التدريب في الفقه الشافعي
سراج الدين البلقيني
جَمِيع الْحُقُوق مَحْفُوظَة الطبعة الأولى 1433 هـ - 2012 م دَار الْقبْلَتَيْنِ المملكة الْعَرَبيَّة السعودية - الرياض جوال: 0506639380 - تليفاكس: 014497216
مقدمة التحقيق
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مقدمة التحقيق إن الحمد للَّه نحمده ونستعينه ونستهديه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ باللَّه من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده اللَّه فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا اللَّه وحده لا شريك له هو الأول والآخر والظاهر والباطن وهو بكل شيء عليم، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله وخاتم رسله وخليله. {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 102]. {يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء: 1]. {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا} [الأحزاب: 70].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كلام اللَّه، وخير الهدي هدي محمَّد -صلى اللَّه عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. وبعد: فهذا كتاب "تدريب المبتدي وتهذيب المنتهي" في الفقه الشافعي، أتشرف بتقديمه اليوم إلى طلاب العلم عمومًا والمهتمين بالفقه الشافعي خصوصًا. وتأتي أهمية هذا الكتاب من كونه قد عرض الفقه الشافعي على طريقة مبتكرة جديدة لم يسبق إليها البلقيني إلا ما كان من المحاملي في كتابه "اللباب" ولكن كتاب المحاملي مختصر جدًّا، مما أدى إلى تركه لكثير من المسائل والفروع التي نبَّه عليها البلقينيُّ رحمه اللَّه. وكذلك تأتي أهمية هذا الكتاب من كون مؤلفه هو الإِمام سراج الدين البلقينيُّ, وهو علمٌ من أعلامِ الفقه الشافعي، فقد رحل إليه طلَّاب العلم من أقطار مصر المختلفة، وكان أحفظ الناس لمذهب الشافعي، واشتهر بذلك مع وجود مشايخه، وقد اعترفوا بفضله، وتصدَّى للإفتاء والتدريس والتعليم، حتى صارَ معول الناس عليه، وكان صحيح الحفظ قليل النسيان، صاحب اختيارات في المذهب. والجدير بالذكر أنَّه كان كثير التصنيف؛ مما أدَّى إلى أنه لم يكمل بعض كتبه ككتابه "التدريب" ومع هذا صنَّف له مختصرًا وهو "التأديب في مختصر التدريب"، وقد أكمل أحد أبنائه كتاب أبيه التدريب، وهو علم الدين صالح البلقيني، وسماه "تتمة التدريب" ولم أر هذه التتمة إلَّا في النسخة الأزهرية فقط، وتبدأ هذه التتمة من كتاب النفقات إلى آخر الكتاب. فالحمد للَّه على توفيقه وعونه، وأسأله تعالى القبول في الدنيا والآخرة. وقد قدمت لهذا الكتاب بمقدمةٍ تشتملُ على عناصر، وهي كما يلي: 1 - أهمية الفقه الإِسلامي.
2 - نشأة المذهب الشافعي وتطوره وأبرز علمائه. 3 - دراسة كتاب التدريب، وتشتمل على: أ - ترجمة المصنف. ب - اسم الكتاب وأصله. جـ - صحة نسبة الكتاب لمصنفه. د - قيمة الكتاب العلمية. هـ - منهج تحقيق الكتاب. و- وصف النسخ الخطية المعتمدة في التحقيق وصورها. * * *
أولا: مقدمة عن علم الفقه وأهميته
(1) مقدمة عن علم الفقه وأهميته ما هو الفقه؟ أولًا الفقه في اللغة: الفهم. قال تعالى: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} [الإسراء: 44]. وقال تعالى: {فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا} [النساء: 78]. وقال ابن القيم الفقه: فهم المعنى المراد. قال تعالى: {قَالُوا يَاشُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ} [هود: 91]. وقيل الفقه: الفهم الدقيق. قال -صلى اللَّه عليه وسلم- لابن عباس: "اللهم فقهه في الدين" متفق عليه. فلا تقول فقهت أن الاثنين أكثر من الواحد. ثانيًا الفقه في الاصطلاح: معرفة الأحكام الشرعية العملية بأدلتها التفصيلية. كيف نشأ الفقه؟ نشأ الفقه من نزول الشرع على رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- وتعليمه للصحابة، وحث المستمعين على التبليغ فرُبَّ مبلغ أوعى من سامع ورُب حامل فقه إلى من هو أفقه منه، ثم كان الصحابة يأتون فيسألون النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- فيجبهم، وكذا كان الصحابة والتابعون يسألون العلماء فيجيبونهم، وقد برز من الصحابة زيد بن ثابت وابن عباس وابن مسعود وعائشة وغيرهم. ثم برزت ظاهرة في عصر التابعين، وهي ظهور فقهاء في مدينة رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، وعددهم سبعة، وهم: عبيد اللَّه بن عبد اللَّه بن عتبة بن مسعود وعروة بن الزبير والقاسم بن محمد بن أبي بكر وسعيد بن المسيب وأبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام بن المغيرة وسليمان بن يسار وخارجة بن زيد. ثم برز الأئمة الأربعة: أبو حنيفة النعمان، ومالك بن أنس، ومحمد بن إدريس الشافعي، وأحمد بن حنبل الشيباني. وقد نشأت مدرستان في الفقه، وهما مدرسة الحجاز أهل الحديث، ومدرسة
أهمية علم الفقه
الكوفة أهل الرأي. أما مدرسة الحجاز فقد أخذت عن زيد بن ثابت وعبد اللَّه بن عمر ثم سعيد بن المسيب وسالم بن عبد اللَّه بن عمر والقاسم بن محمد، ومن أئمتها الإِمام مالك والإمام الشافعي والإمام أحمد. أما مدرسة الكوفة فقد أخذت عن عمر بن الخطاب وعبد اللَّه بن مسعود ثم إبراهيم النخعي، ومن أئمتها الإِمام أبو حنيفة. أهمية علم الفقه: إن معرفة الفقه الإِسلامي وأدلة الأحكام، ومعرفة فقهاء الإِسلام الذين يرجع إليهم في هذا الباب -من الأمور المهمة التي ينبغي لأهل العلم العناية بها، وإيضاحها للناس؛ لأن اللَّه سبحانه خلق الثقلين لعبادته، ولا يمكن أن تعرف هذه العبادة إلا بمعرفة الفقه الإِسلامي وأدلته، وأحكام الإِسلام وأدلته، ولا يكون ذلك إلا بمعرفة العلماء الذين يعتمد عليهم في هذا الباب من أئمة الحديث والفقه الإِسلامي. فعلم الفقه هو الذي يعرفك الحلال فتفعله والحرام فتجتنبه، وهو العلم الذي يرشدك إلى شروط صحة العبادات لكي تحققها، وهوالعلم الذي يرشدك إلى مبطلات العبادات فتتجنبها، وهو العلم الذي يبين لك المعاملات الصحيحة من الباطلة، وهو العلم الذي يبين لك الأحكام الشرعية المتعلقة بأحكام الأسرة والأحوال الشخصية، وهو العلم الذي يوضح لك أحكام الأطعمة والذبائح والصيد ما يحل منها وما يحرم، وهو العلم الذي يوضح لك أحكام الأيمان وما يكَفر منها وما لا كفارة له، هو العلم الذي يوضح لك أحكام الجنايات والديات والحدود التي حدها اللَّه تبارك وتعالى، وهو العلم الذي يبين لك كيف تحكم بين الناس في المنازعات والخصومات، وهو العلم الذي يعرفك كيف توزع المواريث توزيعًا شرعيًّا عادلًا.
والفقه في الدين: هو الفقه في كتاب اللَّه عَزَّ وَجَلَّ، والفقه في سنة رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، وهو الفقه في الإِسلام، من جهة أصل الشريعة، ومن جهة أحكام اللَّه التي أمرنا بها، ومن جهة ما نهانا عنه سبحانه وتعالى، ومن جهة البصيرة بما يجب على العبد من حق اللَّه وحق عباده، ومن جهة خشية اللَّه وتعظيمه ومراقبته، فإن رأس العلم خشية اللَّه سبحانه وتعالى، وتعظيم حرماته، ومراقبته عَزَّ وَجَلَّ فيما يأتي العبد ويذر. وبما ذكرنا يعرف المؤمن فضل فقهاء الإِسلام، وأنهم قد أوتوا خيرًا كثيرًا، وقد فازوا بحظ عظيم من أسباب السعادة وطرق الهداية؛ لأن العلم النافع من أسباب الهداية، ومن حرم العلم حرم خيرًا كثيرًا، ومن رزق العلم النافع فقد رزق أسباب السعادة، إذا عمل بذلك واتقى اللَّه في ذلك. وعلى رأس العلماء بعد الرسل أصحاب الرسول عليه الصلاة والسلام، فإفهم هم الفقهاء على الكمال، الذين تلقوا العلم عن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، وتفقهوا في كتاب ربهم وسنة نبيهم -صلى اللَّه عليه وسلم-، ونقلوا ذلك إلى من بعدهم غضًّا طريًّا، تفقهوا وعملوا، ونقلوا العلم إلى من بعدهم من التابعين، نقلوا كتاب اللَّه إلى من بعدهم لفظًا وتفسيرًا وقراءة إلى غير ذلك، ونقلوا إلى من بعدهم أيضًا ما بينه لهم نبيهم عليه الصلاة والسلام من معنى كلام اللَّه عَزَّ وَجَلَّ، ونقلوا أيضًا لمن بعدهم أحاديث الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- التي سمعوها منه، والتي رأوها منه عليه الصلاة والسلام، والتي أقرهم عليها، نقلوها إلى من بعدهم بغاية الأمانة والصدق، نقلوها إلى الأمة بواسطة الثقات من التابعين، حتى نقلت إلينا بالطرق المحفوظة الثابتة التي لا يتطرق إليها الشك، نقلها الثقات عن الثقات، والثقات عن الثقات، حتى وصلت إلى هذا القرن وما بعد. وهذا من إقامة الحجة من اللَّه عَزَّ وَجَلَّ على عباده، فإن نقل العلم من طرق الثقات عن الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- ثم عن الصحابة إلى من بعدهم، إقامة للحجة، وإيضاح للمحجة، ودعوة إلى الحق، وتحذير من الباطل، وتبصير للعباد بما خلقوا له من عبادة اللَّه وطاعته جل وعلا.
وبهذا يعلم أن لهم من الحق على من بعدهم: الدعاء لهم بالرحمة والمغفرة والرضا، والحرص على الاستفادة من علومهم، وما جمعوه وألفوه من العلوم النافعة، فإنهم سبقوا إلى خير عظيم، وإلى علم جم، سبقوا إلى الفقه في كتاب اللَّه، وإلى الفقه في سنة رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، ونقلوا إلينا ما وصل إليهم من علم باللَّه، وبكتابه، وبسنة رسوله -صلى اللَّه عليه وسلم-. فوجب علينا أن نعرف لهم قدرهم، وأن نشكرهم على علمهم العظيم، وعلى ما قاموا به من حفظ رسالة اللَّه وتفقيه الناس في دين اللَّه، وأن نستعين بما دونوه، وخلفوه من الكتب المفيدة والعلوم النافعة، حتى نعرف بذلك معاني كلام اللَّه، ومعاني كلام رسوله عليه الصلاة والسلام. وإن من أعظم الفائدة، ومن أكبر الخير الذي نقلوه إلينا أن حفظوا علينا سنة نبينا -صلى اللَّه عليه وسلم-، ونقلوها إلينا طرية غضة سليمة محفوظة، وفيها تفسير كتاب اللَّه، وفيها بيان ما أجمل في كتاب اللَّه، وفيها بيان الأحكام التي جاء بها الوحي الثاني إلى رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، وهو الوحي من اللَّه له إلى النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، وهو السنة المطهرة، فإن اللَّه جل وعلا أعطى نبيه -صلى اللَّه عليه وسلم- القرآن ومثله معه، كما قال النبي الكريم عليه الصلاة والسلام: ألا وإني أوتيت القرآن ومثله معه فعلى أهل العلم أن ينقلوا ما جاءت به السنة، وأن يوضحوا ذلك للناس، وأن يرشدوهم إلى معاني كلام ربهم وسنة نبيهم عليه الصلاة والسلام، في الخطب والمواعظ والدروس وحلقات العلم، وغير هذا من أسباب التوجيه والتعليم والإرشاد. ولهذا ارتحل العلماء إلى الأمصار، واتصلوا بالعلماء في كل قطر؛ للفائدة والعلم، ففي عهد الصحابة سافر بعض الصحابة من المدينة إلى مصر والشام، وإلى العراق واليمن، وإلى غير ذلك، للفائدة ولنقل العلم، فتجد الصحابة رضي اللَّه عنهم -وهم أفضل الناس بعد الأنبياء- ينتقلون من بلاد إلى بلاد، ليسألوا عن سنة من من رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- فاتتهم ولم يحفظوها، فبلغهم ذلك عن صحابي آخر فيسافر أحدهم إليه؛ ليسمع ذلك منه، ولينتفع بذلك، ولينقله إلى غيره من إخوانه في اللَّه التابعين لهم
بإحسان. ثم جاء العلماء بعدهم من التابعين، هكذا فعلوا، ارتحلوا في العلم، وساروا في طلب العلم، وتبصروا في دين اللَّه، وتفقهوا على الصحابة وسألوهم -رضي اللَّه عنهم وأرضاهم- عما أشكل عليهم، وعملوا بذلك، ثم نقلوا ذلك إلى من بعدهم من أتباع التابعين رواية ودراية، ثم هكذا أتباع التابعين نقلوه لمن بعدهم، ثم ألفوا كتبا عظيمة في الحديث والتفسير واللغة العربية. . . وغير هذا من أنواع العلوم الشرعية، حتى بصروا الناس، وحتى أرشدوا إلى الطريق السوي، وحتى علموهم القواعد الشرعية التي بها يعرف كتاب اللَّه، وبها تعلم معانيه، وبها تحفظ السنة، وبها تعلم معانيها. وبذلك يحصل العمل بكتاب اللَّه، وسنة رسوله -صلى اللَّه عليه وسلم- على بصيرة وعلى هدى وعلى نور، فجزاهم اللَّه عن ذلك خيرًا وضاعف لهم الأجور، وضاعف لهم الحسنات، ونفعنا بعلومهم جميعًا، وأعاذنا جميعًا من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا (¬1). * * * ¬
المذهب الشافعي نشأته وتطوره وأئمته ومصنفاتهم
المذهب الشافعي نشأته وتطوره وأئمته ومصنفاتهم مراحل تطور المذهب: لقد مرَّ المذهبُ الشافعي بعدة مراحل شأنه في ذلك شأن بقية المذاهب، وقد قسم بعض أهل العلم المراحل التي مرَّ بها المذهب إلى أربع مراحل، وبعضهم أوصلها إلى خمس، وبعضهم رفعها إلى ست، وهكذا، والاختلاف بينهم نشأ من طريقتهم في تحديد المرحلة وضوابطها، وقد مشيت ههنا على تقسيم هذه المراحل إلى أربع مراحل، وهي: المرحلة الأولى: مرحلة البناء والتأسيس، المرحلة الثانية: مرحلة التبليغ والتعريف بالمذهب، المرحلة الثالثة: مرحلة التخصص والانتشار، والمرحلة الرابعة مرحلة الاستقرار. (1) المرحلة الأولى: مرحلة البناء والتأسيس وهي تنقسم إلى قسمين: 1 - المذهب القديم. 2 - المذهب الجديد. 1 - المذهب القديم: كان الإِمام الشافعي رحمه اللَّه قد جمع بين المدارس الفقهية التي سبقته، فقد أخذ العلم في سِني الصبا عن إمام مكة -شرفها اللَّه- ومُفتيها مسلم بن خالد الزنجي، والإمام سفيان بن عيينة، ولازم الشافعي علماء مكة حتى بلغ من الشباب، فقد سافر إلى المدينة المنورة وقد جاوز العشرين بقليل، والتقى شيخها ومفتيها الإِمام مالك بن أنس صاحب المذهب المشهور، ولازمه حتى توفي الإِمام مالك سنة 179، ثم قدر اللَّه تعالى له أن يجتمع بالإمام محمد بن الحسن الشيباني وارث علم مدرسة الحنفية (مدرسة الرأي) وقد لازمه مدة من الزمن جمع فيها الكثير من علم هذه المدرسة، ولما رجع الإِمام الشافعي إلى مكة جلس يدرِّس فيها، وصار شيخها الذي لا يُجارى، واجتمع إليه طلبة العلم، وبدأ ينثر علمه، ثم سافر إلى بغداد، وجلس يدرس ويفتي، وجلس إليه الأئمة ينهلون من علومه
2 - المذهب الجديد
كالإمام أحمد والإمام إسحاق بن راهويه وغيرهما من الأئمة، وسُمِّيت اجتهادات الإِمام في هذه المرحلة بما اصطلح على تسميته بالمذهب القديم. 2 - المذهب الجديد: بدا للإمام رحمه اللَّه أن يسافر إلى مصر ليعلم أهلها ويطلع على مذهب الإِمام الليث بن سعد شيخ مصر، من خلال تلاميذه، فسافر إليها سنة 199 في أواخر سِني حياته، واجتمع إليه علماء مصر وأعيانها، وبقي الإِمام فيها حتى وافته المنية، وكان في تلك المدة قد اطلع على فقه الإِمام الليث، ومسائل متفقه الإِمام الأوزاعي، واستفاد منها، وكتب كتبه الجديدة، التي اصطلح على تسميتها بالمذهب الجديد. (2) المرحلة الثانية: مرحلة التبليغ والتعريف بالمذهب لقد قام الإِمام الشافعي رحمه اللَّه بنشر مذهبه، ووضعَ أصوله وطرقه في الاستدلال والاستنباط بيده، فقد كتب الرسالة الأولى، ثم الثانية، وكتب كتبه التي تعتبر بمثابة إسقاطات عملية لهذه الأصول والضوابط، وقد بذل جهدًا كبيرًا لا سيما في أواخر سِني حياته في نقل علمه إلى طلابه في مصر، فقد كان رحمه اللَّه يواصل الليل بالنهار بحثًا وكتابةً وتعليمًا، ويسر اللَّه تعالى له مجموعة من طلاب العلم حملوا علمه وبلّغوه، وقد كان لهؤلاء الطلبة دور كبير في نشر المذهب وحفظه. تلاميذ الشافعي وناشرو علمه: 1 - تلاميذه بمكة: * أبو بكر عبد اللَّه بن الزبير بن عيسى الحميدي القرشي: عبد اللَّه بن الزبير بن عيسى بن عبيد اللَّه القرشي الأسدي الإِمام أبو بكر الحميدي المكي، صاحب الشافعي، ورفيقه في الرحلة إلى الديار المصرية، وقد أخذ عن شيوخ الشافعي، وقال يعقوب بن سفيان: ما رأيت أنصح للإسلام وأهله منه، وقال الحاكم: الحميدي مفتي أهل مكة ومحدثهم وهو لأهل الحجاز في السنة كأحمد بن حنبل
2 - تلاميذه بالعراق
لأهل العراق، روى عنه البخاري بها صحيحه, وله مسند مشهور، مات بمكة سنة تسع عشرة ومائتين، وقيل سنة عشرين. طبقات الفقهاء للشيرازي 99 و 100 طبقات الشافعية الكبرى 140 - 143 طبقات الشافعية لابن قاضي شهبة 1/ 66 السير 10/ 616 تذكرة الحفاظ 2/ 413 العقد الثمين 5/ 160. * أبو إسحاق إبراهيم بن محمد بن العباس بن عثمان بن شافع المطلبي: ابن عم الإِمام الشافعي، روى عن الشافعي والفضيل بن عياض وجده لأمه محمد بن على بن شافع والمنكدر بن محمد بن المنكدر وحماد بن زيد وابن عيينة وطائفة، روى عنه ابن ماجه بها سننه وأحمد بن سيار المروزي وأبو بكر بن أبي عاصم وبقي بن مخلد ومطين وغيرهم، قال أبو حاتم: صدوق، وقال النسائي والدارقطني: ثقة، وكان ينشر مذهب الشافعي بين الناس. . مات سنة سبع ويقال: ثمان وثلاثين ومائتين. طبقات الشافعية الكبرى 2/ 80، الجرح والتعديل 2/ 129، تهذيب الكمال 2/ 175. * أبو الوليد موسى بن أبي الجارود: موسى بن أبي الجارود أبو الوليد المكي الفقيه راوي كتاب الأمالي وغيره عن الشافعي، روى عنه الترمذي بها آخر الجامع أقوال الشافعي، قال الدارقطني: روى عن الشافعي حديثًا كثيرًا وكان يفتي بمكة على مذهب الشافعي، لم يذكروا وفاته. . قال الذهبي: أظنه قديم الموت، وله رواية عن سفيان بن عيينة، نقل عنه الرافعي بها باب زكاة الذهب أنه روى عن الشافعي تحريم تحلية السرج واللجام. طبقات الفقهاء للشيرازي 100، طبقات الشافعية الكبرى للسبكي 161 - 162 طبقات الشافعية لابن قاضي شهبة 1/ 70. 2 - تلاميذه بالعراق: * أحمد بن حنبل: وترجمته شهيرة معروفة، وهي أكبر من أن ينبه عليها ههنا، ولكن سأذكر طرفًا يسيرًا منها، الإمام أبو عبد اللَّه أحمد بن محمد بن حنبل إمام المذهب الحنبلي أمير المؤمنين في الحديث. ومناقبه لا تُحَد ولا تُحصر، قال
الحسن بن محمد بن الصباح الزعفراني: ما قرأت على الشافعي حرفًا إلا وأحمد حاضر، وما ذهبت إلى الشافعي مجلسًا إلا وجدت أحمد فيه. وقال إبراهيم الحربي: الشافعي أستاذ الأستاذين، أليس هو أستاذ أحمد؟ وقال صالح بن أحمد: مشى أبي مع بغلة الشافعي فبعث إليه يحيى بن معين فقال: أما رضيت إلا أن تمشي مع بغلته؟ فقال: يا أبا زكريا, ولو مشيتَ إلى الجانب الآخر كان أنفع لك. طبقات الفقهاء للشيرازي 100، طبقات الشافعية الكبرى 27 - 63 طبقات الشافعية لابن قاضي شهبة 1/ 56. * الحسن بن محمد بن الحسين الصباح الزعفراني؛ هو أبو علي الحسن بن محمَّد بن الحسين الزعفراني، منسوب إلى زعفرانة، قرية بقرب بغداد، وكان إمامًا في اللغة، وهو أثبت رواة القديم، قال ابن حبان في الثقات: كان راويًا للشافعي وكان يحضر أحمد وأبو ثور عند الشافعي وهو الذي يتولى القراءة عليه وقال الزعفراني: لما قرأت كتاب الرسالة على الشافعي قال لي: من أي العرب أنت؟ فقلت: ما أنا بعربي، وما أنا إلا من قرية يقال لها الزعفرانية، قال: فأنت سيد هذه القرية، وقال الساجي: سمعت الزعفراني يقول: إني لأقرأ كتب الشافعي وتقرأ علي منذ خمسين سنة. قال السمعاني: مات في الربيع الآخر سنة تسع وأربعين ومائتين، وقال ابن خلكان: في شعبان سنة ستين ومائتين، وقال النووي في تهذيبه: في رمضان في السنة. طبقات الفقهاء للشيرازي 100، طبقات الشافعية الكبرى 114 - 117. * الحسين بن علي الكرابيسي: الحسين بن علي بن يزيد أبو علي البغدادي الكرابيسي، أخذ الفقه عن الشافعي، وكان أولًا على مذهب أهل الرأي، قال ابن عدي: وله كتب مصنفة ذكر فيها اختلاف الناس في المسائل، وكان حافظًا له، وذكر في كتبه أخبارًا كثيرة وقال الشيخ أبو إسحاق: كان متكلمًا عارفًا بالحديث له تصانيف كثيرة في أصول الفقه وفروعه، وقال العبادي: لم يتخرج على يدي الشافعي بالعراق مثل الحسين، قال الإسنوي: وكتاب القديم الذي رواه الكرابيسي عن الشافعي مجلد ضخم. توفي سنة خمس وأربعين ومائتين، وقيل
3 - تلاميذه بمصر
سنة ثمان وأربعين، ورجحه الذهبي، وسمي بالكرابيسي لأنه كان يبيع الكرابيس وهي الثياب الغليظة. وفيات الأعيان 1: 145 والانتقاء 106 وفيه: وفاته سنة 256. وتهذيب التهذيب، وتاريخ بغداد 8: 64 وفيه اختلافه مع الإِمام أحمد بن حنبل. * إبراهيم بن خالد البغدادي: إبراهيم بن خالد بن أبي اليمان أبو ثور، وقيل كنيته أبو عبد اللَّه، ولقبه أبو ثور، الكلبي البغدادي الفقيه العلامة، أخذ الفقه عن الشافعي وغيره، قال أبو بكر الأعين: سألت أحمد بن حنبل عنه فقال: أعرفه بالسنة منذ خمسين سنة وهو عندي في مسلاخ سفيان الثوري، وقال غيره، إن رجلًا سأل أحمد عن مسألة، فقال: سل غيرنا سل أبا ثور، وقال الخطيب البغدادي: كان أحد الثقات المأمونين ومن الأئمة الأعلام في الدين وله كتب مصنفة في الأحكام جمع فيها بين الحديث والفقه. قال: وكان أولًا يتفقه بالرأي ويذهب إلى قول أهل العراق حتى قدم الشافعي بغداد، فاختلف إليه، ورجع عن الرأي إلى الحديث، توفي في صفر سنة أربعين ومائتين، وهو أحد رواة القديم، وقال الرافعي في باب الغضب: أبو ثور وإن كان معدودًا وداخلًا في طبقة أصحاب الشافعي فله مذهب مستقل ولا يعد تفرده وجهًا. التاريخ الصغير 2/ 372، الجرح والتعديل 2/ 97، 98، الفهرست: 265، تاريخ بغداد 6/ 65، 69، طبقات الفقهاء للشيرازي: 75، طبقات الشافعية للسبكي 2/ 74، 80. 3 - تلاميذه بمصر: * أبو يعقوب: يوسف بن يحيى البويطي فهو من بويط من صعيد مصر، وهو أكبر أصحاب الشَّافعيّ المصريين، كَانَ إمامًا جليلًا عابدًا زاهدًا فقيهًا عظيمًا مناظرًا، جبلًا من جبال العلم والدين، تفقّه على الشَّافعي واختص بصحبته. وله من الكتب "المختصر"، اختصره من كلام الشَّافعي -رضي اللَّه عنه- قال أبو عاصم: هو في غاية الحسن. طبقات الفقهاء للشيرازي 98 طبقات الشافعية الكبرى 162 - 170 طبقات الشافعية لابن قاضي شهبة 1/ 70 السير 12/ 58.
* المزني: أبو إبراهيم، إسماعيل بن يحيى المزني، ناصر المذهب، وبدر سمائه، وكان جبل علم، مناظرًا محججًا، قال الشَّافعي -رضي اللَّه عنه- في وصفه: (لو ناظر الشيطان لغلبه)، وكان زاهدًا ورعًا، متقللًا من الدنيا، وقال الشَّافعي: (المزني ناصر مذهبي). وصنّف كتبًا كثيرة: منها: "الجامع الكبير"، و"الجامع الصغير"، "المختصر"، "المنثور"، "المسائل المعتبرة"، "الترغيب في العلم"، "الوثائق"، "العقارب"، "ونهاية المختصر". وأخذ عن المزني خلائق من علماء خراسان والعراق والشام "كتاب المختصر" وهو الَّذي اشتهر باسم "مختصر المزني" والذي سار في الناس مسيرة الشمس في الآفاق، فبلغ من الشهرة، أَن المرأة عندما كانت تزف إِلى زوجها كَانَ لا بد من وجود مختصر المزني في جهازها, ولقد كثرت شروحه، وتعددت، ومعظم شروحه تعتبر من الموسوعات الفقهية في المذهب والخلاف، كـ "الحاوي"، للمارودي، و"التعليقة" لأبي حامد الاسفرائيني، و"النهاية" لإمام الحرمين. طبقات الفقهاء للشيرازي 97، طبقات الشافعية الكبرى للسبكي 93 - 109 طبقات الشافعية لابن قاضي شهبة 1/ 58 السير 12/ 492 وفيات الأعيان 1/ 217. * الربيع: أبو محمَّد، الربيع بن سليمان المرادي مولاهم، المؤذن، ولد سنة 174 هـ واتصل بخدمة الشَّافعي، وحمل عنه الكثير، وحدّث عنه، وكان ثقة فيما يرويه، وكان مؤذنًا بالمسجد الجامع بفسطاط مصر المعروف بجامع عَمْرو بن العاص، وكان الشَّافعي يحبه، وهو راوية كتبه، وقد أجمع أصحاب الشَّافعي أَن أوثق من روى كتب الشَّافعي صاحبه وخادمه: الربيع بن سليمان المرادي. طبقات الفقهاء للشيرازي 98، طبقات الشافعية الكبرى للسبكي 132 - 139، طبقات الشافعية لابن قاضي شهبة 1/ 65 السير 12/ 587 تذكرة الحفاظ 2/ 586. * ابن عبد الحكم: أبو عبد اللَّه محمد بن عبد اللَّه بن الحكم، ولد سنة 182 هـ،
(3) المرحلة الثالثة: مرحلة التخصص والانتشار
ونزل الشَّافعي على أبيه حين قدم مصر، وكان عالمًا جليلًا وجيهًا من شيوخ المالكية في مصر، وترك محمَّد بن عبد اللَّه بن عبد الحكم مذهب الشَّافعي وعاد إِلى مذهب مالك بسبب خلاف مع البويطي فيمن يخلف الشَّافعي. طبقات الفقهاء للشيرازي 99 طبقات الشافعية الكبرى للسبكي 67 - 171 طبقات الشافعية لابن قاضي شهبة 1/ 69 السير 12/ 497 تذكرة الحفاظ 2/ 546 الوافي بالوفيات 3/ 338 الديباج المذهب 231. * أبو حفص حرملة بن يحيى بن عبد اللَّه بن حرملة بن عمران التُجِيْبي: ولد سنة ست وستين ومائة، كان إمامًا جليلًا رفيع الشأن، وكان من أكثر الناس رواية عن ابن وهب، قال أبو عمر الكندي: لم يكن بمصر أحدٌ أَكْتَبَ منه عن ابن وهب، وذلك لأن ابن وهب أقام في منزلهم سنة وستة أشهر مستخفيا من عباد لما طلبه يوليه قضاء مصر. وتوفي بمصر سنة ثلاث وأربعين ومائتين. وكان حافظًا للحديث، صنف "المبسوط" و"المختصر". طبقات الفقهاء للشيرازي 99 طبقات الشافعية الكبرى 127 - 131 طبقات الشافعية لابن قاضي شهبة 61/ 1. * أبو موسى يونس بن عبد الأعلى الصدفي المصري المقري: الإِمام الكبير، ولد سنة 170. انتهت إليه رياسة العلم بديار مصر. ورُويَ عن الشافعي أنه قال: "ما رأيت بمصر أحدًا أعقل من يونس بن عبد الأعلى" وقال يحيى بن حسان: "يُونُسكُم هذا من أركان الإِسلام" وكان يونس من جملة الذين يتعاطون الشهادة، أقام يشهد عند الحكام ستين سنة، قال النسائي: يونس ثقة. مات سنة أربع وستين ومائتين، السنة التي مات فيها المزني. طبقات الفقهاء للشيرازي 99 طبقات الشافعية الكبرى 170 - 180 طبقات الشافعية لابن قاضي شهبة 1/ 72، السير 12/ 348 تذكرة الحفاظ 2/ 527 تهذيب التهذيب 4/ 194. (3) المرحلة الثالثة: مرحلة التخصص والانتشار وتنقسم إلى ثلاث مراتب: المرتبة الأولى: أصحاب الأصحاب: نشط أصحاب أصحاب الإِمام الشافعي في نشر المذهب، وهذه الثلة كان لها أكبر الأثر في رفع لواء المذهب
من ميزات فقه الإمام الشافعي
ونشره، وهم على أربعة أقسام: القسم الأول: من تلقّى المذهب وبرع فيه لكنه وصل إلى درجة الاجتهاد المطلق. الثاني: من اجتهد واختار لنفسه بعض الاختيارات. الثالث: من عكف على دراسة المذهب، وأخذ على نفسه همّ نشره. الرابع: قوم برعوا في علوم شتّى كالحديث النبوي واللغة وغير ذلك، وأخذوا عن أصحاب الشافعي. المرتبة الثانية: التخصص والبناء: هذه المرتبة تعتبر بمثابة العمود الفقري للمذهب، ففيها بدأ يتشكل المذهب كبناء له معالمه الواضحة، ورجاله الذين تخصصوا فيه، وصاروا يدافعون عنه، وظهرت فيه كتابات متميزة، وعُين مجموعة من الشافعية في قضاء الولايات والأقاليم، وظهر أثر الإمام ابن سريج والأنماطي فيها واضحا على بعض أبناء هذه الطبقة والطبقات التي تليها. المرتبة الثالثة: المشار المذهب وظهوره على بقية المذاهب: هذه المرتبة امتداد للمرتبة التي سبقتها لكنها تفترق عنها زمانيا، وامتازت بكثرة المصنفات، وبالامتداد الجغرافي الواسع للمذهب، ففي هذه المرتبة بلغ انتشار المذهب كل البلاد الإِسلامية تقريبًا، باستثناء شمال إفريقيا والأندلس بما فيها المغرب العربي التي حافظ أهلها على المذهب المالكي، ولما وليها المعزّ بن باديس سنة 407 حمل أهلها على اتباع المذهب المالكي، وبقيت تلك البلاد تتبع المذهب المالكي إلى أيامنا هذه، فهو الغالب على تلك البلاد. * * * من ميزات فقه الإِمام الشافعي الشَّافعي -رضي اللَّه عنه- محدثٌ يُكثر في كتبه من الاستدلال بالحديث، وهو قيَّاس كبير يكثر من استعمال القياس. وقد تأثر الشَّافعي -رضي اللَّه عنه- بمدرسة الحجاز، ومدرسة العراق؛ لأنَّه كَانَ في أوّل
أمره تلميذًا للإمام مالك، ومتّبعًا لمذهبه، واحد رجال مدرسته، وما زال كذلك إلى سنة 195 هـ حيث قدم بغداد قدمته الأخيرة، فهناك كَانَ قد بلغ مؤسس مذهب يدعو إليه. وكان أقوى ما أثّر فيه اتصاله بأصحاب الإِمام أَبي حنيفة واستفادته من كتب محمَّد بن الحسن، وعلمه بطريقة أهل العراق، إذ رأى أَنَّ طريقتهم ومنهجهم لا يحسن أخذها كلّها ولا تركها كلَها، فعندهم القياس وهو منهج صحيح، ولكن في نظر الشَّافعي ليس على إطلاقه، بل لا بد أَن يتأخر القياس عن الأحاديث الصحيحة حتى ما كَانَ منها خبر آحاد، وعندهم طريقة تفريع المسائل الكثيرة من أصولها، والاستدلال بالعدالة والمصلحة والاستحسان، وإلحاق الشبيه بالشبيه، وما بين الأشياء من موافقات وفروق، والوثوب إِلى المناظرة وتأليف الحجج والبراهين والأدلة، فاقتبس من ذلك أحسنه وأضافه إِلى ثروته الحجازية من اللغة والأدب أولًا، والحديث والإجماع وطريقة الحجازيين في الاستنباط ثانيًا، فألّف بينهما بشخصيته الفذّة، فأخرج مذهبه في العراق ودعا إِليه. وتوسّع في استعمال الحديث والاستدلال به أكثر مما فعل مالك وأَبو حنيفة، وقد حَدَّ من الرأي والقياس، وضيّق سلطتهما, ولذلك كَانَ من أنصاره أحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهوية من كبار المحدِّثين، كما أَنه كَانَ أقرب إلى نفوس الحنفية من المحدَّثين وفقهائهم، لأنَّه لم ينكر القياس جملة، بل أخذ به وقعّد له القواعد حتى عَدَلَ بعضُ فقهاء العراق عن مذهب أَبي حنيفة إلى مذهبه. وكان الشَّافعيُّ أول من أعطى للحديث مكانته الأولى في الفقه، وأَلَّح إلحاحًا شديدًا في الاستدلال بالحديث، فكانت نظريته حدثًا تاريخيًا جعل الناس يتجهون للرجوع للحديث بعد أَن كَانَ الاتجاه قبله في التشريع نحو العمل المجمع عليه حينًا، وأقوال الصَّحابة والتابعين والرأي حينًا آخر، ومنذ ذلك الوقت أَخذ الفقه والحديث مسلكا جديدًا في المذاهب الفقهية. * * *
القول القديم والقول الجديد
القول القديم والقول الجديد ولتغير البيئة والزمان والأعراف عند قدومه إلى مصر، ولظهور أدلة جديدة من السنَّة النبوية لم تصل إِليه سابقًا, ولحرص الإِمام الشَّافعيُّ -رحمه اللَّه- على العمل بالسنَّة النبوية الصحيحة وعدم ردها بتعللات واهية كما يفعل غيره، وتطبيقًا لأصوله وقواعده الَّتي قرّرها في التّمسك بالكتاب والسنَّة حتى أثر عنه قوله: "إِذا صحَّ الحديث فهو مذهبي"، وفي رواية: "إِذا وجدتم في كتابي خلاف سنّة رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- فقولوا بها، ودعوا ما قلته" أفتى وعمل بما توفّر لديه من الأدلة بمصر، وعدل عن بعض آرائه وفتاويه السابقة في بغداد، فسمى ما كَانَ في بغداد بـ "القول القديم" وسمى ما دوّنه بمصر بـ "القول الجديد". القول القديم: ما قاله بالعراق إفتًاء وتصنيفًا، ومن كتبه القديمة: "الحجّة"، و"الأمالي"، و"مجمع الكافي"، و"عين المسائل"، و"البحر المحيط". القول الجديد: ما قاله بمصر إفتًاء وتصنيفًا، فإنه لما قدم مصر سنة 199 هـ وأقام بها ظهرت له أدلة لم تكن حاصلة له من قبل، وبلغته أحاديث لم تبلغه حين تدوينه المذهب القديم في بغداد، فاعتمد الجديد، وعليه كتاب "الأم"، و"الإملاء"، و"البويطي"، و"مختصر المزني"، ودوّن مذهبه الجديد في مصر، وترك مذهبه القديم في بغداد. فالجديد هو المذهب الصحيح، وعليه العمل والفتوى عند الشَّافعيّة، أما القديم فإنه يعتبر مرجوعًا عنه، ولا يعمل الشَّافعية إلَّا بمسائل قليلة منه. * * * انتشار المذهب الشَّافعيّ في أقطار العالم كانت مصر هي الموطن الأوَّل للمذهب الشَّافعيّ الجديد، حيث قضى الإِمام
دخول المذهب الشافعي إلى الشام
الشَّافعيُّ آخر حياته فيها، وخلّف كتبه وتلاميذه فيها. وكان الربيع بن سليمان راوي مذهب الشَّافعيّ فيها، فوفد إليه العلماء وطلّاب العلم لسماع كتب الشَّافعيُّ ونسخها ونقلها إِلى بلدانهم، فدخل المذهب إِلى فارس، وخراسان، وسجستان، وما وراء النهر، وانتشر فيها، وكان العالم العلّامة الشَّيخ محمَّد بن إسماعيل القفّال الكبير أول من أدخل المذهب في بلاد ما وراء النهر. وكان الحافظ عبدان بن محمَّد بن عيسى المروزي المتوفى سنة 293 هـ أول من أدخله إِلى مرو وخراسان، ويعود الفضل إليه في نشر المذهب بمرو وخراسان، بعد الشَّيخ حافظ أَحمد بن سيّار بن أيوب الحسن المروزي الَّذي كَانَ إمام أهل الحديث في بلده، علمًا وأدبًا وزهدًا، المتوفى سنة 268 هـ. وكان الحافظ أَبو عوانة، يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم بن يزيد النيسابوري المتوفى سنة 316 هـ أوّل من أدخله إِلى إسفرايين. وقال المقْدِسِيّ: إنّ المذهب الشَّافعيّ هو الغالب على كثير من بلاد الشرق كالشاش، وإيلاق، وطوس، ونسا، وأبيورد، وهراة، وسجستان، ونيسابور. قال الأسنوي: إنَّ أصحاب الإِمام الشَّافعيِّ قد حصلت لهم أمور لم تتحقق لغيرهم من أصحاب المذاهب الأخرى، منها أنهم المقدّمون في المساجد الثلاثة الشريفة: مكة، والمدينة، والقدس، ومنها أن الكلمة لهم في الأقاليم الفاضلة المشار إليها وهي: الشَّام، والمدينة، ومكة، وغالب الأقاليم الكبار العامرة، المتوسطة في الدنيا، والتي شِعار الإِسلام بها ظاهر منتظم كالحجاز، واليمن، ومصر، والشّام، والعراق، وخراسان، وديار بكر، وإقليم الروم. دخول المذهب الشَّافعيّ إِلى الشام: انتشر المذهب الشَّافعيّ أول مرّة في الشَّام عند تولي الشَّيخ أَبو زُرْعة محمَّد بن عثمان الدمشقي سنة 302 هـ قضاء دمشق بعد قضاء مصر، فكان يشجع على حفظ مختصر المزني، فيعطي لمن يحفظه مائة دينار.
دخول المذهب الشافعي إلى اليمن
دخول المذهب الشَّافعيّ إِلى اليمن: ودخل مذهب الشَّافعيّ إِلى اليمن في مخلاف الجند مع الإِمام الفقيه أوحد عصره، وفريد دهره القاسم بن محمَّد بن عبد اللَّه الجمحي القرشي المتوفى سنة 430 هـ ببلدة سهفنة، سكن اليمن في بلدة (سهفنة) وأخد يدرِّس الفقه الشَّافعيّ فاستفاد منه فقهاء هذا المذهب في هذه البلاد، وكانت مدرسته في بلدة (سهفنة) فأخذ عنه شافعية (المعافر) ولحج، وأبين، وأهل الجند، والسحول، وإحاظة، وعنّة، ووادي ظبا، وتخرج عليه كثير من علماء اليمن. * طريقة العراقيين وطريقة الخراسانيين: وقد سلك أصحاب الشَّافعيّ في استنباط الأحكام وتخريج المسائل وتفريعها على أصول الشَّافعيّ وقواعده طريقتين: عرفت إحداهما بطريقة العراقيين، وعرفت الأخرى بطريقة الخراسانيين، وقال الإِمام النووي في "المجموع" (1/ 69): وطريقة العراقيين في نقل نصوص الشَّافعيّ وقواعد مذهبه ووجوه متقدمي أصحابه، أتقن وأثبت من نقل الخراسانيين غالبًا، والخراسانيون أحسن تصرفًا وتفريغا وترتيبًا غالبًا. قال: واعلم أن مدار كتب أصحابنا العراقيين أو جماهيرهم مع جماعات من الخراسانيين على تعليق الشيخ أبي حامد، وهو في خمسين مجلدًا، جمع فيه من النفائس ما لم يشارك في مجموعة من كثرة المسائل والفروع، وذكر مذاهب العلماء، وبسط أدلتها، والجواب عنها. * الإِمام أَبو القاسم عثمان بن سعيد الأنماطي مؤسس طريقة العراقيين، وتبعه فيها تلميذه: أَبو العبَّاس ابن سُريج، وتلميذه: القفال الشاشي الكبير حتى وصل إلى أَبي حامد الاسفراييني، ثم جاء بعد الأنماطي تلميذه: * الإِمام ابن سُريج: وهو الإِمام الكبير القاضي: أَبو العبَّاس أَحمد بن عمر بن سُريج البغدادي، شيخ الشَّافعية في عصره، وعنه انتشر فقه الشَّافعية في الآفاق.
* الإمام أَبو الطيب بن سلمة: وكان من علماء هذه المرحلة: الإِمام أبو الطيب ابن المفضل بن سلمة بن عاصم، وهو من كبار علماء الشَّافعية، وأصحاب الوجوه، ومتقدميهم. * الإمام الإصطخري: وهو الإِمام العظيم أبو سعيد، الحسن بن أَحمد بن نصر الإصطخري، أحد عظماء الشَّافعية، من أصحاب الوجوه. * الإِمام أَبو العبَّاس بن القاص: وهو: أبو العبَّاس أحمد بن أبي أحمد القاص الطبري، من كبار فقهاء الشَّافعيّة وأصحاب الوجوه المتقدّمين، أخذ الفقه عن ابن سُريج، وعنه أخذ أهل طبرستان الفقه الشَّافعي، فهو شيخ الشَّافعية فيها, وله مؤلفات كثيرة ونفيسة، لقيت العناية والاهتمام في المذهب، ومنها: "التلخيص"، وهو من أنفسها، قال النووي: لم يصنف قبله ولا بعده مثله في أسلوبه. * الإمام أبو إسحاق المروزي: هو أبو إسحاق إبراهيم بن أحمد المروزي، كَانَ إمامًا جليلاً، غوَّاصًا على المعاني، ورِعًا زاهدًا. * الإِمام ابن أبي هُريرة: وهو الإِمام الكبير القاضي أبو علي الحسن بن الحسين ابن أبي هُريرة أحد أئمة الشافعية من أصحاب الوجوه. * القفال الكبير: هو الإِمام الجليل أبو بكر محمد بن عليّ بن إسماعيل القفّال الكبير الشاشي، تفقّه على ابن لسُريج، وعنه انتشر فقه الشَّافعيّ بما وراء النهر. * أبو حامد الإسفراييني: وهو الإِمام الجليل أبو حامد أحمد بن محمد بن أحمد الإسفراييني ويعرف بابن أبي طاهر، من كبار أصحابنا، أصحاب الوجوه في المذهب، وإمام طريقة أصحابنا العراقيين، وشيخ المذهب. * أبو الطيب الطبري (348 هـ - 450 هـ): هو الإِمام الكبير القاضي أبو الطيب طاهر بن عبد اللَّه بن طاهر بن عمر الطبري من أصحابنا أصحاب الوجوه، وللطبري مؤلفات كثيرة في المذهب والأصول والخلاف والجدل منها: شرح المزني، وهو التعليقة المشهورة. * القاضي أبو عليّ البَنْدَليجي (سنة 425 هـ): هو القاضي أبو عليّ الحسن بن
عبد اللَّه البندنيجي نسبة إلى (البندنيجين) بلدة مشهورة في طرف النهروان من ناحية الجبل، من أعمال بغداد، كان فقيهًا ورِعًا صالحًا، ومن أكبر أصحاب أبي حامد. * المَحَاملي: (سنة 415 هـ): هو أبو الحسن أحمد بن محمد بن أحمد بن القاسم بن إسماعيل الضبي المحاملي، ولد ببغداد، وأخذ الفقه عن الشيخ أبي حامد الاسفراييني، وسمع الحديث من محمد بن المظفر وطبقته. * سُلَيْم الرازي (سنة 448 هـ): هو أبو الفتح سُلَيم بن أيوب بن سُلَيم -التصغير فيهما- الرازي نسبة إلى (الري) ناحية كبيرة معروفة من عراق المعجم. * * * وفي نفس هذه المرحلة كان هناك علماء أجلاء من أهل العلم والفقه، وأصحاب الوجوه يخدمون المذهب، وينمونه، ويستنبطونه، ويستخرجون منه المسائل بطريقة عرفت بطريقة الخراسانيين، فاتخذوا مؤلفات الشافعي أساسًا، وبحثوا في أفراد المسائل، وتحرير الدلائل, ومؤسس هذه الطريقة هو: العالم العلامة الفقيه الكبير والمحدِّث المشهور أبو عوانة يعقوب بن إسحاق ابن إبراهيم النيسابوري الحافظ الكبير، صاحب المسند الصحيح المستخرج على كتاب مسلم. * ومنهم القفّال الصغير (سنة 417 هـ): وهو الإِمام أبو بكر بن عبد اللَّه بن أحمد بن عبد اللَّه المروزي المعروف بالقفال، كان في ابتداء أمره يعمل الأقفال، وهو من أكابر علماء الشافعية في عصره، وأصحاب الوجوه المتقدّمين، وشيخ الخراسانيين، وإمام طريقتهم، وهو غير القفّال الكبير. * القاضي حسين المرزوي (سنة 462 هـ): وهو الإِمام المحقّق القاضي حسين أبو عليّ بن محمد بن أحمد المرزوي، من كبار أصحاب القفّال، وأصحاب الوجوه في المذهب. * الفوراني (سنة 461 هـ): وهو الإِمام أبو القاسم عبد الرَّحمن بن محمد ابن
فوران المروزي الفوراني، تفقه على القفال حتى صار بارعًا، في العلوم، وشيخًا للشافعية بـ (مرو)، وصنّف في الأصول والخلاف والجدل والملل والنحل. * المسعودي (سنة 423 هـ): هو الإِمام أبو عبد اللَّه محمد بن عبد اللَّه بن مسعود بن أحمد بن محمد المسعودي المروزي، كان عالمًا فاضلًا، حسن السيرة، تفقه على القفّال، وشرح مختصر المزني، وكان إمامًا مبرزًا. * الجويني (سنة 438 هـ): هو الإِمام أبو محمد عبد اللَّه بن يوسف بن محمد ابن حيويه الجويني والد إمام الحرمين، كان إمامًا في التفسير والفقه والأصول والعربية والأدب، وهو من أصحاب الوجوه، تفقّه على أبي الطيب الصعلوكي، ثمَّ على أبي بكر القفال، وكان قد لازمه وانتفع به، وقد تردد ذكر الإِمام الجويني في معظم كتب المذهب، وكثر النقل عنه، وله مصنّفات كثيرة شهيرة منها: التفسير الكبير، مختصر المختصر في الفقه، شرح رسالة الشافعي في أصول الفقه، شرح عيون المسائل التي صنفها أبو بكر الفارسي في الفقه، المحيط في الفقه. * ومنهم: الإِمام أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي (361 - 450 هـ): أبو الحسن المارودي، هو العالم العلامة المحدِّث، الفقيه، الأصولي، المفسّر، السياسي، كان إمامًا في الفقه والأصول والتفسير والحديث والسياسة، حافظًا للمذهب، بصيرًا بالعربية، وقد ألف كتابه "الحاوي" شرحًا لـ "مختصر المزني" تلميذ الإِمام الشافعي، وقد قدّم الماوردي لكتابه "الحاوي" مقدمة أوضح فيها الهدف من كتابه، والنهج الذي سار عليه، وأنه اعتمد أدلة مسائله على الكتاب والسنة، وآثار الصحابة والتابعين والإجماع والقياس، ثمَّ يذكر المسألة وما تعلق بها من فروع موضحًا حكم المذهب الشافعي فيها، والخلاف، سواء كان خلاف أقوال أو أوجه، ويستشهد المارودي كثيرًا بأشعار العرب على المعاني اللغوية وغيرها مما يعرض له من مسائل فقهية، ثمَّ يعرض لأراء المذاهب الأخرى، كالأحناف والمالكية والحنابلة والظاهرية، ويناقش رأي الكل مرجّحًا رأي الشافعي رضي اللَّه عنهم جميعًا.
* الإِمام الشيرازي (سنة 476 هـ): هو: إبراهيم بن علي بن يوسف بن عبد اللَّه الشيرازي، أبو إسحاق الفقيه الشافعي، الأصولي النظّار، العالم، العامل، العابد، كان يضرب به المثل في الفصاحة والمناظرة، وصار من كبار أئمة الشافعية في الأصول والفروع والتدريس والتصنيف، وانتهت إليه رئاسة المذهب الشافعي، وقد ألّف الشيرازي: "التنبيه"، و"المهذَّب" في الفقه، و"التبصرة"، و"اللمع" في أصول الفقه، و"الملخّص"، و"المعونة" في الجدل، و"طبقات الفقهاء" في التراجم والرجال، و"النكت" في الخلاف، وأصبح كتابه "المهذّب" أهم كتاب في فقه المذهب الشافعي في عصره، وبدأ تأليفه سنة 455 هـ, وانتهى سنة 469 هـ، وتهافت عليه العلماء، وأكبّ عليه الطلاب بالدراسة والتدريس، وأصبح المرجع الوحيد للفتوى في المذهب إلى عصر الرافعي والنووي، وشرحه كثير من العلماء، وبعضهم اهتم بلغته وتفسير غريبه. وللمهذب شروح كثيرة وأهمها شرح الإِمام يحيى بن شرف الدين بن مرّي ابن حسن الحزامي الحوراني أبو زكريا محيي الدين النووي الشَّافعي المتوفي سنة 676 هـ سمّاه "المجموع". * إمام الحرمين (478 هـ): هو الإِمام عبد الملك بن عبد اللَّه ابن يوسف بن محمد بن حيويه الطائي السنبسي، ولد سنة 419 هـ وتوفى سنة 478 هـ، وقرأ الأدب، وبرع في الفقه، وصنّف فيه التصانيف المفيدة، وشرح "الرسالة" للشافعي، وشرح كتاب الشافعي، وكان يتمتع بذاكرة نادرة وحافظة لاقطة، كان يذكر دروسًا يقع كل واحد منها في عدّة أوراق، ولا يتلعثم في كلمة منها، وكان جادًا في طلب العلم، ويؤمن أن العلم لا نهاية له ولا حدود. وأعظم كتاب ألفه هو كتاب "نهاية المطلب في دراية المذهب" شرح فيه كتب الإِمام الشافعي وهي: "الأم"، و"الإملاء"، و"الرسالة"، وغيرها، و"مختصر المزني" و"البويطي" وغيرهما، وكتب أصحاب الوجوه والترجيحات. فجاء كتابه هذا "نهاية المطلب في دراية المذهب" كتابًا عظيمًا جمع فأوعى،
وأصبح مرجع العلماء في عصره، وقال عنه ابن خلّكان في "وفيات الأعيان" 3/ 354: ما صنّف في الإِسلام مثله، ويعتبر كتاب "نهاية المطلب" قمة كتب المذهب الشافعي، وهو كتاب مطوّل، لا يصل إلى مستواه إلَّا الخواص والمختصون، ولا يصبر على مطالعته إلا من أوتي الصبر الجميل والتبحر في الفقه، وهو يحتوي على جميع الأبواب الفقهية، بدءًا من العبادات إلى آخر أبواب الفقه. * أبو حامد الغزالي (450 هـ - 505 هـ): هو حجّة الإِسلام، ونادرة الزمان، الشيخ محمد بن محمد بن محمد الغزالي الطوسي الإِمام الفقيه، الأصولي، المربي. كان شديد الذكاء، سريع البديهة، قوي الحجة والبيان، تفقه على كثير من العلماء، ولازم إمام الحرمين، حتى برع في الفقه، والمعقول والمنقول، ولم يكن الغزالي مجرد حافظ للفروع والأحكام، وناقل لأراء العلماء، وإنما كان فقيهًا محققًا متفتح الذهن، وصل إلى مرتبة الاجتهاد، وقد جدد المذهب وأفاده، حيث كان يذكر حكمة التشريع في العبادة، كما يذكر في المعاملات بأن معاملات الإِسلام عبادة إذا لوحظ فيها الصدق والأمانة، وخدمة المسلمين. وقد اختصر الغزالي كتاب شيخه "نهاية المطلب" بمختصر سماه "البسيط" ثمَّ اختصره في أَقلّ منه وسمّاه "الوسيط" ثمَّ اختصره في أَقلّ منه وسماه "الوجيز". وقد أقبل الناس على كتب الإِمام الغزالي بالدرس والحفظ والشرح والاختصار، وكان لكتاب الوسيط مكان هام بين الكتب الفقهية، فهو أحد الكتب الخمسة الَّتي عليها مدار الفقه الشَّافعيّ، واشتهر لتدريس المدرّسين وبحث المشتغلين، وشرحه الإِمام ابن الرفعة نجم الدين بن محمَّد شافعي زمانه المتوفى سنة 710 هـ بشرح سماه "المطلب العالي في شرح وسيط الغزالي" ويتكون من ستة وعشرين مجلد، كما شرحه العالم العلّامة أَحمد بن أَبي الحزم القمولي، المتوفى سنة 727 هـ بشرح سمّاه "البحر المحيط في شرح الوسيط".
ظهور طريقة ثالثة جمعت بين الطريقتين
* ظهور طريقة ثالثة جمعت بين الطريقتين: وانتهى فقه الشَّافعيّ إِلى هاتين الطريقتين، وأصبحت الكتب المعتبرة لا تعدوهما، فمتى اتفقت الطائفتان على فرع من الفروع، كان هذا القول المعتمد في المذهب. ثمَّ ظهر بعد ذلك من العلماء ممن لم يتقيدوا بمدرسة واحدة منها، بل نقلوا عن هذه وتلك، ومنهم: الروياني: عبد الواحد بن إسماعيل صاحب البحر المتوفى سنة 502 هـ منهم، وكذلك أبو بكر محمد بن أحمد الشاشي صاحب كتاب "حلية العلماء في معرفة مذاهب الفقهاء"، المتوفى سنة 505 هـ. وابن الصبّاغ: عبد السيد بن محمد البغدادي صاحب كتاب "الشامل شرح مختص المزني" المتوفى سنة 477 هـ وهم عراقيون ينقلون عن الطريقتين. والمتوفي: عبد الرحمن بن مأمون النيسابوري صحابي التتمة، المتوفى سنة 448 هـ. وإمام الحرمين أبو المعالي: عبد الملك بن عبد اللَّه، صاحب نهاية المطلب، المتوفى سنة 478 هـ. والإمام الغزالي: محمد بن محمد بن محمد أبو حامد الطوسي صاحب "البسيط" و"الوسيط" و"الوجيز"، المتوفى سنة 505 هـ، وهم خراسانيون ينقلون عن العراقيين. وربما يعتمد كل غير طريقته في الفروع، فدوّنوا الفقه وجمعوا بين الطريقتين. وبظهور هؤلاء العلماء بدأ الرافدان الأساسيان الناقلان لفقه الشافعي قديمه وجديده يلتقيان في قول موحد يمثل مذهب الشافعي، والراجح من قوله، ولقد أنصف الإِمام النووي المدرستين الناقلتين للمذهب بقوله: واعلم أن نقل أصحابنا العراقيين لنصوص الشافعي، وقواعد مذهبه ووجوه
المذهب يواصل مسيرة الانتشار
متقدمي أصحابنا أتقن وأثبت من نقل الخراسانيين غالبًا، والخراسانيون أحسن تصرفًا وتفريعًا وترتيبًا غالبًا. وقد توجت الطريقة الثالثة الجامعة بين العراقيين والخراسانيين بظهور الإمامين الجليلين: الرافعي، والنووي، اللذين قاما بأكبر دور في تحرير المذهب وإرساء قواعده، وبظهورهما دخل المذهب في دوره الثالث. . دور التحرير والتنقيح. على أنه يمكن اعتبار كتاب "المهذب" لأبي إسحاق الشيرازي، و"الوسيط" لأبي حامد الغزالي، أكثر الكتب اعتبارًا وتمثيلًا للمذهب عند علماء الفترة السابقة لظهور النووي الذي يقول في هذين الكتابين: ثم إن أصحابنا المصنفين رضي اللَّه عنهم أجمعين أكثروا التصانيف كما قدمنا، وتنوعوا فيها كما ذكرنا، واشتهر منها لتدريس المدرسين وبحث المشتغلين: كتاب "المهذب" للعالم العلامة شيخ المذهب أبي إسحاق الشيرازي، وكتاب الوسيط لحجة الإِسلام أبي حامد محمد ابن محمد الغزالي، وقد أصبح دروس وبحث المحصلين المحققين، وحفظ الطلاب المعتنين فيما مضى من الزمان، وفي هذه الأعصار في هذين الكتابين، لما فيهما من الفوائد والتحقيقات. * المذهب يواصل مسيرة الانتشار: في مطلع القرنين السابع والثامن ظهرت حركات علمية، ونشط فيها التأليف، وظهر علماء أفذاذ لهم قدم راسخ في علوم الحديث ورجاله، وفي التاريخ الإِسلامي، وفي الفقه الإِسلامي، لا سيما في المذهب الشافعي، فأكثر فيه العلماء الذين بلغوا القمة من الفقه والتحصيل، الاستنباط، وأدركوا أسرار الشريعة، وأتقنوا أحكام الفقه، واستوعبوا النصوص الشرعية، وضبطوا قواعد الاستنباط والتعليل، وجلسوا للتدريس في كل من الشام ومصر والحجاز والعراق، فتهافت عليهم طلاب العلم والمعرفة من كل جانب، وأخذوا يؤلفون الكتب في الحديث والفقه والتفسير والتاريخ, ويظهر أن هذا النشاط كان تعويضا لما فقدته المكتبة
الإِسلامية من تراثها الأصيل في أنواع العلوم بسبب فتنة التتار والصليبيين الذين دمروا الكتب وأحرقوها، واعتدوا على التراث العلمي، ومنهم: * العز بن عبد السلام الذي طور الفقه وأسس قواعده: هو الشيخ عبد العزيز بن عبد السلام بن أبي القاسم بن حسن بن محمد المشهور بالعز بن عبد السلام، المولود بدمشق سنة 577 هـ, والمتوفى بمصر سنة 660 هـ. ويعتبر كتابه "قواعد الأحكام في مصالح الأنام" من البواكير الأولى لتقعيد الأحكام الفقهية ووضعها في قواعد عامة، ومبادئ كلية، وضوابط منتظمة، وهي المرحلة الثانية في تطور الفقه الإِسلامي من الفروع والجزئيات إلى القواعد والكليات، ثمَّ إلى النظريات. * الإِمام عبد الكريم الرافعي، المتوفى سنة 624 هـ: هو: عبد الكريم بن محمد بن عبد الكريم بن الفضل بن الحسن القزويني أبو القاسم الرافعي: صاحب الشرح الكبير المسمى "فتح العزيز في شرح الوجيز"، و"المحرر"، و"شرح مسند الشافعي"، و"التذنيب والأمالي". كان متضلعًا من علوم الشريعة تفسيرًا، وحديثًا وأصولًا، وكان إمامًا محققًا، كثير الأدب، شديد الاحتراز في المنقولات. ألف الرافعي أكثر من كتاب في فقه المذهب، وأشهر تأليفاته كتاب "المحرر" الذي حظي بأكبر قسط من اهتمام المتأخرين، وهو كتاب كثير الفوائد، عمدة في تحقيق المذهب، معتمد المفتي وغيره من أولي الرغبات، وقد التزم أن ينص على ما صححه معظم الأصحاب، ووفى بالتزامه. وكتاب الرافعي هذا مأخوذ من الكتاب "الوجيز" و"الوجيز" هو تأليف حجة الإِسلام أبي حامد الغزالي، والإمام الرافعي يعتبر أحد محرري المذهب ومنقحيه ومطوريه، ويرجع المتأخرون إلى ترجيحه مع الإِمام النووي. * الإِمام يحيى بن شرف النووي المتوفى سنة 676 هـ: هو شيخ الإِسلام والمسلمين، وعمدة الفقهاء والمحدثين ومحرر المذهب
طور تحرير المذهب
الشافعي، ومهذبه، ومنقحه، ومرتبه، عالم سار في الآفاق ذكره، وعلا في العالم محله وقدره، صاحب التصانيف المشهورة المباركة النافعة، برع في علوم الحديث، وألَّف فيها الكثير، وبلغ في الفقه منزلة كبيرة، وهو فقيه ومحدث، له العديد من المؤلفات الفقهية في مذهب الشافعي، أشهرها: 1 - منهاج الطالبين، وهو اختصار لكتاب "المحرر" الذي ألفه الرافعي، إلا أن "المنهاج" يمتاز عن "المحرر" بما ضمنه النووي من "التنبيه" على قيود بعض المسائل هي في الأصل محذوفات، ومنها مواضع يسيرة ذكرها في "المحرر" على خلاف المختار في المذهب. 2 - "المجموع"، وقد شرح فيه كتاب "المهذَّب" لأبي إسحاق إبراهيم بن علي بن يوسف الشيرازي، و"المهذَّب" أحد كتابين قال فيهما النووي: في هذين الكتابين دروس المدرسين، وبحث المحصلين المحققين، والكتابان هما: "المهذب" و"الوسيط" للغزالي. * طور تحرير المذهب: وقد قلنا سابقًا إن نقل المذهب الشافعي وجمع نصوصه والاستنباط من أصوله وقواعده قد انتهت إلى طريقتي العراقيين والخراسانيين. وأصبحت الكتب المعتبرة عند متقدمي الأصحاب لا تعدوهما، فمتى اتفقت الطائفتان على فرع من الفروع كان هذا القول النهائي في المذهب، وأنه ظهر بعد ذلك من العلماء من لم يتقيد بمدرسة واحدة منهما، بل نقل عن هذه وتلك، فالروياني والشاشي وابن الصباغ عراقيون ينقلون عن الطريقتين، والمتولي وإمام الحرمين والغزالي خراسانيون ينقلون عن العراقيين، وربما يعتمد كلٌّ غير طريقته في الفروع. وبظهور هؤلاء العلماء بدأ الرافدان الأساسيان الناقلان لفقه الشافعي قديمه وجديده يلتقيان في قول موحد يمثل مذهب الشافعي والراجح من قوله، ثم توجت
هذه المدرسة الثالثة الجامعة بين طريقة العراقيين والخراسانيين بظهور الإمامين الجليلين: (الرافعي، والنووي) اللذين قاما بأكبر دور في تحرير المذهب وإرساء قواعده. وبظهورهما دخل المذهب في دوره الثالث دور التحرير والتنقيح، على أنه يمكن اعتبار كتاب "المهذَّب" لأبي إسحاق الشيرازي، والوسيط لأبي حامد الغزالي أكثر الكتب اعتمادًا وتمثيلًا للمذهب عند علماء الفترة السابقة لظهور النووي، الذي يقول في هذين الكتابين: واشتهر من كتب الشافعية لتدريس المدرسين، وبحث المشتغلين كتاب "المهذَّب"، و"الوسيط"، وفي هذين الكتابين دروس المدرسين، وبحث المحصلين المحققين، وحفظ الطلاب المنتسبين في ما مضي، وفي هذه الأعصار. وإلى الإمامين (الرافعي، والنووي) يرجع الفضل في تحرير مذهب الشافعية وتنقيحه، ومن ثمَّ أصبحا عمدة من جاء بعدهم متفقهاء الشافعية، إليهما ينتهي الاجتهاد، وعلى رأيهما يكون في الفتوى الاعتماد، فلا غير أن يقال أنهما المؤسسان الثانيان لمذهب الشافعي رحمه اللَّه، فلقد اعتمد المتأخرون ترجيحاتهما في تحديد مذهب الشافعي والقول المعتمد فيه، وأجمع من جاء بعدهم من العلماء على أن القول الراجح في المذهب هو ما اتفق عليه الشيخان، فإن اختلفا قدم ما رجحه الإِمام النووي، ثم الرافعي. يقول الرملي: "ومن المعلوم أن الشيخين قد اجتهدا في تحرير المذهب غاية الاجتهاد، ولهذا كانت عنايات العلماء، وإشارات من سبقنا من الأئمة متوجهة إلى ما عليه الشيخان، والأخذ بما صححاه بالقبول والإذعان، مؤيدين لذلك بالدليل والبرهان، فإذا انفرد أحدهما عن الآخر فالعمل بما عليه النووي وما ذلك إلا لحسن النية وإخلاص الطوية". * * *
استمرار النشاط العلمي في الحديث والفقه في القرن الثامن
استمرار النشاط العلمي في الحديث والفقه في القرن الثامن ثم جاء بعد هؤلاء في القرن الثامن طبقة من العلماء، جمعوا بين علوم الحديث والفقه وأصول الفقه، والجدل، وحققوا المذهب بالشرح والتأليف، وتخريج أحاديثه وتثبيت أصوله، واستخراج قواعده، وشرح ألفاظ الفقه. فقد ألفوا كتبًا في تحرير لغته وشرحها، كما ألفوا كتبًا في الأشباه والنظائر، والقواعد الفقهية، وكان لهم دور كبير في خدمة الحديث والفقه الشافعي واستقراره، ومنهم: * ابن الرِّفعة (710 هـ): وهو العالم العلامة شيخ الإِسلام، وحامل لواء الشافعي في عصره، نجم الدين أحمد بن محمد بن علي بن مرتفع بن حازم بن إبراهيم بن العباس أبو العباس بن الرفعة المصري، ولد سنة 645 هـ، وصنف المصنَّفين العظيمين المشهورين: كتاب "الكفاية في شرح التنبيه" لأبي إسحاق الشيرازي، و"المطلب في شرح الوسيط للغزالي" الذي بلغ أربعين مجلدًا، وهو كتاب عظيم من كثرة النصوص والمباحث ولم يكمله، وكمّله الشيخ الحموي. * الإِمام القمولي: (272 هـ): هو أحمد بن محمد بن مكي بن ياسين القرشي المخزومي أبو العباس نجم الدين القمولي الفقيه الشافعي المصري من أهل "قمولا" بصعيد مصر، وشرح كتاب "الوسيط" للغزالي شرحًا مطولًا أقرب تناولًا من "المطلب" لابن الرِّفعة، وأكثر فروعًا. قال الإسنوي: لا أعلم كتابًا في المذهب أكثر مسائل منه، وسمّاه "البحر المحيط في شرح الوسيط" ثم لخَّص أحكامه واختصره، وسمّاه "جواهر البحر". * الإِمام الإسنوي: (772 هـ): هو الإِمام جمال الدين أبو عبد اللَّه عبد الرحيم بن الحسن بن علي بن إبراهيم
الأسنوي الإِمام العلامة، منقح الألفاظ، محقق المعاني، فقيه أصولي، حافظ، عالم بالعربية، ولد سنة 704 هـ، ومن تصانيفه "كافي المحتاج في شرح المنهاج" لم يكمله، و"تصحيح التنبيه"، و"الفتاوى الحموية"، و"اللوامع والبوارق في الجوامع والفوارق"، و"المهمات"، و"الهداية إلى وهم الكفاية"، و"الأشباه والنظائر"، و"شرح كتاب البحر المحيط" توفي سنة 722 هـ رحمه اللَّه. * الأذرعي: (783 هـ): هو العلامة، قطب الزمان، حجَّة أهل عصره، أبو الوليد الشيخ شهاب الدين أحمد بن حمدان بن عبد الواحد بن عبد الغني بن محمد أبو العباس شهاب الدين الأذرعي، من كبار فقهاء الشافعية، ولد بالشام بأذرعات سنة 708 هـ، شرح "المنهاج" في شرح كبير، وسماه "قوت المحتاج إلى شرح المنهاج" في عشرة مجلدات، وشرح " الروضة" بكتاب سماه "التوسط والفتح بين الروضة والشرح" توفي سنة 783 هـ. * البلقيني: 805 هـ (¬2). * ابن الملقن: 804 هـ: هو الإِمام العلامة عمدة المصنفين: سراج الدين عمر بن علي بن أحمد بن محمَّد بن عبد اللَّه المشهور بابن الملقِّن الفقيه المحدث، ولد ابن الملقن سنة 723 هـ ومن محاسن تصانيفه "شرح الحاوي"، و"شرح البخاري" في عشرين مجلدًا، و"شرح زوائد مسلم"، و"زوائد أبي داود"، و"زوائد الترمذي"، و"زوائد النسائي"، و"زوائد ابن ماجه"، ومن تصانيفه: تخريج أحاديث الرافعي سماه "البدر المنير" في ستة مجلدات ثم اختصره وسماه "الخلاصة" وكتاب "تخريج أحاديث المهذب"، وكتاب "تخريج أحاديث الوسيط"، وكتاب شرح العمدة سماه "الإعلام بفوائد عمدة الأحكام"، وهو من أحسن مصنفاته. ¬
علماء في القرن التاسع والعاشر يواصلون مسيرة الفقه الشافعي وتطويره
وقد جمع متون الفقه المؤلفة في فقه الشافعي وسماها: "جمع الجوامع في الفروع"، جمع فيه ابن الملقن بين كلام الرافعي في شروحه ومحرره، والنووي في شرحه ومنهاجه وروضته، وابن الرِّفعة في كفايته ومطلبه، والقمولي في بحره وجواهره، وغير ذلك مما أهملوه وأغفلوه مما وقف عليه المؤلف من التصانيف في المذهب، جمعه من نحو مائتي مؤلف، ويقال إنه بلغ مائة جزء، وقد اختصر لوالده كتابًا من أهم الكتب المختصرة وسماه: "التذكرة" في الفقه وهو مطبوع، ثم احترقت مكتبته، وحزن وتغير قبل موته، فحجبه ولده عن الناس إلى أن توفي سنة 804 هـ رحمه اللَّه وأسكنه فسيح جناته. * * * علماء في القرن التاسع والعاشر يواصلون مسيرة الفقه الشافعي وتطويره * الشيخ زكريا الأنصاري: (826 هـ - 926 هـ): هو الإِمام الشيخ زكريا الأنصاري شيخ مشايخ الإِسلام، علامة المحققين، وفهامة المدققين، ولسان المتكلمين، وسيد الفقهاء والمحدثين، والحافظ المخصوص بعلو الإسناد، الملِحق للأحفاد بالأجداد، محمد بن زكريا الأنصاري السنيكي المصري الأزهري الشافعي، منسوب إلى "سُنَيْكه" بضم السين المهملة وفتح النون وإسكان الياء المثناة، بليدة من شرقية مصر. اشتغل بالعلم والعمل ليلًا ونهارًا مع مقارنة مائة سنة من عمره من غير كلل ولا ملل، وله مؤلفات كثيرة منها: "أسنى المطالب في شرح روضة الطالب" أربعة مجلدات، وهو مطبوع، "تحفة الباري على صحيح البخاري"، "تحفة الطلاب بشرح تحرير تنقيح الطلاب"، "الغرر البهية في شرح البهجة الوردية" "فتح الوهاب بشرح منهج الطلاب"، "متن منهج الطالبين مختصر منهاج الطالبين"، "لب الأصول مختصر في علم الأصول" توفي رحمه اللَّه تعالى سنة 926 هـ.
* ابن حجر الهيتمي: (909 هـ - 973 هـ): هو شهاب الدين أبو العباس أحمد بن محمد بن علي بن حجر الهيتمي السعدي، أصله من بني سعد في إقليم الشرقية من مصر السفلى، وقد ألف كتبًا كثيرة جيدة قابلها الناس بالتقدير والإقبال منها: كتاب "الإمداد شرح الإرشاد"، وهو طويل، ثم اختصره بكتاب "فتح الجواد" وكتاب "تحفة المحتاج في شرح المنهاج" توفي رحمه اللَّه تعالى سنة 974 هـ. * محمد الخطيب الشربيني (977 هـ): الشيخ الإِمام العالم العلامة الهمام محمَّد بن محمد الخطيب شمس الدين الشربيني القاهري الشافعي، أجمع أهل مصر على صلاحه ووصفوه بالعلم والزهد والورع وكثرة النسك والعبادة، وشرح كتاب "المنهاج" و"التنبيه" شرحين عظيمين جمع فيهما تحريرات أشياخه بعد القاضي زكريا، وأقبل الناس على قراءتهما وكتابتهما في حياته، وله على "الغاية" شرح مطول حافل، ومن مصنفاته: كتاب "الإقناع في حل ألفاظ أبي شجاع"، كتاب "مغني المحتاج إلى معرفة معاني ألفاظ المنهاج"، كتاب "شرح التنبيه" لأبي إسحاق الشيرازي، كتاب "شرح البهجة" في الفقه لابن الوردي، توفي رحمه اللَّه تعالى سنة 977 هـ. * شمس الدين الرملي (919 هـ - 1004 هـ): محمد بن أحمد بن حمزة شمس الدين الرملي، فقيه الديار المصرية في عصره، ومرجعها في الفتوى، يقال له: الشافعي الصغير, نسبته إلى "الرملة" من قرى المنوفية بمصر، ومولده ووفاته بالقاهرة، ولي إفتاء الشافعية، وجمع فتاوى أبيه، وصنف شروحًا وحواش كثيرة. التقويم المذهبي لآراء الرافعي والنووي وكتبهما أطبق المحققون المتأخرون من علماء الشافعية على أن القول المعتمد للحكم والفتوى (هو ما اتفق عليه الشيخان -الرافعي والنووي- وإن اختلفا فما جزم به
كتب علماء الشافعية متسلسلة من مؤلفات صاحب المذهب الإمام الشافعي
النووي، ثم ما جزم به الرافعي ما لم يجمع متعقبوا كلامهما على أنه سهو). ولقد بلغ الأمر في اعتماد المتأخرين من الشافعية على قول الشيخين "أن بعض المشايخ منهم كان لا يجيز أحدًا بالإفتاء إلا شرط عليه أن لا يخرج عما صححاه"، ويعلل لنا الإِمام ابن حجر الهيتمي سر هذه الثقة والاعتماد فيقول: "وقد أجمع المحققون على أن المفتي به ما ذكراه أي الرافعي والنووي، وإن اختلفا فالنووي. وعلى أنه لا يعترض عليهما بنص الأم أو كلام الأكثرين أو نحو ذلك؛ لأنهما أعلم بالنصوص وكلام الأصحاب من المعترض عليهما، فلم يخالفاه إلا لموجب علِمَه مَن عَلِمه وجَهِله مَن جَهِله". * * * كتب علماء الشافعية متسلسلة من مؤلفات صاحب المذهب الإِمام الشافعي جمع إمام الحرمين عبد الملك بن عبد اللَّه الجويني كتب الإِمام الشافعي وهي: "كتاب الأم"، و"الإملاء"، و"الرسالة"، وغيرها، بالإضافة إلى كتاب تلاميذ الشافعي مثل "مختصر المزني"، و"البويطي"، وغيرهما، وبعض كتب أصحاب الوجوه والترجيحات وشرحها في كتابه "نهاية المطلب في دراية المذهب" وهو كتاب عظيم ومنهم، أجمع علماء الشافعية على الثناء عليه، والإشادة بذكره، فقال فيه ابن خلكان: ما صنف في الإِسلام مثله. ثم جاء الغزالي تلميذ إمام الحرمين فاختصر كتاب "النهاية" بمختصر سماه "البسيط"، ثم اختصره مرة أخرى بكتاب سماه "الوسيط"، ثم اختصره بكتاب آخر سماه "الوجيز". وقد شرح الإِمام العلامة الشيخ نجم الدين أحمد بن محمد بن الرِّفعة شافعي زمانه، المتوفى سنة 710 هـ كتاب "الوسيط" بشرح سماه: "المطلب العالي بشرح
وسيط الغزالي" فمات قبل إتمامه، فأتمه الشيخ الحموي، وهو يقع في ستة وعشرين مجلدًا، كما شرحه الشيخ أحمد بن محمد بن أبي الحزم مكي بن يس بن العباس نجم الدين القمولي المتوفى سنة 727 هـ بشرح سماه "البحر المحيط بشرح الوسيط"، كما شرح الوسيط أيضًا العالم العلامة قطب زمانه وحجة أهل عصره أبو الوليد الشيخ شهاب الدين أحمد بن عبد اللَّه الأذرعي المتوفى سنة 783 هـ بشرح سماه "التوسط والفتح بين الروضة والشرح" يقع في عشرين مجلدًا. وقد شرح الإِمام أبو القاسم الرافعي عبد الكريم بن محمد القزويني كتاب "الوجيز" للغزالي بشرحين أحدهما صغير، والثاني كبير سماه "فتح العزيز بشرح الوجيز" فأقبل الناس إليه بالدراسة والاستفادة والاختصار. فاختصر الإِمام محيي الدين النووي كتاب "فتح العزيز" بكتاب سماه "روضة الطالبين وعمدة المفتين" كان مرجع العلماء ومحل اهتمامهم. وأقبل العلماء على "كتاب الروضة" بالشرح والدرس، وقد شرح "الروضة" العلامة بدر الدين أبو عبد اللَّه محمد بن عبد اللَّه بن بهادر الزركشي المتوفى سنة 479 هـ بكتاب سماه "خادم الشرح والروضة"، وهو كتاب كبير، يقع في أربعة عشر مجلدًا، ذكر فيه مشكلات الروضة، وفتح فيه مقفلات "فتح العزيز" للرافعي، وهو أسلوب كتاب "التوسط" للأذرعي. وقد اختصر الشيخ أبو القاسم الرافعي كتاب "الوجيز" للغزالي بمختصر سماه "المحرر" (¬3)، ثم اختصره الشيخ نجم الدين القزويني بكتاب سماه "الحاوي الصغير" (¬4)، وقد أقبل عليه الناس لكونه مختصرًا مفيدًا، محرر المقاصد، وجيز اللفظ، بسيط المعاني، و"شرح الوجيز" للإمام الرافعي، يعرف بـ "الشرح الكبير". ¬
وقد خرَّج الشيخ سراج الدين أبو حفص عمر بن علي بن الملقن أحاديث الشرح الكبير وبين الصحيح والضعيف في كتاب كبير، يقع في سبعة مجلدات، سماها "البدر المنير في تخريج أحاديث الشرح الكبير"، ثم اختصره بكتاب أصغر منه وسمَّاه "مختصر البدر المنير"، ثم اختصر "البدر المنير" الشيخُ الحافظُ شهاب الدين أحمد بن محمد بن حجر العسقلاني، وسماه "تلخيص الحبير خلاصة البدر المنير"، ثم اختصر الإِمام النووي شرح الوجيز للرافعي بكتاب سماه "روضة الطالبين وعمدة المفتين" يقع في اثني عشر مجلدًا، حرر فيه العبارات، وأوضح المذهب، وهذَّب الكتاب كما مر ذكره عند ذكر الإِمام النووي. ثم قام الإِمام النووي باختصار "المحرر" للرافعي بكتاب آخر سماه "منهاج الطالبين"، حرَّر فيه العبارات، وأوضح الخلاف والمشكلات، ونقّحه وهذّبه، فأقبل إليه الناس بشوق وشغف بالدراسة والحفظ، وشرحه كثير من العلماء منهم: الشَّيخ محمَّد بن أحمد بن إبراهيم بن أحمد جلال الدين المحلي بشرح مفيد، عرف بشرح جلال الدين المحلي، فأصبح عمدة الطُّلاب والمدرِّسين، حتى إنَّ المصنّفين بعده إذا قالوا: "قال الشارح" أصبح ينصرف إليه. وعلّق على هذا الشرح كل من شهاب الدين أحمد بن أحمد بن سلامة القليوبي، والشيخ شهاب الدين أحمد البرلسي المشهور بعميرة المتوفى سنة 957 هـ. كما شرحه الشيخ عمدة المحققين وخاتمة المفتين شهاب الدين أحمد بن محمد بن حجر الهيتمي المتوفى سنة 974 هـ بشرح سماه "تحفة المحتاج"، وقد وضع عليه العلامة الشيخ عبد الحميد الشرواني حاشية، وكذلك وضع عليه الشيخ أحمد بن قاسم العبادي حاشية طُبعتا مع التحفة، ويقع في عشر مجلدات، وقد وضع السيد عبد الرحمن بن عبيد اللَّه السقاف المتوفى سنة 1335 هـ حاشية على تحفة المحتاج سماها "صوب الركام في تحقيق الأحكام" ذكر فيها أنه حقق مسائل "تحفة المحتاج"، وقيّد شواردها، وأحكم أوابدها، وأعاد الفروع فيها إلى
الأصول، وأبان ما إليه المنقول تؤول، بما لم يسبق إليه، ولم تخدم التحفة مثله، ولكنه مخطوط لم يطبع. وكذلك شرح المنهاج الشيخ شمس الدين محمد بن أبي العباس أحمد بن حمزة الرملي المنوفي المصري، المتوفى سنة 1004 هـ بشرح سماه "نهاية المحتاج إلى شرح المنهاج" ويقع في ثمانية مجلدات، وقد علق عليه كل من أبي الضياء نور الدين علي بن علي الشبراملسي القاهري المتوفى سنة 1087 هـ، والشَّيخ أحمد بن عبد الرازق بن محمد بن أحمد المعروف بالمغربي الرشيدي. كما شرح "المنهاج" الشيخ شمس الدين محمد بن محمد الخطي الشربيني بشرح سماه "مغني المحتاج إلى معاني ألفاظ المنهاج". وكذلك شرح "المنهاج" الشيخ المحقق محمد الزهري الغمراوي شرحًا مختصرًا سماه "السراج الوهاج على المنهاج". ثم اختصر شيخ الإِسلام زكريا الأنصاري كتاب "منهاج الطالبين" بكتاب مختصر سماه "منهج الطلاب" هذّبه، وحرر عباراته، نال استحسان العلماء، وقد شرحه بنفسه شرحًا سماه "فتح الوهاب بشرح منهج الطلاب" وهو من الكتب المعتمدة في المذهب، ومرجع للعلماء والطلاب، ويعتبرونه المذهب المنقح، وقد كتب عليه الشيخ سليمان بن عمر بن محمد البجيرمي حاشية وافية وسماها "التجريد لنفع العبيد". وقد قام الشيخ شرف الدين إسماعيل بن أبي بكر الشهير بابن المقرئ اليمني باختصار "روضة الطالبين" بمختصر سماه "روض الطالب". وقد شرح هذا المختصر شيخ الإِسلام زكريا الأنصاري بشرح سماه "أسنى المطالب شرح روض الطالب"، وهو من الكتب الجيدة والمعتمدة لدى المتأخرين، ويقع في خمسة مجلدات. كما قام الشيخ شرف الدين إسماعيل بن أبي بكر المقرئ باختصار كتاب "الحاوي الصغير" للقزويني بمختصر سماه "الإرشاد" وقال إنه أقل حجمًا، وأكثر
(4) طور الاستقرار
علمًا، وأصحّ حكمًا من سابقه. وقد شرح الشيخ أحمد بن حجر الهيتمي هذا المختصر بشرح كبير سماه "الإمداد" وهو كتاب كبير، ثم اختصره وسماه "فتح الجواد" يقع بها مجلدين كبيرين، وهو كتاب يحتوي على مسائل كثيرة، وتفريعات جيدة بعبارات راقية، لا يفك رموزها إلا العلماء المتمكنون بها اللغة العربية، والفقه الشَّافعيّ، وقد نظم الشيخ صفي الدين أبو السرور أحمد بن عمر بن محمد بن عمر المزجد اليمني كتاب "الإرشاد" وسماه "منظومة الإرشاد" بها خمسة آلاف وثمانمائة وأربعين بيتًا. (4) طور الاستقرار ظلّت آراء الشيخين وكتبهما محور اعتماد من جاء من بعدهما من علماء الشافعية في تحديد رأي "المذهب" حتى نبغ طائفة من العلماء اعتبروا من المحققين بها المذهب، كالشيخ زكريا الأنصاري المتوفى سنة 926 هـ والخطيب الشربيني المتوفى سنة 977 هـ، والشهاب الرملي المتوفى سنة 957 هـ والجمال الرملي المتوفى سنة 1004 هـ وابن حجر الهيتمي المتوفى سنة 973 هـ وغيرهم. وهؤلاء كانت محور تآليفهم كتب الشيخين تأييدًا وشرحًا، وقد يخالفهما البعض بترجيحات خاصة له. وحظي كتاب "المنهاج" للنووي المختصر من "المحرر" للرافعي بالكثير من الاهتمام، فقد اختصره شيخ الإِسلام زكريا الأنصاري بها كتاب "المنهج" كما شرحه جمع لا يحصى منهم: الخطيب الشربيني بها كتابه "مغني المحتاج"، والجمال الرملي بها كتابه "نهاية المحتاج"، وابن حجر المكي بها كتابه "تحفة المحتاج" وقد أدى اجتهاد بعض هؤلاء إلى ترجيحات مخالفة لآراء الشيخين، ومن ثَم لم يكن بدٌّ من إعادة النظر في مدلول "المذهب" واصطلاحه. * المذهب كما استقر عليه عند المتأخرين من الشَّافعية: يقررُ أكثر المتأخرين من فقهاء الشَّافعية على أن من كان من أهل الترجيح في
الخلاصة
المذهب والقدرة على التصحيح يختار في فتواه ما يظهر له ترجيحه من كلام الشيخين -الرافعي والنووي- ولا يتقيد بما رجحه ابن حجر أو الرملي أو غيرهما من المتأخرين، بل يغترف من البحر الذي اغترف منه السيدان الجليلان المشار إليهما وغيرهما من الفحول. وإنما حصرنا ذلك في كلام الرافعي والنووي لما تقرر عند أكثر من محققي المتأخرين أنه لا يجوز العدول عن كلامهما. أما من لم يكن من أهل الترجيح في المذهب، وهو شأن أكثر الباحثين اليوم فهو بالخيار بين أن يأخذ بكلام ابن حجر أو بترجيح الجمال الرملي، ولا كلام في ذلك ما لم يتفق متعقبو كلامهما على أنه سهو. فإن اتقفا على رأي فقد قطعت جهيزة قول كل خطيب، وإن اختلفا في الترجيح فأيهما أولى بالتقديم -مع التخيير بينهما. * * * الخلاصة من العرض السابق يتبينُ واضحًا الأدوار التي مر عليها تحديد اصطلاح المذهب عند الشافعية، وأن رأي المتأخرين من علماء الشافعية قد استقر على أن المذهب لا يعدو ما رجحه الشيخان النووي والرافعي، ثم ما رجحه ابن حجر والرملي. ومِن المتيقن أن ابن حجر والرملي قد التزما في كتبهما بتطبيق القاعدة الأولى التي اتفق عليها من جاء قبلهما وهي: أن الراجح في المذهب هو ما رجحه الشيخان، ثم ما اختاره النووي، ثم ما رجحه الرافعي. ومن ثم فإن كتبهما -الرملي وابن حجر- لا تشذ عن هذه القاعدة فيما تعرض له الشيخان. ولذا فإن الباحث في عصرنا يجد لزامًا على نفسه أن يخضع لما حرره من جاء بعد الرملي وابن حجر من تحديد "المذهب" بأنه هو ما رجحه ابن حجر
والرملي في كتبهما على الترتيب والكيفية التي صنف بها علماء المذهب كتبهما وكتب من جاء بعدهما. وهذا الاعتماد على كتب ابن حجر والرملي ينبغي أن لا يصرف نظر الباحث عن الحقيقة العلمية وراء ذلك، وهي أن كتب ابن حجر والرملي إنما هي حلقة في سلسلة ذهبية من كتب أكابر علماء الشافعية تمتد عبر القرون حتى تصل إلى مؤسس المذهب: الإِمام الشافعي. فـ "التحفة" و"النهاية" كلاهما شرح لـ "منهاج الطالبين"، و"منهاج الطالبين" مختصر النووي من "المحرر"، و"المحرر" مختصر الرافعي من "الوجيز" (¬5) الذي شرحه الرافعي بشرحين، واختصر النووي أحدهما في كتاب "الروضة"، و"الوجيز" من "الوسيط"، و"الوسيط" من "البسيط"، والثلاثة كلها للإمام أبي حامد الغزالي، ولقد استقى الإِمام الغزالي كتابه "البسيط" من كتاب "نهاية المطلب" لإمام الحرمين أبي المعالي عبد الملك بن عبد اللَّه الجويني، و"نهاية المطلب" شرح "المختصر" للمزني، ومختصر المزني -تلميذ الشافعي- من مؤسسي المذهب الشافعي. هذا التسلسل الفريد والارتباط الحسن يجعل النفس تطمئن اطمئنانًا عجيبًا إلى صدق تمثيل هذه الكتب ومؤلفيها لمذهب الإِمام الشافعي. ومن ناحية أخرى فإن كتاب شيخ الإِسلام الأنصاري: المنهج اختصار لمنهاج النووي والخطيب الشربيني شرح المنهاج في كتابه "مغني المحتاج". ولقد تبين مما عرض عليك أن الحواشي اللاحقة لهؤلاء كلها مستقاة من كتب الشيوخ: زكريا الأنصاري، والخطيب الشربيني، والرملي، وابن حجر. * * * ¬
ثالثا دراسة الكتاب
ثالثًا دراسة الكتاب (أ) ترجمة المصنِّف اسمه ولقبه وكنيته: أبو حفص سراج الدين عُمرُ بن رِسْلان بن نصير بن صالح الكناني العسقلاني البلقيني (¬6) الشافعي، إمام الأئمة وعلم الأمة. حاز كل الفخر وهو أعجوبة الدهر، خاتمة المجتهدين، ومن دان لفضله كل عالم من أئمة الدين، شيخ الوقت وحجته وإمامه ونادرته، فقيه الزمان بالاتفاق، وشيخ الإِسلام على الإطلاق، أعلم أهل عصره بجميع العلوم، وأدراهم بالمنطوق والمفهوم، مفتي الأنام وملك العلماء الأعلام، عون الإِسلام والمسلمين، وحجة اللَّه تعالى على خلقه أجمعين. وكان رحمه اللَّه تعالى واسع العلم بحرًا لا يجارى ولا تكدره الدلاء وحافظًا لا يكاد يفوته من علوم البشر إلا ما لا خير فيه، ديِّنًا خيِّرًا وقورًا حليمًا مهيبًا سريع البادرة قريب الرجوع كثير التلطف سريع البكاء في الميعاد مع الخشوع، لا يفتر عن الاشتغال أو الإشغال. نشأته: ولد ليلة الجمعه الثاني من عشر من شعبان سنة 724 هجرية، ومات سنة 805 هجريه عن واحد وثمانون عام وشهور. حج بيت اللَّه مرتين سنة 740 هجريه ¬
أولاده
وعام 747 هجرية. حفظ القرآن الكريم وعمره سبع سنين وهي من صغيره لم يضارعه فيها إلا اطفال قلائل مثل العلامه ابن حجر العسقلاني كما حفظ البلقينى "المحرر" في الفقه و"الكافية" في النحو لابن مالك ومختصر ابن الحاجب في أصول الفقه و"الشاطبية" في القراءات، وكل ذلك في بلدته بلقينا. يقال إن صالح الجد الثالث لسراج الدين هو أول من سكن بلقينة ولذلك كان لقب البلقيني وهي قرية متابعة لمركز المحلة الكبرى محافظة الغربية بطريق طنطا. ومن المعروف أن بيت البلقيني بيت علم وفضل ورياسة وكرم، منهم من دفن بالقرية ومنهم من دفن بعيدًا عنها. أولاده: تزوج الشيخ سراج الدين ابنة العلامه الشيخ ابن عقيل ولازمته في شبيبته. أما أولاده فقد رُزق بعدة أولاد، وأشهر من نبغ في العلم منهم: بدر الدين البلقيني، توفي في حياته سنة 791 هـ. جلال الدين البلقيني توفي سنة 824 هـ: عبد الرحمن بن عمر بن رسلان الكناني، العسقلاني الأصل، ثم البلقيني المصري، أبو الفضل جلال الدين: من علماء الحديث بمصر. انتهت إليه رياسة الفتوى بعد وفاة أبيه. وولي القضاء بالديار المصرية مرارًا، إلى أن مات وهو متول. له كتب في (التفسير) و (الفقه) و (مجالس الوعظ) وتعليق على البخاري سماه (الإفهام لما في صحيح البخاري من الإبهام- خ) و (مناسبات أبواب تراجم البخاري- خ) ورسالة في (بيان الكبائر والصغائر- خ) و (نهر الحياة- خ) و (حواش على الروضة) في فروع الشافعية، أفردها أخوه في مجلدين. ومات في القاهرة. علم الدين البلقيني: قاضي القضاة علم الدين صالح ابن شيخ الإِسلام سراج الدين، حامل لواء مذهب الشافعي في عصره، ولد سنة إحدى وتسعين وسبعمائة،
قدومه إلى القاهرة
وأخذ الفقه عن والده وأخيه، والنحو عن الشطنوفي والأصول عن العز ابن جماعة، وسمع على أبيه جزء الجمعة وختم الدلائل وغير ذلك؛ وعلى الشهاب ابن حجي جزء ابن نجيد، وحضر عند الحافظ أبي الفضل العراقي في الإملاء، وتولى مشيخة الخشابية، والتفسير بالبرقوقية بعد أخيه؛ وتدريس الشريفية بعد الفمني، والحديث بمدرسة قايتباي. وتولى القضاء الأكبر سنة ست وعشرين، بعزل الشيخ ولي الدين، وتكرر عزله وإعادته؛ وتفرد بالفقه؛ وأخذ عنه الجم الغفير، وألحق الأصاغر بالأكابر، والأحفاد بالأجداد. وألف تفسير القرآن، وكمل التدريب لأبيه وغير ذلك. قرأت عليه الفقه، وأجازني بالتدريس وحضر تصديري؛ وقد أفردت ترجمته بالتأليف. . مات يوم الأربعاء خامس رجب سنة ثمان وستين وثمانمائة. قدومه إلى القاهرة: أتى به أبوه إلى القاهرة وعمره اثنتى عشر سنة، فطلب العلم ودرس على علماء عصره من أمثال العلامة الميدومي، وقرأ الأصول على يد شيخه شمس الدين الأصفهاني، والنحو على يد شيخه أبي حيان، وقد أذن له بالفتوى وهو ابن خمسة عشر سنة، فاق الأقران والزملاء واجتمعت فيه شروط الاجتهاد على وجهها الصحيح فقيل أنه مجدد القرن التاسع الهجري، وأثنى عليه شيوخه وزملاؤه وهو شاب، وانتهت به دراسة العلم في أقطار الأرض، وقصده العلماء والطلاب من كل صوب، وأتته الفتوى من مناحية. وظائفه: تولى عدة وظائف منها إفتاء دار العدل، وسافر إلى دمشق سنة 769 هجرية فباشره مدة قصيرة ثم عاد. وفي عام 793 هجرية سافر إلى حلب بصحبة السلطان برقوق بن أنس العثماني، ودرس بها، ثم عاد إلى القاهرة مع السلطان وعظم شأنه، وصار يجلس في مجلس السلطان بجواره وفوق قضاة القضاة، وعكف التدريس
تلاميذه
والتصنيف وانتفع به عامة الطلبة. تلاميذه: تتلمذ على يد الشيخ سراج الدين البلقيني تلاميذ كثيرون جدًّا منهم: حافظ دمشق ابن ناصر الدين، وقد قال في "التبيان": وبإشارته ألفت له كتاب "الإعلام بما وقع في مشتبه الذهبي من الأوهام". والحافظ ابن حجر، الذي قال عنه: خرجت له أربعين حديثًا عن أربعين شيخًا حدث بها مرارًا وقرأت عليه "دلائل النبوة" للبيهقي فشهد لي بالحفظ في المجلس العام. ومن تلاميذه أيضًا الشيخ برهان الدين المحدث الذي قال عنه: رأيته فريد دهره، فلم تر عيني أحفظ منه للفقه ولأحاديث الأحكام. مدرسته: أنشأ العلامه سراج الدين البلقيني مدرسة بخط منية الشيرج بحي باب الشعرية الآن بالقاهرة. خرجت آلاف العلماء، وجمع فيها كل مريديه ومحبيه من نوابغ الطلاب وأوقف عليها الأوقاف الكثيرة مما تفضل اللَّه بها عليه. وتعلم في هذه المدرسة أيضًا أولاده وأحفاده من علماء بيت البلقيني وكان ابن حجر أحد طلاب هذه المدرسة ودفن البلقيني بها. مصنفاته: لقد كتب الإِمام سراج الدين البلقيني العديد من المؤلفات في شتى العلوم، إلا أن الغالب على مؤلفاته عدم التمام، ويعلل ولده ذلك بقوله: "والسبب في عدم إكماله لغالب مصنفاته أنه كان مشتغلًا بالدروس والفتوى فلا يتفرغ إلا قليلًا, لأنه أول النهار يكون مدرِّسًا بهذه المدارس إلى الظهر غالبًا، ومن العصر إلى المغرب يكتب على الفتاوى، فأي وقت فرغ إنما هو بين الظهر والعصر وبالليل،
فبورك له في ذلك". وأذكر هنا أسماء مصنفاته التي ذكرها ولده والتي ذكرها ابن فهد المكي والبغدادي في "هدية العارفين"، والسخاوي في "الضوء اللامع"، مرتبة على الحروف الهجائية: 1 - إظهار المستند في تعدد الجمعة في البلد. 2 - الأجوبة المرضية عن المسائل المكية. 3 - ارتياح الأراوح في المواعيد، من إنشائه كله. 4 - التأديب مختصر التدريب، قال ولده: كتب منه النصف. 5 - التدريب في الفقه، وهو كتابنا هذا. 6 - تراجم البخاري، قال ولده: جزء صغير. 7 - ترتيب الأقسام على مذهب الإِمام في الفروع، ذكره في هدية العارفين. 8 - ترتيب الأم للإمام الشافعي، قال ولده: وقد أكمله لكن بقي منه بقايا تكتب على متوالي الكتاب، منه الجزء الثالث من نسخة بمكتبة ولي الدين جار اللَّه بتركيا، تحت رقم: 262. 9 - ترجمان شعب الإيمان. 10 - تصحيح المنهاج للنووي، قال ولده: أكمل منه الربع الأخير في خمسة أجزاء، وكتب منه ربع النكاح تقدير جزء ونصف، ومفرقًا كراريس كثيرة، منه نسخة بدار الكتب المصرية في ستة مجلدات تحت رقم 56 فقه شافعي، وأخرى بدار الكتب أيضًا في خمسة مجلدات بها خروم تحت رقم 57 فقه شافعي، والجزء الرابع من نسخة ثالثة تحت رقم 438 فقه شافعي في 284 ورقة. 11 - تصنيف لطيف فيما يدخل العبد المسلم في ملك الكافر ابتداء. 12 - تكذيب مدعي الإجماع مكابرة على منع تعدد الجمعة في القاهرة. 13 - تنقيح القول المعلوم في تحقيق عموم المفهوم. 14 - جلا المعمى في الاسم والمسمى، ذكره في هذه الرسالة.
15 - الجواب الوجيه عن تزويج الوصي السفيه. 16 - الدلالات المحققة في الوقف طبقة بعد طبقة، قال ولده: ردًّا على السبكي في كتابه المباحث المشرقة. 17 - رفع الضمان عمن لم يجد خيانة إذا نصبه الحاكم للأمانة. 18 - صورة ثبوت المهر بالشاهد واليمين، منه نسخة بدار الكتب المصرية تحت رقم 1546 فقه شافعي. 19 - صورة سؤال سئل عنه سراج الدين البلقيني في حديثي القرض والصدقة، منه نسخة بمكتبة البلدية بالإسكندرية ضمن مجموع رقم 2132/ د. 20 - الطريقة الواضحة في تمييز الصنابحة. 21 - عرف الشذا في مسألة كذا. 22 - العرف الشذي على جامع الترمذي، قال ولده: كتب منه قطعة صالحة، وكان كثير النظر فيها. 23 - الفوائد المحضة على الرافعي والروضة، قال ولده: كتب منه أجزاء متفرقة، وذكر ابن فهد والسخاوي أن الحافظ ولي الدين العراقي قد جمعها في مجلدين، منه مجلد قدر النصف بدار الكتب المصرية في 195 ورقة به تبقيع وتلويث، تحت رقم: 23329/ ب. 24 - الفتح المقدر في شرح المحرر، قال ولده: كتب منه جزءًا من الشفعة والقراض ومن النكاح والضمان. 25 - الفيض الجاري على صحيح البخاري، قال ولده: كتب منه نحوًا من خمسين كراسًا على أحاديث يسيرة إلى أثناء الإيمان ومواضع متفرقة، منه عدة نسخ: منها بمعهد الدراسات الشرقية بداغستان تحت رقم 813 في 108 ورقات، وأخرى بالجامع الكبير بصنعاء تحت رقم 2366 في 205 ورقات، وأخرى بدار صدام بالعراق تحت رقم 606 في 378 ورقة، ورابعة بآيا صوفيا بتركيا تحت رقم 679.
26 - فتح اللَّه بما لديه في بيان المدعي والمدعى عليه، ذكره ابن فهد. 27 - الفتح الموهب في الحكم بالصحة والموجب، قال ولده: لم يكمل، منه نسختان بدار الكتب المصرية تحت رقم: 25597/ ب، و 484 مجاميع. 28 - فوائد الحسام على قواعد ابن عبد السلام، ذكره في هدية العارفين. 29 - فتاوى البلقيني، ذكره في هدية العارفين، وهو من جمع ولده العلامة صالح، وسماه: التجرد والاهتمام في جمع فتاوى شيخ الإِسلام، منه نسخة بدار الكتب المصرية تحت رقم 212 فقه شافعي/ طلعت، في 187 ورقة، وأيضًا بدار الكتب المصرية جزء عنوانه: مسائل فقهية في العبادات نقلت من كتاب التجرد والاهتمام في جمع فتاوى شيخ الإِسلام عمر بن رسلان البلقيني، رقمها 21527/ ب. 30 - قطر السيل في أمر الخيل، منه نسخة بمكتبة منغنيسيا بتركيا، تحت رقم 6461 من 1/ أإلى 102/ أ، وذكر في مقدمته أنه لخصه من كتاب شرف الدين الدمياطي وأضاف إليه أشياء، وأخرى بمكتبة عارف حكمت تحت رقم 57 حديث في 94 صفحة، وعدة نسخ بدار الكتب المصرية تحت رقم: فنون حربية 214، في 60 ورقة، وفروسية تيمور 8 في 203 صفحات، وفروسية تيمور 9 في 84 صفحة وغيرها. 31 - الكشاف على الكشاف، قال ولده: وصل فيه إلى أثناء سورة البقرة في ثلاثة مجلدات ضخمة، منه نسخة بدار الكتب تحت رقم: تفسير 869، ونسب في الفهرس إلى ولده صالح. 32 - المسؤول في علم الأصول، قال ولده: كتب منه قطعة صالحة. 33 - محاسن الاصطلاح وتضمين كتاب ابن الصلاح، طبع بتحقيق د. عائشة عبد الرحمن عن دار المعارف بالقاهرة في مجلد. 34 - الملمات برد المهمات، قال ولده: كتب منه أجزاء متفرقة، وبدار الكتب المصرية جزء من أثناء الحج إلى أثناء الوكالة تحت رقم: 489 فقه شافعي.
وفاته
35 - مناسبة أبواب الفقه على طريقة علماء الشافعية، بدار الكتب المصرية منه نسخة تحت رقم 1410 فقه شافعي. 36 - مناسبات تراجم أبواب البخاري، منه نسخة بدار الكتب المصرية تحت رقم: 300 مجاميع، و 590 تيمورية. 37 - وبدار الكتب تحت رقم 1081 فقه شافعي، أرجوزة في أحكام الجن، نظم أبو العباس أحمد بن عماد بن يوسف الأقفهسي، وجاء في الفهرس "وهي نظم لكتاب المنة في دخول الجنة لعمر البلقيني سراج الدين". 38 - المنصوص والمنقول عن الشافعي في الأصول، قال ولده: كتب منه قطعة صالحة، ونقل بعضًا منه في الترجمة التي عملها لأبيه. 39 - منهج الأصلين، قال ولده: أكمل منه أصول الدين، وهو محفوظ بأيدي الناس، وكتب قريبًا من نصف أصول الفقه. وهو كتابنا هذا. 40 - نشر العبير لطي الضمير، وسماه ابن فهد: طي العبير لنشر الضمير، منه نسخة بدار الكتب المصرية تحت رقم: 27880/ ب في 12 ورقة. 41 - واضح المستندين في رفع الدين. 42 - الينبوع في إكمال المجموع، قال ولده: كتب منه جزءًا من النكاح. وفاته: جرت للبلقيني محنة شديدة وتعصب عليه الأشاعرة خاصة السبكية بالشام بسبب قول العماد بن كثير له: "أذكرتنا سمت ابن تيمية" وقول ابن شيخ الجبل "شيخ الحنابلة" له: "ما رأيت بعد ابن تيمية أحفظ منك" فثارت الأشاعرة عليه بسبب اقتدائه بابن تيمية، وكان البلقيني صحيح العقيدة، شديدًا على ابن عربي الصوفي ويفتي بحرمة قراءة كتبه، مشهورًا بصفاء الخاطر وسلامة الصدر واشتغاله بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مهما كانت عواقب ذلك، وسلاطين المماليك مشهورون بنزفهم وحدّتهم ومع ذلك لا يبالي فيبطل المكوس ويغلق الحانات.
طال العمر بالبلقيني حتى لم يبق من العلماء من يدانيه فضلًا عن أن يزاحمه، وظل مقبلًا علي الاشتغال بالعلم تدريسًا وفتوى، ولم يكمل مصنفاته لأنه كان يشرع في الشيء ولسعة علمه وكثرة محفوظه يطول عليه الأمر، حتى أنه كتب من شرح البخاري علي نحو عشرين حديثًا مجلدين، ورغم سعة علمه وقوة حفظه وشدة ذكائه إلا إنه كان سريع البادرة سريع الرجوع للدليل والحق إن فاته، وكان مجتهدًا مطلقًا واستكمل آلة الاجتهاد، ولكن خوفه من أن يلقي نفس مصير ابن تيمية شيخه وقدوته ظل مجتهدًا في نطاق المذهب الشافعي، وقد رزق قبولًا عند الناس في كل مكان، فلا تركن النفس إلا لفتواه، وقد عده علماء زمانه أحد المجددين فقالوا: "إن اللَّه يبعث علي رأس كل مائة سنة لهذه الأمة من يجدد لها دينها بدئت بعمر؛ يعني عمر بن عبد العزيز، وختمت بعمر؛ يعني البلقيني". وتوفي نهار الجمعة الحادي عشر من ذي القعدة سنة (805) وصلى عليه ولده جلال الدين، ودفن بمدرسته بعد عمر مديد قضاه في خدمة الإسلام وعلومه، فعليه سحائب الرحمة والرضوان. وقد رثاه تلميذه ابن حجر وغيره بقصائد طويلة يقول ابن حجر في مطلعها: يا عين جودي لفقد البحر بالمطر ... وأدري الدموع ولا تبق ولا تذر أقضي نهاري في هم وفي حزن ... وطول ليلي في فكر وفي سهر وغاص قلبي في بحر الهموم أما ... ترى سقيط دموعي منه كالدرر فرحمة اللَّه والرضوان يشمله ... سلامة ما بلى باك على عمر لقد أقام منار الدين متضحا ... سراجه فأضاء الكون للبشر من لو رأه ابن ادريس الإمام إذن ... أقرا وقر عيونا منه بالنظر فحقق كم له بالفتح من مدد ... تحقيق رجوي نبي اللَّه في عمر والقصيدة طويلة جدًّا ولمن يريد مراجعتها فهي في كتاب بدائع الزهور لابن إياس.
(ب) اسم الكتاب وأصله
(ب) اسم الكتاب وأصله أطلق علي هذا الكتاب اسمان اثنان: 1 - التدريب في الفقه الشافعي، وأحيانًا يُختصر فيقال: التدريب. 2 - التدريب في الفروع. ففي نسخة الظاهرية (ظا): "كتاب التدريب في فقه إمامنا الشافعي"، وفي نسخة الظاهرية الأخرى (ظ): "كتاب التدريب"، وفي نسخة مكتبة ليبزج (ل): "كتاب التدريب"، وفي إحدى نسختي دار الكتب المصرية: "كتاب التدريب في مذهب الشافعي رضي اللَّه عنه". وأما تسمية المصنف نفسه لكتابه، فقد اتفقت كل النسخ على أنه "تدريب المبتدي وتهذيب المنتهي". (جـ) صحة نسبة الكتاب لا شكَّ في صحة نسبة هذا الكتاب لمصنِّفه، وعلي ذلك جملة أدلة، منها: نسبة الكتاب له كما في أغلفة النسخ الخطية. ومنها: نسبته إليه في كتب الفهارس كما في "كشف الظنون" (1/ 382)، و"صلة الخلف بموصول السلف" (ص 167)، و"هدية العارفين" (1/ 792). وقد سبق أن المصنف اختصر كتابه وسماه "التأديب في مختصر التدريب" وقد ذكره صاحب كشف الظنون (1/ 382). ولأبي البقاء محمد بن عبد الرحمن بن أحمد بن محمد البكري جلال الدين الشافعي المصري قاضي الإسكندرية شرح على كتاب التدريب. ذكره صاحب هدية العارفين (2/ 214). وقد نقل بعض الشافعية من كتاب التدريب وصرحوا بنسبته للبلقيني كما في "أسنى المطالب" (1/ 504)، (2/ 4، 48)، و"الغرر البهية في شرح البهجة
(د) قيمة الكتاب العلمية
الوردية" (4/ 3، 195)، و"تحفة المحتاج في شرح المنهاج" (4/ 159)، (5/ 28، 162)، و"مغني المحتاج" (2/ 292)، (4/ 379، 389)، و"حاشيتا قليوبي وعميرة" (4/ 46)، و"حاشية الجمل علي شرح المنهج" (2/ 31)، (3/ 464)، (4/ 345). (د) قيمة الكتاب العلمية يكتسب كتاب البلقيني قيمة كبيرة من عدة أوجه، منها: * طريقة المصنِّف في كتابه، ومكانة المصنِّف في المذهب. لقد أثنى كثيرٌ من الباحثين والدارسين علي طريقة ابن رشد في كتابه العظيم "بداية المجتهد ونهاية المقتصد" من حيث تقسيم الكتاب، وذكر مسائل كل باب، وبيان سبب الخلاف وغير ذلك. وطريقة المصنَّف هنا لا تختلف كثيرًا عن طريقة ابن رشد من حيث جودة التصنيف والتنسيق والترتيب وذكر المسائل وضوابطها المختلفة، والتنبيه على بعض القواعد التي تفرد بها المذهب، وغير ذلك. فهو بحق يشتمل على أسلوب غريب ونظم عجيب يطرب في صنعته كل لبيب. ويُعدُّ هذا الكتاب في مذهب الإمام محمد بن إدريس الشافعي من أعظم الكتب وأجلها وأنفسها وأرفعها وأجمعها وأفصحها. وهو كتاب لا يُنكر فضله، ولا يختلف اثنان في أنه ما صُنِّفَ مثله قبله، ولقد أبدع الشيخ في تأليفه وأغرب في تصنيفه وترصيعه. ومن فوائد الكتاب وميزاته أنَّ المصنِّف نبَّه في كثير من مواضعه على أوهام من سبقه كالمحاملي والنووي، وكذلك بين في بعض المواضع أن المذهب خلاف ما ذكر فلان أو فلان، وكذلك كان يستدرك على من سبقه بحيث لو ذكر مثلًا خمسة أمور، فيقول: قد فاته كذا، ونسي كذا.
(هـ) منهج تحقيق الكتاب والتعليق عليه
(هـ) منهج تحقيق الكتاب والتعليق عليه أولًا: نص الكتاب: نظرًا لاجتماع عدة نسخ خطية للكتاب، فقد اعتمدت على مقارنة النسخ ومقابلتها وإثبات الأنسب والأوفق للسياق، ولم أعتمد نسخة معينة كأصل، وذلك لتفاوت النسخ في مزاياها كما في معظم النسخ قد خلت من تاريخ النسخ. اعتمدت كتابة النص بالرسم الإملائي الحديث مع عدم التنبيه على الفروق في الرسم فيما يتعلق مثلًا بالهمزة أو ألف المد في كلمة جاء أو شاء وما يشبه ذلك. اجتهدت في وضع علامات الترقيم مما يسهم بقدر كبير في مساعدة القارئ علي تفهم سياق الكلام. لم أثبت شيئًا من أرقام اللوحات لا في متن الكتاب ولا هامشه. ضبطت نص الكتاب كاملًا بالحركات كالفتحة والضمة والكسرة، لمساعدة القارئ في فهم النص؛ لما للضبط من دور فاعل في ذلك. قابلتُ النسخ الأخرى بعد أن نسخت الكتاب أولًا من أحدى نسختي دار الكتب المصرية، وترتب علي هذه المقابلة تغيير كثير من الكلمات وحركات الإعراب أيضًا. والجدير بالذكر هنا أن نسخة مكتبة "ليبزج" بألمانيا قد ضبطت بالحركات ضبطًا كاملًا من أولها إلي آخرها وهي نسخة جيدة إلَّا أنها قد خالفت سائر النسخ في كثير من المواضع. إذا وجد سقط في إحدى النسخ فإني أشير إليه بوضع الكلام الساقط بين معقوفين هكذا [] وأقول: ما بين المعقوفين سقط من كذا. أشرتُ إلى كثير من الفروق الحادثة بين النسخ ولم أهمل شيئًا منها قدر استطاعتي إلَّا ما كان متعلقًا برسم الكلمة الإملائي فقط، وقد رمزت للنسخ برموز كما يلي:
ثانيا: التعليق والتهميش
1 - نسخة دار الكتب المصرية (أ). 2 - نسخة دار الكتب المصرية (ب). 3 - نسخة المكتبة الظاهرية الأولى الناقصة (ظ). 4 - نسخة المكتبة الظاهرية الثانية التامة (ظا). 5 - نسخة المكتبة الأزهرية (ز). 6 - نسخة مكتبة ليبزج (ل). وأما بالنسبة لما يتعلَّق بالتتمة، فليس لها بحوزتي إلَّا نسخة واحدة فقط، وهي النسخة الأزهرية، فالنسخة الأزهرية تقع في 199 ق، 109 ق منها لكتاب التدريب، و 100 ق منها للتتمة. وقد كتبت هذه التتمة بخطٍّ دقيق غير منقوط، مما أدى إلي عسر قراءته في بعض المواضع، وتعذر قراءته في مواضع أخرى قليلة. وكنت أستعين على قراءة التتمة بالرجوع إلي المصادر التي ينقل منها المصنف، كـ "الروضة"، و"المنهاج، و"تحفة المحتاج"، وغير ذلك. ثانيًا: التعليق والتهميش: لمَّا كان الكتاب يعتمد علي الإيجاز والاختصار، فهو ليس من المطولات، كان بحاجة إلى تعليق وتوضيح في بعض المسائل، فصنعت ذلك بالرجوع إلى كتب المذهب المختلفة. وكان المصنف قد استفادَ كثيرًا من "اللباب" للمحاملي" و"منهاج الطالبين" للنووي، و"روضة الطالبين" كذلك، فكنتُ أرجع إليها، وأزيد في الهامش شيئًا منها علي سبيل الإيضاح والتبيين، وكذلك كتاب "المحرر" للرافعي رحمه اللَّه، فهذه أهم مصادر المصنف في كتابه هذا. وبينت شيئًا من معاني الألفاظ إمَّا في الأحاديث التي يستشهد بها المصنف -وهي قليلة- وإما في كلامه هو.
ثالثا: تخريج الأحاديث والحكم عليها
وقد أحلتُ إلى كثير من المراجع في المذهب في المسألة التي يتحدث فيها المصنف، وقد استفدت في بعض ذلك من تحقيق أ/ عبد الكريم بن صنيتان العمري لكتاب اللباب للمحاملي. ورجعت في توثيق كثير من مسائل الكتاب إلى ما صُنِّف قبل كتابنا وإلى ما صُنِّف بعده أيضًا. ثالثًا: تخريج الأحاديث والحكم عليها: وأما فيما يتعلَّق بالمادة الحديثية للكتاب، فهي قليلة جدًّا، ولذلك توسَّعت في تخريجها وتحقيقها، ونقل كلام أهل العلم عليها، لعله بذلك تجتمع الفائدتان الفقهية والحديثية، واهتممت ببيان حكم الحديث من حيث الصحَّة أو الضعف. (و) وصف النسخ الخطية المعتمدة في التحقيق حفلت مكتبات العالم بالكثير من نسخ كتاب التدريب للبلقيني، وهي كما يلي: 1 - نسخة جامعه ليبزج، بألمانيا، رقم الحفظ: 381. 2 - نسخة المكتبة الظاهرية (ضمن مكتبة الأسد) بدمشق، رقم الحفظ: 33 (66)، 50 (314/ 5) 3 - نسخة المكتبة الملكية بألمانيا ببرلين، رقم الحفظ: 4606. 4 - نسخة المتحف البريطاني، بلندن، رقم الحفظ: 900. 5 - نسخة المكتبة الخديوية، بالقاهرة، رقم الحفظ: 3/ 206 (ن ع 19576). 6 - نسخه شستربيتي، بإيرلندا دبلن، رقم الحفظ: 6/ 4703. 7 - نسخة المكتبة المركزية بالمملكة العربية السعودية، بمكة المكرمة، رقم الحفظ: 3/ 671. 8 - نسخة مكتبة المخطوطات بالكويت، رقم الحفظ: 320 م ك عن شستربيتي 4703، 873 م ك مج 3 عن الظاهرية 62/ 3797. 9 - نسخة معهد المخطوطات العربية بالكويت، رقم الحفظ: 1889 عن
النسخة الأولى: نسخة دار الكتب بالقاهرة، (ورمزها أ).
شستربيتي 4703. 10 - نسخة المكتبة الظاهرية بدمشق، رقم الحفظ: 2301 (364 فقه شافعي). 11 - نسخة المكتبة الأزهرية بالقاهرة. * * * وقد اجتمع عندي ست نسخ منها، وبيانها كما يلي: النسخة الأولى: نسخة دار الكتب بالقاهرة، (ورمزها أ). هذا النسخة محفوظة بدار الكتب القومية بالقاهرة بمصر المحروسة، برقم (527/ فقه شافعي)، وهذه النسخة ليس لها غلاف، فلم يدون عليها اسم الكتاب ولا اسم المؤلف. ولم يدوَّن فيها اسم الناسخ ولا تاربخ نسخها، وعدد أوراقها (226 ق) مقاس (25 × 17 سم)، وهي ناقصة الأول، فهي تبدأ بقول المصنف: "والنفاس وعدم ما يمنع وصول الماء إلى البشرة، ورفع الخبث على وجه مرجح. . . ". وقد كتبت بخط نسخي عادي، وفي كل وجهٍ منها واحد وعشرون سطرًا، ومتوسط الكلمات في السطر الواحد حوالي عشر كلمات. وهي نسخة جيدة قليلة الأخطاء، ولكن قد أصاب عدة صفحات طمس في أول سطرين أو ثلاثة فلم يبد شيء من الكلام إلَّا بصعوبة، وهذا ابتداء من (ص 25 - 39) تقريبًا. وتنتهي في ثنايا باب العدة، وذلك عند قول المصنف رحمه اللَّه: "وكذا إطلاق العراقيين، ومن صحح عدم الانقضاء في الرجعية لم يأتِ بحجَّة قوية". * * * النسخة الثانية: نسخة دار الكتب بالقاهرة (ورمزها بـ): وهذه النسخة من محفوظات دار الكتب القومية بالقاهرة بمصر المحروسة برقم (845/ فقه شافعي).
النسخة الثالثة: نسخة المكتبة الظاهرية (ورمزها: ظ).
وقد كتب علي غلافها: كتاب التدريب. . . تأليف سيدنا ومولانا شيخ الإسلام والمسلمين، بقية المجتهدين، سيف المناظرين، ناصر الحق، مؤيد الشريعة، سلطان العلماء، لسان المتكلمين، سراج الدين أبي حفص عمر الكناني البلقيني الشافعي قدَّس اللَّه تعالى روحه ونوَّر ضريحه بمحمدٍ وآله. وناسخها هو عبد العزيز بن يوسف بن عبد الغفار، وترجمته في "الضوء اللامع" (4/ 237 - 240)، وعدد أوراقها (111 ق) وتاريخ نسخها (823 هـ)، ومقاس صفحتها (19 × 30)، وفي كل صفحة (25) سطرًا، وفي كل سطر قرابة عشرين كلمة، وهي مكتوبة بخط نسخي عادي. وتبدأ بـ "بسم اللَّه الرحمن الرحيم، اللهم صلِّ يا ذا الجلال والإكرام علي محمد سيد الأنام نبي الرحمة وشفيع الأمة وسيد الأئمة. . . ". وتنتهي الصفحة الأولى بباب الوضوء وقوله: "هو راجع إلى مادة الوضاءة، وهي النظافة والنضارة، قال اللَّه تعالى: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} " ثم حدث سقط كبير في النسخة، فجاء في الصفحة التالية قوله: "قال ابن عباس: الإشراق صلاة الضحى". وتنتهي هذه النسخة في ثنايا كتاب الرضاع، وآخرها: "ومعرفة أنها ذات لبن، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، ووافق الفراغ من نسخه يوم الجمعة المبارك لخامس عشرين خلت من شهر رمضان المعظم. . . سنة ثلاث وعشرين وثمانمائة أحسن اللَّه خاتمتها للمسلمين آمين. على يد الفقير إلى عفو ربه الوائق بجوده وفضله، غريق نعمه. . عبد العزيز بن يوسف بن عبد الغفار. . ". * * * النسخة الثالثة: نسخة المكتبة الظاهرية (ورمزها: ظ). وهذه النسخة من محفوظات المكتبة الظاهرية بدمشق، وهي تقع ضمن
النسخة الرابعة: نسخة المكتبة الظاهرية، ورمزها: (ظا).
مجموع من ورقة (22 - 37)، وهي نسخة كُتبت من نسخةٍ نُقلتْ من نسخة المصنف رحمه اللَّه. وكتب عليها: كتاب التدريب للشيخ الإمام العالم العلامة فريد دهره ووحيد عصره وعمدة أهل الدين، محرر دقائق العلوم، ومظهر عجائب الفهوم، وجامع بين المنقول والمعقول ومريد الخليقة بمرقوم علمه المسبوك، صاحب الإتقان والتحرير، وسالك طريق أهل الجد بالتشمير، نافع المسلمين فيما صنفه، ولقد قلع في عصره عيون من عنفه، بكثرة علومه الزاهرة وكلماته الباهرة، فلقد شاع ذكره بالتمكين في العلوم حتى قالت الخليقة: البلقيني داخل في أحسن المرقوم جزاه اللَّه أحسن الجزاء وأفضله وأعطاه من فضله ما أمَّلَه، إنه كريمٌ مجيب قريب حليم". وتبدأ النسخة بقوله: "بسم اللَّه الرحمن الرحيم رب يسر، اللهم لك الحمد علي ما منحت من تدريب المبتدي وتهذيب المنتهي. . . ". وآخرها: "فإن رجع والمأموم في الهوى يرجع معه أو تقدم أو تخلف بتمام ركنين فعليين أو بأربعة طويلة بعذر، ولا تصح القدوة". * * * النسخة الرابعة: نسخة المكتبة الظاهرية، ورمزها: (ظا). وهذه النسخة من محفوظات المكتبة الظاهرية بدمشق برقم عام (364). وقد كُتب علي غلافها: "كتاب التدريب في فقه إمامنا الشافعي، تأليف سيدنا ومولانا شيخ الإسلام خاتمة المجتهدين سراج الدين أبي حفص عمر البلقيني الشافعي، تغمده اللَّه برحمته. آمين. وهي نسخة جيدة كاملة قليلة الخطأ والسقط. وتقع هذه النسخة في (281) ورقة، وفي كل ورقة وجهان، وفي الوجه الواحد 19 سطرًا، وفي السطر 8 كلمات أو 9 تقريبًا. وعليها بعض الحواشي، وليست بالكثيرة. وتبدأ هذه النسخة بقوله: "بسم اللَّه الرحمن الرحيم وصلى اللَّه على سيدنا
النسخة الخامسة: نسخة المكتبة الأزهرية، ورمزها: (ز).
محمد وآله: اللهم لك الحمد على ما منحت من تدريب المبتدي وتهذيب المنتهي. . . ". وتنتهي هذه النسخة بنهاية باب الرضاع، فآخرها: "وُيعرف ذلك بمشاهدة الحلب والإيجار والازدراد والإسعاط وقرائن من التقام الثدي والمص والحركة والتجرع والازدراد ومعرفة أنها ذات لبن. باب النفقات". * * * النسخة الخامسة: نسخة المكتبة الأزهرية، ورمزها: (ز). وهي من محفوظات المكتبة الأزهرية بالقاهرة، وهي نسخة كاملة إلَّا نقصًا في أولها فقط، وهي نسخة جيدة قليلة الخطأ والسقط. ومما تميزت به هذه النسخة أنها النسخة الوحيدة التي اشتملت على "تتمة التدريب" لابن المؤلف، وهو العلمي البلقيني. وتقع هذه النسخة في (199) ق، في كل ورقة وجهان، إلَّا الورقة الأولى فقط، فهي وجه واحد، وقد جاء هذا الوجه في (29) سطرًا كما في سائر النسخة. وهذه النسخة كما تقدَّم نسخة جيدة، وقد كتبت بخطٍّ دقيق غير منقوط في أغلب الأحيان، وقد وقع في السطر الواحد قرابة عشرين كلمة. وكتاب "تدريب المبتدي" يقع في (109) ورقة، وتتمة التدريب تقع في (90) ورقة. وهذه النسخة ناقصة من أولها، فهي تبدأ بقوله: "عدمه كالسفر غالبًا أو أن يعدم ثمن الماء إذا لم يجده إلَّا بالبيع. . . ". وتنتهي بباب الرضاع عند قوله: "ومعرفة أنها ذات لبن. . . باب النفقات". وأمَّا تتمة الكتاب فقد كُتب علي طرتها: "كتاب تتمة التدريب تأليف مولانا شيخ الإسلام العلمي البلقيني تغمده اللَّه برحمته ومنِّه وكرمه، آمين". وتبدأ التتمة بقول مصنفها: "بسم اللَّه الرحمن الرحيم اللهم صل على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم. باب النفقات. . . وتنتهي بباب أم الولد عند قوله: "من رأس المال وعلى إطلاق الإعتاق نختم هذا الكتاب ونرجو من ربنا الخلاق إعتاقنا
النسخة السادسة: نسخة مكتبة ليبزج بألمانيا ورمزها: (ل)
يوم الحساب. . . وكان الفراغ من تكملة هذا الكتاب المبارك يوم الاثنين المبارك الخامس والعشرين من شهر ذي الحجة سنة سبع وخمسين وثمانمائة وحسبنا اللَّه ونعم الوكيل". * * * النسخة السادسة: نسخة مكتبة ليبزج بألمانيا ورمزها: (ل): وهي نسخة كاملة مكتوبة بخط حديث، وهي مشكولة بالحركات شكلًا كاملًا، ولكنها كثيرة المخالفة لسائر النسخ. وتقع هذه النسخة في (250) لوحة، في كل لوحة 17 سطرًا، وقد كتب على غلافها: كتاب التدريب لشيخ الإسلام سراج الدين البلقيني رحمه اللَّه تعالى رحمة واسعة. وتبدأ هذه النسخة بقوله: "بسم اللَّه الرحمن الرحيم وبه نستعين، اللهم لك الحمد على ما منحت من تدريب المبتدي وتهذيب المنتهي". وتنتهي خلال كتاب الرضاع عند قوله: فإذا أرضعت الثالثة انفسخ نكاحها وكذا الثانية، وفي الثانية قول ويجزئ. وفيما يلي صور النسخ الخطية للكتاب. وأسأل اللَّه أن يتقبل ما أحسنت وأصبت فيه بقبول حسن، وأن يعفو عما قصرت فيه، وصلى اللَّه على عبده ورسوله محمد، والحمد للَّه رب العالمين. وكتب أبو يعقوب نشأت بن كمال المصري القاهرة: في 1 رمضان 1432 هـ ت: 0020148229558
الورقة الأولى من النسخة (أ)
الورقة الأخيرة من النسخة (أ)
غلاف النسخة (ب)
الورقة الأولى من النسخة (ب)
غلاف النسخة (ظ)
غلاف النسخة (ظا)
الورقة الأولى من النسخة (ظا)
الورقة الأولى من النسخة (ز)
غلاف تتمة التدريب
الورقة الأولى من التتمة
غلاف النسخة (ل)
الورقة الأولى من النسخة (ل)
مقدمة المصنف
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وبه نستعين (¬1) اللهمَّ لكَ الحَمدُ على ما مَنَحْتَ من "تدريب المبتدي وتهذيب المنتهي"، ولك الشُّكرُ على ما فَتحْتَ مِن تَقْريبِ المَسَالِكِ وتَلْخِيصِ المَدَارِكِ، ولكَ الفَضلُ على ما أَظهَرْتَ مِن نَشْرِ الفَتوى والتمسُّكِ بالأقوَى. وصَلَّى اللَّهُ على أفضلِ الخَلْقِ سيِّدِنَا محمَّدٍ، صلَّى اللَّهُ علَيه وسلَّمَ (¬2)، وعَلى اَلِهِ وصَحْبهِ وشرَّفَ وكرَّمَ. أمَّا بَعْدُ: فهذا (¬3) تَدْريبٌ لِلْمُبْتَدِي (¬4)، يَجرِي به فِي (¬5) كثيرٍ مِنَ الفِقْهِ مع المنتَهِي، ¬
فيهِ نُبَدٌ (¬1) مِنَ الدَّلائِلِ، وجُملةٌ مِنَ المَسائِلِ، وقِطعةٌ مِنَ الضَّوابطِ والأصُولِ، وقَواعدُ واسْتِثناءاتٌ تَنفعُ فِي النقُولِ (¬2)، نفعَ اللَّهُ بهذا التدريبِ، إنَّه قَريبٌ مُجيبٌ. * * * ¬
كتاب الطهارة
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ كتاب الطهارة هِي لُغَةً: الخُلُوصُ مِنَ الأَدْناسِ. وشَرْعًا: ارْتِفاعُ الحَدَثِ والنَّجَسِ (¬1) بالمَاءِ، أوْ بِه مَع ما شُرِطَ معه، أو جُعِلَ عِوَضُه مُبِيحًا، أوْ تَكمِلةً للرَّافِعِ، أوْ مُشابِهًا لهُ صُورةً وطلبًا (¬2). والمَشروطُ مع الماءِ: التُّرابُ فِي غَسَلاتِ الكَلْبِ. ¬
والذي جُعِلَ عِوَضُه مُبيحًا: التُّرابُ فِي التَّيَمُّمِ. والتَّكمِلَةُ للرَّافِعِ: سُنَنُهُ (¬1) مِنَ التَّثْليثِ ونَحْوِهِ. والمُشَابِهُ له: وُضوءُ دَائمِ الحَدَثِ، وغُسْلُ الميِّتِ، والطَّهَاراتُ المَسْنُونَةُ. * * * ¬
باب المياه
باب المياه قال اللَّهُ تعالى: {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا (48)}، وقال تعالى: {وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ (¬1)}. وقال رسولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- فِي البَحْرِ: "هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ، الْحِلُّ (¬2) مَيْتَتُه"، حديثٌ حسنٌ أو صَحِيحٌ (¬3) (¬4). ¬
والمُحَصِّلُ للطَّهَارَةِ مِنَ الْمَائِعِ المَاءُ الطَّهُورُ، وهو الذي لَمْ يَنْجُسْ ولمْ يتَغيَّرْ بما يَسْلُبُه الطُّهُوريَّةَ مِنْ زَعْفَرانٍ ونَحْوِه، تَغَيُّرًا فَاحشًا -حِسًّا (¬1) أو تقْديرًا- ولمْ يُسْتعمَلْ، وهو قَليلٌ في (¬2) حدَثٍ ولَا نَجَسٍ ولا غُسلِ ميِّتٍ. فإنِ استُعْمِلَ ثم بلَغ قُلَّتَينِ عَادَ طَهُورًا، وإذا وَقَع فِي الماءِ القَليلِ نجَاسةٌ غيرُ مَعْفُوٍّ عنها تَنَجَّسَ. ¬
والكَثيرُ لا يَنجُسُ إلا بالتغيُّرِ لِقَولِه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إِذَا بَلَغَ الْمَاءُ قُلَّتَيْنِ لَمْ يَحْمِلْ خَبَثًا"، حَديثٌ حَسَنٌ أوْ صَحِيحٌ (¬1) (¬2). ¬
فإذَا تغيَّرَ الكثيرُ حِسًّا بالنَّجاسةِ، أوْ تقدِيرًا: صَارَ نَجِسًا. والتَّغيُّرُ المُؤَثِّرُ بالطَّاهرِ أوِ النِّجِسِ تَغيرُ طَعْمٍ أوْ لَونٍ أوْ رِيحٍ. * * * * ضَابِطٌ: لَيس مِنَ الماءِ طاهِرٌ لا يُستعملُ إلا: المستعمَلُ، والمتغيِّرُ حِسًّا أوْ تقديرًا بمَا يَسلُبُهُ الطُّهوريَّةَ. وليس لنَا ماءٌ طَهُورٌ فِي إناءٍ نجِسٍ إلَّا فِي صُورتينِ: إِحدَاهما: جِلدُ مَيتةٍ وُضعَ فيه قُلَّتانِ فأكثرُ. ¬
والثَّانية (¬1): ولَغَ كلبٌ فِي إناءٍ، فصُبَّ فيه بعدَ ذلك ماءٌ حتى صَار قُلَّتينِ فأَكثرَ. ويُعفَى عن مَيْتةٍ لا دَمَ لها يَسِيلُ؛ مَا لمْ تُطرحْ ولَمْ تُغيِّرِ الماءَ، وعن نَجاسةٍ لا يُدْرِكُها الطرْفُ، وعن طَيرٍ يقعُ فِي الماءِ بِمِنْقَرِهِ نَجاسةٌ. * * * * والمياهُ أقسامٌ: طَهورٌ (¬2)، وطاهرٌ، ونَجِسٌ (¬3) -وقد سَبقتْ (¬4) - وحَرامٌ، ومَكروهٌ، ومَشْكُوكٌ فيه: * فالحَرامُ: المُسبَّل للشُّربِ ونحوِه. * والمَكْرُوه: شَديدُ السُّخونةِ والبُرودةِ. ولا تُستعمَلُ مياهُ آبارِ الحِجْر ومَنازلِ ثَمودَ -غيرَ بئْرِ الناقةِ-. والمُختارُ لا يُكْره المُشمَّسُ، والمَشْكوكُ فيه المُشتبِهُ، فيُتحرَّى فِي مَواضعِه فِي الأوَانِي والثِّيابِ. ولا يحِلُّ لرجُلٍ ولَا امرأةٍ (¬5) استِعمالُ آنِيَةِ (¬6) الذَّهبِ والفِضةِ فِي حالِ ¬
الاخْتيارِ لقَولِهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "مَنْ يَشْرَبُ (¬1) فِي إِنَاءٍ مِنْ ذَهْبٍ أوْ فِضَّةٍ فَإنَّمَا يُجَرْجِرُ (¬2) فِي بَطْنِهِ نَارَ جَهَنَّمَ" (¬3)، حديثٌ صحيحٌ (¬4). وكذلك لا يَحِلُّ اتِّخَاذُهُ، ولَا الضَّبَّةُ الكَبيرةُ مع الزِّينةِ، ومِنهُم مَنْ حَرَّمَ ضَبَّةَ الذَّهبِ مُطْلَقًا. * * * * والطَّهَاراتُ أَرْبعٌ: 1 - الوُضوءُ. 2 - والاغْتِسالُ. 3 - والتَّيمُّمُ. 4 - وإِزالةُ النجَاسةِ. * * * ¬
باب الوضوء
باب الوضوء وهُو رَاجعٌ إلى مَادة الوَضاءَةِ، وهي النَّظافةُ والنَّضَارَةُ (¬1). قال اللَّهُ تعالى: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} (¬2) الآية. * وهو على نوعينِ (¬3): 1 - فَرْضٌ: وهو ما كانَ عنْ حَدَثٍ، و (¬4) المُرادُ بِه ما لا بُدَّ مِنه لِيشملَ وُضوءَ الصَّبيِّ عنِ الحَدَثِ، ووُضوءَ البالِغِ عنِ الحدَثِ للنَّفلِ. 2 - و (¬5) نَوْعٌ سُنةٌ، وعَدَّهُ المَحَامِليُّ ثَمانيةً (¬6): ¬
1 - تَجديدُ الوُضوءِ، وإنَّما يُشْرَعُ -على الأصحِّ- بعدَ فِعلِ صلاةٍ (¬1) (¬2). 2 - والوُضوءُ فِي الغُسلِ الوَاجبِ. 3 - ووُضوءُ الجُنبِ عندَ الأَكلِ. 4 - وعندَ النَّومِ. 5 - وعندَ الجِماعِ. 6 - والوُضوءُ عند الغضَبِ. 7 - والوُضوءُ عنِ (¬3) الغِيبةِ. 8 - وعَنْ مَسِّ الميِّتِ (¬4). ويُشارُ بذلكَ إلى كلِّ ما أَوْجبَ فيه بعضُ العُلَماءِ الوُضوءَ. * * * * ويُزاد عليه: 9 - الوُضوءُ عند قراءةِ القرآنِ. 10 - والجُلُوسِ فِي المسجِدِ. 11 - والأَذانِ والإِقامةِ. 12 - والتَّدريسِ. ¬
13 - وزِيارةِ قَبرِ النبيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-. 14 - والمَشْي (¬1) بيْن الصَّفا والمَرْوَةِ. 15 - والوُقوفِ بعَرَفَاتٍ. 16 - وقِراءةِ الحَديثِ. 17 - ودِراسةِ العِلْم الشرعيِّ. 18 - والوُضوءُ عند النَّوم لغَير الجُنبِ (¬2). * * * * ثمَّ الوُصْوءُ يَشتملُ علي سِتة أشياءَ: فَرْضٍ، ونفْلٍ، وسُنَّةٍ، وأدَبٍ، ومَكرُوهٍ، وشَرْطٍ. * أما الفرْضُ فسِتَّةٌ (¬3): 1 - النِّيةُ. 2 - وغَسْلُ جَميعِ الوَجهِ. 3 - وغَسْلُ اليَدينِ مع المِرفقَينِ. 4 - ومَسحُ القليلِ مِن بَشَرَةِ الرَّأسِ، أوْ مِن شَعَرٍ لا يكونُ كالذُّؤابَةِ ¬
ونحوِها. 5 - وغَسْلُ الرِّجْلينِ معَ الكَعبينِ. 6 - والتَّرتيبُ. * ولا يَسْقطُ التَّرتيبُ إلَّا فِي صُورَتَينِ: * إحداهُما: إذَا انغَمسَ فِي الماءِ بِنِيَّةِ رفْعِ الحدَثِ، ولمْ يَمكثْ؛ يَصحُّ علَى وَجهٍ رُجِّحَ. * والثَّانية (¬1): غَسَلَ جُنُبٌ جميعَ بدنِهِ إلا رِجْلَيه، أو عُضوًا (¬2) مِن أعضاءِ وُضوئِه، ثُم أَحْدثَ، فإنه لا يُؤثِّرُ الحدَثُ فيما بقِيَ بغير غَسلٍ، فيَغسلُه عنِ الجَنابةِ مُقدَّمًا، ومؤخَّرًا ومتوسِّطًا، ويقال: وُضوء خال عن غَسْلِ الرِّجْلينِ معَ كشفِهما ومع عدمِ العذرِ، وهذه صُورتُه. * والنفلُ واحدٌ (¬3): وهو التَّوَضُّؤُ بعد الأُولى مرَّتينِ مرَّتينِ؛ هكذا قاله المَحامليُّ، ثُم عَدَّ التثليثَ من السُّننِ، وهَكذا فعَلَ الأصْحابُ، مع أنَّ النفلَ والسُّنةَ هُنا بمعنًى واحدٍ. * * * ¬
* والسُّننُ ثمانيَةَ عَشَرَ (¬1) (¬2): 1 - السِّواكُ. 2 - والتسمِيةُ. 3 - وغَسلُ اليدَين قبْلَ إدخالِهما الإناءَ. 4 - والمَضمضةُ. 5 - والاستنشاقُ. 6 - والمبالغةُ فيهما لغيرِ الصائمِ، فلو (¬3) فعلَهما بغَرفةٍ تمضمضَ منها ثلاثًا، تم استَنشقَ مِنها ثلاثًا، فقَد حَصَلَ أصْلُ السُّنة، وصحَّ ذلكَ عنِ النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، وصحَّ عنه أنه تَمضمضَ واستَنشقَ بثَلاثِ غَرَفاتٍ (¬4). 7 - ومسحُ جميعِ الرأسِ. 8 - ومَسحُ الأُذُنَينِ ظَاهرِهما وباطنِهما بمَاءٍ جَديدٍ. 9 - وإدخالُ سَبَّابَتَيهِ فِي صِمَاخَي (¬5) أُذُنَيهِ، بماءٍ جَديدٍ. ¬
10 - وتخْليلُ اللِّحيةِ الكَثَّةِ (¬1) للرجُلِ. 11 - وتَخليلُ الأصابعِ. 12 - والمُوالاةُ، وقد تجبُ لِعارضٍ مِن سَلَسٍ واستِحاضةٍ وضِيقِ وقْتٍ، وفِي ضِيقِ الوَقتِ يقتصرُ على الغَسلةِ الوَاحدةِ. 13 - والتثليثُ. 14 - والتَّيامنُ لا فِي الكفَّينِ والخَدَّينِ والأُذنَينِ إلا عند تعذُّرِ المَعيَّةِ. 15 - وإِطالةُ الغُرَّةِ. 16 - والتَّحجيلُ. 17 - وَبِمُدٍّ. 18 - والذِّكْرُ المَأثورُ. * وأما الأدبُ فعَشرةٌ (¬2): 1 - استقبالُ القبلةِ. 2 - والجُلوسُ فِي مَوضع لا يَرْجِعُ عليه رَشَاش الماءِ. 3 - ووضْعُ الإناءِ عن يَمينِه، إنْ كانَ واسعَ الفَمِ، وعن يَسارِه إنْ كانَ ضَيِّقَ الفَمِ. 4 - وأن لا يَستعينَ بغَيرِه (¬3). ¬
5 - وإنِ (¬1) استعانَ جَعَله عَن يَسارِه (¬2). 6 - وأن يَبدأَ فِي غَسلِ الوجهِ بأعلَاه. 7 - وفِي غَسلِ اليَدَينِ بالأَكُفِّ. 8 - وفِي مَسحِ الرَّأسِ بمُقدَّمِه. 9 - وفِي غَسلِ الرِّجلَينِ بالأصابعِ. 10 - وزاد بعضُهم: تَرْكَ التكلُّم. * وأما المكروهُ فثلاثةٌ (¬3): 1 - الإسرافُ فِي الماءِ -ولو على شَطِّ (¬4) البحرِ- ورجَّح آخرونَ تحريمَه. 2 - والزيادةُ على الثَّلاثِ. 3 - وأنْ يَغسلَ الرأسَ مكانَ المسحِ؛ هكذا ذَكرَه المَحامِليُّ، والأصحُّ: أنَّ غَسْلَ الرَّأسِ لا يُكرَهُ، وإنَّما يُكرَهُ غَسْلُ الخُفِّ (¬5). ومما يُعَدُّ هُنا التَّنشيفُ، والمبالغةُ فِي المَضمضةِ والاستنشاقِ للصائمِ. * * * ¬
* وأمَّا الشرْطُ فواحدٌ: وهو أنْ يكونَ الماءُ مطلقًا؛ كذا قالَ المَحامِلِيُّ. * * * * ومما يُعَدُّ من شرائطِهِ: 1 - الإسلامُ. 2 - والتمييزُ. 3 - وعدمُ الحَيضِ (¬1) والنِّفاسِ. 4 - وعدمُ ما يَمنعُ وُصولَ الماءِ إلى البشرَةِ. 5 - ورفعُ الخَبَثِ علي وجْهٍ مرجَّحٍ. 6 - ورفعُ الجنابةِ على ما جزَمَ به ابنُ الحدادِ (¬2) فيمن أَحدثَ فِي أثناءِ غُسْلِهِ. 7 - ودُخولُ الوقتِ لِوُضوءِ دَائمِ الحدَثِ، ونحوِه (¬3). 8 - وتقدمُ الاستنجاءِ علي رأيٍ ضَعيفٍ. ¬
فصل
فصل * الحدَثُ الأصعْرُ يحصُلُ بواحدٍ مِن سَبعةِ أشياءَ (¬1): * أحدُها: ما خَرَجَ مِن أحَدِ السَّبيلَينِ غيرَ المنيِّ إلَّا (¬2) لِضرورةِ صاحبِ الحدَثِ الدائمِ، ولا يُعادُ وُضوءُ الميِّتِ على الأصحِّ. * الثَّاني: ما خَرَجَ مِمَّا قَام مَقامَ السبيلَينِ مِن مُنْفَتِحٍ تحتَ المَعِدةِ مع اسْتِدادِ (¬3) الأصلِيِّ. * الثالث: عدمُ الشُّعورِ بجُنونٍ أو إغماءٍ أو سُكْرٍ أو نَومٍ إلا إذا نامَ مُمَكِّنًا مَقْعَدَتَهُ منَ الأرضِ. * الرابعُ: حصولُ اللَّمسِ بينَ بَشرتَيِ الرَّجُل والمرأةِ اللذَيْنِ لا مَحرَميةَ بينهما، ومما فِي مَظِنَّة الشهوةِ" لقولِه تعَالى: {أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ}، ولا أثرَ للمْسِ السنِّ والشَّعَرِ (¬4) والظُّفُرِ ولا العُضوِ المُبَانِ (¬5) ولا المَحْرَم، ولا الصغيرةِ (¬6) التي لا تُشْتَهَى، وينتقِضُ اللامسُ والمَلموسُ. . .، ¬
وفي (¬1) لمسِ الحيِّ الميتَ يَنتقِضُ الحيُّ. * الخامسُ: مَسُّ فَرْجِ الآدَميِّ (¬2) ببطنِ الكف لقولِه -صلى اللَّه عليه وسلم- (¬3): "مَنْ أَفْضَى بيده إلى فرْجِهِ (¬4) فقَدْ وَجَبَ عَلَيْهِ الوُضُوءُ"؛ حديثٌ حسنٌ أو صحيحٌ (¬5). ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
* السادسُ: انقطاعُ الحدثِ الدائِمِ انقطاعًا طَويلًا بحيثُ يَسَعُ الوُضوءَ والصلاةَ إلا إذا كان الانقطاعُ فِي الصلاةِ. * السابعُ: شفاءُ صاحب الحدَثِ الدائمِ. وأما انتقاضُه بأكلِ لحمِ الإبلِ (¬1) فهو مُختارٌ لِصحةِ الحَديث (¬2) فيه (¬3). وأما غير ذلك مِن بُطلانِ حُكم المَسحِ علي الخُفَّينِ لِظُهورِ (¬4) الرِّجْل أو بعضِها أو بانقضاءِ مُدةِ المَسحِ أو نحوِ ذلكَ مِن بُرْءِ صاحب الجَبائرِ فذاك (¬5) لا يَبطلُ به الوُضوءُ علي المَشهورِ، وإنما يجبُ غَسلُ القدمَينِ فقط وفِي ¬
الجَبائرِ موضعِ العُذرِ وما بَعده، وعلي مقابل المَشهورِ عند المَحامِلِيِّ بُطلانُ حُكمِ مسحِ الخُفِّ، ومما (¬1) يُعَدُّ على وَجْهٍ الردةُ. وأما إرادةُ فرضٍ (¬2) ثانٍ فِي حقِّ دائمِ الحدَثِ قَطعًا، أو الجَريحِ الجامعِ بين الوُضوءِ والتيمُّمِ علي وَجهٍ مرجوحٍ، فالوُضوءُ لَمْ يَنْتقِضْ بدليلِ جَوازِ مَسِّ المصحفِ، وإنما وَجبَ فِي حقِّ الفريضةِ الثانيةِ بدليلٍ لا بِحُصولِ (¬3) النقضِ. * * * ¬
باب المسح على الخف
باب المسح على الخف (¬1) * المَسَحَات سبعٌ: 1 - مسحٌ فِي الاستنجاءِ. 2 - ومسحٌ فِي التيممِ. 3 - ومسحٌ على الجبائرِ. 4 - ومسحُ الرأسِ (¬2)، والتكملةُ علي العمامةِ عند عُسرِ رَفْعِها. 5 - ومسحُ الأُذُنَينِ. 6 - ومسحُ اليدَينِ والرِّجلَينِ إذا كان أقطعَهُما مِنَ المِرفَقِ؛ كذا قال المَحامِليُّ. والواجبُ عندَ القطعِ إنما هو غَسلُ البارزِ إذا قلنا: إنَّ الذي برزَ من جُملةِ الفرضِ كما هو المَشْهورُ. 7 - والمسحُ السابعُ: المسحُ على الخفَّينِ: ¬
فيمْسَحُ المقيمُ يومًا وليلةً، والمسافرُ سفرَ القصرِ ثلاثةَ أيامٍ ولياليَهُنَّ، ففِي "صحيح مسلم" (¬1) عن علي -رضي اللَّه عنه- جَعل رسولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- ثلاثةَ أيامٍ وليالِيَهُنَّ للمسافرِ (¬2) وللمُقيمِ يومًا وليلةً، وجاء بمعنى ذلك أحاديثُ فِي السُّننِ، وابتداءُ المدةِ مِن وقتِ الحدَثِ بعد اللُّبْس، فإنْ مسَحَ فِي الحضَرِ ولو واحدةً على مُقْتضى إطلاقِ النَّصِّ (¬3)، وهُو الراجحُ، أوْ مَسَحَ فِي السَّفرِ، ثُم أقامَ أتمَّ مَسْحَ مقيمٍ، فإنْ كان قدِ استوفَى يومًا وليلةً فِي السَّفرِ لَمْ يكنْ له المسحُ بعدَ الإقامةِ (¬4). * * * * ولِجوازِ المسحِ علي الخفَّينِ شَرائطُ: 1 - أنْ يَلْبَسَ كُلًّا مِن الخُفَّينِ بعد تكملةِ الطَّهارةِ (¬5). 2 - وأنْ تكونَ الطهارةُ (¬6) بالماءِ، أوْ بالتيمُّمِ لا لِعدمِ الماءِ (¬7). ¬
3 - وأنْ يكونَ الخفُّ يستُرُ القَدَمَينِ (¬1). 4 - وأنْ يُمْكنَ مُتابعةُ (¬2) المَشْي عليهِ (¬3)، واعتَبر بعضُهم ثلاثةَ أميالٍ. 5 - وأن لا يكونَ تحتَه خُفٌّ صالح للمسحِ على أصحِّ القولَينِ، وهي مسألةُ الجرموقِ (¬4) (¬5). 6 - وأن لا يكونَ عاصيًا بلُبْسِه علي وجهٍ (¬6)؛ كذا قال المَحامِلِيُّ (¬7)، وهو يَعُمُّ المُحَرَّمَ، لكنِ الأقربُ فِي المحَرَّمِ منعُ المسحِ. والأصحُّ فِي المغصوبِ والمسروقِ الجوازُ. 7 - وعدَّ (¬8) المَحاملِيُّ (¬9) مِن جُملةِ السبعِ التي ذَكَرها: أن لا يكونَ به حدَثٌ دائمٌ. ¬
والأصحُّ أن صاحبَ الحدَثِ الدائمِ والمتيممَ -لا لِفقدِ الماءِ- يمسحُ لِما يُباحُ له لو بقيَ طَهُر (¬1). فإنْ كان قد أدَّى به فَرْضًا، ثُم أَحدثَ، لمْ يَمسحْ إلا للنفلِ ونحوِه، وإنْ لمْ يُؤدِّ به فَرضًا مَسحَ لفرضٍ واحدٍ. * * * * ومما يزاد (¬2) فِي الشروطِ: 8 - أنْ يكونَ طاهرًا. 9 - وأنْ يكونَ مَانعًا لنفوذِ الماءِ (¬3). 10 - وأنْ يكونَ قويًّا (¬4). فالشروطُ بما عدَّه المحامليُّ عَشرةٌ. * * * ويُفاوقُ المسحُ على الخفينِ غَسْلَ الرِّجْلَين فِي ثمانيةِ أشياءَ (¬5): 1 - لا يرفعُ الحدثَ على وجهٍ (¬6). ¬
2 - وأنَّه إلى مُدةٍ (¬1). 3 - ولا يصلُحُ (¬2) لدائمِ الحدَثِ على وجهٍ (¬3). 4 - ويَنتقضُ بما لا يَنتقضُ به غَسلُ الرِّجْلينِ وهو الجنابةُ (¬4)، وحينئذٍ يجبُ نزعُه، وحكمُ السفَرِ مخالفٌ لِحُكْمِ الحضَرِ. 5 - ويَنْتَقِضُ بظُهورِ القدَمِ (¬5). 6 - وأنَّه لا يَعمُّ القدمَينِ (¬6). 7 - وأنه لا يجوزُ على الخفِّ (¬7) الأعلى، عَدَّ هذا الأخيرَ المَحامِليُّ، وهذا مُخالفٌ للخفِّ الواحدِ لا للْغسلِ (¬8). ¬
ويُزادُ عليهِ: أنَّه لا يَصلُحُ للمُتيممِ إلا (¬1) لِفقدِ الماءِ على وجهٍ. 8 - وأنه لا يمسحُ على الحرامِ على وجهٍ. ويصحُّ غَسلُ الرِّجْلَينِ بالحرَامِ، وفِي زيادةِ هذا نظيرٌ (¬2)، فنظيرُه مسحُ الخفِّ بماءٍ حرامٍ، ولا نظيرَ للخفِّ المذكورِ في الرِّجْل. * * * ¬
باب الاغتسال
