد روي عن عائشة رضي الله عنها في تفسير هذا الحديث أنها قالت لشريح بن هاني وقد سألها عما سمعه من أبي هريرة وليس بالذي تذهب إليه، ولكن إذا شخص البصر وحشرج الصدر واقشعر الجلد تشنجت الأصابع فعند ذلك من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه، ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه. خرجه مسلم. وروي عنها أيضاً في تفسيره أنها قالت إذا أراد الله بعبد خيراً قيض به قبل موته بعام ملكاً فسدده ووقفه حتى يقول الناس: مات فلان خير ما كان، فإذا أحضر ورأى ثوابه تهوع نفسه أو قال تهوعت نفسه، فذلك حين أحب لقاء الله وأحب الله لقاءه، وإذا أراد الله بعبده شراً قيض له قبل موته بعام شيطاناً فأضله وفتنه حتى يقول الناس مات فلان شر ما كان فإذا أحضر ورأى ما ينزل به من العذاب تبلغ نفسه فذلك حين يكره لقاء الله وكره الله لقاءه. وخرج الترمذي في أبواب القدر «عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

إن الله عز وجل إذا أراد بعبد خيراً استعمله. فقيل: كيف يستعمله يا رسول الله؟ قال: يوفقه لعمل صالح قبل الموت» . قال أبو عيسى هذا حديث صحيح. قال الشيخ المؤلف رحمه الله ومنه الحديث الآخر: «إذا أراد الله بعبده خيراً عسله. قالوا يا رسول الله وما عسله؟ قال: يفتح الله له عملاً صالحاً بين يدي موته متى يرضى عنه من حوله» . وعن قتادة في تفسير قوله تعالى: {فروح وريحان} قال: الروح: الرحمة، والريحان: تتلقاه به الملائكة عند الموت. وروى ابن جريج «عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لعائشة: في تفسير قوله تعالى: {حتى إذا جاء أحدهم الموت قال: رب ارجعون} إذا عاين المؤمن الملائكة قالوا: نرجعك إلى الدنيا؟ فيقول إلى دار الهموم والأحزان؟ ويقول قدماً إلى الله عز وجل، وأما الكافر فيقولون: نرجعك إلى الدنيا؟ فيقول: {ارجعون * لعلي أعمل صالحاً} الآية وأما قوله في الحديث حتى ينتهي إلى السماء التي فيها الله تعالى

فالمعنى أمر الله وحكمه وهي السماء السابعة التي عندها سدرة المنتهى التي إليها يصعد ما يعرج به من الأرض ومنها يهبط ما ينزل به منها» . كذا في صحيح مسلم من حديث الإسراء. وفي حديث البارء أنه ينتهي به إلى السماء وسيأتي إن شاء الله تعالى. وقد كنت تكلمت مع بعض أصحابنا القضاة ممن له علم ونظر، ومعنا جماعة من أهل النظر فيما ذكر أبو عمر بن عبد البر من قوله: {الرحمن على العرش استوى} فذكرت له هذا الحديث فما كان منه إلا أن بادر إلى عدم صحته ولعن رواته وبين أيدينا رطب نأكله، فقلت له: الحديث صحيح خرجه ابن ماجه في السنن ولا ترد

الأخبار بمثل هذا القول، بل تتأول وتحمل على ما يليق من التأويل والذين رووا لنا الصلوات الخمس وأحكامها، فإن صدقوا هنا صدقوا هناك وإن كذبوا هناك ولا تحصل الثقة بأحد منهم فيما يرويه. وقد خرج البزار في مسنده «من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن المؤمن إذا احتضر أتته الملائكة بحريرة فيها مسك وضبائر ريحان فتسل روحه كما تسل الشعرة من العجين ويقال: {يا أيتها النفس المطمئنة * ارجعي إلى ربك راضية} مرضياً عنك إلى روح الله وكرامته، فإذا خرجت روحه وضعت على ذلك المسك والريحان وطيت عليها الحريرة وذهب بها إلى

باب ما جاء في تلاقي الأرواح في السماء والسؤال عن أهل الأرض وفي عرض الأعمال

عليين وإن الكافر إذا احتضرا أتته الملائكة بمسح فيه جمرة، فتنزع روحه انتزاعاً شديداً ويقال: أيتها النفس الخبيثة اخرجي ساخطة مسخوطاً عليك إلى هوان الله وعذابه، فإذا خرجت روحه وضعت على تلك الجمرة، ويطوى عليها المسح ويذهب بها إلى سجين» . قال الشيخ المؤلف رحمه الله: فقوله في روح المؤمن: يذهب بها إلى عليين هو معنى ما جاء في حديث أبي هريرة المتقدم إلى السماء التي فيها الله. والأحاديث يقسر بعضها بعضاً ولا إشكال. وذكرته عند بعض من يتسم بالعلم والفقه والقضاء فلم يكن منه إلا أن بادر بلعن من رواه ونقله. فظن منه التجسيم. فقلت له: الحديث صحيح والذين رووه هم الذين جاءوا بالصلوات الخمس وغيرها من أمور الدين، فإن كذبوا هنا كذبوا هنالك، وإن صدقوا هنا صدقوا هنالك. والتأويل مزيل ما توهمته. وكان في ذلك كلام. وحضره جماعة من أهل الفقه والنظر فذكرت له ما ذكرناه، وذكرت له حديث التنزيل وقوله تعالى: {الرحمن على العرش استوى} وما تأوله العلماء في ذلك، وسيأتي من ذلك في هذا الكتاب ما فيه كفاية لمن اهتدى والحمد لله. وأما قوله، في حديث محمد بن كعب أول الباب، إذا استنقعت نفس المؤمن، فقال شمر لا أعرفه وسمعت الزهري يقول: يعني إذا اجتمعت في فيه حين تريد أن تخرج كما يستنقع الماء في قراره، والنفس: الروح ها هنا حكاه الهروي. باب ما جاء في تلاقي الأرواح في السماء والسؤال عن أهل الأرض وفي عرض الأعمال ابن المبارك عن أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه قال: إذا قبضت نفس

المؤمن تلقاها أهل الرحمة من عباد الله تعالى كما يتلقون البشير في الدنيا، فيقبلون عليه يسألونه فيقول بعضهم لبعض: انظروا أخاكم حتى يستريح، فإنه كان في كرب شديد قال: فيقبلون عليه فيسألونه: ما فعل فلان؟ ما فعلت فلانة هل تزوجت؟ فإذا سألوه عن الرجل قد مات قبله فيقول: إنه هلك فيقولون: إنا الله وإنا إليه راجعون. ذهب به إلى أمه الهاوية فبئست الأم وبئست المربية قال: فتعرض عليهم أعماله فإن رأوا حسناً فرحوا

واستبشروا وقالوا: اللهم هذه نعمتك على عبدك فأتمها. وإن رأوا شراً قالوا: اللهم راجع بعبدك. قال ابن المبارك: وأخبرنا صفوان بن عمرو، قال: حدثني عبد الرحمن بن جبير بن نفيلا أن أبا الدرداء كان يقول: إن أعمالكم تعرض على موتاكم فيسرون ويساؤن قال: يقول أبو الدرداء: اللهم إني أعوذ بك أن أعمل عملاً يخزى به عبد الله بن رواحة. وفي رواية: اللهم إني أعوذ بك من عمل يخزيني عند عبد الله بن رواحة. أخبرنا عبد الله بن عبد الرحمن بن يعلي الثقفي قال: أخبرني عثمان بن عبد الله بن أوس أن سعيد بن جبير قال له: أستأذن لي على ابنة أخي، وهي زوجة عثمان وهي ابنة عمرو بن أوس، فاستأذنت له فدخل عليها ثم قال: كيف يفعل بك زوجك؟ قالت: إنه إلي لمحسن فيما استطاع. فالتفت إلي ثم قال: يا عثمان أحسن إليها فإنك لا تصنع بها شيئاً إلا جاء عمرو بن أوس فقلت: وهل تأتي الأموات أخبار الأحياء؟ قال: نعم ما من أحد له حميم إلا ويأتيه أخبار

أقاربه فإن كان خيراً سر به وفرح وهنئ به وإن كان شراً ابتأس وحزن به حتى إنهم ليسألون عن الرجل قد مات فيقال: أو لم يأتكم؟ فيقولون: لا، خولف به إلى أمه الهاوية. وعن الحسن البصري رضي الله عنه قال: إذا قبض روح العبد المؤمن عرج به إلى السماء فتلقاه أرواح المؤمنين فيسألونه فيقولون: ما فعل فلان؟ فيقول أو لم يأتكم؟ فيقولون: لا والله ما جاءنا ولا مر بنا فيقولون: سلك به إلى أمه الهاوية.. فبئست الأم وبئست المربية. وقال وهب بن منبه: إن لله في السماء السابعة داراً يقال لها البيضاء، تجتمع فيها أرواح المؤمنين فإذا مات الميت في أهل الدنيا، تلقته الأرواح فيسألونه عن أخبار الدنيا كما يسائل الغائب أهله إذا قدم إليهم، ذكره أبو نعيم رحمه الله. فصل: هذه الأخبار وإن كانت موقوفة فمثلها لا يقال من جهة الرأي. وقد

خرج النسائي بسنده «عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال الحديث وفيه: فيأتون به أرواح المؤمنين فلهم أشد فرحاً من أحدكم بغائبه يقدم عليه فيسألونه: ما فعل فلان؟ ما فعلت فلانة؟ فيقولون: دعوه فإنه كان في غم الدنيا فإذا قال: أو ما أتاكم؟ قالوا: ذهب به إلى أمه الهاوية» ، وذكر الحديث وسيأتي بكماله إن شاء الله تعالى. وخرج الترمذي الحكيم في نوادر الأصول قال: «حدثنا أبي رحمه الله قال: حدثنا قبيصة، عن سفيان، عن أبان بن أبي عياش، عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن أعمالكم تعرض على عشائركم وأقاربكم من الموتى فإن كان خيراً استبشروا وإن كان غير ذلك قالوا: اللهم لا تمتهم حتى تهديهم لما هديتنا» . وخرج من حديث عبد الغفور بن عبد العزيز «عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: تعرض الأعمال يوم الاثنين ويوم الخميس على الله، وتعرض على الأنبياء وعلى الأباء والأمهات يوم الجمعة، فيفرحون بحسناتهم وتزداد وجوههم بياضاً وتشرق. فاتقوا الله عباد الله لا تؤذوا موتاكم بأعمالكم» .

باب منه

وروى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن أرواحكم تعرض إذا مات أحدكم على عشائركم وموتاكم، فيقول بعضهم لبعضهم: دعوه يستريح فإنه كان في كرب. ثم يسألونه: ما عمل فلان؟ وما عملت فلانة؟ فإن ذكر خيراً حمدوا الله واستبشروا، وإن كان شراً قالوا: اللهم اغفر له حتى أنهم يسألون، هل تزوج فلان؟ هل تزوجت فلانة؟ قال: فيسألونه عن رجل مات قبله فيقول: ذاك مات قبلي؟ أما مر بكم؟ فيقولون: لا والله. فيقولون: إنا لله وإنا إليه راجعون. ذهب به إلى أمه الهاوية، فبئست الأم وبئست المربية، حتى إنهم ليسألونه عن هر البيت» . ذكره الثعلبي رحمه الله. وقد قيل في قوله عليه الصلاة والسلام: «الأرواح جنود مجندة، فما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف» : إنه هذا التلاقي، وقد قيل: تلاقي أرواح النيام والموتى. وقيل غير هذا. والله أعلم. باب منه روى من حديث ابن لهيعة، «عن بكير بن الأشج، عن القاسم بن محمد، عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: الميت يؤذيه في قبره ما يؤذيه في بيته» ،

قيل يجوز أن يكون الميت يبلغ من أفعال الأحياء وأقوالهم ما يؤذيه في قبره، بلطيفة يحدثها لهم: من ملك يبلغ، أو علامة، أو دليل، أو ما شاء الله، وهو القادر على ما يشاء. وروي عن عروة قال: وقع رجل في علي رضي الله عنه عند عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال عمر رضي الله عنه: ما لك قبحك الله: لقد آذيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في قبره. قال علماؤنا: ففي هذا الحديث زجر عن سوء القول في الأموات. وفي الحديث: أنه نهى عن سب الأموات وزجر عن فعل ما كان يسؤوهم في حياتهم، وفيه أيضاً زجر عن عقوق الآباء والأمهات بعد موتهما بما يسؤوهما من فعل الحي. فقد روي في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يهدي لصدائق خديجة صلة منه لها وبراً وإذا كان الفعل صلة وبراً

باب في شأن الروح وأين تصير حين تخرج من الجسد؟

كان ضده عقوبة وقطيعاً وعقوقاً. وقيل: يجوز أن يكو ن معنى الحديث: الميت يؤذيه في قبره من كان يؤذيه في بيته إذا كان حياً فيكون [ما] بمعنى [من] ويكون ذلك مضمراً في الكلام ن والإشارة إلى الملك الموكل بالإنسان. فقد ورد في الخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم: إن الملك يتباعد عن الرجل عند الكذبة يكذبها ميلين من نتن ما جاء به وكذلك كل معصية لله تؤذي الملك الموكل به. فيجوز أن يموت العبد وهو مصر على معاصي الله غير تائب منها ولا مكفر عنه خطاياه فيكون تمحيصه وتطهيره فيما يلحقه من الأذى من تغليظ الملك إياه أو تفريعه له والله سبحانه وتعالى أعلم. باب في شأن الروح وأين تصير حين تخرج من الجسد؟ قال أبو الحسن القابسي رحمه الله: الصحيح من المذهب، والذي عليه أهل السنة، أنها ترفعها الملائكة حتى توقفها بين يدي الله تعالى فيسألها، فإن

كانت من أهل السعادة قال لهم: سيروا بها وأروها مقعدها من الجنة. فيسيرون به في الجنة على قدر ما يغسل الميت. فإذا غسل الميت وكفن ردت وأدرجت بين كفنه وجسده، فإذا حمل على النعش فإنه يسمع كلام الناس، من تكلم بخير ومن تكلم بشر. فإذا وصل إلى قبره وصلي عليه، ردت فيه الروح وأقعد ذا روح وجسد، ودخل عليه الملكان الفتانان على ما يأتي. وعن عمرو بن دينار قال: ما من ميت يموت إلا روحه في يد ملك، ينظر إلى جسده كيف يغسل، وكيف يكفن، وكيف يمشي به فيجلس في قبره. قال داود: وزاد في هذا الحديث. قال: يقال له وهو على سريره: اسمع ثناء الناس عليك. ذكره أبو نعيم الحافظ في باب عمرو. وقال أبو حامد في كتاب كشف علوم الآخرة: فإذا قبض الملك النفس السعيدة، تناولها ملكان حسان الوجوه، عليهما أثواب حسنة، ولهما رائحة طيبة، فيلفونها في حرير من حرير الجنة، وهي على قدر النحلة، شخص إنساني

ما فقد من عقله ولا من علمه المكتسب له في دار الدنيا، فيعرجون بها في الهواء، فلا يزال يمر بالأمم السالفة والقرون الخالية كأمثال الجراد المنتشر، حتى ينتهي إلى سماء الدنيا، فيقرع الأمين الباب فيقال للأمين: من أنت؟ فيقول: أنا صلصائيل، وهذا فلان معي بأحسن أسمائه وأحبها إليه فيقول: نعم الرجل كان فلان، وكانت عقيدته غير شاك. ثم ينتهي به إلى السماء الثانية، فيقرع الباب. فيقال له: من أنت؟ فيقول مقالته الأولى: فيقولون: أهلاً وسهلاً بفلان. كان محافظاً على صلاته بجميع فرائضها. ثم يمر حتى ينتهي إلى السماء الثالثة. فيقرع الباب فيقال له: من أنت؟ فيقول الأمين مقالته الأولى والثانية فيقال: مرحباً بفلان، كان يراعي الله في حق ماله ولا يتمسك منه بشيء، ثم يمر حتى ينتهي إلى السماء الرابعة، فيقرع الباب. فيقال: من أنت؟ فيقول: كدأبه في مقالته. فيقال: أهلاً بفلان كان يصوم فيحسن الصوم ويحفظه من أدران الرفث وحرام الطعام، ثم ينتهي إلى السماء الخامسة فيقرع الباب. فيقال: من أنت؟ فيقول كعادته. فيقال: أهلاً وسهلاً بفلان، أدى حجة الله الواجبة من غير سمعاً ولا رياء، ثم ينتهي إلى السماء السادسة فيقرع الباب. فيقال: من

أنت؟ فيقول الأمين كدأبه في مقالته. فيقال مرحباً بالرجل الصالح والنفس الطيبة كان كثير البر بوالديه فيفتح له الباب، ثم يمر حتى ينتهي إلى السماء السابعة فيقرع الباب. فيقال من أنت؟ فيقول الأمين مقالته. فيقال: مرحباً بفلان كان كثير الاستغفار بالأسحار ويتصدق في السر ويكفل الأيتام، ثم يفتح له فيمر حتى ينتهي إلى سرادقات الجلال فيقرع الباب فيقال له: من أنت؟ فيقول الأمين مثل قوله فيقول: أهلاً وسهلاً بالعبد الصالح والنفس الطيبة. كان كثير الاستغفار، ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، ويكرم المساكين، ويمر بملأ من الملائكة كلهم يبشرونه بالخير ويصافحونه، حتى ينتهي إلى سدرة المنتهي فيقرع الباب. فيقال: من أنت؟ فيقول الأمين كدأبه في مقالته فيقال: أهلاً وسهلاً بفلان، كان عمله عملاً صالحاً خالصاً لوجه الله عز وجل، ثم يفتح له فيمر في بحر من نار، ثم يمر في بحر من نور، ثم يمر في بحر من ظلمة، ثم يمر في بحر من ماء، ثم يمر في بحر من ثلج، ثم يمر به في بحر من برد، طول كل بحر منها ألف عام. ثم يخترق الحجب المضروبة على عرش الرحمن، وهي ثمانون ألفاً من السرادقات، لها شراريف لكل سرادق ثمانون ألف شرافة على كل شرافة ثمانون ألف قمر، يهللون لله ويسبحونه ويقدسونه لو برز منها قمر واحد إلى سماء الدنيا، لعبد من دون الله ولأحرقها نوراً، فحينئذ ينادي من الحضرة القدسية من وراء أولئك السرادقات: من هذه النفس التي جئتم بها؟ فيقال: فلان ابن فلان

فيقول الجليل جل جلاله: قربوه فنعم العبد كنت يا عبدي، فإذا أوقفه بين يديه الكريمتين أخجله ببعض اللوم والمعاتبة حتى يظن أنه قد هلك ثم يعفو عنه. كما روي عن يحيى بن أكثم القاضي وقد رئي في المنام بعد موته فقيل له: ما فعل الله بك؟ فقال: أوقفني بين يديه. ثم قال: يا شيخ السوء فعلت كذا وفعلت كذا فقلت: يا رب ما بهذا حدثت عنك. قال: فبم حدثت عني يا يحيى؟ فقلت: حدثني الزهري «عن معمر عن عروة عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم عن جبريل عنك سبحانك أنك قلت: إني لأستحيي أن أعذب ذا شيبة في الإسلام فقال: يا يحيى صدقت وصدق الزهري وصدق معمر وصدق عروة وصدقت عائشة وصدق محمد وصدق جبريل وقد غفرت لك» .

وعن ابن نباتة وقد رئي في المنام فقيل له: ما فعل الله بك؟ فقال: أوقفني بين الكريمين وقال: أنت الذي تخلص كلامك حتى يقال: ما أفصحه! فقلت: سبحانك إني أصفك: قال: قل ما كنت تقول في دار الدنيا، قلت: أبادهم الذي خلقهم، وأسكنهم الذي أنطقهم وسيوجدهم كما أعدمهم، وسيجمعهم كما فرقهم. قال لي صدقت اذهب فإني قد غفرت لك. وعن منصور بن عمار أنه رئي في المنام فقيل له: ما فعل الله بك؟ فقال: أوقفني بين يديه وقال لي: بماذا جئتني يا منصور؟ قلت: بست وثلاثين حجة. قال: ما قبلت منها شيئاً ولا واحدة. ثم قال: بماذا جئتني يا منصور؟ قلت: جئتك بثلاثمائة وستين ختمة للقرآن قال: ما قبلت منها واحدة. ثم قال: فبماذا جئتني يا منصور؟ قال: جئتك بك. قال سبحانه:

الآن جئتني اذهب فقد غفرت لك. ومن الناس من إذا انتهى إلى الكرسي سمع النداء: ردوه. فمنهم من يرد من الحجب، وإنما يصل إلى الله عارفوه. فصل: وأما الكافر فتؤخذ نفسه عنفاً، فإذا وجهه كأكل الحنظل والملك يقول: اخرجي أيتها النفس الخبيثة من الجسد الخبيث، فإذا له صراخ أعظم ما

يكون كصراخ الحمير، فإذا قبضها عزرائيل ناولها زبانية قباح الوجوه، سود الثياب منتني الرائحة، بأيديهم مسوح من شعر، فليفونها فيستحيل شخصاً إنسانياً على قدر الجرادة، فإن الكافر أعظم جرماً من المؤمن، يعني في الجسم في الآخرة، وفي الصحيح أن ضرس الكافر في النار، مثل أحد، فيعرج به حتى ينتهي إلى سماء الدنيا، فيقرع الأمين باب، فيقال: من أنت؟ فيقول: أنا دقيائيل لأن اسم الملك الموكل على زبانية العذاب دقيائيل، فيقال: من معك؟ فيقول: فلان ابن فلان بأقبح أسمائه وأبغضها إليه في دار الدنيا، لا أهلا ً ولا سهلاً، ولا مرحباً، {لا تفتح لهم أبواب السماء، ولا يدخلون الجنة} الآية فإذا سمع الأمين هذه المقالة، طرحه يده، {أو تهوي به الريح في مكان سحيق} أي: بعيد، وهو قوله عز وجل: {ومن يشرك بالله فكأنما خر من السماء فتخطفه الطير أو تهوي به الريح في مكان سحيق} ، فإذا انتهى إلى الأرض ابتدرته الزبانية، وسارت به إلى سجين، وهي صخرة عظيمة تأوي إليها أرواح الفجار. وأما النصارى واليهود، فمردودون من الكرسي

إلى قبورهم. هذا من كان منهم على شريعته، ويشاهد غسله ودفنه وأما المشرك فلا يشاهد شيئاً من ذلك لأنه قد هوى به. وأما المنافق فمثل الثاني يرد ممقوتاً مطروداً إلى هوى. وأما المقصورن المؤمنون فتختلف أنواعهم، فمنهم ترده صلاته، لأن العبد من إذا قصر في صلاته سارقاً لها. تلف كما يلف الثوب الخلق، ويضرب بها وجهه. ثم تعرح وتقول: ضيعك الله كما ضيعتني، ومنهم من ترده زكاته لأنه إنما يزكي ليقال: فلان متصدق، وربما وضعها عند النساء، ولقد رأيناه عافانا الله مما حل به، ومن الناس من يرده صومه، لأنه صام عن الطعام ولم يصم عن الكلام فهو رفث وخسران فيخرج الشهر وقد بهرجه، ومن الناس من يرده حجه، لأنه إنما حج ليقال فلان حج، أو يكون حج بمال خبيث، ومن الناس من يرده العقوق، وسائر أحوال البر كلها، لا يعرفها إلا العلماء بأسرار المعاملات، وتخليص العمل الذي للملك الوهاب، فكل هذه المعاني جاءت بها الآثار والأخبار، كالخبر الذي رواه معاذ بن جبل رضي الله عنه في رد الأعمال وغيره، فإذا ردت النفس إلى الجسد ووجدته قد أخذ في غسله إن كان قد غسل فتقعد عند رأسه حتى يغسل، فإذا أدرج الميت في أكفانه صارت

باب كيفية التوفي للموتى؟ واختلاف أحوالهم في ذلك

ملتصقة بالصدر من خارج الصدر، ولها خوار وعجيج تقول: أسرعوا بي، إلى رحمة الله، أي رحمة لو تعلمون ما أنتم حاملوني إليه، وإن كان يبشر بالشقاء تقول: رويداً إلى أي عذاب لو تعلمون ما أنتم حاملوني إليه، فإذا أدخل القبر وهيل عليه التراب ناداه القبر: كنت تفرح على ظهري، فاليوم تحزن في بطني. كنت تأكل الألوان على ظهري، فالآن يأكلك الدود في بطني، ويكثر عليه مثل هذه الألفاظ الموبخة حتى يسوى عليه التراب ثم يناديه ملك يقال له رومان، وهو أول ما يلقي الميت إذا دخل قبره على ما يأتي بيانه إن شاء الله تعالى. والله أعلم بغيبه وأحكم. باب كيفية التوفي للموتى؟ واختلاف أحوالهم في ذلك ذكر الله التوفي في كتابه مجملاً ومفصلاً: فقال الله تعالى: {الذين تتوفاهم الملائكة طيبين} ، وقال: {قل يتوفاكم ملك الموت الذي وكل بكم} ، وقال: {توفته رسلنا وهم لا يفرطون} ، وقال: {الذين تتوفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم} ، فهذا كله محمل، وقد

بينه رسول الله صلى الله عليه وسلم على ما يأتي بيانه إن شاء تعالى، وقال: {ولو ترى إذ يتوفى الذين كفروا الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم} ، وقال: {فكيف إذا توفتهم الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم} ، وهذا مخصوص بمن قتل من الكفار يوم بدر باتفاق أهل التأويل، فيما قاله بعض علمائنا، وقد ذكر المهدوي وغيره في ذلك اختلافاً، وأن الكفار حتى الآن يتوفون بالضرب والهوان والله أعلم. وروى مسلم في حديث فيه طول قال أبو زميل: فحدثني ابن عباس، قال: بينما رجل من المسلمين يومئذ، يشتد في أثر رجل من المشركين أمامه، إذ سمع ضربة بالسوط فوقه وصوت الفارس يقول: أقدم حيزوم إذ نظر إلى المشرك أمامه فخر مستلقياً فنظر إليه فإذا هو قدم خطم أنفه وشق وجهه لضربة السوط فاخضر ذلك أجمع فجاء الأنصاري فحدث بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «صدقت ذلك من مدد السماء الثانية» ، فقتلوا يومئذ سبعين وأسروا سبعين. وذكر الحديث. وقال تعالى: {لو ترى إذ الظالمون في غمرات الموت والملائكة باسطوا

أيديهم} أي بالعذاب {أخرجوا أنفسكم} إلى قوله {يستكبرون} . وقد زادت السنة هذا النوع بياناً على ما يأتي. فصل: إن قال قائل: كيف الجمع بين هذه الآي وكيف يقبض ملك الموت في زمن واحد أرواح من يموت بالمشرق والمغرب؟ قيل له: اعلم أن التوفي مأخوذ من توفيت الدين واستوفيته إذا قبضته ولم يدع منه شيئاً، فتارة يضاف إلى ملك الموت لمباشرته ذلك، وتارة إلى أعوانه من الملائكة، لأنهم قد يتولون ذلك أيضاً، وتارة إلى الله تعالى وهو المتوفي على الحقيقة كما قال عز وجل {الله يتوفى الأنفس حين موتها} وقال: {وهو الذي أحياكم ثم يميتكم} وقال: {الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم} فكل مأمور من الملائكة فإنما يفعل ما يفعل بأمره. وقال الكلبي: يقبض ملك الموت الروح من الجسد، ثم يسلمها إلى ملائكة الرحمة إن كان مؤمناً، وإلى ملائكة العذاب إن كان كافراً، وهذا المعنى منصوص في حديث البراء، وسيأتي. وفي الخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم «إن ملك الموت ليهيب بالأروح كما يهيب أحدكم بفلوه أو فصيله ألا هلم ألا هلم» ، يهيب: يدعو. يقال: أهاب

الرجل بغنمه أي صاح بها لتقف أو لترجع، وأهاب بالبعير. قال طرفة يصف ناقته: تريع إلى صوت المهيب وتتقي ... بذي خصل روعات أكلب ملبدي تريع: معناه: تعود وترجع. وقال الشاعر: طمعت بليلى إذ تريع وإنما ... تقطع أرقاب الرجال المطامع والخصل: أطراف الشجر المتدلية. والروعات جمع روعة وهي الفزعة،

وأكلب الرجل إذا أكلبت إبله. واتكلب شبيه بالجنون. وقال جميعه الجوهري. وقال العتابي الكلابي: أهابوا به فازداد بعد وصده ... عن القرب منهم ضوء برق ووابله يعني نصل السهم. فأخبر صلى الله عليه وسلم: «أنه يدعو الأرواح التي يتوفاها الله ويقبضها» . وفي الخبر أن ملك الموت جالس وبين يديه صحيفة يكتب فيها له ليلة النصف من شعبان، وهي الليلة التي يفرق فيها كل أمر حكيم من الأرزاق والآجال في قفول بعض العلماء عكرمة وغيره. والصحيح أن الليلة التي يفرق فيها كل أمر حكيم ليلة القدر من شهر رمضان، وهو قول قتادة والحسن ومجاهد وغيرهم، يدل عليه قوله تعالى: {حم * والكتاب المبين * إنا أنزلناه} يعني القرآن {في ليلة مباركة} يعني ليلة القدر، وهذا بين. وقال ابن عباس: إن الله تعالى يقضي الأقضية في ليلة النصف

من شعبان ويسلمها إلى أربابها في ليلة القدر، وكان هذا جمعاً بين القولين والله أعلم. فإذا انقضى عمر ذلك الشخص الذي حان قبض روحه، سقطت ورقة من سدرة المنتهى التي فيها اسمه على اسمه في الصحيفة، فعرف أن قدر فرغ أجله وانقطع أكله. وفي الخبر أن ملك الموت تحت العرش يسقط عليه صحائف من يموت من تحت العرش، الصحف هنا: ورق السدرة. والله أعلم. وكما في الخبر قبله: فإذا نظر إلى الإنسان، قد نفذ رزقه وانقطع أكله، ألقى عليه سكرات الموت، فغشيته كرباته، وأدركته سكراته. وفي خبر الإسراء عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: «مررت على ملك آخر جالس على كرسي، إذا جميع الدنيا ومن فيها بين ركبتيه، وبيده لوح مكتوب ينظر فيه، ولا يلتفت عنه يميناً ولا شمالاً فقلت: يا جبريل من هذا؟ قال: هذا ملك الموت. قلت: يا ملك الموت كيف تقدر على قبض جميع أرواح من في الأرض برها وبحرها؟ قال: ألا ترى أن الدنيا

كلها بين ركبتي، وجميع الخلائق بين عيني، ويداي تبلغان المشرق والمغرب. فإذا نفذ أجل عبد نظرت إليه، فإذا نظرت إليه عرف أعواني من الملائكة أنه مقبوض، غدوا فبطشوا يعالجون نزع روحه، فإذا بلغوا بالروح الحلقوم، علمت ذلك فلم يخف علي شيء من أمره، مددت يدي فأنزعه من جسده وألى قبضه. وفي الخبر: أنه ينزل عليه أربعة من الملائكة: ملك يجذب النفس من قدمه اليمنى، وملك يجذبها من قدمه اليسرى، وملك يجذبها من يده اليمنى، وملك يجذبها من يده اليسرى» . ذكره أبو حامد. وقال: وربما كشف للميت عن الأمر الملكوتي قبل أن يغرغر، فيعاين الملائكة على حقيقة عمله، على ما يتحيزون إليه من عالمهم، فإنه كان لسانه منطلقاً حدث بوجودهم، وربما أعاد على نفسه الحديث بما رأى، وظن أن ذلك من فعل الشيطان به، فيسكت حين يعقل لسانه وهم يجذبونها من أطراف البنان ورؤوس الأصابع، والنفس تنسل انسلال

القداة من السقا. والفاجر تسل روح كالسفود من الصوف المبلول. هكذا حكى صاحب الشرع عليه السلام، والميت يظن أن بطنه ملئت شوكاً، كأنما نفسه تخرج من ثقب إبرة، وكأن السماء انطبقت على الأرض وهو بينهما، فإذا احتضرت نفسه إلى القلب، مات لسانه عن النطق فما أحد ينطق، والنفس مجموعة في صدره لسرين. أحدهما: أن الأمر عظيم قد ضاق صدره بالنفس المجتمعة فيه، ألا ترى أن الإنسان إذ أصابته ضربته في الصدر بقي مدهوشاً، فتارة لا يقدر على الكلام، وكل مطعون يطعن يصوت إلا مطعون الصدر فإنه يخر من غير تصويت. وأما السر الآخر: فلأن الذي فيه حركة الصوت المندفعة من الحرارة الغريزية فصار نفسه متغير الحالتين، حال الارتفاع والبرودة، لأنه فقد الحرارة، فعند هذا الحين تختلف أحوال الموتى، فمنهم من يطعنه الملك حينئذ بحربة مسمومة قد سقيت سما من نار فتفر الروح، وتفيض خارجة، فيأخذ الملك في يده وهي ترعد أشبه شيء بالزئبق على قدر الجرادة شخصاً إنسانياً، ثم يناولها الزبانية. ومن الموتى من تجذب نفسه رويداً حتى تنحصر في الحنجرة وليس

باب ما جاء في صفة ملك الموت عن قبض روح المؤمن والكافر

يبقى في الحنجرة إلا شعبة متصلة بالقلب فحينئذ يطعنها بتلك الحربة الموصوفة. قال الشيخ المؤلف رحمه الله: لم أجد لهذه الحربة في الأخبار ذكر إلا ما ذكره أبو نعيم الحافظ. قال: حدثنا أحمد بن عبد الله بن محمود قال: حدثنا محمد بن أحمد بن يحيى قال: حدثنا سلمة بن شبيب، قال: حدثنا الوليد بن مسلم، قال: حدثنا ثور بن يزيد عن خالد بن معدان عن معاذ بن جبل قال: إن لملك الموت عليه السلام حربة تبلغ ما بين المشرق والمغرب، فإذا انقضى أجل عبد من الدنيا، ضرب رأسه بتلك الحربة وقال: الآن يزار بك عسكر الأموات. وروى سليمان بن مهير الكلابي قال: حضرت مالك بن أنس وأتاه رجل فسأله: يا أبا عبد الله، البراغيث أملك الموت يقبض أرواحها؟ فأطرق مالك طويلاً ثم قال: لها نفس؟ قال: نعم، قال: ملك الموت يقبض أرواحها {الله يتوفى الأنفس حين موتها} ذكره الخطيب أبو بكر رحمه الله. باب ما جاء في صفة ملك الموت عن قبض روح المؤمن والكافر قال علماؤنا رحمهم الله: وأما مشاهدة ملك الموت عليه السلام وما

يدخل على القلب منه من الورع والفزع، فهو أمر لا يعبر عنه لعظم هوله وفظاعة رؤيته، ولا يعلم حقيقة ذلك إلا الذي يبتدئ له ويطلع عليه، وإنما هي أمثال تضرب وحكايات تروى.. روى عن عكرمة أنه قال: رأيت في بعض صحف شيث أن آدم عليه السلام قال: يا رب أرني ملك الموت حتى أنظر إليه، فأوحى الله تعالى إليه: إن له صفات لا تقدر على النظر إليها وسأنزله عليك في الصورة التي يأتي فيها الأنبياء والمصطفين، فأنزل الله عليه جبريل وميكائيل وأتاه ملك الموت في صورة كبش أملح قد نشر من أجنحته أربعة آلاف جناح، منها جناح جاوز السموات والأرض، وجناح جاوز الأرضين، وجناح جاوز أقصى المشرق، وجناح جاوز أقصى المغرب، وإذا بين يديه الأرض بما اشتملت عليه من الجبال والسهول والغياض والجن والإنس والدواب وما أحاط بها من البحار وما علاها من الأجواء في ثغرة نحرة كالخردلة في فلاة من الأرض، وإذا عيون لا يفتحها إلا في مواضع فتحها، وأجنحة لا ينشرها إلا في مواضع نشرها، وأجنحة للبشرى ينشرها للمصطفين، وأجنحة للكفار فيها سفافيد وكلاليب ومقاريض، فصعق آدم صعقة لبث فيها إلى مثل تلك الساعة من اليوم السابع، ثم أفاق وكان في عروفة الزعفران. ذكر هذا الخبر ابن ظفر الواعظ المكنى أبو هاشم محمد بن محمد في كتاب النصائح. وروى عن ابن عباس أن إبراهيم خليل الرحمن سأل ملك الموت أن يريه كيف يقبض روح المؤمن فقال له: اصرف وجهك عني فصرف، ثم

نظر إليه فرآه في صورة شاب حسن الصورة حسن الثياب طيب الرائحة حسن البشر فقال له: والله لو لم يلق المؤمن من السرور شيئاً سوى وجهك كفاه ثم قال له: أرني كيف تقبض روح الكافر فقال له: لا تطيق ذلك قال: بلى أرني، قال: اصرف وجهك عني فصرف وجهه عنه، ثم نظر إليه فإذا صورة إنسان أسود رجلاه في الأرض ورأسه في السماء كأقبح ما أنت راء من الصور، تحت كل شعرة من جسده لهيب نار، فقال له: والله لو لم يلق الكافر سوى نظرة إلى شخصك لكفاه. قال الشيخ المؤلف رحمه الله: وسيأتي هذا المعنى مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم في الملائكة في حديث البراء وغيره إن شاء الله تعالى. وقال ابن عباس أيضاً: كان إبراهيم عليه السلام رجلاً غيوراً، وكان له بيت يتعبد فيه فإذا خرج أغلقه فرجع ذات يوم فإذا هو برجل في جوف البيت فقال: من أدخلك داري؟ فقال: أدخلنيها ربها، قال إبراهيم: أنا ربها، قال: أدخلنيها من هو أملك بها منك، قال: فمن أنت من الملائكة؟ قال: أنا ملك الموت. قال: أتستطيع أن تريني الصورة التي تقبض فيها روح المؤمن؟ قال: نعم، ثم التفت إبراهيم فإذا

باب ما جاء أن ملك الموت عليه السلام هو القابض لأرواح الخلق وأنه يقف على كل بيت في كل يوم خميس مرات وعلى كل ذي روح كل ساعة وأنه ينظر في وجوه العباد كل يوم سبعين نظرة

هو بشاب فذكر من حسن وجهه وحسن ثيابه وطيب رائحته فقال: يا ملك الموت لو لم يلق المؤمن عند الموت إلا صورتك لكان حسبه، ثم قبض روحه صلى الله عليه وسلم. فصل: قال علماؤنا رحمة الله عليهم: لا يتعحب من كون ملك الموت يرى على صورتين لشخصين، فما ذلك إلا مثل ما يصيب الإنسان بتغير الخلقة في الصحة والمرض والصغر والكبر والشباب والهرم، وكصفاء اللون بملازمة الحمام وشحوبة الوجه بتغير اللون بلفح الهواجر في السفر، غير أن قضية الملائكة عليهم السلام يجري ذلك منهم في اليوم الواحدة، وإن لم يجر هذا على الإنسان إلا في الأوقات المتباعدة والسنين المتطاولة، وهذا بين فتأمله. باب ما جاء أن ملك الموت عليه السلام هو القابض لأرواح الخلق وأنه يقف على كل بيت في كل يوم خميس مرات وعلى كل ذي روح كل ساعة وأنه ينظر في وجوه العباد كل يوم سبعين نظرة قال الله تعالى: {قل يتوفاكم ملك الموت الذي وكل بكم} . وروي عن ابن عمر قال: إذا قبض ملك الموت روح المؤمن قام على

عتبة الباب ولأهل البيت ضجة، فمنهم الصاكة وجهها، ومنهم الناشرة شعرها، ومنهم الداعية بويلها، فيقول ملك الموت عليه السلام: فيم هذا الجزع فو الله ما أنقصت لأحد منكم عمراً، ولا ذهبت لأحد منكم برزق، ولا ظلمت لأحد منكم شيئاً، فإن كانت شكايتكم وسخطكم علي فإني والله مأمور، وإن كان ذلك على ميتكم فإنه في ذلك مقهور، وإن كان ذلك على ربكم فأنتم به كفرة، وإن لي فيكم عودة ثم عودة، فلو أنهم يرون مكانه أو يسمعون كلامه لذهلوا عن ميتهم ولبكوا على أنفسهم: خرجه أبو مطيع مكحول بن الفضل النسفي في كتاب اللؤلؤيات له. وروى معناه مرفوعاً في الخبر المشهور المروي في الأربعين «عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما من بيت إلا وملك الموت يقف على بابه في كل يوم خمس مرات، فإذا وجد الإنسان قد نفذ أكله وانقطع أجله ألقى عليه غمرات الموت، فغشيته كرباته وغمرته غمراته، فمن أهل بيته الناشرة شعرها والضاربة وجهها والباكية لشجوها والصارخة بويلها، فيقول ملك الموت عليه السلام: ويلكم مم الفزع ومم الجزع؟ ما أذهبت لأحد منكم رزقاً ولا قربت له أجلاً ولا أتيته

حتى أمرت، ولا قبضت روحه حتى استأمرت وإن لي فيكم عودة ثم عودة حتى لا أبقي منكم أحداً» . قال النبي صلى الله عليه وسلم: «والذي نفسي بيده لو يرون مكانه ويسمعون كلامه لذهلوا عن ميتهم ولبكوا على أنفسهم حتى إذا حمل الميت على النعش رفرفت روحه فوق النعش وهو ينادي: يا أهلي ويا ولدي لا تلعبن بكم الدنيا كما لعبت بي، جمعت المال من حله ومن غير حله، ثم خلفته لغيري فالمهناة له والتبعة علي فاحذروا ما حل بي» . وروى جعفر بن محمد «عن أبيه قال: نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ملك الموت عند رأس رجلاً من الأنصار فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ارفق بصاحبي فإنه مؤمن، فقال ملك الموت: يا محمد طيب نفساً وقر عيناً فإني بكل مؤمن رفيق، واعلم أن ما من أهل بيت مدر ولا شعر في بر ولا بحر، إلا وأنا أتصفحهم في كل يوم خمس مرات حتى لأنا أعرف بصغيرهم وكبيرهم منهم لأنفسهم، والله يا محمد لو أني أردت أن أقبض روح ما قدرت على ذلك حتى يكون الله هو الآمر بقبضها» . قال جعفر بن محمد: بلغني أنه يتصفحهم عند مواقيت الصلاة

ذكره الماوردي. قال الشيخ المؤلف رحمه الله: وفي هذا الخبر ما يدل على أن ملك الموت هو الموكل بقبض كل ذي روح، وأن تصرفه كله بأمر الله عز وجل وبخلقه واختراعه. قال ابن عطية: وروي في الحديث أن البهائم كلها يتوفى الله أرواحها دون ملك الموت كأنه يعدم حياتها قال: وكذلك الأمر في بني آدم إلا أنه نوع شرف يتصرف ملك الموت وملائكة معه في قبض أرواحهم، فخلق الله ملك الموت وخلق على يديه قبض الأرواح وانسلالها من الأجسام وإخراجها منه وخلق جنداً يكونون معه يعملون عمله بأمره. فقال تعالى: {ولو ترى إذ يتوفى الذين كفروا الملائكة} . وقال تعالى: {توفته رسلنا} والباري سبحانه خالق الكل الفاعل حقيقة لكل فعل. قال الله تعالى: {الله يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها} وقال: {الذي خلق الموت والحياة} وقال: {يحيي ويميت}

فملك الموت يقبض الأرواح والأعوان يعالجون، والله يزهق الروح. وهذا هو الجمع بين الآي والحديث، لكنه لما كان ملك الموت متولى ذلك بالوساطة والمباشرة أضيف التوفي إليه كما أضيف الخلق للملك. قال الشيخ المؤلف رحمه الله: كما في حديث ابن مسعود قال: حدثنا عليه السلام صلى الله عليه وسلم وهو الصدق المصدوق «إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوماً، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يرسل الله الملك فينفخ فيه الروح» الحديث خرجه مالك وغيره. قوله: يجمع خلقه في بطن أمه. قد جاء مفسراً عن ابن مسعود رضي الله عنه رواه الأعمش عن خيثمة. قال: قال عبد الله: إن النطفة إذا وقعت في الرحم فأراد الله سبحانه أن يخلق منها بشراً طارت في بشر المرأة تحت كل ظفر وشعر، ثم تمكث أربعين ليلة، ثم تنزل دماً في الرحم فذلك جمعها.

وفي صحيح مسلم أيضاً: «عن حذيفة بن أسيد الغفاري قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إذا مر بالنطفة إثنتان وأربعون بعث الله إليها ملكاً فصورها وخلق سمعها وبصرها وشعرها وجلدها ولحمها وعظامها. ثم يقول: أي رب أذكر أم أنثى؟» وذكر الحديث وما قبله يفسره ويبينه، لأن النطفة لا يبعث الملك إليها إلا بتمام اثنتين وأربعين ليلة فتأمله. ونسبه الخلق والتصوير للملك نسبة مجازية لا حقيقة، وإنما صدر عنه فعل ما في

المضغة كان عنه التصوير والتشكيل بقدرة الله تعالى وخلقه واختراعه. ألا تراه سبحانه وتعالى قد أضاف إليه الخلقة الحقيقية وقطع عنها نسب جميع الخليقة. فقال تعالى: {ولقد خلقناكم ثم صورناكم} إلى غير ذلك من الآيات مع ما دلت عليه قاطعات البراهين إذ لا خالق لشيء من المخلوقات إلا رب العالمين. وهكذا القول في قوله: «ثم يرسل الملك فينفخ ففيه الروح» أي أن النفخ فيه سبب يخلق الله فيه الروح والحياة. وكذلك القول في سائر الأسباب المعتادة فإنه بإحداث الله تعالى لا بغيره فتأمل ذلك. هذا هو الأصل وتمسك به ففيه النجاة من مذاهب أهل الضلال والقائلين بالطبائع وغيرهم، وأن الله هو القابض لأرواح جميع الخلق على الصحيح، وأن ملك الموت وأعوانه وسائط. وقد سئل مالك بن أنس عن البراغيث أملك الموت يقبض أرواحها؟ فأطرق ملياً ثم قال: ألها نفس؟ قال: نعم. قال: ملك الموت يقبض أرواحها {الله يتوفى الأنفس حين موتها} . وفي الخبر: أن ملك الموت وملك الحياة تناظرا فقال ملك الموت:

باب ما جاء في سبب قبض ملك الموت لأرواح الخلق

أنا أميت الأحياء وقال ملك الحياة: أنا أحيي الموتى. فأوحى الله إليهما: كونا على علمكما وما سخرتما له من الصنع. وأنا المميت والمحيي لا مميت ولا محيي سواي. ذكره أبو حامد في الأحياء. وذكر أبو نعيم الحافظ عن ثابت البناني قال الليل والنهار أربع وعشرون ساعة ليس منه ساعة تأتي على ذي روح إلا ملك الموت قائم عليها، فإن أمر بقبضها قبضها وإلا ذهب، وهذا عام في كل ذي روح. وفي خبر الإسراء عن ابن عباس فقلت: يا ملك الموت كيف تقدر على قبض أرواح جميع من في الأرض برها وبحرها، الحديث وقد تقدم. وروى أبو هدبة إبراهيم بن هدبة قال: «حدثنا أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن ملك الموت لينظر في وجوه العباد كل يوم سبعين نظرة. قال: إذا ضحك العبد الذي بعث إليه قال: يقول عجباً بعثت إليه لأقبض روحه وهو يضحك» والله أعلم. باب ما جاء في سبب قبض ملك الموت لأرواح الخلق روى الزهري ووهب بن منبه وغيرهما ما معناه: إن الله أرسل جبريل عليه السلام ليأتيه من تربة الأرض فأتاها ليأخذ منها فاستعاذت بالله من

ذلك فأعاذها، فأرسل ميكائيل فاستعاذت منه فأعاذها، فبعث عزرائيل فاستعاذت منه فلم يعذها فأخذ منها، فقال الرب تبارك وتعالى: أما استعاذت بي منك؟ قال: نعم. قال: فهلا رحمتها كما رحمها صاحباك؟ قال: يا رب طاعتك أوجب علي من رحمتي إياها. قال الله عز وجل: اذهب فأنت ملك الموت سلطتك على قبض أرواحهم فبكى فقال ما يبكيك؟ فقال: يا رب إنك تخلق من هذا الخلق أنبياء وأصفياء ومرسلين، وإنك لم تخلق خلقاً أكره إليهم من الموت، فإذا عرفوني أبغضوني وشتموني. قال الله تعالى: [إني سأجعل للموت عللاً وأسباباً ينسبون الموت إليها ولا يذكرونك معها] ، فخلق الله الأوجاع وسائر الحتوف. وقد روى هذا الخبر عن ابن عباس، قال: رفعت تربة آدم من ستة أرضين وأكثرها من السادسة ولم يكن فيها من الأرض السابعة شيء، لأن فيها نار جهنم قال: فلما أتى ملك الموت بالتربة قال له ربه: أما استعاذت بي منك، الحديث بلفظه ومعناه ذكره القتيبي وزاد فقالت الأرض: يا

رب خلقت السماوات فلم تنقص منها شيئاً وخلقتني فنقصتني. فقال لها الرب: وعزتي وجلالي لأعيدنهم إليك برهم وفاجرهم، فقالت: وعز تك لأنتقمن ممن عصاك. قال: ثم دعا بمياه الأرض مالحها وعذبها وحلوها ومرها وطيبها ومنتنها فسقى منه تربة آدم، فأقام يخمره أربعين صباحاً، وقال آخرون: أربعين سنة لم ينفخ فيه الروح، فكانت الملائكة تمر به فيقفون ينظرون إليه، ويقول بعضهم لبعض: إن ربنا لم يخلق خلقاً أحسن من هذا وإنه خلق لأمر كائن ويمر به إبليس اللعين فيضرب بيده عليه فيسمع له صلصلة، وهو الصلصال الفخار، فقال إبليس: إن فضل هذا علي لم أطعه، وإن فضلت عليه أهلكته، هذا من طين وأنا من نار. وقد قيل: إن الذي أتى بتربة الأرض إبليس وإن الله بعثه بعد ملكين، فاستغاثت بالله منه، فقالت: إني أعوذ بالله منك، ثم أخذ منها وصعد إلى ربه فقال: ألم تستعذ بي منك؟ فقال: بلى يا رب. فقال الله عز وجل: وعزتي لأخلقن مما جنت يداك خلقاً يسؤوك، والله أعلم.

باب ما جاء أن الروح إذا قبض تبعه البصر

باب ما جاء أن الروح إذا قبض تبعه البصر ابن ماجه، «عن أم سلمة، قالت: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على أبي سلمة، وقد شق بصره فأغمضه، ثم قال: إن الروح إذ قبض تبعه البصر» . خرجه مسلم أكمل من هذا وقد تقدم. وروى مسلم «عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ألم تروا الإنسان إذا مات شخص بصره، قالوا: بلى، قال: فذلك حين يتبع بصره نفسه» ، وفي غير الصحيح «عن النبي صلى الله عليه وسلم، أن الميت أول ما يشق بصره لرؤية المعراج وهو سلم بين السماء والأرض من زمردة خضراء أحسن ما رئي قط، فذلك حين يمد بصره إليه» . فصل: في قوله عليه السلام: «إن الروح إذا قبض تبعه البصر» . قوله: فذلك حين يتبع بصره نفسه ما يستغنى به عن قول كل قائل في الروح والنفس، وإنهما اسمان لمسمى واحد،

باب ما جاء في تزاور الأموات في قبورهم واستحسان الكفن لذلك

وسيأتي لهذا مزيد بيان إن شاء الله تعالى. باب ما جاء في تزاور الأموات في قبورهم واستحسان الكفن لذلك مسلم «عن جابر بن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إذا كفن أحدكم أخاه فليحسن كفنه إن استطاع» . وخرج أبو نصر عبد الله بن سعيد بن حاتم الوائلي السجستاني الحافظ في كتاب الإنابة على مذهب السلف الصالح في القرآن وإزالة شبه الزائغين بواضح البرهان. أخبرنا هبة الله بن إبراهيم بن عمر قال: «حدثنا علي بن الحسن بن بندار قال: حدثنا أبو عروة. قال حدثنا محمد بن المصفى قال: حدثنا معاوية: قال حدثنا إبراهيم أن معاوية عن أبي الزبير عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أحسنوا أكفان موتاكم فإنهم يتباهون ويتزاورون في قبورهم» . وقال ابن المبارك: أحب إلي أن يكفن في ثيابه التي كان يصلي فيها.

باب الإسراع بالجنازة وكلامها

باب الإسراع بالجنازة وكلامها البخاري «عن أبي سعيد الخدري: كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: إذا وضعت الجنازة واحتملها الرجال على أعناقهم. فإن كان صالحة قالت: قدموني قدموني. وإن كانت غير صالحة قالت: يا ويلها أين تذهبون بها يسمع صوتها كل شيء إلا الإنسان ولو سمعه لصعق» . وقد تقدم من حديث أنس أنها تقول: «يا أهلي ويا ولدي» الحديث. البخاري «عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: أسرعوا بالجنازة فإن تك صالحة فخير تقدمونها إليه.. وإن تك سوى ذلك فشر تضعونه عن رقابكم» خرجه مسلم أيضاً ... فصل: صعق: مات. والإسراع قيل معناه: الإسراع بحملها إلى قبرها في المشي وقيل: تجهيزها بعد موتها لئلا تتغير، والأول أظهر لما رواه النسائي. قال: أخبرنا محمد بن عبد الأعلى قال: حدثنا خالد قال:

حدثنا عيينة بن عبد الرحمن قال: حدثني أبي قال: شهدت جنازة عبد الرحمن بن سمرة وخرج زياد يمشي بين يدي السرير، فجعل رجال من أهل عبد الرحمن ومواليهم يستقبلون السرير ويمشون على أعقابهم ويقولون: رويداً رويداً بارك الله فيكم. فكانوا يدبون حتى إذا كنا ببعض الطريق لحقنا أبو بكرة رضي الله عنه يمشي على بغلة. فلما رأى الذين يصنعون حمل عليهم ببغلته وأهوى عليهم بالسوط. فقال: خلوا فو الذي كرم وجه أبي القاسم لقد رأيتنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وإنا لنكاد نرمل بها رملاً. فانبسط القوم، صححه أبو محمد عبد الحق. وروى أبو داود «من حديث أبي ماجدة عن ابن مسعود قال: سألنا نبيناً محمداً صلى الله عليه وسلم عن المشي في الجنازة. فقال: دون الخبب إن يكن خيراً تعجل إليه وإن يكن غير ذلك فبعداً لأهل النار» . ذكره أبو عمر بن عبد البر. وقال: والذي عليه جماعة أهل العلم في ذلك الإسراع فوق

باب بسط الثوب على القبر عند الدفن

السجية قليلاً، والعجلة أحب إليهم من الإبطاء، ويكره الإسراع الذي يشق على ضعفه من يتبعها. وقال إبراهيم النخعي: نصوا بها قليلاً ولا تدبوا دبيب اليهود والنصارى. السجية: العادة. باب بسط الثوب على القبر عند الدفن أبو هدبة إبراهيم بن هدبة قال: «حدثنا أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تبع جنازة، فلما صلى عليها دعا بثوب فبسط على القبر وهو يقول: لا تتطلعوا في القبر فإنها أمانة فلعسى يحل العقدة فيرى حية سوداء متطوقة في عنقه فإنها أمانة ولعله يؤمر به فيستمع صوت السلسلة» . وذكر عبد الرزاق عن ابن جريج عن الشعبي عن رجل أن سعد بن مالك، قال: أمر النبي صلى الله عليه وسلم بثوب فستر على القبر حين دفن سعد بن معاذ، قال: وقال سعد: إن النبي صلى الله عليه وسلم نزل في قبر سعد بن معاذ وستر على القبر بثوب فكنت فيمن أمسك الثوب.

فصل: اختلف العلماء في هذا الباب، فكان عبد الله بن يزيد وشريح وأحمد بن حنبل يكرهون مد الثوب على الرجل، وكان أحمد وإسحاق يختاران أن يفعل ذلك بقبر المرأة، وكذلك قال أصحاب الرأي، ولا يضر عندهم أن يفعلوا ذلك بقبر الرجل. وقال أبو ثور: لا بأس بذلك في قبر الرجل والمرأة. وكذلك قال الإمام الشافعي وستر المرأة عند ذلك آكد من ستر الرجل.

ذكره ابن المنذر. قال الشيخ المؤلف رحمه الله: ويستر الرجل والمرأة للعلة التي جاءت في حديث أنس اقتداء بفعله عليه السلام في ستر سعد بن معاذ والله أعلم. ولقد أخبرني بعض أصحابنا: أنه سمع صوت جو السلسلة في قبر. وأخبرني صاحبنا الفقيه العالم شيخ الطريقة أبو عبد الله محمد بن أحمد القصري رحمه الله أنه توفي بعض الولاة بقسطنطينة فحفر له، فلما فرغوا من الحفر وأرادوا أن يدخلوا الميت القبر إذا بحية سوداء داخل القبر، فهابوا أن يدخلوه فيه فحفروا له قبراً آخراً، فلما أرادوا أن يدخلوه إذ بتلك الحية فيه فحفروا له قبرا آخر فإذا بتلك الحية فلم يزالوا يحفرون له نحواً من ثلاثين قبراً وإذا بتلك الحية تتعرض لهم في القبر الذي يريدون أن يدفنوه فيه، فلما أعياهم ذلك سألوا ما يصنعون؟ فقيل لهم: ادفنوه معها. نسأل الله السلامة والستر في الدنيا والآخرة.

باب ما جاء في قراءة القرآن عند القبر حالة الدفن وبعده وأنه يصل إلى الميت ثواب ما يقرأ ويدعى ويستغفر له ويتصدق عليه

باب ما جاء في قراءة القرآن عند القبر حالة الدفن وبعده وأنه يصل إلى الميت ثواب ما يقرأ ويدعى ويستغفر له ويتصدق عليه ذكره أبو حامد في كتاب الأحياء وأبو محمد عبد الحق في كتاب العاقية له. قال محمد بن أحمد المروروذي سمعت أحمد بن حنبل رضي الله عنه يقول: إذا دخلتم المقابر فاقرؤوا بفاتحة الكتاب والمعوذتين وقل هو الله أحد واجعلوا ذلك لأهل المقابر فإنه يصل إليهم. وقال علي بن موسى الحداد: كنت مع أحمد بن حنبل في جنازة ومحمد بن قدامة الجوهري يقرأ. فلما دفنا الميت جاء رجل ضرير يقرأ عند القبر فقال له أحمد: يا هذا إن القراءة على القبر بدعة فلما خرجنا من المقابر قال محمد بن قدامة لأحمد: يا أبا عبد الله: ما تقول في مبشر بن إسماعيل؟ قال: ثقة. قال: هل كتبت عنه شيئاً؟ قال: نعم. قال: أخبرني مبشر بن إسماعيل عن عبد الرحمن بن العلاء بن الحجاج عن أبيه أنه أوصى إذا دفن أن يقرأ عند رأسه بفاتحة البقرة وخاتمتها، وقال: سمعت

ابن عمر يوصي بذلك. قال أحمد: فارجع إلى الرجل فقل له يقرأ. قلت: وقد استدل بعض علمائنا على قراءة القرآن على القبر بحديث

العسيب الرطب الذي شقه النبي صلى الله عليه وسلم باثنين ثم غرس على هذا واحداً وعلى هذا واحداً ثم قال: «لعله أن يخفف عنهما ما لم يبسا» . خرجه البخاري ومسلم. وفي مسند أبي داود الطيالسي: «فوضع على أحدهما نصفاً وعلى الآخر نصفاً وقال: إنه يهون عليهما ما دام فيهما من بلوتهما شيء» ، قالوا: ويستفاد من هذا غرس الأشجار وقراءة القرآن على القبور وإذا خفف عنهم بالأشجار، فكيف بقراءة الرجل المؤمن القرآن. وقد خرج السلفي «من حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من مر على المقابر وقرأ قل هو الله أحد إحدى عشرة مرة ثم وهب أجره للأموات أعطي من الأجر بعدد الأموات.

وروي» من حديث أنس خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا قرأ المؤمن آية الكرسي، وجعل ثوابها لأهل القبور، أدخل الله تعالى في كل قبر مؤمن من المشرق إلى المغرب أربعين نوراً، ووسع الله عز وجل عليهم مضاجعهم، وأعطى الله للقارئ ثواب ستين نبياً، ورفع له بكل ميت درجة، وكتب له بكل ميت عشر حسنات «. وقال الحسن من دخل المقابر فقال: اللهم رب الأحساد البالية والعظام الناخرة خرجت من الدنيا وهي بك مؤمنة فأدخل عهليها روحاً منك وسلاماً مني إلا كتب بعددهم حسنات. وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم» من حديث ابن عباس أنه، قال خير الناس وخير من يمشي على جديد الأرض المعلمون، كما أخلق الدين جدوده أعطوهم ولا تستأجروهم فتحرجوهم، فإن المعلم إذا قال للصبي قل بسم الله الرحمن الرحيم كتب الله للصبي وبراءة للمعلم وبراءة لأبويه من النار «ذكره الثعلبي: قال الشيخ المؤلف رحمه الله: أصا هذا الباب الصدقة التي لا اختلاف فيها فكما يصل للميت ثوابها، فكذلك تصل قراءة القرآن والدعاء والاستغفار إذ كل

ذلك صدقة فإن الصدقة لا تختص المال. وقال صلى الله عليه وسلم:» وقد سئل عن قصر الصلاة في حالة الأمن فقال: صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته «. وقال عليه السلام:» يصبح على كل سلامي من أحدكم صدقة فإن كل تسبيحة صدقة، وكل تلهيلة صدقة، وكل تكبيرة صدقة، وكل تحميدة صدقة، وأمر بالمعروف صدقة، ونهي عن المنكر صدقة، ويجزئ عن ذلك ركعتان يركعهما من الضحى «، ولهذا استحب العلماء زيارة القبور تحفة الميت من زائره. روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:» ما الميت في قبره إلا كالغريق المغوث

ينتظر دعوة تلحقه من أبيه أو أخيه أو صديق له، فإذا لحقته كانت أحب إلي من الدنيا وما فيها، وإن هدايا الأحياء للأموات الدعاء والاستغفار. وقد حكي أن امرأة جاءت إلى الحسن البصري رحمه الله فقالت: إن ابنتي ماتت وقد أحببت أن أراها في المنام، فعلمني صلاة أصليها لعلي أراها فعلمها صلاة فرأت ابنتها وعليها لباس القطران والغل في عنقها والقيد في رجلها فارتاعت لذلك فأعلمت الحسن فاغتم عليها، فلم تمض مدة حتى رآها الحسن في المنام وهي في الجنة على سرير وعلى رأسها تاج. فقالت له يا شيخ: أما تعرفني؟ قال: لا، قالت له: أنا تلك المرأة التي علمت أمي الصلاة فرأتني في المنام، قال لها: فما سبب أمرك؟ قالت: مر بمقبرتنا رجل فصلى على النبي صلى الله عليه وسلم وكان في المقبرة خمسمائة وستون إنساناً في العذاب فنودي: ارفعوا العذاب عنهم ببركة صلاة هذا الرجل عن النبي صلى الله عليه وسلم. وقال بعضهم: مات أخ لي فرأيته في المنام فقلت: ما كان حالك حين وضعت في قبرك؟ قالت: أتاني آت بشهاب من نار فلولا أن داعياً دعا لي لرأيت أنه سيضربني به. والحكايات عن الصالحين بهذا المعنى كثيرة، ذكرها أبو محمد عبد الحق في كتاب العاقبة له.

وقد ذكر في هذا المعنى أبو محمد عبد الله بن مسلم بن قتيبة رضي الله عنه في كتاب عيون الأخبار له حكاية فيها طول، رأينا ذكرها لاشتمالها على وعظ وتذكير وتخويف وتحذير وتضرع وابتهال ودعاء بالموت والانتقال. روي عن الحارث بن نبهان أنه قال: كنت أخرج إلى الجبانات فأرحم على أهل القبور وأتفكر وأعتبر وأنظر إليهم سكوتاً لا يتكلمون وجيراناً لا يتزاورون، وقد صار لهم من بطن الأرض وطاء ومن ظهرها غطاء وأنادي: يا أهل القبور محيت من الدنيا آثاركم، وما محيت عنكم أوزاركم، وسكنتم دار البلاء فتورمت أقدامكم قال: ثم يبكي بكاء شديداً ثم يميل إلى قبة فيها فينام في ظلها. قال: فبينما أنا نائم إلى جانب القبر إذ أنا بحس مقمعة يضرب بها صاحب القبر وأنا أنظر إليه والسلسلة في عنقه، وقد ازرقت عيناه واسود وجهه وهو يقول: يا ويلي ماذا حل بي لو رآني أهل الدنيا ما ركبوا معاصي الله أبداً. طولبت والله باللذات فأوبقتني وبالخطايا فأغرقتني فهل من شافع لي أو مخبر أهلي بأمري؟ ! قال الحارث: فاستيقظت مرعوباً وكاد أن يخرج قلبي من هول ما رأيت، فمضيت إلى داري وبت ليلتي وأنا متفكر فيما رأيت، فما أصبحت قلت دعني أعود إلى

الموضع الذي كنت فيه لعلي أجد به أحداً من زوار القبور فأعلمه بالذي رأيت، قال: فمضيت إلى المكان الذي كنت فيه بالأمس فلم أر أحداً فأخذني النوم فنمت، فإذا أنا بصاحب القبر وهو يسحب على وجهه ويقول: يا ويلتاه ماذا حل بي. ساء في الدنيا عملي وطال فيها أجلي حتى غضب علي رب الأرباب. فالويل لي إن لم يرحمني ربي. قال الحارث: فاستيقظت وقد توله عقلي بما رأيت وسمعت، فمشيت إلى داري وبت ليلتي، فلما أصبحت أتيت القبر لعلي أجد أحداً من زوار القبور فأعلمه بما رأيت ثم نمت، فإذا أنا بصاحب القبر قد قرن بين قدميه وهو يقول: ما أغفل أهل الدنيا عني، ضوعف علي العذاب وتقطعت عني الحيل والأسباب وغضب علي رب الأرباب وغلق في وجهي كل باب، فالويل لي إن لم يرحمني ربي العزيز الوهاب. قال الحارث: فاستيقظت من منامي مرعوباً وهممت بالانصراف، فإذا بثلاث جوار قد أقبلن فتباعدت لهن عن القبر وتواريت لكي أسمع كلامهن، فتقدمت الصغرى ووقفت على القبر وقالت: السلام عليك يا أبتاه كيف هدوؤك في مضجعك وكيف قرارك في موضعك ذهبت عنا بودك وانقطع عنا سؤالك فما أشد حسرتنا عليك، ثم بكت بكاءً شديداً. ثم تقدمت ابنتان فسلمتا على القبر، ثم قالتا: هذا قبر أبينا الشفيق علينا والرحيم بنا أنسك الله بملائكة رحمته وصرف عنك عذابه ونقمته، يا أبتاه جرت بعدك أمور لو عاينتها لأوهمتك ولو اطلعت عليها لأحزنتك، كشف الرجال وجوهنا وقد كنت أنت سترها. قال الحارث: فبكيت لما سمعت كلامهن. ثم قمت مسرعاً إليهن، فسلمت عليهن وقلت لهن: أيتها الجواري إن الأعمال ربما قبلت وربما ردت على صاحبها فما كان عمل أبيكن المخلد في هذا القبر الذي عاينت من أمره ما

أحزنني واطلعت من حاله على ما آلمني؟ . قال الحارث: فلما سمعن كلامي كشفن وجوههن وقلن: أيها العبد الصالح. وما الذي رأيت؟ قلت لهن: لي ثلاثة أيام وأنا أختلف إلى هذا القبر أسمع صوت المقمعة والسلسلة فيه، قال: فلما سمعن ذلك مني قلن لي: بشارة ما أضرها ومصيبة ما أحزنها، نحن نفضي الأوطار ونعمر الديار وأبونا يحرق بالنار، فو الله لا قر بنا قرار ولا ضمتنا للذة العيش دار أو نتضرع للجبار فلعله أن يعتق أبانا وينقذه من النار. ثم مضين يتعثرن في أذيالهن. قال الحارث: فمضيت إلى داري فبت ليلتي، فلما أصبحت أتيت القبر فجلست عنده فغلبني النوم فنمت، فإذا أنا بصاحب القبر له حسن وجمال وفي رجليه نعل من ذهب ومعه حور وغلمان. قال الحارث: فسلمت عليه وقلت له: رحمك الله من أنت؟ قال: أنا الرجل الذي عاينت من أمري ما أحزنك واطلعت منه على ما أفجعك فجزاك الله خيراً فما أيمن طلعتك علي فقلت له: وكيف حالك؟ فقال لي: لما اطلعت علي وأخبرت بناتي بالأمس بحالي أعرين أبدانهن وأسبلن شعورهن وتضرعن لمولاهن، ومرغن خدودهن في التراب، وأهملن دموعهن بالانسكاب، واستوهبوني من العزيز الوهاب، فغفر لي الذنوب

والأوزار، واستنقذني من النار، وأسكنني دار القرار بجوار محمد المختار، فإذا رأيت بناتي فأعلمهن بأمري وما كان من قصتي ليزول عنهن روعهن ويفارقهن حزنهن، وتعلمهن إني قد صرت إلى جنات وحور ومسك وكافور وعندي غلمان وسرور، وقد عفا عني العزيز الغفور. قال الحارث: فاسيقظت فرحاً مسروراً لما رأيت وسمعت، ثم مضيت إلى داري وبت ليلتي، فما أصبحت أتيت القبر فوجدتهن حافيات الأقدام فسلمت عليهن وقلت لهن: أبشرن فقد رأيت أباكن في خير عظيم وملك مقيم، وقد أعلمني أن الله تعالى أجاب دعاءكن ولم يخيب مسعاكن، وقد وهب لكن أباكن فاشكرنه على ما أولاكن. قال: فقالت الصغرى: اللهم يا مؤنس القلوب ويا ساتر العيوب ويا كاشف الكروب ويا غافر الذنوب ويا عالم الغيوب ويا مبلغ الأمل المطلوب، قد علمت ما كان من مسألتي ورغبتي واعتذاري في خلوتي واستقالتي من ذلتي وتنصلي من خطيئتي، وأنت اللهم تعلم همتي والمطلع على نيتي والعالم بطويتي ومالك رقبتي والآخذ بناصيتي وغايتي في طلبتي، ورجائي عند شدتي، ومؤنسي في وحدتي، وراحم عبرتي، ومقيل عثرتي، ومجيب دعوتي، فإن كنت قصرت عما أمرتني وركبت إلى ما عنه نهيتني فبحلمك حملتني وبسترك سترتني، فبأي لسان أذكرك وعلى أي نعمك أشكرك ضاق بكثرتها ذرعي، فيا أكرم الأكرمين ومنتهى غاية

الطالبين ومالك يوم الدين الذي يعلم ما أخفي في الضمير ويدبر أمر الصغير والكبير، فإن كنت قضيت الحاجة بفضلك وشفعتني في عبدك فاقبضني إليك وأنت على كل شيء قدير، ثم صرخت صرخة فارقت الدنيا رحمة الله عليها. قال: ثم قامت الثانية فنادت بأعلى صوتها: يا رب فرج كربي وخلص من الشك قلبي. يا من أقامني من صرعتي وأقالني من عثرتي ودلني من حيرتي وأعانني في شدتي إن كنت قبلت دعوتي وقضيت حاجتي وأنجحت طلبتي، فألحقني بأختي ثم صاحت صيحة فارقت الدنيا رحمة الله عليها. قال: ثم قامت الثالثة: فنادت بأعلى صوتها يا أيها الجبار الأعظم والملك الأكرم العالم بمن سكت وتكلم، لك الفضل العظيم والملك القديم والوجه الكريم، العزيز من أعززته، والذليل من أذللته، والشريف من شرفته، والسعيد من أسعدته، والشقي من أشقيته، والقريب من أدنيته والبعيد من أبعدته والمحروم من حرمته، والرابح من أوهبته والخاسر من عذبته، أسألك باسمك العظيم ووجهك الكريم وعلمك المكنون الذي بعد عن إدراك الأفهام وغمض عن مناولة الأوهام باسمك الذي جعلته على الليل فدجى وعلى النهار فأضاء، وعلى الجبال فدكدكت، وعلى الرياح فتناثرت، وعلى السموات فارتفعت، وعلى الأصوات

فخشعت، وعلى الملائكة فسجدت. اللهم إني أسألك إن كنت قضيت حاجتي وأنجحت طلبتي فألحقني بصواحباتي، ثم صاحت صيحة فارقت الدنيا رحمة الله علينا وعليهم وعلى جميع المسلمين أجمعين. آخر الحكاية والحمد لله رب العالمين. و «روي من حديث أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: من دخل المقابر فقرأ سورة يس خفف الله عنهم وكان له بعدد من فيها حسنات» . ويروى عن عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه أمر أن يقرأ عند قبره سورة البقرة. وقد روى إباحة قراءة القرآن عند القبر عن العلاء بن عبد الرحمن، وذكر النسائي وغيره من «حديث معقل بن يسار المدني عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال اقرأوا يس عند موتاكم» ، وهذا يحتمل أن تكون

القراءة عند الميت في حال موته ويحتمل أن تكون عند قبره. قال أبو محمد عبد الحق: حدثني أبو الوليد إسماعيل بن أحمد عرف بابن أفرند وكان هو وأبوه صالحين معروفين. قال: مات أبي رحمه الله فحدثني بعض إخوانه ممن يوثق بحديثه قال لي: زرت قبر أبيك فقرأت عليه حزباً من القرآن ثم قلت يا فلان هذا قد أهديته لك فماذا لي؟ قال: فهبت علي نفحة مسك غشيتني وأقامت معي ساعة ثم انصرفت وهي معي فما فارقتني إلا وقد مشيت نصف الطريق. قال أبو محمد: ورأيت لبعض من يوثق به قال: ماتت لي امرأة فقرأت في بعض الليالي آيات من القرآن فأهديتها لها ودعوت الله عز وجل واستغفرت لها وسألت، فما كان في اليوم الثاني حدثتني امرأة تعرفها قالت لي: رأيت البارحة فلانة في النوم ـ تعني الميتة المذكورة ـ في مجلس حسن في دار حسنة، وقد أخرجت لنا أطباقاً من تحت سرير كان في البيت، والأطباق مملوءة قوارير أنوار فقالت لي: هذا أهداه لي صاحب بيتي قال: وما كنت أعلمت بذلك أحداً. قال الشيخ المؤلف رحمه الله: وفي هذا المعنى حديث مرفوع من حديث أنس يأتي في باب ما

يتبع الميت إلى قبره وقد قيل: إن ثواب القراءة للقارئ. وللميت: ثواب الاستماع ولذلك تلحقه الرحمة. قال تعالى: {وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون} . قلت: ولا يبعد في كرم الله تعالى أن يلحقه ثواب القراءة والاستماع جميعاً، ويلحقه ثواب ما يهدى إليه من قراءة القرآن، وإن لم يسمعه كالصدقة والدعاء والاسغفار لما ذكرنا، ولأن القرآن دعاء واستغفار وتضرع وابتهال، وما يتقرب المتقربون إلى الله تعالى بمثل القرآن. قال صلى الله عليه وسلم: «يقول الرب تبارك وتعالى: من شغله قراءة القرآن عن مسألتي أعطيته ما أعطي السائلين» رواه الترمذي، وقال فيه حديث حسن غريب. وقال عليه السلام: «إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له» والقراءة في معنى الدعاء وذلك صدقة من الولد، ومن الصاحب والصديق والمؤمنين. حسب ما ذكرنا وبالله التوفيق.

فإن قيل: فقد قال الله تعالى {وأن ليس للإنسان إلا ما سعى} وهذا يدل على أنه لا ينفع أحداً عمل أحد. قيل له: هذه آية اختلف في تأويلها أهل التأويل. فروي عن ابن عباس: أنها منسوخة بقوله تعالى: {والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم} فيجعل الولد الطفل يوم القيامة في ميزان أبيه ويشفع الله تعالى الآباء في الأبناء والأبناء في الآباء. يدل على ذلك قوله تعالى: {آباؤكم وأبناؤكم لا تدرون أيهم أقرب لكم نفعاً} وقال الربيع بن أنس: {وأن ليس للإنسان إلا ما سعى} يعني: الكافر. وأما المؤمن فله ما سعى، وما سعى له غيره.

قلت: وكثير من الأحاديث تدل على هذا القول. ويشهد له. وأن المؤمن يصل إليه ثواب العمل الصالح من غيره. وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: «من مات وعليه صيام صام له وليه» . و «قال عليه السلام للرجل الذي حج عن غيره قبل أن يحج عن نفسه: حج عن نفسك ثم حج عن شبرمة» . وروي أن عائشة رضي الله عنها اعتكفت عن أخيها عبد الرحمن بعد موته وأعتقت عنه، و «قال سعد للنبي صلى الله عليه وسلم: إن أمي توفيت، افأتصدق عنها؟ قال: نعم قال: فأي الصدقة أفضل؟ قال: سقي الماء» . وفي الموطأ عن عبد الله بن أبي بكر عن عمته، أنها حدثته عن جدته أنها جعلت على نفسها مشياً إلى مسجد قباء، فماتت ولم تقضه، فأفتى عبد الله بن عباس ابنتها أن تمشي عنها.

قلت: ويحتمل أن يكون قوله تعالى: {وأن ليس للإنسان إلا ما سعى} خاصاً في السيئة بدليل ما في صحيح مسلم، «عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: قال الله عز وجل: إذا هم عبدي بحسنة ولم يعملها كتبتها له حسنة، فإن عملها كتبتها له عشراً إلى سبعمائة ضعف، وإذا هم بسيئة ولم يعملها لم أكتبها عليه، فإن عملها كتبتها سيئة واحدة» والقرآن دال على هذا. قال الله تعالى: {من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها} وقال تعالى: {مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة} الآية، وقال في الآية الأخرى: {كمثل جنة بربوة} وقال: {من ذا الذي يقرض الله قرضاً حسناً فيضاعفه له أضعافاً كثيرةً} وهذا كله تفضل من الله تعالى، وطريق العدل: {أن ليس للإنسان إلا ما سعى} ، إلا أن الله عز وجل يتفضل عليه بما لم يجب له كما أن زيادة الأضعاف فضل منه كتب لهم بالحسنة الواحدة: عشراً إلى سبعمائة ضعف إلى ألف ألف حسنة. كما قيل لأبي هريرة: أسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول: «أن الله ليجزي عن الحسنة الواحدة: ألف ألف حسنة» فقال: سمعته يقول: «إن الله ليجزي على الحسنة الواحدة: ألفي ألف حسنة» فها تفضل، وقد تفضل الله على الأطفال بإدخالهم الجنة بغير

عمل فما ظنك بعمل المؤمن عن نفسه أو عن غيره؟ . وقد ذكر الخرائطي في كتاب القبور، قال: سنة في الأنصار إذا حملوا الميت أن يقرأوا معه سورة البقرة. ولقد أحسن من قال: زر والديك وقف على قبريهما ... فكأنني بك قد حملت إليهما وفي أبيات يقول في آخرها: وقر أت من آي الكتاب بقدر ما تسطيع وقد بعثت ذاك إليهما وإنما طولنا النفس في هذا الباب، لأن الشيخ الفقيه القاضي الإمام مفتي الأنام عبد العزيز بن عبد السلام رحمه الله كان يفتي بأنه لا يصل للميت ثواب ما يقرأ، ويحتج بقوله تعالى: {وأن ليس للإنسان إلا ما سعى} ، فلما توفي رحمه الله، رآه بعض أصحابه ممن كان يجالسه وسأله عن ذلك، فقال له: إنك كنت تقول: إنه لا يصل إلى الميت ثواب ما يقرأ ويهدي إليه، فكيف الأمر؟ فقال له: إني كنت أقول ذلك في دار الدنيا، والآن فقد رجعت عنه لما رأيت من

باب يدفن العبد في الأرض التي خلق منها

كرم الله تعالى في ذلك. وأنه يصل إليه ذلك. باب يدفن العبد في الأرض التي خلق منها أبو عيسى الترمذي، «عن مطر بن عكامش، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا قضى الله لعبد أن يموت بأرض جعل له إليها حاجة» أو قال: «بها حاجة» . قال أبو عيسى: وفي الباب عن أبي عزة، وهذا حديث غريب، ولا يعرف لمطر بن عكامش عن النبي غير هذا الحديث. وعن أبي عزة، قال «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا قضى الله لعبد أن يموت بأرض، جعل له إليها حاجة» ، أو قال: «بها حاجة» قال: هذا حديث حسن صحيح، وأبو عزة له صحبة، واسمه يسار بن عبيد، وأنشدوا: إذا ما حمام المرء كان ببلدة ... دعته إليها حاجة فيطير وروى الترمذي الحكيم أبو عبد الله في نوادر الأصول، «عن أبي هريرة، قال خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم: يطوف ببعض نواحي المدينة، وإذا بقبر يحفر، فأقبل حتى وقف عليه، فقال: لمن هذا؟ قيل لرجل من

الحبشة، فقال: لا إله إلا الله سيق من أرضه وسمائه حتى دفن في الأرض التي خلق منها» وعن ابن مسعود «عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: إذا كان العبد بأرض أوثبته الحاجة إليها حتى إذابلغ أقصى أثره قبضه الله فتقول الأرض يوم القيامة: رب، هذا ما استودعتني» خرجه ابن ماجه أيضاً. فصل: قال علماؤنا رحمة الله عليهم: فائدة هذا الباب تنبيه العبد على التيقظ للموت والاستعداد له بحسن الطاعة والخروج عن المظلمة، وقضاء الدين، وإتيان الوصية بماله أو عليه في الحضر، فضلاً عن أوان الخروج عن وطنه إلى سفر، فإنه لا يدري أين كتبت منيته من بقاع الأرض. وأنشد بعضهم: مشيناها خطى كتبت علينا ... ومن كتبت عليه خطى مشاها وأرزاق لنا متفرقات ... فمن لم تأته منا أتاها ومن كتبت منيته بأرض ... فليس يموت في أرض سواها وقد روي في الآثار القديمة: أن سليمان عليه السلام كان عنده رجل يقول: يا نبي الله: إن لي حاجة بأرض الهند. فأسألك أن تأمر

باب ما جاء أن كل عبد يذر عليه من تراب حفرته وفي الرزق والأجل، وبيان قوله تعالى " مخلقة وغير مخلقة "

الريح أن يحملني إليها في هذه الساعة، فنظر سليمان إلى ملك الموت عليه السلام، فرأه يبتسم، فقال: مم تتبسم؟ قال: تعجباً ـ: إني أمرت بقبض روح هذا الرجل في بقية هذه الساعة بالهند، وأنا أراه عندك، فروي أن الريح حملته في تلك الساعة إلى الهند، فقبض روحه بها. والله أعلم. باب ما جاء أن كل عبد يذر عليه من تراب حفرته وفي الرزق والأجل، وبيان قوله تعالى " مخلقةً وغير مخلقةٍ " باب ما جاء أن كل عبد يذر عليه من تراب حفرته وفي الرزق والأجل، وبيان قوله تعالى مخلقةً وغير مخلقة أبو نعيم، «عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما من مولود إلا وقد ذر عليه من تراب حفرته» . قال أبو عاصم النبيل ما نجد لأبي بكر وعمر رضي الله عنهما فضيلة مثل هذه لأن طينتهما طينة رسول الله صلى الله عليه وسلم. أخرجه في باب ابن سيرين، عن أبي هريرة، وقال: هذا حديث غريب من حديث عون لم نكتبه إلا من حديث أبي عاصم النبيل، أحد الثقات الأعلام من أهل البصرة. وروى مرة، عن ابن مسعود، أن الملك الموكل بالرحم يأخذ النطفة من الرحم فيضعها على كفه، ثم يقول: يا رب، مخلقة أو غير مخلقة؟ فإن قال مخلقة، قال: يا رب ما الرزق؟ ما الأثر؟ ما الأجل؟ فيقول: انظر في أم

الكتاب، فينظر في اللوح المحفوظ، فيجد فيه رزقه، وأثره، وأجله، وعمله، ويأخذ التراب الذي يدفن في بقعته ويعجن به نطفته. فذلك قوله تعالى: {منها خلقناكم وفيها نعيدكم} ، خرجه الترمذي الحكيم، أبو عبد الله في نوادر الأصول. وذكر عن علقمة، عن عبد الله، قال: إن النطفة إذا استقرت في الرحم أخذها الملك بكفه، فقال: أي رب أمخلقة أو غير مخلقة؟ فإن قال: غير مخلقة لم تكن نسمة وقذفنها الأرحام دماً، وإن قال: مخلقة، قال: أي رب أذكر، أم أنثى؟ أشقي، أم سعيد؟ ماالأجل؟ وما الأثر؟ وما الرزق؟ وبأي أرض تموت؟ فيقول: اذهب إلى أم الكتاب، فإنك ستجد هذه النطفة فيها، فيقال للنطفة: من ربك؟ فتقول: الله. فيقال: من رازقك؟ فتقول: الله، فتخلق، فتعيش في أجلها، وتأكل رزقها، وتطأ أثرها، فإذا جاء أجلها ماتت، فدفنت في ذلك المكان، فالآثر: هو التراب الذي يؤخذ فيعجن به ماؤه. وقال محمد بن سيرين لو حلفت حلفت صادقاً باراً، غير شاك ولا مستثن، أن الله ما خلق نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم، ولا أبا بكر، ولا عمر، إلا من طينة واحدة ثم ردهم إلى تلك الطينة.

باب مايتبع الميت إلى قبره وبعد موته وما يبقى معه فيه

قلت: وممن خلق من تلك التربة: عيسى بن مريم عليه السلام على ما يأتي بيانه آخر الكتاب إن شاء الله تعالى، وهذا الباب يبين لك معنى قوله تعالى: {يا أيها الناس إن كنتم في ريب من البعث فإنا خلقناكم من تراب} . وقوله: {هو الذي خلقكم من طين} . وقوله: {ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين} ولا تعارض في شيء من ذلك على ما بينا في كتاب الجامع لأحكام القرآن، والمبين لما تضمن من السنة وآي الفرقان وهذا الباب يجمع لك كله فتأمله. باب مايتبع الميت إلى قبره وبعد موته وما يبقى معه فيه مسلك «عن أنس بن مالك قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يتبع الميت ثلاث. فيرجع اثنان ويبقى واحد: يتبعه أهله وماله وعمله فيرجع أهله وماله ويبقى عمله» . وروى أبو نعيم «من حديث قتادة عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم سبع يجري أجرها للعبد بعد موته وهو في قبره: من علم علماً أو أجرى نهراً أو حفر بئراً أو غرس نخلاً أو بنى مسجداً

أو ورث مصحفاً أو ترك ولداً يستغفر له بعد موته» هذا حديث غريب من حديث قتادة تفرد به أبو نعيم عبد الرحمن بن هانئ النخعي عن العزرمي محمد بن عبد الله عن قتادة. وخرجه الإمام أبو عبد الله محمد بن يزيد بن ماجه القزويني في سننه من حديث الزهري. «حدثني أبو عبد الله الأغر، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن مما يلحق المؤمن من عمله وحسناته بعد موته: علماً علمه ونشره، أو ولداً صالحاً تركه أو مصحفاً ورثه، أو مسجداً بناه، أو بيتاً لابن السبيل بناه، أو نهراً أجراه، أو صدقة أخرجها من ماله في صحته تلحقه بعد موته» . وروى أبو هدبة إبراهيم بن هدبة قال «حدثنا أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنك لتصدق عن ميتك بصدقة فيجيء بها ملك من الملائكة في أطباق من نور، فيقوم على رأس القبر فينادي: يا صاحب القبر الغريب: أهلك قد أهدوا إليك هذه الهدية فأقبلها» . قال: فيدخلها إليه في قبره ويفسح له في مداخله وينور له فيه فيقول: جزى الله أهلي عني خير الجزاء قال: فيقول لزيق ذلك القبر أنا لم أخلف لي ولداً ولا أحداً يذكرني بشيء فهو مهموم والآخر يفرح بالصدقة.

باب ما جاء في هول المطلع

وقال بشار بن غالب: رأيت رابعة العدوية ـ يعني العابدة ـ في المنام، وكنت كثير الدعاء له. فقالت لي: يا بشار هديتك تأتينا في أطباق من نور، عليها مناديل الحرير، وهكذا يا بشار دعاء المؤمنين الأحياء إذا دعوا لإخوانهم الموتى فاستجيب لهم يقال: هذه هدية فلان إليك: وقد تقدم لهذا الباب ما فيه كفاية، والحمد لله. وقال إسماعيل بن رافع: ما من ذي رحم أوصل لذي رحمه، من رجل أتبع ذا رحم بحج أو عتق أو صدقة. باب ما جاء في هول المطلع تقدم من حديث جابر بن عبد الله قال «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لاتمنوا الموت فإن هول المطلع شديد» الحديث. ولما طعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال له رجل: إني لأرجو أن لا تمس جلدك النار فنظر إليه ثم قال: إن من غررتموه لمغرور. والله لو أن لي ما على الأرض لافتديت به من هول المطلع.

وقال أبو الدرداء رضي الله عنه: أضحكني ثلاث وأبكاني ثلاث. أضحكني مؤمل دنيا والموت يطلبه، وغافل ليس بمغفول عنه، وضاحك بملء فيه لا يدري أأرضى الله أم أسخطه؟ وأبكاني: فراق الأحبة محمد صلى الله عليه وسلم وحزبه، وأحزنني هول المطلع عند غمرات الموت، والوقوف بين يدي الله يوم تبدو السريرة علانية ثم لايدري إلى الجنة أو إلى النار. أخرجه ابن المبارك. قال أخبرنا غير واحد عن معاوية بن قرة قال: قال أبو الدرداء: فذكره. قال: وأخبرنا محمد، بلغ به أنس بن مالك قال: ألا أحدثكم بيومين وليلتين لم تسمع الخلائق بمثلهن: أول يوم يجيئك من الله تعالى، إما برضاه وإما بسخطه ويوم تعرض فيه على ربك آخذاً كتابك، وإما بيمينك وإما بشمالك وليلة تستأنف فيها المبيت في القبور ولم تبت فيها قط. وليلة تمخض صبيحتها يوم القيامة.

باب ماجاء أن القبر أول منازل الآخرة وفي البكاء عنده، وفي حكمه والاستعداد له

باب ماجاء أن القبر أول منازل الآخرة وفي البكاء عنده، وفي حكمه والاستعداد له ابن ماجه عن هانىء بن عثمان قال: كان عثمان رضي الله عنه إذا وقف على قبر بكى حتى يبل لحيته فقيل له: تذكر الجنة والنار ولاتبكي وتبكي من هذا؟ قال «إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إن القبر أول منازل الآخرة. فإن نجا منه أحد فما بعده أيسر منه وإن لم ينج منه فما بعد أشد منه» . قال «قال يا رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما رأيت منظراً قط إلا والقبر أفظع منه» أخرجه الترمذي وزاد رزين قال: وسمعت عثمان ينشد على قبر شعراً: فإن تنج منها تنج من ذي عظيمة ... وإلا فإني لا إخالك ناجياً ابن ماجه «عن البراء قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في جنازة. فجلس

على شفير القبر فبكى وأبكى حتى بل الثرى ثم قال: يا إخواني لمثل هذا فأعدوا» . فصل: القبر واحد القبور في الكثرة وأقبر في القلة ويقال للمدفن: مقبر. قال الشاعر: لكل أناس مقبر بفنائهم ... وهم ينقصون والقبور تزيد واختلف في أول من سن القبر؟ : الغراب لما قتل قابيل هابيل. وقيل بنو إسرائيل، وليس بشيء. وقد قيل: كان قابيل يعلم الدفن ولكن ترك أخاه بالعراء استخفافاً به، فبعث الله غراباً يبحث التراب على هابيل ليدفنه. فقال عند ذلك {يا ويلتى أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب فأواري سوآة أخي فأصبح من النادمين} حيث رأى إكرام الله لهابيل بأن قبض الله الغراب له حتى واراه. ولم يكن ذلك ندم توبة. وقيل: ندمه إنما كان على فقده. لا على قتله. قال ابن عباس: ولو كانت ندامته على قتله لكانت الندامة توبة. ويقال: إنه لما قتله قعد يبكي عند رأسه. إذ أقبل غرابان فاقتتلا. فقتل أحدهما الآخر ثم حفر له حفرة فدفنه، ففعل القاتل بأخيه كذلك. فبقي ذلك سنة لازمة في بني آدم. وفي التنزيل {ثم أماته فأقبره} أي جعل له قبراً يواري فيه إكراماً له ولم

يجعله مما يلقى على وجه الأرض تأكله الطير والعوافي. قاله الفراء. وقال أبو عبيدة: جعل له قبراً وأمر أن يقبر. قال أبو عبيدة: ولما قتل عمر بن هبيرة صالح بن عبد الرحمن قالت بنو تميم، ودخلوا عليه: أقبرنا صالحاً. فقال: دونكموه. وحكم القبر: أن يكون مسنماً. مرفوعاً على وجه الأرض قليلاً غير مبني بالطين والحجارة والجص فإن ذلك منهى عنه. وروى مسلم «عن جابر قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجصص القبر وأن يقعد عليه وأن يبنى عليه» . وخرجه الترمذي أيضاً «عن جابر، قال نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تجصص القبور وأن يكتب عليها وأن يبنى عليها وأن توطأ» ، قال أبو عيسى هذا حديث صحيح. قال علماؤنا رحمهم الله: وكره مالك تجصيص القبور، لأن ذلك من المباهاة وزينة الحياة الدنيا وتلك منازل الآخرة، وليس بموضع المباهاة، وإنما يزين الميت في قبره عمله، وأنشدوا:

وإذا وليت أمور قوم ليلة ... فاعلم بأنك بعدها مسؤول وإذا حملت إلى القبور جنازة ... فاعلم بأنك بعدها محمول ياصاحب القبر المنقش سطحه ولعله من تحته مغلول وفي صحيح مسلم، عن أبي الهياج الأسدي قال: قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ ألا تدع تمثال إلا طمسته، ولا قبراً مشرفاً إلا سويته. وقال أبو داود في المراسيل، عن عاصم بن أبي صالح: رأيت قبر النبي صلى الله عليه وسلم شبراً أونحواً من شبر يعني في الارتفاع. قال علماؤنا ـ رحمة الله عليهم ـ: بسنم القبر ليعرف كي يحترم ويمنع من الارتفاع الكثير الذي كانت الجاهلية تفعله، فإنها كانت تعلى عليها، وتبني فوقها تفخيماً لها وتعظيماً، وأنشدوا: أرى أهل القصور إذا أميتوا ... بنوا فوق المقابر بالصخور أبوا إلا مباهاة وفخراً ... على الفقراء حتى في القبور لعمرك لو كشفت الترب عنهم ... فما تدري الغني من الفقير

ولا الجلد المباشر ثوب صوف ... من الجلد المباشر للحرير إذا أكل الثرى هذا وهذا ... فما فضل الغني على الفقير؟ يا هذا أين الذي جمعته من الأموال، وأعددته للشدائد والأهوال، لقد أصبحت كفك منه عند الموت خالية صفراً، وبدلت من بعد غناك وعزك ذلاً وفقراً، فكيف أصبحت يا رهين أوزاره ويا من سلب من أهله ودياره؟ ما كان أخفى عليك سبيل الرشاد، وأقل اهتمامك لحمل الزاد، إلى سفرك البعيد، وموقفك الصعب الشديد، أو ما علمت يا مغرور: أن لا بد من الارتحال، إلى يوم شديد الأهوال، وليس ينفعك ثم قيل ولا قال، بل يعد عليك بين يدي الملك الديان، ما بطشت اليدان، ومشت القدمان ونطق به اللسان، وعملت الجوارح والأركان، فإن رحمك فإلى الجنان، وإن كانت الأخرى فإلى النيران، يا غافلاً عن هذه الأحوال. إلى كم هذه الغفلة والتوان، أتحسب أن الأمر صغير. وتزعم أن الخطب يسير؟ وتظن أن سينفعك حالك، إذا آن ارتحالك، أو ينقذك مالك، حين توبقك أعمالك، أو يغني عنك ندمك، إذا زلت بك قدمك، أو يعطف عليك معشرك، حين يضمك محشرمك، كلا والله ساء ما تتوهم ولا بد لك أن ستعلم. لا بالكفاف تقنع، ولا من الحرام تشبع، ولا للعظاة تستمع، ولا بالوعيد ترتدع، دأبك أن تنقلب مع الأهواء، وتخبط خبط العشواء، يعجبك التكاثر بما لديك، ولا تذكر ما بين يديك، يا نائماً في غفلة وفي خبطة يقظان، إلى كم هذه الغفلة والتوان، أتزعم أن سترك سدى، وأن لا تحاسب غداً، أم تحسب أن الموت يقبل الرشا، أم تميز بين الأسد والرشا، كلا والله لن يدفع عنك الموت مال ولا بنون، ولا ينفع

أهل القبور إلا العمل المبرور، فطوبى لمن سمع ووعى، وحقق ما ادعى، ونهى النفس عن الهوى، وعلم أن الفائز من ارعوى، {وأن ليس للإنسان إلا ما سعى * وأن سعيه سوف يرى} فانتبه من هذه الرقدة، واجعل العمل الصالح لك عدة، ولا تتمن منازل الأبرار، وأنت مقيم على الأوزار عامل بعمل الفجار، بل أكثر من الأعمال الصالحات، وراقب الله في الخلوات. رب الأرض والسموات، ولا يغرنك الأمل، فتزهد عن العمل، أو ماسمعت الرسول حيث يقول، لما جلس على القبور: «يا إخواني، لمثل هذا فأعدوا» ، أو ما سمعت الذي خلقك فسواك، يقول: {وتزودوا، فإن خير الزاد التقوى} . وأنشدوا: تزود من معاشك للمعاد ... وقم لله واعمل خير زاد ولا تجمع من الدنيا كثيراً ... فإن المال يجمع للنفاد أترضى أن تكون رفيق قوم ... لهم زاد وأنت بغير زاد؟ وقال آخر: إذا أنت لم ترحل بزاد من التقى ... ولاقيت بعد الموت من قد تزودا ندمت على أن لا تكون كمثله ... وأنك لم ترصد كما كان أرصدا وقال آخر:

الموت بحر طافح موجه ... تذهب فيه حيلة السابح يانفس إني قائل فاسمعي ... مقالة من مشفق ناصح لا ينفع الإنسان في قبره ... غير التقى والعمل الصالح وقال آخر: أسلمني الأهل ببطن الثرى ... وانصرفوا عني فيا وحشتا وغادروني معدماً يائساً ... ما بيدي اليوم إلا البكا وكل ما كان كأن لم يكن ... وكل ما حذرته قد أتى وذا كم المجموع والمقتنى ... قد صار في كفي مثل الهبا ولم أجد لي مؤنساً ها هنا ... غير فجور موبق أو بقا فلو تراني وترى حالتي ... بكيت لي يا صاح مما ترى وقال آخر: ولدتك إذ ولدتك أمك باكياً ... والقوم حولك يضحكون سروراً فاعمل ليوم أن تكون إذا بكوا ... في يوم موتك ضاحكاً مسروراً وروي عن محمد القرشي قال: سمعت شيخنا يقول: أيها الناس: إني لكم ناصح، وعليكم شفيق، فاعملوا في ظلمة الليل لظلمة القبر. وصوموا في الحر قبل يوم النشور، وحجوا يحط عنكم عظائم الأمور، وتصدقوا مخافة يوم عسير.

باب ما جاء في اختيار البقعة للدفن

وكان يزيد الرقاشي يقول في كلامه: أيها المقبور في حفرته، المتخلى في القبر بوحدته، المستأنس في بطن الأرض بأعماله، ليت شعري بأي أعمالك استبشرت وبأي أحوالك اغتبطت، ثم يبكي حتى يبل عمامته، ويقول: استبشر ـ والله ـ بأعماله الصالحة، واغتبط ـ والله ـ بإخوانه المعاونين له على طاعة الله، وكان إذا نظر إلى القبر صرخ كما يصرخ الثور. وسيأتي أن القبر يكلم العبد إذا وضع فيه، وما فيه من الموعظة إن شاء الله تعالى. باب ما جاء في اختيار البقعة للدفن أبو داود الطيالسي، قال: «حدثنا سوار بن ميمون أبو الجراح العبدي، قال: حدثني رجل من آل عمر، عن عمر، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول: من زار قبري ـ أو قال: من زارني ـ كنت له شهيداً أو شفيعاً، ومن مات بأحد الحرمين بعثه الله عز وجل في الآمنين يوم القيامة» . وخرجه الدارقطني «عن حاطب. قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من زارني بعد موتي فكأنما زارني حياً في حياتي، ومن مات بأحد الحرمين، بعث من الآمنين يوم القيامة» .

وخرج البخاري ومسلم، عن أبي هريرة، قال: أرسل ملك الموت إلى موسى عليه السلام، فلما جاء صكه ففقأ عينه. فرجع إلى ربه، فقال: أرسلتني إلى عبد لا يريد الموت، قال: فرد الله إليه عينه، وقال: ارجع إليه، وقل له: يضه يده على متن جلد ثور، فله بما غطت يده كل شعرة سنة، قال: أي رب، ثم مه؟ قال: ثم الموت، قال: فالآن. فسأل الله أن يدينه من الأرض المقدسة رمية حجر فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لو كنت ثم لأريتكم قبره إلى جانب الطريق تحت الكثيب الأحمر» . وفي رواية، قال: جاء ملك الموت إلى موسى عليه السلام، فقال له: أجب ربك، قال: فلطم موسى عين الملك ففقأها، وذكر نحوه. قال الترمذي، «عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من استطاع أن يموت بالمدينة فليمت بها، فإني أشفع لمن مات بها» صححه أبو محمد عبد الحق. وفي الموطأ أن عمر رضي الله عنه، كان يقول: اللهم ارزقني شهادة في سبيلك ووفاة في بلد نبيك.

وكان سعد بن أبي وقاص، وسعيد بن زيد، قد عهدا أن يحملا من العقيق إلى البقيع مقبرة المدينة فيدفنا بها، والله أعلم لفضل علموه هناك، قال: فإن فضل المدينة غير منكور ولا مجهول، ولو لم يكن إلا مجاورة الصالحين والفضلاء من الشهداء وغيرها لكفى. وروى عن كعب الأحبار أنه قال لبعض أهل مصر، لما قال له: هل لك من حاجة؟ فقال: نعم، جراب من تراب سفح المقطم، يعني: جبل مصر، قال: فقلت له: يرحمك الله، وما تريد منه؟ قال: أضعه في قبري، قال له: تقول هذا وأنت بالمدينة وقد قيل في البقيع ما قيل، قال: إنا نجد في الكتاب الأول أنه مقدس ما بين القصير إلى اليحموم.. فصل: قال علماؤنا رحمة الله عليهم: البقاع لا تقدس أحداً ولا تطهره، وإنما الذي يقدسه من وضر الذنوب ودنسها التوبة النصوح مع

الأعمال الصالحة، أما إنه قد يتعلق بالبقعة تقديس ما، وهو إذا عمل العبد فيها عملاً صالحاً ضوعف له بشرف البقعة مضاعفة تكفر سيئاته، وترجح ميزانه، وتدخله الجنة، وكذلك تقديسه إذا مات على معنى التتبع لصالح، لا أنها توجب التقديس ابتداء. وقد روى مالك، عن هشام بن عروة، عن أبيه، قال: ما أحب أن أدفن بالبقيع، لأن أدفن في غيره أحب إلي. ثم بين العلة، فقال: مخافة أن تنبش لي عظام رجل صالح، أو نجاور فاجراً، وهذا تستوي فيه سائر البقاع، فدل على أن الدفن بالأرض المقدسة ليس بالمجمع عليه، وقد يستحسن الإنسان أن يدفن بموضع قرابته وإخوانه وجيرانه، لا لفضل ولا لدرجة. فصل: إن قال قائل: كيف جاز لموسى عليه السلام أن يقدم على ضرب ملك الموت حتى فقأ عينه؟ فالجواب من وجوه ستة: الأول: أنها كانت عيناً متخيلة، لا حقيقة لها، وهذا القول باطل. لأنه يؤدي إلى أن ما يراه الأنبياء. من صور الملائكة لا حقيقة لها، وهذا مذهب السالمية.

الثاني: أنها كانت عيناً معنوية فقأها بالحجة، وهذا مجاز لا حقيقة له. الثالث: أنه لم يعرفه، وظنه رجلاً دخل منزله بغير إذنه، يريد نفسه فدافع عنها، فلطمه: ففقأ عينه، وتجب المدافعة في مثل هذا بكل ممكن، وهذا وجه حسن، لأنه حقيقة في العين والصك، قاله الإمام أبو بكر بن خزيمة إلا أنه اعترض بما في الحديث نفسه، وهو أن ملك الموت عليه السلام لما رجع إلى الله تعالى، قال: يا رب أرسلتني إلى عبد لا يريد الموت، فلو لم يعرفه موسى لما صدر هذا القول من ملك الموت. الرابع: أن موسى عليه السلام كان سريع الغضب، وسرعة غضبه كانت سبباً لصكه ملك الموت، قاله ابن العربي في الأحكام، وهذا فاسد، لأن الأنبياء معصومون أن يقع منهم ابتداء مثل هذا في الرضا والغضب.

الخامس: ما قاله ابن مهدي رحمه الله: أن عينه المستعارة ذهبت لأجل أنه جعل له أن يتصور بما شاء، فكأن موسى عليه السلام لطمه وهو متصور بصورة غيره بدلالة أنه رأى بعد ذلك معه عينه. السادس: وهو أصحها إن شاء الله، وذلك أن موسى عليه السلام كان عنده ما أخبر تبيناً عليه السلام من أن الله تعالى لا يقبض روحه حتى يخيره ـ خرجه البخاري وغيره ـ فلما جاءه ملك الموت على غير الوجه الذي أعلم بادر بشهامته وقوة نفسه إلى أدبه. فلطمت ففقئت عينه امتحاناً لملك الموت. إذ لم يصرح له بالتخير، ومما يدل على صحة هذا: أنه لما رجع إليه ملك الموت فخيره بين الحياة والموت. اختار الموت واستسلم، والله بغيبه أعلم وأحكم، وذكره ابن العربي في قبسه بمعناه والحمد لله. وقد ذكر الترمذي الحكيم أبو عبد الله في نوادر الأصول حديث «أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم

باب يختار للميت قوم صالحون يكون معهم

قال: كان ملك الموت عليه السلام يأتي الناس عياناً حتى أتى موسى عليه السلام فلطمه ففقأ عينه» الحديث بمعناه. وفي آخره «فكان يأتي الناس بعد ذلك في خفية» . باب يختار للميت قوم صالحون يكون معهم خرج أبو سعيد الماليني في كتاب المؤتلف والمختلف، وأبو بكر الخرائطي في كتاب القبور، «من حديث سفيان الثوري، عن عبد الله بن محمد بن عقيل، عن ابن الحنفية، عن علي رضي الله عنه قال: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ندفن موتانا وسط قوم صالحين. فإن الموتى يتأذون بالجار السوء كما يتأذى به الأحياء» . «وعن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إذا مات لأحدكم الميت فحسنوا كفنه، وعجلوا إنجاز وصيته، وأعمقوا له في قبره وجنبوه جار السوء قيل: يا رسول الله: وهل ينفع الجار الصالح في الآخرة؟ قال: هل ينفع في الدنيا قالوا: نعم. قال: كذلك ينفع في الآخرة» . ذكره الزمخشري في كتاب ربيع

الأبرار. وخرجه أبو نعيم الحافظ بإسناده «من حديث مالك بن أنس عن عمه نافع بن مالك، عن أبيه عن أبي هريرة: قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أدفنوا موتاكم وسط قوم صالحين. فإن الميت يتأذى بالجار السوء» . فصل قال علماؤنا: ويستحب لك ـ رحمك الله ـ أن تقصد بميتك قبور الصالحين. ومدافن أهل الخير. فندفنه معهم، وتنزله بإزائهم، وتسكنه في جوارهم، تبركا بهم، وتوسلاً إلى الله عز وجل بقربهم، وأن تجتنب به قبور من سواهم، ممن يخاف التأذي بمجاورته، والتألم بمشاهدة حاله حسب ما جاء في الحديث. يروى أن امرأة دفنت بقرطبة ـ أعادها الله ـ فأتت أهلها في النوم فجعلت تعتهم وتشكوهم وتقول: ما وجدتم أن تدفنوني إلا إلى فرن الجير؟ فلما أصبحوا نظروا

فلم يروا في ذلك الموضع كله ولا بقربه فرن جير. فبحثوا وسألوا عن من كان مدفوناً بإزائها؟ فوجدوه رجلاً سيافاً كان لابن عامر وقبره إلى قبرها. فأخرجوها من جواره. ذكر هذا أبو محمد عبد الحق في كتاب العاقبة له. وعن أعرابي أنه قال لوالده: ما فعل الله بك؟ قال: ما ضرني إلا أني دفنت بإزاء فلان، وكان فاسقاً قد روعني ما يعذب به من أنواع العذاب. وروى أبو القاسم إسحاق بن إبراهيم بن محمد الختلي في كتاب الديباج له وحدثني أبو الوليد رباح بن الوليد الموصلي. قال: وحدثت عن عبد الملك بن عبد العزيز عن طاووس بن ذكوان اليماني، أنه أخبرهم أنه قدم حاجاً فمر بالأبطح عند المقابر مع رفقاء له فقال: بينما أنا أصلي في جوف الليل وعلي برد لي أحرش أخذته باليمن بسبعين ديناراً وقبر قريب مني محفور. إذ رأيت شمعاً قد أقبل به مع جنازة. فإذا قائل يقول

باب ما جاء أن الموتى يتزاورون في قبورهم واستحسان الكفن لذلك

في قبر قريب من القبر المحفور: اللهم إني أعوذ بك من الجار السوء. قال: فركعت ثم سجدت وسلمت. ثم خرجت حتى لقيت أصحاب الجنازة فسلمت وقلت: لا تقربونا وتنحوا عنا ـ عافاكم الله ـ قالوا: ما نستطيع ذلك. وقد حفرنا قبرنا هذا. ولا نستطيع أن نذهب إلى غيره. فقلت: من أولى بالجنازة؟ فقالوا: هذا ابنه. فقلت له: هل لك أن تتنحى عنا وتناولني ثوبك هذا الذي عليك فألبسه وأعطيك بردي هذا، فإني قد أخذته باليمن بسبعين ديناراً وهو ها هنا خير من سبعين؟ فإن كان على أبيك دين قضيته عنه. وإن لم يكن، انتفع بذلك الورثة. وتكف عنا ما نكره. قال: فأنكر القوم قولي أن يكون على رجل برد يلتف به ثمنه سبعون ديناراً. فاحتجت إلى أن أخبرهم من أنا؟ فقلت: تعرفون طاووس اليماني؟ قالوا: نعم. قلت: فأنا طاووس اليماني وما قلت في البرد إلا حقاً. فناولني الرجل رداءه وأخذ ردائي وانصرف عنا، وأقبلت حتى وقفت على صاحب القبر. فقلت: ما كان لك ليجاورك جار تكرهه وأنا أستطيع رده. ثم عدت إلى صلاتي. باب ما جاء أن الموتى يتزاورون في قبورهم واستحسان الكفن لذلك الترمذي، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه خرج الحافظ أبو نصر عبد الله بن سعيد بن حاتم الوائلي السجستاني في كتاب الإبانة له. «حدثنا هبة الله بن إبراهيم بن عمر قال: حدثنا علي بن الحسين بن بندار. قال: حدثنا محمد بن الصفار، قال: حدثنا معاوية. قال: حدثنا زهير بن معاوية، عن أبي الزبير، عن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: حسنوا أكفان موتاكم، فإنهم يتباهون ويتزاورون في قبورهم» . وفي صحيح مسلم «عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كفن أحدكم أخاه فليحسن كفنه» . باب ما جاء في كلام القبر كل يوم وكلامه للعبد إذا وضع فيه الترمذي «عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه. قال: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مصلاه

فرأى ناساً يكشرون، فقال: أما أنكم لو أكثرتم من ذكر هاذم اللذات لشغلكم عما أرى ـ يعني الموت ـ فأكثروا ذكر هاذم اللذات: الموت. فإنه لم يأت على القبر يوم إلا تكلم فيه. فيقول: أنا بيت الغربة، وأنا بيت الوحدة، وأنا بيت التراب، وأنا بيت الدود. فإذا دفن العبد المؤمن. قال له القبر: مرحباً وأهلاً أما إن كنت لأحب من يمشي على ظهري إلي، فإذا وليتك اليوم وصرت إلي فسترى صنيعي بك فيتسع له مد بصره، ويفتح له باب الجنة. وإذا دفن العبد الفاجرأو الكافر قال له القبر: لا مرحباً ولا أهلاً. أما إن كنت لأبغض من يمشي على ظهري إلي. فإذ وليتك اليوم وصرت إلي فسترى صنيعي بك قال: فيلتئم عليه حتى يلتقي وتختلف أضلاعه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم بأصابعه فأدخل بعضها جوف بعض. قال: ويقيض الله له تسعين تنيناً أو تسعة وتسعين لو أن واحداً منها نفخ في الأرض ما أنبتت شيئاً ما بقيت الدنيا، فتنهشه حتى يفضى به إلى الحساب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنما القبر روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النار» قال أبو عيسى: هذا حديث غريب.

وخرج هناد بن السرى قال: حدثنا حسن الجعفي، عن مالك بن مغول، عن عبد الله بن عبيد بن عمير قال: يجعل الله للقبر لساناً ينطق به فيقول: ابن آدمن كيف نسيتني؟ أما علمت أني بيت الدود، وبيت الوحدة، وبيت الوحشة. قال: وحدثنا وكيع، عن مالك بن مغول، عن عبد الله بن عبيد بن عمير قال: إن القبر ليبكي ويقول في بكائه: أنا بيت الوحشة، أنا بيت الوحدة، أنا بيت الدود. وذكر أبو عمر بن عبد البر، روى يحيى بن جابر الطائي، عن ابن عائذ الأزدي عن غضيف بن الحارث قال: أتيت بيت المقدس أنا

وعبد الله بن عبيد بن عمير قال: فجلسنا إلى عبد الله بن عمر بن العاص فسمعته يقول: إن القبر يكلم العبد إذا وضع فيه فيقول: يا ابن آدم ما غرك بي؟ ألم تعلم أني بيت الوحدة؟ ألم تعلم أني بيت الظلمة؟ ألم تعلم أني بيت الحق؟ يا ابن آدم ما غرك بي؟ ! لقد كنت تمشي حولي فداداً. قال ابن عائذ: قلت لغضيف: ما الفداد يا أبا اسماعيل؟ قال: كبعض مشيتك يا ابن أخي. قال غضيف: فقال لصاحبي ـ وكان أكبر مني ـ لعبد الله بن عمرو: فإن كان مؤمناً فماذا له؟ قال: يوسع له في قبره ويجعل منزله أخضر ويعرج بروحه إلى السماء. ذكره في كتاب التمهيد. وذكره أبو محمد عبد الحق في كتاب العاقبة له، «عن أبي الحجاج الثمالي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يقول القبر للميت إذا وضع فيه: ويحك يا ابن آدم ما غرك بي؟ ألم تعلم أني بيت الفتنة. وبيت الظلمة. وبيت الدود؟ ما غرك إذ كنت تمر بي فداداً؟ قال: فإنا كان صالحاً أجاب عنه مجيب القبر. فيقول: أرأيت إن كان ممن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر؟ قال فيقول القبر: فإني أعود عليه خضراً ويعود جسده نوراً. وتصعد روحه إلى رب العالمين» . ذكر هذا الحديث أبو أحمد الحاكم في كتاب

الكنى، وذكره أيضاً قاسم بن أضبع قال: قيل لأبي الحجاج ما الفداد؟ قال: الذي يقدم رجلاً ويؤخر أخرى. يعني الذي يمشي مشية المتبخر. وذكر ابن المبارك قال: أخبرنا داود بن ناقد قال: سمعت عبد الله بن عبيد بن عمير يقول: بلغني أن الميت يقعد في حفرته وهو يسمع وخط مشيعيه ولا يكلمه شيء أول من حفرته فتقول: ويحك يا ابن آدم قد حذرتني وحذرت ضيقي وظلماتي. ونتني وهولي. هذا ما أعددت لك فما أعددت لي؟ الوخط والوخد: سرعة السير في المشي.

وقال سفيان الثوري: من أكثر من ذكر القبر وجده روضة من رياض الجنة. ومن غفل عن ذكره وجده حفرة من حفر النار. وقال أحمد بن حرب تتعجب الأرض ممن يمهد مضجعه، ويسوي فراشه لنوم. وتقول: يا ابن آدم ألا تذكر طول رقادك في جوفي، وما بيني وبينك شيء؟ . وقيل لبعض الزهاد: ما أبلغ العظات؟ قال: النظر إلى محلة الأموات. ولقد أحسن أبو العتاهية حيث يقول: وعظتك أجداث صمت ... ونعتك أزمنة خفت وتكلمت عن أوجه تبلى ... وعن صور سبت وأرتك نفسك في القبور ... وأنت حي لم تمت وروي عن الحسن البصري أنه قال: كنت خلف جنازة فاتبعتها، حتى وصلوا بها إلى حفرتها، فنادت امرأة فقالت: يا أهل القبور لو عرفتم من نقل إليكم لأعززتموه؟ قال الحسن: فسمعت صوتاً من الحفرة وهو يقول: قد

باب ما جاء في ضغط القبر على صاحبه وإن كان صالحا

والله نقل إلينا بأوزار كالجبال وقد أذن لي أن آكله حتى يعود رميماً. قال: فاضطربت الجنازة فوق النعش. وخر الحسن مغشياً عليه. باب ما جاء في ضغط القبر على صاحبه وإن كان صالحاً النسائي «عن عبد الله بن عمر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: هذا الذي تحرك له عرش الرحمن وفتحت له أبواب السماء، وشهده سبعون ألفاً من الملائكة، لقد ضم ضمة ثم فرج عنه» قال أبو عبد الرحمن النسائي يعني سعد بن معاذ. «ومن حديث شعبة بن الحجاج بإسناده إلى عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن للقبر ضغطة لو نجا منها أحد لنجا منها سعد بن معاذ» . وذكر هناد بن السرى، حدثنا محمد بن فضيل عن أبيه عن ابن أبي ملكية قال: ما أجير من ضغطة القبر أحد. ولا سعد بن معاذ. الذي منديل من مناديله خير من الدنيا وما فيها.

قال: وحدثنا عبدة بن عبيد الله بن عمر عن نافع قال: ولقد بلغني أنه شهد جنازة سعد بن معاذ سبعون ألف ملك. لم ينزلوا إلى الأرض قط. ولقد بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لقد ضم صاحبكم في القبر ضمة» . وخرج علي بن معبد في كتاب الطاعة والمعصية عن نافع قال: أتينا صفية بنت أبي عبيد امرأة عبد الله بن عمر وهي فزعة. فقلنا: ما شأنك؟ قالت: جئت من عند بعض نساء النبي صلى الله عليه وسلم، فحدثتني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن كنت لأرى أن أحداً لو أعفي من عذاب القبر، لأعفي منه سعد بن معاذ لقد ضم فيه ضمة» . وخرج أيضاً عن زاذان أن أبي عمر قال: لما دفن رسول الله صلى الله عليه وسلم ابنته زينب جلس عند القبر فتربد وجهه، ثم سرى عنه فقال له أصحابه: رأينا وجهك يا رسول الله تربد آنفاً، ثم سرى عنك. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «ذكرت ابنتي وضعفها، وعذاب القبر فدعوت الله ففرج عنها، وأيم الله لقد ضمت ضمة سمعها ما بين الخافقين» .

وخرج أيضاً بسنده عن إبراهيم الغنوي عن رجل. قال: كنت عند عائشة فمرت جنازة صبي صغير فبكت. فقلت لها: ما يبكيك يا أم المؤمنين؟ فقالت: هذا الصبي بكيت له شفقة عليه من ضمة القبر. قلت: وهذا الخبر، وإن كان موقوفاً على عائشة رضي الله عنه. فمثله لا يقال من جهة الرأي. وقد روى عمر بن شبة في كتاب المدينة ـ على سكانها السلام ـ في ذكر وفاة فاطمة بنت أسد أم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: «بينما هو صلى الله عليه وسلم في أصحابه أتاه آت. فقال: إن أم علي وجعفر وعقيل قد ماتت. فقال: قوموا بنا إلى أمي» قال: فقمنا كأن على رؤوسنا الطير. فلما انتهينا إلى الباب نزع قنيصه وقال: إذا كفنتموها فأشعروه إياه تحت أكفانها فلما خرجوا بها جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم مرة يحمل، ومرة يتقدم. ومرة يتأخر حتى انتهينا بها إلى القبر فتمعك في اللحد. ثم خرج وقال: أدخلوها بسم الله. وعلى اسم الله فلما دفنوها قام قائماً وقال: جزاك الله من أم. وربيبة خيراً «وسألناه عن نزع قميصه، وتمعكه في اللحد؟ فقال: أردت أن لا تمسها النار أبداً. إن شاء الله تعالى. وأن يوسع الله عليها قبرها وقال: ما عفى أحد

من ضغطة القبر، إلا فاطمة بنت أسد قيل يا رسول الله: ولا القاسم ابنك؟ قال: ولا إبراهيم وكان أصغرهما» ، ورواه أبو نعيم الحافظ عن عاصم الأحول عن أنس بمعناه. وليس فيه السؤال بتمعكه إلى آخره. قال أنس: «لما ماتت فاطمة بنت أسد بن هاشم أم علي بن أبي طالب رضي الله عنه دخل عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجلس عند رأسها. فقال: رحمك الله يا أمي. كنت أمي بعد أمي. تجوعين وتشبعينني. وتعرين وتكسونني. وتمنعين نفسك طيب الطعام. وتطعمينني. تريدين بذلك وجه الله والدار الآخرة. ثم أمر أن تغسل ثلاثاً فلما بلغ الماء الذي فيه الكافور سكبه رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده، ثم خلع رسول الله صلى الله عليه وسلم قميصه وألبسها إياه وكفنها فوقه. ثم دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم: أسامة بن زيد وأبا أيوب الأنصاري، وعمر بن الخطاب وغلاماً أسود يحفرون قبرها، فلما بلغوا اللحد حفره رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأخرج ترابه بيده، فلما فرغ دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم فاضطجع فيه ثم قال: الحمد لله الذي يحيي ويميت، وهو حي لا يموت اغفر لأمي فاطمة بنت أسد ولقنها حجتها ووسع عليها مدخلها بحق نبيك والأنبياء الذين من قبلي إنك أرحم

باب منه وما جاء أن الميت يعذب ببكاء أهله عليه وهم من شر الناس له

الراحمين وكبر عليها أربعاً وأدخلها اللحد هو والعباس وأبو بكر الصديق رضي الله عنهم أجمعين» . باب منه وما جاء أن الميت يعذب ببكاء أهله عليه وهم من شر الناس له روى أبو هدبة قال «إبراهيم بن هدبة، قال: حدثنا أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن العبد الميت إذا وضع في قبره، وأقعد. قال: يقول أهله: وا سيداه وا شريفاه وا أميراه قال: يقول الملك: اسمع ما يقولون. أنت كنت سيداً؟ أنت كنت أميراً. أنت كنت شريفاً؟ قال: يقول الميت: يا ليتهم يسكتون قال: فيضعط ضغطة تختلف فيها أضلاعه» . فصل قال علماؤنا رحمة الله عليهم: قال بعض العلماء أو أكثرهم: إنما يعذب الميت ببكاء الحي. إذا كان البكاء من سنة الميت واختياره، كما قال: إذا مت فانعيني بما أنا أهله ... وشقي علي الجيب يا ابنة معبد

وكذلك إذا وصى به. وقد روى ما يدل على أن الميت يصيبه عذاب ببكاء الحي عليه وإن لم يكن من سنته ولا من اختياره ولا مما أوصى به. واستدلوا بحديث أنس المذكور. «وبما روى من حديث قيلة بنت مخرمة. وذكرت عند النبي صلى الله عليه وسلم ولداً لها مات ثم بكت. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أيغلب أحيدكم أن يصاحب صويحبه في الدنيا معروفاً. فإذا حال بينه وبينه من هو أولى به منه استرجع؟ ثم قال: اللهم أثبني فيما أمضيت، وأعني على ما أبقيت. فو الذي نفس محمد بيده إن أحيدكم ليبكي فيستعبر له صويحبه. يا عباد الله لا تعذبوا موتاكم» ذكره ابن أبي خيثمة، وأبو بكر بن أبي شيبة وغيرهما. وهو حديث معروف إسناده لا بأس به وسياقه يدل على أن بكاء هذه لم يكن من اختيار لابنها لأن ابنها صاحب من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولا كان هذا البكاء المعروف في الجاهلية الذي كان من اختيار الميت ومما يوصي به. وذكر أبو عمر بن عبد البر في كتاب الاستيعاب «من حديث أبي موسى

الأشعري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: الميت يعذب ببكاء الحي عليه. إذا قالت النائحة وا عضده وا ناصراه وا كاسياه جبذ الميت وقيل له: أنت ناصرها؟ أنت كاسيها» . وذكر البخاري من حديث النعمان بن بشير قال: أغمي على عبد الله بن رواحة فجعلتلا أخته عمرة تبكي وتقول: واجبلاه. واكذا. واكذا. تعدد عليه فقال حينت أفاق: ما قلت شيئاً إلا قيل لي: أأنت كذلك؟ فلما مات لم تبك عليه. وهذا أيضاً لم يكن من سنة عبد الله بن رواحة، ولا من اختياره، ولا مما أوصى به، فصابه في الدين أجل وأرفع من أن كان يأمر بهذا أو يوصي به. وروى أبو محمد عبد الغني بن سعيد الحافظ «من حديث منصور بن زاذان، عن الحسن، عن عمران بن حصين قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله ليعذب الميت بصياح أهله عليه» فقال له رجل: يموت بخراسان ويناح عليه ها هنا؟ فقال عمران: صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم. وكذبت.

باب ما ينجي من ضغطة وفتنته

قال المؤلف رضي الله عنه: وهذا بظاهره أن بنفس الصياح يقع التعذيب وليس كذلك. وإنما هو محمول على ما ذكرناه. والله أعلم. وقال الحسن: إن من شر الناس للميت: أهله يبكون عليه، ولا يقضون دينه. باب ما ينجي من ضغطة وفتنته روى أبو نعيم «من حديث أبي العلاء يزيد بن عبد الله بن الشخير عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من قرأ {قل هو الله أحد} في مرضه الذي يموت فيه لم يفتن في قبره. وأمن من ضغطة القبر. وحملته الملائكة يوم القيامة بأكفها حتى تجيزه من الصراط إلى الجنة» قال: هذا حديث غريب من حديث يزيد تفرد به نصر بن حماد البجلي.

باب ما يقال عند وضع الميت في قبره وفي اللحد في القبر

باب ما يقال عند وضع الميت في قبره وفي اللحد في القبر اللحد: هو أن يحفر للميت في جانب القبر، إن كان الأرض صلبة، وهو أفضل من الشق. فإنه الذي اختاره الله لنبيه صلى الله عليه وسلم. روى ابن ماجه عن ابن عباس قال: لما أرادوا أن يحفروا لرسول الله صلى الله عليه وسلم، بعثوا إلى أبي عبيدة، وكان يضرح كضريح أهل مكة، وبعثوا إلى أبي طلحة وكان هو الذي يحفر لأهل المدينة. وكان يلحد. فبعثوا إليهما رسولين، قالوا: اللهم خر لرسولك. فوجدوا أبا طلحة فجيء به، ولم يوجد أبو عبيدة فلحد لرسول الله صلى الله عليه وسلم. وروى أبو داود «عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اللحد لنا. والشق لغيرنا» خرجه ابن ماجه والترمذي وقال: حديث حسن غريب، وأنشدوا:

ضعوا خجي على لحدي ضعوه ... ومن عفر التراب فوسدوه وشقوا عنه أكفاناً رقاقاً ... وفي الرمس البعيد فغيبوه فلو أبصرتموه إذا تقضت ... صبيحة ثالث أنكرتموه وقد سالت نواظر مقلتيه ... على وجناته وانفض فوه وناداه البلا: هذا فلان ... هلموه فانظروا هل تعروفه حبيبكم وجاركم المفدى ... تقادم عهده فنسيتموه وقال آخر: وألحدوا محبوبهم وانثنوا ... وهمهم تحصيل ما خلفا وغادروه مسلماً مفرداً ... في رمسه رهناً بما أسلفا ولم يزود من جميع الذي ... باع به أخراه إلا لفا وخرج أبو عبد الله الترمذي في نوادر الأصول. عن سعيد بن المسيب قال: حضرت ابن عمر في جنازة فلما وضعها في اللحد قال: بسم الله وفي سبيل الله، فلما أخذ في تسوية اللحد. قال: اللهم أجرها من الشيطان. ومن عذاب القبر فلما سوى الكثيب عليها، قام جانب القبر ثم قال: اللهم جاف الأرض عن جنبيها، وصعد روحها، ولقها منك رضواناً. فقلت لابن عمر: شيئاً سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم: أم شيئاً قلته من رأيك؟ قال: إني إذا لقادر على القول. بل سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم. خرجه ابن ماجه أيضاً في سننه.

باب الوقوف عن القبر قليلا بعد الدفن والدعاء بالتثبيت له

وقال أبو عبد الله الترمذي رحمه الله: حدثني أبي رحمه الله. قال: حدثنا الفضل بن ذكين عن سفيان عن الأعمش عن عمرو بن مرة. قال: كانوا يستحبون إذا وضع الميت في اللحد أن يقولوا: اللهم أعذه من الشيطان الرجيم. وروي «عن سفيان الثوري أنه قال: إذا سئل الميت: من ربك؟ تراءى له الشيطان في صورة فيشير إلى نفسه: إني أنا ربك، قال أبو عبد الله: فهذه فتنة عظيمة. ولذلك كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو بالثبات، فيقول: اللهم ثبت عند أحدهما منطقه. وافتح أبواب السماء لروحه» فلو لم يكن للشيطان هناك سبيل ما كان ليدعو له رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجبره من الشيطان. فهذا تحقيق لما روى عن سفيان. ذكره في الأصل التاسع والأربعين والمائتين. باب الوقوف عن القبر قليلاً بعد الدفن والدعاء بالتثبيت له مسلم عن بن شماسة المهري، قال: حضرنا عمرو بن العاص وهو في سياقة الموت، الحديث: وفيه: فإذا دفنتموني فشنوا على التراب شناً، ثم أقيموا حول قبري قدر ما ينحر ويقسم لحمها، حتى أستأنس بكم، وأنظر ماذا أرجع به رسل ربي عز وجل؟

أخرجه ابن المبارك بمعنى مسلم من حديث ابن لهيعة. قال: حدثني يزيد بن أبي حبيب أن عبد الرحمن بن شماسة حدثه وقال فيه وشدوا على إزاري فإني مخاصم. وشنوا على التراب شناً. فإن جنبي الأيمن ليس أحق بالتراب من جنبي الأيسر، ولا تجعلن في قبري خشبة ولا حجراً، وإذا واريتموني فاقعدوا عند قبري قدر نحر جزور وتقطعيها. استأنس بكم. أبو داود «عن عثمان بن عفان رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا فرغ من دفن الميت وقف عليه وقال: استغفروا لأخيكم واسألوا له بالتثبيت فإنه الآن يسأل» . وأخرج أبو عبد الله الترمذي الحكيم في نوادر الأصول، «عن عثمان بن عفان رضي الله عنه قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا دفن ميتاً وقف وسأل له التثبيت، وكان يقول: ما يستقبل المؤمن من هول الآخرة إلا والقبر أفظع منه» . وخرج أبو نعيم في باب عطاء بن ميسرة الخراساني إلى عثمان رضي الله عنه، «عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقف على قبر رجل

من أصحابه حين فرغ منه فقال: إنا والله وإنا إليه راجعون، اللهم نزل بك. وأنت من خير منزول به، جاف الأرض عن جنبيه، وافتح أبواب السماء لروحه، وأقبله منك بقبول حسن. وثبت عند المسائل منطقه» غريب من حديث عطاء. فصل قال الآجري أبو بكر، محمد بن الحسين في كتاب النصيحة: يستحب الوقوف بعد الدفن قليلاً، والدعاء للميت مستقبل وجهه بالثبات، فيقال: اللهم هذا عبدك وأنت أعلم به منا. ولانعلم منه إلا خيراً، وقد أجلسته لتسأله، اللهم فثبته بالقول الثابت في الآخرة، كما ثبته في الحياة الدنيا، اللهم ارحمه وألحقنه بنبيه محمد صلى الله عليه وسلم، ولا تضلنا بعده ولا تحرمنا أجره. وحدثنا أبو عبد الله الترمذي: فالوقوف على القبر وسؤال التثبيت في وقت دفنه مدد للميت بعد الصلاة، لأن الصلاة بجماعة المؤمنين كالعسكر له قد اجتمعوا بباب الملك يشفعون له، والوقوف على القبر لسؤال التثبيت مدد للعسكر وتلك ساعة شغل للميت.

ولأنه يستقبله هول المطلع وسؤال وفتنة فتاني القبر ـ على ما يأتي ـ والجزور بفتح الجيم من الإبل. والجزرة من الضأن والمعز خاصة. قاله في الصحاح. فصل قول عمرو بن العاص رضي الله عنه، فإذا أنا مت فلا تصبحبني نائحة ولا نارة. توصية منه باجتناب هذين الأمرين، لأنهما من عمل الجاهلية، ولنهي النبي صلى الله عليه وسلم. قال العلماء: ومن ذلك الضجيج بذكر الله سبحانه وتعالى أو بغير ذلك حول الجنائز والبناء على المقابر، والاجتماع في الجبانات والمساجد للقراءة وغيرها لأجل الموتى، وكذلك الاجتماع إلى أهل الميت، وضيعة الطعام، والمبيت عندهم. كل ذلك من أمر الجاهلية ونحو منه الطعام الذي يصنعه أهل الميت اليوم في يوم السابع. فيجتمع له الناس يريدون بذلك القربة للميت والترحم عليه، وهذا محدث لم يكن فيما تقدم، ولا هو مما يحمده العلماء. قالوا: وليس ينبغي للمسلمين أن يقتدوا بأهل الكفر، وينهى كل إنسان أهله عن الحضور لمثل هذا وشبهه من لطم الخدود، ونشر الشعور، وشق الجيوب، واستماع النوح، وكذلك الطعام الذي يصنعه أهل الميت ـ كما ذكرنا ـ فيجتمع عليه النساء والرجال من فعل قوم لا خلاق لهم. وقال أحمد بن حنبل: هوز من فعل الجاهلية، قيل له: أليس قد

قال النبي صلى الله عليه وسلم اصنعوا لآل جعفر طعاماً؟ فقال: لم يكونوا هم اتخذوا. إنما اتخذ لهم فهذا كله واجب على الرجل أن يمنع أهله منه. ولا يرخص لهم، فمن أباح ذلك لأهله فقد عصى الله عز وجل، وأعانها على الإثم والعدوان، والله تعالى يقول: {قوا أنفسكم وأهليكم ناراً} قال العلماء: معناه أدبوهم وعلموهم. وروى ابن ماجه في سننه عن جرير بن عبد الله البجلي، قال: كنا نعد الاجتماع إلى أهل الميت وصنعة الطعام من النياحة. وفي حديث شجاع بن مخلد قال: كانوا يرون أن إسناده صحيح. وذكر الخرائطي عن هلال بن خباب، قال: الطعام على الميت من أمر الجاهلية. وخرج الآجري عن أبي موسى قال: ماتت أخت لعبد الله بن عمر. فقلت لامرأتي: اذهبي فعزيهم. وبيتي عندهم، فقد كان بيننا وبين آل عمر الذي كان، فجاءت فقال: ألم أمرك أن تبيتي عندهم؟ فقالت: أردت أن أبيت، فجاء ابن عمر فأخرجنا. وقال: اخرجن لا تبتين أختي بالعذاب.

وعن أبي البختري قال: بيتونة الناس عند أهل الميت ليست إلا من أمر الجاهلية. قال المؤلف رحمه الله: وهذه الأمور كلها قد صارت عند الناس الآن سنة وتركها بدعة، فانقلب الحال وتغيرت الأحوال. قال ابن عباس رضي الله عنه: لا يأتي على الناس عام إلا أماتوا فيه سنة. وأحيوا فيه بدعة. حتى تموت السنن وتحيا البدع، ولن يعمل بالسنن وينكر البدع إلا من هون الله عليه إسخاط الناس بمخالفتهم فيما أرادوا، ونهيهم عما اعتادوا ومن يسر لذلك أحسن الله تعويضه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنك لن تدع شيئاً إلا عوضك الله خيراً منه» ، وقال صلى الله عليه وسلم: «لا يزال في هذه الأمة عصابة يقاتلون على أمر الله لا يضرهم جدال من جادلهم ولا عداوة من عاداهم» . فصل: ومن هذا الباب ما ثبت في الصحيحين عن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ليس منا من لطم الخدود وشق الجيوب. ودعا بدعوى الجاهلية» وفيهما أيضاً عن أبي بردة بن أبي موسى قال: وجع

أبو موسى وجعاً فغشي عليه ورأسه في حجر امرأة من أهله فصاحت امرأة من أهله، فلم يستطع أن يرد عليها شيئاً فلما أفاق قال: أنا برىء مما برىء منه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم برىء من الصالقة والحالقة والشاقة. وفي صحيح مسلم عن عبد الرحمن بن يزيد وأبي بردة بن أبي موسى قالا: أغمي على أبي موسى وأقبلت امرأته تصيح برنة، قالا: ثم أفاق، قال: ألم تعلمي ـ وكان يحدثها ـ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أنا بريء ممن حلق وسلق وخرق» ؟ . ابن ماجه عن «أبي أمامة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لعن الخامشة وجهها، والشاقة جيبها، والداعية بالويل والثبور» ، إسناده صحيح. وقال حاتم الأصم: إذا رأيت صاحب المصيبة قد خرق ثوبه، وأظهر حزنه، فعزيته فقد أشركته في إثمه وإنما هو صاحب منكر، يحتاج أن تنهاه. وقال أبو سعيد البلخي: من أصيب بمصيبة فمزق ثوباً، أو ضرب

باب ما جاء في تلقين الإنسان بعد موته شهادة الإخلاص في لحده

صدراً، فكأنما أخذ رمحاً يريد أن يقاتل به ربه عز وجل وأنشدوا: عجبت لجازع، باك مصاب ... بأهل، أو حميم ذي اكتئاب شقيق الجيب، داعي الويل، جهلاً ... كأن الموت كالشيء العجاب وسوى الله فيه الخلق حتى ... نبي الله منه لم يحاب له ملك ينادي كل يوم: ... لدوا للموت وابنوا للخراب باب ما جاء في تلقين الإنسان بعد موته شهادة الإخلاص في لحده ذكر أبو محمد عبد الحق يروي «عن أبي أمامة الباهلي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا مات أحدكم فسويتم عليه التراب. فليقم أحدكم على رأس قبره، ثم يقول: يا فلان ابن فلانة فإنه يسمع ولا يجيب، ثم ليقل: يا فلان ابن فلانة الثانية فإنه يستوي قاعداً، ثم يقول: يا فلان ابن فلانة الثالثة فإنه يقول: أرشدنا رحمك الله، ولكنكم لا تسمعون. فيقول: اذكر ما خرجت عليه من الدنيا: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وأنك رضيت بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبياً، وبالقرآن إماماً، فإن منكراً ونكيراً يتأخر كل واحد منهما. ويقول: انطلق بنا ما يقعدنا عند هذا، وقد لقن حجته، ويكون الله حجيجهما دونه. فقال رجل: يا رسول الله

فإن لم تعرف أمه؟ قال: ينسبه إلى أمه حواء» . قلت: هكذا ذكره أبو محمد في كتاب العاقبة لم يسنده إلى كتاب ولا إلى إمام، وعادته في كتبه نسبة ما يذكره من الحديث إلى الأئمة، وهذا والله أعلم، نقله من إحياء علوم الدين للإمام أبي حامد فنقله كما وجد ولم يزد عليه. وهو حديث غريب. خرجه الثقفي في الأربعين له، أنبأناه الشيخ المسن الحاج الرواية: أبو محمد عبد الوهاب بن ظافر بن علي بن فتوح بن أبي الحسن القرشي ـ عرف بابن رواح ـ بمسجده بثغر الإسكندرية حماه الله، والشيخ الفقيه الإمام مفتي الأنام أبو الحسن علي بن هبة الله الشافعي بمنية ابن خصيب. على ظهر النيل بها قالا جميعاً:

حدثنا الشيخ الإمام الحافظ أبو ظاهر أحمد بن محمد بن أحمد بن محمد السلفي الأصبهاني قالا: أخبرنا الرئيس أبو عبد الله القاسم بن الفضل بن أحمد بن محمود الثقفي بأصبهان. أخبرنا أبو علي الحسين بن عبد الرحمن بن محمد بن عبدان التاجر بنيسابور، حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب الأصم، حدثنا أبو الدرداء هاشم بن يعلى الأنصاري، حدثنا عتبة بن السكن الفزاري الحمصي، عن أبي زكريا، عن حماد بن زيد، عن سعيد الأزدي قال: دخلت على أبي أمامة الباهلي وهو في النزع فقال لي: يا سعيد إذا أنا مت فاصنعوا بي كما أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نصنع بموتانا. فقال: «إذا مات الرجل منكم فدفنتموه فليقم أحدكم عند رأسه فليقل: يا فلان ابن فلانة فإنه سيسمع. فليقل يا فلان ابن فلانة فإنه يستوي قاعداً. فليقل يا فلان ابن فلانة فإنه سيقول: أرشدنا يرحمك الله فلقيل: اذكر ما خرجت عليه من الدنيا: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً عبده ورسوله، وأن الساعة آتية لا ريب فيها، وأن الله باعث من في القبور، فإن منكر ونكيراً عند ذلك يأخذ كل واحد منهما بيد صاحبه ويقول: ما نصنع عند رجل لقن حجته فيكون الله حجيجهما دونه» . حديث أبي أمامة في النزع غريب من حديث حماد بن زيد ما كتبناه إلا من حديث سعيد الأزدي. قال أبو محمد عبد الحق: وقال شيبة بن أبي شيبة: أوصتني أمي عند موتها. فقالت لي: يا بني إذا دفنتني فقم عند قبري، وقل يا أم شيبة، قولي: لا إله إلا الله. ثم انصرف، فلما كان من الليل رأيتها في

باب في نسيان أهل الميت ميتهم وفي الأمل والغفلة

المنام فقالت لي: يا بني لقد كدت أن أهلك. لولا أن تداركتني لا إله إلا الله. فلقد حفظتني في وصيتي يا بني. قال المؤلف: قال شيخنا أبو العباس أحمد بن عمر القرطبي: ينبغي أن يرشد الميت في قبره حيث يوضع فيه إلى جواب السؤال، ويذكر بذلك فيقال له: قل الله ربي. والإسلام ديني. ومحمد رسولي فإنه عن ذلك يسأل. كما جاءت به الأخبار على ما يأتي إن شاء الله. وقد جرى العمل عندنا بقرطبة كذلك. فيقال: قل هو محمد رسول الله وذلك عند هيل التراب ولا يعارض هذا بقوله تعالى: {وما أنت بمسمع من في القبور} . وقوله: {إنك لا تسمع الموتى} لأن النبي صلى الله عليه وسلم قد نادى أهل القليب وأسمعهم وقال: «ما أنتم بأسمع. ولكنهم لا يستطيعون جواباً» ، وقد قال في الميت: «إنه ليسمع قرع نعالهم. وأن هذا يكون في حال دون حال ووقت دون وقت» . وسيأتي استيفاء هذا المعنى في باب: ما جاء أن الميت يسمع ما يقال: إن شاء الله. باب في نسيان أهل الميت ميتهم وفي الأمل والغفلة أبو هدبة إبراهيم بن هدبة قال: «حدثنا أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن مشيعي الجنازة قد وكل بهم ملك فهم مهتمون

محزنون حتى إذا أسلموه في ذلك القبر، ورجعوا راجعين أخذ كفاً من تراب فرمى به وهو يقول: ارجعوا إلى دياركم أنساكم الله موتاكم فينسون ميتهم ويأخذون في شرائهم وبيعهم كأنهم لم يكونوا منه ولم يكن منهم» . ويروى أن الله عز وجل لما مسح على ظهر آدم عليه السلام فاستخرج ذريته قالت الملائكة: رب لا تسعهم الأرض قال الله تعالى: إني جاعل موتاً: قالت: رب لا يهنيهم العيش. قال: إني جاعل أملاً: فالأمل رحمة من الله تعالى ينتظم به أسباب المعاش. ويستحكم به أمور الدنيا. ويتقوى به الصانع على صنعته. والعابد على عبادته، وإنما يدم من الأمل ما امتد وطال، حتى أنسى العاقبة، وثبط عن صالح الأعمال. قال الحسن: الغفلة والأمل: نعمتان عظيمتان على ابن آدم. ولولاهما ما مشى المسلمون في الطرق. يريد لو كانوا من التيقظ وقصر الأمل وخوف الموت بحيث لا ينظرون إلى معاشهم. وما يكون سبباً لحياتهم. لهلكوا. ونحوه.

باب في رحمة الله بعبده إذا أدخل في قبره

قال مطرف بن عبد الله: لو علمت متى أجلي؟ لخشيت ذهاب عقلي. ولكن الله سبحانه من على عباده بالغفلة عن الموت. ولولا الغفلة ما تهنوا بعيش ولا قامت بينهم الأسواق. باب في رحمة الله بعبده إذا أدخل في قبره قال عطاء الخراساني: أرحم ما يكون الرب بعبده. إذا دخل في قبره وتفرق الناس عنه وأهله. وروي عن ابن عباس مرفوعاً. وقال أبو غالب: كنت أختلف إلى أبي أمامة الباهلي بالشام، فدخلت يوماً على فتى مريض من جيران أبي أمامة وعنده عم له وهو يقول: يا عدو الله، ألم آمرك؟ ألم أنهك؟ فقال الفتى: يا عماه لو أن الله دفعني إلى والدتي: كيف كنت صانعة بي؟ قال: تدخلك الجنة. قال: الله أرحم بي من والدتي، وقبض الفتى، فدخلت القبر مع عمه، فلما أن سواه صاح وفزع. قلت له مالك؟ قال: فسح له في قبره، وملئ نوراً.

باب متى يرتفع ملك الموت عن العبد؟ وبيان قوله تعالى: " وجاءت كل نفس معها سائق وشهيد " وقوله تعالى: " لتركبن طبقا عن طبق "

وكان أبو سليمان الداراني يقول في دعائه: يا من لا يأنس بشيء أبقاه، ولا يستوحش من شيء أفناه، ويا أنيس كل غريب، ارحم في القبر غربتي، ويا ثاني كل وحيد، آنس في القبر وحدتي. ولقد أحسن أبو بكر عبد الرحمن بن محمد بن مفاوز السلمي الكاتب أحد البلغاء بشرق الأندلس حيث يقول: أيها الواقف اعتباراً بقبري ... استمع فيه قول عظمي الرميم أودعوني بطن الصريح وخافوا ... من ذنوبي وآيسوا من نعيم قلت: لا تجزعوا علي فإني ... حسن الظن بالرؤوف الرحيم ودعوني بما اكتسبت رهيناً ... غلق الرهن عند مولى كريم باب متى يرتفع ملك الموت عن العبد؟ وبيان قوله تعالى: " وجاءت كل نفس معها سائق وشهيد " وقوله تعالى: " لتركبن طبقاً عن طبق " باب متى يرتفع ملك الموت عن العبد؟ وبيان قوله تعالى: وجاءت كل نفس معها سائق وشهيد وقوله تعالى: لتركبن طبقاً عن طبق أبو نعيم «عن أبي جعفر محمد بن علي، عن جابر رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن ابن آدم لفي غفلة عما خلقه الله عز وجل إن الله ـ لا إله غيره إذا أراد خلقه ـ قال للملك: اكتب رزقه وأثره وأجله، واكتب شقياً أو سعيداً، ثم يرتفع ذلك الملك ويبعث الله ملكاً آخر فيحفظه حتى يدرك، ثم

يبعث الله ملكين يكتبان حسناته وسيئاته، فإذا جاءه الموت ارتفع ذلك المكان، ثم جاءه ملك الموت عليه السلام، فيقبض روحه، فإذا أدخل حفرته رد الروح في جسده، ثم جاءه ملكا القبر فامتحناه، ثم يرتفعان، فإذا قامت الساعة، انحط عليه ملك الحسنات وملك السيئات فأنشطا كتاباً معقوداً في عنقه، ثم حضرا معه: واحد سائق والآخر شهيد، ثم قال الله عز وجل: {لقد كنت في غفلة من هذا فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد} قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في: لتركبن طبقاً عن طبق قال: حالاً بعد حال» . ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن قدامكم أمر عظيم. فاستعينوا بالله العظيم» . قال أبو نعيم: هذا حديث غريب من حديث أبي جعفر وحديث جابر تفرد به عنه جابر ابن يزيد الجعفي وعنه المفضل. قلت: جابر بن يزيد الجعفي متروك لا يحتج بحديثه في الأحكام. ووجد بمدينة قرطبة على قبر الوزير الكبير أبي عامر بن شهيد مكتوباً، وهو مدفون بإزاء صاحبه الوزير أبي مروان الزجاجي، وكأنه يخاطبه ودفنا في بستان كانا كثيراً ما يجتمعان فيه: يا صاحبي قم فقد أطلنا ... أنحن طول المدى هجود؟ فقال لي: لن تقوم منها ... ما دام من فوقنا الصعيد

باب في سؤال الملكين للعبد وفي التعوذ من عذاب القبر وعذاب النار

نذكر كم ليلة نعمنا ... في ظلها والزمان عيد وكم ينير همى علينا ... سحابة ثرة بجود كل كأن لم يكن تقضى ... وشؤمه حاضر عتيد حصله كاتب حفيظ ... وضمه صادق شهيد يا حسرتا إن تنكبتنا ... رحمة من بطشه شديد يا رب عفواً فأنت مولى ... قصر في حقه العبيد باب في سؤال الملكين للعبد وفي التعوذ من عذاب القبر وعذاب النار البخاري «عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن العبد إذا وضع في قبره، وتولى عنه أصحابه. إنه ليسمع قرع نعالهم أتام ملكان فيقعد أتاه ملكان فيقعدانه فيقولان له ما كنت تقول في هذا الرجل محمد صلى الله عليه وسلم؟ فأما المؤمن فيقول: أشهد أنه عبد الله ورسوله، فيقال له: انظر إلى مقعدك من النار قد أبدلك الله تعالى به مقعداً من الجنة فيراهما جميعاً» . قال قتادة: وذكر لنا أنه يفسح له في قبره أربعون ذراعاً. وقال مسلم: سبعون ذراعاً. ويملأ عليه خضراً إلى يوم يبعثون ثم رجع إلى حديث أنس قال: «وأما المنافق والكافر فيقال له: ما كنت تقول في هذا الرجل؟ فيقول: لا أدري كنت أقول ما يقول الناس. فيقال: لا دريت ولا تليت. ويضرب بمطارق من حديد ضربة بين أذنيه فيصيح صيحة يسمعها من يليه إلا الثقلين» .

قلت: ليس عند مسلم، ثم رجع إلى حديث أنس إلى آخره وإنما هو عند البخاري. فحديثه أكمل. وقول الملكين: ولا تليت: قال النحويون: الأصل في هذه الكلمة: الواو. أي ولا تلوت إلا أنها قلبت ياء ليتبع بها دريت. وقد جاء من حديث البراء: [لا دريت ولا تلوث] على ما رواه الإمام أحمد بن حنبل: أي لم تدر ولم تتل القرآن. فلم تنتفع بدرايتك ولا تلاوتك. ابن ماجه، «عن أبي هريرة عن النبي قال: إن الميت يصير إلى القبر فيجلس الرجل الصالح في قبره غير فزع ولا مشغوف، ثم يقال له: فيم كنت؟ فيقول: كنت في الإسلام! فيقال: ما هذا الرجل؟ فيقول: محمد رسول الله، جاءنا بالبينات من عند الله فصدقناه. فيقال له: هل رأيت الله؟ فيقول: لا، ما ينبغي لأحد أن يرى الله! فيفرج له فرجة قبل النار فينظر إليها يحطم بعضها بعضاً، فيقال له: انظر إلى ما وقاك الله، ثم يفرج له فرجة قبل الجنة فينظر إلى زهرتها وما فيها، فيقال له: هذا مقعدك» . ويقال له: على اليقين

كنت. وعليه مت. وعليه تبعث إن شاء الله تعالى، ويجلس الرجل السوء في قبره فزعاً مرعوباً فيقال له: فيما كنت؟ فيقول: لا أدري. فيقال له: ما هذا الرجل؟ فيقول: سمعت الناس يقولون قولاً فقلته. فيفرج له فرجة قبل الجنة فينظروا إلى زهرتها وما فيها. فيقال له انظر إلى ما صرفه الله عنك، ثم يفرج له فرجة قبل النار فينظر إليها يحطم بعضها بعضاً، فيقال: هذا مقعدك على الشك كنت. وعليه مت. وعليه تبعث إن شاء الله تعالى «. الترمذي» عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا أقبر الميت ـ أو قال أحدكم ـ أتاه ملكان أسودان أزرقان يقال لأحدهما المنكر. وللآخر النكير. فيقولان: ما كنت تقول في هذا الرجل؟ فيقول ما كان يقول فيه: هو عبد الله ورسوله أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله، فيقولان: قد كنا نعلم أنك تقول هذا، ثم يفسح له في قبره سبعون ذراعاً في سبعين، ثم ينور له فيه، ثم يقال له: نم. فيقول: أرجع إلى أهلي فأخبرهم، فيقولان: ثم كنومة العروس الذي لا يوقظه إلا أحب أهله إليه حتى يبعثه الله من مضجعه ذلك. وإن كان منافقاً قال: سمعت الناس يقولون قولاً. فقلت مثله: لا أدري. فيقولان: قد كنا نعلم أنك تقول ذلك فيقال للأرض: التئمي

عليه. فتختلق أضلاعه. فلا يزال فيها فيها معذباً حتى يبعثه الله من مضجعه ذلك «قال حديث حسن غريب. أبو داود» عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخلاً نخلاً لبني النجار، فسمع صوتاً ففزع، فقال: من أصحاب هذه القبور؟ قالوا: يا رسول الله ناس ماتوا في الجاهلية، فقال: تعوذوا بالله من عذاب القبر. ومن فتنة الدجال قالوا: ومم ذاك يا رسول الله؟ قال: إن المؤمن إذا وضع في قبره أتاه ملك، فيقول له: ما كنت. تعبد؟ فإن هداه الله. قال: كنت أعتبد الله فيقال: ما كنت تقول في هذا الرجل؟ فيقول هو عبد الله ورسوله. فما يسأل عن شيء غيرها. فينطلق به إلى بيت كان له في النار. فيقال له: هذا بيتك كان في النار، ولكن عصمك ورحمك فأبدلك بيتاً في الجنة فيقول دعوني حتى أذهب فأبشر أهلي فيقال له: اسكن. وإن الكافر إذا وضع في قبره أتاه ملك فينتهره ويقول: ما كنت تعبد؟ فيقول: لا أدري كنت أقول كما يقول الناس. فيضرب بمطارق من حديد بين

أذنيه فيصيح صيحة يسمعها الخلق غير الثقلين «. وخرج أبو داود أيضاً» عن البراء بن عازب قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في جنازة رجل من الأنصار. فانتهينا إلى القبر ولما يلحد، فجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم وجلسنا حوله كأنما على رؤوسنا الطير وفي يده عود ينكت به في الأرض فرفع رأسه فقال: استعيذوا بالله من عذاب القبر مرتين أو ثلاثاً، قال: وإنه ليسمع خفق نعالهم إذا ولوا مدبرين حين يقال له: من ربك؟ وما دينك؟ ومن نبيك؟ قال: ويأتيه ملكان فيجلسانه فيقولان له: من ربك؟ فيقول: ربي الله، فيقولان: ما دينك؟ فيقول: ديني الإسلام، فيقولان: ما هذا الرجل الذي بعث فيكم؟ فيقول: هو رسول الله، فيقولان له: وما يدريك؟ قال: قرأت كتاب الله فآمنت وصدقت «قال: فينادي مناد من السماء: أن صدق عبدي فأفرشوه من الجنة. وألبسوه من الجنة. وافتحوا له باباً إلى الجنة قال: فيأتيه من روحها وطيبها قال: ويفسح له مد بصره. قال: وإن الكافر فذكر موته قال: وتعاد روحه في

جسده ويأتيه ملكان فيجلسانه فيقولان له: من ربك؟ فيقول: هاه هاه. لا أدري. فيقولان: ما هذا الرسول الذي بعث فيكم؟ فيقول هاه هاه. لا أدري. قال: فينادي مناد: أن كذب عبدي. فأفرشوه من النار، وألبسوه من النار، وافتحوا له باباً إلى النار قال: فيأتيه من حرها وسمومها قال: ويضيق عليه قبره حتى تختلف فيه أضلاعه» زاد في حديث جرير قال: «ثم يقيض له أعمى أبكم معه مرزبة من حديد لو ضرب بها جبل لصار تراباً قال: فيضربه بها ضربة يسمعها ما بين المشرق والمغرب إلا الثقلين فيصير تراباً، ثم تعاد فيه الروح» . فصل: ذكره أبو حامد في كتاب كشف علم الآخرة: وقد روى عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال يا رسول الله: ما أول ما يلقى الميت إذا دخل قبره؟ قال: يا ابن مسعود ما سألني عنه أحد إلا أنت. فأول ما يناديه ملك اسمه رومان يجوس خلال المقابر فيقول: يا عبد الله اكتب عملك. فيقول: ليس معي دواة ولا قرطاس فيقول: هيهات كفنك قرطاسك، ومدادك ريقك، وقلمك إصبعك. فيقطع له قطعة من كفنه. ثم يجعل العبد يكتب، وإن كان غير كاتب في الدنيا. فيذكر حينئذ حسناته وسيئاته كيوم واحد، ثم يطوى الملك القطعة ويعلقها في عنقه. ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قوله تعالى: {وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه} أي:

عمله، فإذا فرغ من ذلك دخل عليه فتانا القبر، وهما ملكان أسودان، يخرقان الأرض بأنيابهما، لهما شعور مسدولة يجرانها على الأرض، كلامها كالرعد القاصف، وأعينهما كالبراق الخاطف، ونفسهما كالريح العاصف، بيد كل واحد منهما مقمع من حديد لو اجتمع عليه الثقلان ما رفعاه، لو ضرب به أعظم جبل لجعله دكاً، فإذا أبصرتهما النفس ارتعدت، وولت هاربة فتدخل في منخر الميت فيحيا الميت من الصدر ويكون كهيأته عند الغرغرة، ولا يقدر على حراك، غير أنمه يسمع وينظر قال: فيقعدانه فيبتدئانه بعنف وينتهرانه بجفاء وقد صار التراب له كالماء حيثما تحرك انفسح فيه ووجد فرجة فيقولان له: من ربك؟ وما دينك؟ ومن نبيك؟ وما قبلتك؟ فمن وفقه الله وثبته بالقول الثابت قال: ومن وكلكما علي؟ ومن أرسلكما إلي؟ وهذا لا يقوله إلا العلماء الأخيار. فيقول أحدهما للآخر: صدق. كفي سرنا ثم يضربان عليه القبر كالقبة العظيمة، ويفتحان له بابا إلى الجنة من تلقاء يمينه، ثم يفرشان له من حريرها وريحانها ويدخل عليه من نسيمها وروحها وريحانها ويأتيه عمله في صورة أحب الأشخاص إليه، يؤنسه ويحدثه ويملأ قبره نوراً، ولا يزال في فرح وسرور ما بقيت الدنيا حتى تقوم الساعة، ويسأل: متى تقوم الساعة؟ فليس شيء أحب إليه من قيامها. ودونه في المنزلة المؤمن

العامل الخير ليس معه حظ من العلم ولا من أسرار الملكوت يلج عليه عمله عقيب رومان في أحسن صورة طيب الريح، حسن الثياب، فيقول له: أما تعرفني؟ فيقول: من أنت الذي من الله علي بك في غربتي؟ فيقول: أنا عملك الصالح، فلا تحزن ولا توجل فعما قليل يلج عليك منكر ونكير يسألانك فلا تدهش، ثم يلقنه حجته فبينما هو كذلك، إذ دخلا عليه فينتهرانه ويقعدانه مستنداً ويقولان: من ربك؟ ـ نسق الأول ـ فيقول: الله ربي، ومحمد نبيي، والقرآن إمامي، والكعبة قبلتي، وإبراهيم أبي، وملته ملتي، غير مستعجم، فيقولان له: صدقت، ويفعلان به كالأول إلا أنهما يفتحان له باباً إلى النار فينظر إلى حياتها وعقاربها وسلاسلها وأغلالها وحميمها وجميع غمومها وصديدها وزقومها فيفزع فيقولان له: لا عليك سوء. هذا موضعك قد أبدله الله تعالى بموضعك هذا من الجنة. نم سعيداً ثم يغلقان عنه باب هذا النار ولم يدر ما مر عليه من الشهور والأعوام والدهور. ومن الناس من يحجم في مسألته. فإن كانت عقيدته مختلفة امتنع أن يقول: الله ربي وأخذ غيرها من الألفاظ فيضربانه ضربة يشتعل منها قبره ناراً ثم تطفأ عنه أياماً. ثم تشتعل عليه أيضاً. هذا دأبه ما بقيت الدنيا. ومن الناس من يعتاص عليه ويعسر أن يقول: الإسلام ديني لشك كان يتوهمه، أو فتنة تقع

به عند الموت فيضربانه ضربة واحدة فيشتعل عليه قبره ناراً كالأول، ومن الناس من يعتاص عليه أن يقول: القرآن إمامي. لأنه كان يتلوه ولا يتعظ به. ولا يعمل بأوامره ولا ينتهي بنواهيه يطوف عليه دهره ولا يعطي منه نفسه خيره فيفعل له ما يفعل بالأولين، ومن الناس من يستحيل عمله جرواً يعذب في قبره على قدر جرمه» . وفي الأخبار: أن في الناس من يستحيل عمله خنوصاً ـ وهو ولد الخنزير ـ ومن الناس من يعتاص عليه أن يقول: نبيي محمد لأنه كان ناسياً لسنته، ومن الناس من يعتاص عليه أن يقول: الكعبة قبلتي لقلة تحريه في صلاته، أو فساده في وضوئه، أو التفات في صلاته، أو اختلال في ركوعه وسجوده، ويكفيك ما روي في فضائلها، أن الله لا يقبل صلاة من عليه صلاة، ومن عليه ثوب حرام، ومن الناس من يعتاص عليه أن يقول: إبراهيم أبي لأن سمع كلاماً يوماً أو همه أن إبراهيم كان يهودياً أو نصرانياً. فإذا هو شاك مرتاب، فيفعل به ما يفعل بالآخرين. وقال أبو حامد: وكل هذه الأنواع كشفناها في كتاب الأحياء. وأما الفاجر فيقولان له: من ربك؟ فيقول: لا أدري! فيقولان له: لا دريت ولا عرفت ثم يضربانه بتلك المقامع حتى يتلجلج في الأرض السابعة، ثم تنقضه الأرض في قبره. ثم يضربانه سبع مرات. ثم تفترق أحوالهم. فمنهم من يستحيل عمله كلباً ينهشه حتى تقوم الساعة، وهم الخوارج، ومنهم من يستحيل خنزيراً يعذب به في قبره وهم المرتابون، وهم أنواع وأصله أن الرجل إنما يعذب في قبره بالشيء الذي كان يخافه في الدنيا. فمن الناس من

يخاف من الجرو أكثر من الأسد وطبائع الخلق متفرقة نسأل الله السلامة والغفران. قبل الندامة. فصل: جاء في حديث البخاري ومسلم: سؤال الملكين، وكذلك في حديث الترمذي ونص على اسميهما ونعتها. وجاء في حديث أبي داود: سؤال ملك واحد، وفي حديثه الآخر: سؤال ملكين ولا تعارض في ذلك والحمد لله: بل كان ذلك صحيح المعني بالنسبة إلى الأشخاص قرب شخص يأتيانه جميعاً ويسألانه جميعاً في حال واحد عند انصراف الناس ليكون السؤال عليه أهون والفتنة في حقه أشد وأعظم وذلك بحسب ما اقترف من الآثام واجترح من سيء الأعمال وآخر يأتيه قبل انصراف الناس عنه وآخر يأتيه أحدهما على الانفراد فيكون ذلك أخف

في السؤال وأقل في المراجعة والعتاب لما عمله من صالح الأعمال. وقد يحتمل حديث أبي داود وجهاً آخر وهو: أن الملكين يأتيان جميعاً ويكون السائل أحدهما، وإن تشاركا في الإتيان فيكون الراوي اقتصر على الملك السائل وترك غيره لأنه لم يقل في الحديث أنه لا يأتيه إلى قبره إلا ملك واحد، ولو قاله هكذا صريحاً لكان الجواب عنه ما قدمناه من أحوال الناس. والله أعلم، وقد يكون من الناس من يوقى فتنتهما ولا يأتيه أحد منهما على ما يأتي بيانه إن شاء الله تعالى. واختلفت الأحاديث أيضاً في كيفية السؤال والجواب. وذلك بحسب اختلاف أحوال الناس، فمنهم من يقتصر على سؤاله عن بعض اعتقاداته، ومنهم من يسأل عن كلها فلا تناقص. ووجه آخر هو: أن يكون بعض الرواة اقتصر على بعض السؤال وأتى به غيره على الكمال. فيكون الإنسان مسؤولاً عن الجميع. كما جاء في حديث البراء المذكور والله أعلم. وقول المسؤول: هاه هاه هي حكاية صوت المبهور من تعب أو جري أو حمل ثقيل.

باب ذكر حديث البراء المشهور الجامع لأحوال الموتى عند قبض أرواحهم وفي قبورهم

باب ذكر حديث البراء المشهور الجامع لأحوال الموتى عند قبض أرواحهم وفي قبورهم أخرجه أبو داود الطيالسي وعبد بن حميد في مسنديهما وعلي بن معبد في كتاب الطاعة والمعصية. وهناد بن السرى في زهده. وأحمد بن حنبل في مسنده وغيرهم. وهو حديث صحيح له طرق كثيرة تهمم بتخريج طرقه علي بن معبد. فأما أبو داود الطيالسي فقال: «حدثنا أبو عوانة عن الأعمش. وقال هناد وأحمد: حدثنا أبو معاوية عن الأعمش عن المنهال عن عمرو، وقال: أبو داود: حدثنا عمرو بن ثابت سمعه من المنهال بن عمرو عن زاذان عن البراء ـ يعني ابن عازب ـ وحديث أبي عوانة أتمهما، قال البراء: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في جنازة رجل من الأنصار فانتهينا إلى القبر، ولما يلحد، فجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم وجلسنا حوله، كأنما على رؤوسنا الطير» ، قال عمر بن ثابت: وقع ولم يقله أبو عوانة، فجعل يرع بصره وينظر إلى السماء ويخفض بصره وينظر إلى الأرض، ثم قال: أعوذ بالله من عذاب القبر قالها مراراً ثم قال: إن العبد المؤمن إذا كان في إقبال من الآخرة وانقطاع من الدنيا، جاءه ملك فجلس عند

رأسه فيقول اخرجي أيتها النفس الطيبة إلى مغفرة من الله ورضوان فتخرج نفسه فتسيل كما يسيل قطر السقا قال: عمرو في حديثه، ولم يقله أبو عوانة «وإن كنتم ترون غير ذلك. وتنزل ملائكة من الجنة بيض الوجوه، كأن وجوههم الشمس، معهم أكفان من أكفان الجنة، وحنوط من حنوطها. فيجلسون منه مد البصر فإذا قبضها الملك لم يدعوها في يده طرفة عين قال: فذلك قوله تعالى: {توفته رسلنا وهم لا يفرطون} قال: فتخرج نفسه كأطيب ريج وجدت، فتعرج به الملائكة فلا يأتون على جند بين السماء والأرض إلا قالوا: ما هذه الروح؟ فيقال: فلان، بأحسن أسمائه حتى ينتهوا به أبواب سماء الدنيا فيفتح له، ويشيعه من كل سماء مقربوها حتى ينتهي إلى السماء السابعة، فيقال: اكتبوا كتابه في عليين {وما أدراك ما عليون * كتاب مرقوم * يشهده المقربون} فيكتب كتابه في عليين. ثم يقال: ردوه إلى الأرض فإني وعدتهم أني منها خلفتهم، وفيها نعيدهم، ومنها نخرجهم تارة أخرى، قال: فيرد إلى الأرض، وتعاد روحه في جسده، فيأتيه ملكان شديدا الانتهار فينتهرانه ويجلسانه، فيقولان من ربك؟ وما دينك؟ ومن نبيك؟ فيقول ربي الله وديني الإسلام، فيقولان: فما تقول في هذا الرجل الذي بعث فيكم؟ فيقول: هو رسول الله. فيقولان: وما يدريك؟ فيقول: جاءنا بالبينات من ربنا فآمنت به وصدقت قال: وذلك قوله تعالى: {يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة} قال: وينادي منادي السماء أن قد صدق عبدي فأفرشوه من الجنة وألبسوه من الجنة وأروه منزله منها ويفسح له مد بصره. ويمثل عمله له في صورة رجل حسن الوجه طيب الرائحة حسن الثياب فيقول: أبشر بما أعد الله لك ابشر برضوان من الله وجنات فيها نعيم مقيم فينقول: بشرك الله بخير، من أنت فوجهك الوجه الذي جاء بالخير؟ فيقول: هذا يومك الذي كنت توعد، أو الأمر الذي كنت توعد أنا عملك الصالح فو الله ما علمتك إلا كنت سريعاً في طاعة الله بطيئاً عن معصية الله فجزاك الله خيراً. فيقول يا رب أقم الساعة كي أرجع إلى أهلي ومالي قال: فإن كان فاجراً وكان في إقبال من الدنيا وانقطاع من الآخرة جاء ملك، فجلس عند رأسه فقال: اخرجي أيتها النفس الخبيثة أبشري بسخط من الله وغضبه، فتنزل الملائكة سود الوجوه معهم مسوح من نار فإذا قبضها الملك قاموا فلم يدعوها في يده طرفة عين، قال: فتفرق في جسده فيستخرجها، تقطع منها العروق والعصب كالسفود الكثير الشعب في الصوف المبتل، فتؤخذ

من الملك فتخرج كأنتن جيفة وجدت فلا تمر على جند فيما بين السماء والأرض، إلا قالوا ما هذه الروح الخبيثة؟ فيقولون: هذا فلان بأسوأ أسمائه حتى ينتهوا به إلى سماء الدنيا فلا يفتح لهم، فيقولون: ردوه إلى الأرض إني وعدتهم أني منها خلقتهم وفيها نعيدهم، ومنها نخرجهم تارة أخرى قال: فيرمي به من السماء. قال: وتلا هذه الآية {ومن يشرك بالله فكأنما خر من السماء فتخطفه الطير أو تهوي به الريح في مكان سحيق} . قال: فيعاد إلى الأرض وتعاد فيه روحه، ويأتيه ملكان شديدا الانتهار فينتهزانه ويجلسانه فيقولون: من ربك؟ وما دينك؟ فيقول:

لا أردي. فيقولون: فما تقول في هذا الرجل الذي بعث فيكم؟ فلا يهتدي لاسمه فيقال: محمد، فيقول: لا أدري سمعت الناس يقولون ذلك قال: فيقال: لا دريت، فيضيق عليه قبره حتى تختلف أضلاعه. ويمثل له عمله في صورة رجل قبيح الوجه منتن الريح قبيح الثياب، فيقول: أبشر بعذاب الله وسخطه، فيقول: من أنت فوجهك الذي جاء بالشر؟ فيقول: أنا عملك الخبيث فو الله ما عملتك إلا كنت بطيئاً عن طاعة الله سريعاً إلى معصية الله» . قال عمرو في حديثه «عن المنهال عن زاذان عن البراء عن النبي صلى الله عليه وسلم: فيقيض له أصم أبكم بيده مرزبه ضرب بها جبل صار تراباً أو قال: رميما فيضربه به ضربة تسمعها الخلائق إلا الثقلين، ثم تعاد فيه الروح فيضرب

ضربة أخرى» لفظ أبي داود الطيالسي وخرجه علي بن معبد الجهني من عدة طرق بمعناه: وزاد فيه: «ثم يقيض له اعمى أصم معه مرزبة من حديد فيضربه فيدق بها من ذؤابته إلى خصره ثم يعاد فيضربه ضربة فيدق بها من ذؤابته إلى خصره» وزاد في بعض طرقه عند قوله مرزبة من حديد: لو اجتمع عليه الثقلان لم ينقلوها. فيضرب بها ضربة فيصير تراباً ثم تعاد فيه الروح، ويضرب بها ضربة يسمعها من على الأرض غير الثقلين، ثم يقال: افرشوا له لوحين من نار وافتحوا له باباً إلى النار، فيفرش له لوحان من نار ويفتح له باب إلى النار وزاد فيه عند قوله: وانقطاع من الدنيا: «نزلت به ملائكة غلاظ شداد معهم حنوط من نار وسرابيل من قطران يحتوشونه فتنتزع نفسه كما ينتزع السفود الكثير الشعب من الصوف المبتل يقطع معه عروقها، فإذا خرجت نفسه لعنه كل ملك في السماء وكل ملك في الأرض»

وخرج أبو عبد الله الحسين بن الحسين بن حرب، صاحب ابن المبارك في رقائقه بسنده عن عبد الله بن عمرو بن العاص أنه كان يقول: [إذا قتل العبد في سبيل الله كان أول قطرة تقطر من دمه، إلى الأرض كفارة للخطايا ثم يرسل الله عز وجل بربطة من الجنة فيقبض فيها روحه. وصورة من صور الجنة فيركب فيها روحه ثم يعرج مع الملائكة كأن معهم والملائكة على أرجاء السماء، فيقولان: قد جاء روح من الأرض طيبة، ونسمة طيبة، فلا تمر بباب إلا فتح لها، ولا ملك إلا صلى عليها ودعا لها: ويشيعها، حتى يؤتى بها الرحمن. فيقولون: يا ربنا هذا عبدك توفيته في سبيلك فيسجد قبل الملائكة، ثم تسجد الملائكة بعد ثم يطهر ويغفر له ثم يؤمر فيذهب به إلى الشهداء فيجدهم في قباب من حرير في رياض خضر عندهم حوت وثور يظل الحوت يسبح في أنهار الجنة يأكل من كل رائحة في أنهار الجنة، فإذا أمسى وكزه الثور بقرنه فيذكيه فيأكلون لحمه فيجدون في لحمه طعم كل رائحة ويبيت الثور في أفناء الجنة فإذا أصبح غداً عليه الحوت فوكزه

بذنبه فيذكيه فيأكلون فيجدون في لحمه طعم كل رائحة في الجنة ثم يعودون وينظرون إلى منازلهم من الجنة، ويدعون الله عز وجل أن تقوم الساعة، فإذا توفي العبد المؤمن بعث الله عز وجل إليه ملكين وأرسل إليه بخرقة من الجنة، فقال: اخرجي أيتها النفس المطمئنة اخرجي إلى روح وريحان ورب عنك غير غضبان، فتخرج كأطيب ريح من مسك ما وجدها أحد بأنفه قط، والملائكة على أرجاء السماء يقولون قد جاء من قبل الأرض روح طيبة ونسمة طيبة فلا تمر بباب إلا فتح لها ولا بملك إلا دعا لها وصلى عليها، حتى يؤتى بها الرحمن فتسجد الملائكة ثم يقولون: هذا عبدك فلان قد توفيته وكان يعبدك لا يشرك بك شيئاً، فيقول مروه فليسجد فتسجد النسمة، ثم يدعى ميكائيل فيقول: اذهب بهذه فاجعلها مع أنفس المؤمنين حتى أسألك عنها يوم القيامة ثم يؤمر فيوسع عليه قبره سبعين ذراعاً عرضه وسبعين ذراعاً طوله، وينبذ له فيه الرياحين ويستر بالحرير، فإن كان معه شيء من القرآن كفاه نوره. وإن لم يكن معه جعل له في قبره نور مثل نور الشمس. ويكون مثله كمثل العروس ينام فلا يوقظه إلا أحب أهله إليه، قال: فيقوم من نومه كأنه لم يشبع من نومته، وإذا توفي العبد الفاجر أرسل الله إليه ملكين وأرسل بقطعة من نجاد أنتن من كل نتن وأخشن من كل خشن، فقالا: أخرجي أيتها النفس الخبيثة، اخرجي إلى حميم وعذاب، ورب عليك غضبان أخرجي وساء ما قدمت لنفسك، فتخرج كأنتن رائحة وجدها أحد بأنفه قط وعلى أرجاء السماء ملائكة يقولون: قد جاءت من الأرض روح خبيثة، ونسمة خبيثة فتغلق دونها أبواب السماء، ولا تصعد إلى السماء ثم يؤمر فيضيق عليه

قبره ويرسل عليه حيات أمثال أعناق البخت فتأكل لحمه حتى لا تذر على عظمه لحماً، ويرسل عليه ملائكة صم عمي يضربونه بفطاطيس من حديد لا يسمعون صوته فيرحموه، ولا يبصرونه فيرحموه، ولا يخطئون حتى يضربونه، ويعرض عليه مقعده من النار بكرة وعشيا يدعو بأن يدوم ذلك ولا يخلص إلى النار. وخرج أبو عبد الرحمن النسائي بسنده «عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إذا احتضر المؤمن أتته ملائكة الرحمة بحريرة بيضاء فيقولون: أخرجي راضية مرضياً عنك إلى روح وريحان ورب راض غير غضبان فتخرج كأطيب ريح المسك حتى إنه ليناوله بعضهم بعضاً حتى يأتوا به باب السماء فيقولون: ما أطيب هذه الريح التي جاءتكم من الأرض؟ فيأتون به أرواح المؤمنين فلهم أشد فرحاً من أحدكم بغائبه يقدم

الرد على الملحدة

عليه فيسألونه: ما فعل فلان؟ ما فعلت فلانة؟ فيقولون: دعوه فإنه كان في غم الدنيا فإذا قال: ما أتاكم؟ قالوا: ذهب به إلى أمه الهاوية وإن الكافر إذا احتضر أتته ملائكة العذاب بمسح فيقولون: اخرجي ساخطة مسخوطاً عليك إلى عذاب الله فيخرج كأنتن ريح خبيثة حتى يأتوا به باب الأرض فيقولون: ما أنتن هذه الريح؟ حتى يأتوا به أرواح الكفار» . وخرج أبو داود الطيالسي قال: «حدثنا حماد، عن قتادة، عن أبي الجوزاء، عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إذا قبض العبد المؤمن جاءته ملائكة الرحمة فتسلم تسل نفسه في حريرة بيضاء فيقولون: ما وجدنا ريحاً أطيب من هذه. فيسألونه فيقولون: ارفقوا به فإنه خرج من غمم الدنيا. فيقولون: ما فعل فلان؟ ما فعلت فلانة؟ قال: وأما الطافر فتخرج نفسه فتقول خزنة الأرض ما وجدنا ريحاً أنتن من هذه فيهبط به إلى أسفل الأرض» . الرد على الملحدة قلت: وهنا فصول ستة في الرد على الملحدة: الفصل الأول تأمل يا أخي وفقني الله وإياك هذا الحديث وما قبله من الأحاديث ترشدك إلى أن الروح والنفس شيء واحد وأنه جسم لطيف

مشابك للأجسام المحسوسة يجذب ويخرج. وفي أكفانه يلف ويدرج: وبه إلى السماء يعرج. لا يموت ولا يفنى وهو مما له أول وليس له آخر. وهو بعينين ويدين. وأنه ذو ريح طيب وخبيث. وهذه صفة الأجسام لا صفة الأعراض. وقد قال بلال في حديث الوادي: أخذ بنفسي يا رسول الله الذي أخذ بنفسك. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: مقابلاً له في حديث زيد بن أسلم في حديث الوادي: «يا أيها الناس إن الله قبض أرواحنا ولو شاء ردها إلينا في حيز غير هذا» وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الروح إذا قبض تبعه البصر» وقال: «فذلك حين يتبع بصره نفسه» وهذا غاية في البيان ولا عطر بعد عروس، وقد اختلف الناس في الروح اختلافاً كثيراً: أصح ما قيل فيه: ما ذكرناه لك وهو مذهب أهل السنة: أنه جسم، فقد قال تعالى: {الله يتوفى الأنفس حين موتها} . قال أهل التأويل: يريد الأرواح، وقد قال تعالى: {فلولا إذا بلغت الحلقوم} يعني النفس عند خروجها من الجسد، وهذه صفة الجسم ولم يجر لها ذكر في الآية لدلالة الكلام عليها، كقول الشاعر:

الفصل الثاني

أماوي ما يغني الثراء عن الفتى ... إذا حشرجت يوماً وضاق بها الصدر وكل من يقول: إن الروح يموت ويفنى فهو ملحد. وكذلك من يقول: بالتناسخ: أنها إذا خرجت من هذا ركبت في شيء آخر: حمار أو كلب أو غير ذلك. وإنما هي محفوظة بحفظ الله إما منعمة وإما معذبة. على مايأتي بيانه إن شاء الله تعالى. الفصل الثاني الإيمان بعذاب القبر وفتنته: واجب. والتصديق به: لازم. حسب ما أخبر به الصادق. وأن الله تعالى يحيي العبد المكلف في قبره برد الحياة إليه ويجعله من العقل في مثل الوصف الذي عاش عليه ليعقل ما يسأل عنه وما يجيب به ويفهم ما أتاه من ربه وما أعد له في قبره من كرامة أو هوان. وبهذا نطقت الأخبار عن النبي المختار صلى الله عليه وسلم وعلى آله آناء الليل وأطراف النهار، وهذا مذهب أهل السنة والذي عليه الجماعة من أهل الملة. ولم تفهم الصحابة الذين نزل القرآن بلسانهم ولغتهم من نبيهم عليه السلام غير ما ذكرنا. وكذلك التابعون بعدهم إلى هلم جراً، ولقد قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه ـ «لما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بفتنة الميت في قبره وسؤال منكر ونكير وهما الملكان له: يا رسول الله أيرجع إلى عقلي؟ قال: نعم. قال: إذا أكفيكهما. والله لئن سألاني سألتهما. فأقول لهما: أنا ربي الله فمن ربكما أنتما؟» .

وخرج الترمذي الحكيم أبو عبد الله في نوادر الأصول من حديث «عبد الله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر يوماً فتاني القبر. فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: أترد علينا عقولنا يا رسول الله؟ فقال: نعم كهيئاتكم اليوم» ، فقال عمر: في فيه الحجر. وقال سهل بن عمار: رأيت يزيد بن هارون في المنام بعد موته. فقلت له مافعل الله بك؟ فقال إنه أتاني في قبري ملكان فظان غليظان، فقالا: ما دينك؟ ومن ربك؟ ومن نبيك؟ فأخذت بلحيتي البيضاء. وقلت: ألمثلي يقال هذا؟ وقد عملت الناس جوابكما ثمانين سنة. فذهبا. وقالا: أكتبت عن حريز بن عثمان؟ قلت نعم. فقالا: إنه كان يبغض علياً فأبغضه الله.

الفصل الثالث

وفي حديث البراء: [فتعاد روحه في جسده] وحسبك. وقد قيل: إن السؤال والعذاب إنما يكون على الروح دون الجسد. وما ذكرناه لك أو لا أصح والله أعلم. الفصل الثالث أنكرت الملحدة من تمذهب من الإسلاميين بمذهب الفلاسفة: عذاب القبر وأنه ليس له حقيقة، واحتجوا بأن قالوا: إنا نكشف القبر فلم نجد فيه ملائكة عمياً صماً يضربون الناس بفطاطيس من حديد ولا نجد فيه حيات ولا ثعابين ولا نيراناً ولا تنانين. وكذلك لو كشفنا عنه في كل حالة لوجدناه فيه لم يذهب ولم يتغير، وكيف يصح إقعاده ونحن لو وضعنا الزئبق بين عينيه لوجدناه بحاله، فكيف يجلس ويضرب ولا يتفرق ذلك؟ وكيف يصح إقعاده وما ذكرتموه من الفسحة؟ ونحن نفتح القبر فنجد لحده ضيقاً ونجد مساحته على حد ما حفرناها لم يتغير علينا، فكيف يسعه ويسع الملائكة السائلين له؟ وإنما ذلك كله إشارة إلى حالات ترد على الروح من العذاب الروحاني، وإنها لا حقائق لها على موضوع اللغة. والجواب: أنا نؤمن بما ذكرناه. والله أن يفعل ما يشاء من عقاب ونعيم. ويصرف أبصارنا عن جميع ذلك بل يغيبه عنا. فلا يبعد في قدرة الله تعالى فعل ذلك كله بعد في قدرة الله تعالى فعل ذلك كله إذا هو القادر على كل ممكن جائز فإنا لو شئنا لأزلناه الزئبق عن عينيه، ثم نضجعه ونرد الزئبق وكذلك يمكننا أن

نعمق القبر ونوسعه حتى يقوم فيه قياماً فضلاً عن العقود. وكذلك يمكننا أن نوسع القبر ذراع فضلاً عن سبعين ذراعاً، والرب سبحانه أبسط منا قدرة، وأقوى منا قوة، وأسرع فعلاً، وأحصى منا حساباً {إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له: كن فيكون} ولا رب لمن يدعى الإسلام إلا من هذه صفته، فإذا كشفنا نحن عن ذلك رد الله سبحانه الأمر على ما كان نعم لو كان الميت بيننا موضوعاً فلا يمتنع أن يأتيه الملكان ويسألاه من غير أن يشعر الحاضرون بهما، ويجيبهما من غير أن يسمع الحاضرون جوابهما. ومثال ذلك: نائمان بيننا أحدهما ينعم والآخر يعذب، ولا يسعر بذلك أحد ممن حولهما من المنتبهين، ثم إذا استيقظا أخبر كل واحد منهما عما كان فيه.

وقد قال بعض علمائنا: إن دخول الملك القبور جائز أن يكون تأويله: اطلاعه عليها وعلى أهلها. وأهلها مدركون له عن بعد من غير دخول ولا قرب. ويجوز أن يكون الملك للطافة أجزائه يتولج في خلال المقابر فيتوصل إليهم من غير نبش ويجوز أن ينبشهما ثم يعيدها الله إلى مثل حالها على وجه لا يدركها أهل الدنيا. ويجوز أن يكون الملك يدخل من تحت قبورهم من مداخل لا يهتدي الإنسان إليها. وبالجملة: فأحوال المقابر وأهلها على خلاف عادات أهل لدنيا في حياتهم فليس تنقاس أحوال الآخرة على أحوال الدنيا. وهذا مما لا خلاف فيه. ولولا خبر الصادق بذلك لم نعرف شيئاً مما هنالك. فإن قالوا: كل حديث يخالف مقتضى المعقول يقطع بتخطئة ناقله، ونحن نرى المصلوب على صلبه مدة طويلة وهو لا يسأل ولا يحيى وكذلك يشاهد الميت على سريره وهو لا يجيب سائلاً ولا يتحرك ومن افترسه السباع، ونهشه الطيور، وتفرقت أجزاؤه في أجواف الطير، وبطون

الحيتان وحواصل الطيور، وأقاصي التخوم، ومدارج الرياح، فكيف تجتمع أجزاؤه؟ أم كيف تتألف أعضاؤه؟ وكيف تتصور مساءلة الملكين لمن هذا وصفه؟ أم كيف يصير القبر على من هذا حاله روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النار؟

والجواب عن هذا من وجوه أربعة:. أحدها: أن الذي جاء بهذا هم الذين جاءوا بالصلوات الخمس وليس لنا طريق إلا ما نقلوه لنا من ذلك. الثاني: ما ذكره القاضي لسان الأمة وهو: أن المدفونين في القبور يسألون. والذين بقوا على وجه الأرض فإن الله تعالى يحجب

المكلفين عما يجري عليهم كما حجبهم عن رؤية الملائكة مع رؤية الأنبياء عليه والسلام لهم. ومن أنكر ذلك فلينكر نزول جبرائيل عليه السلام على الأنبياء عليهم السلام. وقد قال الله تعالى: في وصف الشياطين {إنه يراكم هو وقبيله من حيث لا ترونهم} . الثالث: قال بعض العلماء: لا يبعد أن ترد الحياة إلى المصلوب ونحن لا نشعر به كما أنا نحسب المغمى عليه ميتاً. وكذلك صاحب السكتة وندفنه على حسبان الموت، ومن تفرقت أجزاؤه فلا يبعد أن يخلق الله الحياة في أجزائه. قلت: ويعيده كما كان. كما فعل بالرجل الذي أمر إذا مات أن يحرق ثم يسحق ثم يذري حتى تنسفه الرياح [الحديث] وفيه: [فأمر الله البر فجمع ما فيه. وأمر البحر فجمع ما فيه. ثم قال: ما حملك على ما فعلت؟ قال: خشيتك. أو قال مخافتك] خرحه البخاري ومسلم وفي التنزيل {فخذ أربعة من الطير} الآية. الرابع: قال أبو المعالي: المرضي عندنا: أن السؤال يقع على أجزاء يعملها الله تعالى من القلب أو غيره فيحييها ويوجه السؤال عليها. وذلك غير مستحيل عقلاً.

الفصل الرابع

قال بعض علمائنا: وليس هذا بأبعد من الذر الذي أخرجه الله تعالى من صلب آدم عليه السلام وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا: بلى. الفصل الرابع فإن قالوا: ما حكم الصغار عندكم! قلنا: هم كالبالغين وأن العقل يكمل لهم ليعرفوا بذلك منزلتهم وسعادتهم ويلهمون الجواب عما يسألون عنه. وهذا ما تقتضيه ظواهر الأخبار، فقد جاء أن القبر ينضم عليه كما ينضم على الكبار. وقد تقدم. وذكر هناد بن السرى قال: حدثنا أبو معاوية عن يحيى بن سعيد عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: [إن كان ليصلى على النفوس ما أن عمل خطيئة قط فيقول: اللهم أجره من عذاب القبر] . الفصل الخامس فإن قالوا: فما تأويلكم في القبر: حفرة من النار، أو روضة من رياض الجنة؟ قلنا: ذلك محمول عندنا على الحقيقة لا على المجاز. وأن القبر يملأ على المؤمن خضراً وهو العشب من البنات، وقد عينه عبد الله بن عمرو بن العاص فقال: هو الريحان كما في حق الكافر يفرش له لوحان من نار، وقد تقدم. وقد حمله بعض علمائنا على المجاز والمراد خفة السؤال على المؤمن، وسهولته عليه وأمنه فيه، وطيب عيشه ووصفه بأنه جنة تشبيهاً

الفصل السادس

بالجنة والنعيم فيها بالرياض يقال: فلان في الجنة إذا كان في رغد من العيش وسلامة. فالمؤمن يكون في قبره في روح وراحة وطيب عيش، وقد رفع الله عن عينيه الحجاب حتى يرى مد بصره كما في الخبر، وأراده بحفرة النار ضغطة القبر وشدة المساءلة والخوف والأهول التي تكون فيها على الكفرة وبعض أهل البكائر: والله أعلم، والأول أصح لأن الله سبحانه ورسوله يقص الحق ولا استحالة في شيء من ذلك. الفصل السادس روى أبو عمر في التمهيد «عن ابن عباس قال: سمعت عمر بن الخطاب: أيها الناس إن الرجم حق فلا تخذ عن عنه. وإن آية ذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد رجم» . وأن أبا بكر قد رجم. وإنا قد رجمنا بعدهما. وسيكون أقوام من هذه الأمة يكذبون بالرجم. ويكذبون بالدجال ويكذبون بطلوع الشمس من مغربها. ويكذبونها بعذاب القبر. ويكذبون بالشفاعة، ويكذبون بقوم يخرجون من النار بعدما امتحشوا. قال علماؤنا رحمة الله عليهم: هؤلاء هم القدرية والخوارج، ومن سلك النار سبيلهم. وافترقوا في ذلك فرقاً. فصار أبو الهذيل وبشر: إلى

أن خرج عن سلمة الإيمان، فإنه يعذب بين النفختين، وأن المساءلة إنما تقع في تلك الأوقات وأثبت البلخي وكذلك الجبائي وابنه: عذاب القبر. ولكنهم نفوه عن المؤمنين وأثبتوه الكافرين والفاسقين. وقال الأكثرون من المعتزلة: لا يجوز تسمية ملائكة الله تعالى بمنكر ونكير، وإنما المنكر ما يبدو من تلجلجله إذا سئل، وتقريع الملكين له هو النكير، وقال صالح: عذاب القبر جائز، وأنه يجري على

الموتى من غير رد الأرواح إلى الأجساد، وأن الميت يجوز أن يألم ويحس ويعلم. وهذا مذهب جماعة من الكرامية. وقال بعض المعتزلة: إن الله يعذب الموتى في قبورهم، ويحدث فيهم الآلآم وهم لا يشعرون، فإذا حشروا وجدوا تلك الآلام. وزعموا أن سبيل المعذبين من الموتى، كسبيل السكران أو المغشى عليه، لو ضربوا لم يجدوا الآلام، فإذا عاد إليهم العقل وجدوا تلك الآلام، وأما الباقون من المعتزلة. مثل ضرار بن عمرو وبشر المريسي ويحيى بن كامل وغيرهم، فإنهم أنكروا عذاب القبر أصلاً، وقالوا: إن من مات فهو ميت في قبره إلى يوم البعث وهذه أقوال كلها فاسدة تردها الأخبار الثابتة وفي التنزيل: {النار يعرضون عليها غدواً وعشياً} . وسيأتي من الأخبار مزيد بيان، وبالله التوفيق والعصمة والله أعلم.

باب ما جاء في صفة الملكين صلوات الله عليهما وصفة سؤالهما

باب ما جاء في صفة الملكين صلوات الله عليهما وصفة سؤالهما قد تقدم من حديث الترمذي: أنهما أسودان أزرقان. يقال لأحدهما: منكر، وللآخر: النكير، «وروى معمر عن عمرو بن دينار وعن سعد بن إبراهيم عن عطاء ابن يسار أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعمر: كيف بك يا عمر إذا جاءك منكر ونكير إذا مت وانطلق بك إلى قومك وقاسوا ثلاثة أذراع وشبر في ذارع وشبر، ثم غسلوك وكفوك وحنطوك، ثم احتملوك فوضعوك فيه، ثم أهالوا عليك التراب؟ فإذا انصرفوا عنك أتاك فتانا القبر: منكر ونكير أصواتهما كالرعد القاصف وأبصارهما كالبرق الخاطف، يجران شعورهما. معهما مزربة من حديد لو اجتمع عليها أهل الأرض لم يقلوها فقال عمر: يا رسول الله إن فرقنا فحق لنا أن نفرق أنبعث على ما نحن عليه؟ قال: نعم قال: إذا أكفيكهما» . وروى نقلة الأخبار «عن ابن عباس في خبر الإسراء: أن النبي صلى الله عليه وسلم

قال: قلت: يا جبريل وما ذاك؟ قال: منكر ونكير يأتيان كل إنسان من البشر حين يوضع في قبره وحيداً فقلت: يا جبريل صفهما لي. قال: نعم من غير أن أذكر لك طولهما وعرضهما. ذكر ذلك منهما أفظع من ذلك غير أن أصواتهما كالرعد القاصف، وأعينهما كالبرق الخاطف، وأنيابهما كالصياصي، يخرج لهب النار من أفوامهما، ومناخرهما ومسامعهما، يكسحان الأرض بأشعارها، ويحفران الأرض بأظفارهما مع كل واحد منهما عمود من حديد، لو اجتمع عليه من في الأرض ما حركوه يأتيان الإنسان إذا وضع في قبره وترك وحيداً يسلكان روحه في جسده بإذن الله تعالى ثم يقعدانه في قبره فيتنهرانه انتهاراً يتقعقع منه عظامه وتزول أعضاؤه من مفاصله فيخر مغشياً عليه. ثم يقعدانه فيقولان له: إنك في البرزخ فاعقل حالك، واعرف مكانك، وينتهرانه ثانية. ويقولان: يا هذا ذهبت عنك الدنيا وأفضيت إلى معادك فأخبرنا من ربك؟ وما دينك؟ ومن نبيك؟ فإن كان مؤمناً بالله لقنه الله حجته فيقول: الله ربي ونبيي محمد، وديني الإسلام، فينتهرانه عند ذلك انتهاراً يرى أن أوصافه تفرقت وعروقه قد تقطعت ويقولان له: يا هذا انظر ما تقول فيثبته الله عنه بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة ويلقنه الأمان ويدرأ عنه الفزع، فلا يخافهما، فإذا فعل ذلك بعبده المؤمن استأنس إليهما

وأقبل عليهما بالخصومة يخاصمهما ويقول: تهدداني كيما أشك في ربي وتريداني أن أتخذ غيره ولياً وأنا أشهد أن لا إله إلا الله. وهو ربي وربكما. ورب كل شيء ونبيي محمد وديني الإسلام؟ ثم ينتهرانه ويسألانه عن ذلك فيقول: ربي الله فاطر السموات والأرض، إياه كنت أعبد ولم أشرك به شيئاً ولم أتخذ غيره أحداً رباً. أفتريدان أن ترداني عن معرفة ربي وعبادتي إياه؟ نعم هو الله الذي لا إله إلا هو. قال: فإذا قال ذلك ثلاث مرات مجاوبة لهما تواضعا له حتى يستأنس إليهما أنس ما كان في الدنيا إلى أهل وده ويضحكان إليه ويقولان له: صدقت وبررت أقر الله عينيك وثبتك، أبشر بالجنة وبكرامة الله ثم يدفع عنه قبره هكذا وهكذا فيتسع عليه مد البصر ويفتحان له باباً إلى الجنة فيدخل عليه من روح الجنة وطيب ريحها ونضرتها في قبره ما يتعرف به كرامة الله تعالى، فإذا رأى ذلك استيقن بالفور فحمد الله، ثم يفرشان له فراشاً من إستبرق الجنة ويضعان له مصباحاً من نور عند رأسه ومصباحاً من نور عند رجليه يزهران في قبره، ثم ندخل عليه ريح أخرى، فحين يشمها يغشاه النعاس فينام فيقولان له: ارقد رقدة العروس قرير العين لا خوف عليك ولا حزن. ثم يمثلان عمله الصالح في أحسن ما يرى من صورة، وأطيب ريح فيكون عند رأسه، ويقولان: هذا عملك وكلامك الطيب قد مثله الله لك في أحسن ما ترى من صورة وأطيب ريح ليؤنسك في قبرك فلا تكون وحيداً ويدرأ عنك هوام الأرض وكل دابة وكل أذى فلا يخذلك في قبرك ولا في شيء من

مواطن القيامة حتى تدخل الجنة برحمة الله تعالى. فنم سعيداً طوبى لك وحسن مآب. ثم يسلمان عليه ويطيران عنه» وذكر الحديث وما يلقة الكافر من الهوان الشديد والعذاب الأليم وحسبك بما تقدم. قلت: وهذا الحديث وإن كان في إسناده مقال لأنه يروى عن عمرو بن سليمان عن الضحاك بن مزاحم، فهو حديث مرتب على أحوال مبنية ومحتو على أمورمفسرة. فصل: قوله: «أتاك فتانا القبر منكر ونكير» . إنما سميا فتاني القبر لأن في سؤالهما انتهاراً. وفي خلقهما صعوبة. ألا ترى أنهما سميا منكراً ونكيراً؟ فإنما سميا بذلك لأن خلقهما لا يشبه خلق الأدميين، ولا خلق الملائكة، ولا خلق الطير، ولا خلق البهائم، ولا خلق الهوام، بل هما خلق بديع وليس في خلقتهما أنس للناظرين إليهما، جعلهما الله تكرمة للمؤمن يثبته

وينصره وهتكاً لستر المنافق في البرزخ من قبل أن يبعث حتى يحل عليه العذاب. قاله أبو عبد الله الترمذي. فصل: إن قال قائل: كيف يخاطب الملكان جميع الموتى وهم مختلفوا الأماكن متباعدو القبور في الوقت الواحد. والجسم الواحد لا يكون في المكانين في الوقت الواحد وكيف تنقلب الأعمال أشخاصاً وهي في نفسها أعراض؟ . فالجواب عن الأول: ما جرى ذكره في هذا الخبر من عظم جثتيهما فيخاطبان الخلق الكثير الذين في الجهة الواحدة منهم في المرة الواحدة: مخاطبة واحدة، يخيل لكل واحد أن المخاطب هو دون من سواه. ويكون الله يمنع سمعه من مخاطبة الموتى لهما ويسمع هو مخاطبتهما أن لو كانوا معه في قبر واحد، وقد تقدم أن عذاب القبر يسمعه كل شيء إلا الثقلين. والله سبحانه وتعالى يسمع من يشاء وهو على كل شيء قدير. والجواب عن الثاني: أن الله يخلق من ثواب الأعمال أشخاصاً حسنة وقبيحة. لا أن العرض نفسه ينقلب جوهراً إذ ليس من قبيل الجواهر. ومثل هذا ما صح في الحديث: «أنه يؤتى بالموت كأنه كبش أملح

باب اختلاف الآثار في سعة القبر على المؤمنين بالنسبة إلى أعمالهم

فيوقف على الصراط فيذبح» ومحال أن ينقلب الموت كبشاً لأن الموت عرض وإنما المعنى أن الله سبحانه يخلق شخصاً يسميه الموت فيذبح بين الجنة والنار. وهكذا كلما ورد عليك في هذا الباب التأويل فيه ما ذكرت لك. والله سبحانه أعلم. وسيأتي له مزيد بيان إن شاء الله تعالى. باب اختلاف الآثار في سعة القبر على المؤمنين بالنسبة إلى أعمالهم جاء في حديث البخاري ومسلم: «أنه يفسح له سبعون ذراعاً»

وفي الترمذي: «سبعون ذراعاً في سبعين ذراعاً» . وفي حديث البراء: «مد البصر» وخرج علي بن معبد عن معاذة قالت: قلت لعائشة رضي الله عنها: ألا تخبريننا عن مقبورنا ما يلقى وما يصنع به؟ فقالت: إن كان مؤمناً فسح له في قبره أربعون ذراعاً. قلت: وهذا إنما يكون بعد ضيق والسؤال. وأما الكافر فلا يزال قبره عليه ضيقاً. فنسأل الله العفو والعافية في الدنيا والآخرة. سمعت بعض علمائنا يقول: إن حفاراً كان بقرافة مصر يحفر القبور، فحفر ثلاثة أقبر فلما فرغ منها غشيه النعاس. فرأى فيما يرى النائم ملكين نزلا فوقفت على أحد الأقبر. فقال أحدهما لصاحبه: اكتب فرسخاً في فرسخ. ثم وقفا على الثاني: فقال أحدهما لصاحبه: اكتب فرسخاً في فرسخ. ثم وقفا على الثاني: اكتب ميلاً في ميل. ثم وقفا على الثالث، فقال: اكتب فتراً في فتر. ثم انتبه فجيء برجل غريب لا يؤبه له فدفن في القبر الأول. ثم جيء برجل آخر فدفن في القبر الثاني. ثم جيء بامرأة مترفة من وجوه أهل البلد حولها ناس كثير فدفنت في القبر الضيق الذي سعته فتراً في فتر. الفتر: ما بين الإبهام والسبابة. نعوذ بالله من ضيق القبر وعذابه.

باب ما جاء في عذاب القبر وأنه حق وفي اختلاف عذاب الكافرين وفي قبورهم وضيقها عليهم

باب ما جاء في عذاب القبر وأنه حق وفي اختلاف عذاب الكافرين وفي قبورهم وضيقها عليهم قال الله تعالى: {ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكاً} قال أبو سعيد الخدري وعبد الله بن مسعود: ضنكاً. قال: عذاب القبر. وقيل في قوله عز وجل: {وإن للذين ظلموا عذاباً دون ذلك} هو: عذاب القبر لأن الله ذكره عقب قوله {فذرهم حتى يلاقوا يومهم الذي فيه يصعقون} وهذا اليوم هو اليوم الآخر من أيام الدنيا، فدل على أن العذاب الذي هم فيه هو عذاب القبر وكذلك قال: {ولكن أكثرهم لا يعلمون} لأنه غيب. وقال: {وحاق بآل فرعون سوء العذاب * النار يعرضون عليها غدواً وعشياً} فهذا عذاب القبر في البرزخ وسيأي. وقال ابن عباس فس قوله تعالى: {كلا سوف تعلمون} ما ينزل فيكم من العذاب في القبر {ثم كلا سوف تعلمون} : في الآخرة إذا حل بكم العذاب فالأول في القبر، والثاني في الآخرة فالتكرير للحالتين. وروى زر بن حبيش عن علي رضي الله عنه قال كنا نشك في عذاب القبر حتى نزلت هذه السورة {ألهاكم التكاثر * حتى زرتم المقابر * كلا سوف تعلمون} يعني في القبور.

وقال أبو هريرة: يضيق على الكافر قبره حتى تختلف فيهأضلاعه، وهو المعيشة الضنك. وروى أبي هريرة «عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أتدرون فيمن نزلت هذه الآية؟ {فإن له معيشة ضنكاً ونحشره يوم القيامة أعمى} أتدرون ما المعيشة الضنك؟ قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: عذاب الكافر في القبر، والذي نفسي بيده إنه ليسلط عليه تسعة وتسعون تنيناً. أتدرون ما التنين؟ تسعة وتسعون حية لكل حية تسعة أرؤس ينفخن في جسمه، ويلسعنه ويخدشنه إلى يوم القيامة ويحشر من قبره إلى موقفه أعمى» . وذكر أبو بكر بن أبي شيبة «عن أبي سعيد الخدري قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: يسلط على الكافر في قبره تسعة وتسعون تنيناً تنهشه وتلدغه حتى تقوم الساعة ولو أن واحداً منها نفخ في الأرض ما أنبتت خضراً»

وفي حديث عبد الله بن عمرو بن العاص موقوفاً: «ثم يؤمر به يعني الكافر فيضيق عليه قبره ويرسل عليه حيات كأمثال أعناق البخت فتأكل لحمه حتى لا تذر على عظمه لحماً وترسل عليه ملائكة صم عمي يضربونه بفطاطيس» الحديث وقد تقدم. فصل: لا تظن ـ رحمك الله ـ أن هذا معارض للحديث المرفوع: «أنه يسلط على الكافر أعمى أصم» فإن أحوال الكفار تختلف. فمنهم من يتولى عقوبته واحد. ومنهم من يتولى عقوبته جماعة. وكذلك لا تناقض بين هذا وبين أكل الحيات لحمه، فإنه يمكن أن يتردد بين هذين العذابين كما قال تعالى: {هذه جهنم التي يكذب بها المجرمون * يطوفون بينها وبين حميم آن} فمرة يطعمون الزقوم، وأخرى يسقون الحميم ومرة يعرضون على النار، وأخرى على الزمهرير. أجارنا الله من عذاب القبر، ومن عذاب النار برحمته وكرامته. وآخر يفرش له لوحان من نار. وآخر يقال له: نم نومة المنهوس. كما أخرجه علي بن معبد عن أبي حازم عن أبي هريرة موقوفاً قال: «إذا وضع الميت في قبره أتاه آت من ربه فيقول له: من ربك؟ فإن كان من أهل التثبيت ثبت. وقال: الله

ربي. ثم يقال له مادينك؟ فيقول الإسلام. فيقول: من نبيك؟ فيقول محمد صلى الله عليه وسلم فيرى بشراه ويبشر. فيقول دعوني أرجع إلى أهلي فأبشرهم فيقال له: نم قرير العين إن لك إخواناً لم يلحقوا. وإن كان من غير أهل الحق والتثبيت قيل له: من ربك؟ فيقول: هاه، كالوا له، ثم يضرب بمطراق يسمع صوته الخلق إلا الجن والإنس. ويقال له: نم كنومة المنهوس» . قال أهل اللغة: المنهوس بالسين المهملة: الملسوع نهسته الحية تنهسه. قال الراجز: وذات قرنين طحون الضرس ... تنهس لو تمكنت من نهس تدير عيناً كشهاب القبس والمنهوس مرة ينتبه لشدة الألم عليه. ومرة ينام كالمغمى عليه قال النابغة: فبت كأني ساورتني ضئيلة ... من الرقش في أنيابها السم ناقع

باب منه في عذاب الكافر في قبره

تسهد من ليل التمام سليمها ... كحلى النساء في يديه قعاقع يبادرها الراقون من سوء سمها ... تطلقه طوراً وطوراً تراجع باب منه في عذاب الكافر في قبره ذكر الوائلي الحافظ في كتاب الإبانة له، من حديث مالك بن مغول «عن نافع عن ابن عمر. قال: بينا أنا أسير بجنبات بدر إذ خرج رجل من الأرض في عنقه سلسلة يمسك طرفها أسود. فقال يا عبد الله اسقني، فقال ابن عمر: لا أدري أعرف اسمي أو كما يقول الرجل: يا عبد الله؟ فقال لي الأسود: لا تسقه فإنه كافر. ثم اجتذبه فدخل به الأرض. قال ابن عمر: فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته فقال: أو قد رأيته؟ ذاك عدو الله أبو جهل بن هشام. وهو عذابه إلى يوم القيامة» . باب ما يكون منه عذاب القبر واختلاف أحوال العصاة فيه بحسب اختلاف معاصيهم ابو بكر بن أبي شيبة عن «أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: أكثر عذاب القبر من البول» .

البخاري ومسلم عن «ابن عباس قال: مر النبي صلى الله عليه وسلم على قبرين فقال: إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير. أما أحدهما فكان يمشي بالنميمة. وأما الآخر فكان لا يستنزه من بوله فدعا بعسيب رطب فشقه باثنين ثم غرس على هذا واحداً وعلى هذا واحداً، ثم قال: لعله يخفف عنهما ما لم ييبسا» وفي رواية «كان لا يستنزه عن البول أو من البول» رواهما مسلم. وفي كتاب أبي داود: «وكان لا يستنثر من بوله» وفي حديث هناد بن السري «لا يستبرئ من البول» من الاستبراء. وقال البخاري: «وما يعذبان في كبير وإنه لكبير» . وأخرجه أبو داود الطيالسي عن «أبي بكرة قال: بينما أنا أمشي

مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعي رجل ورسول الله صلى الله عليه وسلم بيننا. إذ أتى على قبرين. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن صاحبي هذين القبرين ليعذبان الآن في قبورهما فأيكما يأتيني من هذا النخل بعسيب؟ فاستبقت أنا وصاحبي فسبقته وكسرت من النخل عسيباً. فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فشقه نصفين من أعلاه فوضع على إحداهما نصفاً وعلى الآخر نصفاً. وقال: إنه يهون عليهما ما دام من بلولتهما شيء إنهما يعذبان في الغيبة والبول» . قال المؤلف: هذا الحديث والذي قبله يدل على التخفيف إنما هو بمجرد نصف العسيب ما دام رطباً ولا زيادة معه. وقد خرجه مسلم من «حديث جابر الطويل، وفيه: فلما انتهى إلي قال: يا جابر هل رأيت مقامي؟ قلت نعم يا رسول الله. قال: فاطلق إلى الشجرتين فاقطع من كل واحدة منهما غصناً، فأقبل بهما حتى إذا قمت مقامي فأرسل غصناً عن يمينك وغصناً عن يسارك، قال جابر: فقمت فأخذت حجراً فكسرته وحسرته فاندلق لي فأتيت الشجرتين فقطعت من كل واحدة منهما غصناً، ثم أقبلت أجرهما حتى قمت مقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فأرسلت غصناً عن يميني، وغصناً عن يساري، ثم لحقته فقلت: قد فعلت ذلك يا رسول الله فعند ذاك قال: إني مررت بقبرين يعذبان فأحببت بشفاعتي أن يرفه عنهما. ما دام الغصنان رطبين» .

ففي هذا الحديث زيادة على رطوبة الغصن وهي: شفاعته صلى الله عليه وسلم، والذي يظهر لي أنهما قضيتان مختلفتان لا قضية واحدة كما قال من تكلم على ذلك ويدل عليهما سياق الحديث، فإن في حديث ابن عباس عسيباً واحداً شقه النبي صلى الله عليه وسلم بيده نصفين أبي هريرة غرسهما بيده وحديث جابر بخلافهما ولم يذكر فيه ما يعذب بسببه. وقد خرج أبو داود الطيالسي حديث ابن عباس: فقال: «حدثنا شعبة، عن الأعمش، عن مجاهد، عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى على قبرين فقال: إنهما ليذبان في غير كبير، أما أحدهما فكان يأكل لحوم الناس، وأما الآخر فكان صاحب نميمة ثم دعا بجريدة فشقها نصفين فوضع نصفاً على هذا القبر، ونصفاً على هذا القبر. وقال: عسى أن يخفف عنهما ما دامتا رطبتين» ثم قيل: يجوز أن يكونا كافرين، وقوله: «إنهما ليعذبان في غير كبير» يريد بالإضافة إلى الكفر والشرك وأما إن كانا مؤمنين فقد أخبرك أنهما يعذبان بشيء كان منهما ليس بكفر لكنهما لم يتوبا منه، وإن كانا كافرين فهما يعذبان في هذين الذنبين زيادة على عذابهما في كفرهما وتكذيبهما وجميع خطاياهما. وإن يكونا كافرين أظهر والله أعلم. فإنهما لو كانا

مؤمنين لعلما قرب العهد بتدافن المسلمين يومئذ. قاله ابن برجان في كتاب الإرشاد الهادي إلى التوفيق والسداد. قلت: والأظهر أنهما كانا مؤمنين وهو ظاهر الأحاديث والله أعلم. الطحاوي عن «ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: أمر بعبد من عباد الله عز وجل أن يعذب في قبره مائة جلدة فلم يزل يسأل الله تعالى ويدعوه حتى صارت واحدة فامتلأ قبره عيه ناراً، فلما ارتفع عنه أفاق فقال: لماذاجلدتموني؟ قال إنك صليت صلاة بغير طهور، ومررت على مظلوم فلم تنصره» . البخاري «عن سمرة بن جندب قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا صلى صلاة أقبل علينا بوجهه. فقال: من رأى منكم الليلة رؤياً؟ قال: فإن رأى أحد رؤيا قصها فيقول: ما شاء الله فسألنا يوماً. فقال: هل رأى أحدكم رؤيا؟ قلنا: لا. قال: لكني رأيت الليلة رجلين أتياني فأخذا بيدي فأخرجاني إلى الأرض المقدسة، فإذا رجل جالس ورجل قائم بيده كلوب من حديد يدخله في شدقه حتى يبلغ قفاه، ثم يفعل يشدقه الآخر مثل ذلك ويلتئم شدقه هذا

فيعود فيصنع مثله. قلت: ما هذا؟ قالا: انطلق، فانطلقنا حتى أتينا على رجل مضطجع على قفاه، ورجل قائم على رأسه بفهر أو صخرة فيشدخ بها رأسه، فإذا ضربه تدهده الحجر فانطلق ليأخذه فما يرجع إلى هذا حتى يلتئم رأسه وعاد رأسه كما هو فعاد إليه فضربه. قلت: ما هذا؟ قالا: انطلق فانطلقنا إلى ثقب مثل التنور أعلاه ضيق وأسفله واسع يتوقد تحته ناراً، فإذا اقترب ارتفعوا حتى كادوا أن يخرجوا، فإذا خمدت رجعوا فيها. وفيها رجال ونساء عراة. فقلت: ما هذا؟ قالا: انطلق فانطلقنا حتى أتينا على نهر من دم فيه رجل قائم وعلى شط النهر رجل بين يديه حجارة فأقبل الرجل الذي في النهر فإذا أراد أن يخرج رمى الرجل بحجر في فيه فرده حيث كان. فجعل كلما جاء ليخرج رمى في فيه بحجر فيرجع كما كان. فقلت: ما هذا؟ قالا: انطلق فانطلقنا، حتى انتهينا إلى روضة خضراء فيها شجرة عظيمة وفي أصلها شيخ وصبيان. وإذا رجل قريب من الشجرة بين يديه نار يوقدها فصعدا بي الشجرة وأدخلاني داراً لم أر قط أحسن منها فيها شيوخ وشباب ونساء وصبيان، ثم أخرجاني منها فصعدا بي الشجرة فأدخلاني داراً هي أحسن وأفضل. فيها شيوخ وشباب قلت: طوفتماني الليلة فأخبراني عما رأيت. قالا: نعم. الذي رأيت يشق شدقه: فكذاب يحدث بالكذب فتحمل منه حتى تبلغ الآفاق فيصنع به إلى يوم القيامة. والذي رأيته يشدخ رأسه:

فرجل علمه الله القرآن فنام عنه بالليل ولم يعمل فيه بالنهار. يفعل به إلى يوم القيامة، وأما الذين رأيتهم في الثقب. قهم الزناة، والذي رأيته في النهار آكل الربا. والشيخ في أصل الشجرة: إبراهيم. والصبيان حوله: فأولاد الناس. والذي يوقد النار: مالك خازن النار، والدار الأولى: دار عامة المؤمنين. وأما هذه الدار: فدار الشهداء، وأنا جبريل، وهذا ميكائيل فارفع رأسك فرفعت رأسي، فإذا فوقي مثل السحاب قالا: ذلك منزلك، فقلت: دعاني أدخل منزلي. قال: إنه بقي لك عمر، لم تستكمله فلو استكملته أتيت منزلك» . فصل: قال علماؤنا رحمة الله عليه: لا أبين في أحوال المعذبين في قبورهم من حديث البخاري، وإن كان مناماً فمنامات الأنبياء عليهم السلام وحي بديل قول إبراهيم عليه السلام: {يا بني إني أرى في المنام أني أذبحك} فأجابه ابنه: {يا أبت افعل ما تؤمر} وأما حديث الطحاوي فنص أيضاً، وفيه رد على الخوارج ومن يكفر بالذنوب. قال الطحاوي: وفيه يدل على ان تارك الصلاة ليس بكافر، لأن من صلى صلاة بغير طهور: فلم يصل، وقد أحببت دعوته. ولو كان

كافراً ما سمعت دعوته لأن الله عز وجل يقول: {وما دعاء الكافرين إلا في ضلال} وأما حديث البخاري ومسلم فيدل على الاستبراء من البول والتنزه عنه: واجب، إذ لا يعذب الإنسان إلا على ترك الواجب، وكذلك إزالة جميع النجاسات قياساً على البول، وهذا قول أكثر العلماء، وبه قال ابن وهب ورواه عن مالك وهو الصحيح في الباب، ومن صلى ولم يستنثر فقد صلى بغير طهور. تنبيه على غلط: ذكر بعض أصحابنا ـ فيما نقل إلينا عنه ـ أن القبر الذي غرس عليه النبي صلى الله عليه وسلم العسيب، هو قبر سعد بن معاذ، وهذا باطل، وإنما صح أن القبر ضغطه كما ذكرنا ثم فرج عنه، وكان سبب ذلك ما رواه «يونس بن بكير عن محمد بن إسحاق قال: حدثني أمية بن عبد الله أنه سأل بعض أهل سعد: ما بلغكم في قول رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا؟ قال ذكر لنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن ذلك فقال: كان يقصر في بعض الطهور من البول» وذكر هناد بن السري، «حدثنا ابن فضيل عن أبي سفيان عن الحسن قال:

أصاب سعد بن معاذ جراحة فجعله النبي صلى الله عليه وسلم عند امرأة تداويه، فقال إنه مات من الليلة فأتاه جبريل فأخبره: لقد مات الليلة فيكم رجل لقد اهتز العرش لحب لقاء الله إياه، فإذا هو سعد بن معاذ قال قال: فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم في قبره فجعل يكبر ويهلل ويسبح، فلما خرج قيل له: يا رسول الله ما رأيناك صنعت هكذا قط. قال: إنه ضم في القبر ضمة حتى صار مثل الشعرة فدعوت الله تعالى أن يرفه عنه وذلك أنه كان لا يستبرىء من البول» . وقال السالمي أبو محمد عبد الغالب في كتابه، وأما أخبار في عذاب القبر فبالغه مبلغ الاستفاضة منها قوله صلى الله عليه وسلم في سعد بن معاذ: «لقد ضغطته الأرض اختلفت لها ضلوعه» قال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضي عنهم:

فلم ننقم من أمره شيئاً إلا أنه كان لا يستنزه في أسفاره من البول. قلت: فقوله صلى الله عليه وسلم: «ثم فرج عنه» دليل على أنه جوزي على ذلك التقصير منه لا أنه يعذب بعد ذلك في قبره، هذا لا يقوله أحد إلا شاك مرتاب في فضله وفضيلته ونصحه ونصيحته رضي الله عنه. أترى من اهتز له عرش الرحمن، وتلقت روحه الملائكة الكرام فرحين بقدومها عليهم، ومستبشرين بوصولها إليهم. يعذب في قبره بعدما فرج عنه؟ هيهات هيهات.. لا يظن ذلك إلا جاهل بحقه غبي بفضيلته وفضله، رضي الله عنه وأرضاه، وكيف يظن ذلك وفضائله شهيرة، ومناقبه كثيرة! خرجها البخاري ومسلم وغيرهما. وهو الذي أصاب حكم الرحمن في بني قريظة من فوق سبع سموات، أخبر بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم في البخاري ومسلم وغيرهما. باب منه البيهقي «عن الربيع بن أنس عن أبي العالية، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الآية {سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً من المسجد الحرام} الآية قال: أتي بفرس فحمل عليه. قال: كل خطوة منهى أقصى بصره، فسار

وسار معه جبريل فأتى على قوم يزرعون في كل يوم ويحصدون في كل يوم كلما حصدوا عاد كما كان فقال يا جبريل من هؤلاء؟ فقال المهاجرون في سبيل الله تضاعف لهم الحسنة بسبعمائة ضعف {وما أنفقتم من شيء فهو يخلفه وهو خير الرازقين} ثم أتى على قوم ترضخ رؤوسهم بالصخر كلما رضخت عادت كما كانت لا يفتر عنهم شيء من ذلك. فقال: يا جبريل من هؤلاء! قال: هؤلاء الذين تتثاقل رؤوسهم عن الصلاة. قال: ثم أتى على قوم على أقبالهم رقاع، وعلى أدبارهم رقاع يسرحون كما تسرح الأنعام الضريع والزقوم ورضف جهنم وحجارتها. قال: ما هؤلاء يا جبريل: قال: هؤلاء الذين لا يؤدون صدقات أموالهم وما ظلمهم الله وما الله بظلام للعبيد، ثم أتى على قوم بين أياديهم لحم في قدر نضيج، ولحم آخر خبيث فجعلوا يأكلون من الخبيث ويدعون النضيج الطيب، فقال ياجبريل: من هؤلاء؟ قال هذا الرجل يقوم وعنده امرأة حلالاً طيباً فياتي المرأة الخبيثة فيبيت معها حتى يصبح. ثم أتى على خشبة على الطريق لا يمر به شيء إلا قصفته. قلت: ما هذا يا جبريل؟ قال يقول الله عز وجل {ولا تقعدوا بكل صراط توعدون} ثم مر على رجل قد جمع حزمة عظيمة لا يستطيع حملها وهو يريد أن يزيد عليها. قال يا جبريل: ما هذا؟ قال: هذا رجل من أمتك عليه أمانة لا يستطيع أداءها وهو يزيد عليها. ثم أتى على قوم تقرض شفاههم بمقاريض من حديد كلما قرضت عادت كما كانت ولا يفتر عنهم شيء من

ذلك. قال: يا جبريل من هؤلاء؟ قال: هؤلاء خطباء الفتنة، ثم أتى على حجر صغير يخرج منه ثور عظيم، فجعل الثور يريد أن يدخل من حيث خرج ولا يستطيع قال: ما هذا يا جبريل؟ قال: هذا الرجل يتكلم الكلمة فيندم عليها فيريد أن يردها فلا يستطيع» . وذكر الحديث. وخرج «من حديث أبي هارون العبدي، عن أبي سعيد الخدري، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال له أصحابه: يا رسول الله أخبرنا عن ليلة أسري بك [الحديث] وفيه قال: فصعدت أنا وجبريل فإذا بملك يقال له اسماعيل وهو صاحب سماء الدنيا: وبين يديه سبعون ألف ملك مع كل ملك جنده مائة ألف ملك قال: وقال الله تعالى: {وما يعلم جنود ربك إلا هو} فاستفتح جبريل. ثم قال: فإذا أنا بآدم كهيئة يوم خلقه الله على صورته تعرض عليه أرواح ذريته المؤمنين فيقول روح طيبة، ونفس طيبة، اجعلوها في عليين، ثم تعرض عليه أرواح ذريته الكافرين فيقول: روح خبيثة، اجعلوها في سجين، ثم مضت هنيهة فإذا أنا بأخونة ـ يعني بالخوان المائدة التي يؤكل عليها ـ وعليها لحم مشرح ليس يقربها أحد، وإذا أنا بأخوانة

أخرى عليها لحم قد أروح وأنتن، عندها ناس يأكلون منها. قلت يا جبريل من هؤلاء؟ قال: هؤلاء من أمتك يتركون الحلال ويأتون الحرام قال: ثم مضيت هنيهة فإذا أنا بأقوام بطونهم أمثال البيوت كلما نهض أحدهم خر يقول: اللهم لا تقم الساعة. قال: وهم على سابلة آل فرعون قال فتجيء السابلة فتطؤهم قال: فسمعتهم يضجون إلى الله عز وجل. قلت: يا جبريل من هؤلاء؟ قال: هؤلاء من أمتك {الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس} قال: ثم مضيت هنيهة. فإذا أنا بأقوام مشافرهم كمشافر الإبل. قال: فيفتح على أفواههم ويلقمون ذلك الجمر، ثم يخرج من أسافلهم فسمعتهم يضجون إلى الله عز وجل قلت: يا جبريل نت هؤلاء؟ قال: هؤلاء من أمتك {إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون في بطونهم ناراً وسيصلون سعيراً} قال: ثم مضيت هنيهة فإذا أنا بنساء معلقات بثديهن فسمعتهن يضججن إلى الله عز وجل قلت: ياجبريل من هؤلاء النساء؟ قال: هؤلاء الزناة من أمتك. قال: ثم مضيت هنيهة. فإذا أنا بقوم يقطع من جنوبهم اللحم قيلقمون. فيقال له: كل ما كنت تأكل من لحم أخيك. قلت: يا حبريل من هؤلاء؟ قال: هؤلاء الهمازون اللمازون من أمتك» . وذكر الحديث. وذكر أبو داود «عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لما عرج بي مررت بقوم لهم أظفار من نحاس يخمشون وجوههم وصدورهم.

باب ماجاء في بشرى المؤمن في قبره

فقلت: من هؤلاء يا جبريل؟ قال: الذين يأكلون لحوم الناس ويقعون في أعراضهم» . باب ماجاء في بشرى المؤمن في قبره قال كعب الأحبار: إذا وضع العبد الصالح في قبره احتوشته أعماله الصالحة فتجيء ملائكة العذاب من قبل رجليه: قتقول الصلاة: إليكم عنه، قيأتون من قبل رأسه. فيقول الصيام: لا سبيل لكم عليه. فقد أطال ظمأه لله عز وجل في دار الدنيا، فيأتون من قبل جسمه. فيقول الحج والجهاد: إليكم عنه، فقد أنصب نفسه وأتعب بدنه وحج وجاهد لله عز وجل. لا سبيل لكم عليه. فيأتون من قبل يديه، فتقول الصدقة: كفوا عن صاحبي فكم من صدقة خرجت من هاتين اليدين، حتى وقعت في يد الله عز وجل ابتغاء لوجهه، فلا سبيل لكم عليه. قال: فيقال له: نم هنيئاً، طبت حياً وطبت ميتاً. قلت: هذا لمن أخلص في عمله وصدق الله في قوله وفعله وأحسن نيته له في سره وجهره، فهو الذي تكون أعماله حجة له، ودافعة عنه، فلا تعارض بين هذا الباب، وبين ما تقدم من الأبواب. فإن الناس مختلفو الحال في خلوص الأعمال. والله أعلم. باب ما جاء في التعوذ من عذاب القبر وفتنته النسائي «عن عائشة رضي الله عنها قالت: دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم وعندي امرأة

باب ما جاء أن البهائم تسمع عذاب القبر

من اليهود. وهي تقول: إنكم تفتنون في القبور. فارتاع رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: إنما يفتن يهود قال عائشة: فلبثنا ليالي. ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هل شعرت أنه أوحى إلي : أنكم تفتنون في القبور؟ قال عائشة: فسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يستعيذ من عذاب القبر» . ورورى الأئمة «عن أسماء عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: وإنه قد أوحي إلي أنكم تفتنون في القبور قريباً، أو مثل فتنة الدجال لا أدري أي ذلك؟ قالت أسماء: يؤتى بأحدكم فيقال له: ما علمك بهذا الرجل؟ فأما المؤمن أو الموقن فيقول: هو محمد رسول الله جاءنا بالبينات والهدى فأجبنا وأطعنا، ثلاث مرات. ثم يقال له: نم قد نعلم إنك لتؤمن به فنم صالحاً. وأما المنافق أو المرتاب فيقول: لا أدري أي ذلك؟ قالت أسماء: فيقول: لا أدري سمعت الناس يقولون شيئاً فقلت» لفظ مسلم. وخرج البخاري «عن أبي هريرة قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو: اللهم إني أعوذ بك من عذاب القبر. ومن عذاب النار ومن فتنة المحيا والممات. ومن فتنة المسيح الدجال» والأحاديث في هذا المعنى كثيرة جداً أخرجها الأثبات الثقات. باب ما جاء أن البهائم تسمع عذاب القبر مسلم «عن زيد بن ثابت قال: بينما النبي صلى الله عليه وسلم في حائط لبني

النجار على بغلة له ونحن معه إذ جاء به فكادت تلقيه. وإذا أقبر ستة أو خمسة أو أربعة كذا كان الحريري يقول. فقال من يعرف أصحاب هذه الأقبر؟ فقال رجل: أنا. قال: فمتى مات هؤلاء؟ قال ماتوا في الإشراك. فقال: إن هذه الأمة تبتلى في قبورها فلولا أن لا تدافنوا لدعوت الله أن يسمعكم من عذاب القبر الذي أسمع» . وخرج أيضاً «عن عائشة رضي الله عنها أنه قالت: دخلت علي عجوزان من عجائز يهود المدينة فقالتا: إن أهل القبور يعذبون في قبورهم. قالت فكذبتهما ولم أنعم أن أصدقهما. فخرجتا ودخل على رسول الله. فقلت: يا رسول الله إن عجوزين من عجائز يهود المدينة قالتا: إن أهل القبور يعذبون في قبورهم. قال النبي صلى الله عليه وسلم صدقتا إنهم يعذبون عذاباً تسمعه البهائم، قالت: فما رأيته بعد في صلاة إلا يتعوذ من عذاب القبر» خرجه البخاري أيضاً وقال: «تسمعه البهائم كلها» ، وخرج هناد بن السري في زهده، «حدثنا وكيع، عن الأعمش، عن شفيق، عن عائشة رضي الله عنها قالت: دخلت علي يهودية فذكرت عذاب القبر فكذبتها. فدخل النبي صلى الله عليه وسلم علي فذكرت ذلك له، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: والذي نفسي بيده إنهم ليعذبون في قبورهم حتى تسمع البهائم أصواتهم» .

فصل: قال علماؤنا: وإنما حادت به البغلة لما سمعت من صوت المعذبين وإنما لم يسمعه من يعقل من الجن والإنس لقوله عليه الصلاة والسلام: «لولا أن لا تدافنوا» الحديث. فكتمه الله سبحانه عنا حتى نتدافن بحكمته الإلهية ولطائفه الربانية لغلبة الخوف عند سماعه، فلا نقدر على القرب من القبر للدفن أو يهلك الحي عند سماعه. إذ لا يطاق سماع شيء من عذاب الله في هذه الدار. لضعف هذه القوى، ألا ترى أنه إذا سمع الناس صعقة الرعد القاصف، أو الزلازل الهائلة هلك كثير من الناس، وأين صعقة الرعد من صيحة الذي تضربه الملائكة بمطارق الحديد التي يسمعها كل من يليه؟ وقد قال صلى الله عليه وسلم في الجنازة: «ولو سمعها انسان لصعق» . قلت: هذا وهو على رؤوس الرجال من غير ضرب ولا هوان. فكيف إذا حل به الخزي والنكال واشتد عليه العذاب والوبال؟ فنسأل الله معافاته ومغفرته وعفوه ورحمته بمنه. حكاية: قال أبو محمد عبد الحق: حدثني الفقيه أبو الحكم بن برجان ـ وكان من أهل العلم والعمل رحمه الله ـ أنهم دفنوا ميتاً بقريتهم من شرق إشبيلية. فلما فرغوا من دفنه قعدوا ناحية يتحدثون ودابة ترعى قريباً منهم.

باب ما جاء أن الميت يسمع ما يقال

فإذا الدابة قد أقبلت مسرعة إلى القبر فجعلت أذنها عليه كأنها تسمع. ثم ولت فارة كذلك ـ فعلت مرة بعد أخرى ـ قال أبو الحكم رحمه الله: فذكرت عذاب القبر. وقول النبي صلى الله عليه وسلم: «إنهم ليعذبون عذاباً تسمعه البهائم» ، والله عز وجل أعلم بما كان من أمر ذلك الميت. ذكر هذه الحكاية لما قرأ القارىء هذا الحديث في عذاب القبر: ونحن إذ ذاك نسمع عليه كتاب مسلم بن الحجاج رضي الله عنه. باب ما جاء أن الميت يسمع ما يقال مسلم «عن أنس بن مالك: عمر بن الخطاب حدث عن أهل بدر فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يرينا مصارع أهل بدر بالأمس. يقول: هذا مصرع فلان غداً إن شاء الله. قال فقال عمر: فو الذي بعثه بالحق نبياً ما أخطأوا الحدود التي حد رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: فجعلوا في بئر بعضهم على بعض فانطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى انتهى إليهم فقال: يا فلان بن فلان. هل وجدتم ما وعدكم الله ورسوله حقاً فإني وجدت ما وعدني ربي حقاً؟ فقال عمر: يا رسول الله كيف تكلم أجساداً لا أرواح فيها؟ قال: ما أنتم بأسمع لما أقول منهم. غير أنهم لا يستطيعون أن يردوا علي شيئاً. وعنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ترك قتلى بدر ثلاثاً. فقام عليهم فناداهم. فقال: يا أبا جهل بن هشام. يا أمية بن خلف يا عتبة بن ربيعة. يا شيبة بن ربيعة. أليس قد وجدتم ما وعدكم ربكم حقاً فإني وجدت ماو عدني

ربي حقاً! فسمع عمر قول النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله كيف يسمعون! وأنى يجيبون! وقد جيفوا؟ قال جهنم والذي نفسي بيده، ما أنتم بأسمع لما أقول منهم. ولكنهم لا يقدرون أن يجيبوا» ثم أمر بهم فسحبوا فالفوا في قليب بدر. فصل: اعلم رحمك الله أن عائشة رضي الله عنها قد أنكرت هذا المعنى. واستدلت بقوله تعالى: {فإنك. لا تسمع الموتى} وقوله {وما أنت بمسمع من في القبور} ولا تعارض بينهما لأنه جائز أن يكونوا يسمعون في وقت ما. أو في حال ما فإن تخصيص العموم ممكن وصحيح إذا وجد المخصص. وقد وجد هنا بدليل ما ذكرناه ـ وقد تقدم ـ وبقوله عليه الصلاة والسلام: «إنه ليبسمع قرع..نعالهم» وبالمعلوم من سؤال الملكين للميت في قبره وجوابه لهما وغير ذلك مما لا ينكر، وقد ذكر ابن عبد البر في كتاب التمهيد والاستذكار من حديث ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما من أحد يمر بقبر أخيه المؤمن كان يعرفه في الدنيا فيسلم عليه إلا عرفه، ورد علي السلام. صححه أبو محمد عبد الحق، وجيفوا معناه: أنتنوا.

باب قوله تعالى: {يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا} الآية مسلم» عن البراء بن عازب عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة} قال: نزلت في عذاب القبر. يقال له من ربك؟ فيقول: الله ربي. ونبي محمد. فذلك محمد. قوله: {يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة} . وفي رواية أنه قول البراء. ولم يذكر النبي صلى الله عليه وسلم. قلت: وهذا الطريق وإن كان موقوفاً فهو لا يقال من جهة الرأي فهو محمول على أن النبي صلى الله عليه وسلم قاله كما في الرواية الأولى، وكما خرجه النسائي وابن ماجه في سننهما والبخاري في صحيحه، وهذا لفظ البخاري: «حدثنا جعفر بن عمر قال: حدثنا شعبة بن علقمة بن مرثد، عن سعد بن عبيدة عن البراء بن عازب عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إذا أقعد العبد المؤمن في قبره. أتى ثم يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله فذلك قوله: {يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت} الآية» ، وخرجه أبو داود في سننه. فقال فيه «البراء بن عازب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إن المسلم إذا سئل في القبر فشهد أن

لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله فذلك قوله {يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة} » وقد مضى هذا المعنى في حديث البراء الطويل مرفوعاً والحمد الله. وقد روى هذا الخبر، «أبي هريرة وابن مسعود وابن عباس وأبو سعيد الخدري. قال أبو سعيد الخدري: كنا في جنازة مع النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا أيها الناس إن هذه الأمة تبتلى في قبورها. فإذا الإنسان دفن وتفرق عنه أصحابه جاءه ملك بيده مطراق فأقعده فقال: ما تقول في هذا الرجل؟ فإن كان مؤمناً قال: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، فيقول له صدقت فيفتح له باب إلى النار فيقول له هذا منزلك لو كفرت بربك، وأما الكافر والمنافق فيقول له: ما تقول في هذا الرجل؟ فيقول: لا أدري. فيقال له: لا دريت ولا تليت، ثم يفتح له باب إلى الجنة. فيقال له هذا منزلك لو آمنت بربك. فأما إذ

كفرت فإن الله أبدلك به هذا، ثم يفتح له باب إلى النار، ثم يقمعه الملك بالمطراق قمعة يسمعه خلق الله كلهم إلا الثقلين» . قال بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما أحد يقوم على رأسه ملك بيده مطراق إلا هيل عند ذلك. «فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة ويضل الله الظالمين ويفعل الله ما يشاء} » . فصل: صحت الأخبار عن النبي صلى الله عليه وسلم في عذاب القبر على الجملة فلا مطعن فيها ولا معارض لها. وجاء فيما تقدم من الآثار: أن الكافر يفتن في قبره ويسأل ويهان ويعذب. قال أبو محمد عبد الحق: واعلم أن عذاب القبر ليس مختصاً بالكافرين ولا موقوفاً على المنافقين، بل يشاركهم فيه طائفة من المؤمنين، وكل على حال من عمله وما استوجبه من خطبئته وزلله. وإن كانت تلك النصوص المتقدمة في عذاب القبر إنما جاءت في الكافر والمنافق، قال أبو عمر بن عبد البر في كتاب التمهيد: الآثار الثابتة تدل

على: أن الفتنة في القبر لا تكون إلا لمؤمن أو منافق ممن كان منسوباً إلى أهل القبلة ودين الإسلام من حقن دمه بظاهر الشهادة، وأما الكافر الجاحد المبطل فليس ممن يسأل عن ربه ودينه ونبيه، وإنما يسأل عن هذا أهل الإسلام والله أعلم، فيثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت ويرتاب المبطلون. قال ابن عبد البر وفي حديث زيد بن ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إن هذه الأمة تبتلى في قبورها» ومنهم من يرويه تسأل. وعلى هذا الفظ يحتمل أن تكون هذه الأمة خصت بذلك، وهذا أمر لا يقطع عليه، والله أعلم. وقال أبو عبد الله الترمذي في نوادر الأصول: وإنما سؤال الميت في هذه الأمة خاصة. لأن الأمم قبلنا كانت الرسل تأتيهم بالرسالة فإذا أبوا كفت الرسل، واعتزلوا وعوجلوا بالعذاب، فلما بعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم بالرحمة وأماناً للخلق، فقال: {وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين} أمسك عنهم العذاب وأعطى السيف حتى يدخل في دين الإسلام من دخل لمهابة السيف، ثم يرسخ في قلبه، فأمهلوا، فمن هنا ظهر أمر النفاق فكانوا يسرون الكفر ويعلنون الإيمان فكانوا بين المسلمين في ستر، فلما ماتوا قيض الله لهم فتاني القبر ليستخرج سترهم بالسؤال، وليميز الله الخبيث من الطيب فيثبت الثابت في الحياة الدنيا ويضل الله الظالمين.

باب ما ينجي المؤمن من أهوال القبر وفتنته وعذابه

قال المؤلف: قول أبي محمد عبد الحق أصوب، والله أعلم، فإن الأحاديث التي ذكرناها من قبل تدل على: أن الكافر يسأله الملكان، ويختبرانه بالسؤال ويضرب بمطارق من حديد على ما تقدم، والله أعلم. باب ما ينجي المؤمن من أهوال القبر وفتنته وعذابه وذلك خمسة أشياء: رباط. قتل. قول. بطن. زمان. الأول: روى مسلم «عن سلمان قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: رباط يوم وليلة خير من صيام شهر وقيامة، وإن مات جرى عليه عمله الذي كان يعمله وأجرى عليه رزقه وأمن من الفتان» فالرباط من أفضل الأعمال التي يبقى ثوابها بعد الموت كما جاء في حديث العلاء بن عبد الرحمن «عن أبيه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاثة» [الحديث] . وقد تقدم وهو حديث صحيح، انفرد بإخراجه مسلم، وكذلك ما أخرجه ابن ماجه وأبو نعيم من أنه يلحق الميت بعد موته، فإن ذلك مما ينقطع بنفاده وذهابه، كالصدقة بنفادها، والعلم بذهابه، والولد الصالح بموته، والنخل بقطعه إلى غير ذلك مما ذكر، والرباط يضاعف أجره لصاحبه إلى يوم القيامة لقوله عليه الصلاة والسلام: «وإن مات أجرى عليه عمله» وقد جاء مفسراً مبيناً في كتاب الترمذي «عن فضالة بن عبيد عن

رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: كل ميت يختم على عمله إلا الذي مات مرابطاً في سبيل الله، فإنه ينمو له عمله إلى يوم القيامة ويأمن من فتنة القبر» . قال: حديث حسن صحيح، وأخرجه أبو داود بمعناه وقال: «ويؤمن من فتاني القبر» ولا معنى للنماء إلا المضاعفة وهي غير موقوفة على سبب فتنقطع بانقطاعه، بل هي فضل دائم من الله تعالى لأن أعمال البر لا يتمكن منها إلا بالسلامة من العدو والتحرز منهم بحراسته بيضة الدين وإقامة شعائر الإسلام، وهذا العمل الذي يجري عليه ثوابه هو ما كان يعمله من الأعمال الصالحة. وخرجه ابن ماجه بإسناد صحيح «عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: من مات مرابطاً في سبيل الله أجرى الله عليه عمله الصالح الذي كان يعمل وأجرى عليه وأمن من الفتان ويبعثه رزقه الله أميناً من الفزع الأكبر» . وخرج أبو نعيم الحافظ «عن جبير بن بكير وكبير بن مرة وعمرو بن

الأسود عن العرباض بن سارية رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: كل عمل ينقطع عن صاحبه إذا مات إلا المرابط في سبيل الله. فإنه ينمي عليه عمله يجري عليه رزقه إلى يوم الحساب» . وفي هذا الحديث وحديث فضالة بن عبيد قيد ثان. وهو: الموت حالة الرباط والله أعلم. وروى «عن عثمان بن عفان قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من رابط ليلة في سبيل الله كانت له كألف ليلة صيامها وقيامها» . وروي «عن أبي بن كعب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لرباط يوم في سبيل الله من وراء عورة المسلمين محتسباً من غير شهر رمضان أعظم أجراً من عبادة مائة سنة صيامها وقيامها، ورباط يوم في سبيل الله من وراء عورة المسلمين محتسباً من شهر رمضان أفضل عند الله وأعظم أجراً» . أراه قال: «من عبادة ألف سنة صيامها وقيامها، فإن رده الله إلى أهله سالماً لم يكتب عليه سيئة ألف سنة. ويكتب له من الحسنات ويجري له أجر الرباط إلى يوم القيامة» . فدل هذا الحديث على أن رباط يوم في شهر رمضان يحصل به الثواب الدائم وإن لم يمت مرابطاً والله أعلم. أخرجه عن محمد بن إسماعيل بن سمرة، حدثنا محمد بن يعلى السلمي، حدثنا عمرو بن صبيح، عن عبد الرحمن بن عمرو، عن مكحول، عن أبي بن كعب فذكره.

مسألة الرباط: هو الملازمة في سبيل الله. مأخوذ من ربط الخيل ثم سمي ملازم لثغر من ثغور المسلمين: مرابطاً. فارساً كان أو راجلاً، واللفظة مأخوذة من الرباط، وقول النبي صلى الله عليه وسلم في منتظري الصلاة: «فذلكم الرباط» إنما هو تشبيه بالرباط في سبيل الله، والرباط اللغوي هو الأول، وهو الذي يشخص إلى ثغر من الثغور ليرابط فيه مدة ما، فأما سكان الثغور دائماً بأهلهم الذي يعمرون ويكتسبون هناك، فهم وإن كانوا حماة فليسوا بمرابطين. قاله علماؤنا، وقد بيناه في كتاب الجامع لأحكام القرآن من سورة آل عمران والحمد لله. الثاني: روى النسائي «عن راشد بن سعد عن رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن رجلاً قال يا رسول الله، ما بال المؤمنين يفتنون في قبورهم إلا الشهيد؟ قال: كفى ببارقة السيوف على رأس فتنة» . وخرج ابن ماجة في سننه والترمذي في جامعه وغيرهما «عن المقدام بن

معدي كرب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: للشهيد عند الله ست خصال: يغفر له في أول دفعة. ويرى مقعده من الجنة. ويجار من عذاب القبر. ويأمن من الفزع الأكبر. ويوضع على رأسه تاج الوقار، الياقوتة منه خير من الدنيا وما فيها. ويزوج إثنتين وسبعين زوجة من الحور العين، ويشفع في سبعين من أقاربه» لفظ الترمذي، وقال حديث حسن صحيح غريب، وقال ابن ماجه: [يغفر له في أول دفعه من دمه قال: ويحلى حلة الإيمان] بدل: [ويوضع على رأسه تاج الوقار] قال ابن ماجه: حدثنا هشام بن عمار، حدثنا إسماعيل بن عياش قال: حدثني بجير بن سعد، وقال الترمذي: حدثنا عيد الله بن عبد الرحمن قال: حدثنا نعيم بن حماد قال: حدثنا بقية بن الوليد، عن بجير بن سعد، عن خالد بن معدان، عن المقدام بن معدي كرب. فذكره. قال المؤلف ووقع في جميع نسخ الترمذي وابن ماجه: [ست خصال] وهي في متن الحديث: [سبع] وعلى ما ذكر ابن ماجه: [ويحلى بحلة الإيمان] تكون ثمانية، وكذا ذكره «أبو بكر أحمد بن سليمان النجاد بسنده عن المقدام بن معدي كرب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: للشهيد عند الله ثمانية خصال» . الثالث: روى الترمذي «عن ابن عباس قال: ضرب رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم خباءه على قبره وهو لا يحسب أنه قبر فإذا قبر

إنسان يقرأ سورة الملك حتى ختمها فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله ضربت خبائي على قبر وأنا لا أحسب أنه قبر، فإذا بقبر إنسان يقرأ سورة الملك حتى ختمها. فقال صلى الله عليه وسلم: هي المانعة هي المنجية تنجيه من عذاب القبر» . قال حديث حسن غريب. وخرج أيضاً عنه صلى الله عليه وسلم: «أن من قرأها كل ليلة جاءت تجادل عن صاحبها» . وروي أنها المجادلة تجادل عن صاحبها يعني قارئها في القبر، وروي أن من قرأها كل ليلة لم يضره الفتان. وأنبأنا الشيخ الفقيه الإمام المحدث أبو العباس أحمد بن عمر الأنصاري القرطبي بثغر الإسكندرية حماه الله قال: حدثني الشيخ الصالح أبو بكر محمد بن عبد الله بن العربي المعافري ابن أخي الشيخ الإمام أبي بكر قال: حدثني الشيخ الشريف أبو محمد يونس بن أبي الحسين بن أبي البركات الهاشمي البغدادي، حدثنا أبو الوقت عن الداودي، عن الحموي، عن أبي إسحاق إبراهيم بن خزيم الشاشي، عن عبد الله بن حميد

الكشي، عن إبراهيم بن الحكم، عن أبيه، عن عكرمة، عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال لرجل: ألا أتحفك بحديث تفرح به؟ قال الرجل: بلى يا ابن عباس رحمك الله. قال: {تبارك الذي بيده الملك} احفظها وعلمها أهلك وجمع ولدك وصبيان بيتك وجيرانك فإنها المنجية والمجادلة تجادل أو تخاصم يوم القيامة عند ربها لقارئها، وتطلب له إلى ربها أن ينجيه من عذاب النار إذا كانت في جوفه وينجي الله بها صاحبها من عذاب القبر. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لوددت أنها في قلب كل إنسان من أمتي» وأخبرناه عالياً الشيخ المحدث أبو عبد الله محمد بن إبراهيم الأنصاري التلمساني بثغر الإسكندرية عن شيخه الشريف أبي محمد يونس عن أبي الوقت. وقد تقدم: أن قراءة الرجل {قل هو الله أحد} في مرض الموت تنجي من ذلك. الرابع: روى ابن ماجه «عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من مات مريضاً مات شهيداً، ووقى فتنة القبر، وغدى وريح عليه برزقه من الجنة» .

وخرج النسائي «عن جامع بن شداد قال: سمعت عبد الله بن يسار يقول: كنت جالساً عند سليمان بن صرد، وخالد بن عرفطة فذكرا أن رجلاً مات ببطنه فإذا هما يشتهيان أن يشهدا جنازته. فقال أحدهما للآخر: ألم يقل رسول الله صلى الله عليه وسلم: من يقتله بطنه لم يعذب في قبره» . أخرجه أبو داود الطيالسي في مسنده قال: حدثنا شعبة، قال، أخبرني جامع بن شداد فذكره وزاد فقال الآخر: بلى. الخامس: روى الترمذي، «عن ربيعة بن سيف، عن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما من مسلم يموت يوم الجمعة، أو ليلة الجمعة إلا وقاه الله فتنة القبر» ، قال هذا حديث حسن غريب، وليس إسناده بمتصل ربيعة بن سيف إنما يروي عن عبد الرحمن الحبلي عن عبد الله بن عمرو، ولا نعرف لربيعة بن سيف سماعاً من عبد الله بن عمرو. قلت: قد خرجه أبو عبد الله الترمذي في نوادر الأصول متصلاً «عن ربيعة بن سيف الإسكندري، عن عياض بن عقبة الفهري، عن عبد الله بن عمرو قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: من مات يوم الجمعة أو ليلة الجمعة وقاه الله فتنة القبر» وخرجه علي بن معبد عنه ـ أعني عبد الله بن عمرو الترمذي قال: سمعت

رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من مات يوم الجمعة أو ليلة الجمعة وقى فتنة القبر» وأخرجه أبو نعيم الحافظ «من حديث محمد بن المنكدر عن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من مات ليلة الجمعة أو يوم الجمعة أجير من عذاب القبر، وجاء يوم القيامة وعليه طابع الشهداء» . غريب من حديث جابر ومحمد تفرد به عمر بن موسى الوجيهي وهو مدني فيه لين عن محمد بن جابر. فصل: قلت: اعلم رحمك الله أن هذا الباب لا يعارض ما تقدم من الأبواب، بل يخصصها ويبين من لا يسأل في قبره ولا يفتن فيه، ممن يجري عليه السؤال، ويقاسي تلك الأهوال وهذا كله ليس فيه مدخل للقياس ولا مجال للنظر فيه. وإنما فيه التسليم والانقياد لقول الصادق المرسل إلى العباد صلى الله عليه وسلم. وقد روى ابن ماجه في سننه «عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إذا دخل الميت في قبره مثلت له الشمس عند غروبها فيجلس فيمسح عينيه ويقول: دعوني أصلي» ولعل هذا ممن وقى فتنة القبر فلا تعارض والحمد لله.

فصل: قوله عليه السلام في الشهيد «كفي ببارقة السيوف على رأسه فتنة» معناه: أنه لو كان في هؤلاء المقتولين نفاق كان إذا التقى الزحفان، وبرقت السيوف فروا لأنه من شأن المنافق: الفرار والروغان عند ذلك. ومن شأن المؤمن: البذل والتسليم لله نفساً وهيجان حمية الله، والتعصب له، لإعلاء كلمته. فهذا قد أظهر صدق ما في ضميره حيث برز للحرب والقتل، فلماذا يعاد عليه السؤال في القبر؟ قاله الترمذي الحكيم. قلت: وإذا كان الشهيد لا يفتن فالصديق أجل خطراً وأعظم أجراً، فهو أحرى أن لا يفتن لأنه المقدم ذكره في التنزيل على الشهداء في قوله تعالى: {فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء} وقد جاء في المرابط الذي هو أقل مرتبة من الشهيد أنه لا يفتن، فكيف بمن هو أعلى مرتبة منه ومن الشهيد؟ والله أعلم فتأمله. فصل: قوله عليه السلام: «من مات مريضاً مات شهيداً» عام في جميع الأمراض

لكن قيده قوله في الحديث الآخر: «من يقتله بطنه» وفيه قولان: أحدهما: أنه الذي يصيبه الذرب وهو الإسهال تقول العرب أخذه البطن إذا أصابه الداء وذرب الجرح إذا لم يقبل الدواء وذربت معدته فسدت. الثاني: أنه الاستسقاء وهو أظهر القولين فيه، لأن العرب تنسب موته إلى بطنه تقول قتله بطنه يعنون الداء الذي أصابه في جوفه وصاحب الاستسقاء قل إن يموت إلا بالذرب فكأنه قد جمع الوصفين وغيرهما من الأمراض والوجود شاهد للميت بالبطن إن عقله لا يزال حاضراً، وذهنه باقياً إلى حين مكوته ومثل ذلك صاحب السل إذ موت الآخر إنما يكون بالذرب، وليست حالة هؤلاء كحال من يموت فجأة أو من يموت بالسام والبرسام، والحميات المطبقة أو القولنج أو الحصاة فتغيب عقولهم لشدة الآلام، ولزوم أدمغتهم، ولفساد أمزجتها، فإذا كان الحال هكذا فالميت يموت وذهنه حاضر وهو عارف. والله أعلم. باب منه أبو نعيم قال: «حدثنا عبد الله بن محمد قال: حدثنا ابن سعيد قال: حدثنا محمد بن حرب الواسطي قال: حدثنا نصر بن حماد قال: حدثنا همام قال:

باب ما جاء أن الميت يعرض عليه مقعده بالغداة والعشي

حدثنا محمد بن حجادة عن طلحة بن مصرف قال: سمعت خيثمة بن عبد الرحمن يحدث عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من وافق موته عند انقضاء رمضان، دخل الجنة، ومن وافق موته عند انقضاء عرفة، دخل الجنة، ومن وافق موته عند انقضاء صدقته، دخل الجنة» . غريب من حديث طلحة لم نكتبه إلا من حديث نصر عن همام باب ما جاء أن الميت يعرض عليه مقعده بالغداة والعشي البخاري ومسلم «عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إن أحدكم إذا مات عرض عليه مقعدة بالغداة والعشي إن كان من أهل الجنة فمن أهل الجنة وإن كان من أهل النار فمن أهل النار يقال هذا مقعدك حتى يبعثك الله إليه يوم القيامة» . فصل: قوله: «عرض عليه مقعده» ويروى: «عرض على مقعده» قال علماؤنا: وهذا ضرب من العذاب كبير وعندنا المثال في الدنيا. وذلك كمن عرض عليه القتل أو غيره من آلات العذاب أو من يهدد به من غير أن يرى الآلة، ونعوذ بالله من عذابه وعقابه بكرمه ورحمته. وجاء في التنزيل في حق الكافرين {النار يعرضون عليها غدواً وعشياً} فأخبر تعالى أن الكافرين يعرضون على النار كما أن أهل السعادة يعرضون على الجنان بالخبر الصحيح في ذلك، وهل كان مؤمن يعرض على الجنان؟ فقيل ذلك مخصوص بالمؤمن الكامل الإيمان، ومن أراد الله إنجاءه من النار،

وأما من أنفذ الله عليه وعيده من الخلطين الذين خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً فله مقعدان يراهما جميعاً كما أنه يرى عمله شخصين في وقتين أو في وقت واحد قبيحاً وحسناً، وقد يحتمل أن يراد بأهل الجنة كل من يدخلها كيفما كان والله أعلم. ثم قيل هذا العرض إنما هو على الروح وحده ويجوز أن يكون مع جزء من البدن، ويجوز أن يكون عليه مع جميع الجسد فيرد إليه الروح كما ترد عند المسألة حين يقعده الملكان، ويقال له: انظر إلى مقعدك من النار قد أبدلك الله به مقعداً من الجنة وكيفما كان، فإن العذاب محسوس، والألم موجود، والأمر شديد، وقد ضرب بعض العلماء لتعذيب الروح مثلاً في النائم فإن روحه تعذب أو تنعم والجسد لا يحس بشيء من ذلك، وقال عبد الله بن مسعود: أرواح آل فرعون في أجواف طير سود يعرضون على النار كل يوم مرتين يقال لهم: هذه دراكم فذلك قوله تعالى: {النار يعرضون عليها غدواً وعشياً} وعنه أيضاً: أن أرواحهم في جوف طير سود تغدو على جهنم وتروح كل يوم مرتين فذلك عرضها. وروى شعبة عن يعلى بن عطاء قال: سمعت ميمون بن ميسرة يقول: كان

باب ما جاء أن أرواح الشهداء في الجنة دون أرواح غيرهم

أبو هريرة إذا أصبح ينادي: أصبحنا والحمد لله وعرض آل فرعون على النار وإذا أمسى ينادي: أمسينا والحمد لله وعرض آل فرعون على النار فلا يسمع أيا هريرة أحد إلا تعوذ بالله من النار وقد قيل: إن أرواحهم في صخرة سوداء تحت الأرض السابعة على شفير جهنم في حواصل طير سود. والغداة والعشي إنما هو بالنسبة إلينا على ما اعتدناه لا لهم إذ الآخرة ليس فيها مساء ولا صباح فإن قيل. فقد قال الله تعالى: {ولهم رزقهم فيها بكرةً وعشياً} قلنا: الجواب عنهما واحد وسيأتي له مزيد بيان في وصف الجنان إن شاء الله تعالى. باب ما جاء أن أرواح الشهداء في الجنة دون أرواح غيرهم يدل على ذلك قوله عليه الصلاة والسلام في حديث «ابن عمر: هذا مقعدك حتى يبعثك الله إليه يوم القيامة» وهذه حالة مختصة بغير الشهداء. وفي صحيح مسلم عن مسروق قال: سألنا عبد الله بن مسعود عن هذه الآية: {ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً بل أحياء عند ربهم يرزقون} فقال: [أرواحهم في جوف طير خضر لها قناديل معلقة بالعرش تسرح من الجنة حيث شاءت، ثم تأوي إلى تلك القناديل فاطلع إليهم ربهم اطلاعة فقال: هل تشتهون شيئاً؟ قالوا: أي شيء نشتهي ونحن نسرح في الجنة حيث نشاء؟

ففعل بهم ذلك ثلاث مرات، فلما رأوا أنهم لن يتركوا من أن يسألوا قالوا: يا رب نريد أن ترد أرواحنا في أجسادنا حتى نقتل في سبيلك مرة أخرى فلما رأى أن ليس لهم حاجة تركوا] . فصل: قلت: وهنا اعتراضات خمسة: الأول: إن قيل: ما قولكم في الحديث الذي ذكرتم «ما من أحد يمر بقبر أخيه المؤمن كان يعرفه في الدنيا فيسلم عليه إلا عرفه ورد عليه السلام» ؟ قلنا: هو عموم يخصصه ما ذكرناه، فهو محمول على غير الشهداء. الثاني: فإن قيل: فقد روى مالك «عن ابن شهاب، عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك الأنصاري أنه أخبره أن أباه كعب بن مالك كان يحدث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إن نسمة المؤمن طائر يعلق في شجر الجنة حتى يرجعه الله إلى جسده يوم يبعثه» ؟ قلنا: قال أهل اللغة تعلق بضم اللام تأكل. يقال علقت تعلق علوقاً. ويروى يعلق بفتح اللام وهو الأكثر ومعناه: تسرح وهذه

حالة الشهداء لا غيرهم بدليل الحديث المتقدم. وقوله تعالى: {بل أحياء عند ربهم يرزقون} ولا يرزق إلا حي فلا يتعجل الأكل والنعيم لأحد إلا للشهيد في سبيل الله بإجماع من الأمة. حكاه القاضي أبو بكر بن العربي في سراج المريدين، وغير الشهيد بخلاف هذا الوصف إنما يملأ عليه قبره خضراً ويفسح له فيه. وقوله: نسمة المؤمن. أي روح المؤمن الشهيد. يدل عليه قوله في نفس الحديث «حتى يرجعه الله تعالى إلى جسده يبعثه» . الثالث: فإن قيل: فقد جاء أنه الأرواح تتلاقى في السماء والجنة في السماء يدل على قوله عليه السلام: «إذا دخل رمصان فتحت أبواب السماء» وفي رواية أبواب الجنة؟ قلنا: لا يلزم من تلاقي الأرواح في السماء أن يكون تلاقيها في الجنة، بل أرواح المؤمنين غير الشهداء تارة تكون في الأرض على أفنية القبور، وتارة في السماء لا في الجنة. وقد قل إنها تزور قبورها كل يوم جمعة على الدوام، ولذلك تستحي زيارة القبور ليلة الجمعة ويوم الجمعة وبكرة السبت فيما ذكر العلماء. والله أعلم.

قال ابن العربي: وبحديث الجرائد يستدل الناس على أن الأرواح في القبور تعذب أو تنعم، وهو أبين في ذلك من حديث ابن عمر في الصحيح «إذا مات أحدكم عرض عليه مقعده بالغداة والعشي» لأن عرض مقعده ليس فيه بيان عن موضعه الذي يراه منه، وحديث الجرائد نص على أن أولئك يعذبون في قبورهم. وكذلك حديث اليهود. قلت: ويحتمل على ما ذكرناه والله أعلم: أن يكون قوله عليه السلام: «ما من أحد يمر بقبر أخيه المسلم كان يعرفه في الدنيا وروحه في قبره إلا عرفه ورد عليه السلام» حتى لا تتناقض الأخبار. والله أعلم. الرابع: فإن قيل فقد قال صلى الله عليه وسلم: «والذي نفسي بيده لو أن رجلاً قتل في سبيل الله ثم أحيي ثم قتل ثم أحيي وعليه دين ما دخل الجنة حتى يقضي عنه» . وهذا يدل على أن ببعض الشهداء لا يدخلون الجنة، من حين القتل ولا تكون أرواحهم في جوف طير، ولا تكون في قبورهم فأين تكون؟ قلنا: قد خرج ابن وهب بإسناده «عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: الشهداء على بارق نهر بباب الجنة يخرج عليهم رزقهم من الجنة بكرة وعشياً» فلعلهم هؤلاء أو من منعه من دخول الجنة حقوق

الآدميين إذ الدين ليس مختصاً بالمال على ما يأتي. ولهذا قال علماؤنا أحوال الشهداء طبقات مختلفة ومنازل متباينة يجمعها أنهم يرزقون، وقد تقدم قوله عليه السلام: «من مات مريضاً مات شهيداً وغدى وريح برزقه من الجنة» وهذا نص في أن الشهداء مختلفو الحال وسيأتي: كم الشهداء؟ إن شاء الله تعالى. الخامس: فإن قيل: فقد روي ابن ماجه «عن أبي أمامة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: لشهيد البحر مثل شهيدي البر والمائد في البحر كالمتشحط في دمه في البر، وما بين الموجتين كقاطع الدنيا في طاعة الله عز وجل، وإن الله وكل ملك الموت بقبض الأرواح إلا شهيد البحر فإنه يتولى قبض أرواحهم ويغفر لشهيد البر الذنوب كلها إلا لدين، ولشهيد البحر الذنوب كلها والدين؟» قلنا: الدين إذا أخذه المرء في حق واجب لفاقة أو عسر ومات ولم يترك وفاء فإن الله تعالى لا يحيسه عن الجنة إن شاء الله شهيداً كان أو غيره، لأن على السلطان فرضاً أن يؤدي عنه دينه. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من ترك

ديناً أو ضياعاً فعلى الله ورسوله، ومن ترك مالاً فلورثته فإن لم يؤد عنه السلطان فإن الله تعالى يقضي عنه ويرضى خصمه» . والدليل على ذلك ما رواه ابن ماجه في سننه «عن عبد الله بن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الدين يقتص أو مقتص من صاحبه يوم القيامة إذا مات إلا من تدين في ثلاث خلال: الرجل تضعف قوته في سبيل الله فيستدين ليتقوى به لعدو الله وعدوه، ورجل يموت عنده رجل مسلم لا يجد ما يكفنه فيه ويواريه إلا بدين، ورجل خاف على نفسه العزبة فينكح خشية على دينه. فإن الله يقضي عن هؤلاء يوم القيامة» ، وأما من دان في سفه أو سرف فمات ولم يوفه أو ترك له وفاء ولم يوص به أو قدر على الأداء فلم يوفه، فهذا الذي يجس به صاحبه عن الجنة حتى يقع القصاص بالحسنات والسيئات على ما يأتي فيحتمل أن يكون قوله عليه السلام في شهيد البحر عاماً في الجميع وهو الأظهر لأنه لم يفرق بين دين ودين

ويحتمل أن يكون قوله فيمن أدان ولم يفرط في الأداء وكان عزمه ونيته الأداء لا إتلاف المال على صاحبه، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من أخذ أموال الناس يريد أداءها أدى الله عنه. ومن أخذها يريد إتلافها أتلفه الله» خرجه البخاري. على أن حديث أبي أمامة في إسناده لين، وأعلى منه إسناداً وأقوى ما رواه مسلم «عن عبد الله بن عمرو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: القتل في سبيل الله يكفر كل شيء إلا الدين» ولم يخص براً من بحر. وكذلك ما رواه أبو قتادة: «أن رجلاً قال: يا رسول الله أرأيت إن قتلت في سبيل الله أيكفر الله عني خطاياي؟ فقال له رسول الله: نعم إن قتلت في سبيل الله وأنت صابر محتسب مقبل غير مدبر، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كيف قلت؟ فقال: أرأيت إن قتلت في سبيل الله أيكفر الله عني خططاياي؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: نعم وأنت صابر محتبل ومقبل غي مدبر إلا الدين فإن جبريل قال لي ذلك» . وخرج أبو نعيم الحافظ بإسناده «عن قاضي البصريين شريح عن عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن الله يدعو صاحب الدين يوم القيامة فيقول يا ابن آدم فيم أضعت حقوق الآدميين؟ فيم أذهبت

أموالهم؟ فيقول: يا رب لم أفسده ولكن أصبت إما غرقاً أو حرقاً فيقول الله عز وجل: أنا أحق من قضى عنك اليوم فترجح حسناته على سيئاته فيؤمر به إلى الجنة» . رواه من طرق. وقال يزيد بن هارون في حديثه [فيدعو الله تعالى بشيء فيضعه في ميزانه فيثقل] . غريب من حديث شريح تفرد به صدقة بن أبي موسى عن أبي عمران الجوني. قلت: هذا نص في قضاء الله سبحانه الدين إذا لم يؤخذ على سبيل الفساد والحمد لله الموفق للسداد، والمبين على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم ما أبهم واستغلق من مشكل على العباد، وقد قال بعض العلماء: إن أرواح المؤمنين كلهم في جنة المأوى وإنما قيل لها: المأوى لأنها تأوي إليها أرواح المؤمنين وهي تحت العرش فيتنعمون بنعيمها، ويتنسمون من طيب ريحها، وهي تسرح في الجنة وتأوي إلى قناديل من نور تحت العرش. وما ذكرناه أولاً أصح والله أعلم. وقد روى ابن المبارك: أخبرنا ثور بن يزيد، عن خالد بن معدان

قال: حدث عبد الله بن عمرو بن العاص قال: أرواح المؤمنين في طير كحالزرازير يتعارفون، يرزقون من الجنة. أخبرنا ابن لهيعة قال: حدثني يززيد بن أبي حبيب أن منصور بن أبي منصور، حدثه قال سألت عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه، فقلت أخبرني عن أرواح المسلمين أين هي حين يتوفون؟ قال: ما تقولون أنتم يا أهل العراق؟ قلت: لا أدري. قال: فإنها صور طير بيض فيظل العرش وأرواح الكافرين في الأرض السابعة. وذكر الحديث. قلت: فهذه حجة من قال: إن أرواح المؤمنين كلهم في الجنة والله أعلم. على أنه يحتمل أن يدخله من التأويل ما تقدم والله أعلم فيكون بالمعنى: أرواح المؤمنين الشهداء وكذا فقلت: أخبرني عن أرواح المؤمنين الشهداء. والله أعلم. وروى ابن عيينة عن عبد الله بن أبي يزيد أنه سمعه ابن عباس رضي الله عنهما يقول: إن أرواح الشهداء تجول في طير خضر. فصل: وقع في حديث ابن مسعود: «أرواحهم في جوف طير خضر» وفي حديث مالك: «نسمة المؤمن طائر» وروى الأعمش عن عبد الله بن مرة قال: سئل عبد الله بن مسعود عن أرواح الشهداء؟ فقال: أرواح الشهداء عند الله كطير خضر في قناديل تحتة العرش تسرح من الجنة حيث شاءت، ثم ترجع إلى قناديلها. وذكر الحديث.

وروى ابن شهاب «عن ابن كعب بن مالك عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أرواح الشهداء طير خضر تعلق في شجر الجنة» وهذا كله مطابق لحديث مالك فهو أصح من رواية من روى أن أرواحهم في جوف طير خضر. قاله أبو عمر في الاستذكار. وقال أبو الحسن القابسي: أنكر العلماء قول من قال في حواصل طير لأنها رواية غير صحيحة، لأنها إذا كانت كذلك فهي محصورة مضيق عليها. قلت: الرواية صحيحة لأنها في صحيح مسلم بنقل العدل عن العدل فيحتمل أن تكون الفاء بمعنى على فيكون المعنى أرواحهم على جوف طير خضر كما قال تعالى: {ولأصلبنكم في جذوع النخل} أي على جذوع النخل وجائز أن يسمى الظهر: جوفاً: إذا هو محيط به ومشتمل عليه. قال أبو محمد عبد الحق: وهو حسن جداً. وذكر شبيب بن إبراهيم في كتاب الإفصاح المنعم على

باب كم الشهداء؟ ولم سمي شهيدا؟ ومعنى الشهادة

جهات مختلفة. منها ما هو طائر يعلق من شجر الجنة. ومنها ما هو في حواصل طير خضر. ومنها ما يأوي في قناديل تحت العرش. ومنها ما هو في حواصل طير بيض. ومنها ما هو في حواصل طير كالزرازير.. ومنها ما هو في أشخاص صور من صور الجنة. ومنها ما هو في صور تخلق لهم من ثواب أعمالهم. ومنها ما تسرح وتعود إلى جثتها تزورها. ومنها ما تتلقى أرواح المقبوضين. وممن سوى ذلك ما هو في كفالة ميكائيل. ومنها ما هو في كفالة آدم. ومنها ما هو في كفالة إبراهيم عليه السلام. وهذا قول حسن فإنه يجمع الأخبار حتى لا تتدافع، والله بغيبه أعلم وأحكم. باب كم الشهداء؟ ولم سمي شهيداً؟ ومعنى الشهادة خرج الآجري وغيره «عن أبي مالك الأشجعي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من فصل في سبيل فمات أو قتل فهو شهيد، أو وقصه فرسه أو بعيره أو لدغته هامة أو مات على فراشه بأي حتف شاء الله إنه شهيد وإن له الجنة» .

وأخرجه أبو بكر بن أبي شيبة بمعناه، عن عبد الله بن عتيك عن النبي صلى الله عليه وسلم. الترمذي «عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: الشهداء خمسة: المبطون، والمطعون، والغريق، وصاحب الهدم، والشهيد في سبيل الله عز وجل» . وقال: هذا حديث حسن صحيح. النسائي «عن جابر: قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الشهداء سبعة سوى القتل في سبيل الله: المطعون، والمبطون، والغرق، والحرق، وصاحب ذات الجنب والذي يموت تحت الهدم، والمرأة تموت بجمع» ، وقيل: هي التي تموت من الولادة وولدها في بطنها قد تم خلقه، وقيل: إذا ماتت من النفاس فهي شهيدة، سواء ألقت ولدها أو ماتت وهو في بطنها، وقيل: التي تموت بكراً لم يمسها الرجال، وقيل: التي تموت قبل أن تحيض وتطمث فهذه أقوال لكل قول وجه، وفي جمع لغتان ضم الجيم وكسرها، وفي بعض الآثار: المجنوب شهيد يريد: صاحب الجنب،

يقال منه رجل جنب بكسر النون وفتح الجيم إذا كانت به ذات الجنب وهو الشوصة. وفي كتاب الترمذي وأبي داود والنسائي عن سعيد بن زيد، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من قتل دون ماله فهو شهيد، ومن قتل دون دمه فهو شهيد، ومن قتل دون دينه فهو شهيد، ومن قتل دون أهله فهو شهيد» . قال الترمذي: حديث حسن صحيح. وروى النسائي «من حديث سويد بن مقرن قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من قتل دون مظلمة فهو شهيد» . وروى ابن ماجه «عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: موت غربة شهادة» . وأخرجه الدراقطني ولفظه: «موت الغريب شهادة»

وذكره أيضاً من حديث ابن عمر وصححه. وأخرجه أبو بكر الخرائطي «من حديث أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من مات غريباً مات شهيداً» . وخرجه أيضاً «من حديث محمد بن سيرين عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من مات غريباً مات شهيداً» : وقد تقدم قوله عليه الصلاة والسلام: «من مات مريضاً مات شهيداً» . وروى الترمذي «عن معقل بن يسار قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من قال حين يصبح ثلاث مرات: أعوذ بالله السميع العليم، من الشيطان الرجيم. وقرأ ثلاث آيات من آخر سورة الحشر وكل الله به سعين ألف ملك يصلون عليه

حتى يمسي. فإن مات من يومه مات شهيداً، ومن قرأها حين يمسي فكذلك» . قال حديث حسن غريب. وذكر الثعلبي «عن يزيد الرقاشي، عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: من قرأ آخر سورة الحشر إلى آخرها: {لو أنزلنا هذا القرآن على جبل} فمات من ليلته مات شهيداً» . وخرج الآجري «عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا أنس إن استطعت أن تكون أبداً على وضوء فافعل. فإن ملك الموت إذا قبض روح العبد وهو على وضوء كتبت له شهادة» . وروى الشعبي «عن ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من صلى الضحى وصام ثلاثة أيام من كل شهر، ولم يترك الوتر في حضر ولا سفر، كتب له أجر شهيد» خرجه أبو نعيم. وروى من حديث «أبي هريرة وأبي ذر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إذا جاء الموت طالب العلم وهو على حاله مات شهيداً» . وبعضهم يقول: [ليس بينه وبين الأنبياء إلا درجة واحدة] . ذكره أبو عمر في كتاب بيان العلم.

وخرج مسلم «من حديث أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من طلب الشهادة صادقاً أعطيها وإن لم تصبه» و «عن سهل بن حنيف أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من سأل الله الشهادة بصدق بلغه الله منازل الشهداء، وإن مات على فراشه» . وخرج الترمذي الحكيم «من حديث ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ليس من أحد إلا وله كرائم من ماله، يأبى لهم الذبح. وإن لله خلقاً من خلقه يأبى لهم الذبح: أقواماً يجعل موتهم على فرشهم، ويقسم لهم أجور الشهداء» . فصل: الشهداء جمع الشاهد. والشهيد: القتيل في سبيل الله. كذا قال أهل اللغة: الجوهري وغيره وسمي بذلك لأنه مشهود له بالجنة، فالشهيد بمعنى مشهود له فعيل بمعنى مفعول، وقال ابن فارس اللغوي في المجمل: والشهيد القتيل في سبيل الله. قالوا: لأن ملائكة الله تشهده.

وقيل: سمي شهيداً، لأن أرواحهم أحضرت دار السلام. لأنهم {أحياء عند ربهم يرزقون} وأرواح غيرهم لا تصل إلى الجنة. فالشهيد بمعنى الشاهد أي الحاضر للجنة، وقيل سمي بذلك: لسقوطه بالأرض والأرض الشاهدة، وقيل سمي بذلك: لشهادته على نفسه لله عز وجل حين لزمه الوفاء بالبيعة التي بايعه في قوله الحق {إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة} . فاتصلت شهادة الشهيد الحق بشهادة العبد فسماه شهيداً. ولذلك قال عليه السلام: «والله أعلم بمن يكلم في سبيله» وقال في شهداء أحد: أنا شهيد على هؤلاء لبذلهم نفوسهم دونه، وقتلهم بين يديه. تصديقاً لما جاء به صلى الله عليه وسلم، هذا الكلام في شهيد. فأما الشهادة، فصفة سمي حاملها بالشاهد ويبالغ بشهيد، وللشهادة ثلاثة شروط لا تتم إلا بتمامها وهي: الحضور، والوعي، والأداء، أما الحضور: فهو شهود الشاهد المشهود. والوعي: زمى ما شاهده وعمله في شهوده ذلك.

والأداء: هو الإيتان بالشهادة على وجهها في موضع الحاجة إلى ذلك. هذا معنى الشهادة والشهادة على الكمال، إنما هي لله سبحانه وتعالى، وأن جميع الشاهدين سواه يؤدون شهادتهم عنده. قال الله سبحانه وتعالى: {وجيء بالنبيين والشهداء وقضي بينهم بالحق} والشهداء: هم العدول، وأهل العدالة في الدنيا والآخرة هم القائمون بما أوجب الحق سبحانه عليهم في الدنيا. باب منه روى النسائي «عن العرباض بن سارية أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: يختصم الشهداء والمتوفون على فرشهم إلى ربنا في الذين يتوفون من الطاعون فيقول الشهداء: قتلوا كما قتلنا؟ ويقول المتوفون على فرشهم: إخواننا ماتوا على فرشهم كما متنا؟ فيقول ربنا عز وجل: انظروا إلى جراحهم، فإن أشبهت جراح المقتولين فإنهم منهم، فإذا جراحهم أشبهت جراحهم» . وروت «عائشة رضي الله عنه قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن فناء أمتي بالطعن والطعون، قالت: أما الطعن فقد عرفناه، فما الطاعون؟ قال: غدة كغدة البعير تخرح في المراق والإباط، من مات منها مات شهيداً» ، أخرجه أبو عمر

باب ما جاء أن الإنسان يبلى ويأكله التراب إلا عجب الذنب

في التمهيد والاستذكار. باب ما جاء أن الإنسان يبلى ويأكله التراب إلا عجب الذنب مسلم وابن ماجه «عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ليس من الإنسان شيء إلا يبلى إلا عظم واحد وهو عجب الذئب، ومنه يركب الخلق يوم القيامة» وعنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كل ابن آدم يأكله التراب إلا عجب الذنب منه خلق ومنه يركب» . فصل: يقال عجم وعجب بالميم والباء: لغتان وهو جزء لطيف في أصل الصلب. وقيل: هو رأس العصعص كما رواه ابن أبي داود في كتاب البعث «من حديث أبي سعيد الخدري قيل: يا رسول الله وما هو؟ قال: مثل حبة خردل ومنه تنشأون»

باب لا تأكل الأرض أجساد الأنبياء ولا الشهداء. وأنهم أحياء

وقوله: «منه خلق ومنه يركب» أي أول ما خلق من الإنسان هو ثم إن الله تعالى يبقيه إلى أن يركب الخلق منه تارة أخرى. باب لا تأكل الأرض أجساد الأنبياء ولا الشهداء. وأنهم أحياء باب لا تأكل الأرض أجساد الأنبياء ولا الشهداء. وأنهم أحياء قال الله تعالى: {بل أحياء عند ربهم يرزقون} ولذلك لا يغسلون ولا يصلى عليهم. ثبت ذلك في الأحاديث الصحيحة في شهداء أحد وغيرهم، ليس هذا موضع ذكرها. مالك عن عبد الرحمن بن أبي صعصعة أنه بلغه أن عمرو بن الجموح وعبد الله بن عمرو الأنصاريين تم السلميين كانا قد حفر السيل قبرهما، وكان قبرهما مما يلى السيل وكان في قبر واحد، وهما ممن استشهد يوم أحد فخفر عنهما ليغيرا من مكانهما فوجدا لم يتغيرا كأنهما ماتا بالأمس، وكان أحدهما قد جرح فوضع يده على جرحه فدفن وهو كذلك فأميطت يده عن جرحه، ثم أرسلت فرجعت كما كانت، وكان بين أحد وبين يوم حفر عنهما ست وأربعون سنة. قال أبو عمر: هذا حديث لم يختلف عن مالك في انقطاعه وهو حديث يتصل من وجوه صحاح عن جابر. قال المؤلف رضي الله عنه: وهكذا حكم من تقدمنا من الأمم ممن قتل شهيداً في سبيل الله أو قتل على الحق كأنبيائهم،

وفي الترمذي في قصة أصحاب الأخدود: [أن الغلام الذي قتله الملك دفن] ، قال: فيذكر أنه أخرج في زمن عمر بن الخطاب وأصبعه على صدغه كما وضعها حين قتل. قال حديث حسن غريب وقصة الأخدود: مخرجه في صحيح مسلم، وكانوا بنجران في الفترة بين عيسى ومحمد صلى الله عليه وسلم، وقد ذكرناها مستوفاه في [البروج] في كتاب الجامع لأحكام القرآن والمبين لما تضمن من السنة وآي الفرقان. وروى نقلة الأخبار: أن معاوية رحمه الله لما أجرى العين التي استنبطها بالمدينة في وسط المقبرة. وأمر الناس بتحويل موتاهم. وذلك في أيام خلافته، وبعد الجماعة بأعوام. وذلك بعد أحد بنحو من خمسين سنة. فوجدوا على حالهم حتى أن الكل رأوا المسحاة، وقد أصابت قدم حمزة ابن عبد المطلب فسال منه الدم. وأن جابر بن عبد الله أخرج أباه عبد الله بن حرام كأنما دفن بالأمس. وهذا أشهر في الشهداء من أن يحتاج فيه إلى أكثار. وقد روى كافة أهل المدينة أن جدار قبر النبي صلى الله عليه وسلم لما انهدم أيام خلافة الوليد ابن عبد الملك بن مروان وولاية عمر بن عبد العزيز على المدينة، بدت لهم قدم فخافوا أن تكون قدم النبي فجزع الناس حتى روى لهم سعيد بن المسيب رضي الله عنه: [أن أجساد الأنبياء لا تقيم في الأرض أكثر من أربعين يوماً ثم ترفع] وجاء سالم بن عبد الله بن عمر بن الخطاب فعرف أنها قدم جده عمر رضي الله عنه، وكان رحمه الله قتل شهيداً.

وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم: «المؤذن المحتسب كالمتشحط في دمه قتيلاً. وإن مات لم يدود في قبره» وظاهر هذا: أن المؤمن المحتسب لا تأكله الأرض أيضاً. وخرج أبو داود وابن ماجه في سننهما «عن أوس بن أوس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن أفصل أيامكم يوم الجمعة. في خلق آدم. وفيه قبض. وفيه النفخة. وفيه الصعقة، فأكثروا علي من الصلاة فيه. فإن صلاتكم معروضة علي» قالوا: يا رسول الله وكيف تعرض صلاتنا عليك وقد أرمت؟ يقولون بليت فقال: «إن الله عز وجل حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء» لفظ أبي داود وقال ابن العربي حديث حسن. قلت: وخرجه أبو بكر البزار عن شداد بن أوس، واتفقوا في السند، عن حسين بن علي عن عبد الرحمن يزيد بن جابر، عن أبي الأشعث الصنعاني فقال، عن أوس بن أوس أو عن شداد بن أوس وقال البزار: لا يعلم أحداً يرويه بهذا اللفظ إلا شداد بن أوس، ولا نعلم له طريقاً غير هذا الطريق، عن شداد بن أوس، ولا رواه إلا حسين بن علي الجعفي،

وقال أبو محمد عبد الحق، ويقال: إن عبد الرحمن هذا هو ابن يزيد بن تميم. قاله البخاري وأبو حاتم وهو منكر الحديث ضعيفه. قلت: وقد خرجه ابن ماجه من غير هذا الطريق فقال: «حدثنا عمرو بن سواد المصري، حدثنا عبد الله بن وهب عن عمرو بن الحارث، عن سعيد بن أبي هلال، عن زبد بن أيمن عن عبادة بن نسيء، عن أبي الدرداء قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أكثروا علي الصلاة يوم الجمعة، فإنه مشهود تشهده الملائكة وإن أحداً لمن يصلي علي إلا عرضت علي صلاته حتى يفرغ منها قال قلت: وبعد الموت؟ قال: وبعد الموت إن الله حرم على الأرض أن تأكل الأجساد الأنبياء» فنبي الله حي يرزق صلى الله عليه وسلم. ورواه أبو جعفر الطبري في تهذيب الآثار من حديث سعيد بن أبي هلال، عن زيد بن أيمن عن عبادة بن نسيء عن أبي الدرداء قال أبو محمد عبد الحق: وزيد بن أيمن لا أعلم رواة عنه إلا سعيد بن هلال. قال المؤلف: قال البخاري في التاريخ: زيد بن أيمن عن عبادة بن نسيء مرسل روي عنه سعيد بن هلال.

باب في انقراض هذا الخلق وذكر النفخ والصعق وكم بين النفختين؟ وذكر البعث والنشر والنار

والله أعلم. باب في انقراض هذا الخلق وذكر النفخ والصعق وكم بين النفختين؟ وذكر البعث والنشر والنار مسلم «عن عبد الله بن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يخرج الدجال في أمتي فيمكث أربعين ـ لا أدري أربعين يوماً أو أربعين شهراً أو أربعين عاماً ـ فيبعث الله تعالى عيسى بن مريم عليه السلام كأنه عروة بن مسعود فيطلبه فيهلكه ثم يمكث الناس سبع سنين ليس بين إثنين عداوة، ثم يرسل الله عز وجل ريحاً باردة من قبل الشمال، فلا يبقى على وجه الأرض أحد في قلبه مثقال ذرة من خير أو إيمان إلا قبضته حتى إن أحدكم لو دخل في كبد جبل لدخلت عليه حتى تقبضه فيبقى شرار الناس في خفة الطير وأحلام السباع لا يعرفون معروفاً، ولا ينكرون منكراً، فيتمثل لهم الشيطان فيقول: ألا تستجيبون؟ فيقولون: فما تأمرنا؟ فيأمرهم بعبادة الأوثان وهم في ذلك دار رزقهم، حسن عيشهم ثم ينفخ في الصور فلا يسمعه أحد إلا أصغى ليتا ورفع ليتاً قال: فأول من يسمعه رجل يلوط حوض إبله فيصعق ويصعق الناس ثم قال يرسل الله، أو قال ينزل الله مطراً كأنه الطل فينبت منه أجساد الناس {ثم نفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون} ثم يقال: يا أيها الناس هلموا إلى ربكم {وقفوهم إنهم مسؤولون} ثم يقال: أخرجوا بعث النار فيقال: من كم؟ فيقال: من كل

ألف تسعمائة وتسعة وتسعين قال: فذلك يوم يجعل الولدان شيباً وذلك يوم يكشف عن ساق» . مسلم «عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما بين النفختين أربعون قالوا: يا أبا هريرة أربعين يوماً؟ قال: أبيت قالوا: أربعين شهراً؟ قال: أبيت. قالوا؟ أربعين عاماً؟ قال: أبيت، ثم ينزل الله من السماء ماء فينبتون كما ينبت البقل. قال: وليس من الإنسان شيء إلا يبلى. إلا عظماً واحداً» وفي رواية «لا تأكله الأرض أبداً» وهو عجب الذنب ومنه يركب الخلق يوم القيامة. وعند ابن وهب في هذا الحديث «فأربعون جمعة» ؟ قال أبيت وإسناده منقطع. فصل: هذان الحديثان مع صحتهما في غاية البيان فيما ذكرناه ويزيدهما أيضاً بياناً في أبواب، ويأتي ذكر الدجال مستوعباً في الأشراط. إن شاء الله تعالى. وأصغى معناه: أمال. ليتا يعني صفحة العنق. ويلوط معناه: يطين ويصلح، وقول أبي هريرة أبيت: فيه تأويلان. الأول: أبيت أي امتنعت من بيان ذلك تفسيره وعلى هذا كان عنده علم من ذلك أي سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم.

الثاني: أبيت أي أبيت أن أسأل عن ذلك النبي صلى الله عليه وسلم وعلى هذا لم يكن عنده علم من ذلك. والأول أظهر وإنما لم يبينه لأنه لم ترهق لذلك حاجة، ولأنه ليس من البينات والهدى الذي أمر بتبليغه، وفي البخاري عنه أنه قال: حفظت وعاءين من علم فأما أحدهما فبثثته، وأما الآخر فلو بثثته لقطع مني هذا البلعوم، قال أبو عبد الله: البلعوم: مجرى الطعام، وقد جاء أن بين النفختين أربعين عاماً، والله أعلم وسيأتي. وذكر هناد بن السدي قال: حدثنا وكيع عن سفيان، عن السدي سألت سعيد بن جبير عن هذه الآية {له ما بين أيدينا وما خلفنا وما بين ذلك} فلم يجبني فسمعنا أنه ما بين النفختين، حدثنا وكيع عن أبي جعفر الرازي عن أبي العالية وما بين ذلك قال: ما بين النفختين. والله أعلم.

باب في قول الله تعالى

باب في قول الله تعالى {ونفخ في الصور فصعق من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله} وهم الملائكة، أو الشهداء، أو الأنبياء، أو حملة العرش، أو جبريل، أو ميكائيل، أو ملك الموت. صعق: مات. روى الأئمة عن أبي هريرة قال: قال رجل من اليهود بسوق المدينة: والذي اصطفي موسى على البشر. فرفع رجل من الأنصار يده فلطمه. قال: تقول هذا وفينا رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فذكرت ذلك لرسول الله قال الله عز وجل {ونفخ في الصور فصعق من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله ثم نفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون} فأكون أول من رفع رأسه فإذا أنا بموسى آخذ بقائمة من قوائم العرش فلا أدري أرفع رأسه قبلي. أو كان ممن استثنى الله. ومن قال: [أنا خبر من يونس بن متى: فقد كذب] لفظ ابن ماجه أخرجه عن أبي بكر بن أبي شيبة عن علي بن مسهر، وأخرجه الترمذي عن أبي كريب محمد بن العلاء. قال: حدثنا عبدة بن سليمان جميعاً، عن محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة. قال الترمذي: حديث حسن صحيح، وأخرجه البخاري ومسلم بمعناه. فصل: واختلف العلماء في المستثنى: من هو؟ فقيل الملائكة. وقيل الأنبياء. وقيل الشهداء واختاره الحليمي قال: وهو مروي عن ابن عباس أن

الاستتثناء لأجل الشهداء. فإن الله تعالى يقول: {أحياء عند ربهم يرزقون} وضعف غيره من الأقوال على ما يأتي وقال شيخنا أبو العباس: والصحيح أنه لم يرد في تعيينهم خبر صحيح، والكل محتمل. قلت: قد ورد حديث أبي هريرة بأنهم الشهداء وهو الصحيح على ما يأتي: وأسند النحاس في كتاب معاني القرآن له حدثنا الحسين بن عمر الكوفي قال: حدثنا هناد بن السرى قال: حدثنا وكيع، عن شعبة عمارة ابن أبي حفصة، عن حجر الهجري، عن سعيد بن جبير في قول الله عز وجل {إلا من شاء الله} قال: هم الشهداء هم ثنية الله عز وجل متقلدو السيوف حول العرش.

وقال الحسن: استثنى طوائف من الملائكة يموتون بين النفختين. قال يحيى بن سلام في تفسيره: بلغني أن آخر من يبقى منهم: جبريل وميكائيل وإسرافيل وملك الموت. ثم يموت جبريل وميكائيل وإسرافيل ثم يقول الله عز وجل لملك الموت: مت. فيموت. وقد جاء هذا مرفوعاً في حديث أبي هريرة الطويل على ما يأتي. وقيل: هم حملة العرش وجبريل وميكائيل. ملك الموت. وقال الحليمي: من زعم أن الاستثناء لأجل حملة العرش أو جبريل وميكائيل وملك الموت أو زعم أنه لأجل الولدان والحور العين في الجنة أو زعم أنه لأجل موسى فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أنا أول من تنشق عنه الأرض فأرفع رأسي فإذا موسى متعلق بقائمة من قوائم العرش، فلا أدري أفاق قبلي أو كان ممن استثنى الله عز وجل» ؟ فإنه لم يصح شيء منها. أم الأول: فإن حملة العرش ليسوا من سكان السموات

والأرض لأن العرش فوق السموات كلها، فكيف يكون حملته في السموات؟ وأما جبريل وميكائيل وملك الموت فمن الصافين المسبحين حول العرش. وإذا كان العرش فوق السموات لم يكن الاصطفاف حوله في السموات. وكذلك القول الثاني لأن الولدان والحور في الجنة والجنات. وإن كان بعضها أرفع من بعض فإن جميعها فوق السموات ودون العرش، وهي بانفرادها عالم مخلوق للبقاء فلا شك أنها بمعزل عما خلق الله تعالى للفناء، وصرفه إلى موسى فلا وجه لأنه قد مات بالحقيقة فلا يموت عند نفخ الصور ثانية، ولهذا لم يعتد في ذكر اختلاف المتأولين في الاستثناء بقول من قال: إلا من شاء الله، أي الذين سبق موتهم قبل نفخ الصور. لأن الاستثناء إنما يكون لمن يمكن دخوله في الجملة، فأما من لا يمكن دخوله في الجملة فيها فلا معنى لاستثنائه منها، والذين ماتوا قبل نفخ الصور ليسوا بغرض أن يصعقوا. فلا وجه لاستثنائهم. وهذا في موسى موجود فلا وجه لاستثنائه. وقال النبي صلى الله عليه وسلم في ذكر موسى ما يعارض الرواية الأولى وهو أن قال: «الناس يصعقون يوم القيامة فأكون أول من يفيق. فإذا أنا بموسى آخذ بقائمة من قوائم العرش. فلا أدري أفاق قبلي أو جوزي بصعقة الطور؟» فظاهر هذا الحديث: أن هذه صعقة غشى تكون يوم القيامة لا صعقة الموت الحادثة عن نفخ

الصور. وصرف ذكر يوم القيامة إلى أنه أراد أوائله قيل: المعنى: أن الصور إذا نفخ فيه أخرى كنت أول من يرفع رأسه، فإذا بموسى آخذ بقائمة من قوائم العرش، فلا أدري أفاق قبلي أو جوزي بصعقة الطور؟ أي فلا أدري أبعثه قبلي كان وهباً له وتفصيلاً من هذا الوجه، كما فضل في الدنيا بالتكليم أو كان جزاء له بصعقة الطور، أي قدم بعثه على بعث الأنبياء الأخرين بقدر صعقته عندما تجلى ربه للجبل إلى أن أفاق ليكون هذا جزاء له بها. وما عدا هذا فلا يثبت.

قال شيخنا أحمد بن عمر: وظاهر حديث النبي صلى الله عليه وسلم يدل على أن ذلك إنما هو بعد النفخة الثانية نفخة البعث، ونص القرآن يقتضي أن ذلك الاستثناء إنما هو بعد نفخة الصعق. ولما كان هذا قال بعض العلماء: يحتمل أن يكون موسى عليه السلام، ممن لم يمت من الأنبياء وهذا باطل بما تقدم من ذكر موته، وقال القاضي عياض: يحتمل أن يكون المراد بهذه صعقة فزع بعد النشر حين تنشق السموات والأرض، قال: فتستقل الأحاديث والآيات والله أعلم. قال شيخنا أبو العباس: وهذا يرده ما جاء في الحديث أنه عليه السلام حين يخرج من قبره يلقى موسى وهو متعلق بالعرش، وهذا إنما هو عند نفخة البعث. قال شيخنا أحمد بن عمر: والذي يزيح هذا الإشكال إن شاء الله تعالى أن الموت ليس بعدم محض، وإنما هو انتقال من حال إلى حال، ويدل على ذلك: أن الشهداء بعد قتلهم وموتهم أحياء عند ربهم يرزقون، فرحين مستبشرين، وهذه صفة الأحياء في الدنيا وإذا كان هذا في

الشهداء، كان الأنبياء بذلك أحق وأولى، مع أنه قد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم «أن الأرض لا تأكل أجساد الأنبياء» وأن النبي صلى الله عليه وسلم قد اجتمع بالأنبياء ليلة الإسراء في بيت المقدس، وفي السماء وخصوصاً بموسى وقد أخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم بما يقتضي ان الله تبارك وتعالى يرد عليه روحه حتى يرد السلام على كل من يسلم عليه إلى غير ذلك مما يحصل من جملته القطع بأن موت الأنبياء إنما هو راجع إلى أن غيبوا عنا بحيث لا تدركهم، وإن كانوا موجودين أحياء، وذلك كالحال في الملائكة فإنهم موجودون أحياء ولا يراهم أحد من نوعنا إلا من خصه الله بكرامة من أوليائه. وإذا تقرر أنهم أحياء فإذا نفخ في الصور نفخة الصعق صعق كل من في السموات ومن في الأرض إلا من شاء الله فأما صعق غير الأنبياء فموت. وأما صعق الأنبياء، فالأظهر: أنه غشية. فإذا نفخ في الصور نفخة البعث، فمن مات حيي ومن غشي عليه أفاق. وكذلك قال صلى الله عليه وسلم في صحيح مسلم والبخاري: «فأكون أول من يفيق» وهي رواية صحيحة وحسنة، فنبينا صلى الله عليه وسلم أول من يخرج من قبره قبل الناس كلهم قبل الأنبياء وغيرهم إلا موسى، فإنه حصل له فيه تردد: هل بعث قبله من غشيته

أو بقي على الحالة التي كان عليها قبل نفخة الصعق مفيقاً لأنه حوسب بغشية الطور؟ وهذه فضيلة عظيمة في حق موسى عليه السلام. ولا يلزم من فضيلة أحد الأمرين المشكوك فيهما فضيلة موسى عليه السلام على محمد مطلقاً لأن الشيء الجزئي لا يوجب أمراً كلياً. والله أعلم. قال المؤلف: ما اختاره شيخنا هو ما ذكره الحليمي واختاره في قوله فإن حمل عليه الحديث فذاك. قال الحليمي: وأما الملائكة الذين ذكرناهم صلوات الله عليهم فإنا لم ننف عنهم الموت. ولا أحلناه، وإنما أبينا أن يكونوا هم المرادين بالاستثناء من الوجه الذين ذكرناه، ثم قد وردت الأخبار بأن الله تعالى يميت حملة العرش وملك الموت وميكائيل ثم يميت آخر من يميت: جبريل ويحييه مكانه ويحي هؤلاء الملائكة الذي ذكرناهم. وأما أهل الجنة فلم يأت عنهم خبر: والأظهر أنها دار الخلد. فالذي يدخلها لا يموت فيها أبداً مع كونه قابلاً للموت، والذي خلق فيها أولى ألا يموت فيها أبداً. وأيضاً فإن الموت لقهر المكلفين. ونقلهم من دار إلى دار، وأهل الجنة لم يبلغنا أن عليهم تكليفاً، فإن أعفوا من الموت كما أعفوا من التكليف لم يكن بعيداً. فإن قيل: فقد قال الله تعالى {كل شيء هالك إلا وجهه} وهو يدل على أن الجنة نفسها تفنى ثم تعاد يوم الجزاء، فلم أنكرتم أن يكونوا الولدان والحور يموتون ثم يحيون؟ قيل: يحتمل معنى قوله: {كل شيء هالك إلا وجهه} أي ما من شيء

إلا وهو قابل للهلاك فيهلك إن أراد الله به ذلك إلا وجهه أي إلا هو سبحانه، فإنه تعالى قديم والقديم لا يمكن أن يفنى وما عداه محدث، والمحدث إنما يبقى قدر ما يبقيه محدثه فإذا حبس البقاء عنه فني. ولم يبلغنا في خبر صحيح ولا معلول أنه يهلك العرش فلتكن الجنة مثله. فصل: قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث: «ومن قال أنا خير من يونس بن متى فقد كذب» . للعلماء في تأويلات: أحسنها وأجملها ما ذكره القاضي أبو بكر بن العربي قال: أخبرني غير واحد من أصحابنا عن إمام الحرمين أبي المعالي عبد الملك بن عبد الله بن يوسف الجويني أنه سئل: هل الباري في جهة؟ فقال: لا هو متعال عن ذلك. قيل له: ما الدليل عليه؟ قال الدليل عليه قول النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تفضلوني على يونس بن متى» فقيل له: ما وجه الدليل من هذا الخبر؟ فقال لا أقوله حتى يأخذ ضيفي هذا ألف دينار يقضي بها ديناً، فقام رجلان فقالا: هي علينا. فقال: لا يتبع بها اثنين لأنه يشق عليه. فقال واحد: هي علي. فقال: إن يونس بن متى رمى بنفسه في البحر فالتقمته الحوت، وصار في قعر البحر في ظلمات ثلاث ونادى {لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين} كما أخبر الله ولم يكن

محمد صلى الله عليه وسلم حين جلس على الرفرف الأخضر وارتقى به صعداً حتى انتهى به إلى موضع يسمع فيه صريف الأقلام وناجاه ربه بما ناجاه به وأوحى إليه ما أوحى بأقرب إلى الله من يونس في ظلمة البحر. قال المؤلف: فالله سبحانه قريب من عباده يسمع دعاءهم، ولا يخفى عليه حالهم، كيف ما تصرفت من غير مسافة بينه وبينهم، فيسمع ويرى دبيب النملة السوداء على الصخرة الصماء، في الليلة الظلماء، تحت الأرض السفلى، كما يسمع ويرى تسبيح حملة عرشه من فوق السبع السموات العلى، سبحانه لا إله إلا هو عالم الغيب والشهادة، أحاط بكل شيء علما، وأحصى كل شيء عددا،

باب يفنى العباد ويبقى الملك الله وحده

ولقد أحسن أبو العلاء بن سليمان المغربي حيث يقول: يا من يرى مد البعوض جناحها ... في ظلمة الليل البهيم الأليل ويرى مناط عروقها في لحمها ... والمخ في تلك العظام النحل أجالها محتومة، أرزاقها ... مقسومة بعطا، وإن لم تسأل فلقد سألتك بالنبي محمد ... الهاشمي المدثر المزمل إمنن علي بتوبة تمحو بها ... ما كان مني في الزمان الأول باب يفنى العباد ويبقى الملك الله وحده البخاري ومسلم «عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يقبض الله الأرض يوم القيامة ويطوي السماء بيمينه، ثم يقول: أنا الملك أين ملوك الأرض» ؟ و «عن عبد الله بن عمر قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يطوي الله السماء يوم القيامة. ثم يأخذهن بيده اليمنى. ثم يقول: أنا الملك أين الجبارون؟ أين المتكبرون؟ ثم يطوي الأرض بشماله. ثم يقول: أنا الملك أين الجبارون؟ أين المتكبرون؟» انفرد به مسلم. و «عن عبد الله بن مقسم أنه نظر إلى عبد الله بن عمر كيف يحكي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قال: يأخذ الله سماواته وأرضيه بيده. فيقول: أنا الله ويقبض أصابعه ويبسطها فيقول: أنا الملك» حتى نظرت إلى المنبر يتحرك من أسفل حتى إني أقول: أساقط هو برسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

فصل: هذه الأحاديث تدل على أن الله سبحانه يفني جميع خلقه أجمع كما تقدم ثم يقول الله عز وجل: {لمن الملك اليوم} فيجيب نفسه المقدسة بقوله: {لله الواحد القهار} . وقيل: إن المنادي ينادي بعد حشر الخلق على أرض بيضاء مثل الفضة لم يعص الله عليها على ما يأتي {لمن الملك اليوم} فيجيبه العباد {لله الواحد القهار} رواه أبو وائل عن ابن مسعود واختاره أبو جعفر النحاس قال: والقول صحيح عن ابن مسعود وليس هو مما يؤخذ بالقياس ولا بالتأويل. قال المؤلف رضي الله عنه: والقول الأول أظهر لأن المقصود إظهاره انفراده تعالى بالملك عند انقطاع دعوى المدعين وانتساب المنتسبين. إذ قد ذهب كل ملك وملكه وكل جبار ومتكبر وملكه، وانقطعت نسبتهم ودعاويهم وهذا أظهر. وهو قول الحسن ومحمد بن كعب وهو مقتضى قوله الحق: «أنا المالك أين ملوك الأرض» ؟ . وفي حديث أبي هريرة «ثم يأمر الله عز وجل إسرافيل فينفخ نفخة الصعق فيصعق من في السموات ومن في الأرض إلا ما شاء الله. فإذا اجتمعوا أمواتاً جاء ملك الموت إلى الجبار فيقول: قد مات أهل السماء

والأرض إلا ما شئت. فيقول الله سبحانه ـ وهو أعلم ـ من بقي؟ فيقول يا رب بقيت أنت الحي الذي لا تموت وبقي حملة العرش وبقي جبريل وميكائيل وإسرافيل وبقيت أنا. فيقول الله عز وجل: ليمت جبريل وميكائيل. فينطق الله عز وجل العرش. فيقول أي رب يموت جبريل وميكائيل؟ فيقول: اسكت إني كتبت الموت على كل من تحت عرشي فيموتان. قال: ثم يأتي ملك الموت إلى الجبار جل جلاله. فيقول يا رب قد مات جبريل وميكائيل قيول الله سبحانه ـ وهو أعلم ـ من بقي؟ فيقول يا رب بقيت أنت الحي الذي لا تموت وبقي حملة عرشك وبقيت أنا. فيقول: ليمت حملة العرش. فيموتون فيأمر الله العرش فيقبض الصور من إسرافيل. ثم يقول: ليمت إسرافيل. فيموت. ثم يأتي ملك الموت فيقول يا رب قد مات حملة عرشك. فيقول ـ وهو أعلم ـ من بقي؟ فيقول بقيت أنت الحي الذي لا تموت، وبقيت أنا. فيقول الله: أنت خلق من خلقي خلقتك لما رأيت فمت فيموت. فإذا لم يبق إلا الله الواحد الأحد الصمد الذي لم يتخذ صاحبة ولا ولداً {لم يلد ولم يولد * ولم يكن له كفواً أحد} . فكان كما كان أولاً طوى السماء كطي السجل للكتاب. ثم قال: أنا الجبار. {لمن الملك اليوم} فلم يجبه أحد فيقول جل ثناؤه وتقدست أسماؤه {لله الواحد القهار} » . قلت: حديث أبي هريرة هذا فيه طول وهذا وسطه ويأتي آخره في الباب بعد هذا ويأتي أوله بعد ذلك إن شاء الله تعالى فيتصل جميعه إن شاء الله تعالى.

ذكره الطبري وعلي بن معبد والثعلبي وغيرهم. وفي حديث لقيط بن عامر عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ثم تلبثون ما لبثتم. ثم تبعث الصيحة فلعمر إلهك ما تدع على ظهرها من شيء إلا مات والملائكة الذين مع ربك فأصبح ربك يطوف في البلاد وقد خلت عليه البلاد» وذكر الحديث وهو حديث فيه طول. خرجه أبو داود الطيالسي في مسنده وغيره الأوزاعي قال علماؤنا: قوله: «فأصبح ربك يطوف بالبلاد وقد خلت عليه البلاد» إنما هو تفهم وتقريب إلى أن جميع من في الأرض يموت. وأن الأرض تبقى خالية وليس يبقى إلا الله كما قال: {كل من عليها فان * ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام} وعند قوله سبحانه {لمن الملك اليوم} هو انقطاع زمن الدنيا وبعده يكون البعث والنشر والحشر على ما يأتي.

وفي فناء الجنة والنار عند فناء جميع الخلق قولان: أحدهما: يفنيهما ولا يبقى شيء سواه وهو معنى قوله الحق: {هو الأول والآخر} وقيل: إنه مما لا يجوز عليهما الفناء وإنهما باقيان بإبقاء الله سبحانه. والله أعلم. وقد تقدم في الباب قبل هذا الإشارة إلى ذلك. وقد قيل: إنه ينادي مناد فيقول: {لمن الملك اليوم} ؟ فيجيبه أهل الجنة: {لله الواحد القهار} . فصل: في بيان ما أشكل من الحديث من ذكر اليد والأصابع إن من قائل: ما تأويل اليد عندكم واليد حقيقتها في الجارحة المعلومة عندنا. وتلك التي يكون القبض والطي بها؟ قلنا: لفظ الشمال أشد في الإشكال. وذلك في الإطلاق على الله محال. والجواب: أن اليد في كلام العرب لها خمسة معان:

تكون بمعنى القوة. ومنه قوله تعالى: {واذكر عبدنا داود ذا الأيد} وتكون بمعنى الملك والقوة. ومنه قوله تعالى: {قل إن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء} وتكون بمعنى النعمة. تقول العرب: كم يد لي عند فلان أي كم من نعمة أسديتها إليه. وتكون بمعنى الصلة. ومنه قوله تعالى {مما عملت أيدينا أنعاماً} أي مما عملنا نحن. وقال تعالى: {أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح} أي الذي له النكاح. وتكون بمعنى الجارحة. ومنه قوله تعالى: {وخذ بيدك ضغثاً فاضرب به ولا تحنث} . وقو له في الحديث [بيده] عبارة عن قدرته وإحاطته بجميع مخلوقاته، يقال: ما فلان إلا في قبضتي. بمعنى: ما فلان إلا في قدرتي. والناس يقولون: الأشياء في قبضة الله يريدون في ملكه وقدرته، وقد يكون معنى القبض والطي: إفناء الشيء وإذهابه فقوله عز وجل: {والأرض جميعاً قبضته يوم القيامة} يحتمل أن يكون المراد به الأرض جميعاً

ذاهبة فانية يوم القيامة. وقوله: {والسماوات مطويات بيمينه} ليس يريد به طياً بعلاج وانتصاب، وإنما المراد بذلك الفناء والذهاب. يقال: قد انطوى عنا ما كنا فيه وجاءنا غيره وانطوى عنا دهر بمعنى المضي والذهاب.

فإن قيل: فقد قال في الحديث: «ويقبض أصابعه ويبسطها» وهذه حقيقة الجارحة؟ قلنا: هذا مذهب المجسمة من اليهود والحشوية. والله تعالى متعال عن ذلك وإنما المعنى حكاية الصاحب عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يقبض أصابعه ويبسطها وليس معنى اليد في الصفات بمعنى الجارحة حتى يتوهم بثبوتها ثبوت الأصابع، فدل على أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هو الذي كان يقبض أصابعه ويبسطها. قال الخطابي وذكر الأصابع لم يوجد في شيء من الكتاب والسنة المقطوع بصحتهما. فإن قيل: فقد ورد ذكر الأصابع في غير ما حديث فما جوابكم عنه؟ فقد روى البخاري ومسلم قال: أتى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رجل من أهل الكتاب فقال: يا أبا القاسم أبلغك أن الله تعالى يحمل السموات على أصبع، والأرضين على أصبع، والشجر على أصبع، والثرى على أصبع، والخلائق على أصبع؟ فضحك رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى بدت نواجذه فأنزل الله عز وجل {وما قدروا الله حق قدره،

والأرض جميعاً قبضته يوم القيامة، والسماوات مطويات بيمينه} . وروى «عن عبد الله بن عمرو أنه سمع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: إن قلوب بني آدم كلها بين أصبعين من أصابع الرحمن كقلب واحد يصرفها حيث يشاء ثم قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اللهم مصرف القلوب صرف قلوبنا على طاعتك» ومثله كثير. قيل له: اعلم أن الأصابع قد يكون بمعنى الجارحة والله تعالى يتقدس عن ذلك، ويكون بمعنى القدرة على الشيء، ويسارة تقليبه، كما تقول من استسهل شيئاً واستخفه مخاطباً لمن استثقله: أنا أحمله على أصبعي وارفعه علي بأصبعي، وأمسكه بخنصري. وكما يقال من أطاع بحمل شيء: أنا أحمله على عيني وأفعله على رأسي. يعني به الطواعية وما أشبه ذلك. قد قال في معناه وهو كثير. ومما قال عنترة وقيل ابن زيادة التيمي: الرمح لا أملأ كفي به ... واللبد لا أتبع تزواله

يريد أنه لا يتكلف أن يجمع كفه فيشتمل على الرمح لكن يطعن به خلساً بأصابعه لخفة ذلك عليه. وقوله: لا أتبع تزواله: أي إذا مال لم أمل معه. يقول: أنا ثابت على ظهر الخيل لا يضرني فقد بعض الآلة، ولا تغير السرج عما يريده الراكب. يصف نفسه بالفروسية في الركوب والطعن، فلما كانت السموات والأرض أعظم الموجودات قدراً وأكبرها خلقاً كان إمساكها بالنسبة إلى الله تعالى كالشيء الحقير الذي نجعله نحن بين أصابعنا ونهزه بأيدينا، ونتصرف فيه كيف شئنا فتكون الإشارة بقوله: «ثم يقبض أصابعه ويبسطها» وبقوله: «ثم يهزهن» كما جاء في بعض طرق مسلم وغيره. أي هي في قدرته كالحبة مثلاً في كف أحدنا التي لا نبالي بإمساكها ولا بهزها ولا تحريكها، ولا القبض والبسط عليها، ولا نجد في ذلك صعوبة ولا مشقة، وقد يكون الأصبع أيضاً في كلام العرب بمعنى النعمة وهو المراد بقوله عليه السلام: «إن قلوب بني آدم بين أصبعين من أصابع الرحمن» أي بين نعمتين من نعم الرحمن يقال: لفلان علي أصبع أي أثر حسن إذا أنعم عليه نعمة حسنة، وللراعي على ماشيته أصبع أي أثر حسن. وأنشد الأصمعي للراعي: ضعيف العصي بادي العروق ترى له ... عليها إذا ما أجدب الناس أصبعاً

وقال آخر: صلاة وتسبيح وإعطاء سائل ... وذي رحم تبل منك أصبع أي أثر حسن. وقال آخر: من يجعل الله عليه أصبعاً ... في الخير والشر يلقاه معاً فإن قيل: كيف جاز إطلاق الشمال على الله تعالى وذلك يقتضي النقص؟ قيل: هو مما انفرد به عمر بن حمزة عن سالم، وقد روى هذا الحديث نافع وعبد الله بن مقسم عن ابن عمر لم يذكرا فيه الشمال. ورواه أبو هريرة وغيره عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولم يذكر فيه واحد منهم الشمال. وقال البيهقي وروى ذكر الشمال في حديث آخر في غير هذه القصة إلا أنه ضعبف بمرة، تفرد باحداهما جعفر بن الزبير والاخر يزيد الرقاشى وهما متروكان

وكيف يصح ذلك وصحيح عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه سمى كلتا يديه يميناً؟ وكان من قال ذلك أرسله من لفظه على ما وقع له أو على عادة العرب في ذكر الشمال في مقابلة اليمين. قال الخطابي: ليس فيما يضاف إلى الله عز وجل من صفة اليد شمال، لأن الشمال محل النقص والضعف. وقد روى «كلتا يديه يمين» وليس معنى اليد عندنا الجارحة، وإنما هي صفة جاء بها التوقيف فنحن نطلقها على ما جاءت ولا نكفيها. وننتهي إلى حيث انتهى بنا الكتاب والسنة المأثورة الصحيحة، وهو مذهب أهل السنة والجماعة. وقد يكون اليمين في كلام العرب بمعنى القدرة والملك ومنه قوله تعالى: {أو ما ملكت أيمانكم} يريد بها الملك، وقال {لأخذنا منه باليمين} أي بالقوة والقدرة أي أخذنا قدرته وقوته. قال الفراء: اليمين القوة والقدرة وأنشد: إذا ما رايةً رفعت لمجد ... تلقاها عرابة باليمين وقال آخر:

باب البرزخ

ولما رأيت الشمس أشرق نورها ... تناولت منها حاجتي بيميني فقلت: شنيفاً ثم فاران بعده ... وكان على الآيات غير أمين قلت: وعلى هذا التأويل تخرج الآية والحديث والله أعلم. وقد تكون اليمين في كلام مالك العرب بمعنى: التبجيل والتعظيم. يقال عندنا باليمين أي بالمحل الجليل ومنه قول الشاعر: أقول لناقتي إذ بلغتني ... لقد أصبحت عندي باليمين أي بالمحل الرفيع وأما قوله: كلتا يديه يمين فإنه فإنه أراد بذلك التمام والكمال، وكانت العرب تحب التيامن وتكره التياسر لما في التياسر من النقصان، وفي التيامن من التمام. فإن قيل: فأين يكون الناس عند طي الأرض والسماء؟ قلنا: يكونون على الصراط على ما يأتي بيانه إن شاء الله تعالى. باب البرزخ روى هناد بن السري قال حدثنا محمد بن فضيل، ووكيع عن فطر قال سألت مجاهداً عن قول الله تعالى: {ومن ورائهم برزخ إلى يوم يبعثون} قال هو مابين الموت والبعث. وقيل للشعبي: مات فلان. قال: ليس هو في الدنيا ولا في

باب ذكر النفخ الثاني للبعث في الصور

الآخرة هو في برزخ، والبرزخ في كلام العرب الحاجز بين الشيئين. ومن قوله تعالى: {وجعل بينهما برزخاً} أي: حاجزاً وكذلك هو في الآية من وقت الموت إلى البعث فمن مات فقد دخل في البرزخ وقوله تعالى: {ومن ورائهم برزخ} أي من أمامهم وبين أيديهم. باب ذكر النفخ الثاني للبعث في الصور وبيانه وكيفية البعث وبيانه. وأول من تنشق عنه الأرض. وأول من يحيى من الخلق. وبيان السن الذي يخرجون عليه من قبورهم. وفي لسانهم. وبيان قوله تعالى {وألقت ما فيها وتخلت} قال الله عز وجل {يوم ينفخ في الصور عالم الغيب والشهادة} وقال: {فإذا نفخ في الصور فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون} وقال {ثم نفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون} وقال {يوم ينفخ في الصور فتأتون أفواجاً} وسماه الله تعالى أيضاً بالناقور في قوله تعالى {فإذا نقر في الناقور} . قال المفسرون: الصور ينقر فيه مع النفخ الأول لموت الخلق على ما يأتي بيانه، قال الله تعالى مخبراً عن كفار قريش {ما ينظرون} أي ما ينظرون كفار آخر هذه الأمة الدائنون بدين أبي جهل وأصحابه ـ إلا صيحة واحدة ـ يعني النفخة الأولى التي يكون بها هلاكهم {تأخذهم وهم يخصمون} أي يختصمون في أسواقهم وحوائجهم. قال الله: {لا تأتيكم إلا بغتة} {

فلا يستطيعون توصية} أي أن يوصوا {ولا إلى أهلهم يرجعون} أي من أسواقهم وحيث كانوا {إن كانت إلا صيحة واحدة فإذا هم خامدون} ، {ونفخ في الصور فإذا هم من الأجداث} النفخة هي النفخة الثانية نفخة البعث. والصور: قرن من نور يجعل فيه الأرواح يقال إن فيه من الثقب على عدد أرواح الخلائق على ما يأتي. قال مجاهد هو كالبوق ذكره البخاري، فإذا نفخ فيه صاحب الصور النفخة الثانية ذهب كل روح إلى جسده {فإذا هم من الأجداث} أي القبور {ينسلون} أي يخرجون سراعاً يقال نسل ينسل وينسل بالضم أيضاً: إذا أسرع في مشيه فالمعنى يخرجون مسرعين وفي الخبر: أن بين النفختين أربعين عاماً. وسيأتي. وفي البخاري عن ابن عباس في قوله تعالى: {فإذا نقر في الناقور} : الصور: قال: و [الراجفة] النفخة الأولى [والرادفة] الثانية. وروي عن مجاهد أنه قال: للكافرين هجعة قبل يوم القيامة يجدون فيها طعم النوم، فإذا صيح بأهل القبور قاموا مذعورين عجلين ينظرون مايراد بهم لقوله تعالى: {ثم نفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون} وقد أخبر الله عز وجل عن الكفار أنهم يقولون {يا ويلنا من بعثنا من مرقدنا} ؟ فيقول لهم الملائكة أو المؤمنون على اختلاف المفسرين {هذا

ما وعد الرحمن وصدق المرسلون} وقيل إن الكفار هم القائلون: {هذا ما وعد الرحمن} وذلك أنهم لما بعثوا لما بعثوا قال بعضهم لبعض {يا ويلنا من بعثنا من مرقدنا} ؟ صدقوا الرسل لما عاينوا ما أخبروهم به ثم قالوا: {هذا ما وعد الرحمن وصدق المرسلون} فكذبنا به أقروا حين لم ينفعهم الإقرار ثم يؤمر بحشر الجميع إلى الموقف للحساب. وقال عكرمة: إن الذين يغرقون في البحر تقتسم لحومهم الحيتان فلا يبقى منهم شيء إلا العظام، فنلقيها الأمواج إلى الساحر فتمكث حيناً ثم تصير حائلة نخرة، ثم تمر بها الإبل فتأكلها ثم تسير الإبل فتبعر. ثم يجيء قوم فينزلون فيأخذون ذلك البعر فيوقدونه. ثم تخمد تلك النار فيجيء الريح فيلقي ذلك الرماد على الأرض فإذا جاءت النفخة {فإذا هم قيام ينظرون} يخرج أولئك وأهل القبور سواء {إن كانت إلا صيحة واحدة} أي نفخة واحدة {فإذا هم جميع لدينا محضرون} . قال علماؤنا رحمهم الله: فالنفخ في الصور إنما هو سبب لخروج أهل القبور وغيرهم، فيعيد الله الرفات من أبدان الأموات، ويجمع ما تفرق منها في البحار وبطون السباع وغيرها، حتى تصير كهيئاتها الأولى، ثم يجعل فيها الأرواح فتقوم الناس كلهم أحياء حتى السقط، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن السقط ليظل محبنطئاً على باب الجنة. ويقال له: ادخل الجنة فيقول لا حتى يدخل أبواي» وهذا السقط

هو الذي تم خلقه، ونفخ فيه الروح قال الله تعالى: {وإذا الموؤدة سئلت} فدل على أن المؤودة تحشر وتسأل، ومن قبرها تخرج وتبعث. وأما من لم ينفخ فيه الروح فهو سائر الأموات سواء قاله الحاكم أبو الحسين بن الحسن الحليمي رحمه الله في كتاب منهاج الدين له. وبالحقيقة إنما خروج الخلق بدعوة الحق قال الله تعالى: {يوم يدعوكم فتستجيبون بحمده} فتقومون فتقولون: سبحانك اللهم وبحمدك. قالوا: فيوم القيامة يوم يبدأ بالحمد، ويختم به. قال الله تعالى: {يوم يدعوكم فتستجيبون بحمده} وقال في آية أخرى {وقضي بينهم بالحق وقيل الحمد لله رب العالمين} . ابن ماجه قال: «حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة قال: حدثنا عباد بن العوام، عن حجاج بن عطية، عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن صاحبي الصور بأيديهما ـ أو في أيديهما ـ قرنان يلاحظان النظر متى يؤمران» . الترمذي، «عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ما لصور؟ قال: قرن ينفخ فيه» قال هذا حديث حسن. «و

عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كيف أنعم وصاحب الصور قد التقم القرن واستمع الإذن متى يؤمر بالنفخ» ؟ فكأن ذلك ثقل على أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فقال لهم: قولوا: {حسبنا الله ونعم الوكيل} قال حديث حسن. «وروي عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ماأطرق صاحب الصور منذ وكل به مستعداً بحذاء العرش مخافة أن يؤمر بالصيحة قبل أن يرتد طرفه كأن عينيه كوكبان دريات» أخرجه أبو الحسن بن صخر في فوائده وغيره. «وخرج ابن المبارك ومؤمل بن إسماعيل وعلي بن معبد عن ابن مسعود حديثاً ذكر فيه قال: ثم يقوم ملك الصور بين السماء والأرض فينفخ فيه، والصور قرن فلا يبقى لله خلق في السموات والأرض إلا مات إلا ما شاء ربك. ثم يكون بين النفختين ماشاء الله أن يكون، فليس من بني آدم خلق إلا وفي الأرض شيء منه» زاد «مؤمل بن إسماعيل قال سفيان ـ يعني

الثوري ـ عجب الذنب قال: فيرسل الله ماء من تحت العرش: منياً كمني الرجال فتنبت جثمانهم ولحمانهم كما تنبت الأرض من الثرى» ثم قرأ عبد الله {والله الذي أرسل الرياح فتثير سحاباً فسقناه إلى بلد ميت فأحيينا به الأرض بعد موتها كذلك النشور} قال: «ثم يقوم ملك الصور بين السماء والأرض فينفخ فيه فينطلق كل نفس إلى جسدها حتى تدخل فيه ثممون فيجيبون إجابة رجل واحد قياماً لرب العالمين» وقال ابن المبارك ومؤمل: «ثم يقومون فيحيون تحية واحدة» . وذكر أبو عبيد القاسم بن سلام قال: حدثنا ابن مهدي، عن سفيان، عن سلمة بن كهيل، عن أبي الزعراء، عن عبد الله بن مسعود قال: [فيقومون فيحيون تحية رجل واحد قياماً لرب العالمين] قوله [فيحيون] التحية تكون في حالين: أحدهما: أن يضع يديه على ركبتيه وهو قائم وهذا هو المعنى الذي في هذا الحديث ألا تراه يقول: [قياماً لرب العالمين] . والوجه الآخر: أن ينكب على وجهه باركاً وهذا هو الوجه المعروف عند الناس، وقد حمله بعض الناس على قوله [فيخرون سجداً لرب العالمين] فجعل السجود هو التحية وهذا هو الذي يعرفه الناس من التحية. «و

روي عن علي بن معبد عن أبي هريرة قال: حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونحن في طائفة من أصحابه وساق الحديث بطوله إلى قوله جل ثناؤه وتقدست أسماؤه {لله الواحد القهار} ثم {تبدل الأرض غير الأرض والسماوات} فيبسطها بسطاً ثم يمدها مد الأديم العكاظي {لا ترى فيها عوجاً ولا أمتاً} ثم يزجر الله الخلق زجرة واحدة، فإذا هم في هذه الأرض المبدلة في مثل ما كانوا فيه من الأولى: من كان في بطنها ومن كان على ظهرها كان على ظهرها. ثم ينزل الله عليكم ماء من تحت العرش يقال له: ماء الحياة فتمطر السماء عليكم أربعين سنة حتى يكون الماء من فوقكم اثني عشر ذراعاً. ثم يأمر الله عز وجل الأجساد فتنبت كنبات الطراثيث. وكنبات البقل حتى إذا تكلمت أجسادكم فكانت كما كانت يقول الله عز وجل: ليحى حملة العرش فيحيون. ثم يقول: ليحى جبريل وميكائيل وإسرافيل فيأمر الله إسرافيل فيأخذ الصور، ثم يدعو الله تعالى الأرواح فيؤتى بها. تتوهج أرواح المسلمين نوراً والأخرى مظلمة فيأخذها الله فيلقيها في الصور. ثم يقول لإسرافيل انفخ نفخة البعث فينفخ فتخرج الأرواح كلها كأمثال النحل قد ملأت ما بين السماء والأرض فيقول الله عز وجل: وعزتي وجلالي ليرجع كل روح إلى جسده

فتدخل الأرواح في الأرض إلى الأجساد ... ثم تدخل في الخياشيم فتمشي في الأجساد مشي السم في اللديغ ثم تنشق الأرض عنكم. وأنا أول من تنشق الأرض عنه فتخرجون منها شباباً كلكم أبناء ثلاث وثلاثين واللسان يومئذ بالسريانية سراعاً إلى ربهم ينسلون {مهطعين إلى الداع يقول الكافرون هذا يوم عسر} {ذلك يوم الخروج} {وحشرناهم فلم نغادر منهم أحداً} فتوقفون في موقف عراة غلفاً غرلاً مقدار سبعين عاماً ويعرقون حتى تبلغ منهم الأذقان، ويلجمهم فيضجون ويقولون: من يشفع لنا إلى ربنا» ؟ وساق الحديث بطوله في الشفاعة. وسيأتي حديث الشفاعة في صحيح مسلم وغيره إن شاء الله تعالى. وخرج الختلي أبو القاسم إسحاق بن إبراهيم في كتاب الديباج له: «حدثني أبو بكر بن الحارث بن خليفة، حدثنا محمد بن جعفر المدائني، عن سلام بن مسلم الطويل، عن عبد الحميد، عن نافع، عن ابن عمر، عن

النبي صلى الله عليه وسلم في قوله عز وجل {إذا السماء انشقت * وأذنت لربها وحقت} قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا أول من تنشق عنه الأرض فأجلس جالساً في قبري، فينفتح لي باب إلى السماء بحيال رأسي حتى أنظر إلى العرش، ثم يفتح لي باب من تحتي حتى أنظر إلى الأرض السابعة، حتى أنظر إلى الثرى، ثم يفتح لي باب عن يميني حتى أنظر إلى الجنة ومنازل أصحابي، وإن الأرض تحركت تحتي فقلت: ما بالك أيتها الأرض؟ قالت: أن ربي أمرني أن ألقي ما في جوفي، وأن أتخلى فأكون كما كنت إذ لا شيء في فذلك قوله عز وجل: {وألقت ما فيها وتخلت * وأذنت لربها وحقت} أي سمعت وأطاعت وحق لها أن تسمع وتطيع {يا أيها الإنسان} قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنا ذلك الإنسان» . وروي في تفسير قوله تعالى {يا أيتها النفس المطمئنة * ارجعي إلى ربك راضية مرضية} إن هذا خطاب للأرواح بأن ترجع إلى أجسادها {إلى ربك} أي صاحبك كما تقول: رب الغلام، ورب الدار، ورب الدابة، أي صاحب الغلام وصاحب الدار وصاحب الدابة {فادخلي في عبادي} أي في أجسادهم من مناخرهم كما ورد في الخبر المتقدم. وقد روي أن الله تعالى خلق الصور حين فرغ من خلق السموات والأرض. وأن عظم دارته كغلظ السماء والأرض،

وفي حديث أبي هريرة: «والذي نفسي بيده إن أعظم دارة فيه لكعرض السماء والأرض» وسيأتي. وروي: «أن له رأسين رأساً بالمشرق ورأساً بالمغرب» . فالله أعلم. فصل: الصور: بالصاد قرن ينفخ فيه النفخة الأولى للفناء، وهي نفخة الصعق ويكون معها نقر لقوله تعالى: {فإذا نقر في الناقور} أي في الصور فإذا نفخ فيه للإصعاق جمع بين النقر والنفخ لتكون الصيحة أشد وأعظم. ثم يمكث الناس أربعيم عاماً، ثم ينزل الله ماء كمني الرجال على ما تقدم، فتكون منه الأجسام بقدرة الله تعالى، حتى يجعلهم بشراً كما روي في قصة الذين يخرجون النار قد صاروا حمماً. إنهم يغتسلون من نهر بباب الجنة فينبتون نبات الحبة في حميل السيل. وعن ذلك عبر في حديث أبي هريرة المتقدم في صحيح مسلم وغيره «فينبتون نبات البقل» فإذا تهيأت الأجسام، وكملت نفخ في الصور نفخة البعث من غير نقر، لأن المراد إرسال الأرواح من ثقب الصور إلى أجسادها لا تنقيرها من أجسادها فالنفخة الأولى للتنقير، وهي نظير صوت الرعد الذي قد يقوى فيمات منه ونظير الصيحة: الصيحة الشديدة التي يصيحها الرجل بصبي فيفزع منه

فيموت، فإذا نفخ للبعث من غير نقر كما ذكرنا خرجت الأرواح من المجال التي هي فيه فتأتي كل روح إلى جسدها فيحييها الله. كل ذلك في لحظة كما قال تعالى: {فإذا هم قيام ينظرون} {ما خلقكم ولا بعثكم إلا كنفس واحدة} وعند أهل السنة أن تلك الأجساد الدنيوية تعاد بأعيانها وأعراضها بلا خلاف بينهم. قال بعضهم: بأوصافها. فيعاد الوصف أيضاً كما يعاد الجسم واللون. قال القاضي أبو بكر بن العربي: وذلك جائز في حكم الله وقدرته وهين عليه جميعه. ولكن لم يرد بإعادة الوصف خبر. قلت: فيه أخبار كثيرة في هذا الباب بعد هذا. فصل: وليس الصور جمع صورة كما زعم بعضهم أي ينفخ في صور الموتى بدليل الأحاديث المذكورة، والتنزيل يدل على ذلك. قال الله تعالى: {ثم نفخ فيه أخرى} ولم يقل: فيها، فعلم أنه ليس جمع صورة. قال الكلبي: لا أدري ما الصور؟ ويقال: هو جمع صورة مثب بسرة وبسر أي ينفخ فيصور الموتى: الأرواح وقرأ الحسن: {يوم ينفخ في الصور عالم الغيب والشهادة} . قلت: وإلى هذا التأويل في أن الصور بمعنى الصور جمع صورة. ذهب أبو عبيدة معمر بن المثنى وهو مردود بما ذكرنا. وأيضاً لا ينفخ في

الصور للبعث مرتين بل ينفخ مرة واحدة، وإسرافيل عليه السلام ينفخ في الصور الذي هو القرن والله سبحانه يحيي الصور فينفخ فيها الروح كما قال تعالى: {فنفخنا فيه من روحنا} و {نفخت فيه من روحي} . قال ابن زيد: يخلق الله الناس في الأرض الخلق الآخر ثم يأمر السماء فتمطر عليهم أربعين يوماً فينبتون فيها حتى تنشق عن رؤوسهم كما تنشق عن رأس الكمأة. فمثلها يومئذ مثل الماخض تنتظر أن يأتيها أمر الله فتطرحهم على ظهرها. فلما كانت تلك النفخة طرحتهم. قال علماؤنا: والأمم مجمعون على أن الذي ينفخ في الصور إسرافيل عليه السلام. قلت: قد جاء حديث يدل على أن الذي ينفخ في الصور غير إسرافيل خرجه أبو نعيم الحافظ قال: حدثنا أحمد بن القاسم قال: حدثنا عفان بن مسلم قال: حدثنا حماد بن سلمة عن علي بن زيد، عن عبد الله بن الحارث قال: كنت عند عائشة وعندها كعب الأحبار فذكر كعب إسرافيل فقالت عائشة: يا كعب أخبرني عن إسرافيل؟ فقال كعب عندكم العلم. قالت: أجل فأخبرني. فقال: «له أربعة أجنحة جناحان في الهواء،

وجناح قد تسربل به وجناح على كاهله، والعرش على كاهله، والقلم على أذنه، فإذا نزل الوحي كتب القلم ثم درست الملائكة، وملك الصور جاث على إحدى ركبتيه، وقد نصب الأخرى، ملتقم الصور، محنياً ظهره، شاخصاً ببصره، ينظر إلى إسرافيل، وقد أمر إذا رأى إسرافيل قد ضم جناحيه أن ينفخ في الصور» قالت عائشة؟ هكذا سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول. غريب من حديث كعب لم يروه عنه إلا عبد الله بن الحارث، ورواه خالد الحذاء عن الوليد أبي بشر عن عبد الله بن رباح عن كعب نحوه. فصل: قلت: وما خرجه أبو عيسى الترمذي وغيره يدل على أن صاحب الصور إسرافيل عليه السلام ينفخ فيه وحده. وحديث أبي عبد الله محمد بن يزيد بن ماجه يدل على أن معه غيره. وقد خرج أبو بكر البزار في مسنده، وأبو داود في كتاب الحروف من كتاب السنن «من حديث عطية العوفي، عن أبي سعيد الخدري قال: ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم صاحب الصور فقال: عن يمينه جبريل، وعن يساره ميكائيل» فلعل لأحدهما قرناً آخر ينفخ فيه والله أعلم. وذكر أبو السري عناد بن السري التيمي الكوفي. قال: حدثنا

أبو الأحوص، عن منصور، عن مجاهد، عن عبد الرحمن بن أبي عمرو قال: [ما من صباح إلا وملكان يقولون: يا طالب الخير أقبل، ويا طالب الشر أقصر، وملكان موكلان يقولان: اللهم أعط منفقاً خلفاً، وأعط ممسكاً تلفاً، وملكان موكلان يقولان سبحان الملك القدوس، وملكان موكلان بالصور] قال: وحدثنا وكيع عن الأعمش عن مجاهد عن عبد الله بن ضمرة عن كعب قال: [ما من صباح مثله سواء] وزاد بعد قوله: [وملكان موكلان بالصور: ينتظران متى يؤمران فينفخان] وعطية لا يحتج أحد بحديثه على ماذكره أبو محمد عبد الحق وغيره. فصل: واختلف في عدد النفخات: فقيل ثلاث: نفخة الفزع لقوله تعالى {ويوم ينفخ في الصور ففزع من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله وكل أتوه داخرين} ونفخة الضعف ونفخة البعث، لقوله تعالى: {ونفخ في الصور فصعق من في السموات ومن في الأرض إلا من شاء الله، ثم نفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون} وهذا اختيار ابن العربي وغيره. وسيأتي. وقيل: هما نفختان. ونفخة الفزع هي نفخة الصعق، لأن لا زمان لها أي فزعوا ماتوا منه. والسنة الثابتة على ما تقدم من

حديث أبي هريرة وحديث عبد الله بن عمر وغيرهما يدل على أنهما نفختان لا ثلاث وهو الصحيح إن شاء الله تعالى. قال الله تعالى: {ونفخ في الصور فصعق من في السموات ومن في الأرض إلا من شاء الله} فاستثنى هنا كما استثنى في نفخة الفزع فدل على أنهما واحدة. وقد روي ابن المبارك «عن الحسن قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بين النفختين أربعون سنة. الأولى: يميت الله تعالى بها كل حي. والأخرى: يحيى الله بها كل ميت» وسيأتي مزيد بيان إن شاء الله تعالى. وقال الحليمي جهنم اتفقت الروايات على أن بين النفختين أربعين سنة. وذلك بعد أن يجمع الله تعالى ما تفرق من أجساد الناس من بطون السباع، وحيوانات الماء وبطن الأرض، وما أصاب النيران منها بالحرق، والمياه بالغرق، وما أبلته الشمس، وذرته الرياح. فإذا جمعها وأكمل كل بدن منها. ولم يبقى إلا الأرواح جمع الأرواح في الصور، وأمر إسرافيل عليه السلام فأرسلها بنفخة من ثقب الصور، فرجع كل ذي روح إلى جسده بإذن الله تعالى. وجاء في بعض الأخبار ما يبين أن من أكله طائر أو سبع: حشر من جوفه. وهو ما رواه الزهري «عن أنس قال: مر رسول الله صلى الله عليه وسلم بحمزة يوم أحد وقد جذع ومثل به فقال: لولا أن تجد صفية في نفسها لتركته حتى يحشره الله من بطون السباع والطير»

باب منه في صفة البعث وما آية ذلك في الدنيا وأول ما يخلق من الإنسان رأسه

وقد أنكر بعض أهل الزيغ أن يكون الصور قرناً. قال أبو الهيثم: من أنكر أن يكون الصور قرناً، فهو كمن ينكر العرش والصراط والميزان. وطلب لها تأويلات. باب منه في صفة البعث وما آية ذلك في الدنيا وأول ما يخلق من الإنسان رأسه قال الله تعالى {وهو الذي يرسل الرياح بشراً بين يدي رحمته، حتى إذا أقلت سحاباً ثقالاً. سقناه لبلد ميت فأنزلنا به الماء فأخرجنا به من كل الثمرات كذلك نخرج الموتى لعلكم تذكرون} وقال سبحانه: {الله الذي يرسل الرياح فتثير سحاباً فيبسطه في السماء كيف يشاء} إلى قوله {فانظر إلى آثار رحمة الله كيف يحيي الأرض بعد موتها} .

{كذلك النشور} . والآيات في هذا المعنى كثيرة. وخرج أبو داود الطيالسي والبيهقي وغيرهما «عن أبي رزين العقيلي قال: قلت يا رسول الله: كيف يعيد الله الخلق؟ وما آية ذلك في خلقه؟ قال: أما مررت بوادي قومك جدباً، ثم مررت به يهتز خضراً؟ قال: نعم. قال: فتلك آية الله في الخلق» . قلت: هذا حديث صحيح لأنه موافق لنص التنزيل والحمد لله. وفي حديث «لقيط بن عامر عن النبي صلى الله عليه وسلم فأرسل ربك إلى السماء تهضب من عند العرش فلعمر إلهك ما تدع على ظهرها من مصرع قتيل ولا مدفن ميت إلا شقت القبر عنه حتى يخلق من قبل رأسه» وذكر الحديث. باب يبعث كل عبد على ما مات عليه مسلم «عن جابر بن عبد الله قال سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: يبعث كل عبد على ما مات عليه» .

وعن «عبد الله بن عمر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إذا أراد الله بقوم عذاباً أصاب العذاب من كان فيهم، ثم بعثوا على نياتهم» خرجه البخاري. ولفظ «البخاري عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أنزل الله بقوم عذاباً أصاب العذاب من كان فيهم ثم بعثوا على أعمالهم» . مالك «عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: والذي نفسي بيده لا يكلم أحد في سبيل الله ـ والله أعلم بمن يكلم في سبيله ـ إلا جاء يوم القيامة وجرحه يثعب دماً اللون لون الدم، والعرف عرف المسك» خرجه البخاري ومسلم. أبو داود عن «عبد الله بن عمرو أنه قال: يا رسول الله، أخبرني عن الجهاد والغزو. فقال: يا عبد الله إن قتلت صابراً محتسباً بعثت صابراً محتسباً. وإن قتلت مرائياً مكاثراً بعثت مرائياً مكاثراً على أي حال قاتلت أو قتلت بعثك الله بتلك الحال» . وروى أبو هدبة إبراهيم بن هدبة قال: «حدثنا أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من مات سكران فإنه يعاين ملك الموت سكران، ويعاين منكراً ونكيراً سكران، ويبعث يوم القيامة سكران إلى حندق في سوط جهنم يسمى السكران، فيه عين يجري ماؤها دماً، لا يكون له طعام ولا شراب إلا منه» .

مسلم عن «ابن عباس أن رجلا كان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم محرماً فوقصته ناقته فمات فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم اغسلوه بماء وسدر، وكفنوه في ثوبه، ولا تمسوه بطيب، ولا تخمروا رأسه، فإنه يبعث يوم القيامة ملبياً» وفي رواية [ملبداً] أخرجه البخاري. وروى عباد بن كثير، عن الزبير، عن جابر قال: [إن المؤذنين والملبين يخرجون يوم القيامة من قبورهم يؤذن المؤذن. ويلبي الملبي] ذكره الحليمي الحافظ في كتاب المنهاج له وسيأتي بكماله. وذكر أبو القاسم إسحاق بن إبراهيم بن محمد الختلي في كتاب الديباج له «حدثنا أبو محمد عبد الله بن يونس بن بكير، حدثنا أبي، عن عمرو بن سمير عن جابر، عن محمد بن علي، عن ابن عباس وعلي بن حسين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال أخبرني جبريل عليه السلام أن: لا إله إلا الله أنس للمسلم عند موته، وفي قبره، وحين يخرج من قبره، يا محمد لو تراهم حين يمرقون من قبورهم بنفضون رؤوسهم هذا يقول: لا إله إلا الله، والحمد لله فيبيض وجهه. وهذا ينادي ياحسرتا على ما فرطت في جنب الله مسودة وجوههم» قال: «وحدثني يحيى بن عبد الحميد بن عبد الحماني، حدثنا عبد الرحمن بن يزيد بن أسلم، عن أبيه، عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ليس على أهل لا إله إلا الله وحشة عند الموت ولا في قبورهم ولا منشرهم كأني بأهل لا إله إلا الله ينفضون التراب عن رؤوسهم وهم يقولون: الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن» .

وروى النسائي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «تخرج النائحة من قبرها يوم القيامة شعثاء غبراء عليها جلباب من لعنة الله ودرع من نار يدها على رأسها تقول: يا ويلاه» أخرجه بمعناه مسلم، وابن ماجه «عن أبي مالك الأشعري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: النياحة من أمر الجاهلية، وإن النائحة إذا ماتت قطع الله لها ثياباً من نار ودرعاً من لهب النار» لفظ ابن ماجه. وقال مسلم: «تقام القيامة وعليها سربال من قطران ودرع من جرب» . وأسند الثعلبي في تفسيره «عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هذه النوائح يجعلن يوم القيامة صفين، صفاً عن اليمين، وصفاً عن الشمال، ينبحن كما تنبح الكلاب، في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، ثم يؤمر بهن إلى النار» أنبأناه الشيخ الحاج الراوية أبو محمد عبد الوهاب شهر بابن رواح، والشيخ الإمام علي بن هبة الله الشافعي قالا: «حدثنا السلفى قال: حدثنا الرئيس أبو عبد الله الثقفي قال: حدثنا أبو محمد عبد الله بن أحمد بن خولة الأبهري الأديب فيما قرئ عليه وأنا أسمع منه سنة ثلاث وأربع مائة قال: أخبرنا أبو عمر وأحمد بن محمد بن حكيم المدني، أخبرنا أبو أمية محمد بن إبراهيم

الطرسوسي، حدثنا سعيد بن سليمان، حدثنا سليمان بن داود اليماني، حدثنا يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن هذه النوائح يجعلن يوم القيامة صفين في جهنم صفاً عن يمينهن وصفاً عن شمالهن ينبحن على أهل جهنم كما تنبح الكلاب» غريب من حديث أبي نصر يحيى بن كثير عن أبي سلمة تفرد به عنه سليمان بن داود. وقال «أنس قال النبي صلى الله عليه وسلم: تخرج النائحة من قبرها شعثاء غبراء مسودة الوجه زرقاء العينين ثائرة الشعر كالحة الوجه وعليه جلباب من لعنة الله ودرع من غضب الله إحدى يديها مغلولة إلى عنقها والأخرى قد وضعتها على رأسها. وهي تنادي يا ويلاه ويا ثبوراه ويا حزناه، وملك وراءها يقول: آمين آمين. ثم يكون من بعد ذلك حظها النار» . ابن ماجة «عن عكرمة عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: النياحة على الميت من أمر الجاهلية. وإن النائحة إذا لم تتب قبل أن تموت فإنها تبعث يوم القيامة عليها سرابيل من قطران، ثم يعلى عليها بدرع من

لهب النار» . وفي التنزيل: {الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس} قال أهل التأويل: المعنى لا يقومون من قبورهم. قاله ابن عباس ومجاهد وابن جبير وقتادة والربيع والسدي والضحاك وابن زيد وغيرهم، قال: بعضهم يجعل معه شيطان يخنقه. وقالوا: كلهم يبعث كالمخنوق عقوبة له، وتميقتاً عند جميع أهل المحشر. فجعل الله هذه العلامة لأكلة الربا، وذلك أنه أرباه في بطونهم فاثقلهم، فهم إذا خرجوا من قبورهم يقومون ويسقطون لعظم بطونهم وثقلها عليهم. نسأل الله الستر والسلامة والعافية في الدنيا والآخرة. وقال تعالى {ومن يغلل يأت بما غل يوم القيامة} وسيأتي. وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم: «من مات على مرتبة من المراتب بعث عليها يوم القيامة» ذكره صاحب القوت وهو صحيح المعنى يدل على صجته ما ذكرناه وسياتي لهذا الباب مزيد بيان في باب بيان الحشر إلى الموقف إن شاء الله تعالى.

باب في بعث النبي صلى الله عليه وسلم من قبره

باب في بعث النبي صلى الله عليه وسلم من قبره ابن المبارك قال: أخبرنا ابن لهيعة قال: حدثني خالد بن يزيد، عن سعيد بن أبي هلال، عن نبيه بن وهب أن كعباً دخل على عائشة رضي الله عنه فذكروا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال كعب: ما من فجر يطلع إلا نزل سبعون ألفاً من الملائكة حتى يحفوا بالقبر، يضربون بأجنحتهم ويصلون على النبي صلى الله عليه وسلم حتى إذا أمسوا عرجوا وهبط سبعون ألف ملك يحفون بالقبر ويضربون بأجنحتهم ويصلون عن النبي صلى الله عليه وسلم سبعون ألفاً بالليل وسبعون ألفاً بالنهار. وحتى إذا انشقت عنه الأرض خرج في سبعين ألفا من الملائكة يوقرونه صلى الله عليه وسلم. والأخبار دالة ثابتة على أن جميع الناس يخرجون عراة ويحشرون كذلك على ما يأتي إن شاء الله تعالى. وخرج الترمذي الحكيم في نوادر الأصول: «حدثنا بشر بن خالد قال، حدثنا سعيد بن مسلمة، عن إسماعيل بن أمية، عن نافع، عن ابن عمر قال: خرج النبي صلى الله عليه وسلم ويمينه على أبي بكر وشماله على عمر فقال: هكذا نبعث يوم القيامة» . باب ما جاء في بعث الأيام والليالي ويوم الجمعة «عن أبي موسى الأشعري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إن الله عز وجل يبعث لأيام القيامة على هيأتها. ويبعث يوم الجمعة: زهراء منيرة أهلها محتفون بها

باب ما جاء أن العبد المؤمن إذا قام من قبره يتلقاه الملكان اللذان كانا معه في الدنيا وعمله

كالعروس تهدى إلى كريمها تضيء لهم يمشون في ضوئها. ألوانهم كالثلج بياضاً، وريحهم يسطع كالمسك، يخوضون في جبال الكافور، ينظر إليهم الثقلان ما يطرقون تعجباً. يدخلون الجنة لا يخالطهم إلا المؤذنون المحتسبون» خرجه القاضي الشريف أبو الحسن علي بن عبد الله بن إبراهيم الهاشمي العيسوي من ولد عيسى بن علي بن عبد الله بن عباس رضي الله عنهم وإسناده صحيح. وقال أبو عمران الجوني: ما من ليلة تأتي إلا تنادى: اعملوا في ما استطعتم من خير، فلن أرجع إليكم يوم القيامة ذكره أبو نعيم. باب ما جاء أن العبد المؤمن إذا قام من قبره يتلقاه الملكان اللذان كانا معه في الدنيا وعمله تقدم من حديث جابر مرفوعاً: «فإذا قامت الساعة انحط عليه ملك الحسنات وملك السيئات فأنشطا كتاباً معقوداً في عنقه. ثم حضرا معه واحد سائق، والآخر شهيد. ذكره أبو نعيم أيضاً عن ثابت البناني أنه قرأ: {حم} السجدة حتى

باب أين يكون الناس؟ " يوم تبدل الأرض غير الأرض والسموات "

إذا بلغ {إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة} وقف فقال: بلغنا أن العبد المؤمن حين يبعث من قبره يتلقاه الملكان اللذان كانا معه في الدنيا فيقولان له: لا تخف ولا تحزن وأبشر بالجنة التي كنت توعد قال: فأمن الله خوفه، وأقر الله عينه فما عظيمة تغشى الناس يوم القيامة فالمؤمن في قرة عين لما هداه الله له. ولما كان يعمل له في الدنيا» . وقال عمرو بن قيس الملاي: إن المؤمن إذا خرج من قبره استقبله عمله في أحسن صورة وأطيب ريح فيقول: هل تعرفني؟ فيقول: لا. إلا أن الله قد طيب ريحك وحسن صورتك. فيقول كذلك كنت في الدنيا، أنا عملك الصالح، طال ما ركبتك في الدنيا، اركبني اليوم وتلا: {يوم نحشر المتقين إلى الرحمن وفداً} وأن الكافر يستقبله عمله في أقبح صورة وأنتن ريح فيقول: هل تعرفني؟ فيقول: لا إلا أن الله قد قبح صورتك، ونتن ريحك. فيقول: كذلك كنت في الدنيا أنا عملك السيء، طال ما ركبتني في الدنيا. وأنا اليوم أركبك وتلا: {وهم يحملون أوزارهم على ظهورهم، ألا ساء ما يزرون} ولا يصح من قبل إسناده قاله القاضي أبو بكر بن العربي. باب أين يكون الناس؟ " يوم تبدل الأرض غير الأرض والسموات " باب أين يكون الناس؟ يوم تبدل الأرض غير الأرض والسموات مسلم «عن ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: كنت قائماً عند

رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاء حبر من أحبار اليهود فقال: السلام عليك يا محمد وذكر الحديث وفيه فقال اليهودي أين يكون الناس {يوم تبدل الأرض غير الأرض والسموات} ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هم في الظلمة دون الجسر» الحديث بطوله وسيأتي. وخرج مسلم أيضاً وابن ماجه جميعاً قالا: «حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا علي بن مسهر، عن داود بن أبي هند، عن الشعبي، عن مسروق، عن عائشة قالت: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى: {يوم تبدل الأرض غير الأرض والسموات} فأين يكون الناس يومئذ؟ قال: على الصراط» . وأخرجه الترمذي قال: «حدثنا ابن أبي عمر قال: حدثنا سفيان عن داود بن هند، عن الشعبي، عن مسروق، عن عائشة قالت: يا رسول الله {والأرض جميعاً قبضته يوم القيامة والسموات مطويات بيمينه} فأين يكون المؤمنون يومئذ؟ قال: على الصراط يا عائشة» قال: هذا حديث حسن صحيح. وخرج عن مجاهد قال: قال ابن عباس: أتدري ما سعة

جهنم؟ قلت: لا. قال: أجل والله ما تدري. «حدثتني عائشة أنه سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قوله عز وجل {والأرض جميعاً قبضته يوم القيامة والسموات مطويات بيمينه} قال: فقلت: فأين الناس يا رسول الله؟ قال: على جسر جهنم» قال: حديث حسن صحيح غريب من هذا الوجه. فصل: هذه الأحاديث نص في أن الأرض والسموات تبدل وتزال ويخلق الله أرضاً أخرى يكون عليها الناس بعد كونهم على الجسر وهو الصراط. لا كما قال كثير من الناس أن تبدل الأرض عبارة عن تغيير صفاتها، وتسوية آكامها، ونسف جبالها ومد أرضها، ورواه ابن مسعود رضي الله عنه. خرجه ابن ماجه وسيأتي ذكره في الاشتراط إن شاء الله. وذكر ابن المبارك من حديث شهر بن حوشب قال: حدثني ابن عباس قال: [إذا كان يوم القيامة مدت الأرض مد الأديم وزيد في سعتها كذا وكذا] وذكر الحديث. وروى «أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: تبدل الأرض غير الأرض فيبسطها ويمدها مد الأديم» ذكره الثعلبي في تفسيره. وروى علي بن الحسين رضي الله عنهما قال: [إذا كان يوم القيامة

مد الله الأرض مد الأديم حتى لا يكون لأحد من البشر إلا موضع قدميه] ذكره الماوردي، وما بدأنا بذكره أصح لأنه نص ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم. فإن قائل: إن بدل في كلام العرب معناه: تغيير الشيء، ومنه قوله تعالى: {كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلوداً غيرها} وقال: {فبدل الذين ظلموا قولا غير الذي قيل لهم} ، ولا يقتضي هذا إزالة العين وإنما معناه تغيير الصفة. ولو كان المعنى لإزالة لقال يوم تبدل الأرض مخففاً من أبدلت الشيء إذا أزالت عنه وشخصه قيل له: ما ذكرته صحيح، ولكن قد قرئ قوله عزو جل {عسى ربنا أن يبدلنا خيراً منها} مخففاً ومثقلاً بمعنى واحد. قال: {وليبدلنهم من بعد خوفهم أمناً} وقال: {فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات} وكذا ذكر تاج اللغة أبو نصر الجوهري في الصحاح، وأبدلت الشيء بغيره وبدله الله من الخوف أمناً وتبديل الشيء أيضاً تغييره، فقد دل القرآن وكلام العرب على أن بدل وأبدل بمعنى واحد، وقد فسر النبي صلى الله عليه وسلم أحد المعنيين، فهو أعلى ولا كلام معه. قال ابن عباس وابن مسعود: تبدل الأرض أرضاً بيضاء كالفضة لم يسفك عليها دم حرام ولم يعمل عليها خطيئة قط. وقال ابن مسعود أيضاً تبدل الأرض ناراً والجنة من ورائها يرى أكوابها وكواعبها.

وقال أبو الجلد حيان بن فروة: إني لأجد فيما أقرأ من كتب الله أن الأرض تشعل ناراً يوم القيامة. وقال علي رضي الله عنه: تبدل الأرض فضة، والسماء ذهباً، وقال جابر: سألت أبا جعفر محمد بن علي عن قول الله تعالى: {يوم تبدل الأرض غير الأرض} قال تبدل خبزة يأكل منها الخلق يوم القيامة. ثم قرأ {وما جعلناهم جسداً لا يأكلون الطعام} وقال سعيد بن جبير ومحمد بن كعب: تبدل الأرض خبزة بيضاء يأكل المؤمن من تحت قدميه. قلت: وهذا المعنى الذي قاله سعيد بن جبير ومحمد بن كعب مروي في الصحيح وسيأتي. وإليه ذهب ابن برحان في كتاب الإرشاد له. وأن المؤمن يطعم يومئذ من بين رجليه ويشرب من الحوض، فهذه أقوال الصحابة والتابعين دالة على ما ذكرنا. وأما تبديل السماء فقيل تكوير شمسها وقمرها وتناثر نجومها. قاله ابن عباس وقيل: اختلاف أحوالها قتارة كالمهل، وتارة كالدهان. حكاه ابن الأنباري.

وقال كعب: تصير السماء دخاناً، وتصير البحار نيراناً، وقيل تبديلها: أن تطوي كطي السجل للكتاب، وذكر أبو الحسن شبيب بن إبراهيم بن حيدرة في كتاب الإفصاح له: أنه لا يعارض بين هذه الآثار، وأن الأرض والسماوات تبدل كرتين إحداهما هذه الأولى وأنه سبحانه يغير صفاتها قبل نفخة الصعق فتنتثر أولاً كواكبها، وتكسف شمسها وقمرها وتصير كالمهل، ثم تكشط عن رؤوسهم، ثم تسير الجبال ثم تموج الأرض، ثم تصير البحار نيراناً، ثم تنشق الأرض من قطر إلى قطر فتصير الهيئة غير الهيئة، والبنية غير البنية، ثم إذا نفخ في الصور نفخة الصعق طويت السماء ودحيت الأرض، وبدلت السماء سماء أخرى، وهو قوله تعالى {وأشرقت الأرض بنور ربها} وبدلت الأرض: تمد مد الأديم العكاظي. وأعيدت كما كانت فيها القبور. والبشر على ظهرها وفي بطنها. وتبدل أيضاً تبديلاً ثانياً. وذلك إذا وقفوا في المحشر فتبدل لهم الأرض التي يقال لها [الساهرة] يجلسون عليه وهو أرض عفراء وهي البيضاء من فضة لم يسفك عليها دم حرام قط، ولا جرى عليه ظلم قط، وحينئذ يقوم الناس على الصراط، وهو لا يسع جميع الخلائق وإن كان قد روي أن مسافته ألف سنة صعوداً وألف سنة هبوطاً وألف سنة استواء، ولكن الخلق أكثر من ذلك فيقوم من فضل على الصراط، على متن جهنم، وهي كإهالة جامدة وهي الأرض التي قال عبد الله إنها أرض من نار يعرق فيها البشر، فإذا حوسب عليها أعين الأرض المسماة بالساهرة وجاوزوا

باب منه أمور تكون قبل الساعة

الصراط وجعل أهل الجنان من وراء الصراط، وأهل النيران في النار وقام الناس على حياض الأنبياء يشربون بدلت الأرض كقرصة النقي، فأكلوا من تحت أرجلهم، وعند دخولهم الجنة كانت خبزة واحدة أي قرصاً واحداً يأكل منه جميع الخلق ممن دخل الجنة وإدامهم زيادة كبد ثور في الجنة وزيادة كبد النون على ما يأتي. باب منه أمور تكون قبل الساعة ذكر علي بن معبد «عن أبي هريرة قال: حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن في طائفة من أصحابه فقال: إن الله تعالى لما فرغ من خلق السموات والأرض خلق الصور وأعطاه إسرافيل فهو واضعه على فيه شاخص ببصره إلى العرش ينتظر متى يؤمر فقال أبو هريرة قلت: يا رسول الله وما الصور؟ قال: قرن فقلت: وكيف هو؟ قال: هو عظيم والذي نفسي بيده إن عظم دارة فيه لكعرض السماء والأرض فينفخ فيه ثلاث نفخات الأولى، نفخة الفزع، والثانية: نفخة الصعق، والثالثة: نفخة القيام لرب العالمين، يأمر الله إسرافيل بالنفخة الأولى فيقول: انفخ نفخة الفزع فيفزع أهل السماء والأرض إلا ما شاء الله ويأمره فيمدها ويديمها ويطولها» يقول الله عز وجل: {وما ينظر هؤلاء إلا صيحة واحدة ما لها من فواق} مأخوذة من فواق الحالب وهي المهلة بين الحلبتين وذلك أن الحالب يحلب الناقة والشاة ثم يتركها ساعة يرضعها الفصيل لتدر ثم يحلب، ومنه سمي الفواق فواقاً لأنه ريح يتردد في المعدة بين مهليتن أي أن هذه النفخة ممتدة لا تقطيع فيها ويكون

ذلك يوم الجمعة في النصف من شهر رمضان فيسير الله الجبال فتمر مر السحاب، ثم تكون سراباً ثم ترتج الأرض بأهلها رجاً وهي التي يقول الله عز وجل {يوم ترجف الراجفة * تتبعها الرادفة * قلوب يومئذ واجفة} فتكون الأرض كالسفينة في البحر تضربها الأمواج فيميد الناس على ظهرها وتذهل المراضع وتضع الحوامل ما في بطونها، وتشيب الولدان، وتتطاير الشياطين هاربة، حتى تأتي الأقطار فتتلقاها الملائكة هاربة فتضرب بها وجوهها ويولي الناس مدبرين ينادي بعضهم بعضعاً وهي التي يقول الله عز وجل {يوم التناد * يوم تولون مدبرين ما لكم من الله من عاصم ومن يضلل الله فما له من هاد} فبينما هم على ذلك إذ تصدعت الأرض من قطر إلى قطر، ورأوا أمراً عظيماً لم يروا مثله فيأخذهم من ذلك من الكرب والهول ما الله به عليم، ثم ينظرون إلى السماء فإذا هي كالمهل ثم انشقت وانخسف شمسها وقمرها وانتثرت نجومها، ثم كشطت السماء عنهم، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «والموتى لا يعلمون شيئاً من ذلك. قلت: يا رسول الله فمن استثنى الله عز وجل، حين يقول {ففزع من في السموات ومن في الأرض إلا من شاء الله} ؟ قال: أولئك هم الشهداء عند ربهم يرزفون. إنما يصل الفزع إلى الأحياء، يقيهم الله شر ذلك اليوم ويؤمنهم منه. وهو عذاب يلقيه الله على شرار خلقه، وهو الذي يقول الله تعالى: {يا أيها الناس اتقوا ربكم إن زلزلة الساعة شيء عظيم} أي شديد فتمكثون في ذلك ما شاء الله إلا أنه يطول عليهم كأطول يوم، ثم يأمر الله إسرافيل فينفخ

نفخة الصعق» الحديث بطوله، وقد تقدم وسطه وهذا آخره. فصل: هذا الحديث ذكره الطبري والثعلبي وصححه ابن العربي في سراج المريدين وقال: يوم الزلزلة وهو الاسم الثاني عشر يكون عن النفخة الأولى. بهذا اختلافهم الصحيح الواحد المفرد. ولما نبأ النبي صلى الله عليه وسلم بذكر الزلزلة التي تكون عند النفخة الأولى ذكر ما يكون في ذلك اليوم من الأهوال العظام التي يعظمها قوله [شيء عظيم] ومن فزعها ما لا تطيق حمله النفوس وهو قوله لآدم: [ابعث بعث النار] فيكون ذلك في أثناء ذلك اليوم ولا يقتضي أن يكون ذلك متصلاً بالنفخة الأولى التي يشيب فيها الوليد وتضع الحوامل وتذهل المراضع ولكن يحتمل أمرين: أحدهما: أن يكون آخر الكلام منوطاً بأوله تقديره يقال لآدم ابعث بعث النار أثناء يوم يشيب فيه الوليد وتضع الحوامل وتذهل المراضع من أوله. الثاني: أن شيب الوليد ووضع الحوامل وذهول المراضع يكون في النفخة الأولى حقيقة. وفي هذا القول الثاني تكون صفته بذلك إخباراً عن شدته

وإن لم يوجد غير ذلك الشيء فيه وهذه طريقة العرب في فصاحتها. قلت: ما ذكره ابن العربي من صحة الحديث وكلامه فيه: فيه نظر لما نبينه آنفاً وقد قال أبو محمد عبد الحق في كتاب العاقبة له: ورد في هذا الباب حديث منقطع لا يصح ذكره الطبري «من حديث أبي هريرة عن النبي قال: ينفخ في الصور ثلاث نفخات الأولى نفخة الفزع» فذكره. قال: وهو عنده في سورة يس. قلت: قد تقدم أن الصحيح في النفخ إنما هو مرتان لا ثلاث، وحديث مسلم في قول الله تعالى لآدم [يا آدم ابعث بعث النار] إنما هو يعد البعث يوم القيامة. ونفخة الفزع هي نفخة الصعق على ما تقدم أو نفخة البعث على ما قيل على ما يأتي ولأنه لو كانت نفخة الفزع غير نفخة الصعق لأقتضى ذلك أن يكون بقاء الناس بعدها أحياء ما شاء ويكون هناك ليل ونهار حتى تأتي نفخة الصعق التي يموت لسماعها جميع الخلق كما في حديث عبد الله بن عمرو بن العاص وعلى هذا لا يكون قوله ابعث في أثناء اليوم الذي يكون مبدؤه نفخة الفزع على ما ذكره ابن العربي والله أعلم. ولا يلزم من زلزال الأرض أن تكون عن نفخة فإنا نشاهد تحرك الأرض وميدها بمن عليها وما عليها من جبال ومياه كالسفينة في البحر إذا تلاطمت أمواجه من غير نفخ وإنما تلك الزلزلة من أشراط الساعة ومقدماتها كسائر أشراطها.

وقد قال علقمة والشعبيث: الزلزلة من أشراط الساعة وهي في الدنيا. وكذلك قال أنس بن مالك والحسن البصري. وقد ذكر القشيري أبو نصر عبد الرحيم بن عبد الكريم في تفسيره: أن المراد بنفخة الفزع، والنفخة الثانية أي يحيون فزعين يقولون: {من بعثنا من مرقدنا} ويعاينون من الأمر ما يهولهم ويفزعهم. والله أعلم. ونحو ذلك ذكره الماوردي واختاره. وقد قيل: إن هذه الزلزلة تكون قبل الساعة في النصف من شهر رمضان بعدها طلوع الشمس من مغربها والله أعلم. وقوله تعالى: {ترونها} الضمير المنصوب في {ترونها} للزلزلة أو القيامة قولان: فعلى الأولى أن ذلك في الدنيا قبل نفخة الصعق لعظم تلك الزلزلة وقوة حركتها بالأرض لأن القيامة لارضاع فيها ولا حمل فترى الناس سكارى يعني من الخوف. وعلى القول الثاني يكون فيه وجهان: أحدهما: أن يكون مثلاً، والمعنى أن يكون يوماً لا يهم أحداً فيه إلا نفسه والحامل تسقط من مثله كما تسقط الحوامل من الصيحة الشديدة ويكون الهول عظيماً. والوجه الآخر: أن يكون ذلك حقيقة لا مثلاً. ويكون المعنى أن من كانت محشورة مع ولد رضيع فإنها إذا رأت هول ذلك اليوم ذهلت عن من ولدت،

وأن الحوامل إذا بعثن أسقطت من فزع يوم القيامة: الأحمال التي كانت أحياء فماتت بموت أمهاتها أحياء ثم لا يمتن بالإسقاط. لأن الموت لا يتكرر عليهن مرتين لأنه لا موت في القيامة، وإنما هو يوم الحياة وتضع الحوامل حملها. ثم يحتمل أن يحيي الله كل حمل كان قد أتم خلقه ونفخ فيه الروح ويسويه ويعدله فإن الأم تذهل عنه، ولو لم تذهل ما قدرت على إرضاعه لأنه لا غذاء يومئذ لها ولبن، واليوم يوم الحساب لا يقبل فيه من عذر ولا علة فكيف تخلى والاشتغال بالولد مع ما عليها من الحساب وهي بصدده من الجزاء والحمل الذي لم ينفخ فيه قط إذا سقط يكون مع الوحوش تراباً ولم يبتدأ إحياؤه لأن اليوم الآعادة. فمن لم يمت في الدنيا لم يحى في الآخرة. قاله الحليمي في منهاج الدين. وقال الحسن في قوله تعالى: {وترى الناس سكارى} أي من العذاب والخوف {وما هم بسكارى} من الشراب ومما يبين ما قلناه: أن إبليس قال : {أنظرني إلى يوم يبعثون} سأل النظرة والإمهال إلى يوم البعث والحساب طلب أن لا يموت لأن يوم البعث لا موت بعده فقد قال تعالى: {إنك من المنظرين * إلى يوم الوقت المعلوم} قال ابن عباس والسدي وغيرهما: أنظره إلى النفخة الأولى حيث يموت الخلق كلهم، وكان طلب الإنظار إلى النفخة الثانية حيث يقوم الناس لرب العالمين فأبى الله ذلك عليه. قال المؤلف رحمه الله: وما وقع في هذا الحديث من انشقاق السماء،

وتناثر نجومها وطمس شمسها وقمرها. فقد ذكر المحاسبي وغيره: أن ذلك يكون بعد جمع الناس في الموقف. وروي عن ابن عباس وسيأتي وقاله الحليمي في كتاب منهاج الدين. فصل: فأما التكوين يوم القيامة قبل الحساب. فقد قال الله تعالى: {يا أيها الناس اتقوا ربكم إن زلزلة الساعة شيء عظيم} إلى قوله {عذاب الله شديد} وقال: {إذا زلزلت الأرض زلزالها} إلى آخرها. والذي ثبت بسياق الآيات: أن هذه الزلزلة إنما يكون بعد أحياء الناس وبعثهم من قبورهم لأنه لا يراد بها إلا إذعان الناس والتهويل عليهم، فينبغي أن يشاهدوها ليفزعوا منها ويهولهم أمرها، ولا تمكن المشاهدة منهم وهم أموات. ولأنه تعالى قال: {يومئذ تحدث أخبارها} . أي تخبر عما عمل عليها من خير وشر {يومئذ يصدر الناس أشتاتاً} فدل ذلك على أن هذه الزلزلة إنما تكون والناس أحياء واليوم يوم الجزاء وقال تعالى: {فإذا نفخ في الصور نفخة واحدة} يعني الآخرة {وحملت الأرض والجبال} إلى قوله {لا تخفى منكم خافية} فدلت هذه السورة على أن اصطدام الأرض والجبال لا يكون إلا بعد الإحياء، فدلت هذه الآية على أن الكوائن إنما تكون بعد النشأة الثانية. والله أعلم. وأما قوله فيه يوم التناد، فقال الحسن وقتادة، ذلك يوم ينادي أهل الجنة أهل النار أن قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقاً، وينادي أهل النار أهل الجنة أن أفيضوا علينا من الماء يوم تولون مدبرين يعني عن النار أي غير قادرين وغير معجزين فيتفسر مجاهد. وقيل: معناه يوم ينادي أهل النار بالويل والثبور ويولون مدبرين من شدة العذاب. وقيل: إن ذلك نداء بعض الناس لبعضهم في المحشر وتوليهم مدبرين إذا رأوا عنقاً من النار. وقال قتادة: معنى

تولون مدبرين منطلقاً بكم إلى النار ما لكم من الله من عاصم أي مانع يمنعكم، فإن قيل: فقد قال الآلله تعالى: {يوم ترجف الراجفة * تتبعها الرادفة} إلى أن قال: {فإنما هي زجرة واحدة} وهذا يقتضي بظاهره أنها ثلاث له ليس كذلك، وإنما المراد بالزجرة النفخة الثانية التي يكون عنها خروج الخلق من قبورهم كذلك قال ابن عباس ومجاهد وعطاء وابن زيد وغيرهم، قال مجاهد: هما صيحتان، أما الأولى فيموت كل شيء بإذن الله، وأما الأخرى فيحيا كل شيء بإذن الله. وقال مجاهد أيضاً: الرادفة حين تنشق السماء وتحمل الأرض والجبال فتدك دكة واحدة. وقال عطاء: الراجفة القيامة، والرادفة البعث، وقال ابن زيد: الراجفة الموت، والرادفة الساعة، فهذا يبين لك ما قلناه من أن المراد بالزجرة النفخة الثانية. واختلفوا في الساهرة اختلافاً كثيراً، فقال ابن عباس: وأما الساهرة فأرض من فضة بيضاء لم يعص الله عليها طرفة عين خلفها الله يومئذ وهو قوله تعالى: {يوم تبدل الأرض غير الأرض} . وقال بعضهم: الساهرة اسم الأرض السابعة يأتي الله بها فيحاسب عليها الخلائق وذلك حين تبدل الأرض غير الأرض. وقال قتادة: هي جهنم أي فإذا هؤلاء الكفار في جهنم،

باب الحشر ومعناه الجمع

وقيل صحراء قريب من شفير جهنم. وقال الثوري: الساهرة أرض الشام وقيل غير هذا، وإنما قيل لها ساهرة لأنهم لا ينامون عليها حينئذ، ومعنى {فإذا هم بالساهرة} أي على الأرض بعدما كانوا في بطنها والعرب تسمي الفلاة ووجه الأرض ساهرة، قال أمية بن أبي الصلت: وفيها لحم ساهرة وبحر ... وما فاهوا به لهم مقيم باب الحشر ومعناه الجمع وهو على أربعة أوجه: حشران في الدنيا وحشران في الآخرة. أما الذي في الدنيا فقوله تعالى {هو الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب من ديارهم لأول الحشر} قال الزهري: كانوا من سبط لم يصيبهم جلاء، وكان الله عز وجل قد كتب عليهم الجلاء فلولا ذلك لعذبهم في الدنيا، وكان أول حشر حشروا في الدنيا إلى الشام. «قال ابن عباس: من شك أن الحشر في الشام فليقرأ هذه الآية وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لهم: أخرجوا قالوا أي أين؟ قال: إلى أرض المحشر» قال قتادة: هذا أول الحشر. الثاني: ما رواه مسلم «عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: يحشر الناس على ثلاث طرائق راغبين وراهبين واثنان على بعير وثلاثة

على بعير وتحشر بقيتهم النار تبيت معهم حيث يأتوا، وتقيل معهم حيث قالوا، وتصبح معهم حيث أصبحوا، وتمسي معهم حيث أمسوا» أخرجه البخاري أيضاً. وقال قتادة: الحشر الثاني نار تحشرهم من المشرق إلى المغرب تبيت معهم حيث باتوا، وتقيل معهم حيث قالوا، وتأكل منهم من تخلف. قال القاضي عياض: هذا الحشر في الدنيا قبل قيام الساعة وهو آخر أشراطهما كما ذكره مسلم بعد هذا في آيات الساعة. قال فيه: وآخر ذلك في نار تخرج من قعر عدن تزجر الناس، وفي رواية تطرد الناس إلى محشرهم، وفي حديث آخر: لا تقوم الساعة حتى تخرج نار من أرض الحجار ويدل على أنها قبل يوم القيامة. قوله: فتقيل معهم حيث قالوا، وتمسي معهم حيث أمسوا، وتصبح معهم حيث أصبحوا. وقال وفي بعض الروايات في غير مسلم فإذا سمعتم به فاخرجوا إلى الشام كأنه أمر بسبقها إليه قبل إزعاجها لهم. قال المؤلف رحمه الله: وذكر الحليمي في منهاج الدين له من حديث ابن عباس وذكر أن ذلك في الآخرة فقال: يحمتل قوله عليه السلام: «تحشر الناس على ثلاث طرائق» إشارة إلى الأبرار والمخلطين والكفار، فالأبرار

هم الراغبون إلى الله تعالى فيما أعد لهم من ثوابه، والراهبون هم الذين بين الخوف والرجاء، فأما الأبرار فإنهم يؤتون بالنجائب كما في الحديث على ما يأتي في هذا الباب، وأما المخلطون فهم الذين أرادوا في هذا الحديث، وقيل: إنهم يحملون على الأبعرة، وأما الفجار الذين تحشرهم النار فإن الله تعالى يبعث إليهم ملائكة فتقيض لهم ناراً تسوقهم ولم يرد في هذا الحديث إلا ذكر البعير، فأما أن ذلك من إبل الجنة أو من الإبل التي تحيا وتحشر يوم القيامة، فهذا لم يأت بيانه. والأشبه ألا يكون من نجائب الجنة لأن من خرج من جملة الأبرار فكان مع ذلك من جملة المؤمنين، فإنهم بين الخوف والرجاء أن من هؤلاء من يغفر الله تعالى ذنوبه فيدخل الجنة، ومنهم من يعاقبه بالنار، ثم يخرجه منها ويدخله الجنة. وإذا كانوا كذلك لم يلق أن يردوا موقف الحساب على نجائب الجنة، ثم ينزل الله بعضهم إلى النار لأن من أكرمه الله بالجنة لم يهنه بعد ذلك بالنار. قال: وفي حديث آخر عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: [يحشر الناس] الحديث وفي آخره أما أنهم يتقون بوجوههم كل حدب وشوك، فهذا إن ثبت مرفوعاً فالركبان هم المتقون السابقون الذين يغفر الله ذنوبهم عند الحساب ولا يعذبهم إلا أن المتقين يكونون على نجائب الجنة والآخرون على دواب سوى دواب الجنة، والصنف الثاني الذين يعذبهم الله بذنوبهم ثم يخرجهم من النار إلى

الجنة وهؤلاء يكونون مشاة على أقدامهم، وقد يحتمل على هذا أن يمشوا وقتاً ثم يركبوا أو يكونوا ركبانا فإذا قاربوا المحشر نزلوا فمشوا ليتفق الحديثان، والصنف الثالث المشاة على وجوههم هم الكفار، وقد يحتمل أن يكونوا ثلاثة أصناف: صنف مسلمون وهم ركبان، وصنفان من الكفار أحدهما العتاة وأعلام الكفر، فهؤلاء يحشرون على وجوههم والآخرون الأتباع فهم يمشون على أقدامهم. قال المؤلف رحمه الله: وإلى هذا القول ذهب أبو حامد في كتاب كشف علم الآخرة في قوله عليه السلام كيف تحشر الناس يا رسول الله؟ قال: «اثنان على بعير وخمسة على بعير وعشرة على بعير» ومعنى هذا الحديث والله أعلم أن قوماً يأتلفون في الإسلام برحمة الله يخلق الله لهم من أعمالهم بعيراً يركبون عليه، وهذا من ضعف العمل لكونهم يشتركون فيه كقوم خرجوا في سفر بعيد وليس مع واحد، منهم ما يشترى به مطية توصله فاشترك في ثمنها رجلان أو ثلاثة فابتاعوا مطية يتعقبون عليها في الطريق، ويبلغ بعير مع عشرة فاعمل هداك الله عملاً يكون لك به بعير خالص من الشركة، واعلم أن ذلك هو المتجر الرابح فالمتقون وافدون كما قال الجليل: {يوم نحشر المتقين إلى الرحمن وفداً} . وفي غريب الرواية أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوماً لأصحابه: «كان رجل من بني إسرائيل كثيراً ما يفعل الخير حتى إنه ليحشر فيكم قالوا له: وما كان يصنع قال: ورث من أبيه مالاً كثيراً فاشترى بستاناً فحبسه

للمساكين وقال هذا بستاني عند الله تعالى وفرق دانانير عديدة في الضعفاء وقال بهذا أشترى جارية من الله تعالى وعبيداً وأعتق رقاباً كثيرة وقال هؤلاء خدمي عند الله تعالى، والتفت ذات يوم لرجل ضرير البصر فرآه تارة يمشي وتارة يكبو، فابتاع له مطية يسير عليها وقال هذه مطيتي عند الله تعالى أركبها والذي نفس محمد بيده لكأني أنظر إليه وقد جيء بها إليه مسرجة ملجمة يركبها تسير به إلى الموقف» . قال المؤلف رحمه الله: ما ذكره القاضي عياض من أن ذلك في الدنيا أظهر والله أعلم لما في الحديث نفسه من ذكر السماء والمبيت والصباح والقائلة، وذلك ليس في الآخرة. وقد احتج الترمذي «عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يحشر الناس يوم القيامة ثلاثة أصناف صنفاً مشاة وصنفاً ركباناً وصنفاً على وجوههم قيل يا رسول الله: كيف يمشون على وجوههم؟ قال: إن الذي أمشاهم على أقدامهم قادر أن يمشيهم على وجوههم أما أنهم يتقون بوجوههم كل حدب وشوك قال: هذا حديث حسن فقوله يتقون بوجوههم كل حدب وشوك يدل على أنه في الدنيا إذ ليس في الآخرة ذلك على ما يأتي من صفة أرض المحشر، والله أعلم. وخرج النسائي عن أبي ذر قال: إن الصادق المصدوق حدثني

أن الناس يحشرون ثلاثة أفواج فوجاً راكبين طاعمين كاسين، وفوجاً تسحبهم الملائكة على وجوههم، ويحشر الناس فوجاً يمشون ويسعون يلقى الله ألافه على الظهر فلا تبقى حتى إن الرجل لتكون له الحديقة يعطيها بذات القتب لا يقدر عليها. وذكر عمر بن شيبة في كتاب المدينة على ساكنها السلام، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: آخر من يحشر رجلان رجل من جهينة وآخر من مزينة فيقولان أين الناس فيأتيان المدينة فلا يريان إلا الثعلب، فينزل إليهما ملكان فيسحبانهما على وجوههما حتى يلحقاهما بالناس. وهذا كله مما يدل على أن ذلك في الدنيا كما قال القاضي عياض، وأما الآخرة، فالناس أيضاً مختلفو الحال على ما ذكروه، وسنذكر من ذلك ما فيه كفاية في الباب بعد هذا. والحشر الثالث: حشرهم إلى الموقف على ما يأتي بيانه في الباب بعد هذا إن شاء الله. قال الله تعالى {وحشرناهم فلم نغادر منهم أحداً} . والرابع: حشرهم إلى الجنة والنار. قال الله تعالى: {يوم نحشر المتقين إلى الرحمن وفداً} أي ركباناً على النجب، وقيل: على الأعمال كما تقدم. وقد وردت أخبار منها ما رواه النعمان سعد» عن

علي رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى {يوم نحشر المتقين إلى الرحمن وفداً} قال: أما إنهم ما يحشرون على أقدامهم ولا يساقون سوقاً ولكنهم يؤتون بنوق من نوق الجنة لم تنظر الخلائق إلى مثلها رحالها الذهب، وأزمتها الزبرجد فيقعدون عليها حتى يقرعوا باب الجنة، وسمي المتقون وفداً لأنهم يسبقون الناس إلى حيث يدعون إليه فهم لا يتباطئون، لكنهم يجدون ويسرعون والملائكة تتلقاهم بالبشارات. قال الله تعالى {وتتلقاهم الملائكة هذا يومكم الذي كنتم توعدون} فيزيدهم ذلك إسراعاً وحق للمتقين أن يسبقوا لسبقهم في الدنيا بالطاعات {ونسوق المجرمين إلى جهنم ورداً} أي عطاشاً. وقال {ونحشر المجرمين يومئذ زرقاً} وقال: {ونحشرهم يوم القيامة على وجوههم عمياً وبكماً وصماً} وقال: {الذين يحشرون على وجوههم إلى جهنم أولئك شر مكاناً وأضل سبيلاً} . مسلم «عن أنس أن رجلاً قال يا رسول الله: الذين يحشرون على وجوههم أيحشر الكافر على وجهه؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أليس الذي أمشاه على الرجلين قادراً أن يمشيه على وجهه يوم القيامة» قال قتادة حين بلغه: بلى وعزة ربنا. أخرجه البخاري أيضاً: فصل: قال أبو حامد: وذكر هذا الفصل وفي طبع الآدمي إنكار ما لم يأنس وبه ولم يشاهده ولو لم يشاهد الإنسان الحية وهي تمشي على بطنها لأنكر المشي

باب بيان الحشر إلى الموقف كيف هو وفي أرض المحشر

من غير رجل، والمشي بالرجل أيضاً مستبعد عند من لم يشاهد ذلك، فإياك أن تنكر شيئاً من عجائب يوم القيامة لمخالفتها قياس الدنيا فإنك لو لم تشاهد عجائب الدنيا ثم عرضت عليك قبل المشاهدة لكنت أشد إنكاراً لها، فاحضر رحمك الله في قلبك صورتك، وأنت قد وقفت عارياً ذليلاً مدحوراً متحيراً مبهوتاً منتظراً لما يجري عليك من القضاء بالسعادة أو بالشقاء. باب بيان الحشر إلى الموقف كيف هو وفي أرض المحشر وذكر الصخرة. وقوله تعالى {واستمع يوم يناد المناد من مكان قريب} الآية. أبو نعيم قال، حدثنا أبي قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا محمد قال، قال حدثنا عبد الرزاق قال: أخبرنا المنذر النعمان أنه سمع وهب بن منبه يقول: قال الله تعالى لصخرة بيت المقدس: لأضعن عليك عرشي ولأحشرن عليك خلقي وليأتينك يومئذ داود راكباً وقال بعض العلماء في قوله تعالى: {واستمع يوم يناد المناد من مكان قريب} قال: إنه ملك قائم على صخرة بيت المقدس فينادي: أيتها العظام البالية، والأوصال المتقطعة، ويا عظاماً نخرة، ويا أكفاناً فانية، ويا قلوبا خلوية، ويا أبداناً فاسدة، ويا عيوناً سائلة قومواً لعرض رب العالمين. قال قتادة: المنادي هو صاحب الصور ينادي من الصخرة من بيت المقدس.

قال كعب: وهي أقرب الأرض إلى السماء بثمانية عشر ميلاً. وقيل: باثني عشر ميلاً ذكره القشيري، والأول ذكره المارودي، وقيل: إن المنادي جبريل والله أعلم. قال عكرمة: ينادي منادي الرحمن فكأنما ينادي في آذانهم يوم يسمعون الصحية بالحق يريد النفخ في الصور {ذلك يوم الخروج * إنا نحن نحيي ونميت وإلينا المصير * يوم تشقق الأرض عنهم سراعا} إلى المنادي صاحب الصور إلى بيت المقدس أرض المحشر {ذلك حشر علينا يسير} أي هين سهل. فإن قيل: فإذا كانت الصيحة للخروج فكيف يسمعونها وهم أموات؟ قيل له: إن نفخة الإحياء تمتد وتطول، فتكون أوائلها للإحياء وما بعدها للإزعاج من القبور فلا يسمعون ما يكون للإحياء ويسمعون ما يكون للإزعاج، ويحتمل أن تتطاول تلك النفخة والناس يحيون منها أولاً فأولاً، وكلما حيى واحد سمع ما يحيى به من بعده إلى أن يتكامل الجميع للخروج، وقد تقدم أن الأرواح في الصور، فإذا نفخ فيه النفخة الثانية ذهب كل روح إلى جسده، {فإذا هم من الأجداث} أي القبور {إلى ربهم ينسلون} وهذا يبين لك ما ذكرنا وبالله توفيقنا. وقال محمد بن كعب القرظي: يحشر الناس يوم القيامة في ظلمة، وتطوي السماء وتتناثر النجوم، وتذهب الشمس والقمر، وينادي مناد فيتبع

الناس الصوت يومئذ، فذلك قول الله عز وجل {يومئذ يتبعون الداعي لا عوج له} الآية. وقال الله عز وجل {إذا السماء انفطرت * وإذا الكواكب انتثرت * وإذا البحار فجرت} فجر عذبها في ملحها وملحها في عذبها في تفسير قتادة {وإذا القبور بعثرت} أي أخرج ما فيها من الأموات، وقال تعالى {إذا السماء انشقت * وأذنت لربها} أي سمعت وأطاعت {وحقت} أي وحق لها أن تفعل {وإذا الأرض مدت} تمد مد الأديم وهذا إذا بدلت بأرض بيضاء كأنها فضة لم تعمل عليها خطيئة قط، وألقت ما فيها من الأموات فصاروا على ظهرها. مسلم «عن سهل بن سعد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يحشر الناس يوم القيامة على أرض بيضاء عفرا كقرصة النقي ليس فيه علم لأحد» . وخرج أبو بكر أحمد بن علي الخطيب، عن عبد الله بن مسعود: [يحشر الناس يوم القيامة أجوع ما كانوا قط، وأظمأ ما كانوا قط، وأعرى ما كانوا قط، وأنصب ما كانوا فمن أطعم لله أطعمه، ومن سقا لله سقاه، ومن كسا لله كساه، ومن عمل لله كفاه، ومن نصر الله أراحه الله في ذلك اليوم. «وروي من حديث معاذ بن جبل قال: قلت يا رسول الله أرأيت قول الله {يوم ينفخ في الصور فتأتون أفواجاً} فقال النبي صلى الله عليه وسلم يا معاذ بن جبل لقد سألت عن أمر عظيم ثم أرسل عينيه بالبكاء الدموع، ثم

قال: تحشر عشرة أصناف من أمتى أشتاتاً قد ميزهم الله تعالى من جماعات المسلمين وبدل صورهم، فمنهم على صورة القردة، وبعضهم على صورة الخنازير، وبعضهم منسكين أرجلهم أعلاهم ووجوههم يسحبون عليها، وبعضهم عمي يترددون، وبعضهم صم بكم لا يعلقون، وبعضهم يمضغون ألسنتهم مدلاة على صدورهم يسيل القيح من أفواههم لعاباً تقدرهم أهل الجمع، وبعضهم مقطعة أيديهم وأرجلهم، وبعضهم مصلبون على جذوع النار، وبعضهم أشد نتناً من الجيف، وبعضهم يلبسون جلابيب سابغة من القطران، فأما الذين على صورة القردة فالقتات من الناس يعني النمام، وأما الذين على صورة الخنازير فأهل السحت والحرام والمكس، وأما المنكسون رؤوسهم ووجوههم فأكلة الربا، والعمي من يجوز في الحكم، والصم البكم الذي يعجبون بأعمالهم، والذين يمضغون ألسنتهم فالعلماء والقصاص الذين يخالف قولهم فعلهم والمقطعة أيديهم وأرجلهم الذين يؤذون الجيران، والمصلبون على جذوع النار السعاة بالناس إلى السلطان، والذين هم أشد نتناً من الجيف الذي يتمتعون بالشهوات واللذات ويمنعون حق الله تعالى من أموالهم، والذين يلبسون الجلابيب فأهل الكبر والفخر والخيلاء» . وقال أبو حامد في كتاب كشف علم الآخرة: ومن الناس من يحشر بفتنته الدنيوية، فقوم مفتونون بالعود معتكفون عليه دهرهم فعند قيام أحدهم من قبره يأخذ بيمينه فيطرحه من يده ويقول سحقاً لك شغلتني عن ذكر الله فيعود إليه، يقول: أنا صاحبك حتى يحكم الله بيننا وهو خير

الحاكمين، وكذلك يبعث السكران سكران، والزامر زامراً، وكل واحد على الحال الذي صده عن سبيل الله. قال: ومثل الحديث الذي روي في الصحيح أن شارب الخمر يحشر والكوز معلق في عنقه والقدح بيده وهو أنتن من كل جيفة على الأرض يلعنه كل من يمر به من الخلق. وقال أيضاً في الكتاب: فإذا استوى كل أحد قاعداً على قبره فمنهم العريان ومنهم المكسو والأسود والأبيض، ومنهم من يكون له نور كالمصباح الضعيف، ومنهم من يكون كالشمس لا يزال كل واحد منهم مطرقاً برأسه ألف عام حتى تقوم من الغرب نار لها دوي تساق فيدهش لها رؤوس الخليقة إنساً وجناً وطيراً ووحشاً، فيأتي كل واحد من المخاطبين عمله ويقول له: قم فانهض إلى المحشر، فمن كان له حينئذ عمل جيد شخص له عمله بغلاً، ومنهم من يشخص عمله حماراً، ومنهم من يشخص له كبشاً تارة يحمله وتارة يلقيه ويجعل لكل واحد منهم نور شعاعي بين يديه وعن يمينه ومثله يسرس بين يديه في الظلمات وهو قوله تعالى {يسعى نورهم بين أيديهم وبأيمانهم} وليس عن شمائلهم نور بل ظلمة حالكة لا يستطيع البصر نفاذها يحار فيها الكفار ويتردد المرتابون، والمؤمن ينظر إلى قوة حلكتها وشدة حندسها ويحمد الله تعالى على ما أعطاه من النور المهتدي به في تلك الشدة يسعى بين أيديهم وبأيمانهم، لأن الله تعالى يكشف للعبد

باب الجمع بين آيات وردت في الكتاب في الحشر ظاهرها التعارض

المؤمن المنعم عن أحوال المعذب الشقي ليستبين له سبيل الفائدة، كما فعل بأهل الجنة وأهل النار حيث يقول فاطلع فرآه في سواء الجحيم، وكما قال سبحانه {وإذا صرفت أبصارهم تلقاء أصحاب النار قالوا: ربنا لا تجعلنا مع القوم الظالمين} لأن أربعاً لا يعرف قدرها إلا أربع: لا يعرف قدر الحياة إلا الموتى، ولا يعرف قدر الأغنياء إلا الفقراء، ولا يعرف قدر الصحة إلا أهل البلاء والسقم، ولا يعرف قدر الشباب إلا الشيوخ. وفي نسخة: ولا يعرف قدر النعيم إلا أهل الجحيم، ومن الناس من يبقى على قدميه وعلى طرف بنانه ونوره يطفأ تارة ويشتعل أخرى، وإنما هم عند البعث على قدر إيمانهم وأعمالهم، وقد مضى في باب يبعث كل عبد على ما مات عليه ما فيه كفاية، والحمد لله. باب الجمع بين آيات وردت في الكتاب في الحشر ظاهرها التعارض منها قوله تعالى {ويوم يحشرهم كأن لم يلبثوا إلا ساعة من النهار يتعارفون بينهم} وقال تعالى {ونحشرهم يوم القيامة على وجوههم عمياً وبكماً وصماً} وفي آية ثالثة إنهم يقولون {يا ويلنا من بعثنا من مرقدنا} وهذا كلام وهو مضاد للبكم والتعارف تخاطب وهو مضاد للصم والبكم

معاً، وقال الله تعالى {فلنسألن الذين أرسل إليهم ولنسألن المرسلين} والسؤال لا يكون إلا بالاسماع وإلا لناطق يتسع للجواب وقال {نحشر المجرمين يومئذ زرقاً} وقال، {فإذا هم من الأجداث إلى ربهم ينسلون} وقال {يوم يخرجون من الأجداث سراعاً كأنهم إلى نصب يوفضون} والنسلان والاسراع مخالفان للحشر على الوجوه. والجواب: لمن سأل عن هذا الباب أن يقال له إن الناس إذا أحيوا وبعثوا من قبورهم، فليست حالهم حالة واحدة ولا موقفهم ولا مقامهم واحداً، ولكن لهم مواقف وأحوال واختلفت الأخبار عنهم لاختلاف مواقفهم وأحوالهم وجملة ذلك أنها خمسة أحوال: حال البعث من القبور، والثانية حال السوق إلى مواضع الحساب والثالثة حال المحاسبة، والرابعة حال السوق إذا دار الجزاء، والخامسة حال مقامهم في الدار التي يستقرون فيها. فأما حال البعث من القبور: فإن الكفار يكونون كاملي الحواس والجوارح لقول الله تعالى {يتعارفون بينهم} وقوله {يتخافتون بينهم إن لبثتم إلا عشراً} وقوله {فإذا هم قيام ينظرون} وقوله: {قال كم لبثتم في الأرض عدد سنين} إلى قوله {ترجعون} . والحالة الثانية: حال السوق إلى موضع الحساب وهم أيضاً في هذه الحال بحواس تامة لقوله عز وجل {احشروا الذين ظلموا وأزواجهم وما كانوا يعبدون} {من دون الله فاهدوهم إلى صراط الجحيم} {وقفوهم إنهم مسؤولون} ومعنى فاهدوهم أي دلوهم ولا دلالة لأعمى أصم ولا سؤال لأبكم، فثبت بهذا أنهم يكونون بأبصار وأسماع وألسنة ناطقة. والحالة الثالثة: وهي حالة المحاسبة وهم يكونون فيها أيضاً كاملي الحواس ليسمعوا ما يقال لهم ويقرأوا كتبهم الناطقة بأعمالهم وتشهد عليهم

جوارحهم بسيئاتهم، فيسمعونها وقد أخبر الله تعالى أنهم يقولون {مال هذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها} وأنهم يقولون لجلودهم {لم شهدتم علينا} وليشاهدوا أحوال القيامة وما كانوا مكذبين في الدنيا به من شدتها وتصرف الأحوال بالناس فيها. وأما الحالة الرابعة: وهي السوق إلى جهنم فإنهم يسلبون فيها أسماعهم وأبصارهم وألسنتهم لقوله تعالى {ونحشرهم يوم القيامة على وجوههم عمياً وبكماً وصماً مأواهم جهنم} ويحتمل أن يكون قوله تعالى {يعرف المجرمون بسيماهم فيؤخذ بالنواصي والأقدام} إشارة إلى ما يشعرون به من سلب الأبصار والأسماع والمنطق. والحالة الخامسة، حال الإقامة في النار. وهذه الحالة تنقسم إلى بدو ومآل. فبدوها أنهم إذا قطعوا المسافة التي بين موقف الحساب وشفير جهنم عمياً وبكماً وصماً إذلالاً لهم تمييزاً عن غيرهم، ثم ردت الحواس إليهم ليشاهدوا النار، وما أعد الله لهم فيها من العذاب ويعاينوا ملائكة العذاب وكل ما كانوا به مكذبين، فيستقرون في النار ناطقين سامعين مبصرين ولهذا قال الله تعالى {وتراهم يعرضون عليها خاشعين من الذل ينظرون من طرف خفي} وقال {لو ترى إذ وقفوا على النار فقالوا يا ليتنا نرد ولا نكذب بآيات ربنا ونكون من المؤمنين} وقال {كلما دخلت أمة لعنت أختها حتى إذا اداركوا فيها جميعاً قالت أخراهم لأولاهم} إلى قوله {وقالت أولاهم لأخراهم} وقال {كلما ألقي فيها فوج سألهم خزنتها ألم يأتكم نذير * قالوا بلى قد جاءنا نذير فكذبنا وقلنا ما نزل الله من شيء} وأخبر تعالى أنهم ينادون أهل الجنة فيقولون {أفيضوا علينا من

الماء أو مما رزقكم الله} وأن أهل الجنة ينادونهم {أن قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقاً فهل وجدتم ما وعد ربكم حقاً قالوا نعم} وأنهم يقولون {يا مالك ليقض علينا ربك} فيقول لهم {إنكم ماكثون} وأنهم يقولون لخزنة جهنم {ادعوا ربكم يخفف عنا يوماً من العذاب} فيقولون لهم {أولم تك تأتيكم رسلكم بالبينات قالوا بلى قالوا فادعوا وما دعاء الكافرين إلا في ضلال} . وأما العقبى والمال فإنهم إذا قالوا: {أخرجنا منها فإن عدنا فإنا ظالمون} فقال الله تعالى {اخسؤوا فيها ولا تكلمون} وكتب عليهم الخلود بالمثل الذي يضرب لهم وهو أن يؤتى بكبش أملح ويسمى المكوت، ثم يذبح على الصراط بين الجنة والنار وينادوا يا أهل الجنة خلود فلا موت، ويا أهل النار خلود فلا موت سلبوا في ذلك الوقت أسماعهم، وقد يجوز أن يسلبوا الأبصار والكلام، لكن سلب السمع يقين، لأن الله تعالى يقول: {لهم فيها زفير وهم فيها لا يسمعون} فإذا سلبوا الأسماع صاروا إلى الزفير والشهيق، ويحتمل أن تكون الحكمة في سلب الأسماع من قبل أنهم سمعوا نداء الرب سبحانه على ألسنة رسله فلم يجيبوه بل جحدوه، وكذبوا به بعد قيام الحجة عليهم بصحته، فلما كانت حجة الله عليهم في الدنيا الاستماع عاقبهم على كفرهم في الأخرى بسلب الأسماع يبين ذلك أنهم كانوا يقولون للنبي صلى الله عليه وسلم: وفي آذاننا وقر ومن بيننا وبنيك حجاب وقالوا لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه

باب ما جاء في حشر الناس إلى الله عز وجل حفاة عراة غرلا وفي أول من يكسى منهم وفي أول ما يتكلم من الإنسان

وإن قوم نوح عليه السلام كانوا يستغشون ثيابهم تسترا منه لئلا يروه ولا يسمعوا كلامه وقد أخبر الله تعالى عن الكفار في وقت نبينا محمد صلى الله عليه وسلم مثله فقال: ألا أنهم يثنون صدورهم ليستخفوا منه ألا حين يستغشون ثيابهم وإن سلبت أبصارهم فلأنهم أبصروا الغير فلم يعتبروا والنطق فلأنهم أوتوه فكفروا فهذا وجه الجمع بين الآيات على ما قاله علماؤنا، والله أعلم. باب ما جاء في حشر الناس إلى الله عز وجل حفاة عراة غرلاً وفي أول من يكسى منهم وفي أول ما يتكلم من الإنسان مسلم «عن ابن عباس رضي الله عنه قال: قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بموعظة فقال: أيها الناس إنكم تحشرون إلى الله حفاة عراة غرلاً كما بدأنا أول خلق نعيده وعداً علينا إنا كنا فاعلين ألا وإن أول الناس يكسى يوم القيامة إبراهيم عليه السلام ألا وإنه يؤتى برجال من أمتي فيؤخذ بهم ذات الشمال فأقول يا رب أصحابي فيقول إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك. فأقول كما قال العبد الصالح {وكنت عليهم شهيداً ما دمت فيهم} إلى قوله {العزيز الحكيم} قال فيقال إنهم لم يزالوا مدبرين مرتدين على أعقابهم منذ فارقتهم» . أخرجه البخاري والترمذي، «عن معاوية بن حيدة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث ذكره قال:

وأشار بيده إلى الشام فقال: ههنا إلى ههنا تحشرون ركباناً ومشاة وتجرون على وجوهكم يوم القيامة أفواهكم الفدام توفون سيعين أمة أنتم خيرها على الله وأكرمهم على الله، وإن أول ما يعرب عن أحدكم فخذه» وفي رواية أخرى ذكرها ابن أبي شيبة «وإن أول ما يتكلم من الإنسان فخذه وكفه» . فصل: قوله [غرلاً] أي غير مخنوتين النقي الحواري وهو الدرمك من الدقيق، والعفر بياض ليس بخالص يضرب إلى الحمرة قليلاً، والفدام مصفاة الكوز والابريق. قاله الليث. قال أبو عبيدة: يعني أنهم منعوا الكلام حتى تتكلم أفخاذهم، فشبه ذلك بالفدام الذي يجعل على الإبريق وقوله «أول من يكسى إبراهيم» فضيلة عظيمة لإبراهيم وخصوص له كما خص موسى عليه السلام بأن النبي صلى الله عليه وسلم يجده معلقاً بساق العرش مع أن النبي صلى الله عليه وسلم أول من تنشق عنه الأرض، ولا يلزم من هذا أن يكون أفضل منه مطلقاً، بل هو أفضل من وافى القيامة على ما

يأتي بيانه في أحاديث الشفاعة والمقام المحمود إن شاء الله تعالى. قال شيخنا أبو العباس أحمد بن عمر في كتاب المفهم له: ويجوز أن يراد بالناس من عداه من الناس فلم يدخل تحت خطاب نفسه. والله أعلم. قلت: هذا حسن لولا ما جاء منصوصاً خلافه، فقد روى ابن المبارك في رقائقه: أخبرنا سفيان، عن عمر بن قيس، عن المنهال بن عمرو، عن عبد الله بن الحارث، عن علي رضي الله عنه قال: أول من يكسى خليل الله إبراهيم قبطيتين، ثم يكسى محمد صلى الله عليه وسلم حلة حبرة عن يمين العرش. ذكره البيهقي أيضاً. وروى عباد بن كثير، عن أبي الزبير، عن جابر رضي الله عنه قال: إن المؤذنين والملبين يخرجون يوم القيامة من قبورهم يؤذن المؤذن ويلبي الملبي، وأول من يكسى من حلل الجنة إبراهيم خليل الله، ثم محمد صلى الله عليه وسلم ثم النبيون والرسل عليهم السلام، ثم يكسى المؤذنون وتتلاقهم الملائكة على نجائب من نور أحمر أزمتها من زمرد أخضر رحالها من الذهب، ويشيعهم من قبورهم سبعون ألف ملك إلى المحشر. ذكره الحليمي في كتاب منهاج الدين له. وذكر أبو نعيم الحافظ من «حديث الأسود وعلقمة وأبي وائل، عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: جاء ابنا مليكة إلى النبي صلى الله عليه وسلم الحديث وفيه: فيكون أول من يكسى إبراهيم عليه السلام يقول اكسوا خليلي فيؤتى بربطتين

بيضاوين فيلبسهما ثم يقعد مستقبل العرش، ثم أوتي بكسوتي فألبسها فأقوم عن يمينه قياماً لا يقومه أحد غيري يغبطني فيه الأولون والآخرون» وذكر الحديث. وخرج البيهقي بإسناده في كتاب الأسماء والصفات «عن ابن عباس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنكم تحشرون حفاة عراة، وأول من يكسى من الجنة إبراهيم عليه السلام يكسى حلة من الجنة ويؤتى بكرسي فيطرح عن يمين العرش، ويؤتى بي فأكسى حلة من الجنة لا يقوم لها البشر، ثم أوتي بكرسي فيطرح لي على ساق العرش» وهذا نص بأن إبراهيم أول من يكسى، ثم نبينا بإخباره صلى الله عليه وسلم فطوبى ثم طوبى لمن كسي في ذلك الوقت من ثياب الجنة، فإنه من لبسه فقد لبس جبة تقيه مكاره الحشر وعرقه وحر الشمس وغير ذلك من أهواله. فصل: وتكلم العلماء في حكمة تقديم إبراهيم عليه السلام بالكسوة فروي أنه لم يكن في الأولين والآخرين لله عز وجل عبد أخوف من إبراهيم عليه السلام، فتعجل له كسوته أماناً له ليطمئن قلبه، ويحتمل أن يكون ذلك لما جاء به الحديث من أنه أول من أمر بلبس السراويل إذا صلى مبالغة في التستر، وحفظاً لفرجه من أن يماس مصلاه ففعل ما أمر به فيجزى بذلك أن يكون أول من يستر يوم القيامة،

باب منه وبيان قوله تعالى: " لكل امرىء منهم يومئذ شأن يغنيه "

ويحتمل أن يكون الذين ألقوه في النار جردوه ونزعوا عنه ثيابه على أعين الناس كما يفعل بمن يراد قتله، وكان ما أصابه من ذلك في ذات الله عز وجل فلما صبر واحتسب وتوكل على الله تعال دفع الله عنه شر النار في الدنيا والآخرة، وجزاه بذلك العرى أن جعله أول من يدفع عنه العرى يوم القيامة على رؤوس الأشهاد، وهذا أحسنها، والله أعلم. وإذا بدئ في الكسوة بإبراهيم وثنى بمحمد صلى الله عليه وسلم أوتي محمد بحلة لا يقوم لها البشر لينجبر التأخير بنفاسة الكسوة، فيكون كأنه كسي مع إبراهيم عليهما السلام قاله الحليمي. وقوله «تجدون على أفواهكم الفدام» ، الفدام: مصفاة الكوز والإبريق قاله الليث. قال أبو عبيد يعني أنهم منعوا الكلام حتى تتكلم أفخاذهم فشبه ذلك بالفدام الذي يجعل على الإبريق. قال سفيان: وفدامهم أن يؤخذ على ألسنتهم وهذا مثل. باب منه وبيان قوله تعالى: " لكل امرىء منهم يومئذ شأن يغنيه " باب منه وبيان قوله تعالى: لكل امرىء منهم يومئذ شأن يغنيه مسلم عن «عائشة رضي الله عنها قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: يحشر الناس يوم القيامة حفاة عراة غرلاً. قلت يا رسول الله: الرجال والنساء جميعاً ينظر بعضهم إلى بعض؟ قال: يا عائشة الأمر أشد من أن ينظر بعضهم إلى بعض» .

الترمذي «عن ابن عباس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: تحشرون حفاة عراة غرلاً فقالت امرأة: أيبصر بعضنا أو يرى بعضنا عورة بعض؟ قال: يا فلانة لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه» قال حديث حسن صحيح. فصل: قلت: هذا الباب والذي قبله يدل على أن الناس يحشرون حفاة عراة غرلاً أي غير مخنوتين كما بدأنا أول خلق نعيده. قال العلماء: يحشر العبد غداً وله من الأعضاء ما كان له يوم ولد، فمن قطع منه عشو يرد في القيامة عليه حتى الختان. وقد عارض هذا الباب ما روى أبو داود في سننه، «عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه لما حضرته الوفاة دعا بثياب جدد فلبسها وقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن الميت يبعث في ثيابه التي دفن فيها» . قال ابو عمر بن عبد البر: وقد احتج بهذا الحديث من قال: إن الموتى يبعثون جملة على هيئاتهم. وحمله الأكثر من العلماء على الشهيد الذي أمر أن يزمل في ثيابه ويدفن فيها ولا يغسل عنه دمه ولا يغير عليه شيء من حاله بدليل حديث ابن عباس وعائشة رضي الله عنهما. قالوا: ويحتمل أن يكون أبو سعيد سمع الحديث في الشهيد فتأوله على العموم، والله أعلم.

قلت: ومما يدل على قول الجماعة مما يواقف حديث عائشة وابن عباس قوله الحق: {ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة} وقوله: {كما بدأكم تعودون} ولأن الملابس في الدنيا أموال ولا مال في الآخرة زالت الأملاك بالموت وبقيت الأموال في الدنيا وكل نفس يومئذ، فإنما يقيها المكاره ما وجب لها بحسن عملها أو رحمة ميتدأة من الله عليها. فأما الملابس فلا غنى فيها يومئذ إلا ما كان من لباس الجنة على ما تقدم في الباب قبل. وذهب أبو حامد في كتاب كشف علوم الآخرة إلى «حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: بالغوا في أكفان موتاكم فإن أمتي تحشر بأكفانها وسائر الأمم عراة» ورواه أبو سفيان مسنداً. قال المؤلف رحمه الله: وهذا الحديث لم أقف عليه. والله أعلم بصحته، وإن صح فيكون معناه فإن أمتي الشهداء تحشر بأكفانها حتى لا تتناقض الأخبار والله أعلم. ولا يعارض هذا الباب ما تقدم أول الكتاب من أن الموتى يتزاورون في قبورهم بأكفانهم، فإن ذلك يكون في البرزخ، فإذا قاموا من قبورهم خرجوا عراة ما عدا الشهداء، والله أعلم.

الجزء الأول من باب قول النبي صلى الله عليه وسلم من سره أن ينظر إلى يوم القيامة فليقرأ " إذا الشمس كورت " و" إذا السماء انفطرت " و" إذا السماء انشقت " وفي أسماء يوم القيامة

باب ذكر أبو بكر أحمد بن علي حديث ثابت «عن عبد الله بن إبراهيم بن أبي عمرو الغفاري قال: حدثنا مالك بن أنس، عن نافع، عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أحشر يوم القيامة بين أبي بكر وعمر رضي الله عنهما حتى أقف بين الحرمين فيأتي أهل المدينة ومكة» غريب من حديث مالك تفرد به عبد الله بن إبراهيم عنه، ويقال لم يروه غير عبد العزيز بن عبد الله الهاشمي البغدادي عن الغفاري. الجزء الأول من باب قول النبي صلى الله عليه وسلم من سره أن ينظر إلى يوم القيامة فليقرأ " إذا الشمس كورت " و" إذا السماء انفطرت " و" إذا السماء انشقت " وفي أسماء يوم القيامة الجزء الأول من باب قول النبي صلى الله عليه وسلم من سره أن ينظر إلى يوم القيامة فليقرأ إذا الشمس كورت وإذا السماء انفطرت وإذا السماء انشقت وفي أسماء يوم القيامة الترمذي «عن ابن عمر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من سره أن ينظر غلى يوم القيامة فليقرأ {إذا الشمس كورت} و {إذا السماء انفطرت} و {إذا السماء انشقت} » قال: هذا حديث حسن. فصل: قلت: وإنما كانت هذه السور الثلاث أخص بالقيامة لما فيها من انشقاق السماء وانفطارها وتكور شمسها وانكدار نجومها وتناثر كواكبها إلى غير

ذلك من أفزاعها وأهوالها، وخروج الخلق من قبورهم إلى سجونهم أو قصورهم بعد نشر صحفهم وقراء كتبهم وأخذها بأيمانهم وشمائلهم أو من وراء ظهورهم في موقفهم على ما يأتي بيانه. قال الله تعالى {إذا السماء انشقت} وقال {إذا السماء انفطرت} وقال: {ويوم تشقق السماء بالغمام} فتراها واهية منفطرة متشققة كقوله تعالى: {وفتحت السماء فكانت أبواباً} ويكون الغمام سترة بين السماء والأرض. وقيل: إن [الباء] بمعنى [عن] أي تشقق عن سحاب أبيض. ويقال: انشقاقها لما يخلص غليه من حر جهنم، وذلك إذا بطلت المياه وبرزت النيران، فأول ذلك أنها تصير حمراء صافية كالدهن وتتشقق لما يريد الله من نقض هذا العالم ورفعه، وقد قيل: إن السماء تتلون فتصفر ثم تحمر أو تحمر ثم تصفر كالمهرة تميل في الربيع إلى الصفرة، فإذا اشتد الحر مالت إلى الحمرة ثم إلى الغبرة. قاله الحليمي. وقوله تعالى: {إذا الشمس كورت} قال ابن عباس رضي الله عنه تكويرها إدخالها في العرش. وقال: ذهاب ضوئها. قاله الحسن وقتادة. وروي ذلك عن ابن عباس ومجاهد. وقال أبو عبيدة: كورت مثل تكوير العمامة تلف فتمحى،

وقال الربيع بن خيثم كورت رمى بها ومنه كورته فتكور أي سقط. قلت: وأوصل التكوير الجمع مأخوذ من كار العمامة على رأسه يكورها أي لا تها وجمهعا فهي تكور ثم يمحى ضوءها ثم يرمى بها والله أعلم. وقوله تعالى: {وإذا النجوم انكدرت} أي انتثرت قيل تتناثر من أيدي الملائكة لأنهم يموتون. وفي الخبر أنها معلقة بين السماء والأرض بسلاسل بأيدي الملائكة. وقال ابن عباس رضي الله عنه: انكدرت تغيرت وأصل الانكدار الانصباب فتسقط في البحار فتصير معها نيراناً إذا ذهبت المياه. وقوله {وإذا الجبال سيرت} هو مثل قوله {وتسير الجبال} أي تحول عن منزلة الحجارة فتكون كثيباً مهيلاً أي رملاً سائلاً وتكون كالعهن، وتكون هباء منبثاً، وتكون سراباً مثل السراب الذي ليس بشيء، وقيل: إن الجبال بعد اندكاكها أنها تصير كالعهن من حر جهنم كما تصير السماء من حرها كالمهل. قال الحليمي: وهذا والله أعلم لأن مياه الأرض كانت حاجزة بين السماء والأرض، فإذا ارتفعت وزيد مع ذلك في إحماء جهنم أثر في كل واحد من السماء والأرض ما ذكر. قوله {وإذا العشار عطلت} أي عطلها أهلها فلم تحلب من الشغل بأنفسهم والعشار: الإبل الحوامل واحدها عشراء وهي التي أتي عليها في الحمل عشرة أشهر ثم لا يزال ذلك اسمها حتى تضع

وبعد ما تضع، وإنما خص العشار بالذكر لأنها أعز ما يكون على العرب، فأخبر أنه تعطل يوم القيامة. ومعناه: أنهم إذا قاموا من قبورهم وشاهد بعضهم بعضاً ورأوا الوحوش والدواب محشورة وفيها عشارهم التي كانت أنفس أموالهم لم يعبئوا بها ولم يهمهم أمرها، ويحتمل تعطل العشار إبطال الله تعالى أملاك الناس عما كان ملكهم إياها في الدنيا، وأهل العشار يرونها فلا يجدون إليها سبيلاً. وقيل: العشار السحار يعطل مما يكون فيه وهو الماء فلا يمطر. وقيل: العشار الديار تعطل فلا تسكن. وقيل: الأرض التي يعشر زرعها تعطل فلا تزرع. والقول الأول أشهر وعليه من الناس الأكثر. وقوله: {وإذا الوحوش حشرت} أي جمعت والحشر الجمع وقد تقدم. وقوله: {وإذا البحار سجرت} أي أوقدت وصارت ناراً. رواه الضحاك عن ابن عباس رضي الله عنه وقال قتادة: غار ماؤها فذهب، وقال الحسن والضحاك: فاضت. قال ابن أبي زمنين {سجرت} حقيقته ملئت فيقضي بعضها إلى بعض فتصير شيئاً واحداً وهو معنى قول الحسن

ويقال: إن الشمس تلف ثم تلقى في البحار فمنها تحمى وتنقلب ناراً. قال الحليمي: ويحتمل إن كان هذا هكذا أن البحار في قول من فسر التسجير بالامتلاء هو أن النار حينئذ تكون أكثرها لأن الشمس أعظم من الأرض مرات كثيرة، فإذا كورت وألقيت في البحر فصارت ناراً ازدادت امتلاء. وقوله: {وإذا النفوس زوجت} تفسير الحسن أن تلحق كل شيعة شيعتها اليهود باليهود، والنصارى بالنصارى، والمجوس بالمجوس، وكل من كان يعبد من دون الله شيئاً يلحق بعضهم ببعض والمنافقون بالمنافقين والمؤمنون بالمؤمنين. وقال عكرمة: المعنى تقرن بأجسادها أي ترد إليها. وقيل: يقرن الغاوي بمن أغواه من شيطان أو إنسان. وقيل: يقرن المؤمنون بالحور العين والكافرون بالشياطين. وقوله: {وإذا الموؤدة سئلت} يعني بنات الجاهلية كانوا يدفنونهن أحياء لخصلتين. إحدهما: كانوا يقولون إن الملائكة بنات الله، فألحقوا البنات به. الثانية: مخافة الحاجة والإملاق وسؤال الموؤدة على وجه التوبيخ لقاتلها كما يقال للطفل إذا ضرب لم ضربت وما ذنبك؟ وقال الحسن: أراد الله أن يوبخ قاتلها لانها قتلت بغير ذنب

وبعضهم يقرأ {وإذا الموؤدة سئلت} تعلق الجارية بأبيها فتقول بأي ذنب قتلتني؟ وقيل: معنى سئلت يسأل عنها كما قال {إن العهد كان مسؤولا} . وقوله: {وإذا الصحف نشرت} أي للحساب وسيأتي. وقوله: {وإذا السماء كشطت} قيل معناه طويت كما قال الله تعالى: {يوم نطوي السماء كطي السجل للكتب} أي كطي الصحيفة على ما فيها فاللام بمعنى [على] يقال: كشطت السقف أي قلعته فكان المعنى قلعت فطويت. والله أعلم. والكشط والقشط سواء وهو القلع وقيل: السجل كاتب للنبي صلى الله عليه وسلم ولا يعرف في الصحابة من اسمه سجل. وقوله: {وإذا الجحيم سعرت} أي أوقدت. وقوله: {وإذا الجنة أزلفت} أي قربت لأهلها وأدنيت {علمت نفس ما أحضرت} أي من عملها وهو مثل قوله: {علمت نفس ما قدمت وأخرت} ومثل قوله: {ينبأ الإنسان يومئذ بما قدم وأخر} فهو يوم الانشقاق ويوم الانفطار ويوم التكوير

ويوم الانكدار ويوم الانتثار ويوم التسيير قال الله تعالى: {وتسير الجبال سيراً} {وإذا الجبال سيرت} ويوم التعطيل ويوم التسجير ويوم التفجير ويوم الكشط والطي ويوم المد لقوله تعالى: {وإذا الأرض مدت} إلى غير ذلك من أسماء القيامة وهي الساعة الموعود أمرها ولعظمها أكثر الناس السؤال عنها لرسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أنزل الله عز وجل على رسوله {يسألونك عن الساعة أيان مرساها قل إنما علمها عند ربي لا يجليها لوقتها إلا هو ثقلت في السماوات والأرض لا تأتيكم إلا بغتةً} وكل ما عظم شأنه تعددت صفاته وكثرت أسماؤه وهذا جميع كلام العرب ألا ترى أن السيف لما عظم عندهم موضعه وتأكد نفعه لديهم وموقعه جمهوا له خمسمائة اسم. وله نظائر. فالقيامة لما عظم أمرها، وكثرت أهوالها، سماها الله تعالى في كتابه بأسماء عديدة، ووصفها بأوصاف كثيرة. منها ما ذكرناه، مما وقع في هذه السور الثلاث. وقيل: إن الله تعالى يبعث الأيام يوم القيامة على هيئتها فتوقف بين يدي الله تعالى ويوم الجمعة فيها زاهراء مضيئة يعرفها الخلائق فيوم القيامة يوم يتضمن الأيام كلها فسمى بكل حال يوماً فقيل: {يوم ينفخ في الصور} ثم قيل: {يوم يكون الناس كالفراش المبثوث} ثم قيل: {يوم ينظر المرء ما قدمت يداه} فهذه حالة أخرى. ثم قيل: يوم تعرضون ثم قيل: {يومئذ يصدر الناس أشتاتاً} . قهذه أحوال فقد يجري يوم القيامة بطوله على هذه الأحوال كل

حال منها كاليوم المتجدد ولذلك كررت في قوله تعالى: {وما أدراك ما يوم الدين * ثم ما أدراك ما يوم الدين} . لآن ذلك اليوم ومابعده يوم، واليوم العظيم متضمن لهذه الأيام فهو لله يوم وللخلائق أيام فقد عرفت أيامهم في يومه وقد بطل الليل والنهار. قاله الترمذي الحكيم ومما قيل في معنى ما ذكرنا من النظم قول بعضهم: مثل لنفسك أيها المغرور ... يوم القامة والسماء تمور إذ كورت شمس النهار وأدنيت ... حتى على رأس العباد تسير وإذا النجوم تساقطت وتناثرت ... وتبدلت بعد الضياء كدور وإذا البحار تفجرت من خوفها ... ورأيتها مثل الجحيم تفور وإذا الجبال تقلعت بأصولها ... فرأيتها مثل السحاب تسير وإذا العشار تعطلت وتخربت ... خلت الديار فما بها معمور وإذا الوحوش لدى القيامة أحشرت ... وتقول للأملاك أين نسير وإذا تقاة المسلمين تزوجت ... من حور عين زانهن شعور وإذا الموؤدة سئلت عن شأنها ... وبأي ذنب قتلها ميسور وإذا الجليل طوى السما بيمينه ... طي السجل كتابه المنشور وإذا الصحائف عند ذاك تساقطت ... تبدى لنا يوم القصاص أمور وإذا الصحائف نشرت فتطايرت ... وتهتكت للمؤمنين ستور وإذا السماء تكشطت عن أهلها ... ورأيت أفلاك السماء تدور وإذا الجحيم تسعرت نيرانها ... فلها على أهل الذنوب زفير وإذا لجنان تزخرفت وتطيبت ... لفتى على طول البلاء صبور

وإذا الجنين بأمه متعلق ... يخشى القصاص وقلبه مذعور هذا بلا ذنب يخاف جناية ... كيف المصر على الذنوب دهور ومنها الساعة قال الله تعالى {ويوم تقوم الساعة يقسم المجرمون ما لبثوا غير ساعة} وقال {ويوم تقوم الساعة يبلس المجرمون} . {ويوم تقوم الساعة يومئذ يتفرقون} وقال {ويوم تقوم الساعة أدخلوا آل فرعون أشد العذاب} وهو في القرآن كثير، والساعة كلمة يعبر بها في العربية عن جزء الزمان غير محدود وفي العرف على جزء من أربعة وعشرين جزءاً من يوم وليلة والذين هما أصل الأزمنة، وتقول العرب أفعل كذا الساعة، وأنا الساعة في أمر كذا تريد الوقت الذي أنت فيه، والذي يليه تقريباً له وحقيقة الإطلاق فيها أن الساعة بالألف واللام عبارة في الحقيقة عن الوقت الذي أنت فيه وهو المسمى بالآن وسميت به القيامة إما لقربها فإن كل آت قريب، وإما أن تكون سميت بها تنبيهاً على ما فيها من الكائنات العظام التي تصهر الجلود وتكسر العظام وقيل: إنما سميت بالساعة لأنها تأتي بغتة في ساعة، وقيل: إنما سميت بالساعة لأن الله تعالى يأمر السماء أن تمطر بماء الحيوان حتى تنبت الأجساد في مدافنها ومواضعها حيث كانت من بحر أو بر وتستقل وتتحرك بحياتها بماء الحيوان، وليست فيها أرواح ثم تدعى الأرواح، فأرواح المؤمنين تتوقد نوراً، وأرواح الكافرين تتوهج ظلمة، فإذا دعا الأرواح ألقاها في الصور ثم يأمر إسرافيل أن ينفخ في الصور فإذا نفخ فيه خرجت من الصور ثم أمرت أن تلحق الأجساد فتبعث إلى الأجساد في أسرع من اللمحة، وأنما سميت الساعة لسعي الأرواح إلى الأجساد في تلك السرعة فهي سائغ وجمعها

ساعة كقولك، بائع وباعة وضائع وضاعة وكائل وكالة، فوصف أن سائر أموره في السرعة كلمح البصر وأمر السائق أقرب من لمح البصر. قاله الترمذي الحكيم. وذكر أبو نعيم الحافظ بإسناده عن وهب بن منبه قال: إذا قامت الساعة صرخت الحجارة صراخ النساء وقطرت العظاة دماً ومنها القيامة قال الله تعالى {لا أقسم بيوم القيامة} وهي في العربية مصدر قام يقوم ودخلها التأنيث للمبالغة على عادة العرب، واختلف في تسميتها بذلك على أربعة أقوال. الأول: لوجود هذه الأمور فيها. الثاني: لقيام الخلق من قبورهم إليها. قال الله تعالى {يوم يخرجون من الأجداث سراعاً} . الثالث: لقيام الناس لرب العالمين كما روى مسلم «عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم يوم يقوم الناس لرب العالمين قال يوم يقوم أحدكم في رشحه إلى نصف أذنيه» قال ابن عمر رضي الله عنهما [يقومون مائة سنة] . ويروى عن كعب [يقومون ثلاثمائة سنة] . الرابع: لقيام الروح والملائكة صفاً. قال الله تعالى {يوم يقوم الروح والملائكة صفاً} .