باب الاغتسال * وهو نَوعانِ: فرضٌ، وسُنَّةٌ: أما الفرضُ فعَشرةٌ (¬1)، خمسةٌ على الرِّجالِ والنساءِ، وخمسةٌ على النساءِ دونَ الرجَالِ: * فالمُشْتركُ: 1 - الإنزالُ. 2 - والتقاءُ الخِتَانَينِ؛ لِقوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إذَا الْتَقَى الخِتَانَانِ فقدْ وَجَبَ الغُسْلُ" (¬2) حديثٌ صحيحٌ. 3 - ونجاسةُ جميعِ البدَنِ. ¬
4 - ونجاسةُ بعضِ البدَنِ (¬1) إذَا أَشْكَلَ عَلَيه موضِعُه. 5 - وغُسْلُ الميِّتِ، ولا يُعادُ غسلُ (¬2) الميِّتِ بخروجِ نَجِسٍ من فَرجِه على الأصحِّ. * * * * وأما الخمسةُ المختصةُ بالنساءِ: فالغُسلُ من: الحَيضِ، والنِّفاسِ، والوِلادةِ، والإسقاطِ، وخروجِ مَنيِّ الرَّجُل من قُبُلِها؛ كذا قال المَحاملِيُّ. والإسقاطُ داخلٌ فِي الوِلادةِ (¬3). وخروجُ مَنيِّ الرَّجلِ ليس بمُوجِبٍ، بلْ إذَا قضَتْ شهوتَها، ثُم خرجَ المنيُّ وجبَ الغُسْلُ؛ لِأنَّ الغالبَ اختلاطُه بِمَنِيِّها. * * * وأمَّا الأغسالُ المَسنونةُ (¬4) فثلاثةٌ وَعِشرونَ غُسْلًا (¬5): 1 - الجُمعةُ (¬6) لِمن حضَرها. 2 - والاستسقاءُ. ¬
3 - والكُسوفُ. 4 - والخُسوفُ. 5، 6 - وعيدُ الفِطْرِ وعيدُ (¬1) الأَضْحى. 7 - والكافرُ إذَا أَسلمَ، ولمْ يتقدمْه فِي الكُفرِ ما يُوجِبُ الغُسلَ. 8 - ومنهُ (¬2) غسلُ الميِّتِ، والحِجامةِ. 9 - ودخولُ الحمَّامِ. ومِنهم مَنْ أَنكَرَ استحبابَ هذَينِ، وَنُسِبَ الإنكارُ إلى المُعْظَمِ، لكنْ نَصَّ الشافعيُّ -رضي اللَّه عنه- عليهما فِي القَدِيم، وفيهما خبرٌ ضعيفٌ (¬3)، ثمَّ قيلَ: المعنى فِي ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
الحمَّامِ لاختلافِ (¬1) الأيْدِي فِي مَائِهِ أوْ لأنَّه إذَا دخلَه عَرِقَ. 10 - ويُستحبُّ أنْ يَغتسلَ قبْلَ أنْ يَخرُجَ، وقيلَ: المُرادُ إذَا استَعملَ النَّوْرَةَ، لكنِ الاستحدادُ معدودٌ وحدَهُ ولَوْ بِالمُوسَى، ولَيس (¬2) فيه ما يُعْتَمدُ. 11 - والجُنونُ، وقيل: واجبٌ لِقولِ الشَّافعيِّ -رضي اللَّه عنه- (¬3): قَلَّ مَنْ يُجَنُّ إلَّا ¬
وَيُنْزِلُ. 12 - والإغماءُ. 13 - والإحرامُ. 14 - ودخولُ مكةَ. 15 - ودخولُ الحَرَمِ (¬1)؛ كذا قالَ المَحامِلِيُّ. والحَرَمُ يَشملُ المَدِينةَ (¬2)، والمعروفُ لِدُخولِ (¬3) مَكةَ. 16 - والوُقوفُ بِعرَفةَ. 17 - والوُقوفُ بِجَمْعٍ. 18 - والبَيْتُوتَةُ بِمُزْدَلِفَةَ، ومِنهمْ مَنِ اقْتصَرَ على أحدِهما (¬4) وهو المعروفُ. وعَدَّ المَحامِلِيُّ مع هذا: 19 - الغُسْلَ لِلْمَشْعَرِ الحَرامِ، وهو غير معروفٍ، بلْ هو الغُسلُ لِلمُزْدَلِفَةِ -وهي المَشْعَرُ الحَرَامُ. 20 - ولثلاثةِ (¬5) أيَّامِ مِنًى. ¬
21 - وطَوافَ الزِّيارَةِ على قَولٍ (¬1). 22 - وزيارةَ قَبرِ النبيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- (¬2). 23 - ولكلِّ حالٍ يَتغيرُ فيهِ البَدَنُ. * * * والغُسلُ (¬3) مُشْتمِلٌ (¬4) على سِتةِ (¬5) أشياءَ: فرضٍ، ونَفلٍ، وسُنةٍ، وأدَبٍ، ومَكروهٍ (¬6)، وشَرْطٍ. * الفرضُ ثلاثةٌ (¬7): 1 - النيةُ. 2 - وتعميمُ البدَنِ بالمَاءِ شَعَرًا وبَشَرًا. 3 - والمُوالاةُ على قولٍ مَرجوحٍ (¬8). قالَ المَحامِلِيُّ: والدَّلْكُ إذَا كانَ أَزَبَّ -يعني: طويلَ (¬9) الشَّعَرِ (¬10) - لكن ¬
هذا دخلَ (¬1) فِي تعميمِ البدَنِ، ثُم ينبغِي أنْ يَعُدَّها أربعةً. * * * * وأمَّا النفلُ فواحدٌ: وهو الاغتسالُ مرَّتينِ بعد الأُولَى، وهذا معدودٌ مِنَ السُّننِ كما سبق فِي الوُضوءِ. * * * * وأمَّا السُّننُ فإِحدَى عَشرَ (¬2): 1 - التسميةُ، خِلافًا لِبعضِهم. 2 - وغَسْلُ اليَدينِ قَبْلَ إدخالِهما الإناءَ. 3 - وغَسْلُ ما به مِنَ الأذَى. 4 - والوُضوءُ. 5 - وأنْ يَحثُوَ على رأسِه ثلاثَ حثَياتٍ مِنْ مَاءٍ. 6 - وتخليلُ الشَّعَرِ. 7 - والبَداءةُ بالأيمنِ. 8 - والدَّلْكُ. ¬
9 - وتعهُّدُ مَعاطِفِ البدَنِ. 10 - والتطيبُ فِي غُسْلِ الحَيضِ. 11 - أوِ النِّفاسِ. وعَدَّ المَحامِلِيُّ (¬1) مِنَ السُّننِ أنْ يقولَ بعدَ الفراغِ: أشهدُ أنْ لا إلَه إلَّا اللَّهُ وحدَه لَا شريكَ لَه، وأشهدُ أنَّ مُحمدًا عبدُه ورسولُه. وأخذه مِنَ الوضوء، وترك مواضعَ مِنَ الوضوءِ تأتِي هنا، ولَعلَّهُ أدخلَها بَعدَ (¬2) الوُضوءِ في (¬3) السُّننِ. * * * * وأمَّا الأدبُ: فثَمانيةٌ (¬4): 1 - أنْ يَستقبلَ القِبلةَ. 2 - وأنْ يَجلسَ فِي مَوضعٍ لا يَرْجِعُ عليه (¬5) رَشاش الماءِ. 3 - وأنْ يضعَ الإناءَ عن يَسارِه إنْ كانَ ضَيِّقَ الفَمِ. 4 - وعنْ يَمينِه إنْ كانَ واسعَ الفَمِ. 5 - وأن لا يَستعينَ بغيرِه. ¬
6 - وإنِ استعانَ به جَعَلَهُ عَن يَمينِه، بخلَافِ مَا سبقَ فِي الوُضوءِ. 7 - وأنْ يَغتسلَ (¬1) مِن أَعْلى بدَنِه. 8 - وأنْ يكونَ في مَوضعٍ يَسترُه. * * * * وأمَّا المكروهُ فشَيئانِ (¬2): 1 - الإسرافُ فِي الماءِ ولَو على شَطِّ البحرِ (¬3). 2 - والزِّيادةُ على الثلاثِ، وقد تقدَّمَ فِي الوُضوءِ ما يَجيءُ هُنا. * * * * والشرطُ واحدٌ: وهو أنْ يكونَ الماءُ مُطلقًا (¬4)؛ كذا قالَ المَحامِلِيُّ (¬5). * ومِن شَرائطِه (¬6): - الإِسلامُ، لا فِي حَقِّ كِتابِيَّةٍ عَن حَيضٍ ونَحوِه، لِتحِلَّ لِمُسْلِمٍ. - والتَّمييزُ، لا فِي مَجنونةٍ لِتَحِلَّ لِواطِئٍ. - وعدمُ الحيضِ والنِّفاسِ، لا فِي غُسْلٍ مَسنونٍ لإحرامٍ ونحوِه. ¬
- وعدمُ ما يَمنعُ وُصولَ الماءِ إلى البشَرَةِ. - ورفعُ الخَبَثِ على وجهٍ مُرجَّحٍ. * * * * ويُمنعُ الجُنُبُ ثَمانيةَ (¬1) أشياءَ (¬2). 1 - [الصلاةُ (¬3) إلا إذَا لَم يجِدْ ماءً ولا تُرابًا فيُصلِّي (¬4) الفَرضَ لِحُرمةِ الوَقتِ (¬5). 2 - و] (¬6) قِراءةُ القرآنِ إلَّا أنْ يَأتيَ بشَيءٍ مِن أذكارِهِ لا بقَصدِ قِراءتِه (¬7). 3 - وكتابتُهُ على وجهٍ (¬8). 4 - ومسُّهُ. 5 - والسُّجودُ (¬9). ¬
6 - والخُطبةُ (¬1) 7 - والطَّوافُ. 8 - واللُّبثُ فِي المسجِدِ للمُسْلِمِ (¬2). * * * ¬
باب التيمم
باب التيمم وهو (¬1) لُغةً: القَصْدُ. وشَرعًا: قصدُ الصَّعيدِ علَى وَجهٍ مَخصوصٍ؛ قال اللَّهُ تعالى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا} [النساء: 43] الآية. ولا يَجوزُ إلا بِتُرابٍ طاهرٍ غيرِ مستعمَلٍ، ولا مَشُوبٍ بزعفرانٍ ونحوِهِ (¬2). وهو ضَربتانِ: ضربةٌ للوجهِ، وضربةٌ لليدينِ معَ المِرْفقَينِ (¬3). ¬
ومنهمْ مَنِ اكتفَى بضَرْبةٍ، وَرُجِّحَ (¬1). ¬
واخْتِيرَ الاكتفاءُ بالمسحِ إلى (¬1) الكُوعَينِ لِحَديثِ عمَّارٍ (¬2)، وهُو صحيحٌ. * * * * وللمُتَيمِّمِ حالتانِ (¬3): 1 - حالةٌ (¬4) يَجْمَعُ (¬5) بينَه وبينَ الوُضوءِ. 2 - وحالةٌ يُفْرَدُ عنِ الوُضوءِ. ¬
* فأمَّا حالةُ الجَمعِ ففِي ثلاثةِ مَواضعَ: - أحدِها: أن (¬1) يكونَ معه مِنَ الماءِ مَا لا يَكفِيه (¬2). - والثاني (¬3): أن يكونَ بعضُ أعضاءِ الطَّهَارةِ به علةٌ مانعةٌ مِن استعمالِ الماءِ لِخَوفِ التَّلَفِ أوْ حُدوثِ مرَضٍ مَخُوفٍ أو مَحذُورٍ (¬4). - والثالثِ (¬5): أن يَغسِلَ بعضَ الأعضاءِ، ثُم (¬6) يَنْضُبُ (¬7) الماءُ (¬8)، فلا يجدُ مِنَ الماءِ ما يُتمُّ به الطَّهارةَ. 3 - وأمَّا حالةُ الإفرادِ فعِشرونَ مَوْضعًا (¬9): عَشرةٌ تُعادُ فيها الصلاةُ، وعَشرةٌ لا تُعادُ فِيها (¬10). ¬
* فأمَّا العَشرةُ التي تُعادُ فيها الصَّلاة (¬1): 1 - فالتَّيمُّمُ (¬2) لِعدمِ الماءِ في مَوضعٍ يَغلِبُ فيهِ وُجودُ الماءِ (¬3). 2 - ولِلنِّسيانِ (¬4). 3 - وإضلالِهِ فِي رَحْلِه. 4 - وأنْ يكونَ على بعضِ أعضاءِ التيمُّمِ (¬5) لُصوقٌ (¬6). 5 - أوْ أنْ يَتيمَّمَ قبْلَ شَرْطِ التيمُّمِ، وسيأتِي. 6 - أوْ أنْ يَضعَ الجَبِيرةَ على غَيرِ طهر (¬7). 7 - أوْ أنْ يَتيمَّمَ فِي السَّفَرِ، وهُو عَاصٍ بسَفَرِهِ. 8 - أوْ أنْ يتَيمَّمَ لِلْبَرْدِ (¬8). ¬
9 - أوْ يَكونَ بِجُرْحِه دَمٌ كَثيرٌ. 10 - أوْ يَكونَ عَلى بَعضِ بَدَنِهِ نَجاسةٌ لا يُعفَى عَنْها، ولَا يَقْدِرُ عَلَى إزالتِهَا. * * * * وأمَّا العَشرةُ التي لا تُعادُ فيهَا الصَّلاةُ (¬1): 1 - فَلِعَدَمِ الماءِ فِي مَوضعٍ يَغْلِبُ على الظَّنِّ عدمُه (¬2)، كالسَّفَرِ غالبًا (¬3) 2 - أوْ أنْ يَعْدِمَ ثمنَ الماءِ إذَا لَمْ يجِدْهُ إلَّا بالبيعِ (¬4). 3 - أوْ أنْ يَحتاجَ إلى ثمنِه فِي نفقتِه (¬5). 4 - أوْ أنْ يَحتاجَ إليه فِي دَيْنِهِ. 5 - أوْ أنْ يجدَهُ يُبَاعُ بأكثرَ مِنْ ثمنِه. 6 - أوْ أنْ يَحتاجَ إليه لِشُربِه، أوْ لِشُربِ مُحْتَرَمٍ معه، ولَو مآلًا (¬6). ¬
7 - أوْ يَحولَ بينَه وبينَ الماءِ عَدُوٌّ (¬1). 8 - أوْ أَنْ يَطَّلِعَ على مَاءٍ فِي بِئرٍ ونحوِها لا يَقدِرُ على التناوُلِ منهُ (¬2). 9 - أوْ أَنْ يَخافَ -مِن استعمالِ الماءِ- التلَفَ، أوْ حُدوثَ مرضٍ مَخُوفٍ (¬3). 10 - أوْ محذورٍ، ويستوي (¬4) فِي هذا الأخيرِ السَّفرُ والحضَرُ (¬5). والمُرادُ بالإعادةِ هُنا (¬6) ما هُو أعمُّ مِنَ الفعلِ فِي الوقتِ أوْ بَعده، ويعرفُ مِنَ الإفرادِ حُكمُ الإعادةِ فِي الجَمعِ. * * * ¬
* والتيمم يشتمل على ستة أشياء؛ فرضٍ، وسُنةٍ، وأدَبٍ، ومكروهٍ، وحَرامٍ، وشَرْطٍ (¬1). * أمَّا (¬2) الفرضُ فسبعةٌ: 1 - القَصْدُ إلى التُّرابِ (¬3)، فلَوْ وَقفَ فِي ريحٍ فسفتْهُ (¬4) علَيه، فردَّدَهُ بِنِيَّةِ التيمُّمِ لَم يُجزئْهُ، ولَو (¬5) أمرَ غيرَه فَيَمَّمَهُ جازَ وإنْ كانَ قادرًا. 2 - والنِّيةُ (¬6). 3 - والنقْلُ (¬7). 4 - وكَونُه بضَربتَينِ. 5 - ومسحُ جميعِ الوجْهِ بالتُّرابِ (¬8). ¬
6 - ومسحُ اليَدينِ مع المِرْفقَينِ، ولِلْمقطُوعِ (¬1) ما بقيَ مِنَ الفَرضِ. 7 - والتَّرتيبُ (¬2). وأمَّا المُوالاةُ فلا تجبُ على الأصحِّ (¬3). وعَدَّ المَحامِلِيُّ (¬4) مِنَ الفُروضِ: طَلبَ الماءِ، وإنَّما ذاكَ مِنَ الشروطِ (¬5). * * * * وسُننُه أربع عَشرة (¬6) (¬7): 1 - التسميةُ. 2 - والمُوالاةُ. 3 - وتجفيفُ الترابِ. 4 - والبَداءةُ بأعلى الوجهِ. 5 - ومِنَ اليَدِ بالكفِّ (¬8)، وعدَّهُما المَحامِلِيُّ مِنَ الآدابِ كما سبقَ فِي ¬
الوُضوءِ. 6 - والابتداءُ باليُمنَى. 7 - ونَزْعُ الخاتِمِ فِي الضَّربةِ الأُولى، وأمَّا فِي الثانيةِ فوَاجبٌ. 8 - وتفريقُ أصابعِه أوَّلًا، وقيل: لا يجُوز. 9 - وأنْ يَمسحَ إحدى الرَّاحتَينِ بالأُخرَى. 10 - وتخليلُ الأصابعِ. 11 - وأن لا يَزيدَ على ضَرْبَتَيْنِ (¬1). 12 - وأنْ يُدِيمَ يدَهُ على العُضوِ، لا يرفعُها حتَّى يَفْرُغَ مِنْ مسحِه. 13 - وإمرارُ الترابِ على العَضُدِ (¬2) تطويلًا للتَّحْجِيلِ. 14 - والنُّطقُ بالشهادتَينِ كما سبق فِي الغُسْلِ. * * * * والأدبُ (¬3): استقبالُ القبلةِ (¬4). * * * ¬
* والمكروهُ (¬1): 1 - استعمالُ الترابِ الكثيرِ. 2 - والزيادةُ على المَسحةِ الواحدةِ للوجهِ، ومسحةٍ لليدَينِ (¬2)، وقيل: يُسَنُّ التثليثُ. * * * * والحَرامُ: استعمالُ ترابٍ لم يُؤْذَنْ فيهِ شَرعًا، ومنه ترابُ المسجدِ. * * * وشَرطُه (¬3): - وجودُ العُذْرِ. - وطلبُ الماءِ، لا (¬4) فِي تيمُّمِ المَريضِ، ومتيقِّنِ العدمِ. - ودخولُ وقتِ فِعْلٍ ما يَتَيَمّمُ له (¬5). - وكونُ الترابِ مُطلقًا -ونعني به الطَّهورَ غيرَ المَشُوبِ. - وإسلامُ المتيمِّمِ (¬6)، لا فِي كِتابِيَّةٍ انقطعَ حَيْضُها لِتَحِلَّ لِمُسْلِمٍ. ¬
- والتَّمييزُ لا في (¬1) مَجنونةٍ لِتَحِلَّ لِواطِئٍ (¬2). - وعدمُ الحيضِ والنِّفاسِ، لا فِي تيمُّمٍ مَسنونٍ لإِحرَامٍ ونحوِه (¬3). - وعدمُ ما يمنعُ وصولَ الترابِ (¬4) إلى البشَرَةِ. - ويقدمُ الاستِنجَاء وإِزَالة النَّجاسَة عَن أعْضَاءِ المُتَيَمِّمِ (¬5)، وكذا عَن غَيرِها على رأيٍ رُجِّحَ، كالاستنجاءِ. - ويُقَدَّمُ الاجتهادُ للقِبْلةِ (¬6) على رأيٍ. * * * * ويَبطلُ التيمُّمُ بكلِّ ما يَبْطلُ (¬7) به الوُضوءُ (¬8). - وبالرِّدةِ (¬9) على الأرْجحِ. - وينبغِي أَنْ يأتيَ مثلُهُ فِي وُضوءِ دائمِ الحدَثِ. ¬
- وبرؤيةِ الماءِ بلا حائلٍ مع القُدرةِ على استعمالِه (¬1) إلا [فِي صلاةٍ] (¬2) فِي مَوضعٍ يَغْلِبُ فيه عَدَمُ الماءِ (¬3). - وحكمُ تَوَهُّمِ الماءِ حُكْمُ رؤيتِهِ (¬4). - وكذلك (¬5) ثمنُ الماءِ (¬6). - ويَبطلُ بزوالِ المرضِ المبيحِ للتيمُّمِ إلا فِي الصلاة؛ كذا (¬7) استثناهُ المَحامِلِيُّ، وفيه نظرٌ؛ إذْ يصِيرُ بِمنزلةِ شِفاءِ المستحاضةِ، لا بِمنزلةِ رؤيةِ الماءِ. وَعَدَّ المحامليُّ (¬8) من مُبطِلاتِه (¬9): الإقامةَ (¬10)؛ وهذا يَدخلُ فِي توهُّمِ الماءِ، فإنْ كانَ فِي مَوضعٍ يَغْلِبُ فيه عدمُ الماءِ لَمْ يَبطُلِ التيممُ. * * * ¬
* ويَنْقُصُ (¬1) التيمُّمُ عنِ الوُضوءِ فِي إحدى عَشرةَ (¬2) مسألةً (¬3): إحداها (¬4): التيممُ على الوجهِ واليدينِ فقط، ولو عنِ الجنابةِ أوْ (¬5) بعضِ الأعضاءِ. الثانية: لا يجبُ إيصالُ الترابِ إلى أُصولِ الشَّعَرِ وإنْ خَفَّ. الثالثة: لا يجمعُ بتيممٍ واحدٍ بينَ فَرْضَيْنِ (¬6) والجنازةُ كالنفلِ. الرابعة: لا يتيممُ قبْلَ دخولِ الوقتِ، وهذا والذي قبْلَه (¬7) يجيءُ فِي وُضوءِ دائمِ الحدَثِ. الخامسة: لا يتيممُ إلا فِي حالِ العذرِ. السادسة: لابدَّ له مِنْ تقدُّمِ الاستنجاءِ. السابعة: لابدَّ مِنْ تقدُّمِ إزالةِ النجاسةِ مِنْ غَيرِ أعضاءِ التيممِ على رأيٍ مُرَجَّحٍ (¬8)، وكذا يُقدَّمُ الاجتهادُ على رأيٍ. ¬
الثامنة: لا يَمْسح بطهارتِه إذَا (¬1) كانَ لفقدِ الماءِ على الخفِّ (¬2). التاسعة: لا يجبُ تخليلُ الشُّعورِ (¬3) وإن خفَّتْ (¬4)، وهذه قد (¬5) تُتَّحَدُ مع الثانيةِ. العاشرة: لا يَرْفَعُ الحدثَ. الحاديةَ عَشر: لو تيمَّمَ لِنافلةٍ لَمْ يَجُزْ أَنْ يصلِّيَ به فريضةً، ولا يجوزُ أَنْ يُصلِّي به فريضةً حتى يَنوِيَ استباحةَ الفرضِ مِنْ صلاةٍ أو طوافٍ، وذلك لا يجيءُ فِي وُضُوء السَّلِيمِ. وقد تقدَّمَ فِي الشرائطِ والأركانِ وغيرِهَا ما يَقتضِي الزيادةَ على ذلك كالنقْلِ والضربتَينِ والقَصدِ. واعلمْ أنَّ الترابَ يدخلُ فيه الرَّملُ إنِ (¬6) ارتَفعَ منه غُبارُه (¬7). * * * ¬
باب النجاسة وإزالتها
باب النجاسة وإزالتها (¬1) وعَدَّها المَحامِلِيُّ (¬2) أحدًا (¬3) وعشرينَ نَوعًا: 1 - الغائطُ. 2 - والبولُ. 3 - والرَّوثُ. 4 - والمَذْيُ. 5 - والوَدْيُ (¬4). ¬
6 - والمنيُّ، إلا مَنِيَّ (¬1) الآدميِّ، ومنهم مَنْ صحَّحَ طهارةَ منيِّ غيرِ الآدميِّ إلا مَنِيَّ (¬2) الكلْبِ والخِنْزيرِ (¬3)، وفَرْعِ أحدِهما (¬4). 7 - والصَّدِيدُ (¬5). 8 - وماءُ القُروحِ والنِّفَاطَاتِ (¬6)، ومنهم مَنْ رجَّحَ طَهارةَ ما ليس له (¬7) رائحةٌ كريهةٌ. 9 - والقَيْءُ. 10 - والقَيْحُ (¬8). ¬
11 - والمِرَّةُ (¬1). 12 - والماءُ الذي يخرُجُ منَ الجَوْفِ (¬2). 13 - والبَلْغَمُ المُتقيَّأُ (¬3). 14 - ولبَنُ ما لا يُؤكَلُ لَحْمُه إلا لبَنَ الآدَمِيَّاتِ (¬4)، فعلى هذا لَبنُ الرَّجُلِ نَجِسٌ يحرُمُ شُرْبُه؛ قاله ابنُ الصَّبَّاغِ (¬5)، وَنَقَلَ عن النَّصِّ ما يقتضي خلافَهُ. 15 - وَبَيْضُ مَا لا يُؤكلُ لحمُه (¬6). 16 - وكذلك (¬7) بَيْضُ ما يُؤكلُ لحمُه إذَا صارَ دَمًا على وجهٍ (¬8). 17 - والمُسْكِرُ (¬9). ¬
18 - والدمُ إلَّا أربعةً (¬1): الكبدُ، والطِّحالُ، والمِسْكُ، ودَمُ الحوتِ؛ على وجهٍ ضعيفٍ (¬2)، واستثناءُ المِسْكِ مِنَ الدمِ لا يَحْسُنُ (¬3). 19 - والمَيْتَةُ: إلَّا الآدميَّ (¬4)، والسمكَ والجرادَ، والجنينَ الذي يوجدُ فِي بطنِ المُذَكَّاةِ (¬5) مَيِّتًا (¬6)، والصيدَ الذي لَمْ تُدركْ ذَكاتُهُ (¬7)، أَوِ المَيِّتَ بِثقلِ الجَارحةِ. 20 - 21 - ومِنَ النجاسةِ (¬8): الكلْبُ والخِنزيرُ، وما فِي أصلِه شيءٌ مِنْ ذلكَ. ويُزادُ عليه: الجزءُ المُبانُ (¬9) مِنْ حَيٍّ كالجُزْءِ المُبانِ من غيرِ المأكُولِ (¬10)، وكذا مِنَ المأكولِ إلا شَعَرَهُ وريشَهُ وصُوفَهُ والمِسْكَ وفأرتَهُ. ¬
* والنجاسةُ لها أحوالٌ تِسْعَةٌ: 1 - نجاسةٌ تَحُلُّ الثوبَ أو البَدنَ (¬1)، فتُغسلُ إلى أن يَذهبَ الأثرُ، فإنْ (¬2) عَسُرَ زوالُ أثرِ لونٍ أو رِيحٍ لَمْ يَضُرَّ، وكذا لَوِ اجْتمعَا عَلى المُختارِ (¬3). 2 - ونجاسةٌ تَحُلُّ المائعَ غيرَ الماءِ، وهي غيرُ معفوٍّ عنها، فلا تَطْهُرُ أبدًا (¬4)، فلا (¬5) تَحِلُّ إلا للاستصباح (¬6)، أو طَلْيِ الدَّوابِّ (¬7)، والزِّئبقُ (¬8) حكمُهُ ¬
حكمُ المائعِ إنْ تَقَطَّعَ وإلَّا فيمكنُ غَسْلُهُ (¬1). 3 - ونجاسةٌ تصيبُ أسفلَ الخفِّ؛ قال فِي القديم: يَطْهُرُ بالمسحِ، والأصحُّ أنَّه لابدَّ من الماءِ (¬2). 4 - ونجاسةٌ يُعْفى عنها، وهِي دَمُ البراغيثِ ونحوِهَا (¬3). 5 - ونجاسةٌ يُكْتفى (¬4) فيها بالرشِّ، وهي بَولُ الصبيِّ الذي لمْ يَأْكلْ (¬5). 6 - ونجاسةٌ تَحُلُّ بالمَوتِ فِي الجِلدِ، فترتفِعُ بالدِّبَاغِ، ولو بالأدويةِ النجِسةِ، ولابدَّ من غَسْلِ الجِلْدِ بعدَ الدِّبَاغِ مُطلقًا (¬6). ¬
7 - ونجاسةُ الكلبِ والخنزيرِ، وفرعُ (¬1) أحدِهِما (¬2) تغْسَلُ سبعًا؛ وأُولاهنَّ (¬3) أوْ أُخراهنَّ (¬4)؛ بالترابِ قاله نصًّا، وجرَى عليه المرعشيُّ والمَحامِلِيُّ (¬5). وأمَّا الجمهورُ فأَطلَقُوا الاكتفاءَ بالترابِ فِي واحدةٍ من السبعِ. ولا يَكفِي بدلُ الترابِ جِصٌّ ولا أُشْنان، ولا ثامنةٌ مِن ماءٍ على الأصحِّ، وللغُسَالةِ حكمُ المَحلِّ. وفِي رَشَاشِ غَسَلاتِ الكلب بِغَسل ما بقي، وإنْ بقِيَ الترابُ فُعِلَ أيضًا، وإنْ أصابَ مِنَ السابعةِ لَمْ يُغْسلْ على الأصحِّ (¬6). 8 - ونجاسةٌ أصابتِ الأرضَ، فطهارتُها أَنْ (¬7) تُغْمرَ (¬8) بالماءِ، ولا يُشترطُ ¬
سبعةُ أمثالِ البولِ (¬1)، ولا قَلْعُها إنْ كانتْ رَخْوةً (¬2). 9 - والنجاسةُ التاسعةُ موضعُ الاستنجاءِ: يجوزُ (¬3) الاقتصارُ فيها (¬4) على ثلاثةِ أحجارٍ (¬5). ويقومُ مَقامَ الحَجَرِ كلُّ طاهرِ قالعٍ جامدٍ غيرَ مَطْعُومٍ ولا مُحْترَمٍ ولا مُبْتَلٍّ. ويُشترطُ أن لا تَجِفَّ النجاسةُ (¬6) ولا تَنتقِلَ، ولا تَطْرأَ عليها نجاسةٌ أُخرى، وأن لا تُجاوزَ النجاسةُ (¬7) الصفحةَ و (¬8) الحشَفةَ. * * * * وآداب قضاء الحاجة: أن لا يَستصحِبَ شيئًا فيه اسمُ (¬9) اللَّهِ تعالى أو قرآنٌ أو اسمُ رسولِهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-. ويُعِدَّ الأحجارَ. ¬
ويُبْعِدَ. ويُقَدِّمَ اليُسرى فِي الدُّخولِ، قائلًا: "بِسْمِ اللَّهِ، اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الخُبُثِ وَالْخَبَائِثِ" (¬1). واليُمْنَى فِي الخُروجِ عكسَ المسجِدِ قائلًا: "غُفْرانَكَ" (¬2)، "الْحَمْدُ للَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنِّي الْأذَى وعَافَانِي" (¬3). ¬
وَيَعْتمِدَ يُسْرَاهُ، وأن (¬1) لا يستقبلَ القبلةَ، ولا يستدبرَها، ويَحْرُمَان (¬2) بِمُتَّسَعٍ حيثُ لَمْ يَقْرُبْ مِنْ سَاتِرٍ، وَيَسْتَتِرَ، ولا يبولُ (¬3) فِي مهَبِّ رِيحٍ وماءٍ وصُفَّةِ نَهرٍ جارٍ، وتحتَ مُثْمِرَةٍ وقَارِعَةِ طَريقٍ، وظِلٍّ، ومُتَحَدَّثٍ، ومَوْردَةٍ، ومُستحَمٍّ (¬4)، ومَوضعٍ صَلِبٍ، وجُحرٍ، وقائمًا دونَ عُذرٍ، وأنْ يَنتقلَ للاستنجاءِ بالماءِ لا فِي المِرحاضِ، ولا يَستنجِي (¬5) بِيَمينِه، ولا يطيلُ القُعودَ لِغيرِ ضَرورةٍ، ويَستبرئُ، ويَسْتَتِرُ (¬6)، ويَسْكُتُ. * * * ¬
باب الحيض
باب الحيض ومَعْناهُ لُغَةً: السَّيَلانُ، يُقالُ: حَاضَ الوَادِي إذَا سَالَ. وفِي الشَّرْعِ: عِبارةٌ عَن دمٍ يَخرجُ مِن قُبُلٍ المرأةِ فِي وقتٍ مخصوصٍ على وجهٍ مخصوصٍ. قال اللَّهُ تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى} الآيةَ. أقلُّ سِنِّ الحيضِ: استكمالُ تسعِ سِنينَ، أوْ قبلَهُ بزمنٍ لا يَسَعُ حَيضًا وطُهْرًا (¬1). ووقتُ إياسِهِ: اثنانِ وستونَ سنةً (¬2)، أو يأسُ العشيرةِ إنْ عُلِمَ، وهو الأصحُّ. ¬
ويتعلقُ بالحيضِ عِشرونَ حُكمًا (¬1)، اثنا عشرَ مَحظوراتٌ، وثمانيةٌ غيرُ محظوراتٍ (¬2). * * * * المحظوراتُ (¬3): 1 - لا تَقرأُ القرآنَ. 2 - ولا تَمَسُّهُ. 3 - ولا تَكتبُه، على وجهٍ. 4 - ولا تصلِّي. 5 - ولا تَصومُ. 6 - ولا تَسجدُ. 7 - ولا تَطوفُ. 8 - ولا تَدخلِ المسجدَ إن خافتِ التلويثَ. 9 - ولا تعتكفُ. 10 - ولا تُوطأُ. 11 - ولا تُطَلَّقُ فيه إلا فِي قولهِ: "أنتِ طالقٌ فِي آخِرِ جُزءٍ مِن أجزاءِ ¬
حَيضِكِ"، وكذلكَ إذَا (¬1) كانتْ حاملًا، أوْ بِعِوَضٍ مِنها، أوْ فِي الإيلاءِ بِطَلَبِهَا، أوِ الحُكْم حَالةَ الشِّقاقِ. 12 - ولا تَحضُرُ المحتضَرَ؛ كذا قالَ المَحامِلِيُّ (¬2)، وما ذَكَرهُ فِي المُحتضَرِ ليس بمُعْتمَدٍ (¬3). وترْكُ المُكثِ فِي المسجدِ، واكتُفِيَ بتحريمِ العُبورِ مطْلقًا، وقدْ تقدَّمَ تقييدُهُ. ولا يصحُّ منها طهارةٌ فِي حالةِ (¬4) الحيضِ، وجعَلَهُ فِي "المُهذَّب" حرامًا، والغُسلُ المَسنونُ تقدَّمَ (¬5). وإذَا انقطعَ الدمُ ارتفعَ تحريمُ الصومِ والطلاقِ والظهارِ (¬6)، ويُوقفُ ما بقِيَ مِنَ المحرَّماتِ على وجودِ شَرْطِه (¬7). * وأمَّا الثَّمانيةُ الباقيةُ مِنَ الأحكامِ: 1 - فالبُلوغُ (¬8). ¬
2 - والاغتسالُ. 3 - والعِدَّةُ. 4 - والاستبراءُ. 5 - وبراءةُ الرَّحمِ. 6 - وقَبولُ قولِها فيه. 7 - وسقوطُ فرضِ الصلاةِ عنها. 8 - وطوافُ الوداعِ، ولمْ يَذكرِ المَحامِلِيُّ عدمَ قطعِهِ للتتابعِ (¬1) فِي الصومِ والاعتكافِ ومُدةِ الإيلاءِ. * * * * وللنِّساءِ حالتانِ: 1 - فمَنْ يَجري حيضُهَا على الاستقامةِ حُكمُهَا واضحٌ. 2 - والمستحاضةُ (¬2): مبتدأةٌ ومعتادةٌ (¬3)، وكلاهما مميِّزَةٌ وغيرُ مميِّزَةٍ. * فالممَيِّزَةُ تَرجعُ إلى التمييزِ (¬4) فَتُحَيَّضُ زمنَ القوى، وما تَخلَّلَهُ مِنْ نَقاءٍ، وضعيفٍ، وما لِحَقَهُ مِن دمٍ دُونَه مُناسِبٍ له بشرطِ أن لا يَنقصَ ذلكَ عن أقلِّ الحيضِ، وهو يومٌ وليلةٌ (¬5). ¬
ولا يَزيدَ على أكثرِه، وهو خمسةَ عشرَ يومًا (¬1). وأن (¬2) لا يَنْتَقِصَ (¬3) الضعيفُ عن أقلِّ الطُّهرِ، وهو خمسةَ عشرَ يومًا (¬4)، فإنْ لَمْ تَكنِ المبتدَأةُ ممَيِّزَةً (¬5) حُيِّضَتْ أقلَّ الحيضِ على الأصحِّ (¬6). * والمُعتادةُ تُرَدُّ إلى عادتِها، فإن نسيَتِ احتاطَتْ (¬7). ¬
وهي فِي العِبادةِ (¬1) كالطاهرِ، وفِي الوطءِ كالحائضِ، وتَغتسِلُ لِكلِّ فريضةٍ عند احتمالِ الانقطاعِ. * * * * ضابطٌ: حيثُ أُبيحتِ الصلاةُ أُبيحَ الوطءُ، إلَّا فِي المُتحيِّرةِ والتي (¬2) انقطعَ دمُها ولمْ تَجدْ ماءً ولا ترابًا، تُصلِّي ولا تُوطأُ. * * * ¬
فصل في النفاس
فصل فِي النِّفاس (¬1) هُو بكسرِ النُّونِ، ويقالُ: نفستِ المرأةُ، إذَا وَلدتْ، بضمِّ النُّونِ وفتحِها (¬2)، والفاءُ مكسورةٌ فيهما، ويُستعملُ فِي الحيْضِ بفتحِ النُّونِ. وهو لُغةً: الوِلادةُ، ويُوافقُ اللُّغةَ قولُ بعضِ الفقهاءِ: دمُ النِّفاسِ. وأمَّا استعمالُ النِّفاسِ فِي دمِ النِّفاسِ فمجازٌ. ودمُ النِّفاسِ عِندنا: هُو الخارجُ مِن قُبُلِ المرأةِ بَعْدَ وضعِها الحملَ بتمامِه فِي الواحدِ والمتعدِّدِ، غيرَ عَلَقةٍ، ولا مُضْغةٍ، لا تَنقضِي بِها (¬3) العِدَّةُ، ويكونُ خُروجُه عَقِبَ الوِلادةِ، أوْ بعدَها بما (¬4) دُونَ خَمسةَ عشرَ يومًا، فما خَرجَ مع الوِلادةِ أوْ بينَ التَّوأمينِ فليس بنِفَاسٍ، وما خرجَ بعد خمسةَ عشرَ يومًا فهو حَيْضٌ، ولَمْ أَرَ مَنْ تعرَّضَ لِهذَا. وما ذكرتُه فِي العلَقةِ والمُضغةِ وافقتُ فيه الماوَرْدِيَّ خِلافًا للرَّوضةِ والشرح تَبَعًا للمُتَولِّي. ¬
وأقلُّ النِّفاسِ مَجَّةٌ (¬1)، وأكثرُه سِتُّونَ يومًا (¬2)، وغالِبُه أربعونَ يومًا (¬3). وحُكْمُ النِّفاسِ حُكْمُ الحَيْضِ فِي كل شيءٍ. نقَلَ المَحامِلِيُّ عنِ الأصحابِ ما يَقتضِيهِ، وَيَرِدُ عليه أنَّه لا يكونُ بُلوغًا ولا استبراءً، ويَمْنَعُ احتسابَ المُدَّةِ فِي الإيلاءِ على وجهٍ رجَّحَهُ بعضُهم، ويقطعُ التتابعَ (¬4) على وجهٍ. فإذَا (¬5) جاوزَ الدمُ الأكثرَ فهي مستحاضةٌ فيجيءُ (¬6) فيها ما سبقَ فِي المستحاضةِ ويقاسُ بما (¬7) يناسبُه هنا، واللَّهُ أعلمُ بالصوابِ (¬8). * * * ¬
كتاب الصلاة
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ كتاب الصلاة هيَ (¬1) لُغةً: الدُّعاءُ (¬2). وفِي الشرعِ (¬3): عِبارة عن أفعالٍ مخصوصةٍ (¬4) فِي أوقاتٍ مخصوصةٍ، مع نِيَّةٍ مخصوصةٍ، مع ترْكِ كلامِ البَشرِ، على وجهٍ مخصوصٍ (¬5). ¬
قال اللَّهُ تعالى: {إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا} والآياتُ فيها كثيرةٌ. وتُطْلقُ (¬1) الصلاةُ على سِتَّةِ أنواعٍ (¬2): 1 - فرضٌ على الأعيانِ (¬3). 2 - وفرضٌ على الكِفايةِ. 3 - وسُنَّةٌ. 4 - ونافلةٌ (¬4) مُطْلقةٌ (¬5). 5 - ومكروهةٌ. 6 - وحرامٌ. ¬
* فأمَّا التي على الأعيانِ: فهي الخَمْسُ، وهي أحدُ أركانِ الإسلامِ. ولا (¬1) تجبُ إلا على بالغٍ عاقلٍ غيرِ حائضٍ ولا نُفسَاءَ. ويجبُ القضاءُ على مَنْ زالَ عقلُهُ بمُحرَّمٍ، أوْ مَجنونٍ، أوْ مرتدٍّ (¬2) (¬3)، أوْ سَكران. ويُؤْمرُ الطِّفلُ بِها لِسَبْعٍ، ويُضْرَبُ على تَرْكِهَا لِعَشْرٍ. وهي أنواعٌ (¬4): صلاةُ حَضَرٍ، وسَفَرٍ، وجَمْعٍ، وجُمعةٍ، وخَوفٍ، وشِدَّةِ خوفٍ (¬5)، وصلاةُ مريضٍ، وغريقٍ، ومعذورٍ، وقضاءٍ (¬6)، وإعادةٍ، وقد تُتْركُ. وأما ركعتَا (¬7) الطوافِ فلا تَجبُ على الأصحِّ (¬8). ¬
* وأمَّا الفَرْضُ على الكفايةِ (¬1): فصلاةُ الجنازةِ (¬2). وفُروضُ الكفاياتِ (¬3) تُذكرُ فِي الجهادِ (¬4)، ومنها مِمَّا (¬5) يتعلقُ بصلاةِ الجَماعةِ (¬6) على الأصحِّ. * * * * وأمَّا السُّنَّةُ: فسِتةٌ وعِشرونَ صلاةً (¬7): صلاةُ (¬8) عيدِ (¬9) النحرِ، والفِطرِ. ¬
وكُسوفِ الشمسِ والقمرِ. والاستسقاءِ. وهي في (¬1) الفضيلةِ على هذا الترتيبِ (¬2). والرواتبُ قبْلَ الفرائضِ وبعدَها. والوترُ، وركعتا الفَجْرِ (¬3)، وقيامُ الليلِ، وصلاةُ الضحى، وصلاةُ الزوالِ، وقيامُ شهرِ رمضانَ، وتحيةُ المسجدِ، وصلاةُ التوبةِ، والاستخارةِ، والحاجةِ، وعندَ القتلِ، والإحرامِ، والرجوعِ من السفَرِ، وبَعْدَ الطوافِ و (¬4) الوضوءِ، وصلاةُ التسبيحِ، وقضاءُ السُّنَنِ، والسُّجود (¬5) للتِّلاوةِ، أوِ الشكرِ (¬6) أوِ السهوِ. فما استُحِبَّتِ الجماعةُ فيه (¬7) فهو أفضلُ (¬8) إلَّا التراويحَ، فإنَّها تُستحبُّ فيها ¬
الجماعةُ، وهي مؤخَّرةٌ عنِ (¬1) الرواتبِ. وما لا (¬2) تُستحبُّ فيه الجماعةُ أفضلُهُ الوترُ، ثُم ركعتَا الفَجرِ، ثُم قيامُ الليلِ (¬3). وفِي "صحيح مسلم" أنَّ النبيَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- سُئِلَ أيُّ الصلاةِ أَفْضَلُ بَعد المَكتوبةِ؟ فقالَ: "الصَّلاةُ فِي جَوْفِ اللَّيْلِ" (¬4). والأَخْذُ بظاهرِهِ يُخالفُ ما سَبقَ (¬5). * وأمَّا النافلةُ المْطْلَقةُ: فالتطوعُ غَيْرُ المَحصورِ. ¬
* وأمَّا المكروهةُ (¬1): فصلاةُ الحاقِبِ (¬2)، والحاقِنِ (¬3)، والحازِقِ (¬4) (¬5)، والجائِعِ، والعَطشانِ (¬6)، وكذلك (¬7) فِي كلِّ حالةٍ (¬8) تُذْهِبُ الخُشوعَ. وبِحضْرةِ طعامٍ تَتُوقُ نفسُه إليه. وعندَ غَلَبةِ النَّومِ. والانفرادِ عن الصَّفِّ. وفِي المَقْبُرةِ، والمَزْبَلةِ، والمَجْزرةِ (¬9)، والحمَّامِ، وعطنِ الإبِلِ، وقارعةِ الطريقِ. * والمكروهاتُ فِي الصلاةِ ستأتي. ¬
* وأمَّا الحرامُ: فالصلاةُ (¬1) التي لا سببَ لها يَتقدَّمُها أوْ يُقارِنُها إذَا وَقعتْ فِي خمسةِ أوقاتٍ، وتَبْطُلُ أيضًا. والأوقاتُ: 1 - بعْدَ فعلِ الصُّبحِ. 2 - وعندَ طُلوعِ الشمسِ حتى تَرتفعَ قَدْرَ رُمْحٍ. 3 - وعندَ الاستواءِ حَتَّى تَزولَ (¬2) إلَّا فِي يومِ الجُمعةِ. 4 - وبعد فِعلِ العصرِ، ونصَّ فِي "الرسالة" (¬3) على أنَّ التحريمَ فِي الصُّبحِ والعصرِ بدخولِ وقتِهما. 5 - وعندَ الاصفرارِ حتى تَغْرُبَ. ويُستثنى مِنَ البقاعِ حَرَمُ مكةَ، فلا (¬4) تُكرَهُ فيه صلاةٌ (¬5) فِي هذه الأوقاتِ. * * * ¬
ومِنَ الصلاةِ المُحرَّمةِ: الزيادةُ على الركعتينِ (¬1) للداخلِ حالَ (¬2) خُطبةِ الجُمعةِ، والتنفلُ لغيرِ الداخلِ، ويَتَّجِهُ فِي ذلك البطلانُ كما سبق (¬3)؛ لأنه ليس وقتًا لِمَا فُعِلَ. وأمَّا لَوْ صلَّى فِي بُقعةٍ مَغصوبةٍ أوْ ثوبٍ مغصوبٍ أو ثوبِ حريرٍ محرَّمٍ أو الحرامِ على المُحْرِمِ مِن سَتْرٍ أو مَخيطٍ، حيثُ لا عذرَ، فالتحريمُ فِي ذلك ونحوِه لا (¬4) تَبطلُ به الصلاةُ. واللَّهُ أعلم (¬5). * * * ¬
باب مواقيت الصلاة
باب مواقيت الصلاة أولُ وقتِ الظهرِ الزوالُ، وآخرُه مَصيرُ ظِلِّ الشيءِ مِثلَهُ غيرَ الذي كانَ عند الاستواءِ. ويَعْقُبُه وقتُ العصرِ إلى الغروبِ، والاختيارُ إلى مَصِيرِ الظِّلِّ (¬1) مِثْلَيْنِ. ثُم بالغروبِ المَغْرِبُ ويبقى إلى مَغيبِ الشفَقِ على الأصحِّ، لِقولِه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "وَقْتُ المَغْرِبِ مَا لَمْ يَسْقُطْ ثَوْرُ (¬2) الشَفَقِ" (¬3) حديثٌ صحيحٌ. ويَعْقُبُه وقتُ العِشاءِ، وهو مستمرٌّ إلى الفَجرِ الثاني، والاختيارُ إلى ثُلُثِ ¬
الليلِ، وإلى نِصفِه على قول قد يَرْجُحُ (¬1). وبالفجرِ الثاني (¬2) يدخلُ وقتُ الصبحِ، ويبقى إلى طُلوعِ الشمسِ، والمختارُ إلى الإسفارِ. ومَنْ أَدركَ مِنَ الوقتِ ركعةً قَبْلَ خُروجِه فصلاتُه أداءٌ على الأصحِّ. ومَنْ أَدركَ مِنْ أولِ الوقتِ أوْ مِنْ وَسَطِه (¬3) قَدْرَ ما يُؤدِّي فيه الفرضَ بالطهارةِ إنْ لَمْ يُمكنْ تَقديمُها على الوقتِ ثُم طَرأَ (¬4) جنونٌ أوْ حيضٌ ونحوُهما لزِمَهُ ذلكَ الفرضُ وحْدَه (¬5). وَمَنْ زالَ عُذْرُهُ قَبْلَ خُروجِ الوقتِ بتكبيرةٍ (¬6) لَزِمتْه (¬7) تلك الصلاةُ إنْ خَلَا مِنَ الموانعِ بقدْرِ ما يَسَعُ (¬8) ذلك الفرضَ، ويجبُ بما قَبْلَهُ إنْ جُمِعَا. والمعذورُ: الحائضُ (¬9) والنُّفَسَاءُ والصبيُّ والمجنونُ، ونُزِّل الكافِرُ إذَا أَسْلمَ مَنزِلةَ مَنْ ذُكِرَ. ¬
وهذانِ إدراكانِ (¬1). وبقِيَ إدراكاتٌ أُخَرُ (¬2): إدراكُ (¬3) الركعةِ فِي حقِّ (¬4) المسبوقِ بالركوعِ المحسوبِ يقينًا (¬5)، والأولُ مِنَ الخُسوفِ، وإدراكُ الجُمعةِ بركعةٍ، والجماعةِ بجُزءٍ. والأفضلُ تقديمُ الصلاةِ (¬6) إلا الظهرَ بقُطْرٍ حَارٍّ -فِي شِدَّةِ الحَرِّ (¬7) - لِمَنْ يَمضِي إلى جَماعةٍ (¬8) بِحيثُ لا يَتمكنُ مِنَ المشي فِي الظلِّ، فالإبرادُ أَفضلُ، والعِشاءَ على قولٍ. والمُتيمِّمُ إذَا تيقَّنَ وجودَ الماءِ آخِرَ الوقتِ، وكذا لو رجَاهُ على (¬9) قولٍ، ومِثْلُهُ الغَازِي ونحوُهُ. * * * ¬
باب الأذان
باب الأذان وهو سُنَّةٌ، ولَوْ فِي الفائتةِ الأُولى، والجَمْعِ تأخيرًا، ولو على الترتيبِ، وللمنفردِ. ولا يُشْرَعُ (¬1) إلا بعد دخولِ الوقتِ إلا الصبحَ، فإنه يُؤَذَّنُ لها قبْلَ الوقتِ، لِقولِه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إِنَّ بِلَالًا يُؤَذِّنُ بِلَيْلٍ" (¬2) رواهُ الصحيحانِ. ¬
وأضافَ المَحامِلِيُّ (¬1) إلى ذلك الأذانَ للجُمعةِ قَبْلَ الخُطبةِ؛ وفيه نظرٌ، لِدُخولِ وقتِها (¬2)، لكنْ تَقَدُّمُ الخُطبةِ شرْطٌ للصحةِ لا للوقتِ (¬3). والأذانُ ثلاثةُ أنواعٍ: صحيحٌ، وفاسدٌ، ومكروهٌ (¬4). * فالصحيحُ: ما وُجِدَ شرطُه فِي الزمانِ والمؤذِّنِ. ¬
* والفاسدُ (¬1) خمسةٌ: 1 - أذانُ الكافرِ (¬2). 2 - وغيرِ (¬3) المميِّزِ كصبيٍّ أوْ مجنونٍ (¬4). 3 - والمرأةِ للرجالِ (¬5). 4 - وقبْلَ الوقتِ إلا ما سَبق (¬6). 5 - وأذانُ السكرانِ (¬7). وعَدَّ المَحامِلِيُّ (¬8) مِنَ الفاسدِ: مُستدبرَ القبلةِ، وإنما ذلك (¬9) سُنَّةٌ (¬10) ¬
* وأمَّا المكروهُ: فأذانُ الجُنُبِ، والمُحْدِثِ (¬1)، والكراهةُ (¬2) فِي الجُنبِ أشدُّ، والإقامة أغْلَظُ. * * * * والسُّنةُ فِي الأذانِ الصحيحِ أشياءُ: أَنْ يَضعَ إصبعَيه فِي أُذُنَيْهِ (¬3). والترتيلُ (¬4). والترجيعُ (¬5). ورفعُ الصوتِ قدْرَ ما يُمكنُه حيثُ (¬6) لمْ تَقُمْ جماعةٌ (¬7). وأنْ يَلتفِتَ فِي مرَّتَي "حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ" يَمينًا، وفِي مرَّتَي "حَيَّ عَلَى ¬
الفَلَاحِ" شِمَالًا (¬1). وأنْ يكونَ قائمًا على مَوضعٍ عالٍ. ويُكرَهُ التغنِّي به (¬2)، والتمطيطُ (¬3)، والكلامُ خلالَ الأذانِ (¬4)، والقعودُ مع القُدرةِ على القيامِ (¬5). والإقامةُ كالأذانِ إلا أنَّها تخالفُه (¬6) فِي الإفرادِ (¬7) والإدراجِ (¬8)، وَتَخْتَصُّ بوقتِ الفعلِ. ويُقامُ لِكلِّ فائتةٍ وإنِ اجتَمعْنَ (¬9). ¬
والأذانُ تسعَ عشرةَ كلمةً، والإقامةُ إحدى عشرةَ كلمةً. * والصلاةُ أربعةُ (¬1) أقسامٍ: * قِسمٌ يؤذَنُ لها ويقامُ، وهي الصلواتُ (¬2) الخَمْسُ، ويشملُ ذلك الجمعةَ. * وقِسمٌ يقامُ لها ولا يؤذَّنُ، وهي الفوائتُ على قولٍ (¬3)، وجَمْعُ التأخيرِ إذَا قَدَّمَ الأُولى على قولٍ (¬4)، والفوائتُ المجتمعةُ غيرَ الأُولى. * وقِسم لا يؤذَّنُ لها ولا يقامُ، لكن (¬5) ينادي لها: الصلاةَ جامعةً، وذلك العيدُ (¬6) والخسوفان والاستسقاءُ. * وقِسمٌ ليس فيه شيءٌ مِن ذلك، وهي المنذورةُ، والنوافلُ، وصلاةُ الجنازةِ (¬7)، لكنْ يُعلِمُ بموتِه للاجتماعِ. * * * ¬
باب أحكام الصلاة
باب أحكام الصلاة للصلاةِ شرائطُ، وفرائضُ، وسننٌ، ثُم السُّننُ أبعاضٌ وغيرُها. الشرائطُ قبْلَ الشروعِ فيها (¬1) ثمانيةٌ (¬2): 1 - الإسلامُ. 2 - والتمييزُ. 3 - وسترُ العورةِ. 4 - والطهارةُ. 5 - واستقبالُ القِبلةِ إلا فيما يُستثنى. 6 - ودخولُ الوقتِ يَقينًا أو ظنًّا. 7 - ومعرفةُ فرضيَّةِ (¬3) الصلاةِ، وتمييزُ (¬4) فرائضِها مِن سُننِها إلا فِي حقِّ ¬
العوَامِّ على المختارِ. * * * * فأمَّا (¬1) سترُ العورةِ: فيجبُ مع القدرةِ (¬2)، فإنْ لَمْ يَجِدْ أوْ وَجَدَ نَجِسًا (¬3) صلَّى عُرْيانًا بِإِتمامِ (¬4) الركوعِ والسجودِ ولا إعادةَ (¬5). * وأمَّا الطهارةُ: فَيُعْنَى بِها عَنِ الحدَثَينِ (¬6)، والنجاسةِ التي لا يُعفى عنها فِي الثوبِ والبدَنِ ومكانِ الصلاةِ، فإنْ لَمْ يجدْ ماءً ولا ترابًا صلَّى الفرضَ لِحُرمةِ الوقتِ، وقضَى (¬7)، وليس لنا أَحدٌ يصحُّ منه الفرضُ دونَ النفلِ إلا هذا. وتُعادُ الصلاةُ مِنَ النجاسةِ التي لا يُعفى عنها ولو مع النسيانِ والجهلِ (¬8). ¬
ولا تعادُ مما يُعفى عنها (¬1): كدمِ البراغيثِ (¬2)، وَوَنيمِ الذبابِ (¬3)، وأثرِ الاستنجاءِ (¬4)، وطينِ الشارعِ. وما يتعسَّرُ أثرُهُ مِن دمِ استحاضةِ (¬5) ونحوِها (¬6)، ويُعفى عن دمِ بَثَرَتِهِ وإِنْ عَصَرَهُ. وَيُلْحَقُ بها ما يَخرجُ مِن دُمَّلٍ وقَرْحٍ وموضعِ فَصْدٍ، وحِجامةٍ (¬7). واختار بعضُهُم فِي الدُّمَّل والقَرْح -إذا لم يَغْلب- وموضعِ الفصْدِ والحجامةِ أنه لا يُعفى عنه مُطْلَقًا؛ كدمِ الأجنَبِيِّ. والأرجحُ أنه يُعفى عن قليلِها كدمِ الأجنبيِّ (¬8). ¬
* وأمَّا استقبالُ القِبلةِ، فيُستثنى منه ثلاثةُ أحوالٍ: الأولُ: النافلةُ في (¬1) السَّفَرِ فِي غيرِ التحرُّمِ إنْ سَهُلَ، والماشي يَستقبِلُ فِي التحرُّمِ، والركوعِ والسجودِ ويُتِمُّهُمَا، والباقي لِصَوْبِ سَفَرِهِ. ¬
الثاني: لِشِدَّةِ الخَوفِ (¬1). الثالثُ: عند الاشتباهِ يُصلِّي كيفَ اتفَقَ ويقضِي (¬2). * وأما الوقتُ: فيُستثنى منه ما أُبيحَ فيه الجمعُ للتقديمِ (¬3)، وهو وقتُ العذرِ، وسببُه: السفرُ الطويلُ أوِ المطرُ -ولو فِي التأخيرِ على قولٍ- أو النُّسُكُ على وجهٍ، أو المرضُ على رأيٍ (¬4). * * * * وأما شرائطُ الصلاةِ بعدَ الشروعِ (¬5) فثلاثةٌ: 1 - ترْكُ الكلامِ. 2 - وترْكُ الأفعالِ. 3 - وترْكُ المُفَطِّرِ، وسيأتي فيما يُفسدُ الصلاةَ (¬6). * * * ¬
* وأمَّا فرائضُ الصلاةِ: فتسعةَ عشرَ (¬1): 1 - النيةُ. 2 - وتكبيرةُ الإحرامِ. 3 - ومقارنةُ النيةِ بالتكبيرِ (¬2). 4 - والقيامُ للقادِرِ فِي الفرضِ. 5 - والقراءةُ بفاتحةِ الكِتابِ، وإنْ عجَزَ عنها قرأَ بقَدْرِها (¬3) مِن غيرِها (¬4)، فإنْ لمْ يُحْسنْ سَبَّحَ بقَدْرِها (¬5)، فإنْ لَمْ يُحْسنْ شيئًا وقَفَ بقدْرِ الفاتحةِ، فإنْ كانَ أخرسَ حَرَّكَ لسانَه، نقَلَ العراقيُّون وجوبَه عنِ (¬6) النصِّ، واستشكلَهُ ¬
الإمامُ (¬1). 6 - والركوعُ. 7 - والطمأنينةُ فيهِ. 8 - والاعتدالُ. 9 - والطمأنينةُ فيه. 10 - والسجودُ على الجبهةِ (¬2)، وفِي بقيةِ أعضاءِ السجودِ مِن (¬3) اليدينِ والرُّكبتَينِ والقَدمَينِ (¬4) قولانِ، أصحُّهما: الوجوبُ (¬5). 11 - والطمأنينةُ فِي السجودِ. 12 - والجلوسُ بين السجدتينِ. 13 - والطمأنينةُ فيه. 14 - والقعودُ الأخيرُ. 15 - والتشهدُ فيه. ¬
16 - والصلاةُ على النبيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- فيه. 17 - والتسليمةُ الأولى. 18 - والترتيبُ. 19 - والموالاةُ حتى لو سلَّمَ (¬1) ناسيًا (¬2) وطالَ الفصلُ استَأْنَفَ. * * * والواجبُ فِي التشهدِ الأخيرِ: التحياتُ للَّهِ، سَلَامٌ عليك أيُّها النبي ورحمةُ اللَّهِ وبركاتُه، سلَامٌ علينا وعلى عِبَادِ اللَّهِ الصالحينَ، أَشْهَدُ أن لا إلَه إلا اللَّهُ، وأنَّ محمدًا رسولُ اللَّهِ. ولَا تجبُ نيةُ الخروجِ على أصحِّ الوجهَينِ (¬3)، ولا الصلاةُ على الآلِ فِي التشهدِ الثَّاني (¬4) (¬5). ¬
* وأمَّا سُنَنُ الصلاةِ، فمنها أبعاضٌ (¬1) يُجْبرُ تَرْكها بسجودِ السَّهوِ (¬2)، وهيَ سِتةٌ (¬3): 1 - التشهدُ الأولُ. 2 - والقعودُ له. 3 - والصلاةُ على النبيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- فيه (¬4) 4 - وعلى آلِه فِي الثاني. 5 - والقيامُ للقُنوتِ. 6 - والقُنوتُ. ¬
* والباقي هيئاتٌ وهي أربعونَ (¬1): 1 - رفعُ اليدَينِ عند الإحرامِ حَذْوَ المَنْكِبَيْنِ (¬2). 2 - وإمَالَةُ أطرافِ الأصابعِ نحوَ القِبلةِ؛ ذكَرَهُ المَحامِلِيُّ (¬3)، وهو غَريبٌ. 3 - والتفريجُ بينَ الأصابعِ. 4 - ووضْعُ اليمينِ على الشِّمالِ (¬4). 5 - وَجَعْلُهُمَا (¬5) تحتَ صدرِه وفوقَ السُّرَّةِ (¬6). 6 - والنظرُ إلى موضعِ سجودِه. 7 - والاستفتاحُ (¬7). 8 - والتَّعَوُّذُ (¬8). ¬
9 - والجهرُ بالفاتحةِ والسورةِ فيما يُجهر فيه مِن الصبحِ، وأُولى العِشائَينِ، والإسرارُ فِي غيرِ ذلكَ قضاءً وأداء (¬1)، وقد صَحَّ أنَّ النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قضَى الصبحَ بَعْدَ طُلوعِ الشمسِ، فصَنعَ كما كانَ (¬2) يَصنعُ كلَّ يومٍ (¬3). ومما يُسَنُّ فيه الجهرُ: الجُمعةُ، والعيدانِ، وخسوفُ القمرِ، وسيأتي. 10 - والتأمينُ (¬4). والجهرُ به فِي الجهريَّةِ (¬5). 11 - وقراءةُ السورةِ بَعْدَ الفاتحةِ (¬6). 12 - والتكبيرُ للرُّكوعِ (¬7). ¬
13 - ورفْعُ اليدَينِ فيهِ (¬1). 14 - ووضْعُ الرَّاحتَينِ على الرُّكبتَينِ فِي الرُّكوعِ (¬2). 15 - والتسبيحُ (¬3) فيهِ (¬4). 16 - ومَدُّ الظَّهرِ، والعُنُقِ فيه. 17 - وذِكْرُ الانتقالِ للاعتدالِ (¬5): سَمِعَ (¬6) اللَّهُ لِمَنْ حمِدَهُ (¬7). فإذَا استوى قائمًا قالَ: ربَّنا لكَ (¬8) الحمدُ. 18 - ورفْعُ اليدَينِ (¬9) عند الاعتدالِ (¬10). 19 - والتكبيرُ للسجودِ (¬11). ¬
20 - وأنْ يَضعَ على الأرضِ رُكبتَيه ثُم يدَيه، ثُم جبهتَه وأَنفَه (¬1). 21 - وأنْ يَضمَّ أصابعَ يدَيه، بخلافِ الركوعِ وعند رفعِ اليدَينِ (¬2). 22 - وأنْ يَصُفَّهُمَا (¬3) نحوَ القِبلةِ. 23 - وأنْ يُجافِيَ عضُدَيه عنْ جَنبيهِ فِي الركوعِ والسجودِ إذَا كانَ رَجلًا (¬4). 24 - والتسبيحُ فِي السجودِ (¬5). 25 - والتكبيرُ عند الرفعِ منه (¬6). 26 - وأنْ يَجلسَ بين السجدتينِ مُفترشًا يَجلس على اليُسرى ويَنْصِب اليُمنى (¬7). 27 - وأنْ (¬8) يدعوَ فِي الجَلْسَةِ الأخِيرةِ (¬9). ¬
28 - وأنْ يَجلسَ للاستراحةِ بعدَ السجدةِ الثانيةِ (¬1) فِي الركعةِ التي يقومُ مِن سُجودِها. 29 - وأن (¬2) يَعتمدَ بيدَيهِ على الأرضِ عندَ القِيامِ (¬3). 30 - والتكبيرُ عندَ القيامِ مِنَ التشهدِ الأولِ (¬4). 31 - ورفعُ اليدينِ حينئذٍ إذَا قامَ على المختارِ، وقدْ (¬5) صحَّ ذلكَ عَنِ النبيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- (¬6). 32 - والجلوسُ فِي التشهدِ الأولِ مُفترشًا كالجلوسِ بينَ السجدتَينِ. 33 - والإشارةُ بالمُسَبِّحَةِ فِي التشهدِ عند التوحيدِ بلا تحريكٍ (¬7). 34 - وأنْ يَجعلَ السَّبَّابَةَ فِي حالِ الإشارةِ مُنْحَنِيَةً (¬8)، وقدْ تقدمَ فِي الأصابعِ بما (¬9) فيهِ. 35 - والتَّوَرُّكُ فِي التشهدِ الأخيرِ، وهو أَنْ يَجلسَ على وَرِكِهِ لاصِقًا ¬
بالأرضِ إلا مَنْ عليه سجودُ سَهْوٍ فيفتَرِشُ على الأصحِّ (¬1). 36 - وأنْ يضعَ فِي التشهدِ يدَيه على فخِذَيه (¬2). 37 - وأنْ يَقبضَ أصابعَ يَدِه اليُمنى إلا المُسَبِّحَةَ (¬3). 38 - وأكملُ التشهدِ مع التعوُّذِ مِن عذابِ القبرِ ونحوِه بعد التشهدِ الأخيرِ (¬4). 39 - والسلامُ الثاني (¬5). 40 - والالتفاتُ يَمينًا وشِمالًا فِي التسليمتَينِ (¬6). * وأمَّا المكروهُ فخمسةَ عشر (¬7): 1 - أَنْ يَجعلَ يدَيه فِي كُمَّيْه عند الإحرامِ (¬8). ¬
2 - والالتفاتُ (¬1). 3 - والإشارةُ بما يُفْهِمُ لا لحاجةٍ كَرَدِّ (¬2) السلام ونحوِه، ولا تَبطُلُ بالإشارةِ، ولو كانَ أخْرسَ، خلافًا لقولِ المَحامِلِيِّ: إنْ كانَ المُشيرُ أخْرسَ بطَلتْ صلاتُه (¬3). 4 - والجهرُ فِي غيرِ موضعِه، والإسرارُ فِي غيرِ موضعِه، والجهرُ خلفَ الإمامِ (¬4). 5 - والاختصارُ. 6 - وتغميضُ عَيْنَيْهِ، والمختارُ لا يُكرَهُ إنْ لمْ يَخَفْ ضَررًا. 7 - وأنْ يَسجدَ، ويداهُ فِي كُمَّيه (¬5). 8 - وأنْ يُلْصِقُ الرَّجُلُ عَضُدَيه بجَنْبَيه فِي الركوعِ والسجودِ (¬6) 9 - وأنْ يضعَ بطنَه على فخِذَيْه فِي السجودِ (¬7). ¬
10 - وإقعاءُ الكلْبِ، وهو أَنْ يَجلسَ على وَرِكَيْهِ ناصِبًا رُكبتَيه (¬1). 11 - ونَقْرُ الغُرَابِ (¬2)، وافتراشُ السَّبُعِ (¬3). 12 - وأنْ يوطِّنَ الرجلُ الموضعَ كما يوطِّنُ (¬4) البَعيرُ (¬5)؛ كذا ذَكرَ ¬
المَحامِلِيُّ (¬1). 13 - وترْكُ المبالغةِ فِي خفضِ الرأسِ فِي الركوعِ. 14 - وإطالةُ التشهدِ. 15 - والاضْطِباعُ (¬2). * * * ¬
باب ما يفسد الصلاة
باب ما يفسد الصلاة وهو سِتةٌ وعشرونَ (¬1): 1 - الحدَثُ عمْدًا أوْ سهوًا (¬2)، فإنْ سَبَقَهُ الحدَثُ تَوضأَ واستأنفَ على أصحِّ القَولَينِ (¬3). 2 - وكلامُ البَشرِ بِحَرفَينِ أوْ حَرْفٍ مُفْهِمٍ (¬4). 3 - والْمُفَطِّرُ. ¬
4 - والعملُ الكثيرُ عَمْدًا أو سهْوًا، ويُستثنى (¬1) مِنَ العملِ ما كانَ فِي شِدَّةِ الخَوفِ (¬2). 5 - والقَهْقَهَةُ (¬3). 6 - وفِعْلُ شيءٍ مِن أركانِ الصلاةِ معَ الشكِّ فِي النيةِ، أوِ الطولُ معَ الشكِّ (¬4). 7 - والعزمُ على قطعِها. 8 - والتردُّدُ فِي ذلك. 9 - وتعليقُه بشيءٍ. 10 - وكشْفُ (¬5) العَورةِ إلا إنْ كشَفَها الريحُ فستَرَها (¬6) فِي الحالِ. 11 - وترْكُ استقبالِ القِبلةِ حيثُ يُشْتَرَطُ (¬7). 12 - والارتِدادُ. 13 - وإصابةُ النجاسةِ -التي لا يُعفَى عنها- ثوبَهُ أو بدَنَه إلا إنْ نَحَّاها ¬
فِي الحال (¬1). 14 - وصرْفُ نيةِ الفرضِ إلى النافلةِ إلا (¬2) إنْ كان مُنفرِدًا فأَدركَ الجماعةَ (¬3) (¬4). 15 - وصرْفُ النيةِ إلى فرضٍ آخَرَ. 16 - وانقضاءُ مُدةِ المسحِ فِي الخُفِّ أوْ ظُهورُ ما يُوجِبُ الغُسلَ. 17 - وخروجُ وقتِ الجُمعة؛ كذا قال المَحامِلِيُّ، والأصحُّ أنهم يُتِمُّونَها ظُهْرًا. 18 - والزيادةُ فِي فَرضٍ مِن فرائضِها عَمدًا، إلا إذَا كانَ قَوليًّا كالفاتحةِ والتشهدِ. 19 - والنقصُ مِن فرائضِها عَمدًا (¬5). 20 - أوْ سلَّمَ ساهيًا وطالَ الفصلُ. ¬
21 - وتقدُّمُ بعضِ فرائضِها على بعضٍ (¬1). 22 - والعِلْمُ بحالِ الإمامِ مِنْ كَونِه لا تجوزُ الصلاةُ خلْفَه لكُفرِه وجُنونِه ونحوِ ذلك ممَّن (¬2) لا تجوزُ خلْفَه؛ كذا ذَكرَهُ المَحامِلِيُّ، وهذا مانعٌ لانعقادِ الصلاةِ فِي الأصلِ. 23 - والكلامُ فيما يُفسدُها بعد انعقادِها. 24 - ووجودُ العارِي الثَّوْب مَع بُعدِه (¬3). 25 - والأمَةُ تعتقُ فِي الصلاةِ ورأسُها مكشوفٌ، والسُّترةُ بعيدةٌ منها (¬4). 26 - وقطْعُ رُكنٍ مِن أركانِها بغيرِ تَمامٍ (¬5). * * * ¬
فصل
فصل - لا يجوزُ الاقتداءُ بِمَنْ يَعتقدُ وجوبَ القضاءِ علَيه (¬1)، كمُتوضئٍ خلْفَ متيممٍ يَقضِي. - وطاهرةٍ خلْفَ مُتحيِّرةٍ. - ولا بمَن يَعتقِدُ بُطلانَ صلاتِه إلا مِن جِهةِ اختلافِ العلماءِ على النصِّ المُعتمدِ. - وتَقدُّمُ عَقِبِ المأمومِين (¬2) على عَقِبِ (¬3) الإمامِ مانعٌ مِنَ الانعقادِ (¬4) فِي الابتداءِ ومفسدٌ فِي الدوامِ. - ومثلُه الجهلُ بأفعالِ الإمامِ. - أوْ أَنْ (¬5) يكونَ بَيْنه وبَيْنه فِي غيرِ المسجدِ شُبَّاكٌ، أوْ بابٌ مغلَقٌ، أوْ أزْيدُ مِن ثلاثِمِائَةِ ذراعٍ زيادةً فاحشةً فِي صَحْراءَ، أوْ سَهلٍ، أوْ جبلٍ، فإنْ جَمَعَهُمَا ثلاثُمَائةِ ذِراعٍ بزيادةٍ قليلةٍ صحَّ الاقتداءُ. ¬
وإنْ حالَ نَهَرٌ أوْ شارعٌ أوْ كانَا فِي بِنائَينِ (¬1). ولا يشترطُ فِي السهلِ والجبلِ مُحاذاةُ الأسفلِ الأعلى بجُزءٍ، وإنما ذاكَ فِي البناءِ غيرِ المسجدِ. والسُّنةُ: أَنْ يقفَ الواحدُ عن يمينِ الإمامِ (¬2)، فإنْ جاءَ آخَرُ يُحْرِمُ عن يَسارِه، ثُم الأَولى (¬3) أَنْ يَتأخرَا (¬4)، وأنْ (¬5) يتقدَّمَ الرجالُ، ثُم الصبيانُ، ثُم الخناثَى، ثُم النساءُ (¬6). وإنْ سَبقَ الصبيُّ إلى الصفِّ (¬7) الأولِ لا يُزْعج، ذكرَه القاضي حسينُ (¬8). والمُصلونَ فِي المسجدِ الحرامِ يَستديرون حَولَ الكعبةِ، وفِي داخلِ الكعبةِ لَوْ تقابلَ الإمامُ والمأمومُ أو تدابرَا، صَحَّ. ¬
والوقوفُ خلْفَ الإمامِ عند اجتماعِ الناسِ أفضلُ، ثُم عن يمينِه، والمبادرةُ للذُّكورِ إلى (¬1) الصفِّ الأولِ: هو السُّنةُ. * * * ¬
باب الإمامة
باب الإمامة * والناسُ فِي الإمامةِ على سَبعةِ أنواعٍ: 1 - أحدُهم: مَن لا تجوزُ إمامتُه بحالٍ، وهُم خمسةٌ: - الكافرُ، - والمجنونُ، - والأَرَتُّ (¬1)، - والأثلَغُ (¬2)، - ومَن لحْنُهُ يُحِيلُ المَعنَى. كذا قالَ المَحامِلِيُّ (¬3). لكنِ الأَرَتُّ ومَنْ بَعْدَه يجوزُ أَنْ يَقتدِيَ به مَنْ هو مِثْلُه، وَتَرَكَ المأمومَ والمشكوكَ (¬4) فِي أنه مأمومٌ، فجُمْلَتُهمْ سَبْعَةٌ، والمرادُ ما داموا على هذه الأحوالِ (¬5). ¬
2 - الثاني: مَن تجوزُ إمامتُه فِي حالٍ ولا تصحُّ فِي حالٍ، وهم ثلاثةٌ: الجنُبُ، والمُحْدِثُ، وَمَنْ على ثوبِه أو بدَنِه نجاسةٌ خفية لا يُعفَى عنها؛ تجوزُ الصلاةُ خلْفَهم معَ الجهلِ دُونَ العِلْمِ، وفِي النِّسيانِ يَقضِي (¬1). 3 - والثالثُ: مَن تصحُّ إمامتُه لقومٍ دُونَ قَومٍ، وهم ثلاثةٌ: - المرأةُ للنِّساءِ، - والخُنثى كذلك، - والأُمِّي لِمِثلِه، وينبغي أَنْ يُعَدَّ هنا الأرتُّ ومَن بعده، إلا أن يُفَرَّقَ بأنَّ المماثَلةَ مُتعذِّرةٌ، وفيه نظَرٌ (¬2). 4 - والرابعُ: مَن تصحُّ إمامتُه لصلاةٍ دونَ صلاةٍ، وهم ثلاثةٌ: - المسافرُ، - والعبدُ، - والصبيُّ: لا تصحُّ إمامتُهم فِي الجُمعةِ إِنْ تَمَّ بِهِمُ العَددُ، وإلا فتصحُّ على الأصحِّ (¬3). 5 - والخامسُ: مَنْ تُكْرَهُ إمامتُه، وهم ثلاثةٌ (¬4): - ولَدُ الزِّنا، - والمُظْهِرُ للفِسقِ، - والمُظْهرُ للبِدعةِ؛ فإنْ كانَ يَكفُرُ ¬
ببدعتِه لَمْ تصحَّ خلْفَه، كذا قالَ المَحامِلِيُّ (¬1). ومِمَّنْ تُكْرَهُ إمامتُه: التَّمْتَامُ (¬2)، والفَأْفاءُ، واللاحِنُ (¬3) لَحنًا غيرَ مبطِلٍ للصلاةِ. 6 - والسادسُ مَن تصحُّ إمامتُه وغيرُه مُختارٌ (¬4): وهم خمسةٌ: "العبدُ" و"المكاتَبُ " و"المدبَّرُ" (¬5) و"المُبَعَّضُ" (¬6) و"الأعمى" (¬7). كذا ذكَرَ المَحامِلِيُّ (¬8). لكنِ النصُّ أنَّ الأعمى والبصيرَ سواءٌ. والأكثرونَ يقولون: غيرُ ولدِ الزنا أولى مِن ولَدِ الزِّنا، والعَدْلُ أَوْلى مِنَ ¬
الفاسقِ (¬1) فيذكر ذلكَ هنا. 7 - والسابعُ (¬2): مَن تُختارُ إمامتُه (¬3): وهو مَن سَلِمَ مِن هذه الآفاتِ، فيقدَّمُ الأفقهُ (¬4)، ثُم الأقرأُ، ثُم الأسَنُّ فِي الإسلامِ، ثُم النَّسِيبُ، وفِي تَقْدِيمِ (¬5) الهجرةِ عليهما أوْ تأخُّرِها (¬6) عنهما طريقتانِ مرجَّحَتانِ. وفِي (¬7) قولٍ يتوسطُ. ثُم يقدَّمُ لِحُسْنِ (¬8) الصُّورةِ، ونظافةِ الثوبِ والبدنِ ونحوِها (¬9). * * * ¬
* ضابطٌ: لا تَنعقِدُ نيةُ المأمومِ للاقتداءِ إلَّا بعدَ إحْرامِ الإمامِ، وصورةُ (¬1) الاستخلافِ وما جرى مَجراها يَدخلُ فِي هذا. ولا يُعْتَبَرُ له بَعْدَ إحرامِ الإمامِ إحرامُ أحدٍ مِن المأمومِينَ إلَّا فِي صُورةٍ واحدةٍ: وهي (¬2) أنه إنْ كان بيْنَه وبيْنَ الإمامِ مأمومٌ لولا هو (¬3) لم يحصُل الاتصالُ، فإنه لا يصحُّ إحرامُ المتأخرِ حتى يُحْرِمَ المأمومُ المتقدمُ. وَذَكَر فِي الجُمعةِ صورةً أخرى وهي (¬4) أنَّ مَن لا تنعقدُ بِهمُ الجُمعةُ كالمسافرِ ونحوِه لا ينعقدُ إحرامُه حتى يُحْرِمَ أربعونَ كاملونَ، ولم يصحَّ لي ذلك. * * * ¬
فصل
فصل صلاةُ الحاضرِ سبعةَ عشرَ ركعةً، فِي غيرِ يومِ الجمعةِ، فيها: * سبعةَ عشرَ ركوعًا. * وأربعٌ وثلاثونَ سجدةً (¬1). * وأربعٌ وتسعونَ تكبيرةً. * وخمسُ تسليماتٍ (¬2)، واللَّه سبحانه وتعالى أَعْلمُ (¬3). * * * ¬
باب صلاة المسافر
باب صلاة المسافر رُخِّصَ له قَصْرُ الظُّهرِ والعصرِ والعِشاءِ ركعتَين ركعتَين، إلا فائتةَ (¬1) الحضَرِ، أوِ المشكوك فيها بشرائطَ (¬2) عَشرٍ (¬3) (¬4): 1 - أَنْ يكونَ قاصدًا (¬5) سَيرَ مَرْحلتَين فأكثرَ (¬6) ولو معَ الكُفرِ والصِّبَى، فلَو أسلمَ فِي أثناءِ المُدةِ قَصَرَ. 2 - وأن لا يكونَ عاصيًا بسَفرِه (¬7). ¬
3 - وأنْ ينويَ القصرَ فِي أوَّلِ (¬1) صلاتِه. 4 - 5 - وأن لا ينويَ فِي خلالِها إقامةً ولا إتمامًا (¬2). 6 - وأن لا يُقيمَ فِي أثنائِها. 7 - وأن لا يأتمَّ بِمُتِمٍّ، ولو فِي صُبحٍ، أو جُمعةٍ (¬3). 8 - 9 - وأن لا يقتديَ بمَن لا يُعرفُ سفرُهُ، أو يشكُّ فِي أنه نوى القصرَ وقامَ الإمامُ إلى الثالثةِ. 10 - وأن يصلِّيَ (¬4) بعدَ مُجاوزةِ البلَدِ. والقصرُ أفضلُ إذا قَصَدَ سفرَ ثلاثِ مراحلَ، إلَّا مَن يدومُ سفرُهُ كالمَلَّاحِ، فالإتمامُ له أفضلُ. * * * * ضابطٌ: لا يَقْصُرُ فِي سفرٍ قصيرٍ إلَّا فِي موضعٍ على الأصحِّ، وموضعَينِ على رأيٍ: - الأولُ: خرجَ قاصدًا سفرًا طويلًا، ثُم نَوَى الإقامةَ فِي بلدٍ فِي وسَطِ الطريقِ أربعةَ أيامٍ فأكثرَ، وبيْنَه وبيْنَ البلدِ مرْحلة مَثلًا، فالأصحُّ أنه يَترَخَّصُ ¬
ما لَمْ يدخلِ البلدَ الثاني. أجازَ الشافعي رضي اللَّه عنه فِي قولٍ القصرَ فِي السفرِ مطلقًا -مع الخوف- وهو ظاهرُ القرآنِ. - الثاني (¬1): إذا كان قاصدًا للذَّهابِ (¬2) والرجوعِ بلا إقامةٍ، والذهابُ والإيابُ (¬3) مرحلتانِ، فإنه يقصُرُ على وجهٍ، ويستمرُّ حكْمُ القصرِ والرُّخَصِ لمَن لَم ينوِ إقامةَ أربعةِ أيامٍ صِحاحٍ، ولِمنْ كانتْ نيتُه أنه إذا انقضتْ حاجتُه سافرَ، وهو يَتوقعُ انقضاءَها فِي دُونِ أربعةِ أيامٍ، فيَقْصُرُ إلى سبعةَ عشرَ يومًا، وصَححَ آخرونَ إلى ثمانيةَ عشرَ يومًا. * * * ¬
باب الجمع
باب الجمع هو رخصةٌ، وله أسبابٌ: - السفرُ (¬1) والمطرُ، ولَو فِي التأخيرِ على قولٍ. - والنُّسك (¬2) على وجهٍ. - والمرضُ (¬3) على رأيٍ. فأما السفرُ: فيعتَبرُ طُولُه على الأصحِّ، وأن لا يكونَ عاصيًا بسَفرِه، ولا جمْعَ إلا بين الظهرِ والعصرِ، وبين المغربِ والعشاءِ (¬4). ¬
ويجوزُ تقديمًا وتأخيرًا، فإن قَدَّمَ شُرِط: الترتيبُ، والموالاةُ، ونيةُ الجَمْعِ فِي الصلاةِ الأُولى، ولا تَبطلُ الموالاةُ بالإقامةِ للصلاةِ الثانيةِ، ولا بالطلبِ الخفيفِ للتيممِ، وإذَا أَخَّرَ فليكنِ التأخيرُ بِنِيَّةِ الجَمعِ. وتكفِي النيةُ ما بقِيَ مِن وقتِ الأُولى مقدارُ ركعةٍ. ثُم ما شرَطْناه في (¬1) جمعِ التقديمِ يُستحبٌّ (¬2) فِي جمعِ التأخيرِ. ويُشتَرطُ فِي صحةِ جمعِ التقديمِ بقاءُ العُذرِ إلى عَقدِ الثانيةِ، وفِي جَمعِ التأخيرِ إلى الفراغِ منها، فإنْ فُقِدَ تَعَيَّنَ تأخيرُ الثانيةِ إلى وقتِها، وصارتِ الأُولى قضاءً فِي جمعِ التأخيرِ. وأما المطرُ، فيجوزُ بسببِه جمعُ التقديمِ دونَ التأخيرِ على الأصحِّ. وتَخْتَصُّ هذه الرخصةُ بمَن يصلِّي فِي جماعةٍ فِي موضعٍ يأتِيه مِنْ بُعْدٍ يتأذَّى فِي طريقِه بالمطرِ. ¬
وشُروطُه (¬1) ما تقدَّمَ فِي السفَرِ مِنَ الترتيبِ وما بَعْدَه (¬2). ولا بُدَّ هنا مِن وجودِ المطَرِ فِي ابتداءِ كلٍّ مِنَ الصلاتَينِ، وعند التحلُّلِ (¬3) مِنَ الأُولى (¬4). وأمَّا النُّسكُ فيجوزُ الجمعُ على وجهٍ بسببِه بعرفةَ بيْن الظهرِ والعصرِ، وبمُزدَلِفَةَ بيْن المغربِ والعشاءِ (¬5). وأمَّا المرضُ فاختارَ الجمعَ به جماعة وهو مُختارٌ، ومنهم مَن أجازَ الجمعَ للحاجةِ. ¬
باب الجمعة
باب الجمعة ولا تجبُ الجمعةُ مطْلَقًا إلَّا بشرطَينِ: (1) المُقامُ بأبنيةٍ مُجتمعةٍ (¬1). (2) والعددُ. ولا تصحُّ إلَّا بوجودِ الشرطَينِ، وأربعةٍ زائدةٍ (¬2): (1) بقاءُ الوقتِ. (2) وتقدُّمُ الخُطبةِ. (3) وأن لا يَسبقَها ولا يُقارنَها تَحَرُّمُ أُخْرى (¬3)، حيثُ يسهلُ الاجتماعُ بموضعٍ. (4) وكونُها فِي الجماعةِ. ¬
وأمَّا العددُ: فأربعون (¬1)، ولَو بالإمامِ على الأصحِّ (¬2)، إلا فِي صلاةِ الخوفِ فِي الإقامةِ، فيُعتبَرُ ثمانون، ليكونَ كلُّ أربعينَ فِي فِرقةٍ، مُسْلمون، بالغونَ، عاقلون (¬3) أحرارٌ، ذكورٌ، عقلاءُ، مُقيمون؛ لا يَظعنون شتاءً ولا صيفًا إلا لحاجةٍ (¬4). ووقتُها وقتُ الظُّهرِ (¬5)، فإنْ دَخلَ وقتُ العصرِ -وهم فِي الجُمعة- أتمُّوها ظُهْرًا، على الأصحِّ (¬6). * * * * وأمَّا الخُطبةُ فيُعتبرُ فيها اثْنَا عَشرَ أمرًا (¬7): 1 - كونُ الخطيبِ بِحَيثُ تَصحُّ الجُمعةُ خَلْفَهُ. 2 - وأن يَخطُبَ مُتطهِّرًا (¬8). ¬
3 - قائمًا عند القُدرةِ. 4 - وأن يَحضُرَ مَنْ تَنعقدُ بهم الجمعةُ (¬1). 5 - وأن يخطُبَ فِي الوقتِ. 6 - وأن يخطُبَ خُطبتَينِ. 7 - وأن (¬2) يَقعدَ بينهُما. 8 - وأن يَحْمَدَ اللَّهَ تعالى فِي كلٍّ مِنهُما. 9 - ويصلِّي على رسولِه -صلى اللَّه عليه وسلم-. 10 - وأن يَقرأَ آيةً مُفْهِمَة فِي واحدةٍ. 11 - وأن يدعوَ للمؤمنِينَ فِي الثانيةِ، ولو: رَحِمَكُمُ اللَّهُ. 12 - وأن يَعِظَ بالوصيةِ والتقوى، ونحوِه فيهما (¬3)، ولو: أَطِيعُوا اللَّهَ (¬4). * * * ¬
* ضابطٌ: الناسُ فِي الجُمعةِ أربعةُ أقسامٍ (¬1): * منهم مَنْ لا تَلزَمُه ولا تَنعقِدُ به، ولكنْ تَصحُّ منه، وهم خمسةٌ: 1 - العبدُ. 2 - والمرأةُ. 3 - والخُنْثى. 4 - والصبيُّ. 5 - والمسافرُ (¬2) * ومنهم: مَن لا تَلزَمُه الجمعةُ (¬3) وتَنعقدُ به، وهُمُ المعذُورونَ بمرضٍ ونحوِه، كالذي يَتعهدُ مريضًا (¬4). * ومنهُم مَن تَلزمُه ولا تَنعقدُ به وهُم اثنانِ: - أحدُهما: مَنْ زادت إقامتُه علَى أربعةِ أيامٍ، وهو علَى نِيَّةِ السفَرِ (¬5). - والآخَرُ: مَنْ تكونُ دارُه خارجَ البلدِ، وينتهي إليه الأذانُ (¬6)، ولا يَصلُ ¬
عددُهم إلى أربعينَ (¬1). * ومنهم مَن تَلزمُه وتَنعقِدُ به، وهو كلُّ ذَكَرٍ، صحيحٍ، مقِيمٍ، مُستوطنٍ (¬2)، مُسْلِمٍ (¬3)، بالغٍ، عاقلٍ، حُرٍّ، لا عُذرَ له (¬4). ويَحرُمُ على مَنْ تَلزمُه الجمعةُ السفرُ بعدَ (¬5) فَجْرِ يومِها إلا إذَا كانَ السفرُ واجبًا، أو كان يُمْكنُه إقامةُ الجمعةِ فِي الطريقِ، أو يَلحَقُه ضررٌ بالتخلُّفِ عن الرُّفقةِ. واللَّهُ أعلمُ. * * * ¬
باب صلاة الخوف
باب صلاة الخوف (¬1) إن لَمْ يَشتَدَّ الخوفُ، فهي أنواعٌ جاءتْ مِن فِعْلِ النبيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- (¬2): * منها: صلاةُ بَطْنِ نخلٍ. ¬
* وصلاةُ عُسْفان. * وصلاةُ (¬1) ذاتِ الرِّقَاعِ. * * * (1) فصلاةُ (¬2) بَطْنِ نخلٍ (¬3): أن يفرقهم فِرقتَينِ، يصلِّي بكلِّ فِرقةٍ صلاةً كاملةً، تكونُ الثانيةُ للإمامِ نافلةً. وَإنما تُختارُ (¬4) بشروطٍ ثلاثةٍ: 1 - أن يكونَ العدوُّ فِي غيرِ القِبلةِ. 2 - وأن يكونَ فِي المسلمِينَ كثرةٌ (¬5). 3 - والعدوُّ قليلٌ. * * * ¬
(2) وصلاةُ عُسفانَ (¬1): أن يصلِّيَ بالجميعِ، فإذَا سجدَ فِي الأُولى حَرَسَ صفٌّ، وفِي الخَبرِ: الحارس (¬2) الثاني. والشافعيُّ -رضي اللَّه عنه- ذَكرَ حِراسةَ الأوَّلِ وحراسة بعضِه، فإذَا قامَ الإمامُ والساجدون، سَجدَ الحارسون وَلَحِقوه، وقرأ (¬3) الجميعُ، ثُم يركعُ بالكُلِّ ويَعتدلُ، فإذَا سجدَ سجدَ معه الحارسون فِي الأُولى وحَرسَ الآخَرون، فإذَا جلسَ للتشهد سجدوا، ولَحِقُوه، وتَشهدوا، وسلَّم بهم، ولو تولَّى (¬4) الحراسةَ فِي الركعتينِ طائفةٌ جازَ فِي الأصحِّ، ولو تأخَّر الحارسون وتقدَّمَ الآخَرون جازَ إذَا لمْ تكثُرِ الأفعالُ، وفِي "صحيح مسلم" (¬5) تقدُّمُ الصفِّ الثاني وتأخُّرُ ¬
الصفِّ الأَوَّلِ. ولهذه الصلاةِ ثلاثةُ شروطٍ: (1) أن يكونَ العدوُّ فِي جهةِ القِبلةِ. (2) وأن يكونَ على جبلٍ، أو مستوٍ مِن الأرضِ، لا يسترُهم شيءٌ عن أبصارِ الحارِسِين. (3) وأن يكونَ فِي المسلمِينَ كثرةٌ؛ لتسجدَ طائفةٌ وتحرسَ أُخرى، ولو حَرسَ صفَّانِ فأكثرُ، لَمْ يَمْتَنِعْ. * * * ¬
(3) وصلاةُ دْاتِ الرِّقاع (¬1): وهي (¬2) أن يفرقهم فِرْقتَينِ، تقفُ واحدةٌ في (¬3) وجهِ العدوِّ، لكونِه (¬4) فِي غيرِ القِبلةِ أو فيها (¬5)، وهناك حائلٌ يمنعُ رؤيتَهم، وينحازَ بفِرقةٍ إلى حيثُ لا تَبلغُهم (¬6) بها سهامُ العدوِّ، فيُصلِّيَ بها ركعةً، ثُم يَخرجُ المقتدون عن مُتابعتِه، ويُتِمُّونَ لأنفسهِم، ثم يَذهبون إلى وَجهِ العدوِّ، ويجيءُ أولئك فيقتدون به فِي الثانيةِ، ويطيلُ القيامَ، ويقرأُ فيه (¬7) إلى أن يَلْحَقوه، فإذَا جلَسَ للتشهدِ قاموا وأَتمُّوا الثانيةَ لأنفسِهم، وهو ينتظرُهم، فإذَا لَحِقُوه سلَّمَ بهم. ¬
هذِه روايةُ سهلِ بنِ أبي حَثْمَةَ (¬1). ولابنِ عُمرَ رِوايةٌ أُخْرى (¬2). وفِي البابِ رواياتٌ موضِعُها المَبْسُوطاتُ. والخوفُ مِن السَّبُعِ، والثعبانِ، كالخوفِ مِن العدوِّ ونحوِه، وكذا (¬3) الخوفُ على المالِ (¬4). * * * ¬
فصل في صلاة شدة الخوف
فصل في صلاة شدة الخوف (¬1) إذَا اشتَدَّ، والْتحَمَ القِتالُ، ولَم يَتمكنُوا مِنْ تَرْكِه، صلَّوْا بِحَسَبِ الإمكانِ، وليس لهم التأخيرُ عنِ الوقتِ. ويصلُّون رُكبانًا ومُشَاةً، ولهم تَرْكُ الاستقبالِ عند العجزِ. ولهم الإيماءُ عندَ العجزِ، ويُجعلُ السجودُ فيه أخفضَ، ويُعذرُ فِي العملِ (¬2) الكثيرِ، لا فِي الصِّياحِ (¬3) (¬4). ¬
ولَوْ تَلطَّخَ سِلاحُه بالدمِ، فله إمساكُه عند الاحتياجِ (¬1) ويَقضِي، واختارَ الإمامُ عدمَ القضاءِ (¬2). ¬
وتَجري صلاةُ شِدَّةِ (¬1) الخوفِ فِي العيدَينِ والخسوفين (¬2)، وقياسُه أَنْ تَجرِي فِي الرَّوَاتبِ التي تَفُوتُ، لا (¬3) الاستسقاءَ، وَتَجْري فِي كلِّ قتالٍ مباحٍ. وكذا الدفعُ (¬4) عنِ المالِ، وكذا الهَرَب مِنْ سَيلٍ، أو حريقٍ، أو غرقٍ (¬5)، أو سبُعٍ أو حيةٍ (¬6)، أو مِن غَرِيمِه الذي يَطْلُبُه لِيَقْتَصَّ منه، وهو يرجُو العفوَ لَو تغيَّب، أو مِن صاحبِ الدَّيْن، والهاربُ معسِرٌ عاجزٌ (¬7) عنْ بيِّنةِ الإعسارِ ولا يُصَدِّقُهُ المُسْتَحِقُّ. وكذا لو (¬8) خافَ فَواتَ الوُقوفِ (¬9) صلَّى العِشاءَ مُستقرًّا على الأرضِ على وجهٍ رجَّحَهُ بعضُهم، ومنهم مَن رَجَّحَ تأخيرَ الصلاةِ والسعي للوقوفِ، ومنهم مَنْ عَكَس (¬10). ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
باب صلاة المريض والغريق والمعذور
باب صلاة المريض والغريق والمعذور ويُصلِّي المريضُ كيفَ أَمكنَه قائمًا، ومُنحنيًا، وقاعدًا (¬1)، ومُضَّطجِعًا، ومُومِئًا، وأجرُه كالقائمِ ولا إعادةَ (¬2). وأمَّا النوافلُ: فله القعودُ مع القدرةِ على القيامِ، وكذا له الاضطجاعُ، لا الإيماءُ (¬3)، وأجرُ القاعدِ (¬4) على النصفِ مِن القائمِ فِي حَقِّ الأَمَة. ويُصلِّي الغريقُ كيفما أمكنَهُ مُومِئًا وغيرَهُ، فإذَا صلَّى مُومئًا أعادَ. وكذلك (¬5) المربوطُ على الخشبةِ، والمحبوسُ فِي موضعٍ نَجِسٍ؛ لندورِ هذا العذرِ. وذكَرَ المَحامِلِيُّ هنا المعذورَ الذي زالَ عذرُه آخرَ الوقتِ، وقد سبقَ حُكْمُه. * * * ¬
باب القضاء والإعادة
باب القضاء والإعادة * القضاءُ: ما فُعلَ شَرْعًا بَعْدَ وقتِه المقدَّرِ (¬1) له شَرْعًا. * والإعادةُ: ما فُعلَ فِي وقتِ الأداءِ ثانيًا بِسببٍ. ولو أفسدَ الصلاةَ فِي الوقتِ، ثُم صلاها فيه لا تكونُ قضاءً، خلافًا للقاضي حُسَينٍ والمُتَولِّي، فألْزَما (¬2) عَدمَ قَصْرِ المسافرِ لها فِي وقتِها، وَيَلْزَمُهُمَا أن لا يصلِّيَ الجمعةَ حينئذٍ، ويقضِي ما فاتَ (¬3) مِن الفرائضِ إلا الجمعةَ، فالمقضِيُّ الظُّهرُ. * * * ¬
ويحرُمُ القضاءُ فِي خمسةِ أحوالٍ: 1 - أحدُها: إذَا خافَ فَوْتَ (¬1) الحاضرةِ. 2 - الثاني: إذَا وَجدَ ثوبًا فِي رُفْقةٍ عُرَاةٍ، فإنه لا يصلِّي حتى تنتهيَ النَّوبةُ إليه، ذَكَرَهُ المَحامِلِيُّ، قال (¬2): وكذا فِي الوقتِ يَصبِرُ وإنْ ذَهبَ، والأصحُّ لا (¬3) يصبر فِي الوقتِ، ولا فِي صورةِ البئرِ والمقامِ إذَا لَمْ تصلْ إليه النَّوبةُ، إلا بعدَ الوقتِ. 3 - الثالثُ: إذَا لمْ يجدْ ماءً ولا ترابًا، يصلِّي لِحُرْمَةِ الوقتِ، ولا يَقضِي حيثُ لا يُسْقِطُ القضاءُ الفرضَ، كما إذَا تَيممَ فِي موضعٍ يَغْلبُ فيه وجودُ الماءِ، وقياسُه أن لا يَقضيَ حيثُ لا يَعرفُ القِبلةَ يَقينًا ولا اجتهادًا. 4 - الرابعُ (¬4): الزيادةُ على الركعتَينِ فِي حالِ (¬5) حُضورِه الخُطبةَ. 5 - الخامسُ: إذا وَجدَ غَريقًا يتعينُ إنقاذُهُ ويحرُمُ الاشتغالُ بالقضاءِ (¬6). ويقاسُ على ذلك ما لمْ يُذْكَرْ. وفِي الجميعِ لو قضَى صحَّ، إلا فِي صورةِ الثوبِ والتيممِ، ولمْ أرَ مَن ¬
تعرَّضَ لذلك (¬1). * * * وأما الإعادةُ فمَنْ صلَّى إحدى (¬2) الخَمْسِ بالطهارةِ منفردًا، ثم أَدركَ جماعةً اسْتُحِبَّ له إعادةُ الصلاةِ، وإن صلَّى فِي جماعةٍ، فكذا (¬3) فِي الظُّهرِ والعِشاءِ، وكذا الصبحُ والعصرُ على الأصحِّ، وكذا المغربُ، ولا يُعيدُها أربعًا على الأصحِّ، والفرضُ الأُولى فِي الحالَتين (¬4). وأما المتروكةُ فتاركُها إنْ جَحَدَ وجوبَ الخمسِ أو بعضَهَا فهو كافرٌ، يُقتلُ بكُفرِه (¬5)، وتجبُ استتابتُهُ، وإنْ تَرَكَهَا كَسَلًا قُتِلَ حدًّا بترْكِ واحدةٍ، إنْ أَخرجَها عن وقتِ الجمعِ. واستُحِبّ (¬6) استتابتُه، فإن أصَرَّ على التركِ قُتلَ، ويُغسَّلُ، ويُكفَّنُ، ويُصلَّى عليه، ويُدفنُ فِي مقابرِ المسلمينَ، ولا يُطمَسُ قبرُهُ (¬7). ¬
وأما فرضُ الكفايةِ فهو مِن الصلاةِ صلاةُ الجنازةِ، ومِن (¬1) الصفاتِ فِي لخمسِ الجماعةُ. * * * ¬
باب صلاة الجنازة
باب صلاة الجنازة ويَسقُطُ فرضُ الكفايةِ بواحدٍ، ولو ممَيِّزًا، ولا (¬1) يَسْقُطُ بالنِّساءِ وهناك رَجُلٌ. ومَن صلَّى (¬2) لا تُسْتَحبُّ له الإعادةُ، بل يستحبُّ له التركُ؛ كذا صحَّحُوهُ، ولو صلَّى صَحَّتْ. والمرأةُ إذَا صلَّتْ قَبْلَ الرِّجالِ ينبغي أن تُستحبَّ إعادتُها مع الرجالِ، ولَمْ يَذكُروهُ. وتجوزُ الصلاةُ بعد الدفنِ فِي حقِّ الأَمَة لمَن (¬3) كانَ مِنْ أَهْلِ الصلاةِ عليه يَوْمَ الموتِ. * * * ¬
* وهي تتضمنُ فرائضَ وسننًا وشرائطَ: فالفرائضُ إحدَى عَشرَةَ (¬1): 1 - النيةُ. 2 - 3 - 4 - 5 - والتكبيراتُ الأربعُ. 6 - ومقارنةُ النيةِ التكبيرةِ (¬2) الأُولى. 7 - والقيامُ. 8 - وقراءةُ الفاتحةِ فِي واحدةٍ، والأُولى أَوْلَى. 9 - والصلاةُ على النبيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- بَعْدَ الثانيةِ. 10 - والدعاءُ للميتِ (¬3). 11 - والسلامُ الأوَّلُ (¬4). * * * ¬
* وأما السننُ فعشرةٌ (¬1): 1 - رفعُ اليدَينِ في (¬2) التكبيراتِ. 2 - وأن يَجمعَ يدَيه عَقِبَ كُلِّ تكبيرةٍ. 3 - ويَضعَهُما تحتَ صدرِه. 4 - ويُؤَمِّنُ عَقِبَ الفاتحةِ، ومنهم مَنِ استحبَّ سورةً، وفيه أثرٌ. 5 - ويُسِرُّ بالقراءةِ، ولو ليلًا فِي الأصحِّ. 6 - ويَحْمَدُ اللَّهَ عز وجل عَقِبَ (¬3) الثانيةِ؛ نَقَلَهُ المُزَنِيُّ، وهو راجحٌ ولمْ يَستحبَّه الأكثرُ. 7 - ويدعو للمؤمنِينَ والمؤمناتِ. 8 - وأن يُكثِرَ الدعاءَ للميتِ. 9 - وأن (¬4) يسلِّمَ تسليمةً ثانيةً. 10 - ولا يستحبُّ دعاءُ الافتتاحِ على الأصحِّ (¬5). ¬
وعدَّ المحامليُّ (¬1) التكبيراتِ بَعْدَ الإحرامِ مِنَ السُّننِ، وهو غريبٌ ضعيفٌ. * * * * وأما الشرائطُ غيرُ ما سبقَ فِي الصلاةِ: فتحقُّقُ الموتِ. وكونُ الميتِ مُسْلِمًا غيرَ شَهيدٍ. وأن يكونَ (¬2) قد غُسِّلَ، أو يُمِّمَ، حيثُ يُعتبرُ. وأن لا يتقدمَ الميتَ إن كانَ حاضرًا. والصلاةُ على الغائبِ جائزةٌ. والسُّنةُ أن يقفَ الإمامُ عند رأسِ الذَّكَرِ، وعند عَجِيزةِ المرأةِ (¬3). وأصحُّ دعاءِ الجنازةِ: حديثُ عوفِ بن مالكٍ فِي "صحيح مسلم" (¬4) وهو أنَّ النبيَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- صلَّى على جنازةٍ فقال: "اللهُمَّ اغفِرْ له، وارحمْهُ، وعافِهِ واعْفُ عنه وأكرِمْ نُزُلَه ووسِّعْ مُدْخله واغسِلْه بالماءِ والثلجِ والبَرَدِ، ونَقِّهِ من الخطايا كما نقيْتَ (¬5) الثوبَ الأبيضَ من الدَّنَسِ، وأبدِلْه دارًا خيرًا من دارِهِ، وأهلًا خيرًا مِن أهله، وزوجًا خيرًا مِن زوْجه، وأدْخِلْه الجَنَّةَ وأعذْهُ مِن عذابِ القَبرِ، ¬
وفتنتِهِ، ومِن عذابِ النارِ". ويقولُ فِي الطِّفلِ: اللهمَّ اجْعلْهُ فَرَطًا لأبَويْهِ، وسَلفًا، وذُخرًا، وعِظةً (¬1) واعتبارًا، وشفيعًا لهما، وثقِّل به موازينَهما، وأفرِغِ الصبرَ على قُلوبِهما، ولا تَفْتِنْهُمَا بعدَه، ولا تَحْرِمْهُمَا أجرَه (¬2). وبعدَ التكبيرةِ الرابعةِ لا يجبُ ذِكْرٌ (¬3) ولا دعاءٌ، ولكنْ يُستحبُّ: اللهمَّ لا تحرمْنَا أَجرَه، ولا تَفتنَّا بَعْدَه، واغفرْ لَنا ولهُ (¬4). وتكفينُ الميتِ فرضٌ، وأقلُّه ما يسترُ العورةَ، ويُستحبُّ للذَّكَرِ ثلاثةُ (¬5) أثوابٍ، ولغيرِهِ خمسٌ. ¬
ويستحبُّ تبخيرُ الكفَنِ وتحنيطُهُ، وتحنيطُ (¬1) القطنِ (¬2) الموضوعِ على المنافذِ، وتطييبُ مواضعِ السجودِ منه. وحمْلُ الجنازةِ بيْنَ العمودَينِ المتقدمَينِ أَولى (¬3)، والمشيُ أمامَها أفضلُ، والسُّنَّةُ الإسراعُ، إلا أن يُخَافَ منه (¬4) حدوثُ أَمْرٍ للميتِ، فيُتأنَّى. والدفنُ فرضٌ، وأقلُّ القبْرِ (¬5) حُفرةٌ لا تكتمُ الرائحةَ، وتحفظُ مِن السِّباعِ، ويُستحبُّ التوسيعُ والتعميقُ بقدْرِ (¬6) قامةٍ وبسْطةٍ، واللحدُ أَولى. * * * * ضابطٌ: المَوْتى أقسامٌ: * منهم مَن لا يُغَسَّلُ، ولا يُصلَّى عليه، وهو الشهيدُ فِي المعركةِ. * ومنهم مَن يُغَسَّلُ، ولا يُصلَّى عليه كالسِّقطِ (¬7)، إذَا لمْ يستهلَّ (¬8) , ولمْ ¬
يَتحركْ (¬1)، والذميِّ، لكنْ غسلُهُ ليس بفرضٍ بخلافِ دفْنِه وتكفِينِه. * ومنهم مَن لا يُغَسَّلُ، ويُصلَّى عليه، وهو مَنْ تعذَّرَ غَسْلُه للخَوفِ مِن تَفَتُّتِهِ (¬2)، ونحوِ ذلك، فيُيَمَّمُ، وكذا (¬3) لو ماتَ رجُلٌ وليس هناك إلا أجنبيةٌ (¬4)، أوْ عكسُهُ، وكذا (¬5) الخُنثى على رأيٍ (¬6). * ومنهم مَن يُغَسَّلُ ويُصلَّى عليه، وهو مَن ليس به مانعٌ مِن ذلك. والمحرِمُ إذا ماتَ يُغَسَّلُ ويُصلَّى عليه، ولا يُقَرَّب طِيبًا، ولا يُلْبَس مَخيطًا إنْ كان ذَكرًا، ولا يُغَطى رأسُه، ولا وجهُ المُحرِمة (¬7). * * * ¬
والتعزيةُ (¬1) سنةٌ إلى ثلاثةِ أيامٍ تقريبًا، أو حضورِ (¬2) الغائبِ، ولْيكنْ (¬3) فيها الدعاءُ للمعزَّى بالأجرِ إنْ كان مُسْلِمًا، وإلَّا فبِغَيرِهِ (¬4) مما لا يُمْنعُ، وبالغُفْرانِ للميتِ إن كان مُسلمًا، ومنه (¬5): أَعْظَمَ اللَّهُ أجرَك، وأَحْسَنَ عَزاءَك، وغَفرَ لِمَيِّتِك (¬6). واللَّه أعلم. * * * ¬
باب صلاة الجماعة
باب صلاة الجماعة وفِي "الصحيحَين" (¬1) عنِ ابنِ عُمر -رضي اللَّه عنهما- أن النبيَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "صلاة الجماعةِ تفضُلُ على صلاةِ الفَذِّ بسبعٍ وعِشرينَ درجَةً". والأصحُّ: أنَّها فرضُ كفايةٍ. والثاني: سُنةٌ. وقيل: فرضُ عينٍ. ويَحصُلُ فضلُ التَّحَرُّمِ (¬2) بشهودِهِ، والاشتغالِ بعَقْدِ الصلاةِ عقيبه (¬3). وتُدرك فضيلةُ الجماعةِ بجُزءٍ (¬4) كما سبق، وقد جاء عنِ النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "من توضَّأ فأحسَنَ وُضُوءَهُ، ثُم راحَ فوَجَدَ الناسَ قد صلَّوْا، أعطاهُ اللَّهُ عز وجل مِثْلَ أجْرِ مَن صلَّاها أو حضَرهَا، لا يُنْقِص ذلك مِن أجْرِهِم شيئًا" (¬5) رواه أبو ¬
داودَ والنَّسائِيُّ بإسنادٍ حَسنٍ. وهذا إذا اتَّفَقَ له ذلك، ولم يَعْتَدْهُ (¬1). ويُعذرُ فِي ترْكِ الجماعةِ والجُمعةِ (¬2): - بالمطرِ. - والوحلِ الشديدِ. - والمرضِ. - وتمريضٍ (¬3) تعيَّنٍ (¬4)، أو لمْ يَتعينْ، ولكنْ أَشْرفَ (¬5) قريبٌ، أو زوجٌ، أوْ صديقٌ، أو مملوكٌ، أو لم يُشْرِفْ، ولكن الاستيئناسُ. - وخوفِ الظالمِ (¬6). ¬
- أوِ الخوفِ على ذَهَاب مالٍ. - ومنه الخبزُ فِي التَّنُّورِ، والطعامُ على النارِ. - والغريمُ للمعسِرِ (¬1). - ورجاءُ عفوِ العُقوبةِ. - ووجودُ الضالةِ. - واستردادُ المالِ مِنَ الغاصبِ. - ومُدافعةُ الحدَثِ، إلَّا إنْ خافَ فوتَ الوقتِ، فَتُقَدَّمُ الصلاةُ إذَا أَمكنَه. - والعريُ. - وشِدةُ الجُوعِ، والعَطَشِ، والحرِّ، والبرْدِ. - وَتَرَحُّلُ الرُّفقةِ. - وغلبةُ النومِ. - وأكْلُ نيءٍ (¬2) مُنْتِنٍ. وللجماعةِ شِدةُ الريحِ بالليلِ، وقد (¬3) صَحَّ أنَّ النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "إذَا مرِضَ العبدُ أو سافَرَ، يقولُ اللَّهُ عز وجل لملائكتِه: اكْتُبوا له ما كانَ يعمَلُ صَحِيحًا مُقِيمًا" (¬4). ¬
ولا تَحصُلُ الجُمعةُ والجماعةُ للمأمومِ إلا بِنِيَّةِ الاقتداءِ، أوِ الجماعةِ. وعلى الإمامِ نيةُ الإمامةِ أو الجماعةِ فِي الجُمعةِ، وفِي غيرِها لا تجبُ، لكنْ لا تحصُلُ له فضيلةُ الجماعةِ. وقال القاضي حُسينُ (¬1): إذَا اقتدى به مَن لمْ يَعلَمْ بِه حَصلتِ الجماعةُ. ومتى تابعَ مُصَلِّيًا بغيرِ نيةِ اقتداءٍ ولا جماعةٍ، أو مع الشكِّ فيها فصلاةُ التابعِ باطلةٌ. * * * * ومِنَ المُبطلاتِ: أن لا يتخلفَ المأمومُ بتكبيرةِ الإحرامِ، وكذا لو شكَّ. أو أن يُتابعَ إمامَه (¬2) فيما عَلِمَ أنه ساهٍ فيه، أو عيَّنه فأخطَأ، لا مع الإشارةِ. أو اخْتَلَفَ نظْمُ صلاتيهما (¬3) كإحدى الخَمْسِ بخُسوفٍ أو جنازةٍ. أو خالفَ فِي سُنةٍ فاحشةِ المخالفَةِ كسجدةِ التلاوةِ، فإنْ رَجعَ والمأمومُ (¬4) ¬
فِي الهُوِيِّ يرجعُ معه. أو تقدَّمَ أو تخلَّفَ بتمامِ رُكنَينِ (¬1) فِعلِيَّيْنِ أو بأربعةٍ طويلةٍ بعذرٍ. ولا تَصحُّ القُدوةُ (¬2) بمأمومٍ، ولا بِمَشْكُوكٍ فِي أنه مأمومٌ، ولْتُضفْ هذه المُبطِلاتُ إلى ما يناسبُها ممَّا سَبقَ. وما يُدركُه المسبوقُ مع الإمامِ، أولُ صلاتِه، وما يأتي به بعد سَلَامِ الإمام آخرُ صلاتِه، فَيَقْنُتُ فِي ثانيةِ الصُّبحِ، ويَجهرُ فيما يُجهَرُ فيه، ولكنْ يَقرأ السورةَ فِي الأخيرتَين إن أَدركَ ركعتَينِ مِن الرُّباعيةِ مَثلًا (¬3). وإذا سَلَّمَ الإمامُ التسليمتَينِ قامَ المسبوقُ مُكَبِّرًا إن كان موضعَ جلوسِه وإلا فلا، وحيثُ لم يكنْ موضعَ جلوسِه لا يجوزُ أن يَمكُثَ. وإن استخلفَه الإمامُ راعَى نَظْمَ صلاةِ (¬4) إمامِه. واللَّهُ تعالى أعلمُ. * * * ¬
أبواب السنن
أبواب السنن باب صلاة العيدين وهي سُنةٌ، إلَّا فِي موضعٍ واحدٍ وهو الحاجُّ بِمِنًى، فلا تُسَنُّ له. وهي ركعتانِ يَعْقُبُهُمَا خُطبتانِ. وهي كالجُمعةِ (¬1) إلَّا فِي أحدَ عشرَ شيئًا: كونُها بخُطبتَيها سُنة. والوقتُ، وهو مِن طُلوعِ الشمسِ إلى الزوالِ، والأفضلُ فيها التأخيرُ إلى أن ترتفعَ الشمسُ قِيدَ رُمحٍ. وتُقْضى إذا فاتَ وقتُها على صُورتِها. وتُصلَّى فِي الصحراءِ، بل هو أفضلُ. والتكبيرُ مِن حِينِ يُرَى الهلالُ إلى أَنْ يُصَلَّى العيدُ. ¬
وفِي الصلاةِ سَبْعُ تكبيراتٍ فِي الأُولى بعد الإحرامِ، وخمسٌ فِي الثانيةِ بعد القيامِ (¬1). ويقفُ (¬2) بيْن كلِّ تكبيرتَينِ بقَدْرِ آيةٍ معتدلةٍ: يُهلِّلُ اللَّهَ ويُمجِّدُه، وَحَسُنَ أن يقولَ: سُبحانَ اللَّهِ والحمدُ للَّهِ ولا إله إلا اللَّهُ، واللَّهُ أكبرُ. وليس فيها أذانٌ ولا إقامةٌ. والتكبيراتُ فِي الخُطبةِ، وهي ستةَ عشرَ: تِسْعٌ فِي الأُولى، وسبع فِي الثانية. وتعليمُ صدقةِ الفِطْرِ والأضحيةِ فِي الخُطبةِ، وتقديمُ الصلاةِ على الخُطبةِ. وَعَدَّ المَحامِلِيُّ تحريمَ الصومِ فِي يومِ العيدِ بخلافِ يومِ الجُمعةِ، وهذا يخالفُ فِي اليَومينِ لا فِي الصلاتَينِ. وكذلك عَدَّ تقديمَ صدقةِ الفِطْرِ. ولم يَعُدَّ فِي التخالف الذَّهابَ فِي طريقٍ، والعودَ فِي أُخرى، فدلَّ على استحبابِهما (¬3) فِي يومِ (¬4) الجُمعةِ وغيرِها مما يناسِبُ ذلك. وكان ينبغِي أن يَعُدَّ استحبابَ تقديمِ الفِطْرِ على صلاةِ العيدِ، فقد صحَّ أن ¬
النبيَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- كان يُفْطِرُ قبْلَ صلاةِ العيدِ على تَمَرَاتٍ، ويجعلُهنَّ وترًا (¬1). * * * وصلاةُ الأضحى مِثْلُ (¬2) صلاةِ الفِطْرِ إلا أنها تخالفُها فِي ستةِ أشياءَ: 1 - تأخرُ الأُضحيةِ. 2 - وتعجيلُ الصلاةِ قليلًا. 3 - والتكبيرُ خمسةُ أيَّامٍ مِن أولِ صلاةِ الفجرِ يومَ عرفةَ إلى عصرِ اليومِ الخامسِ، وهو الثالثُ مِن أيَّامِ التَّشرِيقِ (¬3) خَلْفَ الفرائضِ -ولو جنازةً (¬4) - ¬
والنوافلِ (¬1) إلا خَلْفَ سُجودِ التِّلاوةِ والشُّكرِ، ذكَرَ هذا الاستثناءَ المَحامِلِيُّ (¬2). 4 - والرابعُ: أن يَذكُرَ الخطيبُ أَحكامَ الأُضحيةِ. 5 - والخامسُ: التَّصدقُ ببعضِ الأضحيةِ. 6 - والسادسُ: تحريمُ صَومِ أيَّامِ التَّشريقِ. كذا ذكَرَ (¬3) المَحامِلِيُّ، لكنَّ الثالثَ والخامسَ والسادسَ لا يتعلقُ بالصلاةِ. وينبغي أن يَعُدَّ تأخيرَ الأكلِ يومَ الأُضحيةِ عن (¬4) الصلاةِ. * * * ¬
باب صلاة الخسوفين
باب صلاة الخسوفين (¬1) وهي ركعتانِ، وخُطبتانِ بَعدها؛ كالعيدِ، إلَّا فِي أشياءَ: لا تكبيرَ فيها، ولا فِي خُطبتِها، وأَغْرَبَ المرعشيُّ (¬2)، فقال: يُكبِّرُ فِي خُطبتَي الكُسوفِ، وفِي كلِّ ركعةٍ قيامانِ وقِراءتانِ (¬3) ورُكوعانِ طِوالٌ كلُّها (¬4)، وَيُسِرُّ بالقراءةِ فِي كسوفِ الشمسِ (¬5)، ويقرأُ آيةَ التوبةِ فِي الخُطبةِ، ويَحثُّهم على الإعتاقِ. وقال المَحامِلِيُّ: يُصلِّي كلَّ واحدٍ (¬6) بعدها ركعتَين، وهو غَريبٌ. وتَفُوتُ بالانجلاءِ، وبِغُروبِها كاسفةً، وبطُلوعِ الشمسِ والقَمَرُ خاسفًا. ¬
وَيُسَنُّ تطويلُ السجودِ نَحْوَ الركوعِ الذي قَبْلَه، نصَّ عليه فِي البُوَيْطِي. ولا يُسَنُّ تطويلُ غيرِ ما ذُكرَ. وقد صَحَّ فِي الجلوسِ الذي (¬1) بين السجدتَينِ التطويلُ. ويُسَنُّ أن يَقرأَ البقرةَ وآلَ عمرانَ والنِّساءَ والمائدةَ فِي القياماتِ على الترتيبِ، وهو للتقريبِ (¬2)، فلذلك (¬3) قالتْ فِرقةٌ (¬4): يَقرأُ فِي الأُولى البقرةَ، وفِي الثاني (¬5) كمِائتَي آيةٍ منها، وفِي الثالثِ (¬6) كمِائةٍ وخمسينَ، وفِي الرابعِ كمِائةٍ، وكلاهما منصوصٌ عليه. ويُسبِّحُ قدرَ مائةِ آيةٍ مِن البقرةِ، وثمانينَ وسبعينَ وخمسينَ فِي الركوعاتِ. ويقولُ فِي كلِّ اعتدالٍ: سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ ربَّنَا لَكَ الحَمْدُ. واللَّهُ تعالى وسبحانه أعلمُ. * * * ¬
باب صلاة الاستسقاء
باب صلاة الاستسقاء وهي رَكعتانِ وخُطبتانِ، كما فِي العيدِ، إلا فِي خمسةَ عشرَ شيئًا (¬1): 1 - 2 - أمرُ الإمامِ الناسَ قَبْلَها بصَومِ ثلاثةِ أيامٍ، والتوبةِ. 3 - والصومُ فِي يومِها. 4 - وتركُ الزِّينةِ فِيها. 5 - وإخراج البهائمِ. 6 - ولا يَختصُّ وقتُها بوقتِ العيدِ على النصِّ. 7 - والاستغفارُ الكثيرُ (¬2) وفِي أولِ الخُطبتَين بدلَ التكبيرِ، خلافًا لِمَا جَزمَ المرعشيُّ وحكى وجهًا، وهو الذي يَقتضِيه كلامُ المَحامِلِيُّ. 8 - وآيةُ الاستغفارِ فِي الخُطبةِ {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا}. 9 - ويدعو فِي الخُطبةِ الأُولى، وصَدْر الثانيةِ يَطْلُبُ الغيثَ. 10 - ثُم فِي الثانيةِ يستقبلُ القِبلةَ. ¬
11 - ويبالغُ فِي الدعاءِ سرًّا وجهرًا، وإذَا أَسَرَّ دعا الناسُ سرًّا. 12 - ويرفعون أيديَهم فِي الدُّعاءِ، وظَهْرُ الكفِّ إلى السماءِ. 13 - ثُم يستقبلُ. 14 - ويُحَوِّلُ رِداءَه (¬1). 15 - ويُنَكِّسُه (¬2)، ويفعلُ الناسُ كذلك. وتجوزُ هنا الخُطبة قبْلَ الصلاةِ أيضًا، وصحَّ ذلك عن النبيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-. * * * ¬
باب السنن الرواتب
باب السنن (¬1) الرواتب (¬2) * منها ركعتَا الفجرِ (¬3): يَقرأُ فِي الأُولى بعْدَ الفاتحةِ {قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَ}. وفِي الثانيةِ الإخلاصَ. ويَستمرُّ على ذلك لِصحَّتِه عنِ النبيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- (¬4). وقد صحَّ عن النبيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- (¬5) أنه قرأَ فِي الأُولى منهما (¬6): {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا} الآية التي فِي البقرةِ، وفِي الأخيرةِ منهما (¬7): {آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} (¬8) فلْيفعلْ ذلك. والسُّنةُ فِي رَكعتَيِ الفجرِ: التخفيفُ، وأن يَضطجعَ بَعْدَهما (¬9)، أوْ يَفصلَ ¬
بكلامٍ ونحوه (¬1). * وركعتانِ قَبْلَ الظُّهرِ، ومنهم مَن يقولُ أربعٌ، وركعتانِ بَعْده، وفِي وجهٍ: أربعٌ (¬2). * وركعتانِ قَبْل العصرِ، ومنهم مَن يقولُ أربعٌ (¬3)؛ لقولِه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "رَحِمَ اللَّهُ مَنْ صَلَّى أَرْبَعًا قَبْلَ العَصْرِ" (¬4) حديثٌ حسنٌ. ¬
والأكثرُ لا يَعُدُّونَ للعصرِ راتبةً. * وبعد المغربِ ركعتانِ (¬1)، القراءةُ فيهما كالفجرِ، قاله المَحامِلِيُّ، يعني: بـ {قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَ (1)}، وسورةِ الإخلاصِ، وَقَبْلَهَا يُستحبُّ ركعتانِ (¬2). * وركعتانِ بعد العِشاءِ (¬3). * وبعد الجُمعةِ أربعٌ، وقَبْلَها (¬4) صحَّ أن ابنَ عُمرَ كانَ يُطيلُ الصلاةَ ويرفعُ ذلك إلى النبيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- (¬5). وقال المَحامِلِيُّ (¬6): إن أذَّنَ مؤذنانِ ففِي كلِّ أذانٍ يصلِّي ركعتَينِ، وهو ¬
غَريبٌ. وفِي "الصحيحينِ": "بيْنَ كُلِّ أَذانَينِ صَلاةٌ (¬1) " (¬2) وهو محمولٌ على الأذانِ والإقامةِ، ثُمَّ لو حُمِلَ على الأذانَينِ لمْ يَقتضِ (¬3) إلا صلاة (¬4) بينهما (¬5). واللَّهُ سبحانه وتعالى أعلمُ. * * * ¬
باب الوتر
باب الوتر ووقتُه بعد صلاةِ (¬1) العِشاءِ، ولو بجَمعِ تقديمٍ (¬2). وهو أنواعٌ (¬3): 1 - ركعةٌ. 2 - ثلاثُ ركعاتٍ يَفصلُ أو يَصِلُ، والفصْلُ أَوْلى (¬4)، ومراعاةُ الخلافِ حَسَنٌ، وهو الوَصْلُ، وحينئذٍ فالأفضلُ تشهدٌ واحدٌ. 3 - خمسُ ركعاتٍ، إنْ فَصَلَ، تَشَهَّدَ فِي كلِّ ركعتَين، وإن وصَلَ لمْ يَجُزْ ¬
أن يَزيدَ على تشهدَين (¬1). 4 - سَبْعُ ركعاتٍ (¬2). 5 - تِسْعُ ركعاتٍ (¬3). 6 - إحدَى عَشْرَةَ ركعةً (¬4)، والكُلُّ كالخَمسِ. قالَ (¬5) المَحامِلِيُّ (¬6) فِي الخَمْسِ: لا يَقعدُ إلا فِي آخِرِهن، وفِي السَّبعِ: يَقعدُ فِي السادسةِ ثُم يَصِلُها بالسابعةِ (¬7). وفِي التِّسعِ: يَتشهدُ فِي الثامنةِ (¬8)، ويَصِلُها (¬9) بالتاسعةِ. وفى (¬10) إحدى عشرةَ ركعةَ (¬11): يُسلِّمُ مِن كلِّ ركعتَينِ، وكأنه أرادَ الأُولى، وقد يخَالَفُ فِي بعضِه. ¬
ويَقنُتُ فِي الوترِ فِي النصفِ الثاني مِن شَهرِ رمضانَ، والمُختارُ فِي جميعِ السَّنَة، وفِي الصُّبحِ أبدًا (¬1). والكلُّ بَعْدَ الرُّكوعِ. وأمَّا ركعتَا (¬2) الوترِ، وهو أن يُصلِّيَ بعد الوترِ ركعتَينِ قاعدًا مُتَرَبِّعًا، يَقرأُ فِي الأُولى بعد الفاتحةِ الزلزلةَ، وفِي الثانيةِ {قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَ} (¬3). وإذَا ركعَ وَضَعَ يدَيه على الأرضِ، ورفَعَ وَرِكَيه عنهما، وَثَنَى رِجلَيه، كما ¬
يركعُ في القيامِ، فذكرهما المَحامِلِيُّ (¬1). وفيهما حديثٌ في الصحيحِ (¬2). ¬
وما ذكَرَهُ المَحامِلِيُّ مِنَ الصِّفَةِ لمْ يَثْبت. * وأما قِيامُ الليلِ: فهو سُنَّةٌ (¬1). وأيُّ الوقتِ أفضلُ؟ قولانِ. أصحُهما: جَوْفُهُ. والثاني: السَّحَرُ. وفِي عَددِ الركعاتِ وجهانِ: أحدُهما: اثنا عشرَ. والثاني: لا حَدَّ لَهُ، ولَعَلَّ مَنْ يقولُ اثنا عشر يجعلُ الوترَ هو التهجدَ ثُمَّ يختمُه بركعةٍ ويحتمل غيرَهُ. * وأمَّا الضُّحى: فهِيَ سُنةٌ، بآيةٍ وأخبارٍ: قالَ عز وجل: {يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ} (¬2) قال ابنُ عباسٍ: الإشراقُ صلاةُ الضُّحى (¬3). ¬
والأخبارُ فيها معروفةٌ. وأقلُّها ركعتانِ، وأَفْضلُها ثَمانٍ، وأكثرُها ثنتا (¬1) عشرةَ ركعةً، يُسلِّمُ مِن كلِّ ركعتَينِ (¬2). ووقتُها مِن حينِ ترتفعُ الشمسُ إلى الاستواءِ، ووقتُها المختارُ: إذَا ذَهبَ رُبُعُ النهارِ. * * * * وأمَّا صلاةُ الزوالِ (¬3): فذَكَرَ المَحامِليُّ (¬4) أنَّها ركعتانِ (¬5)، وذَكَرَ فيها خبَرًا (¬6) أنَّ النبيَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "رَاقِبوا زَوَالَ الشَّمسِ، فإذَا زَالتْ فصلُّوا ركعتَينِ، فلَكُمْ أَجْرٌ بِعَددِ كُلِّ كافرٍ وكافرةٍ"، وهذا الحديثُ لا يُعرَفُ. والمَحفوظُ ما رواهُ الترمذيُّ أنَ النبيَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- كان يُصلِّي أربعًا بَعْدَ (¬7) أَنْ تزولَ ¬
الشمسُ قَبْلَ الظُّهرِ، وقال: "إِنَّها ساعَةٌ تُفْتَحُ فِيها أَبوابُ السَّماءِ فَأحِبُّ أَنْ يَصعَدَ لِي فِيهَا عمَلٌ صَالِحٌ" (¬1) قال الترمذيُّ: حديثٌ حسنٌ غريبٌ. * * * ¬
باب قيام شهر رمضان
باب قيام شهر رمضان وفِي "الصحيحينِ" أنَّ النبيَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "مَن قامَ رمَضانَ (¬1) إيمَانًا واحتِسَابًا غُفِرَ لَه ما تقدَّمَ مِن ذنْبِهِ" (¬2). واستمرَّ العملُ علي التَّراويحِ. ووقتُها بعد فِعْلِ العِشاءِ (¬3). وهي عِشرونَ رَكعةً (¬4)، بعشرِ تَسليماتٍ، ولِأهْلِ المدينةِ سِتٌّ وثلاثونَ رَكعةً، لا لغَيْرِهم. وفعلُها جماعةً أفضلُ (¬5). ¬
ومنهم مَن يختارُ الانفرادَ (¬1). ومنهم مَن قال: إنْ كانَ لا يَحفظُ القرآنَ أو يَخافُ التوانِيَ فالجماعةُ (¬2). * * * ¬
باب تحية المسجد
باب تحية المسجد وهي مَسنونةٌ إلا في ثلاثةِ أحوالٍ (¬1): 1 - أحدُها: الخطيبُ إذَا خرجَ للخُطبةِ لا تُستحبُّ له (¬2) التحيةُ. 2 - الثانيةُ (¬3): إذا دَخلَ والإمامُ في المكتوبةِ. 3 - الثالثةُ (¬4): إذا دَخلَ المسجدَ الحرامَ فلا يَشتغِلُ بِها عن الطوافِ. وذكَرَ المَحامِلِيُّ (¬5) أنَّها مَكروهةٌ (¬6) في الحالَتَينِ الأخِيرَتَينِ، ولَمْ يَذْكُرِ الأُولى، لكنْ صلاةُ المكتوبةِ تُؤَدَّى بِها التحيةُ، والطوافُ تحيةُ المسجدِ ¬
الحرَامِ. وتَرَكَ أُخرى، وهي ما إذا دَخلَ في آخِرِ الخُطبةِ، بحيثُ لو اشتغَلَ بالتحيةِ فاتَهُ أَوَّلُ الجُمعةِ مع الإمامِ، ويقاسُ بذلك بقيةُ (¬1) المكتوباتِ. ولو تكررَ يُستحبُّ لكلِّ مرةٍ ولو في الساعةِ، وقالَ المَحامِلِيُّ: يُجزئُه (¬2) مرةٌ (¬3). * * * ¬
باب صلاة التوبة والاستخارة والحاجة وعند القتل
باب صلاة التوبة والاستخارة والحاجة وعند القتل * وَرَدَ في صلاةِ التوبةِ (¬1) عن عليِّ بنِ أبي طالبٍ -رضي اللَّه عنه- قَال: حدَّثَنِي أبو بَكْرٍ، وصدَقَ أبو بكرٍ أنه (¬2) قالَ: سمعتُ رسولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- يقولُ: "مَا مِنْ عَبْدٍ يُذْنِبُ ذَنْبًا، فَيُحْسِنُ الطُّهورَ، ثُمَّ يَقُومُ فَيُصَلِّي رَكعَتَيْنِ، ثُمَّ يَسْتَغْفِرُ اللَّهَ عز وجل، إلَّا غَفَرَ اللَّهُ لَهُ" (¬3). ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
أخرجَه أصحابُ السُّننِ. وقال (¬1) الترمذيُّ: حديثٌ حسنٌ (¬2) * * * * وجاءَ في صلاةِ الاستخارةِ (¬3): عن جابرِ بنِ عبدِ اللَّهِ -رضي اللَّه عنهما- قالَ: كانَ رسولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- يُعلِّمُنا الاستخارةَ في الأمورِ كما يُعلِّمُنا السُّورةَ مِنَ القرآنِ يقولُ: "إذَا هَمَّ أحدُكُمْ بالأَمْرِ، فلْيَركعْ رَكْعَتَينِ مِنْ غَيرِ الفَريضةِ، ثُم يقُول (¬4): اللهُمَّ إنِّي (¬5) أَستخيرُكَ بعِلْمِكَ، وأستقدرُك بقُدرتِكَ، وأَسألُكَ مِن فضْلِكَ العَظِيمِ، فإنَّكَ تَقْدِرُ ولا أَقْدِرُ، وتَعْلَمُ ولا أَعْلَمُ، وَأَنْتَ عَلَّامُ الغُيوبِ، اللهمَّ ¬
إنْ كنتَ تَعلمُ أنَّ هذا الأمرَ خيرٌ لي في دِيني، ومَعاشِي، وعَاقِبةِ أَمرِي، أو قالَ: في عاجِلِ أمرِي وآجِلِه (¬1)، [فاقْدُرْهُ لِي، ويَسِّرْهُ لِي، ثُم بَارِكْ لِي فِيه، وإنْ كُنتَ تَعلمُ أنَّ هذَا الأمرَ شَرٌّ لِي في ديِني ومِعاشِي، وعاقبةِ أمرِي، أوْ قالَ: في عَاجلِ أَمْرِي وآجِلِه] (¬2)، فاصرِفْهُ عَنِّي، واصرِفْنِي عنهُ، واقْدُرْ لِي الخَيرَ حيثُ كانَ، ثُم أرضنِي. . قال: ويسمي حاجتهُ". رواهُ البخاريُّ (¬3). ولِأَبِي أيوبَ حديث (¬4) في استخارةِ التزويجِ (¬5). * * * * وأمَّا صلاةُ الحاجةِ: فعنْ عبدِ اللَّه بْنِ أَبي أَوْفَى قال: قالَ رسولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: ¬
"مَنْ كانتْ له حاجةٌ إلى اللَّهِ تعالَى، أوْ إلَى أحدٍ مِن بني آدمَ، فلْيتوضَّأْ، ولْيحسِنِ الوُضوءَ، ثُم لْيُصَلِّ ركعتَينِ، ثُم لْيُثْنِ (¬1) على اللَّهِ تعالى ولْيصلِّ علَى النبيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- ثُم لْيَقُلْ: لا إلَهَ إلا اللَّهُ الحليمُ الكريمُ، سبحانَ اللَّه (¬2) رب العرشِ العظيمِ، الحمدُ للَّه ربِّ العالمينَ، اللهُم إني (¬3) أسألُك مُوجِباتِ رَحمتِك، وعَزائمَ مغفرتِك، والغنيمةَ مِن كلِّ بِرٍّ، والسلامةَ مِن كلِّ إثمٍ، لا تَدَعْ لِي ذَنْبًا إلا غفرتَه، ولا همًّا إلا فرَّجْتَه، ولا حاجةً هي لكَ رضًا إلَّا قَضَيتَها يا أرحمَ الراحمِينَ". رواه الترمذيُّ وابنُ ماجه، وفِي إسنادِهِ ضعفٌ (¬4). * وأمَّا الركعتانِ عند القتلِ: ففيهما حديثُ خُبيبٍ في "الصحيحينِ" (¬5) وهو أولُ مَن سَنَّ الركعتينِ عِند القتلِ. * * * ¬
باب الصلاة عند الإحرام والرجوع من السفر وبعد الوضوء
باب الصلاة عند (¬1) الإحرام والرجوع من السفر وبعد الوضوء أما الأوَّلانِ (¬2) فقد صَحَّ عنِ النبيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- فِعْلُهُما (¬3). ¬
وقالَ (¬1) النبيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- لِبلالٍ: "بمَ سبقتَنِي إلى الجَنةِ؟ ما دخلتُ الجنةَ (¬2) قطُّ إلا سمعتُ خشْخَشَتَك أَمامِي" فقال بلالٌ: ما أحدثتُ إلا توضأتُ وصلَّيتُ ركعتَين، فقال رسولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "بِهذَا" (¬3). حديثٌ صحيحٌ. وفِي الصحيحَينِ له شاهدٌ مِن حديثِ أبي هُريرةَ (¬4). ¬
ويُستحبُّ عَقِبَ الوُضوءِ الْمُجَدَّدِ (¬1). وهلْ يُجزِئُ في الغُسلِ والتيممِ؟ لَم أَرَ مَن تعرَّضَ لَه، والقياسُ: الاستحبابُ. * * * ¬
باب صلاة التسبيح
باب صلاة التسبيح عنِ ابنِ عباسٍ -رضي اللَّه عنهما- أنَّ النبيَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- قالَ للعباسِ: "يا عباسُ، يا عَمَّاهُ (¬1)، ألا أُعطيك، ألا أمنحُك، ألا أحبُوك، ألا أفعلُ لكَ عَشرَ خِصالٍ، إذا أَنْتَ فَعلتَ ذلكَ غَفَرَ اللَّهُ لكَ ذَنْبَك أولَهُ وآخِرَهُ قديمَهُ وجديدَهُ (¬2) خطأَهُ وعمدَهُ صغيرَهُ وكبيرَهُ، سرَّهُ وعلانيتَهُ: أَنْ تُصلِّيَ أَربعَ ركعاتٍ تقرأُ في كُلِّ ركعةٍ فاتحةَ الكتابِ وسُورةً، فإذَا فرغتَ مِنَ القراءةِ في (¬3) أولِ ركعةٍ وأنْتَ قائمٌ (¬4)، قُلتَ: سُبحانَ اللَّهِ والحمدُ للَّهِ ولا إلَه إلَّا اللَّهُ، واللَّهُ أكبرُ خَمْسَ عَشرةَ مرةً، ثُم تَركعُ فتقُولُها وأنْتَ راكع عَشرًا، ثُم تَرفعُ (¬5) رأسَك مِنَ الرُّكوعِ فتقُولُها عَشرًا، ثُم تَهوِي ساجدًا فتقولُها وأنْتَ ساجد عَشرًا، ثُم ترفعُ رأسَك من السُّجودِ فتقُولُها عَشرًا، ثُم تسجُدُ (¬6)، فتقُولُها عَشرًا، ثُم ترفعُ رأسَك، فتقولُها -وأنتَ جالسٌ- عَشرًا، فذلكَ خمسٌ وسبعونَ في كُلِّ ركعةٍ (¬7) تفعلُ ذلكَ، في أَربعِ ¬
ركعاتٍ، إنِ استطعتَ أَنْ (¬1) تُصلِّيَها في كُلِّ يومٍ مرةً فافعلْ، فإنْ لَم تفعلْ ففِي كُلِّ (¬2) جُمُعةٍ مرةً، فإنْ لمْ تفعلْ ففِي كُلِّ شهرٍ (¬3) مرةً، فإنْ لَم تَفعلْ ففِي كُلِّ سَنةٍ مرةً، فإن لَم تَفعلْ ففِي عُمُرِك مرةً". رواه أبو داودَ وابنُ ماجه بإسنادٍ صحيحٍ، وابنُ خزيمةَ في "صحيحه" (¬4). ¬
ورواه الطبرانيُّ في "المعجم" (¬1) وفِي آخِرِه: "فلو (¬2) كانتْ ذُنوبُك مِثلَ زَبدِ البَحرِ أوْ رَملِ عالجٍ (¬3) غَفرَ اللَّهُ لَك". وجاءتْ فيها أحاديثُ يَعْضُدُ بعضُها بعضًا، فهي سنةٌ يُندبُ العملُ بِها. واللَّهُ سبحانه وتعالى أعلمُ. * * * ¬
باب قضاء السنن
باب قضاء السنن (¬1) وما كانَ مِنها ذو سببٍ لا يُقضَى، كالخُسوفَينِ، والاستسقاءِ، والتحيَّةِ (¬2). وقال ابنُ عَبدان: مَن نَسِيَ التحيةَ وجَلسَ فذَكَرَ بَعْدَ ساعةٍ صلَّاها، ويؤيدُه حديثُ الداخل يومَ الجُمعةِ، والنبيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- يَخْطُبُ، وقدْ قالَ له بعد ما جَلسَ مِن غَيرِ صلاةٍ (¬3): "قُم فاركعْ رَكعتَين" (¬4). والجاهلُ والناسي يستويانِ غَالبًا. ومما (¬5) لا يُقضى: ركعتَا (¬6) الإحرامِ، والرجوعِ مِن السَّفرِ، والطُّهورِ، وصلاةُ التوبةِ ونحوِهَا. ¬
وأما السُّننُ المؤقَّتةُ فإنها تُقضَى حتَّى العيدُ على الأصحِّ (¬1)، ولا يَخْتصُّ القضاءُ بزمانٍ على الأصحِّ. وفِي قولٍ: يقْضَى فائت (¬2) النهارِ ما لَم تَغْرُبْ شمسُهُ، وفائِت (¬3) الليلِ ما لَم يَطلُعْ فَجْرُه. وفِي آخَرَ: يُصلِّي كلَّ تابعٍ ما لَمْ يُصَلِّ (¬4) فريضةً مُستقبَلةً، وقيل: ما لمْ يَدخلْ وقتُها. * * * * ضابطٌ: ليس لنا قضاءٌ يتوقتُ إلَّا فِي ثلاثٍ: هُنا على الآراءِ الضعيفةِ المتقدِّمةِ. * وفِي الرَّمْي علَى رأيٍ ضعيفٍ لا يُقْضَى باللَّيلِ. * وفِي كَفارةِ المُظاهِرِ إذا جامعَ قبلَ التكفيرِ صارتْ قضاءً؛ نصَّ عليه، ويجبُ (¬5) أن يُوقِعَ القضاءَ قَبْلَ جِماعٍ آخَرَ، وهذه مَجزُومٌ بها. ومما يُضافُ إلى ذلك: قضاءُ الحجِّ، وقضاءُ الصَّومِ، والثلاثةُ في نظيرِ (¬6) ¬
ما شُرِعَ للأَداءِ (¬1)، ففِي الظِّهارِ قَبْلَ جِماعِها، وفِي الصَّومِ نهارًا، وفِي الحجِّ في أشهُرِه. وَيَزْدادُ قضاءُ رمضانَ توقيتُهُ بما قَبْلَ شعبانَ عندَ الإمكانِ. واللَّهُ سبحانه وتعالى أعلمُ. * * * ¬
باب السجود
باب السجود * والسجودُ خمسةٌ (¬1): (1) سجودُ (¬2) صُلْبِ الصلاةِ. (2) والسجودُ الذي يَلْزَمُ المأمومَ تَبَعًا للإمامِ. (3) وسجودُ التلاوةِ. (4) والشكرِ. (5) والسهوِ. والمقصودُ الثلاثةُ الأخيرةُ: * فأما (¬3) سجودُ التلاوةِ (¬4): ففِي أربعةَ عَشرَ مَوضِعًا ليس منها (¬5) {ص}، وسجدتانِ في الحجِّ (¬6)، وسجدةُ {ص} سجدةُ شُكرٍ (¬7)، فإنْ قرَأَها في ¬
الصلاةِ لمْ يَسجدْ، فإنْ فَعلَ (¬1) عامِدًا عالِمًا بالتحريمِ بَطَلَتْ صلاتُه. وفِي غيرِ الصلاةِ يُستحبُّ أن يسجدَ شُكرًا لصحةِ السُّجودِ فيها عنِ النبيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- (¬2)، وتُستحبُّ سَجدَاتُ التلاوةِ للقارئِ، والمستمِعِ، والسامِعِ. ويُعتبرُ في صحتِها خارجَ الصلاةِ سِوَى ما سبقَ خمسةُ أشياءَ: 1 - كونُها عَقِبَ (¬3) القراءةِ. 2 - والنيةُ. 3 - وتكبيرةُ الافتتاحِ. 4 - والسجودُ. 5 - والسلامُ. ¬
والباقي: مِن رفْعِ اليدينِ، وتكبيرةِ الهُوِيِّ، والذِّكرِ في السجودِ، والتكبيرِ عند الرفعِ منه (¬1)، والتسليمةِ الثانيةِ؛ كلُّه مستحبٌّ. * * * * وأما سجودُ الشكرِ: فسُنَّةٌ عند تجدُّدِ نعمةٍ، أو اندفاعِ نقمةٍ، ولرؤيةِ مبتلًى سرًّا، وفاسقٍ ظاهرًا، ولا يكونُ إلَّا خارجَ الصلاةِ. * * * * وأما سجودُ السَّهوِ (¬2): فلا يكونُ إلَّا في آخِرِ الصلاةِ، وهو (¬3) سجدتانِ قُبيل (¬4) السلامِ (¬5). فيُشرَعُ لأحدِ (¬6) خَمسةِ أشياءَ: 1 - لِتَرْكِ مأمورٍ مِن الأبعاضِ. 2 - أوِ ارتكابِ مَنهيٍّ. 3 - أو الشكِّ في ترْكِ مأمورٍ مُعيَّنٍ. ¬
4 - أو الشكِّ في الزيادةِ. 5 - أو تَبَعِيَّتِهِ للإمامِ (¬1). الأبعاضُ سِتةٌ تَقدمتْ. وأما المَنهيُّ فما أَبطلَ عَمْدُهُ الصلاةَ اقتضَى سهوُه السجودَ (¬2)، إن لمْ تَبطل الصلاةُ بسَهْوِه، وما لا يُبْطِل عَمْدُهُ الصلاةَ (¬3) لا يَقتضِي سهوُهُ سجودًا، إلا فيما إذَا نَقلَ رُكنًا قوليًّا عن موضعِه، كالفاتحةِ، فإنه لا يُبْطلُ عَمْدُهُ، وإذا سَهى به سَجدَ. وذكَرَ المَحامِلِيُّ مما يسجُد لسببِه (¬4): أَنْ تُحَوِّلَ الدابةُ أو الريحُ وجهَهُ عن القِبلةِ. والمعروفُ في الدابةِ في المتنفِّلِ إذا انحرفَ عن صَوبِ الطريقِ إلى غيرِ القِبلةِ لِجِماحِ الدابةِ وَقَصُرَ الزَّمَانُ أنَّهُ يسْجُدُ (¬5) للسهوِ، وإنْ طالَ بَطَلَتْ. * * * ¬
ولا يتكررُ سجودُ السهوِ إلا في عَشرِ مَسائلَ (¬1): 1 - المسبوقُ يسجدُ مع إمامِهِ ثم يعيدُ في آخِرِ صلاةِ نفسِهِ. 2 - وَمَنْ سجدَ للسهوِ ثم سَهَى ثانيًا علي وجهٍ ضعيفٍ (¬2). 3 - وكذلك إذا سهَا في سجودِ السهوِ بأنْ ظَنَّ سهوًا فسجَدَ، ثم بَانَ أنه لمْ يَسْهُ على أرجحِ الوجهَينِ. 4 - وإذَا سجدُوا للسهوِ في الجُمعةِ، وخرجَ الوقتُ (¬3) يُتِمُّونَها ظُهرًا، ويُعيدُونَ السجودَ (¬4). 5 - وكذلك لو انفضوا قَبْلَ السلام (¬5) على الأصحِّ. 6 - ومِن ذلك المسافرُ إذا سجدَ للسهوِ (¬6) ثم نَوى الإتْمامَ قبْلَ السلامِ (¬7). 7 - أو نوى الإقامةَ. ¬
8 - أوْ وَصَلَتْ به السفينةُ دارَ الإقامةِ (¬1). 9 - أو خرجَ الوقتُ قبْلَ السلامِ (¬2) علي رأيٍ ضعيفٍ (¬3). 10 - أو سجدَ المسافرُ لسهوِه ثُم منعَه مِن السفرِ قَبْلَ السلامِ مَن له مَنْعُهُ مِن: زوجٍ، وسيدٍ، ووالدٍ وغريمٍ (¬4). ذَكَرَ المحامليُّ ذلك كلَّه (¬5)، ولو اقتصرَ علَى ما يقتضِي في الجُمعةِ صَيرورتَها ظُهرًا، أو ما (¬6) يقتضِي إتْمامَ صلاةِ المُسافرِ قلَّ (¬7) العددُ، وَتَرْكِ ما إذا كان المسبوقُ خليفةً، ثم (¬8) سَها، فيسجدُ موضعَ سجودِ إمامِه ثم في آخِرِ صلاةِ نفسِه، وصُورَةٌ (¬9) أُخرى في المسبوقِ على وجهٍ ضعيفٍ. * * * ¬
* فائدة: يَلزمُ المأمومَ بحقِّ التبعيةِ للإمامِ أربعةَ عشرَ شيئًا (¬1): 1 - 2 - الاعتدالُ إذا أَدركَ الإمامَ فيهِ، والسجودُ حينئذٍ. 3 - والجلوسُ بين السجدتَينِ. 4 - والسجدةُ بَعده. 5، 6 - والقيامُ والقعودُ للتشهدِ الأولِ. 7 - والقعودُ للتشهدِ الأخيرِ (¬2) في حقِّ الإمامِ. 8 - والقيامُ للقُنوتِ. 9 - وسجودُ السهوِ. 10 - وسجودُ التلاوةِ. 11 - والإِتْمامُ إذا اقتدَى بِمُتِمٍّ. ¬
12 - 13 - وعَدَّ المَحامِلِيُّ مِن ذلك الإتيان (¬1) بالتشهدِ الأَولِ والآخرِ (¬2) للإمامِ. 14 - والقنوتُ في الركعةِ الأُولى، وليس ذلك بلازمٍ، بل هو سُنةٌ. * * * ويَسقطُ عنِ المأمومِ بحقِّ الائْتِمامِ سَبعةٌ (¬3): 1 - القيامُ. 2 - والقراءةُ إذا أَدركَ الإِمامَ فِي الركوعِ. 3 - والجهرُ في صلاةِ الجهرِ. 4 - والسورةُ للسامعِ. 5 - والقنوتُ، بل يؤمِّنُ في الدعاءِ، ويوافقُ في الثناءِ. 6 - والتشهدُ الأولُ، وقعودُه (¬4) إذا تركَه الإمامُ. 7 - وكذلك سجودُ السهوِ، قاله المَحامِلِيُّ (¬5)، والأظهرُ أنه يسجدُ. * * * ¬
ولْنَخْتِمْ كلامَنا في الصلاةِ بثلاثةِ أشياءَ: كتاب الصلاة 1 - السواكُ وفوائدُهُ. 2 - وما يحرُمُ لُبسُه وما لا يحرُمُ. 3 - وبقيةُ ما يتعلقُ بالميتِ مِن غُسْلِهِ وتكفينِه ودفنِه، وغيرِ ذلك (¬1) * * * ¬
فصل
فصل السِّواكُ مستحبٌّ مُطْلَقًا، وَيَتَأكَّدُ عند (¬1): الوُضوءِ. والصلاةِ. وقراءةِ القرآنِ. وتغيُّرِ الفَمِ. ولا يُكرَه إلَّا (¬2) للصائمِ بعد الزوالِ (¬3)، والمختارُ لا يُكرَه مُطْلَقًا. وإنِ استاكَ بِخَشِنٍ من خِرْقةٍ أو أُصْبعِ غيرِهِ جازَ، قيلَ: أو أُصْبعِ نفْسِه وَرُجِّحَ (¬4). * * * ¬
* وفِي السِّواك ثلاثَ (¬1) عشرةَ فائدةً: 1 - يُطهِّرُ الفمَ. 2 - ويُرضِي الربَّ عز وجل. 3 - ويُبيضُ الأسنانَ. 4 - ويطيبُ النكهةَ. 5 - ويَشُدُّ اللِّثَةَ. 6 - ويُصَفِّي الحلقَ. 7 - ويُجْرِي اللسانَ. 8 - وَيُذَكِّي الفِطنةَ. 9 - وَيَقْطعُ الرُّطوبةَ. 10 - وَيُحِدُّ البصرَ. 11 - ويُبطئُ الشيبَ. 12 - ويُسوِّي الظَّهْرَ. 13 - ويُضاعَفُ به الأجرُ؛ كذا ذكَرَهُ المَحامِليُّ. وقد ذَكَرْتُ له فوائدَ كثيرةً في "العَرْف الشَّذِي علي جامِعِ التِّرْمذيِّ" (¬2) ¬
ومنها: أنه يسهِّلُ النزعَ. ويُذَكِّرُ الشهادةَ عند المَوتِ. * * * ¬
فصل
فصل لُبْسُ الحَريرِ واستعمالُهُ لِجُلوسٍ (¬1) ونحوِه حرامٌ علي الرِّجالِ والخَنَاثى، دُونَ النِّساءِ. وللوليِّ إلباسُ الطفلِ منه. وما أكثرُهُ حريرٌ وَزْنَا كالحَريرِ، ويجوزُ المِطْرفُ والمُطرَّزُ المُعتادُ. ويحرُمُ علي الرَّجُلِ لُبسُ المَنْسُوجِ بالذَّهبِ والفِضةِ والمُمَوَّهِ إلا أَنْ يكونَ قد صَدِئ. ويجوزُ للرَّجُلِ لُبْسُ الحَريرِ في مواضعِ الضرورةِ، كما إذا فاجأَتْه الحربُ، ولم يجِد غيرَه. وكذا يجوزُ أن يَلْبَسَ منه ما هو وِقايةٌ للقِتالِ كالدِّيباجِ الصَّفِيقِ الذي لا يقومُ غيرُهُ مقامَهُ (¬2). ومِن مواضعِ الضرورةِ: الاحتياجُ لِحَرٍّ أوْ بَرْدٍ. ويجوزُ للحاجةِ كالجَرِب، ولِدَفْعِ القُمَّلِ في السَّفَرِ، وكذا الحضرِ علي الأصحِّ. ¬
ويجوزُ شَدُّ السِّنِّ بالذهبِ، واتخاذُ أَنْفِ الأجْدَعِ، والأُنْمُلةِ مِنْ فِضَّةٍ، أو ذهبٍ (¬1). ويجوزُ أن يُلْبِسَ دابتَه الجلدَ النجسَ سِوى جلدِ الكلبِ والخِنزيرِ ويُجلِّلَهما (¬2) به (¬3). * * * ¬
فصل
فصل لِيُكْثِرْ كلُّ أَحدٍ ذكرَ الموتِ، ويستعدَّ له بالتوبةِ، وَرَدِّ المَظالِمِ، والمريضُ أَوْلى بذلك. ويُوَجَّهُ المحتضَرُ إلى (¬1) القِبلةِ علي جَنبِه الأيمنِ، فإنْ تَعَذَّرَ لِضِيقٍ أوْ عِلَّةٍ أُلْقِيَ علي قَفاهُ، وجُعِلَ وجهُهُ وأَخْمصَاه إلى القِبلةِ (¬2). ويُلقَّنُ الشهادةَ بِلَا إِلْحَاحٍ (¬3). وتُتْلى عليه سورةُ يس (¬4). ¬
وليكن هو (¬1) في لمسِه حَسَنَ الظنِّ باللَّهِ تعالى. وإذَا ماتَ غُمِّضَ عَيْناه، وشُدَّ لَحْياه بعِصَابةٍ عَريضةٍ، وتُلَيَّنُ مَفاصلُه (¬2). وتُنزَعُ عنه ثِيابُه التي (¬3) ماتَ فيها، ويُسْتُرُ جميعُ بدَنِه بثَوبٍ خَفيفٍ، ويُوضَعُ علي بَطنِه شيءٌ ثقيلٌ كمِرآةٍ، فإنْ لمْ يكنْ فَطِينٌ رطبٌ، ويوضَعُ علي شيءٍ مُرْتفعٍ (¬4). ويستقبل (¬5) القبلة، كالمحتضَر، ويَتولَّى ذلك أرفقُ محارمِهِ بِرِفق، ويُبَادَرُ إلى غُسْلِه، وتجهيزِه، ودفنِه (¬6)، وغُسْلُ الميتِ المسْلِمِ -وإن غَرِق- فَرضٌ. * * * ¬
وغُسْلُه (¬1) يشتملُ علي فرضٍ وسُنةٍ وأدبٍ وشَرْطٍ ومكروهٍ (¬2). * فالفرضُ: استيعابُ البدَنِ مرةً بالغُسْل شَعَرًا وَبَشَرًا. ويجبُ تخليلُ الشُّعورِ، وإن كَثفتْ (¬3). ونيةُ الغاسِلِ علي وجهٍ مرجوحٍ (¬4). * * * * وسُنَنُه: تقديمُ الوُضوءِ، ولْيقدِّمْ عليه الاستنجاءَ. ثُمَّ بعد الوُضوءِ يَغْسِلُ رأسَهُ ولِحيتَه بماءٍ وسِدْرٍ، ويُسَرحُهما بِمُشْط واسعِ الأسنانِ ويَرُدُّ المُنْتَتَفَ إليه (¬5). ثُم يَغسلُ الأيمنَ ثم الأيسرَ مما يلي الوجهَ، ثم (¬6) الأيمنَ ثم الأيسرَ مما يلِي القَفا. ¬
ثُم يَصبُّ عليه الماءَ بقليلِ كافورٍ مِن رأسِه إلى قَدَمِه، ويُسَنُّ ثلاثًا، فإنْ لمْ تحصلِ النظافةُ زادَ، ويُستحبُّ الإيتارُ، ويُلَيِّنُ (¬1) مَفاصلِه ويُنشفُه، ويتعهدُ الغاسلُ مسحَ البطنِ برفقٍ. * * * * وأَدَبُه: أن يُحْملَ الميتُ إلى موضعٍ خالٍ مستورٍ لا (¬2) يدخلُه إلا الغاسلُ ومعينُه والوليُّ. ويُوضعُ علي سَريرٍ ونحوِه. ويكونُ رأسُه أعلى، ويُغَسَّلُ (¬3) في قميصٍ بالٍ واسعِ الكُمِّ، أو فَتِيقٍ (¬4). فإن (¬5) لمْ يُوجدْ سَتَر ما بين السُّرةِ والركبةِ. ويُعِدُّ الغاسلُ خِرقتَينِ نظيفتَين (¬6). ويتخذُ إناءَينِ يغترفُ مِن أحدِهما وهو (¬7) الذي يُبعدُه فيَصبُّ في الإناءِ ¬
الذي يلِي الميتَ (¬1). ويُجْلسُه إجلاسًا رفيقًا مائلًا إلى ورائِه. ويضعُ يدَه اليُمنى علي كتفِه وإبهامَه في نقرةِ قَفَاهُ، ويُسنِدُ ظَهرَه علي رُكبتِه اليُمنى، ويُمِرُّ يدَه علي بطنِه ليُخرِجَ الفَضَلاتِ (¬2). * * * * وشَرْطُه: الماءُ الطَّهورُ. وتقديمُ غَسْلِ ما عليه مِنْ نجاسةٍ؛ هكذا جزموا به. وقياسُ مَن اكتفى بالغَسلةِ الواحدةِ لهما في الحي أَنْ يأتِيَ هُنا إلَّا أَنْ يُفَرَّق (¬3) بالتعبُّدِ. وأن لا يكونَ شهيدًا (¬4). * * * ¬
* والمكروهُ: الإسرافُ في الماءِ لِغيرِ حاجةٍ، ويجيءُ فيه التحريمُ كما سبَقَ. * * * * والكفنُ يَشتملُ علي فرضٍ وسُنةٍ وحرامٍ ومكروهٍ. - فالفرضُ (¬1): ما يَسترُ العورةَ. - والسُّنةُ: ثلاثةُ أثوابٍ للذَّكَرِ، ولِغَيرِه خَمسٌ (¬2)، والحَنوطُ ليس بفرضٍ علي أظْهَرِ القَولَينِ (¬3). - والحرامُ: التكفينُ بالمغصوبِ، وكذلك الحريرُ للرَّجلِ والخُنثى كما سَبق (¬4). - والمكروهُ: تكفينُهُما بالمُزَعْفَرِ والمُعَصْفَرِ، والمُغالاةُ فيه. والبياضُ أَولى مِن غيرِه. وأَولاهُم بغُسْله -إنْ كان رجلًا- أَولاهُم بالصلاةِ عليه (¬5). ¬
وليس للرجُلِ غُسْلُ المرأةِ إلا في ثلاثةِ مواضعَ: (1) زوجتُهُ غيرَ الرجعيَّة. (2) ومَحْرَمُهُ. (3) وأمتُهُ غيرَ المزوجَةِ والمعتدَّة. والنِّساءُ أَولى بغُسْلِ المرأةِ. ويُقدَّمُ في الصلاةِ الأبُ، ثم الجَدُّ، وإنْ عَلَا، ثم الابنُ، ثُم ابنُه، ثُم الأخُ الشَّقِيقُ، ثُم الأخُ للأبِ، ثم بَنُوهما كذا، ثم العَمُّ، وبَنُوه كذا، ثم ذو الولاءِ بِتَرتِيبِهم (¬1)، ثُم الجَدُّ لِلأُمِّ، ثم الأخُ لِلأُمِّ، ثم الخَالُ، ثم العَمُّ لِلْأُمِّ، ثم الوَصيُّ بالصلاةِ. ومَنْ تقدَّمَ بغيرِ إِذْنِ الأولياءِ أساءَ، وأجزأتْ، ويجوزُ أن يُصَلَّى علي جنائزَ دَفعةً وَاحدةً (¬2)، وأَولاهُم بالدَّفنِ أَولاهُم بالصَّلاةِ، إلَّا أَنْ تكونَ امرأةً مُزوَّجةً فأَولاهُم الزوجُ (¬3). * * * ويُستحبُّ للقُبورِ ثلاثةُ أشياءَ: اللَّبِنُ والقَصَبُ والحَشيشُ. وتُكرهُ ثلاثةُ أشياءَ: الآجَرُّ، والجِصُّ، والنُّورَة. ¬
ويُستحبُّ لِجيرانِ الميتِ مِن أقاربِه (¬1) والأباعدِ أن يَصنعُوا طَعامًا لِأهلِ الميتِ (¬2). واللَّهُ أعلمُ. * * * ¬
كتاب الزكاة
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ كتاب الزكاة هي لُغةً: النَّماءُ. وشرعًا: ما يُخْرجُ مِن أموالٍ مخصوصةٍ لِمستحقِّينَ مخصوصِينَ على وجهٍ مخصوصٍ؛ قال اللَّهُ تعالى: {وَآتُوا الزَّكَاةَ} وقال تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا}. وهيَ أحدُ أركانِ الإسلامِ. والأموالُ التِي يجبُ إخراجُها في حقِّ اللَّهِ عز وجل سبعةٌ (¬1): (1) الزَّكاةُ. ¬
(2) وحقُّ الرِّكازِ. (3) والمَعْدِنُ. (4) والكَفَّارةُ. (5) والفِدْيةُ. (6) والفَيءُ. (7) والغَنيمةُ؛ كذا قال المَحامِلِيُّ (¬1)؛ لكنْ (¬2) حقُّ الرِّكازِ والمَعْدِنِ معددٌ مِنَ الزكاةِ. فأما الزكاةُ فإنَّما (¬3) تجبُ في سبعةِ أشياءَ (¬4): النَّعَمُ، والنَّاضُّ (¬5)، والمَعْدِنُ، والرِّكازُ، والمسْتَنْبَتُ (¬6) ومالُ التجارةِ، والرؤوسُ، وهي زكاةُ الفِطْرِ (¬7). * * * ¬
وتجبُ الزكاةُ بأربعةِ شرائطَ: (1) الحريةُ، ولو بعضًا على الأصحِّ. (2) والإسلامُ، إلا فيمَنْ تجبُ عليه زكاةُ الفِطْرِ لعَبْدِه وقريبِه (¬1) المسلمَيْنِ، فإنه يخاطَبُ بالإخراجِ، وفِي غير ذلك يَتَوَجَّه إليه الوجوبُ فقط، ولا يُطَالَبُ بعْدَ الإسلامِ بما مَضَى كما في الصلاةِ والصومِ، وفِي المُرتدِّ يُوقفُ الوجوبُ كَمِلْكِهِ. (3) والحَولُ إلا فيما يُستثنى. (4) وتمَامُ المِلْكِ وتعيُّنُ المالكِ (¬2). فلا تجبُ على جَنينٍ، ولا في مالِ بيتِ المالِ، والمسجدِ. * * * وأضافَ المحامِلِيُّ (¬3) إلى ذلك: (1) النِّصَابَ، وهذا سببٌ. (2) والإمكانَ (¬4)، وهو شَرط للضَّمانِ (¬5) على الأصحِّ. ¬
(3) وأن لا يكونَ عليه دَينٌ مستغرِقٌ، وليس بشرطٍ على الأصحِّ (¬1). ولا يُعتَبَرُ الحَولُ في سبعةٍ (¬2): 1 - المُستنبَتاتُ. 2 - وحقُّ المعدِنِ. 3 - والرِّكازُ. 4 - وزكاة الفِطْرِ. 5 - والنِّتاجُ فيما إذا بقِيَ الأصلُ، وفيما إذا هلَكَ. 7 - والرِّبحُ المُزكَّى بحَولِ (¬3) الأصلِ ما لم يَنِضَّ. * * * ¬
باب زكاة النعم
باب زكاة النعم وهي الإبلُ، والبقرُ، والغنمُ، لا فِي الخيلِ والرقيقِ، لقولِهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لَيْسَ على المُسْلِمِ فِي عبده ولا فرسِهِ صَدَقةٌ إلا صَدَقةَ الفِطْرِ فِي الرَّقِيقِ" (¬1) حديثٌ صحيحٌ. * فأما الإبلُ: ففِي كلِّ (¬2) خمسٍ منها إلى عِشرينَ: شاةُ ضأنٍ، ذو سَنَةٍ، أو مَعْزٍ ذُو سنَتَينِ، ¬
كما فِي الغَنَم صحيح، وإن كانتِ الإبلُ مِرَاضًا كلُّها (¬1)، لكن بالنظرِ إلى القِيمةِ، ولا يُخرَجُ صحيح عن مِرَاض كلِّها إلا فِي هذه. وإنْ أَخْرجَ عنِ العِشرينَ بَعِيرَ زكاةٍ قُبِل منه. ثم فِي كُلِّ (¬2) خمسٍ وعشرينَ (¬3) بنتُ مخاضٍ (¬4)، وهي التي لها سَنَة، فإن لمْ تكنْ (¬5) سليمةً فولدُ لَبونٍ أو حِقٌّ. وفِي سِتٍّ وثلاثينَ بنتُ لَبونٍ، وهي التِي تمَّتْ لها سَنَتانِ (¬6). وفِي سِتٍّ وأربعينَ حِقَّة طروقةُ الفَحْلِ، وهي التي تمَّتْ لها ثلاثُ سنينَ (¬7). ¬
وفي (¬1) إحدى وستينَ جَذعةٌ، وهي التي تمَّتْ لها أربعُ سنينَ. وفِي سِتٍّ وسبعينَ بنتا (¬2) لَبونٍ. وفِي إحدى وتسعينَ حِقَّتانِ. وفِي مائةٍ وإحدى وعشرينَ ثلاثُ بناتِ لَبونٍ. وبعْدَ تِسْعٍ، ثم كلُّ عشرٍ يتغيرُ الواجبُ. ففِي كلِّ أربعينَ بنتُ لَبونٍ. وفِي كلِّ خَمسينَ حِقَّةٌ. * * * * وأمَّا البقرُ: ففِي ثلاثينَ تبيع وهو الذي له سنةٌ، وفِي (¬3) أربعينَ مُسِنةٌ وهي ما لها سنتانِ، وفِي ستينَ تبيعانِ، ثم فِي كل ثلاثينَ تبيعٌ، وفِي كل أربعينَ مسنةٌ. * وأما الغَنَمُ: ففِي أربعينَ: شاةٌ. وفِي مائةٍ وإحدى وعشرينَ شاتانِ. ¬
وفِي مائتينِ وواحدة: ثلاثُ شياهٍ. وفِي أربعمائة: أربعُ شياهٍ. ثم فِي كل مائةِ شاةٍ: شاةٌ (¬1). قال ابن القاصِّ (¬2) فِي "التلخيص" (¬3): وجدتُ صدقَةَ الغنمِ مُشتبهةً حتى تَبْلُغَ أربعَمِائةٍ، وكذلك صدقةُ الإبلِ مشتبهة حتى تبلغَ مائةً وإحدى وعشرينَ، فأحببْتُ أَنْ ألخِّصَ لها طَريقًا يَعْتدِلُ فِي النظرِ، ولا يَشْتَبِهُ علي المُتَحَفِّظِ (¬4): فأولُ نِصَابِ الغَنمِ أربعونَ، وفيه شاةٌ، ثم يُزَاد على النِّصَابِ واحدة، ثم لها (¬5) وَقْصانِ، كل وَقْصٍ نصابانَ، وذلك ثمانونَ، حتى إذا (¬6) زادَ وقْصٌ، ففيها شاتانِ، ثم إذا زادَ وقْصٌ آخَرُ، ففيها ثلاثُ شِياهٍ، ثم إذا زادَ بعدَ ذلكَ نِصَابٌ ووقْصانِ، وذلك مائتانِ استوى الحسابُ فيكونُ فِي كلِّ مائةٍ شاةٌ. ¬
وفِي هذا (¬1) الأخيرِ وَهْمٌ، فصوابُه أن يقالَ (¬2) بإسقاطِ الواحدةِ. وأولُ نِصابِ الإبلِ خمسٌ إلى عشرينَ، فإذا بلَغَتْ خمسًا وعشرينَ فهو أولُ نِصابٍ يجبُ فيه مِن الإبلِ، فيُزادُ عليه واحدٌ، كما زيد فِي الغَنَم، ثُم وَقْصانِ، كل وقْصٍ نصابانِ، وذلك عَشرةٌ، فإذَا زادَ وقْصٌ ففيها ابنةُ لَبُونٍ، ثم وقْصٌ آخرُ فحِقَّة، ثم يزاد (¬3) بعد ذلك ثلاثةُ أوقاصٍ، كلُّ وقْصٍ ثلاثةُ نُصُبٍ وذلك خمسةَ عشرَ، فإذا زادَ وقْصٌ آخَرُ ففيها جَذَعة، ثم آخَرُ فابنتا لَبُونٍ، ثُم (¬4) آخَرُ فحِقَّتانِ، ثم إذَا زَادَ لعد ذلك نصابٌ ووقْصانِ أولُ وآخرُ وذلكَ ثلاثونَ، فيكونُ فِي كلِّ أربعينَ بنتُ لَبُون، وفِي كلِّ (¬5) خمسينَ حِقَّةٌ. وفِي هذا الأخيرِ وهْمٌ، فلا (¬6) يَسْتَقِرُّ ما ذُكِرَ إلا بعدَ زيادةِ تسعٍ على مائةٍ وإحدى وعشرينَ. * * * ¬
* ولِوُجوبِ الزَّكاةِ فِي النَّعَم (¬1) أربعةُ شُروطٍ غير ما سبقَ: (1) السَّوْمُ. (2) وإسامةُ المالِك. (3) وبقاءُ النِّصابِ بِعَيْنِه على مِلْكِهِ كلَّ الحولِ. (4) وأن لا تكونَ عامِلةً كالنَّواضحِ. * ولا يُؤْخَذُ فِي شيءٍ مِنَ المَواشِي كلِّها (¬2) إلا الإناث، إلا فِي مواضعَ (¬3): أحدُها: إنْ لَم يجدْ بِنتَ مَخاضٍ فابنُ لَبونٍ أوْ حِقٌّ. والثاني: فِي ثلاثينَ بقرًا (¬4) تبيعٌ. والثالثُ: الشاةُ المُخْرَجةُ فيما دُونَ خمسٍ وعشرينَ يجوزُ أَنْ تكونَ ذَكَرًا. والرابعُ (¬5): البَعيرُ المُخْرَجُ عَمَّا دُونَ خَمسٍ وعِشرينَ. وفِي هذِه المواضعِ يجوزُ الذَّكَرُ وإنْ كانتِ المَواشِي كلُّها إناثًا. ¬
والخامسُ (¬1): إذَا كانتِ الماشيةُ ذُكورًا وكانَ الواجبُ أُنْثى: فإنَّه يجوزُ الذَّكَرُ على الأصحِّ بشرْطِ أَنْ يحترزَ السَّاعِي عنِ التسويةِ بيْنَ القَليلِ والكَثِيرِ. * * * وأمَّا النِّصابُ فيُعتبرُ إلَّا في خُلْطةِ الشُّيوعِ والجِوارِ (¬2)، فيُزَكَّيانِ زكاةَ الواحدِ بشروطٍ عَشرةٍ، ثلاثةٌ مُشْتَرَكةٌ بيْنَ الشُّيوعِ والجِوارِ، وهيَ: ¬
1 - أن يكونَ المجموعُ نصابًا فأكثرَ (¬1). 2 - وأن يكونَا (¬2) منْ أهلِ الزكاةِ (¬3). 3 - ودوام الخُلطةِ جميعَ الحَوْلِ (¬4). * * * * وتَخْتَصُّ خُلْطة الجِوارِ بسبعةِ شرائطَ: (1) اتحادُ المُرَاحِ، وهو مَأواها (¬5) ليلًا (¬6). (2) والمَشرَبِ. (3) والمَسْرحِ (¬7). (4) والمَرعَى (¬8). (5) والرَاعِي (¬9). ¬
(6) والفَحْلِ (¬1). (7) وموضعِ الحَلَبِ (¬2). ولا يُعتبر اتحادُ الإناءِ الذي يُحْلبُ فيه، ولا الحالبُ، ولا نِيَّة الخِلْطَةِ على الأصحِّ في الثلاثةِ (¬3)، وعلى مقابله تكونُ الجُملةُ عَشَرَةً. وتُؤَثِّرُ (¬4) الخلطةُ في غيرِ المواشِي على الأصحِّ بشرطِ الاتحادِ في الجَرِين (¬5)، والدُّكانِ، والحافظِ، ومكانِ الحِفْظ (¬6). وحينئذٍ فللساعِي أن يأخذَ مِن مالِ أيِّهما شاءَ، ثم يرجعُ الآخَرُ على خَليطِه. واللَّهُ تعالى أعلمُ. * * * ¬
باب زكاة الناض
باب زكاة الناض (¬1) لا زكاةَ في الذهبِ حتَّى يُبْلغَ عِشرينَ دينارًا (¬2). والواجبُ حينئذٍ نصفُ دينارٍ، وما زادَ فبحسابِه (¬3). ولا زكاةَ في الفِضةِ حتَّى تَبلُغَ مِائَتَي دِرهَمٍ خَالصةً (¬4)، وحينئذٍ فالواجبُ خمسةُ دراهمَ، وما زادَ فبِحسابِه، وهو رُبُعُ العُشرِ (¬5). ولِسهولَةِ التَّشْقِيصِ (¬6) في النَّقْدَيْنِ والمُعَشَرَاتِ لمْ يُعْتَبَرْ فيها إلَّا نصابٌ ¬
أول بخلافِ النَّعمِ؛ لأنَّ التَّشْقِيصَ (¬1) فيه يعظم ضررُهُ. والحُلِيُّ المحظورُ والمكروهُ تَجبُ فيه الزكاةُ، ولا تجبُ في المباحِ على أصحِّ القولَينِ. ومَبْلغُ الزكاةِ في غيرِ المَواشِي أربعةٌ: رُبُعُ العُشْرِ في النَّقدَينِ، ولو مِن المعدِنِ. نِصفُ (¬2) العُشْرِ فيما يُسقى بمُؤنةٍ. العُشرُ (¬3) فيما يُسقى بغيرِ مُؤنةٍ (¬4). الخُمُسُ (¬5) في الرِّكازِ. * * * ¬
باب المعدن
باب (¬1) المعدن (¬2) ولا شيءَ فيما يَخرجُ مِن مَعْدِنٍ (¬3) إلَّا الذهبَ والفضةَ (¬4). والواجبُ فيه رُبُعُ العُشرِ على أصح الأقوال (¬5)، والثاني: الخُمُسُ كالرِّكازِ، والثالثُ: إن حَصَلَ بغيرِ تَعَبٍ فكالرِّكازِ (¬6)، وإلا فَرُبُعُ العُشرِ (¬7). ويُعتبرُ فيه النِّصَابُ على أصحِّ القَولَينِ، لا الحولُ على الأصحِّ (¬8). ¬
وإذَا وَجَد دُونَ النِّصابِ ومعه ما يُكمِلُ به نِصابًا أَخرجَ عن الموجودِ مِنَ المعدِنِ حالًّا، وكذلك لو وَجَدَ دُونَ النِّصابِ، ثم انقطعَ العملُ بلا عُذرٍ، ثم وَجَدَ ما يُكمِلُ به نِصَابًا، فَيُخْرجُ عن الثاني فِي الحالِ (¬1). * * * ¬
باب الركاز
باب الركاز * ولا يَحِلُّ الرِّكازُ (¬1) إلَّا بشرطَينِ: أحدُهما: أن يكونَ مِن دَفينِ الجاهليَّةِ (¬2). والثاني: أن لا يكونَ في ملْكِ أَحدٍ، ولا في طريقِ مَيْتَاءَ (¬3)، ولا فِي قريةٍ مسكونةٍ؛ هكذا (¬4) قال المَحامِلِيُّ. وكلامُ غيرِه على أنَّه إنما يُسمَّى رِكَازًا بهذَينِ الشرطَينِ (¬5). وحينئذٍ فما يوجدُ بضربِ الإِسلامِ إن عُلِمَ مَالِكُهُ رُدَّ عليه (¬6)، وإن لمْ يُعلمْ ¬
فهو لُقَطَةٌ كالموجودِ في المسجدِ والشارعِ على الأصحِّ (¬1). ومَن وَجدَ رِكازًا في ملْكِ نفْسِه فهو له، أو فِي ملْكِ غيرِه فهو للمالكِ إنِ ادَّعاهُ، وإلا فَلِمَنْ تلَقَّى الملْكَ (¬2) عنه إلى أن ينتهيَ إلى المُحيي. وفِي "الصحيحين" (¬3) أن النَّبِيَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "في الرِّكازِ الخُمُسُ". وأصحُّ القولَينِ: أنَّ مَصْرِفَهُ مَصْرِف الزكاةِ (¬4). ولا يُشْترطُ فيه الحَولُ (¬5). ويُشترطُ فيه النِّصابُ (¬6). ويَخْتصُّ بالنَّقدَينِ على الأصحِّ (¬7). * * * ¬
باب زكاة المستنبت
باب زكاة المستنبت * وليس في شَيءٍ مِن المستَنبَتاتِ زكاةٌ إلا فِي ثلاثةٍ: (1) ثمرةُ النخْلِ. (2) والعِنَبِ. (3) وما يَصلُحُ للخَبزِ مِنَ الحُبوبِ (¬1). ووقتُ وجوبِه: بُدُوُّ الصلاحِ في الثمَرةِ، والانعقادُ في الحَبِّ، والإخراجُ (¬2) بعد الجفافِ، أو بالخرصِ، وبعد التنقيةِ في الحُبوبِ، ومؤنةُ ذلك على المالكِ لا على المستحقِّينَ، ولا مِنَ الوَسَط. * * * ¬
* ولا تجبُ زكاةُ ذلك إلَّا بشرطَينِ: (1) أن يبلغَ خمسةَ أَوْسُقٍ. (2) وأن يكونَ مِن جِنْسٍ. وإذا اجتمعتْ (¬1) الأنواعُ أخرجَ مِن كلٍّ بقِسْطِه على الأصحِّ، والغَلَسُ نوعٌ مِن الحِنطةِ، والسُّلْتُ جِنسٌ، وواجبُه تقدم. وتُضَمُّ ثمرةُ العامِ بعضُها إلى بعضٍ في إكمال النِّصَابِ، وكذلك زَرْعاهُ إذَا وقَعَ حَصْدُهُما في سنةٍ. * * * ¬
باب زكاة التجارة
باب زكاة التجارة * وَتَخْتَصُّ بأربعةِ شُروطٍ للإيجابِ: أحدُها: أن يكون تَمَلَّكَ (¬1) ذلك العَرَضَ (¬2) بمعاوضةٍ، وإن كانتْ غيرَ مَحْضةٍ (¬3) على الأصحِّ. الثاني: أن تقترنَ نيةُ التجارةِ بحالةِ المُعاوضةِ. الثالثُ: أن لا يَنِضَّ ناقضًا في أثناءِ الحَوْلِ، فإن نَضَّ كذلك ثُم اشْترى به سِلْعةً للتجارةِ، فابتداءُ الحولِ (¬4) مِنْ حينِ الشراءِ. الرابعُ: أن لا يَقصِدَ القِنْيَةَ (¬5) في أثناءِ الحَوْلِ. ويُعْتبر النِّصَابُ آخِرَ الحَوْلِ على الأصحِّ، فإن وُجِدَت القيمةُ عنده دُونَ النِّصابِ انقطعَ الحَوْلُ، ويَفْتتِحُ حَوْلًا آخَرَ، إلَّا أن يكونَ معه مِنَ النقدِ ما يُكَمِّلُ به ¬
النِّصابَ، فَيُخْرِجُ عنِ التجارة حينئذٍ، كنظيرِه في (¬1) المعدِنِ. وَحَوْلُ هذا البابِ مِن حينِ المُعاوضةِ على ما تقدمَ (¬2) لا (¬3) إِنِ اشتراهُ بِعَيْنِ (¬4) نِصابٍ مِنْ نقدٍ، فإنَّه يُبْنَى حَوْلُهُ على حَوْلِ النِّصَابِ، وَيُقوَّمُ برأسِ المال إن كان نقدًا (¬5)، وإلا فنقدُ (¬6) البلدِ الغالبُ، فإنْ غَلَبَ نَقْدانِ قُوِّمَ بما تَمَّ (¬7) به نِصَابًا، ثم بالأنفعِ، ثم يَتخيرُ المالكُ. وإِذَا اشترى سائمةً أو نخلًا لتجارةٍ (¬8) غُلِّبَ ما تَمَّ نصابُهُ، أو تَقَدَّم وقتُ وجوبِه، فإن اجتمعَا فزكاة العَينِ، وحيثُ أُخذتْ زكاة العَينِ أخِذتْ زكاةُ تجارةِ الأرضِ (¬9). والجِذْعُ، والتينُ بالتقويم. ¬
* ولا تَجتمعُ زكاتانِ إلَّا في ثلاثِ مسائلَ (¬1): (1) عبدُ التِّجارةِ: تجبُ فيه زكاة التجارةِ والفِطْرِ. (2) الثانيةُ: ما تقدمَ في صورةِ النخيلِ ونحوِها (¬2). (3) الثالثةُ: مَن كان له نصابٌ، وعليه دَيْنٌ، عليه الزكاةُ، وعلى صاحبِه الزكاةُ؛ كذا قال المَحامِلِيّ. وهذه ممنوعةٌ؛ فلمْ تَتواردْ فيها زكاتانِ على محلٍّ وَاحِدٍ. وزكاةُ كلِّ مالِ القِرَاضِ (¬3) على المالكِ، فإن أخرجَها مِن مالِ القِرَاضِ حُسِبَ (¬4) مِن الربحِ. * * * والمبادلةُ (¬5) تُوجب استئنافَ الحَوْلِ إلَّا في أربعِ مسائلَ (¬6): أحدُها (¬7): إذا بادلَ سِلعةً للتجارةِ بسِلعةٍ للتجارةِ. ¬
والثانيةُ: أن يَشتريَ سِلعةً للتجارةِ بعَيْنِ نِصَابٍ مِن نَقْدٍ، فيَبنِي على حَوْلِ النَّقْدِ كما تقدَّمَ. الثالثةُ (¬1): إذا بادلَ النُّقودَ بعضَها ببعضٍ على رأيٍ مرجَّحٍ (¬2) (¬3). الرابعةُ: إذا اشترى عَرَضًا للتجارةِ بنِصَابٍ مِنَ السائمةِ فإنه يَنْبَني (¬4) على حَوْلِ السائمةِ على وجهٍ ضعيفٍ. واللَّهُ تعالى أعلمُ. * * * ¬
باب زكاة الرؤوس
باب زكاة الرؤوس وهي زكاةُ الفِطْرِ (¬1). وتجبُ بِغُروبِ الشمسِ آخِرَ يومٍ مِن (¬2) شهرِ رمضانَ؛ على أصحِّ الأقوالِ (¬3). وهي على كل حرٍّ وعبدٍ: صغيرٍ وكبيرٍ (¬4)، ذَكرٍ أو أنثى، غنيٍّ أو فقيرٍ، مِن المسلمِينَ إلَّا ستةً (¬5): أحدُهم: مَن لا يفضلُ عن قُوتِه وقُوتِ مَنْ تلزمُه نفقتُه ليلةَ العيدِ ويومَهُ ما ¬
يُخرجُه (¬1) في (¬2) الفِطْرَةِ، ولا يَلزمُه بَيعُ مسكنِه وعبدِه الذي يحتاجُ لخِدمتِه (¬3). الثاني: امرأةٌ غَنِيَّةٌ لها زَوجٌ حُرٌّ مُعْسِرٌ (¬4). الثالثُ: المكاتَبُ (¬5). الرابعُ: العبد المغصوبُ أو الآبقُ (¬6). كذا قال المَحامِلِيُّ (¬7)، والأصحُّ خلافُه (¬8). ويجب الإخراجُ أَيضًا بخلافِ نظيرِه في المالِ، وكذا حكم المنقطعِ خبرُهُ إذا لمْ تمضِ مُدةٌ لا يعيشُ في مثلِهَا, ولو نُظِرَ في الآراء الضعيفةِ كَثُرَتِ المستثنياتُ. الخامسُ: عَبْدُ بَيْتِ المالِ والعَبْد الموقوفُ. ¬
السادسُ: زوجةُ أَبيهِ (¬1) التي تجبُ نفقتُه، ونفقتُها عليه، وكذلك مستولدَةُ الأبِ. وكلُّ مَن تَلزمُه نفقتُه تلزمُه (¬2) فِطرتُه إلَّا ما سَبقَ، والواجبُ صَاعٌ مِن غالبِ قُوتِ بلدِ (¬3) المُؤدِّي عن نفْسِه، ومِن غالبِ قُوتِ بلدِ المؤدَّى عنه، وعند التساوي يُخْرِجُ ما شاءَ، والأفضلُ إخراج الأشرفِ، والواجبُ (¬4) السَّلِيمُ مِن الأقواتِ ولو أقِطًا لا دَقيقًا وخُبزًا. * ولا يُجزئُ أقلُّ مِن صاعٍ إلَّا في مسائلَ (¬5): أحدُها: مَن نِصْفُهُ مُكَاتَبٌ ونصْفُه الآخَرُ حُرٌّ أو عبْدٌ (¬6). والثانيةُ (¬7): عبدٌ بيْن شريكَينِ، أحدُهما مُعسِرٌ (¬8). والثالثةُ (¬9): المُبَعَّضُ إذا كان مُعْسرًا. والرابعةُ (¬10): حيثُ لمْ يوجَدْ إلَّا بعضُ صاعِ. ¬_______ (¬1) في (ل): (ابنه). (¬2) في (أ، ز): "تلزم". (¬3) في (ل): "البلد". (¬4) في (ظا): (والواجب الحب السليم). (¬5) المحاملي في "اللباب" (ص 173)، والاستغناء 2/ 526، الأشباه للسيوطي 445. (¬6) حاشية الشرقاوي 1/ 373. (¬7) في (ب): "الثانية". (¬8) مغني المحتاج 1/ 407. (¬9) في (ب): "الثالثة". (¬10) في (ب): "الرابعة".
* ويجبُ أن يكونَ الصاعُ من جنسٍ واحدٍ، إلَّا في أربعِ مسائلَ، ثلاثٌ (¬1) مفرَّعةٌ على اعتبارِ بلدِ المؤدِّي، وهو موجوحٌ، ورابعةٌ ممنوعةٌ (¬2): 1 - إحداها (¬3): عبدٌ بين اثنين فِي بلدَينِ مختلفَي القُوتِ. 2 - والثانيةُ: أن يكونَ نصفُه حُرًّا (¬4) ونصفُه عبدًا (¬5) وطعامُه خلاف طعامِ سيدِه. 3 - والثالثةُ: أن يكونَ في نفقةِ ولدَينِ مَثلًا والحُكمُ فيهما (¬6) كالسيدَينِ. 4 - والرابعةُ: أن يكونَ في بلدٍ طعامُ أهلِه مِن لونَينِ، ليس أحدُهما بأغلبَ مِن الآخَرِ. كذا قال المَحامليُّ (¬7)، وهذه ممنوعةٌ. واللَّهُ تعالى أعلمُ. * * * ¬
باب أخذ القيمة في الزكوات
باب أخذ القيمة (¬1) في الزكوات (¬2) ولا يجوزُ أخذِ القِيَمِ في الزكواتِ (¬3) كلِّها (¬4) إلَّا في ستِّ مسائلَ (¬5): 1 - إحداها (¬6): زكاةُ مالِ التجارةِ. 2 - الثانيةُ (¬7): الجُبرانُ بعشرينَ دِرْهمًا في الإبلِ، كما في أَخْذِ بِنْتِ مخاضٍ عن بِنتِ لَبُونٍ ليستْ له، ويتخيرُ، إن شاءَ دفعَ عشرينَ دِرهمًا أو شاتينِ عن جُبرانٍ واحدٍ، ولا يُبَعَّضُ إلَّا إذا كانَ الآخذُ المالكَ ورضِي. * قاعدةٌ: ما جازَ فيه التخييرُ لا يَجوزُ تبعيضُه كما في زكاةِ الفطرِ والكفارةِ المُخيَّرةِ، إلَّا إذا كانَ الحقُّ لمعيَّنٍ، ورضِي كما في الجُبرانِ. ¬
3 - الثالثةُ: إذا وُجدَ في مائتينِ مِن الإبلِ (¬1) الحِقاقُ وبناتُ اللَّبون (¬2)، فاعتقدَ الساعي أنَّ الأغبَطَ الحِقاقُ، فأخَذَها, ولمْ يقصِّرْ، ولا دَلَّسَ (¬3) المالكُ وقع الموقعَ، ويُجبَرُ التفاوتُ بالنقْدِ، أو بشِقْصٍ مِن الأغبطِ. 4 - الرابعة: إذا اختلفتْ أصنافُ الثمرةِ (¬4)، فإنه يُخرِجُ الزكاةَ مِن الأعلى في القِيمةِ على (¬5) قولٍ مرجوحٍ. كذا قال المَحامِلِيُّ، وليس هذا مِن إخراجِ القِيمةِ في شيءٍ. 5 - الخامسةُ: الشاةُ عن خمسٍ مِن الإبلِ. ذَكَرهُ (¬6) المَحامِلِيُّ، ثم قالَ: وليس هذا على وجهِ القِيمةِ، فإنَّه في معناهُ. 6 - السادسةُ: إذا عجلَ الإمامُ ولمْ يقعِ الموقعَ وأخَذَ القيمةَ فله صرفُها على الأصحِّ بِلا إذنٍ جديدٍ في الأصحِّ، واللَّهُ تعالى أعلمُ. * * * ¬
باب تعجيل الصدقة
باب تعجيل الصدقة ما تعلَّقَ بالحَوْلِ يجوزُ تعجيلُه بَعْدَ (¬1) انعقادِ النِّصابِ، إلَّا في مسألتينِ: - التجارةِ. - وما إذا ملَكَ نِصابًا مِن السائمةِ، فأخرَجَ عنْ نِصابَينِ لِتَوَقُّعِهِ بالتوالدِ، فوَجَدَ في الحَوْلِ ما تَوَقَعَهُ، على ما صحَّحَهُ الغَزاليُّ والمُتولِّي، خلَافًا للأكثرينَ. ولا يجوزُ لِسنتَينِ عند الأكثرينَ (¬2). والأرجحُ الجوازُ لحديثِ استسلافِ النبيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- مِن العباسِ زكاةَ عامَينِ (¬3)، ¬
وحمْلُ ذلك على دَفعتَينِ كما حملَه الأكثرونَ: بعيدٌ. وما لا يَتعلقُ بالحَوْلِ فمِنْه: زكاة الفِطْرِ يجوزُ (¬1) تعجيلُها بعدَ دُخولِ رمضانَ، لا قبلَه على الأصحِّ (¬2) وفِي الثمرةِ يجوزُ الإخراجُ بعْد بُدُوِّ (¬3) الصلاحِ لا قَبْلَه (¬4). ¬
وفِي الحُبوبِ بعْدَ انعقادِ الحَبِّ على المُختارِ، خِلافًا لِمَا صحَّحُوهُ، مِن أنَّه لا يجوزُ إلَّا بَعْدَ الاشتدادِ والإدراكِ (¬1). ولا يجوزُ تقديمُ زكاةِ المعدِنِ والرِّكازِ على الحُصولِ. وإنْ وُجدتْ شروط الإجزاءِ عند الوجوبِ وَقعَ المُعجَّلُ الموقعَ. وإن تَغيَّرَ (¬2) الحالُ بِرِدَّةِ المالكِ (¬3) أو المدفوعِ إليه أو افتقرَ المالكُ أو غَنيَ المدفوعُ إليه بغَيرِ مالِ الزكاةِ أو باعَ النِّصَابَ أو بعضَهُ (¬4) قَبْلَ الحَوْلِ (¬5). وكذلك في التَّلفِ والإتلافِ أو كانَ المدفوعُ إليه مَجهولَ الحالِ فأَقرَّ بالرِّقِّ لإنسانٍ لمْ يقعِ المعجَّلُ الموقعَ، ولو حدثَ ما يُخرِجُ الآخذَ عن الاستحقاقِ، ثم صارَ بصفةِ الاستحقاقِ في آخِرِ الحَوْلِ لمْ يضرَّ على الأصحِّ. والدَّينُ لا يمنعُ وجوبَ الزكاةِ على الأصحِّ، فلا يمنعُ الإجزاءَ (¬6) في التعجيلِ. * * * ¬
ولا يثبتُ استردادُ المعجَّلِ إلَّا في أربعِ صُورٍ (¬1): 1 - أحدُها: أن يقولَ إنَّها زكاةٌ مُعجَّلة، فإنْ عَرضَ له (¬2) مانعٌ استردَدْتُ مِنكَ. 2 - الثانيةُ: أن يَقتصرَ على قوله "هذه (¬3) زكاةٌ معجَّلَةٌ" على الأصحِّ. 3 - الثالثةُ: أن يُعلِمَ الآخذَ بذلكَ. 4 - الرابعةُ: أن يكونَ الدافعُ الإمامَ، وهذه على طريقةِ العراقِيينَ، والأصحُّ أنَّ المعتبرَ ما قبلها. وجَزمَ المَحامِلِيُّ بأنه لا يسترِدُّ بِرِدَّةِ المالكِ، ويوافقُه وجهٌ أن إتلافَه لغيرِ (¬4) حاجةٍ لا يُثبِتُ الاستردادَ، والأصحُّ ثبوتُه، ومتى كان المعجَّلُ تالفًا وجبَ ضمانُه، وإن كان ناقصًا بِعَيب (¬5) فلا يَضمنُ النُّقصانَ. * * * ¬
* ضابطٌ: ما ضُمِنَ كلُّه ضُمِنَ جُزؤُه، إلَّا المعجَّلَ في الزكاةِ، [وشَطرَ الصداقِ الذي تغيَّبَ في يَدِ الزوجةِ قبْلَ الطلاقِ] (¬1)، واللَّهُ سبحانه وتعالى أعلمُ. * * * ¬
باب قسم الصدقات
باب قسم الصدقات وهي مُستحَقةٌ للأصنافِ (¬1) المذكورةِ في قولِه عَزَّ وَجَلَّ: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} (¬2). - فالفقيرُ: مَن لا شيءَ له أوله ما لَا يقعُ موقِعًا مِن كفايتِه. - والمسكينُ: مَن له شيءٌ يقعُ موقِعًا مِن كفايتِه، والعِبْرةُ بالسَّنةِ. - والعاملُ: الساعي، والكاتبُ، والقَسَّامُ، والحَاشرُ. - والمؤلفةُ قلوبُهم (¬3): الذين دخلوا في الإِسلامِ، ونيتُهم ضعيفة، يُتألفُونَ لِيَثبُتوا، ومَن (¬4) له شرفٌ يُتوقَّعُ بتألُّفِه إسلامُ غيرِه، ومنهم مَن أَسقطَ هذا الصِّنفَ بَعْدَ النبيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-. - والرقابُ: المكاتَبون كتابةً صحيحةً. ¬
- والغارِمُ: مَن عليه دَينٌ حالٌّ لا يَقدرُ على وفائه إنِ استدانَ لِمصلحةِ نفْسِه، وإنِ استدانَ لإصلاحِ ذاتِ البَينِ أُعطِيَ، ولو كان غنيًّا. - والمرادُ مِن سبيلِ اللَّه: الغُزاةُ الذينَ لا حَقَّ لهم في الدِّيوانِ ويُعطَونَ ولو مع الغِنى. - وابنُ السبيلِ: مَن (¬1) يُنشِئُ السَّفَرَ مِن إقامتهِ، والغريبُ المُجتازُ بالبلدِ، ويُشترطُ فيه الحاجةُ، وأن لا يكونَ عاصيًا بسَفَرِه. ويُشترَطُ في جميعِ الأصنافِ الإِسلامُ، وأن لا يكونَ مِن بَنِي هاشمٍ والمُطلِبِ، وكذا (¬2) مواليهِم. ولا يجوزُ مِن كلِّ صِنفٍ أقلُّ مِن ثلاثةٍ إلَّا العاملَ (¬3)، ومتى وُجدتْ الأصنافُ أو بعضُها في بلدٍ امتَنعَ النقلُ عنْ بلدِ المالِ (¬4)، وفِي الفِطْرِ عن بلَدِ البدَنِ إلَّا في مسألةٍ واحدةٍ، وهي (¬5) ما إذا دفعَ (¬6) الزكاةَ للإمامِ. ¬
وللمالكِ إخراجُ صدقةِ الأموالِ الباطنةِ (¬1)، وهي الناضُّ وعُروضُ التجارةِ ونحوِها وكذا الظاهر (¬2) مِن المواشِي والزروعِ ونحوِها على الجَديدِ (¬3). ويجوزُ التوكيلُ فيه، والصَّرْفُ إلى الإمامِ أَولى (¬4) إلَّا أن يكونَ جائرًا. وأما الكفارةُ والفِديةُ فنذكُرُهُما عَقِبَ الصيامِ، وقِسمةُ الفَيءِ والغنيمةُ تأتِي في السِّيَرِ إن شاء اللَّهُ تعالى. * * * ¬
كتاب الصيام
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ كتاب الصيام هو لُغةً: الإمساكُ. وشَرْعًا: إمساكٌ عن المفطِّرِ على وجهٍ مخصوصٍ. قال اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} وقال تعالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ}. وهو أحدُ (¬1) أركانِ الإِسلامِ. * * * ¬
* ولِصحَّةِ الصَّومِ مُطْلَقًا أربعُ شرائطَ (¬1): (1) الإسلامُ. (2) والتمييزُ. (3) والنقاءُ مِن الحَيضِ والنِّفاسِ. (4) وقابليةُ الوقتِ، فلا (¬2) يصحُّ صومُ الكافرِ، والمجنونِ، والصبيِّ الذي لا يُميِّزُ، ومَنِ استغرقَ في الإغماءِ يومَه، ولا الحائضِ والنُّفَساءِ، ولا الصومُ في الليلِ، ولا في الأيامِ المُحرَّمةِ، ورمضانُ لا يُقبَلُ صومُ غيرِه فيه. * * * * ولِوجوبِ صَومِ رمضانَ خمسُ شرائطَ (¬3): (1) البلوغُ. (2) والعقلُ. (3) والإِسلامُ -على معنى أنَّا لا نُطالِبُ الكافرَ الأصليَّ بفِعْلِه طَلبَه مِن المسْلِمِ، ولا بِقضَاءٍ، ولا كَفَّارةٍ، وإلا فالكافِرُ الأصليُّ مخاطَبٌ بفُروعِ ¬
الشريعةِ على الأصحِّ (¬1)، والمرتدُّ يقضِي إذا أَسْلمَ (¬2). (4) والإمكانُ (¬3)؛ فلا يجبُ على مَن لا يُطيقُه. (5) والنقاءُ مِنَ الحَيضِ والنِّفاسِ، وهلْ يقالُ: هو واجبٌ على الحائضِ والنُّفَساءِ حالةَ المانعِ؟ وجهانِ، أصحُّهما: لا. ولِتَحَتُّمِه (¬4) مع ما سبقَ: عدمُ المرضِ والسفرِ المبيحَينِ للفِطْرِ. * * * * ضابطٌ: المعذُورونَ في الإفطارِ مِن المسلمِينَ البالغِينَ أربعةُ أقسامٍ: * قِسمٌ عليهم القضاءُ دُونَ الكفَّارةِ، وهُم الحائضُ والنُّفَساءُ والمسافرُ ¬
سفرَ القصرِ، والمريضُ (¬1). وتَختصُّ الحائضُ والنُّفساءُ بوجوبِ الإفطارِ، وعدمِ صحةِ الصومِ كما تقدَّمَ (¬2)، والمُغمَى عليه لا يَصحُّ منه (¬3)، وعليه القضاءُ. * وقِسمٌ عليهمُ الكفارةُ دون القضاءِ، وذلك في الشَّيخِ والشَّيخةِ؛ لا يُطيقانِ الصومَ (¬4). * وقِسمٌ عليهم الكفارةُ والقضاءُ، وذلك في الحاملِ والمُرضعِ (¬5)، إذا أفطرتَا للخوفِ على الولدِ، ومَن أفطرَ لإنقاذِ غريقٍ ونحوِه، ومؤخِّرُ قضاءِ رمضانَ مع الإمكانِ حتَّى يَدخلَ رمضان آخَرُ لكنْ تأخيرُه بغيرِ عُذرٍ. * وقِسمٌ لا قضاءَ ولا كفارةَ، وذلك في المجنونِ. * * * * قاعدةٌ: لا تَجتمعُ الفديةُ والقضاءُ عندنا إلَّا في القِسمِ الثالثِ، ومَن أَفسدَ صومَ ¬
رمضانَ بالجِماع (¬1)، ونَظيرُه في الحَجِّ: مَنْ (¬2) أَفسدَ نُسُكَهُ بالجِماعِ، ومَن فاته الحجُّ، ومؤخِّرُ رمْي يومٍ إلى يوم (¬3) على قولٍ مرجوحٍ. * * * * ويُعتبرُ في صيام شهرِ (¬4) رمضانَ سبعةُ أشياءَ، وقد يُشاركُه غيرُه في بعضِها (¬5): 1 - أحدُها: العِلمُ أو الظنُّ بدخولِ الشهرِ، وذلك برؤيةِ الهِلالِ، أو باستكمالِ العَددِ، أو بأنْ يُثبته القاضي، والقاضي يُثْبتُه بعِلْمِه، أو (¬6) بعَدْلٍ بصفةِ الشهودِ، لا عبدٍ وامرأةٍ في الأصحِّ. والرؤيةُ يَتعدى حُكْمُها إلى ما دون مسافةِ القصرِ، والنظرُ إلى اختلافِ المَطالعِ: ضعيفٌ (¬7). ويكتفِي الآحاد بكل (¬8) مِن العبدِ والمرأةِ والصِّبيةِ الرُّشداءِ (¬9) لِصِحَّةِ ¬
النِّيةِ (¬1)، فإذَا ثَبَتَ لَيلًا لا يحتاجُ إلى إعادتِها كالحائضِ تَنوي (¬2) قَبْلَ انقطاعِ دَمِها ثم ينقطعُ بالليلِ للأكثرِ أوْ للعادةِ (¬3)، فلا تحتاجُ إلى التجديدِ، ويُكتفَى بالظنِّ في الليلةِ الأخيرةِ لِصومِ يومِها. وأيضًا في اجتهادِ المحبوسِ، ويقضِي ما وقعَ قَبْلَه كالصلاةِ، وما بَعْدَه يكونُ قضاءً. 2 - الثاني: تبييتُ النيةِ لِكلِّ يومٍ، وهذا في كل صومٍ مفروضٍ، ويُكتفى (¬4) في النفلِ بِنِيَّةٍ في النهارِ قَبْلَ الزوالِ، بشرطِ انتفاءِ المَوانعِ قَبْلَها, ولا يَضُرُّ قصْدُ الخُروجِ مِن الصومِ على ما صُحِّحَ، والأرجحُ خلافُه. 3 - الثالثُ: وهو مُعتبَرٌ في كلِّ صومٍ، وكذا ما بعده: الإمساكُ عنِ الطعامِ والشرابِ وعنْ كلِّ (¬5) عَينٍ تَدخلُ في جَوفٍ مِن مَنفذٍ قصدًا، ولو بحُقنةٍ (¬6)، وسعوطٍ (¬7)، ودخولِ حديدةٍ في بَطنِه، لا فَصْد وحِجَامة. 4 - الرابعُ: الإمساكُ عن الجِماعِ. 5 - الخامسُ: الإمساكُ عن الاستمناءِ، ولا يَضرُّ الإنزالُ بفِكْرٍ ونظرٍ ¬
واحتلامٍ. 6 - السادسُ: الإمساكُ عن الاستقاءِ، ولا يَضرُّ النسيانُ والجهلُ فِي جميعِ ذلك. 7 - السابعُ: استغراق الإمساكِ عما ذُكرَ لجميع (¬1) اليومِ، مِن طُلوعِ الفجرِ إلى غُروبِ الشمسِ. والأولُ مما (¬2) يُعتبَرُ يُعدُّ شَرْطًا. * * * والذي (¬3) يَصلُ إلى الجوفِ مِن مَنفذٍ ولا يفطِّر سبعةٌ (¬4) (¬5): 1 - الأكلُ أو (¬6) الشربُ ناسيًا أو مكرهًا. 2 - وسبْقُ الماءِ في المضمضةِ والاستنشاقِ حيثُ لَمْ يبالغْ. 3 - وغُبارُ الطريقِ، ولو فَتحَ فاه عمدًا على رأيٍ مرجوحٍ (¬7). 4 - وغربلة الدَّقيقِ. 5 - والذُّبابُ. ¬
6 - ومَن توضأَ فمضمضَ (¬1) وبالَغَ قَبْلَ نِيَّةِ النفلِ فدخلَ في (¬2) جَوفِه ثم نَوى النفلَ. 7 - وابتلاع الريقِ الطاهرِ (¬3) الصِّرْفِ مِن مَعِدَتِه. وما لا يَدخلُ مِن مَنفذٍ لا يُفطِّرُ، فلا يَضرُّ الكُحْلُ، وإن وَجدَ مِنه طَعمًا في الحَلقِ، ولا وُصولُ الدُّهنِ إلى الجوفِ بتشربِ المَسامِ. * * * * ضابطٌ: كلُّ مَن وجبَ عليه أداءُ رمضانَ فأفطرَ فيه عمدًا وجبَ عليه القضاءُ بلا خِلَاف إلَّا في صورةٍ واحدةٍ، وهي المُجامِعُ، لا يَلزمُه مع الكفارةِ القضاءُ على قولٍ مرجوحٍ. * * * ¬
فصل فى المسنونات والمكرهات - يُسَنُّ أن يَتسحَّرَ. - ويُؤخِّرَ سُحورَه (¬1) ما لمْ يقعْ فِي الشكِّ. - وأن يُقدمَ غُسلَ الجنابةِ على طُلوعِ الفجرِ. - وأن يُكثرَ مِن تلاوةِ (¬2) القرآنِ والأذكارِ والصدقةِ وأفعالِ الخيرِ، فلها مَزيَّةٌ في شهرِ رمضانَ لا سيَّما في العَشرِ الأواخرِ منه. - وأن يعجِّلَ الفِطرَ. - وأن يُفطِرَ على رُطبٍ، فإن لمْ يجدْ فعلَى تمرٍ، فإن لَمْ يجدْ فعلَى ماءٍ. - وأن يقولَ عند الفِطرِ: اللهُمَّ لكَ صمتُ، وعلى رزقِكَ أفطرتُ، فتقبَّلْ مِنِّي إنكَ أنتَ السميعُ العليمُ، ذَهبَ الظمأُ، وابْتَلَّتِ العُروقُ، وثَبَتَ الأجرُ إن شاءَ اللَّهُ تعالى (¬3). ¬
* ويُكرَهُ في الصومِ ثلاثةَ عَشرَ شيئًا (¬1): 1 - مضغُ العِلْكِ. 2 - وأن يَحتجِمَ. 3 - أو يحجمَ. 4 - أو يَفتصِدَ. 5 - أو (¬2) يدخلَ الحمَّامَ. 6 - وأن (¬3) يستاكَ بعدَ الزوالِ، والمختارُ لا يُكرَهُ مُطْلقًا (¬4)، وقد تقدمَ (¬5). ¬
7 - 8 - وذَوقُ (¬1) الطعامِ، ومَضْغُه. 9 - وتأخيرُ الفِطْرِ. 10 - وثجُّ الماءِ عندَ الفِطرِ. 11 - 12 - والمُشاتمةُ والغِيبةُ. 13 - والقُبلةُ، إن كان قويًّا على الجِماعِ، كذا ذكرَه (¬2) المَحامِلِيُّ (¬3)، لكن الغِيبة محرَّمةٌ. وأما القُبلةُ: فرجَّحَ جماعةٌ فيها التحريمَ لِمنْ تُحرِّكُ شَهوتَه، والأرجحُ دليلًا لا تحرمُ (¬4). والمُشاتمةُ قد تكون محرَّمةً. * * * ¬
فصل الكفارة هي مغلَّظةٌ ومخفَّفةٌ (¬1)، وتسمى فِديةً. الأُولى: تجبُ على كلِّ (¬2) ذَكَرٍ أَفسدَ صومًا مِن أداءِ رمضانَ بجماعٍ أَثِمَ بِه للصومِ. ولا (¬3) تجبُ على المرأةِ مُطْلقًا. ولا على الناسِي لِعدمِ الإفسادِ (¬4). ولا على مَن أَفسدَ صومًا غيرَ أداءِ رمضانَ مِن نَذْرٍ أو كفارةٍ أو قضاءٍ أو تطوعٍ بجماعٍ. ولا على مَن أفسدَ صومًا مِن أداءِ رمضانَ بغَيرِ جِماعٍ. ولا على مريضٍ أو مسافرٍ مِن أهلِ الرُّخصةِ إذا أفسدَ صومًا مِن أداءِ رمضانَ بالجماعِ؛ لأنه لمْ يأثَمْ بذلكَ؛ تفْريعًا على أن صيامَ المسافرِ لا يمنعه مِن الفِطرِ في ذلك اليومِ، وهو الأصحُّ. ¬
ولا على مَن ظَنَّ أن الفجرَ لمْ يطلُعْ فجامَعَ ثُمَّ تَبينَ خلافُه، فعلَيه القَضاءُ كما فِي الأكلِ، ولا كفارةَ لعدمِ الإثمِ. ولا على مسافرٍ ونحوِه أفطرَ بالزِّنا؛ لأنه أثِمَ بالزِّنا لِذَاتِه لا للصومِ. والكفارةُ عِتقٌ (¬1) خالٍ عَن عوضٍ، لِرَقَبةٍ غَيرِ مُستولَدةٍ، ولا مُكاتَبةٍ، صحيحةٍ سليمةٍ مِن العُيوبِ التي تضرُّ (¬2) بالعملِ الضررَ البَيِّنَ، كفاقدِ الخنصرِ والبنصرِ مِن يدٍ وأُنملتَينِ مِن بقيةِ الأصابعِ، وأُنملةِ إبهامٍ. ويُجزئُ الأقرعُ والأعرجُ إلَّا أن يَتعذَّرَ عليه مُتابعة المَشيِ. فإن لَمْ يَجدْ صام شهرَينِ متتابعَينِ، ولا يَنقطع التتابعُ بالحيضِ والنِّفاسِ والجُنونِ. فإن لمْ يَقدرْ أَطعمَ ستِّينَ مِسكينًا مِن أهل الزكاةِ، لكلِّ مِسكين مُدٌّ مِن غالِبِ قُوتِ البلدِ. وهكذا الحُكْمُ في كفارةِ الظَّهارِ. وأما كفارةُ القتلِ ففيها: الإعتاقُ، ثم الصومُ، لا الإطعامُ، على أصحِّ القولَينِ. وأما كفارة اليمينِ: فتأتِي في بابِه إن شاءَ اللَّهُ تعالى. وتَسقطُ كفارةُ جِماعِ رمضانَ بالجُنونِ في ذلك اليومِ، والموتِ فيه، لا بالإعسارِ في الأصحِّ، وكذا كفارة الظِّهارِ، والقتلِ، واليمينِ، بخلافِ ما ¬
وجبَ (¬1) بدلًا لِجزاءِ الصيدِ، فلا يَسقطُ بالإعسارِ قَطْعًا. ومُقابلَة ما وَجبَ عِبادةً كزكاةِ الفِطرِ تَسقطُ بالإعسارِ جَزمًا. وأما (¬2) المخفَّفةُ، وهي الفِديةُ فتكونُ هنا، وفِي الحجِّ. وهي على (¬3) ثلاثةِ أنواعٍ: نوعٌ منها مُدٌّ، ونوعٌ مُدَّانِ، ونوعٌ دمٌ. وليس لنا بعضُ مُدٍّ إلَّا في بعضِ شَعَرةٍ على رأيٍ صححَهُ (¬4) الماوَرْدِيُّ: فأما التي هي مُدٌّ ففِي اثنَيْ عَشرَ مَوضعًا: إفطارُ الحاملِ خوفًا على الولدِ. وإفطارُ المرضِعِ كذلك ولو مُستأجَرةً، والفِديةُ عليها. وإفطارُ الكبيرِ الذي لا يُطيقُ الصومَ. وتأخيرُ قضاءِ رمضانَ إلى قابلٍ، ويتكررُ (¬5) بتكررِ السنينَ على الأصحِّ. وكذلك فيمنْ ماتَ وعليه صومُ (¬6) يومٍ، لَم يحصُلْ فيه وفاءٌ شرعيٌّ، ¬
فيُخْرَجُ مِن تركتِه مُدٌّ، وكذا ناذرُ صيامِ الدَّهرِ إذا أَفطرَ عمدًا، ولكلِّ يومٍ مُدٌّ في جميع ما ذُكرَ فِدية تامَّة. ففِي يومَينِ مُدَّانِ. وفِي ثلاثةٍ فأَكثرَ بعددِها. ونتْفُ شَعرةٍ في الإحرامِ لا مِن داخلِ الجَفنِ وما غطَّى مِن الحاجبِ (¬1) العَين. وتقليمُ ظُفرٍ لا المُنكسرِ. وترْكُ بَيْتُوتَةِ ليلةٍ مِن ليالِي مِنًى لا للمعذورِ. وترْكُ حَصاةٍ. وقطْعُ نَبْتٍ مِن نَباتِ الحَرَمِ قِيمتُه ثَمَنُ مُدٍّ. وكذلك في مُتقوَّمِ الصيدِ. * * * * وأما المُدَّانِ ففِي ستةٍ: 1 - حَلقُ شَعرتَينِ في الإحرامِ. 2 - وتقليمُ ظُفرَينِ. 3 - وترْكُ مَبيتِ ليلتَينِ. ¬
4 - وقتْلُ صَيدٍ قِيمتُه ثَمَنُ مُدَّينِ. 5 - وكذلك في نَبْتِ الحرَمِ. 6 - وفِي يومَينِ مما سَبقَ. وقد تزيدُ الأمدادُ على ما ذُكرَ كما في ثلاثةِ أيامٍ فأكثرَ مما سَبق. وكذلك في (¬1) مواضعَ في الحَجِّ تأتِي. وأما الدمُ: ففِي ستةَ عشرَ موضعًا (¬2)، وكلُّها في الإحرامِ: 1 - المناسِكُ (¬3). 2 - والصيدُ (¬4). 3 - والوطءُ. 4 - وحلقُ ثلاثِ شَعراتٍ فأكثرَ. 5 - وتقليمُ الأظفارِ. 6 - والطيبُ. 7 - واللباسُ. ¬
8 - وتركُ الإحرامِ مِن المِيقاتِ. [9 - وتركُ البَيْتوتةِ بمُزدَلِفةَ. 10 - وكذلك ليالِي مِنًى. 11 - وقطْعُ شَجرِ الحرَمِ] (¬1). 12 - 13 - وترْكُ الرمْيِ وطوافِ الوداعِ لا القُدومِ، خلافًا لِما جَزمَ به المَحامليُّ. 15 - 14 - ودمُ التمتعِ والقِرانِ. 16 - وفوتُ (¬2) الحجِّ والإحصارِ، لا في رَكعتَي الطوافِ على الأصحِّ، ولا في الجَمعِ بين الليلِ والنهارِ بعرفةَ لِمن وقفَ نهارًا على (¬3) الأصحِّ. * * * ثم الدماءُ المذكورةُ منها دمُ تخييرٍ وتقديرٍ كالحلقِ والتقليمِ، ومنها تخييرٌ وتعديلٌ، ومنها ترتيبٌ وتقديرٌ، ومنها ترتيبٌ وتعديلٌ، ومنها مغلظٌ، وسيأتي في الحجِّ. . * قاعدةٌ: يَختصُّ صيامُ رمضانَ بالإمساكِ كما يَختصُّ بالكفارةِ المغلَّظةِ. * * * ¬
* والإمساكُ واجبٌ، ومستحبٌّ: فالواجبُ على ثمانيةٍ: 1 - متعمِّدُ الفِطرِ. 2 - وتاركُ النيةِ مِن الليلِ عمدًا أو سهوًا. 3 - ومَن سبقَه الماءُ في المبالغةِ. 4 - ومَن تَسحَّرَ لِظنِّ بقاءِ الليلِ. 5 - أوْ أكلَ لِظنِّ دُخولِ الليلِ ثُم بانَ أنه أكلَ بالنهارِ. 6 - ومَن ارتدَّ ثُم أَسلَمَ في بقيةِ يومِه. 7 - ومَن نوَى الخروجَ مِن الصومِ. إذا قلنا "يَبطلُ الصومُ بذلك"، وهو الأرْجَحُ (¬1). 8 - ومَن ظهرَ له يومَ الثلاثينَ مِن شعبانَ أنه مِن رمضانَ، يَستوِي في ذلك الآكلُ والناوي والتاركُ (¬2)، وكلُّ هؤلاءِ يَلزمُهم مع الإمساكِ القضاءُ. * وأمَّا الإمساكُ المستحبُّ: فلمسافرٍ ومريض أفطرَا، ولمْ يَنْويَا مِن (¬3) الليلِ وأصبحَا، ثم زالَ عُذرهما، وكذا الكافرُ الأصليُّ يُسْلمُ في أثناءِ النهارِ، والمجنونُ يُفيقُ، والصبيُّ يَبْلُغُ وهو مُفطِرٌ، والحائضُ تَطْهرُ، وكذا النُّفساءُ. ¬
وكلُّ هؤلاءِ لا يَلزمُهم القضاءُ (¬1)، إلَّا المسافرَ والمريضَ والحائضَ والنُّفساءَ. وليس لنا صومٌ يجوزُ الخروجُ منه، ثُم يَمتنعُ الخروجُ إلَّا في أربعةٍ المسافرُ والمريضُ إذا زال عذرُهما وهما صائمْانِ والصبيُّ يَبلُغُ وهو صائم على ما صحَّحُوه، والنصُّ في "الأم": يُستحبُّ له الإتْمامُ. ومَن أصبحَ متطوعًا ثم نذرَ صومَ ذلك اليومِ أو تمامَه (¬2). وكلُّ مَن لزمَه الإتمامُ، فجامَعَ بعد اللزومِ، فعليه الكفارةُ إلَّا في النذرِ. وليس لنا صبيٌّ يصومُ في رمضانَ ثم يجامِعُ نهارًا فتلزمُه الكفارةُ، إلَّا أَنْ يَبْلُغَ قَبْلَ جِماعِه. * * * ¬
فصل جماعُ الصيامِ خمسةٌ: فرضٌ وسُنةٌ ونفلٌ ومكروهٌ وحرامٌ. أما الفرضُ فمنه منصوصٌ عليه في القرآنِ [ومنه غيرُ مَنصوصٍ عليه. * المنصوصُ في القرآنِ] (¬1) تسعةٌ: خمسٌ (¬2) يجبُ فيها التتابعُ (¬3): - صومُ رمضانَ (¬4). - وكفارةُ الظِّهارِ (¬5). - وكفارةُ القتلِ (¬6). - وكفارةُ المُجامِعِ في رمضانَ. كذا قال المَحاملِيُّ، وهو وهْمٌ، فكفارةُ المُجامِعِ ليستْ فِي القرآنِ. ¬
وصومُ رمضانَ (¬1) التتابعُ فيه مِن ضرورةِ الزمانِ. - والخامسُ: كفارةُ اليمينِ يجبُ فيها التتابعُ على قولٍ مرجوحٍ (¬2). * * * وثلاثةٌ يجوزُ فيها التفريقُ (¬3): - قضاءُ رمضانَ. - وفِديةُ الحلْقِ. - وجزاءُ الصيدِ. * * * وواحدٌ يجبُ فيه (¬4) التفريق، وهو صومُ التمتعِ بين الثلاثةِ والسبعةِ (¬5)، وفِي معناه مَن نذرَ أَنْ يصومَ متفرِّقًا على الأصحِّ (¬6). وأما أيامُ الثلاثةِ والسبعةِ، فيستحبُّ فيها التتابعُ على المشهورِ. * * * ¬
وأمَّا مَا لَمْ يُنصَّ عليه في القرآن، فثلاثةَ عشرَ (¬1): (1) كفارةُ المُجامِعِ في شهرِ رمضانَ. (2) والمُجامعِ في الإحرامِ. (3) واللبسُ في الإحرامِ (¬2). (4) والطِّيبُ. (5) وتقليمُ الأظفارِ. (6) ودَهنُ شَعرِ الرأسِ، واللحيةِ. (7) والقِرانُ. (8) والنذرُ. (9) والإحصارُ. (10) وفواتُ الحجِّ. (11) وتركُ واجبٍ مِن واجباتِه التي تُجبَرُ بالدمِ. (12) وقطْعُ شجرةٍ (¬3) مِن أشجارِ الحرَمِ، وما في معنى ذلك. ¬
(13) وما يأمُرُ به الإمامُ مِن الصومِ في الاستسقاءِ. وأما الصومُ المسنونُ، فأربعةَ عشرَ (¬1): 1 - 2 - صومُ الاثنينِ والخميسِ. 3 - ويومُ عرفةَ. 5 - 4 - وعاشوراءُ وتاسوعاءُ (¬2). 7 - 6 - والبيضُ وعشرُ المُحرَّمِ. 8 - والأشهرُ الحُرُمُ، وأفضلُها المُحرمُ. 9 - وتسعُ ذي الحجةِ. 10 - وأن يصُومَ يَومًا ويُفطرَ يومًا. 11 - [وأن يصومَ يومًا ويُفطرَ يومَينِ] (¬3). 12 - وصومُ يومٍ (¬4) لا يجدُ في بيتِه ما يأكُلُهُ. ¬
13 - وصومُ شعبانَ. 14 - وستةُ أيامٍ مِن شوالٍ. وما سبق فِي عَشرِ المُحرمِ؛ ذَكرهُ المَحامِلِيُّ (¬1)، وهو غيرُ معروفٍ. * * * وأما النفلُ مِن الصومِ فغيرُ محصورٍ (¬2). * * * وأما المكروهُ: فثلاثةَ عشرَ (¬3): 1 - صومُ المريضِ. 2 - والمسافرِ. 3 - والحاملِ. 4 - والمرضعِ. 5 - والشيخُ الفاني. إذا خافُوا (¬4) المشقةَ الشديدةَ، وقد يَنتهي ذلك إلى ¬
التحريمِ. 6 - وصومُ يومِ الشكِّ (¬1). . كذا قال (¬2) المَحامِلِيُّ (¬3)، وهو حرامٌ لا لقضاءٍ أو موافقةِ نذرٍ أو وِردٍ. 7 - وفِي النصفِ الأخيرِ مِن شعبانَ، إنْ لَم يَصُمْ قَبْلَه أو كانتْ له عادةٌ والمختارُ: أنَّه لا يجوزُ لِغيرِهما. 8 - وصومُ يومِ عرفةَ للحاجِّ. 9 - وأن يتطوعَ وعليهِ صومُ رمضانَ. 10 - 11 - 12 - وأن يصومَ يومَ (¬4) الجمعةِ مُفرَدًا، أو السبتِ، قيل: أو الأحد. 13 - أو يصومَ الدهرَ مع خِيفةِ ضَررٍ أو فَوتِ حقٍّ ومحبوبٍ لغيرِه. * * * * وأما المحرَّمُ فخمسةٌ (¬5): ¬
1 - يومُ الفِطرِ. 2 - ويومُ النحرِ. 3 - وأيامُ التشريقِ لا لِمُتمتِّعٍ لَمْ يجدِ الهَدْيَ علي المختارِ، وقد يضافُ إلى ذلك ما سبقَ تحريمُه مِن الشكِّ وغيرِه. 4 - ومِن المُحرَّمِ صومُ الحائضِ والنُّفَساءِ. 5 - ويومُ الشكِّ (¬1) هو الثلاثونَ مِن شعبانَ إذا تَحدثَ برؤيتِه مَن لا يُعتمدُ. * * * ¬
باب الاعتكاف
باب الاعتكاف وهو (¬1) مختصٌّ بالمسجدِ، [والجامِعُ أولى. وليس شيءٌ، مِن العباداتِ يَختصُّ بالمسجدِ] (¬2) بأصلِ الشرعِ إلَّا اثنانِ (¬3): الاعتكافُ والطوافُ (¬4)، وينبغِي أن يُضافَ إلى ذلك تحيةُ المسجدِ. وأما بالنذرِ فسيأتِي في بابِه. وهو مُستحبٌّ ولا يَختصُّ بزمانٍ، ولكنه في العَشرِ الأواخرِ مِن شهرِ رمضانَ آكَدُ (¬5) اقتداءً بالنبيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- وطلبًا لليلةِ القَدْرِ. ويجبُ فيه أمرانِ: النيةُ، واللُّبْثُ بقدْرِ ما يسمى عُكوفًا ولو لحظةً. ويُسنُّ أن يكونَ يومًا، وأن يصومَ فيه. ويكرهُ فيه الاحترافُ بالخياطةِ ونحوِها، والبيعُ والشِّراء. ¬
ويكرهُ ذلك أيضًا لغيرِ المعتكِفِ في المسجدِ. ويحرمُ (¬1) الجماعُ والمباشرةُ بشهوةٍ. وشرطُ (¬2) المعتكِفِ: الإسلامُ والعقلُ والنقاءُ عن (¬3) الحيضِ والجنابةِ. * * * ويَبطلُ الاعتكافُ لا فيما مضَى -غير المنذور تتابُعُه- بعشرةِ أشياءَ (¬4): (1) الإيلاجُ في قُبلٍ أو دُبرٍ (¬5). (2) والإنزالُ بلمسٍ أو (¬6) بِشَهْوةٍ (¬7) (¬8). (3) ومباشرةٌ فيما دون الفرجِ لا بمجردِ اللمسِ ونحوِه على الأصحِّ. (4) والسُّكْرُ. ¬
(5) والرِّدةُ. (6) والجَنابةُ. (7) والحيضُ. (8) والنِّفاسُ. (9) والجنونُ. (10) والإغماءُ. والخروجُ مُطْلَقًا فِي الاعتكاف المُطْلَقِ، أو الخروجُ لغيرِ قضاءِ الحاجةِ فيما عَيَّنَ مِن المُدةِ مِن غيرِ نذرٍ. ومجردُ نيةِ الخروجِ لا تُبطِلُ الاعتكافَ على الأصحِّ، والأرجحُ خلافُه [كما في الصَّومِ] (¬1). * * * وأما المنذورُ المشروطُ تتابُعُهُ -كما في الصوم- فيَبطلُ ما مضى منه باثنَيْ عَشرَ شيئًا: (1) الإيلاجُ. (2) والإنزالُ بلَمسٍ ونحوِه. (3) والسُّكْرُ. ¬
(4) والردةُ. (5) والحيضُ (¬1) في مدةٍ يَنفكُّ عنها الحيضُ غالبًا، ومثلُه في النِّفاسِ بالقياسِ. (6) والخروجُ لِحَقٍّ وَجبَ عليه، وهو مُقصِّرٌ بالمُماطَلةِ. (7) والخروجُ لأداءِ شهادةٍ لَم يَتعينِ الأداءُ أوْ تعينَ ولمْ يَتعينِ التحمُّلُ. (8) والخروجُ لِحدٍّ ثبَتَ بإقرارِه. (9) ولِصلاةِ الجُمعةِ (¬2). (10) ولِتَمَامِ الحجِّ. (11) ولِمرضٍ لا يَشقُّ معه المُقام (¬3) في المسجدِ، فإنْ شَقَّ لمْ يَبطلْ على الأظهرِ، وكذا في الجُنونِ والإغماءِ. وحيثُ لم يَخرجْ، يُحسبُ زمنُ الإغماءِ مِن الاعتكافِ دون الجُنونِ (¬4)، فيكونُ كما لو خرجَ (¬5). (12) والخروجُ لِغيرِ عُذرٍ. ¬
ولا يجوزُ للمُعتكِفِ أن يَخرُجَ مِن المسجدِ إذا كانَ اعتكافُه واجبًا قَبْلَ أَنْ يَنقضِيَ الواجبُ، إلَّا بواحدٍ مِن أحدٍ وعشرينَ شيئًا (¬1): الأولُ: الأكلُ. الثاني: الشربُ، إن لمْ يجِدِ الماءَ في المسجِدِ (¬2). الثالثُ: قضاءُ حاجةِ الإنسانِ، وهي البولُ أو الغائطُ (¬3)، ولا يُكلَّفُ فعلَ ذلك في سقايةِ المسجدِ، ولا فِي دارِ صديقِه التي هي بجانبِ المسجدِ، بل له الخروجُ إلى دارِه لا (¬4) إن تفاحَشَ البُعدُ، إلَّا أن لا يجدَ في طريقِه موضِعًا، أو لا يليقَ بحالِه قضاءُ الحاجةِ في غيرِ دارِه، ولا يَعدِلُ إلى البُعدى من دَارَيه على الأصحِّ، ولا يَتأنَّى أكثرَ مِن عادتِه. وله التوضُّؤُ حينئذٍ خارجَ المسجدِ، وله عيادةُ المريضِ إذا لَم يطلْ، ولم يَعدِلْ عنِ الطريقِ، وله الصلاةُ علي الجنازةِ وضبطُ القصير (¬5) بقدْرِها. الرابعُ: أن يَخرجَ للأذانِ، فيصعدَ المَنارةَ، ولو (¬6) كانتْ منفصلةً عن ¬
المسجدِ، إذا كان المؤذِّنُ راتبًا. الخامسُ: الخروجُ للحيضِ الذي لا يَقطعُ التتابعَ. السادسُ: الخروجُ للنفاسِ كذلك. السابعُ: الخروجُ للمرضِ الذي يَشقُّ معه المُقامُ في المسجدِ. الثامنُ: الخروجُ للإغماءِ كذلكِ. التاسعُ: الخروجُ للجُنونِ كذلك. العاشرُ: الخروجُ للعِدَّةِ (¬1). الحادي عَشرَ: لِلقَيْءِ. الثاني عَشرَ: لِخوفِ السُّلطانِ. الثالثَ عَشرَ: الخروجُ لغُسلِ الاحتلامِ، وإنْ أَمكنَ في المسجدِ. الرابعَ عَشرَ: خَرجَ ناسيًا. الخامسَ عَشرَ: خَرجَ مُكرَهًا. السادسَ عَشرَ: خَرجَ (¬2) خَوفًا مِن ظَالِمٍ. السابعَ عَشرَ: هَدْمُ المسجدُ. ¬
الثامنَ عَشرَ: خرجَ لِوقوعِ نَفيرٍ يُخافُ على البلدِ منه. التاسعَ عَشرَ: خَرجَ لأداءِ شهادةٍ تَعيَّنتْ عليه عند الأداءِ والتحمُّلِ (¬1). الموفى (¬2) عشرونَ: خَرجَ لِحدٍّ ثَبتَ عليهِ بالبيِّنةِ. الحادي والعشرونَ: الخروجُ للمشروطِ، ولكلِّ (¬3) شُغلٍ دِينِي أو دُنيوَي. في قوله: "إلَّا لشغلٍ (¬4) لا النَّظَارَةَ والتنزهَ". وحيثُ زالَ ما ذُكرَ عادَ للبِناءِ على الفَورِ (¬5) في هذه الأمورِ كلِّها، ويَقضِي ما فاتَ غيرَ قضاءِ (¬6) أوقاتِ الحاجةِ، وغيرَ الزمانِ المصروفِ إلى المُستثنَى في حالةِ تَعيينِ المُدةِ. ولا يجبُ تجديدُ النيةِ في ذلك كلِّه عندَ العَوْدِ إلى الاعتكافِ، واللَّهُ أعلمُ. * * * ¬
كتاب الحج
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ كتاب الحج [فيه لُغتانِ: فتحُ الحاءِ وكسرِها] (¬1). وهو (¬2) لغةً: القصدُ، أو قَصْدًا لِمُعَظَّمٍ. وفِي الشَّرعِ: عبارةٌ عنْ قَصْدِ البيتِ العَتيقِ بإحرامٍ مَخصوصٍ، مُشتمِلٍ على وقوفٍ وغيرِه على وجهٍ مخصوصٍ، قال اللَّهُ تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (195) وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ}. وهو أَحدُ أركانِ الإسلامِ، وهل تجبُ العُمرةُ؟ قولان: أصحُّهُما الوجوبُ (¬3). ¬
والوجوبُ علي التراخِي إلَّا في موضِعٍ واحدٍ، وهو ما إذا استطاعَ بنفسِه ثُم عُضِب، فإن الاستنابةَ تتضيقُ عليه (¬1)، ولكن لا يُجبَرُ عليها. ولا يجبُ الحجُّ والعمرةُ إلَّا بسبعِ شرائطَ (¬2): (1) الإسلامُ. (2) والبلوغُ. (3) والعقلُ. (4) والحريةُ. (5) والاستطاعةُ. (6) والإمكانُ. (7) والوقتُ. هكذا ذكر المَحامِلِيُّ (¬3) (¬4). والإمكانُ مِنْ جُملةِ أمورِ الاستطاعةِ، وسيأتي. والوقتُ يتعلقُ بالحجِّ، فلا يجبُ ذلك على الكافرِ الأصليِّ على معنى: أنَّا ¬
لا نَطْلُبُ منه الفِعلَ، وإن كان (¬1) الكافرُ مخاطَبًا بفروعِ الشريعةِ. ومَن حجَّ ثم ارتدَّ لمْ يَبطُلْ حجُّه على معنى أنَّه لا يُؤمَرُ بالقضاءِ إذا أَسْلمَ، وإلا فالرِّدةُ بمُجرَّدِها تُحبطُ العملَ على معنى ذَهابِ الأجرِ. نصَّ عليه. ومَن ارتدَّ قَبْلَ أن يَحُجَّ فتعلُّقِ الحجِّ باقٍ عليه. ولا يجبُ الحجُّ على صبيٍّ، ولا مجنونٍ لمْ يوجدْ فِي حالِ عَقلِه بعد بُلوغِه ما يَقتضِي إيجابَ الحجِّ، فإن وُجد ثم جُنَّ لمْ يَسقطِ الإيجابُ، حتَّى لو أفاقَ اكتفى في الإيجابِ بما (¬2) سَبقَ، أو ماتَ قُضيَ مِن تَرِكَتِه، ولا يُستنابُ عنه في حالِ جُنونِه، فإنِ استنابَ وليُّه عنه، فماتَ مجنونًا فأظهرُ القولَينِ: لا يُجزِئُه، [فإنْ كان مع جُنونِه مَعضُوبًا أجزأَ عنه قَطْعًا. قلتُه تَخريجًا. وليس لنا موضعٌ يَسقطُ فرضُ الحجِّ وعمرتُه بالنيابةِ عن المجنونِ (¬3) إلَّا في هذا الموضعِ] (¬4). والذي يُجنُّ ويُفيقُ عليه الحجُّ إذا حصلتِ الإفاقةُ زمنًا يقتضِي الإيجابَ، فلا يجبُ على العبدِ، يستوِي المُكاتَبُ والمبعَّضُ وغيرُهما. وكل مَن لا يجبُ عليه يصحُّ منه إلا الكافرَ، فلا شَرْطَ للصحةِ غيرَ (¬5) الإسلامِ. ¬
وصحتُه مِن المجنونِ والصبيِّ الَّذي لا يُميِّزُ بإحرامِ وليِّه، ويُحضِرُه المواقفَ ويأمرُه مقدورَه، والمميِّزُ يُحرِمُ بإذنِ وليِّه (¬1). فللمباشرةِ شرطانِ: (1) الإسلامُ. (2) والتمييزُ بإذنِ الوليِّ. ومَن صحَّ منه مع وجودِ نقصٍ مِن صبًى أو رِقً لا يَسقطُ به الفرضُ إلَّا إذا زالَ نقصُهما ووقفَا (¬2) في حالةِ الكمالِ (¬3) أو طافَا في العُمرةِ، فإنه يَسقطُ فرضُهما ويُعيدَان (¬4) السعيَ، إن كانَا قد سَعيَا في حالةِ النَّقصِ، ولا دَمَ عليهما. وإنْ أفاقَ المعتوهُ بعد الإحرامِ وقبْلَ الوقوفِ، فإن كان هو الَّذي أَحرَمَ في حالِ عقلِه، ثم أتى بالوقوفِ وبقيةِ الأركانِ وهو مُفيق سَقطَ عنه الفرضُ، وإن كان وليُّه أحرمَ عنه لَمْ يَسقطْ. وظاهرُ النصِّ فيما (¬5) إذا أفاقَ في المِيقاتِ ودامتْ له الإفاقةُ حتَّى فرغَ مِن أركانِ الحجِّ أنَّه يُجزئُه عن حجةِ الإسلامِ مع تصوره (¬6) بأن وليَّه أحرمَ عنه. ¬
وذَكرَ المَحامِلِيُّ -فيما إذا أفاقَ المعتوهُ بعد الإحرامِ وقبْلَ الوقوفِ- وجهَينِ على اختلافِ حالَينِ؛ لِأنَّه إن عادَ إلى الميقاتِ وأحرمَ منه، فقد صحَّ عنه، وإن لَمْ يَعُدْ إلى الميقاتِ وأحرمَ من حيثُ هو (¬1) فلا يصِحُّ، وعليه الهَدْيُ والقضاءُ في أحدِ القولَينِ، وهو كلامٌ غيرُ مُستقيمٍ. * * * والاستطاعةُ نوعانِ: استطاعةٌ بنفْسِه، واستطاعةٌ بغيرِه (¬2). فالأول يعتبَرٌ (¬3) فيها خمسةُ أُمورٍ: الأولُ: الراحلةُ (¬4) لمن لا يقوى (¬5) على المَشي في السفرِ القصيرِ، ويُعتبَرُ مع الراحلةِ ما يقتضِيه الحالُ مِن مَحمَلٍ ونحوِه (¬6). الثاني: الزادُ وأوعيتُهُ حتَّى السُّفرةُ، وأن يجدَ الزادَ والماءَ (¬7) في المواضعِ المعتادةِ بعِوَضِ المِثلِ، وأن يبدَ عَلفَ الدابةِ في كلِّ مرحلةٍ (¬8). ¬
الثالثُ (¬1): الطريقُ. الرابعُ (¬2): البَدَنُ. الخامس (¬3): إمكانُ السيرِ. * * * وما تقدَّمَ في الراحلةِ والزادِ يُعتبَرُ وجودُه ذَهابًا وإيابًا لا لكاسبِ يَومٍ ما (4) ما (¬4) يكفيه لأيامٍ في السفرِ القصيرِ، والمكيُّ إذا استطاعَ وهو خارجَ مكةَ لا تُعتبَرُ نفقةُ الإيابِ في حقِّه. وأما الطريقُ: فيُشترطُ فيه الأمنُ في النفْسِ والبُضْعِ والمالِ: فمَن خافَ مِن سَبُعٍ أو عدوٍّ لا يَلزمُه الحجُّ إن لمْ يجدْ طريقًا سِواهُ. ومَن خافَ مِن عدوٍّ ولمْ يكنِ الخوفُ عامًّا لأهلِ ناحيتِه (¬5)، فالإيجابُ متوجهٌ إليه، ويُقضَى من تركتِه. نصَّ عليه. ويَلزمُ ركوبُ البحرِ إن غَلَبتِ السلامةُ (¬6). وأما البُضعُ: فلا يجبُ على المرأةِ حتَّى تأمنَ على نفسِها بزوجٍ أو مَحرمٍ ¬
أو عبدِها، ذَكرَه المرعشيُّ، وهو مُقتضَى كلامِهم في النظَرِ، أو نسوةٍ ثقاتٍ، والواحدةُ كافيةٌ للجوازِ، ولا يجوزُ سفرُها مع النسوةِ في التطوعِ (¬1) على الأصحِّ (¬2). وأما المالُ: فمَن خافَ عليه مِن قاطعٍ أو رَصَدِيٍّ لم يجبِ الحجُّ إن كان الخوفُ عامًّا لأهلِ ناحيتِه، كما تقدمَ. وأما البَدَنُ: فيُعتبَرُ لاستطاعةِ مباشرتِه أن يَستمسِكَ على الراحلةِ بِلا مشقةٍ شديدةٍ، ويُعتبَرُ وجودُ قائدٍ في (¬3) حقِّ الأعْمى. وأما إمكانُ السيرِ: وهو أن يَبقَى مِن الزمانِ عندَ وُجودِ الزادِ والراحلةِ ما يُمْكنُ السيرُ فيه (¬4) إلى الحجِّ السيرَ المعهودَ، فإنْ لَمْ يَبْقَ ذلك لمْ يَلزمْهُ الحجُّ، وهو الَّذي تقدَّمَ في شرائطِه. وأما (¬5) الوقتُ: فلا بد من، وأن يُوجَطَ المعتَبرُ في الإيجابِ في الوقتِ، فلو فلو استطاعَ في شهرِ رمضانَ، ثم افتقرَ قبْلَ مجيءِ شوالٍ، فلا استطاعةَ، وكذا لو افتقرَ بعد حجِّهم وقبلَ الرُّجوعِ لمن (¬6) يُعتبَرْ في حقِّه الذَّهابِ والإيابِ. ¬
والثانية (¬1): الاستطاعةُ بغيرِه، فمَن لا يستمسكُ (¬2) على المركوبِ لإحدى العللِ الثلاثِ وهِي: (1) العضبُ في البَدَنِ. (2) أو كِبَرُ سِنٍّ. (3) أو ضعفُ خِلقةٍ. فتلحقُه مشقةٌ عظيمةٌ بالركوبِ، وهو يجِدُ ما يَستأجرُ بِهِ مَن يحجُّ عنه فاضلًا عن نفقةِ مَن تَلزمُه نفقتُه يومَ الاستئجارِ، فيلزمُه ذلك (¬3). ولو لمْ يجِدْ أجيرًا إلَّا بأكثرَ مِن أُجرةِ المِثلِ، لمْ يَلزمْه. ومَن بِه إحدى العِللِ الثلاثِ إذَا لمْ يجِدْ مالًا، ووجدَ مَن يَبذلُ له الطاعةَ بالبدَنِ مِن قريبٍ أو أجنبِيٍّ (¬4) فيلزمُه ذلك (¬5) لَا في بذْلِ المالِ، ولَا فِيما إذا كان الولدُ ماشِيًا أو مُعوِّلًا على الكسبِ والسؤالِ. وقياسُ ما سَبَقَ أَنْ يُلزَمَ في السفرِ القصيرِ في الماشِي القويِّ، ومَن يَكسِبُ ما يَكفيه لأيَّامٍ. والحاجُّ عن غيرِه بِلا رِزقٍ ولا أُجرةٍ هُو المُتطوعُ. ¬
ولا يَحُجُّ أحدٌ عن المعضوبِ (¬1) إلَّا بإذنِه؛ [على ما صحَّحُوه وهو مُشكِلٌ، والأقوى جوازُه بغيرِ إذنِه] (¬2)، والمرزوقُ مَن يقول له: حُجَّ عنِّي، ويُعطيهِ (¬3) نفقةَ الطريقِ، ولو استأجرَ بالنفقةِ لمْ يصحَّ لجهالتِها، والأجيرُ مَن يستأجرُه لِيَحُجَّ عنه، فتكونُ إجارةً لازمةً، فجميع ذلك صحيحٌ جائزٌ، ويقعُ الحجُّ عن المحجوجِ عنه، ويَسقطُ بذلك فرضُه. * * * ¬
باب المواقيت
باب المواقيت وقْتُ الإحرامِ بالحجِّ: شوَّالٌ، وذُو القَعدةِ، وعَشرُ ليالٍ مِن ذِي الحَجةِ، فلو (¬1) أحرمَ به قبْلَ وقتِه انعقدَ عُمرةً (¬2)، أو فيه بحَجَّتَينِ انعقدَ بأحدِهما (¬3)، ولا يُنشأ فيه حجةٌ ثانيةٌ، فلا أصلَ له. ووقتُ العُمرةِ: جميعُ السَّنةِ لا لِمُحرِمٍ بِحَجٍّ (¬4)، أو (¬5) لعاكفٍ بمنًى لرمْيِ أيامِ التشريقِ. والمختارُ جوازُ إدخالِ العُمرةِ على الحجِّ، خلافًا لما صحَّحُوه. والأقربُ خلافُ ما جَزمُوا به أنَّه يجوزُ أن يُحرِمَ العاكفُ بمنًى بالعُمرةِ؛ إذ ليس هو متلبسًا بإحرامٍ، ويُمكنُ الجمعُ بين العَمَلَينِ. ¬
ولا يُتصورُ إحرامٌ لعملِ (¬1) حجٍّ في غيرِ الوقتِ السابقِ، إلَّا في صورةٍ واحدةٍ: وهِي ما إذا أُحصرَ بعد الوُقوفِ، فتحلَّلَ، ثم انكشفَ الإحصارُ: فالجديدُ: لا يجوزُ البِناءُ. والقديمُ: يجوزُ البِناءُ، فَعَلى القَدِيمِ: يُحرِمُ إحْرَامًا ناقصًا (¬2)، ويأتي ببقيةِ الأعمالِ. * * * وأما الميقاتُ المكانِيُّ: فللمُقيمِ بمكةَ الحجُّ (¬3) وإنْ قَرَنَ نفسُ مكةَ، وقد صحَّ إحرامُ النبيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- وأصحابِه مِن البَطْحاءِ (¬4). وأما العُمرةُ: فلا بد فيها مِن الخروجِ إلى أدْنى الحِلِّ ولو بخُطوةٍ. وأفضلُ أطوافِ (¬5) الحلِّ: الجِعِرَّانةُ، ثُم التَّنعيمُ، ثُم الحديبيَةُ (¬6)، ثُم (¬7) بعدُ بعدُ بطنُ وادٍ. ¬
فإنْ أَحرمَ بالعمرةِ في الحَرمِ وعمِلَ الأعمالَ فالإحرامُ صحيحٌ قطْعًا، والأصحُّ صحةُ بقيةِ الأعمالِ ولزومُ دمٍ. وأما الأفاقِيُّون: فميقاتُ المتوجِّهِينَ مِن المدينةِ: ذُو الحُليفةِ. ومن الشامِ ومصرَ والمغربِ: الجُحْفةُ. ومن تِهَامة اليمنِ: يَلَمْلَمُ. ومن نَجْدِ اليمنِ ونجْدِ الحجاز: قَرْنٌ (¬1). ومن المشرقِ ذاتُ عِرْقٍ، وهل ثبت بالاجتهادِ أو بالنَّصِّ؟ خلافٌ. والمستحبُّ: أن يُحرِمُوا مِن العَقيقِ، وهو قبل ذاتِ عِرْق، ومَنْ مسكَنُهُ بينَ الحرَمِ والميقاتِ فميقاتُه مسكنُه، ومَنْ سَلَكَ طريقًا لا ميقاتَ فِيهِ أَحرمَ عند مُحاذاة واحدٍ، فإنْ لمْ يُحَاذِ (¬2) مِيقاتًا أَحرمَ إذا بقِيَ بينه وبينَ الحَرمِ مَرْحلتانِ. * * * ¬
باب وجوه أداء الحج والعمرة
باب وجوه (¬1) أداء الحج والعمرة يُفعلُ الحَجُّ والعُمرةُ على أربعةِ أنواعٍ، عنْ فرْضِ الإسْلَامِ، والقضاءِ، والنَّذْرِ، والنَّفْلِ (¬2). ولا يجتمعُ فرضُ الإسلامِ والقضاءُ [إلَّا في صورتَينِ: حجَّ صبيٌّ، أو اعتمرَ، فأفسدَ، ثم بلغَ، فعليهِ فرضُ الإسْلامِ والقضاءُ] (¬3). وكذلك في الرقيقِ يَعْتِقُ. كذا (¬4) قالوا. وتَرِدُ عليهم صورتانِ، وهما الفواتُ في الصَّبِي والرِّقِّ (¬5)، فإنَّهُ (¬6) يَلزمُ القضاءُ كالفسادِ، ويتَصورُ الفواتُ في العمرةِ تبعًا في القِرَانِ فالصورُ ثمانيةً. والمرادُ بالنذرِ غير (¬7) قولِ مَنْ لمْ يَحُجَّ (¬8): "للَّه عليَّ أَنْ أحُجَّ هذِه السنةَ"، ¬
فإنه يَخرجُ به عنْ فرضِه ونذرِه. ولا يجوزُ أن يَحُجَّ أحدٌ عن أحدٍ، ولا أن يَعتمِرَ عنه (¬1) إلَّا بعد أن يؤدِّيَ عن نفسِهِ حَجَّةَ الإسلامِ وعُمْرَةَ الإسْلامِ والقضاءِ والنَّذرِ، فَإِنْ أحرمَ عن غيرِه قبْل ذلك انصرفَ إلى فرضِهِ. ويجوزُ أن يَحجَّ عَن غيرِه إذا كان قد حجَّ عَن نفْسِه وإنْ لَم يَعتمِرْ عَن نفسِه، وكذا في العُمرةِ. والقضاءُ مقدَّمٌ (¬2) على النذرِ، فلو نَوَى عن النَّذرِ انصَرفَ إلى القضاءِ. والنَّذرُ مقدَّمٌ على النَّفلِ، فلو أحرمَ بالنَّفلِ انصَرفَ إلى النَّذرِ (¬3). [وكذا لَو أحْرمَ بالنَّفلِ وعليهِ فرضٌ، انصَرفَ إلى الفرْضِ] (¬4)، وتقعُ الفروضُ دَفعةً واحدةً للمعضوبِ مِن جماعةٍ. وذَكرَ المَحامِلِيُّ في الصرورة (¬5) -وهو الَّذي لم يَحُجَّ- صورتَينِ، يتقدَّمُ فيهما عُمرةٌ غير (¬6) فرْضٍ على عُمرةِ الفرضِ، وكلامُهُ في ذلك منتَقَدٌ (¬7)، وسيأتي في الفَواتِ. ¬
ويؤدَّى الحجُّ والعمرةُ على ثلاثةِ أنواعٍ: (1) إفرادٌ. (2) وتمتُعٌ. (3) وقِرانٌ. ويقعُ الإحرامُ في أشهرِ الحجِّ مُطْلَقًا ومُعينًا، والتعيينُ أَولى في الأصحِّ، ثُم المُطْلَقُ يُصرفُ بالنيةِ إلى نُسُكٍ مُعينٍ أوكِلَاهُما (¬1). * * * 1 - فالإفرادُ: أن يُفرِدَ الإحرامَ بالحجِّ، فإذا فَرَغَ مِن أعمالِه أَحرمَ بالعمرةِ وأتى بأعمالِها (¬2). 2 - والتمتُّعُ: المُوجِبُ للدمِ: أن يُحرمَ بالعُمرةِ في أشهُرِ الحجِّ مَنْ على مسافةِ القصرِ مِنَ الحَرَمِ، إلَّا المكيَّ الَّذي لم يَتوطَّنْ بلذا بالمسافةِ المذكورةِ أو فوقَها (¬3)، أو لمْ يَصِرْ مُقيمًا عند المُتَولَي، ثم بعدَ فراغِه مِنَ العُمرةِ يُحرِمُ ¬
بالحجِّ تلك السنةَ بلا عَودٍ إلى ميقاتِ الأفقِي (¬1) (¬2). ولا يُعتَبَرُ أن يكونَ النُّسكانِ في شهرٍ واحدٍ، ولا عن شخصٍ واحدٍ، ولا نِيَّةُ (¬3) التمتُّعِ على الأصحِّ في الثلاثةِ، ولا التمتعِ بين النُّسكينِ، خلافًا لما أَغربَ به المَحامِلِيُّ (¬4)، جازمًا به. وإذا فُقِد واحدٌ مِنَ الشروطِ ولكنْ تقدمتِ العمرةُ فهو متمتعٌ لا دَمَ عليه (¬5). 3 - والقِرانُ على أربعةِ أنواعٍ (¬6): 1 - أحدُها: أن يُحرمَ بالحجِّ والعمرةِ معًا. ¬
2 - الثاني: أن يُحرمَ بالعمرةِ في أشهُرِ الحجِّ ثُم يُدخلَ عليها الحجَّ قبْلَ الطوافِ. 3 - الثالثُ: أن يُحرمَ بالعمرةِ قبْلَ أشهُرِ الحجِّ [ثُم يُدْخِلَ الحجَّ في أشْهُرِهِ] (¬1)، وهذا ممنوع عندَ عامَّةِ الأصحابِ؛ خِلافًا للقفَّالِ وغيرِهِ مِمنْ قَطَعَ أو صحَّحَ. 4 - الرابعُ: أن يُحرمَ بالحجِّ، ثُم يُدخلَ العُمرةَ عليه، فالجديدُ منْعُهُ (¬2)، والمختارُ جوازُه لِصحَّة ذلك مِن فِعْلِ النبيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- وقد قالَ: "خُذُوا مناسِكَكُم عنِّي" (¬3)، ثم يمتدُّ الجوازُ ما لَم يَشرعْ في طوافِ القُدومِ على الأرْجَحِ. وأفضلُها: الإفرادُ، [وإن (¬4) لَم يَعتمرْ في سَنَةِ الحجِّ] (¬5) خِلافًا لِمَن اعتبرَ ذلك جازمًا به مُحتجًّا (¬6) بأن تأخيرَ العُمرةِ عن سنةِ الحجِّ مكروهٌ إذ يُمنع ويُقَابَلُ بأن سَفرينِ لنُسُكينِ أبلغُ في المشقَّةِ، ثُم التمتعُ، ثُم القِرانُ، والمختارُ تفضيلُ القِرانِ (¬7)، ¬
ووجوبُ الدمِ لا يَمنعُ (¬1) مِن ذلك، ولا دَمَ بالقِرانِ على حاضِرِي المسجِدِ الحَرَامِ، [ولا على مَن عادَ مِن القارِنينَ إلى المِيقاتِ قبْلَ عرفةَ على نصِّهِ في الإملاءِ] (¬2). وَمَنْ تمتَّعَ ثم قَرنَ فعليه دَمانِ ولو في تِلك السُّنَّةِ. * * * ويَشتملُ الحجُّ والعمرةُ على أركانٍ وواجباتٍ وسننٍ ومحرماتٍ ومكروهاتٍ. ¬
باب أركان الحج والعمرة وواجباتهما وسننها
باب أركان الحج والعمرة (¬1) وواجباتهما وسننها (¬2) أركان الحجِّ سِتَّةٌ (¬3): 1 - [أولُها (¬4): الإحرامُ، وهو غَيرُ النيةِ، فلا يصحُّ الإحرامُ (¬5) إلَّا بالنيةِ، وليس هو التجرُّدَ عنِ المَخيطِ ونحوِه، فذاكَ واجبٌ يُجبرُ بالدمِ، وإنما هو صفةٌ حاصلةٌ للداخِلِ في حجٍّ أو عُمرةٍ بنيةٍ معتبَرةٍ، تَبْطُلُ هذِهِ الصفةُ بالرِّدَّةِ. 2 - الثاني: الوقوفُ بعرفةَ لحظةً بعْدَ زوالِ الشَّمسِ مِن (¬6) اليومِ (¬7) التاسعِ مِن ذِي الحجَّةِ إلى طُلوعِ فجرِ النحرِ، ولو معَ النومِ، أو مرورٍ لطلبِ غَريمٍ ¬
ونحوِه، إلَّا (¬1) مع الإغماءِ، ولو حَصلَ الغَلطُ لا لِشِرْذِمِةٍ قليلةٍ، فوَقَفُوا في العاشِرِ صَحَّ (¬2)، لا في الثامِنِ أو الحادي عشرَ ولا في غيرِ المكانِ، وهذانِ الركنانِ متى فُقِدَ أحدُهما لم يَحصُلِ الحجُّ (¬3). 3 - الثالثُ: طوافُ الإفاضةِ (¬4) ويَدخلُ وقتُه بانتصافِ ليلةِ النحرِ لِمَن وقفَ، وإلا فلابدَّ مِن تقدُّمِ الوقوفِ، ولا آخِرَ لوقتِهِ. 4 - الرابعُ: السعيُ بَينَ الصَّفا والمروةِ سَبْعًا؛ يُحسبُ الذَّهابُ مرةً، والعودُ أخرى، والمعتبرُ الابتداءُ بالصفا (¬5). وللحاجِّ أن يُقدِّمَ السعيَ بعْدَ طوافِ القُدومِ ما لَمْ يقِفْ بِعرفاتٍ، وله أَنْ يؤخِّرَه حتَّى يَفرغَ مِن طوافِ الإفاضةِ، ويَتعينُ هذا التأخيرُ فيما إذا وقفَ ولَمْ يكنْ سَعَى. 5 - الخامسُ: الحلْقُ في وقتِه، وهو انتصافُ ليلةِ النحرِ (¬6)، ولو قَبْلَ ¬
طَوافِ الإفاضةِ والرمي، بشرط (¬1) تقدُّمِ الوقوفِ. 6 - السادسُ: الترتيبُ لا في الحلْقِ والطوافِ، كذا قيل ينبغي أن يُعَدَّ مِنَ الأركانِ كما في الوضوءِ والصلاةِ، وهو ممنوعٌ، فالإحرامُ صفةٌ دائمةٌ، والوقوفُ مؤقتٌ، والسعيُ يقعُ قَبْلَهُ مرةً، وبَعدَه بعْد طوافِ الإفاضةِ أُخرى، وطوافُ الإفاضةِ مؤقَّتٌ (¬2)، وإنْ كان لا يقعُ إلَّا بَعْدَ الوقوفِ، وكذلك الحلقُ مؤقتٌ، ويَتقدمُ على الطوافِ، فانتفى الترتيبُ. وما سِوَى الوقوفِ إنْ كان (¬3) في العُمرةِ، ويقوَى اعتبارُ التَّرتيبِ فِيها فإنَّه (¬4) إذا أَحرمَ طافَ ثُم سَعى ثُم حلَقَ. * * * * وأما الواجباتُ: وهي (¬5) التِي تُجبَرُ بالدَّمِ فخمسةٌ: 1 - الأولُ: الإحرامُ مِن الميقاتِ، إلَّا ناسيًا، كذا استثنَى المَحَامِلِيُّ (¬6)، ¬
وهو راجحٌ، والمعروفُ أنَّ الدَّمَ واجبٌ على الناسِي والجاهِل، ولكنْ لا إِثمَ، وهذا الواجِبُ يَشتركُ فِيهِ الحَجُّ والعُمرةُ، ويَسقطُ فيه الدمُ بالمجيءِ إلى الميقاتِ قَبْلَ التلبُّسِ بنُسكٍ، وبقيةُ ما يذكرُ مختصٌّ بالحجِّ إلَّا طوافَ الوداعِ. 2 - الثاني: المبيتُ بمُزدلفةَ، والمعتبرُ حُضورُ ساعةٍ في النِّصفِ الثَّانِي، نصَّ عليه. * وتُستثنى ستةُ مواضعَ: 1 - مَن انتَهَى إلى عَرَفَةَ ليلَةَ النَّحرِ، واشتَغَل بالوقوفِ عن مَبيتِ مُزدلِفَةَ. 2 - أو أفَاضَ مِن عرفاتٍ إلَى مكَّةَ، فَطافَ الإفَاضَةَ (¬1)، ففاتَهُ (¬2) المبِيتُ عندَ القفَّالِ (¬3)، وفِيهِ احتِمالٌ راجِحٌ. 3 - أو لَهُ مالٌ يخافُ ضياعَهُ. 4 - أو مريضٌ يتعهَّدُهُ. 5 - أو يطلُبُ آبِقًا. 6 - أو يشتغِلُ بأمرٍ يَخافُ فوتَهُ. 3 - الثالث: الرَّمْيُ، وهو يشمَلُ (¬4) رَمْيَ جمرةِ العقَبَةِ، ورَمْيَ أيَّام التَّشريقِ، ¬
وجمعْنَاهَا كُلَّها لِيُفهَمَ أنَّ تارِكَها كُلَّها يلزمُهُ دَمٌ واحِدٌ؛ على أصحِّ الأقوال، كَمَا هُو مُقتضى كلامِ الجُمْهورِ (¬1) خِلافًا للبغوِيِّ، حيثُ رجَّح تعدُّدَ الدِّماءِ بتعدُّدِ (¬2) الأيَّام. ويدخلُ وقتُ (¬3) رمْي جمرةِ العقبةِ بِانتِصافِ ليلَةِ النَّحْرِ لِمنْ وَقَفَ وإلَّا فلا بُدَّ مِن تقدُّم الوقُوفِ. والأفضلُ: أَنْ يرمِيَ بعدَ طُلُوع الشمْسِ، وينتهي وقتُ الاختيار بغروبِها، ويدخُلُ رفي بقيَّةِ الأيَّام بِزوالِ الشَّمسِ، وينتهِي في الكلِّ وقتُ الاختيارِ بِغروبِها، فلو رَمَى ليلًا كان أداءً، والمتروكُ يُتداركُ سابقًا على وظيفةِ الوقتِ ويقعُ أداءً فَمَا دَخَلَ وقتُهُ يبقى جوازُهُ إلى آخِرِ أيَّام التشرِيقِ. * * * * ضابطٌ: ليس لنا عبادةٌ مؤقتة لها وقتُ فضيلةٍ ووقتُ اختيارٍ ووقتُ جوازٍ إلَّا هنا، وما تقدَّم في الصَّلاةِ. * * * ويزدادُ رمْيُ جمرةِ العَقَبةِ أنَّ الأفْضَلَ تأخِيرُهُ عنْ أوَّلِ وقتِهِ إلى طُلُوع ¬
الشمسِ، ولهُ شَبهٌ بِشِدَّةِ الحرِّ، ونحوِهِ مِمَّا الأفضلُ فيهِ التأخيرُ عنْ أوَّلِ الوقْتِ. ويرْمِي جمرَةَ العَقَبةِ سبْعًا، وكلَّ جمرةٍ مِنْ أيَّام التَّشريقِ سَبْعًا سَبْعًا، ويجِبُ التَّرتيبُ، فيبدأُ بالتِي تلِي مسجِدَ الخَيْفِ، ثُم الوسْطى، ثُم جمرةِ العَقَبَةِ. والواجبُ الرمْيُ بما يُسَمَّى حَجَرًا، فلا يجوزُ بالإثْمِدِ، والزَّرْنِيخِ، والجِصِّ، والجواهِرِ المُنْطبعةِ من ذهبٍ وفضَّةٍ (¬1)، ونُحاسٍ، وصُفْرٍ، وشِبْهٍ، ويجوزُ بحجَرِ الحدِيدِ لَا (¬2) بالحديدِ بعدَ استخراجِهِ، ويجوزُ بالعَقِيق، والفيْرُوزج، والياقوتِ، والبِلَّور، والمَرْمَرِ، دونَ اللؤْلُؤِ. 4 - الرابع: مبيتُ ليالِيَ مِنًى (¬3)، ومنهُم مَن رجَّح أنَّه مستحَبٌّ، والمعتبرُ فِيهِ معظمُ الليْلِ، ثُم إنَّما يلزمُ مبيتُ الليلةِ الثالثةِ لِمن غربتِ الشمسُ وهو مُقيمٌ بِمِنًى، وحينئِذٍ يلزمُهُ رمْي اليَوْمِ (¬4) الثَّالِثِ أيضًا. وللرُّعاةِ وأهْل السِّقايةِ أن يَدَعُوا المبيتَ بِمِنًى ليالِيَ التَّشْرِيقِ، فإنْ غربَتِ الشَّمْسُ والرُّعاةُ (¬5) بِمِنًى لزِمَهُمُ المبِيتُ (¬6). ¬
وكذلك لا يلزمُ المبيتُ مَن له عُذرٌ مِن جهةِ غَرِيم يخافُ منهُ أو مريضٍ يتعهدُه وغيرُهما كما تقدَّم في مبيتِ مُزدلفةَ. 5 - الخامس: طوافُ الوَدَاع (¬1)، وإنَّما يُعَدُّ مِنْ واجباتِ الحَجِّ -وكذا العمرةِ- إذا عُدَّ مِنَ المناسِكِ حتَّى لا يلزمَ الخارجَ من مكةَ بمُجرَّد الخروج. والأرجحُ أنهُ ليس مِن المناسِكِ (¬2)، فهُو واجبٌ مستقِلٌّ على مَن أراد مُفارقةَ مكَّةَ إلى مسافةِ القصْرِ، وإنْ لم يكُنْ حاجًّا ولا مُعْتَمِرًا، ورُجِّحَ وجوبُهُ لدونِها (¬3) إلَّا إنْ خَرَجَ للتَّنعيم أو لعرفاتٍ، ولا خِلافَ أنَّ الحاجَّ والمقيمَ (¬4) والمعتمرَ لو أقام بمكَّةَ لا وَدَاعَ عليهِ. ويستقرُّ الدَّمُ بتركِهِ إذا بَلَغَ مسافَةَ القَصْرِ. ورُخِّصَ للحائِضِ أَنْ تنفِرَ بغيرِ وَدَاع ولو طهُرَتْ قبلَ مسافةِ القصْرِ (¬5) ولا يلزَمُها العودُ على النَّصِّ. وأما الجمعُ بعرفَةَ بينَ الليل والنَّهارِ لِمن وَقَفَ بالنَّهار فهُو واجِبٌ على قولٍ مَرجُوحٍ. ¬
وكذلك ركعتَا الطوافِ تُجبرُ بالدَّم على قولٍ ضعيفٍ (¬1)، ذكرهُ المَحَامِلِيُّ، بمجرَّدِ التَّأخِيرِ. والمعروفُ أنَّهما لا يَفُوتانِ أبدًا، لكِنْ لو ماتَ أمْكَنَ إيجابُ الدَّم تفريعًا على القولِ المرْجُوح بوجُوبِهِما. وأمَّا التجرُّدُ عنِ المخِيطِ ونحوِ ذلك فيُذكرُ في بابِ محرَّماتِ الإحْرَام. والتحللُ مِنَ الحَجِّ يحصُلُ بِفِعْلِ الأركانِ، وواحدٍ مِن الواجِبَاتِ، وهو رَمْيُ جمرةِ العَقَبَةِ. وأقرَبُ ما له مدخَلٌ في التَّحللِ مِنَ الأركان: طوافُ الإفاضَةِ، والحلْقُ، فإذا أتَى باثْنينِ مِنَ الثَّلاثةِ المذكورةِ وهِي الطوافُ والحلْقُ ورمْيُ جمرةِ العَقَبَةَ، فهو التَّحلُّلُ الأوَّلُ. ولا بُدَّ مَعَ الطوافِ مِن السعْي إنْ لمْ يكُنْ سَعَى، ويحلُّ بِهذا التَّحللِ ما عدا الجِمَاع وعقْدِ النِّكَاح، وفِي قولٍ مرجوح (¬2): يحِلُّ عقْدُ النِّكَاح، فإذا أتَى بالثَّالِثِ كان التَّحللُ الثانِي وحلَّ بِهِ ما بَقِيَ مِن المُحرَّماتِ (¬3). وليس للعُمْرةِ إلَّا تحللٌ واحدٌ بركنٍ وهو الحَلْقُ. * * * ¬
* ضابطٌ: لا يحلُّ شيءٌ منَ المحرَّمات بغيرِ عُذرٍ قبل التحللِ الأولِ إلَّا حلقُ بقيَّةِ شعرِ البدَنِ (¬1)، [فإنَّه يحلُّ] (¬2) بعدَ حلقِ الرُّكنِ أو سقوطِهِ لِمن لا شَعَرَ على رأسِهِ، وعلى هذا صارَ للحَجِّ ثلاثُ تحلُّلَاتٍ ولم يتعرَّضوا لذلك، وقياسُهُ: جوازُ التَّقليم (¬3) حينئِذٍ كالحلْقِ إذْ هُو شبههُ، وفيه نظرٌ. * * * * وأما السنن: - فما سَبَقَ مِن الأغسالِ المسنونةِ (¬4). - وأن يكونَ غُسلُ دُخولِ مكَّة بذِي طُوى لِمن مرَّ عليه. - وللرجُلِ لبسُ رداءٍ وإزارٍ أبيضينِ (¬5) جديدِينِ وإلَّا فمغسُولَينِ. - وتطييبُ (¬6) البدنِ قبلَ الإحرام، ولو للنِّساءِ على الأصحِّ، ولا تضُرُّ ¬
استدامتُهُ بعدَ الإحْرَام، ولا انتقالُهُ بالعَرَقِ (¬1). - وليس تَطْيِيبُ (¬2) الثوبِ بمُستحبٍّ، خِلافًا لمَا في "المحرر" (¬3) تَبَعًا للتَّتِمَّة و"النِّهايةِ"، بل هو جائزٌ في الأصحِّ. - وأن تخضِبَ المرأةُ يديْهَا إلى الكُوعينِ بشيءٍ مِن الحِنَّاءِ وتمسحَ وجْهَهَا بِهِ (¬4). * * * * ومن السنن: - الركعتانِ قبلَ الإحْرَام. - وأن يحرِمَ إذا سَارَ؛ لصحتِهِ عنِ النبيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وفِي قولٍ: عقبَ الصَّلاةِ، لحديثٍ في "سنن أبي داود" (¬5). ¬
والتلبيةُ والإكثارُ منها. والصلاةُ على النبيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- عند الفراغ منها. وسؤالُ الجنّةِ والاستعاذةُ مِن النَّارِ. وتستمرُّ التلبيةُ إلى رَمْي جمرةِ العَقَبَةِ، ولا تُستحبُّ في طوافِ القُدُوم والسَّعي بعدَهُ (¬1) على الجدِيدِ. والأفضلُ: دُخولُ مكَّةَ بالنَّهارِ ماشيًا. وأن يدخلَ مِن الثَّنِيَّةِ العُليا والمسجِدِ في أوَّلِ الدُّخول (¬2) مِن بابِ بنِيْ شيْبَةَ (¬3). وأنْ يرفعَ يديْهِ إذا وَقَعَ] (¬4) بصرُهُ على البيتِ، ويقولَ: "اللهُمَّ زِدْ هَذَا البيتَ تَشْريفًا وتَعْظيمًا وتَكْريمًا (¬5) [ومَهَابةً، وزِدْ مَن شرَّفهُ وعظَّمهُ مِمَّن حجَّهُ أو اعتمرهُ تَشْريفًا وتَكْريمًا وتَعْظيمًا] (¬6) وبِرًّا"، ولو زَادَ في الدُّعاءِ ¬
للبيتِ: "برًّا"، و (¬1) في الشَّخصِ: "مهابة" كان حَسَنًا خِلافًا لِمن أنْكَرَ ذلك (¬2)، فقدْ أسندَهُ الطبرانِيُّ عنِ النبيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- (¬3). وأن يبدأَ بالطوافِ أوَّلَ دخولِهِ، إلَّا إذا دَخَلَ والإمامُ يُصلِّي بالنَّاس المكتوبةَ، أو أقيمتِ الجماعةُ، أو خافَ فوْتَ صلاةِ فريضةٍ، ولو قضاءً، كما قال المَحَامِلِيُّ (¬4). لكن القضاءُ في صلاةِ الفرضِ لا يفوتُ، إلَّا أَنْ يُريدَ بالقضاءِ الواجِبَ على الفورِ، لِتَرْكِها بغيرِ عُذْرٍ، وكذا لو خَافَ فَوْتَ سُنَّة مؤكَّدةٍ كركعتَي الفجرِ ونحوها، أو قَدِمَتِ امرأةٌ جميلةٌ أو شريفةٌ وهِي لا تَبْرُزُ للرِّجال، فتؤخِّرُه إلى الليل. وطوافُ القُدُوم سُنَّةٌ على المشهورِ؛ وإنَّما يُسنُّ لحاج أو قارنٍ دَخَلَ قبلَ وقتِ دُخولِ (¬5) الإفاضةِ. فأمَّا المعتمرُ فطوافُهُ واقعٌ عنْ فرضِ العُمْرَةِ، وكذا الحاجُّ بعدَ دخولِ وقتِ الإفاضةِ، أو القارِنُ. ¬
وسننُ الطوافِ والسَّعي تُعدُّ مِن سُنن الحجِّ والعمرةِ، والخُطبُ وسننُ الوقوفِ والخروجِ إلى المُزدلِفَةِ، وما يتعلَّقُ بالمزدلفةِ وسننِ الرمي وما يتعلَّقُ بمِنى يُعَدُّ مِن سُنَنِ الحجِّ أيْضًا. * * *
فصل في بيان ذلك
فصل فِي بيان ذلك للطَّوافِ بأنواعِهِ واجِباتٌ وسُننٌ: * أما (¬1) الواجباتُ (¬2): فسَتْرُ العورةِ، والطهارةُ، كَمَا للصَّلاةِ، لكِنْ لو أحدَثَ هُنا تطهَّرَ وبَنَى، إلَّا بالإغْماءِ (¬3) فلْيَسْتَأْنِفْ، [ذكره الماوردِيُّ] (¬4). وفِي الجنونِ بطريقِ الأوْلى. وما تقدَّم مِنْ سَتْرِ العورةِ والطهارةِ شرطٌ. وعَدَّ المَحَامِلِيُّ مع شرْطِ الطَّهارةِ أَنْ لا يكونَ مُنكَّسًا (¬5) وسيأتي. * ومِنَ الواجِباتِ: أَنْ يكونَ الطوافُ فِي المسجِدِ ولو اتَّسَعَ، لكِنْ إذا اتسَعَ إلى الحِلِّ فلْيتوقَفْ [فِي الطَّوافِ] (¬6) فِي الحِلِّ، لأنَّه مِن خصائِصِ مسجِدِ الحَرَام. ¬
وأنْ يبتدئَ مِنَ الحَجَرِ الأسْوَدَ فيُحاذِيهِ بِجمِيع بدنِهِ، وأنْ يمُرَّ تِلقاءَ وجهِهِ. وأنْ يجعلَ البيتَ على يسارِهِ. وأن يكونَ خارجَ البيتَ والشَّاذِرْوَانِ والحِجْرِ بِموضِعٍ غيرِ مُرتفِعٍ على (¬1) البيْتِ كسقفٍ ونحوِهِ. وأن يطوفَ سبعًا، ومُقتضى ذلِكَ أنَّه لا يُتعبدَ بطوفَةٍ تطوَّعًا. ولا تجبُ النيةُ على الأصحِّ فِي طوافٍ يتعلَّقُ بالنُّسكِ، وهُو طوافُ الركنِ والقُدوم، لكِنْ يُشترطُ أَنْ لَا يصرِفَهُ إلى غرضٍ آخرَ مِن طَلَبِ غريمٍ ونحوِهِ على الأصحِّ. وأمَّا ما لا يتعلقُ بالنُّسك: فتُعْتَبَرُ فيهِ النيةُ، ومنهُ طوافُ الوداعِ والتَّطوُّعِ (¬2). وأمَّا المنذورُ: فهُو كالرُّكن [فِي أنَّه ينصرفُ طوافُ (¬3) التَّطوع إليه] (¬4)، وإنْ لَم يتعيَّنْ زمنُهُ فِي الأصحِّ، ولا تجبُ الموالاةُ على الأصحِّ، وركعتاهُ تقدم حكمُهُما. * * * ¬
* ومِن سُننِهِ (¬1): النيةُ فيما لا يجبُ فيه، والمشيُ، فإن (¬2) كان يحتاجُ لظهورِهِ لِيُسْتفتى (¬3) ركبٌ، وكذا يجوزُ الرُّكوبُ لعذرٍ مِن مرضٍ ونحوِهِ. * ومِنَ السننِ: استلامُ الحَجَرِ الأسودِ بِيدِهِ فِي ابتداءِ طوافِهِ، وتقبيلُهُ، ووضعُ الجبهةِ عليهِ، وللزَّحمةِ يُمَسُّ باليدِ فيقبِّلُها، فإنْ لم يصِلْ أشار بِها، وإنْ لم يتمكَّنْ مِنَ الاسْتلام بِاليدِ فاستَلَمَ بخشبةٍ ونحوِها كان مُسْتحبًّا له (¬4)، وتقبيلُ طَرَفِ الخشبةِ. وفِي اليمانيِّ يستلمُه، ويقبِّلُ (¬5) اليدَ بعدَ استلامِهِ، ويُراعي ذلك فِي كُلِّ طوفةٍ (¬6)، وفِي الأوتارِ آكَدُ. والذِّكْرُ المأثورُ فِي الابتداءِ وغيرِهِ. والرَّمَلُ للرجُل، وهُو الإسراعُ فِي المَشْيِ مَعَ تقارُبِ الخُطا فِي ثلاثِ ¬
طَوَفَاتٍ مِنْ أوَّلِ طَوافٍ يعقبُهُ سعيٌ (¬1)، ويمشِيْ على هينتِهِ فِي الأخِيرةِ. ويضطبعُ الرَّجُلُ فِي الطَّوافِ المذكورِ، والسعيُ بعدهُ لَا فَي الرَّكعتينِ. والاضطباعُ: أَنْ يجعلَ وَسَطَ ردائِهِ تحتَ منكبِهِ الأيمنِ، وطرفَيهُ (¬2) على عاتِقِهِ الأيسرِ. وأن يقرُبَ الطائفُ مِنَ البيتِ، فإنْ لم يمكِنْهُ الرَّمَلُ مَعَ القُرْبِ أبْعَدَ ورَمَلَ، فإنْ كان فِي البُعد نساءٌ لا تُؤْمَنُ ملامستُهُنَّ قرُب (¬3)، وتَرَكَ الرَّمَلَ. وأنْ يقرَأ فِي الركعتينِ بعدَ الفاتِحةِ: {قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَ} والإخلاصَ فِي الثانِيةِ، وأنْ يُصليَّهُما (¬4) خلفَ المَقَام، وإلَّا ففِي الحِجْرِ، وإلا ففِي المسجِدِ، وإلا ففِي أيِّ موضِعٍ شاءَ مِن الحَرَمِ وغيرِهِ. ويجهرُ فيهما ليلًا، ويُسِرُّ نَهارًا، والأقْوَى بحْثًا يُسِرُّ مُطلقًا كالجِنازةِ. ويُستحَبُّ أَنْ يصلِّي عَقِبَ كُلِّ طوافٍ ركعتَيهِ (¬5)، فإنْ طافَ طوافيْنِ أو أكثرَ ثُم صلَّى لكُلِّ طوافِ ركعتَينِ (¬6) جاز. ¬
وقال المَحَامِلِيُّ فيمن طَافَ طَوَافينِ قِيل إنَّه (¬1) يُصلِّي عقِبَهُما (¬2): أربَعَ ركعاتٍ. وقِيلَ: إنَّه يُصلِّي عَقِبَ كُلِّ طوافٍ ركعتينِ، وحكايتُهُ الوجهينِ غريبٌ، ومُقتَضَى الثانِي أنَّه لا يجوزُ ما ذكرَهُ مِن (¬3) الوجهِ الأولِ، ولم أرَهُ لغيرِهِ. * ومِن السننِ: العودُ للحجرِ (¬4) الأسودِ وتقبيلُهُ (¬5) بعدِ الركعتينِ، ثُم الخروجُ للسعي مِن بابِ الصَّفا. * ومِن سُننِ السَّعي: الرُّقِيُّ على الصَّفا بقدْرِ قامَةِ رَجُلٍ، وأن يستقبلَ البيتَ (¬6) ويهلِّلَ ويكبِّرَ ويحمَدَ (¬7) على ما جاء فِي السُّنَّةِ (¬8). ¬
ويدْعُو ويعيدُ الذِّكْرَ ثلاثًا. والمختارُ يدعو بعدَ الثالثةِ لِصحتِهِ عنِ النبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-. ثم إذا نَزَلَ مِن الصَّفا فالسُّنةُ أَنْ يسْعَى الرَّجُلُ فِي (¬1) موضِع السَّعي، وهو قبلَ المِيلِ الأخضرِ بِسِتَّةِ أذرُع إلى ما يلي (¬2) المِيلَين الأخضرَيْنِ (¬3)، ثُم يمشِي على عادتِهِ، ويقولُ فِي سعيهِ: "ربِّ اغفِرْ وارحَمْ وتجاوزْ عمَّا تعلمُ، إنَّك أنت الأعزُّ الأكرَمُ" (¬4). ويَرْقَى على المروةِ بقدْرِ قامةِ رجُل (¬5) ويدعُو ويذكُرُ (¬6) كمَا تقدَّم. والواجِبُ قطعُ المسافةِ بينهما بأن (¬7) يُلْصِقَ العقِبَ بأصْلِ ما يذهَبُ منهُ ثُم يُلصِقُ أصابع رِجْليهِ بما (¬8) يذهبُ إليهِ. * * * ¬
ومِن سُننِ الحجِّ: أَنْ يخطُبَ وَلِيُّ الأمْرِ بمكَّةَ فِي السَّابع مِن ذِي الحِجَّةِ بعدَ صلاةِ الظُّهرِ خُطبةً واحدةً يأمُرُ الناسَ فِيها بالغُدُوِّ إلى مِنًى ويعلِّمُهُم مَا بينَ أيدِيهِم مِن المَنَاسِكِ. * * * ويُسَنُّ أَنْ يخطُبَ فِي الحَجِّ فِي ثلاثةِ (¬1) مَوَاضِعَ أُخَر (¬2): (1) يومُ عرفَةَ بِمسجِدِ إبراهِيمَ (¬3) بعدَ زوالِ الشمسِ وقبلَ صلاةِ الظهرِ، ولتكُنْ هنا خُطبتانِ يذكرُ لهم (¬4) فِي الأولى ما أمامَهُم مِنَ المناسِكِ، ويُحرِّضُهم على إكثارِ الدُّعاءِ والتَّهليلِ بالموقِفِ، ويُخفِّفُ، ويجلِسُ، ثُم يقومُ إلى الثَّانيةِ ويأخُذُ المؤذِّنُ فِي الأذانِ، ويُخفِّفُها (¬5) بحيثُ يفرغُ مع (¬6) فراغِهِ مِنَ الأذانِ، ثُمَّ يُصلِّي الظُّهرَ والعصرَ، والجمعُ للسَّفرِ الطَّويلِ عَلَى الأصَحِّ. (2) ثمَّ خُطبةٌ واحِدةٌ يومَ النَّحرِ بِمِنًى. (3) ثُمَّ أُخرى يومَ النَّفْرِ الأوَّلِ بِمِنًى. ¬
ويُعلمُهُم فِي كلِّ خطبةٍ ما أمامَهُم مِن المناسِكِ إلى الخطبةِ الأُخرى، وكلُّ الخطبِ أفرادٌ، وبعدَ صلاةِ الظُّهرِ، إلَّا يومَ عرفَةَ، فإنَّها خُطبتانِ، وقبلَ الصلَاةِ. وأغرب المَحَامِليُّ (¬1) فقال فِي الخُطبِ الأرْبَع: كلُّها بعدَ الزَّوالِ وقبلَ الصَّلاةِ. وأغرب المَرْعشِيُّ فقال فِي خُطبتي مِنًى: إنَّهما بعدَ الصَّلاةِ. ومِمَّا أغرب بِهِ أيضًا أنَّه يَفتَتِحُ بالتكبيرِ خطبةَ مكَّةً، وخُطبتَيْ مِنًى. * * * * ضابطٌ: الخُطبُ كلُّها عشرةٌ، سبعٌ: خطبتانِ، وثلاثٌ: واحدةٌ واحدةٌ. السبع: الجمعةُ، وعرفَةُ، والعيدانِ، والخُسُوفانِ، والاسْتِسقاءُ. والثلاث: خطبَةُ مكَّةَ، وخُطبتَا مِنًى. وقبل الصلاةِ: مِنها الجُمُعةُ، وعرفَةُ. وبقيَّتُها (¬2) بعَدَ الصَّلاةِ على المشهورِ (¬3). وفِي الاستسقاءِ: الأمْرانِ. وقد تعرِضُ الخطبةُ لأمرٍ مُهمٍّ كَمَا كان يفعلُ رسولُ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، وليس فِي جمِيع الخُطبِ فرضٌ إلا الجُمُعةُ. ¬
* ومن السنن: المبيتُ بمِنًى ليلةَ اليوم التَّاسِع، فإذا طَلَعتِ الشمسُ على ثَبِيرٍ سارُوا إلى عرفاتٍ، فإذا (¬1) وصلُوا نَمِرَةَ، ضُربتْ قُبَّةٌ للإمَام (¬2)، فإذا زالتِ الشمسُ ذهَبَ الإمامُ بالنَّاسِ إلَى مسجِدِ إبراهِيمَ، وفَعَلَ ما تقدَّم مِن الخطبةِ والصلاةِ، ثُم يذهبُونَ إلى المَوقِفِ. والسنةُ: أَنْ يقِفُوا عندَ الصَّخَرَاتِ، ويستقبِلُوا الكعبَةَ، والوقوفُ راكبًا أفضلُ. والسُّنةُ: الإكثارُ مِن التَّهليل والدُّعاءِ حتَّى تغرُبَ الشمسُ، فإذا غَرَبَتْ وذهبتِ (¬3) الصُّفرةُ قليلًا دَفعوا مِن عرفاتٍ. والجمْعُ بينَ الليلِ والنَّهارِ بعرفاتٍ لِمن وَقَفَ بالنَّهارِ سُنَّةٌ على أصحِّ القوليْنِ. والسُّنةُ: أن يَدْفعُوا مِن عرفاتٍ بِسَكينةٍ ووقَارٍ على طرِيقِ المَأْزِمَيْنِ، ومَنْ (¬4) وَجَدَ فُرجةً أسْرَع، وتُؤخَّرُ المغرِبُ إلى أَنْ تُصلى مع العِشاءِ بمُزدلِفَةَ جمْعًا بسببِ السَّفرِ الطَّويل على الأصحِّ، ويبيتُ بِها إلى أَنْ يطلُعَ الفجرُ الثَّانِي، ويأخذَ مِنها الحَصَى لرمْيِ يوم النَّحر؛ نَصَّ عليه، وأخذ بِهِ الأكثرون. ¬
وظاهِرُ نصِّ "المختصَر" (¬1): يأخُذُ حَصَى الرَّمي (¬2) كلَّه، وقد أطلَقَ ذلك جماعةٌ، والاستحبابُ ليوم النَّحْرِ آكدُ، ويتزوَّدُ ذلك ليلًا، وقيل بعدَ الصُّبح، ومِن حيثُ أَخَذَ جازَ، ويُصلِّي الصُّبحَ فَي أولِ (¬3) الوقتِ، ثُم يقِفُ على قُزَح -وهو جبلٌ بمزدلِفةَ- فَيَذْكرُ ويدعُو إلى الإسْفَارِ مستقبِلَ الكعبةِ، ثُم يسيرُ إلى مِنًى وعليهِ السَّكينةُ، فإذا وَجَدَ فُرجةً أسرع، فإذا بَلَغَ وادِي مُحَشِّر (¬4) أسْرَعَ الرَّاكِبُ والماشِي قدرَ رميةِ حجرٍ، ثُم يسيرُ وعليهِ السَّكينةُ إلى أَنْ يصِلَ مِنًى بعدَ (¬5) طُلوع الشَّمسِ، فيبدأُ (¬6) بِرَمي جمرةِ العقبةِ، [وهُنا تنقطِعُ التَّلبيةُ، فلم يزلْ رسولُ اللَّهِ (¬7) -صلى اللَّه عليه وسلم- يلبِّي حتَّى رمى جمرَةَ العقبةِ (¬8)] (¬9). والسُّنةُ: التكبيرُ مَعَ كلِّ حصاةٍ. وأنْ يرمِيَ بمثلِ حَصَى الخَذْفِ، وهو دونَ الأَنْمُلةِ طُولًا وعَرْضًا فِي قدرِ ¬
الباقِلَّاء. ويرفعَ يدَه حتَّى يُرى بياضُ إبْطِهِ (¬1). وأن يكونَ راكبًا. وأن يجعلَ القبلةَ عن يسارِهِ وعرفاتٍ عن يمينِهِ، ويستقبلَ الجمرَةَ كما ثَبَتَ فِي السُّنةِ الصحيحَةِ (¬2). وقيل: يستدبرُ القِبلةَ، ورُجِّح، وقيل: يستقبِلُها. والسُّنْةُ: إذا فَرَغَ مِنْ رَمْي جمرةِ العَقَبَةِ أن ينحَرَ إنْ كان معهُ هَدْيٌ، والصحيحُ: اختصاصُ هدْيِ التطوع بوقْتِ (¬3) الأُضحيةِ، ثُم يحلقُ الرجلُ جميعَ رأسِهِ. ويستحبُّ للمرأةِ التقصيرُ بقدْرِ أَنْمُلةٍ مِن جمِيع جوانِبِ رأسِها، وأقلُّ ما يجزئُ حَلْقُ ثلاثِ شَعَراتٍ أو تقصيرُها. ويستحبُّ لمن لا شَعَرَ على رأسِهِ (¬4) إمرارُ الموسَى على رأسِهِ، وقال الشافعيُّ -رضي اللَّه عنه-: لو أخَذَ مِن شاربِهِ وشعَرِ لحيتِهِ شيئًا كان أحبَّ إليَّ. والسُّنةُ: أن يبدأَ الرجلُ بحلقِ الشِّقِّ الأيمنِ، ثُم الأيسرِ، وأن يستقبِلَ القِبلةَ، وأنْ يدفنَ شَعَرَهُ، وتأخيرُ طوافِ الإفاضةِ عنِ الحلْقِ سُنَّةٌ. وقد صحَّ عنِ (¬5) النبيِّ أنهُ (¬6) -صلى اللَّه عليه وسلم- تطيَّبَ لحلِّه قبلَ الطَّوافِ (¬7). ¬
ثُم بعدَ طوافِ الإفاضةِ يعودُ إلى مِنًى، ويصلِّي بِها الظُّهرَ. ثُم فِي أيَّام منًى يُسَنُّ أن يرفعَ يديهُ (¬1) عندَ الرَّمي. وأن يرميَ مستقبلَ القبلةِ. وأن يكونَ ماشيًا فِي اليومينِ الأَوَّلَيْنِ، رَاكبًا فِي اليوم الأخِيرِ (¬2)، إن (¬3) أقام ثلاثَةَ أيَّام، وإلَّا فنازِلًا فِي اليوم الأوَّلِ، راكبًا فِي الثانِي؛ ليرمِيَ وينفِرَ عقِبَهَ. والسُّنةُ: إذا رَمَى الجمرةَ الأولَى أَنْ يتقدَّمَ قليلًا بحيثُ لا يبلُغُهُ حَصَى الرامِينَ، فيقفُ مستقبلَ القبلةِ، ويدعُو ويذكرُ اللَّه عز وجل طويلًا قدْرَ سورةِ البقرةِ. ويفعلُ فِي الجمرةِ الثانيةِ كذلك، ولا يفعلُ ذلِك (¬4) فِي الثالثةِ. ثُم إذا نَفَرَ فيُستحبُّ أن يأتِيَ المُحَصَّبَ، فينزلَ بِهِ، و (¬5) يصلِّي فيه (¬6) الظهرَ والعصرَ والمغربَ والعشاءَ، ويبيتَ بِهِ. ¬
ثُم يأتِي مكَّةَ، فإذا فَرَغَ مِن طوافِ الوَدَاع وَقَفَ عندَ المُلْتزَم بينَ الرُّكنِ والبابِ، ودعا، وشرِبَ مِن ماءِ زمْزَم، ثُم ينصرفُ ويُتبعُ نظرَهُ البيتَ ما (¬1) أمكنهُ. وقيل: المختارُ ينصرِفُ تِلقاءَ وجهِهِ، ولا يلتَفِتُ (¬2) * * * ¬
باب محرمات الإحرام ومكروهاته
باب محرمات الإحرام ومكروهاته المُحرَّماتُ عشرون (¬1): 1 - الوطءُ، وهو مفسِدٌ على ما سيأتِي فِي بابِهِ. 2 - والقُبلةُ. 3 - والمُباشرةُ بالشَّهوةِ. 4 - والاسْتمناءُ باليدِ. 5 - وعقدُ النِّكاح. 6 - والطِّيبُ. وللرَّجُلِ: 7 - لبسُ المَخِيطِ. 8 - والعمامةِ. ¬
9 - والقلنسوةِ. 10 - والبرنسِ. 11 - والخُفينِ. وللرَّجُلِ والمرأةِ: 12 - القُفَّازينِ. 13 - والاصطيادُ لبرِّيٍّ متوحِّشٍ مأكولٍ أو فِي أحدِ أصليهِ مأكولٌ، واليربوعُ يُؤكلُ ويُفْدَى، وأغرب المَحَامِلِيُّ (¬1) فَجَزَم أنَّه يُفْدَى ولا يؤكلُ (¬2). 14 - وقتْلُ (¬3) الصيدِ. 15 - وأكْلُ صيْدٍ صِيدَ (¬4) له. 16 - والدلالةُ على الصيدِ. 17 - والحلقُ. 18 - وتقليمُ الأظفارِ. 19 - 20 - ودَهْنُ شعرِ الرأسِ واللحيةِ. ¬
وكلُّها موجِبٌ للفِديةِ مع العمدِ، وعدم العذرِ، إلا عقدَ النِّكاح، فلا فديةَ فيه، ولا يصِحُّ. وهي تنقسمُ إلى استِمْتاعٍ، وإتْلافٍ، ومتردِّدٍ بينهُما، والراجِحُ مختلِفٌ: فالطيبُ (¬1) والدهنُ واللبسُ والقبلةُ ونحوُها: استمتاعٌ، فلا فِديةَ على فاعِلِهِ ناسيًا أو جاهلًا. وقتْلُ الصيدِ: إتلافٌ، فتجِبُ الفِديةُ على الناسِي والجاهِل إلَّا فِي قولٍ ضعيفٍ، وإلَّا (¬2) المجنونَ على الأظهرِ، وألحَقَ المَحَامِلِيُّ بهِ المُغْمى عليه. والجِماعُ: استمتاعٌ على الأصحِّ، فلا فِدْيةَ على فاعِلِهِ ناسيًا. والحلقُ والتقليمُ: إتلافٌ على الأصحِّ، فتجِبُ الفِديةُ على فاعِلِهِ ناسِيًا. والشعرُ والأظفارُ عندَ المُحْرِمِ على حكم الوديعةِ أو العاريةِ: فيهِ (¬3) خلافٌ مُسْتَنبطٌ يظهرُ أثرُه فِيما لو حَلَقَ إنسانٌ شَعَرَ المُحرِم وهو نائِمٌ أو مكرَهٌ. فإنْ قلنا: كالوديعةِ، فالفِديةُ على الحالِقِ، وهو أصحُّ القولين. وإن قلنا: كالعاريةِ، فالفِديةُ على المحلوقِ، ويرجِعُ (¬4) على الحالِقِ إن فَدَى بالمال بأقلِّ الأمرينِ مِنَ الإطعام، وقيمةِ الشَّاةِ، وإنْ فَدَى بالصَّوم لم ¬
يرجِعْ بشيءٍ على الأصحِّ. والعُذرُ يبيحُ اللُّبسَ، وفيهِ الفِديةُ، إلَّا إذا لم يجِدْ إزارًا فيلْبَسُ السَّراويلَ، أو (¬1) لم يجِدْ نعلينِ فلَبِسَ (¬2) المُكَعَّبَ أو الخفَّ المقطوعَ من أسفلِ الكعبينِ ويبيحُ الحَلْقَ والتقليمَ وفيهِ الفِديةُ (¬3) إلَّا إذا أزال (¬4) ما نَبتَ (¬5) فِي العينِ أو في (¬6) غِطائهما منَ الحاجِبينِ أو انكسَرَ مِن الأظفارِ. ومِما لا تجِبُ فيه الفِديةُ فِي الصيدِ إذا قَتَلَهُ دفْعًا لِصِيالِهِ (¬7) أو خَلَّصه من فَمِ هِرَّةٍ وَدَاوَاهُ فماتَ، أو عمَّ الجرادَ فتخَطَّاها، أو باضَ صيدٌ فِي فراشِهِ ولم يُمكِنْهُ دفْعُهُ إلَّا بالتعرُّضِ للبيضِ. * * * * وأمَّا المكروهاتُ (¬8): ¬
وهي الجِدالُ (¬1). والنظرُ بالشَّهوة (¬2). وأن يُسَمِّي الطوافَ شَوْطًا. وصومُ يوم عَرَفَةَ (¬3). وأن يأخُذَ الحصى مِن ثلاثِ مواضِعَ: من المسجِدِ، ومِن الحُشِّ وكلِّ موضِع نجسٍ، ومِن المَرْمى، ولكن يجوزُ إنْ كان هو الرَّامي، ولو إلى تلك الجمرةِ فِي ذلك اليوم على الأصحِّ. ولم يزدِ المَحَامِلِيُّ على السِّتةِ المذكورةِ (¬4). ومِن المكروهِ: بذلُ المال (¬5) للمُرْتَصِدين. وأن يُدْخِلَ نفسهُ فِي السفرِ (¬6) إلى الحَجِّ تعْوِيلًا (¬7) على السُّؤالِ، وقد يؤدِّي ذلك إلى التحريم والتَّمادِي على تأخِيرِهِ مع كِبرِ السِّنِّ أو خوفِ وقوع ما يمنعُ منهُ. ¬
وتقدِيمُ الإحْرام على المِيقاتِ كَمَا أطلقه جماعَةٌ. ورفْعُ صوتِ المرأةِ بِالتَّلبِيةِ، واللَّه أعلم. * * *
باب ما يفسد به الحج والعمرة
باب ما يفسد به الحج والعمرة وهو تغييبُ الحَشَفَةِ (¬1) فِي قُبُلٍ (¬2) أو دُبُر؛ مِن آدمِيٍّ أو بَهِيمةٍ، إذا وَقَعَ مع العمْدِ والعِلْم بتحريمِهِ، وذُكْرِ الإحرامِ والاخْتِيارِ، وقبلَ التَّحلل الأوَّلِ (¬3) فِي الحَجِّ. ويلزمُ المضيُّ فِي الفاسِدِ، فلَا يخرجُ منه، ويُتِمُّ عملَه كما كان قبلَ ذلك، ويلزمُ بِالجِماع المذكورِ بَدَنَةٌ (¬4)، ولو قارنًا -على الرَّجُل فقط كالصوم- ومنهُم مَن قَطَعَ هُنا بإلزامِها البدنَةِ، فإن لم يجِدْ فبقرةٌ، فإنْ لم يجِدْ فسَبْعٌ مِن الغنم، فإنْ عَجَزَ قوَّم البدنَةَ دراهِمَ واشترى بقِيمتِها (¬5) طعامًا وتَصدَّق بهِ، فإنْ عَجَزَ صام (¬6) عن كلِّ مُدٍّ يومًا، فهو دمُ ترتيبٍ وتعديلٍ على الأصحِّ. ¬
* ولا تجِبُ البدنةُ فِي الإحْرام إلَّا فِي شيْئينِ: (1) أحدَهما: هذا. (2) والثانِي: قَتْلُ النَّعامة (¬1). وتجبُ البدنةُ فِي غيرِ الإحْرام بشجرةٍ (¬2) كبيرةٍ حَرَمِيَّةٍ، وفِي الإحْرام فِي مَوَاضِع على رأي ضعيفٍ، منها القارِنُ الذي تجِبُ عليه الفدية. والجِماعُ بعدَ التَّحَلُّلِ الأوَّلِ، [والجِماعُ الثانِي قبلَ التَّحلُّلِ الأوَّلِ] (¬3). وإذا فَسَدَ الحجُّ أو (¬4) العُمرةُ بِالجِماع لزِمهُ مَعَ الفِديةِ القضاءُ على الفورِ مِن قابِل [فِي الحَجِّ] (¬5)، ويُتَصَوَّرُ القضاءُ فِي عام الإفسادِ بأنْ يتحلَّلَ بِالحصْرِ مِنَ الفاسد (¬6)، ثم يزولُ الحصْرُ والوقتُ باقٍ. ثم إن كان نُسُكه فرضًا فالقضاءُ مسقطٌ للفرضِ (¬7) إذا كان الإفسادُ بعدَ البُلُوغ والحرية، وإن كان تطوعًا فَلَا بِدَ من القضاءِ. وإنْ أفسَدَ القَضَاءَ لزِمتْهُ الفِديةُ وقضاءُ الأوَّل ولا قضاءَ عنِ القضاءِ. ¬
ومَنْ أحرَم مُجامِعًا لا ينعقِدُ إحرامُهُ على الأصحِّ. ولا ينعقِدُ الإحرامُ فاسدًا على الأصحِّ إلَّا فِي صورةٍ واحدةٍ، وهِي ما إذا أفسدَ العمرةَ بِجِماع، ثم أدخلَ علَيْهَا الحَجَّ، فينعقِدُ فاسدًا على الأصحِّ، ويلزَمُ المضيُ فِي فاسِدِهِما. ودمُ القِرانِ والقضاءِ والفِديةِ عَن الجماع فِي العُمرةِ كافِيةٌ (¬1)، واللَّه سبحانه وتعالى أعلم. * * * ¬
باب الفوات والإحصار، وأنواع التحلل
باب الفوات والإحصار، وأنواع التحلل لا تفوتُ العُمرةُ المستقِلَّةُ أبدًا، وأمَّا فِي القِرانِ فتتبَعُ الحجَّ فِي الفواتِ، والحجُّ لا يفوتُ إلَّا بفواتِ الوقوفِ (¬1). ومَن فاتَهُ الحجُّ وَجَبَ أَنْ يتحلَّلَ، ويأثَمَ بِالبقاءِ على إحرامِهِ، نَصَّ عليه. ولو بَقِيَ عليهِ لِيحُجَّ مَعَ النَّاسِ مِن قابِلٍ بِذلِك الإحْرَام لا يُجزئُه. وتحلُّله بِالطَّوافِ والسَّعي إنْ لَمْ يكُن سَعَى عَقِبَ (¬2) طوافِ القُدُوم، كذا جزموا بِهِ. والتحقيقُ: أنَّه لا بُدَّ مِن السَّعي مُطلقًا، ثُم يحلِقُ، ولا يجبُ رَمْيٌ، ولَا مبيتُ مِنًى فِي الأصحِّ، ولا يجزئُ ذلك عنْ عُمرةِ الإسْلَام (¬3). وقال المَحَامِلِيُّ (¬4): مَنْ حجَّ أو اعتَمَرَ نفْلًا وَقَعَ عن فرضِهِ إلَّا فِي ¬
مسألتَيْنِ (¬1): (1) إحداهُما: هذِهِ. (2) والثانيةُ: مَن نسِيَ مَا أحْرَم بِهِ، فإنهُ يجتهدُ فِي قولٍ (¬2)، والأصحُّ أنَّه ينوِي القِرانَ، ويجزئُهُ عنْ حجَّة الإسْلَام دونَ عُمرتِهِ (¬3). ولا يصِحُّ الاستثناءُ لأنهُ فِي كلٍّ منهُما لم يعتمِرْ نفْلًا، فإنَّ فِي الأُولى تحلَّلَ بعمَلِ عُمرةٍ، وفِي (¬4) الثانيةِ إنَّما لم (¬5) تجزِئْهُ العُمرةُ، لاحتمالِ أَنْ يكونَ إحرامُهُ السابِقُ حجًّا، وإدخالُ العمرةِ عليهِ لَا يجوزُ على ما صحَّحوه، وبَرِئَ مِنَ الحجِّ إذا نَوَى القِرانَ قبلَ الطَّوافِ. ومَنْ فاتَهُ الحجُّ إنْ كانَ حجُّهُ فرضًا فهو باقٍ فِي ذِمَّتهِ، وإنْ كان تطوُّعًا لزمَهُ قضاؤُهُ على الفورِ، كالمفسِدِ. وقياسُهُ: أَنْ يأتيَ مثلَهُ فِي الفرضِ، ويلزمُه مع القضاءِ دمُ الفواتِ، كدَمِ التمتعِ، ويُراقُ فِي الحَجَّة المقضيَّةِ وُجُوبًا. ¬
* ضابطٌ: لا يجتمِعُ القضاءُ والفِديةُ فِي المناسِكِ إلَّا على ثلاثةٍ: 1 - المفسِدُ بِالجِماع. 2 - والذي فاتهُ الحَجُّ. 3 - ومؤخِّرُ رَمْي يومٍ إلى يومٍ، على قولٍ مرجوحٍ فِي هذا. ويجتمِعُ (¬1) القضاءُ والفديةُ فِي الصِّيام فِي مفسِدِ رمضانَ بالجِماع، فِي (¬2) القِسْمِ الثالثِ المذكورِ فِي الصيامِ. * * * وإذا أُحْصِرَ المُحْرِمُ تحلَّل، ولو كان واحِدًا. وكذا يُحلِّلُ السيدُ عبدَه الذِي أحْرَم بغيرِ إذنِهِ، إلَّا إنِ اشتراهُ بعدَ إحرامِهِ بِإذنِ البائِع. ويُحلِّلُ الزوجُ زوجتَه التِي أَحْرمتْ بغيرِ إذنِهِ ولو فرْضًا. وللأصل (¬3) مَنْعُ الفرع مِنَ التطوُّع وتحليلُهُ منهُ (¬4). وللمطلِّق مَنْعُ المعتدَّةِ مِن الخُروج. ¬
وللغرِيم المنعُ. ولا يتحلَّلُ إلَّا إذا كان مُعْسِرًا ولم يقدِرْ على إثباتِ إعسارِهِ. والمُحْصَرُ يتحلَّلُ بِالنيةِ، وذَبْحِ شاةٍ، أو الإطعامِ بِقيمتِها، إنْ لم يَجِدْها، ثُم يحلِق. وأغرب المَحَامليُّ (¬1) فحكى قولَيْنِ فِي أنهُ ينحرُ قبلَ أَنْ يتحلَّل أمْ يتحلَّلُ قبلَ أن ينحَرَ (¬2)، ويُمكنُ (¬3) حملُهُ على العبدِ والمُعْسِرِ، فإنْ لم يَجِدْ حَلَقَ بِنيةِ التحلُّل، ولا يتوقَفُ تحلُّلُهُ على الصَّوم على أشبهِ القَولَيْنِ بالقِياسِ (¬4)، كما قال الشَّافعِيُّ رضي اللَّه عنه. فإنْ (¬5) لم يَصُمْ وأيْسَرَ (¬6) بعد التحلُّلِ أَتَى بالواجبِ الماليِّ على الأصحِّ. والمُحْصَرُ عن (¬7) عرفاتٍ دونَ البيتِ يتحلَّلُ بعملِ عُمرةٍ. ¬
والمُحْصَرُ مُطلقًا لا قضاءَ عليهِ، ولَا فِي هذِهِ الصُّورةِ وأنظارِها على الأصحِّ.
وأنواعُ التَّحلُّلِ سِتَّةٌ: 1 - أحدها (¬1): بالتَّمام (¬2) لَا مع مُفسِدٍ (¬3) (¬4)، ومنهُ تمامُ العُمرةِ لِمن أحرم بِالحجِّ قبلَ أشهرِهِ (¬5). 2 - الثانِي: مع الفسادِ بِالجِماع. 3 - الثالث (¬6): بالفواتِ. 4 - الرابع (¬7): بالإحصارِ العام. 5 - الخامس (¬8): بالإحصارِ الخَاصِّ. * * * ¬
وشَرَطَ المَحَامليُّ للإحْصَارِ خَمْسَة (¬1) شرائِطَ (¬2): 1 - أحدها: أن (¬3) يعلَمَ أنهُ (¬4) إذا تحلَّل تخلَّص مِنْ العُذْرِ (¬5)، وهذا غيرُ مُعتَبَرٍ على الأصحِّ (¬6). 2 - الثاني: أن يخافَ الفوتَ (¬7)، وهذا غيرُ مُعتبرٍ، فلو أُحْصِر عن الطَّوافِ تحلَّل، وإن لم يَخَفِ الفواتَ (¬8). 3 - الثالث: أن يكونَ الإحصارُ عامًّا فِي أحدِ القولينِ (¬9)، وقد تقدَّم أن الأصحَّ خلافُهُ. 4 - الرابع: أن يكونَ قبلَ دُخولِ مكةَ (¬10)، وذلك ليس بمعتبَرٍ. ¬
5 - الخامس: أن لَا يكونَ لهُ إلَّا طريقٌ واحدٌ (¬1) فلو وَجَدَ آخر لزمَهُ سلوكُهُ وإن فاتهُ الحجُّ لطولِهِ، ولَا يتحلَّلُ إلَّا بعملِ عُمرةٍ، ولا قضاءَ فِي الأصحِّ. * * * 6 - السادس: مِن أنواع التَّحلُّلِ: التحلُّلُ (¬2) بالشرط (¬3)؛ فإذا شَرَطَ أنه إذا مَرِضَ تحلَّل جَازَ على الأصحِّ، لصحة الحديث (¬4). ومثلُهُ شَرْطُ التَّحللِ لغرضٍ آخَرَ مِن فراغ نفقةٍ وضلالٍ فِي طريقٍ ونحوِهِما. وأطلق المَحَامِلِيُّ شَرْطَ أنه مَتَى بَدَا لهُ شُغلٌ تحلَّل، والمعروفُ ما سبق. ثم إنْ شَرَطَ أَنْ يصيرَ (¬5) حلالًا بنفسِ المرضِ، فلهُ شرطُهُ على النَّص. ¬
وإنْ شَرَطَ التحلُّلَ بِلا هَدْي أو أطلَقَ لم يلزَمْهُ الهَدْيُ، وإلَّا لزِمَهُ. وإنْ شَرَطَ أن ينقلِبَ حَجُّه عُمرةً بالمرضِ صَحَّ (¬1). * * * * ضابطٌ: لا ينقلِبُ الحجُّ عُمرةً عندنا إلَّا فِي هذِهِ الصورةِ على الأصحِّ (¬2)، وبالفواتِ على وجهٍ (¬3). وليس لنا خروجٌ مِن عبادةٍ بشرط إلَّا الاعتكافُ والحجُّ، وليس لنا تحلُّلٌ قبل وقتِهِ بِلا هَدْي، إلَّا فِي صورتَي الشَّرْطِ. ولا يبطُلُ الحجُّ والعمرةُ إلَّا بالرِّدَّةِ. ومكانُ ذبحِ دَمِ الإحصارِ حيثُ أُحْصِر، وكذا ما لزِمَهُ مِنْ دمٍ وما معهُ مِن هَدْي. * * * ¬
باب الدماء والهدي
باب الدماءِ والهَدْي ودماءُ الحجِّ على نوعينِ: منصوصٌ بالكتابِ، وغيرُ منصوصٍ بِهِ. * أما المنصوصُ بالكتابِ فأربعةٌ: (1) دمُ الإحصارِ. (2) ودمُ الحلقِ. (3) ودمُ التَّمتع. (4) ودمُ جزاءِ الصيدِ. * * * * وأما غيرُ المنصوص، فبقيةُ الدِّماءِ، وهي: - إمَّا لتَرْكِ نُسُكٍ يدخُلُهُ الجَبْرُ؛ كالإحْرام مِن الميقاتِ، والمبيتِ بمزدلِفةَ، ورمْي جمرةِ العقبةِ، ورمْي أيَّام مِنًى، ومبيتِ ليالِيها، وطوافِ الوَدَاع. - وإمَّا لارتكابِ (¬1) منهيٍّ عنه؛ مِمَّا يُتَرَفَّه بِهِ مِن طيبٍ، ولباسٍ، وجماعٍ، ¬
ومقدماته، أو مِمَّا يتلفُهُ كتقليم الظُّفْر، وحَلْقِ شعرِ بقيةِ البدنِ (¬1). * والدِّماءُ أربعةُ أنواعٍ (¬2): (1) تخييرٌ. (2) وتقديرُ تخييرٍ. (3) وتعديلُ ترتيبٍ. (4) وتقديرُ ترتيبٍ وتعديلٍ. فالتخييرُ والترتيبُ لا يجتمعانِ، وكذلك التعديلُ والتقديرُ. ومعنى التقديرِ: أن الشرعَ قدَّر البَدَلَ (¬3). ومعنى التعديلِ: أنه أمَرَ فِيهِ بالتقويمِ، والعدولِ إلى الإطعام (¬4). * * * 1 - فالتخييرُ والتقديرُ فِي ثمانيةِ أشياء: ¬
(1، 2) الحَلْقُ والقَلْمُ (¬1)، ففِي حَلْقِ ثلاثِ شَعَراتٍ فما فوقها، ولو رأسَهُ وبدنه، وكذلك تقليمُ ثلاثةِ أظفارٍ (¬2) فما فوقها دمٌ، فيتخيَّرُ بين أن يذبح شاةً، وبينَ أن يُطْعِمَ ثلاثَةَ آصُعٍ لستَّةِ مساكِينَ؛ لكُلِّ مسكينٍ نصفُ صاع، وبينَ أَنْ يصومَ ثلاثَةَ أيَّام (¬3). ومثلُهُ دمُ الاستمتاع فِي سِتَّةِ أشياءٍ على الرَّاجِح (¬4) (¬5): (1) التطيُّبُ. (2) واللُّبْسُ. (3) والادِّهانُ. (4) ومقدماتُ الجِماع. (5) وشاةُ الجِماع الثانِي. (6) أو بينَ التَّحلُّلين. والمصيرُ فِي ذلك كُلِّه (¬6) إلى التَّرتيبِ، والتعديل ظاهِرُ النصِّ (¬7). ¬
2 - النوع الثانِي: التخييرُ والتعديلُ جرْاءُ الصيدِ بنَصِّ القُرآنِ، وما ليس بِمِثْلِيٍّ يَتَصَدَّقُ بقدْرِ قِيمتِهِ طعامًا، وإنْ شاء عَدَلَ (¬1) وصَامَ عن كُلِّ مُدٍّ يومًا، فإنِ انْكَسَرَ فِي الأمدَادِ صامَ عَن المُنْكسِرِ يَوْمًا (¬2). * ضابط: لا يُفْعَلُ مكانَ المنكَسِرِ كاملٌ إلَّا هُنا، وفِي القَسَامةِ فِي الورثةِ (¬3) لو كانوا ثلاثةً مَثلًا حَلَف كلُّ واحدٍ منْهم سبعَةَ عَشَرَ يمينًا. وتُعتبرُ القِيمةُ بموضِع الإتْلافِ فِي غيرِ المِثْليِّ، وفِي المِثْلِيِّ تُعتبرُ قيمتُهُ بمكَّةَ، وتُعتبرُ قِيمةُ الطَّعام بمكةَ مُطْلقًا على الأرْجَح. وإنْ أبطل مُحْرِمَانِ قارِنانِ امْتِنَاعَيْ (¬4) نَعَامَةٍ ولو فِي الحَرَم اتَّحدَ الجزاءُ (¬5). ومما (¬6) يدخل فِي التَّخييرِ والتَّعديل: صيدُ حَرَمِ مكَّةَ وشَجَرُهُ، وكذا المدينةِ على قول مرجوح. ¬
وما (¬1) حكمَ فيهِ النبِيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- أو الصحابةُ فهو المُعتبرُ، وما (¬2) ليس فِيهِ حُكْمٌ يُرْجَعُ فِي مِثلِهِ إلى قولِ عدلينِ (¬3)، وإنْ كانا (¬4) هُم القاتِلَينِ إذا كان قتلُهُما خطأً، وقياسُهُ: أن يحكُما إذا تَابَا. ومَثَلُ النعامَةِ: بدنَةٌ. وحمارُ الوحش وبقرُهُ: بقرَةٌ. والضبعُ: كبشٌ. واليربوعُ: جَفْرَةٌ. وفِي حمَام مكَّةَ: شاةٌ على الجدِيدِ (¬5). * * * 3 - النوعُ الثالثُ: التَّرتيبُ والتَّقديرُ: دمُ التمتع بنصِّ القرآن؛ قال اللَّه تعالى: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي ¬
الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ}. والمُعتَبَرُ الرُّجوعُ إلى الأهْلِ، ويُفَرَّقُ فِي القضاءِ بقدرِهِ. وألحق العراقِيُّونَ وكثيرٌ مِن غيرِهِم بِهذا النَّوع الدمَ المنوطَ بتَرْكِ المأمُوراتِ كالإحرَام مِن المِيقاتِ ونحوِهِ (¬1)، وظاهرُ (¬2) النَصِّ: أنهُ دمُ ترتيبٍ وتعدِيلٍ، وقَطَعَ بِهِ البغويُّ، ورجَّحهُ فِي "المُحرر" (¬3). 4 - النوعُ الرابعُ: التَّرتيبُ والتَّعديلُ: دُمُ الجِماع (¬4): ومنهُ دمُ الإحصارِ، إن قُلنا لهُ بدلٌ وهُو الأصحُّ، ولا يُشاركُهُ غيرُهُ فِي مِثلِ هذا الخِلافِ (¬5). فإنْ وَجَدَ الشَّاةَ ذبَحَها، وإنْ عَجَزَ قوَّمها واشْتَرى بِقِيمتِهَا طعامًا وتصدَّق بِهِ، فإنْ عَجَزَ صَام عن كُلِّ مُدٍّ يَوْمًا (¬6). ¬
وكلُّ الدِّماءِ تُذْبحُ فِي الحَرَم غيرَ دَمِ الإحصَارِ، ولا يَختصُّ بزمانٍ، ويُفَرَّقُ على مساكينِهِ، وكذلك الطَّعامُ ولا يُنقلُ (¬1) شيءٌ من ذلك، بل يصبِرُ إلى وجودِ مساكِينِ الحَرَمِ، ولا يأكُلُ مَن وَجَبَ عليه ذلك مِنْه شيئًا. وأفضلُ البِقاع لذَبْح المُعتمِرِ: المروةُ، وللحاجِّ: مِنًى، وكذا ما يَسُوقانِ مِنْ هَدْي التَّطوع، ووقتُهُ: وقتُ الأُضحيةِ؛ على الأصحِّ، والأيامُ المعلوماتُ: عشرُ ذِي الحِجَّة، والمعدوداتُ: أيامُ التَّشريقِ. * * * * ضابطٌ: يتعددُ الجزاءُ بتعدُّدِ مُقتضِيهِ، إلَّا إذا كان استِمْتاعًا (¬2) غيرَ جِماع، واتَّحد نوعُه ومكانُه وتوالى (¬3) الزمانُ قبل أَنْ يُكَفِّرَ. وكذلك يتَّحِدُ الجزاءُ فِي نوعَي استِمْتاع للتَّبعيةِ كلُبس ثوبٍ (¬4) مُطَيَّبٍ على النصِّ المُعتمدِ خِلافًا لِمن قضى بالتَّعدُّدِ. ولو حَلَقَ ثلَاثَ شَعَراتٍ فِي ثلاثَةِ أمكنَةٍ أو ثَلاثَةِ أزمنةٍ مُتفرقَةٍ وَجَبَ ثلاثةُ أمدادٍ؛ تفريعًا على تعدُّدِ الدَّم على مَنْ حَلَقَ رأسَهُ فِي زمانَيْنِ أو مكانَيْنِ وهُو المذهَبُ، وهذا تقييدُ ما سَبَقَ فِي الصَّوم، وهُنا فِي ثلَاثِ شعراتٍ. ¬
وفيه نظرٌ. وكذلك الحُكمُ (¬1) فيما زاد. والقُبلةُ بالشهوةِ، والاستمناءُ باليدِ قد (¬2) يتخيلُ التعدُّدُ فيهما كالجِماع (¬3) والذي يظهرُ (¬4) إلحاقُهُما بالطِّيب. ولو باشَرَ بشهوةٍ ثُم جامَعَ دخلَتِ الشاةُ فِي البدنَةِ على الأصحِّ. ¬
باب دخول حرم مكة وحكم صيده وشجره
باب دخول حرم مكة وحكم صيده وشجره دخولُهُ لا يوجِبُ إحرامًا على أصحِّ القولَينِ خِلافًا لِما اختارهُ ابنُ القَاصِّ والمسعوديُّ والماورديُّ والبغويُّ (¬1) والمَحَامليُّ وغيرُهُم. ولو دخل أهلُ الحرمِ مَكَّةَ لم يجِبْ إحرام قطعًا، ومثلُهُ مَن دَخَلَ الحرَمَ لقتالٍ مُباح، أو خائفًا مِن ظالِم، أو غريمٍ بِحبسِهِ، وهو مُعسِرٌ لا يمكنه أن يظهرَ لأداءِ النُّسُك. والعبدُ (¬2) لا إحرامَ عليه، ولو أذِنَ له السيِّدُ فِي الدخولِ على المذْهَبِ، ولا مَن يتكرَّرُ دخولُهُ كحَطَّابٍ وصيادٍ على المشهورِ. واستثنى المَحَامليُّ مِن الإيجابِ ثمانيةً: التاجِرُ، والزائِرُ، والمكيّ المسافِرُ إذا عاد، والحطَّابُ، ومَن فِي معناهُ، والممتارُّ يرجِعُ بأقلَّ مِن أسبوع، والبريدُ، والرسولُ، والمقاتِلُ مباحًا أو واجبًا. وما ذكَرَهُ فِي التاجِرِ والزائِرِ والمكِّي العائِدِ من سفرِهِ والراجِعِ بِأقل مِن أسبوع والبريدِ والرسولِ: خِلافُ المعروفِ. ¬
وعلى القولِ بالوجوبِ مَن دَخَلَ غيرَ محرِم لا قَضاءَ عليه، على الأصَحِّ، كفواتِ التحية. قال المرعشيُّ: وليس فِي الفرائضِ ما إذا تَرَكَهُ الإنسانُ لا تَلزمُهُ إعادةٌ ولا كفارة عليه (¬1) غيرُهُ. وينبغِي أن يقولَ الأعيانُ، وإلا ففرائضُ الكفايةِ قد تُتصورُ فيها ذلك، وصيدُ حَرَمِ مكَّةَ البَرِّيِّ على الوجهِ المعتبرِ فِي الإحْرَامِ حرامٌ على الحلالِ أيضًا. وكذلك شجرهُ الرطبُ غيرُ المؤذِي: لا الورقُ، والإذخرُ، والمأخوذُ للدواء، ولا ما كان أصلُه مِنْ شَجَرِ الحِلِّ والنابِتِ بعضُها فِي الحرم حَرَمِيَّةٌ كلُّها. ومنهم مَن اختارَ تحريمَ العَوْسَجِ ونحوِهِ. وفِي الشجرةِ الكبيرةِ: بقرةٌ، وفِي الصغيرةِ التي هِي (¬2) سُبُعُها أو يَقرُبُ من ذلك: شاةٌ، وفِي غيرِ ذلك: القيمةُ، إلَّا إنْ أخلَفَ يشتري بِها الطعَامَ، وهي تخييرٌ وتعديلٌ كما سبق (¬3). ¬
ويختصُّ حَرَمُ مَكَّة بأربعةَ عَشَرَ حُكْمًا (¬1): 1 - تحريمُ الاصطِيادِ. 2 - وقطعُ الشجرِ. 3 - ولا ينحرُ غيرُ المُحْصَرِ الهَدْيَ إلَّا فِيهِ (¬2). 4 - ولا يُفَرِّقُ لحمَهُ والطعامَ الواجِبَ فِي المناسِكِ إلَّا فِيهِ. 5 - ولو نَذَرَ (¬3) المشيَ إليه لزِمَهُ. 6 - ولا يدخُلُه إلَّا بإحرام واجبٍ أو مستحبٍّ على الخِلافِ. 7 - ولا يتحلَّلُ إلَّا فِيهِ إلَّا إذا كان مُحْصَرًا. 8 - ولو قَتَلَ فيه خطأ آدَمِيًّا أو أصابه غُلِّظَتِ الدِّيةُ. 9 - ولا تُتملكُ لُقطتُهُ. 10 - ولا يدخلُهُ كافرٌ. 11 - ولا يُدفنُ فيه (¬4). ¬
12 - ولو شرَطَ على دخولِهِ مالًا، فَدَخَلَ أُخِذ منهُ، ولا يُعرفُ فاسِدٌ يُسْتَحَقُّ فيه المسمَّى غيرُ هذا (¬1). 13 - ولا يُحْرِمُ أحدٌ فيهِ بالعُمرة وحدَهَا. 14 - ولا فِدْيةَ على حاضِرِيهِ بمُتعةٍ ولا قِرانٍ، وبالعباداتِ المُختَصَّةِ بالحجِّ. * * * * وتختَصُّ الكعبةُ: بأنَّها قِبلةُ المُسلمينَ مِن جَمِيع الجِهاتِ. وبالحجِّ والعُمْرةِ والطَّوافِ. وتفضيلُ الصَّلاةِ بِمائةِ ألفٍ فِيها، وفِي المَسْجِدِ حولَها. والمصلُّون يسْتَديرِونَ حولَهَا ويَتَقَابلونَ (¬2) فِيها حَتَّى الإمامُ والمأمومُ، وكذلك الاسْتِدبارُ. ¬
وبأنَ إحياءَها فرضُ كِفايةٍ. وبأنَّ قاضِي الحاجَةِ يحرُمُ عليهِ استِقبالُها واستدبارُها بِالصحراءِ. ومكَّةُ أفضلُ البِلادِ غيرِ البُقعَةِ التِي دُفِن فِيها النَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- (¬1) فإنَّها أفضلُ البِقاع (¬2)، واللَّه سبحانه وتعالى أعلم. * * * ¬
باب زيارة النبي -صلى الله عليه وسلم- وحكم حرم المدينة في صيده وشجره
باب زيارة النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- وحكم حرم المدينة فِي صيده وشجره يُسْتحبُّ اسْتِحبابًا مُتَأكِّدًا (¬1) لا سيِّما للحَجِيج: زِيارةُ قبرِ النَّبيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- بأدبٍ وخُشُوعٍ، ويُسلِّمُ، ويُصلِّي عليهِ، ثُم يُسلِّمُ على أبِي بِكْرٍ، ثُم عَلى عمرَ -رضي اللَّه عنه- ـ، ويزورُ البقيعَ، وقباءَ. وصيدُ حَرَم المَدِينةِ (¬2) حرامٌ، والجديدُ: لا ضَمَانَ، والمُخْتارُ: أنهُ يضمَنُ بسَلْبِ الصَّائِدِ غيرِ ما يستُرُ عورتَهُ (¬3). ¬
ولا يُنْقَلُ شيْءٌ (¬1) إلى الحِلِّ (¬2) مِن تُرابِ الحرَمَينِ ولا أحجارُهُما. واخْتُصَّتِ المدِينةُ بأنَّها دارُ الهِجْرةِ، ومدفنُ سَيِّدِ الأوَّلِينَ والآخِرِينَ -صلى اللَّه عليه وسلم- وعلى آلِهِ وصحابتِهِ والتَّابِعِينَ (¬3). * * * ¬
التَّدريب في الفِقه الشَّافِعي المُسَمَّى بِـ «تَدريب المُبتدي وَتَهذيب المُنتَهِي» [2]
جَمِيع الْحُقُوق مَحْفُوظَة الطبعة الأولى 1433 هـ - 2012 م دَار الْقبْلَتَيْنِ المملكة الْعَرَبيَّة السعودية - الرياض جوال: 0506639380 - تليفاكس: 014497216
كتاب البيع
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ كتاب البيع هو لغةً: مُقَابَلةُ شَيءٍ بشَيءٍ. وشرعًا: بدلُ مالٍ بمالٍ عِوضًا على وجْهٍ مأذونٍ فيه. قال اللَّهُ تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ}، وصحَّ فِي إحلالِهِ أحاديثُ كثيرةٌ. * * * وهو أنواعٌ: بيعُ عَينٍ مَرئيةٍ (¬1)، إما بعَينٍ مَرْئيةٍ، أو بمَوْصُوفٍ مَعلُومٍ فِي الذِّمةِ. أو (¬2) بَيعُ موصُوفٍ فِي الذِّمةِ بمَوصُوفٍ فِي الذِّمةِ. ¬
وبيعُ مَوْصُوفٍ فِي الذِّمةِ بمَا يُقبَضُ فِي المَجْلسِ بلَفْظٍ خَاصٍّ، وهو السَّلَمُ، وأضافَ الشافعيُّ إلى ذلكَ فِي قولٍ: بيعَ ما لَمْ يُرَ (¬1). وأما الصُّلْحُ: فهُو فِي بعْضِ أحوالِهِ يرجِعُ إلى البيعِ، والإجَارةُ وإنْ كانتْ بيعًا فهُو (¬2) خَارجٌ عنِ الأنواعِ المذكُورةِ. * * * وشروطُ العاقدِ ثلاثةٌ: 1 - التكْليفُ. 2 - والرُّشْدُ (¬3) 3 - وعدمُ الإكراهِ بغيرِ حَقٍّ (¬4). ¬
وشروطُ المَبِيعِ (¬1) سَبعةٌ: 1 - وهو أن يكونَ طَاهرًا (¬2). 2 - مُنْتَفَعًا به شَرْعًا انتِفاعًا يقابَلُ بالماليةِ (¬3) عادةً (¬4). 3 - مقدُورًا على تسْليمِهِ حِسًّا وشَرْعًا (¬5). 4 - للعَاقِدِ علَيه ولايةُ العقْدِ (¬6). 5 - معلُومًا، ويتناولُ العلمَ بالصفةِ، وهو الرؤْيةُ (¬7). 6 - سالمًا مِن الرِّبَا. ¬
7 - قد أُمِنَتْ فيهِ العاهةُ عَادةً، لِيخرجَ بيعُ الثمارِ قَبْلَ بُدوِّ الصَّلاحِ، مِنْ غَيرِ شرْطِ القَطْعِ (¬1). * * * والبيعُ لا يكونُ مؤقَّتًا أبدًا إلَّا فِي صُورةِ العُمْرَى (¬2) -علَى رأيٍ قد يرجحُ، ولا يَقبلُ التعليقَ إلا فِي صورتَينِ: * إحداهما: "بعتُك إن شئتَ" على الأصحِّ؛ لِأنَّه مُقتضَى الإطلاقِ فيقولُ: "قبلتُ"، ونحوُه: "لا شئتُ". * والثانيةُ: إذا قال الموكِّلُ: "أذنْتُ لكَ فِي شراءِ جاريةٍ بمائةٍ"، وقال الوكيلُ: "بمائتَينِ"، فالقولُ للموكِّلُ، لكن إذا قالَ لَهُ: "إنْ كنتُ أمرتُك بشرائِها بمِائتَينِ فقد بعتُها منكَ بمائتَينِ"، فقال: "قبلتُ"، صَحَّ على الأصَحِّ للحاجَةِ. ¬
* والشروطُ فِي البيعِ أربعةُ أقسامٍ: 1 - قِسمٌ تُبْطِلُ البيعَ والشرطَ. 2 - وقِسمٌ يَصِحُّ البيعُ ويَبْطُلُ الشرطُ. 3 - وقِسمٌ يَصِحُّ البيعُ والشرْطُ. 4 - والرابعُ (¬1) شَرْطٌ ذِكْرُهُ شَرْطٌ. * * * * فالأولُ (¬2) كما (¬3) فِي الشُّروطِ المُنافيةِ لمُقْتضَى العَقْدِ، كشرْطِ أن لا يتسلَّمَهُ أو أن لا يَنتفِعَ (¬4) بِهِ. * والثَّاني: كما (¬5) إذا شَرَطَ ما لا يُنافِيهِ ولا يَقتضِيه ولا غَرَضَ فِيه. * والثالِثُ: كما (¬6) إذا شَرَطَ ما كان مِن مُتعلقاتِه أو (¬7) مَصالِحِه أو تشوَّفَ الشرعُ إليهِ، كشَرْطِ خيارٍ، وأجَلٍ، ورَهْنٍ، وكَفِيلٍ، وإشهادٍ، ووصفِ مقصُودٍ فِي المَبيعِ، وشَرْط التَبْقِيةِ فيما يُباعُ مِنَ الثِّمارِ بَعْدَ بُدُوِّ الصلاحِ، وشَرْطِ ¬
البراءةِ مِنَ العُيوبِ، لكن إنَّما يبرأُ مِنْ (¬1) عَيبٍ باطنٍ فِي الحيوانِ لا يَعْلَمُ بِه البائِعُ، والعِتق المُنَجَّزُ، ولو شَرَطَ معه الولاءَ للبائعِ لَغَى هذا الشرطَ علَى المُختارِ وثَبَتَ الولاءُ للمشترِي، خِلافًا لِمَا صحَّحُوه مِن فسادِ البَيعِ. * والرابعُ: بَيْعُ الثِّمارِ المنتفَعِ بِها قَبْلَ بُدُوِّ الصلاحِ يُشترطُ فِي صحةِ البيعِ شرطُ (¬2) القَطْعِ، ولو بِيعتْ مِن مالكِ الأصلِ، وكذا الزرعُ الأخضرُ، لكنْ إذَا بِيعتْ مِن مالكِ الأصلِ، لا يَلزَمُ الوفاءُ بالشرطِ. * * * * ضابطٌ: ليسَ لَنا شرطٌ يجبُ ذِكرُه لتصحيحِ (¬3) العقدِ، ولا يَلزمُ الوفاءُ به إلا فِي هذا الموضعِ. * * * * قاعدةٌ: أبوابُ الشَّريعةِ كلُّها: * منها: ما لا يَقبلُ تَعليقًا ولا شَرْطًا، ومِنه فِي العبادات (¬4): الطهارةُ، والصلاةُ، إلَّا فِي قولِهِ: "إن قَصَرَ قَصَرْتُ"، عِنْدَ الشكِّ فِي نيةِ إمامِهِ. ¬
* ومنها: مَا يَقبَلُ التعليقَ والشرطَ، ومنه العِتقُ، وفِي العباداتِ: الحجُّ. * ومنها: ما يقبلُ التعليقَ دونَ الشرطِ، كالطلاقِ، والإيلاءِ، والظهارِ، والوصيةِ. * ومنها: مَا يَقْبلُ الشرطَ، ولا يَقبلُ التعليقَ: كالبيعِ، والوقفِ، والنكاحِ، ونحوِها (¬1). * ومنه: فِي العباداتِ: الاعتكافُ. * * * * ضابطٌ: كلُّ عقدٍ كانتِ المدةُ رُكنًا فيه لا يكونُ إلا مؤقَّتًا كالإجارةِ والمساقاةِ والهدنةِ، وكلُّ عقدٍ لا يكونُ كذلك فلا يكونُ إلا مُطلقًا. وقد يَعرِضُ له التأقيتُ حيثُ لا يُنافِيه كالقِراضِ يُذكرُ فيه مُدةً، ويمنعُ مِن الشراءِ بعدها فقطْ، وكالإذنِ المقيَّدِ بالزمانِ فِي أبوابِهِ، ومنها: الوصايةُ (¬2). ومما يقبلُ التأقيتَ: الإيلاءُ والظِّهارُ والنذرُ واليمينُ ونحوُها. * * * وتُضبطُ أبوابُ البيع ورؤوسُ مسائلِهِ بما هو صحيحٌ قولًا واحدًا، وما هو ¬
فاسدٌ قولًا واحدًا، أو ما (¬1) فِيهِ خلافٌ، والأصحُّ أنه فاسدٌ وعكسُهُ، وما هو حرامٌ ويصحُّ (¬2)، وما هو مكروهٌ. 1 - الأولُ (¬3) عشرةٌ (¬4): 1 - بيعُ الأعيانِ بشرطِهِ غيرَ ما يختصُّ بِحكمٍ (¬5) خاصٍّ، ومنه (¬6) بيعُ الحيوانِ بالحيوانِ (¬7). والباقي (¬8) كلٌّ بشرطِه، وهو: 2 - المطعومُ بمثلِه، والعَرَايَا فِي الرُّطبِ والعِنبِ فيما دونَ خمسةِ أوسقٍ. 3 - والصَّرفُ. 4 - والتَّوليةُ. 5 - والإشراكُ (¬9). ¬
6 - والمرابحةُ. 7 - وشراءُ ما باعَ. 8 - وبيعُ الخيارِ. 9 - وبيعُ العبدِ المأذون. 10 - والسَّلَمُ. * * * وأما البيعُ الفاسدُ قولًا واحدًا، فاثنانِ (¬1) وعشرونَ (¬2): 1 - بيعُ ما لَمْ يَملكُ، وهو المعدومُ. 2 - وبيعُ الكلبِ، والخنزيرِ، وكلِّ نجِسٍ. 3 - وبيعُ ما لا مَنفعةَ فيهِ أصْلًا. 4 - وبيعُ ما لَمْ يُقْدَرْ على تَسلِيمِه حِسًّا. 5 - وبيعُ ما يتعلَّقَ (¬3) به حقٌّ للَّه تعالى أو لآدميٍّ، كالوقفِ والأضحيةِ ¬
والمنذورةِ (¬1) ولحمِ التطوعِ، فِي غيرِ القدْرِ المالكِ لَهُ. 6 - والمرهونُ بعْدَ القبضِ مِن غيرِ المرتهِنِ بغير إذنِ شرعيٍّ. 7 - والرِّبَا. 8 - وبيعُ حَبَلِ الحَبَلَةِ (¬2)، والمَضَامِينِ، والمَلاقِيحِ (¬3). 9 - وبيعٌ وشرْطٌ (¬4) مفسِدٌ. 10 - والمنابذةُ. 11 - والمُلامَسةُ. 12 - والحَصَاةُ (¬5). ¬
13 - وعسْبُ الفحْلِ (¬1). 14 - والمجْهُولُ. 15 - وبيعُ ما لم يُقبضْ مِن غَيرِ البائِعِ، وهو مَكِيلٌ، أو مَوزونٌ (¬2). 16 - 17 - والمُحَاقَلَةُ والمُزَابنةُ فيما لَمْ يُرخَّصْ فِيه. 18 - وبيعُ الثِّمارِ قَبْلَ (¬3) الصلاحِ؛ مِنْ غيرِ شَرْطِ القَطعِ ولا اعتيادِهِ. 19 - وبيعُ الغَرَرِ (¬4). 20 - وبيعُ السلاحِ لِأَهْلِ الحَرْبِ ونحوِهِ. 21 - وبيعُ الطعامِ حتى يَجْرِيَ فيه الصاعانِ (¬5). ¬
22 - وبيعُ الكَالِئِ بالكَالِئِ (¬1). * * * وأما البيعُ المُختلَفُ فِيهِ -والأصحُّ المنعُ- فأَحدٌ وعشرونَ: 1 - بيعُ المعاطَاةِ ونحوه، وإنْ كان المختارُ فيه الجَوازَ. 2 - وبيعُ ما تنجَّسَ مِنَ المائعاتِ. 3 - وحمَامُ البُرْجِ الخارجُ. 4 - والصُّبْرَةُ تحتَها دِكَّةٌ معَ العِلمِ. 5 - وبيعُ الفُضُولِيِّ (¬2)، وإن كان المختارُ فيه الانعقادَ بالإجارةِ. 6 - وبيعُ العبدِ الجانِي جِنايةً تُوجِبُ مالًا مُتعلِّقًا برقَبتِهِ. 7 - وبيعُ المفلِسِ عينًا مِن مالِه. 8 - وبيعُ أمِّ الولدِ والمكاتَبِ إذَا لَمْ يرضَ (¬3). 9 - وبيعُ مَا لَمْ يُرَ (¬4) الرؤيةَ المعتبَرةَ. 10 - وبيعُ العبدِ المُسلمِ مِن الكافِرِ (¬5) إلا فيما إذَا اشتَرى مَنْ يَعْتِقُ علَيه ¬
بقَرابةٍ أو شهادةٍ (¬1). 11 - والبيعُ الضِّمْنيُّ (¬2). وذَكرَ المَحَامِلِيُّ (¬3) أنه يَملِكُ الكافِرُ المسلِمَ ابتداءً فِي ستِّ مسائلَ، وزادَ فِي "الروضة" (¬4) واحدةً، وزدتُ عليهما نحوًا مِن أربعينَ مسألةً، وقدْ تَجيءُ أكثرَ مِنْ هذا، وهي مفرَدةٌ بتصْنِيفٍ (¬5). ¬
* ومِنَ الفاسِدِ على الأصحِّ: بيعُ ما استغرقَتِ الوصيةُ منافِعَهُ، أو ما أمكنَ فيه الاستغراقُ إذا كان البيعُ لغَيرِ المُوصَى له، وكانتْ غيرَ مؤقتةٍ بزمانٍ مُعيَّنٍ، ومِن ذلكَ بيعُ حامِلٍ مع استثناءِ حَمْلِها؛ لفظًا أو شَرْعًا. 12 - وبيعُ المُصحَفِ والحديثِ ونحوِه مِن الكافِرِ. 13 - والعَرَايَا فِي خَمسةِ أوسُقٍ، أو فِي غيرِ الرُّطبِ والعِنبِ. 14 - وبيعُ اللحمِ بالحيوانِ (¬1). 15 - والبيعُ المُقتضِي للتَّفريقِ فِي المِلْكِ في (¬2) الآدميِّ بيْنَ غَيرِ المميِّزِ وأُمِّه، ثُم أُمِّها أو الأبِ. 16 - واشتراطُ الرهْنِ مَجْهُولًا. 17 - واشتراطُ الكفيلِ مَجْهُولًا. 18 - وبيعُ اثنينِ عبديْنِ لكلٍّ مِنهما عبدٌ بثمنٍ واحدٍ، ولَم يَعْلَمْ كلُّ واحدٍ منهما ما لَهُ مِن (¬3) الثمنِ. ¬
19 - والبيعُ المضمومُ (¬1) إلى الكتابةِ. 20 - وبيعُ ما لا جَفَافَ لَه مِن البِطِّيخِ ونحوِه بمثلِهِ. 21 - وبيعُ المبيعِ مِن البائِعِ قَبْلَ القبضِ أو مِن غيرِهِ وليسَ بمَكيلٍ ولا موْزُونٍ. وأما البيعُ المختَلَفُ فيه، والأصحُّ الجَوازُ، فعَشْرٌ (¬2): 1 - البيعُ بالكِنَايةِ مَعَ النيةِ فِي غيرِ مَا يلْزَمُ فيهِ الإشْهَادُ. 2 - وبيعُ الماءِ، ولو على شطِّ النهرِ. 3 - والترابُ فِي الصحْرَاءِ. 4 - والعَلَقُ لامتِصاصِ الدمِ. 5 - وبيعُ العبدِ الذي وَجَبَ عليه قتْلٌ: بقصاصٍ، أو رِدَّةٍ، أو غير (¬3) ذلك. 6 - والنَّحلُ الخارجُ من الكُوَّارَةِ (¬4). ¬
7 - والبيعُ الذي بَطَلَ بعضُ صفقتِهِ، وإن كان آخِرُ (¬1) قولَيِ الشافعيِّ بطلانَ الكلِّ، ورجعَ إليهِ. 8 - والبيعُ المجموعُ مع عقدٍ آخَرَ غيرِ الكتابةِ والجَعَالةِ، أو المختلَفِ حُكم صفقتِهِ (¬2) (¬3). 9 - والبيعُ بشرطِ البراءةِ مِنَ العُيوبِ (¬4). 10 - وبشرْطِ العِتقِ (¬5). والمسائلُ فِي هذه الأقسامِ كثيرةٌ، وإنما ذكرْنَا التقسيمَ والمسائلَ اتباعًا للمَحَامِلِيِّ، وإن كُنَّا زِدْنَا علَيه. * * * * ضابطٌ: حيثُ تفرَّقَتِ الصفقةُ فالإجازةُ بالقِسْطِ مِن المقابلِ علَى الأصحِّ، إلا أنه ¬
يَتعذرُ التقسيطُ فِي صورتَينِ (¬1)، وحينئذٍ فيتعينُ القولُ بالبطلانِ فِي الجميع، وهو الأرجحُ، أو (¬2) الإجارةُ بكلِّ الثَّمنِ. فالأُولَى: بيعُ معلومٍ ومجهولٍ لا تُعرف قيمتُهُ. والثانيةُ: بيعُ المريضِ وإرثُهُ بمحابَاةٍ، فيموتُ مِن مَرضِه ذلك، ولا يجيزُ الورثةُ. * * * * وأما البيعُ الحرامُ: فلا (¬3) يَمنعُ صحةَ العقدِ، ولكنْ يأثمُ فاعلُهُ إنْ عَلِمَ بالتحريمِ. - فبيعُ (¬4) الحاضِرِ للبادِي. - وتلقِّي الرُّكبانِ. - والنَّجْشُ (¬5). ¬
- والبيعُ على بيعِ غيرِهِ. - والشِّراءُ عليه. - وبيعُ المُصَرَّاةِ (¬1). - وبيعُ المَعيبِ بالتدليسِ، وحُكْمُهُ -إن لَمْ يُدَلَّسِ- الردُّ بالعيبِ على الفَورِ. - وبيعُ العِنبِ ممَّنْ يُتحققُ أنه يَتخِذُهُ خَمرًا. - وبيعُ الخَشَبِ مِمَّنْ يُتحققُ اتخاذهُ للملاهِي. - والبيعُ وقتِ النداءِ يومَ الجُمعةِ. * * * * وأما المكروهُ: - فبيعُ العنبِ ممَّنْ يُظنُّ أنه يتخذهُ خَمرًا، وكذا الخشبُ مِمَّنْ يُظنُّ أنه يتخذُهُ للملاهِي، ومواطأةُ رَجُلٍ فِي أن يَبيعَ لَه ثُم يَشتريه مِنه بثمنٍ زائدٍ لِيُخْبِرَ به، ورُجِّح تحريمُه، وبيعُ الصُّبْرة جُزَافًا (¬2). . . . ¬
وبيعُ الهِرَّةِ (¬1)، وبيعُ العِيْنِةِ (¬2). * * * ¬
باب بيوع الأعيان
باب بيوع الأعيان وهي ثلاثٌ: (1) حاضرةٌ. (2) وغائبةٌ. (3) وفِي الذِّمَّةِ. * فالحاضرةُ التي حَصلَتْ فيها المُشاهدةُ المُعتبرةُ، ووُجِدَ (¬1) فيها الشُّروطُ السابقةُ، يصحُّ العقدُ عليها سواء أكانتْ مُثَمَّنًا أو (¬2) ثَمنًا. ولا يُشترطُ مَعرفةُ قَدْرِها قَطْعًا بخلافِ رأسِ مالِ السَّلَمِ، ففيهِ حينئذٍ قولانِ. وفِي أُجْرَةِ الإجَارةِ طَريقانِ: أحدهُما (¬3) كالثَّمَنِ، والأُخْرى (¬4) كرأْسِ مالِ ¬
السَّلَمِ، والأصحُّ فيهما الجَوَازُ. والأحبُّ إلى الشافعيِّ -رضي اللَّه عنه- المنعُ فِي السَّلَم، وجاء الخِلَافُ فيهِما؛ لِأنَّ المُسْلَمَ فيه فِي الذِّمةِ ويطرُقُهُ (¬1) الفسخُ غالبًا، فاحتِيجَ (¬2) إلى معرفةِ قدْرِ رأسِ المالِ (¬3) على قَولٍ لِيرجعَ إليه عند الفَسخِ، والإجارةُ قريبةٌ مِنه، ولكِنِ المَنافِعُ تُسْتَوفى شَيئًا فشيئًا، فرُجِّح شِبهُ أُجرتِها بالثَّمنِ. * * * * والغائبة التي شاهَدَها قَبْلَ ذلك إذَا لَمْ تتغيرْ غالبًا كالحديدِ والأرضِ، أو كانَ لا يَتغيرُ فِي المُدَّةِ المُتخللةِ يصحُّ بيعُها مِنه، خِلَافًا للأَنْماطِي (¬4). وإنَّما يصِحُّ إنْ كان ذَاكرًا لأَوْصافِها حالةَ البيعِ، قالَه المَاوَرْدِيُّ. وما يَتغيرُ غالبًا فِي المُدَّةِ المتخللةِ لا يصحُّ بيعُه، وما احْتُمِلَ كالحيوانِ فالمنصوصُ صحةُ البيعِ ومقابِلُه قولٌ أو وجهٌ. قال المَحَامِلِيُّ: وغَلِطَ ابنُ أبي هُريرةَ (¬5) فقال: لا يصحُّ. ¬
وتكفِي رؤيةُ بعضِ المَبيعِ إنْ دلَّ على باقِيهِ، كظَاهِرِ صُبْرة الحِنْطةِ (¬1)، ونحوِها مِن ثَمَرٍ وجوزٍ، ولو فِي بيتٍ إنْ عُرفَ سَعَتُهُ، وعُمْقُهُ. ورؤيةُ أعْلَى ما التصقَ مِنَ العجوةِ، وكذا القُطنِ، وأُنموذَجٌ لمُعَيَّنٍ مُتماثِلٍ (¬2) إنْ دَخَلَ الأُنموذَجُ فِي البَيعِ (¬3). * * * والرؤيةُ فِي كلِّ شيءٍ على ما يليقُ به: ففِي العبدِ والجاريةِ يُشترطُ ما عدَا العَورةِ، على الأصحِّ، والعملُ على (¬4) خِلافِه. وفِي الدَّابةِ مُقدَّمُها ومؤخَّرُها ورفْعُ ما على ظَهْرهَا مِن سَرْجٍ وجُلٍّ (¬5). وبيعُ الشاةِ المَذْبوحةِ قَبْلَ السَّلْخِ باطلٌ (¬6). ¬
والصِّوَانُ (¬1) خِلْقَةً تكفِي (¬2) رُؤيتُه كقِشْرِ رُمَّانٍ (¬3)، والأسفلِ مْنْ جَوْزٍ ولَوْزٍ، وكذا مَا لَمْ يَكنْ خِلْقَةً، ولكنَّهُ مِن مَصلحتِه كالفقاعِ، وتكفِي رؤيةُ الأرضِ وعليها الماءُ الصافِي، وكذَا السمكُ فِي الماءِ. * * * * وأمَّا الموصوفُ فِي الذِّمَّةِ غير السَّلَم (¬4)، فهو معدودٌ فِي بيوعِ (¬5) الأعيانِ. ثم إن كان فِي رِبَوِيَّيْنِ يُعتبرُ التقابضُ فيهما فيصحُّ، ولَو فِي الطعامِ على الأصحِّ، والخلافُ فيه لِطُولِ الوصفِ، ثم لا بدَّ مِنَ التقابُضِ حالةَ خيارِ المَجلسِ. وإنْ كانَ فِي غيرِ ذلك؛ كـ"اشتريتُ مِنكَ ثَوبًا صِفَتُه كذا فِي ذِمَّتِكَ بعَشرةِ درَاهمَ فِي ذِمَّتِي"، فإنه يصحُّ بَيْعًا، فتجْرِي عليه أحكامُ البيعِ لا السَّلَمِ على ما صحَّحُوه، وهو خلافُ النَّصِّ، وعلى ما صَحَّحُوه لا بدَّ مِن قبْضِ أحدِ العِوَضَيْنِ فِي المَجْلِسِ على الصوابِ، وما صحَّحُوهُ فِي الاسْتِبْدالِ (¬6) والصُّلحِ فِي نظيرِ ذلك مِنَ الاكتفاءِ بتعيينِ (¬7) واحدٍ يَقتضِي هنا الاكتفاءَ ¬
بذلكَ، وإنْ لَمْ يَتعرَّضُوا له هُنا، وهو خلافُ التحْقيقِ فِي الكُلِّ. ومِنْ بُيوعِ (¬1) الأعْيانِ والذِّمَم: بَيْعُ الحَيَوانِ بالحَيَوانِ (¬2) حَالًّا ومؤَجَّلًا مِنْ جِنسِهِ وغيرِ جنسِهِ، ولا رِبَا فِي ذلكَ (¬3)، واللَّه تعالى أعلمُ. * * * ¬
باب بيع المطعوم بمثله والعرايا والصرف
باب بيع المطعوم بمثله والعرايا والصرف إنْ بِيعَ مَطْعومٌ بمَطْعُومٍ مِنْ جِنسِهِ اشتُرِط فِي صحةِ البيعِ ثلاثةُ أمورٍ: (1) المُماثلةُ. (2) والحُلولُ. (3) والتقابضُ ما دامَ خيارُ المَجْلسِ قائِمًا. وإنْ بِيعَ بغيرِ جِنْسِهِ اعتُبِرَ الشَّرْطَانِ الأخِيرانِ (¬1). والمطعومُ ما يُعدُّ لِطَعامِ الآدَمِيِّ غالبًا، ولو تَدَاوِيًا كالطِّينِ الأرْمَنِيِّ لَا الخُراسَانيِّ (¬2). ¬
ومِنَ المَطْعومِ: الماءُ، والزَّنْجَبِيلُ، والزَّعْفَرانُ، والسَّقَمُونْيَا (¬1)، وبزر الأحْوَرِ (¬2)، ودُهنُ البِنَفْسِجِ، ونحوِه، لا ماءُ الوردِ، والمماثلةُ إنما تُعتبرُ فِي حالِ الكمالِ. ومنه: اللبَنُ والسمْنُ، لا كالرُّطَبِ بِمثلِهِ، ولا بالتمْرِ إلا فِي العَرَايَا (¬3) فيما دونَ خَمسةِ أوسُقٍ فِي صفْقَةٍ فِي الرُّطَبِ على رأسِ النخْلِ (¬4) بالثمَرِ على وجْهِ الأرضِ (¬5)، وكذَا العِنَبُ علَى شَجَرةٍ بالزَّبَيبِ. ولا يَجُوزُ في (¬6) غيرِ ذلكَ. ولا يَختَصُّ بالفُقَراءِ علَى الأصحِّ. ¬
* ضابطٌ: حيثُ أُطلِقَ "الفقيرُ"، فالمرادُ به فقيرُ الزكاةِ، إلَّا فِي هذا الموضعِ، فالمرادُ بِه مَنْ لَيسَ عِنْدَهُ نَقْدٌ. * * * وإنْ تَعدَّدَتِ الصفقةُ تعدَّدَ الجَائزُ باعْتِبارِ المُشترِي، وكذَا البائعُ علَى الأصحِّ، وهو نَظِيرُ الشُّفْعَةِ عَكْس ما ذُكِرَ (¬1) فِي تفريقِ الصَّفْقَةِ (¬2)، ومَا خَالَفَ غيرَه فِي اسمِ أوْ أصْلِ غَيرِ جِنْسِه والعَكْسُ حِنْطَةٌ. واللُّحْمانُ والألْبَانُ أجْنَاسٌ، ولَبَنُ الضأنِ والمعزِ جِنْسٌ، وكذَا لَحْمُها، وكذَا مِنَ البَقَرِ والجَوامِيسِ. والتماثُلُ فِي اللَّحْمِ حالَ كونِهِ جَافًّا بِلَا عَظْمٍ ويُغتفَرُ المِلْحُ اليَسيرُ. وكلُّ ما دخَلَتْه النارُ لَا للتمْيِيزِ، لَا يَجُوزُ بَيْعُ بعْضِه ببَعْضٍ. والصَّرْفُ فِي الذَّهَبِ والفِضَّةِ يُعتبَرُ فيه إنْ بِيعَ (¬3) بِجِنْسِهِ الأُمُورُ الثلاثةُ، ¬
وإنْ بِيعَ (¬1) بغَيرِ جِنْسِهِ فالأَخِيرانِ. وأبْطلَ الشافعيُّ -رضي اللَّه عنه- الصُّوَرَ التِي تَتَناوَلُها (¬2) قاعدةُ: مُدِّ عَجْوةٍ لِحديثِ قِلادَةِ خَيْبَرَ، وهو فِي "الصحِيح" (¬3) وهِيَ أَنْ تَشْتَمِلَ الصفقةُ علَى رِبَوِيٍّ يُعتبَرُ فيهِ التمَاثُلُ، ويَكونُ مِنْ الجَانِبَيْنِ، ومعَهُ غَيْرُه، ولَوْ مِنْ غَيْرِ نَوْعِه، فتبْطُلُ صُورةُ المُرَاطَلَةِ (¬4) وهِيَ بيعُ مِائَتَيْ دِينارٍ جَيِّدَةٍ أوْ رَدِيئَةٍ، أوْ وسَطٍ، بمِائِةٍ جَيدةٍ، ومِائةٍ رَدِيئَةٍ. ويُستثْنَى مِنَ القاعدةِ صُورةُ الصُّلحِ عَمَّا فِي الذِّمةِ كأَلْفِ دِرْهَمٍ وخَمْسِينَ ¬
دِينارًا صَالِحَةٍ مِنها عَلى ألْفَيْ دِرْهَمٍ، فعلَيه استيفاءُ الألفِ، والعِوضُ عَنِ الدَّنانيرِ، وفِي وَجْهٍ ضعَّفُوهُ يَبطُلُ، وهو الصَّوابُ لِشُيوعِ المُعاوَضَةِ. وأمَّا إذَا باع دَارًا بِذَهبٍ، فظَهَرَ فيهَا معدِنُ الذَّهبِ، فإنَّه يَصحُّ، وكذَا دَارٌ (¬1) بِدَارٍ فيهِما بِئرُ مَاءٍ عَذْبٍ وقلْنا: "يدخُلُ تَبَعًا" وهُو المَرْجُوحُ المَعْمُولُ بِه. ويَبْطُلُ بَيعُ الشَّيْرجِ (¬2) بالسِّمْسِمِ لا السِّمْسِم بمثلِه، بخلافِ شاةٍ فِي ضَرْعِها لَبَنٌ بِشَاةٍ كذلكَ. * * * ¬
باب التولية والإشراك والمرابحة وشراء ما باع
باب التولية والإشراك (¬1) والمرابحة وشراء ما باع جاءَ فِي مُرسَلٍ جيِّدٍ أنَّ رسولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- ذَكَرَ التَّولِيةَ والإشْرَاكَ (¬2) (¬3). والتَّوْلِيةُ: هِيَ (¬4) أَنْ يَقُولَ المُشترِي لعَالِمٍ بالثَّمَنِ: "وليتُك هذَا العَقْدَ"، فيقبَلُهُ. ¬
وهِي بيعٌ جَديدٌ، وشرْطُها: كونُ الثَّمَنِ مِثْليًّا، أو عَرَضًا إنِ انتقلَ العَرَضُ إلى المُخَاطَبِ قَبْلَ التولِيَةِ (¬1). * * * * ضابطٌ: لا يُشترَطُ أَنْ يكونَ الثَّمنُ مِثْليًّا إلَّا فِي الرِّبَوِيَّاتِ والتوْلِيَةِ، كما تقدَّمَ، ومثلُهُ الإشراكُ (¬2)، وثمنُ الشُّفعةِ حَيثُ كانَ الأولُ مِثليًّا. * * * * قاعدةٌ: لا يُشترطُ العِلْمُ بالثَّمَنِ قَبْلَ العَقْدِ إلَّا فِي التَّوليةِ والإشْرَاكِ (¬3). * * * ولوْ قِيلَ: يُكتفى (¬4) فِي التوْلِيَةِ لِغَيرِ العَالِم بالثَّمنِ بقَوْلِه (¬5): "ولَّيْتُك هذَا العَقْدَ الذِي ثمنُه كذَا"، وقَبِلَ المُوَلَّى لكانَ قَوِيًّا، ومثْلُه فِي الإشراكِ (¬6)، ولعلَّهُمْ ذكرُوا العِلْمَ بالثَّمَنِ قَبْلَ التَّوْلِيَةِ حَيْثُ لَمْ يذكرْهُ فِيهَا، ويَلْحَقُ الثاني ¬
الحَطُّ، وإنْ كان الكُلُّ إذا كانَ حَطُّ الكلِّ فِي حالةِ اللُّزومِ بَعْدَ التَّوْلِيةِ، وحَطُّ الكلِّ فِي زمَنِ الخِيارِ مُبْطِلٌ للعقْدِ الأوَّلِ (¬1)، فتَبْطُلُ التولِيةُ الموجُودةُ، وحَطُّ الكُلِّ بعْدَ الخِيارِ قَبْلَ التَّوْلِيةِ يُبْطِلُ التولِيةَ (¬2). * * * * ضابطٌ: ليْسَ لَنَا عَقْدُ بيعٍ يَسقُطُ فيه جَميعُ الثَّمنِ بإِبراءِ غيرِ المشترِي بغدَ اللُّزُومِ إلا فِي التولِيَةِ. * * * والكذِبُ فِي الثَّمَنِ فِي التوْلِيةِ يُبْطِلُ العَقْدَ قَطْعًا عِند جَمْعٍ مِنَ المَرَاوِزَةِ، وقيلَ: يصحُّ، فيَحُطُّ الزائدَ قَوْلًا واحِدًا، وقيلَ: كالمُرابحَةِ، والأصحُّ فيها حَطُّ التفاوُتِ بلا خيارٍ (¬3). ¬
وفِي دَعْوَى الزِّيادةِ لا يُقبلُ قولُهُ ولَا تُسمَعُ بَيَّنَتُهُ (¬1)، ولكنْ لَهُ تحْليفُ (¬2) المُشترِي أنهُ لا يَعْلَمُ ذلكَ، وإنْ بَيَّنَ لِغَلَطِهِ وجْهًا مُحتمَلًا سُمعتْ بَيِّنَتُهُ (¬3). والإشْراكُ (¬4) فِي بعْضِه كالتولِيةِ فِي كُلِّه (¬5) وقولُه: "أشركتُكَ بالنِّصْفِ" صريحٌ فِي المُناصفَةِ، وقولُهُ: "أشركتُك فِي النِّصْفِ" يُحملُ على الرُّبُعِ إنْ صحَّحْنَا إطلاقَ "أشْرَكتُكَ" مَحمُولًا على النِّصْفِ، وهُو الأصحُّ (¬6). * * * * ضابطٌ: إذَا تردَّدَ المَعْقُودُ علَيْهِ بيْنَ أجْزَاءٍ؛ لا يُحمَلُ عِندَ الإطلاقِ علَى النِّصْفِ إلا هُنا. * * * وفِي قولِه فِي القراضِ: "الرِّبْحُ بَيْنَنا"، ومِنْ ذلكَ "بِعْتُكمَا"، بخلَافِ "بعتُكَ بأَلْفٍ دَرَاهِمَ ودَنَانيرَ"؛ فإنهُ باطلٌ. * * * ¬
وبيعُ المُرابَحَةِ جَائِزٌ مِنْ غَيرِ كرَاهَةٍ (¬1). ويَجُوزُ مُحاطَّةً (¬2) والمَحْطُوطُ فِي قولِه: "دِرْهَمٌ لكُل عَشرةٍ"، "واحدٌ مِنْ كُلِّ أحَدَ عَشرَ"، على الأصحِّ، كما فِي الرِّبحِ قَطْعًا بخِلافِ قولِه: "حُطَّ دِرهمٌ مِنْ كُلِّ عَشرةٍ"، فإنَّ المَحْطوطَ مِنَ العَشرةِ، وقِيلَ كالأُولَى، وغَلِطَ (¬3). ويَدخُلُ في: "بِعْتُ بمَا قامَ علَىَّ (¬4) مَعَ الثَّمَنِ" المُؤَنُ التي يُقصدُ بِها الاسترباحُ؛ كالعلَفِ الزائدِ للتسمينِ، وأُجْرَة الطَّبيبِ (¬5) إنِ اشتراهُ مَريضًا، والمُكس (¬6)، لا فِدَاء الجَانِي، ولا مَا أَعْطَاهُ لِرَدَّ المَغْصُوبِ ونحوِه. ¬
ولا بُدَّ مِن عِلْمِ رأسِ المالِ والمُؤَنِ الداخِلَةِ فيمَا قامَ علَيَّ. فإنْ جَهِلَ أحدَهما لَمْ يَصحَّ، وكذا لَوْ كانَ الثَّمَنُ مُعيَّنًا مجْهُولَ القدْرِ. ويَجُوزُ أَنْ يَشترِيَ ما باعهُ برأسِ المالِ وبأقلَّ مِنهُ وأكْثَرَ، ويستوِي فِي ذلكَ الحَالُّ والمُؤَجَّلُ ما لَمْ يَمْنَعْ مِنْ ذَلِكَ خِيَارٌ ولَا عَدَمُ قَبْضٍ (¬1). * * * ¬
باب بيع الخيار
باب بيع الخيار والمُرادُ بذلكَ هُنا ما شُرِط فيهِ الخِيارُ ثلاثةَ أيامٍ فَمَا دُونَها، فإنْ زادَ علَى ذلكَ بَطَلَ العَقْدُ بِلَا تفْرِيقٍ، لِأنَّه صَارَ شَرْطًا فاسِدًا. وابتِداءُ المُدَّةِ مِن حِينِ الشَّرْطِ. وهو يَثبُتُ فيمَا يَثْبُتُ فيهِ خِيارُ المَجْلسِ إلَّا فِي سِتَّةِ مواضِعَ: (1) الصَّرفُ. (2) وبيعُ الطَّعَامِ بالطَّعَامِ. (3) والسَّلَمُ. (4) والمَوْصُوفُ فِي الذِّمَّة مِنَ الجَانِبَينِ بِغَيْرِ لَفْظِ السَّلَمِ (¬1)، إذ يُشترَطُ فيهِ قَبْضٌ واحدٌ مِنَ العِوَضين فِي خِيارِ المَجْلسِ علَى الصَّوابِ، فامتَنعَ اشتراطُ الخِيارِ فِيه كالسَّلَمِ. (5) والإجارةُ على عَمَلٍ فِي الذِّمَّةِ إذْ هِي كالسَّلَمِ. (6) وشراءُ بعضِهِ بشَرْطِ الخيارِ للمُشترِي وحدَهُ -وإذَا كانَ المَبيعُ يَفسُدُ ¬
فِي مُدَّةِ الخيارِ- وأمَّا إذَا اشترَى مَن اعترَفَ بحرِّيَّتِه، فإنَّه لا يَثبتُ لَه الخِيارانِ، لِأنَّه افتداءٌ مِن جهتِهِ. والخِيارُ فِي البَيعِ للتَّشهِّي، وهو خِيارُ المَجْلِسِ والشَّرطِ، وخيارُ الرؤْيَةِ علَى رأيٍ (¬1) ضَعِيفٍ، وهو (¬2) عدمُ اشتراطِ الوصْفِ والنقصِ بعيبٍ ونحوِه، ويثبتُ الخيارُ بذلك دَوامًا، وكذا ابتداءً إن جُهِلَ. وذكَرَ المَحَامِلِيُّ أنَّ الخياراتِ التي لها مَدْخلٌ فِي البيعِ عشرةُ (¬3) فَعَدَّ ثلاثةً (¬4) للتَّشهِّي، وذَكَرَ خيارَ التخييرِ، وهو أَنْ يُخيِّرَ أحدُهما صاحِبَهُ، وهذا ليسَ بشَيءٍ، فالتخييرُ لا يُثبِتُ خِيَارًا، وذَكَرَ خِيارَ الامْتِناعِ مِنَ العِتقِ، والأصحُّ فيه الإجبارُ (¬5) لا الخيار، وذَكَرَ العيبَ، وتلقِّي الرُّكبانِ، وتفْرِيقَ الصفْقَةِ يعنِي: دَوامًا، وكذا ابتداءً إن جَهِلَ المشْتَرِي، وذَكَرَ العَجْزَ عَنِ الثَّمَنِ، وعدَمَ الحِرفَةِ المَشْرُوطَةِ (¬6)، ولَوْ قالَ: وفَقْدُ الوَصْفِ المقصُودِ المَشْروطِ، لَكَانَ أعَمَّ (¬7). ¬
ويُزادُ عَلَى المَحَامِلِيِّ اثنَا عَشرَ: - الخِيارُ فيمَا رَآه قَبْلَ العَقْدِ إذَا تَغيَّرَ عَنْ وَصْفِه. - والخِيارُ فِيمَا لَمْ يَرَهُ إذَا وصَفَهُ، واكتفَيْنَا بِه علَى المَرْجُوحِ، فوَجَدَهُ ناقِصًا عَنِ الوَصْفِ. وفِي التغْرِيرِ الفِعْليِّ مِنَ التَّصْرِيَةِ (¬1) ونحوِها، لَا تَلْطِيخَ الثَّوبِ بالمِدادِ لِتُتَخَيَّلَ (¬2) كِتَابَتُهُ، لِإمْكانِ استِكْشَافِه فِي الحَالِ. - والخيارُ لِجَهْلِ الدِّكَّةِ التِي تَحْتَ الصُّبْرةِ، ولِجَهْلِ الغَصْبِ مَعَ القُدْرةِ علَى الانتِزَاعِ، ولِطَرَيانِ العَجْزِ معَ العِلْمِ بِه، ولِجَهْلِ كَونِ المَبيعِ مُسْتأجَرًا. - والخِيارُ لِلامتِناعِ (¬3) مِنَ المَشْرُوطِ غيرِ العِتقِ فإنه يُجبَرُ علَيهِ، وغيرِ القَطْعِ فيمَا إذَا بِيعتِ (¬4) الثمرةُ قَبْلَ (¬5) الصلَاحِ مِنْ صَاحِبِ الأصْلِ بِشَرْطِ (¬6) القَطْعِ، فإنه لا يَلْزَمُ الوفاءُ بِهِ. - والخِيارُ بَعْدَ التحالُفِ، ولِتعذُّرِ قَبْضِ المَبِيعِ لجَحْدٍ (¬7)، أوْ غَصْبِ ¬
غَاصِبٍ، ولِتَعذُّرِ قَبْضِ الثَّمَنِ فِي غَيبةِ مالِ (¬1) المُشْتَري إلَى مَسافةِ القَصْرِ. - والخِيارُ للبائِعِ فِي ظُهورِ الزِّيادةِ فِي الثَّمَنِ فِي المُرابحةِ. - والخيارُ لِلْمشتَرِي فِي صُورةِ الأَحْجارِ المَدْفُونَةِ فِي الأرضِ المَبِيعةِ إذَا كانَ القَلْعُ والتَّرْكُ مُضِرَّيْنِ أوْ كَانَ القلْعُ مُضِرًّا ولَمْ يَتْرُكِ البائِعُ الأحْجَارَ، وهو إعراضٌ علَى الأصحِّ كنَعْلِ الدابةِ، فلَوْ خَرَجَ أوْ سَقَطَ، فالحَجَرُ للبَائِع والنَّعْلُ لِلْمُشْتَرِي. - والخيارُ للمُشْتري فِي اختِلَاطِ الثَّمَرةِ والمَبيعِ قَبْلَ القَبْضِ بِغَيرِه إنْ لَمْ يَهَبِ البائعُ (¬2) ما تَجَدَّدَ، ولِلْمُشْتَرِي بعَيْبِ الثمرةِ بِتَرْكِ البائِعِ السَّقْيَ. وقدْ يَثْبتُ (¬3) الخيارُ للأجْنَبيِّ -وهو المجنيُّ عليهِ- عِنْدَ تعذُّرِ الفِداءِ بعدَ البيعِ إذَا اختارَ السيدُ الفداءَ فباعَهُ (¬4)، ويفسخُ عِنْدَ التنازُع فيما إذَا نَفَعَ السقيُ للأشْجَارِ وضَرَّ الثمارَ الباقيةَ للبائعِ، وفِي اختلَاطِ الثَّمَرةِ الباقيةِ (¬5) لِلبائِع بِغيرِها. * * * ¬
ويَظْهَرُ لَكَ مِنْ ذلِك كلِّهِ التعقبُ علَى صاحِب "الروضة" (¬1) إذ فِي زيادَاته: قالَ أصْحَابُنا: إذَا انْعقَدَ البيعُ لَمْ يتطرَّقْ إليهِ فسخٌ (¬2) إلا بأحَدِ سبعَةِ أسبابٍ: 1 - خيارُ المجْلِسِ. 2 - والشَّرْطُ. 3 - والعَيْبُ. 4 - وخُلفُ المَشْرُوطِ المَقْصُود. 5 - والإقَالةُ. 6 - والتحَالُفُ. 7 - وهلَاكُ المَبِيعِ قَبْل القَبْضِ. وأيضًا فالفسخُ يُتَطرقُ إليهِ بأكْثَرَ مِمَّا ذَكَرْنَا وخيارُ المَجْلِسِ يَنْقَطِعُ بِالتفرُّقِ (¬3) بأبدانِهِما -طَوْعًا عَنْ مَجلسِ العَقْدِ- التفرُّقَ (¬4) المُعتادَ، وبأنْ يَختارَا إمضاءَ البيعِ، فلَوِ اخْتَارَ أحدُهُما الإمضاءَ لَزِم فِي حَقِّه وبقِيَ خِيارُ الآخَرِ علَى الأصحِّ فيهِما. * * * ¬
* ضابطٌ: لا يتبعَّضُ خيارُ المجلِسِ ابتداءً فيقعُ لواحِدٍ دونَ آخَرَ إلَّا فِي صورتَينِ: إحدَاهُما: إذا اشْتَرَى مَن اعْتَرَفَ بحُرِّيَّتِه كما تقدَّمَ. الثانيةُ: فِي الشُّفعةِ إذَا أثْبَتْنا الخِيارَ للشَّفِيعِ علَى ما رُجِّحَ، والمُصحَّحُ لَا يثبتُ له. * * * ولا يَثبتُ خيارُ المَجْلِس إلا فِي المُعاوضةِ المَحْضَةِ، ومنهُ إجارَةُ الذِّمَّةِ إذْ هِيَ كالسَّلَمِ لا غيرَهَا فِي الأصحِّ (¬1). ويَنقطِعُ خِيارُ الشَّرْطِ بمُضيِّ المُدَّةِ أوْ باختيارِهما الإمْضَاءَ، والفَسْخُ مِن واحِدٍ يَقْطعُ الخِيارَيْنِ، واستقرارُ البيعِ يَحْصُلُ بقَبْضِ ما كانَ (¬2) مُعَيَّنًا مِنَ الجَانِبَيْنِ، والاستِقْرَارُ عِبَارةٌ عنِ الأمْنِ مِن انفِسَاخِ العَقْدِ بسبَبِ تلَفِ العَيْنِ (¬3). * * * ¬
* ضابطٌ: ليسَ لَنا فِي العُقُودِ اللازِمَة ما يَحتاجُ إلى استقْرَارِ المَعْقُودِ علَيْهِ إلا البيعُ، والسَّلَمُ، والإجارةُ، والمسابقةُ، إذْ هِي لازِمَةٌ كالإِجَارَةِ. * * * ويَنْبغِي أَنْ يَجْرِيَ فِي المُساقاةِ، وقدْ ذكرُوهُ فِي الصَّدَاقِ، وهُو (¬1) يَجْرِي فِي عِوَضِ الخُلعِ ونحوِه، لكنِ استقرارُ عِوَضِ الخُلعِ ونحوِه بقبْضِهِ، واستقرارُ الصَّدَاقِ لَا يَحصُلُ بقَبْضِه، بَلْ لا بدُّ معهُ مِنْ مَوْتٍ أو دُخُولٍ بشرطِهِما (¬2) على مَا سيأتِي، ومثلُه فِي الإجَارَةِ ونحوِها قبضُ المنفَعَةِ حِسًّا أو حُكمًا. * * * قاعدةٌ: العقودُ علَى ثلاثَةِ أضرُبٍ (¬3): 1 - لازمٌ مِنَ الجَانِبَيْنِ. 2 - وجَائزٌ مِنَ الجَانِبَيْنِ. 3 - ولازِمٌ مِنْ أحدِهِمَا. * * * ¬
فاللازِمُ مِنَ الجَانِبَيْنِ تِسعةَ عَشرَ، عَدَّ المَحَامِلِي منها تِسعةً (¬1): 1 - 2 - البيعُ والسَّلَمُ بعْدَ لُزومِهِمَا. 3 - والقرْضُ بعْدَ زَوالِ مِلْكِ المُقتَرِضِ عنِ الذِي أقرضَه (¬2). 4 - والصُّلحُ. 5 - ولَوْ أثَبْنا علَى الهِبةِ إذَا كانَ بعْدَ القَبضِ لِغَيرِ الفَرْعِ. 6 - والحَوَالةُ. 7 - والعاريةُ للرهن أو للدفْنِ (¬3) إذا وَقَعَ ذلك. 8 - والمأخوذُ بالشُّفعة (¬4)، والإجارةُ بعد لزومهما على ما تقدم. 9 - والمساقاةُ. 10 - والمُزارعةُ الصَّحيحةُ. 11 - 12 - والمُسابقةُ والمُناضلةُ، على الأصحِّ فِيهِما. ¬
13 - والوَصيةُ. كذا قال المَحَامِلِيُّ (¬1)، والمُرادُ إذا قَبِلَ بعدَ الموتِ، وقُبِضَ حينئذٍ، وكذا إنْ قَبِل ولم يُقْبضْ؛ على وجهٍ صحَّحوه، والنَّصُّ أنَّ له أَنْ يرُدَّ. 14 - والهبةُ بعد القبض إلا فِي حقِّ الفَرْع. 15 - والوقْفُ. 16 - والنِّكاحُ على الأَصَحِّ، ومقابلهُ ليس بلازِمٍ مِن جِهَةِ الزَّوجِ (¬2). 17 - والصَّداقُ. 18 - والخُلعُ. 19 - والعتقُ على العِوَضِ، ونحو ذلك. * * * * والجائزُ من الجانبين: خمسةَ عَشَرَ، منها (¬3) ثمانيةٌ زائدةٌ على المَحَامِلِي (¬4): ¬
1 - البيعُ (¬1) فِي حالةِ (¬2) كوْنِ الخِيارِ لهُما بمجلسٍ أو شرطٍ، وقد يَتَّفِقُ له الجوازُ بعد لُزُومه كَمَا فِي التَّحالُفِ وظهورِ العيبِ فِي العِوَضَينِ المُعَيَّنين، ونحو ذلك. 2 - ومن ذلك المُسْلَمُ (¬3) قبل لزومِهِ. 3 - والقرضُ قبل لزومِهِ. 4 - والشَّركةُ. 5 - والوَكالةُ. 6 - والعاريةُ فِي غيرِ ما تقدَّم، وقد يلزمُ مِن جانبٍ على رأي سيأتِي. 7 - والقِراضُ. 8 - والجَعالةُ. 9 - والوديعةُ. 10 - وكذا المُسابقةُ. 11 - والمُناضلةُ على قولٍ مرجوحٍ (¬4). 12 - والهبةُ قبل القبضِ. ¬
13 - والقضاءُ. 14 - والوصيةُ فِي غيرِ ما تقدَّم. 15 - والوصايةُ، إلَّا أنَّ الرَّدَّ لا يتأتَّى (¬1) ثبوتُهُ لكُلٍّ مِن الجانِبَينِ فِي حالةٍ واحدةٍ بل للمُوصِي فِي الحياةِ، وللمُوصَى له بعدَ الموتِ، ولا نَظيرَ لهُما فِي ذلك. * * * * واللازمُ مِن جانبٍ واحدٍ ثلاثةَ عَشَرَ، عد المَحَامِلِي منها خمسَةً (¬2): 1 - الرَّهنُ مِن جهةِ الرَّاهِنِ. 2 - والضَّمانُ مِن جِهةِ الضَّامِنِ. 3 - والجزيةُ مِن جِهةِ الإِمامِ. 4 - والكتابةُ مِن جهةِ السيِّدِ. 5 - والإمامةُ مِن جِهةِ المُسلِمِين. 6 - وهبةُ الأصلِ بعد القبضِ مِن جِهةِ الفرعِ. ¬
7 - والهُدنةُ مِن جِهةِ الإِمامِ. 8 - والأمانُ مِن جِهةِ المُسلِمِين. 9 - والنِّكاحُ مِن جِهةِ الزَّوجةِ، وقد يتفِقُ فِيهِ الجوازُ مِن الجانِبينِ أو مِن أحدِهِما بعيبٍ وعتقٍ، ونحوِ ذلك. 10 - والعاريةُ لوضعِ الجُذُوعِ لازمةٌ بعد وضعِها من جهة المُعِير على وجهٍ رجَّحه العِرَاقِيونَ. 11 - وأما الرَّجعةُ، وتعليقُ الطَّلاقِ، وتعليقُ العِتقِ، والتَّدبيرُ، والنذرُ، فقد لا تُسَمَّى عُقودًا، وأيضًا (¬1) فإنَّها (¬2) يستقلُّ بِها الواحدُ. 12 - وأما الطَّلاقُ، والإيلاءُ، والظِّهارُ، واللِّعانُ، والإبراءُ، والعتقُ: فليس مِن هذِهِ المادةِ. 13 - وأما اليمينُ، والحَجُّ، والعُمرةُ: فليس فيها جانِبَانِ، واللَّه تعالى أعلم. * * * ¬
باب بيع العبد المأذون
باب بيع العبد المأذون وهو صحيحٌ بمُقْتَضى الإذْن اتِّفاقًا، لا مِن غير المأذونِ على المذهبِ. وليس لهما أن يؤجِّرا أنفسَهُما إلا فِي حالةٍ واحدةٍ، وهي حيثُ تعلَّق حقٌّ ثالثٌ بالكسبِ بسببِ زوجتِهِ بإذنٍ أو (¬1) ضمانٍ (¬2) بإذنٍ ونحوِهِما، فلهما ذلك. وللمأذونِ أن يشتريَ (¬3) مَن يَعْتِقُ على سيِّدِهِ على (¬4) أصحِّ القولينِ عندَ الشافعيِّ رضي اللَّه عنه، كذا فِي "الأم" (¬5)، قال: وبه آخُذُ. وخالَفَ المُتأخِّرونَ تبغا للبغويِّ، فصحَّحوا (¬6) المنْعَ، واختارَ بعضُهُم المنْعَ، إن قال: "أتَّجِرُ لا أشْتَرِي". ¬
والفَتْوى على ما صحَّحهُ صاحبُ (¬1) المذهَبِ (¬2)، حيثُ لم يَمنع السيدَ مِن ذلك صريحًا. * * * ¬
فصل في العيب والتحالف
فصل فِي العيب والتحالف * ضابطٌ: العيْبُ كُلُّ ما نَقَصَ العينَ أو القيمةَ نقصانًا يفوتُ به غرضٌ صحيحٌ، الغالبُ فِي أمثال المبيع عدمُهُ، وهو يقتضي ثبوتَ الردِّ، سواءٌ كان موجودًا عندَ العقدِ إذا جهل، أم حَدَثَ بعدَهُ إذا كان قبلَ القبْضِ. وأمَّا ما حَدَثَ بعدَ القبضِ (¬1) فلا يضمنُهُ البائعُ، إلَّا إذا تحقَّق استنادُهُ إلى سببٍ سابِقٍ، كالقتْلِ بردَّةٍ سابقةٍ، والقطعِ بسرقةٍ سابقةٍ، لا الموتُ بمرضٍ سابق. وما دام الردُّ مُمْكِنًا قهرًا فلا (¬2) يُعدَلُ إلى الأرْشِ. فإن حَدَثَ عندَ المُشتَرِي عيبٌ وتنازَعَا اتبع مَن يريدُ الإمْساكَ والرجوعَ بأرْشِ القدِيم إلَّا فِي ربويٍّ بِيعَ بجنسِهِ، فإنَّه يتعيَّنُ الردُّ بأرْشِ الحادِثِ. والردُّ على الفورِ عادَةً، ويسقُطُ بتأخيرٍ، أو استعمالٍ مُشعرٍ بالرِّضا. وإذا اختلَفَ المُتعاقِدانِ أو الوارثُ فِي صفةِ عقدِ معاوضةٍ، ولو فِي ¬
شَرْطِ (¬1) رهْنٍ، أو أجَلٍ، أو نحو ذلك، ولا بيَّنَةَ لواحِدٍ منهما، أو لكلٍّ بينةٌ تُعارِضُ الأخُرى، فإنَّهما يتحالفَانِ. وإنْ لَم يتَّفِقا على صحتِهِ بل كان الاختلافُ مع الفسادِ اختلافًا فِي مقدارِ المبيع أو الثمنِ فإنَّهما يتَحَالفانِ أيضًا؛ نصَّ عليه فِي "الأم" (¬2) و"البويطي". وهو الصوابُ؛ خِلافًا لِمن قال يحلِفُ مُدَّعِي الصِّحةِ، ثُمَّ يَتَحالفانِ، ويجمَعُ كُلُّ واحِدٍ فِي يمينِهِ بينَ النَّفِي والإثباتِ، ويُبدأُ بالبائِع نَدْبًا. وإذا اختلفَا فِي الصِّحةِ والفسادِ غيرَ ما تقدَّم فالقولُ قولُ مُدَّعِي الصِّحةِ بيمينِهِ إلَّا إذا كان الفسادُ راجِعًا إلى القصدِ كبيع ذِراع مِن أرضٍ ادَّعى البائِعُ فيه نيةَ التَّعيينِ، فالأرجحُ تصديقُه بيمينِهِ، وإلَّا إذا كان ذلك فِي صُلْحٍ ادَّعى أنَّه على الإنكارِ، فالقولُ قولُ مَن ادَّعى ذلك بيمينِهِ. وإذا اخْتَلَفَا فِي المردودِ بعيبٍ هل هُو المَبيعُ، فالقولُ قولُ (¬3) البائِع أو المُسْلم باليمينِ. ومثلُه لو ردَّ دَراهِمَ، [فقال المردودُ عليه: "ليستْ دراهِمِي"] (¬4) فإنَّ القولَ قولُ الرَّادِّ بيمينِهِ إلَّا إذا كانتْ مأخوذَةً عن ما فِي الذِّمةِ، وإلَّا فالقولُ قولُ ¬
المردودِ عليهِ بيمينِهِ. وإذا اختلَفَا فِي عقدَينِ حَلَفَ كُلُّ واحدٍ على نفْي ما يدَّعيهِ صاحِبُهُ، ولا يَلزم أحدَهما بيمينِ الآخَرِ شيءٌ. * * *
باب السلم
باب السلم هو لغة: السَّلَفُ، وهو دَفْعُ شيءٍ عاجِلٍ لإعطاءِ شيْءٍ آجِلٍ (¬1) بَعْدَ ذلك. وشرعًا: عقدٌ بصيغةٍ خاصَّةٍ على موصوفٍ فِي الذِّمَّةِ ببدَلٍ يُقبضُ فِي المجلِسِ. قال اللَّه تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} نزلت فِي السَّلَمِ. وفِي "الصحيحين" (¬2) عن النَّبيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "من أسلَفَ فَلْيُسلِفْ فِي كَيْلٍ معلُومٍ، ووزْنٍ معلُومٍ إلى أجَلٍ معلُومٍ". ويُعتَبَرُ فِيهِ العَاقِدانِ المُتأهِّلَانِ، والصِّيغةُ -وهي السَّلَمُ- والسَّلفُ (¬3)، ¬
ولا يصح السلم إلا بشروط ثمانية
ونحوهُما، ولا يصِحُّ بلفظ البيع على الأرجَح (¬1). * * * ولا يصحُّ السَّلَمُ إلَّا بشرُوطٍ (¬2) ثمانيةٍ (¬3): 1 - الأوَّل (¬4): قبضُ رأسِ المالِ فِي خيارِ المجلِسِ (¬5)، فإن تفرَّقا أو التَزَمَا (¬6) العقْدَ قبلَ قبضِهِ بَطَلَ، وقبلَ قبضِ بعضِهِ يبْطُلُ فيما لم يُقْبضْ بحصتِهِ، ولو جَعَلَ رأسَ المالِ منفعةَ دارٍ سنةً مثلًا حَصَل القبضُ بتسليم الدَّارِ فِي المجلِسِ، كذا جزمُوا به، وفيه نظرٌ يُتلقى مِنْ ورودِ العقدِ على المنفعَةِ، وهو الأصَحُّ. وحيثُ قُلنا بما أحبَّه الشافعيِّ -رضي اللَّه عنه- أنَّه لَا بُدَّ مِن معرفةِ قدْرِ رأسِ المال المُعَيَّنِ، فلو عَلِماهُ قبل التفرُّقِ صحَّ قطْعًا. وَلَا يُشترطُ معرفةُ قيمةِ المتقوَّمِ على المذهَبِ. ¬
2 - الشرط الثاني
* ضابطٌ: ليس لنا موضعٌ يُكتفى فيه بالعِلم الحادِثِ بعدَ العقدِ قبل التفرُّقِ جزْمًا إلَّا هذا، ويجيءُ فِي غيرِهِ على رأْي ضعيفٍ. وليس لنا موضعٌ يُعتَبَرُ فيه معرفة قيمة المعقودِ عليهِ على رأْي إلَّا هذا، وتُلحقُ به الأجرةُ إنْ جعلنَاهَا كرأْسِ مالِ السَّلَم (¬1)، ومثلُهُ على وجهٍ بيعُ بعض عَرَضه ببعضِ عرضِ صاحِبِهِ كمَا فِي المُتَقَوَّم (¬2). * * * 2 - الشرطُ الثَّاني: كونُ المُسْلَم فيه دَيْنًا حالًّا أو مؤجَّلًا (¬3)، والمطلقُ حالٌّ، ولو أسقَطَا (¬4) الأجل فِي خيار المجلس صار حالًّا، ولو أجَّلَا فيه ما كان حالًّا أو مطلقًا تأجَّل (¬5). ¬
* ضابطٌ: لا يؤجَّلُ على المديونِ ما كان حالًا عليه إلَّا فِي حالة الخيار، وأمَّا بعدَ الُّلزُومِ فَلَا، واسْتُثْنِي النذرُ والوصيةُ فِيمَن نَذَرَ أن لا يُطالِبَهُ إلَّا بعدَ شهْرٍ أو أَوْصى أن لا يطالَبَ إلَّا بعدَ شهْرٍ مِن موتِهِ مثلًا. والتحقيقُ: لا استثناء، فالحُلُولُ مُستمرٌّ، ولكِنِ امتَنَعَ الطَّلبُ لعارِضٍ كالإعْسَارِ للعدَم، أو لِقِيام الرِّقِّ فيما يُتبع بِهِ العبدُ بعدَ عِتْقِهِ، وضمانُ الحالِّ مؤجَّلًا ليس تأجيلًا على المَدْيون. * * * * ضابطٌ: مَا ثَبَتَ فِي الذِّمَّةِ قد يكونُ حالًا، وقد يكونُ مؤجَّلًا (¬1) إلَّا أنَّ الحُلولَ يتعينُ فِي مواضِعَ، ويتعينُ التأجيلُ فِي مواضِعَ: فيتعينُ (¬2) الحُلُولُ فِي كُل موضعٍ (¬3) يُشترَطُ قبضُهُ (¬4) فِي المجلِسِ كَمَا فِي الصَّرفِ على الذِّمَّة، ونحوه فِي الرِّبا، ورأسُ مالِ السَّلَمِ، وأجرةُ الوارِدِ على الذمَّةِ. ¬
ومِمَّا لا يكونُ إلَّا حالًّا (¬1): القرضُ [وبدلُ المُتْلَفَاتِ، إلَّا فِي دِيَة الخطأ، وشِبْهِ العَمْدِ] (¬2)، وفرضُ القاضي مهرَ المِثْلِ على المُمْتنِع فِي المُفَوَّضة، وعقدِ كُلِّ نائِبٍ أو وليٍّ لم يُؤْذن (¬3) لهُ فِي التَّأجِيلِ لفظًا أو شرعًا. ويتعينُ التأجيلُ فِي الكتابةِ، وديةِ الخطأ، وشبهِ العمد، وفِيما أدَّاه ورثَةُ الضَّامِنِ لِحلولِهِ بموتِهِ، فلا يثبُتُ على الأصْلِ (¬4) إلَّا مؤجَّلًا. ولو قال: "أدّ دَيْنِي إذا حلّ" فأدَّاه قبلَهُ (¬5)، فيحتملُ أَنْ يكونَ مُتَبَرِّعًا، والأقربُ خلافُه، فيثبتُ مؤجَّلًا. ولا يصحُّ السَّلَمُ المؤجَّلُ بالمجهولِ: كالحَصَادِ، والبيدَرِ (¬6)، والقِطافِ، والمَوسِمِ، وورودِ الحاجِّ، وسقوطِ أولِ الثلُوجِ، وقدومِ المسافِرِ، وشفاءِ المرِيضِ، وبعدَ شهرِ كذا، و (¬7) العطاءِ، إلَّا أَنْ يريدَ وقتَ خروجِ العَطَاءِ، وقد عَيَّن لهُ السُّلطانُ وقتًا. ومِن المجهولِ إلى الشتاءِ أو الصيفِ، إلَّا أَنْ يريدَ الوقْتَ. ومن المجهولِ على الأصحِّ مواضِعُ: ¬
* منها: أن يقولَ "فِي شهرِ كذا"، أو "فِي يومِ كذا"، خِلافًا لِمَا صحَّحه الماورديُّ فِي اليومِ. * ومنها: الميسرةُ، والنَّيروزُ، والمَهْرجانُ، وفَصْحُ النَّصارى، وفِطْرُ اليهودِ وصومُهُم إنْ لمْ يُعْلَم إلَّا بالكُفار (¬1). ولا يصحُّ التأجيلُ بوضع الأُنثى الفُلانِيَّةِ على الأصحِّ. وخطَّأ المَحَامِلِيُّ مَن قال مِن الأصحاب "مُدَّةُ الوضعِ معلُومةٌ". وعَدَّ مِن المجهولِ أيضًا (¬2) انقضاءَ الصيفِ والخريفِ، وهذا إنْ لم يُرِدَا (¬3) الوقتَ كما تقدم. ويصحُّ التأجيلُ بالعِيدِ، وربيعٍ، وجُمادَى، ويُحملُ على أوَّلِ ما يجيءُ مما ذُكر (¬4). وبالقَرِّ، وهو حادِي عَشْرِ ذِي الحِّجة (¬5). وبالنَّفْرِ، ويُحملُ عندَ الإطلاقِ على الأوَّلِ (¬6). ¬
3 - الشرط الثالث
ويصحُّ بسَلْخِ الشَّهرِ الفُلانِيِّ، واستهلالِهِ، لا عَقِبَهُ على النَّصِّ، وقد يقرُبُ الجوازُ فِي العَقِبِ. والأشهُرُ والسَّنَةُ مُعتَبَرَةٌ بالأهِلَّةُ (¬1) ما لم يقيِّد، وتَمَّمَ المنكَسِرَ ثلاثِينَ (¬2). * * * 3 - الشرطُ الثالثُ (¬3): أن يكونَ المُسْلَمُ فِيهِ (¬4) مَقدُورًا على تسليمِهِ فِي الحالِ، إن كان حالًّا، وإلَّا فعِندَ حُلولِ الأجلِ، إلَّا فِي قدْرٍ يُعتَبَرُ تحصيلُهُ وقتَ الباكورةِ على الأصحِّ. ولا بدَّ من وجودِهِ فِي المكانِ الذي يُعْتَبَرُ فيه التَّسليمُ، ولو بالنَّقلِ للبيع عادةً (¬5). ولو عَيَّنَ ثمرةَ بُستانٍ أو قريةٍ صغيرةٍ، لم يصحَّ، ولو (¬6) عَيَّنَ ثَمَرَةَ قريةٍ كبيرةٍ صَحَّ. * * * ¬
4 - الشرط الرابع
4 - الشرطُ الرابعُ (¬1): أن يكونَ المُسْلَمُ فيه معلومَ القَدْرِ: بكيلٍ، أو وزنٍ، أو عدٍّ، أو ذَرْع. ويجوزُ فِي المَكِيلِ بالوزنِ، وفِي الموزونِ بِالكيلِ إنْ عُد مثله ضابطًا. فلا يُسْلَمُ فِي المِسْكِ والعَنْبَرِ كيلًا، ويُسْلَمُ فِي اللؤلؤِ الصغيرِ وزنًا وكيلًا. ويتعيَّنُ الوزنُ فِي البِطِّيخ والقِثَّاء والبقولِ والسَّفَرْجَلِ والباذِنجانِ والبَيْضِ ونحوِ ذلك. ويُسْلَمُ فِي الجوزِ واللوزِ إنِ استوَتْ قشورُهُ، وحينئِذٍ فيجوزُ الوزنُ أو (¬2) الكيلُ. ولا يُسْلَمُ فِي بِطِّيخَةٍ ولا (¬3) سَفَرْجَلَةٍ ولا فِي عددٍ منها، بَلِ المُعتَبَرُ الوزنُ، ولا فِي مائَةِ صاعِ حِنْطةٍ على أنَّ وزنَها كذا (¬4). ويَجْتَمِعُ فِي اللَّبِنِ بين العدد والوزن؛ لأنَّها تُضرَبُ عن اختيارٍ، فلا يُعتبَرُ (¬5) ذلك. وقال مُعظمُ العِرَاقِيينَ: لا يُعتَبَرُ الوزنُ وهُو المنصُوصُ، ولكِنْ يُستحَبُّ كَمَا فِي الخَشَبِ، إذ يُمكنُ نَحْتُهُ. ¬
5 - الشرط الخامس
ولا يُعتَبَرُ الوزنُ فِي حَجَرِ الأرْحِيَةِ (¬1) عندَ الشَّيخ أبي حامِدٍ وأتباعِهِ، ووافَقَهُم مِن المراوزةِ البغويُّ، وخالفَ الإمامُ والغزاليُّ، فقَطَعَا بالاشْتراطِ. وأمَّا غيرُ حَجَرِ الأرْحِيةِ فوجهان، والنَّصُّ فِي "الأم" (¬2) إطلاقُ اعتِبارِ الوزنِ فِي الأحجارِ، وفَسَدَ تَعيينُ المِكيالِ لَا العقدَ إنِ اعتِيدَ. * * * 5 - الشرطُ الخامسُ (¬3): أن يكون المُسْلَمُ فيه موصوفًا بالأوصاف التي (¬4) يختلف بِها الغرضُ اختلافًا ظاهرًا، وهي (¬5) غالِبةٌ فِي الجِنْسِ مِن حيثُ الصنعةُ، لا كالأمانَةِ والكِتابةِ وقُوَّةِ العملِ، فيما (¬6) لا يُضبطُ بالصِّفةِ المذكورةِ لا يصِحُّ السَّلَمُ فِيهِ. * * * 6 - الشرطُ السادسُ: أن لا يكونَ عزيزَ الوجودِ، فلا يصِحُّ السَّلَمُ فِي اللآلِئِ الكِبارِ، واليواقِيتِ، وجاريةٍ مع أختِهَا، أو ولدِها، أو مرضِعٍ، أو بشرطِ أنَّها حاملٌ، أو لَبونٌ، لا كشرْطِ الكِتابةِ والمشْطِ؛ لأنَّه لا يندُرُ اجتماعُهُ مع ¬
7 - الشرط السابع
الصِّفاتِ المُعتبرةِ إذ يمكِنُ تعليمُهُ، ولا بُدَّ مِن معرفةِ المُتعاقِدَيْنِ الصفاتِ (¬1) ومعرفةِ عَدْلين غيرهما، لا كَمَا سَبَقَ فِي النيروزِ؛ لأنَّ الجَهالةَ هنا تعودُ إلى المعقودِ عليهِ. * * * 7 - الشرطُ السابعُ (¬2): بيانُ مَحلِ التَّسليم فِي المؤجَّلِ إذا كان لِحملِهِ مَؤْنَةٌ، أو لم يكُنْ مكانُ (¬3) العقدِ صالحًا للتسليم، وإلَّا فيُحملُ على مكانِ العقْدِ. وأمَّا الحالُّ فأطلقوا أنَّه يُحملُ على مَكَانِ العقدِ (¬4)، وينبغِي أَنْ يُقيَّدَ بالمكانِ الصالِحِ لِلتسلِيمِ، والمرادُ بذلك الناحيةُ، ولو عيَّن غيرَها جاز، وحيثُ يُعتَبَرُ (¬5) مكانٌ صالِحٌ، فخَرَجَ عَنِ الصَّلَاحيَّةِ فأقربُ موضِعٍ صالِح حيثُ لا زِيادَةَ فِي المَؤُنَةِ والمشقَّةِ، وكُلُّ ما ثَبَتَ (¬6) فِي الذِّمَّةِ باختِيارِ المُتعاقِدَيْنِ له حُكمُ السَّلم فِي بيانِ الموضِعِ. * * * 8 - الشرطُ الثامنُ (¬7): اعتَبَرَ العِراقِيونَ ذِكْرَ الجودةِ، ونَصَّ عليه فِي "الأم" (¬8) ¬
فِي مواضِعَ، ورجَّح غيرُهم أنَّه لا يُشترطُ ويُحملُ المُطلقُ على الجيِّدِ، وسواءٌ اشتُرِطَ أو لم يُشْتَرط فهو منزَّلٌ على أقلِّ درجَاتِ الجودَةِ. ولو شَرَطَ أنَّه أجودُ لم يَصِحَّ على المذهَبِ (¬1)، أو أردَأُ صَحَّ (¬2)، أو رديْءٌ من جهةِ عيبٍ لم يَصِح، أو نوعٌ صحَّ على النَّصِّ، وهو اختيارُ الأكثرِ، خلافًا للإمام والغزَّاليِّ، ومَن (¬3) تَبِعَهما. * * * ¬
فصل
فصل يصحُّ السَّلَمُ فِي الحيوانِ ولو فِي الطيرِ (¬1)، خلافًا لما فِي "البويطي". ولو بجارية صغيرة فِي كبيرة، خلافًا لأبي إسحاق؛ إذ تصيرُ عندَهُ فِي معنى قرْضِ الجَوَارِي، ولم يعتبِرِ الجمهورُ ذلك، بل يُمَكَنُ مِن تسلِيمِها عمَّا (¬2) عليهِ على الأرْجَحِ، ولا يمتنِعُ الوَطْءُ. وفِي السُّكَّرِ على النَّص، وفِي القَنْدِ (¬3) صرَّح به الماورديُّ، وفي (¬4) الآجُرِّ على الأصَحِّ (¬5). ¬
والدِّبْسُ (¬1) والفانِيْذُ (¬2) واللِّبا، وماءُ الورد، وفِي النِّيلَةِ قياسًا، لا اللحمِ المطبوخِ، والمشويِّ، ولا الخبزِ على الأصحِّ. وكل ما يُسلَمُ فيه لابُدَّ من ذِكْرِ جنسِهِ ونوعِهِ، [وقد يُكْتَفَى بالنَّوع] (¬3). وفِي الطَّيرِ يذكُرُ مع ذلك الصِّغَرَ والكِبَرَ فِي الجُثَّة، وفِي الحيوانِ غُبرةَ اللون، والذكورَةَ (¬4) والأنوثَةَ والسِّنَّ. وهو تقريبٌ هنا. وفِي الوَكالةِ والوصيةِ ونحوِها جزمًا. وفِي الرقيقِ لا بُدَّ من ذِكر القَدِّ أيضًا. وفِي الحبوبِ والتمرِ والزبيبِ يذكُرُ بلَدَهُ (¬5)، ولونَهُ، وصِغَرَ الحَبِّ، وكِبَرَهُ، وكونِهِ حديثًا أو عتيقًا، وكونِها ممتلئةً أو ضامرةً. . ذكره المَحَامِلِيُّ. ¬
قال: وأن يصِفَ الحبوبَ بالنقاوةِ أو النخالةِ فِي وجهٍ، وفِي العَسَلِ يذكُرُ أنَّه جبلِيٌّ أو بلدِيٌّ صيفِيٌّ، أو خريفِيٌّ أبيضُ أو أصفرُ، ولا يُشترطُ ذِكْرُ كونِهِ حديثًا ولا عتيقًا؛ خِلافًا لِمَا جَزَمَ به المَحَامِلِي. ويصحُّ فِي المُشَمَّع (¬1). والمطلقُ محمولٌ على المصفَّى، فإن صُفِّيَ بالنَّارِ لم يُجْبَرْ على أخذِهِ إن تعقَّدَ (¬2) وتقبل مارقته بسبب الحَرِّ لا بعيبٍ (¬3). وفِي السَّمنِ (¬4) سمنُ بقرٍ (¬5) أو شاةٍ، بقرٌ إنسيٍّ أو وحشيٍّ، أبيضُ أو أصفرُ، ويذكر أنَّه جديدٌ. فأمَّا العتيقُ فلا يصحُّ السَّلمُ فيه؛ لأنَّه عيبٌ؛ قاله الشَّيخُ أبو حامِد والمَحَامِلِيُّ. وقال القاضي أبو الطَّيب: هذا فِي عتيقٍ متغيِّرٍ لا كُل العتيقِ، فلا بُدَّ من بيانِهِ. وفِي البيضِ يذكُرُ (¬6) بيضُ دجاجٍ أو حَمَامٍ أو سمكٍ صغيرٍ أو كبيرٍ، حديثِ ¬
يومٍ أو أمسِ، أو رباعيٍّ أو سباعيٍّ، فإن أطلَقَ فحديثٌ. وإن اشْتُرِطَ العتيقُ ففِي صحةِ السَّلَمِ قولان، ذكرهما (¬1) المَحَامِلِي، وهو محمولٌ على أنَّ العتوقَة (¬2) فيه رداءةٌ، فلا يصحُّ إذا كان عيبًا. وفِي الدراهِمِ والدنانِيرِ يذكُرُ السِّكَّةَ، ومِن ضَرْبِ فلانٍ، واللونَ. ولا يصحُّ (¬3) أن يَجْعَلَ رأسَ المالِ حينئِذٍ مِن أحد النَّقديْنِ ولو حالَّا -على المذهَبِ- بخلافِ الصَّرْفِ فِي الذَّمَّة، لأنَّ موضوعَ السَّلَمِ لا يُعتبرُ فيه قبضُ المُسْلَمِ فيه فِي المجلِس، وقيل: يصحُّ بشرطِ القبْضِ مِن الجانِبَينِ، ومثلُه ينبغي أن يجرِيَ فِي غيرِهِ مِن الرِّبويَّاتِ. * ضابطٌ: ليس لنا سَلَمٌ يُعْتَبَرُ فيه القبضُ مِن الجانِبين إلَّا هَذَا على وجهٍ مرجُوحٍ. * * * ¬
ويجوزُ السَّلَمُ فيما اختَلَطَ وكان مُنضبِطًا، كالعَتَابِيِّ (¬1)، والخَزِّ، والثوبِ المعمولِ عليه بالإبْرَةِ، أو الذي لا (¬2) يُقصدُ مِنهُ (¬3) إلَّا الواحِدُ، كالخُبْزِ (¬4)، وخَلِّ الزَّبيبِ، والتَّمرِ، والسَّمكِ الذي فيه شيءٌ مِنَ المِلْح. ولا يجُوزُ في (¬5) مَخيضٍ فيهِ ماءٌ، ولا فِي الأدْهانِ المُطيبةِ، ولا فِي الرؤوسِ والأكارعِ والخِفافِ والنِّعالِ، والمعجُوناتِ، والغَالِيةِ المُركبةِ، والقِسيِّ، والنبلِ بعد الخَرْطِ، وكذا المغازلِ والكيزانِ والقَمَاقِمِ والمياثِرِ (¬6) والبِرام المعمولةِ. ويجوز فِي المُنضبِطِ كالأسْطالِ المُرَبَّعةِ (¬7). والبابُ مُتَّسِعٌ، وقد أوسع فيهِ المَحَامِلِيُّ (¬8) وغيرُهُ، فاقْتَصَرنا منه (¬9) على نبذةٍ نافعةٍ. ¬
ويجبُ قبولُ الأجودِ لا الأردإِ، ولا غير النوع، بل يحرمُ قبولُه (¬1) على ما رُجِّحَ. وفِي النَّص (¬2) جوازُ أخذ بُرِّ غيرِ الشَّامِ عن بُرِّ الشَّام (¬3). ولا يجبُ فِي غيرِ المَحَلِّ والمكانِ حيثُ لِلممتنِع غرضٌ كَمَا إذا كان زمانَ نَهْبٍ أو كان حيوانًا (¬4) يحتاجُ إلى العلَفِ (¬5). * * * ¬
باب القرض
باب القرض هو بفتح القافِ وكسرِهَا، وهو لغة: القطعُ، وشرعًا: دفعُ مالٍ مخصوصٍ إرفاقًا؛ على وجهٍ [مخصوصٍ ليردَّ بدَلَهُ. وصحَّ أنَّ النَبيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- اقتَرَضَ (¬1). ويجوزُ قرضُ ما يجوزُ سلَمُهُ إلَّا جاريةً تحِلُّ للمستقرِضِ، فَلَا (¬2) يجوزُ قرضُها له لئَلَّا تصيرَ فِي معنى إعارَةِ الجوارِي للوَطْءِ، ويجوزُ] (¬3) قرضُ جاريةٍ لا تحِلُّ فِي الأصحِّ (¬4). ومَا لَا يجوزُ سلمُهُ لا يجوزُ [قرضُهُ إلَّا ثَلاثَة (¬5) أشياءٍ: ¬
الخبزُ، فإن المرجَّحَ جوازُ قرضُهُ] (¬1)، خِلافًا لمَا صححهُ البغويُّ، وعملُ النَّاس على المُرجَّح. الثاني: [خميرةُ العجِينِ فِي وجهٍ معمولٍ بِهِ (¬2). الثالث: شِقْصُ الدارِ] (¬3) يصحُّ قرضُهُ، ولا يصِحُّ السَّلَمُ فيه؛ لأنَّهُ يعتمدُ التحديدَ، فيؤدِّي إلى التَّعيينِ، [وهو خلافُ موضوع السَّلَم (¬4). وأمَّا اقتراضُ] (¬5) المنافِع والسَّلم فيها (¬6)، فلا يجوزُ، ذكرَهُ القاضِي حسينٌ، وهو مقيَّدٌ بمنفعةِ العقَارِ؛ [أمَّا منفعَةُ الدابَّةِ والبُدْنِ ونحوهما] (¬7) فيجوزُ السَّلمُ فيها، ومُقتضى ذلك جوازُ قرضِها، والإيجابُ معتبَر خِلافًا للمتوَلِّي، [وكذا القبولُ خِلافًا لما صحَّحَه] (¬8) الإمامُ. ويُملك بالقبضِ على الأظهْرِ. ويجوزُ للمقرِضِ (¬9) الرجوعُ فيه ما دَامَ باقيًا، وكذا للمقتَرِضِ ردُّهُ. ¬
قاعدة: المضمونات في الشريعة أربعة أقسام
ويجبُ ردُّ المِثلِ، ولو مِن حيثُ الصورةُ فِي المتقوَّم، والمرادُ على صِفتِهِ التِي تختلفُ بِها القِيمُ حتَّى لو اقترض عبدًا كاتبًا ردَّ مثلَهُ كاتِبًا. * * * * قاعدة: المضموناتُ فِي الشَّريعةِ أربعةُ أقسامٍ: 1 - قِسْمٌ (¬1) يُردُّ فيه المِثلُ (¬2) مطلقًا، وهو القرضُ. 2 - وقِسْمٌ تُردُّ القِيمةُ مطلقًا، ولو كان مِثْليًّا على الأصحِّ، وهو العاريَةُ. 3 - وقِسْمٌ يفتَرِقُ الحالُ بين المِثْلي والمتقوَّم كالمغصوبِ والمُستام والمشتَرَى شراءً فاسِدًا على الأصحِّ المنصوصِ، خلافًا للماورديِّ وغيرِهِ. وكذا فِي الإقالةِ والتحالُفِ بعد التَّلفِ فيهما، والتالفُ فِي زمنِ الخيارِ حيثُ اقتضى الحالُ الضمان؛ خلافًا للماوردِيِّ فِي تضمينِهِ بالثَّمنِ مُطلقًا. 4 - والرابع: الصيدُ فِي الحَرَمِ أو الإحْرَامِ خارجٌ عن الأقسام، فما لَهُ مِثلٌ مِن حيثُ الصورةُ يُضمنُ بمثلِهِ، وما لا مِثْلَ له صورةً يُضمن بالقيمةِ، وفِي الحَمَامِ شاة على الجديدِ لقُربِ (¬3) الشَّبهِ، ويخرُجُ فِي الصَّيد المذكور. 5 - قسمٌ خامسٌ: يُضمنُ بالمِثلِ والقِيمةِ معًا، وهو ما إذا كان مملوكًا لآدميٍّ فأتلفَهُ مُحرِمٌ أو فِي الحَرَم. ¬
* ضابطٌ: ليس لنا مضمونٌ ببدلين (¬1) معًا بالإتلافِ إلَّا هَذَا، وأمَّا العبدُ المغصوبُ يَجْني بقدرِ قيمتِهِ فيُتلِفُه الغاصِبُ فإنَّه يضمنُ فيه قِيمتينِ، لكنِ الجنايةُ بالغصبِ لا بالإتْلافِ. [وقدْ يجِبُ مَهرانِ فِي وطءِ زوجتِهِ (¬2)؛ الأصْلُ أو الفرعُ بشبهةٍ (¬3) وهي مدخولٌ بِها، ويجِبُ فِي غيرِ المدخولِ بِها، وهو غريبٌ] (¬4). ويحرمُ كلُّ قرضٍ جَرَّ منفعةً؛ كشرطِ ردِّ الصَّحيح عن المُكَسَّرِ (¬5)، أو زيادةٍ (¬6) فِي القدرِ (¬7). ويفسدُ (¬8) القرضُ (¬9) بِذلك. فإن ردَّ مِنْ غيرِ شرطٍ جَازَ ولو كان المُقترِضَ مشهورًا بردِّ الزيادةِ على ¬
الأصَحِّ. ويُكرهُ قَصْدُه (¬1) بالإقراضِ على وجهٍ (¬2). ولو شَرَطَ أَنْ يُرد المُكَسَّر عنِ الصَّحيح أو بعدَ شهرٍ مِن غيرِ عِوَضٍ، لُغِيَ الشَّرطُ، ولو شَرَطَ الرَّهنَ بِهِ أو الكفيلَ أو أن يُقِرَّ بِهِ عندَ الحاكِم، صحَّ. وأداءُ القرضِ فِي الزَّمانِ والمكانِ كَمَا فِي السَّلَم إلَّا إذا ظَفِرَ به (¬3) فِي غيرِ بلدِ القَرْضِ، ولنقله مَؤُنَةٌ، فلهُ مطالبتُهُ بقيمةِ بلدِ القَرْضِ يومَ المطالَبَةِ، وحيثُ أُخذتْ فلا يرُدُّهُما (¬4) بالعودِ؛ لمكانِ القرضِ على الأصحِّ. * * * ¬
باب الرهن
باب الرهن هو لغة: الثبوتُ أو (¬1) الاحتباسُ. وشرعًا: توثُّقٌ بعينٍ (¬2) قابِلةٍ للبَيْع، مقبوضةٍ، على دَيْنٍ مخصوصٍ، ليستوفَى منها على وجهٍ مخصوصٍ، قال اللَّه تعالى: {فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ}. وفِي "الصحيحين" (¬3) أنَّ النَّبيَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- اشتَرَى مِن يهوديٍّ طَعَامًا، وَرَهَنَهُ دِرْعًا مِن حديدٍ. * * * * يُشترطُ فِي المرهونِ شرطانِ: 1 - الأولُ: كونُه عينًا، ولو مشاعًا، فلا يصِحُّ رهنُ المَنَافِع، وكذا الدَّينُ ¬
ابتداءً فِي الأصحِّ، وفِي الدوام بدله فِي ذِمَّةِ الجانِي رهنٌ على الأصحِّ؛ خلافًا لقطْع المَراوِزةِ، فإذا تعيَّن كان مرهونًا قطعًا. 2 - الشرطُ الثَّانِي: كونُ العينِ قابلةً لِلْبيع. وكلُّ عينٍ جازَ بيعُها فرهْنُها (¬1) جائِزٌ (¬2)، إلَّا ثلاثَةَ أشياء (¬3): المُدبَّر [لا يصِحُّ رهنُهُ على المذهَبِ إلَّا (¬4) إنْ كان بدَيْنٍ حالٍّ فيصِحُّ، وإنْ] (¬5) لم يصرِّحُوا به (¬6). الثَّانِي: المُعَلَّقُ عِتْقُهُ بصفةٍ (¬7) [لا يصِحُّ رهنُهُ على مؤجَّل عندَ احتِمالِ ¬