قال علماؤنا: واعلم أن كل ميت مات فقد قيامته، ولكنها قيامة صغرى وكبرى، فالصغرى هي ما يقوم على كل إنسان في خاصته من خروج روحه وفراق أهله وانقطاع سعيه وحصوله على عمله. إن كان خيراً فخير وإن كان شراً فشر، والقيامة الكبرى هي التي تعم الناس وتأخذهم أخذة واحدة، والدليل على أن كل ميت يموت فقد قامت قيامته قول النبي صلى الله عليه وسلم لقوم من الأعراب وقد سألوه متى القيامة؟ فنظر إلى أحدث إنسان منهم فقال: «إن يعش هذا لم يدركه الهرم قامت عليكم ساعتكم» أخرجه مسلم وغيره، وقال الشاعر: خرجت من الدنيا وقامت قيامتي ... غداة أقيل الحاملون جنازتي وعجل أهلي حفر قبري وصبروا ... خروجي وتعجيلي إليه كرامتي كأنهم لم يعرفوا قط سيرتي ... غداة أتى يومي علي وساعتي ومنها: يوم النفخة. قال الله تعالى {يوم ينفخ في الصور} وقد مضى القول فيه. ومنها: يوم الزلزلة ويوم الرجفة. قال الله تعالى {يوم ترجف الراجفة * تتبعها الرادفة} وقد تقدم. ومنها: يوم الناقور كقوله تعالى {فإذا نقر في الناقور} وقد تقدم القول فيه والحمد لله.

ومنها: القارعة سميت بذلك لأنها تقرع القلوب بأهوالها يقال: قد أصابتهم قوارع الدهر أي أهواله وشدائده، قالت الخنساء: تعرفني الدهر نهشاً وحزاً ... وأوجعني الدهر قرعاً وغمزا أرادت أن الدهر أوجعها بكبريات نوائبه وصغرياتها. ومنها: يوم البعث وحقيقته إثارة الشيء عن خفاء وتحريكة عن سكون، قال عنترة: وعصابة شم الأنوف بعثهم ... ليلاً وقد مال الكرا بطلاها وقال امرؤ القيس: وفتيان صدق قد بعثت بسحرة ... فقاموا جميعاً بين غات ونسوان وقد تقدم القول فيه وفي صفته والحمد لله. ومنها: يوم النشور وهو عبارة عن الإحياء. يقال: قد أنشر الله الموتى فنشروا أي أحياهم الله فحييوا ومنه قوله تعالى {وانظر إلى العظام كيف ننشزها}

أي نحييها، وقد يكون معناه التفريق من ذلك قولك أمرهم نشر. ومنها: يوم الخروج قال الله تعالى {يوم يخرجون من الأجداث سراعاً} فأوله الخروج من القبور وآخره خروج المؤمنين من النار ثم لا خروج ولا دخول على ما يأتي. ومنها: يوم الحشر وهو عبارة عن الجمع، وقد يكون مع الفعل إكراه قال الله تعالى: {وأرسل في المدائن حاشرين} أي من يسوق السحرة كرهاً وقد مضى القول في الحشر مستوفي والحمد لله. ومنها: يوم العرض قال الله تعالى: {يومئذ تعرضون لا تخفى منكم خافية} وقال: {وعرضوا على ربك صفاً} وحقيقتة إدراك الشيء بإحدى الحواس ليعلم حاله وغايته السمع والبصر فلا يزال الخلق قياماً في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة ما شاء الله أن يقوموا حتى يلهموا أو يهتموا. فيقولون: قد كنا نستشفع في الدنيا فهلم فلنسال الشفاعة إلى ربنا فيقولون: أئتوا آدم الحديث وسيأتي. قال ابن العربي: وفي كيفية العرض أحاديث كثيرة المعول منها على تسعة أحاديث في تسعة أوقات: الأول: الحديث المشهور الصحيح رواه «أبي هريرة وأبو سعيد الخدري رضي الله عنهما واللفظ له قال: إن ناساً في زمن النبي صلى الله عليه وسلم قالوا يا رسول الله هل نرى ربنا يوم القيامة؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هل تضارون في رؤية الشمس بالظهيرة صحواً ليس معها سحاب، وهل تضارون في رؤية القمر ليلة البدر صحواً ليس فها سحاب، قالوا: لا يا رسول الله. قال: ما تضارون

في رؤية الله يوم القيامة إلا كما تضارون في رؤية أحدهما. إذا كان يوم القيامة أذن مؤذن ليتبع كل أمة ما كانت تعبد فلا يبقى أحد كان يعبد غير الله من الأصنام والنصاب إلا يتساقطون في النار حتى إذا لم يبق إلا من كان يعبد الله من بر وفاجر وغير أهل الكتاب، فيدعى اليهود فيقال لهم: ما كنتم تعبدون؟ قالوا: كنا نعبد عزيز بن الله. فيقال لهم: كذبتم ما اتخذ الله من صاحبة ولا ولد، فماذا تبغون؟ قالوا عطشنا يا ربنا فاسقنا فيشار ألا تردون فيحشرون إلى النار كأنها سراب يحطم بعضها بعضاً قيتساقطون في النار، ثم تدعى النصارى فيقال لهم: ما كنتم تعبدون؟ قالوا: كنا نعبد المسيح ابن الله. فيقال لهم: كذبتم ما تخذ الله من صاحبة ولا ولد. فيقال لهم: ماذا تبغون؟ فيقولون: عطشنا يا ربنا فاسقنا فيشار ألا تردون فيحشرون إلى جهنم كأنها سراب يحطم بعضها بعضاً فيتساقطون في النار، حتى إذا لم يبق إلا من يعبد الله من بر وفاجر أتاهم رب العالمين في أدنى صورة من التي رأوه فيها. قال: فماذا تنتظرون تتبع كل أمة ما كانت تعبد قالوا يا ربنا فارقنا الناس في الدنيا أفقر ما كنا إليهم ولم نصاحبهم، فيقول: أنا ربكم فيقولون نعوذ بالله منك لا نشرك بالله شيئاً مرتين أو ثلاثاً. حتى إن بعضهم ليكاد أن ينقلب فيقول هل بينكم وبينه آية فتعرفونه بها، فيقولون: نعم. فيكشف عن ساق فلا يبقى من كان يسجد لله من تلقاء نفسه إلا أذن الله له بالسجود ولا يبقى من كان يسجد نفاقاً ورياء إلا جعل الله ظهره طبقة واحدة كلما أراد أن يسجد خر على قفاه، ثم يرفعون رؤوسهم وقد تحول في الصورة التي رأوه فيها أول مرة. فيقول: أنا ربكم. فيقولون: أنت ربنا ثم يضرب الجسر على جهنم وتحل الشفاعة ويقولون اللهم سلم سلم» وذكر الحديث وسيأتي تمامه إن شاء الله تعالى.

الثاني: صح حديث «عائشة رضي الله عنها أنها قالت سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من نوقش الحساب عذب، قلت يا رسول الله أليس الله يقول {فسوف يحاسب حساباً يسيراً} قال: ليس ذلك الحساب ذلك العرض» وسيأتي. الثالث: روى الحسن، «عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم تعرض الناس يوم القيامة ثلاث عرضات» وسيأتي. الرابع: روي عن «أنس رضي الله عنه أنه قال عن النبي صلى الله عليه وسلم يجاء بابن آدم يوم القيامة كأنه بذج» الحديث، وسيأتي. الخامس: ثبت عن «أبي هريرة رضي الله عنه وأبي سعيد الخدري واللفظ له، يؤتى بعبد يوم القيامة فيقال له ألم أجعل لك سمعاً وبصراً ومالاً وولداً وتركتك ترأس وترتع فكنت تظن أنك ملاقى يومك هذا. فيقول: لا. فيقال له: اليوم أنساك كما نسيتني» وهذا حديث صحيح.

قلت: خرجه مسلم والترمذي مطولاً. السادس: ثبت من طرق صحاح «أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: يؤتى بالعبد يوم القيامة فيضع عليه كفنه فيقول له عبدي تذكر يوم كذا وكذا حين فعلت كذا وكذا فلا يزال يقرره حتى يرى أنه هلك. ثم يقول له: عبدي أنا سترتها عليك في الدنيا وأنا أغفرها لك اليوم» . السابع: وفي الصحيح «عن أبي ذر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إني لأعلم آخر أهل الجنة دخولاً وآخر أهل النار خروجاً من النار رجل يؤتى به يوم القيامة فيقال أعرضوا عليه صغار ذنوبه وارفعوا عنه كبارها» وذكر الحديث. الثامن: وفي الصحيح «عن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: يخرج من النار أربعة فيعرضون على الله فيلتفت أحدهم فيقول: أي رب إذا أخرجتني منها فلا تعدني فيها فينجيه الله منها» . وروى مسلم «يجمع الله الناس فيقوم المؤمنون حتى تزلف لهم الجنة فيأتون آدم فيقولون يا أبانا استفتح لنا الجنة فيقول لهم: وهل أخرجكم من الجنة إلا خطيئة أبيكم آدم لست بصاحب ذلك» وذكر حديث الشفاعة قال الله تعالى {ويوم يعرض الذين كفروا على النار} وذلك قوله في الحديث المتقدم «ألا تردون فيحشرون إلى جهنم كأنها سراب يحطم بعضها بعضاً»

قال القاضي أبو بكر بن العربي: وهذا مما أغفله الأئمة في التفسير. التاسع: العرض على الله ولا أعلمه في الحديث إلا قوله في النص المتقدم حتى إذا لم يبق إلا من كان يعبد الله من بر وفاجر أتاهم رب العالمين، وذكر الحديث. قلت: إذا تتبعت الأحاديث في هذا الباب على هذا السياق كان الحسن والصحيح منها أكثر من تسعة. وقد خرج عن «أبي بردة الأسلمي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تزول قدماً عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع» الحديث وسيأتي. وقوله في الحديث الآخر «إذا كان يوم القيامة دعا الله بعبد من عباده فيوقفه بين يديه فيسأله عن جاهه كما يسأله عن عمله» . وخرج مسلم عن «عدي بن حاتم رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما منكم من أحد إلا سيكلمه الله ليس بينه وبينه ترجمان» الحديث وسيأتي. وخرج البخاري عن «أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يدعى نوح يوم القيامة فيقول لبيك وسعديك يارب» الحديث وسيأتي. ويتضمن من غير رواية البخاري عرض اللوح المحفوظ ثم إسرافيل ثم جبرائيل ثم الأنبياء نبياً نبياً صلوات الله عليهم أجمعين، وسيأتي.

وخرج الترمذي وابن ماجه حديث الرجل الذي ينشر عليه تسعة وتسعون سجلاً وسيأتي. وهذا كله من باب العرض على الله. وإذا تتبعت الأحاديث كانت أكثر من هذا في مواطن مختلفة وأشخاص متباينة والله أعلم، وفي بعض الخبر أنه يتمنى رجال أن يبعث بهم إلى النار، ولا تعرض قبائحهم على الله تعالى، ولا يكشف مساوئهم على رؤوس الخلائق. قلت: وأما ما وقع ذكره في الحديث من كشف الساق وذكر الصورة فيأتي إيضاحه ذلك وكشفه إن شاء الله في حديث أبي هريرة رضي الله عنه من هذا الكتاب إن شاء الله تعالى. وأما ما جاء من طول هذا اليوم ووقوف الخلائق فيه في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، فقد جاء من حديث «أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، فقلت: ما أطول هذا. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: والذي نفسي بيده أنه ليخفف على المؤمن حتى يكون أخف عليه من الصلاة المكتوبة يصليها في الدنيا» ذكره قاسم بن أصبغ وقيل: غير هذا وسيأتي.

ومنها: يوم الجمع وحقيقته في العربية ضم واحد إلى واحد، فيكون شفعاً أو زوجاً إلى زوج فيكون جمعاً. قال الله تعالى: {يوم يجمعكم ليوم الجمع} وقال {ليجمعنكم إلى يوم القيامة لا ريب فيه} وهو في القرآن كثير. ومنها: يوم التفرق قال الله تعالى {ويوم تقوم الساعة يومئذ يتفرقون * فأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فهم في روضة يحبرون * وأما الذين كفروا وكذبوا بآياتنا ولقاء الآخرة فأولئك في العذاب محضرون} وهو معنى قوله تعالى {فريق في الجنة وفريق في السعير} . ومنها: يوم الصدع والصدر أيضاً قال الله تعالى {يومئذ يصدر الناس أشتاتاً} وقال يومئذ يصدعون ومعناهما معنى الإسم الذي قبله. ومنها: يوم البعثرة ومعناه تتبع الشيء المختلط مع غيره حتى يخلص منه فيخلص الله تعالى الأجسام من التراب والكافرين من المؤمنين والمنافقين، ثم يخلص المؤمنين من المنافقين كما في الحديث الصحيح: «إن الله تعالى يجمع الأوليين والآخرين في صعيد واحد» خرجه مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. ومنها: ما روي «أنه يخرج عنق من النار فيلتقط الكفار لقط الطائر حب السمسم» وهو صحيح أيضاً وسيأتي. وقال صلى الله عليه وسلم «يؤخذ برجال ذات الشمال فأقول يا رب أصحابي فيقول إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك» . ومنها: يوم الفزع وحقيقته ضعف النفس عن حمل المعاني الطارئة عليها خلاف العادة، فإن استمر كان جبناً وعند ذلك تتشوق النفس إلى ما

يقويها فلأجل ذلك قالوا: فزعت من كذا أي ضعفت عن حمله عن طريانه على خلاف العادة، وفزعت إلى كذا أي تشوقت نفسي عند ذلك إلى ما يقويها على ما نزل بها والآخرة كلها خلاف العادة وهي فزع كلها وفي التنزيل لا يحزنهم الفزع الأكبر، وقد اختلف فيه فقيل هو قوله لا بشرى يومئذ للمجرمين. وقيل، إذا طبقت النار على أهلها وذبح الموت بين الجنة والنار. وقال الحسن: هو وقت يؤمر بالعباد إلى النار وعنه أن الفزع الأكبر النفخة الآخرة وتتلقاهم الملائكة بالبشارة حتى يخرجوا من قبورهم. ومنها: يوم التناد بتخفيف الدال من النداء وتشديدها من ند إذا ذهب وهو قال تعالى {يوم تولون مدبرين} وهو الذهاب في غير قصد. وروي أيضاً عن «أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: يأمر الله إسرافيل فينفخ نفخة الفزع فيفزع أهل السموات والأرض» الحديث، وقد تقدم التي يقول الله ما ينظر هؤلاء إلا صيحة واحدة ما لها من فواق فيسير الله الجبال ويرج الأرض بأهلها رجاً وهي التي يقول الله {يوم ترجف الراجفة * تتبعها الرادفة * قلوب يومئذ واجفة * أبصارها خاشعة} فيميد الناس على ظهرها فتذهل المراضع وتضع الحوامل وتشيب الولدان وتولي الناس مدبرين ينادي بعضهم بعضاً وهو الذي يقول الله تعالى {يوم التناد * يوم تولون مدبرين}

قال ابن العربي: وقد رويت في ذلك آثار كثيرة هذا أمثلها فدعوها، فالمعنى الواحد يكفينا منها ومن هولها ومن تحقيق المعنى لها. قلت: قد بينا أقوال العلماء في ذلك عند ذكر حديث أبي هريرة رضي الله عنه في باب أين تكون الناس فتأمله هناك. ومنها: يوم الدعاء وهو النداء أيضاً. والنداء على ثمانية وجوه فيما ذكر ابن العربي: الأول: نداء أهل الجنة أهل النار بالتقريع. الثاني: نداء أهل النار لأهل الجنة بالاستغاثة كما أخبر الله عنهم. الثالث: يدعى كل أناس بإمامهم وهو قوله «لتتبع كل أمة ما كانت تعبد» قال المؤلف: ويقال بكتابهم وقيل: نبيهم. قال سري السقطي: تدعى الأمم يوم القيامة بأنبيائها فيقال يا أمة موسى يا أمة عيسى ويا أمة محمد غير المحبين لله فإنهم ينادون يا أولياء الله هلموا إلى الله سبحانه فتكاد قلوبهم تنخلع فرحاً.

الجزء الثاني من باب قول النبي صلى الله عليه وسلم من سره أن ينظر إلى يوم القيامة فليقرأ " إذا الشمس كورت " و" إذا السماء انفطرت " و" إذا السماء انشقت " وفي أسماء يوم القيامة

الرابع: نداء الملك ألا إن فلان بن فلان قد سعد سعادة لا يشقى بعدها أبداً، وإن فلان ابن فلان قد شقي شقاوة لا يسعد بعدها أبداً وسيأتي. الخامس: النداء عند ذبح الموت يا أهل الجنة خلود فلا موت، وياأهل النار خلود فلا موت. السادس: نداء أهل النار يا حسرتنا وياويلنا. السابع: قول الأشهاد هؤلاء الذين كذبوا على ربهم ألا لعنة الله على الظالمين. الثامن: نداء الله تعالى أهل الجنة فيقول: يا أهل الجنة هل رضيت؟ فيقولون: وما لنا لا نرضى وقد أعطيتنا ما لم تعط أحداً من خلقك. فيقول: أعطيتكم أفضل من ذلك رضائي. الجزء الثاني من باب قول النبي صلى الله عليه وسلم من سره أن ينظر إلى يوم القيامة فليقرأ " إذا الشمس كورت " و" إذا السماء انفطرت " و" إذا السماء انشقت " وفي أسماء يوم القيامة الجزء الثاني من باب قول النبي صلى الله عليه وسلم من سره أن ينظر إلى يوم القيامة فليقرأ إذا الشمس كورت وإذا السماء انفطرت وإذا السماء انشقت وفي أسماء يوم القيامة قال المؤلف رضي الله عنه: ونداء تاسع ذكره أبو نعيم عن مروان بن محمد قال: قال أبو حازم الأعرج: يخاطب نفسه يا أعرج ينادي يوم القيامة يا أهل خطيئة كذا وكذا وكذا فتقوم معهم، ثم ينادي يا أهل خطيئة أخرى فتقوم معهم فأراك يا أعرج تريد أن تقوم مع أهل كل خطيئة وفي التنزيل يوم يناديهم فيقول {أين شركائي} الآية التي في القصص وحم السجدة ويوم يناديهم فيقول ماذا أجبتم المرسلين وبالنداء في

الأخبار كثير يأتي بيانها وذكرها في باب من يدخل الجنة بغير حساب. ومنها: يوم الواقعة. وأصل وقع في كلام العرب كان ووجد، وجاءت الشريعة في تأكيد ذلك بثبوت ما وجد قال الله تعالى: {وإذا وقع القول عليهم أخرجنا لهم دابة من الأرض تكلمهم} والمراد بالقول هنا إخبار الباري عن الساعة وأنها قريبة، ومن أعظم علاماتها الدابة، وسيأتي ذكرها وما للعلماء فيها من الأشراط إن شاء الله تعالى وقوله كاذبة مصدر كالباقية والعاقبة أي ليس لوقعتها مقالة كاذبة. ومنها: الخافضة الرافعة أي ترفع قوماً في الجنة وتخفض أخرى في النار، والخفض والرفع يستعملان عند العرب في المكان والمكانة والعز والإهانة، ونسب سبحانه الخفض والرفع للقيامة توسعاً ومجازاً على عادة العرب في إضافتها الفعل إلى المحل والزمان وغيرهما مما لم يمكن منه الفعل يقولون ليل قائم ونهار صائم وفي التنزيل {بل مكر الليل والنهار} والخافض والرافع على الحقيقة إنما هو الله تعالى وحده، فرفع أولياءه في أعلى الدرجات وجعل أعداءه في أسفل الدركات قال الله تعالى {يوم نحشر المتقين إلى الرحمن وفداً * ونسوق المجرمين إلى جهنم ورداً} و «قال صلى الله عليه وسلم في حديث جابر رضي الله عنه: نحن يوم القيامة على كوم فوق الناس» . قال ابن العربي وهذا حديث فيه تخليط في كتاب مسلم لم يتقنه رواية. ومعناه: أن جميع الخلق على بسيط من الأرض سواء إلا محمداً صلى الله عليه وسلم

وأمته فإنهم يرفعون جميعهم على شبه من الكوم ويخفض الناس عنهم، وفي رواية: «أكون أنا وأمتي يوم القيامة على تل فيكسوني ربي حلة خضراء، ثم يؤذن لي فذلك المقام المحمود» . قلت: وهذا الرفع في المكان بحسب الزيادة في المكانة. قال ابن العربي: وهي أنواع فرفع محمداً صلى الله عليه وسلم بالشفاعة في أول الخلق وبأنه أول من يدخل الجنة ويقرع بابها، ورفع العادلين بالحديث الصحيح المقسطون يوم القيامة على منابر من نور على يمين الرحمن وكلتا يديه يمين، ورفع القراء إلى حيث انتهت قراءتهم. يقال: اقرأ ورتل كما كنت ترتل في الدنيا فإن منزلتك عند آخر آية تقرؤها، وسيأتي ورفع الشهداء فقال في الحديث الصحيح «إن في الجنة مائة درجة أعدها الله للمجاهدين في سبيله» الحديث وسبأتي، ورفع كافل اليتيم فقال صلى الله عليه وسلم «أنا وكافل اليتيم كهاتين في الجنة» وأشار مالك بالسبابة والوسطى يريد في الجوار وقال صلى الله عليه وسلم: «إن أهل الجنة ليتراءون أهل الغرف من فوقهم كما

يتراءون الكوكب الدري الغائر في أفق السماء وأن أبا بكر وعمر منهم وأنعما، ورفع عائشة على فاطمة رضي الله عنهما، فإن عائشة مع النبي صلى الله عليه وسلم وفاطمة مع علي رضي الله عنهما» . ومنها: يوم الحساب ومعناه أن الباري سبحانه يعدد على الخلق أعمالهم من إحسان وإساءة يعدد عليهم نعمه، ثم يقابل البعض بالبعض فما يشف منها على الآخر حكم للمشفوق بحكمه الذي عينه للخير بالخير وللشر بالشر. وجاء عن النبي أنه قال: «ما منكم من أحد إلا وسيكلمه الله ليس بينه وبينه ترجمان» فقيل إن الله يحاسب المكلفين بنفسه ويخاطبهم معاً ولا يحاسبهم واحداً بعد واحد والمحاسبة حكم. فلذلك تضاف إليه كما يضاف الحكم إليه قال الله تعالى: {ألا له الحكم} وقال {وهو خير الحاكمين} . وفي الخبر: أنه يوقف شيخ للحساب فيقول الله له: يا شيخ ما أنصفت غذوتك بالنعم صغيراً فلما كبرتك عصيتني أما إني لا أكون لك كما كنت لنفسك اذهب فقد غفرت لك ما كان قبل، وإنه ليؤتى بالشاب كثير الذنوب فإذا وقف تضعضعت أركانه واصطكت ركبتاه فيقول الرب جل جلاله: أما استحييتني أما راقبتني أما خشيت نقمتي أما علمت أني مطلع عليك خذوه إلى أمه الهاوية،

وقيل: إن الملائكة يحاسبون بأمر الله كما أن الحكام يحكمون بأمر الله تعالى. وقد قال الله تعالى: {إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمناً قليلاً} إلى قوله {ولا يكلمهم الله} وإن من لم يكن بهذه الصفة فإن الله تعالى يكلمه فيكلم المؤمنين ويحاسبهم حساباً يسيراً من غير ترجمان إكراماً لهم، كما أكرم موسى عليه السلام في الدنيا بالكليم، ولا يكلم الكفار فتحاسبهم الملائكة ويميزهم بذلك عن أهل الكرامة فتتسع قدرته لمحاسبة الخلق كلهم معاً كما تتسع قدرته لإحداث خلائق كثيرة معاً. قال الله تعالى: {ما خلقكم ولا بعثكم إلا كنفس واحدة} أي إلا كخلق نفس واحدة. ويروى عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه وسئل عن محاسبة الخلق فقال: كما يرزقهم في غداة واحدة كذلك يحاسبهم في ساعة واحدة. وفي صحيح مسلم «حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هل نرى ربنا يوم القيامة؟ قال: هل تضارون في رؤية الشمس في الظهيرة ليست في سحابة؟ قالوا: لا. قال: فهل تضارون في رؤية القمر ليلة البدر وليس في سحابة قالةا: لا. قال: فو الذي نفس محمد بيده لا تضارون في رؤية ربكم إلا كما تضارون في رؤية أحدهما. قال: فيلقى العبد فيقول: أيأفل ألم أكرمك وأسودك وأزوجك وأسخر لك الخيل والإبل وأذرك ترأس وترتع؟ فيقول: بلى فيقول: أفظننت أنك ملاقي؟ فيقول: لا.

فيقول: إني أنساك كما نسيتني، ثم يلقى الثاني فيقول له ويقول هو مثل ذلك بعينه، ثم يلقى الثالث فيقول له مثل ذلك فيقول يا رب آمنت بك وبكتابك وبرسلك وصليت وتصدقت وصمت ويثني بخير ما استطاع قال: فيقول ها هن إذاً ثم يقول الآن نبعث شاهداً عليك فيقول في نفسه من ذا الذي يشهد علي فيختم على فيه. ويقال لفخذه انطقي فتنطق فخذه ولحمه وعظام بعمله وذلك ليعذر من نفسه وذلك المنافق وذلك الذي يسخط الله عليه، وقد قال الله تعالى {اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيباً} أي حاسباً فعيلاً بمعنى فاعل، وإذا نظر فيها ورأى أنه قد هلك فإن أدركته سابقة حسنة وضعت له لا إله إلا الله في كفة فرجحت له السموات والأرض. وفي رواية فطاشت السجلات وثقلت البطاقة» وسيأتي وقال «من نوقش الحساب عذب» . ومنها: يوم السؤال والباري سبحانه وتعالى يسأل الخلق في الدنيا والآخرة تقريراً لإقامة الحجة وإظهاراً للحكمة. قال الله تعالى: {سل بني إسرائيل كم آتيناهم من آية بينة} وقال {واسألهم عن القرية التي كانت حاضرةً البحر} وقال: {واسأل من أرسلنا من قبلك من

رسلنا} وهو في القرآن كثير وقال: {ليسأل الصادقين عن صدقهم} وقال: {وإذا الموؤدة سئلت} وقال: {فوربك لنسألنهم أجمعين * عما كانوا يعملون} قيل: عن لا إله إلا الله. وقال: {إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولا} وقال عليه السلام «لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع» الحديث وسيأتي. «وروى ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ألا كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته فالأمير الذي على الناس راع ومسؤول عن رعيته، والرجل راع على أهل بيته وهو مسؤول عنهم، والمرأة راعية على بيت زوجها وهي مسؤولة عنه، والعبد راع على مال سيده وهو مسؤول عنه ألا فكلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته» . ومنها: يوم الشهادة ويوم يقوم الأشهاد. والشهادة على أربعة أنواع: شهادة محمد وأمته تحقيقاً لشهادة الرسل على قومها. الثاني: شهادة الأرض والأيام والليالي بما عمل فيها وعليها. الثالث: شهادة الجوارح قال الله تعالى: {يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم} وقال: {وقالوا لجلودهم لم شهدتم علينا} وذلك بين أيضاً في حديث أبي هريرة رضي الله عنه. الرابع: حديث أنس رضي الله عنه وفيه ويختم على فيه ويقال لأركانه انطقي فتنطق بأعماله، وسيأتي بيان هذا الباب كله إن شاء الله تعالى.

ومناه: يوم الجدال قال الله تعالى: {يوم تأتي كل نفس تجادل عن نفسها} أي تخاصم وتحاج عن نفسها. وجاء في الخبر: أن كل أحد يقول يوم القيامة نفسي نفسي من شدة أهوال يوم القيامة سوى محمد صلى الله عليه وسلم فإنه يسأل في أمته. على ما يأتي. وفي حديث عمر رضي الله عنه أنه قال لكعب الأحبار يا كعب: خوفنا هيجنا حدثنا نبهنا فقال كعب: يا أمير المؤمنين والذي نفسي بيده لو وافيت يوم القيامة بمثل عمل سبعين نبياً لأتت عليك تارات ولا يهمك إلا نفسك وإن لجهنم زفرة لا يبقى ملك مقرب ولا نبي منتخب إلا وقع جاثياً على ركبتيه، حتى إن إبراهيم الخليل ليدلى بالخلة فيقول رب أنا خليلك إبراهيم لا أسألك اليوم إلا نفسي. قال يا كعب: اين نجد ذلك في كتاب الله تعالى؟ قال: قوله تعالى: {يوم تأتي كل نفس تجادل عن نفسها وتوفى كل نفس ما عملت وهم لا يظلمون} . وقال ابن عباس رضي الله عنه في هذه الآية: ما تزال الخصومة بالناس يوم القيامة حتى تخاصم الروح الجسد، فتقول الروح: رب الروح منك أنت خلقته لم يكن لي يد أبطش بها ولا رجل أمشي بها ولا عين أبصر بها ولا أذن أسمع بها ولا عقل أعقل به، حتى جئت فدخلت في هذا الجسد فضعف عليه أنواع العذاب ونجني. فيقول الجسد: رب أنت خلقتني بيدك فكنت كالخشبة ليس لي يد أبطش بها ولا قدم أسعى بها ولا بصر أبصر به ولا سمع أسمع به، فجاء هذا كشعاع

الشمس فيه نطق لساني وبه أبصر عيني وبه مشت رجلي وبه سمعت أذني فضعف عليه أنواع العذاب ونجني قال: فيضرب الله لهما مثلاً أعمى ومقعد أدخلا بستاناً فيه ثمار فالأعمى لا يبصر والمقعد لا ينالها، فنادى المقعد للأعمى ائتني فاحملني آكل وأطعمك فدنا منه فحمله فأصابا من الثمرة فعلى من يكون العذاب. قالا: عليهما، قال: عليكم جميعاً العذاب. قال المؤلف رضي الله عنه وأرضاه: ومن هذا الباب قول الأمم: كيف يشهد علينا من لم يدركنا إلى غير ذلك مما في معناه حسب ما يأتي. ومنها: يوم القصاص. وفيه أحاديث كثيرة يأتي ذكرها في باب إن شاء الله تعالى. ومنها: يوم الحاقة. وسميت بذلك لأن الأمور تحق فيها. قاله الطبري كأنه جعلها من باب: ليلي نائم كما تقدم. وقيل: سميت حاقة لأنها كانت من غير شك. وقيل: سميت بذلك لأنها أحقت لأقوام النار. ومنها يوم الطامة. معناها الغالبة من قولك طم الشيء إذا علا وغلب، ولما كانت تغلب كل شيء كان لها هذا الاسم حقيقة دون كل شيء. قال الحسن: الطامة النفخة الثانية، وقيل: حين يساق أهل النار إلى النار. ومنها: يوم الصاخة قال عكروة: الصاخة: النفخة الأولى والطامة: النفخة الثانية

قال الطبري أحسبه من صخ فلان فلاناً إذا أصمه. قال ابن العربي: الصاخة التي تورث الصمم وإنها المسمعة، وهذا من بديع الفصاحة حتى لقد قال بعض أحداث الأسنان حديثي الأزمان: أصم بك الناعي وإن كنت أسمعا وقال آخر: أصمني شرهم أيام فرقتهم ... فهل سمعتم بشر يورث الصمما ولعمرو الله إن صيحة القيامة مسمعة تصم عن الدنيا وتسمع أمور الآخرة، وبهذا كله كان يوماً عظيماً كما قال الله تعالى في وصفه بالعظيم. وكل شيء كبر في أجزائه فهو عظيم. كذلك ما كبر في معانيه. وبهذا المعنى كان الباري عظيماً، لسعة قدرته وعلمه وكثرة ملكه الذي لا يحصى، ولما كان أمر الآخرة لا ينحصر كان عظيماً بالإضافة إلى الدنيا ولما كان محدثاً له أول صار حقيراً بالإصافة إلى العظيم الذي لا يحد. ومنها: يوم الوعيد وهو أن الباري سبحانه أمر ونهى ووعد وأوعد فهو أيضاً يوم الوعد والوعد للنعيم والوعيد للعذاب الأليم، وحقيقة الوعيد هو الخبر عن العقوبة عند المخالفة، والوعد الخبر عنى المثوبة عند

الموافقة، وقد ضل في هذه المسألة المبتدعة وقالوا: إن من أذنب ذنباً واحداً فهو مخلد في النار تخليد الكفار أخذاً بظاهر هذا اللفظ في آي فلم يفهموا العربية ولا كتاب الله وأبطلوا شفاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم. وسيأتي الرد عليهم في أبواب من هذا الكتاب إن شاء الله تعالى. ومنها: يوم الدين. وهو في لسان العرب الجزاء قال الشاعر: حصادك يوماً ما زرعت وإنما ... يدان الفتى فيه كما هو دائن وقال آخر: واعلم يقيناً أن ملكك زائل ... واعلم بأنك كما تدين تدان ومنها: يوم الجزاء. قال الله تعالى: {اليوم تجزون ما كنتم تعملون} وقال: {اليوم تجزى كل نفس بما كسبت} وهو أيضاً يوم الوفاء. قال الله تعالى: {يومئذ يوفيهم الله دينهم الحق} أي حسابهم وجزاؤهم والجنة جزاء الحسنات والنار جزاء السيئات. قال الله تعالى في المعنيين {جزاء بما كانوا يكسبون} و {جزاء بما كانوا يعملون} وقال في جهة الوعيد كذلك {نجزي كل كفور} . ومنها: يوم الندامة. وذلك أن المحسن إذا رأى جزاء إحسانه والكافر جزاء كفره ندم المحس أن لا يكون مستكثراً، وندم المسيء أن لا يكون استعتب، فإذا صار الكافر إلى عذاب لا نفاد له تحسر، فلذلك سمي يوم الحسرة قال الله تعالى: {وأنذرهم يوم الحسرة إذ قضي الأمر} وذلك عند

ذبح الموت على ما يأتي وهم في غفلة يعني الآن عن ذلك اليوم. والحسرة: عبارة عن استشكاف المكروه بعد خفائه. ومنها: يوم التبديل. قال الله تعالى: {يوم تبدل الأرض غير الأرض والسموات} وقد تقدم القول في ذلك مستوفى. ومنها: يوم التلاق. قال الله تعالى: {لينذر يوم التلاق} وهو عبارة عن اتصال المعنيين بسبب من أسباب العلم والجسمين. وهو أنواع أربعة: الأول: لقاء الأموات لمن سبقهم إلى الممات فيسألونهم عن أهل الدنيا كما تقدم. والثاني: عمله وقد تقدم. الثالث: لقاء أهل السموات لأهل الأرض في المحشر وقد تقدم. الرابع: لقاء الخلق للباري سبحانه وتعالى وذلك يكون في عرصات القيامة وفي الجنة على ما يأتي. ومنها: يوم الآزفة. تقول العرب أزف كذا أي قرب قال الشاعر:

أزف الترحل غير أن ركابنا ... لما نزل برحالنا وكأن قد وهي قريبة جداً وكل آت قريب وإن بعد مداه قال الله تعالى: {وما يدريك لعل الساعة تكون قريباً} وما يستبعد الرجل من الساعة ومدته ساعة. ومنها: يوم المآب. ومعناه الرجوع إلى الله تعالى ولم يذهب عن الله شيء فيرجع إليه. وإنما حقيقته أن العبد يخلق الله فيه ما شاء من أفعاله لما خلق فيه علماً وخلق فيه إيثاراً واختياراً ظن الناس أنه شيء أو أن له فعلاً، فإذا أماته وسلب ما كان أعطاه أذعن وآب في وقت لا ينفعه الإياب، ولم يزل عن الله تعالى في حال فهو الأواب. ومنها: يوم المصير. وهو يوم المآب بعينه قال الله تعالى: {ولله ملك السموات والأرض وإلى الله المصير} فالخلق سائرون إلى أمر الله تعالى. وآخر ذلك ذار القرار وهي الجنة أو النار قال الله تعالى في حق الكافرين: {قل تمتعوا فإن مصيركم إلى النار} . ومنها: يوم القضاء. وهو أيضاً يوم الحكم والفصل، وسيأتي أن أول ما يقضى فيه الدماء وقال صلى الله عليه وسلم: «ما من صاحب ذهب ولا فضة لا يؤدى منها حقها» الحديث وفيه كلما بردت أعيدت له في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة حتى يقضى بين العباد والفصل هو الفرق والقطع

فيفصل يومئذ بين المؤمن والكافر والمسيء والمحسن. قال الله تعالى: {يوم القيامة يفصل بينكم} الآية وهو يوم الحكم لأن إنفاذ الحكم هو إنفاذ العلم قال الله تعالى: {الملك يومئذ لله يحكم بينهم} الآية. وقال {ذلكم حكم الله يحكم بينكم} . ومنها: يوم الوزن. قال الله تعالى: {والوزن يومئذ الحق} الآية. وسيأتي الكلام في الميزان ووزن الأعمال فيه في أبواب إن شاء الله. ومنها: يوم عقيم. وهو في اللغة عبارة عن من لا يكون له ولد. ولما كان الولد يكون بين الأبوين وكان الأيام تتوالى قبل وبعد جعل الاتباع بالتعدية فيها كهيئة الولادة. ولما لم يكن بعد ذلك اليوم يوم وصف بالعقيم. ومنها: يوم عسير. وهذا في حق الكافرين خاصة. والعسر ضد اليسر فهو عسير على الكافرين، لأنهم لا يرون فيه أملاً ولا يقطعون فيه رجاء حتى إذا خرج المؤمنون من النار طلبوا مثل ذلك، فيقال لهم {اخسؤوا فيها ولا تكلمون} فحينئذ يكون المنع الصريح على ما يأتي بيانه في أبواب النار إن شاء الله تعالى، وأما المؤمنون فتنحل عقدهم بيسر إلى يسر،

فينحل طول الوقوف إلى تعجيل الحساب وتثقيل الموازين وجواز الصراط والضلال بالأعمال، ولا تنحل للكافرين من هذه العقد عقدة واحدة إلا إلى أشد منها حتى إلى جهنم دار القرار. ومنها: يوم مشهود. سمي بذلك لأنه يشهده كل مخلوق وقيل: سمي بذلك لأن الشهداء يشهدون فيه على ما يأتي والله أعلم. ومنها: يوم التغابن. سمي بذلك لأن الناس يتغابنون في المنازل عند الله: فريق في الجنة وفريق في السعير. وحقيقته في لسان العرب: ظهور الفضل في المعاملة لأحد المتعاملين والدنيا والآخرة دار العملين وحالين وكل واحد منهما لله ولا يعطى أحدهما إلا لمن ترك نصيبه من الأخرى: قال الله تعالى {من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد} وقال: {من كان يريد حرث الآخرة نزد له في حرثه ومن كان يريد حرث الدنيا نؤته منها وما له في الآخرة من نصيب} ومن أراد الآخرة فسعيه مشكور، وحظه في الآخرة موفور. ومنها: يوم عبوس قمطرير، والقمطرير: الشديد وقيل الطويل. وأما

العبوس فهو الذي يعبس فيه سمي باسم ما يكون فيه، كما يقال ليل قائم ونهار صائم وكلوح الوجه، وعبوسه هو قبض ما بين العينين وتغير السحنة عن عادتها الطلقة. يقال: يوم طلق إذا كانت شمسه نيرة فاترة وإذا كانت شمسه مدجية قد غطاها السحاب. قيل: يوم عبوس وأول العبوس والكلوح عند الخروج من القبور ورؤية الأعمال في الصور القبيحة كما تقدم، وآخر ذلك كلوح النار وهو الكلوح الأعظم يشوي الوجوه ويسقط الجلود على ما يأتي، ومع العبوس تشخص الأبصار وهي ثبوتها راكدة على منظر واحد لهول لا ينتقل منه إلى غيره كما قال سبحانه {ليوم تشخص فيه الأبصار} . ومنها: يوم تبلى السرائر. ومعناه إخراج المخبآت بالاختبار بوزن الأعمال في الصحف ويكشف الساق عند السجود على ما يأتي. ومنها: يوم لا تملك نفس لنفس شيئاً. وهو مثل قوله {واتقوا يوماً لا تجزي نفس عن نفس شيئاً ولا يقبل منها شفاعة ولا يؤخذ منها عدل ولا هم ينصرون} وقال: {يوم لا يغني مولى عن مولى شيئاً} فكل نفس بما كسبت رهينة لا يغنى أحد عن أحد شيئاً، بل ينفصل كل واحد عن أخيه وأبيه، ولذلك كان يوم الفصل ويوم الفرار. قال الله تعالى: {إن يوم الفصل كان ميقاتاً} وقال تعالى: {يوم يفر المرء من أخيه * وأمه وأبيه * وصاحبته وبنيه * لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه} أما إنه يجزي ويقضي ويعطي ويغني بغير اختياره من حسناته ما عليه من الحقوق على ما يأتي بيانه في أحاديث المفلس إن شاء الله تعالى.

ومنها: يوم يدعون إلى نار جهنم دعاً. والدع الدفع أي يدفعون إلى جهنم ويسحيون فيها وجوههم كما قال تعالى: {يوم يسحبون في النار على وجوههم} . ومنها: يوم التقلب وهو التحول. قال الله تعالى: {يخافون يوماً تتقلب فيه القلوب والأبصار} أي قلوب الكفار وأبصارهم فتقلب قلوب الكفار انتزاعها من أماكنها إلى الحناجر فلا هي ترجع إلى أماكنها ولا هي تخرج، فأما تقلب الأبصار فالزرقة بعد الحكل والعمى بعد البصر. وقيل: تتقلب القلوب بين الطمع في النجاة والخوف من الهلاك والإبصار تنظر من أي ناحية يعطون كتبهم وإلى أي ناحية يؤخذ بهم. وقيل: إن قلوب الشاكين تتحول عما كانت عليه من الشك وكذلك أبصارهم لرؤيتهم اليقين إلا أن ذلك لا ينفعهم في الآخرة. ومنها: يوم الشخوص والإقناع. قال الله تعالى: {إنما يؤخرهم ليوم تشخص فيه الأبصار} أي لا تغمض فيه من هول ما ترى في ذلك اليوم. قاله الفراء. وقال ابن عباس رضي الله عنه: تشخص أبصار الخلائق يومئذ إلى الهواء لشدة الحيرة فلا يغتمضون {مهطعين} أي مديمي النظر. قال مجاهد والضحاك: {مقنعي رؤوسهم} أي رافعي رؤوسهم وإقناع الرأس رفعه. قاله ابن عباس ومجاهد، وقال الحسن: وجوه الناس يومئذ إلى السماء لا ينظر أحد إلى أحد.

فإن قيل: فقد قال الله تعالى في غير هذه الآية {خاشعة أبصارهم} وقال: {خشعاً أبصارهم} فكيف يكون الرافع رأسه الناظر نظراً طويلاً حتى إن طرفه لا يرتد إليه خاشع البصر؟ . فالجواب أنهم يخرجون حال المضي إلى الموقف خاشعة أبصارهم، وفي هذه الحال وصفهم الله تعالى بخشوع الأبصار وإذا توافوا وضمهم الموقف وطال القيام عليهم فإنهم يصيرون من الحيرة كأنهم لا قلوب لهم ويرفعون رؤوسهم فينظرون النظر الطويل ولا يرتد إليهم طرفهم كأنهم قد نسوا الغمض أو جلهوه فهو تعسير عليهم. ومنها: {هذا يوم لا ينطقون * ولا يؤذن لهم فيعتذرون} . وذلك حين يقال لهم {اخسؤوا فيها ولا تكلمون} وتطبق عليهم جهنم على ما يأتي بيانه في أبواب النار. ومنها: {يوم لا ينفع الظالمين معذرتهم} وإن أذن لهم بأن يمكنوا منها لا بأن يقال لهم اعتذروا كقوله {ربنا إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا} الآية وكقوله {ربنا أخرجنا منها} الآية. ومنها: {ولا يكتمون الله حديثاً} . ومنها: يوم الفتنة. قال الله تعالى {يوم هم على النار يفتنون} أي يعذبون من قولك فتنت الذهب إذا رميت به في النار. ومنها: {يوم لا مرد له من الله} يريد يوم القيامة أي لا يرده

أحد بعد ما حكم الله به وجعل له أجلاً ووقتاً. ومنها: يوم الغاشية. وسميت بذلك لأنها تغشى بإفزاعها. أي تعمهم بذلك. ومنه غاشية السرج. ومنها: فيومئذ لا يعذب عذابه أحد ولا يوثق وثاقه أحد. ومنها: يوم لا بيع فيه ولا خلال قال الله تعالى {قل لعبادي الذين آمنوا يقيموا الصلاة وينفقوا مما رزقناهم سراً وعلانية من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه ولا خلال} وقال تعالى {يا أيها الذين آمنوا أنفقوا مما رزقناكم من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه ولا خلة ولا شفاعة} والخلة والخلال الصداقة والمودة. ومنها: يوم لا ريب فيه، وإن وقع فيه رب الكفار أي شك فليس فيه ريب لقيام الأدلة الظاهرة عليه كما قال الله تعالى {أفي الله شك} فليس في الباري شك لقيام الأدلة عليه ولشهادة أفعاله ولاقتضاء المحدث أن يكون له محدث، ولكن قد شك فيه قوم ونفاه آخرون، ولم يوجب ذلك شكا فيه لقيام الأدلة عليه، فكذلك يوم القيامة لا ريب ولا شك فيه مع النظر في الدليل والعلم، فإذا خلق الله تعالى الرين على القلب كان الشك. قال الله تعالى {ذلك بأن الله هو الحق وأنه يحيي الموتى وأنه على كل شيء قدير * وأن الساعة آتية لا ريب فيها وأن الله يبعث من في القبور} . ومنها: {يوم تبيض وجوه وتسود وجوه} وسيأتي بيانه إن شاء الله تعالى. ومنها: يوم الأذان: دخل طاووس على هشام بن عبد الملك فقال له: اتق الله واحذر يوم الأذان فقال: وما يوم الأذان؟ قال: قوله تعالى {

فأذن مؤذن بينهم أن لعنة الله على الظالمين} فصعق هشام، فقال طاووس: هذا ذل الصفة فكيف ذل المعاينة. ومنها: يوم الشفاعة قال الله تعالى {من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه} وقال تعالى {ولا يشفعون إلا لمن ارتضى} وقال {لا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له} وقال {فما لنا من شافعين} وسيأتي بيانه. ومنها: يوم العرق، وسيأتي بيانه في أحاديث في الباب بعد هذا بحول الله وقوته. ومنها يوم القلق والجولان. وهو عبارة عند عدم الاستقرار والثبوت يقال: قلق الرجل يقلق قلقاً إذا لم يستقر ومثله جال يجول إذا لم يثبت. ومنها: يوم الفرار. قال الله تعالى {يوم يفر المرء من أخيه * وأمه وأبيه * وصاحبته وبنيه} فيفر كل واحد من صاحبه حذراً من مطالبته إياه، إما لما بينهم من التبعات أو لئلا يروا ما هو فيه من الشدة. وقال عبد الله بن طاهر الأبهري: يفر منهم لما يتبين له من عجزهم وقلة حيلتهم إلى من يملك كشف تلك الكروب والهموم عنه، ولو ظهر له ذلك في الدنيا لما اعتمد شيئاً سوى ربه تعالى. وقال الحسن: أول من يفر يوم القيامة من أبيه إبراهيم، وأول من يفر من ابنه نوح، وأول من يفر من امرأته لوط. قال: فيرون أن هذه الآية نزلت

باب ما يلقي الناس في الموقف من الأهوال العظام والأمور الجسام

فيهم، وهذا فرار التبري نجانا الله من أهوال هذا اليوم بحق محمد نبي الرحمة وصحبه الكرام البرزة، وجعلنا ممن حشر في زمرتهم ولا خالف بنا على طريقهم ومذهبهم بمنه وكرمه آمين، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم. قال المؤلف: وقد سرد تسمية هذه الأيام على التوالي من غير تفسير غير واحد من العلماء. منهم ابن نجاح في سبل الخيرات، وأبو حامد الغزالي في غير موضع من كتبه كالإحياء وغيره، والقتبي في كتاب عيون الأخبار، وهذا تفسيرها حسب ما ذكره القاضي أبو بكر بن العربي في سراج المريدين، وربما زدنا عليه في ذلك والحمد لله على ذلك. ولا يمتنع أن تسمي غير ما ذكرنا بحسب الأحوال الكائنة فيه من الازدحام والتضايق واختلاف الأقدام الخزي والهوان والذل والافتقار والصغار والانكسار ويوم الميقات والمرصاد إلى غير ذلك من الأسماء، وسيأتي التنبية على ذلك إن شاء الله تعالى في الباب بعد هذا. باب ما يلقي الناس في الموقف من الأهوال العظام والأمور الجسام قال المحاسبي في كتاب التوهم والأهوال: يحشر الله الأمم من الإنس والجن عراة أذلاء قد نزع الملك من ملوك الأرض ولزمهم

الصغار بعد عتوهم والذلة بعد تجبرهم على عباد الله في أرضه. ثم أقبلت الوحوش من أماكنها منكسة رؤوسها بعد توحشها من الخلائق وانفرادها ذليلة من هول يوم النشور من غير ريبة ولا خطية أصابتها حتى وقفت من وراء الخلق بالذلة والانكسار لذلك الجبار، وأقبلت الشياطين بعد تمردها وعتوها خاضعة ذليلة للعرض على الملك الديان، حتى إذا تكاملت عدة أهل الأرض من إنسها وجنها وشياطينها ووحوشها وسباعها وأنعامها وهوامها تناثرت نجوم السماء من فوقهم وطمست الشمس والقمر فأظلما عليهم ومارت سماء الدنيا من فوقهم فدارت من فوقهم بعظمها فوق رؤوسهم وهي خمسمائة عام فيا هول صوت انشقاقها في سمعهم وتمزقت وتفطرت لهول يوم القيامة من عظم يوم الطامة ثم ذابت حتى صارت مثل الفضة المذابة كما قال الجبار تبارك وتعالى {فإذا انشقت السماء فكانت وردة كالدهان} وقال {يوم تكون السماء كالمهل * وتكون الجبال كالعهن} أي كالصوف المنفوش وهو أضعف الصوف وهبطت الملائكة من حافاتها إلا الأرض بالتقديس لربها فتوهم انحدارهم من السماء لعظم أجسامهم وكثرة أخطارهم وهول أصواتهم وشدة فرقهم من خوف ربهم فتوهم فزعك حينئذ وفزع الخلائق لنزولهم مخافة أن يكونوا قد أمروا بهم فأخذوا مصافهم محدقين بالخلائق منكسي رؤوسهم العظيم هول يومهم قد تسربلوا أجنحتهم ونكسوا رؤوسهم بالذلة والخضوع لربهم، وكذلك ملائكة كل سماء إلى السماء السابعة قد أضعف أهل كل سماء على أهل السماء الذين قبلهم في العدة وعظم الأجسام والأصوات حتى إذا وافى الموقف أهل السموات السبع والأرضين السبع كسيت الشمس حر عشر سنين، ثم أدنيت من الخلائق قاب قوسين أو قوس فلا ظل ذلك اليوم إلا ظل عرش الرحمن فمن بين مستظل بظل العرش وبين مضح بحر الشمس

قد صهرته واشتد فيها كربه وأقلقته وقد ازدحمت الأمم وتضايقت ودفع بعضهم بعضاً، واختلفت الأقدام وانقطعت الأعناق من العطش قد اجتمع عليهم في مقامهم حر الشمس مع وهج أنفاسهم وتزاحم أجسامهم ففاض العرق منهم على وجه الأرض، ثم على أقدامهم، ثم على قدر مرابتهم ومنازلهم عند ربهم من السعادة والشقاء، فمنهم من يبلغ العرق منكبيه وحقويه، ومنهم إلى شحمة أذنيه، ومنهم من قد ألجمه العرق فكاد أن يغيب فيه. قلت: ذكر المحاسبي وغيره أن انفطار السماء انشقاقها بعد جمع الناس في الموقف وقد قدمنا أن ذلك يكون قبل ذلك وهو ظاهر القرآن كما ذكرنا والله اعلم وقد جاء ذلك مرفوعاً في حديث أبي هريرة رضي الله عنه وقد تقدم. وما ذكره المحاسبي مروي عن ابن عباس رضي الله عنه قال: إذا كان يوم القيامة مدت الأرض مد الأديم وزيد في سعتها كذا وكذا، وجمع الخلائق بصعيد واحد جهنم وإنسهم، فإذا كان ذلك قبضت هذه السماء عن أهلها فينتشرون على وجه الأرض فلأهل السماء أكثر من أهل جميع الأرض جهنم وإنسهم بالضعف. الحديث بطول ما ذكره ابن المبارك في رقائقه. قال: أخبرنا عوف عن أبي المنهال سيار بن سلامة الرياحي قال، أخبرنا شهر بن حوشب. قال: حدثني ابن عباس فذكره. قال ابن المبارك وأخبرني جويبر عن الضحاك قال: إذا كان يوم القيامة أمر الله السماء الدنيا فتشققت بأهلها فتكون الملائكة على حافاتها

حتى يأمر الرب فينزلون إلى الأرض فيحيطون بالأرض ومن فيها، ثم يأمر السماء التي تليها فينزلون فيكونون صفاً خلف ذلك الصف ثم السماء الثالثة ثم الرابعة ثم الخامسة ثم السادسة ثم السابعة فينزل الملك الأعلى في بهائه وجلاله وملكه وبجنبته اليسرى جهنم فيسمعون زفيرها وشهيقها فلا يأتون قطراً من أقطارها إلا وجدوا صفوفاً قياماً من الملائكة فذلك قوله تعالى {يا معشر الجن والإنس إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السموات والأرض فانفذوا لا تنفذون إلا بسلطان} والسلطان العذر وذلك قوله عز وجل {وجاء ربك والملك صفاً صفاً} وقال {وانشقت السماء فهي يومئذ واهية * والملك على أرجائها} يعني على حافاتها يعني بأرجائها ما تشفق منها، فبيناهم كذلك إذ سمعوا الصوت فأقبلوا إلى الحساب. قلت: ولا يصح إسنادهما، فإن شهراً وجبيراً قد تكلم فيها وضعفوهما. قال البخاري في التاريخ جويبر بن سعيد البلخي عن الضحاك قال لي علي، قال يحيى: كنت أعرف جويبراً بحديثين، ثم أخرج هذه الأحاديث بعد فضعفه، وأما شهر فقال مسلم في صدر كتابه سئل ابن عوف عن حديث شهر وهو قائم على أسكفة الباب، فقال: إن شهراً تركوه. قال مسلم: يقول أخذته ألسنة الناس تكلموا فيه، وقال عن شعبة وقد لقيت شهراً فلم أعتد به.

وذكر أبو حامد في كتاب كشف علم الآخرة نحواً مما ذكر المحاسبي عن ابن عباس رضي الله عنه والضحاك فقال إن الخلائق إذا اجتمعوا في صعيد واحد الأولين والآخرين أمر الجليل جل وجلاله بملائكة سماء الدنيا أن يتولوهم فيأخذ كل واحد منهم إنساناً وشخصاً من المبعوثين إنساً وجناً ووحشاً وطيراً وحولوهم إلى الأرض الثانية، وهي أرض بيضاء من فضة نورية، وصارت الملائكة من وراء العالمين حلقة واحدة، فإذا هم أكثر من أهل الأرض بعشر مرات، ثم إن الله سبحانه وتعالى يأمر ملائكة السماء الثانية فيحدقون بهم واحدة فإذا هم مثلهم عشرين مرة ثم تنزل ملائكة السماء الثالثة فيحدقون من وراء الكل حلقة واحدة، فإذا هم أكثر منهم ثلاثين ضعفاً، ثم تنزل ملائكة السماء الرابعة فيحدقون من وراء الكل حلقة واحدة أكثر منهم بأربعين صفاً، ثم تنزل ملائكة السماء الخامسة فيحدقون من ورائهم حلقة واحدة فيكونون مثلهم خمسين مرة، ثم تنزل ملائكة السماء السادسة فيحدقون من وراء الكل حلقة واحدة وهم مثلهم ستين مرة، ثم تنزل ملائكة السماء السابعة فيحدقون من وراء الكل حلقة واحدة وهم مثلهم سبعين مرة والخلق تتداخل وتندمج حتى يعلو القدم ألف قدم لشدة الزحام، وتخوض الناس في العرق على أنواع مختلفة إلى الأذقان وإلى الصدر وإلى الحقوين وإلى الركبتين، ومنهم من يصيبه الرشح اليسير كالقاعد في الحمام، ومنهم من تصيبه البلة كالعاطش إذا شرب الماء، وكيف لا يكون القلق والعرق والأرق وقد قربت الشمس من رؤوسهم

حتى لو مد أحدهم يده لنالها، ويضاعف حرها سبعين مرة. وقال بعض السلف لو طلعت الشمس على الأرض كهيتئها يوم القيامة لأحرقت الأرض وذابت الصخر وجفت الأنهار، فبينما الخلائق يموجون في تلك الأرض البيضاء التي ذكرها الله تعالى حيث يقول: {يوم تبدل الأرض غير الأرض} وهم على أنواع في المحشر على ما تقدم في حديث معاذ، والملوك كالذر كما قد ورد في الخبر في وصف المتكبرين وليس هم كهيئة الذر غير أن الأقدام عليهم حتى صاروا كالذر في مذلتهم وانخفاضهم، وقوماً يشربون ماء بارداً عذباً صافياً، لأن الصبيان يطوفون على آبائهم بكؤوس من أنهار الجنة يسقونهم. وعن بعض السلف أنه نام فرأى القيامة قد قامت، وكأنه في الموقف عطشان وصبيان صغار يسقون الناس قال: فناديتهم ناولوني شربة، فقال لي واحد منهم ألك فينا ولد؟ فقلت: لا. فقال: فلا إذاً ولهذا فضل التزويج. ولهذا الولد الساقي شروط ذكرناها في الإحياء، وقوم قدموا على رؤوسهم ظل يمنعهم من الحر وهي الصدقة الطيبة لا يزالون كذلك ألف عام حتى إذا سمعوا نقر الناقور الذي وصفناه في كتاب الإحساء وهو

بعض أسرار القرآن فتوجل له القلوب وتخشع الأبصار لعظيم نقره، وتشتاف الرؤوس من المؤمنين، والكافرين يظنون أن ذلك عذاب يزداد بهم في هول يوم القيامة، فإذا بالعرش تحمله ثمانية أملاك قدم الملك منهم مسيرة عشرين ألف سنة، وأفواج الملائكة وأنواع الغمام بأصوات التسبيح، لهم هرج عظيم لا تطيقه العقول حتى يستقر العرش في تلك الأرض البيضاء التي خلقها الله تعالى لهذا الشأن خاصة، فتطرق الرؤوس وتخنس وتشفق البرايا وترعب الأنبياء وتخاف العلماء وتفزع الأولياء والشهداء من عذاب الله سبحانه الذي لا يطيق شيء إذ غشاهم نور حتى غلب عليه نور الشمس التي كانوا في حرها فلا يزالون يموج بعضهم في بعض ألف عام والجليل سبحانه لا يكلمهم كلمة واحدة، فحينئذ يذهب الناس إلى آدم فيقولون: يا أبا البشر الأمر علينا شديد، وأما الكافر فيقول: يا رب أرحني ولو إلى النار من شدة ما يرى من الهول. يقولون: أنت الذي خلقك الله بيده وأسجد لك ملائكته ونفخ فيك من روحه اشفع لنا في فصل القضاء، وذكر أمر الشفاعة من نبي إلى نبي وأن ما بين إتيانهم من نبي إلى نبي ألف عام حتى تنتهي الشفاعة إلى نبينا محمد صلى الله عليه وسلم على ما يأتي بيانه من أمر الشفاعة في أحاديث إن شاء الله تعالى، ونحو من هذا ذكره الفقيه أبو بكر بن برجان في كتاب

الإرشاد له قال: فإذا كان يومئذ جمع الله الأولين والآخرين في صعيد واحد وكورت الشمس وانكدرت النجوم ومارت السماء فوق الخلائق موراً، وتفطرت من عظيم هول ذلك اليوم، وتشققت بالغمام المنزل من عليهن فوقهن، ثم صارت وردة كالدهان وكشطن سماء سماء، ونزلت الملائكة تنزيلاً، وقام الخلائق وطال قيامهم أقل ما قيل في قيامهم مقدار أربعين عاماً إلى ثلاثمائة عام، وأياماً كان فاليوم يسعه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «ما من صاحب إبل» الحديث وفيه «وردت عليها أولاها» . في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، وسيأتي بكماله وهم في قيامهم ذلك في الظلمة دون الجسر كما في صحيح مسلم من حديث ثوبان عراة غرلاً. أعطش ما كانوا وأجوع ما كانوا عليه قط عراة فلا يسقى ذلك اليوم إلا من سقى لله عز وجل، ولا يطعم إلا من أطعم لله، ولا يكسى يومئذ إلا من كسا لله، ولا يكفى إلا من اتكل على الله. ومصداق هذا من كتاب الله عز وجل قوله الحق {يوفون بالنذر} إلى قوله تعالى: {فوقاهم الله شر ذلك اليوم} أي من إزالة الجوع والعطش والعرى إلى غير ذلك من أهوال القيامة وأفزاعها على ما يأتي بيانه في هذا الباب الذي يليه. أبو بكر بن أبي شيبة، عن أبي معاوية، عن عاصم، عن أبي عثمان، عن

سلمان قال: تعطى الشمس يوم القيامة حر عشر سنين ثم تدنى من جماجم الناس حتى تكون قاب قوسين. قال: فيعرفون حتى يرشح العرق في الأرض قامة، ثم يرتفع حتى يغرغر الرجل قال سلمان: حتى يقول الرجل غرغر، فإذا رأوا ما هم فيه قال بعضهم لبعض: ألا ترون ما أنتم فيه ائتوا أباكم آدم فيشفع لكم. الحديث بطوله، وسيأتي مرفوعاً من حديث أبي هريرة، وأخرجه ابن المبارك قال: أنبأنا سليمان التيمي عن أبي عثمان النهدي عن سلمان قال: تدنى الشمس من الناس يوم القيامة حتى تكون من رؤوسهم قاب قوسين فتعطى حر عشر سنين وليس على أحد يومئذ طحرية ولا يرى فيها عورة مؤمن ولا مؤمنة لا يضر حرها يومئذ مؤمنا ولا مؤمنة وأما الآخرون أو قال الكفار فتطبخهم طبخاً فإنما تقول أجوافهم: [غق غق] قال نعيم: الطحرية: الخرقة. وأخرجه هناد بن السري، حدثنا قبيضة عن سفيان عن سليمان التيمي فذكره سواء إلا أنه قال [ولا يجد حرها] بدل [ولا يضر] وقال [وأما الكافر أو الآخرون فتطبخهم طبخاً حتى يسمع لأجوافهم غق غق] .

مسلم «عن سليم بن عامر، عن المقداد بن الأسود رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: تدنى الشمس يوم القيامة من الخلق حتى تكون منهم كمقدار ميل قال سليم بن عامر فو الله ما أدري ما يعني بالميل أمسافة الأرض أو الميل الذي تكحل به العين قال [فيكون الناس على قدر أعمالهم في العرق، فمنهم من يكون إلى كعبيه، ومنهم من يكون إلى ركبتيه، ومنهم من يكون إلى حقويه، ومنهم من يلجمه إلجاماً] قال: وأشار رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده إلى فيه» ، وأخرجه الترمذي وزاد قوله تكحل به العين فتصهرهم الشمس. وذكر ابن المبارك، أخبرنا مالك بن مغول، عن عبيد الله بن العيزار قال: إن الأقدام يوم القيامة مثل النبل في القرن والسعيد الذي يجد لقدميه موضعاً يضعهما عليه، وإن الشمس تدنى من رؤوسهم حتى لا يكون بينها وبين رؤوسهم إما قال ميلاً أو ميلين ثم يزاد في حرها بضعة وستون ضعفاً، وعند الميزان ملك إذا وزن العبد نادى ألا إن فلان بن فلان قد ثقلت موازينه وسعد سعادة لا يشقى بعدها أبداً. ألا فلان ابن فلان قد خفت موازينه وشقى شقاء لا يسعد بعده أبداً. مسلم «عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إن العرق يوم

القيامة ليذهب في الأرض سبعين باعاً وإنه ليبلغ إلى أفواه الناس أو آذانهم يشك ثور أيهما» قال: أخرجه البخاري، «وعن ابن عمر رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم {يوم يقوم الناس لرب العالمين} قال: يوم يقوم أحدهم في رشحه إلى نصف أذنيه» أخرجه البخاري والترمذي وقال: حديث صحيح مرفوعاً وموقوفاً. وروى هناد بن السري قال: حدثنا محمد بن فضيل، عن ضرار بن مرة، عن عبد الله بن المكتب، عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال له رجل إن أهل المدينة ليوفون الكيل يا أبا عبد الرحمن. قال: وما يمنعهم أن يوفوا الكيل. وقد قال الله تعالى {ويل للمطففين} حتى بلغ {يوم يقوم الناس لرب العالمين} . قالت: إن العرق ليبلغ أنصاف آذانهم من هول يوم القيامة وعظمه. وخرج الوائلي «من حديث ابن وهب قال: حدثني عبد الرحمن بن ميسرة، عن ابن هانئ، عن أبي عبد الرحمن الحيلي، عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية {يوم يقوم الناس لرب العالمين} ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف بكم إذا جمعكم الله عز وجل كما يجمع النبل في الكنانة

خمسين ألف سنة لا ينظر إليكم» ؟ قال الوائلي غريب جيد الإسناد. وقد خرج مسلم لابن وهب عن أبي هانئ نفسه عن الحيلي عن عبد الله أحاديث ابن المبارك قال: أخبرنا الأوزاعي قال: سمعت بلال بن سعيد يقول: إن للناس يوم القيامة جولة وهو قوله عز وجل {يقول الإنسان يومئذ أين المفر} وقوله: {لو ترى إذ فزعوا فلا فوت} وفي حديث جويبر عن الضحاك: فينزل الملك ومجنبته اليسرى جهنم فيسمعون زفيرها وشهيقها فلا يأتون قطراً من أقطارها إلا وجدوا صفوفاً قياماً من الملائكة فذلك قوله: {يا معشر الجن والإنس إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السموات والأرض فانفذوا لا تنفذون إلا بسلطان} والسلطان العذر وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «خوفني جبريل من يوم القيامة حتى أبكاني فقلت يا جبريل ألم يغفر لي ربي ذنبي ما تقدم وما تأخر؟ فقال لي يا محمد لتشهدن من هول ذلك اليوم أحدهما ينسيك المغفرة» . ذكره أبو الفرج بن الجوزي رحمه الله.

فصل: قلت: ظاهر ما رواه ابن المبارك عن سلمان أن الشمس لا يضر حرها مؤمن ولا مؤمنة العموم في المؤمنين وليس كذلك لحديث المقداد المذكور بعده، وإنما المراد لا يضر حرها مؤمناً كامل الإيمان أو من استظل بظل عرش الرحمن كما في الحديث الصحيح «سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله» الحديث رواه الأئمة مالك وغيره وسيأتي في الباب بعد هذا. وكذلك ما جاء أن المرء في ظل صدقته وكذلك الأعمال الصالحة أصحابها في ظلها إن شاء الله، وكل ذلك من ظل العرش والله أعلم. وأما غير هؤلاء فمتفاوتون في العرق على ما دل عليه حديث مسلم، قال ابن العربي: وكل واحد يقوم عرقه معه فيغرق فيه إلى أنصاف ساقيه وإلى جانبيه مثلاً يمين من يبلغ كعيبه، ومن الجهة الشمال من يبلغ ركبتيه، ومن أمامه من يكون عرقه إلى نصفه، ومن خلفه من يبلغ العرق صدره، وهذا خلاف المعتاد في الدنيا فإن الجماعة إذا وقفوا في الأرض

المعتدلة أخذهم الماء أخذاً واحداً ولا يتفاوتون، كما ذكرنا مع استواء الأرض ومجاورة المحل، وهذا من القدرة التي تخرق العادات في زمن الآيات. وقال الفقيه أبو بكر بن برجان في كتاب الإرشاد له: ولا يبعدون عليك هذا يرحمك الله أن يكون الناس كلهم في صعيد واحد وموقف سواء يشرب أحدهم أو بعض من الحوض ولا يشرب الغير، ويكون النور يسعى بين يدي البعض في الظلمات مع قرب المكان وازدحام الناس، ويكون أحدهم يغرق في عرقه حتى يلجمه أو يبلغ منه عرقه ما شاء الله جزاء لسعيه في الدنيا والآخرة في ظل العرش على قرب المكان والمجاورة، كذلك كانوا في الدنيا يمشي المؤمن بنور إيمانه في الناس والكافر في ظلام كفره، والمؤمن في وقاية الله وكفايته والكافر والعاصي في خذلان الله لهما وعدم العصمة، والمؤمن السني يكرع في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويروى ببرد اليقين ويمشي في سبل الهداية بحسن الاقتداء والمبتدع عطشان إلى ما روى المؤمن به حيران لا يشعر سالك في مسالك ضلالات البدع وهو لا يدري، كذلك في الوجود الأعمى لا يجد نور بصر البصير ولا ينفعه دواء إنما هي بواطن وظواهر بطنت فتشعر لذلك وتفطن واستعن بالله يعنك، والله يقول الحق وهو يهدي السبيل. وقال أبو حامد: واعلم أن كل عرق لم يخرجه التعب في سبيل الله من حج وجهاد وصيام وقيام وتردد في قضاء حاجة مسلم وتحمل مشقة في أمر بمعروف أو نهي عن منكر، فسيخرجه الحياء والخوف في صعيد القيامة ويطول فيه الكرب، ولو سلم ابن آدم من الجهل والغرر لعلم أن تعب

باب ما ينجي من أهوال يوم القيامة ومن كربها

العارف في تحمل مصاعب الدنيا أهون أمراً وأقصر زماناً من عرق الكرب والانتظار في القيامة، فإنه يوم عظيم شديد طويل مدته. وذكر أبو نعيم عن أبي حازم أنه قال: لو نادى مناد من السماء أمن أهل الأرض من دخول النار لحق عليهم الوجل من هول ذلك الموقف ومعاينة ذلك اليوم. باب ما ينجي من أهوال يوم القيامة ومن كربها مسلم «عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من نفس عن مسلم كربة من كرب الدنيا نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة» ذكر الحديث. وخرج الترمذي الحكيم في نوادر الأصول قال: «حدثنا أبي رحمه الله قال: حدثنا عبد الله بن نافع قال: حدثني ابن أبي فديك عن عبد الرحمن بن أبي عبد الله، عن سعيد بن المسيب، عن عبد الرحمن بن سمرة رضي الله عنه قال: خرج علينا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذات يوم ونحن في مسجد المدينة فقال إني رأيت البارحة عجباً رأيت رجلاً من أمتي جاءه ملك الموت ليقبض روحه فجاءه بره بوالديه فرد عنه، ورأيت رجلاً من أمتي قد بسط عليه عذاب القبر فجاءه وضوؤه فاستنقذه من ذلك، ورأيت رجلاً من أمتي قد احتوشته الشياطين فجاءه ذكر الله فخلصه من بينهم، ورأيت رجلاً من أمتي قد احتوشته ملائكة العذاب

فجاءته صلاته فاستنقذته من أيديهم، ورأيت رجلاً من أمتي يلهث عطشاً كلما ورد حوضاً منع منه فجاءه صيامه فسقاه وأرواه، ورأيت رجلاً من أمتي والنبيون قعود حلقاً حلقاً كلما دنا لحلقة طردوه، فجاء اغتساله من الجنابة فأخذ بيده وأقعده بجنبي، ورأيت رجلاً من أمتي من بين يديه ظلمة ومن خلفه ظلمة وعن يمينه ظلمة وعن شماله ظلمة ومن فوقه ظلمة ومن تحته ظلمة فهو متحير فيها، فجاءته حجته وعمرته فاستخرجاه من الظلمة وأدخلاه في النور، ورأيت رجلاً من أمتي يكلم المؤمنين فلا يكلمونه فجاءته صلة الرحم، فقالت يا معشر المؤمنين كلموه فكلموه، ورأيت رجلاً من أمتي يتقي شرر النار ووهجها بيده عن وجهه فجاءته صدقته فصارت ستراً على وجهه وظلا على رأسه، ورأيت رجلاً من أمتي قد أخذته الزبانية من كل مكان فجاءه أمره بالمعروف ونهيه عن المنكر فاستنفذه من أيديهم وأدخلاه مع ملائكة الرحمة، ورأيت رجلاً من أمتي جانباً على ركبتيه بينه وبين الله حجاب فجاءه حسن خلقه فأخذ بيده فأدخله على الله، ورأيت رجلاً من أمتي قد هوت صحيفة من قبل شماله فجاءه خوفه من الله تعالى فأخذ صحيفته فجعلها في يمينه، ورأيت رجلاً من أمتي قد خف ميزانه فجاءته أفراطه فثقلوا ميزانه، ورأيت رجلاً من أمتي قائماً على شفير جهنم فجاءه وجله من الله فاستنقذه من ذلك ومضى، ورأيت رجلاً من أمتي هوى في النار فجاءته دموعه التي بكى من خشية الله في الدنيا فاستخرجته من النار، ورأيت رجلاً من أمتي قائماً على الصراط يرعد كما ترعد السعفة فجاءه حسن ظنه بالله فسكن رعده ومضى، ورأيت رجلاً من أمتي على الصراط،، يحبو أحيانا ويتعلق أحيانا

فجاءته صلاته فأخذت بيده فأقامته، ورأيت رجلاً من أمتي انتهى إلى أبواب الجنة فغلقت الأبواب دونه فجاءته شهادة أن لا إله إلا الله ففتحت له الأبواب وأدخلته الجنة» . قلت: هذا حديث عظيم ذكر فيه أعمالاً خاصة تنجي من أهوال خاصة والله أعلم. وقد ينجي منها كلها ما ثبت في صحيح مسلم «عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حوسب رجل ممن كان قبلكم فلم يوجد له من الخير شيء إلا أنه كان يخالط الناس وكان موسراً فكان يأمر غلمانه أن يتجاوزوا عن المعسر قال: قال الله عز وجل أنا أحق بذلك منك تجاوزوا عن عبدي» . وخرج «عن حذيفة عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن رجلاً مات فدخل الجنة، فقيل له ما كنت تعمل؟ فقال: إني كنت أبايع الناس، فكنت أنظر المعسر وأتجاوز في السكة أو في النقد فغفر له» فقال له المسعود رضي الله عنه: وأنا سمعته من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. رواه مسلم من طرق، وخرجه البخاري. وروى مسلم «عن أبي قتادة رضي الله عنه أنه طلب غريماً له فتوارى عنه، ثم وجده فقال: إني معسر. قال الله فقال الله. قال: فإني سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: من سره أن ينجيه الله من كرب يوم القيامة فلينس عن معسر أو يضع عنه» . «وعن أبي اليسر واسمه كعب بن عمرو رضي الله عنه أن سمع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول:

من أنظر معسراً أو وضع عنه أظله الله في ظله» خرجه مسلم. وقال أنس بن مالك رضي الله عنه: من أنظر مديوناً فله بكل يوم عند الله وزن أحد ما لم يطلبه. وروى الأئمة «عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: الإمام العادل، وشاب نشأ في عبادة الله، ورجل قلبه معلق بالمساجد ورجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه، ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال: إني أخاف الله، ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه، ورجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه» : معنى في ظله أي في ظل عرشه وقد جاء هكذا تفسيراً في الحديث. وروى أبو هدبة إبراهيم بن هدبة قال: «حدثنا أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: من أشبع جائعاً وكسا عرياناً وآوى مسافراً أعاذه الله من أهوال يوم القيامة» . وخرج الطبراني سليمان بن أحمد عن يزيد الرقاشي، «عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: من لقم أخاه لقمة صرف الله عنه مرارة الموقف يوم القيامة» . وفي التنزيل تحقيقاً لهذا الباب، وجامعاً له قوله الحق {يوفون بالنذر} إلى قوله {فوقاهم الله شر ذلك اليوم} مع قوله {إنا لا نضيع أجر من أحسن عملاً}

باب في الشفاعة العامة لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم لأهل المحشر

مع قوله في غير موضع بعد ذكر الأعمال الصالحة {فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون} . باب ذكر أبو نعيم الحافظ قال: «حدثنا سليمان بن أحمد قال: حدثنا أحمد بن يحيى ابن خالد قال: حدثنا محمد بن سلام قال: حدثنا يحيى بن بكير قال: حدثنا مالك عن محمد بن عمرو عن أبي سلمة، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إن من الذنوب ذنوباً لا يكفرها الصلاة ولا الصوم ولا الحج ولا العمرة قال: وما يكفرها يا رسول الله؟ قال: الهموم في طلب المعيشة» . قال أحمد بن يحيى: فقلت: كيف سمعت هذا من يحيى بن بكير فلم يسمعه أحد غيرك؟ قال: كنت عند يحيى جالساً فجاءه رجل فذكر ضعفه فقال: قال ابن بكير: حدثنا مالك فذكره. باب في الشفاعة العامة لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم لأهل المحشر مسلم «عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: أتى النبي صلى الله عليه وسلم يوماً يلحم فرفع إليه الذراع وكانت تعجبه فنهش منها نهشة فقال: أنا سيد الناس يوم القيامة وهل تدرون بم ذاك يجمع الله الأولين والآخرين في صعيد واحد فيسمعهم الداعي وينفذهم البصر وتدنو الشمس فيبلغ الناس من الغم

والكرب ما لا يطيقون ولا يحتملون، فيقول بعض الناس لبعض: ألا ترون ما أنتم فيه ألا ترون ما قد بلغكم ألا تنظرون إلى من يشفع لكم إلى ربكم فيقول بعض الناس لبعض: أئتوا آدم فيأتون آدم فيقولون: يا آدم أنت أبونا أبو البشر خلقك الله بيده، ونفخ فيك من روحه، وأمر الملائكة فسجدوا لك اشفع لنا إلى ربك، ألا ترى ما نحن فيه، ألا ترى ما قد بلغنا؟ فيقول آدم: إن ربي قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله وإنه نهاني عن الشجرة فعصيته، نفسي نفسي، اذهبوا إلى نوح، فيأتون نوحاً فيقولون: يا نوح أن أول الرسل إلى الأرض وسماك الله عبداً شكوراً، اشفع لنا إلى ربنا، ألا ترى ما نحن فيه ألا ترى ما قد بلغنا؟ فيقول لهم نوح: إن ربي قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله، وإنه قد كانت لي دعوة دعوت بها على قومي. نفسي نفسي، اذهبوا إلى إبراهيم فيأتون إبراهيم فيقولون: يا إبراهيم أنت نبي الله خليله من أهل الأرض اشفع لنا إلى ربك، ألا ترى ما نحن فيه ألا ترى ما قد بلغنا؟ فيقول لهم إبراهيم: إن ربي قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله، وذكر كذباته، نفسي نفسي اذهبوا إلى غيري اذهبوا إلى موسى، فيأتون موسى فيقولون يا موسى: أنت رسول الله فضلك الله برسالته وبتكليمه على الناس اشفع لنا إلى ربك، ألا ترى ما نحن فيه، ألا ترى ما قد بلغنا؟ فيقول لهم موسى: إن ربي قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله وإني قتلت نفساً لم أؤمر بقتلها نفسي نفسي، اذهبوا إلى عيسى فيأتون عيسى فيقولون: يا عيسى أنت رسول الله وكلمت الناس في المهد

وكلمة منه ألقاها إلى مريم وروح منه فاشفع لنا إلى ربك، ألا ترى ما نحن فيه ألا ترى ما قد بلغنا؟ فيقول لهم عيسى إن ربي قد غضب اليوم غضباً لم يغصب قبله مثله، ولم يغضب بعده مثله، ولم يذكر ذنباً. نفسي نفسي، اذهبوا إلى غيري، اذهبوا إلى محمد صلى الله عليه وسلم فيأتون فيقولون: يا محمد أنت رسول الله وخاتم الأنبياء، وغفر الله لك ما تقدم وما تأخر، اشفع لنا إلى ربك ما نحن فيه ألا ترى ما قد بلغنا؟ فانطلق فآتي تحت العرش فأقع ساجداً لربي، ثم يفتح الله علي ويلهمني من محامده وحسن الثناء عليه شيئاً لم يفتحه لأحد غيري من قبلي ثم قال: يا محمد ارفع رأسك، سل تعطه واشفع تشفع، فأرفع رأسي فأقول يا رب أمتي أمتي، فيقال يا محمد أدخل الجنة من أمتك من لا حساب عيله من الباب الأيمن من أبواب الجنة وهم شركاء الناس فيما سوى ذلك من الأبواب، والذي نفس محمد بيده إن ما بين المصراعين من مصاريع الجنة لكما بين مكة وهجر أو كما بين مكة وبصري» وفي البخاري كما بين مكة وحمير. فصل: هذه الشفاعة العامة التي خص بها نبينا محمد صلى الله عليه وسلم من بين سائر الأنبياء هي المراد بقوله عليه السلام: «لكل نبي دعوة مستجابة فتعجل كل نبي دعوته وإني اختبأت دعوتي شفاعة لأمتي» . رواه الأئمة البخاري ومسلم وغيرهما، وهذه الشفاعة العامة لأهل الموقف إنما هي ليجعل حسابهم ويراحوا من

هول الموقف وهي الخاصة به صلى الله عليه وسلم وقوله: «أقول يا رب أمتي أمتي» اهتمام بأمر أمته وإظهار محبته فيهم وشفقته عليهم، وقوله: فيقال يا محمد ادخل الجنة من أمتك من لا حساب عليه يدل على أنه شفع فيما طلب من تعجيل حساب أهل الموقف، فإنه لما أمر بإدخال من لا حساب عليه من أمته، فقد شرع في حساب من عليه حساب من أمته وغيرهم. وكان طلبه هذه الشفاعة من الناس بإلهام من الله تعالى لهم حتى يظهر في ذلك اليوم مقام نبيه صلى الله عليه وسلم المحمود الذي وعده، ولذلك قال كل نبي: لست لها لست لها حتى انتهى الأمر إلى محمد صلى الله عليه وسلم فقال: «أنا لها» . وروى مسلم، «عن قتادة، عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يجمع الله الناس يوم القيامة فيهتمون لذلك» . وفي رواية فيلهمون فيقولون: لو استشفعنا إلى ربنا حتى يريحنا من مكاننا هذا. قال: فيأتون آدم وذكر الحديث. وذكر أبو حامد أن بين إتيانهم من آدم إلى نوح ألف عام، وكذا بين كل نبي إلى محمد صلى الله عليه وسلم. وذكر أيضاً أن الناس في الموقف على طبقات مختلفة وأنواع متباينة بحسب جرائمهم، كمانع الزكاة والغال والغادر على ما يأتي بيانه، وآخرون قد عظمت فروجهم وهي تسيل صديداً يتأذى بنتنها جيرانهم، وآخرون قد صلبوا على جذوع النيران، وآخرون قد خرجت ألسنتهم على صدورهم أقبح

باب ما جاء أن هذه الشفاعة هي المقام المحمود

ما يكون، وهؤلاء المذكرون هم الزناة واللوطية والكاذبون، وآخرون قد عظمت بطونهم كالجبال الرواسي وهم آكلوا الربا وكل ذي ذنب قد بدا سوء ذنبه. قاله في كتاب كشف علوم الآخرة، وذكر في آخر الكتاب أن الرسل يوم القيامة على المنابر والأنبياء والعلماء على منابر صغار، ومنبر كل رسول على قدره، والعلماء العاملون على كراسي من نور، والشهداء والصالحون كقراء القرآن والمؤذنون على كبثان من مسك، وهذه الطائفة العاملة أصحاب الكراسي هم الذين يطلبون الشفاعة من آدم ونوح حتى ينتهوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذكر الفقيه أبو بكر بن برجان في كتاب الإرشاد له: ويلهم رؤوس المحشر ممن يشفع لهم ويريحهم مما هم فيه وهم رؤساء أتباع الرسل فيكون ذلك. باب ما جاء أن هذه الشفاعة هي المقام المحمود الترمذي «عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا سيد ولد آدم يوم القيامة ولا فخر وبيدي لواء الحمد ولا فخر وما من نبي يومئذ آدم ومن سواه إلا تحت لوائي، وأنا أول من تنشق عنه الأرض ولا فخر قال: فيفزع الناس فزعات فيأتون آدم فيقولون أنت أيونا فاشفع لنا إلى ربك فيقول: أنا أذنبت ذنباً فأهبطت به إلى الأرض ائتوا نوحاً

فيقول: إني دعوت على أهل الأرض دعوة فأهلكوا ولكن اذهبوا إلى إبراهيم فيأتون إبراهيم فيقول: إني كذبت ثلاث كذبات، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما منها كذبة كذبة إلا ما حل بها عن دين الله ولكن ائتوا موسى فيأتون موسى فيقول: إني قتلت نفساً ولكن ائتوا عيسى فيقول: إني عبدت من دون الله ولكن ائتوا محمداً صلى الله عليه وسلم فيأتوني فأنطلق معهم» . قال ابن جدعان قال أنس: فكأني أنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «فآخذ بحلقة باب الجنة فأقعقعها فيقال من هذا؟ فيقال: محمد فيفتحون لي ويرحبون فيقولون مرحباً فأخر ساجداً لله فيلهمني من الثناء والحمد فيقال لي ارفع رأسك وسل تعط واشفع تشفع وقل يسمع لقولك وهو المقام المحمود الذي قال الله فيه {عسى أن يبعثك ربك مقاماً محموداً} » . قال سفيان: ليس عن أنس إلا هذه الكلمة فآخذ بحلقة باب الجنة فأقعقعها. قال الترمذي حديث حسن. وخرجه أبو داود الطيالسي بمعناه «عن ابن عباس فقال: حدثنا حماد سلمة قال: حدثنا علي بن زيد عن أبي نضرة قال: خطبنا ابن عباس على منبر البصرة فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما من نبي إلا وله دعوة كلهم قد تنجزها في الدنيا وإني ادخرت دعوتي شفاعة لأمتي يوم القيامة ألا وإني سيد ولد آدم يوم القيامة ولا فخر، وأول من تنشق عنه الأرض يوم القيامة ولا فخر، وبيدي لواء الحمد تحته آدم صلى الله عليه وسلم ومن دونه ولا فخر، ويشتد كرب ذلك اليوم على الناس فيقولون انطلقوا بنا إلى آدم أبي البشر فيشفع لنا إلى ربنا عز وجل حتى يقضي بيننا» الحديث وفيه: «فيأتون عيسى عليه السلام

فيقولون اشفع لنا إلى ربنا حتى يقضي بيننا فيقول إني لست هنا كم إني اتخذت وأمي إلهين من دون الله ولكن أرأيتم لو أن متاعاً في وعاء قد ختم عليه أكان بوصل إلى ما في الوعاء حتى يفض الخاتم؟ فيقولون: لا. فيقول: إن محمداً صلى الله عليه وسلم قد خصه اليوم وقد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيأتيني الناس فيقولون اشفع لنا إلى ربنا حتى يقضى بيننا فأقول أنا لها حتى يأذن الله لمن يشاء ويرضى، فإذا أراد الله أن يقضي بين خلقه نادى مناد أين محمد صلى الله عليه وسلم وأمته؟ فأقوم وتتبعني أمتي غراً محجلين من أثر الطهور. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فنحن الآخرون الأولون وأول من يحاسب ويفرج لنا في الأمم عن طريقنا ويقولون كادت هذه الأمة أن تكون أنبياء كلها» وذكر الحديث. وفي البخاري عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: إن الناس يصبرون يوم القيامة جثياً كل أمة تتبع نبيها تقول يا فلان اشفع يا فلان اشفع حتى تنتهي الشفاعة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فذلك يوم يبعثه الله المقام المحمود. وروى الترمذي «عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله {عسى أن يبعثك ربك مقاماً محموداً} سئل عنها قال: هي الشفاعة» . قال: هذا حديث صحيح.

فصل: قوله: فيفزع الناس ثلاث فزعات إنما ذلك والله أعلم حين يؤتى بالنار تجر بأزمتها وذلك قبل العرض والحساب على الملك الديان، فإذا نظرت إلى الخلائق فارت وثارت وشهقت إلى الخلائق وزفرت نحوهم وتوثبت عليهم غضباً لغضب ربهم على ما يأتي بيانه في كتاب النار إن شاء الله تعالى، فتتساقط الخلائق حينئذ على ركبهم جثاة حولها قد أسبلوا الدموع من أعينهم ونادى الظالمون بالويل والثبور. ثم تزفر الثانية فيزداد الرعب والخوف في القلوب. ثم تزفر الثالثة فتتساقط الخلائق لوجوههم ويشخصون بأبصارهم وهم ينظرون من طرف خفي خوفاً أن تبلغهم أو يأخذهم حريقها. أجارنا الله منها. فصل: واختلف الناس في المقام المحمود على خمسة أقوال: الأول: أنه الشفاعة للناس يوم القيامة كما تقدم. قاله حذبفة بن اليمان وابن عمر رضي الله عنهم. الثاني: إنه أعطاؤه عليه السلام لواء الحمد يوم القيامة قلت: وهذا القول لا تنافي بينه وبين الأول فإنه يكون بيده لواء الحمد

ويشفع. وروى الترمذي «عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنا أول الناس خروجاً إذا بعثوا، وأنا خطيبهم إذا وفدوا، وأنا مبشرهم إذا أيسوا، لواء الحمد بيدي فأنا أكرم ولد آدم على ربي ولا فخر» . وفي رواية «أنا أول الناس خروجاً إذا بعثوا، وأنا قائدهم إذا وفدوا، وأنا خطيبهم إذا أنصتوا، وأنا شفيعهم إذا أيسوا، وأنا مبشرهم إذا أبلسوا. لواء الكرم بيدي وأنا أكرم ولد آدم على ربي يطوف علي ألف خادم كأنهم لؤلؤ مكنون» . الثالث: ما حكاه الطبري عن فرقة منها مجاهد. أنها قالت: المقام المحمود هو أن يجلس الله محمداً صلى الله عليه وسلم معه على كرسيه، وروت في ذلك حديثاً. قلت: وهذا قول مرغوب عنه وإن صح الحديث، فيتأول على أنه يجلس مع أنبيائه وملائكته. قال ابن عبد البر في كتاب التمهيد: ومجاهد وإن كان أحد أئمة بتأويل القرآن فإن له قولين مهجورين عند أهل العلم. أحدهما هذا، والثاني في تأويل قوله تعالى: {وجوه يومئذ ناضرة * إلى ربها ناظرة} قال: تنتظر الثواب وليس من النظر.

الرابع: إخراجه طائفة من النار. روى مسلم عن يزيد الفقير قال: كنت قد شغفني رأي من رأي الخوارج، فخرجنا في عصابة ذوي عدد نريد الحج ثم نخرج على الناس فمررنا على المدينة، فإذا جابر بن عبد الله رضي الله عنه يحدث الناس أو القوم إلى سارية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: وإذا هو قد ذكر الجهنميين قال فقلت له يا صاحب رسول الله: ما هذا الذي تحدثون والله تعالى يقول {ربنا إنك من تدخل النار فقد أخزيته} {كلما أرادوا أن يخرجوا منها أعيدوا فيها} فما هذا الذي تقولون فقال: أتقرأ القرآن؟ فقلت: نعم. فقال: فهل سمعت بمقام محمد صلى الله عليه وسلم يعني الذي بيعثه الله عز وجل؟ قلت: نعم. قال: فإنه مقام محمد صلى الله عليه وسلم الذي يخرج الله به من يخرج. وذكر الحديث. وفي البخاري «من حديث أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم وفيه: وقد سمعته يقول فأخرج فأخرجهم وأدخلهم الجنة حتى ما يبقى في النار إلا من حبسه القرآن أي وجب عليه الخلود قال: ثم تلا هذه الآية {عسى أن يبعثك ربك مقاماً محموداً} قال هو المقام المحمود الذي وعده نبيكم صلى الله عليه وسلم. الخامس: ما روي أن مقامه المحمود شفاعته رابع أربعة وسيأتي الأوزاعي فصل: إذا أثبت أن المقام المحمود هو أمر الشفاعة الذي يتدافعه الأنبياء عليهم السلام حتى ينتهي الأمر إلى نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، فيشفع هذه الشفاعة العامة لأهل الموقف مؤمنهم وكافرهم ليراحوا من هول موقفهم، فاعلم أن العلماء اختلفوا في شفاعاته وكم هي،

فقال النقاش: لرسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث شفاعات العامة وشفاعة في السبق إلى الحنة وشفاعة في أهل الكبائر. وقال ابن عطية في تفسيره: والمشهور أنهما شفاعتان فقط العامة وشفاعة في إخراج المذنبين من النار وهذه الشفاعة الثانية لا يتدافعها الأنبياء بل يشفعون ويشفع العلماء. قال القاضي عياض شفاعات نبينا صلى الله عليه وسلم يوم القيامة خمس شفاعات: الأولى: العامة. الثانية: إدخال قوم الجنة بغير حساب. الثالثة: في قوم من أمته استوجبوا النار بذنوبهم فيشفعه فيهم نبينا صلى الله عليه وسلم، ومن شاء أن يشفع ويدخلون الجنة وهذه الشفاعة هي التي أنكرتها المبتدعة الخوارج والمعتزلة، فمنعتها على أصولهم الفاسدة وهي الاستحقاق العقلي المبني على التحسين والتقبيح.

الرابعة: فيمن دخل النار من المذنبين فيخرج بشفاعة نبينا وغيره من الأنبياء والملائكة وإخوانهم من المؤمنين. قلت: وهذه المشافعة أنكرتها المعتزلة أيضاً وإذا منعوها فيمن استوجب النار بذنبه وإن لم يدخلها فأحرى أن يمنعوها فيمن دخلها. الخامسة: في زيادة الدرجات في الجنة لأهلها وترفيعها. قال القاضي عياض: وهذه الشفاعة لا تنكرها المعتزلة ولا تنكر شفاعة الحشر الأول. قلت: وشفاعة سادسة لعمه أبي طالب في التخفيف عنه، كما رواه مسلم» عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر عنده عمه أبو طالب فقال: لعله تنفعه شفاعتي يوم القيامة فيجعل في ضحضاح من نار يبلغ كعبيه يغلي منه دماغه «فإن قيل: فقد قال الله تعالى: {فما تنفعهم شفاعة الشافعين} قيل له: لا تنفع في الخروج من النار كعصاة الموحدين الذين يخرجون منها ويدخلون الجنة.

فصل: واختلف العلماء هل وقع من الأنبياء صلوات الله عليهم أجمعين بعد النبوة صغائر من الذنوب يؤاخذون بها ويعاتبون عليها ويشفقون على أنفسهم منها أم لا بعد اتفاقهم على أنهم معصومون من الكبائر ومن الصغائر التي تزري بفاعلها وتحط منزلته وتسقط مروءته إجماعاً؟ عند القاضي أبي بكر وعن الأستاذ أبي بكر أن ذلك مقتضى دليل المعجزة وعند المعتزلة أن ذلك مقتضى دليل العقل على أصولهم، فقال الطبري وغيره من الفقهاء والمتكلمين والمحدثين: تقع الصغائر منهم خلافاً للرافضة حيث قالوا إنهم معصومون من جميع ذلك كله، واحتجوا بما وقع من ذلك في التنزيل وثبت من تنصلهم من ذلك في الحديث وهذا ظاهر لا خفاء به. وقال جمهور من الفقهاء من أصحاب مالك وأبي حنيفة والشافعي: إنهم معصومون من الصغائر كلها كعصمتهم من الكبائر لأنا أمرنا باتياعهم في أفعالهم وآثارهم وسيرهم مطلقاً من غير التزام قرينة، فلو جوزنا عليهم الصغائر لم يمكن الاقتداء لهم إذ ليس كل فعل من أفعالهم يتميز مقصده من القربة والإباحة والحظر أو المعية ولا يصح أن يؤمر المرء بامتثال أمر لعله معصية لا سيما على من يرى تقديم الفعل على القول إذا تعارضا من الأصوليين.

قال الأستاذ أبو إسحاق الإسفراييني واختلفوا في الصغائر والذي عليه الأكثر أن ذلك غير جائز عليهم ومال بعضهم إلى تجويزها ولا أصل لهذه المقالة. وقال بعض النتأخرين ممن ذهب إلى القول الأول: والذي ينبغي أن يقال: إن الله تعالى قد أخبر بوقوع ذنوب من بعضهم ونسبها إليهم وعاتبهم عليها وأخبروا بها عن نفوسهم وتنصلوا منها واستغفروا منها وتابوا، وكل ذلك ورد في مواضع كثيرة لا تقبل التأويل جملتها، وإن قبل ذلك آحادها وكل ذلك مما لا يزري بمناصبهم وإنما تلك الأمور التي وقعت منهم على جهة الندور وعلى جهة الخطأ والنسيان أو تأويل دعا إلى ذلك فهي بالنسبة إلىغيرهم حسنات، وفي حقهم سيئات بالنسبة إلى مناصبهم وعلو أقدارهم إذ قد يؤاخذ الوزير بما يثاب عليه السائس فأشفقوا من ذلك في موقف القيامة مع عملهم بالأمن والأمان والسلامة وهذا هو الحق. ولقد أحسن الجنيد رضي الله عنه حيث قال: حسنات الأربار سيئات المقربين، فهم صلوات صلى الله عليه وسلم عليهم وسلامه وإن كانوا قد شهدت النصوص بوقوع ذنوب منهم، فلم يخل ذلك بمناصبهم ولا قدح في رتبهم، بل تلافاهم واجتباهم وهداهم ومدحهم وزكاهم واصطفاهم صلوات الله عليهم وسلامه.

باب من أسعد الناس بشفاعة النبي صلى الله عليه وسلم

باب ذكر ابن المبارك قال:» أخبرنا رشدين بن سعد قال: أخبرني عبد الرحمن بن زياد، عن دخين الحجري، عن عقبة بن عامر رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذكر حديث الشفاعة وفيه فيقول عيسى عليه السلام أدلكم على النبي الأمي فيأتوني فيأذن الله لي أن أقوم فيثور مجلسي أطيب ريح شمها أحد حتى آتي ربي فيشفعني ويجعل لي نوراً من شعر رأسي إلى ظفر قدمي، ثم يقول الكافر قد وجد المؤمنون من يشفع لهم فمن يشفع لنا؟ فيقولون: ما هو غير إبليس هو الذي أضلنا فيأتونه فيقولون قد جد المؤمنون من يشفع لهم فقم أنت فاشفع لنا فإنك قد أضللتنا، فيقوم فيثور من مجلسه أنتن ريح شمه أحد ثم يعظهم لجهنم ويقول عند ذلك {وقال الشيطان لما قضي الأمر إن الله وعدكم وعد الحق ووعدتكم فأخلفتكم} الآية. باب من أسعد الناس بشفاعة النبي صلى الله عليه وسلم البخاري «عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: قلت يا رسول الله من أسعد الناس بشفاعتك يوم القيامة؟ فقال: لقد ظننت يا أبا هريرة أن لا يسألني عن هذا الحديث أحد أول منك لما رأيت من حرصك على الحديث أسعد الناس بشفاعتي يوم القيامة من قال لا إله إلا الله خالصاً من قبل نفسه» . وروى «زيد بن أرقم رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من قال لا إله إلا الله

باب ما جاء في تطاير الصحف عند العرض والحساب

مخلصاً دخل الجنة. قيل يا رسول الله: ما إخلاصها؟ قال: أن تحجزه عن محارم الله» خرجه الترمذي الحكيم في نوادر الأصول. باب ما جاء في تطاير الصحف عند العرض والحساب باب ما جاء في تطاير الصحف عند العرض والحساب وإعطاء الكتب باليمين والشمال ومن أول من يأخذ كتابه بيمينه من هذه الأمة، وفي كيفية وقوفهم للحساب وما يقبل منهم من الأعمال، وفي دعائهم بأسماء آباهم وبيان قوله {يوم ندعوا كل أناس بإمامهم} وفي تعظيم خلق الإنسان الذي يدخل الناس به النار أو الجنان وذكر القاضي العدل ومن نوقش عذب. قال الترمذي: وروي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: [حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا وتزينوا للعرض الأكبر وإنما يخف الحساب على من حاسب نفسه في الدنيا] وقال عطاء الخراساني: يحاسب العبد يوم القيامة عند معارفة ليكون أشد عليه. ذكره أبو نعيم.

البخاري «عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من حوسب يوم القيامة عذب. قالت فقلت يا رسول الله: أليس قد قال الله {فأما من أوتي كتابه بيمينه * فسوف يحاسب حساباً يسيراً} ؟ فقال: ليس ذلك الحساب إنما ذلك عرض من نوقش الحساب يوم القيامة عذب» أخرجه مسلم والترمذي وقال: حديث حسن صحيح. أبو داود الطيالسي قال: «حدثنا عمر بن العلاء اليشكري قال: حدثني صالح بن طبرج عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: سمعت عائشة رضي الله عنها تقول وذكر عندها القضاة، فقالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول يؤتى بالقاضي العدل يوم القيامة فيلقى من شدة الحساب ما يتمنى أنه لم يقض بين اثنين في تمرة قط» . الترمذي «عن الحسن، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم، تعرض الناس يوم القيامة ثلاث عرضات، فأما عرضتان فجدال ومعاذير فعند ذلك تطير الصحف في الأيدي فأخذ بيمينه وأخذ بشماله» قال أبو عيسى ولا يصح هذا الحديث من قبل أن الحسن لم يسمع من أبي هريرة رضي الله عنه، وقد رواه بعضهم عن علي الرفاعي عن الحسن عن أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم. قلت: قوله وقد رواه بعضهم هو وكيع بن الجراح. ذكره ابن ماجه

قال حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة قال: حدثنا وكيع عن علي بن علي فذكره. قال الترمذي: وتكلم يحيى بن سعيد القطان في علي بن علي، وخرجه أبو بكر البزار أيضاً «عن أبي موسى الأشعري، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: يعرض الناس يوم القيامة ثلاث عرضات فأما عرضتان فجدال، وأما الثالثة فتطاير الكتب يميناً وشمالاً» . وذكره الترمذي الحكيم في الأصل السادس والثمانين قال: فروى لنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أن الناس يعرضون ثلاث عرضات يوم القيامة، فأما عرضتان فجدال ومعاذي، وأما العرضة الثالثة فتطاير الصحف فالجدال لأهل الأهواء يجادلون لأنهم لا يعرفون ربهم فيظنون أنهم إذا جادلوه نجوا وقامت حجتهم، والمعاذير لله تعالى يعتذر الكريم إلى آدم وإلى أنبيائه ويقيم حجته عندهم على الأعداء، ثم يبعثهم إلى النار، فإنه يجب أن يكون عذره عند أنبيائه وأوليائه ظاهراً حتى لا تأخذهم الحيرة، ولذلك قيل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا أحد أحب إليه المدح من الله ولا أحد أحب إليه العذر من الله، والعرضة الثالثة للمؤمنين وهو العرض الأكبر يخلو بهم فيعاتبهم في تلك الخلوات من يريد أن يعاتبهم حتى يذوق وبال الحياء ويرفض عرقاً بين يديه ويفيض

العرق منهم على أقدامهم من شدة الحياء، ثم يغفر لهم ويرضى عنهم» . وذكر أبو جعفر العقيلي «من حديث نعيم بن سالم، عن أنس بن مالك رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: الكتب كلها تحت العرش فإذا كان يوم الموقف بعث الله ريحاً فتطيرها بالإيمان والشمائل أول خط فيها: {اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيباً} » . أبو داود «عن عائشة رضي الله عنها قالت: ذكرت النار فبكيت فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يبكيك؟ قلت: ذكرت النار فبكيت فهل تذكرون أهليكم يوم القيامة؟ فقال: أما في ثلاثة مواطن فلا يذكر أحد أحداً. عند الميزان حتى يعلم أيخف ميزانه أم يثقل، وعند تطاير الصحف حتى يعلم أين يقع كتابه في يمينه أم في شماله من وراء ظهره، وعند الصراط إذا وضع بين ظهري جهنم حتى يجوز» . وذكر أبو بكر أحمد بن ثابت الخطيب، «عن زيد بن ثابت رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أول من يعطى كتابه بيمينه من هذه الأمة عمر بن الخطاب

رضي الله عنه وله شعاع كشعاع الشمس فقيل له: أين يكون أبو بكر يا رسول الله؟ قال: هيهات زفته الملائكة إلى الجنان» . وخرج الحافظ أبو القاسم عبد الرحمن بن منده في كتاب التوحيد له «عن معاذ بن جبل رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن الله تبارك وتعالى ينادي يوم القيامة بصوت رفيع غير فظيع: يا عبادي أنا الله لا إله إلا أنا أرحم الراحمين وأحكم الحاكمين وأسرع الحاسبين، يا عبادي لا خوف عليكم اليوم ولا أنتم تحزنون، أحضروا حجتكم ويسروا جوابكم، فإنكم مسؤلون محاسبون، يا ملائكتي أقيموا عبادي طفوفاً على أطراف أنامل أقدامهم للحساب» . وأسند سمرة بن عطية قال: يؤتى بالرجل يوم القيامة للحساب، وفي صحيفته أمثال الجبال من الحسنات، فيقول رب العزة تبارك وتعالى: صليت يوم كذا وكذا، ليقال: فلان صلى، أنا الله لا إله إلا أنا، لي الدين الخالص، صمت يوم كذا وكذا، ليقال: صام فلان، أنا الله لا إله إلا أنا، لي الدين الخالص، تصدقت يوم كذا وكذا ليقال: تصدق فلان، أنا الله لا إله إلا أنا، لي الدين الخالص، فما زال يمحى شيء بعد شيء حتى تبقى صحيفته ما

فيها شيء، فيقول ملكاه: ألغير الله كنت تعمل؟ قلت: ومثل هذا لايقال من جهة الرأي فهو مرفوع، وقد رفع معناه الدارقطني في سننه «من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يجاء يوم القيامة بصحف مختومة فتنصب بين يدي الله عز وجل فيقول الله تعالى: ألقوا هذا واقبلوا هذا، فتقول الملائكة: وعزتك ما رأينا إلا خيراً فيقول الله عز وجل ـ وهو أعلم ـ: إن هذا كان لغيري ولا أقبل من العمل إلا ما ابتغي به وجهي» . خرجه مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه بمعناه على ما يأتي بيانه إن شاء الله تعالى. الترمذي «عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى: {يوم ندعوا كل أناس بإمامهم} قال: يدعى أحدهم فيعطى كتابه بيمينه، ويمد له في جسمه ستون ذراعاً، ويبيض وجهه، ويجعل على رأسه تاج من لؤلؤ يتلألأ فبنطلق إلى أصحابه فيرونه من بعد، فيقولون: اللهم آتنا بهذا وبارك لنا في هذا حتى يأتيهم، ويقول: أبشروا لكل مسلم مثل هذا، قال: وأما الكافر فيسود وجهه ويمد في جسمه ستون ذراعاً على صورة آدم،

ويلبس تاجاً من نار فيراه أصحابه فيقولون: نعوذ بالله من شر هذا، اللهم لا تأتنا بهذا قال: فيأتيهم فيقولون: اللهم اخزه، فيقول: أبعدكم الله، فإن لكل رجل منكم مثل هذا» ، قال أبو عيسى: هذا حديث حسن غريب. وروي أن عيسى عليه السلام مر بقبر فوكزه برجله وقال: يا صاحب هذا القبر قم بإذن الله فقام إليه رجل، وقال: ياروح الله ما الذي أردت فإني لقائم في الحساب منذ سبعين سنة حتى أتتني الصيحة الساعة أن أجب روح الله، فقال عيسى: يا هذا لقد كنت كثير الذنوب والخطايا ما كان عملك؟ فقال: والله يا روح الله ما كنت إلا حطاباً أحمل الحطب على رأسي آكل حلالاً وأتصدق، فقال عيسى: يا سبحان الله حطاباً يحمل الحطب على رأسه، يأكل حلالاً ويتصدق، وهو قائم في الحساب منذ سبعين سنة، ثم قال له: يا روح الله كان من توبيخ ربي لي أن قال: اكتراك عبدي لتحمل له حزمة، فأخذت منها عوداً فتخللت به وألقيته في غير مكانه امتهاناً منك بي، وأنت تعلم أني أنا الله المطلع عليك وأراك. فصل: قال الله تعالى {وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه} قال الزجاج: ذكر العنق عبارة عن اللزوم كلزوم القلادة للعنق. وقال إبراهيم بن أدهم كل آدمي في عنقه قلادة يكتب فيها نسخة

عمله فإذا مات طويت وإذا بعث نشرت وقيل له {اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيباً} وقال ابن عباس رضي الله عنه: طائره عمله {ونخرج له يوم القيامة كتاباً يلقاه منشوراً * اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيباً} قال الحسن: يقرأ الإنسان كتابه أمياً كان أو غير أمي. وقال أبو السوار العدوي: وقرأ هذه الآية {وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه} قال: هما نشرتان وطية أما ما حييت يا ابن آدم فصحيفتك المنشورة فأمل فيها ما شئت فإذا مت طويت، حتى إذا بعثت نشرت {اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيباً} فإذا وقف الناس على أعمالهم من الصحف التي يؤتونها بعد البعث حوسبوا بها. قال الله تعالى {فأما من أوتي كتابه بيمينه * فسوف يحاسب حساباً يسيراً} . فدل على أن المحاسبة تكون عند إتيان الكتب، لأن الناس إذا بعثوا لا يكون ذاكرين لأعمالهم. قال الله تعالى {يوم يبعثهم الله جميعاً فينبئهم بما عملوا أحصاه الله ونسوه} . وقد تقدم القول في محاسبة الله تعالى لخلقه في يوم الحساب من أسماء القيامة فإذا بعثوا من قبورهم إلى الموقف وقاموا فيه ما شاء

تعالى على ما تقدم حفاة عراة وجاء وقت الحساب يريد الله أن يحاسبهم فيه أمر بالكتب التي كتبها الكرام الكاتبون بذكر أعمال الناس فأوتوها، فمنهم من يؤتى كتابه بيمينه فأولئك هم السعداء، ومنهم من يؤتى كتابه بشماله أو من وراء ظهره وهم الأشقياء، فعند ذلك يقرأ كل كتابه وأنشدوا: مثل وقوفك يوم العرض عرياناً ... مستوحشاً قلق الأحشاء حيرانا والنار تلهب من غيظ ومن حنق ... على العصاة ورب العرش غضبانا اقرأ كتابك ياعبدي على مهل ... فهل ترى فيه حرفاً غير ما كانا لما قرات ولم تنكر قراءته ... إقرار من عرف الأشياء عرفاناً نادى الجليل: خذوه يا ملائكتي ... وامضوا بعبد عصى للنار عطشانا المشركون غداً في النار يلتهبوا ... والمؤمنون بدار الخلد سكانا فتوهم نفسك يا أخي إذا تطايرت الكتب ونصبت الموازين وقد نوديت باسمك على رؤوس الخلائق أين فلان ابن فلان هلم إلى العرش على الله تعالى وقد وكلت الملائكة بأخذك فقربتك إلى الله لا يمنعها اشتباه الأسماء باسمك واسم أبيك إذ عرفت أنك المراد بالدعاء إذ قرع النداء قلبك، فعلمت أنك المطلوب، فارتعدت فرائصك، واضطربت جوارحك، وتغير لونك، وطار قلبك. تحظى بك الصفوف إلى ربك للعرض عليه والوقوف بين يديه، وقد رفع الخلائق إليك أبصارهم وأنت في أيديهم وقد طار قلبك واشتد رعبك لعلمك أين يراد بك. فتوهم نفسك وأنت بين يدي ربك في يدك صحيفة مخبرة بعملك لا تغادر بلية كتمتها ولا مخبأة أسررتها، وأنت تقرأ ما قيها بلسان كليل وقلب منكسر والأهوال محدقة بك من بين يديك ومن خلفك، فكم من بلية قد كنت نسيتها ذكرتها، وكم من شيئة قد كنت أخفيتها قد أظهرها وأبداها،

وكم من عمل ظننت أنه سلم لك وخلص فرده عليك في ذلك الموقف وأحبطه بعد أن كان أملك فيه عظيماً، فيا حسرة قلبك ويا أسفك على ما فرطت فيه من طاعة ربك {فأما من أوتي كتابه بيمينه} فعلم أنه من أهل الجنة {فيقول هاؤم اقرؤوا كتابيه} وذلك حين يأذن الله فيقرأ كتابه. فإذا كان الرجل رأساً في الخير يدعوا إليه ويأمر به ويكثر تبعه عليه دعي باسمه واسم أبيه فيتقدم، حتى إذا دنا أخرج له كتاب أبيض بخط أبيض في باطنه السيئات وفي ظاهره الحسنات، فيبدأ بالسيئات فيقرؤها فيشفق ويصفر وجهه ويتغير لونه، فإذا بلغ آخر الكتاب وجد فيه هذه سيئاتك وقد غفرت لك، فيفرح عند ذلك فرحاً شديداً، ثم يقلب كتابه فيقرأ حسناته فلا يزداد إلا فرحاً، حتى إذا بلغ آخر الكتاب وجد فيه هذه حسناتك قد ضوعفت لك فيبيض وجهه، ويؤتى بتاج فيوضع على رأسه ويكسى حلتين ويحلى كل مفصل فيه وبطول ستين ذراعاً وهي قامة آدم ويقال له: انطلق إلى أصحابك فبشرهم وأخبرهم أن لكل إنسان منهم مثل هذا فإذا أدبر قال {هاؤم اقرؤوا كتابيه * إني ظننت أني ملاق حسابيه} قال الله تعالى {فهو في عيشة راضية} أي مرضية قد رضيها {في جنة عالية} في السماء {قطوفها} ثمارها وعناقيدها {دانية} أدنيت منهم فيقول لأصحابه هل تعرفونني؟ فيقولون قد غمرتك كرامة الله من أنت فيقول أنا فلان ابن فلان ليبشر كل رجل منكم بمثل هذا {كلوا واشربوا هنيئاً بما أسلفتم في الأيام الخالية} أي قدمتم في أيام الدنيا. وإذا كان الرجل رأساً في الشر يدعو إليه ويأمره به فيكثر تبعه عليه

ونودي باسمه واسم أبيه، فيتقدم إلى حسابه فيخرج له كتاب أسود بخط أسود في باطنه الحسنات وفي ظاهره السيئات، فيبدأ بالحسنات فيقرؤها ويظن أنه سينجو، فإذا بلغ آخر الكتاب وجد فيه: هذه حسناتك وقد ردت عليك، فيسود وجهه ويعلوه الحزن ويقنط من الخير ثم يقلب كتابه فيقرأ سيئاته فلا يزداد إلا حزناً ولا يزداد وجهه إلا سوداً، فإذا بلغ آخر الكتاب وجد فيه: هذه سيئاتك وقد ضوعفت عليك أي يضاعف عليه العذاب ليس المعنى أنه يزاد عليه ما لم يعمل. قال: فينظر إلى النار وتزرق عيناه ويسود وجهه ويكسى سرابيل القطران، ويقال له: انطلق إلى أصحابك فأخبرهم أن لكل إنسان منهم مثل هذا فينطلق وهو يقول: {يا ليتني لم أوت كتابيه * ولم أدر ما حسابيه * يا ليتها كانت القاضية} يعني الموت {هلك عني سلطانيه} تفسير ابن عباس رضي الله عنهما هلكت عني حجتي. قال تعالى {خذوه فغلوه * ثم الجحيم صلوه} أي اجعلوه يصلى الجحيم {ثم في سلسلة ذرعها سبعون ذراعاً فاسلكوه} والله أعلم بأي ذراع. قال الحسن وقال ابن عباس رضي الله عنهما: سبعون ذراعاً بذراع الملك. وسيأتي في كتاب النار لهذه السلسلة مزيد بيان. فاسلكوه فيها أي تدخل من فيه حتى تخرج من دبره قاله الكلبي، وقيل: بالعكس. وقيل: يدخل عنقه فيها ثم يجر بها ولو أن حلقة منها وضعت على جبل لأذابته فينادي أصحابه فيقول هل تعرفونني فيقولون لا ولكن قد نرى ما بك من الخزي فمن أنت فيقول أنا فلان ابن فلان لكل إنسان منكم مثل هذا. وأما من أوتي كتابه وراء ظهره فتخلع كتفه اليسرى فتجعل يده خلفه فيأخذ بها كتابه،

باب في قوله تعالى " يوم تبيض وجوه وتسود وجوه "

وقال مجاهد: يحول مجاهد وجهه في موضع قفاه فيقرأ كتابه كذلك. فتوهم نفسك إن كنت من السعداء وقد خرجت على الخلائق مسرور الوجه قد حل لك الكمال والحسن والجمال كتابك في يمينك آخذ بضبعيك ملك ينادي على رؤوس الخلائق هذا فلان ابن فلان سعد سعادة لا يشقى بعدها أبداً. أما إن كنت من أهل الشقاوة فيسود وجهك وتتخطى الخلائق. كتابك في شمالك أو من وراء ظهرك تنادي بالويل والثبور وملك آخذ بضبيعك ينادي على رؤوس الخلائق ألا إن فلان ابن فلان شقي شقاوة لا يسعد بعدها أبداً. قلت: قوله ألا إن فلان ابن فلان دليل على أن الإنسان يدعى في الآخرة باسمه واسم أبيه، وقد جاء صريحاً من حديث «أبي الدرداء رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إنكم تدعون يوم القيامة بأسمائكم وأسماء آبائكم فأحسنوا أسماءكم» . خرجه أبو نعيم الحافظ. قال حدثنا أبو عمر بن حمدان قال حدثنا الحسن بن سفيان قال: حدثنا زكريا بن يحي قال: حدثنا هشيم عن داود بن عمر عن عبد الله بن أبي زكريا عن أبي الدرداء فذكره. باب في قوله تعالى " يوم تبيض وجوه وتسود وجوه " باب في قوله تعالى يوم تبيض وجوه وتسود وجوه الترمذي عن أبي غالب قال: رأى أبو إمامة رؤوساً منصوبة على برج

دمشق، فقال أبو أمامة: [كلاب النار شر قتلى تحت أديم السماء خير قتلى من قتلوه] . ثم قرأ قوله تعالى {يوم تبيض وجوه وتسود وجوه} إلى آخر الآية فقلت لأبي أمامة الباهلي: أنت سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لو لم أسمعه إلا مرة أو مرتين أو ثلاثاً حتى عد سبعاً ما حدثتكموه» . قال: هذا حديث حسن. وخرج أبو بكر أحمد بن علي بن ثابت الخطيب، «عن مالك بن سليم الهروي أخي غسان، عن مالك بن أنس، عن نافع، عن ابن عمر رضي الله عنهم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في قول الله تعالى {يوم تبيض وجوه وتسود وجوه} قال: يعني تبيض وجوه أهل السنة وتسود وجوه أهل البدعة» وقال مالك بن أنس رضي الله عنه هي في أهل الأهواء. وقال الحسن هي في المنافقين، وقال قتادة في المرتدين، وقال أبي بن كعب هي في الكفار وهو اختيار الطبري. اللهم بيض وجوهنا يوم تبيض وجوه أو ليائك ولا تسود وجوهنا يوم تسود وجوه أعدائك بحق رسلك وأنبيائك وأصفيائك بفضلك ياذا الفضل العظيم وكرمك يا كريم.

باب في قوله تعالى " ووضع الكتاب فترى المجرمين مشفقين مما فيه " الآية

باب في قوله تعالى " ووضع الكتاب فترى المجرمين مشفقين مما فيه " الآية باب في قوله تعالى ووضع الكتاب فترى المجرمين مشفقين مما فيه الآية ابن المبارك قال: أخبرنا الحكم وأبو الحكم ـ شك ـ نعيم، عن إسماعيل بن عبد الرحمن، عن رجل من بني أسد قال: قال عمر لكعب: ويحك يا كعب حدثنا من حديث الآخرة قال نعيم: يا أمير المؤمنين إذا كان يوم القيامة رفع اللوح المحفوظ فلم يبق أحد من الخلائق إلا وهو ينظر إلى عمله قال، ثم يؤتى بالصحف التي فيها أعمال العباد فتنشر حول العرش وذلك قوله تعالى {ووضع الكتاب فترى المجرمين مشفقين مما فيه ويقولون يا ويلتنا مال هذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها} قال الأسدي: الصغيرة ما دون الشرك والكبيرة الشرك [إلا أحصاها] قال كعب: ثم يدعى المؤمن فيعطى كتابه بيمينه فينظر فيه فحسناته باديات للناس وهو يقرأ سيئاته فذكر معنى ما تقدم، وكان الفضيل بن عياض إذا قرأ هذه الآية يقول: يا ويلتنا ضجوا

إلى الله من الصغائر قبل الكبائر. قال ابن عباس رضي الله عنه: الصغيرة التبسم والكبيرة الضحك بعني ما كان من ذلك في معصية الله. وقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم «ضرب بصغائر الذنوب مثلاً فقال: إنما محقرات الذنوب كمثل قوم نزلوا بفلاة من الأرض وحضر صنيع القوم فانطلق كل رجل منهم يحتطب فجعل الرجل يجيء بالعود والآخر بالعودين، حتى جمعوا سواداً وأججوا ناراً فشووا خبزهم، وأن الذنب الصغير يجتمع على صاحبه فيهلكه إلا أن يغفر الله، واتقوا محقرات الذنوب فإن لها من الله طالباً» . أنبأنا الشيخان «أبو محمد عبد الوهاب القرشي والإمام أبو الحسن الشافعي قالا: أخبرنا السلفي قال: أخبرنا الثقفي، أخبرنا أبو طاهر محمد بن مخمش الزيادي إملاء بنيسابور قال: أخبرنا حاجب بن أحمد الطوسي قال: أخبرنا محمد بن حماد الأبيوردي قال: أخبرنا أنس بن عياض الليثي، عن أبي حازم لا أعلمه إلا عن سهل بن سعد رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إياكم ومحقرات الذنوب فإن مثل محقرات الذنوب كمثل قوم نزلوا بطن واد فجاء ذا بعود وجاء ذا

باب ما يسأل عنه العبد وكيفية السؤال

بعود حتى جمعوا ما أنضجوا به خبزهم، وإن محقرات الذنوب متى يؤخذ بها صاحبها تهلكه» غريب من حديث أبي حازم سلمة بن دينار تفرد به عنه أبو ضمرة أنس بن عياض الليثي، ولقد أحسن القائل: خل الذنوب صغيرها وكبيرها ها ذاك التقي ... ... واصنع كماش فوق أرض الشوك يحذر ما يرى لا تحقرن صغيرة إن الجبال من الحصى وقال جماعة من العلماء: إن الذنوب كلها كبائر، قال بعضهم: لا تنظر إلى صغر الذنب، ولكن انظر من عصيت فهي من حيث المخالفة كبائر، والصحيح أن فيها صغائر وكبائر ليس هذا موضع الكلام في ذلك، وقد بيناه في سورة النساء في كتاب جامع أحكام القرآن والله أعلم. باب ما يسأل عنه العبد وكيفية السؤال قال الله تعالى: {إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولا} وقال: {ثم إلينا مرجعكم فننبئكم بما كنتم تعملون} وقال {قل بلى وربي لتبعثن ثم لتنبؤن بما عملتم} أي ما عملتموه. وقال {فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره * ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره} أي يسأل عن ذلك ويجازي عليه والآيات في هذا المعنى كثيرة

وقال {ثم لتسألن يومئذ عن النعيم} . الترمذي «عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: لما نزلت هذه الآية {لتسألن يومئذ عن النعيم} قال الناس يا رسول الله: عن أي نعيم نسأل فإنما هما الأسودان والعدو حاضر وسيوفنا على عواتقنا؟ قال: إن ذلك سيكون وعنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن أول ما يسأل عنه يوم القيامة يعني العبد أن يقال له ألم أنصح لك جسمك ونرويك من الماء البارد» قال الترمذي: حديث غريب. وخرج أبو نعيم الحافظ «من حديث الأعمش، عن أبي وائل شفيق عن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما من عبد يخطو خطوة إلا سئل عنها ما أراد بها» مسلم «عن أبي برزة الأسلمي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع: عن عمره فيما أفناه؟ وعن جسده فيما أبلاه؟ وعن عمله ما عمل فيه؟ وعن ماله من أين اكتسبه؟ وفيما أنفقه؟» خرجه الترمذي، وقال فيه: حديث حسن صحيح، رواه عن ابن عمر عن ابن

مسعود رضي الله عنهما عن النبي، وقال فيه: حديث غريب لا أعرفه إلا من حديث ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا من حديث الحسين بن قيس، والحسين يضعف في الحديث. وفي الباب «عن أبي برزة وأبي سعيد، قلت: ومعاذ بن جبل أخبرناه الشيخ الراوية أبو محمد عبد الوهاب بثغر الإسكندرية قراءة عليه، قال: قرأ على البيهقي وأنا أسمع قال: حدثنا الحاجب أبو الحسن علي بن محمد بن علي العلاف ببغداد سنة أربع وسبعين وأربعمائة، قال: أخبرنا أبو القاسم عبد الملك بن محمد بن بشران المعدل، قال: حدثنا أبو بكر محمد بن الحسين الآجري بمكة في شوال سنة ثلاث وخمسين وثلاثمائة قال: أخبرنا أبو سعيد الفضل بن محمد الجندي إملاء في المسجد الحرام سنة تسع وتسعين ومائتين قال: أخبرنا صامت بن معاذ الجندي، أخبرنا عبد الحميد، عن سفيان بن سعيد الثوري، عن صفوان بن سليم، عن عدي بن عدي، عن الصالحي، عن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع خصال: عن عمره فيما أفناه؟ وعن شبابه فيما أبلاه؟ وعن ماله من أين اكتسبه؟ وفيما أنفقه؟ وعن عمله ماذا عمل فيه؟» . وخرج الطبراني أبو القاسم سليمان بن أحمد بن أيوب، «أخبرنا أحمد بن خالد الحلبي، أخبرنا يوسف بن يونس الأفطس قال: أخبرنا سليمان بن بلال، عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إذا كان يوم القيامة دعا الله بعبد من عباده فيوقفه بين يديه فيسأله عن جاهه كما يسأله عن عمله» .

مسلم «عن صفوان بن محرز قال: قال رجل لابن عمر رضي الله عنه. كيف سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في النجوى؟ قال: سمعته يقول: يدنى المؤمن يوم القيامة حتى يضع عليه كنفه فيقرره بذنوبه، فيقول هل تعرف؟ فيقول: رب أعرف. قال فيقول: إني سترتها عليك في الدنيا وأنا أغفرها لك اليوم. قال: فيعطى صحيفة حسناته، وأما الكفار والمنافقون، فينادى بهم على رؤوس الخلائق هؤلاء الذين كذبوا على الله» . أخرجه البخاري وقال في آخره: {هؤلاء الذين كذبوا على ربهم ألا لعنة الله على الظالمين} . «وروي من حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كان يوم القيامة خلا الله عز وجل بعبده المؤمن يوقفه على ذنوبه ذنباً ذنباً، ثم يغفر الله له لا يطلع على ذلك ملك مقرب ولا نبي مرسل وستر عليه من ذنوبه ما يكرهه أن يقف عليها ثم يقول لسيئاته كوني حسنات» . قال المؤلف: خرجه مسلم بمعناه وسيأتي آنفاً إن شاء الله تعالى. وخرج أبو القاسم إسحاق بن إبراهيم الختلي في كتاب الديباج له. حدثنا هارون بن عبد الله قال: حدثنا سيار قال: قال جعفر قال: حدثنا أبو عمران الجوني عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: يدني الله العبد منه يوم القيامة ويضع عليه كفنه فيستره من الخلائق كلها ويدفع إليه كتابه في ذلك الستر فيقول له: اقرأ يا ابن آدم كتابك قال: فيمر بالحسنة فيبيض لها وجهه، ويمر بالسيئة فيسود لها وجهه، قال: فيقول الله تعالى له: أتعرف يا عبدي؟ قال: فيقول نعم يا رب

أعرف، قال: فيقول: إني أعرف بها منك، قد غفرتها لك، قال: فلا تزال حسنة تقبل فيسجد وسيئة تغفر فيسجد، فلا يرى الخلائق منه إلا ذلك حتى ينادي الخلائق بعضها بعضاً طوبى لهذا العبد الذي لم يعص قط ولا يدرون ما قد لقي فيما بينه وبين الله تعالى مما قد وقفه عليه. قلت: نسخة من هنا إلى الفصل قوله لا يزول، أخبرنا الشيخ الراوية القرشي عبد الوهاب قراءة عليه بثغر الإسكندرية حماه الله، قال: قرئ على الحافظ السلفي، وأنا أسمع. قال: «حدثنا الحاجب أبو الحسن بن العلاء، وقال: أخبرنا أبو القاسم بن بشران، أخبرنا الأجري، حدثنا أبو عبد الله محمد بن أحمد بن موسى السونيطي، حدثنا أحمد بن أبي رجاء المصيصي، حدثنا وكيع بن الجراح، حدثنا الأعمش عن المعرور بن سويد، عن أبي ذر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يؤتى بالرجل يوم القيامة فيقال: اعرضوا عليه صغار ذنوبه وتخبأ كبارها، فيقال له: عملت يوم كذا وكذا كذا وكذا ثلاث مرات، قال: وهو يقر ليس ينكر قال: وهو مشفق من الكبائر أن تجيء قال: فإذا أراد الله به خيراً قال: أعطوه مكان كل سيئة حسنة، فيقول حين طمع: يا رب إن لي ذنوباً ما رأيتها ها هنا، قال: فلقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ضحك حتى بدت نواجذه. ثم تلا {فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات} » خرجه مسلم في

صحيحه عن محمد بن عبد الله بن نمير قال: حدثنا الأعمش فذكره. فصل: قوله «لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل» : عام لأنه نكرة في سياق النفي لكنه مخصوص بقوله عليه السلام، «يدخل الجنة من أمتي سبعون ألفاً بغير حساب» على ما يأتي. وبقوله تعالى لمحمد عليه السلام: أدخل الجنة من أمتك من لا حساب عليه من الباب الأيمن، وقد تقدم الحديث. وبقوله تعالى: {يعرف المجرمون بسيماهم فيؤخذ بالنواصي والأقدام} . قوله عليه السلام: «وعن عمله ما عمل فيه» . قلت: هذا مقام مخوف لأنه لم يقل وعن عمله ما قال فيه، وإنما قال ما عمل فيه فلينظر العبد ما عمل فيما علمه هل صدق الله في ذلك وأخلصه حتى يدخل فيمن أثنى الله عليه بقوله: {أولئك الذين صدقوا} أو خالف علمه بفعله فيدخل في قوله تعالى: {فخلف من بعدهم خلف ورثواً الكتاب} الآية وقوله تعالى: {أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم وأنتم تتلون الكتاب} وقوله: {يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون * كبر مقتاً عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون} . والأخبار في هذا المعنى كثيرة، وسيأتي ذكرها في أبواب النار إن شاء الله تعالى،

قوله: «حتى يضع عليه كنفه» أي ستره ولطفه وإكرامه فيخاطب خطاب الملاطفة ويناجيه مناجاة المصافاة والمحادثة فيقول: هل تعرف؟ فيقول: رب أعرف، فيقول الله تعالى: ممتنا عليه ومظهراً فضله لديه: فإني قد سترتها عليك في الدنيا أي لم أفضحك بها فيها، وأنا أغفرها لك اليوم، ثم قيل هذه الذنوب تاب منها. كما ذكره أبو نعيم عن الأوزاعي عن هلال بن سعد قال: إن الله يغفر الذنوب ولكن لا يمحوها من الصحيفة حتى يوقفه عليها يوم القيامة وإن تاب منها. قال المؤلف: ولا يعارض هذا ما في التنزيل والحديث من أن السيئات تبدل بالتوبة حسنات، فلعل ذلك يكون بعد ما يوقفه عليها والله أعلم. وقيل في صغائر اقترفها، وقيل كبائر بينه وبين الله تعالى اجترحها، وأما ما كان بينه وبين العباد فلا بد فيها من القصاص بالحسنات والسيئات على ما يأتي،

وقيل: ما خطر بقلبه ما لم يكن في وسعه ويدخل تحت كسبه، ويثبت في نفسه وإن لم يعلمه، وهذا اختيار الطبري والنحاس وغير واحد من العلماء جعلوا الحديث مفسراً لقوله تعالى: {وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله} فتكون الآية على هذا محكمة غير منسوخة والله أعلم. وقد بينا في كتاب جامع أحكام القرآن والمبين لما تضمن من السنة، وآي القرأن والحمد لله. وروي عن ابن مسعود أنه قال: ما ستر الله على عبد في الدنيا إلا ستر الله عليه في الآخرة، وهذا مأخوذ من حديث النجوى، ومن قوله عليه السلام: «يستر الله على عبد في الدنيا إلا ستره الله يوم القيامة» خرجه مسلم. وفي صحيح مسلم أيضاً من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: [من ستر مسلماً ستره الله في الدنيا والآخرة] ، وروى [من ستر على مسلم عورته، ستر الله عورته يوم القيامة] ، قال أبو حامد: فهذا إنما يرجوه عبد مؤمن ستر على الناس عيوبهم واحتمل في حق نفسه تقصيرهم. ولم يحرك لسانه بذكر مساوئ الناس ولم يذكرهم في غيبتهم بما يكرهون لو سمعوه، فهذا جدير بأن يجازى بمثله في القيامة. فصل: وفي قوله: [سترتها عليك في الدنيا وأنا أغفرها لك اليوم] نص منه تعالى على صحة قول أهل السنة في ترك إنفاذ الوعيد على العصاة من المؤمنين، والعرب تفتخر بخلف الوعيد حتى قال قائلهم: ولا يرهب ابن العم ما عشت صولتي ولا أختشى من روعة المتهدد وإني متى أوعدته أو وعدته ... لمخلف إيعادي ومنجز موعدي

باب ما جاء أن الله تعالى يكلم العبد ليس بينه وبينه ترجمان

قال ابن العربي: إنه كذلك عند العرب، وأما ملك الملوك القدوس الصادق فلا يقع أبداً خبره إلا على وفق مخبره كان ثوابا أو عقاباً، فالذي قال المحققون في ذلك قول بديع، وهو أن الآيات وقعت مطلقة في الوعد والوعيد عامة فخصصتها الشريعة، وبينها الباري تعالى في كتابه في آيات أخر، كقوله: {إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء} وقوله تعالى: {وإن ربك لذو مغفرة للناس على ظلمهم} الآية وكقوله تعالى: {حم * تنزيل الكتاب من الله العزيز العليم * غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب ذي الطول لا إله إلا هو} وبالشفاعة التي أكرم الله بها صلى الله عليه وسلم ومن شاء من الخلق من بعده. باب ما جاء أن الله تعالى يكلم العبد ليس بينه وبينه ترجمان مسلم «عن عدي بن حاتم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما منكم من أحد إلا سيكلمه الله ليس بينه وبينه ترجمان فينظر أيمن منه فلا يرى إلا ما قدم، وينظر أيسر منه فلا يرى إلا ما قدم، وينظر بين يديه فلا يرى إلا النار تلقاء وجهه فاتقوا النار ولو بشق تمرة» زاد ابن حجر قال الأعمش: وحدثني عمرو بن مرة عن خيثمة عن عدي مثله وزاد فيه «ولو بكلمة طيبة» . أخرجه البخاري والترمذي، وقال: حديث حسن صحيح. ابن المبارك قال: «أخبرنا إسماعيل بن مسلم، عن الحسن وقتادة،

عن أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: يجاء بابن آدم يوم القيامة فيوقف بين يدي الله تعالى فيقول له: أعطيتك وخولتك وأنعمت عليك، فماذا صنعت؟ فيقول: يا رب جمعته وثمرته فتركته أكثر ما كان فارجعني آتيك به فيقول الله تعالى: أرني ما قدمت. فيقول: فإذا عبد لم يقدم خيراً فيمضي به إلى النار» . خرجه ابن العربي في سراج المريدين وزاد فيه بعد قوله كأنه بذج. وقال فيه حديث صحيح من مراسيل الحسن، وقال الهروي كأنه بدوج من الذل. قال أبو عبيد: هو ولد الضأن وجمعه بدجان. وقال الجوهري: البدوج من الضأن بمنزلة العقود من أولاد المعز وأنشدوا: قد هلكت جارتنا من الهمج ... وإن تجع تأكل عقوداً أو بدج قلت: وقوله: ما منكم من أحد مخصوص بما ذكرناه في الباب قبل أي ما منكم ممن لا يدخل الجنة بغير حساب من أمتي إلا وسيكلمه الله، والله أعلم فتكفر في عظيم حياتك إذا ذكرك ذنوبك شقاها إذ يقول: يا عبدي أما استحييت مني فبارزتني بالقبح واستحييت من خلقي فأظهرت لهم الجميل أكنت أهون عليك من سائر عبادي استخففت بنظري إليك فلم تكترث به، واستعظمت نظر غيري ألم أنعم عليك فماذا غرك بي؟ . وعن ابن مسعود قال: ما منكم من أحد إلا سيخلو الله به كما يخلو أحدكم بالقمر ليلة البدر ثم يقول يا ابن آدم ما غرك بي؟ يا ابن آدم ماذا

عملت فيما علمت؟ يا ابن آدم ماذا أجبت المرسلين؟ يا ابن آدم ألم أكن رقيباً على عينيك وأنت تنظر بهما إلى ما لا يحل لك ألم أكن رقيباً على أذنيك؟ وهكذا عن سائر الأعضاء فكيف ترى حياءك وخجلك وهو يعد عليك إنعامه ومعاصيك وأياديه ومساويك؟ فإن أنكرت شهدت عليك جوارحك، فنعوذ بالله من الافتضاح على ملأ الخلق بشهادة الأعضاء إلا أن الله وعد المؤمن أن يستر عليه، ولا يطلع عليه غيره كما ذكرنا، وذلك بفضل منه. وهل يكلم الكفار عند المحاسبة لهم؟ فيه خلاف تقدم بيانه في أسماء القيامة. ويأتي أيضاً في باب ما جاء في شهادة أركان الكافر والمنافق عليهما، ولقائهما بالله عز وجل مستوفي إن شاء الله تعالى. فصل: فإن قيل: أخبر الله تعالى عن الناس أنهم مجزيون محاسبون، وأخبر أنه يملأ جهنم من الجنة والناس أجمعين ولم يخبر عن ثواب الجن ولا عن حسابهم بشيء فما القول في ذلك عندكم، وهل يكلمهم الله؟ فالجواب أن الله تعالى أخبر أن الإنس والجن يسألون فقال خبراً عما يقال لهم {يا معشر الجن والإنس ألم يأتكم رسل منكم يقصون عليكم آياتي وينذرونكم لقاء يومكم هذا قالوا شهدنا على أنفسنا} الآية وهذا سؤال فإذا ثبت بعض السؤال ثبت كله، ولما كانت الجن ممن يخاطب ويعقل، قال منكم، وإن كانت الرسل من الإنس وغلب الإنس في الخطاب كما يغلب المذكر على المؤنث،

وأيضاً لما كان الحساب عليهم دون الخلق قال منكم فصير الرسل في مخرج اللفظ من الجميع لأن الثقلين قد ضمتهما عرضة القيامة، فلما صاروا في تلك العرضة في حساب واحد في شأن الثواب والعقاب خوطبوا يومئذ بمخاطبة واحدة كأنهم جماعة واحدة لأن بدء خلقهم للعبودية، كما قال تعالى: {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون} والثواب والعقاب على العبودية إلا أن الجن أصلهم من مارج من نار، وأصلنا من تراب وخلقهم غير خلقنا، ومنهم مؤمن وكافر، وعدونا إبليس عدو لهم يعادي مؤمنهم ويوالي كافرهم، وفيهم أهواء شيعية وقدرية ومرجئة، وهو معنى قوله: {كنا طرائق قدداً} . وقيل: إن الله تعالى لما قال: {والذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون} دخل في الجملة الجن والإنس، فثبت للجن من وعد الجنة لعموم الآية ما ثبت للإنس. فإن قيل: فما الحكمة في ذكر الجنة مع الإنس في الوعيد وترك إفراده الإنس عنهم في الوعد؟ .

باب القصاص يوم القيامة ممن استطال في حقوق الناس وفي حسبه لهم حتى ينصفوا منه

فالجواب: أنهم قد ذكروا أيضاً في الوعد لأنه سبحانه يقول: {أولئك الذين حق عليهم القول في أمم قد خلت من قبلهم من الجن والإنس إنهم كانوا خاسرين} ثم قال: {ولكل درجات مما عملوا} وإنما أراد لكل من الإنس والجن فقد ذكروا في الوعد مع الإنس. فإن قيل: فقد ذكر يخاطب الجن والإنس في النار لأن الله تعالى قال: {وقال الشيطان لما قضي الأمر إن الله وعدكم وعد الحق} إلى قوله {ولوموا أنفسكم} {قال قرينه ربنا ما أطغيته ولكن كان في ضلال بعيد} ولم يأت عن تفاوض الفريقين في الجنة خبر، قيل: إنما ذكر من تفاوضهم في النار أن الواحد من الإنس يقول للشيطان الذي كان قرينه في الدينا إنه أطغاني وأضلني فيقول له قرينه: ربنا ما أطغيته ولكنه كان ضالاً بنفسه ولا سبب بين الفريقين يدعو أهل الجنة فيهما إلى التفاوض فلذلك سكت عنهما، وأيضاً فإن الله تعالى أخبر الناس أن عصاتهم يكونون قرناء الشياطين يتخاصمون في النار ليزجرهم بذلك عن التمرد والعصيان، وهذا المعنى مقصود في الأخبار، فلهذا سكت عن ذلك في الوعد به. باب القصاص يوم القيامة ممن استطال في حقوق الناس وفي حسبه لهم حتى ينصفوا منه مسلم «عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لتؤدن الحقوق إلى

أهلها يوم القيامة حتى يقاد للشاة الجلحاء من الشاة القرناء» . البخاري عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من كانت عنده مظلمة لأخيه من عرضه أو شيء فليتحلله منه اليوم قبل أن لا يكون ديناراً ولا درهم. إن كان له عمل صالح أخذه منه بقدر مظلمته وإن لم يكن له حسنات أخذ من سيئات صاحبه فحمل عليه» . مسلم «عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أتدرون من المفلس؟ قالوا: المفلس من لا درهم له ولا متاع. قال: إن المفلس من أمتي، من يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة، ويأتي قد شئتم هذا وقذف هذا وأكل هذا وسفك دم هذا وضرب هذا، فيعطى هذا من حسناته وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناته قبل انقضاء ما عليه أخذ من خطاياهم فطرحت عليه ثم طرح في النار» . وخرج ابن ماجه، «حدثنا محمد بن ثعلبة بن سواء، حدثنا عمي محمد بن سواء، عن حسين المعلم، عن مطر الوراق، عن نافع، عن ابن عمر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من مات وعليه دينار أو درهم قضي من حسناته ليس ثم دينار ولا درهم من ترك دنيا أو ضياعاً فعلى الله ورسوله» . الحارث بن أبي أسامة، «وعن عبد الله بن أنيس رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: يحشر الله العباد أو قال الناس ـ شك ـ وأومأ بيده إلى الشام عراة غرلاً بهما، قال: ما بهما؟ قال: ليس معهم

شيء فيناديهم بصوت يسمعه من بعد ومن قرب، أنا الملك، أنا الديان، لا ينبغي لأحد من أهل الجنة أن يدخل الجنة، وواحد من أهل النار يطلبه بمظلمة حتى اللطمة، ولا ينبغي لأحد من أهل النار وواحد من أهل الجنة يطلبه حتى اللطمة، قال: قلنا: كيف وإنما نأتي الله عراة حفاة، قال بالحسنات والسيئات» . قال الشيخ المؤلف رحمه الله: هذا الحديث الذي أراد البخاري بقوله، ورحل جابر عبد الله مسيرة شهر إلى عبد الله بن أنيس في حديث واحد. سفيان بن عيينة، عن مسعر عن عمرو بن مرة قال: سمعت الشعبي يقول: حدثني الربيع بن خيثم وكان من معادن الصدق قال: إن أهل الدين في الآخرة أشد تقاضياً له منكم في الدنيا يحبس لهم فيأخذونه، فيقول: يا رب ألست تراني حافياً؟ فيقول: خذوا من حسناته بقدر الذي لهم فإن لم يكن له حسنات يقول: زيدوا على سيئاته من سيئاتهم، وذكر أبو عمر بن عبد البر من «حديث البراء رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: صاحب الدين مأسور يوم القيامة بالدين» . وروى أبو نعيم الحافظ بإسناده عن زاذان أبي عمر قال: دخلت على

ابن مسعود فوجدت أصحاب الخز واليمنة قد سبقوني إلى المجلس، فقلت يا عبد الله من أجل أبي رجل أعجمي أدنيت هؤلاء وأقصيتني، قال: ادن فدنوت حتى ما كان بيني وبينه جليس فسمعته يقول: يؤخذ بيد العبد أو الأمة فينصب على رؤوس الأولين والآخرين، ثم ينادي مناد هذا فلان ابن فلان فمن كان له حق فليأت إلى حقه، فتفرح المرأة بأن يدون لها الحق على ابنها أو أختها أو أبيها أو على زوجها، ثم قرأ ابن مسعود {فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون} ، فيقول الرب تعالى للعبد: ائت هؤلاء حقهم، فيقول: يا رب فنيت الدنيا فمن أين أوتيهم؟ فيقول للملائكة: خذوا من أعماله الصالحة فأعطوا كل إنسان بقدر طلبته، فإن كان ولياً لله فضلت من حسناته مثقال حبة من خردل من خبر ضاعفها حتى يدخله بها الجنة ثم قرأ {إن الله لا يظلم مثقال ذرة وإن تك حسنة يضاعفها ويؤت من لدنه أجراً عظيماً} وإن كان عبداً شقياً قالت الملائكة رب فنيت حسناته وبقي طالبون فيقول للملائكة: خذوا من أعمالهم السيئة فأضيفوها إلى سيئاته وصكوا له صكاً إلى النار. وعنه، «عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إنه ليكون للوالدين على ولدهما دين، فإذا كان يوم القيامة يتعلقان به، فيقول أنا ولدكما فيودان أو يتمنيان لو كان أكثر من ذلك» .

وروى رزين عن أبي هريرة قال: كنا نسمع أن الرجل يتعلق بالرجل يوم القيامة هو لا يعرفه فيقول: مالك إلي وما بيني وبينك معرفة؟ فيقول: كنت تراني على الخطايا وعلى المنكر ولا تنهاني. وقال ابن مسعود: تفرح المرأة يوم القيامة أن يكون لها حق وعلى أبيها أو ابنها أو أخيها أو زوجها أو أختها {فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون} . ابن ماجه «عن جابر رضي الله عنه قال: لما رجعت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم مهاجرة البحر قال: ألا تحدثوني بأعاجيب ما رأيتم بأرض الحبشة؟ فقال فتية منهم: بلى يا رسول الله بينما نحن جلوس مرت بنا عجوز من عجائزها تحمل على رأسها قلة من ماء فمرت بفتى منهم، فجعل إحدى يديه بين كفيه ثم دفعها فخرت على ركبتيها فانكسرت قلتها، فلما ارتفعت التفتت إليه فقالت: سوف تعلم يا غدر إذا وضع الله الكرسي وجمع الأولين والآخرين وتكلمت الأيدي والأرجل بما كانوا يكسبون، فسوف تعلم كيف أمري وأمرك عنده غداً. قال يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم صدقت صدقت كيف يقدس الله أمة لا يؤخذ لضعيفهم من شديدهم» . فصل: أنكر بعض المتغفلة الذين اتبعوا أهواءهم بغير هدى من الله إعجاباً

برأيهم وتحكماً على كتاب الله تعالى وسنة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم بعقول ضعيفة وأفهام سخيفة، فقالوا: لا يجوز في حكم الله تعالى وعدله أن يضع سيئات من اكتسبها على من لم يكتسبها ويؤخذ حسنات من عملها فتعطى من لم يعملها، وهذا زعموا جوراً وأولوا قول الله تعالى {ولا تزر وازرة وزر أخرى} فكيف تصح هذه الأحاديث وهي تخالف ظاهر القرآن وتستحيل في العقل؟ . والجواب: أن الله سبحانه وتعالى لم يبن أمور الدين على عقول العباد، ولم يعد ولم يوعد على ما تحملته عقولهم ويدركونها بأفهامهم، بل وعدوا وعداً بمشيئته وإرادته وأمر ونهي بحكمته، ولو كان كلما لا تدركه العقول مردوداً لكان أكثر الشرائع مستحيلاً على موضوع عقول العباد، وذلك أن الله تعالى أوجب بخروج المني الذي هو طاهر عند بعض الصحابة وكثير من الأئمة، وأوجب غسل الأطراف من الغائط الذي لا خلاف بين الأئمة وسائر من يقول بالعقل وغيره في نجاسته وقذارته ونتنه، وأوجب بريح يخرج من موضع الحدث ما أوجب بخروج الغائط الكثير المتفاحش، فبأي عقل يستقيم هذا وبأي رأي تجب مسواة ريح ليس لها عين قائمة بما يقوم عينه وتزيد على الريح نتناً وقذراً، قد أوجب الله قطع يمين مؤمن بعشرة دراهم، وعند بعض الفقهاء بثلاثة دراهم ودون ذلك، ثم سوى بين هذا القدر من المال وبين مائة ألف دينار، فيكون القطع فيهما سواء، وأعطى الأم

من ولدها الثلث، ثم إن كان للمتوفى إخوة جعل لها السدس من غير أن ترث الإخوة من ذلك شيئاً. فبأي عقل يدرك هذا إلا تسليماً وانقياداً من صاحب الشرع إلى غير ذلك فكذلك القصاص بالحسنات والسيئات، وقد قال وقوله الحق: {ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس} الآية. وقال: {وليحملن أثقالهم وأثقالاً مع أثقالهم} وقال: {ليحملوا أوزارهم كاملة يوم القيامة ومن أوزار الذين يضلونهم بغير علم} وهذا يبين قوله تعالى {ولا تزر وازرة وزر أخرى} أي لا تحمل حاملة ثقل أخرى إذا لم تتعد، فإذا تعدت واستطالت بغير ما أمرت فإنها تحمل عليها ويؤخذ منها بغير اختيارها، كما تقدم في أسماء القيامة عند قوله تعالى {واتقوا يوماً لا تجزي نفس عن نفس شيئاً} . فصل: وإذا تقرر هذا، فيجب على كل مسلم البدار إلى محاسبة نفسه، كما قال عمرو رضي الله عنه: حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا وزنوها قبل أن توزنوا، وإنما حسابه لنفسه أن يتوب عن كل معصية قبل الموت توبة نصوحاً ويتدارك ما فرط من تقصير في فرائض الله عز وجل، ويرد المظالم إلى أهلها حبة حبة، ويستحل كل من تعرض له بلسانه ويده وسطوته بقلبه، ويطيب قلوبهم حتى يموت، ولم يبق عليه فريضة ولا مظلمة، فهذا يدخل الجنة بغير حساب،

فإن مات قبل رد المظالم أحاط به خصماؤه، فهذا يأخذ بيده، وهذا يقبض على ناصيته، وهذا يتعلق بلبته، وهذا يقول ظلمتني، وهذا يقول شتمتني، وهذا يقول استهزأت بي، وهذا يقول ذكرتني في الغيبة بما يسوءني وهذا يقول جاورتني فأسأت جواري، وهذا يقول عاملتني فغششتني، وهذا يقول بايعتني وأخفيت عني عيب متاعك، وهذا يقول كذبت في سعر متاعك، وهذا يقول رأيتني محتاجاً وكنت غنياً فما أطعمتني، وهذا يقول وجدتني مظلوماً وكنت قادراً على دفع الظلم فداهنت الظلم وما راعيتني، فبينما أنت كذلك وقد أنشب الخصماء فيك مخاليبهم واحكموا في تلابيبك أيديهم وأنت مبهوت متحير من كثرتهم حتى لم يبق في عمرك أحد عاملته على درهم أو جالسته في مجلس إلا وقد استحق عليك مظلمة بغيبة أو جناية أو نظر بعين استحقار، وقد ضعفت عن مقاومتهم ومددت عنق الرجاء إلى سيدك ومولاك لعله يخلصك من أيديهم إذ قرع سمعك نداء الجبار {اليوم تجزى كل نفس بما كسبت لا ظلم اليوم} فعند ذلك ينخلع قلبك من الهيبة، وتوقن نفسك بالبوار، وتتذكر ما أنذرك الله به على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم حيث قال: {ولا تحسبن الله غافلاً عما يعمل الظالمون} إلى قوله {لا يرتد إليهم طرفهم وأفئدتهم هواء} . فما أشد فرحك اليوم بتمضمضك بأعراض الناس وتناولك أموالهم، وما أشد حسرتك في ذلك اليوم إذا وقف بك على بساط العدل، وشوفهت بخطاب السيئات، وأنت مفلس فقير عاجز مهين لا تقدر على

أن ترد حقاً أو تظهر عذراً، فعند ذلك تؤخذ حسناتك التي تعبت فيها عمرك وتنقل إلى أخصامك عوضاً عن حقوقهم، كما ورد في الأحاديث المذكورة في هذا الباب. فانظر إلى مصيبتك في مثل هذا اليوم إذ ليس لك حسنة قد سلمت من آفات الرياء ومكائد الشيطان، فإن سلمت حسنة واحدة في مدة طويلة ابتدرها خصماؤك وأخذوها. ويقال: لو أن رجلاً له ثواب سبعين نبياً وله خصم بنصف دانق لم يدخل الجنة حتى يرضي خصمه، وقيل: يؤخذ بدانق قسط سبعمائة صلاة مقبولة فتعطى للخصم. ذكره القشيري في التحبير له عند اسمه المقسط الجامع. قال أبو حامد: ولعلك لو حاسبت نفسك وأنت مواظب على صيام النهار وقيام الليل، لعلمت أنه لا يمضي عليك يوم إلا ويجري على لسانك من غيبة المسلمين ما يستوفي جميع حسناتك، فكيف ببقية السيئات من أكل الحرام والشهوات والتقصير في الطاعات؟ وكيف ترجو الخلاص من المظالم في يوم يقتص فيه للجماء من القرناء؟ {ويقول الكافر: يا ليتني كنت ترابا} فكيف بك يا مسكين في يوم ترى فيه صحيفتك خالية من حسنات طال فيها تعبك؟ فتقول: أين حسناتي؟ فيقال: نقلت إلى صحيفة خصمائك، وترى صحيفتك مشحونة بسيئات غيرك. فتقول يا رب هذه سيئات ما قارفتها قط. فيقال: هذه سيئات الذين اغتبتهم وشتمتهم وقصدتهم بالسوء وظلمتهم في المعاملة والمبايعة والمجاورة والمخاطبة والمناظرة والمذاكرة

والمدارسة وسائر أصناف المعاملة، فاتق الله في مظالم العباد بأخذ أموالهم والتعرض لأعراضهم وأبشارهم وتضييق قلوبهم وإساءة الخلق في معاشرتهم، فإن ما بين العبد وبين الله خاصة المغفرة إليه أسرع، ومن اجتمعت عليه مظالم وقد تاب عنها وعسر عليه استحال أرباب المظالم من حيث لا يطلع عليه إلا الله فليكثر من الاستغفار لمن ظلمه، فعساه أن يقربه ذلك إلى الله فينال به لطفه الذي ادخره لأرباب المؤمنين في دفع مظالم العباد عنهم بإرضائه إياهم على ما يأتي بيانه في باب إرضاء الخصوم بعد هذا إن شاء الله تعالى. فصل: قوله في الحديث: فيناديهم بصوت استدل به مكن قال بالحرف والصوت. وأن الله يتكلم بذلك تعالى الله عما يقوله المجسمون والجاحدون علوا كبيراً، وإنما يحمل النداء المضاف إلى الله تعالى على نداء بعض الملائكة المقربين بإذن الله تعالى وأمره، ومثل ذلك سائغ في الكلام غير مستنكر أن يقول القائل نادى الأمير وبلغني نداء الأمير كما قال تعالى: {ونادى فرعون في قومه} وإنما المراد نادى المنادي عن أمره وأصدر نداءه

عن إذنه، وهو كقولهم أيضاً: قتل الأمير فلاناً، وضرب فلاناً، وليس المراد توليه لهذه الأفعال وتصديه لهذه الأعمال، ولكن المقصود صدورها عن أمره، وقد ورد في صحيح الأحاديث أن الملائكة ينادون على رؤوس الأشهاد فيخاطبون أهل التقى والرشاد: ألا إن فلان ابن فلان كما تقدم. ومثله ما جاء في حديث التنزيل مفسراً فيما أخرجه النسائي «عن أبي هريرة رضي الله عنه وأبي سعيد قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الله عز وجل يمهل حتى يمضي شطر الليل الأول ثم يأمر منادياً يقول: هل من داع يستجاب له؟ هل من مستغفر يغفر له؟ هل من سائل يعطى؟» صححه أبو محمد عبد الحق، وكل حديث اشتمل على ذكر الصوت أو النداء، فهذا التأويل فيه وأن ذلك من باب حذف المضاف. والدليل على ذلك ما ثبت من قدم كلام الله تعالى على ما هو مذكور في كتاب الديانات.

فإن قال بعض الأغبياء: لا وجه لحمل الحديث على ما ذكرتموه فإن فيه [أنا الديان] وليس يصدر هذا الكلام حقاً وصدقاً إلا من رب العالمين. قيل له: إن الملك إذا كان يقول عن الله تعالى وينبئ عنه فالحكم يرجع إلى الله رب العالمين. والدليل عليه أن الواحد منا إذا تلا قول الله تعالى {إني أنا الله} فليس يرجع إلى القارئ وإنما القارئ ذاكر لكلام الله تعالى ودال عليه بأصواته، وهذا بين، وقد أتينا

عليه في الصفات من كتاب الأسنى في شرح أسماء الله الحسنى وصفاته العليا. فصل: واختلف االناس في حشر البهائم وفي قصاص بعضها من بعض، فروي عن ابن عباس أن حشر الدواب والطير موتها، وقال الضحاك:

وروي عن ابن عباس في رواية أخرى: أن البهائم تحشر وتبعث قال أبو ذر، وأبو هريرة، وعمرو بن العاص، والحسن البصري وغيرهم وهو الصحيح لقوله تعالى: {وإذا الوحوش حشرت} وقوله {ثم إلى ربهم يحشرون} ، قال أبو هريرة: يحشر الله الخلق كلهم يوم القيامة البهائم والطير والدواب وكل شيء فيبلغ من عدل الله أن يأخذ للجماء من القرناء، ثم يقول: كوني تراباً فذلك قوله تعالى حكاية عن الكفار {ويقول الكافر يا ليتني كنت ترابا} ونحوه عن ابن عمر وعبد الله بن عمرو بن العاص، وفي الخبر: إن البهائم إذا صارت تراباً يوم القيامة حول ذلك التراب في وجوه الكفار، فذلك قوله تعالى {وجوه يومئذ عليها غبرة} أي غبار وقالت طائفة: الحشر في قوله تعالى {ثم إلى ربهم يحشرون} راجع الكفار. وما تخلل من قوله تعالى {وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم ما فرطنا في الكتاب من شيء} كلام معترض وإقامة حجج، وأما الحديث فالمقصود منه التمثيل على جهة تعظيم أمر الحساب والقصاص فيه حتى يفهم منه أنه لا بد لكل أحد منه وأنه لا

محيص لمخلوق عنه، وعضدوا ذلك بما روي في غير الصحيح عن بعض رواياته من الزيادة، فقال: حتى يقاد للشاة الجماء من الشاة القرناء، وللحجر لما ركب الحجر، والعود لما خدش العود. قالوا فظهر من هذا أن المقصود التمثيل المفيد للاعتبار والتهويل، لأن الجمادات لا تعقل خطابها ولا عقابها وثوابها ولم يصر إليه أحد من العقلاء ومتخيلة من جملة المعتوهين الأغبياء. أجاب بعض من قال إنها تحشر وتبعث بأن قال إن من الحكمة الإلهية أن لا يجري أمر من أمور الدنيا والآخرة إلا على سنة مسنونة وحكمة موزونة. ومن قال هنا بما قالته طائفة من المتوسمة بالعلم المتسمة بالفقه والفهم على الزعم أن الجامد لا يفقه والحيوان غير الإنسان لا يعقل، وإنما هو منزل في الحيوان ولسان حال في الجامد والنامي، وقال إن الله تعالى

يقول في الضالين المكذبين {إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلاً} ولو كان عندها عقل أو فهم ما نزل بالكافر الفاسق إلى درجتها في موضع التنقيص والتقصير، والله سبحانه قد وصفه بالموت والصمم في موضع التبصير والتذكير، فقال: {ولا تسمع الصم الدعاء إذا ولوا مدبرين} وقال {أفأنت تسمع الصم أو تهدي العمي} {صم بكم عمي فهم لا يرجعون} . قيل له: ليس الأمر كما ذكرت ولا الحق على شيء مما زعمت، وأنه ليس عليك من حيث الزعم ورؤية النفس في درجة العلم أبداً من الآية التي وقفت فيها إلى التي قبلها إن شئت، فارجع بصرك في الذي رأيت تجده قد وصفهم عز وجل بالموت والصمم، كما وصفهم بالعمى والبكم وليسوا في الحقيقة الظاهرة بموتى ولا صم ولا بعميان ولا بكم، وإنما هم أموات بالعقول والأذهان عن صفة الإيمان وحياة دار الحيوان. صم عن كلمة الأحياء، عمى عن النظر في مرآة وجوه الأخلاء، كذلك وصف الأنعام بضلال وليست في الحقيقة بضلال من حيث شرعتها وحكمتها، إنما ذلك من حيث قد كنا وافقنا فكيف يكون ذلك والله تعالى يقول {وما من دابة في الأرض} إلى قوله {يحشرون} فوربك لنحشرهم جماً غفيراً ولنحاسبن حساباً يسيراً، ولو كان من عند غير الله ولوجدوا فيه اختلافاً كثيراً وأنه تعالى لا يسأل إلا عاقلاً ولا يحاسب إلا مفضولاً وضلاً. وإنما جعل لكل موجود من موجوداته في

أشتات الخلائق وأجناس العوالم دار دنيا ودار أخرى، وجعل لها أفلاكاً وآفاقاً وظلماً وأضواء، فكل في فلكه، وأفقه بليله ونهاره وسمعه وبصره وعلمه وفهمه، وحاكم من عقله أو جهله، وقائم بنحلته وحكمته وسنته وشرعته، فأدنى وأعلى من الروحانية الأقصى إلى الجمادية الأقسى، فالملائكة الروحانية في مصافها ترانا من حيث لا نرى وتعلم منا أكثر مما نعلم، وإنها لتشاهد من نقصنا وقلة عقلنا في الموضع الذي يجب العلم به وإعمال العقل فيه ما تحكم به علينا أكثر مما نحكم به على الأنعام من قلة العقل وتحقيق المعرفة، فمن نظر إلى الأنعام وجدها من حيث نحن لا من حيث فلكها وأفقها لا تسمع ولا تعقل إلا ميزاً ما قدر ما تتسخر به وتتذلل طبعاً، فتلقن المراد منها من هذا الفن خاصة لا غير وأما ما نحن بسبيله من تصرفات وتعملات فليس لها ذلك من حيث الفلكية التي أحازتها عنا والأفقية التي اقتطعتها منا، فهي في طرقاتنا ضلال وبتعملاتنا وأحوال تصرفاتنا جهال، وأما من حيث شرعتها وباطن رؤيتها فعارفة عقال. «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أخذ الجمل القضم الذي ند وامتنع بحائط بني النجار وغلب الخلق عن أخذه والوصول إليه حتى جاء صلى الله عليه وسلم، فلما مشي إليه ورآه الجمل برك لديه وجعل يمر بمشفره على الأرض بين يديه تذللاً وتسخيراً فقال صلى الله عليه وسلم هات الخطام فلما خطمه ورأى

الناس يعجبون منه رد رأسه إليهم فقال ألا تعجبون أو كما قال إنه ليس شيء بين السماء والأرض إلا يعلم أني رسول الله غير عاصي الجن والإنس» وثبت في الصحاح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال «ما دابة إلا وهي مصيخة بأذنها يوم الجمعة تنتظر قيام الساعة» وقال صلى الله عليه وسلم «لا يسمع مدى صوت المؤذن جن ولا إنس ولا شجر ولا مدر ولا شيء إلا شهد له يوم القيامة» . قال المؤلف رحمه الله: خرجه مالك في موطئه وابن ماجه في سننه واللفظ له من حديث أبي سعيد الخدري، وقد تقدم أن الميت يسمع صوته كل شيء إلا الإنسان وفي رواية إلا الثقلين. والأخبار في هذا المعنى كثيرة قد أتينا على جملة منها في هذا الكتاب، فكل حيوان وجماد محشور لما عنده من الإدراك والمشاهدة والحضور من حيث هي لا من حيث نحن. قال الله تعالى {وإن من شيء إلا يسبح بحمده} وقال {ولله يسجد من في السموات والأرض طوعاً وكرها وظلالهم بالغدو والآصال} وقال عز من قائل: {ألم تر أن الله يسجد له من في السماوات ومن في الأرض والشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدواب}

لا يقال إن هذا السجود والتسبيح لسان حال ليس بلسان المقال، فإنا نقول هذا مجاز والله سبحانه يقص الحق كما أخبر في كتابه إن الحكم إلا الله يقص الحق. ومن نظر بنور الله جاز العين إلى المعنى وحل الرمز وفك المعمى وهم إنما نظروا من حيث هم ومن حيث العقل البشري ولم ينظروا الحياة الفلكية من حيث هي فغابوا عن الحضور وجمدوا على القصور ومن لم يجعل الله له نوراً فما له من نور. قلت: هذا كله صحيح لحديث أبي سعيد الخدري المذكور وهو صحيح، وكذلك حديث أبي هريرة في شهادة الأرض بما عمل عليها. وهو صحيح وكذلك حديث أبي سعيد الخدري في شهادة المال صحيح وسيأتي. وقد روى ليث ابن أبي سليم «عن عبد الرحمن بن مروان، عن الهزيل، عن أبي ذر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه مر بشاتين تنتطحان فقال: إن الله تعالى ليقضين يوم القيامة لههذ الجلحاء من هذه القرناء» .

وذكر ابن وهب، أخبرني ابن لهيعة وعمرو بن الحارث عن بكر بن سوادة أن أبا سالم الجيشاني حدثه أن ثابت بن طريف استأذن على أبي ذر فسمعه رافعاً صوته يقول: أما والله لولا يوم الخصومة لسؤتك. قال ثابت: فدخلت فقلت ما شأنك يا أبا ذر؟ قال: هذه قلت وما عليك إن رأيتك تضربها قال [والذين نفسي بيده أو نفس محمد بيده لتسئلن الشاة فيما نطحت صاحبتها وليسئلن الجماد فيما نكب أصبع الرجل] . وروي عن شعبة، «عن الأعمش، عن إبراهيم التيمي، عن أبيه عن أبي ذر قال رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم شاتين تنتطحان، فقال: يا أبا ذر أتدري فيم تنتطحان؟ قلت: لا يا رسول الله قال: لكن الله يدري ويقضي بينهما يوم القيامة» أخرجه أبو داود الطيالسي فقال، حدثنا شعبة قال: أخبرني الأعمش، قال سمعت منذر الثوري يحدث عن أصحاب له عن أبي ذر بلفظه ومعناه، وقال عمرو بن العاص رضي الله عنه: إذا كان يوم القيامة مدت الأرض مد الأديم وحشر الجن والإنس والدواب والوحوش، فإذا كان ذلك اليوم جعل الله القصاص بين الدواب حتى يقتص للشاة الجماء من القرناء تنتطحها، فإذا فرغ الله من القصاص بين الدواب قال لها كوني تراباً فيراها الكافر فيقول يا ليتني كنت تراباً] . وذكر عبد الكريم الإمام أبو القاسم القشيري في التحبير له

فقال: وفي خبر الوحوش والبهائم تحشر يوم القيامة فتسجد لله سجدة فتقول الملائكة ليس هذا يوم سجود هذا يوم الثواب والعقاب وتقول البهائم هذا سجود شكر حيث لم يجعلنا الله من بني آدم ويقال أن الملائكة تقول للبهائم: لم يحشركم الله جل ثناؤه لثواب ولا لعقاب وإنما يحشركم تشهدون فضائح بني آدم. ذكره القشيري في اسمه المقسط الجامع، وهذا قول ثابت فتأمله. فصل: ظن بعض العلماء أن الصيام مختص بعامله موفراً له أجره ولا يؤخذ منه شيء لمظلمة ظلمها متمسكاً بقوله تعالى «الصيام لي وأنا أجزي به» وأحاديث هذا الباب ترد قوله، وأن الحقوق تؤخذ من سائر الأعمال صياماً كان أو غيره وقيل: إن النوم إذا لم يكن معلوماً لأحد ولا مكتوباً في الصحف هو الذي يستره الله ويخبؤه عليه، حتى يكون له جنة من العذاب، فيطرحون أولئك عليه سيئاتهم فيذهب عنهم ويقيه الصوم فلا يضر أصحابها لزوالها عنهم ولا له لأن الصوم جنته. قال القاضي أبو بكر بن العربي في سراج المريدين: وهو تأويل حسن إن شاء تعالى ولا تعارض والحمد لله.

باب في إرضاء الله تعالى الخصوم يوم القيامة

باب أبو داود «عن صفوان بن سليم عن عدة من أبناء أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم عن آبائهم دنية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ألا من ظلم معاهداً أو انتقصه في حقه أو كلفه فوق طاقته أو أخذ منه شيئاً بغير طيب نفس فأنا حجيجه يوم القيامة» صححه أبو محمد عبد الحق. باب في إرضاء الله تعالى الخصوم يوم القيامة روينا في الأربعين وذكره ابن أبي الدنيا في كتاب حسن الظن بالله تعالى «عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم جالس إذ رأيته ضحك حتى بدت ثناياه، فقيل له: مم تضحك يا رسول الله؟ قال: رجلان من أمتي جثيا بين يدي ربي عز وجل فقال أحدهما يا رب خذ لي مظلمتي من أخي، فقال الله تعالى: أعط أخاك مظلمته فقال يا رب ما بقي من حسناتي شيء، فقال يا رب فليحمل من أوزاري وفاضت عينا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قال إن ذلك اليوم ليوم يحتاج الناس فيه إلى أن تحمل عنهم أوزارهم، ثم قال الله تعالى للطالب حقه ارفع بصرك فانظر إلى الجنان فرفع بصره ما أعجبه من الخير والنعمة فقال: لمن هذا يا رب؟ فقال: لمن أعطاني ثمنه. قال ومن يملك ثمن ذلك؟ قال أنت. قال: بم إذاً؟ قال بعفوك عن أخيك. قال يا رب فإني قد عفوت عنه. قال خذ بيد أخيك

فأدخله الجنة. ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم فإن الله يصلح بين المؤمنين يوم القيامة» . وعن عبد الرحمن بن أبي بكرة قال: يجيء المؤمن يوم القيامة قد أخذه صاحب الدين فيقول ديني على هذا فيقول الله تعالى أنا أحق من قضى عن عبدي قال: فيرضى هذا من دينه ويغفر لهذا. وقال ابن أبي الدنيا، وحدثني عبد الله بن محمد بن إسماعيل قال، بلغني أن الله تعالى أوحى إلى بعض أنبيائه بيعني ما يتحمل المتحملون من أجلي، وما يكابدون في طلب مرضاتي أتراني أنسى لهم عملاً كيف وأنا أرحم الراحمين بخلقي. لو كنت معاجلاً بالعقوبة أحداً أو كانت العقوبة من شأني لعاجلت بها القانطين من رحمتي ولو يرى عبادي المؤمنون كيف استوهبهم ممن ظلموه ثم أحكم لمن وهبهم بالخلد المقيم في جواري إذاً ما اتهموم فضلي وكرمي.

باب أول من يحاسب أمة محمد صلى الله عليه وسلم

فصل: قلت: وهذا لبعض الناس ممن أراد الله بها أن لا يعذبه بل يعفو عنه ويغفر له ويرضى عنه خصمه وقد يكون هذا في الظالمين الأوابين وهو قوله تعالى {إنه كان للأوابين غفوراً} والأواب: الذي أقلع عن الذنب فلم يعد إليه. كذا تأوله أبو حامد، وهو تأويل حسن أو يكون ذلك فيمن يكون له خبيثة حسنة من عمل صالح يغفر الله له به ويرضى خصماؤه كما تقدم، وظاهر حديث أنس الخصوص بذينك الرجلين لقوله رجلان، ولفظ التثنية لا يقتضي الجمع إلا ما روي في الحديث: «مثل المنافق كالشاة العابرة بين الغنمين» خرجه مسلم وليس هذا موضعه، ولو كان ذلك في جميع الناس ما دخل أحد النار، وكذلك ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم «ينادي مناد من تحت العرش يوم القيامة يا أمة محمد أما ما كان لي قبلكم فقد وهبته لكم وبقيت التبعات فتواهبوها وادخلوا الجنة برحتمي» ما دخل أحد النار وهذا واضح فتأمله. باب أول من يحاسب أمة محمد صلى الله عليه وسلم روى ابن ماجه «عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: نحن آخر الأمم وأول من يحاسب يقال: أين الأمة الأمية ونبيها؟ فنحن الآخرون الأولون» . وفي رواية عن ابن عباس رضي الله عنهما: «فتفرج لنا الأمم عن طريقنا فنمضي غرا محلجين من

باب أول ما يحاسب عليه العبد من عمله: الصلاة وأول ما يقضى فيه بين الناس: الدماء، وفي أول من يدعى للخصومة

آثار الوضوء فتقول الأمم: كادت هذه الأمة أن تكون أنبياء كلها» . خرجه أبو داود الطيالسي في مسنده بمعناه وقد تقدم. باب أول ما يحاسب عليه العبد من عمله: الصلاة وأول ما يقضى فيه بين الناس: الدماء، وفي أول من يدعى للخصومة مسلم «عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أول ما يقضى بين الناس يوم القيامة في الدماء» أخرجه البخاري أيضاً والنسائي والترمذي وقال: هذا حديث حسن صحيح. وللنسائي أيضاً عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أول ما يحاسب عليه العبد الصلاة وأول ما يقضي بين الناس الدماء» . وفي البخاري «عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: أنا أول من يجثو يوم القيامة بين يدي الرحمن للخصومة» يريد قصته في مبارزته هو وصاحباه الثلاثة من كفار قريش قال أبو ذر وفيهم نزلت {هذان خصمان اختصموا

في ربهم} الآية. والخبر بهذا مشهور صحيح خرجه البخاري ومسلم وغيرهما. و «عن محمد بن كعب القرظي، عن رجل من الأنصار، عن أبي هريرة قال، حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في طائفة من أصحابه فيكون أول ما يقضى بينهم في الدماء ويأتي كل قتيل قتل في سبيل الله فيأمر الله كل من قتل فيحمل رأسه وتشخب أوداجه دماً فيقول: يا رب سل هذا فيم قتلني؟ فيقول الله تعالى له ـ وهو أعلم ـ: فيم قتلته؟ فيقول: رب قتلته لتكون العزة لي: فيقول الله تعالى: تعست ثم لا تبقى قتلة إلا قتل بها ولا مظلمة ظلمها إلا أخذ بها وكان في مشيئة الله تعالى إن شاء عذبه وإن شاء رحمه» . خرجه الغيلاني أبو طالب محمد بن محمد بن إبراهيم بن غيلان عن أبي بكر محمد بن عبد الله بن إبراهيم بن عبد الله البزار المعروف بالشافعي.

«حدثنا أبو قلابة عبد الملك بن محمد الرقاشي، حدثنا أبو عاصم الضحاك، عن مخلد، حدثنا إسماعيل بن رافع عن محمد بن زياد، عن محمد بن كعب وخرجه إسماعيل بن إسحاق القاضي من حديث نافع بن جبير بن مطعم عن عبد الله بن عباس قال: سمعت نبيكم صلى الله عليه وسلم يقول: يأتي المقتول معلقاً رأسه بإحدى يديه متلبباً قاتله بيده الأخرى تشخب أوداجه دماً حتى يوقفا فيقول المقتول لله سبحانه: هذا قتلني فيقول الله تعالى للقاتل: تعست ويذهب به إلى النار» . وخرجه ابن المبارك موقوفاً على عبد الله بن مسعود قال: حدثنا حماد بن سلمة، عن عاصم عن أبي وائل، عن عبد الله فذكر معناه. وخرجه الترمذي في جامعه قال، «حدثنا الحسن بن محمد الزعفراني قال: حدثنا شبابة قال، حدثنا ورقاء بن عمر عن عمرو بن دينار عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: يجيء المقتول بالقاتل يوم القيامة ناصيته ورأسه بيده وأوداجه تشخب دماً يقول: يا رب قتلني هذا حتى يدينه من العرش» قال: هذا حديث حسن غريب. مالك عن يحيى بن سعيد قال: بلغني أن أول ما ينظر فيه من عمل المرء الصلاة، فإن قبلت منه نظر فيما بقي من عمله، وإن لم تقبل منه لم ينظر في شيء من عمله.

قلت: وهذا الحديث وإن كان موقوفاً بلاغاً، فقد رواه أبو داود الترمذي والنسائي مرفوعاً بهذا المعنى، «عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: أول ما يحاسب به الناس يوم القيامة من أعمالهم الصلاة. قال يقول ربنا عز وجل لملائكته: انظروا في صلاة عبدي أتمها أم أنقصها فإن كانت تامة كتبت له تامة، وإن كان انتقص منها شيئاً قال: انظروا هل لعبدي من تطوع فإن كان له تطوع قال أتموا لعبدي فريضته من تطوعه، ثم تؤخذ الأعمال على ذلك لفظ أبي داود وقال الترمذي حديث حسن غريب وخرجه ابن ماجه أيضاً. فصل: قال أبو عمر بن عبد البر رحمه الله: أما إكمال الفريضة من التطوع فإنما يكون ذلك والله أعلم فيمن سها عن فريضة فلم يأت بها أو لم يحسن ركوعها وسجودها ولم يدر قدر ذلك، وأما من تعمد تركها أو شيئاً منها ثم ذكرها فلم يأت بها عامداً واشتغل بالتطوع عن أداء فرضه وهو ذاكر له فلا تكمل له فريضته تلك من تطوعه والله أعلم. وقد روي من حديث الشاميين في هذا الباب حديث منكر يرويه محمد بن حمير» عن عمرو بن قيس السكري، عن عبد الله بن قرط، عن النبي صلى الله عليه وسلم

قال: من صلى صلاة لم يكمل فيها ركوعه وسجوده وخشوعه زيد فيها من تسبيحاته حتى تتم «قال أبو عمرو: هذا لا يحفظ عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا من هذا الوجه وليس بالقوي، وإن كان صح كان معناه أخرج من صلاة قد أتمها عند نفسه وليس في الحكم بتامة. قلت: ينبغي للإنسان أن يحافظ على أداء فرضه فيصليه كما أمر من إتمام ركوع وسجود، وحضور قلب. فإن غفل عن شيء من ذلك فيجتهد بعد ذلك في نفله ولا يتساهل فيه ولا في تركه، ومن لا يحسن أن يصلي الفرض فأحرى أن لا يحسن النفل لا جرم بل تنفل الناس في أشد ما يكون من النقصان والخلل في التمام لخفة النفل عندهم وتهاونهم به، ولعمر الله لقد يشاهد في الوجود من يشار إليه ويظن به العلم بنفله كذلك بل فرضه إذ ينقره نقر الديك، فكيف بالجهال الذيم لا يعلمون. وإذا كان هذا فكيف يكمل بهذا النفل ما نقص من الفرض هيهات هيهات! فاعلموه أن الصلاة إذا كانت بهذه الصفة دخل صاحبها في معنى قوله تعالى: {فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات فسوف يلقون غياً} ! وقال جماعة من العلماء: التضييع للصلاة هو أن لا يقيم حدودها من مراعاة وقت وطهارة وتمام ركوع وسجود ونحو ذلك وهو مع ذلك يصليها، ولا يمتنع من القيام بها في وقتها وغير وقتها قالوا: فأما من تركها أصلاً ولم يصلها فهو كافر.

وروى الترمذي» عن أبي مسعود الأنصاري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تجزئ صلاة لا يقيم الرجل فيها صلبه في الركوع والسجود «، وقال: حديث حسن صحيح والعمل على هذا عند أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ومن بعدهم يرون أن يقيم الرجل صلبه في الركوع والسجود. قال الشافعي وأحمد وإسحاق: من لم يقم صلبه في الركوع والسجود فصلاته فاسدة لحديث النبي صلى الله عليه وسلم» لا تجزئ صلاة لا يقيم الرجل فيها صلبه في الركوع والسجود «. وروى البخاري عن زيد بن وهب عن حذيفة، ورأى رجلاً لا يتم ركوعه ولا سجوده، فلما قضى صلاته قال له حذيفة: ما صليت ولو مت مت على غير سنة محمد صلى الله عليه وسلم. وأخرجه النسائي أيضاً عنه عن حذيفة أنه رأى رجلاً يصلي فخفف فقال له حذيفة: منذ كم تصلي هذه الصلاة؟ قال منذ أربعين عاماً قال: ما صليت ولو مت وأنت تصلي هذه الصلاة لمت على غير فطرة النبي، ثم قال: إن الرجل ليخفف الصلاة ويتم ويحسن. والأخبار في هذا المعنى كثيرة جداً قد أتينا عليها في غير هذا الباب وهي تبين لك المراد من قوله تعالى: {أضاعوا الصلاة} .

وروى النسائي» عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: أول ما يحاسب عليه العبد يوم القيامة صلاته، فإن وجدت تامة كتبت تامة، وإن كان انتقص منها شيئاً قال: انظروا هل تجدون له من تطوع يكمل له ما ضيع من فريضته من تطوعه، ثم سائر الأعمال تجري على ذلك «. وهذا نص. وقال أبو عمر رضي الله عنه: ومن ضيعها فهو لما سواها أضيع. قلت: ولا اعتبار بقول من قال إن الواجب من أركان الصلاة ومن الفصل بين أركانها أقل ما ينطلق عليه الاسم وهو أبو حنيفة، وأشار إلى ذلك القاضي عبد الوهاب في تلقينه، وهو يروي» عن ابن القاسم لأن من اقتصر على ذلك صدق عليه أنه نقر الصلاة، فدخل في الذم المترتب على ذلك بقوله عليه السلام تلك صلاة المنافقين يجلس يرقب الشمس حتى إذا كانت بين قرني الشيطان قام فنقر أربعاً لا يذكر الله فيها إلا قليلاً «. رواه مالك في موطئه ومسلم في صحيحه والأحاديث الثابتة تقضي بفساد صلاته كما بيناه مع قوله عليه السلام:» أما الركوع فعظموا فيه الرب، وأما السجود فاجتهدوا في

الدعاء فقمن أن يستجاب لكم «خرجه مسلم. وفي موطأ مالك،» عن يحيى بن سعيد، عن النعمان بن مرة الأنصاري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ما ترون في الشارب والسارق والزاني قال: وذلك قبل أن ينزل فيهم قالوا الله ورسوله أعلم. قال: هن فواحش وفيهن عقوبة وأسوأ السرقة الذي يسرق صلاته قالوا: يا رسول الله وكيف يسرق صلاته؟ قال: لا يتم ركوعها ولا سجودها «. وروى أبو داود الطيالسي في مسنده قال:» حدثنا محمد بن مسلم بن أبي الوضاح، عن الأحوص بن حكيم، عن خالد بن معدان، عن عبادة بن الصامت قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا أحسن الرجل الصلاة فأتم ركوعها وسجودها، قالت: الصلاة حفظك الله كما حفظني فترفع، وإذا أساء الصلاة فلم يتم ركوعها ولا سجودها قالت الصلاة: ضيعك الله كما ضيعتني، فتلف كما يلف الثوب الخلق فيضرب بها وجهه فمن لم يحافظ على أوقات الصلاة لم يحافظ على الصلاة، كما أن من لم يحافظ على وضوئها وركوعها وسجودها فليس بمحافظ عليها، ومن لم يحافظ عليها فقد ضيعها ومن ضيعها فهو لما سواها أضيع كما أن من حافظ عليها حفظ دينه، ولا دين لمن لا صلاة له.

باب منه ابن ماجه، «عن أبي سعيد الخدري قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن الله ليسأل العبد يوم القيامة حتى يقول له ما منعك إذا رأيت المنكر أن تنكره فإذا لقن الله عبداً حجته قال: يا رب رجوتك وفرقت من الناس» . ورواه الفريابي قال: «حدثنا سفيان بن زيد، عن عمرو بن مرة، عن أبي البختري، عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا يحقرن أحدكم نفسه إذا رأى أمر الله عليه فيه مقال فلا يقول فيه فيقول يوم القيامة ما منعك إذا رأيت كذا وكذا أن تقول فيه، فيقول له أي ربي خفت الناس، فيقال: إياي كنت أحق أن تخاف» ، قال الوائلي أبو نصر، ورواه أحمد بن عبد الله بن يونس أبو عبد الله اليربوعي الكوفي، قال: حدثنا زهير قال: حدثنا عمر بن قيس عن عمرو بن مرة المعنى واحد، وهذا محفوظ من الطريقين عن عمرو بن مرة ومخرجه من الكوفة. باب منه ذكر أبو نعيم الحافظ: «حدثنا عبد الله محمد بن جعفر من أصل كتابه، حدثنا عبد الله بن محمد بن زكريا، حدثنا إسماعيل بن عمرو، حدثنا مندل عن أسد بن عطاء، عن عكرمة عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا

باب ما جاء في شهادة أركان الكافر والمنافق عليهما ولقائهما الله عز وجل

يقفن أحدكم على رجل يضرب ظلماً، فإن اللعنة تنزل من السماء على من حضره إذا لم تدفعوا عنه، ولا يقفن أحدكم على رجل يقتل ظلماً، فإن اللعنة تنزل من السماء على من حضره إذا لم تدفعوا عنه» . هذا حديث غريب من حديث أسد وعكرمة لم يروه عنه فيما أعلم إلا مندل بن علي الغنوي. باب ما جاء في شهادة أركان الكافر والمنافق عليهما ولقائهما الله عز وجل قال الله تعالى: {اليوم نختم على أفواههم وتكلمنا أيديهم وتشهد أرجلهم بما كانوا يكسبون} وقال: {يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون} وقال: {وقالوا لجلودهم لم شهدتم علينا} الآية. وذكر أبو بكر بن أبي شيبة من «حديث معاوية بن حيدة القرشي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: تجيئون يوم القيامة على أفواهكم الفدام وأول ما يتكلم من الإنسان فخذه وكفه» وقد تقدم. مسلم «عن أنس بن مالك قال: كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم نضحك فقال: هل تدرون لم أضحك؟ قلنا: الله ورسوله أعلم. قال: من مخاطبة

العبد ربه، يقول يا رب ألم تجرني من الظلم؟ قال: يقول: بلا، قال: فإني لا أجيز على نفسي إلا شاهداً مني قال: كفى بنفسك اليوم عليك حسيباً وبالكرام الكاتبين شهوداً، قال فيختم على فيه فيقال لأركانه انطق فتنطق بأعماله، قال: ثم يخلى بينه وبين الكلام قال: فيقول بعداً لكن وسحقاً فعنكن كنت أناضل» . الترمذي «عن أبي سعيد وأبي هريرة قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يؤتى بالعبد يوم القيامة فيقول: ألم أجعل لك سمعاً وبصراً ومالاً وولداً، وسخرت لك الأنعام، والحرث وترأس وتربع فكنت تظن أنك ملاقي يومك هذا؟ فيقول: لا. فيقول: اليوم أنساك كما أنسيتني» . قال هذا حديث صحيح غريب، وأخرجه مسلم عن أبي هريرة بأطول من هذا وقد تقدم. البخاري «عن أنس بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: يجاء بالكافر يوم القيامة فيقال له أرأيت لو كان لك ملك الأرض ذهباً كنت تفتدى به؟ فيقول: نعم. فيقال له: قد كنت سئلت ما هو أيسر من ذلك» . وأخرجه مسلم وقال بدل «قد كنت» «كذبت قد سئلت ما هو أيسر من

ذلك» . فصل: قوله عليه السلام «فأول مايتكلم من الإنسان فخذه» يحتمل وجهين: أحدهما: أن يكون ذلك زيادة في الفضيحة والخزي على ما نطق به الكتب في قوله: {هذا كتابنا ينطق عليكم بالحق} لأنه كان في الدنيا يجاهر بالفواحش ويخلو قلبه عندها من ذكر الله تعالى فلا يفعل ما بفعل خائفاً مشفقاً فيجزيه الله بمجاهرته بفحشه على رؤوس الأشهاد. والوجه الآخر: أن يكون هذا فيمن يقرأ كتابه ولا يعرف بما ينطق به بل يجحد فيختم الله على فيه عند ذلك، وتنطق منه الجوارح التي لم تكن ناطقة في الدنيا فتشهد عليه سيئاته، وهذا أظهر الوجهين يدل عليه أنهم يقولون لجلودهم أي لفروجهم في قول زيد بن أسلم. لم شهدتم علينا؟ فتمردوا في الجحود فاستحقوا من الله الفضح والإخزاء. نعوذ بالله منهما. فصل: قوله [وتركتك ترأس وتربع] أي ترأس على قومك بأن يكون رئيساً عليهم ويأخذ الربع مما يحصل لهم من الغنائم والكسب، وكانت عادتهم أن أمراءهم كانوا يأخذون من الغنائم الربع ويسمونه المرباع قال شاعرهم: لك المرباع منها والصفايا ... وحكمك والنشيطة والفضول وقال آخر: منا الذي ربع الجيوش لصلبه ... عشرون وهو يعد في الأحياء يقال: ربع الجيش يربعه إذا أخذ ربع الغنيمة.

قال الأصمعي: ربع في الجاهلية وخمس في الإسلام. وقوله: اليوم أنساك كما نسيتني أي اليوم أتركك في العذاب كما تركت عبادتي ومعرفتي. فإن قيل: فهل يلقى الكافر ربه ويسأله؟ قلنا: نعم بدليل ما ذكرنا. وقد قال تعالى: {فلنسألن الذين أرسل إليهم} في أحد التأويلين وقال: {ولو ترى إذ وقفوا على ربهم} وقال: {أولئك يعرضون على ربهم} وقال {وعرضوا على ربك صفاً} الآيتين. وقال: {إن إلينا إيابهم * ثم إن علينا حسابهم} وقال: {وقال الذين كفروا للذين آمنوا اتبعوا سبيلنا ولنحمل خطاياكم} إلى قوله {وليسألن يوم القيامة عما كانوا يفترون} والآي في هذا المعنى كثير. فإن قيل: قد قال الله تعالى {يعرف المجرمون بسيماهم فيؤخذ بالنواصي والأقدام} وقال عليه السلام: «ويخرج عنق من النار فيقول: وكلت بثلاث بكل جبار عنيد وكل من جعل مع الله إلهاً آخر وبالمصورين» . قلنا: هذا يحتمل أن يكون يكون بعد الوزن والحساب وتطاير الكتب في اليمين والشمال وتعظيم الخلق كما تقدم

ويدل عليه قوله: وبالمصورين فإنهم كانوا موحدين فلا بد لهم من سؤال وحساب وبعده يكونون أشد الناس عذاباً، وإن كانوا كافرين مشركين فيكون ذكرهم تكراراً في الكلام على أنا نقول: قال بعض العلماء: ذكر الله تعالى الحساب جملة وجاءت الأخبار بذلك، وفي بعضها ما يدل على أن كثيراً من المؤمنين يدخلون الجنة بغير حساب، فصار الناس إذاً ثلاث فرق: فرقة لايحاسبون أصلاً، وفرقة تحاسب حساباً يسيراً، وهما من المؤمنين، وفرقة تحاسب حساباً شديداً يكون منها مسلم وكافر، وإذا كان من المؤمنين من يكون أدنى إلى رحمة الله فلا يبعد أن يكون من الكفار من هو أدنى إلى غضب الله فيدخله النار بغير حساب. وقد ذكر ابن المبارك في دقائقه عن شهر بن حوشب عن ابن عباس أن بعد أخذ النار هؤلاء تنشر الصحف وتوضع الموازين، وتدعى الخلائق للحساب. فإن قيل: فقد قال تعالى: {كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون} وقال: {ولا يسأل عن ذنوبهم المجرمون} وقال: {ولا يكلمهم الله} وهذا يتناول بعمومه جميع الكفار. قلنا: القيامة مواطن فموطن يكون فيه سؤال وكلام وموطن لا يكون ذلك فلا يتناقض الآي، والأخبار والله المستعان. قال عكرمة: القيامة مواطن يسأل في بعضها ولا يسأل في بعضها. وقال ابن عباس: لا يسألون سؤالاً شفا وراحة، وإنما يسألون سؤال تقريع وتوبيخ لم عملتم كذا وكذا والقاطع لهذا قوله تعالى: {فوربك

لنسألنهم أجمعين * عما كانوا يعملون} . قال أهل التأويل عن لا إله إلا الله: وقد قيل إن الكفار يحاسبون بالكفر بالله الذي كان طول العمر دثارهم وشعارهم وكل دلالة من دلائل الإيمان خالفوها وعاندوها، فإنهم يبكتون عليها ويسألون عنها عن الرسل وتكذيبهم إياهم لقيام الدلائل على صدقهم. وقال تعالى: {وقال الذين كفروا للذين آمنوا اتبعوا سبيلنا ولنحمل خطاياكم، وما هم بحاملين من خطاياهم من شيء، إنهم لكاذبون * وليحملن أثقالهم وأثقالاً مع أثقالهم وليسألن يوم القيامة عما كانوا يفترون} والآي في هذا المعنى كثيرة، ومن تأمل آخر سورة المؤمنين {فإذا نفخ في الصور} إلى آخرها تبين له الصواب في ذلك والحمد لله على ذلك. وذكر ابن المبارك، عن شهر بن حوشب، عن ابن عباس رضي الله عنهما: إن بعد أخذ النار هؤلاء الثلاثة: تنشر الصحف وتوضع الموازين ويدعى الخلائق للحساب. وشهر: ضغفه مسلم في كتابه وغيره. فإن قيل: فقد ذكر اللالكائي في سننه عن عائشة رضي الله عنها قالت: لا يحاسب رجل يوم

القيامة إلا دخل الجنة قالوا: ولأن الحساب إنما يراد للثواب والجزاء ولا حسنات للكافر فيجازي عليها بحسابه ولأن المحاسب له هو الله تعالى، وقد قال: {ولا يكلمهم الله يوم القيامة} . قلنا: ما روي عن عائشة قد خالفها غيرها في ذلك للآيات والأحاديث الواردة في ذلك وهو الصحيح، ومعنى [لا يكلمهم الله] أي بما يحبونه، قال الطبري: وفي التنزيل {اخسؤوا فيها ولا تكلمون} وقد قيل إن معنى قوله تعالى: {ولا يسأل عن ذنوبهم المجرمون} {لا يسأل عن ذنبه إنس ولا جان} سؤال التعرف لتمييز المؤمنين من الكافرين. أي أن الملائكة لا تحتاج أن تسأل أحداً يوم القيامة أن يقال ما كان دينك وما كنت تصنع في الدنيا حتى يتبين لهم بإخباره عن نفسه أنه مان مؤمناً أو كان كافراً. لكن المؤمنين يكونون ناضري الوجوه منشرحي الصدور، ويكون المشركون سود الوجوه زرقاً مكروبين، فهم إذا كلفوا سوق المجرمين إلى النار وتميزهم في الموقف كفتهم مناظرهم عن تعرف أديانهم، ومن قال هذا فيحتمل أن يقول إن الأمر يوم القيامة يكون بخلاف ما هو كائن قبله على ما

باب ما جاء في شهادة الأرض والليالي والأيام بما عمل فيها وعليها وفي شهادة المال على صاحبه وقوله تعالى: " وجاءت كل نفس معها سائق وشهيد "

وردت به الأخبار من سؤال الملكين الميت إذا دفن وانصرف الناس عنه فيسألونه عن ربه ودينه ونبيه. أي إذا كان يوم القيامة لم تسأل الملائكة عند الحاجة إلى تمييز فريق عن هذا لاستغنائهم بمناظرهم عما وراءها، ومن قاله يحتج بقوله تعالى: {فوربك لنسألنهم أجمعين * عما كانوا يعملون} أخبر أنهم يسألهم عن أعمالهم وهذه الآية في الكافرين، ومن قال يسألهم عن أصل كفرهم ثم عن تجريدهم إياه كل وقت باستهزائهم بآيات الله تعالى ورسله، فقد سألهم عما كانوا يعملون. وذلك هو المراد. باب ما جاء في شهادة الأرض والليالي والأيام بما عمل فيها وعليها وفي شهادة المال على صاحبه وقوله تعالى: " وجاءت كل نفس معها سائق وشهيد " باب ما جاء في شهادة الأرض والليالي والأيام بما عمل فيها وعليها وفي شهادة المال على صاحبه وقوله تعالى: وجاءت كل نفس معها سائق وشهيد الترمذي «عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية {يومئذ تحدث أخبارها} قال: أتدرون ما أخبارها؟ قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: فإن أخبارها أن تشهد على كل عبداً أو أمةً بما عمل على ظهرها تقول: عمل يوم كذا كذا وكذا. فهذه أخبارها» قال: هذا حديث حسن صحيح غريب. أبو نعيم، «عن معاوية بن قرة، عن معقل بن يسار، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ليس من يوم يأتي على ابن آدم إلا ينادي فيه: يا ابن آدم أنا خلق جديد، وأنا فيما تعمل عليك غداً شهيد فاعمل في خيراً أشهد لك به غداً فإني لو قد

مضيت لم ترني أبداً. ويقول الليل مثل ذلك» غريب من حديث معاوية تفرد عنه زيد العمى، ولا أعلمه مرفوعاً عن النبي إلا بهذا الإسناد. ابن المبارك، عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: من سجد في موضع عن شجر أو حجر شهد له عند الله يوم القيامة قال: وأخبرني ابن أبي خالد رضي الله عنه قال: سمعت أبا عيسى يحيى بن رافع يقول: سمعت عثمان بن عفان رضي الله عنه: يقول: {وجاءت سكرة الموت بالحق} وقال تعالى: {وجاءت كل نفس معها سائق وشهيد} قال: سائق يسوقها إلى أمر الله وشاهد يشهد عليها بما عملت. وخرج مسلم «من حديث أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم وفيه: وإن هذا المال خضر حلو ونعم صاحب السلم هو لمن أعطى منه المسكين واليتيم وابن السبيل أو كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وإنه من يأخذه بغير حقه كالذي يأكل ولا يشبع ويكون عليه شهيداً يوم القيامة، وقد تقدم أنه لا يسمع مدى صوت المؤذن جن ولا إنس ولا شجر ولا حجر ولا مدر إلا شهد له يوم القيامة» رواه أبو سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم. ورواه الأئمة مالك وغيره. قال المؤلف: فتفكر يا أخي وإن كنت شاهداً عدلاً بأنك مشهود عليك

باب لا يشهد العبد على شهادة في الدنيا إلا شهد بها يوم القيامة

في كل أحوالك من فعلك ومقالك وأعظم الشهود لديك المطلع عليك الذي لا تخفى عليه خافية عين ولا يغيب عنه زمان ولا أين. قال الله تعالى {لا تعملون من عمل إلا كنا عليكم شهوداً إذ تفيضون فيه} فاعمل عمل من يعلم أنه راجع إليه وفادم عليه يجازي على الصغير والكبير والقليل والكثير. سبحانه لا إله إلا هو. باب لا يشهد العبد على شهادة في الدنيا إلا شهد بها يوم القيامة ابن المبارك قال: أخبرنا رشدين بن سعد، عن عمرو بن الحارث، عن سعيد ابن أبي هلال، عن سليمان بن راشد أنه بلغه أن امرأً لا يشهد على شهادة في الدنيا إلا شهد بها يوم القيامة على رؤوس الأشهاد، ولا يمتدح عبداً في الدنيا إلا امتدحه يوم القيامة على رؤوس الأشهاد. قلت: هذا صحيح، يدل على صحته من الكتاب قول الحق {ستكتب شهادتهم ويسألون} . وقوله: {ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد} والله أعلم. باب ما جاء في سؤال الأنبياء وفي شهادة هذه الأمة للأنبياء على أممهم قال الله تعالى: {فلنسألن الذين أرسل إليهم ولنسألن المرسلين * فلنقصن عليهم بعلم وما كنا غائبين} ، وقال: {فوربك لنسألنهم

أجمعين} . فيبدأ بالأنبياء عليهم السلام {فيقول: ماذا أجبتم} قيل: في تفسيرها كانوا قد علموا ولكن ذهبت عقولهم وعزبت أفهامهم ونسوا من شدة الهول وعظيم الخطب وصعوبة الأمر فقالوا: {لا علم لنا إنك أنت علام الغيوب} ثم يقربهم الله تعالى فيدعى نوح عليه السلام، ويقال: إن الهيبة تأخذ بمجامع قلوبهم فيذهلون عن الجواب. ثم إن الله يثبتهم ويحدث لهم ذكراً فيشهدون بما أجابت به أممهم ويقال إنما قالوا ذلك تسليماً كما فعل المسيح في قوله {تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك إنك أنت علام الغيوب} . والأول أصح لأن الرسل يتفاضلون، والمسيح من أجلهم لأنه كلمة الله وروحه، قاله أبو حامد. وخرج ابن ماجه، حدثنا أبو كريب وأحمد بن سنان قالا: «حدثنا أبو معاوية عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يجيء النبي يوم القيامة ومعه الرجل ويجيء النبي ومعه الرجلان ويجيء النبي ومعه الثلاثة، وأكثر من ذلك

فيقال له: هل بلغت قومك؟ فيقول: نعم. فيدعى قومه فيقال: هل بلغكم؟ فيقولون: لا فيقال: من يشهد لك؟ فيقول: محمد وأمته فتدعى أمة محمد صلى الله عليه وسلم، فيقال: هل بلغ هذا؟ فيقولون: نعم فيقول: وما علمكم بذلك؟ فيقولون: أخبرنا نبينا صلى الله عليه وسلم بذلك أن الرسل قد بلغوا فصدقناه. قال فذلك قوله تعالى: {وكذلك جعلناكم أمة وسطاً لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيداً} » . وذكره البخاري أيضاً بمعناه «عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يدعى نوح يوم القيامة فيقول: لبيك وسعديك يارب فيقول: هل بلغت؟ فيقول: نعم فيقال لأمته: هل بلغكم؟ فيقولون: ما أتانا من نذير، فيقول: من يشهد لك؟ فيقول: محمد وأمته فيشهدون أنه قد بلغ، فذلك قوله: {وكذلك جعلناكم أمة وسطاً لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيداً} » . أخرجه ابن المبارك في رقائقه مرسلاً بأطول من هذا فقال: «أخبرني رشدين ابن سعد قال: أخبرني ابن أنعم المغافري عن حبان بن أبي جبلة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا جمع الله عباده يوم القيامة كان أول من يدعى إسرافيل عليه السلام، فيقول له ربه: ما فعلت في عهدي هل بلغت عهدي؟ فيقول: نعم قد بلغت جبريل فيدعى جبريل عليه السلام فيقول: هل بلغك إسرافيل عهدي؟ فيقول: نعم يا رب قد بلغني، فيخلي عن إسرافيل، ويقال لجبريل هل بلغت عهدي؟ فيقول جبريل: نعم قد بلغت الرسل فيدعي الرسل فيقول: هل بلغكم جبريل عهدي؟

فيقولون: نعم. فيخلي عن جبريل، ثم يقال للرسل هل بلغكم عهدي؟ فيقولون: قد بلغنا أممنا، فتدعى الأمم فيقال لهم: هل بلغكم الرسل عهدي؟ فمنهم المصدق ومنهم المكذب فتقول الرسل: إن لنا عليهم شهوداً يشهدون أن قد بلغنا مع شهادتك فيقول: من يشهد لكم؟ فيقولون محمد وأمته فتدعى أمة محمد فيقول: تشهدون أن رسلي هؤلاء قد بلغوا عهدي إلى من أرسلوا إليه؟ فيقولون: نعم، رب شهدنا أن قد بلغوا، فتقول تلك الأمم كيف يشهد علينا من لم يدركنا فيقول لهم الرب: كيف تشهدون على من لم تدركوا؟ فيقولون: ربنا بعثت إلينا رسولا، وأنزلت إلينا عهدك وكتابك وقصصك علينا إنهم قد بلغوا فشهدنا بما عهدت إلينا، فيقول الرب: صدقوا. فذلك قوله عز وجل: {وكذلك جعلناكم أمة وسطاً} ، والوسط العدل {لتكونوا شهداء على الناس، ويكون الرسول عليكم شهيد} » قال ابن أنعم: فبلغني أنه يشهد يومئذ أمة محمد إلا من كان في قلبه حنة على أخيه. قلت: وذكر هذا الخبر أبو محمد في كتاب العاقبة له، فذكر بعد قوله: والوسط العدل، ثم يدعى غيره من الأنبياء صلوات الله عليهم أجمعين ثم ينادي كل إنسان باسمه واحداً واحداً ويسألون واحداً واحداً، وتعرض أعمالهم على رب العزة جل جلاله قليلها وكثيرها حسنها وقبيحها.