تقدُّم الصِّفة] (¬1)، ويصِحُّ عندَ تحقُّقِ (¬2) تقدُّم الحُلولِ، وكذا بحالٍّ وهو [يشهَدُ لِمَا قَيَّدْناه فِي المُدَبَّر (¬3). الثالثُ: الزرعُ إذا] (¬4) كان بَقْلًا، وهو مِمَّا يزيدُ، لا يجوزُ رهْنُهُ بدَيْنٍ مؤجَّلٍ [ولو بِشَرْطِ (¬5) القطْعَ عندَ الحُلولِ نَصَّ عليه فِي "الأم" (¬6)] (¬7)، وهو المعتمَدُ، واستثناهُ ابنُ القاص والمَحَامِلِي وغيرُهما، [وإلحاقُهُ بالثَّمرةِ حيثُ يصِحُّ] (¬8) رهنُها بشَرْطِ القطع عند المحلِّ ضعيفٌ لنصه على الفَرْقِ. * * * وما جاز بيعُهُ [بغير (¬9) شرطٍ جاز رهنهُ بغيرِ شرطٍ] (¬10) إلَّا فِي مسألتينِ: (1) الثمرةُ بعد بُدُوِّ الصلاح يصِحُّ بيعُها بغيْرِ شرطِ [القطْع، ولا يصحُّ رهنُها على] (¬11) دَيْنٍ مؤجَّل يحِلُّ قبلَ الإدراكِ إلَّا بشرْطِ القطْع عندَ المحلِّ. ¬
وما لا يصح بيعه لا يصح رهنه إلا في موضعين
(2) الثانيةُ: [ما يسرِعُ إليهِ الفسادُ، ولا يمكنُ] (¬1) تجفيفُهُ: يصحُّ بيعُهُ بغير شرطٍ، ولا يصحُّ رهنُهُ على دَينٍ مؤجَّلٍ يُعلمُ فسادُهُ قبلَ الحُلُولِ (¬2)، إلَّا بشرطِ أَنْ يُباعَ عندَ الإشرَافِ على الفسادِ، ويكُونُ ثمنُهُ رَهْنًا. * * * * وما لا يصحُّ بيعُهُ لا يصِحُّ رهنُهُ إلَّا فِي موضعينِ: (1) أحدُهما: لا يجوزُ بيعُ الأَمَةِ دونَ ولدِها غيرِ المُمَيِّزِ، وبالعكس، ويجوزُ الرهنُ (¬3) وعندَ الاحتياج إلى البيع يُباعان، ويُوزَّع الثمنُ باعتبار التقويم لِيظهرَ ما يتعلَّقَ بِالمرهونِ. (2) الثاني: يصِحُّ رهْنُ العبدِ المُسلم والمُصحفِ وكُتُبِ الحدِيثِ والآثارِ مِن الكافِرِ، والسِّلاح مِن الحربِيِّ، بِخلافِ البيع على ما سبَقَ، ولكن يُسلمُ المرهُونُ إلى عَدْلٍ. * * * * فرع: المرهونُ يجوزُ بيعُهُ مِن المرتَهِنِ، ولا يجوزُ رهنُهُ مِنه بِدَيْنٍ آخَرَ على الجديدِ إلَّا فِي صُورتين: ¬
والرهن غير مضمون إلا في ثمانية مواضع
1 - إحداهما: جَنَى فَفَدَاهُ لِيكونَ مرهونًا على ما (¬1) يفدِيهِ بِهِ. 2 - الثَّانية: إذا أنْفَقَ المُرتَهِنُ عندَ غَيبةِ الرَّاهِنِ أو عجزِهِ لِيكونَ مرهونًا على النفقةِ والدَّينِ جاز كالفِداءِ، ولا يُشترطُ أَنْ يكونَ المرهونُ مِلْكًا للراهِنِ حتَّى يجوزَ أَنْ يستعِيرَ للرهنِ وهو كضمانِ دَينٍ فِي رقبةِ المرهُونِ ولا بُدَّ مِن معرفةِ جِنسِ الدَّيْنِ وقدرِهِ وصفتِهِ والمرهونِ عِندَهُ. * * * * قاعدة: ليس لنا ضمانُ دَينٍ بعقدٍ فِي عين مُعينةٍ، ولا (¬2) يتعدَّى إلى غيرِها، إلَّا فِي هذا الموضِع. وأمَّا تعلُّق الصَّداقِ ومؤنِ النِّكاح بِكسْبِ العبدِ المأذونِ له، وكذلك الضمانُ: فليس مِن هذِهِ المادةِ. * * * * والرهْنُ غيرُ مضمونٍ إلَّا فِي ثمانيةِ مواضِعَ: 1 - المغصوبُ إذا تحوَّل رهنًا. 2 - والمرهونُ إذا تحوَّل غصبًا. ¬
3 - والمرهونُ إذا تحوَّل عاريةً. 4 - والمستعارُ إذا تحوَّل رهنًا. 5 - والمقبوضُ بالبيع الفاسد إذا رُهن. 6 - وكذا بالسوم. 7 - ورهْنُ ما فِي يدِهِ بإقالةٍ. 8 - وكذا بفسخٍ بتحالفٍ ونحوِهِ. ولا يصِحُّ الرهنُ إلَّا على دَين ولو منفعة، فَلَا يصِحُّ رهْنُ المُلَّاكِ بالزَّكاةِ ولا بعدَ الحَوْلِ (¬1) إذ لَا دَين هُناك لِتعلقِها بِالعينِ. ولا بُدَّ مِن ثبوتِ الدَّين إلَّا فِي صورةِ مَزْجِ الرَّهنِ بِالبيع أو القرضِ بشرْطِ تأخُّرِ طرفَي الرَّهنِ وصورةِ الشرطِ على ظاهِرِ النَّصِّ؛ خِلافًا للقاضي. ولا بُدَّ مِن لزوم الدَّينِ إلَّا فِي الثمنِ فِي مُدَّةِ الخِيارِ حيثُ مَلَكَ البائِعُ الثَّمنَ. ولا يلزمُ الرهنُ إلَّا بالقبضِ، والمعتَبَرُ فيه قبضُ مُكلَّفٍ يصيرُ كَتَعَيُّنِ (¬2) الدَّيْن، ويُقَدَّمُ المرتَهِنُ بالثمن. وإنْ ضاق الحالُ أو أفلس الرَّاهِنُ وحقُّ المجنِيِّ عليه مُقَدَّمٌ على حَقِّ المرتَهِنِ فيقبِضُ ويعفو على مالٍ، إلَّا إذا جنَى على السَّيِّدِ؛ فإنَّه لا يُعفى على مالٍ. ¬
وكذا على عبده غيرِ المرهونِ أو المرهونِ حيثُ لا (¬1) يقيِّدُ. ولا ينفكُّ شيءٌ مِنَ الرَّهنِ إلَّا بفراغ الذِّمةِ مِنَ الدَّين، فإن حَصَلَ الفراغ ولو بِالحوالةِ على الراهِنِ انفَكَّ. وينفكُّ البعضُ بتعدُّدِ العقدِ أو المستَحِقِّ أو مَنْ عليه الدَّينُ أو مالِكِ العارية أو التركةُ لَا إنْ رهنت. وينفكُّ البعضُ بتلفِهِ (¬2)، أو فكِّ المرتَهِنِ فيه. * * * ¬
باب التفليس
باب التفليس هو لغة: النداءُ على المُفلِسِ بِصفةِ الإفلاسِ. وشرعًا: الحجرُ على مَن عليه ديونٌ حالَّةٌ لا يفِي بِها (¬1) مالُهُ. وعن كعبِ بنِ مالكِ أن النَّبيَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- حَجَرَ على معاذٍ فِي (¬2) مالِهِ وباعَهُ فِي دَيْنٍ كان عليه. رواهُ الدارقطنِيُّ (¬3). ¬
وقد جاءتْ قضيةُ (¬1) معاذٍ فِي مُرسلٍ مطولةً. يجِبُ على الحاكِمِ أن يحجُرَ (¬2) على المديونِ إذا طَلَبَ ذلك أصحابُ الديونِ الحالةِ الزائدةِ على مالِهِ. فإن كان الدَّينُ المذكورُ لمحجورِ الحاكِمِ حَجَرَ مِنْ غير طلب. وأطلق جماعةٌ الحَجْرَ بطلب غريمٍ إذا كانتِ الديونُ زائدةً على مالِهِ (¬3)، ولم يعتبِرُوا قدْرَ دَيْنِ الطالِبِ، وهو قوِيّ، ويحجُرُ بالتماسِ المفلِسِ على الأصحِّ. والدَّينُ المؤجَّلُ لا يحلُّ بالحَجْر (¬4) -على المشهورِ- ولا بالحجْرِ الغريبِ قطعًا، ولا بالجنونِ -على الأرجح (¬5) - خِلافًا لِمَا وَقَعَ فِي "الروضة" (¬6)، ولا بِحجر السَّفَهِ، ولا بِالمرضِ قطعًا، [ولا بالحجر على ¬
ويثبت بحجر الفلس أمران
المأذون] (¬1) ولا بِرِقِّ المُكاتَبِ على الأظهر. والنصُّ أنه يحلُّ على الحربيِّ إذا استُرِقَ، وهو أقوى مِن المكاتَبِ لابتدائِهِ، وقطعِهِ (¬2) الزوجيَّة. ويَحِلُّ بالرِّدَّةِ إنْ أزلنا المِلْكَ بِها، أو قلنا: موقوفُ قتيلٍ عَلَى الرِّدَّةِ. ويحِلُّ بموتِ المديونِ بِلا خِلاف إلَّا فِي صورةٍ واحدةٍ على وجهٍ، وهِي مِن قَتْلِ الخطأ، أو شِبْهِ العمْدِ، إذا لم يوجَدْ للجانِي عاقلة، ولا مالَ فِي بيتِ المالك، أو ثَبَتَ باعترافِهِ، فإنَّهُ تؤخذُ الدِّيةُ مِن الجانِي مؤجَّلةً، ولو (¬3) مات حلَّتْ على الأصحِّ. ولا تحلُّ بموتِ صاحِبِ الدَّيْنِ بِلَا خِلافٍ إلَّا فِي صورةٍ على وجهٍ: وهِي ما إذا خالَعَهَا على إرضاع ولدِهِ مِنها، وعلى طَعَامٍ وَصَفَه فِي ذِمَّتِها، وذَكَر تأجيلَهُ، وأَذِن فِي صَرْفه للصَّبِيِّ، ثُمَّ مات المختلِعُ. وكذا يحِلُّ بموتِ الصبيِّ على وجهٍ. ولا يحلُّ بموتِ ثالثٍ غير صاحِبِ الدَّينِ والمديون على وجْهٍ إلَّا فِي هذِهِ الصُّورةِ، وما يتعلَّقُ بالضَّمانِ يأتِي فِي بابِهِ. ويثبت بحَجْرِ الفَلَسِ أمران: (1) أحدُهما: عدمُ نفوذِ تصرفِهِ فِي المالك المُعينِ أو منفعةِ المالك بما ¬
يفوتُ ولو بعَوَضٍ زائدٍ، ولو كان حادثًا (¬1) إلَّا فِي صورتينِ: - الاستيلادُ، فإنَّه ينفذُ منهُ قاله فِي "الخلاصة". - الثانيةُ: إذا أصْدقَتْ أَبَاهَا عَتَقَ عليها ساعَةَ ملكَتْهُ؛ نصَّ عليه، وقياسُهُ فِي الهِبةِ والوصيةِ والإرثِ كذلك، ولهُ أن يعاملَ فِي الذِّمة ولو بحال عينًا (¬2). (2) الأمرُ الثَّانِي: لغريمِهِ فِي المعاوضةِ المَحضةِ -لا حَالَ الحَجْرِ (¬3) مع العلم بالحجر- الرجوعُ إلى عَيْنِ (¬4) متاعِهِ إذا كان باقيًا على مِلْكِ المُفلِس، ولو بالعودِ خِلافًا لِمَا رجَّحه فِي "الروضة" (¬5). * * * * ولا يرجِعُ فيما لم يكُن على مِلْك المفلِسِ (¬6) إلَّا فِي ثلاثِ صور: (1) إحداها (¬7): لو زال بالقرضِ فلهُ أَنْ يرجِع، كما لِلمفلِسِ أَنْ يرجِع. (2) الثانية: باعه ثُمَّ أفلس فِي زمنِ الخِيار تفرِيعًا على زوالِ المِلكِ. ¬
(3) الثالثة: وَهَبَهُ لمن يملكُ الرجوعَ عليه، قلتُها تخريجًا على صورة الفرض، ويلحقُ بِها ما يقرُبُ منها. * * * وإن لم يكن قد زال المِلْك (¬1) رجع إلَّا فِي سِتَّةِ مواضِعَ، ثلاثٌ منها: (1) أن يتعلَّقَ بِهِ حقُّ شُفعةٍ. (2) أو رهنٍ. (3) أو جنايةٍ تُوجِبُ مالًا مُتعلِّقًا بالرقبة. فإن حَصَلَ عفْوٌ أوبراءةٌ رَجَعَ ولو فِي بعضِهِ. (4) الرابعة: الكتابةُ، فإن حَصَلَ ارتِفاعُها بتعجِيزٍ ونحوهِ رَجَعَ. (5) الخامسة: إحرامُ البائِع إذا كان المَبِيع صيدًا فلو حَلَّ رَجَعَ قبلَه فِي هذا، وعفوُ الشَّفِيع قِياسًا. (6) السادسة: إذا خُلِطَ بأجودَ، أو بغيرِ جنسِهِ، ولم يتميَّزْ. وحيثُ ثَبَتَ الفسخُ يكونُ على الفورِ. ولا بُدَّ مِن لفظٍ يقتضِي الفسْخَ ولو فِي الثَّمنِ لا البيعَ والعتقَ والوطءَ، ويثبتُ الرجوعُ على ما سَبَقَ فيمنْ مات مُفلسًا وإنْ لم يتقدَّم حَجْرٌ. وحيث قَبَضَ البائِع بعضَ الثمنِ وبَقِي بعضُ المبيع كعبدينِ قيمتُهُما سواءٌ ¬
وَجَدَ أحدَهما (¬1) وقد قَبَضَ نصفَ الثمنِ يأخُذُ الباقِي بِما بقِي على المذهبِ، وهي مِن إحدى المسائِلِ التِي يُقضى فيها بالحصْرِ والإشاعةِ (¬2)، وسنذكُرُ قاعدَةَ الحصرِ والإشاعةِ فِي القِرَاضِ إن شاء اللَّه تعالى. * * * ¬
باب الحجر
باب الحجر هو لغة: المنعُ. وشرعًا: منعٌ مِن تصرُّفٍ خاصٍّ لسببٍ خاصٍّ قال اللَّه تعالى: {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ}. * * * وهو أنواع: * منها: الحَجْرُ على الراهِنِ فِي المرهونِ، وعلى المُفلِسِ والمُقِرِّ على نفسِهِ على وجهٍ (¬1). والحجْرُ الغريبُ على المشْتَرِي (¬2) فِي جمِيع أموالِهِ؛ إذا لم يكنِ الثمنُ حاضرًا فِي المجلِسِ إذا سَلَّم له المَبيعَ. * ومن أغربِها: الحَجْرُ على الأبِ بِمنعِهِ (¬3) مِنْ عِتْقِ السُّرِّيَّةِ التِي أعفَّه بِها ¬
ولدُهُ بعد طلاقِهِ زوجةً ثمَّ زوجةً على وجهٍ، وحجرُ المريضِ، والمكاتَبِ، والمرتدِّ، والعبدِ، وغيرِها. وأحكامُها فِي أبوابِهَا. ومقصودُ الباب: حجرُ الجنون والصِّبيِّ والسَّفَهِ (¬1). فالجنونُ سالبٌ للتكلِيفِ (¬2)، لَا فِيما يرجِعُ إلى المال كالزَّكاةِ والنفقةِ والغرامةِ، وسالبٌ للعبادةِ، ولِكلِّ ولايةٍ. ولا تصِحُّ معهُ عبادةٌ إلَّا حجَّ الوليِّ واعتمارَهُ عنهُ، ولا إسلامٌ إلَّا تَبَعًا لأحدِ أصولِهِ، ولا قبضُ عينٍ ولا ديْنٍ (¬3) إلَّا فِيما يُنْفَقُ عليهِ (¬4) بزوجيةٍ أو عِوَضِ خُلْعٍ ونحوِهِ بإذنٍ، ولا عتقٌ ولا سببُهُ إلَّا الاستيلادُ. ويتقرَّرُ المَهْرُ بوطئِهِ. ويترتَّبُ الحكمُ على إرضاعِهِ. وعَمْدُهُ فِي الجِنَاية يجرِي عليه حُكْمُ العمْدِ فِي الأصَحَّ، لا فِي استيفائِهِ قِصَاصًا وَجَبَ له على ما رُجِّحَ، والأرجحُ خلافُهُ. ولا جزاءَ فِي قتْلِهِ صيدَ حَرَمٍ أو إحرَامٍ على الأظهرِ، والأقيسُ الوجوبُ، ¬
ومثلُهُ فِي القَلْمِ والحَلْقِ. ويفسد الحَجُّ بجِماعِهِ، ويتعلَّقُ بِهِ القضاءُ. ويرتفعُ حَجْرُهُ بالإفاقةِ (¬1)، ثُمَّ إنْ أفاقَ -وهو دُونَ البُلوغ- استمرَّ حَجْرُ الصبيِّ، أو أفاق بعدَ أَنْ بَلَغَ فَلَا بُدَّ مِن ظهورِ رُشْدِهِ (¬2). وكذا لو جُنَّ وهو سفيهٌ، ولو جُنَّ بعدَ الرُّشدِ، ثُمَّ أفاق عَادَ إلى التَّصرفِ. والصِّبا مانعٌ مِن التكليفِ لَا فِيما يرجِعُ إلى المالِ -كَمَا تقدَّم- ومِن كُلِّ ولايةٍ، ولا يمنعُ مباشرةَ شيءٍ مِن العباداتِ بعدَ التَّمييزِ، وفِي الحَجِّ بإذنِ الولِيِّ إلَّا أنَّه لا يصِحُّ إسلامُهُ استقْلالًا، والمختارُ صحتُهُ دونَ ردَّتِهِ، خِلافًا لتفرِيعِهِم. * * * * ضابطٌ: كُلُّ مَن صَحَّ إسلامُهُ صَحَّت ردَّتُه جزْمًا إلَّا هذا. ولا تقبلُ روايتُهُ على الأصحِّ، ولا شهادتُهُ قَطعًا، ويكفِي تحمُّلُهُ فيهِما قبلَ البُلُوغ على الأصَحِّ. ويُعتمدُ إذْنُهُ فِي دخولِ الدَّارِ والهديَّةِ وإنْ لم تكُنْ قرينةٌ إذا كان مأمونًا. ¬
وحُكمُهُ حُكمُ المجنونِ فِي القبْضِ، وما ذُكِر بعدَه إلَّا فِي إسقاطِ الجزاءِ فِي قَتْلِ الصيدِ والقلْم إذا كان مُمَيِّزًا. ويملِكُ بالاحتِطابِ والاصْطِيادِ، وقياسُهُ: أن يأتيَ ذلك فِي المجنونِ. وفِي إحياءِ الصَّبيِّ المواتَ نظرٌ، ولُقطتُهُ تأتِي فِي بابِها، ويلحقُهُ النسبُ عندَ الإمكانِ -وإنْ لمْ يُحْكمْ ببلوغِهِ- وقياسُهُ: ثبوتُ الاستيلادِ فِي أَمَتِهِ، والصوابُ الحُكمُ ببلوغِهِ فيهِما؛ خِلافًا لجزمِهِم. ولا تصِحُّ عليه دَعْوَى، ولا يصِحُّ منهُ إقرارٌ إلَّا فِي دَعْوى العُنَّةِ على مُراهِقٍ يتأتَّى منهُ الجِماعُ، على وجهٍ حَكاه الحَنَّاطِيُّ (¬1)، وقال به المُزَنِيُّ، ونَقَلَ فيه نصًّا (¬2)، وغلَّطُوهُ فِيهِ، وقياسُ تصحيحِ بَيْعِ الاختِيارِ مِنهُ أن يُقبلَ إقرارُهُ بِهِ، ولم يذكرُوه. ولا يَصِحُّ منه عقدٌ -ولو وصية- وتدبيرًا وأمانًا على المذْهَبِ، وكَذَا بَيعُ (¬3) الاختِيارِ على الأصَحِّ (¬4). ¬
وعندَ الاضطرارِ تقرُبُ صِحَّةُ شرائِهِ ولم يذكُروهُ. والبلوغُ باستِكمالِ خمسَ عشرَةَ سنةً، ولا بلوغَ فِي الخُنْثى مَعَ إشكالِهِ إلَّا بِهِ على المذهبِ، وغيرُهُ بالإنزالِ، وللنِّساءِ بِالحيضِ. وأمَّا الحَبَلُ فإنَّه كاشفٌ عنْ بُلوغ الحامِلِ بالإنزالِ السابِقِ، وحينئِذٍ يزولُ إشكالُ الخُنثى، فيكونُ بالغًا بالإنزالِ السابِقِ، ولِذَكَرِ الكُفَّار بإنباتِ العانةِ. والسَّفَهُ لا يمنعُ التَّكليفَ، وحجْرُهُ مانعٌ مِن كلِّ ولايةٍ، ولو فِي النِّكاح على المشهورِ، ومِن التَّصرُّفاتِ المالِيةِ دَفْعًا وجَلْبًا إلَّا فِي مواضِعَ: الوصيةِ، والتدبيرِ، على الأظهرِ فِيهِما، والخلعِ إذا حُجِر (¬1) عليهِ فِي الطَّلاقِ. ويصِحُّ شراؤُهُ لِلمخْمَصةِ على الصوابِ. ومصالحتُهُ عنِ القِصَاصِ فِي النَّفسِ وعقدِ الجزيةِ بدِينارٍ، وفِي بذْلِ الفداءِ قِياسًا، ويصِحُّ نِكاحُهُ بإذن الولِيِّ على الأصحِّ (¬2). وكذا إن (¬3) لم يأذنِ الوليُّ ولم يجِدْ حاكِمًا على وجهٍ، ويقوَى إذا خافَ العَنَتَ لا سِيِّما إن كان محصلًا لا (¬4) البيعَ والشِّراءَ وغيرهما، وإن أذِنَ الوليُّ على الأصحِّ، وكذلك فِي الاختِيارِ ويعتدُّ بِقبضِهِ ما خَالَع عليهِ بإذْنِ الولِيِّ على الأصحِّ. ¬
وقياسُهُ أن يجرِيَ فِي كُلِّ دَيْنٍ، والأعيانُ أوْلَى. ولو أكلَتِ السفيهةُ مَع زوْجِها على العادةِ سقطت نفقتُها، وإن لم يأذن الوليُّ خِلَافًا لِمَا فِي "المنهاج" (¬1) فتزويجُهُ فِي ذلك إِذنٌ كالأمَةِ لَا إِن كان المزوِّجُ غيرَ مُتَوَلِّي المالِ. ومما يصحُّ على وجهٍ عِتْقُهُ فِي مرضِ الموْتِ وشراؤُهُ فِي الذِّمَّة وقبولُهُ التَّبَرُّعَ وعقدُهُ بالوكالَةِ على وجهٍ (¬2) لكنَّه صُحِّح (¬3) فِي قبولِ النِّكاح. ولا يُقبلُ إقرارُه بالمالِ والنِّكاح (¬4) ويُقبلُ بِكلِّ ما يستقِلُّ بإنشائِهِ وبالنسبِ فيُنفقُ عليهِ (¬5) مِن بيتِ المالِ، وبما (¬6) يوجِبُ العقوبةَ، فلو عفِي على (¬7) مالٍ لَزِم فِي الأصحِّ. وإذا رَشَدَ ارتفع عنه الحجرُ، فإن سَفِهَ بعد ذلك فِي المالِ أعادَهُ الحاكِمُ، وهُو الذِي يلِيهِ حينئذٍ. ويتولَّى غيرُهُ الأبُ، ثُمَّ الجدُّ ثُمَّ الوصِيُّ، ولو فِي النِّكاح للسفِيهِ والمجنونِ، ويُعْتِقُ الوليُّ ما لزم محجورَه مِن كفارةٍ، ولا يُتصورُ عِتْقُ عبدٍ ¬
صبيٍّ فِي غير هذا، وفِي هبةٍ أو وصيةِ جميع من يعتِقُ عليه حيث (¬1) لا تجِبُ النفقةُ حالًا وفِي إرثِهِ ولو جُزْءًا منه، ولا يَسْري، ويجرِي ذلك فِي المجنونِ والسفيهِ، ويختصَّانِ بنفوذِ عتقٍ بتعليقٍ (¬2) فِي حالِ التَّصرُّفِ، وينفُذُ استيلادُ السفيهِ. وليس الصَّرفُ (¬3) فِي الخيرِ ونفِيسِ الطَّعامِ تَبْذيرًا. * * * ¬
باب الصلح
باب الصلح هو لغة: قطعُ المنازعَةِ. وشرعًا: عقدٌ قاطعٌ لخصومةِ متخاصِمَينِ على وجهٍ خاصٍّ (¬1) قال اللَّه تعالى: {وَالصُّلْحُ خَيْرٌ}. وعن رسولِ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "الصُّلْحُ جائِز بين المُسلمِينَ إلَّا صُلْحًا أحلَّ حرامًا أو حَرَّم حلَالًا". رواهُ أبو داود (¬2) مِن حديثِ أبي هريرةَ، وفيه كثيرُ بنُ زيدٍ، وفِي الاحتجاجِ بِهِ خِلافٌ (¬3). ¬
ورواهُ الترمذيُّ (¬1) مِن حديث عَمْرٍو المُزنِيِّ وقال: حديثٌ حسنٌ صحيحٌ (¬2). وفِي إسنادِهِ: كثيرُ بنُ عبد اللَّه (¬3)، وقد تكَلَّم فيه الأئمة (¬4). وروى الدارقطنيُّ (¬5) من حديث أبي هُريرةَ: "الصُّلْحُ جائِزٌ بينَ المُسْلِمينَ". ¬
الصلح أنواع
قال: وهذا صحيحٌ (¬1). * * * الصُّلْحُ أنواعٌ (¬2): منها: الصُّلحُ بينَ المُسلِمِين والكُفَّارِ، والصُّلحُ (¬3) بين الإمامِ والبَاغِيةِ، وبينَ الزَّوجينِ عندَ الشِّقاقِ، ونحو ذلك. وصُلْحٌ فِي المُخاصماتِ (¬4)، وهو مقصودُ البابِ. ثُمَّ قيل: هو رُخصةٌ، وقيل: أصلٌ بذاتِهِ، مندوبٌ إليهِ. وظاهِرُ النَّصِّ أنهُ فرعٌ على البيع، وجعلَهُ الأكثرونَ مُتَفَرِّعًا باعتبارِ أنواعِهِ ¬
على البيع والإجارةِ والهِبةِ والإبراءِ، وزَادَ بعضُهُم: العَارِيةَ، وزِدْتُ الجَعَالةَ، والسَّلَمَ، والمعاوضةَ غير المحضة، والقُرْبة. فإنْ جَرَى على غيرِ ما ادُّعي بِهِ لا بمنفعةٍ فبيع أو بمنفعةٍ فإجارةٌ، أو على بعضِهِ فهِبةٌ فِي العينِ، و (¬1) إبراءٌ فِي الدَّينِ مُبْرِئٌ للأصيل (¬2)، ولا يبرأُ الأصِيلُ بإبراءِ الكفِيلِ إلَّا فِي هذا الموضِع. ومِن هذا النَّوع: "صالِحْني عن دَيْنِك الذِي لكَ على فُلانٍ على قدْرٍ عليّ" فيبرأُ المديونُ، ولم يتعرَّضُوا لهُ فِي هذا النَّوع، أو على منفعةِ ما ادُّعِي بِهِ أو على (¬3) منفعةِ بعضِهِ، فعارِيةٌ جائِزةٌ، نصَّ عليه. ولو قيل بلزومِها لم يبْعُدْ، أو على أَنْ يَرُدَّ المُدَّعَى عليه (¬4) عند المُدَّعِي الآبِقَ إنْ عَلِمَ فَجَعَالةٌ، فيُحتملُ (¬5) صِحةُ الصُّلح، وتكونُ لازمةً، ويُحتملُ أن تلزمَ بالعملِ كما تلزَمُ الهبةُ بِالقبضِ، ويُحتمل أن لا يصح؛ لِتنافِي موضُوع الصُّلْح مِن اللزُوم موضوعَ الجَعَالةِ، والأقربُ الأوَّلُ، ولهُ شاهدٌ مِن إصداقِها (¬6) ردَّ عبدِها الآبقِ. ¬
وأمَّا السَّلمُ فهُو وإنْ كان بَيعًا (¬1) لكِنَّه مُختصٌّ بأحكام (¬2) ويكونُ لفظُ الصُّلْح فيهِ كَمَا فِي إجارةِ الذِّمةِ. وأمَّا المعاوضةُ غيرُ المحضةِ فالصُّلحُ عن القِصاصِ الواجِبِ على المُدَّعِي للمُدَّعَى عليه بما (¬3) أقَرَّ لَهُ (¬4) بِهِ، ولا مدخَلَ لِلْفظِ البيع فِيهِ. * * * * ضابطٌ: البيعُ مخالفٌ لِلْصُّلْح فِي ذلك، وفِي كُلِّ ما (¬5) تفرَّع على غيرِ المَبِيع (¬6). * * * ومنهُ القربةُ فِي أرضٍ وُقِفَتْ مسجِدًا وادَّعاها شخصٌ، وأنكر الواقِفُ [فَصالَحَهُ شَخْصٌ] (¬7)، فإنَّهُ يجوزُ لأجلِ جِهةِ القُربةِ. ومِمَّا يخالِفُ فيه الصُّلحُ البيعَ اعتبارُ سَبْقِ الخصومةِ لِصحَّةِ الصُّلح، ¬
ولِصحتِهِ مع ذلك شَرْطٌ آخرُ وهُو: تقدُّم الإقرارِ. ومع الأجنبيِّ للخصمِ يجوزُ مع الإنكارِ إنْ قال: أقَرَّ، وَوَكلني فِي مصالحَتِكَ. وإنْ صالَحَ الأجنَبِيُّ لنفسِهِ فِي الدَّيْنِ لا يجوزُ. وأمَّا فِي العينِ فيجوزُ إن قال (¬1) إنَّهُ مبطلٌ فِي إنكارِهِ، وقدَرَ على الانتِزَاع ولُغِي الصُّلْح مِن مؤجَّلٍ على حَالِهِ (¬2)، ومُكَسَّرٍ على صحيحٍ، والحطُّ معهُ، ولُغِي عكسُهُ أيضًا لا الحطُّ معه. وأحكام الزُّقاق النافِذِ وغيرِ النافِذِ ونحو ذلك يُذكر فِي إِحياءِ المواتِ. والتنازع يُذكر فِي الدَّعاوَى، واللَّه أعلم. * * * ¬
باب الحوالة
باب الحوالة هِي بِفتح الحاءِ مِن التحويلِ، وأغربَ مَن ذَكَر كسرَهَا، ويُقالُ فيها: إحالةٌ. وهي لغة: الانْتِقالُ والتَّغييرُ (¬1). وشرعًا: تَحَوُّلُ دَيْنٍ (¬2) مِن ذِمَّةٍ إلى ذِمَّةٍ مع صِدْقِ فراغ الذِّمة المتحوَّلِ عنها منه. عن أبي هريرةَ -رضي اللَّه عنه- أَنَّ رسولَ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- (¬3) قال: "مَطْلُ الغَنيِّ ظُلْمٌ، وإذا أُتْبعَ أحدُكُم على مليءٍ فَلْيَتْبَعْ" رواهُ الشافعيُّ (¬4) -رضي اللَّه عنه- والصحيحان (¬5). ¬
ولفظُ البخاريَّ: "فإذا" بالفاء (¬1). ورواه أحمدُ وابنُ ماجه مِن طريقِ ابنِ عمرَ -رضي اللَّه عنهما- ولفْظُهُ (¬2): "فإذا أُحِلْتَ على مَلِيءٍ فاتَّبِعْهُ" (¬3). وليسَ فِي حديثِهِ لفظُ الحوالةِ فِي الأمْرِ، وإنْ كان هُو المرادَ. وفِي حقيقتِها آراءٌ، أصحُّها: أنه بيعُ دَيْنٍ بدينٍ مُستثْنَى للحاجةِ، وإن لم تصحَّ بلفظِهِ على الأصحِّ، ولم يثبُتْ فِيها ما يثبُتُ (¬4) فِيهِ مِن خيارٍ وتقابضٍ فِي رِبويٍّ ونحوِ ذلك. وفِي نصِّه أنَّها بيعٌ، فقيل (¬5): بيعُ عينٍ بعينٍ تقديرًا، وقيل: بيعُ عينٍ بدَيْنٍ ¬
تقليلًا (¬1) للتقدِيرِ وقُدر فِي الأوَّل، لأنَّ المُثْمَنَ (¬2) فِي الأكثر عينٌ دونَ الثَّمنِ. والرابعُ: أنَّها ليستْ بيعًا، نصَّ عليه أيضًا، فعلى هذا هِي استيفاءٌ مِنَ المُحِيل وقرضٌ للمُحالِ (¬3) عليه تقديرًا. وقيل: لا يُمَحَّضُ (¬4) واحدٌ مِن المعْنيَيْنِ (¬5)، والخلافُ فِي المُغلَّب منهما، واختاره جماعةٌ، وهو بعيدٌ، وعلى تغليبِ البيع إنْ جَرَتِ الأوجهُ السابقةُ فيه كانتِ الجملةُ تسعةَ (¬6) أوجهٍ، وعلى كونِهِ مغلوبًا (¬7) إن جَرَتِ الأوجُهُ وهُو بعيدٌ، فالجملةُ عشرةُ أوجهٍ. والحادِي عشر (¬8): أنَّها ضمانٌ بإبراءٍ، وعلى التغليبِ إنْ جاءَ هُنا تكثُرُ الأوجهُ، وهُو (¬9) أبعدُ، وعلى الأصحِّ تصحُّ الإقالةُ فِيها؛ ذكرهُ الخوارِزْمِيُّ (¬10) ¬
ويعتبر في صحتها سبعة أمور
فِي "الكافي". * * * * ويُعتبرُ فِي صِحتِها سبعةُ أمور (¬1): 1 - الأولُ: رضا المُحِيل والمُحتال، لا المُحال عليه، على (¬2) الأصحِّ المنصوصِ (¬3). 2 - الثاني: وجودُ دَينٍ على المُحالِ عليهِ على (¬4) الأصحِّ، وعلى مقابِلِهِ يُشترطُ رضاهُ قطعًا. 3 - الثالثُ: اللفظُ الدالُّ على الرِّضا، وصريحُهُ: "أحلتُك على فلانٍ بالدَّينِ الذي لكَ عليَّ" فإنِ اقتَصَرَ على: "أحلتُك على فلانٍ"؛ فالأصَحُّ أنه ¬
كنايةٌ. وَذَكَرَ المتولِّي "نقلتُ حقَّك على فلان" أو: "جعلتُ ما أستحِقُّه على فلانٍ لك عن دَيْنِكَ عليَّ" أو: "ملَّكتُك الدَّينَ الذي لِي (¬1) عليه بحقِّكَ" والأُوليان تظهرُ فيهِما الكِنايةُ. 4 - الرابع: كونُ الدَّينِ قابِلًا للاستِبْدالِ، فكُلُّ (¬2) دَيْنٍ يتعيَّنُ قبضُهُ لصحَّةِ العقْدِ أو يمتنِعُ الاستبدالُ عنهُ فِي غيرِ الكِتابةِ لا تَصِحُّ الحَوالةُ بِهِ ولَا عليه، كما فِي الرِّبَا والسَّلم وإجارةِ الذِّمَّةِ. 5 - الخامس: لزومُ الدَّينِ أو إيالتُه (¬3) إلى اللُّزوم، فتَصِحُّ بكُلِّ دَيْنٍ غيرَ ما سبق مِما لزم، أو يؤُولُ إلى اللُّزوم، كالثَّمنِ (¬4) مُدَّةَ الخيارِ. واختار الشيخُ أبو عليٍّ انقطاعَ الخيارِ بحوالَةِ المُشترِي البائِعَ على ثالثٍ، وانقطاعَ خيارِ البائِعِ بحوالةِ رجُلٍ على المشتري. وتصحُّ بنجوم الكتابةِ، وإنْ منعنا الاستِبدالَ مع أنَّ النصَّ جوازُهُ، ولا (¬5) تَصِحُّ على النُّجوم. ¬
وتصحُّ على دَيْنٍ للسيِّدِ على المكاتَبِ بمعاملةٍ أو (¬1) نحوها. ولا يصحُّ بجُعْلِ الجَعَالة قبلَ تمام العملِ. وتصحُّ بالمِثْليِّ، وكذا المُتَقَوَّمِ على الأصحِّ. وقِيل فِي جوازِها فِي المَكيلاتِ والموزوناتِ قولانِ، ذكرهُ المرعشيُّ، وهو غريبٌ. 6 - السادس: اتفاقُ الدَّيْنينِ جِنسًا وقَدْرًا، وحلولًا وتأجيلًا، وقدرَ الأجلِ وصحةً وتكسرًا (¬2) وجودَةً، ورداءة، فتبطُلُ عندَ اختِلافِ ذلك مُطلقًا. 7 - السابع: العِلمُ بما ذُكر فِي السادِسِ، فتبطُلُ الحوالةُ بإبِل الدِّيةِ، وعليها على الأصَحِّ. ومتَى أفلَسَ المُحالُ عليهِ أو كان مُفْلِسًا أو جَحَدَ: لم يرجِع المُحتالُ (¬3). * * * وتنفسِخُ الحوالةُ بثبوتِ حُرمةِ المبيع، وبِحَلِفِ المُحتال إنْ جَحَدَ، ورده (¬4) بِالخِيار، والإقالةُ والتَّحالُفُ والعيبُ إن أحال المُشتَرِي لا البائع وهو مشْكِلٌ بِما إذا أحال زوجتَهُ بِصداقِها، ثم فَسَخَ النكاحَ بعيبٍ أو رِدَّهِ، فإن المصَحَّحَ فِيها بقاءُ الحَوَالةِ مع أنَّه نظيرُ حوالةِ المُشترِي. * * * ¬
باب الضمان
باب الضمان هو لغة: الالتزامُ أو (¬1) الحفظُ، وهو مِن التَّضمينِ بأنْ يجعَلَ شيئًا فِي شيْءٍ. وشْرعًا: التزامٌ خاصٌّ على وجهٍ خاصٍّ، وفِيهِ معنى الحِفظِ بكونِهِ وثيقةً. وإن شئتَ قلتَ: لفظٌ يقتضِي تضمينَ دَينٍ فِى ذِمَّةٍ، كانتْ فارغةً مع بقائِهِ فِي الذِّمَّةِ المَشغولةِ بِهِ (¬2)، وإنْ شئتَ ألحقتَ بِهِ. أو التزامُ إحضارِ ما يُستَحَقُّ حضورُهُ، وأخرجنا بِـ "لفظ" (¬3) ما حَصَلَ فيه الضمانُ لوضع (¬4) اليَدِ ونحوِهِ. ولا يصحُّ أَنْ يُقالَ فيه "ضَمُّ ذِمَّةٍ إلى ذِمَّةٍ"؛ لأنَّ النُّونَ أصليةٌ فيهِ، إلَّا إذا لُمِحَ الاشتقاقُ الأكبرُ. ويُقالُ: فيه (¬5) "ضامِنٌ" و"ضَمينٌ" و"زَعيمٌ" و"حَميلٌ" و"كَفيلٌ" و"صَبيرٌ" ¬
و"قَبيلٌ" من القَبالَةِ. لكِنْ قيل إنَّ العُرْفَ أنَّ "الضمينَ" فِي الأموالِ غيرِ العظيمةِ (¬1) و"الزَّعيمِ" فيما عظُم مِنها، و"الحَمِيلُ" فِي الدِّياتِ، و"الصَّبيرُ" فِي الجميع، وهو غيرُ مشهورٍ، وكذا "القَبيلُ" واشتهر "الكَفيلُ" فِي الإحضارِ (¬2). وأصلُ البابِ -قبل الإجماع- قولُه تعالى: {وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ}. وقرَّره رسولُ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- فِي شريعتِهِ المؤيدةِ بقولِهِ: "الزَّعِيمُ غارِمٌ" رواه أحمدُ والترمذيُّ، وابنُ ماجه، بإسنادٍ حسَّنه التِّرمذيُّ، وهو صحيحٌ (¬3). ¬
وقد تحمَّل رسولُ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-. . رواه أبو داودَ وابنُ ماجه (¬1). وصَحَّ تكفُّلُ أبي قتادةَ الميتَ (¬2) بحضرتِهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- (¬3). وكذلك اتَّفَقَ لعليٍّ -رضي اللَّه عنه- ¬
ويستثنى من الرجوع مع وجود الضمان بالإذن ست صور
بإسنادٍ حسنٍ. والضَّمانُ عقدٌ يستقِلُّ به الضامنُ الحُرُّ الرشيدُ ولو فِي مرضِهِ وغيرُ الحُرِّ بإذْنِ السيِّدِ. وأما فِي كفالةِ البدن فلا بُدَّ مِن رِضى المكفولِ ببدنِهِ إنْ كان حيًّا حُرًّا أهلًا للإذن، وإلَّا فإذْنُ وليِّهِ، وفائدةُ الإذنِ مِن الأصيلِ (¬1) فِي ضمانِ الذِّمةِ الرجوعُ إذا أدَّى الضامِنُ، وإن لم يأذنِ الأصيلُ فِي الأداءِ على الأصَحِّ. * * * * ويُستثنى مِن الرُّجوع مع وُجودِ الضَّمانِ بالإذْنِ سِتُّ صُورٍ: 1 - إحداها: ضَمنَ عبدٌ مَا فِي ذِمَّةِ سيدِهِ لأجنبيٍّ، وأدَّى بعدَ العِتقِ، فلا يرجِعُ على الأصحِّ، ولو أدَّى قبلَ العِتقِ فلا رجوعَ قَطْعًا، ولا يُسْتثنى (¬2) لأنهُ مِن مال (¬3) السيدِ. 2 - الثانية: ضمِنَ السيدُ عبدَهُ غير المكاتَبِ، وأدَّاهُ قبل عِتقِهِ، أو مكاتبًا ¬
وأدَّاه بعد تعجيزِهِ (¬1) لا يرجِعُ، قلتُهُ تخريجًا. 3 - الثالثة: ضمِنَ عن أصلِهِ الذَّكَرِ صَدَاقَ زوجتِهِ بإذنِهِ، ثُم طَرَأ ما يُوجِبُ الإعفافَ قبل الدُّخول، وامتنعَتِ الزَّوجةُ مِن تسليم نفسِها حتَّى تقبِضَ الصَّداقَ، فأدَّاه الضامِنُ، فإنَّهُ لا يثبُتُ لهُ الرجوعُ، ولو أيسر المضمونُ، قلتُهُ تخريجًا، وكذا لو ضَمِنَ عند وجوبِ الإعْفافِ بالإذْنِ ثُم أدَّى، وفِي صحة الضمانِ هنا توقُّفٌ. 4 - الرابعة: إذا أنْكَرَ (¬2) الدَّيْنُ، أو قال: "أقْبَضَكَ الأصيلُ" فثَبَتَ عليه بالبيِّنةِ وأدَّى؛ لم يرجِعْ. 5 - الخامسة: إذا لم يُشهد، وأنكر المضمُونُ له لم يرجِع، وإن صدَّقه الأصيلُ إذا لم يؤَدَّ بحضورِهِ، وإذا أخَذَ المالَ من الضَّامِنِ ثانيًا رَجَعَ على الأصَحِّ، ولا (¬3) يُسْتثنى. 6 - السادسة: إذا أدَّى الضامِنُ بالإذنِ مِن صِنفِ الغارِمِينَ المدفوعَ له بسببِ (¬4) الضمانِ لا يرجِعُ. . قاله الرافِعيُّ رحمه اللَّه، وهو الصوابُ خِلافًا للبغويِّ (¬5). ¬
ويعتبر في صحة الضمان أربعة أمور
* ويُعتَبَرُ فِي صِحةِ الضمانِ أربعةُ أمورٍ: 1 - كونُ الضامِنِ أهلًا للتَّبَرُّع، وينفُذُ مِن المريضِ حيثُ لا إذْنَ فِي الثُّلثِ، ولا يصِحُّ ضمانُ العبدِ إلَّا بإذْنِ سيدِهِ، يستوي فِي ذلك مأذونُ التِّجارةِ، والمُكاتب والمُبَعَّض حيثُ لا مُهَايأةَ أو (¬1) ضمِنَ فِي نوبةِ السَّيِّدِ. 2 - الثاني: معرِفةُ المضمونِ لهُ دونَ معرفةِ (¬2) المضمونِ عنهُ على الأصَحِّ. 3 - الثالثُ: كونُ الحقِّ لازِمًا أو موجودًا آيَلًا إلى اللُّزوم، كالثَّمنِ فِي حالِ الخِيارِ، لا كنِجْم الكِتابةِ وجُعْلِ الجَعَالة قبلَ تمام العَمَلِ. 4 - الرابِعُ: كونُهُ معلومًا (¬3)، ومِن واحدٍ إلى عشرةٍ تسعةٌ كالإقرارِ، ويصِحُّ ضمانُ الدَّرَكِ على النَّصِّ (¬4) بعد قبْضِ الثمنِ، فيُشترطُ عِلمُ الضَّامِنِ بالثمنِ، فإنْ خَرَجَ مُستَحَقًّا، ولو بِشُفعةِ رَجَعَ على الضَّامِنِ، لَا إنْ بان الفسادُ بشرطٍ ونحوِهِ، أو ردًّ بعيبٍ، أو انفسخ بالتَّلفِ قبلَ القبضِ. ¬
وأما كفالةُ البدنِ فإنَّها لا تصِحُّ (¬1)، لحَدِّ اللَّه (¬2) تعالى، وتصِحُّ لغيرِ ذلك على المذهَبِ، لَا إنْ كان عليه مالٌ لا يُضمنُ كنَجْمٍ وجُعْلٍ، وحيثُ صحَّتْ لا يُشترطُ العِلمُ بقدرِ المالِ (¬3). ويصِحُّ ضمانُ كُلِّ عينٍ تلزمُ مَؤُنَةُ ردِّها، وكذا ضمانُ تسليمِ المَبيع قبلَ القبْضِ، وإنْ عيَّن فِي التَّسليم مكانًا تَعَيَّنَ (¬4)، وإلَّا حمل على مكانِها، وينبغِي أن يُقيد (¬5) بِما إذا صلُح ولا غُرْمَ فِي كفالةِ البدنِ والأعيانِ على الأصَحِّ، ومَتَى برِئَ الأصيلُ ولو بالحوالَةِ عليه، بَرِئَ الضامِنُ. ويصِحُّ ضمانُ الحالِّ مؤجَّلًا، وقد جاء ذلك فِي تحمُّلِ النبيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- الذي تقدم. ¬
ويصِحُّ ضمانُ المؤجَّل حالًّا، ولا يثبُتُ الحلولُ لكن لو مات الأصيلُ طولِب الضَّامِنُ على الأرجح بِخلافِ المُؤَجَّل (¬1) فَي غيرِ هذِهِ، فلا تحِلُّ (¬2) على واحِدٍ بموتِ غيرِهِ، واللَّه سبحانه وتعالى أعلم. * * * ¬
باب الشركة
باب الشركة هي بكسْرِ الشِّين وإسكانِ الرَّاء. وأصلُها قبلَ الإجماع: ما صحَّ مِن تقريرِهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- لذلك. وعن أبي هريرة -رضي اللَّه عنه- يرفعُهُ قال: "إنَّ اللَّه عز وجل يقولُ: أنا ثالثُ الشَّريكينِ ما لم يَخُنْ أحدُهُما صاحبَه، فإنْ خانَهُ خرَجْتُ مِن بينِهِما" رواهُ أبو داود فِي "سننه" (¬1). ¬
الشِّرْكةُ لغةُ: الاختلاطُ والامتزاجُ شيوعًا أو مجاورةً. وفِي الشرع: ثبوتُ (¬1) الحقِّ فِي الشيءِ الواحِدِ لمتعدِّدٍ. ثم قد تكونُ قهرًا كما فِي الإرْثِ. وقد تكونُ اختيارًا كما فِي الابتياع والإيهابِ (¬2) ونحوِهِما (¬3). وقد تكونُ (¬4) فِي الأعيانِ والمنافِع. وقد تكونُ فِي مجرَّدِ الحقوقِ عامًّا كالشوارع ونحوِها مِن المُسبَّلاتِ للعُمُوم، وقد تكونُ خاصًّا (¬5) كحَقِّ (¬6) التَّحَجُّرِ، والشُّفعةِ، وحدِّ القذْفِ والقِصاصِ. وفِي المُقتنياتِ (¬7): كالكلبِ الذي يُقتنى، وجِلدِ ميتةٍ لم يُدبغْ (¬8) ونحوِها. ¬
وبعضُها يقبلُ الإسقاطَ، وبعضُها لا يقبلُهُ. والذي يقبلُهُ منهُ (¬1) ما إذا أسقط واحدٌ حقَّه سَقَطَ الكُلُّ، وهو القِصاصُ، ومنه ما إذا أُسْقِط بَقِي (¬2) للباقِي الكُلُّ، وهو الشُّفعةُ، وحَدُّ القذْفِ. وليس لنا مِنَ الحقوقِ ما يبقى فيهِ القِسْطُ بعد إسقاطِ واحدٍ حقَّه إلَّا فِي حقِّ التَّحَجُّرِ -قلتُهُ تخريجًا- وحدُّ القذْفِ على وَجْهٍ. * * * ثُم الشركةُ منها: حرامٌ، ومنها: مكروهٌ، ومنها: مستحبٌّ، ومنها: جائزٌ: فالحرامُ: الشركةُ فِي الأمور المُحَرَّمةِ كالخمرِ والأموالِ المُحَرَّمةِ. ويُذكر مع هذا: ما لا يجوز من الشِّرْكة: * كـ "شركةِ المُفاوضة"، وهي أَنْ يشتَرِكا ليكونَ بينهُما ما يحصلُ مِن غُنْم (¬3)، وعليهما ما يلزمُ مِن غُرْم (¬4). ¬
* و"شركةِ الأبدانِ"، كشركةِ المُحترفةِ (¬1)، ليكون الكسبُ بينهم (¬2). * و"شركة الوجوه" (¬3)، إمَّا بينَ وجيهينِ، أو بينَ وجيهٍ وخاملٍ للبيع، لِيحصُلَ الرِّبحُ بالوَجاهةِ (¬4). والمكروهةُ: مشاركةُ مَن لا يحترِزُ مِن الرِّبا والمَكْسِ (¬5) ونحوهما (¬6). والمستحبةُ: اشتراكُ المُسافِرِينَ فِي الزَّادِ مجلسًا مجلسًا. والجائزةُ: شركةُ العَنَان (¬7)، وهي مقصودُ الباب، ولا تصحُّ إلا بخمسِ شرائِطَ (¬8): ¬
1 - أن يكونَ المالانِ مِثْلِيَّيْن، ولو دراهمَ مغشوشةً على الأصحِّ. 2 - وأن يكونَ المالانِ مِن جنسٍ واحدٍ، بصفةٍ واحدةٍ، بحيث تتفِقُ القيمةُ، خِلافًا لما نُقل عن العِراقِيينَ فِي قَفِيزينِ (¬1) مُختلِفَي القِيمةِ. 3 - وأن يُخلطَا بحيثُ لا يمكِنُ تمييزُهُما. 4 - وأن يسبقَ الخلطُ العقدَ. 5 - وأن لا يُشترطَ الربحُ والخُسرانُ إلَّا على قَدْرِ المالَيْنِ. ولا بُدَّ مِن الإيجابِ والقبولِ والإذنِ فِى التصرُّفِ، لا مجردَ "اشتركنا"، وكلٌّ منهما وكيلٌ فِي نصيبِ صاحِبِهِ. ومتى فسدتْ لم يرجِعْ أحدُهما على الآخَرِ بأُجرةِ عملٍ، إلَّا إذا شُرِط لأحدهما زيادةٌ فِي الرِّبح، لاشتراطِ (¬2) زيادةٍ فِي العملِ، وزاد عملُهُ فيرجِعُ، لَا إنْ زاد عملُ الآخَرِ على الأصحِّ. وكلٌّ مِن الشريكين أمينٌ، والقولُ قولُهُ فِي: "اشتريْتُ هذا للشركةِ" أو "لنفسي". وفِي الرِّبحِ والخُسرانِ وفِي التلفِ والردِّ، إلَّا إذا ادَّعى ردَّ الكُلِّ، وأراد طَلَبَ نصيبِهِ، فلا يكونُ القولُ قولَه، فِي طَلَبِ نصيبِهِ، ولا يُقبلُ قولُ أحدِهما فِي أنه قَسْمٌ. ¬
باب الوكالة
باب الوكالة هي بفتح الواو وكسرها: التفويضُ، وتقعُ على الحِفظِ. وفِي الشرع: تفويضُ أمرٍ يقبلُ النيابةَ مِن أهلِهِ لأهلها على وجهٍ مخصوصٍ. وهي مجمعٌ عليها. وقد صَحَّتْ مِن فِعْل النبيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- فِي أمورٍ كثيرةٍ. وقد وَكَّل عُروةَ البارقيَّ فِي شراءِ شاةٍ، أخرجه البخاريُّ (¬1)، وليس على شرطِهِ، بل لإيراد (¬2) حديثِ: "الخيلُ مَعقُودٌ فِي نواصِيهِا الخيْرُ (¬3) " (¬4)، لأنه سمعه ضِمْنه، وقد أخرجهُ الترمذيُّ بإسنادٍ حسنٍ. * * * ¬
وللوكالة ثلاث قواعد
وللوكالةِ ثلاثُ قواعِدَ: * الأولى: اعتبارُ ما تدخُلُه النيابةُ، والعباداتُ لا تقبلُ النيابةَ إلَّا فِي نحْوِ (¬1) أن يوضِّئَهُ أو يُتمِّمَه، أو يطلبَ له الماء، أو يُحضرَ له السُّترةَ أو يظهرَ له ما يتعلَّقُ بالصَّلاةِ، ونحو ذلك. والصلاةُ نفسُها لا تقبلُ النيابةَ إلَّا فِي صورةٍ واحدةٍ وهي: ركعتا الطوافِ تبعًا للحجِّ. والزكاةُ تقبلُ النيابةَ فِي التفريقِ، والنيةُ يُفوضها إليه، ونيةُ السُّلطان فِي الزكاةِ عنِ المُمتنع نيابةٌ شرعيةٌ. والصومُ لا يقبلُ النيابةَ فِي حياةِ الأصل إلَّا فِي وجهٍ عندَ اليأس، ولكن بعدَ وفاتِهِ بإذْنِ الشَّرع للولِيِّ على أرجح القوْلَينِ، وهُو كُلُّ قريبٍ على المختارِ، ولِلولِيِّ أَنْ يأذَنَ. والاعتكافُ (¬2) كالصوم على قول. والحجُّ قابلٌ أن يُنيبَ فِيهِ (¬3) فِي الحياةِ للعاجِزِ الآيِس، وبعدَ الوفاةِ للولِيِّ، وإن لم يُوصِ بإذنِ الشَّرع، ولِلوليِّ أن يأذنَ، ولِلأجنبيِّ أن يستقِلَّ بذلك على ¬
وجهٍ، ولا يستنابُ لِفعل يكونُ فِي الحجِّ إلَّا الرميَّ للعاجِزِ، وأمرُ (¬1) الصبِيِّ تقدم فِي الحَجِّ. ومِن قابِل النيابةِ: ذبْحُ الهَدْي والأُضحيةِ وتفرقتُهُما والنيةُ فيهما، وتفرقةُ الكفَّارةِ، والتَّطوع، والمنذورة (¬2)، وحملُهُ إلى موضِع تَعَيَّنَ (¬3) بالنَّذر، والعِتقِ والكِتابةِ، وإنَّما لم يُستثنَ مع ما يُشبِهُهُ؛ لأنَّ نيةَ العبادةِ فيه غيرُ مُعتبرةٍ فِي حصولِهِ كما يصِحُّ التوكيلُ بالوقْفِ قطْعًا، وكذا الوصيَّةُ على الأصَحِّ، وينبغِي أن يطرد خلافيهما (¬4) فِي الوَقْفِ والعِتْقِ للقُربةِ، وجزموا فِي طَرَفِ النِّكاح بالجوازِ مع أنَّه مندوبٌ إليه، ولكِنْ (¬5) قد يتخلفُ الندبُ لمانع، وإنَّما جاء وجهٌ فِي الرجعةِ للاستدامةِ (¬6)، وإنَّما لم يُستثن القضاء، لأنَّ النيابةَ فِيهِ لِلعموم لَا بِخُصُوصِ (¬7) الأصْلِ. والعقودُ كلُّها قابلةٌ للنيابةِ حتَّى القرضُ والضمانُ والوكالةُ، والمُعْتبَرُ إذنُهُ يُوَكِّلُ فيه حيثُ لم يتعيَّنْ (¬8) هو، والمرأةُ توكِّلُ فِي إذنِها فِي النِّكاح، ولم يتعرَّضوا له. ¬
ومن قابل النيابةِ الفسوخُ، وذلك يشملُ ما مَكَّنَ القاضي المرأةَ فيه مِن الفسخِ بإعسارٍ أو عيبٍ، أو الزوجَ بعيبٍ، وفيه نظرٌ. ولا يصحُّ بالاختيار لمن أسلم على أكثرَ مِن أربع نِسوةٍ، ولا بتعيينِ (¬1) طلاقٍ أو عتقٍ مُبهم. ويصحُّ فِي الخُلع وتنجيزِ الطلاقِ وقبْضِ الدُّيونِ وإقباضِها والحُقوقِ، فمُوكَّلُ أصنافِ الزكاة مَنْ يقبِضُها لهم، والمتصدَّق عليه تطوعًا مَن يَقْبِض له ولم يذكرُوهُ. وفِي العقُوباتِ: الإمامُ والسيدُ، ولِلْمستحَقِّ فِي قِصاصٍ وَحَدِّ قذفٍ ويستوفى ولو فِي غَيبةِ الموكِّل على الأظهرِ. وفِي الخصومةِ وإنْ لم يَرْضَ الخصمُ، وإثباتِ الحُقوقِ لا إثباتَ حدٍّ للَّه عز وجل. ويوكَّلُ فِي تملُّكِ المباح (¬2) بإحياءٍ أو اصطيادٍ أو احتِطابٍ، وسواءً كان بأجرةٍ أم بِغيرِها، ولا يصِحُّ فِي الالتِقاطِ على أقوى الطرِيقينِ كالاغتِنام. والمعاصي لا يُوكَّلُ فِيها قطْعًا إلَّا إذا كان هناك ما يُوصف بالصِّحةِ كبيع الحاضِرِ للبادِي، ووقتِ النداءِ لِمن تجِبُ عليه الجُمعةُ، فإنه يصِحُّ. وقياسُهُ: صحةُ التَّوكيلِ بالطلاقِ فِي الحيضِ والظهارِ معصيةٌ. ¬
القاعدة الثانية
وفِي التوكيل فيه (¬1) وجهانِ صحَّح المتولِّي صحةَ التَّوكيلِ نظرًا إلى تغليبِ شَبهِ الطَّلاقِ، وهو أرجحُ، وغيْرُهُ المَنْع، نظرًا إلى تغْليبِ شَبَهِ الأَيْمانِ، وهي لا تقبلُ النِّيابةَ. ومِن الأيمانِ تحريمُ الزوجةِ، واللِّعانِ، والتَّعليقِ المقتضِي للحَلِفِ فِي طلاقٍ وعتقٍ. فأما تعليقٌ مجردٌ فالأرجحُ صحةُ التوكيل فِيهِ فِي الطلاقِ والعتقِ، وعلى هذا يصِحُّ التَّوكيلُ فِي التَّدبيرِ خِلافًا لِما صحَّحوهُ، ولَا يصِحُّ التوكيلُ فِي الإقْرارِ، ويصيرُ مُقِرًّا، خِلافًا لِمَا صحَّحه البغويُّ. ولو قال: "أَقِرَّ عنِّي لفلانٍ بألفٍ له عليَّ"، فمقرٌّ قطعًا. * * * * القاعدة الثانية: اعتبارُ العلمِ بما يُوَكَّلُ فِيه مِن بعضِ الوجوهِ، كبيعِ أموالِهِ، وإعتاقِ أرقائِهِ، وخصومةِ خصمائِهِ، بِخلافِ التَّوكيل بِكُل قليلٍ وكثيرٍ، أو بِجمِيع الأشياءِ، أو بِكُلِّ شيءٍ، أو فِيما هو لِي مِمَّا يقبلُ التوكيلَ، أو "تصرَّفْ فِي المالِ كيفِ شِئْتَ"، فإنَّه باطِلٌ، وفِي الأخيرةِ (¬2) نظرٌ. ومِنَ المجهولِ: "بِعْ (¬3) بعضَ مالِي". ¬
القاعدة الثالثة
وفِي الشِّراءِ لَا بُدَّ أَنْ يُعينَ ما يُشترى كعبدٍ ونوعِهِ. وكذا صِنْفَهُ (¬1) إنِ اختلفتِ الأصنافُ اختِلافًا ظاهِرًا عندَ الشيخ أبي محمدٍ. ولَا يُعتَبَرُ استقصاءُ أوصافِ السَّلم قطْعًا، ولَا التعرُّضُ لقدْرِ الثمنِ على الأصحِّ. وفِي الدَّارِ: لابُدَّ مِن بيانِ المحلَّةِ والسِّكَّةِ، وفِي الحانوتِ بِذِكْرِ السُّوقِ. وفِي إبراءِ (¬2) فُلانٍ مِمَّا لِي عليه يُعتَبَرُ عِلْمُ المُوَكَّلِ بقدرِهِ، وكذا الوكيلُ على الأرجح؛ خِلافًا لِمن صحَّح خِلافَ هذا (¬3). * * * * القاعدة الثالثة: مراعاةُ لفظِ المُوَكِّل وغرضِهِ، والمصلحةِ، والعُرْفِ فيما يُذْكر. فمِن (¬4) اللفظِ المُجردِ: "بِعْ مِن زيدٍ، لا تَبعْ مِن غيرِهِ، ولو مِن وكيلِ زيدٍ"، بِخلافِ: "زَوِّجْ مِنْ زيدٍ"، فيزَوِّجُ مِن وكيلِهِ، و"بِعْ فِي وقتِ كذا لا تبيعُ (¬5) قبلَهُ، ولا بعدَهُ". ¬
وقال الدَّارَكِيُّ (¬1) فِي الطلاقِ: تَطْلُقُ بعدَهُ (¬2)، ويلزمُهُ أن يطْرُدَه فِي غيرِهِ أو يُفَرِّقَ، وله التفاتٌ على أنَّ القضاءَ بالأمرِ الأوَّلِ، واشتَرِ بالعينِ لا (¬3) تشتري فِي الذمة، وكذا عكسُهُ. ولو عَيَّن السوقَ تَعَيَّنَ إن كان هناك غرضٌ، وكذا إن لمْ يكُنْ على الأصحِّ. وإن عَيَّنَ معه الثَّمنَ فقد ظَهَرَ الغرضُ، فإذا باعهُ بِهِ فِي غيرِهِ صحَّ، إن لم يكن (¬4) يَنْهَ عن غيرِ المُعيَّن، وبِعْ (¬5) بِمائةِ دِرْهَم (¬6) لا تَبيع بدونِها، ويبيع بالأكثرِ مع تحصيلِ المِائةِ دراهِم لا دَنَانِيرَ ما لم يَنْهَ عنِ الزيادةِ، أو يُعينُ المشترى بِخلاف "خالِعْها بمائة"، فإنه لا تَمتنع الزيادةُ لبُعد قصدِ المحاباة، و"اشتَرِ لِي عبدَ فلانٍ بمائةٍ" له أَنْ يشتَرِيَ بدونِها؛ لأنَّ غرضَ تعيينِ العبدِ استدعى تعيينَ السيِّدِ، ومثلُه فِي الخُلْع. ¬
وقال المرعشيُّ: كلُّ تقييدٍ أَمَرَ بِهِ وكيلُهُ فخالَفَهُ لَا يجوزُ إلَّا "بِعْ، وأشْهِدْ" فإنَّه إذا باع ولم يُشْهِدْ جاز، وما قاله فِي الإشْهادِ ممنوعٌ، والتقييدُ عليه فِي غيرِهِ يظهرُ حكمُهُ مما (¬1) قررناه. وكُلُّ موضِع خالف فِيهِ الوكيلُ فإنْ كان الشِّراءُ بِالعينِ فالعقدُ باطلٌ، وإنْ كان الشِّرَاءُ فِي الذِّمةِ وَقَعَ العقدُ للوكِيلِ، ولو سَمَّى المُوَكِّلَ (¬2) على الأصَحِّ. والمرادُ تسميةً لا تُخرج الصفةَ (¬3) عن التَّخاطُبِ (¬4) بأن يقول: "بعتُك"، فيقولُ: "اشتريتُ لِموكِّلِي" أو: "بعتُك لموكِّلِك" فيقول: "اشتريتُ له" أو يقولُ: "اشتريتُ"، فإن خرجتَ عنِ التَّخاطُبِ فالعقدُ باطِلٌ (¬5)، ولو مع موافقةِ المُوَكِّل كـ "بِعْتُ مُوَكِّلَكَ بهِ (¬6) " فيقولُ: "اشتريتُ له"، وما بَطَلَ فِي البيع هو المتعيِّنُ فِي النِّكاح؛ لأنَّ الوكيلَ فِيهِ سفيرٌ مَحْضٌ (¬7). وأمَّا الهِبةُ ونحوُها فالخِطابُ مع الوكِيلِ، ويتعينُ أَنْ يُسَمِّي موكِّله، ولا ينصرفُ المِلْكُ بِالنيةِ لِلموَكِّلِ، ولو قال: "وهبتُ مُوَكِّلَكَ"، فقال: "قبلْتُ له"، ¬
فمُقتضى كلامِهِم المنعُ، وفيه نظرٌ. وكذا كُلُّ ما لَا عُهْدَةَ (¬1) فِيهِ مِن الرَّهنِ ونحوِهِ، ويُبدلُ الأجلُ بِالمصلحةِ، وفِي شِراءِ الشَّاةِ بدينارٍ إذا اشتَرَى شَاتَيْنِ (¬2) به تُساوي واحدةٌ منهما (¬3) دينارًا، فإنه يصحُّ. ومِن المصلحةِ أَنْ لا يسلِّمِ الوكيلُ المبيعَ حتَّى يقبِضَ الثَّمَنَ، ولا يشترِيَ المعيبَ. ومِنَ العُرْفِ المقيِّدِ للإطلاقِ: الأمرُ (¬4) فِي الصيْفِ بِشراءِ الجَمْدِ لَا يُشترى فِي الشتاءِ، والمُعيَّنُ أو الحالُ لا إنْ أذِنَ لهُ، والوكيلُ بالبيع مُطلقًا لا يبيعُ بالنسيئة ولا بِغَبْنٍ فاحِشٍ، ولا [بثمنِ المِثْلِ وهناك راغبٌ بزيادةٍ، ولا] (¬5) بِغيرِ نقدِ البلدِ، وعندَ اجتماع نقدَينِ يبيعُ (¬6) بأغلبِهما، فإنْ غَلَبَا فإنهُ يتخيَّرُ، ولو باع بِهما صحَّ على المذهبِ مِن تَرَدُّدِهِم؛ قاله (¬7) فِي "النهاية" وعند إطلاق الأجل يُتْبَعُ العُرْفُ، فإنْ لم يكُن عُرْفٌ راعى الأنْفَعَ. ¬
ويستثنى مما سبق مواضع
والعُمومُ فِي لفظِ المُوَكِّل يُعملُ (¬1) به (¬2)، بحسبِ الظُّهورِ. ففِي "بِعْ بِكم شئْتَ" لهُ البيعُ بغبنٍ فاحِشٍ، و"بما شئتَ" له البيعُ بغيرِ نقْدِ البلدِ وبِـ "كيفَ شئتَ" له البيعُ بالنَّسيئةِ، و"بما عَزَّ وهان" لهُ البيع بالغبنِ عند المُتولِّي، وبالعَرَضِ أيضًا عند العبَّادِي. ومن الحَذْفِ المُشْعِرِ بالتخييرِ على الأصحِّ أن يُسَلِّم إليه دراهِمَ ويقولُ (¬3): "اشتِر (¬4) بِها كذا" ولم يقل بِعَيْنِها ولا فِي الذِّمَّةِ. وضابط (¬5) الموكَّلِ: كُلُّ مَنْ مَلَكَ أن يتصرَّفَ تصرُّفًا قابِلًا للنيابةِ بأصالةِ أو ولايةٍ يجوزُ أن يوكَّلَ فيه، ومنهُ الوصيُّ خِلافًا لِمن قال هو كالوكِيل (¬6). والوكيلُ لا يوكِّلُ إلَّا بإذنِ أو قرينةٍ كما إذا عَجَزَ أو عادته أن لا يتولاه بنفسِهِ. * ويُستثنى مما سَبَقَ مواضِعُ: الأعمى، وأنه يُوكِّلُ فيما تعتبرُ فيه الرؤيةُ، وإن لم يتصرَّفْ فيه بنفسِهِ (¬7). ¬
والسفيهُ يأذنُ فِي التزويج، وإنْ لم يكُن هُو مالكَ الاستِقلالِ (¬1) بِهِ. ومالكةُ الأمة (¬2) توكِّلُ وَلِيَّها بتزويجِها، وإن لم تَمْلِكْ هي تزويجَهَا (¬3)، وكذلك غير المخير (¬4) فِي إذنها بتزويج نفسها فإنه توكيل (¬5) للولي، نص عليه. وضابِطُ الوكِيلِ: أَنْ يتمكَّنَ مِن إصدارِ ذلك التصرُّفِ لنفسِهِ، ولو بإذنٍ، فيكونُ الصَّبِيُّ وكيلًا فِي حجِّ التَّطوُّع وعمرتِهِ والذَّبْح، ولو فِي الأُضحيةِ، والسفيهُ وكيلًا فِي قبول النِّكاح، وكذا العبدُ، ولا حاجةَ إلى الإذْنِ، والمرأةُ فِي طلاقِ غيرِها، كما يفوَّضُ إليها طلاقُ نفسِها. ولَا يكونُ الكافِرُ وكيلًا فِي قبول نِكاح مُسلمةٍ، ولا فِي الإيجابِ؛ خِلافًا لِمَا ادَّعى الإمامُ أنه المذهبُ، ولا فِي طلاقِها خِلافًا لما ذكره (¬6) فِي الخُلْع، بِخِلاف الموسِرِ فِي قبولِ نِكاح الأَمَة والأخ ونحوِهِ فِي قبولِ نِكاح مَن تَحرُمُ عليه. ويدُ الوكيلِ يدُ أمانةٍ، والقولُ قولُه فِي الرَّدِّ والتَّلفِ، وقولُ الموكِّلِ بيمينِهِ فِي الإذْنِ وصفتِهِ، وفِي (¬7) قبْضِ الثَّمنِ، لَا إنْ كان بعد تسلِيم المبِيع فالقولُ لِلوكِيل. ¬
وليسَ لِلوكِيل أَنْ يقولَ: لَا أردُّ المالَ إلَّا بإشهادٍ. ومن قال: "وَكَّلني فلانٌ بقبْض مالِهِ عندك أو عليك" فصدَّقهُ جاز الدَّفْعُ، ولا يجِبُ وإنْ صدَّقَهُ على إرثٍ بشرطِهِ (¬1) أو حوالةٍ أو وصيةٍ أو وصايةٍ وَجَبَ. * * * ¬
باب الإقرار
باب الإقرار هو لغة: الاعترافُ، وهو فِي الأصْلِ للإثباتُ (¬1) مِن قولِهِم: قَرَا الشيءُ، إذا ثَبَتَ. وشرعًا: إخبارٌ عَن (¬2) أمْرِ سابِقٍ يَقتضِي تعلُّقَ حُكمٍ بالمُقِرِّ. وأصلُه: قولُه تعالى: {كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ}. وفُسرتْ شهادةُ الإنسانِ على نفسِهِ بالإقْرارِ. وفِي "الصحيحين" تعليقُ الحُكْمِ (¬3) على الاعترافِ فِي قولِهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "واغْدُ يا أُنَيْسُ إلى امرأةِ هذا، فإنِ اعترفَتْ فارجُمْهَا" (¬4). ¬
وفِي حديثِ اليهوديِّ الذي رَضَّ رأْسَ الجارِيةِ (¬1) بينَ حجرينِ فجِيءَ بِهِ فاعترَفَ، فَرَضَّ رسولُ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- رأسَهُ بينَ حجرَيْنِ (¬2). والإجماعُ: على تعلُّقِ الحُكم بالإقرارِ المُعْتَبَرِ (¬3). يُعْتَبَرُ فِي المُقِرِّ التكليفُ إلَّا على رأيٍ ضعيفٍ فِي موضِع فِي المُراهِقِ، ومواضِعَ على رأي فِي المُميز سَبَقَتْ فِي الحَجْرِ والرُّشد إلَّا فِيما سبق فِي حَجْرِ السفِيهِ (¬4). ويصحُّ مِن المكلَّفةِ الإقرارُ بِالنكّاح ولو مع السَّفَهِ لَا مِن السفِيهِ كما سَبَقَ. ¬
وينفذُ إقرارُ المُجْبَرِ فقط بنكاح مُجْبَرَتِهِ. فإنْ تعارَضَ إقرارُهُما فوجهانِ فِي المقدَّم، كذا ذكروهُ، والصوابُ: تقديمُ السَّابِقِ. فإنْ أقرَّا معًا: فالأرجحُ إقرارُ المرأةِ؛ لِتعلُّق ذلك ببدنِها وحقِّها. ولو (¬1) أقرَّ وليُّ السفِيهِ بنكاحِهِ لم ينفُذْ إذ لا يستقِلُّ بِهِ. وقياسُ طريقةِ العِراقِيينَ نفوذُهُ كما فِي المُجْبَرِ، وكما يُقِرُّ الولِيُّ بالبَيْع ونحوِهِ مِمَّا ينفُذُ منه، فيلزمُ إلَّا إذا قال فِي عينٍ لمحجورةِ زيدٍ: "هذه مِلْكُ عمرٍو"، فلا يُقبلُ ما لم يُعَيِّنِ السببَ (¬2) على الأصحِّ فِي "التهذيب"، وفِيهِ نظرٌ. ويُقبلُ إقرارُ المُفلِس بالنِّكاح، وبتصرُّفٍ سابقٍ على الحَجْرِ أو بعدَهُ، حيثُ ينفُذُ منهُ. ويقبلُ إقرارُه بالعين، وبِدَيْنِ الجنايةِ، ولو بعدَ الحَجْرِ، وبدَيْنِ المُعاملةِ السابِقِ (¬3)، فيزاحِمُ (¬4) الغُرماءَ، وبالنسبِ، والأقربُ يُنفق عليه من مالِهِ بِخِلافِ حُقوقِ الزَّوجةِ الحادثةِ بعد الحَجْرِ. وإقرارُ المُرتَدِّ بعد حَجْرِ القاضِي عليه (¬5) بالعينِ والدَّينِ، ونحوهما، كإقرارِ المُفلِس على الأصحِّ. ¬
ونصَّ فِي "الأم" على قبولِ إقرارِهِ حينئِذٍ بِالعينِ والدَّين، وأنهُ يسلمُ للمقرِّ له حالًّا، وأنه يُقْضَى عليه بحُرِّيَّةِ (¬1) مَن قال: "اشتريْتُهُ -أو: اتَّهبْتُهُ- فِي حالِ كونِهِ حُرًّا". وكلُّ مَنْ حُجِرَ عليه فِي عينٍ كرهْنٍ وجِنايةٍ ونحوِهِما: لا يُقبلُ إقرارُهُ بِما يُخِلُّ بمقصودِ (¬2) الحَجْرِ. ويُقبلُ مِنَ الرَّقيقِ بِما يوجِبُ العقوبةَ خِلافًا لِلمُزنِيِّ لا بِالمال، فيتعلَّقُ بذمَّتِهِ، لا (¬3) أَنْ يُصَدِّقَهُ السيِّدُ، أو تقومَ بيِّنةٌ، فيتعلَّقُ برقبتِهِ، وكذا لو أقَرَّ بِما يوجِبُ القِصاصَ، فَعَفَى المُستحِقُّ على مالٍ، فيتعلَّقُ برقبتِهِ على الأصحِّ المنصُوصِ. ويُقبلُ إقرارُ المأذونِ بدَيْنِ المُعاملةِ المُتعلِّقةِ بالتِّجارةِ، لا إنْ حُجِر عليه، فلا يُقبلُ منهُ استنادُهُ (¬4) على الأصحِّ، بِخِلافِ المُفلِس لِئَلَّا يؤدِّي إلى فواتِ حقِّ السيِّدِ (¬5) بِخلافِ غُرماءِ المُفْلِس، إذ يبقى لهم الباقِي فِي ذِمَّةِ المفلِس، وفيه نظرٌ. ¬
والمُبَعَّضُ (¬1) يتبعضُ حُكْمُ إقرارِهِ. ولا يُقبلُ مِنَ السيِّدِ على عبدِهِ بما يوجِبُ عقوبةً، ويُقبل بِدَيْنِ جنايةٍ تتعلَّقُ برقبتِهِ، لا بِدَيْن (¬2) المعاملةِ، كذا ذكروه. والقياسُ قبولُهُ فيما يتعلَّق بمالِ السيِّدِ حيثُ لا حَجْرَ للغُرماءِ. والمكاتبُ يُقبلُ إقرارُهُ فيما يستقلُّ به. والمريضُ يصِحُّ إقرارُهُ، وينفُذُ ولو للوارِثِ والدَّين (¬3) والعينِ إلَّا إذا تُحقق مِلْكه للعينِ إلى حالةِ مرضِ الموتِ، فإنَّه إذا أقرَّ بِها مُطلقًا، وقال بقيَّةِ الورثةِ: إقرارُهُ مستندُهُ (¬4) الهبةُ، وقال المُقِرُّ لهُ: "بلْ عنْ مُعاوضةٍ لَا مُحاباةَ فِيها"، فالقولُ قولُ بقيةِ الورثةِ بِاليمينِ (¬5)؛ لأنَّ الأصْلَ عدمُ المعاوضةِ؛ قلتُهُ تخريجًا مِن الأبِ يُقر لِفرعِهِ بشيء، ثُم يُفسرُهُ بِالهبةِ ليرجِعَ، فيُقبلُ على الأرْجَح. ولو قال المريضُ: "كُنْتُ وهبْتُ وارِثِي هذِهِ وأقبضْتُهُ (¬6) فِي الصِّحةِ" قُبل على الأرْجَح، خِلافًا للغزالِيِّ. ويستَوِي فِي مُزاحمةِ الدُّيونِ: إقرارُ الصحةِ والمرضِ، والوارثِ والموروثِ، ودَيْنِ الجنايةِ السابقةِ والحادثةِ، ولو بَعْدَ الموتِ، ودينِ ¬
المعاملةِ. ويُقَدَّم الإقرارُ بِالعينِ على الدَّينِ. ولا يُقبلُ إقرارُ الوكيلِ بالتَّصرفِ بعد العزْلِ ولا قَبلهُ -على الأصحِّ- إلَّا فِي قولِهِ: "قبضتُ الثَّمْنَ"، وكان بعد تسلِيم المَبِيع كما سَبَقَ. وشرطُ المُقِرِّ فِي جَمِيع ذلك: الاختيارُ، فإقرارُ المكرَهِ باطلٌ، ولا تُقبلُ دعوى الإكراهِ إلَّا بِبيَّنةٍ، أو بقرينةِ ترسيمٍ ونحوِهِ، على الأرْجَح (¬1). ونصَّ فِي "الأم" (¬2) على قبول دَعْوى الإكراهِ مُطْلقًا، وقال بِهِ أبو حامِدٍ الإسْفرَايينِي، وقال الماوردِيُّ: مَنْ ضُرِبَ ليصدُقَ صَحَّ إقرارُهُ، وهو بعيدٌ (¬3). ¬
وأما المقر له فيعتبر فيه ثلاثة أمور
والإقرارُ بالنسبِ وبالرِّقِّ والحريةِ وإقرارُ اللَّقيطِ يأتِي كلُّ ذلك فِي بابِ اللَّقيطِ. * * * * وأما المُقَرُّ له فيُعْتَبَرُ فِيهِ (¬1) ثلاثةُ أُمور: 1 - أهلِيَّةُ استِحْقاقِ الحقِّ المُقَرِّ بِهِ. 2 - وأنْ يكونَ مُعَيَّنًا نوع تعيينٍ بِحيثُ يُتوقَّعُ معه (¬2) الطلبُ والدَّعوى. 3 - وأن لا يكذِبَ، فلو أقَرَّ لعبدِهِ المُكاتَبِ (¬3) بدينٍ أو عَينٍ صَحَّ، أو القِنِّ أو المُدَبَّرِ أو المستولَدَةِ بدَيْنٍ فِي ذِمَّتِه، فإنْ أسندهُ إلى معاملةٍ أو جنايةٍ فِي حالِ رِقِّهِ فيهم (¬4) لم يَصِحَّ، أو إلى مُعاملةِ أو جنايةٍ قبل رِقِّهِ فِي حَالِ رقِّ غيرِهِ فهو إقرارٌ لعبدِ غيرِهِ، أو فِي حالِ (¬5) حُريةِ المُقَرِّ له وكفرِهِ وإسلامِ المَديون (¬6) أو ذمتهِ، صحَّ، فالحربِيُّ إذا استُرِقَّ وله دَيْنٌ على مسلمٍ أو ذِمِّيٍّ لا يسقُطُ. ¬
وإنْ أطلقَ فإنْ تُحُقِّق عدمُ الحالةِ المُصححةُ بَطَلَ والإقرارانِ كالإقرارِ (¬1) المُطلقِ للحَمْلِ أرجحُهُما النُّفُوذُ. وكذلك لو أقرَّ لهُ بعينٍ (¬2)؛ قلتُ ذلك كلَّه تخرِيجًا. وإنَّ أقرَّ بحملٍ وأسندَهُ إلى إرثٍ أو وصيَّةٍ صَحَّ، ثُمَّ إنْ انفصل لِمُدةٍ يظهرُ وجودُهُ عند موتِ المُوَرِّثِ (¬3) أو عند الوصيَّةِ استحقَّ وإلَّا فَلَا، واعتِبارُ المُدةِ مِن حينِ الإقرارِ وَهْمٌ. وإنْ أسندهُ لِجهةِ مُعاملةٍ مع الجهلِ (¬4) بَطَلَ الإقرارُ على الأرْجَح، ويَصِحُّ للعبدِ ويكونُ لسيدِهِ. . كذا قالوا. والصوابُ لا يُصرفُ للسيِّدِ إلَّا إذا تُحُقِّق استنادُهُ (¬5) إلى أمرٍ فِي حالِ رِقِّ ذلك السيِّدِ، ويظهرُ تحقيقُ (¬6) هذا مِمَّا سبق فِيما إذا أقرَّ لعبدِهِ (¬7). ولا يصِحُّ للدابَّةِ إلَّا أَنْ يقولَ لمالِكِها (¬8) بِسببِها. والإقرارُ للمسجِدِ والمقبرةِ والبِئرِ المُسَبَّلةِ، كالإقرارِ للحملِ. ¬
والإقرارُ لغيرِ ذلك مِن الجماداتِ باطِلٌ، ولو كان وقْفًا (¬1). وعندَ تكذيبِ المُقَرِّ له الذي يُعْتَبَرُ تكذيبُهُ يُتركُ المالُ عند المُقِرِّ، ولا يُحكمُ بِعتقِ العبدِ (¬2) على الأصحِّ، ولو رَجَعَ المُقَرُّ له عنِ التَّكذيبِ فلا بُدَّ مِن إقرارٍ جديدٍ عندَ المُتَولِّي، ورُجِّح خلافًا للإمام والغزالِيِّ. والأصحُّ خلافًا لهما قبولُ رُجُوعِ المُقِرِّ، و (¬3) الحَدُّ والقِصاصُ يسقطُ بالتَّكذيبِ. وأمَّا المُقَرُّ بِهِ فيجوزُ بالمجهولِ والمعلومِ. فالمجهولُ الَّذِي لا يُعرفُ يُحْبَسُ لتفسيرِهِ (¬4) على ما صُحِّح، والمختارُ أنهُ إنْ أمكنَ فصلُ القضيةِ بدعوى بِطريقِها فلَا يُحبسُ، وإنْ عُرِف بطريقٍ من طرقِ الحِسابِ لزِم مُقتضاه كـ: "لزيدٍ عليَّ (¬5) ألفُ (¬6) ونصفُ ما لعمرٍو، ولعمرٍو عليَّ (¬7) ألفٌ ونصفُ ما لزيدٍ" فمُقتضى الحسابِ لكلٍّ ألفان، ثم المُفَسَّرُ أو المعلومُ إما عينٌ أو دينٌ. * * * ¬
وقواعد الباب أربع
* وقواعِدُ البابِ أربعٌ: الأولى: الإقرارُ لا يزولُ به مِلْكٌ، ولا اختصاصَ فِي عينٍ، ولا يلزمُ بهِ الدَّين (¬1)، بل هُو (¬2) كاشفٌ عن أمرٍ ماضٍ لا يُعرفُ زمنُهُ مِن الإقرارِ المُجرَّد فمِلْكي هذا لفلانٍ، كلامٌ لا يلزمُ بخروجِهِ عنِ القاعدةِ، ويُحمل على الوعدِ بالهبةِ وألحقوا به "داري لفلان"، والتحقيقُ لزومُ هذا، فلا تناقُضَ، إذ قولُه: "لفلان" يبينُ أنَّ الإضافةَ فِي دارِي لِنسبتِها (¬3) إليه، ونحوُ ذلك حديثُ: "مَنْ بَاعَ عبْدًا ولَهُ مالٌ فمالُهُ لِبائِعِهِ" (¬4) يؤيِّدُ ما حققناه مِن جهةِ أن اللامَ الثانيةَ بان ¬
بِها أنَّ الأولى للاختِصاصِ، وعكسُهُ "أنتَ ومالُك لأبيك"، و"هذا لفلانٍ، وهو فِي مِلْكي إلى إقراري هذا": أوَّلُهُ إقرارٌ، وآخرُهُ لغوٌ، ولم يخرِّجوه على تعقيبِ الإقرارِ بِما يرفعُهُ؛ لادِّعائِهِ ذلكَ لنفسِهِ بعد إقرارِهِ، ولو شهدوا أنَّ فلانًا أقرَّ لفلانٍ بكذا، وكانتْ مِلْكَ المُقِرِّ إلى أَنْ أقرَّ بطلتْ شهادتُهم [نُقِل عن النصِّ. والقواعدُ تشهدُ لإعمالِ شهادتِهِم] (¬1) فِي إقرارِهِ، ويُلغى ما شهِدُوا بِهِ مِن غيرِ دعوى. ¬
والمُقِرُّ بِهِ (¬1) لا يصحُّ منهُ دعوى ذلك لعدم ذِكْرِ التَّلقِّي، و"دَينِي الذي على زيدٍ لبكرٍ"، باطِلٌ، وفيه ما تقدَّم "فِي دارِي". ويؤيدُهُ صحةُ الذي لِي على زيدٍ لبكرٍ، واسْمي فِي الكتابِ عاريةٌ، والإقرارُ لغيرِهِ بدَينٍ لهُ فِي الظاهِرِ صحيحٌ، إلَّا ثلاثةَ دُيونٍ: الصَّداقُ وبذْلُ الخُلع وأرْشُ (¬2) الجنايةِ فِي البدنِ. قاله فِي "التلخيصِ". والمُرادُ فِي الثلاثةِ أَنْ يكونَ مِن (¬3) وجبتْ له حُرًّا، فأمَّا مجهولُ الحالِ (¬4) يقِرُّ بِها لشخصٍ بأنَّه (¬5) سيدُهُ فيلزمُ بِمُقتضى الإقرارِ بالرِّقِّ، ومَتَى احتملَ انتقالُ هذِهِ الدُّيون بِحوالةٍ صحَّ الإقرارُ (¬6) بِها مُستنِدًا (¬7) إلى الحوالَةِ، وكذا مُطلقًا على الأظهرِ، وليستْ سائِرُ الدُّيونِ (¬8) كذلك، لاحتمالِ ثبوتِها ابتداءً ¬
القاعدة الثانية
لغيرِ مَنْ هِي له فِي الظَّاهِرِ. ولو أعتقَ عبدَهُ، ثُم أقرَّ له (¬1) هو أو غيرُهُ بدَينٍ أو عينٍ عقِبَ العِتقِ، صحَّ، إذا احتمَلَ ما يُصحِّحُ الإقرارَ للعبدِ كما تقدَّم، أو مضى زمانٌ يتأتَّى فيه ذلك، وإلَّا فلا، لأنَّ أهلية المِلْكِ لم تثبتْ له، فامتَنَعَ الإخبارُ عن سابقٍ، [وينبغي أَنْ يكونَ كالإقرارِ للعبدِ] (¬2). * * * القاعدة الثانية استعمالُ الصَّريحِ والظَّاهِرِ والعُرفِ ولازِمِ اللفظِ فِي صيغهِ الإقرارِ فـ "فِي ذِمَّتي" صريحٌ فِي الدَّين و"عليَّ" ظاهِرٌ فيه، إلَّا إنْ وَصَلَه بقولِهِ: "وديعةٌ". فإنْ فَصَلَه وأحضرَهُ فالقولُ قولُهُ على الأظهرِ. وإنْ تلِفَ فهو مضمونٌ على المنْصوصِ خِلافًا للرافِعِيِّ، ومَن تَبِعه. و"معي": صريحٌ فِي العينِ، و"عندي": ظاهِرٌ فِي ذلك، و"قِبَلِي": كـ "عليَّ"؛ على النصِّ. و"نَعَمْ" و"بَلَى" لِجوابِ: "لي عَلَيكَ" إقرارٌ. وكذا: "أَجَلْ" و: "صدقْتَ" وكذا: "لَعَمْرِي"، إن كان العُرْفُ يقتضِيهِ. ¬
ولجوابِ: "أليس لِي عَلَيك كذا": "بَلَى"، وكَذَا "نَعَم"، حَمْلًا على العُرفِ، لا على دقائِقِ العربِيةِ. ويلزمُ فِي قولِهِ: "أنا مُقِرٌّ بِهِ"، أو: "لسْتُ مُنْكِرًا له"، ولو أسقط به أوْ لَهُ، فليس بِإقرارٍ، وكذا: "لا أُنكرُ أَنْ يكونَ مُحِقًّا". ولو قال: "أنا أُقِرُّ لك بِهِ"، فوجهانِ؛ الأرجحُ (¬1) عدمُ اللُّزومِ. ومِن لازِم اللفظِ: "أبرأتَنِي" و"قضْيتُهُ" (¬2)، ولا يَتخرَّجُ على تعقيبِ الإقرارِ بما يرفعُهُ لانتِظام اللفظِ هُنا ظاهرًا (¬3)، ولا نَظَرَ إلى التَّقريرِ. و"اشْتَرِ مِنِّي عبْدِي"، فيقولُ: "نَعَم"، فيكونُ أقرَّ له (¬4) بالمِلْك، وكذا "بِعْنِي الذي تدَّعي" لا "صالِحْنِي"، لِظهورِ إرادةِ قَطْع المُنازعةِ. و"أعتقتَ نصيبَك"، والمقولُ له موسِرٌ منكرٌ، وحلف، يَعْتِقُ نصيبُ القائِل بلازِم ما ذكره ويتحاسَبُ. و"عسى" و"لعلَّ" و"أظنُّ": ليس بإقرارٍ لعدم ما فِي أولِ القاعدةِ (¬5). ¬
القاعدة الثالثة
ومنه: "لفلانٍ عليَّ أكثرُ مِما لك"، لا يكونُ مقرًّا لواحِدٍ مِنهما، وفيه نظرٌ. وما ظَهَرَ فِيهِ الاستهزاءُ لا يلزمُ مِثلُ: "زِنْ" و"خُذْ" و"اتَّزِنْ" و"شلْ فِي هِمْيَانِك، واختِمْ عليه". فإن وُجِدتْ قرائِنُ الاستهزاءِ كتحريكِ الرأسِ ونحوِهِ وما يلزمُ (¬1) لولا القرائِنُ، فالأقربُ ليس بإقرارٍ. ولو شَهِد عليه واحِدٌ، فقال: "هو صادقٌ، أو عدلٌ"، فليس (¬2) بإقرارٍ، فإنْ أضاف إلى ذلك فيمَا شَهِد به، فإقرارٌ إلَّا أَنْ يظهرَ الاستهزاءُ. وإن شَهِد عليَّ شاهدانِ بكذا فهُما صادقان، فإقرارٌ، وإنْ لم يشهَدَا على ما صححوه، والأرجَحُ خِلافُهُ. وإن قال: "صدَّقْتُهما" فليس بإقرارٍ قطْعًا؛ لأنَّ غيرَ الصَّادِقِ قد يصدُقُ. * * * القاعدة الثالثة (¬3): المُقَرُّ بِهِ لا يلزمُ فيه إلَّا اليقينُ قال الشافعِيُّ -رضي اللَّه عنه-: "أصلُ ما أبْنِي عليهِ الإقرارَ أنِّي ألزمُ الناسَ أبدًا (¬4) اليقينَ، وأطرحُ عنهُمُ الشَّك، ولا أستعملُ عليهمُ الأغلَبَ". ¬
واعتمَدَ ذلك أصحابُهُ إلَّا فِي يسيرٍ، فشيءٌ (¬1) يفسَّرُ بما لا يُتمولُ، ونَجِسٌ يُقتنى، وينجُسُ مُطلقًا فِي: "غصبتُ منه شيئًا" وأمَّا (¬2): "غصبتُك" أو: "عصيتُك ما تعلم"، فلا يلزمُهُ شيءٌ؛ لأنَّه قد يغصِبُه نفسَه. وكذا كـ"شيءٍ"، و"مالٍ (¬3) عظيم" أو كثيرٍ، ونحوِ ذلِك، أو أكثرَ مِمَّا لفلانٍ (¬4) أو مِمَّا شهِد (¬5) بِهِ الشهودُ على فلانٍ يُقبلُ بأقلَّ متمولٍ لاحتمالِ إرادةِ عظيمٍ خطرُهُ، ونحو ذلك. وكذا ثمرةٌ ومستولدةٌ، وفِي الوقتِ (¬6) احتمالٌ. وكذا درهمًا يلزمه درهمٌ. وكذا لو خَفَّض الدرهَمَ أو رفَعَهُ أو وَقَفَ عليه، أو كرَّر كذا مِن غيرِ عطْفٍ، فإنْ عَطَفَ بالواوِ أو بِـ "ثُم" (¬7) ونَصَبَ درهمًا، فدرهمان، وإن لم ينصبه فدرهمٌ، وألفٌ ودرهمٌ لَزِمَهُ أن (¬8) يفسر الألف بالفلوس والزبيب وغيرهما، وخمسَةَ عَشَرَ دِرْهمًا الكلُّ دراهِم. وكذا خمسةٌ وعشرونَ دِرهمًا على ما صحَّحوه، ودِرهمٌ ونصفٌ النصفُ ¬
غيرُ مبهم حمْلًا فِيهما على الغالِبِ فِي الاستعمالِ، وهُو مخالِفٌ للقاعِدةِ. وفِي نصفٍ ودرهمٍ النصفُ مبهمُ، والدرهمُ ستةُ دَوَانِقَ، كلُّ دانِقٍ ثمانِ حبَّاتٍ وخُمُسَا حَبَّةٍ، فالدِّرهمُ خمسون حَبَّةٍ وخُمُسَا حبةٍ مِن شَعيرٍ متوسِّطٍ، لم يُقَشَّرْ وقُطِع مِن طرفيْهِ ما دَقَّ وطال، ولو فَسِّرَ الدِّرْهَمُ ولو مُصَغَّرًا بناقِصٍ أو مغشوشٍ قِيلَ إنِ اتَّصل، وكذا إنِ انفَصَل، ولكن يتعارفُ، ودراهِمُ تُفَسَّرُ بثلاثةٍ. وجَمعُ (¬1) الكثرة وإنِ اقتضى أحَدَ عَشَرَ إلَّا أنه يُستعملُ فيما دُون ذلك، والأصلُ براءةُ الذِّمَّةِ. ومِن درهمٍ إلى عشرةٍ تسعةٌ كما سبق إنْ لمْ يُرد مدلولاتِهِ أسماءُ الأعدادِ، فإن أراد ذلك فخمسَةٌ وخمسونَ. ومَا بين درهمٍ إلى عشرةٍ أو عشرةٍ ثمانيةٌ. ولو (¬2) أقَرَّ بظرْفٍ لا يلزمُهُ المظرُوفُ، أو بِمظروفٍ لا يلزمُهُ الظَّرفُ، ولو قال: "دابَّةٌ بِسرجِها" لزِمَهُ كلاهُما. وكذا ثوبٌ مُطَرَّزٌ فإنْ كان مُرَكبًا فخلافٌ. والرجوعُ إلى القاعِدةِ يقتضِي أن لا يلزمَهُ الطُّرْزُ حينئِذٍ، خلافُ ما صحَّحوه. وبِالجارِيةِ لا يتناولُ الحمْلَ، وكذا بِالشجرةِ لا يتناولُ الثَّمرةَ. ¬
وعليَّ ألفٌ فِي هذا الكِيسِ يلزمُ (¬1) وإنْ لم يكُنْ فِيهِ شيءٌ، وكذا التَّمامُ إنْ نَقَصَ. وعليَّ الألْفُ الذِي فِي الكِيسِ لا يلزمُ التَّمامُ ولا الكُلُّ، إنْ لم يكُن فِيهِ شيْءٌ على الأرجَح. وعليَّ (¬2) ألْفٌ فِي هذا العبدِ يُفَسَّر بِجنايةٍ (¬3) تعلَّقتْ به، وكذا بِرهْنِهِ على الأصح، وبأنَّه أوصى لهُ مِن ثَمَنِهِ بألفٍ، وبأنَّه أقرضنِي ألفًا فصرفتُهُ فِي ثمنِهِ، وبأنَّه اشترى عَشَرةً بِهِ. ومتى (¬4) قال: "على ألفٌ فِي هذا العبدِ" فهو التِزامٌ بالألْفِ (¬5). و"فِي مِيراثِ أبِي ألْفٌ": إقرارٌ بالدَّينِ على أبِيهِ، ولم يحمِلُوه على الوَصِيَّة، مع أنَّها قد تتعلقُ بِالميراثِ فيما زاد على الثُّلثِ للأجنبِيِّ سِوى الوارِثِ (¬6) مُطلقًا. و"فِي ميراثِي مِن أبي": وعْدٌ بِهَبةٍ، والإقرارُ بالهِبةِ لا يقتضِي قَبْضَها. ¬
و"دِرهَمٌ فِي عشرة" يلزمُه درهمٌ إنْ أطْلق، وإنْ أراد الحِسابِ فعشرَةٌ (¬1) أو المعيةَ فأحَدَ عَشَرَ (¬2)؛ كذا قالوا، وهُو مُخالِفٌ لِمَا سيأتِي فِي درهمٍ مع درهمٍ، وكأنَّ المُرادَ هنا انتِفاءُ الظَّرفيةِ والمُصَاحَبَةِ، فيلزمُ أحَدَ عَشَرَ. وما تكرَّرَ بغيرِ عطْفٍ وإنْ كثُرَ لا يَلزمُ بِهِ إلَّا واحِدٌ. وكذا إنْ عَطَفَ بِـ "بَلْ" أو "لكِنْ". وفِي "دِرهمٍ ودِرهمٍ"، أو "ثُمُنِ درهمٍ"، يلزمُهُ دِرْهمان. وفِي "درهمٍ ودرهمٍ" إن أراد العطف فدِرْهمان، وإلَّا فدرهمٌ. ودِرْهمٌ مع دِرهمٍ أو معهُ أو فوقَ أو فوقَه أو تحتَ أو تحتَهُ أو على أو عليهِ: يَلزمُ فِي الكُلِّ درهمٌ. وقبلُ وبعدُ أو قبلَه أو بعدَه: لَزِمَهُ درهمانِ على النَّص، وهو مُقتضى استِعمالِ الظُّهورِ، وهو خِلافُ القاعِدةِ. ودِرهمٌ بلْ دينارٌ: يَلزمانِ. ومَن أقرَّ بقدرٍ فِي تاريخَيْنِ أو بِلُغَتينِ أو بِمُطلقٍ ومُضافٍ: لا يلزمُهُ إلَّا واحِدٌ، وإنِ اختَلَفَا لزِمَ الأكثَرُ، فإنْ وَصَفَهما بِصِفتينِ (¬3) مُختلفتَيْنِ أو أضافهما إلى سببينِ مُختلِفينِ: لَزِمَا، ويُلَفَّقُ مِنْ شَاهِدَي إقرارٍ فِي تارِيخَيْنِ المتفقُ عليه لا (¬4) فِي الإنشاءِ. ¬
القاعدة الرابعة
القاعدة الرابعة: يلزمُ العملُ بِمُقتضى الإقرارِ الصَّحِيح، ولَا يصِحُّ الرُّجوعُ عن جميعِهِ عقبَهُ ولا بعدَهُ، إلَّا فِي حدودِ اللَّه تعالى؛ كالزِّنا والسرقَةِ ويصِحُّ اتِّصالُهُ برفْع بعضِهِ أو صفتِهِ، فـ: "لهُ عليَّ ألفٌ" (¬1) لا يلزمُ قطعًا (¬2)، و: "مِن ثَمَنِ خَمْرٍ" ونحوه، يلزمُ على الأظهرِ إنْ أُخِّر الرَّافِعُ، وإلَّا فلا يلزمُ. ويلزمُ فِي: "عليَّ ألفٌ قضيتُه، أو (¬3) أبرأتَنِي منهُ" و: "عليَّ ألفٌ مُؤَجَّلٌ (¬4) إلى وقتِ كذا" يُقبل إنْ ذكرهُ مُتَّصِلًا لَا فِيما لا يَقبلُ التَّأجيلَ، [كمَا تقدَّم فِي السَّلم، وإنْ ذكرَهُ مُنفصِلًا فلَا، إلَّا فِيما يتعيَّنُ (¬5) فيهِ التأجِيلُ] (¬6). ولا يصِحُّ الإقرارُ المعلَّق كـ: "لهُ عليَّ ألفٌ إن شاء اللَّه تعالى"، أو: "إنْ شاء اللَّه لهُ عليَّ ألفٌ"، فلا يلزمُ العملُ بِهِ. و"غصبتُ هذِهِ الدَّارَ من زيدٍ، بل مِن بكرٍ"، سُلِّمَتْ لزيدٍ، ويَغْرَمُ قيمتُها لبكرٍ على الأظهر لِلْحيلولةِ القوليةِ، واللَّه تعالى أعلم. * * * ¬
ضابط
* ضابطٌ: كلُّ حيلولةٍ قوليةٍ فِي الغُرم بها قولان: الأظهرُ الغُرْمُ إلَّا فِي الشُّهودِ الراجعينَ بعدَ الحُكم فِي الطلاقِ البائِنِ، فإنَّهم يَغْرَمون قطْعًا، إذْ لا مُسْتَدْرِك له، ذكره فِي "النهاية" فِي النكاح. وكلُّ حيلولةٍ قوليةٍ يَغْرَمُ المُحِيلُ فيها (¬1) إلا فِي صورٍ: منها: اعترافُ السَّيِّدِ لمُدَّعِي المِلْكِ فِي عبدِهِ (¬2) بالمِلْكِ، ثُم يعترفُ للعبدِ بالعِتْقِ. ومنها: لو قال بالِغٌ: "هذا أبي" (¬3)، ثُم قال لغيرِهِ: "بل هذا أبي"، ومثلُهُ يَعْتَرِفُ (¬4) بالولاءِ لشخصٍ ثُم لغيرِهِ (¬5). ومنها: يُقِرَّ بالسَّبْقِ لبعض ثلاثةٍ (¬6)، ثُم يقرُّ بالسبقِ لآخَرَ. * * * ¬
ولو قال: "غصبتُ هذِهِ الدارَ مِن زيدٍ (¬1)، ومِلْكُهَا لبكرٍ" لم يَغْرَمْ لبكرٍ على المذهبِ. وأما رَفْعُ بعضِ (¬2) المُقِرِّ بِهِ بالاستثناءِ فجائِزٌ إنِ اتَّصل، فالمستغرِقُ باطلٌ إلَّا إن أعقبه باستثناءٍ ناقِصٍ كعشرةٍ (¬3) إلَّا عشرةً إلَّا أربعةً، فيلزمُهُ أربعةٌ على الأقْيَسِ، وإنَّما يبطلُ المستغرَقُ (¬4) إذا كان باستثناءٍ واحدٍ؛ فأمَّا باستثنائَيْنِ (¬5) فيبطُلُ الأخيرُ (¬6) كعشرَةٍ (¬7) إلَّا خمسةً وإلَّا (¬8) خمسةً. ولا يُجمع المُفرَّقُ فِي المعطوفِ فِي المُستثى منهُ ولَا فِي المُستثنى إلَّا إذا كان المُستثنى لو جُمِع مُفَرَّقُهُ (¬9) لم يستغرقْ، كثلاثةِ دَرَاهِمَ إلَّا دِرْهمًا ودِرْهمًا، فإنَّه يلزمُهُ درهمٌ. والاستثناءُ مِن النَّفْي إثباتٌ، ومِنَ الإثباتِ نفيٌ، ونفيُ النَّفِي إثباتٌ. ¬
وفِي عشرةٍ إلا تسعةً (¬1) وهكذا إلى واحِدِ يلزمُهُ خمسةٌ. ومِن النَّفِي كـ: "ليس لهُ عليَّ شيءٌ إلَّا عشرةً" يلزم عشرةٌ (¬2). وفِي "ليس لهُ عليَّ عشرةٌ (¬3) إلَّا خمسةً" لا يلزمهُ شيْءٌ على الأصحِّ. ويصحُّ الاستثناءُ مِن المُعَينِ وغيرِ (¬4) الجِنس، ويُفسر فِي غيرِ الجِنس بِما لَا يستغرِقُ، [(¬5) فإنْ فُسِّر بِما يَستغرِقُ بَطَلَ الاستثناءُ على الأصحِّ، وإنَّما يلزمُ العملُ بِمقتُضى الإقرارِ إذا كان فِي يَدِ (¬6) المُقرِّ، فلو أقرَّ بحريةِ عبدِ غيرِهِ، ثُم اشتراه حُكِم (¬7) بحُريَّتِهِ، ويكونُ فِداءً مِن جهةِ المُشْتري بَيْعًا مِن جِهةِ البائِع. وليس لنا موضِعٌ يتبعَّضُ فيهِ العقدُ (¬8) هكذا إلَّا فِي هذا الموضِع. وحُكمُ (¬9) الخيارِ تقدَّم فِي بابِهِ. ويُوقفُ الولاءُ. وإِنْ ماتَ فليسَ لِلْمشترِي أخْذُ شيء مِن مالِهِ، وَإِنْ قال: هُو حرُّ الأصل، وإن قال: "إنَّ بائِعَه أعتقهُ" فظاهِرُ النَّص كذلك. ¬
وذَهَبَ الأكثرونَ إلى إثباتِ ما قالهُ المُزَنِيُّ مِن أنَّ المشتري يأخُذُ قدْرَ الثمنِ مِن تركتِهِ. وفِي: "غَصَبْتُهُ مِن زيد" ثُم اشتراه، صحَّ على ما صحَّحوه، ويُسِلِّمُهُ لزيدٍ. ولوِ استأجَرَ مَنْ أقرَّ بحُريتِهِ لم يحِلَّ لهُ استخدامُهُ، وللمُكْرِي مطالبتُهُ بالأُجرة، وليس لنا نظيرُهُ. ولو قال: "مَن فِي يدِهِ عبدٌ: "هو لزيدٍ" فقال العبدُ: "أنا لِبكرٍ"، سُلِّم لزيدٍ، فإنْ أعتقه لم يسلَّمِ اكتسابُهُ إلى بكرٍ على الأرجح، واللَّه سبحانه وتعالى أعلم. * * *
باب العارية
باب العارية هِي بتشدِيدِ الياءِ فِي اللُّغةِ المشهورةِ، نسبةً (¬1) إلى العارَةِ أو العَارِ، ويُقال: بتخفيفِ الياءِ (¬2)، ويُقال: عَارَهُ، والمصدرُ: إعارةٌ، وأصْلُها مِن العارةِ، وهِي السُّرعةُ، أو: مِن "عَارَ" إذا ذَهَبَ وجَاءَ، أو: مِن التَّعاوُرِ وهُو التَّناوبُ، أو: مِن العَارِ، لأنَّ فِي طلبِها عارًا. . آراء. وهي فِي اللُّغة: عبارةٌ عن إذنٍ فِي استيفاءِ منفعةِ عينٍ بغير عِوَضٍ، وقد يُطلقُ على القرْضِ عاريةٌ. وفِي الشَّرع: عبارةٌ عن إذنٍ مِن أهْلِ التَّبرُّع لأهلِ التَّبَرُّع عليه القابِلِ للضَّمانِ اختيارًا فِي استيفاءِ منفعةٍ مملوكةٍ أو مختصَّةٍ قويَّةٍ مباحةٍ معلومةٍ بِلا عِوض مع بقاءِ مِلْكِ الرَّقبةِ (¬3)، قيل: أو عين تابعةٍ للرقبةٍ، ورُجِّح، وقيل: هي هبةٌ للمنافِع مع استيفاءِ ملْكِ (¬4) الرقبةِ (¬5). ¬
وأصلُها قولُه تعالى: {وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ} فسَّره جَمْعٌ بما يُستعار. وعنِ ابنِ مسعودٍ -رضي اللَّه عنه-: كُنَّا نعدُّ الماعونَ على عهدِ رسولِ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- عاريةَ الدَّلْوِ (¬1) والقِدْرِ. أخرجه أبو داود (¬2). وفِي "الصحيحين" عن جابِرِ بنِ عبدِ اللَّه -رضي اللَّه عنهما- عنِ النبيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- لمَّا سُئل عنْ حقِّ الإبِلِ والبقرِ والغنمِ قال: "إطْرَاقُ فحْلِها، وإعارَةُ دلوِهَا، ومِنْحَتُها" (¬3). وقد استعارَ رسولُ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- فرسًا لأبِي طلحةَ. رواه الصحيحان (¬4). ¬
وعن أُميةَ بنِ صفوانَ عن أبيهِ أنَّ النبيَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- استعارَ مِنهُ (¬1) يومَ حُنينٍ أدراعًا وقال: "عَارِيَة مَضْمُونَةٌ". رواه أبو داود والنسائي (¬2). ¬
وعن أبي أُمامة سمعتُ رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يقولُ: "العارِيَةُ مُؤَدَّاةٌ". رواه أبو داودَ والترمذيُّ وابنُ ماجه (¬1) وقال: حديثٌ حسنٌ (¬2). ¬
وهِي مجمعٌ على جوازِهَا. وقد قيل: كانتْ واجبةً فِي ابتِداءِ الإسلام، ثُم (¬1) نُسِخَ ذلك، وقد تَجبُ الآن لعارِضٍ، على قولٍ أو رأي أو جزمًا. فعاريةُ الجدارِ لوضْع جُذُوع الجارِ تجِبُ على قولٍ نُسب إلى القدِيم، ونصَّ عليه فِي البُويطي، لحديثِ أبي هُريرةَ -رضي اللَّه عنه- عنِ النبيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لا يَمْنعَنَّ جارٌ جارَهُ أَنْ يغرِزَ خشبَهُ فِي جدارِهِ" أخرجاه فِي "الصحيحين" (¬2). ¬
وشرطوا للوجوبِ أَنْ لا يحتاجَ المالكُ لوضْع جُذُوعِهِ، وأنْ لا يزيدَ الجارُ فِي ارتفاع الجِدارِ، ولا يبنِي عليه أزجًا، ولا يضعُ عليهِ ما يضُرُّ الجدارَ، وأنْ لا يَمْلِكَ لما يُسْقِفُ عليه شيئًا مِن الجدرانِ، أو لا يملِكُ إلَّا جدارًا واحِدًا. وقيل: لا تجِبُ إلَّا أن يملِكَ (¬1) صاحِبُ الجُذُوع ثلاثَةَ جُدُرٍ، واحتاج لِرابع (¬2). وعاريةُ كتابٍ كَتَبَ صاحِبُهُ عليهِ (¬3) سماعَ غيرِهِ، أو كتَبَ بإذنِهِ، تجِبُ على رأي الزُّبيريِّ ليكتبَ نُسخةَ سماعِهِ (¬4). وقد تجِبُ جَزْمًا عند تعيُّنِها لدفْع المفسدةِ كوجودِ مريضٍ مُلْقى فِي (¬5) الطريقِ، ودفْنِ ميتٍ فِي أرضِهِ حيثُ تعذَّرَ الاستِئْجارُ. ولا بُدَّ مِن لفظٍ دالٍّ على الإذْنِ فيها كـ: "أعرْتُك"، أو: "خُذْهُ لِتنتفِعَ بِهِ"، أو ما أشبهُهُ، أو "أعِرْنِي" فتعطِيه (¬6)، فيُعتبرُ اللفظُ مِن طرفٍ على المرجَّح (¬7). واعتبرَهُ الغزالِيُّ مِن جهة المُعيرِ (¬8)، ولم يعتبرْهُ المُتولِّي مِن الطرفَيْنِ، واكتَفَى بالدِّلالةِ على الإذنِ، كبسْطِ فُرُشٍ للضيفِ ونحوِهِ، بخلافِ فُرشٍ ¬
مبسوطٍ لغيرِ مُعينٍ، فإنَّه لا يكونُ عاريةً لِمن جَلَس بلا تَعَدٍّ. واستعمالُ الظرفِ المبعوثِ فيهِ الهديةِ بأكلِ ما فِي القصْعةِ ونحوِهِ يكونُ بالعارية عندَ العبَّادي. والأرجحُ أنه يكون. هبةً للمنفعةِ أيضًا، فلا (¬1) يكونُ ضامِنًا، كمَا أنَّ هبةَ (¬2) منافِع الدارِ لا تكونُ إعارةً للدارِ على الأرْجَح. ولا تصِحُّ مِن صبيٍّ ولا سفيهٍ إلَّا فِيما يتعلَّقُ ببدنِهِ غير مقصودٍ، وإلَّا فِي مثْل إذْنِ الأبِ فِي خدمةِ الصغيرِ فِيما لا يقصدُ، ولا مِن العبدِ ولو مكاتبًا إلَّا بإذْنِ سيدِهِ. ولا يستعيرُ الصبيُّ ولا السفيهُ ولا العبدُ ولو مُكاتبًا (¬3) إلَّا بإذْنِ سيدِهِ. ولا تَجوزُ إعارةُ طعام (¬4) لأنَّ منفعتَه باستهلاكِهِ. وللمستأجِرِ أن يُعيرَ، وكذا الموقوفِ عليه، والموصَى له بالمنفعةِ. وليسر للمُستعِيرِ أَنْ يُعيرَ بغيرِ (¬5) إذنٍ (¬6) فِي الأصحِّ؛ ولكِنْ (¬7) لهُ أن يستنِيبَ ¬
كمن يرسلُهُ فِي حاجتِهِ (¬1) على دابَّةٍ استعارَهَا للرُّكوبِ إذا لم يكنْ أثقلَ منهُ. وتَصِحُّ مِن صاحِبِ الكلبِ إعارتُهُ لأنه مُختصٌّ بمنفعتِهِ، وكذا الهَدْيُ والأُضحيةُ المنذورانِ (¬2) للرُّكوبِ، وكذا جلدُ الأُضحيةِ. ولا تَصحُّ إعارةُ الدراهِم والدَّنانيرِ على الأصحِّ، لأن منفعتَهُما للتزيينِ وهِي ضعيفةٌ (¬3)، فإنْ صَرَّح بالاستعارةِ للتزيينِ صحَّ فِي جوابِ المُتولِّي ومَن تَبِعَهُ. والتحقيقُ: لا فرْقَ. وأمَّا تُفاحةٌ للشَّم (¬4) ونحوِ ذلك، فيظهرُ الجوازُ بخِلافِ الإجارةِ لاعتبارِ (¬5) المقابلة فِيها. وتحرمُ إعارةُ الصيدِ مِن المُحْرِمِ، والجاريةِ للاسْتمتاع، وكذا الحسناءِ للخِدمةِ مِن غيرِ مَحْرَمٍ، أو امرأةٍ، وتفسدُ، خِلافًا للغزالِيِّ. وتكرهُ استعارةُ أحدِ أصولِهِ للخِدمةِ، وكذا المسلِم مِنَ الكافِرِ (¬6). ولا بُدَّ مِن تعيينِ نوع المنفعةِ فِيما يُنتفعُ بِهِ بأنواع؛ فإنْ عمَّم فوجهان، الأرجحُ الجوازُ، و"أعرتُك حِمارِي لِتعلِفَهُ" ونحوه، إجارةٌ فاسدةٌ تُوجبُ ¬
وقواعد الباب ثلاث
أجرةَ المِثلِ دونَ ضمانِ الرَّقبةِ (¬1). ومِن ذلك يُعلمُ أنَّ النفقَةَ على المالِكِ دونَ المُستعيرِ، وهو الصَّوابُ، خِلَافًا للقاضِي الحُسين. وإنْ تبرَّع المستعيرُ بِها لم يرجِعْ، ويصحُّ عند القاضِي أبي الطَّيْبِ، ومَن تبِعَه إعارةُ الشاةِ لأخذِ لبَنِها، والشجرةِ لأخْذِ ثمرتِها، ونحو ذلك. وتصحُّ إعارةُ الفحْلِ للضِّراب قطعًا، وليس لنا عاريةُ عينٍ لعينٍ إلَّا فِيما ذُكر، ولا يُعتبر تعيينُ المُستعارِ عندَ العارِيةِ عند المتولِّي. * * * وقواعِدُ البابِ ثلاثٌ (¬2): * الأولى: الانتفاعُ بحسبِ الإذْن فِي التَّعميم والتَّخصِيصِ والمُعتادِ، وينتفعُ مثلَ المأذونِ ودونهُ ما لم يُنْهَ (¬3). * الثانية: وجوبُ ردِّها ومَؤنَتُه عندَ ارتِفاع العارِيَةِ وضمانُها على المُستعيرِ، ولو ¬
أرْكبَ تصدقًا ويضمنُ (¬1) عند حصولِ التَّلف لا بالاستعْمَالِ الجائِزِ، إلَّا فِي عَقْدِ الظَّهْر عند القفَّالِ، وإلَّا (¬2) فِي الهَدْي والأُضحيةِ، ويضمنُ المُعيرُ أيضًا (¬3). وليس لنا عاريةٌ جائِزةٌ -مَعَ العِلْم بالحالِ- يضممنُ المُعيرُ فِيها إلَّا فِي هذهِ الصورةِ. ويُسْتثنى مِن القاعدةِ على المرجح: المستعارُ للرهْنِ إذا تَلِفَ فِي يدِ المرتَهِنِ (¬4) والمستعارِ مِن مستأجِرٍ خِلافًا لترجيح الهروِي أو من موصًى (¬5) لهُ بالمنفعةِ على الأصحِّ (¬6). وخرَّجْتُ على ذلك: المستعارُ من موقوفٍ عليه أو مِن (¬7) مالِكِ منفعةٍ بصداقٍ أو خُلْعٍ أو صُلْحٍ أو سَلَمٍ، فإنَّ جَمِيع ذلك لا ضمانَ حيثُ لا تعدٍّ لا بتأييدِ المُستعيرِ على يدِ مُستحقِّهِ للمنفعةِ ليستْ ضامنةً للعينِ. وكذلك لا ضمانَ فِي جِلْدِ الأُضحيةِ، والكلبُ لَا ضمانَ فيهِ، ولا فِيما استعارهُ الصَّبيُّ والسفيهُ، إلَّا إذا أتلفاهُ] (¬8). ¬
ولا (¬1) ضمانَ فِي إعارةِ الدَّراهِم والدَّنانِيرِ إذا (¬2) فرَّعنا على بُطلانِ العارِيةِ على الأفقهِ إذْ لَا منفعَةَ لَهَا تُستعارُ بِسببها (¬3)، فلم تُوجدِ العارِيةُ؛ خلافًا لِمن صحَّح خِلافَ ذلك. وعلى هذا تنطَبِقُ قاعدتُهُم: الفاسدُ كالباطِل إلَّا فِي الحجِّ، والعارِيةِ، والخُلْع، والكِتابةِ. ولا يميلُ للبطلانِ (¬4) الذِي لَا ضمانَ فيهِ بما يستعيرُهُ الصبِيُّ والسفيهُ؛ لأنَّ عَدَمَ الضمانِ جاء مِن تفريطِ المُعيرِ. وكلُّ عقدٍ توجَّه (¬5) الإبطالُ فيهِ لِعدم أهلِيَّةِ العاقِدِ يُخالِفُ (¬6) الفاسِدَ كما فِي الإجارةِ والرهنِ، ونحوِهِما، فيَضمنُ الواضِعُ فِي الباطِلِ دونَ الفاسِدِ. وكذا يخالِفُ الفاسدُ الباطلَ فِي البَيْع مِن غيرِ الأهلِ أو بما لَا يُقصدُ (¬7)، فيُحَدُّ لو وَطِئَ مع العِلْم، بِخِلافِ الفاسِدِ للشبهةِ فيهِ فكثيرٌ ما يردُ على قاعدتِهِم. ¬
القاعدة الثالثة
ولهم ضابطٌ، وهو (¬1) فاسدُ كلِّ عقدٍ كصحيحِهِ فِي الضَّمانِ وعدمِهِ، فإنْ أُريد بالفاسِدِ ما يعمُّ الباطِل استثني ما سبق فِي الدراهِم والإجارةِ والرهنِ من غيرِ الأهْل كالصَّبيِّ والسفيهِ. واستثنى القاضِي الحُسينُ مِن الضَّابِطِ الشِّرْكةَ، فإنْ صحيحَهَا لا ضَمانَ فيهِ بأجرةٍ بِخِلافِ فاسِدِها، والمسابقةُ والمناضلةُ صحيحُهُما مضمونٌ بِما سُمِّي، وفاسِدُهُما لا ضمانَ فيهِ. والأصحُّ فِيهما وجوبُ الأُجرةِ. ومِمَّا يُستثنى: الهبةُ الصحيحةُ لا ضمانَ فيها، والفاسدةُ تُضمنُ على رأي مرجوح. [وضمانُ العاريةِ] (¬2) بقيمةِ يَوْمِ التَّلفِ على الأصحِّ، كالمُسْتِام عندَ قومٍ (¬3). وسبقتْ قاعدةُ المضموناتِ فِي القَرْضِ. * * * * القاعدةُ الثالثةُ: الجوازُ مِنَ الجانِبينِ فِي المُطْلَقةِ والمُقيدةِ، إلَّا إذا استعار أرضًا لدفْنِ ميتٍ محترَم ودُفِنَ: فإنه لا يرجِعُ ما (¬4) لم يندرِسْ أثرُ المدفونِ. ¬
ولم يُجَوِّزوا له الرجوعَ وَطَلَبَ (¬1) الأُجرةِ مِنَ المُستعيرِ إلى الاندِراسِ، ولو قيل بهِ لم يبعُدْ، إلَّا (¬2) إذا استعار للرَّهنِ وَرَهَنَ، وقَبَضَ المُرْتَهِنُ، وقد سبق التنبيهُ على هذا (¬3) فِي باب الخيار. ويُزاد على ذلك كلُّ موضِعٍ تجِبُ فيهِ العاريةُ فَلَا رجوعَ فيها. وإذا استعار لِوضع الجُذُوع حيثُ لَا وجوبَ، فلهُ الرُّجوعُ على الأصحِّ، فيتخيَّرُ بينَ الإبقاءِ بأجرةِ المِثلِ والقلْع (¬4) وضمانِ أرْشِ النقْصِ. وتنفسِخُ التِي يرجِعُ فيها (¬5) بالموتِ (¬6) والجنونِ والإغماءِ وحَجْرِ السَّفهِ (¬7). وإذا رَجَعَ المُعيرُ والزرعُ فِي الأرضِ، فإنْ كانَ يُعتاد قَطْعُهُ كُلِّف قَطْعَهُ، وإلَّا بَقِي بأجرةٍ المِثل على الأصحِّ، وإنْ كان بناءً أو غراسًا (¬8) موضوعًا بِمُقتضى العارِيةِ، ولم يمكنْ رفعُهُ إلَّا بنقصٍ، ولم يُشترطِ القلْعَ، فالنصُّ أنَّه يتملَّكُهُ (¬9) بقيمةِ يومِ التلفِ (¬10). ¬
وفهِمَ الأصحابُ مِنَ النَّصِّ دفْعَ الضررِ، فخيَّروا (¬1) مالكَ الأرضِ أو مَنِ انتقَلَ إليه منهُ بينَ أَنْ يقلعَ ويضمَنَ (¬2) ما نَقَصَ مِن ثمرتِهِ وقيمتِهِ قائمًا بالصِّفةِ المذكورةِ. ومَؤُنةُ القَلْع على صاحِبِ البِناءِ على الأصحِّ، وبينَ أَنْ يتملَّك بالقيمةِ، وبين أن يبقى بالأجرة، وما اختارَهُ المالِكُ مِن ذلك، ووافقه عليه صاحِبُ البناءِ، أو مَن انتقل إليهِ منه فُعِلَ. فإنْ أبى، فإنْ كان الذِي اختارهُ صاحِبُ الأرضِ القلعَ وضمانَ أرْشِ النقص كُلِّف صاحِبُ البناءِ (¬3) القلعَ مجَّانًا على وجهٍ، والأصحُّ (¬4) بالأرْشِ. وإنِ (¬5) اختارَ التملُّكَ بِالقيمةِ أُجيبَ إليهِ على مُقتضَى النصِّ، وقال به كثيرٌ مِن الطريقينِ كالشَّفيع، ورجَّح جمعٌ تكليفَ التَّفرِيع على ما سَبَقَ. وإنِ اختارَ الإبقاءَ بالأُجرةِ فأبى، كُلِّف التفريعُ على ما سَبَقَ. وإن لم يختَرِ المُعيرُ شيئًا أعرَضَ الحاكِمُ عنهما على الأصحِّ. وإذا قَلَعَ المُستعيرُ باختيارِهِ لزِمهُ تسويةُ الحُفَرِ على الأصحِّ، إلَّا أن يشترِطَ القَلْعَ. * * * ¬
شروط التخيير بين الخصال الثلاث في الأبواب كلها
* فائدة: شروطُ التخييرِ بينَ الخِصالِ الثلاثِ فِي الأبوابِ كلِّها: * أن لَا يكونَ لصاحِبِ البناءِ شركةُ منفعةٍ فِي الأرضِ أو رقبتِها، فإنْ كان تعذَّر القلعُ والتمليكُ بِالقيمةِ عندَ المُتولي. والتحقيقُ أنه لا يتعذَّرُ بل يتملَّكُ بقدْرِ نصيبِهِ مِنَ الأرضِ، ولا يتعذَّرُ الإبقاءُ بالأُجرةِ. * وأن لا يكونَ البناءُ والغِراسُ وقفًا؛ فإنْ كان تعذَّرَ تملَّكَه (¬1) بِالقيمةِ. * وأن لا تكونَ الأرضُ موقوفةً، فإن كان، تعذَّرَ التملُّكُ بِالقيمةِ (¬2) والقلْع وضمانِ أَرْشِ النَّقْصِ مِن مالِ الوقفِ، وكذا مِن مالِ النَّاظِرِ، لتحقُّقِ فواتِ الأُجرةِ لِمُتَوَهِّم. * وأن يكونَ وُضِع بِحقٍّ (¬3) فِي غيرِ مِلكٍ أو فِي مِلكٍ ارتفع سببُهُ، فإنْ وُضِع بغصِبٍ أو شراءٍ فاسدٍ تعذَّرَ التملُّكُ (¬4) بالقيمةِ على الأصحِّ لإمكانِ القَلْع مَجَّانًا. ¬
وما وُضع فِي مِلْكٍ لم يرتفِعْ سببُهُ، أو بِما (¬1) انقطع المِلْكُ فِيهِ كما فِي صورةِ بائِع الأرضِ أو واهبها أو نحو ذلك يبقى البناء والغراس له، فتتعذر الخصال كلها، ويتعين الإبقاء بغير أجرة. وما ارتفَعَ سببُهُ بِرَدٍّ بعيبٍ أو رُجُوعٍ فِي هبةٍ أو أَخْذٍ بشفعة فِي مفْرُوزٍ بقسمةٍ صحيحةٍ مَعَ بقاءِ الشُّفعةِ، فإنه يأتِي فِيهِ التَّخييرُ كما فِي العارِيةِ. فأما فِي الفَلْسِ (¬2): فإنِ اتفَقَ الغُرماءُ والمُفلسُ (¬3) على القلْع (¬4) قُلِع، ويلزمُهُ تسويةُ الحُفَر (¬5) وغَرْمُ أرْشِ نقْصِ الأرْضِ مُقدمًا. وعند الشيخ أبي حامِدٍ: بالحِصَّةِ. وإن اختلفا فُعِلت المصلحةُ. فإنِ امتنعوا فلا يرجعُ البائِعُ إلَّا على أَنْ يتملَّكَ البنَاءَ والغِراسَ أو يُقلعَ بالأرْشِ. فإنْ كان الغِراسُ اشتراهُ المُفلسُ وغَرَسَهُ، ورَجَعَ فيهِ صاحِبُهُ فلِصاحِبِ الأرْضِ قلْعُهُ مجَّانًا على وجهٍ، لأنَّ صاحِبَهَ باعهُ مُفردًا. ¬
والزرعُ تقدَّم حُكْمُه إذ ليس يُطلبُ للبقاءِ، فإنْ كان يَبْقى سِنِين (¬1)، فهو كالغِرَاسِ. والجذعُ تقدَّم ولَا يأتِي فيهِ التَّمليكُ إذِ الجِدارُ تابعٌ لا يصلُحُ أَنْ يكونَ مَتْبوعًا. * * * * فرعٌ: إذا اختلَفَ المالِكُ (¬2) مع الزَّارع (¬3) أو الرَّاكِبِ، فادَّعى المالِكُ الإجارَةَ وغريمُهُ الإعارَةَ قبلَ مُضِيِّ مُذَةٍ لِمثلِها أجرةٌ، فالقولُ (¬4) لنا فِي الإجارةِ بيمينِهِ (¬5)، وبعدَ المُضيِّ القولُ للمالِكِ بِيمينِهِ فِي إلزامِ (¬6) أُجرةِ المِثلِ (¬7)، لَا فِي إثباتِ (¬8) المُدَّةِ والمُسمَّى (¬9). ¬
ولوِ انعَكَسَ التَّقديرُ (¬1) فالقولُ للمالِكِ بِيمينِهِ، ولا (¬2) فِي دَعْوى الغَصْبِ. وحيثُ حَصَلَ الاختِلافُ فِي الجِهةِ لَا يضرُّ على الأصحِّ، وتفارِيعُ هذا تُعرفُ مِنَ الدَّعاوَى (¬3). * * * ¬
باب الغصب
باب الغصب هو لغةً: أخذُ الشيءِ ظُلمًا، وقِيل: أخْذُ الشيْءِ جهْرًا بغلبةٍ وقوةٍ، والشيْءُ مغصوبٌ وغصْبٌ أيضًا. وشرعًا: الاسْتيلاءُ على حقٍّ مُحتَرَمٍ لِغيرِهِ تعدِّيًا، ولو فِي مِلْكِهِ كغَصْبِ الرَّاهِنِ أو المُؤجِّرِ مِلْكَهُمَا (¬1). وقد يُلحقُ بِهِ فِي حُكْمِهِ التَّعدِّي فِيما كانتِ اليدُ فِيه لحقٍّ (¬2) مِن وديعةٍ ورهنٍ واستعمالِ مَن لم يقصِدِ التَّعدِّي، كَمَنْ لَبِسَ ثوبَ وديعةٍ ظنَّه له، ولا يُلحقُ بِهِ استنِقاذُ مالِ مسلِمِ مِن حرْبِيٍّ، فلَا يضمنُ على النصِّ المقطُوع بِهِ. والأصلُ فِي تحريمِهِ قولُهُ تعالى: {وَلَا (¬3) تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} (¬4). والعموماتُ فِي تحرِيم الظُّلْم تتناولُ الغصْبَ، وقد قال النَّبِيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- فِي ¬
خُطبتِهِ فِي حَجَّته: "إنَّ دماءَكُم وأموَالَكم وأعراضَكُم حرامٌ عليكُم" رواه الصحيحان (¬1). وعنِ السَّائِبِ بنِ يزيدَ، عن أبِيهِ، قال رسولُ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لا يأخُذُ أحدُكُم متاعَ أخيه جادًّا ولا لاعِبًا، وإذا أخَذَ أحدُكم عَصَا أخِيهِ فلْيَرُدَّها إلَيهِ" رواه أبو داود والترمذيُّ، وقال: حديثٌ حسنٌ غريبٌ (¬2). وعن أنسٍ أنَّ النبيَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "لا يَحِلُّ مالُ امرئٍ مسلِمٍ إلا بطِيبِ نفسِهِ" رواه ابنُ ماجه (¬3). ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
وعن سعيدِ بنِ زيدٍ عنِ النبيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "مَنِ اقْتَطَعَ شِبْرًا مِن الأرْضِ ظُلْمًا طَوَّقه اللَّه إيَّاهُ يَوْمَ القِيامةِ مِنْ سَبْعِ أَرَضِينَ" أخرجهُ الصحيحان، واللفظُ لمسلِم (¬1). ولهُما عن عائشَةَ -رضي اللَّه عنهما- بِمعناهُ (¬2). وللبخارِيِّ عنِ ابنِ عُمر -رضي اللَّه عنهما- قال: قال النبيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "مَنْ أَخَذَ شَيْئًا مِنَ الأرْضِ بِغَيْرِ حَقِّهِ خُسِفَ بِهِ يَوْمَ القِيَامةِ إلَى سَبْع أرَضِينَ" (¬3). ولِمُسلِم عن أبِي هُريرةَ -رضي اللَّه عنه- بمعنى ما تقدَّم (¬4). وليس فِي الأحادِيثِ: "مَنْ غَصَبَ". وعلى الغاصِبِ الرَّدُّ (¬5) فِي كُلِّ وقتٍ ما دام التَّعدِّي قائِمًا مَعَ بقاءِ المغصوبِ أو بعضِهِ فِي المملوكِ أو المُختَصِّ، ولو حَدَثَتْ (¬6) فِيهِ صِفةٌ أو انتقَلَ مِن عينٍ إلى عيْنٍ أُخرى كبيضٍ تفرَّخ وبذْرٍ زَرَعَه، أو حَدَثَ المِلكُ عنده ¬
ويستثنى من وجوب الرد ثمان صور
كجلدٍ دَبَغَهَ أو خمرٍ صار خَلًّا. * * * * ويُستثنَى مِن وُجوبِ الرَّدِّ ثَمانِ صُورٍ: * إحداها: إذا مَلَكَ الغاصِبُ بالغصْبِ وذلك فِي حربيٍّ غصبَ مالَ حربيٍّ، ولا يُملكُ بالغصبِ إلَّا فِي هذِهِ الصورةِ إذْ لَا احتِرَام هنا. * الثانية: غَصَبَ خَيطًا وَخَاطَ بِهِ جِراحةَ حيوانٍ مُحتَرَمٍ، فلا يُنزعُ ما دام حيًّا وكذا لو بَلِيَ. * الثالثة: غَصَبَ لَوحًا، وأدخلَهُ فِي سفينةٍ، وكانت فِي لُجَّةٍ، وخِيفِ مِن نَزْعِهِ هلاكُ مُحتَرَمٍ مِن السَّفينةِ أو غيرِها، ولو للغاصِبِ على الأصحَّ، فلا يُنزع فِي هذِهِ الحالةِ، ولا يُنزعُ لوحٌ أدخلهُ فِي بنائِهِ وَعَفِنَ. * الرابعة: الخمرةُ غيرُ المحترَمَةِ -وهي التِي تُعصَرُ على قصْدِ الخمْرِ- إذا غُصبتْ من مُسلم لا تُرَدُّ عليهِ، وتُراق بِخِلافِ الذِّمِّي، إلَّا إذا أظهَرَ شربَها أو بيعَها. والتحقيقُ: لا تُستثنى هذِهِ، فلا يُتحققُ فيها الغصبُ الشرعيُّ. * الخامسة: غَصَبَ عصيرًا فتخَمَّر عنده يُرِيقُهُ ولا يردُّه، والتحقيقُ حملُهُ على ما قبلها. * السادسة: الخلْطُ الذِي لا يُمكنُ تمييزُ المغصوبِ معه لا يجِبُ فيهِ الردُّ، ويكونُ كالهالِكِ حُكما، ويملِكُهُ الغاصِبُ على ما صرَّح بِهِ جماعةٌ، وهو
خلافُ أصلِ الشَّافِعِي فِي البابِ، والأرجحُ ثبوت الشِّركةِ فيردُّ منه (¬1) مع أرْشِ النقْصِ فِي الخلْطِ بالأردَإِ، وفِي الأجودِ يُباع، ويُقسم الثَّمنُ على نسبةِ القِيمةِ، ولا يرد منه وهذه مَحلُّ الاستثناءِ. * السابعة: كلُّ عينٍ غرَّمناِ (¬2) الغاصِبَ بَدَلَها لِما أحدَثَ فِيها إمَّا على الأصحِّ أو على رأي، وهِي باقيةٌ: لا يجِبُ ردُّها على وجهٍ، وذلِك كَمَا فِي الحِنطةِ تبتلُّ بحيثُ تسْرِي إلى الهلاكِ ونحوِ ذلك، والتحقيقُ: لا تُستثْنَى ولا الأُولى، إلَّا أن يُرادَ بزوالِ التَّعدِّي ما كان مأذونًا فِيهِ شرْعًا. * الثامنة: إذا نَقَلَ التُّرابَ عنِ الأرْضِ غَصْبًا ولا غَرَضَ لهُ فِي ردِّهِ لَا يردُّه (¬3) إلَّا بإذْنِ المالِكِ على الأصحِّ (¬4)، وفِي حَفْرِ البِئْرِ لهُ طمُّها إلَّا إذا رضي المالِكُ بِعدَمِ (¬5) الطَّمِّ، ولا غَرَضَ إلَّا رفْعُ خطرِ ضمانِ ما يسقطُ فيها بالحفْرِ، وكذا لو مَنَعَهُ مِن الطَّمِّ عند المُتولِّي، خِلافًا للإمام. * * * * ضابطٌ: مَؤُنَةُ الردِّ واجِبةٌ على الغاصِبِ بِلا (¬6) خِلافٍ إلَّا فِي صورةٍ واحدةٍ وهِي الخمرةُ المُحتَرَمةُ، فإنَّ الواجِبَ فيها التَّحلِيةُ (¬7) عندَ المُحقِّقِين. ¬
والغاصب ضامن وإن كان غير مكلف إلا في عشرة مواضع
وَقَطَع الشيخ أبو محمَّدٍ بِوجُوبِ مُؤْنتِهِ وهِي واجبةٌ (¬1) لأنَّ صاحِبَها يَغْرَمُ على نقلِها ما يضمنُ مِثلَهُ، وينبغِي أن يَجْرِي ذلك فِي الكلْبِ ونحوِهِ، ولم يذكرُوه، بل جَزَموا بوُجوبِ مَؤُنة الرَّدِّ. * * * * والغاصبُ ضامنٌ وإن كان غيرَ مكلَّف إلَّا فِي عَشَرَةِ مَوَاضِعَ: * أحدها: الحربِيُّ إذا غَصَبَ مالَ مُسلم أو ذِمِّيٍّ فإنْ أسلم أو عُقدتْ له ذِمَّةٌ بعدَ الفواتِ فلا ضمانَ أيضًا، وإنْ كان قبلَهُ وَجَبَ الردُّ، ويُعلقُ الضمانُ حينئذٍ. * الثاني: الباغِي إذا غَصَبَ شيئًا فِي حال القِتال و (¬2) أتلفَهُ أو تَلِفَ فِي حال القِتال بسبب (¬3) لقتال كما لو اختُطِف منه آلةُ حرْبٍ (¬4) فَخَرَقها أو رماها البَحْر مثلًا، فلا يضمنُ على أصحِّ القولين، كما لا يضمنُ (¬5) العادِلُ قطعًا. * الثالث: أهلُ الشَّوكةِ بِلا تأويل (¬6) حُكمهُم فِي ذلك كالبُغاةِ على الأصحِّ. * الرابع: أهلُ الشَّوكةِ مِن المُرتدِّينَ، فيهم القولان كالبُغاة، وأظهرُهما (¬7) ¬
عند بعضِهم: لا ضمان، خِلافًا للمزنِيِّ والبغويِّ (¬1). * الخامس: غَصَبَ العبدُ غيرُ المكاتَبِ شيئًا (¬2) لمالِكِه، وأتلفَهُ لا ضمانَ عليه. * السادس: غَصَبَ مَا لَا قيمةَ له، ولكنه مِن جِنس المتقوَّم، وأتلفهُ، لا ضمانَ، نصَّ عليه. * السابع: غَصَبَ عبدًا يجبُ قتْلُهُ لحقِّ اللَّه تعالى بردَّةٍ ونحوِها، فقتَلَهُ أو تَلِفَ فِي يدِهِ بالحالةِ المذكورةِ لا ضمانَ عليه. * الثامن: جميعُ المختصَّاتِ من خَمْرٍ وكلب وسِرْجِين، ونحوها، إذا أُتلفت أو تَلَفَتْ (¬3) تحت اليدِ العاديةِ لا ضمان فيها، سواء كانت لمسلِمٍ أو ذِمِّيٍّ. * التاسع: منفعةُ الكلبِ المغصوبِ لا تُضمنُ أيضًا وصيدُهُ للغاصِبِ. * العاشر: الصبيُّ الذي لا تمييزَ له أو المجنونُ (¬4) الضاري اختَطَفَ (¬5) شيئًا وأتلفَهُ، ففِي تعلُّقِ (¬6) الضمانِ بِهما وجهان، ذكره الشيخُ أبو محمد، ولو أَمَرَهما آمِرٌ فأتلفَاهُ، تعلَّق الضمانُ بالآمرِ دونَهما على الأصحِّ. ¬
وتظهر بقية مقاصد الباب بذكر ثلاث قواعد
وتظهرُ بقيةُ مقاصِدِ البابِ بِذِكْرِ ثلاثِ قواعِدَ: (1) إحداها الاستيلاءُ المُضَمَّنُ مدارُه على العُرف والإتلافُ المُضَمَّنُ يكونُ بِالمباشَرَةِ والسَّببِ (¬1) والشَّرْطِ ولا يعتَبَرُ قصدُ الاستيلاءِ إلَّا فِي دُخولِ العقارِ عند غَيبة المالِكِ، ولا القبض فِي البيع ونحوِهِ، فيضمنُ بركوبِ دابةٍ وجلوسٍ على فراشٍ تعدِّيًا، وإن لم يُنقل على الأصحِّ (¬2). فإنِ (¬3) اشتَرَك مع المالِكِ فِي الجلوسِ ضمِن النصْفَ كما فِي دُخول العَقارِ معه بلا إزعاج إلَّا إنْ كان الداخِلُ ضعِيفًا لا يُعَدُّ مُسْتوليًا، فلَا يضمنُ شيْئًا. والإزعاجُ فِي العقارِ أو فِي بعضِهِ مُضَمَّن لما حصل الإزعاجُ فيه. وإن لم يدخلِ الظالِمُ والحرُّ لا يضمنُ بالاستيلاء، ولا ما عليه، ولَا مركوبُهُ، ولوِ استولى على حيوانٍ فتبِعَهُ ولدُهُ الذي من شأنِهِ أن يتبَعَهُ، أو هادي الغنم، فتَبِعَهُ الغنمُ: لا يضمن التابع على الأصحِّ إذا لم يَستَوْلِ عليه. لكنْ إذا مات الولدُ بسببِ تعذُّر شُربِ اللبنِ عليه، فقياسُ ضمان السَّخْلةِ والفرْخ فِي صورةِ (¬4) ذبْح الشاةِ والحمامةِ لِفقْدِ ما يصلُحُ له أن يضمَنَ هُنا. ¬
ولو مَنَعَ الظالمُ المالكَ مِنْ سَقْي ماشيتِهِ أو غرسِهِ أو زرعِهِ فَفَسَدَ، فالأرجحُ الضمانُ، خلافًا لما صححه فِي "الروضة" (¬1). ويضمنُ لو فَتَحَ زِقًّا فانْدَفَقَ (¬2) ما فيهِ بالفَتْح، أو تَقَاطَرَ شيئًا فشيئًا حتَّى ابْتَلَّ أسفلُهُ وسَقَطَ (¬3)، أو أذابتْهُ الشمسُ فَضَاع، أو جَرَدَ عناقِيدَ العِنبِ للشمس، أو حَلَّ رِباطَ سفينةٍ فغرِقَتْ بالحَلِّ لا بِهُبوبِ الرِّيح فيها، أو وبالزِّقِّ (¬4)، وفيه نظرٌ (¬5). ويضمنُ بفتحِهِ عن غيْرِ عاقِل فيخرُجُ حالًا أو تثِبُ (¬6) هِرَّةٌ فتأكُلُ الطيرَ حالًا، أو هيَّجه حتى طار. ويضمنُ القَفَصَ لو كسرهُ الطائرُ المضمونُ أو كَسَرَ قارورةً فِي خروجِه. ويضمنُ زرعًا تُتْلفِه البهيمةُ المضمونةُ خِلافًا للعِراقيين ولو نَهارًا خِلافًا للقفال، قلتُه تخريجًا، لأنه متعدٍّ. ولو حَفَرَ بئرًا فِي محلِّ عدوانٍ فتردَّتْ فيها بَهيمة أو عبدٌ فهو ضامنٌ له، وهذا مِن مِثْلِ الشرط، وتمامُ ذلك فِي الجنايات. ولا يضمنُ بأن يفتَحَ حِرْزًا، أو يدلَّ سارقًا. ¬
وكلُّ يدٍ أثبتت على يدِ الضامِنِ مِن غيرِ أن تُزيلَ ضمانَهُ فهِي ضامنةٌ وإنْ جهِل صاحِبُها (¬1) الغصْبَ. والقرارُ على مَن تلف المغصوبُ عنده بإتلافِهِ أو بتقصيرِهِ لا إنْ ذُبح بإذن الغاصِبِ وهو جاهِلٌ، فالقرارُ على الغاصِبِ. * * * * ولا يستقِرُّ على اثنينِ إلَّا فِي صورتينِ: (1) إحداهما: إذا قَدَّم الطعامَ المغصوبَ لإنسانٍ وقال: "هُو فِي مِلْكي" فأكلهُ وهو جاهِلٌ بالحالِ، فغُرِم الآكلُ، لا يرجِعُ على الغاصِبِ، على الأظهرِ، وإن غُرِّم الغاصِبُ لا يرجِعُ على الآكِلِ على المذهبِ. (2) الثانية: فِي الهبةِ، لا يرجِعُ الواهِبُ إذا غُرم على المُتَّهِبِ، نصَّ عليه خِلافًا للمتأخِّرِين، ولا يرجِعُ المُتَّهِبُ إذا غُرم على الواهِبِ على أصحِّ القولينِ. وأما مَن تَلِف عندهُ لا بإتلافِهِ ولا بتقصيرِهِ، فإنْ عَلِم فالقرارُ عليه، وإن جَهِل فلا قرارَ عليه، إلَّا إذا وَضَعَ يدهُ على أنه ضامِنٌ، كما لو استعارَ أو اشتَرَى أو استام فالقرارُ عليه. وفِي العاريةِ والسَّوم لا يتقرَّرُ عليه الزائدُ عن (¬2) القيمةِ التي يضمنُها، ¬
(2) القاعدة الثانية
ويرجِعُ بِهِ على الغاصِبِ، كما يرجِعُ المذكورون بأُجرةِ منافِع لم يستوفوها لا بِما استوفوا، ولا بِالمهرِ (¬1) عن الوطْءِ. ويرجِعُ المُشترِي بقيمةِ الولدِ المنعقِدِ حُرًّا، وبأرْشِ نقْصِ الولادةِ، ونقْصِ بنائِهِ وغراسِهِ إذا قَلَعَ لا بِما أنفق على العبدِ وأدَّى مِن (¬2) خَراج الأرضِ، كذا قالوه. والتحقيقُ: أنه يرجعُ به على مَن أخذهُ منه. * * * (2) القاعدةُ الثانيةُ المقتضِي لِلزومِ ضمانِ البدلِ فيما يُضْمَنُ بَعْدَ ردِّ المغصوبِ لِهِلَاكٍ أو حيلولةٍ (¬3) والْهَلَاكُ: - إما حسًّا: كموتِ العبدِ، وإحراقِ الثوبِ. - أو حُكْمًا: كعصيير تخمَّر، ومائِع تنجَّس، وحِنطةٍ ابتلَّتْ، ونحو ذلك مما يَسْري إلى الهلاكِ، أو تعذَّر فيهِ ردُّ العينِ، كما فِي صورةِ الخيطِ واللوح والخَلْطِ. ومن الحكميِّ: أن يجنِيَ العبدُ (¬4) فِي يدِ الغاصِبِ بِما (¬5) يوجِبُ مالًا متعلِّقًا ¬
ضابط
برقبتِهِ، ويضمنُ الغاصبُ أقلَّ الأمرينِ مِن قيمتِهِ، وأرْشِ الجِنايةِ. ولو تَلِفَ عنده غَرِم قيمتَهُ لمالِكِهِ وغَرِمَ للمجنِيِّ عليه قيمتَه إن كانت أقلَّ مِن أرْشِ الجِنايةِ (¬1). * * * * ضابطٌ: ليس لنا موضعٌ يُغرمُ فيه بدلان بالنِّسبة إلى متلفٍ واحدٍ إلَّا فِي (¬2) ثلاثِ صورٍ: هذه. والصيدُ المملوكُ يقتلُهُ المُحْرِمُ، فإنه يغرمُ الجزاءَ، وقيمتُهُ لمالِكِهِ. وإذا وطِئَ زوجةَ أصلِهِ أو فرعِهِ بشبهةٍ، فإنه يَغرم مَهْرينِ إن كان بعد الدُّخول، ومهرًا ونصفًا إن كان قبلهُ. ولو (¬3) رُدَّ الجانِي فبِيع فِي الجنايةِ فِي يدِ المالِكِ، وصُرف الثمنُ كلُّه للجنايةِ رَجَع المالكُ بأقصى القِيم إنْ زاد، خِلافًا لقولِهِم يرجِعُ بالثَّمنِ، وإن لم يَرد الأقصى فبالثَّمنِ. ¬
ومن الإتلافِ (¬1) الحكميِّ على وجه: إعتاقُ المالكِ بإذنِ الغاصِبِ مع الجهل، فإنَّه ينفُذُ على الأصحِّ، ولا يبْرَأُ الغاصِبُ على وجهٍ مرجوحٍ. وينبغي أن يُلحقَ بذلك الوقفُ. وكلُّ ما يُزيل المِلكَ والحيلولةَ كإباقِ (¬2) العبدِ وضياع الثوبِ، ونقْلِ المغصوبِ إلى بلدٍ آخَرَ، وفِي الصورِ كُلِّها يغرمُ الغاصِبُ القيمةَ للحيلولةِ (¬3) كما يغرمُ لو ظفَرَ بِهِ فِي غيرِ بلدِ الغصْبِ مع بقاءِ المغصوبِ، ويملِكُ المالِكُ القِيمةَ ولا يملِكُ الغاصِبُ المغصوبَ. وليس لنا موضعٌ يجتمعُ فيه ملكُ البدل والمُبدل (¬4) إلا هذا، وما يرد فيه (¬5) البدلُ كسِرايةِ العينِ إلى الهلاكِ على وجهٍ، وما يُنْقَلُ مِن العصيرِ إلى الخَلِّ، ومِن البيضِ إلى الفرْخ ونحوه، على وجهٍ مُصحح (¬6)، إذ الأصحُّ: إيجابُ ردِّ الخَلِّ ونحوِهِ، وغُرْمُ أرْشِ النَّقْصِ. وإذا زالتِ الحيلولةُ ردَّ المالِكُ القيمةَ، ويتعينُ حقُّ الغاصِبِ فِي عينِ ما دفَع على الأصحِّ، فيتقدم بِها على الديونِ [عند الفَلَسِ فإنْ لم يوجدْ تَقَدُّمٌ] (¬7) فإنْ كان مُفلسًا يقدمُ الغاصِبُ بالقيمةِ فِي ثمنِ العبد على النصِّ فِي "الأم"، ¬
ولعلهُ معنى الحبْسِ الذِي نقله القاضِي الحُسين عن (¬1) النصِّ لا الحبس الصُّوري عندَ اليسارِ، فقد (¬2) صُحِّح خلافُهُ. * * * والضمانُ عند الهلاك -إن كان المغصوبُ مِثْليًّا- يُضمنُ بمثلِهِ، كما سبق فِي القرْضِ إلَّا فِي صورٍ: * إحداها: إذا ظَفَر به المالِكُ فِي غيرِ بلدِ التَّلفِ وكان المغصوبُ مما يزدادُ (¬3) بالانتِقالِ وطالَبَهُ (¬4) فِي موضِع الزيادةِ، فلا يغرمُهُ المِثل، وله تغريمُه قيمةَ بلدِ التَّلفِ، وإن (¬5) لم يكن هناك زيادةٌ بل مساواةٌ، أو نقصانٌ، فله طلبُ المِثل كما فِي القمْح يغصِبُهُ فِي موضِع، فيتلفُ فِيهِ، ثُم يجِدُهُ فِي موضع قيمتُهُ مساويةٌ لبلدِ التَّلف (¬6)، أو ناقصةٌ عنها، والتمثيلُ بالدراهِم (¬7) يرشُد لهذا. * الثانيةُ: الحُلي لا يضمنُه بمثلِهِ، وإنما يضمنُهُ مع صنعتِهِ بنقْدِ البلدِ، وصحَّح البغويُّ أنه (¬8) يضمنُ الوزنَ بالمِثل، والصنعةَ بنقْدِ البلدِ لأنَّها متقوَّمة. ¬
* الثالثة: إذا خَرَجَ المِثليُّ (¬1) عن أن يكونَ له قيمةٌ بأنْ غَصَبَ ماءً فِي مفازةٍ فطالبهُ بِهِ على شطِّ نَهَرٍ ونحوِهِ (¬2)، أو جَمْدًا فِي الصيفِ وطالبه فِي الشتاءِ، فإنه يغرمُ القيمةَ، وأما رِخَصُهُ فلا ينقلُه إلى القِيمةِ. * الرابعة: إذا اتُّخِذَ مِن المِثْليِّ غيرُ مِثليٍّ (¬3)، كحِنطة اتخَذَ منها خُبزًا، وأتلفهُ وكان المتقوَّمُ أكثرَ قيمةٍ؛ يضمنُ القيمةَ على الأرْجَح، خِلافًا للعِراقِيين فِي تضمِينِ المِثليِّ (¬4). وأما إنْ حَصَلَ مِن المثليِّ مثليٌّ فالمالكُ مُخيرٌ، وقال البغويُّ: يغرمُ المِثلَ الزائِدَ فِي القِيمةِ. وإذا أعوزه المِثلُ لِفقدِهِ أو لأنهُ لا يُباع إلَّا بزيادةِ عَدَلَ إلى القِيمةِ، والمعتَبرُ أقصى القِيم مِن وقتِ الغَصْبِ إلى وقتِ الإعوازِ على الأصحِّ من وجوهٍ كثيرةٍ، وليس ذلك (¬5) للحيلولةِ حتَّى لو وَجَدَ المِثْلَ بعد غرمها لا يردّها. والأصحُّ فِي تفسِيرِ المِثليِّ (¬6) ما ثَبَتَ (¬7) فِي الذِّمة بِسَلَمٍ مقدَّرٍ بكيل أو ¬
وزنٍ (¬1) إلَّا أن القمحَةَ والتَّمرةَ لَا ينطلِقُ عليهما (¬2) التفسِيرُ (¬3) ويُضَمَّنَانِ بالمِثل عند القفَّالِ. والضمانُ المتعلَّقُ بِذِي اليدِ العاديةِ يقتضِي ضمانَ الأجزاءِ إلَّا فِي صورةِ العصيرِ الذي أغلاه ونقصتْ عينُهُ دون قِيمتِهِ، ولَا (¬4) السِّمَنِ المُفْرِطِ، ولا ينْجَبِرُ غيرُ المُفرطِ بسِمَنٍ حادثٍ بخِلافِ تَذَكُّرِ ما نَسِي أو تعلَّمه، وشفاءِ المريضِ، ونَبْتِ السِّنِّ والشَّعرِ ففِي كلِّ ذلك (¬5) ينجَبِرُ. وأما إعادةُ صَنْعةِ الحُلِيِّ فملحقٌ بالسِّمَنِ المضمونِ على الأرجَحِ، ولا ينجَبِرُ الورقُ الساقِطُ والصُّوفُ المأخوذُ بنباتِ غيرِهِ، والمُحرَّم مِن آلةٍ أو غناءٍ لا يُضمن، ولا يعتَبَرُ فِي القيمةِ نِطاحُ الكبشِ وهِراشُ الدِّيك. وأما آلةُ الملاهِي فلا يضمنُ إبطالَ تأليفِ أجزائِها إذ لا تعدِّي فِي ذلك، بل يجبُ إبطالُهُ، فإنْ لم يتمكنْ أبطلهُ كَمَا تيسَّر، وتُضمنُ المنافِعُ، وإن فاتَتْ، إلَّا منفعةَ الحُرِّ والبُضْعِ، فإنَّهما لا يُضمنان إلَّا بالتفويتِ (¬6). ولا تُضمنُ منفعةُ الكلبِ ولو بالتفويتِ، ولا تسقطُ الأُجرةُ بِرَدِّ صيدِ العبدِ على ما صححوهُ، لأنَّه قد يستعملُه فِي شيْء غيرِهِ. ¬
(3) القاعدة الثالثة
وأما الفرسُ المغصوبُ من صاحِبِهِ الغازِي الذِي شَهِدَ الحربَ (¬1) راجلًا فالسهمُ له، والأرجحُ هُنا لا أجرةَ على الغاصِبِ حيثُ كان السهمُ مُساويًا لها (¬2)، أو زائدًا، و (¬3) نقصانُ الكسادِ لا يُضمن على المشهور. * * * (3) القاعدةُ الثالثةُ يتخلصُ الغاصبُ من عهدةِ ما غَصَبَهُ بالردِّ، أو ما فِي معناه فردُّ المغصوبِ إلى مَن له تسلُّمُهُ شرعًا تَخَلُّصٌ حتى القاضِي مع رُشْدِ المالِكِ على الأقيسِ، وكذا بِرَدِّ الدَّابَّةِ إلى الاصْطَبْلِ؛ إذا عُلِم المالكُ عند المتولِّي، وهو معمولٌ به إذا حَصَل الاستيلاءُ. وفِي معنى الردِّ أكْلُ المالِكِ المغصوبَ ضِيافةً، وقتلُهُ قِصاصًا، و (¬4) إعتاقُهُ نيابةً، وهو نافذٌ بلا (¬5) غُرم على الأصحِّ، وإيلادُهُ بالتزوِيج، كذا ذكروه، والمستولدةُ تُضْمَنُ، فإنْ أريد: إذا لم يبقَ للغاصِبِ استيلاءٌ، فهي من صورةِ الردِّ. وكذا قبضُهُ بالهبةِ -لا بالإيداع عندَ المالِكِ- والرهنُ والإجارةُ والتوكيلُ والقتلُ دفعًا، ويبرأُ الغاصِبُ والمستعيرُ بما إذا أودعهما المالكُ لا بأن يرهنَ عندهما أو يُؤجِّرَ أو يُوكِّلَ أو يُزوِّجَ أو يُبرئ مع بقاءِ العَينِ. ¬
ولا براءة بالقِراضِ إلَّا إذا سَلَّمَ المضمونُ ثمنَ ما اشتراه للقِراضِ على الأصح، وشرَطَ الماورديُّ على هذا أن يعاقِدَ (¬1) على عينِهِ، وفيه نظرٌ. والكلبُ ونحوه مما يُرَدُّ إذا تلِف عند الغاصِبِ لا خلاصَ عن تعدِّيه إلا بالمحالَلَةِ، والقولُ للغاصِبِ بيمينِهِ فِي قدرِ القِيمةِ، وهكذا كلُّ غارِم، وبقيةُ الاختِلافِ يظهرُ فِي (¬2) الدَّعاوي. * * * ¬
باب الشفعة
باب الشفعة هي لغة: مأخوذةٌ من الشَّفعِ (¬1)؛ إمَّا للنصيبِ أو للشريكِ الآخِذِ، وقيل: مِن الشفاعة، ويُقال: أصلُها مِن التقويةِ (¬2). وشرعًا: حقُّ تَمَلُّكٍ قهري يثبتُ للشَّريكِ القدِيم على الحادِثِ المالِكِ مِن غيرِهِ بالمعاوضة فيما يقبَلُ القسمةَ إجبارًا مِن أرضٍ وتابِعها ببذْلٍ على وجهٍ مخصوصٍ. * وأصلُها: الأخبارُ الصحيحةُ: فعن جابِرِ بنِ عبدِ اللَّه -رضي اللَّه عنهما- قال: قَضَى رسولُ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- بالشُّفْعةِ فِي كلِّ ما لم يُقْسم، فإذا وقعتِ الحدودُ وصُرِّفتِ الطُّرقُ فَلَا شُفْعَةَ. أخرجهُ البخاريُّ (¬3). وأخرج مسلمٌ عن جابِرٍ -رضي اللَّه عنه-: قال رسولُ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "الشُّفعةُ فِي كلِّ شِركٍ فِي أرضٍ أو رَبْع أو حائِطٍ، لا يصلحُ لهُ أن يبيعَ حتَّى يعرِضَ على شَريكِه، فيأخُذُ (¬4)، أو يدَعُ، فإنْ أبى فشريكُهُ أحقُّ بِهِ حتَّى يْؤذِنَهُ" (¬5). ¬
وفِي روايةٍ لمُسلم: "لا يحِلُّ له أَنْ يبيعَ حتَّى يؤذِنَ شريكَه فإذَا بَاعَ ولَمْ يؤذِنْهُ فهُوَ أحقُّ بِهِ" (¬1). وفِي روايةٍ صحيحةٍ -فِي غيرِ مُسلم-: "فهو أحقُّ بِهِ بالثَّمنِ" (¬2). وأخرج أبو داودَ والنَّسائِيُّ وابنُ ماجه من حديثِ أبي هُريرةَ -رضي اللَّه عنه- أَن النبيَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "إذا قُسِّمَتِ الأرْضُ وحُدَّتْ (¬3) فَلا شُفْعَةَ فِيْهَا" (¬4). * * * لا تثبتِ الشفعةُ فِي المنقُولاتِ (¬5) ابتداءً، إلَّا فِي صورةٍ واحدةٍ تبَعًا، وهِي ¬
المفتاحُ. وأما بذرٌ دائمُ النباتِ، وحجرُ الطاحونِ الفَوْقانِي، فإنه بمنزلةِ الثوابِتِ التِي فيها الشُّفعةُ كالأبوابِ ونحوِها. وكذا الكِمامُ وكذا الثمرةُ التي دخلتْ فِي عقدِ المعاوضةِ تبعًا لِغَيْرِ المؤبَّرةِ، ولو تأبَّرتْ قبل الأخْذِ على الأصحِّ. ويأخُذُ ما حَدَثَ بعدَ العقدِ إذا لم يكن مؤبَّرًا، ونحوِهِ حين الأخْذِ (¬1). وكذا يأخُذُ مِمَّا صار منقولًا مِن الثابِتِ عند العقدِ. ولا يأخُذُ الزرعَ بالشفعَةِ إلَّا إذا كان يُجَزُّ مرارًا فجزَّتُهُ الظاهرةُ للمشتَرِي وأصولُهُ كالشجرِ، فيؤخذُ (¬2) بالشُّفعةِ، فإنْ ظَهَرَ شيءٌ بعدَ البيع فهو كالثمرةِ الحادِثةِ تؤبَّرُ، قلتُهُ تخريجًا فيما ظَهَرَ. وكذا ما سبق فِي بذْرٍ دائِمِ النباتِ الكُمين. والضابِطُ لِما يؤخذُ بالشُّفعةِ مع الأرضِ كلُّ ما دَخَل تبعًا فِي بيعِها أو الدارِ أو البُستانِ أو الطاحونِ ونحوِها، وما حَدَثَ مِن المأخوذِ إذا كان تابعًا عندَ الأخْذِ. فلا شُفعةَ فِي الأبنيةِ تُباع مفردةً، ومنهُ الطِّباقُ والبناءُ فِي أرضٍ مستأجرةٍ أو محتكرةٍ. ¬
ولا شفعةَ فِي [البِناء المملوكِ في] (¬1) أرضِ سوادِ العِراقِ. وكذا لا شُفعةَ فِي بيع جِدارٍ مع أُسِّهِ أو شجرةٍ مع مغرسِها (¬2) دون المُتخلِّلِ. والمسلَكُ المعتَبَرُ عندَ الشَّافعِيِّ -رضي اللَّه عنه-، فِي إثباتِ الشُّفعة فِي الأرضِ (¬3) وتابِعِها: قَبولُ القسمةِ إجبارًا، وذلك بأنْ لَا يكونَ فيها ردٌّ، وأن يُنتفع بالمقسوم بعدَ القسمةِ على نحوِ ما كان قبلَها، فما لا يقبلُ ذلِك مِن الجانِبينِ لا شُفعةَ فيه (¬4). وما يقبلُهُ من الجانبين فيهِ الشُّفعةُ منهما، إلَّا فِي صورةٍ واحدةٍ، وهي الممرُّ المُشتَرَكُ دونَ الدَّارِ المَبِيعةِ لا شُفعة فيه إذا لم يكنِ للمشتَرِي فتْحُ بابٍ مِن موضع آخَرَ (¬5). ¬
وقواعد الباب ثلاث
وما يقبلُ ذلك مِن جانِبٍ كعُشر (¬1) دارٍ لا تصلحُ للسُّكنى فلِصاحِب الأكثرِ (¬2) إجبارُهُ على القِسمةِ، فإذا باع الأكثَرَ ثبتَتِ الشُّفْعةُ لصاحِبِ الأقلِّ دونَ عكسِهِ. * * * وقواعِدُ البابِ ثلاثٌ (¬3): * الأولى: لا شُفعةَ إلَّا لشرِيك (¬4)، فأمَّا الجارُ فلا شُفعةَ له عندَ الشافعِيِّ -رضي اللَّه عنه- إلَّا فِي صورةٍ واحدةٍ لا يكونُ فِيها شريكًا عند الأخْذِ، وهِي ما لو صدرتْ قسمةٌ غيرُ مُسقطةٍ للشُّفعةِ (¬5) مِن وكيلِهِ، أو منهُ وهُو غيرُ عالِم بالحالِ، أو صدرتْ بينَ شفيعَينِ لِغيبةِ ثالِثٍ، فللشَّفيع الأخذُ، لِوجودِ الشَّركةِ عند البيع (¬6)، ولم يوجَدْ ما يُسقِطُها، فإنه تختلُّ بعضُ القِيمة، ثُم الأخذُ كما نصَّ عليه فِي قِسمة الشفيعينِ، فلا استِثناءَ. وكلُّ شريكٍ كبيرٍ أو صغيرٍ، ولِيٍّ أو وكيلٍ فِي طرفٍ، أو عامِلِ قِراضٍ، أو وارِثِ ¬
مريضٍ باع عَينًا لمسلمٍ أو ذِمِّي، ولو على مسلم معينٍ، ولو كالمسجِدِ فِي نحوِ ما وَهَبَ له، أو غيرِ معينٍ كما لِبيتِ المالِ، فلهُ الشُّفعةُ إلَّا أربعةً: بائِع المشفوع (¬1) مِن نصيبِهِ، والوصِيُّ، والقيِّمُ فيما باعاه، والحمْلُ. فإنِ انفَصَل بعد أخْذِ وارثٍ، فلَا يأخُذُ لهُ وليُّه، أو قبلَ أخذِهِ، أو لم يكنْ هناك أَخْذٌ (¬2)، فليس لولِيِّهِ أن يأخذَهُ على وجهٍ. والتحقيقُ: أنَّ وليَّه يأخُذُ فِيهما بالمصلحةِ (¬3). والوقفُ لا يضُرُّ كما فِي جمِيع صورِ ما يُوقف المِلْكُ فيهِ، وما ملك بِشركةِ الوقفِ لا شُفعةَ فِيهِ، وتثبتُ للشُّركاءِ ولو كان فِيهِم المشتَرِي بِقدرِ حِصصِهِم على ما صحَّحوهُ، والقولُ بأنَّها على عددِ رءوسِهِم. قال الشافِعِيُّ -رضي اللَّه عنه-، فِي "الأم": به أقُولُ. واختارهُ المُزنِيُّ وصححهُ الزَّازُ، وهُو الأرجحُ. ولو عَفَى واحِدٌ ولو عن بعضِ حِصتِهِ أو غاب أخَذَ مَن بَقِي الكُلَّ أو تَرَك إلَّا إذا حَضَرَ غائِبٌ بعد أخْذِ واحدٍ، فلهُ مُساهمتُهُ [وله أخذُ الثُّلثِ] (¬4) فِي ثلثِهِ مُستوِينَ فِي المِلكِ، ثُم إذا حضَرَ الثالِثُ فلهُ أَنْ يأخُذَ مِن أحدِهِما ثُلُثَ ما فِي يدِهِ، ولهُ أَنْ يأخُذَ مِن كلِّ واحِدٍ (¬5) مِنهما ثُلَثَ ما فِي يدِهِ، ولهُ أن يأخذَ مِن ¬
القاعدة الثانية
الأوَّلِ فقط نصفَ ما فِي يدِهِ إذا كان الثانِي قد أخَذَ الثُّلثَ، ولهُ أن يضُمَّ ما أخذه مِن الثانِي إلى ما فِي يدِ الأوَّل، ويقسمانِهِ (¬1) نِصفينِ فتكونُ سِهامُ الشِّقْصِ صحيحةً ثمانيةَ عَشرَ، وفِي جمِيع هذِهِ الصورِ العفوُ عن بعضِ الحقِّ لا يُسقطُ الشُّفعةَ. * * * * القاعدةُ الثانيةُ: الذي يأخُذُه الشفيعُ هو الشِّقْصُ المملوكُ بالمُعاوضِةِ (¬2) وإن كانت غيرَ محضةٍ مِلْكًا لازمًا أو آيلًا إلى اللُّزوم مُتأخرًا عن مِلكِ الشَّفِيع، أو عن سببِ تملُّكِهِ (¬3) عند التَّوقُّفِ فِي مِلكِهِ فيأخُذ ما كان من ذلك مُثْمَنًا أو ثمنًا ولو فِي بيعٍ ضمنيٍّ، وما جُعِلَ رأسَ مالِ سَلَمٍ أو إقراضٍ (¬4) عند المُتولِّي، وفيه نظرٌ. أو (¬5) جعل أُجْرَةً أو جُعْلًا بعدَ تَمَام العَمَل أو عِوضَ نجْم كتابةٍ إن جازَ الاعْتِياضُ عنهُ، وهو النَّصُّ، خِلافَ ما صححوه مِن منْعِهِ ما لم تنفسِخْ الكِتابةُ قبلَ الأخْذِ عندَ الماوردِيِّ، والأرجحُ الإطلاقُ. وتثبتُ فِي هبةِ الثوابِ المعلوم إذ هِي بيعٌ، وكذا فِيما جُعِلَ صداقًا أو ¬
عِوض خُلع أو مُتعةٍ أو عتقٍ أو صُلْح عن دَم أو عِوَضَ سهمِ غنيمةٍ أو رَضْخٍ. ولا تَثبُتُ فيما لا عِوضَ فِيهِ كهبةٍ أو إرثٍ أو وصيةٍ ولو فِي الموصى به للمستوْلَدَةِ إنْ خَدَمَتِ الولدَ مُدةً معينةً على ما رجحوه. وتثبتُ فِي شِقْصٍ أوصى بِهِ لِمنْ يحجُّ عنهُ، ولو تطوُّعًا، وإنْ شارك التطوعَ صورةَ المُستولدَةِ (¬1) فِي الخُروج مِن الثُّلُثِ، لكن المقابلة هنا ظاهرة، قلتُهُ تخريجًا. ثُم مُقابِل الشِّقْصِ إن كان مالًا (¬2) مِثْليًّا أُعطي الشَّفيع مثلَهُ مما قُدِّر ولو وزنًا فِي المكِيل الرِّبويِّ فإنْ فُقد المِثْلِيُّ أو كان متقوِّمًا فقيمتُهُ، أو منفعةً فأجرةُ المِثْلِ. وفِي الصداقِ والخُلع مهرُ المِثل، وفِي المُتعةِ مُتعةُ مِثلِها، وفِي الدَّم الأرْشُ ولو إِبِلًا، وليس لنا موضِع يُعارض بإبِلِ الدِّيةِ إلَّا هذا، وفيه نظرٌ. وتُعتَبَرُ قِيمةُ المتقوَّمِ وما بعدَهُ وقتَ جَرَيانِ سببِهِ ويلحَقُ حَطُّ زمنِ (¬3) الخِيارِ وبِالعيبِ. وإنْ باع بِمؤَجَّلٍ صَبَرَ إلى حُلول الأجَلِ، أو أخَذَ بِهِ حالًّا، وينقُصُ تصرُّفُ المُشتَرِي. وإذا باع أَخَذَ الشَّفيعُ بما شاء، ولهُ منْعُهُ مِن ردِّهِ بِالخِيارِ الثابِتِ له وحدَهُ، ¬
القاعدة الثالثة
ومنْعُ البائِع مِن الرُّجوع بالإفْلاسِ، والزوجِ بالتَّشطِيرِ، وإنما يتملَّكُ بلفظٍ، نحو: "أخذتُ بالشُّفعةِ" مع بذْلِ الواجِبِ، أو رِضا المُشتَرِي بكونِهِ فِي ذِمتهِ أو قضى القاضِي لا بالإشهادِ. والتحقيقُ: أنَّ قضاءَ القاضِي لا بُدَّ معه مِن دَفْع الثَّمن. وإذا لم (¬1) يُعلمه الشَّفيعُ تعذرَ الأخذُ بالشُّفعةِ، ويأخُذُ بِالحصَّةِ إنْ باع بيْعَ (¬2) مَا لَا شُفعةَ فِيهِ، أو تَلِفَ ما يفرَدُ بِهِ (¬3) العقدُ (¬4)، ولا يُفرَّق شِقْصُ (¬5) عقدٍ ابتداءً، وله أخْذُ حِصَّةِ أحدِ المُشتَرِيَّيْن، أو أحدِ البائِعَيْنِ. * * * * القاعدةُ الثالثةُ: الشفعةُ بعدَ معرفةِ البيع، ولو ببلوغ خبرِ مقبولِ الروايةِ على الفورِ على المشهورِ (¬6): إلَّا إذا غاب الشفيعُ (¬7)، أو أجَّلَ الثمنِ، أو كذَب المُخبِرُ فِي جِنسه، أو زاد، أو كذَب فِي قدْرِ المبِيع أو فِي المُشتَرَى. ¬
والفورُ بالعادةِ بِنفسِهِ أو وكيلِهِ (¬1) ولَا يضرُّ إتمامُ حالِهِ فِي حمَّام أو نفلٍ (¬2) أو أكْلٍ، ولَا الاشتغال بِهما فيهما (¬3)، ولَا أَنْ يسلمَ أو دعا بالبَركةِ أو بحَثَ عنِ الثَّمنِ (¬4) لَا إن قال: "اشتريْتُ رَخِيصًا". فإنْ لم يقدِرْ على ما سَبَقَ، أشْهَدَ. وإنْ تَرَك المقدورَ أو صَالَحَ عنْ شُفعتِهِ عالمًا بِبُطلانِ ذلك، أو أزالَ مِلكَه عن حِصتِهِ، ولو جاهلًا بِالحالِ، أو عن بعضِها (¬5) مع العِلْم سقطتْ شُفعتُهُ، واللَّه سبحانه وتعالى أعلم. * * * ¬
باب القراض
باب القراض وهو لغة: راجعٌ إلى مادةِ المُقارضةِ (¬1) بِمعنى المُساواةِ (¬2) لتساوِي المتعاقِدَيْنِ فِيما يقومُ بِهِ العقدُ مِن مالٍ و (¬3) عملٍ. أو بمعنى المُقاطعةِ، لأنَّ كُلَّ واحِدٍ قاطَعَ الآخَرَ على شيءٍ. وقيل: القراضُ راجِعٌ إلى مادةِ قَرَضَ بِمعنى قَطَعَ لأنَّهُ قَطَعَ له قِطعةً مِن مالِهِ، وقِطعةً مِن الرِّبْح، وهو مُفارقٌ للقَرْضِ (¬4). ويُسمى مُضاربةً فِي لغةٍ، إمَّا لضرْبِ كُلِّ واحِدٍ فِي الرِّبح بسهْم، أو من جهةِ تَصَرُّفِ العامِل برأيهِ، ولم يُلمح فيهِ للسفرِ (¬5)، لأنهُ قد يكونُ فِي الإقامةِ. ويُقالُ: للمالِكِ: "مُقارِضٌ" بكسْرِ الرَّاء، ولِلعامِلِ بِفتحِها، وللعامِل "مضارِبٌ" بِكسرِها. ورُدَّ قولُ مَن أطلق ذلك على المالِكِ. ¬
وشرعًا: عقدٌ بإيجابٍ وقبولٍ مِن أهلِهِ مُنجَّزٌ [على نقدٍ مضروبٍ مُعينٍ] (¬1)، ولو مع الإشاعةِ أو الخلطِ، معلومٌ يستقلُّ المُعاملُ (¬2) فيه باليدِ والتصرفِ بالتجارةِ على ربحٍ لا يخرجُ عنهما (¬3) مشروطٌ (¬4) منه حصةٌ للعامل معلومةٌ بالجُزئية (¬5). وأصلُها (¬6) -غيرُ العموماتِ المقتضيةِ لإباحةِ التجارةِ وابتغاءِ الفضلِ- ما روي عن ابنِ عباسٍ -رضي اللَّه عنهما-. قال: كان العباسُ إذا دفع مالًا مضاربةً اشترط على صاحبِهِ أن لا يسلكَ به بحرًا، ولا ينزلَ به واديًا، ولا يَشتَرِي به ذاتَ كبدٍ رطْبةٍ، فإنْ فَعَلَ فهو ضامنٌ، فرُفِع شرطُهُ إلى النبيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- فأجازه. رواه الدارقطني (¬7) وغيره، وفِي إسنادِهِ أبو الجارود، وهو ضعيفٌ (¬8). وجاءتْ رواياتٌ صحيحةٌ عن جماعةٍ مِن الصحابة؛ عُمَرَ وغيرِهَ -رضي اللَّه عنهم- بإجازةِ القِراضِ (¬9). ¬
ولا يُعلمُ فيهِ خِلافٌ بينهم، فيكونُ إجماعًا أو حُجةً (¬1). واحتُج له بالقِياسِ على المُساقاةِ (¬2). وهو فِي الابتداءِ يُشبهُ الوكالَةَ بجُعْل، وفِي الانتهاءِ يُشبهُ الشِّرْكةَ إنْ لم يُوقَفْ مِلكُ العامِلِ مِن الرِّبح على القسمةِ، وإن وَقَفْناه -وهو الأصحُّ- فهو يُشبهُ الجَعَالة. . ذكره فِي "التتمة". وفيه نظرٌ. وحكى (¬3) الماورديُّ قولَينِ للشافِعِيِّ -رضي اللَّه عنه-: فِي أنَّ العاملَ وكيلٌ مستأجَرٌ أو شريكٌ مساهِمٌ، وسيظهرُ لك أثرُ ذلك. ولم أصرِّحْ فِي التعريفِ بِـ "خالص" وإنْ شرَطَهُ الجمهورُ (¬4)؛ لأن الأرجحَ صِحةُ القِراضِ على الدراهِم المغشوشةِ، وعلى ذلِك عملُ النَّاسِ (¬5). ¬
ويفسُدُ بوقوعِهِ على ما خالَفَ (¬1) التَّعريفَ، لكنْ لا يضُرُّ شرْطُ (¬2) عمل غلام (¬3) المالِكِ معهُ. ويفسدُ بالتَّضييقِ، بأن عيَّن شراءَ ما يندُرُ (¬4) وجودُهُ أو سلعَةً (¬5)، لا إن عَيَّن مَنْ يبيع منهُ أو يشتَرِي. ويفسدُ بالتوقيتِ، لا إنْ مَنَعَ مِن الشراء فقط، كما سبَقَ فِي البيع (¬6). ولا يصحُّ على نقدٍ تعلَّق بِهِ رهنٌ لازمٌ لِغيرِ العامِلِ أو كان معينًا فِي معاوضةٍ غير (¬7) مقبوضٍ، قلتُهُما تخريجًا. ويصحُّ بشرطِ أن يكونَ الربحُ بينهُما (¬8) على الأصحِّ، حمْلًا على التَّنْصِيفِ (¬9)، وكذا على أن النصفَ للعامِل، لا عكسُهُ، على الأصحِّ (¬10). * * * ¬
ويفسُدُ إنْ شَرَطَ رِبحَ النصفِ ونحوه لِعامِلٍ أو مالكٍ، وما شرط صحيحًا لا يُغيَّرُ إلى غيرِهِ إلَّا بفسْخ وتجدِيدِ عقدٍ. نقل عن "العدة". وإذا فسَدَ نَفِذَ تصرُّفُ العامِل، ولهُ أُجرةُ المِثل، إلَّا إذا قارضَهُ على أن الرِّبحَ لِغيرِ العامِل فَلا شئَ لِلعامِل فِي الأصحِّ (¬1). ولا يُقارِضُ العاملُ بغيرِ إذْنِ المالِكِ، فإنْ فعَلَ فالمشروطُ مِن الرِّبح مستحقٌّ للأولِ، كالغاصِبِ إذا اشتَرَى فِي الذِّمَّة، وللثانِي: أجرةُ المِثل، وبالإذْنِ والسَّلْخ جاز، ولْيكُن (¬2) شرِيكًا فِي العَمَل، والرِّبحُ ممنوعٌ (¬3). ويجوزُ تعدُّدُ العامِل والمالِكِ ويتصرَّفُ العامِل بالغِبطةِ ويبيعُ بالعَرَضِ لا بِالنَّسِيئةِ إلا بإذنٍ، وحينئِذٍ يُشْهِدُ، فإنْ تَرَكَهُ ضَمِن (¬4). ولا يشتَرِي بأكثرَ مِن رأس المال، ولا بِغيرِ إذنِ مَن يعتقُ على المالِكِ أو زوجتِهِ (¬5) (¬6). ولا يُسافِرُ بالمالِ إلَّا بإذنٍ (¬7) وليست (¬8) نفقتُهُ، ولو سافر فِي المال (¬9). ¬
وعليهِ تولِّي ما جَرَتْ عادةُ العامِل بتولِّيهِ، ويستأجِرُ على غيرِه (¬1). وينفرِدُ المالِكُ بالأعيانِ الحادِثةِ مِن ثمرةٍ ومهرٍ، ونحوهما، وهذا يشهَدُ، لأنَّ العامِل وكيلٌ مُستأجَرٌ. ولا يطأُ جاريةَ القِراضِ إلا بإذْنٍ ولو لم يكن فِي المال رِبْحٌ على ما رَجحوه، وهو بعيد، وكذا تزويجُها، وذاك لأنهُ شَرِيك. ولو قُتِل عبدُ القراضِ لم ينفَرِدْ أحدُهُما بالقِصاصِ إن قُلنا إنهُ شَريكٌ، والأصحُّ لا يسقُطُ. والخسرانُ بالكساد يُحسبُ مِن الرِّبح، وكذا النُّقصانُ بآفةٍ حدثَتْ بعد التَّصرُّفِ (¬2). ولا يستقِرُّ مِلك العامِلِ على ما شرطَهُ لهُ إلَّا بفسْخ العقدِ أو انفساخِهِ بموتٍ أو جنونٍ أو إغماءٍ أو باستِرْدادِ المالِكِ شيئًا مِن المالِ بعدَ ظُهورِ الرِّبح؛ لِحصولِ الشُّيوع فِي المُستَرَدِّ، ولا ينحصِرُ ما استَرَدَّه فِي رأسِ مالِهِ. ولو استَرَدَّ شيئًا بعدَ ظُهورِ خُسرانِهِ لم يلزم أخْذُ حِصَّةِ المُستَرِدِّ لو رَبِح مِن بعدُ (¬3)، واللَّه تعالى أعلم. * * * ¬
قاعدة
* قاعدة: الإشاعةُ ثابتةٌ هنا قطعًا، وكذلك في (¬1) الحقوقِ المُشاعةِ، والانحصار قطعًا بالقسمة، وكلُّ سببٍ يقتضي تعلُّقَ حقٍّ لمنفردٍ. * * * والانحِصارُ على الأصحِّ فِي التفلِيسِ سَبَقَ. وفِي الوصيَّةِ أيضًا إذا أوصى بِثُلِثِ عَيْنٍ، فاستُحِقَّ ثُلُثاها، ينحصِرُ حقُّ الموصَى له فِي الباقي. والإشاعةُ على الأصحِّ فِيما عدا ذلك. ففِي البيع فِي نحو قول الشَّرِيك: "بعتُ النِّصفَ" الأصحُّ (¬2) يُشاع فِي نصيبِهِ ونصيبِ غيرِه، فيبطلُ فِي نصيبِ غيرِه، وفِي نصيبِهِ تولَّى تفريق الصفقة. وفِي الشُّفعة فِي صورةِ الغائِبِ التي تصِحُّ مِن ثمانيةَ عشرَ. وكذا فِي الصَّداقِ والخُلع وعدم القِصاصِ بين المُبعضين، وفِي الإقرارِ. والعامِلُ مصدَّقٌ فِي الردِّ والتلفِ، وفِي أنَّه اشتَرَى للقِراضِ أو لنفسِهِ، وفِي الرِّبح والخُسرانِ وقدْرِ رأسِ المالِ. فإنِ (¬3) ادَّعى أن بعضَ ما أحضره رأسُ مال وبعضَه ربحٌ، وادعى المالِكُ أنَّ ¬
الكُلَّ رأسُ المالِ، فالأرجحُ (¬1) عندهم تصديقُ العامِلِ، والأرجحُ تصديقُ المالِكِ. وخرَّجها الماوردِيُّ على أنَّه شَريكٌ، فيصدَّق، أو وكيلٌ، فيصدَّق المالِكُ، وهو يؤيِّدُ (¬2) ما رجَّحناهُ. وإذا اختَلَفَا فِي القَدْرِ المشروطِ تَحَالَفَا والمرجُوعُ إليهِ أُجرةُ المِثْلِ (¬3)، واللَّه سبحانه وتعالى أعلم. * * * ¬
باب المساقاة
باب المساقاة هي لغة: راجعةٌ إلى مادَّةِ السقْي؛ لأنَّ العامِلَ يَسقِي الشجرَ. وشرعًا: معاملةٌ مؤقتةٌ على وجهٍ مخصوصٍ من شجرٍ موجودٍ يتعهدُهُ العامِلُ بالسَّقْي والعملِ، على حصةٍ للعامِل معلومةٍ مِن ثمرتِهِ الكائِنةِ عليه أو الحادِثةِ فِي المُدة. وفِي "الصحيحين" (¬1) عن ابنِ عمر -رضي اللَّه عنهما- قال: عامَلَ النبيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- أهلَ خَيْبَرَ على شَطْرِ ما يخرُجُ منها من ثمرٍ أو زرعٍ. * * * ومدارُها على سبعة أشياء: ¬
أما العاقدان
1 - 2 - العاقدانِ. 3 - والصيغةُ. 4 - والشجرُ. 5 - والعملُ. 6 - والمدةُ. 7 - والمشروطُ مِن الثمر للعامِلِ بسببِ عملِهِ. * * * * أما العاقدان: فإنْ كانتِ الأشجارُ مملوكةً لآدميٍّ مُعينٍ، فلابُدَّ مِن وجودِ أهليَّتِهِ للتَّصرُّفِ إنْ عَقَدَ أو (¬1) وكَّل (¬2). والمحجورُ عليهِ أمرُ (¬3) العقدِ لوليِّهِ لِمصلحةٍ، وكذا الإمامُ فِي بُستانِ بيتِ المالِ، وما لا يُعرفُ مالكُهُ، والغائِبِ الذي تعلَّق أمْرُهُ بالإمام، وفِي الوقفِ: الأمرُ للناظِرِ. وما يُفعلُ مِن مُقابلةِ البياضِ بأُجرةٍ كثيرةٍ وإعطاءِ العامِل الجزءِ الكثِيرِ الزائِدِ على أُجرةِ المِثل بِفاحِشٍ تَبعُدُ صحتُه من الوليِّ والناظِرِ، ونحوهما، إنْ لَمْ يَلْمَحْ تنزيْلَ الكُلِّ كالصِّفقةِ. ¬
وأما الصيغة
ويُعتَبَرُ فِي العامِلِ إطلاقُ التَّصرُّفِ، وإلا فيعقِدُ على المحجورِ عليه المُتأهِّل للعمل وليُّه. . قلتُهُ تخريجًا من إجارتِهِ للرعْي ونحوِهِ، وفيه نظرٌ، لاستقلالِهِ بِاليدِ هُنا. ولا يمتنعُ أن يكونَ العامِلُ شريكًا إذا شُرِط له مِلكُ جُزْءٍ (¬1) غير (¬2) ما يستحِقُّهُ بالشِّرْكة. * * * * وأما الصيغةُ: فلابُدَّ منها على المشهورِ، نحو: "ساقيتُك على هذِهِ الأشجارِ بِكذا"، أو "عقدتُ مَعَكَ عقدَ المُساقاة" أو ما يؤدِّي معنى ذلك. وينبغِي أَنْ يُكْتَفَى (¬3) بِـ "عقدتُ مَعَك (¬4) عقْدَ كذا" فِي سائِرِ العقُودِ، وقد يتوقَّفُ فِي النِّكاح. ولابُدَّ مِن القبول لِلزُوم العقْدِ، فَلَا يجْرِي فِيهِ الوجهُ الضعيفُ فِي الوَكَالةِ ونحوِها، ولا تنعقِدُ بلفظِ الإجارةِ على الأصحِّ (¬5). * * * * وأما الشجرُ: فهو النخلُ والعنبُ لا غيرُهما مِن الأشجارِ على ¬
ضابط
الجدِيدِ (¬1)، إلَّا تبعًا لواحِدٍ مِنهما على الأصحِّ، وإلا المُقْلُ (¬2) على وجهٍ جَزَمَ به المَحَامِلِيُّ (¬3) وغيرُه، وهو راجحٌ، خلاف ما صَحَّح فِي "الروضة" (¬4). * * * * ضابطٌ: يُخالفُ النَّخلُ والعنبُ سائِرَ الأشجارِ (¬5) فِي خمسةِ أشياء (¬6): 1 - الخَرْصُ (¬7). 2 - والزكاةُ. 3 - والعَرَايا. 4 - والمساقاةُ. 5 - وجوازُ الاستقراضِ. [وزاد النخلُ على العنبِ التأبيرَ. ذَكَرَ ذلك المَحَامِلِيُّ، وما ذكره فِي جوازِ ¬
وأما العمل
الاسْتِقراضِ] (¬1) لا يُعرفُ، بل جوازُ القرض يعُمُّ سائرَ الأشجارِ (¬2). ويشترطُ تعيينُ الأشجارِ ورؤيتُها، ومعرفةُ أشجارِ النَّوعينِ إنْ شُرط تفاوتٌ فِي حِصَّة العامِل. * * * * وأما العملُ (¬3): فعلى العامِلِ السَّقْيُ، وتوابِعُهُ مِن الأعمالِ، وما يحتاج إليه الثمار لزيادتِها أو صلاحِها، وهو مُنحصِرٌ فِي مقصودِ المُساقاةِ، فلا يُشترطُ عليه ما ليس مِن عملِها. ولا تُصحُّ على وَدِيّ ليغرِسَهُ ويكونَ الشَّجْرُ بينهُما (¬4)، ولا على أن يكونَ الفأسُ والتَّورُ ونحوُهما على العامِلِ، بل ذلك على المالِكِ. وعليه بناءُ الجِدارِ، وحَفْرُ النهرِ الجدِيدِ، وفِي رَدْم ثُلْمةٍ يسيرةٍ يُتبعُ العُرْفَ ولابُدَّ (¬5) مِن انفرادِ العامِلِ باليدِ. ولا يضرُّ شرطُ دخولِ المالِكِ على الأصح، ولا عملُ غلامِهِ على النَّصِّ إنِ اختَصَّ العامِلُ بِالتدبِيرِ، ونفقتُهُ على المالِكِ، إلا إِن شُرِطَتْ على العامِلِ، ¬
وأما المدة
ويجب تقديرُها حينئِذٍ على وجهٍ وعلى وجهٍ يُحملُ على الوسطِ المُعتادِ، قَطَع بِهِ الشيخُ أبو حامد للتَّسامُح بذلك. ولا يصِحُّ شرطُها مِن (¬1) الثِّمارِ على الأرجَح إلَّا إنْ شَرَطَ لها جزءًا معلومًا. وليس للعامِل أَنْ يُساقِيَ غيرَهُ إذا كانتِ المُساقاةُ على عينِهِ. وتنفسِخُ بموتِ المُعيِّنِ، وكذا بِهَربِهِ عند تعطُّل العمل؛ قلتُه تخرِيجًا. وإنْ مات والمُساقاةُ على ذِمَّتِهِ لم تَنفسِخْ على الأصحِّ، ولا يُجْبَرُ الوارِثُ على العمل فإنْ كان هُناك تَرِكة استأجَرَ الحاكِمُ كما فِي موتِ (¬2) العامِل والمُساقاةِ على ذِمَّتِهِ، وللمالِكِ فِي الهربِ الإنْفاقُ ويأذنُ الحاكِمُ ليرجِعَ، وعندَ عدم الحاكِمِ يُشهِدُ [وحينئِذٍ يرجِعُ] (¬3)، وإلَّا فَلَا (¬4). * * * * وأما المُدَّةُ: فلابُدَّ مِن بيانِها، ولا يصحُّ التوقيتُ بإدْراكِ الثِّمارِ على الأصحِّ، وإنْ قُطِعتِ الثِّمارُ والمُدةُ باقيةٌ عمل العامِلُ فِي بقيةِ المُدةِ، وإنِ انقضَتْ وقد أَطْلعَتِ اسْتَحَقَّ العامِلُ نصيبَهُ مِن الثَّمرةِ (¬5)، وعلى المالِكِ التعهُّدُ إلى الإدْراكِ، والشَّرْطُ فِي المُدَّةِ أَنْ تبقى الأشجارُ فِيها غالبًا. ¬
وأما الثمرة
* وأما الثَّمَرَةُ: فلابُدَّ أَنْ تكونَ مِمَّا (¬1) يحصُلُ غالبًا، ولو فِي آخِرِ سنةٍ، وأنْ تكونَ مخصوصَةً بالمالِكِ والعامِلِ بِالحُريَّةِ كما سَبَقَ فِي القِراضِ. وتجوزُ المساقاةُ بعد خُروج الثَّمرةِ وإنْ بَدَا صلاحُها على النَّصِّ فِي "الأم" ما دامتِ الحاجةُ إلى المُساقاةِ موجودةً، خِلافًا لِمَا صححوهُ مِن المَنْع بعدَ بُدُوِّ الصَّلَاح، وإذا خرجَتِ الثِّمارُ مُستحقَّةً رَجَعَ العامِلُ على الذِي ساقاهُ بِأُجرةِ المِثْل على الأصَحِّ (¬2). * * * ¬
فصل
فصل لا تصِحُّ المزارعةُ (¬1) المُستقِلةُ، وهي المُزارعةُ على الأرضِ بِبعضِ ما يخرُجُ مِنها، والبَذْرُ مِن المالِكِ، ولا المخابرَةُ، وهي كما تقدَّم، لكنِ البَذْرُ مِن العامِل، والمختارُ صحتُهما. وأما المُزارعةُ -تبعًا للمُساقاةِ- فصحيحةٌ عندِ (¬2) اتِّحادِ العامِل وعُسْرِ (¬3) إفرادِ النَّخِيلِ بِالسَّقي والأرضِ بالعمارةِ. * * * ¬
باب الإجارة
باب الإجارة (¬1) هي لغةً: اسمٌ للأُجرةِ، وهي بكسرِ الهمزةِ، وشذَّ مَن حَكَى ضمَّها. وشرعًا: عقدٌ يشتملُ (¬2) على نَقْلِ منفعةٍ متقوَّمَةٍ مباحةٍ معلومةٍ (¬3) خاليةٍ من مانِعٍ بِمقابِل مُتموَّلٍ (¬4) مَعلومٍ أو منفعةٍ كذلك على وجهٍ مخصوصٍ. ويُقالُ: آجَرَه -بِالمَدِّ- يؤجِرُهُ إيجارًا ومُؤاجرةً فاستأجَرَ. والموجِبُ مُؤْجِرٌ، والقابِل مستأجِرٌ (¬5)، ومؤاجِرٌ -بكسر الجيم فيهما- والعين مؤجَرَةٌ، والعبدُ مؤجَرٌ (¬6)، بِفتح الجِيم. ويُقالُ: أجرَه، غيرَ ممدودٍ -قيل: وهو أكثرُ- يأجُرُهُ بِضمِّ الجِيم وكسرِها ¬
أجرًا إذا أعطاه أجرهُ. ويقال: بِضَم الجِيم فِي المضارع إذا أجَرَه شيئًا أو صار أجِيرًا، ومِنه قولُهُ تعالى: {عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ}. وإذا استأجرتَ أجيرًا لِعملٍ فأنت آجِرٌ بالمعنى الأولِ، لأنَّك تُعطي الأجرةَ، وهو أجيرٌ بالمعنى الثانِي. والأجيرُ فعيلٌ بمعنى مؤاجِر، أو أجر. ويُقالُ مِن المقصورِ لِما يُستأجرُ: مأجورٌ. والأصلُ فيها: قولُه تعالى: {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} (¬1). وقد استأجَرَ رسولُ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- وأبو بكر الصديقُ -رضي اللَّه عنه- رجلًا من بَنِي الدِّيل. رواه البخاريُّ فِي "صحيحِهِ" (¬2) من طريقِ عائشةَ -رضي اللَّه عنها-. وعن ثابِتِ بنِ الضَّحاكِ -رضي اللَّه عنه- أنَّ رسولَ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- نَهى عنِ المُزارعةِ وأَمَرَ ¬
بِالمؤاجرةِ، وقال: لَا بَأسَ بِها. [رواهُ مُسلِم فِي صحِيحِهِ (¬1). وأمَّا حديثُ: "أعْطُوا الأجِيْرَ حَقَّهُ قبْلَ أَنْ صطَّ عَرَقَهُ" فرواه ابنُ ماجة مِن حديثِ] (¬2) ابنِ عُمرَ بإسنادٍ فيهِ ضعفٌ (¬3). ¬
والأحاديثُ فيها كثيرةٌ (¬1). وقال بها (¬2) العلماء كافةً، إلا مَن لا يعتدُّ بخلافِهِ (¬3). ¬
ولا بُدَّ لَهَا مِن الصِّيغةِ (¬1) إيجابًا وقبولًا مُتَّصِلًا (¬2). والإيجابُ (¬3): "أجرتُك بكذا" (¬4)، أو "أكريتُك كذا" (¬5) أو "ملكتُك أو بِعْتُكَ مَنْفعتَهُ" (¬6) [لا "بعتُ منفعته" على الأصح] (¬7) و"أجرتُ منفعته"، صحيحٌ على ¬
ضابط
الأصح؛ إذ موردُها المنفعةُ على المشهور، وقال أبو إسحاق: العينُ لتُستوفَى مِنها المنفعةُ (¬1) (¬2). * * * * ضابطٌ: لا يكونُ فِي الإجارةِ استيفاءُ عينٍ مستحقَّةٍ للمؤجر (¬3) إلَّا تابعةً لمنفعةٍ فِي عشرِ صورٍ للحاجةِ: 1 - المرأةُ للإرضاع. 2 - والبئرُ لِيستقى ماؤُها. 3 - والعقارُ مِن بستانٍ أو دارٌ أو حَمَّامٌ يُستأجَرُ، وفيه بئرٌ فيُسقى منها. 4 - وكذا الأرضُ للزراعةِ (¬4) ولها شِرْبٌ، استمرَّتِ العادةُ بإجارتِها معه، وإلَّا فلابُدَّ مِن شرطِهِ. ¬
5 - والقناةُ للزِّراعةِ (¬1) بمائِها. 6 - وكذا عند العادةِ: الحِبْرُ على النَّاسِخ، والخيطُ على الخيَّاطِ، والمِرْوَدُ (¬2) على الكحَّال. 7 - والمرهمُ وتابعه عل الجرائِحِيِّ ونحوِهِ. 8 - والصبغُ على الصبَّاغ. 9 - ويُقاس عليه: الغسَّالُ والقصَّارُ. 10 - والطَّلْعُ على المُلقِحِ. فإنِ اضطرَبَتْ وَجَبَ البيانُ، فإنْ لم يُبين بطلتِ الإجارةُ، وألحقوا بذلك على وجهٍ: الدُّهنَ على المرضِعَةِ، إنْ جرى عُرْفُ البلدِ بِهِ. ولا يُستأجر فحْلٌ لضرابِهِ (¬3) على الأصحِّ. ولا بِرْكةُ حيتانِ لأخْذِ السمكِ منها؛ على النصِّ فِي "الإملاء" فإن استأجَرَهَا لِيحبِسَ (¬4) فِيها الماءَ، فيَجتمِعَ السمكُ فيأخُذَه، صحَّ على الصحيح، كاستِئْجارِ شبكةٍ للصيدِ ونحو ذلك مِمَّا يقعُ على منفعتِهِ، ويأخذ بِها (¬5) مباحًا. والموجِر (¬6) لنفسِهِ أو بوكيلِهِ هو المالِكُ للمنفعةِ الرشيدُ، إلَّا فِي عشرةِ ¬
مواضِعَ: 1 - المبيعُ قبل القبضِ ونحوِهِ. 2 - والمؤجِرُ قبل القبضِ مِن غيرِ المؤجِرِ. 3 - والمرهونُ مع حلول الدَّينِ بِغير إذنِ المرتَهِنِ. 4 - والعبدُ الذي تعلَّقتِ الجنايةُ برقبتِهِ كذلك. 5 - ومِلْكُ المُفلس. 6 - والمغصوبُ حيثُ لَا قُدرة للعاقِدِ على الانتِزاع. 7 - والآبِقُ. 8 - والزوجةُ الحرةُ بغير إذنِ الزوج. 9 - والمستأجرُ فِي إجارةِ الذِّمةِ. 10 - والموقوفُ عليه إذا كان الناظِرُ غيرَهُ. * * * ولا يمتنعُ على الموصَى له بالمنفعةِ حياتَهُ أن يؤجِّرَه؛ خِلافًا لما فِي الرافعيِّ، ومَن تبِعَه. وللمقطِع أَنْ يؤجِّرَ إقطاعَه خِلافًا لمن منع. والحُرُّ الرشيدُ يؤجرُ نفسَه، وكذا يؤجِرُ مستأجِرَه على الأصحِّ. * * *
ضابط
* ضابطٌ: لا يقابَلُ شيءٌ مما يتعلَّقُ ببدن الحُرِّ بالعِوض اختيارًا إلَّا فِي ثلاثِ صورٍ: 1 - منفعتُه. 2 - ولبنُ المرأةِ، وبُضْعُها. 3 - وإجارةُ العبدِ نفسَهُ تقدمتْ فِي بيع العبدِ المأذونِ. * * * والإمامُ أو نائبُهُ يؤجِّرُ ما تعلَّق ببيتِ المال، أو المصالِح أو الذِي لَا يتعيَّنُ مالِكُهُ أو لا يُعرف، أو ما يتعلَّق (¬1) بِمحجورٍ (¬2) تحتَ نظرِهِ أو غائِبٍ، وعند النِّزاع بينَ الشَّريكينِ المُفضِي للتَّعطيل، أو (¬3) موقوفِ المُفلس، ومستولدتِهِ عندَ امتناع المُفلس، ومستولَدَةِ الكافِرِ المُسلِمةِ، والوقف الذِي لا ناظِرَ لهُ أو شَرْطُ نظرِه له، والولِي يؤجِّرُ عن محجورِه، وكذا ناظِر الوقفِ الخاصِّ. والمستأجِرُ مَن صَحَّ تصرُّفُه فيما يستأجِرُهُ بإطلاقِ تصرفٍ أو وِلايةٍ. والإجارةُ وإن وردتْ على المنفعةِ فقد تكونُ على العينِ كالدَّارِ والدابَّةِ المُعينةِ، واستأجرتُك لِتعمَلَ بِهِ كذا (¬4). ولا يُشتَرَطُ تسليمُ الأُجرةِ [فِي هذِهِ. ¬
وتكونُ عَيْنًا ودَيْنًا ومنفعةً، وقد تكونُ فِي الذِّمة] (¬1)، كإلزام ذِمَّةِ غيْرِهِ خياطةً أو بناءً أو كُحْلًا (¬2) بلفظ السَّلَم أو (¬3) الإجارةِ؛ كاستئِجارِ دابةٍ موصوفةٍ لِحمْلٍ. ولا بُدَّ مِن قَبْضِ الأُجرة فِي المجلِسِ، وحكمُها كرأسِ مالِ السَّلم (¬4). ولا يجوزُ أن تُجعلَ الأجرةُ شيئًا يحصلُ بعمل الأجِيرِ كاستِئْجارِ سلَّاخ بِجلدِ ما يسلخُهُ، أو طحانٍ بِجزءٍ مِن دقيقِ ما يطحنُهُ، أو بنخالتِهِ، أو المرضعةِ بحصَّةٍ مِن الرقيقِ المُرضعِ بعد فِطامِهِ (¬5)، وأمَّا فِي الحال فيجوزُ ولو لشريكِهِ (¬6). * * * ¬
قاعدتان
* قاعدتان: * إحداهما: لا تصِحُّ إجارةُ (¬1) العين لزمانٍ غير الزمان الذى يتصلُ بالعقدِ، إلا فِي أربع صورٍ: 1 - إحداها: إجارتُها مِن المستأجِرِ مُدَّةً تلِي (¬2) مُدةَ إجارتِهِ والعِبْرَةُ بِمن يدُهُ مستمرةٌ لا بمن وقَعَ العقدُ معه؛ خِلافًا للقفَّالِ. 2 - الثانية: كِراءُ العقِبِ على الأصحِّ. 3 - الثالثة: الأجيرُ المعينُ للحجِّ غيرِ (¬3) المَكيِّ فِي غيْرِ أشهُر الحجِّ فتقدمُ (¬4) إجارتُه عند جماعةٍ على خروج النَّاسِ (¬5) وإن بعُد ذلك وينتظرُ خُروجهم، وعند الكثيرِ لا تصحُّ إلَّا وقتَ إمكانِ الخُروج، والسيرِ على العادةِ، أو الاشتغالِ بأسبابِهِ، وبِمكةَ لا يستأجِرُ إلَّا فِي أشهُر الحجِّ، وفِي غيرها يجوزُ فِي غيرِ أشهُر الحجِّ قطْعًا. 4 - الرابعة: استأجَرَ عبدًا أو بَهيمة لعملٍ مدة على أن ينتفعَ بِهما الأيامَ دونَ الليالي؛ يصحُّ بخلافِ الحانوتِ؛ لانه إجارةُ مستقبَلٍ واغتُفِرَ (¬6) فِي الحيوانِ؛ ¬
لأنه (¬1) لا يُطيقُ دوامَ العملِ. والأقربُ أن الإجارةَ غيرُ منقطعةٍ، واغتُفِر (¬2) الاستثناءُ؛ لأنهُ تصريحٌ بمقتضى الإطلاقِ، وكذلك ما جرتْ فيهِ العادةُ ينقطعُ لقضاءِ حاجةٍ أو استراحةٍ ونحوهِما، كما يكونُ فِي (¬3) زمنِ الطهارةِ، وصلاةِ الفرضِ والنافلةِ (¬4) فيُستثنى (¬5) من إجارةِ العملِ (¬6) مُدَّة. والسبتُ فِي استئجار اليهوديِّ مستنثى إن اطرد عُرْفهم به (¬7) كما أفتى به الغزاليُّ، ويقاس عليه الأحدُ للنصرانِي. * * * والإجارةُ التي يتصلُ زمنُها بالعقد لابُدَّ من إمكان الانتِفاع بالعينِ عُقيب العقدِ إلَّا فِي صورتين: - الأولى (¬8): الدارُ المشحونةُ بالأمتعةِ إذا لم يمضِ فِي التفريغ زمنٌ لمثلِهِ أجرةٌ. ¬
- الثانية: الأرضُ للزَّرع وعليها (¬1) الماءُ الذِي ينحسرُ فِي وقتِ الزَّرع عادةً، وأما استئجارُ الأرضِ بمصرِ التِي لَا ماءَ لها إلَّا النيلُ الغالِبُ قبلَ الزيادةِ أو بعد الزيادةِ وقبل الرأي، فظاهِرُ النصِّ إبطالُ إجارتِها للزِّراعة، وأخَذَ بهِ بعضُهُم، وأجاز الماوردِيُّ فِي الثانيةِ. وصحتُها (¬2) يلزمُ منهُ تأخيرُ (¬3) المنفعةِ المستأجَرِ لها عن العقدِ، فإنِ اغتُفِر ذلك كان مُستثنى وهُو الأصلحُ، والأحوطُ أن توقَعَ الإجارةُ فِي ذلك على أن ينتفع بِها ما شاء (¬4). وأما الأرضُ التي لا ماء لها إلَّا فِي (¬5) الغالِبِ (¬6) فإنَّهُ إذا أَجَرَها أرضًا بيضاءَ لا ماءَ لَها يصنعُ بِها المستأجِرُ ما يشاءُ غيرَ البناءِ والغِراسِ، فإنهُ يصحُّ وتلزمُهُ الأجرةُ إذا استولى، زَرَعَ أو لم يزرعْ، وله الزرعُ إن أمكنَهُ، نَصَّ على ذلك كله. * * * ¬
القاعدة الثانية
القاعدةُ الثانيةُ: المعجوزُ عنهُ شرْعًا مطلقًا أو نيابةً، كالمعجوز عنه حسًّا. فلا يصحُّ الاستئجارُ لقَلْع سِنٍّ صحيحةٍ. أو استئجارُ حائضٍ إجارة عينٍ لأمورِ فِي المسجِدِ ممتنعةٍ عليها، حتى لو استأجَرَ عينَها لأمورٍ تحتاجُ إلى مُكْثٍ فِي المسجِدِ، أو تردد فيه فحاضتْ، انفسخ العقْدُ. ولو استأجَرَ لِقلْعِ سِنٍّ متألمةٍ (¬1)، فَسَكَنَ الوجَعُ انفسخَتِ الإجارةُ. وما لا تدخُلُهُ النيابةُ مِن القُرَبِ المُفتقرةِ إلى النية لا يصحُّ الاستئجارُ عليه كالإمامةِ لصلاةٍ مفروضةٍ أو نافلةٍ. ويستأجِرُ لفرضِ الكفايةِ [وإن تعيَّن على الأصحِّ، كتعليم مُعين وتجهيزِ ميتٍ، ولا يستأجِرُ لفرض الكفاية] (¬2) شائعًا: كالجِهادِ، فلا يُستأجرُ المسلمَ له. والقضاءُ والتدريسُ والإقراءُ تصدِّيًا فهما (¬3) لغيرِ مُعين. وأما الشِّعارُ غيرُ الفرضِ كالأذانِ، فيستأجِرُ له الإمامُ وغيرُهُ مِن المسلمين، ثُم إنِ استأجَرَ الإمامُ مِن بيتِ المالِ لم يفتقِرْ إلى بيانِ المُدةِ. . ذكره البغوِيُّ. وليس لنا موضعٌ يُستأجَرُ فيه لعمل بِلا نِهايةٍ ولا مُدَّة إلا هذا، إذ الإجارةُ تُقَدَّر بعملٍ لهُ نِهاية كخياطةٍ أو بناءٍ أو بزمانٍ معينٍ، لكنْ لا يزيدُ على مدة بقاءِ ¬
ذلك الشيء غالبًا. وتنفسِخُ الإجارةُ بانْهِدام الدَّار. ويثبتُ الخيارُ بانقطاع ماءِ الأرضِ المستأْجَرةِ للزِّراعةِ وبالغصبِ والإباقِ، وإن سَكَتَ وانقضَتِ المُدَّةُ لزمتِ الأجرةُ فِي الانقِطاع دون غيرِهِ، وكذا حُكْم بعضِها، وليس الخيارُ فِي ذلك ونحوِهِ على الفورِ. ولا تنفسِخُ (¬1) الإجارةُ بالأعذارِ -كما إذا استأجر دابةً ليركَبَ عليها فمرِضَ- ولا بموتِ أحدِ العاقِدينِ إلَّا فِي أربعِ صورٍ: 1 - الموقوفُ عليه المؤجِرُ بطريقِ النظرِ المشروطِ له فِيما يتعلَّق بِهِ. 2 - والمُقْطعُ. 3 - والموصى له بالمنفعةِ حياتَهُ. 4 - والأجيرُ المُعينُ. والمستأجرُ أمينٌ كالأجيرِ والحَمَّام. وتستقرُّ الأجرةُ بالتَّسليم مَعَ (¬2) مُضيِّ المُدة، أو إمكانِ العملِ فِي إجارةِ الذِّمة أو الأجِيرِ للعمل (¬3). وتستقِرُّ أُجرةُ المِثلِ فِي الفاسِدةِ، بما يستقِرُّ بِهِ (¬4) المُسمَّى فِي الصحيحةِ. ¬
ضابط في الإبدال
وإذا خاط قَبَاء وقال: "أذِنْتَ لي هكذا"، وقال صاحِبُهُ: "بل أذنتُ فِي قميصٍ"، فالقولُ لِصاحِبِهِ بيمينِهِ، فإذا حَلَفَ فلا أُجرةَ عليه، وعلى الخَيَّاطِ أرْشُ النقصِ. * * * * ضابط فِي الإبدال: مُتَعَلِّقاتُ الإجارة مستوفٍ، ومستوفًى منه، ومستوفَى به (¬1): * فالمستوفِي: يجوزُ إبدالُهُ بِمِثلِهِ وبأخفِّ منهُ. * والمستوفَى منه: المعين لا يُبدلُ وفِي الذِّمةِ يُبدل، وفِي الدابَّةِ المُعينة عما فِي الذمة تُبدلُ بالعيبِ والتوقُّف (¬2)، وليس للمؤجِرِ الانفرادُ بذلك على ما صححوه، والنصُّ فِي "الأم": له ذلك، وهو الأرجحُ. ويجرِي ذلك فِي تقدُّم المستأجِرِ بمنفعتِها عند الفَلَس. وجزموا بجوازِ إجارتِهِ إياها، وبالاعتِياضِ (¬3) عن منفعتِها بعد تسلُّمِها (¬4)، وقواعِدُ المذهبِ شاهدةٌ بمنعِهما. * والمستوفَى به: كالصبيِّ المُعَيَّنِ لِلإرْضاعِ لا يُبدلُ على النَّصِّ، ويَنفرِدُ ¬
على هذا بالمِنْفعةِ دُونَ الورَثةِ لو ماتَ أبُوه المُستأجِرُ له المُرضعةَ، وقِيل: تكونُ مُوروثةً. وقد صرَّحَ بالخلافِ فِي ذلك فِي نظيرِهِ فِي الخُلْعِ: المَاورْدِيُّ، واللَّه سبحانه وتعالى أعلم. * * *
باب الجعالة
باب الجِعالة هي بكسرِ الجِيمِ. وهي لُغةً: اسمٌ لِمَا يُجعَلُ للإنسانِ على شيْءٍ يَفعلُهُ، وكذا الجُعْلُ والجَعِيلةُ. وشرْعًا: التزامُ مُطلَقِ التصرُّفِ عِوَضًا مَعْلُومًا، قابِلًا للمُعاوضةِ، على عَملٍ مُعيَّنٍ مَعلومٍ (¬1)، أو مَجهولٍ، لِمُعيَّنٍ أوْ غيرِ مُعيَّنٍ. وأصلُها مِنَ القُرآنِ قولُه تعالى: {وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ (¬2)} (¬3) بناءً على أن شَرْعَ مَن قَبْلَنا شَرْعٌ لَنا مَا لَمْ يَرِدْ ناسخٌ، وفيه اختلافُ تَرجيحٍ. ومِنَ السُنةِ: حديثُ أبي سعيدٍ الخُدْريِّ -رضي اللَّه عنه- فِي رُقيةِ اللَّدِيغِ بالجُعْلِ على قَطيعٍ مِنَ ¬
الغَنمِ، وأنَّه رَقاهُ بالفَاتحةِ مِرارًا حتى بَرِئَ، وأَعطَوْهُم جُعْلَهم، وأنَّهم لَمْ يَقسمُوه (¬1) حتى أتَوُا النبيَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- وأنَّ النبيَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- قالَ لهم: "قدْ أصبْتُمْ، اقسِمُوا (¬2) واضْرِبُوا لِيْ مَعَكُمْ سَهْمًا" رواهُ الصحيحانِ (¬3) وغيرُهما (¬4). ويُستنبَطُ مِنه جَوازُ الجِعالةِ على ما يَنتفِعُ به المَريضُ مِن دَواءٍ أوْ رُقيةٍ ولَمْ أرَ مَنْ صرَّحَ بِه. وأصلُ الجِعالةِ مُتفقٌ علَيه. ومِنْ صُورِها (¬5): "مَن ردَّ عَبدِي"، أو: "بَنى لِي حَائطًا"، أوْ: "دَلَّنِي على مالِي" أوْ: "أخبَرَنِي بكذا" -عند القَفَّالِ خِلافًا لِلْبَغوِيِّ- أوْ: "رَدَّ عَبْدَ فُلانٍ": ¬
فلَهُ عليَّ كذا. ولا بُدَّ فِي الكُلِّ (¬1) أَنْ يكونَ العِوَضُ مَعْلُومًا (¬2) إلا فِي صُورةِ العِلْجِ، فسيَأتِي فِي السِّيَرِ. وإنما يَستحِقُّ الجُعْلَ أو (¬3) حِصَّةً مِنَ المَردودِ عِنْدَ المُتولِّي مَن سَمِعَ النِّداءَ مِن المُلتزِمِ أوْ مِمَّنْ أَخبَرَ عنه إنْ صدَّقَه الأصْلُ (¬4). ولَو كانَ السامِعُ صغيرًا أو مَجنونًا إذا عَمِلَ السامعُ العَملَ المَقصودَ بنَفْسِه أو بِوَكيلِه أوْ بِعَبْدِه أوْ بِمُعاوِنِهِ لَه خاصةً [مَعَ بَقاءِ العَقْدِ، ولا بَرَأَةَ بالقِراضِ إلا إذا سلَّمَ المضمونُ ثَمنَ ما اشْتراهُ على الأرْجَحِ] (¬5) ولو ردَّهُ (¬6) مَنْ كانَ فِي يَدِه كالآبِقِ لا كالدَّراهِمِ ونحوِها، أوْ دلَّه مَنْ ليس فِي يَدِه فِي صُورةِ مَنْ دلَّنِي. ولَوْ عَمِلَ جَماعةٌ سامِعُونَ فهُو بَيْنَهم، فإنْ تَفاوَتَ جُعْلُهم، فلِكُلِّ قِسْطٍ جُعْلُهُ. * * * ¬
ويستحق القسط من المسمى في خمس صور
* ويَستحِقُّ القِسْطَ مِن المُسمَّى فِي خَمْسِ صُورٍ: 1 - إحداها: إذا عاوَنَ (¬1) المعيَّنُ غيرَه، ولمْ يَقصِدْ (¬2) العمَلَ للْمُعيَّنِ. 2 - الثانيةُ: رَدَّهُ (¬3) مِن مَكانٍ أقْربَ مِن المُعينِ، ولا يُريدُ إنْ زَادَ. 3 - الثالثةُ: قال فِي عَبدَيْنِ: "مَنْ ردَّهُما فلَهُ كذا" فَردَّ واحدًا مِنْهُما، فلَهُ النِّصْفُ. 4 - الرابعةُ: خَاطَ نِصْفَ الثَّوبِ، ثُم احْتَرَقَ وهو فِي يَدِ المَالِكِ، فإنه يَستحِقُّ نِصْفَ المَشْروطِ. صرَّحَ به ابنُ الصَّباغِ. وقياسُه فِي الصبيِّ يُعلمُ بعضَ المَطْلوبِ، ثُم يَموتُ الصبيُّ أنه يَستحِقُّ القِسْطَ مِن المُسَمَّى خِلافًا لِقَوْلِهم: "يَستحِقُّ أُجْرةَ مِثْلِ (¬4) ما عَمِلَ". 5 - الخامسةُ: ماتَ العبدُ (¬5) أو المَالِكُ فِي أَثناءِ العَملِ، فالمُستحَقُّ القِسطُ حتى فِي ردِّ بَعضِ المَسافةِ إذا تَمكَّنَ صاحبُه منهُ بِسبَبِ ما سَبقَ مِنَ العَملِ. وقِياسُه فِي المَالكِ إذا فَسَخَ فِي أثْناءِ العَملِ أنَّ العَاملَ يَستحِقُّ (¬6) القِسْطَ لِما مَضى، خِلافًا لِقَوْلِهم: "يَستحِقُّ أُجرةَ المِثْلِ". وأمَّا فِي المُستقبَلِ، فلا شَيْءَ إن عَلِمَ بَالفَسخِ، ثُم عَمِلَ، وإنْ لَمْ يَعْلمْ حتَّى ¬
تَمَّمَ (¬1) العَملَ، فإنْ كانَ مُعيَّنًا استحَقَّ على الأرْجحِ، وإنْ كانَ غَيرَ مُعيَّنِ وأَعلَنَ المَالِكُ النِّداءَ بالرُّجوعِ، فلا شَيْءَ لَه، وإلَّا فَلَهُ. ذكرَهُ المَاورْديُّ والرُّويانيُّ. وكذا الحُكْمُ فيما قَبْلَ العَملِ؛ خِلافَا لِمَا وقَعَ فِي" الشرحِ" (¬2) و"الرَّوضةِ" (¬3). ويَستحِقُّ أُجرةَ المِثْلِ عِندَ فَسادِ العِوَضِ (¬4) أو (¬5) ذِكْرِ المُدةِ أو الفَسخِ بالتحالُفِ لِلاخْتلافِ فِي قَدْرِ المَشروطِ، والقَوْلُ لِلْعامِل بِيَمينِه فِي أنه سمِعَ النِّداءَ، والقَولُ لِلْمالكِ فِي أنَّه لَمْ يَعملْ، وأنَّ المَردودَ ليس هو المعيَّنَ، وأنه لَمْ يَشْتَرِطْ (¬6) شَيئًا، والمردودُ أمانة، ولو اتفقَ العامِل عليه لَمْ يَرجعْ. والتحقيقُ: أنَّه يرجعُ إذا استأذَنَ الحاكِمَ أو ما فِي مَعناهُ، ومَتى رَفعَ يَدَه باختِيارِه عَنِ الضالَّةِ قَبْلَ التَّسليمِ ضَمِنَ، واللَّهُ سبحانه وتعالى أعلَمُ. * * * ¬
باب إحياء الموات والحقوق المشتركة العامة وما يتبعها
باب إحياء الموات والحقوق المشتركة العامة وما يتبعها المَواتُ والمَوَتانُ: بفَتحِ المِيمِ والواوِ، والميتُ والميتةُ: الأرضُ التي لَم تُعمَرْ قَطُّ (¬1)، ويُطلَقُ الميتُ والميتةُ على التي لَمْ يُصبْها ماءٌ (¬2). ومقصودُ البابِ الأولُ (¬3)، والترجمةُ فيها مَجازٌ مِن جِهَةِ الإحْياءِ والمَواتِ. عن عائشةَ -رضي اللَّه عنها- أنَّ النبيَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "مَن أَعْمَرَ أرْضًا لَيْسَتْ لِأحَدٍ، فَهُو أحَقُّ ¬
بِهِ (¬1) " (¬2). رواه البخاريُّ. وعن سَعيدِ بنِ زيدٍ (¬3) -رضي اللَّه عنه- عنِ النبيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "مَن أحْيَا أرْضًا مَيِّتةً فهِيَ له، وليْسَ لِعِرْقٍ ظالِمٍ حقٌّ". رواهُ أصحابُ السُّننِ إلَّا ابنَ ماجه، وقال الترمِذِيُّ: حديثٌ حَسنٌ غريبٌ (¬4). ¬
وعنْ جابرٍ -رضي اللَّه عنه-: عن النبيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "مَنْ أَحْيَا أرضًا مَيِّتةً فَهِي لَهُ". رواه الترمذيُّ. وقال: حديثٌ حَسَنٌ صحيحٌ، والنسائيُّ (¬1). وفِي البابِ أحاديثُ غَيرُ هذِه عَن جَماعةٍ مِنَ الصحابةِ رضي اللَّه تعالى عنهم. وفِي رواية لِجابرٍ: "مَنْ أحْيَا أرضًا ميتةً فلَه بِهَا أجْرٌ" (¬2). رواهُ أحمدُ وهو ¬
الأرض قسمان: أرض مسلمين وأرض كفار.