قال المؤلف: وذكر أبو حامد في كتاب كشف علوم الآخرة أن هذا يكون بعد ما يحكم الله تعالى بين البهائم ويقتص للجماء من القرناء ويفصل بين الوحش والطير، ثم يقول لهم: كونوا تراباً فتسوى بهم الأرض وحينئذ {يود الذين كفروا وعصوا الرسول لو تسوى بهم الأرض} ويتمنى الكافر فيقول: {يا ليتني كنت تراباً} . ثم يخرج النداء من قبل الله تعالى: أين اللوح المحفوظ؟ فيؤتى به له هرج عظيم، فيقول الله تعالى: أين ما سطرت فيك من توارة وزبور وإنجيل وفرقان؟ فيقول: يارب نقله مني الروح الأمين فيؤتى به يرعد وتصك ركبتاه، فيقول الله تعالى: يا جبريل هذا اللوح المحفوظ يزعم أنك نقلت منه كلامي ووحيى أصدق؟ قال: نعم يا رب. قال: فما فعلت فيه؟ قال: أنهيت التوراة إلى موسى، وأنهيت الزبور إلى داود وأنهيت الإنجيل إلى عيسى، وأنهيت الفرقان إلى محمد عليه السلام، وأنهيت إلى كل رسول رسالته وإلى أهل الصحف صحائفهم، فإذا بالنداء يا نوح فيؤتى به يرعد وتصطك فرائصه فيقول: يانوح زعم جبريل أنك من المرسلين , قال: صدق، فقيل له: ما فعلت مع قومك؟ قال دعوتهم ليلاً نهاراً فلم يزدهم دعائي إلا فراراً، فإذا بالنداء يا قوم نوح فيؤتى بهم زمرة واحدة. فيقال: هذا أخوكم نوح يزعم أنه بلغكم الرسالة. فيقولون: يا ربنا كذب ما بلغنا من شيء وينكرون الرسالة، فيقول الله: يا نوح ألك بينة؟ فيقول: نعم يا رب بينتي عليهم محمد وأمته، فيقولون: كيف ونحن أول الأمم وهم آخر الأمم؟ فيؤتى بالنبي صلى الله عليه وسلم فيقول يا محمد هذا نوح يستشهد فيشهد له تبليغ الرسالة فيقرأ صلى الله عليه وسلم {إنا أرسلنا نوحاً إلى قومه} إلى آخر السورة، فيقول الجليل جل جلاله: قد وجب عليكم الحق وحقت كلمة العذاب على الكافرين فيؤمر بهم زمرة واحدة إلى النار من غير وزن عمل ولا حساب،

ثم ينادي: أين هود؟ فيفعل قوم هود مع هود كما فعل قوم نوح مع نوح فيستشهد عليهم بالنبي صلى الله عليه وسلم وخيار أمته فيتلو {كذبت عاد المرسلين} فيؤمر بهم إلى النار مثل أمة نوح، ثم ينادي: يا صالح ويا ثمود فيأتون فيستشهد صالح عندما ينكرون فيتلوا النبي صلى الله عليه وسلم {كذبت ثمود المرسلين} إلى آخر القصة فيفعل بهم مثلهم ولا يزال يخرج أمة بعد أمة قد أخبر عنهم القرآن بياناً وذكرهم فيه إشارة كقوله تعالى {وقروناً بين ذلك كثيراً} وقوله {ثم أرسلنا رسلنا تترا كلما جاء أمة رسولها} وقوله {والذين من بعدهم لا يعلمهم إلا الله جاءتهم رسلهم بالبينات} وفي ذلك تنبيه على أولئك القرون الطاغية كقوم تارخ وتارح ودوحاو أسرا وما أشبه ذلك حتى ينتهي النداء إلى أصحاب الرس وتبع وقوم إبراهيم، وفي كل ذلك لا يرفع لهم ميزان ولا يوضع لهم حساب وهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون، والترجمان يكلمهم لأن الرب تعالى من نظر إليه وكلمه لم يعذبه، ثم ينادي بموسى ابن عمران فيأتي وهو كأنه ورقة في ريح عاصف قد اصفر لونه واصطكت ركبتاه فيقول له: يا ابن عمران جبريل يزعم أنه بلغك الرسالة والتوراة فتشهد له بالبلاغ؟ قال: نعم: قال فارجع إلى منبرك واتل ما أوحى إليك من ربك فيرقى المنبر، ثم يقرأ فينصت له كل من في الموقف فيأتي بالتوراة غضة طرية على حسنها يوم أنزلت حتى تتوهم الأحبار أنهم ما عرفوها يوماً ثم ينادي يا داود فيأتي وهو يرعد وكأنه ورقة في ريح عاصف تصطك ركبتاه فيصفر لونه، فيقول الله جل ثناؤه يا داود: زعم جبريل أنه بلغك الزبور فتشهد له البلاغ؟ فيقول: نعم يا رب فيقال له: ارجع إلى منبرك واتل ما أوحى إليك. فيرقى ثم يقرأ وهو حسن الناس صوتاً. وفي الصحيح أنه صاحب المزامير.

ثم ينادي المنادي أين عيسى بن مريم؟ فيؤتى به على باب المرسلين فيقول: {أنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله} ثم يحمد تحميداً ما شاء الله تعالى ويثنى عليه كثيراً ثم يعطف على نفسه بالذم والاحتقار ويقول {سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق إن كنت قلته فقد علمته تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك إنك أنت علام الغيوب} ، فيضحك الله ويقول {هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم} يا عيسى ارجع إلى منبرك واتل الإنجيل الذي بلغك جبريل، فيقول: نعم ثم يرقى ويقرأ فتشخص إليه الرؤوس لحسن ترديده وترجيعه فإنه أحكم الناس به رواية فيأتي به غضاً طرياً حتى يظن الرهبان أنهم ما عملوا به قط، ثم ينقسم قومه فرقتين المجرمون مع المجرمين والمؤمنون مع المؤمنين. ثم يخرج النداء أين محمد؟ فيؤتى به صلى الله عليه وسلم فيقول يا محمد هذا جبريل يزعم أنه بلغك القرآن، فيقول: نعم يا رب فيقال له ارجع إلى منبرك واقرأ فيتلوا صلى الله عليه وسلم القرآن فيأتي به غضاً طريا له حلاوة وعليه طلاوة ويستبشر به المتقون وإذا وجوههم ضاحكة مستبشرة والمجرمون وجوههم مغبرة مقترة فإذا تلا النبي القرآن توهمت الأمة أنهم ما سمعوه قط. وقد قيل للأصمعي تزعم أنك أحفظهم لكتاب الله قال: يا ابن أخي يوم أسمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم كأني ما سمعته، فإذا فرغت قراءة الكتب خرج النداء من قبل سرداقات الجلال: {وامتازوا اليوم أيها المجرمون} فيرتج الموقف ويقوم فيه روع عظيم

باب ما جاء في الشهداء عند الحساب

والملائكة قد امتزجت بالجن والجن بيني آدم والكل لجة واحدة ثم يخرج النداء: يا آدم ابعث بعث النار، فيقول: كم يا رب؟ فيقال له: من كل ألف تسع مائة وتسعة وتسعون إلى النار وواحد إلى الجنة على مايأتي بيانه، فلا يزال يستخرج من سائر الملحدين والغافلين والفاسقين حتى لا يبقى إلا قدر حفنة الرب كما قال الصديق رضي الله عنه: نحن حفنات بحفنات الرب سبحانه وتعالى، على مايأتي إن شاء الله تعالى. باب ما جاء في الشهداء عند الحساب قال العلماء: وتكون المحاسبة بمشهد من النبيين وغيرهم قال الله تعالى {وجيء بالنبيين والشهداء وقضي بينهم بالحق} وقال {فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا} . وشهيد كل أمة نبيها. وقيل إنهم كتبة الأعمال وهو الأظهر فتحضر الأمة ورسولها، فيقال للقوم: ماذا أجبتم المرسلين، ويقال للرسل ماذا أجبتم؟ فتقول الرسل لا علم لنا على ما تقدم في الباب قبل، ثم يدعى كل واحد على الانفراد فالشاهد عليه صحيفة عمله وكاتبها فإنه قد أخبر في الدنيا أن عليه ملكين يحفظان أعماله وينسخانها. وذكر أبو حامد في كتاب كشف علوم الآخرة أن المنادي ينادي من قبل الله لا ظلم اليوم إن الله سريع الحساب، فيستخرج لهم

باب ما جاء في شهادة النبي صلى الله عليه وسلم على أمته

كتاب عظيم يسد ما بين المشرق والمغرب فيه جميع أعمال الخلائق فما صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها ووجدوا ما عملوا حاضراً ولا يظلم ربك أحداً، وذلك أن أعمال الخلائق تعرض على الله في كل يوم فيأمر الكرام البررة أن ينسخوها في ذلك الكتاب العظيم وهو قوله تعالى {إنا كنا نستنسخ ما كنتم تعملون} ثم ينادي بهم فرداً فرداً فيحاسب كل واحد منهم، فإذا الأقدام تشهد واليدان. وهو قوله تعالى {يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون} وقد جاء في الخبر أن رجلاً منهم يوقف بين يدي الله تبارك وتعالى فيقول له: يا عبد السوء كنت مجرماً عاصياً، فيقول: ما فعلت؟ فيقال له: عليك بينة فيؤتى بحفظته فيقول كذبوا علي فتشهد جوارحه عليه فيؤمر به إلى النار، فيجعل يلوم جوارحه، فتقول له: ليس عن اختيارنا {أنطقنا الله الذي أنطق كل شيء} وقد تقدم هذا المعنى مستوفى، وتقدم أن الأرض والأيام والليالي والمال ممن تشهد، وإذا قال الكافر لا أجيز على نفسي إلا شاهداً مني ختم علي فيه فتشهد أركانه كما تقدم. باب ما جاء في شهادة النبي صلى الله عليه وسلم على أمته ابن المبارك، أخبرنا رجل من الأنصار، عن المنهال بن عمرو، حدثنا أنه سمع سعيد بن المسيب يقول: ليس من يوم إلا تعرض على النبي صلى الله عليه وسلم أمته غدوة وعشية فيعرفهم بسماهم وأعمالهم فلذلك يشهد عليهم يقول الله تبارك وتعالى: {فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيداً} .

باب ما جاء في عقوبة مانعي الزكاة وفضيحة الغادر والغال في الموقف وقت الحساب

فصل: قلت: قد تقدم أن الأعمال تعرض على الله تعالى يوم الخميس ويوم الأثنين، وعلى الأنبياء والآباء والأمهات يوم الجمعة ولا تعارض، فإنه يحتمل أن يخص نبينا عليه السلام بالعرض كل يوم ويوم الجمعة مع الأنبياء والله أعلم. باب ما جاء في عقوبة مانعي الزكاة وفضيحة الغادر والغال في الموقف وقت الحساب مسلم «عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما من صاحب ذهب ولا فضة لا يؤدي منها حقها إلا إذا كان يوم القيامة صحفت له صفائح من نار فأحمي عليها في نار جهنم فيكوى بها جنبه وجبينه وظهره كلما بردت أعيدت له في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة حتى يقضى بين العباد فيرى سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار. قيل يا رسول الله: فالإبل؟ قال: ولا صاحب إبل لا يؤدي منها حقها ومن حقها حلبها يوم وردها إذا كان يوم القيامة بطح لها بقاع قرقر أو فر ما كانت لا يفقد منها فصيلاً واحداً تطؤه بأخفافها وتعضه بأفواهها قيل: يا رسول الله فالبقر والغنم؟ قال: ولا صاحب بقر ولا غنم لا يؤدي منها حقها إلا إذا كان يوم القيامة بطح لها بقاع لا يفقد منها شيئاً ليس فيها عقصاء ولا جلحاء ولا غضباء تنطحه بقرونها

وتطؤه بأظلافها، كلما مر عليه أولاها رد عليه أخراها في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، حتى يقضى بين العباد فيرى سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار» وذكر الحديث. أخرجه البخاري بمعناه. وروى مالك موقوفاً والنسائي والبخاري مرفوعاً «عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من آتاه الله مالاً فلم يؤد زكاته مثل له يوم القيامة شجاعاً أقرع له زبيبتان يطوقه يوم القيامة ثم يأخذ بلهزمتيه يعني شدقيه ثم يقول أنا مالك أنا كنزك ثم تلا {ولا يحسبن الذين يبخلون} الآية» ، وذكر مسلم «من حديث جابر قال ولا صاحب كنز لا يؤدي فيه حقه إلا جاء يوم القيامة شجاعاً أقرع يتبعه فاتحاً فاه فإذا أتاه فر منه فيناديه خذ كنزك الذي خبأته فأنا عنه غني فإذا رأى أن لا بد له منه سلك يده في فيه فيقضمها قضم الفحل» وذكر الحديث. «وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم فذكر الغلول وعظم أمره ثم قال: لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته بعير له رغاء يقول يا رسول الله أغثني فأقول: لا أملك لك شيئاً قد أبلغتك لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته فرس له حمحمة يقول يا رسول الله أغثني فأقول: لا أملك لك شيئاً قد أبلغتك. لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته شاة لها ثغاء يقول يا رسول الله أغثني فأقول: لا أملك لك شيئاً قد أبلغتك لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته نفس لها

صياح فيقول يا رسول الله: أغثني، فأقول: لا أملك لك شيئاً قد أبلغتك. لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته رقاع تخفق فيقول يا رسول الله أغثني فأقول لا أملك لك شيئاً قد أبلغتك. لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته صامت فيقول يا رسول الله أغثني فأقول لا أملك لك من الله شيئاً قد أبلغتك» أخرجه البخاري أيضاً. «وعن ابن عمر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا جمع الله الأولين والآخرين يوم القيامة يرفع لكل غادر لواء يوم القيامة فيقال هذه غدرة فلان ابن فلان» . «وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لكل غادر لواء عند استه يوم القيامة» وذكر أبو داود الطيالسي قال: «حدثنا قرة بن خالد، عن عبد الملك بن عمير، عن رافع بن شداد، عن عمرو بن الحمق الخزاعي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إذا آمن الرجل الرجل على دمه ثم قتله رفع له لواء غدر يوم القيامة»

فصل: علماؤنا رحمهم الله «في قوله تعالى {ومن يغلل يأت بما غل يوم القيامة} أن ذلك على الحقيقة كما بينه صلى الله عليه وسلم أي يأت به حاملاً له على ظهره ورقبته معذباً بحمله وثقله ومرعوباً بصوته وموبخاً بإظهار خيانته على رؤوس الأشهاد» ، وكذا مانع الزكاة كما في صحيح الحديث. قال أبو حامد: فمانع زكاة الإبل يحمل بعيراً على كاهله له رغاء وثقل يعدل الجبل العظيم، ومانع زكاة البقر يحمل ثوراً على كاهله له خوار وثقل يعدل الجبل العظيم، ومانع زكاة الغنم يحمل شاة لها ثغاء وثقل يعدل الجبل العظيم والرغاء والخوار والثغاء كالرعد القاصف، ومانع زكاة الزرع يحمل على كاهله أعدالاً قد ملئت من الجنس الذي كان يبخل به براً كان أو شعيراً أثقل ما يكون ينادي تحته بالويل والثبور، ومانع زكاة المال يحمل شجاعاً أقرع له زبيبتان وذنبه قد انساب في منخريه واستدارت بجيده وثقل على كاهله كأنه طوق بكل وحي في الأرض وكل واحد ينادي مثل هذا فتقول الملائكة هذا ما بخلتم به في الدنيا رغبة فيه وشحاً عليه وهو قوله تعالى {سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة} . قلت: وهذه الفضيحة التي أوقعها الله بالغال ومانعي الزكاة نظير الفضيحة التي يوقعها بالغادر، وجعل الله هذه المعاقبات حسب ما يعهده البشر ويفهمونه ألا ترى إلى قول الشاعر:

أسمى ويحك هل سمعت بغدرة ... رفع اللواء لنا بها في المجمع فكانت العرب ترفع للغادر لواء في المحافل ومواسم الحج، وكذلك يطاف بالجاني مع جنايته، وذهب بعض العلماء إلى أن ما يجيء به الغال يحمله عبارة عن وزر ذلك وشهرة الأمر أي يأتي يوم القيامة قد شهر الله أمره كما يشهر لو حمل يعيراً له رغاء أو فرساً له حمحمة. قلت: وهذا عدول عن الحقيقة إلى المجاز والتشبيه، وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بالحقيقة فهو أولى. «وقد روى أبو داود عن سمرة بن جندب قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أصاب غنيمة أمر بلالاً فنادى في الناس فيجيئون بغنائمهم فيخمسها ويقسمها، فجاء رجل يوماً بعد النداء بزمام من شعر، فقال يا رسول الله: هذا كان فيما أصبناه من الغنيمة. قال: أسمعت بلالاً ثلاثاً؟ قال: نعم قال: فما منعك أن تجيء به فاعتذر إليه فقال كلا أنت تجيء به يوم القيامة فلن أقبله منك» فصل: وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إن الحجر ليرن لسبع خلفات فيلقى في جهنم فيهوي فيها سبعين خريفاً، ويؤتى بالغلول فيلقى معه ثم يكلف صاحبه أن يأتي به قال فهو قول الله تعالى {ومن يغلل يأت بما غل يوم

القيامة} » ذكره علي بن سليمان المرادي في الأربعين له. وقوله: «يرفع لكل غادر لواء يوم القيامة» دليل على أن في الآخرة للناس ألوية، فمنها ألوية خزي وفضيحة يعرف بها أهلها، ومنها ألوية حمد وثناء وتشريف وتكريم. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لواء الحمد بيدي» . وروي لواء الكرم وقدم وتقدم. وروى الزهري «عن أبي سلمة، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم امرؤ القيس صاحب لواء الشعراء إلى النار» فعلى هذا من كان إماماً ورأساً في أمر ما معروفاً به فله لواء يعرف به خيراً كان أو شراً، وقد يجوز أن يكون للصالحين الأولياء ألوية يعرفون بها تنويهاً بهم وإكراماً لهم، والله أعلم. وإن كانوا غير معروفين قال النبي صلى الله عليه وسلم «رب أشعث أغبر مدفوع بالأبواب لو أقسم على الله لأبره» وقال «إن الله يحب العبد التقي الغني الخفي» أخرجهما مسلم. وقال أبو حامد في كتاب كشف علوم الآخرة: وفي الحديث الصحيح «أن أول ما يقضي الله فيه الدماء، وأول من يعطى الله أجورهم الذين ذهبت أبصارهم ينادى يوم القيامة بالمكفوفين فيقال لهم أنتم أحرى أحق من ينظر إلينا ثم يستحي الله تعالى منهم ويقول لهم: اذهبوا إلى ذات اليمين

ويعقد لهم راية وتجعل بيد شعيب عليه السلام فيصير أمامهم ومعهم ملائكة النور ما لا يحصى عددهم إلا الله تعالى يزفونهم كما تزف العروس، فيمر بهم على الصراط كالبرق الخاطف وصفة أحدهم الصبر والحلم كابن عباس ومن ضاهاه من الأئمة ثم ينادي أين أهل البلاء؟ ويريد المجذومين فيؤتى بهم فيحييهم الله بتحية طيبة بالغة فيؤمر بهم إلى ذات اليمين ويعقد لهم راية خضراء وتجعل بيد أيوب عليه السلام فيصير أمامهم ذات اليمين، وصفة المبتلى صبر وحلم كعقيل بن أبي طالب ومن ضاهاه من الأئمة ثم ينادي: أين الشباب المتعففون؟ فيؤتى بهم إلى الله فيرحب بهم نعماً ويقول ما شاء الله أن يقول، ثم يؤمر بهم إلى ذات اليمين ويعقد لهم راية خضراء ثم تجعل في يد يوسف عليه السلام ويصير أمامهم إلى ذات اليمين، وصفة الشباب صبر وعلم وحلم كراشد بن سليمان ومن ضاهاه من الأئمة، ثم يخرج النداء أين المتحابون في الله؟ فيؤتى بهم إلى الله تعالى فيرحب بهم ويقول ما شاء الله أن يقول، ثم يؤمر بهم إلى ذات اليمين، وصفة المتحاب في الله صبر وعلم وحلم لا يسخط ولا يسيء من رضى الأحوال الدنيوية كأبي تراب أعني علي بن أبي طالب رضي الله عنه ومن ضاهاه من الأئمة، ثم يخرج النداء أين الباكون؟ فيؤتى بهم إلى الله تعالى فتوزن دموعهم ودم الشهداء ومداد العلماء فيرجع الدمع فيؤمر بهم إلى ذات اليمين ويعقد لهم راية ملونة لأنهم بكوا في أنواع مختلفة هذا بكى خوفاً وهذا بكى طمعاً وهذا بكى ندماً وتجعل بيد نوح عليه السلام،

فتهم العلماء بالتقدم عليهم ويقولون علمنا بكاءهم فإذا النداء على رسلك يا نوح فتوقف الزمرة ثم يوزن مداد العلماء فيرجع دم الشهداء فيؤمر بهم إلى ذات اليمين ويعقد لهم راية مزعفرة وتجعل في يد يحيى عليه السلام، ثم ينطلق أمامهم فيهم العلماء بالتقدم عليهم ويقولون عن علمنا قاتلوا فنحن أحق بالتقدم، فيضحك لهم الجليل جل جلاله ويقول لهم أنتم عندي كأنبيائي أشفعوا فيمن تشاءون، فيشفع العالم في جيرانه وإخوانه ويأمر كل واحد منهم ملكاً ينادي في الناس: ألا إن فلاناً العالم قد أمر له أن يشفع فيمن قضى له حاجة أو أطعمه لقمة حين جاع أو سقاه شربة ماء حين عطش فليقم إليه فإنه يشفع له» . وفي الصحيح أول من يشفع المرسلون، ثم النبيون، ثم العلماء ويعقد لهم راية بيضاء وتجعل بيد إبراهيم عليه السلام، فإنه أشد المرسلين مكاشفة ثم ينادي: أين الفقراء؟ فيؤتى بهم إلى الله عز وجل فيقول لهم مرحباً بمن كانت الدنيا سبحنهم، ثم يؤمر بهم إلى ذات اليمين ويعقد لهم راية صفراء وتجعل في يد عيسى بن مريم عليه السلام ويصير إلى ذات اليمين، ثم ينادي أين الأغنياء؟ فيؤتى بهم إلى الله عز وجل فيعدد عليهم ما خولهم فيه خمسمائة عام، ثم يؤمر بهم إلى ذات اليمين ويعقد لهم راية ملونة وتجعل بيد سليمان عليه السلام

ويصير أمامهم في ذات اليمين. وفي الحديث: «أن أربعة يستشهد عليهم بأربعة: ينادى بالأغنياء وأهل الغبطة فيقال لهم: ما شغلكم عن عبادة الله؟ فيقولون: أعطانا الله ملكاً وغبطة شغلنا عن القيام بحقه في دار الدنيا فيقال لهم: من أعظم ملكاً: أنتم أم سليمان؟ فيقولون: بل سليمان. فيقال: ما شغله ذلك عن القيام بحق الله والدأب في ذكره. ثم يقال: أين أهل البلاء؟ فيؤتى بهم أنواعاً فيقال لهم: أي شيء شغلكم عن عبادة الله تعالى؟ فيقولون: ابتلانا الله في دار الدنيا بأنواع من الآفات والعاهات شغلتنا عن ذكره والقيام بحقه فيقال لهم: من أشد بلاء: أنتم أم أيوب؟ فيقولون بل أيوب. فيقال لهم: ما شغله ذلك عن حقنا والدأب لذكرنا ثم ينادي: ابن الشباب العطرة والمماليك فتقول الشباب: أعطانا الله جمالاً وحسناً فتناً به فكنا مشغولين عن القيام بحقه وكذلك المماليك فيقولون: شغلنا رق العبودية في الدنيا فيقال لهم: أنتم أكثر جمالاً أم يوسف عليه السلام. فلقد كان في رق العبودية ما شغله ذلك عن القيام بحقنا ولا الدأب لذكرنا ثم ينادي: أين الفقراء؟ فيؤتى بهم أنواعاً فيقال لهم: ما شغلكم عن عبادة الله تعالى؟ فيقولون: ابتلانا الله في دار الدنيا بفقر شغلنا فيقال لهم: من أشد فقراً.. أنتم أم عيسى عليه السلام؟ ! فيقولون: بل عيسى فيقول لهم: ما شغله ذلك عن القيام بحقنا والدأب لذكرنا ... فمن بلى بشيء من هذه الأربع فليذكر صاحبه» .. فصل: وقوله «هذه غدرة فلان ابن فلان» دليل على أن الناس يدعون

في الآخرة بأسمائهم وأسماء آبائهم وقد تقدم هذا في غير موضع، وفي هذا رد على من قال إنما يدعون بأسماء أمهاتهم لأن في ذلك ستراً على آبائهم، وهذا الحديث خلاف قولهم. خرجه البخاري ومسلم وحسبك. فصل: وقوله «فيكوي بها جنبه» الحديث إنما خص الجنب والجبهة والظهر بالكي لشهرته في الوجه وشناعته، وفي الجنب والظهر لأنه آلم وأوجع، وقيل خص الوجه لتقطيبه في وجه السائل أولاً والجنب لأزوراره عن السائل ثانياً والظهر لانصرافه إذا راد في السؤال وأكثر منه، فرتب الله تعالى هذه العقوبات في هذه الأعضاء لأجل ذلك والله أعلم. وقالت الصوفية: لما طلبوا الجاه والمال شان الله وجوههم، ولما طووا كشحاً عن الفقير إذ جالسهم كويت جنوبهم ولما أسندوا ظهورهم إلى أموالهم ثقة بها واعتماداً عليها كويت ظورههم. فصل: وقوله {في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة} قيل: معناه لو حاسب فيها غير الله تعالى وإنما هو سبحانه وتعالى يفرغ منه في مقدار نصف نهار من أيام الدنيا. وقيل: قدر مواقفهم للحساب عن الحسن وقال ابن اليمان كل موقف منها ألف سنة. وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «والذي نفسي بيده إنه ليخف على المؤمن حتى يكون أخف عليه من صلاة مكتوبة»

وقد تقدم من حديث أبي سعيد الخدري وذكر ابن المبارك قال أخبرنا معمر عن قتادة عن زرارة بن أوفى عن أبي هريرة قال: يقصر يومئذ على المؤمن حتى يكون كوقت الصلاة. وفي الحديث «لا ينتصف النهار حتى يستقر أهل الجنة في الجنة وأهل النار في النار» ذكره ابن عزير في غريب القرآن له. وبطح: ألقي على وجهه. قاله بعض المفسرين. وقال أهل اللغة: البطح: هو البسط كيفيما كان غير الوجه أو على الوجه، ومنه سميت بطحاء مكة لانبساطها، وبقاع قرقر أي موضع مستو واسع وأصل القاع: الموضع المنخفض الذي يستقر فيه الماء وجمعه قيعان، والعقصاء: الملتوية القرن. والجلحاء: التي لا قرن لها. والعضباء: المكسورة داخلة القرن يريد: إنها كلها ذوات قرون صحاح ويمكن بها النطح والطعن حتى يكون أشد لألمه وأبلغ في عذابه، والله أعلم.

باب منه وذكر الولاة

باب منه وذكر الولاة ذكر الغيلاني أبو طالب قال: «حدثنا أبو بكر الشافعي قال: حدثنا محمد بن غالب قال: حدثنا أمية بن بسطام، حدثنا يزيد بن زريع، حدثنا روح بن القاسم، عن ابن عجلان، عن أبيه، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما من أمير عشرة إلا يؤتى به يوم القيامة حتى يفكه الله بعدله أو يوبقه بجرمه» وقال «عمر لأبي ذر رضي الله عنهما: حدثني بحديث سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: سمعته يقول: يجاء بالوالي يوم القيامة فينبذ به على جسر جهنم فيرتج به الجسر ارتجاجة لا يبقى منه مفصل إلا زال عن مكانه، فإن كان مطيعاً لله في عمله عما مضى فيه، وإن كان عاصياً لله عز وجل انحرف به الجسر فهوى به في جهنم مقدار خمسين عاماً» فقال عمر: من يطلب العمل بعد هذا يا أبا ذر؟ قال: من سلت الله أنفه وألصق خذه بالتراب ذكره أبو الفرج ابن الجوزي رحمه الله. وروى الأئمة، «عن أبي حميد الساعدي، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه

باب ما جاء في حوض النبي صلى الله عليه وسلم في الموقف وسعته وكثره أوانيه وذكر أركانه ومن عليها

استعمل رجلاً من بني أسد يقال له ابن اللتبية على الصدقة فجاء فقال: هذا لكم وهذا أهدي لي، فقام النبي صلى الله عليه وسلم على المنبر فحمد الله وأثنى عليه وقال: ما بال العامل نبعثه فيجيء فيقول هذا لكم وهذا أهدي لي أفلا أجلس في بيت أبيه وأمه فينظر أيهدي إليه أم لا لا يأتي أحد منكم بشيء من ذلك إلا جاء به يوم القيامة إن كان بعيراً فله رغاء، وإن كان بقرة فلها خوار أو شاة تيعر، ثم رفع يديه حتى رأينا عفرتي إبطيه، ثم قال: اللهم هل بلغت اللهم هل بلغت» وروى أبو داود «عن بريدة عن النبي صلى الله عليه وسلم من استعملناه على عمل فرزقناه رزقاً فما أخذ بعد ذلك فهو غلول» . باب ما جاء في حوض النبي صلى الله عليه وسلم في الموقف وسعته وكثره أوانيه وذكر أركانه ومن عليها ذهب صاحب القوت وغيره إلى أن حوض النبي صلى الله عليه وسلم إنما هو بعد الصراط، والصحيح أن للنبي صلى الله عليه وسلم حوضين: أحدهما في الموقف قبل الصراط، والثاني في الجنة وكلاهما يسمى كوثرا على ما يأتي، والكوثر في كلام العرب الخير الكثير،

واختلف في الميزان والحوض أيهما قبل الآخر، فقيل: الميزان قبل، وقيل: الحوض. قال أبو الحسن القابسي: والصحيح أن الحوض قبل. قلت: والمعنى يقتضيه فإن الناس يخرجون عطاشاً من قبورهم كما تقدم، فيقدم قبل الصراط والميزان والله أعلم، وقال أبو حامد في كتاب كشف علوم الآخرة، وحكى بعض السلف من أهل التصنيف: أن الحوض يورد بعد الصراط وهو غلط من قائله. قال المؤلف: هو كما قال. وقد روى البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله قال «بينا أنا قائم على الحوض إذا زمرة حتى إذا عرفتهم خرج رجل رجل من بيني وبينهم فقال: هلم فقلت إلى أين؟ فقال: إلى النار والله، قلت ما شأنهم فقال إنهم قد ارتدوا على أدبارهم القهقرى، ثم إذا زمرة أخرى حتى إذا عرفتهم خرج من بيني وبينهم رجل فقال لهم: هلم فقلت إلى أين؟ قال إلى النار والله. قلت: ما شأنهم قال إنهم ارتدوا على أدبارهم فلا أراه يخلص منهم إلا مثل همل النعم» . قلت: فهذا الحديث مع صحته أدل دليل على أن الحوض يكون في الموقف قبل الصراط، لأن الصراط إنما هو جسر على جهنم ممدود يجاز عليه، فمن جازه سلم من النار على ما يأتي، وكذا حياض الأنبياء عليهم السلام تكون أيضاً في الموقف على ما يأتي. وروي «عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الوقوف بين يدي الله تعالى هل فيه ماء؟ قال: أي والذي نفسي بيده إن فيه لماء وإن أولياء الله تعالى ليردون حياض الأنبياء ويبعث الله سبعين ألف ملك بأيديهم عصي

من نار يذودون الكفار عن حياض الأنبياء» . مسلم «عن أبي ذر رضي الله عنه قال: قلت يا رسول الله ما آنية الحوض؟ قال: والذي نفسي بيده لآنيته أكثر من عدد نجوم السماء وكواكبها في الليلة المظلمة المصحية، آنية الجنة من شرب منها لم يظمأ، آخر ما عليه يشخب فيه ميزابان من الجنة من شرب منه لم يظمأ، عرضه مثل طوله، ما بين عمان إلى أيلة ماؤه أشد بياضاً من الثلج وأحلى من العسل» . «وعن ثوبان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إني لبعقر حوضي أذود الناس لأهل اليمين أضرب بعصاي حتى يرفض عليهم فسئل عن عرضه فقال: من مقامي إلى عمان. وسئل عن شرابه فقال: أشد بياضاً من الثلج وأحلى من العسل، يغت فيه ميزابان من الجنة أحدهما من ذهب والأخر من ورق» . في غير كتاب مسلم يعب فيه ميزابان من الكوثر الحديث. وفي أخرى ما يبسط أحد منكم يده إلا وقع عليه قدح.

مسلم «عن أنس قال: بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم بين أظهرنا إذ أغفي إغفاءه، ثم رفع رأسه متبسماً فقلنا: ما أضحك يا رسول الله؟ قال: نزلت علي آنفاً سورة فقرأ بسم الله الرحمن الرحيم {إنا أعطيناك الكوثر * فصل لربك وانحر * إن شانئك هو الأبتر} ثم قال: أتدرون ما الكوثر؟ قلنا: الله ورسوله أعلم. قال: فإنه نهر وعدنيه ربي عليه خير كثير، هو حوض ترد عليه أمتي يوم القيامة آنيته عدد النجوم، فيختلج العبد منهم فأقول: يا رب إنه من أمتي، فيقال: ما تدري ما أحدث بعدك» . وفي رواية أخرى: «ما أحدث» . «وعن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم حوضي مسيرة شهر، وزواياه سواء، وماؤه من الورق، وريحه أطيب من المسك، كيزانه كنجوم السماء من ورد فشرب منه لم يظمأ بعده أبداً» . أخرجه البخاري. «وعن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إن أمامكم حوضاً كما بين جرباً وأذرح فيه أباريق كنجوم السماء من ورد فشرب منه لم يظمأ بعدها أبداً» . قال عبيد الله فسألته فقال قريتين بالشام بينهما مسيرة ثلاث. أخرجه البخاري. «و

عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إن حوضي أبعد من أيلة إلى عدن لهو أشد بياضاً من الثلج وأحلى من العسل باللبن، ولآنيته أكثر من عدد النجوم وإني لأصد الناس كما يصد الرجل إبل الناس عن حوضه، قالوا: يا رسول الله أتعرفنا يومئذ؟ قال: نعم لكم سيما ليست لأحد من الأمم تردون علي غير محجلين من أثر الوضوء» . ابن ماجه، «عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن لي حوضاً ما بين الكعبة، وبيت المقدس أبيض مثل اللبن آنيته عدد نجوم السماء، وإني لأكثر الأنبياء تبعاً يوم القيامة» . فصل: ظن بعض الناس أن هذه التحديات في أحاديث الحوض اضطراب واختلاف وليس كذلك، وإنما تحدث النبي صلى الله عليه وسلم بحديث الحوض مرات عديدة وذكر فيها تلك الألفاظ المختلفة مخاطباً لكل طائفة بما كانت تعرف من مسافات مواضعها، فيقول لأهل الشام ما بين أذرح وجرباً، ولأهل اليمن من صنعاء إلى عدن. وهكذا وتارة آخرى يقدر بالزمان فيقول: مسيرة شهر، والمعنى المقصود أنه حوض كبير متسع الجوانب والزوايا فكان ذلك بحسب من حضره ممن يعرف تلك الجهات فخاطب كل قوم بالجهة التي يعرفونها، والله أعلم. ولا يخطر ببالك أو يذهب وهمك إلى أن الحوض يكون على وجه هذه الأرض وإنما يكون وجوده في الأرض المبدلة على مسامتة هذه الأقطار أو

في الموضع تكون بدلاً من هذه المواضع في هذه الأرض وهي أرض بيضاء كالفضة لم يسفك فيها دم، ولم يظلم على ظهرها أحد قط كما تقدم، تطهر لنزول الجبار جل جلاله لفصل القضاء، ويغت: معناه يصب، ويشخب أي يسيل، والعقر مؤخر الحوض حيث تقف الإبل إذا وردته، وتسكن قافه وتضم فيقال: عقر وعقر كعسر وعسر قاله في الصحاح. والهمل من النعم الضوال من الإبل واحدها هامل قاله الهروي والمعنى أن الناجي منهم قليل كهمل النعم، ويقال: إن على أحد أركانه أبا بكر، وعلى الثاني عمر، وعلى الثالث عثمان، وعلى الرابع عليا. قلت: هذا لا يقال من جهة الرأي فهو مرفوع وقد رفعه صاحب الغيلانيات من حديث «حميد عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن على حوضي أربعة أركان. فأول ركن منها في يد أبي بكر، والركن الثاني في يد عمر، والركن الثالث في يد عثمان، والركن الرابع في يد علي رضي الله عنهم أجمعين. فمن أحل أبا بكر وأبغض عمر لم يسقه أبو بكر ومن أحب عمر وأبغض أبا بكر لم يسقه عمر، ومن أحب عثمان وأبغض علياً لم يسقه عثمان، ومن أحب علياً وأبغض عثمان لم يسقه علي» . وذكر الحديث.

باب فقراء المهاجرين أول الناس ورود الحوض على النبي صلى الله عليه وسلم

باب منه ذكر أبو داود الطيالسي: قال: «حدثنا شعبة قال: أخبرني عمرو بن مرة قال: سمعت أبا حمزة عن زيد بن أرقم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ما أنتم بجزء من مائة ألف أو سبعين ألف جزء ممن يرد على الحوض، وكانوا يومئذ ثمانمائة أو تسعمائة» . والله أعلم. باب فقراء المهاجرين أول الناس ورود الحوض على النبي صلى الله عليه وسلم ابن ماجه «عن الصنابجي الأحمسي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا إني فرطكم على الحوض وإني مكاثر بكم الأمم فلا تقتتلن بعدي» . وخرج «عن ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إن حوضي ما بين عدن إلى إيلة أشد بياضاً من اللبن وأحلى من العسل أكاويبه كعدد نجوم السماء من شرب منه لم يظمأ بعدها أبداً، وأول الناس من يرد على الحوض فقراء المهاجرين: الدنس ثيابا الشعث رؤوساً الذين لا ينكحون المتنعمات ولا تفتح لهم أبواب السدد قال: فبكى عمر حتى ابتلت لحيته فقال: لكني نكحت المتنعمات وفتحت لي أبواب السدد، لا جرم أني لا أغسل ثوبي الذي يلي جسدي حتى يتسخ، ولا أدهن رأسي حتى تشعث» . خرجه

باب ذكر من يطرد عن الحوض

الترمذي. عن أبي سلام الحبشي قال: بعث إلي عمر بن عبد العزيز فحملت على البريد، قال: فلما دخل عليه، قال يا أمير المؤمنين: لقد شق مركبي البريد فقال: يا أبا سلام ما أردت أن أشق عليك ولكن بلغني عنك حديث تحدثه عن ثوبان عن النبي في الحوض فأحببت أن تشافهني به. قال أبو سلام: «حدثني ثوبان عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إن حوضي من عدن إلى عمان البلقاء ماؤه أشد» فذكره بمعناه وقال حديث حسن غريب. وقال أنس بن مالك رضي الله عنه: [أول من يرد الحوض على رسول الله صلى الله عليه وسلم الذابلون الناحلون السائحون الذي إذا جنهم الليل استقبلوه بالحزن] . باب ذكر من يطرد عن الحوض البخاري عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ليردن علي ناس من أصحابي الحوض حتى إذا عرفتهم اختلجوا دوني فأقول أصحابي، فيقال لي: لا تدرلي ما أحدثوا بعدك» . و «عن أبي هريرة أنه كان يتحدث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: يرد علي الحوض رهط من أصحابي فيخلون عن الحوض فأقول يا رب

أصحابي، فيقول: إنك لا علم لك بما أحدثوا بعدك إنهم ارتدوا على أدبارهم القهقري» . مسلم «عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إني على الحوض حتى أنظر من يرد علي منكم، وسيؤخذ ناس دوني فأقول: يا رب مني ومن أمتي فيقال: أما شعرت ما عملوا بعدك؟ والله ما برحوا بعدك يرجعون على أعقابهم» . وفي حديث أنس «فيختلج العبد منهم فأقول: يا رب من أمتي فيقال: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك» ، وقد تقدم. وكذلك حديث البخاري «إذا زمرة حتى إذا عرفتهم» تقدم أيضاً. وفي الموطأ وغيره من حديث أبي هريرة فقالوا: كيف تعرف من يأتي بعدك من أمتك يا رسول الله؟ الحديث. وفيه قال: «فإنهم يأتون غراً محجلين من أثر الوضوء» . فصل: قال علماؤنا رحمة الله عليهم أجمعين: فكل من ارتد عن دين الله أو أحدث فيه ما لا يرضاه الله ولم يأذن به الله، فهو من المطرودين عن الحوض المبعدين عنه، وأشدهم طرداً من خالف جماعة المسلمين وفارق سبيلهم كالخوارج

على اختلاف فرقها، والروافض على تباين ضلالها، والمعتزلة على أصناف أهوائها فهؤلاء كلهم مبدلون، وكذلك الظلمة المسرفون في الجور والظلم وتطميس الحق، وقتل أهله وإذلالهم، والمعلنون بالكبائر المستحفون بالمعاصي. وجماعة أهل الزيغ والأهواء والبدع. ثم البعد قد يكون في حال ويقربون بعد المغفرة إن كان التبديل في الأعمال ولم يكن في العقائد، وعلى هذا التقدير يكون نور الوضوء يعرفون به، ثم يقال لهم سحقاً، وإن كانوا من المنافقين الذين كانوا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يظهرون الإيمان ويسرون الكفر فيأخذهم بالظاهر. ثم يكشف لهم الغطاء فيقول لهم: سحقاً سحقاً، ولا يخلد في النار إلا كافر جاحد مبطل ليس في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان. وقد يقال: إن من أنفذ الله عليه وعيده من أهل الكبائر إنه، وإن ورد الحوض وشرب منه فإنه إذا دخل النار بمشيئة الله تعالى لا يعذب بعطش، والله أعلم. وروى الترمذي «عن كعب بن عجرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أعيذك بالله يا كعب بن عجرة من أمراء يكونون من بعدي فمن غشى أبوابهم فصدقهم في كذبهم وأعانهم على ظلمهم فليس مني ولست منه، ولا يرد على الحوض، ومنه غشى أبوابهم ولم يصدقهم في كذبهم ولم يعنهم على ظلمهم فهو مني وأنا منه، وسيرد على الحوض، يا كعب بن عجرة: الصلاة برهان، والصبر جنة حصينة، والصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار، يا كعب بن عجرة إنه لا يربو لحم نبت من سحت إلا كانت النار أولى به» . قال

أبو عيسى: هذا حديث حسن غريب. وخرجه أيضاً في كتاب الفتن وصححه. وخرج الأوزاعي أبو عمر في مسنده قال: «حدثني عمرو بن سعد قال: حدثني يزيد الرقاشي عن أنس بن مالك أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: حوضي ما بين أيلة إلى مكة، أباريقه كنجوم السماء أو كعدد نجوم نجوم السماء، له ميزابان من الجنة كلما نضب أمداه، من شرب منه شربة لم يظمأ بعدها أبداً، وسيأتيه قوم ذابلة شفاههم، لا يطمعون منه قطرة واحدة، من كذب به اليوم لم يصب منه الشرب يومئذ» . وخرج الترمذي الحكيم في نوادرالأصول «من حديث عثمان بن مظعون، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في آخره: يا عثمان لا ترغب عن سنتي فمن رغب عن سنتي ثم مات قبل أن يتوب ضربت الملائكة وجهه عن حوضي يوم القيامة» ، وقد ذكرناه بكماله في آخر كتاب قمع الحرص بالزهد والقناعة.

باب ما جاء أن لكل نبي حوضا

باب ما جاء أن لكل نبي حوضاً الترمذي «عن سمرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن لكل نبي حوضاً، وأنهم يتباهون أيهم أكثر وارده وإني أرجو أن أكون أكثرهم وارده» . قال أبو عيسى: هذا حديث حسن غريب. رواه قتادة عن الحسن عن سمرة، وقد رواه الأشعث ابن عبد الملك عن الحسين رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم ولم يذكر فيه غير سمرة. وقال البكري المعروف بابن الواسطي: لكل نبي حوض إلا صالحاً فإن حوضه ضرع ناقته، والله سبحانه وتعالى أعلم. باب ما جاء في الكوثر الذي أعطيه صلى الله عليه وسلم في الجنة البخاري «عن أنس بن مالك عن النبي قال: بينا أنا أسير في الجنة إذا أنا بنهر في الجنة حافتاه قباب الدر المجوف، قلت: ما هذا يا جبريل؟ قال: هذا الكوثر الذي أعطاك ربك فإذا طينه أو طينته مسك أذفر» ـ شك هدبة ـ خرجه أبو عيسى الترمذي بمعناه وزاد «ثم رفعت إلى سدرة المنتهى فرأيت عندها نوراً عظيماً» . قال أبو عيسى: هذا حديث حسن

صحيح. وخرجه ابن وهب قال: «أخبرني شبيب عن أبان عن أنس بن مالك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: حين عرج به إلى السماء قال: رأيت نهراً عجاجاً مثل السهم يطرد أشد بياضاً من اللبن وأحلى من العسل حافتاه قباب من در مجوف فقلت: يا جبريل ما هذا؟ قال: هذا نهر الكوثر الذي أعطاك ربك، قال: فضربت بيدي إلى حمأته فإذا هو مسك أذفر، ثم ضربت بيدي إلى رضواضه فإذا هو در» . الترمذي «عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الكوثر نهر في الجنة حافتاه من ذهب ومجراه الدر والياقوت تربته أطيب من المسك وماؤه أحلى من العسل وأبيض من الثلج» . هذا حديث حسن والله أعلم.

أبواب الميزان باب ما جاء في الميزان وأنه حق

تم الجزء الأول من كتاب التذكرة في أحوال الموتى وأمور الآخرة ويليه الجزء الثاني حسب تقسيم النسخة المصورة أبواب الميزان باب ما جاء في الميزان وأنه حق قال الله تعالى {ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئاً} وقال {فأما من ثقلت موازينه * فهو في عيشة راضية * وأما من خفت موازينه * فأمه هاوية} . قال العلماء: وإذا انقضى الحساب كان بعد وزن الأعمال لأن الوزن للجزاء فينبغي أن يكون بعد المحاسبة فإن المحاسبة لتقدير الأعمال والوزن لإظهار مقاديرها ليكون الجزاء بحسبها. قال الله تعالى {ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئاً} الآية. وقال {فأما من ثقلت موازينه * فهو في عيشة راضية * وأما من خفت موازينه} إلى آخر السورة. وقال {ومن خفت موازينه فأولئك الذين خسروا أنفسهم} الآيتين. في الأعراف والمؤمنين. وهذه الآيات إخبار لوزن أعمال الكفار لأن عامة المعنيين بقوله خفت موازينه في هذه الآيات هم الكفار وقال في سورة المؤمنين {فكنتم بها تكذبون} وفي الأعراف {بما كانوا بآياتنا يظلمون} وقال {فأمه هاوية} وهذا الوعيد بإطلاقه للكفار، وإذا جمع بينه وبين قوله {وإن كان مثقال حبة من خردل أتينا بها وكفى

بنا حاسبين} ثبت أن الكفار يسألون عما خالفوا فيه الحق من أصل الدين وفروعه إذ لم يسألوا عما خالفوا فيه أصل دينهم من ضروب تعاطيهم ولم يحاسبوا به ولم يعتد بها في الوزن أيضاً، فإذا كانت موزونة دل على أنهم يحاسبون بها وقت الحساب، وفي القرآن ما يدل أنهم مخاطبون بها مسؤولون عنها محاسبون بها مجزيون على الإخلال بها لأن الله تعالى يقول: {وويل للمشركين * الذين لا يؤتون الزكاة} فتوعدهم على منعهم الزكاة وأخبر عن المجرمين أنهم يقال لهم {ما سلككم في سقر} الآية. فبان بهذا أن المشركين مخاطبون بالإيمان والبعث وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، وأنهم مسؤولون عنها محتسبون مجزيون على الإخلال بها. وفي البخاري، «عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إنه ليأتي الرجل العظيم السمين يوم القيامة لا يزن عند الله جناح بعوضة واقرأوا إن شئتم {فلا نقيم لهم يوم القيامة وزناً} » . قال العلماء: معنى هذا الحديث أنه لا ثواب لهم وأعمالهم مقابلة بالعذاب فلا حسنة لهم توزن في موازين يوم القيامة، ومن لا حسنة له فهو في النار. قال أبو سعيد الخدري: يؤتى بأعمال كجبال تهامة فلا تزن شيئاً. وقيل: يحتمل أن يريد المجاز والاستعارة كأنه قال: فلا قدر لهم عندنا يومئذ والله أعلم.

باب منه وبيان كيفية الميزان ووزن الأعمال فيه ومن قضى لأخيه حاجة

وفيه من الفقه ذم السمن لمن تكلفه لما في ذلك من تكلف المطاعم والاشتغال بها عن المكارم، بل يدل على تحريم كثرة الأكل الزائد على قدر الكفاية المبتغى به الترفه والسمن وقد قال صلى الله عليه وسلم «إن أبغض الرجال إلى الله الحبر السمين» . باب منه وبيان كيفية الميزان ووزن الأعمال فيه ومن قضى لأخيه حاجة الترمذي «عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الله يستخلص رجلا من أمتي على رؤوس الخلائق يوم القيامة، فينشر عليه تسعة وتسعين سجلاً كل سجل مثل مد البصر ثم يقول أتنكر من هذا شيئاً، أظلمك كتبتي الحافظون؟ فيقول: لا يا رب. فيقول: أفلك عذر؟ فقال: لا يا رب فيقول: بل إن لك عندنا حسنة فإنه لا ظلم عليك اليوم فيخرج له بطاقة فيها أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله فيقول احضر وزنك فيقول يا رب ما هذه البطاقة مع هذه السجلات؟ فيقال: إنك لا تظلم. قال فتوضع السجلات في كفة والبطاقة

في كفة فطاشت السجلات وثقلت البطاقة فلا يثقل مع اسم الله شيء» قال حديث حسن غريب وأخرجه ابن ماجه في سننه وقال بدل قوله في أول الحديث «إن الله يستخلص رجلاً من أمتي على رؤوس الخلائق يوم القيامة يصاح برجل من أمتي على رؤوس الخلائق» وذكر الحديث وقال محمد بن يحيى: البطاقة: الرقعة. أهل مصر يقولون للرقعة بطاقة. وفي الخبر «إذا خفت حسنات المؤمن أخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم بطاقة كالأنملة فيلقيها في كفة الميزان اليمنى التي فيها حسناته فترجح الحسنات فيقول ذلك العبد المؤمن للنبي صلى الله عليه وسلم بأبي أنت وأمي ما أحسن وجهك وما أحسن خلقك فمن أنت؟ فيقول: أنا نبيك محمد وهذه صلاتك علي التي كنت تصلي علي قد وفيتك إياها أحوج ما تكون إليها» . ذكره القشيري في تفسيره، وذكر أبو نعيم الحافظ بإسناده «من حديث مالك بن أنس والعمري عن نافع عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من قضى لأخيه حاجة كنت واقفاً عند ميزانه فإن رجح وإلا شفعت له» .

فصل: قال المؤلف: الميزان حق ولا يكون في حق كل أحد بدليل قوله عليه السلام فيقال يا محمد ادخل الجنة من أمتك من لا حساب عليه. الحديث، وقوله تعالى {يعرف المجرمون بسيماهم} الآية، وإنما يكون لمن بقي من أهل المحشر ممن خلط عملاً صالحاً وآخر سيئاً من المؤمنين وقد يكون للكافرين على ما ذكرنا ويأتي. وقال أبو حامد: والسبعون الألف الذين يدخلون الجنة بلا حساب لا يرفع لهم ميزان ولا يأخذون صحفاً، وإنما هي براءات مكتوبة لا إله إلا الله محمد رسول الله. هذه براءة فلان ابن فلان قد غفر له وسعد سعادة لا يشقى بعدها فما مر عليه شيء أسر من ذلك لمقام. قلت: وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أن قال: «تنصب الموازين يوم القيامة فيؤتى بأهل الصلاة فيوفون أجورهم بالموازين، ويؤتى بأهل الصيام فيوفون أجورهم بالموازين، ويؤتى بأهل الصدقة فيوفون أجورهم بالموازين، ويؤتى بأهل الحج فيوفون أجورهم بالموازين، ويؤتى بأهل البلاء فلا ينصب لهم ميزان ولا ينتشر لهم ديوان ويصب عليهم الأجر صباً بغير حساب» ذكره القاضي منذر بن سعيد البلوطي رحمه الله. وخرجه أبو نعيم الحافظ بمعناه، «عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: يؤتى بالشهيد يوم القيامة فينصب للحساب، ويؤتى بالمتصدق فينصب للحساب، ثم يؤتى بأهل البلاء فلا ينصب لهم ميزان ولا ينشر لهم ديوان فيصب عليهم الأجر صباً، حتى إن أهل العافية ليتمنون في

الموقف أن أجسامهم قرضت بالمقاريض من حسن ثواب الله تعالى لهم» . هذا حديث غريب من حديث جابر الجعفي وقتادة وتفرد به قتادة عن جابر عن ابن عباس عن مجاعة ابن الزبير. «وروى الحسين بن علي رضوان الله عليهما قال: قال لي جدي صلى الله عليه وسلم: يا بني عليك بالقناعة تكن أغنى الناس وأد الفرائض تكن أعبد الناس. يا بني إن في الجنة شجرة يقال لها شجرة البلوى يؤتى بأهل البلاء يوم القيامة فلا ينصب لهم ميزان ولا ينشر لهم ديوان يصب عليهم الأجر صباً وقرأ صلى الله عليه وسلم {إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب} » ذكره أبو الفرج الجوزي في كتاب روضة المشتاق. فصل: فإن قيل: أما وزن أعمال المؤمنين فظاهر وجهه فتقابل الحسنات بالسيئات فتوجد حقيقة الوزن والكافر لا يكون له حسنات، فما الذي يقابل بكفره وسيئاته وأن يتحقق في أعماله الوزن؟ . فالجواب: إن ذلك على الوجهين. أحدهما: أن الكافر يحضر له ميزان فيوضع كفره أو كفره وسيئاته في إحدى كفتيه، ثم يقال له: هل لك من طاعة تضعها في الكفة الآخرى؟ فلا يجدها فيشال الميزان فترتفع الكفة الفارغة وتقع الكفة المشغولة، فذلك خفة ميزانه وهذا ظاهر الآية، لأن الله تعالى وصف الميزان بالخفة لا الموزون، وإذا كان فارغاً فهو خفيف.

والوجه الآخر: أن الكافر يكون منه صلة الأرحام ومؤاساة الناس وعتق المملوك ونحوهما مما لو كانت من المسلم لكانت قربة وطاعة، فمن كان له مثل هذه الخيرات من الكفار فإنها تجمع وتوضع في ميزانه، غير أن الكفر إذا قابلها رجح بها ولم يخل من أن يكون الجانب الذي فيه الخيرات من ميزانه خفيفاً ولو لم يكن له إلا خيراً واحد أو حسنة واحدة لأحضرت ووزنت كما ذكرنا. فإن قيل: لو احتسبت خيراته حتى يوزن لجوزي بها جزاء مثلها وليس له منها جزاء، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن عبد الله ابن جدعان وقيل له: إنه كان يقري الضيف ويصل الرحم ويعين في النوائب، فهل ينفعه ذلك؟ فقال: «لا لأنه لم يقل يوماً رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين» وسأله عدي بن حاتم عن أبيه مثل ذلك، فقال: «إن أباك طلب أمراً فأدركه» يعني الذكر فدل أن الخيرات من الكافر ليست بخيرات وأن وجودها وعدمها بمنزلة واحدة سواء. والجواب: أن الله تعالى قال {ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئاً} ولم يفصل بين نفس ونفس، فخيرات الكافر توزن ويجزى بها، إلا أن الله تعالى حرم عليه الجنة فجزاؤه أن يخفف عند بدليل حديث أبي طالب فإنه قيل له: يا رسول الله إن أبا طالب كان يحوطك وينصرك فهل نفعه ذلك؟ فقال «نعم وجدته في غمرات من النار فأخرجته إلى ضحضاح ولولا

أنا لكان في الدرك الأسفل من النار» وما قاله عليه السلام في ابن جدعان وأبي عدي إنما هو في أنهما لا يدخلان الجنة ولا يتنعمان بشيء من نعيمها والله أعلم. فصل: أصل ميزان موزان قلبت الواو ياء لكسرة ما قبلها. قال ابن فورك: وقد أنكرت المعتزلة الميزان بناء منهم على أن الأعراض يستحيل وزنها إذ لا تقوم بأنفسها، ومن المتكلمين من يقول كذلك، وروي ذلك عن ابن عباس أن الله تعالى يقالب الأعراض أجساماً فيزنها يوم القيامة وقد تقدم بهذا المعنى. والصحيح ان الموازين تثقل بالكتب فيها الأعمال مكتوبة وبها تخف كما دل عليه الحديث الصحيح والكتاب العزيز. قال الله عز وجل {وإن عليكم لحافظين * كراما كاتبين} وهذا نص. قال ابن عمر: توزن صحائف الأعمال وإذا ثبت هذا فالصحف أجسام فيجعل الله تعالى رجحان إحدى الكفتين على الأخرى دليلاً على كثرة أعماله بإدخاله الجنة أو النار.

وروي عن مجاهد والضحاك والأعمش أن الميزان هنا بمعنى العدل والقضاء، وذكر الوزن والميزان ضرب مثل كما يقول هذا الكلام في وزن هذا وفي وزنه أي يعادله ويساويه وإن لم يكن هناك وزن. قلت: وهذا القول مجاز وليس بشيء وإن كان شائعاً في اللغة للسنة الثابتة في الميزان الحقيقي ووصفه بكفتين ولسان، وإن كل كفة منهما طباق

السموات والأرض. وقد جاء أن كفة الحسنات من نور، والأخرى من ظلام، والكفة النيرة للحسنات والكفة المظلمة للسيئات، وجاء في الخبر أن الجنة توضع عن يمين العرش والنار عن يسار العرش، ويؤتى بالميزان فينصب بين يدي الله تعالى كفة الحسنات عن يمين العرش مقابل الجن، وكفة السيئات عن يسار العرش مقابل النار.. وذكره الترمذي الحكيم في نوادر الأصول. وروي عن سلمان الفارسي رضي الله عنه أنه قال: توضع الموازين يوم القيامة فلو وضعت فيهن السموات والأرض لوسعهتن، فتقول الملائكة: يا ربنا ما هذا؟ فيقول: أزن به لمن شئت من خلقي، فتقول الملائكة عند ذلك: ربنا ما عبدناك حق عبادتك. وقال ابن عباس رضي الله عنهما: توزن الحسنات والسيئات في ميزان له لسان وكفتان. قال علماؤنا: ولو جاز حمل الميزان على ما ذكروه لجاز حمل الصراط على الدين الحق والجنة والنار على ما يرد على الأرواح دون الأجساد من الأحزان والأفراح والشياطين والجن على الأخلاق المذمومة والملائكة على القوى المحمودة، وهذا كله فاسد لأنه رد لما جاء به الصادق.

وفي الصحيحين: فيعطي صحيفة حسناته. فيخرج له بطاقة وذلك يدل على الميزان الحقيقي وأن الموزون صحف الأعمال كما بينا، وبالله توفيقنا. ولقد أحسن من قال: تذكر يوم تأتي الله فرداً ... وقد نصبت موازين القضاء وهتكت الستور عن المعاصي ... وجاء الذنب منكشف الغطاء فصل: قال علماؤنا رحمهم الله: الناس في الآخر، ثلاث طبقات. متقون لا كبائر لهم، ومخلطون وهم الذين يوافون بالفواحش والكبائر، والثالث الكفار. فأما المتقون: فإن حسناتهم توضع في الكفة النيرة وصغائرهم إن كانت لهم الكفة الآخرى، فلا يجعل الله لتلك الصغائر وزناً وتثقل الكفة النيرة

حتى لا تبرح، وترتفع المظلمة ارتفاع الفارغ الخالي. وأما المخلطون، فحسناتهم توضع في الكفة النيرة وسيئاتهم في الكفة المظلمة، فيكون لكبائرهم ثقل، فإن كانت الحسنات أثقل ولو بصؤابة دخل الجنة وإن كانت السيئات أثقل ولو بصؤابة دخل النار إلا أن يغفر الله، وإن تساويا كان من أصحاب الأعراف على ما يأتي هذا إن كانت للكبائر فيما بينه وبين الله، وأما إن كانت عليه تبعات وكانت له حسنات كثيرة فإنه ينقص من ثواب حسناته بقدر جزاء السيئات لكثرة ما عليه من التبعات فيحمل عليه من أوزار من ظلمه، ثم يعذب على الجميع. هذا ما تقتضيه الأخبار على ما تقدم ويأتي. قال أحمد بن حرب: تبعث الناس يوم القيامة على ثلاث فرق: فرقة أغنياء بالأعمال الصالحة، وفرقة فقراء، وفرقة أغنياء ثم يصيرون فقراء مفاليس في شأن التبعات. وقال سفيان الثوري: إنك أن تلقى الله عز وجل بسبعين ذنباً فيما بينك وبينه أهون عليك من أن تلقاه بذنب واحد فيما بينك وبين العباد. قال المؤلف: هذا صحيح لأن الله غني كريم وابن آدم فقير مسكين محتاج في ذلك اليوم إلى حسنة يدفع بها سيئة إن كانت عليه، حتى ترجح ميزانه فيكثر خيره وثوابه.

وأما الكافر، فإنه يوضع كفره في الكفة المظلمة ولا يوجد له حسنة توضع في الكفة الأخرى، فتبقى فارغة لفراغها وخلوها عن الخير، فيأمر الله بهم إلى النار ويعذب كل واحد منهم بقدر أوزاره وآثامه. وأما المتقون، فإن صغائرهم تكفر باجتنابهم الكبائر ويؤمر بهم إلى الجنة ويثاب كل واحد منهم بقدر حسناته وطاعته، فهذان الصنفان هما المذكوران في القرآن في آيات الوزن، لأن الله تعالى لم يذكر إلا من ثقلت موازينه ومن خفت موازينه، وقطع لمن ثقلت موازينه بالإفلاح والعيشة الراضية ولمن خفت موازينه بالخلود في النار بعد أن وصفه بالكفر، وبقي الذين خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً فبينهم النبي صلى الله عليه وسلم حسب ما ذكرناه. وإنما توزن أعمال المؤمن المتقي لإظهار فضله، كما توزن أعمال الكافر لخزيه وذله، فإن أعماله توزن تبكيتاً له على فراغه وخلوه عن كل خير، فكذلك توزن أعمال المتقي تحسيناً لحاله وإشارة لخلوه من كل شر وتزييناً لأمره على رؤوس الأشهاد. وأما المخلط السيء بالصالح فإن دخل النار فيخرج بالشفاعة على ما يأتي. فصل: فإن قيل: أخبر الله عن الناس أنهم محاسبون مجزيون، وأخبر أنه يملأ جهنم من الجنة والناس أجمعين، ولم يخبر عن ثواب الجن ولا عن حسابهم بشيء. فما القول في ذلك عندكم وهل توزن أعمالهم؟ . فالجواب: أنه قد قيل إن الله تعالى لما قال {والذين آمنوا وعملوا

الصالحات أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون} دخل في الجملة الجن والإنس، فثبت للجن من وعد الجنة بعموم الآية ما ثبت للإنس وقال {أولئك الذين حق عليهم القول في أمم قد خلت من قبلهم من الجن والإنس إنهم كانوا خاسرين} ثم قال {ولكل درجات مما عملوا} وإنما أراد لكل من الجن والإنس فقد ذكروا في الوعد والوعيد مع الإنس، وأخبر تعالى أن الجن يسألون فقال خبراً عما يقال لهم: {يا معشر الجن والإنس ألم يأتكم رسل منكم يقصون عليكم آياتي وينذرونكم لقاء يومكم هذا قالوا شهدنا على أنفسنا} وهذا سؤال، وإذا ثبت بعض السؤال ثبت كله وقد تقدم هذا، وقال تعالى {وإذ صرفنا إليك نفراً من الجن يستمعون القرآن} إلى قوله {يا قومنا أجيبوا داعي الله وآمنوا به يغفر لكم من ذنوبكم ويجركم من عذاب أليم * ومن لا يجب داعي الله فليس بمعجز في الأرض وليس له من دونه أولياء أولئك في ضلال مبين} وهذا يدل صريحاً على أن حكمهم في الآخرة كالمؤمنين. وقال حكاية عنهم {وأنا منا المسلمون ومنا القاسطون} الآيتين. ولما جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم زادهم كل عظيم وعلف دوابهم كل روث فلا تستنجوا بهما. فإنهما طعام إخوانكم الجان فجعلهم إخواننا، وإذا كان كذلك فحكمهم كحكمنا في الآخرة سواء والله أعلم. وقد تقدمت الإشارة إلى هذا في باب ما جاء أن الله يكلم العبد ليس بينه وبينه ترجمان. فصل: قوله في الحديث: «فيخرج له بطاقة فيه أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله» ليست هذه شهادة التوحيد لأن من شأن الميزان أن يوضع في

كفة شيء وفي أخرى ضده، فتوضع الحسنات في كفة والسيئات في كفة، فهذا غير مستحيل لأن العبد يأتي بهما جميعاً، ويستحيل أن يأتي الكفر والإيمان جميعاً عند واحد حتى يوضع الإيمان في كفة والكفر في كفة، فلذلك استحال أن توضع شهادة التوحيد في الميزان وأما بعد ما آمن العبد فإن النطق منه بلا إله إلا الله حسنة توضع في الميزان مع سائر الحسنات. قاله الترمذي الحكيم رحمه الله. وقال غيره: إن النطق بها زيادة ذكر على حسن نية وتكون طاعة مقبولة قالها على خلوة وخفية من المخلوقين، فتكون له عند الله تبارك وتعالى وديعة يردها عليه في ذلك اليوم بعظم قدرها ومحل موقعها وترجح بخطاياه وإن كثرت، وبذنوبه وإن عظمت، ولله الفضل على عباده ويتفضل على من يشاء بما شاء. قلت: ويدل على هذا قوله في الحديث فيقول: «بلى إن لك عندنا حسنة ولم يقل إن لك إيماناً، وقد سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن لا إله إلا الله أمن الحسنات هي؟ فقال: من أعظم الحسنات» خرجه البيهقي وغيره. ويجوز أن تكون هذه الكلمة هي آخر كلامه في الدنيا «كما في حديث معاذ بن جبل قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من كان آخر كلامه في الدنيا لا إله إلا الله

وجبت له الجنة» رواه صالح بن أبي غريب عن كثير بن مرة عن معاذ وقد تقدم أول الكتاب. وقيل: يجوز حمل هذه الشهادة على الشهادة التي هي الإيمان، ويكون ذلك في كل مؤمن ترجح حسناته ويوزن إيمانه كما توزن سائر حسناته وإيمانه يرجح سيئاته كما في هذا الحديث، ويدخله النار بعد ذلك فيطهره من ذنوبه ويدخله الجنة بعد ذلك، وهذا مذهب قوم يقولون: إن كل مؤمن يعطى كتابه بيمينه وكل مؤمن يثقل ميزانه ويتأولون قوله الله تعالى {فمن ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون} أي الناجون من الخلود وهو في قوله {فهو في عيشة راضية} يوماً ما وكذلك في قول النبي صلى الله عليه وسلم من كان آخر كلامه «لا إله إلا الله وجبت له الجنة» إنه صائر إليها لا محالة أصابه قبل ذلك ما أصابه. قلت: هذا تأويل فيه نظر يحتاج إلى دليل من خارج ينص عليه، والذي تدل عليه الآي والأخبار أن من ثقل ميزانه فقد نجا وسلم وبالجنة أيقن وعلم أنه لا يدخل النار بعد ذلك والله أعلم. وقال عليه السلام: «ما شيء يوضع في الميزان أثقل من خلق حسن» خرجه الترمذي عن أبي الدرداء وقال فيه حديث حسن صحيح، وقد تقدم من حديث «سمرة بن جندب: ورأيت رجلاً من أمتي قد خف ميزانه

فجاء أفراطه فثقلوا ميزانه وكذلك الأعمال الصالحة دليل على فضل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم» . وذكر القشيري في التحبير له: يحكى عن بعضهم أنه قال: رأيت بعضهم في المنام فقلت ما فعل الله بك؟ فقال: وزنت حسناتي فرجحت السيئات على الحسنات، فجاءت صرة من السماء وسقطت في كفة الحسنات فرجحت فحللت الصرة، فإذا فيها كف تراب ألقيته في قبر مسلم، وذكر أبو عمر في كتاب جامع بيان العلم بإسناده عن حماد بن زيد عن أبي حنيفة عن حماد بن إبراهيم في قوله عز وجل {ونضع الموازين القسط ليوم القيامة} قال: يجاء بعمل الرجل فيوضع في كفة ميزانه يوم القيامة فتخفف، فيجاء بشيء أمثال الغمام أو قال مثل السحاب فيوضع في ميزانه فترجح فيقال له: أتدري ما هذا فيقول: لا. فيقال له: هذا فضل العلم الذي كنت تعلمه الناس أو نحو ذلك. باب منه الترمذي «عن عائشة رضي الله عنها أن رجلا قعد بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله: إن لي مملوكين يكذبونني ويخونونني ويعصونني وأشتمهم وأضربهم فكيف أنا منهم؟ قال: بحسب ما خانوك وعصوك وكذبوك وعقابك إياهم فوق ذنوبهم اقتص لهم منك الفضل قال: فتنحى الرجل فجعل يبكى

باب منه وذكر أصحاب الأعراف

ويهتف، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أما تقرأ كتاب الله تعالى {ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئاً} الآية؟ فقال الرجل: والله يا رسول الله ما أجد لي وهؤلاء شيئاً خيراً من مفارقتهم. أشهدك أنهم أحرار كلهم» . قال أبو عيسى: هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث عبد الرحمن بن غزوان. وقد روى أحمد بن حنبل عن عبد الرحمن بن غزوان هذا الحديث، وعن وهب بن منبه في قوله تعالى {ونضع الموازين القسط ليوم القيامة} قال: إنما يوزن من الأعمال خواتيمها، وإذ أراد الله بعبد خيراً ختم له بخير وإذا أراد الله به شراً ختم له بشر عمله. ذكره أبو نعيم. قال المؤلف هذا صحيح يدل عليه قوله عليه السلام «وإنما الأعمال بالخواتيم» والله تعالى أعلم. باب منه وذكر أصحاب الأعراف ذكر خيثمة بن سليمان في مسنده «عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم توضع الموازين يوم القيامة فتوزن السيئات والحسنات،

فمن رجحت حسناته على سيئاته مثقال صؤابة دخل الجنة، ومن رجحت سيئاته على حسناته مثقال صؤابة دخل النار قيل يا رسول الله: فمن استوت حسناته وسيئاته؟ قال: أولئك أصحاب الأعراف لم يدخلوها وهم يطعمون» . وذكر ابن المبارك قال، أخبرنا أبو بكر الهذلي، عن سعيد بن جبير، عن عبد الله بن مسعود قال يحاسب الناس يوم القيامة فمن كانت حسناته أكثر من سيئاته بواحدة دخل الجنة، ومن كانت سيئاته أكثر من حسناته بواحدة دخل النار، ثم قرأ {فمن ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون * ومن خفت موازينه فأولئك الذين خسروا أنفسهم} ثم قال إن الميزان يخف بمثقال حبة أو ترجح. قال ومن استوت حسناته وسيئاته كان من أصحاب الأعراف. وذكر الحديث. وقال كعب الأحبار: إن الرجلين كانا صديقين في الدنيا، فيمر أحدهما بصاحبه وهو يجر إلى النار فيقول له أخوه: والله ما بقي لي إلا حسنة أنجو بها خذها أنت يا أخي فتنجو بها مما أرى وأبقى أنا وإياك من أصحاب الأعراف، قال: فيأمر الله بهما جميعاً فيدخلان الجنة. وذكر أبو حامد في كتاب كشف علم الآخرة: أنه يؤتى برجل يوم القيامة فما يجد له حسنة ترجح ميزانه وقد اعتدلت بالسوية، فيقول الله تعالى رحمة منه: اذهب في الناس فالتمس من يعطيك حسنة أدخلك بها الجنة فيصير يجوس خلال العالمين فيما يجد أحداً يكلمه في ذلك الأمر إلا يقول له خفت أن يخف ميزاني فأنا أحوج منك إليها، فييأس

فيقول له رجل: ما الذي تطلب؟ فيقول: حسنة واحدة فلقد مررت بقوم لهم منها الألف فبخلوا علي، فيقول له الرجل: لقد لقيت الله تعالى فما وجدت في صحيفتي إلا حسنة واحدة وما أظنها تغني عني شيئاً خذها هبة مني إليك، فينطلق فرحاً مسروراً فيقول الله له: ما بالك وهو أعلم فيقول: رب اتفق من أمري كيت وكيت، ثم ينادي سبحانه بصاحبه الذي وهبه الحسنة فيقول له سبحانه: كرمي أوسع من كرمك خذ بيد أخيك وانطلقا إلى الجنة، وكذا تستوي كفتا الميزان لرجل فيقول الله تعالى له: لست من أهل الجنة ولا من أهل النار، فيأتي الملك بصحيفة فيضعها في كفة الميزان فيها مكتوب أف فترجح على الحسنات لأنها كلمة عقوق ترجح بها جبال الدنيا فيؤمر به إلى النار قال: فيطلب الرجل أن يرده الله تعالى فيقول: ردوه فيقول له أيها العبد العق لأي شيء تطلب الرد إلي فيقول: إلهي رأيت أني سائر إلى النار وإذ لا بد لي منها وكنت عاقاً لأبي وهو سائر إلى النار مثلي فضعف علي به عذابي وأنقذه منها. قال: فيضحك الله تعالى ويقول: عققته في الدينا وبررته في الآخرة خذ بيد أبيك وانطلقا إلى الجنة. فصل: ذكر الله تعالى الميزان في كتابه بلفط الجمع، وجاء السنة بلفظ الإفراد والجمع، فقيل: يجوز أن يكون هنالك موازين للعمل الواحد يوزن بكل

ميزان منها صنف من الأعمال كما قال: ملك تقوم الحادثات لعدله ... فلكل حادثة لها ميزان تتصرف الأشياء في ملكوته ... ولك شيء مدة وأوان ويمكن أن يكون ميزاناً واحداً عبر عنه بلفظ الجمع كما قال تعالى {كذبت عاد المرسلين} و {كذبت قوم نوح المرسلين} وإنما هو رسول واحد، وقيل: المراد بالموازين جمع موزون أي الأعمال الموزونة لا جمع ميزان. وخرج اللالكائي في سننه، عن أنس رفعه: أن ملكاً موكل بالميزان فيؤتى بابن آدم فيوقف بين كفتي الميزان، فإن رجح نادى الملك بصوت يسمع الخلائق كلها: سعد فلان سعادة لا يشقى بعدها أبداً وإن خف نادى الملك: شقي فلان شقاوة لا يسعد بعدها أبداً وخرج عن حذيفة قال: [صاحب الميزان يوم القيامة جبريل عليه السلام] . فصل: وأما أصحاب الأعراف فيقال: إنهم مساكين أهل الجنة.

ذكر هناد بن السري قال: حدثنا وكيع، عن سفيان، عن مجاهد، عن حبيب، عن عبد الله بن الحارث قال: أصحاب الأعراف ينتهي بهم إلى نهر يقال له الحياة حافتاه قصب الذهب قال: أراه قال مكلل باللؤلؤ فيغتسلون منه اغتسالة فيبدو في نحورهم شامة بيضاء، ثم يعودون فيغتسلون فكلما اغتسلوا زادت بياضاً فيقال لهم: تمنوا فيتمنون ما شاءوا. قال: فيقال لهم لكم ما تمنيتم وسبعين ضعفاً. قالوا: فهم مساكين أهل الجنة. وفي رواية: فإذا دخلوا الجنة وفي نحورهم تلك الشامة البيضاء فيعرفون بها. قال: فهو يسمون في الجنة مساكين أهل الجنة. واختلف العلماء في تعيينهم على اثني عشر قولاً: الأول: ما تقدم ذكره في الحديث، وهو قول ابن مسعود وكعب الأحبار كما ذكرنا وذكره ابن وهب عن ابن عباس. الثاني: قوم صالحون فقهاء علماء. قاله مجاهد. الثالث: هم الشهداء ذكره المهدوي. الرابع: هم فضلاء المؤمنين والشهداء فرغوا من شغل أنفسهم وتفرغوا لمطالعة أحوال الناس. ذكره أبو نصر عبد الرحيم بن عبد الكريم القشيري. الخامس: هم المستشهدون في سبيل الله الذين خرجوا عصاة لآبائهم. قاله شرحبيل بن سعد. وذكر الطبري في ذلك حديثاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: وأنه تعادل عقوقهم واستشهادهم.

السادس: هم العباس وحمزة وعلي بن أبي طالب وجعفر ذو الجناحين يعرفون محبيهم ببياضالوجوه ومبغضيهم بسواد الوجوه. ذكره الثعلبي عن ابن عباس. السابع: هم عدول القيامة الذين يشهدون على الناس بأعمالهم وهم في كل أمة. ذكره الزهراوي واختاره النحاس. الثامن: هم قوم أنبياء. قاله الزجاج. التاسع: هم قوم كانت لهم صغائر لم تكفر عنهم بالآلام والمصائب في الدنيا فوقفوا وليست لهم كبائر فحيسبون عن الجنة لينالهم بذلك غم، فيقع في مقابلة صغائرهم. حكاه ابن عطية القاضي أبو محمد في تفسيره. العاشر: ذكره ابن وهب عن ابن عباس قال: أصحاب الأعراف الذين ذكر الله في القرآن أصحاب الذنوب العظام من أهل القبلة، وذكره ابن المبارك قال: أخبرنا جويبر، عن الضحاك، عن ابن عباس قال: أصحاب الأعراف رجال كانت لهم ذنوب عظام، وكان جسيم أمرهم لله فأقيموا ذلك المقام إذا نظروا إلى أهل النار عرفوهم بسواد الوجوه وقالوا: ربنا لا تجعلنا مع القوم الظالمين، وإذا نظروا إلى أهل الجنة عرفوهم ببياض وجوههم.

قال ابن عباس: أدخل الله أصحاب الأعراف الجنة، وفي رواية سعيد بن جبير عن عبد الله بن مسعود وكانوا آخر أهل الجنة دخولاً الجنة. قال ابن عطية: وتمنى سالم مولى أبي حذيفة أن يكون من أصحاب الأعراف لأن مذهبه أنهم مذنبون. الحادي عشر: أنهم أولاد الزنا. ذكره أبو نصر القشيري عن ابن عباس. الثاني عشر: أنهم ملائكة موكلون بهذا السور يميزون الكافرين من المؤمنين قبل دخالهم الجنة والنار. قاله أبو مجلز لاحق بن حميد، فقيل له: لا يقال للملائكة رجال فقال: إنهم ذكور وليسوا بإناث فلا يبعد إيقاع لفظ الرجال عليهم كما وضع على الجن في قوله تعالى {وأنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الجن} . والأعراف: سور بين الجنة والنار. قيل: هو جبل أحد يوضع هناك. روى عن النبي صلى الله عليه وسلم من طريق أنس وغيره ذكره أبو عمر بن عبد البر وغيره حسب ما ذكرناه في كتاب جامع أحكام القرآن من سورة الأعراف والحمد لله. حكاية روي عن بعض الصالحين رضي الله عنه أنه قال: أخذتني ذات ليلة سنة فنمت

باب إذا كان يوم القيامة تتبع كل أمة ما كانت تعبد فإذا بقي في هذه الأمة منافقون امتحنوا وضرب الصراط

فرأيت في منامي كأن القيامة قد قامت وكأن الناس يحاسبون، فقوم يمضي بهم إلى الجنة وقوم يمضي بهم إلى النار قال: فأتيت إلى الجنة فناديت أهل الجنة بماذا نلتم سكنى الجنة في محل الرضوان؟ فقالوا: بطاعة الرحمن ومخالفة الشيطان، ثم أتيت إلى باب النار فناديت يا أهل النار: بماذا نلتم النار؟ قالوا: بطاعة الشيطان ومخالفةالرحمن. قال: فنظرت فإذا أنا بقوم موقوفون بين الجنة والنار، فقالوا لي: لنا ذنوب جلت وحسنات قلت، فالسيئات منعتنا من دخول الجنة والحسنات منعتنا دخول النار وأنشدوا: نحن قوم لنا ذنوب كبار ... منعتنا من الوصول إليه تركتنا مذبذبين حيارى ... أمسكتنا من القدوم عليه باب إذا كان يوم القيامة تتبع كل أمة ما كانت تعبد فإذا بقي في هذه الأمة منافقون امتحنوا وضرب الصراط الترمذي «عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: يجمع الله الناس يوم القيامة في صعيد واحد ثم يطلع عليهم رب العالمين فيقول ألا ليتبع كل إنسان ما كان يعبد، فيمثل لصاحب الصليب صليبه ولصاحب التصاوير تصاويره ولصاحب النار ناره فيتبعون ما كانوا يعبدون ويبقى المسلمون» وذكر الحديث بطوله. وخرج مسلم «أن ناساً قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم يا رسول الله: هل نرى ربنا يوم القيامة؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم هل تضارون في القمر ليلة البدر

قالوا: لا يا رسول الله. قال هل تضارون في رؤية الشمس ليس دونها سحاب؟ قالوا: لا. قال: فإنكم ترونه كذلك يجمع الله الناس يوم القيامة فيقول من كان يعبد شيئاً فليتبعه فيتبع من كان يعبد الشمس الشمس، ويتبع من كان يعبد القمر القمر ويتبع من كان يعبد الطواغيت الطواغيث، وتبقى هذه الأمة فيها منافقوها فيأتيهم الله في صورة غير صورته التي يعرفون فيقول أنا ربكم فيقولون نعوذ بالله منك هذا مكاننا حتى يأتينا ربنا، فإذا جاء ربنا عرفناه فيأتيهم الله في صورته التي يعرفون فيقول أنا ربكم فيقولون أنت ربنا فيتبعونه ويضرب الصراط بين ظهري جهنم فأكون أنا وأمتي أول من يجوز ولا يتكلم يومئذ إلا الرسل، ودعوى الرسل يومئذ اللهم سلم سلم، وفي جهنم كلاليب مثل شوك السعدان. هل رأيتم السعدان؟ قالوا نعم يا رسول الله. قال: فإنها مثل شوك السعدان غير أنه لا يعلم قدر عظمها إلا الله تخطف الناس بأعمالهم، فمنهم الموبق بعمله، ومنهم المجازى حتى ينجى» وذكر الحديث وسيأتي. فصل: ذكر الفقيه أبو بكر بن برجان في كتاب الإرشاد له بعد قوله: يفهم رؤوس المحشر لطلب من يشفع ويريحهم مما هم فيه، وهم رؤوساء أتباع الرسل فيكون ذلك، ثم يؤمر آدم عليه السلام بأن يخرج بعث النار من ذريته، وهم سبعة أصناف البعثان الأولان يلتقطهم عنق النار من بين الخلائق لقط الحمام حب السمسم وهم أهل الكفر بالله جحدوا وعتوا، وأهل الكفر بالله إعراضاً وجهلاً، ثم يقال لأهل الجمع: أين ما كنتم تعبدون من دون الله لتتبع كل أمة ما

كانت تعبد فمن كان يعبد من دون الله شيئاً اتبعه حتى يقذف به في جهنم، قال الله عز وجل: {هنالك تبلو كل نفس ما أسلفت وردوا إلى الله مولاهم الحق وضل عنهم ما كانوا يفترون} وقال: {فكبكبوا فيها هم والغاوون * وجنود إبليس أجمعون} . وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «تمد الأرض مد الأديم يوم القيامة لعظمة الله عز وجل. ثم لا يكون لبشر من بني آدم منها إلا موضع قدميه، ثم ادعى أنا أول الناس فأخر ساجداً، ثم يؤذن لي فأقول يا رب: خبرني هذا جبريل صلى الله عليه وسلم وهو عن يمين عرش الرحمن تبارك وتعالى أنك أرسلته إلي وجبريل ساكت لا يتكلم حتى يقول الله عز وجل صدق، ثم يؤذن لي في الشفاعة فأقول: يا رب عبادك عبدوك في أقطار الأرض فذلك المقام المحمود، ثم يبعث المقام المحمود، ثم يبعث البعث الرابع وهم قوم وحدوا الله وكذبوا المرسلين جهلوا صفات الله جل جلاله، وردوا عليه كتابه ورسله، ثم يبعث البعث الخامس والسادس وهم أهل الكتابين يأتون عطاشاً يقال لهم: ما كنتم تبغون؟ فيقولون: عطشنا يا رب فاسقنا، فيقال لهم: ألا ترون فيشار لهم إلى جهنم كأنها سراب يحطم بعضها بعضاً فيردونها سقوطاً فيها، ثم تقع المحنة بالمنافقين والمؤمنين في معرفة ربهم وتميزه من المعبودات من دونه فيذهب الله المنافقين ويثبت المؤمنين، ثم ينصب الصراط مجازاً على متن جهنم أعادنا الله منها أرق من الشعر وأحد من الموسى كما وصفه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيسقط أهل البدع في الباب السادس منه أو الخامس، وأهل الكبائر في السابع أو السادس، وإنما يسقط الساقط بعدما يعجز عن عمله

ويخلص المؤمنون على درجاتهم في تفاوتهم في النجاة ويحبسون على قنطرة بين الجنة والنار يتقاضون مظالم كانت بينهم في الدنيا حتى إذا صفوا وهذبوا، أدخلوا الجنة، ومن ذلك المقام يوقف أصحاب الأعراف» . قال المؤلف: هكذا ذكر الترتيب وهو ترتيب حسن، وسيأتي له مزيد بيان إن شاء الله تعالى. فصل: قوله: «هل تضارون» بضم التاء وفتحها وبتشديد الراء وتخفيفها، وضم التاء وتشديد الراء أكثر، وأصله تضارون أسكنت الراء الأولى وأدغمت مع الثانية وماضيه ضورر على ما لم يسم فاعله، ويجوز أن يكون مبيناً للفاعل بمعنى تضاررون بكسر الراء إلا إنها سكنت الراء وأدغمت وكله من الضر المشدد، وأما التخفيف فهو من ضاره يضيره ويضوره مخففاً. والمعنى أن أهل الجنة إذا امتن الله عليهم برؤيته سبحانه تجلى لهم ظاهراً بحيث لا يحجب بعضهم بعضاً ولا يضره ولا يزاحمه ولا يجادله كما يفعل عند رؤية الأهلة، بل كالحال عند رؤية الشمس والقمر ليلة تمامه. وقد روى تضامون من المضامكة وهي الازدحام أيضاً. أي لا تزدحمون عند رؤيته تعالى كما تزدحمون عند رؤية الأهلة. وروي تضامون بتخفيف الميم من الضيم الذي هو الذل أي لا يذل بعضكم بعضاً بالمزاحمة والمنافسة والمنازعة، وسيأتي هذا المعنى مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم في أبواب الجنة إن شاء الله تعالى.

قوله: فإنكم ترونه كذلك هذا تشبيه للرؤية وحالة الرائي لا المرئي، لأن الله سبحانه لا يحاط به وليس كمثله شيء ولا يشبهه شيء. وقوله: فيأيتهم الله في صورة غير صورته التي يعرفون هذا موضع الامتحان ليميز المحق من المبطل وذلك أنه لما بقي المنافقون والمراؤون متلبسين بالمؤمنين والمخلصين زاعمين أنهم منهم وأنهم عملوا مثل أعمالهم وعرفوا الله مثل معرفتهم. امتحنهم الله بأن أتاهم بصورة قالت الجميع أنا ربكم. فأجاب المؤمنون بإنكار ذلك والتعوذ منه لما قد سبق لهم من معرفتهم بالله عز وجل في دار الدنيا وأنه منزه عن صفات هذه الصور إذ سماتها سمات المحدثين. ولهذا قال في حديث أبي سعيد الخدري فيقولون: نعوذ بالله منك لا نشرك بالله شيئاً مرتين أو ثلاثاً حتى إن بعضهم ليكاد أن ينقلب. قال شيخنا أبو العباس أحمد بن عمر في كتاب المفهم لشرح اختصار مسلم كتاب مسلم، وهذا لمن لم يكن له رسوخ العلماء، ولعلهم الذين اعتقدوا الحق وجزموا عليه من غير بصيرة ولذلك كان اعتقادهم قابلاً للانقلاب. والله أعلم. قلت: ويحتمل أن يكونوا المنافقين والمرائين وهو أشبه والله أعلم. لأن في الامتحان الثاني يتحقق ذلك لأن في حديث أبي

سعيد بعد قوله حتى إن بعضهم ليكاد أن ينقلب فيقول هل بينكم وبينه آية فتعرفوه بها؟ فيقولون: نعم، فيكشف عن ساق فلا يبقى من كان يسجد لله من تلقاء نفسه إلا أذن الله له بالسجود ولا يبقى من كان يسجد اتقاء ورياء إلا جعل الله ظهره طبقة واحدة كلما أراد أن يسجد خر على قفاه، ثم يرفعون رؤوسهم وقد تحول في الصورة التي رأوا فيها فيقول: أنا ربكم؟ فيقولون: أنت ربنا. ثم يضرب الجسر على جهنم وتحل الشفاعة، وسيأتي قوله: فيأتيهم الله في صورة التي يعرفون أي يتجلى لهم في صفته التي هو عليها من الجلال والكمال والتعالي والجمال بعد أن رفع الموانع عن أبصارهم. فيتبعونه. أي يتبعون أمره أو ملائكته ورسله الذين يسوقونهم إلى الجنة. والله أعلم. والدعوى: الدعاء. قال الله تسبحاته وتعالى: {دعواهم فيها سبحانك اللهم} أي دعاؤهم

والكلاليب: جمع كلوب. والسعدان: نبت كثير الشوك شوكه كالخطاطيف والمحاجن ترعاه الإبل فيطيب لبنها. تقول العرب: مرعى ولا كالسعدان. والموبق: المهلك أوبقه ذنبه: أهلكه. ومنه الحديث: اجتنبوا السبع الموبقات. وقوله تعالى: {أو يوبقهن بما كسبوا} والمجازى: الذي جوزء بعمله. وقوله: {يكشف عن ساق} كشف الساق عبارة عن معظم الأمر وشدته ذكره ابن المبارك قال: أخبرنا أسامة بن زيد عن عكرمة عن ابن عباس في قوله: {يوم يكشف عن ساق} قال: يوم كرب وشدة. أخبرنا ابن جريج عن مجاهد قال: شدة الأمر وجده. قال مجاهد وقال ابن عباس هي أشد ساعة في القيامة. وقال أبو عبيدة: إذا اشتد الأمر أو الحرب قيل: كشف الأمر عن ساقه. والأصل فيه أن من وقع في شيء يحتاج إلى الجد شمر عن سقاه فاستعير الساق والكشف عنها في موضع الشدة وكذا قال القتبي. قال: يوم يكشف عن ساق هذا من الاستعار فسمي الشدة ساقاً، لأن الرجل إذا وقع في الشدة شمر في ساقه فاستعيرت في موضع شدة

قال الشعر: وكنت إذا جاري دعا لمصيبة ... أشمر حتى ينصف الساق مئزري وقال آخر: فتى الحرب إن عضت به الحرب عضها ... وإن شمرت عن ساقها الحرب شمرا وقال آخر يصف سنة شديدة: قد شمرت عن ساقها وقال آخر: كشفت لهم عن ساقها ... وبدا من الشر البراح وقال آخر: أبشر عناق. إنه شر باق. قد سن لي قومك ضرب الأعناق وقامت الحرب بنا على ساق. والشعر في هذا المعنى كثير: وقيل: يكشف عن شاق جهنم، وقيل: عن ساق العرش. فأما ما روي أن الله تعالى يكشف عن ساقه يوم القيامة، فيسجد له كل

مؤمن ومؤمنة كما في صحيح البخاري، فإنه تعالى على التبعيض والأعضاء، وأن ينكشف ويتغطى، ومعناه أي يكشف على العظيم من أمره.

وقال الخطابي: إنما جاء ذكر الكشف عن الساق على معنى الشدة، فيحتمل أن يكون معنى الحديث أنه يبرز من أهوال القيامة وشدتها ما يرتفع معه سواتر الأمتحان، فيميز عند ذلك أهل اليقين والإخلاص، فيؤذن لهم في السجود، وينكشف الغطاء عن أهل النفاق فتعود ظهورهم طبقاً واحداً لا يستطيعون السجود قال: وقد تأوله بعض الناس فقال: لا ينكر أن يكون الله سبحانه قد يكشف لهم عن ساق لبعض المخلوقين من ملائكته أو غيرهم، فيجعل ذلك سبباً لبيان ما شاء من حكمه في أهل الإيمان وأهل النفاق. قال الخطابي: وفيه وجه آخر لم أسمعه من قدوة وقد يحتمله معنى اللغة. سمعت أبا عمر يذكر عن أبي العباس أحمد بن يحيى النحوي فيما عدة

من المعاني المختلفة الواقعة تحت هذا الاسم، قال: والساق النفس، ومنه قول علي رضي الله عنه حين راجعه أصحابه في قتل الخوارج فقال: والله لأقاتلنهم حتى ولو تلفت ساقي يريد نفسه. وقال أبو سليمان، وقد يحتمل على هذا أن يكون المراد التجلي لهم وكشف الحجب عن أبصارهم حتى إذا رأوه سجدوا له قال: ولست أقطع به القول، ولا أراه واجباً فيما أذهب إليه من ذلك. قال المؤلف: هذا القول أحسن الأقوال إن شاء، وقد جاء فيه حديث حسن ذكره أبو الليث السمرقندي في تفسير سورة ن والقلم، فقال: «حدثنا الخليل بن أحمد: حدثنا ابن منيع قال: حدثنا هدبة قال: حدثنا حماد بن سلمة، عن علي بن زيد، عن عمارة القرشي عن أبي بردة بن أبي موسى قال: حدثني أبي قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إذا كان يوم القيامة مثل لكل قوم ما كانوا يعبدون في الدنيا فيذهب كل قال قوم إلى ما كانوا يعبدون ويبقى أهل التوحيد فيقال لهم: ما تنتظرون وقد ذهب الناس؟ فيقولون: إن لنا رباً كنا نعبده في الدنيا ولم نره، قال: وتعرفونه إذا رأيتموه؟ فيقولون: نعم، فيقال: فكيف تعرفونه ولم تروه؟ قالوا: إنه لا شبيه له، فيكشف لهم الحجاب فينظرون إلى الله تعالى فيخرون له سجداً، وتبقى أقوام ظهورهم مثل صياصي البقر فيريدون السجود فلا يستطيعون فذلك قوله تعالى {يكشف عن ساق ويدعون إلى السجود فلا يستطيعون} فيقول الله تعالى: عبادى ارفعوا رؤوسكم فقد جعلت بدل كل رجل منكم من اليهود والنصارى في النار» .

قال أبو بردة: فحدثت بهذا الحديث عمر بن عبد العزيز فقال: الله الذي لا إله إلا هو فحدثك أبوك بهذا الحديث، فحلفت له ثلاث أيمان فقال عمر: ما سمعت من أهل التوحيد حديثاً هو أحب إلي من هذا. قال المؤلف: فهذا الحديث يبين لك معنى كشف الساق وأنه عبارة عن رؤيته سبحانه وهو معنى ما في صحيح مسلم، والحديث يفسر بعضه بعضاً فلا إشكال فيه، والحمد لله. وقد ذكر البيهقي «عن روح بن جناج عن مولى لعمر بن عبد العزيز عن أبي بردة عن أبي موسى عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى: {يوم يكشف عن ساق} ، قال: عن نور عظيم يخرون له سجداً» تفرد به روح بن جناح، وهو شامي يأتي بأحاديث منكرة لا يتابع عليها، وموالي عمر بن عبد العزيز فيهم كثرة. قال المؤلف: الحديث الذي قبله أبين وأصح إسناداً فليعول عليه. وقد هاب الإمام أبو حامد الغزالي القول فيه وأشفق من تأويله، فقال في كتاب كشف علم الآخرة: ثم يكشف الجليل عن ساقه فيسجد الناس كلهم تعظيماً له وتواضعاً إلى الكفار الذين قد أشركوا به أيام حياتهم وعبدة الحجارة والخشب وما لم ينزل به سلطاناً، فإن صياصي أصلابهم تعود حديداً فلا يقدرون على السجود وهو قوله تعالى: {يوم يكشف عن ساق ويدعون إلى السجود فلا يستطيعون} . «وروي

باب كيف الجواز على الصراط وصفته ومن يحبس عليه ويزل عنه، وفي شفقة النبي صلى الله عليه وسلم على أمته عند ذلك، وفي ذكر القناطر قبله والسؤال عليها وبيان قوله تعالى: " وإن منكم إلا واردها "

البخاري في تفسيره مسنداً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: يكشف الله عن ساقه النبي يوم القيامة فيسجد له كل مؤمن ومؤمنة» ، وقد أشفقت من تأويل الحديث، وعدلت عن منكر به، وكذا أشفقت من صفة الميزان وزيفت قول واصفيه وجعلته متحيزاً إلى العالم الملكوتي، فإن الحسنات والسيئات أعراض ولا يصح وزن الأعراض إلا بميزان ملكوتي. قال المؤلف: قد ذكرنا الميزان وبينا القول فيه، وفي الأعمال الموزونة غاية البيان بالأخبار الصحيحة والحسان، وبينا القول هنا في كشف الساق بحيث لم يبق فيه لأحد ريب ولا مخالفة ولا شقاق. فالله الحمد على ما به أنعم وفهم وعلم. باب كيف الجواز على الصراط وصفته ومن يحبس عليه ويزل عنه، وفي شفقة النبي صلى الله عليه وسلم على أمته عند ذلك، وفي ذكر القناطر قبله والسؤال عليها وبيان قوله تعالى: " وإن منكم إلا واردها " باب كيف الجواز على الصراط وصفته ومن يحبس عليه ويزل عنه، وفي شفقة النبي صلى الله عليه وسلم على أمته عند ذلك، وفي ذكر القناطر قبله والسؤال عليها وبيان قوله تعالى: وإن منكم إلا واردها روي عن بعض أهل العلم أنه قال: لن يجوز أحد الصراط حتى يسأل في سبع قناطر، أما القنطرة الأولى: فيسأل عن الإيمان بالله، وهي شهادة أن لا إله إلا الله، فإن أجاز بها مخلصاً، والإخلاص قول وعمل جاز، ثم يسأل على القنطرة الثانية عن الصلاة، فإن جاؤ بها تامة جاز، ثم يسأل على القنطرة الثالثة عن صوم شهر رمضان، فإن جاء به تاماً جاز، ثم يسأل على القنطرة الرابعة عن

الزكاة فإن جاء بها تامة جاز، ثم يسأل في الخامسة عن الحج والعمرة فإن جاء بهما تامتين جاز، ثم يسأل في القنطرة السادسة عن الغسل والوضوء فإن جاء بهما تأمين جاز، ثم يسأل في السابعة وليس في القناطر أصعب منها فيسأل عن ظلامات الناس. وذكره أبو حامد في كتاب كشف علم الآخرة: أنه إذا لم يبق في الموقف إلا المؤمنون والمسلمون والمحسنون والعارفون والصديقون والشهداء والصالحون والمرسلون ليس فيهم مرتاب ولا منافق ولا زنديق فيقول الله تعالى: يا أهل الموقف من ربكم؟ فيقولون: الله، فيقول لهم: أتعرفونه؟ فيقولون: نعم. فيتجلى لهم ملك عن يسار العرش، لو جعلت البحار السبع في نقره إبهامه لما ظهرت، فيقول لهم بأمر الله: أنا ربكم. فيقولون: نعوذ بالله منك، فيتجلى لهم ملك عن يمين العرش لو جعلت البحار الأربعة عشر في نقرة إبهامه لما ظهرت فيقول لهم أنا ربكم: فيقولون: نعوذ بالله منك، فيتجلى لهم الرب سبحانه في صورة غير صورته التي كانوا يعرفونه، وسمعوا وهو يضحك فيسجدون له جميعهم، فيقول: أهلا بكم ثم ينطلق بهم سبحانه إلى الجنة فيتبعونه فيمر بهم على الصراط. والناس أفواج: المرسلون، ثم النبيون، ثم الصديقون، ثم الشهداء، ثم المؤمنون، ثم العارفون، ثم المسلمون. منهم المكبوب لوجهه، ومنهم المحبوس في الأعراف، ومنهم قوم قصروا عن تمام الإيمان.

فمنهم من يجوز الصراط مائة عام، وآخر يجوز على ألف، ومع ذلك كله لن تحرق النار من رأى ربه عياناً لا يضام في رؤيته. فتوهم نفسك يا أخي إذا صرت على الصراط ونظرت إلى جهنم تحتك سوداء مظلمة قد لظى سعيرها وعلا لهيبها وأنت تمشي أحياناً وتزحف أخرى، قال: أبت نفسي تتوب فما احتيالي ... إذا برز العباد لذي الجلال وقاموا من قبورهم سكارى ... بأوزار كأمثال الجبال وقد نصب الصراط لكي يجوزوا ... فمنهم من يكب على الشمال ومنهم من يسير لدار عدن ... تلقاه العرائس بالغوالي يقول له المهمين يا وليي ... غفرت لك الذنوب فلا تبالي وقال آخر: إذا مد الصراط على جحيم ... تصول على العصاة وتستطيل فقوم في الجحيم لهم ثبور ... وقوم في الجنان لهم مقيل وبان الحق وانكشف الغطاء ... وطال الويل واتصل العويل وذكر مسلم «من حديث أبي هريرة فيأتون محمداً صلى الله عليه وسلم فيؤذن لهم وترسل الأمانة والرحم فيقومان جنبتي الصراط يميناً وشمالاً فيمر أولهم كالبرق الخاطف» . قال: قلت بأبي أنت وأمي وأي شيء كمر البرق؟ قال: «ألم تر إلى البرق كيف يمر ويرجع في طرفة عين؟ ثم كمر الريح، ثم كمر الطير وشد الرجال تجري بهم أعمالهم ونبيكم صلى الله عليه وسلم قائم على الصراط يقول: رب

سلم سلم حتى تعجز أعمال العباد حتى يجيء الرجل ولا يستطيع السير إلا زاحفاً» . قال: «وفي حافتي الصراط كلاليب معلقة مأمورة بأخذ من أموت بأخذه فمخدوش ناج، ومكردس في النار، والذي نفس محمد بيده: إن قعر جهنم لسبعون خريفاً» ؟ وروي «من حديث حذيفة أيضاً. وذكر مسلم أيضاً من حديث أبي سعيد الخدري وفيه: ثم يضرب الجسر على جهنم وتحل الشفاعة ويقولون: اللهم سلم سلم قيل: يا رسول الله، وما الجسر؟ قال: دحض مزلة فيه خطاطيف وكلاليب وحسكة تكون بنجد فيها شوكة يقال لها السعدان: فيمر المؤمنون كطرف العين وكالبرق وكالريح وكالطير وكأجاويد الخيل والركاب فناج مسلم ومخدوش مرسل ومكردس في نار جهنم» الحديث وسيأتي بتمامه إن شاء الله تعالى. وفي رواية قال أبو سعيد الخدري: «بلغني أن الجسر أدق من الشعر وأحد من السيف» وفي رواية «أرق من الشعر» رواها مسلم. وخرج ابن ماجه حديث أبي سعيد الخدري قال: سمعت

رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «يوضع الصراط بينم ظهراني جهنم على حسك كحسك السعدان، ثم يستجيز الناس فناج مسلم ومخدوج به ثم ناج ومحتبس به ومنكوس فيها» . وذكر ابن المبارك قال: حدثنا هشام بن حسان، عن موسى، عن أنس عن عبيد بن عمير [أن الصراط مثل السيف على جسر جهنم وأن لجنبتيه كلاليب وحسكا، والذي نفسي بيده إنه ليؤخذ بالكلوب الواحد أكثر من ربيعة ومضر] . وأخبرنا رشدين بن سعد، عن عمرو بن الحارث، عن سعيد بن أبي هلال قال: [بلغنا أن الصراط يوم القيامة يكون على بعض الناس أدق من الشعر وعلى بعض الناس مثل الوادي الواسع] أعمل. قال: وأخبرنا عوف عن عبد بن سفيان العقيلي قال: [يجوز الناس يوم القيامة على الصراط على قدر إيمانهم وأعمالهم، فيجوز الرجل كالطرف في السرعة وكالسهم المرمى وكالطائر السريع الطيران وكالفرس الجواد المضمر ويجوز الرجل يعدو عدواً، والرجل يمشي مشياً حتى سكون آخر من ينجو يحبو حبواً] . وذكر هناد بن السري، حدثنا عبد الله بن نمير، حدثنا سفيان، حدثنا سلمة بن كهيل عن أبي الزعفراء قال: قال عبد الله [يأمر الله بالصراط فيضرب على جهنم] . قال: [فيمر الناس على قدر أعمالهم. أولهم كلمح البرق، ثم كمر الريح، ثم كأسرع البهائم، ثم كذلك حتى يمر الرجل سعياً وحتى يمر الرجل ماشياً، ثم يكون آخرهم يتلبط على بطنه يقول

يا رب لم أبطأت بي؟ فيقول: لم أبطئ بك إنما أبطأ بك عملك] . قال: وحدثنا أبو معاوية، عن إسماعيل بن مسلم، عن قتادة قال: قال عبد الله ابن مسعود: [تجوزون الصراط بعفو الله وتدخلون الجنة برحمة الله وتقتسمون المنازل بأعمالكم] . أبو داود، «عن معاذ بن أنس الجهني، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من حمى مؤمناً من منافق أراه قال: بعث الله ملكاً يحمي لحمه يوم القيامة من نار جهنم، ومن رمى مؤمناً بشيء شينه حبسه الله عز وجل على جسر جهنم حتى يخرج مما قال» . وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الزالون على الصراط كثير. وأكثر من يزل عنه النساء» ذكره أبو الفرج بن الجوزي. وقال المصطفى صلى الله عليه وسلم: «فإذا صار الناس على طرف الصراط نادى ملك من تحت العرش: يا فطرة الملك الجبار جوزوا على الصراط، وليقف كل عاص منكم وظالم. فيا لها من ساعة ما أعظم خوفها وما أشد حرها، يتقدم فيها من كان في الدينا ضعيفاً مهيناً، ويتأخر عنها من كان في الدنيا عظيماً مكيناً، ثم يؤذن لجميعهم بعد ذلك بالجواز على الصراط على قدر أعمالهم في ظلمتهم وأنوارهم، فإذا عصف الصراط بأمتي نادوا: وامحمداه

فأبادر من شدة إشفاقي عليهم وجبريل آخد بحجزتي، فأنادي رافعاً صوتي رب أمتي أمتي لا أسألك اليوم نفسي، ولا فاطمة ابنتي والملائكة قيام عن يمين الصراط ويساره ينادون: رب سلم سلم. وقد عظمت الأهوال واشتدت الأوجال، والعصاة يتساقطون عن اليمين والشمال والزبانية يتلقونهم بالسلاسل والأغلال وينادونهم: أما نهيتم عن كسب الأوزار؟ أما خوفتم عذاب النار؟ أما أنذرتم كل الإنذار، أما جاءكم النبي المختار؟» ذكره أبو الفرج بن الجوزي أيضاً في كتاب روضة المشتاق والطريق إلى الملك الخلاق. فتفكر الآن فيما يحل بك من الفزع بفؤادك إذا رأيت الصراط ودقته، ثم وقع بصرك على سواد جهنم من تحته، ثم قرع سمعك شهيق النار وتغيظها، وقد كلفت أن تمشي على الصراط مع ضعف حالك، واضطراب قلبك، وتزلزل قدمك وثقل ظهرك بالأوزار، المنعة لك من المشي على بساط الأرض، فضلاً عن حدة الصراط. فكيف بك إذا وضعت عليه إحدى رجليك فأحسست بحدته، واضطررت إلى أن ترفع القدم الثاني، والخلائق بين يديك يزلون ويعثرون، وتتناولهم زبانية النار بالخطاطيف والكلاليب، وأنت إليهم كيف ينكسون فتسفل إلى جهة النار رؤوسهم، وتعلو أرجلهم فيا له من منظر ما أفظعه، ومرتقى ما أصبعه، ومجاز ما أضيقه.

فصل: ذهب بعض من تكلم على أحاديث هذا الباب في وصف الصراط بأنه أدق من الشعر وأحد من السيف أن ذلك راجع إلى يسره وعسره على قدر الطاعات والمعاصي. ولا يعلم حدود ذلك إلا الله تعالى لخفائها وغموضها. وقد جرت العادة بتسمية الغامض الخفي: دقيق. فضرب المثل له بدقة الشعر. فهذا والله أعلم من هذا الباب. ومعنى قوله: «وأحد من السيف» : أن الأمر الدقيق الذي يصعد من عند الله تعالى إلى الملائكة في إجازة الناي على الصراط يكون في نفاذ حد السيف ومضيه إسراعاً منهم إلى طاعته وامتثاله. ولا يكون له مرد كما أن السيف إذا نفذ بحدة وقوة ضاربة في شيء لم يكن له بعد ذلك مرد. وإما أن يقال: إن الصراط نفسه أحد من السيف وأدق من الشعر، فذلك مدفوع بما وصف من أن الملائكة يقومون بجنبيه وأن فيه كلاليب وحسكاً أي أن من يمر عليك يقع على بطنه، ومنهم من يزل ثم يقوم. وفيه أن من الذين يمرون عليه من يعطى النور بقدر موضع قدميه. وفي ذلك إشارة إلى أن للمارين عليه موطئ الأقدام ومعلوم أن رقة الشعر لا يحتمل هذا كله. وقال بعض الحفاظ: إن هذه اللفظة ليست ثابتة. قال المؤلف: ما ذكره القاتل مردود بما ذكرنا من الأخبار، وأن الإيمان يجب بذلك. وأن القادر على إمساك الطير في الهواء قادر على أن يمسك عليه المؤمن فيجزيه أو يمشيه ولا يعدل عن الحقيقة إلى المجاز إلا عند الاستحالة ولا استحالة في ذلك، للآثار الواردة في ذلك وثباتها بثقل الأئمة العدول {ومن لم يجعل الله له نوراً فما له من نور} . ؟

وعن يحيى بن اليمان: رأيت رجلاً نام وهو أسود الرأس واللحية شاب يملأ العين، فرأى في منامه كأن الناس قد حشروا، وإذا بنهر من نار، وجسر يمر الناس عليه، فدعى فدخل الجسر، فإذا هو كحد السيف يمر يميناً وشمالاً، فأصبح أبيض الرأس واللحية. فصل: أحاديث هذا الباب تبين لك معنى الورود المذكور في القرآن في قوله عز وجل: {وإن منكم إلا واردها} . روي عن ابن عباس وابن مسعود وكعب الأحبار أنهم قالوا: الورود المرور على الصراط. رواه السدي عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم. وذكر أبو بكر النجاد، سلمان قال: «حدثنا أبو الحسن محمد بن عبد الله بن إبراهيم بن عبدة السليطي، حدثنا أبو عبد الله محمد بن إبراهيم بن سعيد البوشنجي قال: حدثنا سليم بن منصور بن عمار قال: حدثني أبي منصور بن عمار قال: حدثني بشر بن طلحة الخزامي، عن خالد بن الدريك، عن يعلى منبه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: تقول النار للمؤمن يوم القيامة: جز يا مؤمن فقد أطفأ نورك لهبي»

وقيل: الورود الدخول. روي عن ابن مسعود وعن ابن عباس أيضاً وخالد بن معدان وابن جريج وغيرهم، وحديث أبي سعيد الخدري نص في ذلك على ما يأتي، فيدخلها العصاة بجرائمهم، والأولياء بشفاعتهم. وروي «عن جابر بن عبد الله قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: الورد الدخول لا يبقى بر ولا فاجر إلا دخلها فتكون على المؤمنين برداً وسلاماً كما كانت على إبراهيم، {ثم ننجي الذين اتقوا ونذر الظالمين فيها جثيا} » . وذكر ابن المبارك قال: أخبرنا سفيان عن رجل عن خالد بن معدان قال: قالوا ألم يعدنا ربنا أنا نرد النار فقال: إنكم مررتم بها وهي خامدة. قال ابن المبارك وأخبرنا سعيد الجيزي عن أبي الليل، عن غنيم، عن أبي العوام، عن كعب أنه تلا هذه الآية: {وإن منكم إلا واردها} قال: هل تدرون ما ورودها؟ قالوا: الله أعلم. قال: فإن ورودها أن يجاء بجهنم وتمسك للناس كأنها متن إهالة حتى إذا استقرت عليها أقدام الخلق برهم وفاجرهم نادى مناد: أن خذي أصحابك، وذرى أصحابي. فتخسف بكل ولي لها. لهي أعلم بهم من الوالد بولده وينجو المؤمنون. وقال مجاهد: ورود المؤمنين هو الحمى التي تصيب المؤمن في دار الدنيا وهي حظ المؤمن من النار فلا يردها.

وأسند أبو عمر بن عبد البر في ذلك حديثاً في التمهيد، «عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عاد مريضاً من وعك به فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أبشر فإن الله تعالى يقول: هي ناري أسلطها على عبدي المؤمن لتكون حظه من النار» . وقالت طائفة: الورود النظر إليها في القبر فينجي منها الفائز، ويصلاها قدر عليه دخولها، ثم يخرج منها بالشفاعة أو بغيرها من رحمة الله تعالى، واحتجوا بحديث ابن عمر: [إن أحدكم إذا مات عرض عليه مقعده بالغداة والعشي] الحديث. وقيل: المراد بالورود الإشراف على جهنم والإطلاع عليها والقرب منها. وذلك أنهم يحضرون موضع الحساب وهو بقرب جهنم فيرونها وينظرون إليها في حالة الحساب، ثم ينجي الله الذين اتقوا مما نظروا إليه، ويصار بهم إلى الجنة ونذر الظالمين أي يؤمر بهم إلى النار، قال الله تعالى: {ولما ورد ماء مدين} أي أشرف عليه لا أنه دخله «وروت حفصة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لا يدخل النار أحد من أهل بدر، والحديبية قال: فقلت يا رسول الله: وأين قول الله عز وجل: {وإن منكم إلا واردها} ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {ثم ننجي الذين اتقوا} » خرجه مسلم من حديث أم مبشر قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم عند حفصة. الحديث.

وقيل: الخطاب للكفار في قوله تعالى: {وإن منكم إلا واردها} روى وكيع، عن شعبة، عن عبد الله بن السائب، عن رجل، عن ابن عباس أنه قال في قول الله عز وجل: {وإن منكم إلا واردها} قال: هذا خطاب للكفار. وروي عنه أنه كان يقرأ {وإن منهم} رداً على الآيات التي قبلها من الكفار قوله: {فوربك لنحشرنهم والشياطين ثم لنحضرنهم} و {أيهم أشد} . {ثم لنحن أعلم بالذين هم أولى بها صليا * وإن منكم} . وكذلك قرأ عكرمة وجماعة. وقالت فرقة: المراد منكم: الكفرة. والمعنى: قل لهم يا محمد وإن منكم. وقال الجمهور: المخاطب العالم كله ولا بد من ورود الجميع وعليه نشأ الخلاف في الورود كما ذكرنا والصحيح أن الورود: الدخول لحديث أبي سعيد كما ذكرنا. وفي مسند الدرامي أبي محمد، «عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يرد الناس النار ثم يصدرون عنها بأعمالهم

فأولهم كلمح البرق ثم كالريح ثم كحضر الفرس، ثم كالراكب في رحله، ثم كشد الرجل في مشيه» . وقال صلى الله عليه وسلم: «لا يموت لأحد من المسلمين ثلاثة من الولد فتمسه النار إلا تحلة القسم» خرجه الأئمة. قال الزهري كأنه يريد هذه الآية {وإن منكم إلا واردها} ذكره أبو داود الطيالسي في مسنده، وهذا يبين لك ما ذكرناه لأن المسيس حقيقته في اللغة المماسة إلا أنها تكون برداً وسلاماً على المؤمنين وينجون منها سالمين، قال: خالد بن معدان: إذا دخل أهل الجنة الجنة قالوا: ألم يقل ربنا إنا نرد النار؟ فيقال: قد وردتموها فلقيتموها رماداً. قلت: والذي يجمع شتات الأقوال: أن يقال إن من وردها، ولم تؤذه بلهبها وحرها فقد أبعد عنها ونجي منها، نجانا الله منها بفضله وكرمه، وجعلنا ممن وردها سالماً، وخرج منها غانماً. وروي ابن جريج عن عطاء قال: قال أبو راشد الحروري لابن عباس {لا يسمعون حسيسها} فقال له ابن عباس: أمجنون أنت؟ فأين قوله تعالى: {وإن منكم إلا واردها} وقوله: {فأوردهم النار} وقوله: {إلى جهنم ورداً} . ولقد كان من دعاء من مضى اللهم أخرجني من النار سالماً وأدخلني الجنة فائزاً. وقد أشفق كثير من العلماء من تحقق الورود، والجهل بالصدر،

باب ما جاء في شعار المؤمنين على الصراط

كان أبو ميسرة إذا أوى إلى فراشه يقول: ليت أمي لم تلدني فتقول له امرأته: يا أبا ميسرة إن الله قد أحسن إليك وهداك إلى الإسلام، قال: أجل ولكن الله قد بين لنا أنا واردوا النار ولم يبين لنا أنا صادرون. وعن الحسن قال: قال رجل لأخيه أي أخي هل أتاك أنك وارد النار؟ قال: نعم قال: فهل أتاك أنك خارج منها؟ قال: لا. قال: ففيم الضحك إذاً؟ قال: فما رئي ضاحكاً حتى مات. وروي عن ابن عباس أنه قال في هذ المسألة لنافع بن الأزرق الخارجي: [أما أنا وأنت فلا بد أن يدرها فأما أنا فينجيني الله منها وأما أنت فما أظنه ينجيك] . وذكر ابن المبارك قال: أخبرنا إسماعيل بن أبي خالد، عن قيس بن أبي عاصم قال: بكى ابن رواحة فبكت امرأته فقال لها: ما يبكيك؟ قالت: بكيت حين رأيتك تبكي. فقال عبد الله: إني علمت أني وارد النار فما أدري أناج منها أم لا؟ وفي معناه قيل: وقد أتانا ورود النار ضاحية ... حقا يقيناً، ولما يأتنا الصدر باب ما جاء في شعار المؤمنين على الصراط الترمذي «عن المغيرة بن شعبة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: شعار

باب فيمن لا يوقف على الصراط طرفة عين

المؤمنين على الصراط: رب سلم سلم» ، قال: حديث غريب. وفي صحيح مسلم: «ونبيكم صلى الله عليه وسلم قائم على الصراط يقول: رب سلم سلم» وقد تقدم. باب فيمن لا يوقف على الصراط طرفة عين ذكر الوائلي أبو نصر في كتاب الإبانة: «أخبرنا محمد بن الحجاج قال: أخبرنا محمد بن عبد الرحمن الربعي، حدثنا علي بن الحسين أبو عبيد قال: حدثنا زكريا ابن يحيى أبو السكن قال: حدثني عبد الله بن صالح الهماني قال: حدثني أبو همام القرشي، عن سليمان بن المغيرة، عن قيس بن مسلم، عن طاووس، عن أبي هريرة قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم علم الناس سنتي وإن كرهوا ذلك وإن أحببت أن لا توقف على الصراط طرفة عين حتى تدخل الجنة فلا تحدث الجنة فلا تحدث في دين الله حدثاً برأيك» . قال: وهذا غريب الإسناد والمتن حسن. باب منه أبو نعيم قال: «حدثنا سليمان بن أحمد، قال: حدثنا خير بن عرفة قال: حدثنا هانئ بن المتوكل قال: حدثنا ربيعة سليمان بن ربيعة، عن موسى بن عبيدة، عن محمد بن كعب القرظي، عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: من أحسن الصدقة في الدنيا جاز على الصراط. ومن قضى حاجة أرملة أخلف الله في تركته» . قال: هذا حديث غريب من حديث محمد، تفرد بن سليمان عن موسى. وذكر الختلي أبو القاسم، حدثنا عثمان بن سعيد أبو عمرو الأنطاكي قال: حدثنا علي بن الهيثم، حدثنا إبراهيم بن بشار، حدثنا شيخ يكنى أبا جعفر قال: رأيت في منامي كأني واقف على قناطر جهنم فنظرت إلى هول عظيم،

باب ثلاثة مواطن لا يخطئها النبي صلى الله عليه وسلم لعظم الأمر فيها وشدته

فجعلت أفكر في نفسي كيف العبور على هذه؟ فإذا قائل يقول من خلفي: يا عبد الله ضع حملك واعبر فقلت: وما حملي؟ قال: دع الدنيا واعبر، قال: وحدثني أبو بكر خليفة الحارث بن خليفة قال: قال: حدثنا عمرو بن جرير، حدثني إسماعيل بن أبي خالد عن قيس بن أبي حازم قال: سمعت أبا الدرداء يقول لابنه: يا بني لا يكن بيتك إلا المسجد، فإن المساجد بيوت المتقين سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من يكن المسجد بيته، ضمن الله لو بالروح والرحمة والجواز على الصراط» . قلت: وهذا الحديث يصحح ما ذكرناه من الرؤيا فإن من سكن المسجد واتخذه بيتاً وأعرض عن الدنيا وأهله وأقبل إلى الآخرة وعمل لها. باب ثلاثة مواطن لا يخطئها النبي صلى الله عليه وسلم لعظم الأمر فيها وشدته الترمذي «عن أنس قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يشفع لي يوم القيامة قال: أنا فاعل إن شاء الله. قال: فأين أطلبك؟ قال: أول ما تطلبني على الصراط، قلت: فإن لم ألقك؟ قال: فاطلبني عند الميزان. قلت : فإن لم ألقك عند الميزان؟ قال: فاطلبني عند الحوض، فإني لا أخطئ هذه الثلاثة مواطن» . قال: هذا حديث حسن، وقد تقدم من حديث عائشة أنه عليه السلام قال: «أما ثلاثة مواطن فلا يذكر أحد أحداً عند الميزان وعند تطاير الصحف وعند الصراط» .

باب في تلقي الملائكة للأنبياء وأممهم بعد الصراط وفي هلاك أعدائهم

باب في تلقي الملائكة للأنبياء وأممهم بعد الصراط وفي هلاك أعدائهم ابن المبارك، عن عبد الله بن سلام قال: إذا كان يوم القيامة جمع الله الأنبياء نبياً نبياً، وأمة أمة حتى يكون آخرهم مركزاً محمد وأمته، ويضرب الجسر على جهنم وينادي مناد أين أحمد وأمته؟ فيقول نبي الله صلى الله عليه وسلم وتتبعه أمته برها وفاجرها، حتى إذا كان على الصراط طمس الله ابصار أعدائه فتهافتوا في النار يميناً وشمالاً ويمضي النبي صلى الله عليه وسلم والصالحون معه فتتلقاهم الملائكة فيدلونهم على طريق الجنة على يمينك على شمالك، حتى ينتهي إلى ربه فيوضع له كرسي من الجانب الآخر، ثم يدعى نبي نبي وأمة أمة، حتى يكون آخرهم نوحاً، رحم الله نوحاً. باب ذكر الصراط الثاني وهو القنطرة التي بين الجنة والنار اعلم رحمك الله أن في الآخرة صراطين: أحدهما مجاز لأهل المحشر كلهم ثقيلهم وخفيفهم إلا من دخل الجنة بغير حساب أو من يلتقطه عنق النار فإذا خلص من هذا الصراط الأكبر الذي ذكرناه ولا يخلص منه إلا المؤمنون الذين علم الله منهم أن القصاص لا يستنفذ حسناتهم حسبوا على صراط آخر خاص لهم ولا يرجع إلى النار من هؤلاء أحد إن

شاء الله لأنهم قد عبروا االصراط الأول المضروب على متن جهنم الذي يسقط فيها من أوبقه ذنبه وأربى على الحسنات بالقصاص جرمه. البخاري «عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يخلص المؤمنون من النار فيحسبون على قنطرة بين الجنة والنار فيقتص لبعضهم من بعض مظالم كانت بينهم في الدنيا حتى إذا هذبوا ونقوا أذن لهم في دخول الجنة، فو الذي نفس محمد بيده لأحدهم بمنزله في الجنة منه بمنزله كان له في الدنيا» . فصل: قلت: معنى يخلص المؤمنون من النار أي يخلصون من الصراط المضروب على النار، ودل هذا الحديث على أن المؤمنين في الآخرة مختلفو الحال قال مقاتل: إذا قطعوا جسر جهنم حسبوا على قنطرة بين الجنة والنار، فيقتص لبعضهم من بعض مظالم كانت بينهم في الدنيا حتى إذا هذبوا وطيبوا قال لهم رضوان وأصحابه سلام عليكم بمعنى التحية طبتم فادخلوها خالدين. وقد ذكر الدراقطني حديثاً ذكر فيه: أن الجنة بعد الصراط. قلت: ولعله أراد بعد القنطرة بدليل حديث البخاري والله أعلم. أو يكون ذلك في حق من دخل النار وخرج بالشفاعة فهؤلاء لا يحبسون بل إذا خرجوا بثوا على أنهار الجنة على ما يأتي بيانه في الباب بعد هذا إن شاء الله تعالى. وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «أصحاب الجنة محبوسون على قنطرة بين

باب من دخل النار من الموحدين مات واحترق ثم يخرجون بالشفاعة

الجنة والنار يسألون عن فضول أموال كانت بأيديهم» . ولا تعارض بين هذا وبين حديث البخاري، فإن الحديثين مختلفا المعنى لاختلاف أحوال الناس، وكذلك لا تعارض بين قوله عليه السلام «لأحدهم أهدى بمنزله في الجنة» وبين قول عبد الله بن سلام إن الملائكة تدلهم على طريق الجنة يميناً وشمالاً، فإن هذا يكون فيمن لم يحبس على قنطرة ولم يدخل النار فيخرج منها فيطرح على باب الجنة. وقد يحتمل أن يكون ذلك في الجميع، فإذا وصلت بهم الملائكة إلى باب الجنة كان كل أحد منهم أعرف بمنزلة في الجنة وموضعه فيها منه بمنزله كان في الدنيا والله أعلم وهو معنى قوله {ويدخلهم الجنة عرفها لهم} قال أكثر أهل التفسير: إذا دخل أهل الجنة الجنة يقال لهم تفرقوا إلى منازلكم فهم أعرف بمنازلهم من أهل الجمعة إذا انصرفوا إلى منازلهم. وقيل: إن هذا التعريف إلى المنازيل بدليل، وهو أن الملك الموكل بعمل العبد يمشي بين يديه وحديث أبي سعيد الخدري يرده والله أعلم. باب من دخل النار من الموحدين مات واحترق ثم يخرجون بالشفاعة مسلم «عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أما أهل النار الذين هم أهلها فإنهم لا يموتون فيها ولا يحيون ولكن ناساً أصابتهم النار بذنوبهم أو قال بخطاياهم فأماتهم الله إماتة حتى إذا كانوا فحماً أذن لهم في الشفاعة فيجيء بهم ضبائر ضبائر فبثوا على أنهار الجنة ثم قيل يا أهل

الجنة أفيضوا عليهم، فينبتون نبات الحبة تكون في حميل السيل» فقال رجل من القوم كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد كان يرعى الغنم بالبادية. فصل: هذه الموتة للعصاة موتة حقيقية لأنه أكدها بالمصدر، وذلك تكريماً لهم حتى لا يحسوا ألم العذاب بعد الاحتراق بخلاف الحي الذي هو من أهلها ومخلد فيها {كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلوداً غيرها ليذوقوا العذاب} وقيل: يجوز أن تكون إماتتهم عبارة عن تغيبه إياهم عن آلامها بالنوم، ولا يكون ذلك موتاً على الحقيقة، فإن النوم قد يغيب عن كثير من الآلام والملاذ، وقد سماه الله موتاً. فقال الله تعالى {الله يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها} فهو وفاة وليس بموت على الحقيقة الذي هو خروج الروح عن البدن، وكذلك الصعقة قد عبر الله بها الموت في قوله تعالى {فصعق من في السموات ومن في الأرض إلا من شاء الله} . وأخبر عن موسى عليه السلام أنه خر صعقاً ولم يكن ذلك موتاً على الحقيقة غير أنه لما غيب عن أحوال المشاهدة من الملاذ والآلام جاز أن يسمى موتاً، وكذلك يجوز أن يكون أماتهم غيبهم عن الآلام وهم أحياء بلطيفة يحدثها الله فيهم، كما غيب النسوة اللاتي قطعن أيديهن بشاهد ظهر لهن فغيبهن فيه عن آلامهن، والتأويل الأول أصح لما ذكرناه على الحقيقة كما أن أهلها أحياء على الحقيقة وليسوا بأموات. فإن قيل: فما معنى إدخالهم النار وهم فيها غير عالمين؟

باب فيمن يشفع لهم قبل دخول النار من أجل أعمالهم الصالحة وهم أهل الفضل في الدنيا

قيل: يجوز أن يدخلهم تأديباً لهم وإن لم يعذبهم فيها، ويكون صرف نعيم الجنة عنهم مدة كونهم فيها عقوبة لهم كالمحبوسين في السجون، فإن الحبس عقوبة لهم وإن لم يكن معه غل ولا قيد والله أعلم. وسيأتي لهذا مزيد بيان في أبواب النار إن شاء تعالى. وقوله: ضبائر ضبائر معناه جماعات جماعات الواحدة ضبارة بكسر الضاد وهي الجماعة من الناس. وبثوا: فرقوا. والحبة بكسر الحاء بزر البقول وحميل السيل ما احتمله من غثاء وطين. وسيأتي إن شاء الله تعالى. باب فيمن يشفع لهم قبل دخول النار من أجل أعمالهم الصالحة وهم أهل الفضل في الدنيا ذكر أبو عبد الله محمد بن ميسرة الجبلي القرطبي في كتاب التبيين له. روى أبي وابن وضاح من حديث أنس يرفعه قال: يصف أهل النار فيقرنون فيمر بهم الرجل من أهل الجنة فيقول الرجل منهم يا فلان: أما تذكر رجلاً سقاك شربة ماء يوم كذا وكذا؟ فيقول: إنك لأنت هو. قال: فيقول نعم.

قال فيشفع فيه فيشفع ويقول الرجل منهم يا فلان لرجل من أهل الجنة: أما تذكر رجلاً وهب لك وضوءاً يوم كذا وكذا؟ . فيقول نعم فيشفع له فيشفع فيه. قلت: أخرجه ابن ماجه في سننه بمعناه قال: «حدثنا محمد بن عبد الله بن نمير وعلي بن محمد قالا: حدثنا الأعمش، عن يزيد الرقاشي، عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يصف الناس يوم القيامة صفوفاً وقال ابن نمير أهل الجنة فيمر الرجل من أهل النار على الرجل من أهل الجنة فيقول يا فلان: أما تذكر يوم استسقيتني فسقيتك شربة؟ قال: فيشفع له، ويمر الرجل على الرجل فيقول: أما تذكر يوم ناولتك طهوراً فيشفع له» . قال ابن نمير ويقول يا فلان أما تذكر يوم بعثتني لحاجة كذا وكذا فذهبت لك فيشفع له. وخرج أبو نعيم الحافظ بإسناده «عن الثوري، حدثنا الأعمش، عن شفيق عن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ليوفيهم أجورهم يوم القيامة ويزيدهم من فضله قال: أجورهم يدخله الجنة ويزيدهم من فضله الشفاعة لمن وجبت له النار ممن صنع إليهم المعروف في الدنيا» . وذكر أبو جعفر الطحاوي أيضاً «عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كان يوم القيامة جمع الله أهل الجنة صفوفاً، وأهل النار صفوفاً، فينظر الرجل من صفوف أهل النار إلى الرجل من صفوف أهل

الجنة فيقول يا فلان: تذكر يوم اصطنعت معروفاً إليك؟ فيقول: اللهم إن هذا اصطنع إلي في الدنيا معروفاً قال فيقال له خذ بيده وأدخله الجنة برحمة الله عز وجل» ، قال أنس رضي الله عنه أشهد أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقوله. قال أبو عبد الله محمد بن ميسرة: ورأيت في الكتاب الذي يقال إنه الزبور [إني أدعو عبادي الزاهدين يوم القيامة فأقول لهم: عبادي إني لم أزو عنكم الدنيا لهواتكم علي، ولكن أردت أن تستوفوا نصيبكم موفوراً اليوم، فتخللوا الصفوف فمن أحببتموه في الدنيا أو قضى لكم حاجة أو رد عنكم غيبة أو أطعمكم لقمة ابتغاء وجهي وطلب مرضاتي فخذوا بيده وأدخلوه الجنة] . فصل: وذكر أبو حامد في آخر كتاب الآحياء. «قال أنس رضي الله عنه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن رجلا من أهل الجنة يشرف يوم القيامة على أهل النار فيناديه رجل من أهل النار ويقول يا فلان هلى تعرفني؟ فيقول: لا والله ما أعرفك. من أنت؟ فيقول: أنا الذي مررت بي في الدنيا يوماً فاستسقيتني شربة ماء فسقيتك. قال: قد عرفت. قال فاشفع لي بها عن ربك فيسأل الله تعالى ويقول: إني أشرفت على أهل النار فناداني رجل من أهلها فقال هل تعرفني، فقلت: لا. من أنت؟ قال أنا الذي استسقيتني في الدنيا فسقيتك فاشفع لي بها فشفعني. فيشفعه الله تعالى فيؤمر به فيخرج من النار» . والله تعالى أعلم.

باب في الشافعين لمن دخل النار وما جاء أن النبي صلى الله عليه وسلم يشفع رابع أربعة وذكر من يبقى في جهنم بعد ذلك

باب في الشافعين لمن دخل النار وما جاء أن النبي صلى الله عليه وسلم يشفع رابع أربعة وذكر من يبقى في جهنم بعد ذلك ابن ماجه «عن عثمان بن عفان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يشفع يوم القيامة ثلاثة: الأنبياء ثم العلماء ثم الشهداء» . وذكر ابن السماك أبو عمرو عثمان بن أحمد قال: حدثنا يحيى بن جعفر بن الزبرقان قال: أخبرنا علي بن عاصم قال: حدثنا خالد الحذاء، عن سلمة بن كهيل، عن أبيه، عن أبي الزعراء قال: قال عبد الله بن مسعود يشفع نبيكم رابع أربعة: جبريل ثم إبراهيم ثم موسى أو عيسى ثم نبيكم صلى الله عليه وسلم ثم الملائكة ثم النبيون ثم الصديقون ثم الشهداء، ويبقى قوم من جهنم فيقال لهم {ما سلككم في سقر * قالوا لم نك من المصلين * ولم نك نطعم المسكين} إلى قوله: {فما تنفعهم شفاعة الشافعين} قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: فهؤلاء الذين يبقون في جهنم. قال المؤلف رحمه الله: وقيل إن هذا هو المقام المحمود لنبينا صلى الله عليه وسلم خرجه أبو داود الطيالسي قال، حدثنا يحيى بن سلمة بن كهيل، عن أبيه، عن أبي الزعراء، عن عبد الله قال: ثم يأذن الله عز وجل في الشفاعة فيقوم روح القدس جبريل عليه الصلاة والسلام، ثم يقوم إبراهيم خليل الله صلى الله عليه وسلم، ثم يقوم موسى أو عيسى عليه السلام. قال أبو الزعراء: لا أدري أيهما قال ثم يقوم نبيكم صلى الله عليه وسلم رابعاً فيشفع لا يشفع لأحد بعده في أكثر مما يشفع وهو المقام المحمود الذي قال الله تعالى {عسى أن يبعثك ربك مقاماً محموداً} .

ابن ماجه، «عن عبد الله بن أبي الجدعاء أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ليدخلن الجنة بشفاعة رجل من أمتي أكثر من بني تميم قالوا: يا رسول الله: سواك؟ قال: سواي قلت: أنت سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: أنا سمعته» أخرجه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح غريب. ولا نعرف لابن الجدعاء غير هذا الحديث الواحد. قال المؤلف رحمه الله: وخرجه البيهقي في دلائل النبوة وقال في آخره قال عبد الوهاب الثقفي، قال هشام بن حيان كان الحسن يقول إنه أويس القرني، وذكر ابن السماك قال: «حدثنا يحيى بن جعفر، حدثنا شبابة بن سوار، حدثنا حريز بن عثمان، عن عبد الله بن ميسرة وحبيب بن عدي الرحبي، عن أبي أمامة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يدخل بشفاعة رجل من أمتي الجنة مثل أحد الحيين: ربيعة ومضر قال قيل يا رسول الله وما ربيعة من مضر؟ قال إنما أقول ما أقول قال: فكان المشيخة يرون أن ذلك الرجل عثمان بن عفان» . الترمذي «عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إن من أمتي من يشفع للفئام، ومنهم من يشفع للقبيلة، ومنهم من يشفع للعصبة، ومنهم من يشفع للرجل حتى يدخلوا الجنة» قال: حديث حسن.

وذكر البزار في مسنده «عن ثابت أنه سمع أنس بن مالك يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الرجل ليشفع للرجلين والثلاثة» وذكر القاضي عياض في الشفاء عن كعب: [أن لكل رجل من الصحابة رضي الله عنهم شفاعة] ذكره ابن المبارك قال: «أخبرنا عبد الرحمن بن يزيد بن جابر أنه بلغه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: يكون في أمتي رجل يقال له: صلة بن أشيم يدخل الجنة بشفاعته كذا وكذا» . فصل: إن قال قائل: كيف تكون الشفاعة لمن دخل النار، والله تعالى يقول {إنك من تدخل النار فقد أخزيته} وقال: {ولا يشفعون إلا لمن ارتضى} وقال: {وكم من ملك في السموات لا تغني شفاعتهم شيئاً إلا من بعد أن يأذن الله لمن يشاء ويرضى} ومن ارتضاء الله لا يخزيه. قال الله تعالى {يوم لا يخزي الله النبي والذين آمنوا معه نورهم يسعى بين أيديهم وبأيمانهم} الآية؟ قلنا: هذا مذهب أهل الوعيد الذين ضلوا عن طريق، وحادوا عن التحقيق. وأما مذهب أهل السنة الذين جمعوا بين الكتاب والسنة، فإن

الشفاعة تنفع العصاة العصاة من أهل الملة، حتى لا يبقى منهم أحد إلا دخل الجنة. والجواب عن الآية الأولى ما قاله أنس بن مالك رضي الله عنه أن معنى {من تدخل النار} من يخلد. وقال قتادة: يدخل مقلوب يخلد ولا تقول كما قال أهل حروراء فيكون قوله على هذا {فقد أخزيته} على بابه من الهلاك أي أهلتكه وأبعدته ومقته. وبهذا قال سعيد بن المسيب، فإن الآية جاءت خاصة في قوم لا يخرجون من النار. دليله قوله في آخر الآية {وما للظالمين من أنصار} أي الكفار. وإن قدرنا الآية في العصاة من الموحدين، فيحتمل أن يكون الخزي بمعنى الحياء. يقال: خزي يخزي خزاية إذا استحي فهو خزيان وامرأة خزناية. كذا قال أهل المعاني فخزي المؤمنين يومئذ: استحياؤهم في دخول النار من سائر أهل الأديان إلى أن يخرجوا منها. والخزي للكافرين هو هلاكهم فيها من غير موت والمؤمنون يموتون، فافترقوا في الخزي والهوان، ثم يخرجون بشفاعة من أذن الله له في الشفاعة وبرحمة الرحمن وشفاعته على ما يأتي في الباب بعد هذا، وعند ذلك يكونون مرضيين قد رضي عنهم، ثم لا يأتي الإذن في أحد حتى يرضى لا يبقى عليه من قصاص ذنبه إلا ما تجيزه الشفاعة فيؤذن فيه فيلحق بالفائزين الراضين، والحمد لله رب العالمين. وأما قوله تعالى: {يوم لا يخزي الله النبي والذين آمنوا معه} فمعناه: لا يعذبه ولا يعذب الذين آمنوا وإن عذب العصاة وأماتهم فإنهم يخرجهم بالشفاعة وبرحمته على ما يأتي بيانه في الباب بعد هذا، والله أعلم.

باب منه في الشفعاء وذكر الجهنميين

باب منه في الشفعاء وذكر الجهنميين ذكر ابن المبارك قال، «أخبرنا رشدين بن سعد، عن يحيى، عن أبي عيد الرحمن الختلي، عن عبد الله بن عمرو بن العاص، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن الصيام والقرآن يشفعان للعبد يقول الصيام: رب منعته الطعام والشراب والشهوات بالنهار فشفعني فيه ويقول القرآن: منعته النوم بالليل فشفعني فيه فيشفعان» . وذكر مسلم من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه وفيه بعد قوله في نار جهنم: حتى إذا خلص المؤمنون من النار فوالذي نفسي بيده ما من أحد منكم بأشد منا شدة لله تعالى في استيفاء الحق من المؤمنين يوم القيامة لإخوانهم الذين في النار. وخرجه ابن ماجه ولفظه «عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم: إذا خلص الله المؤمنين من النار وآمنوا فما مجادلة أحدكم لصاحبه في الحق يكون له في الدنيا أشد مجادلة من المؤمنين الذين دخلوا النار. قال يقول ربنا إخواننا كانوا. فذكره بمعناه. يقولون ربنا كانوا يصومون معنا ويصلون ويحجون، فيقال لهم: أخرجوا من عرفتم فتحرم صورهم على النار فيخرجون خلقاً كثيراً قد أخذت النار إلى نصف ساقه وإلى ركبتيه يقولون ربنا ما بقي فيها أحد ممن أمرتنا به، ثم يقول الله عز وجل: ارجعوا فمن وجدتم في قلبه مثقال دينار من خير فأخرجوه فيخرجون خلقاً كثيراً، ثم يقولون ربنا لم نذر فيها أحداً ممن أمرتنا به، ثم يقول: ارجعوا فمن وجدتم في قلبه مثقال نصف دينار من خير فأخرجوه فيخرجون خلقاً كثيراً، ثم يقولون ربنا لم نذر فيها أحداً ممن أمرتنا به، ثم يقول ارجعوا فمن وجدتم في قلبه مثقال ذرة من خير فأخرجوه فيخرجون خلقاً كثيراً ربنا لم نذر فيها خيراً» . و «كان أبو سعيد الخدري رضي الله عنه يقول: إن لم تصدقوني بهذا الحديث فاقرءوا إن شئتم: {إن الله لا يظلم مثقال ذرة وإن تك حسنة يضاعفها ويؤت من لدنه أجراً عظيماً} فيقول الله تعالى: شفعت الملائكة، وشفع النبيون، وشفع

المؤمنون ولم يبق إلا أرحم الراحمين. في البخاري وبقيت شفاعتي بدل قوله ولم يبق إلا أرحم الراحمين فيقبض قبضة من النار فيخرج منها قوماً لم يعملوا خيراً قط عادوا حمماً فيلقيقهم في نهر على أفواه الجنة يقال له نهر الحياة فيخرجون كما تخرج الحبة في حميل السيل. ألا ترونها تكون إلى الحجر أو الشجر ما يكون إلى الشمس أصفر وأخضر، وما يكون منها إلى الظل يكون أبيض قالوا يا رسول الله: كأنك كنت ترعى بالبادية. قال: فيخرجون كاللؤلؤ في رقابهم الخواتيم يعرفهم أهل الجنة هؤلاء عتقاء الله الذين أدخلهم الجنة بغير عمل عملوه ولا خير قدموه، ثم يقول ادخلوا الجنة فما رأيتموه فهو لكم، فيقولون: ربنا أعطيتنا ما لم تعط أحداً من العالمين، فيقول: لكم عندي أفضل من هذا. فيقولون: يا ربنا وأي شيء أفضل من هذا؟ فيقول رضائي فلا أسخط عليكم بعده أبداً» . وخرج أبو القاسم إسحاق بن إبراهيم بن محمد الختلي في كتاب الديباج له، «حدثنا أحمد بن أبي الحارث قال: حدثنا عبد المجيد بن أبي رواد،

عن معمر راشد، عن الحكم بن أبان، عن عكرمة، عن ابن عباس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا فرغ الله من القضاء بين خلقه أخرج كتاباً من تحت العرش: إن رحمتي سبقت غضبي فأنا أرحم الراحمين. قال فيخرج من النار مثل أهل الجنة أو قال مثلي أهل الجنة قال: وأكثر ظني أنه قال مثلي أهل الجنة مكتوب بين أعينهم عتقاء الله» . فصل: هذا الحديث بين أن الإيمان يزيد وينقص حسب ما بيناه في آخر سورة آل عمران من كتاب جامع أحكام القرآن فإن قوله: أخرجوا من في قلبه مثقلا دينار ونصف دينار وذرة يدل على ذلك وقوله: من خير يريد من إيمان وكذلك ما جاء ذكره في الخبر في حديث قتادة عن أنس وكان في قلبه من الخير ما يزن شعيرة ما يزن برة ما يزن ذرة أي من الإيمان بدليل الرواية الأخرى التي رواها معبد بن هلال العنبري «عن أنس وفيها فأقول يا رب أمتي أمتي فيقال: انطلق فمن كان في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان فأخرجه منها فأنطلق فأفعل» . الحديث بطوله أخرجه مسلم فقوله: «من إيمان» أي من أعمال الإيمان التي هي أعمال الجوارح، فيكون فيه دلالة على أن الأعمال الصالحة من شرائع الإيمان ومنه قوله تعالى {وما كان الله ليضيع إيمانكم} أي صلاتكم. وقد قيل: إن المراد في هذا الحديث أعمال القلوب كأنه يقول: أخرجوا من عمل عملاً بنية من قلبه كقوله «الأعمال بالنيات»

وفي هذا المعنى خبر عجيب يأتي ذكره آنفاً إن شاء الله تعالى. ويجوز أن يراد به، رحمة على مسلم رقة على يتيم خوفاً من الله رجاء له، توكلاً عليه ثقة به مما هي أفعال القلوب دون الجوارح، وسماها إيماناً لكونها في محل الإيمان. والدليل على أنه أراد بالإيمان ما قلنا ولم يرد مجرد الإيمان الذي هو التوحيد له ونفي الشركاء والإخلاص بقوله لا إله إلا الله ما في الحديث نفسه من قوله «أخرجوا أخرجوا» ثم هو سبحانه بعد ذلك يقبض قبضة فيخرج قوماً لم يعملوا خيراً قط يريد إلا التوحيد المجرد عن الأعمال، وقد جاء هذا مبيناً فيما رواه الحسن عن أنس وهي الزيادة التي زادها علي بن معبد في حديث الشفاعة، ثم أرجع إلى ربي في الرابعة فأحمده بتلك المحامد ثم أخر له ساجداً قال فيقال لي محمد ارفع رأسك وقل يسمع لك وسل تعطه واشفع تشفع، فأقول: يا رب أئذن لي فيمن قال لا إله إلا الله. قال: ليس ذاك لك أو قال ليس ذلك إليك وعزتي وكبريائي وعظمتي وجبروتي لأخرجن من قال لا إله إلا الله. وذكر الترمذي الحكيم أبو عبد الله في نوادر الأصول، «عن محمد بن كعب القرطي، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يكتب على جباههم عتقاء الرحمن فيسألون أن يمحوا ذلك الاسم عنهم فيمحوه» وفي رواية «فيبعث الله ملكاً فيمحوه عن جباههم» الحديث وسيأتي.

يقال: محا لوحه يمحوه محواً ويمحيه محياً ومحاه أيضاً فهو ممحو وممحى. صارت الواو ياء لكسر ما قبلها فأدغمت في الياء التي هي لام الفعل وأنشد الأصمعي: كما رأيت الورق الممحيا وانمحى انفعل وامتحى لغة فيه ضعيفة قاله الجوهري. وذكره أبو بكر البزار في مسنده، «عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: أما أهل النار الذين هم أهلها فلا يموتون فيها ولا يحيون، وأما الذين يريد الله إخراجهم فتميتهم النار ثم يخرجون منها فيلقون على نهر الحياة فيرسل الله عليهم من مائها، فينبتون كما تنبت الحبة في حميل السيل ويدخلون الجنة فيسميهم أهل الجنة: الجهنميين فيدعون الله تعالى فيذهب ذلك الاسم عنهم» . البخاري «عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: يخرج قوم من النار بعد ما مسهم منها سفع فيدخلون الجنة فيسميهم أهل الجنة الجهنميين» . الترمذي «عن عمران بن حصين عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ليخرجن قوم من النار بشفاعتي يسمون الجهنميين» قال: حديث حسن. «وعن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم شفاعتي لأهل الكبائر من

أمتي» خرجه الترمذي وصححه أبو محمد عبد الحق. وخرجه أبو داود الطيالسي وابن ماجه «من حديث جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي» . زاد الطيالسي قال: فقال لي جابر من لم يكن من أهل الكبائر فما له وللشفاعة؟ قال أبو داود وحدثناه محمد بن ثابت عن جعفر بن محمد عن أبيه عن جابر. وذكر أبو الحسن الدراقطني «عن أبي أمامة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال نعم أنا لشرار أمتي. فقالوا: فكيف أنت لخيارها؟ قال: أما خيارها فيدخلون الجنة بأعمالهم وأما شرارهم فيدخلون الجنة بشفاعتي» . وخرج ابن ماجه، «حدثنا إسماعيل بن أسد، حدثنا أبو بدر شجاع بن الوليد السلوي، حدثنا زياد بن خيثمة عن نعيم بن أبي هند، عن ربعي بن حراش، عن أبي موسى الأشعري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم خيرت بين الشفاعة وبين أن يدخل نصف أمتي الجنة فاخترت الشفاعة لأنها أعم وأكفى. أترونها للمتقين؟ لا. ولكنها للخاطئين المذنبين المتلوثين» . قلت: «وأنبأنا الشيخ الفقيه أبو القاسم عبد الله بن علي بن خلف

الكوفي إجازة عن أبيه الفقيه الإمام المحدث أبي الحسن علي بن خلف الكوفي قال: قرئ على الشيخة الصالحة فخر النساء خديجة بنت أحمد بن الحسن بن عبد الكريم النهرواني في منزلها وأنا حاضر أسمع قيل لها: أخبركم الشيخ أبو عبد الله الحسين بن أحمد بن محمد النعالي فأقرت به، وقالت: نعم. قال: حدثنا أبو الحسن محمد بن أحمد بن محمد بن رزقويه البزار، أخبرنا أبو علي إسماعيل بن محمد بن إسماعيل بن صالح الصغار، حدثنا عبد الله بن أيوب المخرمي، حدثنا أبو بدر شجاع بن الوليد السكوني، عن زياد بن خيثمة عن نعيم بن أبي هند، عن ربعي بن خراش عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: خيرت بين الشفاعة ونصف أمتي فاخترت الشفاعة أترونها للمتقين لا ولكنها للخاطئين المتلوثين؟» . وخرج ابن ماجه قال: «حدثنا هشام بن عمار، حدثنا صدقة بن خالد حدثنا ابن جابر قال سمعت سليم بن عامر يقول، سمعت عوف بن مالك الأشجعي يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أتدرون ما خيرني ربي الليلة؟ قلنا: الله ورسوله أعلم. قال: إنه خيرني بين أن يدخل نصف أمتي الجنة وبين الشفاعة فاخترت الشفاعة. قلنا: يا رسول الله ادع الله أن يجعلنا من أهلها. قال: هي لكل مسلم» وما الخبر العجيب الذي وعدنا بذكره فذكره الكلاباذي أبو بكر محمد بن إبراهيم في بحر الفوائد له، حدثنا أبو النصر محمد بن إسحاق الرشادي قال، حدثنا أبو بكر محمد بن عيسى بن زيد الطرسوسي قال، حدثنا نعيم بن

حماد قال، حدثنا إبراهيم بن الحكم بن أبان عن أبيه عن أبي قلابة قال: كان لي ابن أخ يتعاطى الشراب فمرض فبعث إلي ليلا: أن ألحق بي فأتيته فرأيت أسودين قد دنوا من ابن أخي فقلت: إنا لله هلك ابن أخي فاطلع أبيضان من الكوة التي في البيت، فقال أحدهما لصاحبه: انزل إليه فلما نزل تنحى الأسودان فجاء فشم فاه، فقال ما أرى فيه ذكراً، ثم شم بطنه فقال ما أرى فيه صوماً، ثم شم رجليه فقال ما أرى فيهما صلاة، فقال له صاحبه: إنا لله وإنا إليه راجعون رجل من أمة محمد صلى الله عليه وسلم ليس له من الخير شيء ويحك عد فانظر فعاد فشم فاه فقال ما أرى فيه ذكراً، ثم عاد فشم بطنه فقال ما رأى فيه صوماً ثم عاد فشم رجليه فقال ما أرى فيهما صلاة، فقال: ويحك رجل من أمة محمد صلى الله عليه وسلم ليس معه من الخير شيء اصعد حتى أنزل أنا، فنزل الآخر فشم فاه فقال ما أرى فيه ذكراً، ثم شم بطنه فقال ما أرى فيه صوماً، ثم شم رجليه فقال ما أرى فيهما صلاة، قال: ثم عاد فأخرج طرف لسانه فشم لسانه فقال: الله أكبر تكبيرة في سبيل الله يريد بها وجه الله بإنتاكية قال، ثم فاضت نفسه وشممت في البيت رائحة المسك، فلما صليت الغداة قلت لأهل المسجد: هل لكم في رجل من أهل الجنة؟ وحدثتهم حديث ابن أخي، فلما بلغت ذكر إنتاكية قالوا ليست بإنتاكية هي إنطاكية قلت لا والله لا أسمتيها إلا كما سماها الملك. قال علماؤنا: فهذا أنجته تكبيرة أراد بها وجه الله تعالى، وهذه

التكبيرة كانت سوى الشهادة التي هي شهادة الحق التي هي شهادة الإيمان بالله تعالى كما قررناه، فشفاعة النبي صلى الله عليه وسلم والملائكة والنبيين والمؤمنين لمن كان له عمل زائد على مجرد التصديق، ومن لم يكن معه من الإيمان خير كان من الذين يتفضل الله عليهم فيخرجهم من النار فضلاً وكرماً وعداً منه حقاً وكلمة صدقاً {إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء} فسبحان الرؤوف لأبياته بعباده الموفي بعهده. فصل: قلت: جاء في حديث أبي سعيد الخدري قال: فيخرجون كاللؤلؤ في رقابهم الخواتيم وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه يكتب على جباههم عتقاء الرحمن وهذا تعارض. ووجه الجمع بين الحديث أن يكون بعضهم سيماهم في وجوههم وبعضهم سيماهم في رقابهم، وقد جاء في حديث جابر وفيه بعد إخراج الشافعين، ثم يقول الله تبارك وتعالى أنا الله أخرج بعلمي ورحمتي فيخرج أضعاف ما خرجوا وأضعافهم، ويكتب في رقابهم عتقاء الله عز وجل فيدخلون الجنة فيسمون فيها بالجهنميين. قلت: وقد يعبر بالرقبة عن جملة الشخص قال الله تعالى {فتحرير رقبة} وقال عليه السلام «ولم ينس حق الله في رقابها ولا ظهورها» . وقد تعبر العرب بالرقاب عن جملة المال قال الشاعر: غمر الرداء إذا تبسم ضاحكاً ... علقت لضحكته رقاب المال

فيحتمل أن يكون المعنى في حديث أبي سعيد وجابر رضي الله عنهما فيخرجون اللؤلؤ يعرف أهل الجنة أشخاصهم بالخواتيم المكتوبة على جباههم كما في حديث أبي هريرة رضي الله عنه ولا تعارض على هذا، والله أعلم. فصل: إن قال قائل لم سألوا محو ذلك الاسم عنهم وهو اسم شريف لأنه سبحانه أضافه إليه، كما أضاف الأسماء الشريفة فقال: نبيي وبيتي وعرشي وملائكتي، وقد جاء في الخبر: إن المتحابين في الله مكتوب على جباههم هؤلاء المتحابون في الله ولم يسألوه محوه؟ قيل: إنما سألوا ذلك بخلاف المتحابين في الله تعالى لأنهم أنفوا أن ينسوا إلى جهنم التي هي دار الأعداء واستحيوا من إخوانهم لأجل ذلك، فلما من عليهم بدخول الجنة أرادوا كمال الامتنان بزوال هذه النسبة عنهم. وقد روي مرفوعاً: «إنهم إذا دخلوا الجنة قال أهل الجنة هؤلاء الجهنميون فعند ذلك يقولون إلهنا لو تركتنا في النار كان أحب إلينا من العار، فيرسل الله ريحاً من تحت العرش يقال لها المثيرة فتهب على وجوههم فتمحي الكتابة وتزيدهم بهجة وجمالاً وحسناً» . أخبرنا الشيخ الراوية أبو محمد عبد الوهاب عرف بابن رواحة قرأت عليه، قال قرئ على الحافظ السلفي وأنا أسمع قال: «أخبرنا الحاجب أبو الحسن العلاف، أخبرنا أبو القاسم بن بشران، أخبرنا الآجري أبو بكر محمد بن الحسين، حدثنا أبو علي الحسن بن محمد بن سعيد الأنصاري، حدثنا علي بن مسلم الطوسي، حدثنا مروان بن معاوية الفزاري قال: حدثني

عمرو بن رفاعة الربعي، عن أبي نضرة، عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن أهل النار الذين هم أهلها لا يموتون فيها ولا يحيون وأهلها الذين يخرجون منها إذا أسقطوا فيها كانوا فحماً، حتى يأن الله فيخرجهم فيلقيهم على نهر يقال له الحياة أو الحيوان، فيرش أهل الجنة عليهم الماء فينبتون ثم يدخلون الجنة يسمون الجهنميين، ثم يطلبون من الرحيم عز وجل فيذهب ذلك الاسم عنهم ويلحقون بأهل الجنة. وأما سيماء المتحابين فعلامة شريفة ونسبة رفيعة فلذلك لم يسألوا محوها ولا طلبوا زوالها وإزالهتا» والله أعلم. فإن قيل: ففي هذا ما يدل على أن بعض من يدخل الجنة قد يلحقه تنغيص ما، والجنة لا تنغيص فيها ولا نكد. قيل له: هذه الأحاديث تدل على ذلك وأن ذلك يلحقهم عند دخول الجنة ثم يزول ذلك الاسم عنهم: وقد مثل بعض علمائنا هذا الذي أصاب هؤلاء بالبحر تقع فيه النجاسات أنه لاحكم لها كذلك ما أصاب هؤلاء بالنسبة إلى أهل الجنة، وهو تشبيه حسن. قلت: وقد يلحق الجميع خوف ما عند ذبح الموت على الصراط على ما يأتي: وبعده يكونون آمنين مسرورين قد زال عنهم كل متوقع، والله أعلم. فصل: إن قال قائل: كيف يشفع القرآن والصيام وإنما ذلك عمل العاملين؟ قيل له: وقد تقدم هذا المعنى ونزيده وضوحاً، فنقول أنا الذي أسهرت ليلك وأظمأت نهارك خرجه ابن ماجه في سننه من حديث بريدة وإسناده

صحيح، فقوله: يجيء القرآن أي ثواب قارئ القرآن. وقد جاء في صحيح مسلم «من حديث النواس بين سمعان الكلابي قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: يؤتى بالقرآن يوم القيامة وأهله الذين كانوا يعملون به تتقدمه سورة البقرة وآل عمران وضرب لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة أمثال ما نستيهن بعد قال كأنهما غمامتان أو ظلتان سوداوان بينهما شرق أو كأنهما فرقان من طير صواف تحاجان عن صاحبهما» . قال علماؤنا فقوله «تحاجان عن صاحبهما» أي يخلق الله من يجادل عنه بثوابهما ملائكة كما جاء في بعض الحديث «أنه من قرأ {شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة} خلق الله سبعين ألف ملك يستغفرون إلى يوم القيامة» . قلت: وكذلك يخلق الله من ثواب القرآن والصيام ملكين كريمين، فيشفعان له وكذلك إن شاء الله سائر الأعمال الصالحة، كما ذكره ابن المبارك في دقائقه: أخبرنا رجل عن زيد بن أسلم قال: بلغني أن المؤمن يتمثل له عمله يوم القيامة في أحسن صورة وأحسن ما خلق الله وجهاً وثياباً وأطيبه ريحاً، فيجلس إلى جنبه كلما أفزعه شيء أمنه وكلما تخوف شيئاً هون عليه، فيقول له: جزاك الله من صاحب خيراً من أنت؟ فيقول: أما تعرفني وقد صحبتك في قبرك وفي دنياك أنا عملك كان والله حسناً. فلذلك تراني حسناً وكان طيباً فلذلك تراني طيباً. تعال فاركبني فطال ما ركبتك في الدنيا وهو قوله تعالى: {وينجي الله الذين اتقوا بمفازتهم} الآية. حتى يأتي به إلى ربه عز وجل فيقول يا رب

إن كل صاحب عمل في الدنيا قد أصاب في عمله، وكل صاحب تجارة وصانع قد أصاب في تجارته غير صاحبي هذا قد شغل في نفسه فيقول الله تعالى: فما تسأل؟ فيقول المغفرة والرحمة أو نحو هذا فيقول: فإني قد غفرت له، ثم يكسى حلة الكرامة ويجعل عليه تاج الوقار فيه لؤلؤة تضيء من مسيرة يومين ثم يقول: يا رب إن أبويه قد شغل عنهما وكل صاحب عمل وتجارة قد كان يدخل على أبويه من عمله فيعطى أبويه مثل ما أعطى. ويتمثل للكافر عمله في أقبح ما يكون صورة وأنتن رائحة ويجلس إلى جنبه كلما أفزعه شيء زاده، وكلما تخوف شيئاً زاده خوفاً منه، فيقول: بئس الصاحب أنت ومن أنت؟ فيقول: أما تعرفني؟ فيقول: لا. فيقول: أنا عملك كان قبيحاً فلذلك تراني قبيحاً وكان منتناً، فلذلك تراني منتناً فطأطئ رأسك أركبك فطالما ركبتني في الدنيا فذلك قوله تعالى: {ليحملوا أوزارهم كاملة يوم القيامة} . قلت: مثل هذا لا يقاب من جهة الرأي، ومعناه يستند «من حديث قيس بن عاصم المنقري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إنه لا بد لك يا قيس من قرين يدفن معك وهو حي وتدفن معه وأنت ميت، فإن كان كريماً أكرمك وإن كان لئيماً أسلمك، ثم لا يحشر إلا معك ولا تبعث إلا معه ولا تسأل إلا عنه، فلا تجعله إلا صالحاً فإن كان صالحاً فلا تأنس إلا به، وإن كان فاحشاً فلا تستوحش إلا منه وهو فعلك» . وذكر أبو الفرج بن الجوزي في كتاب روضة المشتاق، والطريق إلى الملك الخلاق قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يؤتى يوم القيامة بالتوبة في صورة حسنة ورائحة طيبة فلا يجد رائحتها ولا يرى صورتها إلا مؤمن فيجدون لها رائحة وأنساً،

باب معرفة المشفوع فيهم بأثر السجود وبياض الوجوه

فيقول الكافر والعاصي المصر: ما لنا ماوجدنا ماوجدتم ولا رأينا ما رأيتم فتقول التوبة: طال ما تعرضت لكم في الدنيا فما أردتموني فلو كنتم قبلتموني لكنتم اليوم وجدتموني فيقولون: نحن اليوم نتوب فينادي مناد من تحت العرش: ههيات ذهبت أيام المهلة وانقضى زمان التوبة، فلو جئتموني بالدنيا وما اشتملت عليه ما قبلت توبتكم ولا رحمت عبرتكم، فعند ذلك تنأى التوبة عنهم وتبعد ملائكة الرحمة عنهم، وينادي مناد من تحت العرش: يا خزنة النار هلموا إلى أعداء الجبار» وهذا بين فما ذكرناه وبالله توفيقنا، والله أعلم. باب معرفة المشفوع فيهم بأثر السجود وبياض الوجوه قد تقدم من حديث أبي سعيد الخدري أن المؤمنين يقولون: ربنا إخواننا كانوا يصومون معنا ويصلون ويحجون أدخلتهم النار، فيقول لهم: اذهبوا فمن عرفتم أخرجوه. وذكر الحديث. وخرج مسلم من «حديث أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم وفيه بعد قوله منهم المجازى حتى ينجى إذا فرغ الله من القضاء بين العباد وأراد أن يخرج برحمته من أراد من أهل النار أمر الملائكة أن يخرجوا من النار من كان لا يشرك بالله شيئاً ممن أراد الله أن يرحمه ممن يقول لا إله إلا الله، فيعرفونهم في النار بأثر السجود تأكل النار ابن آدم إلا أثر السجود، وحرم الله على النار أن تأكل آثر السجود، فيخرجون من النار قد امتحشوا فيصب عليهم ماء الحياة فينبتون منه كما تنبت الحبة في حميل السيل» وذكر الحديث. وخرج «عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن قوماً يخرجون

من النار يحترقون فيها إلا درات وجوههم حتى يدخلوا الجنة» . فصل: هذا الحديث أدل دليل على أن أهل الكبائر من أمة محمد صلى الله عليه وسلم لا تسود لهم وجوه، ولا تزرق لهم أعين، ولايغلون بخلاف الكفار، وقد جاء هذا المعنى منصوصاً في «حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنما الشفاعة يوم القيامة لمن عمل الكبائر من أمتي ثم ماتوا عليها، فهم في الباب الأول من جهنم لا تسود وجوههم ولا تزرق أعينهم ولا يغلون بالأغلال ولا يقرنون بالشياطين، ولا يضربون بالمقامع ولا يطرحون في الأدراك، منهم من يمكث فيها ساعة ثم يخرج، ومنهم من يمكث فيها يوماً ثم يخرج، ومنهم من يمكث فيها شهراً ثم يخرج، ومنهم من يمكث فيها سنة ثم يخرج، وأكثرهم مكثاً فيها مثل الدنيا منذ خلقت إلى يوم أفنيت، وذلك سبعة آلاف سنة» الحديث بطوله وسيأتي تمامه إن شاء الله تعالى، خرجه الترمذي في نوادر الأصول. وقال أبو حامد في كتاب كشف علوم الآخرة إنه يؤتى بأهل الكبائر من أمة محمد صلى الله عليه وسلم شيوخاً وعجائز وكهولاً ونساء وشباباً، فإذا نظر إليهم مالك خازن النار، قال: من أنتم معشر الأشقياء ما لي أرى أيديكم لا تغل، ولم توضع عليكم الأغلال والسلاسل ولم تسود وجوهكم وما ورد علي أحسن منكم، فيقولون: يا مالك نحن أشقياء أمة محمد صلى الله عليه وسلم دعنا نبكي على ذنوبنا. فيقول لهم: ابكوا فلن ينفعكم البكاء.

فكم من شيخ وضع يده على لحيته ويقول: وا شيبتاه وا طول حسرتاه وا ضعف قوتاه، وكم من كهل ينادي وا مصيبتاه وأطول مقاماه. وكم من شاب ينادي وا أسفاه وا شباباه على تغيير حسناه، وكم من امرأة قد قبضت على ناصيتها وشعرها وهي تنادي وا سوأتاه واهتك أستارها، فيبكون ألف عام، فإذا النداء من قبل الله: يا مالك أدخلهم النار في أول باب منها، فإذا همت النار أن تأخذهم فيقولون بجمعهم: لا إله إلا الله فتنفر عنهم النار خمسمائة عام، ثم يأخذون في البكاء فتشتد أصواتهم، وإذا النداء من قبل الله تعالى: يا نار خذيهم، يا مالك أدخلهم الباب الأول من النار، فعند ذلك يسمع لها صلصلة كالرعد القاصف، فإذا همت النار أن تحرق القلوب زجرها مالك وجعل يقول: لا تحرقي قلباً فيه القرآن، وكان وعاء الإيمان، فإذا بالزبانية قد جاءوا بالحميم ليصبوه في بطونهم فيزجرهم مالك، فبقول: لا تدخلوا الحميم بطوناً أخمصها رمضان، ولا تحرق النار جباهاً سجدت لله تعالى، فيعودون فيها حمماً كالغاسق المحلو لك والإيمان يتلألأ في القلوب. وسيأتي لهذا مزيد بيان في آخر أبواب النار، نجانا الله منها ولا يجعلنا ممن يدخلها فيحترق فيها.

باب ما يرجى من رحمة الله تعالى ومغفرته وعفوه يوم القيامة

فصل: قوله: «إذا فرغ الله» مشكل وفي التنزيل: {سنفرغ لكم أيها الثقلان} ومعناه المبالغة في التهديد والوعيد من عند الله تعالى لعباده كقول القائل سأفرغ لك وإن لم يكن مشغولاً عنه بشغل وليس بالله تعالى شغل، تعالى عن ذلك. وقيل: المعنى: سنقصد لمجازاتكم وعقوبتكم كما يقول القائل لمن يريد تهديده: إذاً أتفرغ لك أي أقصد قصدك. وفرغ بمعنى قصد وأحكم. قال جرير بن نمير الجعفي: الآن وقد فرغت إلى نمير ... فهذا حين كنت لها عذابا يريد؟ وقد قصدت نحوه فمعنى فرغ الله من القضاء بين العباد. أي تمم عليهم حسابهم وفصل بينهم لأنه لا يشغلهم شأن عن شأن سبحانه وتعالى. باب ما يرجى من رحمة الله تعالى ومغفرته وعفوه يوم القيامة قال الحسن: يقول الله تعالى يوم القيامة: «جوزوا الصراط بعفوي، وادخلوا الجنة برحمتي، واقتسموها بأعمالكم» . وقال عليه السلام: «ينادي منادي من تحت العرش: يا أمة محمد أما ما كان لي

قبلكم فقد وهبته لكم وبقيت التبعات فتواهبوها فيما بينكم وادخلوا الجنة برحمتي» . وروي أن إعرابياً سمع ابن عباس يقرأ: {وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها} فقال الأعرابي: والله ما أنقذكم منها وهو يريد أن يوقعهم فيها، فقال ابن عباس خذوها من غير فقيه. وقال الصنابحي دخلت على عبادة بن الصامت وهو في الموت فبكيت فقال: مهلاً لم تبكي؟ فوالله ما من حديث سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم لكم فيه خير إلا حدثتكموه إلا حديثاً واحداً، وسوف أحدثكموه اليوم، وقد أحيط بنفسي. سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من شهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله حرم الله عليه النار» . خرجه مسلم وغيره من الأئمة. وخرج مسلم «من حديث سلمان الفارسي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله تعالى خلق يوم خلق السموات والأرض مائة رحمة كل رحمة منها طباق ما بين السماء والأرض، فجعل في الأرض منها رحمة واحدة، فيها تعطف الوالدة على ولدها، والطير والوحوش بعضها على بعض، فإذا كان يوم القيامة أكملها بهذه الرحمة» . أخرجه ابن ماجة من حديث أبي سعيد. وفي بعض الطرق لأبي هريرة «فإذا كان يوم القيامة رد هذه الرحمة

على تلك التسعة والتسعين فأكملها مائة رحمة فرحم بها عباده يوم القيامة» . قلت: «أخبرناه عالياً. الشيخ الإمام الحافظ المسند ابو الحسن علي بن محمد بن محمد بن محمد بن عمرو البكري التيمي من ولد أبي بكر الصديق رضي الله عنه قراءة عليه بالصنورة المنصورة بالديار المصرية في يوم الجمعة الثالث عشر من شهر رجب الفرد سنة سبع وأربعين وستمائة قال: حدثنا الشيخ المسند أبو حفص عمر بن محمد بن معمر الدارقري قدم علينا من دمشق قال: أخبرنا أبو القاسم عبيد الله بن محمد بن عبد الواحد بن الحصين الكاتب ببغداد أخبرنا أبو طالب محمد بن محمد بن عيلان البزاز، أخيرنا أبو بكر محمد بن عبد الله الشافعي أخبرنا موسى بن سهل الوشا، أخبرنا يزيد بن هارون، أخبرنا الحجاج بن أبي ديب قال: سمعت أبا عثمان النهدي يحدث عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لما خلق الله تعالى السموات والأرض أنزل مائة رحمة كل رحمة طباقهما فقسم رحمة واحدة منها بين جميع الخلائق،

فمنها يتعاطفون، فإذا كان يوم القيامة رد هذه الرحمة على التسعة والتسعين فأكملها مائة يرحم الله بها عباده يوم القيامة حتى إن أبليس ليتطاول لها رجاء أن ينال منها شيئاً» . وقال ابن مسعود: لن تزال الرحمة بالناس حتى إن إبليس ليهتز صدره يوم القيامة مما يرى من رحمة الله تعال وشفاعة الشافعين، وقال الأصمعي: كان رجل يحدث بأهوال يوم القيامة وأعرابي جالس يسمع، فقال: يا هذا من يلبي هذا من العباد؟ قال: الله. فقال الأعرابي: إن الكريم إذا قدر عفا وغفر. وروى ابن ماجة، «عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ هذه الآية {هو أهل التقوى وأهل المغفرة} قال: فقال الله تعالى: أنا أهل أن أتقى فلا يجعل معي إله آخر فمن اتقى ألا يجعل معي إلهاً آخر فأنا أهل أن أغفر له» وخرجه أبو عيسى الترمذي بمعناه وقال حديث حسن غريب. وروي «عن عبد الله بن أبي أوفي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: والذي نفسي بيده الله أرحم بعبده من الوالدة الشفيقة بولدها» . وروى مسلم «عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم بسبي وإذا بامرأة من السبي تبتغي ولداً لها إذ وجدت صبياً في السبي فأخذته فألصقته ببطنها وأرضعته، فقال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: أترون هذه المرأة طارحة ولدها. قلنا: لا والله وهي قادرة على أن تطرحه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الله أرحم بعباده من هذه بولدها» أخرجه البخاري أيضاً. وقال أبو غالب كنت أختلف إلى أبي أمامة بالشام، فدخلت يوماً على فتى مريض من جيران أبي أمامة وعنده عم له وهو يقول له: يا عدو الله ألم آمرك؟ ألم أنهك؟ فقال الصبي: ياعماه لو أن الله تعالى دفعني إلى والدتي كيف كانت صانعة بي؟ قال: كانت تدخلك الجنة، قال: إن ربي الله أشفق من والدتي وأرحم بي منها. وقبض الفتى من ساعته، فلما جهزه عمه وصلى عليه، وأراد أن يضعه في لحده فدخلت القبر مع عمه فلما سواه صاح وفزع فقلت له: ما شأنك؟ قال: فسح لي في قبره وملئ نوراً فدهشت منه. وقال هلال بن سعد يؤمر بإخراج رجلين من النار فيقول الله تعالى لهما: كيف وجدتما مقيلكما؟ فيقولان: شر مقيل. فيقول الله تعالى: ذلك بما قدمت أيديكما، وما أنا بظلام للعبيد، ثم يأمر بصرفهما إلى النار، فيعدو أحدهما في سلاسله حتى يقتحمها. ويتلكأ الآخر فيؤمر بردهما ويسألهما عن حالهما، فيقول الذي عدا: قد خبرت من وبال المعصية ما لم أكن لأتعرض لمخالفتك ثانية، ويقول الذي تلكأ: حسن ظني بك أن لا تردني إليها بعدما أخرجتني منها. فيؤمر بهما إلى الجنة. قال المؤلف رحمه الله: وهذا الخبر رفعه الترمذي أبو عيسى بمعناه «عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إن رجلين ممن دخلا النار اشتد صياحهما فقال الرب تبارك وتعالى: أخرجوهما، فلما أخرجا قال لهما لأي شيء اشتد صياحكما؟ قالا: فعلنا ذلك لترحمنا، قال: إن رحمتي لكما أن تنطلقا فتلقيا أنفسكما حيث كنتمامن النار فينطلقان فيلقي أحدهما نفسه فيجعلها له برداً وسلاماً ويقوم الآخر فلا يلقي نفسه، فيقول الله تبارك وتعالى: ما منعك أن تلقى نفسك كما ألقى صاحبك؟ فيقول: رب إني لأرجو أن تعيدني بعدما أخرجتني، فيقول الله تعالى: لك رجاؤك فيدخلان الجنة برحمته» قال: أبو عيسى إسناد هذا الحديث ضعيف لأنه عن رشدين بن سعد، ورشدين بن ضعيف عن ابن أنعم الإفريقي، والإفريقي ضعيف عند أهل الحديث. «و

عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: يقول الله تعالى: أخرجوا من النار من ذكرني يوماً أو خافني في مقام» حديث غريب. وذكر أبو نعيم الحافظ عن إسحاق بن سويد قال: صحبت مسلم بن يسار عاماً إلى مكة فلم أسمعه يتكلم بكلمة حتى بلغنا ذات عرق قال: ثم حدثنا قال: بلغني أنه يؤتى بالعبد يوم القيامة فيوقف بين يدي الله تعالى فيقول: انظروا في حسناته فينظر في حسناته فلا يوجد له حسنة فيقول: انظروا في سيئاته فتوجد له سيئات كثيرة، فيؤمر كثيرة، فيؤمر به إلى النار فيذهب إلى النار وهو يلتفت، فيقول: رده إلي، لم تلتفت؟ فيقول: أي رب لم يكن هذا ظني، أورجائي فيك ـ شك إبراهيم ـ فيقول: صدقت، فيؤمر به إلى الجنة. قلت: وهذا الحديث رفعه ابن المبارك قال: «أخبرنا رشدين بن سعد قال: حدثني أبو هانىء الخولاني عن عمرو بن مالك أن فضالة بن عبيد، وعبادة بن الصامت رضي الله عنهما حدثاه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إذا كان يوم القيامة وفرغ الله من قضاء الخلق، فيبقى رجلان فيؤمر بهما إلى النار فيلتفت أحدهما فيقول الجبار تبارك وتعالى وردوه فيردوه فيقال له: لم التفت؟ فيقول: كنت أرجو أن تدخلني الجنة فيؤمر به إلى الجنة، قال: فيقول: لقد أعطاني ربي حتى إني لو أطعمت أهل الجنة ما نقص ذلك مما عندي شيئاً» ، قالا: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا ذكره يرى السرور في وجهه. قال المؤلف: وفي هذا المعنى خبر الرجل الذي ترفع له شجرة بعد

باب منه وفي أول ما يقول الله تعالى للمؤمنين وفي أول ما يقولون له

أخرى حتى يخرج من النار إلى أن يدخل الجنة. خرجه مسلم في الصحيح وسيأتي. باب منه وفي أول ما يقول الله تعالى للمؤمنين وفي أول ما يقولون له أبو داود الطيالسي قال: «حدثنا عبد الله المبارك قال: حدثني يحيى بن أيوب عن عبيد الله زحر، عن خالد بن أبي عمران، عن أبي عياش، عن معاذ بن جبل قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن شئتم أنبأتكم بأول ما يقول الله عز وجل للمؤمنين يوم القيامة وبأول ما يقولون له؟ قالوا: نعم يا رسول الله. قال: فإن الله تعالى يقول للمؤمنين هل أحببتم لقائي؟ فيقولون: نعم يا ربنا قال: وما محملكم على ذلك؟ قال: فيقولون: عفوك ورحمتك ورضوانك، فيقول: فإني قد أوجبت لكم رحمتي» . باب منه ذكر أبو نعيم الحافظ قال: حدثنا سليمان بن أحمد قال: حدثنا إسحاق بن إبراهيم قال: أخبرنا عبد الرزاق، عن معمر، عن زيد بن أسلم أن رجلاً كان في الأمم الماضية يجتهد في العبادة ويشدد على نفسه ويقنط الناس من رحمة الله ثم مات قال: إي رب مالي عندك؟ قال: النار. قال: فأين عبادتي واجتهادي؟ قيل له: إنك كنت تقنط الناس من رحمتي في الدنيا وأنا أقنطك من رحمتي.

باب حفت الجنة بالمكاره وحفت النار بالشهوات

وقال مقاتل: قال علي بن أبي طالب كرم الله وجهه: الفقيه من لم يقنط الناس من رحمة الله تعالى ولم يرخص لهم في معاصي الله عز وجل. باب حفت الجنة بالمكاره وحفت النار بالشهوات مسلم «عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: حفت الجنة بالمكاره وحفت النار بالشهوات» . خرجه البخاري أيضاً والترمذي وقال: حديث صحيح غريب. وخرج الترمذي «عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لما خلق الله الجنة أرسل جبريل إلى الجنة فقال: انظر إليها وإلى ما أعددت لأهلها فيها. قال فجاءها ونظر إليها وإلى ما أعد الله لأهلها فيها قال: فرجع إليه وقال: وعزتك لا يسمع بها أحد إلا دخلها. قال: فأمر بها فحفت بالمكاره فقال: فأرجع إليها فانظر إلى ما أعددت لأهلها فيها. قال: فرجع إليها فإذا هي قد حفت بالمكاره فرجع إليه فقال: وعزتك لقد خفت أن لا يدخلها أحد. قال اذهب إلى النار فانظر إليها وإلى ما أعددت لأهلها فيها فإذا هي يركب بعضها بعضاً فرجع إليه فقال: وعزتك لقد خفت ألا يسمع بها أحد فيدخلها فأمر بها فحفت بالشهوات، فقال ارجع إليها فرجع إليها فقال: وعزتك لقد خشيت ألا ينجو منها أحد إلا دخلها» . قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح.

فصل: المكاره: كل ما يشق على النفس ويصعب عليها عمله كالطهارة في السبرات وغيرها من أعمال الطاعات، والصبر على المصائب، وجميع المكروهات. والشهوات: كل ما يوافق النفس ويلائمها وتدعو إليه ويوافقها. وأصل الحفاف الدائر بالشيء المحيط به الذي لا يتوصل إليه بعد أن يتحظى، فمثل صلى الله عليه وسلم المكاره والشهوات بذلك، فالجنة لا تنال إلا بقطع مفاوز المكاره والصبر عليها، والنار لا ينجو منها إلا بترك الشهوات وفطام النفس عنها. وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه مثل طريق الجنة وطريق النار بتمثيل آخر فقال: «طريق الجنة حزن بربوة، وطريق النار سهل بسهوة» ذكره صاحب الشهاب. والحزن: هو الطريق الوعر المسلك. والربوة: هو المكان المرتفع وأراد به أعلى ما يكون من الروابي. والسهوة: بالسين المهملة هو الموضع السهل الذي لا غلط فيه ولا وعورة. وقال القاضي أو بكر بن العربي في سراج المريدين له ومعنى قوله عليه السلام: «حفت الجنة بالمكاره وحفت النار بالشهوات» أي جعلت على حافاتها وهي جوانبها ويتوهم الناس أنه ضرب فيها المثل فجعله في

باب احتجاج الجنة والنار وصفة أهلهما

جوانبها من الخارج، ولو كان ذلك ما كان مثلاً صحيحاً وإنما هي من داخل وهذه صورتها: الجنة النار الصبر الألم الجاه المال النساء المكاره الغزو وعن هذا قال ابن مسعود: حفت الجنة بالمكاره، والنار حفت بالشهوات فمن اطلع الحجاب فقد واقع ما وراء، وكل من تصورها من خارج فقد ضل عن معنى الحديث وعن حقيقة الحال. فإن قيل: فقد حجبت النار بالشهوات. قلنا: المعنى واحد لأن الأعمى عن التقوى: الذي أخذت سمعه وبصره الشهوات يراها ولا يرى النار التي هي فيها، وإن كانت باستيلاء الجهالة ورين الغفلة على قلبه كالطائر يرى الحبة في داخل الفخ وهي محجوبة عنه ولا يرى الفخ لغلبة شهوة الحبة على قلبه وتعلق باله بها، وجهله بما جعلت فيه وحجبت. باب احتجاج الجنة والنار وصفة أهلهما البخاري «عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم احتجت الجنة والنار فقالت هذه: يدخلني الجبارون والمتكبرون. وقالت هذه: يدخلني الضعفاء والمساكين، فقال الله لهذه: أنت عذابي أعذب بك من أشاء. وقال لهذه: أنت رحمتي أرحم بك من أشاء، ولكل واحدة منكما ملؤها» . خرجه مسلم والترمذي وقال: هذا حديث حسن صحيح.

فصل: قال الحاكم أو عبد الله في علوم الحديث: سئل محمد خزيمة عن قول النبي صلى الله عليه وسلم تحاجت النار والجنة فقالت هذه: يدخلني الضعفاء من الضعيف قال الذي يبرىء نفسه من الحول والقوة. يعني في اليوم عشرين مرة أو خمسين مرة. قال المؤلف: ومثل هذا لا يقال من جهة الرأي فهو مرفوع، والله أعلم وأما المساكين: فالمراد بهم المتواضعون وهم المشار إليهم في قوله عليه السلام: «اللهم أحييني مسكيناً وأمتني مسكيناً واحشرني في زمرة المساكين» . ولقد أحسن من قال: إذا أردت شريف الناس كلهم ... فانظر إلى ملك في زي مسكين ذاك الذي عظمت في الله رغبته ... وذاك يصلح للدنيا وللدين ومعنى «تحاجت الجنة والنار» أي حاجت كل واحدة صاحبتها وخاصمتها وسيأتي بيانه عند قوله عليه السلام: «اشتكت النار إلى ربها» . باب منه في صفة أهل الجنة وأهل النار وفي شرار الناس من هم؟ مسلم «عن عياض بن عمار المجاشعي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال

يوماً في خطبته: أهل الجنة ثلاثة: ذو سلطان مقسط متصدق موفق، ورجل رحيم رقيق القلب لكل ذي قربى ومسلم، وعفيف ضعيف متضعف ذو عيال. قال: وأهل النار خمسة: الضعيف الذي لا زبر له الذين هم فيكم تبع لا يبتغون أهلاً ولا مالاً، والخائن الذي لا يخفى له طمع وإن دق إلا خانة، ورجل لا يصبح ولا يمسي إلا وهو يخادعك عن أهلك ومالك، وذكر البخل والكذب والشنظير الفحاش» . «وعن حارثة بن وهب الخزاعي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ألا أخبركم بأهل الجنة كل ضعيف متضعف لو أقسم على الله لأبر قسمه، ألا أخبركم بأهل النار كل عتل جواظ مستكبر» . وفي رواية: «زنيم متكبر» . خرجه ابن ماجه أيضاً. «أبو داود عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا يدخل الجنة الجواظ ولا الجعظري» قال: الجواظ: الغليظ الفظ. ابن ماجه «عن ابن عمران قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الله رسول الله لا يعذب من عباده إلا المارد المتمرد الذي تمرد على الله وأبى أن يقول لا إله إلا الله» . «وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا يدخل النار إلا

شقي. قيل يا رسول الله ومن الشقي؟ قال: من لم يعمل لله بطاعته ولم يترك له معصية» . «وعن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أهل الجنة من ملأ الله أذنيه من ثناء الناس خيراً وهو يسمع، وأهل النار من ملأ الله أذنيه من ثناء الناس شراً وهو يسمع» . مسلم «عن أنس قال: مر بجنازة فأثني عليها خيراً فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم وجبت وجبت وجبت، ومر بجنازة فأثنى عليها شراً فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وجبت وجبت وجبت. فقال عمر: فداك أبي وأمي مر بجنازة فأثني عليها خيراً فقلت: وجبت وجبت وجبت، ومر بجنازة فأثني عليها شراً فقلت: وجبت وجبت وجبت، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من أثنيتم عليه خيراً وجبت له الجنة، ومن أثنيتم عليه شراً وجبت له النار أنتم شهداء الله في الأرض» قالها ثلاثاً. وقالت عائشة رضي الله عنها: الجنة دار الأسخياء، والنار دار البخلاء.

وقال زيد بن أسلم: أمرك الله تعالى أن تكون كريماً فيدخلك الجنة، ونهاك أن تكون بخيلاً فيدخلك النار. وذكر أبو نعيم الحافظ من حديث محمد بن كعب القرظي، «عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: من أحب أن يكون أقوى الناس فليتوكل على الله، ومن أحب أن يكون اكرم الناس فليتق الله، ومن أحب أن يكون أغنى الناس فليكن بما في يد الله أوثق منه بما في يده ألا أنبئكم بشراركم؟ قالوا: نعم يا رسول الله. قال: من أكل وحده ومنع رفده وجلد عبده، أفأنبئكم بشر من هذا؟ قالوا: نعم يا رسول الله، قال: من يبغض الناس ويبغضونه. قال: أفأنبئكم بشر من هذا؟ قالوا: نعم يا رسول الله. قال: من لا يقيل عثرة ولا يقبل معذرة ولا يغفرذنباً. قال: أفأنبئكم بشر من هذا؟ قالوا: نعم يا رسول الله، قال: من لا يرجى خيره، ولا يؤمن شره، إن عيسى بن مريم قائم في بني إسرائيل خطيباً فقال: يا بني أسرائيل لا تتكلموا بالحكمة عند الجهال فتظلموها ولا تمنعوها أهلها فتظلموها وقال: مرة فتظلموهم ولا تظلموا ظالماً. ولا تكافئوا طالماً فيبطل فضلكم عند ربكم يا بني إسرائيل الأمر ثلاث: أمر بين رشده فاتبعوه، وأمر بين غيه فاجتنبوه، وأمر اختلف فيه فردوه إلى الله عز وجل» . قال أبو نعيم وهذا الحديث لا يحفظ بهذا السياق عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا من حديث محمد بن كعب عن ابن عباس. فصل: قوله: ذو سلطان مقسط وما بعده مرفوع على أنها صفات لذو وهي بمعن صاحب. والمقسط: العادل، والمتصدق: المعطي الصدقات،

والموفق: المسدد لفعل الخيرات. ورفيق القلب: لينه عند التذكرة والموعظة، ويصلح أن يكون بمعنى الشفيق. وقوله: «ضعيف متضعف» يعني ضعيف في أمور الدنيا قوي في أمر دينه كما قال عليه السلام: «المؤمن القوي أحب إلى الله من المؤمن الضعيف وفي كل خير» الحديث خرجه مسلم. أما من كان ضعيفاً في أمور دينه لا يعني بها فمذموم، وذلك من صفات أهل النار كما قال: وأهل النار خمسة: الضعيف الذي لا زبر له أي لا عقل له ومن لا عقل له ينفك به عن المفاسد ولا ينزجر به عنها، فحسبك به ضعفاً وخسارة في الدين وقد قيل في الزبير: إنه المال وليس بشيء، لأن النبي صلى الله عليه وسلم فسر ذلك بقوله الذين هم فيكم تبع لا يتبعون أهلاً ولامالاً. قال شيخنا أبو العباس رضي الله عنه: فيعني بذلك أن هؤلاء ضعفاء العقول فلا يسعون في تحصيل مصلحة دنيوية ولا فضيلة نفسية ولا دينية، بل يهملون أنفسهم إهمال الأنعام ولا يبالون بما يثبون عليه من الحلال والحرام، وهذه الأوصاف الخبيثة الذاتية هي أوصاف هذه الطائفة المسماة بالقلندرية. وقد قال مطرف بن عبد الله بن الشخير راوي الحديث: والله لقد أدركتهم في الجاهلية وإن الرجل ليرعى على الحي ما به إلا وليدتهم يطاولها،

ويخفى بمعنى يظهر وهو من الأضداد. وقوله: وذكر البخل والكذب هكذا الرواية المشهورة بالواو الجامعة والكذب، وقد رواه ابن أبي جعفر عن الطبراني بأو التي للشك قاله القاضي عياض، ولعله الصواب وبه تصح القسمة، لأنه ذكر أن أصحاب النار خمسة: الضعيف الذي وصفه والخائن الذي وصف والرجل المخادع الذي وصف. قال: وذكر البخل والكذب، ثم ذكر الشنظير والفحاش فرأى هذا القائل أن الرابع هو أحد الصنفين، وقد يحتمل لأن يكون الرابع قد جمعها على رواية واو العطف كما جمعهما في الشنظير الفحاش. وقوله: أهل الجنة ثلاثة: ذو سلطان مقسط متصدق موفق، ورجل رحيم رقيق القلب لكل ذي قربى، ومسلم، وعفيف متعفف ذو عيال. قال القاضي عياض: كذا قيدناه بخفض مسلم عطفاً على ما قبله. وفي رواية أخرى ومسلم عفيف بالرفع وحذف الواو شيخنا. انتهى كلام القاضي عياض رحمه الله. والعفيف: الكثير العفة وهي الانكفاف عن الفواحش وعن ما لا يليق. والمتعفف: المتكلف العفة. والشظير: السيء الخلق ويقال شنظيرة أيضاً. قاله الجوهري وأنشد قول أعرابية: شنظيرة زوجنيه أهلي ... من حمقه يحسب رأسي رجلي

كأنه لم ير أنثى قبلي وربما قالوا شنذيرة بالذال المعجمة لقربها من الظاء لغة أو لثغة، والفحاش الكثير الفحش وقيل الشنظير: هو الفحاش. قال صاحب العين: يقال شنظر بالقوم إذا شتم أعراضهم والشنظير: الفحاش من الرجال القلق وكذلك من الإبل. والجواظ: الجموع المنوع ومنه قوله تعالى: {وجمع فأوعى} . وقيل: الجواظ الكثير اللحم المختال. وقيل: هو الجافي القلب. والعتل: قيل: الجافي الشديد الخصومة. وقيل: هو الأكول الشروب الظلوم. قال المؤلف: ويقال: إنه الفظ الغليظ الذي لا ينقاد لخبر. والجعظري: الفظ الغليظ القصير، وجاء في تفسيره في بعض الأحاديث هم الذين لا تصدع رؤوسهم. قال شيخنا: والزنيم: المعروف بالشر. وقيل: اللئيم، وأما الزنيم المذكور في القرآن فرجل معين له زنمة كزنمة التيس. وقيل: هو الوليد وكان له زنمة تحت أذنه وقيل هو الملصق بالقوم

وقيل: هم الأخنس بن شريق. وقوله عليه السلام: «من أثنيتم عليه شراً وجبت له النار» يعارضه قوله عليه السلام «لا تسبوا الأموات فإنهم قد أفضوا إلى ما قدموا» . أخرجه البخاري. والثناء بالشر: سب. فقيل ذلك خاص بالمنافقين الذين شهدت الصحابة فيهم بما ظهر لهم، ولذلك قال عليه السلام: «وجبت به النار» والمسلم لا تجب له النار واختار هذا القول القاضي عياض. وقيل: ذلك جائز فيمن كان يظهر الشر ويعلن به، فيكون ذلك من باب لا غيبة لفاسق. وقيل: إن النهي إنما هو بعد الدفن. وأما قبله فممنوع لقوله عليه السلام: «لا تسبوا الأموات» . فالنهي عن سب الأموات متأخر فيكون ناسخاً، والله أعلم. وقوله: «أنتم شهداء الله في الأرض» معناه عند الفقهاء إذا أثنى عليه أهل الفضل والصدق والعدالة لأن الفسقة قد يثنون على الفاسق فلا يدخل في الحديث، وكذلك لو كان القائل فيه عدواً له وإن كان فاضلاً لأن شهادته في حياته لو كانت عليه كانت غير مقبولة، وكذلك الحكم في الآخرة والله أعلم.

وقيل إن تكرار «أنتم شهداء الله في الأرض» ثلاثاً إشارة إلى القرون الثلاثة الذين قال فيهم النبي صلى الله عليه وسلم «خير الناس قرني ثم الذين يلونهم. ثم الذين يلونهم» . قلت: الأول أصح، لأن الله تعالى مدح هذه الأمة بالفضل العدالة إلى يوم القيامة قال الله تعالى {وكذلك جعلناكم أمة وسطاً لتكونوا شهداء على الناس} يعني في الآخرة كما تقدم فلا يشهد إلى العدول. وقد خرج البخاري، «عن حماد بن زيد، عن ثابت، عن أنس قال: مر على النبي صلى الله عليه وسلم بجنازة فأثنوا عليها خيراً فقال وجبت ثم مر عليه بأخرى فأثنوا عليها شراً أو قال غير ذلك فقال وجبت فقيل يا رسول الله قلت لهذا وجبت ولهذا وجبت فقال: المؤمنون شهداء الله في الأرض» وخرجه ابن ماجه بهذا الإسناد وقال شهادة القوم والمؤمنون شهود الله في الأرض. وفي البخاري أيضاً «عن عمر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من شهد له أربعة بخير أدخله الله الجنة. قلنا: وثلاثة؟ قال: وثلاثة: فقلنا: وإثنان؟ قال: واثنان، ثم لم نسأله عن الواحد» قال أبو محمد عبد الحق وهذا الحديث مخصوص والله أعلم،

والذي قبله يعطي العموم وإن كثرت شهوده وانطلقت ألسنة المسلمين فيه بالخير والثناء الصالح كانت له الجنة والله أعلم. قال المؤلف رحمه الله: ومن هذا المعنى ما ذكره هناد بن السري، أخبرنا إسحاق الرازي، عن أبي سنان، عن عبد الله بن السائب قال: مرت جنازة بعبد الله بن مسعود فقال لرجل قم فانظر من أهل الجنة هو أم من أهل النار؟ قال الرجل: ما يدريني أمن أهل الجنة هو أم من أهل النار؟ وكيف أنظر؟ قال: ثناء الناس عليه فإنهم شهداء الله في الأرض. قال أبو محمد: وغير مستنكر إذا أحب الله عبداً أمر أن يلقى على ألسنة المسلمين الثناء عليه وفي قلوبهم المحبة له قال الله تعالى {إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات سيجعل لهم الرحمن وداً} . وقال عليه السلام: «إذا أحب الله عبداً قال يا جبريل إني أحب فلاناً فأحبه قال فيحبه جبريل، ثم ينادي في السماء إن الله يحب فلاناً فأحبوه قال فيحبه أهل السماء ثم يوضع له القبول في الأرض، وذكر في البغضاء مثل ذلك» وهذا حديث صحيح خرجه البخاري ومسلم. قال أبو محمد عبد الحق: وقد شوهد رجال من المسلمين علماء صالحون كثر الثناء عليهم وصرفت القلوب إليهم في حياتهم وبعد مماتهم، ومنهم من كثر المشيعون لجنازته وكثر الحاملون لها والمتشغلون بها، وربما كثر الله

الخلق بما شاء من الجن المؤمنين أو غيرهم مما يكون في صور الناس. ذكر قاسم بن أصبغ قال: حدثنا أحمد بن زهير قال: أخبرنا محمد يزيد الرفاعي، قال مات عمرو بن قيس الملائي بناحية فارس فاجتمع لجنازته من الخلق ما لا يحصى، فلما دفن نظروا فلم يروا أحداً قال الرفاعي: سمعت هذا ممن لا أحصى كثرة، وكان سفيان الثوري يتبرك بالنظر إلى عمرو بن قيس هذا. ولما مات أحمد بن حنبل رضي الله عنه صلى عليه من المسلمين ما لا يحصى، فأمر المتوكل أن يمسح موضع الصلاة عليه من الأرض، فوجد موقف ألفي ألف وثلاثمائة ألف أونحوها، ولما انتشر خبر موته أقبل الناس من البلاد يصلون على قبره فصل عليه ما لا يحصى، ولما مات الأوزاعي رضي الله عنه اجتمع للصلاة عليه من الخلق ما لا يحصى وروي أنه أسلم في ذلك اليوم من أهل الذمة اليهود والنصارى نحو من ثلاثين ألفاً لما روأوا من كثرة الخلق على جنازته ولما رأوا من العجب في ذلك اليوم. ولما مات سهل بن عبد الله التستري رحمه الله انكب الناس على جنازته وحضرها من الخلق ما لا يعلمه إلا الله تعالى، وكانت في البلد ضجة فسمع بها يهودي شيخ كبير، فخرج فلما رأى الجنازة صاح وقال: هل ترون ما أرى؟ قالوا: وما ترى؟ قال: أرى قوماً ينزلون من السماء يتمسحون بالجنازة ثم أسلم وحسن إسلامه،

باب منه في صفة أهل الجنة وأهل النار

ويقال: إن الكعبة لم تخل من طواف طائف يطوف بها إلا يوم مات المغيرة بن حكيم، فإنها خلت لانحشار الناس لجنازته تبركاً بها ورغبة في الصلاة عليه. وقد شوهد من جنائز الصالحين من يشيعها الطير ويسير معها حيث سارت منهم: أبو الفيض ذو النون المصري، وأبو إبراهيم المزني صاحب الشافعي حدث بذلك الثقات: قاله أبو محمد عبد الحق في كتاب العاقبة له. باب منه في صفة أهل الجنة وأهل النار مسلم «عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم صنفان من أهل النار لم أرهما قوم معهم سياط كأذناب البقر يضربون بها الناس، ونساء كاسيات عاريات مائلات مميلات رؤوسهن كأسنمة البخت المائلة لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها، وإن ريحها ليوجد من مسيرة كذا وكذا» قال الحافظ ابن دحية أبو الخطاب الرواية بالياء بلا خلاف وتحكم أبو اليد الكتاني فرواه بالثناء المثلثة وهي المنتصبة وهذا خطأ منه وتصحيف.

وخرجه مسلم أيضاً «عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال يدخل الجنة أقوام أفئدتهم مثل أفئدة الطير» . فصل: للعلماء في تأويل هذا الحديث وجهان: أحدهما: أنها مثلها في الخوف والهيبة والطير أكثر الحيوانات خوفاً حتى قالوا أحذرمن غراب، وقد غلب الخوف على كثير من السلف حتى انصدعت قلوبهم فماتوا. الثاني: أنه مثلها في الضعف والرقة كما جاء في الحديث الآخر في أهل اليمن هم أرق قلوباً وأضعف أفئدة. قلت: ويحتمل وجهاً ثالثاً أنها مثلها خالية من كل ذنب سليمة من كل عيب لا خبرة لهم بأمور الدنيا، كما روي «عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر أهل الجنة البله» وهو حديث صحيح أي البله عن معاصي الله والله أعلم. قال الأزهري: الأبله في كلامهم على وجوه: يقولون عيش أبله إذا كان ناعماً ومنه أخذ بلهنية العيش. قال بعضهم: وطالما عشت في بلهنية. والأبله الذي لا عقل له، والأبله الذي طبع على الخير وهو غافل عن الشر لا يعرفه، وقال هذا هو المراد بالحديث.