يدلُّ على استِحبابِ الإحْياءِ، وفِي رِوايةِ الشافعيِّ مِن حَديثِ طُاوسٍ مُرسلًا: "هذه (¬1) الأرضُ للَّه ولرَسولِهِ، ثُمَّ هِي لكُم منِّي" (¬2). وهذا خِطَابٌ لِلْمُسلمِينَ. * * * الأرضُ قِسمانِ: أرضُ مُسلمِينَ وأرْضُ كفَّارٍ. 1 - القسمُ الأولُ: عَامِرٌ وغَيْرُ عَامرٍ: فالعامرُ: مَمْلوك، أوْ مَوقوفٌ. وغيرُ العامِرِ: إنْ (¬3) لَمْ يُعمَرْ قَطُّ، ولمْ يَتعلَّقْ به حَقٌّ يَملِكُه المُسلمُ بالإحياءِ، وكذا إنْ عَمَرَ جَاهليةً على ما رجَّحُوهُ، وإذا (¬4) لَمْ يُعْلَمْ كَيفيةُ استيلاءِ المُسلمِينَ علَيهِ، فإنْ عُلِمَ عُمِلَ بِمُقتضاه مِنْ غَنيمةٍ أو فَيْءٍ. ¬
2 - القسم الثاني: أرض الكفار،
والتحقيقُ لا يُملَكُ بالإحياءِ مُطْلَقًا لِتَحقُّقِ سَبْقِ المِلْكِ (¬1). ويَمْلِكُ المُسلِمُ ما عَمَّرَهُ كافرٌ فِي مَواتِ الإِسْلامِ، إذا نَقَلَ مالَه، وإنْ لَمْ يأذنِ الإمامُ فِي الصُّورِ كُلِّها (¬2). * وليْسَ لَنا مَوضِعٌ يُعتبَرُ فيه إذنُ الإمامِ فِي الإحياءِ [فِي غيرِ الحِمى، لأنَّه نقضٌ] (¬3) إلا فِي صُورتَينِ على وجهٍ ضعيفٍ (¬4): * إحداهُما: فِي عِمارَةِ الكافرِ إنْ بَقِيَ أثَرُها. * الثانيةُ: إحياءُ ذِي العهْدِ فِي بِلادِ الإسْلامِ. 2 - القسمُ الثاني: أرضُ الكفارِ، ما كان مَعمُورًا منها مِلْكٌ لا مَدخَلَ للإحياءِ فيه ومَا لَمْ يَكنْ (¬5) مَعمُورًا قَطُّ يملِكُه الكَافرُ بالإحْياءِ، وكذا المُسلِمُ، فيما لَم يَذُبَّ عنه المُسلمِينَ. وما استولَيْنَا علَيه مِن مَواتِهم بِقِتالٍ، فأصحابُ الغَنيمةِ أحقُّ بإحيائِه، أو بِصلْحٍ فأهْلُ الفَيءِ أحَقُّ بإِحيائِه يُحْيِيهِ الإمامُ لَهم. وما صُولِح الكفَّارُ عليه على أنَّ البَلَدَ لَهُم، فيَختصُّونَ بإِحياءِ مَواتِه، وإنْ لَمْ ¬
يُشرَطْ فِي الصُّلحِ على الأصحِّ إذا كان مِن مَرافقِهم. وضَبَطَه بعْضُهم بأنْ يَذبُّوا عنه، وفيهِ نَظرٌ. ولا يُمْلَكُ بالإحياءِ ما تَعلَّقَ به حَقٌّ خاصٌّ أو عامٌّ، كحَرِيمِ الدَّارِ، وهو مِلْكٌ لِصاحِبِها على الأصحِّ، ولا يُفرَدُ بالبَيعِ كشِرْبِ الأرضِ، وهو مَوضِعُ مَطْرَحِ (¬1) الترابِ ونحوِه، والمَمرِّ فِي جِهَةِ الباب وكَحَريمِ البِئْرِ نَحوِ مَوْضِعِ الدُّولابِ (¬2)، ومُتردِّدِ البَهيمةِ ووُقوفِ النَّازِحِ، وصَبِّ (¬3) الماءِ ونحوِه. وحُريمُ القَناةِ الذي لو حُفِر لَنَقصَ مَاؤُها أو خِيفَ انهيارُها (¬4). وحَريمُ القريةِ مُجتمَعُ النادِي ومُرتكَضُ الخَيلِ ومَناخُ الإبِلِ، ومَطْرَحُ الرَّمادِ، ونحوه، وما قَرُبَ مِن المَرعى المستقلِّ بِه، وكذا المحتطَبُ، وكلّ ذلك فِي حَريمِ الأملاكِ بالمَواتِ (¬5). والدارُ المَحفوفة (¬6) بالمَساكِنِ لا حَريمَ لَها (¬7). * ومِنَ الحُقوقِ العامَّةِ: الطُرُقُ والمُصلَّى خَارِجَ البَلَدِ، ومنه عَرفاتٌ، فلا ¬
تُملَكُ بالإحياءِ على الأصحِّ (¬1)، وأَلْحَقَ صاحبُ "الرَّوضةِ" (¬2) فِيها، وفِي "المنهاجِ" (¬3): مِنًى ومُزدلِفَةَ (¬4) بِعَرفاتٍ. وفِي نَصِّ الشافعيِّ -رضي اللَّه عنه- نقَلَه الحاكِمُ والبَيهقِيُّ فِي "مناقبِه" (¬5) -يَدُلُّ على جَوازِ البِناءِ بِمنًى، وقدْ جَرى على ذلك عَملُ الناسِ. * ومِن الحُقوقِ العامَّةِ التي لا تُملَكُ بالإحياءِ: المَعادِنُ الظاهرةُ كالنَّفْطِ ونحوِها (¬6). * ومنها: حافَّاتُ الأنْهارِ، وأما المعدِنُ الباطِنُ فلا يُملَك بمُجرَّدِ الحَفْرِ والعَملِ على الأظْهرِ، لكنْ مَنْ أحيَا مَواتًا، فظَهرَ فيه مَعدِنٌ باطنٌ يَملِكُه قَطْعًا. ولَيس مِن الحقِّ المَانعِ مِنَ الإحياءِ (¬7) تحجُّرٌ بِبَعضِ عَمَلٍ، ولا أعلامٌ بنَصْبِ أحْجارٍ، وهو أحَقُّ به ما لَمْ يطُلْ، ولا يصِحُّ بيعُه، ويَنقُلُه لِغَيرِه ويُورَثُ ¬
عَنه. فإنْ طَالتِ المُدَّةُ أمَرَهُ السُّلطانُ بالإحياءِ أو (¬1) التركِ، فإنِ استَمْهلَ أمْهلَه مَا يَرَاهُ مِن القريبِ (¬2)، ولا يُتقدَّرُ بثلاثةِ أيامٍ فإذا مَضى بَطَلَ حقُّه. وما أقْطَعَه الإمامُ مِنَ المَواتِ ولَمْ يُقدَرْ (¬3) على إِحيائِه يَصيرُ المُقْطَعُ أحَقَّ به، ولَو أحْياهُ غيرُه مَلَكَهُ. * * * ومدارُ الإحياءِ على القصْدِ والعُرْفِ (¬4)، فمَن قَصدَ مسجِدًا أوْ عَمَرَهُ على العادةِ فِي مِثْلِ ذلك صارَ مَسجِدًا مِن غَيرِ احتياجٍ إلى تَلفظٍ بِوَقْفٍ لاقْتِرانِ الفِعلِ بالقَصدِ ويَزولُ مِلْكُه عنِ الآلةِ، باستِقْرارِها فِي مَواضعِها وكذا قَبْلَ استِقْرارِها إذا صَرَّحَ بأنها للْمَسجدِ، نقَلَ ذلك المَاوَرْديُّ فِي الوَقْفِ. وفيما ذَكَرَ (¬5) فِي الآلةِ قَبْلَ استِقرارِها نَظرٌ. والظاهرُ: أنه لا يملِكُ البُقْعةَ (¬6) تَقديرًا، ويَجرِي مِثلُ ذلك فِي البِئْرِ المَحفورةِ فِي المَواتِ للسَّبيلِ وما يُحيى بِقَصْدِ (¬7) المَقبرةِ المُسَبَّلةِ ونحوِ ¬
ذلك (¬1)، قلتُه تَخريجًا. والحافِرُ للارْتِفاقِ أحَقُّ إلى أن يَرتَحِلَ، ويَجِبُ بَذْلُ الفاضِلِ عن شُرْبِه، وشُرْبِ آدَميٍّ مُحْترَمٍ مَعه لِمَنِ احْتاجَ إلَيهِ لِشُرْبِ آدَمِيٍّ مُحْترَمٍ، وعَنْ شُرْبِه ومَواشِيه وزَرْعِه لِماشِيَةِ غَيرِه. والمَحفورةُ للمِلْكِ مَمْلُوكةٌ، وكذا ماؤُها على الأصحِّ. ويَجِبُ بَذْلُ الفاضِل فِي مُستقَرِّهِ للرُّعاةِ، وكذا لِلْماشِيةِ إذا لَمْ يَجِدْ صاحبُها ماءً مُباحًا، وكانَ هُناكَ (¬2) كَلأٌ يُرعَى مِنه، ولا يَأخُذُ عِوَضَه على الأصحِّ. والمَحفُورةُ بِلَا قَصْدٍ مَمْلوكةٌ على الأصحِّ. ومِن ذلك يُعلَمُ (¬3) أنَّ القَصْدَ غَيرُ مُعتَبَرٍ فِي حُصولِ المِلْكِ، وإنَّما يُعتبَرُ فِي تَعيِينِ (¬4) ما قُصِدَ، فيُعتبَرُ فيه حِينئذٍ العُرْفُ، وإنَّما يَحصُلُ فِي الصُّوَرِ كلِّها الإحياءُ فِي البِئْرِ إذا وَصلَ إلى الماءِ. ولا بُدَّ مِنَ البِناءِ المُعتادِ إنْ كانَتِ الأرضُ حفرةً (¬5). ويُعتبَرُ فِي القَناةِ مَع الحَفْرِ وخُروجِ المَاءِ جَريانُه. وفِي حَفْرِ النَّهرِ إذا انْتَهى إلى القَدِيمِ مِن غَيرِ أَنْ يَجرِيَ الماءُ كفَى عِندَ المُتوَلِّي، وهُوَ الأقْوَى، خِلافًا لِلبغَوِيِّ. ¬
وفِي المُزارَعةِ: تُعتبَرُ تَسويةُ الأرضِ، وجَمْعُ تُرابٍ، أوْ نَصْبُ حَجَرٍ، أوْ شَوكٍ حَوْلَها، وتَرتيبُ ماءٍ إنِ احْتيجَ إلَيه. وفِي المَسْكَن: يُعْتَبَرُ التَّحويطُ، وتَسقيفُ بعْضِه، ونَصْبُ البابِ. وفِي الزَّريبةِ: التَّحويطُ، ونصْبُ البابِ، ويُعتبَرانِ فِي البُستانِ مَع غَرْسِه، وتَرتيبُ ماءٍ إنِ احتيجَ إليه، وحيثُ اعتِيدَ تَرْكُ تَحْويطِه يَكفِي جَمْعُ تُرابٍ ونَحوِه حَوْلَه، واللَّهُ سبحانه وتعالى أَعْلَمُ. * * *
فصل
فصل (¬1) منفعةُ الشَّارعِ الأصليةِ السُّلوكُ، ويَجوزُ الوقوفُ فيه، والجُلوسُ، لاستِراحةٍ (¬2) ونحوِها، وكذا المُعامَلةُ إنْ لَمْ يُضيِّقْ على المارَّةِ (¬3). ولَه أن يُظلِّلَ عليه بِمَا لا يَضرُّ، والسابِقُ أَحَقُّ، وإنْ طَالَ عُكوفُه حتى يَتْرُكَ الحِرْفةَ (¬4) أوْ يَنتقِلَ أوْ يُفارِقَ بِحيثُ تَنقطِعُ عنه (¬5) الآفَةُ (¬6). ولا يَبنِي فِي الشارعِ دِكَّةً، ولا يَغرِسُ شَجرةً، وإنْ لَمْ يَضُرَّ على الأصحِّ. ويُقْطِعُ الإمامُ مِنَ الشارعِ لِلارتِفاقِ ما يَراه بِلَا عِوَضٍ (¬7). وجَوَّزَ أبو إسحاقَ أخْذَ العِوَضِ عَن مَقاعِدِ الأسواقِ، وقال: خَالفتُ (¬8) أصحابِي فِيه، وفِي أخْذِ العِوَضِ عن حَدِّ القَذْفِ وحَقِّ الشُّفعةِ. وليس لِلمُقْطَعِ أَنْ يَبنِيَ فيه، ولَا يَتملَّكَه؛ خِلافًا لِمَا فِي "الشرحِ" ¬
و"الرَّوضةِ" (¬1) فِي الدِّيَاتِ. ويَجوزُ أن يَبنيَ فيه مَسجِدًا لا يَضرُّ بالمارَّةِ. كذا قالُوه (¬2)، والقِياسُ: منعُه. ويَشرَعُ فيه المسلمُ الجَنَاحَ بِحَيثُ لا يَضرُّ. والزُّقاقُ غَيرُ النافِذِ مَمْلوكٌ لِأهلِه، وشِركَةُ كُلِّ أَحَدٍ تَختضُ بما بيْنَ رأسِ الدَّرْبِ، وبابِ دَارِه، ومَن (¬3) فتحَ فيه بابًا مَنْ لا بَابَ لَه فِي الدَّربِ، فلَهم (¬4) مَنعُه، ولَو كانَ هُناكَ مَسجدٌ أوْ بئرٌ مُسبَّلةٌ عُلِمَ سَبْقُ المِلْكِ فِيهِما. ولَو قالَ المُلاصِقُ "افتَحْهُ (¬5) وأسْمِرْهُ"، مُنِعَ على الأَفْقَهِ، خِلافًا لِما صحَّحَه فِي "المُحرَّرِ" (¬6). ومَنْ فَتحَ فيه (¬7) مِنْ أهْلِه بابًا وسَدَّ القَديمَ لَمْ يُمنعْ إنْ كانَ الحَادِثُ إلى رأسِ السِّكَّةِ أقْربَ، وإلا مَنَعَهُ مَنْ له منعُهُ شِركةٌ، وكذا يَمْنعُه مِن إشْراعِ الجَناحِ، وإنْ لَمْ يَضرُّ، ولا يُمنعُ مِن فَتْحِ بابٍ مِن إحدى دَارَيْهِ لِلْأُخْرَى، ولَو كانَا فِي دَرْبَينِ غَيرِ نَافِذَيْنِ على الأصحِّ. والمَنفعَةُ فِي المَسجدِ للصلاةِ، والاعتكافِ، وتعْلِيمِ القُرْآنِ، والعِلْمِ، والفتوى، وهو أحقُّ فِي التَّعلِيمِ. ¬
والفَتْوى (¬1) فِي ذلك المَوضِعِ كما فِي الجَالِسِ (¬2) فِي الشَّارعِ لِلْمعامَلةِ، خِلافًا لِنَقْلِ (¬3) المَاوَرْديِّ فِي جَعْلِهِ كالجَالسِ للصلاةِ يَصيرُ أحَقَّ بِه فِي مرَّةِ السَّبقِ، إلا إنْ فَارقَ بغَيرِ عُذْرٍ. وفِي مَعْدِنٍ ظاهرٍ يُقدَّمُ السابقِ بِقدْرِ الحَاجةِ عادةً. وإنْ ازْدَحمَ اثنانِ فِي الصُّوَرِ كلِّها أُقْرِعَ. والأعلى يَستقِي مِن ماءٍ جَرَى بِنفْسِه إلى الكَعْبِ، ويُمنَعُ مَن قَطَعَ مِنْه، والمُحرزُ منه فِي طرفٍ مَمْلوكٍ على الأصحِّ. ويَحمِي الإمامُ والوُلاةُ فِي النَّواحِي لِنَحْوِ نَعَمٍ الصَّدقةِ بِمَا لا ضَررَ فيه، ولِغَيرِه مِنَ الأَئِمةِ نقْضُهُ بالمَصْلحةِ، لا النَّقيع -بالنون (¬4) - حِمَى النبيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- لأنَّه نصٌّ. ويَتصرَّفُ كُلُّ أَحَدٍ فِي مِلْكِه بالعَادةِ (¬5)، وبِخلافِها إذَا احْتاطَ، وأَحْكمَ، ولَمْ يَضرَّ بِدقٍّ مُزعجٍ، ولا دُخَانٍ ونحوِه. ويُمنَعُ الذِّمِّيُّ مِن بِناءٍ مُساوٍ لِبناءِ جِيرانِهِ المُسلِمينَ. * * * ¬
باب الوقف
باب الوقف هُو لُغةً: تَرْكُ تَصرُّفٍ (¬1) بِمعنى التَّحبِيسِ والتَسبيلِ، يقال: "وقَفْتُ كذا وحبَّستُه"، و"حبَّستُ": أكثرُ استعمالًا، ويقالُ: "أوْقفْتُه" فِي لُغةٍ رَديئةٍ. وشَرْعًا: تحبيسُ مالٍ يمكنُ الانتفاعُ به مع بقاءِ عَينِه، بقَطْعِ التصرُّفِ فِي رقَبتِه على مَصرِفٍ مُباحٍ مَوجودٍ. ومَنْ يَعتبِرُ اتصالَه يَزيدُ فيهِ "بِما يَقتضِيه" ومَنْ يَعتبِرُ القُرْبةَ يزيدُ فيهِ "تَقرُّبًا إلى اللَّه تعالى". وأصلُه: ما روا ابنُ عُمرَ -رضي اللَّه عنهما- أنَّ (¬2) عُمَرَ بْنَ الخطابِ -رضي اللَّه عنه- أَصابَ أرضًا بِخيْبَرَ فأتى النبيَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- فقال: يا رسولَ اللَّهِ، إنِّي أَصبْتُ أرْضًا بَخَيبَرَ لَم أُصِبْ مالًا قَطُّ هُو عِندي أنفسَ مِنْه فما تأمُرنِي؛ قال له النبيَّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إنْ شِئْتَ حبَّستَ أصلَها وتصدَّقتَ" قال: فتَصدَّق بِها عُمَرُ أنه لا يُباعُ أصْلُها ولا يُورَثُ ولا ¬
يُوهَبُ، وذكرَ مَصارِفَها. أخرجَه الصحيحانِ (¬1). وفِي روايةٍ للبخاريِّ (¬2) قال النبيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "تصدَّقْ بأصلِهِ لا يُباعُ ولا يُوهَبُ ولا يُورثُ، ولَكِنْ تُنفَقُ ثَمرتُهُ" (¬3). وفِي "الصحيحينِ" مِن طَريقِ أبي هُريرةَ -رضي اللَّه عنه- أَنَّ النبيَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- فِي حقِّ خالدٍ أنَّه احتَبسَ أدْراعَهُ وأَعْتادَهُ فِي سَبيلِ اللَّهِ (¬4). وفِي "صحيحِ مسلمِ" عَنْ أبي هريرَةَ -رضي اللَّه عنه- عَنِ النبيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- أنه قالَ: "إذَا ماتَ الإنسانُ انقطعَ عملُهُ إلا مِن ثلاثٍ: مِن (¬5) صَدقةٍ جَاريةٍ، أوْ عِلْمٍ يُنتفعُ به، أوْ ولَدٍ صَالحٍ يَدعو لَه" (¬6). والصدقةُ الجاريةُ مَحمولةٌ عِندَ العُلَماءِ على الوقْفِ. ¬
وذكر المحاملي أن التبرعات ستة
وذَكَرَ المَحَامِلِيُّ أنَّ التبرُّعاتِ ستة: 1 - الصدَقةُ. 2 - والوَقْفُ. 3 - والهِبةُ. 4 - والعُمْرَى. 5 - والرُّقبى. 6 - والوَصيةُ. ويُزادُ عليه: الإباحةُ. والمرادُ التبرعُ بالأعيانِ غَيرِ (¬1) العِتْقِ ومُقدِّماتِه. * * * ويُعتَبَرُ فِي الوقْفِ أَنْ يَصدُرَ مِنْ مالكٍ مُطْلَقِ التصرُّفِ أوْ وَكيلِه إلا فِي خَمْسِ صُوَرٍ: 1 - إحداها: ما يقِفُه الإمامُ مِنْ أملاكِ بيْتِ المَالِ على ما يَقتضِيه النَّظرُ، صرَّحَ به القَاضِي الحُسَينُ، والنَّصُّ فيما بعدَها يَشهَدُ لَه. 2 - الثانيةُ: ما يقِفُه الإمامُ مِنْ رِقابِ أراضِي الفَيْءِ، نَصَّ عليه وأَخذَ بِه الجُمهورُ. ¬
3 - الثالثةُ (¬1): ما يقِفُه الحاكِمُ مِن بَدَلِ الوَقْفِ المُتْلَفِ المُبتاعِ بِقِيمتِه. 4 - الرابعةُ (¬2): ما يقفُه الحاكمُ مِن رِيْعٍ اشَترَطَ أنه يُشترِى به ويوقَفُ. 5 - الخامسةُ (¬3): ما يقِفُه مَن شُرِطَ له ذلك مِن ناظِرٍ أوْ وصِيٍّ، وإنْ لَمْ يَكنْ حاكمًا، وما شُرِط أَنْ يُشتَرَى ويَكونَ وَقفًا، أوْ له حُكمُ الوَقفِ، لا يَحتاجُ إلى لَفْظٍ. * * * ولا بُدَّ لِلْوقْفِ مِنَ الصِّيغةِ فِي غَيرِ هذه، إلا فيما سَبقَ فِي إحياءِ المَواتِ، وفيما يَأخذُه الإنسانُ مِنَ الناسِ لِيَبنِيَ بِه زَاوِيةً أوْ رِباطًا، فإنه إذا بنَى يَصيرُ وقْفًا على ما كان يَأخُذُ له، ذَكرَ ذلك الشيخُ أبو مُحمَّدٍ على طَريقةِ ابْنِ سُريجٍ، وذَكرَ الإمامُ أنه لا حاجةَ إلى لَفْظٍ فِي مَصيرِ ما يُجعَلُ شَارعًا. ومِن صَرائحِ الصِّيغةِ: "وقفْتُ" أو "حَبَّسْتُ" أو "سَبَّلْتُ" أو "تصدَّقتُ به صدقة مُحرَّمةً أو مَوْقوفةً، أوْ لا تُباعُ ولا تُوهَبُ". ومِن الكِنايةِ: "حرَّمْتُ" أو "أبَّدْتُ". ويحتاجُ إلى (¬4) نِيةِ الوَقفِ. و"تصدقْتُ" إنْ نَوى بِه وَقْفًا على جِهَةِ عامَّهٍ، صحَّ، وإنْ نَواه على مُعيَّنٍ لَمْ ¬
يَكنْ وقْفًا، بلْ هو تَمليكٌ، ولا يَحتاجُ إلى قَبولٍ إذا وقَفَ على غَيرِ مُعيَّنٍ (¬1)، ولا (¬2) على المُعيَّنِ على ظَاهرِ النَّصِّ المُختارِ، وقَطَعَ بِه جَماعةٌ (¬3)، خِلافًا لِما صَحَّحه فِي "المحرَّرِ" (¬4)، تَبَعًا لِلْإمامِ وغيرِه. وعلى الوَجْهَينِ: إذا ردَّ بَطَلَ حقُّه، خِلَافًا للبَغويِّ، وما قاله حَسَنٌ، ولو ردَّه ثم رَجَعَ قَبْلَ حُكمِ الحاكِمِ بِرَدِّه كان له ذلكَ، قالَه الرُّويانيُّ، وفيهِ نَظرٌ. ولا يُشتَرَطُ قَبولُ النَّظرِ (¬5) الثاني، ولا عَدَمُ رَدِّهِم على الأرْجَحِ. ولا أَنْ يَقولَ الواقِفُ: أخرجْتُه مِنْ مِلْكي، علَئ المَشهورِ، ولا أن يَقبِضَه المَوقُوفُ عليه قَطْعًا، خِلافًا لِما (¬6) شذَّ به المَرْعَشيُّ والجُرجانيُّ. وإذا بَطَلَ بالردِّ فهو مِن صُوَرِ مُنقطِعِ الأَوَّلِ، وهو بَاطلٌ على الأصَحِّ، ويَصِحُّ مُنقطِعُ الوسطِ، والآخِرِ على الأصحِّ. ويُعتبَرُ فِي المَوقُوفِ أن يكونَ عَينًا مُعينةً مَمْلوكةً قابلةً للنَّقْلِ تُعَدُّ (¬7) عَيْنًا كثمرةٍ أوْ مَنفعةٍ تُستعارُ لها، كفَحلٍ لِضِرابٍ، وإنْ كانتْ مُنتظَرةً كما فِي العَبدِ والجَحْشِ الصغِيرَيْنِ، والمُؤْجَرِ. ¬
ولا يصحُّ وقفُ الكلْبِ والمُستولَدةِ والمُكاتَبِ، ولا الحُرِّ نفسَهُ. ويصحُّ فِي المُدَبَّرِ ومعلِّقٍ للعِتْقِ. ولا يَبطُلُ الوَقْفُ عِندَ وُجودِ الصِّفةِ فيهما على الأصحِّ، خِلَافًا لِلْبغَويِّ والرَّافِعِيِّ ومَن تَبِعَهما، لِخُروجِه عَن مِلْكِ الواقِفِ قَبْلَ وُجودِ الصِّفةِ. ويصحُّ وقْفُ البِناءِ والغِراسِ وإنْ لَمْ تَكنِ الأرضُ مَمْلوكةً لِمالِكِهما (¬1)، ووقْفُ (¬2) مَا لَمْ يَرَهُ على الأصحِّ فَيهما، ولا خِيارَ له عِندَ الرُّؤيةِ. ويُعتبَرُ فِي المَوقوفِ عليه المعيَّنِ أن يكونَ أهلًا للمِلْكِ غيرَ مستحِقٍّ القْتلَ لِحَقِّ اللَّهِ تعالى، فلا يَصحُّ على الجَنينِ (¬3) خِلافًا لِما جَزمَ به الزازُ، ولا على العَبْدِ نفْسَه (¬4) ولَوْ مُكاتَبًا، خِلافًا لِلْمُتولِّي ولا على مُرتدٍّ وحربيٍّ (¬5)، على الأصحِّ فِي الثلاثةِ. وقياسُهُ: أن لا يصحَّ على زانٍ محصَنٍ وتاركِ صلاةٍ، وإنْ أطْلَقَ الوقْفَ على العبدِ (¬6) كانَ وقْفًا على سيِّدِه، والوَقْفُ على البَهيمةِ لاغٍ، وإنْ أطْلَقَه. ويَبْطُلُ وَقْفُ الإنسانِ علَى نفْسِه على الأصحِّ المَنصوصِ، ولأ يُستثْنَى مِنْ ذلك ما ذَكرَه ابنُ يُونُسَ ومَن تَبِعه: مِن (¬7) أَنْ يَقِفَ ذلك على صِفَةٍ تَنْحصِرُ فيه ¬
ومدار الوقف على الشروط المعتبرة
كالأفْقَهِ مِنْ بَنِي فُلانٍ؛ لأنَّه لَو وَقفَ على وَلَدِه، ثُمَّ مِنْ بَعْدِ ولَدِه على وَارثِه، وكان بَعْدَ وَلدِه هو أحَدُ ورَثتِه ففِيها وجْهانِ: فابنُ سُريجٍ والزُّبيرِيُّ (¬1) المُجيزانِ وقْفَ الإنسانِ على نفْسِه، قالَا: يأْخُذُ قَدْرَ إرْثِه وقْفًا، ومُخالِفُوهُما مَنعُوا ذلك، ذَكرَه المَاورْدِيُّ. والإبْطالُ فِي صُورةِ ابْنِ يُونُسَ أوْلَى، نَعَمْ يُستثْنَى مِن ذلك ما إذَا وَقفَ الإمامُ مِن بَيتِ المَالِ أرْضًا لِجَامِكيةِ الإمامةِ مَثلًا، فإنَّه يَصحُّ، قُلْتُه تَخريجًا. ولَو شَرطَ مَن وقَفَ مِلْكَه النَّظرَ لِنفْسِه وأُجْرةً (¬2) على النَّظرِ غَيرُ زَائدةٍ علَى أُجْرَةِ المِثْلِ جَازَ على الأصحِّ (¬3)، ولَو وقَفَ وَقْفًا (¬4) على الفُقَراءِ ثُمَّ صارَ فقِيرًا جازَ أَنْ يَأخُذَ مِنه، وكذا لَو كانَ فَقِيرًا عنْدَ الوقْفِ، قُلتُه تخْريجًا. * * * * ومدارُ الوَقفِ على الشُّروطِ المُعتبرَةِ: - ومِنها: أَنْ يَشرُطَ صَرْفَ الرِّيعِ لِقَومٍ سَنَةً ثُمَّ لآخَرِينَ. - ومِنها: شَرَطَ أن لا يُؤجَّرَ أوْ لا يُؤَجَّرَ (¬5) إلا كذا. - ومِنْها: شَرَطَ اخْتصاصَ المَسجدِ لِطائفةٍ على ما صحَّحَه فِي ¬
"المُحررِ" (¬1)، وليس مِنْها شَرْطُ الخِيارِ، ولا أن يَبيعَه مَتى شَاءَ أوْ يَرْجعَ فِيه، بلْ يَبْطُلُ الوَقْفُ بذلكَ. وقاعدةُ البابِ: العَملُ لِلظُّهورِ (¬2) والاتِّصالِ مَا أمْكنَا، وعنْدَ الانقطاعِ فِي غَيرِ الأوَّلِ يُصرَفُ لِفُقَراءِ أقْرَبِ الوَاقفِ لِمِلْكِه ولَو بوَكيلِه، وكذا إنْ تَعذَّرَ معرفةُ تصرُّفِه (¬3). والحقيقةُ مقدَّمةٌ، وقد يُصارُ إلى المَجازِ عند تعينِهِ، ويُحمَلُ المُشترَكُ على جَميعِ مَعانِيهِ. والذِي (¬4) صَرَّحَ فيه بالتَّرتيبِ أوْ بالتشريكِ تَسويةً أو تفصيلًا يُعمَلُ به، وكذا مِن جِهَةِ الظُّهورِ كـ "ثم" لِلترتِيبِ و"الواو" لِلتشْريكِ. وفِي قولِه: "بَطنًا بَعْدَ بَطْنٍ"، ونحوِه، تردُّدٌ، والأرجحُ: التشريكُ خِلافًا لِمَنْ رَجَّح الترتيبَ فيه وفِي: "طَبَقَةً بَعْدَ طَبَقَةٍ". والوقْفُ على الأوْلادِ لا يَتناولُ أولادَهم، إلا إذا لَمْ يَكنْ هُناكَ غيرُهُم، فيَتعينُ المَجازُ للتَّصحيحِ. . قالَه المُتولِّي. ولو وَقَفَ على وَرَثَةِ زَيْدٍ وهو حيٌّ لَمْ يَصِحَّ، ويَتعيَّنُ (¬5) المَجازُ. . قالَه المَاوَرْدِيُّ؛ لِإمْكانِ وُجودِ الحَقيقةِ فيها بِخِلافِ أوْلادِ الأوْلادِ. ¬
والوقفُ على المَوالِي (¬1) يُقسَّمُ بَيْنَ الأَعْلَى والأسْفَلِ المُوجُودِينَ حَمْلًا لِلْمشترَكِ على جَميعِ مَعانِيه. وما يَعْقُبُ الجُمَلَ أو المُفْرداتِ يعودُ إلى الكُلِّ مَا لَمْ يَظهر الانقطاعُ بِطُولٍ أوْ عَطفِه بـ "ثُم"، ونَحوِه، وعلى زيدٍ وعَمْرٍو، ثُم مِن (¬2) بَعدِهِما لِلْفُقراءِ نَصيبُ مَنْ مَاتَ لِلآخَرِ. والتَّوليةُ لِمَنْ شَرَطَ، فإنْ سَكتَ عنه فلِلْحاكِمِ، وليس لِلْمَوقُوفِ عليه أَنْ يؤجِّرَ إلا إذا شَرَطَ له ذلك. * * * ¬
باب الهبة
باب الهبة هي لُغةً: "إعطاءُ شَيْءٍ (¬1) بِلَا عِوَضٍ". يُقالُ: وَهَبْتُ له (¬2)، ووُهِبْتُ مِنْه، والأوَّلُ أجْوَدُ، وَهَبًا وَوُهْبَانًا -بإسكانِ الهَاءِ وفَتْحِها- وهِبةً، فالمَصادرُ ثلاثةٌ. والاسمُ الموهِب والموهِبة (¬3): بكسر الهاء (¬4) فيهما. والاتِّهابُ: قَبولُ الهِبةِ، والاستيهابُ سُؤَالُها. ووهَّابٌ ووهَّابةٌ: كَثيرُ الهِبةِ. وشَرعًا: "تَمْليكٌ صادرٌ مِنْ أهْلِه فِي الحَياةِ، غيرُ واجبٍ على شَيْءٍ مَخْصوصٍ بِلَا عِوَضٍ". فتَخرُجُ الوَصيةُ، إذِ التَّمليكُ فيها بعْدَ المَوتِ، ويَخرجُ الواجِبُ مِن زَكاةٍ أوْ نَفقَةٍ أوْ فِدْيةٍ أو كَفَّارةٍ أوْ نَذْرٍ، فإنه لا يُسمَّى هبةً. ¬
وأصلُها -قَبْلَ الإجْماعِ- قولُه تعالى: {فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا}. وفِي حديثِ وفْدِ هَوازِنَ أنَّ رسولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "إنِّي رَأيتُ أَنْ أَرُدَّ إلَيهِم سبيَهُمْ، فمَنْ أحَبَّ مِنْكمْ أَنْ يُطيِّبَ ذلك فلْيَفْعَلْ" أخرجهُ البخاريُّ مطوَّلًا (¬1). والأحاديثُ فِي الهَديةِ والصَّدقةِ والعُمْرَى والرُّقبى كثيرةٌ. والهبةُ تَعُمُّ الكُلَّ. وتمتازُ الهديةُ بالنَّقْلِ إكْرامًا. ويَحصُلُ (¬2) المِلْكُ فيها بالبَعثِ والقَبْضِ إلَّا فِيمَا يُهدَى لِغنيٍّ (¬3) مِنْ لحْمِ تَطوُّعِ أُضحيةٍ، أو هَدْيٍ، أوْ عَقيقةٍ، فإنَّه لا يمْلِكُه وإنْ جَازَ له الأكْلُ (¬4). وتَمتازُ الصَّدقةُ بالدَّفعِ للمُحْتاجِ طَلَبًا لِثَوابِ الآخِرةِ. وقدْ تكونُ بالمُختصاتِ كجِلْدِ مَيتةٍ لَمْ يُدبَغْ ونَحوِه. وكذا الهِبةُ على رأيٍ سيأتِي. والعُمْرَى والرُّقبى يُحكمُ فِيها بِحُكمِ الهِبةِ، وإنْ زادَ فِي العُمْرَى: "إذا مِتُّ ¬
ضابط
عادَتْ إليَّ أوْ إلَى ورَثَتِي"، وفِي الرُّقبى: "إنْ مِتَّ قَبْلِي عادَتْ إليَّ، وإنْ مِتُّ قَبلَكَ (¬1) استقرَّتْ علَيْكَ". ويفسدُ الشَّرْط علَى الأصَحِّ. * * * * ضابطٌ: ليس لَنا شَرطٌ فاسِدٌ مُنافٍ لِمُقتضَى الحالِ يَصحُّ العَقْدُ مَع وُجودِه إلَّا فِي العُمْرى والرُّقبى. * * * وقال الغزَّاليُّ: المالُ إنْ بُذِلَ لِغَرضٍ آجِلٍ فَهُوَ صَدَقَةٌ، أوْ عَاجلٍ، فهُو هِبةٌ بثَوابٍ مَشروطٍ، أو مُتوقَّعٍ، أوْ للتَّودُّدِ، فهُو هَديةٌ، أو عَلى عَمَلٍ فاسِدٍ، أوْ شَرْطٍ مُحرَّمٍ فَهُوَ رِشْوةٌ. ومَا ذَكرَهُ فِي الهِبةِ بالثَّوابِ المَشروطِ المَعْلومِ، مُخالِفٌ لِلْأَصحِّ أنها بَيْعٌ، وعنْدَ جَهالةِ المَشروطِ تَفسُدُ الهِبةُ على الأصحِّ، وما ذَكرَهُ فِي الهَديةِ (¬2) يَشمَلُ غَيْرَ المَنقولِ. ويُعتبَرُ الإيجابُ والقَبولُ فِي الهِبةِ خَاصةً، والمَوهُوبُ يكونُ عَينًا ودَيْنًا (¬3) ومَنْفعةً وحقًّا. ¬
وكل عين جاز بيعها يجوز هبتها، وما لا يجوز بيعه لا يجوز هبته إلا في خمس صور، يصح فيها الهبة دون البيع
والدَّيْنُ لا يُوهَبُ لِغَيرِ مَن عليه، وهِبَتُهُ مِمَّنْ (¬1) علَيه اِبْراءٌ لَه والمَنافِعُ تقدمتْ فِي "العارِيةِ" والحَقُّ فِي القَسْمِ يأتي فِي "عِشْرَةِ النِّساءِ" إنْ شاءَ اللَّهُ تعالى. * * * وكل عَينٍ جَازَ بَيْعُها يَجوزُ هبتُها، وما لا يَجوزُ بَيعُهُ لا يَجُوزُ هبتُهُ إلا فِي خَمْسِ صُوَرٍ، يَصحُّ فيها الهِبةُ دُونَ البَيعِ: 1 - مَا لا يُتموَّلُ، لِقِلَّتِه على الأرْجحِ. 2 - والثِّمارُ قَبْلَ بُدُوِّ الصلاحِ، والزَّرعُ قَبْلَ اشتِدادِ الحَحث مِنْ غَيرِ شَرْطِ القَطْعِ فِيهِما. 3 - وهِبَةُ الكَلْبِ الذي يُقتَنى على النَّصِّ فِي "الأُمِّ"، خَلافَ ما صحَّحُوه. 4 - وجلدُ المَيْتةِ -على رأيٍ مَجزومٍ به (¬2) فِي الأَوانِي فِي "الرَّوضةِ" (¬3)، خِلافَ ما صُحِّحَ (¬4) فِي الهِبة (¬5)؛ تَبَعًا لِأصْلِه. 5 - والخَمْرةُ المُحتَرَمةُ على رأيٍ قَويٍّ. * * * ¬
ومدار الباب على ثلاثة أشياء
ومَدارُ البابِ على ثَلاثةِ أشياءَ: أحدُها: حُصولُ المِلْكِ بالقَبضِ المُعتَبَرِ إلَّا فيما تَقدَّمَ في (¬1) المُختصاتِ، ولا بُدَّ مِن إِذْنِ الواهِبِ فِي القَبْضِ، ولو مَاتَ أحدُهما قَبْلَ القَبضِ لَمْ يَنفسِخْ على الأصحِّ، ويَتخيرُ الوارِثُ. الثاني: لا يَجِبُ الثوابُ فِي غَيرِ المَشروطِ ولَو وَهَبَ لِلْأَعلَى (¬2). الثالثُ: يَرجعُ قَبْلَ القَبضِ مُطْلَقًا (¬3) وبَعْدَ القَبضِ فِي غَيرِ الفَرعِ بالتَّقَايُلِ (¬4) جَزْمًا، والفسخِ على رأيٍ والعكس (¬5). ¬
وأمَّا الرُّجوعُ قَهْرًا فلا يَثبُتُ إلا لِلأَصْلِ مع فرعِهِ (¬1) لقوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لا يَحلُّ لِمَنْ أَعْطَى عَطيةً أَنْ يَرْجِعَ فِيهَا إلَّا فِيمَا أعْطاهُ الوالِدُ لِوَلدِهِ" حديثٌ حَسنٌ أوْ صحيحٌ (¬2). وإذا رَجعَ الأصْلُ فله الزائدُ المتصِلُ فَقط. ويرجعُ فِي بَيْضٍ تفرَّخَ وبِذْرٍ زُرعَ، ويَمتنِعُ الرُّجوعُ بعد زَوالِ المِلْكِ بِغَيرِ التَّحرُّم (¬3)، ولا يَعودُ بِعَودِه على الأصحِّ بِخِلافِ الفَلَسِ والرَّد (¬4) بالعَيبِ ¬
لِتقصيرِ الوَالدِ بِتَرْكِ الرُّجوعِ (¬1). وكذا يَمتنِعُ بِحَجْرِ الفَلَسِ (¬2) على الفَرعِ وارتِدادِهِ ورَهنِ المَوهُوبِ مَقبوضًا وكتابتِه لا إنْ زَالَ المَانعُ (¬3). ويَحصُلُ الرُّجوعُ بقولِه: "رَجعْتُ" ونحوِه لا بِالبَيعِ، والعِتْقِ، والوَطْءِ. ويَنبغِي العَدْلُ بَيْنَ الأوْلادِ فِي الهِبَةِ، وترْكُهُ مَكروهٌ لا كَراهةً (¬4) شَديدةً، ويُسَوَّى بيْنَ الذَّكَرِ والأُنْثَى على الأصحِّ. * * * ¬
باب اللقطة
باب اللقطة هِيَ بِفتحِ القَافِ -على المشهُورِ- وقياسُ ذلك لِكَثيرِ الالتِقاطِ، وقال الخليلُ: هِيَ بإِسْكانِها. وهيَ لُغةً: الشيءُ المَلْقُوطُ، ويقالُ أيضًا: "لُقاطة" بِضَمِّ اللَّامِ، ولَقَطٌ بفَتْحِ اللامِ والقَافِ، ولِلْمُلتقِطِ: لُقَطةٌ -بِفَتحِ القَافِ. وشرْعًا: ما وُجِدَ مِنْ مَالٍ أوْ مُختَصٍّ ضَائعٍ لِغَيرِ حَربيٍّ ليس بمُحْرَزٍ، ولا مُمْتنِع بِقوَّتِه، لا يَعرِفُ الواجدُ مَالكَه (¬1)، ويُفارقُهُ الضائعُ الذي لا يَجرِي عليه حُكْمُ اللُّقَطةِ بأنه المُحْرَزُ الذي لا يُعرَفُ مَالكُه، ويَلحَقُ به المُمتنِعُ لقوتِهِ. ولُقَطةُ الحَرَمِ، كما تقدَّمَ عنْ زيدِ بنِ خالدٍ الجُهَنيِّ -رضي اللَّه عنه- قال: جَاءَ رَجلٌ إلى النبيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فسألَه عنِ اللُّقَطةِ، فقالَ: "اعْرِفْ عِفَاصَهَا ووِكاءَهَا، ثُمَّ عرِّفْها سَنَةً، فإنْ جَاءَ صاحِبُها وإلا فشأنَكَ بِهَا" قالَ: فضالَّةُ الغَنَمِ؟ فقال (¬2): "هِيَ لَكَ، أوْ لِأخيكَ، أوْ للذِّئبِ" قالَ: فضالَّةُ الإِبِلِ؟ فقالَ (¬3): "مالَكَ ولَها؟! معَها سِقاؤُها ¬
وحِذاؤُها، ترِدُ الماءَ وتأكُلُ الشجَرَ حتى يلْقَاهَا ربُّها" أخرجَه الصحيحانِ (¬1). وفِي لَفْظٍ لِمُسلمٍ: سُئِلَ رسولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- عَن لُقَطةِ الذَّهبِ والورِقِ، قال: "اعرِفْ عِفَاصَهَا ووكاءَها ثُم عرِّفْها سَنةً، فإنْ لَمْ تُعْرَفْ فاستنْفِقْهَا، ولْتكُنْ وديعةً عِندَك، فإنْ جاءَ طَالبُها يَومًا (¬2) مِنَ الدَّهْرِ فأدِّها إلَيْه" (¬3). وفِي لَفْظٍ لِمُسلِمٍ: "فإنْ جَاءَ صاحبُها يعرِفُ (¬4) عِفاصَهَا وعدَدَها ووكاءَها فأعطِهَا إياه، وإلا فَهِيَ لَكَ" (¬5). لا يَجِبُ الالتقاطُ على الأظْهَرِ، والمُختارُ عِنْدَ عِلَّة (¬6) الضَّياعِ: الوُجوبُ. وقدْ (¬7) يَتعيَّنُ فِي الرَّقيقِ إذا تعيَّنَ طَريقًا لِحِفْظِ رُوحِهِ، ولَمْ يَذكرُوه. وحيْثُ لَمْ يَجِبْ يُستحبُّ (¬8) لِمَنْ يثِقُ بِنَفْسِه، ويُكرَهُ لِلْفاسِقِ، ولا يجبُ الإشهادُ على الأصحِّ ويُستحَبُّ. والشيءُ الملْقُوطُ الذي يُمْلَكُ بشَرْطِهِ (¬9): جَمادٌ، وحَيوانٌ ممتنِعٌ وغَيرُ ¬
ومدار اللقطة على أربعة أشياء
مُمتنِعٍ، ومِنْه رَقيقٌ غَيرُ مُميِّزٍ، وكذا مُميِّزٌ زَمنَ (¬1) نَهْبٍ. وأمَّا المُمتنِع (¬2) بقُوَّتِهِ كالإبِلِ أو بعَدْوِهِ أو بطَيَرانِهِ (¬3) فيُلتَقطُ لِلْحِفظِ، لا للتملُّكِ والتصرُّفِ فيه، إلَّا فِي صُورةٍ واحدةٍ، وهي ما إذا وَجَدَ بَعِيرًا فِي أيَّام مِنًى مُتَقَلَّدًا فِي الصَّحْراءِ تقْليدَ الهدَايَا، فيعرِّفُه (¬4) أيامَ مِنًى. فإنْ خافَ فَوْتَ وقتِ النَّحْرِ نَحَرَهُ، على النَّصِّ، وفِي قولٍ: يَرْفعُ الأمرَ إلى الحاكِمِ (¬5). * * * ومَدارُ اللُّقَطةِ على أربعةِ أشياءَ: 1 - أولُها: الأمانةُ. 2 - وثانيها: التعريفُ المعتبَرُ (¬6). 3 - وثالثُها: التملُّكُ بَعْدَه. ¬
4 - ورابعُها: إجْراءُ حُكمِ القَرْضِ على التَّملُّكِ (¬1) المَذكورِ. * * * * والمُغلَّبُ فيها الاكتسابُ (¬2) للنَّفسِ على الأصحِّ، فيَلْتَقِطُ (¬3) الفاسِقُ، والذِّميُّ، والصَّبيُّ، وكذا المَجنونُ -صرَّحَ بِه المَحَامِلِيُّ (¬4) - والمكاتَبُ، والمُبَعَّضُ، وهي لَه، ولِسيِّدِه، إن (¬5) لَمْ يَكنْ بينَهما مُهايَأَةٌ، فإنْ كانَتْ مُهايَأَةٌ فلِمَنِ التُقِطَتْ فِي نَوبَتِه (¬6). ولا يصِحُّ التقاطُ المَملوكِ إلا فيما سَبقَ، وتُرعى شَائبةُ الأمَانةِ، فتُنزَعُ مِنَ الفاسِقِ، وتُوضَعُ عِنْدَ عَدْلٍ، وكذا الذِّميُّ عِنْدَ البَغوِيِّ. ¬
وفِي نَزْعِها مِنَ العَدْلِ فِي دِينِهِ نظرٌ، ويَنتزعُها (¬1) الوليُّ مِن مَحجُورِه (¬2)، ويَضمَنُ إذَا قَصَّرَ فِي الانتِزاعِ حتى تَلِفَتْ فِي يَدِ مَحجورِه. والعَبْدُ ضامِنٌ، ولَو أَخذَها السيدُ مِنه أوْ أجْنَبيُّ (¬3) كانَ لَيْطًا مُسْقِطًا للضَّمانِ، ولَمْ يَجعلُوهُ فِي يَدِ العَبدِ مُحرَّزًا، إلا فِي رأيٍ قويٍّ، فعَلَيهِ لا (¬4) يَلتقِطُ. ومَنْ أَخذَها بِقصدِ الخِيانَةِ فهو ضَامِنٌ، ولا يَتملَّكُ. وحيثُ ثبتَتِ الأمانةُ فهِيَ مُستمرِّةٌ إلى التملُّكِ، ولا يَضرُّ فِي الأثناءِ قصْدُ الخِيانةِ على الأصحِّ. * الثانِي: التعريفُ وهو واجِبٌ، وما يَفسُدُ كالهَريسةِ إنْ (¬5) شاءَ أَكَلَه أوْ باعَه وحفِظَ ثَمنَه. وفِي الشَّاةِ والكَسيرِ مِنْ (¬6) غَيرِها إنْ شاءَ أمْسكَ (¬7) أوْ باعَ وحفِظَ الثَّمنَ، أوْ أكلَ، فإنْ وَجَدَ ذلك فِي العُمرانِ فلَيْسَ له الأكْلُ لِنَدارَتِه (¬8). ¬
واستثْنَى الإمامُ مِنْ وُجوبِ التعريفِ ما (¬1) وُجِدَ مِنَ (¬2) الهَريسةِ ونَحوِها فِي الصَحراءِ إذا أَكَلَ. ويَنبعِي (¬3) لِلْملتقِطِ أن يَفهَمَ عِفاصها -وهو وِعاؤُها مِنْ جِلدٍ أوْ خِرقَةٍ- ووِكاءَها وهو الخَيْطُ الذي تُشَدُّ به، وجِنْسُها ونَوْعُها. ويُستحبُّ تقييدُها بِالكِتابةِ. ثم يُعرِّفُها سَنَةً بِحسَبِ العَادةِ إلا فِيما لا يُتموَّلُ، فيَستقِلُّ به فِي الحالِ. وفِي المُتموَّلِ القَليلِ الذي يَغلِبُ على الظنِّ أن فاقِدَهُ لا يَكثُرُ أسفُهُ (¬4) عليه، يُعرِّفُه قَدْرًا يَغْلِبُ على الظَّنِّ إعراضُه عنه، ويُعرِّفُه فِي الأسواقِ، وأبْوابِ المساجِدِ ونحوِها، فِي كُلِّ يَومٍ مَرَّتينِ، ثُم مرَّةً، [ثم فِي كلِّ أُسبوعٍ مرَّتَينِ] (¬5)، ثُمَ مَرَةً، ثُم فِي كُلِّ شَهْرٍ. ولْيكُنِ التعريفُ بالبُقعةِ التي وُجِدَ فِيها، وفِي الصَّحراءِ إنْ كانَتْ هُناكَ قافِلةٌ تَبِعَهُم وإلا فَيُعرِّفُه فِي البَلَدِ التِي (¬6) تَقصِدُها. ومُؤنةُ التعريفِ على المُلتقِطِ القاصِدِ للتَّملُّكِ، وفِي الفاسِقِ ونحوِه يُضَمُّ إلَيْهِ مَنْ يُراقِبُه. ¬
وفِي لَقْطِ المَحْجُورِ يُعَرِّفُ الوَليُّ. * الثالثُ: إذَا مَضَى التعريفُ المُعتبَرُ يَمْلِكُ المُلتقِطُ ما التقَطَه بنَحْو "تملَّكْتُ" ومَا أشْبَهَه. وفِي المُختَصاتِ ككَلْبٍ يُقتَنى ونحوِه يُنقَلُ الاختِصاصُ إلَيه (¬1) بلَفظٍ دالٍّ عليه، ولَمْ يَذكرُوه. * الرابعُ: إجراءُ حُكمِ القَرْضِ [على المُتمَلَّكِ] (¬2) المَذكورِ، فلا يَتملَّكُ أمَةً تحِلُّ له، ويتملَّكُ الوليُّ لِمَحجُورِه حيثُ يَجوزُ الاستِقراضُ له. وإذَا ظَهرَ المَالِكُ قَبْلَ التَّملُّكِ رُدَّتْ عليه بِزِيادَتِها [المُتصلةِ والمُنفصلةِ. وإنْ تلِفَتْ على حُكْمِ الأمانةِ فلا ضَمانَ] (¬3)، وإنْ ظَهرَ (¬4) بعْدَ التملُّكِ رُدَّتْ عليه بزِيادَتِها المتصلةِ دُونَ المنفصلةِ الحادِثَةِ على مِلْكِ المُلتقِطِ. فإنْ تلِفتْ بعْدَ التَّملُّكِ أوْ خَرجَتْ عَن مِلْكِ المُلتقِطِ بِبَيعٍ (¬5) ونحوِه رَدَّ المِثْلَ (¬6) فِي المِثْليِّ، والقِيمةَ فِي المتقوَّمِ باعْتبارِ قِيمةِ وقْتِ التملُّكِ. . كذا قالُوه (¬7). ¬
وقياسُ القَرْضِ أَنْ يغرمَ المِثْلَ مِن حيثُ الصُّورةُ وإنْ وَجَدَها ناقِصةً فلَه الأَرْشُ، ومَتَى وصَفَها حتَّى غَلَبَ على الظَّنِّ صِدقُه جَازَ دَفْعُها إليه، ولا يَجِبُ على الأصحِّ. فإنْ دَفَعها بالوَصفِ فجاءَ آخَرُ، وأقامَ بيِّنةً حُوِّلتْ إليه، فإنْ تلِفتْ عنْدَ الآخِذِ (¬1)، فصاحبُ البيِّنةِ يُضمِّنُ مَن شاءَ مِنْهُما، والقَرارُ على الآخِذِ بالوصفِ. * * * ¬
باب اللقيط
باب اللقيط هو لُغةً: الصغيرُ الذِي يُوجَدُ ضَائعًا لا كَافِلَ له، وهو بِمَعنى مَلقُوط، ويقالُ: مَنبوذٌ، وهو المَطْروحُ. وشرْعًا كاللُّغةِ بِزيادة: أنه لا يُعرَفُ نَسبُه ولا رِقُّه. وهو مُحتاجٌ إلى الكَفالةِ، وهو قَبْلَ (¬1) التَّمييزِ، واستأْنَسُوا له مِن القُرآن بقولِه (¬2) تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى}. وروى مالكٌ فِي "الموطأ" (¬3) عَنْ سُنين (¬4) أبي جَمِيلةَ (¬5) -رضي اللَّه عنه- أنَّه وَجَدَ مَنبوذًا (¬6) فِي زَمنِ عُمرَ بْنِ الخطابِ -رضي اللَّه عنه- قال: فَجِئْتُ به إلى عُمرَ بنِ ¬
الخطَّابِ] (¬1)، قال: مَا حملَكَ على أخْذِ هذه النَّسمةِ؟ فقالَ (¬2): وجدتُها ضائعةً فأخذتُها، فقال عريفُهُ (¬3): يا أميرَ المؤمنِينَ، إنَّه رجُلٌ صالحٌ، فقال: إنَّه لكَ (¬4). قال: نَعمْ، قالَ عُمَرُ: اذْهَبْ فهُو حُرٌّ، ولَك ولاؤُهُ، وعليْنَا نفَقتُه (¬5). ¬
وفِي رِوايةِ الطبَرانِيِّ: "ونفقتُه مِنْ بَيْتِ المالِ" (¬1). التقاطُ المَنبوذِ فَرْضُ كِفايةٍ (¬2)، ويَجِبُ الإشْهادُ علَيه، وعلَى ما مَعَهُ، على النَّصِّ. ولَمْ يَتعرَّضُوا لِلْبالِغِ المَجنونِ الضائعِ، وفِي إلحاقِهِ بالصغيرِ المذكورِ نظرٌ. وهذا الالتقاطُ مَحْضُ وِلايةٍ، فلا يَثبُتُ لِغَيرِ مُكلَّفٍ، ولا لِعَبدٍ ولَوْ مُكَاتَبًا أو مُبَعَّضًا على الأرْجَحِ، ولا لِمَحجُورٍ عليه بِسَفَهٍ. والكافِرُ يَلْتقِطُ الكافِرَ إذا لَمْ يَكنْ فاسقًا فِي دِينِه، [ويتبرَّعُ مِن غَيرِ أهلِهِ] (¬3). وإنِ ازْدحَمَ اثنانِ على الأَخْذِ جَعلَهُ الحاكِمُ عنْدَ مَنْ يَراهُ مِنْهُما أوْ مِن غيرِهما. ¬
ومدار الباب على تعريف أربعة أمور
والسابقُ إلى الأخْذِ مُقدَّمٌ. وإنْ أخذَاه (¬1) مَعًا قُدِّمَ الغَنيُّ علَى الفَقيرِ. وظَاهرُ العَدَالَةِ على المَستورِ، والبلديُّ أو القرويُّ على البَدَوِيِّ فِيمَنْ لَمْ يُوجَدْ فِي البادِيةِ، فإنِ استوَيَا أُقرِعَ بينهُما. * * * ومَدارُ البابِ على تعريفِ أرْبعةِ أُمورٍ: (1) دِينُ اللَّقيطِ. (2) وحُرِّيتُه. (3) وحِفْظُه مع ما يتعلقُ بِمالِه. (4) وأمرُ نَسبِه. * * * 1 - أمَّا الأولُ: فهُو مُسلِمٌ [إنْ وُجِدَ حيثُ سَكَنُ مُسلِمٍ] (¬2)، كذَا قالُوه (¬3) (¬4)، والمرَادُ عِنْدَ الإِمكانِ أَنْ يَكونَ مِنْه، وهذَا إذَا لَمْ يُقِمْ ذِمِّيٌ بيِّنةً على نَسبِه، فإنِ استلْحَقَه بِلَا بيِّنةٍ لَحِقَه فِي النَّسَبِ بِشُروطِه الآتيةِ، ولا يُحكَمُ بِكُفرِه، والمَوجودُ فِي دَارِ كُفرٍ لا مُسلِمَ فيها كافرٌ، وهذه تُعرَفُ بتَبَعِيَّةِ الدَّارِ. ¬
2 - وأما الأمر الثاني
ولِلتَبَعِيَّةِ (¬1) فِي الإسلامِ غيرَها (¬2) جهتانِ: * إحداهما: تَبَعيةُ غَيرِ المُكلَّفِ -ولو جُنَّ (¬3) بَعْدَ البُلوغِ- أحدُ أصولِهِ فِي الإسلامِ، ولَو حدَثَ بَعْدَ إسلامِ جَدَّةٍ مِن كافِرَيْنِ؛ قلتُه تخريجًا. * الثانيةُ: غَيرُ (¬4) المكلَّفِ إذا سبَاهُ مُسلِمٌ، وليْسَ فِي العَسكرِ أحَدُ أبَويْهِ، فهُو مُسلِمٌ، ومَن كَفَرَ بعد التَّكليفِ مِن التابِعينَ، فهُو مُرتَدٌ إلا تَاجَ الدارِ، فإنه يكونُ أصْليًّا. * * * 2 - وأمَّا الأمْرُ الثاني: فهُو حُرٌّ (¬5)، إلا فِي صُورةٍ واحدةٍ، قلتُها تخْريجًا، وهِيَ ما لَو وُجِدَ فِي دارِ الحَرْبِ ولا مُسْلمَ فِيها، ولا ذِمِّيَّ، فإنه يكونُ رَقِيقًا بِأخْذِ المُلتقِطِ له، ولَوْ يكونُ الآخِذُ حَربيًّا على وَجْهِ القَهْرِ، ثُم يَجرِي علَى حُكْمِ الغَنيمةِ أوِ الفَيْءِ إنْ كانَ الآخِذُ (¬6) لَه مُسْلمًا. ومَتى أقامَ أحَدٌ ولَوِ المُلتقِطُ بيِّنةً على رِقِّ مَن قُلْنا "إنه حُرٌّ" وَثَبَتَ (¬7) النسبُ فهو مِلْكُهُ. ¬
فإنْ لَمْ يَتبيَّنِ السببُ، فقَولانِ مُرَجَّحانِ، أرْجَحُهُما: لا يَكفِي. ولَوِ ادَّعى مُدَّعٍ رِقَّهُ مَعَ يَدٍ لا يُعرَفُ استنادُها (¬1) لِلالتِقاطِ فهُوَ رَقيقُه إنْ كان غَيرَ بالغٍ، ولَوْ بلَغَ فأَنكَرَ، لَمْ يُؤثِّرْ إنْكارُه. ويُقبَلُ إقْرارُ المكلَّفِ بالرِّقِّ (¬2)، إذا لَمْ يَثبُتْ رِقُّه لِغَيْرِ المُقرِّ لَه، ولَمْ يَسبِقْ مِنْه إقْرارٌ بِالحرِّيةِ، ولا إقراٌ بالرِّقِّ لِمَنْ كذبَه. ولا يُمنَعُ الإقْرارُ بِمُجرَّدِ (¬3) تصرُّفٍ سابقٍ، ويُعمَلُ (¬4) حِينئِذٍ بالإقْرارِ فِي المُستقبَلِ، لا فيما يَضُرُّ بِغيرِ مُنكرٍ فِي تصرُّفٍ سابِقٍ. وإنْ (¬5) كانَتِ امرأةٌ زُوِّجَتْ (¬6) ثُمَّ أقرَّتْ بالرِّقِّ؛ فأوْلادُها قبْلَ الإقْرارِ أحْرارٌ، وتَعتدُّ بثلاثةِ قُروءٍ للطلاقِ ونحوِه، وبشَهريْنِ وخَمسةِ أيامٍ لِلْموتِ؛ لأنَّ عِدةَ الوَفاةِ لا تتوقفُ على الوَطْءِ، فلَمْ يُؤثِّرْ ظَنُّ الحُرِّيَّةِ فِي زِيادتِها، وتُسلَّمُ (¬7) لَيْلًا ونَهارًا كالحُرَّةِ، ويُسافَرُ (¬8) بها بِغَيرِ إذْنِ مَالِكِها. وفِي ذلك أبْياتٌ مَشهورَةٌ وهيَ هذِه (¬9): ¬
3 - وأما الثالث
سلِ الحَبْرَ عن حُرٍّ (¬1) تزوَّج حُرَّةً ... حَصَانًا تُريك الشَّمسَ مِن طلعةِ البدْرِ بتوليةِ القاضِي على مَهْرِ مِثلِها ... ومَن طَلَبَ الحسناءَ لم يَغْلُ بالمَهْرِ فأولدَهَا حُرًّا وعبدًا وحرًّة ... على نسْقٍ فِي عقدِها السابِقِ الذِّكْرِ على أنه ذو الطَّول واليُسر والغِنى ... ولَلْموتُ خيرٌ من حياةٍ على فقْرِ وعدَّتُها لو طُلِّقتْ وهْيَ حائلٌ (¬2) ... ثلاثةُ أقراءٍ عِدَّةُ الكامِلِ الحُرِّ على أنه لو مات عنها تفجَّعتْ ... بخمسةِ أيامٍ وشهرٍ إلى شهْرِ وقيل بقَرْءٍ واحدٍ وهي حيضةٌ ... وذلك من ذاتِ الرقيقة تستبْرِ نعم وله (¬3) تسليمُها دُونَ حِرْفةٍ ... نهارًا وليلا باتفاق أولي الأمْر وبوطئِهَا (¬4) شرقَ البلادِ وغربِها ... بدون إذْنِ مولى نافِذِ النَّهي والأمْرِ ولا عجبَ إن أعوز الحبرَ حكمُها ... فإنَّ خفايا الشرعِ تنبو عن الحصْرِ * * * 3 - وأما الثالثُ: فيَلزمُ الملتقِطَ حفظُ اللَّقيطِ، ورِعايتُه، وحفظُ مالِه استقلالًا مِنْ غَيرِ إذْنِ الحَاكمِ. ويحرُمُ عليه نبذُهُ، وليس له تسليمُهُ (¬5) للحاكمِ. ¬
وليس له نقلُ اللَّقيطِ المَوجودِ فِي بَلدةٍ أوْ قريةٍ إلى باديةٍ لِخُشونةِ العَيْشِ، وفَواتِ تَعلُّمِه ما ينْفَعُه (¬1). ويُنقَلُ مِنْ بَلَدٍ (¬2) إلى أُخْرَى لا إلى قَريةٍ، ويُنقَلُ مِنْها إلى البلَدِ، ومِن مالِه وثيابِهِ وما لُفَّ علَيه أو جُعِلَ فِي جَيْبِه ويَدِه وفَرْشُه وما غُطِّيَ بِه ودَابةٌ عَنانُها بِيَدِه أوْ مَشدودةٌ فِي وسَطِه أوْ ثِيابِه أوْ دَنانيرُ مَنثورَةٌ (¬3) فَوْقَه أوْ مَصبوبةٌ تَحْتَه، وخَيمةٌ أوْ دَارٌ هو فيها وَحْدَهُ (¬4) لَا الضَّيْعةُ ولا ما قَرُبَ مِنه، أو دُفِنَ تَحْتَه. ونَفقَتُه فِي مَالِه، ويُنفَقُ مِنْه بإِذْنِ الحَاكِم، فإنْ لَمْ يُعرَفْ له مَالٌ فنَفقَتُه فِي بَيْتِ المَالِ. فإنْ لَمْ يَكُنْ فيهِ شَيْءٌ أوْ كانَ هُناكَ ما يُصرَفُ لِأَهَمَّ (¬5) مِنْه قَامَ (¬6) المسلمونَ بِكِفايَتِه وهُو فَرْضٌ. فإنْ تَيسَّرَ اقْتراضٌ فُعِلَ وإلَّا قَسَّطَ الإمامُ نفَقَتَه على مُوسِرِي (¬7) النَّفَقةِ، فإنْ كَثُروا فالتَّعيينُ (¬8) إلى رأيهِ، فإنِ استَوَوا تَخيَّرَ (¬9). ¬
4 - وأما الرابع
4 - وأمَّا الرَّابعُ: فاللَّقِيطُ فِي النَّسبِ كسائِرِ المَجهولِينَ. وكلٌّ مِنَ اللَّقيطِ ومَجهولِ النَّسبِ يُلحَقُ بغَيرِ بيِّنةٍ (¬1) إذا استَلْحَقَه (¬2) بأنَّه ولدُهُ المكلَّفُ الذَّكَرُ بِشَرْطِ الإمْكانِ، وأنْ يُصدِّقَه إنْ (¬3) كان مُكلَّفًا حيًّا، وإلا فلا حاجَةَ إلى تصْدِيقِهِ، ولا يؤثِّرُ إنكارُهُ لو صارَ مُكلَّفًا. ويصِحُّ (¬4) استِلْحاقُ الصغيرِ (¬5) بعْدَ مَوتِهِ، وكذا البالِغُ على الأصحِّ. ومِنَ الشُّروطِ أن لا يَكونَ المَجْهولُ مَنْفيًّا باللِّعانِ عَنْ فِراشِ نِكاحٍ صَحيحٍ لِغَيرِ المُستلْحِقِ. * * * * ضابطٌ: ليس لنا مَجهولٌ لا يَستلْحِقُهُ إلَّا واحدٌ معيَّنٌ غَيرَ هذَا. * * * ومِنَ الشُّروطِ أَنْ يكونَ كلٌّ مِنَ المُستلحِقِ والمستلحَقِ حُرًّا (¬6) لا (¬7) وَلاءَ عليه، فلَوِ استلحَقَ مَن عليه ولاءٌ مَجهولًا لَمْ يَلْحَقْ (¬8) بغَيرِ بيِّنةٍ على النصِّ، ¬
في (¬1) "المُختصَرِ"، وهُو المعتبَرُ عنْدَ الأكْثَرِ، خِلافًا لِما اقتضاهُ إيرادُ "الشرْحِ" و"الرَّوضةِ". وحُكْمُ العَبْدِ كذلك على مُقتضَى النصِّ خِلافَ مَا صحَّحُوه. ولَوِ استلحَقَ حُرٌّ لا ولاءَ عليه عبْدَ غيرِهِ أو عَتيقَ غَيرِهِ لَمْ يَلْحَقْ إنْ كان صغيرًا، وكذا إنْ كان كَبيرًا وصدَّقَه على الأرجَحِ. وفِي الجَميعِ لو صدَّق المَولَى، وَ (¬2) أقامَ بيِّنةً لَحِقَ. والمرأةُ لَوِ استَلْحَقَتْ بِبَيِّنةٍ لَحِقَها، ولَحِقَ زوجَها عنْدَ الإمكانِ إنْ أقامَتْ بيِّنةً أنَّها ولدتْهُ على فراشِهِ. ومَن قال: "هذا أَبِي"، فلا بُدَّ مِن تَصديقِ الأبِ العاقِلِ، فإنْ كان مَجنونًا، فينبعِي (¬3) أن يَصِحَّ. وإنِ استلحَقَ اثنانِ بالغًا تعيَّنَ (¬4) نَسَبُهُ مِمنْ صدَّقَه. وإنْ كان صغيرًا واستلحَقاهُ (¬5) معًا، أوْ أقامَا بَيِّنَتَيْنِ عُرِضَ على القائفِ كما سيأتِي فِي بابِه. ¬
وحيث لَمْ يَظهَرْ مِن جهَةِ القائِفِ (¬1) يَنتسِبُ (¬2) الوَلدُ بعْدَ التَّكليفِ. وإنْ أَلْحَقَ النَّسَبَ بغَيرِهِ كأخِي أوْ عمِّي -والمُلْحَقُ به مَيِّتٌ- فَلَابُدَّ مِنَ الشُّروطِ السابقةِ إلا الذُّكورةَ (¬3)، فإنَّها لا تُشْتَرَطُ، بلْ تَصِحُّ هنا، إذا وُجِدَ فيها الشَّرْطُ الزائِدُ هنا، وهو صُدورُ الإقرارِ مِن الوارِثِ الحائِزِ بأن يكونَ مُعتِقَهُ. ويَثْبُتُ بإقرارِ غَيرِ الحائِزِ (¬4) [مُوافقَةُ مَن تَجوزُ مَعها، ولَوْ] (¬5) بِمُوافقةِ الإمامِ على الأصحِّ. ويَثْبُتُ النَّسَبُ بإِلْحاقِ الإمَامِ فيمَنْ لا وارِثَ لَهُ، واللَّه سبحانه وتعالى أَعلَمُ. * * * ¬
كتاب الفرائض
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ كتاب الفرائض هو جَمْعُ فريضةٍ بمعنى (¬1) مَفروضةٍ، على غيرِ قياسٍ (¬2). والفرضُ لغةً: التقديرُ. وشرْعًا هُنا: نَصِيبٌ مُقدَّرٌ شَرْعًا لمُستحِقِّه. وآياتُ الموارِيثِ: 1 - [قولُه عز وجل] (¬3): {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ (¬4)}. ¬
2 - {وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ}. 3 - {وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً}. 4 - وآيةُ الصيفِ (¬1) {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ} إلى آخرها. وفِي "الصحيحين" (¬2): عن ابنِ عبَّاس -رضي اللَّه عنهما- أن النبيَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "ألحِقُوا الفرائِضَ بأهلِها، فما بقِيَ فهو لِأوْلَى رجلٍ ذَكَرٍ" (¬3). وعن أَبي هُريرةَ -رضي اللَّه عنه- قال: قالَ رسولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "يا أبا (¬4) هُريرةَ، تعلَّموا الفرائضَ وعلِّموهُ، فإنَّه نِصْفُ العِلمِ (¬5)، وهو يُنْسى، وهو أوَّلُ شَيْءٍ يُنزعُ (¬6) مِنْ أُمتِي". رواهُ ابنُ ماجَه (¬7) بإسنادٍ فيه حفصُ بنُ عُمَرَ بنِ أَبِي العَطَّافِ، وقدْ ¬
ضُعِّفَ (¬1). وعَن عبدِ اللَّهِ بنِ عَمْرٍو -رضي اللَّه عنهما- أنَّ رسولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- قالَ: "العِلْمُ ثلاثةٌ، وما سِوى ذلك فهو (¬2) فضْلٌ، آية محكمةٌ، أو سُنةٌ قائمةٌ، أو فريضةٌ عادلةٌ" (¬3). رواه أبو داود بإسنادٍ فيه لِينٌ (¬4). ¬
والأحاديثُ فِي أحكامِ البابِ كثيرةٌ (¬1). مَن مات غيرَ الأنبياءِ عليهم الصلاةُ والسلامُ (¬2) -ولو حُكْمًا فِي المفقودُ كما سَيأتي- ولَهُ مالٌ أو حقٌّ: لا يرتفعُ بالموتِ (¬3). فذلك المالُ أو الحقُّ -غيرَ النسبِ والولاءِ ونحوِهِما- لوارثِهِ، كالأعيانِ، والمنافِعِ، والقِصاصِ، وحدِّ القذْفِ، والتعزيرِ (¬4)، وحقِّ الشُّفْعةِ (¬5)، ¬
واللقطةِ القابلةِ للتملكِ (¬1)، وخيارِ المجلِسِ والشرطِ للمالِكِ، والسِّرجِين (¬2)، والخمرةِ المحترمةِ، وجِلدِ ميتة لم يُدْبغ، وكلْبٍ يُقتنى، ونحوِها مِن الحقوقِ؛ حتَّى ما يكفَّنُ بِهِ مِن تركتِهِ لا كالمستولدةِ؛ لارتفاعِ المِلكِ فيها بالموتِ. وكذا المُدَبَّرُ إذا خرجَ مِن الثُّلثِ، أو بالإجارةِ، أو الذي عتقَ (¬3) مِن رأْسِ المالِ بالتعْليقِ على المَوتِ بقلبِهِ (¬4)، لا مَرض فيها، والمُوصَى بِه إذا قَبِل المُوصَى له حيثُ ينفذُ. وكذا الحقوقُ المرتفعةُ بالموتِ، كعمَلِ المساقاةِ والإجارةِ (¬5) الواردتَينِ على العَيْنِ والجِعالةِ والعاريةِ والنكاحِ، وما يترتبُ عليهِ. والأوْقافُ، والأنظارُ، والوِلاياتُ، ونحوُها مِن وَكالةٍ وأمانةٍ حتى ولايةِ اللقيطِ. وأما المُرتدُّ فمالُه فَيْءٌ (¬6). وكذا الذِّمِّيُّ الذي لا وارثَ له. ¬
وكذا كافرٌ له أمانٌ نَقَضَهُ، ثم استرقَّ، وماتَ رقيقًا إلا فيما وجَبَ له (¬1) لِجِنايهٍ (¬2) فِي حالَةِ (¬3) حُرِّيتِه وأمانِهِ وحصَلتِ السِّرايةُ فِي حالِ رِقِّهِ (¬4)، فإن قَدْرَ الدِّيةِ لوَرَثتِه على ما رجَّحُوه، وقياسُ ما سَبقَ أن يكونَ فيئًا، وليس لنا ذُو مالٍ لا يُورثُ غيرَ هؤلاءِ الثلاثةِ. والمكاتَبُ فيما يَتعلقُ بِه لِسَيدِه. وإذَا عَفَى بعضُ الورَثةِ عن حدِّ القذْفِ أو الشُّفعةِ بقِيَ كلُّ الحقِّ للباقِي على الأصحِّ. وإذا عُفيَ عن بعضِ القِصاصِ (¬5) سَقطَ كلُّه، أو فُسِخَ بعضٌ فِي خيارِ مَجْلسٍ، أو شرطٍ انفسخَ (¬6) فِي الكُلِّ على الأصحِّ، وليس فيما يُورثُ نَظيرُها. وقد سَبقَ ما يَقتضِي ذلك فِي الشِّرْكةِ. ويُبدأ مِن تركةِ الميتِ بمُؤنةِ تجهيزِهِ بالمعروفِ، إلا أن تكون امرأةً متزوجَةً، فإن ذلك على الزوجِ، ومنهم مَن قيَّد ذلك بما إذَا لَمْ تَتركْ شيئًا. ويُقدمُ على مُؤنةِ تَجهيزِه كلُّ حقٍّ تعلَّقَ بعَينِ التَّرِكةِ، كالمَرهونِ، والجانِي ¬
ضابط
المتعلِّق برَقَبتِه [بدلُ جِنايتِه] (¬1)، والزكاةِ، والمبيعِ إذَا ماتَ المشتري مُفْلسًا، وعامِل القراضِ فِي الرِّبحِ، وقدر الإيتاءِ مِن مالِ الكِتابةِ ونحوِها، ثُم بعدَ هذا مُؤنة (¬2) التجهيزِ تقضي ديونه، ثم تُنَفَّذُ وصاياه مِن ثُلُثِ الباقِي، والزائدُ يحتاجُ إلى الإجَازةِ كما سيأتِي، ثم يُقسمُ الباقِي بَين الورَثةِ. * * * * ضابطٌ: ليس لنا وصيةٌ مشارِكةٌ للدَّينِ ولا مقدَّمة عليه إلَّا فِي إقرارِ الوارثِ على رأيٍ قال به الأكثرونَ فِي التشريكِ فِي مدَّعِيين، ادَّعى أحدُهما أنَّ الميتَ أوْصى لهُ بثُلثِ مالِه، وادَّعى آخرُ دَيْنًا ألفَ دِرهمٍ -والتركةُ ألفُ دِرْهمٍ- وصدَّقَهما الوارثُ معًا، قُسمتِ الألْفُ أرْباعًا، رُبُعٌ للوصيةِ، وثلاثةُ أَرباعٍ للدَّيْنِ، ولو صَدَّقَ مُدَّعِي الوصيةِ أوَّلًا قُدِّمتِ الوصيةُ علَى رأيٍ. * * * والأصحُّ (¬3) فيهما تقدُّمُ الدَّيْنِ علَى الوصيةِ -على القاعدةِ- والتركةُ كالمرهونِ بالدَّينِ، وإنْ تَصَرَّفَ الوارثُ ثم حدَثَ دَين يُردُّ بعيبٍ، ومَنَعَ أداءُ الدَّينِ فَسْخَ تصرُّفَه. وأمَّا الدَّينُ المقارنُ فإنه مُبطِلٌ للتصرُّفِ بغَيرِ إذْنِ صَاحبِ الدَّينِ، عَلِمَ ¬
الوارِثُ بالدَّينِ أوْ جَهِلَ خِلافًا لِمَا اقتضاهُ إيرادُ بعضِهم فِي القِسمةِ، وللوارِثِ إمْساكُ التَّرِكةِ وقضاءُ الدِّينِ مِن غَيرِها (¬1)، ولا يتعلَّقُ الدَّينُ بزائدٍ حادِثٍ بعدَ الموتِ على الأصحِّ. * * * ومدارُ البابِ على معرِفةِ سببِ الإرثِ، وشرطِهِ، ومانِعِهِ، ومَنْ يَرِثُ، ومَنْ لا يَرِثُ، وذي (¬2) الفَرْضِ، والتعصِيبِ، والحَجْبِ، والجَدِّ، والإِخوةِ (¬3) وتأصيلِ المَسائلِ وتصحيحِها، وقِسمةِ التَّرِكاتِ، والمُناسخاتِ، وتوابعِ ذلك، واللَّهُ سبحانه وتعالى أَعْلمُ. * * * ¬
فصل في معرفة سبب الإرث وشرطه ومانعه
فصل فِي معرفة سبب الإرث وشرطه ومانعه (¬1) السببُ لُغةً: ما يُتَوَصَّلُ به إلى غيرِه. واصطِلاحًا (¬2) أُصوليًّا: الذي يلزمُ مِن وجُودِهِ الوُجودُ، ومِنْ عَدمِهِ العدمُ لذاتِهِ. والشرْطُ لغةً: العلَامةُ. واصطِلاحًا: ما يَلزمُ مِن عدمِهِ العدمُ، ولا يلزمُ منْ وُجودِه وجودٌ ولا عدمٌ لذاتِهِ (¬3). والمانعُ لغةً: الحائلُ. واصطلاحًا: ما يَلزمُ مِن وجودِهِ العدمُ، ولا يَلزمُ مِن عدمِهِ وجودٌ ولا عدمٌ (¬4). * * * ¬
وسبب الإرث يكون من أربعة أوجه
وسَببُ الإرثِ يكونُ مِن أربعةِ أوجُه: ثلاثةٌ خاصةٌ: وهيَ القَرابةُ غير ذِي الرَّحِم، والنكاحُ الصحيحُ، والولاءُ، والمتقدِّمان يَثبتُ فيهِما الإرثُ مِنَ الجانبينٍ، بخِلافِ الوَلاءِ، فإنه لا يَثبتُ للعَتيقِ (¬1). والرابعُ: العامُّ، وهو جِهةُ الإسلامِ (¬2)، فتُصرَفُ تَرِكةُ المسلِم لِبيتِ المالِ إرْثًا عِنْدَ فَقْدِ مَنْ يرثُهُ مِنْه بِسَببٍ خاصٍّ، وكذا حُكْمُ ما فَضَلَ عَنِ المستحِقِّينَ بالأسبابِ الخاصَّةِ حتى فِي الولاءِ كما فِي العَتيقِ المُشتركِ بعدمِ الخاصِّ لِواحدٍ، ولا يُرَدُّ على ذوي الفُروضِ ما فَضلَ، ولا يُصرفُ لِذَوي الأرحامِ (¬3). وأفتَى بعضُهم عِنْد عدَمِ انتظامِ أمْرِ بَيتِ المالِ بالردِّ على غَيرِ الزَّوجَينِ بالنِّسبةِ، وبالصَّرْفِ عند عدَمِ الخَاصِّ لِذَوي الأرْحامِ، وهُم غيرُ مَنْ نَعُدُّهُ مِنَ الورثَةِ، والعملُ الآنَ علَى الأَولِ، وإنَّما (¬4) يُصرفُ ذلك لِأهلِ البلدِ الذي يموتُ فيه دُونَ غَيرِهم على المَنصوصِ فِي "الأُمِّ". وجوَّز جمْعٌ مِن الأصْحابِ نقلَه (¬5). ¬
ولا خِلاف فِي جَوازِ تخصِيصِ طَائفةٍ مِن المسلمِينَ بِه على ما تقدَّمَ. وفِي جواز صَرْفِهِ إلى مَنْ حَدَثَ أو أَسْلمَ أو عَتَقَ (¬1) بعدَ مَوتِه: اضطرابٌ، ففِي "الشرح" و"الروضة" (¬2): الجوازُ. ونقلَ الرُّويانيُّ فيمَن وُلدَ بعدَ مَوتِه عَنِ الأصْحابِ المَنعَ، وهُو الصَّوابُ فِيه، وفيمَنْ أسلَمَ أو عَتَقَ، ويسوَّى بينَ الذَّكَر والأُنثَى على الأرْجَحِ (¬3). وقدْ ضَمَّ صاحبُ "التلخيصِ" إلى الأسْبابٍ الأرْبعةِ خامِسًا، وهو سَببُ النِّكاحِ في المَبتوتةِ فِي مرَضِ المَوتِ على القولِ المَرْجوحِ بمِيراثِها، وهو غَيرُ النِّكاحِ، ولو ماتَتْ هِيَ لَمْ يَرِثْها المُطلِّق، ومِثْلُه لَو قالَ: "هذِه زَوجَتِي" فسكتَتْ، فإنْ ماتَ ورثَتْه، وإنْ ماتَتْ هِيَ لَمْ يَرِثْها بمُجرَّدِ ذلك، نصَّ عليه. والجَارِحُ لا يَرِثُ، ولو ماتَ أوَّلًا ورِثَهُ المجروحُ، ومِن ذلك قَطْعًا (¬4) ابنُ الأخِ العاصِب يَرثُ عَمَّته، وهِي لا تَرِثُه، والعمُّ العاصِبُ يرِثُ بِنْتَ أَخِيه، وهِيَ لا تَرِثُه، وكذلكَ ابنُ العمِّ مَع بِنْتِ عَمِّه (¬5). * * * ¬
وشروط الإرث أربعة
* وشروطُ الإرثِ أربعةٌ (¬1): 1 - أحدُها: تحقُّقُ موتِ المُوَرِّثِ (¬2)، أو إلحاقُهُ بالمَوتى (¬3): تقديرًا: كما فِي الجَنينِ المنفصِلِ بجِنايةٍ موجِبةٍ للغُرَّةِ (¬4) (¬5). أوْ حُكمًا: كما فِي المَفْقودِ الذي حَكَمَ الحاكمُ بالاجتهادِ بمَوتِهِ (¬6)، عند مُضِيِّ مُدةٍ يغلبُ على الظنِّ (¬7) أنه لا يعيشُ أكثرَ مِنها. 2 - الثاني: تحقُّقُ (¬8) وجودِ المُدْلِي إلى الميِّتِ بِسببٍ خَاصٍّ حيًّا (¬9) عندَ مَوتِ المورثِ (¬10)، تحْقِيقًا أو تقدِيرًا، لِيتناولَ (¬11) حَمْلًا مَوجُودًا عندَ الموتِ، نُطفةً أو عَلَقَةً ونُفخَ فيه الرُّوحُ، وانفصلَ حيًّا، لوقتٍ (¬12) يعلمُ وجودُه عندَ الموتِ. ¬
ولا بد من انتفاء الموانع وهي سبعة
3 - الثالثُ: تأخُّرُ حياةِ هذا المُدْلي حياةً مستقرةً بعْدَ موتِ (¬1) المورثِ (¬2)، فإن عُلِم ثم نُسِي وُقِفَ الإرثُ، فإن لم يُعلم بأن ماتَا معًا أوْ شَكَّ أو مرتبًا (¬3)، ولم تُعلم العَينُ (¬4) فقدْ عدمَ شرطُ الإرثِ، فيُصرفُ مالُ كلِّ واحدٍ لورَثَتِه المُحققِينَ. 4 - الرابعُ: العلمُ (¬5) بالجِهَةِ المقتضيةِ لإرْثِه (¬6)، وهذا يختصُّ بالقضاءِ. * * * * ولا بُدَّ مِن انتفاءِ الموانِع وهِيَ سَبعةٌ (¬7): * أحدُها: الرِّقُّ، فلا يرثُ الرقيقُ مُطْلَقًا (¬8)، ولَو مَعَ تَدْبِيرِه، أوْ كِتَابتِه (¬9)، أوِ استِيلادِه، ولَو فِي بعضِه لا المورث، إذ يتصورُ أن يُورثَ معَ الرِّقِّ فِي كلِّه ¬
الثاني
كما سبقَ في المسبيِّ بعْدَ نقضِ العهْدِ فِي مِقدارِ الدِّيَةِ، على ما رجَّحُوه، وفِي مالِه المَوقُوفِ على قولٍ، وليس لنا رقيقٌ كلُّه يُورثُ إلا فِي هذِه الصورةِ. وليس لنا أحدٌ يورَثُ ولا يرِثُ أصلًا إلا أربعةٌ: 1 - هذا. 2 - والجنينُ فِي غُرَّتِه فقط. 3 - والقِصاصُ، ونحوُه فِي صورةِ مَن لَوِ (¬1) ارتدَّ، وسيأتي. 4 - والمبعَّضُ، فإنَّه يُورثُ عنْهُ جميعُ ما ملَكَهُ بحرِّيَّتِه على الجديدِ، ويكونُ جميعُه لورَثتِه على الأصحِّ. * الثاني: قتْلُ المُوَرِّثِ (¬2): مُطْلقًا، أو لِحَقِّ (¬3)، أو شهادةٍ، أو حُكْمٍ، أو شرطٍ، وفيما يُنقل (¬4) لِبيتِ المالِ فلا يُدفعُ منه شَيْءٌ لِلْقاتِل، على ما رُجِّح؛ سدًّا للبابِ، وعمَلًا بالظاهرِ مِنْ قوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "ليْسَ لِلْقاتلِ مِنَ الميراثِ شَيءٌ" (¬5) وفِي روايةٍ: "لا يرِثُ القاتلُ" (¬6). وهو حديثٌ في أسانيدِه (¬7) لِينٌ. ¬
الثالث
* الثالثُ: اختلافُ الدِّينِ، لقولِه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لا يرِثُ الكافِرُ المُسْلمَ، ولا المُسْلِمُ الكافرَ" (¬1) أخرجه الصحيحان، وذلك مانعٌ بِلَا خِلافٍ؛ فِي النَّسبِ، والنِّكاحِ، والولاءِ، نصَّ عليه حتى فِي الولاءِ فِي "الأم"، و"المختصر" وغيرِهما، ويُنتقَلُ إلى الأبْعَدِ فِي النَّسبِ والوَلاءِ المُوافِقِ فِي الدِّينِ (¬2)؛ خِلافًا للقاضِي حُسينٍ فِي الولاءِ، إذ (¬3) حَكمَ بانتقالِه لِبيتِ المالِ، والأولُ هو المَنصوصُ (¬4)، وفِي الولاءِ لو كان القاتلُ أقربَ (¬5) صُرِفَ إلى الأبعدِ مِنْ أصحابِ الولاءِ. * الرابعُ: الاختلافُ فِي الذِّمَّةِ و (¬6) الحِرَابَةِ، معَ التَّوافقِ على الكُفرِ الأصْليِّ، فلا توارثَ بَيْن حربيٍّ وذِمِّيٍّ، ويتوارثُ الذِّمِّيَّانِ (¬7)، والمُعاهَدانِ، والذِّميُّ والمعاهَدُ، والحربِيَّانِ، وإنِ اختلفتْ طرائِقُهم فِي الكُفْرِ؛ كاليهُوديِّ مِنَ النَّصرانِيِّ وغيرِ ذلك. * الخامسُ: الرِّدَّةُ، فالمرتدُّ: لا يرثِ ولا يُورثُ (¬8). ¬
السادس
وأما ما وَجَبَ له مِن قصاصٍ بقطعِ طَرفٍ أوْ جرحٍ فِي حالِ (¬1) إسلامِهِ، فإنه يَستوفِيه مَن كان وارِثَهُ (¬2) لَولَا الردةُ على مُقتضَى النصِّ المعمولِ به، فيمكنُ أن يُستثنَى، وإن لمحَ فيه التَّشَفِّي، وقياسُ ذلك يأتي فِي حَدِّ القذْفِ (¬3)، وفِي اليهوديِّ يَتَنصَّرُ، قُلتُهُ تخريجًا. * السادسُ: الدَّوْرُ (¬4)، ويقربُ منه مَنْ عَتَقَ مِنَ الثلث، فإذا أقرَّ أخٌ حائزٌ (¬5) بابنٍ للميِّتِ ثَبَتَ نسبُ الابْنِ، ولا يَرِثُ؛ لأنَّ إرثَهُ يؤدِّي إلى نفْي إِرْثِه، وما أدَّى إثباتُه (¬6) إلى نفيِه انتفَى مِنْ أصلِه (¬7). ولَو أقرَّ (¬8) أحدُ الابنينِ بثالثٍ، وأَنكرَ الآخرُ، لَمْ يَثبتِ النسبُ، ولَا الإِرثُ، ولا يُشاركُ المقِرَّ فِي حصتِه ظاهرًا (¬9)، ويشاركُه فِي الباطنِ بثُلُثِ ما فِي يدِه على الأصحِّ. [وفِي الدور لو ثَبتَ نسبُ حاجبٍ أو مشاركٍ بشهادةِ عَتيقِ الحائِزِ مِن ¬
السابع
التَّركة، وكلُّ] (¬1) مَنْ عَتَقَ مِنَ الثُّلث مِنْ أبٍ أوْ أخٍ أوْ زوجةٍ بأنْ تكونَ له أمَةٌ غَيرُ مُستولَدةٍ فيُعتِقُها (¬2) فِي مَرضِ مَوتِه، ثُم يَتزوَّجَها، فإنَّ كلًّا مِن هؤلاءِ لا يرِثُ مِنَ الميِّتِ المَذكُورِ شَيْئًا، وكذا مَنْ أَعتَقَهُ (¬3) مِن أَقاربِه، ولَمْ يخرجْ مِن الثُّلثِ، فأجازَ الوارِثُ عِتقَه. * السابعُ: الحجْبُ بالأشخاصِ حجْبَ حِرْمانٍ، وسيأتِي فِي موضِعه. وما عُدَّ مِن الموانِع قد يُقْلَبُ إلى الشروطِ كقولِ بِعضِهم: مِن شروطِ الإرثِ (¬4): التوافقُ فِي الدِّينِ، وقدْ يُقلبُ (¬5) الشرطُ (¬6) إلى الموانعِ (¬7)، كعَدِّ بعضِهم مِن الموانِع: استِبْهامَ تاريخِ الموتِ (¬8)، وما ذكرْنَاهُ أقربُ. وفِي تحقِيقِ الشَّرْطِ والمانعِ بِهذا الاعتبارِ عُسْرٌ، تيسَّرَ معرفتُه بما ذكرْنَاه فِي المَسئولِ، وأمَّا المفقودُ قَبْلَ الحُكمِ، والحملُ قَبْلَ انفِصالِه، والخُنثَى قَبْلَ بَيانِ حالِه، فيُؤْخذُ في (¬9) ذلك بأَحْوطِ الأحْوالِ (¬10). ¬
ولا ضَبْطَ لعدَدِ الحَمْلِ، ويُوقَفُ مَا لَمْ يتحقَّقْ مصرفُه فِي ذلك كلِّه، كما يُوقَفُ فِي المحتاجِ إلى القائفِ، ونصيبِ الزوجةِ (¬1) فيمَن طلَّقَ إحدى زوجتَيهِ (¬2)، حيثُ لا مانِعَ فِي واحدةٍ مِنْهُما، وفِي اختيارِ المسلِمِ في نِسْوةٍ مُسلِماتٍ [زائداتٍ على العَدَد الشرعيِّ. ولا يُوقَفُ (¬3) فِي أربعِ مُسلماتٍ] (¬4) وأربعِ كِتابيَّاتٍ؛ لاحتمالِ اختيارِ الكتابياتِ، ولا فِي أَحَدِها, ولا وَلَدي مِن أَمَتِي، وماتَ ولَمْ يُعينْ، ولَمْ يَعرفْه الوارثُ، وتعذرتْ مَعرفتُه، فالقائفُ (¬5) تشبيهًا له (¬6) بفرقِ المُتَوارِثين (¬7) على ما صحَّحُوه، وهو مُشكِلٌ لِما (¬8) سبق. * * * ¬
فصل في معرفة من يرث ومن لا يرث
فصل في معرفة من يرث ومن لا يرث (¬1) الوارِثُ مِن (¬2) ذَوِي (¬3) القرابةِ وغيرِها مِنَ الذُّكورِ عَشرةٌ (¬4): - اثنانِ مِن أعلَى النَّسبِ، وهما (¬5) الأبُ وأبُوه وإنْ عَلا. - واثنانِ مِن أسفلِه وهما الابنُ وابنُ الابنِ وإن سَفَلَ. - وأربعةٌ مِنْ حواشِي النَّسبِ، وهُم الأخُ وابنُه إلا ابنَ الأخ (¬6) للأُمِّ والعمِّ، ابنُه إلا مِن الأمِّ فِيهما. - واثنانِ بِغَيرِ النَّسبِ وهُما الزوجُ وذُو الوَلاءِ (¬7). ¬
والوارثات من النساء سبع
* والوارِثاتُ مِنَ النِّساءِ سَبعٌ (¬1): ثنتانِ مِنَ الأعْلى، وهما الأمُّ والجَدةُ غيرُ الساقطةِ سواء كانتْ (¬2) مِن قِبَلِ الأمِّ أو (¬3) مِن قِبَلِ الأبِ. - وثنتانِ مِن أسفلِه، وهما البنتُ وبنتُ الابنِ. - وواحدةٌ مِن الحاشيةِ، وهي الأختُ شقيقةٌ أو لأبٍ أو لأمٍّ. - وثنتانِ بغَيرِ النسبِ، وهما الزوجةُ وذوا (¬4) الولاءِ (¬5). وإذَا اجتمعَ كلُّ الرجالِ كانَ الميتُ أُنثَى لِأنَّ فيهم الزوجَ، ولا يرِثُ مِنْهُم إلا ثلاثةٌ الأبُ والابنُ والزوجُ، أو كل النساءِ يكونُ الميتُ ذَكرًا؛ لأنَّ فيهمُ الزوجةَ، ويرِثُ منهمُ الأمُّ والبنتُ وبنتُ الابنِ والزوجةُ (¬6) والأختُ الشقيقةُ. ¬
وإذَا اجتمعَ كلُّ الرجالِ وبقيةُ النساءِ أوْ بالعكسِ وَرِثَ منهمُ الأبوانِ والابنُ والبنتُ وأحدُ الزوجيْنِ. وعنْدَ اجتماعِ الجميعِ لا إرْثَ إِذْ (¬1) لَمْ يمُتْ أَحَدٌ. وما ذُكِر فِي صورةِ الخُنثى وهيَ: مَا إذَا أقامَ رجلٌ بينةً على ميتٍ ملفوفٍ فِي كفنٍ أنه امرأتُه (¬2) وهؤلاءِ أولادُه مِنها، وأقامتِ امرأةٌ بينةً أنه زوجُها وهؤلاءِ أولادُه مِنها (¬3)، فكشفَ عنه فإذَا هو خُنْثى له الآلتانِ (¬4)، مِن أنَّ الشافعيَّ -رضي اللَّه عنه- قال: يُقْسَم المالُ بينَهما، نقلَ ذلك الهرويُّ فِي "أدبِ القضاءِ". وقالَ: إنَّ الأستاذَ أبا طاهرٍ قال: بيِّنَةُ الرجلِ أَوْلى؛ لأنَّ الولادةَ صحَّت مِن طريقِ المشاهدَةِ، والإلحاقُ بالأبِ أمرٌ حكميٌّ (¬5)، والمشاهدةُ أقْوى، فعلى النصِّ يجتمعُ كلُّ الرجالِ وكلُّ النساءِ فِي هذِه الصورةِ، وهي غريبةٌ. وحينئذٍ فيكونُ نصيبُ الزوجيةِ (¬6) مِنْهُ القدرَ الزائدَ للزوجِ (¬7)، لا تنازعُهُ فيه الزوجةُ، والقدرُ المتنازعُ فيه يُقسمُ، ونصيبُ الأبوَيْنِ لا يختلفُ، والباقي للأولادِ الذكورِ والإناثِ مِنَ الجِهَتينِ بيْنَ الصِّنفَيْنِ؛ للذَّكَرِ مثلُ حظِّ الأُنثييْنِ، ¬
وأما ذوو الأرحام، فهم الأقارب الخارجون عمن ذكرنا، وهم عشرة أصناف
فيما لا مُنازعةَ فيه، وما (¬1) فيه مُنازعةٌ يُقسمُ كما تقدَّمَ. ولا خُصوصيةَ لِذلكَ بهذِه الصورةِ، بلْ لَو أقامَا بيِّنتيْنِ (¬2) كذلكَ بعْدَ الدَّفْنِ، أو على غائبٍ لَمْ يَظْهَرْ حالُهُ، فينبغي (¬3) أَنْ يَجرِي فيهِ ذلك، ولعلَّ ما ذُكرَ عن (¬4) الشافعيِّ رضي اللَّه عنه عَلَى قولٍ استعمالُ البينتَيْنِ بالقِسمةِ، فأما إذا فَرَّعنا على إبْطالِهما أوِ الترجيحِ فلا يُقسمُ، والأرجحُ ترجيحُ بينَةِ الرجُلِ كما قالهُ الأُستاذُ (¬5). * * * وأما ذوو الأرحامِ، فهُم (¬6) الأقاربُ الخارجُونَ عمَّن ذكَرْنا، وهُم عشرةُ أصنافٍ: 1 - الجدُّ أبو الأم. 2 - وكلُّ جدٍّ وجدَّةٍ ساقِطَيْنِ. 3 - وأولادُ البنات. 4 - وبناتُ الإخوة. 5 - وبنو الإخوة للأُم. ¬
6 - وأولادُ الأخوات. 7 - وبناتُ الأعمام، والعَمُّ للأُم. 8 - 9 - 10 - والعَمَّاتُ، والأخْوالُ، والخَالَاتُ، ومَنْ أَدْلَى بهم (¬1) (¬2). واختلف مَنْ وَرَّثهم فِي التنزيلِ والقرابةِ على وُجوهٍ: المختارُ منها التنزيلُ، بأن يُنَزَّل كُلُّ شخص منزلة من يُدلي به: فالخُؤولةُ (¬3) كالأُمُومة، ¬
والعمومةُ كالأُبوة، ويُقدَّمُ الأسبقُ إلى الوارث، وعندَ الاستواءِ يُقدَّرُ (¬1) المشبَّهُ بِهِ وارِثًا ويُقسَمُ (¬2) نصيبُ كُلٍّ على مُشْبِهِه، كإِرْثِه مِنهُ، فمَنِ (¬3) انفردَ منهُمْ حازَ جميعَ المالِ باتفاق من ورثهم (¬4). * * * ¬
فصل في معرفة ذوي الفروض وفروضهم وذوي التعصب وأحوالهم
فصل في معرفة ذوي الفروض وفروضهم وذوي التعصب (¬1) وأحوالهم أصحابُ الفُروضِ (¬2) ثلاثةَ عشرَ: 1 - الأُمُّ. 2 - والجَدةُ وإن تعددْنَ. 3 - والأخُ للأُمِّ. 4 - والأختُ للأُمِّ، ومَنْ تَعدَّد منهُما. 5 - 6 - والزوجُ والزوجةُ وإن تعدَّدتْ، وهؤُلاءِ أصحابُ فُروضٍ أبَدًا. 7 - 8 - والبنتُ وبنتُ الابنِ، ومَنْ تعدَّدَ منهُما. 9 - 10 - والأختُ الشقيقةُ، والأختُ للأبِ ومَن تعدَّدَ منهُما، وإنما يُفرضُ لهؤلاءِ بشرطِ أن لا يُعَصَّبْنَ ولا يُحجبْنَ، وهذا في بعضِهنَّ. ولا فَرضَ لجهةِ الإخوةِ لغَيرِ مَنْ ذُكِر إلا فِي الأخِ الشَّقيقِ أوِ الإِخوةِ ¬
والفروض المقدرة في كتاب الله تعالى ستة
الأشقاءِ فِي المُشَرَّكةِ (¬1) وستأتِي. 11 - 12 - والأبُ والجَدُّ معَ وجودِ ولدٍ أو ولدِ ابْنٍ وارثٍ. وقدْ يُفرضُ عند عدَمِهِما للجَدِّ فِي مسائلَ تَأْتِي فِي فَصْلِ الجَدِّ والإِخْوةِ، وليس أحدٌ مِنَ الكلِّ يجمعُ بينَ الفرضِ والتعصيبِ لِجهَةٍ واحدةٍ إلا الأبُ قَطْعًا، والجَدُّ على الأصحِّ، وتَظهرُ فائدةُ الخلافِ فيما لَو أَوْصَى بثُلثِ مَا يَبْقى بَعْدَ الفُروضِ، ويكونُ ذلك كالوصيةِ بإدخالِ الضَّيْمِ على بعضِ الورَثةِ دُونَ بعضٍ، فلِمَنْ دخَلَ عليه الضيمُ أن لَا يُجيزَ القَدْرَ الذِي حصَلَ به الضَّيمُ. * * * والفُروضُ المقدَّرةُ (¬2) فِي كتابِ اللَّهِ تعالى سِتَّةٌ (¬3): 1 - النصفُ. 2 - ونصفُهُ (¬4) وهو الربُعُ. 3 - ونصفُ نصفِه وهو الثُّمُنُ. ¬
فالنصف فرض خمسة
4 - والثُّلُثانِ. 5 - ونصفُهما وهُو الثُّلثُ. 6 - ونِصفُ نصفِهما (¬1) وهو السُّدسُ. وإنْ شِئتَ قلتَ: الثُّمُنُ (¬2)، وضِعفُه، وضِعفُ ضِعْفِه، وفِي السُّدسِ كذلك. وإنْ شِئْتَ اختصرتَ فقُلتَ: الربعُ، والثلثُ، ونصفُ كلٍّ، وضِعفُ كلٍّ. * فالنِّصْفُ فَرْضُ خَمسةٍ (¬3): 1 - الزوجُ عندَ عَدَمِ الوارِثِ مِنَ الولَدِ، أوْ ولَدِ الابْنِ. 2 - وبنتُ الصُّلْبِ. 3 - وبنتُ الابْنِ. 4 - والأختُ الشقيقةُ. 5 - والأختُ للأبِ. وإنما ترِثُ كلُّ واحِدةِ (¬4) مِنْ هؤلاءِ النصفَ (¬5) بشرْطِ أن لا تُعَصَّبَ (¬6)، وأن ¬
والربع فرض اثنين
لا (¬1) يكُونَ معَها مَنْ يُساوِيها مِنَ الإناثِ. * والرُّبُعُ فرْضُ اثنيْنِ (¬2): 1 - الزوجُ (¬3) عنْدَ وُجودِ مَن يرِثُ مِنَ الولَدِ أو ولَدِ الابْنِ. 2 - والزوجةُ عِنْدَ عدَمِهما. وقدْ يُفْرَضُ للأمِّ مَعَ الأبِ والزوجةِ، ولكِنْ أطْلقوا عليه ثُلثَ مَا يَبْقَى تأدُّبًا، ومُحافظةً عَلَى لَفْظةِ الثُّلثِ (¬4). * والثُّمنُ: فرضُ الزوجةِ عِنْدَ وُجودِ مَن يرِثُ مِنَ الوَلَدِ أو ولَدِ الابْنِ (¬5). ويَشتركُ (¬6) بالسَّوِيَّةِ الزَّوْجتانِ والثَّلَاثُ (¬7) والأربعُ فيمَا لِلْوَاحدةِ مِنَ الرُّبُعِ أوِ الثُّمُنِ (¬8). ¬
ولا يتصور ميراث عدد زائد على الأربع بسبب الزوجية إلا في صورتين
ولا يُتصورُ مِيراثُ عَدَدٍ زائدٍ على الأربعِ بِسببِ الزَّوْجيةِ إلا فِي صُورتَينِ: 1 - إِحْدَاهما: طَلَّقَ أَرْبَعًا رَجْعِيًّا وقالَ: "ذَكرْنَ لِي أنَّ عِدَّتهنَّ انْقضَتْ"، والحالُ مُمْكِنٌ، فكذَّبْنَه، فالنصُّ في "الإملاءِ"، وهُو المُصَحَّحُ في "الشرحِ" و"الرَّوضةِ": أنَّ لَهُ تَزويجَ أَرْبعٍ حِينئذٍ؛ خِلَافًا لِمَا نَقَلَهُ القاضِي حُسَينٍ (¬1) عنِ الجَديدِ. ولَو قالَ أخبرتني (¬2) بانقضاءِ العِدَّةِ، فلَه التَّزْويجُ وإنْ أنْكرَتْ، قلتُهُ تخريجًا. فعلَى (¬3) المصحَّحِ وما ذكرتُه لَوْ تَزوجَ أرْبعًا وماتَ وعِدَّةُ أولئكَ بِدعْواهُنَّ باقيةٌ، فنصيبُ الزوجةِ لِلْجميعِ على الأرْجَحِ، ويُحتملُ على بُعْدٍ أَنْ تَختصَّ بِه المطلَّقاتُ أوِ الزوجاتُ، قلتُ ذلك كلَّه تخريجًا. 2 - الثانيةُ: طَلَّقَ المريضُ أربعًا بائِنًا وتزوَّجَ أربعًا، وماتَ، وقلْنَا بالقَولِ المَرْجوحِ وهو المِيراثُ مِن الفارِّ (¬4) فِي نحوِ ذلك، فعلَيه؛ يُقسم نصيبُ الزوجيةِ (¬5) بَينَ الثمانِ عَلَى الأرجحِ، وقيلَ: تَختصُّ بِه المطلَّقاتُ، وقيلَ: الزوجاتُ. ولا يختصُّ في الصورتَينِ بالثَّمانِ، ويَجرِي فِي أُخْتَينِ وأخَواتٍ، ولَا ¬
والثلثان
يُتصورُ ميراثُ أُختَيْنِ فأكثرَ رُبُعًا أو ثُمُنًا مِنْ تَرِكَةِ ميتٍ واحدٍ مُسلِمٍ (¬1)، إلا فِي نحوِ ذلكَ. * والثُّلُثانِ: فرضُ اثنينِ مُتساوِيَيْنِ فأكثرَ مِمَّنْ يرِثُ النصفَ بالشَّرْطِ السابقِ، ففِي (¬2) ابنَتَيْ صُلبٍ فصاعدًا، أوِ بِنْتَي ابنٍ فصاعدًا، أو أُختَينٍ شَقِيقتَينٍ فصاعِدًا أو أُختَينِ لِأبٍ فصاعِدًا. * والثلثُ: فرضُ ثلاثةٍ (¬3): 1 - الجَدُّ: عِند عدمِ فرضٍ معَ وجودِ زيادةٍ على مِثْلَيه مِن (¬4) الإِخوةِ. 2 - والأمُّ: عندَ عدمِ مَن يَرثُ مِن ولدٍ، أو ولدِ ابنٍ، وعدمِ اثنينِ مِن إخوةٍ وأخواتٍ، ولَو بالمانِع فِي الحجْبِ بالأشخاصِ خاصةً. 3 - والمتعددُ من الأخوةِ للأمِّ اثنينِ (¬5) فصاعدًا بالسوِيةِ بَيْنَ الذُّكورِ والإناثِ بمُشاركةِ عَصَبَةٍ لأبوَينِ مع زوجٍ، وأمٍّ أوْ جَدةٍ -وهي المُشَرَّكةُ- ولا يستوِي الأخُ الشقيقُ معَ الأختِ الشقيقةِ إلا فيها. وقدْ تقدمَ استثناءُ الفرضِ للشقيقِ فيها، وفيها إعطاءُ الموجودِ حُكْمَ ¬
المعدومِ لقَولِهِم لعمرَ -رضي اللَّه عنه-: "هَبْ أنَّ أبانا كان حِمارًا -وفِي روايةٍ غيرِ مشهورةٍ: "حَجرًا" (¬1) - ألسْنَا مِنْ أُمِّ واحدةٍ؟! " (¬2)، ومِن ذلكَ اشتهرتْ بالحِمَاريةِ، ولَمْ تشتهِرْ بالحَجَرِية (¬3). ¬
الإخوة للأم خالفوا غيرهم في خمس صور
* ضابطٌ: الإخوةُ للأمِّ خالفُوا غيرَهم فِي خَمْسِ صُورٍ: 1 - يرِثُ (¬1) ذكرُهُم المنفردُ كإناثِهِم المنفردةِ، وعندَ اجتماعِهما يستوِيانِ، وكذلك الثلاثةُ فأكثرُ. 2 - ويشارِكُهم الأشقِّاءُ فِي هذِه فِي المُشَرَّكة. 3 - وذكرُهم يُدلِي بمَحْضِ (¬2) أُنثَى ويرِثُ. 4 - ويَرِثونَ مَع مَن يُدلُونَ بِه وهِي الأمُّ. 5 - ويَحجبونَها مِن الثُّلُثِ إلى السُّدسِ. ¬
والسدس فرض سبعة
والسُّدُسُ فرضُ سبعةٍ (¬1): أحدُهم: الأبُ مَع مَنْ يرِثُ مِن ولدٍ أو ولَدِ ابنٍ. الثاني: الجَدُّ كذلك، وفِي غيرِه مِن مسائلِ الجَدِّ والإِخوةِ. الثالثُ: الأمُّ مَع مَنْ يرِثُ مِنْ ولدٍ، أوْ ولَدِ ابنٍ، أو معَ أبٍ وزوجٍ، وأُطلِقَ عليه ثُلُثُ ما يبقَى بعْدَ فَرضِ الزوجِ، أو معَ اثنَينِ ممَّنْ يرِثُ مِنْ إخوَةٍ وأخوَاتٍ (¬2) مُطْلَقًا، أوِ (¬3) امتنعَ إرثُ مَن ذُكرَ مِن الإِخوةِ أو بعضِهِم، لِكَونِه حُجِبَ بالأشْخاصِ، كما فِي أمَّ مَعَ أبٍ وأخَوَينِ مُطْلقًا، أوْ مَع جَدٍّ وأخَوَينِ لِأمٍّ، أوْ أَخَوَينِ؛ أَحدُهُما: لِأمٍّ, أوْ مَع أخٍ شقيقٍ وأخٍ مِنْ أبٍ، فالحجْبُ بالأشخاصِ لا يَمنعُ المحجوبَ مِن (¬4) أن يَحجُبَ غيرَه حَجْبَ نُقْصانٍ، كما فِي هذِه الصُّور (¬5). والمُعادَدَةُ فِي (¬6) جَميعِ هذِه الصُّورِ تَعودُ الفائدةُ لِحاجِب الحاجِبِ إلَّا فِي صُورةِ جَدٍّ وأخوَينِ أحدُهما لأمٍّ, فلا تَعودُ فائدتُه للجَدِّ (¬7)، بل يُسَوَّى بيْنَه وبَيْنَ الأخِ الآخَرِ. ¬
وأمَّا إذَا حجَبَ الأبُ أُمَّ نفْسِه، فإنَّه تستقِلُّ الجَدةُ مِن قِبَلِ الأمِّ بالسُّدُسِ على الأصحِّ؛ لِأنَّ التزاحُمَ كانَ بيْنَ الجَدتَينِ فِي المَصرِفِ لا فِي الاستحقاقِ، وقدْ زالَ حينئذٍ التزاحمُ (¬1). الرابعُ: جَدةٌ فأكثرُ بالسويةِ (¬2) بَينَ ذاتِ جِهَةٍ وجِهَاتٍ؛ على الأصحِّ، وضابِطٌ الجَدةِ الوارثةِ أَنْ تُدلِي بمَنْ يرِثُ، وإنْ شئتَ قلتَ: كلُّ جَدَّةٍ فهِيَ وارثةٌ، إلا مُدليةً بذَكَرٍ بينَ أُنْثَيْيَنِ، وتَنزيلُ الجَدَّاتِ أَنْ تَأخُذَ بِعددِ لَفظِ السائِلِ أُمهات مِن قِبَلِ الأمِّ، ثُم تُبْدَلُ مِن قِبَلِ الأبِ كل أُنثَى بذَكَرٍ، إلَى أَنْ تَستوفيَ المسئولَ. الخامسُ: بنتُ الابنِ وإنْ سفلتْ معَ بنتِ صُلبٍ، أو بنتِ ابنٍ أعْلَى مِنهَا، ومَتى اسْتَكْملتِ العَوالِي الثُّلُثَينِ سَقطتِ الأسافِلُ إلا أَنْ يكونَ مَعهنَّ ذَكَرٌ فِي دَرَجَتِهنَّ أو أَسْفلُ مِنْهُنَّ، فيعصِّبهنَّ. السادسُ: الأخْتُ لِلأبِ مَع الأخْتِ الشقيقةِ، وإذَا استَكْملتِ الشَّقيقتانِ الثُّلُثَينِ سقطَتْ التِي لِلأَبِ، إلا أن يكونَ مَعَها أخٌ لِأبٍ؛ لِأنَّ (¬3) ابنَ الأخِ لا يُعَصِّبُ أختَه، فلا يُعَصِّبُ عمَّتَه، وابنُ الابنِ وإنْ سَفَلَ يُعَصِّبُ مَنْ فِي دَرجَتِه مِن أختِهِ وبنتِ (¬4) عَمِّه فعَصَّب مَنْ فوقَه. السابعُ: الواحدُ مِن أولادِ الأمِّ. ¬
وأما ذو التعصيب، فالعصبة ثلاثة أقسام
* وأمَّا ذو التعصيبِ، فالعصبةُ ثلاثةُ أقسامٍ: 1 - عَصَبةٌ بنفسِه. 2 - وعَصَبةٌ بغيرِه. 3 - وعَصَبةٌ مع غَيرِه. * فالعصَبةُ بنفسِهِ (¬1) (¬2): كلُّ ذكَرٍ نَسيبٍ (¬3) لا يُدلِي بمَحْضِ أُنثَى (¬4)، وذُو الوَلاءِ، وحُكْمُ هذا العاصِبِ أنه يرِثُ جَميعَ المالِ عِند انفرادِه أو مَا أَبْقتِ الفُروضُ (¬5)، إلا فِي العَتيقِ المبعَّضِ، فلا يرِثُ ذُو الولاءِ حينئذٍ إلا بقدْرِ (¬6) عِتْقِهِ. وإذَا استغرقتِ الفُروضُ فلا شَيْءَ للعَاصِبِ، إلا إنِ انقلَبَ إلى الفَرْضِ، كما فِي الإِخوَةِ الأشقاءِ فِي المُشَرَّكةِ، وكما فِي بعضِ مَسائلِ الجَدِّ والإِخْوةِ ومِنها: الأكْدَرِيَّةُ وسَتأتِي، ولا يَنقلبُ أحدٌ بعدَ أَنْ يُفرضَ لَه إلى التعصِيبِ إلا فيها. * والعصَبةُ بغيرِه (¬7): كلُّ أُنثَى عَصَّبها ذكَرٌ عاصِبٌ فلَه مِثْلَا حظِّها، فإنْ كانَ فِي البَناتِ فلَا بُدَّ أَنْ يُساويَها، وإنْ كان فِي بَناتِ الابنِ فالمُساوِي يعصِّبها. وأما النازِلُ فلا يُعَصِّبُ مَنْ تحتَه، ويُعَصِّبُ مَنْ فوقَه [إذَا لَم يكنْ لَها ¬
شَيءٌ مِنَ الثُّلثَينِ، ويعصِّبُ مَن يُساوِيه ومَن فوقَه] (¬1) بشَرْطِه اجتِماعًا وانفرادًا (¬2). ولَيسَ أحدٌ مِنَ العَصَباتِ يُعصِّبُ أختَه وعمتَه وعمةَ أبيهِ وعمةَ جَدِّه وبنتَ عمِّه وبِنتَ عمِّ أبيه وبِنتَ عمِّ جدِّه إلا هذا. وأما الأختُ الشقيقةُ: فلا يُعصِّبُها مِن الإخْوَةِ إلا الشَّقيقُ، والأُخْتُ لِلْأَبِ: لا يُعصِّبُها إلَّا الأخُ لِلأَبِ، وقدْ يُعَصِّبُ الجَدُّ الأخْتَ شَقيقتَه (¬3) كانتْ أو لِأبٍ كما سيأتِي، وابنُ الأخِ لا يُعصِّبُ عَمَّته. وبَنُو الإخْوَةِ يُخالِفونَ (¬4) آباءَهُم فِي هذا، وفِي سَبْعةِ أَشياءَ أيضًا (¬5): - لا يَردُّون الأمَّ مِنَ الثلثِ إلى السدُسِ. - ويَسْقُطون بالجَدِّ بِخلافِ (¬6) آبائِهم العاصِبِينَ (¬7). - وابنُ الأخِ الشَّقيقِ (¬8) يَسْقُطُ فِي المُشَرَّكةِ. - وبنُو الإخوَةِ لِلأمِّ مِن ذَوِي الأرْحامِ. ¬
والعصبة مع غيره
- والعاصِبُ مِن بَنِي الإِخوةِ لا يَرثُ مَع بِنتٍ وأختٍ يُساوِيها أبُوه. - وابنُ الأخِ الشَّقيقِ لا يُسْقِطُ الأخَ لِلْأبِ. - والأخُ لِلأبِ (¬1) يُسقطُه بِخلافِ ابنِ الأخِ لِلأبِ، فإنه يَسْقطُ بابنِ الأخِ الشَّقيقِ عَلَى ما سَيأتِي. * والعَصَبةُ معَ غَيرِه (¬2): أختٌ شَقيقةٌ أو أكثرُ مَعَ بِنْتٍ أو بِنْتِ ابْنٍ وإنْ سَفَلتْ، أو مَعَهُما أو مَع المُتعدِّد مِنها (¬3)، وكذا أُختٌ لِأبٍ فأَكثرَ، عندَ عَدَمِ الشَّقيقةِ مَع مَن ذُكِر، [وحِينئذٍ فَلِلأخْتِ والعَددِ مِن الأخَواتِ ما بقِيَ بعْدَ فَرضِ مَنْ ذُكِر] (¬4) مِن بِنتٍ ونَحوِها, ولا شَيْءَ لِلأُختِ لِلأبِ مَع وجُودِ الأخْتِ الشَّقيقةِ حينئذٍ، بَل (¬5) ولا لِلأخِ لِلأبِ إنْزالًا لِلأخْتِ الشًّقيقةِ حينئذٍ، مَنْزلةَ أَخيهَا، وكذَا لَا شَيْءٍ لِأَحدٍ مِن رِجالِ العَصَباتِ المَحْجُوبِينَ بِمَنْ نَزَّلْنَا الأختَ مَع البِنْتِ ونَحوِها مَنزِلَتَهُ. * * * * ضَابطٌ يَتعلَّقُ بالفَرْضِ والتَّعصِيبِ: لَا يَجمعُ أحَدٌ بَيْنَ فَرضَيْنِ، ولا يُتصَورُ إلَّا فِي الاشْتِباهِ، ونِكاحِ المَجُوسِ، ¬
وحينَئِذٍ يَرِثُ بأَقْواهُما، وذلكَ بِأنْ تَحْجُبَ إِحدَى القَرابتَينِ الأُخْرَى (¬1)، كمَا فِي بِنْتٍ هِيَ أختٌ لِأُمٍّ، أوْ تكونَ إحداهُما (¬2) لَا تحجبُ كأُمٍ هِيَ أُخت لِأبٍ، أو تكونَ إحْدَاهما (¬3) أقلَّ حَجْبًا كجَدَّةٍ هِي أُخْتٌ لِأبٍ، فإنْ حجبَ فبِالآخرِ. ولَا يُجمَعُ بِهذِهِ (¬4) القَرابةِ بَيْنَ فَرضٍ وتَعْصِيبٍ، كمَا فِي بِنْتٍ هِي أُخْتٌ لأِبٍ (¬5) بِأنْ وَطِئ مَجُوسيٌّ بِنتَهُ فولَدتْ بِنتًا (¬6) فهِي بنتُها وأُختُها لِأبِيهَا، فإِذَا مَاتتِ المَوطُوءةُ ورِثَتِ المَولودةُ مِنْها بالبُنُوَّةِ مِنها (¬7) فقطْ على الأصحِّ. وقال ابنُ سريجٍ: ترثُ بِهِمَا. وفِي غَيرِ (¬8) ذلكَ يُجمعُ (¬9) بَيْنَ الفَرضِ والتَّعصِيبِ بِجِهةٍ واحدةٍ كما سَبقَ فِي الأب والجَدِّ، وبِجِهَتَينِ كزَوجٍ هُو ابنُ عَمٍّ أو مُعتِقٌ، وكابْنِ عَمٍّ أَخٍ لِأمٍّ، ولا يُقدَّمُ عَلَى ابْنِ عَمٍّ آخَرُ فِي رُتْبتِه، ولَو كَانَ مَعَهُما بِنتٌ عَلَى الأصحِّ، بخِلَافِ الوَلاءِ، وسيأتِي. ¬
وفِي القَرَاباتِ النادِرَةِ بشُبْهَةٍ أوْ وَطْءٍ مَجُوسٍ أُم هي أُختٌ مَع أُختٍ أُخرَى، فإنَّها تَرِثُ الثُّلثَ كَاملًا, ولا يَحجُبُها أخوةُ نفْسِها مع الأخْرَى. * * *
فصل في الحجب
فصل في الحجب هو نَوْعانِ: حجْبٌ بالأوْصَافِ، وقدْ سَبق فِي المَوَانِعِ. وحجْبٌ بالأَشْخاصِ (حَجْبُ نُقصانٍ)، وقدْ سَبقَ فِي الفُروضِ، كما (¬1) فِي حَجبِ الزَّوجِ بالولَدِ مِن النِّصفِ إلى الرُبُعِ ونحْوِ ذلك. وحجْبُ حِرمانٍ، وهو مقصودُ الفَصْلِ. ومدارُه عَلَى ستِّ قواعِدَ: 1 - أحدها (¬2): مَن لا يرِثُ لا يَحْجُبُ أحَدًا حَجْبَ حِرمانٍ مُطْلقًا ولَا حَجْبَ نُقصانٍ، إلا إذًا حَجَبَ بالأَشخاصِ كما سَبق فِي أبَوَيْنِ وأخَوَينِ ونَحْوِهما (¬3). 2 - الثانيةُ (¬4): كلُّ مَن أَدْلَى إلى المَيِّتِ بنَفْسِه لا يُحجُبُ إلا المعْتِقَ وهُم خمسةٌ: الأبَوَانِ والابْنُ والبِنتُ والزَّوجُ أو الزَّوجةُ. ¬
3 - الثالِثةُ: كلُّ مَن أَدْلَى بِوَاسطةٍ حجَبتْهُ تِلكَ الواسِطةُ إلَّا أولادَ الأمِّ. 4 - الرابعةُ: مَن أَدْلَى بأَبَوينِ مُقدَّمٌ (¬1) عَلَى مَنْ أَدْلَى بِأبٍ إذا كانَا مُتَساوِيَيْنِ (¬2) فِي الرُّتبةِ. 5 - الخامسُ: البعيدُ مِن الجِهةِ المُقدَّمةِ (¬3) مُقدَّمٌ عَلَى القَريب مِنَ الجِهةِ المؤَخَّرةِ، فإنِ اتحدَتِ الجِهةُ قُدِّمَ الأَقْربُ، فيُقدَّمُ (¬4) ابنُ أخٍ (¬5) لِأبٍ عَلَى ابْنِ (¬6) أخٍ شَقيقٍ -عَلَى المَذْهبِ- وكذلكَ فِي بَنِي العَمِّ. 6 - السادسةُ: كلُّ عصَبةٍ يحجُبه أصحابُ الفُروضِ المستغرِقةِ مَا لَمْ يَنقلِبْ إلَى الفَرْضِ كما تقدَّمَ. * * * وأقْوَى العَصَباتِ: الابنُ ثُم ابنُهُ وإن سَفَلَ، ولا يَرِثُ مع (¬7) ذَكَرٍ مِنْ هذِه الجِهَةِ أحَدٌ مِن غَيرِ جِهَتِه بالتَّعصِيبِ مُطْلقًا, ولَا بالفَرضِ إلَّا الأبَوَانِ والجَدَّانِ والزَّوجَانِ، ثُم بَعدَ جِهةِ البُنُوةِ أقْوَى العصَباتِ الأَبُ، وهُو حَاجِبٌ لِلجَدِّ، ويستوِي الجَدُّ والأخُ العاصِبُ، ويُقَدَّم أخٌ شقيقٌ على أخٍ لِأبٍ. ¬
فالأخُ (¬1) الشقيقُ يحجُبه ثلاثةٌ: الابنُ، وابنُ الابنِ وإن سَفَلَ، والأبُ. وأمَّا الأخُ لِلْأبِ: فيحجُبه هؤلاءِ، والأخُ الشَّقيقُ وكذا أختٌ شَقيقةٌ مَعَ مَن ذَكَرْنَا فِي التعصِيبِ مَعَ غَيرِه، وكذا فِي بَعضِ مَسائِلِ الجَدِّ والإخْوَةِ. وأمَّا الأخُ لِلأُمِّ: فلَا يرِثُ إلَّا عِندَ الكَلالَةِ، وهُو فقْدُ الأصْلِ الذَّكرِ (¬2) والفرعِ مُطْلَقًا، فيَحجُبه ستةٌ: الأبُ، والجَدُّ وإنْ عَلَا، والابنُ، والبنتُ، وابنُ الابنِ، وبنتُ الابنِ، وإنْ سَفَلتْ. وأمَّا ابنُ الأخِ الشَّقيقِ: فيَحجُبه كُلُّ مَنْ يحجُبُ الأخَ لِلْأبِ، ويحْجُبُه أيضًا الجَدُّ والأخُ لِلْأبِ [وإذا سَفَلَ حَجَبه العالِي مِنْ بَنِي الأخِ لِلْأبِ كمَا سَبق. وأمَّا ابنُ الأخِ لِلْأبِ (¬3): فيَحجُبه كلُّ مَن يَحجُبُ ابنَ الأخِ الشَّقيقِ، ويَحجُبه ابنُ الأخِ الشَّقيقِ] (¬4). والعُمومةُ مؤخَّرةٌ عَن عصَبةِ بَنِي الأخْوةِ مُطْلقًا، وقِسْ على ما سَبق العَمَّ وابنَه، ثُم عَمَّ الأبِ، وابنَه، ثُم عَمَّ الجَدِّ، وابنَه، والجَدَّةُ أمُّ الأُمِّ: لَا يَحجُبُها إلَّا الأمُّ، ومِنْ جِهةِ الأبِ تَحجُبُها الأمُّ والأَبُ. والقُرْبى مِن كلِّ جِهةٍ تَحجُبُ البُعدَى مِن تِلْكَ الجِهَةِ. والقُربَى مِن جِهةِ الأُمِّ تَحجُبُ البُعدَى مِن جِهَةِ الأَبِ. ¬
والقُرْبى مِنْ جِهةِ الأبِ لا تَحجُبُ البُعْدَى مِن جِهَةِ (¬1) الأمِّ عَلَى الأَظْهَرِ. وكذَا لَا تَحجُبُ القُرْبى مِن جِهةِ آباءِ الأَبِ البُعْدَى مِن جِهةِ أُمهاتِ الأبِ عَلَى مَا ذكَرهُ البَغوِيُّ. وبنتُ الابْنِ يَحجُبُها الابنُ، وتَسقُطُ ببِنتينِ (¬2) إنْ لَم تُعصَّبْ، وحُكمُ مَنْ سفَلَ مِنهُنَّ تُقدَّمٌ (¬3). والأختُ الشَّقيقةُ يَحجُبُها مَن يَحجُبُ أخَاها إلَّا أنَّها لَا تُحجَبُ بفُروضٍ مُستغرِقةٍ حيثُ فُرضَ لَها، وكذَا الأختُ لِلْأبِ، وتَسقطُ بأُختَينِ شَقيقتَينِ إنْ لَمْ تُعصَّبْ، وفِي بعضِ مسائِلِ الجَدِّ والإخْوةِ. والأخْتُ لِلأُمِّ يَحجُبها مَن يَحجُب أخَاها. وذُو الوَلاءِ يتأخرُ عَن عصَباتِ النسَبِ والفُروضِ المُستغرِقةِ، فلَا شَيءَ لَه حِينئذٍ. وأمَّا مَن لا عصَبةَ لَه مِن النَّسبِ فإنَّ مالَه أوِ الفاضلَ عَن الفُروضِ لِذَوي وَلائِه. * * * ¬
والولاء نوعان: مباشرة وانجرار
والوَلاءُ (¬1) نَوعانِ: مُباشَرةٌ وانجِرارٌ: ولا يُتصورُ ثُبوتُ ولاءِ الانجِرارِ عَلَى مَن ثَبتَ علَيه ولاءُ المباشرةِ، والوَلاءُ فِي النَّوعَينِ لا يُورثُ وإنما يُورثُ بِه. فمَن عَتَقَ بالمُباشَرةِ بِتَنجيزٍ (¬2) أوْ تعليقٍ أو كِتابةٍ أوْ بيعِه مِن نفْسِه أوْ بالتَّبعِيَة كالحَمْلِ بعِتقِ الأُمِّ فمِيراثُهُ بالشَّرطِ السَّابِقِ لِمُعتقِهِ رَجُلًا كانَ أوِ امرأةً. ولَا تَرثُ امرأةٌ (¬3) بوَلاءٍ إلَّا مِن عَتيقِها أوْ مِمَّنْ تَنتمِي إلَيه بنَسبٍ أوْ ولَاءٍ، فإنْ لَمْ يَكنِ المُعتِقُ مَوجُودًا أو قامَ بِه مَانعٌ فالمِيراثُ [لمُعْتِقِ المُعْتِقِ، ثُمَّ] (¬4) لِعصَبتِهِ الذِينَ يتَعصَّبُون بأنفُسِهِم. * * * وترتيبُهم هُنا كمَا سَبقَ فِي النَّسبِ إلَّا فِي خَمسِ مَسائلَ: إِحدَاهَا: أخُو المُعتِقِ شقيقُهُ أوْ لِأَبِيه مُقدَّمٌ هُنا عَلَى الجَدِّ. الثَّانيةُ: ابنُ الأخِ المذكورُ مقدَّمٌ عَلَى الجَدِّ هُنا عَلَى الأصحِّ. الثَّالثةُ: العَمُّ الشَّقيقُ أو لِلْأبِ مُقدَّمٌ عَلَى أبِ الجَدِّ نَصَّ علَيهِ. ¬
الرَّابعةُ: ابنُ العَمِّ المَذكورِ يَنبغِي أَنْ يُقدَّمَ عَلَى (¬1) أبِ الجَدِّ، قُلتُه تَخرِيجًا. الخامسةُ: ابنُ عَمٍّ عاصِبٍ أخٌ لِأمٍّ مُقدَّمٌ (¬2) عَلَى ابنِ عَمٍّ فِي رُتْبتِه لَيس أخًا لِأمٍّ فإِن لَمْ يُوجَدْ أَحدٌ مِن عصَباتِ المُعتِقِ أوْ وُجِدَ (¬3) وقامَ بِه مَانعٌ فَالمِيراثُ لِمُعتِقِ المُعتِقِ ثُم لِعصَباتِه (¬4) كذلكَ. فإنْ لَم يوجَدْ أَحَدٌ لجِهةِ (¬5) ولاءِ المُباشَرةِ فالمِيراثُ (¬6) لِبيتِ المَالِ. فإنْ لَمْ يَكنِ المَيِّتُ عَليه وَلاءُ مُباشرةٍ ولَكنْ أصْلُه علَيه وَلاءٌ فالمِيراثُ لِمعتِقِ أَصلِهِ إذًا كانَ الرِّقُّ مسَّ أَحدَ آباءِ المَيتِ دُونَه، ويَثبتُ (¬7) الوَلاءُ فِي هذَا لِمُعتقِ الأُمِّ. فإنْ عَتَقَ الأبُ انجرَّ الولاءُ مِن مَوالِي الأُمِّ إلَى مَوالِي الأبِ، وكذا لَو أُعتِقَ (¬8) الجَدُّ دُون الأبِ، فإنَّه يَنجرُّ إلَى مَوالِي الجَدِّ. ويُقدَّمُ فِي ذلك الأقربُ فالأقربُ. وعندَ الاسْتواءِ يُقدَّمُ مُعتِقُ الذَّكَرِ عَلَى مُعتِقِ الأُنثَى. ¬
ضابط
ولَو مَلَكَ الوَلَدُ أبَاه فعَتَقَ علَيه جَرَّ وَلاءَ إخْوَتِه دُون نفْسِه عَلَى المَنْصُوصِ. * * * * ضَابطٌ: لا يُتصورُ أَنْ يكُونَ الوَلَدُ حُرًّا أصْليًّا لَا ولَاءَ علَيه، والأبَوَانِ رقِيقَانِ (¬1) إلَّا فِي ثَلاثِ صُورٍ: 1 - السَّبيُ: بِأنْ يُسترَقَّ الأبَوانِ والأَولادُ أَحْرارٌ. 2 - والغُرورُ: بأنْ يُغَرَّ عَبدٌ بِحُرِّيَّةِ أَمَةٍ، فأَوْلادُه قَبْلَ العِلْمِ بالحَالِ أَحْرارٌ. 3 - وفِي اللَّقِيطة (¬2) يُغَرُّ بالرِّقِّ بعْدَ الوِلادَةِ كمَا سَبقَ. * * * تنْبيهٌ: يَتعلقُ بِالولَاءِ بِنتٌ وابنٌ مَلَكَا أبَاهُما فَعَتَقَ علَيهِما، ثُم اشْتَرى الأبُ عَبْدًا وأَعْتقَه، وماتَ الأبُ ولَمْ يُخلِّفْ إلَّا البِنتَ وحْدَها، فلَها مِن مَالِه النِّصفُ والرُّبُعُ والثُّمُنُ عَلَى الأصحِّ. ولَوْ مَاتَ الأخُ أوِ العَتيقُ، ولَمْ يُخلِّفْ إلَّا البنتَ المَذكُورةَ فلَها مِن مِيراثِه النِّصفُ، والرُّبُعُ عَلَى المَشْهُورِ، وضعِّفَ مَا فِي "البُويطِي" مِنْ أنَّ لَهَا مِن مَالِ أَخِيها النصفَ والرُّبُعَ والثُّمنَ. ¬
ولو مَلَكَ أُختانِ أُمُّهما، ثم الأُمَّ، وأجنبي الأبَ وأعتقاه، ثم ماتت إحدى الأختين ولم تُخلِّفْ إلا أختَها والأجنبيِّ، فلأخْتِها ثلثا (¬1) مالِها والثلثُ للأجنبيِّ عند المحقِّقِين. وقيل: خمسةُ أَسباعِه لِلأُخْتِ، وسُبُعَاهُ لِلَأجْنَبيِّ. وقال ابنُ الحَدَّادِ: لِلأُخْتِ النصْفُ والثُّمُنُ، ولِلْأَجْنَبيِّ الرُّبُعُ. وأمَّا الثُّمُنُ الزَّائِدُ فلِبَيتِ المالِ، ونُقِلَ عَن الأكْثَرِ. * * * ¬
فصل في الجد والإخوة أشقاء أو لأب
فصل في الجد والإخوة أشقاء أو لأب إنْ لمْ يكُنْ معَهُم ذُو فَرضٍ، وكانُوا دُونَ مِثْلِ (¬1) الجَدِّ، فالقِسْمةُ خَيرٌ لَه، وذلكَ فِي خَمْسِ صُورٍ: أختٌ، أخٌ، أُختانِ، أخٌ وأختٌ، ثلاثُ أخَوَاتٍ، والكُلُّ أشِقَّاءُ، أوْ لِأبٍ، أوْ مِن الجِهَتَينِ، وهُو مَع الأُختِ، وإنْ تَعددتْ هُنا بمَنزِلَةِ أَخِيها، وإنْ كُانُوا مِثْلَيه استَوى لَهُ الثُّلُثُ والمُقَاسَمَةُ (¬2). وذلكَ فِي ثَلاثِ صُورٍ: أخَوانِ، أخٌ، وأُخْتانِ، أربعُ أخَواتٍ، وإنْ زادُوا عَلَى مِثْلَيْه، ولَا تَنحصِرُ صُوَرُهُ فُرِض لَه الثُّلُثُ. وأمَّا الإِخوةُ فإنْ كانَ فِي الأشِقاءِ ذَكَرٌ فلَا شَيْءَ لِأَحَدٍ مِنَ الأخْوةِ لِلْأبِ (¬3) ولَكنْ يُعِدُّهُمُ الشَّقيقُ عَلَى الجَدِّ لِينقصَ حَظَّ الجَدِّ فِي القِسْمةِ. وإنْ لَمْ يكنْ فِي الأشِقَّاءِ ذَكَرٌ وأَخَذَ الجَدُّ حِصَّتَه كَمُلَ لِلشقيقةِ النصفُ، والباقِي لِلإخوَةِ لِلأب الذَّكَرِ أو الذُّكورِ بالسَّوِيَّةِ، وكذَا (¬4) الأُنْثَى، أوِ الإناثُ. وعِندَ اجْتِماعِهم للذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ، ويكمِلُ للشَّقِيقَتَينِ الثُّلُثَينِ، ولا ¬
يفضُلُ عَن ذلك شَيءٌ، وإنْ كان مَعهُم ذُو فَرضٍ أُعطِيَ فَرْضَه (¬1). ولِلْجدِّ خَيرُ الأُمورِ الثَّلاثَةِ وهِيَ سُدُسُ جَميعِ المَالِ، وثُلُثُ مَا يَبْقَى، والمُقاسَمةُ مَعَهُم (¬2) عَلَى ما سَبقَ، فإنْ لَمْ يَبقَ بَعدَ الفَرضِ إلَّا السُّدسُ أو دُونَ السُّدُسِ أوْ لَمْ يَبقَ شَيءٌ فُرضَ للْجَدِّ السُّدسُ وسَقطَتِ الإخْوةُ والأَخَواتُ إلا فِي صُورةٍ واحدةٍ، وهِي الأكْدَرِيَّةُ (¬3). ¬
وصورَتُها: زَوجٌ، وأمٌّ، وجَدٌّ، وأُختٌ واحدةٌ شقِيقةٌ، أو لِأبٍ: فلِلأمِّ الثُّلثُ، ولِلزَّوجِ النَّصفُ، ولِلْجدِّ السُّدُسُ، هذا مُقتضَى (¬1) الأصْلِ، لكِن مُقتضَى آيةِ الصَّيفِ (¬2): أنَّ لِلْأخْتِ النِّصفَ، فيُفرضُ لَها، وتُعالُ المَسألةُ إلى تسعةٍ (¬3)، ثم يُضمُّ نصِيبُ الجَدِّ إلى نصِيبِ الأخْتِ ويقسمانِهِ (¬4) للجَدِّ مِثْلَا حظِّها، وتصحُّ مِن سَبعةٍ وعِشرينَ، ولِذلكَ كدَّرتِ الأصلَ السَّابقَ (¬5). ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
ولَوْ كانَ هُناكَ أُختانِ لَمْ تَكنْ أكْدريَّةً (¬1)، إذْ يَحجُبانِ الأُمَّ مِن الثُّلُثِ إلَى السُّدسِ، فلِلجَدِّ حينئذٍ خيرُ الأُمورِ الثَّلاثةِ، ولا عَوْلَ. * * * ¬
فصل في تأصيل المسائل وتصحيحها
فصل في تأصيل المسائل وتصحيحها إنْ لَمْ يَكنْ (¬1) فِي المَسألةِ صاحبُ فرضٍ ولا عِتْقٍ، فالأصلُ يُعرفُ مِنَ الرُّءُوسِ مِنْ واحدٍ أوْ أكْثَرَ (¬2). وعِند اجتماعِ الذُّكورِ والأناثِ يُفرَضُ كُلُّ ذَكَرٍ اثنين (¬3). ففي (¬4) ابْنٍ وبِنْتٍ مَثلًا أَصلُها مِن ثَلاثَةٍ (¬5). وأمَّا الوَلاءُ فإنْ لَمْ يَتفاوتْ فعَدَدُ رُءُوسِ المُعتَقِين أصلُ المسألةِ ذُكُورًا كانُوا أوْ إِناثًا أو مُجْتَمِعينَ، وإن (¬6) تَفاوتَ فَأصْلُ المَسألةِ مِنْ مَخارجِ المَقاديرِ كالفُروضِ، ولَمْ يَذكرُوهُ. ثُم فِي الحالتَينِ يُنَزَّلُ كلُّ واحدٍ مِمَّنْ يَرثُ بالوَلاءِ كأصْلِه، ويُعرفُ ذلكَ بِمَخارجِ المَقادِيرِ. ثُم بالقِسمةِ عَلَى عَددِ رُءوسِ كُلِّ جِهَةٍ. ¬
وإنْ كانَ فِي المسألةِ صَاحبُ فرضٍ، فأصلُها مِن مَخرجِ ذلك الفَرضِ. والمَخرجُ عِبارةٌ عَن عَددِ واحدِ (¬1) ذلك الفَرْضِ: فمَخرَجُ النصفِ مِن اثنَينِ والثُّلُثِ والثُّلُثَينِ مِن ثَلاثةٍ، والرُّبُعِ مِن أرْبعةٍ، والسُّدُسِ مِنْ سِتةٍ، والثُّمنِ مِن ثَمانيةٍ، وكذَا كُلُّ كَسْرٍ فالخُمُسُ مِنْ خَمسةٍ، والسُّبُعُ مِن سَبعةٍ، والتِّسعُ مِن تِسعةٍ، والعُشرُ مِن عَشرةٍ. وإنْ (¬2) كانَ فِي المَسألةِ فَرضانِ فَأكثرُ فعِندَ تَماثُلِ المَخرجَينِ، يُكتفَى بِواحدٍ وعِند التَّداخُلِ يُكتفَى بِالأكثَرِ، وكذَا يُكتفَى بِه فِي زَوجةٍ وأُمٍّ وأَبٍ، فأَصْلُها مِن أرْبعةٍ، وعنْدَ التوَافُقِ يُضربُ وَفْقَ أَحدِهِما فِي الآخَرِ، [فالمُرْتفِعُ مِن الضرْبِ أصْلُ المَسألةِ، وعنْدَ التَّبايُنِ تَضرِبُ أحدَهُما في الآخَرِ] (¬3) فمَا بلَغَ فهُو أصْلُها، فالمُتماثِلانِ أَمْرُهُما (¬4) ظاهرٌ. ومِن أمثِلةِ ذلكَ نِصفٌ، ونِصفٌ فِي زَوجٍ، وأختٍ شقيقةٍ، أو لأبٍ، وثلثٌ وثُلثانِ فِي شَقِيقتَينِ وأخَوَينِ لِأُمٍّ. والمُتداخِلانِ عَددانِ يَفنَى أكثرُهما بإسقَاطِ أقَلِّهما منه مرَّتَينِ فأكثرَ [أوْ يُساوِيه بِزيادةِ الأقَلِّ علَيه مَرتينِ فأكثرَ] (¬5)، كما في مَخرجِ السُّدسِ والنِّصفِ فالأصْلُ سِتةٌ. ¬
والمُتوافقانِ عدَدَانِ قَلِيلُهما فَوقَ (¬1) نِصفِ كَثِيرِهِما ويُوافقُه بِجُزءٍ (¬2) صَحيحٍ كَسِتَّةٍ وثَمانِيَةٍ. والمُتبايِنَانِ مَا لَا مُوافقَةَ بينَهُما بجُزءٍ صَحيحٍ، كثَلاثةٍ وثَمانيةٍ. وجُملةُ أُصولِ مَسائلِ الفُروضِ سَبعةٌ عنْدَ المُتقدِّمينَ وتِسعةٌ عندَ المُتأخِّرينَ فالمُتفَقُ علَيه: اثْنانِ وثلاثةٌ وأرْبعةٌ وسِتَّةٌ وثَمانيةٌ واثْنَا عَشرَ وأرْبعةٌ وعِشرونَ. وزَادَ المُتأخِّرونَ ثَمانيةَ عَشرَ وسِتةً وثَلاثِينَ فِي الجَدِّ والإخوَةِ: فالأوَّلُ فِي كُلِّ مَسألةٍ فِيها (¬3) سُدُس وثُلُث ما بَقِيَ. والثاني فِي كُلِّ مَسألةٍ فِيها رُبُع وسُدُس وثُلُث ما بَقِيَ. واستصوبَ الإمامُ والمُتولِّي طَريقةَ المتأخِّرينَ، وهِي حَسنةٌ مُختارةٌ. والذي يَعُولُ مِن هذِه الأُصولِ ثلاثةٌ: السِّتةُ وضِعفُها، وضِعفُ ضِعفِها، فالستةُ تُعُولُ إلى سبعةٍ كزَوجٍ وشَقِيقَتَينِ، وإلى ثَمانيةٍ كهؤُلاءِ مَع أُمِّ، وإلى تِسعةٍ كالجَميعِ مَع أَخٍ لِأُمٍّ، وإلى عَشرةٍ كالمُتقدّمين بِزيادةِ أخٍ لِأُمٍّ، وتَعولُ الستةُ بالأَوتارِ والأشْفَاعِ. وأمَّا ضِعْفُها وهو اثنا عشرَ، فلَا يَعولُ إلَّا بالأَوتارِ إلَى ثلاثةَ عشرَ، كزَوجةٍ وأُمٍّ وشَقِيقَتَينِ، وإلَى خَمسةَ عشرَ، كهؤُلاءِ مَع أخٍ لِأُمٍّ، وإلى سَبعةَ عشرَ وهو ¬
نِهايةُ عَولِها كالمُتقدمين بزيادةِ أخٍ لأمٍّ (¬1). وأمَّا ضِعْفُ اثنَي عشرَ وهو أربعةٌ وعِشرونَ فَلا يَعولُ إلا مرةً واحدةً إلى سَبعةٍ وعشرينَ كما فِي "المِنْبريةِ" التي قالَ فِيهَا أَميرُ المُؤمنينَ علِيٌّ -رضي اللَّه عنه- صارَ ثُمُنها تُسعًا وهي بِنتانِ وأبَوانِ وزَوجةٌ. فإذَا عَرفتَ أصْلَ المسألةِ وانْقسمَت (¬2) السِّهامُ (¬3) على المُستحقِّينَ لَمْ يُحتجْ إلَى التصحيحِ (¬4). وإنْ لمْ تَنقسِمْ فإمَّا أن يَنكسِرَ عَلَى فَريقٍ أوْ فَريقَينِ أوْ ثلاثةٍ أوْ أربعةٍ ولا يَزيدُ الكَسرُ على ذلكَ. فإنِ انكَسرَ عَلَى فَريقٍ، فلَا نَظرَ بَيْنَ سِهامِهم ورُءوسِهم إلَّا بالتوَافُقِ (¬5) أوِ التَّبايُنِ. فعِندَ التَّوافُقِ: تَضربُ وَفْقَ الرُّءوسِ فِي أصْلِ المَسألةِ مع عَوْلِها، إنْ كانَتْ عَائلةً، فمَا بلَغَ مِنه (¬6) تَصحُّ، كأُمٍّ وأَربعةِ أَعْمامٍ، لَها الثُّلُثُ، ومَخْرجُه ¬
مِن ثَلاثةٍ لَها واحدٌ مِن الثَّلاثةِ، والباقي سَهمانِ عَلَى أرْبعةِ أعْمامٍ، لَا تَصحُّ، ولكِن يُوافِقُ بالنِّصفِ، فتَضربُ وَفْقَ الرُّءوسِ، وهُو اثنانِ فِي ثلاثةٍ بِستةٍ، ومِنها تَصحُّ لِلأُمِّ سَهمانِ ولِكلِّ عَمٍّ سَهمٌ. ومِثالُ التبايُنِ أمٌّ وخَمسةُ أعمامٍ. وإنْ وَقَعَ الكسْرُ عَلَى فَريقَينِ، فالنظرُ بَين السِّهامِ والرُّءوسِ بما سَبَقَ، فعندَ التوافُقِ تَرُدُّ المُوافِقَ إلى وَفْقِه، وتَترُكُ المُبايِنَ (¬1) بِحَالِه، ثُم تَنظُرُ فِي الوَفْقِ (¬2) وغيرِه بالأعمالِ الأربعةِ السابقةِ. فعِندَ التَّماثُلِ تَكتفِي بوَاحدٍ، وعِنْدَ التَّداخُلِ بالأكثَرِ، وعِندَ التَّوافُقِ يُضرَبُ وَفْقُ أَحدِهِما فِي الآخَرِ، وعِندَ التبايُنِ تَضربُ أَحدَهُما فِي الآخَرِ، ثُم تَضرِبُ المِثْلَ أوِ الأكثَرَ أوِ الحاصِلَ مِن الضَّربِ فِي أصْلِ المَسألةِ بِعَوْلِها إنْ كانتْ عائلةً فَما بلَغتْ (¬3) فمِنه (¬4) تَصحُّ. ويُقاسُ بِذلكَ مَا (¬5) إذَا انْكسرَتْ (¬6) عَلَى ثَلاثِ فِرَقٍ أوْ أرْبَعٍ وعِندَ (¬7) ¬
حُصولِ التَّوافُقِ فِي كُلِّ الفِرَقِ طَريقَانِ. قال البَصريونَ: تَقِفُ أحدَهُما وتَرُدُّ مَا عَدَاه إلى الوَقْفِ، ثُم تَنظرُ فِي الأوْقافِ بِالأعمَالِ الأرْبعَةِ السَّابقَةِ (¬1)، ويُضرَبُ (¬2) الحَاصِلُ [فِي العدَدِ المَوْقُوفِ، ثُم الحَاصِل] (¬3) فِي أصْلِ المَسألَةِ بِعَوْلِها (¬4). وقالَ الكُوفيونَ: يُقابَلُ بَيْنَ العَددِ المَوْقوفِ، وبَيْنَ آخَرَ، ويُضرَبُ وَفْقُ أحدِهِما فِي جَميعِ الآخَرِ، ثُم يُقابَلُ الحاصلُ بعَددٍ ثالثٍ، ويُضرَبُ وَفْقُ أحدِهما فِي جَميع (¬5) الآخَرِ، [ثُمَّ يُقابَلُ الحاصِلُ بالرَّابعِ، ويُصرَفُ وَفْقُ أَحدِهما فِي الآخَرِ] (¬6)، ثُم يُضربُ الحاصِلُ فِي أصْلِ المَسألةِ بِعَوْلِها. وإنْ وافَقَ أحدُ الأعدادِ لَمْ يُوقَفْ (¬7) إلا المُوافِقُ، ويُسمى المَوقُوف المُقيد. * * * ¬
فصل في قسمة التركات
فصل فِي قسمة (¬1) التركات الدَّراهمُ والدَّنانيرُ والمَكِيلاتُ والمَوْزُوناتُ تُقسَّمُ بالأَجْزاءِ. والعَبيدُ والجَوارِي، وغيرُ ذلك مِنَ المُتقوَّماتِ تُقسَّمُ بالقِيَمِ. والأراضِي والعقَاراتُ تُقسَّمُ على أرْبعةٍ وعِشرينَ قِيراطًا. وقد يُنْظَرُ فيها إلى القِيَمِ، وعندَ البَغادِدَةِ تُقسَّمُ الأرَاضِي ونحوُها على عِشرينَ قِيراطًا (¬2). والطريقُ فِي قِسْمةِ (¬3) ذلكَ كُلِّه أَنْ تُؤَصَّلَ المَسألةُ (¬4)، ويَنظرَ مَا لِكُلِّ واحدٍ مِنَ الوَرثةِ مِنَ السِّهامِ ويَنسِبَه إلى أصْلِ المَسألةِ ومَا عَالتْ إلَيهِ، ويَأخُذَ لَه مِن التَّركةِ بِتلك النِّسبةِ ففِيما (¬5) سَبقَ مِن عَولِ السِّتةِ إلَى عَشرةٍ، ولَو كانتِ التركةُ خَمسةَ عَشرَ دِينارًا تُنسبُ سهامُ الزَّوجِ، وهي ثلاثةٌ إلى العَشرةِ (¬6) تجِدُها خُمُسَها ونصفَ خُمُسِها فلَه خُمُسُ التَّرِكةِ ونصفُ خُمُسِها، وهو أربعةُ دَنانيرَ ¬
ونِصفٌ، وقِسِ البَاقِي. طَريقٌ ثَانٍ: تَضربُ سهامَ مَن تريدُ معرفةَ نصيبِه فِي عددِ التَّركةِ، وتَقسِمُ ما حصَلَ مِنَ الضَّربِ على أصْلِ المَسألةِ بِما عالَتْ إلَيهِ، فمَا خَرجَ لِسَهمٍ، فهو نَصيبُ ذلك الوارثِ. طَريقٌ ثَالثٌ: تَقْسِمُ التَّركةَ على أصْلِ المَسألةِ ومَا عَالَتْ إلَيه، فمَا خَرجَ لِسَهمٍ تَضربُ فِيه سِهامَ مَن تُريدُ أَنْ تَعرِفَ [نَصيبَه، فمَا بَلغَ فَهو نَصيبُه. وإنْ كانَ بَيْنَ أصْلِ] (¬1) المَسألةِ بِما عَالَتْ إلَيهِ وبَيْنَ التَّرِكةِ مُوَافقةٌ، فَطَريقَانِ آخَرَانِ: إمَّا أَنْ تَضرِبَ سِهامَ الوَارِثِ فِي وَفْقِ (¬2) التَّرِكَةِ وتقسِمُه على وَفْقِ المَسألةِ فَما خَرجَ لِسهمٍ فهُو نَصيبُه. وإمَّا أَنْ تَقْسِمَ وَفْقَ التَّركةِ عَلَى وَفْقِ المَسألةِ، فمَا خَرجَ لِسهمٍ (¬3) فاضرِبْ فِيه (¬4) سِهامَ الوَارثِ، فمَا بلغ فهُوَ نَصيبه. وإنْ كانَ فِي التَّركةِ كَسرٌ بَسَطْتَها مِن جِنسِ ذلك الكَسرِ، والعَمَلُ كما ¬
سَبقَ، ومَا دُونَ الكَامِلِ مِن دِينارٍ وغَيرِه يُقْسَم عَلى أرْبعةٍ وعِشرينَ قِيراطًا. وعِندَ العِراقِيِّينَ على العِشرينَ كما سبَقَ. وإذَا أَخَذَ بعضُ الورَثةِ بحقِّه (¬1) ثَوبًا بِرضَا البَقيةِ -وبَقيةُ (¬2) التَّركةِ عددٌ مِن الدَّراهمِ مَعلومٌ- فالطريقُ في مَعرفةِ قِيمةِ الثَّوبِ أَنْ تَضربَ بسِهام (¬3) الآخِذِ (¬4) الوارِثِ (¬5) في عَددِ الدَّراهمِ، فمَا بلغَ يُقسَمُ على ما بَقِيَ مِنَ السِّهامِ بعْدَ سِهامِ الآخِذِ فَما خَرَجَ لِسَهْم (¬6) فهُو قِيمةُ الثَّوبِ. * * * ¬
فصل في المناسخات
فصل في المناسخات (¬1) إذَا مَاتَ بعضُ الورَثةِ قَبْلَ قِسمةِ التَّركةِ، وورِثَهُ الباقُونَ علَى نِسبةِ إرْثِهم مِن الأوَّلِ، فُرضَ أنَّ الميتَ الثاني لَم يكنْ. وكذا لَوْ ورِثَه بعضُهم وغيرُ الوارِثين (¬2) ذُو فَرْضٍ في الأُولَى (¬3) كما إذَا مَاتَ عَن زوجةٍ وابنَينِ مِنْ غَيرِها ثم مَاتَ أحَدُ الابْنَينِ. وقَدْ يكُونُ مِيراثُ الباقِينَ (¬4) مِن المَيِّتينِ بالفُروضِ، ويُفرضُ الميِّتُ الثاني كأنْ لَمْ يَكُنْ، كما إذَا ماتَتْ عَن زوجٍ وأخُتَينِ (¬5) لِأبَوينِ وأُختٍ لِأَب، ثُم نَكحَ الزوجُ الأخْتَ للأبِ فماتَتْ عن الباقِينَ أو مَاتتِ امرَأةٌ عنَ زَوجٍ وأُمٍّ وولَدَي أُمٍّ وأُخْتٍ شَقيقةٍ، ثُمَّ نَكحَ الزَّوجُ الأخْتَ الشَّقيقةَ فمَاتَ (¬6) عَن الباقِينَ (¬7). ¬
وأمَّا إذَا تفَاوَتَتِ (¬1) الأنْصِبَاءُ أوْ كانَ ورَثَةُ الميِّتِ الثانِي غَيرَ ورَثَةِ الميِّتِ (¬2) الأوَّلِ وهُمْ (¬3) بعْضُ ورَثَةِ الميِّتِ (¬4) الأوَّلِ ويرِثونَ مِن الثَّاني (¬5) على خِلَاف مَا يرِثُونَ مِن الأوَّلِ فيُحتاجُ حِينئِذٍ إلَى التصحيحِ. والطريقُ في ذلكَ كُلِّه (¬6) أَنْ تُصحِّحَ مسألَةَ الأوَّلِ ومسألةَ الثَّاني، وتَستخْرِجَ نَصيبَه مِنْ مسألَةِ الأوَّلِ. فإنِ انقسَمَ علَى مَسْألتِه فذاكَ. وإنْ لَمْ يَنقسِمْ وهو مُبايِنٌ لِمسألةِ المَيتِ الثَّاني فتَضْرِب (¬7) مَسألةَ الميِّتِ الثاني (¬8) في مَسألةِ الميِّتِ الأوَّلِ بَعَوْلِها، فمَا بَلَغَ فَمِنه تَصحُّ المَسألتانِ، ثُم مَنْ لَه شَيءٌ مِن الأُولى (¬9) أَخَذَهُ مَضْروبًا في الثانيةِ، ومَن لَه شَيءٌ مِن (¬10) الثَّانيةِ أخَذَهُ مَضْروبًا في نصيبِ الميتِ. وإنْ كانَ بيْنَ نصيبِهِ ومسألتِهِ مُوَافقةٌ فاضْرِبْ وَفْقَ مسألتِهِ في المسألةِ ¬
الأُولى فمَا بَلَغَ فمِنه تَصِحانِ، ثُم مَن لَه شَيءٌ مِن الأُولَى يأخذُهُ مَضْرُوبًا في وَفْقِ الثانيةِ، ومَنْ لَه شَيءٌ مِنَ الثَّانيةِ يأخذُهُ مَضْروبًا في وَفْقِ نَصيبِ الميِّتِ، وعلَى ذلكَ فقِسْ (¬1)، واللَّهُ سبحانه وتعالى أعلَمُ. * * * ¬
باب الوصية
باب الوصية (¬1) هي لغةً: راجعةٌ إلى مادة وَصَيْتُ الشيءَ أَصِيتُهُ (¬2)، إذا وَصَلْتُهُ؛ لِأَنَّ الإنسانَ لَمَّا (¬3) أوْصَى وصلَ مَا كَان مِن أمْرِ حَياتِه بمَا بعْدَ مَوتِه، ويقالُ: وَصَّى بِكَذا [وأوْصَى بكذَا] (¬4) لِفُلانٍ بمعنًى واحدٍ، وأوْصَى إليه إذَا جعَلَه وصيَّه (¬5). والاسم: الوصايةُ -بفتح الواو وكسرها- وأوصيتُهُ ووصَّيتُهُ إيصاءً (¬6) وتوصيةً (¬7) جعلهُ وَصِيَّهُ، والاسم: الوَصَاةُ -بفتحِ الوَاوِ، وقولُهم: استَوْصَى ¬
فلانٌ بأمرِ فلانٍ، معناه: قامَ بِه مِن غَيرِ وصِيَّةٍ (¬1). وهِيَ في الشَّرعِ: إثباتُ حقٍّ معلَّقٍ (¬2) بالمَوتِ -لفظًا أو (¬3) تقدِيرًا- مِنْ تبَرُّعٍ عَير تدبيرٍ، ومِن تصرُّفٍ يُنجَرُّ (¬4) ذلك بوَفاةِ المَيتِ بعْدَ وُجودِ شَرطِهِ، ويَلْحَقُ بها حُكمًا بما نَجَزَهُ مِن التَّبَرُّعاتِ في مرضِ الموتِ، والملحق به. ومَن يجعلُ التدبيرَ وصيةً -وهو الذِي نختارُه- لا يذكر مَا يخرجه (¬5). ودليلُها: قولُه تعالى في أرْبعةِ مَواضعَ في المَواريثِ (¬6): {مِنْ بَعْدِ وصِيَّةٍ} (¬7). وفِي "الصحيحينِ" عنِ ابنِ عُمر -رضي اللَّه عنهما- أَنَّ رسولَ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "مَا حَقُّ امرئٍ مُسلِمٍ لَه شيءٌ ويُوصِي فِيه (¬8) [يبيتُ لَيلَتَينِ إلَّا ووصيتُه مكتُوبةٌ عندهُ" (¬9). ¬
وفِي رِوايةٍ لِمُسلمٍ: "له شيءٌ يُريدُ إنْ (¬1) يُوصِي فِيه" (¬2). ومعنى "ما حقُّ": ما الحزْمُ، أو: ما المعْرُوفُ مِن الأخْلاقِ إلَّا هذا. والإجماعُ علَى مَشرُوعيةِ الوصيةِ. وكانتْ واجبةً بقَولِه تَعالَى: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ} ثُم نُسخَ ذلك بالمَوارِيث (¬3). ولا تجبُ الوصيةُ إلَّا إذَا تَعيَّنَتْ طَريقًا لأَداءِ ما في الذِّمَّةِ مِن زكاةٍ أو حجٍّ أو دَينِ آدَميٍّ أو لردِّ وديعةٍ أو عارِيةٍ أو مَغصوبٍ، ونحوِ ذلك. وتُستحبُّ في الجِيرانِ (¬4) لا سيمَا لِلأقْربِ غَيرِ الوَارثِ (¬5)، والمَحْرَمُ أَوْلى، ثُم بالرَّضاعِ، ثُم بالمُصاهَرَةِ. وتَجُوزُ إذَا انتفتِ المعصيةُ، ولَم يَظهَرْ قصدُ القُربةِ، و (¬6) كانتْ بمقصُودٍ ¬
أما من يوصي بالتبرع، فيعتبر فيه ثلاثة أمور
ولَم يَظْهرْ (¬1). وتحرُمُ عندَ وُجودِ المعصيةِ فيها. وتُكْرَهُ بالزيادةِ على الثلثِ للأجْنبيِّ كما صَرَّح بِه البغويُّ والمُتَوَلِّيُّ. ومدارُ البابِ عَلى مَعْرِفَةِ مَن يُوصِي، ومَن يُوصَى لَه (¬2)، وما يُوصِي بِه، وحكمِهُ، والرُّجوع عنِ الوصِيَّةِ، ونَصيبِ الوصيِّ (¬3). * * * * أما مَن يُوصِي بالتبرُّعِ، فيُعتبرُ فيه ثلاثةُ أمورٍ: أحدُها: التكليفُ، فلا تصحُّ وصيةُ المجنونِ ولا الصبيِّ -وإنْ كانَ مميِّزًا- وتصِحُّ وصِيَّةُ السَّفِيهِ كما سبَقَ في الحَجْرِ، وكذَا المُفلِسُ على ما جزَمُوا بِهِ (¬4). وقياسُهُ: صحتُها في المَرْهونِ والمَبيعِ قَبْلَ القَبْضِ والرَّقيقِ المُتعلِّقِ برَقَبتِه بَدلُ جِنايَتِه. الثاني: الحُرِّيةُ، فلا تصحُ وصيةُ الرَّقيقِ -ولو مُكاتَبًا- وإن عَتَقَا علَى مَا صحَّحُوه (¬5)، ولكنْ تصْحيحُها مِنَ المكاتَبِ حَسنٌ، إذْ لا ضَررَ علَى السيِّدِ فيها إذَا ¬
وأما من يوصى له
مَاتَ بعْدَ عِتقِهِ، وتصِحُّ مِن المُبَعَّضِ فيمَا هُو أَحَقُّ ببعضِهِ الحُرِّ، ولَم يَذكرُوه. وأمَّا مَن كانَ حُرًّا عنْدَ الوَصيةِ الصَّحيحةِ، ثُم رَقَّ، ولَمْ يُعلمِ الموصَى به إذا (¬1) كان المالُ عندنا (¬2) بأمَانٍ، فالظاهرُ بقاءُ الوصيةِ، ولَم يتعرضُوا لَه. الثالثُ عَدمُ الرِّدةِ عندَ المَوتِ، فلا تصحُّ وصيةُ المُرتدِّ (¬3) إذا قُتلَ، أوْ ماتَ علَى الرِّدَّةِ، وكذا لا تنفُذُ وصيتُهُ قَبْلَ الردَّةِ، ولَم يَذكرُوه، وتصِحُّ مِنَ الكافِر غَيرِ المُرتدِّ مُطْلقًا في غيرِ مُنْكَرٍ (¬4) (¬5). * * * * وأما مَن يُوصى له (¬6): فإنْ كانَ غيرَ مُعَيَّنٍ لِجِهَةٍ عامَّةٍ، فالشرطُ (¬7) انتفاءُ المعْصيةِ، فتصحُّ للمساجِدِ وعمارتِهِا، ونحوِ ذلك، وفكِّ الأسْرَى (¬8) (¬9)، ولو في أسيرٍ كافرٍ مِن مُسلِمٍ (¬10)، ولا تصحُّ لِكَنيسةٍ (¬11)، ولَو مِن كَافرٍ، ولا ببِناءِ ¬
بقعةٍ (¬1) لِمعصيةٍ، ولا بِما يُستصبَحُ به في الكَنيسةِ على النصِّ (¬2)، وأجازَه الشيخُ أبو حامدٍ إذَا قَصَدَ انتفاعَ أهلِ الذِّمةِ دُونَ تَعظيمِها (¬3). وإنْ كانتِ الوصيةُ لِمعيَّنٍ، فيُشترطُ أَنْ يكونَ أهلًا للخِطابِ، أوْ يُتصورَ لَه المِلْكُ بعِبارَةِ (¬4) وليِّه، أو بإرثِهِ، فتصحُّ لعبدِ الأجنبيِّ، ثُمَّ إنْ لمْ يُعتقْ مِنه شَيءٌ (¬5) فالوصيةُ لمالكِهِ عندَ مَوتِ المُوصِي، وكذَا لَوْ عُلِّق بعدَ مَوتِ المُوصِي، لكِنْ لَوْ أوْصَى لِحُرٍّ فَرَقَّ لَمْ تَكنِ الوصِيةُ لِسيِّدِه مُطْلقًا، بلْ مَتى عتَقَ يَومًا مِنَ الزَّمانِ فهِيَ لَه (¬6). وإنْ مَاتَ رَقيقًا بعْدَ مَوتِ المُوصِي كانتِ الوصيَّةُ لوَرَثَتِه علَى قَولٍ، وعلَى الأظْهَرِ يَكونُ فَيْئًا علَى قِياسِ مَا ذَكَرُوهُ في مَالِ مَن استُرِقَّ بَعْدَ نقْضِ أمَانِهِ (¬7)؛ قلتُه تَخْريجًا. وإنْ عَتَقَ مَنْ كانَ رَقِيقًا عِندَ الوَصيةِ قَبْلَ مَوتِ المُوصِي، فالاستِحقاقُ (¬8) لَهُ. ¬
وإنْ عَتَقَ بعْضُه استَحَقَّ بقَدْرِ حُريتِهِ، والباقِي لِسيدِهِ، قلتُه (¬1) على قِياسِ ما إذَا أوْصَى لمبعَّضٍ ولَا مهَايأَةَ، فإنَّ المُوصَى بِه بينهُما، وعندَ المُهَايَأةِ يَختصُّ بصَاحِبِ (¬2) النَّوبةِ يومَ مَوتْ المُوصِي؛ علَى الأصحِّ. وإنْ أَوصى لِنصفِهِ الحُرِّ، صحَّ على الأصحِّ، ومثلُه: لَو أوْصَى لِنِصفِهِ الرقيقِ. وإنْ كانَ العبدُ المُوصَى لَه للمُوصِي، فإنْ أَوْصَى لَه برَقَبتِه أوْ بجُزْءٍ مِن رقَبتِه صَحَّ (¬3). ولَو أوْصَى لَه بثُلُثِ مَا في يَدِه، ولا مالَ لَه سِواهُ، كانَ مُوصًى لَه بثُلُثِ رَقَبتِه. وكذَا لَو أوْصَى لَهُ بثُلُثِ مَالِه صحَّ (¬4) وأَطْلَقَ، ولَهُ مَالُ غَيرِ (¬5) رقَبتِه، فإنَّ (¬6) ثُلُثَ الرقَبةِ مُوصًى لَه (¬7) بِه علَى الأصَحِّ. وثالِثُها: تُجمعُ الوصيةُ في رقَبتِه (¬8). ¬
وإنْ فَضَلَ بعْدَ عِتقِه شَيءٌ مِنَ الثُّلُثِ صُرفَ إلَيه، ولَو صرَّحَ المُوصِي بذلك عُمِل بِه جَزْمًا (¬1). ولَو أوْصَى لَه بعَينِ (¬2) مالٍ أوْ بِدراهِمَ مَعدودةٍ ومَاتَ، وهو في (¬3) مِلكِهِ فهُوَ وصيةٌ لِلْوَارثِ، والوَصيةُ لِعَبدِ الوَارثِ وصيةٌ للوَارثِ، وستَأْتِي (¬4). ولَو أَوْصَى لِمُبعَّضِ الرِّقِّ مِنه لِلْوَارثِ ولَا مُهايَأةَ ولَمْ يُجِزْ بَقيةُ الورَثةِ بطَلَتْ كلُّها، ورأى الإمامُ تبعيضَها، وهو حَسنٌ، والمُوصَى بِه للمُكاتَبِ مُستحَقٌّ لَهُ. وإنْ عَتَقَ بَعْدَ مَوتِ المُوصِي بما يُسْتَتْبَعُ بِه كَسْبُه، وإلَّا فَهِي لِسَيدِه. وتَجُوزُ الوصيةُ للذِّمِّيِّ، وكذا للْحَربيِّ في الأصحِّ (¬5)، فإنْ رَقَّ فَقَدْ سبَقَ ¬
حكمُه، وللمرْتدِّ على المَنصُوصِ (¬1). فإنْ ماتَ المُوصِي وهو مُرتدٌّ، فقَبِلَ، ثم ماتَ مُرتدًّا، لَمْ يُعْتدَّ بقَبُولِه، وكانَتْ مِن تَرِكةٍ الْموصِي (¬2)؛ قلتُهُ تَخْريجًا. وتَصحُّ للقَاتِلِ مُطْلَقًا علَى المَذْهبِ (¬3)، لَا لِمَنْ يقتُله (¬4)، فتِلْكَ باطلةٌ للْمَعصيةِ (¬5). والوصيةُ لِلْحمْلِ صَحيحةٌ (¬6) إنْ كانَ مَوْجودًا عندَ الوَصيةِ، فإِنِ (¬7) انفصَلَ (¬8) لِدونِ سِتةِ أشْهُرٍ مِن حِينِ الوَصيَّةِ، أوْ لِمَا فَوْقَ ذلكَ، ودُونَ أرْبعِ سِنينَ، وهِي لَا تُوطَأُ علَى الأصحِّ، أوْ تُوطَأُ، وهُما تَوأَمَانِ (¬9)، وانفصلَ ¬
أحدُهما لِدُونِ سِتةِ أشْهُرٍ، وإلَّا فَلَا استِحقاقَ لَه، ولَو أوْصَى لِمَا يحدُثُ مِن حَمْلِها لَمْ يَصحَّ علَى الأصحِّ (¬1). وتَصِحُّ الوَصيةُ لِلْمسجِد، ويُتركُ مُطْلقًا على عِمارَتِه ومَصالحِه، وإنْ قالَ: أردتُ تَمليكِه صحَّ على الأصَحِّ (¬2)؛ لأنَّ لَهُ مِلْكًا وعلَيه وَقْفًا. ولَا تَصِحُّ الوصيةُ للدَّابةِ على قَصْدِ تَمْليكِها، وكذا لو أَطْلقَ (¬3). وإنْ قالَ: "لِتُصْرفَ في عَلَفِها" صَحَّتْ، وصُرِفَ في عَلفِها، ولَو انتقلَتْ عنْ مَالِكِها (¬4). والوصيةُ للوارِثِ (¬5) بقَدْرٍ زائدٍ على إِرْثِهِ يَتوقَّفُ علَى الإِجازَةِ علَى الأظْهَرِ، وفِي قَولٍ: تَبطُلُ، وبِمِقْدَارِ إرْثِه لَاغِيةٌ، وبِعَينٍ هِي قدْرُ حِصَّتِهِ صَحيحةٌ، وتَحتاجُ إلى الإِجَازةِ في الأصحِّ [فِي مَرَضِ المَوْتِ] (¬6). وإنْ وقَفَ علَى وارثِهِ، أوْ أَبْرأَهُ مِن دَيْنٍ علَيه، أوْ وهَبَه شَيئًا في مَرَضِ مَوْتِه، فإنَّه يَتوقَّفُ على إِجازةِ بَقيةِ الوَرَثةِ، إلَّا في صُورةٍ واحدةٍ، وهِي مَا لَو وَقفَ مَا يَخْرُجُ مِن ثُلُثِه علَى جَميعِ ورَثَتِه على قَدْرِ نَصيبِهم، فإنَّه يَنفُذُ، ولا يَحتاجُ إلى الإجازةِ على الأصحِّ، والاعتِبارُ بكَونِه وارِثًا يَومَ الموْتِ. ¬
وأما ما يوصى به: فيشترط أن يكون
والوصيةُ لِغَيرِ الوارثِ بما يَخْرُجُ مِنَ الثُّلثِ نافذِةٌ، والزَّائدُ (¬1) يَحتاجُ إلى إجازةِ الورَثةِ، وإجَازتُهُم تَنفيذٌ لا ابتِداءُ عَطيةٍ على الأظْهَرِ، فلا تُحسَبُ مِن (¬2) ثُلُثِ (¬3) مَن يُجِيزُ دي مرضِهِ للمُوصِي، ولا يَتوقَّفُ على إجازَةِ ورَثَهِ مَن يُجيزُ في مرضِهِ لوارِثِه، قلتُه تخْريجًا. والردُّ والإجازَةُ إنَّما يَنفُذَانِ بعْدِ مَوتِ المُوصِي، وكذلكَ ينظرُ إلى الثُّلُثِ يومَ الموتِ دُونَ يومِ الوصيةِ؛ على الأصحِّ. ولا تصحُّ الوصيةُ للميتِ، ولو ماتَ المُوصَى له قَبْلَ مَوتِ المُوصِي بطَلتِ الوصيَّةُ (¬4). * * * وأما ما يُوصَى (¬5) به: فيُشترطُ أن يكونَ: مَقْصُودًا، فلا يصحُّ بما لا يُقصَدُ مِن دَمٍ ونحوِهِ. مُباحًا، فلا تصحُّ بسِلاحٍ لِحَربيٍّ ونحوِهِ. قابِلًا للنَّقْلِ، ولو بجِهةِ (¬6) الالتِقاطِ، فتصِحُّ بمالِهِ من كَلْبٍ يُقتَنى، وجَرْوٍ ¬
تُتوقعُ منفعَتُهُ، وخَمرةٍ (¬1) مُحْترمَةٍ، وسِرْجِينٍ، وشَحمِ مَيتةٍ ولَحْمِها. ولا تصحُّ بِحدِّ قذْفٍ مُطْلقًا، ولا بِقِصَاصِ لِغَيرِ مَن هُو عَلَيه، خِلَافًا لِمَنْ أطْلقَ المَنعَ، ولا بِحقِّ شُفعةٍ وخِيارٍ ونحوِه. وأنْ يكونَ مُختصًّا بالمُوصِي، فلَا تَصِحُّ بِمِلْكِ غَيرِه؛ علَى النَّصِّ المعمولِ بِه خِلَافًا لِمَا صُححَ في "الرَّوْضة". ولَو أوصَى به إنْ مَلَكَهُ (¬2) صحَّتْ في الأصحِّ، وقِياسُ الصُّورَتَينِ يَأتي فِي المُختَصِّ، ولَمْ يَذكرُوه. وتَصِحُّ بِحَملٍ وثَمَرةٍ مَوجُودَينِ، وكذا بالحَادِثَينِ في الأصَحِّ، وبِمَنافِعِ دَارٍ وعَبدٍ مُؤَقتًا ومُطْلقًا، وبآبقٍ، ومَغصوبٍ، وطَيرٍ مُنفَلِتٍ (¬3)، ومَجْهولٍ كعبدٍ وبِأحَدِ عَبْدَيهِ. ومِن ذلك يُعرفُ أنَّه اتُّسِعَ في الوصيةِ ما لا يُتَّسعُ به في غيرِها. وتصحُّ بِطَبْلِ حربٍ أو حَجيجٍ، لا بلهوٍ لَم يَصلُحْ لمُباحٍ، وعند الإطْلاقِ يُحمَلُ علَى الطَّبْلِ المُباحِ (¬4)، بِخلافِ عُودٍ مِن عِيدانِهِ ولَو عُودَ لَهْوٍ لا يَصلُحُ لِمُباحٍ، وعُود بِناءٍ، فإنَّها تَبطلُ عِندَ الإطْلاقَ، لانْصرَافِ مُطْلَقِ العُودِ في الاستِعمالِ لِعُودِ اللَّهْوِ (¬5)، والطبلُ يقَعُ علَى الجَميعِ. ¬
وأمَّا حُكْمُ ما يُوصَى بِه فقَدْ سبَقَ مَا يَتعلقُّ بالوَارثِ وما يَزيدُ على الثُّلُثِ في حقِّ غيرِ الوارثِ. ويُستحبُّ أن ينقصَ مِن الثلثِ. وقال الشافعيُّ رضي اللَّه عنه في "الأُم" (¬1): "إِذَا تَرَكَهُمْ أَغْنِيَاءَ اخْتَرْتُ لَهُ أَنْ يَسْتَوْعِبَ الثُّلُثَ، وَإِذَا لَمْ يَدَعْهُمْ أَغْنِيَاءَ كَرِهْتُ لَهُ أَنْ يَسْتَوْعِبَ الثُّلُثُ". وهذا حَسنٌ خِلافًا لِمن ضعَّفه، ويُعتبرُ الثُّلثُ وقتَ الموتِ. وضَابطُ ما يُحسَبُ مِن الثُّلثِ في حَقِّ غَيرِ الوارِثِ: هُو كُلُّ تَصرُّفٍ فَوَّتَ مَالًا حَاصِلًا أو كَمِينًا (¬2)، كما في ثَمَرِ (¬3) المُساقَاةِ ومَنافِعِ غَيرِ بَدَنِ المَريضِ بِغيرِ عِوضِ المِثْلِ لِكَونِه بغَبْنٍ فَاحِشٍ، أوْ مَجَّانًا بِلَا استِحْقَاقٍ شَرْعِيٍّ، أوْ فَوَّتَ يَدًا كما في البَيعِ بِمُؤجَّلٍ ولَو بأكْثَرَ مِن قِيمتِه أو اختِصاصًا كما في السِّرجِينِ ونحوِه، وكان التصرُّفُ منجَّزًا في مَرَضِ المَوتِ. ومِنه ما إذَا قَبضَ في المرضِ ما (¬4) وهَبَه في الصِّحَّةِ أوْ مُضَافًا لِمَا (¬5) بعْدَ المَوتِ، بحيثُ لَا يَظْهَرُ أثرُه (¬6) في الصِّحَّةِ. ¬
فإنْ ظَهَرَ فَمِنْ (¬1) رَأسِ المَالِ كما إذَا بانَ بِالمَوتِ، عَتَقَ قَبْلَ المَرَضِ (¬2) بتعلِيقٍ مُعتبَرٍ، مِمَّا لَيس (¬3) بتصرُّفٍ، بلْ هو إتْلافٌ كأكْلِ (¬4) المَريضِ ونَحوِه، لا يُحسَبُ مِن الثُّلُثِ. وكذا الإتلافُ الشَّرعيُّ بالاسْتيلادِ، فعِتْقُ المُستَولَدَةِ وأوْلادِها الحادِثينَ (¬5) الأرِقَّاءِ لَه مِن رأسِ المالِ ومَا لا يُفَوِّتُ مالًا حاصِلًا لَا يُحسَبُ مِن الثُّلُثِ كما في عفْوٍ عنْ قِصاصٍ بِلا مَالٍ، وتَرْكِ شُفعةٍ، أوْ رَدٍّ بعَيبٍ، أو إجازَةِ وصيةٍ، أوِ التزامٍ (¬6) عقدٍ: حيثُ لا يكونُ المُفَوَّتُ في مِلْكِه. وكذَا الرِّبحُ في القِراضِ، وإعارةُ نفسِه أو إجارتُها بدونِ أُجرةِ المِثْلِ. وكذا لَو نُكِحَتِ المريضَةُ بأقلَّ مِنْ مَهرِ المِثْلِ ولَم يكنِ الزَّوجُ وارِثًا. ومَا حصَلَ فواتُهُ لا مِن وضْعِ التَّصرُّفِ بلْ بِمقتَضَى الأصْليَّةِ أو الفَرْعيَّةِ كما إذا مَلَكَ الحُرُّ في مَرضِ مَوْتِهِ أباهُ أو ابنَهُ بِلَا عِوَضٍ، فإنَّه يعتِقُ مِن رأسِ المَالِ على المَذهبِ المُفتَى بِه، خِلَافا لِمَا صحَّحُه في "المُحررِ" (¬7) و"المِنهاجِ" (¬8). ¬
ويَلحقُ بغيرِ العِوَضِ إِذا مَلَكَهُ بِمُعاوضَةٍ غيرِ مَحْضَةٍ مِن صَداقٍ وخُلْعٍ وصُلحٍ عن قِصاصٍ، قلتُه تَخْريجًا. وإنْ مَلَكَهُ بِعِوَضٍ فقدْرُ العِوَضِ مِنَ الثُّلثِ. ومَا كانَ مِنَ التصرُّفاتِ بِعِوَضِ المِثْلِ أوْ بمَا يُتسامَحُ بمِثْلِه حَتَّى في خُلْعٍ وإصْدَاقٍ (¬1) ونحوِه مِن المُعاوضَةِ غَيرِ المَحْضَةِ، فلَا يُحسَبُ مِن الثُّلُثِ، إلَّا في صُورةٍ واحدةٍ، وهِي البيعُ بمؤجَّل كما سبقَ. ومَا كانَ باستِحقاقٍ شرعيٍّ، فإنَّه مِن رأسِ المالِ، كثَمنِ ماءٍ لِطَهارةٍ (¬2)، ونحوِهِ، وزكاةٍ، وحَجٍّ (¬3) وعُمرةٍ، وكفَّارةٍ، ونذْرٍ، إلَّا إنْ صَدرَ في مَرَضِ المَوتِ، فإنَّه يَجرِي مَجرَى التَّبَرُّعاتِ فيهِ علَى الصَّوابِ، قلتُه تخْرِيجًا، وفِي "البحرِ" ما يَقتضِيه. ولَو (¬4) وفَّى بعضُ الغُرَماءِ في مَرضِه لَمْ يُزاحمْه مَنْ بَقِي ولَو كفَّر في المُخيَّرةِ في (¬5) الحِنْثِ بخَصْلةٍ زَائدةٍ علَى غَيرِها فالقدْرُ المُشترَكُ لازِمٌ، فهُو مِن رأْسِ المَالِ علَى الأقْيَسِ، والزائِدُ مِنَ الثُّلُثِ على الأصحِّ. وإذَا دَخَلَ الصَّوْمُ في التخْييرِ كفِدْيةِ الحَلْقِ إذَا عَدَلَ إلى غَيْرِ الصَّوْمِ مَعَ ¬
القُدْرةِ علَيه (¬1) يَنبغي أَنْ يُحسبَ الكُلُّ مِنَ الثُّلُثِ، ولَمْ يَذكُروه. وإذَا اتَّسَعَ الثُّلُثُ لِجَميعِ مَا يُحسَبُ مِنه مِن المنجَّزِ والمُعلَّقِ (¬2) نَفَذَ الكُلُّ، وفِي المخْتَصِّ مِن سِرْجينٍ ونحوِه يَنفُذُ الكُلُّ إذَا مَلَكَ مُتمَوَّلًا. وكذَا الحُكْمُ على الصَّوابِ، لَو أوْصَى بثُلُثِ مَالِه لِشخْصٍ، ولِآخَرَ بكلابٍ (¬3)، خِلافًا لِمَا صحَّحَه فِي "الرَّوضةِ" (¬4) تَبَعًا لابْنِ الصَّبَّاغِ مِن إعْطاءِ المُوصَى لَه بِالكلابِ ثُلثَها فقطْ مَع بَقاءِ ثُلُثَي المالِ وإنْ كَثُرَ لِلْورَثةِ. وإذَا لَمْ يَكنْ لَه إلَّا كلبٌ وأخَذَ فأَوْصَى به (¬5) نَفذَتِ الوصيةُ في ثُلُثِه. وإنْ كانَ لَه ثَلاثُ كلابٍ، فأوْصى بِوَاحدٍ مِنْها فإنَّه يُدفعُ لَه نَظرًا (¬6) إلى العَدَدِ علَى ما صحَّحُوه. والأرْجحُ: النظرُ إلَى قِيمتِها بِتقْدِيرِ مَالِيَّتِها كنَظِيرِه (¬7) في صَدَاقِ الكُفَّارِ أوْ يُقدَّرَ حَيوانًا مُتَقوَّمًا كما رجَّحه طَائفةٌ في نَظيرِه مِن تَفريقِ الصَّفْقةِ. وإذَا لَمْ يَكنْ لَه كلبٌ، فالوَصيةُ لَاغيةٌ. وأمَّا إذَا أضَافَ الثُّلُثَ فإنَّه يُقدَّمُ المُنخزُ الأوَّلُ فالأوَّلُ، وعندَ عَدَمِ المَعيةِ ¬
لا يُقدَّمُ العِتْقُ علَى غَيرِه علَى أصَحِّ القَوْلَينِ، بلْ يَسقُطُ (¬1) ومَا يَخُصُّ العِتقَ إنْ كانَ في رقَبتَينِ فأكْثَرَ، ولَم يُمكِنْ خُروجُ الكُلِّ مِن الثُّلُثِ أُقرِعَ سَواءٌ عَتَقَهُم أوْ عَتقَ ثُلُثَهُمْ. ومَن مَاتَ مِنهم قَبْلَ امتِدادِ يدِ الوارِثِ إلَيهِ دَخَلَ في قُرعةِ العِتقِ لَا في قُرعَةِ رِقٍّ مَحسُوبٍ على الوَارثِ حَتَّى لَو كانتِ التِّرِكةُ ثَلاثةَ أعْبُدٍ قِيمتُهم سَواءٌ وخَرجَتْ قُرعةُ العِتقِ على المَيِّتِ فإنَّه يعتِقُ كله. وإنْ خَرجَتْ قُرعةُ العِتْقِ على الحَيِّ عَتَقَ ثُلثَاهُ فَقطْ. وتُعتبرُ القِيمةُ يَومَ العِتْقِ لِمَنْ حُكم بِعِتْقِه. وتُعتبَرُ قِيمةُ مَن حُسِبَ على الوَارِثِ وقْتَ امتِدادِ يَدِه إلَيه بعْدَ المَوتِ وزِيادَة القِيمةِ بعْدَ العِتْقِ قَبْلَ مَوتِ السيِّدِ كالكسْبِ. ونُقصَانُ القِيمةِ حِينئذٍ يُوزَّعُ فقِسطُ مَا عَتَقَ يُحسَبُ علَى العبدِ كأنَّه قَبَضَهُ، وقِسْطُ ما رقَّ كأنَّه تَلِفَ مِن مَالِ السيِّدِ. فمَنْ أَعْتقَ عَبدًا لَا يَملِكُ غيرَه وقِيمتُه وقْتَ العِتْقِ مِائةٌ، فصارتْ قِيمتُه (¬2) قَبْلَ مَوتِ السيِّدِ مِائةً وخمسينَ: يَعْتِق ثَلاثةُ أَسْباعِه. وإنْ نَقصَتْ قِيمتُه عَن مِائةٍ إلى خَمسينَ (¬3) عَتَقَ منه خُمُسُهُ على مَا صَحَّحُوه. ¬
ويستثنى عن الإقراع صورتان
وفيهِ وجهٌ: يَعتِقُ ثلثُهُ في هذِه وضُعِّفَ ولا بأْسَ بِه، وما كانَ مُعَلَّقًا (¬1) على المَوْتِ مِنْ وَصِيةٍ أو تَدبيرٍ أو غيرِهِ مِن غَيرِ تَصْريحٍ بتقْدِيمِ بعضِها علَى بعْضٍ فَلا (¬2) يُقدَّم بعضُها على بعْضٍ. ولَوْ تَرتَّبَتْ حِينَ صُدورِها فيَستوِي مَن عُلِّقَ عِتْقُهُ بالمَوتِ، ومَن أوصَى بإِعْتاقِه. ويُستثنَى مِن ذلك صُورةٌ واحِدةٌ، وهِيَ: مَا إذا دبَّرَ عَبدَه وقيمتُه مِائةٌ وأوْصَى لَه بمِائةٍ، وثُلثُ مَالِه مِائةٌ (¬3)، فإنَّه تُقَدَّمُ رقَبةُ العَبدِ، فيَعتِقُ كُلُّه ولَا شَيءَ لِلْوصيةِ على الأرْجحِ (¬4)، خِلافًا لِما صحَّحَهُ البَغَوِيُّ مِن التَّقسِيطِ، وما خَصَّ عَتَقَ رقَبَتَينِ فأكْثَرَ فيُقرِعُ على الأصحِّ. ويُستثنى عنِ الإقْراعِ صُورتانِ: 1 - إِحداهُما: لَو قالَ: ثُلثُ كُلِّ وَاحدٍ حُرٌّ بَعْدَ مَوتِي أوْ أثْلاثُ هؤلاءِ أحرارٌ بعْدَ مَوتِي، فإنَّه يَعتِقُ مِن كُلِّ واحدٍ ثُلثُه عند الإمْكانِ، ولَا قُرعةَ حينَئذٍ علَى الأصَحِّ. 2 - الثانيةُ: قالَ: "إنْ أَعتقْتُ (¬5) غَانمًا فسالمٌ حرٌّ" ثُم أعْتقَ غَانمًا في مَرضِ ¬
مَوتِه، فالأصحُّ لَا إقْراعَ بَلْ يُقَدَّمُ غانِمٌ. وجميعُ المعلَّقِ على المَوتِ يَستوِي في حُكْمِه (¬1) السابقِ مَا صدَرَ في الصِّحَّةِ أو في المَرضِ، ومنه لَو قالَ: "وقفتُ هذِه الدَّارَ بعْدَ مَوْتِي" فإنَّه يَكونُ وصيةً لا تعْليقًا مبطِلًا. وإذَا ظَننَّا (¬2) المرَضَ مَخُوفًا فَتَبَرَّعَ فيه مُنجَّزًا بزَائدٍ على الثُّلُثِ، ثُم صحَّ مِن المرَضِ، فإنَّه يَنْفُذُ الكُلُّ. وإنْ ظَننَّاهُ (¬3) غيْرَ مَخُوفٍ فماتَ مِنه بِحَيثُ لَا يُحمَلُ على النَّجاةِ، فقدْ تَبيَّنَ أنَّه مَخُوفٌ. ومَا كَانَ مَخُوفًا فقُتِل فِيه فالتَّبَرُّعُ مِنَ الثُّلُثِ، بخِلافِ غَيرِ المَخُوفِ. والأمراضُ المَخُوفَةُ: منْهَا مَا لا نِزاعَ فِيه، ومِنها: مَا (¬4) يُرجَعُ فيهِ عِندَ التَّنازُعِ إلى قَولِ طَبِيبَيْنِ مُسلِمَيْنِ عَدْلَيْنِ، فإن (¬5) لَمْ يَكنْ بَيِّنة، فالقَولُ قَولُ المُتبرِّع علَيه بيمينِهِ (¬6). ¬
وألحق بالمخوف أحوال عشرة
وأُلْحِقَ (¬1) بالمَخُوفِ أحْوالٌ عَشرةٌ: إحْداهَا: إذَا وقَعَ الطَّاعُونُ في البَلدِ، وفشَا الوَباءُ، فإنَّه مَخُوفٌ في حَقِّ مَن لَمْ يُصِبْهُ على الأصحِّ. الثَّاني: إذَا التَحمَ القتالُ وكانَ الفَريقانِ مُتكافِيَيْنِ (¬2) وإلَّا فلَا خَوْفَ في حقِّ الغَالِبِينَ. الثَّالثُ: هَيَجَانُ الأمْواجِ في حَقِّ راكِبِ السَّفِينةِ (¬3). الرَّابعُ: وقُوعُهُ في أسْرِ كافِرٍ يَعْتادُ قَتْلَ الأَسِيرِ (¬4). الخَامسُ: إذَا قُدِّمَ لِيمتلَ في حَدِّ قَطْعِ طَريقٍ أوْ زِنا مُحصَنٍ (¬5)، وكذا القِصاصُ على الأَظْهَرِ. السَّادسُ: إذا ضَرَبَ الحاملَ الطلْقُ، وكذا بَعْدَ الوَضْعِ مَا لَمْ تَنفصِلْ المَشيمَةُ (¬6)، وكذا إذَا انْفصَلَتْ، وحصَلتْ جِراحَةٌ، أو ضَرَبانٌ شَديدٌ، وإلْقَاءُ العَلَقَةِ والمُضغَةِ لَا خَوْفَ فِيه غَالبًا؛ خِلافًا لِلْمُتَوَلِّي. السَّابعُ: اعْترَضَهُ الأسَدُ وهُو لا يقْدِرُ علَى دَفْعِه، فبَعْدَ الأخْذِ مَخُوفٌ، ¬
وقَبْلَه كالتَّقْديمِ لِلْقِصاصِ. الثَّامنُ: لَو (¬1) غَشِيَهُ سَيلٌ أوْ نارٌ ولَمْ يَقدِرْ علَى النَّجاةِ مِنه، فبَعْدَ الوُقوعِ فيه مَخُوفٌ، فكذَا (¬2) قَبْله علَى الأرْجحِ. التَّاسعُ: طَرَقَتْه أفْعَى، فإنْ نَهشَتْه فمَخُوفٌ، وكذا قَبْلَه إذَا (¬3) غَلَبَ على ظَنِّه الهَلاكَ. [العاشِرُ: كانَ في مَفازَةٍ لا يَجِدُ طَعامًا ولا شَرابًا، وأَيسَ مِن وُجودِ ذلك، واشتَدَّ بِه الجُوعُ والعَطَشُ بِحَيثُ غَلبَ علَى ظَنِّه الهَلاكُ] (¬4)، ومتَى وصَلَ في حَالَةٍ مِن الأحْوالِ إلى حَركةِ المَذبوحِ بِشَقِّ بَطنِه، وإخْراجِ حُشْوَتِهِ أو غَرِق ولا يُحسِنُ السِّباحةَ، فلا أثَرَ لِمَا يَصدُرُ مِنه. وبَعْدَ المَوتِ يُعتَبَرُ (¬5) قَبولُ الوَصيةِ للمُتعيِّنِ، ولا يَصحُّ في الحياةِ على الأصَحِّ ولا الردُّ، ولا يُشترطُ الفَورُ في القَبولِ، والمِلْكُ موقوفٌ فإنْ قَبِلَ تَبَيَّنَّا أنَّه مُلِكَ بِالمَوتِ، وفِي قَولٍ يُملك المَوْت، والثَّالثُ بالقَبولِ. ويَتفرعُ على الأقْوالِ كَسبُ العبدِ المُتَبَرِّعِ (¬6)، وثَمرةُ الشجرةِ ونحوِها. ويُطالَبُ المُوصَى لَه بالنَّفقةِ إذَا تَوقَّفَ في القَبولِ والرَّدِّ، ولا يَتصرَّفُ ¬
قاعدة
المُتبرَّعُ علَيه بعْدَ قَبولِه حتَّى يَتسلطَ الوارثُ على مِثْلَيْهِ، حتَّى لَو أوْصَى بِعَينٍ حاضِرةٍ هِي ثُلُثُ مَا لَه وباقِي المَالِ غَائبٌ، لَم يُدفَعْ كُلُّها لِلْمُوصَى لَه، ولا ثُلُثُها على الأصحِّ، وكذا في العِتْقِ. * قَاعدةٌ: النَّظرُ في ألْفاظِ مَا يُوصَى بِه إلى اللُّغةِ مَا لَمْ يَكنْ هُناكَ عُرْفٌ مُطَّرِدٌ، ويُقتصَرُ في الأسمَاءِ على مُسمَّياتِها، ولا يُحْكمُ بِتبَعيةِ مَا لَم (¬1) يَتناوَلْهُ الاسمُ. فنعْجَةٌ لِلأُنثَى مِن الضأْنِ، وبقَرةٌ وبغْلةٌ وحِمارةٌ وكلْبةٌ لِلأُنثَى مِن جِنْسِها، وشاةٌ لِلأُنثَى مِن ضَأنٍ أوْ مَعزٍ على النَّصِّ، والمُرجَّحُ عِندَ الأصْحابِ أنَّها تَشملُ الذَّكَرَ لِأنَّه اسمُ جِنسٍ، ولَا يتناولُ سَخْلَةَ ولَا عَنَاقًا ولا ظَبْيًا إلَّا في قولِه: "مِن شِياهِي" وليسَ لَه إلَّا ظِباءٌ. وتَدخلُ المغيبةُ في جَميعِ فُروعِ القَاعدةِ إلَّا في قولِه: "اشتَرُوا شَاةً مِن مَالِي" ولَا غَنمَ له تُشترَى لَه شَاةٌ، و"مِن غَنمِي" ولا غَنمَ لَه تَلغُو الوَصِيَّةَ. ويَنبغِي أَنْ يُقيدَ (¬2) ذلكَ بِمَا بَعْدَ المَوتِ. والبَعيرُ للذَّكَرِ والأنْثَى على الأرْجَحِ، ونَظرَ بَعضُهم إلى غَلَبةِ الاستِعْمالِ. ولَا [يَتناولُ جملٌ ناقةً، ولا ناقةٌ] (¬3) جَملًا، وهُما يَتناوَلانِ البَخَاتِيَّ والعِرَابَ، والعَبدُ للذِّكَرِ، والأَمَةُ للأُنثَى، والرَّقيقُ يَعُمُّ، والرِّقابُ ثَلاثةً. ¬
ضابط
ولا يُشتَرى شِقْصٌ هُنا. ومَا فَضَلَ عَن أنفَسِ مَا يُوجَدُ يُرَدُّ على الورَثةِ بخِلافِ: "اصرِفُوا ثُلُثِي لِلْعِتْقِ (¬1) ". والدَّابةُ عُرْفًا لِلْخَيلِ والبِغالِ والحَميرِ مِن ذُكورٍ وإِناثٍ. ولَو أوْصَى لِأقاربِ نفْسِه لَمْ يَدخُلِ الوَرثَةُ علَى الأصحِّ، اعتِبارًا بعُرْفِ الشَّرْعِ لا بِعُمومِ لَفظِ المُوصِي. وأقَاربُ فُلانٍ أولادُ أقرَبِ جَدٍّ (¬2) يُنسَبُ إلَيه فُلان، وبَعْدَ أوْلادِه قَبيلُهُ، فيَتناولُ قَريبَهم وبَعيدَهم ومَحْرمًا وغيرَه إلَّا الأبَوَيْنِ والولَدَ، وتَدخلُ قَرابةُ الأمِّ ولَو في العُرْفِ على ظَاهِرِ النَّصِّ المَعمُولِ بِه، خِلافًا لِمَا في "المُحررِ" (¬3) و"المنهاجِ" (¬4). وأقْربُ الأقَاربِ الفَرعُ، ثُم الأصْلُ بِتَرْتِيبِهِم، والأخُ وابنُه مُقَدَّمٌ على الجَدِّ. * * * * ضابطٌ: لا يَتقدمُ أخٌ لِأمٍّ وابنُه على الجَدِّ إلَّا في هذا المَوضِعِ ومِثْلُه الوَقْفُ علَى ¬
الأقْرَبِ، وفِي وقْفٍ انقطَعَ مَصرِفُه أو لَمْ (¬1) يُعرَفْ. ولَا يُقدَّمُ (¬2) الأخُ لِلأبَويْنِ أوْ لِلْأَبِ ولَا (¬3) ابنُه على الجَدِّ إلَّا هُنا وفِي الوَلاءِ. ويَنبغِي أَنْ يُقدَّمَ العَمُّ على الجَدِّ كمَا في الوَلاءِ، ولَمْ يَذكُروه هُنا. والأخُ لِلْأَبِ يَستوِي مَع الأخِ لِلْأُمِّ، وكذَا تَستوِي العُمومَةُ والخُؤُولَةُ. ويُقدَّمُ المُدْلِي بِأَبَوَيْنِ على مَن يُدْلِي بِأصْلٍ. والجِيرانُ أرْبَعونَ دَارًا مِنْ كُلِّ جَانِبٍ مِن الجَوانِبِ الأرْبَعةِ، فالجُملَةُ مِائةٌ وسِتُّونَ. والعُلَماءُ أصحابُ عُلومِ الشَّرْعِ، وهِي التَّفسيرُ والفِقْهُ والحَديثُ، لَا قَارئٌ وأدِيبٌ ومُتكلِّمٌ على الأرْجَحِ، ويَتناوَلُ الفُقَراءَ والمَساكينَ وبِالعَكْسِ ولَهُما يُنَصَّفُ، ويَكفِي الصَّرْفُ مِن كُلِّ صِنْفٍ إِلَي ثَلاثَةٍ (¬4)، ولَا تَجِبُ التَّسويةُ بيْنَ الثلاثَةِ. ويُعتبَرُ اللفْظُ في حَمْلِ فُلانةٍ فيُوزَّعُ على العَددِ، ويَستقِلُّ بِه الحَيُّ. وإنْ كانَ حَمْلُها (¬5) ذَكَرًا فأَعْطُوه كذَا، أوْ أُنثَى فلَها كَذَا، فوَلَدَتْهُما مِنْ ذَلك الحَمْلِ، فلَا شَيءَ لَهُما. ¬
الحَمْلِ، فلَا شَيءَ لَهُما. وإنْ أَتَتْ بذَكَرَينِ أُعطِيا علَى المُختارِ خِلَافًا لِلْغَزالِي. واسمُ الشَّجرةِ لَا يَستَتْبعُ الثَّمرةَ غَيْرَ المُؤبَّرةِ لِعدَمِ المُعاوَضةِ ولِهَذَا لَا تَدخلُ الثَّمرةُ غَيرُ المُؤبَّرةِ في هِبةِ الشَّجرةِ (¬1) [على الجَدِيدِ] (¬2). ولَا يَدخُلُ الحَمْلُ هُنا علَى الأصَحِّ. وكذَا في الهِبَةِ علَى الجَديدِ في النِّهايةِ بِخِلافِ المُعاوَضاتِ مُطْلَقًا، فإنَّها تَستَتْبعُ غَيرَ المُؤبَّرَةِ والحَمْلَ (¬3). والوَصِيةُ بِمَنفعَةِ الجَارِيةِ تَتناوَلُ مَهْرَها لَا وَلَدَها، بَلْ هُو كالأُمِّ، ويدخُلُ في المَنفعةِ الأكْسابُ (¬4) الغَالِبةُ دُونَ النَّادِرةِ، خِلافًا للمَاورْدِي في تَصحيحِ دُخولِ اللُّقطةِ. ولَا تَتناولُ المَنفعةَ المؤبدةَ الرّقبةُ على المَشهورِ، فكذلكَ الوَارثُ عِتْقُهُ وبَيعُهُ مِن (¬5) المُوصَى لَه دُونَ غَيرِه، والمَذْهبُ اعتبارُ تَمامِ [قِيمةِ الرَّقبةِ مِن الثُّلثِ بِخِلافِ مَا إذا أَقرَّ، فإنَّه يُحْسَبُ مِنَ الثُّلُثِ مَا بَيْنَ] (¬6) قِيمتِه بِمَنفعتِه وقِيمتِه مَسْلوبَ المَنفَعَةِ ولَه بَيعُه مُطْلقًا. ¬
ومِمَّا يُحْمَلُ على عُرْفِ الشَّرْعِ الوَصيةُ لِسبيلِ اللَّهِ تعالى؛ تُصرَفُ للغُزاةِ أوْ لِلرِّقابِ ولِلْمُكاتَبِينَ (¬1) كما في الزَّكاةِ فِيهما، وكذا الغَارِمِينَ (¬2) وابنِ السبيلِ، وكذلكَ لَا يُنقلُ عَن بَلَدِ المَالِ في الوَصِيَّةِ لِمَنْ ذُكرَ علَى مُقْتضَى نَصِّ "المُختصرِ" (¬3)، وبِه قَالَ الأكثَرُ خِلافًا لِمَنْ رَجَّحَ الجَوازَ. وتَصِحُّ لِطَائِفةٍ لَا تَنحصِرُ: كالعَلَوِيَّةِ، ويُصرَفُ لِثلاثَةٍ، ولَا تَجِبُ التَّسويةُ بَينهُم حَمْلًا عَلى عُرفِ الشَّرعِ في الفُقَراءِ وغيرِهم. ولِزَيدٍ ولِلْفُقَراءِ: يَجُوزُ أَنْ يُعطَى زَيْدٌ أقَل مُتموَّلٍ، ولَا يَجوزُ حِرْمَانُه. ولِزَيدٍ وللَّه لِزَيدٍ النِّصفُ والنِّصفُ لِلْفُقَراءِ. ولِزَيدٍ وجِبريلَ ولِلرِّيحِ (¬4) بَطَلَ النِّصفُ. ولِزَيدٍ ولِلْملائكةِ أوِ لِلرِّياحِ فأقَلُّ مُتموَّلٍ. ولِأمَّهاتِ أَوْلادِه ولِلْفُقَراءِ والمَساكينِ (¬5) لِكُلِّ صِنْفٍ الثُّلُثُ وعلَى هذا فَقِسْ. وحِسابُ هذا البابِ واسِعٌ جِدًّا، ومُقدِّمتُهُ النَّظرُ إلى قَدْرِ ما يُوصَى بِه، فَبِحَظٍّ، أوْ نَصيبٍ، أوْ جُزءٍ، أوْ ثُلُثِ مَالِه إلَّا شَيْئًا الوَصيةُ بِأقَلِّ مُتمَوَّلٍ، وبِمثْلِ نَصيبِ ابْنِه ولَا وارِثَ لَه غيرُهُ الوَصيةُ بالنِّصفِ. ¬
وإنْ قَالَ بِمثْلِ ما كانَ نَصيبُه، فهو (¬1) وَصيةٌ بِجَميعِ (¬2) المَالِ قَطْعًا، وبِنَصيبِ ابنِه بَاطلةٌ عِندَ العِراقِيِّينَ وغَيرِهِم مِمَّنْ (¬3) تَبِعَهُم (¬4)، وصَحَّحَها أبُو مَنْصُورٍ ومَن تَبِعَه. وهذَا الأرْجَحُ (¬5) عِندَ ظُهورِ تَقديرِ مِثْلِ نَصيبِ ابنِه فيَكُونُ بِالنِّصْفِ. وإنْ كانَ لهُ بَنونَ أوْ غَيرُهم فصَحِّحْ مَسألةَ الوَرثةِ وَزِدْ عَلَيْها مِثْلَ نَصيبِ ابْنٍ (¬6) [ويُضَعِّفُه مِثْلَيْه وثَلاثةَ أضْعافِه يَزيدُ أرْبعةَ أمْثالِه، وبِنَصيبِ ابْنٍ] (¬7) ثانٍ لَو كَانَ، ولَه (¬8) ابْنٌ واحِادٌ الوصيةُ بالثُّلُثِ [علَى الأصحِّ] (¬9). وبِمثلِ نَصيبِ بِنْتٍ لَيْسَ لَه غَيرُها الوَصِيةُ بِالثُّلُثِ. وبِمثْلِ نَصيبِ أَحدِ ورَثَتِه يُعطِي مِثْلَ نَصيبِ أقَلِّهِم، وبُجُزْءٍ مُعَيَّنٍ (¬10) مِن رُبُعٍ أوْ سُدُسٍ أوْ ثُلُثٍ تُصَحِّحْ مَسْألةَ المِيراثِ وتَقُولُ مَخرَجُ المُوصى بِه مِن ¬
كذَا فَإِذَا أَعْطَيتَ المُوصَى (¬1) لَه نَصِيبَه، وانْقسَم البَاقِي علَى مسْألةِ الوَرَثةِ فقدْ صَحَّتِ المَسألتانِ مِن مَخرجِ الوَصيَّةِ: كمَنْ أوْصَى بالرُّبُعِ لِزَيدٍ ولَه ثلاثةُ (¬2) بَنِينَ، فإنْ (¬3) لَمْ يَنقسِمِ البَاقِي، وكان مُبايِنًا لِمسألةِ الوَرثةِ ضَربْتَ مَسألةَ الورثةِ في مَخرَجِ الوَصيةِ، فَما بَلغَ فمِنْه تَصِحُّ القِسمةُ (¬4)، ثُمَّ مَن لَه شَيءٌ مِنَ الوَصِيةِ يَأْخذُه مَضْرُوبًا فِيما بقِي مِن مَخْرجِ الوَصيَّةِ. وإنْ تَوافقَا ضَربْتَ وَفْقَ مَسألةِ الورَثةِ (¬5) في مَخْرجِ الوَصيةِ فَما بَلَغَ فمِنْه القِسمةُ، ومَن لَه شَيءٌ مِن مَخْرَجِ الوَصيةِ يَأخُذُه مَضْرُوبًا فيما بَقِيَ مِن مَخرَجِ الوَصيةِ. وإنْ تَوافقَا ضُرِبَ وَفْقَ مَسألَةِ الورَثةِ في مَخْرَجِ الوَصيةِ فمَا بلَغَ فمِنْه القِسمةُ، ومَن لَه شَيءٌ مِنْ مسألةِ الورثةِ يأخُذُهُ مضرُوبًا في وَفْقِ باقِي مخْرَج الوصِيَّةِ، ومَن لهُ شيْءٌ مِن مَخْرَجِ الوَصيةِ يَأخُذْهُ مَضْرُوبًا في وَفْقِ مَسْألةِ الوَرثَةِ. وكذلكَ العَملُ إذَا أوْصى بأَجْزاءٍ تُجاوِزُ الثُّلُثَ، وأجَازَ (¬6) الوَارثُ، فيُنظرُ ¬
ضابط
إلى المَخارِجِ، والعملُ كمَا سَبقَ. وإنْ لَمْ يُجِزِ الورَثةُ قُسِّمَ الثُّلُثُ بَيْنَ أصْحابِ الوَصَايا علَى نِسبَةِ أنْصِبَائِهم بِتقْدِيرِ الإِجَازَةِ. وإنْ رُدَّ شَيءٌ صَحيحٌ بِتَقْديرِي إجَازَةَ الكُلِّ [وَرَدَّهُ وَقُسم المثلُ] (¬1) أو الأكثَرِ (¬2) أو مَضْرُوبِ أحدِهِما في الآخَرِ أو وَفْقِهِ في الآخِرِ (¬3) بالتَّقْدِيرَيْنِ فالتفاوُتُ (¬4) بَيْنَ الحَاصِلين لِكُلِّ مُجيزٍ لِمَنْ (¬5) أجَازَ لَه. وأمَّا الرُّجوعُ عَنِ الوَصِيَّةِ أوْ بعضِها فجَائِزٌ بالقَولِ كرَجَعْتُ أوْ فسَخْتُ أو نَقضْتُ أو أَبْطَلْتُ الوَصيةَ، وليسَ إنْكارُ الوصِيَّةِ رُجوعًا على الأرْجَحِ، خِلَافًا لِمَا في "الشرح" و"الروضة" (¬6) هُنا (¬7). * * * * ضابطٌ: ليسَ لَنا عَقْدٌ يَرْتفِعُ بالإنْكارِ إلَّا الوَكالةُ مَع العِلْمِ حَيْثُ لَا غَرضَ في الإنْكارِ، ومِن الرُّجوعِ قَولُه: هذَا لِوَرَثَتِي، وكذَا هُو حَرامٌ علَى المُوصَى له ¬
بِه (¬1)، لَا إنْ قال: "مِن تَرِكَتِي". ويَحصُلُ الرُّجوعُ بالفِعْلِ كالبَيْعِ والإصْدَاقِ والكِتابةِ والتَّدْبِيرِ والإعْتاقِ والهِبةِ مَع القَبضِ (¬2)، وكذا دُونَه في الأصَحِّ، والرَّهْنُ كالهِبَةِ. ويَحصُلُ الرُّجُوعُ بِمُقدِّمةِ الفِعْلِ كالإِذْنِ بهذِه التصرُّفاتِ، والوَصيةِ بِبَيعِه أوْ هِبَتِه ونَحوِهِما (¬3)، والعَرضُ على البَيعِ رُجوعٌ على الأرْجَحِ، وقولُه: "أوصَيتُ لِزَيدٍ بِمَا أوْصَيتُ بِه لِعَمْرٍو"، رُجوعٌ. وإنْ قالَ: "أَوْصَيْتُ لِزَيدٍ بِهذَا" أوْ كانَ قَدْ أوْصَى بِه لِعَمْرٍو فَهُو تَشْريكٌ. ومَنْ قُتِل مِنْهُما انفرَدَ بخِلافِ مَا إذا أوْصَى به لَهُمَا فقُتلَ واحدٌ منْهُما (¬4)، فإنَّ لَه النِّصفَ، ولَو أوْصَى بثُلُثِ مَالِه، ثُم تَصرَّفَ في مَالِه بِبَيْعٍ أوْ غَيرِه أو هَلَكَ مَالُه لَمْ تَبطُلِ الوَصِيَّةُ؛ لِأنَّ النَّظرَ في الثُّلثِ لِمَا بَعْدَ المَوتِ. ويَحصُلُ الرُّجوعُ بِمَا يُشعِرُ (¬5) بِإعْرَاضِ المُوصِي. وكذَا بِزَوالِ (¬6) اسْمِ المُوصَى بِه على النَّصِّ. فيَحْصُلُ الرُّجوعُ بِطَحْنِ الحِنطَةِ، وعَجنِ الدَّقِيقِ، [وقَطْعِ الخِرْقَةِ ¬
قَمِيصًا] (¬1) وجَعْلِ الخُبْزِ فَتِيتًا، والقُطنِ حَشْوًا، والخَشبِ بَابًا، وبِناءِ العَرْصةِ أوْ غرْسِها، وخَلْطِ الحِنْطةِ المُعيَّنةِ بغَيرِها، والأجْوَدِ بصُبرةٍ وصَّى بِبَعضِها. ومِن تَمَحُّضِ زَوالِ الاسْمِ [انْهدَامُ الدَّارِ المُوصى بِها قَبْلَ المَوْتِ فتَبطلُ الوصيةُ] (¬2) في البِناءِ دُونَ العَرْصَةِ. وممَّا لَا يُعَدُّ رُجوعًا تَجْفِيفُ الرُّطَبِ، ونَقْلُ المُوصَى بِه، وكذا لُبْسُ الثوبِ، والوَطْءُ ولَو (¬3) معَ الإنْزالِ والتَّزويجِ، والإجَارةِ. ولَو أوْصَى بِمَنفعةِ دَارٍ سنةً (¬4)، فآجَرَهُ مُدَّةً فَلَمْ تَنْقَضِ إلَّا بَعْدَ وفَاتِه أَعْطى المُوصَى لَه مَا بَقِيَ مِنَ السَّنةِ، وإنْ (¬5) لَمْ يَبْقَ مِنْها (¬6) شَيءٌ بطَلَتِ الوَصيةُ. وأمَّا نَصيبُ الوَصيِّ (¬7) لِقضاءِ دَيْنٍ ونَحوِه، فذَلكَ (¬8) لِكُلِّ حُرٍّ مُكلَّفٍ ذَكَرٍ أوْ أُنْثَى، [وهُوَ مُستحبٌّ] (¬9) وقَدْ يَجِبُ عِندَ تَعيُّنِه طَريقًا كمَا سَبقَ. وإنْ كانَ يَنصرِفُ على الأطفَالِ أوِ السُّفهاءِ أوِ المَجانِينِ فذلكَ لِلْأَبِ أو ¬
لِلْجَدِّ (¬1) مِن قِبَلِ الأَبِ [إذا كانَ ولِيًّا على مَنْ يُوصَى علَيه] (¬2). ولَيس ذلكَ لِلأُمْ ولَا لِغَيْرِ الأبِ والجَدِّ إلَّا في صُور؛ واحِدَةٍ، وهِيَ أَنْ يكونَ الأُمُ أوْ غَيرُ الأَبِ والجَدِّ وصِيًّا مِن قِبَلِ أَدب أوْ جَدٍّ مَأْذُونًا لَه في الوِصَايةِ عَن المُوصِي. ولَا يَجوزُ لِلْأبِ نصْبُ وصِيٍّ في حَياةِ الجَدِّ المُتأهِّلِ لِلْوِلايةِ، كذا ذَكرُوهُ. ويَنبغِي أَنْ يُعتبرَ في ذلكَ وُجُودُ الجدِّ عِندَ المَوتِ، فلَوْ نَصَبَ الأبُ وصِيًّا والجَدُّ حَيُّ (¬3) فمَاتَ الجَدُّ، ثُمَّ مَاتَ الأبُ نَفَذَتِ الوَصيةُ قِياسًا (¬4) على ما سَنذْكُر في وقْتِ اعتِبارِ شَرْطِ المُوصِي (¬5). وشَرْطُ الوَصِيِّ: العَدَالةُ، والكِفَايَةُ (¬6) لِلتَّصَرُّفِ ولَو أعْمَى، وأن لا يكونَ عَدُوًّا لِمَنْ يُوصَى علَيه عِنْدَ الرويانِي وجَماعةٍ (¬7). ويَجوزُ وصِيةُ ذِمِّيٍّ لِذِمِّيٍّ (¬8) عَدْلٍ في دِينِه؛ كذَا أطْلَقُوهُ (¬9). ¬
ويَنبغِي أَنْ يُقيَّدَ ذلك (¬1) بِمَا إذا لَمْ يَتصرَّفْ عَلى المُسلمِينَ كالوَصِيَّةِ للْفُقَراءِ المُسلمِينَ، ومِثْلُه في نَظرِ الوَقْفِ؛ قلتُه تَخْرِيجًا. ووقتُ اعتِبارِ هذِه الشُّروطِ حَالةُ المَوْتِ على الأصحِّ، ومَتى فُقِدَ شرْطٌ مِنها بعْدَ المَوتِ انْعزَلَ. ولا يَعودُ وصيًّا بِزَوالِ المَانعِ إلا إذَا كانَ في الوَصيةِ أنَّه (¬2) إذا زَالَ مانِعُه صَارَ وَصيًّا، قُلْتُ هذا الاستِثْنَاءَ تَخْريجًا مِمَّا إذَا قالَ: "أوْصيتُ إليكَ"، فإذَا رَشَدَ ابْنِي فهُوَ الوَصيُّ فإنَّه يصِحُّ. ويَحتمِلُ الإيصاءُ التعْليقَ والشَّرْطَ والتَّوقِيتَ، وليْسَ له نظِيرٌ فِي ذلك. ومَتى خَصَّصَ وِصايتَه لِحِفْظٍ (¬3) ونحوِه (¬4) أتبع أو عَمَّم أُتبع أو أطْلَقَ بأنْ قالَ: "أوْصَيْتُ إلَيكَ في أمْرِ طِفْلِي" فَكالْعامِّ (¬5) علَى الأصحِّ للعُرفِ، خِلَافًا لِمَنْ رَجَّحَ أنَّه لِلْحِفظِ فَقطْ، ولَو اقْتصَرَ على "أوْصَيْتُ إلَيكَ (¬6) "، فبَاطِلٌ. وتُعتَبرُ الصِّيغةُ في الوَصيةِ والإيصَاءِ. وينْعقِدُ ذلكَ بالكِتابةِ مَع النِّيةِ، وكذَا الكِتابةُ، وبِالإشَارةِ إنِ اعتُقِلَ لِسانُه. ¬
ويَجوزُ أَنْ يُوصِي إلى مُتعدِّدٍ وأنْ يُنصِّبَ نَاظرًا أوْ مُشْرِفًا على الوَصِيِّ. ولَا (¬1) يَتصرَّفُ المُتعدِّدُ إلَّا بالاجْتماعِ إنْ شَرَطَهُ أوْ أطْلَقَ إلَّا فِيمَا لَا يَحتاجُ إلى رَأيٍ، وفِي العَقْدِ يَعقِدُ واحدٌ [بإذْنِ مَن لَمْ يَعقِدْ] (¬2). ومَنْ مَاتَ (¬3) أوْ تَعذَّرَ تَصرُّفُه (¬4) نَصَّبَ القَاضِي بَدَلَهُ. وكذلكَ لَو مَاتَ الكُلُّ فلا بُدَّ مِن رِعايةِ التعدُّدِ. وإنْ شَرَطَ لِكُلِّ واحِدٍ الاستِقْلالَ استقَلَّ. وكذا يَستقِلُّ إنْ (¬5) قالَ: "أنْتُما وصِيَّايَ"، قالَه الزاز (¬6) ومَنْ تَبِعَهُ بِخِلافِ "أوْصيتُ إلَيْكُما (¬7) ". ولَوْ أوْصَى لِزَيدٍ ثُمَّ لِعَمْرٍو، وقَبِلَا فَلِكُلٍّ الاسْتِقْلَالُ [علَى الأقْوى] (¬8)، خِلَافًا لِمَنْ ضَعَّفَهُ. ولَو قَبِلَ أَحدُهُما فلَه الانفِرادُ، وهُو شَاهِدٌ لِمَا قَوَّيْناهُ. ولَو قالَ: "ضَمَمْتُ بَكْرًا إلى زَيدٍ" فقَبِلَ زَيْد انْفَرَدَ، أوْ بَكْرٌ فَلَا. ¬
ولَوِ اخْتلفَا في التصرُّفِ (¬1) وهُما مُستقلَّانِ فمَن سَبقَ نَفَذَ تصرُّفه، وإلَّا فيَأْمُرُهُمَا الحاكِمُ بمَا يَرَاهُ مَصلَحةً. فإنِ امتنعَ أحدُهما ضَمَّ القاضِي إلَى الآخَرِ أَمِينًا، فإنِ امْتنعَا أقَام أَمِينَيْنِ. وإنِ اخْتلفَا في المَصرِفِ تَولَّاهُ الحَاكِمُ (¬2)، أو في الحِفْظِ، فالأرْجَحُ وضْعُه تَحْتَ يَدِ الجَميعِ، خِلَافًا لِمَنْ قال: يُقسَّمُ. ولِلْمُوصِي الرُّجوعُ عنِ الإيصَاءِ، ولِلْوصِيِّ عزْلُ نفْسِه، ويَحرُمُ عَلَيهِ ذلك إذَا خَافَ ضَياعَ المَالِ بِاسْتِيلاءِ غَيرِه، والقولُ قولُه في الإنفاقِ وقَدْرِ النَّفَقةِ، لَا في بَيعِ العَقَارِ بالغِبطةِ، أوْ المَصْلحةِ، أوِ الحاجَةِ، ولا في تَاريخِ مَوْتِ الأبِ، ولا في رَدِّ المَالِ. * * * ¬
باب الوديعة
باب الوديعة هي لُغَةً: الشَّيءُ المَوضُوعُ عِندَ غَيرِ صَاحِبِه لِلْحِفْظِ (¬1)، ويُقالُ: أوْدَعَه وَديعةً إذا دَفَعَها إلَيْه وقَرَّرَهَا في يدِه أمَانةً، ولِلَمْحِ الأمَانَةِ لَحِقَتْهَا الهاءُ، ونَقَلَ الكسَائِيُّ "أوْدَعَهُ إذَا قَبِلَ ودَيعتَه"، وهُو غَريبٌ، فتكونُ اللَّفْظَةُ مِن الأضْدادِ. وهِيَ رَاجعةٌ إلى مَادَّةِ "ودع" بِمعنَى اسْتقرَّ، أوْ تَرَكَ، أوْ تَرفَّه، لاسْتِقرارِهَا عِندَ المُودعَ، وترْكِها عِنْدَه وعَدَمِ اسْتِعمالِها، واستودَعَه ودَيعةً إذَا استحفَظَه إيَّاهَا. وشَرْعًا: تُطلَقُ علَى المالِ نفسِهِ وعلى العَقْدِ المُقتضِي لِلاسْتِحفاظِ (¬2). وعلَى هذَا فحَقِيقتُها شَرْعًا: تَوْكيلٌ في حِفظِ مَمْلُوكٍ أوْ مُحْتَرَمٍ مُختَصٍّ على وجْهٍ مَخْصُوصٍ. ودليلُها [قَبْلَ الإجْمَاعِ] (¬3)، قولُه تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا}. ¬
وعن أبِي هُرَيْرَةَ -رضي اللَّه عنه- قَالَ: قالَ رسولُ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "أدِّ (¬1) الأمَانةَ إلَى مَنِ ائْتمنَكَ ولا تَخُنْ مَنْ خَانَكَ" رَواهُ أبو دَاودَ والتِّرمِذِيُّ، وقالَ: حَديثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ. وهِيَ مُستحَبَّة لِوَاثقٍ بأَمَانَةِ نفْسِهِ، قَادِرٍ على الحِفْظِ (¬2). وقدْ يَتعيَّنُ (¬3) القَبولُ عِندَ الاحْتياجِ إنْ لَمْ يَكنْ هُناكَ غَيرُه، ولَا يُجبَرُ حينئِذٍ على إِتْلافِ مَنفعتِه وحِرْزِه بِغَيْرِ عِوَضٍ. وتَحْرُمُ عِندَ العَجْزِ عَن الحِفْظِ. وتُكرَهُ عِندَ القُدْرةِ إنْ لَمْ (¬4) يَثِقْ بِنَفْسِه، وفِي وجْهٍ: يَحْرُمُ (¬5). وهِيَ عَقدٌ، وفِي وجهٍ: مُجَرَّدُ إذْنٍ (¬6). وترتفِعُ (¬7) على الوَجْهَينِ بِموتِ واحدٍ مِنْهما وجُنونِهِ وإغمَائِهِ (¬8). وللمُودِع عَزْلُ المُودعَ عِندَه ولَمْ يتعرَّضُوا لَه. ¬
ولَوْ عَزَل المُودَعُ نفسَهُ انْعزَلَ تفْريعًا (¬1) على أنَّها عَقْدٌ، وتَبْقَى في يدِه أمانةً شرعِيةً (¬2) فيردُّها عِنْدَ الإمْكانِ عَلى الفَورِ، ولَا يَنعزِلُ على أنَّها مُجرَّدُ إِذْنٍ (¬3)، ولا بُدَّ مِن صِيغةٍ دَالَّةٍ على الاستِحْفَاظِ كـ "أوْدَعْتُكَ" ونحوِهِ (¬4)، ولَا يُشترَطُ القَبُولُ لَفْظًا على الأصحِّ كالوَكَالَةِ (¬5)، وقَطَعَ الرُّويانيُّ في "الحِليةِ" بأنَّ الودِيعةَ تَقْبَلُ التَّعلِيقَ (¬6)، ويُعْتَبَرُ في المُودِع والمُودعَ أَهْليَّةُ كُلٍّ مِنهُما لِمَا صَدَرَ منهُ (¬7). ¬
ولَو أوْدَعهُ صَبيٌّ لَمْ يَأخُذْ مِنهُ، فإنْ أخَذَهُ ضمِنهُ (¬1) إلَّا إنْ (¬2) خَافَ هَلاكَهُ وأخَذَ مِنه (¬3) وصَوْنًا لهُ (¬4). ولَوْ أَودعً صَبِيًّا أو سَفِيهًا مَالًا لَمْ يَصِحَّ (¬5). ولَو (¬6) تَلِفَ عِندَهُما لَمْ يَضْمنَاهُ، وإنْ أتْلفَاهُ ضَمِناهُ علَى أظْهرِ القَوْلَينِ (¬7). ولَا (¬8) يَضْمنانِ مَا أتْلفَاهُ مِنْ مرْضٍ أوْ مَبيعِ، [لأنَّ المالِكَ سلَّطَهما على ذلك بِخِلافِ الودِيعةِ] (¬9). ولَوْ أتلفَ العَبدُ الودِيعةَ، تَعلَّقَ الضَّمانُ برَقبتِهِ على أرْجَحِ القَوْلَيْنِ. والأصلُ في الودِيعةِ: الأمَانةُ (¬10). ¬
وقد يحصل نقصه بواحد من اثني عشر سببا، فيجب الضمان في غير المختص على ما سبق في الغصب
وقدْ يحصُلُ نقصُهُ (¬1) بِوَاحدٍ مِن اثْنَيْ عَشرَ سَببًا، فَيَجِبُ الضَّمانُ في غَيرِ المُخْتَصِّ على ما سَبَقَ في الغَصْبِ: الأوَّلُ (¬2): أَنْ يُودِعَها عِنْدَ غَيرِه مِنْ غَيرِ إِذْنٍ بِلَا عُذْرٍ، ولَا يَضْمَنُ بالاستِعانَةِ في نقْلِها ونحوِه معَ بَقاءِ يَدِه، وإنْ أرَادَ سَفَرًا رَدَّهَا على المَالِكِ أوْ وَكيلِه، فإنْ لَمْ يَجِدْ دَفعَها لِلْحَاكِمِ، فإنْ لَمْ يَجِدْهُ فإِلَى أَمِينٍ، فإنْ تَرَكَ هذَا التَّرتِيبَ ضَمِنَ، وإنْ دَفَنَها وسَافرَ ضَمِنَ، إلَّا أَنْ يُعْلِمَ بِها أَمِينًا يَسْكُنُ ذَلكَ المَكانَ (¬3). الثَّاني (¬4): السفَرُ بِها إلَّا إذَا أَوْدعً مُسافرًا أوْ مُنتَجِعًا عَالِمًا بِحَالِه، أوْ ظَهَرَ عُذْرُ المُقيمِ بِأنْ خَلَتِ البَلدُ، أوْ وقَعَ حَريقٌ أوْ غَارَةٌ، ولَمْ يَجِدْ مَن يَردُّها إلَيْهِ بِالترتِيبِ السَّابقِ، فيَلْزَمُه السفرُ بِهَا، أوْ لَمْ يُوجَدْ ذلكَ، ولَكِنْ لَمْ يَجدْ مَن يَردُّهَا إِلَيه، وعَزَمَ علَى السَّفَرِ، فسافَرَ بِها، لَمْ يَضْمنْ إذَا كانَ الطّريقُ أَمينًا (¬5) (¬6). ¬
الثالث
الثالثُ (¬1): تَرْكُ الرَّدِّ والإِيصاءِ المُمْكنِ عِندَ حُصُولِ المَرضِ المَخُوفِ أوِ الحَبْسِ لِلْقتلِ إذْ علَيه أَنْ يَرُدَّ على المَالِكِ أوْ وَكيلِه، فإنْ عجَزَ دَفَعها لِلْحاكِمِ أوْ يُوصِي (¬2) إليهِ فإنْ عَجزَ فعِندَ أَمينٍ أوْ يُوصِي إلَيْه. واكتفَى البغَوِيُّ بالوَصيَّةِ وإنْ أمْكنَ الرَّدُّ إلى المَالكِ وهو حَسَنٌ. ولا بُدَّ مِن إيصاءِ مُميِّزٍ (¬3) إلَى عَدْلٍ، فإنْ تَرَكَ التمييزَ ضَمِنَ، وإذا (¬4) لَمْ يُوصِ، ولَمْ تُوجَدْ في تَرِكَتِه، فهو ضَامِنٌ على المَنصُوصِ المُعتَمَدِ، وإذَا لَم يَتمكنْ بِأنْ مَات فَجأةً أوْ قُتِلَ غِيْلَةً، فلَا ضَمانَ. الرابعُ (¬5): نقْلُها بغَيرِ (¬6) عُذْرٍ مع النَّهْي عَن النَّقْلِ، أو لا مَع النَّهْي، بَل لِسَفرٍ يضْمنُ (¬7) إذا لَمْ يَكنْ عُذْرٌ أوْ (¬8) نَقْلُها بغَيرِ سَفَرٍ إلى ما دُونَ الأوَّلِ في الحِرْزِ، ولَا ضَمانَ بِنقْلِها مِن بَيْتٍ إلى بيْتٍ في دَارٍ مُطْلَقًا، إلَّا إذا (¬9) كانَ كُلٌّ مِنْهُما حِرْزًا، إلَّا إذَا عَيَّنَه (¬10) المُودِعُ وتَلفَتْ (¬11) بِسَببِ المُخالَفَةِ بانْهِدامٍ أوْ ¬
الخامس
سَرِقَةٍ، ونحوِهما (¬1) الخامسُ (¬2): تَرْكُ دَفْعِ المُهْلِكِ كتَرْكِ علْفِ الدَّابةِ وسَقْيها إلَّا إذَا نَهاهُ عنْ ذلكَ فَلا ضَمانَ، ويَعصِي بِالتَّرْكِ إلَّا إذَا كَانَ لِعِلَّةٍ فَعلَفَها (¬3) قَبْلَ زَوالِها، فإنَّه يَضمَنُ (¬4)، وإدَا لَمْ يُعرِّضْ ثِيابَ الصُّوفِ ونحوِها للرِّيحِ ولَمْ يَلْبَسْه عِند تَعيُّنِ اللُّبْسِ طَريقًا لِم صْلاحِ فإنَّه يَضْمنُ بِتَرْكِه. السادِسُ (¬5): الانتفاعُ بالودِيعةِ كلُبسِ الثَّوبِ إلَّا فِيمَا سَبقَ، ورُكوبِ الدَّابةِ إلَّا لِلسَّقْيِ فِيما لَا يَنقادُ إلَّا بالرُّكوبِ، ولَوِ اقترَنَ الفِعْلُ مَع نِيةِ التَّعدِّي ضَمِنَ، كما إذَا أَخْرجَ الثَّوبَ لِيَلْبَسَهُ، أوِ الدَّرَاهمَ لِيُنفِقَها، ولَا يَضْمنُ بمُجرَّدِ النِّيةِ، ولَا مَعَ فِعْلٍ في [غَيرِ المَقصودِ على الأصحِّ فِيهِما، كرَفْعِ غِطَاءِ الصُّنْدوقِ لِيأخُذَ] (¬6) الثَّوْبَ، ولَو أذِنَ لَه المالِكُ (¬7) في الاستِعمالِ كانَ مُسْتَعِيرًا. ¬
السابع
السابعُ (¬1): خلْطُ الودِيعةِ بمَالِ (¬2) نفسِهِ (¬3) عندَ تعذُّرِ التَّمييزِ، وكذا خلْطُ درَاهِمَ كيسَينِ (¬4) على الأصحِّ (¬5)، ولَو ردَّ بَدلَ مَا أَخذَه، ولَمْ يَتميَّزْ ضَمِنَ الكُلَّ، [وإنْ رَدَّ نَفْسَ مَا أخَذَ وخلطَ لَمْ يَضْمَنْ إلَّا ما تَعدَّى فِيه. الثَّامنُ: أَتْلفَ عَمدًا بعضًا مُتصِلًا ضَمِنَ الكُلَّ] (¬6). التاسِعُ (¬7): المُخالَفةُ في الحِفْظِ إذَا تَلِفَتْ (¬8) بِسبَبِ المُخالَفَةِ (¬9). فلَو قالَ: "لَا تَرْقُدْ على الصُّندوقِ" فرَقَدَ علَيه، فانْكسَر بِثِقَلِه، وتَلِفَتْ الودِيعةُ التي فِيه بِذلكَ ضَمِنَها، وكذَا لَوْ سُرِقتْ مِن جَنْبٍ لو تَركَ الرُّقودَ عليه لَرقَدَ هناك، ولَا (¬10) ضَمانَ في غَيرِ ذلك. ولَو قالَ: "لا تَقْفِلْ بقُفْلٍ"، أو: "لا تَقْفِلْ إلَّا قُفلًا"، فقَفَلَ قُفلَيْنِ، لَمْ يَضْمَنْ فِيهما. ¬
العاشر
ولَو أمَرَهُ بَرَبْطِها في الكُمِّ، فأمْسكَها بَيَدِها (¬1) ضَمِنَ إنْ (¬2) ضَاعَتْ بنَومٍ أوْ نِسيانٍ لَا بِأخْذِ غَاصِبٍ. ولَو جَعلَها في جَيْبِه بَدلًا عَن الرَّبْطِ في الكُمِّ لَمْ يَضْمَنْ، إلَّا إذَا كانَ واسِعًا، كذَا قَالُوه، لكَنِ الجَيبُ وإنْ ضَاقَ لَيْسَ حِفْظُه كالرَّبْطِ في الكُمِّ (¬3)، فيَضْمَنُ إنْ ضَاعَتْ بنَومٍ ونحوِه (¬4). ولَو أمَرَهُ بِوَضْعِها في الجَيْبِ فرَبطَها في الكُمِّ ضَمِنَ، كذا جَزَمُوا بِه، وفيهِ ما سَبَقَ (¬5). ومَتى أمَرَهُ بالرَّبْطِ في الكُمِّ فَجعلَ الخَيْطَ الرَّابِطَ خَارِجَ الكُمِّ، ضَمِنَ إنْ أخَذَها الطَّرَّارُ لا إنِ انحلَّ الخَيطُ، وبالعَكْسِ ينْعَكِسُ الحُكْمُ (¬6). العَاشرُ (¬7): التَّضيِيعُ بأنْ نَسِيَ، أوْ جَعلَها في مَضِيعةٍ، أوْ في غَيرِ حِرْزِ مِثْلِها (¬8)، أوْ سَعى بِها إلى مَن يُصادرُ المَالكَ أوْ دَلَّ علَيها سَارقًا. ¬
الحادي عشر
ولَو سَأَلهُ رَجُلٌ "هَلْ عِندَكَ ودِيعةٌ لِفُلانٍ؟ " فأَخْبرَه بِها، ضَمِنَ عِنْدَ العبَّادِي، ومَن تبِعَهُ، والأرْجَحُ خِلافُهُ. ولَوْ أُخِذتْ مِنه كُرهًا لمْ يَضْمَنْ (¬1). وإنْ طَلَبَها الظَّالِمُ أخْفَاهَا عَنْه، ويَجوزُ أن يَحلِفَ أنَّهَا لَيْسَتْ عِندَهُ، ولكِنَّهُ يَحْنَثُ إنْ لَم يُكْرِهْهُ على الحَلِفِ. ولَو (¬2) أكْرَهَهُ الظَّالِمُ حتَّى سَلَّمَها إلَيْه كَان لِلْمالِكِ تَضْمِينُه علَى مَا صحَّحُوهُ، وهُو يَرْجِعُ (¬3) على الظَّالِم (¬4). الحَادِي عَشَرَ: الجُحودُ إذَا طَلبَ المَالِكُ، بِخِلَافِ مَا إذَا قالَ: "لِي عِندَك وديعَةٌ" ولَمْ يَطلُبْها فأنْكَرَهَا، فإنَّه لَا يَضْمنُ على ما صحَّحُوه (¬5). وحيثُ ضَمِنَ بالجَحْدِ فَثَبَتَتْ (¬6) عليه (¬7) لَمْ تُقبَلْ دَعْواهُ بِرَدِّها قَبْلَ ذلك. ويُصَدَّقُ في التَّلَفِ، وإنْ أقَامَ بَيِّنةً بأنَّه رَدَّها، أوْ تَلِفتْ قَبْلَ الجَحْدِ سَقطتِ ¬
الثاني عشر
المُطالبَةُ على الأصحِّ. ولَو لَمْ يجْحَدِ الوديعَةَ ولكِنْ أنكرَ اللُّزومَ، فَثَبَتَ (¬1) علَيه قبْلَ دَعواهُ بِرَدِّها (¬2) أوْ تَلفِها (¬3) قبْلَ ذلكَ، ومِثلُ ذلكَ كلِّه يَجْرِي في الوَكِيلِ (¬4). الثَّاني عَشَرَ (¬5): تأخِيرُ التَّخليةِ بينَها وبَيْنَ المَالِكِ (¬6) مَع الإمْكانِ إذا طَلَبَها المَالِكُ، فإنْ أخَّرَ التَّخلِيةَ لِعُذرٍ مِنْ (¬7) لَيْلٍ، أوْ شُغلٍ بِصَلاةٍ، أوْ حَمَّامٍ، أوْ طَعامٍ، فلَا ضَمانَ. وليس لَهُ التأخيرُ لِلْإشهادِ إذا طَلبَها المُودِعُ علَى الأصحِّ؛ لِأنَّ قَولَه في الردِّ عليه مَقْبولٌ، ولَو طَلَبَها وَكيلُ المُودِع فلَه التأخيرُ لِلاشهادِ؛ لِأنَّه لَا يَقبلُ قولَه في دَفعِها إلَيهِ. * * * ¬
قاعدتان
قَاعدتانِ: إحداهُما: كلُّ أمينٍ مِن مُرتَهِنٍ، ووَكيلِ وشَريكٍ وعَاملِ قراضٍ وولِيِّ محْجُورٍ ومُلْتقِطٍ لَمْ يَتملَّكْ (¬1)، ومُلْتقِطِ لَقِيطٍ ومُستأجِرٍ وأَجيرٍ (¬2) وغيرِهم مُصَدَّقٌ (¬3) باليَمينِ (¬4) فِي التلفِ (¬5) على حُكْمِ الأمانةِ إن لمْ يَذكرْ سببًا أوْ ذكَرَ سَببًا خفيًّا. فإنْ (¬6) ذَكرَ سَببًا ظاهرًا غَيرَ مُعَيَّنٍ (¬7) مَعروفٍ فلا بدَّ (¬8) مِن إثباتِه. ومِن ذلكَ: مَوتُ (¬9) الحَيوانِ، وكذلك (¬10) الغصْبُ عِندَ المُتولِّي خِلافًا لِلْبغَوِيِّ، ومَتى عُرِفَ عُمومُه لَمْ يُحتجْ إلى اليَمينِ؛ كذَا قالُوه (¬11). والتحقيقُ: لا بدَّ مِن الحَلِفِ عِندَ إمْكانِ السَّلامةِ. ¬
القاعدة الثانية
ويُصدَّقُ كُلُّ أَمِين بِاليَمينِ فِي دَعْوى الرَّدِّ على مَنِ ائْتمنَه، إلَّا المُرتَهِنَ، والمُستأجِرَ، ولا يُصَدَّقُ الولي ونحوُه فِي الرَّدِّ لادِّعائِه ذلك على غَيْرِ (¬1) مَنِ ائتمنَه، وقدْ سبقَ بعضُ هذَا. ويُصَدَّقُ وارثُ المُودعَ باليَمينِ فِي أنَّها تَلَفَتْ (¬2) عندَ مُورِّثِهِ (¬3) على حُكمِ الأمَانةِ وفِي أنَّ مُوَرِّثه رَدَّها (¬4) على المُودِع عند البغوِيِّ، وهو الأرْجَحُ خِلَافًا للمُتوَلِّيِّ. القاعدةُ الثانيةُ (¬5): الأماناتُ اخْتياريَّةٌ أو شَرعِيَّةٌ لا يَجِبُ فيها الرَّدُّ علَى الفَورِ، إلَّا فِي نَحْوِ أن تُطَيِّرَ الرِّيحُ ثَوْبًا فِي (¬6) دَارِهِ، وهو يَعْلَمُ مَالِكَه (¬7)، أوْ أَنْ يَموتَ المُودِعُ أو المُودَعُ، أو يَعْزِلَه عَن الحِفظِ كما سَبق. ولَوِ انْفَكَّ الرَّهنُ لَم يَصِرْ مَضمونًا على المُرتهِنِ إلَّا إذا امتَنعَ مِنَ الرَّدِّ بعْدَ المُطالَبةِ. وقالَ ابنُ الصَّباغِ: ينبغِي أَنْ يكونَ المُرتَهِنُ بَعْدَ الإبْراءِ كمَنْ طيَّرَتِ الرِّيحُ ثَوبًا إلى دَارِه، وهُو حَسَنٌ. ¬
وفِي جَميعِ هذِهِ الصُّورِ يَضمَنُ بِتأخِيرِ الرَّدِّ معَ الإِمكانِ (¬1). [تَمَّ الجُزْءُ الأوَّلُ مِن "كتاب التدْرِيب"، يتْلُوهُ فِي الجُزْءِ الثَّانِي: كِتابُ النِّكاحِ] (¬2). * * * ¬
التَّدريب في الفِقه الشَّافِعي المُسَمَّى بِـ «تَدريب المُبتدي وَتَهذيب المُنتَهِي» [3]
جَمِيع الْحُقُوق مَحْفُوظَة الطبعة الأولى 1433 هـ - 2012 م دَار الْقبْلَتَيْنِ المملكة الْعَرَبيَّة السعودية - الرياض جوال: 0506639380 - تليفاكس: 014497216
كتاب النكاح
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ كتاب النكاح هو راجِعٌ إلى مَادةٍ تَدُلُّ على الضَّمِّ، ولُزومِ شَيءٍ لِشَيءٍ رَاكبًا علَيه، ولَوْ فِي المَعانِي (¬1). ¬
ويُطلَقُ لُغةً وشَرْعًا: على العَقْدِ، والوَطْءِ. وهُو مِمَّا لَمْ يُنْقَلْ شَرْعًا عن مَدلُولِهِ اللُّغَوِيِّ، كالقَرءِ، وإنْ (¬1) زِيدَ فِيهِما ما يُعتبَرُ شَرْعًا. وهلْ هُو حَقيقةٌ فِي العَقْدِ مَجازٌ فِي الوَطءِ، أو عكسُهُ، أو مُشتركٌ (¬2)؟ وجوهٌ؛ الأصَحُّ الأوَّلُ (¬3). ¬
ويَظهرُ تَرجيحُهُ بغَلَبةِ (¬1) الاستِعمالِ شَرْعًا، والتزويجُ للعَقْدِ قَطْعًا. [وقدْ يَظهرُ أثرُ الخِلافِ عِندنَا فِي تَحريمِ أُمِّ المَوطوءةِ بشُبهةٍ وبِنْتِها (¬2)] (¬3). وأصْلُه قولُه تعالى: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} وغيرُها مِن الآياتِ. وفِي "الصَّحيحَينِ" عن ابنِ مسعودٍ -رضي اللَّه عنه- أَنَّ النبيَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "يَا مَعْشَرَ الشَّبَابِ، مَنِ استَطَاعَ مِنكُمُ الْبَاءَةَ فَلْيَتَزَوَّجْ، فَإِنَّهُ أَغَضُّ لِلْبَصَرِ، وَأَحْصَنُ لِلْفَرْج، وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَعَلَيْهِ بِالصَّوْمِ، فَإِنَّهُ لَهُ وِجَاءٌ" (¬4). وتَزوَّجَ رسُولُ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، وحثَّ على التزْوِيجِ، ورَدَّ على عُثمانَ بنِ مَظْعونٍ التبتُّلَ (¬5). وقالَ ردًّا على قَومٍ: "لَكِنِّي أُصَلِّي وَأَنَامُ، وَأَصُومُ وَأُفْطِرُ، وَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ، ¬
فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي" (¬1). وكلُّ ذلك ثابِتٌ فِي "الصحيحَينِ" وغيرِهِما (¬2). وعنْ أنسِ [بْنِ مَالكٍ -رضي اللَّه عنه-] (¬3) قالَ: كانَ رسولُ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يأمُرُ بالباءَةِ، ويَنهى عنِ التَّبَتُّلِ نَهيًا شَديدًا، ويقولُ: "تَزَوَّجُوا الْوَدُودَ الْوَلُودَ، فَإِنِّي مُكَاثِرٌ بِكُمُ الأنْبِيَاءَ يَوْمَ القِيَامَةِ". رواهُ أحمدُ وابنُ حِبَّان (¬4). وفِي "سُننِ أبي داودَ" و"النسائيِّ" مِن حَديثِ مَعْقِل بنِ يسارٍ: "تَزَوَّجُوا الْوَلُودَ (¬5) الْوَدُودَ، فَإِنِّي مُكَاثِرٌ بِكُم" (¬6). ¬
قال الشافعيُّ -رضي اللَّه عنه-: وَبَلَغَنَا أَنَّ النبيَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- قالَ: "تَنَاكَحُوا تَكْثُرُوا، فَإِنِّي أُبَاهِي بِكُمُ الأُمَمَ حَتَّى بِالسَّقْطِ" (¬1). وعن أبي أيُّوبَ -رضي اللَّه عنه- أَنَّ النَّبيَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "أَرْبَع مِنْ سُنَنِ المُرْسَلِينَ: الحَيَاءُ، وَالتَّعَطُّرُ، وَالسِّوَاكُ، وَالنِّكَاحُ". رواه أحْمدُ والتِّرمذيُّ، وفي (¬2) إسنادِهِ الحجَّاجُ بنُ أرطاةَ، ومع ذلك قالَ التِّرمذيُّ (¬3): حَسنٌ غَريبٌ (¬4). ¬
وخص الله تعالى نبيه محمدا -صلى الله عليه وسلم- بأمور كثيرة ليست لأمته تعظيما لشأنه العالي إذ هو المتفضل على الخلق أجمعين.
وفي القُرآن {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً}. وهو مشروعٌ مِنْ عهْدِ آدَمَ عليه السلام، لَم تنقطِعْ شرعِيَّتُهُ (¬1)، ومستمِرٌّ فِي الجنَّةِ، ولا نظيرَ لهُ فيما (¬2) يُتعبَّدُ به مِنَ العُقودِ بعدَ عقْدِ الإيمانِ، قلتُ ذلك بِفتحِ الكَريمِ المَنَّانِ. * * * وخصَّ اللَّه تعالى نبيَّه مُحمدًا -صلى اللَّه عليه وسلم- بأمورٍ كثيرةٍ ليستْ لأُمَتِهِ تَعْظِيمًا لِشَأنِهِ العَالِي إذْ هو المتفضِّلُ على الخلْقِ أجمَعينَ. وخَصَّه بأشْياءَ ليسَتْ لأحَدٍ مِنَ الأنبياءِ والمُرْسَلينَ، ولا لِواحِدٍ مِنَ المَخلوقِينَ (¬3)، وبسْطُ ذلك فِي "نفَائِس الاعتِمادِ فِي خَصائصِ خَيرِ العِبادِ". ونُشيرُ هنا إلى أُنموذجٍ على تَرتيبِ أبوابِ الفِقهِ، فمِن ذلك: ¬
* نبْعُ الماءِ الطهورِ مِن بيْنِ أصابِعِهِ، وهو أشرف المِياه (¬1). * وشَرِبَ أبو طَيْبَةَ الحَجَّامُ (¬2) دَمَهُ (¬3). . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
وأمُّ أيمنَ وأمُّ يوسفَ بَوْلَه، ولَم (¬1) ينكِرْ عليهم، وذَكَر لَهُم خيرًا (¬2). ¬
والأخبارُ بذلك معروفةٌ متظافرةٌ (¬1)، والخصوصيةُ فيه ظاهرةٌ. * وكان السواكُ واجبًا عليه، ففِي "سنن أبي داود" (¬2) بإسنادٍ جيدٍ: "أنه أُمِر بالسِّواك لكلِّ صلاةٍ" -بضم الهمزة من "أمر". * ولم يكنْ وضوءُهُ يَنتقضُ بالنوم؛ لِما ثبت مِن أنَّ عينيْهِ (¬3) تنامُ، ولا ينامُ قلبُهُ. * وصلَّي بالأنبياءِ ليلَةَ الإسراءِ، ليَظْهَرَ أنَّهُ إِمامُ الكُلِّ فِي الدُّنيا والأُخْرى (¬4). ¬
* ويدعو المُصلِّيَ فتجِبُ (¬1) إجابتُهُ، ولا تبطلُ صلاتُهُ (¬2)؛ لحدِيثِ ابنِ المُعلى فِي البخارِيِّ (¬3)، وأُبَيِّ بنِ كعبٍ فِي التِّرمذيِّ (¬4). ¬
* ويقولُ المصلِّي فِي تشهدِهِ: "السلامُ عَليك أيُّهَا النَّبيُّ [ورحمةُ اللَّه وبركاتُهُ" (¬1)] (¬2). * وعَن أبِي سَعيدٍ الخُدْري -رضي اللَّه عنه- أنَّ النبيَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- قالَ لعَلِيٍّ -رضي اللَّه عنه-: "يَا عَلِيُّ لا يَحِلُّ لِأحَدٍ يُجْنِبُ فِي هَذَا الْمَسْجِدِ غَيْرِي وَغَيْرُكَ" رواهُ التِّرْمذيُّ مِن حديثِ عَطيةَ -وقد ضعِّفَ- ومع ذلك قالَ: حَسَنٌ غريبٌ (¬3). والمُرادُ بقوله: "يُجنبُ"؛ أي: يمكثُ (¬4). * ولم يَثبتْ أن صَلاةَ الضحى واجبةٌ عليه خِلافًا لِما جَزَمُوا به. ففِي "صحيح مسلم" (¬5) عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَقِيقٍ، قَالَ. قُلْتُ لِعَائِشَةَ -رضي اللَّه عنها-: ¬
أكَانَ (¬1) رسولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- يُصَلِّي الضُّحَى؟ قَالَتْ: "لَا، إِلَّا أَنْ يَجِيءَ مِنْ مَغِيبِهِ". وفيه أيضًا (¬2) عنها أنها (¬3) قالت: مَا رَأَيْتُ النبيَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- يُصَلِّي سُبْحَةَ (¬4) الضُّحَى (¬5) قَطُّ، وَإِنِّي لأسَبِّحُهَا (¬6)، وَإِنْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- لَيَدَعُ الْعَمَلَ، وَهُوَ يُحِبُّ أَنْ يَعْمَلَ بِهِ، خَشْيَةَ أَنْ يَعْمَلَ الناسُ بِهِ (¬7) فَيُفْرَضَ عَلَيْهِمْ. وعنها فِي البخاريِّ أولُّه (¬8) (¬9). وعن أنس -رضي اللَّه عنه- أنه لم يَرَ (¬10) النَّبِيَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- يُصلي الضُّحي إلَّا مرةً واحدةً. رواهُ البُخاري (¬11) بمعناه (¬12). ¬
وعَنْ (¬1) أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ -رضي اللَّه عنه-، قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- يُصَلِّي الضُّحَى حَتَّى نَقُولَ لَا يدعها، وَيَدَعُهَا حَتَّى نَقُولَ: لَا يُصَلِّيها. رَواهُ التِّرمذيُّ مِن حديثِ عَطيةَ (¬2)، وقال: حَسَنٌ غَرِيبٌ (¬3). فهذِه الأحاديثُ تَدُلُّ على عَدمِ وجُوبِها. وأما حديثُ: "ثلاثٌ هُنَّ (¬4) عليَّ فرائضُ، وهي (¬5) لكمْ تطوُّعٌ؛ الفجرُ (¬6) والوترُ وركتا الضُّحى"، وفِي رواية: "ركْعَتا الفَجْر"، بَدَل (¬7) "الفجر" فهُو ضَعيفٌ (¬8). ¬
* وليسَ الوترُ واجِبًا (¬1) علَيه، خِلافًا لِمَا صحَّحوه (¬2)، فقد صَحَّ أنَّه كان يوتِرُ على بعيرِهِ، وبِهِ احتجَّ الشافعِيُّ على عدم وجوبِ الوترِ على الأُمَّة، فيكونُ مذهبُ الشافعيِّ: أنه ليس بِواجِبٍ عليه مطلقًا، ولا دليلَ لِمَنْ قال كانَ واجبًا علَيه فِي الحَضَرِ دُونَ السَّفرِ. * والتهجُّدُ كان واجِبًا عليه، وعلي أُمتِه حَوْلًا كاملًا، ثم نُسِخَ، فصارَ (¬3) تطوُّعًا فِي حقِّه وحقِّهِم، وصحَّ عن عائشةَ وابنِ عباس -رضي اللَّه عنهما- ما يَشهدُ له (¬4)، ¬
ونصَّ الشافعيُّ (¬1) على نَسْخِ وجوبِ التَّهجُّدِ فِي حقِّه. * ولا يَنقصُ أجرُهُ بصلاةِ النفلِ قاعِدًا مع القُدرةِ على القِيام؛ بخِلافِ الأمَّةِ كما سَبق (¬2). * وَلَمْ يكُن يُصَلِّي عَلَى مَيِّتٍ عَلَيْهِ دَيْن، إذا لم يتْرُكْ وَفَاءً، ولَمْ يَضْمَنْهُ أَحَدٌ، ثُمَّ نُسِخ ذلك بَعْدَ تَكْثيرِ الفُتُوحَاتِ، وقال حينئذ: "مَنْ تَرَكَ مَالًا فَلِوَرَثَتِهِ، وَمَنْ تَرَكَ دَيْنًا فَعَلَيَّ" (¬3)، فَعَدُّوا (¬4) من خصائصِهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- وجوبُ قضاء دَيْنِ الميت المُعْسِرِ المسلِمِ (¬5). * وصلَّوا عليه بعد وفاتِهِ أفرادًا. * ولا يصلَّى على قبْرِهِ بِحالٍ. * والزكاةُ وصدَقةُ التطوُّعِ كانتَا محرَّمَتينِ عليه، ولِشرفِ قُربِه حُرِّمَتِ الزكاةُ على قَريبِيه بَني (¬6) هاشِمٍ والمطَّلِبِ ومَوالِيهم كما سَبق. ¬
* وأُبيحَ له الوِصالُ فِي الصَّوْمِ، صحَّتِ الخُصوصيةُ بذلكَ، وأنَّ ربَّهُ يُطعِمُهُ ويَسْقِيه (¬1). * وأُحلَّتْ لَه مكةَ ساعةً مِن نَهارٍ، ثَبَتَتِ (¬2) الخُصوصيةُ بذلك عَن الناسِ كلِّهم، ولا خُصوصيةَ له فِي الحَجِّ، لِأنَّه يُريدُ تَشريعَه لَهم (¬3). وإدخالُهُ العُمرةِ على الحَجِّ، إما عَامٌّ (¬4) على المُختارِ، أو مؤولٌ (¬5)، ولا تَخْصيصَ، وكذلك تَزَوُّجُهُ (¬6) مَيمونةَ -وهو مُحْرِمٌ- خِلافًا لِمَن رَجَّحَ الخُصوصيةَ، فلَمْ يُثْبتِ الشافعيُّ خُصوصيتَهُ (¬7) بذلك، بلْ قدَّمَ أحاديثَ: "نَكَحَهَا وهُو حَلَالٌ" (¬8). ¬
* وكان النَّحرُ واجِبًا عليه، لقولِهِ عز وجل: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} وتفسيرُ النَّحرِ (¬1) برفْعِ اليدَينِ فِي الصلاةِ حديثٌ (¬2) ضعيفٌ (¬3). * ويَحمِي المَواتَ لِنفسِهِ، ولا يُنقَضُ حِماهُ لِغَيرِه (¬4)، كما سَبق. * والأنبياءُ لا يورَّثونَ، وقد سَبق. * ونَكَحَ (¬5) زِيادةً على أرْبعٍ وتِسْعٍ (¬6). * وتَهَبُ المَرأةُ له نفْسَها، فيَنْكِحُها ولا مهرَ (¬7)، قال اللَّه تعالى (¬8): {خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ}، وقال تعالى: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ} فبِمُقْتَضى (¬9) ذلك يَتصرَّفُ علَيهم بِمَا يَراهُ، ولِهذا بَاع (¬10) المُدَبَّرَ. ¬
* ويزوِّج مَن يشاءُ مِن (¬1) نفْسِه، ومِنْ غَيرِه بِلَا إذْنٍ، ويَتولَّى الطرَفَيْنِ مُطْلَقًا (¬2) (¬3). * ويأخُذُ طَعامَ المُحتاجِ، وعلى صاحِبِهِ دفْعُهُ لَه. * وكانتِ المرأةُ تَحِلُّ لَهُ بتَزْويجٍ اللَّهِ عز وجل مِن غَيرِ تلفُّظٍ بعَقْدٍ (¬4)؛ كما فِي قَضيةِ زينبَ بنتِ جَحْشٍ زوجةِ زيدِ بنِ حارثَةَ (¬5)، ومن قَضيَّتِها: استُنْبِط إيجابُ طَلاقِ مرغوبتِهِ على الزَّوجِ، وإيجابُ جَوابِ مَخطُوبتهِ (¬6)، وتحريمُ خِطبةِ غيرِهِ بمجرَّدِ خِطبتِهِ. * وينكِحُ بِلا شُهودٍ (¬7). * وحرَّم اللَّهُ سبحانه وتعالى نساءَهُ على غيرِهِ (¬8). ¬
* ومَن فارَقَها فِي الاختيارِ تحلُّ على الأرجَحِ؛ إذْ هو فائدةُ الاختيارِ الذِي أوجَبَه اللَّهُ تعالى علَيه دُونَ غيرِه، بقَولِه عز وجل: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ (¬1)}. ولَمَّا اخْتَرْنَ اللَّهَ ورَسولَه حرَّمَ اللَّهُ عليه أن يتزوَّجَ عليهِن، ثُم أباحَ لَه ذلك لِتكونَ المِنَّةُ فِي التَّرْكِ للنبيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، ومِنَ التخيِيرِ أُخِذَ تَحريمُ إمساكِ كارِهَتِه. * ومَن طَلَّقَها فِي غَيرِ التَّخيِيرِ ولَم يَدخُلْ بِهَا: صحَّحَ جَماعةٌ حِلَّها، ورجَّحَ فِي "الروضة" (¬2) التحريمَ؛ لِقولِه عز وجل: {وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ} (¬3). * وتَزوَّجَ قُتيلةَ بِنتَ قَيسٍ الكِنديةَ فِي سَنةِ عَشرٍ، ولَمْ يَدخُلْ بِهَا، وأَوْصى أَنْ تُخيَّرَ، فإنْ شَاءَتْ ضُرِبَ علَيها الحِجابُ، وتحرمُ (¬4) على المُؤمِنينَ، وإنْ شَاءَتْ أَنْ تَنْكحَ نكحَتْ مَنْ شَاءتْ، فاختارَتِ (¬5) النكاحَ، فتزوَّجَها عِكْرِمةُ ابنُ أبي جَهلٍ، وقيلَ: لَمْ يُوصِ بذلك. . ذَكرَ ذلك ابنُ عبدِ البَرِّ، وغيرُه. فإنْ ثَبتَ كانَ الحُكمُ مَا أوْصَى بِه. ¬
وأمَّا نِكاحُ الأَمَةِ والكِتابيةِ وانحِصارُ طَلاقهِ فِي ثَلاثٍ (¬1)، وغيرُ ذلك، فلَا يُتعرَّضُ له، فالكلامُ (¬2) فِي الخَصائصِ بالاجْتِهادِ صَعبٌ (¬3)، ولِذلكَ مَنعَ مِنْهُ ابنُ خيران، وليس مانعًا مِن الكلامِ فِي الخصائِصِ (¬4) مُطْلَقًا كما (¬5) وقع فِي "الرَّوضةِ" (¬6). * وأعتق صفيةَ، وجَعَلَ عِتقَهَا صَدَاقَهَا. * ولا يَقعُ مِنه الإيلاءُ الذي تُضرَبُ لَه المُدَّةُ، ولا الظِّهارُ، ولِأنَّهُما مُحرَّمانِ (¬7)، وهو مَعْصُوم مِن فِعْلِ كُلِّ مُحرَّمٍ. * ويَستحِيلُ اللِّعانُ فِي حقِّه. * ويَحرُمُ رفْعُ الصَّوتِ عليه، والجَهْرُ له بالقَولِ كجَهْرِ بعضِنا لِبَعْضٍ، ونِداؤُه باسمِه ومِن ورَاءِ الحُجُراتِ (¬8). ¬
* ويَجِبُ عليه تَغْيِيرُ المُنكَرِ (¬1). * ويَحْرمُ عليه خَائنةُ الأَعْيُنِ، والمَنُّ لِيستكثِرَ (¬2)، ونَزْعُ لَأْمَتِه حتى يُقاتِلَ (¬3) * ويَجبُ عليه مُصابَرةُ العَدوِّ الكثيرِ (¬4)، وإنْ زادُوا على الضِّعْفِ بِكَثيرٍ (¬5). * وله صفيُّ المَغْنَمِ. * وخُمُسُ الخُمُسِ فِي الغَنيمةِ. * والفَيْءُ، وأرْبعةُ أخْماسِ الفَيْءِ (¬6)؛ لِأنَّ بِه النُّصرَةَ، إذْ مِن (¬7) خَصائصِه على الأنْبياءِ: * نَصرُهُ بالرُّعبِ مَسيرةَ شَهْرٍ، وفِي رِوايةٍ: شَهرَيْنِ. * وإحْلالُ الغَنائِم. * وجَعْلُ الأرضِ لَه مسجدًا، وتربتِها طَهُورًا. * وبعثتُهُ عَامةٌ. ¬
* وشفاعتُهُ عامةٌ. * وأُمتُهُ خيرُ الأُمَمِ. * وهو خاتَمُ الأنبياءِ (¬1). * وفِي القَضاء (¬2) والشهادَةِ يَحْكُمُ ويَشهَدُ. * ويَقبَلُ الشَّهادةَ لِنفْسِه وولَدِه. * ويَجْعلُ شَهادةَ الواحدِ باثْنَيْنِ كما فِي قَضِية خُزَيْمةَ. * ومَن وَطِئَها مِن الإماءِ هلْ تحرُمُ على غيرِه؟ فيه خِلَافٌ، وذلكَ يَعُمُّ المُستولَدَةَ، والذي فِي القرْآنِ تحريمُ الزَّوجاتِ. * * * والتزويجُ مَندوبٌ لمُحتاجٍ إلَيه واجدًا أُهبَتَهُ، فإنْ لَمْ يجِدْها كَسَرَ شهْوتَه بالصَّوْمِ، فإنْ لَمْ تَنكسِرْ لَمْ يَكسِرها بالكافُورِ ونحوِهِ، ويَتزوَّجُ (¬3)، وإنْ لَمْ يَحْتَجْ ولَمْ يَجِدْها كُرِهَ لَه (¬4)، وذلك في (¬5) العِنِّينِ ونحوِه، ولَو مع وجُودِ الأُهْبةِ (¬6). ¬
وأمَّا واجدُها غَيرُ المُحتاجِ لأَمْر عُنَّةٍ (¬1) ونَحوِها، فالعِبادةُ أفْضلُ له، فإنْ لَمْ يَتعبدْ فالنِّكاحُ أفْضلُ (¬2). والبِكْرُ، الدَّيِّنةُ، الولودُ، النسيبةُ، البعيدةُ، الجميلةُ، العاقلةُ: أوْلى (¬3). ويُستحبُّ النظرُ إلى مَن عَزمَ على نِكاحِها قَبْل خِطبتِها (¬4)، ولَو بِغَيرِ إِذْنِها (¬5). ويجوزُ تكريرُه (¬6). ¬
وذكروا أحكام النظر هنا
ويَنظرُ للوَجْهِ والكَفينِ ظَهرًا وبَطْنًا لا لِغَيرِ ذلك (¬1)، فإنْ لَمْ يَتيسَّرْ بَعثَ امْرأةً تَتأمَّلُها وتَصِفُها لَه، والمَرْأةُ تَنْظُرُ إلَيه (¬2). وذكَرُوا أحْكامَ النَّظرِ هنا: فيَحرُمُ نَظرُ الفَحْلِ البالِغِ أو (¬3) المُراهِقِ للْمرأةِ الحُرةِ الأجنبيةِ لِغَيرِ (¬4) حَاجةٍ، وإنْ أمِن الفِتنةَ (¬5) حتى إلى (¬6) الوَجْهِ والكَفَّينِ، وكذَا الأَمَةِ عند خَوفِ الفِتنة (¬7)، ويحرُمُ ¬
الإصْغاءُ إلى صَوتِ الأجنبية عند خوفِ الفتنةِ، وإن لم يكن عورةً (¬1). وينظرُ المَحْرَمُ إلى ما فَوْقَ السُّرَّةِ وتَحْتَ الرُّكبةِ (¬2) لا (¬3) إلى غَيرِ ذلك، وضَابطُهُ هُنا (¬4)، وفِي الخَلْوةِ، والسَّفَرِ، وعدَمِ نَقْضِ الوُضوءِ: كلُّ مَن حرُم نكاحُه مؤبَّدًا بنَسبٍ أو رَضاعٍ أوْ مُصاهَرةٍ بعَقدٍ صَحيحٍ أوْ وَطْءٍ مُباحٍ، فحَيثُ لا يُوجَدُ ذلك لا تَثْبتُ هذه الأحكامُ، وإنْ حَرُمَتْ أبدًا لِحُرْمتِها كزَوجاتِ النبيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- على ما تقدَّمَ، أوْ لِلتغليظِ كالمُلاعنةِ (¬5)، أو لِشُبهةِ النَّسبِ (¬6) كالمَنفيةِ باللِّعانِ التي لَمْ يَدْخُلْ بأمِّها على ما سيأتي. وأمُّ (¬7) المَوْطوءةِ بِشُبْهةٍ وبِنتُها وإنْ حَرُمتَا أبَدًا لا يَثبتُ لهُمَا هذه الأحْكامُ ¬
-على ما صحَّحَهُ الجُمهورُ- خِلَافًا لِلإِمامِ ومَن تَبِعَه، فتَحريمُهما أبَدًا (¬1) بوَطْءِ شُبْهةٍ لا يُوصَفُ بالإباحةِ على ما رجَّحَه (¬2) بعضُهم. وأما مَن لا تَحرُمُ على التأبِيدِ كأُختِ الزَّوجةِ فكَالأَجْنبيةِ. ورجَّحُوا إلحاقَ المَمْسوحِ بالمَحْرَمِ (¬3). وكذا عَبْدُ المرأةِ ولَو مُكاتَبًا، واستثْنَى القَاضِي الحُسينِ ما (¬4) إذا كانَ معه وفاءٌ لا مُطْلَقًا (¬5) كما وقع فِي "الروضةِ" (¬6)، والنصّ الاستثناءُ مُطْلقًا. والصبيُّ الذِي يَحْكِي ما يَراه (¬7) لا يَجُوزُ التكشُّفُ بحضرتِهِ (¬8). وكذا المَجنونُ. والصَّبيةُ التي لا تُشتَهى يَنظُر غيرَ فرجِها عند جماعةٍ (¬9)، وجوَّزَهُ آخرُونَ، إلى التمييزِ لِتسامُح (¬10) النَّاس بِهِ (¬11). ¬
ونظرُ الرجُلِ للرَّجُلِ (¬1) جائِزٌ إلَّا فيما بين السُّرَّة والرُّكبةِ (¬2)، ولا يُنظَرُ إلى الأمرَدِ (¬3) بشَهْوةٍ، ولا عِند خَوفِ فِتنةٍ (¬4). وتَنظرُ المرأةُ مِنَ المرأةِ ما فوق سُرَّتِها وتحتَ رُكبتِها (¬5)، ولا تنظُرُ الكافرةُ المُسلمةَ (¬6)، ولا تدخُلُ معها الحمَّامَ على الأرجحِ فيهما (¬7)، ونظرُ المرأةِ للرَّجُلِ كنظرِهِ إليها (¬8)، وما حرُم النظرُ إليه متصِلًا حَرُمَ مُنفصِلًا (¬9). ¬
وحَيْثُ حَرُمَ النَّظَرُ، حَرُمَ الْمَسُّ (¬1)، ويباح ما يُحتاج إليه مِن ذلك من فَصْدٍ وحِجَامَةٍ (¬2) (¬3). وفِي غيرِ الوَجْهِ والكفَّينِ لا بُدَّ مِن زِيادةٍ فِي الحاجَةِ، وضَبَطَهُ الإمامُ بأنْ يُنْتَقَلَ بِسببِه مِنَ الوُضوءِ إلى التيمُّمِ، وفيه نظرٌ. ولا بُدَّ مِن تأكُّدِ الحاجةِ فِي النَّظرِ إلى السَّوءةِ، بأنْ لا يُعَدَّ التكشُّفُ بسببِهِ هتْكًا للمُروءةِ (¬4). ولا ينظُرُ أجنبيٌّ لِمَا ذُكِرَ مع وُجودِ امرأةٍ كافيةٍ، ولا كافِرٌ مع وجودِ مسلِمٍ. ويباحُ النظرُ بقَدْرِ الحَاجةِ؛ لِتعليمٍ، ومُعامَلةٍ، وشَهادةٍ، ولَو إلى ثَدْي المُرضِعةِ، وفرْجِ الزانِيَيْنِ على الأصَحِّ (¬5). ¬
ولا يجوزُ للمَحْرَمِ مسُّ ساقِ مَحرمِهِ ونحوِهِ، ولا المُضاجَعَةُ (¬1) فِي ثَوبٍ واحدٍ لِمَنْ لا يحِلُّ الاستمتاعُ بينهُما (¬2). ويَجبُ أن يفرَّقَ بيْنَ الأوْلادِ فِي المَضاجِعِ عندَ بُلُوغِ عَشرِ سِنينَ، ويُحتاطُ قبلَهُ عِند خشيةِ محذُورٍ حتى بيْنَ الولَدِ وأبويْهِ (¬3). ويُحتاطُ فِي الخُنْثى المُشْكِلِ، ولا يَنظرُ إليه أجنبيٌّ ولا أجنبيةٌ على الأصحِّ (¬4). وعنْدَ وُجودِ الزَّوْجيةِ، أو المِلْكِ مع إباحةِ الاستمتاعِ، ولو مع الحَيضِ، والرَّهنِ فِي الأمةِ -يُباحُ النظرُ لجَميع البدنِ؛ حتى الفرْجِ، معَ الكراهةِ (¬5)، ¬
إلَّا (¬1) الدُّبرُ فيحرُمُ النظرُ إليه، وسَيأتي ما يُخالفُ فيه القُبُلُ الدُّبُرَ (¬2). والرجعيةُ فِي النظرِ كالأجنبيةِ، وحيثُ امتنعَ الاستمتاعُ لعِدَّةِ شُبهةٍ أو رِدَّةٍ أو تَمَجُّسٍ (¬3) أو كتابةٍ أو شركةٍ: يحرمُ نظرُ (¬4) ما بين السُّرَّةِ والرُّكبةِ. وتُقدَّمُ الاستخارةُ فِي هذا البابِ، وقدْ تقدَّمَتْ (¬5). وعَن أبِي أيوبَ الأنصاريِّ -رضي اللَّه عنه- أَنَّ رسولَ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "يَا أبَا أيوبَ، اكْتُمِ الْخِطْبَةَ، ثُمَّ تَوَضَّأْ وَأَحْسِنْ وضُوءَكَ، وصَلِّ رِكعتَيْنِ أوْ مَا شِئْتَ، ثُمَّ احْمَدْ رَبَّكَ وَمَجِّده وسبِّحْهُ (¬6)، وارْفَعْ رأسَكَ إلى السَّمَاءِ وقُلْ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْتَخِيرُكَ بِعِلْمِكَ ¬
وَأَسْتَقْدِرُكَ (¬1) بِقُدْرَتكَ، وَأَسْأَلُكَ مِنْ فَضْلِكَ العَظِيمِ فَإِنَّكَ (¬2) تَقْدِرُ وَلا أَقْدِرُ، وَتَعْلَمُ وَلَا أَعْلَمُ، وَأَنْتَ عَلَّامُ الغُيُوبِ، اللَّهُمَّ إِنْ كان لِي فِي تزْويجِي (¬3) فُلانَةً -تُسمِّيها باسْمِها- خيْرٌ لِي وصلَاحٌ في دِيني ودُنيَاي وآخِرَتي فاقْضِهَا لِي، وقَدِّرْها برحمَتِكَ يا أرحَمَ الرَّاحِمِينَ". ذكره المَحَامِلِيُّ (¬4) ولم أقِفْ على إسنادِهِ (¬5)، والمحفوظُ ما تقدَّمَ. والخِطبةُ -بكسر الخاء- مُستحبةٌ عِندَ الغَزاليِّ (¬6). وتُسْتحبُّ الخُطبةُ -بضمِّ الخاءِ- قبْلَها (¬7). وكلُّ مَن صحَّ لك أن تعقِدَ نكاحَهَا فِي الحالِ، وليس عليها خِطْبةٌ ¬
مُصرَّحٌ (¬1) فيها بالإجابةِ مُستمرةٌ، ولا يقصِدُ مالكُها التسرِّي بِها، فيباحُ لك: التعريضُ بخِطبتِها نحوُ (¬2): "رُبَّ راغبٍ فيكِ" (¬3)، والتصريحُ أيضًا نحو: "إني أُريدُ نِكاحَك" (¬4). وكلُّ مَن حرُمتْ مؤبَّدًا فلا (¬5) تحِلُّ خِطْبتُها مُطْلقًا. وكلُّ مَنْ حَرُمَتْ لِحَقِّ غَيرِك فلا تحلُّ خِطبتُها تَصريحًا مُطْلقًا ولا تعْريضًا إن كانتْ زوجةً أو فِي حُكمِها، وإلَّا جاز التعريضُ إلَّا فِي المقصودَةِ للتَّسَرِّي؛ قلتُه تخْريجًا (¬6). وكلُّ مَن حرُمتْ لا لِحقِّ غَيرِك لا يحِلُّ خِطبتُها للتزْويجِ فِي الحالةِ المحرَّمةِ (¬7)، ويحلُّ خِطبتُها تصْريحًا للتَّزويجِ عِنْدَ زَوالِ المانِع ما لَمْ يُؤَدِّ ذلك إلى مَحذورٍ فيُكرَهُ، وقدْ يَحرُمُ، وما لمْ يكُنِ المانِعُ كُفرَهُ وهِي مُسلِمةٌ فيُمنعُ مِنه؛ قلتُهُ تخْريجًا. * * * ¬
ولا يَجوزُ التعريضُ (¬1) بخِطبةِ الرَّجعيَّةِ (¬2)، وفِي نصٍّ فِي "البويطي" ما يقْتضِي جَوازَه، وهو غَريبٌ، ويجوزُ التعريضُ بِخِطبةِ (¬3) بقيةِ المعتَدَّاتِ دونَ التصريحِ (¬4)، إلا لِصاحبِ العِدةِ أو الاستِبراءِ الذي يَجوزُ لَه أَنْ ينكِح فِي ذلك، [فلَه التصريحُ] (¬5). ولا يَجوزُ خِطبةُ أَمَةِ غَيرِك التِي (¬6) يطؤُها قَبْلَ الاسْتبراءِ، ولا بَعْدَه، إذا كانتْ عِندَه لِقصْدِ التَّسَرِّي، والمُستولَدَةُ فِي ذلك أَوْلى. ومَتى وَجَبَ الاسْتبراءُ ولم يَقصِدِ التَّسرِّي جازَ التعريضُ كالبَائِن إلا إنْ خِيفَ فسادُها (¬7) على مالِكِها، ومتى لَمْ (¬8) يكنْ هناكَ شيءٌ مِن ذلك فيَجوزُ التصريحُ؛ قلتُ مسائِلَ الإمَاءِ تَخْريجًا (¬9). وأما مَنْ حَرُمتْ لِعارضٍ قد يزولُ فلا يجوزُ خِطبتُها للتزْويجِ فِي الحالَةِ ¬
المُحرَّمةِ، وتجوزُ للتزويجِ إذا زالَ العارِضُ إلَّا فِي كُفرِهِ (¬1) كما سَبق، وذلك كما فِي الإِحْرامِ معَ الكَراهةِ. ويَنبغِي أَنْ يأتِي مثلُه فِي الأَمَةِ لِمَنْ يَمتنعُ عليه نكاحُها، وفِي خامسَةِ (¬2) الحُرِّ، وثالِثةِ العبدِ، وثانيةِ السفيهِ ونحوِهِ، ومَن لا يُجْمَعُ مع زَوْجتِه. وإذا خِيفَ محْذُورٌ (¬3) فِي هذه ونحْوِها حرُمَ. ولا كَراهةَ فِي أن يقولَ المُسلمُ للمَجُوسيةِ ونحوِها: "إذا أسْلَمتِ تزوجتُكِ"؛ لأن الحملَ على الإسْلامِ مطْلوبٌ بخلافِ الكافِرِ للْمسلِمَةِ (¬4). * * * وأمَّا مَن يَمتنعُ نكاحُها لِغَير ذلك كما فِي البِنْتِ الصَّغيرةِ العاقِلَةِ أوِ البِكْرِ فاقِدةِ المُجْبِرِ فيجُوزُ التصريحُ لخِطبَتِها (¬5) لِيقعَ التَّزويجُ إذا زالَ المانعُ ولَم يَتعرضُوا لِكثيرٍ مِن ذلك. وإنَّما يأثمُ بالخِطبةِ (¬6) على خِطْبةِ غيرِهِ بعد صَريحِ الإجابةِ إذا عَلِم الحالَ (¬7)، ولَم يأذنْ ذلك الخاطبُ ولَم يتركْ ولَمْ يغِبْ مُدةً يحصُلُ لَها بذلك ¬
الضَّررُ؛ قلتُ هذا الأخيرَ تخْريجًا. ولا يَحرُمُ إذا لَمْ (¬1) يُصرَّحْ لَه بالإجابةِ (¬2)، وحيثُ حَرُمَتِ الخِطبةُ حَرُمَ الجوابُ. وحيثُ جَازتْ جازَ الجَوابُ على حَسَبِ الحالِ فِي التَّعريضِ والتصريحِ. والمُعتَبَرُ جَوابُ مَن يُزوِّجُها بغَيرِ إذْنِها (¬3) كالمُجْبِرِ والمالِكِ والسُّلطانِ فِي المَجنونةِ، وفِي غيرِ ذلك لا بدَّ مِن جَوابِها (¬4). ومَن استُشيرَ (¬5) فِي حالِ الخَاطِبِ جازَ أَنْ يَصْدُقَ فِي ذِكْرِ ما هو عليه، ولا يكونُ غِيبةً لو ذَكَرَ مَكرُوهًا يعْرِفُهُ، فهو مِن الغِيبةِ المُباحةِ لِمَا فيه مِنَ التَّحذيرِ (¬6). * * * والغِيبةُ تُباحُ فِي سِتةِ مواضِعَ جَمَعَها الناظمُ فِي قولِهِ: ذِكرُ العيوبِ تُباحُ عند ثلاثة ... وثلاثةٌ فيها الأئمةُ أجمعوا (¬7) ¬
وهْيَ التظلمُ واستعانةُ (¬1) أَيِّدِ ... وكذاك الاستفتاءُ فيما يصنعُ (¬2) والرابعُ التحذيرُ ثم مُجاهرٌ ... والسادسُ التعريفُ خُذْ ما ينفعُ واحذرْ سواها فهْوَ لحمُ مَيِّتٍ ... من مسلمٍ أَقْبَلتَ فيهِ ترتعُ (¬3) والمرادُ بالتعريفِ اللَّقبُ كالأَعورِ، أو كالأَعرجِ (¬4)، ونحوِه، ولا يكونُ بقَصْدِ تنْقِيص (¬5). * * * ¬
ومدار النكاح على خمسة أشياء تعتبر في صحة نكاح المسلمين، ولنكاح الكفار حكم يختص به، وخمسة أشياء تتعلق به بعد صحته.