وقال العتبي: البله هم الذين غلب عليهم سلامة الصدور وحسن الظن بالناس وأنشد: ولقد لهوت بطفلة ميالة ... بلهاء تطلعني على أسرارها يعني أنها أغراء لا دهاء فيها: قلت: ونظير ما ذكرناه وما قاله هؤلاء من الكتاب قوله تعالى {إلا من أتى الله بقلب سليم} وقوله عليه السلام وقد سئل أي الناس أفضل؟ قال: «الصادق اللسان المخموم القلب قالوا: أما الصادق اللسان فقد عرفناه أنه ذلك فما المخموم القلب؟ قال: النقي الذي لا غل فيه ولا حسد» ذكره أبو عبيده والعرب تقول خممت البيت أي كنسته ومنه سميت الخمامة وهي مثل القمامة والكناسة. وقال بعض العلماء في البله وجهاً آخر لطيفاً وهو: أنهم سموا بذلك لقصورهم عن كمال المعرفة بحق الله تعالى ورؤية استحقاقه العبادة وإيثار طلبه والشغف بحبه وخدمته، وطلب رضاه الذي هو جنة الخلد إذا وقفوا بخواطرهم على الجنة ونعيمها، وعبدوه، وأطاعوا في نيل درجاتها ولذاتها غافلين عن مراقبة جلاله وملاحظة كماله بعكوف همهم على نيل نعمه وأفضاله، فهم بله أيضاً بالإضافة إلى العقلاء عن الله عز وجل ذوي الألباب المقبلة على مشاهدة عظمة الله تعالى، المتوجهين بكليتهم إليه المشغولين به عما لديه، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم في سياق قوله: «أكثر أهل الجنة البله وعليون لأولي الألباب» وفي الخبر: أن طائفة من العقلاء بالله عز وجل تزفهم الملائكة إلى الجنة

باب ما جاء في أكثر أهل الجنة وأكثر أهل النار

والناس في الحساب، فيقولون للملائكة: إلى أين تحملوننا؟ فيقولون: إلى الجنة. فيقولون: إنكم لتحمولوننا إلى غير بغيتنا، فتقول لهم الملائكة: وما بغيتكم؟ فيقولون: المقعد الصدق مع الحبيب، كما أخبر: {في مقعد صدق عند مليك مقتدر} ولعل من هذا القبيل من يسأل الله الجنة إلا أن سؤاله إياها لا لها بل موافقة لمولاه لما علم أنه يحب أن يسأل من ثوابه ويستعاذ من عذابه فوافق مولاه في إيثاره، لا لحظ نفسه كما قال عليه السلام لأحد أصحابه الذي قال «أما أنا فأقول في دعائي اللهم أدخلني الجنة وعافني من النار ولا أدري ما دندنتك ولا دندنه معاذ فقال له النبي صلى الله عليه وسلم حولها ندندن» . قلت: خرجه أبو داود في سننه وابن ماجه أيضاً. فصل: قال الحافظ ابن دحية أبو الخطاب: قوله صنفان من أهل النار لم أرهما الصنف فيما ذكر عن الخليل الطائفة من كل شيء. والسوط في اللغة اسم العذاب وإن لم يكن له ثم ضرب. قال الفراء. وقال ابن فارس في المجمل السوط من العذاب النصيب، والسوط خلط الشيء بعضه ببعض وإنما سمي سوطاً لمخالطته وإنما أراد النبي صلى الله عليه وسلم عظم السياط وخروجها عن حد ما يجوز به الضرب في التأديب، وهذه الصفة للسياط مشاهدة عندنا بالمغرب إلى الآن وغيره. وقوله نساء كاسيات عاريات يعني أنهن كاسيات من الثياب عاريات من الذين لانكشافهن وإبدائهن بعض محاسنهن. وقيل: كاسيات ثياباً رقاقاً يظهر ما خلفها وما تحتها فهن كاسيات في الظاهر عاريات وفي الحقيقة. وقيل: كاسيات في الدنيا بأنواع الزنية من الحرام وما لا يجوز لبسه عاريات يوم القيامة، ثم قال عليه السلام «مائلات مميلات» قيل: معناه زائغات عن طاعة الله تعالى وطاعة الأزواج وما يلزمهن من صيانة الفروج والتستر عن الأجانب ومميلات يعلمن غيرهن الدخول في مثل فعلهن. وقيل: مائلات متبخترات في مشهين مميلات يملن رؤوسهن وأعطافهن من الخيلاء والتبختر ومميلات لقلوب الرجال إليهن لما يبدين من زينتهن وطيب رائحتهن.. وقيل: يتمشطن الميلاء وهي مشطة البغايا، والمميلات: اللواتي يمشطن غيرهن المشة الميلاء. قال صلى الله عليه وسلم «رؤوسهن كأسنمة اليخت» معناه يعظمن رؤوسهن بالخمر والمقانع ويجعلن على رؤوسهن شيئاً يمسي عندهم التازة لا عقص الشعر. والذاوئب المباح للنساء حسب ما ثبت في الصحيح عن أم سلمة قالت قلت: يا رسول الله إني امرأة أشد ضفر رأسي الحديث. باب ما جاء في أكثر أهل الجنة وأكثر أهل النار مسلم «عن أسامة بن زيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قمت على باب الجنة فإذا عامة من دخلها المساكين، وإذا أصحاب الجد محبوسون إلى أصحاب النار فقد أمر بهم إلى النار. وقمت على باب النار فإذا عامة من دخلها النساء» . «ومن حديث ابن عباس في حديث كسوف الشمس: ورأيت النار فلم أر منظراً كاليوم قط ورأيت أكثر أهلها النساء. قالوا: بم يا رسول الله؟ قال بكفرهن، قيل أيكفرن بالله؟ قال: يكفرن العشير ويكفرن الإحسان لو أحسنت إلى إحداهن الدهر كله ثم رأت منك ما تكره قالت ما رأيت منك خيراً قط» . «و

عن عمران بن حصين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إن أقل ساكني الجنة النساء» . فصل: قال علماؤنا: إنما كان النساء أقل ساكني الجنة لما يغلب عليهن من الهوى والميل إلى عاجل زينة الدنيا لنقصان عقولهن أن تنقذن بصائرها إلى الأخرى فيضعفن عن عمل الآخرة والتأهب لها ولميلهن إلى الدنيا والتزين بها ولها، ثم مع ذلك هن أقوى أسباب الدنيا التي تصرف الرجال عن الأخرى لما لهم فيهن من الهوى والميل لهن، فأكثرهن معرضات عن الآخرة بأنفسهن صارفات عنها لغيرهن سريعات الانخداع لداعيهن من المعرضين عن الدين، عسيرات الاستجابة لمن يدعوهن إلى الأخرى وأعمالها من المقتين. وعن كلام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه: أيها الناس لا تطيعوا للنساء أمراً ولا تأمنوهن على مال ولا تدعوهن يدبرن أمر عشير، فإنهن إن تركن وما يردن أفسدن الملك وعصين المالك وجدناهن لا دين لهن في خلواتهن ولا ورع لهن عند شهواتهن اللذة بهن يسيرة والحيرة بهن كثيرة، فأما صوالحهن ففاجرات وأما طوالحهن فعاهرات وأما المعصومات فهن المعدومات فيهن ثلاث خصال من اليهود: يتظلمن وهن ظالمات، ويحلفن وهن كاذبات، ويتمنعن وهن راغبات، فاستعيذوا بالله من شرارهن وكونوا على حذر من خيارهن والسلام. وقال صلى الله عليه وسلم: «ما تركت بعدي فتنة أضر على الرجال من

باب ما جاء أن العرفاء في النار

النساء» وسيأتي. وقال: «ما رأيت من ناقصات عقل ودين أسلب للب الرجل الحازم من إحداكن يا معشر النساء» . وهو معنى قوله عليه السلام في الحديث المتقدم: «مائلات مميلات» . قال الحافظ بن دحية: تحفظوا عباد الله منهن وتجبنوا غيهن ولا تثقوا بودهن ولا عهدهن ففي نقصان عقولهن ودينهن ما يغني عن الإطناب فيهن. باب منه البخاري «عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: كل أمتي يدخلون الجنة إلا من يأتي. قيل: ومن يأبى يا رسول الله قال: من أطاعتي دخل الجنة ومن عصاني فقد أبى» . وذكر ابن أبي الدنيا قال: حدثنا محمد بن علي، حدثنا أبو إسحاق بن الأشعث قال: سمعت فضيل بن عياض يقول: سمعت ابن عياض يقول: يؤتى بالدنيا يوم القيامة في صورة عجوز شمطاء زرقاء أنيابها بادية مشوهة خلقتها فتشرف على الخلائق فيقال: هل تعرفون هذه؟ فيقولون: نعوذ بالله من معرفة هذه، فيقال هذه الدنيا التي تشاجرتم عليها. بها قطعتم الأرحام، وبها تحاسدتم وتباغضتم واغتررتم، ثم تقذف في جهنم فتنادي أي رب أين أتباعي وأشياعي فيقول الله: تعالى: ألحقوا بها أتباعها وأشياعها. باب ما جاء أن العرفاء في النار «عن أبي داود، عن غالب القطان، عن رجل، عن أبيه، عن جده

الحديث. وفيه أن أباه أرسله إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأنه قال: إن أبي شيخ كبير وهو عريف الماء وأنه يسألك أن تجعل إلالعرافة بعده فقال: إن العرافة حق ولا بد الناس من عرفاء ولكن العرفاء في النار» . وفي الصحيح في قصة هوازن: ارجعوا حتى يرفع إلينا عرفاؤكم أمركم. فصل: قال علماؤنا: العريف هنا القيام بأمر القبيلة والمحلة يلي أمورهم ويتعرف أخبارهم ويعرف الأمير منه أحوالهم، وقوله العرافة حق، ويريد أن فيها مصحلة للناس ورفقاً لهم ألا تراه يقول ولا بد للناس من عرفاء، وقوله في النار: معناه التحذير من الرئاسة والتأمر على الناس لما فيه من الفتنة. والله أعلم. باب منه أبو داود الطياليسي قال: «حدثنا هشام بن عباد بن أبي علي عن أبي حازم، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ويل للأمناء وويل للعرفاء ليتمنين أقوام يوم القيامة أن ذوائبهم كانت معلقة بالثريا يتذبذبون بين السماء والأرض وأنهم لم يلوا عملاً» .

باب لا يدخل الجنة صاحب مكس ولا قاطع رحم

باب لا يدخل الجنة صاحب مكس ولا قاطع رحم قال الله تعالى: {ولا تقعدوا بكل صراط توعدون وتصدون عن سبيل الله من آمن به وتبغونها عوجاً} نزلت في المكاسين والعشارين في قول بعض العلماء، وقال تعالى {فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم * أولئك الذين لعنهم الله} الآية. مسلم «عن جبير بن مطعم، عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لا يدخل الجنة قاطع» قال ابن أبي عمر قال سفيان يعني قاطع رحم. رواه البخاري. أبو داود، «عن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: لا يدخل الجنة صاحب مكس» . فصل: قال علماؤنا صاحب المكس هو الذي يعشر أموال الناس ويأخذ من التجار والمختلفين ما لا يجب عليهم إذا مروا به مكساً باسم العشر أو الزكاة، وليس هو الساعي الذي يأخذ الصدقات والحق الواجب للفقراء، وقد قمنا أن التبديل إذا كان في الأعمال وليس في العقائد صاحبه في المسيئة وإن عذب، فإنه يخرج بالشفاعة على ما تقدم وهكذا القول في أهل الكبائر المتوعد عليها بالنار واللعنة يخرجون بالشفاعة إذا ارتكبوها على غير وجه الاستحلال.

باب ما جاء في أول ثلاثة يدخلون الجنة وأول ثلاثة يدخلون النار

باب ما جاء في أول ثلاثة يدخلون الجنة وأول ثلاثة يدخلون النار أبو بكر بن شيبة، «عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أول ثلاثة يدخلون الجنة الشهيد، ورجل عفيف متعفف ذو عيال، وعبد أحسن عبادة ربه وأدى حق مواليه، وأول ثلاثة يدخلون النار: أمير متسلط، وذو ثروة من مال لا يؤدي حقه، وفقير فخور» . باب ما جاء في أول من تسعر بهم جهنم مسلم «عن أبي هريرة قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن أول الناس يقضى عليه يوم القيامة رجل استشهد فأتى به فعرفه نعمه فعرفها. قال: فما عملت فيها؟ قال: قاتلت فيك حتى استشهدت. قال: كذبك ولكنك قاتلت ليقال فلان جريء، فقد قيل ثم أمر ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار، ورجل تعلم العلم وعلمه وقرأ القرآن فأتى به فعرفه نعمه فرفعها قال: قال: فما عملت فيها؟ قال: تعلمت العلم وعلمته ومن قرآت فيك القرآن. قال: كذبت ولكنك تعلمت ليقال عالم، وقرأت القرآن ليقال هو قارئ فقد قيل ثم أمر بن فسحب على وجهه حتى ألقي في النار، ورجل وسع الله عليه وأعطاه من أصناف المال كله فأتى به فعرفه نعمه فعرفها. قال: فما عملت فيها؟ قال: ما تركت سبيل تحب أن ينفق فيها إلا أنفقت فيها لك قال: كذبت ولكنك فعلت ليقال هو جواد فقد قيل، ثم أمر فسحب على وجهه حتى ألقي في النار» . خرجه أبو عسيى

باب فيمن يدخل الجنة بغير حساب

الترمذي بمعناه وقال في آخره ثم ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم على ركبتي، فقال: «يا أبا هريرة: أولئك الثلاثة أول خلق الله تسعر بهم النار يوم القيامة» . باب فيمن يدخل الجنة بغير حساب مسلم «عن عمران بن حصين أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: يدخل الجنة من أمتي سبعون ألفاً بغير حساب قالوا: من هم يا رسول الله؟ قال: هم الذين لا يسترقون ولا يتطيرون ولا يكتوون وعلى ربهم يتوكلون» . الترمذي «عن أبي أمامة قال سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: وعدني ربي أن يدخل الجنة من أمتي سبعين ألفاً لا حساب عليهم ولا عذاب مع كل ألف سبعون ألفاً وثلاث حثيات من حثيات ربي» . قال الترمذي: هذا حديث غريب وقد أخرجه ابن ماجه أيضاً. وخرج أبو بكر البزار «من حديث أنس بن مالك قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ليدخلن الجنة من أمتي سبعون ألفاً مع كل واحد من السبعين ألفاً سبعون ألفاً» .

وخرج أيضاً هو وأبو عبد الله الحكيم الترمذي، «عن عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إن الله أعطاني سبعين ألفاً يدخلون الجنة بغير حساب فقال عمر: يا رسول الله فهلا استزدته؟ قال: استزدته فأعطاني مع كل من السبعين ألفاً سبعين ألفاً فقال عمر: يا رسول الله فهلا استزدته؟ قال: لقد استزدته فأعطاني هكذا» وفتح أبو وهب يديه. قال أبو وهب قال هشام هذا من الله لا يدري ما عدده. وخرج الترمذي الحكيم أيضاً، «عن نافع أن أم قيس حدثته أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خرج آخذاً بيدها في سكة من سكك المدينة حتى انتهى بها إلى بقيع الغرقد فقال يبعث من ها هنا سبعون ألفاً يوم القيامة في صورة القمر ليلة البدر يدخلون الجنة بغير حساب فقام رجل فقال يا رسول الله ادع الله أن يجعلني منهم. فقال: أنت منهم فقام آخر. فقال يا رسول الله: ادع الله أن يجعلني منهم. فقال: سبققك بها عكاشة» . قال أبو عبد الله فهذا العدد من مقبرة واحدة، فكيف بسائر مقابر أمته، وإنما قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أنت منهم كأنه رأى فيه أنه منهم، والآخر لم يره بموضع ذلك فقال سبقك بها عكاشة، وأم قيس هي بنت محصن أخت عكاشة بن محصن الأسدي. قلت: خرجه مسلم في صحيحه بمعناه. فصل: لا تظن أن من استوفى واكتوى لا يدخل الجنة بغير حساب، فإن

النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رقى نفسه وأمر بالرقي وكذلك كوى أصحابه ونفسه فيما ذكر الطبري وغيره، فمحمل النبي عن رقى مخصوصة بدليل قول رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لآل عمرو بن حزم» اعرضوا على رقابكم لا بأس بالرقي ما لم يكن فيه شرك «وكذلك الكي الذي لا يوجد عنه غني فمن فعله في محله وعلى شرطه لم يكن ذلك مكروهاً في حقه ولا منقصاً له من فضله، ويجوز أن يكون من السبعين ألفاً، وقد كوى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نفسه فيما ذكره الطبري في كتاب آداب النفوس له. ذكره الحليمي في كتاب المنهاج في الدين له. واختلفت الرواية في الكي، فروي أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اكتوى من الكلم الذي أصابه في وجهه يوم أحد، وكوى سعد بن زرارة من الشوكة، وكوى سعد بن معاذ الذي اهتز لموته عرش الرحمن وأبي بن كعب المخصوص بأنه أقرأ الأمة للقرآن، وقد اكتوى عمران بن حصين وقطع رجله عروة بن الزبير، فمن اعتقد أن هؤلاء لا يصلحوا أن يكونوا من السبعين ألفاً ففساد كلامه لا يخفى. باب منه » أخبرنا ابن رواح إجازة قال: حدثنا السلفي قال: أخبرنا أبو بكر أحمد بن محمد بن أحمد بن موسى بن مردويه بن فورك بن جعفر قراءة عليه وأنا أسمع بأصبهان سنة إحدى وتسعين وأربعمائة قال: أخبرنا أبو القاسم علي بن عمر ضبن إسحاق بن إبراهيم الأسدباذي الهمذاني قراءة عليه في شعبان سنة تسع وأربعمائة قال: أخبرنا أبو بكر محمد بن أحمد بن إسحاق بن السني الحافظ قال: أخبرني أبو عبد الله الحسين بن محمد المطيقي قال: حدثنا

أبو بكر بن زنجويه قال حدثنا عثمان بن صالح قال: حدثنا ابن لهيعة، عن دراج، عن أبي جحيرة، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثلاثة يدخلون الجنة بغير حساب. رجل غسل ثوبه فلم يجد له خلفاً، ورجل لم ينصب على مستوقدده بقدرين قط، ورجل دعي بشراب فلم يقل له أيهما تريد وقال ابن مسعود: من احتفر بئراً بفلاة من الأرض إيماناً واحتساباً دخل الجنة بلا حساب. باب منه ذكر أبو نعيم عن علي بن الحسين رضي الله عنه قال: إذا كان يوم القيامة نادى مناد أيكم أهل الفضل؟ فيقول ناس من الناس فيقال انطلقوا إلى الجنة فتتلقاهم الملائكة فيقولون: إلى أين؟ فيقولون إلى الجنة. قالوا قبل الحساب؟ قالوا: نعم. قالوا: من أنتم؟ قالوا: أهل الفضل. قالوا: وما كان فضلكم؟ قالوا لنا إذا جهل علينا حلمنا، وإذا ظلمنا صبرنا، وإذا أسى علينا غفرنا. قالوا: ادخلوا الجنة فنعم أجر العاملين، ثم ينادي مناد ليقم أهل الصبر فيقوم ناس من الناس وهم قليل فيقال لهم: انطلقوا إلى الجنة فتتلقاهم الملائكة فيقال لهم مثل ذلك. فيقولون نحن أهل الصبر. قالوا: وما كان صبركم؟ قالوا: صبرنا أنفسنا على طاعة الله وصبرناها عن معاصي الله. قالوا: ادخلوا الجنة فنعم أجر العاملين. قال: ثم ينادي مناد ليقم جيران الله فيقوم ناس من الناس وهم قليل فيقال لهم انطلقوا إلى الجنة فتتلقاهم الملائكة فيقال لهم مثل ذلك قالوا: ولم جاورتم الله في داره؟ قالوا: كنا

نتزاور في الله ونتجالس في الله ونتبادل في الله عز وجل. قالوا: ادخلوا الجنة فنعم أجر العاملين. وذكر «من حديث أنس قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا جمع الله الأولين والآخرين في صعيد واحد ينادي مناد من تحت بطنان العرش: أين أهل المعرة بالله، أين المحسنون؟ قال: فيقوم عنق من الناس حتى يقفوا بين يدي الله تعالى، فيقول وهو أعلم بذلك: من أنتم؟ فيقولون نحن أهل المعرفة بك الذي عرفتنا إياك وجعلتنا أهلاً لذلك فيقول: صدقتم ثم يقول ما عليكم من سبيل ادخلوا الجنة برحمتي، ثم تبسم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: لقد نجاهم الله من أهوال يوم القيامة» ، قال أبو نعيم: هذا طريق مرضي لولا الحارث بن منصور الوراق وكثرة وهمه. ابن المبارك عن ابن عباس قال: [إذا كان يوم القيامة نادى مناد: ستعلمون اليوم من أصحاب الكرم، ليقم الحامدون لله تعالى على كل حال، فيقومون فيسرحون إلى الجنة، ثم ينادي ثانية: ستعلمون اليوم من أصحاب الكرم ليقم الذين كانت {تتجافى جنوبهم عن المضاجع يدعون ربهم خوفاً وطمعاً ومما رزقناهم ينفقون} قال: فيقومون فيسرحون إلى الجنة. قال: ثم ينادي ثالثة ستعلمون اليوم من أصحاب الكرم ليقم الذين كانوا {لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله} الآية فيسرحون إلى الجنة. وروي أنه إذا كان يوم القيامة نادى مناد: أين عبادي الذين أطاعوني وحفظوا عهدي بالغيب، فيقومون كأن وجوههم البدر أو الكوكب الدري

ركباناً على نجائب من نور أزمتها من الياقوت الأحمر تطير بهم على رؤوس الخلائق، حتى يقوموا بين يدي العرش، فيقول الله لهم: السلام على عبادي الذين أطاعوني وحفظوا عهدي بالغيب. أنا اصطفيتكم وأنا أحببتكم وأنا اخترتكم. اذهبوا فأدخلوا الجنة بغير حساب، فلا خوف عليكم اليوم ولا أنتم تحزنون، فيمرون على الصراط كالبرق الخاطف فيفتح لهم أبوابها، ثم إن الخلائق في المحشر موقوفون، فيقول بعضهم لبعض: يا قوم أين فلان ابن فلان وذلك حين يسأل بعضهم بعضاً فينادي مناد {إن أصحاب الجنة اليوم في شغل فاكهون} . باب منه ذكر الميانشي القرشي أبو جعفر عمر بن حفص «من حديث أنس بن مالك، عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: إذا كان يوم القيامة جاء أصحاب الحديث بأيديهم المحابر فيأمر الله تعالى جبريل أن يأتيهم فيسألهم من هم فيأتيهم فيسألهم، فيقولون: نحن أصحاب الحديث. فيقول الله تعالى لهم: ادخلوا الجنة طال ما كنتم تصلون على نبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ» ، وخرج «عن ابن عمر عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: إذا كان يوم القيامة وضعت منابر من نور عليها قبال من در ثم ينادي مناد: أين الفقهاء وأين الأئمة وأين المؤذنوون؟ اجسلوا على هذه فلا روع عليكم اليوم ولا حزن حتى يفرغ الله فيما بينه وبين العباد من الحساب» . وروى يزيد بن هارون، «عن داود بن أبي هند، عن الشعبي، عن ابن أبي

ليلى، عن أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مسألة واحدة بتعلمها المؤمن خير له من عبادة سنة، وخير له من عتق رقبه من ولد إسماعيل، وإن طالب العلم والمرأة المطيعة لزوجها والولد البار بوالديه يدخلون الجنة بغير حساب» ، ونقلته من الزيادات بعد الأربعين لإسماعيل بن عبد الغافر رحمه الله قال: حدثنا يحيى عن الحسن ابن علي، حدثنا يزيد بن هارون فذكره. باب منه أبو نعيم «عن قتادة، عن أنس، عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: وعدني ربي أن يدخل الجنة من أمتي مائة ألف، فقال أبو بكر يا رسول الله: زدنا. قال: وهكذا، وأشار سليمان بن حرب بيده كذلك. قال يا رسول الله: زدنا. فقال عمر رضي الله عنه: إن الله قادر أن يدخل الناس الجنة بحفنة واحدة، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صدق عمر» ، هذا حديث غريب من حديث قتادة عن أنس، تفرد به عن قتادة أبو هلال واسمه محمد بن سليم الراسبي ثقة بصري. فصل: لا يحملنك يا أخي شيء من هذا الحديث ولا الذي قبله ولا ما وقع في صحيح مسلم من قوله عليه السلام مخبراً عن الله تعالى كما تقدم: فيقبض قبضة من النار على

باب أمة محمد صلى الله عليه وسلم شطر أهل الجنة وأكثر

التجسيم، وقد تقدم القول في هذا المعنى عند قوله: ويطوى السموات بيمينه. وإنما المعنى أن الله تعالى يخرج من النار خلقاً كثيراً لا يأخذهم عد، ولا يدخلون تحت حصير فيخرجون دفعة واحدة بغير شفاعة أحد ولا ترتيب خروج، بل كما يلقي القابض الشيء المقبوض عليه من يده في مرة واحدة، فعبر عن ذلك بالحفنة والحثوة والقبضة، فاعلم ذلك. باب أمة محمد صلى الله عليه وسلم شطر أهل الجنة وأكثر مسلم «عن أبي سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول الله تبارك وتعالى: يا آدم، فيقول: لبيك وسعديك والخير في يديك. قال فيقول: أخرج بعث النار من ولدك قال وما بعث؟ قال من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعون وتسعون قال فذلك حين يشيب الصغير وتضع كل ذات حمل حملها وترى الناس سكارى وما هم بسكارى، ولكن عذاب الله شديد، قال: فاشتد ذلك عليهم. قالوا يا رسول الله أينا ذلك الرجل؟ قال: أبشروا فإن من يأجوج ومأجوج ألفاً ومنكم واحد، ثم قال: والذي نفسي بيده إني

لأطمع أن تكونوا ربع أهل الجنة، فحمدنا الله وكبرنا، ثم قال: والذي نفسي بيده إني لأطمع أن تكونوا ثلث أهل الجنة فحمدنا الله وكبرنا، ثم قال: والذي نفسي بيده أن تكونوا شطر أهل الجنة. إن مثلكم في الأمم كمثل الشعرة البيضاء في جلد الثور الأسود أو كالرقمة في ذراع الدابة» خرجه البخاري. وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «يكون الخلائق يوم القيامة مائة وعشرين صفاً طول كل صف مسيرة أربعين ألف سنة، وعرض كل صف عشرون ألف سنة. قيل له يا رسول الله: كم المؤمنون؟ قال: ثلاثة صفوف. قيل له: والمشركون؟ قال: مائة وسبعة عشر صفاً. قيل له: فما صفة المؤمنين من الكافرين؟ قال: المؤمنون كالشعرة البيضاء في جلد الثور الأسود» . ذكر هذا الخبر القتيبي في عيون الأخبار له، وهو غريب جداً مخالف لصفوف المؤمنين الوارد في الأحاديث. وذكر أبو بكر بن أبي شيبة قال، «حدثنا بن نمير قال، حدثني موسى الجهني، عن الشعبي قال: سمعته يقول قال نبي الله صلى الله عليه وسلم أيسركم أن تكونوا ثلث أهل الجنة؟ قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: فيسركم أن تكونوا نصف أهل الجنة؟ قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: إن أمتي يوم القيامة ثلثي أهل الجنة. إن الناس يوم القيامة عشرون ومائة صف، وإن أمتي من ذلك ثمانون صفاً» ورواه مرفوعاً «عن عبد الله بن مسعود وفيه: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل الجنة يوم القيامة عشرون ومائة صف أنتم منها ثمانون صفاً» . في إسناده الحرث بن حضيرة ضعيف. ضعفه مسلم في صدر كتابه.

وخرج ابن ماجه والترمذي «عن بريدة بن حصيب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أهل الجنة عشرون ومائة صف ثمانون منها من هذه الأمة وأربعون من سائر الأمم» قال أبو عيسى هذا حديث غريب. فصل: تقدم من حديث عبد الله بن عمر وفيه ثم يقول: اخرجوا بعث النار وفي هذا يقال لآدم اخرج بعث النار، فقيل إن آدم لما أمر أولاً بالإخراج أمر هو والملائكة أن يخرجوا ويميزوا أهل الجنة وأهل النار، والله أعلم. وقول الصحابة رضوان الله عليهم: أين ذلك الرجل يريدون من الواحد الذي لا يدخل النار توهماً منهم أن القضية واردة فيهم، فقال صلى الله عليه وسلم «إن من يأجوج ومأجوج تسعمائة وتسعة وتسعين ومنكم رجلاً» وأطلق لفظ البشارة وبين أن الألف كلها في النار لكن من غير هذه الأمة المحمدية، ومن هذه الأمة واحدة في الجنة على ما يقتضيه ظاهر هذا اللفظ، وإذا كان كذلك استغرق العدد جميع أمة محمد صلى الله عليه وسلم، فكانوا في الجنة أو أكثرهم لأن يأجوج ومأجوج لا يموت الرجل منهم حتى يرى ألف عين تطوف بين يديه من صلبه على ما يأتي بيانه من ذكرهم في آخر الكتاب إن شاء الله تعالى، والله أعلم.

باب في ذكر أبواب جهنم وما جاء فيها وفي أهوالها وأسمائها أجارنا الله منها برحمته وفضله إنه ولي ذلك والقادر عليه

باب في ذكر أبواب جهنم وما جاء فيها وفي أهوالها وأسمائها أجارنا الله منها برحمته وفضله إنه ولي ذلك والقادر عليه ذكر الله عز وجل النار في كتابه وو صفها على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم، ونعتها فقال عز وجل من قائل: {كلا إنها لظى * نزاعة للشوى} الشوى: جمع شواة وهي جلدة الرأس، وقال: {وما أدراك ما سقر * لا تبقي ولا تذر * لواحة للبشر} ، أي مغيرة. يقال: لاحته الشمس ولوحته إذا غيرته وقال {وما أدراك ما هيه * نار حامية} وقال {لينبذن في الحطمة} أي ليرمين فيها {وما أدراك ما الحطمة} الآية. ذكر ابن المبارك، «عن خالد بن أبي عمران بسنده إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن النار لتأكل أهلها حتى إذا طلعت على أفئدتهم انتهت ثم تعود كما كانت، ثم تستقبله أيضاً فتطلع على فؤاده وهو كذلك أبداً» ، فذلك قوله تعالى {نار الله الموقدة} الآية. وقال: {وإذا الجحيم سعرت} أي أوقدت وأضرمت وقال {وسيصلون سعيراً} .

باب ما جاء أن النار لما خلقت فزعت الملائكة حتى طارت أفئدتها

وقال {وأعتدنا لهم عذاب السعير} . وقال {والذين كفروا لهم نار جهنم} الآية وقال {إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار} وسيأتي بيان هذا فأوعد بها الكافرين وخوف الطغاة والمتمردين والعصاة من الموحدين لينجزوا عما نهاهم عنه، فقال وقوله الحق: {فاتقوا النار التي وقودها الناس والحجارة أعدت للكافرين} . وقال {إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلماً إنما يأكلون في بطونهم ناراً وسيصلون سعيراً} . وقال: {ذلك يخوف الله به عباده} . والآي في هذا المعنى كثير. والله تعالى أعلم. باب ما جاء أن النار لما خلقت فزعت الملائكة حتى طارت أفئدتها ذكر ابن المبارك قال، أخبرنا معمر عن محمد بن المنكدر قال: لما خلقت النار فزعت الملائكة حتى طارت أفئدتها، فلما خلق الله آدم سكن ذلك عنهم وذهب ما كانوا يجدون. وقال ميمون بن مهران: لما خلق الله جهنم أمرها فزفرت زفرة فلم يبق في السموات السبع ملك إلا خر على وجهه فقال لهم الجبار جل جلاله: ارفعوا رؤوسكم أما عملتم أني خلقتكم لطاعتي وعبادتي وخلقت جهنم لأهل معصيتي خلقي. فقالوا: ربنا لا نأمنها حتى نرى أهلها فذلك قوله تعالى: {وهم من خشيته مشفقون} فالنار عذاب الله فلا

باب ما جاء في البكاء عند ذكر النار والخوف منها

ينبغي لأحد أن يعذب بها، وقد جاء النهي عن ذلك فقال: لا تعذبوا بعذاب الله، والله أعلم. باب ما جاء في البكاء عند ذكر النار والخوف منها «ابن وهب عن زيد بن أسلم قال: جاء جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم ومعه إسرافيل فسلما على النبي صلى الله عليه وسلم، وإذا إسرافيل منكسر الطرف متغير اللون، فقال النبي صلى الله عليه وسلم يا جبريل: ما لي أرى إسرافيل منكس الطرف متغير اللون؟ قال: لاحت له آنفاً حين هبط لمحة من جهنم فلذلك الذي ترى من كسر طرفه» . ابن المبارك قال: «أخبرنا محمد بن مطرف عن الثقة: أن فتى من الأنصار دخلته خشية من ذكر النار، فكان يبكي عند ذكر النار حتى حبسه ذلك في البيت فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فجاءه في البيت، فلما دخل النبي صلى الله عليه وسلم اعتنقه الفتى فخر ميتاً فقال النبي صلى الله عليه وسلم جهزوا صاحبكم فإن الفرق من النار قد فلذ كبده» . وروي أن عيسى عليه السلام مر بأربعة آلاف امرأة متغيرات الألوان عليهن مدارع الشعر والصوف، فقال عيسى عليه السلام: [ما الذي غير ألوانكم معاشر النسوة؟ قلن: ذكر النار غير ألواننا يا ابن مريم. إن من دخل النار لا يذوق فيها برداً ولا شراباً] ذكره الخرائطي في كتاب القبور. وروي أن سلمان الفارسي لما سمع قوله تعالى {وإن جهنم لموعدهم أجمعين} فر ثلاثة أيام هارباً من الخوف لا يعقل فجيء به إلى النبي صلى الله عليه وسلم فسأله، فقال له يا رسول الله، أنزلت هذه الآية قوله عز وجل: {إن جهنم لموعدهم أجمعين} فو الذي بعثك بالحق نبياً لقد قطعت قلبي فأنزل الله تعالى {

باب ما جاء فيمن سأل الله الجنة واستجار به من النار

إن المتقين في جنات وعيون} الآية. ذكره الثعلبي وغيره. باب ما جاء فيمن سأل الله الجنة واستجار به من النار الترمذي «عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من سأل الله الجنة ثلاث مرات قالت الجنة اللهم أدخله الجنة، ومن استجار بالله من النار ثلاث مرات قالت النار اللهم أجره من النار» . وروى البيهقي «عن أبي سعيد الخدري أو عن ابن حجيرة الأكبر، عن أبي هريرة أن أحدهما حدثه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: إذا كان يوم حار ألقى الله سمعه وبصره إلى أهل السماء وأهل الأرض، فإذا قال العبد: لا إله إلا الله ما أشد حر هذا اليوم اللهم أجرني من حر نار جهنم، قال الله لجهنم: إن عبداً من عبادي استجار بي منك وإني أشهدك أني أجرته، وإذا كان يوم شديد البرد ألقى الله سمعه وبصره إلى أهل السماء وأهل الأرض، فإذا قال العبد: لا إله إلا الله ما أشد برد هذا اليوم اللهم أجرني من زمهرير جهنم: قال الله لجهنم: إن عبداً من عبادي قد استجار بي منك ومن زمهريك أشهدك أني قد أجرته» ، فقالوا وما زمهرير جهنم؟ قال: جب يلقى فيه الكافر فيتميز من شدة بعضه من بعض.

باب ما في تقرر من الكتاب والسنة

باب ما في تقرر من الكتاب والسنة تقرر من الكتاب والسنة أن الأعمال الصالحة والإخلاص فيها مع الإيمان موصلة إلى الجنان ومباعدة من النيران، وذلك يكثر أيراده والقطع به مع الموافاة على ذلك يغني عن ذكر ذلك، ويكيفك الآن من ذلك ما ثبت في الصحيحين «عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما من عبد يصوم يوماً في سبيل الله إلا باعد الله بذلك اليوم وجهه عن النار سبعين خريفاً» ، خرجه النسائي. «عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من صام يوماً في سبيل الله زحزح الله وجهه عن النار سبعين خريفاً» ، وخرجه أبو عيسى الترمذي «عن أبي أمامة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من صام يوماً في سبيل الله جعل الله بينه وبين النار خندقاً كما بين المشرق والمغرب» ، ويروي «ما بين السماء والأرض» . قال: هذا حديث غريب من حديث أبي أمامة. وخرج الطبراني سليمان بن أحمد، «حدثنا عمارة بن وثيمة المصري قال: حدثنا أبي وثيمة بن موسى بن الفرات قال: حدثنا إدريس بن يحيى الخولاني، عن رجاء بن أبي عطاء، عن وهب بن عبد الله المعافري، عن عبد الله بن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من أطعم أخاه حتى يشبعه وشقاه من ماء حتى يرويه

باب ما جاء في جهنم وأنها أدراك ولمن هي

بعده الله من النار سبع خنادق ما بين كل خندق مسيرة مائة عام» . وفي كتاب أبي داود، «عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من توضأ فأحسن الوضوء وعاد أخاه المسلم، يوعد من جهنم سبعين خريفاً» قلت يا أبا حمزة: وما الحزيف؟ قال: العام. وفي الصحيحين «عن عدي بن حاتم قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من استطاع منكم أن يستتر من النار ولو بشق تمرة فليفعل» ، لفظ مسلم. باب ما جاء في جهنم وأنها أدراك ولمن هي قال الله تعالى: {إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار} فالنار دركات سبعة أي طبقات ومنازل، وإنما قال: أدراك ولم يقل درجات لاستعمال العرب لكل ما تسافل درك، ولما تعالى درج، فيقول للجنة درج وللنار درك، فالمنافقون في الدرك الأسفل من النار، وهي الهاوية لغلظ كفرهم وكثرة غوائلهم وتمكنهم من أذى المؤمنين. ابن وهب قال: حدثني ابن يزيد قال: قال كعب الأحبار: إن في النار لبئراً ما فتحت أبوابها بعد مغلقة ما جاء على جهنم منذ خلقها الله تعالى إلا تستعيذ بالله من شر ما في تلك البئر مخافة إذا فتحت تلك البئر أن يكون فيها من عذاب الله ما لا طاقة لها به ولا صبر لها عليه، وهي الدرك الأسفل من النار.

وذكر ابن المبارك قال: أخبرنا سفيان، عن سلمة بن كهيل، عن خيثمة، عن ابن مسعود في قوله تعالى: {إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار} قال: توابيت من حديد تصمت عليهم في أسفل النار، قال: وأخبرنا إبراهيم بن هارون الغنوي قال: سمعت حطان بن عبد الله الرقاشي يقول: سمعت علياً يقول: هل تدرون كيف أبواب جهنم؟ قال: هي مثل أبوابنا هذه؟ قال: لا، بل هي هكذا بعضها فوق بعض. وقال العلماء: أعلى الدركات جهنم وهي مختصة بالعصاة من أمة محمد صلى الله عليه وسلم وهي التي تخلو من أهلها فتصفق الرياح أبوابها، ثم لظى، ثم الحطمة، ثم السعير، ثم سقر، ثم الجحيم، ثم الهاوية، وقد يقال للدركات: درجات لقوله تعالى: {ولكل درجات مما عملوا} . ووقع في كتب الزاهد والرقائق أسماء هذه الطبقات وأسماء أهلها من أهل الأديان على ترتيب لم يرد في أثر صحيح. قال الضحاك: في الدرك الأعلى المحمديون، وفي الثاني النصارى، وفي الثالث اليهود، وفي الرابع الصائبون، وفي الخامس المجوس، وفي السادس مشركو العرب، وفي السابع المنافقون. وقال معاذ بن جبل وذكر العلماء السوء من العلماء: من إذا وعظ عنف، وإذا وعظ أنف، فذلك في الدرك الأول من النار، ومن العلماء من يأخذ علمه بأخذ السلطان، فذلك في الدرك الثاني من النار، ومن العلماء من يخزن علمه فذلك في الدرك الثالث من النار، ومن العلماء من يتخير العلم والكلام لوجوه الناس ولايرى سفلة الناس له

باب ما جاء أن جهنم تسعر كل يوم وتفتح أبوابها إلا يوم الجمعة

موضعاً فلذلك في الدرك الرابع من النار، ومن العلماء من يتعلم كلام اليهود والنصارى وأحاديثهم ليكثر حديثهم فذلك في الدرك الخامس من النار، ومن العلماء من ينصب نفسه للفتيا يقول للناس سلوني فذلك الذي يكتب عند الله متكلف والله لا يحب المتكلفين فذلك في الدرك السادس من النار، ومن العلماء من يتخذ علمه مروءة وعقلاً فذلك في الدرك السابع من النار. ذكره غير واحد من العلماء. قلت: ومثله لا يكون رأياً وإنما بدر توقيفاً، ثم من هذه الأسماء ما هو اسم علم للنار كلها بجملتها. نحو جهنم وسقر ولظى وسموم، فهذه أعلام ليست لباب دون باب فاعلم ذلك. وفي التنزيل {ووقانا عذاب السموم} يريد النار بجملتها، كما ذكرنا أجارنا الله منها بمنه وكرمه آمين. باب ما جاء أن جهنم تسعر كل يوم وتفتح أبوابها إلا يوم الجمعة أبو نعيم قال: «حدثنا سليمان بن أحمد قال: حدثنا الحسين بن إسحاق التستري قال: حدثنا علي بن بحر قال: حدثنا سوار بن عبد العزيز، عن النعمان ابن المنذر، عن مكحول، عن عبد الله بن عمرو أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن جهنم تسعر في كل يوم وتفتح أبوابها إلا يوم الجمعة، فإنها لا تسعر يوم الجمعة ولا تفتح أبوابها» ، غريب من حديث عبد الله ومكحول لم نكتبه إلا من حديث النعمان. قال المؤلف رحمه الله: ولهذا المعنى كانت النافلة جائزة في يوم الجمعة عند قائم الظهيرة، دون غيرها من الأيام، والله أعلم.

باب ما جاء في قول الله تعالى " لها سبعة أبواب لكل باب منهم جزء مقسوم "

باب ما جاء في قول الله تعالى " لها سبعة أبواب لكل باب منهم جزء مقسوم " باب ما جاء في قول الله تعالى لها سبعة أبواب لكل باب منهم جزء مقسوم قال الله تعالى في محكم كتابه {لها سبعة أبواب} وقال {حتى إذا جاؤوها فتحت أبوابها} . «وعن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لجهنم سبعة أبواب باب منها لمن سل السيف على أمتي أو قال على أمة محمد» ، خرجه الإمامان الحافظان الترمذيان أبو عبد الله وأبو عيسى، وقال أبو عيسى: هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث مالك بن مغول. قلت: مالك بن مغول أبو عبد الله البجلي الكوفي إمام ثقة، خرج له البخاري ومسلم والأئمة. قال أبي بن كعب: [لجهنم سبعة أبواب أشدهما غماً وكرباً وحراً وأنتنها ريحاً للزناة الذين ارتكبوا بعد العلم] . وروى سلام الطويل «عن أبي سفيان، عن أنس بن مالك، عن النبي صلى الله عليه وسلم

في قول الله تعالى: {لها سبعة أبواب} الآية: جزء أشركوا بالله، وجزء شكوا في الله، وجزء أغفلوا عن الله، وجزء آثروا شهواتهم على الله، وجزء شفوا غيظهم بغضب الله، وجزء صيروا رغبتهم بحظهم عن الله، وجزء عتوا على الله» . ذكره الحليمي أبو عبد الله الحسن بن الحسين في كتاب منهاج الدين له، وقال: فإن كان ثابتاً فالمشركون بالله هم الثنوية، والشاكون هم الذين لا يدرون أن لهم إلهاً أو لا إله لهم أو يشكون في شريعته أنها من عنده أولاً، والغافلون عن الله هم الذين يجحدونه أصلاً، ولا يثبتونه وهم الدهرية، والمؤثرون شهواتهم على الله هم المنهمكون في المعاصي لتكذيبهم رسل الله وأمره ونهيه والشافون غيظهم بغضب الله تعالى هم القائلون أنبياء الله وسائر الداعين له المعذبون ينصح لهم أو يذهب غير مذهبهم والمصيرون رغبتهم بحظهم من الله تعالى هم المنكرون للبعث والحساب، منهم يعبدون أي شيء يرغبون فيه لهم جميع حظهم من الله تعالى والعاتون على الله هم الذين لا يبالون بأن يكون ما هم فيه حقاً أو باطلاً فلا يتفكرون ولا يعتبرون ولا يستدلون، والله أعلم بما أراد رسوله صلى الله عليه وسلم إن كان الحديث ثابتاً. «وقال بلال كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي في مسجد المدينة وحده، فمرت به أعرابية فصلت خلفه ولم يعلم بها فقرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية {لها سبعة أبواب لكل باب منهم جزء مقسوم} ، فخرت الأعرابية مغشياً عليها وسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم وجبتها فانصرف، ودعا بماء فصب على وجهها حتى أفاقت وجلست، فقال النبي صلى الله عليه وسلم يا هذه ما لك؟ فقالت: هذا شيء من

باب منه وفي بعد أبواب جهنم بعضها عن بعض وما أعد الله تعالى فيها من العذاب

كتاب الله أو شيء من تلقاء نفسك؟ فقال يا أعرابية: بل هو من كتاب الله المنزل، فقالت كل عضو من أعضائي يعذب على باب منها؟ قال يا أعرابية بل لكل باب منهم جزء مقسوم يعذب أهل كل باب على قدر أعمالهم فقالت: والله إني إمرأة مسكينة لا مال لي، ولا لي إلا سبعة أعبد أشهدك يا رسول الله أن كل عبد منهم على باب من أبواب جهنم حر لوجه الله تعالى، فأتاه جبريل عليه السلام فقال يا رسول الله: بشر الأعرابية أن الله قد قد غفرها لها وحرم عليها أبواب جهنم وفتح لها أبواب الجنة كلها» ، والله أعلم. باب منه وفي بعد أبواب جهنم بعضها عن بعض وما أعد الله تعالى فيها من العذاب ذكر عن بعض أهل العلم في قول الله تعالى: {لكل باب منهم جزء مقسوم} قال: من الكفار والمنافقين والشياطين وبين الباب والباب خمسمائة عام. فالباب الأول: يسمى جهنم لأنه يتجهم في وجوه الرجال والنساء فيأكل لحومهم وهو أهون عذاباً من غيره. والباب الثاني: يقال له لظى نزاعة للشوى. يقول أكله اليدان والرجلان. تدعو من أدبر عن التوحيد وتولى عما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم. والباب الثالث: يقال له سقر، وإنما سمي سقر لأنه يأكل اللحم دون العظم. الباب الرابع: يقال لها الحطمة، فقال قال الله تعالى: {وما أدراك ما الحطمة * نار الله الموقدة} تحطم العظام وتحرق الأفئدة، قال الله تعالى: {التي تطلع على

الأفئدة} تأخذه النار من قدميه وتطلع على فؤاده وترمي بشرر كالقصر، كما قال تعالى: {إنها ترمي بشرر كالقصر * كأنه جمالة صفر} الآية يعني سوداً فتطلع الشرر إلى السماء ثم تنزل فتحرق وجوههم وأيديهم وأبدانهم فيبكون الدمع حتى ينفد، ثم يبكون الدماء، ثم يبكون القيح حتى ينفد القيح حتى لو أن السفن أرسلت تجري فيما خرج من أعينهم لجرت. والباب الخامس: يقال له الجحيم، وإنما سمي جحيماً لأنه عظيم الجمرة، الجمرة الواحدة أعظم من الدنيا. والباب السادس: يقال له السعير، وإنما سمي السعير لأنه يسعر بهم ولم يطف منذ خلق فيه ثلاثمائة قصر، في كل قصر ثلاثمائة بيت، في كل بيت ثلاثمائة لون من العذاب، وفيه الحيات والعقارب والقيود والسلاسل والأغلال، وفيه جب الحزن ليس في النار عذاب أشد منه إذا فتح باب الجب حزن أهل النار حزناً شديداً. والباب السابع: يقال له الهاوية من وقع فيه لم يخرج منه أبداً، وفيه بئر الهبهاب وذلك قوله تعالى: {كلما خبت زدناهم سعيراً} إذا فتح الهبهاب يخرج منه نار تستعيذ منه النار، وفيه الذين قال الله تعالى: {سأرهقه صعوداً} أو هو جبل من نار يوضع أعداء الله على وجوههم على ذلك الجبل مغلولة أيديهم إلى أعناقهم مجموعة أعناقهم إلى أقدامهم، والزبانية وقوف على

رؤوسهم بأيديهم مقامع من حديد إذا ضرب أحدهم بالمقمعة ضربة سمع صوتها الثقلان. وأبواب النار: حديد. فرشها الشوك غشاوتها الظلمة أرضها نحاس ورصاص وزجاج. النار من فوقهم والنار من تحتهم لهم من فوقهم ظلل من النار ومن تحتهم ظلل، أوقد عليها ألف عام حتى احمرت وألف عام حتى ابيضت وألف عام حتى اسودت، فهي سوداء مظلمة مدلهمة مظلمة قد مزجت بغضب الله. ذكره القتبي في عيون الأخبار. وذكر ابن عباس أن جهنم سوداء مظلمة لا ضوء لها ولا لهب، وهي كما قال الله تعالى {لها سبعة أبواب لكل باب منهم جزء مقسوم} على كل باب سبعون ألف جبل، في كل جبل سبعون ألف شعب من النار، في كل شعب سبعون ألف شق من النار، في كل شق سبعون ألف واد، في كل واد سبعون ألف قصر من نار، في كل قصر سبعون ألف بيت من نار، في كل بيت سبعون ألف قلة من سم، فإذا كان يوم القيامة كشف عنها الغطاء فيطير منها سرادق عن يمين الناس وآخر عن شمالهم، وسرادق أمامهم، وسرادق فوقهم وآخر من ورائهم، فإذا نظر الثقلان إلى ذلك جثوا على ركبهم وكل ينادي رب سلم رب سلم. وقال وهب بن منبه: بين كل بابين مسيرة سبعين سنة كل باب أشد حراً من الذي فوقه بسبعين ضعفاً، ويقال، إن لجهنم سبعة أبواب لكل باب منها سبعون وادياً قعر كل واد منها سبعون عام، لكل واد منها سبعون ألف شعب في كل شعب منها سبعون ألف مغارة، في جوف كل مغارة سبعون ألف شق، في كل شق منها سبعون ألف ثعبان، في شدق كل ثعبان سبعون ألف

باب ما جاء في عظم جهنم وأزمتها وكثرة ملائكتها وفي عظم خلقها وتفلتها من أيديهم وفي قمع النبي صلى الله عليه وسلم إياها وردها عن أهل الموقف

عقرب، لكل عقرب منها سبعون ألف فقارة، في كل فقارة منها قلة سم لا ينتهي الكافر ولا المنافق حتى يواقع ذلك كله. ذكره ابن وهب في كتاب الأهوال له، ومثله لا يقال من جهة الرأي فهو توقف لأنه إخبار عن مغيب، والله تعالى أعلم. باب ما جاء في عظم جهنم وأزمتها وكثرة ملائكتها وفي عظم خلقها وتفلتها من أيديهم وفي قمع النبي صلى الله عليه وسلم إياها وردها عن أهل الموقف مسلم «عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يؤتى بجهنم يوم القيامة لها سبعون ألف زمام مع كل زمام سبعون ألف ملك يجرونها» .

وذكر ابن وهب «قال: حدثني زيد بن أسلم قال: جاء جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فناجاه، فقام النبي صلى الله عليه وسلم منكس الطرف، فأرسلوا إلى علي فقالوا: يا أبا الحسن ما بال النبي صلى الله عليه وسلم محزوناً منذ خرج جبريل عنه، فأتاه علي فوضع يده على عضديه من خلفه وقبل بين كتفيه وقال: ما هذا الذي نراه منك يا رسول الله؟ فقال: يا أبا الحسن أتاني جبريل فقال لي: {إذا دكت الأرض دكاً دكاً} الآية وجيء بجهنم تقاد بسبعين ألف زمام، كل زمام يقوده سبعون ألف ملك، فبينما هم كذلك إذ شردت عليهم شردة انفلتت من أيديهم فلولا أنهم أدركوها لأحرقت من في الجمع فأخذوها» . وذكر أبو حامد في كتاب كشف علوم الآخرة أنهم يأتون بها تمشي على أربع قوائم وتقاد بسبعين ألف زمام مع كل زمام سبعون ألف ملك بيد كل واحد حلقة لو جمع حديد الدنيا كله ما عدل منها بحلقة واحدة على كل حلقة سبعون ألف زبني لو أمر زبني منهم أن يدك الجبال لدكها وأن يهد الأرض لهداها، وأنها إذا انفلتت من أيديهم لم يقدروا على إمساكها لعظم شأنها، فيجثو كل من في الموقف على الركب حتى المرسلون، ويتعلق إبراهيم وموسى وعيسى بالعرش. هذا قد نسي الذبيح وهذا قد نسي هارون وهذا قد نسي مريم عليهم السلام وكل واحد منهم يقول: نفسي نفسي لا أسألك اليوم غيرها قال: وهو الأصح عندي صلى الله عليه وسلم يقول «أمتي أمتي سلمها يا رب ونجها يا رب» وليس في الموقف من تحمله ركبتاه وهو قوله تعالى: {وترى كل أمة جاثية} الآية وعند تفلتها تكبو من الغيظ والحنق وهو قوله تعالى: {إذا رأتهم من مكان بعيد سمعوا لها تغيظاً وزفيراً} أي

تعظيماً لغيظها وحنقها يقول الله تعالى: {تكاد تميز من الغيظ} أي تكاد تنشق نصفين من شدة غيظها، فيقول رسول الله صلى الله عليه وسلم بأمر الله تعالى ويأخذ بخطامها ويقول «ارجعي مدحورة إلى خلقك حتى يأتيك أهلك أفواجاً» فتقول: خلي سبيلي فإنك يا محمد حرام علي، فينادي مناد من سرادقات العرش اسمعي منه وأطيعي له، ثم تجذب وتجعل عن شمال العرش ويتحدث أهل الموقف بجذبها فيخف وجلهم وهو قوله تعالى: {وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين} وهناك تنصب الموازين على ما تقدم. فصل: هذا يبين لك ما قلناه أن جهنم اسم علم لجميع النار، ومعنى: يؤتى بها يجاء بها من المحل الذي خلقها الله تعالى فيه، فتدار بأرض المحشر حتى لا يبقى للجنة طريق إلا الصراط كما تقدم. والزمام ما يزم به الشيء أي يشد ويربط به، وهذه الأزمة التي تساق بها جهنم تمنع من خروجها على أرض المحشر فلا يخرج منها إلا الأعناق التي أمرت بأخذ من شاء الله بأخذه على ما تقدم ويأتي وملائكتها كما وصفهم الله غلاظ شداد. وقد ذكر ابن وهب، «حدثنا عبد الرحمن بن زيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في خرنة جهنم: ما بين منكبي أحدهم كما بين المشرق والمغرب» .

وقال ابن عباس: ما بين منكبي الواحد منهم مسيرة سنة، وقوة الواحد منهم أن يضرب بالمقمعة فيدفع بتلك الضربة بسعين ألف إنسان في قعر جهنم. وأما قوله تعالى: {عليها تسعة عشر} فالمراد رؤساؤهم على ما يأتي، وأما جملتهم فالعبارة عنهم كما قال الله تعالى: {وما يعلم جنود ربك إلا هو} . فصل: قال العلماء: إنما خص النبي بردها وقمعها وكفها عن أهل المحشر دون غيره من الأنبياء صلوات الله عليهم، لأنه رآها في مسراه وعرضت عليه في صلاته حسب ما ثبت في الصحيح قال وفي ذلك فوائد ثمان: الأولى: أن الكفار لما كانوا يستهزئون به ويكذبونه في قوله، ويؤذونه أشد الأذى أراه الله تعالى النار التي أعدها للمستخفين به وبأمره تطييباً لقلبه وتسكيناً لفؤاده. الثانية: الإشارة في ذلك إلى أن من طيب قلبه في شأن أعدائه بالإهانة والانتقام، فالأولى أن يطيب قلبه في شأن أوليائه وأحبابه بالتحية والشفاعة والإكرام. الفائدة الثالثة: ويحتمل أن عرضها عليه ليعلم منة الله تعالى حين أنقذهم منها ببركته وشفاعته. الفائدة الرابعة: ويحتمل أنه عرضها عليه ليكون في القيامة إذا قال سائر الأنبياء نفسي نفسي يقول نبينا محمد صلى الله عليه وسلم أمتي أمتي، وذلك حين

باب منه وفي كلام جهنم وذكر أزواجها وأنه لا يجوزها إلا من عنده جواز

تسجر جهنم، ولذلك أمر الله عز وجل محمداً صلى الله عليه وسلم، فقال جل من قائل: {يوم لا يخزي الله النبي} الآية. قال الحافظ أبو الخطاب: والحكمة في ذلك أن يفرغ إلى شفاعة أمته ولو لم يؤمنه لكان مشغولاً بنفسه كغيره من الأنبياء. الفائدة الخامسة: أن سائر الأنبياء لم يروا قبل يوم القيامة شيئاً منها، فإذا رأوها جزعوا وكفت ألسنتهم عن الخطيئة والشفاعة من هولها وشغلهم أنفسهم عن أممهم، وأما نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، فقد رأى جميع ذلك فلا يفزع منه مثل ما فزغوا ليقدر على الخطبة، وهو المقام المحمود الذي وعده به ربه تبارك وتعالى في القرآن المجيد وثبت في صحيح السنة. الفائدة السادسة: فيه دليل فقهي على أن الجنة والنار قد خلقتا خلافاً للمعتزلة المنكرين لخلقها، وهو يجزي على ظاهر القرآن في قوله تعالى: {أعدت للمتقين} {أعدت للكافرين} والاعداد دليل الخلق والإيجاد. الفائدة السابعة: ويحتمل أنه أراه إياها ليعلم خسة الدنيا في جنب ما أراه، فيكون في الدنيا أزهد وعلى شدائدها أصبر، حتى يؤديه إلى الجنة فقد قيل: حبذا محنة تؤدي بصاحبها إلى الرخاء، وبؤساً لنعمة تردي بصاحبها إلى البلاء. الفائدة الثامنة: ويحتمل أن الله تعالى أراد ألا يكون لأحد كرامة إلا يكون لمحمد صلى الله عليه وسلم مثلها، ولما كان لإدريس عليه السلام كرامة الدخول إلى الجنة قبل يوم القيامة أراد الله تعالى أن يكون ذلك لصفه ونجيه وحبيبه وأمينه على وحيه محمد صلى الله عليه وسلم وكرم وعظم وبجل ووقر، قال ذلك جميعه الحافظ بن دحية رضي الله عنه في كتاب الابتهاج في أحاديث المعراج. باب منه وفي كلام جهنم وذكر أزواجها وأنه لا يجوزها إلا من عنده جواز روى أبو هدبة إبراهيم بن هدبة قال: «حدثنا أنس بن مالك قال: نزل

باب ما جاء أن التسعة عشر خزنة جهنم

جبريل عليه السلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم يتلو هذه الآية {يوم تبدل الأرض غير الأرض} الآية قال النبي صلى الله عليه وسلم: أين يكون الناس يوم القيامة يا جبريل؟ قال، يا محمد: يكونون على أرض بيضاء لم يعمل عليها خطيئة قط {وتكون الجبال كالعهن المنفوش} قال: الصوف تذوب الجبال من مخافة جهنم. يا محمد: إنه ليجاء بجهنم يوم القيامة تزف زفاً عليها سبعون زمام مع كل زمام سبعون ألف ملك حتى تقف بين يدي الله تعالى فيقول لها: يا جهنم تكلمي، فتقول: لا إله إلا الله وعز تك وعظمتك لأنتقمن اليوم ممن أكل رزقك وعبد غيرك لا يجوزني إلا من عنده جواز، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: يا جبريل ما الجواز يوم القيامة؟ قال أبشر وبشر ألا من شهد أن لا إله إلا الله جاز جسر جهنم، قال فقال النبي صلى الله عليه وسلم: الحمد لله الذي جعل أمتي أهل لا إله إلا الله» . وخرج الحافظ أبو محمد عبد الغني الحافظ «من حديث سليمان بن عمرو يتيم أبي سعيد الخدري، عن أبي سعيد الخدري قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إذا جمع الخلائق في صعيد يوم القيامة أقلبت النار يركب بعضها بعضاً وخزنتها يكفونها وهي تقول: وعزة ربي لتخلين بيني وبين أزواجي أو لأغشين الناس عنقاً واحداً فيقولون من أزواجك؟ فتقول كل متكبر جبار» . باب ما جاء أن التسعة عشر خزنة جهنم قال الله تعالى: {عليها تسعة عشر} . ابن المبارك قال: أخبرنا حماد بن سلمة، عن الأزرق بن قيس، عن رجل

من بني تميم قال: كنا عند أبي العوام فقرأ هذه الآية {وما أدراك ما سقر} الآية {عليها تسعة عشر} فقال: ما تسعة عشر؟ قال: تسعة عشر ألف ملك، قال: أو تسعة عشر ملكاً. قلت: لا بل تسعة عشر ملكاً، قال: وأنى تعلم ذلك؟ فقلت: لقول الله عز وجل: {وما جعلنا عدتهم إلا فتنة للذين كفروا} قال: صدقت هم تسعة عشر ملكاً بيد كل ملك منهم مرزبة لها شعبتان فيضرب الضرب فيهوي بها سبعين ألف خريف. وخرج الترمذي، «عن جابر بن عبد الله قال: قال ناس من اليهود لأناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم هل يعلم نبيكم عدة خزنة جهنم؟ قالوا: لا ندري حتى نسأله، فجاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد غلب أصحابك اليوم. فقال: وبماذا غلبوا؟ قال: سألهم اليهود هل يعلم نبيكم عدد خزنة جهنم؟ قال: فماذا قالوا؟ قال: قالوا لا ندري حتى نسأل نبينا قال: لا يغلب قوم سألوا عما لا يعلمون فقالوا لا نعلم حتى نسأل نبينا لكنهم سألوا نبيهم فقال أرنا الله جهرة، علي بأعداء الله إني سائلهم عن تربة الجنة وهي الدرمك فلما جاءوا قالوا: يا أبا القاسم كم عدد خزنة جهنم؟ قال: هكذا وهكذا في مرة عشرة وفي مرة تسعة قالوا: نعم. قال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: ما تربة

باب ما جاء في سعة جهنم وعظم سرادقها وبيان قوله تعالى " وإذا ألقوا منها مكانا ضيقا مقرنين "

الجنة؟ قال: فسكتوا، ثم قالوا: خبزة يا أبا القاسم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: الخبز من الدرمك» . قال أبو عيسى: هذا حديث إنما نعرفه من هذا الوجه من حديث خالد عن الشعبي عن جابر. باب ما جاء في سعة جهنم وعظم سرادقها وبيان قوله تعالى " وإذا ألقوا منها مكاناً ضيقاً مقرنين " باب ما جاء في سعة جهنم وعظم سرادقها وبيان قوله تعالى وإذا ألقوا منها مكاناً ضيقاً مقرنين قال الله تعالى: {إنا أعتدنا للظالمين ناراً أحاط بهم سرادقها} . ابن المبارك قال: «أخبرنا عنبسة بن سعيد، عن حبيب بن أبي عميرة، عن مجاهد قال: قال ابن عباس: أتدري ما سعة جهنم؟ قال: قلت: لا. قال: أجل، والله ما تدري أن بين شحمة أذن أحدهم وبين عاتقه مسيرة سبعين خريفاً تجري منها أودية القيح والدم، قلت: لها أنهاراً؟ قال: لا بل أودية، ثم قال: أتدري ما سعة جسر جهنم؟ قلت: لا. قال: قلت: أجل حدثتني عائشة أنها سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قوله تعالى: {والأرض جميعاً قبضته يوم القيامة} قلت: فأين الناس يومئذ؟ قال: على جسر جهنم» خرجه الترمذي وصححه وقد تقدم. و «عن أبي سعيد الخدري، عن النبي صلى الله عليه وسلم: لسرادق النار أربع جدر

باب ما جاء أن جهنم في الأرض وأن البحر طبقها

كثف كل جدار مسيرة أربعين سنة» . ذكره ابن المبارك وخرجه الترمذي أيضاً وسيأتي. وذكر ابن المبارك قال: حدثنا محمد بن بشار، عن قتادة {وإذا ألقوا منها مكاناً ضيقاً مقرنين} قال ذكر لنا أن عبد الله كان يقول: إن جهنم لتضيق على الكافر كتضييق الزج على الرمح وذكره الثعلبي والقشيري عن ابن عباس. باب ما جاء أن جهنم في الأرض وأن البحر طبقها «روى عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: لا يركب البحر إلا رجل غاز أو حاج أو معتمر فإن تحت البحر ناراً» ، ذكره أبو عمر وضعفه وقال: عبد الله بن عمر [يتوضأ بماء البحر لأنه طبق جهنم] ذكره أبو عمر أيضاً وضعفه. وفي تفسير سورة ق عن وهب بن منبه قال: أشرف ذو القرنين على جبل [ق] فرأى تحت جبالاً صغاراً فقال له أنت؟ قال: أنا قاف. قال: فما هذه الجبال حولك؟ قال هي عروقي وما من مدينة إلا وفيها عرق من عروقي، فإذا أراد الله أن يزلزل تلال الأرض أمرني فحركت عرقي ذلك، فتزلزلت تلك الأرض، فقال له: يا قاف أخبرني بشيء من عظمة الله قال: إن شأن ربنا لعظيم تقصر دونه الأوهام، قال: بأدنى ما يوصف منها، قال: إن ورائي أرضاً مسيرة خمسمائة عام في خمسمائة عام من جبال ثلج يحطم بضعها بعضاً لولا هي لاحترقت من حر جهنم، وذكر الخبر.

باب ما جاء في قوله تعالى " وإذا البحار سجرت " وما جاء أن الشمس والقمر يقذفان في النار

قال الشيخ المؤلف رحمه الله: وهذا يدل على أن جهنم على وجه الأرض، والله أعلم بموضعها وأين هي من الأرض. باب ما جاء في قوله تعالى " وإذا البحار سجرت " وما جاء أن الشمس والقمر يقذفان في النار باب ما جاء في قوله تعالى وإذا البحار سجرت وما جاء أن الشمس والقمر يقذفان في النار قال ابن عباس في قوله تعالى: {وإذا البحار سجرت} قال: أوقدت فصارت ناراً، وذكر ابن وهب عن عطاء بن يسار أنه تلا هذه الآية {وجمع الشمس والقمر} قال: يجمعان يوم القيامة ثم يقذفان في النار، فتكون نار الله الكبرى. وخرج أبو داود الطيالسي في مسنده، «عن يزيد الرقاشي، عن أنس يرفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم إن الشمس والقمر ثوران عقيران في النار» وروي عن كعب الأحبار أنه قال: يجاء بالشمس والقمر كأنهما ثوران عقيران فيقذفان في النار. فصل: قلت: كذا الرواية ثوران بالثاء المثلثة،

وإنما يجمعان في جهنم لأنهما قد عبدا من دون الله ولا تكون النار عذباً لهما، لأنهما جماد، وإنما يفعل ذلك بهما زيادة في تبكيت الكافرين وحسرتهم. هكذا قال بعض أهل العلم.. وقال ابن قسي صاحب خلع النعلين: اعلم أن الشمس والقمر ثوران مكوران في نار جهنم على شبه هذا التكوير، فنهار سعير وليل زمهرير، والدار دار قائمة لا فرق بينها وبين هذين في حركة التسيار والتدوار، ومدار فلكي الليل والنهار إلى أن تلك خالية من رحمة الله، ومع هذه رحمة واحدة من رحمة الله، وعن الشمس والقمر يكون سواد الدار ولهيب ظاهر النار، وهما من أشد الغضب لله تعالى بما عايناه من عصيان العاصين وفسق الفاسقين إذ لا يكاد يغيب عنهما أين ولا تخفى عنها خائنة عين، فإنه لا يبصر أحد إلا بنورهما ولا يدرك إلا بضوءيهما، ولو كانا خلف حجاب من الغيب الليلي أو وراء ستر من الغيم اليومي، فإن الضوء الباقي على البسيطة في ظل الأرض ضوؤهما والنور نورهما ومع ما هما عليه من الغضب لله، فإنه لمك يشتد غضبهما إلا من حيث نزع لجام الرحمة عنهما وقبض ضياء اللين والرأفة منهما وكذلك عن كل ظاهر من الحياة الدنيا في قبض الرحمة المستردة من هذه الدار إلى دار الحيوان والأنوار. قال صلى الله عليه وسلم «إن لله مائة رحمة نزل منها واحدة إلى الأرض فبها تتعاطف البهائم ويتراحم الخلق وتتواصل الأرحام، فإذا كان يوم القيامة قبض الله هذه الرحمة وردها إلى التسعة والتسعين وأكملها مائة كما كانت، ثم جعل المائة كلها رحمة المؤمنين وخلت دار العذاب ومن فيها من الفاسقين من

رحمة رب العالمين، فبزوال هذه الرحمة زال ما كان فيه القمر من رطوبة وأنوار ولم يبق إلا ظلمة وزمهرير، وبزوالها زال ما كان بالشمس من وضح وإشراق ولم يبق إلا فرط سواد واحتراق وبما كانا به قبل من الصفة الرحمانية كان إمهالها للعاصين وإبقاؤهما على القوم الفاسقين، وهي زمام الإمساك ولجام المنع عن التدمير والإهلاك وهي سنة الله تعالى في الإبقاء إلى الوقات والإمهال إلى الآجال إلا أن يشاء غير ذلك فلا راد لأمره ولا معقب لحكمه لا إله إلا هو سبحانه» . قال المؤلف رحمه الله: وقد روى عكرمة عن ابن عباس تكذيب كعب الأحبار في قوله وقال: هذه يهودية يريد إدخالها في الإسلام والله أكرم وأجل من أن يعذب على طاعته ألم تر إلى قوله تعالى: {وسخر لكم الشمس والقمر دائبين} يعني دؤوبهما في طاعته، فكيف يعذب عبدين أثنى الله عليهما. أنهما دائبان في خدمته وطاعته، ثم حدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم «إن الله تعالى لما أبرم خلقه إحكاماً ولم يبق غير آدم خلق شمساً وقمراً من نور عرشه» الحديث وفي آخره فإذا قامت الساعة وقضى الله في أهل الدارين، وميز أهل الجنة والنار ولم يدخلوها بعد أن يدعو الله بالشمس والقمر يجاء بهما أسودين مكورين قد وقفا في الزلازل، لأن فرائصهما ترعد من أهوال ذلك اليوم من مخافة الرحمن تبارك وتعالى، فإذا كانا حيال العرش خرا ساجدين لله تعالى، فيقولان: إلهنا قد علمت طاعتنا لك ودؤوبنا في طاعتك وسرعتنا للمضي في أمرك في أيام الدنيا، فلا تعذبنا بعبادة المشركين إيانا، فيقول الله تعالى: صدقتما إني قد قضيت على نفسي أني أبدي وأعيد إني معيدكم إلى ما بدأتكما منه فارجعا إلى ما خلقتكما منه فيقولان: ربنا مم خلقتنا؟ فيقول خلقتكما من نور عرشي

باب ما جاء في صفة جهنم وحرها وشدة عذابها

فارجعا إليه فيلتمع من كل واحد منهما برقة تكاد تخطف الأبصار نوراً، فيختلطان بنور العرش، فذلك قوله تعالى {إنه هو يبدئ ويعيد} . ذكره الثعلبي في كتاب العرائس له، والله أعلم. باب ما جاء في صفة جهنم وحرها وشدة عذابها الترمذي «عن أبي هريرة عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: أوقد على النار ألف سنة حتى احمرت، ثم أوقد عليها ألف سنة حتى ابيضت، ثم أوقد عليها ألف سنة حتى اسودت فهي سوداء مظلمة» قال أبو عيسى وحديث أبي هريرة في هذا الباب موقوف أصح ولا أعلم أحداً رفعه غير يحيى بن أبي بكير عن أبي شريك. ابن المبارك، عن أبي هريرة قال: إن النار أوقدت ألف سنة فابيضت ثم أوقدت ألف سنة فاحمرت، ثم أقوقدت ألف سنة فاسودت فهي مظلمة كسواد الليل. مالك، عن عمه أبي سهيل بن مالك، عن أبيه، عن أبي هريرة أنه قال ترونها كناركم لهي أشد سواداً من القار والقار: هو الزفت. ابن المبارك قال: أخبرنا سفيان، عن سليمان عن أبي ظبيان، عن سلمان قال: النار سوداء لا يضيء لهبها ولا جمرها ثم قرأ {كلما أرادوا أن يخرجوا منها من غم أعيدوا فيها} .

مالك، و «عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أصح ناركم التي توقدون جزء من سبعين جزءاً من نار جهنم. قالوا يا رسول الله: وإن كانت لكافية. قال: فإنها فضلت بتسعة وستين جزءا» أخرجه مسلم وزاد: كلها مثل حرها. ابن ماجه، «عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ناركم هذه جزء من سبعين جزءاً من نار جهنم ولولا أنها أطفئت بالماء مرتين ما كان لأحد فيها منفعة» . وفي خبر آخر، عن ابن عباس، وهذه النار قد ضربت بماء البحر سبع مرات ولولا ذلك ما انتفع بها. ذكره أبو عمر رحمه الله، وقال عبد الله بن مسعود: ناركم هذه جزء من سبعين جزءاً من نار جهنم، ولولا أنه ضرب بها البحر عشر مرات ما انتفعتم منها بشيء] . وسئل ابن عباس عن نار الدنيا مم خلقت؟ قال: من نار جهنم غير أنها أطفئت بالماء سبعين مرة ولولا ذلك ما قربت لأنها من نار جهنم.

مسلم «عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يؤتى بأنعم أهل الدنيا يوم القيامة من أهل النار فيصبغ في النار صبغة ثم يقال: يا ابن آدم هل رأيت خيراً قط، هل مر بك نعيم قط؟ فيقول: لا. والله يا رب، ويؤتى بأشد الناس بؤساً في الدنيا من أهل الجنة فيصبغ صبغة في الجنة فيقال له: هل رأيت بؤساً قط، هل مر بك شدة قط؟ فيقول: لا والله يا رب ما مر بي بؤس قط، ولا رأيت شدة قط» . أخرجه ابن ماجه أيضاً «من حديث محمد بن إسحاق، عن حميد الطويل، عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يؤتى يوم القيامة بأنعم أهل الدنيا من الكفار فيقول: اغمسوه في النار غمسة فيغمس فيها ثم يخرج فيقال له: أي فلان هل أصابك نعيم قط؟ فيقول: لا ما أصابني نعيم قط، ويؤتى بأشد المؤمنين ضراً وبلاء فيقال: اغمسوه في الجنة فيغمس غمسة ثم يخرج، فيقال له: أي فلان هل أصابك ضر قط أو بلاء؟ فيقول ما أصابني ضر قط ولا بلاء» . «وروى أبو هدبة إبراهيم بن هدبة قال، حدثنا أنس بن مالك قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لو أن جهنمياً من أهل جهنم أخرج كفه إلى أهل الدنيا حتى يبصروها لأحرقت الدنيا من حرها، ولو أن خازناً من خزنة جهنم أخرج إلى أهل الدنيا حتى يبصروه لمات أهل الدنيا حين يبصرونه من غضب الله تعالى» .

وخرج البزار في مسنده، «عن أبي هريرة قال في مسنده قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لو كان في المسجد مائة ألف أو يزيدون ثم تنفس رجل من أهل النار لأحرقهم» . فصل: قوله: ناركم هذه التي يوقد ابن آدم جزء من سبعين جزء من نار جهنم يعني أنه لو جمع كل ما في الوجود من النار التي يوقدها ابن آدم لكانت جزءاً من جزءاً من أجزاء جهنم المذكور: بيانه، أنه لو جمع حطب الدنيا فأوقد كله حتى صار ناراً لكان الجزء الواحد من أجزاء نار جهنم الذي هو من سبعين جزءاً أشد من حر نار الدنيا، كما بينه في آخر الحديث. وقوله: وإن كانت لكافية إن هنا مخففة من الثقيلة عن البصريين نظيره {وإن كانت لكبيرة إلا على الذين هدى الله} أي إنها كانت كافية فأجابهم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «بأنها كما فضلت عليها في المقدار والعدد بتسعة وستين فضلت عليها أيضاً في شدة الحر بتسعة وستين ضعفاً» . وقال كعب الأحبار: والذي نفس كعب بيده، لو كنت بالمشرق والنار بالمغرب، ثم كشف عنها لخرج دماغك من منخريك من شدة حرها. يا قوم هل لكم بهذا قرار؟ أم لكم على هذا صبر؟ يا قوم طاعة الله أهون عليكم من هذا العذاب فأطيعوه.

باب منه وما جاء في شكوى النار وكلامها وبعد قعرها وأهوالها وفي قدر الحجر الذي يرمى به فيها

باب منه وما جاء في شكوى النار وكلامها وبعد قعرها وأهوالها وفي قدر الحجر الذي يرمى به فيها روى الأئمة، «عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اشتكت النار إلى ربها فقالت: يا رب أكل بعضي بعضاً فجعل لها نفسين: نفس في الشتاء ونفس في الصيف بأشد ما تجدون من البرد من زمهريرها وأشد ما تجدون من الحر من سمومها» أخرجها البخاري ومسلم. و «عن أبي هريرة قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ سمع وجبة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أتدرون ما هذا؟ قلنا: الله ورسوله أعلم. قال: هذا حجر رمي به في النار منذ سبعين خريفاً فهو يهوي في النار إلى الآن حتى انتهى إلى قعرها» أخرجه مسلم. الوجبة: الهدة وهي صعت وقع الشيء الثقيل. الترمذي «عن الحسن قال: قال عتبة بن غزوان على منبرنا هذا يعني منبر البصرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن الصخرة العظيمة لتلقى من شفير جهنم فتهوي فيها سبعين عاماً وما تفضي إلى قرارها» قال: فكان ابن عمر يقول: أكثروا ذكر النار فإن حرها شديد وإن قعرها بعيد، وإن مقاقمها حديد. قال أبو عيسى: لا نعرف للحسن سماعاً من عتبة بن غزوان، وإنما قدم عتبة بن غزوان البصرة في زمن عمرو ولد الحسن لسنتين بقيتا من خلافة عمر.

ابن المبارك قال: «أخبرنا يونس بن يزيد الزهري قال: بلغنا أن معاذ بن جبل كان يحدث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: والذي نفس محمد بيده إن ما بين شفة النار وقعرها لصخرة زنة سبع خلفات بشحومهن ولحومهن وأولادهن تهوي من شفة النار قبل أن تبلغ قعرها سبعين خريفاً» . حدثنا هشام بن بشير قال: أخبرني زفر، حدثنا ابن مريم الخزاعي قال: سمعت أبا أمامة يقول: إن ما بين شفير جهنم وقعرها مسيرة سبعين خريفاً من حجر يهوي أو قال: صخرة تهوي عظمها كعشر عشراء عظام سلمان، فقال له مولى لعبد الرحمن بن خالد: هل تحت ذلك من شيء يا أبا أمامة؟ قال: نعم، غي وآثام. مسلم عن خالد بن عمير العدوي قال: خطبنا عتبة بن غزوان، وكان أميراً على البصرة، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أما بعد فإن الدنيا قد أذنت بصرم وولت جداً ولم يبق منها إلا صبابة كصبابة الإناء يتصلبها صاحبها، وإنكم منتقلون منها إلى دار لا زوال لها، فانتقلوا بخير ما بحضرتكم فإنه ذكر لنا أن الحجر ليلقى من شفير جهنم فيهوى فيها سبعين عاماً لا يدرك لها قعراً والله لتملأن. الحديث. وسيأتي بتمامه في أبواب الجنة إن شاء الله تعالى. وقال كعب: [لو فتح من نار جهنم قدر منخر ثور بالمشرق ورجل بالمغرب

لغلى دماغه حتى يسيل من حرها، وإن جهنم لتزفر زفرة لا يبقى ملك مقرب ولا نبي مرسل إلا خر جاثياً على ركبتيه ويقول: نفسي نفسي] . فصل: قوله: [اشتكت النار شكواها إلى ربها بأن أكل بعضها بعضاً] محمول على الحقيقة لا على المجاز، إذ لا إحالة في ذلك. وليس من شرط الكلام عند أهل السنة في القيام بالجسم إلا الحياة وأما البنية واللسان والبلة، فليس من شرطه وليس يحتاج في الشكوى إلى أكثر من وجود الكلام. وأما الاحتجاج في قوله عليه السلام: «احتجت النار والجنة» فلا بد فيه من العلم والتفطن للحجة. وقيل: إن ذلك مجاز عبر عنه بلسان الحال، كما قال عنترة: فازور من وقع القنا بلبانه ... وشكا إلي بغبرة وتجمحم وقال آخر:

شكا إلي جملي طول السرى ... صبراً جميلاً فكلانا مبتلى والأول أصح إذ لا استحالة في ذلك، وقد قال تعالى وهو أصدق القائلين {إن الحكم إلا لله يقص الحق} الآية وقد تقدم من كلامها: لا إله إلا الله وعزتك وجلالك، وقال {كلا إنها لظى * نزاعة للشوى} الآية أي أدبر عن الإيمان، وتولى أي أعرض عن أتباع الحق وجمع يعني المال، فأوعى أي جعله في الوعاء أي كنزه ولم ينفقه في طاعة الله تعالى. قال ابن عباس: تدعو المنافق والكافر بلسان فصيح ثم تلتقطهم كما يلتقط الطائر الحب. قلت: قول ابن عباس هذا قد جاء معناه مرفوعاً، وهو يدل على أن المراد بالشكوى والحجة الحقيقية. «ذكر رزين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: من كذب علي معتمداً فليتبوأ بين عيني جهنم مقعداً قيل يا رسول الله: ولها عينان؟ قال: أما سمعتم الله يقول {إذا رأتهم من مكان بعيد} الآية. يخرج عنق من النار له عينان يبصران ولسان فيقول: وكلت بمن جعل مع الله إلهاً آخر فلو أبصر بهم من الطير بحب السمسم فيلتقطه»

باب ما جاء في مقامع أهل النار وسلاسلهم وأغلالهم وأنكالهم

وفي رواية أخرى «فيخرج عنق من النار فيلتقط الكفار لقط الطائر حب السمسم» صححه أبو محمد بن العربي في قبسه وقال: «يفصله عن الخلق بالمعرفة كما يفصل الخلق بالمعرفة كما يفصل الطائر حب السمسم من التربة» . وخرج الترمذي «عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يخرج عنق من النار يوم القيامة له عينان يبصران ولسان ينطق يقول: إني وكلت بثلاث: بكل جبار عنيد، ويكل ما دعا مع الله إلهاً آخر، وبالمصورين» وفي الباب عن أبي سعيد قال أبو عيسى: هذا حديث غريب صحيح. وذكر ابن وهب قال: حدثني العلاف بن خالد في قول الله تعالى: {وجيء يومئذ بجهنم} قال: يؤتى بجهنم يوم القيامة يأكل بعضها بعضاً يقودها سبعون ألف ملك فإذا رأت الناس وذلك قوله تعالى: {إذا رأتهم من مكان بعيد} الآية فإذا رأتهم زفرت زفرة فلا يبقى نبي ولا صديق إلا برك لركبتيه يقول: يا رب نفسي نفسي ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: أمتي أمتي، وكان بعض الوعاظ يقول: أيها المجترىء على النار ألك طاقة بسطوة الجبار ومالك خازن ومالك إذا غضب على النار وزجرها زجرة كادت تأكل بعضها بعضاً. باب ما جاء في مقامع أهل النار وسلاسلهم وأغلالهم وأنكالهم قال الله تعالى: {ولهم مقامع من حديد}

وقال: {إذ الأغلال في أعناقهم والسلاسل يسحبون * في الحميم} وقال: {في سلسلة ذرعها سبعون ذراعاً} وقال {إن لدينا أنكالاً وجحيماً} الآية، وروي عن الحسن أنه قال: ما في جهنم واد ولا مغار ولا غل ولا سلسلة ولا قيد إلا واسم صاحبها مكتوب عليه. وروي عن ابن مسعود، وسيأتي. الترمذي «عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لو أن رضاضة مثل هذه ـ وأشار إلى مثل الجمجمة ـ أرسلت من السماء إلى الأرض وهي مسيرة خمسمائة عام لبلغت الأرض قبل الليل، ولو أنها أرسلت من رأس السلسلة لسارت أربعين خريفاً الليل والنهار قبل أن تبلغ أصلها أو قعرها» قال هذا حديث إسناده صحيح. وفي الخبر: إن شاء الله تعالى ينشئ لأهل النار سحابة، فإذا رأوها ذكروا سحاب الدنيا فتناديهم: يا أهل النار ما تشتهون؟ فيقولون: نشتهي الماء البارد فتمطرهم أغلالاً تزاد في أغلالهم وسلاسل تزاد في سلاسلهم، وقال محمد بن المنكدر لو جمع حديد الدنيا كله ما خلى منها وما

بقي ما عدل حلقة من حلق السلسلة التي ذكرها الله تعالى في كتابه فقال {في سلسلة ذرعها سبعون ذراعاً} الآية. ذكره أبو نعيم. وقال ابن المبارك: أخبرنا سفيان، عن بشير بن دعلوق أنه سمع نوفا يقول في قوله تعالى {في سلسلة ذرعها سبعون ذراعاً فاسلكوه} قال: كل ذراع سبعون باعاً كل باع أبعد ما بينك وبين مكة وهو يومئذ في مسجد الكوفة. أخبرنا بكار بن عبد الله أنه سمع ابن أبي مليكة يحدث عن أبي بن كعب قال: إن حلقة من السلسلة التي قال الله {ذرعها سبعون ذراعاً} إن حلقة منها مثل جميع حديد الدنيا. سمعت سفيان يقول في قوله {فاسلكوه} قال: بلغنا أنها تدخل في دبره حتى تخرج من فيه. وقال ابن زيد ويقال: ما يأتي يوم القيامة على أهل النار إلا ورحمة من الله تطلع طائفة منهم فيخرجون. ويقال: إن الحلقة من غل أهل جهنم لو ألقيت على أعظم جبل في الدنيا لهدته. وروي عن طاووس أن الله تعالى خلق ملكاً وخلق له أصابع على عدد أهل النار، فما من أهل النار معذب إلا وملك يعذب بإصبع من أصابعه ولو وضع الملك أصبعاً من أصابعه على السماء لأذابها. ذكره القتبي في كتاب عيون الأخبار له.

باب منه وما جاء في كيفية دخول أهل النار النار

باب منه وما جاء في كيفية دخول أهل النار النار ذكر ابن وهب قال: حدثنا عبد الرحمن بن زيد قال: تلقاهم جهنم يوم القيامة بشرر كالنجوم فيولون هاربين، فيقول الجبار تبارك وتعالى: ردوهم عليها فيردونهم فذلك قوله تعالى: {يوم تولون مدبرين ما لكم من الله من عاصم} أي مانع يمنعكم، ويلقاهم وهجها قبلأن يدخلوها عمياً مغلولين أيديهم وأرجلهم ورقابهم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «خزنة جهنم ما بين منكبي أحدهم كما بين المشرق والمغرب» . قال ابن زيد: ولهم مقامع من حديد يقمعون بها هؤلاء، فإذا قال خذوه فيأخذونه كذا وكذا ألف ملك فلايضعون أيديهم على شيء من عظامه إلا صار تحت أيديهم رفاتاً العظام واللحم يصير رفاتاً. قال: فتجمع أيديهم وأرجلهم ورقابهم في الأغلال فيلقون في النار مصفودين فليس لهم شيء يتقون به إلا الوجوه فهم عمي قد ذهبت أبصارهم، ثم قرأ {أفمن يتقي بوجهه سوء العذاب يوم القيامة} الآية، فإذا ألقوا فيها يكادون يبلغون قعرها يلقاهم لهبها فيردهم إلى أعلاها، حتى إذا كادوا يخرجون تلقتهم الملائكة بمقامع من حديد فيضربونهم بها، فجاء أمر غلب اللهب فهووا كما أسفل السافلين هكذا دأبهم وقرأ {كلما أرادوا أن يخرجوا منها أعيدوا فيها} فهم كما قال الله تعالى {عاملة ناصبة * تصلى نارا حامية} . والأنكال: القيود. عن الحسن ومجاهد واحدها نكل، وسميت القيود أنكالاً لأنه ينكل بها أي يمنع. قال الهروي والأصفاد: هي الأغلال. ويقال: القيود.

باب منه في رفع لهب النار أهل النار حتى يشرفوا على أهل الجنة

أعاذنا الله منها بمنه وكرمه. باب منه في رفع لهب النار أهل النار حتى يشرفوا على أهل الجنة يروى أن لهب النار يرفع أهل النار حتى يطير كما يطير الشرر، فإذا رفعهم أشرفوا علىأهل الجنة وبينهم حجاب، فينادي أصحاب الجنة أصحاب النار {أن قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقاً} الآية. وينادي أصحاب النار أصحاب الجنة حين يروا الأنهار تطرد بينهم {أن أفيضوا علينا من الماء} الآية، فتردهم ملائكة العذاب بمقامع الحديد إلى قعر النار. قال بعض المفسرين: هو معنى قول الله تعالى: {لما أرادوا أن يخرجوا منها، أعيدوا فيها} ذكره أبو محمد عبد الحق في كتاب العاقبة له. قال: ولعلك تقول: كيف يرى أهل الجنة أهل النار وأهل النار أهل الجنة؟ وكيف يسمع بعضهم كلام بعض وبينهم ما بينهم من المسافة وغلظ الحجاب؟ فيقال لك: لا تقل هذا، فإن الله تعالى يقوي أسماعهم وأبصارهم حتى يرى بعضهم بعضاً ويسمع بعضهم كلام بعض. وهذا قريب في القدرة. باب ما جاء أن في جهنم جبالاً وخنادق وأودية وبحاراً وصهاريج وآبارً وجباباً وتنانير وسجوناً وبيوتاً وجسوراً وقصوراً وأرحاء ونواعير وحيات أجارنا الله منها وفي وعيد من شرب الخمر والمسكر وغيره الترمذي «عن أبي سعيد الخدري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: الصعود

جبل من نار يصعد فيه الكافر سبعين خريفاً ويهوي فيه كذلك أبداً» قال أبو عيسى هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث ابن لهيعة. وقد تقدم «من حديث أنس: أن من مات سكران فإنه يبعث يوم القيامة سكران إلى خندق في وسط جهنم يسمى السكران» واختلف العلماء في تأويل قوله تعالى {فويل} فذكر ابن المبارك، «أخبرنا رشدين ابن سعد، عن عمر بن الحارث أنه حدثه عن أبي السمح، عن أبي الهيثم، عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ويل: واد في جهنم يهوي فيه الكافر أربعين خريفاً قبل أن يبلغ قعره» . والصعود: جبل من نار يصعد فيه سبعين خريفاً ثم يهوي فيه كذلك. قال: وأخبرنا سعيد بن أبي أيوب عن ابن عجلان، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار قال: الويل واد في جهنم يهوي فيه الكافر، لو سيرت فيه الجبال لماعت من حره. قال: وأخبرنا سفيان عن زياد بن فياض، عن أبي عياض أنه قال: الويل: مسيل في أصل جهنم.

وذكر ابن عطية في تفسيره عن أن الويل صهريج في جهنم من صديد أهل النار. قال: وحكى الزهراوي عن آخرين: أنه باب من أبواب جهنم. وقال أبو سعيد الخدري: إنه واد بين جبلين يهوي فيه الهاوي أربعين خريفاً، ذكره ابن عطية، وقد تقدم رفعه. وخرجه الترمذي أيضاً مرفوعاً «عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: الويل: واد في وسط جهنم يهوي فيه الكافر أربعين خريفاً قبل أن يبلغ قعره» . قال أبو عيسى: هذا حديث غريب لا نعرفه مرفوعاً إلا من حديث ابن لهيعة. وقال ابن زيد في قوله تعالى {وظل من يحموم} اليحموم: جبل في جهنم يستغيث إلى ظله أهل النار. {لا بارد} بل حار لأنه من دخان شفير جهنم. {ولا كريم} أي لا عذب، عن الضحاك. وقال سعيد بن المسيب: ولا حسن منظره. وذكر ابن وهب، عم مجاهد في قوله تعالى {موبقاً} قال: واد في جهنم يقال له موبق. وقال عكرمة: هو نهر في جهنم يسيل ناراً على حافتيه حيات مثل البغال الدهم، فإذا سارت إليهم لتأخذهم استغاثوا منها بالاقتحام في النار.

وقال أنس بن مالك: هو واد في جهنم من قيح ودم. وقال نوف البكالي في قوله تعالى: {وجعلنا بينهم موبقاً} قال: واد في جهنم بين أهل الضلالة وبين أهل الإيمان. وعن عائشة رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم أنها سئلت عن قول الله عز وجل {فسوف يلقون غياً} قالت: نهر في جهنم. واختلفوا في الفلق في قوله تعالى {قل أعوذ برب الفلق} فروى ابن عباس أنه سجن في جهنم، وقال كعب: هو بيت في جهنم، إذا فتح صاح جميع أهل النار من شدة حره، ذكره أبو نعيم. وذكر أبو نعيم عن حميد بن هلال قال: حدثت أن في جهنم تنانير ضيقها كضيق زج أحدكم في الأرض، تضيق على قوم بأعمالهم. ابن المبارك، أخبرنا إسماعيل بن عياش، حدثنا ثعلبة بن مسلم، عن أيوب بن بشير، عن شقي الأصبحي قال: إن في جهنم جبلاً يدعى صعوداً، يطلع فيه الكافر أربعين خريفاً قبل أن يرقاه، قال الله تعالى {سأرهقه صعوداً} وأن في جهنم قصراً يقال له هواء، يرمى الكافر من أعلاه فيهوي أربعين خريفاً قبل أن يبلغ أصله، قال الله تعالى {ومن يحلل عليه

غضبي فقد هوى} . وأن في جهنم وادياً يدعى آثاماً، فيه حيات وعقارب، في فقار إحداهن مقدار سبعين قلة من سم، والعقرب منهن مثل البغلة المؤلفة، تلدغ الرجل فلا تلهيه عما يجد من حر جهنم حمة لدغتها، فهو لما خلق له، وأن في جهنم سبعين داء لأهلها، كل داء مثل جزء من أجزاء جهنم، وأن في جهنم وادياً يدعى غياً، يسيل قيحاً ودماً، فهو لما خلق له، قال الله تعالى {فسوف يلقون غياً} . وروى أبو هدبة إبراهيم بن هدبة قال: «حدثنا أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن في جهنم بحراً أسود مظلماً منتن الريح، يغرق الله فيه من أكل رزقه وعبد غيره» وذكر أبو نعيم، «عن محمد بن واسع قال: دخلت يوماً على بلال بن أبي بردة، فقلت: يا بلال، إن أباك حدثني عن جدك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إن في جهنم وادياً يقال له لملم، ولذلك الوادي بئر يقال له هبهب، حق على الله تعالى أن يسكنها كل جبار، فإياك أن تكون منهم» . ابن المبارك قال: «حدثنا يحيى بن عبيد الله قال: سمعت أبي يقول: سمعت أبا هريرة يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن في جهنم وادياً يقال له لملم، وإن أودية جهنم لتستعيذ بالله من حره» .

مالك بن أنس، «عن ابن شهاب، عن علي بن حسين، عن الحسين بن علي، عن أبيه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: كل مسكر خمر، وثلاثة غضب الله عليهم ولا ينظر إليهم ولا يكلمهم، وهم في المنسا. والمنسا: بئر في جهنم: للمكذب بالقدر، والمبتدع في دين الله، ومدمن الخمر» وذكره الخطيب أبو بكر من حديث أحمد بن سليمان الخفاني القرشي، الأسدي عن مالك. وذكر ابن وهب من «حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن المتكبرين يحشرون يوم القيامة أشباه الذر على صورة الناس، يعلوهم كل شيء من الصغار، فيساقون حتى يدخلوا سجناً في جهنم يقال له بولس، يسقون من عصارة أهل النار من طينة الخبال» أخرجه ابن المبارك. أخبرنا محمد بن عجلان، «عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: يحشر المتكبرون يوم القيامة أمثال الذر في صور الناس، يغشاهم الذل من كل مكان، يساقون إلى سجن في جهنم يسمى بولس، تعلوهم نار الأنيار، يسقون من عصارة أهل النار طينة الخبال» أخرجه الترمذي وقال: حديث حسن.

قلت: طينة الخبال عرق أهل النار أو عصارتهم شراب أيضاً لمن شرب المسكر، جاء ذلك في صحيح البخاري. و «عن جابر: أن رجلاً قدم من جيشان، وجيشان من اليمن، فسأل النبي صلى الله عليه وسلم عن شراب يشربونه بأرضهم من الذرة، يقال له المزر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أمسكر هو؟ قال: نعم. قال: إن على الله عهداً لمن شرب المسكر أن يسقيه من طينة الخبال. قالوا: يا رسول الله، وما طيتة الخبال؟ قال: عرق أهل النار أو عصارة أهل النار» . «وروي عن زيد بن ثابت، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: المدينة مهاجري، وفيها مضجعي، ومنها مخرجي، حق على أمتي حفظ جيراني فيها، من حفظ وصيتي كنت له شهيداً يوم القيامة، ومن ضيعها أورده الله حوض الخبال، قيل: وما حوض الخبال؟ قال: حوض من صديد أهل النار» . غريب من حديث خارجة بن زيد عن أبيه. لم يروه عنه غير أبي الزناد، تفرد به عنه ابنه عبد الرحمن. وروى الترمذي وأسد بن موسى، «عن علي بن أبي طالب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: تعوذوا بالله من جب الحزن، فقيل يا رسول الله: وما جب الحزن؟ قال: واد في جهنم تتعوذ منه جهنم في كل يوم سبعين مرة، أعده الله للقراء المرائين» . وفي رواية: «أعده لله للذين يراءون الناس بأعمالهم» . وقال الترمذي «في حديث أبي هريرة مائة مرة. قلنا: يا رسول الله، ومن يدخله؟ : القراء المراءون بأعمالهم» قال: حديث غريب.

خرجه ابن ماجه أيضاً «عن أبي هريرة ولفظه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم تعوذوا بالله من جب الحزن. قالوا: يا رسول الله وما جب الحزن؟ قال: واد في جهنم تتعوذ منه جهنم في كل يوم أربعمائة مرة، قيل: يا رسول الله، من يدخله؟ قال: أعد للقراء المرائين بأعمالهم، وإن من أبغض القراء إلى الله تعالى الذين يزورون الأمراء» . قال المحاربي: الجورة. وفي حديث آخر ذكره «أسد بن موسى أنه عليه السلام قال: إن في جهنم لوادياً إن جهنم لتتعوذ من شر ذلك الوادي في كل يوم سبع مرات، وإن في ذلك الوادي لجباً، إن جهنم وذلك الوادي ليتعوذان بالله من شر ذلك الجب، وإن في الجب لحية، إن جهنم والوادي وذلك الجب ليتعوذان بالله من شر ذلك الحية أعدها الله للأشقياء من حملة القرآن» . وقال أبي هريرة: إن في جهنم أرجاء تدور بعلماء السوء فيشرف عليهم بعض من كان يعرفهم في الدنيا: فيقول: ما صيركم إلى هذا وإنما كنا نتعلم منكم؟ قالوا: إنا كنا نأمركم بالأمر ونخالفكم إلى غيره. قلت: وهذا مرفوع معناه في صحيح مسلم من حديث أسامة بن زيد رضي الله عنه، وسيأتي في من أمر بالمعروف ولم يأته. وقال أبو المثنى الأملوكي: إن في النار أقواماً يربطون بنواعير من نار

باب منه: وفي بيان قوله تعالى: " فلا اقتحم العقبة " وفي ساحل جهنم ووعيد من يؤذي المؤمنين

تدور بهم تلك النواعير، ما لهم فيها راحة ولا فترة. وقال محمد بن كعب القرظي. إن لمالك مجلساً في وسط جهنم وجسوراً تمر عليها ملائكة العذاب، فهو يرى أقصاها كما يرى أدناها. الحديث وسيأتي. باب منه: وفي بيان قوله تعالى: " فلا اقتحم العقبة " وفي ساحل جهنم ووعيد من يؤذي المؤمنين باب منه: وفي بيان قوله تعالى: فلا اقتحم العقبة وفي ساحل جهنم ووعيد من يؤذي المؤمنين ابن المبارك، قال: أخبرنا رجل عن منصور، عن مجاهد، عن يزيد بن شجرة، قال: وكان معاوية بعثه على الجيوش، فلقي عدواً فرأى أصحابه فشلاً فجمعهم فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أما بعد، اذكروا نعمة الله عليكم وذكر الحديث. وفيه: «فإنكم ككتوبون عند الله بأسمائكم وسماتكم، فإذا كان يوم القيامة قيل: يا فلان ها نورك، يا فلان لا نور لك، إن لجهنم ساحلاً كساحل البحر فيه هوام وحيات كالبخت، وعقارب كا لبغال الدهم، فإذا استغاث أهل النار قالوا: الساحل! فإذا ألقوا فيه سلطت عليهم تلك الهوام فتأخذ شفار أعينهم وشفاههم وما شاء الله منهم، تكشطها كشطاً، فيقولون: النار، النار! فإذا ألقوا فيها سلط الله عليهم الجرب فيحك أحدهم جسده حتى يبدو عظمه، وإن جلد أحدهم لأربعون ذراعاً، قال: يقال: يا فلان، هل تجد هذا يؤذيك؟ فيقول: وأي شيء أشد من هذا؟ فيقال: هذا بما كنت تؤذي المؤمنين» .

قال ابن المبارك: وأخبرنا سفيان بن عيينة، عن عمار الدهمني أنه حدثه، عن عطية العوفي، عن أبي سعيد الخدري قال: إن صعوداً. صخرة في جهنم، إذا وضعوا أيديهم عليها ذابت، فإذا رفعوها عادت، اقتحامها {فك رقبة * أو إطعام في يوم ذي مسغبة} . وقال ابن عمرو ابن عباس. هذه العقبة جبل في جهنم. وقال محمد بن كعب، وكعب الأحبار. هي سبعون درجة في جهنم. وقال الحسن وقتادة: هي عقبة شديدة صعبة في النار دون الجسر، فاقتحموها بطاعة الله عز وجل. وقال مجاهد والضحاك والكلبي: هي الصراط، وقيل: النار نفسها. وقال الكلبي أيضاً: هي جبل بين الجنة والنار، يقول: فلأجاور هذه العقبة بعمل صالح، ثم بين اقتحامها بما يكون فقال {فك رقبة} الآية. وقال ابن زيد وجماعة من المفسرين: معنى الكلام الاستفهام، تقديره: أفلا اقتحم العقبة، يقول: هلاً أنفق ماله في فك الرقاب، وإطعام السغبان ليجاوز به العقبة، فيكون خيراً له من إنفاقه في المعاصي؟ .

وقيل: معنى الكلام التمثيل والتشبيه، فشبه عظم الذنوب وثقلها بعقبة، فإذا أعتق رقبة وعمل صالحاً كان مثله كمثل من اقتحم العقبة، وهي الذنوب التي تضره وتؤذيه وتثقله، فإذا أزالها بالأعمال الصالحة والتوبة الخالصة، كان كمن اقتحم عقبة يستوي عليها ويجوزها. قلت: هذا حديث حسن. قال الحسن: هي والله عقبة شديدة، مجاهدة الإنسان نفسه وهواء وعدوه الشيطان، وأنشد بعضهم: إني بليت بأربع يرمينني ... بالنبل قد نصبوا علي شراكاً إبليس والدنيا ونفسي والهوى ... من أين أرجو بينهن فكاكا يا رب ساعدني بعفو إنني ... أصبحت لا أرجو لهن سواكا وأنشد غيره أيضاً في معنى ذلك: إني بليت بأربع يرمينني ... بالنبل عن قوس لها توتير إبليس والدنيا ونفسي والهوى ... يا رب أنت على الخلاص قدير وقال آخر: إني بليت بأربع ما سلطوا ... إلا لعظم بليتي وشقائي إبليس والدنيا ونفسي والهوى ... كيف الخلاص وكلهم أعدائي قلت: قال: فمن أطاع مولاه وجاهد نفسه وهواه، وخالف شيطانه ودنياه، كانت الجنة نزله ومأواه، وممن تمادى في غيه وطغيانه وأرخى في الدنيا زمام عصيانه، ووافق نفسه وهواه في مناه ولذاته وأطاع شيطانه في جمع شهواته كانت النار أولى به، قال الله تعالى: {فأما من طغى * وآثر الحياة الدنيا * فإن الجحيم هي المأوى * وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى * فإن الجنة هي المأوى} .

ومعنى فلا اقتحم العقبة: أي لم يقتحم العقبة، وهذا خبر أي أنه لم يفعل، والعرب تقول: لا فعل بمعنى لم يفعل. قال زهير. وكان طوى كشحاً على سكينة ... فلا هوى أبداها ولم يتقدم أي فلم يبدها. ثم قال: {وما أدراك ما العقبة * فك رقبة} ، يقول للنبي صلى الله عليه وسلم: أي لم تكن تدريها حتى أعلمتك ما العقبة: فك رقبة: أي عتق رقبة من الرق أو إطعام في يوم ذي مسغبة مجاعة، يتيماً ذا مقربة: أي قرابة. أو مسكيناً ذا متربة: يعني به اللاصق بالتراب من الحاجة. في تفسير الحسن. وقال سفيان بن عيينة: كل شيء قال فيه وما أدراك، فإنه أخبره به، وكل شيء قال فيه وما يدريك فإنه لم يخبره به. وخرج الطبراني أبو القاسم سلمان بن أحمد في كتاب مكارم الأخلاق عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: لأن أجمع أناساً من أصحابي على صاع من طعام أحب إلي أن أخرج إلى السوق فأشترى نسمة فأعتقها.

باب ما جاء في قوله تعالى " وقودها الناس والحجارة "

باب ما جاء في قوله تعالى " وقودها الناس والحجارة " باب ما جاء في قوله تعالى وقودها الناس والحجارة الوقود بفتح الواو على وزن الفعول بفتح الفاء: الحطب، وكذلك الطهور اسم للماء والسحور. اسم الطعام، وبضم الفاء: اسم للفعل وهو المصدر والناس عموم ومعناه: الخصوص ممن سبق عليه القضاء أنه يكون حطباً لها أجارنا الله منها. قال: حطب النار: شباب وشيوخ وكهول ونساء عاريات طال منهن العويل. ابن المبارك، «عن العباس بن عبد المطلب قال: قال رسول الله: يظهر هذا الدين حتى يجاوز البحار وحتى يخاض البحار بالخيل في سبيل الله تبارك وتعالى، ثم يأتي أقوام يقرأون القرآن، فإذا قرأوه قالوا: من أقرأ منا؟ من أعلم منا؟ ثم التفت إلى أصحابه فقال: هل ترون في أولئك من خير؟ قالوا: لا! قال: أولئك منكم، وأولئك من هذه الأمة، وأولئك هم وقود النار» خرجه عن موسى بن عبيدة، عن محمد بن إبراهيم بن الحارث التيمي، عن ابن الهادي، عن العباس بن عبد المطلب فذكره. والحجارة الكبريت، خلقها الله تعالى عنده كيف شاء أو كما شاء، عن ابن مسعود وغيره ذكره ابن المبارك، عن عبد الله بن مسعود. وخصت بذلك لأنها تزيد على جميع الحجارة بخمسة أنواع من العذاب: سرعة الإيقاد، ونتن الرائحة، وكثرة الدخان، وشدة الالتصاق بالأبدان، وقوة حرها إذا حميت.

باب ما جاء في تعظيم جسد الكافر وأعضائه بحسب اختلاف كفره وتوزيع العذاب على العاصي المؤمن بحسب أعمال الأعضاء

وقيل المراد بالحجارة: الأصنام لقوله تعالى: {إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم} أي حطب، وهو ما يلقى في النار مما تذكى به، وعليه فيكون الناس والحجارة وقوداً للنار على التأويل الأول، وعلى التأويل الثاني يكونون معذبين بالنار والحجارة. وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال «كل مؤذ في النار» وفي تأويله وجهان: أحدهما: أن كل من آذى الناس في الدنيا عذبه الله في الآخرة بالنار. الثاني: أن كل ما يؤذي الناس في الدنيا من السباع والهوام وغيرهما في النار معد لعقوبة أهل النار. وذهب بعض أهل التأويل إن أن هذه النار المخصوصة بالحجارة هي نار الكافرين خاصة، والله أعلم. باب ما جاء في تعظيم جسد الكافر وأعضائه بحسب اختلاف كفره وتوزيع العذاب على العاصي المؤمن بحسب أعمال الأعضاء مسلم «عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ضرس الكافر أو ناب الكافر مثل أحد، وغلظ جلده مسيرة ثلاثة أيام للراكب المسرع» . «الترمذي عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن غلظ جلد الكافر إثنان وأربعون ذراعاً

وإن ضرسه مثل أحد، وإن مجلسه من جهنم كما بين مكة والمدينة» . قال هذ حديث حسن صحيح غريب من حديث الأعمش. وفي رواية: وفخذه مثل البيضاء، ومقعده من النار مسيرة ثلاث مثل الربذة. أخرجه عن صالح مولى التؤامة عن أبي هريرة، وقال: هذا حديث حسن غريب. وقال: مثل الربذة، يعنى به كما بين مكة والمدينة. والبيضاء: جبل. ابن المبارك، أنبأنا يونس عن الزهري، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة قال «ضرس الكافر يوم القيامة أعظم من أحد، يعظمون لتمتلىء منهم وليذوقوا العذاب» . أخبرنا الليث بن سعد، عن خالد بن يزيد، عن سعيد بن أبي هلال، عن سعيد المقبري، عن أبي هريرة قال: «ضرس الكافر مثل أحد، وفخذه مثل البيضاء، وجبينه مثل الورقان، ومجلسه من النار كما بيني وبين الربذة، وكثف بصره سبعون ذراعاً، وبطنه مثل إضم» إضم بالكسر، جبل، قاله الجوهري. قلت: والورقان جبل بالمدينة كما روي «عن أنس بن مالك. قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم فلما تجلى ربه للجبل صار بعظمته ستة أجبل، فوقعت ثلاثة

بمكة: ثور، وثبير، وحراء وبالمدينة: أحد، وورقان، ورضوى» . وذكر ابن المبارك قال: «أخبرنا سفيان بن عيينة، عن عمرو بن دينار، عن عبيد بن عمير: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بصر الكافر ـ يعني غلظ جلده ـ سبعون ذراعاً، وضرسه مثل أحد في سائر خلقه» . وذكر عن عمرو بن ميمون أنه يسمع بين جلد الكافر وجسده دوي كدوي الوحش. الترمذي، «عن أبي المخارق، عن ابن عمر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الكافر ليسحب لسانه الفرسخ والفرسخين يتوطؤه الناس» . مسلم «عن سمرة بن جندب أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال: منهم من تأخذه النار إلى كعبيه، ومنهم من تأخذه إلى ركبتيه، ومنهم من تأخذه إلى حجزته، ومنهم من تأخذه إلى ترقوته» . وفي رواية: حقويه مكان حجزته.

فصل: هذا الباب يدلك على أن كفر من كفر فقط، ليس ككفر من طغى وكفر وتمرد وعصى، ولا شك في أن الكفار في عذاب جهنم متفاوتون كما قد علم من الكتاب والسنة، ولأنا نعلم على القطع والثبات أنه ليس عذاب من قتل الأنبياء والمسلمين وفتك فيهم وأفسد في الأرض وكفر مساوياً لعذاب من كفر فقط وأحسن للأنبياء والمسلمين. ألا ترى أبا طالب كيف أخرجه النبي صلى الله عليه وسلم إلى ضحضاح لنصرته إياه، وذبه عنه وإحسانه إليه؟ وحديث مسلم عن سمرة يصح أن يكون في الكفار بدليل حديث أبي طالب، ويصح أن يكون فيمن يعذب من الموحدين. إلا أن الله تعالى بميتهم إماتة حسب ما تقدم بيانه. وفي خبر كعب الأحبار: يا مالك، مر النار لا تحرق ألسنتهم فقد كانوا يقرأون القرآن، يا مالك قل للنار تأخذهم على قدر أعمالهم، فالنار أعرف بهم وبمفدار استحقاقهم من الوالدة بولدها، فمنهم من تأخذه النار إلى كعبيه، ومنهم من تأخذه النار إلى ركبتيه ومنهم من تأخذه النار إلى سرته، ومنهم من تأخذه إلى صدره، وذكر الحديث وسيأتي بكماله إن شاء الله تعالى. وذكر القتبي في عيون الأخبار له مرفوعاً «عن أبي هريرة أنه قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله إذا قضى بين خلقه وزادت حسنات العبد دخل الجنة، وإن استوت حسناته وسيئاته حبس على الصراط أربعين سنة، ثم بعد ذلك يدخل الجنة، وإن زادت سيئاته على حسناته دخل النار من باب التوحيد،

باب ما جاء في شدة عذاب أهل المعاصي وإذا يتهم أهل النار بذلك

فيعذبون في النار على قدر أعمالهم. فمنهم من تنتهي له النار إلى كعبيه، ومنهم من تنتهي إلى ركبتيه، ومنهم من تنتهي النار إلى وسطه» وذكر الحديث. وذكر الفقيه أبو بكر بن برجان أن حديث مسلم في معنى قوله تعالى {ولكل درجات مما عملوا وليوفيهم أعمالهم وهم لا يظلمون} قال: أرى ـ والله أعلم ـ أن هؤلاء الموصوفين في هذه الآية والحديث أهل التوحيد، فإن الكافر لا تعاف النار منه شيئاً، وكما اشتمل في الدنيا على الكفر شملته النار في الآخرة، قال الله تعالى {لهم من فوقهم ظلل من النار ومن تحتهم ظلل} ، أي أن ما فوقهم ظلل لهم، وما تحتهم ظلل لمن تحتهم. باب منه ابن ماجه «عن الحارث بن قيس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إن من أمتي من يدخل الجنة بشفاعتي أكثر من مضر، وإن أمتي من يعظم للنار حتى يكون أحد زواياها» . باب ما جاء في شدة عذاب أهل المعاصي وإذا يتهم أهل النار بذلك مسلم «عن عبد الله بن مسعود قال. قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إن أشد عذاباً يوم القيامة المصورون» ، وذكره قاسم بن أصبغ من حديث «عبد الله بن مسعود أيضاً. قال: قال

رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إن أشد الناس عذاباً يوم القيامة رجل قتل نبياً أو قتله نبي، أو مصور يصدر التماثيل» . وذكر أو عمر بن عبد البر وابن ماجه وابن وهب «من حديث أبي هريرة أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: إن من أشد عذاباً يوم القيامة عالماً لم ينفعه الله بعلمه» ، إسناده فيه عثمان بن مقسم البزي لم يرفعه غيره. وهو ضعيف عند أهل الحديث، معتزلي المذهب، ليس حديثه بشيء، قاله أبو عمر. وذكر ابن وهب قال: حدثنا ابن زيد قال: يقال إنه ليؤذي أهل النار نتن فروج الزناة يوم القيامة. ابن المبارك، قال: أخبرنا موسى بن علي بن رباح قال: سمعت أبي يذكر عن بعض من حدث، قال: ثلاثة قد آذوا أهل النار ـ وكل أهل النار في أذى ـ: رجال مغلقة عليهم توابيت من نار وهم في أصل الجحيم فيضجون حتى تعلوأصواتهم أهل النار، فيقول لهم أهل النار: ما بالكم من بين أهل النار فعل بكم هذا؟ فقالوا: كنا متكبرين , ورجال قد شقت بطونهم يسبحون أمعاءهم في النار، فقال لهم أهل النار: ما بالكم من بين أهل النار فعل بكم هذا؟ قالوا: كنا نقتطع حقوق الناس بأيماننا وأمانتنا. ورجال يسعون بين الجحيم والحميم لا يقرون، قبل لهم: ما بالكم من بين أهل النار فعل بكم هذا؟ قالوا: كنا نسعى بين الناس بالنميمة. «أخبرنا إسماعيل بن عياش، حدثني تغلب بن مسلم، عن أيوب بن بشير العجلي، عن شقي بن مانع الأصبحي، عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: أربعة يؤذون أهل النار على ما بهم من الأذى، يسعون بين الجحيم والحميم

يدعون بالويل والثبور، يقول أهل النار بعضهم لبعض: ما بال هؤلاء قد آذونا على ما بنا من الأذى؟ قال: فرجل مغلق عليه تابوت من جمر، ورجل يجر أمعاءه، ورجل يسيل فوه قيحاً ودماً، ورجل يأكل لحمه. قال فيقال لصاحب التابوت: ما بال الأبعد قد آذانا على ما بنا من الأذى؟ قال فيقول: إن الأبعد مات وفي عنقه أموال الناس لم يجد لها قضاء، أو قال وفاء. ثم يقال للذي يجر أمعاءه: ما بال الأبعد قد آذانا على ما بنا من الأذى؟ قال فيقول: إن الأبعد كان لا يبالي أين أصاب البول منه ثم لا يغسله. ثم يقال للذي يسيل فوه دماً وقيحا: ما بال الأبعد قد آذانا على ما بنا من الأذى؟ قال فيقول: إن الأبعد كان ينظر في كل كلمة قذيعة خبيثة فيذيعها، يستلذها ويستلذ الرفث بها، ثم يقال للذي يأكل لحمه: ما بال الأبعد قد آذانا على ما بنا من الأذى؟ قال فيقول: إن الأبعد كان يأكل لحوم الناس ويمشي بالنميمة» . خرجه أبو نعيم الحافظ وقال: تفرد به إسماعيل بن عباس، وشقي مختلف فيه فقيل: له صحبة. قلت: وقد تقدم حديث البخاري الطويل عن سمرة بن جندب، وحديث ابن عباس وأبي هريرة وابن مسعود في باب ما يكون منه في عذاب القبر، وحديث أبي هريرة في الذين تسعر بهم جهنم، وغير ذلك مما تقدم في معنى هذا الباب: فتأمل ذلك. وقد تقدم أن من أدان أموال الناس في غير سفه ولا إسراف ولم يجد قضاء ونيته الأداء ومات أن الله لا يحسبه عن الجنة ولا يعذبه، بل يرضى

باب منه وفي عذاب من عذب الناس في الدنيا

عنه خصماؤه إن شاء الله ويكون الجميع في رحمته بكرمه وفضله، فأما من أدانها لينفقها في المعاصي ثم لا يقدر على الأداء فلعله الذي يعذب. باب منه وفي عذاب من عذب الناس في الدنيا أبو داود الطيالسي قال: «حدثنا سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار، عن ابن أبي نجيح عن خالد بن حكيم، عن خالد بن الوليد رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أشد الناس عذاباً يوم القيامة أشدهم عذاباً للناس في الدنيا» . وخرجه البخاري في التاريخ فقال: «حدثنا علي، حدثنا سفيان ، عن عمرو بن دينار، عن خالد بن حكيم بن حزام أن أبا عبيدة تناول رجلاً من أهل الأرمن فكلمه خالد بن الوليد، فقالوا: أغضبت الأمير؟ فقال: لم أرد غضبه. سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: أشد الناس عذاباً يوم القيامة أشدهم عذاباً للناس في الدنيا» . وخرجه مسلم بمعناه «من حديث هشام بن حكيم بن حزام أنه مر على أناس من الأنباط بالشام قد أقيموا في الشمس، فقال: ما شأنهم؟ قالوا: حبسوا على الجزية، فقال هشام: أشهد لسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن الله عز وجل يعذب الذين يعذبون الناس في الدنيا» . باب ما جاء في شدة عذاب من أمر بالمعروف ولم يأته ونهى عن المنكر وأتاه، وذكر الخطباء، وفيمن خالف قوله فعله وفي أعوان الظلمة كلاب النار البخاري «عن أسامة بن زيد قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:

يجاء برجل فيطرح في النار فيطحن فيها كطحن الحمار برحاه، فيطيف به أهل النار فيقولون: أي فلان! ألست كنت تأمر المعروف وتنهى عن المنكر؟ فيقول: كنت أمر بالمعروف ولا أفعله، وأنهى عن المنكر وأفعله» . وخرجه مسلم أيضاً بمعناه «عن أسامة بن زيد قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: يؤتى بالرجل يوم القيامة فيلقى في النار، فتندلق أقتاب بطنه في النار فيدور كما يدور الحمار بالرحى فيجتمع إليه أهل النار فيقولون: يا فلان ابن فلان، مالك؟ ألم تكن تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر؟ فيقول: بلى! كنت آمر بالمعروف ولا آتيه، وأنهى عن المنكر وآتيه» . وخرج أبو نعيم الحافظ «من حديث مالك بن دينار، عن ثمامة، عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أتيت ليلة لأسري بي على قوم تقرض شفاههم بمقاريض من نار، كلما قرضت ردت، قلت من هؤلاء يا جبريل؟ فقال: هؤلاء خطباء أمتك الذين يقولون ولا يفعلون، ويقرأون كتاب الله ولا يعملون» . وذكر ابن المبارك قال: «أخبرنا حماد بن سلمة، عن علي بن زيد قال: سمعت أنس بن مالك رضي الله عنه يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم رأيت ليلة أسري بي رجالاً تقرض شفاههم بمقاريض من نار، قال فقلت: من هؤلاء يا جبريل؟ قال: خطباء، أي من الذين يأمرون الناس بالبر وينسون أنفسهم وهم يتلون الكتاب» ، الآية. قال: «وأخبرنا سفيان، عن إسماعيل، عن الشعبي قال: يطلع قوم من أهل

الجنة إلى قوم في النار، فيقولون: ما أدخلكم النار، وإنما دخلنا الجنة بفضل تأديبكم وتعليمكم؟ قالوا: إن كنا نأمركم بالخير ولا نفعله» . وذكر أبو نعيم الحافظ، قال: «حدثنا محمد بن أحمد بن الحسن، قال: حدثنا عبد الله بن حنبل، قال: حدثنا سيار بن حاتم، قال: حدثنا جعفر بن سليمان، عن ثابت، عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الله تعالى يعافي الأميين يوم القيامة ما لا يعافي العلماء» . هذا حديث غريب تفرد به سيار عن جعفر، لم نكتبه إلا من حديث أحمد بن حنبل رضي الله عنه، قال حدثنا أحمد بن إسحاق بن حمزة، حدثنا محمد بن علوش بن الحسين الجرجاني، قال: حدثنا علي بن المثنى قال: حدثنا يعقوب بن خليفة أبو يوسف الأعشى، قال حدثني محمد بن مسلم الطائفي، قال حدثني إبراهيم بن ميسرة، عن طاووس عن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الجلاوزة والشرط أعوان الظلمة كلاب النار» ، غريب من حديث طاووس، تفرد به محمد بن مسلم الطائفي، عن إبراهيم بن ميسرة، عن طاووس. الجلاوزة: جمع جلواز، قال الجوهري: والجلوز الشرطي، والجمع: الجلاوزة.

فصل: قال بعض السادة: أشد الناس حسرة يوم القيامة ثلاثة: رجل ملك عبداً فعلمه شرائع الإسلام، فأطاع وأحسن وعصى السيد، فإذا كان يوم القيامة أمر بالعبد إلى الجنة، وأمر بسيده إلى النار، فيقول عند ذلك: واحسرتاه! وأغبناه! أما هذا عبدي؟ أما كنت مالكاً لمهجته وماله؟ وقادراً على جميع ماله؟ فما له سعد، وما لي شقيت؟ فيناديه الملك الموكل به: لأنه تأدب، وما تأدبت، وأحسن، وأسأت ورجل كسب مالاً فعصى الله تعالى في جمعه ومنعه ولم يقدمه بين يديه حتى صار إلى وارثه، فأحسن في إنفاقه وأطاع الله سبحانه في إخراجه، وقدمه بين يديه، فإذا كان يوم القيامة أمر بالوارث إلى الجنة، وأمر بصاحب المال إلى النار، فيقول: وحسرتاه! واغبناه! أما هذا ما لي فما أحسنت به أحوالي وأعمالي.. فيناديه الملك الموكل به: لأنه أطاع الله، وما أطعت، وأنفق لوجهه وما أنفقت، فسعد وشقيت. ورجل على قوماً ووعظهم فعملوا بقوله ولم يعمل، فإذا كان يوم القيامة أمر بهم إلى الجنة، وأمر به إلى النار، فيقول: واحسرتاه! واغبناه! أما هذا علمي؟ فما لهم فازوا به وما فزت؟ وسلموا به وما سلمت؟ فيناديه الملك الموكل به: لأنهم عملوا بما قلت، وما عملت، فسعدوا وشقيت. ذكره أبو الفرج بن الجوزي. فصل: قال إبراهيم النخعي رضي الله عنه: إني لأكره القصص لثلاث آيات: قوله تعالى: {أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم} وقوله تعالى {لم تقولون ما لا تفعلون * كبر مقتاً عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون} وقوله تعالى: {وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه} . قلت: وألفاط هذه الأبيات تدل على ما ذكرناه من الأحاديث على أن عقوبة من كان عالماً بالمعروف وبالمنكر، وبوجوب القيام بوظيفة كل واحد منهما أشد ممن لم يعلمه، وإنما كان كذلك لأنه كالمستهين بحرمات الله،

ويستحق لأحكامه، وهو كمن لم ينتفع بعمله. وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أشد الناس عذاباً يوم القيامة عالم لم ينفعه الله بعلمه» ، وقد تقدم. «وروى أبو أمامة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الذين يأمرون الناس بالبر وينسون أنفسهم يجرون قصبهم في نار جهنم، فيقال لهم: من أنتم؟ فيقولون: نحن الذين كنا نأمر الناس بالخير وننسى أنفسنا» . وقوله: تندلق، أي: تخرج، والاندلاق، الخروج بسرعة، يقال: اندلق السيف، خرج من غمده. وروي فتنفلق، بدل فتندلق. والأقتاب: الأمعاء، واحدها: قتب، بكسر القاف. وقال الأصمعي: واحدها: قتيبة، ويقال لها أيضاً: الأقصاب، واحدها: قصبة، قاله أبو عبيد. وقد قال صلى الله عليه وسلم: «رأيت عمرو بن لحى يجر قصبه في النار، وهو أول من سيب السوائب» . قلت: إن قال قائل: قد تقدم من حديث أبي سعيد الخدري أن من ليس من أهل النار إذا دخلوها أحرقوا فيه وماتوا، على ما ذكرتموه في أصح القولين، وهذه الأحاديث التي جاءت في العصاة بخلاف، فكيف الجمع بينهما؟ . قيل له: الجمع ممكن. وذلك ـ والله أعلم ـ أن أهل النار الذين هم أهلها، كما قال الله تعالى {كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلوداً غيرها ليذوقوا العذاب}

باب ما جاء في طعام أهل النار وشرابهم ولباسهم

قال الحسن: تنضجهم النار في اليوم سبعين ألف مرة، والعصاة بخلاف هؤلاء فيعذبون وبعد ذلك يموتون. وقد تختلف أيضاًأحوالهم في طول التعذيب بحسب جرائمهم وآثامهم. وقد قيل إنه يجوز أن يكونوا متألمين حالة موتهم، غير أن آلام المؤمنين تكون أخف من آلام الكفار، لأن آلام المعذبين وهم موتى أخف من عذابهم وهم أحياء، دليله قوله تعالى: {وحاق بآل فرعون سوء العذاب * النار يعرضون عليها غدوا وعشيا ويوم تقوم الساعة أدخلوا آل فرعون أشد العذاب} فأخبر أن عذابهم إذا بعثوا أشد من عذابهم وهم موتى. ومثله ما جاء في حديث البراء من قول الكافر: رب لا تقم الساعة، رب لا تقم الساعة، رب لا تقم الساعة. يرى أن ما يخلص له من عذاب الآخرة أشد مما هو فيه، وقد يكون ما جاء في الخطباء هو عذابهم في القبور، في أعضاء مخصوصة كغيرهم، كما جاء في حديث سمرة الطويل على ما تقدم. إلا أن قوله في حديث أسامة بن زيد يوم القيامة يدل على غير ذلك. وقد يحتمل أن يجمع لهم الأمران لعظم ما ارتكبوه من مخالفة قولهم فعلهم، ونعوذ بالله من ذلك. باب ما جاء في طعام أهل النار وشرابهم ولباسهم قال الله تعالى: {فالذين كفروا قطعت لهم ثياب من نار} وقال {سرابيلهم من قطران} وقال: {إن شجرة

الزقوم * طعام الأثيم * كالمهل يغلي في البطون} وقال: {لا يذوقون فيها برداً} أي نوماً. {ولا شراباً * إلا حميماً وغساقاً * جزاء وفاقاً} وقال: {وإن يستغيثوا يغاثوا بماء كالمهل يشوي الوجوه بئس الشراب وساءت مرتفقاً} وقال عز من قائل {تسقى من عين آنية * ليس لهم طعام إلا من ضريع} وقال {فليس له اليوم هاهنا حميم * ولا طعام إلا من غسلين} . قال الهروي: معناه من صديد أهل النار، وما ينغسل ويسيل من أبدانهم. قلت: وهو الغساق أيضاً. وذكر ابن المبارك: أخبرنا سفيان، عن منصور، عن إبراهيم وأبي رزين في قوله تعالى {هذا فليذوقوه حميم وغساق} قالا: ما يسيل من صديدهم، وقيل الغساق: القيح الغلظ المنتن. وذكر ابن وهب، عن عبد الله بن عمر، قال الغساق: القيح الغلظ، لو أن قطرة منه تهراق في المغرب أنتنت أهل المشرق ولو أنها تهراق في المشرق أنتنت أهل المغرب وقيل: الغساق الذي لا يستطيع من شدة برده، وهو الزمهرير. وقال كعب: الغساق عين في جهنم يسيل إليها حمة كل ذات حمة فستنفع، ويؤتى بالآدمي فيغمس فيها غمسة فيسقط جلده ولحمه عن العظام، فيجر لحمه في كعبيه كما يجر الرجل ثوبه. وقوله {جزاء وفاقاً} أي وافق أعمالهم الخبيثة. واختلف في الضريع فقيل: هو النبت ينبت في الربيع، فإذا كان في

باب منه وما جاء أن أهل النار يجوعون ويعطشون وفي دعائهم وإجابتهم

الصيف يبس، واسمه إذا كان عليه ورقة شبرق، وإذا تساقط ورقه فهو الضريع، فالإبل تأكله أخضر، فإذا يبس لم تذقه، وقيل: هو حجارة، وقيل الزقوم واد في جهنم. وقال المفسرون: إن شجرة الزقوم أصلها في الباب السادس وأنها تحيا بلهب النار كما تحيا الشجرة ببرد الماء، فلا بد لأهل النار من أن يتحدر إليها من كان فوقها فيأكلون منها. وقال أبو عمران الجوني في قوله تعالى {إن شجرة الزقوم * طعام الأثيم * كالمهل يغلي في البطون} قال بلغنا أن ابن آدم لا ينهش منها نهشة إلا نهشت منه مثلها. والمهل ما كان ذائباً من الفضة والنحاس، وقيل المهل عكر الزيت الشديد السواد، وقوله تعالى {يغلي في البطون * كغلي الحميم} يعني الماء الشديد الحر. باب منه وما جاء أن أهل النار يجوعون ويعطشون وفي دعائهم وإجابتهم قال الله تعالى: {ونادى أصحاب النار أصحاب الجنة أن أفيضوا علينا من الماء أو مما رزقكم الله قالوا إن الله حرمهما على الكافرين} الآية.

البيهقي عن محمد بن كعب القرظي قال: لأهل النار خمس دعوات يجيبهم الله في أربع، فإذا كان في الخامسة لا يتكلمون بعدها أبداً، يقولون: {ربنا أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين فاعترفنا بذنوبنا فهل إلى خروج من سبيل} . قال: فيجيبهم الله تعالى {ذلكم بأنه إذا دعي الله وحده كفرتم، وإن يشرك به تؤمنوا فالحكم لله العلي الكبير} . ثم يقولون: {ربنا أبصرنا وسمعنا فارجعنا نعمل صالحاً إنا موقنون} فيجيبهم الله تعالى: {فذوقوا بما نسيتم لقاء يومكم هذا إنا نسيناكم، وذوقوا عذاب الخلد بما كنتم تعملون} . ثم يقولون: {ربنا أخرنا إلى أجل قريب نجب دعوتك ونتبع الرسل} ، فيجيبهم الله تعالى {أولم تكونوا أقسمتم من قبل ما لكم من زوال} . ثم يقولون: {ربنا أخرجنا نعمل صالحاً غير الذي كنا نعمل} فيجيبهم الله تعالى: {أولم نعمركم ما يتذكر فيه من تذكر وجاءكم النذير فذوقوا فما للظالمين من نصير} . ثم يقولون: {ربنا غلبت علينا شقوتنا وكنا قوماً ضالين} فيجيبهم {اخسؤوا فيها ولا تكلمون} فلا يتكلمون بعدها أبداً. وخرجه ابن المبارك بأطول من هذا فقال: أخبرنا الحكم بن عمر بن ليلى، حدثني عامر قال: سمعت محمد بن كعب القرظي يقول: بلغني ـ أو ذكر لي ـ أن أهل النار استغاثوا بالخزنة، فقال الله تعالى: {وقال الذين في النار لخزنة جهنم: ادعوا ربكم يخفف عنا يوماً من العذاب} ، فسألوا يوماً واحداً يخفف عنهم فيه العذاب فردت عليهم الخزنة: {أولم تك تأتيكم رسلكم بالبينات} ؟ . فيقولون: بلى، فردت عليهم الخزنة: {فادعوا وما دعاء الكافرين إلا في ضلال} . قال: فلما يئسوا مما عند الخزنة نادوا مالكاً ـ وهو عليهم. وله مجلس في وسطها وجسور تمر عليهم ملائكة

العذاب، فهو يرى أقصاها كما يرى أدناها ـ فقالوا: {يا مالك ليقض علينا ربك} . قال: اسألوا الموت، فسكت عنهم لا يجيبهم ثمانين سنة. قال: والسنة ستون وثلاثمائة يوم، والشهر ثلاثون يوماً، واليوم {كألف سنة مما تعدون} . ثم لحظ إليهم بعد الثمانين فقال: {إنكم ماكثون} . فلما سمعوا منه ما سمعوا وأيسوا مما قبله، قال بعضهم لبعض: يا هؤلاء إنه قد نزل بكم من البلاء والعذاب ما قد ترون، فهلم فلنصبر فلعل الصبر ينفعنا كما صبر أهل الطاعة على طاعة الله فنفعهم الصبر إذ صبروا، فأجمعوا رأيهم على الصبر فصبروا فطال صبرهم، ثم جزعوا فنادوا: {سواء علينا أجزعنا أم صبرنا ما لنا من محيص} أي من منجى. قال: فقام إبليس عند ذلك فقال: {إن الله وعدكم وعد الحق ووعدتكم فأخلفتكم} إلى قوله: {ما أنا بمصرخكم} يقول: بمغن عنكم شيئاً {وما أنتم بمصرخي إني كفرت بما أشركتمون من قبل} . قال: فلما سمعوا مقالته مقتوا أنفسهم، قال فنادوا {لمقت الله أكبر من مقتكم أنفسكم} إلى قوله: {فهل إلى خروج من سبيل} . قال: فرد عليهم ذلك بأنه {إذا دعي الله وحده كفرتم، وإن يشرك به تؤمنوا فالحكم لله العلي الكبير} . قال: فهذه واحدة: فنادوا الثانية {فارجعنا نعمل صالحاً إنا موقنون} . قال: فيرد عليهم {ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها} . يقول: لو شئت لهديت الناس جميعاً فلم يختلف منهم أحد {ولكن حق القول مني لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين * فذوقوا بما نسيتم لقاء يومكم هذا إنا نسيناكم وذوقوا عذاب الخلد بما كنتم تعملون} . قال: فهذه اثنتان، فنادوا الثالثة: {ربنا أخرنا إلى أجل قريب نجب دعوتك ونتبع الرسل} . فيرد عليهم: {أولم تكونوا أقسمتم من قبل ما

لكم من زوال * وسكنتم في مساكن الذين ظلموا أنفسهم} إلى قوله تعالى: {الجبال} . قال: فهذه الثلاثة قال: ثم نادوا الرابعة: {ربنا أخرجنا نعمل صالحاً غير الذي كنا نعمل} . قال فيجيبهم: {أولم نعمركم ما يتذكر فيه من تذكر وجاءكم النذير فذوقوا فما للظالمين من نصير} . ثم مكث عنهم ما شاء الله. ثم ناداهم: {ألم تكن آياتي تتلى عليكم فكنتم بها تكذبون} ؟ . قال: فلما سمعوا صوته قالوا: الآن يرضى ربنا، فقالوا عند ذلك: {ربنا غلبت علينا شقوتنا} ـ أي: الكتاب الذي كتب علينا ـ {وكنا قوماً ضالين * ربنا أخرجنا منها فإن عدنا فإنا ظالمون} فقال عند ذلك: {اخسؤوا فيها ولا تكلمون} فانقطع عند ذلك الرجاء والدعاء {وأقبل بعضهم على بعض} ينبح بعضهم في وجه بعض وأطبقت عليهم. قال: فحدثني الأزهر بن أبي الأزهر أنه لما ذكر له أن ذلك قوله تعالى {هذا يوم لا ينطقون * ولا يؤذن لهم فيعتذرون} . قال ابن المبارك: وحدثنا سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة: فذكره عن أبي أيوب عن عبد الله بن عمرو بن العاص: إن أهل جهنم يدعون مالكاً فلا يجيبهم أربعين عاماً ثم يرد عليهم: {إنكم ماكثون} . قال: هانت والله دعوتهم على مالك، ورب مالك. قال: ثم يدعون ربهم. قال فيقولون {ربنا غلبت علينا شقوتنا وكنا قوما ضالين * ربنا أخرجنا منها فإن عدنا فإنا ظالمون} . قال فسكت عنهم قدر

الدنيا مرتين. قال ثم يرد عليهم: {اخسؤوا فيها ولا تكلمون} . قال: فو الله ما نبس القوم بعدها بكلمة، وما هو إلا الزفير والشهيق في نار جهنم، فشبه أصواتهم بصوت الحمير. أولها زفير وآخرها شهيق، ومعنى ما نبس ما تكلم. قال الجوهري: يقال ما نبس بكلمة، أي ما تكلم. وما نبس بالتشديد أيضاً، وقال الراجز: إن كنت غير هلك فنبس الترمذي «عن شهر بن حوشب، عن أم الدرداء، عن أبي الدرداء قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يلقى عن أهل النار الجوع مع ما هم فيه من العذاب فيستغيثون فيغاثون بطعام من ضريع، لا يسمن ولا يغني من جوع، فيستغيثون بالطعام فيغاثون بطعام ذي غصة فيذكرون أنهم كانوا يجيزون الغصص في الدنيا بالشراب، فيستغيثون بالشراب فيرفع إليهم الحميم بكلاليب من حديد، فإذا دنت من وجوههم شوت وجوههم فإذا دخلت بطونهم قطعت ما في بطونهم، فيقولون: ادعوا خزنة جهنم، فيقولون: {أولم تك تأتيكم رسلكم بالبينات؟ قالوا بلى! قالوا: فادعوا وما دعاء الكافرين إلا في ضلال} قال فيقولون: ادعوا مالكاً، فيقولون {يا مالك ليقض علينا ربك} قال فيجيبهم: {إنكم ماكثون} » . قال الأعمش: ثبت أن بين

دعائهم وبين إجابة مالك إياهم ألف عام، قال فيقولون ادعو ربكم، فلا أحد خير من ربكم، قال فيقولون: {ربنا أخرجنا منها فإن عدنا فإنا ظالمون} قال فيجيبهم: {اخسؤوا فيها ولا تكلمون} . قال: فعند ذلك يئسوا من كل خير، وعند ذلك يأخذون في الزفير والحسرة والويل. رفعه قطبة بن عبد العزيز، عن الأعمش، عن شمر بن عطية، عن شهر، وهو ثقة عند أهل الحديث، والناس يوقفونه على أبي الدرداء. «وعن أبي سعيد الخدري عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن قوله تعالى: {وهم فيها كالحون} قال: تشويه النار فتقلص شفته العليا حتى تبلغ وسط رأسه، وتسترخي شفته السفلى حتى تضرب سرته. ولسرادق النار أربعة جدر، كثف كل جدار مسيرة أربعين سنة، ولو أن دلوا من غسلين يهراق في الدنيا لأنتن أهل الدنيا» . قال: هذا حديث صحيح غريب. «وعنه عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في قوله: {كالمهل} قال: كعكر الزيت، وإذا قربه إلى وجهه سقطت فروة وجهه» . قال أبو عيسى: هذا حديث إنما نعرفه من حديث رشدين بن سعد، ورشدين قد تكلم فيه من جهة حفظه.

قلت: وقع في هذا الحديث فروة وجهه وهو شاذ، إنما يقال: فروة رأسه أي جلدته، هذا هو المشهور عند أهل اللغة، وكذا جاء في حديث أبي أمامة. «وعن أبي حجيزة، عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: إن الحميم ليصب على رؤوسهم فينفذ الحميم حتى يخلص إلى جوفه، فليست ما في جوفه حتى يمرق من قدميه وهو الصهر، ثم يعاد كما كان» . قال: هذا حديث حسن صحيح غريب. و «عن أبي أمامة عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في قوله: {ويسقى من ماء صديد * يتجرعه} قال: يقرب إلى فيه فيكرهه فإذا أدنى منه شوى وجهه ووقعت فروة رأسه، فإذا شربه قطع أمعاءه حتى يخرج من دبره، يقول الله تعالى: {وسقوا ماء حميماً فقطع أمعاءهم} وقال تعالى: {وإن يستغيثوا يغاثوا بماء كالمهل يشوي الوجوه بئس الشراب وساءت مرتفقاً} » قال: هذا حديث غريب. «وعن ابن عباس أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قرأ هذه الآية {اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون} . قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لو أن قطرة من الزقوم قطرت في الدنيا لأفسدت على أهل الدنيا معايشهم، فكيف بمن يكون طعامه؟» قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح. خرجه ابن ماجه أيضاً.

باب ما جاء في بكاء أهل النار ومن أدناهم عذابا فيها

باب ما جاء في بكاء أهل النار ومن أدناهم عذابا فيها ابن المبارك قال: «أخبرنا عمران بن زيد الثعلبي، حدثنا يزيد الرقاشي، عن أنس بن مالك، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: يا أيها الناس ابكوا فإن لم تبكوا فتباكوا، فإن أهل النار يبكون حتى تسيل دموعهم في وجوههم كأنها جداول، حتى تنقطع الدموع فتسيل الدماء فتقرح العيون، فلو أن سفناً أجريت فيها لجرت» . خرجه ابن ماجه أيضاً. «من حديث الأعمش، عن يزيد الرقاشي، عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يرسل البكاء على أهل النار فيبكون حتى تنقطع الدموع، ثم يبكون الدم حتى يصير في وجوههم كهيئة الأخدود، ولو أرسلت فيها السفن لجرت» . وفي مسلم «عن النعمان بن بشير أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إن أهون أهل النار عذاباً يوم القيامة رجل في أخمص قدميه جمرتان يغلي منهما دماغه» . وروي عن أبي موسى الأشعري موقوفاً أنه قال: [إن أهل النار ليبكون الدموع في النار، حتى لو أجريت فيها السفن لجرت، ثم إنهم يبكون الدم بعد الدموع. ولمثل ما هم فيه فليبك] . قال المؤلف رحمه الله وهو يستند من معنى ما تقدم: وفي التنزيل {فليضحكوا قليلاً وليبكوا كثيراً جزاء بما كانوا يكسبون} . وفي الترمذي «من

باب ما جاء أن لكل مسلم فداء من النار من الكفار

حديث أبي ذر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: والله لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً، فمن كثر بكاؤه خوفاً من الله تعالى وخشية منه ضحك كثيراً في الآخرة. قال الله تعالى مخبراً عن أهل الجنة: {إنا كنا قبل في أهلنا مشفقين} ووصف أهل النار فقال: {وإذا انقلبوا إلى أهلهم انقلبوا فكهين} قال: وكنتم ومنهم تضحكون» . وسيأتي بيانه. باب ما جاء أن لكل مسلم فداء من النار من الكفار ابن ماجه قال: «أخبرنا جبارة بن المغلس، حدثنا عبد الأعلى بن أبي المساور، عن أبي بردة، عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا جمع الله الخلائق يوم القيامة أذن لأمة محمد صلى الله عليه وسلم في السجود فسجدوا طويلاً، ثم يقال: ارفعوا رؤوسكم فقد جعلنا عدتكم فداءكم من النار» . «حدثنا جبارة بن المغلس، حدثنا كثير بن سليمان، عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن هذه الأمة أمة مرحومة، عذابها بأيديها، إذا كان يوم القيامة دفع إلى كل رجل من المسلمين رجل من المشركين،

فيقال: هذا فداؤك من النار» . قلت: هذان الحديثان وإن كان إسنادهما ليس بالقوي ـ قال الدارقطني: جبارة بن المغلس متروك ـ فإن معناهما صحيح بدليل حديث مسلم. «عن أبي بردة، عن أبي موسى قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا كان يوم القيامة دفع الله لكل مسلم يهودياً أو نصرانياً فيقول: هذا فكاكك من النار» . وفي رواية أخرى: «لا يموت رجل مسلم إلا أدخل الله مكانه من النار يهودياً أو نصرانياً» . قال فاستحلفه عمر بن عبد العزيز بالله الذي لا إله إلا هو ثلاث مرات: أن أباه حدثه عن رسول الله، قال: فحلف له. فصل: قال علماؤنا رحمة الله عليهم: هذه الأحاديث ظاهرها الإطلاق والعموم وليس كذلك، وإنما هي في ناس مذنبين تفضل الله تعالى عليهم برحمته ومغفرته، فأعطى كل إنسان منهم فكاكاً من النار من الكفار، واستدلوا بحديث أبي بردة عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يجيء يوم القيامة ناس من المسلمين بذنوب أمثال الجبال فيغفرها الله لهم ويضعها على اليهود والنصارى» . وخرجه مسلم «عن محمد بن عمرو بن عياد بن جبلة بن أبي رواد. قال حدثنا حرمي بن عمارة، قال: حدثنا شداد أبو طلحة الراسبي، عن عباس، عن غيلان بن جرير، عن أبي بردة عن النبي صلى الله عليه وسلم. قالوا: وما معنى فيغفرها لهم؟ أي: يسقط المؤاخذة عنهم بها حتى كأنهم لم يذنبوا» .

ومعنى قوله: ويضعها على اليهود النصارى أنه يضاعف عليهم عذاب ذنوبهم ، حتى يكون عذابهم بقدر جرمهم وجرم ومذنبي المسلمين، لو أخذوا بذلك، لأنه تعالى يأخذ أحداً بذنب أحد، كما قال تعالى: {ولا تزر وازرة وزر أخرى} وله سبحانه أن يضاعف لمن يشاء العذاب، ويخفف عمن يشاء بحكم إرادته ومشيئته. إذ لا نسأل عن فعله. قالوا وقوله في الرواية الأخرى: «لا يموت رجل مسلم إلا أدخل مكانه يهودياً أو نصرانياً» ، فمعنى ذلك أن المسلم المذنب لما كان يستحق مكاناً من النار بسبب ذنوبه، وعفا الله عنه وبقي مكانه خالياً منه، أضاف الله تعالى ذلك المكان إلى يهودي أو نصراني ليعذب فيه زيادة على تعذيب مكانه الذي يستحقه بحسب كفره، ويشهد لهذا قوله عليه السلام «في حديث أنس للمؤمن الذي يثبت عند السؤال في القبر فيقال له: انظر إلى مقعدك من النار، قد أبدلك الله به مقعداً من الجنة» . قلت: قد جاءت أحاديث دالة على أن لكل مسلم مذنباً كان أو غير مذنب. منزلين: منزلاً من الجنة. ومنزلاً من النار، وذلك هو معنى قوله تعالى {أولئك هم الوارثون} أي يرث المؤمنون منازل الكفار، ويجعل الكفار في منازلهم في النار على ما يأتي بيانه، وهو مقتضى «حديث أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم: إن العبد إذا وضع في قبره» الحديث وقد تقدم. إلا أن هذه الوراثة تختلف. فمنهم من يرث ولا حساب، ومنهم من يرث بحسابه وبمناقشته وبعد الخروج من النار، حسب ما تقدم من أحوال الناس. والله أعلم. وقد يحتمل أن يسمى الحصول على الجنة وراثة من حيث حصولها

باب في قوله تعالى " وتقول هل من مزيد "

دون غيرهم. وهو مقتضى قوله تعالى: {قالوا الحمد لله الذي صدقنا وعده وأورثنا الأرض نتبوأ من الجنة حيث نشاء} . باب في قوله تعالى " وتقول هل من مزيد " باب في قوله تعالى وتقول هل من مزيد مسلم «عن أنس، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: تزال جهنم يلقى فيها وتقول هل من مزيد؟ حتى يضع رب العزة قدمه فيها فينزوي بعضها إلى بعض، وتقول: قط قط. وعزتك وكرمك. ولا يزال في الجنة فضل حتى ينشئ الله لها خلقاً. فيسكنهم فضل الجنة» . وفي رواية أخرى «من حديث أبي هريرة. فأما النار فلا تمتلئ حتى يضع الله عليها رجله فتقول: قط قط. فهنالك تمتلئ ويزوي بعضها إلى بعض، فلا يظلم الله خلقاً من خلقه أحداً، وأما الجنة فإن الله ينشىء لها خلقاً» . فصل: للعلماء في قول النار: [هل من مزيد؟] تأويلان. أحدهما: وعدها ليملأنها فقال: أوفيتك؟ فقالت: وهل من مسلك؟ أي: قد امتلأت، كما قال: امتلأ الحوض وقال: قطني ... مهلاً رويداً قد ملأت بطني وهذا تفسير مجاهد وغيره، وهو ظاهر الحديث الثاني: زدني، تقول ذلك غيظاً على أهلها وحنقاً عليهم، كما قال {تكاد تميز من الغيظ} أي تنشق، ويبين بعضها من بعض.

وقوله حتى يضع فيها قدمه ـ وفي رواية أخرى. حتى يضع عليها، وفي آخرى رجله ولم يذكر فيها ولا عليها ـ فمعناه عبارة عمن تأخر دخوله في النار من أهلها، وهم جماعات كثيرة لأن أهل النار يلقون فيها فوجاً فوجاً، كما قال الله تعالى {كلما ألقي فيها فوج سألهم خزنتها ألم يأتكم نذير} . ويؤيده أيضاً قوله في الحديث: لا يزال يلقى فيها. فالخرنة تنظر أولئك المتأخرين إذ قد علموهم بأسمائهم وأوصافهم، كما روي عن ابن مسعود أنه قال: ما في النار بيت ولا سلسلة ولا مقمع ولا تابوت إلا وعليه اسم صاحبه، فكل واحد من الخزنة ينتظر صاحبه الذي قد عرف اسمه وصفته، فإذا استوفى كل واحد ما أمر به وما ينتظره ولم يبق منهم أحد قالت الخزنة: قط قط، أي حسبنا حسبنا اكتفينا اكتفينا، وحينئذ تنزوي جهنم على ما من فيها وتنطبق، إذ لم يبق أحد ينتظر فعبر عن ذلك الجمع المنتظر بالرجل والقدم، لا أن الله جسم من الأجسام، تعالى الله عما يقول الظالمون والجاحدون علوا كبيراً. والعرب تعبر عن جماعة والجراد بالرجل، فتقول جاءنا رجل من جراد ورجل من الناس، أي جماعة منهم والجمع: أرجل. ويشهد لهذا التأويل قوله في نفس الحديث: ولا يزال في الجنة فضل حتى ينشئ الله خلقاً فيسكنهم فصل الجنة، وفي الحديث تأويلات أتينا عليها في الأسماء والصفات أشبهها ما ذكرناه. وفي التنزيل {أن لهم قدم صدق عند ربهم} قال ابن عباس: المعنى منزل صدق،

باب ذكر آخر من يخرج من النار وآخر من يدخل الجنة وفي تعيينه وتعيين قبيلته واسمه

وقال الطبري: معنى {قدم صدق عند ربهم} عمل صالح. وقيل: هو السابقة الحسنة، فدل على أن القدم ليس حقيقة في الجارحة، والله الموفق. قال ابن فورك وقال بعضهم: القدم خلق من خلق الله يخلقه يوم القيامة فيسميه قدماً، ويضيفه إليه من طريق الفعل يضعه في النار فتمتلئ النار منه، والله أعلم. قلت: وهذا نحو مما قلناه في الرجل. قال الشاعر: فمر بنا رجل من الناس وانزوى ... إليهم من الحي اليماني أرجل قبائل من لخم وعك وحمير على ... ابني نزار بالعداوة أحفل وقال آخر: يرى الناس أفواجاً إلى باب داره ... كأنهم رجلاً دباً وجراد فيوم لإلحاق الفقير بذي الغنى ... ويوم رقاب بوكرت بحصاد الدبا: الجراد قبل أن يطير، والله أعلم. باب ذكر آخر من يخرج من النار وآخر من يدخل الجنة وفي تعيينه وتعيين قبيلته واسمه مسلم «عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إني

لأعلم آخر أهل النار خروجاً منها، وآخر أهل النار دخولاً الجنة، رجل يخرج من النار حبواً فيقول الله تعالى. اذهب فادخل الجنة فيأتيها، فيخيل إليه أنها ملأى، فيقول يا رب وجدتها ملأى، فيقول الله: اذهب فادخل الجنة، فيأتيها فيخيل إليه أنها ملأى، فيرجع فيقول: يا رب وجدتها ملأى، فيقول: اذهب فادخل الجنة، فإن لك مثل الدنيا وعشرة أمثالها أو أن لك عشرة أمثال الدنيا، قال فيقول. أتسخر بي؟ أو أتضحك بي وأنت الملك؟ قال: لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ضحك حتى بدت نواجذه، قال: فكان يقال ذلك أدنى أهل الجنة منزلة» . وعنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «آخر من يدخل الجنة رجل، فهو يمشي مرة، ويكبو مرة، وتسفعه النار مرة، فإذا جاوزها التفت إليها، فقال: تبارك الذي نجاني منك، لقد أعطاني الله شيئاً ما أعطاه أحداً من الأولين والآخرين، فترفع له شجرة فيقول: أي رب أدنني من هذه الشجرة فلأستظل بظلها وأشرب من مائها، فيقول الله تعالى: يا ابن آدم لعلي إن أعطيتكها سألتني غيرها فيقول: لا يا رب! ويعاهد أن لا يسأله غيرها، وربه يعذره لأنه يرى ما لا صبر له عليه، فيدنيه منها فيستظل بظلها ويشرب من مائها. ثم ترفع له شجرة هي أحسن من الأولى، فيقول: أي رب أدنني من هذه لأشرب من مائها وأستظل بظلها، لا أسألك غيرها، فيقول: يا ابن آدم: لعلي إن أديتك منها تسألني غيرها؟ فيعاهده أن لا يسأله غيرها، وربه يعذره، لأنه يرى ما لا صبر له عليه فيدنيه منها، فإذا منها ترفع له شجرة عند باب الجنة أحسن من الأوليين، فيقول مثله. فيدنيه منها، فإذا أدناه منها سمع أصوات أهل الجنة، فيقول: أي رب أدخلينها. فيقول: يا ابن آدم ما يصريني منك؟ أيرضيك أن أعطيك الدنيا ومثلها معها؟ فيقول: أي رب أتستهزئ بي، وأنت رب العالمين؟

فضحك ابن سمعود فقال: ألا تسألوني مم أضحك؟ فقالوا مم تضحك؟ قال: هكذا ضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: مم تضحك يا رسول الله؟ قال: من ضحك رب العالمين، فيقول: إني لا أستهزئ منك ولكني على ما أشاء قادر» . وقال ابن عمر «عن النبي صلى الله عليه وسلم: آخر من يدخل الجنة رجل من جهينة، يقال له جهينة، تقول أهل الجنة: عند جهينة الخبر اليقين» . ذكره الميانشي أبو حفص عمر ابن عبد المجيد القرشي في كتاب الاختيار له في الملح من الأخبار والآثار. ورواه أبو بكر أحمد بن علي بن ثابت الخطيب، «من حديث عبد الملك بن الحكم قال: حدثنا مالك بن أنس، عن نافع، عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن آخر من يدخل الجنة رجل من جهينة، فيقول أهل الجنة: عند جهينة الخبر اليقين سلوه. هل بقي من الخلائق أحد» ؟ ورواه الدراقطني أيضاً في كتاب رواه مالك، ذكره السهيلي. وقد قيل: إن اسمه هناد، والله أعلم. فصل: قوله: أتستهزئ مني؟ ـ وفي رواية: أتسخر؟ ـ والهزوء، والسخرية بمعنى واحد، وفيه تأويلان. أحدهما: أنه صدر منه هذا القول عند غلبة الفرح عليه واستخفافه إياه، كما غلط الذي قال: [اللهم أنت عبدي وأنا ربك] خرجه مسلم. الثاني: أن يكون معناه: أتجازيني على ما كان مني في الدنيا من قلة احتفالي بأعمالي، وعدم مبالاتي بها؟ فيكون هذا على وجه المقابلة، كما قال الله تعالى مخبراً عن المنافقين {إنما نحن مستهزئون * الله يستهزئ بهم} أي ينتقم منهم ويجازيهم على استهزائهم،

باب منه وما جاء في خروج الموحدين من النار وذكر الرجل الذي ينادي: يا حنان يا منان، وبيان قوله تعالى: " إنها عليهم مؤصدة. في عمد ممددة "، وفي أحوال أهل النار

والاستهزاء في اللغة: الانتقام. قال الشاعر: قد استهزءوا منهم بألفي مدجج ... سراتهم وسط الضحاضح جثم ومثله: {ومكروا ومكر الله} الآية. وهو كثير، وسيأتي لبيان الاستهزاء من الله مزيد بيان، والضحك من الله تعالى راجع إلى معنى الرضى عن العبد. فاعلم ذلك. باب منه وما جاء في خروج الموحدين من النار وذكر الرجل الذي ينادي: يا حنان يا منان، وبيان قوله تعالى: " إنها عليهم مؤصدة. في عمد ممددة "، وفي أحوال أهل النار باب منه وما جاء في خروج الموحدين من النار وذكر الرجل الذي ينادي: يا حنان يا منان، وبيان قوله تعالى: إنها عليهم مؤصدة. في عمد ممددة، وفي أحوال أهل النار خرج الطبراني أبو القاسم، قال: «حدثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل، قال: حدثنا محمد بن عباد المكي، حدثنا حاتم بن إسماعيل بن بسام الصيرفي، عن يزيد الفقير، عن رجل، عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن ناساً من أمتي يدخلون النار بذنوبهم فيكونون في النار ما شاء الله أن يكونوا، ثم يعيرهم أهل الشرك، فيقولون: ما نرى ما كنتم تخالفوننا فيه من تصديقكم وإيمانكم نفعكم، فلا يبقى موحد إلا أخرجه الله من النار، ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم {ربما يود الذين كفروا لو كانوا مسلمين} » . وروى أبو ظلال، «عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن عبداً في جهنم ينادي ألف سنة: يا حنان يا منان، فيقول الله تعالى لجبريل: إئت عبدي

فلاناً، فينطلق جبريل عليه السلام فيرى أهل النار منكبين على وجوههم، قال فيرجع فيقول: يا رب لم أره، فيقول الله تعالى: إنه في مكان كذا وكذا، قال: فيأتيه فيجيء به، فيقول له: يا عبدي، كيف وجدت مكانك ومقيلك؟ قال: فيقول: شر مكان، وشر مقيل، قال فيقول: ردوا عبدي، قال فيقول: يا رب ما كنت أرجو أن تردني إذا أخرجتني منها. فيقول الله تعالى: دعوا عبدي» . وأبو ظلال هذا اسمه هلال بن أبي مالك القسملي يعد في البصريين. وعن سعيد بن جبير قال: إن في النار لرجلاً ـ أظنه في شعب من شعابها ينادي مقدار ألف عام يا حنان يا منان، فيقول رب العزة لجبريل: يا جبريل أخرج عبدي من النار، فيأتيها فيجدها مطبقة فيرجع فيقول: يا رب إنها عليهم موصدة، فيقول: يا جبريل، ارجع ففكها فاخرج عبدي من النار، فيفكها فيخرج مثل الخيال فيطرحه على ساحل الجنة حتى ينبت الله له شعراً ولحماً ودماً، ذكره أبو نعيم. وروى ليث «عن مجاهد، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله: إنما الشافعة يوم القيامة لمن عمل الكبائر من أمتي» ، الحديث وقد تقدم. وفيه بعده. قوله: وأطولهم مكثاً من يمكث فيها مثل الدنيا منذ خلقت إلى يوم أفنيت، وذلك سبعة آلاف سنة. ثم إن الله أراد أن يخرج الموحدين منها قذف في قلوب أهل الأديان فقالوا لهم: كنا وأنتم وآباؤنا جميعاً في الدينا، فآمنتم وكفرنا وصدقتم وكذبنا، وأقررتم وجحدنا، فما أغنى ذلك عنكم، نحن وأنتم اليوم فيها سواء، تعذبون كما نعذب، وتخلدون فيها كما نخلد،

فيغضب الله عند ذلك غضباً شديداً لم يغضب مثله من شيء فيما مضى، ولا يغضب من شيء فيما بقي، فيخرج أهل التوحيد منها إلى عين بين الجنة والنار والصراط يقال لها: نهر الحياة، فيرش عليهم من الماء فينبتون كما تنبت الحبة في حميل السيل، فما يلي الظل منها أخضر، وما يلي الشمس منها أصفر، ثم يدخلون الجنة فيكتب على جباههم: هؤلاء عتقاء الله من النار، إلا رجلاً واحداً يمكث فيها ألف سنة، ثم ينادي: يا حنان يا منان، فيبعث الله إليه ملكاً فيخوض في النار في طلبه سبعين عاماً لا يقدر عليه، ثم يرجع فيقول: إنك أمرتني أن أخرج عبدك فلاناً من النار منذ سبعين عاماً فلم أقدر عليه، فيقول الله تعالى: انطلق فهو في وادي كذا تحت صخرة فأخرجه، فيذهب فيخرجه منها فيدخله الجنة. ثم أن الجهنميين يطلبون من الله تعالى أن يمحو عنهم ذلك الاسم، فيبعث الله ملكاً فيمحوه عن جباههم. ثم أن يقال لأهل الجنة ومن دخلها من الجهنميين: اطلعوا إلى أهل النار فيطلعون إليهم فيرى الرجل أباه ويرى جاره وصديقه، ويرى العبد مولاه، ثم إن الله تعالى يبعث إليهم الملائكة بأطباق من نار، ومسامير من نار، وعمد من نار: فتطلق عليهم بتلك الأطباق، وتشد بتلك المسامير، وتمد بتلك العمد فلا يبقى فيها خلل يدخل فيه روح ولا يخرج منه غم وينساهم الرحمن على عرشه، ويتشاغل أهل الجنة بنعيمهم، ولا يستغيثون بعدها أبداً، وينقطع، فيكون كلامهم زفيراً وشهيقاً، فذلك قوله تعالى {إنها عليهم مؤصدة * في عمد ممددة} . وقال ابن مسعود: في عمد أي بعمد، وكذا في مصحفه إنها عليهم مؤصدة بعمد. وخرج أبو نعيم الحافظ، عن زاذان قال: سمعت كعب الأحبار يقول: إذا كان يوم القيامة جمع الله الأولين والآخرين في صعيد واحد، فنزلت

الملائكة فصاروا صفوفاً، فيقول الله لجبريل: إئت بجهنم، فيجيء بها تقاد بسبعين ألف زمام حتى إذا كانت من الخلائق على قدر مائة عام زفرة زفرة طارت لها أفئدة الخلائق، ثم زفرت ثانية فلا يبقى ملك مقرب ولا نبي مرسل إلا جثاً على ركبتيه، ثم تزفر الثالثة فتبلغ القلوب الحناجر وتذهب العقول فيفزع كل امرئ إلى عمله، حتى إن إبراهيم الخليل يقول: بخلتي لا أسألك إلا نفسي، ويقول موسى: بمناجاتي لا أسألك إلا نفسي ويقول عيسى: بما أكرمتني لا أسألك إلا نفسي، لا أسألك مريم التي ولدتني، ومحمد صلى الله عليه وسلم يقول: أمتي أمتي، لا أسألك اليوم نفسي، إنما أسألك أمتي. قال: فيجيبه الجليل جل جلاله: إن أوليائي من أمتك لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، فوعزتي وجلالي لأقرن عينك في أمتك. ثم يقف الملائكة بين يدي الله تعالى ينتظرون ما يؤمرون به، فيقول لهم تعالى وتقدس: معاشر الزنابية، انطلقوا بالمصرين من أهل الكبائر من أمة محمد صلى الله عليه وسلم إلى النار، فقد اشتد غضبي عليهم بتهاونهم بأمري في دار الدنيا، واستخفافهم بحقي وانتهاكهم حرمي، يستخفون من الناس ويبارزونني مع كرامتي لهم وتفضيلي إياهم على الأمم، ولم يعرفوا فضلي وعظيم نعمتي، فعندها تأخذ الزبانية بلحى الرجال وذوائب النساء فينطلق بهم إلى النار، وما من عبد يساق إلى النار، من غير هذه الأمة، إلا مسود وجهه، قد وضعت الأنكال في رجليه والأغلال في عنقه، إلا من كان من هذه الأمة، فإنهم يساقون بألوانهم، فإذا وردوا على مالك قال لهم: معاشر الأشقياء، من أي أمة أنتم؟ فما ورد علي أحسن وجوها منكم! فيقولون: يا مالك، نحن من أمة القرآن، فيقول لهم: يا معشر الأشقياء، أو

ليس القرآن أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم؟ . قال: فيرفعون أصواتهم بالنحيب والبكاء، فيقولون: وامحمداه! وامحمداه! وامحمداه! اشفع لمن أمر به إلى النار من أمتك. قال: فينادي مالك بتهدد وانتهار: يا مالك، من أمرك بمعاتبة أهل الشقاء ومحادثتهم والتوقف عن إدخالهم العذاب؟ يا مالك، لا تسود وجوههم فقد كانوا يسجدون لي في دار الدنيا. يا مالك: لا تغلهم بالأغلال، فقد كانوا يغتسلون من الجنابة. يا مالك! ، لا تعذبهم بالأنكال، فقد طافوا بيتي الحرام. يا مالك. لا تلبسهم القطران، فقد خلعوا ثيابهم للإحرام. يا مالك، مر النار لا تحرق ألسنتهم، فقد كانوا يقرأون القرآن. يا مالك، قل للنار تأخذهم على قدر أعمالهم، فالنار أعرف بهم وبمقادير استحقاقهم من الوالدة بولدها. فمنهم من تأخذه النار إلى كعبيه، ومنهم من تأخذه النار إلى ركبتيه، ومنهم من تأخذه النار إلى سرته، ومنهم من تأخذه إلى صدره، ومنهم دون ذلك. فإذا انتقم الله عز وجل منهم على قدر كبائرهم وعتوهم وإصرارهم، فتح بينهم وبين المشركين باباً فرأوهم في الطبق الأعلى من النار، لا يذوقون فيها برداً ولا شراباً، يبكون ويقولون: يا محمداه، ارحم من أمتك الأشقياء واشفع لهم، فقد أكلت النار لحومهم ودماءهم وعظامهم، ثم ينادون: يا رباه، يا سيداه، ارحم من لم يشرك بك في دار الدنيا، وإن كان قد أساء وأخطأ وتعدى، فعندها يقول المشركون: ما أغنى عنكم إيمانكم بالله وبمحمد شيئاً، فيغضب الله تعالى لذلك، فعندها يقول: يا جبريل انطلق فاخرج من في النار من أمة محمد، فيخرجهم ضبائر قد امتحشوا فيلقيهم على نهر على باب الجنة يقال له نهر الحياة، فيمكثون حتى يعودوا أنضر ما كانوا، ثم يأمر بإدخالهم الجنة مكتوباً على جباههم: هؤلاء الجهنميون عتقاء الرحمن من أمة محمد صلى الله عليه وسلم فيعرفون من بين أهل الجنة

بذلك، فيتضرعون إلى الله عز وجل أن يمحو عنهم تلك السمة فيمحوها الله تعالى عنهم، فلا يعرفون بها بعد ذلك أبداً. وذكر أبو نعيم الحافظ عن أبي عمران الجوني قال: بلغنا أنه إذا كان يوم القيامة أمر الله بكل جبار وكل شيطان وكل من يخاف الناس شره في الدنيا، فيوثقون بالحديد، ثم أمر بهم إلى النار، ثم أوصدها عليهم، أي أطبقها، فلا والله لا تستقر أقدامهم على قرارها أبداً، لا والله ما ينظرون إلى أديم سماء أبداً: ولا والله لا تلتقي جفونهم على غمض نوم، ولا والله لا يذوقون فيها بارد شراب أبداً. قال: ثم يقال لأهل الجنة: يا أهل الجنة افتحوا اليوم الأبواب، فلا تخافوا شيطاناً، ولا جباراً، وكلوا اليوم واشربوا بما أسلفتم في الأيام الخالية، قال أبو عمران: إذاً هي والله يا إخوتاه أيامكم هذه. فصل: قوله: فيرش عليهم من الماء فينبتون كما تنبت الحبة في حميل السيل. وجاء في حديث أبي سعيد الخدري المتقدم، ثم يقال: يا أهل الجنة أفيضوا عليهم من الماء، والمعنى واحد. والنبات معروف وهو خروج الشيء: والحبة بكسر الحاء بذور البقول، وحميل السيل: ما احتمله من طين وغشاء، فإذا اتفق أن يكون فيه حبة فإنها تنبت في يوم وليلة، وهي أسرع نابتة نباتاً، فشبه النبي صلى الله عليه وسلم سرعة نبات أجسادهم بسرعة نبات تلك الحبة، وفي التنزيل: {ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فتصبح الأرض مخضرة} وتقدم الكلام في نحو ذلك الاسم. وقوله: وأطولهم مكثاً من يمكث فيها مثل الدنيا منذ خلقت إلى

يوم أفنيت، وذلك سبعة آلاف سنة. اختلف في انقضاء هذا العالم، وفي مدة الدنيا، وأكثر المنجمون في ذلك فقال بعضهم: عمر الدنيا سبعة آلاف بعدد النجوم السيارة لكل واحد ألف سنة وقال بعضهم: بأنها إثنتا عشر ألف بعدد البروج، لكل برج ألف سنة. وقال بعضهم: ثلاثمائة وستون ألف سنة بعدد درجات الفلك، لكل درجة ألف سنة. وقوله: إلا رجلاً واحداً يمكث فيها ألف سنة، ثم ينادي: يا حنان يا منان. الحنان الذي يقبل على من أعرض عنه، والمنان الذي يبدأ بالنوال قبل السؤال، سبحانه وتعالى لا إله إلا هو. روي ذلك عن علي رضي الله عنه. وقد ذكرنا في ذلك في كتاب الأسنى في شرح أسماء الله الحسنى، وصفاته العليا مستوفى والحمد لله. وقد تقدم الكلام في نحو ذلك الاسم عنهم، فلا معنى لإعادته. وقوله: وينساهم على عرشه، أي يتركهم في العذاب، كما قال {نسوا الله فنسيهم} أي تركوا عبادته وتوحيده فتركهم. والعرش في كلام العرب له محامل كثيرة قد أتينا عليها في كتاب الأسنى في شرح أسماء الله الحسنى منها الملك كما قال زهير: تداركتما عبساً وقد ثل عرشها ... وذبيان إذ زلت بأقدامها النعل وقال آخر: بعد ابن جفنة، وابن هاتاك عرشـ ... والحارثين يؤملون فلاحاً

وتقول العرب: ثل عرش فلان، إذا ذهب عزه وسلطانه وملكه، فالمعنى وينساهم الرحمن على عرشه، أي: بما هو عليه من الملك والسلطان والعظمة والجلال، لا يعبأ بهم ولا يلتفت إليهم لما حكم به في الأزل عليهم من خلودهم في النار، ولا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط. وأجمع أهل السنة على أن أهل النار مخلدون فيها غير خارجين منها: كإبليس، وفرعون، وهامان، وقارون، وكل من كفر وتكبر وطغى، فإن له جهنم لا يموت فيها ولا يحيا. وقد وعدهم الله عذاباً أليماً، فقال عز وجل {كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلوداً غيرها ليذوقوا العذاب} . وأجمع أهل السنة أيضاً على أنه لا يبقى فيها مؤمن ولا يخلد إلا كافر جاحد، فاعلم. قلت: وقد زل هنا بعض من ينتمي إلى العلم والعلماء فقال: إنه يخرج النار كل كافر ومبطل وجاحد ويدخل الجنة، فإنه جائز في العقل أن تنقطع صفة الغضب فيعكس عليه فيقال: وكذلك جائز في العقل أن تنقطع صفة الرحمة فيلزم عليه أن يدخل الأنبياء والأولياء النار يعذلون فيها، وهذا فاسد مردود بوعده الحق وقوله الصدق، قال الله تعالى في حق أهل الجنان: {عطاء غير مجذوذ} أي: غير مقطوع، وقال {وما هم منها بمخرجين} وقال: {لهم أجر غير ممنون} وقال: {لهم فيها نعيم مقيم * خالدين فيها أبدا} وقال في حق الكافرين {ولا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط} وقال: {فاليوم لا يخرجون منها ولا هم يستعتبون} وهذا واضح، وبالجملة فلا مدخل للمعقول فيما

باب منه ـ وذكر الرجل الذي ينادي: يا حنان يا منان، وبيان قوله تعالى " فاليوم الذين آمنوا من الكفار يضحكون. على الأرائك ينظرون. هل ثوب الكفار ما كانوا يفعلون "

اقتطع أصله الإجماع والرسول، {ومن لم يجعل الله له نوراً فما له من نور} . باب منه ـ وذكر الرجل الذي ينادي: يا حنان يا منان، وبيان قوله تعالى " فاليوم الذين آمنوا من الكفار يضحكون. على الأرائك ينظرون. هل ثوب الكفار ما كانوا يفعلون " باب منه ـ وذكر الرجل الذي ينادي: يا حنان يا منان، وبيان قوله تعالى فاليوم الذين آمنوا من الكفار يضحكون. على الأرائك ينظرون. هل ثوب الكفار ما كانوا يفعلون ذكر ابن المبارك قال: أخبرنا الكلبي عن أبي صالح في قوله تعالى: {الله يستهزئ بهم} قال: يقال لأهل النار وهم في النار: اخرجوا، فتفتح لهم أبواب النار، فإذا انتهوا إلى أبوابهم أغلقت دونهم، فذلك قوله عز وجل {الله يستهزئ بهم} ويضحك منهم المؤمنون حين غلقت دونهم، فذلك قوله عز وجل {فاليوم الذين آمنوا من الكفار يضحكون * على الأرائك ينظرون * هل ثوب الكفار ما كانوا يفعلون} . قال ابن المبارك وأخبرنا محمد بن بشار عن قتادة في قوله تعالى {فاليوم الذين آمنوا من الكفار يضحكون} قال: ذكر لنا أن كعباً كان يقول: إن الجنة والنار كوى فإذا أراد المؤمن أن ينظر إلى عدو له في الدنيا أطلع من بعض الكوى، قال الله سبحانه وتعالى في آية أخرى {فاطلع فرآه في سواء الجحيم} قال: ذكر لنا أنه يطلع فيرى جماجم القوم تغلي. أخبرنا معمر عن قتادة قال: قال بعض العلماء: لولا أن الله عز وجل عرفه إياه ما عرفه، لقد تغير حبره وسبره، فعند ذلك يقول: {تالله إن كدت

لتردين * ولولا نعمة ربي لكنت من المحضرين} في النار. والحبر والسبر: اللون والهيئة. من قولهم: جاءت الإبل حسنة الأحبار والأسبار، قاله الفراء. وقال الأصمعي: هو البهاء والجمال وأثر النعمة، يقال فلان حسن الحبر والسبر، إذا كان جميلاً حسن الهيئة. قال ابن أحمد: لبسنا حبرة حتى اقتضينا ... لآجال وأعمار قضينا ويقال أيضاً: فلان حسن الحبر والسبر بالفتح، وهذا كله مصدر قولك: حبرته تحبيراً. والأول اسم، وتحبير الخط والشعر وغيرهما تحسبينه وتزيينه. باب منه روى أبو هدبة إبراهيم بن هدبة، قال: «حدثنا أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن المستهزئين بعباد الله في الدنيا تفتح لهم أبواب الجنة يوم القيامة يقال لهم: ادخلوا الجنة، فإذا جاءوا أغلق الباب دونهم. وتفتح الثانية فيقال لهم: ادخلوا الجنة، فإذا جاءوا أغلق الباب دونهم: وتفتح لهم الثالثة، فيدعون فلا يجيبون، قال فيقول لهم الرب. أنتم المستهزئون بعبادي؟ أنتم آخر الناس حساباً، فيقومون حتى يغرقوا في عرقهم، فينادون: يا ربنا إما صرفتنا إلى جهنم وإما إلى رضوانك» .

باب ما جاء في ميراث أهل الجنة منازل أهل النار

باب منه وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يؤمر يوم القيامة بأناس إلى الجنة، حتى إذا دنوا منها واستنشقوا رائحتها ونظروا إلى قصورها وإلى ما أعد الله لأهلها فيها نودوا أن أصرفوهم عنها لا نصيب لهم فيها، فيرجعون بحسرة ما رجع الأولون والآخرون بمثلها، فيقولون: يا ربنا لو أدخلتنا النار قبل أن ترينا ما رأيتنا من ثوابك وما أعددت فيها لأوليائك كان أهون علينا، قال: ذلك أردت بكم، كنتم إذا خلوتم بي بارزتموني بالعظائم، وإذا لقيتم الناس لقيتموهم مخبتين، تراءون الناس بخلاف ما تعطوني من قلوبكم، هبتم الناس ولم تهابوني، وأجللتم الناس ولم تجلوني، وتركتم للناس ولم تتركوا لي، فاليوم أذيقكم العذاب الأليم مع ما حرمتكم من الثواب» . ذكره أبو حامد رحمه الله. باب ما جاء في ميراث أهل الجنة منازل أهل النار جاء في الخبر «عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن الله تعالى جعل لكل إنسان مسكناً في الجنة ومسكناً في النار، فأما المؤمنون فيأخذون منازلهم ويرثون منازل الكفار، وتجعل الكفار في منازلهم من النار» . وخرجه ابن ماجه بمعناه «عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما منكم من أحد إلا له منزلان: منزل في الجنة ومنزل في النار، فإذا مات فدخل النار ورث أهل الجنة منزله، فذلك قوله تعالى {أولئك هم الوارثون} » إسناده صحيح. قلت: وهذا بين في أن لكل إنسان منزلاً في الجنة ومنزلاً في النار كما

باب ما جاء في خلود أهل الدارين وذبح الموت على الصراط ومن يذبحه

تقدم. وقد قال ها هنا: ما منكم، فخاطب أصحابه الكرام المنزهين عن الذنوب العظام الموجبة للنيران رضي الله عنهم، وسيأتي لهذا مزيد بيان في أبواب الجنان إن شاء الله تعالى. باب ما جاء في خلود أهل الدارين وذبح الموت على الصراط ومن يذبحه البخاري، «عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صار أهل الجنة إلى الجنة وأهل النار، جيء بالموت حتى يجعل بين الجنة والنار ثم يذبح، ثم ينادي مناد: يا أهل الجنة لا موت، ويا أهل النار لا موت، فيزداد أهل الجنة فرحاً إلى فرحهم، ويزداد أهل النار حزناً إلى حزنهم» . مسلم «عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل أهل الجنة الجنة، وأهل النار النار، يجاء يوم القيامة بالموت كأنه كبش أملح، فيوقف بين الجنة والنار، فيقال يا أهل الجنة: هل تعرفون هذا؟ فيشرئبون وينظرون، فيقولون: نعم! هذا الموت، قال ثم يقال: يا أهل النار: هل تعرفون هذا؟ فيشرئبون وينظرون، فيقولون: نعم! هذا الموت، قال فيؤمر به فيذبح، قال ثم يقال: يا أهل الجنة خلود فلا موت، ويا أهل النار خلود فلا موت فيها، ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم {وأنذرهم يوم الحسرة إذ قضي الأمر وهم في غفلة وهم لا يؤمنون} وأشار بيده إلى الدنيا» . وأخرجه أبو عيسى الترمذي، عن أبي سعيد الخدري يرفعه قال: إذا كان يوم

القيامة أتى بالموت كالكبش الأملح فيوقف بين الجنة والنار فيذبح وهم ينظرون، فلو أن أحداً مات فرحاً لمات أهل الجنة، ولو أن أحداً مات حزناً لمات أهل النار. قال: هذا حديث حسن صحيح. وذكر ابن ماجه في حديث فيه طول «عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يجاء بالموت يوم القيامة فيوقف على الصراط، فيقال يا أهل الجنة: فيطلعون خائفين أن يخرجوا من مكانهم الذي هم فيه، ثم يقال يا أهل النار: فيطلعون مستبشرين فرحين أن يخرجوا من مكانهم الذي هم فيه، فيقال: هل تعرفون هذا؟ قالوا: نعم! هذا الموت، قال فيؤمر به فيذبح على الصراط، ثم يقال للفريقين كليهما: خلود فيما تجدون لا موت فيه أبداً» . خرجه الترمذي بمعناه مطولاً «عن أبي هريرة أيضاً، وفيه: فإذا أدخل الله أهل الجنة الجنة، وأهل النار النار أتى بالموت ملبياً فيوقف على السور الذي بين الجنة وبين النار، ثم يقال يا أهل الجنة: فيطلعون خائفين ثم يقال: يا أهل النار: فيطلعون مستبشرين يرجون الشفاعة، فيقال لأهل الجنة وأهل النار: هل تعرفون هذا؟ فيقول هؤلاء وهؤلاء: عرفناه، هو الموت الذي وكل بنا فيضطجع فيذبح ذبحاً على السور، ثم يقال يا أهل الجنة: خلود لا موت، ويا أهل النار خلود لا موت» ، قال هذا حديث حسن صحيح.

فصل: قلت: هذه الأحاديث مع صحتها نص في خلود أهل النار فيها، لا إلى غاية ولا إلى أمد، مقيمين على الدوام والسرمد من غير موت ولا حياة ولا راحة ولا نجاة، بل كما قال في كتابه الكريم وأوضح فيه من عذاب الكافرين {والذين كفروا لهم نار جهنم لا يقضى عليهم فيموتوا ولا يخفف عنهم من عذابها كذلك نجزي كل كفور * وهم يصطرخون فيها} إلى قوله {من نصير} وقال {كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلوداً غيرها} وقال {فالذين كفروا قطعت لهم ثياب من نار يصب من فوق رؤوسهم الحميم * يصهر به ما في بطونهم والجلود * ولهم مقامع من حديد * كلما أرادوا أن يخرجوا منها من غم أعيدوا فيها} وقد تقدمت هذه المعاني كلها. فمن قال: إنهم يخرخون منها وأن النار تبقى خالية، وبجملتها خاوية على عروشها، وأنها تفنى وتزول، فهو خارج عن مقتضى المعقول ومخالف لما جاء به الرسول، وما أجمع عليه أهل السنة والأئمة العدول. {ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيراً} وإنما نخلى جهنم وهي الطبقة العليا التي فيها العصاة من أهل التوحيد، وهي التي ينبت على شفيرها فيما يقال الجرجير، قال فضل بن صالح المعاقري: كنا عند مالك بن أنس ذات يوم، فقال لنا انصرفوا: فلما كان العشية رجعنا إليه، فقال: إنما قلت لكم انصرفوا لأنه جاءني رجل يستأذن علي زعم أنه قدم من الشام في مسألة، فقال: يا أبا عبد الله، ما تقول في أكل الجرجير، فإنه يتحدث عنه أنه ينبت على شفير جهنم؟ فقلت له: لا بأس به، فقال: أستودعك الله واقرأ عليك السلام. ذكره الخطيب أبو بكر أحمد رحمه الله وذكر أبو بكر البزار، عن عمرو بن ميمون، عن عبد الله بن عمرو بن

العاص قال: يأتي على النار زمان تنفق الرياح أبوابها. ليس فيها أحد، يعني من الموحودين، هكذا رواه موقوفاً من قول عبد الله بن عمرو وليس فيه ذكر النبي صلى الله عليه وسلم. ومثله لا يقال من جهة الرأي، فهو مرفوع. فصل: قد تقدم أن الموت معنى، والكلام في ذلك وفي الأعمال وأنها لا تنقلب جوهراً، بل يخلق الله أشخاصاً من ثواب الأعمال وكذلك الموت يخلق الله كبشاً يسميه الموت، ويلقي في قلوب الفريقين أن هذا هو الموت، ويكون ذبحه دليلاً على الخلود في الدارين. قال الترمذي: والمذهب في هذا عند أهل العلم من الأئمة رضي الله عنهم مثل سفيان الثوري، ومالك بن أنس، وابن المبارك، وابن عيينة، ووكيع وغيرهم. أنهم رووا هذه الأشياء وقالوا: ونروي هذه الأحاديث، ولا يقال: كيف؟ وهذا الذي اختاره أهل الحديث أن تروى هذه الأشياء ويؤمن بها ولا تفسر ولا تتوهم؟ ولا يقال: كيف وهذا أمر أهل العلم الذي اختاروه وذهبوا إليه. قال المؤلف رحمه الله: وإنما يؤتى بالموت كالكبش، والله أعلم لما جاء أن ملك الموت أتى آدم عليه السلام في صورة كبش أملح، قد نشر من أجنحته أربعة آلاف جناح على ما تقدم أول الكتاب في باب: [ما جاء في صفة ذلك الموت عند قبض روح المؤمن والكافر] . وفي التفسير من سورة الملك عن ابن عباس

ومقاتل والكلبي في قوله {الذي خلق الموت والحياة} أن الموت والحياة جسمان، فجعل الموت في هيئة كبش لا يمر بشيء ولا يجد ريحه إلا مات، وخلق الحياة على صورة فرس أنثى بلقاء، وهي التي كان جبريل والأنبياء عليهم السلام يركبونها، خطوط مد البصر، فوق الحمار ودون البغل لا تمر بشيء يجد ريحها إلا حيي، ولا تطأ على شيء إلا حيي، وهي التي أخذ السامري من أثرها فألقاه على العجل فحيي، حكاه الثعلبي والقشيري، عن ابن عباس والماوردي عن مقاتل والكلبي. ومعنى يشرئبون: يرفعون رؤوسهم. والأملح: من الكباش الذي يكون فيه بياض وسواد، والبياض أكثر. قاله الكسائي. وقال ابن الأعرابي: وهو النقي البياض. وذكر صاحب خلع النعلين: أن هذا الكبش المذبوح بين الجنة والنار، أن الذي يتولى ذبحه يحيى بن زكريا عليهما السلام، بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم، وبأمره الأكرم. وذكر في ذبحه كلاماً مناسباً لحياة أهل الجنة وحياة أهل النار. وذكر صاحب كتاب العروس: أن الذي يذبحه جبريل عليه السلام، فالله أعلم. تم كتاب النار بحمد الله العزيز الغفار أجارنا الله منها بمنه بفضله وكرمه ولا رب غيره.

بسم الله الرحمن الرحيم ـ أبواب الجنة وما جاء فيها وفي صفتها ونعيمها

بسم الله الرحمن الرحيم ـ أبواب الجنة وما جاء فيها وفي صفتها ونعيمها وصف الله تعالى الجنات في كتابه وصفاً يقوم العيان في غير ماسورة من القرآن، وأكثر ذلك في سورة الواقعة والرحمن، وهل أتاك حديث الغاشية وسورة الإنسان، وذلك أيضاً نبينا محمد صلى الله عليه وسلم بأوضاح بيان، فنذكر من ذلك ما بلغنا في الأخبار الصحاح والحسان. وعن السلف الصالح أهل الفضل والإحسان رضي الله عنهم وحشرنا معهم آمين. ذكر ابن وهب، قال: «وحدثنا ابن زيد قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم ليقرأ {هل أتى على الإنسان حين من الدهر} وقد أنزلت عليهو عنده رجل أسود قد كان يسأل النبي صلى الله عليه وسلم، فقال له عمر بن الخطاب: حسبك لا تثقل على النبي صلى الله عليه وسلم، قال: دعه يا ابن الخطاب، قال: فنزلت عليه هذه السورة وهو عنده، فلما قرأها عليه وبلغ صفة الجنان زفر زفرة فخرجت نفسه! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أخرج نفس صاحبكم أو أخيكم الشوق إلى الجنة» . باب صفة أهل الجنة في الدنيا قال ابن وهب سمعت ابن زيد يقول: وصف الله أهل الجنة بالمخافة والحزن والبكاء والشفقة في الدنيا، فأعقبهم به النعيم والسرور في الآخرة، وقرأ قول الله عز وجل {إنا كنا قبل في أهلنا مشفقين} قال: ووصف أهل النار بالسرور في الدنيا والضحك فيها والتفكه فقال: {إنه كان في أهله مسرورا * إنه ظن أن لن يحور * بلى} وقد تقدم من صفة أهلها ما فيه كفاية والحمد لله وحده. باب منه ـ وهل تفضل جنة جنة؟ قال الله تعالى {ولمن خاف مقام ربه جنتان} ثم وصفهما، ثم قال بعد ذلك {ومن دونهما جنتان} وعن ابن عباس في تأويل قوله تعالى {ولمن خاف مقام ربه جنتان} أي بعد أداء الفرائض جنتان، قيل: على

حدة، فلكل خائف جنتان. وقيل: جنتان لجميع الخائفين، والأول أظهر. قال الترمذي محمد بن علي: جنة لخوفه من ربه، وجنة لتركه لشهوته، والمقام الوضيع، أي: خاف مقامه بين يدي ربه للحساب فترك المعصية، وقيل: خاف قيام ربه عليه، أي: إشرافه واطلاعه عليه، بيانه: {أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبت} . وقال مجاهد والنخعي: هو الرجل يهم بالمعصية فيذكر الله فيدعها من خوفه. وروي «عن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: الجنتان بستنان في عرض الجنة، كل بستان مسيرة مائة عام، في وسط كل بستان دار من نور على نور، وليس منها شيء إلا يهتز نعمة وخضرة، قرارها ثابت وشجرها نابت» ذكره الهروي والثعلبي أيضاً من حديث أبي هريرة، وقيل: إن إحدى الجنتين أسافل القصور، والأخرى أعاليها. وقال مقاتل: هما جنة عدن وجنة النعيم. وقوله {ومن دونهما جنتان} قال ابن عباس: أي وله من دون الجنتين الأوليين جنتان أخريان، قال ابن عباس: ومن دونهما، أي في الدرج، والجنات لمن خاف مقام ربه فيكون في الأوليين، النخل والشجر، وفي الأخريين: الزرع والنبات وما انبسط. قال الماوردي: ويحتمل أن يكون {ومن دونهما جنتان} لأتباعه لقصور منزلتهم عن منزلته، إحداهما للحور العين،

والأخرى للولدان المخلدين ليتميز فيها الذكور من الإناث. وقال ابن جريج هي أربع جنان: جنتان منها للسابقين المقربين فيهما من كل فاكهة زوجان وعينان تجريان، وجنتان لأصحاب اليمين فيهما فاكهة ونحل ورمان وفيهما عينان تضاختان، وقال ابن زيد: الأوليان من ذهب للمقربين، والأخريان من ورق لأصحاب اليمين. قال المؤلف رحمه الله: وإلى هذا ذهب الحليمي أبو عبد الله الحسن بن الحسين في كتاب منهاج الدين له واحتج لما روى سعيد بن جبير عن ابن عباس، {ولمن خاف مقام ربه جنتان} إلى قوله {مدهامتان} قال: هاتان للمقربين وهاتان لأصحاب اليمين، وعن أبي موسى الأشعري نحو ذلك. ولما وصف الله الجنتين أشار إلى الفرق بينهما: فقال في الأولين {فيهما عينان تجريان} وفي الأخريين {فيهما عينان نضاختان} أي فوارتان بالماء، لكنهما ليستا كالجاريتين لأن النضخ دون الجري، وقال {فيهما من كل فاكهة زوجان} معروف وغريب أو رطب ويابس، فعم ولم يخص، وفي الأخريين {فيهما فاكهة ونخل ورمان} ولم يقل من كل فاكهة، وقال في الأوليين {متكئين على فرش بطائنها من إستبرق} وهو الديباج، وفي الأخريين {متكئين على رفرف خضر وعبقري حسان} . والعبقري: الوشي. ولا شك أن الديباج أعلى من الوشي، والرفرف كسر الخباء ولا شك أن الفرش المعدة للاتكاء عليها أفضل من فضل الخباء، وقال في الأولييم في صفة الحور العيم {كأنهن الياقوت والمرجان} ، وفي الأخريين {فيهن خيرات حسان}

وليس كل حسن كحسن الياقوت والمرجان، وقال في الأوليين {ذواتا أفنان} وفي الأخريين {مدهامتان} أي خضروان كأنهما من شدة خضرتهما سوداوان. ووصف الأوليين بكثرة الأغصان، والأخريين بالخضرة وحدها وفي هذا كله تحقيق للمعنى الذي قصدناه، قوله {ومن دونهما جنتان} ولعل ما لم يذكره من تفاوت ما بينهما أكثر مما ذكر. فإن قيل كيف لم يذكر أهل هاتين الجنتين كما ذكر أهل الجنتين الأوليين؟ قال: الجنان الأربع لمن خاف مقام ربه، إلا أن الخائفين لهم مراتب، فالجنتان الأوليان لأعلى العباد رتبة في الخوف من الله تعالى، والجنتان الأخريان لمن قصر حاله في الخوف من الله تعالى. قال المؤلف رحمه الله: فهذا قول، والقول الثاني أن الجنتين في قوله تعالى: {ومن دونهما جنتان} أعلى وأفضل من الأوليين، ذهب إلى هذا الضحاك، وأن الجنتين الأوليين من ذهب وفضة، والأخريين من ياقون وزمرد. وقوله: {ومن دونهما جنتان} أي ومن أمامهما ومن قبلهما، وإلى هذا القول ذهب أبو عبد الله محمد الترمذي الحكيم في: نوادر الأصول وقال: ومعنى {ومن دونهما جنتان} أي دون هاتين إلى العرش أي أقرب وأدنى إلى العرض، وقال مقاتل الجنتان الأوليان: جنة عدن وجنة النعيم، والأخريان جنة الفردوس وجنة المأوى. قال المؤلف رحمه الله: ويدل على هذا قوله عليه الصلاة والسلام: «إذا

سألتم الله فاسألوه الفردوس» ، الحديث، وسيأتي. قال الترمذي: وقوله {فيهما عينان نضاختان} أي بألوان الفواكه والنعيم والجواري المزينات، والدواب المسرجات والثياب الملونات وهذا يدل على أن النضخ أكثر من الجري. قال المؤلف رحمه الله: على هذا تدل أقوال المفسرين: روي عن ابن عباس نضاختان: أي فوارتان بالماء، والنضخ بالخاء أكثر من النضح بالحاء، وعنه أيضاً أن المعنى نضاختان بالخير والبركة، قاله الحسن ومجاهد، وعن ابن عباس أيضاً وابن مسعود: تنضخ على أولياء بالمسك والكافور والعنبر في دور أهل الجنة، كما ينضخ رش المطر وقال سعيد بن جبير: بأنواع الفواكه والماء. وقوله: فيهما {فاكهة ونخل ورمان} قال بعض العلماء: ليس الرمان والنخل من الفاكهة لأن الشيء لا يعطف على نفسه، وهذا ظاهر الكلام، وقال الجمهور: هما من الفواكه، وإنما أعاد ذكر النخل والرمان لفضلهما على الفواكه، كقوله تعالى {حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى} وقوله {من كان عدوا لله وملائكته ورسله وجبريل وميكال} وقيل إنما كررهما لأن النخل والرمان كانا عندهم في ذلك الوقت

بمنزلة البر عندنا، لأن النخل عامة قوتهم، والرمان كالثمرات، فكان يكثر غرسها عندهم لحاجتهم إليها. وكانت الفواكه عندهم من ألوان الثمار التي يعجبون بها، وإنما ذكر الفواكه ثم ذكر النخل والرمان لعمومها وكثرتهما عندهم من المدينة إلى مكة إلى ما والاهما من بلاد اليمين، فأخرجهما في الذكر من الفواكه وأفرد الفواكه على حدتها. وقوله: {فيهن خيرات حسان} يعني النساء والواحدة خيرة، قاله الترمذي: الخيرة ما اختارهن الله فأبدع خلقهن باختياره، واختيار الله لا يشبه اختيار الآدميين، ثم قال حسان فوصفهن بالحسن، فإذا وصف خالق الشيء شيئاً بالحسن فمن ذا الذي يقدر أن يصف حسنهن؟ فانظر ما هنالك، وفي الأوليين ذكر بأنهن قاصرات الطرف وكأنهن الياقوت والمرجان، فانظركم بين الخيرة وهي مختارة الله وبين قاصرات الطرف؟ ثم قال {حور مقصورات في الخيام} وقال في الأوليين: {فيهن قاصرات الطرف} قصران طرفهن على الأزواج، ولم يذكر أنهن مقصورات: فدل على أن المقصورات أعلى وأفضل. وقد بلغنا في الرواية: أن سحابة مطرت من العرش فخلقن من قطرات الرحمة ثم ضرب على كل واحدة خيمة على شاطئ الأنهار، سعتها أربعون ميلاً وليس لها باب، حتى إذا حل ولى الله بالخيمة انصدعت الخيمة عن باب ليعلم ولي الله أن أبصار المخلوقين من الملائكة والخدم لم تأخذها وهي مقصورة قد قصر بها عن أبصار المخلوقين والله أعلم. ثم قال: {متكئين على رفرف خضر} اختلف في الرفرف، ما هو؟ فقيل: كسر الخباء وجوانب الدرع وما تدلى منها، الواحدة رفرفة. وقيل: الرفرف شيء إذا استوى عليه صاحبه رفرف به وأهوى به كالمرجاج يميناً وشمالاً، ورفعاً وخفضاً. يتلذذ به مع أنيسته واشتقاقه على هذا من رف يرف إذا ارتفع، ومنه

رفة الطائر لتحريكه جناحيه في الهواء، وربما سمي الظليم رفرفاً بذلك، لأنه يرف بجناحيه ثم يعدو. ورفرف الطائر أيضاً إذا حرك جناحيه حول الشيء يريد أن يقع عليه. قال الترمذي الحكيم: فالرفرف أعظم خطراً من العرش، وذكر في الأوليين: {متكئين على فرش بطائنها من إستبرق} وقال هنا {متكئين على رفرف خضر} فالرفرف هو مستقر الولي على شيء إذا استوى عليه الولي رفرف به، أي طار هكذا وهكذا حيث ما يريد كالمرجاح. وروي لنا «حديث المعراج أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما بلغ سدرة المنتهى جاءه الرفرف فتناوله من جبريل وطار به إلى سند العرش، فذكر أنه طار بي ويخفضني ويرفعني حتى وقف بي على ربي ثم لما حان الأنصراف تناوله فطار به خفضاً ورفعاً يهوي به حتى أدله إلى حبريل صلوات الله عليهما» ، وجبريل يبكي ويرفع صوته بالتحميد، والرفرف خادم من الخدم بين يدي الله تعالى له خواص الأمور في محل الدنو والقربة، كما أن البراق دابة يركبها الأنبياء صلوات الله عليهم مخصوصة بذلك في أرضه. فهذا الرفرف الذي سخره الله لأجل الجنتين الدانيتين هو متكأهما وفرشهما، يرفرف بالولي على حافات تلك الأنهار وشطوطها حيث شاء إلى خيام أزواجه الخيرات الحسان. ثم قال: {وعبقري حسان} والعبقري: ثياب منقوشة تبسط، فإذا قال خالق النقوش: إنها حسان، فما ظنك بتلك العباقر، والعبقري: قرية من ناحية اليمن فيما بلغنا ينسج فيها بسط منقوشة، فذكر الله ما خلق في تلك الجنتين من البسط المنقوشة الحسان والرفرف الخضر. إنما ذكر لهم من الجنان ما يعرفون أسماءها هنا، فبان تفاوت هاتين الجنتين.

باب صغة الجنة ونعيمها وما أعد الله لأهلها فيها

وقد روي عن بعض السلف: فإذا هو يشير إلى أن هاتين الجنتين من دونهما، أي أسفل منهما وادون: فكيف يكون مع هذه الصفة أدون فحسبته لم يفهم الصفة ذكره في الأصل التاسع والثمانين من كتاب: نوادر الأصول. فصل: لما قال الله تعالى سبحانه وتعالى {ولمن خاف مقام ربه جنتان} ثم قال: {ومن دونهما جنتان} دل على أن الجنان أربع لا سبع على ما يأتي بيانه إن شاء الله تعالى. باب صغة الجنة ونعيمها وما أعد الله لأهلها فيها مسلم «عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول الله تعالى عز وجل:

أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر ذخراً بله ما أطلعتكم عليه، ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم {فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين} » بله: بمعنى: غير. وقيل: اسم من أسماء الأفعال بمعنى دع. ابن ماجه «عن أسامة بن زيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ذات يوم لأصحابه: ألا مشمر للجنة؟ بأن الجنة لا خطر لها، هي ورب الكعبة نور يتلألأ وريحانة تهتز، وقصر مشيد، ونهر مطرد، وفاكهة كثيرة نضيجة، وزوجة حسناء جميلة، وحلل كثيرة في مقام أبد في جدة ونضرة، في دار عالية سليمة بهية، قالوا: نحن المشمرون لها يا رسول الله قال: قولوا إن شاء الله. ثم ذكر الجهاد وحض عليه» . الترمذي «عن أبي هريرة قال: قلت يا رسول الله مم خلق الخلق؟ قال: من الماء قلت: الجنة ما بناؤها؟ قال: لبنة من فضة، ولبنة من ذهب بلاطها المسك الأذفر، وحصباؤها اللؤلؤ والياقوت، وتربتها الزعفران. من دخلها ينعم لا ييأس، ويخلد لا يموت، لا تبلى ثيابهم، ولا يفنى شبابهم» . ذكر الحديث. قال ليس إسناده ذلك بالقوي، وليس هو عندي بمتصل، وقد روي هذا الحديث بإسناد آخر عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم. قال المؤلف رحمه الله: خرجه أبو داود الطيالسي في سنده قال: «حدثنا إبراهيم بن معاوية، عن سعيد الطائي، قال: حدثني أبو المدله، مولى أم المؤمنين أنه سمع أبا هريرة يقول: قلنا يا رسول الله لماذا كنا عندك رقت قلوبنا

باب ما جاء في أنهار الجنة وجبالها وما جاء في الدنيا منها

وكنا من أهل الآخرة، فإذا فارقناك وشممنا النساء والأولاد أعجبتنا الدنيا؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لو أنكم تكونون إذ فارقتموني كما تكونون عندي لصافتحكم الملائكة بأكفها ولزارتكم في بيوتكم، ولو كنتم لا تذنبون لجاؤ الله بقوم يذنبون كي يستغفروا فيغفر لهم. قلنا: يا رسول الله أخبرنا عن الجنة. ما بناؤها؟ قال: لبنة من ذهب، ولبنة من فضة، وبلاطها المسك الأذفر، وحصباؤهما الدر والياقوت، وترابها الزعفران، من يدخلها يبقى لا ييأس، ويخلد لا يموت، ولا تبلى ثيابه، ولا يفنيى شبابه» . مسلم «عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لابن صياد: ما تربة الجنة؟ قال: درمكة بيضاء مسك يا أبا القاسم، قال: صدقت» . وعنه أن «ابن صياد سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن تربة الجنة فقال: ما درمكة بيضاء مسك خالص» . ابن المبارك قال أخبرنا معمر عن قتادة، عن العلاء بن يزيد، عن أبي هريرة قال: حائط الجنة لبنة من فضة ولبنة من ذهب، ودرجها اللؤلؤ والياقوت، قال: وكنا نحدث أن رضاختها اللؤلؤ، وترابها الزعفران. قلت: كل هذا مرفوع حسب ما تقدم في هذا الباب ويأتي. باب ما جاء في أنهار الجنة وجبالها وما جاء في الدنيا منها قال الله تعالى: {مثل الجنة التي وعد المتقون فيها أنهار من ماء غير آسن، وأنهار من لبن لم يتغير طعمه وأنهار من خمر لذة للشاربين وأنهار من عسل مصفى} . وروي أنها تجري في غير أخدود. منضبطة بالقدرة.

ويروي «عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: أنهار في الجنة تخرج من تحت تلال أو جبال مسك» ، ذكره العقيلي. وذكر إسماعيل بن إسحاق قال: «حدثنا إسماعيل بن أبي إدريس، قال: حدثني كثير بن عبد الله بن عمر بن عوف، عن أبيه، عن جده قال: قال رسول الله أربعة جبال من جبال الجنة، وأربعة أنهار من أنهار الجنة، وأربعة ملاحم من ملاحم الجنة، قيل فمن الأجبل؟ قال: جبل أحد، يحبنا ونحبه، والطور: جبل من جبال الجنة، ولبنان: جبل من جبال الجنة والجودي: جبل من جبال الجنة، والأنهار: النيل والفرات وسيحان وجيحان. والملاحم: بدر، وأحد، والخندق، وخيبر» . وبالسند المذكور قال: «غزونا مع النبي صلى الله عليه وسلم أول غزوة غزاها الأبواء حتى إذا كنا بالروحاء نزل بعرق الظبية فصلى بهم، ثم قال: هل تدرون ما اسم هذا الجبل؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: هذا خصيب جبل من جبال الجنة، اللهم فبارك فيه وبارك لأهله، وقال: للروحاء: هذه سجاسج واد من أودية الجنة، لقد صلى في هذا المسجد قبلي سبعون نبياً، ولقد مر بها موسى عليه السلام، عليه عباءتان قطونيتان على ناقة ورد في سبعين ألفاً من بني إسرائيل حتى جاء البيت العتيق» ، الحديث. وسيأتي تمامه إن شاء الله تعالى.

باب منه وما جاء في رفع هذه الأنهار آخر الزمان عند خروج يأجوج ومأجوج، ورفع القرآن والعلم

الترمذي «عن حكيم بن معاوية، عن أبيه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن في الجنة بحر الماء، وبحر اللين، وبحر العسل، وبحر الخمر، ثم تنشق الأنهار بعد ذلك» . قال: أبو عيسى: هذا حديث صحيح، وحكيم بن معاوية هو والد بهز بن حكيم. مسلم «عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: سيحان وجيحان والنيل والفرات كل من أنهار الجنة، وقال كعب: نهر دجلة نهر بالجنة، ونهر الفرات نهر لبنهم، ونهر مصر نهر خمرهم، ونهر سيحان نهر عسلهم، وهذه الأنهار الأربعة تخرج من نهر الكوثر» . وذكر البخاري من طريق شريك «عن أنس في حديث الإسراء، فإذا هو في السماء الدنيا بنهرين يطردان، فقال: ما هذان يا جبريل؟ قال: النيل والفرات عنصرهما، ثم مضى في السماء، فإذا هو بنهر آخر عليه قصر من اللؤلؤ والزبرجد فضرب بيده فإذا هو مسك أذفر، قال: ما هذا جبريل؟ قال: هذا الكوثر الذي خبأ لك ربك» . باب منه وما جاء في رفع هذه الأنهار آخر الزمان عند خروج يأجوج ومأجوج، ورفع القرآن والعلم ذكر أبو جعفر النحاس قرئ على أبي يعقوب إسحاق بن إبراهيم بن يونس، «عن جامع بن سوادة، قال حدثنا سعيد بن سابق، حدثنا مسلمة بن علي، عن مقاتل بن حيان عن عكرمة، عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:

باب من أين تفجر أنهار الجنة؟

أنزل الله عز وجل إلى الأرض خمسة أنهار: سيحون وهو نهر الهند، وجيحون وهو نهر بلخ، ودجلة والفرات وهما نهر العراق، والنيل وهو نهر مصر، أنزلها الله من عين واحدة من عيون الجنة في أسفل درجة من درجاتها، على جناحي جبريل عليه السلام فاستودعها الجبال وأجراها في الأرض وجعل فيها منافع للناس في أصناف معايشهم، وذلك قوله جل ثناؤه: {وأنزلنا من السماء ماء بقدر فأسكناه في الأرض} فإذا كان عند خروج يأجوج ومأجوج أرسل الله جبريل رفع من الأرض القرآن والعلم وجميع الأنهار الخمسة، فيرفع ذلك إلى السماء، فذلك قوله تعالى: {وإنا على ذهاب به لقادرون} فإذا رفعت هذه الأشياء من الأرض فقد أهلها خير الدنيا والدين» . قلت: رفع القرآن عند خروج يأجوج ومأجوج فيه نظر، وسيأتي بيانه آخر الكتاب إن شاء الله تعالى. وروي عن المسعودي أنه قال: مد الفرات على عهد ابن مسعود فكره الناس مده، فقال ابن مسعود: لا تكرهوا مده فإنه سيأتي زمان يلتمس فيه طست مملوء من ماء فلا يوجد، وذلك حين يرجع كل ماء إلى عنصره، فيكون بقية الماء والعيون بالشام، وسيأتي بيان هذا إن شاء الله تعالى. باب من أين تفجر أنهار الجنة؟ البخاري «عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من آمن بالله ورسوله وأقام الصلاة وصام رمضان كان حقاً على الله أن يدخله الجنة،

باب ما جاء أن الخمر شراب أهل الجنة ومن شربه في الدنيا لم يشربه في الآخرة وفي لباس أهل الجنة وآنيتهم

هاجر في سبيل الله أو جلس في أرضه التي ولد فيها، قالوا يا رسول الله: أفلا نبشر الناس؟ قال إن في الجنة، مائة درجة أعدها الله للمجاهدين في سبيل الله، ما بين الدرجتين كما بين السماء والأرض، فإذا سألتم الله فاسألوه الفردوس فإنه أوسط الجنة وأعلى الجنة وفوقه عرش الرحمن، ومنه تفجر أنهار الجنة» . خرجه ابن ماجه أيضاً وغيره. وقال أبو حاتم البستي: معنى قوله: فإنه أوسط الجنة يريد في الارتفاع، وقال قتادة: الفردوس ربوة الجنة وأوسطها وأعلاها وأفضلها وأرفعها. وقد قيل: إن الفردوس اسم يشمل جميع الجنة، كما أن جهنم اسم لجميع النيران كلها لأن الله تعالى مدح في أول سورة المؤمنين أقواماً وصفهم، ثم قال: {هم الوارثون * الذين يرثون الفردوس هم فيها خالدون} ثم أعاد ذكرهم في سورة المعارج فقال: {أولئك في جنات مكرمون} فعلمنا أن الفردوس جنات لا جنة واحدة، قاله وهب بن منبه. باب ما جاء أن الخمر شراب أهل الجنة ومن شربه في الدنيا لم يشربه في الآخرة وفي لباس أهل الجنة وآنيتهم النسائي «عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: من لبس الحرير في

الدنيا لم يلبسه في الآخرة ومن شرب الخمر في الدنيا لم يشربه في الآخرة، ومن شرب في آنية الذهب والفضة لم يشرب بها في الآخرة، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لباس أهل الجنة وشراب أهل الجنة وآنية أهل الجنة» . قلت: إن قال قائل: قد سوى النبي صلى الله عليه وسلم بين الأشياء الثلاثة وأنه يحرمها في الآخرة فهل يحرمها إذا دخل الجنة؟ قلنا: نعم! إذا لم يتب منها، لقوله عليه الصلاة والسلام: «من شرب الخمر في الدنيا ثم لم يتب منها حرمها في الآخرة» ، خرجه مالك، «عن نافع عن ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم، وكذلك لابس الحرير، ومن أكل في آنية الذهب والفضة، أو شرب فيها لاستعجاله ما أخر الله له في الآخرة، وارتكاب ما حرم الله عليه في الدنيا» . وقد روى أبو داود الطيالسي في مسنده قال: «حدثنا هشام، عن قتادة، عن داود السراج، عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من لبس الحرير في الدنيا لم يلبسه في الآخرة، وإن دخل الجنة لبسه أهل الجنة ولم يلبسه هو» . وهذا نص صريح، وإسناد صحيح، فإن كان وإن دخل الجنة لبسه أهل الجنة ولم يلبسه من قوله النبي صلى الله عليه وسلم فهو الغاية في البيان، وإن كان من قول الراوي على ما ذكر أنه موقوف، فهو أعلم بالمقال، وأقعد بالحال، ومثله لا يقال من جهة الرأي، وسيأتي لهذا الباب مزيد بيان.