ومدارُ النِّكاحِ على خَمسةِ أشياءَ تُعتبَرُ فِي صحةِ نِكاحِ المُسلمِينَ، ولِنكاحِ الكُفارِ (¬1) حُكمٌ يَختصُّ بِهِ، وخَمسةُ أشياءَ تتعلَّقُ بهِ بعْد صِحتِهِ. * * * * فأما الخَمسةُ المُعتبَرةُ فِي صِحتِهِ: 1 - فالزَّوجُ. 2 - والزَّوجةُ. 3 - والوَليُّ. 4 - والصِّيغةُ. 5 - والشُّهودُ (¬2) * * * * وأما الخَمسةُ (¬3) التي تتعلقُ به بَعْدَ صِحَّتِه: 1 - فمَا يَملكُهُ الزوجُ على الزَّوجةِ مِنَ الاستِمتاعِ ونحوِه. 2 - وأمْنُ (¬4) العُيوبِ. ¬
3 - وخُلْفُ الشَّرْطِ. 4 - وعِتْقُ الأمَةِ تَحْتَ العَبْدِ. 5 - وحُكمُ الاختلافِ. فنَعقِدُ لِذلكَ أحدَ عَشَرَ فصْلًا. * * *
(1) فصل في الزوج
(1) فصل في الزوج لابدَّ مِن تحقُّقِ ذُكورَتِه (¬1)، فالخُنثى المُشْكِلُ لا يَصِحُّ أن يكونَ زوجًا ولا زوجةً (¬2)، ثُمَّ إنْ كانَ الذَّكَرُ صَغيرًا عاقِلًا حُرًّا غَيْرَ مُحْرِمٍ، فتزوِيجُه صَحيحٌ بالمَصلحةِ بلا خِلافٍ. وأما ما وقَع (¬3) فِي "الروضة" (¬4) مِنْ نَقْلِ وجهٍ عن "الإبانة" (¬5) أنه لا يَجوزُ تَزويجُه أصْلًا: وَهْمٌ، فليسَ فِي "الإبانة" ذلك. ويُزوِّجُه وليُّهُ (¬6) ولَوْ أربعًا (¬7) على الأصَحِّ بالمَصْلحةِ، وهُو الأبُ (¬8) ثُم ¬
أبوهُ، وإنْ عَلَا، ولا مَدخَلَ فِي ذلكَ (¬1) لِقَريبٍ غَيرِهما ولا وصِيٍّ ولا حاكِمٍ (¬2). وإنْ كانَ (¬3) صغيرًا مجْنونًا فلا يُزوَّجُ (¬4)، وإنْ كانَ بالغًا عاقِلًا مَحجورًا عليه بالسفَهِ غَيرَ مُرتَدٍّ، فلَا يُزوَّجُ إلا بالحَاجَةِ، ولَا يُكتَفَى فيها بِمُجرَّدِ قولِه؛ خِلافًا لِلْإمامِ والغزَّالي، بَلْ لا بُدَّ مِن ظُهورِ أمَارتِها (¬5) ولا يُزادُ على واحدِةٍ (¬6)، ومنهُم مَن قالَ: تزويجُه بالمَصلحةِ كالصبيِّ. ولِلْولِيِّ أَنْ يأذنَ لَه فِي التزويجِ ويُطْلِقَ الإذنَ (¬7)، ولِوليِّه أَنْ يُزوِّجَه (¬8)، ولابد مِنْ إذْنِ السَّفيهِ عِندَ المَراوِزَةِ. وصحَّحَه المُتأخِّرُونَ (¬9). ¬
وقالَ العِراقِيُّونَ (¬1): لا حاجةَ إلى إذْنِهِ، وهو ظاهِرُ النَّصِّ (¬2). ووليُّه فِي ذلك مَنْ يلِي مالَهُ مِن الأبِ، ثم الجَدِّ وإنْ عَلَا، ثم الوصيِّ، نصَّ عليه، ثُم الحاكِمُ، ولَا يُزوَّجُ إلا بِمَهْرِ المِثْلِ فما دُونَه مَنْ يَليقُ بِحَالِه، ومَتى حَصَلتْ زيادةٌ على مَهرِ المِثْلِ صَحَّ النكاحُ بِمهْرِ المِثلِ إلَّا فِي صُورتَينِ فيبطُلُ النِّكاحُ: 1 - إِحْداهُما: أَذِنَ لَه أَنْ يَنكِحَ (¬3) بألفٍ -عَيَّن المرأةَ أو لم يعيِّنْها- فنكَح بألفَينِ مَن مَهْرُ مثلِها ألفٌ وخمسُ مِائةٍ مَثلًا (¬4). 2 - الثانيةُ: قالَ له (¬5): "أَنْكِحْ فُلانةً بألْفٍ"، وكان مَهرُها خمسَمائةٍ، فالإذْنُ باطِلٌ وقضيتُه أن لا يصحَّ نكاحُه (¬6)، والقِياسُ: صِحتُه بِمهْرِ المِثْلِ، كما لَو قَبِلَ لَه الوَليُّ بِزيادةٍ على (¬7) مَهْرِ المِثلِ وقدْ يَجئُ الإبطالُ بِغَيرِ ما نحن فِيه، [وإذَا لَمْ يَأذَنْ لَه وليُّه الخاصُّ رَاجَعَ الحَاكِمَ] (¬8). ¬
لا يخلو الوطء من مهر أوحد إلا في عشر صور
وإذا نَكحَ فاسِدًا ووَطِئ فلا حَدَّ ولا مَهْرَ (¬1)، واسْتُثْنيتِ الزوجةُ السَّفيهةُ (¬2) فيَجِبُ مَهْرُها، والقياسُ: لا استثناءَ (¬3). * * * * ضابطٌ: لا يخلُو الوَطْءُ مِن مَهْرٍ أوحدٍّ إلَّا فِي عَشرِ صُورٍ: 1 - صُورةُ السفيهِ هذه. 2 - ووطءُ العَبْدِ غَيرِ المُكاتَبِ جَاريةَ سيدِهِ بشُبهةٍ. 3 - أوْ فِي نِكاحٍ عَقَدَه (¬4) له علَيها. 4 - أوْ وَطِئ سَيِّدتَه بشُبهةٍ. 5 - أوْ أعتقَ (¬5) مَريضٌ أمَتَه وهيَ ثُلثُ مَالِه ونَكحَها وَوطِئ وماتَ، ¬
وخُيِّرتْ فاختارتْ بقاءَ النكاحِ دُونَ المَهرِ -ولَا نَظيرَ لَها- وإنْ لَمْ يَطأْ (¬1) لَمْ تُخَيَّرْ ولا مَهْرَ لها. 6 - أوْ وَطِئ المرتَهِنُ الجاريةَ المرهونةَ بإذْنِ الراهِنِ -معَ الجَهْلِ بالتحريمِ- وطَاوَعَتْهُ، وقياسُه يأتِي فِي عامِلِ القِراضِ والمُستأجِرِ ونحوِهِما، ولَمْ يذْكُروه. 7 - [أو وُطِئَتْ حرْبيةٌ بشُبهةٍ أو مُرتدةٌ بشُبهةٍ، وماتَتْ على الرِّدَّةِ] (¬2). 8 - أوْ وُطِئَتْ مُفَوِّضَةٌ في (¬3) الكُفْرِ مَع اعتقادِهِم أَنْ لا مَهْرَ لَها بِحالٍ على طَريقةٍ، والأرجحُ الوجوبُ. 9 - أو وَطِئ المالكُ ممْلُوكتَه (¬4) غيرَ المكاتَبَةِ. 10 - أوِ الزوجُ (¬5) زوجتَه بعْد الوطْأةِ الأُولى إذْ هِيَ المقابَلَةُ بالمَهْرِ على الأرجحِ (¬6). * * * ¬
وإنْ كانَ البالغُ مَجْنونًا فلا يُزوَّجُ مِنه إلا بالحاجةِ واحدةً لائقةً بحالِه (¬1) بِمَهْرِ المِثلِ فما دُونَه (¬2). ويزوِّجُه الأبُ، ثُم الجَدُّ، ثم الوصيُّ، ثم الحاكِمُ (¬3). وإنْ كان حُرًّا رَشيدًا يُزوَّجُ مِنَ الحَرائِرِ واحدَةً وثِنْتَينِ وثَلاثًا وأرْبعًا (¬4)، ولا يَزيدُ على أرْبعٍ، ولا يَمْنعُه (¬5) مِن ذلكَ فلسُهُ ولا فِسقُهُ. * * * * وأما العبدُ فلا يزوَّجُ إنْ كانَ صَغيرًا أو مَجنونًا، وإن كان بالغًا عاقلًا فلا (¬6) يُزوجُ بإذنِ المولَى، ولَيْسَ لِلْمَولَى إجبارُهُ على الأصحِّ، ولا له إجبارُ مَوْلاهُ، ويَنكِحُ بما سَمَّى له سيدُه والزائدُ على (¬7) المُسمَّى أو عن مَهْرِ المِثْلِ عِند الإطلاقِ فِي ذِمتِه يُتبَعُ به إذا عَتَقَ (¬8). * وأمَّا المُحْرِمُ فلا يصحُّ تزويجُه كما سَبق فِي الحجِّ. * وأمَّا المرتَدُّ فلا يصِحُّ تزويجُه. ¬
فإنِ ارتدَّ الزوجانِ أو أحدُهما فِي دوامِ النِّكاح (¬1) قَبْلَ الدُّخولِ تعجَّلَتِ الفُرْقَةُ أو بعْدِ الدُّخولِ يُوقفُ: - فإنِ اجتمعَا على الإسلامِ قَبْلَ انقِضاءِ العِدَّة استمرَّ النكاحُ، ولا مَهْرَ لَو وَطِئ فيما قَبْلَ العَوْدِ إلى الإسلامِ. - وإنْ حَصَلَ الإصْرارُ على الرِّدَّةِ (¬2) حتى انقضتِ العِدَّةُ (¬3) تبينَ الفِراقُ مِن وقْتِ الرِّدَّةِ، ويجبُ المهرُ بالوَطْءِ فِيها (¬4) إلا فِي مُرتدةٍ ماتَتْ على الرِّدَّةِ كمَا سبَق. * * * ¬
(2) فصل في الزوجة
(2) فصل في الزوجة لا بدَّ مِن تحقُّقِ أُنُوثتِها كما سَبق وتعيُّنِها (¬1)، وكذا الزوجُ، فلا يصحُّ تزويجُ إحدَى بِنتَيه مُبهمًا ولا أحدِ (¬2) ابنَيْه كذلك. ويشترطُ خُلُوُّ الزوجةِ مِن الموانعِ وهي (¬3): - أن تكونَ منكوحةَ غيرِهِ. - أو (¬4) فِي عِدَّةِ غيرِهِ. - أو بِنتًا صغيرةً عاقلةً، ولو كان أبوها حيًّا. - أو صغيرةً مُطْلقًا فاقدةَ الأبِ والجَدِّ، وهاتانِ الصغيرتانِ لا يزوَّجانِ إلا بعد البُلوغِ. - وحاجة المَجنونةِ. ¬
- أوْ فيها (¬1) رِقٌّ لِغَيرِهِ، والذي يُريدُ تزويجَها حُرٌّ تَحتَه حُرَّةٌ صالحةٌ (¬2) للاستمتاعِ. - أو واجدٌ مهرَ حُرةٍ صالحةٍ للاستمتاعِ متمكِّنٌ مِن تزويجِها. - أو واجدٌ دُون مَهرها وهي راضيةٌ بما وجَدَه (¬3). - أو غيرُ خائفٍ مِن العنتِ لِصغرٍ أو جَبٍّ أو عُنَّةٍ أو عِفَّةٍ (¬4) أو تَسَرٍّ. - أو تكونُ مَمْلوكةً كلَّها أو بعضَها لِمَن يُريدُ تزويجَها. - أو مُطلَّقةً ثلاثًا قَبْلَ أَنْ تَحِلَّ له بِغَيبةِ حَشَفَةٍ أو قدْرِها مِن مقطُوعِها بِقُبُلِهَا مِن زَوجٍ فِي نِكاحٍ صَحيحٍ بشرطِ قابليةِ انتشارِ الآلَةِ لا كالعِنِّينِ ويتأَتَّى الجِماعُ منه لا كالطِّفلِ. - أو تكونُ محرَّمَةً عليه مؤبَّدًا بِنَسبٍ، أو رَضاعٍ، أو مُصاهرةٍ، أو لِعانٍ. - أو لِلْخُصوصيةِ كما سبق فِي نِساءِ النبيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- وذلك لا يوجدُ الآنَ. - أو حَرُمَتْ لاشتمالِها على صفةٍ تَمنعُ نكاحَهَا فِي تلك الحالةِ مُطْلَقًا بأنْ تَكونَ مُرتدةً، أو زِنديقةً لا تُنسبُ لِملَّةٍ (¬5): بأنْ تكونَ وثنيةً، أو مجوسيةً، أو مُتمسكةً بغيرِ التوراةِ والإنْجيلِ أوْ بِواحدٍ منهُما، وليستْ إسرائيليةً، بلْ ¬
دخلَتْ فِي دينِهِم بعْدَ التبْدِيلِ، ولَمْ تتمسَّكْ بالحقِّ مِنه، أوْ بَعْد النَّسْخِ. - أوْ شُكَّ فِي حَالِها. -[أو تكونُ خامسةَ الحُرِّ. - أوْ تحتَ الزَّوجِ مَن لا تُجمعُ معَها كأُختِ الزَّوجةِ] (¬1). - أو تكونُ فِي إحرامٍ. فهذه هِي الموانِعُ التي ذَكرها الغزاليُّ (¬2)، وقال: إنَّها قريبٌ مِن عشرينَ مانعًا، وقد نقَّحنا بعضَها. ونبَّه بالعِدَّةِ على أن لا تكونَ فِي استبراءِ غيرِه، وإنما تكونُ عِدَّةُ غَيرِهِ مانعةً قَطْعًا إذا لَمْ يكنْ له عليها (¬3) عِدَّةٌ تَستقبلُها (¬4) عَقِبَ العِدَّةِ التي هي فيها. فإنْ كانَ كما فِي حَمْلِ وطْءِ الشُّبهةِ مع وُجودِ الطلاقِ، فإنَّ للمُطَلِّقِ أَنْ يَعقِدَ نِكاحَها فِي عِدَّةِ الحَمْلِ الذي مِن الشُّبهةِ على الأصحِّ عندَ الشَّيخِ أبي حامِدٍ -خِلافًا للماورديِّ والبغويِّ- ولا يَطَأ. وأما عدةُ الناكحِ فلا يُمنعُ عَقْدُه ولو كانتْ مِن نكاحِه الفاسِدِ أوْ مِن وطئِهِ بشُبْهةٍ وإنْ شَرَعَتْ عقِبَ النِّكاحِ فِي عِدَّةِ غَيرِه. * ومِنَ المَوانعِ -زيادةً على ذلكَ-: أَنْ تكونَ مَجنونةً فاقِدةَ الأبِ ¬
والجَدِّ، وهي غيرُ مُحتاجةٍ إلى النِّكاحِ كما سَبقَ فِي المَجنونِ (¬1). وأنْ يكونَ فيها رِقٌّ وهِي كافرةٌ فلا تحِلُّ حينئذٍ لِمُسلمٍ (¬2) مُطْلقًا ولَو كان عَبْدًا. وأنْ يكونَ فيها مِلكٌ لِمبعَّضٍ أو لِرَشيدٍ، ولمْ يأذنِ الرَّشيدُ فِي تزويجِها حاضرًا كان أو غائبًا، مُسلِمًا كان أو كافرًا. وأنْ يكونَ (¬3) فيها مِلْكٌ لِمَحجورٍ عليه لِفَلَسٍ، أو رَهنٍ مقْبوضٍ، ولَمْ يَأذنْ لِلْمُرتَهِن فِي تزويجِها. أو قِراضٌ ولمْ يَأذَنِ العامِلُ فِي تَزويجِها. أو لِمَأذونٍ له فِي التجارةِ مَديونٍ ولَمْ يَجتمعِ [السيدُ والمأذونُ والغرماءُ على تزويجِها. أو لِمُكاتَب، ولَمْ يَجتمعِ] (¬4) السيِّدُ والمُكاتَبُ على تزويجِها. أو موقوفةٍ ولَمْ يَجتمعِ الموقوفُ عليه والحاكمُ على تَزويجِها أو يكونُ (¬5) مُوصى بِمَنفعتِها، ولَمْ يَجتمعِ الوارِثُ والمُوصَى له على تَزويجِها (¬6) ولا ¬
يَتأتَّى ذلك فِي المُستأجَرَةِ ونحوِها. وأمَّا الأولياءُ: فامتناعُهُم مِنْ جِهَةِ الكفاءةِ لَيْسَ بِمانعٍ؛ لِأنَّ الحاكِمَ يزوِّجُ حينئذٍ كما سَيأتِي. وأنْ يكونَ فيها مِلكٌ لِولَدِ الناكحِ وإنْ سَفَلَ والوالِدُ حُرٌّ. وأنْ يكونَ فيها مِلْكٌ لِمكاتَبِه. وأن يكونَ فيها وقفٌ عليه بِخلافِ المُوصَى له بالمنفَعَةِ؛ قلتُه تخْرِيجًا. وأن تكونَ قدْ حَرُمتْ عليه أبدًا كأُمٍّ أو بِنْتِ المَوْطوءةِ فِي نِكاحٍ فاسِدٍ أو شُبهةٍ. وأن تكونَ قدْ حَرُمتْ لِشُبهةِ النَّسبِ كالمَنفيةِ باللِّعانِ التي لَمْ يُدخلْ بأُمِّها، أو لِلاحتياطِ كمَعدوداتٍ اختلَطَتْ بِهنَّ مَحْرَمٌ. أوْ تكونَ ثانيةَ سفِيهٍ (¬1) أو مجنونٍ، أو أَمَةً ثانيةً لِلْحُرِّ، أوْ ثالثةً لِمَنْ فيه رِقٌّ، أو مُطَلَّقةً طَلْقَتينِ قَبْلَ أَنْ تَحِلَّ له. وإذا كانَ الزوجُ على حالةٍ لا يُزوَّجُ فيها فالمانعُ فيه لا فيها كعَبدِ المَحْجورِ عليه، وكما سَبقَ فيمَنْ لا يُزَوَّجُ مِن الذُّكورِ، ولَو لَمَح (¬2) فِي ثانيةِ السفيهِ وأنْظارِها أنَّ (¬3) المانِعَ فيه لَجاءَ مِثلُه فِي خَامسةِ الحُرِّ، ونحوِ ذلك. ¬
وضابط المحرمات أبدا
ومَنْ لَيْسَ بِكُفْؤٍ يَمتنعُ أَنْ يَتزوجَ مَنْ هِيَ أشْرَفُ مِنه عند عَدَمِ إذْنِ (¬1) الزَّوجيةِ، وعَدَمِ مَن لَه ولايةُ التزويجِ فِي الحالِ، وكذا فِيمَنْ وَلِيَها الحاكمُ عندَ جماعةٍ وسيأتِي، ولا يزوِّجُ ولَدَهُ الصغيرَ مَعيبةً ولا أمَةً كما سَبق. * * * * وضابطُ المُحرَّماتِ أبدًا: المذكوراتُ فِي الكتابِ العَزيزِ بِقَوْلِ اللَّهِ تعالى (¬2): {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} إلى قولِه: {وَبَنَاتُ الْأُخْتِ} أنَّ كُلَّ قَرابةٍ مِن النَّسَبِ فَهِيَ مُقْتضِيةٌ للتحريمِ إلا وَلَدَ العُمومةَ، وَوَلَدَ الخُؤُولةِ (¬3). ويحرُمُ على المرأةِ ولدُها مِن الزِّنا (¬4)، لا على الرَّجُلِ المَخلوقَةُ مِن زِناهُ على ما صحَّحوهُ؛ لِأنَّ النَّسَبَ مِنْ جِهَةِ الرَّجُلِ تَصَرَّفَ فيه الشَّرْعُ فلَمْ يُثْبِتْهُ للزَّانِي (¬5)، ومِنْ جِهَةِ المَرأةِ الحُكْمُ فيه مُتوجِّهٌ إلى مَدلُولِه اللُّغويِّ (¬6). ¬
وكلُّ مَن حَرُمتْ بالنَّسَبِ فَقطْ حَرُمتْ بالرَّضاعِ (¬1) لِصحَّةِ الحديثِ فِي ذلك. وما استثْنُيَ مِن أُمِّ نافِلَتِك وأُمِّ مَن يُنسَبُ (¬2) إليكَ بِأُخوَّةٍ، وجَدَّةِ ولدِكَ وأُخْتِ ولَدِكَ وأمِّ عمِّك وأمِّ عمَّتِكَ وأمِّ خَالِكَ وأمِّ خَالَتِكَ، وهكذا فِي أُمِّ عَمِّ أَبيكَ وأَنظارِها، فإنَّ هَؤُلاءِ لَا يَحْرُمْنَ فِي الرَّضاعِ بِمُجرَّدِ ما ذُكرَ ولا بِالنَّسبِ فقَطْ، وإنما يَحْرُمْنَ به أوْ بِالمصاهَرَةِ. وأمَّا عَمةُ ولدِك فَهِي حَرامٌ عليكَ فِي النَّسبِ دُونَ الرَّضاعِ، ولا تُستثْنَى؛ لِأنَّها حَرُمتْ بأنَّها أُخْتُكَ مِن النَّسَبِ، وأخْتُكَ مِن الرَّضاعِ حَرَامٌ علَيْكَ (¬3). ولا تَحْرُمُ خَالةُ ولَدِكَ نَسَبًا ولا رَضَاعًا، ولا أُخْتُ أَخِيكَ، ولا أُخْتُ (¬4) أُختِك بِأنْ يَكونَ لَك أخٌ مِنْ أبٍ وأُختٌ مِن أُمٍّ يجوزُ لِأَخِيكَ مِنَ الأبِ أَنْ يَتزوَّجَها. وفِي الرَّضاعِ أن تُرضِعَكَ امْرَأةٌ، وتُرضِعَ صَغيرةً أجنَبيةً لِأَخِيكَ أن يَتزوَّجَها. ويحرُمُ بالمُصاهرَةِ (¬5) بِمُجرَّدِ العَقْدِ الصَّحِيحِ: زَوْجاتُ آبائِكَ، وزَوْجاتُ ¬
أبنائِك أوْ أبْنَاءِ أولادِك وإن سَفَلُوا، وأُمَّهاتُ زوجتِكَ. وأمَّا بَناتُ زَوْجَتِك وبَناتُ بَناتِها وبَناتُ أبنائِها، وإنْ حَصَلَ التَّسَافُلُ (¬1) فلا يَحْرُمْنَ إلَّا بالوطْءِ، وإنْ كان بشُبهةٍ أو فِي نِكاحٍ فاسِدٍ. ويستوِي فيما سبَقَ الرَّضاعُ مع (¬2) النَّسَبِ، والزِّنَا لا يُحَرِّمُ، ولَا اللَّمْسُ فِي غيرِهِ. والشُّبْهَةُ المُحَرِّمَةُ (¬3) لِأمَّهاتِ مَوطُوءتِكَ وفُصُولها (¬4)، ونحوهما محلها إذا عَمَّتِ الرجلَ والمرأةَ أو اختصَّت بالرجل. فإنِ (¬5) اختَصَّتْ بالمَرْأةِ: فلَا تَحْريمَ، ولا نَسَبَ، ولا عِدَّةَ، ويَجِبُ المَهْرُ فقطْ. وأما النكاحُ الفاسدُ فلا أثرَ لاعتِقادِها التَّحريمَ (¬6) فيما سبق، والوطءُ فِي مِلْكِ اليمينِ أو بِشُبهةٍ تَقتضِي التحريمَ المؤبدَ كما سبق فِي الزَّوجةِ. ولا يَحِلُّ أَنْ يَطَأَ بِمِلْكِ اليمينِ إلا مُسلِمَةً أو كِتابِيَّةً يَنْكِحُها لَو كانَتْ حُرَّةً دُونَ المَجوسيةِ ونحوِها. وما أَثْبتَ التحريمَ المؤبدَ إذا طَرأَ على النِّكاحِ الصَّحيحِ قَطَعَهُ، فلَوْ وَطِئَ ¬
أُمَّ زَوْجتِه بِشُبْهةٍ انقَطعَ نِكاحُ زَوْجتِه، وحَرُمتْ عليه أبدًا، وهكذا لَو وَطِئَ زَوجةَ أَبِيه أوْ زَوجةَ ابنِهِ بِشُبْهَةٍ. ويَحْرُمُ الجَمْعُ فِي التزويجِ بَيْنَ كُلِّ امْرأتَينِ لَو فُرِضَتْ إحداهُما ذَكرًا حَرُمتْ علَيها (¬1) الأُخْرى بِقَرابةٍ أو رَضاعٍ، حتى تَموتَ السابقةُ أو تَبِينَ ولَو بِقَوْلِهِ (¬2). وكذلك يَحرُمُ الجَمعُ بينهُما فِي الوَطْءِ بمِلْكِ اليَمينِ، فإنْ أزالَ مِلْكَه عنِ التِي وَطِئَها أوَّلًا أوْ كاتَبَها أوْ زوَّجَها حَلَّتِ الأُخْرَى، ولا يُكْتفَى بِغَيْرِ ذلك. وتَحْرُمُ المَوْطُوءةُ بِنِكاحِ مَنْ (¬3) تُجْمَع معها. وإذا عَقَدَ دَفْعَةً واحِدَةً على امرَأتَينِ يَحْرُمُ الجَمْعُ بَينَهما فالعَقْدُ باطلٌ فِيهما. وكذا إذا عَقَدَ دَفْعَةً على عَددٍ ليس له يَبطُلُ فِي الكُلِّ، فإنْ تَرتَّبَ اختصَّ البُطلانُ بالعَقْدِ الأَخيرِ الذي فيه الزَّائدُ. ولَو عَقدَ على خَمسٍ فيه أُختانِ بطَلَ فِيهما فَقطْ، أوْ حُرَّةٌ وأمَةُ مَن لا يَجْمعُ بَيْنَهما صَحَّ فِي الحُرَّةِ. وَمَنْ بعضُه رَقيقٌ كالرَّقيقِ يَجمَعُ الحُرةَ والأمةَ وإذا تَزوجَ الحُرُّ الأمَةَ (¬4) ¬
بالشروطِ ثُم نَكَحَ حُرَّةً أوْ أيْسَرَ لَمْ يَنفسِخْ نِكاحُه خِلافًا لِلْمُزَنِي، ولَو مَلَكَها أوْ بعْضَها انفسَخَ نِكاحُه، وكذا لَوْ مَلَكَ ذلكَ (¬1) مكاتَبةً لَا إنْ مَلَكَ ذلك ولدُهُ على الأصحِّ فِيهما. * * * ¬
(3) فصل في الولي
(3) فصل فِي الولي (¬1) ونعْني به مَن يَلِي عقْدَ النِّكاحِ ولو بالمِلْكِ (¬2) (¬3). وأصْلُ الشافعيِّ رضي اللَّه عنه أنه لا بد مِنْ ذكورةِ مَنْ يلي عَقْدَ النِّكاحِ ولا مَدْخلَ للخُنْثى ولا لِلْأُنْثى فِي مُباشَرةِ هذا العَقْدِ، ولا بِطَريقِ النيابةِ مِن الوليِّ ولا مِن الزَّوجِ فِي القَبولِ، فإنْ زَوَّجَ الخُنْثى أُختَه مثلًا ثُم بَانَ ذَكرًا فالأقْيسُ ¬
على صُورةِ الشاهِدِ صحتُهُ. ولا تُزَوِّجُ المرأةُ نفسَهَا بلا وليٍّ (¬1) عندنا، إلَّا فِي موضِعٍ ليس فيه وليٌّ ولا حاكمٌ على نصٍّ غريبٍ قِيل (¬2) به (¬3)، والتحكيمُ (¬4) سَيأتي فِي مَوْضِعِهِ. ولا يُعتبَرُ إذنُها فِي نِكاحِ غَيرِها إلا فِي مِلْكِها، أو فِي سَفيهٍ، أو مَجنونٍ (¬5) هي وصيَّةٌ عليه. ولو قال لها الوليُّ "وكِّلي عنِّي مَن يزوِّجُكِ" أو "يزوِّجُ فُلانةً"، ولَمْ يَقُلْ: "عَنِّي" ولا "عَنْكِ" (¬6) فوكَّلَتْ رَجُلًا أهْلًا لِلْمُباشَرَةِ صَحَّ على النَّصِّ. والخُنْثَى يُعتبَرُ إذنُهُ فِي تَزْويجِ مَا يَملِكُه، وفِي مَن هُو وصيٌّ علَيه مِن سَفيهٍ ومَجنونٍ، وفِي تَزويجِ عَتيقَتِهِ، ثُم الزوجةُ إنْ كانَتْ حُرَّةً ولَو بِعِتقٍ فِي مَرضِ ¬
مَوْتِ (¬1) مُعتِمِها فوليُّها الأبُ ثُم أبُوه، وهما مُختصَّانِ بوِلايةِ الإجبارِ، وهو التَّزويجُ بغَيرِ إذْنِ الزوجةِ، وذلك (¬2) فِي البِكْرِ وإنْ بَلَغتْ. وكذا لو خُلِقتْ بلا عُذْرة أو (¬3) زَالتْ عُذْرتُها بِغَيرِ وَطءٍ، أو وُطِئتْ فِي دُبُرِها. وفِي المَجنونةِ وإنْ كانتْ ثَيِّبًا صَغيرةً أو كبيرةً. وأمَّا الثَّيِّبُ ولَو مِنَ الزِّنا إذا كانتْ (¬4) عاقلِةً فلا يَجْبُرانِها، ولا بد مِن إذْنِها فِي حالةِ بُلوغِها. وأسقطَ بعضهم الإجْبارَ فِي البِكْرِ مع ظُهورِ عَداوةِ الأَبِ لها، ثُم عِنْدَ عَدَمِ الأَبِ والجَدِّ إنْ كانتِ الزوجةُ مَجْنونةً بالغة زوَّجَها السُّلطانُ بالحاجَةِ. ولا تَحتاجُ إلى إِذنِ أَحدٍ ولا مُشاورةِ (¬5) الأقارِبِ على المُعْتَمدِ. وليس لنا مَوضعٌ يزوَّجُ فيه (¬6) بالحُكمِ (¬7) بغَيرِ إذنٍ خَاصٍّ إلا هُنا. وإنْ كانَتْ الزوجةُ عاقِلةً بالغةً بِكْرًا كانَتْ أوْ ثيِّبًا، فولايةُ تَزويجِها لِبقيةِ الأوْلياءِ على التَّرتيبِ، ولا بد مِن إذْنِها، ويُكتفَى فِي البِكْرِ بالسُّكوتِ على ¬
الأصحِّ (¬1). ويقدَّمُ حِينئذٍ الأخُ الشَقيقُ ثُمَّ الأخُ لِلْأَبِ على مَنْ هُو أسفَلُ مِنهُ مِن (¬2) جِهَةِ الشَّقيقِ، وكذا فِي بَنِي العَمِّ. ويقدَّمُ ابنُ عمٍّ أخٌ لأُمٍّ أوِ ابنُها أوْ لَهُ ولاءٌ عليها على ابنِ عَمٍّ آخَرَ ليس كذلك ولَو مِن جِهَةِ الشَّقيقِ. وكذا فِي بَنِي العَمِّ (¬3) إلا فِي صُورةِ الوَلاءِ فيَستوِيانِ؛ قلتُه تَخْريجًا. ويقدَّمُ ابنُها على أخِيها مِنَ الأُمِّ إذا كانَا ابنَي ابنِ عَمٍّ (¬4). ولا يزوِّجُ الابنُ أمَّهُ بِمُجرَّدِ البُنُوَّةِ (¬5)، فإنْ كان هناك جِهَةٌ أُخْرى زوَّجَ؛ كما ¬
إذا كان أَخاهَا، أوِ ابنَ أخِيها، أوْ عَمَّها، أوِ ابنَ عَمِّها: مِنْ وطْءِ شُبهةٍ (¬1)، أوْ مَجوس (¬2)، أو ابنَ ابنِ عمِّها (¬3) كما سَبَقَ، أوْ كانَ له ولاءٌ عليها، أوْ مأذونًا له مِن جِهَةِ الحُكمِ، أو كان وَكيلًا عنِ الوَلِيِّ (¬4). وإذا لَمْ يَكنْ لَها وَليٌّ بالنَّسبِ فوليُّها مَن له الولاءُ بتَرتِيبِهم كما سَبقَ فِي الفَرائضِ (¬5) (¬6). والمُعتِقونَ كشَخصٍ (¬7)، وكلُّ واحدٍ مِن عَصَبةِ كُلِّ وَاحدٍ مُنَزَّلٌ مَنْزِلَتَهُ، وإنْ كانَ الولاءُ لِامرأةٍ فالتزويجُ لِمَنْ يُزوِّجُ صَاحبَةَ الوَلاءِ، ولَا حَاجةَ إلى إِذنِ صَاحبةِ الوَلاءِ فإذَا مَاتتْ صاحبةُ الوَلاءِ، فالتزويجُ لِمنْ له الوَلاءِ. والقِياسُ إثْباتُ التَّزويجِ لِمَنْ لَه الوَلاءُ -وإنْ كانتْ حَيَّةً. ¬
ضابط
وإنْ كان الولاءُ لِمُشْكِلٍ زوَّجَ المرأةَ وليُّهُ بِتقديرِ أُنوثَتِه بِإِذْنِه وإذْنِها (¬1). وعِنْدَ عَدمِ مَنْ يزوِّجُ بِالولاءِ التزويجُ لِلسُّلْطانِ، ولِمَنْ يَنوبُ عَنه مِن الحكَّامِ ونُوَّابِهم فِي ذلك، ثُم الحاكِمُ إنَّما يزوِّجُ مَن فِي مَحِلِّ حُكمِهِ. ولَا مَدْخلَ للوَصيِّ عندَ الشافعيِّ فِي تَزويجِ الإناثِ. وإنْ كانَتْ مُبَعَّضَةً: فالوِلايةُ فِي بَعضِها الحُرِّ على تَرْتيبِ ما سَبقَ فِي النَّسبِ والوَلاءِ والحُكْمِ (¬2)، وفِي كُلِّ مرتبةٍ (¬3) لا بد مِن المالِكِ مَع الولِيِّ فِي تلك الحَالةِ (¬4). * ضابطٌ: ليس لنا (¬5) امرأةٌ غَير الأَمَةِ المشتَرَكةِ يُزوِّجُها اثنانِ معًا بِغَيرِ إذْنِها إلا البِكْرُ المبعَّضةُ غَيرُ المُكاتَبةِ، فإنَّه يُزوِّجُها أبُوها مَع المَالكِ أوْ جَدُّهَا معَ المَالكِ. فإنْ كانَتْ مُكاتَبَةً اعتُبِرَ إذنُها للسيِّدِ دُونَ الأبِ، وإنْ كانَتْ ثَيبًا ولا كِتابةَ اعتُبِرَ إذْنُها لِلأَبِ دُونَ المالِكِ، ولا نظيرَ لها فِي ذلك. ¬
ويُمتحَنُ فيها، فيقال: "امْرأةٌ لا يَصِحُّ تَزويجُها إلا بإذْنِ أَبِيها وأَخِيها، ولا يُعتبَرُ إذْنُها" وذلك (¬1) فِي البِكْرِ المبعَّضَةِ إذا كان أَخُوها مالكَ بعضِها، وكذلك يقالُ: "امرأةٌ يُعتبَرُ فِي إيجابِ (¬2) تَزويجِها: عَدْلٌ وفَاسِقٌ" أوْ: "حُرٌّ وعَبْدٌ"، ونحو ذلك. * * * والمشتَرَكةُ قد تُجبَرُ مِنَ الطرَفَينِ، وقدْ لا تُجبَرُ مِن واحدٍ مَنهُما كالمُكاتَبةِ، وقدْ تُجبَرُ مِن طَرَفٍ دُونَ طَرَفٍ بِأنْ يكونَ بَعضُها مُكاتَبًا فِي صُورةِ الوصيةِ أو على القَوْلِ المَرْجوحِ، وإنْ كانَتِ الزَّوْجةُ أمَةً فتزْويجُها لِمالِكِها الذَّكَرِ المُتصرِّفِ وهو بالمِلكِ على الأصحِّ فيُزوِّجُها وإنْ كان فاسِقًا أو مُكاتَبًا أوْ مُسْلمًا وهي كافِرةٌ لا عكسُه، وفِي مُستولَدةِ الكافِر (¬3) يُزوِّجُها الحاكِمُ بإِذْنِه ولِلْمالِكِ إِجبارُ أَمَتِه على النِّكاحِ ولَو بِغيرِ كَفُؤٍ كدَناءةِ النَّسبِ (¬4) لا بِمعيبٍ، وقدْ يحتاجُ إلى إذْنِ غيرِه كما فِي المَرْهونةِ وأمَةِ المكاتَبِ وغيرِهما مما (¬5) سَبقَ. ولا فرْقَ فِي إِجبارِها بَيْنَ أَنْ تكونَ صَغيرةً أوْ كَبيرةً بِكْرًا أو ثيِّبًا أو مُدَبَّرةً أو مُستولَدةً، ولا تُجبَرُ المكاتبَةُ. ¬
وليس للأَمَةِ -ولوْ مَحْرَمًا أو مُكاتبةً- إجبارُ المَالكِ على إِنكاحِها. وإنْ كانَتْ الأمَةُ لامرأةٍ رَشيدةٍ زوَّجَها مَن يُزوِّجُ (¬1) مَالكَتَها، ولا بدَّ مِن إِذْنِ مَالكتِها نُطْقًا (¬2)، وإنْ كانَتْ بِكرًا إذْ لا تَستحيي فِي أمرِ غيرِها. وإنْ كانَتْ لمُشْكِلٍ رَشيدٍ زوَّجَها مَنْ يزوِّجُه (¬3) بتقديرِ أُنوثتِهِ ولا بدَّ مِنْ إِذْنِ المُشكِلِ. وإنْ كانَتْ لِمَحجورٍ عليه بِصِغَرٍ أو سَفهٍ أو جُنونٍ ذَكرٍ أو أُنثى زوَّجَها وليُّهُ بالمصلَحةِ، ولا يُحتاجُ إلى إذْنِه (¬4)، وهو الذي يَلِي مالَه ونِكاحَه. [وإنْ كانَتْ لِصغيرةٍ أوْ صَغيرةٍ لَمْ يَدخُلْ غَيْرُ الأبِ والجَدِّ] (¬5). وإنْ كانَتْ لِصَغيرةٍ ثَيِّبٍ عاقلةٍ زوَّجَها الأبُ والجَدُّ عِندَ الإمامِ، وهو الأرْجَحُ، كما يزوِّجُ الوليُّ أمَةَ السَّفيهِ والمَجنونِ غَيرِ المحتاجَيْنِ، خِلافًا لِمَا رَجَّحُوه مِنَ المَنْعِ، وعليه يُضافُ إلى المَوانعِ السابقةِ: وإنْ كانَتْ لِسفيهٍ فلا بُدَّ مِنْ إذنِه، على طَريقةِ المَراوِزةِ، وحينئذٍ يُزوِّجُها وليُّه ولَو وصيًّا. * * * ¬
ضابط
* ضابطٌ: لا مَدخلَ لِلْوَصيِّ فِي تَزويجِ الأُنثَى إلا فِي هذا المَوضعِ، فإنْ كانَتْ وَصِيَّتُهُ امرأةً أذِنَا لِلْحاكِم فِي التَّزويجِ، أو (¬1) أَذِنَتْ هِي أوِ الوَصِي للسَّفيهِ (¬2)؛ قلتُ ذلك (¬3) كلَّهُ تَخْريجًا. * * * وإنْ كانَتْ لِمَجنونٍ زوَّجَها وليُّ المجنونِ فِي النِّكاحِ والمالِ، [ولو وصيًّا كما سبق] (¬4). ولَيْسَ لِلْوليِّ تزويجُ عبدِ مَحجُورَةٍ على الأصحِّ. * * * ولَا ولايةَ فِي نِكاحِ الحُرةِ ولَو بَعْضًا بالنِّسبةِ إلى الحُرِّيةِ لِرَقيقٍ ولا فاسقٍ على المَذْهَبِ إلا عِنْدَ عُمومِ البَلْوى، ورجَّح بعضُهُم استثناءَ الإمامِ فِي بَناتِه وغيرِهِنَّ (¬5) -ولا صغيرٍ، ولا مَجنونٍ وإنْ تَقَطَّعَ (¬6) جُنونُهُ، ولا مَحجورٍ عليه بِسَفهٍ، ولا مخلِّ النظرِ بِهرَمٍ أو غَيرِهِ، ولا مخالفٍ للزوجةِ فِي الدِّين إلا الحاكِمَ ¬
ضابط
فِي نساءِ أهْلِ الذِّمة (¬1). * ضابطٌ: لا يباشِرُ (¬2) مُسلِمٌ عقدَ كافرةٍ (¬3) بغَيرِ وَكالةٍ إلا الحاكِمَ والمالِكَ المسلِمَ وولِيَّ المالكِةِ المسْلِمةِ أو الخُنثى، ووليَّ المَحْجُورِ عليه المسلِمِ. * * * ومتى كان الأقربُ فيه خَلَلٌ مما سَبقَ مِن رِقٍّ أو غيرِهِ، فوِلايةُ التزويجِ لِلأبعدِ ولَو فِي الوَلاءِ مع حياةِ الأقْربِ، خِلافًا لِما نَقَلَ القَاضي الحُسَينُ فِي الولاءِ، فالمَنصوصُ فِي المِيراثِ به شاهِدٌ (¬4) لِهذَا، وقدْ سَبقَ فِي الفَرائِضِ. ¬
والحاكم يزوج مع وجود الولي في ست صور
ولا يُتصَوَّرُ أَنْ يزوِّجَ الجَدُّ لِصِغَرِ الأبِ إلا فيما سَبق فِي الحَجْرِ (¬1) فِي صُورَةِ لُحوقِ النَّسَبِ مع الإمكانِ على ما قالُوه (¬2). ولَا يَقْدَحُ العَمَى، فإنْ باشَرَ العَقْدَ والصَّدَاقَ عَينٌ لَمْ يَرَها الرُّؤيةَ المعتبَرةَ لَمْ يَصِحَّ الصَّدَاقُ، ويَجِبُ مَهْرُ المِثْلِ، ولا الإغماءُ (¬3)، ولكنْ إذا كانتْ مُدَّةُ الإغماءِ (¬4) مَسافةَ القَصْرِ، فالتحقيقُ أنه (¬5) يُزوِّجُ الحاكِمُ (¬6). * * * والحاكمُ يزوِّجُ مَع وُجودِ الوَلِيِّ فِي سِتِّ صُوَرٍ: 1 - هذِه. 2 - وإحرامُ الولِيِّ. 3 - وغَيبتُه إلى مسافةِ القَصْرِ لا إلى ما دُونَها. 4 - وفَقْدُه بِحَيثُ لا يُعرَفُ حالُه؛ كذا قالُوهُ، والاحْتِياطُ أَنْ يُزوِّجَ الحاكمُ مَع الأبْعدِ، وهذا قَبْلَ الحُكمِ بِمَوْتِه، وأمَّا بَعْدَهُ فيزوِّجُ الأبْعَدُ قَطْعًا. 5 - وعضْلُ الأقْربِ ولَو بالثُّبوتِ عليه مَع عَدَمِ حُضُورِهِ يُزوِّجُ بِسَبَبِهِ ¬
الحاكِمُ [عِنْدَ طَلَبِها كُفؤًا، ولَو عيَّنتْ كُفؤًا وبَادرَ المُجْبِرُ إلى غَيرِه صَحَّ، وإنْ عين غيَّره ومنع منه، فالمُعتبَرُ مَن عيَّنَه المُجْبِرُ علَى الأصحِّ. 6 - ويُزوِّجُ الحَاكِمُ] (¬1) إذا أرادَ الوَليُّ أَنْ يتزوَّجَ وليتَه إنْ لَمْ يَكنْ فِي دَرَجتِهِ غيرُه، وكذا فيما سَبق. ولَوْ أرادَ العَمُّ أَنْ يزَوِّجَ بِنتَ أَخيه لابْنِه الصغيرِ فقبِلَ النكاحَ له زَوَّجَها الحاكمُ؛ قلْتُه تَخْريجًا، بِخِلافِ تَوَكُّلِ الوَليِّ لِلزَّوجِ فِي القَبولِ؛ ولَمْ يَذْكُروه. وإذا طَلبتِ الحُرَّةُ البالغةُ العاقِلةُ التَّزويجَ مِنَ الكُفؤِ وَجبَ علَى الوَليِّ أن يُجيبَها. ولَو كان لَها أوْلياءُ فِي دَرجةٍ فالتمَسَتْ ذلك مِن مُعيَّنٍ مِنهُم لَزِمتْه الإجابةُ. وإذا زوَّجَها المُجْبِرُ بغَيرِ كفْؤٍ، وهي صَغيرةٌ أو مَجنونةٌ فالنِّكاحُ باطلٌ على الأظْهرِ. وكذا لَوْ زَوَّجَ البِكْرَ البالغةَ بِغَيرِ إذْنِهَا وإنْ رَضِيَتْ مَع الوَليِّ الخَاصِّ بِغَيرِ الكفْؤِ صَحَّ النكاحُ. وكذا لو زوَّجَها الحاكِمُ إذا لَمْ يَكنْ لها وليٌّ غيرُه على الأرجَحِ عندَ جَماعةٍ، خِلافًا لِما رجَّحَه المتأخِّرونَ. وإنْ رضِيَتْ مع بعضِ المستويِينَ فِي الدَّرجَةِ بِغيرِ الكُفؤِ لَمْ يَصِحَّ النكاحُ. ¬
والكَفاءةُ تُعتبَرُ فِي أمورٍ جَمعَها الناظمُ فِي قولِه: وشَرْطُ الكفاءةِ حُرِّرَتْ فِي سِتةٍ ... يُنْبِيك عنها بيتُ شِعْرٍ مُفْرَدُ نَسَبٌ ودِينٌ صنعَةٌ حُرِّيَّةٌ ... فقْدُ العُيوبِ وفِي اليَسَارِ تَرَدُّدُ * * * والأصحُّ أنه لا يُعتبَرُ اليسارُ فِي ذلك؛ خِلافًا لِمَا أفتى به القاضي الحُسَينُ ناقلًا له عنِ المَذهبِ فِي إبطالِ نِكاحِ بِنْتِهِ مِنْ مُعسِرٍ لا يَمْلِكُ حَبَّةً (¬1). والمؤَثِّرُ (¬2) مِن العُيوبِ فِي ذلك -غُيْرُ العُنَّة (¬3) على المُخْتارِ، ويَلْحَقُ بِه الجَبُّ (¬4). * * * والمُطَّلِبِيُّ كُفْءٌ للهاشِمِيَّةِ (¬5)، وغيرُهما ليس كُفؤًا لَهُما، ولا غَيْرُ القُرَشيِّ لِلْقُرشيةِ (¬6)، ويُعتبَرُ النَّسبُ فِي العَجَمِ أيضًا، والفاسقُ ليس كُفؤًا للعَفيفةِ، ولا ¬
مَنْ أَسلَمَ بِنفسِه كُفؤًا لِمَنْ أَسْلمَ أَبُوها، وأصحابُ الحِرَفِ الدَّنيَّةِ ليسُوا بأكفاءَ لِمَنْ حِرْفتُهُ غيرُ دَنِيَّةٍ (¬1)، والرَّقيقُ لَيسَ كُفؤًا للحُرةِ، ولَو عَتيقةً، ولا العَتيقُ كُفؤًا للحُرةِ الأصليةِ، ويُعتبَرُ فيه المَراتِبُ كما فِي الإسْلامِ (¬2). ولا بد مِن تقدُّمِ إذْنِها لِغَيرِ المُجْبِرِ، وإنْ نَهَتْ غيرَ المُجبِرِ عنِ التوكيلِ لَمْ يُوَكِّلْ، وإنْ أذِنتْ له فِي التزويجِ وكَّلَ. وإنِ اجتمعَ أوْلياءُ فِي دَرجةٍ زوَّجَها أفضلُهم (¬3)، ويُقَدَّمُ الأفقَهُ ثُم الأوْرَعُ ثُم الأسَنُّ. ولو زوَّجَ غيرُه بإِذْنِها صحَّ. [وعنْدَ النِّزاعِ يُقْرَعُ (¬4). ¬
ولَو زوَّجَ غيرُ مَن خَرجَتْ قرعتُه صحَّ] (¬1). ولوْ زوَّجاها مِنْ رَجُلينِ معًا بَطَلَ (¬2) النِّكاحانِ، وكذا لو شكَّ فِي المتقدِّمِ، أوْ عُلِمَ تقدُّمُ أحدِهما، ولَمْ يتعيَّنْ على ما رجَّحوه، وإنشاءُ الفَسخِ أحْوَطُ، وذلك كلُّه فيما إذا كان لَو انْفرَدَ واحِدٌ لَصَحَّ (¬3). وإنْ عُلِمَ المتقدِّمُ (¬4) ولَمْ يُنْسَ (¬5) فهو الصحيحُ، ولَوْ دخَلَ بِها الثاني (¬6) فهِيَ لِلْأولِ (¬7). وإنْ عُلِمَ ثُم نُسِيَ (¬8) وقَفَ الحالُ، والتحقيقُ أنه يَدخُلُ الفَسْخُ بالضَّررِ (¬9)، والتَّداعي يأتي فِي بَابِه. * * * ¬
(4) فصل في الصيغة
(4) فصل فِي الصيغة (¬1) لا يَنعقِدُ النكاحُ عندَ الشافعيِّ -رضي اللَّه عنه-: بِغَيْرِ لَفْظِ التَّزويجِ أو الإنكاحِ (¬2). ولا يَنعقِدُ بِهذَينِ (¬3) اللَّفظينِ لِمَن ابتدأَ مِن الوَليِّ أو الزَّوجِ إلا بِصيغَةِ المَاضي قَطْعًا، أو (¬4) الأمرِ على الأصحِّ، دُونَ المُضارعِ على ما ذَكَرُوهُ، والقياسُ فيه الصِّحةُ؛ إذا انسَلخَ عنْ معنَى (¬5) الوَعدِ. ولَم يَتعرضُوا لاسْمِ الفاعلِ واسْمِ المفْعُولِ، والأقربُ فيهما الصِّحةُ عِنْدَ الانسلاخِ المَذكورِ. فإنِ ابتدأ الوليُّ أو نائبُه قال: "زوجتُكَ" أو "أنكحتُكَ فُلانةً" أو "تزوَّجْ" أو ¬
"أَنْكِحْ فُلانةً" خِلافًا لِمَا جَزمَ بِه الماوَرْديُّ. وفِي المُضارعِ على القِياسِ: "أزوِّجُكَ (¬1) الآنَ فُلانةً". وفِي اسْمِ الفَاعلِ: "أنَا مزوِّجُكَ فُلانةً الآنَ". وفِي اسْم المَفْعُولِ: "أنْتَ (¬2) مُزوَّج فُلانةً الآنَ". ويقولُ الزَّوجُ: "تَزوجتُها" أوْ "نكحتُها" أوْ "قَبِلتُ نِكاحَها" أو "تَزويجَها" أو "قَبِلتُ هذا النكاحَ" أو "التزويجَ" (¬3). ولا تَتعيَّنُ (¬4) لَفظةُ "قَبِلتُ" فلَو قال: "رَضيتُ نِكاحَها" صَحَّ. وإنْ قالَ: "قَبِلتُ النِّكاحَ" فالأرْجَحُ الصِّحةُ دُونَ "قَبِلْتُها". وأما "قَبِلتُ" وحدَه فلا يَنعقدُ على الأظْهَرِ. وإنِ ابتدَأَ الزَّوجُ قال: "تَزوَّجتُ فُلانةً" أو "نَكحْتُها" أوْ "زوِّجْنِي" أو "أنْكِحْنِي فُلانةً" وفِي المُضارعِ واسمِ الفاعلِ: "أتزوَّجُ فُلانةً الآنَ" [أو "أنَا نَاكحُها الآنَ"] (¬5)، ويقولُ له الوَليُّ: "أنكحْتُكها" أوْ "زوجتكها". ويُقاسُ البَواقِي (¬6) على ما سبقَ. ¬
ولو قال الخاطِبُ: "زوَّجْتُ نفسِي بِنْتَكَ" انعقَدَ على الأرْجحِ، ويقولُ القَائِمُ عن (¬1) الزَّوجِ: "قَبِلتُ تَزْويجَها لِفُلانٍ" ويُقاسُ الباقِي على ما سَبقَ (¬2). ويَنعقِدُ النِّكاحُ بترجمتهِ (¬3) بِسَائِرِ اللُّغاتِ، وإنْ أَحسنَ (¬4) العَربيَّةَ علَى الأصَحِّ، بِشرْطِ أن يَعرِفَ العَاقِدانِ والشاهِدانِ تِلْكَ التَّرْجمةَ (¬5). ولا يَنعقِدُ بالكِتابَةِ معَ النِّيةِ قَطْعًا، ولا بالخَطِّ على الأصَحِّ (¬6). * * * * ولا يَصِحُّ مُؤقتًا، وهو نكاحُ المُتْعةِ، وهو مَنهِيٌّ عنه، وسواءُ عُلمَتِ المُدةُ أو جُهِلَتْ (¬7). * ولا (¬8) مُعَلَّقًا (¬9)، ولَو بُشِّرَ بِأُنْثَى فقال: "إنْ صَدقَ المُخْبِرُ فَقدْ زَوَّجْتكها" ¬
صَحَّ، ولَيْسَ بِتَعليقٍ بَلْ هُو تَحقِيقٌ (¬1). * ولا يَصِحُّ نِكاحُ الشِّغارِ (¬2)، وهُو منهيٌّ عنه. وسَبَبُ البُطْلانِ فيه إِصْداقُ (¬3) البُضْعِ على الأصحِّ (¬4). فلو قال: "زوَّجتُكَ بِنْتِي على أن تُزوِّجَنَي ابنتَك (¬5)، ويكون بُضْعُ كلِّ واحدةٍ مِنهما صَداقًا لِلأُخْرى" بَطَلَ ولو سمَّيا معه مَالًا. وإنْ لَمْ يَجْعَلَا (¬6) البُضْعَ صَدَاقًا صَحَّ، وإنْ لَمْ يُسمِّيَا (¬7) مالًا (¬8). ¬
* وشَرْطُ الخِيارِ فِي النِّكاحِ يَبْطُلُ بِه النِّكاحُ، وكذا كُلُّ شَرْطٍ يُخِلُّ بِمَقصودِ (¬1) النِّكاحِ، كشَرْطِ أن يُطلِّقَها، أوْ شَرَطَ عليه أن لا يَطَأَها. * ولا بُدَّ فِي جَانِبَي الإيجابِ والقَبولِ فِي حقِّ الأمَةِ مِن شَخصَينِ: مُوجِبٌ وقابِلٌ، إلا فِي صورةٍ واحدةٍ على الأصَحِّ (¬2)، وهو (¬3) الجَدُّ فِي تَزويجِ بِنْتِ ابْنِه مِن ابْنِ ابْنِه، فَإنَّه يَتولَّى الطَّرَفَيْنِ. ومَن منعناهُ تولِّي (¬4) الطَّرَفَيْنِ لا (¬5) يُوكِّلُ بِأَحدِهِما ويَتولَّى الآخَرَ (¬6). ولا يُوكِّلُ بِهما وكِيلَيْنِ إلا الحاكمُ يزوِّجُ المَجْنونَ المُحتاجَ مِمَّنْ (¬7) لا ولِيَّ لَها إلا الحاكمُ، فإنه ينصِبُ مَن يقبَلُ عنه، ويزوِّجُها مِنه، أو بالعكسِ. ¬
* ويُستحبُّ قَبْلَ الصِّيغةِ الخُطبةُ (¬1) مِن جِهَةِ المُبتدِئ، وفيها أخْبَارٌ وآثارٌ وهي: إنَّ الحَمْدَ للَّهِ، نَحْمَدُه، ونَستعينُه، ونَستغفرُه، ونَعوذُ باللَّهِ مِنْ شُرورِ أنفُسِنا، ومِن سَيِّئاتِ أعْمالِنا، مَنْ يَهْدِي (¬2) اللَّهُ فلَا مُضِلَّ له، ومَنْ يُضْلِلْ فلَا هَادِيَ لَى، وأَشْهد أَنْ لا إلَهَ إلَّا اللَّهُ، وحدَه لَا شَريكَ لَه، وأَشْهدُ أنَّ مُحمدًا عبدُه ورسولُه، أرسَلَهُ بالحقِّ بَشيرًا ونَذيرًا بَيْنَ يَدَيِ الساعةِ، صلَّى اللَّهُ علَيه وعلَى آلِه وصَحْبِه (¬3) وسلَّم تَسْليمًا كَثيرًا، مَنْ يُطِعِ اللَّهَ ورسولَه فقدْ رَشَدَ، ومَن يَعصِ اللَّهَ ورسولَه فإنَّه لا يَضرُّ إلا نفسَهُ ولَا يَضُرُّ اللَّهَ شَيئًا. ويَتْلو آياتِ اللَّهِ (¬4) أولَ (¬5) سورةِ النِّساءِ، و {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ} و {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (70)}، وإنْ تَلَا إلى آخِرِ السورةِ كانَ حَسَنًا، وَوَقَعَ فِي رِوايةِ أبي دَاوُدَ {يأيها الذين آمنوا اتقوا اللَّه الذي تساءلون به} (¬6). ويقولُ الوليُّ على سَبيلِ الوَعْظِ كما قال ابنُ عُمَرَ -رضي اللَّه عنهما-: أزوِّجُكَ على ما ¬
أمَرَ اللَّهُ بِه مِنْ إمْسَاكٍ بمَعْرُوفٍ أوْ تَسريحٍ بإِحْسانٍ، ثُم (¬1) يَذْكُرُ (¬2) الصِّيغةَ السابقةَ (¬3). ولَوِ ابْتَدأَ الوَليُّ والزَّوجُ بالخُطْبةِ قَبْلَ العَقْدِ كانَ حَسَنًا، ومُختصَرُ الخُطبةِ: الحمدُ للَّهِ والصلاةُ على رسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-. * ولَا يُستحَبُّ التَّخَلُّلُ (¬4)، وإنْ طَالَ الفَصْلُ بَطَلَ العَقْدُ، لِأنَّ الفَوْرَ فيه مُشترَطٌ، واليَسيرُ لا يُبطِلُهُ إلا ما أشْعرَ بالإعراضِ مِن كَلامٍ أجْنَبيٍّ (¬5). * * * ¬
(5) فصل في الشهود
(5) فصل فِي الشهود لا ينعقِدُ النِّكاحُ إلا بحضورِ شاهِدَينِ (¬1). * ضابطٌ: ليس لَنا عَقْدٌ تُعتبَرُ فيه الشهادةُ مِنْ غَيرِ تَقييدِ المُوَكِّلِ إلا (¬2) النكاحَ قَطْعًا، وعَقْدَ (¬3) الخِلافةِ على وجهٍ، والرجعةَ على قولٍ. ويُشتَرَطُ (¬4) فِي الشاهِدَينِ أَنْ يَكُونَا ذَكَرَينِ، فلَوْ عُقِدَ بخُنْثَيَيْنِ (¬5) ثُم بانَا ذَكرَيْنِ، فَهُو صَحيحٌ على الأصحِّ. وأنْ يَكونَا حُرَّينِ، مُسلِمَينِ، سَميعَينِ، بَصيرَيْنِ (¬6)، مقبولَيْ شَهادةِ النِّكاحِ ¬
فِي الجُملةِ (¬1). ويَنعقِدُ بِحُضورِ مَسْتُورَي العَدَالةِ دُونَ الإسْلامِ والحُرِّيةِ (¬2)، وبابنَيْ الزَّوجَينِ، وعَدُوَّيْهِمَا (¬3)، وأخويْهِما بِوِلايةِ أبِيها، أوْ أخٍ آخَرَ، ويُقاسُ علَيه الأعْمامُ وبنُوهُم. ولَوِ اعتَرَفَ (¬4) الزَّوْجانِ بأنَّ الشاهِدَينِ كانَا فاسِقَيْنِ حالَةَ العَقْدِ، أو أنَّ أحدَهما كانَ فاسِقًا حَالَةَ العَقْدِ، فُرِّقَ بَينَهُما، ولَها مَهْرُ المِثْلِ إنْ وطِئ (¬5). وإن اعتَرَفَ به الزَّوجُ دُونَها فُرِّقَ بَيْنَهُما، وهِيَ فُرقَةُ فَسخٍ على المَشْهورِ، وفِي نصٍّ قال به جَماعةٌ: طَلْقةٌ (¬6) بائِنةٌ (¬7). ¬
ولا يُقبَلُ قولُه عليها فِي المَهرِ، بلْ يَجِبُ نصْفُهُ، إنْ لَمْ يَدخُلْ بِها، وتَمامُه إنْ كانَ بَعْدَ الدُّخُولِ. وإنِ اعترَفَتْ به المَرأةُ دُونَه لَمْ يُقبَلْ قولُها، ولا قولُ الوَليِّ، ولا السَّيدِ فِي الأَمَةِ، ولا قولُ الشاهِدَينِ: "كنَّا فاسقَينِ عندَ (¬1) العَقْدِ" (¬2). فإنْ قامتْ بيِّنةٌ بذلك عُمِلَ بها. وأمَّا الإشْهادُ على رِضَا المَرْأةِ فهُو مُستحبٌّ (¬3) حيثُ (¬4) يُعتبَرُ رِضاهَا، فإنْ كانَ (¬5) المزوِّجُ (¬6) الحاكِمَ فلا بُدَّ أَنْ يَثْبُتَ ذلك عِندَه، أوْ بِعِلْمِه، فإنْ أقْدَمَ (¬7) على ذلك مِنْ غَيرِ (¬8) ثُبوتٍ ولا عِلْمٍ، فالقياسُ أنه لا يصحُّ، ولوْ قالَتْ: "كنتُ أَذِنْتُ لَه"؛ قلتُه تَخْريجًا. * * * ¬
(6) فصل في أنكحة الكفار
(6) فصل فِي أنكحة الكفار (¬1) وكلُّ نِكاحٍ صَدَرَ بَيْنَ كافِرَيْنِ أصْلِيَّيْنِ فهُوَ صَحِيحٌ، إنْ صَدَرَ على وَفْقِ الشَّرْعِ (¬2) ولَو اعتقَدُوه فاسِدًا، وكذا إن صَدَرَ على غَيْرِ وَفْقِ الشَّرْعِ على ما صحَّحُوه: كأنْ (¬3) كانَ بِغَيرِ وليٍّ، أو بِغَيْرِ شُهودٍ، أوْ بِغَيرِ الصِّيغةِ، أوْ بِغَيرِ ذلك مِنَ الشُّروطِ المُعْتبَرةِ فِي المُسلمَيْنِ، أو بِالغَصْبِ (¬4) إذا اعتقَدُوا ذلك نِكاحًا، أو نكَحَ كتابيٌّ مجوسيةً، ويُقَرُّون علَيه. والمُختارُ الوقْفُ فيما صَدَرَ على غَيرِ وَفْقِ الشَّرْعِ، ونُقِلَ فَسادُه عن القَديمِ، وهو فِي "الأمِّ" فِي نِكاحِ الحَرْبِ. * ويُستثنَى مِن أنْكِحَتِهِم خَمْسُ صُوَرٍ لا يُقَرُّونَ علَيها مُطْلقًا: 1 - إحْداها: نكاحُ المَحارِمِ، [أوْ مَن تحرُمُ عليه مؤبَّدًا كالمُلاعِنة أوْ لِعدَمِ ¬
المُحَلِّلِ (¬1) فِي المُطَلَّقةِ ثَلاثًا] (¬2)، ولكن لا يُتَعَرَّضُ على المَشهورِ لِمَجُوسِيٍّ (¬3) ونحوِهِ نكَحَ مَحْرَمًا ما لَمْ يترافعَا إلَيْنا، فإن ترافَعَا إلَيْنَا لِنَفَقَةٍ ونحوِها أبْطَلْناهُ. 2 - الثانيةُ: نكاحُ زَوجةِ (¬4) غيرِ الناكِح مع استِمْرارِ زوجيَّةِ الأوَّلِ. 3 - الثالثةُ: الغَصبُ فِي ذِمِّيَّيْنِ أو حَرْبيٍّ وذمِّيَّةٍ. 4 - الرابعةُ: النكاحُ المؤَقَّتُ إذا اعتقدُوه مؤَقَّتًا. 5 - الخامسةُ: إذا نَكحَها (¬5) بِشَرطِ الخِيارِ مُطْلَقًا لَهما أو لِأَحَدِهما، وحيثُ صَحَّحْنَا نِكاحَهُم ثَبَتَ بالعَقْدِ المُصاهرَةُ والمُسمى الصحيحُ والطلاقُ (¬6)، فلَوْ نَكحَ أُخْتَينِ أوْ حُرَّةً وأَمَةً وطَلَّقَهُما فِي الكُفْرِ ثَلاثًا ثَلَاثًا ثمَّ أسْلَموا لَمْ يَنكِحْ واحدةً مِنْهُما إلا بمُحَلِّلٍ. * ضابطٌ: لا يقعُ طَلاقٌ على أُختَينِ معًا إلا فِي هذِه الصُّورةِ، وصُورةِ المُعاشَرةِ فِي الرَّجعيةِ، حيثُ لا تُراجَعُ على طَريقَةِ القَفَّالِ (¬7)، [فيَتزوَّجُ ¬
أُخْتَها، فيَلْحَقُ المُعاشَرَةَ الطَّلاقُ، وكذلكَ الزَّوْجَةُ] (¬1)، قلتُه تخْريجًا. وإنْ أسْلَموا أوْ هُو أوْ هُمَا، ثُمَّ طَلَّقَهُما ثَلاثًا ثَلاثًا لَمْ يَنْكِحِ الحُرَّةَ، ومختارةَ (¬2) الأُختَينِ إلا بمُحَلِّلٍ، ويَنْكِحُ الأُخْرَى بِشَرْطِهِ بِلَا مُحَلِّلٍ. وكذَا الحُكْمُ فِي خَمْسٍ طَلَّقَهُنَّ ثَلاثًا ثَلاثًا، ويَجِيءُ فِيهنَّ الضَّابِطُ السابقُ. ولو نَكحَ أمًّا وبِنْتَها مَعًا أوْ مُرَتَّبًا، فكُلٌّ مِنهُما يَجْرِي على نِكاحِها فِي الكُفْرِ حُكمُ الصحيحِ، وهيَ قَضية فيها أمورٌ مُتَدافِعةٌ. فإنْ دخَلَ بِهما، ثُم أَسلمُوا حَرُمتَا أبَدًا، ولِكلِّ واحدةٍ مِنهُما المُسمَّى، إنْ جَرَتْ تَسميةٌ (¬3) صَحيحةٌ. وإنْ لَمْ يَدخُلْ بِواحدةٍ مِنهُما فالتَّخييرُ مُختارٌ، وتعيُّنُ (¬4) البنتِ هو (¬5) أَظْهَرُ القَوْلَينِ، ولِلأُمِّ على هذا نِصْفُ المَهْرِ عِند القَفَّالِ وغَيرِه، وهُو قِياسُ تَصحيحِ أَنْكِحَتِهِم. وعنْدَ ابْنِ الحَدَّادِ ومَنْ تَبِعَه: لَا شَيءَ لِلْأُمِّ. وإنْ دَخَلَ بِالبِنْتِ فَقَط تعيَّنَتْ وحَرُمَتِ الأمُّ أبَدًا، وفِي نِصفِ مَهْرِهَا ما سبَقَ. وإنْ دخَلَ بِالأُمِّ فَقط حَرُمَتَا أبَدًا، ولِلأُمِّ مَهْرُ المِثْلِ بالدُّخولِ؛ كذَا قالُوهُ، ¬
والقِياسُ: لَها المُسمَّى الصحيحُ، وفِي نِصْفِ المَهْرِ لِلْبِنتِ مَا سبَقَ. [وإذَا أَسْلمَ الزَّوْجانِ الكَافِرانِ معًا ولَمْ يَمنعْ مِن التَّقريرِ شَيْءٌ مِمَّا سَبقَ] (¬1) فِي الصُّورِ الخَمْسِ، فإنهما يُقرَّانِ علَى نِكاحِهِما، إلا أَنْ يَكونَ هُناكَ مُفسِدٌ كانَ مَوْجودًا عِندَ ابتداءِ النِّكاحِ، واستَمرَّ إلى أَنْ قَارنَ (¬2) إسْلامَهما، أو إسلامَ أحدِهما، فلَا تَقْريرَ حِينئذٍ، وذلكَ فِي ثَلاثِ (¬3) صُورٍ: * إِحداها: نَكَحَها فِي عِدَّةِ غيرِهِ، ثُم حَصَلَ الإسْلامُ والعِدَّةُ بَاقِيةٌ، واستثنى العبَّادِيُّ فِي الرقم عِدَّةَ الشُّبهةِ فلا تَمنعُ عِنده مِنَ التَّقرِيرِ، وهُو حَسَنٌ، وغيرُه أَطْلَقَ، وأمَّا العِدَّةُ الطارِئَةُ بعْدَ النِّكاحِ فلَا تَمنعُ التقرِيرَ. * الثانيةُ: يَنْكِحُها (¬4) بِشرْطِ الخِيارِ لَهُما، أو لِأحَدِهما مُدةً، ثُم حَصلَ الإسْلامُ والمُدَّةُ باقيةٌ. * الثالثةُ: نَكَحَ بِنْتًا صَغِيرةً عاقلةً ثُم حَصَلَ الإِسْلامُ وهِيَ صَغيرةٌ عاقلةٌ، فلا تَقريرَ، قلتُه تخْريجًا. ويُتصَوَّرُ إسلامُها فِي صِغَرِها بإسلامِ أَحَدِ أُصُولِها. وأمَّا اليسارُ أو أمْنُ (¬5) العَنَتِ فِي نِكاحِ الأَمَةِ، فالحُكمُ فِيها (¬6) مُخالِفٌ لِمَا ¬
تَقدَّمَ فِي مَوْضِعَينِ خَرجَا عَنِ القَاعِدةِ، فأَشْكَلَا. أحدُهما: عَقَدَ حُرٌّ كافِرٌ على أَمَةِ غَيرِهِ، وهو مُوسرٌ، أوْ أمِنَ من العنَت (¬1)، ثُمَّ حصَلَ الإسلامُ فلا يُمنعُ (¬2) التِّقريرُ إلا إذَا قارنَ اليَسارَ أوْ أمْنَ العنتَ (¬3) إسلامُ الزَّوْجَيْنِ. الثاني: أنَّ الطارِئَ مِنَ اليَسارِ أوْ أمْنِ العنَتِ (¬4) بعْدَ العَقْدِ على الأَمَةِ يَمنعُ التقْريرَ إذا قَارَنَ إسْلامَ الزَّوجَيْنِ، فلَو قَارنَ اليَسارُ أوْ أمْنُ العنَتِ عنْدَ (¬5) إسْلامِ أحدِهما (¬6) وكانَ زَائلًا عِنْدَ إسْلامِ الآخَرِ (¬7) لَمْ يَمنع (¬8) التقْريرَ ولَوِ انْعكسَ بأنْ كانَ مُعْسِرًا أوْ خَائفًا مِنَ العَنَتِ عنْدَ إسْلامِ أحَدِهِما، ثُمَّ كانَ مُوسِرًا (¬9) أوْ آمِنًا مِنَ العَنَتِ عِنْدَ إسْلامِ الآخَرِ فلَا تَقْريرَ. وأمَّا اجْتماعُ الحُرَّةِ والأَمَةِ [فِي نكاحِ الحُرِّ لِكافِرٍ مُرتَّبًا أوْ معًا، فإنَّه يَكفِي لِدَفْعِ نِكاحِ الأَمَةِ] (¬10) اجْتِماعُ إسْلامِ الزَّوجِ وإسْلامِ الحُرَّةِ التِي تَمنعُ نِكاحَ ¬
الأَمَةِ (¬1) أوْ كَونُ الحُرةِ كِتابيةً. ولَوْ مَاتَتِ الحُرَّةُ بَعْدَ ذلك أوِ (¬2) ارْتدَّتْ فلَا يَعودُ نِكاحُ الأَمَةِ. ومَتى حَصَلَ الإسْلامُ والمُفسِدُ زَائلٌ (¬3)، ومِنْه مَا إذَا عَقَدَ بِلَا وَلِيٍّ ولَا شُهودٍ ونَحوهِ، فإنَّهما يُقرَّانِ إلا إذَا اعتقَدَ إفْسادَه. وإذَا سَبقَ الزوجُ إلى الإسلامِ (¬4) والزَّوجةُ كِتابيةٌ يَحِلُّ لَهُ ابْتداءُ نِكاحِها (¬5) استمَرَّ النِّكاحُ على مَا سَبَقَ، وإنْ لَمْ يكنْ كذلك لِكَونِها مجُوسيةً، أو وَثَنيةً، أوْ أَحَدُ أَبَويْها مَجوسيٌّ، أو وَثنيٌّ، والآخرُ كتابيٌّ أو سَامريةً مُخالفةً لِلْيهودِ فِي أُصولِهِم، أوْ صَابئيةً مُخالفةً للنَّصارَى فِي أُصولِهم، أو مُنْتقِلةً مِنْ كُفْرٍ إلى كُفْرٍ: - فإنْ كانَ قَبْلَ الدُّخولِ تعجَّلَتِ الفُرْقَةُ أو بعْدَه تُوقَفُ. - فإنْ أسلَمتْ قَبْلَ انْقِضاءِ العِدَّةِ استَمَرَّ النِّكاحُ، وإلا تَبيَّنَ الفِراقُ مِنْ وقْتِ إسْلامِ الزَّوْجِ. ومَنْ أحَدُ أبَوَيْها وَثَنِيٌّ ومَنْ ذُكِرَ بَعْدَها لَا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ ابتداءُ نكاحِ واحدةٍ مِنْهُنَّ. ¬
وفِي المَوانِع مَا يَقْتضِي ذلك فإنْ فَضَلْتَ أضَفْتَهُنَّ إلى مَا سَبقَ. - وإنْ سَبقَ إسلامُ الزَّوجَةِ: فإنْ كانَ قَبْلَ الدُّخولِ تَعجَّلَتِ الفُرْقَةُ، وإنْ كانَ بَعْدَه توقفُ. - فإنْ أَسْلمَ الزَّوْجُ قَبْلَ انقِضاءِ العِدَّةِ استَمرَّ النِّكاحُ، وإلا تَبَيَّنَ الفِراقُ مِنْ وقْتِ إسْلامِها، إذِ المُسْلِمَةُ يَمتنِعُ تَزويجُها لِكافِرٍ مُطْلَقًا. وإسْلامُ أَحَدِ الزَّوجَينِ مَع أَصْلِ غَيْرِ المكلَّفِ مِنهما حُكْمُه (¬1) كالمُرتَّبِ (¬2) لِسَبْق مَن أسْلَمَ وتأخُّرِ مَن تَبعَ. ومَنْ أسْلمَ علَى عَددٍ زَائدٍ علَى العَددِ الشَّرْعيِّ، وأسْلَمْنَ معَه أو فِي العِدَّةِ، أو كُنَّ (¬3) كِتابِيَّاتٍ فيَختارُ الحُرُّ ولَو فِي الإِحْرامِ. وعِدةُ الشُّبهةِ الطَّارئةِ لا فِي حَالَةِ الرِّدَّةِ أرْبعًا مِنَ الحَرائرِ. وفِي أُخْتَينِ ونَحوِهما يَختارُ واحِدةً مِنْهُما. وفِي إِماءٍ أَسلَمْنَ يَختارُ واحدةً بِلَا زِيادةٍ إذا كانَ بِحَيْثُ يَجوزُ له ابتِدَاءُ نِكاحِ الأَمَةِ كما سَبَقَ. ومَنْ عَتَقَتْ مِنْهُنَّ قَبْلَ اجْتِماعِها (¬4) مَع الزَّوجِ علَى الإسْلامِ أُلْحِقَتْ هُنا بِالحُرَّةِ. ¬
وإنْ عَتَقَتْ بَعْدَ الاجتِماعِ فَهِي هَاهُنا كالرَّقِيقةِ، ولا تُدفَعُ المتأخرةُ عنْ عِتْقِها خِلافًا للغَزَّاليِّ والرَّافعي ومَنْ تَبِعَهُما. ولا يَختارُ مَنْ فيه رِقٌّ سِوَى ثِنْتَيْنِ. فإنْ عَتقَ قَبْلَ أَنْ يُسْلِمَ، أو بَعْدَهُ إنْ أَسْلَمَ، وقَبْلَ أَنْ تُسْلِمَ [واحدةٌ، أو بعْدَ إسْلامِ واحدةٍ] (¬1) اختارَ أرْبعًا. فإنْ أَسْلمَ وأسْلمَتْ ثِنتانِ، ثُم عَتَقَ، ثُم أسْلمَتْ ثِنتانِ تَعينتِ الأُولتانِ، لا (¬2) إنْ تأخَّرَتْ حُرَّةٌ، ولِلعدَدِ المتعلِّقِ بالحرِّيَّةِ والرِّقِّ عِنْدَ التَّبدُّلِ. * ضابطٌ: نَذكرُه فِي الطَّلاقِ إنْ شاءَ اللَّهُ تعَالى، والاختيار (¬3) باللفْظِ نُحو: "اخترتُك"، أوْ "أقَرَرْتُك على النِّكاحِ". ولَا يَصِحُّ تَعليقُه استِقْلالًا، والطلاقُ اختيارُ النِّكاحِ (¬4) وإنْ عَلَّقَ الطَّلاقَ، ولا يحصلُ الاختيارُ بالوَطءِ ولا بالإيلاءِ والظِّهارِ، ولا يَجِبُ بالوَطءِ مهرٌ (¬5) حيثُ استقَرَّ نكاحُها، وإلا وَجَبَ، وإذَا امَتنعَ مِن الاختيارِ عُزِّرَ، وتلزمُهُ نفقتُهنَّ إلى أن يُعيِّنَ. * * * ¬
(7) فصل فيما يملكه الزوج على الزوجة من الاستمتاع ونحوه
(7) فصل فيما يملكه الزوج على الزوجة من الاستمتاع ونحوه ولِلزَّوْجِ فِي زَوْجةٍ (¬1) -ليس فيها رِدَّةٌ ولا طلاقٌ رَجْعيٌّ- جَميعُ أنواعِ الاستِمتاعِ التي لا تَضُرُّ، ولا يُجْبَرُ على الوَطءِ، ولا الأولى فِي الأصحِّ، ويَجوزُ أن يطَأَ فِي القُبُلِ مِن جِهةِ الدُّبُرِ، وأما نفسُ الدُّبرِ فالاستمتاعُ به حرامٌ (¬2). * * * * ضابطٌ: الدُّبُرُ له حُكْمُ القُبُلِ فِي انتِقاضِ الوُضوءِ بمَسِّهِ وبِالخَارِجِ مِنه، وحُكم الاستنجاءِ، ووجوبِ (¬3) الغُسلِ بالإيلاجِ فيه، وفسادِ الصومِ والاعتكافِ والحجِّ، وثبوتِ المُصاهرةِ، وتقْرِيرِ المَهْرِ، ووُجوبِ العِدةِ وغيرِها. ¬
ويُخالِفُه فِي إحدى وعِشرينَ مَسألةً (¬1): حِلُّ الاستمتاعِ. وتحريمُ النظرِ إليه كما سَبَقَ (¬2). ولَو خَرَجَ منه مَنِيُّ الجِماعِ بعْدَ غُسلِها لا تُعِيدُ الغُسْلَ. والدمُ الخارجُ منه ليس بِحَيضٍ. ويَتقدَّمُ القبلُ عليه بالسَّتْرِ عِنْدَ وُجودِ ما يَستُرُ أحدَهما. ووطءُ السيدِ أمتَه فِي دُبرِها عَيبٌ تُردُّ به، ويَمنعُه مِن الردِّ القهريِّ بالعَيبِ القديمِ؛ قلتُهما تخريجًا. ولا يزولُ بالخارجِ مِن الدُّبر إشكالُ الخُنثى. والبكرُ المَوْطوءةُ فِي دُبرِها لا تَخرجُ عنْ حُكمِ الأبْكارِ فِي الوقفِ والوصيةِ والسكوتِ فِي الإذْنِ واستِحقاقِ سَبْعٍ للجَدِيدةِ. ولا يَحصُلُ به التحليلُ، ولا التحصينُ، ولا الخروجُ من العُنَّة، ولا الفيئةُ فِي الإيلاءِ. ولا يُلحقُ بالوطءِ فيه الولدُ فِي الأَمةِ، والنكاحِ الفاسِدِ، خلافًا لِمن صحَّحَ ¬
هنا (¬1) خِلافَ ذلك. ولا يَصيرُ مُؤليًا بالحلِفِ على تَرْك الوطءِ فيه. ولا يَدخلُ فِي الحَلِفِ المطلق على نفْيِ الوَطءِ، أو على إثْباتِه على الأرجحِ مِن الوَجهينِ المَنقولينِ فِي "حاوي الماوردي"، خِلافًا لِما وقع فِي "الروضة" مِن دعوى الاتفاقِ على دُخولِه فِي النَّفْي. ويُعَزَّرُ بِوَطءِ زَوْجَتِه أوْ أَمَتِهِ فِيه. وتَبطلُ الحضانةُ به. والمَفعولُ به فيه يُجلَدُ مُطْلَقًا ولو كانَ مُحصنًا. ويُجتنَبُ مِن الحائضِ ما سبق، وفِي حالةِ (¬2) الصلاةِ والصَّومِ والاعتكافِ والإحْرامِ والمسجدِ ما يَقتضِي الحالُ تحريمَه، وفِي المُظاهَرِ منها يُجتنَبُ الجِماعُ قَبْلَ التَّكفيرِ، وفِي المُعتدةِ عَنْ وَطْءِ شُبهةٍ يُجتنَبُ الوَطْءُ والاستمتاعُ كُلُّه. ويجوزُ أن يستمنيَ بيدِ زوجتِه أو أَمَتهِ حيثَ جَازَ الاستمتاعُ (¬3). ويجُوزُ العَزْلُ ولَو عن (¬4) الزوجةِ الحُرَّةِ وإنْ لَمْ تَرْضَ. وله إِجبارُها -ولَو كِتابيةً- على (¬5) الغُسْلِ مِن الحيضِ والنِّفاسِ ¬
والجَنابةِ. وتغتسلُ الممتنعة (¬1) والمَجنونةُ، والماءُ مُستعمَلٌ، ويُعدن الغسل عند زوالِ المَانعِ. وله الإجْبارُ على غُسلِ النَّجاسةِ (¬2) والتنظفِ (¬3) والاستحدادِ وقَلْمِ الظُّفرِ، وإزالةِ شعرِ الإبِطِ، وكُلِّ ما يمنعُ مِن كمالِ الاستمتاعِ على الأصحِّ. وله منعُها مِن شُرب ما يُسكِرُ وما لا يُسكِرُ مِنْ نَبيذٍ ونحوِهِ، ومِن لُبسِ جِلْدِ مَيتةٍ قَبْلَ دِباغِه وما له رائحةٌ كريهةٌ. وله منعُ المُسلِمةِ مِن الجَماعةِ (¬4) والمَساجدِ، والكتابيةِ مِنَ البِيَعِ والكنائسِ. ويُكرَه أَنْ يَطأَ زَوْجتَه أوْ أمَتَهُ بِحضْرةِ أحدٍ (¬5)، وأنْ يتحدَّثَ بِما جرى مِن ذلك. ويُستحبُّ أن يقولَ عند الجماعِ: "بِسم اللَّهِ، اللهُمَّ جَنِّبنَا الشيطانَ، وجَنِّبِ الشيطانَ ما رزقْتَنا". * * * ¬
(8) فصل في العيوب المثبتة للخيار في النكاح الصحيح
(8) فصل فِي العيوب المثبتة للخيار فِي النكاح الصحيح (¬1) وهي عَشرةٌ على المُعْتَمَدُ فِي الفَتوى: * ثلاثة يَشترِكُ فيها الزوجُ والزوجةُ: وهي الجُنونُ وإنْ تَقطَّعَ، والجُذامُ، والبَرَصُ (¬2)، وإنْ قلَّ، لا فِي أوائِلِهما عِندَ الشيخِ أبي مُحمدٍ، والتحقيقُ خِلافُه، إذا حَكَمَ أهلُ المعرفةِ باستِحكامِ العِلَّةِ. * وأربعة يَختصُّ بها الزَّوجُ: وهي الجَبُّ، والعُنَّةُ، واليأسُ من جِمِاعِهِ لكِبَرٍ أو مرضٍ لا يُتوقعُ زوالُهُ، وكِبَرُ آلتهِ بحيث لا تحتملُ حشفتَهُ امرأةٌ أصلًا، قلتُهُ تخريجًا. * وثلاثةٌ تَختصُّ بها المرأةُ وهي: القَرَنُ، والرَّتَقُ (¬3)، وضِيقُ المَنفذِ ¬
لنحافتِها، بحيثُ لا تسعُ آلةَ نحيفٍ مثلِها، وبعضَهَا أيُّ شخص (¬1) فُرِضَ. ولا يَثبتُ الخيارُ بِبَخَرٍ وصُنَانٍ لا يَزولانِ بالعلاجِ، ولا بعد بطئه، وخنوثةٍ واضحةٍ، وقروح منفِّرةٍ، واستحاضةٍ، ولا بغير ذلك قَطْعًا. فأما المُشتَرَكُ فيثبُتُ الخيارُ فيه مِن الجَانبَينِ مُقارنًا كان للعَقْدِ، أوْ حادِثًا (¬2) بعْدَه، به، وكذا بِها على الجَديدِ، وسواءٌ حدَثَ قَبْلَ الوَطْءِ أو بَعْدَه، وكذا لو كان العَيبُ بِهما إلا فِي مَجْنونَينِ فلا يُمكِنُ إثباتُ الخِيارِ لِوَاحِدٍ مِنهُما. ويَثبتُ لِوليِّ المَرأةِ الخيارُ بالعَيبِ المُشتَرَكِ المُقارِنِ، وكذا لكلٍّ مِن الأوْلياءِ الذينَ لَهُمُ التزويجُ حالَةَ العقدِ، ولَهُمْ مَنعُها مِن تَزَوُّجِ (¬3) مَن به هذا العيبُ. ولا يسقُطُ خيارُ واحِدٍ مِن الأولياءِ برضَى غيرِهِ، ولا المرأةِ برضَى الأولِياءِ. ويَثْبُتُ الخِيارُ للْأَمَةِ إذا زوَّجَها السيِّدُ مِن شَخْصٍ بإذْنِها، فظَهَرَ بهِ عَيْبٌ، ولو مِنَ الحائِضِ بالرَّجُلِ، ولا (¬4) يَثبتُ الخِيارُ للسيِّدِ فيه، ولا فِي المُقارِنِ إلَّا إذا قُلْنا يزوِّجُ بالوِلايَةِ؛ قلتُهُ تخْرِيجًا. ¬
وأما (¬1) الجَبُّ فيثبُتُ بِهِ الخيارُ -وإنْ جبَّتْه- إلا إذا بقِيَ مِقدارُ الحَشَفَةِ فإنْ (¬2) عَجَزَ عنِ الجِمَاعِ بِهِ ضُرِبَتْ له (¬3) المُدَّةُ كالعِنِّينِ. وأَثبتَ الشيخُ أبو حامدٍ الخِيارَ فِي الحالِ، وفِي معناهُ اليأْسُ مِنَ الجِماعِ لِكِبَرٍ أو مرضٍ أو كِبَرِ آلةٍ كما سَبَق. وأما العُنَّةُ فلا يثبُتُ الخيارُ بِها إلا إذا كانتْ قبْلَ الوطْءِ فِي القُبُلِ. ولَوْ نكحَتْهُ عالِمَةً بأنهُ عِنِّينٌ لَمْ يَسقُطْ خيارُها على الأظهَرِ، بخلَافِ بقيَّةِ العُيوبِ، فإنَّها تسقُطُ بالعِلْمِ حالَةَ النِّكاحِ، ولا يثبُتُ فِيها الخِيارُ فِي الحالِ، بلْ يَضرِبُ القاضِي للزوْجِ سَنَةً بِطَلَبِ المرأةِ بعد ثبوتِ عُنَّتِهِ، ولا يثبُتُ إلَّا بإقرارِهِ عندَ الحاكِمِ أو قِيامِ بيِّنَةٍ على إقْرارِهِ أو نُكولِهِ، وحَلِفِها، ويَستوِي فِي السَّنَةِ الحُرُّ والعَبدُ على المَشهورِ، وقْد قِيلَ (¬4) فِي إيلَاءِ العبدِ نصفُ سَنَةٍ وهو غَريبٌ. وإذا (¬5) رضِيَتْ فِي أثْناءِ المُدةِ بِهِ لَمْ يَسقُطْ حقُّها، وكذا لو سَكتَتْ بعْدَ السَّنَةِ مُدةً فلَمْ ترفَعْهُ إلى الحاكِمِ، ولَم تَرْضَ بِهِ، قاله الماوردِيُّ. وإذَا مَضَتِ (¬6) السَّنةُ المَضْرُوبةُ، ولَم تَعتزِلْ عنْهُ، ولم يمْرَضْ مَرَضًا مانِعًا ¬
مِن الوطْءِ والشَّهوةِ (¬1) واعتَرَف بأنَّه لم يُصب، أو نَكَلَ فحَلَفَتْ فقد جاء وقْتُ الفسْخِ، وهو على الفَوْرِ حينئِذٍ، فيَفْسَخُ الحاكِمُ (¬2) بطلَبِهَا أو يأمُرُها بالفسْخِ. فإنْ فسَخَتِ اسْتِقْلالًا بعْدَ قَولِ الحاكِمِ: "ثَبَتَ حَقُّ الفَسخِ فاختاري"، نَفَذَ على الأصحِّ. وقياسُهُ: أن يرجَّح فِي الفسْخِ بالإعْسَارِ (¬3) كذلك (¬4)، وسيأتي فِي النَّفقاتِ إنْ شاء اللَّهُ تعالى. ولَوْ رَضِيتْ بعد المُدَّةِ بالمَقامِ معَهُ سَقَطَ خيارُها، وكذا لو قالتْ: "أنْظِرْهُ مُدَّةً أُخرى" على الصَّحِيحِ. وإذا طلَّقَها بعد ذلك رجعيًّا بأنْ وَطِئَها فِي الدُّبُرِ، ثُم راجَعَها، لَمْ يثبُتْ لها الخِيارُ. ولو بانَتْ، ثم جَدَّدَ نِكاحَهَا ثَبَتَ لها الخيارُ على الأظهَرِ؛ لأن العِلمَ بالعُنَّةِ لا يُسقِطُ الخِيارَ كما سبق، فتُضرَبُ المُدَّةُ له ثانيًا بطَلَبِهَا. وأما العيوبُ المُختصةُ بِها (¬5) فيثبتُ الخيارُ بِها للزَّوجِ، ولو حَدَثَتْ، ولا بد فِي العُيوبِ المُختصةِ بِها مِن الرَّفع إلى الحاكِمِ، وإذا ثَبَتَ العيبُ فَسَخَ ¬
صاحِبُ الخِيارِ على الفوْرِ. ويسقُطُ الخيارُ بزوالِ (¬1) العَيبِ (¬2) قبْلَ الفسْخِ، وبالموْتِ قبلَهُ، لَا بالطَّلاقِ الرَّجْعِيِّ فيُفْسَخُ قبلَ الرَّجعةِ؛ قلتُهُ تَخْريجًا. ولَو رضِيَ بعَيبٍ فحَدَثَ آخرُ ثَبَتَ (¬3) الخِيارُ لا (¬4) إِنِ ازداد (¬5) فوقَ (¬6) ما حَصَلَ الرِّضى بِهِ. * * * ¬
(9) فصل في خلف الشرط
(9) فصل فِي خلف الشرط ولا يَبطُلُ النِّكاحُ بمجرَّدِ خُلْفِ الشَّرْطِ مُطْلَقًا على المشهورِ نظرًا إلى أنَّ تَبدُّلَ الصِّفةِ ليس كتبدُّلِ العَينِ (¬1). وأما الخيارُ: فإنْ شَرَطَ فِي العَقدِ إسلامَ أحدِ الزوجينِ بِعَينِه (¬2) فبانَ كافرًا بِحيثُ لا يَبطُلُ العقْدُ عند عَدمِ الشَّرطِ، فإنه يَثبُتُ الخِيارُ للآخَرِ رَجُلًا كان أوِ امرأةً. ويُتصورُ ذلك فِي المَرأةِ بِأنْ تَكونَ كافرةً ولَم يُصرِّحوا (¬3) بهذِه الصُّورةِ. وإنْ شُرِطَ (¬4) فِي الزَّوجِ نَسَبٌ، فبانَ أشْرفَ مِن المَشروطِ، فلا خِيارَ لها أو دُونَه، وهو مِثلُ نَسبِها، فلا خيارَ لها أيضًا، أو دُونَه، ودُونَ نَسبِها، فلَها الخِيارُ، وكذا لِوَليِّها. وإنْ شَرَطَ فيها (¬5) نَسَبًا فبَانَ أشْرَفَ أوْ دُونَه، وهو مِثلُ نَسبِهِ فلا خِيارَ له، ¬
أو دُونَ نَسبِهِ (¬1) فله الخيارُ على الأصحِّ (¬2). وإنْ شَرطَتْ حُرِّيتَه فبانَ (¬3) فيه رِقٌّ، وقَد أَذِنَ له سيِّدُه فِي النكاحِ، فإنْ كانتْ حُرةً فلَها الخِيارُ، وكذا لِلْوليِّ. وإنْ كانَتْ أَمةً فلا خِيارَ للسيِّدِ على الأرْجحِ، ولا لها قَطْعًا (¬4) وإنْ شرَطَ الزوجُ حُرِّيةَ الزوجةِ، فخَرجَ فيها رِقٌّ، وهو حُرٌّ يحِلُّ له نِكاحُ الإِماءِ، فلَه الخِيارُ. وإنْ كان عَبدًا فلا خِيارَ له على الأصحِّ فيهما. ولَمْ يَتعرَّضوا لِشَرْطِ التَّبْعِيضِ فتَبَيَّنَ كمالُ الرِّقِّ، ومُقتضَى (¬5) النظرِ (¬6) إثباتُ الخِيارِ فِيه للرَّجُلِ؛ لِأنَّ له غَرضًا فِي حُرِّيَّةِ بَعْضِ وَلَدِهِ دُونَ المَرأةِ لانتِفاءِ (¬7) الغَرضِ، ورِضاها بغَيرِ الكُفؤِ. وإنْ شَرطَ ما سوى ذلك مِنَ الأوْصافِ كالبَكارَةِ فيها والجَمالِ واليَسارِ فيهِ أوْ فِيها فبَانَ خِلافُه ثَبَتَ الخِيارُ لَها، وكذا لَه على ما صحَّحُوه. ولَم يَعتبِرُوا هُنا مُساواةَ الحالِ لاختِلافِ الأغْراضِ، وقدْ سَبقَ نَظيرُه فِي ¬
خُروجِه كافرًا مَع كُفْرِها، وفِيهِما نَظرٌ. ونَصَّ فِي "الأُمِّ" (¬1) على أنه: "لَو تزَوَّجَها على أَنَّها جَمِيلَة شَابَّةٌ مُوسِرَةٌ تَامَّةٌ بِكْرٌ، فَوَجَدهَا عَجُوزًا قَبِيحَةً مُعْدَمَةً قَطْعَاءَ ثَيِّبًا أَوْ عَمْيَاءَ أَوْ بِها ضَمَرًا كَانَ الضّمَرُ غيرَ العيوبِ المعروفَةِ، فَلَا خِيَارَ لَهُ، وَقَد ظَلَمَ مَنْ شَرَطَ هذَا نَفْسَهُ". هذا نصُّه. ولا تَبعُدُ الفتوى بثُبوتِ الخِيارِ فِي شَرْطِ البَكارةِ دونَ الباقِي، وعندَ شَرْطِ الحرِّيةِ الأصليةِ فِي أحدِ الزوجَينِ إذا ظَهرَ حرِّيةٌ بولاءٍ والشارطُ حُرّ ليس عليه ولاءٌ يَثبتُ (¬2) له الخيارُ؛ قلتُه تَخرِيجًا. وإذا غُرَّ بِحرِّيَّةِ امْرأةٍ (¬3) مِنها أوْ مِن وكيلِ السيِّدِ أوْ مِن السيِّدِ إذا كان اسمُها حُرَّةً، أوْ كان لا يَنفُذُ عِتقُه لِمانعٍ مِن رَهْنٍ مَقبوضٍ مع اعتبارِه (¬4) ونحو ذلك فالولدُ الحاصلُ قَبْلَ العِلْمِ بالحالِ حُرٌّ، وعلى المَغرورِ (¬5) قيمتُه لِسيِّدِ الأَمَةِ، ولو كان جَدَّ الوَلدِ (¬6). ¬
وتُعتبَرُ قِيمتُه وقْتَ وِلادتِه، ويُرجَعُ بقِيمَةِ الوَلدِ على (¬1) مَن غَرَّهُ، ولا يُرْجَعُ عليه هنا، وفِي العَيْبِ بالمَهْرِ على أصحِّ القَوْلَينِ (¬2). - وإنْ كانتْ هي الغارَّةَ تعلَّقَ غُرْمُ قِيمةِ الوَلَدِ بِذِمَّتِها (¬3) تُتْبعُ بذلك (¬4) إذا عَتَقَتْ. - وإنِ انْفصَلَ الولدُ مَيتًا بِلا جِنايةٍ (¬5) لَمْ يَجِبْ فيه (¬6) شَيْءٌ، أوْ بِجِنايةٍ فعلى الوالدِ عُشْرُ قِيمةِ الأُمِّ (¬7). - وأمَّا خُلْفُ الظنِّ فلا يؤثِّرُ (¬8)، فلو أذِنتْ فِي تَزويجِها مِمَّنْ ظَنَّتْ كَفاءَتَهُ فبَانَ فِسْقُه أو دَناءةُ نَسبِه فلا خِيارَ لَها، وكذا لَو بَانَ عَبْدًا على النَّصِّ فِي البُوَيطيِّ خِلَافًا لِمَا فِي "المِنهاجِ" (¬9) تَبَعًا لابْنِ الصَّبَّاغِ. وإنْ بَانَ (¬10) مَعِيبًا فقدْ سَبَقَ فِي العُيوبِ ثُبوتُ الخِيارِ. ¬
(10) فصل في عتق الأمة تحت العبد
(10) فصل (¬1) في عتق الأمة تحت العبد والأصلُ فِي هذا الفَصلِ: أنَّ رسولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- لَمَّا أعْتقَتْ عائشةُ -رضي اللَّه عنها- بَرِيرةَ، وكان (¬2) زَوجُ بَريرةَ عَبْدًا يُقالُ لَه: "مُغيث" -رضي اللَّه عنهما- خيَّرَها رسولُ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- فاختارتْ بريرةُ فِراقَهُ، وكلُّ ذلك ثَابتٌ فِي "الصحيحَينِ" وغيرِهما (¬3). فإذا كمُلَتِ الحريةُ فِي الزَّوجةِ بأيِّ طَريقٍ كانَتْ (¬4) وهي فِي نِكاحٍ صَحيحٍ تَحْتَ مَن فيه رِقٌّ كاملٌ أو مبعَّضٌ ولو مع تَدبيرِه، أوْ كِتابتِه، أو تَعليقِ عِتقِه بِصفَةٍ، فَلَهَا الخِيارُ (¬5) إلَّا فِي صُورةٍ واحِدَةٍ، وهي ما إذا أُعْتقتْ (¬6) عِتقًا يخرجُ مِنَ الثُّلثِ لِصُدورِه فِي مَرضِ المَوتِ، ولَيْسَتْ بِمُستولَدةٍ، أو بالوَصيةِ، ولَمْ ¬
تكنْ فِي الحالِ مُفوَّضةً، وكان ذلك قبْلَ الدُّخولِ، إذْ لَو (¬1) فسختْ قبل الدخولِ لِرِقِّ بعضِها بِسَبَبِ عَودِ الصَّداقِ إلى مُستحقِّه لِضيقِ التَّرِكةِ، فلا يَثبتُ الخيارُ للدَّوْرِ. فإنِ اتفقَ أَنْ دَخلَ بِها الزَّوجُ قَبْلَ عِلْمِها (¬2) بالحالِ بِحَيثُ لا يَسقطُ الفَسخُ ثَبتَ لها الخِيارُ. [ولَو عَتَقَ بَعضُها أوْ دُبِّرَتْ أوْ كُوتِبَتْ أوْ وُقِفَتْ أوْ عُلِّقَ عِتْقُها بِصِفَةٍ فلا خِيارَ لَها بِمُجرَّدِ ذلك (¬3). ولو زُوِّجتْ وهِي مُكاتَبَةٌ لِعَبدٍ فعَتقتْ تَحْتَه ثَبتَ لها الخيارُ] (¬4)؛ صرَّح بِه الزاز (¬5) [ومَنْ تَبِعه] (¬6)، وذلك يَقتضِي أنها يَثبتُ (¬7) لها الخيارُ (¬8) إذا عَتقَتْ. وإنْ تَزوَّجتْ منه بِرضاها فيُقاسُ عليه تَزويجُ المُبَعَّضَةِ. ومَنْ زُوِّجتْ بإذنِها المُعتبَرِ، أوْ غَيرِ المُعتبَرِ، حتى اللَّقيطةُ يُزوِّجُها الحاكِمُ ¬
ضابط
بِعَبدٍ على رأْيِه، ثم يُقِرُّ بالرِّقِّ (¬1) لإنسانٍ، ثُم يُعتِقُها، نَظرًا إلى أنَّ (¬2) مُجرَّدَ عِتْقِ الأَمَةِ تَحْتَ العَبْدِ سَببُ لإثباتِ خِيارِها مُطْلَقًا بِخِلافِ عِتْقِ العَبْدِ وتَحْتَه أمَةٌ فلا خِيارَ له على المَشْهورِ. وإذا عَتَقَ الزوجُ قَبْلَ فَسخِها، فلا خِيارَ لها على النَّصِّ المَعمولِ به (¬3)، ولو مَاتَ انقَطعَ خِيارُها ولَم يَذكرُوه (¬4). ولو طَلَّقَ بائنًا انقَطعَ خِيارُها أوْ رَجعِيًّا، أوْ تخلَّفَ إسْلامُه، وقِيستْ (¬5) على ذلك رِدَّتُه، فلَها الفَسخُ فِي حالِ العِدَّةِ، والتَّأخيرُ إلى الرَّجعةِ والإسلامِ فِي العِدَّةِ، وليس لها الإجارةُ قَبْلَ ذلك. * * * * ضابطٌ: ليس لنا مَوضِعٌ تَملِكُ المرأةُ فيه (¬6) فَسْخَ النِّكاحِ، ولا تَمْلِكُ إِجازتَه إلا فيما نحنُ فِيه. * * * ¬
وما لَحِقَ به في (¬1) العُيوبِ، وقدْ يَجيءُ ذلك فِي الزَّوْجِ، ويَثبتُ الخِيارُ لِلصَّبِيَّةِ والمَجنونةِ بعد الكَمالِ لا لِلْوَليِّ. وهذا الخيارُ على الفَورِ إلا فِي صُورةِ الرَّجعةِ وما بعدها، وعند حُصولِ الرَّجعةِ والإسلامِ والكَمالِ يُعتبَرُ (¬2) الفَورُ (¬3). والمختارُ فِي أصلِ المسألةِ أنَّ لها الفَسخَ ما لَمْ يَطَأْهَا باخْتيارِها مع عِلْمِها بالحالِ لِحَديثٍ فِي السُّننِ (¬4)، أوْ يُصرِّح بالإسقاطِ، ولا يَحتاجُ هذا الفسْخُ إلى الحاكمِ لِثُبوتِه بالنصِّ (¬5). * * * ¬
(11) فصل في حكم الاختلاف
(11) فصل في حكم الاختلاف (¬1) إنِ اختلفَا فِي الزَّوجيةِ فالقَولُ قولُ المُنكِرِ بِيَمِينِه؛ فإنْ قالَتْ: "طلَّقْتَنِي" (¬2)، فقدْ أقرَّتْ بالزَّوجيةِ، والقَولُ قولُه (¬3) بِيَمينِه فِي نَفْي الطلاقِ، فيَحلِفُ وتُسَلَّمُ له (¬4). ولو (¬5) كانتْ تَحتَ رَجُلٍ. كذا أَطْلَقَهُ المُتأخِّرونَ وهو مقيَّدٌ (¬6) بما إذا لَمْ يَظهَرْ نِكاحُها لِمَنْ هِيَ تَحْتَه بإِقْرارِها أوْ بِبَيِّنةٍ. وإذا زوَّجَها وليَّانِ مِن زَوجَيْنِ وتَرتَّبَا وعُلِمَ السابِقُ، ولَم يَظهرْ، وادعى كلُّ واحدٍ مِنَ الزَّوجَيْنِ أنها تَعْلمُ سَبْقَ نِكاحُه، فأنْكرَتْ، فالقَولُ لها فيه، وتَحلِفُ لِكُلِّ واحدٍ يَمينًا على الأرْجَحِ (¬7). ¬
وإنْ أقرَّتْ [لِأحدِهِما ثَبتَ له النِّكاحُ. وتُسمَعُ دَعْوى الثَّاني عليها، فإنْ أَقرَّتْ] (¬1) له غرمتْ له مَهْرَ المِثْلِ، ولو قَبْلَ الدُّخولِ على المَذْهبِ. وكذا إنْ نكَلَتْ وردَّتِ اليمينَ عليه، فحَلَفَ، وهذا مِن الحَيْلولَةِ القَولِيَّةِ، وقد سَبقتْ فِي الإقْرارِ. ولو أَسلَمَ الزوجانِ قَبْلَ الدُّخولِ فقال (¬2): "أسْلَمْنَا معًا"، فالنكاحُ باقٍ، وقالتْ: "بَلْ (¬3) مُتعاقِبَيْنِ"، فلا نِكاحَ، فأصحُّ القَولَيْنِ: أنَّ القَولَ للزوجِ بِيَمينِه (¬4)، خِلافًا لما صُحِّحَ فِي الدَّعاوَى. ولو قالَ المَعيبُ: "حصلَ النِّكاحُ وأنت عالمٌ بِعَيبِي، فلا خيارَ لك" فالقولُ قولُ المُنكِرِ بِيَمينِه، ولو بعد الدُّخولِ على المَشهورِ. ولو قال: "عَلِمتُ بالعَيبِ ولم أَعلمْ أنه يُثبِتُ الخِيارَ" وكان مِمَّنْ يَخفَى عليه مِثْلُ ذلك قُبِلَ قولُه بِيَمينِه. وكذا فِي العِتْقِ والفَورِ فيهما، ولذلك شَواهدُ مِنَ الردِّ بالعَيبِ والشُّفعةِ (¬5) ونفْيِ الوَلَدِ ونَحوِها. ¬
ضابط
ولو ادَّعتِ الجَهْلَ بالعِتْقِ صُدِّقَتْ بِيَمينِها إن لَمْ يكذِّبْها ظاهِرُ الحالِ (¬1). ومَنْ جُبَّ بَعْضُ ذَكَرِهِ إذَا بَقِيَ ما يُمكِنُ به الجِماعُ، فادَّعى (¬2) الزَّوْجُ أنه يُمْكنُه، وادَّعتِ المرأةُ عَجْزَه، فالقولُ قولُهُ (¬3) على الأرْجَحِ (¬4). ولو اختلفَا فِي القَدْرِ الباقِي هلْ يُمْكنُ به الجِماعُ فالقولُ لَها بِيَمِينِها عنْدَ الأكثَرِ (¬5). وقالَ ابنُ الصَّباغِ: يَرى أهْلُ الخِبْرَةِ. * * * * ضابطٌ: إذا اختلفَا فِي الوَطءِ، فالقَوْلُ للنافِي بِيَمينِه، إلا إذا كان المُثبِتُ فِي دَعواهُ بقاءَ العَقدِ، ويُمَثَّلُ لِذلك بخَمْسِ صُورٍ: 1 - 2 - ثِنْتانِ فِي العُنَّةِ والإيلاءِ، لو ادَّعى فِيهما الإصَابةَ، فأنْكرَتْ، فالقَولُ قولُه بِيَمينِه لِدفْعِ سَببِ الفُرْقةِ، لا لِيُراجِعَ لو طَلَّقَ، ولو أَتَتْ فيهما بِبيِّنةِ ¬
البَكارةِ كان القولُ لَها فِي الوَطءِ. 3 - الثالثةُ: لو طلَّقَ وادَّعى (¬1) أنه لَم يَطأْ لِيتشطرَ (¬2) المَهْرُ، فأتَتْ بِولدٍ يُمكِنُ أن يكونَ مِنْه، ولَم يُلاعِنْ، فالأصحُّ عِندَهم مِن القَولَينِ: أنَّ القولَ قولُها لِثبوتِ المَهْرِ، وهو مُشكِلٌ، لإمكانِ حُصولِ الولدِ مِنْ غَيرِ وَطْءِ. 4 - الرابعةُ: تَزوَّجَها بِشَرْطِ البَكارةِ، ثم قال: "وجدتُها ثيِّبًا، ولَم أَطَأْ"، فقالتْ: "بَلْ أزَلْتَ (¬3) بَكارَتِي بِوطْأَتِك (¬4) " فالقولُ قولُها بِيَمينِها لِدفْعِ الفسْخِ لا لِإثباتِ كُلِّ المَهْرِ. 5 - الخامسةُ: إذا أَعسَرَ (¬5) بالمَهرِ فقال: "وطِئْتُ، فلا فَسْخَ لكِ"، ونفَتْ هِي الوَطْءَ، فالقولُ قولُه بِيَمينِه، قلتُها تَخريجًا. * * * وإذا زُوِّجَتْ ثم ادَّعتْ (¬6) أنَّ بَيْنَها وبَيْنَ زَوجِها مَحْرَميَّةً (¬7) وصَدرَ التزويجُ بِرِضاهَا بِعَينِ الزَّوجِ، ولَم تُبْدِ عُذرًا، لَم تُسمعْ دَعْواهَا، وإنْ أَبْدَتْ عُذرًا ¬
سُمِعَتْ دَعواها لِتخلُّفِ (¬1) الزَّوجِ، وإن زوِّجَتْ مُجْبَرَةً، فالقولُ قولُها بِيَمينِها على المُعْتمَدِ فِي الفَتوى (¬2). [ولَو قالتْ غَيْرُ المُجبَرةِ "زوَّجَني بِغَيرِ إِذْنِي"، فالقَوْلُ قَولُها بِيمينِها، إلا إذا ظَهرَ مِنها ما يُخالِفُ ذلك: مِن دُخولٍ، وإِقامةٍ مَعه بِاخْتِيارِها، والعِلْمِ بِالحالِ. وتُصدَّقُ المَرأةُ بِيمينِها إذا ادَّعتْ أنَّ أخَاهَا زَوَّجَها وهِيَ صَغيرةٌ] (¬3). ¬
ولو ادَّعى مَالكُ الأَمَةِ أنه زَوَّجَها، وهُو مَجنونٌ، وأنْكرَ الزَّوجُ، ولَم يَعْهَدْ لِلسيِّدِ ما ادَّعاهُ، فالقَولُ لِلزَّوجِ بِيمينِه جَزْمًا، ولا يَتأتَى (¬1) فيه خلافُ الصِّحَّةِ والفَسادِ؛ لِأنَّ الغَالِبَ الاحتياطُ فِي الأَنْكِحةِ. وإنْ عَهِدَ له ذلك، أوْ قال: "تَزوَّجْتُها وأنَا صَبيُّ"، فالأصحُّ: تَصديقُ الزَّوجِ أيضًا. ولو وكَّلَ الوليُّ بالتزويجِ فزوَّجَها الوكيلُ، وأَحْرَمَ الوَليُّ، فادَّعى الوليِّ أنَّ إحْرَامَه سَبقَ العَقْدَ، وأنْكَرَ الزَّوْجُ، فالقَولُ قَوْلُ الزَّوجِ بيَمينِهِ على النصِّ المعمولِ بِهِ. * * * ¬
كتاب الصداق
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ كتاب الصداق قال اللَّهُ تعالى: {وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً} (¬1). وثَبَتَ فيه أحاديثُ فِي السُّنةِ، وهو مُجمَعٌ علَيه، وكان صَداقُ غَالبِ زوْجاتِ ¬
النبيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- خَمسَمِائةِ دِرْهمٍ (¬1). فيُستحَبُّ المُوافقةُ عند الإمكانِ، وترْكُ المُغالاةِ فيه (¬2). وهو بِفَتحِ الصادِ، ويُقالُ بِكَسرِها، ويقال: "صَدُقَهُ" بفَتحِ الصَّادِ وضَمِّ الدالِ، وقدْ تسكَّنُ الدالُ، وقدْ تُضمُّ الصادُ مع الدالِ، ويُقالُ: "أَصْدَقَها" و"مَهَرَهَا" و"أَمْهَرَهَا". وهو والمَهْرُ بِمعنى واحدٍ. ويقالُ (¬3): "الصَّداقُ" ما اسْتُحِقَّ بالتَّسميةِ (¬4) فِي العَقْدِ، و"المَهْرُ": ما اسْتُحِقَّ بِغَيرِ ذلك. ¬
ومِنْ أَسمائِه "العُقْرُ" (¬1) -ومِنهم مَن خَصَّه بِمَهرِ وَطْءِ الشُّبهةِ- و"العَليقةُ" و"الأَجْرُ" و"النِّحلةُ" و"الفَريضةُ" و"الحباءُ" و"الطَّوْلُ". * * * وهو مما (¬2) لَمْ يُنقلْ شَرعًا عن مَدلولِهِ اللُّغويِّ كالقَرْءِ (¬3)، وإنْ زِيدَ فيه ما يُعتبَرُ فِي الشَّرعِ فإنه: "اسمٌ لِمَا وَجَبَ مِنْ مالٍ، أو سُمِّيَ مِن قِصَاصٍ أو مَنفعَةٍ، تسميةً صحيحةً، فِي مقابلة بُضْعٍ، بِنِكاحٍ صَحيحٍ، أوْ وَطْءٍ، أوْ فرضٍ صحيحٍ، أو مَوْتٍ، أوْ تَفويتِ بُضْع قَهْرًا، غيرِ مأذونٍ فِي التفويتِ شَرْعًا". والغالِبُ وُجوبُه لِلْمرأةِ على الرَّجُلِ، وهو مَقصودُ التَّرجمةِ، وقدْ يَجِبُ للرَّجُلِ على الرَّجُلِ كما فِي شُهودِ البَيْنونةِ الراجِعِينَ بعْدَ الحُكمِ. وللرجُلِ على المَرأةِ كما فِي صُورِ (¬4) الرَّضاعِ الآتيةِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تعالى. ولِلْمرأةِ على المَرأةِ كما لو كان الزوجُ فِي صُورِ (¬5) الرَّضاعِ عبدَ المرأةِ. ولِشُمولِ هذه الأُمورِ قُلْنا: "لِمَا وَجبَ"، ولَم نَقُلْ "لِلْمرأةِ على الرَّجُلِ". ¬
و"مِنْ مَالٍ (¬1) " نَعنِي به: المُتَمَوَّلَ [فما فَوْقَه، وغَيْرُ المتموَّل] (¬2) لا يَجوزُ إصْداقُهُ. وفِي المبعَّضةِ والمشْتَرَكةِ ينبغِي أَنْ يَحصُلَ لِكلِّ وَاحدٍ أقل مُتمَوَّلٍ، ولمْ يَذكرُوه. وقولُنا "أو سُمِّيَ مِن قِصاصٍ أو مَنفعَةٍ تَسميةً صحيحةً": عطَفْناهُما على المالِ لِمُغايَرتِهِما له، فيَصِحُّ إصداقُها القِصاصَ الذي علَيها، أوْ علَى عَبْدِها، أو على مَالِكِ الأَمَةِ المزوَّجَةِ، وفِي نصٍّ فِي "الأُمِّ" ما يَقتضِي خِلافَه. ويَصِحُّ إصداقُ المنافعِ، ومنهُ تَعليمُها أوْ تَعليمُ عبدِها قُرآنًا أوْ صَنْعةً، أو ما يُستفادُ، ولو مِن الشِّعرِ المُباحِ (¬3). ولا يَثبُتُ ذلك إلَّا عِنْدَ التَّسميةِ الصَّحيحةِ بخِلافِ مُطْلَقِ المَالِ. وأخْرجْنَا بالنِّكاحِ الصَّحيحِ: الفاسِدَ، فليس فِي مُجرَّدِه (¬4) صَداقٌ. ويَشملُ قَولُنا "أوْ وَطْءٍ": كلَّ وَطْء يُوجِبُ مَهرًا فِي نِكاحٍ فاسدٍ أو شُبهةٍ (¬5). ¬
وأشَرْنا إلى أحوالِ المُفَوِّضةِ فِي الوَطْءِ، والفَرْضِ الصَّحيحِ، وموتِ أَحدِ الزَّوجَينِ، فإنه يُوجِبُ مَهْرَ المِثْلِ على أصَحِّ القَوْلَينِ لِحديثِ بَرْوَعَ (¬1) بِنْتِ واشِقٍ، وهو حَسنٌ يُحتجُّ (¬2) به (¬3). ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
وأَشرْنا إلى الشُّهودِ الراجعِينَ وصُورِ الرَّضاعِ وغيرِها بقَولِنا: "أوْ تَفوِيتِ بُضْع قَهرًا (¬1) غَير مأذونٍ [فِي التَّفويتِ] (¬2) شَرْعًا": وخَرجَ بذلك الفُرْقةُ المُوكَّلُ فيها أو المأذونُ فِيها شَرْعًا لِلْحاكِمِ بإيلاءٍ أوْ غيرِهِ. وليس الصداقُ رُكنًا فِي النِّكاحِ اتِّفاقًا (¬3)، ولا يَفسُدُ بِمُجرَّدِ فَسادِ الصَّداقِ على المَشهورِ. ¬
ضابط: يجوز إخلاء النكاح عن تسمية المهر، إلا في أربع صور
* ضابطٌ: يَجوزُ إخلاءُ النِّكاحِ عَنْ تَسميةِ المَهْرِ، إلا فِي أرْبَعِ صُورٍ: 1 - إحداها: إذا كانَتِ الزَّوجةُ غَيْرَ جَائزةِ التَّصرُّفِ [أوْ مَمْلُوكةً لِغَيرِ جَائزِ التصرُّفِ] (¬1). 2 - الثانيةُ: إذا كانتِ الزَّوجةُ (¬2) جَائزةَ التَّصرُّفِ، وأَذِنَتْ لِوليِّها أن يُزوِّجَها ولمْ (¬3) يُفوِّضْ 3 - الثالثةُ: الوكيلُ عنِ الوَلِيِّ فِي غَيرِ صُورةِ التَّفويضِ الصَّحيحِ، لا (¬4) يَجوزُ له الإخْلاءُ. 4 - الرابعةُ: إذا كان الزوجُ غيرَ جائزِ التصرُّفِ، وحَصَلَ الاتفاقُ على مُسمًّى هو نِصْفُ مَهْرِ مِثْلِها مَثَلًا، فتَتَعيَّنُ التَّسميةُ، ولا يَجُوزُ الإخْلاءُ، وحيثُ لم تَتعيَّنِ التسميةُ فتُستحبُّ التسميةُ إلا إذا زوَّجَ عبدَهُ بأَمَتِهِ، فلا تُستحبُّ التسميةُ على الجَديدِ، خِلَافًا لِما فِي "الرَّوضةِ"، وأصلُها مِن حِكايةِ الاستحبابِ عَنِ الجَديدِ. وأَغْرَبَ ابنُ بشرِي، فحَكى عَنِ القَديمِ الوُجوبَ (¬5)، وإن حُمِلَ على وجُوبِه (¬6) بالعَقدِ، ثُم سُقوطِه، فهُو غيْرُ الصَّحيحٍ أيضًا. ¬
وفائدةُ الخِلافِ تَظهَرُ فيما لَو عَتَقَتْ قَبْلَ الدُّخولِ فتكونُ كالمُفوِّضةِ على أنه لا يَجِبُ بالعَقْدِ شَيءٌ -قلتُه تخريجًا- بِخلافِ ما لَوْ بَاعَها قَبْلَ الدُّخولِ، فإنه لا يَجِبُ لِلْمُشترِي شَيءٌ. وفيه احتمالٌ للشَّيخِ أبِي عَليٍّ. * * * وحيثُ تَعيَّنتِ التسميةُ فَفِي الصُّورةِ الأُولى تَتعيَّنُ تَسميةُ (¬1) مَهْرِ (¬2) المِثْلِ فما فَوْقَه، وفِي الثانيةِ والثالثةِ يَتعيَّنُ ما سُمِّي صَحيحًا وإلا فكالأُولى ويُغتفَرُ ما دُونَ مَهْرِ المِثْلِ مِمَّا يُتسامَحُ بِمِثْلِه فِي الكُلِّ. * * * ومَدارُ الصَّداقِ على مَعرِفةِ المُسمَّى الصحيحِ والفَاسِدِ وحكمِهِما قبْلَ الفُرْقةِ وبَعْدَها وأمرِ المُفوِّضةِ والاختِلافِ. أما المسمَّى الصحيحُ فقدْ سَبقَ. ويَجوزُ أَنْ يكونَ عَيْنًا ودَيْنًا (¬3). ويَجوزُ فِي الدَّيْنِ الحُلولُ والتَّأجِيلُ. ولا يَمتنعُ التأجيلُ (¬4) فِي صَداقِ المَحجورِ علَيها، ولو زَوَّجَها الحاكِمُ [إذا ¬
ويتعين الحلول في أربعة مواضع
كانَ مَهْرُ المِثْلِ على ما سَبقَ. * * * ويَتعينُ الحُلولُ فِي أربعةِ مَواضعَ: 1 - فَرْضِ الحَاكِمِ] (¬1) على المُمْتنِعِ فِي المفوِّضةِ، وقدْ سبقَ فِي السَّلَمِ. 2 - وَوَطْئِها قَبْلَ الفَرْضِ. 3 - وكذلك (¬2) كلُّ وَطْءٍ يُوجِبُ مَهرَ المِثْلِ. 4 - والرابعُ: حيثُ وجَبَ مهرُ المِثْلِ لِفسادِ (¬3) التسميةِ، أوْ بِتلَفٍ قبْلَ القَبضِ، أو بِرَدٍّ بِعَيْبٍ، أوْ بِفَسخٍ، بِغَيرِ ذلكَ (¬4). * * * وإذا كانَ الصَّداقُ مُعيَّنًا فهُو فِي يَدِ الزَّوجِ قَبْلَ أَنْ يَقبِضَه مَضمونٌ عليه ضَمانَ عَقْدٍ فِي أصحِّ القَوْلَينِ. وفِي قَوْلٍ رجَّحَه بعضُ العِراقِيِّينَ ضَمانَ يَدٍ فِي إيجابِ البَدَلِ عِنْدَ التلَفِ وليسَ لها بَيْعُه قَبْلَ القَبْضِ جَزْمًا عنْدَ العِراقِيِّينَ، وقالَ المَراوِزَةُ: ليس لَها ذلكَ تَفْريعًا على ضَمانِ العَقْدِ. ¬
ولَو تَلِفَ فِي يَدِ الزَّوجِ قَبْلَ القَبضِ، ولَو بإِتْلافِه (¬1)، فعليه مَهْرُ المِثْلِ (¬2) على قَولِ ضَمانِ العَقْدِ، إلا إذا طَالبَتْه بالتسليمِ فامْتنعَ، فيُنْتقَلُ إلى ضَمانِ اليدِ على النَّصِّ (¬3) فِي البُويطِي، خِلافَ ما صحَّحُوه. ولو تَلِف أحَدُ العَبدَينِ المُصْدَقَيْنِ قبْلَ القَبضِ انفسخَ فيما تَلِفَ على ضمانِ العَقْدِ، وتُخَيَّرُ، فإنْ فَسختْ فِي الباقِي فلَها مهْرُ المِثْلِ، وإنْ أجازَتْ فيه فلَها مِنْ مَهْرِ المِثْلِ حِصَّةُ قِيمةِ التالِفِ. فإنْ كانت (¬4) الثُّلُث فلَها ثُلثُ مَهْرِ المِثْلِ، وإنْ أتْلَفَه أجنبيُّ بِحيثُ يَضمَنُه خُيِّرَتِ الزَّوجةُ. فإنْ أجازَتْ (¬5) أخذَتْ مِن الأَجنبِيِّ البَدلَ، وإنْ فَسخَتْ فلَها على الزَّوجِ مَهْرُ المِثْلِ. وإنْ أتلَفَه أجْنبيٌّ بِحَيْثُ لا يَضمَنُه بقِصاصٍ وَجَبَ له على العَبدِ، ونحوِ ذلك فلا تُخيَّرُ، ولَها على الزَّوجِ مَهْرُ المِثْلِ. ولَو وَجدتْ بالصَّداقِ (¬6) عَيْبًا قَديمًا أوْ حَادثًا قَبْلَ قَبْضِها فلَها ردُّه و (¬7) مَهْرُ المِثْلِ، وإنْ أجازَتْ فلَا شيْءَ لَها، وما فاتَ فِي يَدِ الزَّوجِ مِنَ المَنافعِ لا ¬
المضمونات في الأبواب كلها أربعة أقسام
يَضمنُها على القولَيْنِ إلا إذا طَالبتْهُ بالتَّسليمِ فامتنعَ على ضمانِ اليَدِ. وما استَوْفاهُ بِسُكنَى أوْ رُكوبٍ بِغيْرِ إذْنِها، فيَضمنُ (¬1) أُجرَتَه على الصوابِ، وكذا فِي البَيعِ؛ كما أفْتَى بِه الغزَّاليُّ، خِلافَ ما صحَّحه المتأخِّرونَ. وحيثُ قُلْنا: "بِضمانِ اليَدِ عِنْدَ التَّلَفِ ونحوِه"، فالوَاجِبُ المِثْلُ فِي المِثْلِيِّ، والقيمةُ فِي المتقوَّمِ. * * * * ضابطٌ: المضموناتُ فِي الأبوابِ كلِّها أربعةُ أقسامٍ: منها: ضمانُ عقدٍ قَطْعًا، وهُو ما عُيِّنَ فِي صُلْبِ عَقْدِ بَيْع أوْ سَلَمٍ أوْ إجارَةٍ أوْ صُلحٍ مُتفرعٍ على ما ذُكِرَ. ومنها: ما هُو ضَمانُ يَدٍ قَطْعًا (¬2) كالمَغْصوبِ والعَوارِي ونحوِها. ومنها: ما اختُلِفَ فِيه، والأصحُّ أنه ضمانُ عَقْدٍ كمُعيَّنِ الصَّداقِ (¬3) والخُلْعِ والصُّلحِ عنِ الدَّمِ، والبدلِ الذي يَقعُ العتقُ عليه، وكذا الجُعْلُ فِي الجَعَالةِ، وفيه خلافٌ ضعيفٌ. ¬
ويحصل الفساد الموجب لمهر المثل بواحد من سبعة عشر سببا
ومنها: ما اختُلف فيه، والأصحُّ أنه (¬1) ضَمانُ يدٍ، وذلك فِي صُورةِ الصُّلحِ، وقد يأتي فِي غَيرِها. والفَرْقُ بَيْنَ ضَمانِ العَقدِ واليدِ: أنَّ ضَمانَ العَقْدِ مَرَدُّهُ ما اتَّفَقَ عليه المُتعاقِدانِ، أو بدلُ المَردودِ (¬2)، وضَمانُ اليَدِ مَردُّهُ المِثْلُ أوِ القِيمةُ. وأما الفاسِدُ كلُّه مَع صحَّةِ النكاحِ، فإنه (¬3) يُوجِبُ مَهْرَ المِثْلِ إلا فيما إذا زوَّجَ عبدَه بأمتِهِ. * * * ويحصُلُ الفسادُ المُوجِبُ لِمَهْرِ المِثْلِ بواحدٍ مِن سَبعةَ عشرَ سَببًا (¬4): أحدُها: أن لا يُملَكَ كما لو أَصْدقَ (¬5) حُرًّا، أو خَمْرًا، أو كلْبًا، أوْ (¬6) خِنْزيرًا، أو جِلدَ ميتةٍ لَمْ يُدبَغْ، أو سِرقينًا، أو حَشراتٍ، أو سَبُعًا لا يَصلُحُ للصَّيدِ (¬7). الثاني: أَنْ يكونَ غَيْرَ مُتَمَوَّلٍ كحَبَّتَي حِنْطة ونَحوِ ذلكَ. ¬
الثالثُ: أن يَعرِضَ له بعْدَ أَنْ كانَ مُتموَّلًا ما يَمنَعُ مِنْ نقْلِهِ بالعِوَضِ مُطْلقًا كمائِعِ تنجَّسَ. الرابعُ: أَنْ تكونَ مَنفعةً مُحرَّمةً كآلةِ اللَّهوِ أوْ تَعليمِ التَّوراةِ أوِ الإنجيلِ (¬1). الخامسُ: أَنْ يكونَ غيرَ مقْدُورٍ على تسليمِهِ حِسًّا كالآبِقِ، أوْ شَرْعًا كمَرْهونٍ مقبوضٍ، وجانٍ تعلَّقَ الأرْشُ بِرَقبتِه، أوْ أصدَقَها أن يُعَلِّمَها بنَفسِه مُعيَّنًا لا يَعرِفُه. السادسُ: أَنْ يكونَ غَيْرَ مَملوكٍ للعاقِدِ، أوْ لِمنْ يَقعُ له العَقْدُ كالمَغصوبِ. السابعُ: أَنْ يكونَ مَجْهُولًا كأحَدِ الثَّوبَيْنِ، أوْ مَنفعَةً مَجهولةً، ومِنه ردُّ عبدِها الآبِقِ إذا لَمْ يَكنْ مَوضِعُه مَعْلومًا على المَشْهورِ، وكذا لَو أصْدقَ امرأتَينِ فأكثَرَ صَداقًا واحدًا إلا إذا كانَ المستحِقُّ واحدًا كسيِّدٍ زوَّجَ أَمَتَه (¬2) بِعَبْدٍ. الثامنُ: أَنْ يكونَ عَيْنًا غَيرَ مرئيةٍ لِأحدِ العاقِدَينِ الرُّؤْيةَ المعتبَرةَ. التاسعُ: أَنْ يكونَ مُعلَّقًا كما لو نَكَحَها مُنجَّزًا وعلَّقَ ما أصدقَه على صِفةٍ. العاشرُ: عدمُ شَرْطِ القَطْعِ فِي إصداقِ ثَمَرةٍ لَمْ يَبدُ (¬3) صلاحُها، أو زرعٍ أخْضَرَ. الحادي عشرَ: إنْ شَرطَ (¬4) فيه ما يُفسِدُه مِن خِيارٍ، أوْ أنَّ لِأَبيها كذا، أوْ ¬
على أَنْ يُعطيَ أباها كذا، أوْ شَرَطَ ما يُخالِفُ مُقتضَى النِّكاحِ (¬1)، ولكنْ لا يُخِلُّ (¬2) بمَقصودِه (¬3) الأصليِّ كشَرطِ أن لا يَتزوَّجَ علَيها، أوْ لا يَقسِمَ لَها أوْ لا يُنفِقَ علَيْها، أوْ لا يَتوارثانِ أو النفقةُ على غيرِه، إذا صحَّحْنَا النِّكاحَ فِي هاتَيْنِ الأخَيرَتَيْنِ، وهو الأرْجَحُ خِلافًا لِمَا صُحِّحَ فِي "الرَّوضةِ" (¬4) وأصلِها. الثاني عشرَ: أَنْ يتضمنَ إثباتُ الصَّداقِ نفيَه (¬5) كما لَو نَكحَ أمَةَ غَيرِه واستولَدَها (¬6)، ثُمَّ اشْتَراها هِيَ ووَلَدَها، ثُمَّ جَعَلَها صَدَاقًا لِوَلدِه الصغيرِ العَتيقِ المَذكورِ، فإنَّه يُقدَّرُ دُخولُها فِي مِلْكِ الصغيرِ، وذلك يَمْنَعُ مِن صِحَّةِ إصْداقِها فيَجِبُ مَهْرُ المِثْلِ، ولا يَمْلكُها الوَلَدُ، ولَيس مِنْ هذا مَا إذَا تَزوَّجَ العبدُ بحُرَّةٍ لِتكونَ رَقبتُه صَداقًا لَها، فإنَّ النكاحَ لا يصِحُّ، فلْيُضَفْ إلى المَوانِعِ، وقدْ سبَقَ ما يَقتضِي ذلك (¬7). الثالثَ عشرَ: تَفريطُ (¬8) الوليِّ المُجبِرِ فِي قَدْرِ المَهْرِ بأنْ زَوَّجَ ابْنتَه (¬9) غَيْرَ الرَّشيدةِ [أوْ أمَةً مَحجورةً] (¬10) بِدُونِ مَهْرِ المِثْلِ بغَبْنٍ فاحِشٍ، وكذا الرشيدةُ ¬
المُجبَرةُ إذا لَمْ تَأذنْ فِي ذلك، ولَو أَصدقَ عَنْ مَحجُورةٍ أكْثرَ مِن مَهْرِ المِثْلِ، فهُو مِن مُفسِدات كُلِّ الصَّداقِ، خِلافًا لِمَنْ قال فِي السفيهِ يُبطِلُ الزَّائدَ. ويُستثنَى مِن ذلك ما إذا أَصْدقَ الوليُّ مِن مالِ نَفْسِه عن (¬1) مَحجورةٍ أكثرَ مِن مَهْرِ المِثْلِ، فإنَّه صحيحٌ كلُّه على الصحيحِ. الرابعَ عشرَ: مُخالفةُ مسمَّى غَيرِ المُجبَرةِ أوْ مُخالفةُ ما يَقتضِيه إطلاقُها، فإذا زوَّجَها وليُّها أوْ وكيلُه بدونِ ما سَمَّتْ أوْ بِغَيرِ جِنْسِهِ، أوْ بِدُونِ مَهْرِ المِثْلِ [بَغَبْنٍ فَاحِشٍ فيما إذا أَطْلقَتِ الإذْنَ فَكُلُّ ذلك يُوجِبُ مَهْرَ المِثْلِ] (¬2) مَع الحُكمِ بِصحةِ النِّكاحِ على ما صَحَّحَه العِراقيونَ وبهِ الفتْوَى. وصحَّحَ المَراوِزةُ بُطلانَ النِّكاحِ، ولَوْ كانتْ سَفيهةً، وسَمَّى دُونَ تَسميتِها وأقَلَّ مِن مَهْرِ المِثْلِ (¬3)، فينبغِي أن لا يُضَيِّعَ الزائدَ علَيها، ولَم يذكُروه. ولَو طَردَ فِي الرَّشيدةِ لَمْ يَبْعُدْ، ولو سَمَّى الوليُّ قدْرًا فزوَّجَ الوَكيلُ بِدُونِه فإنه يُبطِلُ النِّكاحَ، وكذا وكِيلُ الزَّوجِ إذا قَبِلَ له بِزائدٍ على مُسمَّاهُ، وقِياسُ ما سَبقَ الصِّحةُ فيهما بِمَهْرِ المِثْلِ. الخامسَ عشرَ: أَصدَقَها مَا لا يَعودُ نفعُه عليها، كتَعليمِ ولَدِها، ويَقْرُبُ مِنه تَعليمُ كِتابِيَّةٍ لا يُرجَى إسْلامُها شيئًا مِنَ القُرآن، ومَالَ جَمْعٌ فِي هذِه إلى الجَوازِ كالتِي يُرجَى إسْلامُها لِتوقُّعِ النفْعِ فِيهِما. [السادسَ عشرَ: أصْدَقها ما لا يَقبَلُ النَّقْلَ مِن حَدِّ قَذْفٍ مُطْلَقًا أوْ ¬
قِصاصٍ] (¬1) له على غَيرِها وغَيرِ مَنْ فِي مِلْكِها. السابعَ عشرَ (¬2): أصْدقَ حَلالٌ أَمَةَ (¬3) مَحْجورٍ علَيه مُحْرِم صَيدًا، والوليُّ حَلالٌ فيَصِحُّ النِّكاحُ ويَجِبُ مَهْرُ المِثْل؛ قلتُه تَخريجًا. ولا يُتصوَّرُ صِحةُ النِّكاحِ على الفَتوى معَ فَسادِ إصْداقِ الصَّيدِ بِسبَبِ الإحرامِ إلا فِي هذِه. * * * ويَفسُدُ بعضُ الصَّداقِ بإِصداقِ ما يَجوزُ ومَا لا يَجُوزُ غيرَ المجهولِ؛ كعبدِهِ وعَبدِ غَيرِهِ، ونحو ذلك تَفْريعًا على ما به الفَتوى مِنْ تَفريقِ الصَّفقةِ. ولا يَفسُدُ بَعْضُ الصَّداقِ إلا فِي هذا، وقدْ سَبقَ فِي السَّفيهِ على رأيٍ نحوِه. وإذَا ثَبتَ الخِيارُ فِي تفْريقِ الصفقَةِ (¬4) لِلْجَهلِ بالحال فَفَسَخَ فِي الجائزِ وَجَبَ مَهْرُ المِثْلِ، وإنْ لَمْ يُفسَخْ (¬5) فيه وَجَبَ بِقِسْطِ ما يقابِلُ الفاسِدَ مِنْ مَهْرِ المِثْلِ. والمُفسِداتُ السابقةُ مِنْ خَمْرٍ ونحوِهِ فِي غَيْرِ أنكِحةِ الكُفارِ، فأمَّا فِي أنكِحةِ الكفارِ فكُلُّ ما اعتَقَدُوا صِحَّةَ إصْداقِهِ يَجرِي عليهِ حُكْمُ الصَّحيحِ. ¬
فإنْ قبضَتْهُ، ثُم أسْلَمَا، أوْ أحدُهما، أوْ تَرافعَا إلَيْنَا فلَا شَيءَ لَها عليه إلا فيما إذا أصدَقَها مُسلِمًا أَسَرُوهُ أوْ عَبْدًا لِمُسلِمٍ أوْ مُكاتَبًا لَه ونَحوَ ذلك، فإنَّهُ لا يصِحُّ الإصْداقُ. ولَوْ أسْلَما بعْدَ أَنْ قبضَتْهُ (¬1) كانَ كمَا لَوْ لَمْ تَقبِضْهُ، ولَها مَهْرُ المِثْلِ؛ نَصَّ عليه وجَزمُوا بِه. ولَو تَرافَعُوا إلى حاكِمِهم فِي نَحوِ الخَمْرِ، فأَلْزَمَ قَبْضَ الخَمرِ، ثُم ترافَعُوا إلَيْنَا (¬2) فِي حالِ كُفْرِهِم لَمْ يُنْقَضْ ما جَرى مِنْ حَاكِمِهم بيْنَهُم على قِياسِ ما صَحَّحُوه فِي بُيوعِهم (¬3) الفَاسِدةِ. ولَو أصْدَقَ كافِرٌ كافِرةً خَمرًا فصارَ فِي يَدِه خَلًّا، ثُمَّ أسْلَمَا، أوْ أحدُهُما فليْسَ لَها إلا الخَلُّ على الأرْجَحِ وِفَاقًا لابْنِ الحَدَّادِ ومَنْ تَبِعَه خِلافًا لِلْقَفَّالِ والمُتأخِّرينَ فِي تَرجِيحِهم أنَّ لَها مَهْرَ المِثْلِ. ولَو أصْدَقَها عَصِيرًا فتَخمَّر فِي يدِه ثُم أسْلَمَا أوْ أحدُهما فلَها مَهْرُ المِثْلِ على الفَتْوَى، ومَا وقَعَ فِي "الرَّوضةِ" (¬4) وأصلِها مِنْ إِلزامِهِ قيمةَ العَصيرِ ليْسَ بالمَذْهبِ (¬5). * * * ¬
وأما أحكام المسمى الصحيح، ومهر المثل غير ما سبق من الأحكام، فيستقر كل منهما بواحد من شيئين
وأمَّا أحْكامُ المسمَّى الصَّحيحِ، ومَهْرِ المِثْلِ غَيرَ ما سَبقَ مِنَ الأحكامِ، فيَستقِرُّ كلٌّ مِنْهُما بِواحِدٍ مِنْ شَيْئينِ: 1 - أحدُهما: غَيْبَةُ حَشَفَةِ الزَّوجِ (¬1) أو مِقدارِها مِن مَقطوعِ الحَشفةِ فِي قُبُلِ الزَّوجةِ أؤ دُبُرِها، ولَو فِي الحَيضِ، والإحرامِ ونحوِهما. ويَنبغِي أَنْ يكونَ الوَطءُ مِمَّا يَحصُلُ بِه التَّحليلُ، حتَّى (¬2) لا يَتقرَّرَ المَهْرُ باسْتِدخالِ حَشفةِ الصغيرِ الذي لا يَتأتَّى مِنْه الوَطْءُ ومَنْ يلْحَقُ بِه، ولَم يَذكرُوه. ولا بُدَّ لاستِقْرارِ المُسمَّى مَعَ ذلك مِنْ شَرْطَينِ، لَمْ يَذكروهما هُنا: * أحدُهما: أن لا يَحصُلَ انْفِساخُ النكاحِ بِسَببٍ سابقٍ على الوَطْءِ، فلَو فُسِخَ النكاحُ بعْدَ الدُّخولِ بِعَيبٍ سابقٍ على الوَطْءِ أوْ بِعِتْقِها السابِقِ على الوَطْءِ (¬3) أو (¬4) بخُلْفِ شرْطٍ (¬5)، فإنَّه يُسقِطُ المسمَّى، ويَجِبُ مَهْرُ المِثْلِ. والأرْجَحُ -أنَّ فَسْخَها بِعَيبِ الرَّجُلِ (¬6) فِي الحالةِ المَذكورةِ- لا يُسقِطُ المسمَّى خِلَافًا لِمَا صحَّحَه المُتأخِّرونَ. * الثاني: أَنْ يُقْبَضَ (¬7) الصَّدَاقُ المُعيَّنُ أوِ المَنفعةُ التِي لَيْسَتْ فِي الذِّمَّةِ، ¬
2 - الثاني
فما دامَ المُعيَّنُ فِي يَدِ الزَّوجِ لا يَستقِرُّ، حتى لو تَلِفَ قَبْلَ القَبْضِ، وَجَبَ مَهْرُ المِثْلِ كما سَبَقَ، وكذا لو تَلِفَ بعضُه ففَسخَتْ فِي البَاقِي، ولَو تعدَّدتِ المَنفعةُ بِحَيثُ حَصَلَ الفَسْخُ وَجَبَ مَهْرُ المِثْلِ. ومِن ذلك: لَو أصْدَقَها أَنْ يُعلِّمَها قُرْآنًا، ففَارَقَها قَبْلَ التَّعليمِ وبعْدَ الدُّخولِ، فإنَّه يجِبُ لَها مَهْرُ المِثْلِ لامتناعِ الخَلْوةِ لا لِحُرمةِ النَّظر (¬1)، فقدْ سَبقَ جَوازُه. وأمَّا إذا قَبضتْه (¬2) ثُمَّ وَجدتْ به عَيْبًا فرَدَّتْه، فلَها مَهْرُ المِثْلِ (¬3). وكذا لَو تَقايَلَا عَقْدَ الصَّداقِ، فإنَّ الإقَالَة صَحيحةٌ ولَها مَهْرُ المِثْلِ، وذلك لا يُنافِي الاستِقْرارَ. ولا يحصُلُ الاستِقرارُ (¬4) بالخَلْوةِ فِي الجَديدِ، ولا بالاستِمْتاعِ غَير ما سَبَقَ على الصحيحِ. * * * 2 - الثَّاني: المَوتُ؛ فإذا ماتَ أَحَدُ الزَّوجَيْنِ قبْلَ الدُّخولِ، استقَرَّ ما ذُكِرَ إلا فِي صُورٍ: - إحداها: إذا قَتلتِ الزوجةُ الأمةُ نفسَها. ¬
- الثانية: إذا قتَلَها السيدُ، ولا أَثرَ لِقَتلِ الحُرَّةِ نفسَها، ولا قَتْلِ الأجْنَبيِّ للزَّوجَةِ حُرَّةً كانَتْ أوْ أَمَةً. - الثالث: إذا تَلِفَ (¬1) المُسمَّى المُعيَّنُ فِي يَدِه بعْدَ مَوْتِها، أوْ فِي يَدِ وارِثِه، فإنَّ الواجِبَ مهرُ المِثْلِ، وحكمُ الرَّدِّ بالعَيبِ بعْدَ الموتِ والإقالةِ كما سَبَقَ. * * * وإذا حَصَلتِ الفُرْقةُ بغَيرِ المَوتِ قَبْلَ الدُّخولِ، فإنْ كانَتْ مِن جِهةِ الزَّوجةِ بفَسخِها بعيبِهِ أوْ إعْسارِهِ، أوْ عِتقِها تَحتَ مَن فِيه رِقٌّ، أو فَسْخِه (¬2) بِعَيْبِها، أو بِخُلْفِ شَرْطٍ، أوْ إسْلامِها أوْ رِدَّتِها ولَو تَبَعًا (¬3)، أوْ إرضَاعِها زوجة أُخْرَى له صغيرةً، أوِ (¬4) ازتَضعتِ الزَّوجةُ الصَّغيرةُ مِن أمِّهِ مِنْ غَيرِ فِعْلِ الأُمِّ (¬5)، ولَو كانَتِ الأُمُّ مُستيقظَةً، أوْ ملَكَتِ الحُرَّةُ أوِ المُبعَّضةُ شَيْئًا مِنْ زَوْجِها، أوْ مُسِخَتْ حَيوانًا، أوْ كانَتِ الفُرْقةُ مِنْ جِهةِ مَالك (¬6) الأمَةِ كَما لو كانَتْ زوجةَ أصْلِهِ أوْ فَرْعِهِ، فَوطِئَها مالِكُها أوْ أرْضعتِ المالكةُ أمتَها المُزوَّجةَ بِأَبِيهَا (¬7) العَبدِ، فإنَّه يَسْقُطُ جَميعُ المَهْرِ فِي جَميعِ هذِه الصُّوَرِ. ¬
ويتشطَّرُ (¬1) المَهْرُ (¬2) بالطلاقِ قَبْلَ الدُّخولِ، ولو بِسُؤَالِها أو بالخُلْعِ، ولَوْ كانَ مَعَها. وكذا لَوْ عَلَّقَ طَلاقَها على صفةٍ كمِشْيَتِها أوْ غَيرِها، فإنْ وُجِدَتِ (¬3) الصفةُ، أو (¬4) ملَّكَها طَلاقَ نَفْسِها فطلَّقتْ (¬5)، أو خَيَّرَها فاختارتِ الفُرْقَةَ (¬6). وما جَزَمَ به الماوردِيُّ مِن سقوطِ كُلِّ الصَّداقِ فِي صُورةِ مِشْيتِها لا يُعرَفُ فِي المَذهبِ. ويتشطَّرُ أيضًا فيما إذا مَلَكَ شَيئًا مِنها أوْ لاعَنَها أو حصَلَتِ الفُرْقةُ بإسْلامِه أو رِدَّتِه، فإن ارتدَّا معًا غُلِّبَ جانبُه على وجه فَيَتَشطَّرُ. وفِي وجْه جانبها فيسقطُ كلُّه. وفِي وجهٍ يَسقطُ ثلاثةُ أرباعِه؛ حكاهُ الماوَرْديُّ وهو غريبٌ، والأرْجَحُ الثاني. وليس لنا صُورةٌ لا يَسْقطُ فيها ثلاثةُ أرْباعِ الصَّداقِ بفُرقةٍ قبْلَ الدُّخولِ إلا هذه على وجهٍ. ¬
وإذا حَصَلَ إسلامُ أحد الزوجين أو رِدَّتُهُ بعد استدخال الماء، وانقضَتِ العدةُ، وحَصَلَ الفِراقُ بذلك سَقَطَ كلُّ الصداق إن كانتْ هي المسلمةَ أو المرتدة. ويتشطَّر إن كان هو المرتَدَّ، وإن كان هو المُسلمَ احتمَلَ مَجيءُ الأوجُهِ، فتضاف إلى وَجْهِ (¬1) الصُّورةِ السابقةِ، قلتُ ذلك كلَّه تخْرِيجًا. ويتشطَّر أيضًا فيما إذا أرضعَتْها أَمَةٌ أو وَطِئها أصلُه أو فرعُه بشُبهةٍ فِي غيرِ ما سَبقَ، وإذا استُرِقَّ الزوجُ الحربيُّ قبْلَ الدُّخولِ بزَوجتِه الحَرْبِيَّةِ وكان صَداقُها دَيْنًا (¬2) عليه سَقَطَ كلُّه لا لِخصوصِ الصَّداقِ، بلْ لأنَّه يسقُطُ دَيْنُ الحَرْبيِّ على مَنِ اسْتُرِقَّ بالسَّبْي مُطْلقًا. وليس لنا فُرْقةٌ قبْلَ الدُّخولِ لا بِسبَب مِن جِهةِ الزَّوجةِ يَسقُطُ (¬3) فيها المُسمَّى كلُّه إلا فِي هذه الصُّورةِ (¬4). وإذا مُسِخَ (¬5) الزَّوجُ حَيوانًا قَبْلَ الدُّخولِ حصَلَتِ الفُرْقةُ كالرِّدةِ (¬6)، ثُم لا يَسقُطُ شَيْءٌ مِنَ الصَّداقِ بذلك، إذْ لا يُتصَوَّرُ (¬7) عَوْدُهُ لِلزَّوجِ لانتفاءِ تملُّكِه، ولا لِلْورَثةِ لِحياتِهِ، فيَبْقى للزَّوجةِ؛ قلتُ ذلك كلَّه تَخريجًا. ¬
وليس لنا فُرقةٌ قَبْلَ الدُّخولِ بِغَيرِ المَوتِ لا يَسقُطُ فيها شيءٌ مِن المُسمَّى إلا فِي هذِه الصُّورةِ، [ويَحتمِلُ تَنزيلَ مَسخِه (¬1) حَيوانًا مَنزِلةَ المَوتِ فَيستقرُّ بِه المُسمَّى] (¬2). ثُمَّ مَعْنى التَّشطيرِ فِي الدَّيْنِ سُقوطُ (¬3) نصفِه بمجَرَّدِ الفُرقَةِ المُقتضيةِ للتَّشطيرِ (¬4)، فإنْ كان مُنَجَّمًا سَقَطَ مِن كُلِّ نَجمٍ نِصفُه. ولو كانتْ أَبْرَأَتْهُ مِنه قَبْلَ الفُرقةِ لم يَرجِعْ عليها بشَيءٍ، وإنْ كان الصَّداقُ عينًا (¬5). ولَوْ تعيَّنَ بعْدَ الإصْداقِ وهِيَ غَيرُ زَائدةٍ ولا ناقِصةٍ، ولَم يَتعلَّقْ بِها ما يَمنعُ عَوْدَ الشَّطْرِ (¬6) رجَعَ بمُجردِ الفُرقةِ الشَّطرُ إلى الزَّوجِ إلا فِي ثلاثِ صُورٍ: * إحداها: إذا أدَّى الصَّدَاقَ عنِ ابْنِه البالِغِ، فإنه يَرجِعُ النِّصفُ إلى الأبِ (¬7) أوْ إلى ورَثتِه (¬8) إنْ كان مَيِّتًا، ولَم يَتعرَّضُوا لِحالَةِ المَوتِ، فإنْ كان الابْنُ صَغيرًا فأصْدَقَ عنه، أوْ أدَّى عنه، ثُم بَلَغَ، وطَلَّق (¬9) رَجَعَ النِّصفُ ¬
للابْنِ، فلَوْ كان الصداقُ عَيْنًا أو دَيْنًا على الأبِ كان للزَّوجةِ نصفُهُ، وللابن نصفُه، ويُؤخَذُ الدَّيْنُ مِن تَرِكةِ الأبِ كلُّه لو مَاتَ. * الثانيةُ: إذا أدَّى غَيرُ الوليِّ الذي يَتولى الطَّرفَينِ (¬1) الصَّداقَ، فالراجِعُ بالفُرقةِ لِلْمُؤدِّي على الأصحِّ. * الثالثةُ: إذا كانَ الزَّوجُ عَبْدًا فإنه يَرجِعُ ذلك لِمالكِه، والعِبْرةُ بِمالكِه (¬2) عند مِلْكِ الزَّوجةِ ذلك المُعيَّنَ، لا عِنْدَ الفِراقِ، خِلافًا لِمَا صحَّحَه المتأخِّرونَ. وعلى تَصحِيحِهِمْ لو عَتَقَ، ثم فَارقَ فالعائِدُ يكونُ له، وكذا لَو كُوتِبَ. ولو زَوَّج عَبْدَهُ أمَةَ غيرِهِ، وجَعلَ رَقَبَتَهُ صداقَها، ثُم فارقَها قبْلَ الدُّخول، فرَقَبةُ العَبدِ كلِّها تَبْقى على مِلْكِ مالِكِ الأَمَةِ، ولو كانَتِ الأمَةُ قد عَتَقَتْ. وعلى ما رجَّحْناهُ لَيْسَ لِلْعتيقِ والمُكاتَبِ شَيْءٌ منه، بَلْ يَرجعُ النِّصفُ لِمَنْ كان الأَداءُ (¬3) مِن مالِه، وفِي صورةِ جَعْلِ رقَبتِهِ صدَاقًا يَعودُ نِصْفُها (¬4) لِسيِّد الأَمَةِ (¬5) أوَّلًا. وأمَّا المُكَاتَبُ يؤدِّي مِن مالِه ثُم يفارِقُ وهو مكاتَبٌ، فالعائدُ يكونُ له، ¬
ضابط
وإنْ كان الصَّداقُ عَيْنًا زائدةً زيادةً حادثةً بعد الإصداقِ منفصلةً قبْلَ الفِرَاقِ فالزيادةُ باقيةٌ على مِلْكِ الزَّوجةِ أو مالِكِها إنْ كانتْ قنة (¬1). وإنْ كانتْ زِيادةً (¬2) مُتصِلةً فإنْ حَصلَ الفَسْخُ بمُقارِنٍ مِنْ عَيبٍ ونحوِه عادَ الصَّداقُ بزِيادَتِه للزَّوجِ. وإنْ حصَلَ الفِراقُ بغَيرِ ذلك مَنَعَتِ الزيادةُ المتصلةُ العَودَ إلى الزَّوجِ قهْرًا، وتُخَيَّرُ الزَّوجةُ إنْ شاءَتْ دَفَعَتْ للزَّوجِ ما يستحِقُّه مِن العَيْنِ بالزِّيادةِ، وإنْ شاءَتْ دفعتْ له البَدلَ كمَا لو تَلِفَ. * * * * ضابطٌ: الزيادةُ المتصلةُ تَتْبَعُ الأصلَ، ولا تَمنعُ الرُّجوعَ قَهْرًا فِي جَميعِ الأبْوابِ مِن ردٍّ بِعَيب ورُجوعٍ بفَلَسٍ وهِبَةٍ وغيرِ ذلكَ، إلا فِي هذا المَوضِعِ لِحُدوثِ سَببِ (¬3) المِلْكِ تبَعًا للفُرقةِ [وبعْدَ الفُرقةِ] (¬4) بما (¬5) لا يُشبِهُ العقدَ، فاقْتُصرَ فيه على ما كان مَوْجودًا عِنْدَ الإصْداقِ بخِلافِ بَقيةِ الأبْوابِ. * * * ¬
وقَضيةُ هذا أنَّهما (¬1) لو تقايَلَا فِي الصَّداقِ، أو رَدٍّ بعيبٍ رَجَعَ إلى الزَّوجِ بزِيادتِه، ولَم أَرَ مَنْ ذَكَرَهُ. وإنْ كانَتِ العينُ ناقصةً بحادثٍ فِي يَدِها يُخَيَّرُ الزَّوجُ فإنْ شاءَ أخَذَها ناقصةً، وإنْ شاءَ عَدَلَ إلى البَدَلِ. ولو كان الحادِثُ فِي يدِه كان له نصفُه ناقِصًا إلا إذا كانَ بِجِنايةِ أجْنَبيٍّ وأَخَذتْ منه الأرشَ فله نِصْفُ الأرْشِ على الأصحِّ. ويَنبغِي أَنْ يأخُذَ منها نِصْفَ الأرْشِ لو عَفَتْ عَنه، ويَأخُذُ مِنها حَقَّهُ مِنَ الأرْشِ بِجِنايةِ أجْنبيٍّ فِي يَدِها. فلَو (¬2) أصْدقَها عَبْدَينِ وتَسلَّمتْهُما (¬3) ثُم تَلِفَ أحدُهما فِي يدِها، ففِي فُرقةِ التَّشطيرِ يَرجِعُ إلى نِصْفِ الباقِي ونِصْفِ البَدلِ بالنِّسبةِ إلى التالفِ تغْليبًا لِلإشاعةِ (¬4) وإنْ زادتْ مِن وَجهٍ، ونَقصَتْ مِن وجْهٍ بِسَببٍ كالحَملِ وكِبَرِ العَبدِ أو بِسبَبَيْنِ كتَعلُّمِه حِرْفةً، ونِسيانِه أُخْرَى، فلا بُدَّ مِن تَوافُقِهِما فِي رُجوعِ الزَّوجِ إلى مُستحِقّه مِن العَيْنِ ومَتَى اخْتلفَا (¬5) فالرجوعُ إلى البَدلِ. ¬
ولَوْ تَأبَّرتِ الثِّمارَ الحادثةَ فلَيْس له تَكليفُها (¬1) قَطعَهَا (¬2) لِيرْجِعَ فِي حقِّه، فإنْ قَطَعها فلَيْس له إلا حقُّه مِنَ العَينِ. ولو أرادَ أَنْ يَرجِعَ فِي حقِّه مِن الأشْجارِ، ويَتْرُكَ الثِّمارَ إلى الجَدَادِ، فلَه ذلك مِن غَيرِ رِضاهَا على الأصحِّ (¬3)، وتَبقَى الأشْجارُ فِي يَدِهِما (¬4) كشَرِيكَيْنِ، ولو أرَادتْ هيَ ذلك لَمْ يُجبَرِ الزوجُ. وإنْ كان قَد تَعلَّقَ بالعَيْنِ حَقٌّ (¬5) لازِم كحَقِّ شُفعةٍ فِي الشِّقْصِ المُصْدَقِ فإنه يُقدَّمُ حَقُّ الشَّفيعِ على الأصحِّ، ويَنتقِلُ الزَّوجُ إلى البَدلِ -وكَرَهْنٍ مَقْبوضٍ- فلِلزَّوجِ البَدلُ. فإنْ قالَ: "أنَا أَصْبِرُ إلى انْفِكاكِ الرَّهنِ" لَمْ يُمَكَّنْ مِن ذلك، إلا إذا قال: أَتَسلَّمُه، ثُم أُسَلِّمُه لِلْمُرتَهِنِ (¬6)؛ كذا استَثْنَوهُ. والتحقيقُ: لا استِثناءَ (¬7)؛ لِأنَّ الرَّهْنَ المَقبوضَ مَانعٌ مِن انتِقالِ المِلْكِ إلى الزَّوجِ، فتسلُّمُه وعَدمُ تسلُّمِهِ سَواءٌ، فلَو انفَكَّ قبْلَ المُطالبةِ تعلَّقَ حقُّ الزَّوجِ على الأرْجحِ. ¬
ومما يَمنعُ العَودَ إلى الزَّوجِ: التَّدبيرُ، وتعليقُ العِتْقِ بالصِّفةِ، لا الوَصيةُ (¬1) بالعِتْقِ على ما رجَّحُوه. وإذا امْتنَع الرُّجوعُ لِشَيءٍ (¬2) مِمَّا سَبقَ أوْ بالتَّلفِ رَجعَ الزَّوجُ إلى البدَلِ، وهو المِثْلُ فِي المِثْليِّ، والقِيمة فِي المُتقوَّمِ إلَّا فِي صُورَتينِ: إحداهما: أصدقَ كافِرٌ كافِرةً (¬3) خَمرًا ونحوَهُ (¬4) وقَبضَتْهُ وتَلِفَ فِي يدِها، ثُمَ فارَقَها قبْلَ الدُّخولِ، فلا رُجوعَ للزَّوجِ عليها بشَيْءٍ، بَلْ ولَو (¬5) كانَ الخَمْرُ فِي يدِها. [الثانيةُ: أصْدقَ كافِرٌ كافرةً] (¬6) جِلْدَ مَيتةٍ فدَبغتْه، ثم تَلِفَ عِندَها، ثُمَّ حَصَلَ الفِراقُ فإنه لا يَرْجِعُ علَيها بشَيءٍ؛ لأنَّه ليسَ مُتقوَّمًا وقتَ الإصْداقِ والقَبْضِ. وفِي صُورةِ تَلَفِ ما تخلَّلَ فِي يَدِها مِنَ الخَمرِ المُصْدَقِ يَرْجِعُ بِمِثْلِ نِصفِ الخَلِّ على الأصحِّ. ولو لَمْ يَتلَفِ الجِلدُ ولا الخلُّ رَجَعَ الزَّوجُ (¬7) إلى مستحقِّهِ مِنهما على الأصحِّ. ¬
وجَميعُ ما ذكرْناهُ فِي الصُّورتَينِ فيما إذا أسلَمَا أوْ ترافعَا إليْنَا، فأمَّا فِي حالِ الكُفرِ وعدَمِ التَّرافُعِ فإنه يَجرِي علَيهِم ما اعْتقَدُوه عِندَ البَقاءِ والتَّلَفِ (¬1). والمُعْتبَرُ عِندَ عَدمِ القِيمةِ أقَلُّ القِيمتَينِ مِنْ وقْتِ الإصْداقِ والقَبْضِ إلا إذَا تَلِفَ فِي يَدِها بعْدَ الفِراقِ فإنه يُعتبَرُ قِيمةُ يَومِ (¬2) التَّلَفِ، وعِنْدَ رُجوعِ الشَّطْرِ والانْتِقالِ (¬3) إلى القِيمةِ يَجِبُ علَيْها نِصفُ القِيمةِ على المَنصوصِ وقَوْلِ الجُمهورِ. وقالَ الغزَّاليُّ: قِيمةُ (¬4) النِّصفِ، وهو أقلُّ مِن نِصْفِ القِيمةِ للتَّشقِيصِ وردُّوه (¬5)، وهو حَسنٌ له شواهِدُ. وزَوَالُ مِلْكِ الزَّوجةِ عَن الصَّداقِ كَتَلَفِه (¬6) إلَّا إذا عادَ المِلْكُ لَها قَبْلَ الفِراقِ. وإذا كانَ صَداقُ الأَمَةِ رَقَبةَ الزَّوجِ العَبْدِ، فبَاعَهُ المَالِكُ أوْ أعْتقَه ثُمَّ فارَقَها قبْلَ الدُّخولِ، فعلَى ما رجَّحُوه: علَى البَائعِ الغُرْمُ للمُشترِي، وعلى المُعتِقِ الغُرْمُ لِلْعَتيقِ، وعلى ما رجَّحْناهُ: عليه الغُرْمُ (¬7) لِمالِكِ العَبْدِ عند الإصْداقِ. ¬
ولَوْ وَهبتْ زوْجَها الصداقَ المعيَّنَ ثُمَّ فَارقَها قبْلَ الدُّخولِ رجَعَ عليها بِالبدَلِ على القَوْلِ المُرجَّحِ بِخِلافِ (¬1) ما تَقدَّمَ فِي الإبْراءِ عَن الدَّيْنِ. ولو وَهبَتْ منه نِصْفَ المَعيَّنِ، ثُم فَارقَها قبْلَ الدُّخولِ بِحيثُ يَثبُتُ الشَّطْرُ (¬2) فيَرْجِعُ إلى نِصفِ الباقي (¬3) ورُبُعِ بَدلِ الجَميعِ على المرجَّحِ تغْليبًا للإشاعةِ. * * * وأمَّا (¬4) أمْرُ المفوِّضةِ -وهو بِكسْرِ الوَاوِ- لِتَفويضِها أَمْرَها أوْ لإِهْمالِ المَهْرِ، ومنه: لا يَصْلُحُ النَّاسُ (¬5) فَوضَى لا سُرَاةَ لهُمْ ... ولا سُرَاة (¬6) إذا جُهَّالُهُم (¬7) سَادُوا ويقالُ: -بِفتْحِ الوَاوِ- لِأنَّ (¬8) الوَليَّ فوَّضَ أمْرَها إلى الزَّوجِ، والمُرادُ تفويضُ البُضْعِ. فصُورةُ (¬9) التفويضِ الصحيحِ أَنْ تقولَ الحُرَّةُ الرَّشيدةُ لولِيِّها: "زوجْنِي بِلَا ¬
بِلَا مَهْرٍ"، فيُزوِّجُها ويَنفِي المَهْرَ، أو تَسكتَ، أو يزوِّجُها بِدونِ مهْرِ المِثْلِ أو بَغيرِ نقْدِ البَلدِ، فلَو زوَّجَها بِمَهْرِ المِثْلِ مِنْ نقْدِ البَلدِ صحَّ المُسمَّى. ولَو قالتْ: "زوِّجْني"، وسكتتْ عنِ المَهْرِ، فلَيس بتَفويضٍ على الأصحِّ. ومِنَ التَّفويضِ الصَّحيحِ: أن يزوِّجَ السيدُ أَمَتَهُ، ويَنفِيَ المَهْرَ أو يَسكُتَ، وتُعتبَرُ المبعَّضةُ بما سَبقَ، ولَمْ يَذكرُوه. وقولُ الرَّشيدةِ لوَلِيِّها: "زوِّجْنِي بلا مَهْرٍ فِي الحال، ولا فِي المستقبَلِ"، تفويضٌ فاسِدٌ، فيَجبُ مَهْرُ المِثْلِ بالعَقْدِ على الأرْجحِ. ولا تَستحقُّ المفوِّضةُ بنَفْسِ الفَرْضِ شَيئًا على المذْهَبِ، ولَها طلبُ الفَرْضِ وحبْسُ نفْسِها للفَرْضِ، فإنْ فَرَضَ الزوجُ فرْضًا صَحيحًا، ورَضِيَتِ المرأةُ به صَحَّ، وإنْ جَهِلَا (¬1) مَهْرَ المِثْلِ على المُرجَّحِ عند المُتأخِّرينَ. ونَصَّ فِي "الأُمِّ" و"البويطي" على المَنعِ، ورجَّحه بعضهم. ويَجُوزُ التأجِيلُ فِي فَرضٍ يَتَراضى عليه الزَّوجانِ (¬2) وزِيادتُه على مَهْرِ المِثْلِ، ونُقصانُه. * * * ¬
ضابط
* ضابطٌ: ليس لَنَا دَيْن يتأجَّلُ ابتداءً بغَيرِ عَقْدٍ إلا هذا لاستِنادِه إلى العَقْدِ. * * * وإنْ فَرَضَ القاضِي على المُمْتنعِ فلا يَفرِضُ إلا مَهْرَ المِثْلِ مِن نَقْدِ البلَدِ حالًّا، ولا بُدَّ مِنْ عِلْمِه بِمَهْرِ المِثْلِ، ولا يَصِحُّ فَرْضُ الأَجنَبيِّ. وحكمُ مَوتِ أَحَدِ الزَّوجَيْنِ قَبْلَ الدُّخولِ ووَطْئِها قَبْلَ الفَرضِ وغيرِ ذلك تقدَّمَ. ولا (¬1) أَثرَ لِلْفَرضِ الفاسِدِ، وحُكْمُ الفَرْضِ الصَّحيحِ حُكْمُ المُسمَّى فِي التَّشطيرِ بالفُرقةِ قبْلَ الدُّخولِ، وسُقوطُه بما يُسْقِطُ المُسمَّى. وأمَّا الاختلافُ فإنْ كان فِي تَسليمِ الصَّداقِ، بأنْ قالَتْ: "لا أُسَلِّمُ [نفْسِي حتى يُسلِّمَ الصَّداقَ"، وقال: "لا أُسلِّمُ الصَّداقَ] (¬2) حتى تُسلِّمِي نفْسَكِ"، فإنْ كانَ مؤَجَّلًّا أُجيبَ الزَّوْجُ، وكذا المؤجَّلُ قبْلَ التَّسليمِ على الأصحِّ. * * * وإنْ كان مُعيَّنًا أو حالًا فِي العَقْدِ أوْ فِي الفَرضِ الصَّحيحِ، ولَيْستِ الزَّوجةُ صَغيرةً ولا مَريضةً فيخيَّران معًا على أصحِّ الأقْوالِ إلا فِي أرْبعِ صُورٍ يُجابُ ¬
الزَّوجُ فيها: 1 - إحداها: إذا كانتْ أَمَةً وبَاعَها السيِّدُ قَبْلَ الدُّخولِ. 2 - الثانيةُ: إذا أَعتقَها، فإنَّ المَهرَ له فِي الصُّورتَيْنِ (¬1)، وليس له حَبْسُها ولا لِلْمُشترِي، ولا لَها. 3 - الثالثةُ: أَعْتقَها، وأوْصى لها بِصداقِها (¬2). 4 - الرابعةُ: زَوَّجَ أُمَّ ولَدِه، ثُم ماتَ عنْهَا، فالصَّداقُ لِلْوارِثِ، ولَيْسَ لَه الحَبْسُ ولا لَها (¬3). وأمَّا الصغيرةُ أو المريضةُ التي لا يُمْكِنُ الاستمتاعُ بها فلا يُجابُ الزوجُ إلى تسْليمِها حتى يَزولَ ما يَمنعُ الجِماعَ، إلا إذا خُلقَتْ نَحيفةَ البَدَنِ، وكانَتْ كبيرةً، فإنها تُسلَّمُ إليه لِعدَمِ تَوقُّعِ زَوالِه (¬4). وإذَا أُسلِمَتْ (¬5) إليه الصَّغيرةُ لَمْ يَلزَمْهُ تَسليمُ مَهرِها على المَذهبِ (¬6). ولِلْوليِّ تسليمُ مَحجُورتِه قَبْلَ تَسليمِ الصَّداقِ، إذا رأَى المَصلحةَ فِي ذلك. ¬
وله تَسليمُ صغيرةٍ لا تُطيقُ الوَطْءَ. وحيثُ قلْنَا "يُخَيَّرَان" فمعناه: يُخيَّرُ الزَّوجُ بوضعِه عِنْدَ عَدلٍ، والمرأةُ بتسليمِ نفْسِها (¬1)، فإذا سُلِّمتْ سَلَّمَ العَدْلُ الصَّداق إليها، وهو نائبٌ عنها، حتى لو تَلِفَ فِي يَدِه كان مِن ضَمانِها؛ صرَّحَ به القاضِي أبو الطيِّبِ (¬2). وبه يُستشكَلُ صورةُ إجْبارِها (¬3)، ولو سُلِّمَ المَهْرُ فِي الأَمَةِ ثُم سَافرَ بها السيِّدُ قبْلَ الذُخولِ كان له اسْتِردادُه (¬4). وإنْ سلَّمَها لَيْلًا لا نَهارًا لَزِمَ الزَّوجَ تَسليمُ المَهْرِ على الأصحِّ (¬5)، وما وقَعَ فِي "الحاوي" مِن قَولِه فِي مَهْرِ الأَمَةِ (¬6): وبالدُّخولِ لَزِمَ تَسليمُه ويُسْتَرَدُّ قَبْلَه -وَهْمٌ. ولا (¬7) تُمْهَلُ الزَّوجةُ لِجهازٍ (¬8) ولا لِزَوالِ حَيضٍ ونِفاسٍ ونحوِه (¬9)، وتُمْهلُ ¬
لِتنظيفٍ (¬1) يَومًا أو يَومَيْنِ على ما يَراهُ الحاكِمُ، وغايةُ المُهلةِ ثَلاثةُ أيَّامٍ (¬2). وإنْ كان الاختلافُ فِي قَدْرِ الصَّداقِ أوْ صِفَتِه (¬3) نَحو الحُلولِ والتَّأجيلِ وقدْرِ الأَجَلِ، ولَمْ تَظْهَرْ دَعْوى أَحدِهما بِطريقٍ مُعتبَرٍ، فإنهما يَتحالفانِ كما مَرَّ فِي البَيعِ، ويُبدأُ بالزَّوجِ، ثُم يُفسَخُ عقْدُ الصَّداقِ، ويَجِبُ مَهْرُ المِثْلِ (¬4). ويَجرِيْ (¬5) التَّحالُفُ بَيْنَ الزَّوجِ (¬6) ووَلِيِّ غَيرِ (¬7) المُكلَّفةِ إلا إذا ادَّعى الزَّوجُ مسمًّى زائدًا على مَهْرِ المِثْلِ، وادَّعى الوَلِيُّ أكْثرَ مِن ذلك، فإنَّه لا يُحالَفُ، ويُؤْخَذُ (¬8) بِقولِ الزَّوجِ لِئلا يُؤدِّيَ التَّحالُفُ إلى الانفِساخِ المُوجِبِ لِمَهْرِ المِثْلِ، فيَضيعَ على المَحجورِ عليها الزَّائدُ، كذا ذَكرُوه. والتَّحقيقُ: أَنْ يَحلِفَ الزَّوجُ رَجاءَ أن يَنكُلَ (¬9)، فإن نَكَلَ حَلَفَ الوَلِيُّ، وثَبَت ما ادَّعاهُ، وإنْ حَلَفَ الزوجُ أُخِذَ بِمَا قالَهُ حِينئِذٍ (¬10). ¬
وإنِ ادَّعتْ مُسمًّى فأنْكرَ الزَّوْجُ أصْلَ التَّسميةِ وعادَ مُدَّعاها (¬1) أكْثرَ مِنْ مَهْرِ المِثْلِ أو عَينًا مُعيَّنةً تَحالفَا. ولَو ماتَ الزَّوجُ فادَّعتْ على الوارثِ مسمًّى، قال الوارثُ: "لا عِلْمَ لِي بِه"، أوْ كان مَسلوبَ العِبارَةِ قُضِيَ لَها بِمَهْرِ المِثْلِ عِنْدَ جَمْعٍ مِن المَرَاوِزةِ. والتَّحقيقُ: أنه لا يُقضَى لها بِذلكَ لِجَوازِ أَنْ يكونَ ما سُمِّيَ لها أَقَلَّ مِن ذلك. وإنْ أَثْبتَتْ أَلْفَيْنِ فِي عَقْدَيْنِ والثاني مُستمِرٌّ (¬2) لَزِمَ الألْفانِ، وبَيانُ المُسقِطِ (¬3) على الزَّوجِ، كذا ذَكَرُوه. والتَّحقيقُ: لُزومُ ألْفٍ (¬4) ونِصفِه، إلا أَنْ يَظْهرَ الدُّخولُ فِي الأوَّلِ. ولَو قالَ الزَّوجُ: العقْدُ الثاني إظْهارٌ لِلأوَّلِ (¬5)، لا إنشاءٌ، لَمْ يُسمعْ منه، ولهُ تحليفُها على الأصحِّ. ¬
ولو قال: "أصدقتُك أَباكِ" فقالَتْ: "بلْ أُمِّي" (¬1)، تَحَالَفَا على الأصحِّ، وعُتِقَ الأبُ، وولاؤُهُ موقُوفٌ، ولها مهرُ مِثْلِها. * * * ¬
باب المتعة
باب المتعة (¬1) قال اللَّهُ تعالى: {فَمَتِّعُوهُنَّ (¬2)} وقال تعالى: {وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ}. وهيَ لُغةً: اسمٌ لِما يَحصُلُ مِنه مَنفعَةٌ. وشَرْعًا: يُطلَقُ على مُتعةِ الحَجِّ، ومُتعةِ النِّكاحِ المَنسوخَةِ، وعلى مقصُودِنا هُنَا (¬3)، وهو: ما (¬4) يَجِبُ لِلْمرأةِ أو (¬5) مَالكِ الأَمَةِ المُزوَّجةِ علَى الزَّوجِ، بِسبَبِ فِراقٍ فِي الحياةِ قَبْلَ الدُّخولِ لِمَنْ لَا شَيءَ لَها أوْ بعْدَ الدُّخولِ، ولو كان لَها الكُل على الجَديدِ (¬6). والشَّرْطُ فِي الفِراقِ قَبْلَ الدُّخولِ أوْ بَعْدَه: أَنْ لا يَكونَ مِمَّا يَسقُطُ بِه ¬
ضابط
الشَّطْرُ كما سَبقَ، ومِنه إذا ارْتدَّا مَعًا، وما لا يَسقُطُ فلَها المُتعةُ ومِنه اللِّعانُ (¬1)، ولوِ اشْترَى زَوجتَه فلا مُتعةَ على المَذهبِ. * * * * ضابطٌ (¬2): لا تجِبُ المُتعَةُ إلا على الزَّوجِ بِخلافِ الصَّداقِ (¬3) خِلافًا لابن الحَدادِ حيثُ أَثْبتَ لِلزَّوجِ الرُّجوعَ على مُرضعةِ زَوجتِه الأَمَةِ المفوِّضةِ وأَوْجَبَ لهَا الفِداءَ على شُهودِ طَلاقِ المُفوِّضةِ قبْلَ الدُّخولِ الراجعين بعْدَ الحُكمِ، ويَجرِي (¬4) مِثْلُ ذلك فِي إقْرارِ المَرأةِ لِزَوجٍ بَعْدَ آخَرَ. * * * والواجبُ فِي المُتعةِ عِنْدَ النِّزاعِ: ما يقدِّرُهُ الحَاكمُ باجْتهادِه مُعتبِرًا حالَ الزَّوجَينِ على الأصحِّ، وإنْ زادَ على نِصفِ (¬5) مَهْرِ مِثْلِها، ولَمْ يَزِدْ على مَهْرِ المِثْلِ، ولَمْ يَذكرُوه لِظُهورِه. والمُستحَبُّ أن لا يَنقُصَ عنْ ثلاثِينَ دِرْهمًا، وأنْ يُمتِّعَها المُوسِرُ بخادمٍ، والمُتوسِّطُ بما يَزيدُ عن (¬6) الثَّلاثِينَ، وحُمِلَ على ذلك (¬7) قولُ الشافعيِّ -رضي اللَّه عنه-: ¬
يَدْفعُ لها مِقْنَعَةً (¬1). * * * ¬
باب الوليمة
باب الوليمة هِيَ لُغَةً: تَمامُ الشَّيءِ واجْتماعُهُ. وهِي رَاجعةٌ إلى مادةِ الوَلْمِ (¬1)، وهُوَ الاجْتماعُ، ومِنه أَوْلَمَ الرَّجلُ إذا اجْتمعَ عقلُهُ وخلقُهُ. وسُمِّيَ القَيْدُ وَلَمًا لِأنَّه يَجمعُ الرِّجْلَينِ، فسُمِّيَتْ (¬2) بذلكَ فِي النِّكاحِ لاجْتماعِ الزَّوجَينِ، ثُم أُطلِقَتْ على غَيرِها مِنَ الوَلائِمِ بِقَرينةٍ (¬3) تَشبيهًا بِهَا، وإذا لُمِحَ مُطلَقُ الجَمعِ، فاسمُ الوَليمةِ يَتناولُ الكُلَّ على السَّواءِ. وقالَ الجَوْهَرِيُّ (¬4) وغيرُه: الوليمةُ طعامُ العُرْسِ (¬5)، وفيه تجَوُّزٌ لِما سبَقَ، ويُقالُ: طَعامُ الوَليمةِ. وفسَّرها بعضُهم: بإِصلاحِ الطَّعامِ واستِدعاءِ الناسِ إلَيْهِ، وهذا (¬6) بَعيدٌ. ¬
والولائم سبع
وشَرْعًا (¬1): الاجتماعُ على طَعامٍ مَدعُوٍّ إليه لِحادثِ سُرورٍ، بشُروطٍ معتبَرةٍ على وجْهٍ مَخصوصٍ. والدَّعوةُ إلى الطعامِ -بفَتحِ الدَّالِ، وفِي لُغةٍ بِكسرِها. وقدْ ثَبتَتْ (¬2) وليمةُ العُرسِ مِن فِعْلِ النبيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- وقولِهِ: فأوْلَمَ على زَيْنبَ بِنْتِ جَحشٍ بِشاةٍ فِي البُخاريِّ (¬3). وفِي "الصحيحَينِ": "بالخُبْزِ واللَّحمِ" (¬4). وعلى صفيةَ "بتمْرٍ وأقِطٍ وسَمنٍ" (¬5). وفِي رِوايةٍ: "بحَيْسٍ مِن تَمرٍ وسَويقٍ" (¬6). وأمَر عبدَ الرحمنِ بنَ عوفٍ بِها بقولِه: "أَوْلِمْ ولَو بِشَاةٍ"، والكلُّ مِن رِوايةِ أنَسٍ فِي "الصحيحِ" (¬7). وجاءَ فِي رِوايةِ البُخاريِّ: "أوْلَمَ على بعْضِ نِسائِهِ بِمُدَّينِ مِن شَعِيرٍ" (¬8). والوَلائمُ سَبْعٌ (¬9): ¬
1 - ولِيمةُ الإمْلاكِ. 2 - وولِيمةُ الزَّوجِ (¬1)، ويقالُ لَها: "نَفِيقة" بالنُّونِ والفَاءِ. 3 - ووليمةُ الدُّخولِ، وهيَ "ولِيمةُ العُرسِ"، وقَلَّ مَن غايَرَ بيْنَهما. 4 - ووليمةُ النِّفاسِ للسَّلامةِ مِن الطَّلْقِ، وهي "الخُرسُ" (¬2) -بضم الخاء المعجمة- والمَشهورُ أنها بالسِّين المُهْملةِ، وقيل: بالصَّادِ المُهْمَلةِ (¬3)، والخرسةُ طَعامُ النُّفَساءِ (¬4). 4 - ووليمةُ الوَلدِ، وهي "العَقيقةُ"، وستَأتِي. 5 - ووليمةُ الخِتانِ، وهي "الإعْذَارُ" -بالعَينِ المُهملةِ والذَّالِ المُعجَمةِ- وفِي "مُسنَدِ أحْمَدَ" (¬5) مِن حَديثِ عُثمانَ بْنِ أبي العاصِ: لَمْ يكنْ يُدعَى لَها على عَهْدِ النبيِّ (¬6) -صلى اللَّه عليه وسلم-. 6 - وولِيمةُ إحْداثِ بناءِ السَّكن، وهَي "الوكيرةُ" (¬7). ¬
7 - ولِقُدومِ المُسافرِ، وهي "النقيعةُ" (¬1)، مِن نَقْعِ الغُبارِ، تُصْنَعُ للْقَادِمِ، وقيل: يَصنعُها القَادمُ (¬2). * * * وكلُّ ما اتُّخِذَ عندَ حادثِ سُرورٍ مِن قِراءَةِ قرآن، وتعلُّم (¬3) عِلْمٍ، ونحوِ ذلك فهُو داخِلٌ فِيما (¬4) سَبقَ (¬5). وأمَّا ما يُتخَذُ عِنْدَ المُصيبةِ فلَيْسَ داخلًا فيه، ويسمى: "وضيمة" (¬6) -بكَسْرِ الضَّادِ المُعجمةِ- (¬7). ¬
وما يتجَدَّدُ (¬1) بِلا سَبَبٍ: "مأدُبةٌ"، بضَمِّ الدَّالِ المُهملةِ وفَتحِها، ثُمَّ إنْ كانَتْ عامةً فهِيَ الحَفْلاءُ (¬2)، أوْ (¬3) خاصةً فهِيَ النَّفراءُ (¬4). وولِيمةُ العُرسِ واجبةٌ على النَّصِّ لِظاهِرِ الأمْرِ بِها، ولكنْ صحَّحُوا أنَّها سُنةٌ (¬5). والعقِيقةُ مُستحبَّةٌ على المَذهبِ، وأقلُّها لِلْمُتمكِّنِ شَاة، ولِغَيرِهِ الاقتِصارُ على ما يَقدِرُ علَيهِ. ولَمْ يذكُروا هُنا اعْتِبارَ صِفَةِ الأُضحيةِ فِي المَذبوحِ، واعتَبرُوه (¬6) فِي العَقيقةِ على الأَشْهرِ، واعتبارُه هُنا على الوُجوبِ (¬7) أوْلَى. والإجابةُ إلى وَليمةِ العُرْسِ ظاهرُ النَّصِّ أنَّها مُستحبَّة، والأصحُّ وُجوبُها (¬8)، لِمَا صَحَّ مِن قولِه: "شَرُّ الطَّعامِ طَعامُ الوَليمةِ يُمنَعُها مَنْ يأتِيها، ¬
ثم إنما تجب الإجابة بشروط عشرة
ويُدعَى إلَيْها مَنْ لا يَأتِيها، ومَن لَمْ يُجِبِ الدَّعوةَ فقَدْ عصَى اللَّهَ ورسُولَه" (¬1). وفِي لَفْظٍ لِأبِي هُريرةَ: "يُدْعى لَها الأغْنياءُ، ويُترَكُ الفُقَراءُ" (¬2). * * * ولا تَجِبُ الإجابةُ فِي غَيرِ ولِيمَةِ العُرْسِ على ما صَحَّحوهُ، والأحاديثُ تقْتضِي الوُجوبَ مُطْلَقًا (¬3). ثُمَّ إنَّما تَجِبُ الإجابةُ بِشُروطٍ عَشَرةٍ، [وقدْ ينتفِي الاستحبابُ فِي ¬
بعضِها] (¬1) (¬2): أحدُها: أن يُعَمِّمَ بدَعْوتِه عَشيرتَه أوْ جِيرانَه، أوْ أهْلَ حِرْفتِه الفُقَراءَ والأَغْنياءَ (¬3)، فإنْ خَصَّصَ الأغْنياءَ فلا تُطلَبُ؛ كذا قالُوه، والحديثُ السابِقُ يقْتَضِي خِلافَه. الثاني: أَنْ يُخصِّصَه (¬4) بالدَّعوةِ (¬5) فإنْ قالَ: "يَحضُرُ مَنْ شاءَ" فلَا تُطلَبُ. الثالِثُ: أن لا يكونَ إحْضارُه لِخَوفٍ مِنه أوْ طَمعٍ فِي جَاهِه. الرابعُ: أَنْ يكونَ الدَّاعِي مُسلِمًا؛ فلا تجِبُ على المسلِمِ بدعْوَةِ الكَافِرِ نظرًا إلى أنَّ التَودُّدَ لا يُطْلَبُ مَعه (¬6). الخامسُ: أَنْ يَدعوَه فِي اليومِ الأوَّلِ، وفِي الثاني لا تَجِبُ، ولكِنْ تُستحَبُّ، وفِي الثالثِ مَكروهةٌ (¬7). السادسُ: أن لا يعارِضَ الداعي غَيْرَه (¬8)، فإنْ دَعاهُ اثنانِ قَدَّمَ الأسْبقَ، ¬
وعنْدَ المَعيةِ يُقدِّمُ الأقْربَ رَحِمًا، ثُمَّ الأقْربَ دَارًا. السابع: أن لا يكونَ هناكَ مَن يُتأذَّى بحضُورِه، أوْ لا يَليقُ به مُجالستُه. الثامنُ: أن لا يكونَ هناكَ مُنكَر، فإنْ كان مِمَّنْ إذَا حضَرَ رُفِعَ المُنكَرُ (¬1) أجَابَ، وإنْ لَمْ يكنْ كذلك حَرُمَ الحُضورُ على ما صحَّحَه المَراوِزةُ، وهو الأرْجَحُ، وعِنْدَ (¬2) غَيرِهم الأَولى أن لا يَحضُرَ وليْسَ بِخطَإٍ، فظَاهرُ النَّصِّ يَقتضِيه (¬3). ومِن المنكَراتِ فَرْشُ الحريرِ للرَّجلِ، وصورُ الحيوانِ غيرُ مَقطوعةِ الرءُوسِ على سَقفٍ أو جِدارٍ أوْ سِترٍ مُعلقٍ أوْ وِسادةٍ منصوبةٍ. وليس مِن المنكَرِ (¬4) صُورةٌ (¬5) فِي فُرُشٍ تُداسُ أوْ مِخَدةٍ يُتَّكأُ علَيها أوْ طَبقٍ أو خِوانٍ (¬6) أو قَصعةٍ. ولا بأسَ مُطْلَقًا بِصُوَرِ الشَّجرِ والشَّمسِ والقَمر (¬7). ¬
التاسعُ: أن لا يكونَ أَكثرُ مَالِ الدَّاعِي حَرامًا؛ فإن كان كذلك كُرِهتْ إجابتُه؛ وإنْ عَلِمَ أنَّ الطَّعامَ حَرامٌ حرُمتِ الإجابةُ. العاشرُ: أن لا يكونَ هناك خَوفُ فِتنةٍ بالمرأةِ الداعيةِ للرجُلِ، أوْ خَلوةٌ محَّرمةٌ (¬1). وإذَا طِلِبَ مِنه الحُضورُ فاعْتذرَ فرَضِي صاحِبُ الدَّعوةِ بتَخلُّفه سقَطَ الطَّلَبُ. والصَّومُ ليس بِعُذرٍ فِي تَركِ الإجابةِ، فإنْ كان فَرضًا حَرُمَ الفِطْرُ كما سبَقَ، ويُستحبُّ أَنْ يَدعُوَ لِصاحِبِ الوَليمةِ. وإنْ كانَ نفْلًا جازَ الفِطْرُ، بلْ يُستحبُّ إذا شَقَّ على الداعِي إمساكُهُ، والمُفطِرُ يُستحبُّ (¬2) أَنْ يَأكُلَ، وقيل: يَجِبُ، وأقلُّه (¬3) لُقمة. * * * ويَأْكُلُ الضَّيفُ إذا قُدِّمَ إليه الطَّعامُ، وإنْ لمْ يأذَنْ صاحِبُ الطعامِ لَفظًا اكتفَى (¬4) بالقَرينةِ، إلا إذا كان صاحِبُ الطعامِ يَنتظِرُ حُضورَ آخَرَ فَلا يَأكُلُ إلا أَنْ يأذَنَ لَفظًا، أوْ يَحضُرَ المُنتظَرُ، ولا يَتصرفُ الضَّيفُ فِي الطَّعامِ بإطْعامِ سَائلٍ، ولا هِرةٍ، ولا أَنْ يَحمِلَ معَه إلا إذا عَلِمَ رِضَى (¬5) المالِكِ بذلكَ. ¬
وللأكل آداب منها
ويَجوزُ أَنْ يُلَقِّمَ بعضُ الضِّيفانِ (¬1) بعْضًا إلا إذا فَاوتَ بيْنَهم فِي الطعامِ فلَيْس لِمَنْ خصَّه بنَوع أَنْ يُطعِمَ مِنه غيرَه، ويمْلِكُ الضَّيفُ ما أكَلُه (¬2) على الأصحِّ. * * * * وللأَكلِ آدابٌ منها (¬3): - أن يقولَ أوَّلًا (¬4): "بسْمِ اللَّه"، فإنْ ترَكَ قال: "بسم اللَّه في (¬5) أوَّلِهِ واخِرِهِ". - وأن يغسلَ يدَيه قبْلَ الأكْلِ وبعْدَه. - وأنْ يأكُلَ بأصَابعِه الثلاثِ. - وأنْ يأكُلَ بيَمينِه ومِمَّا يَليه. - ولا بَأْسَ فِي الفَواكِه بأنْ (¬6) يأخُذَ مِن غَيرِ مما (¬7) يَلِيه، ونُصَّ على إثْمِ مَنْ أكَلَ مِنْ وَسَطِ القَصعةِ ونحوِه، والأصحابُ ذَكَرُوه فِي المَكروهِ. - ويقولُ بعْدَ الفَراغِ: "أَكَلَ طعامَكُم الأبْرارُ، وأفْطَرَ عِندكُمُ الصائِمونَ، ¬
وَصَلَّتْ عليكُمُ الملائكةُ، وذَكرَكُمُ اللَّهُ فِيمَنْ عِندَهُ" (¬1). * * * ونثرُ السُّكَّرِ وغَيرِهِ، ومِنه الدَّراهمُ والدَّنانيرُ خلافُ الأَوْلى على الأصحِّ، وكذا أَخْذُه على ما ذَكَرُوه، ونُصَّ على كَراهتِه (¬2). ¬
ويَملكُه الحُرُّ الآخِذُ ولَو صبيًّا، وإن كان الآخِذُ عَبْدًا مَلَكَهُ سيِّدُه، ومن بَسَطَ ذَيلَه لَه فَوقَع فيه مَلَكَه، وإنْ سقَطَ بعْدَ ذلِكَ وإنْ لمْ يَبسُطْه (¬1) لِذلك لمْ يمْلِكْه (¬2). * * * ¬
باب معاشرة النساء والقسم لهن، والشقاق
باب مُعاشَرةِ النِّساءِ والقَسْمِ لَهُنَّ (¬1)، والشِّقاقِ (¬2) المُعاشرةُ لُغَةً: المُخالطةُ (¬3)، وكذلكَ التَّعاشُرُ، والاسْمُ العِشرةُ. وشَوْعًا: مُخالَطةُ الزَّوجَيْنِ على وجْهٍ مَخصوصٍ، قال اللَّهُ تعالى: [{وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} وقالَ تعالى] (¬4): {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ}. قال الشافعي -رضي اللَّه عنه- (¬5): وجِماعُ المَعروفِ بيْنَ الزَّوجَيْنِ كَفُّ المَكروهِ، وإعفَاءُ صَاحبِ الحقِّ مِن المُؤْنَةِ فِي طَلبِهِ، وأَداؤُه إليه بِطِيبِ النَّفْسِ لا بضرورتِهِ إلى طَلَبِه، ولا بإظْهارِ الكَراهِيةَ لِتأدِيَتِه. ومَدارُ البابِ على العدْلِ بيْنَ زَوجَيْنِ فأكثَرَ (¬6) فِي المِبيتِ ونحوِه على ما سَيأتِي. ¬
قالَ اللَّهُ تعالى: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} أي: لا تعدِلُوا فِي القَسْمِ الواجِبِ، والجَوْرُ فِي هذا حَرامٌ. وعليه يُحمَلُ قولُهُ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "مَنْ كانتْ لَه امْرَأتانِ فمَالَ إلى إحداهُما جَاءَ يوْمَ القِيامةِ وشِقُّه مَائلٌ" رواه أصحابُ السُّنَنِ الأرْبعةِ (¬1). ¬
وأمَّا المَيْلُ بالمَحبَّةِ فلا يُمْكنُ الإنسانُ التسويةَ فيه، وعليه حُمِلَ قولُه تعالى: {وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ} (¬1). وقالتْ: عائشةُ -رضي اللَّه عنها-: كانَ رسولُ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يَقْسِمُ فيَعدِلُ ويقولُ: "اللهُمَّ هذا قَسْمِي فِيما أمْلِكُ فلا تلُمْنِي فيما تملِكُ ولا أملِكُ" (¬2)؛ يعني: القلبَ. رواه ¬
ضابط
أصحابُ السُّننِ. ومَنْ له زَوْجةٌ واحدةٌ يُستحَبُّ أَنْ يَبِيتَ عِندَها ويخصَّها. وأدْنى الدَّرجاتِ أن لا يُخْلِيَ أربعَ لَيالٍ عن مَبيتِ لَيلةٍ. والإِماءُ -ولَو مُستولَداتٍ- لا قَسْمَ لَهنَّ، ويُستَحبُّ أن يُسوِّيَ بيْنهنُّ، وأن لا يُعطِّلَهنَّ (¬1)، وله المَبيتُ عِندهن دُونَ الزوجاتِ، وله تَرْكُ المَبيتِ عِندَ زَوْجتَينِ فأكثرَ فِي الابتداءِ والدَّوامِ بعدَ التسويةِ فيما مَضَى. * * * * ضابطٌ: كل مَنِ استحقَّتِ النَّفقةَ مِن زَوْجةٍ غَيرِ رجعيةٍ فإنها تستحقُّ القَسْمَ (¬2) إلا ¬
فِي صورتين: إحداهما: إذا أرادَ السَّفرَ بِجميعِ نِسائِه فتَخلَّفَتْ واحدةٌ لِمَرضٍ (¬1) بها؛ فإنه لا قَسْمَ لها، وإنِ استحقَّتِ النفقةَ؛ ذكرَه المَاوَرْدِيُّ. الثانيةُ: المَجْنونةُ التي لا يُخافُ مِنها، لا يَجِبُ أَنْ يُقْسَمَ لَها، وإذا لَمْ يظْهَرْ منها نُشوزٌ ولا امتناعٌ وهِيَ مُسْلِمةٌ له (¬2) فالنَّفقةُ واجِبةٌ؛ قلتُه تخْرِيجًا. وقد تُستثْنَى الواهِبةُ، وستَأتِي. فيَدخُلُ فِي الضابطِ: الرَّتْقاءُ، والقَرْناءُ، والحائضُ، والنُّفَسَاءُ والمُحرِمةُ والصَّائمةُ، والمُظاهَرُ مِنها، والمُولَى مِنها، والمَريضةُ والمَجنونةُ إلا فيما سَبَقَ فيهما، والأَمَةُ إذا سُلِّمَتْ لِلزَّوجِ نهارًا ولَيلًا ومَنْ لا تَستحقُّ النَّفقةَ لِأنَّها صغِيرةٌ أوْ ناشِزةٌ. ومِنها (¬3): أن يدعوَهُنَّ إلى بَيْتهِ فتَمتنعَ واحدة، أوْ يدعُوَها حيثُ يَجوزُ تَخصيصُها بِذلك فتَمتنِعَ أو تَدَّعيَ الطلاقَ، أو تكونُ مُعتَدَّةً عن وطْءِ شُبهةٍ أو مَحبوسَةً (¬4) أو مغصوبةً منه، أوْ غيْرَ مُمَكِّنِةً، أو أمَةً لَمْ تُسلَّمْ نهارًا، أوْ حُرَّهً سُلِّمَتْ في (¬5) بَعضِ الزَّمانِ دُونَ بَعْضٍ، أو مسافرةً بإِذْنِه فِي حاجتها فلا (¬6) ¬
وللقسم مكان وزمان، وحالة تقتضي التفصيل أو الانفراد في المبيت.