باب ما جاء في أشجار الجنة وفي ثمارها وما يشبه ثمر الجنة في الدنيا

باب ما جاء في أشجار الجنة وفي ثمارها وما يشبه ثمر الجنة في الدنيا الترمذي «عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول الله عز وجل أعدت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر. اقرأوا إن شئتم {فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين} وفي الجنة سجرة يسير الراكب في ظلها مائة عام لا يقطعها. واقرأوا إن شئتم {وظل ممدود} وموضع سوط في الجنة خير من الدنيا وما فيها، واقرأوا إن شئتم {فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور} » . قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح. ابن المبارك، «عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن الجنة شجرة يسير الراكب في ظلها سبعين أو قال مائة سنة، وهي شجرة الخلد» ، قال: وأخبرنا ابن أبي خلدة عن زياد مولى بني مخزوم، سمع أبا هريرة يقول: في الجنة شجرة يسير الراكب في ظلها مائة سنة. واقرأوا إن شئتم {وظل ممدود} فبلغ ذلك كعباً فقال: صدق والذي

أنزل التوراة على لسان موسى بن عمران والفرقان على محمد صلى الله عليه وسلم لو أن رجلاً ركب حقة أو جذعة ثم دار في أصل تلك الشجرة وما يبلغها حتى يسقط هرماً. إن الله تعالى غرسها بيده ونفخ فيها من روحه وإن أفنائها لمن وراء سور الجنة وما في الجنة نهر إلا ويخرج من أصل تلك الشجرة. الترمذي «عن أسماء بنت أبي بكر قالت سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ـ وذكر لها سدرة المنتهى ـ قال: يسير الراكب في ظل الفنن منها مائة سنة أو يستظل بظلها مائة راكب ـ شك يحيى ـ فيها فراش الذهب ـ كأن ثمرها القلال» . قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح. وذكر عبد الرزاق، قال: «أخبرنا معمر عن قتادة عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لما رفعت لي سدرة المنتهى في السماء السابعة. نبقها مثل قلال هجر وورقها مثل آذان الفيلة يخرج من ساقها نهران ظاهران، ونهران باطنان، قلت: يا جبريل ما هذه؟ قال: أما الباطنان ففي الجنة، وأما الظاهران، فالنيل والفرات» . قلت: كله لفظ مسلم إلا قوله: نبقها مثل قلال هجر. أخرجه الدارقطني في سننه، قال: حدثنا أبو بكر النيسابوري حدثنا محمد بن يحيى قال: حدثنا عبد الرزاق فذكره. وخرج البخاري أيضاً «من حديث قتادة قال: حدثنا أنس بن مالك عن

مالك ابن صعصعة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الحديث حديث الإسراء وفيه: ورفعت لي سدرة المنتهى فإذا نبقها كأنه قلال هجر وورقها كأنه آذان الفيلة. وفي أصلها أربعة أنهار: نهران ظاهران، ونهران باطنان» . وذكر الحديث. وفي حديث ابن مسعود سدرة المنتهى: صبر الجنة، قال أبو عبيدة: صبرها أعلاها. وكذلك صبر كل شيء أعلاه، والجمع: أصبار. قال النمر بن تولب يصف روضة: غرست وباكرها الربيع نديمة ... وطفاء تملؤها إلى أصبارها يعني إلى أعاليها وهي جماعة للصبر، وقال الأحمر: الصبر جانب

الشيء، لغتان: صبر، وبصر، كما قالوا: جبذ وجذب، وقال أبو عبيد: ـ وقول أبي عبيدة أعجب ـ إلى أن يكون في أعلاها من أن يكون في جانبها. ابن المبارك قال: «حدثنا صفوان عن سليم بن عامر قال: كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يقولون: إنه لتنفعنا الأعراب ومسائلهم قال: أقبل أعرابي يوماً، فقال يا رسول الله: لقد ذكر الله في القرآن شجرة مؤذية وما كنت أرى في الجنة شجرة تؤذي صاحبها؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وما هي؟ قال: السدر فإن له شوكاً مؤذياً فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أو ليس يقول الله تعالى {في سدر مخضود} خضد شوكه فجعل مكان كل شوكة ثمرة، فإنها تنبت ثمراً، تفتق الثمر منها على إثنين وسبعين لوناً وطعام ما فيه لون يشبه الآخر ويروى التمر بالتاء باثنين فيها كلها» ، قاله أبو محمد عبد الحق. وذكر عبد الرزاق، «أخبرنا معمر، عن يحيى بن أبي كثير، عن عمرو بن يزيد البكالي عن عتبة بن عبد السلمي قال: جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فسأله عن

الجنة وذكر له الحوض فقال فيها فاكهة؟ قال: نعم فيها شجرة تدعى طوبى قال يا رسول الله أي شجر أرضنا يشبهه؟ قال: لا يشبهه شيء من شجر أرضك، أتيت الشام؟ هنالك شجرة تدعى الجوزة تنبت على ساق ويفرش أعلاها، قال يا رسول الله فما أعظم أصلها؟ قال لو ارتحلت جذعة من إبل أهلك ما أحاطت بأصلها حتى تنكسر قوتها هرماً، قال فهل فيها عنب؟ قال: نعم! قال: فما عظم العنقود منها؟ قال: مسيرة الغراب شهراً لا يقع ولا يفتر، قال: فما عظم الحبة منها؟ قال: أما أعمد أبواك وأهلك إلى جذعة فذبحوها وسلخ إهابها؟ فقال: افروا لنا منها دلواً، فقال يا رسول الله: إن تلك الحبة لتشبعني وأهل بيتي؟ قال: نعم وعامة عشيرتك» ، ذكره أبو عمر في التمهيد بإسناده وهو إسناد صحيح. وذكر مسلم «من حديث ابن عباس في صلاة الكسوف، قالوا يا رسول الله رأيناك تناولت في مقامك شيئاً، ثم رأيناك تكعكعت؟ فقال: إني رأيت الجنة فتناولت منها عنقوداً، ولو أخذته لأكلتم منها ما بقيت في الدنيا» ، تكعكعت، معناه تأخرت، يقال منه: كع يكع كعوعاً تأخر، والكع: الضعيف العاجر، قال الشاعر:

ولكني أمضي على ذاك مقدماً ... إذا بعض من لا قى الخطوب تكعكعاً وذكر ابن المبارك: حدثنا المسعودي عن عمرو بن مرة، عن أبي عبيدة قال: نخل الجنة نضيد من أصلها إلى فرعها، وثمرها كأمثال القلال، كلما نزعت ثمرة عادت مكانها أخرى، وإن ماءها ليجري في غير أخدود، والعنقود اثنا عشر ذراعاً، ثم أتى على الشيخ، فقال: من حدثك بهذا؟ قال: مسروق. وذكر ابن وهب من حديث شهر بن حوشب، عن أبي أمامة الباهلي قال: طوبى شجرة في الجنة! ليس منها دار إلا فيها غصن منها، ولا طير حسن إلا وهو فيها، ولا ثمرة إلا وهي فيها. وذكر الخطيب أبو بكر أحمد عن إبراهيم بن نوح قال: سمعت مالك بن أنس يقول: ليس في الدنيا من ثمارها شيء يشبه ثمار الجنة إلا الموز لأن الله تعالى يقول: {أكلها دائم وظلها} وإننا نجد الموز في الشتاء والصيف. وذكر الثعلبي بإسناده من حديث الأوزاعي، «عن يحيى بن أبي كثير قال: حدثني الثقة عن أبي ذر، قال: أهدى للنبي صلى الله عليه وسلم طبق من تين، فأكل منه وقال لأصحابه: كلوا. فلو قلت إن فاكهة نزلت من السماء قلت: هذه، لأن فاكهة الجنة بلا عجم، فكلوها فإنها تقطع البواسير وتنفع من النقرس» ذكره القشيري أبو نصر وهذا أتم.

باب في كسوة الجنة وكسوة أهلها

قلت: ورأيت بخط الفقيه الإمام المحدث أبي الحسن علي بن خلف الكوفي أبي شيخنا أبي القاسم عبد الله وحدث حديثاً عليه سماع جماعة على أبي الفرج محمد بن أبي حاتم محمود بن أبي الحسن القزويني في ربيع الأول سنة ثمان وتسعين وأربعمائة قال: «حدثنا أبو جعفر محمد بن زيد الجعفري في شوال سنة ثمان وثلاثين وأربعمائة قال: حدثنا أبي قال: حدثنا يحيى بن الحسين الحسيني قال: حدثنا عقيل بن سمرة، حدثنا علي ابن حماد الغازي، حدثنا عباس ابن أحمد قال: حدثنا أبو بكر بن عياش عن أبي إسحاق عن عاصم بن ضمرة عن علي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا علي فكهوا بالبطيخ وعظموه فإن ماءه من الجنة وحلاوته من حلاوة الجنة وما من عبد أكل منها لقمة إلا أدخل الله جوفه سبعين دواء وأخرج منه سبعين داء وكتب الله له بكل لقمة عشر حسنات ومحا عنه عشر سيئات ورفع له عشر درجات ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم {وأنبتنا عليه شجرة من يقطين} » قال: الدباء والبطيخ من الجنة. باب في كسوة الجنة وكسوة أهلها قال الله تعالى {ويلبسون ثياباً خضراً من سندس وإستبرق} وقال {ولباسهم فيها حرير} . وذكر ابن هناد السري قال: «حدثنا أبو الأحوص عن أبي إسحاق عن البراء ابن عازب قال: أهدى لرسول الله سرقة من حرير فجعلوا يتداولونها بينهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أتعجبون منها؟ قالوا: نعم يا رسول الله.

باب ما جاء أن شجر الجنة وثمارها تنفتق عن ثياب الجنة وخيلها ونجبها

قال: والدي نفسي بيده لمناديل سعد بن معاذ في الجنة خير منها» ، قال هناد بن السري: «وحدثنا قبيصة عن حماد بن سلمة، عن محمد بن عبد الرحمن بن عمرو بن سعد بن معاذ أن عطادر بن حاجب أهدى لرسول الله صلى الله عليه وسلم ثوباً من ديباج كساه إياه كسرى فاجتمع إليه الناس فجعلوا يلمسونه ويعجبون ويقولون يا رسول الله: أنزل عليك هذا من السماء؟ فقال: ما تعجبون! فو الذي نفسي بيده لمناديل سعد بن معاذ في الجنة خير من هذا. يا غلام إذهب بهذا إلى أبي جهم وجئنا بأنبجانيته» . باب ما جاء أن شجر الجنة وثمارها تنفتق عن ثياب الجنة وخيلها ونجبها ابن المبارك أخبرنا معمر عن الأشعث بن عبد الله، عن شهر بن حوشب، عن أبي هريرة قال: في الجنة شجرة يقال لها طوبى يقول الله تعالى: تفتقي لعبدي ما شاء فتنفتق له عن فرس بسرجه ولجامه وهيأته كما يشاء وتنفتق له عن الراحلة برحلها وزمامها وهيأتها كما يشاء، عن النجائب والثياب. النسائي، «عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: بينما نحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ جاء رجل فقال يا رسول الله: أخبرنا عن ثياب أهل الجنة، أخلقاً تخلق أو نسجاً تنسج؟ فضحك بعض القوم. فقال: مم تضحكون؟ إن جاهلاً يسأل عالماً، فيجلس يسيراً أو قليلاً، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أين السائل عن ثياب

باب ليس في الجنة شجرة إلا وساقها من ذهب

الجنة؟ فقالوا: ها هو ذا يا رسول الله، قال: لا. بل تنفتق عنها ثمر الجنة. قالها ثلاثاً» . والله أعلم. باب ليس في الجنة شجرة إلا وساقها من ذهب الترمذي، «عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما في الجنة شجرة إلا وساقها من ذهب» قال حديث حسن غريب وسيأتي لهذا مزيد بيان آنفاً في الباب بعد هذا إن شاء الله تعالى. باب ما جاء في نخيل الجنة وثمرها وخيرها ابن المبارك، قال أخبرنا سفيان عن حماد بن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: نخل الجنة جذوعها زمرد أخضر وكرمها ذهب أحمر وسعفها كسوة لأهل الجنة منها مقطعاتهم وحللهم وتمرها أمثال القلال. والدلاء. أشد بياضاً من اللبن وأحلى من العسل، وألين من الزبد ليس فيها عجم. ابن وهب، قال: «وحدثنا ابن زيد قال: قال رجل يا رسول الله. هل في الجنة من نخل. فإني أحب النخل؟ قال: أي والذي نفسي بيده لها جذوع من ذهب، وكرانيف من ذهب، وجريد من ذهب وسعف كأحسن حلل يراها

باب في الزرع في الجنة

امرؤ من العالمين وعراجين من ذهب وشماريخ وكرانيف من ذهب، وأقماع من ذهب، وثمارها كالقلال، وألين من الزبد وأحلى حلاوة من العسل» . وذكر أبو الفرج بن الجوزي، «عن جرير بن عبد الله البجلي، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أخذ عوداً بيده فقال: يا جرير لو طلبت في الجنة مثل هذا العود لم تجده، قال فقلت فأين النخل والشجر؟ قال: أصولها اللؤلؤ والذهب. وأعلاها الثمر» . باب في الزرع في الجنة البخاري «عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: كان يوماً يحدث وعنده رجل من أهل البادية أن رجلاً من أهل الجنة استأذن ربه في الزرع فقال له: أو لست فيما شئت، قال: بلى! ولكني أحب أن أزرع فأسرع وبذر فبادر الطرف نباته واستواؤه واستحصاده وتكويره أمثال الجبال، فيقول الله: دونك يا ابن آدم فإنه لا يشبعك شيء، فقال الأعرابي يا رسول الله: لا تجد هذا إلا قرشياً أو أنصارياً. فإنهم أصحاب زرع. فأما نحن فلنسا بأصحاب زرع، فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم» . باب ما جاء في أبواب الجنة وكم هي؟ ولمن هي؟ وفي تسميتها وسعتها قال الله تعالى: {حتى إذا جاؤوها وفتحت أبوابها} قال

جماعة من أهل العلم: هذه واو الثمانية فللجنة ثمانية أبواب. واستدلوا بقوله عليه الصلاة والسلام: «ما منكم من أحد يتوضأ فيبلغ أو فيسبغ الوضوء، ثم يقول: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، إلا فتحت له أبواب الجنة الثمانية يدخل من أيها شاء» . رواه عمر بن الخطاب، خرجه مسلم. وجاء في تعيين هذه الأبواب لبعض العلماء كما جاء في حديث الموطأ وصحيح البخاري ومسلم «عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: من أنفق زوجين في سبيل الله نودي في الجنة يا عبد الله هذا خير فمن كان من أهل الصلاة دعي من باب الصلاة، ومن كان من أهل الجهاد دعي من باب الجهاد، ومن كان من أهل الصدقة دعي من باب الصدقة، ومن كان من أهل الصيام دعي من باب الريان فقال أبو بكر: يا رسول الله ما على أحد يدعى من هذه الأبواب من ضرورة فهل يدعى أحد من هذه الأبواب؟ قال: نعم! وأرجو أن تكون منهم» . قال القاضي عياض: ذكر مسلم في هذا الحديث من أبواب الجنة أربعة وزاد غيره بقية الثمانية فذكر منها: باب التوبة، وباب الكاظمين الغيظ. وباب الراضين، والباب الأيمن الذي يدخل منه من لا حساب عليه. قلت: فذكر الترمذي الحكيم أبو عبد الله أبواب الجنة في نوادر الأصول فذكر باب محمد صلى الله عليه وسلم، وهو باب الرحمة، وهو باب التوبة، فهو منذ خلقه الله مفتوح لا يغلق، فإذا طلعت الشمس من مغربها أغلق فلم يفتح إلى يوم القيامة، وسائر الأبواب مقسومة على أعمال البر. فباب منها للصلاة، وباب

للصوم، وباب للزكاة والصدقة، وباب للحج، وباب للجهاد، وباب للصلة، وباب للعمرة، فزاد باب الحج، وباب العمرة، وباب الصلة، فعلى هذا أبواب الجنة أحد عشر باباً. وقد ذكر الآجري أبو الحسن «عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن في الجنة باباً يقال له باب الضحى فإذا كان يوم القيامة ينادي مناد أين الذين كانوا يداومون على صلاة الضحى؟ هذا بابكم فادخلوه» ، ذكره في كتاب النصيحة ولا يبعد أن يكون لنا ثالث عشر على ما ذكره أبو عيسى الترمذي «عن سالم بن عبد الله عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: باب أمتي الذين يدخلون منه الجنة عرضه مسيرة الراكب المجد ثلاثاً، ثم إنهم ليضغطون بعليه حتى تكاد مناكبهم تزول» . قال الترمذي: سألت محمداً، يعني البخاري عن هذا الحديث فلم يعرفه، قال لخالد بن أبي بكر مناكير عن سالم بن عبد الله. قلت: فقوله باب أمتي يدل على أنه لسائر أمته، فمن لم يغلب عليه عمل يدعى به وعلى هذا يكون ثالث عشر، ولهذا يدخلون مزدحمين، وقد تقدم أن أكثر أهل الجنة البله فالله أعلم. ومما يدلة على أنها أكثر من ثمانية «حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من توضأ فأسبغ الوضوء ثم قال أشهد أن لا إله إلا الله

وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صادقاً من نفسه أو قلبه، شك أيهما قال فتح له من أبواب الجنة ثمانية أبواب يوم القيامة، يدخل من أيها شاء» . خرجه الترمذي وغيره قال أبو عمر بن عبد البر في كتاب التمهيد هكذا قال فتح له من أبواب الجنة، وذكر أبو داود والنسائي وابن سنجر فتحت له أبواب الجنة الثمانية، ليس فيها ذكر من، فعلى هذا أبواب الجنة ثمانية كما قالوا. قلت: قد ذكرنا أنها أكثر من ثمانية وبالله توفيقنا، وأما كون الواو في وفتحت أبوابها واو الثمانية، وأن أبواب الجنة كذلك ثمانية أبواب، فقد جاء ما يدل على أنها ليست كذلك في قوله تعالى {هو الله الذي لا إله إلا هو الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر} ، فخلو المتكبر وهو ثامن اسم من الواو يدل على بطلان ذلك القول وتضعيفه. وقد بيناه في سورة براءة، والكهف من كتاب جامع أحكام القرآن والحمد لله. وقد خرج مسلم، عن خالد بن عمير، قال: خطبنا عتبة بن غزوان، وكان أميراً على البصرة فحمد الله وأثنى عليه، وذكر الحديث على ما تقدم، وفيه: ولقد ذكر لنا أن ما بين المصراعين من مصاريع

الجنة مسيرة أربعين سنة وليأتين عليه يوم وهو كظيظ من الزحام، الحديث. وخرج «عن أنس في حديث الشفاعة، والذي نفس محمد بيده إن ما بين المصراعين من مصاريع الجنة لكما بين مكة وهجر، أو كما بين مكة وبصرى» وخرج «عن سهل بن سعد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ليدخلن الجنة من أمتي سبعون ألفاً وأو سبعمائة ألف، لا يدري أبو حازم أيهما قال متماسكون آخذ بعضهم بعضاً، لا يدخل أولهم حتى يدخل آخرهم، ووجوههم على صورة القمر ليلة البدر» فهذه الأحاديث مع صحتها تدل على أنها أكثر من الثمانية إذ هي غير ما تقدم، فيحصل منها والحمد لله على هذا ستة عشر باباً. وقد ذكر الإمام أبو القاسم عبد الكريم القشيري في كتاب التحبير وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الخلق الحسن طوق من رضوان الله عز وجل في عنق صاحبه، والطوق مشدود إلى سلسلة من الرحمة، والسلسلة مشدودة إلى حلقة من باب الجنة، حيث ما ذهب الخلق الحسن جرته السلسلة إلى نفسها تدخله من ذلك باب إلى الجنة والخلق السوء: طوق من سخط الله في عنق صاحبه والطوق مشدود إلى سلسلة من عذاب الله، والسلسلة مشدودة من باب النار، حيث ما ذهب الخلق السوء جرته السلسلة إلى نفسها تدخله من ذلك الباب إلى النار»

وذكر صاحب الفردوس «من حديث ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: للجنة باب يقال له الفرح، لا يدخل منه إلا من فرح الصبيان» . فصل: قوله: من أنفق زوجين في سبيل الله، قال الحسن البصري: يعني إثنين من كل شيء: دينارين، درهمين، ثوبين، خفين، وقيل: يريد شيئين ديناراً ودرهماً، درهماً وثوباً، خفاً ولجاماً ونحو هذا. وقال الباجي، يحتمل أن يريد بذلك العمل من صلاتين أو صيام يومين. قلت: والأول من التفسير أولى، لأنه مروي عن النبي المصطفى صلى الله عليه وسلم: وذكر الآجري «عن أبي ذر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: من أنفق زوجين في سبيل الله ابتدرته حجبة الجنة ثم قال صلى الله عليه وسلم: بعيرين، درهمين، قوسين، نعلين» وأما ما جاء من سعة أبواب الجنة، فيحتمل أن يكون بعضها سعته كذا، وبعضها سعته كذا كما ورد في الأخبار فلا تعارض والحمد لله.

باب منه روى البخاري ومسلم، «عن سهل بن سعد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن في الجنة باباً يقال له الريان، يدخل منه الصائمون فيدخلون منه، فإذا دخل آخرهم أغلق فلم يدخل منه أحد» . قلت: وهكذا والله أعلم سائر الأبواب المختصة بالأعمال. وجاء في حديث أبي هريرة: إن من الناس من يدعى من جميع الأبواب، فقيل: ذلك الدعاء دعاء تنويه وإكرام وإعظام ثواب العاملين تلك الأعمال إذ قد جمعها ونيله ذلك، ثم يدخل من الباب الذي غلب عليه العمل. وفي صحيح مسلم، «عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من أصبح منكم اليوم صائماً؟ قال أبو بكر: أنا، فمن تيع منكم اليوم جنازة؟ قال أبو بكر: أنا، قال: فمن أطعم منكم اليوم مسكيناً؟ قال أبو بكر: أنا، قال: فمن عاد منكم اليوم مريضاً؟ قال أبو بكر: أنا، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما اجتمعن في امرئ إلادخل الجنة» . باب منه خرج أبو داود الطيالسي في مسنده قال: «حدثنا جعفر بن الرزبير الحنفي، عن القاسم مولى يزيد بن معاوية، عن أبي أمامة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: انطلق برجل إلى باب الجنة فرفع رأسه فإذا على باب الجنة مكتوب الصدقة بعشر أمثالها، والقرض الواحد بثمانية عشر، لأن صاحب القرض لا يأتيك إلا

باب ما جاء في درج الجنة وما يحصلها للمؤمن

وهو محتاج، والصدقة ربما وضعت في يدي غني» . خرجه ابن ماجة في السنن، قال: «حدثنا عبيد الله بن عبد الكريم، حدثنا هشام بن خالد، حدثنا خالد بن يزيد أبي مالك عن أبيه، عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: رأيت ليلة أسري بي على باب الجنة مكتوب الصدقة بعشر أمثالها، والقرض بثمانية عشر، فقلت لجبيرل: ما بال القرض أكثر من الصدقة؟ قال لأن السائل يسأل وعنده، والمستقرض لا يستقرض إلا من حاجة» . باب ما جاء في درج الجنة وما يحصلها للمؤمن الترمذي رحمه الله، «عن عطاء بن يسار عن معاذ بن جبل قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: الجنة مائة درجة، كل درجة منها ما بين السماء والأرض وإن أعلاها الفردوس وأوسطها الفردوس وإن العرش على الفردوس، منها تفجر أنهار الجنة، فإذا سألتم الله فاسألوه الفردوس» قال الترمذي: عطاء هذا لم يدرك معاذ بن جبل. قلت: قد خرجه البخاري من حديث أبي هريرة رضي الله عنه كما تقدم، فهو صحيح متصل. وذكر ابن وهب قال: «أخبرني عبد الرحمن بن زياد بن أنعم أنه سمع عتبة بن عبيد الضبي يذكر عمن حدثه أن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال يا رسول الله: كم في الجنة من درجة؟ قال: مائة درجة ما بين كل درجتين كما بين

السماء والأرض أول درجة منها دورها وبيوتها وأبوابها وسررها، ومغاليقها من فضة، والدرجة الثانية دورها وبيوتها وأبوابها وسررها ومغاليقها من ذهب، والدرجة الثالثة دورها وبيوتها وأبوابها وسررها، ومغاليقها من ياقوت ولؤلؤ وزبرجد، وسبع وتسعون درجة لا يعلم ما هي إلا الله» . الترمذي «عن أبي سعيد الخدري، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن الجنة مائة درجة لو أن العالمين اجتمعوا في إحداهن لوسعتهم» ، قال: هذا حديث غريب. ابن ماجه، «عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يقال لصاحب القرآن إذا دخل الجنة اقرأ واصعد، فيقرأ ويصعد بكل آية درجة حتى يقرأ آخر شيء معه» . وخرجه أبو داود، «عن عبد الله بن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يقال لصاحب القرآن اقرأ وارتق ورتل في الدنيا فإن منزلتك عند آخر آية تقرؤها» . وذكر أبو حفص عمر بن عبد المجيد القرشي الميانشي في كتاب الاختبار في اللح من الأخبار والآثار «عن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: درج الجنة على عدد آي القرآن، لكل آية درجة. فتلك ستة آلاف ومائتا آية وستة عشر آية، بين كل درجتين مقدار ما بين السماء والأرض، وينتهى به إلى أعلى

عليين، لها سبعون ألف ركن وهي ياقوتة تضيء مسيرة أيام وليالي» . وقالت عائشة رضي الله عنها: إن عدد آي القرآن على عدد درج الجنة، فليس أحد دخل الجنة أفضل ممن قرأ القرآن. ذكره مكى رحمه الله. فصل: قال علماؤنا رحمة الله عليهم: حملة القرآن وقراؤه هم العالمون بأحكامه وبحلاله وحرامه والعاملون بما فيه. وقال مالك: قد يقرأ القرآن من لا خير فيه، وقد تقدم حديث العباس بن عبد المطلب في أبواب النار، وحديث أبي هريرة فيمن تعلم العلم وقرأ القرآن عجباً ورياء، ما فيه لمن كفاية لمن تدبر. وروى أبو هدبة إبراهيم بن هدبة قال: «حدثنا أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من تعلم القرآن وعلمه ولم يأخذ بما فيه وحرفه كان عليه شهيداً ودليلاً إلى جهنم، ومن تعلم القرآن وأخذ بما فيه كان له شهيداً ودليلاً إلى الجنة» . وفي البخاري: «مثل المؤمن الذي يقرأ القرآن ويعمل به كلأترجة، طعمها طيب وريحها طيب، والمؤمن الذي لا يقرأ القرآن ويعمل به كالثمرة طعمها طيب ولا ريح لها» ، وذكر الحديث. وقد أشبعنا القول فيه في قارئ القرآن وأحكامه في كتاب التذكار في فضل الأذكار وفي مقدمة: جامع أحكام القرآن ما فيه كفاية

باب ما جاء في غرف الجنة ولمن هي؟

والحمد لله. وقد تقدم: أن في الجنة مائة درجة أعدها الله للمجاهدين في سبيله فالجهاد يحصل مائة درجة، وقراءة القرآن تحصل جميع الدرجات، والله المستعان على ذلك والإخلاص فيه بمنه وفضله. باب ما جاء في غرف الجنة ولمن هي؟ قال الله تعالى: {لكن الذين اتقوا ربهم لهم غرف من فوقها غرف مبنية} الآية. وقال: {إلا من آمن وعمل صالحاً فأولئك لهم جزاء الضعف بما عملوا وهم في الغرفات آمنون} وقال: {أولئك يجزون الغرفة بما صبروا} . وروى مسلم «عن سهل بن سعد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إن أهل الجنة ليتراءون أهل الغرف من فوقهم كما تتراءون الكوكب الدري الغائر في الأفق من المشرق أو المغرب لتفاضل ما بينهم، قالوا يا رسول الله: تلك منازل الأنبياء لا يبلغها غيرهم؟ قال: بلى والذي نفسي بيده رجال آمنوا بالله وصدقوا المرسلين» . وخرج الترمذي الحكيم، أخبرنا صالح بن محمد قال: «حدثنا سليمان بن عمرو عن أبي حازم عن سهل بن سعد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى {أولئك يجزون الغرفة بما صبروا} وقوله {هم في الغرفات آمنون} قال: الغرفة من ياقوتة حمراء أو زبرجدة خضراء أو درة بيضاء ليس فيها فصم ولا وصل، وإن أهل الجنة ليتراءون الغرفة منها كما تتراءون الكوكب الشرقي أو الغربي في أفق السماء، وإن أبا بكر وعمر منهم وأنعما» . قال: «وحدثنا صالح بن عبد الله وقتيبة بن سعيد وعلي بن حجر قالوا: حدثنا خلف بن خليفة، عن حميد الأعرج، عن عبد الله بن الحارث، عن

عبد الله بن مسعود عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إن المتحابين في الله تعالى لعلى عمود من ياقوتة حمراء في رأس العمود سبعون ألف غرفة يضيء حسنهم أهل الجنة كما تضيء الشمس أهل الدنيا. يقول أهل الجنة بعضهم لبعض: انطلقوا بنا حتى ننظر إلى المتحابين في الله عز وجل فإذا أشرفوا عليهم أضاء حسنهم أهل الجنة كما تضيء الشمس أهل الدنيا. عليهم ثياب خضر من سندس. مكتوب على جباههم هؤلاء المتحابون في الله عز وجل» . وذكر الثعلبي «من حديث عمران بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إن أهل عليين لينظرون إلى الجنة فإذا أشرف رجل من أهل عليين أشرقت الجنة لضياء وجهه فيقولون ما هذا النور؟ فيقال أشرف رجل من أهل عليين الأبرار أهل الطاعة والصدق» . «وروى أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن أهل الغرف ليتراءون عليين كما تتراءون الكوكب الدري في أفق السماء وإن أبا بكر وعمر منهم وأنعما» وذكره الثعلبي. الترمذي «عن علي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن في الجنة لغرفاً يرى ظهورها من بطونها وبطونها من ظهورها، فقام إلبه أعرابي فقال: لمن هي يا رسول الله؟ قال: لمن أطاب الكلام وأطعم الطعام وأدام الصيام وصلى لله بالليل والناس نيام» . وذكر أبو نعيم الحافظ «من حديث محمد واسع، عن الحسن، عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم فقال: ألا أخبركم بغرف الجنة؟ غرفاً من ألوان الجواهر يرى ظاهرها من باطنها

وباطنها من ظاهرها، فيها من النعيم والثواب والكرامات ما لا أذن سمعت، ولا عين رأت، فقلنا: بأبينا أنت وأمنا يا رسول الله، لمن تلك؟ فقال: لمن أفشى السلام، وأدام الصيام، وأطعم الطعام، وصلى والناس نيام، فقلنا: بأبينا أنت وأمنا يا رسول الله، ومن يطيق ذلك؟ فقال: أمتي تطيق ذلك، وسأخبركم من يطيق ذلك، من لقى أخاه المسلم فسلم عليه فقد أفشى السلام، ومن أطعم أهله وعياله من الطعام حتى يشبعم فقد أطعم الطعام، ومن صام رمضان ومن كل شهر ثلاثة أيام فقد أدام الصيام، ومن صلى العشاء الأخيرة في جماعة فقد صلى والناس نيام: اليهود والنصارى والمجوس» . فصل: اعلم أن هذه الغرف مختلفة في العلو والصفة بحسب اختلاف أصحابها في الأعمال، فبعضها أعلى من بعض وأرفع، وقوله الغائر من المشرق أو المغرب يروى بالياء اسم فاعل، من غار. وقد روى مسلم في غير الغارب بتقديم الراء، والمعنى واحد. وروي الغابر بالياء بواحدة، ومعناه الذاهب أو الباقي، فإن غبر من الأضداد، يقال غير إذا ذهب، وغير إذا بقي، ويعني به أن الكوكب حالة طلوعه وغروبه بعيد عن الأبصار فيظهر صغيراً لبعده، وقد بينه بقوله من المشرق أو المغرب. وقد روي العازب بالعين المهملة والزاي، أي البعيد ومعنيها كلها متقاربة المعنى.

وقوله: والذي نفسي بيده رجال آمنوا بالله وصدقوا المرسلين ولم يذكر عملاً ولا شيئاً سوى الإيمان والتصديق للمرسلين، وذلك ليعلم أنه عنى الإيمان البالغ وتصديق المرسلين من غير سؤال آية ولا تلجلج، وإلا فكيف تنال الغرفات بالإيمان والتصديق الذي للعامة، ولو كان كذلك كان جميع الموحدين في أعالي الغرفات وأرفع الدررجات، وهذا محال، وقد قال الله تعالى {أولئك يجزون الغرفة بما صبروا} والصبر بذل النفس الثبات له وقوفاً بين يديه بالقلوب عبودية وهذه صفة المقربين. وقال في آية أخرى {وما أموالكم ولا أولادكم بالتي تقربكم عندنا زلفى إلا من آمن وعمل صالحاً فأولئك لهم جزاء الضعف بما عملوا وهم في الغرفات آمنون} فذكر شأن الغرفة وأنها لا تنال بالأموال والأولاد، وإنما تنال بالإيمان ولعمل الصالح، ثم بين لهم جزاء الضعف وأن محلهم الغرفات، يعلمك أن هذا إيمان طمأنينة وتعلق قلب مطمئناً به في كل ما نابه، وبجميع أموره وأحكامه، فإذا عمل عملاً صالحاً فلا يخلطه بضده وهو الفاسد. فلا يكون العمل الصالح الذي لا يشوبه فساد إلا مع إيمان بالغ مطمئن صاحبه بمن آمن وبجميع أموره وأحكامه، والمخلط ليس إيمانه وعمله هكذا. فلهذا كانت منزلته دون غيره. قلت: ذكره الترمذي الحكيم رحمة الله عليه وهذا واضح بين، وقد قال تعالى {إن الأبرار يشربون من كأس كان مزاجها كافورا} وقال: {ومزاجه من تسنيم * عينا يشرب بها المقربون} فلما باين بين الأبرار والمقربين في الشراب على ما يأتي بيانه، باين بينهم في

المنازل والدرجات وأعالي الغرفات حسب ما باين بينهم في الأعمال الصالحات بالاجتهاد في الطاعات. قال الله تعالى: {كلا إن كتاب الأبرار لفي عليين} فيجتهد الإنسان أن يكون من الأبرار المقربين ليكون في عليين وأصحاب عليين جلساء الرحمن، وهم أصحاب المنابر من النور في المقعد الصدق وقال تعالى: {فأما من أوتي كتابه بيمينه} إلى قوله {فهو في عيشة راضية * في جنة عالية} فأصحاب اليمين في علو الجنان أيضاً وجميعها عوالي وجنات المقربين جميعها علالي وإحداهن عليه كقول الشاعر: ألا يا عين ويحك أسعديني ... بغزر الدمع في ظلم الليالي لعلك في القيامة أن تفوزي ... بخير الدار في تلك العلالي باب منه «روي من حديث أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن في الجنة لغرفاً ليس لهامغاليق من فوقها ولا عماد من تحتها، قيل يا رسول الله، وكيف يدخلها أهلها؟ قال: يدخلونها أشباه الطير، قيل: هي يا رسول الله لمن؟ قال: لأهل الأسقام والأوجاع والبلوى» خرجه أبو القاسم زاهر بن محمد بن محمد الشحامي. باب منه روى الليث بن سعد قال: «حدثنا محمد بن عجلان أن وافد البصري،

باب ما جاء في قصور الجنة ودورها وبيوتها وبما ينال ذلك المؤمن

أخبره عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ليؤتين برجال يوم القيامة ليسوا بأنبياء ولا شهداء تغبطهم الأنبياء والشهداء بمنازلهم من الله، يكونون على منابر من نور. قالوا: ومن هم يا رسول الله؟ قال: هم الذين يحببون الله إلى الناس فكيف يحببون الناس إلى الله؟ قال: يأمونهم بالمعروف وينهونهم عن المنكر فإذا أطاعوهم أحبه الله تعالى» . باب ما جاء في قصور الجنة ودورها وبيوتها وبما ينال ذلك المؤمن خرج الآجري «عن الحسن قال: سألت عمران بن حصين وأبا هريرة رضي الله عنهما عن تقسير هذه الآية {ومساكن طيبة} فقالا: على الخبيرسقطت سألنا عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: قصر من لؤلؤة في الجنة في ذلك القصر سبعون داراً من ياقوتة حمراء في كل دار سبعون بيتاً من زبرجدة خضراء في كل بيت سيعون سريراً على كل سرير سبعون فراشاً من كل لون، وعلىكل فراش سبعون امرأة من الحور العين في كل بيت سبعون مائدة، على كل مائدة سبعون لوناً من الطعام، في كل بيت سبعين وصيفاً ووصيفة فيعطي الله تبارك وتعالى المؤمن من القوة في غداة واحدة ما يأتي علىذلك كله» ذكره في كتاب النصيحة.

وذكر ابن وهب قال: «أخبرنا ابن زيد عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنه ليجاء للرجل الواحد بالقصر من اللؤلؤة الواحدة في ذلك القصر سبعون غرفة في كل غرفة زوجة من الحور العين في كل غرفة سبعون باباً يدخل عليه من كل باب رائحة من رائحة الجنة سوى الرائحة التي تدخل من الباب الآخر، وقرأ قول الله عز وجل {فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين} » . الترمذي «عن بريد بن الخصيب قال: أصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم فدعا بلالاً فقال: يا بلال بما سبقتني إلى الجنة؟ فما دخلت الجنة إلا سمعت خشخشتك أمامي فأتيت على قصر مربع مشرف من ذهب فقلت لمن هذا القصر قالوا لرجل عربي فقلت أنا عربي لمن هذا القصر قالوا لرجل من قريش. قلت أنا قرشي لمن هذا القصر. قالوا لرجل من أمة محمد. قلت أنا من أمة محمد. قلت: أنا محمد لمن هذا القصر؟ قالوا لعمر بن الخطاب. فقال بلال يا رسول الله ما أذنت قط إلا صليت ركعتين وما أصابني حدث إلا توضأت عنده ورأيت أن لله تعالى علي ركعتين، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بهما» قال: حديث حسن صحيح. وخرج الطبراني أبو القاسم سليمان بن أحمد مختصراً من «حديث أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: دخلت الجنة فإذا أنا بقصر من ذهب، فقلت لمن هذا؟ فقالوا لعمر بن الخطاب» .

باب ما جاء في قوله تعالى: " وفرش مرفوعة "

وذكر الدارمي أبو محمد في مسنده، قال: «حدثنا عبد الله بن بريد قال: حدثنا حيوة، قال أخبرني أبو عقيل أنه سمع سعيد بن المسيب يقول إن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال: من قرأ قل هو الله أحد عشر مرات بني له قصر في الجنة، ومن قرأها عشرين مرة بني له قصران في الجنة، ومن قرأها ثلاثين مرة بني له ثلاث قصور في الجنة. فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: إذا لتكثرن قصورنا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الله أوسع من ذلك» قال الدارمي أبو عقيل زاهر بن معبد زعموا أنه كان من الأبدال، وقد تقدم من حديث سمرة أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل دارالشهداء أو دار المؤمنين. وخرج أبو داود الطيالسي قال: «حدثنا حماد بن زيد عن أبي سنان قال: دفنت ابني سناناً وأبو طلحة الخولاني على شفير القبر فقال، حدثني الضحاك بن عبد الرحمن عن أبي موسى قال: قال رسول الله: إذا قبض الله عز وجل ابن العبد قال للملائكة ماذا قال عبدي؟ قالوا: أحمدك واسترجع. قال: ابنوا له بيتاً في الجنة وسموه بيت الحمد» . باب ما جاء في قوله تعالى: " وفرش مرفوعة " باب ما جاء في قوله تعالى: وفرش مرفوعة الترمذي «عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى {وفرش مرفوعة} قال: ارتفاعها لكما بين السماء والأرض مسيرة

باب ما جاء في خيام الجنة وأسواقها وتعارف أهل الجنة في الدنيا وعبادتهم فيها

خمسمائة عام» قال أبو عيسى: هذا حديث حسن غريب لا نعرفه إلا من حديث رشدين بن سعد. وقال بعض أهل العلم في تفسير هذا الخبر: الفرش في الدرجات وبين الدرجات كما بين السماء والأرض. قلت: وقد قيل: إن الفرش كناية عن النساء اللواتي في الجنة، والمعنى نساء مرتفعات الأقدار في حسنهن وكمالهن والعرب تسمي المرأة فراشاً ولباساً وإزاراً ونعجة على الاستعارة، لأن الفرش محل النساء وفي الحديث «الولد للفراش وللعاهر الحجر» وقال الله تعالى {هن لباس لكم} الآية. قال: {إن هذا أخي له تسع وتسعون نعجة ولي نعجة واحدة} . باب ما جاء في خيام الجنة وأسواقها وتعارف أهل الجنة في الدنيا وعبادتهم فيها مسلم «عن أبي موسى الأشعري أن رسول الله قال: في الجنة خيمة من لؤلؤ مجوفة عرضها ستون ميلاً في كل زاوية منها أهل للمؤمن ما يرون الآخرين يطوف عليهم المؤمن» في رواية. قال: الخيمة درة طولها في السماء ستون ميلاً في كل زاوية منها أهل للمؤمن ما يرون الآخرين. وخرج مسلم أيضاً «عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: قال: إن

في الجنة لسوقاً يأتونها كل جمعة فتهب ريح الشمال فتحثو في وجوههم وثيابهم المسك فيزدادون حسناً وجمالاً فيرجعون إلى أهلهم وقد ازدادوا حسناً وجمالاً لهم أهلهم والله لقد ازددتم بعدنا حسناً وجمالاً» . الترمذي «عن سعيد بن المسيب أنه لقي أبي هريرة، فقال أبو هريرة أسأل الله أن يجمع بيني وبينك في سوق الجنة. فقال سعيد أفيها سوق؟ قال: نعم، وذكر الحديث وفيه: فتأتي سوقاً قد حفت به الملائكة. فيه مالم تنظر العيون إلى مثله ولم تسمع الآذان ولم يخطر على القلوب، فيحمل لنا ما اشتهينا ليس يباع فيها ولا يشتري، وفي ذلك السوق يلقى أهل الجنة بعضهم بعضاً قيقبل ذو المنزلة المرتفعة فيلقى من هو دونه وما فيهم دني فيروعه ما عليه من اللباس، فما ينقضي آخر حديثه حتى يتمثل عليه ما هو أحسن منه وذلك أنه لا ينبغي لأحد أن يحزن فيها» . وذكر الحديث في طريقه أبو العشرين وهو ضعيف. وخرجه ابن ماجه مكملاً وفيه بعد قوله قال نعم: «أخبرني رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إن أهل الجنة إذا دخلوا الجنة نزلوا فيها بفضل أعمالهم فيؤذن لهم في مقدار يوم الجمعة من أيام الدنيا فيرون الله ويبرز لهم عرشه ويبدو لهم في روضة من رياض الجنة فتوضع لهم منابر من نور، ومنابر من لؤلؤ، ومنابر من ياقوت، ومنابر من زبرجد، ومنابر من ذهب، ومنابر من فضة ويجلس أدناهم وما فيهم

دني على كثبان المسك والكافور ما يرون بأن أصحاب الكراسي بأفضل منهم مجلساً» . «قال أبو هريرة، قلت يا رسول الله هل نرى ربنا؟ قال: نعم هل تتمارون في رؤية الشمس والقمر ليلة البدر؟ قلنا: لا. قال: كذلك لا تمارون في رؤية ربكم عز وجل ولا يبقى في ذلك المجلس أحد ألا حاضره الله محاضرة حتى إنه يقول للرجل منكم ألا تذكر يا فلان يوم عملت كذا وكذا يذكره بعض غدراته في الدنيا فيقول: يا رب ألم تغفر لي؟ فيقول بلى فبسعة مغفرتي بلغت منزلتك هذه فبينما هم كذلك إذ غشيتهم سحابة من فوقهم فأمطرت عليهم طيباً لم يجدوا مثل ريحه شيئاً قط. ثم يقول قوموا إلى ما أعددت لكم من الكرامة فخذوا مااشتهيتم. قال: فيأتون سوقاً» الحديث بلفظه ومعناه إلى أن قال: وذلك أنه لا ينبغي لأحد أن يحزن فيها. قال: «ثم ننصرف إلى منازلنا فتلقانا أزواجنا فيقلن مرحباً وأهلاً لقد جئت وإن بك من الجمال والطيب أفضل مما فارقتنا عليه، فيقولون إنا جالسنا اليوم ربنا الجبار وبحقنا أن نتقلب بمثل ما انقلبنا» وخرج الترمذي أيضاً «عن علي عليه السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن في الجنة لسوقاً ما فيها بيع ولا شراء إلا الصور من الرجال والنساء فإذا اشتهى الرجل صورة دخل فيها» قال: هذا حديث غريب. وروى أبو هدبة إبراهيم بن هدبة قال: «حدثنا أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن في الجنة أسواقاً لا شراء فيها ولا بيع. أهل الجنة لما أفضوا إلى روح الجنة جلسوا متكيئن على لؤلؤ رطب وترابها مسك يتعارفون في تلك الجنان كيف كانت الدنيا، وكيف كانت عبادة الرب، وكيف

باب لا يدخل الجنة أحد إلا بجواز

يحيى الليل ويصام النهار، وكيف كان فقر الدنيا وغناؤها، وكيف كان الموت، وكيف صرنا بعد طول البلاء من أهل الجنة» والله أعلم. باب لا يدخل الجنة أحد إلا بجواز خرج أبو بكر الخطيب أحمد بن علي «من حديث عبد الرزاق، عن الثوري عن عبد الرحمن بن زياد بن أنعم، عن عطاء بن يسار، عن سلمان الفارسي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يدخل الجنة أحد إلا بجواز بسم الله الرحمن الرحيم هذا كتاب من الله لفلان ابن فلان أدخلوه جنة عالية قطوفها دانية» ذكره أحمد بن حنبل في مسنده. فلت: لعل هذا فيمن لا يدخل الجنة بغير حساب وذلك بين في الباب بعد هذا. باب أول الناس يسبق إلى الجنة الفقراء ابن المبارك قال: «أخبرنا عبد الوهاب بن الورد قال: قال سعيد بن المسيب جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أخبرني يا رسول الله بجلساء الله يوم القيامة. قال: هم الخائفون الخاضعون المتواضعون الذاكرون الله كثيراً قال يا رسول الله: أفهم أول الناس يدخلون الجنة؟ قال: لا قال: فمن أول الناس يدخل الجنة؟ قال: الفقراء يسبقون الناس إلى الجنة فيخرج إليهم منها ملائكة فيقولون: ارجعوا إلى

الحساب فيقولون على ما نحاسب والله ما أفيض علينا من الأموال في الدنيا شيء فنقبض فيها ونبسط وما كنا أمراء نعدل ونجوز، ولكنا جاءنا أمر الله فعبدناه حتى أتانا اليقين فيقال: ادخلوا الجنة فنعم أجر العاملين» . وروي عن النبي أنه قال: «اتقوا الله في الفقراء فإنه يقول يوم القيامة أين صفوتي من خلقي؟ فتقول من هم يا ربنا؟ فيقول: الفقراء الصابرون الراضون بقدري أدخلوهم الجنة. قال فيدخلون الجنة يأكلون ويشربون والأغنياء في الحساب يترددون» . الترمذي «عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فقراء المهاجرين يدخلون الجنة قبل أغنيائهم بخمسمائة عام» من حديث الأعمش سليمان عن عطية العوفي عن أبي سعيد وقال فيه حديث حسن غريب من هذا الوجه. «وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يدخل الفقراء الجنة قبل الأغنياء بخمسمائة عام نصف يوم» هذا حديث حسن غريب حسن صحيح. وفي طريق أخرى: «يدخل فقراء المسلمين قبل الأغنياء بنصف يوم وهو خمسمائة عام» : قال: حديث حسن صحيح. وروي «عن أبي الدرداء قال: حدثني عمر بن الخطاب قال: سمعت

رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن فقراء المسلمين يدخلون الجنة قبل الأغنياء بنصف يوم. قيل له: يا رسول الله وما نصف يوم؟ قال: خمسمائة سنة قيل له: فكم السنة من شهر؟ قال خمسمائة شهر قيل له: فكم الشهر من يوم؟ قال: خمسمائة يوم قيل له: فكم اليوم؟ قال: خمسمائة مما تعدون» ذكره العقبي في عيون الأخبار له. «وعن جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: يدخل المسلمين الجنة قبل الأغنياء بأربعين خريفاً» قال: هذا حديث حسن صحيح، وخرجه من حديث أنس أيضاً، وقال فيه حديث غريب. وفي صحيح مسلم من حديث «عبد الله بن عمرو قال: سمعت صلى الله عليه وسلم يقول: إن فقراء المهاجرين يسبقون الأغنياء يوم القيامة إلى الجنة بأربعين خريفاً» . فصل: قال المؤلف رحمه الله: اختلاف هذه الأحاديث يدل على أن الفقراء مختلفوا الحال وكذلك الأغنياء، وقد تقدم حديث أبي بكر بن أبي شيبة أول ثلاثة يدخلون الجنة: ولا تعارض والحمد لله، فإن الحديثين مختلفا المعاني، وقد اختلف في

أي فقراء هم السابقون وفي مقدار المدة التي بها يسبقون ويرتفع الخلاف عن الموضع الأول بأن يرد مطلق حديث أبي هريرة إلى مقيد روايته الأخرى، وكذلك حديث جابر يرد أيضاً إلى حديث عبد الله بن عمرو، ويكون المعنى فقراء المسلمين المهاجرين إذ المدة فيها أربعين خريفاً، ويبقى حديث أبي سعيد الخدري في المدة بخمسمائة عام في فقراء المهاجرين، وكذلك حديث أبي الدرداء في فقراء المسلمين بنصف يوم خمسمائة سنة. ووجه الجمع بينهما أن يقال إن سباق الفقراء من المهاجرين يسبقون سباق الأغنياء منهم بأربعين خريفاً وغير سباق الأغنياء بخمسمائة عام، وقد قيل: إن حديث أبي هريرة وأبي الدرداء وجابر يعم جميع فقراء قرون المسلمين، فيدخل الجنة سباق فقراء كل قرن قبل غير السباق من أغنيائهم بخمسمائة عام على حديث أبي هريرة وأبي الدرداء. وقيل: السباق بأربعين خريفاً على ما تقدم من حديث جابر والله أعلم. فصل: قلت: وقد احتج بأحاديث هذا الباب من فضل الفقراء على الغني وقد اختلف الناس في هذا المعنى وطال فيه الكلام بينهم حتى صنفوا فيه كتباً وأبواباً، واحتج كل فريق لمذهبه في ذلك والأمر قريب. وقد سئل أبو علي الدقاق: أي الوصفين أفضل: الغنى أو الفقر، فقال: الغنى؟ لأنه الحق والفقر وصف الخلق، ووصف

الحق أفضل من وصف الخلق، قال الله تعالى {يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله والله هو الغني الحميد} وبالجملة: فالفقير بالحقيقة العبد وإن كان له مال وإنما يكون غنياً إذا عول على مولاه ولم ينظر إلى أحد سواه، فإن تعلق باله بشيء من الدنيا ورأى نفسه أنه فقير إليه فهو عبده. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «تعس عبد الدينار» الحديث خرجه البخاري وغيره، وقد كتبناه عليه وبيناه والحمد لله. وإنما شرف العبد افتقاره إلى مولاه وعزه وخضوعه له. ولقد أحسن من قال: إذا تذللت الرقاب تواضعاً ... منا إليك فعزها في ذلها فالغني المعلق الباب بالمال الحريص عليه الراغب فيه هو الفقير حقيقة وخادمه الذي يقول ما أبالي به ولا لي رغبة فيه، وإنما هي ضرورة العيش فإذا وجدتها فغيرها زيادة تشغل عن الإرادة فهو الغني حقيقة. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ليس ني عن كثرة العرض إنما الغني غنى النفس» خرجه مسلم وأخذ عثمان بن سعدان الموصلي هذا المعنى فقال: تقنع بما يكفيك واستعمل الرضى ... فإنك لا تدري أتصبح أم تمسي فليس الغنى عن كثرة المال. إنما الغنى والفقر من قبل النفس

وقد أشبعنا القول في هذا في كتاب قمع الحرص وقد بقيت. قلت: هنا درجة ثالثة رفيعة وهي الكفاف التي سألها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال «اللهم اجعل رزق آل محمد قوتاً» وفي رواية «كفافاً» خرجه مسلم. ومعلوم أنه عليه الصلاة والسلام لا يسأل إلا أفضل الأحوال وأسنى المقامات والأعمال، وقد اتفق الجميع على أن ما أحوج من الفقر مكروه وما أبطر من الغنى مذموم. وفي سنن ابن ماجه «عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما من غني ولا فقير إلا يود يوم القيامة أنه أوتي من الدنيا قوتاً» الكفاف: حالة متوسطة بين الغنى والفقر، وقد قال عليه الصلاة والسلام: «خير الأمور أوسطها» فهي حالة سليمة من آفات الغنى المطغى وآيات الفقر المدقع الذي كان يتعوذ منهما النبي صلى الله عليه وسلم فكانت أفضل منهما. ثم إن حالة صاحب الكفاف حالة الفقير الذي لا يترفه في طيبات الدنيا ولا في زهرتها، فكانت حاله إلى الفقير أقرب. لقد حصل له ما حصل للفقير من الثواب على الصبر وكفى مرارته وآفاته، وعلى هذا فأهل الكفاف هم إن شاء الله صدر كتيبه الفقراء الداخلين الجنة قبل الأغنياء بخمسمائة عام لأنهم وسطهم، والوسط العدل كما قال الله تعالى {وكذلك جعلناكم أمة وسطاً لتكونوا شهداء على الناس} أي عدولاً خياراً وليسوا من الأغنياء كما ذكرنا.

باب منه الترمذي، عن ابن عمر قال: خطبنا عمر بالجابية فقال: [يا أيها الناس إني قمت فيكم كمقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فينا فقال أوصيكم بأصحابي ثم الذين يلونهم، ثم بفشوا الكذب حتى يحلف الرجل ولا يستخلف، ويشهد الشاهد، ولا يتشهد، ولا يخلون رجل بامرأة لا تحل له إلا كان ثالثهما الشيطان، عليكم بالجماعة وإياكم والفرقة فإن الشيطان مع الواحد وهو من الإثنين أبعد، من أراد بحبوحة الجنة فليلزم الجماعة، ومن سرته حسنته وساءته سيئته فذلكم المؤمن] . قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح غريب. باب منه ما جاء في صفة أهل الجنة ومراتبهم وسنهم وطولهم وشبابهم وعرقهم وثيابهم وأمشاطهم ومجاهرهم وأزواجهم، وفي لسانهم وليس في الجنة عزب. مسلم «عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن أول زمرة يدخلون الجنة وفي رواية: من أمتي على صورة القمر ليلة البدر، ثم الذين يلونهم على أشد كوكب دري في السماء أضاء. وفي رواية: ثم هم بعد ذلك منازل. لا يبولون ولا يتغوطون ولا يتفلون ولا يتمخطون، أمشاطهم الذهب. وفي رواية: الفضة ورشحهم المسك ومجاهرهم وأزواجهم الحور العين.

وفي رواية: لكل واحد منهم زوجتان يرى مخ ساقيها من وراء اللحم من الحسن لا اختلاف بينهم ولا تباغض، قلوبهم قلب واحد يسبحون بكرة وعشياً» . قال أبو علي: الألوة: هو العود. وفي رواية: أخلاقهم على خلق رجل واحد عل طول أبيهم. وفي رواية: على صورة أبيهم ستون ذراعاً في السماء. وقال أبو كريب: على خلق رجل واحد. وقال أبي هريرة حين تذاكروا: الرجال في الجنة أكثر أم النساء؟ فقال لكل رجل منهم زوجتان اثنتان يرى مخ ساقيها من وراء اللحم وما في الجنة عزب. الترمذي «عن الله بن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن المرأة من اهل الجنة ليرى ساقيها من وراء سبعين حلة حتى يرى مخها. وذلك بأن الله سبحانه وتعالى يقول: {كأنهن الياقوت والمرجان} فأما الياقوت فإنه حجر لو أدخلت فيه سلكاً ثم استصفيته لرأيته» . وروى موقوفاً عن البخاري «عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لو أن امرأة من أهل الجنة اطلعت إلى أهل الأرض لأضاءت ما بينهما ولملأته ريحاً ولنصيغها على رأسها خير من الدنيا وما فيها» .

الترمذي «عن شهر بن حوشب، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أهل الجنة جرد مرد كحل لا يفنى شبابهم ولا تبلى ثيابهم» قال: حديث غريب. وخرج عنه أيضاً، «عن عبد الرحمن بن غنم، عن معاذ بن جبل أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: يدخل أهل الجنة الجنة جرداء مرداء مكحلين أبناء ثلاثين أو ثلاث وثلاثين سنة» قال: حديث غريب، وروى عن قتادة مرسلاً. وذكر الميانش «من حديث جابر بن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: أهل الجنة مرد إلا موسى بن عمران فإن لحية إلى سرته» . الترمذي، «عن سعد بن أبي وقاص، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لو أن ما يقله ظفر مما في الجنة بدا إلى الدنيا لتزخر له ما بين خوافق السموات والأرض، ولو أن رجلاً من أهل الجنة اطلع فبدت أساور، لطمس ضوء الشمس كما تطمس الشمس ضوء النجوم» قال: حديث حسن غريب. «وعن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من مات من أهل الجنة من صغير وكبير يرون بني ثلاثين في الجنة لا يزيدون عليها ولا ينقصون وكذلك

أهل النار» . قال: حديث حسن غريب لا نعرفه إلا من حديث رشدين. فصل: في حديث أبي هريرة لكل واحد منهم زوجتان، وقد تقدم من حديث عمران بن حصين: [أن أقل ساكني الجنة النساء] . قال علماؤنا: لم يختلفوا في جنس النساء وإنما اختلفوا في نوع من الجنس وهو نساء الدنيا ورجالها أيهما أكثر في الجنة فإن كانوا اختلفوا في المعنى الأول وهو جنس النساء مطلقاً، فحديث أبي هريرة حجة، وإن كانوا اختلفوا في نوع من الجنس وهم أهل الدنيا فالنساء في الجنة أقل. قلت: يحتمل أن يكون هذا في وقت كون النساء في النار، وأما بعد خروجهن في الشفاعة ورحمة الله تعالى حتى لا يبقى فيها أحد ممن قال لا إله إلا الله، فالنساء في الجنة أكثر، وحينئذ يكون لكل واحد منهم زوجتان من نساء الدنيا، وأما الحور العين فقد تكون لكل واحد منهم الكثير منهن. «وفي حديث أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن أدنى أهل الجنة منزلة الذي له ثمانون ألف خادم واثنتان وسبعون زوجة» ذكره الترمذي وقال فيه: حديث غريب. ومثله حديث أبي أمامة خرجه أبو محمد الدارمي وسيأتي والأخبار دالة على هذا.

وقوله وأمشاطهم الذهب والفضة ومجامرهم الألوة. وقد يقال هنا أي حاجة في الجنة للامتشاط ولا تتلبد شعورهم ولا تتسخ وأي حاجة للبخور وريحهم أطيب من المسك ويجاب عن ذلك بأن نعيم أهل الجنة وكسوتهم ليس عن رفع ألم أعتراهم فليس أكلهم عن جوع ولا شربهم عن ظمأ ولا تعليهم عن نتن، وإنما هي لذات متوالية ونعم متتابعة ألا ترى قوله تعالى لآدم {إن لك أن لا تجوع فيها ولا تعرى * وأنك لا تظمأ فيها ولا تضحى} وحكمة ذلك أن الله تعالى نعمهم في الجنة بنوع ما كانوا يتنعمون به في الدنيا وزادهم على ذلك ما لا يعلمه إلا الله عز وجل. قلت: وقد جاء مثل هذا في أهل الدنيا حيث قال: {إذ الأغلال في أعناقهم والسلاسل يسحبون * في الحميم ثم في النار يسجرون} وقال {إن لدينا أنكالاً وجحيماً} فعذبهم في النار بنوع ما كانوا يعذبون به في الدنيا، قال الشعبي: أترون أن الله جعل الأنكال في الرجل خشية أن يهربوا لا والله، ولكنهم إذا أرادوا أن يرتفعوا استثقلت بهم. ابن المبارك قال: أخبرنا سعيد بن أبي أيوب قال: حدثني عقيل عن ابن شهاب قال: لسان أهل الجنة عربي، وإذا خرجوا من قبورهم سرياني وقد تقدم، وقال سفيان: بلغنا أن الناس يتكلمون يوم القيامة قبل أن يدخلوا الجنة بالسريانية فإذا دخلوا الجنة تكلموا بالعربية.

باب منه في الحور العين وكلامهن وجواب نساء الآدميات وحسنهن

باب منه في الحور العين وكلامهن وجواب نساء الآدميات وحسنهن ذكر أن الآدميات في الجنة على سن واحد، وأما الحور العين فأصناف مصنفة صغار وكبار على ما اشتهت أنفس أهل الجنة. الترمذي «عن علي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن في الجنة لمجتمعاً للحور العين يرفعن بأصوات لم تسمع الخلائق بمثلها قال يقلن: نحن الخالدات فلا نبيد ونحن الناعمات فلا نبأس ونحن الراضيات فلا نسخط، طوبى لمن كان لنا وكنا له» وفي الباب عن أبي هريرة وأبي سعيد وأنس. قال أبو عيسى حديث علي حديث غريب. وقالت عائشة رضي الله عنها: إن الحور العين إذا قلن هذه المقالة أجابهم المؤمنات من نساء أهل الدنيا: نحن المصليات وما صليتن ونحن الصائمات وما صمتن ونحن المتوضئات وما توضأتن ونحن المتصدقات وما تصدقن قالت. عائشة: فغلبنهن. والله أعلم. وذكر ابن وهب، عن محمد بن كعب القرظي أنه قال: والله الذي لا إله إلا هو لو أن امرأة من الحور العين أطلعت سوارها من العرش لأطفأ نور سوارها نور الشمس والقمر، فكيف المسورة وأن ما خلق الله شيئاً تلبسه إلا عليه مثل ما عليها من ثياب وحلى. وقال أبو هريرة إن في الجنة حوراء يقال لها [العيناء] إذا مشت مشى حولها سبعون ألف وصيف عن يمينها وعن يسارها كذلك وهي تقول: أين الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر؟

وقال ابن عباس: إن في الجنة حوراء يقال لها [لعبة] لو بزقت في البحر لعذب ماء البحر كله. مكتوب على نحرها من أحب أن يكون له مثلي فليعمل بطاعة ربي عز وجل. وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه وصف حوراء ليلة الإسراء فقال: «ولقد رأيت جبينها كالهلال في طول البدر منها ألف وثلاثون ذراعاً، في رأسها مائة ضفيرة ما بين الضفيرة، والضفيرة سبعون ألف ذؤابة والذؤابة أضوأ من البدر مكلل بالدر وصفوف الجواهر، على جبينها سطران مكتوبان بالدر الجوهر في السطر الأول: بسم الله الرحمن الرحيم. وفي السطر الثاني: من أراد مثلي فليعمل بطاعة ربي فقال لي جبريل يا محمد: هذه وأمثالها لأمتك فأبشر يا محمد وبشر أمتك وأمرهم بالاجتهاد» . وذكر الختلي أبو القاسم قال: حدثنا إبراهيم بن أبي بكر، حدثنا أبو إسحاق، حدثني محمد بن صالح قال: قال عطاء السلمي لمالك بن دينار: يا أبا يحيى شوقنا. قال يا عطاء: إن في الجنة حوراء يتباهى بها أهل الجنة من حسنها لولا أن الله كتب على أهل الجنة أن لا يموتوا لماتوا عن آخرهم من حسنها قال: فلم يزل عطاء كمداً من قول مالك أربعين يوماً. ابن المبارك قال: أخبرنا معمر عن أبي إسحاق، عن عمرو بن ميمون الأودي، عن ابن مسعود قال: [إن المرأة من الحور العين ليرى مخ ساقيها من وراء اللحم والعظم ومن تحت سبعين حلة كما يرى الشراب الأحمر في الزجاجة البيضاء] .

باب ما جاء أن الأعمال الصالحة مهور الحور العين

قال: وأخبرنا رشدين عن ابن أنعم عن حبان بن أبي جبلة قال: [إن نساء الدنيا من دخل منهن الجنة فضلن على العين بما عملن في الدنيا] وروى مرفوعاً: [إن الأدميات أفضل من الحور العين بسبعين ألف ضعف] . باب ما جاء أن الأعمال الصالحة مهور الحور العين قال الله تعالى: {وبشر الذين آمنوا وعملوا الصالحات أن لهم جنات تجري من تحتها الأنهار} إلى قوله {ولهم فيها أزواج مطهرة} . وروى الترمذي الحكيم أبو عبد الله في نوادر الأصول قال: حدثنا الخطاب أبو الخطاب قال: حدثنا سهل بن حماد أبو عتاب، قال: حدثنا جرير بن أيوب البجلي قال: حدثنا الشعبي عن نافع بن بردة، عن أبي مسعود الغفاري من الحور العين في خيمة من درة مجوفة مما نعت الله {حور مقصورات في الخيام} على كل امرأة منهن سبعون حلة ليس منها حلة على لون الأخرى، ويعطى سبعين لوناً من الطيب ليس منهن لون على ريح الآخر، لكل امرأة منهن سبعون سريراً من ياقوتة حمراء موشحة بالدر والياقوت، على كل سرير سبعون فراشاً على كل فراش أريكة، لكل امرأة منهن سبعون ألف وصيفة لحاجتها، وسبعون ألف وصيف، مع كل وصيف صحفة من ذهب

فيها لون من طعام تجد لآخر لقمة لذة لا تجد لأوله، ويعطى زوجها مثل ذلك على سرير من ياقوت أحمر عليه سوران من ذهب موشح بياقوت أحمر، هذا بكل يوم صامه من شهر رمضان سوى ما عمل من الحنسات] . وخرج أبو عيسى الترمذي «من حديث المقدام بن معدي كرب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: للشهيد عند الله ست خصال» . الحديث وفيه «ويزوج باثنتين وسبعين زوجة من الحور العين» ، وقد تقدم في باب ما ينجي من أهوال القبر وفتنته. قلت: وهذا يؤكد ما ذكرناه في حديث أبي هريرة لكل واحد منهم زوجتان، أن ذلك من نساء الدنيا، وقال يحيى بن معاذ: ترك الدنيا شديد، وفوت الجنة أشد، وترك الدنيا مهر الآخرة ويقال: مهر الحور العين كنس المساجد. رفعه الثعلبي «من حديث أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: كنس المساجد مهور الحور العين» ، «وعن أبي قرصافة أيضاً سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: إخراج

القمامة من المسجد مهور الحور العين» ، القمامة الكناسة والجمع: قمام. قاله الجوهري. «وعن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: مهور الحور العين قبضات التمر وفلق الخبز» ، ذكره الثعلبي أيضاً وقال أبو هريرة: [يتزوج أحدكم فلانة بنت فلان بالمال الكثير ويدع الحور العين باللقمة والتمرة والكسوة] . وقال محمد بن النعمان المقري: كنت قاعداً عند الجلا المقرى بمكة في المسجد الحرام إذ مر بنا شيخ طويل نحيل الجسم عليه أطمار خلقة، فقام إليه الجلا ووقف معه ساعة ثم انصرف إلينا فقال: هل تعرفون من هذا الشيخ؟ فقلنا: لا، فقال: ابتاع من الله حوراء بأربعة آلاف ختمة، فلما أكملها رآها في المنام في حليها وحللها فقال: من أنت؟ فقالت: أنا الحور التي ابتعتني من الله تعالى بأربعة آلاف ختمة هذا الثمن فما نحلتي أنا منك؟ قال: ألف ختمة، قال الجلا: فهو يعمل فيها بعد. وروى عن سحنون أنه قال: كان بمصر رجل يقال له سعيد، وكانت له أم من المتعبدات، وكانت إذا قام من الليل يصلي تقوم والدته خلفه، فإذا غلب عليه النوم ونعس تناديه والدته: يا سعيد إنه لا ينام من يخاف النار ويخطب الحور الحسان فيقوم مرعوباً. ويروى عن ثابت أنه قال: كان أبي من القوامين لله في سواد الليل،

قال: رأيت ذات ليلة في منامي امرأة لا تشبه النساء، فقلت لها: من أنت؟ فقالت حوراء أمة الله، فقلت لها: زوجيني نفسك، فقالت: اخطبني من عند ربي وأمهرني فقلت: وما مهرك؟ فقال: طول التهجد وأنشدوا: يا خاطب الحور في خدرهاو طالباً ذلك على قدرها انهض بجد لا تكن وانياًو جاهد النفس على صبرها وجانب الناس وارفضهم وحالف الوحدة في ذكرها وقم إذا الليل بدا وجهه وصم نهاراً فهو من مهرها فلو رأت عيناك إقبالها وقد بدت رمانتا صدرها وهي تماشي بين أترابها وعقدها يشرق في نحرها لهان في نفسك هذا الذيتراه في دنياك من زهرها وقال مضر القارئ: غلبني النوم ليلة فنمت عن حزبي فرأيت في منامي فيما يرى النائم جارية كأن وجهها القمر المستتم ومعها رق فقالت: أتقرأ أيها الشيخ؟ قلت: نعم، فقالت: اقرأ هذا الكتاب، ففتحه فإذا فيه مكتوب: فو الله ما ذكرته قط إلا ذهب عني النوم. ألهتك اللذائذ والأماني ... عن الفردوس والظل الدواني ولذة نومة عن خير عيش ... مع الخيرات في غرف الجنان تيقظ من منامك إن خيراً ... من النوم التهجد بالقران وقال مالك بن دينار: كان لي أحزاب أقرؤها كل ليلة، فنمت ذات ليلة، فإذا أنا في المنام بجارية ذات حسن وجمال وبيدها رقعة، فقالت: أتحسن أن تقرأ؟ فقلت: نعم، فدفعت إلي الرقعة، فإذا فيها مكتوب هذه الأبيات:

باب في الحور العين ومن أي شيء خلقن؟

لهاك النوم عن طلب الأمانيو عن تلك الأوانس في الجنان تعيش مخلداً لا موت فيها وتلهو في الخيام مع الحسان تنبه من منامك إن خيراً من النوم التهجد بالقران وروي عن يحيى بن عيسى بن ضرار السعدي وكان قد بكى شوقاً إلى الله ستين عاماً قال: رأيت كأن ضفة نهر يجري بالمسك الأذفر حافتاه شجر اللؤلؤ ونبت من قضبان الذهب، فإنا بجوار مزينات يقلن بصوت واحد: سبحان المسبح بكل لسان. سبحان الموجود بكل مكان. سبحان الدائم في كل زمان سبحانه سبحانه، قال: فقلت: من أنتن؟ قلن: خلق من خلق الله سبحانه، قلت: وما تصنعن ها هنا فقلن: يناجون رب العالمين لحقهم ... وتسري هموم القوم والناس نوم ذرانا إله الناس رب محمد ... لقوم على الأقدام بالليل قوم فقلت: بخ. بخ لهو من هؤلاء، لقد أقر الله أعينهم، فقلن: أما تعرفهم؟ فقلت: والله ما أفهم، قلن: هؤلاء المتهجدون بالليل أصحاب السهر. باب في الحور العين ومن أي شيء خلقن؟ روى الترمذي «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن الحور العين من أي شيء خلقن. فقال: من ثلاثة أشياء: أسفلهن من المسك، وأوسطهن من العنبر، وأعلاهن من الكافور، وشعورهن وحواجبهن سواد خط من نور» .

باب إذا ابتكر الرجل امرأة في الدنيا كانت زوجته في الآخرة

وروي عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: «سألت جبريل عليه السلام فقلت: أخبرني كيف يخلق الله الحور العين؟ فقال لي يا محمد: يخلقهن الله من قضبان العنبر والزعفران مضروبات عليهن الخيام أول ما يخلق الله منهن نهداً من مسك أذفر أبيض عليه يلتام البدن» . وروي عن ابن عباس أنه قال: خلق الله الحور العين من أصابع رجليها إلىركبتيها من الزعفران ومن ركبتيها إلى ثدييها من المسك الأذفر، ومن ثدييها إلى عنقها من العنبر الأشهب، ومن عنقها إلى رأسها من الكافور الأبيض. عليها سبعون ألف حلة مثل شقائق النعمان إذا أقبلت يتلألأ وجهها نوراً ساطعاً كما تتلألأ الشمس لأهل الدنيا وإذا أقبلت يرى كبدها من رقة ثيابها وجلدها. وفي رأسها سبعون ألف ذؤابة من المسك الأذفر ولكل ذؤابة منها وصيفة ترفع ذيلها وهي تنادي هذا ثواب الأولياء. جزاء بما كانوا يعلمون. باب إذا ابتكر الرجل امرأة في الدنيا كانت زوجته في الآخرة ابن وهب عن مالك أن أسماء بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنهما امرأة الزبير بن العوام كانت تخرج حتى عوتب في ذلك قال: وغضب عليها وعلى ضوتها فعقد شعر واحدة بالأخرى ثم ضربهما ضرباً شديداً، وكانت الضرة أحسن اتقاء وكانت أسماء لا تتقي، فكان الضرب بها أكثر فشكت إلى أبيها أبي بكر فقال لها: أي بنية اصبري فإن الزبير رجل صالح. ولعله أن يكون زوجك في الجنة. ولقد بلغني أن الرجل إذا ابتكر بالمرأة تزوجها في الجنة.

قال أبو بكر بن العربي: هذا حديث غريب ذكره في أحكام القرآن له، فإن كانت المرأة ذات أزواج فقيل: إن من مات عنها من الأزواج أخراهن له. قال حذيفة لامرأته إن سرك أن تكوني زوجتي في الجنة إن جمعنا الله فيها لا تتزوجي من بعدي، فإن المرأة لآخر أزواجها في الدنيا. وخطب معاوية بن أبي سفيان أم الدرداء فأبت وقالت: «سمعت أبا الدرداء يحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: المرأة لآخر أزواجها في الجنة. وقال لي: إن أردت أن تكون زوجتي في الجنة فلا تتزوجي من بعدي» . وذكر أبو بكر النجاد قال: «حدثنا جعفر بن محمد بن شاكر، حدثنا عبيد بن إسحاق العطار، حدثنا سنان بن هارون، عن حميد، عن أنس أم حبيبة زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت: يا رسول الله المرأة يكون لها زوجان في الدنيا ثم يموتون ويجتمعون في الجنة لأيهما تكون. للأول أو للآخر؟ قال لأحسنهما خلقاً كان معها يا أم حبيبة» . ذهب حسن الخلق بخير الدنيا والآخرة وقيل: إنها تخير إذا كانت ذات أزواج.

باب ما جاء أن في الجنة أكلا وشرابا ونكاحا حقيقة ولا قذر فيها ولا نقص ولا نوم

باب ما جاء أن في الجنة أكلاً وشراباً ونكاحاً حقيقة ولا قذر فيها ولا نقص ولا نوم مسلم «عن جابر بن عبد الله قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: إن أهل الجنة يأكلون فيها ويشربون ولا يتفلون ولا يبولون ولا يتغوطون ولا يتمخطون قالوا: فما بال الطعام؟ قال: جشاء أو رشح كرشح المسك يلهمون التسيبيح والتحميد» ، وفي رواية «والتكبير كما يلهمون النفس» . الترمذي «عن أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: يعطي المؤمن في الجنة قوة كذا وكذا في الجماع قيل يا رسول الله أو يطيق ذلك؟ قال يعطي قوم مائة» . وفي الباب عن زيد بن أرقم قال أبو عيسى: هذا حديث صحيح حسن. وذكر الدرامي في مسنده «عن زيد بن أرقم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الرجل من أهل الجنة ليعطي قوم مائة رجل في الأكل والشرب والجماع والشهوة، فقال رجل من اليهود: إن الذي يأكل ويشرب يكون من الحاجة قال: ثم يفيض من جلده عرق فإذا بطنه قد ضمر» . وذكر المخرمي عبد الله بن أيوب قال: «حدثنا أبو أسامة، عن هشام، عن زيد بن الجواري وهو زيد بن العمى عن ابن عباس قال: قلنا يا رسول الله أنفضي إلى نسائنا في الجنة كما نفضي إليهن في الدنيا؟ قال: أي والذي نفسي بيده إن الرجل ليفضي في الغداة الواحدة إلى مائة عذراء» .

وخرجه البزار في مسنده «من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قيل يا رسول الله أنفضي إلى نسائنا في الجنة؟ قال: أي والذي نفسي بيده إن الرجل ليفضي في اليوم الواحد إلى مائة عذراء» . وخرج «عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن أهل الجنة إذا جامعوا نساءهم عادوا أبكاراً» . وسيأتي لهذا مزيد بيان إن شاء الله تعالى. ابن المبارك قال: «أخبرنا معمر، عن رجل، عن أبي قلابة قال: يؤتون بالطعام والشراب فإذا كان في آخر ذلك أتوا بالشراب الطهور فيشربون فتضمر لذلك بطونهم وتفيض عرقاً من جلودهم أطيب من ريح المسك» ثم قرأ {شراباً طهوراً} . أبو محمد الدارمي «عن أبي أمامة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما من أحد يدخله الله الجنة إلا زوجه الله اثنتين وسبعين زوجة اثنتين من الحور العين وسبعين من ميراثه من أهل النار ما منهن واحدة إلا ولها قبل. قبل شهي وله ذكر لا ينثني» . قال هشام بن خالد: من ميراثه من أهل النار يعني رجالاً دخلوا النار فورث أهل الجنة نساءهم كما ورثت امرأة فرعون.

باب المؤمن إذا اشتهى الولد في الجنة كان حمله ووضعه وسنه في ساعة واحدة

وروي «من حديث أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم هل تمس أهل الجنة أزواجهم؟ فقال: نعم بذكر لا يمل وفرج لا يحفى وشهوة لا تنقطع» . الدراقطني «عن جابر بن عبد الله قيل يا رسول الله: أينام أهل الجنة؟ قال: لا. النوم أخو الموت. والجنة لا موت فيها» . والله أعلم. باب المؤمن إذا اشتهى الولد في الجنة كان حمله ووضعه وسنه في ساعة واحدة الترمذي «عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم المؤمن إذا اشتهى الولد في الجنة كان حمله ووضعه وسنه في ساعة كما يشتهي» ، قال حديث حسن غريب أخرجه ابن ماجه وقال في ساعة واحدة في الجنة. قال الترمذي: وقد اختلف أهل العلم في هذا، فقال بعضهم في الجنة جماع ولا يكون ولد. وهكذا يروي عن طاووس ومجاهد وإبراهيم النخعي. وقال محمد قال إسحاق بن إبراهيم، في حديث النبي صلى الله عليه وسلم «إذا اشتهى المؤمن الولد في الجنة كان في ساعة كما يشتهي، ولكن لا يشتهي هذا أبداً» ،

باب ما جاء أن كل ما في الجنة دائمر لا يبلى ولا يفنى ولا يبيد

وقد روى «عن أبي رزين العقيلي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن أهل الجنة لا يكون لهم فيها ولد» . والله أعلم. باب ما جاء أن كل ما في الجنة دائمر لا يبلى ولا يفنى ولا يبيد مسلم «عن أبي سعيد الخدري وأبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ينادي مناد أن لكم أن تضحوا فلا تسقموا أبداً، وأن لكم أن تحيوا فلا تموتوا أبداً، وأن لكم أن تشبوا فلا تهرموا أبداً، وأن لكم أن تنعموا فلا تبأسوا أبداً، وذلك قوله عز وجل {ونودوا أن تلكم الجنة أورثتموها بما كنتم تعملون} » . و «عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من يدخل الجنة ينعم ولا يبأس ولا يبلى ثيابه ولا يفنى شبابه» ، وقد تقدم قول الحور العين: نحن الخالدات فلا نبيد. باب ما جاء أن المرأة من أهل الجنة ترى زوجها من أهل الدنيا في الدنيا ابن وهب قال: وحدثنا ابن زيد قال: يقال للمرأة من أهل الجنة وهي في السماء: أتحبين أن نريك زوجك من أهل الدنيا؟ فتقول: نعم، فيكشف لها عن الحجب ويفتح الأبواب بينها بينه حتى تراه وتعرفه وتعاهده بالنظر حتى تستبطئ قدومه وتشتاق إليه كما تشتاق المرأة إلى زوجها الغائب عنها. ولعله يكون بينه وبين زوجته في الدنيا ما يكون بين النساء وأزواجهن من مكالمة أو مخاصمة فتغضبه زوجته التي في الدنيا فيشق ذلك عليها وتقول: ويحك دعيه من شرك أنما هو معك ليال قلائل،

باب ما جاء في طير الجنة وخيلها وإبلها

أخرجه الترمذي بمعناه عن معاذ بن جبل قال: لا تؤذي امرأة زوجها في الدنيا، إلا قالت زوجته من الحور العين لا تؤذيه قاتلك الله، فإنما هو دخيل عندك يوشك أن يفارقك إلينا. قال أبو عيسى: هذا حديث غريب خرجده ابن ماجه أيضاً. باب ما جاء في طير الجنة وخيلها وإبلها الترمذي، «عن أنس بن مالك قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم ما الكوثر، قال: ذاك نهر أعطانيه الله يعني في الجنة، أشد بياضاً من اللبن وأحلى من العسل: فيه طير أعناقها كأعناق الجزر، فقال عمر: إن لهذه لناعمة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أكلها أنعم منها» ، قال: هذا حديث حسن. وخرجه الثعلبي، «من حديث أبي الدراداء أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن في الجنة طيراً مثل أعناق البخت تصطف على يد ولي الله فيقول أحدها: يا ولي الله رعيت في مروج الجنة تحت العرش، شربت من عيون التسنيم، فكل مني لا يزلن يفتخرن بين يديه حتى يخطر على قلبه أكل أحدها. فيخر بين يديه على ألوان مختلفة فيأكل منه ما أراد فإذا شبع تجمع عظام الطير فيطير يرعى في الجنة حيث شاء، فقال عمر: يا نبي الله، إنها لناعمة قال: أكلها أنعم منها» . الترمذي: «عن سليمان بن بريدة، عن أبيه، أن رجلاً سأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال:

يا رسول الله: هل في الجنة من خيل؟ قال: إن أدخلك الله الجنة فلا تشاء أن تحمل فيها على فرس من ياقوتة حمراء تطير بك حيث شئت إلا فعلت، قال: وسأله رجل فقال يا رسول الله: هل في الجنة من إبل؟ قال: فلم يقل له ما قال صاحبه. فقال: إن يدخلك الله الجنة لك فيها ما اشتهت نفسك ولذت علينك» . وخرج مسلم «عن أبي مسعود الأنصاري. قال جاء رجل بناقة مخطومة فقال: هذه في سبيل الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لك بها يوم القيامة سبعمائة ناقة كلها مخطومة» وذكر ابن وهب قال: «حدثنا ابن زيد قال: كان الحسن البصري يذكر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أن أدنى أهل الجنة منزلة الذي يركب في ألف وألف من خدمه من الولدان المخلدين على خيل من ياقوت أحمر لها أجنحة من ذهب اقرأوا إن شئتم {وإذا رأيت ثم رأيت نعيماً وملكاً كبيراً} » .

باب ما جاء أن الحناء سيد ريحان الجنة وأن الجنة حفت بالريحان

وذكر ابن المبارك «عن شقي بن ماتع، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إن من نعيم أهل الجنة أنهم ليتزاورون على المطايا والنجب، وأنهم يؤتون في يوم الجمعة بخيل مسرجة ملجمة لا تورث ولا تبول فيركبونها حتى ينتهوا حيث شاء الله» وذكر الحديث. وعن عكرمة عن ابن عباس أنه ذكر مراكبهم، ثم تلا قوله تعالى {وإذا رأيت ثم رأيت نعيماً وملكاً كبيراً} . وحكى عن عبد الله بن المبارك: خرج إلى غزو فرأى رجلاً حزيناً قد مات فرسه فبقي محزوناً، فقال له: بعني إياه بأربعمائة درهم ففعل الرجل ذلك، أي باعه له، فرأى من ليلته في المنام كأن القيامة قد قامت وفرسه في الجنة وخلفه سبعمائة فرس، فأراد أن يأخذه فنودي أن دعه، فإنه لابن المبارك وقد كان لك بالأمس، فلما أصبح جاء إليه وطلب الإقالة فقال له ولم؟ قال: فقص عليه القصة فقال له: اذهب فما رأيته في المنام رأيناه في اليقظة. ؟ قال المؤلف رحمه الله تعالى: وهذه الحكاية صحيحة لأنها في معنى ما ثبت في صحيح مسلم عن أبي مسعود كما ذكرناه. باب ما جاء أن الحناء سيد ريحان الجنة وأن الجنة حفت بالريحان ابن المبارك، «أنبأنا همام، عن قتادة، عن أبي أيوب، عن عبد الله بن عمر قال: الحناء سيد ريحان الجنة، وأن فيها من عناق الخيل وكرام النجائب يركبها أهلها» . وقد تقدم عن أبي هريرة موقوفاً، أن شجرة طوبى تتفتق عن النجائب والثياب. ومثل هذا لا يقال من جهة الرأي وإنما هو توقيف فاعلمه. وذكر أبو بكر أحمد بن علي بن ثابت «من حديث سعيد بن معن المدني قال: حدثنا مالك بن أنس، عن نافع، عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لما خلق الله الجنة حففها بالريحان وحفف الريحان بالحناء وما

خلق الله شجرة أحب إليه من الحناء، وأن المختضب بالحناء لتصلي عليه ملائكة السماء إذا غدا وتقدس الأرض» قال السكري: «وتقدس عليه ملائكة الأرض إذا أراح» هذا حديث منكر لا يصح. وفي إسنداه غير واحد لا يعرف. وروى «الترمذي في كتاب الشمائل. حدثنا محمد بن خليفة وعمر بن علي قالا: حدثنا يزيد بن زريع قال: حدثنا الحجاج الصواف، عن حنان، عن أبي عثمان النهدي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أعطي أحدكم الريحان فلا يرده فإنه خرج من الجنة» قال أبو عيسى: لا يعرف لحنان غير هذا الحديث، وقال عبد الرحمن بن أبي حاتم في كتاب الجرح والتعديل، حنان الأسدي من بني أسد بن شريك وهو حنان صاحب الرقيق، عم مسرهد والد مسدد، روي عن أبي عثمان النهدي، وروى عن الحجاج بن أبي عثمان الصواف سمعت أبي يقول ذلك. وقد تقدم عن أبي هريرة موقوفاً: أن شجرة طوبى تتفتق على الجنائب والثياب، ومثل هذا كله لا يقال من جهة الرأي وإنما هو توقيف فاعلمه.

باب ما جاء أن الشاة والمعزى من دواب الجنة

باب ما جاء أن الشاة والمعزى من دواب الجنة ابن ماجه «عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الشاة من دواب الجنة» وفي كتاب البزار، «عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: أحسنوا إلى المعزى وأميطوا عنهما الأذى فإنهما من دواب الجنة» ، وفي التنزيل: {وفديناه بذبح عظيم} وإنما سمي عظيماً أنه رعى في الجنة أربعين عاماً، روي عن ابن عباس رضي الله عنه. باب ما جاء أن للجنة ربضاً وريحاً وكلاماً البيهقي «عن أنس عن النبي: لما خلق الله عدن وغرس أشجارها بيده قال لها تكلمي فقالت: {قد أفلح المؤمنون} » . خرجه البزار من حديث أبي سعيد الخدري. «عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: خلق الجنة لبنة من ذهب ولبنة من فضة، وملاطها المسك الأذفر. وقال لها

تكلمي فقالت: {قد أفلح المؤمنون} فقال طوبى لك منزل الملوك» وهذا يروى موقوفاً عن أبي سعيد الخدري قال: لما خلق الله الجنة لبنة من ذهب ولبنة من فضة وغرسها. قال لها تكلمي فقالت: {قد أفلح المؤمنون} فدخلتها الملائكة. فقالت: طوبى لك منزل الملوك. وروي «من حديث أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لما خلق الله الجنة قال لها تزيني فتزينت، ثم قال لها تكلمي فتكلمت، ثم قالت: طوبى لمن رضيت عنه» . النسائي «عن فضالة بن عبيد قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: أنا زعيم ـ والزعيم الحميل ـ لمن آمن بي وأسلم وجاهد في سبيل بيت له في ربض الجنة وبيت في وسط الجنة وبيت في أعلى غرف الجنة، من فعل ذلك فليم يدع للخير مطلباً ولا من الشهر مهرباً يموت حيث شاء أن يموت» . وقال عمر بن عبد العزيز والزهدي والكلبي ومجاهد: مؤمنو الجنة في ربض ورحاب حول الجنة وليسوا فيها. وروى مالك عن مسلم بن أبي مريم عن أبي صالح، عن أبي هريرة أنه قال نساء كاسيات عاريات مائلات مميلات لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها، وأن ريحها يوجد من مسيرة خمسمائة سنة، هذا موقوف.

باب ما جاء في أن الجنة قيعان وأن غراسها سبحان الله والحمد لله

قال أبو عمر بن عبد البر: وقد رواه عبد الله بن نافع الصائغ عن مالك بهذا الإسناد عني صلى الله عليه وسلم. وخرج أبو داود والترمذي «عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ألا من قتل نفساً معاهداً له ذمة الله وذمة رسوله فقد أخفر بذمة الله فلا يروح رائحة الجنة وأن ريحها ليوجد من مسيرة سبعين خريفاً» لفظ الترمذي. قال: وفي الباب عن أبي بكره، قال أبو عيسى: حديث أبي هريرة حديث حسن صحيح. وخرج البخاري «عن عبد الله بن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من قتل نفساً معاهداً لم يرح رائحة الجنة وأن ريحها ليوجد من مسيرة أربعين عاماً» . باب ما جاء في أن الجنة قيعان وأن غراسها سبحان الله والحمد لله الترمذي «عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لقيت إبراهيم عليه السلام ليلة أسري بي فقال: يا محمد اقرأ أمتك مني السلام وأخبرهم أن الجنة طيبة التربة عذبة الماء وأنها قيعان وأن غرسها سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر» . قال: وفي الباب، عن أبي أيوب. وهذا حديث حسن غريب.

باب ما جاء أن الذكر نفقة بناء الجنة

ابن ماجه، «عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر به وهو يغرس غرساً فقال: يا أبا هريرة ما الذي تغرس؟ قال: غرساً قال: ألا أدلك على غراس خير من هذا؟ سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر يغرس لك بكل واحدة شجرة في الجنة» . الترمذي، «عن جابر بن عبد الله، عن النبي صلى الله عليه وسلم: من قال سبحان الله العظيم وبحمده غرست له نخلة في الجنة» . قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح غريب. باب ما جاء أن الذكر نفقة بناء الجنة ذكر الطبري في كتاب آداب النفوس قال: حدثنا الفضل بن الصباح قال: سألت النضر بن إسماعيل فحدثني عن حكيم بن محمد الأحمسي، قال: بلغني أن الجنة تبنى بالذكر فإذا حبسوا الذكر كفوا عن البناء. فيقال لهم في ذلك فيقولون. حتى يجيئنا نفقة. قال المؤلف رحمه الله: الذكر طاعة الله، عز وجل في امتثال أمره واجتناب نهيه. روي «عن النبي صلى الله عليه وسلم: من أطاع الله وقد ذكر الله وإن قل صلاته وصومه وصنيعه للخير، ومن عصى الله فقد نسي الله وإن كثر صلاته وصومه وصنيعه للخير» . ذكره أبو عبد الله، محمد في أحكام القرآن له.

باب ما لأدنى أهل الجنة ولا لأعلاهم

وذكره أيضاً العامري في شرح الشهاب له. قلت: حقيقة الذكر طاعة الله تعالى في امتثال أمره واجتناب نهيه. قال سعيد بن جبير: الذكر طاعة الله فمن لم يطعه لم يذكره، وإن أكثر التسبيح والتهليل وقراءة القرآن. ولفظه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من أطاع الله فقد ذكره وإن كان ساكتاً، ومن عصى الله فقد نسيه وإن كان قارئاً مسبحاً» . قال المؤلف رحمه الله: وهذا والله أعلم لأنه كالمستهزئ والمتهاون ومن اتخذ آيات الله هزواً. وقد قال العلماء في تأويل قوله تعالى: {ولا تتخذوا آيات الله هزواً} أي لا تتركوا أمر الله فتكونوا مقصرين لاعبين، قالوا ويدخل في هذه الآية الاستغفار من الذنب قولاً مع الإصرار فعلاً. وكذا كل ما كان في هذا المعنى. والله أعلم. باب ما لأدنى أهل الجنة ولا لأعلاهم مسلم «عن المغيرة بن شعبة يرفعه إلى رسوله الله صلى الله عليه وسلم قال: سأل موسى عليه السلام ربه، فقال: يا رب ما أدنى أهل الجنة منزلة؟ قال: هو رجل يأتي بعدما يدخل أهل الجنة الجنة، فيقول: أي رب كيف وقد نزل الناس منازلهم وأخذوا أخذاتهم فيقال له: أترضى أن يكون لك مثل ملك من ملوك الدنيا؟ فيقول: رضيت رب فيقول: لك ذلك ومثله معه، ومثله، ومثله، فقال في الخامسة، رضيت رب، فيقول: هذا لك وعشرة

أمثاله، ولك ما اشتهت نفسك، ولذت عينك، فيقول: رضيت، قال: يا رب فأعلاهم منزلة، قال: أولئك الذين أردت. غرست كرامتهم بيدي وختمت عليها فلم تر عين ولم تسمع أذن ولم يخطر على قلب بشر قال: ومصداقه من كتاب الله، {فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين} » وقد روي موقوفاً عن المغيرة قوله. البخاري، «عن عبد الله هو ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن آخر أهل الجنة دخولاً الجنة، وآخر الناس خروجاً من النار، رجل يخرج حبوا، فيقول له ربه: ادخل الجنة فيقول: رب الجنة ملأى، فيقول له ذلك ثلاث مرات كل ذلك يعيد عليه الجنة ملأى، فيقول: إن لك مثل الدنيا عشر مرات» وقد تقدم هذا. وروي «عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال: إن أدنى أهل الجنة منزلة من له سبع قصور قصر من ذهب، وقصر من فضة، وقصر من در، وقصر من زمرد، وقصر من ياقوت وقصر لا تدركه الأبصار، وقصر على لون العرش، في كل قصر من الحلى والحلل والحور العين ما لا يعلمه إلا الله عز وجل» ذكره القتبي في عيون الأخبار له، وفي مراسل الحسن «عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن أدنى أهل الجنة منزلة الذير يركب في ألف ألف من خدمه» الحديث وقد تقدم.

باب رضوان الله تعالى لأهل الجنة أفضل من الجنة

وخرج الترمذي، «عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إن أدنى أهل الجنة منزلة لمن ينظر إلى جنانه ونعيمه وخدمة وسروره مسيرة ألف سنة، وأكرمهم على الله من ينظر إلى وجهه غدوة وعشيا، ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم {وجوه يومئذ ناضرة * إلى ربها ناظرة} » قال: حديث غريب، وقد روي عن ابن عمر ولم يرفعه. وخرج «عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن أدنى أهل الجنة منزلة الذي له ثمانون ألف خادم واثنتان وسبعون زوجة، وينصب له قبة من لؤلؤ وزبرجد وياقوت كما بين الجابية إلى صنعاء» قال هذا ابن المبارك قال: «أخبرنا سفيان عن رجل عن مجاهد قال: إن أدنى أهل الجنة منزلة لمن يسير في ملكه مسيرة ألف سنة يرى أقصاه كما يرى أدناه، وأرفعهم هو الذي ينظر إلى ربه بالغداة والعشي» . وقد تقدم هذا مرفوعاً في الباب عن ابن عمر موقوفاً، وهذا الباب والذي قبله يدل على أن أدنى أهل الجنة منزلة الكثير من والزوجات من الحور العين ما قررناه فيما تقدم والله أعلم. باب رضوان الله تعالى لأهل الجنة أفضل من الجنة البخاري «عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله

باب رؤية أهل الجنة لله تعالى أحب إليهم مما هم فيه وأقر لأعينهم

تعالى يقول لأهل الجنة: يا أهل الجنة، فيقولون لبيك ربنا وسعديك والخير في يديك، فيقول هل رضيتم، فيقولون: وما لنا لا نرضى يا رب وقد أعطيتنا ما لم تعط أحداً من خلقك فيقول أفلا أعطيكم أفضل من ذلك، فيقولون يا ربنا أي شيء أفضل من ذلك، فيقول أحل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم بعده أبداً» ، أخرجه مسلم، بمعناه في حديث فيه طول. باب رؤية أهل الجنة لله تعالى أحب إليهم مما هم فيه وأقر لأعينهم مسلم «عن صهيب، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إذا دخل أهل الجنة الجنة قال الله تبارك وتعالى لهم: أتريدون شيئاً أزيدكم، فيقولون: ألم تبيض وجوهنا، ألم تدخلنا الجنة وتنجينا من النار، قال: فيكشف لهم الحجاب، فما أعطوا شيئاً أحب إليهم من النظر إلى ربهم عز وجل، وفي رواية هذه الآية {للذين أحسنوا الحسنى وزيادة} » . وخرج النسائي «عن صهيب قال: قيل لرسول الله هذه الآية {للذين أحسنوا الحسنى وزيادة} قال: إذا دخل أهل الجنة الجنة، وأهل النار النار، ينادي مناد: يا أهل الجنة إن لكم عند الله موعداً يريد أن ينجزكموه، فقالوا: لم تبيض وجوهنا وتثقل موازيننا وتجرنا من النار. قال: فيكش الحجاب فينظروا إليه فو الله ما أعطاهم الله شيئاً أحب إليهم من النظر إلى وجه الله ولا أقر لأعينهم» .

وخرجه أبو داود الطيالسي أيضاً. قال: «حدثنا حماد بن سلمة عن ثابت عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن صهيب قال: تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية {للذين أحسنوا الحسنى وزيادة} قال: إذا دخل أهل الجنة الجنة نادى مناد: يا أهل الجنة إن لكم عند الله تعالى موعداً فيقولون: ما هو أليس قد بيض وجوهنا وثقل موازيننا وأدخلنا الجنة؟ فيقال لهم ثلاثاً، فيتجلى لهم الرب تبارك وتعالى فينظرون إليه فيكون ذلك عندهم أعظم مما أعطوا» . أخبرنا الشيخ الراوية: أبو محمد عبد الوهاب قرأ عليه بثغر الاسكندرية حماه الله قرئ على الحافظ السلفي وأنا أسمع قال: «أخبرنا الحاجب أبو الحسن بن العلاف، حدثنا أبو القاسم بن بشران، حدثنا أبو بكر الآجري، حدثنا أبو بكر عبد الله بن محمد بن عبد الحميد الواسطي، حدثنا عبد الوهاب بن عبد الحكم الوراق النيسابوري، حدثنا يزيد بن هارون، حدثنا حماد بن سلمة، عن ثابت البناني، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن صهيب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن أهل الجنة إذا دخلوا الجنة نودوا أن يا أهل الجنة إن لكم عند الله موعداً لم تروه قالوا: وما هو ألم يبيض وجوهنا ويزحزحنا عن النار ويدخلنا الجنة؟ قال: فيكشف الحجاب فينظرون إليه فو الله ما أعطاهم الله شيئاً هو أحب إليهم منه، ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم {للذين أحسنوا الحسنى وزيادة} .

وكذا أخرجه الإمام أحمد بن حنبل والحارث ابن أبي أسامة، عن يزيد بن هارون. وانفرد مسلم بإخراجه فرواه» عن أبي بكر ابن أبي شيبة عن يزيد بن هارون، ورواه نوح ابن أبي مريم عن ثابت البناني عن أنس بن مالك قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذه الآية {للذين أحسنوا الحسنى وزيادة} فقال للذين أحسنوا العمل في الدنيا الحسنى وهي الجنة قال: والزيادة النظر إلى وجهه الكريم. فأخطأ فيه خطأ بيناً ووهم وهماً قبيحاً. وذكر ابن المبارك. قال: أخبرنا أبو بكر الهلالي الهجيمي قال: سمعت أبا موسى الأشعري على منبر البصرة يقول: إن الله يبعث يوم القيامة ملكاً إلى أهل الجنة فيقول هل أنجزكم الله ما وعدكم فينظرون فيرون الحلى والحلل والثمار والأنهار والأزواج المطهرة، فيقولون نعم أنجزنا الله ما وعدنا، فيقول الملك: هل أنجزكم ما وعدكم ثلاث مرات فلا يفقدون شيئاً مما وعدوا. فيقولون: نعم فيقول: بقي لكم شيء إن الله تعالى يقول {للذين أحسنوا الحسنى وزيادة} ألا إن الحسنى الجنة والزيادة النظر إلى الله تعالى. فصل: ما رواه النسائي مرفوعاً، وكذلك أبو داود الطيالسي، وأسنداه عن الآجرى، وذكره ابن المبارك موقوفاً يبين حديث مسلم، وأن المعنى بقوله: قال الله

تعالى: قال ملك الله: تريدون شيئاً أزيدكم أن يزيدكم. وقوله: فيكشف الحجاب: معناه أنه يرفع الموانع من الإدراك عن أبصارهم حتى يروه على ما هو عليه من نعوت العظمة والجلال والبهاء والكمال والرفعة والجمال لا إله إلا هو سبحانه عما يقول الزائفون والمبطلون، فذكر الحجاب إنما هو في حق المخلوق لا في حق الخالق، فهم المحجوبون، والباري جل اسمه وتقدست أسماؤه منزلة عما يحجبه، إذ الحجب إنما يحيط بمقدر محسوس وذلك من نعوتنا، ولكن حجبه عن أبصار خلقه، وبصائرهم. وإدراكاتهم بما شاء وكيف شاء. وروي في صحيح الأحاديث، أن الله تعالى إذا تجلى لعباده ورفع الحجب عن أعينهم فإذا رأوه تدفقت الأنهار واصطفت الأشجار، وتجاوبت السرر والغرفات بالصرير والأعين المتدفقات بالخرير واسترسلت الريح المثيرة، وثبت في الدور والقصور المسك الأذفر والكافور وغردت الطيور وأشرقت الحور العين. ذكره أبو المعالي في كتاب الرد له على السجزي، وقال: وكل ذلك بقضاء الله وقدره وإن لم يكن منها شيء عن الرؤية والنظر،

ولكن الله تعالى يعرف بما شاء ما شاء من آيات عظمته ودلالات هيبته وذلك بمثابة تدكدك الجبل الذي تجلى الله له وترضرضه حتى صار رملاً هائلاً سائلاً والله أعلم. باب منه في الرؤية مسلم «عن أبي بكر بن عبد الله بن قيس عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: جنتان من فضة آنيتهما وما فيهما وجنتان من ذهب آنيتهما وما فيهما وما بين القوم، وبين أن ينظروا إلى ربهم عز وجل، إلا رداء الكبرياء على وجه في جنة عدن» . «وعن جرير بن عبد الله قال: كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فنظر إلى القمر ليلة البدر فقال: إنكم سترون ربكم عياناً كما ترون هذا القمر لا تضامون في رؤيته، فإن استطعتم أن لا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس وصلاة قبل غروبها. فافعلوا ثم قرأ {وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل الغروب} » أخرجه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي وقال حديث حسن صحيح. وخرج أبو داود «عن أبي رزين العقيلي قال: قلت يا رسول الله، أكلنا يرى الله مخلياً به يوم القيامة؟ قال: نعم. قلت وما آية ذلك في خلقه؟

باب منه وفي سلام الله تعالى عليهم

قال: يا أبا رزين، أليس كلكم يرى القمر ليلة البدر مخلياً به؟ قلت: بلى. قال: فالله أعظم إنما هو خلق من خلق الله يعني القمر فالله أجل وأعظم» . [فصل] قوله: إلا رداء الكبرياء على وجهه. الرداء به هنا مستعار كني به عن كبريائه وعظمته يبينه الحديث الآخر: الكبرياء ردائي، والعظمة إزاري يريد بذلك صفتي فقوله: رداء الكبرياء يريد صفة الكبرياء فهو بكبريائه وعظمته لا يريد أن يراه أحد من خلقه بعد رؤية القيامة حتى يأذن لهم بدخول جنة عدن فإذا دخلوها أراد أن يروه فيروه وهم في جنة عدن قال معناه: البهيقي وغيره. وليست العظمة والكبرياء من جنس الثياب المحسوسة، وإنما هي توسعات ووجه المناسبة أن الرداء والإزار، لما كانا ملازمين للإنسان مخصوصين به، ولا يشاركه فيهما غيره عبر عن عظمته وكبريائه بهما لأنهما مما لا يجوز مشاركة الله تعالى فيهما ألا ترى آخر الحديث فمن نازعني واحداً منهما قصمته ثم قذفته في النار. باب منه وفي سلام الله تعالى عليهم روى محمد بن المنكدر «عن جابر بن عبد الله أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: بينا أهل الجنة في نعيمهم إذا سطع لهم نور من فوقهم فإذا الرب سبحانه قد

أشرف عليهم، فقال: السلام عليكم يا أهل الجنة، وذلك قوله تعالى {سلام قولاً من رب رحيم} قال: فإذا نظروا إليه نسوا نعيم الجنة حتى يحتجب عنهم، فإذا احتجب عنهم بقي نوره وبركته عليه في ديارهم» . [فصل] قوله: قد أشرف عليهم أي أطلع كما يقال فلان مشرف عليك أي مطلع عليك من مكان عال، والله تعالى لا يوصف بالمكان من جهة الحلول والتمكن، وإنما يوصف من جهه العلو والرفعة فعبر عن اطلاعه عليهم ونظره إليهم بالإشراف، ولما كان سبحانه قائلاً متكلماً وكان الكلام له صفة في ذاته، ولم يزل ولا يزال فهو يسلم عليهم سلاماً هو قوله منه، كما قال تعالى: {سلام قولاً من رب رحيم} وقوله: فإذا نظروا إليه نسوا نعيم الجنة أي لهواً عنه بلذة النظر إلى وجهه الكريم، وذلك أن ما دون الله تعالى لا يقاوم تجليه، ولولا أن الله تعالى يثبتهم ويبقيهم لحل بهم ما حل بالجبل حين تجلى به، وقوله حتى يحتجب عنهم يجوز أن يكون معناه حتى يردهم إلى نعيم الجنة الذي نسوه وإلى حظوظ أنفسهم وشهواتها التي سهوا عنها فانتفعوا بنعيم الجنة الذي وعده لهم وتنعموا بشهوات النفوس التي أعدت لهم، وليس ذلك إن شاء الله تعالى على معنى الاحتجاب عنهم الذي هو بمعنى الغيبة والاستتار، فيكونوا له ناسين وعن شهوده محجوبين، وإلى نعيم الجنة ساكنين، ولكنه يردهم إلى ما نسوه ولا تحجبهم عما شاهدوا حجبة غيبة واستتار، يدل على ذلك قوله: بقي نوره وبركته عليهم في ديارهم وكيف يحجبهم عنه وهو ينعت

باب منه وبيان قوله تعالى " ولدينا مزيد "

المزيد عليهم وما وعدهم به من النعيم والنظر إذا صح والحجبة إذا ارتفعت لم يكن بين ةنظر البصر وشهود السر فرق. ولا بين حال الشهود والغيبة فرق فيكون محجوباً في حال الغيبة بل تتفق الأوقات وتتساوى الأحوال فيكون في كل حال شاهداً وبكل جارحة ناظراً ولا يكون في حال محجوباً ولا بالغيب موصوفاً. حكاية حكي عن قيس المجنون أنه قيل له: ندعو لك ليلى؟ فقال وهل غابت عني فتدعى؟ فقيل له: أتحب ليلى؟ فقال: المحبة ذريعة الوصلة وقد وقع الوصل فأنا ليلى وليلى أنا. والله أعلم. باب منه وبيان قوله تعالى " ولدينا مزيد " باب منه وبيان قوله تعالى ولدينا مزيد يحيى بن سلام قال: «أخبرنا رجل من أهل الكوفة عن داود بن أبي هند عن الحسن قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن أهل الجنة لينظرون إلى ربهم في كل جمعة على كثيب من كافور لا يرى طرفاه، وفيه نهر جار حافتاه المسك عليه جوار يقرأن القرآن بأحسن أصوات سمعها الأولون والآخرون، فإذا انصرفوا إلى منازلهم أخذ كل رجل بيد من شاء منهن ثم يمرون على قناطر من لؤلؤ إلى منازلهم فلولا أن الله تعالى يهديهم إلى منازلهم ما اهتدوا إليها لما يحدث الله إليهم في كل جمعة» . وخرج عن بكر بن عبد الله المزني قال: إن أهل الجنة ليزورون ربهم في مقدار كل عيد كأنه يقول في كل سبعة أيام مرة فيأتون رب

العزة في حلل خضر ووجوه مشرقة وأساور من ذهب مكللة بالدر والزمرد عليهم أكاليل الذهب، ويركبون بخبائهم ويستأذنون على ربهم فيأمر لهم ربنا بالكرامة. وذكر هو وابن المبارك جميعاً قال، حدثنا المسعودي، عن النهال بن عمرو بن أبي عبيدة بن عبد الله بن عقبة عن ابن مسعود قال: تسارعوا إلى الجمعة فإن الله يبرز لأهل الجنة كل يوم جمعة في كثيب من كافور أبيض فيكونون معه في القرب قال ابن المبارك: على قدر تسارعهم إلى الجمعة في الدنيا. وقال يحيى بن سلام: كمسارعتهم إلى الجمعة في الدنيا وزاد فيحدث لهم شيئاً من الكرامة لم يكونوا رأوه قبل ذلك، قال يحيى: وسمعت غير المسعودي يزيد فيه وهو قوله تعالى {ولدينا مزيد} وقال الحسن في قوله تعالى {للذين أحسنوا الحسنى وزيادة} قال: الزيادة النظر إلى وجه الله عز وجل وليس شيء أحب إلى أهل الجنة من يوم الجمعة يوم المزيد لأنهم يرون فيه الجبار جل جلاله وتقدست أسماؤه. فصل قلت: قوله في كثيب. يريد أهل الجنة أي هم على كثيب كما في مرسل الحسن أول الباب، وقيل: المزيد ما يزوجون به من الحور العين رواه أبو سعيد

نبذ من أقوال العلماء في تفسير كلمات وآيات من القرآن وردت في ذكر الجنة وأهلها

الخدري مرفوعاً. وذكر أبو نعيم عن خالد بن معدان عن كثير بن مرة قال: إن من المزيد أن تمر السحابة بأهل الجنة فتقول: ما تريدون أن أمطركم فلا يتمنون شيئاً إلا مطروا قال خالد: يقول كثير لئن أشهدني الله ذلك لأقولن لها أمطرينا جواري مزينات وقد تقدم من حديث ابن عمرو أكرمهم على الله من ينظر إلى الله غدوة وعشية، وهذا يدل على أن أهل الجنة في الرؤية مختلفو الحال. وقد روي عن أبي يزيد البسطامي أنه قال: إن لله تعالى عباداً لو حجبهم في الجنة ساعة لاستغاثوا من الجنة ونعيمها كما يسغيث أهل النار من النار وعذابها. نبذ من أقوال العلماء في تفسير كلمات وآيات من القرآن وردت في ذكر الجنة وأهلها من ذلك قوله تعالى: {ونزعنا ما في صدورهم من غل} قال ابن عباس أول ما يدخل أهل الجنة الجنة تعرض لهم عينان فيشربون من إحدى العينين فيذهب الله تعالى ما في قلوبهم من غل، ثم يدخلون العين الأخرى فيغتسلون فيها فتشرق ألوانهم وتصفوا وجوههم وتجري عليهم نضرة النعيم. وقال علي رضي الله عنه في قوله تعالى {وسقاهم ربهم شراباً طهوراً}

قال: إذا توجه أهل الجنة إلى الجنة مروا بشجرة يخرج من تحت ساقها عينان فيشربون من إحداهما فتجري عليهم بنضرة النعيم فلا تتغير أبشارهم ولا تشتعث أشعارهم أبداً، ثم يشربون من الأخرى فيخرج ما في بطونهم من الأذى ثم تستقبلهم خزنة الجنة فتقول لهم: {سلام عليكم طبتم فادخلوها خالدين} . وذكره ابن المبارك قال: أخبرنا معمر عن أبي إسحاق عن عاصم بن ضمرة عن علي أنه تلا هذه الآية {وسيق الذين اتقوا ربهم إلى الجنة زمرا حتى إذا جاؤوها} وجدوا عند باب الجنة شجرة يخرج من ساقها عينان، فعمدوا إلى أحداهما كأنما أمروا بها فاغتسلوا منها فلم تشعث رؤوسهم بعدها أبداً ولم تغير جلودهم بعدها أبداً كأنما دهنوا بالدهن، ثم عمدوا إلى الأخرى فشربوا منها فطهرت أجوافهم وغسلت كل قدر فيها وتتلقاهم على كل باب من أبواب الجنة ملائكة {سلام عليكم طبتم فادخلوها خالدين} ، ثم تتلقاهم الولدان يطيفون بهم كما يطيف ولدان الدنيا بالحميم يجيء من الغيبة يقولون: أبشر أعد الله لك كذا وكذا، ثم يذهب الغلام منهم إلى الزوجة من أزواجه فيقول قد جاء فلان باسمه الذي كان يدعى في الدنيا فتقول له: أنت رأيته؟ فيستخفها الفرح حتى تقوم على أسكفة الباب، ثم ترجع فتجيء فتنظر إلى تأسيس بنيانه من جندل اللؤلؤ أخضر وأصفر وأحمر من كل لون ثم يجلس فينظر فإذا زرابي مبثوثة وأكواب موضوعة ونمارق مصفوفة ثم يرفع رأسه إلى سقف بنيانه فلولا أن الله قدر ذلك لأذهب

بصره إنما هو مثل البرق، ثم يقول: كما أخبرنا تعالى {الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله} . وذكر القتيبي في عيون الأخبار له مرفوعاً «عن علي رضي الله عنه أنه قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قول الله عز وجل {يوم نحشر المتقين إلى الرحمن وفدا} ما هؤلاء الوفد؟ قال: يحشرون ركباناً ثم قال: والذي نفسي بيده أنهم إذا خرجوا من قبورهم ركبوا نوقاً عليهم رحائل الذهب مرصعة بأنواع الجوهر فتسير بهم إلى باب الجنة قال: وعند باب الجنة شجرة ينبع من أصلها عينان فيشربون من إحداى تلك العيون فإذا بلغ الشراب البطن طهرهم الله به من دنس الدنيا وقذرها فذلك قوله تعالى {وسقاهم ربهم شراباً طهوراً} قال: ثم يغتسلون من العين الأخرى فلا تشعث رؤوسهم ولا تتغير ألوانهم قال: ثم يضربون حلق أبواب الجنة فلو سمعت الخلائق طنين الأبواب لافتتنوا بها، فيبادر رضوان فيفتح لهم فينظرون إلى حسن وجهه فيخرون ساجدين فيقول لهم رضوان يا أولياء الله: أنا قيمكم الذي وكلت بكم وبمنازلكم فينطلق بهم إلى قصور من فضة شوفاتها من ذهب يرى ظاهرها من باطنها من النور والرقة والحسن قال فيقول أولياء الله عند ذلك يا رضوان: لمن هذا؟ فيقول: هذا لكم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فلولا أن الموت يرفع عن أهل الجنة لمات أكثرهم فرحاً، قال: ثم يريد أحدهم أن يدخل قصره فيقول له رضوان اتبعني حتى أريك ما أعد الله لك قال: فيمر به فيريه قصوراً وخياماً وما أعطاه الله عز وجل قال: ثم يأتي به إلى غرفة من ياقوته من أسفلها إلى أعلاها مائة ذراع قد لونت بجميع الألوان على جنادل الدر والياقوت، وفي الغرفة سرير طوله فرسخ في عرض مثل ذلك عليه من

الفراش كقدر خمسين غرفة بعضها فوق بعض. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فذلك قوله عز وجل {وفرش مرفوعة} وهي من نور والسرير من نور، وعلى رأس ولي الله تاج له سبعون ركناً في كل ركن سبعون ياقوتة تضيء وقد رد الله وجهه كالبدر وعليه طوق ووشاح يتلألأ من نور، وقد سور بثلاثة أسورة: سوار من الذهب وسوار من فضة وسوار من لؤلؤ، فذلك قوله تعالى {يحلون فيها من أساور من ذهب ولؤلؤا ولباسهم فيها حرير} » . وقوله تعالى {جنات عدن يدخلونها} قال ابن عباس الجنات سبع: دار الجلال، ودار السلام، وجنة عدن، وجنة المأوى، وجنة الخلد، وجنة الفردوس، وجنة النعيم. وقيل: إن الجنان أربع لأن الله تعالى قال: {ولمن خاف مقام ربه جنتان} . وقال بعد ذلك {ومن دونهما جنتان} ولم يذكر سوى هذه الأربع جنة خامسة، فإن قيل فقد قال جنة المأوى قيل جنة المأوى اسم لجميع الجنان يدل عليه أنه تعالى قال: {فلهم جنات المأوى نزلا بما كانوا يعملون} والجنة اسم الجنس، فمرة يقال جنة ومرة يقال جنات، وكذلك جنة عدن وجنات عدن لأن العدن الإقامة وكلها دار الإقامة كما أن كلها مأوى المؤمنين، وكذلك دار الخلد ودار السلام لأن جميعها للخلود والسلامة من كل خوف وحزن، وكذلك جنات النعيم وجنة النعيم لأن كلها مشحونة بأصناف النعيم، ذكره الحليمي في كتاب منهاج الدين له وقال: إنما منعنا أن نجعل كل واحدة من العدن والمأوى والنعيم جنة سوى الأخرى، لأن الله تعالى إن كان سمي شيئاً من هذه الأسماء جنة في موضع فقد سمي الجنات كلها بذلك الاسم في موضع آخر، فعلمنا أن هذه الأسماء ليست لتميز جنة من جنة، ولكنها للجنان أجمع. لا سيما وقد أتى الله بذكر العدد فلم يثبت إلا

أربعاً، وقد أثبت لهذه الجنان أبواباً فقال: [وفتحت أبوابها] ، وقال عليه الصلاة والسلام: «إن أبواب الجنة ثمانية» فيحتمل أن يكون ذلك، لأن لكل جنة من الجنان الأربع بابين، ووصف أهل الجنة فصنفهم صنفين: أحدهما السابقون المقربون والآخرون أصحاب اليمين، فعلمنا أن السابقين أهل الجنتين العليتين في قوله: {ولمن خاف مقام ربه جنتان} وأهل اليمين أهل الجنتين الدنييتين {ومن دونهما جنتان} وبهذا جاءت الروايات. وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس في قوله تعالى: {ولمن خاف مقام ربه جنتان} إلى قوله {ومن دونهما جنتان} قال: فتلك للمقربين وهاتان لأصحاب اليمين وعن أبي موسى الأشعري نحو ذلك. قوله تعالى: {يحلون فيها من أساور من ذهب ولؤلؤاً} قال المفسرون: ليس أحد من أهل الجنة إلا وفي يده ثلاثة أسورة: سوار من ذهب وسوار من فضة وسوار من لؤلؤ وقال هنا: {من ذهب ولؤلؤاً} وقال في آية أخرى: {وحلوا أساور من فضة} . وفي الصحيح: تبلغ حلية المؤمن حيث تبلغ الوضوء، وقريء [لؤلؤا] بالنصب على معنى ويحلون لؤلؤاً وأساور: جمع أسورة وأسورة واحدها سوار فيها ثلاث لغات ضم السين وكسرها وأسوار، قال المفسرون: لما كانت الملوك تلبس في الدنيا الأساور والتيجان جعل الله ذلك لأهل الجنة إذ هم ملوك قوله تعالى: {ولباسهم فيها حرير} .

روي عن يحيى بن سلام، عن حماد بن سلمة، عن أبي المهزم عن أبي هريرة قال: [دار المؤمن في الجنة درة مجوفة في وسطها شجرة تنبت الحلل ويأخذ بأصبعه، أو قال بأصبعه سبعين حلة منظمة باللؤلؤ والزبرجد والمرجان] . وأخرجه ابن المبارك بهذا السند عن حماد عن أبي المهزم قال: سمعت أبا هريرة يقول: [إن دار المؤمن في الجنة من لؤلؤة فيها أربعون بيتاً في وسطها شجرة تنبت الحلل، فيذهب فيأخذ بأصبعيه سبعين حلة منظمة باللؤلؤ والزبرجد والمرجان] وقد تقدم هذا المعنى وأبو المهزم ضعيف. وروى عن أبي هريرة أنه قال: بلغني أن ولي الله يلبس حلة ذات وجهين يتجاوبان بصوت مليح تقول التي تلي جسده: أنا أكرم على ولي الله منك. أنا أمس بدنه وأنت لا تمسينه وتقول التي تلي وجهه: أنا أكرم على ولي الله منك، أنا أرى وجهه وأنت محجوبة لا ترين وجهه. وقد تقدم أن من لبسه في الدنيا لم يلبسه في الآخرة، من حديث أبي سعيد الخدري. صححه أبو عمرو رحمه الله وقال: هذا عندي على نحو المعنى الذي نزعنا به في شارب الخمر أنه إذا دخل الجنة لا يشرب فيها خمراً ولا يذكرها ولا يراها ولا تشتهيها نفسه، فكذلك لابس الحرير في الدنيا إن لم يتب منه.

قلت: وكذلك من استعمل آنية الذهب والفضة ولم يتب من استعمالها. وقد روي «عن أبي موسى الأشعري أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من استمع إلى صوت غناء لم يؤذن له أن يسمع الروحانيين، فقيل: ومن الروحانيون يا رسول الله؟ قال قراء أهل الجنة» خرجه الترمذي أبو عبد الله في نوادر الأصول، وقد قيل: إن حرمانه الخمر ولباسه الحرير وشربه في إناء الذهب والفضة واستماعه للروحانيين إنما هو في الوقت الذي يعذب في النار ويسقى من طينة الخبال، فإذا خرج من النار بالشفاعة أو بالرحمة العامة المعبر عنها في الحديث بالقبضة أدخل الجنة ولم يحرم شيئاً منها لا خمراً ولا حريراً ولا غيره، لأن حرمان شيء من لذات الدنيا لمن كان في الجنة نوع عقوبة ومؤاخذة، والجنة ليست بدار عقوبة ولا مؤاخذة فيها بوجه من الوجوه. قلت: وحديث أبي سعيد الخدري وأبي موسى الأشعري يرد هذا القول وكما لا يشتهي منزلة من هو أرفع منه وليس ذلك لعقوبة، كذلك لا يشتهي خمر الجنة ولا حريرها ولا يكون ذلك عقوبة. قوله تعالى {ويلبسون ثياباً خضراً من سندس وإستبرق} وقال {عاليهم ثياب سندس خضر وإستبرق} الإستبرق: الديباج الصفيق الكثيف، والسندس: الرقيق الخفيف، وخص الأخضر لأنه الموافق للبصر، لأن البياض يبدد النظر ويؤلم والسواد يورم والخضرة لون بين السواد والبياض وتلك تجمع الشعاع.

قوله تعالى: {متكئين فيها على الأرائك} الأرائك: جمع أريكة وهي السرر في الحجل، وقال {متكئين على سرر مصفوفة} . وروي «عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: إن الرجل من أهل الجنة ليتزوج في شهر واحد ألف حوراء يعانق كل واحدة منهن مقدار عمره في الدينا» . وروي عن ابن عباس أنه قال: إن الرجل من أهل الجنة ليعانق الحور سبعين سنة لا يملها ولا تمله كلما أتاها وجدها بكراً، وكلما رجعت إليه عادت إليه شهوته فيجامعها بقوة سبعين رجلاً لا يكون بينهما مني يأتي من غير مني منه ولا منها. وقال المسيب بن شريك: «قال النبي صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى {إنا أنشأناهن إنشاء * فجعلناهن أبكاراً * عرباً أتراباً} قال: هي عجائز الدنيا أنشأهن الله خلقاً جديداً كلما أتاهن أزواجهن وجدوهن أبكاراً، فلما سمعت عائشة ذلك قالت: واوجعاه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم ليس هناك وجع» . وذكر يحيى بن سلام عن صاحب له، «عن أبان بن عياش، عن شهر بن حوشب، عن معاذ بن جبل قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الرجل من أهل الجنة ليتنعم مع زوجته في تكأة واحدة سبعين عاماً فتناديه أبهى منها وأجمل من غرفة أخرى: أما آن لنا منك دولة بعد فيلتفت إليها فيقول: من أنت؟ فتقول: أنا من اللاتي قال الله تعالى {ولدينا مزيد} فيتحول إليها يتنعم معها سبعين عاماً في تكأة واحدة فتناديه أبهى وأجمل من غرفة أخرى: أما آن لنا منك دولة بعد فيلتفت إليها فيقول: من أنت؟ فتقول: أنا من اللاتي قال الله تعالى {فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا

يعملون} فيتحول إليها فيتنعم معها في تكأة واحدة سبعين عاماً فهم كذلك يزورون» ، قال تعالى: {وزوجناهم بحور عين} الحور: البيض في قول قتادة والعامة، والعين: العظام العيون. وقال قتادة في قوله تعالى: {إن أصحاب الجنة اليوم في شغل فاكهون} يعني في الآخرة في شغل فاكهون. قال: يعني افتضاض العذارى فاكهون، قال الحسن: مسرورون {هم وأزواجهم في ظلال على الأرائك متكئون} قوله تعالى {أولئك لهم رزق معلوم} فيه قولان: أحدهما حين يشتهونه، قال مقاتل: الثاني بمقدار الغداة والعشي قاله ابن السائب. قال الله تعالى {ولهم رزقهم فيها بكرة وعشياً} قال العلماء: ليس في الجنة ليل ولا نهار وإنما هم في نور أبداً، وإنما يعرفون مقدار الليل بإرخاء الحجب وإغلاق الأبواب، ويعرفون مقدار النهار برفع الحجب وفتح الأبواب، ذكره أبو الفرج بن الجوزي. وخرج أبو عبد الله الترمذي في نوادر الأصول له «من حديث أبان عن الحسن وأبي قلابة قال: قال رجل يا رسول الله: هل في الجنة من ليل؟ قال: وما هيجك على هذا؟ قال: سمعت الله تعالى يقول في الكتاب {ولهم رزقهم فيها بكرة وعشياً} فقلت: الليل بين البكرة والعشي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ليس هناك ليل

إنما هو ضوء ونور الغدو على الرواح والرواح على الغدو، ويأتيهم طرف الهدايا لمواقيت الصلاة التي كانوا يصلون فيها وتسلم عليهم الملائكة» . قوله تعالى ذكره: فواكه جمع فاكهة قال الله تعالى {وأمددناهم بفاكهة ولحم مما يشتهون} وهي الثمار كلها رطبها ويابسها. قاله ابن عباس، وقال مجاهد في قوله تعالى {ودانية عليهم ظلالها} يعني ظلال الشجر {وذللت قطوفها تذليلا} أي ذللت ثمارها يتناولن منها كيف شاءوا. إن قام ارتفعت بقدره، وإن قعد تدلت إليه، وإن اضطجع تدلت إليه حتى يتناولها. وذكر ابن المبارك قال: أخبرنا شريك عن أبي إسحاق عن البراء {ودانية عليهم ظلالها وذللت قطوفها تذليلاً} قال: أهل الجنة يأكلون الثمار من الشجر كيف شاءوا جلوساً ومضطجعين وكيف شاءوا؟ واحد القطوف قطف بكسر القاف. وذكر ابن وهب «قال: أخبرنا هشام بن سعد عن زيد بن أسلم أن رسول الله: إن خلق أهل الجنة إذا دخلوا الجنة ستون ذراعاً كالنخلة السحوق يأكلون من ثمار الجنة قياماً» . وذكر يحيى بن سلام، «عن عثمان، عن نعيم بن عبد الله، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم والذي نفسي بيده إن الجنة ليتناولون من قطوفها وهم متكئون على فراشهم فما تصل إلى في أحدهم حتى يبدل مكانها أخرى. قوله تعالى {يطاف عليهم بصحاف من ذهب وأكواب} » .

روي «عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: إن أدنى الجنة منزلة الذي يقوم على رأسه عشرة آلاف خادم بيد كل خادم صحفتان واحدة ذهب والأخرى فضة كل واحدة لون لا يشبه الأخرى» ذكره القتبي في عيون الأخبار. وقال المفسرون: يطوف على أدناهم منزلة سبعين ألف غلام بسبعين ألف صحفة من ذهب يفدى عليه بها في كل واحدة منها لون ليس في صاحبتها، يأكل من آخرها كما يأكل من أولها، ويجد طعم آخرها كما يجد طعم أولها لا يشبه بعضه بعضاً ويراع عليه بمثلها، ويطوف على أرفعهم درجة كل يوم سبعمائة ألف غلام مع كل غلام صحفة من ذهب فيها ألوان الطعام ليس في صاحبتها يأكل من آخرها كما يأكل من أولها، ويجد طعم آخرها كما يجد طعم أولها لا يشبه بعضه بعضاً وأكواب، أي: ويطاف عليهم بأكواب كما قال تعالى {ويطاف عليهم بآنية من فضة وأكواب} قال قتادة: الكوب: المدور القصير العتق القصير العروة، والإبريق المستطيل الطويل العنق الطويل العروة. وقال ابن عزيزة: أكواب: أباريق لا عرى لها ولا خراطيم واحدها كوب، قاله الأخفش وقطرب، وقال الجوهري في الصحاح: الكوب كوز لا عروة له، ونحوه قوله مجاهد والسدي وهو مذهب أهل اللغة: التي لا آذان لها

ولا عرى {كانت قواريرا * قوارير من فضة} أي اجتمع فيها صفاء القوارير في بياض الفضة وذلك أن لكل قوم من تراب أرضهم قوارير، قال: وإن تراب الجنة فضة فهي قوارير من فضة، قاله ابن عباس، وقال: هي في صفاء الفضة، وفي ذلك دليل على أن أرض الجنة من فضة، إذ المعهود الدنيا اتخاذ الآنية من الأرض يرى باطنها من ظاهرها وظاهرها من باطنها كالقوارير يرى الشراب من جدر القوارير وهذا لا يكون في فضة الدنيا {قدروها تقديراً} أي في أنفسهم فأتتهم على نحو ما قدروا واشتهوا من صغار وكبار وأوساط هذا تفسير قتادة. وقال ابن عباس ومجاهد: أتوا بها على قدر رتبهم بغير زيادة ولا نقصان، والمعنى قدرتها الملائكة التي تطوف عليهم ويسقون فيها كأساً أي من كأس كما قال، في الآية الأخرى: {إن الأبرار يشربون من كأس} يعني الخمر، قال {يطاف عليهم بكأس من معين} أي من خمر، والمعين: الماء الجاري الظاهر لا فيها غول، أي لا تغتال عقولهم ولا يصيبهم منها صداع {ولا هم عنها ينزفون} أي لا تذهب عقولهم بشربها، يقال: الخمر غول للحليم، والحرب غول للنفوس. أي تذهب بها. وقرأ حمزة والكسائي: ينزفون بكسر الزاي من أنزف القوم إذا حان منهم النزف وهو السكر، كما يقال: أحصد الزرع إذا حان حصاده وأقطف الكرام إذا حان قطافه، وأركب المهر إذا حان ركوبه، وقيل: المعنى لا ينفذون شرابهم لأنه دأبهم، والكأس عند أهل اللغة اسم شامل لكل إناء مع شرابه فإن كان فارغاً فليس بكأس {كان مزاجها

كافوراً} قال الكلبي كافوراً عيناً في الجنة يشرب بها أي منها وقيل الباء زائدة والمعنى: يشربها ومنه تنبت بالدهن أي تبنت الدهن وقال {كان مزاجها زنجبيلاً} وكانت العرب تنستطيب الزنجبيل وتضرب به المثل وبالخمر ممزوجين، فخاطبهم الله بما كانوا عارفين ويستحبون كأنه يقول: لكم في الآخرة مثل ما تستحبون في الدنيا إن آمنتم {عيناً فيها تسمى سلسبيلاً} السلسبيل اسم العين، والسلسبيل في اللغة صفة لما كان غاية في السلاسة، وقال تعالى {يسقون من رحيق} يعني الشراب وهي الخمر {مختوم * ختامه مسك} قال مجاهد: يختم به آخر جرعة، وقيل: المعنى إذا شربوا هذا الرحيق ففنى ما في الكأس وانقطع الختم ذلك بطعم المسك. وقال عبد الله بن مسعود في قوله تعالى {ختامه مسك} خلطه ليس بخاتم يختم. ألم تر إلى قول المرأة من نسائكم خلطه من الطيب كذا وكذا إنما خلطه مسك ليس بخاتم يختم. ذكره ابن المبارك وابن وهب واللفظ لابن وهب

وذكر ابن المبارك عن أبي الدرداء {ختامه مسك} قال: شراب أبيض مثل الفضة يختمون به آخر شربتهم. لو أن رجلاً من أهل الدنيا أدخل يده ثم أخرجها لم يبق ذو روح إلا وجد ريح طيبها. وفي ذلك {فليتنافس المتنافسون} أي في الدنيا بالأعمال الصالحة، قال {ومزاجه من تسنيم} أي ومزاج ذلك الشراب {عيناً يشرب بها المقربون} قال قتادة: يشرب بها المقربون صرفا وتمزج لسائر أهل الجنة، وتسنيم أشرف شراب في الجنة، وأصل التسنيم في اللغة الارتفاع فهي عين ماء تجري من علو إلى أسفل ومنه سنام البعير لعلوه من بدنه، وكذلك تسنيم القبور وقد تسنم العيون والمياه فتشرف عليهم تجري من أعلى العرش يحقق ذلك ما رواه أبو مقاتل «عن صالح ابن سعيد عن أبي سهل عن الحسن بن علي، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أربع عيون في الجنة عينان تجريان من تحت العرش إحداهما التي ذكرها الله {يفجرونها تفجيراً} والأخرى {نضاختان} من فوق العرش إحداهما التي ذكرها الله سلسبيلا والأخرى التنسيم» . ذكره الترمذي الحكيم في نوادر الأصول في الأصل التاسع والثمانين وقال: التنسيم للمعذبين خاصة شرباً لهم. والكافور للأبرار شرباً لهم. والكافور للأبرار شرباً لهم والكافور يمزج للأبرار من التنسيم شرابهم، وأما الزنجبيل والسلسبيل فللأبرار منها مزاج. هكذا ذكره

في التنزيل وسكت عن ذلك لمن هي له شرب فما كان للأبرار مزاجاً فهو للمقربين صرفاً، وما كان للأبرار صرفاً فهو لسائر أهل الجنة مزاجاً. والأبرار هم الصادقون. والمقربون هم الصديقون. قال الحسن: خمر الجنة أشد بياضاً من اللبن وأحلى من العسل. وفي التنزيل {بكأس من معين * بيضاء لذة للشاربين} أي لذيذة يقال شراب لذيذ إذا كان طيباً. قوله تعالى: {وعندهم قاصرات الطرف} أي نساء قد قصرن طرفهن على أزواجهن فلا ينظرون إلى غيرهم. قال ابن زيد: إن المرأة منهن لتقول لزوجها: وعزة ربي ما أرى في الجنة شيئاً أحسن منك. وعين: عظام العيون الواحدة منهن عيناء {كأنهن بيض مكنون} أي مصون. وقال الحسن وابن زيد شبههن ببيض تكنه النعامة بالريش من الريح والغبار فلونه أبيض في صفرة وهو أحسن ألوان النساء. وقيل المراد بالبيض: اللؤلؤ كقوله {وحور عين * كأمثال اللؤلؤ المكنون} أي في أصدافه. وقال {فيهن خيرات حسان} يعني النساء. الواحدة خيرة وأصله خيرات فخفف كهين ولين. ابن المبارك قال: أنبأ الأوزاعي عن حسان بن عطية، عن سعيد بن أبي عامر

قال: لو أن خيرة من خيرات حسان اطلعت من السماء لأضاءت لها، ولقهر ضوء وجهها الشمس والقمر، ولنصيف تكساه خيرة خير من الدنيا وما فيها. النصيف: القناع وقوله: حسان أي حسان الخلق. وإذا قال تعالى {حسان} فمن يقدر أن يصف حسنهن حور أي بيض مقصورات أي محبوسات في الخيام جمع خيثمة. وقد تقدم صفتها. وقال ابن عباس: الخيمة درة مجوفة فرسخ في مثله لها أربع آلاف مصراع من ذهب. ذكره ابن المبارك: أنبأنا همام عن قتادة عن عكرمة عن ابن عباس. وذكر عن أبي الدرداء قال: الخيمة لؤلؤة واحدة لها سبعون باباً كلها در. وعن أبي الأحوص {حور مقصورات في الخيام} قال: الدر المجوف. وقال الترمذي الحكيم في قوله تعالى: {حور مقصورات في الخيام} قال: بلغنا في الرواية أن سحابة مطرت من العرش فخلقن من قطرات الرحمة، ثم ضرب على كل واحدة خيمة على شاطئ الأنهار لسعتها أربعون ميلاً، وليس لها في ذلك باب حتى إذا حل ولي الله بالجنة انصدعت الخيمة عن باب ليعلم ولي الله أن أبصار المخلوقين من الملائكة والخدم لم تأخذها، فهي مقصورة قد قصر بها عن أبصار المخلوقين، وذكر الدارقطني في كتاب المديح عن المعتمر بن سليمان قال: إن في الجنة نهراً ينبت الجواري الأبكار.

والرفرف: المجالس قاله قتادة، وقيل: فضول المجالس. وقال أبو عبيد: الرفرف: العرش. وقال الترمذي الحكيم: إن الرفرف شيء إذا استوى عليه صاحبه رفرف وأهوى به كالمرجاح يميناً وشمالاً ورفعاً وخفضاً يتلذذ به مع أنيسته، فإذا ركبوا الرفارف أخذ إسرافيل في السماع، فيروي في الخبر أنه ليس أحد من خلق الله أحسن صوتاً من إسرافيل، فإذا أخذ في السماع قطع على أهل سبع سموات صلاتهم وتسبيحاتهم، فإذا ركبوا الرفارف أخذ إسرافيل في السماع بأنواع الأغاني تسبيحاً وتقديساً للملك القدوس، فلم تبق شجرة في الجنة إلا وردت، ولم يبق ستر ولا باب إلا ارتج وانفتح، ولم تبق حلقة على باب إلا طنت بأنواع طنينها، ولم يبق أجمة من آجام الذهب إلا وقع أهبوب الصوت في مقاصبها، فزمرت تلك المقاصب بفنون الزمر، ولم تبق جارية من جوار الحور العين إلا غنت بأغانيها والطير بألحانها، ويوحي الله تبارك وتعالى إلى الملائكة أن جاوبوهم وأسمعوا عبادي الذي نزهوا أسماعهم عن مزامير الشيطان فيجاوبون بألحان وأصوات روحانية، فتختلط هذه الأصوات فتصير رجة واحدة، ثم يقول الله عز وجل ذكره: يا داود قم عند ساق العرش تجدني، فيندفع داود بتمجيد ربه بصوت يعم الأصوات ويجليها وتتضاعف اللذة، وأهل الخيام من تلك الرفارف تهوي بهم وقد حفت بهم أفانين اللذات والأغاني، فذلك قوله تعالى {فهم في روضة يحبرون} .

وعن يحيى بن أبي كثير في قوله تعالى {فهم في روضة يحبرون} قال: الروضة اللذات والسماع، قوله تعالى {وعبقري حسان} العبقري الفرش له. قال ابن عباس: الواحدة عبقري وهي النمارق أيضاً في قوله تعالى {ونمارق مصفوفة} والزرابي البسط مبثوثة، معناه: مبسوطة وقيل منسوجة بالدر والياقوت، وقوله تعالى: {وأصحاب اليمين ما أصحاب اليمين} يعني أهل الجنة من غير السابقين وأهل الجنة كلهم أصحاب يمين {في سدر مخضود} وهو الذي نزع شوكه وقد تقدم {وطلح منضود} أي بعضه على بعض. وقال المفسرون: الطلح شجر الموز ها هنا وهو عند العرب شجر حسن اللون لخضرته، وإنما خص بالذكر لأن قريشاً كانوا يتعجبون من خضرته وكثرة ظلاله من طلح وسدر، فخوطبوا ووعدوا لما يحبون مثله، قاله مجاهد وغيره، قوله تعالى {ولهم فيها أزواج مطهرة} قال مجاهد: مطهرة من البول والغائط والحيض والنخام والبصاق والمني والولد، ذكره ابن المبارك. أنبأنا ابن جريج، عن مجاهد فذكره {وهم فيها خالدون} أي باقون لا خروج لهم منها، وقد تقدم. وقال مجاهد أيضاً في قوله تعالى {على سرر متقابلين}

باب ما جاء في أطفال المسلمين والمشركين

قال: لا ينظر بعضهم إلى قفا بعض تواصلاً وتحابياً، وقيل: الأسرة تدور كيف شاءوا فلا يرى أحد قفا أحد. وقال ابن عباس: على سرر مكللة بالدر والياقوت والزبرجد، السرير منها ما بين صنعاء إلى الجابية وما بين عدن إلى أيلة، وقيل: تدور بأهل المنزل الواحد، والله أعلم. باب ما جاء في أطفال المسلمين والمشركين وذكر أبو عمرو في كتاب التمهيد والاستذكار، وأبو عبد الله الترمذي في نوادر الأصول والمفسرون عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه في تفسير قوله تعالى: {كل نفس بما كسبت رهينة * إلا أصحاب اليمين} قال: هم أطفال المسلمين، زاد الترمذي: لم يكتسبوا فيرتهنوا بكبسهم. وقال أبو عمرو: الجمهور من العلماء: على أن أطفال المسلمين في الجنة. وقد ذهب طائفة من العلماء إلى الوقف في أطفال المسلمين وأولاد المشركين أن يكونوا في جنة أو في نار، منهم حماد ابن زيد، وحماد بن سلمة، وابن المبارك، وإسحاق بن راهويه «لحديث أبي هريرة رضي الله عنه، قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الأطفال، فقال: الله أعلم بما كانوا عاملين» ، هكذا قال الأطفال ولم يخص طفلاً عن طفل.

قال الحليمي في كتاب منهاج الدين: وقد توقف في ولدان المسلمين من توقف في ولدان المشركين وقال: إذا كان كل منهم يعامل بما عمل الله تعالى منه أنه فاعله لو بلغه فكذلك ولدان المسلمين. واحتج بأن صبياً صغيراً مات لرجل من المسلمين، فقالت إحدى نساء النبي صلى الله عليه وسلم: طوبى له عصفور من عصافير الجنة. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «وما يدريك إن الله خلق الجنة وخلق لها أهلاً، وخلق النار وخلق لها أهلاً» ، قال: فهذا يدل على أنه لا يمكن أن يقطع في أطفال المسلمين بشيء. قال الحليمي: وهذا الحديث يحتمل أن يكون إنكاراً النبي صلى الله عليه وسلم على التي قطعت بأن الصبي في الجنة لأن القطع بذلك قطع بإيمان أبويه، وقد يحتمل أن يكون منافقين فيكون الصبي ابن كافرين فيخرج هذا على قول من يقول: قد يجوز أن يكون ولدان المشركين في النار، وقد يحتمل أن يكون أنكر ذلك لأنه لم يكن أنزل عليه في ولدان المسلمين شيء ثم أنزل عليه قوله تعالى: {والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم} وقد قريء: وأتبعناهم ذريتهم، فأخبر تعالى أن الذين آمنوا في الحياة الدنيا جعل ذرياتهم أتباعهم في الإيمان وأنه يلحق بهم ذرياتهم في الآخرة، فثبت بذلك أن ذراري المسلمين في الجنة، وقال النبي: «سألت ربي أن يريني أهل الجنة وأهل النار فجاءني جبريل وميكائيل عليهما السلام في النور فقالا: انطلق يا أبا القاسم إلى أن قال وأنا أسمع لغط الصبيان، فقلت: من هؤلاء يا جبريل؟ فقال: هم ذرية أهل الإسلام الذين يموتون، قبل آبائهم يكفل بهم عليه السلام حتى يلحق آباؤهم» ، فدل أنهم في الجنة.

قال المؤلف رحمه الله: الحديث الذي احتجوا به خرجه أبو داود الطيالسي، قال: حدثنا قيس بن الربيع، عن يحيى بن إسحاق. «وعن عائشة بنت طلحة، عن عائشة رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم أتي بصبي من الأنصار ليصلى عليه فقالت: يا رسول الله طوبى له عصفور من عصافير الجنة لم يعمل سوءاً قط ولم يدره، فقال: يا عائشة أو لا تدرين أن الله تبارك وتعالى خلق الجنة وخلق لها أهلاً وخلق النار وخلق لها أهلاً وهم في أصلاب آبائهم» . وقالت طائفة: أولاد المسلمين في الجنة وأولاد المشركين في النار، واحتجوا بما ذكرناه من الآية والحديث بحديث «سلمة بن يزيد الجعفي، قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم أنا وأخي، فقلنا يا رسول الله إن أمنا ماتت في الجاهلية وكانت تقري الضيف وتصل الرحم وتصوم وتفعل وتفعل، فهل ينفعها من عملها ذلك شيء؟ قال: لا قال: فقلنا إن أمنا وأدت أختاً لنا في الجاهلية لم تبلغ الحنث فهل ذلك نافع أختنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أرأيتم الوائدة والمؤودة فإنهما في النار إلا أن تدرك الوائدة الإسلام فيغفر لها» . قال أبو عمرو: هذا الحديث صحيح الإسناد إلا أنه يحتمل أن يكون خرج على جواب السائل في عين مقصودة فكانت الإشارة لها. وفي بعض طرق حديث سلمة بن زيد فلما رأى ما قد دخل علينا،

قال: «وأمي مع أمكما» ، خرجه ورواه أبو داود الطيالسي في مسنده «عن سلمة بن يزيد، قال: سألت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: أمي ماتت وكانت تقري الضعيف وتطعم الجار وكانت وأدت وأداً في الجاهلية ولها سعة من مال أفينفعها إن تصدقت عنها؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا ينفع الإسلام إلا من أدركه إنها وما وأدت في النار ورأى ذلك قد شق علي فقال: وأم محمد معها وما فيهما خيره» . وخرج أبو نعيم الحافظ وغيره «عن ابن مسعود قال: جاء ابنا مليكة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالا: يا رسول الله، إن أمنا كانت تكرم الزوج وتعطف على الولد وذكر الضيف غير أنها وأدت في الجاهلية فقال: أمكما في النار فأدبر والشر يرى في وجوههما فأمر بهما فرداً والبشرى ترى في وجوههما رجاء أن يكون حدث شيء قال: أمي مع أمكما» وذكر الحديث. وروى بقية بن الوليد «عن محمد بن يزيد الألمعاني قال: سمعت عبد الله بن قيس يقول: سمعت عائشة سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذرارى المسلمين فقال: هم مع آبائهم قلت: بلا عمل؟ قال: الله أعلم بما كانوا عاملين. وسألته عن ذرارى المشركين فقال: مع آبائهم فقالوا: بلا عمل؟ قال: الله أعلم بما كانوا عاملين» . قال أبو عمر عبد الله بن قيس: هذا شامي تابعي ثقة، وأما بقية بن الوليد فضعيف وأكثر حديثه مناكير. ولكن هذا الحديث قد روي مرفوعاً عن

عائشة من غير هذا الوجه. «قالت عائشة سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم ولدان المسلمين أين هم يوم القيامة؟ قال: في الجنة قالت: وسألته عن ولدان المشركين أين هم يوم القيامة؟ قال: في النار فقلت مجيبة له: يا رسول الله لم يدركوا الأعمال ولم تجر عليهم الأقلام قال: ربك أعلم بما كانوا عاملين والذي نفسي بيده لئن شئت أسمعتك تضاغيهم في النار» قال أبو عمر: في طريقه أبو عقيل صاحب لهية لا يحتج بمثله عند أهل العلم. قال المؤلف رحمه الله: كذا ذكر أبو عمر هذا الحديث بهذا اللفظ، وكذلك ذكر أبو أحمد بن علي فيما ذكر أبو محمد عبد الحق. وذكره أبو داود الطيالسي قال: حدثنا أبو عقيل «عن بهية عن عائشة قالت: سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن أطفال المشركين قال: هم في النار يا عائشة قالت فقلت: فما تقول في المسلمين؟ قال: هم في الجنة يا عائشة، قالت قلت: وكيف لم يدركوا الأعمال ولم تجر عليهم الأقلام؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ربك أعلم بما كانوا عاملين» قال أبو محمد عبد الحق ويحيى بن المتوكل ضعيف عندهم وبهية لم يرو عنها إلا أبو عقيل. وقالت طائفة: إن الأطفال يمتحنون في الآخرة واحتجوا بحديث أبي سعيد الخدري قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: في الهالك في الفترة والمعتوه والمولود قال: يقول الهالك في الفتره والمعتوه والمولود: قال: يقول الهالك في الفترة: لم يأتني كتاب ولا رسول ثم تلا {و

لو أنا أهلكناهم بعذاب من قبله لقالوا ربنا لولا أرسلت إلينا رسولاً} الآية. ويقول المعتوه: رب لم تجعل لي عقلاً أعقل به خيراً ولا شراً ويقول المولود: رب لم أدرك العمل فترقع لهم نار فيقول لهم ردوها وادخلوها قال: فيردها أو يدخلها من كان في علم الله سعيداً لو أدرك العمل ويمسك عنها من كان في علم الله شقياً لو أدرك العمل قال فيقول الله: إياي عصيتم فكيف رسلي لو أتتكم» . قال أبو عمر: من الناس يوقف هذا الحديث على أبي سعيد ولا يرفعه منهم أبو نعيم الملاي. قلت: ويضعفه من جهة المعنى أن الآخرة ليست بدار تكليف وإنما هي دار جزاء ثواب وعقاب. قال الحليمي: وهذا الحديث ليس بثابت وهو مخالف لأصول المسلمين لأن الآخرة ليست بدار الامتحان، فإن المعرفة بالله تعالى فيها تكون ضرورة ولا مجنة مع الضرورة، ولأن الأطفال هناك لا يحلو من أن يكونوا عقلاء أو غير عقلاء فإن كانوا مضطرين إلى المعرفة فلا يليق بأحوالهم المحنة وإن كانوا غير عقلاء فهم من المحنة أبعد. وقال أبو عمر رحمه الله: هذا الأحاديث من أحاديث الشيوخ وفيها علل، وليست من أحاديث الأئمة الفقهاء وهو أصل عظيم والقطع فيه بمثل هذه الأحاديث

ضعيف في العلم والنظر مع أنه قد عارضها ما هو أقوى مجيباً منها. ذكر البخاري حديث أبي رجاء العطاردي، «عن سمرة بن جندب عن النبي صلى الله عليه وسلم الحديث الطويل حديث الدويا، وفيه قوله عليه الصلاة والسلام: وأما الرجل الطويل الذي في الروضة فإبراهيم عليه السلام، وأما الوالدان حوله فكل مولود يولد على الفطرة فقيل: يا رسول الله وأولاد المشركين فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وأولاد المشركين» .. وخرج البخاري أيضاً في رواية أخرى عن أبي رجاء العطاردي: والشيخ في أصل الشجرة إبراهيم عليه السلام والصبيان حوله أولاد الناس، وهذا يقتضي عمومه جميع الناس. قلت: ذهب إلى هذا جماعة من العلماء وهو أصح شيء في الباب قالوا أولاد المشركين إذا ماتوا صغاراً في الجنة واحتجوا بحديث عائشة. ذكره أبو عمر في التمهيد قالت: «سألت خديجة رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أولاد المشركين فقال: هم مع آبائهم ثم سألته بعد ذلك فقال: الله أعلم بما كانوا عاملين ثم سألته بعد ما استحكم الإسلام فنزلت {ولا تزر وازرة وزر أخرى} قال هم على القنطرة أو قال هم في الجنة» . قلت: هذا حديث مرتب في غاية البيان وهو يقضي على ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في أحاديث صحاح من قوله في الأطفال «الله أعلم بما كانوا عاملين» فكان ذلك منه قبل أن يعلم أن أولاد المشركين في الجنة وقيل أن ينزل عليه {ولا تزر وازرة وزر أخرى} . وقد كان عليه الصلاة والسلام أنزل عليه بمكة {قل ما كنت بدعاً من الرسل وما أدري ما

يفعل بي ولا بكم إن أتبع إلا ما يوحى إلي} ولم يكشف له عن عاقبة أمرهم وأمر المشركين ثم أنزل عليه {هو الذي أرسل رسوله بالهدى} الآية، وأنزل عليه {ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين * إنهم لهم المنصورون * وإن جندنا لهم الغالبون} وأنزل عليه {وأخرى تحبونها نصر من الله وفتح قريب} فاعلمه بأن الذي يفعل به أن يظهر عليهم. وقد ذكر ابن سنجر واسمه محمد بن سنجر قال: «حدثنا هوذة، حدثنا عوف عن حسناء بنت معاوية قالت: حدثني عمي قال: قلت يا رسول الله من في الجنة؟ قال: النبي في الجنة والمولود في الجنة والوثيدة في الجنة والشريد في الجنة» . «وعن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: سألت ربي عن اللاهين من ذرية البشر أن لا يعذبهم فأعطانيهم» قال أبو عمر: إنما قيل للأطفال اللاهين لأن أعمالهم كاللهو واللعب من غير عقد ولا عزم من قولهم لهيت في الشيء أي لم أعتقده كقوله {لاهية قلوبهم} وقالت طائفة: أولاد المشركين خدم أهل الجنة، وحجتهم ما رواه الحجاج بن نضير «عن مبارك بن فضلة بن علي بن زيد، عن أنس، عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه قال: أولاد المشركين خدم أهل الجنة» ذكره أبو عمر.

قلت: وإسناده إذاً الحديث ليس بالقوي لكن يدل على صحة هذا القول. أعني أنهم في الجنة أو أنهم خدم أهل الجنة، ما ذكر جماعة من العلماء بالتأويل أن الله تعالى لما أخرج ذرية آدم من صلبه في صور الذر أقروا له بالربوبية وهو قوله {وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا} ثم أعادهم في صلب آدم بعد أن أقروا له بأنه لا إله. إلا هو ثم يكتب العبد في بطن أمه شقياً أو سعيداً على الكتاب الأول فمن كان في الكتاب الأول شقياً عمر حتى يجري عليه القلم فينقض الميثاق الذي أخذ عليه في صلب آدم بالشرك، ومن كان في الكتاب الأول سعيداً عمر حتى يجري عليه القلم فيؤمن فيصير سعيداً، ومن مات صغيراً من أولاد المسلمين قبل أن يجري عليه القلم فهم مع آبائهم في الجنة، ومن كان من أولاد المشركين فمات قبل أن يجري عليه القلم فليس يكونون مع آبائهم في النار لأنهم ماتوا على الميثاق الأول الذي أخذ عليهم في صلب آدم صلى الله عليه وسلم ولم ينقضوا الميثاق. قلت: وغفر له وهذا أيضاً حسن، فإنه جمع بين الأحاديث ويكون معنى قوله عليه الصلاة والسلام لما سئل عن أولاد المشركين فقال: «الله أعلم بما كانوا عاملين» يعني لو بلغوا بدليل حديث البخاري وغيره مما ذكرناه. وقد روى أبان «عن أنس قال سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أولاد المشركين، فقال: لم يكن لهم حسنات فيجزوا بها فيكونوا من ملوك الجنة ولم يكن لهم سيئات فيعاقبوا عليها فيكونوا من أهل النار فهم خدم لأهل الجنة» . ذكره يحيى بن سلام في

تفسيره. وأبو داود الطيالسي في مسنده، وأبو نعيم الحافظ أيضاً «عن يزيد الرقاشي عن أنس قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذراري المشركين لم يكن لهم ذنوب يعاقبون عليها فيدخلون النار، ولم تكن لهم حسنات يجازون بها فيكونوا من ملوك الجنة، فقال النبي: من خدم أهل الجنة» . روى أبو عبد الله الترمذي الحكيم قال: حدثنا أبو طالب الهروي قال: حدثنا يوسف بن عطية عن قتادة، حدثنا أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كل مولود يولد من ولد كافر أو مسلم فإنما يولدون على الفطرة على الإسلام كلهم، ولكن الشياطين أتتهم فاختالتهم عن دينهم فهودتهم ونصرتهم ومجستهم وأمرتهم أن يشركوا بالله ما لم ينزل به سلطاناً. وخرج من حديث عياض بن حماد المجاشعي «عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال في خطبته: أن الله أمرني أن أعلمكم وقال إني خلقت عبادي كلهم حنفاء فأتتهم الشياطين فاختالتهم عن دينهم وأمرتهم أن يشركو بي وحرمت عليهم ما أحللت لهم» . قال أبو عبد الله الترمذي: هذا بعد الإدراك حين عقلوا أمر الدنيا، وتأكدت حجة عليهم بما نصب من الآيات الظاهرة من خلق السموات والأرض والشمس والقمر والبر والبحر، واختلاف الليل والنهار، فلما غلبت

باب منه وفي ثواب من قدم ولدا

أهواؤهم عليهم أتتهم الشياطين فدعتهم إلى اليهودية والنصرانية بأهوائهم يميناً وشمالاً. قلت: وهذا أيضاً يقوي ما أخذناه من أطفال المشركين في الجنة، وحديث عياض بن حماد خرجه مسلم في صحيحه وحسبك حسبك. وللعلماء في الفطرة أقول قد ذكرناها في كتاب جامع أحكام القرآن من سورة الروم، والحمد لله. باب منه وفي ثواب من قدم ولدا مسلم عن أبي حسان قال: قلت لأبي هريرة رضي الله عنه أنه مات لي ابنان فما أنت محدثي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم تطيب به أنفسنا عن موتانا؟ قال: نعم صغارهم دعاميص الجنة يتلقى أحدهم أباه أو قال أبويه فأخذ بثوبه أو قال بيده كما آخذ أنا بصنيعة ثوبك هذا فلا يتناهى أو قال فلا ينتهي حتى يدخله الله وأبويه الجنة. وخرج أبو داود الطيالسي قال: «حدثنا شعبة، عن معاوية بن قرة، عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يختلف إليه رجل من الأنصار معه ابن له، فقال له

رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم: أتحبه يا فلان؟ فقال: نعم. قال: أحبك الله كما أحبه ففقده النبي صلى الله عليه وسلم، فسأله عنه فقالوا يا رسول الله مات ابنة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أما ترضى أو لا ترضى أن لا تأتي باباً من أبواب الجنة إلا جاء يسعى حتى يفتحه لك فقالوا يا رسول الله: أله واحده ألم لنا كلنا؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم بل لكلكم» . ذكره أبو عمر في التمهيد أيضاً. وقال هذا حديث حسن ثابت صحيح. وخرج أبو داود الطيالسي في مسنده قال: «حدثنا هشام عن قتادة عن راشد عن عبادة بن الصامت: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: والنفساء يجرها ولدها يوم القيامة بسرره إلى الجنة» . فصل هذا الحديث يدل على أن صغار أولاد المؤمنين في الجنة، وهو قول أكثر أهل العلم كما بينا في الباب قبل هذا وهو مقتضى ظاهر قول الله عز وجل {والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم} كما تقدم. وقد أنكر بعض العلماء

الخلاف فيهم، وهذا فما عدا أولاد الأنبياء عليهم السلام، فإنه قد تقرر الإجماع على أنهم في الجنة. حكاه أبو عبد الله المازري. ودعاميص: جمع دعموص وهو دويبة تغوص في الماء والجمع دعاميص ودعامص قال الأعشى: فما ذنبنا أن حاش لي بحر علمكم ... وبحرك ساج لا يوارى الدعامصا وقد قيل: إن الدعموص يراد به الآذن على الملوك المتصرف بين أيدهم. قال أمية ابن الصلت: دعموص أبواب الملوك، وجانب للخرق فاتح. وهذا هو المراد بالحديث. وفي صحيح البخاري «عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: من مات له ثلاثة من الولد لم يبلغوا الحنث كانوا له حجاباً من النار وأدخله الجنة» . قال المؤلف رحمه الله: قوله عليه الصلاة والسلام: لم يبلغوا الحنث معناه عند أهل العلم: لم يبلغوا الحلم ولم يبلغوا أن يلزمهم حنث.

وقد روى الترمذي «عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من قدم ثلاثة من الولد لم يبلغوا الحلم كانوا له حصناً حصيناً من النار. قال أبو ذر قدمت اثنين قال واثنين. فقال أبي بن كعب سيد القراء قدمت واحداً. قال وواحداً ولكن إنما ذاك عند الصدمة الأولى» . قال أبو عيسى: هذا حديث غريب، وأبو عبيدة لم يسمع من أبيه. خرجه ابن ماجه أيضاً. وفي هذا كله دليل على أن أطفال المسلمين في الجنة لأن الرحمة إذا نزلت بآبائهم استحال أن يرحموا من أجل من ليس بمرحوم. قال أبو عمر بن عبد البر: وهذا إجماع من العلماء في أن أطفال المسلمين في الجنة ولم يخالف في ذلك إلا فرقة شذت من المجرة، فجعلتهم في المشية وهو قول مهجور مردود بإجماع الحجة الذين لا يجوز مخالفتهم ولا يجوز على مثلهم الغلط. إلا ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم من أخبار الآحاد الثقات العدول وأن قوله صلى الله عليه وسلم: «الشقي من شقى في بطن أمه وأن الملك ينزل فيكتب أجله ورزقه» الحديث مخصوص. وأن مات من أطفال المسلمين قبل الاكتساب فهو ممن سعد وهو في بطن أمه ولم يشق بدليل الأحاديث والإجماع. وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم لعائشة: «إن الله خلق الجنة وخلق لها أهلاً، وهم في أصلاب آبائهم، وخلق النار، وخلق لها أهلاً وهم في أصلاب آبائهم» ساقط ضعيف مردود بالإجماع والآثار، وطلحة بن يحيى الذي

باب ما جاء في نزل أهل الجنة وتحفهم إذا دخلوها

يرويه ضعيف لا يحتج به. وهذا الحديث مما انفرد به فلا يعرج عليه. باب ما جاء في نزل أهل الجنة وتحفهم إذا دخلوها روى البخاري ومسلم «عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: تكون الأرض يوم القيامة خبزة واحدة يكفئها الجبار بيده كما يكفئ أحدكم خبزته في السفر، نزلا لأهل الجنة. قال: فأتى رجل من اليهود فقال: بارك الرحمن عليك يا أبا القاسم ألا أخبرك بنزل أهل الجنة يوم القيامة؟ قال: بلى، قال: تكون الأرض خبزة واحدة كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال فنظر إلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم ضحك حتى بدت نواجذه. قال ألا أخبرك بإدامهم؟ قال: بلى. قال: بالام ونون. قالوا وما هذا؟ قال: ثور ونون يأكل من زائدة كبدها سبعون ألفاً» . وخرج مسلم «عن ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: كنت قاعداً عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاءه حبر من أحبار اليهود فقال: السلام عليك يا محمد فدفعته دفعة كاد يصرع منها فقال: لم تدفعني؟ فقلت: ألا تقول: يا رسول الله؟ فقال اليهودي: إنما ندعوه باسمه الذي سماه به أهله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن اسمي محمد الذي سماني به أهلي. فقال اليهودي: جئت أسألك. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم أينفعك شيء إن حدثتك؟ قال: أسمع بأذني، فكنت رسول الله صلى الله عليه وسلم بعود معه. فقال: سل. فقال اليهودي: أين تكون الناس يوم تبدل الأرض غير الأرض والسموات؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هم في الظلمة دون الجسر. قال: فمن أول الناس إجازة؟ قال: فقراء المهاجرين. قال اليهودي: فما تحفتهم حين يدخلون الجنة؟ قال: زيادة كبد النون. قال: فما غذاؤهم؟ قال: ينحر لهم ثور الجنة الذي كان يأكل من أطرافها قال: فما شرابهم على إثراها؟ قال: من عين فيها تسمى سلسبيلاً فقال: صدقت» . وذكر الحديث.

فصل قلت: هذا الحديث انفرد به مسلم وهو أبين من الحديث الآخر الذي قبله لأنه من قول النبي صلى الله عليه وسلم جواباً لليهودي، والحديث الذي قبله آخره من قول اليهودي وهو يدخل في المسند لإقرار النبي صلى الله عليه وسلم. والجبار اسم من أسماء الله تعالى قد أتينا على ذكره في الكتاب الأسنى في شرح أسماء الله الحسنى، ويكفئها ويقلبها ويميلها من قولك كفأت الإناء إذا كببته، وقد تقدم أن أرض المحشر كقرصة النقي ليس فيها أعلم لأحد. والنزل ما يعد للضيف من الطعام والشراب. ويقال نزل أو نزل بتخفيف الزاي وتثقيلها، وقريء بذلك قوله {نزلاً من عند الله} قال أهل اللغة: النزل ما يهيأ للنزيل. والنزيل الضيف. قال الشاعر: نزيل القوم أعظمهم حقوقاً ... وحق الله في حق النزيل وحظ النزيل مجتمع، والتحفة ما يتحف به الإنسان من الفواكه، والطرف محاسنة وملاطفة، وزيادة كبد النون قطة منه كالإصبع، وبالأم قد جاء مفسراً في متن الحديث أنه الثور، ولعل اللفظ عبرانية، والنون الحوت وهو عربي. وفي الخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال سيد إدام الدنيا والآخرة اللحم ذكره أبو عمرو في التمهيد. وذكر ابن المبارك قال: أخبرنا ابن لهيعة قال: حدثني يزيد بن أبي حبيب أن أبا الخير أخبره ابن العوام مؤذن إيليا أول رجل أذن بإبليا أخبره أنه سمع كعباً يقول إن الله تبارك وتعالى يقول لأهل الجنة إذا دخلوها: إن لكل ضعيف جزوراً وإني أجزركم اليوم حوتاً وثوراً فيجزر لأهل الجنة.

باب ما جاء أن مفتاح الجنة لا إله إلا الله والصلاة

باب ما جاء أن مفتاح الجنة لا إله إلا الله والصلاة أبو داود الطيالسي قال: «حدثنا سليم بن معاذ الضبي، عن أبي يحيى القتات، عن مجاهد، عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مفتاح الصلاة الوضوء، ومفتاح الجنة الصلاة» . والبيهقي «عن معاذ بن جبل قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: حين بعثه إلى اليمن أنك ستأتي أهل الكتاب فيسألونك عن مفتاح الجنة فقل شهادة أن لا إله إلا الله» . وفي البخاري: وقيل لوهب: أليس مفتاح الجنة لا إله إلا الله؟ قال: بلى. ولكن ليس مفتاح إلا وله أسنان، فإن جئت بمفتاح له أسنان فتح لك وإلا لم يفتح لك. فصل قلت: الأسنان عبارة عن توحيد الله وعبادته جميعاً وعن توحيده أيضاً فقط. قال الله تعالى {وبشر الذين آمنوا وعملوا الصالحات أن لهم جنات تجري من تحتها الأنهار} وقال: {إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات كانت لهم جنات الفردوس نزلاً} وهو في القرآن كثير الإيمان مع العمل،

وهو مقتضى الحديث الأول حديث جابر رضي الله عنه وعن توحيد الله فقط. وفي الصحيحين «عن أبي ذر رضي الله عنه وغيره عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال من مات لا يشرك بالله شيئاً دخل الجنة قالت: وإن زنى وإن سرق؟ قال وإن زنى وإن سرق» . وذكر الطبراني «من حديث موسى بن عقبة، عن إسحاق بن يحيى بن طلحة عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: حضر ملك الموت عليه السلام رجلاً فنظر في كل عضو من أعضائه فلم يجد فيه حسنة، ثم شق قلبه فلم يجد فيه شيئاً، ثم فك عن لحيته فوجد طرف لسانه لاصقاً بحنكه يقول: لا إله إلا الله فقال: وجبت لك الجنة بقول كلمة الإخلاص» .

باب الكف عمن قال: لا إله إلا الله

باب الكف عمن قال: لا إله إلا الله مسلم «عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أمرت أن أقاتل حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله ويؤمنوا بي وبما جئت به فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله» . باب ما جاء أن المؤمن حرام دمه وماله وعرضه وفي تعظيم حرمته عند الله تعالى ابن ماجه، «عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع: ألا إن أحرم الأيام يومكم هذا، وإن أحرم الشهور شهركم هذا، وإن أحرم البلد بلدكم هذا، ألا وإن دماءكم وأموالكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في بلدكم هذا، في شهركم هذا، ألا هل بلغت؟ قالوا: نعم.

قال: اللهم اشهد» . خرجه مسلم من حديث أبي بكرة وجابر بمعناه. وخرج ابن ماجه أيضاً «عن عبد الله بن عمرو قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يطوف بالكعبة ويقول: ما أطيبك وأطيب رائحتك ما أعظمك وأعظم حرمتك والذي نفسي بيده لحرمة المؤمن أعظم عند الله حرمه منك ماله ودمه وأن لا يظن به إلا خيراً» . مسلم «عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه» . النسائي «عن بريدة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قتل المؤمن عند الله أعظم من زوال الدنيا» . الترمذي «عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال، من أشار على أخيه بحديدة لعنته الملائكة» . قال: حديث حسن صحيح غريب. باب ما جاء في قتل مؤمناً والإعانة على ذلك قال الله تعالى: {ومن يقتل مؤمناً متعمداً فجزاؤه جهنم خالداً فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذاباً عظيماً}

وقال تعالى: {والذين لا يدعون مع الله إلهاً آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون ومن يفعل ذلك يلق أثاما * يضاعف له العذاب يوم القيامة ويخلد فيه مهاناً} . وروى عبد العزيز بن يحيى المدني قال: «حدثنا مالك بن أنس، عن أبي الزناد، عن خارجة بن زيد، عن ثابت قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعظنا ويحدثنا ويقول: والذي نفسي بيده ما عمل على وجه الأرض قط عمل أعظم عند الله بعد الشرك من سفك دم حرام، والذي نفسي بيده إن الأرض لتضج إلى الله تعالى من ذلك ضجيجاً تستأذنه فيمن عمل ذلك على ظهرها لتخسف به» . وذكره أبو نعيم. قال: حدثنا شافع بن محمد بن أبي عوانة الأسفرايني قال: حدثنا أحمد بن عبد الجوهري قال: حدثنا علي بن حرب قال: حدثنا عبد العزيز بن يحيى قال: حدثنا مالك فذكره. أبو داود «عن أبي الدرداء قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول كل ذنب عسى الله أن يغفره إلا من مات مشركاً أو مؤمن قتل مؤمنا متعمداً» . وعنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا يزال المؤمن معنقاً صالحاً ما لم يصب دماً حراماً فإذا أصاب دماً حراماً بلح» قال الهروي: بلح أي أعيا وانقطع به يقال: بلح الفرس إذا انقطع جريه وبلحت الركية إذا انقطع ماؤها.

باب إقبال الفتن ونزولها كمواقع القطر والظلل ومن أين تجيء والتحذير منها وفضل العبادة عندها

وذكر أبو بكر النيسابوري قال: «حدثنا زكريا بن يحيى قال: حدثنا عمرو قال: حدثنا الفزاري، عن زياد بن أبي زيادة الشامي، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من أعان في قتل مسلم بشطر كلمة لقي الله يوم يلقاه القيامة مكتوب على جبهته آيس من رحمة الله» . قال الهروي وفي الحديث «من أعان على قتل مؤمن بشطر كلمة» قال: شقيق هو أن يقول في أقتل أو كما قال عليه الصلاة والسلام: «كفى بالسيف مثا» معناه: شافياً. باب إقبال الفتن ونزولها كمواقع القطر والظلل ومن أين تجيء والتحذير منها وفضل العبادة عندها قال الله تعالى {واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة} وقال تبارك وتعالى: {ونبلوكم بالشر والخير فتنة} ففي هذا تنبيه بالغ على التحذير من الفتن. مسلم «عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بادروا بالأعمال فتناً كقطع الليل المظلم. يصبح الرجل مؤمناً يمسي كافراً، ويمسي مؤمناً ويصبح كافراً. يبيع دينه بعرض من الدنيا» . «وعن زينب بنت جحش زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً

فزعاً محمراً وجهه يقول: لا إله إلا الله. ويل للعرب من شر قد اقترب فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذه وحلق بإصبعين الإبهام والتي تليها قالت فقلت يا رسول الله أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: نعم إذا كثر الخبث» . و «عن أسامة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم أشرف على أطم من آطام المدينة ثم قال: هل تدون ما أرى؟ إني لأرى مواقع الفتن خلال بيوتكم كمواقع القطر» . أخرجهما البخاري. البيهقي، «عن كرز بن علقمة الخزاعي قال: سأل رجل النبي صلى الله عليه وسلم: هل للإسلام من منتهى؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أيما أهل بيت من العرب أو العجم أراد الله بهم خيراً أدخل عليهم الإسلام فقال: ثم ماذا؟ قال: ثم تقع الفتن كالظلل فقال الرجل كلا والله إن شاء الله. قال بلى والذي نفسي بيده لتعودن فيها أساود صبا يضرب بعضكم رقاب بعض» . قال الزهري: أساود صبا: الحية السوداء إذا أراد أن ينهش ارتفع هكذا ثم انصب. خرجه أبو داود الطيالسي أيضاً.

قال ابن دحية أبو الخطاب الحافظ: هذا الحديث لا مطعن في صحة إسناده. رواه سفيان بن عيينة، عن الزهري عن عروة بن الزبير عن كرز. قرأته بجامع قرطبة وبمسجد الغدير وبمسجد أبي علاقة على المحدث المؤرخ أبي القاسم خلف بن عبد الملك بن بشكوال الأنصاري. قال سمعت جميع هذا الكتاب، وهو جامع الخير للإمام سفيان بن عيينة عن الشيخين الجليلين الثقة المفتي أبي محمد عبد الرحمن بن محمد بن عتاب، والوزير الكتاب الثقة أبي الوليد أحمد بن عبد الله بن طريف فإلا قرأناه على العدل أبي القاسم حاتم بن محمد التميمي بحق سماعه على الثقة الفاضل أبي الحسن أحمد بن إبراهيم بن أحمد بن فراس رحمه الله بمكة حرسها الله تعالى بالمسجد الحرام بحق سماعه على الثقة أبي جعفر أحمد بن إبراهيم الديلي، بحق سماعه على الثقة الصالح أبي عبيد سعيد بن عبد الرحمن المخزومي، بحق سماعه من الإمام الفقيه أبي محمد سفيان بن عيينة. قال المؤلف رحمه الله: وقد حدثني بهذا السند المذكور الفقيه القاضي أبو عامر يحيى ابن عبد الرحمن إجازة عن أبي القاسم خلف بن عبد الملك بن بشكوال وكرز هو كرز بن علقمة بن هلال الخزاعي أسلم يوم الفتح وعمر طويلاً، وهو الذي نصب أعلام الحرم في خلافة معاوية وإمارة مروان بن الحكم وفيه، ثم مه قال، ثم تعود الفتن بدل قال: ثم ماذا قال: ثم تقع الفتن ولم يذكر قول الزهري إلى آخره. قال الحافظ أبو الخطاب بن دحية: قول الرجل: ثم مه هنا على الاستفهام. أي ثم ما يكون. ومه: في غير هذا الموضع زجر وإسكات

كقوله عليه الصلاة والسلام: «مه إنكن صواحب يوسف» وقوله «كأنها الضلل» ، الظلل السحاب والظلة السحابة ومنه قوله تعالى: {فأخذهم عذاب يوم الظلة} وقول الرجل بجهله: كلا والله معناه الجحد بمعنى لا والله. وقيل: هي بمعنى الزجر فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «بلى والذي نفسي بيده» وبلى للنفي استفهاماً كان أو خبراً أو نهياً، فالاستفهام {ألست بربكم} و {أليس ذلك بقادر} جوابه: بلى هو قادر ومثال الخبر {لن تمسنا النار} جوابه قالوا: بل تمسكم. ومثال النهي لا تلق زيداً، جوابه: بلى لألقينه. قال أبو الخطاب بن دحية: وقوله صبا هكذا قيدناه بضم الصاد وتشديد الباء على مثال غر. والأساود: نوع من الحيات عظام فيها سوداء وهو أخبثها والصب منها التي روى تنهش ثم ترتفع ثم تنصب. شبههم فيما يتولونه من الفتن والقتل والأذى بالصب من الحيات. قال المؤلف رحمه الله: الأساود جمع أسود وهو الحية وصباً جمع كغار وغز، وهو الذي يميل ويلتوي وقت الهش ليكون أنكي في اللدغ وأشد صباً للسم، ويجوز أن يكون جمع أصب وهو الذي كأنه عند الهش انصباباً والأول من صبا إذا مال والثاني من صب إذا سكب.

مسلم «عن أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت: استيقظ النبي صلى الله عليه وسلم ليلة فزعاً مرعوباً يقول: سبحان الله ماذا فتح اللية من الخزائن وماذا أنزل من الفتن من يوقظ صواحب الحجر يريد أزواجه لكي يصلين رب كاسية في الدنيا عارية في الآخرة» . «وعن عبيد بن عمير قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا أصحاب الحجرات سعرت النار، وجاءت الفتن كأنها قطع الليل المظلم، لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً» . قال أبو الحسن القابسي هذا وإن كان مرسلاً، فإنه من جيد المراسيل وعبيد ابن عمير من أئمة المسلمين. مسلم «عن سالم بن عبد الله أنه قال: يا أهل العراق ما أسألكم عن الصغيرة وأركبكم للكبيرة. سمعت أبي عبد الله بن عمر يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن الفتنة تجيء من ها هنا وأومأ بيده نحو المشرق من حيث يطلع قرنا الشيطان وأنتم يضرب بعضكم رقاب بعض وإنما قتل موسى الذي قتل من آل فرعون خطأ. فقال الله تعالى له: {وقتلت نفساً فنجيناك من الغم وفتناك فتوناً} » . «وعن معقل بن يسار عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: العبادة في الهرج كهجرة إلي» .

فصل قوله: «ويل للعرب من شر قد اقترب» قد تقدم معنى الويل، والمراد هنا الحزن. قاله ابن عرفة. فأخبر عليه الصلاة والسلام بما يكون بعده من أمر العرب وما يستقبلهم من الويل والحرب، وقد وجد ذلك بما استؤثر عليهم به من الملك والدولة والأموال والإمارة، فصار ذلك في غيرهم من الترك والعجم وتشتتوا في البراري بعد أن كان العز والملك والدنيا لهم ببركته عليه الصلاة والسلام، وما جاءهم به من الدين والإسلام، فلمالم يشكروا النعمة وكفروها بقتل بعضهم بعضاً، وسلب بعضهم أموال بعض سلبها الله منهم ونقلها إلى غيرهم كما قال تعالى {وإن تتولوا يستبدل قوماً غيركم} ولهذا لما قالت زينب في سياق الحديث: «أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: نعم إذا كثر الخبث» . فصل قال علماؤنا رحمة الله عليهم: قولها أنهلك وفينا الصالحون؟ قول: «نعم إذا كثر الخبث» . دليل على أن البلاء قد يرفع عن غير الصالحين إذا كثر الصالحون. فأما إذا كثر المفسدون وقل الصالحون هلك المفسدون والصالحون معهم إذا لم يأمروا بالمعروف ويكرهوا ما صنع المفسدون، وهو معنى قوله {واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة} بل يعم شؤمها من تعاطاها ومن رضيها هذا بفساده وهذا برضاه وإقراره على ما نبينه.

فإنم قيل فقد قال الله تعالى: {ولا تزر وازرة وزر أخرى} ـ {كل نفس بما كسبت رهينة} ـ {لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت} وهذا يوجب أن لا يؤاخذ أحد بذنب أحد وإنما تتعلق العقوبة بصاحب الذنب. وقريء {واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة} وعلى هذه القراءة يكون المعنى أنها تصيب الظالم خاصة وهي قراءة زيد بن ثابت وعلي وأبي وابن مسعود رضي الله عنهم أجمعين. والجواب: أن الناس إذا تظاهروا بالمنكر، فمن الفرض على من رآه أن يغيره إما بيده، فإن لم يقدر فبلسانه، فإن لم يقدر فبقلبه ليس عليه أكثر من ذلك، وإذا أنكر بقلبه فقد أدى ما عليه إذا لم يستطيع سوى ذلك. روى الأئمة «عن أبي سعيد الخدري قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فلبسانه، فإن لم يستطع فبقلبه ليس عليه غيره وذلك أضعف الإيمان» . روي عن بعض الصحابة أنه قال: إن الرجل إذا رأى منكراً لا يستطيع النكير عليه فليقل ثلاث مرات: اللهم إن هذا منكر لا أرضاه فإذا قال ذلك فقد أدى ما عليه، فأما إذا سكت عليه فكلهم عاص، هذا بفعله وهذا برضاه كما ذكرنا. وقد جعل الله في حكمه وحكمته الراضي بمنزلة الفاعل فانتظم في العقوبة. دليله قوله تعالى {إنكم إذا مثلهم} فأما إذا كره الصالحون ما صنع المفسدون وأخلصوا كراهيتهم لله تعالى

وتبرأوا من ذلك حسب ما يلزمهم ويجب لله عليهم غير معتدين سلموا. قال الله تعالى {فلولا كان من القرون من قبلكم أولو بقية ينهون عن الفساد في الأرض إلا قليلا ممن أنجينا منهم} وقال: {فلما نسوا ما ذكروا به أنجينا الذين ينهون عن السوء وأخذنا الذين ظلموا بعذاب بئيس بما كانوا يفسقون} . وقال ابن عباس: قد أخبرنا الله عز وجل عن هذين ولم يخبرنا عن الذين قالوا: {لم تعظون قوماً الله مهلكهم} . وروى سفيان بن عيينة قال: حدثنا سفيان بن سعيد عن مسعد قال: بلغني أن ملكاً أمر أن يخسف بقرية، فقال يا رب إن فيها فلاناً العابد فأوحى الله تعالى إليه أن به فإبدأ فإنه لم يتغير وجهه في ساعة قط. وقال وهب بن منبه: لما أصاب داود الخطيئة قال: يا رب اغفر لي، قال: قد غفرتها لك وألزمت عارها بني إسرائيل قال: كيف يا رب وأنت الحكم العدل الذي لا تظلم أحداً أعمل أنا الخطيئة ويلزم عارها غيري، فأوحى الله تعالى إليه: يا داود إنك لما اجترأت علي بتلك المعصية لم يعجلوا عليك بالنكرة. وروى أبو داود «عن العرس بن عميرة الكندي، عن النبي صلى الله عليه وسلم

قال: إذا عملت الخطيئة في الأرض كان من شهدها فكرهها وقال مرة: فأنكرها كمن غاب عنها ومن غاب عنها فرضيتها كان كمن شهدها» . وهذا نص في الفرض. وحسن رجل عند الشعبي قتل عثمان بن عفان رضي الله عنه فقال الشعبي: قد شركت في دمه. وفي صحيح الترمذي: أن الناس إذا رأوا الظالم ولم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمهم الله بعقاب من عنده، فالفتنة إذ عمت هلك الكل، وذلك عند ظهور المعاصي وانتشار المنكر وعدم التغيير، وإذا لم تغير وجب على المؤمنين المنكرين لها بقلوبهم هجران تلك البلدة والهرب منها، وهكذا كان الحكم فيمن كان قبلنا من الأمم كما في قصة السبت حين هجروا العاصين، وقالوا: لا نساكنكم، وبهذا قال السلف رضي الله عنهم. روى ابن وهب، عن مالك قال: تهجر الأرض التي يصنع فيها المنكر جهاراً ولا يستقر فيها، واحتج بصنيع أبي الدرداء في خروجه عن أرض معاوية حين أعلى بالرباء فأجاز بيع سقاية الذهب بأكثر من وزنها. خرجه أهل الصحيح. وقال مالك في موضع آخر: إذا ظهر الباطل على الحق كان الفساد في آخر الأرض وقال: إن لزوم الجماعة نجاة وأن قليل الباطل وكثيرة هلكه وقال:

ينبغي للناس أن يغضبو لأمر لله تعالى في أن تنتهك فرائضه وحرمه، والذي أتت به كتبه وأنبياؤه، أو قال: يخالف كتابه. قال أبو الحسن القابسي: الذي يلزم الحق ويغضب لأمر الله تعالى على بينة من النجاة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين حتى يأتي أمر الله» . قال أبو عمرو وروى أشهب بن عبد العزيز قال: قال مالك لا ينبغي الإقامة في أرض يكون العمل فيها بغير حق والسب للسلف. قال أبو عمر: أما قول مالك هذا، فمعناه إذا وجد بلداً يعمل فيه الحق في الأغلب، وقد قال عمر بن عبد العزيز: فلان بالمدينة وفلان بمكة وفلان باليمن وفلان بالعراق وفلان بالشام امتلأت الأرض والله جوراً وظلماً. قال أبو عمر: فأين الهرب إلى السكوت ولزوم البيوت والرضي بأقل قوت. وقال منصور بن الفقيه فأحسن: الخير أجمع في السكوت ... وفي ملازمة البيوت فإذا استوى لك ذا وذا ... فاقنع له بأقل قوت وكان سفيان الثوري يقول: هذا زمان سوء لا يؤمن فيه على الخاملين، فكيف بالمشهورين. هذا زمان ينتقل فيه الرجل من قرية إلى قرية يفر بدينه من الفتن. ويحكى عنه أنه قال: والله ما أدري أي البلاد أسكن، فقيل له خراسان؟ فقال: مذاهب مختلفة وآراء فاسدة، فقيل الشام؟ فقال: يشار إليكم بالأصابع أراد الشهرة، فقيل له: العراق؟ قال بلد الجبابرة، فقيل له: فمكة؟ قال: مكة تذيب الكيس والبدن.

وقال القاضي أبو بكر العربي قال شيخي في العبادة: لا يذهب بك الزمان في مصافاة الأقران ومواصلة الأحزان، ولم أر للخلاص طريقاً أقرب من طريقين: إما أن يغلق المرء على نفسه بابه، وإما أن يخرج إلى مواضع لا يعرف فيه، فإن اضطر إلى مخالطة فليمن معه ببدنه وليفارقهم بقلبه ولسانه، فإن لم يستطع فبقلبه ولا يفارق السكوت. أنشدني محمد بن عبد الملك الصوفي قال: أنشدني أبو الفضل الجوهري: [الخير أجمع في السكوت] البيتان: قال القاضي: ولي في هذا المعنى شعر: حاز السلام مسلم ... يأوي إلى سكن وقوت ماذا يؤمل بعد ما ... يأوي إلى بيت وقيت قال المؤلف رحمه الله: ولأبي سليمان الخطابي في هذا المعنى شعر: أنست بوحدتي ولزمت بيتي ... فدام الأنس لي ونما السرور وأدبني الزمان فلا أبالي ... هجرت فلا أزار ولا أزور ولست بسائل ما دمت حياً ... أسار الخيل أم ركب الأمير

والشعر في هذا المعنى كثير، وسيأتي للعزلة له زيادات بيان من السنة إن شاء الله تعالى، وكثرة الخبث ظهور الزنا وأولاد الزنا. وذكر ابن وهب عن يحيى مولى الزبير أن في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم خسف قبل المشرق، فقال بعض الناس يا رسول الله: يخسف الأرض وفيها المسلمون؟ فقال: «إذا كان أكثر أهلها الخبث» . قال علماؤنا رحمة الله عليهم: فيكون إهلاك جميع الناس عند ظهور المنكر والإعلان بالمعاصي، فيكون طهرة للمؤمنين ونقمة للفاسدين لقوله عليه الصلاة والسلام: «ثم بعثوا على نياتهم» وفي رواية «على أعمالهم» وقد تقدم هذا في المعنى: فمن كانت نيته صالحة أثيب عليها، ومن كانت نيته سيئة جوزي عليها، وفي التنزيل {يوم تبلى السرائر} فاعلمه.

باب ما جاء في رحى الإسلام ومتى تدور

باب ما جاء في رحى الإسلام ومتى تدور أبو داود «عن البراء بن ناجية عن عبد الله بن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: تدور رحى الإسلام لخمس وثلاثين أو ست وثلاثين أو سبع وثلاثين فإن يهلكوا فسبيل من هلك، وإن لم يقم لهم دينهم يقم لهم سبعين عاماً، قال: قلت: أمما بقي؟ قال: مما مضى» . فصل قال الهروي في تفسيرهذا الحديث: قال الحربي: ويروى تزول وكأن تزول أقرب لأنها تزول عن ثبوتها واستقرارها، وتدور يكون بمايحبون ويكرهون فإن كان الصحيح سنة خمس، فإن فيها قام أهل مصر وحصروا عثمان رضي الله عنه، وإن كانت الرواية سنة ست ففيها خرج طلحة والزبير إلى الجمل، وإن كانت سنة سبع ففيها كانت صفين غفر الله لهم أجمعين. وقال الخطابي: يريد عليه الصلاة والسلام أن هذه المدة إذا انقضت حدث في الإسلام أمر عظيم يخاف على أهله لذلك الهلاك يقال: الأمر إذا تغير واستحال دارت رحاه وهذا والله أعلم إشارة إلى انقضاء مدة الخلافة، وقوله ليقم لهم دينهم أي ملكهم وسلطانهم، وذلك من لدن بايع

باب ما جاء أن عثمان رضي الله عنه لما قتل سل سيف الفتنة

الحسن عليه السلام معاوية إلى إنقضاء بني أمية من المشرق نحو من سبعين سنة وانتقاله إلى بني العباس والدين الملة والسلطان ومن قوله تعالى {ليأخذ أخاه في دين الملك} أي في سلطانه. وقوله: «تدور رحى الإسلام» دوران الرحى كناية عن الحرب والقتال شبهها بالرحى الدائرة التي تطحن لما يكون فيها من قبض الأرواح وهلاك الأنفس. باب ما جاء أن عثمان رضي الله عنه لما قتل سل سيف الفتنة الترمذي عن ابن أخي عبد الله بن سلام قال: لما أريد عثمان رضي الله عنه جاء عبد الله بن سلام فقال له عثمان بن عفان رضي الله عنه: ما جاء بك؟ قال: جئت في نصرتك. قال: اخرج إلى الناس فاطردهم عني فإنك خارجاً خير لي من داخل. قال: فخرج عبد الله بن سلام إلى الناس فقال: أيها الناس إنه كان في الجاهلية اسمي فلان بن فلان فسماني رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله، ونزلت في آيات من كتاب الله تعالى نزلت {وشهد شاهد من بني إسرائيل على مثله فآمن واستكبرتم إن الله لا يهدي القوم الظالمين} ونزلت في {قل كفى بالله شهيداً بيني وبينكم ومن عنده علم الكتاب} إن الله سيفاً مغموداً عنكم وإن الملائكة قد جاورتكم في بلدكم

هذا الذي نزل فيه نبيكم، فالله الله في هذا الرجل أن تقتلوه، فوالله إن قتلتموه لتطردن جيرانكم الملائكة ولتسلن سيف الله المغمود عنكم فلا يغمد إلى يوم القيامة. قال: فقالوا اقتلوا اليهودي واقتلوا عثمان. قال أبو عيسى: هذا حديث حسن غريب. قلت: ومثل هذا من عبد الله لا يكون إلا عن علم من الكتاب أعني التوراة على ما يأتي أو سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم، وسيأتي قول حذيفة لعمران: إن بينك وبينها باباً مغلقاً يوشك أن يكشر. فصل قال العلماء بالسير والأخبار: إنه دخل على أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه في الدار جماعة من الفجار منهم: كنانة بن بشر التجيبي فأشعره مشقصاً أي قتله به فافتضح الدم على المصحف ووقع على قوله تعالى {فسيكفيكهم الله وهو السميع العليم} وقيل ذبحه رجل من أهل مصر يقال له عمار، وقيل ذبحه رومان، وقيل قتله الموت الأسود يقال له أيضاً الدم الأسود من طغاة مصر، فقطع يده، فقال عثمان: أما والله إنها لأول كف خطت في المصحف، وهذه البلوى التي ثبتت في الصحيح «عن أبي موسى أن النبي صلى الله عليه وسلم

دخل حائطاً وأمرني بحفظ باب الحائط، فجاء رجل يستأذن فقال: ائذن له وبشره بالجنة فإذا أبو بكر ثم جاء آخر يستأذن، فقال: ائذن له وبشره بالجنة فإذا عمر، ثم جاء آخر يستأذن فسكت هنيهة ثم قال ائذن له وبشره بالجنة على بلوى تصيبه، فإذا عثمان بن عفان» . لفظ البخاري ذكره في مناقب عثمان. وقد قيل: إن الصحيح في مقتله رضي الله عنه أنه لم يتعين له قاتل معين بل أخلاط الناس وهم رعاع جاءوا من مصر ومن غير قطر، وجاء الناس إلى عثمان فيهم عبد الله بن عمر متقلداً سيفه وزيد بن ثابت، فقال له زيد بن ثابت: إن الأنصار بالباب يقولون إنشئت كنا أنصار الله مرتين. قال: لا حاجة لي في ذلك كفواً، وكان معه في الدار الحسن والحسين وابن عمر وعبد الله بن الزبير وأبو هريرة وعبد الله بن عامر بن ربيعة ومروان بن الحكم كلهم يحملون السلاح، فعزم عليهم في وضع أسلحتهم وخروجهم ولزوم بيتهم، فقال له الزبير ومروان: نحن نعزم على أنفسنا أن لا نبرح، فضاق عثمان رضي الله عنه من الحصار ومنع من الماء حتى أفطر على ماء البحر الملح. قال الزبير بن بكار: حاصروه شهرين وعشرين يوماً، وقال الواقدي حاصروه تسعة وأربعين يوماً ففتح الباب فخرج الناس وسلموا له راية في إسلام نفسه.

قال سليط بن أبي سليط: فنهانا الإمام عثمان عن قتالهم ولو أذن لنا لضربناهم حتى نخرجهم من أقطارها ودخلوا عليه في أصح الأقوال، وقتله من شاء الله من سفلة الرجال. وروى أبو عمر بن عبد البر «عن عائشة رضي الله عنها قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ادعوا لي بعض أصحابي، فقلت أبو بكر؟ قال: لا. فقلت: عمر؟ فقال: لا. فقلت: ابن عمك؟ قال: لا. فقلت عثمان. قال: نعم. فلما جاءه قال لي بيده فتنحيت، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يساره ولون عثمان يتغير، فما كان يوم الدار وحصر عثمان قيل له ألا نقاتل عنك قال: لا. إن رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد إلي عهداً وأنا صابر عليه» . وفي الترمذي «عن عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: يا عثمان لعل الله يقمصك قميصاً فإن أرادوك على خلعه فلا تخلعه لهم» قال: هذا حديث حسن غريب. وفيه «عن ابن عمر قال: ذكر النبي صلى الله عليه وسلم فتنة فقال: يقتل فيها هذا مظلوماً لعثمان» وقال حديث حسن غريب.

ويروى أنه دخل عليه عبد الله بن عمر بن الخطاب قال انظر ما يقول هؤلاء يقولون اخلع نفسك أو نقتلك قال له: أمخلد أنت في الدنيا؟ قال: لا فهل يزيدون على أن يقتلوك؟ قال: لا. قال: هل يملكون لك جنة أو ناراً. قال: لا. قال: فلا تخلع قميص الله عليك فيكون سنة كلما كره قوم خليفة خلعوه وقتلوه. واختلف في سنه رضي الله عنه حين قتله من قتله من الفجار ـ أدخلهم الله بحبوحة النار ـ فقيل: قتل وهو ابن ثمان وثمانين وقيل ابن تسعين سنة، وقال قتادة: قتل عثمان وهو ابن ست وثمانين وقيل غير هذا. وقتل مظلوماً كما شهد له بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم وجماعة أهل السنة وألقي على مزبلة، فأقام فيها ثلاثة أيام لم يقدر أحد على دفنه، حتى جاء جماعة بالليل خفية فحملوه على لوح وصلوا عليه ودفن في موضع من البقيع يسمى حوش كوكب، وكان مما حبسه عثمان رضي الله عنه وزاده في البقيع، وكان إذا مر به يقول يدفن فيك رجل صالح. وكان هو المدفون فيه وعمي قبره لئلا يعرف، وقتل يوم الجمعة لثماني ليال خلون من ذي الحجة يوم التروية سنة خمس وثلاثين قاله الواقدي. وقيل ليلتين بقيتا من ذي الحجة،

وكانت خلافته إحدى عشر سنة إلا أياماً اختلف فيها رضي الله عنه. وقيل إن المتعصبين على عثمان رضي الله عنه من المصريين ومن تابعهم من البلدان كانوا أربعة آلاف، وبالمدينة يومئذ أربعون ألفاً. وقد اختلف العلماء فيمن نزل به مثل نازلة عثمان ألحقه الله جناح المغفرة والرضوان هل يلقى بيده أو يستنصر، فأجاز جماعة من الصحابة والتابعين وفقهاء المسلمين أن يستسلم وهو أحد قولي الشافعي، وقال بعض العلماء: لا يسلم بيده بل يستنصر ويقاتل ولكل من القولين وجه ودليل، وسيأتي بيانه إن شاء الله تعالى. وقال بعض العلماء: ولو اجتمع أهل المشرق والمغرب على نصرة عثمان لم يقدروا على نصرته، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنذره في حياته فأعلمه بالبلوى التي تصيبه، فكان ذلك من المعجزات التي أخبر بوقوعها بعد موته صلى الله عليه وسلم وما قال رسول الله شيئاً قط إلا كان. وقال حسان بن ثابت: قتلتم ولي الله في جوف داره ... وجئتم بأمر جائر غير مهتد فلا ظفرت إيمان قوم تعاونوا ... على قتل عثمان الرشيد المسدد وخرج مسلم في صحيحه قال: وحدثنا محمد بن المثنى ومحمد بن حاتم قالا: حدثنا معاذ بن جبل قال: حدثنا ابن عوف عن محمد قال: قال جندب جئت يوم الجرعة، فإذا رجل جالس فقلت له ليهراقن اليوم ههنا

دم. فقال ذلك الرجل: كلا والله. قلت: بلى والله. قال: كلا والله. قلت: بلى والله. قال ثلاثاً كلا إنه لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم حدثنيه قلت: بئس الجليس لي أنت منذ اليوم تسمعني أخالفك، وقد سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا تنهني ثم قلت: ما هذا الغضب فأقبلت عليه أسائله فإذا الرجل حذيفة. والجرعة: موضع بجهة الكوفة على طريق الحيرة قيده الحفاظ بفتح الجيم والراء، وقيده بعض رواة الحفاظ بإسكان الراء وهو يوم خرج فيه أهل الكوفة متألبين متعصبين ليردوا إلى عثمان بن عفان، وهو سعيد بن العاص بن أمية بن عبد شمس، وكتبوا إلى عثمان لا حاجة لنا في سعيدك ولا وليدك، وكان رده سنة أربع وثلاثين، وكتبوا إلى عثمان ان يولي عليهم أبا موسى الأشعري، فلم يزل والياً عليهم إلى أن قتل عثمان ولما سمع بقتله يعلى بن أمية التميمي الحنظلي أبو صفوان، أبي هريرة يقال له خالد أسلم يوم الفتح وشهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حنيناً والطائف وتبوك وكان صاحب الجند وصنعاء أقبل لينصره، فسقط عن بعيره في الطريق فانكسرت فخذه فقدم مكة بعد انقضاء الحج فخرج إلى المسجد وهو كسير على سرير، واستشرف إليه الناس واجنمعوا فقال: من خرج يطلب بدم عثمان فعلي جهازه فأعان الزبير بأربعمائة ألف وحمل سبعين رجلاً من قريش، وحمل رضي الله عنها على جمل أذب ويقال أذب لكثرة وبره اشتراه ابن أمية الحنظلي بمائتي دينار. قاله ابن عبد البر

في الاستيعاب، وقال ابن شبة في كتاب الجمل له: اشتراه بثمانين ديناراً والأول أصح واسمه عسكر. وذكر ابن سعد قال: أخبرنا محمد بن عمر قال: حدثني اسماعيل بن إبراهيم عن أبيه قال: كان عبد الله بن أبي ربيعة عاملاً لعثمان على صنعاء، فلما بلغه خبر عثمان أقبل سريعاً لينصره، فلقيه صفوان بن أمية وصفوان على فرس، وعبد الله بن أبي ربيعة على بغلة، فدنا منها الفرس فحادت فطرحت ابن أبي ربيعة فكسرت فخذه، فقدم مكة بعد الضرر وعائشة بمكة يومئذ تدعو إلى الخروج تطلب دم عثمان، فأمر بسرير فوضع له سرير في المسجد ثم حمل فوضع على سريره، فقال: أيها الناس من خرج في طلب دم عثمان فعلي جهازه. قال: فجهز ناساً كثيراً وحملهم ولم يستطع إلى الجمل لما كان برجله. أخبرنا محمد بن عمر قال: حدثني محمد بن عبد الله ابن عبيد عن أبي مليكة، عن عبد الله بن أبي السائب قال: رأيت عبد الله بن أبي ربيعة على سرير في المسجد الحرام يحض الناس على الخروج في طلب دم عثمان ويحمل ما جاء. انتهى كلام ابن سعد في الطبقات ولا تعارض والحمد لله، فإنه يحتمل أن يكون خرجا جميعاً في نصرة عثمان فكسروا أو اجتمعا بمكة وجعلا يجهزان من يخرج، والله أعلم.

وكانت عائشة رضي الله عنها حاجة في السنة التي قتل فيها عثمان، وكانت مهاجرة له، فاجتمع طلحة والزبير ويعلى وقالوا لها بمكة: عسى أن تخرجي رجاء أن يرجع الناس إلى أمهم ويراعوا نبيهم وهي تمتنع عليهم، فاحتجوا عليها بقوله تعالى {لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس} وقالوا لها: إن المتألبين على عثمان بالبصرة كثير فبلغت الأقضية مقاديرها. فاصطف الناي للقتال ورموا علياً وأصحابه بالنبال، فقال علي: لا ترموا بسهم ولا تضربوا بسيف ولا تطعنوا برمح، فرمى رجل من عسكر القوم بسهم فقتل رجلاً من أصحاب علي فأتى به إلى علي فقال: اللهم أشهد ثم رمي آخر، فقتل رجلاً من أصحاب علي، فقال علي: اللهم أشهد ثم رمي آخر، فقال علي اللهم اشهد، وقد كان علي نادى الزبير يا أبا عبد الله: ادن إلي اذكرك كلاماً سمعته أنا وأنت من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: علي الأمان. فقال: على الأمان فبرز فأذكره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له وقد وجدهما يضحكان بعضهما إلى بعض «أما أنك ستقاتل علياً وأنت له ظالم» فقال الزبير:

اللهم إني ما ذكرت هذا إلا في هذه الساعة وثنى عنان فرسه لينصرف، فقال له ابنه عبد الله: إلى أين؟ قال: أذكرني علي كلاماً قاله له رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: كلا ولكنك رأيت سيوف بني هاشم حداداً ويحملها حداداً ويحملها رجال شداد. قال: ويلك ومثلي يعير بالجبن هلم الرمح، فأخذ الرمح وحمل في أصحاب علي، فقال علي: افرجو للشيخ فإنه محرج، فشق الميمنة والميسرة والقلب ثم رجع وقال لابنه: لا أم لك أبفعل هذا جبان وانصرف. وقامت الحرب على ساق، وبلغت النفوس إلى التراق، فأفرجت عن ثلاثة وثلاثين ألف قتيل، وقيل عن سبعة عشر ألفاً وفيه اختلاف فيهم. من الأزد أربعة آلاف، ومن ضبة ألف ومائة وباقيهم من سائر الناس كلهم من أصحاب عائشة. وقتل فيها من أصحاب علي نحو من ألف رجل وقيل أقل، وقطع على خطام الجمل سبعون يداً من بني ضبة كلما قطعت يد رجل أخذ الزمام آخر وهم ينشدون: نحن بنو ضبة أصحاب الجمل ... ننازل الموت إذا الموت نزل والموت أشهى عندنا من العسل وكان الجمل للراية إلى أن عقر الجمل، وكانوا قد ألبسوه الأدراع، وقال جملة من أهل العلم: إن الوقعة بالبصرة بينهم كانت على غير عزيمة منهم على الحرب، بل فجأة وعلى سبيل دفع كل واحد من الفريقين

عن أنفسهم لظنه أن الفريق الآخر قد غدر به، لأن الأمر كان انتظم بينهم على الصلح والتفريق على الرضا، فخاف قتلة عثمان من التمكن منهم والإحاطة بهم، فاجتمعوا وتشاوروا واختلفوا ثم اتفقت آراؤهم على أن يفترقوا فريقين ويبدوا في الحرب شجرة في العسكرين وتختلف السهام بينهم ويصيح الفريق الذي في عسكر علي غدر طلحة والزبير، والذي في عسكر طلحة والزبير غدر علي، فتم لهم ما أرادوا ودبروه ونشبت الحرب، فكان كل فريق دافعاً لمكرته عند نفسه ومانعاً من الإشاطة بدمه وهذا صواب من الفريقين وطاعة الله إذ وقع القتال والامتناع منهما على هذا السبيل، وهذا هو الصحيح المشهور، وكان قتالهم من ارتفاع النهار يوم الخميس إلى قريب العصر لعشر ليال خلون من جمادي الآخرة سنة ست وثلاثين. وفي صحيح مسلم من كتاب الفتن «عن ابن عمر قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من بيت عائشة فقال: رأس الكفر من ها هنا من حيث يطلع قرنا الشيطان» يعني المشرق وقيل: هذا بنصف ورقة بأسانيد منها عن عبد الله بن عمر القواريري ومحمد بن المثنى باضطراب في بيت حفصة، ثم قال وقال عبد الله بن سعيد في روايته قام رسول الله صلى الله عليه وسلم

عند باب عائشة فقال بيده نحو المشرق «الفتنة ها هنا من حيث يطلع قرنا الشيطان» قالها مرتين أو ثلاثاً. وذكر الإمام أحمد بن حنبل في مسنده في الخامس عشر من مسند عائشة رضي الله عنها قال: حدثني محمد بن جعفر قال: حدثنا شعبة، عن إسماعيل بن ابي خالد عن قيس بن أبي حازم أن عائشة رضي الله عنها لما أتت الحوبة سمعت نباح الكلاب فقالت: ما أظنني ألا راجعة إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لنا: «أيتكن تنبح كلاب الحوأب» فقال لها الزبير: ترجعين عسى الله أن يصلح لك بين الناس. وروى أبو بكر بن أبي شيبة قال: «حدثنا وكيع بن الجراح، عن عصام بن قدامة، عن عكرمة، عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أيتكن صاحبة الجمل الأذيب يقتل حولها قتلى كثيرة وتنجو بعد ماكادت» وهذا حديث ثابت صحيح رواه الإمام المجمع على عدالته وقبول روايته الإمام أبو بكر عبد الله بن أبي شيبة، وكذلك وكيع مجمع على عدالته وحفظه وفقهه عن عصام وهو ثقة عدل فيما ذكر أبو عمر بن عبد البر في كتاب الاستيعاب له، عن عكرمة وهو عند أكثر العلماء ثقة عالم وهذا الحديث من أعلام نبوته صلى الله عليه وسلم وهو إخباره بالشيء قبل كونه. وقوله [الأذيب] أراد الأذب، فأظهر التضعيف والعجب من القاضي أبي بكر بن العربي كيف أنكر هذا الحديث في كتبه. منها في كتاب العواصم من القواصم، وذكر أنه لا يوجد أصلاً وأظهر

لعلماء المحدثين بإنكاره غباوة وجهلاً، وشهرة هذا الحديث أوضح من فلق الصبح وأجلى، وقد رواه أبو عمر بن عبد البر في كتاب الاستيعاب فقال حدثنا سعيد بن نصر قال: حدثنا قاسم بن أصبغ قال: حدثنا محمد بن وضاح قال: حدثنا أبو بكر ابن أبي شيبة، فذكره بسنده المتقدم. وروى أبو جعفر الطبري قال: لما خرجت عائشة رضي الله عنها من البصرة طالبة المدينة بعد انقضاء الحرب جهزها علي رضي الله عنه جهازاً حسناً، وأخرج معها من أراد الخروج واختار عليها أربعين امرأة معروفات من نساء البصرة، وجهز معها أخاها محمداً وكان خروجها من البصرة يوم السبت غرة رجب سنة ست وثلاثين وشيعها علي رضي الله عنه على أميال وسرح معها بنيه يوماً. فصل: فإن قيل: فلم ترك علي القصاص من قتلة عثمان؟ فالجواب إنه لم يكن ولي دم، وإنما كان أولياء الدم أولاد عثمان وهم جماعة: عمرو وكان أسن ولد عثمان وأبان وكان محدثاً فقيهاً وشهد الجمل مع عائشة والوليد بن عثمان، وكان عنده مصحف عثمان الذي كان في حجره حين قتل، ومنهم الوليد بن عثمان. ذكر ابن قتيبة في المعارف أنه كان صاحب شارب وفتوة ومنهم

سعيد بن عثمان وكان والياً لمعاوية على خرسان، فهؤلاء بنو عثمان الحاضرون في ذلك الوقت، وهم أولياء الدم غيرهم ولم يتحاكم إلى علي أحد منهم ولا نقل ذلك عنهم، فلو تحاكموا إليه لحكم بينهم إذكان أقضى الصحابة للحديث المروي فيه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. وجواب ثان: أنه لم يكن في الدار عدلان يشهدان على قاتل عثمان بعينه، فلم يكن له أن يقتل بمجرد دعوى في قاتل بعينه، ولا إلى الحاكم في سبيل ذلك مع سكوت أولياء الدم عن طلب حقهم، ففي تركهم له أوضح دليل، وكذلك فعل معاوية حين تمت له الخلافة وملك مصر وغيرها بعد أن قتل علي رضي الله عنه لم يحكم على واحد من المتهمين بقتل عثمان بإقامة قصاص، وأكثر المتهمين من أهل مصر والكوفة والبصرة وكلهم تحت حكمه وأمره ونهيه وغلبته وقهره، وكان يدعي المطالبة بذلك قبل ملكه ويقول: لا نبايع من يؤوي قتلة عثمان ولا يقتص منهم والذي كان يجب عليه شرعاً أن يدخل في طاعة علي رضي الله عنه حين انعقدت خلافته في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ومهبط وحية ومقر النبوة وموضع الخلافة بجميع من كان فيها من المهاجرين والأنصار يطوع منهم وارتضاء واختيار، وهم أمم لا يحصون وأهل عقد وحل، والبيعة تنعقد بطائفة من أهل الحل والعقد، فلما بويع له رضي الله عنه طلب أهل الشام في شرط البيعة التمكن من قتلة عثمان، وأخذ القود منهم، فقال لهم علي عليه السلام: ادخلوا في البيعة واطلبوا الحق تصلوا إليه فقالوا لا تستحق بيعة وقتلة عثمان معك نراهم صباحاً ومساء، وكان علي في ذلك أسد رأياً

واصوب قيلاً، لأن علياً لو تعاطى القود معهم لتعصب لهم قبائل وصارت حرباً ثالثة، فانتظر بهم إلى أن يستوثق الأمر وتنعقد عليه البيعة ويقع الطلب من الأولياء في مجلس الحكم فيجري القضاء بالحق. قال ابن العربي أبو بكر ولا خلاف بين الأمة أنه يجوز للإمام تأخير القصاص إذا أدى إلى إثارة فتنة أو تشتيت الكلمة، وكذلك جرى لطلحة والزبير فإنهما ماخلعا علياً من ولاية ولا اعتراضاً عليه في ديانة، وإنما رأوا أن البداية بقتل أصحاب عثمان أولى. وذكر ابن وهب قال: حدثني حرملة بن عمران عن يزيد بن أبي حبيب أنه سمعه يحدث محمد بن أبي زياد الثقفي قال: اصطحب قيس بن خرشة وكعب الكناني حتى إذا بلغا صفين وقف كعب ثم نظر ساعة فقال: لا إله إلا الله ليهراقن في هذه البقعة من دماء المسلمين ما لم يهرق ببقعة من الأرض، فغضب قيس ثم قال: وما يدريك يا أبا إسحاق ما هذا، فإن هذا من الغيب الذي استأثر الله تعالى به، فقال كعب: ما من سبر من الأرض إلا هو مكتوب في التواراة التي أنزل الله على موسى بن عمران ما يكون عليه إلى يوم القيامة. أخبرنا شيخنا القاضي لسان المتكلمين أبو عامر بن الشيخ الفقيه الإمام أبي الحسين بن عبد الرحمن بن ربيع الأشعري إجازة عن شيخه المحدث الثقة المؤرخ أبي القاسم خلف بن عبد الملك بن بشكوال قال: حدثنا جماعة من شيوخنا رحمهم الله. منهم الفقيه المفتي أبو محمد بن عنان قال: أنبأنا الإمام أبو عمر بن عبد البر فيما أجازه لنا بخطه قال: حدثنا خلف بن القاسم قال: حدثنا عبد الله بن عبد البر قال: حدثنا أحمد بن يحيى قال: حدثنا أحمد بن محمد بن الحجاج قال: حدثني خالد أبو الربيع وأحمد بن صالح وأحمد بن عمر وابن السرح ويحيى بن سليمان قال: حدثني ابن وهب فذكره.

وأحمد بن محمد بن الحجاج هو ابن رشيد بن سعد أبو جعفر مصري قال أبو أحمد بن عدي: كذبوه وأنكرت عليه أشياء ومحمد بن يزيد بن أبي زياد مجهول. قاله الدارقطني وباقي السند ثقات معرفون. وأما وقعة صفين فإن معاوية لما بلغه مسير أمير المؤمنين علي كرم الله وجهه إليه من العراق خرج من دمشق حتى ورد صفين في النصف من المحرم، فسبق إلى سهولة المنزل وسعة المناخ وقريب الماء من الفرات وبنى قصراً لبيت ماله. وصفين صحراء ذات كدى وأكمأت، وكان أهل الشام قد سبقوا إلى المشرعة من سائر الجهات ولم يكن ثم مشرعة سواها للواردين والواردات، فمنعت علياً رضي الله عنه إياها وحمتها تلك الكماة، فذكرهم بالمواعظ الحسنة والآيات، وحذرهم بقول النبي صلى الله عليه وسلم فيمن منع فضل الماء بالفلاة، فردوا قوله وأجابوا بألسنة الطغاة إلى أن قاتلهم بالقواضب والسمهريات، فلما غلبهم عليها رضي الله عنه أباحها للشاربين والشاربات، ثم بنى مسجداً على تل

بأعلى الفرات ليقيم فيه مدة مقامه فرائض الصلوات لفضل صلاة الجماعة على صلاة الفرد بسبع وعشرين من الدرحات على ما ثبت في الصحيح من رواية ابن عمر وغيره من الصحابة العدول الثقاة، وحضرها مع علي جماعة من البدريين، ومن بايع تحت الشجرة من الصحابة المرضيين، وكان مع علي رايات كانت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في قتل المشركين، وكان مقام علي رضي الله عنه ومعاوية بصفين سبعة أشهر، وقيل تسعة، وقيل ثلاثة أشهر، وكان بينهم قبل القتال نحو من سبعين زحفاً وقتل في ثلاثة أيام من أيام البيض وهي ثلاث عشرة وأربعة عشرة وخمسة عشرة ثلاثة وسبعون ألفاً من الفريقين. وذكره الثقة العدل أبو إسحاق وإبراهيم بن الحسين الكساي الهمداني المعروف بابن ديزيل وهو الملقب بسفينة، وسفينة طائر إذا وقع على الشجرة لم يقم عنها ويترك فيها شيئاً، وهو في تلك الليالي هي ليله الهرير جعل يهر بعضهم على بعض. والهرير: الصوت يشبه النباح لأنهم تراموا بالنبل حتى فنيت، وتطاعنوا الرماح حتى اندقت وتضاربوا بالسيوف حتى انقضت، ثم نزل القوم يمشي بعضهم إلى بعض قد كسروا جفون سيوفهم واضطربوا بما بقي من السيوف وعمد الحديد، فلا تسمع إلا غمغمة القوم والحديد في الهام، ولما صارت السيوف كالمناجل

بالحجارة، ثم جثوا على الركب فتحاثوا بالتراب، ثم تكادموا بالأفواه وكسفت الشمس وثار القتام وارتفع الغبار وضلت الألوية والرايات ومرت أوقات أربع صلوات، لأن القتال كان بعد صلاة الصبح واقتتلوا إلى نصف الليل، وذلك في شهر ربيع الأول سنة تسع وثلاثين. قال الإمام أحمد بن حنبل في تاريخه وقال غيره في شهر ربيع الأول. وكان أهل الشام يوم صفين خمسة وثلاثين ومائة وألفاً، وكان أهل العراق عشرين أو ثلاثين ومائة وألفاً. ذكره الزبير بن بكار أبو عبد الله القاضي العدل قال: حدثني عمر بن أبي بكر المؤملي، عن زكريا بن عيسى، عن ابن شهاب، عن محمد بن عمرو بن العاص وكان من شهد صفين وأبلى فيه وفيه يقول: فلو شهدت جمل مقامي ومشهدي ... بصفين يوماً شاب منها الذوائب غداة أتى أهل العراق كأنهم ... من البحر لج موجه متراكب وجئناهم نمشي كأن صفوفنا ... سحائب غيث رفعتها الجنائب ويروى: شهاب حريق رفعته الجنائب. وقالوا لنا إنا نرى أن تبايعوا ... علياً فقلنا بل نرى أن نضارب وطارت إلينا بالرماح كماتهم ... وطرنا إليهم بالأكف قواضب إذا نحن قنا استهزموا عرضت لنا ... كتائب منهم واشمأزت كتائب فلا هم يولون الظهور فيدبروا ... فراراً كفعل الخادرات الدرائب

قال ابن شهاب: فأنشدت عائشة رضي الله عنها أبياته هذه، فقالت ما سمعت بشاعر أصدق شعراً منه. قال الحافظ ابن دحية: قوله: بل نرى أن نضارب أن هنا مخففة من الثقيلة محذوفة الاسم تقديره أننا نضارب، وقوله [كفعل الخادرات الدرائب] الخادرات: الأسود يقال أسود خادر، كأن الأجمة له خدر، فمعناه أنهم لا يدبرون كالأسود التي لا تدبر عن فرائسها، لأنها قد ضربت بها ودربت عليها والدربة الضراوة. يقال: درب يدرب ورفع الدرائب لأنها بدل من الضمير في يدبروا. قال: والإجماع منعقد على أن طائفة الإمام طائفة عدل، والأخرى طائفة بغي ومعلوم أن علياً رضي الله عنه كان الإمام. وروى مسلم في صحيحه قال: «حدثنا محمد بن المثنى وابن بشار واللفظ لابن مثنى قال: حدثنا محمد بن جعفر: حدثنا شعبة عن أبي سلمة قال: سمعت أبا نضرة يحدث عن أبي سعيد الخدري قال: أخبرني من هو خير مني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعمار حين جعل يحفر الخندق جعل يمسح راسه ويقول: بوس بن سمية تقتلك فئة باغية» . وخرجه أيضاً من حديث إسحاق بن إبراهيم، وإسحاق بن منصور، ومحمد بن غيلان، ومحمد بن قدامة قالوا: أخبرنا النضر بن شميل، عن شعبة، عن أبي سلمة بهذا الإسناد نحوه غير أن في حديث النضر قال أخبرني من هو خير مني أبو قتادة وله طرق غير هذا في صحيح مسلم. وقال أبو عمر بن عبد البر في كتاب الاستيعاب له في ترجمة عمار وتواترت الأخبار عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «يقتل عمار الفئة الباغية» وهو من أصح الأحاديث.

وقال فقهاء الإسلام فيما حكاه الإمام عبد القاهر في كتاب الإمامة من تأليفه، وأجمع فقهاء الحجاز والعراق من فريقي الحديث والرأي منهم مالك والشافعي وأبو حنيفة والأوزاعي، والجمهور الأعظم من المتكلمين إلى أن علياً مصيب في قتاله لأهل صفين كما فالوا بإصابته في قتل أصحاب الجمل، وقالوا أيضاً بأن الذين قاتلوه بغاة ظالمون له، ولكن لا يجوز تكفيرهم ببغيهم. وقال الإمام أبو منصور التيمي البغدادي في كتابه الفرق من تأليفه في شان القصة عقيدة أهل السنة وأجمعوا أن علياً كان مصيباً في قتاله لأهل صفين كما قالوا بإصابته في قتل أصحاب الجمل، وقالوا أيضاً: بأن الذين قاتلوه بغاة ظالمون له ولكن لا يجوز تكفيرهم ببغيهم. وقال الإمام أبو منصور التيمي البغدادي في كتاب الفرق في بيان عقيدة أهل السنة: وأجمعوا أن علياً كان كصيباً في قتال أهل الجمل: أعني طلحة والزبير وعائشة بالبصرة، وأهل صفين: أعني معاوية وعسكره. وقال الإمام أبو المعالي في كتاب الإرشاد فصل: علي رضي الله عنه كان إماماً حقاً في توليته، ومقاتلوه بغاة وحسن الظن بهم يقتضي أن يظن بهم قصد الخير وإن أخطأوه، فهو آخر فصل ختم به كتابه، وحسبك يقول سيد المرسلين وإمام المتقين لعمار رضي الله عنه «تقتلك الفئة الباغية» . وهو من أثبت الأحاديث كما تقدم ولما لم يقدر معاوية على إنكاره لثبوته عنده قال: إنما قتله من أخرجه، ولو كان حديثاً فيه شك لرده معاوية وامكره وأكذب ناقله وزوره. وقد أجاب علي رضي الله عنه عن قول معاوية بان قال: فرسول الله صلى الله عليه وسلم اذن قتل حمزة حين أخرجه، وهذا من علي رضي الله عنه إلزام لا جواب عنه وحجة لا اعتراض عليها.

باب ـ لايأتي زمان إلا والذي بعده شر منه وفي ظهور الفتن

قاله الإمام الحافظ أبو الخطاب بن دحية. باب ـ لايأتي زمان إلا والذي بعده شر منه وفي ظهور الفتن البخاري عن الزبير بن عدي قال: أتينا أنس بن مالك فشكونا إليه ما نلقى من الحجاج، فقال: «اصبروا فإنه لا يأتي عليكم زمان إلا والذي بعده شر منه حتى تلقوا ربكم» سمعته من نبيكم صلى الله عليه وسلم، وخرجه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح. «وعن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: يتقارب الزمان وينقص العلم ويلقى الشح وتظهر الفتن ويكثر الهرج، قالوا يا رسول الله: أيم هو؟ قال: القتل القتل» أخرجه البخاري، ومسلم. فصل قوله: «يتقارب الزمان» قيل معناه قصر الأعمار وقلة البركة فيها، وقيل هو دنو زمان الساعة، وقيل هو قصر مدة الأيام على ما روي «أن الزمان يتقارب حتى تكون السنة كالشهر، والشهر كالجمعة، والجمعة كاليوم، واليوم

كالساعة، والساعة كاحتراق الشمعة» أخرجه الترمذي وقال هذا حديث حسن غريب، وقيل في تأويله غير هذا. وق حماد بن سلمة: سألت أبا سنان عن قوله يتقارب الزمان حتى تكون السنة كالشهر وقال: ذلك من استلذاذ العيش. قال الخطابي: يريد والله أعلم زمان خروج المهدي ووقوع الأمنة في الأرض فيما يبسطه من العدل فيها على ما يأتي ويستلذ عند ذلك، وتستقصر مدته ولا يزال الناس يستقصرون مدة ايام الرخاء وإن طالت، وامتدت ويستطيلون أيام المكروه وإن قصرت وقلت، والعرب تقول في مثل هذا: مر ينا يوم كعرقوب القطا قصراً. ويلقى الشح بمعنى يتلقى ويتعلم ويتواصى عليه ويدعى إليه ومنه قوله تعالى {فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه} أي تقبلها وتعلمها ويجوز يلقى بتخفيف اللام والقاف على معنى يترك لإفاضة المال وكثرته، حتى يهم رب المال من يقبل صدقته فلا يجد من يقبلها على ما يأتي، ولا يجوز أن يكون يلقى بمعنى يوجد لأن الشح مازال موجوداً قبل تقارب الزمان.

باب ما جاء في الفرار من الفتن وكسر السلاح وحكم المكره عليها

باب ما جاء في الفرار من الفتن وكسر السلاح وحكم المكره عليها مالك «عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله يوشك أن يكون خير مال المسلم غنما يتبع شغف الجبال ومواقع القطر يفر بدينه من الفتن» . مسلم «عن أبي بكرة قال: قال رسول الله: إنها ستكون فتن ألا ثم تكون فتن القاعد فيها خير من الماشي، والماشي فيها خير من الساعي إليها ألا فإذا نزلت ووقعت، فمن كانت له إبل فليحلق بإبله، ومن كان له غنم فليحلق بأرضه، قال، فقال له رجل يا رسول الله أرأيت من لم يكن له إبل ولا غنم ولا أرض. قال: يعمد إلى سيفة فيدق عليه بحجر، ثم لينج إن استطاع النجاة. اللهم هل بلغت. اللهم هل بلغت. اللهم هل بلغت. قال فقال رجل يا رسول الله: أرأيت إن أكرهت حتى ينطلق بي إلى أحد الصفين أو إحدى الفئتين فيضربني رجل بسيفه أو يجيء سهم فيقتلني قال يبوء بإثمه وإثمك ويكون من أصحاب النار» . «وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ستكون فتن القاعد فيها خير من القائم، والقائم فيها خير من الماشي، والماشي خير من الساعي. من

باب منه والأمر بلزوم البيوت عند الفتن

يشرف لها تستشرفه ومن وجد فيها ملجأ فليعذ به» قال: حديث حسن صحيح. باب منه والأمر بلزوم البيوت عند الفتن ابن ماجه «عن أبي بردة قال: دخلت على محمد بن مسلمة، فقال إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إنها ستكون فتنة وخلاف وفرقة واختلاف، فإذا كان ذلك فائت بسيفك أحداً فاضرب به حتى ينقطع ثم اجلس في بيتك حتى تأتيك يد خاطئة أو منية قاضية» قد وقعت وفعلت ما قال النبي صلى الله عليه وسلم. أبو داود «عن أبي موسى قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن بين أيديكم فتناً كقطع الليل المظلم يصبح الرجل فيها مؤمناً ويمسي كافراً. القاعد فيها خير من القائم، والقائم فيها خير من الساعي قالوا فما تأمرنا؟ قال وكونوا أحلاس بيوتكم» . فصل قال علماؤنا رحمه الله عليهم: كان محمد بن مسلمة رضي الله عنه ممن اجتنب ما وقع بين الصحابة من الخلاف والقتال، وأن النبي صلى الله عليه وسلم أمره إذا كان ذلك أن يتخذ سيفاً من خشب ففعل وأقام بالربذة، وممن اعتزل الفتنة أبو بكرة، وعبد الله بن عمر! وأسامة ابن زيد، وأبو ذر، وحذيفة، وعمران بن حصين، وأبو موسى، وأهبان،

وسعد بن أبي وقاص وغيرهم، ومن التابعين شريح والنخعي وغيرهما رضي الله عنهم. قلت: هذا وكانت تلك الفتنة والقتال بينهم على الاجتهاد منهم، فكان المصيب منهم له أجران والمخطئ له أجر، ولم يكن قتال على الدنيا، فكيف اليوم الذي تسفك فيه الدماء باتباع الهوى طلباً للملك والاستكثار من الدنيا، فواجب على الإنسان أن يكف اليد واللسان عند ظهور الفتن ونزول البلايا والمحن. نسأل الله السلامة والفوز بدار الكرامة بحق نبيه وآله وأتباعه وصحبه. وقوله: «كونوا أحلاس بيوتكم» حض على ملازمة البيوت والقعود فيها حتى يسلم من الناس ويسلموا منه. ومن مراسيل الحسن وغيره عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «نعم صوامع المؤمنين بيوتهم» وقد تكون العزلة في غير البيوت كالبادية والكهوف. قال الله تعالى {إذ أوى الفتية إلى الكهف} . ودخل سلمة بن الأكوع على الحجاج، وكان قد خرج إلى الربذة حين قتل عثمان، وتزوج امرأة هناك وولدت له أولاداً، فلم يزل بها حتى كان قبل أن يموت بليال، فدخل المدينة له الحجاج: ارتددت على عقيبك؟

قال: لا ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم أذن لنا في البدو. وخرجه مسلم وغيره وقد تقدم قوله صلى الله عليه وسلم «يأتي على الناس زمان يكون خير مال المسلم غنما يتبع به شغف الجبال ومواقع القطر يفر بدينه منة الفتن» ، وما زال الناس يعتزلون ويخالطو كل واحد منهم على ما يعلم من نفسه ويتأتى له من أمره وقد كان العمري بالمدينة معتزلاً، وكان مالك مخالطاً للناس، ثم اعتزل مالك آخر عمره رضي الله عنه فيروي عنه أنه أقام ثماني سنة لم يخرج إلى المسجد فقيل له في ذلك، فقال: ليس كل واحد يمكنه أن يخبر بعذره، واختلف الناس في عذره على ثلاثة أقوال فقيل لئلا يرى المناكير، وقيل لئلا يمشي إلى السلطان، وقيل كانت به أبردة، فكان يرى تنزيه المسجد عنها ذكرره القاضي أبو بكر بن العربي كتاب سراج المريدين له.

باب منه وكيف التثبت في الفتنة والاعتزال عنها وفي ذهاب الصالحين

باب منه وكيف التثبت في الفتنة والاعتزال عنها وفي ذهاب الصالحين ابن ماجه عن عديسة بنت أعبان قالت: لما جاء علي بن أبي طالب ها هنا بالبصرة دخل على أبي، فقال يا أبا مسلم: ألا تعينني على هؤلاء القوم؟ قال: بلى فدعى جاريته فقال يا جارية: أخرجي سيفي. قالت فأخرجته فسل منه قدر شبر، فإذا هو خشب، فقال: إن خليلي وابن عمك صلى الله عليه وسلم عهد إلي إذا كانت فتنة بين المسلمين فاتخذ سيفاً من خشب، فإن شئت خرجت معك. قال: لا حاجة لي فيك ولا في سيفك. «وعن زيد بن شرحبيل عن أبي موسى الأشعري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن بين يدي الساعة فتنا كقطع الليل المظالم يصبح الرجل فيها مؤمناً ويمسي كافراً ويصبح كافراً ويمسي مؤمناً، والقاعد فيها خير من القائم، والقائم فيها خير من الماشي، والماشي فيها خير من الساعي، فكسروا قسيكم وقطعوا أوتاركم واضربوا بسيوفكم الحجارة، فإن دخل على أحد منكم فليكن كخير بني آدم» أخرجه أبو داود أيضاً.

وخرج «من حديث سعد بن أبي وقاص قلت يا رسول الله: إن دخل على بيتي وبسط يده إلي ليقتلني قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم كن كخير ابني آدم وتلا هذه الآية {لئن بسطت إلي يدك لتقتلني} » وابن ماجه، «عن عبد الله بن عمرو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال كيف بكم وبزمان يوشك أن يأتي فيغربل الناس فيه غربلة يبقى حثالة من الناس قد مزجت عهودهم، وخفت أمانتهم، واختلفوا فكانوا هكذا وهكذا وشبك بين أصابعه، قالوا: كيف بنا يا رسول الله؟ إذا كان ذلك الزمان؟ قال: تأخذون بما تعرفون، وتدعون بما تنكرون، وتقلبون على خاصتكم وتذرون أمر عامتكم» أخرجه أبو داود أيضاً. وخرجه أبو نعيم الحافظ بإسناده «عن محمد بن كعب القرظي أن الحسن بن أبي الحسن حدثه أنه سمع شريحاً وهو قاضي عمر بن الخطاب يقول: قال عمر بن الخطاب، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ستغربلون حتى تصيروا في

حثالة من الناس قد مزجت عهودهم، وخربت أماناتهم، فقال قائل: كيف بنا يا رسول الله؟ قال تعلمون بما تعرفون، وتتركون ما تنكرون، وتقولون: أحد أحد أنصرنا على من ظلمنا واكفنا من بغانا» غريب من حديث محمد بن كعب والحسن وشريح ما علمت له وجهاً غير هذا. النسائي «عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا رأيت الناس مزجت عهودهم، وخفت أماناتهم، وكانوا هكذا وهكذا وشبك بين أصابعه فقمت إليه فقلت له: كيف أصنع عند ذلك يا رسول الله جعلني الله فداك؟ قال: الزم بيتك وأملك عليك لسانك وخذ ما تعرف ودع ما تنكر وعليك بأمر خاصة نفسك ودع عنك أمر العامة» خرجه أبو داود أيضاً. الترمذي «عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إنكم في زمان من ترك منكم عشر ما أمر به وهلك ويأتي على الناس زمان من عمل منهم بعشر ما أمر به نجا» قال هذا حديث غريب. وفي الباب عن أبي ذر رضي الله عنه. فصل قوله: ويوشك. معناه يقرب، وقوله: فيغربل الناس فيها غربلة. عبارة عن

موت الأخيار وبقاء الأشرار كما يبقى الغربال من حثالة ما يغربله، والحثالة ما يغربله، والحثالة: ما يسقط من قشر الشعير والأرز والتمر وكل ذي قشر إذا بقي، وحثالة الدهن تفله وكأنه الرديء من كل شيء، ويقال: حثالة وحفالة بالثاء والفاء معاً. كما روى ابن ماجه «عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لتنتقون كما ينتقي التمر من أغفاله وليذهبن خياركم وليبقين شراركم فموتوا إن استطعتم» . وخرج البخاري «عن مرداس الأسلمي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يذهب الصالحون الأول فالأول ويبقى حفالة كحفالة الشعير والتمر لا يباليهم الله بالة» وفي رواية لا يعبأ الله بهم يقال ما أباليه بالة وبال وبلى مقصور ومكسور الأول مصدر وقيل اسم أي ما كثرت به والبال الاكتراث والاهتمام بالشيء، والصالحون هم الذين أطاعوا الله ورسوله وعملوا بما أمرهم به وانتهوا عما نهاهم عنه. قال أبو الخطاب بن دحية ومرداس، وهذا هو مرداس بن مالك الأسلمي من أسلم بفتح اللام سكن الكوفة، وهو معدود في أهلها ولم يحفظ له من طريق صحيح سوى هذا الحديث.

باب الأمر بتعليم كتاب الله واتباع ما فيه ولزوم جماعة المسلمين عند غلبة الفتن وظهورها وصفة دعاة آخر الزمان والأمر بالسمع والطاعة للخليفة وإن ضرب الظهور وأخذ المال

قال المؤلف رحمه الله: انفرد به البخاري رحمه الله. روى عن قيس بن أبي حازم في الرقاق ومزجت معناه اختلطت واختلفت والمزج الاختلاط والاختلاف. باب الأمر بتعليم كتاب الله واتباع ما فيه ولزوم جماعة المسلمين عند غلبة الفتن وظهورها وصفة دعاة آخر الزمان والأمر بالسمع والطاعة للخليفة وإن ضرب الظهور وأخذ المال أبو داود، «عن نصر بن عاصم الليثي قال: أتينا اليشكري في رهط من بني ليث فقال: من القوم؟ قال بنو الليث أتيناك نسألك عن حديث حذيفة، فقال: أقبلنا مع أبي موسى قافلين وغلت الدواب بالكوفة. قال: فسألت أبا موسى الأشعري أنا وصاحب لي فأذن لنا فقدمنا الكوفة فقلت لصاحبي: أنا داخل المسجد فإذا قامت السوق خرجت إليك قال: فدخلت المسجد فإذا فيه حلقة كأنما قطعت رؤوسهم يستمعون إلى حديث رجل واحد قال فقمت عليهم، فجاء رجل فقام إلى جنبي قال فقلت من هذا؟ قال: أبصري أنت؟ قال:

قلت نعم. قال: قد عرفت ولو كنت كوفياً لم تسأل عن هذا. هذا حذيفة، فدنوت منه فسمعت حذيفة رضي الله عنه يقول: كان الناس يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخير وكنت أنا أسأله عن الشر، وعرفت أن الخير لن يسبقني قال فقلت يا رسول الله بعد هذا الخير شر قال: يا حذيفة تعلم كتاي الله واتبع مافيه ثلاث مرات قلت يا رسول الله بعد هذا الخير شر؟ قال: فتنة وشر. قلت يا رسول الله: بعد هذا الخير شر؟ قال: فتنة وشر. قلت يا رسول الله بعد هذا الشر خير؟ فقال: يا حذيفة تعلم كتاب الله واتبع ما فيه. قال: قلت يا رسول الله بعد هذا الشر خير؟ قال: هدنة على دخن وجماعة على أقذاء فيهم أو فيها. قلت يا رسول الله: الهدنة على الدخن ما هي؟ قال: لا ترجع قلوب أقوام على الذي كانت عليه. قال قلت يا رسول الله بعد هذا الخير شر؟ قال: فتن عمياء صماء عليها دعاة على أبواب النار، فإن مت يا حذيفة وأنت عاض على جذل خير لك من أن تتبع أحدا منهم» . وخرج أبو نعيم الحافظ، «عن معاذ بن جبل قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: خذوا العطاء ما دام عطاء فإذا صار رشوة على الدين فلا تأخذوه ولستم بتاركيه يمنعكم من ذلك الفقر والحاجة، إلا أن رحى الإسلام دائرة فدوروا مع الكتاب حيث دار، إلا أن الكتاب والسلطان سيتفرقان فلا تفارقوا الكتاب، إلا أنه سيكون عليكم أمراء يقضون لأنفسهم ما لا يقضون لكم إن عصيتوهم قتلوكم وإن أطعتموهم أضلوكم. قالوا يا رسول الله: كيف نصنع؟ قال: كما صنع أصحاب عيسى بن مريم عليهما الصلاة والسلام نشروا بالمناشير وحملوا على الخشب موت في طاعة الله خير من حياة في معصية الله» خرجه في باب يزيد بن مرثد غريب من حديث معاذ لم يروه عنه إلا يزيد بن مرثد وعن الرضين بن عطاء. وخرج البخاري ومسلم وأبو داود، «عن أبي إدريس الخولاني أنه سمع حذيفة يقول: كان الناس يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخير، وكنت أسأله

عن الشر مخافة أن يدركني فقلت يا رسول الله إنا كنا في جاهلية وشر، فجاءنا الله بهذا الخير، فهل بعد هذا الخير شر؟ قال: نعم فقلت: هل بعد ذلك من خير؟ قال: نعم وفيه دخن قلت: وما دخنه؟ قال: قوم يستنون بغير سنتي ويهتدون بغير هديي تعرف منهم وتنكر فقلت: هل بعد ذلك الخير من شر؟ قال: نعم دعاة على أبواب جهنم من أجابهم إليها قذفوه فيها فقلت يا رسول الله: صفهم لنا. قال: نعم قوم من جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا فقلت يا رسول الله: فما تأمرني إن أدركت ذلك؟ قال: تلزم جماعة المسلمين وإمامهم قلت: فإن لم يكن لهم جماعة ولا إمام؟ قال فاعتزل الفرق كلها ولو إن تعض على أصل شجرة حتى يدركك الموت وأنت على ذلك» . وفي رواية قال: «تكون بعدي أئمة لا يهتدون بهداي ولا يستنون بسنتي وسيقوم فيهم رجال قلوبهم قلوب الشياطين في جسمان إنس قال فكيف أصنع يا رسول الله إن إدركت ذلك؟ قال: تسمع وتطيع وإن ضرب ظهرك وأخذ مالك فاسمع وأطع» لفظ مسلم. وفي كتاب أبي داود «بعد قوله هدنة على دخن قال قلت يا رسول الله: ثم ماذا؟ قال إن كان لله خليفة في الأرض فضرب ظهرك وأخذ مالك فأطعه وإلا فمت وأنت عاض في جذل شجرة قلت ثم ماذا؟ قال: ثم يخرج الدجال ومعه نهر ونار فمن وقع في ناره وجب أجره وحط وزره ومن وقع في نهره وجب وزره وحط أجره قال ثم ماذا؟ قال: هي قيام الساعة» .

باب منه إذا التقى المسلمان بسيفهما فالقاتل والمقتول في النار

فصل قوله: على أقذاء، الأقذاء، جمع القذا والقذا جمع قذاة وهو ما يقع في العين من الأذى وفي الطعام والشراب من تراب أو نتن أو غير ذلك، فالمراد به في الحديث الفساد الذي يكون في القلوب أي أنهم يتقون بعضهم بعضاً ويظهرون الصلح والاتفاق، ولكنهم في باطنهم خلاف ذلك، والجذل: الأصل كما هو مبين في كتاب مسلم على أصل شجرة. باب منه إذا التقى المسلمان بسيفهما فالقاتل والمقتول في النار مسلم «عن الأحنف بن قيس قال: خرجت وأنا أريد هذا الرجل فلقيني أبو بكرة فقال: أين تريد يا أحنف؟ قال: فقلت أريد نصرة ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم يعني علياً قال فقال لي: يا أحنف ارجع فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إذا توجه المسلمان بسيفهما فالقاتل والمقتول في النار قال فقلت يا رسول الله هذا القاتل فما بال المقتول؟ قال: إنه قد أراد قتل صاحبه» أخرجه البخاري وفي بعض طرقه [أنه كان حريصا على قتل صاحبه] . فصل قال علماؤنا: ليس هذا الحديث في أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بدليل قوله تعالى {وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله} فأمر الله

تعالى بقتال الفئة الباغية، ولو أمسك المسلمون عن قتال أهل البغي لتعطلت فريضة من فرائض الله، وهذا يدل على أن قوله القول والمقتول في النار ليس في أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، لأنهم إنما قاتلوا على التأويل. قال الطبري: لو كان الواجب في كل اختلاف يكون بين الفريقين من المسلمين الهرب منه ولزوم المنازل وكسر السيوف لما أقيم حد، ولا أبطل باطل، ولوجد أهل النفاق، والفجور سبيلاً إلى استحال كل ما حرم الله عليهم من أموال المسلمين وسبي نسائهم وسفك دمائهم بأن يتحزبوا عليهم، ويكف المسلمون أيديهم عنهم بأن يقولون هذه فتنة قد نهينا عن القتال فيها، وأمرنا بكف الأيدي والهرب منها، وذلك مخالف لقوله عليه الصلاة والسلام «خذوا على أيدي أسفهائكم» قلت: فحديث أبي بكرة محمول على ما إذا كان القتال على الدنيا، وقد جاء هكذا منصور فيما سمعناه من بعض مشايخنا: إذا اقتتلتم على الدنيا فالقاتل والمقتول في النار. خرجه البزار. ومما يدل على صحة هذا ما خرجه مسلم عن صحيحه، «عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم والذي نفسي بيده لا تذهب الدنيا حتى يأتي على الناس يوم لا يدري القاتل فيما قتل ولا المقتول فيما قتل فقيل: كيف يكون ذلك؟ قال الهرج القاتل والمقتول في النار» فبين هذا الحديث أن القتال إذا كان على جهالة من

طلب الدنيا أو أتباع هوى كان القاتل والمقتول في النار فأما قتال يكون على تأويل ديني فلا، وأما أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ورضي عنهم، فيجب على المسلمين توقيرهم والإمساك عن ذكر زللهم ونشر محاسبتهم لثناء الله عز وجل في كتابه، فقال وقوله الحق {لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة} وقال: {محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم} إلى آخر السورة. وقال: {لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل} ، وكل من ذهب منهم إلى تأويل فهو معذور، وإن كان بعضهم أفضل من بعض وأكثر سوابق، وقيل: إن من توقف من الصحابة حملوا الأحاديث الواردة بالكف عن عمومها فاجتنبوا جميع ما وقع بين الصحابة من الخلاف والقتال، وربما ندم بعضهم على ترك ذاك كعبد الله ابن عمر، فإنه ندم على تخلفه عن نصرة علي بن أبي طالب رضي الله عنهما، فقال عند موته، ما آسى على شيء ما آسى على تركي قتال الفئة الباغية يعني فئة معاوية، وهذا هو الصحيح. إن الفئة الباغية إذا علم منها البغي قوتلت. قال عبد الرحمن بن أبزي: شهدنا صفين مع علي في ثمانمائة ممن بايع بيعة الرضوان: قتل منهم ثلاث وستون منهم عمار بن ياسر. وقال أبو عبد الرحمن السلمي: شهدنا مع علي صفين فرأيت عمار بن ياسر لا يأخذ في ناحية من أودية صفين إلا رأيت أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم يتبعونه كأنه علم لهم. قال، وسمعته يقول يومئذ لهاشم بن عتبة يا هاشم:

باب جعل الله بأس هذه الأمة بينها

تقدم الجنة تحت الأبارقة اليوم ألقى الأحبة محمداً وحزبه، والله لو هزمونا حتى يبلغوا بنا شغفات الجبال لعلمنا أنا على الحق وأنهم على الباطل قال: نحن ضربناكم على تنزيلة ... فاليوم نضربكم على تأويلة ضرباً يزيل الهام عن مقيلة ... ويذهل الخليل عن خليلة أو يرجع الحق إلى سبيله قال: فلم أر أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم قتلوا في موطن ما قتلوا يومئذ، وسئل بعض المتقدمين عن الدماء التي وقعت بين الصحابة فقال: {تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسألون عما كانوا يعملون} . وقد أشبعنا القول في هذه المسألة في كتاب الجامع لأحكام القرآن في سورة الحجرات، والصواب ما ذكرناه لك أولاً والله أعلم. وروي عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: «سيكون بين أصحابي فتنة يغفرها الله لهم بصحبتهم إياي ثم يستن بها قوم من بعدهم يدخلون به النار» . باب جعل الله بأس هذه الأمة بينها قال الله تعالى {أو يلبسكم شيعاً ويذيق بعضكم بأس بعض} . مسلم «عن ثوبان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله زوى لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها، وإن أمتي سيبلغ ملكها ما زوى لي منها، وأعطيت الكنزين الأحمر والأبيض [

قال ابن ماجه في سننه يعني الذهب والفضة] ، وإني سألت ربي لأمتي ألا يهلكها بسنة عامة، وأن لا يسلط عليهم عدوا من سوى أنفسهم فيستبيح بيضتهم، وإن ربي قال يا محمد إني إذا قضيت قضاء فإنه لا يرد، وإني قد أعطيتك لأمتك أن لا أهلهكم بسنة عامة، وأن لا يسلط عليهم من سوى أنفسهم فيستبيح بيضتهم ولو اجتمع عليهم من بأقطارها، أو قال من بين أقطارها حتى يكون بعضهم يهلك بعضاً ويسبي بعضهم بعضاً» . زاد أبو داود: «وإنما أخاف على أمتي الأئمة المضلين، وإذا وضع السيف في أمتي لم يرفع عنها إلى يوم القيامة، ولا تقوم الساعة حتى تلحق قبائل من أمتي المشركين وحتى يعبد قبائل من أمتي الأوثان، وأنه سيكون في أمتي كذابون ثلاثون يزعم كلهم أنه نبي وأنا خاتم النبيين لا نبي بعدي، ولا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين لا يضرهم من خالفهم حتى يأتي أمر الله» . ابن ماجه «عن معاذ بن جبل قال: صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً صلاة فأطال فيها، فلما نصرف قلنا أو قالوا يا رسول الله: أطلت اليوم الصلاة. قال: إني صليت صلاة رغبة ورهبة سألت الله لأمتي ثلاثاً فأعطاني اثنتين ورد

علي واحدة سألته ألا يسلط عليهم عدواً من غيرهم فأعطانيها، وسألته ألا يهلكهم غرقاً فأعطانيها، وسألته ألا يجعل بأسهم بينهم فردها علي» . وأخرجه مسلم، «عن سعد بن أبي وقاص أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقبل ذات يوم من العالية. وفي رواية: في طائفة من أصحابه حتى إذا مر بمسجد بني معاوية دخل فركع ركعتين، فصلينا معه ودعا ربه طويلاً ثم انصرف إلينا. فقال: سألت ربي ثلاثاً فأعطاني إثنتين ومنعني واحدة. سألت ربي ألا يهلك أمتي بالسنة فأعطانيها، وسألته ألا يهلك أمتي بالغرق فأعطانيها،، وسألته ألا يجعل بأسهم بينهم فمنعنيها» . وأخرجه الترمذي والنسائي وصححه واللفظ النسائي. «وعن خباب بن الأرت، وكان شهد بدراً مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه راقب رسول الله صلى الله عليه وسلم الليل كلها حتى كان الفجر، فلما سلم رسول الله صلى الله عليه وسلم من صلاته جاء خباب فقال يا رسول الله: بأبي أنت وأمي لقد صليت الليلة صلاة ما رأيتك صليت نحوها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أجل إنها صلاة رغب ورهب، سألت الله فيها لأمتي ثلاث خصال فأعطاني اثنتين ومنعني واحدة، سألت ربي ألا يهلكنا بما أهلك الأمم فأعطانيها، وسألت ربي عز وجل ألا يظهر عليها عدواً من غيرنا فأعطانيها، وسألت ربي عز وجل ألا يلبيسنا شيعاً فمنعنيها» .

باب ـ ما يكون من الفتن وإخبار النبي صلى الله عليه وسلم بها

ابن ماجه «عن أبي موسى قال: حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن بين الساعة لهرجاً قال قلت يا رسول الله ما الهرج؟ قال: القتل القتل فقال بعض المسلمين: يا رسول الله إنا نقتل الآن في العام الواحد من المشركين كذا وكذا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس بقتل المشركين ولكن بقتل بعضكم بعضاً حتى يقتل الرجل جاره وابن عمه وذا قربته» وذكر الحديث، والله أعلم. باب ـ ما يكون من الفتن وإخبار النبي صلى الله عليه وسلم بها مسلم «عن حذيفة قال: قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم مقاماً ما ترك فيه شيئاً يكون في مقامه ذلك إلى قيام الساعة إلا حدث به. حفظ من حفظه ونسيه من نسيه قد علمه أصحابي هؤلاء وإن ليكون منه الشيء قد نسيه، فأذكره كما يذكر الرجل وجه الرجل إذا غاب عنه ثم إذا رآه عرفه» . وخردج أبو داود أيضاً عنه قال: «والله ما أدري أنسي أصحابي أم تناسوه، والله ما ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم من قائد فتنة إلى أن تنقضي الدنيا يبلغ من معه ثلاث مائة فصاعداً إلا قد سماه لنا باسمه واسم أبيه واسم قبيلته» . مسلم «عن حذيفة بن اليمان قال: حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم مجلساً أنبأنا فيه عن الفتنة فقال وهو يعد الفتن: منها ثلاثة لا يكدن يذرن شيئاً ومنهن فتن كرياح الصيف منها صغاراً ومنها كبار» ، قال حذيفة: فذهب أولئك الرهط كلهم غيري. أبو داود «عن عبد الله بن عمر: كنا قعوداً عند رسول الله صلى الله عليه وسلم

فذكر الفتن فأكثر فيها، حتى ذكر فتنة الأحلاس فقال قائل يا رسول الله: وما فتنة الأحلاس؟ قال: هي هرب وخرب ثم فتنة السوء دخنها من تحت قدمي رجل من أهل بيتي يزعم أنه مني وليس مني وإنما أوليائي المتقون، ثم يصطلح الناس على رجل كودك على ضلع، ثم فتنة الدهيماء لا تدع أحداً من هذه الأمة إلا لطمته لطمة، فإذا قيل انقضت تمادت يصبح الرجل فيها مؤمناً ويمسي كافراً ويمسي مؤمناً ويصبح كافراً، حتى يصير الناس فسطاطين: فسطاط إيمان لا نفاق فيه، وفسطاط نفاق لا إيمان فيه، فإذا كان ذلكم فانتظروا الدجال من سومه أو من غده» . فصل قول حذيفة: قيام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم مقاماً. وفي الرواية الأخرى مجلساً. قد جاء مبيناً في حديث أبي زيد، قال: «صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم الفجر وصعد المنبر فخطبنا حتى حضرت الظهر، فنزل فصلى، ثم صعد المنبر فخطبنا حتى حضرت العصر، ثم نزل فصلى فصعد المنبر فخطبنا حتى غربت

الشمس، فأخبرنا بما كان وما هو كائن فأعلمنا أحفظنا» . أخرجه مسلم. وروى الترمذي «من حديث أبي سعيد الخدري قال صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة العصر نهاراً، ثم قام خطيباً فلم يدع شيئاً يكون إلى قيام الساعة إلا أخبرنا به حفظه من حفظه ونسيه من نسيه» ، فظاهر هذا أن ذلك المقام كان من بعد العصر لا قبل ذلك، وهذا تعارض، فيجوز أن يكون ذلك كله في يومين فيوم خطب فيه من بعد العصر، ويوم قام فيه خطيباً كله، ويجوز أن تكون الخطبة من بعد صلاة الصبح إلى غروب الشمس كما في حديث أبي زيد، واقتصر بعض الرواة في الذكر على ما بعد العصر كما في حديث أبي سعيد الخدري وفيه بعد. والله أعلم. وقوله: حتى ذكر فتنة الأحلاس قال الخطابي: إنما أضيفت الفتنة إلى الأحلاس لدوامها وطول لبثها، يقال للرجل إذا كان يلزم بيته لا يبرح منه: هو حلس بيته. ويحتمل أن تسمى هذه الفتنة بالأحلاس لسوادها وظلمتها. والحرب ذهاب الأهل والمال. يقال حرب الرجل فهو حريب إذا سلب أهله وماله، ومن هذا المعنى أخذ لفظ الحرب لأن فيها ذهاب النفوس والأموال والله أعلم. والدخن: الدخان يريد أنها تثور كالدخان من تحت قدميه. وقوله: كودك على ضلع مثل ومعناه الأمر الذي لا يثبت ولا يستقيم يريد أن هذا الرجل غير خليق بالملك. والدهيماء: تصغير الدهماء على معنى المذمة لها

باب ذكر الفتنة التي تموج موج البحر وقول النبي صلى الله عليه وسلم: " هلاك أمتي على يد أغيلمة من سفهاء قريش "

والتعظيم لأمرها كما قال: [دويهية تصفر منها الأنامل] أي ههذ الفتنة سوداء مظلمة، ودلت أحاديث هذا الباب على أن الصحابة رضي الله عنهم كان عندهم من علم الكوائن إلى يوم القيامة العلم الكثير، لكن لم يشيعوها إذ ليست من أحاديث الأحكام وما كان فيه شيء من ذلك حدثوا به وتقصروا عنه. وقد روى البخاري عن أبي هريرة قال: حفظت من رسول الله صلى الله عليه وسلم وعاءين أما أحدهما فبثثته، وأما الآخر فلو بثثته لقطع مني هذا البلعوم. قال أبو عبد الله البلعوم مجرى الطعام، والفسطاط الخيمة الكبيرة وتسمى مدينة مصر الفسطاط، والمراد به في هذا الحديث الفرقة المجتمعة المنحازة عن الفرقة الأخرى تشبيهاً بانفراد الخيمة عن الأخرى. وتشبيهاً بانفراد المدينة عن الأخرى حملاً على تسمية مصر بالفسطاط والله أعلم. باب ذكر الفتنة التي تموج موج البحر وقول النبي صلى الله عليه وسلم: " هلاك أمتي على يد أغيلمة من سفهاء قريش " باب ذكر الفتنة التي تموج موج البحر وقول النبي صلى الله عليه وسلم: هلاك أمتي على يد أغيلمة من سفهاء قريش ابن ماجه عن شقيق عن حذيفة قال: كنا جلوساً عند عمر بن الخطاب فقال: أيكمك يحفظ حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم في الفتنة؟ قال حذيفة: فقلت أنا، فقال إنك لجزيء، قال: كيف سمعه يقول؟ قلت سمعته يقول «فتنة الرجل في أهله وماله وجاره يكفرها الصلاة والصيام والصدقة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر» فقال عمر: ليس هذا أريد التي تموج موج البحر. قال مالك ولها يا أمير المؤمنين إن بينك وبينها باباً مغلقاً،

قال يفتح الباب أو يكسر. قال: بل يكسر. قال: ذلك أجدر أن لا يغلق، فقلت لحذيفة أكان عمر يعلم من الباب؟ قال: نعم كما يعلم أن دون غد الليلة، فقلت لحذيفة أكان عمر يعلم من الباب؟ قال نعم كما يعلم أن دون غد الليلة إني حدثته حديثاً ليس بالأغاليط، قال فهبنا أن نسأله من الباب فقلنا لمسروق: سله فسأله: هو عمر. أخرجه البخاري ومسلم أيضاً. وخرج الخطيب أبو بكر بن أحمد بن علي من حديث مالك بن أنس أن عمر بن الخطاب دخل على بني علي بن أبي طالب رضي الله عنهم، فوجدها تبكي فقال: ما يبكيك؟ قالت هذا اليهودي لكعب الأحبار يقول إنك باب من أبواب جهنم فقال عمر: ما شاء الله إني لأرجو أن يكون الله خلقني سعيداً، قال ثم خرج فأرسل إلى كعب فدعاه فلما جاءه كعب قال يا أمير المؤمنين: والذي نفسي بيده لا تنسلخ ذو الحجة حتى تدخل الجنة، فقال عمر: أي شيء هذا؟ مرة في الجنة ومرة في النار، قال: والذي نفسي بيده إنا لنجدك في كتاب الله على باب من أبواب جهنم تمنع الناس أن يقعوا فيها، فإذا مت لم يزالوا يتقحمون فيها إلى يوم القيامة. البخاري عن عمرو بن يحيى بن سعيد قال: أخبرني جدي قال: كنت جالساً مع أبي هريرة في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة ومعنا مروان، فقال أبو هريرة: سمعت الصادق المصدوق يقول: «هلكة أمتي على يد أغيلمة من قريش» قال مروان لعنة الله عليهم من أغيلمة. قال أبو هريرة: لو شئت أن أقول بني فلان وبني فلان لفعلت، فكنت أخرج مع جدي إلى بني مروان حتى تملكوا بالشام، فإذا رآهم أحداثاً وغلماناً قال لنا: عسى هؤلاء أن يكونوا منهم. قلنا: أنت أعلم.

الغلام الطار الشارب والجمع الغلمة والغلمان، ونص مسلم في صحيحه في كتاب الفتن «عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: يهلك أمتي هذا الحي من قريش قال: فما تأمرنا؟ قال: لو أن الناس اعتزلوهم» . فصل قال علماؤنا رحمة الله عليهم: هذا الحديث يدل على أن أبا هريرة كان عنده من علم الفتن؟ العلم الكثير، والتعيين على من يحدث عنه الشر الغزير. ألا تراه يقول لو شئت قلت لكم هم بنو فلان وبنو فلان، لكنه سكت عن تعيينهم مخافة ما يطرأ من ذلك من المفاسد، وكأنهم والله أعلم يزيد بن معاوية، وعبيد الله بن زياد ومن تنزل منزلتهم من أحداث ملوك بني أمية، فقد صدر عنهم من قتل أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وسبيهم، وقتل خيار المهاجرين والأنصار بالمدينة وبمكة وغيرها، وغير خاف ما صدر عن الحجاج، وسليمان بن عبد الملك، وولده من سفك الدماء، وإتلاف الأموال، وإهلاك الناس بالحجاز والعراق وغير ذلك، وبالجملة وغير ذلك، وبالجملة فبنو أمية قابلوا وصية النبي صلى الله عليه وسلم في أهل بيته وأمته بالمخالفة والعقوق، فسفكوا دماءهم وسبوا نساءهم وأسروا صغارهم وخربوا ديارهم وجحدوا فضلهم وشرفهم واستباحوا لعنهم وشتمهم، فخالفوا رسول الله صلى الله عليه وسلم

باب ما جاء في بيان مقتل الحسين رضي الله عنه ولا رضي عن قاتله

في وصيته وقابلوه بنقيض مقصودة وأمنيته، فواخجلتهم إذا وقفوا بين يديه، وافضحيتهم يوم يعرضون عليه، والله أعلم. باب ما جاء في بيان مقتل الحسين رضي الله عنه ولا رضي عن قاتله ذكر أبو علي سعيد بن عثمان بن السكن الحافظ قال: «حدثنا أبو عبد الله الحسين بن إسماعيل قال: حدثنا محمد بن إبراهيم الحلواني. قال ابن السكن، وأخبرني أبو بكر محمد بن محمد بن إسماعيل، حدثنا أحمد بن عبد الله بن زياد الحداد قالا: حدثنا سعيد بن عبد الملك بن واقد قال: حدثنا عطاء بن مسلم، عن أشعث بن سحيم، عن أبيه، عن أنس بن الحارث قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن ابني هذا يقتل بأرض من أرض العراق، فمن أدركه منكم فلينصره» فقتل أنس يعني مع الحسين بن علي عليهما السلام. أنبأناه إجازة الشيخ الفقيه القاضي أبو عامر عن أبي القاسم بن بشكوال، عن أبي محمد بن عبد الرحمن بن محمد بن عتاب وأبي عمران موسى بن عبد الرحمن بن أبي تليد، عن أبي عمر بن عبد البر قال: حدثنا الحافظ أبو القاسم خلف بن القاسم قال: حدثنا الإمام الحافظ أبو علي بن السكن، فذكره. وخرج الإمام أحمد في مسنده قال: «حدثنا مؤمل قال: حدثنا عمارة بن

زاذان، حدثنا ثابت عن أنس أن ملك المطر استأذن أن يأتي النبي صلى الله عليه وسلم فأذن له، فقال لأم سلمة: أملكي علينا الباب لا يدخل علينا أحد قال: وجاء الحسين ليدخل فمنعه فوثب فدخل فجعل يقعد على ظهر النبي صلى الله عليه وسلم وعلى منكبيه وعلى عاتقه قال: فقال الملك للنبي صلى الله عليه وسلم أتحبه؟ قال: نعم. قال: أما إن أمتك ستقتله وإن شئت أريتك المكان الذي يقتل فيه، فضرب بيده فجاء بطينة حمراء، فأخذتها أم سلمة فصرتها في خمارها» قال ثابت: بلغنا أنها كربلاء. وقال مصعب بن الزبير: حج الحسين خمسة وعشرين حجة ماشياً، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم فيه وفي الحسن: «إنهما سيداً شباب أهل الجنة وقال: هما ريحانتاي من الدنيا وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا رآهما هش لهما وربما أخذهما» . كما روى أبو داود أنهما دخلا المسجد وهو يخطب، فقطع خطبته ونزل فأخذهما وصعد بهما. قال: «رأيت هذين فلم أصبر» وكان يقول فيهما «اللهم إني أحبهما وأحب من يحبهما» وقتل رحمه الله ولا رحم قاتله يوم الجمعة لعشر خلون من المحرم سنة إحدى وستين بكربلاء بقرب موقع يقال له الطف بقرب من الكوفة.

قال أهل التواريخ: لما مات معاوية وأفضت الخلافة إلى يزيد، وذلك سنة ستين ـ ووردت البيعة على الوليد بن عتبة بالمدينة ليأخذ بالبيعة إلى أهلها أرسل إلى الحسين بن علي، وإلى عبد الله بن الزبير ليلاً فأتي بهما فقال: بايعاً. فقالا: مثلنا لا يبايع سراً، ولكن نبايع على رؤوس الناس إذ أصبحنا، فرجعا إلى بيوتهما وخرجا من ليلتهما إلى مكة، وذلك ليلة الأحد بقيتا من رجب، فأقام الحسين بمكة شعبان ورمضان وشوالاً وذا القعدة، وخرج يوم التروية يريد الكوفة، فبعث عبد الله بن زياد خيلاً لمقتل الحسين، وأمر عليهم عمر بن سعد بن أبي وقاص، فأدركه بكر بلاء، وقيل: إن عبيد الله بن زياد كتب إلى الحر بن يزيد الرياحي أن جعجع بالحسين. قال أهل اللغة أراد أحبسه وضيق عليه، والجعجع: الجعجاع الموضع الضيق من الأرض، ثم أمده بعمرو بن سعد في أربعة آلاف، ثم ما زال عبيد الله يزيد العساكر ويستفز الجماهير إلى أن بلغوا اثنين وعشرين ألفاً، وأميرهم عمرو بن سعد، ووعده أن يملكه مدينة الري فباع الفاسق الرشد بالغي، وفي ذلك يقول: أأترك ملك الري والري منيتي ... وأرجع مأثوماً بقتل حسين فضيق عليه اللعين أشد تضييق وسد بين يديه وضح الطريق إلى أن قتله يوم الجمعة. وقيل، يوم السبت العاشر من المحرم. وقال ابن عبد البر في الاستيعاب: قتل يوم الأحد لعشر مضين من

المحرم بموضع من أرض الكوفة يقال له كربلاء، ويعرف بالطف أيضاً وعليه جبة خزد كفاء وهو ابن ست وخمسين سنة. قاله نسابة قريش الزبير بن بكار، ومولده الخمس ليال خلون من شعبان سنة أربع من الهجرة، وفيها كانت غزوة ذات الرقاع وفيه قصرت الصلاة، وتزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم أم سلمة، واتفقوا على أنه قتل يوم عاشوراء العاشر من المحرم سنة إحدى وستين، ويسمى عام الحزن، وقتل معه اثنان وثمانون رجلاً من الصحابة مبارزة، منهم الحر بن يزيد، لأنه تاب ورجع مع الحسين، ثم قتل جميع بنيه إلا علياً المسمى بعد ذلك بزين العابدين كان مريضاً أخذ أسيراً بعد قتل أبيه، وقتل أكثر إخوة الحسين وبني أعمامه رضي الله عنهم ثم أنشأ يقول: يا عين إبكي بعبرة وعويل ... واندبي ـ إن ندبت، آل الرسول سبعة كلهم لصلب علي ... قد أصيبوا وتسعة لعقيل قال جعفر الصادق: وجد بالحسين ثلاث وثلاثون طعنة بالسيف، وأربع وثلاثون ضربة، واختلفوا فيمن قتله. فقال يحيى بن معين: أهل الكوفة يقولون: إن الذي قتل الحسين عمرو بن سعد. قال ابن عبد البر: إنما نسب قتل الحسين إلى عمرو بن سعد، لأنه كان الأمير على الخيل التي أخرجها عبيد الله بن زياد إلى قتال الحسين. وأمر عليهم عمرو بن سعد ووعده أن يوليه الري إن ظفر بالحسين وقتله، وكان في تلك الخيل والله أعلم قوم من مصر ومن اليمين وفي شعر سليمان بن فتنة الخزاعي وقيل: إنها لأبي الرميح الخزاعي ما يدل على الاشتراك في دم الحسين،

وقيل: قتله سنان بن أبي سنان النخعي وقال مصعب النسابة الثقة: قتل الحسين بن علي سنان بن أبي سنان النخعي، وهو جد شريك القاضي ويصدق ذلك قول الشاعر: وأي رزية عدلت حسيناً ... غداة تبيده كفا سنان وقال خليفة بن خياط: الذي ولي قتل الحسين شمر بن ذي الجوشن وأمير الجيش عمرو بن سعد، وكان شمر أبرص وأجهز عليه خولي بن يزيد الأصبحي من حمير حز رأسه وأتى به عبيد الله بن زياد وقال: أوقر ركابي فضة ذهباً ... أني قتلت الملك المحجبا قتلت خير الناس أما وأبا ... وخيرهم ـ إذ ينسبون ـ نسباً هذه رواية أبي عمر بن عبد البر في الاستيعاب وقال غيره: تولى حمل الرأس بشر بن مالك الكندي ودخل به على ابن زياد وهو يقول: أوقر ركابي فضة ذهباً ... إن قتلت الملك المحجبا وخيرهم إذ يذكرون النسبا ... قتلت خير الناس أما وأباً في أرض نجد وحرا ويثربا فغضب ابن زياد من قوله وقال: إذا عملت أنه كذلك فلم قتلته؟ والله لا نلت مني خيراً أبداً ولألحقنك به ثم قدمه فضرب عنقه.

وفي هذه الرواية اختلاف، وقد قيل إن يزيد بن معاوية هو الذي قتل القاتل. وقال الإمام أحمد بن حنبل: قال عبد الرحمن بن مهدي: «حدثنا حماد بن سلمة، عن عمار بن أبي عمار عن ابن عباس قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم نصف النهار أشعث أغبر معه قارورة فيها دم يلتقطه ويتتبعه فيها. قال قلت يا رسول الله ما هذا؟ قال: دم الحسين وأصحابه لم أزل أتبعه منذ اليوم» . قال عمار: فحفظنا ذلك اليوم فوجدناه قتل ذلك اليوم وهذا سند صحيح لا مطعن في، وساق القوم حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم كما تساق الأسرى حتى إذا بلغوا بهم الكوفة خرج الناس فجعلوا ينظرون إليهم، وفي الأسارى علي بن حسين وكان شديد المرض قد جمعت يداه إلى عنقه، وزينب بنت علي وبنت فاطمة الزهراء، وأختها أم كلثوم، وفاطمة وسكينة بنت الحسين، وساق الظلمة والفسقة معهم رؤوس القتلة. روى قطر عن منذر الثوري، عن محمد بن الحنفية قال: قتل مع الحسين سبعة عشر رجلاً كلهم من ولد فاطمة عليها الصلاة والسلام. وذكر أبو عمر بن عبد البر عن الحسن البصري قال: أصيب مع الحسين بن علي ستة عشر رجلاً من أهل بيته ما على وجه الأرض لهم يومئذ شبيه. وقيل: إنه قتل مع الحسين من ولده وأخوته وأهل بيته ثلاثة وعشرون رجلاً.

وفي صحيح البخاري في المناقب عن أنس بن مالك: أتي عبيد الله بن زياد برأس الحسين، فجعل في طست فجعل ينكت وقال في حسنة شيئاً فقال أنس: كان أشبههم برسول الله صلى الله عليه وسلم وكان مخضوباً بالوسمة. يقال: نكت في الأرض إذا أثر فيها، ونكت بالحصباء إذا ضرب بها، وكان الفاسق يؤثر في رأسه المكرم بالقضيب، وأمد عبيد الله بن زياد من قور الرأس حتى ينصب في الرمح، فتحاماه أكثر الناس، فقام رجل يقال له طارق بن المبارك بل هو ابن المشؤوم الملعون المذموم فقوره ونصبه بباب دار عبيد الله، ونادى في الناس وجمعهم في المسجد الجامع وخطب الناس خطبة لا يحل ذكرها، ثم دعا بزياد ابن حر بن قيس الجعفي فسلم إليه رأس الحسين ورؤوس أخوته وبنيه وأهل بيته وأصحابه، ودعي بعلى بن الحسين فحمله وحمل عماته وأخواته إلى يزيد على محامل بغير وطاء، والناس يخرجون إلى لقائهم في كل بلد ومنزل، حتى قدموا دمشق ودخلوا من باب توما وأقيموا على درج باب المسجد الجامع حيث يقام السبي، ثم وضع الرأس المكرم بين يدي يزيد فأمر أن يجعل في طست من ذهب وجعل ينظر إليه ويقول هذه الأبيات: صبرنا وكان الصبر منا عزيمة ... وأسيافنا يقطعن كفا ومعصما نعلق هاماً من رجال أعزة ... علينا وهم كانوا أعق وأظلما ثم تكلم بكلام قبيح وأمر بالرأس أن تصلب بالشام، ولما صلبت أخفى خالد بن عفران شخصه من أصحابه، وهو من أفاضل التابعين فطلبوه شهراً حتى وجدوه فسألوه عن عزلته فقال: ألا ترون ما نزل بنا:

جاءوا برأسك يا ابن بنت محمد ... متزملاً بدمائه تزميلاً وكأنما بك يا ابن بنت محمد ... قتلوا جهاراً عامدين رسولا قتلوك عطشانا ولم يترقبوا ... في قلتك التنزيل والتأويلا ويكبرون بأن قتلت وإنما ... قتلوا بك التكبير والتهليلا واختلف الناس في موضع الرأس المكرم؟ وأين حمل من البلاد؟ فذكر الحافظ أبو العلاء الهمداني أن يزيد حين قدم عليه رأس الحسين بعث به إلى المدينة، فأقدم إليه عدة من موالي بني هاشم وضم إليهم عدة من موالي أبي سفيان، ثم بعث بث الحسين وبقي من أهله معهم وجهزهم بكل شيء ولم يدع لهم حاجة المدينة إلا أمر بها، وبعث برأس الحسين عليه السلام إلى عمرو بن سعيد العاص، وهو إذ ذلك علمله على المدينة فقال عمرو وددت أنه لم يبعث به إلي. ثم أمر عمرو بن سعيد بن العاص برأس الحسين عليه السلام فكفن ودفن بالبقيع عند قبر أمه فاطمة عليها الصلاة والسلام. وهذا أصح ما قيل في ذلك، ولذلك قال الزبير بن بكار الرأس حمل إلى المدينة والزبير أعلم أهل النسب وأفضل العلماء لهذا السبب قال: حدثني بذلك محمد بن حسن المخزومي النسابة. والإمامية تقول إن الرأس أعيد إلى الجثة بكربلاء بعد أربعين يوماً من المقتل وهو يوم معروف عندهم يسمون الزيارة فيه زيارة الأربعين، وما ذكر أنه في عسقلان في مشهد هناك أو بالقاهرة فشيء باطل لا يصح ولا يثبت، وقد قتل الله قاتله صبراً ولقي حزناً وذعراً وجعل رأسه الذي اجتمع فيه العيب والذم في الموضع الذي جعل فيه رأس الحسين، وذلك بعد

قتل الحسين بستة أعوام وبعث المختار به إلى المدينة، فوضع بين يدي بني الحسين الكرام، وكذلك عمرو بن سعد وأصحابه اللئام ضربت أعناقهم بالسيف وسقوا كأس الحمام وبقي الوقوف بين يدي الملك العلام في يوم {يعرف المجرمون بسيماهم فيؤخذ بالنواصي والأقدام} . وفي الترمذي: حدثنا واصل بن عبد الأعلى، حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن عمارة بن عمير قال: لما أتي برأس عبيد الله بن زياد وأصحابه نصبت في المسجد في الرحبة، فانتهيت إليهم وهم يقولون قد جاءت فإذا هي حية قد جاءت تخلل الرؤوس حتى دخلت في منخري عبيد الله، فمكثت هنيهة ثم خرجت فذهبت حتى تغيبت، ثم قالوا: جاءت قد جاءت ففعلت ذلك مرتين أو ثلاثاً. قال العلماء: وذلك مكافأة لفعله برأس الحسين وهي من آيات العذاب الظاهرة عليه، ثم سلط الله عليهم المختار فقتلهم حتى أوردهم النار، وذلك أن الأمير مذحج بن إبراهيم بن مالك لقي عبيد الله بن زياد على خمسة فراسخ من الموصل وعبيد الله في ثلاثة وثلاثين ألفاً، وإبراهيم في أقل من عشرين ألفاً فتطاعنوا بالرماح وتراموا بالسهام واصطفقوا بالسيوف إلى أن اختلط الظلام، فنظر إبراهيم إلى رجل عليه بزة حسنة ودرع سابغة وعمامة خز دكناء، وديباجة خضراء، من فوق الدرع، وقد أخرج يده من الديباجة ورائحة المسك تشم عليه، وفي يده صحيفة له مذهبة، فقصده الأمير إبراهيم لا لشيء

إلا لتلك الصحيفة والفرس الذي تحته، حتى إذا لحقه لم يلبث أن ضربه ضربة كانت فيها نفسه، فتناول الصحيفة وغار الفرس فلم يقدر عليه ولم يبصر الناس بعضهم بعضاً من شدة الظلمة، فتراجع أهل العراق إلى عسكرهم والخيل لا تطأ إلا على القتلى، فأصبح الناس وقد فقد من أهل العراق ثلاثة وسبعون رجلاً، وقتل من أهل الشام سبعون ألفاً. فيتعشوا منهم بسبعين ألفاً ... أو يزيدون قبل وقت العشاء فلما أصبح وجد الأمير الفرس رده عليه رجل كان أخذه، ولما علم أن الذي قتل هو عبيد الله بن زياد كبر وخر ساجداً وقال: الحمد لله الذي أجرى قتله على يدي، فبعث به إلى المختار زيادة على سبعين ألف رأس في أولها أشد رؤوس أهل الفساد عبيد الله المنسوب إلى زياد. قال المؤلف رحمه الله: فقلت هذا من كتاب مرج البحرين في مزايد المشرقين والمغربين للحافظ أبي الخطاب بن دحية رضي الله عنه. فصل ومثل صنيع عبيد الله بن زياد صنع قبله بشر بن أرطأة العامري الذي هتك الإسلام، وسفك الدم الحرام، وأذاق الناس الموت الزؤام، لم يدع لرسول الله صلى الله عليه وسلم الذمام، فقتل أهل بيته الكرام وحكم في مفارقهم الحسام، وعجل لهم الحمام ذبح ابني عبيد الله بن عباس بن عبد المطلب وهما

صغيران بين يدي أمهما يمرحان، وهما قثم وعبد الرحمن، فوسوست أمهما وأصابها ضرب من الجان لم أشعله الثكل في قلبها من لهب النيران. روى أبو بكر بن أبي شيبة في مصنفه في حديث فيه طول: كان أبو ذر الغفاري صاحب رسول الله يتعوذ من شر يوم البلاء ويوم العورة في صلاة صلاها أطال قيامها وركوعها وسجودها، قال: فسألناه مم تعوذت وفيم دعوت؟ فقال: تعوذت من يوم البلاء ويوم العورة، فإن نساء من المسلمات ليسبين ليكشف عن سوقهن، فأيتهن كانت أعظم ساقاً اشتريت على عظم ساقها، فدعوت الله عز وجل أن لا يدركني هذا الزمان ولعلكما تدركانه. وذكر أبو عمر بن عبد البر قال: أخبرنا أبو محمد عبد الله بن محمد بن عبد المؤمن، أنبأنا أبو محمد إسماعيل بن محمد الحبطلي ببغداد في تاريخه الكبير، حدثنا محمد بن مؤمن بن حماد قال: حدثنا سلمان بن شيخ قال: حدثنا محمد بن عبد الحكم، عن عوانة قال: أرسل معاوية بعد تحكيم الحكمين بشر بن أرطأة في جيش، فساروا من الشام حتى قدموا المدينة وعامل المدينة يومئذ لعلي عليه السلام أبو أيوب الأنصاري صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ففر أبو أيوب ولحق بعلي رضي الله عنهما. ودخل بشر المدينة فصعد منبرها فقال: أين شيخي الذي عهدته هنا بالأمس يعني عثمان بن عفان، ثم قال يا أهل المدينة: والله لولا ما عهدته إلى معاوية ما تركت فيها محتلماً إلا قتلته، ثم أمر أهل المدينة بالبيعة لمعاوية، وأرسل إلى بني سلمة فقال ما لكم عند أمان ولا مبايعة

حتى تأتوني بجابر بن عبد الله، فأخبر جابر فانطلق حتى جاء الشام فأتى أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم فقال لها: ماذا ترين فإني خشيت أن أقتل وهذه بيعة ضلالة، فقالت: أرى أن تبايع وقد أمرت ابني عمر بن أبي سلمة أن يبايع فأتى جابر بشراً فبايعه لمعاوية، وهدم بشر دوراً بالمدينة، ثم انطلق حتى أتى مكة وبها أبو موسى الأشعري، فخاف أبو موسى. على نفسه أن يقتله فهرب فقيل ذلك لبشر، فقال: ما كنت لأقتله وقد خلع علياً.. ولم يطلبه وكتب أبو موسى إلى اليمن

أن خيلاً مبعوثة من عند معاوية تقتل من الناس من أبى أن يقر بالحكومة، ثم مضى بشر إلى اليمن وعامل اليمن لعلي رضي الله عنه عبيد الله بن العباس، فلما بلغه أمر بشر فر إلى الكوفة واستخلف على المدينة عبيد الله بن عبد مدان الحارثي، فأتى بشر فقتله وقتل ابنه، ولقي ثقل عبيد الله بن العباس وفيه ابنان صغيران لعبيد الله بن عباس فقتلهما ورجع إلى الشام. وذكر أبو عمرو الشيباني قال: لما وجه معاوية بشر بن أرطاة لقتل شيعة علي رضي الله عنه سار إلى أن أتى المدينة، فقتل ابني عبيد الله بن العباس، وفر أهل المدينة حتى دخلوا الحرة حرة بني سليم، وهذه الخرجة التي ذكر أبو عمرو الشيباني أغار بشر على همدان فقتل وسبى نساءهم، فكن أول نساء سبين في الإسلام وقتل أحياء من بني سعد. وقد اختلفوا كما ترى في أي موضع قتل الصغيرين من أهل البيت هل في المدينة أو في مكة أو في اليمن، لأنه دخل هذه البلاد وأكثر فيها الفساد وأظهر لعلي رضي الله عنه العناد، وأفرط في بعضه وزاد وسلط على أهل البيت الكريم الأجناد، فقتل وسبى وأباد ولم يبق إلا أن يخد الأخاديد ويعد الأوتاد، وكان معاوية قد بعثه في سنة أربعين إلى اليمن وعليها عبيد الله ابن العباس أخو عبد الله بن العباس، ففر عبيد الله وأقام بشر باليمن وباع دينه ببخس من الثمن فأخاف السبيل ورعى المرعى الوبيل، وباع المسلمات وهتك المحرمات، فبعث علي رضي الله عنه في طلبة حارثة بن قدامة السعدي، فهرب بشر إلى الشام، وقد ألبس بذميم

أفعاله ثياب العار والذمام وبقي الوقوف بين يدي الملك العلام {يعرف المجرمون بسيماهم فيؤخذ بالنواصي والأقدام} ورجع الشريف أبو عبد الله محمد إلى بلاد اليمن، فلم يزل والياً عليهم حتى قتل علي رضي الله عنه. ويقال: إن بشر بن أطأرة لم يسمع من النبي صلى الله عليه وسلم حرفاً لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قبض وهو صغير فلا تصح له صحبة. قاله الإمام أحمد بن حنبل ويحيى بن معين وغيرهما، وقال آخرون: خوف في آخر عمره. قال يحيى بن معين: وكان الرجل سوء. قال المؤلف رحمه الله: كذا ذكره الحافظ أبو الخطاب بن دحية رحمه الله. وقد ذكر أبو داود، «عن جنادة، عن ابن أبي أمية قال: كنا مع بشر بن أطأرة في البحر فأتى بشارق يقال له منصور وقد سرق بختية، فقال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: لا تقطع الأيدي في الغزو ولولا ذلك لقطعته» . قال أبو محمد عبد الحق: بشر هذا يقال ولد في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانت له أخبار سوء في جانب علي وأصحابه، وهو الذي ذبح طفلين لعبيد الله بن العباس، ففقدت أمهما عقلها وهامت على وجهها، فدعا عليه علي رضي الله عنه أن يطيل الله عمره ويذهب عقله، كان كذلك، قال ابن دحية: ولما ذبح الصغيرين وفقدت أمهما عقلهما كانت تقف في الموسم تشعر شعراً يبكي العيون ويهيج بلابل الأحزان والعيون وهو هذا: هامن أحس بإبني اللذين هما ... كالدرتين تسطا عنهما الصدف يقال تسطعت العصاة إذا صارت فلقاً، قاله في المجمل وغيره. هامس أحس بإنبي اللذين هما ... سمعي وعقلي فقلبي اليوم مختطف حدثت بشراً وما صدقت ما زعموا من قولهم ومن الإفك الذي اقترف أحنى على ودجي إبني مرهف ... مشحوذة وكذاك الإثم يقترف

باب ما جاء أن اللسان في الفتنة أشد من وقع السيف

باب ما جاء أن اللسان في الفتنة أشد من وقع السيف أبو داود «عن عبد الله بن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ستكون تستطف قتلاها في النار. اللسان فيها أشد من وقع السيف» خرجه الترمذي وقال في حديث غريب، وسمعت محمد بن إسماعيل يقول: لا يعرف لزياد بن سمين كوشى عن عبد الله بن عمر غير هذا الحديث الواحد. وروي موقوفاً. وذكره أبو داود «عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ستكون فتنة صماء بكماء عمياء من أشرف لها استشرفت له. اللسان فيها كوقوع السيف» أخرجه ابن ماجه أيضاً «عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إياكم والفتن فإن اللسان فيها مثل وقع السيف» .

فصل قلت: قوله [تستنطف] أي ترمي. مأخوذ من نطف الماء أي قطر. والنطفة الماء الصافي قل أو كثر والجمع النطاف. أي أن هذه الفتنة تقطر قتلاها في النار أي ترميهم فيها لأقتتالهم على الدنيا واتباع الشيطان والهوى وقتلاها بدل من قوله العرب هذا المعنى الذي ظهر لي في هذا ولم أقف فيه على شيء لغيري والله أعلم. قوله: «اللسان فيها أشد من وقع السيف» أي بالكذب عند أئمة الجور ونقل الأخبار إليهم، فربما ينشأ عن ذلك من النهب والقتل والجلد والمفاسد العظيمة أكثر مما ينشأ من وقوع الفتنة نفسها. وفي الصحيحين، «عن أبي هريرة أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن العبد ليتكلم بالكلمة ينزل بها في النار بعد ما بين المشرق والمغرب» وفي رواية عنه قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن العبد ليتكلم بالكلمة ما يتبين ما فيها يهوي في النار أبعد ما بين المشرق والمغرب» لفظ مسلم. وقد روي «أن الرجل ليتكلم بالكلمة من سخط الله ما يلقى لها بالاً يهوي بها في النار سبعين خريفاً» فقوله: من سخط الله أي مما يسخط الله، وذلك بأن يكون كذبة أو بهتاناً أو بخساً أو باطلاً يضحك به الناس، كما جاء «عن النبي صلى الله عليه وسلم

أنه قال: ويل للذي تكلم بالكلمة من الكذب ليضحك الناس ويل له وويل له» . وفي حديث ابن مسعود [إن الرجل ليتكلم بالكلمة من الرفاهية من سخط الله ترديه بعد ما بين السماء والأرض] قال أبو زياد الكلابي: الرفاهية السعة في المعاش والخصب، وهذا أصل الرفاهية، فأراد عبد الله بن أن يتكلم بالكلمة في تلك الرفاهية والأتراف في دنياه مستهيناً بها لما هو فيه من النعمة، فيسخط الله عز وجل عليه. قال أبو عبيدة وفي الرفاهية لغة أخرى الرفاعية، وليس في هذا الحديث يقال: هو في رفاهية ورفاعية من العيش. وقوله: صماء بكاء عمياء يريد أن هذه الفتنة لا تسمع ولا تبصر فلا تقلع ولا ترتفع، لأنها لا حواس لها فترعوى إلى الحق وأنه شبهها لاختلاطها وفتل البريء فيها والسقيم بالأعمى الأصم الأخرس الذي لا يهتدي إلى شيء فهو يخبط عشواء، والبكم الخرس في أصل الخلقة، والصم الطرش.

باب الأمر بالصبر عند الفتن وتسليم النفس للقتل عندها والسعيد من جنبها

باب الأمر بالصبر عند الفتن وتسليم النفس للقتل عندها والسعيد من جنبها أبو داود «عن أبي ذر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يا أبا ذر قلت: لبيك رسول الله وسعديك، وذكر الحديث قال: كيف أنت إذا أصاب الناس موت يكون البيت بالوصيف يعني القبر، قلت الله ورسوله أعلم، أو قال ما خار الله لي ورسوله، قال عليك بالصبر أو قال تصبر، ثم قال يا أبا ذر قلت لبيك وسعديك؟ قال: كيف أنت إذا رأيت أحجار الزيت أحجار قد غرقت بالدم قلت: ما خار الله لي ورسوله. قال عليك بمن أنت منه قال: قلت يا رسول الله أفلا آخذ سيفي فأضعه على عاتقي؟ قال: شاركت القوم إذا قال: قلت: فما تأمرني؟ قال تلزم بيتك، قال قلت فإن دخل على بيتي؟ قال: فإن خشيت أن يبهرك شعاع السيف فألق ثوبك على وجهك بيوء بإثمه وإثمك خرجه ابن ماجه وقال تصبر من غير شك، وزاد بعده قال: كيف أنت وجوع يصيب الناس حتى تأتي مسجدك فلا تستطيع أن ترجع إلى فراشك أو لا تستطيع أن تقوم من فراشك إلى مسجدك. قال: قلت الله ورسوله أعلم ما خار الله لي ورسوزله، قال: عليك

بالعفة، ثم قال: كيف أنت وقتل يصيب الناس حتى تغرق حجارة الزيت بالدم الحديث. وقال: فألق طرف ردائك على وجهك فيبوء بإثمه وإثمك فيكون من أصحاب النار» . وفي حديث عبد الله بن مسعود حين ذكر الفتنة قال: الزم بيتك. قيل: فإن دخل على بيتي؟ قال: فكن مثل الجمل الأورق الثقال الذي لا ينبعث إلا كرهاً ولا يمشي إلا كرهاً. ذكره أبو عبيدة قال: حدثنيه أبو النضر عن المسعودي، عن علي بن مدرك عن أبي الرواع، عن عبد الله، قال أبو عبيدة سمعت بعض الرواة يقول: الرواع والوجه الرواع بضم الراء. أبو داود قال «عن المقداد بن الأسود قال: وايم الله لقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن السعيد لمن جنب الفتن ولمن ابتلى فصبر فواها» . الترمذي «عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يأتي على الناس زمان الصابر فيه على دينه: كالقابض على الجمر» قال: حديث غريب. فصل قوله بالوصيف الوصيف الخادم يريد أن الناس يشتغلون عن دفن موتاهم، حتى لا يوجد فيهم من يحفر قبر الميت ويدفنه إلا أن يعطى وصيفاً

أو قيمته، وقد يكون معناه أن مواضع القبور تضيق عليهم فيبتاعون لموتاهم القبور كل قبر بوصيف، وقوله: غرقت بالدم أي لزمت والغروق اللزوم فيه، ويروى غرقت وأحجار الزيت موضع المدينة. روى الترمذي «عن عمير مولى بن أبي اللحم عن أبي اللحم أنه رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم يستسقي وهو مقنع بكفيه يدعو» . وذكر عمر بن أبي شيبة في كتاب المدينة على ساكنها الصلاة والسلام قال: حدثنا محمد بن يحيى عن ابن أبي فديك قال: أدركت أحجار الزيت ثلاثة أحجار مواجهة بيت أم كلاب وهو اليوم يعرف ببيت بني أسد فعلاً الكنيس الحجارة فاندفنت قال: وحدثنا محمد بن يحيى قال: وحدثنا محمد يحيى، قال أخبرني أبو ضمرة الليثي عن عنان عن ابن الحارث بن عبيد، عن هلال بن طلحة الفهري أن حبيب بن سلمة الفهري كتب إليه أن كعباً سألنسي أن أكتب له إلى رجل من قومي عالم بالأرض. قال: فلما قدم كعب المدينة جاءني بكتابه ذلك، فقال: أعالم

أنت بالأرض؟ قلت: نعم وكانت بالزوراء حجارة يضعون عليها الزياتون رواياهم فأقبلت حتى جئتها فقلت هذه أحجار الزيت، فقال كعب لا والله ما هذه صفتها في كتاب الله، انطلق أمامي فإنك أهدى بالطريق مني فانطلقنا حتى جئنا بني عبد الأشهل، فقال يا أبا هلال: إني أجد أحجار الزيت في كتاب الله تعالى، فسأل القوم عنها وهم يومئذ متوافرون فسألهم عن أحجار الزيت، وقال إنها ستكون بالمدبنة ملحمة عندها. فصل وأما حديث ابن مسعود: كن مثل الجمل الأورق، فقال الأصمعي الأورق وهو الذي في لونه بياض إلى سواد. ومنه قيل للرماد أورق والحمامة ورقاء. ذكره الأصمعي قال: وهو أطيب الإبل لحماً وليس بمحمود عند العرب في عمله وسيره، وأما الثقال فهو البطيء. قال عبيد: إنما خص عبد الله الأورق من الإبل لما ذكر من ضعفه عن العمل، ثم اشترط الثقاتل أيضاً فزاده إبطاء وثقلاً، فقال: كن في الفتنة مثل ذلك، وهذا إذا دخل عليك وإنما أراد عبد الله بهذا التبثط عن الفتنة والحركة فيها. فصل وأما أمره صلى الله عليه وسلم أبا ذر بلزوم البيت وتسليم النفس للقتل،

فقالت طائفة: ذلك عند جميع الفتن وغير جائز لمسلم النهوض في شيء منها. قالوا: وعليه أن يستسلم للقتل إذا أريدت نفسه ولا يدفع عنها، وحملوا الأحاديث على ظاهرها، وربما احتجوا من جهة النظر بأن قالوا: إن كل فريق من المقتتلين في الفتنة فإنه يقاتل على تأويل، وإن كان في الحقيقة خطأ فهو عند نفسه محق وغير جائز لأحد قتله وسبيله سبيل حاكم من المسلمين يقضي بقضاء مما اختلف فيه العلماء على ما يراه صواباً، فغير جائز لغيره من الحكام نقضه إذا لم يخالف بقضائه ذلك كتاباً ولا سنة ولا جماعة، وكذلك المقتتلون في الفتنة كل حزب منهم عند نفسه محق دون غيره مما يدعون من التأويل فغير جائز لأحد قتالهم، وإن هم قصدوا القتلى فغير جائز دفعهم، وقد ذكرنا من تخلف عن الفتنة وقعدوا منهم عمران بن الحصين وابن عمر، وقد روي عنهما وعن غيرهما منهم عبيدة السلماني أن من اعتزل الفريقين فدخل بيته فأتى يريد نفسه فعليه دفعه عن نفسه، وإن أبى الدفع عن نفسه فغير مصيب كقوله عليه الصلاة والسلام «من أريدت نفسه وماله فقتل فهو شهيد» قالوا فالواجب على كل من أريدت نفسه وماله

فقتل ظلماً دفع ذلك ما وجد إليه السبيل متأولاً كان المريد أو معتمداً للظلم. قلت: هذا هو الصحيح من القولين إن شاء الله تعالى. وفي صحيح مسلم «عن أبي هريرة قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله أرأيت إن جاء رجل يريد أخذ مالي، قال: فلا تعطه مالك، قال: أرأيت إن قاتلني، قال: قاتله قال: أرأيت إن قتلني، قال: فأنت شهيد، قال: أرأيت إن قتلته، قال: هو في النار» . وقال ابن المنذر: ثبتت الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من قتل دون ماله فهو شهيد» وقد روينا عن جماعة من أهل العلم أنهم رأوا قتال اللصوص ودفعهم عن أنفسهم وأموالهم، وهذا مذهب ابن عمر، والحسن البصري، وقتادة ومالك، والشافعي، وأحمد، وإسحاق، والنعمان، وقال أبو بكر: وبهذا يقول عوام أهل العلم أن للرجل أن يقاتل عن نفسه وماله إذا أريد ظلماً للأخبار التي جاءت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يخص وقتاً من وقت ولا حالاً دون إلا السلطان، فإن جماعة من أهل العلم كالمجتمعين على أن من لم يمكنه أن يمنع نفسه وماله إلا بالخروج على السلطان ومحاربته أنه لايحاربه ولا يخرج عليه للأخبار الواردة الدالة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالصبر على ما يكون منهم من الجور والظلم، وقد تقدم ذلك في بابه والحمد لله.

باب ـ جعل الله في أول هذه الأمة عافيتها وفي آخرها بلاءها

باب ـ جعل الله في أول هذه الأمة عافيتها وفي آخرها بلاءها مسلم «عن عبد الله بن عمر قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر فنزلنا منزلاً فمنا من يصلح خباءه، ومنا من يتنضل، ومنا من هو في جشره إذ نادى منادي يا رسول الله صلى الله عليه وسلم الصلاة جامعة، فاجتمعنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال إنه لم يكن نبي قبلي إلا كان حقاً عليه أن يدل أمته على خير ما يعلمه لهم، وإن أمتكم هذه جعل عافيتها في أولها وسيصيب آخرها بلاء وأمور تنكرونها وتجيء فتنة فيدفق بعضها بعضاً، وتجي الفتنة فيقول المؤمن: هذه مهلكتي ثم تنكشف، وتجيء الفتنة فيقول هذه منه، فمن أراد أن يزحزح عن النار ويدخل الجنة فلتأته وهو يؤمن بالله واليوم الآخر، وليأت إلى الناس الذي يحب أن يؤتى إليه، ومن بايع إماماً فأعطاه صفقة يده وثمرة قلبه فليعطه إن استطاع، فإن جاء آخر ينازعه فاضربوا عنق الآخر قال ابن عبد الرحمن عبد رب الكعبة: فدنوت منه فقلت له: ناشدتك الله أنت سمعت هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأهوى إلى أذنيه وقلبه بيديه وقال: سمعته أذناي ووعاه قلبي فقلت له: هذا ابن عمك معاوية يأمرنا أن نأكل أموالنا بيننا بالباطل ونقتل أنفسنا والله عز وجل يقول: {يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيماً} فسكت ساعة ثم قال: أطعه في طاعة الله واعصه في معصية الله» .

فصل قوله: ينتضل الانتضال الرمي بالسهام والجشر المال من المواشي التي ترعى أمام البيوت والديار، يقال: مال جشر يرعى في مكانه لأنه يرجع إلى أهله. يقال: جشرنا دوابنا أي أخرجناها إلى المرعى وأصله البعد، ومنه يقال للأعزب: جشر وجشير لبعده عن النساء، وفي الحديث: «من ترك قراءة القرآن شهرين فقد جشره» أي بعد عنه. وقوله: «يدفق بعضها بعضاً» أي يتلو بعضها بعضاً وينصب بعضها على بعض. والتدفق التصبب. وهذا المعنى مبين في نفس الحديث لقوله وتجيء الفتنة ثم تنكشف وتجيء الفتنة وتزحزح أي تبعد ومنه قوله تعالى {وما هو بمزحزحه من العذاب} أي بمبعده، وصفقة اليد أصلها ضرب الكف على الكف زيادة في الاستيثاق مع النطق باللسان والالتزام بالقلب، وفي التنزيل. {إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله يد الله فوق أيديهم} الآية. وقوله: فاضربوا عنق الآخر قيل: المراد عنه وخلعه وذلك قتله وموته، وقيل: قطع رأسه وإذهاب نفسه يدل عليه قوله في الحديث الآخر: فاضربوه بالسيف كائناً ما كان، وهو ظاهر الحديث هذا إذا كان الأول عدلاً، والله أعلم.

باب جواز الدعاء بالموت عند الفتن وما جاء أن بطن الأرض خير من ظهرها

باب جواز الدعاء بالموت عند الفتن وما جاء أن بطن الأرض خير من ظهرها مالك، «عن يحيى بن سعيد أنه بلغه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يدعو فيقول: اللهم إني أسألك فعل الخيرات وترك المنكرات وحب المساكين، وإذا أردت الناس فتنة فاقبضني إليك غير مفتون» وقد تقدم هذا في أول الكتاب. قال ابن وهب: وحدثني مالك قال: كان أبو هريرة يلقى الرجل فيقول له: مت إن استطعت فيقول له لم؟ قال تموت وأنت تدري على ما تموت خير لك من أن تموت وأنت لا تدري على ما تموت عليه. قال مالك: ولا أرى عمر دعا ما دعا به من الشهادة إلا خالف التحول من الفتن. قلت: وقد جاء هذا المعنى مرفوعاً عن أبي هريرة، روى النضر بن شميل «عن محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ويل للعرب من شر قد اقترب موتوا إن استطعتم» . وهذا غاية في التحذير من الفتن والخوض فيها حين جعل الموت خيراً من مباشرتها. وروى الترمذي «عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كان أمراؤكم خياركم وأغيناؤكم سمحاءكم وأموركم شورى بينكم، فظهر الأرض خير لكم من بطنها، وإذا كان أمراؤكم شراركم وأغنياؤكم بخلاءكم

وأموركم إلى نسائكم فبطن الأرض خير لكم من ظهرها» قال أبو عيسى: هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث صالح المري في حديثه غرائب لا يتابع عليها وهو رجل صالح. البخاري «عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لا تقوم الساعة حتى يمر الرجل بقبر الرجل فيقول يا ليتني مكانه» أخرجه مسلم، وابن ماجه بمعناه، وزاد مثنى وليس به الدين إلا البلاء. وروى شعبة عن سلمة بن كهيل سمعت أبا الزعاء يحدث عن عبد الله قال: [ليأتين على الناس زمان يأتي الرجل القبر فيقول يا ليتني مكان هذا. ليس به حب الله ولكن من شدة ما يرى من البلاء] . قلت: وكان هذا إشارة إلى أن كثرة الفتن وشدة المحن والمشقات والأنكاد اللاحقة للإنسان في نفسه وماله وولده قد أذهبت الدين منه، ومن أكثر الناس أو قلة الاعتناء به من الذي يتمسك بالدين عند هجوم الفتن، وكذلك عظم قدر العبادة في حالة الفتن حتى قال النبي صلى الله عليه وسلم «

باب أسباب الفتن والمحن والبلاء

العبادة في الهرج كهجرة إلي» وقد مضى الكلام في هذا المعنى في أول الكتاب، ونزيده وضوحاً إنه شاء الله تعالى والله أعلم. باب أسباب الفتن والمحن والبلاء أبو نعيم، «عن إدريس الخولاني، عن عبيدة بن الجراح، عن عمر بن الخطاب قال: أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بلحيتي وأنا أعرف الحزن في وجهه فقال: إنا لله وإنا إليه راجعون أتاني جبريل آنفاً فقال: إنا لله وإنا إليه راجعون، فقلت إنا لله وإنا إليه راجعون فمم ذلك يا جبريل؟ فقال: إن أمتك مفتتنة بعدك من دهر غير كثير، فقلت: فتنة كفر أو فتنة ضلال؟ فقال: كل سيكون، فقلت ومن أين وأنا تارك فيهم كتاب الله؟ قال فبكتاب الله يفتنون وذلك من قبل أمرائهم وقرائهم يمنع الأمراء الناس الحقوق فيظلمون حقوقهم ولا يعطونها فيقتتلوا ويفتتنوا، ويتبع القراء أهواء الأمراء الناس الحقوق فيظلمون حوققهم ولا يعطونها فيقتتلوا ويفتتنوا، ويتبع القراء أهواء الأمراء فيمدونهم في الغي ثم لا يقصرون. قلت: كيف يسلم من يسلم منهم؟ قال: بالكف والصبر إن أعطوا الذي لهم أخذوه وإن منعوا تركوه» . البزار «عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لم تظهر الفاحشة في قوم فيهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن في أسلافهم، ولا نقضوا المكيال والميزان إلا أخذوا بالسنين وشدة المؤنة وجوار السلطان، ولم

يمنعوا زكاة أموالهم إلا منعوا القطر من السماء، ولولا البهائم لم يمطروا، ولم ينقضوا عهد الله ولا عهد رسوله إلا سلط عليهم عدوهم، فأخذ بعض ما كان في أيديهم، وإذا لم يحكم أئمتهم بكتاب الله إلا جعل الله بأسهم بينهم» أخرجه ابن ماجه أيضاً في سننه. وذكره أبو عمر بن عبد البر، وأبو بكر الخطيب من حديث «سعيد بن كثير بن عفير بن مسلم بن يزيد قال: حدثنا مالك عن عمه أبي سهيل، عن عطاء بن أبي رباح، عن ابن عمر أن رجلاً قال للنبي صلى الله عليه وسلم: أي المؤمنين أفضل؟ قال: أحسنهم خلقاً قال: فأي المؤمنين أكيس؟ قال: أكثرهم للموت ذكراً وأحسنهم له استعداداً أولئك الأكياس ثم قال يا معشر المهاجرين: لم تظهر الفاحشة في قوم حتى يعلنوا بها إلا ظهر فيهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن في أسلافهم» وذكر الحديث.

وقال عطاء الخراساني: إذا كان خمس كان خمس: إذا أكل الربا كان الخسف والزلزلة، وإذا جار الحكام قحط المطر، وإذا ظهر الزنا كثر الموت، وإذا منعت الزكاة هلكت الماشية، وإذا تعدى على أهل الذمة كانت الدولة ذكره أبو نعيم. الترمذي «عن ابن عمر قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا مشت أمتي المطيطا وخدمها أبناء الملوك فارس والروم سلط شرارها على خيارها» قال: هذا حديث غريب. ابن ماجه، «عن قيس بن أبي حازم قال: قام أبو بكر رضي الله عنه فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أيها الناس إنكم تقرأون هذه الآية {يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم} وإنا سمعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن الناس إذا رأوا المنكر لا يغيرونه أوشك أن يعمهم الله بعقابه» أخرجه أبو داود في سننه، والترمذي في جامعه. مسلم، «عن عبد الله بن عمرو بن العاص، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: إذا فتحت عليكم فارس والروم أي قوم أنتم؟ قال عبد الرحمن بن

عوف: نكون كما أمر الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أو غير ذلك تنافسون ثم تتحاسدون ثم تتدابرون ثم تتباغضون أو نحو ذلك ثم تنطلقون في مساكن المهاجرين فتجعلون بعضهم على رقاب بعض» . وأخرج أيضاً «عن عمرو بن عوف، وهو حليف بني عامر بن لؤي، وكان شهد بدراً مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث أبو عبيدة بن الجراح إلى البحرين يأتي بجزيتها، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد صالح أهل البحرين وأمر عليهم العلاء بن الحضرمي، فقدم أبو عبيدة بمال من البحرين، فسمعت الأنصار بقدوم أبي عبيدة فوافوا صلاة الفجر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم انصرف فتعرضوا له فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم حين رآهم ثم قال: أظنكم سمعتم أن أبا عبيدة قدم بشيء من البحرين قالوا أجل يا رسول الله قال: فأبشروا وأملوا ما بسركم فو الله ما الفقر أخشى عليكم، ولكن أخشى عليكم أن تبسط عليكم كما بسطت على من كان من قبلكم فتنافسوها كما تنافسوها فتهلككم كما أهلكتهم» . وفي رواية: «فتلهيكم كما ألهتكم بدل فتهلككم» . وأخرج ابن ماجه «عن أسامة بن زيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما أدع بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء» أخرجه البخاري ومسلم أيضاً.

وأخرج ابن ماجه «عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما من صباح إلا وملكان يناديان ويل للرجال من النساء وويل للنساء من الرجال» . وأخرج أيضاً «عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام خطيباً وكان فيما قال: إن الدنيا خضرة حلوة وإن الله مستخفلكم فيها فناظر كيف تعملون ألا فاتقوا الله واتقوا النساء» خرجه مسلم أيضاً وقال: بدل قوله فاتقوا الله فاتقوا النار واتقوا النساء وزاد «فإن أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء» . الترمذي، «عن كعب بن عياض قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن لكل أمة فتنة وفتنة أمتي المال» . قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح غريب. و «عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من سكن البادية جفا،

ومن اتبع الصيد غفل، ومن أتى أبواب السلطان افتتن» قال: وفي الباب عن أبي هريرة. وهذا حديث حسن غريب من حديث ابن عباس لا نعرفه إلا من حديث الثوري. فصل حذر الله سبحانه وتعالى عباده فتنة المال والنساء في كتابه وعلى لسان نبيه صلى الله عليه وسلم فقال عز من قائل {يا أيها الذين آمنوا إن من أزواجكم وأولادكم عدوا لكم فاحذروهم} وقال تعالى: {إنما أموالكم وأولادكم فتنة} ثم قال سبحانه وتعالى: {فاتقوا الله ما استطعتم واسمعوا وأطيعوا وأنفقوا خيرا لأنفسكم ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون * إن تقرضوا الله قرضا حسنا يضاعفه لكم} فنبه الله على ما يعتصم به من فتنة حب المال والولد في آي ذكر الله فيها فتنة وما كان عاصماً من فتنة المال والولد فهو عاصم من كل الفتن والأهواء. وقال تعالى {زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث} ثم قال تعالى: {قل أؤنبئكم بخير من ذلكم للذين اتقوا عند ربهم جنات} فوصف تعالى ما للمتقين عند ربهم، ثم وصف أحوالهم بنعتهم إلى قوله {والمستغفرين بالأسحار}

وهذا تنبيه لهم على تزهيدهم فيما زين لهم وترغيبهم فيما هو خير منه ومثل هذا في القرآن كثير. والمطيطاء: بضم الميم والمد: المشي بتبختر وهي مشية المتكبرين المفتخرين وهو مأخوذ من مط يمط إذا مد، قال الجوهري: والمطيطاء بضم الميم ممدوداً التبختر ومد اليدين في المشي، وفي الحديث «إذا مشت أمتي المطيطياء وخدمتهم فارس والروم كان بأسهم بينهم» وقوله: ثم ينطلقون في مساكن المهاجرين. قيل في الكلام حذف أي في مساكين المهاجرين، والمعنى أنه إذا وقع التنافس والتحاسد والتباغض حملهم ذلك على أن يأخذ القوي على ما أفاء الله المساكين الذي لا يقدر على مدافعته، فيمنعه عنه ظلماً وقهراً بمقتضى التنافس والتحاسد. وقيل: ليس في الكلام حذف وأن المعنى المراد أن مساكين المهاجرين وضعفاءهم سيفتح عليهم إذ ذاك من الدنيا حتى يكونوا أمراء بعضهم على رقاب بعض، وهذا اختيار القاضي عياض، والأول اختيار شيخنا أبي العباس القرطبي قال: وهو الذي يشهد له مساق الحديث ومعناه، وذلك أنه عليه الصلاة والسلام أخبرهم أنه يتغير بهم الحال وأنهم عنهم أو عن

باب منه وما جاء أن الطاعة سبب الرحمة والعافية

بعضهم أحوال غير مرضية تخالف أحوالهم التي كانوا عليها من التنافس والتباغض وانطلاقهم في مساكين المهاجرين، فلا بد أن يكون هذا الوصف غير مرضى كالأوصاف التي قبله، وأن تكون تلك الأوصاف المتقدمة توجيهاً، وحينئذ يلتئم الكلام أوله وأخره والله أعلم، ويعضده رواية السمرقندي فيحملون بعضهم على رقاب بعض أي بالقهر والغلبة. باب منه وما جاء أن الطاعة سبب الرحمة والعافية ذكر أبو نعيم الحافظ قال: «حدثنا سليمان بن أحمد قال: حدثنا المقدام بن داود، حدثنا علي بن معبد الرقي، حدثنا وهب بن راشد، حدثنا مالك بن دينار عن خلاس بن عمرو، عن أبي الدرداء قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله عز وجل يقول: أنا الله لا إله إلا أنا مالك الملوك، وملك الملوك، قلوب الملوك بيدي، وأن العباد إذا أطاعوني حولت قلوب ملوكهم عليهم بالرأفة والرحمة، وإن العباد إذا عصوني حولت قلوب ملوكهم عليهم بالسخط والنقمة فساموهم سوء العذاب، فلا تشغلوا أنفسكم بالدعاء على الملوك، ولكن اشغلوا أنفسكم بالذكر والتضرع إلي أكفكم ملوككم» . غريب من حديث مالك مرفوعاً تفرد به علي بن معبد عن وهب ابن راشد.

أبواب الملاحم ـ باب أمارات الملاحم

أبواب الملاحم ـ باب أمارات الملاحم أبو داود «عن معاذ بن جبل: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: عمران بيت المقدس خراب يثرب، وخراب يثرب خروج الملحمة فتح القسطنطنية وفتح القسطنطنية خروج الدجال» . البخاري «عن عوف بن مالك قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك وهو في قبة من آدم فقال: أعدد ستاً بين يدي الساعة موتى ثم فتح بيت المقدس، ثم موتان يأخذ فيكم كقفاص الغنم، ثم استفاضة المال حتى يعطى الرجل مائة دينار فيظل ساخطاً، ثم فتنة لا يبقى بيت من العرب إلا دخلتاه، ثم هدنة تكون بينكم وبين بني الأصفر فيعذرون فيأتونكم تحت ثمانين راية تحت كل راية اثنا عشر ألفاً» . وخرجه أبو القاسم الطبراني في معجمه الكبير بمعناه وزاد بعد قوله

إثنا عشر ألفاً [فسطاط المسلمين يومئذ في أرض يقال لها الغوطة في مدينة يقال لها دمشق] ، ذكره بإسناده أبو الخطاب بن دحية في كتاب مرج البحرين في فوائد المشرقين والمغربين. وقال: عوف بن مالك الأشجعي: شهد موت النبي وحضر فتح بيت المقدس مع أمير المؤمنين عمر بن الخطاب فتحه صلحاً لخمس خلون من ذي القعدة سنة عشر من الهجرة، ثم حضر قسمة كنوز كسرى على يد أمير المؤمنين عمر، ثم شاهد قتال الجمل وصفين، وشاهد عوف رضي الله عنه أيضاً الموتان الذي كان بالشام قبل ذلك، وهو المسمى بطاعون عمواس مات يومئذ ستة وعشرون ألفاً. وقال المديني خمسة وعشرين ألفاً. وعمواس: بفتح العين والميم لأنه [عم وأسى] أي جعل بعض الناس أسوة بعض، وعمواس قرية بين الرملة وبيت المقدس مات فيه أمين هذه الأمة أبو عبيدة بن الجراح، والأمير الفقيه أبو عبد الرحمن معاذ بن جبل. قال الإمام أحمد بن حنبل في تاريخه كان الطاعون عمواس سنة ثمانية عشر. رواه عن أحمد أبو زرعة الرازي قال: كان الطاعون سنة سبع عشرة أو ثمان عشرة وفي سنة سبع عشرة رجع عمر من سرغ، وموتان بضم الميم هي لغة وغيرهم يفتحونها وهم اسم الطاعون والموت.

باب ما ذكر في ملاحم الروم وتواترها وتداعي الأمم على أهل الإسلام

وقوله: كقفاص الغنم هو داء يأخذها لا يلبثها قاله أبو عبيدة، لأن القفاص الموت العجل ويقال بالسين، وقيل هو داء يأخذ في الصدر كأنه يكسر العنق، وقد انقضت هذه الخمس، وعاش عوف بن مالك إلى زمن عبد الله بن مروان سنة ثلاث وسبعين من الهجرة وقد أربى بصفين على المائة، وقال الواقدي: مات عوف بن مالك بالشام سنة ثلاث وتسعين، فإن صح ما قال فقد مات في أيام الوليد بن عبد الملك بن مروان إن لم يكن تصحيفاً منه، والله أعلم. باب ما ذكر في ملاحم الروم وتواترها وتداعي الأمم على أهل الإسلام ابن ماجه، «عن عوف بن مالك الأشجعي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يكون بينكم وبين بني الأصفر هدنة فيغدرون بكم فيسيرون إليكم في ثمانين راية تحت كل راية اثنا عشر ألفاً» . و «عن ذي مخمر، وكان رجلاً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول ستصالحكم الروم صلحاً آمناً، ثم تغزون أنتم وهم

عدوا فتنصرون وتغنمون وتقتسمون وتسلمون، ثم تنصرفون حتى تنزلوا بمرج ذي تلول فيرفع رجل من أهل الصليب صليبه، فيقول غلب الصليب فيغضب رجل من المسلمين فيقوم إليه فيدفعه، فعند ذلك تغدر الروم ويجمعون الملحمة، فيأتون تحت ثمانين راية اثنا عشر ألفاً» . وأخرجه أبو داود وزاد «ويثور المسلمون إلى أسلحتهم فيقتتلون فيكرم الله تلك العصابة بالشهادة» . وأخرجه الإمام أحمد بن حنبل في مسنده وإسناده صحيح ثابت. وذو مخمر بالميم لا غير، وهو ابن أخي النجاشي قاله الأوزاعي، وقد عده أبو عمر في موالي رسول الله صلى الله عليه وسلم. قاله ابن دحية. وخرجا جميعاً عن ابن ماجه، وأبو داود، «عن معاذ بن جبل عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: الملحمة الكبرى وفتح قسطنطنية وخروج الدجال في سبعة أشهر»

وخرجه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح. «وعن عبد الله بن بشر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم بين الملحمة وفتح المدينة ست سنين ويخرج الدجال في السابعة» خرجه ابن ماجه وأبو داود، وقال أبو داود: هذا صحيح من حديث عيسى. قلت: يريد حديث معاذ المذكور قبله. مسلم عن بشير بن جابر قال: هاجت ريح حمراء بالكوفة، فجاء رجل ليس له هجيراً ألا يا عبد الله بن مسعود جاءت الساعة. قال: فقعد وكان متكئاً فقال: إن الساعة لا تقوم حتى لا يقسم ميراث ولا يفرح بغنيمة، ثم قال بيده هكذا ونحاها نحو الشام، فقال: عدو يجمعون لأهل الأسلام وتجمع لهم أهل الإسلام قلت: الروم تعني؟ قال: نعم ويكون عند ذلك القتال ردة شديدة فيشترط المسلمون

شرطة للموت لا ترجع إلا غالبة، فيقتتلون حتى يحجر بينهم الليل فيبقى هؤلاء وهؤلاء كل غير غالب وتفنى الشرطة، ثم يشترط المسلمون شرطة للموت لا ترجع إلا غالبة فيقتتلون حتى يمسوا فيبقى هؤلاء وهؤلاء كل غير غالب وتفنى الشرطة، ثم يشترط المسلمون شرطة للموت لا ترجع إلا غالبة فيقتتلون حتى يمسوا فيبقى هؤلاء وهؤلاء كل غير غالب وتفنى الشرطة، وإذا كان اليوم الرابع نهد إليهم بقية الإسلام فيجعل الله الدائرة عليهم فيقتتلون مقتلة إما قال لم ير مثلها. وإما قال لا يرى مثلها، حتى إن الطائر ليمر بجثمانهم فما يخلفهم حتى يخر ميتاً فيتعادى بنو الأب كانوا مائة فلا يجدون بقي منهم إلا الرجل الواحد، فبأي غنيمة يفرح وبأي ميراث يقسم، فبينما هم كذلك إذ سمعوا بناس هم أكثر من ذلك، فجاءهم الصريخ، فقال: إن الدجال قد خرج في ذراريهم فيرفضون ما بأيديهم ويقبلون فيبعثون عشر فوارس طليعة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إني لأعرف أسماءهم وأسماء آبائهم وألوان خيولهم هم خير فوارس على ظهر الأرض أو من خير فوارس يومئذ.

أبو داود «عن ثوبان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوشك الأمم أن تداعى عليكم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها. فقال قائل من القوم: من قلة نحن يومئذ؟ قال: بل أنتم كثير ولكنكم غثاء كغثاء السيل ولينزعن الله من صدور عدوكم المهاية وليقذفن في قلوبكم الوهن، فقال قائل يا رسول الله وما الوهن؟ قال: حب الدنيا وكراهة الموت» . فصل قوله: بني الأصفر. يعني الروم، وفي تسميتهم بذلك قولان. أحدهما: أن جيشاً من الحبشة غلبوا على ناحيتهم في بعض الدهر، فوطئوا نساءهم فولدن أولاداً صفراً. قاله ابن الأنباري. الثاني: أنهم نسبوا إلى الأصفر ابن الروم بن عيصو بن إسحاق بن إبراهيم عليه السلام قاله ابن إسحاق، وهذا أشبه من القول الأول. والهدنة: الصلح والغاية الراية، كما جاء مفسراً في الحديث بعده. سميت بذلك لأنها تشبه السحابة لمسيرها في الجو، والغاية والصابة السحابة، وقد رواها بعض رواة البخاري تحت ثمانين غابة بباء مفردة النقطة، وهي الأجمة شبه اجتماع رماحهم وكثرتها بالأجمة التي هي

الغابة، والصحيح الأول لأنها تظل الأجناد لكثرة راياتهم واتصال أويلتهم وعلاماتهم كالسحاب الذي يظل الإنسان. وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إن تحت كل غاية اثني عشر ألفاً فجملة العدو تسعمائة ألف وستون ألفاً» ذكره الحافظ أبو الخطاب بن دحية. وقد روي مرفوعاً في حديث فيه طول عن حذيفة: أن الله تعالى يرسل ملك الروم وهو الخامس من الهرقل يقال له ضمارة وهو صاحب الملاحم. فيرغب إلى المهدي في الصلح، وذلك لظهور المسلمين على المشركين فيصالحه إلى سبعة أعوام فيضع عليهم الجزية عن يد وهم صاغرون، فلا تبقى لرومي حرمة ويكسرون لهم الصليب، ثم يرجع المسلمون إلى دمشق، فبينما الناس كذلك إذا برجل من الروم قد التفت فرأى أبناء الروم وبناتهم في القيود والأغلال فتعير نفسخ فيرفع الصليب ويرفع صوته فيقول: ألا من كان يعبد الصليب فينصره، فيقوم رجل من المسلمين فيكسر الصليب ويقول: الله أغلب وأنصر، فحينئذ يغدرون وهم أولى بالغدر فيجمعون عند ذلك ملوك الروم في بلادهم خفية، فيأتون إلى بلاد المسلمين حيث لا يشعر بهم المسلمون، والمسلمون قد أخذوا منهم الأمن وهم على غفلة أنهم مقيمون على الصلح، فيأتون أنطاكية في اثني عشر ألف راية تحت كل راية اثنا

عشر ألفاً، فلا يبقى بالجزيرة ولا بالشام ولا بأنطاكية نصراني إلا ويرفع الصليب، فعند ذلك يبعث المهدي إلى أهل الشام والحجاز واليمن والكوفة والبصرة والعراق يعرفهم بخروج الروم وجمعهم، ويقول لهم أعينوني على جهاد عدو الله وعدوكم، فيبعث إليه أهل المشرق أنه قد جاء عدو من خراسان على ساحل الفرات وحل بنا ما شغلنا عنك، فيأتي إليه بعض أهل الكوفة والبصرة، ويخرج إليه المهدي، ويخرج معهم المسلمون إلى لقائهم فيلتقي بهم المهدي ومن معه من المسلمين فيأتون إلى دمشق فيدخلون فيها فتأتي الروم إلى دمشق فيكونون عليها أربعين يوماً، فيفسدون البلاد ويقتلون العباد ويهدمون الديار ويقطعون الأشجار، ثم إن الله تعالى ينزل صبره ونصره على المؤمنين فيخرجون إليه، فتشتد الحرب بينهم ويستشهد من المسلمين خلق كثير، فيا لها من وقعة ومقتلة ما أعظمها وما أعظم هولها، ويرتد من العرب يومئذ أربع قبائل سليم ونهد وغسان وطي، فيلحقون بالروم وينتصرون مما يعاينون من الهول العظيم والأمر الجسيم، ثم إن الله تعالى ينزل النصر والصبر والظفر على المسلمين، فيقتل من الروم مقتلة عظيمة حتى يخوض الخيل في دمائهم وتشتعل الحرب بينهم، حتى إن الحديد يقطع بعضه بعضاً، وإن الرجل من المسلمين ليطعن العلج بالسفود فينفذه وعليه الدرع من الحديد، فيقتل المسلمون من المشركين خلقاً كثيراً حتى تخوض الخيل في الدماء وبنصر الله تعالى المسلمين ويغضب على الكافرين، وذلك رحمة من الله تعالى لهم، فعصابة من المسلمين يومئذ خير خلق الله والمخلصين من عباد الله ليس فيهم مارد ولا مارق ولا شارد ولا مرتاب ولا منافق، ثم إن المسلمين يدخلون إلى بلاد الروم ويكبرون

على المدائن والحصون، فتقع أسوارها بقدرة الله، فيدخلون المدائن والحصون ويغنمون الأموال ويسبون النساء والأطفال، ويكون أيام المهدي أربعين سنة. عشر سنين في المغرب، واثنتا عشرة سنة بالكوفة، واثنتا عشرة بالمدينة، وستة بمكة، وتكون منيته فجأة بينما الناس كذلك إذ تكلم الناس بخروج الدجال اللعين، وسيأتي من أخبار المهدي ما فيه كفاية إن شاء الله تعالى. وقوله: ليس له هجير. الدأب والعادة. يقال: ما زال ذلك هجيراه وإهجيراه وإجيراه أي دأبه وعادته، وهاجت: أي تحركت ريح حمراء أي شديدة احمرت لها الشجر وانكشفت الأرض، فظهرت حمرتها. ولما رأى ذلك الرجل جاء مجيء الخائف من قرب الساعة والشرطة هنا بضم الشين أول طائفة من الجيش تقاتل. سموا بذلك لعلامة تميزوا بها. والأشراط العلامات، وتفنى الشرطة أي تقتل. وتفيء ترجع. ومنه حتى تفيء إلى أمر الله، ونهد تقدم ومنه سمي النهد نهداً لتقدمه الصدر. والدايرة ويروي والدائرة والمعنى متقارب. قال الأزهري: الدائرة الدولة تدور على الأعداد، والدائرة النصر والظفر يقال: لمن الدائرة، أي لمن الدولة، وعلى من الدائرة؟ أي الهزيمة. قاله أبو عبيد الهروي: والجنبات جمع جنبة وهي الجانب، ويروى بجثمانهم أي

باب منه وبيان قوله تعالى " حتى تضع الحرب أوزارها "

بأشخاصهم، وقوله: إذ سمعوا بناس بنون وسين. هم أكثر بالثاء المثلثة، ويروى بباس بباء واحدة أكبر بباء واحدة أيضاً، وهو الأمر الشديد وهو الصواب لرواية أبي داود وإذ سمعوا بأمر هو أكبر من ذلك، والصريخ الصارخ أي المصوت عند الأمر الهائل، ويرفضون أي يرمون ويتركون، والطليعة الذي يتطلع الأمر ويسكتشفه، وتداعى الأمم اجتماعها ودعا بعضها بعضاً حتى تصير العرب بين الأمم كالقصعة والأكلة وغثاء السيل ما يقذف به على جانب الوادي من الحشيش والنبات والقماش، وكذلك الغثاء بالتشديد. والجمع: الأغثاء. والله أعلم. باب منه وبيان قوله تعالى " حتى تضع الحرب أوزارها " باب منه وبيان قوله تعالى حتى تضع الحرب أوزارها «عن حذيفة قال: فتح لرسول الله صلى الله عليه وسلم فتح فأتيته فقلت: الحمد لله يا رسول الله ألقى الإسلام بجرانه ووضعت الحرب أوزارها؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن دون أن تضع الحرب أوزارها خلالاً ستاً أفلا تسألني عنها يا حذيفة؟ قلت: بلى يا رسول الله، فما أولها؟ قال: موتى وفتح بيت المقدس، ثم فئتان دعواهما واحدة يقتل بعضهم بعضاً، ثم يفيض المال حتى يعطى الرجل مائة دينار فيسخطها، وموت كقفاص الغنم وغلام من بني الأصفر ينبت في اليوم كنبات أشهر، وفي الشهر كنبات السنة، فيرغب قومه فيه فيملكونه ويقولون نرجو أن يرد بك علينا ملكنا، فيجمع جمعاً عظيماً ثم يسير حتى يكون بين العريش وأنطاكية فأميركم يومئذ نعم الأمير، فيقول لأصحابه: كيف ترون؟ فيقولون: نقاتلهم حتى يحكم الله بيننا وبينهم. فيقول:

لا أرى ذلك ولكن تخلي لهم أرضهم ونسير بذرارينا وعيالنا حتى نحرزهم ثم يغزوهم، وقد أحرزنا ذرارينا وعيالاتنا فيسيرون حتى يأتوا مدينتي هذه ويستمد أهل الشام فيمدونه، فيقول: لا ينتدب معي إلا من باع نفسه الله حتى يلقاهم فيلقاهم، ثم يكسر غمده ثم يقاتل حتى يحكم الله بينهم، فينتدبون سبعون ألفاً أو يزيدون على ذلك، فيقول حسبي سبعون ألفاً لا تحملهم الأرض وفي القوم عين العدو فيخبرهم بالذي كان فيسير إليهم حتى إذا التقوا سألوه أن يخلي بينهم وبين من كان بينهم نسب، فيأتي ويدعو أصحابه فيقول: أتدرون ما يسأل هؤلاء؟ فيقولون: ما أحد أولى بنصر الله وقتاله منا. فيقول: امضوا واكسروا أغمادكم فيسل الله سيفه عليهم فيقتل منهم الثلثان ويفر في السفن منهم الثلث، حتى إذا تراءت لهم جبالهم فبعث الله عليهم ريحاً فردتهم إلى مراسيهم إلى الشام، فأخذوا وذبحوا عند أرجل سفنهم عند الشاطئ، فيومئذ تضع الحرب أوازارها» . رواه إسماعيل بن عياش عن عبد الرحمن بن زياد بن أنعم عن ربيعة بن سفيان بن ماتع المغافري، عن مكحول، عن حذيفة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، كذا ذكره الفقيه بن برجان في كتاب الإرشاد له، ومنه نقلته

باب ما جاء في قتال الترك وصفتهم

وفي إسناده مقال، والله أعلم. باب ما جاء في قتال الترك وصفتهم البخاري «عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لا تقوم الساعة حتى تقاتلوا خوزاً وكرمان من الأعاجم، حمر الوجوه فطس الأنوف صغار الأعين، وجوههم المجان المطرقة نعالهم الشعر» . وخرج مسلم «عن أبي هريرة أيضاً قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يقاتلون بين يدي الساعة قوماً نعالهم الشعر كأن وجوههم المجان المطرقة، حمر الوجوه صغار الأعين ذلف الأنوف» . وفي رواية «يلبسون الشعر ويمشون في الشعر» خرجه البخاري،، وأبو داود والنسائي، وابن ماجه، والترمذي وغيرهم. وخرجه ابن ماجه «عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تقوم الساعة حتى تقاتلوا قوماً صغاراً الأعين عراض الوجوه، كأن أعينهم حدق الجراد، وكأن وجوههم المجان المطرقة ينتعلون الشعور، ويتخذون الدرق يربطون خيولهم بالنخيل» . أبو داود، «عن عبد الله بن بريدة، عن أبيه، عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث يقاتلونكم قوم صغاراً الأعين يعني الترك قال تسوقونهم ثلاث مرات حتى تلحقونهم بجزيرة العرب فأما في السياقة الأولى فينجوا منهم من هرب، وأما

باب في سياقة الترك للمسلمين وسياقة المسلمين لهم

في الثانية فينجو بعضهم ويهلك بعض، وأما في الثالثة فيصطلمون» . فصل قوله: المجان المطرقة. المجان جمع مجن وهو الترس، والمطرقة هي التي قد عوليت بطراق، وهو الجلد الذي يغشاه شبه وجوههم في عرضها ونتوء وجناتها بالترس والمطرقة، قال معناه الخطابي وغيره وقيده القاضي عياض رحمه الله في كتاب مشارق الأنوار له، فقال: الصواب فيه المطرقة بفتح الطاء وتشديد الراء. قاله الحافظ أبو الخطاب بن دحية، قال لي شيخنا المحدث الكبير اللغوي النحوي أبو إسحاق الحمزي، بل الصواب فيه المطرقة بسكون الطاء وفتح الراء أي التي أطرقت بالعقب أي ألبست حتى غلظت وكأنها ترس على ترس، ومنه طارقت النعل إذا ركبت جلداً على جلد وخرزته عليه. قال المؤلف رحمه الله تعالى: هذا معنى ما نقلناه عن الخطابي، وقال أهل اللغة: وفي الصحاح والمجان المطرقة التي يطرق بعضها على بعض كالنعل المطرقة المخصوفة، يقال: أطرقت الجلد والعصب أي ألبسته وترس مطرق، وقولهم: نعالهم الشعر أي يصنعون من الشعر حبالاً ويصنعون منها نعالاً كما يصنعون منه ثياباً ويشهد بهذا قوله يلبسون الشعر ويمشون في الشعر هذا ظاهره، ويحتمل أن يريد بذلك أن شعورهم كثيفة طويلة فهي إذا أسدلوها كاللباس وذوائبها لوصولها إلى أرجلهم كالنعال، والأول أظهر. قال ابن دحية: إنما كان نعالهم من ضفائر الشعر أو من جلود مشعرة لما في بلادهم من الثلج العظيم الذي لا يكون في بلد كبلادهم، ويكون من جلد الذئب وغيره. وقوله: يلبسون الشعر فهو إشارة إلى الشرابيش التي يدار عليها بالقندس، والقندس كلب الماء وهو من ذوات الشعر كالمعز، وذوات الصوف كالضأن، وذوات الوبر الإبل، وقوله: ذلف الأنف أي غلاظها، يقال: أنف أذلف إذا كان فيه غلظ وانبطاح والذلف في اللغة تأخر الأرنبة وقيل تطامن فيها، وقيل فطس الأنوف كما في حديث البخاري عن أبي هريرة، فالحديث كالقرآن يفسر بعضه بعضاً، ويروى دلف الأنوف بالدال المهملة والمعجمة أكثر. قال الحافظ أبو الخطاب بن دحية رضي الله عنه: وخوزا قيدناه في صحيح البخاري ومسلم بالزاي وقيده الجرجاني في خور كورمان بالراء المهملة مضافاً إلى كرمان، وكذا صوبه الدارقطني بالراء المهملة مع الإضافة، وحكاه عن الإمام أحمد بن حنبل، وقال: إن غيره صحف فيه، وقال غير الدارقطني إذا أضيف فبالراء المهلمة لا غير وإذا عطفته فبالزاي لا غير، ويقال: إنهما جنسان. باب في سياقة الترك للمسلمين وسياقة المسلمين لهم روى الإمام أحمد بن حنبل في مسنده قال: «حدثنا أبو نعيم، حدثنا بشر بن المهاجر قال: حدثنا عبد الله بن بريدة عن أبيه قال: كنت جالساً عند النبي صلى الله عليه وسلم فسمعت النبي يقول: إن أمتي يسوقها قوم عراض الوجوه صغار الأعين كأن وجوههم الحجف ثلاث مرات حتى يحلقوهم بجزيرة العرب، أما السياقة الأولى فينجو من هرب منهم، وأما السياقة الثانية فيهلك بعض وينجو بعض، وأما السياقة الثالثة فيصطلمون كلهم من بقي منهم

قالوا يا نبي الله من هم؟ قال: هم الترك، قال: أما والذي نفسي بيده ليربطون خيولهم إلى سواري مساجد المسلمين، قال: وكان بريدة لا يفارقه بعيران أو ثلاثة ومتاع السفر والأسقية بعد ذلك للهرب مما سمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم من البلاء من الترك» . قال الإمام أبو الخطاب عمر بن دحية، وهذا سند صحيح أسنده إمام السنة والصابر على المحنة أبو عبد الله أحمد بن حنبل الشيباني، عن الإمام العدل المجمع على ثقته أبي نعيم الفضل بن دكين، وبشير بن المهاجر وثقه. رأى أنس بن مالك روى عن جماعة من الأئمة فوثقوه. قال المؤلف رحمه الله: وخرج أبو داود قال، «حدثنا جعفر بن مسافر قال: حدثنا خلاد بن يحيى: حدثنا بشير بن مهاجر قال: حدثنا عبد الله بن بريدة، عن أبيه، عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث يقاتلونكم صفار الأعين يعني الترك قال: تسوقونهم ثلاث مرات حتى تلحقونهم بجزيرة العرب، فأما في السياقة الأولى فينجو منهم من هرب، وأما الثانية فينجو بعض ويهلك بعض، وأما في الثالثة فيصطلمون» . فصل الاصطلام: الاستئصال وأصله من الصلم وهو القطع. اصطملت أذنه إذا استوفيت بالقطع، وأنشد الفراء: ثمت اصطمت إلى الصماخ فلا قرن ولا أذن والحديث الأول يدل على خروجهم وقتالهم المسملين وقتلهم، وقد وقع ذلك على نحو ما أخبر صلى الله عليه وسلم، فخرج منهم في هذا الوقت أنهم لا يحميهم

إلا الله ولا يردهم عن المسلمين إلا الله حتى كأنهم يأجوج ومأجوج أو مقتدمهم. قال الحافظ السيد بن دحية رضي الله عنه: يخرج في جمادى الأولى سنة سبع عشرة وستمائة جيش من الترك يقال له الططر، عظم في قتله الخطب والخطر وقضى له من قتل النفوس المؤمنة الوطر، ولم تهتد إلى دفعه بالحيل الفطر يقتلون من وراء النهر وما دونه من جميع البلاد بلاد خراسان ومحو رسوم ملك بني ساسان، وهذا الجيش ممن يكفر بالرحمن ويرى أن الخالق المصور هما النيران، وملكهم يعرف بخان خاقان، وخربوا بيوت مدينة نشاور، وأطلقوا فيها النيران، وخار عنهم من أهل خوارزم كل إنسان ولم يبق منهم إلا من اختبأ في المغارات والكهفان، حتى وصلوا إليها وقتلوا وسبوا وخبروا البنيان، أطلقوا الماء على المدينة من نهر جيحان، فغرق فيها مباني الذرا والأركان، ثم صيروا المشهد الرضوي بطوس أرضاً بعد أن كانوا، وقطعوا ما أمر الله عز وجل به أن يوصل من الدين بأخسر الأديان إلى أن وصلوا بلا قهستان، فخربوا مدينة الري وقزوين وأبهر وزنجان، ومدينة أردبيل ومدينة مراغي كرسي بلاد أذربيجان، واستأصلوا شأفة من في هذه البلاد من العلماء والأعيان، واستباحوا قتل النساء وذبح الولدان، ثم وصلوا إلى العراق

الثاني وأعظم مدنه مدينة أصبهان، ودور سورها أربعون ألف ذراع في غاية الارتفاع والإتقان، وأهلها مشتلون بعلم الحديث فحفضهم الله بهذا الشأن، وكف كف الكفر عنهم بأيمان الإيمان، وأنزل عليهم مواد التأييد والإحسان، فتلقوهم بصدور هي في الحقيقة صدور الشجعان، وحققوا الخبر بأنها بلد الفرسان، واجتمع فيها مائة ألف إنسان، وخرجوا إليهم كأسد ولكن غاباتها عوامل الخرصان، وقد لبسوا البيضا كثغور الأقحوان، وعليهم دروع فضفاضة في صفاء الغدران، وهيئات للمجاهدين درجات الجنان، وأعدت للكافرين دركات النيران، وبرز إلى الططر القتل في مضاجعهم، وساقهم القدر المحتوم إلى مصارعهم، فمرقوا عن أصبهان مروق السهم من الرمي وأنشدوا: إلى الوادي فطم على القرى ففروا منهم فرار الشيطان يوم بدر له خصاص، ورأوا أنهم إن وقفوا لم يمكن لهم من الهلاك محاص، وواصلوا السير بالسرى وهدوا من همدان الوهاد والذرى بعد أن قامت الحرب على ساق، والأرواح في مساق من ذبح مثله وضرب الأعناق، وصعدوا جبل أوزند فقتلوا من فيه من جموع صلحاء المسلمين، وخربوا ما فيه من الجنات والبساتين وانتهكوا منهم ومن نسائهم حرمات الدين، وكانت استطالتهم على مقدار ثلثي بلاد المشرق الأعلى، وقتلوا فيها من الخلائق ما لا يحصى، وقتلوا في العراق الثاني عدة تقرب أن يستقصى، وربطوا خيولهم في سواري المساجد

والجوامع، كما جاء في الحديث المنذر لخروجهم الشارح الجامع، وأوغلوا في بلاد المشرق أي إيغال، وقادوا الجيوش إليها مقادة أبي رغال في كلام له إلى أن قال: وقطع السبل وأخافوها، وجاسوا خلال الديار وطافوها، وملأوا قلوب المؤمنين رعباً وسحبوا ذيل الغلبة على تلك البلاد سحباً، وحكموا سيوفهم في رقاب أهلها وأطلقوا يد التخريب في وعرها وسهلها، ولا شك أنهم هم المنذر بهم في الحديث، وأن لهم ثلاث خرجات يصطلمون في الآخرة منها. قال المؤلف رحمه الله: فقد كملت بحمد الله خرجاتهم، ولم يبق إلا قتلهم وقتالهم، فخرجوا على العراق الأول والثاني كما ذكرناه، وخرجوا في هذا الوقت على العراق الثالث بغداد وما اتصل بها من البلاد، وقتلوا جميع من كان فيها من الملوك والعلماء والفضلاء والعباد، وحصروا ميا فارقين واستباحوا جميع من فيها من الملوك والمسلمين، وعبروا الفرات إلى أن وصلوا إلى مدينة حلب فخربوها، وقتلوا من فيها إلى أن تركوها خالية يباباً، ثم أوغلوا إلى أن ملكوا جميع الشام في مدة يسيرة من الأيام، وفلقوا بسيوفهم الرؤوس والهام، ودخل رعبهم الديار المصرية ولم يبق إلا الحوق بالدار الأخروية، فخرج إليهم من مصر الملك المظفر الملقب بقطز رضي الله عنه بجميع من معه من المعسكر، وقد بلغت الحناجر القلوب والأنفس بعزيمة صادقة ونية خالصة، إلى أن التقى بعين جالوت فكان له عليهم من النصر والظفر، كما كان لطالوت فقتل منهم جمع كثير وعدد غزير، وانجلوا عن الشام من ساعتهم ورجع جميعه كما كان إلى الإسلام، وعبروا الفرات منهزمين، ورأوا ما لم بشاهدوه منذ زمان ولا حين، وراحوا خائبين خاسرين مدحورين أذلاء صاغرين.

باب منه وما جاء في ذكر البصرة والأيلة وبغداد والإسكندرية

باب منه وما جاء في ذكر البصرة والأيلة وبغداد والإسكندرية أبو داود الطيالسي قال: حدثنا الحشرج بن نباتة الكوفي، حدثنا سعيد بن جيهان «عن عبد الرحمن بن أبي بكرة قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لتنزلن طائفة من أمتي أرضاً يقال لها البصرة ويكثر بها عددهم ونحلهم، ثم يجيء قوم من بني قنطورا عراض الوجوه صغار الأعين، حتى ينزلوا على جسر لهم يقال له دجلة، فيتفرق المسلمون ثلاث فرق: أما فرقة فتأخذ بأذناب الإبل فتلحق البادية فهلكت، وأما فرقة فتأخذ على أنفسها وكفرت وهذه وتلك سواء، وأما فرقة فيجعلون عيالاتهم خلف ظهورهم ويقاتلون فقتلاهم شهداء، ويفتح الله على بقيتهم» . وخرجه أبو داود السختياني في سننه بمعناه. فقال: «حدثنا محمد بن يحيى بن فارس قال: حدثنا عبد الصمد بن عبد الوارث قال: حدثني سعيد بن جيهان:

حدثنا مسلم بن أبي بكرة قال: سمعت أبي يحدث أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: ينزل ناس من أمتي بغائط يسمونه البصرة عند نهر يقال له دجلة يكون عليه جسر يكثر أهلها وتكون من أمصار المهاجرين. قال ابن يحيى وهو محمد. قال معمر: ويكون من أمصار المسلمين، فإذ كان آخر الزمان جاء بنو قنطورا عراض الوجوه صغار الأعين حتى ينزلوا على شط النهر فيتفرق أهلها ثلاث فرق: فرقة تأخذ أذناب البقر والبرية وهلكوا، وفرقة يأخذون لأنفسهم وكفروا، وفرقة يجعلون ذريتهم خلف ظهورهم ويقاتلون وهم الشهداء» . قال أبو داود: و «حدثنا محمد بن المثنى قال: حدثني إبراهيم بن صالح بن درهم قال: سمعت أبي يقول: انطلقنا حاجين فإذا رجل فقال لنا: إلى جنبكم قرية يقال لها الأيلة قلنا: نعم. قال: من يضمن لي منكم أن يصلي في مسجد العشار ركعتين أو أربعاً ويقول لأبي هريرة. سمعت خليلي يقول: إن الله بيعث من مسجد العشار يوم القيامة شهداء لا يقوم مع شهداء بدر غيرهم» . ذكر الخطيب أبو بكر بن أحمد بن ثابت في تاريخ بغداد أنبأنا أبو القاسم الأزهري، «حدثنا أحمد بن محمد بن موسى قال: حدثنا أحمد بن جعفر بن المنادني قال: ذكر في إسناد شديد الضعف، عن سفيان الثوري، عن أبي

إسحاق الشيباني، عن أبي قيس عن علي رضي الله عنه أنه قال سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: تبنى مدينة بين الفرات ودجلة يكون فيها شر ملك بني العباس وهي الزوراء يكون فيها حرب مقطعة تسبى فيها النساء ويذبح فيها الرجال كما تذبح الغنم» قال أبو قيس فقيل لعلي رضي الله عنه يا أمير المؤمنين: قد سماها رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الزوراء، فقال: لأن الحرب تزور في جوانبها حتى تطبقها. وقال أرطأة بن المنذر قال رجل لابن عباس وعنده حذيفة بن اليمان أخبرني عن تفسيرقوله تعالى {حم * عسق} فأعرض عنه حتى أعاد ثلاثاً، فقال حذيفة: أنا أنبأك بها قد عرفت لم تركها. نزلت في رجل من أهل بيته يقال له عبد الإله أو عبد الله ينزل على نهر من أنهار المشرق يبني عليه مدينتين بشق النهر بينهما شقاً، فإذا أراد الله زوال ملكهم وانقطاع دولتهم بعث الله على إحداها ناراً ليلاً فتصبح سوداء مظلمة، فتحترق كلها كأنها لم تكن في مكانها فتصبح صاحبتها متعجبة كيف قلبت فما هو إلا بياض يومها حتى يجتمع فيها كل جبار عنيد، ثم يخسف الله بها وبهم جميعاً فذلك {حم * عسق} أي عزيمة من عزمات الله وفتنة وقضاء حم أي حم ما هم كائن ع عدلاً منه س سيكون ق واقع في هاتين المدينتين.

ونظير هذا التفسير ما «روى جرير بن عبد الله البجلي قال: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: تبنى مدينة بين دجلة ودجيل وقطربل والفرات يجتمع فيها جبابرة الأرض تجيء إليها الخزائن يخسف بها. وفي رواية يخسف بأهلها فلهي أسرع ذهاباً في الأرض من الوتد الجيد في الأرض الرخوة» وقرأ ابن عباس [حم عسق] بغير عين وكذلك هو في مصحف عبد الله بن مسعود، حكاه الطبري. وقال العباس وكان علي يعرف الفتن بها. و «ذكر القشيري والثعلبي في تفسيرهما أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما نزلت هذه الآية عرفت الكآبة في وجهه فقيل له يا رسول الله: ما أحزنك؟ قال: أخبرت ببلايا تصيب أمتي من خسف وقذف ونار تحشرهم وريح تقذفهم في البحر وآيات متتابعات بنزول عيسى وخروج الدجال» لفظ الثعلبي. وقد روي حديث الزوراء محمد بن زكريا الغلابي، وأسند عن «علي عليه السلام عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقال: أما هلاكها على يد السفياني كأني بها، والله قد صارت خاوية على عروشها» ومحمد بن زكريا قال الدارقطني كان يضع الحديث على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

وذكر ابن وهب، عن عبد الله بن عمرو بن العاص أنه قيل له بالاسكندرية: إن الناس قد فزعوا فأمر بسلاحه وفرسه فجاءه رجل فقال من أين هذا الفزع؟ قال: سفن تراءت من ناحية قبرس. قال: انزعوا عن فرسي. قال: قلنا اصلحك الله إن الناس قد ركبوا. فقال: ليس هذا بملحمة الإسكندرية إنما يأتون من ناحية المغرب من نحو أنطابلس فيأتي مائة ثم مائة حتى عدد تسعمائة. وخرج الوائلي أبو نصر في كتاب الإبانة من حديث رشدين بن سعد، عن عقيل، عن الزهري، عن كعب قال: إني لأجد في كتاب الله المنزل على موسى بن عمران أن للإسكندرية شهداء يستشهدون في بطحائها خير من مضى وخيرمن بقى، وهم الذين يباهي الله عز وجل بهم شهداء بدر. فصل قوله: المجان يفتح الجيم جمع مجن بكير الميم وهو الترس والمطرقة هي التي قد عدلت بطراق، وهو الجلد الذي يغشاه شبه

وجوههم في عرضها ونتوء وجناتها بالترسة والمطرقة. وفي الصحاح والمجان المطرقة التي يطرق بعضها على بعض كالنعل المطرقة المخصوفة، ويقال: أطرقت بالجلد والعصب أي لبست وترس مطرق، وقوله: نعالهم الشعر أي يصنعون من الشعر حبالاً ويصنعون منها نعالاً كما يصنعون منه ثيابهم، ويشهد لهذا قوله يلبسون الشعر ويمشون في الشعر هذا ظاهره، ويحتمل أن يريد بذلك أن شعورهم كثيفة طويلة فهي إذ أسدلوها كاللباس وذوائبها لوصولها إلى أرجلهم كالنعال، والأول أظهر والله أعلم.

وقوله: ذلف الأنف أي غلاظها يقال: أنف إذا كان فيه غلظ وانبطاح وأنوف ذلف، والاصطلام: الاستئصال وأصله من الصلم وهو القطع. قوله: بغائط الغائط المطمئن من الأرض، والبصرة الحجارة الرخوة وبها سميت البصرة، وبنوا قنطورا هم الترك يقال إن قنطورا جارية كانت لإبراهيم عليه السلام ولدت له أولاداً من نسلهم الترك. وقيل: هم من ولد يافث وهم أجناس كثيرة، فمنهم أصحاب مدن وحصون، ومنهم قوم في رؤوس الجبال والبراري والشعاب ليس لهم عمل غير الصيد، ومن لم يصد منهم ودج دابته فشوى الدم في مصران فأكله، وهم يأكلون الرخم والغربان وغيرهما وليس لهم دين، ومنهم من كان على دين المجوسية، ومنهم من تهود وملكهم الذي يقال له خاقان يلبس الحرير وتاج الذهب ويحتجب كثيراً، وفيهم بأس شديد، وفيهم سحر وأكثرهم مجوس. وقال وهب بن منبه: الترك بنو عم يأجوج وز مأجوج يعني أنهم كلهم من ولد يافث. وقيل: إن أصل الترك أو بعضهم من اليمن من حمير، وقيل فيهم: إنهم من بقايا قوم تبع، والله أعلم. ذكره أبو عمر بن عبد البر في كتاب الإبانة. باب ذكر أبو نعيم الحافظ «عن سمرة بن جندب أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال:

باب ما جاء في فضل الشام وأنه معقل من الملاحم

يوشك أن يملأ الله أيديكم مالك العجم ثم يجعلهم أسداً لا يفرون فيقتلون مقاتلكم، ويأكلون فيئكم» غريب من حديث يونس تفرد به عنه حماد. باب ما جاء في فضل الشام وأنه معقل من الملاحم البزار، «عن أبي الدرداء قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بينما أنا نائم إذ رأيت عمود الكتاب احتمل من تحت رأسي، فظننت أنه مذهوب به فأتبعته بصري، فعمد به إلى الشام ألا وإن الإيمان حين تقع الفتن بالشام» خرجه أبو بكر أحمد بن سلمان النجار، وقال عود الإسلام. قال أبو محمد عبد الحق: هذا حديث صحيح، ولعل هذه الفتن هي التي تكون عند خروج الدجال، والله ورسوله أعلم. قلت: وخرجه الحافظ أبو محمد عبد الغني بن سعيد من حديث الحكم بن عبد الله بن خطاف الأزدري وهو متروك، «عن الزهري عن عروة، عن عائشة رضي الله عنها قالت: هب رسول الله صلى الله عليه وسلم من نومه مذعوراً وهو يرجع فقلت: مالك بأبي أنت وأمي؟ قال: سل عمود الإسلام من تحت رأسي ثم رميت بصري، فإذا هو قد غرز في وسط الشام فقيل لي يا محمد إن الله اختار لك الشام وجعلها لك عزاً ومحشراً ومنعة، وذكر أن من أراد الله به خيراً أسكنه

الشام وأعطاه نصيبه منها، ومن أراد الله به شراً أخرج سهماً من كنانته فهي معلقة وسط الشام فرماه به فلم يسلم دنيا ولا أخرى» . وروي عن عبد الملك بن حبيب أن قال: حدثني من أثق به أن الله عز وجل قال للشام: أنت صفوتي من أرضي وبلادي ليسكنك خيرتي من خلقي وإليك المحشر من خرج منك رغبة عنك فبسخط مني عليه، ومن دخلك رغبة فيك فبرضى مني دخلك. أبو داود، «عن أبي الدرداء أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: فسطاط المسلمين يوم الملحمة بالغوطة إلى جانب مدينة يقال لها دمشق من خير مدائن الشام» . وذكر أبو بكر بن أبي شيبة، «عن أبي الزاهرية قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: معقل المسلمين من الملاحم دمشق، ومعقلهم من الرجال بيت المقدس، ومعقلهم من يأجوج ومأجوج الطور» . قلت: هذا صحيح ثبت معناه مرفوعاً في غير ما حديث وسيأتي.

باب ما جاء أن الملاحم إذا وقعت بعث الله جيشا يؤيد به الدين

باب ما جاء أن الملاحم إذا وقعت بعث الله جيشاً يؤيد به الدين ابن ماجه، «عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا وقعت الملاحم بعث الله جيشاً من الموالي هم أكرم العرب فرساناً وأجوده سلاحاً يؤيد الله بهم الدين» . باب ما جاء في المدينة ومكة وخرابهما مسلم «عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: تبلغ المساكن أهاب أو يهاب» قال زهير: قلت لسهيل فكم ذاك من المدينة؟ قال كذا وكذا ميلاً. أبو داود «عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يوشك المسلمون أن يحاصروا إلى المدينة حتى يكون أبعد مسالحهم سلاح» قال الزهري: وسلاح قريب من خيبر. قلت: المسالح: المطالع ويقال القوم مستعد بهم في المراصد ويرتبون لذلك، وسموا بذلك لحملهم السلاح، وقال الجوهري: والمسلحة كالثغر والمرقب. وفي الحديث كان أدنى مسالح فارس إلى العرب العذيب

قال بشر: بكل قياد مسنفة عنود ... أضر بها المسالح والفرار القياد: حبل تقاد به الدابة. والمسنف: المتقدم. يقال: أسنف الفرس أي تقدم الخيل، فإذا سمعت في الشعر مسنفة بكسر النون، فهي من هذا وهي الفرس التي تتقدم الخيل في سيرها، والعنود: من عند الطريق يعند بالضم عنوداً أي عدل فهم عنود، والعنود أيضاً من النوق التي ترعى ناحية، والجمع عند. ومنه قوله تعالى: {إنه كان لآياتنا عنيداً} أي مجانياً للحق معانداً له معرضاً عنه. يقال عند الرجل إذا عتا وجاوز قدره. مسلم «عن أبي هريرة سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: تتركون المدينة على خير ما كانت لا يغشاها إلا العوافي يريد عوافي السباع والطير، ثم يخرج راعيان من مزينة يريدان المدينة ينعقان بغنمهما فيجدان وحشاً حتى إذا بلغ ثانية الوداع خرا على وجهيهما» «وعنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم للمدينة: ليتركنها أهلها على خير ما كانت مذللة للعوافي يعني السباع والطير» وعن «حذيفة قال: أخبرني رسول الله صلى الله عليه وسلم بما هو كائن إلى

يوم القيامة فما منه شيء إلا قد سألته إلا أني لم أسأله ما يخرج أهل المدينة من المدينة» . وذكر أبو زيد عمر بن شبه في كتاب المدينة على ساكنها الصلاة والسلام عن أبي هريرة قال: ليخرجن أهل المدينة خير ما كانت. نصفها زهو ونصفها رطب قيل ومن يخرجهم منها يا أبا هريرة؟ قال: أمراء السوء. قال أبوزيد، «وحدثنا سليمان بن أحمد قال: حدثنا الوليد بن مسلم، حدثنا ابن لهيعة عن أبي الزبير، عن جابر أنه سمع عمر بن الخطاب رضي الله عنه على المنبر يقول إنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: يخرج أهل المدينة منها ثم يعودون إليها إليها فيعمرونها حتى تمتلىء ثم يخرجون منها فلا يعودون إليها أبداً» . وخرج «عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ليخرجن أهل المدينة ثم ليعودون إليها، ثم ليخرجن منها ثم لا يعودون إليها أبداً، وليدعنها وهي خير ما تكون مونقة. قبل فمن يأكلها؟ قال الطير والسباع» . وخرج عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: والذي نفسي بيده لتكونن بالمدينة

ملحمة يقال لها الحالقة لا أقول حالقة الشعر، ولكن حالقة الدين فاخرجوا من المدينة ولو على قدر بريد. وعن الشيباني قال: لتخربن المدينة والبنود قائمة. البنود جمع بند وهو العلم الكبير قاله في النهاية. قال مسلم، «عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: يخرب الكعبة ذو السويقتين رجل من الحبشة» . البخاري «عن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: كأني به أسود أفحج يقلعها حجراً حجراً» الفحج: تباعد ما بين الفخذين. وفي حديث «حذيفة الطويل عنه صلى الله عليه وسلم: كأني بحبشي أفحج الساقين أزرق العينين أفطس الأنف كبير البطن، وأصحابه ينقضونها حجراً حجراً ويتناولنها حتى يرموا بها إلى البحر يعني الكعبة» ذكره أبو الفرج بن الجوزي وهو حديث فيه طول، وقال أبو عبيدة القاسم بن سلام في حديث علي عليه السلام استكثروا من الطواف بهذا البيت قبل أن يحال بينكم وبينه، فكأني برجل من الحبشة أصعل أصمع أحمش الساقين قاعد عليها وهي تهدم. قال: حدثنا يزيد بن هارون، عن هشام بن حسان، عن حفصة، عن أبي العالية، عن علي

قال الأصمعي قوله أصعل هكذا يروى، فأما كلام العرب فهو صعل بغير ألف وهو الصغير الرأس الحبشة كلهم قال، والأصمع الصغير الأذن يقال منه رجل أصمع وامرأة صمعاء وكذلك غير الناس. أبو داود الطيالسي، «عن أبي هريرة، النبي صلى الله عليه وسلم يبايع لرجل بين الركن والمقام وأول من يستحل هذا البيت أهله فإذا استحلوه فلا تسأل عن هلكة العرب، ثم تجيء الحبشة فيخربونه خراب لا يعمر بعده أبداً وهم الذين يستخرجون كنزه» . ذكر الحليمي فيما ذكر أنه يكون في زمن عيسى عليه السلام، وأن الصريخ يأتيه بأن ذا السويقتين الحبشي قد سار إلى البيت لهدمه، فيبعث إليه عيسى عليه السلام طائفة من الناس ما بين الثمان إلى التسع. وذكر أبو حامد في كتاب مناسك الحج له وغيره، ويقال: لا تغرب الشمس يوماً إلا ويطوف بهذا البيت رجل من الأبدل، ولا يطلع الفجر من ليلة إلا طاف به واحد من الأوتاد، وإذا انقطع ذلك كان سبب رفعه من الأرض فيصبح الناس وقد رفعت الكعبة ليس فيها أثر، وهذا إذا أتى عليها

سبع سنين لم يحجها أحد، ثم يرتفع القرآن من المصاحف فيتصبح الناس فإذا الورق أبيض يلوح ليس فيه حرف، ثم ينسخ القرآن من القلوب فلا يذكر منه كلمة واحدة، ثم ترجع الناس إلى الأشعار والأغاني وأخبار الجاهلية، ثم يخرج الدجال وينزل عيسى بن مريم عليه السلام فيقتل الدجال والساعة عند ذلك بمنزلة الحامل المقرب تتوقع ولادتها. وفي الخبر استكثروا من الطواف بهذا البيت قبل أن يرفع فقد هدم مرتين ويرفع في الثالثة. قال المؤلف رحمه الله وقيل: إن خرابه يكون بعد رفع القرآن من صدور الناس ومن المصاحف، وذلك بعد موت عيسى عليه السلام وهو الصحيح في ذلك على ما يأتي بيانه. فصل: ثبت في الصحيح الدعاء للمدينة والحث على سكناها. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «يأتي على الناس زمن يدعو الرجل ابن عمه وقريبه هلم إلى الرخاء هلم إلى الرخاء والمدينة خير لهم كانوا يعلمون، والذي بيده لا يخرج أحد منهم رغبة عنها إلا أخلف الله فيها خيراً منه إلا أن المدينة كالكير تخرج الخبث. لا تقوم الساعة حتى تنفي المدينة شرارها كما ينفي الكير خبث الحديد» رواه أبو هريرة وخرجه مسلم. خرج «عن سعيد بن أبي وقاص قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من أراد أهل المدينة بسوء أذابه الله كما يذوب الملح في الماء» . ونحوه عن

أبي هريرة رضي الله عنه ومثل هذا كثير وهو خلاف ما تقدم، وإذا كان هذا فظاهره التعارض وليس كذلك، فإن الحض على سكناها ربما كان عند فتح الأمصار ووجود الخيرات بها، كما جاء في حديث «سفيان بن أبي زهير قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: تفتح اليمن فيأتي قوم يعيشون فيتحملون بأهليهم ومن أطاعهم والمدينة خير لهم لو كانوا يعلمون، ثم تفتح الشام فيأتي قوم يعيشون فيتحملون بأهليهم ومن أطاعهم والمدينة خير لهم لو كانوا يعملون، ثم تفتح العراق فيأتي قوم يعيشون فيتحملون بأهليهم ومن أطاعهم والمدينة خير لهم لو كانوا يعلمون» رواه الأئمة واللفظ لمسلم فحض صلى الله عليه وسلم على سكناها حين أخبر بانتقال الناس عنها عند فتح الأمصار، لأنها مستقر الوحي وفيها مجاورته، ففي حياته صحبته ورؤية وجهه الكريم وبعد وفاته مجاورة حدثه الشريف ومشاهدة آثاره العظيمة، ولهذا قال: «لا يصبر أحد على لأوائها وشدتها إلا كنت شفيعاً أو شهيداً له يوم القيامة» . وقال: «من استطاع أن يموت بالمدينة فليمت بها فإني أشفع لمن مات بها ثم إذاتغيرت الأحوال واعتورتها الفتن والأهوال كان الخروج منها غير قادح والانتقال منها حسناً غير قادح» .

فصل: وأما قوله: «من أراد أهل المدينة بسوء» فذلك محمول على زمانه وحياته، كما في الحديث الآخر «لا يخرج أحد منهم رغبة عنها إلا أخلف الله فيها خيراً منه» وقد خرج منها بعد موته صلى الله عليه وسلم من الصحابة من لم يعوضها الله خيراً منه، فدل على أن ذلك محمول على حياته، فإن الله تعالى كان يعوض أبداً رسوله صلى الله عليه وسلم خيراً ممن رغب عنه وهذا واضح، ويحتمل أن يكون قوله: أذابه الله كناية عن إهلاكه في الدنيا قبل موته، وقد فعل الله ذلك بمن غزاها وقاتل أهلها كمسلم بن عقبة إذ أهلكه الله عند مصرفه عنها إلى مكة لقتال عبد الله بن الزبير. بلاه الله بالماء الأصفر في بطنه فمات بقديد بعد الوقعة بثلاث. وقال الطبري مات بهرشي وذلك بعد الوقعةبيثلاث ليال، وهرشي جبل من بلاد تهامة على طريق الشام والمدينة قريب من الجحفة، وكإهلاك يزيد بن معاوية إثر إغرائه أهل المدينة حرم النبي المختار وقتله بها بقايا المهاجرين والأنصار، فمات بعد هذه الوقعة وإحراق الكعبة بأقل من ثلاثة أشهر، ولأنه توفي بالذبحة وذات الجنب في نصف ربيع الأول بحوارين من قرى حمص، وحمل إلى دمشق وصلى عليه ابنه خالد. وقال المسعودي: صلى عليه ابنه معاوية ودفن في

مقبرة باب الصغير، وقد بلغ سبعاً وثلاثين سنة فكانت ولايته ثلاث سنين وثمانية أشهر واثني عشر يوماً. فصل: وأما قوله: «تتركون المدينة» حدثنا المخاطب فمرداه غير المخاطبين، لكن نوعهم من أهل المدينة أو نسلهم وعلى خير ما كانت عليه فيما قبل، وقد وجد هذا الذي قاله النبي صلى الله عليه وسلم وذلك أنها صارت بعده صلى الله عليه وسلم معدن الخلافة وموضعها، ومقصد الناس وملجأهم معلقهم حتى تنافس الناس فيها وتوسعوا في خططها وغرسوا وسكنوا منها ما لم يسكن قبل، وبنوا فيها وسيدوا حتى بلغت المساكن أهاب، فلما انتهت حالها كمالاً وحسناً تناقص أمرها إلى أن أقفرت جهاتها بتغلب الأعراب عليها وتوالي الفتن فيها، فخاف أهلها وارتحلوا عنها وصارت الخلافة بالشام، ووجه يزيد بن معاوية مسلم بن عقبة المزي في جيش عظيم من أهل الشام، فنزل بالمدينة فقاتل أهلها فهزمهم وقتلهم بحرة المدينة قتلاً ذريعاً واستباح المدينة ثلاثة أيام، فسميت وقعة الحرة لذلك، وفيه يقول الشاعر:

فإن تقتلونا يوم حرة واقم ... فإنا على الإسلام أول من قتل وكانت وقعة الحرة يوم الأربعاء لليلتين بقيتا لذي الحجة سنة ثلاث وثلاثين ويقال لها حرة زهرة، وكانت الوقعة بموضع يعرف بواقم على ميل من مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقتل بقايا المهاجرين والأنصار وخيار التابعين وهم ألف وسبع مائة، وقتل من أخلاط الناس عشرة آلاف سوى النساء والصبيان، وقتل بها من حملة القرآن سبعمائة رجل من قريش، وسبعة وتسعون قتلوا جهراً ظلماً في الحرب وصبراً. وقال الإمام الحافظ أبو محمد بن حزم في المرتبة الرابعة وجالت الخيل في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم وبالت وراثت بين القبر والمنبر أدام الله تشريفها، وأكره الناس على أن يبايعوا ليزيد على أنهم عبيد له إن شاء باع وإن شاء أعتق، وذكر له يزيد بن عبد الله بن زمعة البيعة على حكم القرآن والسنة، فأمر بقتله فضربت عنقه صبراً. وذكر الأخباريون أنها خلت من أهلها وبقيت ثمارها لعوافي الطير والسباع كما قال صلى الله عليه وسلم، ثم تراجع الناس إليها وفي حال خلوها غدت الكلاب على سواري المسجد، والله أعلم. وذكر أبو زيد عمر بن شبة قال: حدثنا صفوان عن شريح بن عبيد أنه قرأ كتاباً بالكعبة: ليغشين أهل المدينة أمر يفزعهم أمر يفزعهم حتى يتركوها وهي مذللة، وحتى تبول السنانير على قطائف الخز ما يروعها شيء، وحتى تخرق الثعالب في أسواقها ما يروعها شيء،

وأما قوله في الراعيين حتى إذا بلغا ثنية المداع خرا على وجهيهما فقيل سقطا ميتين. قال علماؤنا: وهذا إنما يكون في آخر الزمان وعند انقراض الدنيا بدليل ما قال البخاري في هذا الحديث: آخر من يحشر راعيان من مزينة. قيل: معناه آخر من يموت فيحشر، لأن الحشر بعد الموت، ويحتمل أن يتأخر حشرها لتأخر موتهما. قال الداودي أبو جعفر أحمد بن نصر في شرح البخاري له: وقوله الراعيين ينعقان بغنمهما يعني يطلبان الكلأ. وقوله: وحشا يعني خالية، وقوله ثنية الوداع يعني موضعاً قريباً من المدينة مما يلي مكة. وقوله: خرا على وجهيهما يعني أخذتهما الصعقة حين النفخة الأولى وهو الموت. وقوله: آخر من يحشر يعني أنهما بأقصى المدينة فيكونان في أثر من يبعث منها ليس أن بعض الناس يخرج بعد بعض من الأجداث إلا بالشيء المتقارب يقول الله تعالى: {إن كانت إلا صيحة واحدةً فإذا هم جميع لدينا محضرون} . وقوله النبي صلى الله عليه وسلم «يصعق الناس فأكون أول من تنشق عنه الأرض، فإذا موسى آخذ بقائمة من قوائم العرش، فلا أدري أفاق قبلي أو كان من الذين استثنى الله» . وقال شيخنا أبو العباس القرطبي: ويحتمل أن يكون معناه آخر من يحشر إلى المدينة أي يساق إليها، كما في كتاب مسلم رحمه الله تعالى. قال المؤلف رحمه الله: وقد ذكر ابن شبة خلاف هذا كله، فذكر عن حذيفة بن أسيد قال: آخر الناس يحشر رجلان من مزينة يفقدان الناس، فيقول أحدهما لصاحبه: قد فقدنا الناس منذ حين انطلق بنا إلى شخص بني فلان،

باب ـ في الخليفة الكائن في آخر الزمان المسمى بالمهدي وعلامة خروجه

فينطلقان فلا يجدان بها أحداً، ثم يقول: انطلق بنا إلى المدينة فينطلقان فلا يجدان بها أحداً، ثم يقول: انطلق بنا إلى منازل قريش ببقيع الغرقد فينطلقان فلا يريان إلا السباع والثعالب فيوجهان نحو البيت الحرام. وقد ذكر عن أبي هريرة قال: [آخر من يحشر رجلان رجل من جهينة وآخر من مزينة فيقولان: أين الناس فيأتيان المدينة فلا يريان إلا الثعلب، فينزل إليهما ملكان فيسحبانهما على وجهيهما حتى يلحقاهما بالناس] . فصل: وأما قوله في حديث أبي هريرة: يبايع لرجل بين الركن والمقام فهو المهدي الذي يخرج في آخر الزمان على مانذكره أيضاً يملك الدنيا كلها. والله أعلم. فروي أن جميع ملوك الدنيا كلها أربعة: مؤمنان وكافران. فالمؤمنان سليمان بن داود والإسكندر، والكافران نمروذ وبخت نصر، وسيملكها من هذه الأمة خامس وهو المهدي. باب ـ في الخليفة الكائن في آخر الزمان المسمى بالمهدي وعلامة خروجه مسلم عن أبي نضيرة قال: كنا جلوساً عند جابر بن عبد الله فقال: يوشك أهل العراق أن لا يجيء قفيز ولا درهم. قلنا: من أين؟ قال: من قبل العجم يمنعون ذلك. ثم قال: يوشك أهل الشام أن لا يجيء دينار ولا مدى. قلنا من أين لك ذلك؟ قال من قبل الروم، ثم سكت هنيهة

ثم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يكون في آخر الزمان خليفة يحثى المال حثياً ولا يعده عداً» قيل لأبي نضرة وأبي العلاء تريان أنه عمر بن عبد العزيز قالا: لا. أبو داود، «عن أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: يكون اختلاف عند موت خليفة، فيخرج رجل من أهل المدينة هارباً إلى مكة فيأتيه ناس من أهل مكة فيخرجونه وهو كاره فيبايعونه بين الركن والمقام ويبعث إليه بعث من الشام فيخسف بهم البيداء بين مكة والمدينة، فإذا رأى الناس ذلك أتاه أبدال أهل الشام وعصائب العراق فيبايعونه، ثم ينشر رجل من قريش أخواله كلب فيبعث إليهم بعثاً فيظهرون عليهم وذلك بعث كلب، والخيبة لمن لم يشهد غنيمة كلب فيغتم المال ويعمل في الناس بسنة نبيهم صلى الله عليه وسلم ويلقى الإسلام بجرانه إلى الأرض، فيلبث سبع سنين ثم يتوفى ويصلي عليه المسلمون» . وذكر ابن شبة فقال: حدثنا موسى بن إسماعيل قال: حدثنا حماد بن مسلمة قال: حدثنا أبو المهزم عن أبي هريرة قال: يجيء جيش من قبل الشام حتى يدخل المدينة فيقتل المقاتلة ويبقر بطون النساء ويقولون للحبلى في

البطن اقتلوا صبابة السوء فإذا علوا البيداء من ذي الخليفة خسف بهم فلا يدرك أسفلهم أعلاهم، ولا أعلاهم أسفلهم، قال أبو المهزم: فلما جاء جيش ابن دلجة قلناهم فلم يكونوا هم. قال: حدثنا محمد بن يحيى قال: حدثنا أبو ضمرة الليثي، عن عبد الرحمن بن الحرب بن عبيد، عن هلال بن طلحة الفهري قال: قال كعب الأحبار: تجهز يا هلال قال فخرجنا حتى إذا كنا بالعقيق ببطن المسيل دون الشجرة والشجرة يومئذ قائمة. قال يا هلال إني أجد صفة الشجرة في كتاب الله. قلت هذه الشجرة قال: فنزلنا فصلينا تحتها ثم ركبنا حتى إذا استوينا على ظهر البيداء قال يا هلال: إني أجد صفة البيداء، قلت أنت عليها قال: والذي نفسي بيده إن في كتاب الله جيشاً يؤمون البيت الحرام، فإذا استووا عليها نادى آخرهم أولهم ارفقوا، فخسف بهم وبأمتعتهم وأموالهم وذرياتهم إلى يوم القيامة، ثم خرجنا حتى إذا انهبطت رواحلنا أدنى الروحاء قال يا هلال: إني أجد سفة الروحاء. قال قلت الآن حين دخلنا الروحاء.

قال: وحدثنا أحمد بن عيسى قال: وحدثنا ابن عيسى قال: وحدثنا عبيد الله بن وهب قال: وحدثني ابن لهيعة، عن بشر بن محمد المعفري قال: سمعت أبا نواس يقول: سمعت عبد الله بن عمرو يقول: إذا أخسف الجيش بالبيداء فهو ظهور المهدي. قلت: ولخروجه علامتان يأتي ذكرهما إن شاء الله تعالى. فصل: قوله: ثم سكت هنية بضم الهاء وتشديد الياء أي مدة يسيرة بتصغيرهن، ويروى بهاءين. ورواه الطبري هنيئة مهموز وهو خطأ لا وجه له. فيه دلالة على صدق النبي صلى الله عليه وسلم حيث أخبر عما سيكون بعد فكان. ومثله الحديث الآخر: منعت العراق درهمها وقفيزها الحديث. أي ستمنع وأتى بلفظ الماضي في الأخبار، لأنه ماض في علم الله أنه سيكون كقوله عز من قائل {أتى أمر الله فلا تستعجلوه} والمعنى أنه لا يجيء إليها كما جاء مفسراً في هذا الحديث، ومعناه والله أعلم سيرجعون عن الطاعة ويأبون من إذا ما وظف عليهم في أحد الأمر، وذلك أنهم يرتدون عن الإسلام وعن أداء الجزية، ولم يكن ذلك في زمانه، ولكن أخبر أنهم سيفعلون ذلك. وقوله «يحثي المال حثياً» قال ابن الأنباري أعلى اللغتين حثاً يحثي وهو أصح وأفصح، ويقال حثاً يحثو ويحثي واحث بكسر الثاء وضمها كلها لمعنى اغرف بيديك.

باب ـ منه في المهدي وخروج السفياني عليه وبعثه الجيش لقتاله وأنه الجيش الذي يخسف به

باب ـ منه في المهدي وخروج السفياني عليه وبعثه الجيش لقتاله وأنه الجيش الذي يخسف به روي من حديث «حذيفة بن اليمان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وذكر فتنة تكون بين أهل المشرق والمغرب فبينما هم كذلك إذ خرج عليهم السفياني من الوادي اليابس في فوره ذلك حتى ينزل دمشق، فيبعث جيشين جيشاً إلى المشرق وجيشاً إلى المدينة، فيسير الجيش نحو المشرق حتى ينزل بأرض بابل في المدينة الملعونة والبقعة الخبيثة يعني مدينة بغداد قال فيقتلون أكثر من ثلاثة آلاف ويفتضون أكثر من مائة امرأة، ويقتلون بها أكثر من ثلاثمائة كبش من ولد العباس، ثم يخرجون متوجهين إلى الشام، فتخرج راية هدى من الكوفة فتلحق ذلك الجيش على ليلتين فيقتلونهم حتى لا يفلت منهم مخبر، ويستنقذون ما في أيديهم من السبي والغنائم، ويحل جيشه الثاني بالمدينة فينهبونها ثلاثة أيام ولياليها، ثم يخرجون متوجهين إلى مكة حتى إذا كانوا بالبيداء، بعث الله جبريل عليه السلام فيقول يا جبريل إذهب فأبدهم فيضربها برجله ضربة يخسف الله بهم، وذلك قوله تعالى عز وجل {ولو ترى إذ

فزعوا فلا فوت وأخذوا من مكان قريب} فلا يبقى منهم إلا رجلان أحدهما بشير والآخر نذير وهما من جهينة» ولذلك جاء القول: وعند جهينة الخبر اليقين. قلت: حديث حذيفة هذا فيه طول، وكذلك حديث ابن مسعود فيه ثم إن عروة بن محمد السفياني يبعث جيشاً إلى الكوفة خمسة عشر ألف فارس، ويبعث جيشاً آخر فيه خمسة عشر ألف راكب إلى مكة والمدينة لمحاربة المهدي ومن تبعه، فأما الجيش الأول فإنه يصل إلى الكوفة فيتغلب عليها ويسبي من كان فيها من النساء والأطفال ويقتل الرجال ويأخذ ما يجد فيها من الأموال، ثم يرجع فتقوم صيحة بالمشرق، فيتبعهم أمير من أمراء بني تميم يقال له شعيب بن صالح، فيستنفذ ما في أيديهم من السبي ويرد إلى الكوفة. وأما الجيش الثاني فإنه يصل إلى مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم فيقاتلونها ثلاثة أيام، ثم يدخلونها عنوة ويسبون ما فيها من الأهل والولد، ثم يسيرون نحو مكة أعزها الله لمحاربة المهدي ومن معه، فإذا وصلوا إلى البيداء مسحهم الله أجمعين فذلك قول الله تعالى {ولو ترى إذ فزعوا فلا فوت وأخذوا من مكان قريب} . وقد ذكر خبر السفياني مطولاً بتمامة أبو الحسين أحمد بن جعفر بن

المنادى في كتاب الملاحم له، وأنه الذي يخسف بجيشه. قال: واسمه عتبة بن هند، وهو الذي يقوم في أهل دمشق فيقول يا أهل دمشق: أنا رجل منكم وأنت خاصتنا جدي معاوية بن أبي سفيان وليكم من قبل فأحسن وأحسنتم، وذكر كلاماً طويلاً إلى أن ذكر كتابه إلى الجرهمي وهو على ما يليه من أرض الشام، وأتىالبرقي وهو على ما يليه من حد برقة وما وراء برقة من المغرب إلى أن قال: فيأتي الجرهمي فيبايعه واسم الجرهمي عقيل بن عقال، ثم يأتيه البرقي واسم البرقي همام بن الورد، ثم ذكر مسيره إلى أرض مصر وقتاله لملكها فيقتلون على قنطرة الفرما أو دونها بسبعة أيام، ثم ينصر أهل مصر وقد قتل منهم زهاء سبعين ألفاً ونيفاً ثم يصالحه أهل مصر ويبايعونه فينصرف عنهم إلىالشام، ثم ذكر تقدميه الأمراء من العرب رجل من حضرموت، ولرجل من خزاعة، ولرجل من عبس، ولرجل من ثعلبة، وذكر عجائب وأن جيشه الذي يخسف بهم تبتلعهم الأرض إلى أعناقهم وتبقى رؤوسهم خارجة، ويبقى جميع خيلهم وأموالهم وأثقالهم وخزائنهم وجميع مضاربهم والسبي على حاله إلى أن يبلغ الخبر الخارج بمكة، واسمه محمد بن علي من ولد السيط الأكبر الحسن بن علي فيطوي الله تعالى له الأرض فيبلغ البيداء من يومه، فيجد القوم أبدانهم داخلة في الأرض ورؤوسهم خارجة وهم أحياء فيحمد الله عز وجل هو وأصحابه وينتحبون بالبكاء، ويدعون الله عز وجل ويسبحونه ويحمدونه على حسن

صنيعه إليهم ويسألونه تمام النعمة والعافية، فتبلغهم الأرض من ساعتهم يعني أصحاب السفياني ويجد الحسنى العسكر على حاله والسبي على حاله، وذكر أشياء كثيرة الله أعلم بصحتها أخذها من كتاب دانيال فيما زعم. قال الحافظ أبو الخطاب بن دحية: ودانيال نبي من أنبياء إسرائيل كلامه عبراني وهو على شريعة موسى بن عمران، وكان قيل عيسى بن مريم بزمان، ومن أسند مثل هذا إلى نبي عن غير ثقة أو توقيف من نبينا صلى الله عليه وسلم، فقد سقطت عدالته إلا أن يبين وضعه لتصح أمانته. وقد ذكر في هذا الكتاب من الملاحم وما كان من الحوادث وسيكون، وجمع فيه التنافي والتناقض بين الضب والنون، وأغرب فيما أغرب في روايته عن ضرب من الهوس والجنون، وفيه من الموضوعات ما يكذب آخرها أولها ويتعذر على المتأول لها تأويلها وما يتعلق به جماعة الزنادفة من تكذيب الصادق المصدوق محمد صلى الله عليه وسلم أن في سنة ثلاثمائة يظهر الدجال من يهودية أصبهان، وقد طعنا في أوائل سبعمائة في هذا الزمان وذلك شيء ما وقع ولا كان ومن الموضوع فيه المصنوع والتهافت الموضوع الحديث الطويل الذي استفتح به كتابه، فهلا اتقى الله وخاف عقابة، وأن من أفضح فضيحة في الدين نقل مثل هذه الاسرائيليات عن المتهودين، فإنه لا طريق فيما ذكر عن دانيال إلا عنهم ولا رواية تؤخذ في ذلك إلا منهم. وقد روى البخاري في تفسير سورة البقرة، «عن أبي هريرة قال: كان أهل الكتاب يقرأون التوراة بالعبرانية ويفسرونها بالعربية لأهل الإسلام. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم وقولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا» . وقد ذكر في كتاب الاعتصام أن ابن عباس قال: كيف تسألونه أهل الكتاب عن شيء وكتابكم الذي أنزله الله على رسوله أحدث شيء تقرؤونه محضاً لم

يشب، وقد حدثكم أهل الكتاب بدلوا كلام الله وغيروه، وقد كتبوا بأيديهم الكتاب وقالوا هذا من عند الله ليشتروا به ثمناً قليلاً ألا ينهاكم ما جاءكم من العلم عن مسألتهم لا والله ما رأينا منهم رجلاً يسألكم عن الذي أنزل عليكم. قال ابن دحية رضي الله عنه: وكيف يؤمن من خان الله وكذب عليه وكفر واستكبر وفجر. وأما حديث الدابة فقد نطق بخروجها القرآن ووجب التصديق بها والإيمان. قال الله تعالى {وإذا وقع القول عليهم أخرجنا لهم دابة من الأرض تكلمهم} وكنت بالأندلس قد قرأت أكثر من كتب المقرئ الفاضل أبي عمر عثمان بن سعيد بن عثمان توفي سنة أربع وأربعين وأربعمائة فمن تأليفه: كتاب السنن الواردة بالفتن وغوائلها والأزمنة وفسادها والساعة وأشراطها، وهو مجلد مزج فيه الصحيح بالسقيم، ولم يفرق فيه بين نسر وظلم، وأتى بالموضوع وأعرض عما ثبت من الصحيح المسموع، فذكر الدابة في الباب الذي نصه باب ما روي أن الوقعة التي تكون بالزوراء وما يتصل بها من الوقائع والآيات والملاحم والطوام، وأسند ذلك «عن عبد الرحمن، عن سفيان الثوري، عن قيس بن مسلم، عن ربعي بن خداش، عن حذيفة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم تكون وقيعة بالزوراء قالوا يا رسول الله وما الزوراء؟ قال: مدينة بالمشرق بين أنهارها يسكنها شرار خلق الله وجبابرة من أمتي تعذب بأربعة أصناف من العذاب.

ثم ذكر حديث خروج السفياني في ستين وثلاثمائة راكب حتى يأتي دمشق، ثم ذكر خروج المهدي قال واسمه أحمد بن عبد الله، وذكر خروج الدابة. قال: قلت يا رسول الله: وما الدابة؟ قال: ذات وبر وريش عظمها ستون ميلاً ليس يدركها طالب ولا يفوتها هارب، وذكر يأجوج ومأجوج وأنهم ثلاثة أصناف: صنف مثل الأرز الطوال، وصنف آخر منهم عرضه وطوله سواء عشرين ومائة ذراع في عشرين ومائة ذراع في عشرين ومائة ذراع هم الذين لا يقوم لهم الحديد، وصنف يفترش إحدى أذنيه ويلتحف بالأخرى» . وهذه الأسانيد عن حذيفة في عدة أوراق ظاهرة الوضع والاختلاف، وفيها ذكر مدينة يقال لها [المقاطع] وهي على البحر الذي لا يحمل جارية قال لأنه ليس له قعر إلى أن قال حذيفة قال عبد الله بن سلام: والذي بعثك بالحق إن صفة هذه في التوراة طولها ألف ميل وعرضها خمسمائة ميل. قال: «لارسول الله صلى الله عليه وسلم لها ستون وثلاثمائة باب يخرج من كل باب منها مائة ألف مقاتل» قال الحطافظ أبو الخطاب رضي الله عنه: ونحن نرغب عن تسويد الورق بالموضوعات فيه، ونثبت الصحيح الذي يقربنا من إله الأرضين والسموات، فعبد الرحمن الذي يرويه عن الثوري هو ابن هانئ أبو نعيم النخعي الكوفي قال يحيى بن معين: كذاب، وقال أحمد: ليس بشيء،

وقال ابن عدي: عامة ما يرويه لا يتابعه الثقات عليه، وقد رواه عن الثوري عمر بن يحيى بالسند المذكور آنفاً، وقال: «تعذب بأربعة أصناف بخسف ومسح وقذف» قال البرقاني ولم يذكر الرباع وعم ابن يحيى متروك الحديث. وقد روى حديث الزوراء محمد بن زكريا الغلابي، وأسند «عن علي رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: أما أن هلاكها على يد السفياني كأني والله بها قد صارت خاوية على عروشها» ، ومحمد بن ذكريا الغلابي قال أبو الحسن الدارقطني: كان يضع الحديث على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعظم هذه الدابة المذكورة، وطول يأجوج ومأجوج على تلك الصورة يدل على وضع هذا الحديث بالتصريح، ويقطع العاقل بأنه ليس بصحيح، لأنه مثل هذا القدر في العظم والطول يشهد على كذب واضعه في المنقول، وأي مدينة تسع طرقاتها دابة عرضها ستون ميلاً ارتفاعاً، وأي سبيل يضم يأجوج ومأجوج وأحدهم طولاً وعرضا مائتان وأربعون ذراعاً. لقد اجترأ هذا الفاسق على الله العزيز الجبار بما اختلقه على نبيه المختار، فقد صح عنه بإجماع من أئمة الآثار أنه قال: «من كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار ثم يطرق إلينا تكذيب اليهود لنا فيما نقلناه عن توراتهم ويكذبوننا بسبب ذلك في كل حال» . مسلم، «عن أم سلمة وسئلت عن الجيش الذي يخسف به، وكان ذلك في أيام ابن الزبير فقالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يعوذ بالبيت عائذ

فيبعث إليه بعث، فإذا كانوا ببيداء من الأرض خسف بهم، فقلت يا رسول الله: وكيف بما كان كارهاً؟ قال: يخسف به معهم، ولكنه يبعث يوم القيامة على نيته» وقال أبو جعفر: هي بيداء المدينة. وقال عبد العزيز بن رفيع: إنما قال ببيداء من الأرض قال كلا إنها والله لبيداء المدينة، «وعن عبد الله بن صفوان قال: أخبرتني حفصة أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ليؤمن هذا البيت جيش يغزونه حتى إذا كانوا ببيداء من الأرض يخسف بأوسطهم وينادي أولهم آخرهم، ثم يخسف بهم فلا يبقى منهم إلا الشريد الذي يخبر عنهم» أخرجه ابن ماجه وزاد. فلما جاء جيش الحجاج ظننا أنهم هم فقال رجل: أشهد أنك لم تكذب على حفصة، وإن حفصة لم تكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم. «وعنه عن أم المؤمنين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: سيعوذ بهذا البيت يعني الكعبة قوم ليس لهم منعة ولا عدد ولاعدة يبعث

باب منه آخر في المهدي وذكر من يوطئ له ملكه

إليهم جيش حتى إذا كانوا ببيداء من الأرض خسف بهم» قال يوسف بن ماهك: وأهل الشام يومئذ يسيرون إلى مكة، قال عبد الله بن صفوان: أما والله ما هو بهذا الجيش. فصل قوله: ليس له منعة. بفتح الميم والنون أي جماعة يمنعونه وهو مانع وهو أكثر الضبط فيه، ويقال: بسكون النون أي عزة وامتناع يمتنع بها اسم الفعلة من منع أو الحال بتلك الصفة أو مكان بتلك الصفة، وأنكر أبو حاتم السجستاني إسكان النون وليس في هذه الأحاديث أنه يخسف بأمتعتهم، وأنما فيها أنه يخسف بهم. باب منه آخر في المهدي وذكر من يوطئ له ملكه ابن ماجه، «عن ثوبان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يقتتل عند كنزكم ثلاثة كلهم ابن خليفة ثم لا يصير إلا واحد منهم، ثم تطلع الرايات السود من قبل المشرق فيقتلونكم قتلاً لم يقتله قوم، فإذا رأيتموه فبايعوه ولو حبواً على الثلج، فإنه خليفة الله المهدي» . إسناده صحيح. وخرج «عن عبد الله بن الحارث بن جز الزبيدي قال: قال

باب منه آخر في المهدي وصفته واسمه وإعطائه ومكثه وأنه يخرج مع عيسى عليه السلام فيساعده على قتال الدجال

رسول الله صلى الله عليه وسلم يخرج ناس من المشرق فيوطئون للمهدي يعني سلطانه» . وخرج أبو داود «عن علي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يخرج رجل من وراء النهر يقال له الحارث بن حراث على مقدمته رجل يقال له منصور يوطئ أو يمكن لآل محمد صلى الله عليه وسلم وعليهم كما مكنت قريش للنبي صلى الله عليه وسلم وجبت على كل مؤمن نصرته أو قال إعانته» . باب منه آخر في المهدي وصفته واسمه وإعطائه ومكثه وأنه يخرج مع عيسى عليه السلام فيساعده على قتال الدجال أبو داود «عن أبي سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: يكون في أمتي المهدي أن قصر فسبع وإلا فتسع تنعم فيه أمتي نعمة لم يسمعوا بمثلها قط، تؤتى أكلها ولا تترك منهم شيئاً والمال يومئذ كرؤوس. يقم الرجل فيقول يا مهدي أعطني فيقول خذ» . وخرج عنه أيضاً قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «المهدي مني أجلى الجبهة أقنى الأنف تملأ الأرض قسطاً وعدلا كما ملئت جوراً وظلماً فيملك سبع وسنين» .

وذكر عبد الرزاق، «أخبرنا معمر، عن أبي هارون العبدي، عن معاوية بن قرة، عن أبي الصديق الناجي، عن أبي سعيد الخدري قال: ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم بلايا تصيب هذه الأمة حتى لا يجد الرجل ملجأ إليه من الظلم، فيبعث الله رجلاً من عترتي أهل بيتي فيملأ به الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت جوراً وظلماً يرضى عنه ساكن السماء وساكن الأرض، لا تدع السماء شيئاً من قطرها إلا صبته مدراراً ولا تدع الأرض من نباتها شيئاً إلا أخرجته حتى تتمنى الأحياء أن لا موات. يعيش في ذلك سبع سنين أو ثمانين سنين أو تسع سنين» . ويروى هذا من غير وجه عن أبي سعيد الخدري أبو داود. «وعن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لو لم يبق من الدنيا إلا يوم قال زائدة في حديثه لطول الله ذلك اليوم حتى يبعث فيه رجلاً من أمتي أو من أهل بيتي يواطئ اسمه اسمي واسم أبيه اسم أبي» خرجه الترمذي بمعناه وقال: حديث حسن صحيح. وفي حديث حذيفة الطويل مرفوعاً «فلو لم يبق من الدنيا إلا يوم واحد لطول الله ذلك اليوم حتى تأتيهم رجل من أهل بيتي تكون الملائكة بين يديه ويظهر الإسلام» . وخرج الترمذي، «عن أبي سعيد الخدري قال: خشينا أن يكون بعد نبينا صلى الله عليه وسلم حدث فسألنا النبي قال: إن في أمتي المهدي، يخرج

يعيش خمساً أو سبعاً أو تسعاً ـ زيد للشك قلنا وما ذاك؟ قال: يجيء إليه الرجل فيقول: يا مهدي أعطني فيحثي له في ثوبه ما استطاع أن يحمله» قال: هذا حديث حسن. وذكر أبو نعيم الحافظ «من حديث محمد بن الحنفية، عن أبيه علي رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: المهدي منا أهل البيت يصلحه الله عز وجل في ليلة أو قال في يومين» . فصل وقع في كتاب الشهاب: لا يزداد الأمر إلا شدة، ولا الدنيا إلا إدباراً، ولا الناس إلا شحاً، ولا تقوم الساعة إلا على شرار الخلق، ولا مهدي إلا عيسى بن مريم. قلت: خرجه ابن ماجه في سننه. قال: «حدثنا يونس بن عبد الأعلى، حدثنا محمد بن إدريس الشافعي قال: حدثني محمد بن خالد الجندي، عن أبان بن صالح، عن الحسن، عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لا يزداد الأمر إلا شدة فذكره» . قال ابن ماجه لم يروه إلا الشافعي. قال المؤلف رحمه الله: وخرجه أبو الحسين الأجري قال: حدثنا أبو جعفر محمد بن

خالد البرذعي في المسجد الحرام، حدثنا يونس بن عبد الأعلى المصري فذكره. فقوله ولا مهدي إلا عيسى يعارض أحاديث هذا الباب. فقيل إن هذا الحافظ: الجندي هذا مجهول واختلف عليه في إسناده قتادة يرويه عن أبان بن صالح، عن الحسن، عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلاً مع ضعف أبان، وتارة يرويه عن أبان ابن صالح عن الحسن عن أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم بطوله، فهو منفرد به مجهول عن أبان وهو متروك عن الحسن منقطع والأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم في التنصيص على خروج المهدي من عترته من ولد فاطمة ثابتة أصح من هذا الحديث فالحكم لها دونه. قلت: ونور ضريحه، وذكر أبو الحسن علي بن المفضل المقدسي شيخ أشياخنا محمد بن خالد الجندي روى عن أبان بن صالح، عن الحسن البصري، وروى فيه الإمام بن إدريس بن الشافعي رضي الله عنه وهو راوي حديث: «لا مهدي إلا عيسى بن مريم» وهو مجهول، وقد وثقه يحيى بن معين روى له ابن ماجه. قال أبو الحسن محمد بن الحسين بن إبراهيم بن عاصم الأبري السجزي: قد تواترت الأخبار واستفاضت بكثرة رواتها عن المصطفى صلى الله عليه وسلم يعني المهدي، وأنه من أهل بيته وأنه سيملك سبع سنين، وأنه يملأ الأرض عدلاً يخرج مع عيسى عليه السلام، فيساعده على قتل الدجال بباب لد بأرض فلسطين، وأنه يؤم

باب منه في المهدي ومن أين يخرج وفي علامة خروجه وأنه يبايع مرتين ويقاتل السفياني ويقتله

هذه الأمة وعيسى صلوات الله عليه يصلي خلفه في طول من قصته وأمره. قلت: ويحتمل أن يكون قوله عليه الصلاة والسلام: «ولا مهدي إلا عيسى» أي لا مهدي كاملاً معصوماً إلا عيسى، وعلى هذا تجتمع الأحاديث ويرتفع التعارض. باب منه في المهدي ومن أين يخرج وفي علامة خروجه وأنه يبايع مرتين ويقاتل السفياني ويقتله تقدم من حديث أم سلمة وأبي هريرة أن المهدي يبايع بين الركن والمقام، وظاهر أنه لم يبايع وليس كذلك، فإنه روي من حديث ابن مسعود وغيره من الصحابة أنه يخرج في آخر الزمان من المغرب الأقصى يمشي النصر بين يديه أربعين ميلاً راياته بيض وصفر فيها رقوم فيها اسم الله الأعظم مكتوب: فلا تهزم له راية، وقيام هذه الرايات وانبعاثها من ساحل البحر بموضع يقال له ماسنة من قبل المغرب، فيعقد هذه الرايات مع قوم قد أخذ الله لهم ميثاق النصر والظفر {أولئك حزب الله ألا إن حزب الله هم المفلحون} الحديث بطوله وفيه: [فيأتي الناس من كل جانب ومكان فيبايعونه يومئذ بمكة وهو بين الركن والمقام، وهو كاره لهذه المبايعة الثانية بعد البيعة الأولى التي بايعه الناس بالمغرب، ثم إن المهدي يقول: أيها الناس اخرجوا إلى قتال عدو الله وعدوكم فيجيبونه ولا يعصون له أمراً، فيخرج المهدي ومن معه من المسلمين من مكة إلى الشام لمحاربة عروة بن محمد السفياني وكل من معه من كلب، ثم يتبدد جيشه ثم يوجد عروة

السفياني على أعلى شجرة وعلى بحيرة طبرية، والخائب من خاب يومئذ من قتال كلب ولو بكلمة أو بتكبيرة أو بصيحة] . فيروى «عن حذيفة أنه قال: قلت يا رسول الله: كيف يحل قتلهم وهم مسلمون موحدون؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إنما إيمانهم على ردة لأنهم خوارج ويقولون برأيهم إن الخمر حلال ومع ذلك إنهم يحاربون الله، قال الله تعالى: {إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فساداً أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض ذلك لهم خزي في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب عظيم} » . وذكر الحديث وسيأتي تمامه. وخبر السفياني خرجه عمرو بن عبيد في مسنده، والله أعلم. وروى من حديث «معاوية بن أبي سفيان في حديث فيه طول، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ستفتح بعدي جزيرة تسمى بالأندلس فتغلب عليهم أهل الكفر فيأخذون من أموالهم وأكثر بلدهم ويسبون نساءهم وأولادهم ويهتكون الأستار ويخربون الديار ويرجع أكثر البلاد فيافي وقفاراً، وتنجلي أكثر الناس عن ديارهم وأموالهم فيأخذون أكثر الجزيرة ولا يبقى إلا أقلها، ويكون في المغرب الهرج والخوف، ويستولي عليهم الجوع والغلاء، وتكثر الفتنة ويأكل الناس بعضهم بعضاً، فعند ذلك يخرج رجل من المغرب الأقصى من أهل فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو المهدي القائم في آخر الزمان وهو أول أشراط الساعة» . قلت: كل ما وقع في حديث معاوية هذا فقد شاهدنا بتلك البلاد وعاينا

باب ما جاء أن المهدي يملك جبل الديلم والقسطنطينية ويستفتح رومية وأنطاكية وكنيسة الذهب وبيان قوله تعالى " فإذا جاء وعد أولاهما " الآية

معظمه إلا خروج المهدي. ويروي من حديث شريك أنه بلغه أن قبل خروج المهدي تكسف الشمس في رمضان مرتين والله أعلم. وذكر الدراقطني في سننه قال: حدثنا أبو سعيد الإصطخري قال: حدثني محمد بن عبد الله بن نوفل، حدثنا عبيد بن يعيش، حدثنا يونس بن بكير، عن عمر بن شمر، عن جابر، عن محمد بن علي قال: إن لمهدينا آيتين لم يكونا منذ خلق الله السموات والأرض ينكسف القمر لأول ليلة من رمضان، وتنكسف الشمس في النصف منه ولم يكونا منذ خلق الله السماوات والأرض. باب ما جاء أن المهدي يملك جبل الديلم والقسطنطينية ويستفتح رومية وأنطاكية وكنيسة الذهب وبيان قوله تعالى " فإذا جاء وعد أولاهما " الآية باب ما جاء أن المهدي يملك جبل الديلم والقسطنطينية ويستفتح رومية وأنطاكية وكنيسة الذهب وبيان قوله تعالى فإذا جاء وعد أولاهما الآية ابن ماجه «عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لو لم يبق من الدنيا إلا يوم لطوله عز وجل حتى يملك رجل من أهل بيتي جبل الديلم والقسطنطينة» إسناده صحيح. وروى «من حديث حذيفة عن النبي وفيه بعد قوله {ذلك لهم خزي في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب عظيم} ، ثم إن المهدي ومن معه من المسلمين يأتون إلى مدينة أنطاكية وهي مدينة عظيمة على البحر، فيكبرون عليها ثلاثة تكبيرات فيقع سورها من

البحر بقدرة الله عز وجل، فيقتلون الرجال ويسبون النساء والأطفال، ويأخذون الأموال ثم يملك المهدي أنطاكية، ويبني فيها المساجد ويعمر عمارة أهل الإسلام، ثم يسيرون إلى الرومية والقسطنطينية وكنيسة الذهب، فيقتحمون القسطنطينية ورومية ويقتلون بها أربعمائة ألف مقاتل، ويفتضون بها سبعين ألف بكر، ويستفتحون المدائن والحصون ويأخذون الأموال، ويقتلون الرجال ويسبون النساء والأطفال ويأتون كنيسة الذهب فيجدون فيها الأموال التي كان المهدي أخذها أول مرة، وهذه الأموال هي التي أودع فيها ملك الروم قيصر حين غزا بيت المقدس، فوجد في بيت المقدس هذه الأموال فأخذها واحتملها على سبعين ألف عجلة إلى كنيسة الذهب بأسرها كاملة، كما أخذها ما نقص منها شيئاً فيأخذ المهدي تلك الأموال فيردها إلى بيت المقدس، قال حذيفة قلت يا رسول الله. لقد كان بيت المقدس عند الله عظيماً جسيم الخطر عظيم القدر فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هو من أجل البيوت ابنتاه الله لسيمان بن داود عليهما السلام من ذهب وفضة ودر وياقوت وزمرد، وذلك أن سليمان بن داود سخر الله له الجن فأتوه بالذهب والفصة من المعادن، وأتوه بالجواهر والياقوت والزمرد من البحار يغوصون كما قال الله تعالى {كل بناء وغواص} فلما أتوه بهذه الأصناف بناه منها، فجعل فيه بلاطاً من ذهب وبلاطاً من فضة، وأعمدة من ذهب، وأعمدة من فضة وزينه بالدر والياقوت والزمرد، وسخر الله تعالى له الجن حتى بنوه من هذه الأصناف.

قال حذيفة: فقلت يا رسول الله وكيف أخذت هذه الأشياء من بيت المقدس؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن بني إسرائيل لما عصوا وقتلوا الأنبياء سلط الله عليهم بخت نصر وهو من المجوس فكان ملكه سبعمائة سنة وهو قوله تعالى {فإذا جاء وعد أولاهما بعثنا عليكم عباداً لنا أولي بأس شديد فجاسوا خلال الديار وكان وعداً مفعولاً} فدخلوا بيت المقدس وقتلوا الرجال وسبوا النساء والأطفال وأخذوا الأموال وجميع ما كان في بيت المقدس من هذه الأصناف، واحتملوها على سبعين ألف عجلة حتى أودعوها أرض بابل، وأقاموا يستخدمون بني إسرائيل ويستملكونهم بالخزي والعقاب والنكال مائة عام، ثم إن الله عز وجل رحمهم فأوحى الله إلى ملك من ملوك فارس أن يسير إلى المجوس في أرض بابل يستنقذ ما في أيديهم من بني إسرائيل، فسار إليهم ذلك الملك حتى ذلك أرض بابل، فاستنقذ من بقي من بني إسرائيل من أيدي المجوس واستنقذ ذلك الحلى الذي كان في بيت المقدس ورده إليه كما كان أول مرة، وقال لهم يا بني إسرائيل: إن عدتم إلى المعاصي عدنا عليكم بالسبي والقتل، وهو قوله تعالى {عسى ربكم أن يرحمكم وإن عدتم عدنا} يعني إن عدتم إلى المعاصي عدنا عليكم بالعقوبة، فلما رجعت بنو إسرائيل إلى بيت المقدس عادوا إلى المعاصي، فسلط الله عليهم ملك الروم قيصر وهو قوله تعالى: {فإذا جاء وعد الآخرة ليسوءوا وجوهكم وليدخلوا المسجد كما دخلوه أول مرة وليتبروا ما علوا تتبيرا} فغزاهم في البر والبحر فسبقهم وقتلهم وأخذ أموالهم

باب ما جاء في فتح القسطنطينية من أين تفتح وفتحها علامة خروج الدجال ونزول عيسى عليه السلام وقتله إياه

ونساءهم وأخذ حلى جميع بيت المقدس، واحتمله على سبعين ألف عجلة حتى أودعه كنيسة الذهب فهو فيها إلى الآن حتى يأخذه المهدي ويرده إلى بيت المقدس، ويكون المسلمون ظاهرين على أهل الشرك، فعند ذلك يرسل الله عليهم ملك الروم وهو الخامس من آل هرقل» على ما تقدم من تمام الحديث، والله أعلم. باب ما جاء في فتح القسطنطينية من أين تفتح وفتحها علامة خروج الدجال ونزول عيسى عليه السلام وقتله إياه مسلم «عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لا تقوم الساعة حتى ينزل الروم بالأعماق أو بدابق فيخرج إليهم جيش من المدينة من خيار أهل الأرض يومئذ، فإذا تصافوا قالت الروم خلوا بيننا وبين الذين سبوا منا نقاتلهم، فيقول المسلمون: لا والله لا نخلي بينكم وبين الذين هم إخواننا فيقاتلهم فيهزم الثلث لا يتوب الله عليهم أبداً، ويقتل ثلثهم أفضل الشهداء عند الله، ويفتح الثلث لا يفتتنون أبداً فيفتحون القسطنطينية، فبينما هم يقتسمون الغنائم وقد علقوا سيوفهم بالزيتون إذ صاح فيهم الشيطان: إن المسيح قد خلفكم في أهلكم فيخرجون وذلك باطل، فإذا جاءوا الشام خرج فبينما هم يعدون للقتال ويسوون الصفوف إذ أقيمت الصلاة، فينزل عيسى بن مريم فأمهم فإذ رآه عدو الله ذاب كما يذوب الملح في الماء فلو

تركه لذاب حتى يهلك، ولكن يقتله الله بيده فيريهم دمه في حربته» . وخرج ابن ماجه قال: «حدثنا علي بن ميمون الرقي قال: حدثنا يعقوب الحنيني عن كثير بن كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تقوم الساعة حتى يكون أدنى مسالح المسلمين ببولاء، ثم قال يا علي يا علي يا علي ثم قال يا بني قال: إنكم ستقاتلون بني الأصفر ويقاتلهم الذين من بعدكم حتى يخرج إليهم روقة الإسلام أهل الحجاز الذين لا يخافون في الله لومة لائم ثم فيفتحون قسطنطينية بالتسبيح والتكبير فيصيبون غنائم لم يصيبوا مثلها حتى يقتسموا بالأترسة، فيأتي آت فيقول إن المسيح قد خرج إلى بلادكم ألا وهي كذبة فالآخذ نادم والتارك نادم» . وخرج مسلم «عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: سمعتم بمدينة جانب منها في البر وجانب منها في البحر؟ قالوا: نعم يا رسول الله. قال: لا تقوم الساعة حتى يغزوها ألفاً من بني إسحاق فإذا جاؤوها نزلوا فلم يقاتلوا بسلاح ولم يرموا بسهم. قالوا لا إله إلا الله والله أكبر فيسقط أحد جانبيها. قال ثور لا أعلمه قال إلا الذي في البحر ثم يقولون الثانية لا إله إلا الله والله أكبر فيسقط جانبها الآخر، ثم تقول الثالثة

لا إله إلا الله والله أكبر فيفرج لهم فيدخلونها فيغنمون، فبينما هم يقتسمون الغنائم إذ جاءهم الصريخ فقال إن الدجال قد خرج فيتركون كل شيء ويرجعون» . الترمذي عن أنس قال: فتح القسطنطينية مع قيام الساعة هكذا رواه موقوفاً وقال حديث غريب. والقسطيطينية مدينة الروم وتفتح عند خروج الدجال والقسطنطينية قد فتحت في زمن بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. قلت: هو عثمان بن عفان ذكر الطبري في التاريخ له، ثم دخلت سنة سبع وعشرين ففيها كان فتح أفريقية على يد عبد الله بن أبي سرح، وذلك أن عثمان رضي الله عنه لم ولي عمرو بن العاص على عمله بمصر كان لا يعزل أحداً إلا عن شكاية، وكان عبد الله بن أبي سرح من جند عثمان، فأمره عثمان رضي الله عنه على الجند ورماه بالرجال وسرحه إلى أفريقية، وسرح معه عبد الله بن نافع بن قيس، وعبد الله بن نافع بن الحصين الفهريني، فلما فتح عبد الله أفريقية خرج عبد الله وعبد الله إلى الأندلس، فأتياها من قبل البحر، وكتب إلى عثمان رضي الله عنه إلى من انتدب إلى

الأندلس: أما بعد: فإن القسطنطينية إنما تفتح من قبل الأندلس، وإنكم إن افتتحتموها كنتم شركاء في الآجر فيقال إنها فتحت في تلك الأزمان، وستفتح مرة أخرى كما في أحاديث هذا الباب، والذي قبله، وقد قال بعض علماؤنا: أن حديث أبي هريرة أول الباب يدل على أنها تفتح بالقتال، وحديث ابن ماجه يدل على خلاف ذكل مع حديث أبي هريرة، والله أعلم. قلت: لعل فتح المهدي يكون لها مرتين. مرة بالقتال ومرة بالتكبير، كما أنه يفتح كنيسة الذهب مرتين، فإن المهدي إذا خرج بالمغرب على ما تقدم جاءت إليه أهل الأندلس فيقولون يا ولي الله: انصر جزيرة الأندلس فقد تلفت وتلفت أهلها وتغلب عليها أهل الكفر والشرك من أبناء الروم، فيبعث كتبه إلى جميع قبائل المغرب وهم قزولة وخذالة وقذالة وغيرهم من القبائل من أهل المغرب أن انصروا دين الله وشريعة محمد صلى الله عليه وسلم فيأتون إليه من كل مكان ويجيبونه ويقفون عند أمره ويكون على مقدمته صاحب الخرطوم وهو صاحب الناقة الغراء وهو صاحب المهدي وناصر دين الإسلام وولى الله حقاً، فعند ذلك يبايعونه ثمانون ألف مقاتل بين فارس وراجل قد رضي الله عنهم {أولئك حزب الله ألا إن حزب الله هم المفلحون} فباعو أنفسهم لله والله ذو الفضل

العظيم، فيعبرون البحر حتى ينتهوا إلى حمص وهي إشبيلية، فيصعد المهدي المنبر في المسجد الجامع ويخطب خطبة بليغة، فيأتي إليه أهل الأندلس فيبايعه جميع من بها من أهل الإسلام، ثم يخرج بجميع المسلمين متوجهاً على البلاد بلاد الروم، فيفتح فيها سبعين مدينة من مدائن الروم يخرجها من أيدي العدو عنوة. الحديث. وفيه: ثم إن المهدي ومن معه يصلون إلى كنيسة الذهب فيجدون فيها أموالاً، فيأخذها المهدي فيقسمها بين الناس بالسوية، ثم يجد فيها تابوت السكينة وفيها غفارة عيسى وعصا موسى عليهما السلام وهي العصا التي هبط بها آدم من الجنة حين أخرج منها، وكان قيصر ملك الروم قد أخذها من بيت المقدس في جملة السبي حين سبي بيت المقدس، واحتمل جميع ذلك إلى كنيسة الذهب فهو فيها إلى الآن حتى يأخذها المهدي، فإذا أخذ المسلمون العصا تنازعوا عليها فكل منهم يريد أخذ العصا،

باب أشراط الساعة وعلاماتها

فإذا أراد الله تمام أهل الإسلام من الأندلس خذل الله رأيهم وسلب ذوي الألباب عقولهم، فيقمسون العصا على أربعة أجزاء فيأخذ كل عسكر منهم جزءاً وهم يومئذ أربعة عساكر، وإذا فعلوا ذلك رفع الله عنهم الظفر والنصر ووقع الخلاف في ذلك بينهم. قال كعب الأحبار: ويظهر عليهم أهل الشرك حتى يأتوا البحر، فيبعث إليهم ملكاً في صورة إبل فيجوز بهم القنطرة التي بناها ذو القرنين لهذا المعنى خاصة، فيأخذ الناس وراءه حتى يأتوا إلى مدينة فارس والروم ووراءهم، فلا يزالون كذلك كلما ارتحل المسملون مرحلة ارتحل المشركون كذلك، حتى يأتوا إلى أرض مصر والروم وراءهم، وفي حديث حذيفة ويتملكون مصر إلى الفيوم، ثم يرجعون والله تعالى أعلم. باب أشراط الساعة وعلاماتها فأما وقتها فلا يعمله إلا الله. وفي حديث جبريل: ما المسؤول عنها بأعلم من السائل الحديث خرجه مسلم. وكذلك روى الشعبي قال: لقي جبريل عيسى عليه السلام فقال له عيسى: متى الساعة؟ فانتفض جبريل عليه السلام في أجنحته وقال: ما المسؤول عنها بأعلم من السائل ثقلت في السموات والأرض لا تأتكيم إلا بغتة. وذكر أبو نعيم «من حديث مكحول عن حذيفة قال: قال

رسول الله صلى الله عليه وسلم للساعة أشراط قيل: وما أشراطها؟ قال: علو أهل الفسق في المساجد، وظهور أهل المنكر على أهل المعروف قال أعرابي: فم تأمرني يا رسول الله؟ قال: دع وكن حلساً من أحلاس بيتك» غريب من حديث مكحول لم نكتبه إلا من حديث حمزة النصيبي عن مكحول. فصل قال العلماء رحمهم الله تعالى: والحكمة في تقديم الأشراط ودلالة الناس عليها تنبيه الناس من رقدتهم وحثهم على الاحتياط لأنفسهم بالتوبة والإنابة كي لا يباغتوا بالحول بينهم وبين تدارك العوارض منهم، فينبغي للناس أن يكونوا بعد ظهور أشراط الساعة قد نظروا لأنفسهم وانقطعوا عن الدنيا، واستعدوا للساعة الموعود بها والله أعلم. وتلك الأشراط علامة لانتهاء الدنيا وانقضائها. فمنها: خروج الدجال، ونزول عيسى، وقتله الدجال، ومنها خروج يأجوج ومأجوج ودابة الأرض، ومنها طلوع الشمس من مغربها هذه هي الآيات هذه هي الآيات العظام على ما يأتي بيانه وأما ما يتقدم من هذه قبض العلم وغلبة الجهل واستيلاء أهله وبيع الحكم وظهور المعازف واستفاضة شرب الخمور واكتفاء النساء والرجال بالرجال وإطالة البنيان وزخرفة المساجد وإمارة الصبيان ولعن آخر هذه الأمة أولها وكثرة الهرج فإنها أسباب حادثة، ورواية الأخبار المنذرة بها بعدما صار الخبر بها عياناً تكلف، لكن لا بد من ذكرها حتى يوقف عليها ويتحقق بذلك معجزة النبي صلى الله عليه وسلم وصدقه في كل ما أخبر به صلى الله عليه وسلم.

باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: " بعثت أنا والساعة كهاتين "

باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: " بعثت أنا والساعة كهاتين " باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: بعثت أنا والساعة كهاتين مسلم «عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثت أنا والساعة كهاتين وضم السبابة والوسطى. وروي من طرق أخرجها البخاري، ومسلم، والترمذي، وابن ماجه رضي الله عنهم. ومعناها كلها على اختلاف ألفاظها تقريب من الساعة التي هي القيامة وسرعة مجيئها وهذا كما حدثنا الله تعالى {فقد جاء أشراطها} وقوله {وما أمر الساعة إلا كلمح البصر} وقوله تعالى: {اقترب للناس حسابهم} وقوله تعالى: {اقتربت الساعة وانشق القمر} وقال: {أتى أمر الله فلا تستعجلوه} » . «ويروي أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أنزل عليه قوله تعالى {أتى أمر الله} وثب فلما أنزل {تستعجلوه} جلس» . قال بعض العلماء إنما وثب عليه الصلاة والسلام خوفاً منه أن تكون الساعة قد قامت، وقام الضحاك والحسن: أول أشرطها محمد صلى الله عليه وسلم وروى موسى ابن جعفر عن جعفر بن محمد عن أبيه عن جده قال علي عليه السلام: من اقتراب الساعة ظهور البواسير وموت الفجاءة. فصل إن قيل ثبت «أن النبي صلى الله عليه وسلم سأل جبريل عن الساعة فقال: ما المسؤول عنها بأعلم من السائل» الحديث فهذا يدل على أنه لم يكن عنده علم ورويتم عنه أنه قال «بعثت أنا والساعة كهاتين» وهذا يدل على أنه كان عالماً فكيف يتألف الخبران؟ قيل

باب أمور تكون بين يدي الساعة

له قد نطق القرآن بقوله الحق {قل إنما علمها عند ربي} الآية فلم يكن يعلمها هو ولا غيره، وأما قوله «بعثت أنا والساعة كهاتين» فمعناه أنا النبي الأخير فلا يليني نبي آخر، وإنما تليني القيامة كما تلي السبابة الوسطى وليس بينهما أصبع أخرى، وهذا لا يوجب أن يكون له علم بالساعة نفسها وهي مع ذلك كائنة لأن أشراطها متتابعة، وقد ذكر الله الأشراط في القرآن فقال {فقد جاء أشراطها} أي دنت، وأولها النبي صلى الله عليه وسلم لأنه نبي آخر الزمان، وقد بعث وليس بيني وبين القيامة نبي ثم بين صلى الله عليه وسلم ما يليه من الأشراط، فقال: «أن تلد الأمة ربتها» إلى غير ذلك مما سنذكره ونبينه بحول الله تعالى في أبواب إن شاء الله تعالى. باب أمور تكون بين يدي الساعة البخاري «عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لا تقوم الساعة حتى يقتتل فئتان عظيمتان يكون بينهما مقتلة عظيمة دعواهما واحدة، وحتى يبعث دجالون كذابون قريب من ثلاثين كلهم يزعم أنه رسول الله، وحتى يقبض العلم ويكثر الزلازل ويتقارب الزمان ويظهر الفتن ويكثر الهرج وهو القتل، وحتى يكثر فيكم المال فيفيض، وحتى يهم رب المال من يقبل صدقته، وحتى يعرضه فيقول الذي يعرضه عليه لا أرب لي فيه، وحتى يتطاول الناس في البنيان، وحتى يمر الرجل يقبر الرجل فيقول: يا ليتني مكانه، وحتى تطلع الشمس من مغربها فإذا طلعت ورآها الناس أجمعون فذلك حين {لا ينفع نفساً إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيراً}

ولتقومن الساعة وقد نشر الرجلان ثوبهما فلا يتبايعانه ولا يطويانه، ولتقومن الساعة وقد انصرف الرجل بلبن لقحته فلا يطعمه ولتقومن الساعة وهو يليط حوضه فلا يسقى فيه ـ ولتقومن الساعة وقد رفع أكلته إلى فيه فلا يطعمها» . فصل قال علماؤنا رحمة الله عليهم: هذه ثلاث عشرة علامة جمعها أبو هريرة في حديث واحد، ولم يبق بعد هذا ما ينظر فيه من العلامات والأشراط في عموم إنذار النبي صلى الله عليه وسلم بفساد الزمان وتغيير الدين وذهاب الأمانة ما يغني عن ذكر التفاصيل الباطلة والأحاديث الكاذبة في أشراط الساعة. ومن ذلك حديث ما رواه قتادة «عن أنس بن مالك عن رسول الله: أن في سنة مائتين يكون كذا وكذا، وفي العشر والمائتين يكون كذا وكذا، وفي العشيرين كذا وفي الثلاثين كذا، وفي الأربعين كذا، وفي الخمسين كذا، وفي الستين والمائتين تعتكف الشمس ساعة فيموت نصف الجنة والإنس» ، فهل كان هكذا وقد مضت هذه المدة، وهذا شيء يعم وسائر الأمور التي ذكرت قد تكون في بلدة وتخلو منه أخرى، فهذا عكوف الشمس لا يخلو منه أحد في شرق ولا غرب، فإن كان المائتين من الهجرة فقد مضت، وإن كان من موت النبي صلى الله عليه وسلم فقد مضت وأيضاً دلالة أخرى على أنه مفتعل أن التاريخ لم يكن على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما وضعوه على عهد عمر رضي الله عنه، فكيف

يجوز هذا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقال في سنة مائتين أو سنة عشرين ومائتين ولم يكن وضع شيء من التاريخ؟ . وكذلك ما روى «عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم: إذا كانت سنة تسع وتسعين وخمس مائة يخرج المهدي في أمتي على خلاف من الناس يملأ الأرض عدلاً كما ملئت جوراً وظلماً يرضى عنه ساكن السماء وساكن الأرض، ويفتح الله له كنوز الأرض، وتنزل السماء قطرها، وتخرج الأرض ثمرها، ويزرع الزارع في الأرض صاعاً فيصيب مائة صاع، ويذهب الغلاء والقحط والجوع عن الناس، ويجوز إلى الأندلس ويقيم فيها ويملكها تسع سنين، ويستفتح فيها سبعين مدينة من مدائن الروم ويغنم رومية وكنيسة الذهب، فيجد فيها تابوت السكينة وفيها غفارة عيسى وعصا موسى عليهما السلام، فيكسرون العصا على أربعة أجزاء، فإذا فعلوا ذلك رفع الله عنهم النصر والظفر، ويخرج عليهم ذو العرف في مائة ألف مقاتل بعد أن يتحالف الروم أنهم لا يرجعون أو يموتون، فينهزم المسلمون حتى يأتوا سرقسطة البيضاء، فيدخلوها بإن الله تعالى ويكرم الله من فيها بالشهادة ولا يكون للمسلمين بعد خراب سرقسطة سكنى ولا قرار بالأندلس، وينتهون إلى قرطبة فلا يجدون فيها أحداً لما أصاب الناس من شدة الفزع من الروم يهربون من الأندلس يريدن العدو، فإذا اجتمعوا على ساحل البحر ازدحموا على المراكب فيموت منهم خلق كثير، فينزل الله إليهم

ملكاً في صورة إبل فينجو من نجا وغرق من غرق» . قلت: كل ما جاء في هذا الحديث المذكور في حديث حذيفة وغيره، وإنما المنكر فيملك الروم والأندلس إلى خروج الدجال. ومنه تعيين التاريخ وقد كان سنة وتسعين وخمسمائة ولم يكن شيء من ذلك، بل كان بالأندلس تلك السنة وقعة الأرك التي أهلك الله فيها الروم، ولم يزل المسملون في نعمة وسرور إلى سنة تسع وستمائة فكانت فيها وقعة العقاب هلك فيها كثير من المسلمين، ولم يزل المسلمون في تلك الوقعة بالأندلس يرجعون القهقرى إلى أن استولى عليهم العدو وغلبهم بالفتن الواقعة بينهم والتفصيل يطول، ولم يبق الآن من الأندلس إلا اليسير، فنعوذ بالله من الفتن والخذلان والمخالفة والعصيان وكثرة الظلم والفساد والعدوان. والذي ينبغي أن يقال به في هذا الباب أن ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم من الفتن والكوائن أن ذلك يكون وتعيين الزمان في ذلك من سنة كذا ويحتاج إلى طريق صحيح يقطع العذر، وإنما ذلك كوقت قيام الساعة فلا يعلم أحد أي سنة هي ولا أي شهر إما أنها تكون في يوم جمعة في آخر ساعة منه وهي الساعة التي خلق فيها آدم عليه السلام، ولكن أي جمعة لا يعلم تعيين ذلك اليوم

إلا الله وحده لا شريك له، وكذلك ما يكون من الأشراط تعيين الزمان لها لا يعلم، والله أعلم. وقد سمعت من بعض أصحابنا: أنا ما وقع من التاريخ «في حديث أبي سعيد الخدري إنما ذلك بعد المائة التي قال النبي صلى الله عليه وسلم إن يعيش هذا الغلام فعس هذا أن لا يدركه الهرم حتى تقوم الساعة» . وفي رواية: قال أنس ذلك الغلام من أترابي يومئذ. خرجه مسلم. وفي حديث جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «ما على الأرض نفس منفوسة يعني اليوم يأتي عليها مائة سنة» . قال أبو عيسى: هذا الحديث حسن صحيح. ومعلوم أن أنس توفي في عشر المائة بالبصرة، فعلى هذا يكون سنة سبع وتسعين وست مائة، وهذا لم يجيء بعد، فالله تعالى أعلم. قال المؤلف رحمه الله: وبحديث أبي سعيد الخدري وابن عمر وجابر استدل من قال إن الخضر ميت ليس بحي، وقال الثعالبي في كتاب العرائس: والخضر على جمع الأقوال نبي معمر محجوب عن الأبصار. وذكر عمرو بن دينار قال: إن الخضر وإلياس لا يزالان يحييان في سورة، فإذا رفع القرآن ماتا، وهذا هو الصحيح في الباب على ما بيناه في سورة

الكهف من كتاب جامع أحكام القرآن، والحمد الله. فصل وأما الثلاث عشرة خصلة: فقد ظهر أكثرها من ذلك قوله عليه الصلاة والسلام «لا تقوم الساعة حتى يقتتل فئتان عظيمتان دعواهما واحدة» يريد فيه معاوية وعلياً كرم الله وجهه بصفين، وقد تقدم الإشارة إليهما قال القاضي أبو بكر بن العربي وهذا أول خطب طرق في الإسلام. قلت: بل أول أمر دهم الإسلام موت النبي صلى الله عليه وسلم، ثم بعده موت عمر. فبموت النبي صلى الله عليه وسلم انقطع الوحي وماتت النبوءة، وكان أول أظهر الشر بارتداد العرب وغير ذلك، وكان أول انقطاع الخير وأول نقصانه،

قال أبو سعيد: ما نقصنا أيدينا من التراب من قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أنكرنا قلوبنا. وقال أبو بكر الصديق في أبيات يرثي بها النبي صلى الله عليه وسلم: فلتحدثن حوادث من بعده ... تعنى بهن جوانح وصدور وقالت صفية بنت عبد المطلب في أبيات ترثى بها النبي صلى الله عليه وسلم: لعمرك ما أبكي النبي لفقده ... ولكن ما أخشى من الهرج آتيا وبموت عمر سل سيف الفتنة وقتل عثمان، وكان من قضاء الله وقدره ما يكون، وكان على ما تقدم وقوله: حتى يبعث دجالون كذابون قريب من ثلاثين. الدجال ينطلق في اللغة على أوجه كثيرة يأتي ذكرها. أحدها الكذاب كما جاء في هذا الحديث. وصحيح مسلم: «يكون في آخر الزمان دجالون كذابون» الحديث، ولا يجمع ما كان على فعال جمع التكسير عند الجماهير من النحويين لئلا يذهب بناء المبالغة منه، فلا يقال إلا دجالون، كما قال عليه الصلاة والسلام «وإن كان قد جاء مكسراً» وهو شاذ أنشد سيبويه لابن مقبل: إلا الإفادة فاستولت ركائبنا ... عند الجبابير بالبأساء والنقم وقال مالك بن أنس في محمد بن إسحاق إنما هو دجال من الدجاجلة

نحن أخرجناه من المدينة. قال عبد الله بن إدريس الأودي: وما عرفت أن دجالاً يجمع على دجالة حتى سمعتها من مالك بن أنس. وقوله: قريب من ثلاثين قد جاء عددهم معيناً في حديث حذيفة قال: قال رسول الله: «تكون في أمتي دجالون كذابون سبعة وعشرون. منهم أربع نسوة، وأنا خاتم النبيين ولا نبي بعدي» خرجه أبو نعيم الحافظ وقال: هذا حديث غريب تفرد به معاوية بن هشام، ووجد في كتابه بخط أبيه حدث به أحمد بن حنبل عن علي بن المديني. وقال القاضي عياض: هذا الحديث قد ظهر فلو عد من تنبأ من زمني النبي إلى الآن ممن أشهر بذلك وعرف واتبعه جماعة على ضلالته، لوجد هذا العدد فيهم ومن طالع كتاب الأخبار والتواريخ عرف صحة هذا. وقوله: حتى يقبض العلم، فقد قبض العمل به ولم يبق إلا رسمه على ما يأتي بيانه. وقوله: وتكثر الزلازل فقد ذكر أبو الفرج بن الجوزي أنه وقع منها بعراق العجم كثير، وقد شاهدنا بعضها بالأندلس وسيأتي

وقوله: ويتقارب الزمان قيل: المعنى يتقارب أحوال أهله في قلة الدين حتى لا يكون فيهم من يأمر بالمعروف ولا ينهى عن المنكر، كما هو اليوم لغلبة الفسق وظهور أهله. وفي الحديث: لا يزال الناس بخير ما تفاضلوا فإذا تساووا هلكوا يعني لا يزالون بخير ما كان فيهم أهل فضل وصلاح وخوف الله عز وجل يلجأ إليهم عند الشدائد ويستقسي بآرائهم ويتبرك بدعائهم وآثارهم، وقيل: غير هذا حسب ما تقدم في باب لا يأتي زمان إلا والذي بعده شر منه. وقوله: حتى يكثر فيكم المال فيفيض وحتى يهم رب المال من يقبل صدقته هذا مما لم يقع بل يكون على ما يأتي ورب مفعول يهم ومن يقبل فاعل يهم. يقال: أهمني ذلك الأمر أحزنني وأقلقني وهمه يهمه إذا بالغ في ذلك وقوله: حتى يتطاول الناس في البنيان هذا مشاهد في الوجوه مشاهدته تغني عن الكلام فيه. وقوله: حتى يمر الرجل بقبر الرجل فيقول يا ليتني مكانه. ذلك لما يرى من عظيم البلاء وربح الأعداء وغبن الأولياء ورئاسة الجهلاء وخمول

العلماء واستيلاء الباطل في الأحكام، وعموم الظلم والجهر بالمعاصي واستيلاء الحرام على أموال الخلق والتحكم في الأبدان والأموال والأعراض بغير حق، كما في هذا الزمان، وقد تقدم أول الكتاب حديث أبي عيسى الغفاري عن النبي صلى الله عليه وسلم «بادروا بالأعمال ستاً» . الحديث. وروى الأعمش سليمان بن مهران، عن عمرو بن مرة، عن أبي نضرة، عن عبد الله بن الصامت قال: قال أبو ذر رضي الله عنه: يوشك أن يأتي على الناس زمان يغبط فيه خفيف الحاذ كما يغبط اليوم أبو عشرة، ويغبط الرجل باختفائه عن السلطان وجفائه عنه كما يغبط اليوم بمعرفته إياه وكرامته عليه، وحتى تمر الجنازة في السوق على الجماعة فينظر إليها الرجل تهتز بهذا رأسه، فيقول يا ليتني مكان هذا. قال قلت يا أبا ذر: وإن ذلك من أمر عظيم؟ قال: يا ابن أخي عظيم عظيم. قلت: هذا هو ذلك الزمان الذي قد استولى فيه الباطل على الحق، وتغلب فيه العبيد على الأحرار من الخلق، فباعوا الأحكام ورضي بذلك منهم الحكام، فصار الحكم مكساً والحق عكساً لا يوصل إليه ولا يقدر عليه. بدلوا دين الله وغيروا حكم الله سماعون للكذب أكالون للسحت {ومن لم يحكم بما

أنزل الله فأولئك هم الكافرون} و {الظالمون} و {الفاسقون} في الكفار خاصة كلها، وقيل عامة. فيمن بدل حكم الله وغيره قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لتتبعن سنن من قبلكم شبراً بشبر وذراعاً بذراع حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه قالوا يا رسول الله: اليهود والنصاري؟ قال: فمن» . ولقد أحسن ابن المبارك حيث يقول في أبيات له: وهل أفسد الدين إلا الملوك ... وأخبار سوء ورهبانها وقوله: حتى تطلع الشمس من مغربها إلى آخره يأتي القول فيه إن شاء الله تعالى واللقحة: الناقة العزيزة اللبن، ويليط يصلح. يقال: لاط حوضه يليط ويلوط ليطاً ولوطاً إذا لطخه بالطين وأصلحه، والأكلة بضم الهمزة اللقمة فإذا كانت بمعنى المرة الواحدة فهي بالفتح لأنها مصدر، وهي المرة الواحدة من الأكل كالضربة من الضرب، فأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعاجله من أمر الساعة ما يمنع من تمام فعله، واقترب من ذلك رفع الأكلة وهي اللقمة إلى فيه فتقوم الساعة دون بلوغها إليه، وكذلك القول في المتتابعين من نشر الثوب وطبه، فاعلمه. باب منه أبو نعيم الحافظ «عن ثابت عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم سيكون في آخر الزمان عباد جهال وقراءة فسقة» هذا حديث غريب من حديث ثابت لم نكتبه إلا من حديث يوسف بن عطية عن ثابت وهو قاض بصري في حديثه نكارة.

قلت: صحيح المعنى لما ظهر في الوجود من ذلك. وقال مكحول: [يأتي على الناس زمان يكون عالمهم أنتن من جيفة الحمار] . وقد خرج الترمذي الحكيم في نوادر الأصول قال: «حدثنا أبي رحمه الله قال: حدثنا حوشب بن عبد الكريم: حدثنا حماد بن زين عن أبان عن أنس قال: قال رسول الله يكون في آخر زمان ديدان القراء فمن أدرك ذلك الزمان فليتعوذ بالله من الشيطان الرجيم وهم الأنتنون، ثم تظهر قلانس البرد فلا يستحى يومئذ من الزنا والمتمسك يومئذ بدينه كالقابض على الجمرة والمتمسك يومئذ بدينه أجره كأجر خمسين قالوا: منا أو منهم؟ قال: بل منكم» . وأخرج الدارمي أبو محمد قال: «أخبرنا محمد بن المبارك: حدثنا صدقة بن خالد، عن ابن جابر، عن شيخ يكنى أبا عمرو، عن معاذ بن جبل قال: سيبلى القرآن في صدور أقوام كما يبلى الثوب فيتهافت يقرأونه لا يجدون له شهوة ولا لذة يلبسون جلود الضأن على قلوب الذئاب. أعمالهم طمع لا يخالطهم خوف إن قصدوا قالوا سنبلغ، وإن أساءوا قالوا سيغفر لنا. إنا لا نشرك بالله شيئاً، وقد تقدم في باب {وقودها الناس والحجارة} حديث العباس بن عبد المطلب وفيه ثم يأتي أقوام يقرأون القرآن فإذا قرأوه قالوا من قرأ منا من أعلم منا، ثم التفت إلى أصحابه فقال: هل ترون في أولئك من

خير؟ قالوا: لا قال أولئك منكم وأولئك من هذه الأمة وأولئك هم وقود النار» . باب منه مسلم «عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تقوم الساعة حتى تضطرب اليات دوس حول ذي الخلصة وكانت صنماً تعبدها دوس في الجاهلة» . «وعنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لا تذهب الليالي حتى يملك رجل يقال له الجهجاه» في غير مسلم رجل من الموالي يقال له جهجاه، فسقط من رواية الجلودي من الموالي وهو خطأ. «وعنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لا تقوم الساعة حتى يخرج رجل من قحطان بسوق الناس بعصاه» . وخرج البخاري ومسلم «عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لا تقوم الساعة حتى تخرج نار من أرض الحجاز تضيء أعناق الإبل ببصرى» .

الترمذي «عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ستخرج نار من حضرموت قبل القيامة قالوا: فما تأمرنا يا رسول الله؟ قال: عليكم بالشام» قال حديث حسن غريب صحيح من حديث ابن عمر. البخاري «عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أول أشراط الساعة نار تحشر الناس من المشرق إلى المغرب» . الترمذي «عن حذيفة بن اليمان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم والذي نفسي بيده لا تقوم الساعة حتى تقتلوا إمامكم وتجتلدوا بأسيافكم ويرث دنياكم شراركم» قال هذا حديث غريب خرجه ابن ماجه أيضاً. وذكر عبد الرزاق قال «أخبرنا معمر، عن أشعث بن عبد الله، عن شهر بن حوشب عن أبي هريرة قال: جاء ذئب إلى راعي غنم فأخذ منها شاة فطلبه الراعي حتى انتزعها منه قال، فقعد الذئب على تل فأقعى واستقر وقال: عمدت إلى رزق رزقنيه الله أخذته ثم انتزعته مني، فقال الرجل بالله إن رأيت كاليوم، ذئب يتكلم! فقال الذئب أعجب من هذا رجل في النخلات بين الحرتين يخبركم بما مضى وما هو كائن بعدكم. قال: فكان الرجل يهودياً، فجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره وأسلم فصدقه النبي صلى الله عليه وسلم، ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم: إنها أمارات بين يدي

الساعة قد يوشك الرجل أن يخرج فلا يرجع حتى يحدثه نعلاه وسوطه بما أحدث أهله بعده» . ويروى هذا «عن أبي نضرة عن أبي سعيد الخدري وفيه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم صدق الراعي إلا أن من أشراط الساعة كلام السباع للإنس، والذي نفسي بيده لا تقوم الساعة حتى تكلم السباع الإنس، وحتى تكلم الرجل عذبة سوطه وشراك نعله وتخبره فخذه بحديث أهله بعده» . الترمذي «عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله والذي نفسي بيده لا تقوم الساعة حتى تكلم السباع الإنس، وحتى يكلم الرجل عذبة سوطه وشراك نعله وتخبره، فخذه بما أحدث أهله بعده» قال هذا حديث حسن غريب صحيح لا نعرف إلا من حديث القاسم بن الفضل، والقاسم بن الفضل ثقة مأمون. قال الحافظ أبو الخطاب بن دحية: حكم أبو عيسى بصحته ونظرنا سنده دون أن نقلده، فوجدناه له علة. قال أبو عيسى: حدثنا سفيان بن وكيع: حدثنا أبي، عن القاسم بن الفضل قال: حدثنا أبو نضرة العبدي، عن أبي سعيد الخدري فذكره، قال ابن دحية: سفيان بن وكيع لم يخرج له البخاري ومسلم حرفاً واحداً في صحيحهما، وذلك بسبب وراق كان له يدخل عليه الحديث الموضوع يقال له قرطمة. قال البخاري: يتكلمون في سفيان لأشياء لقنوه إياه. وقال أبو محمد بن عدي: كان سفيام إذا لقن يتلقن، فهذه علة

الحديث التي جهلها أبو عيسى الترمذي. مسلم «عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لا تقوم الساعة حتى يكثر المال ويفيض، وحتى يخرج الرجل زكاة ماله فلا يجد أحداً يقبلها منه، وحتى تعود أرض العرب مروجاً وأنهاراً» . فصل حول ذي الخلصة والخلصة ثبت حديث ذي الخلصة في الصحيحين «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث جرير بن عبد الله البجلي إلى هذا البيت قال جرير: فنفرت إليها مائة وخمسين من أخمس فكسرناه وقتلنا من وجدنا عنده» . قال أبو الخطاب بن دحية: وذو الخلصة بضم الخاء واللام في قول أهل اللغة واليسير وبفتحها قيدناه في الصحيحين، وكذا قال ابن هشام، وقيده الإمام أبو الوليد الكنائي الوقشي بفتح الخاء وسكون اللام، وكذا قال ابن زيد واختلف فيه فقيل، هو بيت أصنام كان لدوس وخثعم وبجيلة، ومن كان ببلادهم من العرب، وقيل: هو صنم كان عمرو بن لحي نصبه بأسفل مكة حتى نصبت الأصنام في مواضع شتى، وكانوا يلبسونه القلائد ويعلقون عليه بيض النعام ويذبحون عنده،

وقيل: ذو الخلصة هي الكعبة اليمانية، فكان معناهم في تسميتها بذلك أن عبادة خالصة، والمعنى المراد بالحديث أنهم يرتدون ويرجعون إلى جاهليتهم في عبادة الأوثان، فترسل نساء دوس طائفات حوله فترتج أردافهن عند ذلك في آخر الزمان، وذلك بعد موت جميع من قلبه مثقال حبة من إيمان وهو كم جاء في عائشة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لا تذهب الليالي والأيام حتى تعبد اللات والعزى» الحديث وسيأتي بكماله. وقوله: يسوق الناس بعصاه. كناية عن استقامة الناس وانقيادهم إليه واتفاقهم عليه، ولم يرد نفس العصا، وإنما ضرب بها مثلاً لطاعتهم له واستيلائه عليهم إلا أن في ذكرها دليلاً على خشونته عليهم وعسفه بهم وقد قيل: إنه يسوقهم بعصاه كما تساق الإبل والماشية، وذلك لشدة عنفه وعدواه ولعل هذا الرجل القحطاني هو الرجل الذي يقال له الجهجاه، وأصل الجهجهة الصياح بالسبع. يقال: جهجهت بالسبع أي زجرته بالصياح ويقال: جهجه عني. أي انته. وهذه الصفة توافق ذكر العصا والله أعلم.

وثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من رواية عائذ بن عمرو وكان ممن بايع تحت الشجرة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم «إن شر الرعاة الحطمة» والرعاة في اللغة جمع راع، وضرب رسول الله بهذا مثلاً لوالي السوء، لأن الحطمة هو الذي يعنف بالإبل في السوق والإيراد والإصدار، فيحطمها أي يكسرها ولا يكاد يسلم من فساده شيء وسواق حطم كذلك يعنف في سوقه. وقوله: حتى تخرج نار من أرض الحجاز، فقد خرجت نار عظمة، وكان بدؤها زلزلة عظيمة، وذلك ليلة الأربعاء بعد العتمة الثالث من جمادى الآخرة سنة أربع وخمسين وستمائة إلى ضحى النهار يوم الجمعة، فسكنت وظهرت النار بقرطبة عند قاع التنعيم بطرف الحرة يحيط بها قرى في صورة البلد العظيم كأعظم ما يكون البلدان. عليها سور يحيط بها عليه شرافات كشرافات الحصون وأبراج ومآذن ويرى رجال يقودونها لا تمر على جبل إلا دكته وأذابته، ويخرج من مجموع ذلك نهر أحمر ونهر أزرق له دوي كدوي الرعد، يأخذ الصخور والجبال بين يديه، وينتهي إلى البحرة محط الركب العراقي، فأجتمع من ذلك ردم صار كالجبل العظيم وانتهت النار إلى قرب المدينة، وكان يلي المدينة ببركة النبي صلى الله عليه وسلم نسيم بارد ويشاهد من هذه النار غليان كغليان البحر، وانتهت إلى قرية من قرى اليمن فأحرقتها. قال لي بعض أصحابنا: ولقد رأيتها صاعدة في الهواء من جحر مسيرة خمسة أيام من المدينة. قلت: وسمعت أنها رئيت من مكة ومن جبال بصرى من بعد هذه النار أخرى أرضية بحرم المدينة أحرقت جميع الحرم، حتى إنها أذابت الرصاص التي عليها العمد، فوقعت ولم يبق غير

السور واقفاً، ونشأ بعد ذلك أخذ بغداد يتغلب التتر عليها، فقتل من كان فيها وسباه وذلك عمود الإسلام وماؤه، فانتشر الخوف وعظم الكرب وعم الرعب وكثر الحزن، فانتشار التتر في البلاد وبقي الناس حيارى سكارى بغير خليفة ولا إمام ولا قضاء فزادت المحنة وعظمت الفتنة لم يتدارك الله سبحانه بالعفو والفضل والمنة. أما قوله: وستخرج نار من حضرموت أو من نحو حضرموت قبل القيامة فلعلها النار التي جاء ذكرها في حديث حذيفة. قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لتقصدنكم اليوم نار هي اليوم خامدة في واد يقال له برجوت يغشى الناس فيها عذاب أليم تأكل الأنفس والأموال، تدور الدنيا كلها في ثمانية أيام تطير طير الريح والسحاب حرها بالليل أشد من حرها بالنهار، ولها بين الأرض والسماء دوي كدوي الرعد القاصف. هي من رؤوس الخلائق أدنى من العرش قلت: يا رسول الله هي يومئذ على المؤمنين والمؤمنات؟ قال: وأين المؤمنون والمؤمنات يومئذ؟ هم شر من الحمر يتسافدون كما تتسافد البهائم وليس فيهم رجل يقول: مه مه» كذا رواه أبو نعيم الحافظ في باب مكحول أبي عبد الله إمام أهل الشام عن أبي سلمة عنه عن حذيفة. وقوله: عذبة سوطه. يريد السير المعلق في طرف السوط. وفي هذين الحديث ما يرد على كفرة الأطياء والزنادقة الملحدين، وأن الكلام ليس مرتبطاً بالهيبة والبله، وإنما الباري جلت قدرته يخلقه متي شاء في أي شاء من جماد أو حيوان على ما قدره الخالق الرحمن، فقد كان الحجر والشجر يسلمان عليه صلى الله عليه وسلم تسليم من نطق وتكلم. ثبت ذلك في غير ما حديث، وهو قول أهل أصول الدين في القديم والحديث، وثبت باتفاق

حديث البقرة والذئب، وأنهما تكلما على ما أخبر عنهما صلى الله عليه وسلم في الصحيحين. قاله ابن دحية. وقوله: حتى تعود أرض العرب مروجاً وأنهاراً. إخبار عن خروج عادتهم من إنتاج الكلأ ومواضع العشب بحفر الأنهار وغرس الأشجار وبناء الديار. باب منه آخر أبو عمر بن عبد البر، «عن أبي مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن بين يدي الساعة التسليم على الخاصة وفشو التجارة، حتى تعيب المرأة زوجها على التجارة وقطع الأرحام، وفشو القلم وظهور شهادة الزوور وكتمان شهادة الحق» قال أبو عمر ابن عبد البر: أما قوله: وفشو القلم، فإنه أراد ظهور الكتاب وكثرة الكتاب. خرجه أبو جعفر الطحاوي بلفظه ومعناه، إلا أنه قال: حتى تعين المرأة بدل تعيب ولم يذكر وقطع الأرحام. ذكره أبو محمد عبد الحق. وخرج أبو داود الطيالسي يقال: «حدثنا ابن فضالة عن الحسن قال: قال

عمرو بن ثعلبة سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن من أشراط الساعة أن تقاتلوا قوماً نعالهم الشعر، وإن من أشراط الساعة أن تقاتلوا قوماً كأن وجوههم المجان المطرقة، وإن من أشراط الساعة أن تكثر التجارة ويظهر القلم» . وذكر ابن المبارك بن فضالة «عن الحسن قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تقوم الساعة حتى يرفع العلم ويفيض المال ويظهر القلم وتكثر التجارة» قال الحسن: لقد أتى علينا زمان إنما يقال تاجر بني فلان وكاتب بني فلان ما يكون في الحي إلا التاجر الواحد والكاتب الواحد، وذكره أبو داود الطيالسي، عن عبد الله بن مسعود قال: كان يقال إن من أشراط الساعة أن تتخذ المساجد طرقاً وأن يسلم الرجل على الرجل بالمعرفة، وأن يتجر الرجل وامرأته جميعاً، وأن تغلو مهور النساء والخيل، ثم ترخص فلا تغلو إلى يوم القيامة. باب منه البخاري «عن معاوية قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن من أشراط الساعة أن يقل العلم ويظهر الجهل ويظهر الزنا وتكثر النساء ويقل الرجال، حتى يكون لخمسين امرأة القيم الواحد» . أخرجه مسلم من حديث أنس.

مسلم «عن أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ليأتين على الناس زمان يطوف الرجل بالصدقة من الذهب لا يجد أحداً يأخذها منه، قال: ويرى الرجل الواحد يتبعه أربعون امرأة يلذن به من قلة الرجال وكثرة النساء» . فصل قوله: «ويرى الرجل يتبعه أربعون امرأة» يريد والله أعلم أن الرجال يقتلون في الملاحم وتبقى نساؤهم أرامل، فيقبلن على الرجل الواحد في قضاء حوائجهن ومصالح أمورهن، كما قال في الحديث الآخر قبله: حتى يكون لخمسين امرأة القيم الواحد الذي يسوسهن ويقوم عليهن من بيع وشراء وأخذ وعطاء، وقد كان هذا عندنا أو قريباً منه بالأندلس. وقيل: إن لقلة الرجال وغلبة الشبق على النساء يتبع الرجل الواحد أربعون امرأة كل واحدة تقول أنكحني أنكحني، والأول أشبه، ويكون معنى يلذن يستترن ويتحرزن من الملاذ الذي هو السترة لا من اللذة. ولقد أخبرني صاحبنا أبو القاسم رحمه الله أخو شيخنا أبو العباس أحمد ابن عمر رحمه الله: أنه ربط نحواً من خمسين امرأة واحدة بعد أخرى في حبل واحد مخافة سبي العدو حتى خرجوا من قرطبة أعادها الله. وأما ظهور الزنا، فذلك مشهور في كثير من الديار المصرية. من ذلك مأثور، ومن ذلك إظهار الخمر والمأخوذ

باب كيف يقبض العلم

نعوذ بالله من الفتن ما ظهر منها وما بطن. وأما قلة العلم، وكثرة الجهل، فذلك شائع في جميع البلاد ذائع أعني برفع العلم وقلة ترك العمل به، كما قال عبد الله بن مسعود [ليس حفظ القرآن بحفظ حروفه، ولكن إقامة حدوده] ذكره ابن المبارك وسيأتي هذا المعنى مبيناً مرفوعاً إن شاء الله تعالى. باب كيف يقبض العلم البخاري ومسلم رحمهما الله عن عبد الله بن عمرو قال: «سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن الله لا ينزع العلم بعد أن أعطاكموه انتزاعاً، ولكن ينزعه منهم مع قبض العلماء بعلمهم فيبقى ناس جهال يستفتون برأيهم فيضلون ويضلون» . وفي رواية: «حتى إذا لم يبق عالم اتخذ الناس رؤساء جهالاً فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا. انتزاعاً مصدر من غير اللفظ، كما قال الله عز وجل {والله أنبتكم من الأرض نباتاً} » . أبو داود «عن سلامة بن الحر، قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم

باب ما جاء أن الأرض تخرج ما في جوفها من الكنوز والأموال

يقول: من أشراط الساعة أن يتدافع أهل المسجد الإمامة فلا يجدو إماماً يصلي بهم» . باب ما جاء أن الأرض تخرج ما في جوفها من الكنوز والأموال روى الأئمة «عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوشك الفرات أن يحسر عن كنز من ذهب، فمن حضره فلا يأخذ منه شيئاً» وفي رواية: «عن جبل من ذهب» لفظ البخاري ومسلم، وقال مسلم في رواية: «فيقتتل الناس عليه فيقتل من كل مائة تسعة وتسعون ويقول كل واحد منهم لعلي أكون أنا الذي أنجو» وقال ابن ماجه [فيقتل الناس عليه فيقتل من كل عشرة تسعة] . وخرج مسلم والترمذي «عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم تقيء الأرض أفلاذ كبدها أمثال الأسطوان من الذهب والفضة، فيجيء القاتل فيقول في هذا قتلت، ويجيء القاطع فيقول في هذا قطعت رحمي، ويجيء السارق فيقول في هذا قطعت يدي، ثم يدعونه لا

يأخذون منه شيئاً» لم يذكر الترمذي السارق وقطع يده، وقال حديث حسن غريب. فصل قال الحليمي رحمه الله في كتاب منهاج الدين له، وقال عليه الصلاة والسلام: «يوشك أن يحسر الفرات عن جبل من ذهب فمن حضره فلا يأخذ منه شيئاً» فيشبه أن يكون هذا في آخر الزمان الذي أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن المال يفيض فيه فلا يقبله أحد، وذلك زمن عيسى عليه السلام، فلعل بسب هذا الفيض العظيم ذلك الجبل مع ما يغنمه المسلمون من أموال المشركين، ويحتمل أن يكون نهيه عن الأخذ من ذلك الجبل لتقارب الأمر وظهور أشراطه، فإن الركون إلى الدنيا والاستكثار مع ذلك جهل واغترار، ويحتمل أن يكون إذا حرصوا على النيل منه تدافعوا وتقاتلوا، ويحتمل أن يكون لا يجري به مجرى المعدن، فإذا أخذه أحدهم ثم لم يجد من يخرج حق الله إليه لم يوفق بالبركة من الله تعالى فيه، فكان الانقباض عنه أولى. قال المؤلف رحمه الله: التأويل الأوسط هو الذي يدل عليه الحديث، والله أعلم.

باب في ولاة آخر الزمان وصفتهم وفيمن ينطق في أمر العامة

باب في ولاة آخر الزمان وصفتهم وفيمن ينطق في أمر العامة البخاري «عن أبي هريرة قال: بينما نحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم في مجلس يحدث القوم إذ جاء أعرابي فقال متى الساعة؟ فمضى رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديثه، فقال بعض القوم: سمع ما قال فكره ما قال. وقال بعضهم: بل لم يسمع ما قال حتى إذا قضى حديثه قال: أين السائل عن الساعة؟ قال: ها أنا ذا يا رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إذا ضيعت الأمانة فانتظر الساعة قال: وكيف إضاعتها؟ قال: إذا وسد الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة» . قال الحافظ أبو الخطاب بن دحية رحمه الله: الرواية الصحيحة عند جميع رواة البخاري [إذا وسد] ورواه الفقيه الإمام المحدث أبو الحسن القابسي: [أسد] قال: والذي أحفظ [وسد] وفي نسخة من البخاري إشكال بين وسد أو أسد على ما قيد له لأنه كان أعمى وهما بمعنى. قال أهل اللغة: يقال إساد ووساد واشتقاقهما واحد يقال: إساد ووسادة ووساد فمعنى قوله صلى الله عليه وسلم: «إذا وسد الأمر إلى غير أهله» أي أسند وجعل إليهم وقلدوه بمعنى الإمارة، كما في زماننا اليوم، لأن الله تعالى ائتمن الأئمة والولاة على عباده وفرض عليهم النصيحة لهم لقوله صلى الله عليه وسلم «كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته» فينبغي لهم تولية أهل الدين والأمانة للنظر في أمور الأمة، فإذا قلدوا غير أهل الدين فقد ضيعوا الأمانة التي فرض الله عليهم. وخرج مسلم «من حديث جبريل الطويل وفيه قال: أخبرني عن الساعة قال: ما المسؤول عنها بأعلم من السائل قال فأخبرني عن أماراتها قال: أن تلد الأمة ربتها وأن ترى الحفاة العراة العالة رعاء الشاة يتطاولون في البنيان» .

وفي رواية: «إذا رأيت المرأة تلد ربها فذاك من أشراطها، وإذا رأيت الحفاة العراة الصم البكم ملوك الأرض فذاك من أشراطها» . الترمذي «عن حذيفة بن اليمان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تقوم الساعة حتى يكون أسعد الناس بالدنيا لكع ابن لكع» قال حديث حديث حسن غريب إنما نعرفه من حديث عمرو بن أبي عمرو. وخرج الغيلاني أبو طالب محمد: «حدثنا أبو بكر والشافعي: حدثنا موسى بن سهل بن كثير، أخبرنا يزيد بن هارون، أخبرنا محمد بن عبد الملك بن قدامة عن المقبري عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: سيأتي على الناس سنوات خداعات يصدق فيها الكاذب ويكذب فيها الصادق، ويؤتمن فيها الخائن ويخون فيها الأمين، وينطق فيها الرويبضة قيل يا رسول الله وما الرويبضة؟ قال: الرجل التافه ينطق في أمر العامة» وقال أبو عبيد: التافه الرجل الخسيس الخامل من الناس، وكذلك كل شيء خسيس فهو تافه قال: ومما يثبت حديث الرويبضة الحديث الآخر أنه قال: «من أشراط الساعة أن ترى رعاء الشاء رؤوس الناس، وأن ترى العراة الحفاة يتبارون في البنيان، وأن تلد الأمة ربتها» . وذكر أبو عبيد في الغريب له في حديث النبي صلى الله عليه وسلم «لا تقوم

الساعة حتى يظهر الفحش والبخل، ويخون الأمين ويؤتمن الخائن، ويهلك الوعول ويظهر التحوت. قالوا يا رسول الله صلى الله عليه وسلم وما الوعول وما التحوت؟ قال: الوعول وجوه الناس والتحوت الذين كانوا تحت أقدام الناس لا يعلم بهم» وأسند أبو نعيم عن حذيفة مرفوعاً: من أشراط الساعة، علو أهل الفسق في المساجد، وظهور أهل المنكر على أهل المعروف فقال أعرابي فما تأمرني يا رسول الله؟ قال: «دع وكن حلساً من أحلاس بيتك» وفي معناه أنشدوا: أيا دهر أعملت فينا أذاكا ... ووليتنا بعد وجه قفاكا قلبت الشرار علينا رؤوساً ... وأجلست سفلتنا مستواكا فيا دهر إن كنا عاديتنا ... فها قد صنعت بنا ما كفاكا وقال آخر: ذهب الرجال الأكرمون ذوو الحجا ... والمنكرون لكل أمر منكر وبقيت في خلف يزين بعضهم ... بعضاً ليدفع مغرور عن معور فصل قال علماؤنا رحمة الله عليهم: ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الباب وغيره مما تقدم ويأتي قد ظهر أكثره وشاع في الناس معظمه، فوسد الأمر إلى غير

أهله وصار رؤوس الناس أسافلهم عبيدهم وجهالهم فيملكون البلاد والحكم في العباد فيجمعون الأموال ويطيلون البنيان كما هو مشاهد في هذه الأزمان، فلا يسمعون موعظة ولا ينزحرون عن معصية فهم صم بكم عمي. قال قتادة: صم عن استماع الحق بكم عن التكلم به. عمي عن الإبصار له، وهذه صفة أهل البادية والجهالة. والبهم: جمع بهيمة وأصلها صغار الضأن والمعز، وقد فسره في الرواية الأخرى في قوله: رعاء الشاه. وقوله وأن تلد الأمة ربها، وفي رواية ربتها تأنيث رب أي سيدها، وقال وكيع، وهو أن تلد العجم العرب، ذكره ابن ماجه في السنن. قال علماؤنا: وذلك بأن يستولي المسلمون على بلاد الكفر فيكثر التسري فيكون ولد الأمة من سيدها بمنزلة سيدها لشرفه ومنزلته بأبيه، وعلى هذا فالذي يكون من أشراط الساعة استيلاء المسلمين واتساع خطتهم وكثرة الفتوح وهذا قد كان. وقيل: هو أن يبيع السادات أمهات الأولاد ويكثر ذلك. فيتداول الملاك المستولدت، فربما يشتريها ولدها ولا يشعر فيكون ربها، وعلى هذا الذي يكون من أشراط الساعة غلبة الجهل بتحريم بيع أمهات الأولاد وهم الجمهور.

باب إذا فعلت هذه الأمة خمس عشرة خصلة حل بها البلاء

وقيل: المراد أن يكثر العقوق في الأولاد، فيعامل الولد أمه معاملة السيد أمته من الإهانة والسب، ويشهد لهذا ما جاء في حديث أبي هريرة المرأة مكان الأمة. وقوله عليه الصلاة والسلام: «حتى يكون الولد غيظاً» . وسيأتي بيانه إن شاء الله تعالى. قلت: وهذا ظاهر في الوجود من غير نكير مستفيض وشهير. وقيل: إنما كان سيدها وربها لأنه كان سبب عتقها، كما قال عليه الصلاة والسلام في مارية: «أعتقها ولدها» . قلت: وقول خامس سمعت شيخنا الأستاذ المحدث النحوي المقرئ أبا جعفر أحمد بن محمد بن محمد القيسي القرطبي المعروف بابن حجة يقوله غير مرة وهو الإخبار عن استيلاء الكفار على بلاد المسلمين كما في هذه الأزمان التي قد استولى فيها العدو على بلاد الأندلس وخراسان وغيرهما من البلدان، فتسبى المرأة وهي حبلى أو ولدها صغير فيفرق بينهما فيكبر الولد فربما يجتمعان ويتزوجها كما قد وقع من ذلك كثير، فإنا لله وإنا إليه راجعون. ويدل على هذا قوله: إذا ولدت المرأة بعلها، وهذا هو المطابق للأشراط مع قوله عليه الصلاة والسلام «لا تقوم الساعة حتى تكون الروم أكثر أهل الأرض» والله أعلم. باب إذا فعلت هذه الأمة خمس عشرة خصلة حل بها البلاء الترمذي «عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا

فعلت أمتي خمس عشرة خصلة حل بها البلاء قيل وما هي يا رسول الله قال: إذا كان المغنم دولاً والأمانة مغنماً والزكاة مغرماً، وأطاع الرجل زوجته وعق أمه وبر صديقه، وجفا أباه، وارتفعت الأصوات في المساجد، وكان زعيم القوم أرذلهم وأكرم الرجل مخافة شره وشربت الخمور ولبس الحرير، واتخذت القينات والمعازف ولعن آخر هذه الأمة أولها فليرتقبوا عند ذلك ريحاً حمراء أو خسفاً أو مسخاً» قال: هذا حديث غريب وفي إسناده فرج بن فضالة وضعف من قبل حفظه. وخرج أيضاً «من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا اتخذ الفيء دولاً والأمانة مغنماً والزكاة مغرماً، وتعلم لغير الدين، وأطاع الرجل امرأته، وعق أمه، وأدنى صديقه، وأقصى أباه، وظهرت الأصوات في المساجد، وساد القبيلة فاسقهم، وكان زعيم القوم أرذلهم وأكرم الرجل مخافة شره، وظهرت القينات والمعازف، وشربت الخمور ولعن آخر هذه الأمة أولها فليرتقبوا عند ذلك ريحاً حمراء أو زلزلة وخسفاً ومسخاً وقذفاً وآيات متتباعات كنظام بال قطع سلكه فتتابع» قال: حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه. باب منه أبو نعيم «عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يمسخ قوم من أمتي في آخر الزمان قردة وخنازير، قيل: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم ويشهدون أن لا إله

إلا الله وأنك رسول الله ويصومون؟ قال: نعم. قيل: فما بالهم يا رسول الله؟ قال: يتخذون المعازف والقينات والدفوف ويشربون الأشربة فباتوا على شربهم ولهوهم، فأصبحوا وقد مسخوا قردة وخنازير» . ابن ماجه «عن أبي مالك الأشعري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ليشربن ناس من أمتي الخمر يسمونها بغير اسمها يضرب على رؤوسهم بالدفوف والمغنيات يخسف الله بهم الأرض ويجعل منهم القردة والخنازير» . وخرجه أبو داود «عن مالك بن أبي مريم: قال دخلنا على عبد الرحمن بن غنم فتذاكرنا الطلاء قال: حدثني أبو مالك الأشعري أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ليشربن ناس من أمتي الخمر يسمونها بغير اسمها» زاد ابن أبي شيبة «يضرب على رؤوسهم بالمعازف والمغنيات يخسف الله بهم الأرض» . قال أبو محمد عبد الحق: روياه جميعاً من حديث معاوية بن صالح الحمصي، وقد ضعفه قوم منهم يحيى بن معين ويحيى بن سعيد فيما ذكره ابن أبي حاتم وقال أبو حاتم فيه: حسن الحديث يكتب حديثه ولا يحتج به، ووثقه أحمد بن حنبل وأبو زرعة.

البخاري «عن أبي مالك الأشعري أو عن عامر سمع النبي صلى الله عليه وسلم قال: ليكونن ناس من أمتي يستحلون الحر والحرير والمعازف، ولينزلن أقوام إلى جنب عالم يروح عليهم بسارحة لهم يأتيهم لحاجة فيقولون: ارجع إلينا غداً فيبيتهنم الله ويضع العلم ويمسخ آخرين قردة وخنازير إلى يوم القيامة» . قال المؤلف رحمه الله: هذا يصحح ما قبله من الأحاديث. والحر: هو الزنا. قاله الباهلي ويروى الخز بالخاء والزاي والصواب ما تقدم. باب منه ذكر الخطيب أبو بكر أحمد بن علي، عن عبد الرحمن بن إبراهيم الراسبي قال: أنبأنا مالك بن أنس، عن نافع بن عمر قال: كتب عمر بن الخطاب إلى سعد بن أبي وقاص وهو بالقادسية أن وجه نضلة أبا معاوية الأنصاري إلى حلوان العراق فليغيروا على ضواحيها قال: فوجه سعد نضلة في ثلاثمائة فارس فخرجوا حتى أتوا حلوان العراق، فأغاروا على ضواحيها فأصابوا غنيمة وسبياً، فأقبلوا يسرقون الغنيمة والسبي حتى رهقهم

العصر وكادت الشمس أن تؤوب، قال: فألجأ نضلة الغنيمة والسبي إلى سفح الجبل، ثم قال: فأذن فقال: الله أكبر فإذا مجيب من الجبل يجيب كبرت تكبيراً يا نضلة، ثم قال أشهد أن لا إله إلا الله قال كلمة الإخلاص يا نضلة، قال أشهد أن محمداً رسول الله قال: هذا النذير وهو الذي بشر به عيسى عليه السلام وعلى رأس أمته تقوم القيامة، قال حي على الصلاة قال: طوبى لمن مشى إليها وواظب عليها، قال حي على الفلاح قال: أفلح من أجاب محمداً صلى الله عليه وسلم وهو البقاء لأمة محمد صلى الله عليه وسلم، قال الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله قال: أخلصت الإخلاص كله يا نضلة فحرم الله بها جسدك على النار، فلما فرغ من أذانه قمنا فقلنا له: من أنت يرحمك الله، أملك أنت أم ساكن من الجن أم طائف من عباد الله؟ أسمعنا صوتك فأرنا شخصك فإنا وفد الله ووفد رسوله ووفد عمر بن الخطاب، قال: فانفلق الجبل عن هامة كالرحاء أبيض الرأس واللحية، وعليه طمران من صوف فقال: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، قلنا: وعليك السلام ورحمته وبركاته من أنت يرحمك الله؟ قال: أنا زرنب بن برثملا وصي العبد الصالح عيسى بن مريم أسكنني هذا الجبل، ودعا لي بطول البقاء إلى نزوله من السماء، فيقتل الخنزير ويكسر الصليب ويتبرأ مما نحلته النصارى، فأما إذا فاتني لقاء محمد صلى الله عليه وسلم فأقرئوا عمر مني السلام وقولوا له يا عمر: سدد وقارب فقد دنا الأمر، وأخبروه بهذه الخصال التي أخبركم بها إذا ظهرت هذه الخصال في أمة

محمد صلى الله عليه وسلم الهرب فالهرب: إذا استغنى الرجال بالرجال والنساء بالنساء وانتسبوا في غير مناسبهم وانتموا إلى غير مواليهم، ولم يرحم كبيرهم صغيرهم ولم يوقر صغيرهم كبيرهم، وترك المعروف فلم يؤمر به وترك المنكر فلم ينه عنه، وتعلم عالمهم العلم ليجلب به الدراهم والدنانير، وكان المطر قيظاً، والولد غيظاً وطولوا المنارات وفضضوا المصاحف وشيدوا البناء واتبعوا الشهوات وباعوا الدين بالدنيا، واستخفوا بالدماء وقطعت الأرحام وبيع الحكم وأكل الربا وصار الغني عز وخرج الرجل من بيته فقام إليه من هو خير منه فسلم عليه، وركبت النساء السروج، ثم غاب عنا قال: فكتب بذلك نضلة إلى سعد فكتب سعد إلى عمر وكتب عمر إلى سعد يا سعد: لله أبوك سر أنت ومن معك من المهاجرين والأنصار حتى تنزلوا هذا الجبل فإن لقيته فأقرئه مني السلام، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبرنا أن بعض أوصياء عيسى بن مريم نزل ذلك الجبل ناحية العراق، قال: فخرج سعد في أربعة آلاف من المهاجرين والأنصار حتى نزل ذلك الجبل فأقام أربعين يوماً ينادي بالأذان في كل وقت صلاة فلا جواب. قال الخطيب: تابع إبراهيم بن رجاء أبو موسى عبد الرحمن الراسبي على

رواية عن مالك وليس بثابت من حديثه. باب منه آخر خرج أبو نعيم «من حديث حذيفة بن اليمان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من اقتراب الساعة اثنتان وسبعون خصلة إذا رأيتم الناس أماتوا الصلاة، وأضاعوا الأمانة وأكلوا الربا، واستحلوا الكذب واستخفوا بالدماء، واستعلوا البناء، وباعوا الدين بالدنيا، وتقطعت الأرحام ويكون الحكم ضعفاً، والكذب صدقاً، والحرير لباساً، وظهر الجور، وكثر الطلاق، وموت الفجأة، وائتمن الخائن، وخون الأمين، وصدق الكاذب، وكذب الصادق، وكثر القذف، وكان المطر قيظاً، والولد غيظاً وفاض اللئام فيضاً، وغاص الكرام غيضاً، وكان الأمراء فجرة والوزراء كذبة، والأمناء خونة والعرفاء ظلمة، والقراء فسقة، إذا لبسوا مسوح الضأن قلوبهم أنتن من الجيفة وأمر من الصبر يغشيهم الله فتنة يتهاوكون فيها تهاوك اليهود الظلمة، وتظهر الصفراء يعني الدنانير وتطلب البيضاء يعني الدراهم، وتكثر الخطايا، وتغل الأمراء، وحليت المصاحف وصورت المساجد، وطولت المنابر، وخربت القلوب، وشربت الخمور، وعطلت الحدود، وولدت الأمة ربتها، وترى الحفاة العراة قد صاروا ملوكاً، وشاركت المرأة زوجها في التجارة،

وتشبه الرجال بالنساء والنساء بالرجال، وحلف بالله وشهد المرء من غير أن يستشهد، وسلم للعرفة وتفقه لغير الدين، وطلبت الدنيا بعمل الآخرة، واتخذ المغنم دولاً، والأمانة مغنماً والزكاة مغرماً، وكان زعيم القوم أرذلهم، وعق الرجل أباه، وجفا أمه، وبر صديقه، وأطاع زوجته، وعلت أصوات الفسقة في المساجد، واتخذت القينات والمعازف، وشربت الخمور في الطرق واتخذ الظلم فخراً، وبيع الحكم، وكثر الشرط واتخذ القرآن مزامير، وجلود السباع صفاقاً، والمساجد طرقاً، ولعن آخر هذه الأمة أولها فليرتقبوا عند ذلك ريحاً حمراء وخسفاً ومسخاً وقذفاً وآيات» . غريب من حديث عبد الله بن عمير عن حذيفة لم يروه عنه فيما أعلم إلا فرج بن فضالة. قال المؤلف رحمه الله: وهذه الخصال قد تقدم ذكرها في أحاديث متفرقة وكلها بنية المعنى إلا قوله وجلود السباع صفاقاً. قال الجوهري: الصفاق الجلد الرقيق تحت الجلد الذي عليه الشعر. وخرج الدارقطني، «عن عامر الشعبي، عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من اقتراب الساعة أن يرى الهلال قبلا فيقال: لليلتين وأن تتخذ المساجد طرقاً وأن يظهر موت الفجأة» ، قاله الجوهري معنى قبلاً أن يرى ساعة يطلع لعظمه. ويوضحه

باب في رفع الأمانة والإيمان عن القلوب

حديث آخر من أشراط الساعة انتفاخ الأهلة، ويقال: رأيت الهلال قبلاً، وقبلاً أي معاينة. باب منه الترمذي الحكيم في نوادر الأصول قال: «حدثنا عمر بن أبي عمر قال: حدثنا هشام بن خالد الدمشقي، عن إسماعيل بن عياش، عن ليث، عن ابن سابط عن أبي أمامة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يكون في أمتي فزعة فيصير الناس إلى علمائهم فإذا هم قردة وخنازير» ، قال أبو عبد الله: فالمسخ تغير الخلقة عن جهتها، فإنما حل بهم المسخ لأنهم غيروا الحق عن جهته وحرفوا الكلم عن مواضعه فمسخوا أعين الخلق وقلوبهم عن رؤية الحق، فمسخ الله صورهم وبدل خلقهم كما بدلوا الحق باطلاً. باب في رفع الأمانة والإيمان عن القلوب روى الأئمة البخاري ومسلم وابن ماجه وغيرهم واللفظ لمسلم «عن حذيفة قال: حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثين قد رأيت أحدهما وأنا أنتظر الآخر، حدثنا أن الأمانة نزلت في جذر قلوب الرجال» ، قال ابن ماجه:

حدثنا الطنافسي يعني وسط قلوب الرجال، ثم نزل القرآن فعلموا من القرآن وعلموا من السنة، ثم حدثنا عن رفع الأمانة قال: «ينام الرجل النومة فتقبض الأمانة من قلبه فيظل أثرها مثل الوكت، ثم ينام النومة فتقبض الأمانة من قلبه فيظل أثرها مثل المجل كجمر دحرجته على رجلك فنفط فتراه منتبراً وليس فيه شيء، ثم أخذ حصاة فدحرجها على رجله فنفط فيصبح الناس يتبايعون لا يكاد أحد يؤدي الأمانة حتى يقال إن في بني فلان رجلاً أمينا حتى يقال للرجل ما أجلده ما أظرفه ما أعقله وما في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان، ولقد أتى على زمان ما أبالي أيكم بايعت لئن كان مسلماً ليردنه على دينه ولئن كان نصرانياً أو يهودياً ليردنه على ساعيه فأما فما كنت أبايع منكم إلا فلاناً وفلاناً» . فصل الجذر. بالذال المعجمة ويقال بفتح الجيم وكسرها وهو الأصل من كل شيء من النسب والحساب والشجر وغيره. والوكت: بإسكان الكاف وهو الأثر اليسير يقال: أوكتت البسرة: إذا ظهرت فيها نكتة من الإرطاب وهو مصدر وكته يكته وكتاً وهو أيضاً مثل نكته في العين وغيرها. والمجل: هو النفخ الذي يرتفع من جلد باطن اليد عند العمل بفأس أو محذاف أو نحوه يحتوي على ماء ثم يصلب ويبقى عقداً، قال ابن دحية قيدناه في الحديث بسكون الجيم وأجاز أهل اللغة والنحو فتح الجيم مصدر مجلت يده تمجل مجلاً بفتح الجيم في المصدر إذا غلظت من العمل وقوله: فنفط أي ارتفع جلدها وانتفخ، فتراه منتبراً أي

باب في ذهاب العلم ورفعه وما جاء أن الخشوع والفرائض أول علم يرفع من الناس

منتفطا ومعناه مرتفعاً جلده من لحمه وهو افتعال من النبر وهو الرفع وكل شيء رفع شيئاً فقد نبره ومنه اشتق المنبر وأراد بذلك خلو القلوب من الأمانة كما يخلو المجل المنتبر عن شيء يحويه كجمر دحرجته يعني أطلقته فينطلق ظهر اليدين من ذلك. وقول حذيفة: لقد أتى على زمان الحديث: يعني كانت الأمانة موجودة، ثم قلت في ذلك الزمان. وقوله ليردنه على ساعيه يعني من كان رئيساً مقدما فيهم والياً عليهم أن ينصفني منه وإن لم يكن له الإسلام وكل من ولوي على قوم ساع لهم. وقوله فما كنت أبايع إلا فلاناً وفلاناً. قال أبو عبيدة: هو من البيع والشراء لقلة الأمانة. باب في ذهاب العلم ورفعه وما جاء أن الخشوع والفرائض أول علم يرفع من الناس ابن ماجه قال: «حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة قال: حدثنا وكيع قال: حدثنا الأعمش، عن سالم بن أبي الجعد، عن زياد بن لبيد قال: ذكر النبي صلى الله عليه وسلم شيئاً قال: ذللك عند أوان ذهاب العلم قلت يا رسول الله: كيف يذهب العلم ونحن نقرأ القرآن ونقرئه أبناءنا ويقرئه أبناؤنا أبناءهم إلى يوم القيامة؟ قال: ثكلتك أمك يا زياد: إن كنت لأراك من أفقه رجل بالمدينة أو ليس هذه اليهود والنصارى يقرأون التوراة والإنجيل لا يعملون بشيء منهما» . وخرجه الترمذي «عن جبير بن نفير، عن أبي الدرداء قال: كنا

مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فشخص ببصره إلى السماء ثم قال: هذا أوان يختلس العلم من الناس حتى لا يقدروا على شيء منه فقال زياد بن لبيد الأنصاري: كيف يختلس منا ونحن قد قرأنا القرآن فو الله لنقرؤه ولنقرئه نساءنا وأبناءنا، فقال: ثكلتك أمك يا زياد: إن كنت لأعدك من فقهاء المدينة، هذه التوراة والإنجيل عند اليهود والنصارى فماذا تغني عنهم» . قال جبير: فلقيت عبادة بن صامت فقلت: ألا تسمع ما يقول أخوك أبو الدرداء فأخبرته بالذي قال أبو الدرداء، قال صدق أبو الدرداء، إن شئت لأحدثنك بأول علم يرفع من الناس. الخشوع يوشك أن يدخل الرجل مسجد جماعة فلا يرى فيه رجلاً خاشعاً. قال أبو عيسى: هذا حديث غريب. ومعاوية بن صالح ثقة عند أهل الحديث، ولا أعلم أحداً تكلم فيه غير يحيى بن سعيد القطان. وروى بعضهم هذا الحديث، عن عبد الرحمن بن جبير بن نفير، عن أبيه، عن عوف بن مالك. قال المؤلف رحمه الله: خرجه لهذا الإسناد الحافظ أبو محمد عبد الغني فقال: «حدثنا عبد الله بن جعفر بن الورد قال: حدثنا يحيى بن أيوب: حدثنا يحيى بن بكير قال: حدثنا الليث قال: حدثني إبراهيم بن أبي عبلة، عن الوليد بن عبد الرحمن عن جبير بن نفير قال: حدثني عوف بن مالك الأشجعي قال: نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى السماء يوماً وقال: هذا أوان رفع العلم فقال له رجل

باب في دروس الإسلام وذهاب القرآن

من الأنصار يقال له زياد بن لبيد يا رسول الله: وكيف يرفع العلم وقد كتب في الكتب ووعته الصدور؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن كنت لأحسبك من أفقه أهل المدينة وذكر اليهود والنصارى وضلالتهم على ما في أيديهم من كتاب الله» . فذكرت ذلك لشداد بن أوس فقال: صدق عون بن مالك. ألا أخبرك بأول ذلك: يرفع الخشوع حتى لا ترى رجلاً خاشعاً. ذكره في باب تقييد الحديث بالكتابة وهو حديث حسن. قلت: وقد ذكرناه في مسند زياد بن لبيد بإسناد صحيح على ما ذكره ابن ماجه وهو يبين لك ما ذكرناه من أن المقصود برفع العلم العمل به، كما قال عبد الله بن مسعود: ليس حفظ القرآن بحفظ الحروف ولكن إقامة حدوده، ثم بعد رفع العمل بالعلم يرفع القلم والكتاب ولايبقى في الأرض من القرآن آية تتلى على ما يأتي في الباب بعد هذا. وقد خرج الدراقطني وابن ماجه «من حديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: تعلموا الفرائص وعلموها للناس فإنها تصف العلم وهو ينسى وهو أول شيء ينزع من أمتي» . لفظ الدراقطني ولا تعارض والحمد لله، فإن الخشوع من علم القلوب، والفرائض علم الظاهر فافترقا والحمد لله. باب في دروس الإسلام وذهاب القرآن ابن ماجه قال: «أخبرنا علي بن محمد قال: أنبأنا أبو معاوية، عن

باب العشر آيات التي تكون قبل الساعة وبيان قوله تعالى: " اقتربت الساعة وانشق القمر "

أبي مالك الأشجعي، عن ربيعي بن خراش، عن حذيفة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يدرس الإسلام كما يدرس وشى الثوب حتى لا يدري ما صيام ولا صلاة ولا نسك ولا صدقة، ويسري بكتاب الله تعالى في ليلة فلا بيقى منه في الأرض آية وتبقى طوائف من الناس: الشيخ الكبير والعجوز يقولون أدركنا آباءنا على هذه الكلمة لا إله إلا الله فنحن نقولها قال له صلة: ما تغني عنهم لا إله إلا الله وهم لايدرون ما صلاة ولا صيام ولا نسك ولا صدقة فأعرض عنه حذيفة ثم ردها عليه ثلاثاً كل ذلك يعرض عنه حذيفة ثم أقبل عليه حذيفة فقال: يا صلة تنجيهم من النار ثلاثاً» . قلت: هذا إنما يكون بعد موت عيسى عليه السلام لا عند خروج يأجوج ومأجوج على ما تقدم من رواية مقاتل. وذكر أبو حامد من رفعه، فإن عيسى عليه السلام إنما ينزل مجدداً لما درس من هذه الشريعة فإنه يحججه على ما يأتي بيانه إن شاء الله تعالى. باب العشر آيات التي تكون قبل الساعة وبيان قوله تعالى: " اقتربت الساعة وانشق القمر " باب العشر آيات التي تكون قبل الساعة وبيان قوله تعالى: اقتربت الساعة وانشق القمر «روي عن حذيفة أنه قال: كنا جلوس بالمدينة في ظل حائط وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم في غرفة فأشرف علينا وقال: ما يجلسكم؟ فقلنا: نتحدث. فقال: فيماذا؟ فقلنا: عن الساعة فقال: إنكم لا ترون الساعة حتى تروا قبلها عشر آيات، أولها طلوع الشمس من مغربها ثم الدخان ثم الدجال ثم الدابة ثم

ثلاث خسوف: خسف بالمشرق وخسف بالمغرب وخسف بجزيرة العرب، وخروج عيسى وخروج يأجوج ومأجوج، ويكون آخر ذلك ناراً تخرج من اليمن من حفرة عدن لا تدع أحداً خلفها إلا تسوقه إلى المحشر» ذكره القتبي في كتاب عيون الأخبار له. وخرجه مسلم بمعناه «عن حذيفة قال: اطلع رسول الله صلى الله عليه وسلم من غرفة ونحن نتذاكر الساعة فقال: لا تقوم الساعة حتى تكون عشر آيات: طلوع الشمس من مغربها والدجال والدخان والدابة ويأجوج ومأجوج وخروج عيسى بن مريم وثلاث خسوف: خسف بالمشرق وخسف بالمغرب وخسف بجزيرة العرب ونار تخرج من قعر عدن أبين تسوق الناس إلى المحشر تبيت معهم إذا باتوا وتقيل معهم إذا قالوا» . خرجه ابن ماجه والترمذي وقال: حديث حسن. وفي رواية: «الدخان والدجال والدابة وطلوع الشمس من مغربها ونزول عيسى بن مريم وثلاث خسوفات: خسف بالمشرق وخسف بالمغرب وخسف بجزيرة العرب وآخر ذلك نار تخرج من اليمن تطردهم إلى محشرهم» . وفي البخاري «عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أول أشراط الساعة نار تخرج تحشر الناس من المشرق إلى المغرب» . مسلم «عن عبد الله بن عمر قال: حفظت من رسول الله صلى الله عليه وسلم

يقول: إن أول الآيات خروجاً عن طلوع الشمس من مغربها وخروج الدابة على الناس ضحى وأيهما ما كانت قبل صاحبتها فأخرى على أثرها قريباً منها» . وفي حديث حذيفة مرفوعاً، ثم قال عليه الصلاة والسلام: «كأني أنظر إلى حبشي أحمش الساقين أزرق العينين أفطس الأنف كبير البطن، وقد صف قدميه على الكعبة هو وأصحاب له وهم ينقضونها حجراً حجراً ويتداولونها بينهم حتى يطرحوها في البحر، فعند ذلك تكون علامات منكرات طلوع الشمس من مغربها ثم الدجال ثم يأجوج ومأجوج ثم الدابة» وذكر الحديث. فصل جاءت هذه الآيات في هذه الأحاديث مجموعة غير مرتبة ما عدا حديث حذيفة المذكور أولاً، فإن الترتيب فيه بثن وليس الأمر كذلك على ما نبينه، وقد جاء ترتيبها «من حديث حذيفة أيضاً: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في غرفة ونحن أسفل منه فاطلع إلينا فقال: ما تذكرون؟ قلنا: الساعة. قال: إن الساعة لا تكون حتى تروا عشر آيات: خسف بالمشرق، وخسف بالمغرب، وخسف بجزيرة العرب، والدخان، والدجال، ودابة الأرض، ويأجوج ومأجوج، وطلوع الشمس من مغربها، ونار تخرج من قعر عدن ترحل الناس» . وقال بعض الرواة في العاشرة: ونزول عيسى بن مريم، وقال بعضهم: وريح يلقى الناس في البحر أخرجه مسلم فأول الآيات على ما في هذه الرواية الخسوفات الثلاثة، وقد وقع بعضها في زمن النبي صلى الله عليه وسلم. ذكره ابن وهب وقد تقدم.

وقد ذكر أبو الفرج بن الجوزي أنه وقع بعراق العجم زلازل وخسوفات هائلة هلك بسببها خلق كثير. قلت: وقد وقع ذلك عندنا بشرق الأندلس فيما سمعنا من بعض مشايخنا بقرية يقال لها [قطرطندة] من قطر دانية سقط عليها جبل هناك فأذهبها. وأخبرني أيضاً بعض أصحابنا أن قرية من أعمال برقة يقال لها [ترسة] أصابها زلزلة شديدة هدت حيطانها وسقفها على أهلها فماتوا تحتها، ولم ينج منهم إلا قليل، ووقع في هذا الحديث دابة الأرض قبل يأجوج ومأجوج وليس كذلك، فإن أول الآيات ظهور الدجال، ثم نزول عيسى عليه السلام، ثم خروج يأجوج ومأجوج، فإذا قتلهم الله بالنغف في أعناقهم على ما يأتي، وقبض الله تعالى نبيه عيسى عليه السلام، وخلت الأرض منا، وتطاولت الأيام على الناس، وذهب معظم دين الإسلام أخذ الناس في الرجوع إلى عاداتهم وأحدثوا الأحداث من الكفر والفسوق، كما أحدثوه بعد كل قائم نصبه الله تعالى بينه وبينهم حجة عليهم ثم قبضه، فيخرج الله تعالى لهم دابة من الأرض فتميز المؤمن من الكافر ليرتدع بذلك الكفار عن كفرهم والفساق عن فسقهم ويستبصروا وينزعوا عما هم فيه من الفسوق والعصيان، ثم تغيب الدابة عنهم ويمهلون، فإذا أصروا على طغيانهم طلعت الشمس من مغربها ولم يقبل ببعد ذلك لكافر ولا فاسق توبة وأزيل الخطاب والتكليف عنهم، ثم كان قيام الساعة

على أثر ذلك قريباً لأن الله تعالى يقول: {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون} فإذا قطع عنهم التعبد لم يقرهم بعد ذلك في الأرض زماناً طويلاً. هكذا ذكره بعض العلماء. وأما الدخان: فروي «من حديث حذيفة عن النبي صلى الله عليه وسلم إن من أشراط الساعة دخاناً يملأ ما بين المشرق والمغرب يمكث في الأرض أربعين يوماً» . فأما المؤمن: فيصيبه منه شبه الزكام. وأما الكافر: فيكون بمنزلة السكران يخرج الدخان من أنفه ومنخريه وعينيه وأذنيه ودبره وقيل: هذا الدخان من آثار جهنم يوم القيامة. وروي هذا عن علي وابن عمر وأبي هريرة وابن عباس وابن أبي مليكة والحسن وهو معنى قوله تعالى {فارتقب يوم تأتي السماء بدخان مبين} . وقال ابن مسعود في هذه الآية: إنه ما أصاب قريشاً من القحط والجهد حتى جعل الرجل يرى بينه وبين السماء كهيأة الدخان من الجهد حتى أكلوا العظام،

وقد مضت البطشة والدخان واللزام، والحديث عنه بهذا في كتابي مسلم والبخاري وغيرهما، وقد فسر البطشة بأنها وقعة بدر. قال أبو الخطاب ابن دحية: والذي يقتضيه النظر الصحيح حمل ذلك على قضيتين: إحدهما وقعت وكانت الأخرى ستقع وستكون، فأما التي كانت فالتي كانوا يرون فيها كهيأة دخان وهي الدخان غير الدخان الحقيقي الذي يكون عند ظهور آيات التي هي من الأشراط والعلامات، ولا يمتنع إذا ظهرت هذه العلامة أن يقولوا {ربنا اكشف عنا العذاب إنا مؤمنون} فيكشف عنهم ثم يعودون لقرب الساعة، وقول ابن مسعود لم يسنده إلى النبي صلى الله عليه وسلم إنما هو من تفسيره، وقد جاء النص عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بخلافه. قال المؤلف رحمه الله: قد روي عن ابن مسعود أنهما دخانان. قال مجاهد:

كان ابن مسعود يقول: هما دخانان قد مضى أحدهما والذي بقي يملأ ما بين السماء والأرض ولا يجد المؤمن منه إلا كالزكمة، وأما الكافر فتثقب مسامعه فتبعث مسامعه فتبعث عند ذلك الريح الجنوب من اليمن فتقبض روح كل مؤمن ومؤمنة ويبقى شرار الناس. واختلف في البطشة واللزام فقال أبي: هو القتل بالسيف يوم بدر. وإليه نجا ابن مسعود وهو قول أكثر الناس، وعلى هذا تكون البطشة واللزام شيئاً واحداً قال ابن مسعود: البطشة الكبرى وقعة بدر. وقيل: هي يوم القيامة وأصل البطش الأخذ بشدة وقع الألم. واللزام في اللغة: الفصل في القضية. وفسره ابن مسعود بأن ذلك كان يوم بدر وهو البطشة الكبرى في قوله أيضاً. وقيل: إن اللزام هو المذكور في قوله تعالى {فسوف يكون لزاماً} وهو العذاب الدائم. وأما الدجال فيأتي ذكره في أبواب أخرى، وأما الدابة فهي التي قال الله تعالى {وإذا وقع القول عليهم أخرجنا لهم دابة من الأرض تكلمهم} . وذكر أهل التفسير أنه خلق عظيم يخرج من صدع من الصفا لا يفوتها أحد، فتسم المؤمن فتنير وجهه ويكتب بين عينيه كافر.

وروي عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن هذه الدابة هي الجساسة على ما يأتي ذكره في خبر الدجال، وروي عن ابن عباس أنها الثعبان الذي كان يبئر الكعبة فاختطفه العقاب. وسيأتي بيانه. وأما قوله: وآخر ذلك نار تخرج من اليمن، وفي الرواية الأخرى من قعر عدن. وفي الرواية الأخرى من أرض الحجاز قال القاضي عياض، فلعلهما ناران تجتمعان لحشر الناس أو يكون ابتداء خروجهما من اليمن فظهورهما من الحجاز. قلت: أما النار التي تخرج من أرض الحجاز فقد خرجت على ما تقدم القول فيها، وبقيت النار التي تسوق الناس إلى المحشر وهي التي تخرج من اليمن وقد مضى القول في الحشر، ويأتي القول في طلوع الشمس من مغربها. فأما قوله الله تعالى: {اقتربت الساعة وانشق القمر} فقد روي أن أهل مكة سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم آية فأراهم القمر منشقاً نصفين والجبل بينهما فقال اشهدوا. ثبت في الصحيحين وغيرهما.

باب ما جاء أن الآيات بعد المائتين

ومن العلماء مكن قال: إنه ينشق كقوله تعالى {أتى أمر الله} أي يأتي. قال الحليمي أبو عبد الله في كتاب منهاج الدين له: فإن كان هذا فقد أتى ورأيت ببخاري الهلال وهو ابن ليلتين منشقاً نصفين عرض كل واحد منهما كعرض القمر ليلة أربع أو خمس، وما زلت أنظر إليهما حتى اتصلا كما كانا، ولكنهما في شكل واحد شكل أترجة، ولم أمل طرفي عنهما إلى أن غابت وكان معي ليلتئذ كتيبة من شريف وفقيه وغيرهما من طبقات الناس وكلهم رأى ما رأيت، وأخبرني من وثقت به أنه رأى الهلال وهو ابن ثلاث منشقاً نصفين: قال الحليمي: فقد ظهر أن قول الله {وانشق القمر} إنما خرج على الانشقاق الذي هو من أشراط الساعة دون الانشقاق الذي جعله الله آية لرسوله صلى الله عليه وسلم. باب ما جاء أن الآيات بعد المائتين ابن ماجه «عن أبي قتادة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الآيات بعد المائتين» . «وعن زيد الرقاشي عن أنس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أمتي على خمس طبقات فأربعون سنة أهل بر وتقوى، ثم الذين يلونهم إلى عشرين ومائة سنة أهل تراحم وتواصل، تم الذين يلونهم إلى ستين ومائة أهل تدابر وتقاطع، ثم الهرج الهرج النجا النجا» .

باب ما جاء فيمن يخسف به أو يمسخ

وفي رواية «عن أبي معن عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أمتي على خمس طبقات كل طبقة أربعون عاماً، فأما طبقتي وطبقة أصحابي فأهل علم وإيمان، وأما الطبقة الثانية ما بين الأربعين إلى الثمانين فأهل بر وتقوى» ثم ذكر نحوه. باب ما جاء فيمن يخسف به أو يمسخ أبو داود «عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: يا أنس إن الناس يمصرون أمصاراً وإن مصراً منها يقال لها البصرة أو البصيرة، فإن أنت مررت بها أو دخلتها فإياك وسباخها وكلأها وسوقها وباب أمرائها وعليك بضواحيها، فإنه يكون بها خسف ورجف، وقوم يبيتون فيصبحون قردة وخنازير» . وخرج ابن ماجه «عن نافع أن رجلاً أتى ابن عمر فقال: إن فلاناً يقرأ عليك السلام فقال له: بلغني أنه قد أحدث فإن كان أحدث فلان فلا تقرئه السلام،

باب ـ ذكر الدجال وصفته ونعته

فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: يكون في أمتي أو في هذه الأمة خسف مسخ وقذف ونحوه» . عن سهل بن سعد وقد تقدمت الأخبار والأحاديث في خسف الجيش الذي يقصد مكة لقتال المهدي. خرجهما مسلم وغيره. وكذلك تقدم حديث البخاري وغيره في باب إذا فعلت هذه الأمة خمس عشرة خصلة، وذكر الثعالبي في تفسيره من حديث جرير بن عبد الله البجلي قال سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «تبنى مدينة بين دجلة ودجيل وقطربل والسراة يجتمع فيها جبابرة الأرض تجبي إليها الخزائن ويخسف بها. وفي رواية: يخسف بأهلها فلهي أسرع ذهاباً في الأرض من الوتد الجيد في الأرض الرخوة يقال إنها بغداد» وقد تقدم والله أعلم. باب ـ ذكر الدجال وصفته ونعته ذكر الدجال وصفته ونعته ومن أين يخرج وما علامة خروجه وما معه إذا خرج وما ينجى منه وأنه يبرئ الأكمه والأبرص ويحيى الموتى. قال ابن دحية قال العلماء: الدجال في اللغة يطلق على عشرة وجوه: الأول: أن الدجال الكذاب قاله الخليل وغيره وأنها دجلة بسكون الخيم، ودجلة بفتحها كذبة لأنه يدجل الحق بالباطل، وجمعه دجالون ودجاجلة في التكسير وقد تقدم.

الوجه الثاني: أن الدجال مأخوذ من الدجل، وهو طلاء البعير بالقطران سمي بذلك لأنه يغطي الحق ويستره بسحره وكذبه، كما يغطي الرجل جرب بعيره بالدجالة وهي القطران يهنأ به البعير واسمه إذا فعل به ذلك المدجل قاله الأصمعي. الوجه الثالث: إنما سمي بذلك لضربه في نواحيه الأرض وقطعه لها يقال: دجل الرجل إذا فعل ذلك. الوجه الرابع: أنه من التغطية لأنه يغطي الأرض بمجموعه، والدجل التغطية. قال دريد: كل شيء غطيته فقد دجلته ومنه سميت دجلة لانتشارها على الأرض وتغطية ما فاضت عليه. الوجه الخامس: سمي دجالاً لقطعه الأرض إذ يطأ جميع البلاد إلا مكة والمدينة. والدجالة الدفقة العظيمة. وأنشد ابن فارس في المجمل: دجالة من أعظم الرقاق. الوجه السادس: سمي دجالاً، لأنه يغر الناس بشره كما يقال لطخني فلان بشره. الوجه السابع: الدجال: المخرق. الوجه الثامن: الدجال: المموه قاله ثعلب ويقال سيف مدجل إذ كان قد طلى بالذهب. الوجه التاسع: الدجال: ماء الذهب الذي يطلى به الشيء فيحسن باطله وداخله خزف أو عود سمي الدجال بذلك لأنه يحسن الباطل. الوجه العاشر: الدجال: فرند السيف، والفرند جوهر السيف وماؤه ويقال بالفاء والباء إذ أصله عين صافية على ما تنلطق به العجم، فعربته العرب، ولذلك

قال سبيويه وهو عندهم خارج عن أمثله العرب. والفرند أيضاً الحرير. وأنشد ثعلب: بحلية الياقوت والفرندا ... مع الملاب وعبير أصردا أي خالصاً. قال ابن الأعرابي يقال للزعفران الشعر والملاب والعبير والمردقوش والحشاد. ذكر هذه الأقوال العشرة الحافظ أبو الخطاب بن دحية رحمه الله في كتاب مرج البحرين في فوائد المشرقين والمغربين. مسلم «عن أبي الدرداء رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: من حفظ عشر آيات من أول سورة الكهف عصم من الدجال» وفي رواية: «من آخر سورة الكهف» . أبو بكر بن أبي شيبة، «عن الفلتان بن عاصم، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: أما مسيح الضلالة فرجل أجلى الجبهة ممسوح العين اليسرى عريض المنخر فيه الدفاء» قوله فيه: دفا أي انحناء. «و

عن حذيفة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الدجال أعور العين اليسرى جفال الشعر معه جنة ونار فناره جنة وجنته نار» وعنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «أنا أعلم بما مع الدجال منه. معه نهرنان يجريان أحدهما رأي العين ماء أبيض وأحدهم الآخر رأي العين نار تأجج، فأما أدركن أحد فليأت النهر الذي يراه ناراً وليغمض وليطأطئ رأسه فيشرب فإنه ماء بارد وأن الدجال ممسوخ العين عليها ظفرة غليظة مكتوب بين عينيه يقرؤه كل مؤمن كاتب وغير كاتب» . قال الحافظ أبو الخطاب بن دحية: كذا عند جماعة. رواه مسلم فإما أدركن قال ابن دحية: وهو وهم فإن لفظه هو لفظ الماضي ولم أسمع دخول نون التوكيد على لفظ الماضي إلا ها هنا، لأن هذه النون لا تدخل على الفعل وصوابه ما قيده العلماء في صحيح مسلم منهم التميمي أبو عبد الله: فإما أدركه أحد. «وعن عبد الله بن عمر: قال: ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً بين ظهراني الناس المسيح الدجال فقال: إن الله ليس بأعور ألا إن المسيح الدجال أعور العين اليمنى كأن عينه عنبة طافية» . قال: وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «أراني الليلة في المنام عند الكعبة فإذا رجل آدم كأحسن ما ترى من آدم الرجال تضرب لمته

بين منكبيه رجل الشعر يقطر رأسه ماء واضعاً يده على منكبي رجلين وهو يطوف بالبيت، فقلت: من هذا؟ فقالوا: هو المسيح بن مريم، ورأيت وراءه رجلاً جعداً قططاً أعور العين اليمنى كأشبه من رأيت من الناس بابن قطن واضعاً يديه على منكبي رجلين يطوف بالبيت فقلت من هذت قالوا هو المسيح الدجال» . أبو بكر بن أبي شيبة «عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: الدجال أعور مدهجان أقمر كأن رأسه غضنة شجرة أشبه الناس بعبد العزي بن قطن الخزاعي فإما أهلك هلك فإنه أعور وأن الله ليس بأعور.. أبو داود الطيالسي عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: أما مسيح فإنه أعور العين أجلي الجبهة عريض المنحر فيه اندفاء مثل قطن بن عبد العزي، فقال له الرجل: أيضر بي يا رسول الله صلى الله عليه وسلم شبهه؟ فقال: لا أنت مسلم هو كافر» . وخرج «عن أبي بن كعب قال ذكر الدجال عند النبي صلى الله عليه وسلم أو قال

ذكر النبي صلى الله عليه وسلم الدجال فقال: إحدى عينيه كأنها زجاجة خضراء وتعوذ بالله من عذاب القبر» . الترمذي، «عن أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الدجال ليخرج من أرض بالمشرق يقال لها خراسان يتبعه أفواج كأن وجوههم المجان المطرقة» إسناده صحيح. وذكر عبد الرزاق قال: «أخبرنا معمر بن عن أبي هانئ العبدي، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يتبع الدجال من أمتي سبعون ألفاً عليهم السيجان والسيجان جمع الساج وهو طيلسان أخضر» . وقال الأزهري هو المطيليل المقور بنسج كذلك. الطبراني، «عن قتادة، عن شهر بن حوشب، عن أسماء بنت يزيد أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر عنده الدجال فقال: إن قبل خروجه ثلاث أعوام تمسك السماء في العام الأول ثلث قطرها والأرض ثلث نباتها، والعام الثاني تمسك السماء ثلثي قطرها والأرض ثلثي نباتها، والعام الثالث تمسك السماء قطرها والأرض نباتها حتى لا يبقى ذات ضرس ولا ذات ظلف إلا مات» وذكر الحديث. خرجه أبو داود الطيالسي قال: حدثنا هشام عن قتادة عن شهر بن حوشب عن أسماء وعبد الرزاق عن معمر عن قتادة عن شهر بن حوشب عن أسماء. وأخرجه ابن ماجه من حديث أبي أمامة،

وفي بعض الروايات بعد قوله: وفي السنة الثالثة يمسك الله المطر وجميع النبات فما ينزل من السماء قطرة ولا تنبت الأرض خضرة ولا نباتاً، حتى تكون الأرض كالنحاس والسماء كالزجاج، فيبقى الناس يموتون جوعاً وجهداً، وتكثر الفتن والهرج، ويقتل الناس بعضهم بعضاً، ويخرج الناس بأنفسهم ويستولي البلاء على أهل الأرض، فعند ذلك يخرج الملعون الدجال من ناحية أصبهان من قرية يقال لها اليهودية وهو راكب حماراً أبتر يشبه البغل ما بين أذني حماره أربعون ذراعاً ومن نعت الدجال: أنه عظيم الخلقة طويل القامة جسيم أجعد قطط أعور العين اليمنى كأنها لم تخلق، وعينه الأخرى ممزوجة بالدم وبين عينيه مكتوب: كافر يقرؤه كل مؤمن بالله فإذا خرج يصيح ثلاث صيحات ليسمع أهل المشرق والمغرب. ويروى أنه إذا كان في آخر الزمان تخرج من البحر امرأة ذات حسن وجمال بارع، فتدعو الناس إلى نفسها وتخترق البلاد فكل من أتاها كفر بالله، فعند ذلك يخرج الله عليكم الدجال، ومن علامة خروجه فتح القسطنطينية لأن الخبر ورد أن بين خروجه وفتح القسطنطينية سبعة أشهر وقد تقدم هذا. وذكر أبو داود الطيالسي قال: «حدثنا الحشرج بن نباتة قال:

حدثنا سعيد ابن جمهان عن سفينة قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إنه لم يكن نبي إلا وقد أنذر أمته الدجال. ألا وإنه أعور العين بالشمال وباليمين ظفرة غليظة. بين عينيه كافر يعني مكتوب كافر يخرج معه واديان أحدهما جنة والآخر نار، فناره جنة وجنته نار فيقول الدجال للناس: ألست بربكم أحيي وأميت ومعه ملكان يشبهان نبيين من الأنبياء إني لأعرف اسمهما واسم آبائهما لو شئت أن أسميهما سميتهما أحدهما عن يمينه والآخر عن شماله فيقول: ألست بربكم أحيي وأميت؟ فيقول أحدهما: كذبت فلا يسمعه من الناس أحد إلا صاحبه، ويقول الآخر: صدقت وذلك فتنة ثم يسير حتى يأتي المدينة فيقول هذه قرية ذاك الرجل فلا يؤذن له أن يدخلها، ثم يسير حتى يأتي الشام فيهلكه الله عند عقبة أفيق» . وخرجه أبو القاسم عبد الله بن محمد بن عبد العزيز البغوي في الجزء العاشر من مختصر المعجم له بمعناه فقال: «حدثنا محمد بن عبد الوهاب قال: حدثنا حشرج عن سعيد ابن جمهان عن سفينة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنه لم يكن نبي قبل إلا وقد حذر أمته من الدجال إنه أعور عينه اليسرى بعينه اليمنى ظفرة غليظة مكتوب بين عينيه كافر يقرؤه كل مؤمن بالله معه واديان: أحدهما جنة والآخر نار، ومعه ملكان يشبهان نبين من الأنبياء، ولو شئت سميتهما بأسماء وأسماء آبائهما، أحدهما عن يمينه والآخر عن شماله فيقول الدجال: ألست بربكم أحيي وأميت فيقول أحد الملكين: كذبت فلا يسمعه أحد من الناس إلا

صاحبه، فيقول له صدقت، فيسمعه الناس فيظنون أنه صدق الدجال فذلك فتنة ثم يسير الدجال حتى يأتي المدينة فلا يؤذن له فيقول هذه قرية ذلك الرجل، ثم يسير حتى يأتي الشام فيهلكه الله عند عقبة افيق» . قال ابن برجان في كتاب الإرشاد له: والذي يغلب على ظني أن النبيين المشبه بها أحدهما المسيح ابن مريم والآخر محمد صلى الله عليه وسلم، ولذلك ما أنذرا بذلك ووصيا. وخرج أبو داود في سننه، «عن عبادة بن الصامت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إني كنت حدثتكم عن المسيح الدجال حتى خشيت أن لا تعقلوا أن المسيح الدجال قصير أفحج جعد أعور مطموس العين ليست بناتئة ولا حجراء فإن التبس عليكم فاعلموا أن ربكم عز وجل ليس بأعور» . فصل وصف النبي صلى الله عليه وسلم الدجال وصفاً لم يبق معه لذي لب إشكال ولتك الأوصاف كلها ذميمة تبين لكل ذي حاسة سليمة، لكن من قضى الله عليه بالشقاوة تبع الدجال فيما يدعيه من الكذب والغباوة وحرم اتباع الحق ونور التلاوة، فقوله عليه الصلاة والسلام «إنه أعور وأن الله ليس بأعور» تبيين للعقول القاصرة أو الغافلة على أن من كان ناقصاً في ذاته عاجزاً عن إزالة نقصه لم يصلح أن يكون إلها لعجزه وضعفه، ومن كان عاجزاً عن إزالة نقصه كان أعجز عن نفع

غيره وعن مضرته. وجاء في حديث حذيفة: أعور العين اليسرى، وفي حديث ابن عمر: أعور العين اليمنى، وقد أشكل الجمع بين الحديثين على كثير من العلماء، قال: وحتى إن أبا عمر بن عبد البر، ذكر ذلك في كتاب التمهيد له. وفي حديث «سمرة بن جندب أن نبي الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: إن الدجال خارج وهو أعور العين الشمال عليها ظفرة غليظة وأنه يبرئ الأكمه والأبرص ويحيىالموتى ويقول للناس: أنا ربكم فمن قال: أنت ربي فقد فتن ومن قال: ربي الله عز وجل حتى يموت على ذلك فقد عصم من فتنته، ولا فتنة عليه ولا عذاب فيلبث في الأرض ما شاء، ثم يجيء عيسى عليه السلام من قبل المغرب مصدقاً بمحمد صلى الله عليه وسلم وعلىملته فيقتل الدجال ثم إنما هو قيام الساعة» . قال أبو عمر بن عبد البر ففي هذا الحديث أعور العين الشمال، وفي حديث مالك: أعور العين اليمنى. فالله أعلم. وحديث مالك أصح من جهةالإسناد لم يزد على هذا. قال أبو الخطاب بن دحية ليس كما قال بل الطرق كلها صحيحة في العينين وقال شيخنا أحمد بن عمر في كتاب المفهم له: وهذا اختلاف يصعب الجمع فيه بينهما، وقد تكلف القاضي عياض الجمع بينهما

فقال: الجمع بين الروايتين عندي صحيح وهو أن كل واحدة منهما عوراء من وجه ما إذ العور حقيقة في كل شيء العيب والكلمة. العوراء هي المعيبة فالواحدة عوراء بالحقيقة وهي التي وصفت بالحديث بأنها ليست بحجراء ولا ناتئة وممسوحة ومطموسة وطافية على رواية الهمز، والأخرى عوراء لعيبها اللازم لها لكونها جاحظة أو كأنها كوكب دري أو كأنها عنبة طافية بغير همز، وكل واحدة منهما يصح فيه الوصف بالعور بحقيقة العرف والاستعمال أو بمعنى العور الأصلي. قال شيخنا وحاصل كلامه: أن كل واحدة من عيني الدجال عوراء أحدهما بما أصاب حتى ذهب إدراكها، والثانية عوراء بأصل خلقتها معيبة، لكن يبعد هذا التأويل أن كل واحدة من عينيه قد جاء وصفها في الرواية بمثل ما وصفت به الأخرى من العور، فتأمله. قلت: ما قاله القاضي عياض وتأويله صحيح، وأن العور في العينين مختلف كما بيناه في الروايات، فإن قوله: كأنها لم تخلق هو معنى الرواية الأخرى مطموس العين ممسوخها ليست بناتئة ولا حجراء، ووصف الأخرى بالمزج بالدم وذلك عيب عظيم لا سيما مع وصفها بالظفرة الغليظة التي هي عليها وهي جلدة غليظة تغشى العين. وعلى هذا فقد يكون العور في العينين سواء، لأن الظفرة مع غلظها تمنع من الإدراك فلا تبصر شيئاً فيكون الدجال على هذا أعمى أو قريباً منه، إلا أنه جاء ذكر الظفرة في العين اليمنى في حديث سفينة وفي الشمال في حديث سمرة بن جندب.

فصل ـ الإيمان بالدجال وخروجه حق

وقد يحتمل أن يكون كل عين عليها ظفرة غليظة، فإن في حديث حذيفة: وإن الدجال ممسوخ العين عليها ظفرة غليظة وإذا كانت الممسوخة المطموسة عليها ظفرة فالتي ليست كذلك أولى فتتفق الأحاديث، والله أعلم. وقيل في الظفرة: إنها لحمة تنبت عند المآقي كالعلقة، وقيده بعض الرواة بضم الظاء وسكون الفاء وليس بشيء قاله ابن دحية رحمه الله. فصل ـ الإيمان بالدجال وخروجه حق الإيمان بالدجال وخروجه حق، وهذا مذهب أهل السنة وعامة أهل الفقه والحديث خلافاً لمن أنكر أمره من الخوارج وبعض المعتزلة ووافقنا على إثباته بعض الجهنمية وغيرهم، لكن زعموا أن ما عنده مخارق وحيل قالوا لأنها لو كانت أموراً صحيحة لكان ذلك إلباساً الكاذب بالصادق، وحينئذ لا يكون الفرق بين النبي والمتنبي وهذا هذيان لا يلتفت إليه ولا يعرج عليه، فإن هذا إنما كان يلزم لو أن الدجال يدعي النبوة وليس كذلك فإنه إنما ادعى الإلهية، ولهذا قال عليه الصلاة والسلام: «إن الله ليس بأعور» تنبيهاً للعقول على فقره وحدثه ونقصه وإن كان عظيماً في خلقه، ثم قال: «مكتوب بين عينيه كافر يقرؤه كل مؤمن ومؤمنة كاتب أو غير كاتب» وهذا الأمر مشاهد للحس يشهد بكذبه وكفره. وقد تأول بعض الناس: مكتوب بين عينيه كافر فقال: معنىذلك ما ثبت من سمات حدثه وشواهد عجزه وظهور نقصه قال: ولو كان على ظاهره وحقيقته لاستوى في إدراك ذلك المؤمن والكافر. وهذا عدول وتحريف عن حقيقة الحديث من غير موجب لذلك، وما ذكره من لزوم المساواة بين المؤمن والكافر في قراءة ذلك لايلزم لأن الله تعالى يمنع الكافر من إدراكه

باب ما يمنع الدجال أن يدخله من البلاد إذ خرج

ليغتر باعتقاده التجسيم حتى يوردهم بذلك نار الجحيم. فالدجال فتنة ومحنة من نحو فتنة أهل المحشر بالصورة الهائلة التي تأتيهم فيقول لهم: أنا ربكم فيقول المؤمنون: نعوذ بالله منك. حسب ما تقدم لا سيما وذلك الزمان قد انخرقت فيه عوائد فليكن هذا منها، وقد نص على هذا بقوله: يقرؤه كل مؤمن كاتب وغير كاتب. وقراءة غير الكاتب خارقة للعادة. وأما الكافر فمصروف عن ذلك بغفلته وجهله وكما انصرف عن إدراك نقص عوره وشواهد عجزه، كذلك يصرف عن قراءة سطور كفره ورمزه. وأما الفرق بين النبي والمتنبي، فالمعجزة لا تظهر على يد المتنبي لأنه لزم منه انقلاب دليل الصدق دليل الكذب وهو محال. وقولهم: إن ما يأتي به الدجال حيل ومخاريق فقول معزول عن الحقائق لأن ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم من تلك الأمور حقائق والعقل لا يحيل شيئاً منها، فوجب إبقاؤها على حقائقها. وسيأتي تفصيلها بعون الله تعالى. باب ما يمنع الدجال أن يدخله من البلاد إذ خرج البخاري ومسلم «عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ليس من بلد إلا سيطؤه الدجال إلا مكة والمدينة» وذكر الحديث. وفي حديث فاطمة بنت قيس: «فلا أدع قرية إلا هبطتها في أربعين ليلة

باب منه وما جاء أنه إذا خرج يزعم أنه الله ويحصر المؤمنين في بيت المقدس

غير مكة وطيبة هما محرمتان علي كلتهاهما» الحديث وسيأتي. وذكر أبو جعفر الطبري من حديث عبد الله بن عمرو إلا الكعبة وبيت المقدس زاد أبو جعفر الطحاوي: ومسجد الطور. رواه من حديث جنادة بن أبي أمية عن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم. وفي بعض الروايات: فلا يبقى له موضع إلا ويأخذه غير مكة والمدينة وبيت المقدس وجبل الطور، فإن الملائكة تطرده عن هذه المواضع. باب منه وما جاء أنه إذا خرج يزعم أنه الله ويحصر المؤمنين في بيت المقدس أبو بكر بن أبي شيبة، «عن سمرة بن جندب عن النبي صلى الله عليه وسلم وذكر الدجال قال: وإنه متى يخرج فإنه يزعم أنه الله فمن آمن به واتبعه وصدقه فليس ينفعه صالح من عمل سلف، ومن كفر به وكذبه فليس يعاقب بشيء من

باب منه وفي عظم خلق الدجال وعظم فتنته وسبب خروجه وصفة حماره وسعة خطوه وفي حصره المسلمين في جبال الدخان وكم ينكث في الأرض وفي نزول عيسى عليه السلام وقت السحر لقتل الدجال ومن اتبعه

عمل سلف، وأنه سيظهر على الأرض كلها إلا الحزم وبيت المقدس وأنه يحصر المؤمنين في بيت المقدس» . قال: فيهزمه الله وجنوده حتى إذا جدر الحائط وأصل الشجرة ينادي: يا مؤمن هذا كافر يستتر بي فقال: اقتله. قال: ولن يكون قولك حتى تبدو أمور يتفاج شأنها في أنفسكم تتساءلون بينكم: هل كان نبيكم ذكر لكم منها ذكراً وحتى تزول جبال من مراتبها على أثر ذلك القبض. باب منه وفي عظم خلق الدجال وعظم فتنته وسبب خروجه وصفة حماره وسعة خطوه وفي حصره المسلمين في جبال الدخان وكم ينكث في الأرض وفي نزول عيسى عليه السلام وقت السحر لقتل الدجال ومن اتبعه مسلم «عن عمران بن حصين قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ما بين خلق آدم إلى قيام الساعة خلق أكبر من الدجال» وفي رواية: «امرؤ بدل خلق» . وفي حديث تميم الداري قال: فانطلقنا سراعاً حتى دخلنا الدير فإذا أعظم إنسان رأيناه قط خلقاً وأشده وثاقاً، الحديث وسيأتي. وعن ابن عمر أنه لقى ابن صياد في بعض طرق المدينة فقال قولاً أغضبه فانتفخ حتى ملأ السكة، فدخل ابن عمر على حفصة وقد بلغها

فقالت: يرحمك الله ما أردت من ابن صياد أما علمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إنما يخرج من غضبة يغضبها» وسيأتي من أخبار ابن صياد ما يدل عليه أنه هو الدجال إن شاء الله تعالى وذكر قاسم بن أصبغ. وخرجه الإمام أحمد بن حنبل في مسنده قال: «حدثنا محمد بن سابق، حدثنا إبراهيم بن طهيمان عن أبي الزبير عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يخرج الدجال في خفقة من الدين وإدبار من العلم أي قلة من أهله. وله أربعون ليلة يسيحها في الأرض اليوم منها كالسنة واليوم منها كالشهر واليوم منها كالجمعة، ثم سائر أيامه كأيامكم هذه وله حمار يركبه عرض ما بين أذنيه أربعون ذراعاً فيقول للناس: أنا ربكم وهو أعور وإن ربكم ليس بأعور مكتوب بين عينيه: كافر يقرؤه كل مؤمن كاتب وغير كاتب يرد كل ماء ومنهل إلا المدينة ومكة حرمهما الله تعالى عليه وقامت الملائكة بأوابهما ومعه جبال من خبز والناس في جهد إلامن اتبعه، ومعه نهران أنا أعلم بهما منه نهر يقول له: الجنة ونهر يقول له: النار فمن أدخل الذي يسميه الجنة فهي النار، ومن أدخل الذي يسميه النار فهي الجنة قال: وتيعث معه شياطين تكلم الناس ومعه فتنة عظيمة بأمر السماء فتمطر فيما يرى الناس ويقتل نفساً ثم

يحييها فيما يرى الناس فيقول للناس: أيها الناس هل يفعل مثل هذا إلا الرب فيفر الناس إلى جبل الدخان وهو بالشام، فيأتيهم فيحاصرهم فيشتد حصارهم ويجهدهم جهداً شديداً، ثم ينزل عيسى عليه السلام فيأتي في السحر فيقول: يا أيها الناس ما يمنعكم أن تخرجوا إلى الكذاب الخبيث فيقولون: هذا رجل فينطلقون فإذا هم بعيسى بن مريم عليهما السلام فيقام للصلاة فيقال له: تقدم يا روح الله فيقول: ليتفضل إمامكم فليصل بكم فإذا صلوا صلاة الصبح خرجوا إليه فحين يراه الكذاب ينماث كما ينماث الملح في الماء فيقتله حتى إن الشجر والحجر ينادي: يا روح الله هذا يهودي فلا يترك ممن كان يتبعه أحداً إلا قتله» . قوله: ينماث كما ينماث الملح في الماء أي يذهب وينحل ويتلاشى. وفي بعض الروايات: وذكر أن حماره حين يخطو من خطوة إلى خطوة ميل ولا يبقى له سهل ولا وغز إلا يطؤه ولا يبقى موضع إلا يأخذه غير مكة والمدينة حسبما تقدم ويأتي الكلام أبو حنيفة في حكم أيامه. وذكر عبد الرزاق قال: «أخبرنا معمر عن ابن خيثم، عن شهر بن حوشب عن أسماء بنت يزيد الأنصارية قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يمكث الدجال في الأرض أربعين سنة السنة كالشهر والشهر كالجمعة والجمعة كاليوم واليوم كالساعة والساعة كاضطرام السعفة في النار» والصحيح أنه يمكث أربعين يوماً كما في حديث جابر، وكذلك في صحيح مسلم على ما يأتي في الكتاب بعد هذا.

باب منه آخر في خروج الدجال وما يجيء به من الفتن والشبهات وسرعة سيره في الأرض وكم يلبث فيها، وفي نزول عيسى عليه السلام ونعته كم يكون في الأرض يومئذ من الصلحاء وفي قتله الدجال واليهود وخروج يأجوج ومأجوج وموتهم، وفي حج عيسى وتزويجه ومكثه في ا

باب منه آخر في خروج الدجال وما يجيء به من الفتن والشبهات وسرعة سيره في الأرض وكم يلبث فيها، وفي نزول عيسى عليه السلام ونعته كم يكون في الأرض يومئذ من الصلحاء وفي قتله الدجال واليهود وخروج يأجوج ومأجوج وموتهم، وفي حج عيسى وتزويجه ومكثه في الأرض وأين يدفن إذامات صلى الله عليه وسلم وقد تقدم من حديث حذيفة رضي الله عنه أن له جنة وناراً فجنته نار وناره جنة. أبو داود «عن عمران بن حصين قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من سمع بالدجال فلينأ عنه فوالله إن الرجل ليأتيه وهو يحسب أنه مؤمن فيتبعه مما يبعث به من الشبهات أو لما يبعث به من الشبهات» . مسلم «عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يخرج الدجال فيتوجه قبل رجال من المؤمنين فتلقاه المسالح مسالح الدجال فيقولون له: أين تعمد فيقول: أعمد إلى هذا الرجل الذي خرج فيقولون له: أو ما تؤمن بربنا فيقول ما بربنا حقاً، فيقولون: اقتلوه فيقول بعضهم لبعض أليس ربكم قد نهاكم أن تقتلوا أحداً دونه؟ قال: فينطلقون به

إلى الدجال فإذا رآه المؤمن قال: يا أيها الناس هذا الدجال الذي ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: فيأمر به الدجال فيشج فيقول: خذوه وشجوه فيوجع ظهره وبطنه ضرباً قال: فيقول: أما تؤمن بي؟ فيقول: أنت المسيح الكذب فيؤمر به فينشر بالمنشار من مفرقه حتى يفرق بين رجليه قال: ثم يمشي بين القطعتين ثم يقول قم فيستوي قائماً فيقول له: أتؤمن بي؟ فيقول: ما ازددت فيك إلا بصيرة، ثم يقول: يا أيها الناس إنه يفعل بعدي بأحد من الناس قال: فيأخذه الدجال ليذبحه فيجعل ما بين رقبته إلى ترقوته نحاساً فلا يستطيع إليه سبيلاً، قال: فيأخذ بيديه ورجليه فيقذف به فيحسب الناس أنه إنما قذف به في النار وإنما ألقي به في الجنة» . قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «هذا أعظم الناس شهادة عند رب العالمين» . قال أبو إسحاق السبيعي يقال: إن هذا الرجل هو الخضر وفي رواية: قال «يأتي وهو محرم عليه أن يدخل المدينة فينتهي إلى بعض السباخ التي تلي المدينة فيخرج إليه رجل هو خير الناس أو من خير الناس فيقول: أشهد أنك الدجال الذي حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثه فيقول الدجال: أرأيتم إن قتلت هذا أتشكون في الأمر؟ فيقولون: لا. قال: فيقتله ثم يحييه فيقول حين يحييه: والله ما كنت فيك قط أشد بصيرة مني الآن

قال: فيريد الدجال أن يقتله فلا يسلطه الله عليه» . خرجه البخاري. «وعن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ليس من بلد إلاسيطؤه الدجال إلا مكة والمدينة وليس نقب من أنقابها إلا عليها الملائكة صافين يحرسونها فينزل بالسبخة فترجف ثلاث رجفات يخرج إليه كل كافر ومنافق» وفي رواية: كل منافق ومنافقة خرجه البخاري. «وعن النواس بن سمعان الكلابي قال: ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم الدجال ذات غداة فخفض فيه ورفع حتى ظنناه في طائفة النخل فقال: ما غير الدجال أخوفني عليكم أن يخرج وأنا منكم فأنا حجيجه دونكم، وإن يخرج ولست فيكم فامرؤ حجيج نفسه والله خليفتي على كل مسلم. إنه شاب قطط عيناه طافية كأني أشبهه بعبد العزى بن قطن فمن أدركه منكم فلقرأ عليه سورة الكهف إنه خارج حلة بين الشام والعراق فعاث يميناً وشمالاً يا عباد الله فاثبتوا قلنا: يا رسول الله وما لبثه في الأرض؟ قال: أربعون يوماً يوم كسنة ويوم كشهر ويوم كجمعة وسائر أيامه كأيامكم فقلنا: يا رسول الله فذلك اليوم الذي كسنة أتكفينا فيه صلاة يوم؟ قال: لا اقدروا له قدره. قلنا: يا رسول الله وما إسراعه في الأرض؟ قال: كالغيث استدبرته الريح فيأتي على القوم فيدعوهم فيؤمنون به ويستجيبون له قال: فيأمر السماء فتمطر والأرض فتنبت وتروح عليهم سارحتهم أطول ما كانت ذرا وأسبغة ضروعاً وأمده خواصر ثم يأتي القوم فيدعوهم فيردون عليه قوله فينصرف

عنهم فيصبحون ممحلين ليس بأيديهم شيء من أموالهم ويمر بالخربة فيقول لها: أخرجي كنوزك فتتبعه كنوزها كيعاسيب النحل، ثم يدعو رجلاً ممتلئاً شباباً فيضربه بالسيف فيقطعه جزلتين رمية الغرض ثم يدعوه فيقبل ستهلل وجهه يضحك، فبينا هو كذلك إذ بعث الله المسيح ابن مريم، فنزل عند المنارة البيضاء شرقي دمشق بين مهرودتين واضعاً كفيه على أجنحة ملكين إذا طأطأ رأسه قطر وإذا رفعه تحدر منه جمان كاللؤلؤ فلا يحل بكافر يجد نفسه إلا مات ونفسه ينتهي حيث ينتهي طرفه فيطلبه حتى يدركه بباب لد فيقتله، ثم يأتي عيسى عليه السلام قوم قد عصمهم الله منه فيمسح على وجوههم ويحدثهم بدرجاتهم في الجنة، فبينما هو كذلك إذ أوحى الله إلى عيسى عليه السلام إني قد أخرجت عباداً لي لا يدان لأحد يقاتلهم فحرز عبادي إلى الطور، ويبعث الله يأجوج ومأجوج {وهم من كل حدب ينسلون} فيمر أوائلهم على بحيرة طبرية فيشربون ما فيها ويمر آخرهم فيقولون لقد كان بهذه مرة ماء ويحضر نبي الله عيسى وأصحابه حتى يكون رأس الثور لأحدهم خيراً من مائة دينار لأحدكم اليوم، فيرغب نبي الله عيسى وأصحابه فيرسل الله النغف في رقابهم فيصبحون فرسى كموت نفس واحدة، ثم يهبط نبي الله عيسى وأصحابه إلى الأرض فلا يجدون موضع شبر إلا ملأه زهمهم ونتنهم فيرغب عيسى وأصحابه، فيرسل الله طيراً كأعناق البخت فتحملهم فتطرحهم حيث شاء الله، ثم يرسل الله مطراً لا يكون منه بيت مدر ولا وبر فيغسل الأرض حتى يتركها كالزلقة ثم يقال للأرض: أنبتي ثمرتك وردي بركتك فيومئذ تأكل العصابة من الرمانة ويستظلون بقحفها. ويبارك الله في الرسل أي اللبن حتى

إن اللقحة من الإبل لتكفي الفئام من الناس، واللقحة من البقر لتكفي القبيلة من الناس، واللقحة من الغنم لتكفي الفخذ من الناس، فبينما هم كذلك إذ بعث الله ريحاً طيباً فتأخذ بهم تحت آباطهم فيقبض روح كل مؤمن وكل مسلم ويبقى شرار الناس يتهارجون فيها كتهارج الحمر، فعليهم تقوم الساعة. زاد في أخرى بعد قوله مرة ماء ثم يسيرون حتى ينتهوا إلى جبل الخمر وهو جبل بيت المقدس فيقولون: لقد قتلنا من في الأرض فلنقتل من في السماء فيرمون بنشابهم إلى السماء فيرد الله عليهم نشابهم مخضوبة دماً» أخرجه الترمذي في جامعه. وذكر رمى يأجوج ومأجوج بنشابهم متصلة بالحديث. فقال: ثم يسيرون حتى ينتهوا إلى جبل بيت المقدس فيقولون: لقد قتلنا من الأرض فهلم فلنقتل من في السماء فيرمون بنشابهم إلى السماء فيرد الله عليهم نشابهم محمراً دماً ويحاصر عيسى بن مريم الحديث. وقال بدل قوله: فيطرحهم حيث شاء الله قال: فتحملهم فتطرحهم بالنهبل قال: ويستوقد المسلمون من قسيهم ونشابهم سبع سنين قال: ويرسل الله عليهم مطراً. الحديث إلى آخره في غير الترمذي فيطرحهم في المهيل والمهيل البحر الذي عند مطلع الشمس.

وخرجه ابن ماجه في سننه أيضاً، كما خرجه مسلم ولم يذكر الزيادة التي ذكرها مسلم متصلة ولا الترمذي متصلة من حديث النواس بن سمعان، وإنما ذكرها من حديث أبي سعيد الخدري، وسيأتي. وذكر ما ذكره الترمذي، فقال «حدثنا هشام بن عمار قال: حدثنا يحيى بن حمزة قال: حدثنا ابن جابر عن يحيى بن جابر الطائي قال: حدثنا عبد الرحمن بن جبير بن نفير، عن أبيه أنه سمع النواس بن سمعان يقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يستوقد المسلمون من قسي يأجوج ومأجوج ونشابهم وأترستهم سبع سنين» . قال: «وحدثنا علي بن محمد قال: حدثنا عبد الرحمن المجاربي، عن إسماعيل بن رافع أبي رافع، عن ابي عمر الشيباني زرعة عن أبي أمامة الباهلي قال خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان أكثر خطبته حديثاً حدثناه عن الدجال وحذرناه وكان من قوله أن قال: إنه لم يكن فتنة في الأرض منذ ذرأ الله تعالى آدم صلى الله عليه وسلم أعظم من فتنة الدجال، وإن الله عز وجل لم يبعث نبياً إلا حذر أمته الدجال، وأنا آخر الأنبياء وأنتم آخر الأمم وهو خارج فيكم لا محالة، فإن يخرج وأنا بين ظهرانيكم فأنا حجيج كل مسلم، وإن يخرج من بعدي فكل حجيج نفسه والله خليفتي على كل مسلم وإنه يخرج من حلة بين الشام

والعراق، فيعبث يميناً ويعبث شمالاً. يا عباد الله أيها الناس فاثبتوا فإن سأصفه لكم صفة لم يصفها إياه نبي قبلي إنه يبدو فيقول: أنا نبي الله. ولا نبي بعدي ثم يثني فيقول: أنا ربكم. ولا ترون ربكم حتى تموتوا وإنه أعور وإن ربكم ليس بأعور وأنه مكتوب بين عينيه: كافر يقرؤه كل مؤمن من كاتب وغير كاتب، وإن من فتنته أن معه جنةً وناراً، فمن ابتلي بناره فليستعذ بالله وليقرأ فواتح الكهف فتكون عليه برداً وسلاماً كما كانت النار على إبراهيم، وإن فتنته أن يقول لأعرابي: أرأيت. إن أحييت لك أباك وأمك أتشهد أني ربك فيقول: نعم، فيمثل له شيطانان في صورة أبيه وأمه فيقولان: يا بني اتبعه فإنه ربك، وأن من فتنته أن يسلط على نفس واحدة فيقتلها فينشرها بالمنشار حتى يلقى نصفين ثم يقول: انظروا إلى عبدي فإني أبعثه الآن، ثم يزعم أنه له ربا غيري فيبعثه الله فيقول له الخبيث: من ربك؟ فيقول: رب الله وأنت عدو الله أنت الدجال والله ما كنت بعد أسد بصيرة بك مني اليوم» . قال أبو الحسن الطنافسي: «فحدثنا المحاربي قال: حدثنا عبد الله بن الوليد الرصافي، عن عطية، عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك الرجل أرفع أمتي درجة في الجنة» قال: قال أبو سعيد ما كنا نرى ذلك الرجل إلا عمر بن الخطاب حتى مضى لسبيله.

قال المحاربي: ثم رجعنا إلى حديث أبي رافع قال: وإن من فتننته أن يأمر السماء أن تمطر ويأمر الأرض أن تنبت فتنبت، وإن من فتنته أن يمر بالحي فيصدقوه فيأمر السماء أن تمطر فتمطر ويأمر الأرض أن تنبت فتنبت حتى تروح مواشيهم من بيوتهم ذلك أسمن ما كانت وأعظمه وأمده خواصر وأدره ضروعاً، وأنه لا يبقى شيء من الأرض إلا وطئه وظهر عليه إلا مكة والمدينة فإنه لا يأتي من نقب من أنقابها إلا لقيته الملائكة بالسيوف المصلتة حتى ينزل عند الظريب الأحمر عند منقطع السبخة، فترجف المدينة بأهلها ثلاث رجفات فلا بقى منافق ولا منافقة إلا خرج إليه، فينفي الخبث منها كما ينفي الكير خبث الحديد ويدعى ذلك اليوم يوم الخلاص. فقالت أم شريك بنت أبي العسكر: يا رسول الله فأين العرب؟ قال: «هم قليل وجلهم ببيت المقدس وإمامهم رجل صالح قد تقدم يصلي بهم الصبح إذ نزل عليهم عيسى بن مريم عليه السلام، فيرجع ذلك الإمام ينكص القهقرى ليتقدم عيسى يصلي بالناس فيضع عيسى عليه السلام يده على كتفه ثم يقول له: تقدم فصل فإنها لك أقيمت فيصلي بهم إمامهم فإذا انصرف قال عيسى عليه السلام افتحوا الباب فيفتح ووراءه الدجال ومعه سبعون ألف يهودي كلهم ذو سيف محلى وسلاح، فإذا نظر إليه الدجال ذاب كما يذوب الملح في الماء وانطلق هارباً، ويقول عيسى عليه السلام: إن لي فيك ضربة لن تسبقني بها فيدركه عند الباب اللد الشرقي فيضربه فيقتله فيهزم الله اليهود ولا يبقى شيء مما خلقه الله يتوارى به يهودي إلا أنطق الله ذلك الشيء ولا حجر ولا شجر ولا حائط ولا دابة إلا الغرقدة، فإنها من شجرهم لا تنطق إلا قال يا عبد الله المسلم هذا يهودي فتعال فاقتله» .

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «وإن من أيامه أربعون سنة السنة كنصف سنة والسنة كالشهر والشهر كالجمعة وآخر أيامه كالشررة يصبح أحدكم على باب المدينة فلا يبلغ بابها الآخر حتى يمسي» . فقيل: يا رسول الله: كيف نصلي في تلك الأيام القصار؟ قال: «تقدرون فيها الصلاة كما تقدرونها في هذه الأيام الطوال ثم صلوا» . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فيكون عيسى عليه السلام في أمتي حكماً وعدلاً وغماماً مقسطاً يدف الصلب ويذبح الخنزير ويضع الجزية ويترك الصدقة، فلا يسعى على شاة ولا بعير وترفع الشحناء والتباغض وترفع حمة كل ذات حمة حتى يدخل الوليد يده في الحية فلا تضره وتغز الوليدة الأسد فلا يضرها، ويكون الذئب في الغنم كأنه كلبها، وتملأ الأرض من السلم كما يملأ الإناء من الماء، وتكون الكلمة واحدة فلا يعبد إلا الله وتضع الحرب أوزارها، وتسلب قريش ملكها، وتكون الأرض كفاثور الفضة تنبت نباتها بعهد آدم عليه السلام، حتى يجتمع النفر على القطف من العنب فيشبعهم ويجتمع النفر على الرمانة فتشبعهم، ويكون الثور بكذا وكذا من المال وتكون الفرس بالدريهمات» . قيل يا رسول الله وما يرخص الفرس؟ قال: «لا يركب الحرب أبداً فقيل له: يا رسول الله وما يغلي الثور؟ قال: تحرث الأرض كلها وإن قبل خروج الدجال ثلاث سنوات شداد يصيب بها الناس جوع شديد يأمر الله السماء في السنة الأولى أن تحبس ثلث مطرها، ويأمر الأرض أن تحبس ثلث نباتها، ثم يأمر الله السماء في الثانية فتحبس ثلثي مطرها ويأمر الأرض فتحبس ثلثي نباتها، ثم يأمر الله السماء في السنة الثالثة فتحبس مطرها كله فلا تمطر قطرة ويأمر الأرض فتحبس نباتها فلا تنبت خضراً ولا يبقى ذات ظلف ولا ذات ضرس إلا

هلكت إلا ما شاء الله فقيل: فما يعيش الناس في ذلك الزمان؟ قال: التهليل والتكبير والتسبيح والتحميد ويجزي ذلك عنهم مجزى الطعام» . قال ابن ماجه: سمعت أبا الحسن الطنافسي يقول: سمعت عبد الرحمن المحاربي يقول: ينبغي أن يرفع هذا الحديث للمؤدب حتى يعلمه للصبيان في المكتب. وفي حديث أسماء بنت يزيد الأنصارية قالوا: يا رسول الله ذكرت الدجال فو الله إن أحدنا ليعجن عجينة فما يخبز حتى يخشى أن يفتن وأنت تقول: الأطعمة تزوي إليه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «يكفي المؤمن يومئذ ما يكفي الملائكة. فقالوا فإن الملائكة لا تأكل ولا تشرب ولكنها تقدس فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم طعام المؤمنين يومئذ بالتسبيح» . وذكر عبد الرزاق، «عن معمر، عن قتادة، عن شهر حديث حوشب، عن أسماء بنت يزيد الأنصارية قالت: قال يا رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيتي فذكر الدجال فقال: إن بين يديه ثلاث سنين: سنة تمسك السماء ثلث مطرها والأرض ثلث نباتها والثانية تمسك السماء ثلثي قطرها والأرض ثلثي نباتها، والثالثة تمسك السماء قطرها كله والأرض نباتها كله، فلا يبقى ذات ظلف ولا ذات ضرس من البهائم إلا هلكت وإن من أشد فتنته أنه يأتي لأعرابي فيقول: أرأيت إن أحييت لك أباك ألست تعلم أني ربك؟ فيقول: بلى فيمثل الشيطان له نحو إبله كأحسن ما تكون ضروعاً وأعظمه سمنة قال: ويأتي الرجل مات أخوه ومات أبوه فيقول: أرأيت إن أحييت لك أخاك وأحييت لك أباك ألست تعلم أني ربك؟ فيقول: بلى فيتمثل الشيطان نحو أبيه وأخيه. قالت: ثم خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم

لحاجته ثم رجع والقوم في اهتمام وغم مما حدثهم به قالت فأخذت بجنبتي الباب فقال: مهيم يا أسماء قلت: يا رسول الله لقد خلعت أفئدتنا بذكر الدجال قال: إن يخرج وأنا حي فأنا حجيجه وإلا فإن ربي خليفة على كل مؤمن قالت أسماء: فقلت يا رسول الله وإنا لنعجن عجيننا فما نخبزه حتى نجوع فكيف بالمؤمنين يومئذ؟ قال يجزيهم ما يجزي أهل السماء من التسبيح والتقديس» . وخرج مسلم وابن ماجه «عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لينزلن ابن مريم حكماً عدلاً فليكسرن الصليب وليقتلن الخنزير وليضعن الجزية وليتركن القلاص فلا يسعى عليها، وليذهبن الشحناء والتباغض والتحاسد وليدعون الناس إلى المال فلا يقبله أحد» . «وعنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كيف أنتم إذا نزل عيسى بن مريم فيكم وإمامكم منكم»

وفي رواية «فأمكم منكم قال ابن أبي ذئب: تدري ما إمامكم منكم؟ قلت تخبرني: قال: فأمكم بكتاب ربكم عز وجل وسنة نبيكم صلى الله عليه وسلم قال والذي نفسي بيده ليهلن ابن مريم بنفج من الروحاء حاجاً أو معتمراً أو ليثنينهما» . وجاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ليدركن المسيح بن مريم رجالاً من أمتي مثلكم أو خيراً منك» يقول ذلك ثلاث مرات. ذكره ابن برجان في كتاب الارشاد له. وروي «عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ينزل عيسى بن مريم على ثمانمائة رجل وأربعمائة امرأة خيار من على الأرض يومئذ وكصلحاء من مضى» . «وعن عبد الله بن عمرو عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ينزل عيسى بن مريم فيتزوج ويولد له ولد ويمكث خمساً وأربعين سنة ويدفن معي في قبري، فأقوم أنا وعيسى من قبر واحد بين أبي بكر وعمر» ذكره الميانشي أبو حفص ويقال: «إنه يتزوج امرأة من العرب بعد ما يقتل الدجال وتلد له بنتاً فتموت ثم يموت هو بعد ما يعيش سنتين» ذكره أبو الليث السمرقندي وخالفه كعب في هذا وأنه يولد له ولدان وسيأتي. وفي حديث «أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: يمكث عيسى في الأرض بعد ما ينزل أربعين سنة ثم يموت ويصلي عليه المسلمون ويدفنونه»

ذكره أبو داود الطيالسي في مسنده قال حدثنا هشام عن قتادة عن عبد الرحمن بن آدم عن أبي هريرة، وبهذا السند «عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم الأنبياء إخوة لعلات أمهاتهم شتى ودينهم واحد وأنا أولى بالناس بعيسى بن مريم، لأنه لم يكن بيني وبينه نبي فإذا رأيتموه فاعرفوه فإنه رجل مربوع إلى الحمرة والبياض بين ممصرتين كأن رأسه يقطر ولم يصبه بلل، وأنه يقتل الخنزير ويكسر الصليب ويفيض المال حتى يهلك في زمانه الملك كلها غير الإسلام، وحتى يهلك الله في زمانه مسيح الضلالة الأعور الكذاب، وتقع الأمنة في الأرض حتى يرعى الأسد مع الإبل والنمر مع البقر والذئب مع الغنم، ويلعب الصبيان بالحيات فلا يضر بعضهم بعضاً يبقى في الأرض أربعين سنة ثم يموت ويصلي عليه المسلمون ويدفنونه» وفي بعض الروايات: «أنه يمكث أربعاً وعشرين سنة» . وفي حديث «عبد الله بن عمر: ثم يمكث الناس سبع سنين ليس بين اثنين عدواة ثم يرسل الله ريحاً باردة من قبل الشام» الحديث خرجه مسلم وقد تقدم بكماله، وهذا يدل على أنه يمكث في الأرض سبع سنين والله أعلم. وقال كعب الأحبار: إن عيسى عليه السلام يمكث في الأرض أربعين سنة ويكثر الخير على يديه، وتنزل البركات في الأرزاق حتى إن العنبة ليأكل منها الرجل حاجته ويفضل، والقطف من العنب يأكل منه الجمع الغفير والخلق الكثير، حتى إن

الرمانة لتثقل الجمل، وحتى إن الحي لعبر بالميت فيقول: قم فانظر ما أنزله الله من البركة، وأن عيسى عليه السلام يتزوج بامرأة من آل فلان ويرزق منها ولدين فيسمى أحدهما محمد والآخر موسى ويكون الناس معه على خير وفي خير زمان وذلك أربعين سنة، ثم يقبض الله روح عيسى ويذوق الموت ويدفن إلى جانب النبي صلى الله عليه وسلم في الحجرة ويموت خيار الأمة ويبقى شرارها في قلة من المؤمنين فذلك قوله عليه السلام: «بدأ الإسلام غريباً وسيعود غريباً كما بدأ» وقيل: إنه يدفن بالأرض المقدسة مدفن الأنبياء. فصل: ذهب قوم إلى أن بنزول عيسى عليه السلام يرتفع التكليف لئلا يكون رسولاً إلى أهل ذلك الزمان يأمرهم عن الله تعالى وينهاهم، وهذا أمر مردود بالأخبار التي ذكرناه من حديث أبي هريرة وبقوله تعالى: {وخاتم النبيين} وقوله عليه الصلاة والسلام: «لانبي بعدي» وقوله «وأنا العاقب» يريد آخر الأنبياء وخاتمهم، وإذا كان ذلك فلا يجوز أن يتوهم أن عيسى ينزل نبياً بشريعة متجددة وغير شريعة محمد نبينا صلى الله عليه وسلم، بل إذا نزل فإنه يكون يومئذ من أتباع محمد صلى الله عليه وسلم كما أخبر صلى الله عليه وسلم حيث قال لعمر: «لو كان موسى حياً ما وسعه إلا اتباعي» . «و

قد روى أبو الزبير أنه سمع جابر بن عبد الله يقول سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: لا تزال طائفة من أمتي يقاتلون على الحق إلى يوم القيامة قال: فينزل عيسى بن مريم عليه السلام فيقول أميرهم: تعالى صل بنا فيقول: لا إن بعضكم على بعض أمراء لكرامة الله لهذه الأمة» خرجه مسلم في صحيحه وغيره. فعيسى عليه السلام إنما ينزل مقرراً لهذه الشريعة ومجدداً لها إذ هي آخر الشرائع، ومحمد صلى الله عليه وسلم آخر الرسل فينزل حكماً مقسطاً وإذا صار حكماً فإنه سلطان يومئذ للمسلمين ولاإمام ولاقاضي ولامفتي قد قبض الله تعالى وخلا الناس منه، فينزل وقد علم بأمر الله تعالى له في السماء قبل أن ينزل ما يحتاج إليه من علم هذه الشريعة للحكم به بين الناس والعمل به في نفسه، فيجتمع المؤمنون عند ذلك إليه ويحكمونه على أنفسهم إذ لا أحد يصلح لذلك غيره، ولأن تعطيل الحكم غير جائز. وأيضاً فإن بقاء الدنيا إنما يكون بمقتضى التكليف إلى أن لا يقال في الأرض الله الله على ما يأتي، وهذا واضح. فصل فإن قيل: فما الحكمة في نزوله في ذلك الوقت دون غيره؟ فالجواب عنه من ثلاثة أوجه: أحدها: يحتمل أن يكون ذلك لأن اليهود همت بقتله وصلبه وجرى أمرهم معه على ما بينه الله تعالى في كتابه وهم

أبداً يدعون أنهم قتلوه وينسبونه في السحر وغيره إلى ما كان الله يراه ونزهه منه، ولقد ضرب الله عليهم الذلة فلم تقم لهم منذ أعز الله الإسلام وأظهره راية، ولا كان لهم في بقعة من بقاع الأرض سلطان ولا قوة ولا شوكة، ولا يزالون كذلك حتى تقرب الساعة فيظهر الدجال وهو أسحر السحرة ويبايعه اليهود فيكون يومئذ جندة مقدرين أنهم ينتقمون به من المسلمين فإذا صار أمرهم إلى هذا أنزل الله تعالى الذي عندهم أنهم قد قتلوه وأبرزه لهم ولغيرهم من المنافقين والمخالفين حياً ونصره على رئيسهم وكبيرهم المدعي الربوبية فقتله وهزم جنده من اليهود بمن معه من المؤمنين فلا يجدون يومئذ مهرباً وإن توارى أحد منهم بشجر أو حجر أو جدار ناداه: يا روح الله ها هنا يهودي حتى يوقف عليه.. فإما أن يسلم وإما أن يقتل، وكذا كل كافر من كل صنف حتى لا يبقى على وجه الأرض كافر. والوجه الثاني: وهو أنه يحتمل أن يكون إنزاله مدة لدنو أجله لا لقتال الدجال لأنه لا ينبغي لمخلوق من التراب أن يموت في السماء لكن أمره يجري على ما قال الله تعالى: {منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارة أخرى} فينزله الله تعالى ليقبره في الأرض مدة يراه فيها من يقرب منه ويسمع به من نأى عنه، ثم يقبضه فيتولى المؤمنون أمره ويصلون

عليه ويدفن حيث دفن الأنبياء الذين أمه مريم من نسلهم وهي الأرض المقدسة، فينشر إذا نشر معهم، فهذا سبب إنزاله غير أنه يتفق في تلك الأيام من بلوغ الدجال باب لد. هذا ما وردت به الأخبار فإذا اتفق ذلك وكان الدجال قد بلغ من فتنته أنه ادعى الربوبية ولم ينتصب لقتاله أحد من المؤمنين لقلتهم كان هو أحق بالتوجه إليه ويجري قتله على يديه إذ كان ممن اصطفاه الله لرسالته، وأنزل عليه كتابه وجعله وأمه آية، فعلى هذا الوجه يكون الأمر بإنزاله لا أنه ينزل لقتال الدجال قصداً. والوجه الثالث: أنه وجد في الإنجيل فضل أمة محمد صلى الله عليه وسلم حسب ما قال وقوله الحق {ذلك مثلهم في التوراة ومثلهم في الإنجيل} فدعا الله عز وجل أن يجعله من أمة محمد صلى الله عليه وسلم فاستجاب الله تعالى دعاءه ورفعه إلى السماء إلى أن ينزله آخر الزمان مجدداً لما درس من دين الإسلام دين محمد عليه الصلاة والسلام فوافق خروج الدجال فقتله. ولا يبد على هذا أن يقال: إن قتاله للدجال يجوز أن يكون من حيث إنه إذا حصل بين ظهراني الناس وهم مفتونون قد عم فرض الجهاد أعيانهم وهو أحدهم لزمه من هذا الفرض ما يلزم غيره، فذلك يقوم به وذلك داخل في اتباع نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وبالله التوفيق. واختلف حيث يدفن فقيل: بالأرض المقدسة ذكره الحليمي. وقيل: يدفن مع النبي صلى الله عليه وسلم على ما ذكرناه في الأخبار.

فصل في الاختلاف في لفظة المسيح حواري عيسى عليه السلام ـ إذا نزل

فصل في الاختلاف في لفظة المسيح حواري عيسى عليه السلام ـ إذا نزل واختلف في لفظة المسيح على ثلاثة وعشرين قولاً ذكرها الحافظ أبو الخطاب بن دحية في كتابه مجمع البحرين وقال: لم أر من جمعها قبلي ممن رحل وجال ولقى الرجال. القول الأول: وهو مسيح بسكون السين وكسر الياء على وزن مفعل، فأسكنت الياء ونقلت حركتها إلى السين لاستثقالهم الكسرة على الياء. القول الثاني: قال ابن عباس: كان لا يمسح ذا عامة إلا برىء، ولا ميتاً إلا حيى فهو هنا من أبنية أسماء الفاعلين مسيح بمعنى ماسح. القول الثالث: قال إبراهيم النخعي المسيح: الصديق وقاله الأصمعي وابن الأعرابي. القول الرابع: قال أبو عبيد: أظن هذه الكلمة [هاما شيحا] بالشين المعجمة فعربت إلى [مسياً] وكذلك تنطق به اليهود. القول الخامس: قال ابن عباس أيضاً في رواية عطاء عنه: سمي مسيحاً لأنه كان أمسح الرجل ليس لرجله أخمص، والأخمص ما لا يمس الأرض من باطن الرجل، فإذا لم يكن للقدم أخمص قيل فيه قدم رحاء ورجل رحاء ورجل أرح وامرأة رحاء. القول السادس: قيل مسيحاً لأنه خرج من بطن أمه كأنه ممسوح بالدهن. القول السابع: قيل سمي مسيحاً لأنه مسح عند ولادته بالدهن. القول الثامن: قال الإمام أبو إسحاق الجواني في غريبه الكبير: هو اسم خصه الله تعالى به أو لمسح زكريا.

القول التاسع: قيل: سمي بذلك لحسن وجهه إذ المسيح في اللغة الجميل الوجه. يقال على وجهه مسعة من جمال وحسن، ومنه ما يروى في الحديث الغريب الضعيف: يطلع عليكم من هذا الفج خير ذي يمن كأن على وجهه مسحة ملك. القول العاشر: المسيح في اللغة: قطع الفضة وكذلك المسيحة: القطعة من الفضة، وكذلك كان المسيح بن مريم أبيض مشرب حمرة من الرجال عريض الصدر جعداً، والجعد ها هنا اجتماع الخلق وشدة الأسر. القول الحادي عشر: المسيح في اللغة: عرق الخيل: وأنشد اللغويون: إذا الجياد فضن بالمسيح. يعني العرق. ثبت في صحيح مسلم «من حديث أبي كعب: فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قد غشيتني ضرب في صدري ففصدت عرقاً وكأني أنظر إلى الله عز وجل فرقاً» ذكره الخطابي في شرحه بالصاد والضاد. وأنشد العجاج: إذا الجياد فضن بالمسيح. يعني العرق. القول الثاني عشر: المسيح: الجماع يقال مسحها إذا جامعها. قاله المجمل لابن فارس. القول الثالث عشر: المسيح: السيف. قاله أبو عمرو المطرز. القول الرابع عشر: المسيح: المكاري. القول الخامس عشر: المسيح: الذي يمسح الأرض أي يقطعها. قاله الثقة اللغوي أبو العباس أحمد بن يحيى بن ثعلب، ولذلك سمي عيسى مسيحاً كان تارة بالشام وتارة بمصر وتارة على سواحل البحر وفي المهامة

والقفار. والمسيح الدجال كذلك سمياً بذلك لجولانهما في الأرض. القول السادس عشر: ذكره بسنده إلى أبي الحسن القابسي، وقد سأله الحافظ النقري أبو عمرو الداني: كيف يقرأ المسيح الدجال؟ فقال: بفتح الميم وتخفيف السين مثل المسيح بن مريم لأن عيسى عليه السلام مسح بالبركة وهذا مسحت عينه. قال أبو الحسن: ومن الناس من يقرؤه بكسر الميم وتثقيل السين فيعرف بذلك وهو وجه. وأما أنا فلا أقرؤه إلا كما أخبرتك. قال ابن دحية: وحكى الأزهري أنه يقال: مسيح بالتشديد على وزن فعيل قال: فرقاً بينه وبين عيسى عليه السلام، ثم أسند عن شيخه أبا القاسم بن بشكوال، عن أبي عمران بن عبد الرحمن قال: سمعت الحافظ أبا عمر بن عبد البر يقول: ومنهم من قال ذلك بالخاء عني المعجمة وذلك كله عند أهل العلم خطأ لا فرق بينهما وكذلك ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه نطق به ونقله الصحابة المبلغون عنه. وأنشد في ذلك أهل اللغة قول عبد الله بن قيس الرقيات: وقالوا: دع رقية واجتنبها ... فقلت لهم: إذا خرج المسيح يريد إذا خرج الدجال هكذا فسره ولذلك ذكرناه. قال الراجز: إذا المسيح قتل المسيحا يعني عيسى بن مريم عليه السلام يقتل الدجال بنبزك. قرأته في المجلد الأول من شرح ألفاظ الغريب من الصحيح لمحمد بن إسماعيل تأليف القاضي الإمام المفتى أبي الأصبغ بن سهل. القول السابع عشر: قيل سمي الدجال مسيحاً، لأن المسيح الذي لا عين له ولا حاجب. قال ابن فارس: والمسيح أحد شقي وجهه ممسوح لا عين له

ولا حاجب، ولذلك سمي الدجال مسيحاً، ثم أسند عن حذيفة مستدلاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأن الدجال ممسوح العين عليها ظفرة غليظة خرجه مسلم. القول الثامن عشر: المسيح الكذاب: وهذا يختص به الدجال لأنه يكذب فيقول: أنا الله فهذا كذب البشر ولذلك خصه الله بالشوه والعار. القول التاسع عشر: المسيح: المارد والخبيث وهو التمسيح أيضاً عن ابن فارس، ويقال هو الكذاب وكذلك التمساح بألف. القول العشرون: قيل: الدجال: المسيح لسياحته وهو فعيل بمعنى فاعل، والفرق بين هذا وبين ما تقدم في الخامس عشر أن ذلك يختص بقطع الأرض وهذا بقطع جميع البلاد في أربعين ليلة أو مكة والمدينة. القول الحادي والعشرون: المسيح: الدرهم الأطلس بلا نقش. قاله ابن فارس وذلك مطابق لصفة الأعور الدجال إذ أحد شقي وجهه ممسوح وهو أشوه الرجال. القول الثاني والعشرون: قال الحافظ أبو نعيم في كتاب دلائل النبوة من تأليفه: سمي ابن مريم مسيحاً لأن الله مسح الذنوب عنه. القول الثالث والعشرون: قال الحافظ أبو نعيم في الكتاب المذكور: وقيل: سمي ابن مريم مسيحاً لأن جبريل عليه السلام مسحه بالبركة وهو قوله تعالى {وجعلني مباركا أين ما كنت} .

فصل في بيان ما وقع في الحديث من الغريب قوله: فيشج أي يمد والميشار، مفعال من أيشرت ووشرت أشراً ووشراً، ويقال منشار بالنون أيضاً والوجهين في الحديث وهو مفعال أيضاً من نشرت. وقوله: فخفض ورفع بتخفيف الفاء أي أكثر من الكلام فيه، فتارة يرفع صوته ليسمع من بعد، وتارة يخفض ليستريح من تعب الإعلان، وهذه حالة الكثر في الكلام وروي بتشديد الفاء على التضعيف. والتكثير. وقوله: إنه خارج محلة. يروي بالخاء المعجمة وبالحاء المهملة المهملة قاله الهروي، والخلة موضع حزن وضجور والحلة ما بين البلدين. وقال الحافظ ابن دحية: ورواه هامان والحميدي حله بفتح الحاء المهملة وضم اللام وكأنه يريد حلوله، قال: وقرأت في أصل القطيعي من مسند الإمام أحمد بن حنبل وأنه يخرج حيله، ولا أعلم روى ذلك أحد غيره، وقد سقطت هذه اللفظة لأكثر رواة مسلم وبقي الكلام أنه خارج بين الشام والعراق. وجاء في حديث الترمذي أنه يخرج بخراسان، وفي الرواية الآخرى: من ناحية أصبهان من قرية تسمى اليهودية، وفي حديث ابن ماجه

ومسلم بين الشام والعراق ووجه أم مبدأ خروجه من خراسان من ناحية أصبهان، ثم يخرج إلى الحجاز فيما بين العراق والشام، والله أعلم. وعاث بالعين المهملة والثاء المثلثة والتنوين على أنه اسم فاعل، وروى بفتح الثاء على أنه فعل ماض، ووقع في حديث أبي أمامة على الفعل المستقبل والكل بمعنى الفساد عادت يعيث عيثاً، فهو عاث عثى يعثي، عثلا يعثو لغتان، وفي التنزيل: {ولا تعثوا في الأرض مفسدين} . وقوله: يا عباد الله فاثبتوا. يعني على الإسلام يحذرهم من فتنته لأنه يأمر السماء فتمطر والأرض فتنبت. وقوله: فاقدروا له قدره، قال القاضي عياض: هذا حكم مخصوص بذلك اليوم شرعه لنا صاحب الشرع، ولو وكلنا فيه لاجتهادنا لكانت الصلاة فيه عن الأوقات المعروفة في غيره من الأيام. قلت: وكذلك الأيام القصار الحكم فيها أيضاً ما حكمه صاحبه الشرع. وقد حمل بعض العلماء أن هذه الأيام الطوال ليست على ظاهرها، وإنما هي محمولة على المعنى. أي يهجم عليكم غم عظيم لشدة البلاء وأيام البلاء طوال، ثم يتناقص ذلك الغم في اليوم الثاني ثم يتناقص في اليوم الثالث، ثم يعتاد البلاء كما يقول الرجل: اليوم عندي سنة ومنه قولهم: وليل المحب بلا آخر وقال آخر:

وأيام لنا غير طوال ... عصينا الملك فيها أن ندينا وهذا القول يرده قولهم: أتكفنا فيه صلاة يوم وليلة قال: لا، اقدروا له قدره. والمعنى قدروا الأوقات للصلوات، وكذلك لا التفات لطعنه في صحة هذه الألفاظ، أعني قوله: أتكفينا فيه صلاة يوم؟ قال: لا، اقدروا له قدره فقال: هذا عندنا من الدسائس التي كادنا بها ذوو الخلاف علينا، ولو كان صحيحاً لاشتهر على ألسنة الرواة كحديث الدجال، ولو كان لقوي اشتهاره ولكان أعظم وأفظع من طلوع الشمس من مغربها. والجواب: أن هذه الألفاظ صحيحة حسب ما ذكره مسلم وحسبك به إماماً، وقد ذكرها الترمذي من حديث النواس أيضاً وقال: حديث حسن صحيح، وخرجها أبو داود أيضاً وابن ماجه من حديث أبي أمامة، وقاسم بن أصبغ من حديث جابر، وهؤلاء أئمة أجلة من أئمة أهل الحديث، وتطرق إدخال المخالفين الدسائس على أهل العلم والتحرز والثقة بعيد لا يلتفت إليه لأنه يؤدي إلى القدح في أخبار الآحاد، ثم إن ذلك في زمن خرق العادات وهذا منها. وقوله: ممحلين أي مجدبين، ويروى: أزلين والمحل والأزل والقحط والجدب بمعنى واحد، ويعاسيب النحل فحولهما، وأحدهما يعسوب، وقيل: امراؤها. ووجه التشبيه أن يعاسب النحل يتبع كل واحد منهم

طائفة من النحل فتراها جماعات في تفرقة، فالكنوز تتبع الدجال كذلك. وقوله: بين مهروتين أي بين شقي ثوب، والشقة نصف الملاءة أو في حلتين مأخوذ من الهرد بفتح الهاء وسكون الراء وهو الشق والقطع. قال ابن دريد: إنما سمي الشق هرداً للإفساد لا للإصلاح. وقال يعقوب: هرد القصار الثوب، وهردته بالتاء والمثناة باثنتين من فوق إذا أحرقه وخرقه. وقال أكثرهم: في ثوبين مصبوغين بالصفرة وكأنه الذي صبغ بالهرديء ووقع في بعض الروايات بدل مهرودتين ممصرتين كذلك، ذكره أبو داود الطيالسي من حديث أبي هريرة، والممصرة من الثياب هي المصبوغة بالصفرة. والجمان ما استدار من اللؤلؤ والدر شبه قطرات العرق بمستدير الجوهر وهو تشبيه واقع وليست بالمشبعة. وقال ابن الأنباري: مهرودتان بدال مهملة وذال معجمة معاً أي ممصرتين كما جاء في الحديث الآخر. وقال غيره: الهرود الذي يصبغ بالعروق التي يقال لها الهرد بضم الهاء، وقال الهروي: هرد ثوبه بالهرد وهو صبغ يقال له العروق، وقال القتبي: إن كان المحفوظ بالدال فهو مأخوذ من الهرد. والهرد

والهرت: الشق ومعناه بين شقين والشقة نصف الملاءة وقال: وهذا عندي خطأ من النقلة، وأراد مهرودتين أي صفراوين يقال: هرت العمامة ألبستها صفراً وكان الثلاثي منه هروت، فخالف الجماعة من أهل اللغة فيما قالوه، وقد خطأه ابن الأنباري وقال: إنما يقول العرب هريت الثوب لا هروت ولو كان من ذلك لقيل مهراة لا مهروة، واللغة نقل ورواية لا قياس، والعرب إنما تجوز ذلك في العمامة خاصة لا في الشقة ولا يجوز قياس الشقة على العمامة. وأما رواية الذال المعجمة فهو إبدال من الدال المهملة فإن الذال والدال قد يتعاقبان فيقال رجل مدل بالدال المهملة ومذل بالذال المعجمة إذا كان قيل اللحم خفي الشخص. والجمان: ما استدار من اللؤلؤ والدر شبه قطرات العرق بمستدير الجوهر، وهو تشبيه حسن. وقوله: فحرز عبادي إلى الطور، أي ارتحل بهم إلى جبل بحرزون فيه أنفسهم. والطور: الجبل بالسريانية. قال الحافظ بن دحية: قيدناه في صحيح مسلم جوز بالجيم والواو والزاي كذا قيدناه في جامع الترمذي، وقيدناه أيضاً حدر بدال مهملة، فأما حرز فهو الذي رواه أكثرهم وصحح بعضهم رواية حدر وكلاهما صحيح، لأن ما خير فقد أحرز وكذلك جوز بالجيم. وأما حدر بدال مهملة فمعناه أنزلهم إلى جهة الطور من حدرت الشيء فانحدر إذا أرسلته في صبب وحدر.

باب ما جاء في أن حواري عيسى عليه السلام ـ إذا نزل ـ هم أصحاب الكهف وفي حجهم معه

والنغف: جمع نغفة وهي الدود الذي يكون في أنوف الإبل والغنم. وفرسى أي هلكى وهو جمع فريس يعني مفروس مثل قتيل وقتلى وصريع وصرعى وأصله من فرس الذب الشاة وأفرسها أي قتلها كأن تلك النغف فرستهم. ويروى فيصحبون موتى. والزهم: النتن. والبخت: إبل غلاظ الأعناق عظام الأجسام. والزلفة: المصففة الممتلئة والجمع زلف. قال ابن دحية: قيدناه في صحيح مسلم بالفاء والقاف وهو المرآة كذا فسره ابن عباس وقاله اللغويان: أبو زيد الأنصاري وأبو العباس الشيباني. واللقحة: الناقة الحلوب. والغيام: الجماعة من الناس. والفخذ: دون القبيلة وفوق البطن. والفاثور بالفاء: الخوان يتخذ من الرخام ونحوه. قال الأغلب العجيلي إذا نجلى فاثور عين الشمس يقال هم على فاتور واحد أي على مائدة واحدة منزلة واحدة والفاثور أيضاً: موضع. قاله الجوهري. والله أعلم. باب ما جاء في أن حواري عيسى عليه السلام ـ إذا نزل ـ هم أصحاب الكهف وفي حجهم معه «حدثنا إسماعيل بن إسحاق قال: حدثنا ابن أبي أويس قال: حدثنا كثير بن عبد الله بن

باب ما جاء أن عيسى إذا نزل يجد في أمة محمد صلى الله عليه وسلم خلقا من حواريه

عوف عن أبيه عن جده قال: غزونا مع النبي صلى الله عليه وسلم الحديث وقد تقدم. وفيه: ولا تقدم الساعة حتى ينزل عيسى بن مريم عبد الله ورسوله حاجاً أو معتمراً أو ليجمعن الله ذلك له» قال كثير: فحدثت بهذا الحديث محمد بن كعب القرظي قال: ألا أرشدك في حديثك هذا؟ قلت: بلى. فقال: كان رجل يقرأ التوراة والإنجيل فأسلم وحسن إسلامه فسمع هذا الحديث من نص بعض القوم فقال: ألا أبشركم في هذا الحديث؟ فقالوا: بلى فقال: إني أشهد أنه لمكتوب في التوراة التي أنزلها الله على موسى عليه السلام وأنه مكتوب في الانجيل الذي أنزله الله على عيسى بن مريم عليه السلام عبد الله ورسوله وأنه يمر بالروحاء حاجاً أو معمتراً أو يجمع الله له ذلك فيجعل الله حواريه أصحاب الكهف والرقيم، فيمرون حجاجاً فإنهم لم يحجوا ولم يموتوا. باب ما جاء أن عيسى إذا نزل يجد في أمة محمد صلى الله عليه وسلم خلقاً من حواريه ذكر الترمذي الحكيم أبو عبد الله في نوادر الأصول في الأصل الثالث. والعشرين والمائة قال: «حدثنا الفضل بن محمد الواسطي قال: حدثنا إبراهيم بن الوليد الدمشقي قال: حدثني أبي قال: حدثنا عبد الملك بن عقبة الإفريقي، عن أبي يونس مولى أبي هريرة، عن عبد الرحمن بن سمرة قال: بعثني خالد بن الوليد بشيراً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم مؤته فلما دخلت عليه قلت: يا رسول الله فقال: على رسلك يا عبد الرحمن أخذ اللواء زيد بن حارثة فقاتل زيد حتى قتل رحم الله زيداً، ثم أخذ اللواء جعفر فقاتل جعفر حتى قتل

باب ما جاء أن الدجال لا يضر مسلما

رحم الله جعفراً، ثم أخذ اللواء عبد الله ابن رواحة فقاتل حتى قتل رحم الله عبد الله بن رواحة، ثم أخذ اللواء خالد ففتح الله لخالد فخالد سيف من سيوف الله فبكى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم حوله فقال: ما يبكيكم؟ قالوا: وما لنا لا نبكي وقد قتل خيارنا وأشرافنا وأهل الفضل منا فقال: لا تبكوا فإنما مثل أمتي مثل حديقة قام عليها صاحبها فاجتنب رواكبها وهيأ مساكبها وحلق سعفها فأطعمت عاماً فوجاً، ثم عاماً فوجاً فلعل آخرها عاماً طعماً يكون أجودها قنوانا وأطولها شمراخا، والذي بعثني بالحق ليجدن ابن مريم في أمتي خلقاً من حواريه» . «حدثنا علي بن سعيد بن مرزوق الكندي قال: حدثنا عيسى بن يونس، عن صفوان بن عمرو السكسكي، عن عبد الرحمن بن حسين، عن جبير بن نفير الحضري قال: لما اشتد جزع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على من أصيب مع زيد ابن حارثة يوم مؤته قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ليدركن المسيح من هذه الأمة أقواماً إنهم لمثلكم أو خير منكم ثلاث مرات ولن يخزى الله أمة أنا أولها والمسيح آخرها» . والله أعلم. باب ما جاء أن الدجال لا يضر مسلماً البزار «عن حذيفة قال: كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر الدجال فقال: لفتنة من بعضكم أخوف عندي من فتنة الدجال ليس من فتنة صغيرة ولا كبيرة إلا تضع لفتنة الدجال، فمن نجا من فتنة ما قبلها فقد نجا منها والله لا يضر مسلماً. مكتوب بين عينيه: كافر» .

باب ما ذكر من أن ابن صياد: الدجال واسمه صاف ويكنى أبا يوسف وسبب خروجه وصفة أبويه وأنه على دين اليهود

فصل قلت: إن قيل: كيف قال في هذا الحديث لا يضر مسلماً، وقد قتل الرجل الذي خرج إليه من المدينة ونشره بالمنشار وذلك أعظم الضرر؟ قلنا: ليس المراد ذلك وإنما المعنى أن المسلم المحقق لا يفتنه الدجال فيرده عن دينه لما يرى عليه من سيماء الحدث، ومن لم يكن بهذه الصفة فقد يفتنه ويتبعه لما يرى من الشبهات كما في الحديث المذكور في الباب قبل هذا. ويحتمل أن يكون عموماً يخصه ذلك الحديث وغيره، والله أعلم. باب ما ذكر من أن ابن صياد: الدجال واسمه صاف ويكنى أبا يوسف وسبب خروجه وصفة أبويه وأنه على دين اليهود البزار «عن محمد بن المنكدر قال: رأيت جابر بن عبد الله يحلف بالله أن ابن صياد: الدجال فقلت له: أتحلف على ذلك! قال: إني سمعت عمر يحلف بالله على ذلك عند النبي صلى الله عليه وسلم فلم ينكر النبي صلى الله عليه وسلم» وأخرجه أبو داود في سننه. وعن نافع قال: كان ابن عمر يقول: والله ما أشك أن المسيح الدجال ابن صياد أخرجه أبو داود أيضاً وإسناده صحيح.

مسلم عن أبي سعيد الخدري قال: خرجنا حجاجاً أو عماراً ومعنا ابن صياد قال فنزلنا منزلاً فتفرق الناس وبقيت أنا وهو فاستوحشت منه وحشة شديدة مما يقال عليه قال: وجاء بمتاعه فوضعه على متاعي فقلت: إن الحر شديد فلو وضعته تحت تلك الشجرة قال ففعل فرفعت لنا غنم فانطلق بعس فقال: اشرب أبا سعيد فقلت: إن الحر شديد واللبن حار ما بي إلا أني أكره أن أشرب عن يده أو قال: آخذه عن يده فقال: أبا سعيد من خفي عليه حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ما خفي عليكم مشعر الأنصار ألست من أعلم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم! أليس قد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «هو كافر وأنا مسلم» ، أو ليس قد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يدخل المدينة ولا مكة فقد أقبلت من المدينة وأنا مكة» ! وفي رواية: وقد حججت قال أبو سعيد: حتى كدت أني أعذره ثم قال: أما والله إني لأعرفه وأعرف مولده وأين هو الآن. قال: قلت له: تباً لك سائر اليوم

وفي رواية: قال أبو سعيد وقيل له أيسرك أنك ذاك الرجل أي الدجال قال: فقال لو عرض علي ما كرهت. وعن ابن عمر قال: لقيت ابن صياد مرتين، فقلت لبعضهم، هل تحدثون أنه هو؟ قال: لا والله. قال: قلت كذبتني والله لقد أخبرني بعضكم أنه لن يموت حتى يكون أكثركم مالاً وولداً، فكذلك هو زعموا اليوم، قال: فتحدثنا ثم فارقته قال فلقيته لقية أخرى وقد نفرت عينه قال: فقلت متى فعلت عينك ما أرى؟ قال: لا أدري. قال: قلت: لا تدري وهي في رأسك. قال: إن شاء الله خلقها في عصاك هذه قال: فنخر كأشد نخير حمار سمعت قال: فزعم بعض أصحابي أني ضربته بعصا كانت معي حتى تكسرت، وأما أنا فو الله ما شعرت قال: وجاء حتى دخل على أم المؤمنين فحدثها فقالت ما تريد إليه ألم تعلم أنه قد قال إن أول ما يبعثه على الناس غضبه يغضبه، وعنه قال: انطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بن كعب إلى النخل التي فيها ابن صيد حتى إذا دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم النخل طفق يتقي بجذوع النخل وهو يحتل أن يسمع من ابن صياد شيئاً قبل أن يراه ابن صياد فرآه رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مضطجع على فراش في قطيفة له فيها زمزمة، فرأت أم ابن صياد

رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يتقى بجذوع النخل فقالت لابن صياد: يا صاف وهم اسم ابن صياد هذا محمد فثار ابن صياد فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لو تركته بين» . وفي رواية: «ثم قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: إني قد خبأت لك خبثاً فقال ابن صياد: هو الدخ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اخسأ فلن تعدو قدرك، فقال عمر بن الخطاب: ذرني يا رسول الله أضرب عنقه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن يكنه فلن تسلط عليه وإن لم يكنه فلا خير في قتله» أبو داود عن جابر بن عبد الله قال: فقدنا ابن صياد يوم الحسرة. الترمذي «عن أبي بكرة قال: قال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: يمكث أبو الدجال وأمه ثلاثين عاماً لا يولد لهما ولد، ثم يولد لهما ولد أعور أضر شيء وأقله منفعة تنام عينه ولا ينام قلبه، ثم نعت لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أبويه فقال: أبوه طوال ضرب اللحم كأن أنفه منقار وأمه امرأة فرضاخية طويلة اليدين» ، قال أبو بكر: فسمعنا بمولود في اليهود بالمدينة فذهبت أنا والزبير بن العوام حتى دخلنا على أبويه، فإذا نعت رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهما فقلنا:

هل لكما ولد؟ فقالا: مكثنا ثلاثين عاماً لا يولد لنا ولد ثم لنا غلام أعور أضر شيء وأقله منفعة تنام عيناه ولا ينام قلبه، قال: فخرجنا من عندهما، فإذا هو منجدل في الشمس في قطيفة وله همهمة فكشف عن رأسه فقال: ما قلتما؟ قلنا: وهل سمعت ما قلنا؟ قال: نعم تنام عيناي ولا ينام قلبي. قال: حديث حسن غريب روى نعرفه إلا من حديث حماد بن سلمة. قلت: خرجه أبو داود الطيالسي، قال: حدثنا حماد بن سلمة، عن علي بن زيد عن عبد الله بن أبي بكرة عن أبيه. وروي «من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن يهودياً أتى النبي صلى الله عليه وسلم الحديث بطوله. وفي آخره: فأخبرني عن الدجال أمن ولد آدم هو أم من ولد إبليس؟ قال: هو من ولد آدم لا أنه من ولد إبليس وأنه على دينكم معشر اليهود» ، وذكر الحديث. وقيل: إنه لم يولد بعد. وسيولد في آخر الزمان والأول أصح لما ذكرنا، وبالله توفيقنا. وسيأتي لهذا الباب مزيد بيان في أن الدجال ابن صياد، والله أعلم.

فصل في اختلاف الناس في ابن صياد

فصل في اختلاف الناس في ابن صياد قال أبو سليمان الخطابي: وقد اختلف الناس في أمر ابن صياد اختلافاً كثيراً وأشكل أمره حتى قيل فيه كل قول وقد يسأل عن هذا فيقال: كيف يقارن رسول الله صلى الله عليه وسلم من يدعى النبوة كاذباً ويتركه بالمدينة يساكنه في داره ويجاوره فيها وما وجه امتحانه إياه بما خبأ له من آية الدخان، وقوله بعد ذلك: اخسأ فلن تعدو قدرك. قال أبو سليمان والذي عندي أن هذه القضية إنما جرت معه أيام مهادنة رسول الله صلى الله عليه وسلم اليهود وحلفاءهم، وذلك أنه بعد مقدمه المدينة كتب بينه وبينهم كتاباً وصالحهم فيه على أن لا يهاجروا وأن يتركوا على أمرهم، وكان ابن صياد منهم أو دخيلاً في جملتهم وكان يبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم خبره وما يدعيه من الكهانة ويتعاطاه من الغيب، فامتحنوه بذلك ليروا آية أمره فلما كلمه علم أنه معطل وأنه من جملة السحرة والكهنة يأتيه ربيب من الجنة أو يتعاهده شيطان فيلقى على لسانه بعض ما يتكلم به، فلما سمع منه قول الدخ زجره وقال: اخسأ ولن تعدو قدرك يريد أن ذلك شيء ألقاه إليه الشيطان، وأجراه على لسانه، وليس ذلك من قبل الوحي إذ لم يكن له قدر الأنبياء الذين يوحى إليهم علم الغيب ولا درجة الأولياء الذين يلهمون العلم ويصيبون بنور قلوبهم الحق، وإنما كانت له تارات يصيب في بعضها ويخطئ في بعض وذلك معنى قوله: «يأتي صادق وكاذب» . فقال له عند ذلك خلط عليك.

باب في ما جاء في نقب يأجوج ومأجوج السد وخروجهم وصفتهم وفي لباسهم وطعامهم وبيان قوله تعالى " فإذا جاء وعد ربي جعله دكا "

والحكمة في أمره أنه كان فتنة امتحن الله بها عباده المؤمنين ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حي عن بينة، وقد امتحن الله قوم موسى في زمانه بالعجل فافتتن به قوم وهلكوا ونجا من هداه الله وعصمه منهم، وقد اختلف الروايات في أمر ابن صياد في ما كان من شأنه بعد كبره، فروي أنه تاب عن ذلك القول، ثم إنه مات بالمدينة وأنهم لما أرادوا الصلاة عليه كشفوا عن وجهه حتى رآه الناس وقيل لهم اشهدوا. قال الشيخ: الصحيح خلاف هذا لحلف جابر وعمر أن ابن صياد الدجال. وروي أن أبا ذر كان يقول هو الدجال، وروي ذلك عن ابن عمر، وقال ابن جابر فقدناه يوم الحرة هذا وما كان مثله يخالف رواية من روى أنه مات بالمدينة، والله أعلم. وسيأتي لهذا الباب مزيد بيان في أن الدجال ابن صياد عند كلامنا على خبر الجساسة إن شاء الله تعالى. باب في ما جاء في نقب يأجوج ومأجوج السد وخروجهم وصفتهم وفي لباسهم وطعامهم وبيان قوله تعالى " فإذا جاء وعد ربي جعله دكاً " باب في ما جاء في نقب يأجوج ومأجوج السد وخروجهم وصفتهم وفي لباسهم وطعامهم وبيان قوله تعالى فإذا جاء وعد ربي جعله دكاً ابن ماجه «عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن يأجوج ومأجوج يحفران كل يوم حتى إذا كادوا يرون شعاع الشمس قال الذي عليهم ارجعوا فتستحفرونه غداً، فيعيده الله أشد ما كان حتى إذا بلغت مدتهم وأراد الله أن يبعثهم على الناس حفروا حتى إذا كادوا يرون شعاع الشمس قال ارجعوا فتستحفرونه غداً إن شاء، فيرجعون إليه وهو كهيئته حين تركوه فيحفرونه ويخرجون على الناس فينشفون الماء ويتحصن

الناس منهم في حصونهم فيرمون سهامهم إلى السماء فيرجع إليها الدم، الذي أحفظ فيقولون: قهرنا أهل الأرض، وعلونا أهل السماء فيبعث الله نغفاً في أقفائهم، فيقتلون. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: والذي نفسي بيده إن دواب الأرض تسمن وتشكر شكراً من كثرة ما تأكل من لحومهم» . قال الجوهري: شكرت الناقة تشكر شكراً فهي شكرة واشتكر الضرع امتلأ. قال كعب الأحبار: إن يأجوج ومأجوج ينقرون بمناقرهم السد حتى إذا كادوا أن يخرجوا قالوا: نرجع إليه غداً وقد عاد كما كان، فإذا بلغ الأمر الأمر ألقى على بعض أن يقولوا نرجع إن شاء الله غداً فنفرغ منه، قال: فيرجعون إليه وهو كما تركوه فيخرقونه ويخرجون، فيأتي أولهم البحيرة فيشربون ما فيها من ماء، ويأتي أوسطهم عليها فيلحسون ما كان فيها من طين، ويأتي آخرهم فيقولون: قد كان ها هنا ماء ثم يرمون بنبالهم نحو السماء فيقولون: قد قهرنا من في الأرض وظهرنا على من في السماء قال: فيصب الله عليهم دواب يقال له النغف فيأخذ في أقفائهم فيقتلهم النغف حتى تنتن الأرض من ريحهم، ثم يبعث الله عليهم طيراً فتنقل أبدانهم إلى البحر فيرسل الله السماء أربعين، فتنبت الأرض حتى إن الرمانة لتشبع السكن. قيل لكعب: وما السكن؟ قال: أهل البيت.

قال: ثم يسمعون الصيحة. وخرج ابن ماجه «عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: يفتح يأجوج ومأجوج فيخرجون كما قال الله تعالى: {وهم من كل حدب ينسلون} ، فيعمون الأرض وينحاز منهم المسلمون حتى يصير بقية المسلمين في مدائنهم وحصونهم، ويضمون إليهم مواشيهم حتى إنهم ليمرون بالنهر فيشربونه حتى ما يذروا فيه شيئاً فيمر آخرهم على أثرهم فيقول قائلهم: لقد كان بهذا المكان مرة ماء ويظهرون على الأرض فيقول قائلهم: هؤلاء أهل الأرض قد فرغنا منهم لننازلن أهل السماء حتى إن أحدهم ليهز حربته إلى السماء فترجع مخضبة بالدم، فيقولون: قد قتلنا أهل السماء فبينما هم كذلك إذ بعث الله عليهم دواب كنغف الجراد، فتأخذ بأعناقهم فيموتون موت الجراد يركب بعضهم بعضاً. فيصبح المسلمون لا يسمعون لهم حساً. فيقولون: هل من رجل يشتري نفسه وينظر ما فعلوا، فينزل إليهم رجل قد وطن نفسه على أن يقتلوه فيجدهم موتى، فيناديهم ألا أبشروا فقد هلك عدوكم فيخرج الناس ويخلون سبيل مواشيهم فما يكون لهم مرعى إلا لحومهم فتشكر عليها كأحسن ما شكرت من نبات أصابته قط» . وخرج ابن ماجه أيضاً وأبو بكر بن أبي شيبة واللفظ لابن ماجة، عن عبد الله بن مسعود قال: لما كان ليلة أسري برسول الله لقي إبراهيم وموسى وعيسى عليهما السلام فتذاكروا الساعة فبدأوا بإبراهيم فسألوه عنها فلم يكن عنده علم منها، ثم سألوا موسى فلم يكن عنده علم منها فردوا الحديث

إلى عيسى قال: قد عهد إلي فيما دون وجبتها فأما وجبتها فلا يعلمها إلا الله فذكروا خروج الدجال، قال فأنزلوا إليه فأقتله فيرجع الناس إلى بلادهم فيستقبلهم يأجوج مأجوج {وهم من كل حدب ينسلون} فلا يمرون بماء إلا شربوه ولا شيء إلا أفسدوه فيجأرون إلى الله فأدعو الله أن يميتهم فتنتن الأرض من ريحهم فيجأرون إلى الله فأدعو الله فيرسل السماء فتحملهم فتلقيهم في البحر، ثم تنسف الجبال وتمد الأرض مد الأديم فعهد إلي إذا كان ذلك كانت الساعة من الناس كالحامل التي لا يدري أهلها متى تعجلهم بولادتها. قال ابن أبي شيبة: ليلاً أو نهاراً. قال العوام: ووجه تصديق ذلك في كتاب الله تعالى: {حتى إذا فتحت يأجوج ومأجوج وهم من كل حدب ينسلون} ، فلا يمرون بماء إلا شربوه ولا شيء إلا أفسده زاد ابن أبي شيبة: {واقترب الوعد الحق} . وروي عن عمر بن العاص قال: إن يأجوج ومأجوج ذرء ليس فيهم صديق، وهم على ثلاثة أصناف: على طول الشبر، وعلى طول الشبرين، وثلث منهم طوله وعرضه سواء، وهم من ولد يافث بن نوح عليه السلام. وروي عن عطية بن حسان أنه قال: يأجوج ومأجوج أمتان في كل أمة

أربعمائة ألف ليس منها أمة تشبه بعضها بعضاً. وروي عن الأوزاعي أنه قال: الأرض سبعة أجزاء، فستة أجزاء منها: يأجوج ومأجوج، وجزء فيه سائر الخلق. وروي عن قتادة أنه قال: الأرض أربعة وعشرون ألف فرسخ يعني الجزء الذي فيه سائر الخلق غير يأجوج ومأجوج، فإثنا عشر للهند والسند، وثمانية آلاف للصين وثلاثة آلاف للروم وألف فرسخ للعرب. وذكر علي بن معبد، عن أشعث، عن شعبة، عن أرطأة بن المنذر قال: إذا خرج يأجوج ومأجوج أوحى الله تبارك وتعالى إلى عيسى عليه السلام أني قد أخرجت خلقاً من خلقي لا يطيقهم أحد غيري فمر بمن معك إلى جبل الطور ومعه من الذراري اثنا عشر ألفاً، قال: يأجوج ومأجوج ذرء في جهنم، وهم على ثلاث أثلاث: ثلث على طول الأرز وثلث مربع طوله وعرضه واحد وهم أشد، وثلث يفترش إحدى أذنيه ويلتحف بالأخرى، وهم من ولد يافث بن نوح. ويروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «يأجوج أمة لها أربعمائة أمير، وكذلك مأجوج لا يموت أحدهم حتى ينظر إلى ألف فارس من ولده، صنف منهم كالأرز، وصنف منهم طوله مائة وعشرون ذراعاً، وصنف منهم يفترش أذنه ويلتحف بالأخرى، لا يمرون بفيل ولا خنزير إلا أكلوه ويأكلون من مات منهم، مقدمتهم بالشام وساقتهم بخراسان يشربون أنهار المشرق وبحيرة طبرية، فيمنعهم الله من مكة والمدينة وبيت المقدس» .

ويروى أنهم يأكلون جميع حشرات الأرض من الحيات والعقارب وكل ذي روح مما خلق الله في الأرض، وليس لله خلق ينمي كنمائهم في العام الواحد ولا يزداد كزيادتهم ولا يكثر ككثرتهم، يتداعون تداعي الحمام ويعوون عواء الكلاب ويتسافدون تسافد البهائم حيث التقوا: صح أصله في كتاب القصد والأمم في أنساب العرب والعجم قال: ومنهم من له قرن وذنب وأنياب بارزة يأكلون اللحوم نيئة. وقال كعب الأحبار: خلق الله يأجوج ومأجوج على ثلاثة أصناف: صنف أجسامهم كالأرز، وصنف أربعة أذرع طولاً وأربعة أذرع عرضاً، وصنف يفترشون آذانهم ويلتحفون بالأخرى فيأكلون مشائم نسائهم. ذكره أبو نعيم الحافظ وذكره عبد الملك بن حبيب أنه قال في قول الله عز وجل في قصة ذي القرنين: {فأتبع سبباً} يعني منازل الأرض ومعاليها وطرقها حتى إذا بلغ بين السدين يعني الجبلين اللذين خلفهم يأجوج ومأجوج وجد من دونهما قوماً لا يكادون يفقهون قولاً أي كلاماً {قالوا يا ذا القرنين إن يأجوج ومأجوج مفسدون في الأرض} . قال عبد الملك: وهما أمتان من ولد يافث بن نوح مد الله لهما في العمر وأكثر لهما في النسل، حتى ما يموت الرجل من يأجوج ومأجوج حتى يولد له ألف ولد، فولد آدم كلهم عشرةأجزاء: يأجوج ومأجوج منهم تسعة أجزاء، وسائر ولده كلهم جزء واحد. قال عبد الملك: كانوا يخرجون أيام الربيع إلى أرض القوم الذين هم قريب منهم فلا يدعون لهم شيئاً إذا كان إذا أخضر إلا أكلوه ولا يابساً إلا حملوه،

فقال أهل تلك الأرض لذي القرنين: هل لك أن نجعل خرجاً يعني جهلاً {على أن تجعل بيننا وبينهم سداً} قال: ما مكني فيه ربي خير من جعلكم ولكن {أعينوني بقوة أجعل بينكم وبينهم ردماً} قالوا له وما تريد؟ قال: {آتوني زبر الحديد} أي قطع الحديد فوضع بعضها على بعض كهيئة البناء فيما بين السدين وهما جبلان {حتى إذا ساوى بين الصدفين} يعني جانبي الجبلين {قال انفخوا} أي أوقدوا {حتى إذا جعله نارا قال آتوني أفرغ عليه قطرا * فما اسطاعوا أن يظهروه وما استطاعوا له نقبا} أي من تحته. وقال عبد الملك في قوله {أفرغ عليه قطراً} يعني نحاساً ليلتصق فأفرغه عليه فدخل بعضه في بعض قال {فإذا جاء وعد ربي جعله دكا} . وفي تفسير الحوفي أبي الحسن: أن ذا القرنين لما عاين ذلك منهم انصرف إلى ما بين الصدفين فقاس ما بينهما وهو في منقطع الترك مما يلي مشرق الشمس، فوجد بعد ما بينهما مائة فرسخ فلما أنشأ في عمله حفر له أساساً حتى إذا بلغ الماء جعل عرضه خمسين فرسخاً، وجعل حشوه الصخور وطينه النحاس يذاب ثم يصب عليه، فصار كأنه عرق من جبل تحت الأرض ثم علاه وشرفه بزبر الحديد والنحاس المذاب، وجعل خلاله عرقاً من نحاس فصار كأنه برد حبرة من صفرة النحاس وجمرته وسواد الحديد، فلما فرغ منه وأحكمه انطلق عائداً إلى جماعة الإنس والجن. انتهى كلام الحوفي. وعن علي رضي الله عنه قال: وصنف منهم في طول شبر لهم مخالب وأنياب

كالسباع وتداعي الحمام وتسافد البهائم وعواء الذئب، وشعور تقيهم الحر والبرد وآذان عظام إحداهما وبرة يشتون فيها، والأخرى جلدة يصيفون فيها. وعن ابن عباس رضي الله عنه قال: الأرض ستة أجزاء فخمسة أجزاء يأجوج ومأجوج، وجزء فيه سائر الخلق. وقال كعب الأحبار: احتلم آدم عليه السلام فاختلط ماؤه بالتراب فأسف فخلقوا من ذلك. قال علماؤنا: وهذا فيه نظر لأن الأنبياء صلوات الله عليهم وسلامه لا يحتلمون. وقال الضحاك: هم من الترك. وقال مقاتل: هم من ولد يافث بن نوح وهذا أشبه كما تقدم. والله أعلم. وقرأ عاصم يأجوج ومأجوج بالهمزة فيهما، وكذلك في الأنبياء على أنهما مشتقان من أجة الحر وهي شدته وتوقده، ومنه أجيج النار. ومن قولهم: ملح أجاج فيكونا عربيين من أج ومج ولم يصرفا لأنهما جعلا اسمين فهما مؤنثتان معرفتان، والباقون بغير همز جعلوهما لقبيلتين أعجميتين ولم يصرفا للعجمة والتعريف

باب ذكر الدابة وصفتها ومتى تخرج ومن أين تخرج وكم لها من خرجة وصفة خروجها وما معها إذا خرجت وحديث الجساسة وما فيها من ذكر الدجال قال الله تعالى: " وإذا وقع القول عليهم أخرجنا لهم دابة من الأرض تكلمهم "

باب ذكر الدابة وصفتها ومتى تخرج ومن أين تخرج وكم لها من خرجة وصفة خروجها وما معها إذا خرجت وحديث الجساسة وما فيها من ذكر الدجال قال الله تعالى: " وإذا وقع القول عليهم أخرجنا لهم دابة من الأرض تكلمهم " باب ذكر الدابة وصفتها ومتى تخرج ومن أين تخرج وكم لها من خرجة وصفة خروجها وما معها إذا خرجت وحديث الجساسة وما فيها من ذكر الدجال قال الله تعالى: وإذا وقع القول عليهم أخرجنا لهم دابة من الأرض تكلمهم وذكر أبو بكر البزار قال: حدثنا عبد الله بن يوسف: حدثنا عبد المجيد بن عبد العزيز، عن موسى بن عبيدة، عن صفوان بن سليم، عن ابن لعبد الله بن مسعود، عن أبيه رضي الله عنه قال: أكثروا من زيادة هذا البيت من قبل أن برفع وينسى الناس مكانه، وأكثروا من تلاوة القرآن من قبل أن يرفع. قالوا يا أبا عبد الرحمن: هذه المصاحف ترفع فكيف بما في صدور الرجال؟ قال: يصبحون فيقولون: قد كنا نتكلم بكلام ونقول قولاً فيرجعون إلى شعر الجاهلية وأحاديث الجاهلية وذلك حين يقع القول عليهم. قال العلماء: معنى وقع القول عليهم: أي وجب الوعيد عليهم لتماديهم في العصيان والعقوق والطغيان وإعراضهم من آيات الله وتركهم تدبرها والنزول على حكمها، وانتهابهم في المعاصي إلى ما لا ينجع معه فيهم موعظة ولا يصرفهم عن غيهم تذكرة يقول عز من قائل ـ فإذا صاروا كذاك: {أخرجنا لهم دابة من الأرض تكلم} أي دابة تعقل وتنطلق ـ وذلك والله أعلم ليقع لهم العلم بأنه آية من قبل الله تعالى ضرورة فإن الدواب في العادة لا كلام لها ولا عقل.

ابن ماجه، «عن عبد الله بن بريدة، عن أبيه قال ذهب بي رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى موضع البادية قريب من مكة، فإذا أرض يابسة حولها رمل. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: تخرج الدابة من هذا الموضع فإذا فتر في شبر» قال ابن بريدة: فحججت بعد ذلك بسنتين فأرانا عصا له فإذا هو بعصاي هذا وكذا الفتر ما بين السبابة والإبهام إذا فتحتها قاله الجوهري. وخرج ابن ماجه أيضاً «عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: تخرج الدابة ومعها خاتم سليمان بن داود، وعصا موسى بن عمران، فتجلو وجه المؤمن بالعصا وتختم أنف الكافر بالخاتم حتى إن أهل الخوان ليجتمعون فتقول هذا يا مؤمن وتقول هذا يا كافر» . وأخرجه الترمذي وقال: حديث حسن. وذكر أبو داود الطيالسي في مسنده «عن حذيفة قال ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم الدابة فقال: لها ثلاث خرجات من الدهر: فتخرج في أقصى البادية ولا يدخل ذكرها القرية مكة، ثم تكمن زماناً طويلاً، ثم تخرج خرجة أخرى دون ذلك فيفشو ذكرها في البادية ويدخل ذكرها القرية يعني

مكة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بينما الناس في أعظم المساجد على الله حرمة خيرها وأكرمها على المسجد الحرام لن تدعهم إلا وهي ترغو بين الركن والمقام تنفض عن رأسها التراب فارفض الناس منها شتى ومعاً، وتثبت عصابة من المؤمنين وعرفوا أنهم لن يعجزوا الله فبدأت بهم فجلت وجوههم حتى جعلتها كالكواكب الدري وولت في الأرض لا يدركها طالب ولا ينجو منها هارب، حتى إن الرجل ليتعوذ منها بالصلاة فتأتيه من خلفه، فتقول له يا فلان: الآن تصلي فتقبل عليه فتسمه في وجهه ثم تنطلق ويشترك الناس في الأموال ويصطحبون في الأمصار يعرف المؤمن من الكافر حتى إن المؤمن يقول: يا كافر اقض حقي وحتى إن الكافر يقول يا مؤمن اقض حقي وقد قيل: إنها تسم وجوه الفريقين بالنفخ فتنقش في وجه المؤمن مؤمن وفي وجه الكافر كافر» . قال المؤلف رحمه الله: ولا يبعد أن تظهر السمة وتتبين بالنفخ فتجمع عليه الأمرين وعلى هذا لا تعارض والله أعلم. وذكر البغوي أبو القاسم عبد الله بن محمد بن عبد العزيز، حدثنا علي بن الجعد، عن فضيل بن مرزوق الرقاشي الأعز: وسئل عنه يحيى بن معين فقال: ثقة. عن عطية العوفي عن ابن عمر قال: تخرج الدابة من صدع في الكعبة كجري الفرس ثلاثة أيام لا يخرج ثلثها. وذكر الميانشي «عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: دابة الأرض تخرج من جياد فيبلغ صدرها الركن ولم يخرج ذنبها بعد وهي دابة ذات وبر وقوائم» .

فصل: هذه الأحاديث وما تقدم من ذكر العلماء في الدابة ويأتي. يرد قول من قال من المفسرين المتأخرين: إن الدابة إنما هي إنسان متكلم يناظر أهل البدع والكفر ويجادلهم ليتقطعوا، فيهلك من هلك عن بينة ويحيى من حي عن بينة. قال شيخنا أبو العباس: وعلى هذا لا يكون فيها آية خاصة خارقة للعادة ولا يكون من جملة العشر آيات المذكورة في

الحديث، لأن وجود المناظرين والمحتجين على أهل البدع كثير فلا آية خاصة ينبغي أن يذكر من العشر. قلت: فساد ما قاله هذا المتأخر واضح وأقوال المفسرين بخلافه. «وروى من حديث هشام بن يوسف القاضي أبي عبد الرحمن الصنعاني، عن رباح بن عبيد الله بن عمر، عن سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بئس الشعب جياد قالوا: وفيم ذلك يا رسول الله؟ قال: تخرج منه الدابة فتصرخ ثلاث صرخات فيسمعها من بين الخافقين لم يتابع رباح على هذا» أخرج الحديث أبو أحمد بن عدي الجرجاني رحمه الله. وعن عمرو بن العاص قال: تخرج الدابة من مكة من شجرة وذلك في أيام الحج فيبلغ رأسها السحاب وما خرجت رجلاها بعد من التراب ذكره القتبي في عيون الأخبار له. وأصح أقوال المفسرين بخلاف ما قال: وأنها خلق عظيم يخرج من صدع من الصفا لا يفوتها أحد فتسم المؤمن فينير وجهه وتكتب بين عينيه: مؤمن، وتسم الكافر فيسود وجهه وتكتب بين عينه كافر. وقال عبد الله بن عمر: تخرج الدابة من جبل الصفا بمكة ينصدع فتخرج منه وقال عبد الله بن عمرو ونحوه، وقال: لو شئت أن أضع قدمي على موضع خروجها لفعلت. وروي عن قتادة أنها تخرج من تهامة. وروي أنها تخرج من مسجد الكوفة من حيث نار تنور نوح، وقيل: من أرض الطائف. وروي عن ابن عمر أنها على خلقة الآدميين وهي في السحاب وقوائمها في الأرض. وروي عن ابن الزبير: أنها جمعت من خلق كل حيوان. فرأسها رأس ثور، وعينها عين خنزير، وأذنها أذن فيل، وقرنها قرن أيل، وعنقها عنق نعامة، وصدرها صدر أسد، ولونها لون نمر، وخاصرتها خاصرة هر، وذنبها ذنب

كبش ، وقوائهما قوائم بعير. بين كل مفصل ومفصل اثنا عشر ذراعاً. ذكره الثعلبي. والماوردي وغيرهما. وحكى النقاش عن ابن عباس: أنها الثعبان المشرف على جدار الكعبة التي اقتلعاها العقاب حتى أرادت قريش بناء الكعبة، ويروى أنها دابة مزعبة شعراً ذات قوائم طولها ستون ذراعاً. ويقال إنها الجساسة في حديث فاطمة بنت قيس الحديث الطويل. وخرجه مسلم وذكره الترمذي وأبو داود مختصراً والسياق لمسلم وفيه، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أتدرون لم جمعتكم؟ قالوا: الله ورسوله أعلم قال: «إني والله ما جمعتكم لرغبة ولا لرهبة ولكنني جمعتكم لأن تميماً الداري كان رجلاً نصرانياً فبايع وأسلم وحدثني حديثاً وافق الذي كنت أحدثكم عن المسيح الدجال. حدثني أنه ركب في سفينة بحرية مع ثلاثين رجلاً من لخم وجذام، فلعب بهم الموج شهراً في البحر ثم أرفأوا إلى جزيرة في البحر حيث مغرب الشمس، قال: فجلسوا في أقرب السفينة فدخلوا الجزيرة فلقيتهم دابة أهلب كثير الشعر لا يدري ما قبله من دبره من كثرة الشعر» . وقال الترمذي: إن ناساً من أهل فلسطين ركبوا سفينة في البحر فجالت بهم حتى قذفتهم في جزيرة من جزائر البحر، فإذا هم بداية لباسة ناشرة

شعرها، فقالوا: من أنت؟ قالت: أنا الجساسة وذكر الحديث. راجع سياق مسلم فقالوا: ويلك ما أنت؟ قالت: أنا الجساسة. قالوا وما الجساسة؟ قالت: أيها القوم انطلقوا إلى هذا الرجل في الدير فإنه إلى خبركم بالأشواق. قال لما سمعت لنا رجلاً فرقنا منها أن تكون شيطانة. قال: فانطلقنا سراعا حتى دخلنا الدير فإذا هو أعظم إنسان رأيناه خلقاً وأشد وثاقاً مجموعة يداه إلى عنقه ما بين ركبتيه إلى كعبيه بالحديد. وقال الترمذي: فإذا رجل موثق بسلسلة. قال أبو داود: فإذا الرجل يجر شعره مسلسلاً في الأغلال ينزو فيها بين السماء والأرض. قلنا: ويلك ما أنت: قال: قد قدرتم على خبري فأخبروني ما أنتم. قالوا: نحن ناس من العرب ركبنا سفينة بحرية فصادفنا البحر قد اغتلم فلعب الموج بنا شهراً، ثم أرفأنا إلى جزيرتك هذه فجلسنا في أقربها، فدخلنا الجزيرة فلقينا دابة أهلب كثيرة الشعر لا ندري ما قبله من دبره من كثرة الشعر. فقلنا: ويلك ما أنت؟ فقالت: أنا الجساسة فقلنا وما الجساسة؟ قالت: اعمدوا إلى هذا الرجل في الدير فإنه إلى خبركم

بالأشواق فأقبلنا إليك سراعا وفزعنا منها وما نأمن أن تكون شيطانة. فقال: أخبروني عن نخل بيسان. وقال الترمذي: الذي بين الأردن وفلسطين. قلنا: عن أي شأنها تستخبر؟ قال: أسألكم عن نخلها هل تثمر؟ قلنا له: نعم. قال: أما أنها يوشك أن لا تثمر. قال: أخبروني عن بحيرة طبرية. قلنا: عن أي شأنها تستخبر؟ قال: هل فيها ماء؟ قالوا: هي كثيرة الماء أما أن ماؤها يوشك أن يذهب. قال: أخبروني عن عين زغر. قالوا: عن أي شأنها تستخبر؟ قال هل في العين ماء وهل يزرع أهلها بماء العين؟ قلنا: نعم هي كثيرة الماء وأهلها يزرعون من مائها. قال أخبرني عن نبي الأميين ما فعل؟ قالوا: قد خرج من مكة ونزل يثرب. قال: أقاتله العرب؟ قلنا: نعم. قال: كيف صنع بهم فأخبرناه أنه قد ظهر على من يليه من العرب وأطاعوه. قال لهم قد كان ذلك؟ قلنا: نعم قال أما إن ذلك هو خير لهم أن يطيعوه وإني مخبركم عني أنا المسيخ الدجال. وإني أوشك أن يؤذن لي بالخروج فأخرج فأسير في الأرض فلا أدع قرية إلا هبطتها في أربعين ليلة غير مكة وطيبة هما محرمتان علي كلتاهما كلما أردت أن أدخل واحدة منهما استقبلني ملك بيده السيف مصلتا يصدني عنها وأن على كل نقب منها ملائكة يحرسونها. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «وطعن بمخصرته في المنبر هذه طيبة يعني المدينة ألا هل كنت حدثتكم ذلك؟ فقال الناس: نعم. قال: فإنه أعجبني

حديث تميم الداري فإنه وافق الذي كنت حدثتكم عنه وعن المدينة ومكة، إلا أنه في بحر الشام وبحر اليمن لا بل من قبل المشرق وما هو من قبل المشرق، وأومأ بيده إلى المشرق» قال: حفظت هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقد خرج ابن ماجه «حديث فاطمة بنت قيس: قالت قام رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم وصعد المنبر وكان لا يصعد عليه مثل ذلك اليوم إلا يوم الجمعة، فاشتد ذلك على الناس فمن بين قائم وجالس فأشار إليهم بيده أن اقعدوا، فو الله ما قمت مقامي إلا لأمر ينفعكم لا رغبة ولا رهبة، ولكن تميم الداري أتاني فأخبرني خبراً منعني القيلولة من الفرح وقرة العين، فأحببت أن أنشر عليكم فرح نبيكم صلى الله عليه وسلم إلا أن ابن عم لتميم الداري أخبرني أن الريح ألجأتهم إلى جزيرة لا يعرفونها، فقعدوا في قوارب السفينة فخرجوا بها فإذا هم بشيء أهدب أسود كثير الشعر. قالوا لها: ما أنت؟ قالت: أنا الجساسة. قالوا: أخبرينا. قالت: ما أنا مخبرتكم شيئاً ولا سائلكتم، وليكن هذا الدير قد رهقتموه فائتوه فإن فيه رجلا بالأشواق إلى أن تخبروه ويخبركم فأتوه فدخلوه عليه، فإذا هم بشيخ موثق شديد الوثاق مظهر الحزن شديد التشكي قال لهم: من أين؟ فقالوا: من الشام. فقال: ما فعلت العرب؟ قالوا: نحن قوم من العرب عم تسأل؟ قال: ما فعل الرجل الذي خرج فيكم؟ قالوا: خيراً أتى قوماً فأظهره الله عليهم، فأمرهم اليوم جميع إلههم واحد ودينهم واحد ونبيهم واحد. قال: ما فعلت عين زغر؟ قالوا: خيرا يسقون منها لزروعهم ويستقون منها لشعبهم. قال: ما فعل نخل بين عمان وبيسان؟ قالوا: يطعم ثمره كل عام. قال: ما فعلت بحيرة الطبرية؟ قالوا تدفق بجنباتها من كثرة الماء. قال: فزفر ثلاث زفرات

ثم قال: لو انفلت من وثاقي هذا لم أدع أرضاً إلا وطئتها برجلي هاتين إلا طيبة ليس لي عليها سبيل» . قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إلى هذا انتهى وحيى هذه طيبة والذي نفسي بيده ما فيها طريق ضيق ولا واسع ولا سهل ولا جبل إلا وعليه ملك شاهر سيفه إلى يوم القيامة» . قال المؤلف رحمه الله: هذا حديث صحيح، وقد خرجه مسلم والترمذي وأبو داود وغيرهم رضي الله عنهم. وقد قيل: إن الدابة التي تخرج هي الفصيل الذي كان لناقة صالح عليه السلام، فلما قتلت الناقة هرب الفصيل بنفسه فانفتح له حجر فدخل فيه ثم انطبق عليه، فهو فيه إلى وقت خروجه حتى يخرج بإذن الله تعالى. قلت: ويدل على هذا القول حديث حذيفة المذكور في هذا الباب وفيه: وهي ترغو والرغال إنما هو للإبل والله أعلم. ولقد أحسن من قال: واذكر خروج فعيل ناقة صالح ... يسم الورى بالكفر والإيمان فصل: وقد استدل من قال من العلماء: إن الدجال ليس ابن صياد بحديث الجساسة وما كان في معناه، والصحيح أن ابن صياد هو الدجال بدلالة ما تقدم وما يبعد أن يكون بالجزيرة ذلك الوقت، ويكون بين أظهر الصحابة في وقت آخر إلى أن فقدوه يوم الحرة، وفي كتاب أبي داود في خبر الجساسة من

حديث أبي سلمة بن عبد الرحمن قال: شهد جابر أنه هو ابن صياد

قلت فإنه قد مات قال: وإن مات. قلت: فإنه قد أسلم قال وإن أسلم. قلت: فإنه قد دخل المدينة. قال: وإن دخل المدينة. وذكر سيف بن عمر في كتاب الفتوح والردة: ولما نزل أبو سبرة في الناس على السوس وأحاط المسلمون بها وعليهم الشهربان أخو الهرمزان ناوشوهم القتال. كل ذلك يصيب أهل السوس من المسلمين. فأشرف عليهم يوما الرهبان والقسيسيون فقالوا: يا معشر العرب إن مما عهد علماؤنا وأوائلنا أنه لا يفتح السوس إلا ال أو قوم فيهم الدجال. فإن كان الدجال فيكم فستفتحونها وإن لم يكن فيكم فستفتحونها وإن لم يكن فيكم فلا تعنوا أنفسكم بالحصار. قال وصاف ابن صياد يومئذ مع النعمان في جند فأتى باب السوس غضبان فدقه برجله وقال: انفتح فطار فتقطعت السلاسل وتكسرت الأغلاق وتفتحت الأبواب ودخل المسلمون، وقصته مع أبي سعيد، وقوله: والله إني لأعرفه وأعرف مولده وأين هو الآن.

وقال الترمذي: وأين هو الساعة من الأرض وأعرف والده كالنص في أنه هو واحتجاجه بأنه مسلم وولد له ودخل المدينة وهو يريد مكة تلبس منه، وأنه سيكفر إذا خرج، وحينئذ لا يولد له ولا يدخل مكة والمدينة، والله أعلم. وقوله: ارفأوا: أي الجأوا إلى جزيرة لجأوا مرفأ السفينة حيث ترسي، يقال: أرفأت السفينة إذا قربتها من الشط، وذلك الموضع مرفأ، وأرفأت إليه لجأت إليه، وأقرب السفينة هي القوارب الصغار يتصرف بها ركاب السفينة والواحد قارب على غير قياس. قال الخطابي والماذري: والمهلب: الشعر الغليظ، وقال: أهلب على معنى الحبوان أو الشخص ولو راعى اللفظ لقال هلبا كأحمر وحمر. والأهلب أيضاً عند بعض أهل اللغة: الذي لا شعر عليه وهو من الأضداد واستفهامهم منها: ظناً منهم أنها ممن لا تعقل، فلما كلمتهم، فرقوا: أي فزعوا. واغتلام البحر: هيجانه وتلاطم أمواجه وبيسان وزغر: موضعان بالشام بين الأردن وفلسطين. كما في حديث الترمذي. قال الحافظ أبو الخطاب بن دحية: كانت بيسان مدينة وفيها سوق كبيرة وعين تسمى عين فلوس يسقى منها، وبحيرة طبرية هي بحيرة عظيمة طولها عشرة أميال وعرضها ستة أميال وموجها في سور قلعتها وهي عميقة تجري فيها السفن ويصاد منها السمك وماؤها حلو فرات، وبين بحيرة طبرية وبيت المقدس نحو من مائة ميل وهي من الأردن ولزمتها

باب طلوع الشمس من مغربها وإغلاق باب التوبة وكم يمكث الناس بعد ذلك؟

هي لصغيرة بحرة ولا بحر، لأن البحر مذكر، وتصغيره بحيرة، وعين زغر بضم الزاي وفتح الغين وامتناع صرفه للعلمية والعدل لأنه معدول عن زاغر كعمر معدول عن عامر، وزعم الكلبي أن زغر اسم امرأة نسبت هذه العين إليها، فإن كان ما قاله حقاً فلأن هذه المرأة استنبطتها واتخذت أرضها داراً لها. فنسبت إليها. ذكره ابن دحية في كتاب البشارات والإنذارات له من تأليفه. وقوله عليه الصلاة والسلام: «إلا أنه في بحر الشام أو بحر اليمن» . شك أو ظن منه عليه الصلاة والسلام أو قصد على الإبهام على السامع، ثم نفى ذلك وأضرب عنه بالتحقيق فقال: «لا بل من قبل المشرق» ، ثم أكد ذلك بما الزائدة وبالتكرار اللفظي فما زائدة لا نافية، فاعلم ذلك. باب طلوع الشمس من مغربها وإغلاق باب التوبة وكم يمكث الناس بعد ذلك؟ مسلم «عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ثلاث إذا خرجن لا ينفع نفساً إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيراً: طلوع الشمس من مغربها، والدجال، ودابة الأرض» . وخرج الترمذي والدارقطني. «عن صفوان بن عسال المرادي قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن بالمغرب باباً مفتوحاً للتوبة مسيرة سبعين سنة لا يغلق حتى تطلع الشمس من نحوه» قال الترمذي: حديث حسن صحيح.

وقال سفيان: [قبل الشام خلقه الله تعالى يوم خلق السموات والأرض مفتوحاً يعين التوبة لا يغلق حتى تطلع الشمس منه] قال الترمذي: حديث حسن صحيح. وذكر أبو إسحاق الثعلبي وغيره من المفسرين في حديث فيه طول، «عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم ما معناه: أن الشمس تحبس على الناس حتى تكثر المعاصي في الأرض ويذهب المعروف فلا يأمر به أحد، ويفشو المنكر فلا ينهى عنه أحد مقدار ليلة تحت العرش كلما سجدت واستأذنت ربها عز وجل من أين تطلع لم يحر إليها جواب، حتى يوافيها القمر فيسجد معها ويستأذن من أين يطلع فلا يجر إليه جواب، حتى يجلسا مقدار ثلاث ليالي للشمس وليلتين للقمر، فلا يعرف ما طول تلك الليلة إلا المتهجدون في الأرض، وهم يومئذ عصابة قليلة في كل بلدة من بلاد المسلمين، فإذا تم لهما مقدار ثلاث ليال أرسل الله تعالى إليهما جبريل عليه السلام، فيقول: إن الرب سبحانه وتعالى يأمركما أن ترجعا إلى مغاربكما فتطلعا منه، وأنه لا ضوء لكما عندنا ولا نور فيطلعان من مغاربهما أسودين لا ضوء للشمس ولا نور للقمر مثلهما في كسوفهما قبل ذلك، فذلك قوله تعالى {وجمع الشمس والقمر} وقوله {إذا الشمس كورت} فيرتفعان كذلك مثل البعيرين والفرسين، فإذا ما بلغ الشمس والقمر سرة السماء وهي نصفها جاءهما جبريل فأخذ بقرونها وردهما إلى المغرب فلا يغربهما من مغاربهما، ولكن يغربهما من باب التوبة، ثم يرد المصراعين ثم يلتئم بينهما فيصير كأنه لم يكن بينهما صدع، فإذا أغلق باب التوبة لم يقبل لعبد بعد ذلك توبة ولم تنفعه حسنة يعملها من كان قبل ذلك محسناً، فإنه يجري عليه ما كان عليه قبل ذلك اليوم، فذلك قوله

تبارك وتعالى {يوم يأتي بعض آيات ربك لا ينفع نفساً إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيراً} . ثم إن الشمس والقمر يكسبان بعد ذلك الضوء والنور، ثم يطلعان على الناس ويغربان كما كان قبل ذلك يطلعان ويغربان» وذكر الميانشي وقال عبد الله بن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم «ويبقى الناس بعد طلوع الشمس من مغربها عشرين ومائة سنة» . فصل قال العلماء: وإنما لا ينفع نفساً إيمانها عند طلوعها من مغربها لأنه خلص إلى قلوبهم من الفزع ما تخمد معه كل شهوة من شهوات النفس، وتفتر كل قوة من قوى البدن، فيصير الناس كلهم لإيقانهم بدنو القيامة في حال من حضره الموت في انقطاع الدواعي إلى أنواع المعاصي عنهم وبطلانها من أبدانهم، فمن تاب في مثل هذه الحال لم تقبل توبته كما لا تقبل توبة من حضره الموت. قال صلى الله عليه وسلم: «إن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر» أي تبلغ روحه رأس حلقه وذلك وقت المعاينة الذي يرى فيه مقعده من الجنة ومقعده من النار، فالمشاهد لطلوع الشمس من مغربها مثله. وعلى هذا ينبغي أن تكون توبة كل من شاهد ذلك أو كان كالمشاهد له مردودة ما عاش، لأن علمه بالله تعالى وبنبيه صلى الله عليه وسلم وبوعده قد صار ضرورة، فإن امتدت أيام الدنيا إلى أن ينسى الناس من هذا الأمر العظيم ما كان ولا يتحدثون عنه إلا قليلاً، فيصير الخبر عنه خاصاً وينقطع التواتر عنه، فمن أسلم في ذلك الوقت أو تاب قبل منه، والله أعلم.

وقد قيل: إن الحكمة في طلوع الشمس من مغربها أن إبراهيم عليه السلام قال لنمرود: {فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب فبهت الذي كفر} وإن الملحدين والمنجمين عن آخرهم ينكرون ذلك ويقولون: هو غير كائن فيطلعها الله تعالى يوماً من المغرب ليرى المنكرين لذلك قدرته من أن الشمس في قدرته إن شاء أطلعها من المشرق وإن شاء أطلعها من المغرب، وعلى هذا يحتمل أن يكون رد التوبة والإيمان على من آمن وتاب من المنكرين لذلك المكذبين لخبر النبي صلى الله عليه وسلم، فأما المصدق فإنه تقبل توبته وينفعه إيمانه قبل ذلك، والله أعلم. وروي عن ابن عباس أنه قال: لا يقبل من كافر عمل ولا توبة إذا أسلم حين يراها إلا من كان صغيراً يومئذ فإنه لو أسلم بعد ذلك قبل منه ومن كان مؤمناً مذنباً فتاب من الذنب قبل منه. وروي عن عمران بن حصين أنه قال: إنمالم تقبل وقت الطلوع حتى تكون صيحة فيهلك فيها كثير من الناس، فمن أسلم أو تاب في ذلك الوقت ثم هلك لم تقبل توبته، ومن تاب بعد ذلك قبلت توبته. ذكره الليث السمرقندي في تفسيره. فصل واختلفت الروايات في أول الآيات، فروي أن طلوع الشمس من مغربها أولها على ما وقع حديث مسلم في هذا الباب. وقيل: خروج الدجال. وهذا القول أولى القولين وأصح لقوله عليه الصلاة والسلام: «إن الدجال خارج فيكم لا محالة» الحديث بطوله. فلو كانت الشمس طلعت قبل ذلك من مغربها لم ينفع اليهود إيمانهم

أيام عيسى عليه السلام، ولو لم ينفعهم لما صار الدين واحداً بإسلام من أسلم منه. وقد تقدم القول مبيناً في هذا، وأن أول الآيات الخسوفات، فإذا نزل عيسى عليه السلام وقتل الدجال خرج حاجاً إلى مكة، فإذا قضى حجة انصرف إلى زيارة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، فإذا وصل إلى قبر الرسول صلى الله عليه وسلم أرسل الله عند ذلك ريحاً عنبرية فتقبض روح عيسى عليه السلام ومن معه من المؤمنين، فيموت عيسى عليه السلام ويدفن مع النبي صلى الله عليه وسلم في روضته، ثم تبقى الناس حيارى سكارى فيرجع أكثر أهل الإسلام إلى الكفر والضلالة وتستولي أهل الكفر على من بقي من أهل الإسلام، فعند ذلك تطلع الشمس من مغربها، وعند ذلك يرفع القرآن من صدور الناس ومن المصاحف، ثم تأتي الحبشة إلى بيت الله فينقضونه حجراً حجراً ويرمون بالحجارة في البحر، ثم تخرج حينئذ دابة الأرض تكلمهم، ثم يأتي دخان يملأ ما بين السماء والأرض، فأما المؤمن فيصيبه مثل الزكام، وأما الكافر والفاجر فيدخل في أنوفهم فيثقب مسامعهم ويضيق أنفاسهم، ثم يبعث الله ريحاً من الجنوب من قبل اليمن مسها مس الحرير وريحها ريح المسك، فتقبض روح المؤمن والمؤمنة، وتبقى شرار الناس ويكون الرجال لا يشبعون من النساء والنساء لا يشبعن من الرجال، ثم يبعث الله الرياح فتلقيهم في البحر. هكذا ذكر بعض العلماء الترتيب في الأشراط وفيه بعض اختلاف، وقد تقدمت الإشارة إليه فيما تقدم، والله أعلم.

باب خراب الأرض والبلاد قبل الشام

وقيل: إذا أراد الله انقراض الدنيا وتمام لياليها وقربت النفخة خرجت نار من قعر عدن لتسوق الناس إلى المحشر تبيت معهم وتقيل معهم حتى يجتمع الخلق بالمحشر الإنس والجن والدواب والوحوش والسباع والطير والهوام وخشاش الأرض وكل من له روح، فبينما الناس قيام في أسواقهم يتبايعون وهم مشتغلون بالبيع والشراء إذا هم بهدة عظيمة من السماء يصعق منها نصف الخلق فلا يقومون من صعقتهم مدة ثلاثة أيام، والنصف الآخر من الخلق تذهل عقولهم فيبقون مدهوشين قياماً على أرجلهم، وهو قوله تعالى {ما ينظر هؤلاء إلا صيحة واحدة ما لها من فواق} فبينما هم كذلك إذا هدة أخرى أعظم من الأولى غليظة فظيعة كالرعد القاصف، فلا يبقى على وجه الأرض أحد إلا مات. كما قال ربنا جل وعلا {ونفخ في الصور فصعق من في السموات ومن في الأرض إلا من شاء الله} فتبقى الدنيا بلا آدمي ولا جني ولا شيطان، ويموت جميع من في الأرض من الهوام والوحوش والدواب وكل شيء له روح، وهو الوقت المعلوم الذي كان بين الله تعالى وبين إبليس الملعون. باب خراب الأرض والبلاد قبل الشام ما جاء في خراب الأرض والبلاد قبل الشام ومدة بقاء المدينة خراباً قبل يوم القيامة وفي علامة ذهاب الدنيا ومثالها وفي أول ما يخرب ما يخرب منها. «روي من حديث حذيفة بن اليمان رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ويبدأ الخراب في أطراف الأرض حتى تخرب مصر، ومصر آمنة من الخراب حتى تخرب البصرة، وخراب البصرة من العراق، وخراب مصر من جفاف النيل،

وخراب مكة من الحبشة، وخراب المدينة من الجوع، وخراب اليمن من الجراد، وخراب الأيلة من الحصار، وخراب فارس من الصعاليك، وخراب الترك من الديلم، وخراب الديلم من الأرمن، وخراب الأرمن من الخزر، وخراب الخزر من الترك، وخراب الترك من الصواعق وخراب السند من الهند، وخراب الهند من الصين، وخراب الصين من الرمل، وخراب الحبشة من الرجفة، وخراب الزوراء من السفياني، وخراب الروحاء من الخسف، وخراب العراق من القحط» . ذكره أبو الفرج الجوزي رحمه الله في كتاب روضة المشتاق والطريق إلى الملك الخلاق وسمعت أن خراب الأندلس من الريح العقيم. والله أعلم. وذكر أبو نعيم الحافظ، عن أبي عمران الجوني وأبي هارون العبدي أنهما سمعا نوفا البكالي يقول: إن الدنيا مثلت على طير، فإذا انقطع جناحاه وقع وإن جناحي الأرض مصر والبصرة، فإذا خربتا ذهبت الدنيا. وذكر أبو زيد عمر بن شبة، «حدثنا موسى ابن إسماعيل قال: حدثنا أبان بن يزيد عن يحيى بن أبي كثير قال: ذكر لي عن عوف بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: أما والله يا أهل المدينة لتتركها قبل يوم القيامة أربعين» . وقال كعب: ستخرب الأرض قبل الساعة بأربعين سنة، وليهاجرن الرعد والبرق إلى الشام حتى لا تكون رعدة ولا برقة إلا ما بين العريش والفرات. «ويروى عن علي رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: قال الله تعالى: إني إذا أردت أن أخرب الدنيا بدت ببيتي فأخربه، ثم أخرب الدنيا على أثره» قد

باب لا تقوم الساعة حتى لا يقال في الأرض: الله الله

تقدم أن الذي يخربه ذو السويقتين على ما تقدم، والله أعلم. باب لا تقوم الساعة حتى لا يقال في الأرض: الله الله مسلم «عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تقوم الساعة حتى لا يقال في الأرض: الله الله» . وفي رواية أخرى: «لا تقوم الساعة على أحد يقول: الله الله» . فصل قال علماؤنا رحمة الله عليهم: قيد الله برفع الهاء ونصبها فمن رفعها فمعناه ذهاب التوحيد، ومن نصبها فمعناه انقطاع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. أي لا تقوم الساعة على أحد يقول: اتق الله. قال المؤلف رحمه الله: ويدل على صحة هذا التأويل قوله عليه الصلاة والسلام في حديث حذيفة: «لتقصدنكم نار هي خامدة» الحديث وفيه هم شر من الحمر يتسافدون تسافد البهائم وليس فيهم رجل يقول: مه مه. وقد قيل: إن هذه الإسم أجراه الله على ألسنة الأمم من لدن آدم عليه السلام ولم تنكره أمة بل هو دائر على ألسنتهم من عهد أبيهم إلى انقضاء الدنيا، وقد قال قوم نوح: {ولو شاء الله لأنزل ملائكة} الآية، وقال قوم هود: {أجئتنا لنعبد الله وحده} ، وقالوا {إن هو إلا رجل افترى على الله كذباً} إلى غير ذلك. وقال: {ولئن

باب على من تقوم الساعة؟

سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله} فإذا أراد الله زوال الدنيا قبض أرواح المؤمنين وانتزع هذا الاسم من ألسنة الجاحدين وفجأهم عند ذلك الحق اليقين، وهو قوله عليه الصلاة والسلام: «لا تقوم الساعة وعلى الأرض من يقول: الله» . وفي الخبر: إن الله تعالى يقول لإسرافيل عليه السلام: إذ سمعت قائلاً يقول: لا إله إلا الله فأخر النفخة أربعين سنة إكراماً لقائلها. والله أعلم. باب على من تقوم الساعة؟ مسلم «عن عبد الرحمن بن شماسة المهدي قال: كنت عند مسلمة بن مخلد وعنده عبد الله بن عمرو بن العاص، فقال عبد الله: لا تقوم الساعة إلا على شرار الخلق وهم شر من أهل الجاهلية لا يدعون الله بشيء إلا رده عليهم، فبينما هم كذلك أقبل عقبة بن عامر فقال له ابن شماسة يا عقبة: اسمع ما يقول عبد الله، فقال عقبة: هو أعلم، وأما أنا فسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: لا تزال عصابة من أمتي يقاتلون على أمر الله قاهرين لعدوهم لا يضرهم من خالفهم حتى تأتيهم الساعة وهم على ذلك فقال عبد الله: أجل. ثم يبعث الله ريحاً كريح المسك مسها كمس الحرير لا تترك نفساً في قلبها مثقال حبة من إيمان إلا قبضتها ثم تبقى شرار الناس، عليهم تقوم الساعة» . وفي حديث عبد الله بن مسعود: لا تقوم الساعة إلا على شرار الناس من لا يعرف معروفاً ولا ينكر منكراً يتهارجون كما تتهارج الحمر. قال الأصمعي: قوله يتهارجون يقول: يتسافدون يقال: بات فلان يهرج. والهرج في غير هذا: الاختلاط والقتل.

وخرج مسلم، «عن عائشة رضي الله عنها قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: لا تذهب الليالي والأيام حتى تعبد اللات والعزى، فقلت: يا رسول الله إن كنت لأظن حين أنزل الله: {هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون} أن ذلك عام. قال: إنه سيكون من ذلك ما شاء الله ثم يبعث ار ريحاً طيبة فتتوفى كل من كان في قلبه مثقال حبة من إيمان فيبقى من لا خير فيه فيرجعون إلى دين آبائهم» . والله أعلم. فصل ذكر أبو الحسن بن بطال رحمه الله في هذا الحديث في شرح البخاري له مبيناً لحديث البخاري «عن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: لا تقوم الساعة حتى تضطرب أليات نساء دوس على ذي الخلصة» الحديث وقد تقدم وقال: هذه الأحاديث وما جاء فيها معناها الخصوص وليس المراد بها أن الدين كله ينقطع في جميع أقطار الأرض حتى لا يبقى منه شيء، لأنه قد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم «أن الإسلام يبقى إلى قيام الساعة إلا أنه يضعف ويعود غريباً كما بدأ» . «روى حماد بن سلمة، عن قتادة، عن مطرف، عن عمران بن حصين قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تزال طائفة من أمتي يقاتلون على الحق حتى يقاتل

آخرهم المسيح الدجال» ، وكان مطرف يقول هم أهل الشام. قلت: ما ذكره من أن الدين لا ينقطع وأن الإسلام يبقى إلى قيام الساعة يرده حديث عائشة وعبد الله بن عمرو، وما ذكره من حديث عمران بن حصين وقد تقدم أن عيسى عليه السلام يقتل الدجال ويخرج يأجوج ومأجوج ويموتون ويبقى عيسى عليه السلام ودين الإسلام لا يعبد في الأرض غير الله كما تقدم، وأنه يحج ويحج معه أصحاب الكهف فيما ذكره المفسرون، وقد تقدم أنهم حوارية إذا نزل فإذا توفي عيسى عليه السلام بعث الله تعالى عند ذلك ريحاً باردة من قبل الشام، فتأخذ تحت آباطهم فتقبض روح كل مؤمن وكل مسلم، ويبقى شرار الناس يتهارجون فيها تهارج الحمر فعليهم تقوم الساعة كذا في حديث النواس بن سمعان الطويل، وقد تقدم. وفي حديث عبد الله بن عمرو: ثم يرسل الله ريحاً باردة من قبل الشام فلا يبقى على وجه الأرض أحد في قلبه مثقال ذرة من خير أو إيمان إلا قبضته، حتى لو دخل أحدكم في كبد جبل لدخلت عليه حتى تقبضه قال: سمعتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذكر الحديث. وقد تقدم بكماله. وفيه ذكر النفخ والصعق والبعث، فهذا غاية في البيان في كيفية انقراض هذا الخلق وهذه الأزمان، فلا تقوم الساعة وفي الأرض من يعرف الله ولا من يقول: الله الله.

وذكر أبو نعيم عن أبي الزهراية، عن كعب الأحبار قال: يمكث الناس بعد خروج ويأجوج ومأجوج في الرخاء والخصب والدعة عشر سنين، حتى إن الرجلين ليحملان الرمانة الواحدة بينهما ويحملان العنقود الواحد من العنب، فيمكثون على ذلك عشر سنين، ثم يبعث الله ريحاً طيبة فلا تدع مؤمناً إلا قبضت روحه، ثم تبقى الناس بعد ذلك يتهارجون تهارج الحمر في المروج حتى تأتيهم أمر الله والساعة وهم على ذلك. نسأل الله العظيم، رب العرش العظيم، أن يتوفانا مسلمين، وأن يلحقنا بالشهداء والصالحين، وأن يجعلنا من عباده المتقين الفائزين، ويجعل ما كتبته خالصاً لوجهه الكريم، بمنه وكرمه، وأن ينفعنا به ووالدينا، وغفر الله لصاحب هذا الكتاب، ولوالديه، ولسائر المسلمين أجمعين. آمين يا رب العالمين. تم الكتاب وربنا محمود ... وله المكارم والعلا والجود وعلى النبي محمد صلواته ... ما ناح قمري وأورق عود ووافق الفراغ من نسخه، في منتصف شهر رمضان المعظم قدره، من شهور سنة اثنتين وسبعين وسبعمائة. على يد أقل عباد الله وأحوجهم إلى لطفة الخفي. الحسين بن علي بن منصور بن ناصر الحنفي. غفر الله له ولوالديه، ولمن قرأ فيه، ودعا له بالتوبة النصوح، والمغفرة والرحمة يا رب العالمين، ولسائر المسلمين أجمعين، وصلى الله على سيدنا محمد، وآله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً. حسبنا الله ونعم الوكيل.

§1/1