تَستحقُّ القَسْمَ. والقَسْمُ على كلِّ زَوجٍ بالغٍ عاقِلٍ، وعلى وليِّ المَجنونِ الذي يأمَنُ (¬1)، ولا يَضرُّه الجِماع (¬2). وأمَّا الصغيرُ (¬3) الذي لا يَحصُلُ (¬4) مِنه (¬5) مقصودُ العِشرَةِ فلا يتعلَّقُ بوَليِّه ذلك. * * * ولِلْقَسْمِ مكانٌ وزمانٌ، وحالةٌ تقتضِي التفصيلَ أو الانفرادَ فِي المَبيتِ. * أمَّا المكانُ: فإنْ لَمْ ينفرِدِ الزَّوجُ بمَسْكَنٍ: فإنَّه يَدُورُ على مَساكِنِهنَّ، وإنْ كان له مَسْكنٌ فلَه أَنْ يدْعُوَهُنَّ إليه، والأَوْلَى أَنْ يَدورَ (¬6) عليْهِنَّ. ولا يَجوزُ أَنْ يَمْضِيَ إلى بعْضِهِنَّ ويَدعُوَ بَعْضًا إلا فِي أربَعِ صُوَرٍ: ¬
وأما الزمان
إحداها: إذا كانت (¬1) التي يَدعُوها عَجوزًا، والتي (¬2) يَمْضِي إلَيْها شابَّةً. الثانيةُ: أَنْ تكونَ التي (¬3) يَمْضِي إلَيْها قَريبةَ المَنزِلِ، والتي يَدعوها بَعيدةَ المَنزِلِ. الثالثةُ: إذا أقْرَعَ لِذلك، قال الرافعيُّ: فيَنبغِي القَطْعُ بالجَوازِ، وفيما قالَه نَظرٌ. الرابعةُ: إذا حَصَلَ التَّراضِي بذلك؛ قلتُه تخْريجًا. وإذا أَقامَ عِندَ (¬4) واحدةٍ ودَعَا غَيْرَها إلى مَنزِلِها لَمْ يَلزَمِ المَدعُوَّةَ (¬5) الإجابةُ. ولا يُجمَعُ بيْنَ ضَرَّتينِ فِي مَسكنٍ واحدٍ إلا بِرِضاهُما (¬6). * وأمَّا الزمانُ (¬7): فعِمادُ القَسْمِ الليلُ (¬8)، والنهارُ قبْلَه أوْ بَعْدَه تابعٌ له، وَمَنْ عملُه باللَّيلِ وسُكونُه بالنَّهارِ كالحَارسِ ونحوِه، ينْعكِس الأمْرُ فِي حقِّه. ¬
وعِمادُ قسْمِ المسافِرِ وقتُ نُزولِه قلَّ أو كثُرَ. وفِي الجُنونِ المُنقطعِ المُنضبِطِ العِبْرَة (¬1) بوَقْتِ (¬2) الإفاقَةِ حتى لَو كانتْ بالنَّهارِ فقَط كان هُوَ المُعتبَرَ، وتُجعَلُ أيامُ الجُنونِ كالغَيبةِ؛ نصَّ عليه. ويُعتَدُّ بِما قُسِمَ فِي الجُنونِ على النَّصِّ كالمَرَضِ (¬3). وأقَلُّ نُوَبِ القَسْمِ لَيْلةٌ (¬4) وهو الأَوْلى (¬5) مِنَ الزِّيادةِ، ويَجوزُ لَيلتَينِ وثلاث، وتُكرَهُ الزِّيادةُ على الثلاثِ على النَّصِّ فِي "الأُمِّ" و"المختصَرِ" (¬6). وصَرَّحَ فِي "الأُمِّ" (¬7) بأنَّ الزِّيادةَ على الثَّلاثِ ليس بِحرَامٍ، وهذا خِلافُ ما صحَّحُوه، وقالوا: إنَّه المَذهبِ. ويُقرَعُ فِي ابتداءِ القَسْمِ لِلْمُتقدِّمِ (¬8) على الأرْجحِ، وإذا (¬9) حَصَلَ التراضِي بتقْدِيمِ واحدةٍ لَمْ يَمتنِعْ وقلَّ مَنْ ذكَرَ هذا. ولا يَدخُلُ فِي النَّهارِ (¬10) على غَيرِ صاحِبةِ النَّوبةِ إلا لِضَرورةٍ كمَرضِها ¬
وأما الحالة التي تقتضي التفصيل
المَخوفِ أوِ لحَريقٍ أوْ نَهْبٍ و (¬1) نحوِهما، ولَمْ يَذكرُوه، ولا يَقضِي. فإنْ طالَ مُقامُه عندَ المَريضةِ قَضاهُ مِن نَوبتِها لِصاحبةِ النَّوبةِ، وفِي التَّتابعِ (¬2) يَدخُلُ لِلْحاجةِ كتَسليمِ نفَقةٍ ووَضْعِ مَتاعٍ وتَعَرُّفِ خَبرٍ، ولا يُطيلُ المُقامَ. ويَحْرُمُ أن يُجامِعَ (¬3)، ولا يَحرمُ الاستمتاعُ على الأصحِّ، ومَتى دَخلَ لِغَيرِ حاجةٍ حَرُمَ، وإنْ قَصُرَ، ويَقضِي إنْ لَمْ يَكنْ يَسيرًا (¬4)، ولا تجبُ التسويةُ بيْنهُنَّ فِي الإقامةِ نهارًا. * وأمَّا الحالةُ التي تَقتضِي التَّفصيلَ: فالحرِّيَّةُ، وحَقُّ الزِّفافِ، والمُسافَرُ بها بالقُرعةِ فِي غَيرِ النُّقلةِ، والمَوهُوبُ لَها، أو مَن خَصَّها (¬5) الزَّوجُ بنَوبةِ الوَاهبةِ مِنه فيَقْسِمُ لِلْحُرَّةِ مِثْلَيِ (¬6) الأَمَةِ -ولَو مُدَبَّرَةً أوْ مُكاتَبةً أوْ مبعَّضةً- ولا يُتصَوَّرُ ذلك إلا أَنْ يكونَ فِي الزّوجِ رِقٌّ، أوْ نَكَحَ الحُرُّ أمَةً بالشُّروطِ ثمَّ نَكحَ حُرَّةً أو فِي اللَّقيطةِ (¬7) يُقِرُّ بالرِّقِّ بعد تَزويجِه. ¬
ومَتى عَتقتِ الأمةُ قبْلَ تَمامِ لَيْلتِها فلا تُفَضَّلُ الحُرَّةُ عليها إنْ بَدَأ بالحُرَّةِ، فإنْ بَدأ بالأمَةِ فعَتقَتْ قبْلَ تَمامِ نَوبتِها، ولَو فِي التتابُعِ، فإنَّها تُلْحَقُ بالحَرائرِ. وكذا إنْ عَتَقَتْ بَعْدَ نَوبتِها فِي الأُولى مِنْ لَيْلتَي الحُرَّةِ فيُقتصَرُ علَيْها، نَصَّ علَيه فِي القَديمِ؛ ولَمْ يُخالِفْه فِي الجَديدِ، وجرَى عليه (¬1) الشَّيخُ أبو حامدٍ وغيره خِلافًا للإمام وغَيرِهِ مِمَّنْ رَجَّحَ أنَّ عِتْقَها بَعْدَ نَوبتِها لا يَقتضِي التَّسويةَ. وعلى الأوَّلِ لَوْ عَتَقَتْ فِي الليلةِ الثانيةِ للحُرَّةِ خَرَجَ مِن عِنْدِ الحُرَّةِ فِي الحالِ. وتَختصُّ الجديدةُ البِكرُ -ولو أَمَةً- عِنْدَ الزَّفافِ بِسَبعٍ، والثيِّبُ -ولَو أَمَةً- بثَلاثٍ. ويُستحَبُّ أَنْ يخيِّرَ الثيِّبَ بيْنَ أن يُثَلِّثَ بِلَا قَضاءٍ أو يُسَبِّعَ بالقَضاءِ، فإن سبَّعَ بِطَلَبِها قضَى الكُلَّ، وإلا قَضى الزَّائدَ. والمسافَرُ بِها بالقُرعةِ فِي غَيرِ النُّقلةِ (¬2) أوْ بالتَّراضِي -كما ذَكرَه المَاورْدِيُّ- يَختصُّ بزمانِ السَّفرِ وإنْ قَصُرَ أو أرْدَفَه بسَفرٍ آخَرَ جَبْرًا (¬3) لِمَا حَصَلَ لَها به مِنَ المَشقةِ (¬4)، فلا يَقضِي للمُقيماتِ زَمنَ (¬5) السَّفرِ ذَهابًا وإيابًا، ويَقضِي ¬
مُدةَ (¬1) الإقامةِ إذا نَوى بِهَا النُّقلةَ على النَّصِّ فِي "الأُمِّ"، و"المُختصرِ" (¬2). وقال به جَمْع مِن الأصْحابِ وهو المُعتمَدُ، خِلافًا لِمَنِ اعتَبرَ مُطْلَقَ نِيةِ الإقامةِ، وهُمُ المُتأخِّرونَ مع اضْطِرابِهم فِي ذلك. واعتَبَرَ الغزَّاليُّ كونَ السفرِ مرخِّصًا ويَقتضِي (¬3) وُجوبَ القَضاءِ فِي سَفَرِ المَعصيةِ، وهو بَعيدٌ. وإنْ سافرَ لِنُقلةٍ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَستصحِبَ بعضَهنَّ بقُرعةٍ (¬4)، وإذا استَصحَبَ بَعْضَهنَّ (¬5)، ولَو بالقُرعةِ، يَقضِي (¬6) لِمَنْ لَمْ يَستصحِبْها (¬7). ومَنْ وَهَبَتْ حَقَّها مِنَ القسْم مِنْ ضَرَّةٍ مُعيَّنةٍ فالقَبولُ للزَّوجِ ولا يَلزَمُه، فإنْ رَضِيَ اختُصَّتِ المَوهُوبةُ لَها (¬8) بِنَوبةِ الوَاهبةِ فتفضُلُ بِها، وتَصِلُ نَوبتَها ¬
بنَوْبتِها إنْ كانتَا مُتَّصِلتَينِ قبْلَ ذلك. وإن وَهَبَتْ حَقَّها مِنَ الزَّوجِ فلَه تَخصيصُ واحدةٍ بها على الأصحِّ. وإن وهَبَتْ منهُنَّ جَميعًا سوَّى. ولِلْواهبةِ الرُّجوعُ. وما فاتَ قبْلَ عِلْمِ الزَّوجِ لا يُقضَى، وكذا فِي عِتْقِ الأَمَةِ. ويَنبغِي أَنْ يكونَ عِلْمُ الزَّوجةِ بذلك مُقتضيًا لِلْقضاءِ، ولَمْ يَذكرُوه. ولا يُنظَرُ ذلك بإِباحةِ الثِّمارِ، فإنَّه يُغرَمُ لِلْأكلِ بعْدَ الرُّجوعِ، وإنْ لَمْ يعلَمْ على الأرْجحِ. وما لَزِمَ الزَّوجَ قَضاؤُه يَقضيه لِلْمَظلُومةِ مِن نَوبةِ المَظلومِ بِها. ويَحرُمُ طَلاقُ المَظلومةِ قبْلَ أَنْ يُوفِّيَ حَقَّها، وسيأتِي في (¬1) مَواضِعِ تَحريمِ الطلاقِ فِي بابِه. * * * وأمَّا الشِّقاقُ، فإن عُلِمَ المُتعدِّي فيه مُنعَ مِنْ تعدِّيه. فإن ابتدأتْ هِيَ فقدْ قالَ اللَّهُ تبارك وتعالى (¬2): {وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ} (¬3) ¬
الآيةَ، فإذا وَجَدَ مِنها كَلامًا خَشِنًا بَعْدَ لِينٍ، أوْ عُبوسًا بعْدَ طَلاقةٍ، وعَظَها بـ "اتَّقِي اللَّهَ" ونَحوِه. ولا تُهْجَرُ، ولا تُضرَبُ على المَشهورِ. وإنْ تَحقَّقَ نُشوزَها ولَمْ يَتكرَّرْ وَعَظَها، وهجَرَها فِي المَضْجَعِ لا فِي الكلامِ. وله الضَّرْبُ على أرْجحِ القَوْلينِ، خِلافًا لِمَا فِي "المُحرَّرِ" (¬1). وإنْ تكرَّرَ، فله الضَّرْبُ قَطْعًا. ولا يَضربُها ضَرْبًا مُدْمِيًا ولا مُبرِّحًا (¬2)، ويتقِي الوَجهَ والمَهالكَ. وإنْ أفْضى إلى تلَفٍ وجَبَ الضَّمانُ. وإن ابتدأَ هو فآذاها بِلا سَببٍ نَهاهُ الحاكِمُ فإنْ عادَ عزَّرَه (¬3). وإنْ نَسَبَ كلُّ واحدٍ مِنْهما صاحِبَه إلى الظُّلْمِ، وأَشْكلَ الحالُ تعرَّفَ الحاكمُ حالَهما بِمَا يَراهُ مِن الطُّرقِ المُعتبَرةِ [وعَمِلَ بِمُقتضَى ما ظَهَرَ لَه] (¬4). فإنِ اشْتدَّ الشِّقاقُ بيْنَهُما بَعثَ القَاضِي حَكَمًا مِنْ أهْلِه وحَكَمًا مِنْ ¬
أهْلِها (¬1). وهذا (¬2) البَعْثُ واجِبٌ على الأصحِّ (¬3). والمَبعوثانِ وكَيلانِ على أصَحِّ القَوْلَيْنِ، والثاني: حَاكِمانِ (¬4) مُوَلَّيانِ (¬5) مِن جِهَةِ الحاكِمِ (¬6). فعلى الأصحِّ: لابُدَّ مِن رِضَى الزَّوجَيْنِ بِذلك (¬7). ويُوكِّلُ (¬8) الزَّوجُ (¬9) حكَمَهُ بالطَّلاقِ، وقَبولِ العِوَضِ فِي الخُلْعِ، ¬
والزَّوجةُ (¬1) حكَمَها بِبذْلِ العِوَضِ، وقَبولِ الطَّلاقِ (¬2). ولابُدَّ فِي المَبعوثَيْنِ مِنَ التَّكليفِ، وكذا الإسْلامُ، والحُرِّيَّةُ، والعَدَالةُ (¬3)، وإنْ قُلْنا: وكِيلانِ على ما صحَّحُوه، لِأنَّها وَكالة تَعلَّقَتْ بِنظَرِ الحاكِمِ. ويُعتبَرُ (¬4) فيهما الذُّكورةُ (¬5)، وإنْ قلْنا: حَكَمانِ، وكذا إنْ قُلْنَا: إنَّهما وَكيلانِ، على ما جَزمَ به المَاورْديُّ خِلافًا لِلْحناطي؛ حيثُ قالَ: لا يُشتَرَطُ فِي وَكِيلِها، وفِي وَكِيلِهِ وجْهانِ، ويُستحبُّ أَنْ يكونَ حَكَمُهُ مِنْ أهْلِه، وحَكَمُها مِنْ أهْلِها (¬6). * * * ¬
كتاب الخلع
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ كتاب (¬1) الخلع هُو بِضَمِّ الخَاءِ. لُغَةً: فِراقُ المَرأةِ على بَدَلٍ. ويُقالُ: "اختِلاعٌ" مِن اخْتَلَعَ، و"مُخالَعةٌ" مِنْ خَالَعَ، وخَالَعَتِ المَرْأةُ بَعْلَها: أَرادتْه (¬2) على طلاقٍ (¬3)، بِبَذْلٍ مِنْها له، فهِيَ خَالِعٌ. والاسْمُ الخُلْعةُ بِضَمِّ الخَاءِ وإسْكانِ اللَّامِ. وقَدْ تخَالعَا (¬4) فاخْتَلعَتْ فهِيَ مُختلِعةٌ بِكَسْرِ اللَّامِ. ¬
والرَّجُلُ مِنِ اخَتَلَعَ مُخْتَلِعٌ بكَسْرِ اللَّامِ أيضًا. وسُمِّيَ بِذلكَ لِأنَّ الزَوجينِ كُلٌّ مِنهُما لِباسُ الآخَرِ اسْتِعارةً أوْ تَشبيهًا (¬1)، شاهِدُهُ {هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ} ثُمَّ بالفِراقِ على العِوَضِ خَلْع لِلِّباسِ مِن الجَانِبيْنِ بالتَّراضِي. واختَصَّ بِذلكَ دُونَ بَقيةِ وُجوهِ الفِراقِ للامْتِيازِ وطُرِدَ فِي الخُلعِ مع الأجْنَبيِّ، وفُرِّقَ بيْنَه وبَيْنَ خَلْعِ اللِّباسِ الحَقيقيِّ بضَمِّ الخَاءِ، وبَقيةِ (¬2) التَّصاريفِ. * * * وشَرْعًا: فِراقُ الزَّوجةِ بِبَذلٍ قابِلٍ لِلْعِوَضِ (¬3)، يَحصُلُ لِجِهَةِ الزَّوجِ على وجهٍ مخصوصٍ. ويُسمَّى "افتِداءً"، وما تَفتدِي به المرأةُ: "فِديةً". * * * وأصلُه قبْلَ الإجْماعِ قولُه تعالى: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} (¬4). ¬
ولمَّا شَكَتْ زَوجةُ (¬1) ثابتِ بْنِ قُيْسٍ مِنه، قالَ [لَها (¬2) رسولُ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "أترُدِّينَ عليه حَدِيقَتَهُ؟ " قالتْ: نَعَمْ، فقالَ] (¬3) رسولُ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- لثابتٍ: "اقبَلِ الحديقَةَ وطَلِّقْها تَطْليقَةً (¬4) " رواهُ البخارِيُّ (¬5). وعَرَّفْنَا الخُلعَ الصَّحيحَ، وقُلْنا: "بِبَدلٍ"، ولَمْ نقيِّدْه بَمذكورٍ، لِيتناولَ ما إذا (¬6) اخْتلَعَا مِنْ غَيْرِ ذِكْرِ مَالٍ، فإنَّه يَثبُتُ مَهْرُ المِثْلِ للزَّوجِ على ما رجَّحَه جَمْعٌ مِنَ المَراوِزَةِ وبعْضُ العِراقِيِّينَ، وعليه جرَى المُتأخِّرونَ. وأخْرَجْنَا بـ "قابِلٍ لِلْعِوضِ": بَدَلًا لا يَقْبَلُ العِوضَ كخَمْرٍ ومَجهولٍ ومَغصوبٍ ونحوِها، فإنَّه يُفْسِدُ الخُلْعَ. ويَجِبُ للزَّوجِ مَهْرُ المِثْلِ (¬7) إلا إذا كان فِي خُلْعِ الكفَّارِ (¬8) فِي الخَمْرِ ونحْوِه، فإنه قابِلٌ لِلْعِوَضِ عِندهم، فيكونُ الخُلْعُ به (¬9) صَحيحًا، كما فِي أنْكِحَتِهم، حتى لو حَصلَ إسْلامٌ بَعْدَ قَبْضِ الخَمرِ كلِّه فإنه لا شَيْءَ له عليها، وإنْ كان الإسلامُ قَبْلَ قَبضِهِ وَجَبَ مَهْرُ المِثْلِ للتعذُّرِ، وفِي قَبضِ بعضِهِ قِسْطُ مَهْرِ المِثْلِ. ¬
وليس لنا خُلْعٌ بِخَمرٍ ومَغصوبٍ ونَحوِهما يَقعُ الطلاقُ بِسببِ ذلك رَجْعيًّا (¬1). ولا مهر إلا فِي صُورةِ الخُلعِ مَع غَيرِ الزَّوجةِ مِنْ أبٍ أوْ أجْنبيٍّ "على هذا الخَمْرِ" [أو: "على هذا المَغصوبِ"] (¬2) أو: "على عَبدِها هذا"، أو "على صَداقِها"، ولَمْ يُصرِّح بنِيابةٍ ولا استِقلالٍ أو "على عَبْدِ زَيدٍ (¬3) "، وإنَّما يَجِبُ مهرُ المِثْلِ فِي البدَلِ الفَاسدِ [فِي غَيْرِ هذا] (¬4) إذا كان البدلُ مَقصُودًا، فإنْ كان غَيْرَ مَقصودٍ كالدَّمِ فإنه يَقعُ رَجعيًّا. وقلنا: "يَحصُلُ لِجِهَةِ الزَّوجِ": لِيَدخُلَ مَالكُ الزَّوجِ غَيرِ المكاتَبِ، فإنَّ البَدَلَ لا يَحصُلُ للزَّوجِ، بَلْ لِسيِّدِه، وقَدْ يَسقطُ عَنِ العَبْدِ أو الحُرِّ إذا حَصَلَ (¬5) الخُلْعُ على ما فِي ذِمَّتِه مِنْ صَداقٍ أوْ غَيرِه، وقَد يكونُ البدَلُ إرْضاعَ ولَدِ الزَّوجِ (¬6) ونحوَ ذلك، وجِهَةُ الزَّوجِ تَشملُ ذلك كلَّه. ¬
وينقسم الخلع إلى
وقلْنَا: "على وَجْهٍ مَخصوصٍ"، لِيشمَلَ ما يُعتبَرُ فِي العاقِدَينِ ونحو ذلك. * * * ويَنقسِمُ الخُلْعُ إلى: - صحيحٍ يُوجِبُ البَيْنونةَ والمُسمَّى أوْ بعضَهُ، وقدْ يَطرأُ عليه ما يُوجِب مَهْرَ المِثْلِ مِن تَلَفِ المُعيَّنِ فِي العَقدِ قَبْلَ القَبْضِ ونحوِه، أو فسخٍ بتخَالُفٍ، أو ردِّ المُعيَّنِ بِعَيبٍ. - وإلى فاسِدٍ يُوجِبُ البَينونةَ ومَهْرَ المِثلِ. ووَراءَ ذلك حالتَانِ (¬1): إحداهما (¬2): يَقعُ الطلاقُ فِيها رَجعيًّا. والثانيةُ: لا يَقعُ الطلاقُ فيها. فأمَّا الصحيحُ فلا بُدَّ مِن صُدورِه مِن مكلَّفَيْنِ مُختارَيْنِ أحدُهما الزَّوجُ، ولو سَفيهًا أو عَبْدًا أوْ وكيلُ الزَّوْجِ على بُضْعِ زَوْجةٍ -ولَو رجعيةً (¬3) - على أصحِّ القَوْلَينِ، أوْ مُرتدةٌ إذا عادَتْ إلى الإسْلامِ قبْلَ انقِضاءِ العِدةِ على النَّصِّ المَعمولِ بِه، وفِيه مِن الوقْفِ ما يُشكِلُ فِي العِوَضِ (¬4). * * * ¬
ضابط
* ضابطٌ: ليس لنَا امرأةٌ لا تَصحُّ رَجعتُها ويَصِحُّ خُلْعُها غَيْرَ المُرتدةِ على رأيٍ رُجِّحَ إلا فِي مَوضعٍ واحدٍ، وهو (¬1): ما إذا كانتِ المُطَلَّقةُ طَلاقًا رَجْعيًّا حاملًا مِن وَطْءِ شُبهةِ أَجنبيٍّ سابِقٍ أوْ لاحِقٍ، فلا يَجوزُ (¬2) رَجعتُها فِي حالةِ الحملِ (¬3) -على وجْهٍ صَحَّحه المَاورْديُّ والبغَوِيُّ- ويَصِحُّ خُلْعُها، والأرْجحُ صِحةُ رَجْعتِها حينئِذٍ فعَليْه لا يُستثنَى (¬4). وليس لنَا امرأةٌ يَلحَقُها الطلاقُ، ولا يصِحُّ خُلْعُها مَعها مَع صِحةِ تَصرُّفِها، ولا مَع أجنبيٍّ إلا مَنْ طَلَّقها رَجعيًّا، وعاشَرَها كالزَّوجِ بِلَا وَطْءٍ وانْقضتِ الأقْراءُ أوِ الأَشهُرُ وقُلْنَا بِطريقةِ القَفَّالِ (¬5) أنه يَلحقُها الطَّلاقُ، ولا يُراجعُها (¬6)، فإنه لا يصِحُّ (¬7) خُلْعُها؛ لِأنَّها بَائنٌ، إلَّا فِي الطلاقِ؛ قلتُه تَخريجًا. ولا استِثناءَ على ما أفْتَى به القاضِي الحُسينُ (¬8) مِن صِحَّةِ رَجْعتِها حينئذٍ، وهو الأرْجَحُ، ولَمْ يَذكُرْه المُتأخِّرونَ، ولَمْ تَصحَّ ليَ الطريقةُ (¬9) الأُولى عنْ أحَدٍ مِن الأصْحابِ. ¬
ويُعتبَرُ فِي باذِلِ العِوَضِ مِن الزَّوجةِ أوِ الأجنبيِّ إطلاقُ تَصرُّفِه فيه إنْ كان مُعيَّنًا، وأهْليةُ الالتِزامِ لِما التَزَمَه (¬1) فِي الذِّمَّةِ. فيَصحُّ خُلْعُ الأَمَةِ بِإِذْنِ سيِّدِها على ما عيَّنَه أو ما قدَّرَه، وكذا بِغيرِ إذْنِ سيِّدِها إذا اختَلعَتْ على دَيْنٍ على الأَظْهرِ، فإنَّها تتبعُ بِه إذا عَتقَتْ ولا حَجْرَ للسيِّدِ فِي ذلك، خِلَافًا لِمَا فِي "المُحررِ" (¬2) مِنْ إيجابِ مَهْرِ المِثْلِ. وخُفعُ المُكاتَبةِ بإذْنِ سيِّدِها [على ما عيَّنَه أو ما قدَّرَه، وكذا بِغيرِ إذْنِ سيِّدِها] (¬3) صحيحٌ كتَبرُّعِها (¬4) بإِذْنِه. وخُلْعُ (¬5) المَريضةِ مَرضَ المَوتِ بِمَهْرِ المِثْلِ أوْ بِمَا دُونَه نافِذٌ، والزَّائدُ (¬6) يُعتبَرُ مِنَ الثُّلثِ فِي حَقِّ غَيرِ الوَارثِ، ومَع الوَارثِ (¬7) كابْنِ عَمٍّ، ومجدد نكاحها يَتوقَّفُ على إِجازةِ بَقيةِ الوَرثةِ كالزَّائدِ على الثُّلُثِ فِي حَقِّ غَيرِ الوَارِثِ (¬8). * * * ¬
وهو مكروه إلا في ثلاث صور
ويَجُوزُ الخُلْعُ على الصَّداقِ وأقَلَّ مِنْه وأَكثرَ مِنْهُ. وهُو مَكروهٌ إلا فِي ثلاثِ صُورٍ: 1 - إحداها: عِنْدَ خَوْفِ أن لا يُقيمَا حُدودَ اللَّهِ عز وجل، ومِنه حَالةُ (¬1) الشِّقاقِ، وكَراهةُ صُحْبتِه لِسُوءِ خُلُقِه أو دِينِه، وكذا عِند الشَّيخِ أبي حَامدٍ مَنْعُه حَقًّا مِنْ نَفقةٍ (¬2) ونَحوِها، فتُخالِعُه لِتَتخلَّصَ منه (¬3). 2 - الثانيةُ: ضَرَبَها تأْدِيبًا فافْتَدَتْ (¬4). 3 - الثالثةُ: إذا حَلَفَ الحُرُّ بالطلاقِ الثَّلاثِ، أوِ العَبدُ بِطلْقَتَينِ: على فِعْلِ شَيءٍ أوْ نَفْي (¬5) فِعْلِه؛ مُطْلَقًا أو مُقيدًا بِزَمانٍ، ولَمْ يَحصُلِ الحِنْثُ، واحتاجَ إلى إِزالةِ الحَلِفِ فخَالَعَ (¬6) بِحِنْثٍ (¬7) بَانَتْ مِنه، فإنه لا كَراهةَ ويتخلَّصُ مِن الحَلِفِ. ¬
ولا يَحنثُ لَو تَزوجَها، ثم وُجِدَتِ الصِّفةُ، ولَو وُجِدتِ الصِّفةُ حَالَ (¬1) البَيْنونةِ فَهُوَ أَوْلَى إلا فِي نَحْوِ أن لا (¬2) يَطأَها، فيَتعيَّنُ [فِي غَيْرِ الأَمَةِ التي مَلَكَها] (¬3) أن لا يَقَعَ عَمْدًا إلا بعد أَنْ يَتزوَّجَها. وإذا (¬4) كان الحَلِفُ بالطَّلْقةِ التي لَمْ يَبْقَ لِلْحالِفِ غيرُها فأتَى بِلَفْظِ الخُلْعِ مَع الزَّوجَةِ المُتأهِلَّة لِذلك على اعْتِقادِ (¬5) أنَّه فَسْخٌ على مَذْهبِ مَنْ رأَى ذلك وهُو القَولُ (¬6) القَديمُ (¬7). واختارَهُ أبُو مَخْلَدٍ البَصريُّ، وقال: إنَّ الفَتوى عليه، ونَصَرَ أدلتَهُ الشيخُ أبو حامِدٍ وغيرُهُ (¬8). وجَرَى الحالِفُ على اعْتِقادِ أنَّ الصِّفةَ لا تَعودُ لَمْ يَمتنعْ (¬9) ذلك، وفِيه بَحْثٌ (¬10). ولا يَصِحُّ الخُلْعُ حِينئذٍ مَع الأجنَبيِّ عند الأصحابِ على القَوْلِ بأنَّه فَسْخٌ، ¬
ولو قِيلَ بِصحتِه لَمْ يَبعُدْ، كما هو مَشهورُ الحَنابلةِ (¬1). وإذا صدَر لَفْظُ الطلاقِ فهُو طلاقٌ قَطْعًا. والجديدُ: أنَّ لَفْظَ الخُلعِ طَلاقٌ (¬2)، وهُو مِن صَرائحِ الطلاقِ على مَنصوصِ "الإملاءِ" [ورجَّحه جماعةٌ (¬3). ونَصَّ في "الأُمِّ" على أنَّه كِنايةٌ] (¬4)، ورجَّحَه الرُّويانيُّ وغيرُه، والعملُ عِند ¬
المُتأخرِينَ على الأوَّلِ. والمُفاداةُ كالخُلْعِ على الأصحِّ. ولا يُشتَرَطُ فِي صَراحتِهما (¬1) ذِكرُ العِوَضِ على طَريقةِ الأكثَرينَ خِلافًا لِما وَقَع فِي "الرَّوضةِ" (¬2) وغيرِها. ولَفْظُ الفَسخِ وبَقيةُ الكِناياتِ فِي الطَّلاقِ (¬3) كِنايةٌ قَطْعًا، وقيلَ: مَعَ ذِكْرِ العِوَضِ صَريحٌ فِي الطلاقِ؛ ذَكرَه الشَّيخُ أبو حامدٍ؛ وهُو غَريبٌ، وعليه يُنَزَّلُ ما فِي "التَّنبيهِ" (¬4). ¬
ولَفْظُ البَيعِ والشِّراءِ والإِقالةِ كِنايةٌ فِي الخُلعِ كـ "بعتُكِ نفسَكِ بِكذَا" أوْ (¬1) نحوِه (¬2)، وقالَ أبُو عاصِمٍ العَباديُّ (¬3): يَقعُ الطلاقُ مَع ذِكْرِ العِوَضِ صَريحٌ. ولِلْخُلْعِ على الجَديدِ ثلاثةُ أُصولٍ فُروعُهُ نازِعةٌ إليها. ويَختلِفُ الحُكْمُ فِي الفُروعِ بِسَببِ ما يَغلِبُ مِن الأصُولِ، إذِ العُرْفُ يُراعَى، وهِيَ المُعاوَضةُ، والتَّعليقُ، والجَعَالةُ. وتغلَّبُ مِنْ جَهةِ (¬4) الزَّوجِ المُعاوَضةُ، وفيه (¬5) شَائبةُ التعليقِ، إلا إذا صَرَّحَ بالتعليقِ فيُغلَّبُ التَّعليقُ، وقدْ يُراعَى (¬6) حِينئذٍ الأصْلانِ. ¬
ويغلَّبُ مِن جِهَتِها المُعاوضةُ، وفيه شائبةُ الجَعالةِ فإذا بَدأَ (¬1) الزَّوجُ بـ "طلقتُكِ على كذا" أو: "خالعتُكِ على كذا" غُلِّبتِ المُعاوضةُ فيَجوزُ رُجوعُه قَبْلَ قَبُولِها. ويُعتبَرُ قَبولُها لَفْظًا على الفَورِ إذا لَمْ يَرجِعْ، ويُغتفَرُ تَخلُّلُ كلامٍ يَسيرٍ أَجنبيٍّ على الأصحِّ، مِمَّنْ لَمْ يَأتِ بالعبارةِ (¬2) المَطلوبةِ منه. وأمَّا مَن أَتى بِها فيُغتفَرُ مِنه ذلك (¬3) قَطْعًا. ويُشتَرَطُ مُوافقَةُ قَبولِها لإيجابِه فِي العِوَضِ وعِدَدِ الطلاقِ إلا فِي صُورةٍ واحدةٍ وهيَ: ما إذا نَقَصَتِ العِدَدُ، فلَو ذَكرَ عِوَضًا فنَقصتْهُ (¬4) أوْ زَادَتْه، أوْ قال: "طلقتُكِ ثلاثًا بألْفٍ" فقبِلَتْ واحدةً بثُلُثِ الألْفِ، فإنه لا يَقعُ الطلاقُ، كما لا ينعقِدُ البَيْعُ ونحوُهُ فِي ذلك. وإنْ نَقصَتِ العَدَدَ فقط بأنْ قال: "طلقتُكِ ثلاثًا بألْفٍ" فقبِلَتْ واحدةً بالْأَلْفِ، فالأرْجَحُ وُقوعُ الطلاقِ لاستِقلالِ الزَّوجِ بالطلاقِ ولُزومِها الألفَ لتوافُقِهما على العِوَض. وإن صرَّحَ بالتَّعليقِ لَمْ يَكنْ له أَنْ يَرجِعَ قَبْلَ وُجودِ المعلَّقِ عليه فِي جَميعِ الصِّيَغِ تَغليبًا لِلتَّعليقِ، كما لا يَرجعُ عنِ التَّعليقِ إذا خَلا عَن العِوَضِ فِي ¬
نحْوِ: "إنْ دخلْتِ الدارَ فأنتِ طالقٌ" (¬1)، ولا يحتاجُ هُنَا إلى القَبولِ لَفْظًا، بَلْ يحتاجُ إلى وُجودِ الصِّفةِ المعلَّقِ علَيها. ومِن ذلك: لَو علَّقَ على القَبُولِ. ولَو وُجِدَتِ الصّفةُ (¬2) بزِيادةٍ فِي الإِعطاءِ أو الضَّمانِ وقَعَ الطَّلاقُ، بخِلافِ ما مَرَّ فِي "خالعتُكِ" نَظَرًا للتعليقِ هُنا، وهُناكَ لِلْمعاوضةِ، ثُم إنْ كان التَّعليقُ بـ "متى"، أو "متى ما"، أو "أيُّ وقتٍ"، أو "أيُّ زمانٍ أعطيتَنِي كذا"، أو "ضمنتَ لي كذا"؛ فإنه لا يُشترَطُ وُجودُ الصفةِ فِي المَجْلسِ لأنَّ هذِه الصِّيَغَ صَريحٌ فِي التَّراخِي. ومِن ذلك: "أنتِ طَالقٌ على ألفٍ متَى شِئْتِ"؛ فإنها لا تَطْلُقُ حتى تَشاءَ ذلك، والأمرُ فيه على التَّراخِي، إلا أن يُقَيِّدَ فِي جَميعِ ذلك بِزَمانٍ أو مَجلِسٍ فيُعتبَرُ ما قيَّدَه، ولَمْ يَذكُروه. وإنْ كانَ التعليقُ بإنْ أوْ إذَا، اعتُبِرَ الفَوْرُ فيما عَلَّقَ علَيْه كما سَبَقَ نَظرًا لِلْمعاوضةِ التي لَمْ يُصَرَّحْ فيها بالتَّراخِي ولو كانَتْ أَمَةً، خِلافًا لِلْمُتولِّي فِي نَحوِ أَنْ يَقولَ لَها: "إنْ أَعطيتِني (¬3) ألفًا فأنتِ طالقٌ" فإنه لا يُشترَطُ عنده (¬4) إِعْطاءُ الأَمَةِ ذلك على الفَورِ لِعَدمِ قُدْرتِها فِي الغالِبِ على ذلك بِخِلافِ الحُرَّةِ، وسَوَّى بينَهُما فِي نَحوِ: "إنْ أَعطيتِيني (¬5) خَمْرًا" وما ذَكرَه ضعيفٌ. ¬
وفِي "أَنْتِ طَالِقٌ على ألْفٍ إنْ شِئْتِ"، تُعتبَرُ مَشيئةُ (¬1) المُخاطَبةِ (¬2) بذلك على الفَورِ، ولا يَكفِي قَبُولُها. ولا يَجِبُ أَنْ يُجمَعَ بيْنَ المَشيئةِ والقَبولِ، وفِي "طلِّقِي نفسَكِ إن ضمِنْتِ لِي أَلْفًا" يُعتبَرُ الفَورُ، فتقولُ: "طلقتُ وضمِنْتُ" أو "ضَمِنتُ وطلقتُ"، وإذا قال: "إنْ أَبْرَأتِيني (¬3) مِن صَداقِكِ" أوْ "أَبرأتِيني، فأنْتِ طَالقٌ" فأَبْرأتْهُ مَع الجَهل بمِقدارِ ما أبْرَأَتْ منه فإنه لا يَقعُ الطلاقُ تغْلِيبًا للتَّعليقِ ولَمْ تُوجَدِ الصِّيغَةُ (¬4)، وكذا فِي السَّفيهةِ، وَقَلَّ مَنْ تَعرَّضَ لِذلك. ولا تَلبيسَ (¬5) بالخُلعِ على المَجهولِ فإنَّه يَقعُ [الطلاقُ (¬6)، ويَجِبُ مَهْرُ المِثْلِ تغْليبًا لِلمُعاوَضةِ، ولا بِالخُلْعِ مع السفِيهةِ، فإنَّه يَقَعُ] (¬7) رَجْعيًّا لأنَّه لَمْ يَطْمَعْ مَع العِلْمِ بِسفَهِها فِي مالٍ، فإنْ لَمْ يَعلَمْ بِحَيثُ لَمْ يُعَدَّ مُقصِّرًا فإنه لا يَقَعُ الطلاقُ؛ قُلْتُه تَخْريجًا نَظَرًا لِشائِبةِ التَّعليقِ. وإذا عَلَّقَ الطَّلاقَ بِإعْطاءِ الخَمْرِ فأَعْطَتْه الخَمْرَ، ولَو كان مَغْصوبًا طَلَقَتْ نَظرًا للتَّعليقِ، وبَانَتْ إنْ كانَتْ رَشيدةً، ويَجِبُ علَيها مَهْرُ المِثْلِ نَظَرًا لِلْمُعاوضةِ التي هِيَ غَيرُ مَحضةٍ، وهِيَ المُرادةُ هُنَا. ¬
وفِي الصَّداقِ والصُّلحِ عنِ الدَّمِ وهي التي لا يَفسُدُ العقدُ (¬1) فيها بِفسادِ العِوَضِ، بَلْ يُنتقَلُ إلى البَدَلِ. وفِي نَحْوِ: "إنْ أَعطَيْتِيني (¬2) عَبْدًا فأنْتِ طالقٌ" فأَعْطَتْه عَبدًا تَمْلِكه ولها بَيْعُه، طَلَقَتْ نَظَرًا للتَّعليقِ، ولا يَمْلِكُه نَظرًا لِلْمُعاوَضةِ؛ لِأنَّه مَجْهُولٌ، ويَجِبُ له مَهْرُ المِثْلِ نَظرًا لِعَدَمِ تَمَحُّضِها. وهُو مِنْ مُشكِلاتِ البابِ؛ لِأنَّ الإعْطاءَ إنْ كانَ [مَحمُولًا على التَّمليكِ فإذَا لَمْ يُوجَدْ أَشْكَلَ (¬3) وقُوعُ الطلاقِ. وإنْ كان] (¬4) مَحْمولًا (¬5) على مُجرَّدِ الإقْباضِ فلا مُعاوَضةَ حِينئِذٍ، فإنَّه لَو قالَ: "إنْ أقْبضْتِيني (¬6) كذا"، كان كالتَّعليقِ بالدُّخولِ ونَحْوِهِ على الأصحِّ، فيقَعُ عند وُجودِ الصِّفةِ رَجعيًّا. والمَسْلكُ فِي الجَوابِ -مَع ضَعفِه- الحَمْلُ على الأَعَمِّ مَعَ النَّظرِ إلى التعليقِ مِن وَجهٍ، والمُعاوضةِ مِنْ وَجْهٍ كمَا تَقدَّم. ومِثْلُ ذلك "إنْ أَعْطَيتِيني ألفَ دِرْهمٍ مَثَلًا" وأَطْلقَ، فإنَّه مِنْ جِهَةِ التَّعليقِ ¬
يُحمَلُ على الدَّراهمِ (¬1) المَضروبَةِ (¬2) الوَازنةِ، واعْتَبرَ الغَزَّاليُّ ومَنْ تَبِعَه كَونَها خَالصةً (¬3). فلَوْ أَتَتْ بِها، وكانَتْ (¬4) غيرَ غالِبِ نَقْدِ البَلَدِ طَلَقَتْ، ومَلَكَهُ الزَّوْجُ نَظَرًا للتَّعليقِ مَع كَونِ المُعلَّقِ علَيه مَغلُوبًا (¬5) وله ردُّه، وطَلَبُ الغَالِب نَظرًا للمُعاوضةِ. ولَوْ أَعْطَتْه أَلْفًا مَغشوشةً وهي الغالبُ لَمْ تَطْلُقْ فإنْ بَلغَ (¬6) خَالصُ المُعطَى ألفًا طَلَقَتْ ولها اسْتِردادُه وإِعطاءُ (¬7) ألفٍ مَغشوشةٍ نَظرًا لِلْمُعاوضةِ؛ كذا قالَهُ الغَزَّاليُّ، وصحَّحَه المُتأخِّرونَ، وهُو عَجيبٌ؛ فالمَغشوشُ الذي لا يَبلُغُ خَالصُه أَلْفًا لا تَطْلُقُ بإِعْطائِه، ثُمَّ هُوَ المُستقِرُّ آخِرًا، والمَسْلَكُ فيه ما تقدَّمَ مِن النَّظرِ للتعْليقِ أوَّلًا، والمُعاوَضةِ آخِرًا، والأصَحُّ وِفاقًا لِلْبغَويِّ والمُتولِّي وقوعُ الطَّلاقِ بالمَغشوشِ، ولا استِردادَ، لأنَّه الغَالبُ، والمُعاملةُ بِه جَائزةٌ. وإنْ كان الغالبُ الخَالِصةَ فلا تَطْلُقُ إلا إذا أَعطَتْه مِن المَغشوشِ ما يَبلُغُ خالِصُهُ ألفًا، ويُمْلَكُ المُعْطَى، ولا نَظَرَ إلى الغِشِّ لِحَقارَتِه، ولَه الرَّدُّ ¬
والرُّجوعُ إلى مَهْرِ المِثْلِ على ما صحَّحُوه. والقياسُ: إلى ألفٍ خالصةٍ. والمُعتبَرُ فِي الإعْطاءِ التسليمُ له ولَوْ بالوَضعِ بيْنَ يَدَيْه، وكذا فِي الإقْباضِ، ولا بُدَّ مِنَ الاخْتيارِ فِيهما (¬1). وما وَقعَ فِي "المِنهاجِ" فِي الإقْباضِ مِن اعْتِبارِ أَخْذِهِ بِيَدِه، ولَو كانَتْ مُكرَهَةً (¬2) وَهْمٌ فيهما على الفَتْوى، فذاك في: "إنْ قبضْتِ (¬3) " وفي: "إنْ أَعطيتِيني هذا المَغصُوبَ" أوْ "هذَا الحُرَّ" فأَعْطَتْه، يَقَعُ بَائنًا بِمَهْرِ المِثْلِ على الأصحِّ. وأمَّا مِن جِهَةِ الزَّوجةِ، فإذا بَدأتْ بِقَوْلِها: طَلِّقْنِي على كذا، فلَها الرُّجوعُ قَبْلَ جَوابِه نَظرًا لِلْمُعاوضةِ، ويُشتَرَطُ أَنْ يُطلِّقَها فِي مَجْلِسِ التَواجُبِ، ولو كانَتْ صِيغتُها بمِتَى ونحوِها على الأصحِّ تَغْلِيبًا للمُعاوَضةِ مِنْ جِهَتِها إلا إذا صَرَّحتْ بالتراخِي معَ مَتى أوْ مَع غَيرِها، فإنه لا يُشتَرَطُ الفَورُ، ويَلزَمُ (¬4) المُسمَّى إذَا أَجَابَها فِي زَمَنِ التَّراخِي؛ قُلْتُه تَخْريجًا. وليس لنَا صُورةٌ يَلزَمُ فِيها (¬5) المُسمَّى مَع التَّراخِي مِن جِهَتِه (¬6) غَيرَ هذِه ¬
الصُّورةِ. وأمَّا: "طَلِّقْنِي فِي هذا الشَّهْرِ (¬1) ولكَ ألْفٌ"، أوْ "فِي غَدٍ ولَكَ أَلْفٌ"، فَطَلَّقَ فِي الشَّهرِ أو فِي الغَدِ، فإنه يَقَعُ بَائنًا بِمَهْرِ المِثْلِ، وكذا "قبْلَ الغَدِ" عِنْدَ المتأخِّرينَ. والأرْجحُ فِي هذه أنه يَقَعُ رَجعيًّا (¬2) وِفاقًا لِلْماوَرْديِّ وغَيرِه. ولو قالتْ: "طَلِّقْني ثلاثًا بِأَلْفٍ" فَطلَّقَ (¬3) واحدةً، وهو يَمْلِكُ الثلاثَ استَحَقَّ ثُلُثَ الألْفِ، نَظرًا (¬4) لِنظيرِه فِي الجَعالةِ فِي "مَنْ رَدَّ عَبيدِي الثلاثةَ فلَه كذا"، فرَدَّ السامعُ مِنهُم واحدًا، فإنه يستحِقُّ ثُلُثَ الجُعْلِ. وإنْ طَلَبَتْ عَددًا مِن الطلاقِ بِعِوَضٍ سَمَّتْه، فأجَابَها أوْ زادَ فِي العِوَضِ العَددَ (¬5) أوْ أفادَ (¬6) البَينونةَ الكُبْرى، فإنَّه يَستحِقُّ المُسمَّى كُلَّه إلا فِي صُورةٍ واحدةٍ تُفيدُها الكُبْرى، ولا تَستحِقُّ المُسمَّى كلَّه، وهي: ما إذا لَمْ يَبْقَ (¬7) عليها إلا طَلقةٌ، فقالتْ: "طَلِّقْني ثَلاثًا بألف هذه فِي هذا النكاحِ، وثِنْتانِ فِي نِكاحٍ آخَرَ بَعْدَ زَوجٍ" فأَفادَها الكُبرى، فإنه لا يَستحِقُّ علَيها إلا ثُلُثَ الألْفِ على ما صحَّحوه. ¬
ونَصَّ فِي "المُختصَرِ" على أنَّه يَستحِقُّ علَيْها مَهْرَ المِثْلِ وهو الأقوَى. ويَستحِقُّ المُسمَّى فِي التَّعليقِ أيْضًا، فإذا قال: "إنْ دَخَلْتِ الدارَ، فأنْتِ طَالقٌ بألْفٍ" فقَبِلَتْ على الفَورِ، ثُم وُجِدَتِ الصِّفةُ وإنْ تراخَتْ، فإنه يَستحِقُّ المُسمَّى على ما صحَّحُوه. وإنَّما يَستحِقُّ المُسمَّى فِي التعليقِ فِيما (¬1) إذا لَمْ ينقُصْ فِي جَوابه عن مُسمَّاهَا، فإنْ نَقصَ بأنْ قالَتْ: "طلِّقْنِي واحِدةً بألْفٍ" فقال: "طلَّقتُكِ بخَمْسِ مِائَةٍ" فالأصحُّ وُقوعُ الطَّلاقِ؛ لأنَّه قَادِرٌ عليه (¬2) بِغَيرِ عِوَضٍ، فلِذلك (¬3) يَنقُصُ العِوَضُ، والأصحُّ أنه يَستحِقُّ خَمْسَ مِائةٍ لِرِضاهُ بذلكَ. ويَنبغِي فِي نَظيرِه مِن الجَعَالة (¬4) لو صَرَّحَ بِرِضاهُ بِنِصفِ العِوَضِ وعَمِلَ على ذلك التَّصريحِ [أن لا يَستحقَّ إلا النِّصفَ، ولَمْ يَذكرُوه فلْتُضَفْ إلى صُوَرِ (¬5) التَّقسيطِ] (¬6) في الجَعَالةِ. وأمَّا إذا نَقصَ عَن مَذْكُورِها فِي عَدَدِ الطلاقِ، [ولَمْ يُفِدِ الكُبْرى فإنَّه يُقسِّطُ المُسمى على ما ذَكرتْه مِن العَددِ] (¬7). وإنْ زَادَ علَى العَددِ الشَّرْعيِّ، فإذا قالتْ: "طَلِّقْنِي عَشْرًا بألفٍ" فطَلَّقَ ¬
واحِدةً استَحَقَّ عُشْرَ الأَلْفِ، أوْ ثِنْتَينِ، وهو حُرُّ فخُمُسَ الألْفِ، فإنْ طلَّقَ ثَلاثًا، فقَدْ أَفادَ الكُبْرَى، وقدْ سَبقَ أنَّه يَستحِقُّ الكُلَّ. وفِي قَولِها: "طلِّقْني ثَلاثًا بألْفٍ" لَو طَلَّقَ واحِدةً ونِصفًا، فالأرْجَحُ استِحقاقُه ثُلُثَي الألفِ لا نِصفَه خِلَافًا لِمَا رَجَّحَه فِي "الرَّوضةِ" مِن استِحقاقِهِ النِّصْفَ. وقياسُه: لَوْ قَالتْ: "طِلِّقْنِي (¬1) نِصْفَ طَلْقةٍ بِألْفٍ" فأَجابَها، أنه يَستحِقُّ الألفَ خِلافًا لِما رجَّحُوه مِن استِحقاقِه مَهْرَ المِثْل. وأمَّا "طَلِّقْ نِصْفِي" أوْ يَدِي، ونَحوُ ذلك: بِكذَا، فأَجابَها (¬2) فإنه يَستحِقُّ مَهْرَ المِثْلَ (¬3) لِفسادِ الصِّيغةِ. والخُلْعُ معَ الأبِ أو الأجنبيِّ بما ذَكَرَ أنه مِن مَالِها مُصَرِّحًا بالاستِقلالِ يُوجِبُ مَهْرَ المِثْلِ على الأبِ أو الأجنبيِّ. وكذا الخُلْعُ مَع واحِدٍ مِنْهُما على البَراءةِ (¬4) مِن صَداقِها على أنَّه ضَامِنٌ لِمَا (¬5) أدْرَكَه فيه، فإنه يُوجِبُ مَهْرَ المِثْلِ على الأبِ أو الأجْنبيِّ على النَّصِّ فِي "الأُمِّ" المعمولِ به عندَ الجُمهورِ، ولا يَبرأُ مِنَ الصَّداقِ قَطْعًا. ¬
وأما الحالة التي يقع الطلاق فيها رجعيا، فالعبارة الوافية فيها أن يقال: لا يجب فيها بدل، ليشمل غير المدخول بها، والمستوفى عدد طلاقها، وذلك في صور
وكذا لَوْ (¬1) خَالَعَه الأَبُ أو الأَجْنبيُّ على عَبدِها هذا، وقال: "عليَّ ضَمانُهُ"، فإنه يَجِبُ مَهْرُ المِثْلِ على الأظْهرِ. * * * وأمَّا الحالةُ التي يَقَعُ الطلاقُ فِيها رَجْعيًّا، فالعِبارةُ الوافيةُ فيها أن يُقالَ: لا يَجِبُ فِيها بَدلٌ، لِيشمَلَ غَيْرَ المَدخولِ بها، والمُستوفَى عددُ (¬2) طَلاقِها، وذلك فِي صُورٍ: مِنها: الخُلعُ مَع السَّفيهةِ أو السَّفيهِ مِنْ أَبٍ أو أَجْنَبيٍّ مع عِلْمِ الزَّوجِ بالسَّفهِ (¬3)، لا فِي التَّعليقِ، كما سَبقَ. ومنها: الخُلعُ بِشَرطِ الرَّجعةِ [على المَذْهَبِ، فإنْ قالَ: "متَى شِئْتِ رددْت البَدَلَ، وكان لي الرَّجعةُ"] (¬4)، فالنَّصُّ المَعمولُ به وقوعُه بائنًا بِمَهْرِ المِثْلِ. وقيلَ: هِيَ كالتِي قَبْلَها. وفِي قَولِها: "طِلِّقْني وأَبرأْتُكَ مِنْ صَداقِي" فَطَلَّقَها، يَقَعُ (¬5) رَجْعيًّا، ويَبرأُ عنْدَ وُجودِ العِلْمِ بالمُبرإِ مِنْه. وإنْ عَلَّقتِ الإبراءَ، فقالتْ: "إنْ طَلقْتَنِي فأنْتَ بَريءٌ مِنْ صَداقِي"، ¬
وأما الحالة التي لا يقع الطلاق فيها ممن عدم التوافق، ومن غيره في صور سبقت
فطلَّق (¬1) يَقَعُ رَجعيًّا إنْ عَلِمَ أنَّ تَعْليقَ الإبراءِ لا يصِحُّ. فإنْ ظنَّ الصِّحةَ وَقَعَ بائنًا بِمَهْرِ المِثْلِ، هذا هو المُعتمَدُ خِلافًا لِمَنْ أَطلَقَ خلافَ ذلك، وقدْ سَبقَ فِي أولِ البابِ صُور يَقَعُ فِيها رَجْعِيًّا. * * * وأمَّا الحَالةُ التي لا يَقعُ الطلاقُ فيها (¬2) مِمَّنْ (¬3) عُدِمَ التَّوافُقَ، ومِن (¬4) غَيرِه فِي صُوَرٍ سَبقتْ: ومنها: الخُلْعُ مَعَ المَجنونةِ أوِ الصَّغيرةِ، ولَوْ كانَتْ مُميِّزةً فقبلَتْ عند الإمامِ والغزَّاليِّ، ورجَّحَ البغويُّ فيها (¬5) وقوعَه (¬6) رَجْعيًّا. ونَصَّ فِي "الأُمِّ" فِي الخُلْعِ مع المَجنونةِ أو الصغيرةِ على وقُوعِه رَجْعيًّا (¬7). ¬
[ومِمَّا لا يَقعُ فيه الطَّلاقُ إذا اخَتلَعَ شَخْصٌ بالنِّيابةِ عنِ الزوجةِ فبَانَ كَذِبُه فِي النِّيابةِ. وكذا لا يقعُ فيما إذا نَقَضَ وكيلُ الزَّوجِ عن المقدَّرِ له، فإنْ نقَصَ عن مهْرِ المِثْلِ فِي صُورةِ الإطلاقِ نَقْصًا فاحشًا وَقَعَ بمهْرِ المِثْلِ] (¬1) على المَذْهبِ، خِلَافًا لِما فِي "المحررِ" (¬2) مِنْ عَدمِ الوُقوعِ. وإذا جَعلَ السيِّدُ عِوَضَ الخُلْعِ رَقبةَ الزَّوجةِ مَع زَوجِها الحُرِّ أو (¬3) المُكاتَبِ، فالمُرَجَّحُ أنه لا يَقعُ (¬4) الطلاقُ، لِتَنافِي مِلْكِه لها مع الطلاقِ عليها، ونَصَّ علَيه فِي البُويَطِي، واللَّهُ سبحانه وتعالى أَعْلَمُ. * * * ¬
كتاب الطلاق
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ كتاب الطلاق قال اللَّهُ تعالى: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ} الآيةَ، وفيه آياتٌ أُخرى (¬1). والأحاديثُ فيه كثيرةٌ بالفِعل والقَولِ (¬2). وأصلُه مُجمَعٌ عليه. وهو لُغَةً (¬3): راجعٌ إلى مَادةٍ تدلُّ على فِراقٍ بإرْسالٍ، أو تَرْكٍ، أو حَلِّ وَثَاقٍ. فمِن الإرسالِ: ناقةٌ أو نعْجَةٌ طالقٌ. ¬
ومِنَ التركِ: طَلَّقْتُ البِلادَ. ومِن حَلِّ الوَثَاقِ: أطلقتُ الناقةَ مِن عِقالِها، وإطلاقُ (¬1) الأَسيرَ يحتمِلُها، وطلاقُ الزوجةِ كذلك، وحلُّ الوَثَاقِ فيه معنوِيٌّ. وقالَ الأعْشى (¬2) لِزَوْجتِهِ: "أجارتَنَا بِيني فإنَّكِ طالِقَة" (¬3). ويقالُ: امرأةٌ طالقٌ، وطلَّق الرجُلُ امرأتَهُ تطلِيقًا، وهي طَلقَتْ (¬4)؛ بِفتحِ اللَّامِ وضمِّها، والفتحُ أشهرُ وأفصحُ، تطلُق بِضَمِّ اللَّامِ فيهما. وعنِ الأخفشِ (¬5): لا يُقالُ "طَلُقَتْ" بِضَمِّ اللامِ. ¬
وغيرُهُ نقَلهَا لُغةً، ورَجُلٌ مِطلاقٌ، وطُلَقَةٌ: بِضَمِّ الطاءِ وفتْحِ اللَّامِ والقافِ، كثيرُ الطَّلَاقِ. وشَرْعًا: فِراقُ الزَّوجِ المُكلَّفِ بنفسِهِ أو نائِبِهِ اختِيارًا أوْ قهْرًا شَرعيًّا زوجتَهُ فِي نِكاحٍ صَحيحٍ، أو مَن أُلحقتْ بالزَّوجةِ، وهِيَ الرَّجعيَّةُ (¬1) بنَوعٍ مخْصُوصٍ على وجهٍ مَخصوصٍ. فَخَرَجَ بالزَّوجِ: الوليُّ والسيِّدُ والأجْنَبيُّ، فلا مدخَلَ لِوَاحِدٍ منهُم فِي الطَّلَاقِ، وقدْ جاء حديثٌ يَعمُّ ذلك، وسببُهُ سيِّدُ العَبدِ، وهو ما رواهُ ابنُ عباسٍ -رضي اللَّه عنهما- قال: أتى النبيَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- رجُلٌ فقال: يا رسول اللَّهِ! سيِّدِي زَوَّجَنِي أَمَتَهُ، وهو يريدُ أن يفرِّقَ بيْننَا، قال: فصَعِدَ النبيُّ (¬2) -صلى اللَّه عليه وسلم- المِنْبَرَ فقال: "يا أيُّها الناسُ، ما بالُ أحدِكُم يزوِّجُ عبدَهُ أَمَتَهُ ثُمَّ يريدُ أَنْ يُفرِّقَ بينهُما، إنَّمَا الطَّلَاق لِمَنْ أَخَذَ بالسَّاقِ". رواهُ ابْنُ ماجه بإسنادٍ فيه ابنُ لَهيعةَ (¬3). ¬
ورواهُ غيرُهُ بإسنادٍ فيه بقيَّةُ بنُ الوَليدِ (¬1). وعنْ عِصمةَ بنِ مالِكٍ نحوه، وليس فيه أنه زوَّجَه أمَتَهُ، رواهُ الدارَقُطنِيُّ (¬2). وقد جاءَ عن النبيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- فِي حديثٍ حَسَنٍ فيه ذِكْرُ ابنِ آدَمَ، وفيه: "ولا طَلَاقَ ¬
لَهُ (¬1) إلَّا فِيمَا يملِكُ" (¬2). ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
وَخَرَجَ بالمكلَّفِ: الصبيُّ، والمجنونُ، ومَنْ زالَ عقلُه بغَيرِ مُحرَّمٍ، والمُغْمَى عليه والنائمُ؛ فلا يَقعُ طلاقُ واحدٍ مِنهُم (¬1). ¬
ولا يُتصوَّرُ أن تُطَلَّقَ زوجةُ الصبيِّ إلا فِي صُورةٍ على وجْهٍ ضعيفٍ، وهي: ما إذا أَعْسَرَ بالنفقةِ، وفُرِّق بينهما بذلك (¬1)، فإنَّها فُرقةُ طلاقٍ على وجهٍ شاذٍّ. ولا يُتصورُ طلاقُ زوجةِ المجنونِ والمُغمَى عليه (¬2) فِي غَيْرِ الإعْسارِ إلا فيما إذا علَّقَ طلاقَها فِي حالِ التَّكليفِ بِصِفَةٍ، فوُجِدتْ، وهو غيرُ مُكَلَّفٍ. ويُتصَوَّرُ طلاقُ زوجةِ النائِمِ (¬3) فِي غيرِ ذلك من وكيلِهِ. ودخلَ فِي المكلَّفِ: السفيهُ والمريضُ، فإنه يقعُ طلاقُهُما قَطْعًا، والسَّكرانُ فإنه يقعُ طلاقُهُ على المَذهبِ، وهو مُكلَّفٌ على النصِّ المُعتمَدِ عندَ الأصحابِ (¬4). وما وقَعَ لِصاحِبِ "الرَّوضةِ" (¬5) فيها (¬6) وفِي غيرِها مِن أنَّه غَيْرُ مُكَلَّفٍ ¬
ويقعُ طلاقُه؛ لَيْسَ بمُعتمَدٍ. ويَقعُ على ما رجَّحوه طَلاقُ مَنْ زالَ عقلُهُ بمُحَرَّمٍ، كمَنْ شرِبَ دواءً (¬1) مُجَنِّنًا معَ العِلْمِ بالحالِ لا لِغرضٍ صَحيحٍ. ولو سَكِرَ بمحرَّمٍ، ثُم جُنَّ وهو سَكرانُ لا بِسَببِ السُّكْرِ، فقياسُ ما ذكرُوه فِي الصلاةِ أنهُ يَقعُ طلاقُهُ فِي الزَّمَنِ الذي ينْتَهِي إليه السُّكْرُ لا فيما بعْدَ ذلك (¬2). والصوابُ فِي المَجنونِ بالمحرَّمِ أو مع السُّكْرِ المُحرَّمِ أنهُ لا يَقعُ طلاقُهُ، وإنْ وقعَ طلاقُ السَّكرانِ غيرِ المجنونِ لِظُهورِ الفرْقِ (¬3). ونَصَّ الشافعيُّ فِي المَنثورِ فِيمَن نَطَحَ غيرَهُ فانْقلبَ دماغُهُما أنه (¬4) لا يقَعُ طلاقُهُما. ¬
ومَن وَقَعَ طَلاقُهُ بِسَببِ غَيبَةِ العَقْل بالمُحرَّمِ ينفُذُ تصرُّفُه على فتواهُم قَوْلًا كان أو فِعْلًا عليهِ أوْ لَهُ، ومِنه إسلامُه أو رِدَّتُهُ، لا صلاتُهُ وأذانُهُ كما سَبقَ ونحوُهما. وكيفَ يَستقيمُ فِي مَجنونٍ دَامَ جُنونُهُ أن تنفُذَ تصرُّفاتُهُ معَ عَدَمِ التمييزِ ويَصيرُ مُتخَبِّطًا فِي أحوالِهِ وأقوالِهِ؟! هذا خرْقٌ لا يَنبغِي المَصِيرُ إليه، ولو خَصَّ ذلك بِحالةِ عمَلِ (¬1) الدَّواءِ لكَانَ لَه وجْهٌ. والصوابُ ما قدَّمناهُ وِفاقًا للنَّصِّ والمُحَقِّقيينَ. وشَمَلَ بنفْسِه أو نَائبِه: الحُرَّ والعَبْدَ والجَرْحَ والجادَّ والهازلَ. وفِي الهَازلِ وجْهٌ، وتصرُّفُه صَحِيحٌ، ولَو نِكاحًا على الأصحِّ، خِلافًا لِمَا فِي "الحاوي الصغير" (¬2). واختيارًا: يُخرجُ (¬3) المُكرَهُ بغير حقٍّ (¬4)، فإنَّهُ لا يَقعُ طلاقُه إذا وُجدَتْ بَقيةُ الشُّروطِ المُعتَبَرَةِ فِي ذلك (¬5)، وهي: ¬
- أن يكونَ الظالمُ قادِرًا على إيِقاعِ ما هدَّدَه به (¬1)، والمَظلومُ عاجزًا عن الدفْعِ بفِرارٍ ونحوِهِ. - وأنْ يغلِبَ على ظَنِّ المَظلومِ أنَّهُ إذا امتنَعَ مِمَّا طَلَبَهُ مِنه أوْقَعَ به المَحذورَ. - وأن لا يَعِدَه بِمَا (¬2) يَظْهَرُ (¬3) تأخُّرُه (¬4) كقولِهِ: "إنْ لَمْ تُطلِّقْ فَعَلْتُ بكَ كذَا (¬5) غدًا"، فأمَّا لو قال: "فعَلتُ بِكَ" أو "أفعلُ بِكَ" قال معه: "الآنَ" أو (¬6) لَمْ (¬7) يقُلْهُ، فإنَّه إكراهٌ (¬8). ¬
ويَنبغِي فِي المتأخِّرِ أو (¬1) القَريبِ جِدًّا أو الذي يغلبُ بِمقتضَى عادتِهِ فِي أمثالِهِ حُصولُهُ أَنْ يكونَ إكْرَاهًا. - وأن لا يَظهَرَ مِنَ المَظلُومِ ما يدُلُّ على اختيارِهِ، فإنْ ظَهَرَ وقَعَ الطَّلَاقُ، وذلك بأنْ يعدِلَ عنِ المَطلوبِ إلى غيرِهِ، ولو كان المطلوبُ داخِلًا فيه كقولِهِ: "طلِّقْ (¬2) واحدةً"، فطلَّق ثلاثًا، أو بالعكسِ، أو "طلِّقْ فُلانةً"، فطَلَّقَ غيرَها، أو بالصريحِ فعَدَلَ إلى الكِنايةِ، أو عكسِهِ، أو مُعَيَّنَة، فأَبْهَمَ، أو عكسِهِ (¬3). - ولا يُشتَرَطُ الفَوريةُ وإن لمْ تحصُلْ دهشةٌ، ولكن يُشتَرَطُ أن لا يَنوِيَ الطَّلَاقَ. * ضابطٌ (¬4): يَنقلبُ (¬5) صريحُ الطَّلَاقِ كِنايةً هُنا وفيما إذا كَتَبَهُ، وفِي نحو: "أنتِ كظَهْرِ أُمِّي طَالِقٌ". * * * ¬
والذي يكونُ التَّخويفُ به إكرَاهًا (¬1) هُو (¬2) أن يُكرِهَهُ بمَحذورٍ يؤثِرُ العاقِلُ الإقْدامَ على ما طُلِبَ منه؛ حَذَرًا مما خُوِّفَ به، ومنه الشتمُ لذي قَدْرٍ (¬3) وإتْلافُ المالِ وأخْذُهُ إكْراهًا، ويختلِفُ ذلك باختلافِ النَّاسِ على المُختارِ. والوكيلُ فِي الطَّلَاقِ لو وُجِدَ فيه الشَّرطُ (¬4) لَمْ يَقعْ طلاقُهُ على الأصَحِّ (¬5). ولو قالَ مستحِقُّ القِصاصِ: "طلِّقِ امرأتَك وإلا اقتصَصْتُ مِنكَ"؛ ¬
فطلَّقَ (¬1)، وَقَعَ، كذا قالُوه، وعلى فتواهم فهو مكرَهٌ بِحَقٍّ (¬2). والمُولِي إذا أكرهَهُ القاضي على الطَّلَاقِ المطلوبِ شَرْعًا حتى طلَّقَ (¬3) وَقَع (¬4)، وكذا لو طلَّقَ القاضي عليه، وهو المُرادُ بقولِنا: "أوْ قهْرًا شرْعِيًّا" (¬5) (¬6). ومِن هنا (¬7) يصحُّ بيعُ المَديونِ إجْبارًا، وإسلامُ (¬8) الحربيِّ والمُرتدِّ لا الذميِّ على الأصَحِّ (¬9). ولو قال الزوجُ لآخَرَ: "طلِّقْ زوجَتِي وإلا قتلتُكَ" (¬10) -مثلًا- فطلَّقَها، وَقَعَ؛ لِأنَّه أبلغُ فِي الإذْنِ (¬11). ¬
وحيثُ قالوا فيه قَوْلَ (¬1) المُكْرَهِ، فمُرادُهُم مَن حَلَفَ باختيارِهِ، ووُجدتِ الصِّفةُ بالإكراهِ. والأصحُّ فيه عدمُ الوُقوعِ كما سَيأتي، وليس مرادُهُم ما نحنُ فيه. * * * * ضابطٌ: لا يصِحُّ مع الإكرَاهِ بالشُّروطِ المُعتبَرةِ شيْءٌ مِنَ التَّصرُّفاتِ (¬2)، ولا يَصيرُ مُرتدًّا مَن تلفَّظَ بكَلِمةِ الكُفْرِ مُكرَهًا لِقَولِهِ تعالى: {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ} (¬3). ولا يترتَّبُ مع الإكراهِ أثرُ ما أُكْرِه عليه، إلا أن مَن (¬4) أحدَثَ مُكرَهًا تَجِبُ عليه الطهارَةُ، ونحوُها مما يترتَّبُ على الحَدَثِ. وكذلك تَبْطلُ صلاةُ مَن تكلَّمَ مُكْرَهًا، ونحوُ ذلك، ويَلزمُهُ القضاءُ إذا أخرَجَ الصلاةَ عن وقتِهَا مُكرَهًا حيثُ تصور. وكذلك يَفوتُ بالإكراهِ ما وقِّتَ مِن عبادَةٍ وَوَكالةٍ ومساقاةٍ وإجارةٍ. * * * ويَثبتُ مع الإكراهِ تَحريمُ الرَّضَاعِ، والربيبةِ بوَطْءِ أُمِّها كُرْهًا، وأمةِ الفَرْعِ ¬
بِوَطءِ الأصلِ مُكْرهًا، ويتقرَّرُ بالوَطْءِ مَكرهًا (¬1) المُسمَّى الصحيحُ، ومهرُ المثْلِ عند فَسادِ التَّسميةِ. وقد يَجِبُ (¬2) مَهْرُ المِثْلِ فِي غيرِ ذلك. وتَزولُ بَكارَةُ مَن وُطِئَتْ حتى زالتْ بكارتُها مُكرَهَةً (¬3)، وتَنتقِلُ إلى حُكْمِ الثَّيبِ. وتَسقطُ نفقةُ مَنْ أُكرِهَتْ على الخُروجِ مِن منزلِ زوجِها، وحِيْلَ بَيْنَهَا وبينَ الزَّوجِ يومًا فأكثَرَ مَثَلًا، وفِي صاحبِ (¬4) الوَظيفَةِ نظرٌ، ولم أَرَ مَن جَمَع ذلك. والمُكْرَهُ على إتلافِ المالِ، وكذا على تسليمِ ما (¬5) هُو مُؤتَمنٌ عليه طَريقٌ فِي الضَّمانِ على الأصحِّ. والقياسُ يُقرِّرُ النِّصفَ على مباشِرِ الإتلافِ مُكْرهًا، كما سَيأتِي في (¬6) القِصَاصِ. ويَرْتفِعُ التحريمُ فِي كُلِّ مُحَرَّمٍ أُكرِهَ علَيه إلا القتلَ والزِّنى، وسَيأتِي حُكْمُ كُلٍّ فِي بابِه. ¬
ولا يصلُ شَيْءٌ منها إلى الوُجوبِ إلَّا إتلافُ المالِ على ما فِي "الحاوي الصغير" (¬1). والتحقيقُ خلافُهُ. * * * وخَرَجَتِ الأَجنبيةُ بقَولِنا: "فِراقُ الزَّوجِ زَوجتَهُ"، فلا يقعُ الطَّلَاقُ على الأجنَبيةِ، ولا بالتعليقِ على غيرِ النِّكاحِ اتِّفاقًا، ولا بالتعليقِ على النِّكاحِ على المَذْهَبَ، ودَخلتِ المرتدةُ بعد (¬2) الدُّخولِ، فإنَّها إذَا طلقَتْ ثُم عادتْ إلى الإسلامِ فِي العِدَّة تَبيَّنَ وُقوعُ الطَّلَاقِ عليها، وكذلك حُكمُ طلاقِ الكُفارِ إذا قلنا بوقْفِ (¬3) أنكحتِهِم، وظَهَرَ تقريرُهُ بعدَ الإسْلامِ. * * * وقولُنا "فِي نكاحٍ صحيحٍ": يدخُلُ فيه نكاحُ الكُفارِ (¬4) المُصحَّحُ، ويخرُجُ به النكاحُ الفاسدُ، فلا يقعُ الطَّلَاقُ فيه خِلافًا لأبِي إسحاقَ المَرْوزيِّ، فإنهُ أوْقعَ الطَّلَاقَ فيما كان فسادُهُ مُختلفًا فيه للعُلماءِ وهُو النكاحُ بِلَا ولِيٍّ. ويَنبغِي أن يكُونَ كُلُّ (¬5) مُختلَفٍ فيه نحوه فِي معناهُ. ولو طَلَّقَ فيه ثلاثًا افتقرَ إلى مُحلَّلٍ عندهُ، والخلافُ فيما قيلَ الحُكمُ ببُطلانِه أو بِصحَّتِه. ¬
[فإنْ حَكمَ بِبُطلانِه لَمْ يقعْ بعدهُ قَطْعًا أو بصحَّتِه] (¬1)، وقُلنا: لا ينقضُ على ما صحَّحُوهُ، وقعَ قَطْعًا لِدخولِه فِي النِّكاحِ الصَّحيحِ. * * * وقولُنا: "أوْ مَن أُلْحِقَتْ بالزوجةِ" وهي الرجعيَّةُ، يَشمَلُ الرَّجعيةَ المعينةَ والمُبهمةَ، والتي عاشرَها مطلِّقُها (¬2) مُعاشرةَ الزَّوجِ بِلَا وَطءٍ، ومَضتِ الأقراءُ أو الأشْهُرُ (¬3)، فإنهُ يَلحقُها طلاقُه ما لَمْ تَنْقَضِ عدَّتُها على فتوى القفَّالِ والقاضِي حُسينٍ وغيرِهما، وله رَجعتُها حينئذٍ عند القاضِي، خِلَافًا للقَفَّالِ، ومَنْ تَبِعه، وقد سَبقَ فِي الخُلعِ (¬4)، وأما البائنُ فلا يَقعُ عليها طَلاقٌ، وإنْ كانَتْ فِي العِدَّة بلا خِلافٍ. * * * وقولُنا: "بنَوعٍ مَخصوصٍ": نُريدُ به ما يقعُ به الطَّلَاقُ مما يَصدرُ من الزَّوجِ مِنْ صَريحٍ أو كنايةٍ مع النيةِ. * * * وقولُنا "على وجهٍ مخصوصٍ": يَخرُجُ به ما إذا استَثْنَى بِمَشيئةٍ ونحوِها، وصورهُ (¬5) الدورِ على مُختارِ ابن سُريجٍ وعيرِه، وسيأتِي ذلك. ¬
ثُمَّ للطلاقِ صَرائحُ و (¬1) كناياتٌ، ويُنجَّزُ على صفاتٍ مِنْ تَكْرَارٍ وغيرِهِ، وقد يكونُ هناك استثناءٌ بِغَيرِ المَشيئةِ أو بالمشيئةِ (¬2)، وقد يكونُ معلَّقًا، وقد يكونُ مفوَّضًا للزَّوجةِ (¬3)، وهذه أمورٌ مُتَّسعَةٌ، فلنقتصِرْ منها على مقصودٍ حَسنٍ. * * * ¬
فصل في صرائح الطلاق وكناياته
فصل في صرائح الطلاق وكناياته الصريحُ (¬1) لُغَةً: ما دلَّ على بيانٍ أو خُلوصٍ (¬2). واصطلاحًا: ما اشتَهَرَ مِنَ الألفاظِ المُستعمَلةِ فِي محالِّها على وجهٍ مخصوصٍ. وهو محصورٌ (¬3) هُنَا فِي رُجوعِه إلى واحدٍ مِن خَمسةِ أشْياءَ (¬4)، وهي: الطَّلَاقُ، وكذا السَّراحُ، والفِراقُ على النَّصِّ المشهورِ فيهما، والخُلعُ (¬5)، والمُفاداةُ، وقد سَبقَ (¬6) مع مَنعِ الطَّلَاقِ (¬7) بالعِوَضِ (¬8). * فالصَّريحُ نحوُ: أنتِ، أو هذه، أو زَوجَتِي، أو فُلانة: طَالقٌ، أو: مُطلَّقةٌ - ¬
بِفَتحِ الطَّاءِ وتَشديدِ اللَّامِ- أو: "يا طالقُ"، أو: "يا مُطلَّقةُ"، كمَا سَبقَ، أو: "طلقْتُ هذه"، أو: "أوقعتْ عليكِ طلاقِي"، أو: "وضَعْتُ عليكِ طَلاقِي"؛ على الأرْجحِ، أو: "طلاقُكِ لازِمٌ لي" عِند الأكثرِ، أو: "أنتِ لكِ طلقةٌ" عند البغَويِّ، والأرجحُ: أنَّهُ كِنايةٌ. ويَستوِي فِي صُرَاحهِ (¬1) ما سَبقَ كلُّه اللغةُ العربيةُ وترجمةُ ذلك بِغيرِ العَربيةِ (¬2). أو: "فارقتُكِ" أو: "سَرَّحْتُكِ" -بفتحِ الراءِ المشدَّدةِ- وكذا: "أنتِ مُسَرَّحةٌ"، بفَتحِ السِّينِ وتَشديدِ الرَّاءِ، وكذا: "يا مُسَرَّحةٌ"، و: "يا مُفارَقةٌ (¬3) ". ولا يكونُ شيءٌ من الفِراق والسَّراح صريحًا بغيرِ اللغةِ العربيةِ على الأصحِّ. ولو أسْقطَ المُبتدأَ فِي الصُّورِ كلِّها، أو حَرْفَ النِّداءِ بأنْ قالَ: "طالقٌ" (¬4) ¬
مَثَلًا، أو المفعولَ بأن قال (¬1): "طَلَقْتِ" ولمْ يَزِدْ علَيه، فمُقتضَى المَنقولِ أنه لا يقعُ وإنْ نَوى. وقدْ صَرَّحَ القفَّالُ وغيرُه بذلك فِي "طَلَقْتِ" لِعِلَّةٍ (¬2) أنه لم يَجْرِ (¬3) لِلْمرأةِ ذِكْرٌ، ولا دَلالةٌ، فهو كما (¬4) لو قالَ "امرأَتِي"، ونَوى: "طَالقٌ"، لا يَقعُ، وقد يُتوقَّفُ فِي ذلك عند السُّؤالِ أو الخُصومةِ. ولو قالَ: "أنتِ طَال" وتَرَكَ القافَ، لمْ يقعْ، وإنْ نَوَى، بخلافِ "يا طَالِ"، فإنه يقَعُ بالنِّيةِ إذِ الترخيمُ مستعمَلٌ فِي النِّداءِ، ذَكرَه البُوشَنْجِيُّ، وهو المُختارُ (¬5). والعبَّاديُّ أَطلَقَ الوُقوعَ فِي "أنتِ طال"، ففِي "يا طال": أَوْلى (¬6). وقد سَبقَ الخُروجُ عنِ الصريح فِي "أنتِ علَيَّ كظَهْرِ أُمِّي طَالِقٌ". * ومِمَّا ليس بِصَريحٍ على الأصَحِّ: "أنتِ مُطْلَقةٌ" بإسْكانِ الطَّاءِ أو: "يا مُطْلَقة" بإسْكانِها، أو: "أنتِ طلاقٌ"، أو: "الطَّلَاق" أو: "أنتِ فِراقٌ" أو: "سَراحٌ" أو: "أنتِ طَلْقة" (¬7). ولو اشتَهَرَ لَفظٌ غيرُ ما سبق كقولِهِ: "حلالُ اللَّهِ عليَّ حَرامٌ" أو: "الحلالُ ¬
وحكم الصريح
عليَّ حرامٌ" أو: "أنتِ عليَّ حَرامٌ" أو قال فِي الحَلِفِ: "الحرامُ يَلزَمُني" أو: "عليَّ الحرامُ لا أفعلُ كذا" أو: "ما فعلتُ كذا" فكِنايةٌ على الأصَحِّ (¬1). وأمَّا البلادُ التي لَمْ يَشتهِرْ فيها ذلك لِلطَّلاقِ (¬2)، فليس بِصريحٍ فِي الطَّلَاقِ قَطْعًا. * * * وحُكمُ الصريحِ: وقوعُ الطَّلَاقِ بِهِ مِن الزَّوجِ الذِي يقعُ طلاقُهُ، وإن لَمْ ينْوِ إيقاعَ الطَّلَاقِ، لكن يُشترَطُ (¬3) أَنْ يكونَ قاصِدًا للتلفُّظِ (¬4) بالجُملةِ التي يقعُ بِها الطَّلَاقُ لِمعنَى الطَّلَاقِ. فلا أثرَ لتلفُّظِ (¬5) النائِمِ والمُغْمَى عليه والمَجنونِ، كما سَبقَ؛ لِعدَمِ القَصْدِ. ¬
وكذا الحاكي عن (¬1) غيرِهِ. وكذا الفَقيهُ فِي تقريرِهِ (¬2) وتدريسِهِ وتصويرِهِ (¬3). وكذا مَن سَبقَ لسانهُ، أو أُكرِهَ كما سَبَق، أو لُقِّنَ كَلمةَ الطَّلَاقِ بِغَيرِ لُغتِهِ وهو لا يَفهَمُ مَعناها، فإنَّه لا يقعُ الطَّلَاقُ. وكذا لو قال: "أردتُ معناها عند أهلِها" على الأصحِّ. ولو قال: "لَمْ أعلمْ أنَّ معناها قطْعُ النِّكاحِ، ولكنْ نَويتُ به الطَّلَاقَ" لَمْ يَقعْ قَطْعًا، كما لو خاطَبَهَا بكلمةٍ لا معنى لها، وقال: "أردتُ الطَّلَاقَ". وكذا لا يقعُ الطَّلَاقُ على الأرْجحِ فِي صُورةِ الواعِظِ الذِي لَمْ يُعْطَ شَيئًا فقالَ لِلْحاضرينَ: "طلَّقتكُم" ولَمْ يدرِ أنَّ زوجتَهُ فيهِمْ، لأنَّهُ لَمْ يَقصِدْ معنى الطَّلَاقِ الشَّرعِيِّ (¬4). ولا تُشتَرَطُ مَعرِفةُ الزَّوجةِ، كما لَوْ خَاطبَ امرأةً بالطَّلَاقِ، وهو يَظنُّ أنَّها (¬5) غيرُ (¬6) زوجتِهِ فبانتْ زوجتُه، وَقَعَ طلاقُهُ. ¬
وكذا لَو نَسِيَ أنَّ له زوجَةً، أو قَبِلَ له وليُّه أو وكيلُه نكاحَ امرأةٍ فقال: "زَوْجَتي طالِقٌ" أو خاطَبَهَا بالطَّلَاق، فإنَّها تطلُقُ على المَذهبِ. وإنما يقَعُ الطَّلَاقُ بالصريحِ (¬1) إذا لَمْ يتلفَّظْ بما يرفعُه مع الانتِظامِ والقصْدِ له قبلَ فراغِهِ مِن جُملةِ الصرِيحِ، فإنْ وُجِد ذلك لمْ يقعِ الطَّلَاقُ نحوَ أن يقولَ: "أنتِ طالِقٌ مِن وَثَاقٍ"، أو: "مِن العَمَلِ"، أو: "سَرَّحتُكِ إلى مَوضعِ كذا"، أو: "فارقتُكِ فِي المنزلِ"، فلا (¬2) يقَعُ الطَّلَاقُ (¬3). ويلحقُ باللَّفظِ ما إذا نَواه مع القَرينةِ كما لو حَلَّها مِن وَثاقٍ، ثُم قال: "أنتِ طالِقٌ" وأرادَ: عن الوَثَاقِ، فإنَّه إذا ادَّعى هذه الإرادةَ يُقبَلُ ظاهرًا على الأصحِّ لِلْقرينةِ، وإِنِ انتظَم وأرادَهُ، ولكنْ لَمْ يتلفَّظْ به دُيِّنَ فيما سَبقَ. * وأمَّا فِي التَّعليقِ الرافِعِ لإعمالِ الطَّلَاقِ بالكلِّمةِ بأنْ قال: "أنتِ طالِقٌ"، ثم قال: "أردتُ إن شاء اللَّهُ"، فإنَّه لا ينفعُهُ ذلك ظاهرًا (¬4)، ولا يُدَيَّنُ على المذهبِ. ويقرُبُ منه: "أنتِ طالقٌ ثلاثًا" ثم يقولُ: "أردْتُ إلَّا واحدةً" أو: "أربعتُكُنَّ طوَالِقُ"، ثم يقولُ: "أردْتُ إلَّا فُلانةً" فلا يُقبلُ ظاهِرًا، ولا يُدَيَّنُ على الأصحِّ (¬5). ¬
وإنْ كان المنْوِيُّ لا يَرفعُ إعمالَهُ بالكُليةِ، ولكن يُعَلِّقهُ (¬1) نحو: "أنتِ طالقٌ"، ثم يقولُ: "أردْتُ عندَ دُخولِ الدَّارِ" أو: "إنْ شاءَ زيدٌ" أوْ يُقيِّدُه (¬2) نحو: "أنتِ طالقٌ إن دخلتِ الدارَ" ثم يقولُ: "أردْتُ فِي هذا الشهرِ"، فإنه يُدَيَّنُ، ولا يُقبَلُ ظاهرًا. [وإنْ كانَتِ الإرادةُ لِتخصيصِ عُمومٍ كـ: "نسائِي طوالِقُ"، ويريدُ: إلَّا فُلانةً، فإنه يُدَيَّنُ، ولا يُقبلُ ظاهرًا] (¬3) على الأصَحِّ، إلَّا إذا كان هناك (¬4) قَرينةٌ تدُلُّ على دعواهُ، بأنْ تُخاصمَهُ زوجتُهُ بجديدةٍ، فيقولُ: "كلُّ امرأةٍ لي طالِقٌ"، ويدَّعِي أنه أَرادَ غيرَ المُخاصِمةِ، فإنَّه يُقبَلُ ظَاهرًا على الأصحِّ (¬5). وكذا (¬6) لو ادَّعى فِي المُشتركِ أو ما يقرُبُ منهُ إرادةَ أحدِ مَعنييْنِ (¬7) نحو (¬8) أن يقولَ: "أنتِ طالِق ثلاثًا، بعضُهُنَّ للسُّنَّةِ وبعضُهُنَّ للبِدعةِ" (¬9)، ثُم يقول: "أردْتُ واحدةً فِي الحالِ، وآخِرَتَهُنَّ (¬10) فِي الحالةِ الأُخْرى" فإنه يُقْبَلُ ظاهرًا على الأصحِّ. ¬
وأما الكنايات
وأمَّا إذا لَمْ ينتَظِمْ ما أتى به نحوُ أَنْ يقولَ: "أنتِ طالق طلاقًا لا يقعُ عليكِ" أو "أنتِ طالِقٌ إلا أنتِ أو ثلاثًا إلا ثلاثًا" فلا ينفعُه ذلك ظاهرًا عند التلفُّظِ، ولا يُدَيَّنُ عند إرادتِهِ قَطْعًا (¬1). * وأما الكِناياتُ (¬2): فلا يقعُ بواحدٍ (¬3) منها طلاقٌ إلَّا أن ينويَ به التَّطليقَ المَفهومَ مِن الصَّريحِ السَّابِقِ، ويُعتبَرُ كونُ النيةِ مقرونَةً مِنْ أوَّلِ اللَّفظِ إلى آخِرِهِ على الأصَحِّ خِلافًا لِما فِي "الحاوي" (¬4) مِنَ الاكتِفَاءِ بأوَّلِهِ، ولِما (¬5) فِي "الروضة" (¬6) مِنَ الاكتفاءِ بآخِرِهِ أيضًا (¬7). * وضابطُ الكناياتِ: أن يكونَ اللفظُ إشعارَ قُرْبٍ (¬8) بالفُرْقةِ، وقد أشار إلى ذلك الشافعيُّ رضي اللَّه عنه فِي "الأم" (¬9) وغيرُهُ، وذَكَرَ أشياءَ من ألفاظ الكنايات، فقال: وَمَا تَكَلَّمَ بِهِ مِمَّا يُشْبِهُ الطَّلَاقَ سِوَى هَؤُلَاءِ (¬10) الْكَلِمَاتِ - ¬
يعني: الصرائح- فَلَيْسَ بِطَلَاقٍ حَتَّى يَقُولَ: كَانَ مَخْرَجُ كَلَامِي بِهِ عَلَى أَنِّي نَوَيْتُ بِهِ طَلَاقًا، وَذَلِكَ مِثْلُ قَوْلِهِ لِامْرَأَتِهِ: "أنتِ خليَّةٌ" (¬1) أو: "خلوتِ مني" (¬2) أو: "أنتِ (¬3) بريَّةٌ" (¬4) أو: "برئْتِ مني" (¬5) أو: "بائنٌ" أو: "بِنْتِ منِّي" (¬6) أو: "اذهَبِي" أو: "اعزُبِي" [أو: "اغرُبِي" (¬7)] (¬8) أو: "تَقنَّعِي" أو: "اخرُجِي"، أو: "لا حاجةَ لي فيكِ"، أو: "شأنكِ بمنزلِ أهلِكِ" أو: "الزَمِي الطَّريقَ خارجةً"، أو: "ودعتُكِ" أو: "قد ودعتِينِي" (¬9) أو: "اعتدِّي" (¬10) أو: "أنتِ بتَّةٌ" (¬11) أو: "اسرِي" (¬12) أو: ¬
ومن الكنايات
"ادلُجِي (¬1) "، أو: "ذُوقي" أو: "اطعمي" أو: "أنتِ حُرَّةٌ". وفِي نصٍّ قيل له: "أنتَ مع امرأتِكَ حرامٌ"، فقال: "لا" فقالتِ امرأتُهُ: "بلى" فقال: "شُدِّي يدَيكِ بنفسِكِ" أو: "تَمَتَّعي (¬2) بنفسِكِ" أو: "لا تَتزوَّجِي إلا خليفةً" فإنْ أرادَ طَلاقًا فهو طلاقٌ، وإن لَمْ يُرِدْه (¬3) فليس بِطَلاقٍ. * * * * ومِن الكناياتِ: " بتْلَةٌ (¬4) "، و: "حبلُكِ على غارِبِكِ" (¬5)، و: "ولَا أَنْدَهُ سِرْبَكِ (¬6) " (¬7) و: "فَسَخْتُ نِكَاحَكِ" و: "اسْتَبْرِئِي"، ولو قبل الدخُول فيه، وفي: ¬
"اعتدِّي" على الأصحِّ (¬1). وسائرُ صَرائحِ العِتقِ وكناياتُهُ كنايةٌ فِي الطَّلَاقِ و"اسْتَبْرِئي"، وأمَّا: "كُلِي" فلَيْسَ بِكِنايةٍ على الأرْجحِ، خِلافًا لِمَنْ صَحَّحَ أنه كِنايةٌ، فإنه لا إشْعارَ له بالفُرقةِ إلا على بُعْدٍ (¬2) نحو: "كُلُي مِنْ مالِكِ، لأنِّي فارقتُكِ"، ونحوُه: "سلامٌ عليكِ" عِنْدَ المُفارقةِ، وأمَّا "بارَكَ اللَّهُ فِيكِ"، أو "اسقِينِي"، أو "أَطعمينِي"، أو "زَوِّدِيني"، أو ما (¬3) أشبه ذلك، فليس بكِنايةٍ على المَنصوصِ المَعمولِ به (¬4). ومثلُه "أغناكِ اللَّهُ"، أو "قُومِي" أو "اقعُدِي" أو "اغزلِي" أو "لمْ يبقَ بينِي وبينَكِ شَيءٌ"، خِلافًا لِما فِي "زياداتِ الرَّوضةِ" (¬5) فِي الأخِيرةِ؛ لأنَّه عُمومٌ، وفيه كَذِبٌ أو مبالغةٌ (¬6). وأمَّا "لا" فِي جَوابِ: "ألَكَ زوجةٌ؟ "، ففِي قولٍ: كِنايةٌ، وفِي قولٍ: ليس بِطلاقٍ وإنْ أرادَه؛ لأنه كذِبٌ مَحْضٌ، وهو المَقطوعُ به عند كَثيرٍ مِن الأصحَابِ، والأرْجَحُ الأوَّلُ، فقد صَحَّحُوا فِي قولِه مُبتدَأً: "لسْتِ (¬7) لِي بزوجةٍ"، أنه كنايةٌ (¬8). ¬
وأمَّا "خلَوْتُ منكِ" و"برِئْتُ مِنكِ" و"بِنْتُ مِنْكِ" و"أنَا (¬1) مِنْكِ طَالقٌ"، فقد ساقَها الشافعيُّ (¬2) رضي اللَّه عنه فِي الكِناياتِ مَساقًا (¬3) واحدًا. واعتبَرَ الجُمهورُ فِي هذه الألْفاظِ زِيادةً على نِيَّةِ أصْلِ الطَّلَاقِ (¬4) أن يَنوِيَ إضافتَه إلى المَرْأةِ، ولا يُتصوَّرُ انفِكاكُ الطَّلَاقِ الشَّرعيِّ عنْ إضافتِه إلى المرأةِ، فالمُعتمَدُ النَّصُّ. وقال به أبو إسحاقَ، والقاضي حُسينٌ. وأمَّا "اسْتَبْرِئِي رَحِمِي (¬5) مِنْكِ" فهو لَغْوٌ، وإنْ نوَى تَطليقَها (¬6). وأمَّا "أنتِ على حرامٌ" أو كالمَيتةِ أو الدَّمِ أو الخَمْرِ أو الخِنزيرِ، فإنْ نَوَى به الطَّلَاقَ كان طَلَاقًا، أو الظِّهارَ كان ظهارًا، [أوْ نَوَى بِهما جَميعًا فقيلَ: طَلاق، وقيلَ ظِهارٌ] (¬7)، وصحَّحُوا أنَّه يَتخيَّرُ؛ فما اختارَه منهما ثَبَتَ، والتساقطُ أوْجَهُ، فيكونُ كما لَو لَمْ يَنوِهِما، أو وقُوعهما ولَمْ يَذكرُوهُما. وإذا لَمْ يَنوِهما أو (¬8) نوى تَحريمَ عيْنٍ فَعليْهِ كَفَّارةُ يَمينٍ، وكذا لو أَطلَقَ على الأظْهَرِ. ¬
وتلزَمُه كفارةُ يَمينٍ في: "أنتِ عليَّ حَرامٌ شَهْرًا"، وقيل: لَغْوٌ. ولَو خَاطبَ الرَّجعيةَ بـ: "أنتِ عليَّ حرامٌ" ونحوِه، فلا كفَّارةَ على المَذْهَبِ. وفِي المُحرِمَة والمعتدَّةِ عنْ شُبهةٍ وجْهانِ، الأرْجحُ الوُجوبُ إنْ لَمْ يَقصِدْ تَحريمَها الحاصِلَ بما ذَكَرَ. وتحريمُ أَمَتِه الحلالِ له بِغيرِ نيةِ العِتْقِ يُوجِبُ الكفارةَ، ولا أثرَ لِتحريمِ طَعامٍ ولا شرابٍ عند الشافعيِّ رضي اللَّه عنه. وفِي "فتاوى القفَّالِ" (¬1) ما يدل على أنه يُشترَطُ لإيقاعِ الطَّلَاقِ بالكِنايةِ معَ النِّيةِ أَنْ لا ينضَمَّ إلى لفظِ (¬2) الكِنايةِ ما لا (¬3) يَقتضِي الفُرقَةَ معَ نِيَّةِ الطَلَاقِ بمَجموعِ اللَّفظِ حتى لو قالَ: "اذْهبِي إلى بَيْتِ أبَويَّ"، ونوَى الطَّلَاقَ بمجْموعِ (¬4) لَفظهِ، لا يَقعُ، وإنْ نَواه بِقولِه: "اذهَبِي" وقَعَ، ويُقاسُ على ذلك غيرُهُ. وما ذَكرَه مَمْنوعٌ، لِأنَّ قولَه: "إلى بَيْتِ أبَويَّ"، وإنْ لَمْ يَقتضِ الفُرقةَ، فلَيْسَ بِمانعٍ لإعْمالِ "اذهَبِي" مَعَ النِّيةِ (¬5) نَعَمْ، لَو قالَ: "اذْهَبِي غَيرَ مُطَلَّقةٍ" ¬
ضابط
ونوَى الطَّلَاقَ بالمَجموعِ لَمْ يَقَعْ، لأنَّ قولَه: "غيرَ مُطَلَّقة (¬1) "، منافٍ، فهو مانعٌ. * * * * ضابطٌ: ليس شيءٌ مِن صرائحِ الطَّلاقِ والظِّهارِ كنايةً فِي الآخَرِ، نَصَّ عليه، واتفَقَ علَيه الأصحابُ. وفِي "الأمِّ" و"البُويْطِي" إلْحاقُ الإيلاءِ بذلك، وهو متعيَّنٌ. وأمَّا كناياتُ الطَّلَاقِ وكناياتُ الظِّهارِ، فإنَّها تُستعمَلُ فِي الآخَرِ بالنِّية المعتَبَرَةِ، ولا فَرْقَ بين قولِه: "أنتِ عليّ حرامٌ" أو: كالميتةِ، أو: كأُمِّي، أو: خَلِيةٌ، ونحوها. * * * * قاعدةٌ: ما كان صريحًا فِي بابِه وَوَجَدَ نَفاذًا فِي المَحَلِّ المُخاطبِ به لا يكونُ كِنايةً فِي غيرهِ حِينئِذٍ. فلَوْ قال لِزَوجتِه: "أنتِ طالقٌ"، ونوى الظِّهارَ، أوْ "أنتِ عليّ كظَهْرِ أُمِّي" ونوَى الطَّلَاقَ، لمْ يَقعْ ما نَواه، ويقعُ مُقتضَى الصَّريحِ لِوُجودِ المَحَلِّ المُخاطَبِ الذي ينفُذُ فيه. * * * ¬
وقد استثني من القاعدة مواضع
وقدِ استُثنِي مِنَ القاعدةِ مَواضِعُ: * منها: ما سَبقَ مِنْ قَولِه: "أنتِ عليَّ حرامٌ"، وشِبْهُهُ، فإنه صريحٌ (¬1) فِي إلْزامِ الكفَّارةِ إذا خَاطبَ به زوجةً، أو أَمَةً، ولو (¬2) نوَى فِي زَوْجته طلاقًا أو ظِهارًا منها (¬3)، أو فِي أَمَتِه عِتْقَها نَفَذَ ما نواه، ولا تلزمُ الكفارةُ. والتَّحقيقُ لا استثناءَ، فالصريحُ ما اشْتهرَ (¬4) فِي معْنَاهُ، ولُزُومِ الكفارةِ ليس معنى: "أنتِ عليَّ حرامٌ" وشبهه، وإنما ذاك حُكْمُ رُتبةِ الشَّرعِ على التلفُّظِ بذلك. * ومنها: قال لِزَوجتِه المُعَيَّنَةِ المُتَمكِّنِ مِنْ فَسخِ نِكاحِها: "فَسَخْتُ نكاحَك"، ونوَى بِذلك طَلاقَها، فقَدْ صَحَّحُوا أنه طلاق (¬5) مَعَ أن الفَسخَ صَريح فِي رَفْعِ نِكاحِ المَغيبةِ بِحَيثُ تَبِينُ مِنه (¬6) مِن غَيْرِ طَلاقٍ، فقدْ وجد نفاذًا حينئِذٍ، وقدْ صارَ كِنايةً فِي الطَّلَاقِ، وكأنَّهما (¬7) لمَّا اشتركَا فِي الفُرْقةِ لَمْ يَكنْ مُغايرًا له مِن كُلِّ وَجْهٍ. * ومنها: وَكَّلَ سيِّدُ الأمَةِ زَوْجَها فِي عِتْقِها، فقال الزوجُ: "أعتقتُكِ" (¬8) ونوَى طَلاقَها، أو طَلَّق ونوَى العِتْقَ، أو وَكَّلَ الزوجُ السيدَ فِي طلاقِها، فقال ¬
ضابط
لها السيِّدُ: "طلقتُكِ"، ونوَى عِتْقَها، أو: "أعتقْتُكِ" (¬1) ونوَى طلاقَها، فاعْتِبارُ النِّيةِ فِي ذلك لاشتِراكِ الطَّلَاقِ والعِتْقِ فِي إِزالةِ المِلْكِ. * ومِنها: "تصدقْتُ" صريحٌ فِي التَّمْليكِ، فإنْ نوَى به الوَقْفَ على الجِهَةِ العامَّةِ انصرَفَ عَن صَريحِ التَّمليكِ إلى ما نَواهُ، كما سبَقَ فِي الوَقفِ، وسببُه: اشتراكُهما فِي إطْلاقِ الصدقةِ كما سَبقَ قَبْلَه، وعلى ما ذُكِرَ مِنَ الجوابِ لا استِثْناءَ، ويَظْهرُ مِن ذلك (¬2) الجوابُ فِي غيرِه وترَكْنَا أشْياءَ مِمَّا يُستثْنَى على رأيٍ مَرجُوحٍ. * * * * ضابطٌ: لا يَقومُ مَقامَ اللفظِ صريحًا كان أو كنايةً فِعْلٌ إلا (¬3) فِي مَوضِعَينِ: * أحدُهما: الإشارةُ مِن الأخْرَسِ، فإنها قائمةٌ مَقامَ لَفظِه فِي جَميعِ العُقودِ والحلولِ (¬4)، إلا فِي إبطالِ الصَّلاةِ، فلَو طَلَّقَ أو باعَ فِي الصَّلاةِ بإِشارتِه عامِدًا (¬5) عالمًا لَمْ تَبطُلْ صَلاتُه على الأصَحِّ. ويُمتَحنُ به فيقال: رَجُلٌ طَلَّقَ زَوجتَه، وهو (¬6) فِي الصلاةِ، فِي حالةِ العَمْدِ ¬
والعِلْمِ ولَمْ (¬1) تَبطُلْ صلاتُه، ولا يُعرَفُ فِي غَيْرِ هذا. وأمَّا الناسِي للصلاةِ وجاهلُ تحريمِ الكلامِ فيها، فإنه قد يُتصوَّرُ فيها (¬2) ذلك، وأوْقعَ البغويُّ طلاقَه بإشارَتِه المَفهومةِ (¬3) وإنْ لَمْ يَنوِ الطَّلَاقِ. والمَعمولُ به أنَّ إشارتَه منها ما هو صَريحٌ، وهي ما يَفهَمُ منها الطَّلَاقَ مَن وقَفَ عليها، ومِنها كنايةٌ وهيَ التِي يَختصُّ بِفَهمِ الطَّلَاقِ منها الذَّكِيُّ. وقالَ المُتولِّي: إنَّما تُعتبَرُ إشارتُه إنْ لَمْ يَقدِرْ على الكِتابَةِ، فإنْ قَدَرَ كَتَبَ الطَّلَاقَ، وكَتبَ: إني قَصدْتُ الطَّلَاقَ، والمَشهورُ الأولُ. * المَوضِعُ الثاني: الكِتابةُ، ولا بُدَّ فيها مِنَ النيَّةِ، ولو كَتَبَ الصريحَ كَمَا تقدَّمَ. * * * ¬
فصل في الطلاق المنجز على صفات من تكرار وغيره
فصل في الطلاق المنجز على صفات من تكرار وغيره كان الطَّلَاقُ فِي صَدْرِ الإسلامِ غَيرَ مَحصورٍ بالثلاثِ، ثُم نُسخَ ذلك، وانْحصَرَ فِي حَقِّ الحُرِّ فِي ثلاثٍ (¬1)، ولَو يكونُ زوجتُهُ (¬2) أَمَةً، ومَنْ فيه رِقٌّ لا يَمْلِكُ إلا طلْقَتَينِ، ولو تكون (¬3) زوجتُه حُرَّةً. فإنْ رَقَّ الحُرُّ قَبْلَ أن يُطَلِّقَ زَوجتَه، ثُمَّ جَدَّدَ نِكاحَها، وهو رَقيقٌ لَمْ يَملِكْ عليها إلا طَلْقَتَينِ. وإنْ كان قد طَلَّقَ قَبْلَ ذلك واحدةً لَمْ يملِكْ إلا واحدةً [على الأصح] (¬4). وإن طَلَّق ثِنْتَينِ قَبْلَ الرِّقِّ وبانَتْ مِنه فله (¬5) تَجديدُ نِكاحِها على الأصحِّ. وإنْ عَتَقَ العَبْدُ قبْلَ أن يُطَلِّقَ زَوْجتَه مَلَكَ عليها الثلاثَ، وإنْ عَتَقَ بعْدَ أَنْ طَلَّق واحدةً مَلَكَ عليها طلقَتَينِ. ولو طَلَّق ثِنتَينِ ثُمَّ عَتَقَ، لَمْ تَحِلَّ له إلا بمحلَّلٍ على الأصَحِّ. ولو عَلَّقَ الثانيةَ بعِتْقِهِ لَمْ يَحتَجْ إلى مُحَلِّلِ قَطْعًا. ¬
ولو قال لِزَوْجتِهِ: "إنْ ماتَ سيِّدي، فأنتِ طَالق طلْقتَينِ"، وقال السيدُ: "إنْ مُتُّ فأنْتَ حُرٌّ"، فماتَ السيِّدُ وعَتَقَ، لَمْ يَحتجْ إلى مُحَللٍ على الأصحِّ. * * * وضابطُ ذلك وما (¬1) سبَقَ فِي إسلامِ العَبدِ وعِتْقِهِ ونحو ذلك أن يُقالَ: ما يَتعلقُ بالحرِّيَّةِ (¬2) والرقِّ مِنْ عَدَدٍ فِي ذلك ونحوِهِ أنه إذا تَبدلَ الحالُ مِن حُرِّيةٍ إلى رِقٍّ وعكسِهِ: فإنْ بَقِيَ شَيْءٌ مِن القدْرِ المُشترَكِ بيْنَ الحالَتَينِ فالعِبرةُ بالحادثِ لا بالزائلِ (¬3) [وإنْ لَم يَبْقَ شَيءٌ لا مِن القَدرِ المُشترَكِ فالعِبرةُ بالزائل لا بالحادِثِ] (¬4). ويَدخُلُ فِي هذا بعضُ صورِ القَسْمِ بيْنَ الحُرةِ والأَمَةِ، ثُم تَعتَقُ الأَمَةُ، وبعضُ صورِ العَددِ وستأتِي، ولا يَدخلُ فيه الجَدُّ، فإنَّه لا يَتغيرُ الوَاجبُ فيه بِتَبَدُّلٍ (¬5) الحالِ مُطْلقًا، ولا عَقْدَ على تكْمِلةِ (¬6) الأرْبعِ بعد العِتْقِ مُطْلَقًا. وتَكريرُ لَفظِ الطَّلَاقِ يَكونُ بِتكريرِ الجُملةِ مِن مبتدَإٍ وخَبَرٍ وفِعلٍ وفَاعلٍ. * فالأولُ: نحو: أنْتِ طالقٌ، أنتِ طالقٌ (¬7). ¬
* والثاني نحو: طلقتُكِ طلقتُكِ. فإن بانَتْ بالطَّلقةِ الأُولى، لِأنَّها بِعِوَضٍ، أو لِأنَّ الزَّوجةَ غيرُ مَدخولٍ بها، فإنه لا يَقعُ شيْءٌ لا غَيرُ تلك الطَّلقةِ بِلَا خِلافٍ (¬1)، إلا فِي صُورَتَينِ يختَصَّانِ بِغَيرِ المَدخولِ بِها (¬2): * إحداهما: إذا لَمْ يدخُلْ بها، ولكن استدخَلَتْ ماءَه ففيها وجهٌ قويٌ: أنها بِمنزلةِ المَدخولِ بها فِي الرَّجعةِ، فكذا (¬3) فِي وُقوعِ المُتعدِّد مِن الطَّلَاقِ، والأصحُّ خِلافُه. * الثانيةُ: إذا نزَّلْنَا (¬4) الخَلْوَةَ على القَديمِ منزلةَ الدُّخولِ، وَقَعَ المتعدِّدُ والمَذْهبُ خِلافُه. وإذا لَمْ تحصُلْ بَينونةٌ، فإن قَصَدَ الاستِئْنافَ بالجُملةِ الثانيةِ وَقعَ طَلْقتانِ، وكذا إنْ أطْلَقَ (¬5) على أصَحِّ القَوْلَينِ. وإنْ قصدَ بالثانيةِ تَأكيدَ الأُولَى (¬6) ووجِدَ الاتصالُ لَم تَقعْ إلا واحدةً. وسكتَةُ العِيِّ أوِ التنفُّسِ لا تَمنعُ الاتصالَ. ¬
ويُخالِفُ هذا البابُ بابَ الأَيمانِ باللَّه تعالى، فإنه إذا حَلَفَ مَراتٍ على شَيْءٍ واحِدٍ، ثُم حَنِثَ، فإنه لا تَلْزَمُه إلا كفارةٌ واحدةٌ: أكَّدَ أوْ أطْلقَ أو قصَدَ الاستِئنافَ على الأصَحِّ فيهِما؛ لأنَّ المحلوفَ به واحدٌ على شيْءٍ مُتحدٍ. وفِي تَكريرِ الظِّهارِ لا يَلزَمُ (¬1) عند الإطْلاقِ إلا ظِهارٌ (¬2) واحدٌ على الأصحِّ، خِلافًا لِمَا فِي "الحاوي الصغير" (¬3)؛ لأنَّ مُقتضاهُ التحريمُ، وهو حاصِلٌ بالأوَّلِ بخِلافِ الطَّلَاقِ الثاني المُنَجَّزِ. وفِي تَكريرِ التَّعليقاتِ الفتوى عنْدَ الإطلاقِ: أنه لا يَقعُ إلا واحدةً، ويُتَّبَعُ فيه التأكيدُ معَ الانفِصالِ، وأطْلقُوا فِي "إنْ حلفتُ بطلاقِكِ فأنْتِ طالِقٌ"، وأعادَ؛ أنها تَطْلُقُ بِعَددِ المُعادِ، لِأنَّه فِي كُلِّ مُعَادٍ حَالفٌ مُطْلقًا، فيحِلُّ (¬4) ما قَبْلَه، ويُؤثَرُ فيما بَعْدَه، وفيه نَظرٌ (¬5). والأرْجحُ فِي تَكريرِ: "أنتِ عليَّ حَرامٌ" عند الإطلاقِ أنه بِتعدُّدِ الكفَّارةِ، لِأنَّه بِمنزلةِ الحانِثِ فِي كلِّ واحد إلا إذا قَصدَ التأكيدَ. وإذا قال: "أنْتِ طَالقٌ طَالقٌ"، فكما سَبقَ. ولو كرَّرَ: "أنْتِ طَالق"، أو: "طلقتُك ثلاثَ مراتٍ"، وقصَدَ بالثَّاني والثالِثِ تأكيدَ الأولِ وَوُجِدَ (¬6) الاتصالُ، لَمْ تَقعْ إلا واحدةٌ. ¬
وعنْدَ الاستِئنافِ ثلاثٌ. وكذا إذا (¬1) أَطْلقَ على الأصحِّ. ولَو قَصَدَ بالثاني استِئْنافًا، أو أَطلَقَ، وبالثالِثِ تأكيدَ الأولِ، وقَعَ الثلاثُ على الأصحِّ. ولو قَصَدَ بالثانِي تأكيدَ الأولِ وبالثالِثِ استِئْنافًا، أوْ أطْلَقَ الثالثَ وَقعَ (¬2) ثِنْتانِ، ولَو قَصَدَ بالثانِي استِئْنافًا، أوْ أَطْلقَ، وبالثالثِ تأكيدَ الثاني، وقعَ ثِنتانِ. وإنْ ماتَ ولَمْ يُعْلَمْ حالُهُ فنَصَّ فِي "الأُمِّ" (¬3) أنَّها تَطْلُقُ ثلاثًا؛ نَظرًا إلى أنَّ الأصلَ الإطلاقُ (¬4). وقدْ يُستشكَلُ مِن جِهَةِ أنَّ الطَّلَاقَ لا نُوقِعُه معَ الشَّكِّ (¬5)، وقَدْ يُلْتَفَتُ على تَقَابُلِ الأَصْلينِ. ولو أَدْخَلَ الواوَ فيما سَبقَ بأن يقولَ: "أنتِ طَالقٌ وأنتِ طالقٌ" أو: "طلقتُكِ وطلقتُكِ" أو مَعَ إسقاطِ المُبتدإِ فِي الثاني، بأنْ قال: "أنتِ طالقٌ (¬6) وطالِقٌ" ففِي الجَميعِ يقَعُ طَلْقتانِ (¬7). فإنْ عَطَفَ الثالِثَ بالوَاوِ بقَصْدِ التأكيدِ لمْ يَقَعْ به شيْءٌ، وعند الاستِئنافِ ¬
أو الإطلَاقِ (¬1) يقَعُ ثلاثٌ، ولَوْ أدْخلَ "ثُمَّ" أو "بَلْ" فكالْوَاوِ، وكذا الفاءُ على المَذْهبِ (¬2). وفِي هذِه الصُّورِ لَو كانَتْ غيرَ مَدخُولٍ بها [لَمْ يَقعْ إلا طَلقةً كما سَبق فِي تَكريرِ المُبتدإِ ونَحوِه، وفِي قولٍ قديمٍ: هي كالمَدخولِ بِهَا فِي الجَميعِ. ويَستوِي المَدخولُ بها] (¬3) وغيرُها فِي نِيَّةِ العَدَدِ بأنْ قال: "أنتِ طالقٌ" أو بِكتابةٍ، أو كنايةٍ معَ النِّيةِ (¬4). ولو قال: "أنتِ طالقٌ واحدةً" بالنَّصبِ أو بالرَّفعِ (¬5) أو "أنتِ واحدةٌ"، ونَوَى فِي الجميعِ عَددًا وقَعَ ما نَواهُ على الأصحِّ؛ خِلافًا لِمَا فِي "المحررِ" (¬6) وغيرِه فِي صُورةِ النَّصبِ (¬7). ولو قال: "أنتِ بائنٌ باثْنتَينِ أو ثلاثةٍ (¬8) "، فلا بُدَّ مِنْ نِيَّةِ الطَّلَاقِ بالمَجموعِ، أو نيةِ العَددِ للتصريحِ (¬9) به، فالأرْجحُ وُقوعُ ما صَرَّحَ بِه (¬10). ¬
ولو صَرَّحَ فيهما بزيادةٍ على (¬1) العَددِ الشَّرْعيِّ وقَعَ العَددُ الشَّرعيُّ إلا فِي صُورتَينِ فِي غَيرِ المَدخولِ بها: * أحدُهما (¬2): ما إذا قالَ لَها: "أنتِ طالقٌ واحِدةً ومائةً"، فإنَّها لا تَطْلُقُ إلا واحدةً. * الثانيةُ: "أنتِ طالق إحدى وعشرينَ" فالمصحَّحُ فِي "زِيادةِ الرَّوضةِ" (¬3) لا يَقعُ إلا واحدةٌ، والأرجَحُ وُقوعُ الثلاثِ، وشاهِدُهُ ما صُحِّحَ فِي إحدى وعِشرينَ دِرْهمًا فِي الإقرارِ. ولَو أَرادَ أن يقولَ "أنتِ طالقٌ ثلاثًا" فماتَتْ قبْلَ تَمامِ "طالِقٌ"، لَمْ يَقعْ شَيءٌ، أو بعدَه (¬4)، وقبْلَ أَنْ يَقولَ "ثلاثًا" وقَعَ الثلاثُ على الأصحِّ (¬5). وفِي وجهٍ: واحدةٌ. وفِي وجْهٍ: لا يقعُ شَيْءٌ. وكذلك رِدَّتُها وإسلامُها، وهي غَيرُ مَدخولٍ بها [قبْلَ أَنْ يَقولَ ثَلاثًا. وقدْ يستشكلُ به "أنتِ طَالقٌ ثلاثًا" لِحُصولِ البَينونةِ بـ "طالق" إذا كانتْ غَيْرَ مَدخولٍ بها] (¬6)، ولا خِلافَ فِي وُقوعِ الثلاثِ. ¬
ومن الصفات: طلاق السنة والبدعة، ونحو ذلك.
وجَوَابُه: أنَّ البَينونةَ هنا حَصَلَتْ بغَيرِ الطَّلَاقِ، والبَينونةُ هُنا إنَّما حصَلتْ بالثَّلاثِ. * * * ومِن الصفاتِ: طلاقُ السُّنةِ والبِدعةِ، ونحو ذلك. والطَّلَاقُ عِندَ سَلامةِ الحَالِ مكروهٌ، وقد يُستحبُّ عِنْدَ تَقصيرٍ فِي الحقِّ، أو كونِها غيرَ عَفيفةٍ، ونحوِ ذلك. وفُسر جمعٌ (¬1) السُّنيَّ: بما لا يَحرُمُ إيقاعُه. والبِدعيَّ: بما يحرُمُ إيقاعُه، وهذا هو غَيرُ المَشهورِ، وسَيأتِي تفصيلُ القِسمَينِ (¬2). * والمَنصوصُ، وهو المَشهورُ: انقسامُ الطَّلاَقِ (¬3) ثلاثةَ أقْسامٍ: سُنِّيٍّ، وبِدْعيٍّ، وثالثٌ لا يوصفُ بِسُنةٍ ولا بِدعةٍ: ¬
فالسني
* فالسُّنيُّ (¬1): طلاقٌ خَالٍ عن عِوَضٍ منها فِي طُهرٍ مَسبوقٍ بِحَيضٍ لَمْ يَطأْها فِي واحدٍ منهما فِي قُبُلٍ ولا دُبُرٍ، ولَمْ تستدخِلْ مَنِيَّهُ، ولَمْ يَظهَرْ حَمْلُها منه، ولا مِنْ غَيرِه بشُبهةٍ، وهِيَ مِمَّنْ تَعتدُّ بالقُرءِ (¬2) مِن (¬3) الطَّلَاقِ بِوَطءٍ سابقٍ فِي قُبُلٍ أو دُبُرٍ أوِ استدخالِ مَنِيٍّ. * والبِدعيُّ المحرَّمُ (¬4): الذي يأْثَمُ به طلاقُ مَنْ تجِبُ عليها العِدَّةُ بالأَقراءِ لِما سَبقَ مِنَ الوَطءِ (¬5)، أو استدخالِ المَنيِّ (¬6) (¬7) غَيرِ الرَّجعيةِ فِي الحَيضِ غَيرَ ما سبَقَ فِي بابِه، أو فِي النِّفاسِ، أو فِي آخِر جُزءٍ مِن أجْزَاءِ طُهْرِها، خِلافًا لِلْمُتولِّي، أو فِي طُهْرِ وَطِئها فِيهِ، أو فِي حَيْضٍ قبْلَه، أوِ استدخَلَتْ منيَّهُ ولم يَظْهَرْ حَمْلُها، وهي مِمَّنْ يُمكنُ أن تَحبَلَ فِي ذلك كلِّه (¬8). ¬
ويَحرُمُ طلاقُ مَن (¬1) قَسَمَ لِضَرَّتِها (¬2) قبْلَ أَنْ تَستوفِيَ هِيَ حَقَّهَا. ولَوْ نَكحَ حَاملًا مِن الزِّنَى فوَطِئَها، ثُم طَلَّقَها حامِلًا، كما ذَكرَ كان بِدعيًّا عند ابْنِ الحَدادِ، ومَنْ تَبِعه؛ لأنَّ العِدَّةَ بعد وَضعِ (¬3) الحَملِ والنَّقاءِ مِنَ النِّفاسِ، وجَرى على ذلك المُتأخِّرونَ. والصوابُ خلافُه، فحَمْلُ الزِّنى لا يَمنعُ العِدةَ بالأَقراءِ التي تُوجَدُ مع حَمْلِ الزِّنى فِي الأصحِّ. وإنْ قيلَ بمقابلِهِ (¬4) أوْ لَمْ تَرِدْ (¬5) ماءً فهيَ شارعةٌ فِي العِدةِ مِن حينِ الطَّلَاقِ، ولا تَأتِي البِدعةُ مِن أنَها طُلِّقَتْ فِي طُهرٍ جَامعَها فيه، كما قاله المَاورْديُّ؛ لأنَّ احتمالَ حُدوثِ الحَملِ مِن الوَطءِ هنا مُتعذِّر، فطَلاقُها (¬6) حينئِذٍ مِن قِسمِ السُّنيِّ لِعدمِ الحَيضِ، وشُروعِها فِي العِدَّة طاهرًا عَقِيبَ الطَّلَاقِ، ولا نَظرَ إلى مُجرَّدِ (¬7) التَطويل كطلاقِ الطاهِرِ (¬8) التي (¬9) تَبَاعَدَ طُهْرُها، أو انقَطعَ دَمُها وهِيَ غَيْرُ آيسةٍ. والحاملُ مِن شُبهةٍ لا بدعةَ فِي طَلاقِها، خِلافًا لِمَا رجَّحُوه؛ لِنُدورِهِ، فلا ¬
والقسم الثالث الذي لا يوصف بسنة ولا بدعة
يُلحَقُ بالحَيضِ، ولا بالنِّفاسِ، وإن لَمْ يغلِبْ تكرُّرُه، فهُو مُلحَقٌ (¬1) بالحَيضِ (¬2) فِي إسْقاطِ الصلاةِ، وغيرِ ذلك. ولا بدعَةَ فِي جمْعِ الثلاثِ مِن الحُرِّ أو الثِّنتَينِ مِمَّنْ فيهِ رِقٌّ، والأَوْلَى التفريقُ على الأَقراءِ (¬3). * * * * والقِسمُ الثالثُ الذي لا يُوصَفُ بسُنَّة ولا بِدعةٍ (¬4): وهو طَلاقُ مَن لا تَجبُ علَيْها العِدةُ لِعَدمِ الوَطءِ، أو استِدخالِ منيٍّ، أو تَجبُ وهي مِن ذَواتِ الأشهُرِ لِصغَرٍ (¬5)، أو إياسٍ، والتي ظَهرَ حَمْلُها منه. * * * ¬
واقتصر الأصحاب على هؤلاء الأربع، وزدت ثلاثا لا سنة في طلاقهن ولا بدعة
* واقتصَرُ الأصْحابُ على هؤلاءِ الأرْبعِ، وزدتُ ثلاثًا لا سُنَّةَ فِي طلاقِهِنَّ ولا بدعةَ (¬1): 1 - المتحيرةُ، ولَمْ أرَ مَنْ ذَكرَها. ويُمكِن أن يقالَ: إذا طَلَّقَ، ولَمْ يَبْقَ أكثرُ الشَّهرِ كان فيه تَطويلٌ لِعَدَّتِها، فيكونُ بِدْعيًّا، والأولُ أرْجَحُ، لِعدَمِ تعيُّنِ وُقوعِهِ فِي الحَيضِ. 2 - والحامِلُ مِن الشُّهبةِ على ما سبَقَ. 3 - والمطلَّقةُ الرجعيةُ بناءً على أنها تَبنِي، وهو الأصحُّ خِلافًا لِمَا صحَّحُوه هنا مِنَ الاستِئنافِ (¬2). ¬
والفسوخ كلها لا سنة فيها ولا بدعة، إلا
والخُلْعُ مع الزَّوجةِ أو وكيلِها أو طلاقِها على عِوَضٍ مِنها، لا سُنَّةَ فيه، ولا بِدْعة. والفُسوخُ كلُّها لا سنةَ فيها ولا بِدعة، إلا: - الخلع مع غَيرِ الزَّوجةِ، إذا قُلْنا إنَّه فَسخٌ، فإنَّه يَحرُمُ فِي الحَيضِ. - والإقرار بما يَقتضِي بُطلانَ النِّكاحِ، تَجبُ المُبادرةُ إليهِ عندَ ظُهورِ الحقِّ، ولو كانَ فِي الحَيضِ، ولو مِنَ الزَّوجِ وحدَه، ولو كان طَلاقًا بائنًا على رأيٍ مَرجوحٍ فِي نحْوِ "نَكحتُها بشاهدَيْنِ فاسقَيْنِ". - وتعليقُ الطَّلَاقِ بالدخول. وسائرُ الصِّفاتِ ليس ببدعيٍّ ولا سُنيٍّ، ولكن إن وُجِدَ فِي الطُّهرِ نفَذَ سُنيًّا، وإن وُجِدَ فِي الحَيضِ نَفَذَ بِدْعيًّا، لا إثْمَ فِيه، إلا إذا وُجِدَتِ الصِّفةُ باختيارِه، فيأثمُ على ما بَحَثَه الرَّافعيُّ، وهو حَسَنٌ. وَمَنْ جَهِلَ الحُكْمَ -ولا تقصيرَ- فطَلَّقَ فِي الحَيضِ فهُو بدْعيٌّ، لا إثْمَ فيه، وكذا مَنْ لا يَعلمُ الحيضَ حيثُ لا تَقصيرَ، قلتُهما تَخريجًا. وإذا كان الطَّلَاقُ بِدْعيًّا لِوُقوعِه فيما سَبقَ، وكان رَجعيًّا، وهي مِمَّنْ تصِحُّ رَجعتُها، فيُستحبُّ أَنْ يُراجعَها فِي الحالةِ التي حصلَتْ فيها البِدعةُ. ثم إن كانتِ البدعةُ لِوقوعِه فِي الحَيضِ ونحوِه على ما سبَقَ، فالسُّنةُ وَرَدَتْ بإِمْساكِها حتى تَطهُرَ، ثم تَحِيضَ، ثُمَّ تَطهُرَ، ثُمَّ إنْ شَاءِ طلَّقَ، وهي طَاهرٌ مِن غَيرِ جِماعٍ، وإنْ شاءَ أَمسكَ، كذلك (¬1) ثَبتَ فِي "الصحيحَينِ" (¬2) مِن ¬
روايةِ نافعٍ فِي حَديثِ ابنِ عُمرَ لمَّا طَلَّقَ زَوْجتَه (¬1)، وهي حائِضٌ (¬2). وفِي "مختصر المُزنيِّ" (¬3): روى هذا الحديثَ سالمٌ (¬4) ويُونُسُ بنُ جُبيرٍ (¬5)، فخالفُوا (¬6) نافعًا فِي شيءٍ منه، قالوا كلُّهم: عن ابنِ عُمرَ أنَّ النبيَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- قال لِعُمرَ: "مُرْهُ فلْيُراجِعْها، ثم لْيُمْسِكْها حتى تَحيضَ، ثُمَّ تَطهُرَ، [ثم إنْ شاءَ طلَّقَ بَعْدُ، وإنْ شاءَ أَمْسَكَ" ولم يقولُوا: "ثُم تَحيضُ ثُم تَطهُرُ"] (¬7). وما ذكرَه المزنيُّ ظاهرُه أنه (¬8) كلامُ الشافعيِّ رضي اللَّه عنه، وكذلك (¬9) صَرَّحَ به غيرُه بِزيادةِ أنَسِ بْنِ سِيرينَ (¬10) معَ سَالمٍ ويُونُسَ بْنِ جُبيرٍ، وليس هذا المذكورُ عن سالمٍ ويونسَ (¬11) مخالفًا لِرِوايةِ نَافعٍ. فمَعْنى "حتى تَحيضَ" أي: حيضةً مستقبَلة، وذلك لا يكونُ إلا بَعْدَ طُهْرٍ، ¬
وقدْ جَاءَ ذلك مصرَّحًا فِي رِوايةِ مُسْلمٍ عنْ سَالمٍ وفيها: "مُرْهُ فلْيُراجِعْها حتى تَحيضَ حَيْضةً مُستقبَلةً سِوَى حَيْضتِها التي طَلَّقَها فيها" (¬1). فالرِّوايتانِ على هذا المعنى الظاهرِ مُتفقتانِ، وإنما يَختلفانِ مِنْ وَجهٍ آخَرَ، وهو أن فِي روايةٍ [لِسالِمٍ فِي مُسلمٍ: "مُرْهُ فلْيُراجِعْها ثُمَّ لْيُطلِّقْها طَاهرًا أو حائِلًا (¬2) ". وفِي رِوايةِ] (¬3) يُونُسَ بْنِ جُبَيرٍ فِي "مسلم" (¬4): "فأمَرَهُ أَنْ يُراجِعَها حتَّى يُطلِّقَها طَاهرًا مِنْ غَيرِ جِماعٍ"، وفِي رِوايةٍ لِيُونُسَ: "إذا طَهُرَتْ فلْيُطلِّقْ أوْ لِيُمْسِكْ" وكذلك فِي رِوايةِ أبِي الزُّبَيرِ، وفِي رواية أنس بن سيرين: "ليراجعها فإذا طهرت فليطلقها"، وفِي رِوايةٍ لَه: "مُرْهُ، فلْيُراجِعْها، ثُمَّ لْيُطَلِّقْها لِطُهْرِها". [قال ابن عمر: فراجَعَها ثم طَلَّقَها (¬5) لِطُهْرِها] (¬6)، وفِي رِوايةِ أَبِي وَائلٍ (¬7): "فإذا طَهَرَتْ طَلَّقَها"، ولذلكَ جاءَ مَعناهُ فِي رِوايةِ الشَّعبيِّ، ومَيمونِ بْنِ مِهرانَ، كُلُّهُم عنِ ابْنِ عُمرَ. والظاهرُ: أنَّ الشافعيَّ إنَّما أَرادَ هذَا، فَوقعَ الخَللُ لِلناقِلِ. وظَاهرُ كَلامِ الشَّافعيِّ النَّظرُ إلى رِوايةِ (¬8) الأَكْثرِ لا سِيَّما إذا كانَ فيهِمْ ¬
سَالمٌ، فيُكتفَى على هذا فِي الاستِحبابِ بالإمْساكِ إلى الطُّهرِ الأوَّلِ، وبِه يَزولُ ضَررُ (¬1) تَطويل العِدةِ، وعلى هذا جرى "الحاوي" و"المنهاج" (¬2) لكنْ بِعبارةٍ فيها خَللٌ، وفِي "المختصر المنبه" (¬3). وقد قيل: إنَّ فِي "الإمْلاءِ": ولَو طَلَّقَها، وهِي حائضٌ فأُحِبُّ له أَنْ (¬4) يُراجِعَها، ثُم لْيُمْسِكْها حتَّى تَطْهُرَ، ثُم (¬5) تَحيضَ، ثُم تَطْهُرَ، ثُم إنْ شَاءَ طَلَّقَ قبْلَ أَنْ يَمَسَّ، أوْ أَمسَكَ. وقال الشافعيُّ -رضي اللَّه عنه-: (¬6): إنَّه يَحتمِلُ أن يكونَ ذلك (¬7) لِيستبرِئَها المطلِّقُ، فيُطلِّقَها وعِدَّتُها مَعلومةٌ. وهذا المَنقولُ عن "الإملاء" هو المصحَّحُ عند جمْعٍ مِنْ أصْحابِه، وقَطَعَ به بعضُهم، ونقَلَه الإمامُ عنِ الجُمهورِ. والخِلافُ قَولانِ، لا وجْهانِ كما ذَكرُوه، وهو فِي تأدِّي الاستِحبابِ (¬8) التَّامِّ، فأمَّا أصْلُ الاستِحبابِ وإباحةِ الطَّلَاقِ فيَحصُلُ بِالأوَّلِ قَطْعًا، كما اقتضَاهُ نقْلُ الإمامِ وغيرِه. ¬
وحكايةُ "الوسيط" الخِلافَ فِي جَوازِ الطَّلَاقِ فِي الطُّهرِ الأوَّلِ قال فِي "زِياداتِ الرَّوضةِ": هو فاسدٌ أوْ مُؤَوَّلٌ، وليس كما قال فِي "الروضة" ففِي كلامِهم ما يَشهَدُ له، ولَكنَّ (¬1) المَشْهورَ خِلافُه. وعلى الطريقةِ المَشهورةِ تكونُ رِوايةُ نافعٍ وإحدى رِوايَتَيْ سَالمٍ فِي تَمامِ الاستِحبابِ، ورِوايةُ الأكثَرِ فِي أصْلِ الاستحبابِ. وإنْ لَمْ يُراجِعْ حتى طَهَرَتْ فقدْ فاتَ المُستحبُّ (¬2) على رِوايةِ الأكْثرِ، وعلى رِوايةِ نَافعٍ يَحصُلُ استحبابُ الرَّجعةِ لِمَا بَقِي، وهو الأقْربُ، ويَحتمِلُ خلافَ ما ذكرُوهُ. وإنْ كانَتِ البِدعةُ لِوُقوعِه فِي طُهْرٍ جَامعَها فيه (¬3) ونحوِه على ما سبَقَ، فقال الشافعيُّ: أَحْبَبتُ أَنْ يُراجعَها، ثم يُمهِلَ لِيطلِّقَ كما أُمِر (¬4)، يعني: بعْدَ ظُهورِ حَمْلِها منه، أو فِي طُهْرٍ بعْدَ حَيْضٍ. وإنْ لَمْ يَطأْ فِي الطُّهرِ الأوَّلِ بَعْد الرَّجعةِ أوْ لَمْ يُراجِعْها فيه، ثُمَّ رَاجَعَها، فقالُوا: يُستحَبُّ أن لا (¬5) تُطَلَّقَ فِي الطُّهرِ الثانِي، لِئلَّا تَكونَ الرَّجعةُ لِلطلاقِ، وهُو خِلافُ إطْلاقِ (¬6) النَّصِّ السابقِ. ¬
ومِن الصِّفاتِ ذِكْرُ المَعيةِ والقَبْليةِ والبَعْديةِ (¬1) ونَحوِها، وتَبعيضُ الطَّلَاقِ، وتَنجيزُ ذلك إلى ذِكْرِ بَعْضِ الزَّوجةِ. فإذَا قالَ لِزَوجتِه المُوطوءةِ (¬2) "أنتِ طالقٌ طَلقةً معها طلقةٌ" أو: "معَ طَلْقةٍ" -ولا عِوَضَ هُناك- وقَعَ طَلقتانِ قَطْعًا. لكنْ هَلْ تَقعانِ معًا بِتَمامِ الكلامِ كما لو قال: "أنتِ طالقٌ طلْقَتَينِ"؟ أو يَقعانِ مُتعاقِبَتَينِ (¬3) لِتَرتُّبِ اللَّفظينِ؟ وَجهانِ، صَحَّحُوا الأوَّلَ (¬4). فلَو قال ذلك لِغَيرِ مَوطُوءةٍ وقَع علَيْها طَلقتانِ أيضًا على المُصَحَّحِ، وعلى التَّرتيب واحدةٌ. والتحقيقُ: أنَّه إنْ أَرادَ بِطالقٍ ثِنتَينِ، وبيَّنَها بقَولِه: "طَلْقةً مع طلقةٍ" فالأمرُ كما صحَّحُوا، بَلْ يَنبغِي أَنْ يُقطَعَ بِه، وإنْ أرادَ بـ "طالق" واحدةً، أو لَمْ يُرِدْ (¬5) عددًا، فلا يَقعانِ إلا مُتعاقِبتَينِ (¬6)، ولا يَقعُ على غَيرِ المَوطوءةِ إلا واحدةٌ. ولو قالتِ المَدخولُ بِها لِزَوجِها: "طَلِّقْني طَلْقتَينِ بألْفٍ"، فقال: "أنْتِ ¬
طالقٌ طَلْقةً مع طلقةٍ" أو: "معها طلقةٌ" استحَقَّ الألْفَ على أنَّهما يَقعانِ معًا، وعلى التَّرتيبِ لا يَستحِقُّ إلا النِّصفَ إذ (¬1) لَمْ يَقعْ إلا واحدةٌ، وفيه ما قدَّمناهُ مِنَ التحقيقِ ولَمْ يَذكرُوه. ولَوْ قالَ: "أنتِ طالق طلقةً (¬2) قبلَ طلقةٍ" أو: "بعْدَها طلقة" وقعتْ (¬3) طَلقتانِ مُتعاقِبتانِ فِي المَدخولِ بها حَيْثُ لا عِوَضَ ولا يقعُ فِي غَيرِ المَدخولِ بِها إلا واحدةٌ، وكذا فِي طلاقِ العِوَضِ. ولو قال: "طلقةً بعد طلقةٍ" أو: "قبلها طلقة" وقعَ فِي المَدخولِ بِها حَيثُ لا عِوَضَ (¬4) طَلقتَانِ على المَشهورِ، ويَقعانِ مُتعاقِبَتينِ بعْدَ تَمامِ اللَّفْظِ. وصحَّحُوا وُقوعَ المُضمَّنةِ أوَّلًا ثُمَّ المُنجَّزةِ، والتَّحقيقُ: عكسُه. وفِي غَيرِ المَدخولِ بها صحَّحُوا وُقوعَ واحدةٍ مع ما صحَّحُوه فِي الكَيفيةِ السابقةِ، ولا يَجيءُ ذلك إلا على إبْطالِ الدورِ. أمَّا (¬5) إذا صحَّحْناه كما سَيأتِي، فإنَّه لا يَقعُ شَيْءٌ. وقِيلَ: يَقَعُ عليها طَلقتانِ، ويَلغُو الوصفُ بالقَبْليةِ والبَعْديةِ. ولو قال: "طَلقةً فِي طلقةٍ" وأراد "مع" فَطلقتانِ على ما سَبقَ، أو الظرفَ، أو الحسابَ، أو أَطْلقَ، فطَلْقةٌ (¬6). ¬
ولو قال: "نِصفَ طَلْقةٍ فِي نِصْفِ طَلْقةٍ" لمْ تَقعْ إلا واحدةً على كلِّ تقدير؛ كذا قالُوه. والتحقيقُ فِي إرادةِ المعيةِ إن قُلْنا: تقعانِ مُتعاقبتَينِ (¬1) عندَ التصريحِ بالمعيةِ فهُنا يَقعُ ثِنتانِ. وإنْ قُلْنا: يَقعانِ معًا، احتَملَ وُقوع ثِنتَينِ مِن جِهَةِ تَكميلِ كُلِّ نِصفٍ، واحتَملَ وُقوع واحدةٍ، والأولُ أرْجحُ. وطلقةٌ فِي طَلقتَينِ يَقعُ به ثلاثٌ عند قَصْدِ المَعيةِ، وفِي قَصْدِ الظَّرْفِ واحدةٌ. وإن قَصَدَ الحسابَ وعَرَفَ معناه، فثِنْتانِ، وإنْ جَهِلَه ولَمْ يقصِدْ معناه، فواحدةٌ، وكذا إن قَصَدَ معناه على الأصحِّ. وخُرِّج عليه "أنتِ طَالقٌ مِثْلَ ما طَلَّقَ زيدٌ امرأتَه"، وهو لا يَدرِي ما طَلَّقَ، وكان زيدٌ قدْ طَلَّقَ عَددًا، وقضيةُ ذلك أنَّ الأصحَّ وُقوعُ واحدةٍ. وقالوا مِثلَ ذلك فيما إذا نَوَى عددَ طلاقِ زَيدٍ، ولَمْ يَتلفظْ بِه، ولَمْ يَعرفِ العَددَ، وكلُّ ذلك بَعيدٌ؛ لِأنَّ الطَّلَاقَ لا يَنقصُ عن الإحرامِ، بَلْ يَزيدُ علَيه. ولو قال: "أَحرمتُ كإِحرامِ زيدٍ" ولا يَدرِي قِرانَه، فكان (¬2) قَارنًا فإنه يَتْبَعُه، فلِذلك هُنا (¬3) يقَعُ عَددُ (¬4) طَلاقِ زَيدٍ، وعِند إرادةِ (¬5) العَددِ أَوْلَى. ¬
وإن لَمْ يَقصِدْ حِسابًا ولا غَيرَه فطلْقَةٌ (¬1)، وكذا لِعارفِ (¬2) الحِسابِ على الأظْهَرِ، وفِي قولٍ غريبٍ: له ولغيره، ثلاث، وهو ضَعيفٌ (¬3). * * * وإذا قال: "أنتِ طالق بعضَ طَلقةٍ" (¬4) وقعتْ طَلقةٌ، لاستِحالةِ تَبعيضِ الطلقةِ، أبْهَم، أو عيَّنَ؛ كنِصفِ طَلقةٍ (¬5). ولا خُصوصَ للطلاقِ باستِحالةِ تَبعيضِه، فالتبعيضُ مُستحيلٌ فِي كثيرٍ مِن أبْوابِ الشَّريعةِ، كما فِي النِّيةِ فِي جَميعِ العِباداتِ، وكما فِي كُلِّ عَقْدٍ وفَسخٍ وحَجْرٍ ويَمينٍ وقَضاءٍ (¬6) وشَهادةٍ ودَعْوى وقُرءٍ. وإنَّما يَختصُّ الطَّلَاقُ بالوُقوعِ، وقد يُتخيَّلُ أَلحاقُ العِتْقِ والإحرامِ به كـ "أعتقتُكِ نصفَ عتقٍ" و"أحرمتُ نصفَ إحرامٍ"، ولَمْ يَذكرُوه. ¬
ونِصْفَيْ طَلقةٍ تقعُ به واحدةٌ على المَشهورِ، إلا أَنْ يَقصِدَ نِصْفَي طَلقَتَينِ فتَقعُ ثِنْتانِ، وفِي نِصْفِ طَلقتَينِ تقعُ واحدةٌ على الأصحِّ. وإنْ زَادَتِ الأجزاءُ كثلاثةِ أنْصافِ طَلْقةٍ، [فطَلْقتانِ على الأصحِّ (¬1) (¬2)، وإنْ جاوَزَتِ الأجزاءُ طَلقتَينِ كخَمسةِ أنْصافِ طَلقةٍ] (¬3)، فثلاثٌ على الأصحِّ، وقيل: واحدةٌ. وفِي المَعطوفِ فِي نَحوِ "نِصفُ طلقةٍ، وثلثُ طلقةٍ" يتعددُ، وفِي نَحْوِ: "نِصفٌ وثُلُثٌ" لا يتعددُ، وعِنْدَ إسْقاطِ العاطِفِ مَعَ تَكرُّرِ لَفظِ "طلقة" نحو "أنتِ طالقٌ ثُلثَ طَلْقةٍ، رُبُعَ (¬4) طَلقةٍ، سُدُسَ طَلْقةٍ" لا يَقعُ إلا واحدةٌ (¬5)؛ كذا جَزمُوا به مُستشهِدِين بنَحو "أنْتِ طَالقٌ طالقٌ (¬6) " واستشهادُهم مُخالِفٌ لِطَريقةِ الجُمهورِ مِن أنَّ ذلك كـ "أنتِ طَالقٌ أنتِ طالقٌ"، كما سَبقَ. وقضيةُ هذا أن يأتيَ ما سَبَقَ فِي الإطْلاقِ، وقصْدِ الاستِئنافِ والتأكيدِ والحكمِ (¬7) هنا مُطلقًا (¬8) للمُغايرةِ. وأمَّا التبعيضُ فِي المَحلِّ فيَستحيلُ هنا مع الإبْهامِ أو التعيينِ، وكذلك فِي ¬
يَسيرٍ مِنَ الأبوابِ كالنِّكاح، والرَّجعةِ، والإيلاءِ، والظِّهارِ، واللِّعانِ، ونحوِها، ولكنْ يَقعُ الطَّلَاقُ على كُلِّ المَحلِّ، ويَترتبُ فِي الإيلاءِ والظِّهارِ ما (¬1) سيأتي. وفي (¬2) ضَمانِ الإحصارِ يَصحُّ بما لا يبقَى (¬3) دُونَه. فإذا طَلَّقَ بعضَ زوجتِه مُشَاعًا (¬4) أو جُزءَها مُشاعًا نَحوَ رُبُعٍ، أو مُعينًا بِجهةٍ، فإنها تَطْلُقُ اتِّفاقًا. وفيما ذَكرُوه فِي "بعضِكِ" نَظرٌ لِجوازِ أَنْ يُريدَ ما لا يقَعُ بِه، لو عيَّنه من فضلةٍ ونحوِها فإذا أرادَ ذلك لَمْ يَقعْ. وإنْ طلَّقَ جُزءًا مُعيَّنًا كأذُنٍ وشَعَرٍ، وكانَ مَوْجودًا عندَ التنجيزِ أو التعليقِ والصفةِ طَلَقتْ إلا فِي أُذُنٍ أُلصِقَتْ بعْدَ انفصالِ كلِّها، وسِنٍّ كذلك على الأصحِّ. وحيثُ وقعَ فيما ذُكِرَ فهُوَ بتقديرِ السرايةِ (¬5)، أو بِطَريقِ التَّعبيرِ (¬6) بالجُزئيةِ (¬7) عنِ الجُملةِ وجْهانِ (¬8)، صحَّحُوا الأولَ، وفيه نَظر؛ لِأنَّ التقديرَ لا يكونُ بالمُستحيلِ. ¬
ورتَّبُوا على الوَجْهَينِ: "إن دخلتِ الدارَ، فيمينُكِ طالقٌ"، فقُطِعتْ بعد التعليقِ، ثُمَّ دخلَتْ، فعلى الأصحِّ: لا يَقعُ، وعلى الثاني: يَقعُ. ولَوْ قيلَ: هو مِن التَّعبيرِ بالجُزءِ عنِ الجُملةِ بِشَرطٍ يُشترط (¬1) وُجودُ المَذكورِ أو لا يُشترَطُ وجودُه لكانَ أَوْلى، ولَمْ يَذكرُوه. والتعبيرُ بالجُزءِ عن الجُملةِ وإن كان مَجازًا، فلا يُعتبَرُ فيه النِّيةُ هنا؛ لأنَّ النِّيةَ إنما تُعتبَرُ فِي غَيرِ الصرائحِ على ما سَبقَ لا فِي المحلِّ. [وإنْ طلَّقَ فَضلاتِها كعَرَقٍ ودَمعٍ وبَولٍ ومَنيٍّ ولَبَنٍ أوْ أخْلاطَها، لمْ تَطْلُقْ فِي جَميعِ ذلك على ما صَحَّحُوه إلا فِي "دَمُكِ طَالقٌ" فإنَّها تَطْلُقُ على المَذهبِ] (¬2). وإنْ طلَّقَ المعانِي وهِيَ الأعْراضُ كسَمعٍ وبصَرٍ وكلامٍ وضحكٍ وحَركةٍ وسُكونٍ وسِمَنٍ، لمْ تَطْلُقْ على المَشهورِ. وما ذَكرُوه فِي السِّمَنِ فيه نَظرٌ؛ لِأنَّه فِي العُرفِ يُرادُ به الجُثةُ الكَبيرةُ، وحِينئِذٍ فيَظْهَرُ وُقوعُ الطَّلَاقِ. وإذا نَوى ذلك فالوُقوعُ مُتعيَّنٌ. [ومِمَّا لا يَقعُ به إذا طَلَّقَ صِحَّتَها، أوْ نفَسَها -بفَتحِ الفَاءِ- أوْ ظِلَّها، أو اسمَهَا، إلا أن يُريدَ بالاسْمِ المُسمَّى فتَطْلُقَ] (¬3). وإنْ قال: "رُوحُكِ طَالقٌ" وقعَ الطَّلَاقُ إن قلْنَا إنَّ الرُّوحَ جِسْمٌ، وإن قلنا ¬
عَرَضٌ، فلَا، وصحَّحُوا الوُقوعَ. ولو قال: "حياتُكِ طَالقٌ"، فإنْ أَرادَ الرُّوحَ فكمَا سَبقَ، وإنْ أَرادَ المَعنى، لمْ تَطْلُقْ كمَا تقدَّمَ. * * *
فصل في الاستثناء في الطلاق بالمشيئة أو بغيرها
فصل في الاستثناء فِي الطلاق بالمشيئة أو (¬1) بغيرها الاستِثناءُ بِمشيئةِ اللَّهِ تعالى هو تَعْليقٌ، وأُطلِقَ عليه استِثْناء مجازًا مَشهورًا بالنَّظرِ إلى الثُّنيا اللُّغويةِ، وهِيَ الانعطافُ على اللَّفظِ بِلَفظٍ آخَرَ يُخرِجُ الأوَّلَ عنْ ظَاهرِ مَدلولِه، وذَكرْنَاه فِي الاستِثناءِ لِذلك، ولِكثْرَةِ (¬2) استِعمالِ النَّاسِ له، وقدْ تُسْتعمَلُ فيه أَداةُ (¬3) الاستِثناءِ (¬4). ويُشترَطُ فِي إِعمالِه، وإِعمالِ كُلِّ الاستِثناءِ (¬5) أَمْرانِ (¬6): 1 - أحدُهما: أَنْ يقصِدَهُ قبْلَ فَراغِ الكَلامِ على الأصَحِّ المَنصوصِ فِي ¬
2 - الثاني
"البويطي". ثُمَّ إنْ كانَ فِي المشيئةِ كفَى نِيَّتُها (¬1) قبْلَ فَراغِه منْ قولِه: "أنْتِ طَالقٌ ثلاثًا" مَثَلًا. وإنْ كان فِي الاستِثناءِ فِي العَددِ ونَحوِه كمَنْ قال: "أنتِ طالقٌ" على نِيَّةِ الثَّلاثِ، وفَرغَ مِن "طالق" على النِّيةِ المَذكورةِ، ثُمَّ قال: "ثلاثًا" وقَصدَ استِثناءَ ثِنْتينِ أوْ واحدةً قبْلَ فَراغِه مِنْ قَولِه: "ثَلاثًا" فإنه لا يخلِّصُه على التَّحقيقِ (¬2). ولَمْ يتعرضُوا له، وإنما يُخَلِّصُه أن يَنْويَ الاستِثناءَ قبْلَ فَراغِه مِن قولِه: "طالقٌ". 2 - الثانِي: الاتصالُ (¬3)، ولا تضرُّ (¬4) سكتةُ العِيِّ والتنفُّسِ والتذكُّرِ -على النَّصِّ- ولا المعطوفاتُ التي يعقُبُها الاستثناءُ على المَذهبِ المُعتمَدِ، ولا نحوُ "أَستغفِرُ اللَّهَ" قياسًا على المَنقولِ فِي الإقْرارِ، وينفردُ الاستثناءُ فِي العَدَدِ ونحوِه، بأن لا يكونَ مُسْتغرقًا كما تقدَّم فِي الإقرارِ. فإذا قال لِزَوجتِه: "أنتِ طالقٌ إنْ شاءَ اللَّهُ" وقَصَدَ التَّعليقَ بِشَرطِهِ، لمْ يقعْ على المَذهبِ. ¬
ومثلُه: "إنْ أَرادَ اللَّهُ"، أو: "إنْ قَضى اللَّهُ" ونحوُ ذلك (¬1). ولا فَرْقَ بيْنَ "إنِ الشرطيةِ" و"متى"، و"إذا" ولا بيْنَ تَقَدُّم (¬2) الشَّرْطِ، وتوسُّطِه وتأخُّرِه (¬3). ولو قال: "أنتِ طالقٌ بمشيئةِ اللَّهِ" لَمْ تَطْلُقْ، ذكَرَه الماوَرْديُّ (¬4)، أو: "لِمشيئةِ اللَّهِ" فكذلك، وفيهما نَظرٌ، أو: "ما شاءَ اللَّهُ" فلا تَطْلُقُ على الأصحِّ، وِفاقًا للطبريِّ، خِلافًا لِمَا جَزمَ به فِي "الشرحِ" و"الرَّوضةِ" (¬5). وكذا يَمْنَعُ الاستثناءُ بالمَشيئةِ إعْمالَ التعليقِ واليَمينِ والنَّذرِ والعِتقِ، وكلِّ تَصرُّفٍ، ولا يَلزَمُ الإقرارُ. وكذا الظِّهارُ على المَنصوصِ فِي "الأمِّ" (¬6) المَعمولِ بِه، وما وَقعَ فِي "الحاوي الصغير" (¬7) مِن لُزومِ الظِّهارِ خِلافُ المَذهبِ (¬8). ¬
ولو قال: "أنتِ طالقٌ إن لَمْ يشإِ اللَّهُ" لمْ يَقعْ على الأصحِّ المَنصوصِ (¬1)، أوْ: "إلَّا أَنْ يشاءَ اللَّهُ"، فكذلك على النَّصِّ (¬2) المُعتمَدِ خِلافًا لِلْعِراقِيِّينَ والبغويِّ (¬3). ولو قال: "يا طالقُ إنْ شاءَ اللَّهُ" لم يَقَعْ على الصَّوابِ (¬4)، وما صُحِّحَ على (¬5) الوُقوعِ لا يَقومُ عليه دَليلٌ (¬6)، وليس فِي كَلامِ الشافعيِّ ما يَقتضِيه (¬7). ولا يَجوزُ قَطْعُ العِصْمةِ المُعتبَرةِ ما لمْ تَثبُتْ بِدليلِ (¬8) مُعتبَرٍ، والذين أوْقَعُوا فِي النِّداءِ قالوا: لو قال: "أنتِ طالق ثلاثًا، يا طالَقُ إن شاءَ اللَّهُ"، لا ¬
ضابط
يقعُ شَيءٌ، وفيهِ وجْهٌ ضَعيفٌ رجَّحَه الرافعيُّ، ومَنْ تَبِعَه، أنَّه يَقَعُ واحدةً (¬1). وتَقعُ فِي قولِه: "أنتِ طالقٌ إذْ شاءَ اللَّهُ"، فإنه لا تعليقَ فيه، وكذا فِي "أَنْ شاءَ اللَّهُ" بِفتحِ الهَمزةِ مِن العارفِ بأنَّ ذلك لِلتعليلِ، ولا يَقعُ مِن (¬2) عامِّيٍّ يَعتقِدُ أنه تَعليقٌ. وأمَّا الاستثناءُ بِغَيرِ مَشيئةِ اللَّهِ تعالى نحو: "إنْ شاءَتِ الملائِكةُ"، فلا تَطلُقُ، وكذا "إنْ شاءَ الناسُ" أو: "الجِنُّ" أو: "إنْ شاءَ الميِّتُ" أو: "الحِمارُ" أو "الجَمادُ" (¬3). ويَجيءُ فِي الكُلِّ خلافُ التَعليقِ بالمُستحيلِ (¬4)، فإذا قال مُخاطبًا (¬5) لِزَوجتِه: "أنتِ طالق إنْ شِئْتِ" اعتُبِرَ الفَوْرُ في (¬6) قولِها: "شِئتُ" على المَذهبِ كما فِي قَبولِ العَقدِ، فإنْ فاتَ الفَورُ بَطَلَ التَّعليقُ، ولا يَقعُ بقَولِها على الفَورِ "شئتُ إن شئتَ". * ضابطٌ: ليس لنا تعليقٌ فِي الإثْباتِ يُعتبَرُ فيهِ الفَورُ عندَ عَدمِ التَّقييدِ بالفَورِ إلَّا فِي مَوضعَينِ: 1 - أحدُهما: "إنْ أَعطيتِني كذا، فأنتِ طالقٌ" ونحوُه على ما سَبقَ فِي ¬
الخُلعِ مِن أجْلِ شَبَهِ (¬1) المُعاوَضةِ. 2 - الثانِي: "إن شئتُ" ونحوُ (¬2) ذلك، لأنَّه خِطابٌ لا دَلالةَ له على الزَّمانِ مُقتضاهُ عادةً (¬3) استِدعاءِ رغْبةٍ وجوابٍ مِن المُخاطَبِ، لأنَّه يَتضمنُ التَّخييرَ والتَّمليكَ بِدليلِ ما سيأتي فِي إن شاءتْ، وفِي الإيلاءِ. ولو قال: "إذا شِئتِ" لَمْ يُعتبَرِ الفورُ على الأرْجحِ، وِفاقًا لِلماوَرْديِّ (¬4) وغيرِه، خِلافًا لِمَا جَزمَ به فِي "الشرحِ" و"الرَّوضةِ" (¬5) لِدلالةِ "إذا" على الزَّمانِ. ولَوْ قال: "متى" أو: "أيَّ وقتٍ شئتِ" فهو على التَّراخِي. ولو قال: "حيثُ شِئتِ" فالنصُّ فِي كتابِ ابْنِ بِشرِي أنه لا يَقعُ، إن (¬6) قامتْ مِن مَجلسِها، وهو مُشكِل بما سَبقَ فِي "متى" و"أي وقتٍ" فإنهما يَتناولانِ الأزمنةَ المستقبَلَةَ مِن غَيرِ تَخصيصٍ، و"حيث" تتناولُ الأمكنةَ مِنْ غَيرِ تَخصيصٍ. و"أينَ": كـ "حيثُ" و"كيفَ شِئْتِ"، تَطْلُقُ شَاءَتْ أمْ (¬7) لَمْ تَشأْ على الأصحِّ. ¬
و"على أيِّ وجْهٍ شِئتِ" تعليقٌ لا يُعتبَرُ فيه الفَورُ خِلافًا لِمَا فِي "الشرح" و"الروضة" (¬1). و"إنْ أحبَبْتِ" أو "رَضيتِ" كـ "إنْ شِئْتِ". ولو قال: "إنْ شاءَتْ" لَمْ يُعتبَرْ على الأصحِّ؛ لِفَواتِ الخِطابِ المُقتضِي لاستِدْعاءِ الجَوابِ. ولو كانتِ الزوجةُ صَغيرةً مميِّزةً فَصَحَّحَ جَماعة أنه لا أَثرَ لِمشيئتِها، ومُقتضَى نَصِّه فِي "الأمِّ" فِي الخُلْعِ يُخالِفُ ذلك، وهو الأرْجحُ. وأمَّا المَجنونةُ وغَيْرُ (¬2) المَميِّزةِ فالخلافُ (¬3) فيهما أيضًا (¬4) صرَّحَ به الفورانِيُّ وغيرُه. وللشافعيِّ نصٌّ يَقتضِي الوقوعَ بِمَشيئتِهما (¬5)، ونصٌّ صريحٌ أنه لا يَقعُ، وهو المُعتمَدُ. ولو قال لِغَيرِ الزَّوجةِ: "إنْ شِئْتِ فزَوْجَتِي طالقٌ" فالأرْجحُ اعتبارُ الفَورِ لِوُجودِ الخِطابِ المُقتضِي لِذلك، خِلافًا لِمَا صحَّحَه فِي "الشرح" و"الروضة" (¬6)، فقدْ صحَّحَا فِي الإيلاءِ ما يوافِقُ ما رجَّحْناهُ مِن اعتبارِ ¬
ضابط
الخطابِ، وهو النصُّ فِي الإيلاءِ في (¬1) "واللَّهِ لا أَقْرَبُكِ إنْ شِئتِ" (¬2) إذ لا تَمليكَ فيه، ويَشهدُ له ما تَقدَّمَ في: "إنْ شاءَتْ". ولو قال: "إنْ شاءَ زيدٌ" فلا يُعتبَرُ الفورُ على المَشهورِ، أو (¬3) "إنْ شئتُ أنا" فلا يُعتبَرُ الفَورُ قَطْعًا. وليس لِلزَّوجِ أن يَرجعَ فيما جازَ فيه التَّراخِي، وله (¬4) أَنْ يَرجِعَ فِي نحوِ "إنْ شئتُ" أو "رضِيتُ" على نصٍّ فِي كتابِ ابنِ بِشرِي، والمَشهورُ: الجَزْمُ بأنَه (¬5) لا رُجوعَ له. * * * * ضابطٌ: ليس لنا تعليقُ طلاقٍ يَجوزُ الرُّجوعُ فيه على رأي مَرجوحٍ إلا هذا، ونحو (¬6) "إنْ أعطيتِني كذا فأنتِ طالقٌ"، وقال المعلِّقُ بمشيئتِه "شِئتُ" بلِسانِه، وهو كارِهٌ بقَلْبِه، وقال المعلِّقُ: "أردتُ النطقَ باللِّسانِ" وقعَ الطَّلَاقُ ظاهرًا وباطنًا (¬7). ¬
وإن قال (¬1): "أردتُ ما يُعَبِّرُ (¬2) به اللسانُ عنْ مَيْلِ القَلْبِ"، وقعَ ظاهرًا. وإنْ أَطلقَ فالأرْجحُ أنه لا يَقعُ باطنًا، وِفاقًا لِلْمَاورْديِّ (¬3) ومَنْ تَبِعَه، خِلافًا للْقَفَّالِ، وما فِي "المحرَّرِ" (¬4) و"المنهاجِ" (¬5)؛ لأنَّ محلَّ المشيئةِ والإرادةِ: القلبُ، واللسانُ يُعَبِّرُ عنه، وَصَدَقَ الأجنبيُّ فِي ذلك، لأنَّ العِبارةَ (¬6) باللسانِ وُجِدَتْ، وما فِي القلْبِ لا يُعرَفُ إلا مِن جِهَتِه. * * * ولو قال: "أنتِ طالقٌ ثلاثًا إلا أَنْ يشاءَ أبوكِ طلقةً" فشاءَ أبُوها طلقةً، أو أكثرَ، لَمْ تَطْلُقْ على النصِّ المُعتمدِ، لأنَّ مَن شاءَ أكْثرَ فقَدْ شاءَ طلْقةً، وواحد ليستْ شَرطًا، بلْ هِيَ تعريفٌ (¬7). وأمَّا الاستثناءُ مِن الذي تلفظ به من الطَّلَاقِ، فيزدادُ (¬8) شرط أن (¬9) لا يستغرقَ كما تقدَّمَ فِي الإقْرارِ إلا إذا كان الاستِغراقُ فيما يَملكُه دُونَ ما تلفظَ بِه، فالعِبْرةُ بِما تلفظَ به على النَّصِّ المُعتمَدِ. ¬
ويصح الاستثناء من الأحوال والزمان والمكان والنساء.
فيقعُ مِنَ الحُرِّ في: "أنتِ طالقٌ خَمسًا إلا ثلاثًا أو سِتًّا (¬1) إلا أرْبعًا" ونحوُه ثِنتانِ (¬2). ولو قال: "أنتِ طالقٌ أرْبَعًا إلا واحدةً" وقعَ الثلاثُ، أو: "أنتِ طالِقٌ ثلاثًا إلا نِصفَ طَلْقةٍ" وقَعَ الثلاثُ على الصَّحيحِ (¬3). وسبَقَ فِي الإقْرارِ ما يُعرَفُ مِنه كَثيرٌ مِنَ الاستِثناءِ فِي الطَّلَاقِ. * * * * ويَصحُّ الاستِثناءُ مِن الأحوالِ والزَّمانِ والمَكانِ والنِّساءِ. * فمِنَ الأحْوالِ: " أنْتِ طالقٌ إلا أَنْ تَكونِي حَامِلًا"، أو: "حائضًا"، أو: "إلا أَنْ تَدخُلِي الدَّارَ"، ونحوُ ذلك. * ومِن الزَّمانِ: " أنتِ طالِقٌ إلا فِي هذا اليومِ"، فتَطْلُقُ إذا غَابتِ الشمسُ؛ نصَّ علَيْه. ومِثلُه: "إلا فِي هذا الشَّهرِ الذي نَحْنُ فيهِ"، أو: "إلا فِي السَّنةِ التي نحنُ فيها"، و: "إلا فِي الشهْرِ الآتِي" ونحوُه، فلا تَطْلُقُ قَبْلَه إذا (¬4) لم يُرِدِ الطَّلَاقَ قَبْلَه، ولا فِيه، قلتُه تخريجًا. ونصَّ في: "أنْتِ طالقٌ إلا أيامَ حياتي" أو: "أيامَ حياتِكِ" أنَّها لا تَطْلُقُ كقَولِه: "بَعْدَ مَوْتي" أو: "مَوْتِك". ¬
ومن المكان
* ومِنَ المكانِ: " أنتِ طالقٌ إلا فِي هذه الدَّارِ" فإذا خَرجَتْ منها طَلَقَتْ، ولو قال: "إلا فِي المكانِ الفُلانِي" وليْسَتْ فيه، فهو نَظيرُ: "إلا أَنْ تَدخلِي ذلك المكانَ" مَا لَمْ يُرِدْ تَنجيزَ الطَّلَاقِ (¬1)، ولو قال: "إلا فِي دَارِ الدُّنيا" فهو كقولِه: "إلا أيامَ حياتِي" أو: "حياتِكِ"؛ قلتُ ذلك كلَّه تَخْريجًا. * ومِنَ النِّساءِ: " زَوجاتِي طَوالِقُ إلا فُلانةً (¬2) " أو "أربعتكُنَّ طوَالقُ إلا فُلانةً" على المَذهبِ المُعتَمدِ و"كلُّ امرأةٍ لِي طَالقٌ إلا فُلانةً"، ولَم يكنْ له غيرُها، لا تَطْلُقُ على المَذهبِ المُعتمَدِ (¬3)، خلافًا للقفَّالِ، وليس هذا باستثناءٍ مستغرِقٍ [لأنَّ العِبرةَ باللَّفظِ، ولا استغراقَ فيه] (¬4). * * * ¬
فصل في تعليق الطلاق
فصل فِي تعليق الطلاق (¬1) التعليقُ ترتيبُ شيءٍ غَيرِ حَاصلٍ، على شَيءٍ حاصِلٍ أوْ غَيرِ حاصِلٍ، بـ "إنْ" أو إحدى أَخوَاتِها، أو ما فِي معنى ذلك (¬2). وأَخواتُ "إنْ": "إذَا" و"متى" و"أي" و"إذَا ما" و"أينَ" و"حيثُ" و"أنَّى" و"أيانَ" و"مَن" و"مَا" و"كلَّما" (¬3). وجميعُها فِي الإثباتِ للتراخِي عند الإطْلاقِ إلا فيما سبَقَ فِي "إنْ شِئتِ" و"إنْ أعطَيتِني" وجميعُها فِي النَّفي لِلْفَورِ إلا "إنْ". ولا يَقتضِي شَيءٌ مِنها التَّكرارَ إلا "كلَّما". ¬
ويُعلَّقُ بـ "مَن" فِي نحو: "مَن دخلتِ الدارَ فهي طالقٌ" ونحوه: "التي تدخلُ الدارَ فهِيَ طالقٌ". ويُعلَّقُ (¬1) بـ "ما" فِي نحو: "ما دخلْتِ الدارَ فأنتِ طالقٌ"، واستعمالُها قَليلٌ. والظَّرْفُ والحالُ يَتأخرُ الطَّلَاقُ إلى وُجودِهما فهما مِن نَمطِ التعليقِ. والظَّرفُ المَوصوفُ بِصفةٍ يَقعُ بِوُجودِه، ولَو بِتَبين (¬2) الصفةُ فِي أثْنائِه كما فِي "يَومَ يَقدَمُ زَيْدٌ"، وسيأتي. وإذا أَتى بِأَداةِ تَعليقٍ ولَمْ يُتمَّهُ نحو "أنْتِ (¬3) طالقٌ إنْ. . " وقَطَعَ (¬4) الكلامَ مُكرَهًا صُدِّقَ فِي إِرادةِ التَّعليقِ، ويُحَلَّفُ. ولَو قَطَعَ الكلامَ مُختارًا معَ قَصدِ التَّعليقِ فِي "أنتِ طالقٌ" لَمْ يقَعْ، خِلافًا لِمَا جَزمَ به فِي "الشرحِ" و"الرَّوضةِ" (¬5) هنا. ولَو أَسقطَ الفَاءَ فقال: "إن دخلتِ الدارَ أنتِ طالقٌ" فإنْ قالَ: "أردتُ التَّنجيزَ" عُمِلَ به، وإلَّا فهو تَعليقٌ. ولو أَبدلَ الفَاءَ بالواوِ نحو "إنْ دخلتِ الدارَ، وأنتِ طالقٌ"، وقَصدَ التعليقَ عُمِلَ به، أو التنجيزَ تنجَّزَ. ¬
فإنْ أطْلَقَ وقعَ -عامِّيًّا كانَ أو عارِفًا باللُّغةِ- لِأنَّ ظَاهرَه التَّنجيزُ خِلافًا لِمَا فِي "زيادة الروضةِ" (¬1). ولَوْ قال: "أنتِ طالقٌ وإنْ دخلتِ الدارَ" طَلَقَتْ فِي الحالِ. ويقعُ فِي "أنتِ طالقٌ فِي شَهرِ كذا" بأوَّلِ جُزءٍ منه لِصِدْقِ الظَّرفيةِ؛ بِخلافِ التَّاجيلِ فلا يَصحُّ للاحتمالِ، وفِي أولِهِ وابتدائِهِ وغُرَّتِهِ ودُخولِهِ واستقبالِهِ ومَجيئِهِ يَقعُ بأوَّلِ جُزءٍ مِنه، وفِي أوَّلِ يَومٍ، أو فِي يومِ كذا عند طُلوعِ الفَجرِ. ولو ادَّعَى إرادةَ وَسْطِهِ أو آخِرِهِ لَمْ يُقبَلْ ظَاهرًا على ما صُحِّحَ، وهو مُخالِفٌ لِما سَبَق فِي "أنتِ طالق ثلاثًا بعضُهُن للسُّنةِ"، ويُدَيَّنُ فِي دَعْواهُ. وكذا لو ادَّعى أنه أراد بالغُرةِ اليومَ الثاني، أو الثالِثَ، وفِي آخِرِ شَهرِ كذا يَقعُ فِي آخِرِ جُزءٍ مِنه كما فِي آخِرِ السَّنةِ وآخِرِ الطُّهرِ، وفِي أوَّلِ (¬2) آخِرِ الشَّهرِ يَقعُ فِي أوَّلِ اليَومِ الآخِرِ؛ كذا نُسِبَ إلى الجُمهورِ. ولو قيلَ: "يَقعُ فِي أوَّلِ (¬3) آخِرِ جُزءٍ منه" لكان قويًّا، ولَمْ يَذكرُوه. وآخِرُ أولِ الشَّهرِ يَقعُ عِنْدَ غُروبِ الشَّمسِ فِي اليومِ الأوَّلِ؛ كذا نُسِبَ إلى الجُمهورِ. ولَوْ قِيلَ: يَقعُ فِي آخِرِ أوَّلِ (¬4) جُزءٍ منه لَكانَ قَويًّا، ولَمْ يَذكرُوه. ¬
وفِي سَلْخِ شَهْرِ كذا يَقعُ فِي آخِرِ جُزءٍ مِن الشَّهرِ (¬1) -أجابَ به الشيخُ أبو حامِدٍ، ورجَّحَه الغَزَّاليُّ. وفِي أوَّلِ اليَومِ الأَخيرِ (¬2) (¬3) قَطَعَ به البَغويُّ والمُتولي، وله وَجْهٌ مِن جِهَةِ أنه يُقالُ فِي اليَومِ سَلْخُ الشَّهرِ، لكنْ يَلزَمُ علَيه إِبطالُ الأَجلِ بِسَلْخِ الشَّهرِ (¬4) لاحتِمالِه ولَمْ يَذكرُوه. والمَذهبُ المُعتمَدُ أنها لا تطْلُقُ إلا بعْدَ فَراغِ الشَّهرِ، فهُو المَفهومُ مِن السَّلْخِ والانسِلاخِ لغةً وعُرْفًا. وقد نصَّ فِي "الأُمِّ" (¬5) فِي قولِه: "أنتِ طالقٌ في (¬6) انسِلاخِ شَهْرِ كذا" أنه إذا فُقِدَ ذلك الشَّهْرُ، ورُؤيَ الهِلالُ مِن أوَّلِ لَيلةٍ مِن الشَّهرِ الذي يَليه فهِيَ طَالقٌ. وقد يُتَخيَّلُ فَرْق بيْنَ السَّلخِ والانسِلاخِ وهو بَعيدٌ، وقد سَوَّى بيْنَهما الشَّيخُ أبو حَامدٍ والمُتَولي. وعِندَ انتِصافِ الشَّهرِ يقَعُ إذا غَرَبَتِ الشمسُ يَوْمَ خامسَ عشرَ الشَّهرِ. ولا أثَرَ لِظُهورِ الشَّهرِ ناقصًا؛ لأنَّه المفهومُ مِن مُطْلَقِهِ. وإذا مَضَى يَومٌ وقَالَهُ لَيْلًا تَطْلُقُ إذا غَرَبَتِ الشَّمسُ مِن يَومِ لَيلتِه، وإنْ قالَه (¬7) نَهارًا لمْ تَطلُقْ حتى يَجيءَ مِثلُ ذلك الوَقتِ مِن اليومِ الثَّاني. ¬
ولَوْ فُرِضَ انطِباقُ التَّعليقِ على أوَّلِ نَهارِهِ طَلَقَتْ عندَ غُروبِ شَمسِهِ؛ كذا ذَكرُوه، وهو غَيْرُ مُسلَّمٍ، بلْ هُو كالذِي قَبْلَه. وإذا مَضَى اليومُ تَطْلُقُ إذا غَرَبَتْ شَمْسُه سواءٌ بَقِي مِنه كَثِيرٌ أو يَسيرٌ، وفِي اللَّيلِ يلْغُو التعليقُ، كذَا ذَكَرُوهُ. وفيهِ نَظرٌ (¬1)، وهذا إذا أَطْلقَ، فإذَا أَرادَ يَومًا مُعيَّنًا طَلقَتْ بِمُضِيِّهِ. و"أنتِ طالقٌ بيْنَ اللَّيلِ والنَّهارِ" (¬2) إن قالَهُ نَهارًا لَمْ تَطْلُقْ مَا لَمْ تَغرُبِ الشَّمسُ (¬3)؛ قالَه القَفَّالُ، أو ليلًا، لَمْ تَطلُقْ بِطُلوعِ الفَجرِ. وما ذُكِرَ فِي ذلك غَيرُ مُتجهٍ، فليس لَنا زَمنٌ بَيْنَ اللَّيلِ والنَّهارِ، [والأقيسُ أَنْ تَطْلُقَ حَالًا، ويُلْغَى (¬4) قولُه "بيْنَ اللَّيلِ والنَّهارِ"] (¬5) كما لو قال: "أنتِ طالقٌ لا فِي زَمَنٍ". وإنْ (¬6) أتَى بِصيغةِ تَعليقٍ كقَولِه: "إذا جاءَ بيْنَ اللَّيلِ والنَّهارِ فأنْتِ طَالقٌ" خُرِّجَ على التعليقِ بِصِفةٍ مُستحيلةٍ وسيأتِي. ولو (¬7) قيل: لا يَقعُ في صورةِ القَفَّالِ كما سَبقَ فِي "أنتِ طالقٌ اليومَ"، وقالَه باللَّيلِ، لَمْ يَبعُدْ. ¬
وإذا مضَى شَهْرٌ، وقالَه فِي ابتِداءِ الهِلالِ؛ طَلَقتْ بمُضِيِّ ذلك الشَّهرِ تامًّا أو (¬1) ناقصًا؛ كذا ذَكرُوه، وهو مَمْنوعٌ، بلْ لا تَطلُقُ إلا عند فَراغِ قَدْرِ ذلك الجُزءِ مِنَ الشَّهرِ الذي يَليه، كما إذا قالَه فِي أثْناءِ أوَّلِ لَيْلةٍ مِنه، وفِي النَّهارِ تطلُقُ فِي مِثلِه مِنَ الشَّهرِ الذي يَلِيهِ. و"إذا مضَى الشَّهرُ" طَلَقَتْ بمُضِيِّ ما بَقِيَ مِنه. و"إذا مَضَتْ سَنَةٌ": تَطْلُقُ (¬2) إذا مَضَتِ اثْنا عَشرَ شَهْرًا (¬3) بالأَهِلَّةِ، ويكمِّلُ المُنكسِرُ ثَلاثينَ. ولو عَلَّقَ ذلك فِي آخِرِ يَومٍ مِن شَهرٍ، وجاءَ الشَّهرُ الثانيَ عَشرَ ناقصًا: فعلَى طَريقةِ المُطَلِّقِينَ لا تَطْلُقُ حتى بِمُضِيِّ قَدْرِ ما مَضى مِن ذلك قَبْلَ تَمامِ التعليقِ. وعلى طَريقةِ المُحَقِّقِينَ تَطْلقُ بمُضيِّ (¬4) الشَّهرِ الثانيَ عَشرَ مِنْ غَيرِ تَوقُّفٍ على ما ذُكِر. * * * والتَّعليقُ بِصِفةٍ مُستحيلةٍ عُرْفًا: كـ "إنْ طِرْتِ" أوْ عَقلًا: كـ "إنِ اجْتمعَ السوادُ والبَياضُ" (¬5). ¬
أو شَرْعًا: كقَولِ القَائلِ بَعْدَ وفاةِ النبيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إنْ نُسِخَ شَهْرُ رَمضانَ" فإنَّها لا تَطْلُقُ (¬1)، و"أنتِ طَالقٌ قَبْلَ مَوتِي" -بفَتحِ القَافِ وإسْكانِ البَاءِ- تَطلُقُ فِي الحالِ. فإنْ ضَمَّ القَافَ وضَمَّ البَاءَ أو سكَّنَها أو قُبيلَ بالتَّصغيرِ، لَمْ تَطلُقْ إلَّا فِي آخِرِ جُزءٍ مِن أجزاءِ حَياتِه، كذا ذَكرُوه (¬2). والأرْجحُ: أنَّها تَطْلُقُ فِي الزَّمانِ الذي يَقربُ مِن المَوتِ عُرْفًا مِن غَيرِ اعْتبارِ الجُزءِ الأَخيرِ. ولَو (¬3) قال: "بعْدَ قَبْلَ مَوتِي" (¬4)، ودعَ فِي الحالِ، كذا ذَكرُوه، وظاهِرُ لَفظِه يَقتضِي أَنْ يقعَ فِي ثاني الحالِ فهُو الذِي بعْدَ القَبْلِ. و"أنتِ طالقٌ قبْلَ ما بَعْدَ (¬5) رمضانَ" وأَرادَ الشَّهْرَ طَلَقَتْ فِي آخِرِ جُزءٍ مِن رَجبٍ؛ كذا ذُكِر (¬6). وهذا إنَّما يَصحُّ على إِرادةِ الزَّمنِ الذي يَلِيه شَعبانُ لا مُطلقِ الشَّهرِ ولا مطلقِ القَبْلِ، فإنَّ مُطْلَقَ الشَّهرِ يَقتضِي طَلاقَها فِي أوَّلِ رَجبٍ، ومُطَلَقَ (¬7) القَبْلِ يَقتضِي وُقوعَ الطَّلَاقِ حَالًا. ¬
وإنْ قالَ "ما بَعْدَ ما قَبْلَه رَمضانُ"، وأَرادَ الشَّهْرَ طَلَقَتْ باسْتِهلالِ ذِي القَعدةِ. وفيها تَراكيبُ كَثيرةٌ لَيس هذا مَوْضعَ بَسطِها. و"أنتِ طَالقٌ أَمْسِ"، أو"فِي الشَّهرِ المَاضِي"، [وقال: "أَردتُ إيقاعَه فِي الحالِ مُسندًا إلى المَاضِي"] (¬1)، فالنَّصُّ أنه يَقعُ فِي الحالِ (¬2) (¬3). وكذا لو قال: "أَرَدتُ إِيقاعَه فِي المَاضِي بِلفْظِي: الآنَ". وإنْ قالَ: "أردتُ بذلك إقرارًا بما أوْقَعْتُه فِي المَاضِي فِي هذا النِّكاحِ" صُدِّق بِيَمِينِه. وإنْ قالَ: "أَردتُ أنِّي طلَّقْتُها فِي نِكاحٍ سابقٍ" أو "إنْ غَيرِي طلَّقَها" وكان مُمْكنًا صُدِّقَ بِيَمينِه، وإنْ لَمْ يُرِدْ شيئًا وقَعَ الطَّلَاقُ فِي الحالِ. وأَلْحقُوا بهذا ما إذا ماتَ أو جُنَّ أو خرسَ، ولمْ يفسِّرْ. والصوابُ التوقُّفُ هُنا لاحتمالِ أَنْ يُريدَ ما لا يَقتضِي إيقاعَ طلاقٍ. ولو قال: "أنتِ طالقٌ اليومَ إنْ لَمْ أُطلِّقْكِ اليوْمَ" فمضى اليومُ، ولَمْ يُطلِّقْها، لَمْ تَطلُقْ عندَ ابنِ سُريجٍ وغيرِه (¬4). وقالَ الشَّيخُ أبو حَامدٍ (¬5): يَقعُ فِي آخِرِ لَحظةٍ مِن اليَومِ إذا بَقِيَ زَمنٌ لا ¬
يَسعُ التَّطليقَ، ورُجِّحَ، والأرْجَحُ الأوَّلُ. ولو قالَ: "أنتِ طالقٌ اليوْمَ إذا جاءَ الغَدُ" لَمْ تَطلُقْ عند ابْنِ سُريجٍ وغيرِهِ، وهو الأصحُّ (¬1). ولو قال الحُرُّ: "مَتى طَلَّقتُكِ أو وَقعَ عليكِ طلاقِي فأنتِ طالق قَبْلَه ثَلاثًا"، أو مَنْ فيه رِقٌّ: "فأنتِ طَالقٌ قبْلَه طَلْقَتَينِ" أو (¬2) قال: "كلٌّ قبْلَ الدُّخولِ" أو: "لَمْ يَبْقَ إلا واحدةٌ فأنْتِ طَالقٌ قبْلَه" (¬3). فإنْ لَمْ تَمضِ لَحظةٌ تَسَعُ الحُكْمَ بالوُقوعِ بأنْ أَعْقبَ تعليقَه بالتنجيزِ وقعَ المنجَّزُ قَطْعًا. وإنْ مَضَتْ ثُم نَجَّزَ، لَمْ يَقعْ على نصٍّ نُقِلَ، وأحدُ النَّقلَينِ عن ابْنِ سريجٍ، ورجَّحَه كثير، لا فِي تَطليقةٍ يطلُبُها فِي الإيلاءِ والحَكَمَينِ فِي الشِّقاقِ، بلْ يقعُ كما يَقعُ الفَسخُ في: "إنْ فسختُ بعتقِكِ فأنتِ طالق قبْلَه ثَلاثًا"، ولا فِي حالةِ نِسيانِ التعليقِ فيقَعُ؛ قلتُه تخريجًا. ولَو طَلَّقَ الوَكيلُ وقعَ فِي "متى طلقتُكِ" ولا دَوْرَ. ¬
والنَّقلُ الثاني عنِ ابنِ سريجٍ وصحَّحَه جمعٌ أنَّه يَقعُ المُنجَّزُ، وهو المُعتمَدُ فِي الفتوى. * * * وأما ما عُلِّقَ على الأفعالِ مِن إباحةٍ أوْ صِحَّةٍ كما لو قال: "إنْ وَطِئتُكِ وَطْئًا مُباحًا فأنتِ طَالقٌ قبْلَه" (¬1) فإنْ وَطِئَها لَمْ تَطلُقْ بِلا خلافٍ. و"إذا لَمْ أُطَلِّقْكِ فأنْتِ طالقٌ" أو "مَتى" أو "مَهْمَا" أو "أي وقتٍ" أو "كُلَّما"، ومَضَى زمنٌ يُمكِنُ أَنْ يُطلِّقَها فترَكَه باخْتيارِه ذاكرًا تعليقَه وقعَ الطَّلَاقُ. ويَتكرَّرُ فِي "كُلَّما" بمُضيِّ الأوْقاتِ فِي المَدخولِ بِها. ولو قال: "إنْ لَمْ أُطَفَقْكِ فأنتِ طالقٌ" لَمْ تطلُقْ إلا باليأسِ، أو بِمَوتِ أحدِهما بعْدَ إمكانِ التَّعليقِ، وقبْلَ التَّطليقِ، فتطلُقُ قُبيلَ المَوتِ، ولَو اتصَلَ جنونُهُ (¬2) بالمَوتِ خِلافًا لِمَا جَزمَ به فِي "الشرح" و"الروضة" (¬3) مِن وُقوعِه قُبيلَ الجُنونِ تَبَعًا للإمام والغزَّاليِّ. ولو فُسِخَ النِّكاحُ ولمْ يَحصُلْ تَجديدٌ (¬4) وَقعَ قَبْلَه فِي الرَّجعيِّ، وإن جُدِّدَ وَطلَّقَ بَعْدَ التَّجديدِ فقَدْ حَصلَ البُرْءُ على ما جَزمُوا به، وهو مَمنوعٌ، بلْ هُو كما لَم يُجدِّدْ، وكذا إن لَمْ يُطلِّقْ (¬5) فيه. ¬
وأما التعليق على الحمل وضده والحيض
وأما التعليقُ بنفْي الضَّربِ ونحوِه: فاليأْسُ فيه بالمَوتِ، لا بالجُنونِ المُتصلِ بِه؛ كذا قالُوه، بعلَّةِ أنَّ الضربَ ونحوَه مِن المَجنونِ كالعاقِلِ، والصحيحُ: خِلافُه (¬1). وأمَّا لو أبانَها قبلَ الضربِ فقَدْ ذَكرُوا أنه لا يَقعُ شَيْءٌ. والأرْجحُ وقوعُهُ قَبْلَ البَينونةِ رَجعيًّا. و"أن" -بفتحِ الهمزةِ- للتَّعليلِ، فَتقعُ فِي الحالِ مِنْ عَارفِ ذلك (¬2). * * * * وأمَّا التعليقُ على الحَملِ وضدِّه والحَيضِ (¬3): فيقعُ فِي قولِه لِمَن (¬4) يُمكِنُ حَملُها: "إنْ كنتِ حاملًا فأنتِ طالقٌ" بِتبيُّنِ حَملِها حالةَ التعليقِ بما سنذكُرُ (¬5). ولو كانَ الحَمْلُ ظاهرًا بانتِفاخِ بَطنٍ، وحَركةٍ؛ لَمْ تَطْلُقْ لاحتمالِ أن يكونَ رِيحًا ونحوَه؛ وِفاقًا لِلْأكثرِ، ومُقتضَى النظرِ، خِلافًا لِلْبغويِّ ومَن تَبِعَه مِن صَاحبِ "المُحررِ" (¬6) و"المنهاجِ" (¬7) إلا أَنْ يُرادَ بِظُهورِه خُروجُ بعضِه، فإنَّه ¬
يَتبينُ به الحَملُ. وما ذَكرَه (¬1) عنْ نَصِّ "الإملاءِ" في: "إنْ كنتِ حاملًا، فأنتِ طالقٌ على مائةِ دينارٍ"، وهيَ حاملٌ فِي غالبِ الظَّن مِن أنَّها إذا أَعطَتْه مِائةَ دِينارٍ تطلُقُ، وله عليها مَهْرُ المِثْلِ، ليس مَعمولًا بظاهِرهِ. والذي يَبينُ (¬2) به حملُها أَنْ تَلِدَه لِدُونِ سِتةِ أشْهُرٍ مِن حِينِ التعليقِ، هذا فِي الوَلدِ الكامِلِ. فإن وَلدتْ مُضغةً فيها تَخطيطٌ، وكان بيْنَ وِلادتِها وبيْنَ التَعليقِ ما زادَ لَحظةً (¬3) على ثَمانينَ يومًا، فما دُونَها طَلَقَتْ (¬4). ولا اعْتِبارَ (¬5) فيها ولا فِي العِدَّةِ مِائة وعِشرينَ يومًا؛ لأنَّ التَّخليقَ الظاهِرَ يَكونُ بعْدَ الثَّمانينَ. وعلى قِياسِ ما ذَكُرُوه: إذا وَضعتْ مُخلَّقةً لِدُونِ مِائةٍ وعشرينَ مِنَ التَّعليقِ، طَلَقَتْ. وإنْ وَضَعتْ مُضغةً لمْ يَظهَرْ فيها التَّخطيطُ، لَمْ تَطلُقْ؛ على الأرْجحِ، بِخلافِ انقضاءِ العِدَّةِ، ولَمْ يَذكرُوه. ¬
وإنْ وَلدَتِ الكامِلَ لِسِتَّةِ أَشهُرٍ فما فَوْقَها ودُونَ أرْبعِ سِنينَ (¬1) أو المُخططةَ لأكثَرَ مما ذَكرْناه، واحَتمَلَ حُدوثُ الحَملِ بعْدَ التعليقِ بِوَطءٍ حادثٍ بَعْدَه، لَمْ تَطلُقْ. وإنْ لَمْ يَحتِملْ، فظاهرُ القَولَيْنِ فِي الكامِلِ وُقوعُ الطَّلَاقِ، وخُرِّجَتْ عليه المُضغةُ، والخِلافُ مِن أجْلِ الترتيبِ الوَضعيِّ الذي يُمْكنُ انفِكاكُه، وله نظائرُ فِي الوَصيةِ وغيرِها، بخِلافِ الترتيبِ الشرعيِّ مِن النَّسبِ ونحوِه (¬2)، فإنَّه يُقطَعُ بِثُبوتِه (¬3). وإنْ ولدَتْه لِأربعِ سنينَ فأَكثرَ: لَمْ تَطلُقْ. وعنْدَ ظُهورِ الحملِ (¬4) يَجتنِبُ الزَّوجُ زَوجتَه (¬5) وُجوبًا، وقبْلَه صحَّحُوا أنه لا يحرُمُ الاستمتاعُ، وظاهِرُ النصِّ: التحريمُ، وهو الأرْجحُ. ويَرتفِعُ التَّحريمُ بأنْ تَحيضَ؛ نصَّ عليه، وهو الأصَحُّ. وفِي أَثناءِ الحَيضِ له أَنْ يَستمتعَ بغَيرِ الوَطءِ، كما (¬6) إذا لَمْ يَكنْ تَعليقٌ، فإذا طَهُرَتْ أُبيحَ الوَطءُ بِشَرْطِه. فإنْ لَمْ تَكنْ حاضَتْ أصْلًا فلا بُدَّ مِن ثلاثةِ أشْهُرٍ وِفاقًا للقفَّالِ، بِخلافِ الاستبراءِ. ¬
فإذَا مَضتْ ولَمْ يَظهَرْ حَمْلٌ فلَهُ الوَطْءُ. وإنْ كانَتْ آيسةً لَمْ تَحتَجْ إلى الاستِبراءِ إنْ كان يبعُدُ (¬1) حمْلُها، كما لا يُحتاجُ إليه فِيمنْ حاضَتْ قَبْلَ التَّعليقِ، ولَمْ يَحدثْ بعدَه وَطْءٌ. ولو علَّقَ الطَّلَاقَ على عَدمِ الحَملِ فِي صَغيرةٍ أوْ آيِسةٍ لا يَحبَلُ مِثْلَهَا طَلَقَتْ فِي الحالِ. وأمَّا التي يُمْكِنُ أَنْ تَكونَ حاملًا فيَجبُ اجتنابُها، فإنْ وَلدتْ بِحَيثُ يَتبينُ أنَها كانتْ حَاملًا عندَ التَّعليقِ: فلا طَلاقَ. وإنْ ولدَتْه بِحيثُ يَتبيَّنُ أنَّها لَمْ تَكنْ حاملًا عِند التعليقِ: طَلقَتْ (¬2). وإنْ وَطِئَها بعْدَ التعليقِ، وأَتَتْ به بعد الوَطءِ لِستةِ أشْهُرٍ، فأَكْثرَ، ودُونَ أرْبعِ سِنينَ مِنَ التَّعليقِ، فالأصَحُّ أنَّها لا تَطلُقُ، لاحتِمالِ أَنْ تَكونَ حاملًا عِنْدَ التَّعليقِ. وما صحَّحَه فِي "الروضة" (¬3) تَبَعًا للشرحِ مِن وُقوعِ الطَّلَاقِ مَمْنوعٌ. وإنْ علَّقَ الطَّلَاقَ بِيَقِينِ بَراءةِ رَحِمِها مِنَ الحَملِ لَمْ تَطلُقْ بِمُضِيِّ أرْبعِ سِنينَ، ولا تَلِدُ أو تَلِدُ قبْلَ ذلك. ويَمضِي بعْدَ الوِلادةِ سِتةُ أشْهُرٍ ولا تَلِدُ، ويكونُ ذلك فِي السِّنينَ الأرْبعِ أو تَلدُ الثاني بعْدَ السنينَ الأرْبعِ. ¬
ولو كان لِدُونِ سِتةِ أشْهُرٍ مِن وِلادَةِ الأوَّلِ إنْ وقعَ ذلك، ولَمْ أرَ مَنْ تَعرَّضَ لذلك. ولَو قال: "إنْ كُنتِ حاملًا بذَكَرٍ (¬1) " أو: "إنْ كان فِي بَطنِكِ ذَكَر فأنْتِ طَالقٌ واحدةً"، و: "إنْ كُنتِ (¬2) حاملًا بأُنْثَى" أو: "إن كان فِي بَطنِكِ أُنثَى فأنتِ طالقٌ طلْقَتَينِ" فوَلدَتْ واحدًا مِنهُما بِحيثُ يَظهَرُ أنَّها كانَتْ حاملًا به وقْتَ التَّعليقِ بِتبيُّنِ وُقوعِ ما علَّقَه عليه عند التلفُّظِ بالتعليقِ. وإنْ ولدَتْهُما تَبيَّنَ وُقوعُ الثلاثِ. أوْ خُنثَى فَواحدةٌ يَقينًا، وتُوقَفُ الأُخرى حتى يَتبيَّنَ حالُه؛ كذا فِي "الروضة" (¬3) تَبَعًا للشَّرحِ فِي صُورةِ الذُّكورةِ والأُنوثةِ فيما نحن فيه، وهو يَقتضِي وُقوعَ الطَّلَاقِ عند التَّعليقِ، إمَّا معه أو عَقِبَه (¬4) على اختلافِ الوَجهَينِ فِي الشَّرطِ والمَشْرُوطِ. ويَلزَمُ مِن ذلك أَنْ تَطْلُقُ وهو نُطْفةٌ، وليس ذلك بِمُعتمَدٍ، وإنما تَطلُقُ إذا ظَهَرَتِ الذُّكورةُ والأُنوثةُ لِلمَلَكِ الذي يدخُلُ إلَيْها لِحَديثِ أبي سُرَيْحَةَ (¬5) فِي "صحيحِ مسلم" (¬6) عنِ النبيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- أنه قال: "إذا مرَّتْ بالنُّطفةِ ثِنْتانِ وأربعونَ ليلةً، بَعثَ اللَّهُ عز وجل إلَيْها مَلكًا فصوَّرها وخَلَقَ سَمْعَها وبَصرَها ¬
ليلةً، بَعثَ اللَّهُ عز وجل إلَيْها مَلكًا فصوَّرها وخَلَقَ سَمْعَها وبَصرَها وجِلدَها ولَحْمَهَا وعِظامَهَا، ثُمَّ قال: يا ربِّ، ذَكرٌ أَمْ أُنثَى؟ فيَقضِي ربُّك ما شاءَ ويَكتبُ المَلَكُ" (¬1). فما ظَهَرَتِ الذُّكورةُ والأُنوثةُ للمَلَكِ إلا فِي ذلك الوَقتِ، وفِي رِوايةٍ لِمُسلمٍ (¬2): "أرْبعونَ أو خمسٌ وأرْبعونَ لَيلةً". * * * * فإنْ قيلَ: علقَ ذلك على ما في عِلْمِ اللَّهِ تعالى. * قُلْنا: التعليقُ يقَعُ على ما يَظهَرُ لِلْخَلقِ، ويُعتبَرُ لِصِحَّةِ التَّعليقِ زِيادةٌ على خَمسٍ وأرْبعينَ لِأنه القَدْرُ الأكْثرُ. * * * وإنْ قال: "إنْ كانَ حَمْلُكِ" أوْ: "إنْ كانَ ما فِي بَطنِكِ ذَكَرًا فأنْتِ طَالقٌ طَلْقةً"، وإنْ قال: "حَملك" أو: "ما فِي بَطنِكِ أُنْثَى فأنْتِ طَالقٌ طَلقَتَينِ (¬3) " فوَلدَتْ ذَكَرًا وأُنثى لمْ يقَعْ شَيْءٌ. وإنْ وَلدَتْ ذَكرَينِ أو أُنثَيَيْنِ لَمْ يَقعْ شَيْءٌ أيضًا، وِفاقًا لِلشَّيخِ أَبي مُحمدٍ، ولِمَيلِ وَلَدِه؛ خِلافًا لِمَا صحَّحه فِي "الروضة" (¬4) تَبَعًا لِلشَّرحِ مِن الوُقوعِ تَبَعًا للحناطي والقاضِي الحُسينِ؛ لأنَّ انفِرادَ الحَملِ الذي فِي البَطنِ بِما ذُكِرَ ¬
شَرْطٌ ولَمْ تُوجَدِ الوَحدةُ. وقولُهم: معناه: "وما فِي البَطنِ مِن هذا الجِنْسِ" (¬1) مَردودٌ، فإنَّ ذلك لا يَتبادرُ إلى الأَفْهامِ، فإنْ قَصَدَ المعلِّقُ ذلك عُمِلَ بِقَصدِه (¬2). ولو (¬3) قال: "إنْ ولَدْتِ فأنْتِ طالقٌ" فولَدَتْ ولدًا حيًّا أو مَيتًا ذَكَرًا أو أُنْثَى، وانفَصلَ الوَلَدُ بِتَمامِه طَلَقَتْ. قال ابنُ كَجٍّ: لَو أَسْقطَتْ ما بانَ (¬4) فيه خَلْقُ آدَمِيٍّ بِتَمامِه (¬5) طَلقَتْ، وإنْ لَمْ يَتبيَّنْ فيه خَلْقُ آدَمِيٍّ بِتَمامِه لمْ تَطْلُقْ، ذكرَهُ فِي "الروضة" (¬6) تَبَعًا للشرحِ، ولَمْ يَتعقَّبْه. والأرْجحُ عندي: أنَّ النظرَ فِي ذلك إلى العُرفِ، فإنْ عدُّوه وِلادةً طَلَقَتْ، وإلَّا فَلَا. والنظرُ إلى ما يَثبُتُ (¬7) به أُمِّيَّةُ الوَلدِ لَه وَجْهٌ، وقدْ يُفرَّقُ بينَ التعليقِ (¬8) العُرفيِّ والشَّرعيِّ. ولو قال: "إنْ وَلَدْتِ وَلدًا فأنْتِ طَالقٌ طَلقةً" و"إنْ وَلدْتِ ذَكرًا فأنْتِ ¬
طَالقٌ طَلقَتَينِ"، فوَلدَتْ ذَكَرًا طَلَقَتْ ثلاثًا، لِوُجودِ الصِّفَتينِ؛ نقلَه ابْنُ بِشرِي عن الشافعيِّ -رضي اللَّه عنه- وجَرَى عليه أصحابُهُ. ومَحَلُّ ذلك إذا أَطْلقَ بِحيثُ لَمْ يَقصِدْ بوَلدٍ (¬1) الذَّكَرَ، فإنْ قصَدَه قُبِلَ فِي الظاهرِ. ثم إنْ قَصدَ بالتعليقِ (¬2) الثاني تَأكيدَ (¬3) ما سَبقَ كانَ كمَنْ (¬4) قال لِزَوجتِه: "أنتِ طَالقٌ طَلقةً، أنْتِ طَالقٌ طَلقَتَينِ"، [وقال: "قصَدتُ بقَولِي: أنْتِ طَالقٌ طَلقتَينِ] (¬5)، واحدةً تُؤكِّدُ الأُولى، وأُخْرَى أوْقَعْتُها" فإنه يُقبَلُ مِنه ظاهرًا على الظَّاهرِ، وحينئِذٍ فلا تَطلُقُ إلا طَلقَتينِ إذا قَصدَ التَّأكيدَ أو أطْلقَ، فإن قصدَ الاستِئنافَ وقعَ ثلاثُ (¬6). ولو قال: "إنْ ولَدْتِ وَلدًا، فأنْتِ طَالقٌ" أو (¬7) "إن ولَدْتِ ذَكَرًا فأنْتِ طالقٌ" فولَدتْ ولَدَينِ معًا فِي الأُولى، وذَكَريْنِ معًا فِي الثانيةِ، فإنَّها تَطلُقُ طَلقةً، ولَمْ يخرِّجوا هذا على (¬8) الخِلافِ السابقِ فِي أنَّ التَّنكيرَ هلْ يَقتضِي التَّوحيدَ، وهو فِي قولِه: "ذَكَرًا" أظْهَرُ منه فِي قولِه: "وَلَدًا". * * * ¬
وأما التعليق بالحيض
* وأمَّا التعليقُ بالحيضِ: فإذا قال لِطاهرٍ حاملٍ، أو حَائلٍ صَغيرةٍ، أو كَبيرةٍ غيرِ آيِسةٍ: "إن حِضْتِ فأنتِ طالقٌ" فإنَّها تَطلُقُ بِظُهورِ دَمِ الحَيضِ فِي سِنِّ الإمْكانِ؛ نصَّ عليه الشافعيُّ فِي "المختصر المنبه"، وحكاه الأصحابُ وجهًا (¬1). ثُمَّ إنْ نَقصَ عنْ أقَلِّ الحَيضِ، ولم يَعُدْ حتى انْقضَتْ خَمْسَةَ عَشَرَ يومًا مِنْ وقْتِ الدَّمِ تَبيَّنَّا أنَّ الطَّلَاقَ لمْ يَقعْ، وإن قال ذلك لِحائِضٍ لَمْ تطلُقْ إلا بأوَّلِ حَيضٍ مُستقبَلٍ، كذا ذكَرُوه. ومَحلُّ ذلك ما لمْ يُقيِّدْه بِزمانٍ لا يُمكِنُ معه حَيضٌ مستقبَلٌ؛ كما إذا قال للحائضِ: "إذا حِضْتِ غَدًا فأنْتِ طَالقٌ (¬2) "، فاستمرَّ حَيْضُها حتى جاء الغدُ، ورأتِ الدمَ فيه (¬3)، فإنها تَطْلُقُ، نَصَّ عليه فِي "المختصر المنبه"، فِي بابِ الطَّلَاقِ إلى أَجَلٍ وبِصِفةٍ، فكأنه قال: "إذا استمرَّ بكِ الدَّمُ إلى أَنْ وُجِدَ فِي الغَدِ". وإنْ قال لحاملٍ: "إنْ حِضْتِ فأنْتِ طَالقٌ" فجاءَها (¬4) الدَّمُ قبْلَ الطلقِ، فإنَّها تَطلُقُ؛ لأنَّ الدَّمَ الذي تَراهُ الحاملُ (¬5) بشَرطِه حَيْضٌ على الأصحِّ، ولا تَطلُقُ بِدمِ النِّفاسِ لأنه ليس بحَيضٍ، ولَمْ يذْكُروه. وإنْ قال ذلك لِلآيسةِ -التي لا يُمكِنُ أَنْ تَحيضَ- لَمْ يصحَّ التعليقُ، ولَمْ يذكرُوه. ¬
وأما المتحيرة
* وأمَّا المتحيرةُ: إذا قال لها: "إنْ حضْتِ فأنْتِ طالقٌ"، فإنَّها لا تَطلُقُ حتى تَمضيَ مُدةٌ يُتحققُ أن فيها حَيضًا مُبتدأً، بِناءً على أنَّ كُلَّ شَهْرٍ لها يَشتمِلُ على حَيضٍ وطُهْرٍ، نَظرًا إلى الغالِبِ، ثُم يَنظرُ إلى اليَقينِ بالنِّسبةِ إلى الشَّهرِ الذي لها، وكذا المَجنونةُ التي هي كالمُتحيِّرةِ، ولَمْ يَذكرُوهُما. وإنْ كان (¬1) قال: "إنْ حِضْتِ حَيضةً -بفتحِ جاء حَيضة- فأنْتِ طَالقٌ"، لمْ تَطلُقْ حتَّى تَستقبِلَ الحَيْضَ، وتَمضِيَ لها حَيضةٌ، ثُم تَطهُرَ. . نَصَّ عليه فِي "المختصر المنبه" وشاهدُه من قوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لا تُوطَأُ حائِلٌ (¬2) حتَّى تَحِيضَ حَيضةً" (¬3). ¬
[ولو انقطعَ الدمُ بعدَ (¬1) يومٍ ولَيلةٍ بحَبَلٍ ونحوِه وقعَ الطَّلَاقُ أيضًا. وفِي المُتحيِّرةِ والمَجنونةِ فِي قوله: "حَيضة"] (¬2) إنْ كان فِي آخِرِ جُزءِ الطُّهرِ تَطلُقُ إذا انْقضَى الشَّهرُ بعدَه. وإنْ قال ذلك فِي أثْناءِ الشَّهرِ، فمُقتضَى ما ذكرَه الشَّيخُ أبو حامدٍ وغيرُه فِي عِدَّتِها: أنَّها لا تَطْلُقُ حتى يَمضِيَ شَهْرٌ بَعْدَ الشَّهرِ الذي وقَعَ التعليقُ فِي أثْنائِه، وكان الباقِي خَمسةَ عشرَ يومًا. وعندِي: أنَّها تَطلُقُ إذا انْقضَى نِصفُ الشَّهرِ الثاني. وإنْ قال: "حِيضة" بكَسْرِ الحَاءِ فهُو كقَولِه: "إنْ حِضتِ". ولو (¬3) قال: "إنْ حِضتِ حَيْضًا فأنْتِ طَالقٌ" فهو كقولِه: "إنْ حِضْتِ" ¬
ويَحتمِلُ أَنْ يُرجَّحَ أنَّها لا تَطلُقُ هُنا (¬1) إلا بعْدَ يَومٍ وليلةٍ لِوُجودِ حَقيقةِ الحَيضِ بذلك. ولو قال لِزَوجتَيهِ: "إنْ حِضْتُما حَيضةً فأنتُما طَالقتانِ"، فصححَ (¬2) فِي "الروضةِ" (¬3) تَبَعًا للشرحِ أنه يُلْغَى قولُه: "حَيضة" ويُستعملُ قولُه: "إنْ حِضْتُما" فإذَا ابتدأَ بِهِما الدَّمُ طَلَقَتَا. ونسَبَه فِي "الشرح" إلى الشَّيخِ أبي (¬4) حامدٍ، وهو وهْمٌ، فالذي فِي تَعليقِ الشيخِ أبي (¬5) حامِدٍ ذَكَرَ وجْهَينِ: 1 - أحدُهما: لا ينعقِدُ هذا التعليقُ. 2 - والثاني -وقال: إنه الصحيحُ مِن المَذهبِ-: أنَّ الطَّلَاقَ يَقعُ فِي الحالِ كالطَّلَاقِ المُجرَّدِ. وفِي "الشرح" قالَه صاحِبُ "المهذَّبِ" (¬6) و"التهذيبِ". وذلك (¬7) يَقتضِي أنهما رجَّحاه أو جَزَمَا به، [وليس كذلك، وإنَّما حَكَيَا ¬
وجْهًا] (¬1)، ولَمْ يُرجِّحاه. والأصحُّ عندنا: أنَّهما إذا حاضَتْ كُلٌّ مِنهُما حَيضةً، وقَعَ عليهما الطَّلَاقُ. وفِي "الروضة" (¬2) أنه احْتِمالٌ رآهُ الإمامُ، وليس كذلك، فإنَّ الإمامَ حكاه وَجهًا، وحكاهُ غَيرُه. ويُنسَبُ أصلُه إلى المُزَنِي فِي قولِه: "إنْ ولَدْتُما ولدًا فأنتُما طالِقَتانِ" (¬3) ورجَّحَ جَمْعٌ إلْغاءَ هذا التَّعليقِ، ويُنسَبُ أصلُه إلى الرَّبيعِ فِي "إنْ ولدْتُما" (¬4). ولو قال: "أنتِ طالقٌ ما بيْنَ طُهْرَينِ" ولمْ يَنوِ شَيئًا، وَقعَ أوَّلَ ما تَرى الدَّمَ بعْدَ الطُّهرِ الذي حلَفَ فيه، وإنْ كانَتْ (¬5) حائضًا وقَع مكانَه، نصَّ على ذلك كلِّه فِي "المختصر المنبه". وإذا علَّقَ طلاقَها على حَيضِها وقالتْ: "حِضتُ" وكذَّبَها الزَّوجُ صُدِّقتْ بِيَمينِها فِي حَقِّها على المَشهورِ (¬6)، وكذا الحكمُ فيما لا يُعرفُ إلا منها، كقولِه: "إنْ أَضْمرتِ بَعضِي فأنْتِ طالقٌ" فقالتْ: "أَضْمَرْتُه". ¬
ولو علَّق الطَّلَاقَ بِزِناهَا فقالتْ: "زَنيْتُ" لمْ تُصدَّقْ على الأصحِّ؛ لأنَّ مَعرفتَه مُمْكنةٌ. ولو قال: "إنْ حِضتُما فأنتُمَا طالِقانِ" فقالتَا: "حِضْنَا"، وكذَّبَهما الزَّوجُ صُدِّقَ بيَمينِه، وإنْ صدَّقَهُما طَلقَتَا، وإن صَدَّقَ أحدَهما طَلقَتِ المُكذَّبَةُ، ولَمْ تَطلُقِ المصدَّقةُ (¬1) (¬2). * * * ¬
فصل في تفويض الطلاق إلى الزوجة
فصل (¬1) في تفويض الطلاق إلى الزوجة (¬2) إذا قال المكلَّفُ لِزَوجتِه المكلَّفةِ: "طلِّقي نفْسَكِ"، أو: "طلِّقي نفْسَكِ إنْ شئْتِ" فهو تمليكٌ للطلاقِ على الجَديدِ، وفِي القديمِ: توكيلٌ. . هذِه طَريقةُ الخُراسانِيِّينَ، وعلَيْها جَرى الرَّافِعي ومَنْ تَبِعَه. وأمَّا العِراقيونَ (¬3) فلَمْ يَذكرُوا هذا الخلافَ، وجَزَمُوا بالتَّمليكِ (¬4). ¬
ولَمْ أقِفْ على القَولِ بأنه تَوكيلٌ، وما نُسِبَ إلى الجَديدِ لا يَتأتَّى القَولُ بِظاهِرِه، فإنَّ المرأةَ لا تَملِكُ الطَّلَاقَ أصلًا، ولا يُمكِنُ أَنْ يَكونَ الطَّلَاقُ مِلْكًا للزَّوجِ وللزوجةِ (¬1)، وجعلُوا تَطليقَها نفْسَها مُتضمنًا للقَبولِ، ولو صرَّحتْ بِقَولِها: "قبلتُ" فلا أثرَ له، وهذه أُمورٌ معضِلةٌ. فالصوابُ فِي التعبيرِ عن ذلك أنَّه يُشبِهُ التَّمليكَ، أو يَجرِي عليه شيْءٌ مِن أحْكامِ التَّمليكِ. ومِن جُملةِ ذلكَ اعتِبارُ الفَوْرِ كما فِي قَبولِ التمْلِيكِ، وجَعلُوا القَولَ بالتَّطليقِ ما دَامَا فِي المَجلسِ ضَعيفًا، وهو المَذْهَبُ المَنصوصُ فِي "مختصر المزني" (¬2)، بلْ فيه ما يَقتضِي أنَّه إجْماعٌ، [ولَفظُه: "لا أعلمُ خِلافًا أنَّها إنْ طَلَّقَتْ نفْسَها قَبْلَ أَنْ يتفرَّقَا مِنَ المَجلسِ، أو يَحدُثُ قَطْعًا لذلك: أنَّ الطَّلَاقَ يَقعُ علَيْها، فيَحتمِلُ أَنْ يُقالَ لهذا المَوضعِ إجْماعٌ"] (¬3). ونُصوصُ الشافعيِّ ظَاهرةٌ فِي اعتِبارِ مَجلسِ الخِيارِ الذي يَنقطِعُ بالتفرُّقِ كما فِي البَيعِ، فلا يَجوزُ تركُ هذا النَّصِّ، ويؤوَّلُ بما لا يَصِحُّ. ويُستثْنَى مِن اعتِبارِ الفَورِ ما إذا صرَّحَ بالتَّراخِي فقال: "طلِّقِي نَفْسَكِ متى شِئْتِ"، فإنَّ لها أَنْ تُطلِّقَ نَفْسَها أيَّ وقْتٍ شاءَتْ، نصَّ عليه، وجَرى عليه مَنِ ¬
اقْتَصرَ على التَّمليكِ (¬1)، ومَنْ أثْبتَ القَولَينِ (¬2). ولو قال: "وكَّلْتُكِ فِي طلاقِ نَفْسِكِ" تمَحَّضَ (¬3) حُكْمُ التَّوكيلِ على طَريقِ التَّصريحِ به، وفِي طَريقٍ لَهُم إِثباتُ الخِلافِ، قال القَاضي حُسَينٌ: لأنه يَشوبُه شُعبةُ التَّمليكِ، وإنْ صَرَّحَ بالتَّوكيلِ، وعلى هذا لا يَتمكَّنُ الزَّوجُ مِنْ تَوكيلِها التَّوكيلَ المَحْضَ (¬4). ولو قال: "ملكتُكِ طلاقَ نفسِكِ" فهو تَمليكٌ قَطْعًا على طَريقتِهم، ولَمْ أرَ مَن ذَكرَه. * * * ولو قال: "طلِّقي نفسَك ثلاثًا إنْ شِئتِ"، فطَلَّقَتْ نفْسَها واحدةً، وَقعَتْ (¬5). ولَو قال: "طلِّقِي نفْسَكِ واحدةً إنْ شِئْتِ" فطَلَّقتْ ثلاثًا، وقَعتْ واحدةً. ولو قَدَّمَ ذِكْرَ المَشيئةِ فِي الصُّورتَينِ بأنْ قال: "طلِّقِي نفْسَكِ إنْ شِئْتِ ثلاثًا" أو قال: "طلِّقي نفْسَكِ إنْ شِئتِ واحدةً" فطَلَّقَتْ (¬6) في الأُولى واحدةً، وفِي الثانِيةِ ثَلاثًا (¬7). قال ابْنُ القاصِّ وسَائرُ الأصْحابِ: "لا يقعُ شيْءٌ", لأنَّ مَشيئةَ ذلك ¬
صارتْ شَرْطًا فِي أصْلِ الطَّلَاقِ. كذا فِي "الروضة" (¬1) تَبَعًا للشرحِ (¬2)، وفيه: وسَاعَدَه (¬3) الأصْحابُ، ولَمْ يَتعقَّباهُ (¬4). وهُو مَرْدُودٌ، والصوابُ وُقوعُ ما أوقعَتْه، فإنَّ "ثلاثًا" فِي الأُولى و"واحدةً" فِي الثانيةِ ليستْ معمولًا لـ"شِئتِ"، وإنَّما هو مَعمولٌ لِقَولِه: "طَلِّقِي" فإنَّ مَفعولَ الإشاءةِ (¬5) يُحذَفُ غالبًا، والحَمْلُ على الأغْلبِ هو المُعتمَدُ، وما قدَّرُوه فِي ذلك رَكيكٌ بَعيدٌ، والمَفهومُ المُتعارَفُ أنه لا فَرْقَ بيْنَ تَقديمِ المَشيئةِ وتَأخيرِها (¬6). * * * وصِيغةُ طَلاقِها لِنَفْسِها: "طَلَّقْتُ نفْسِي". فإنْ قالتْ: "طلقْتُكَ"، فهُو كِنايةٌ يَحتاجُ إلى نِيَّةِ الطَّلَاق، ولو قالتْ: "أبنْتُ نفْسِي" ونَوَتْ؛ وَقَع. وليس للمفوَّضِ إليها طَلاقُ نفْسِها إنْ تَعَلَّقَ طَلاقُها, ولَو فَوَّضَ إلَيْها التَعليقَ، كذا قالُوه، والأصحُّ صِحتُه فيما ليس بِحَلِفٍ، وقدْ سَبقَ فِي الوَكالةِ. ¬
وأمَّا التَّخييرُ (¬1) فلَه شركةٌ مَع التَّمليكِ فنَذْكُرُه عَقِيبَه، فإذا قال المكلَّفُ لِزَوجتِه المُكلَّفةِ: "اختارِي نَفْسَكِ" ونَوى تَفويضَ الطَّلَاق إليها فقالَتْ: "اخْترْتُ نَفْسِي" ونَوتْ طَلاقَها، وقَعتْ علَيها طَلقةٌ رَجعيةٌ، إلا إذا كان هُناكَ ما يَحصُلُ به البَينونةُ. ولو قال لها: "اخْتارِي"، ولَمْ يَقُلْ "نفسَكِ"، ونَوى تفويضَ الطلاقِ (¬2) إليها فقالتْ: "اخْتَرْتُ" ففِي "التَّهذيبِ": لا يَقعُ الطَّلَاقُ حتَّى تَقولَ: "اختَرْتُ نفْسِي"، ويُشعِرُ (¬3) كلامُه بأنَّه لا يَقَعُ، وإنْ نَوَتْ كذا فِي "الروضة" (¬4) تَبَعًا للشرحِ، وفِي نصِّ الشافعيِّ ما يُخالفُه، وهو قولُه: "لو (¬5) قال رَجُلٌ لامرأتِه: اختارِي" لا يكونُ طَلاقًا [إلا أَنْ يُريدَه] (¬6)؛ لأنَّه يَحتمِلُ (¬7) اختارِي مالًا، وقال: ليس الخِيارُ بِطلَاقٍ حتى تُطلِّقَ المُخيَّرةُ نفْسَها؛ ذكَرَه فِي "المختصر المنبه". وفيه: أنَّ قولَها: "اخترْتُ" مع نِيَّةِ الطَّلَاقِ كافٍ فِي وُقوعِ الطَّلَاقِ، وهذا هو المُعتمَدُ. وقدْ ذكرَ فِي "الروضة" (¬8) تَبَعًا للشرحِ عن إسماعيلَ البوشنجيِّ أنها إذا ¬
ونختم كتاب الطلاق بثلاثة أنواع
قالتْ: "اختَرْتُ" ثمَّ (¬1) قالتْ بعد ذلك "أردتُ اختَرْتُ نَفْسِي" أنه يُقبَلُ قَولُها (¬2)، يعني: بِيَمِينِها وتَطْلُقُ. ولو (¬3) قالتْ: "اختَرْتُ زَوجِي أو النكاحَ" لمْ تَطْلُقْ. وإنْ قالَتْ: "اختَرتُ الأزْواجَ"، أو: "اختَرتُ (¬4) أبَويَّ"، أو أخِي أو عمِّي؛ طَلَقَتْ على الأصحِّ، ولَمْ يذكروا نِيَّتَها لطلاقِ نفْسِها. والقِياسُ: أنَّه لا بدَّ مِن نِيَّتِها لذلك، ولا يَختصُّ ذلك بَلْ يَأْتي فِي الخَالِ وغيرِه مِنَ الأقارِبِ، بلْ يأتِي فِي الأَجانبِ أيضًا إذا كانتْ تَسْكنُ قبْلَ نِكاحِها عند مَنْ ذَكَرَتْ، ونيَّةُ الطَّلَاقِ لابُدَّ مِنها. وإذا (¬5) اختلفَا فِي النِّيةِ فادَّعتْها وأنْكرَها الزَّوجُ، أو بالعكسِ، فالقَولُ قولُ مَن أَخبَرَ عن ضَميرِه بِيَمينِه. * ونَختِمُ كتابَ الطَّلَاقِ بثلاثةِ أنْواعٍ: * أحدُها: شيْءٌ يُذكَرُ فِي ظَرفِ زَمانٍ مِن يَومٍ وغيرِه مِن صِفةٍ مُتجدِّدةٍ فيه، تَطْلُقُ بِه، وليس بتَعليقٍ، وهو إذا قال: "أنْتِ طالقٌ فِي اليومِ الذي يَقْدَمُ فيه زَيدٌ ثلاثًا"، فبانَتْ منه فِي صَبيحةِ ذلك اليومِ، ثُمَّ قَدِمَ زَيدٌ، فقدْ ذكَرُوا ما يَقتضِي (¬6) بُطلانَ البَينونةِ. ¬
النوع الثاني
وكذا لو قال لِلْعبدِ: "أنتَ حُرٌّ فِي اليومِ الذي يَقدَمُ فيه زَيْدٌ" فبَاعَه صَبيحةَ ذلك اليومِ، ثُمَّ قَدِمَ زَيدٌ بعْدَ لُزومِ البَيعِ، فإنه يَتبينُ (¬1) بُطلانُ البَيعِ لِتَبيُّنِ حُريتِه قبْلَ البَيعِ لِقُدومِ زَيدٍ فِي أَثْناءِ ذلك اليومِ. ولو ماتَ الزَّوجُ أوْ ماتَتْ هِي فِي بَعْضِ اليَومِ ثُمَّ قَدِمَ فِي بَقيةِ ذلك اليومِ، فلا (¬2) تَوارُثَ بَينهُما إنْ كان الطَّلَاقُ بَائنًا، وكلُّ ذلك مفرَّعٌ على ما صحَّحُوه فيمَنْ نَذرَ أَنْ يَصومَ اليومَ (¬3) الذي يَقْدَمُ فيه زَيدٌ، فقَدِمَ نَهارًا، والناذِرُ مُفطِرٌ، فإنه يَلزَمُه أَنْ يَصومَ يومًا عنْ نَذْرِه، ويَلزَمُه ذلك مِن أوَّلِ اليومِ وكذا حُكْمُ (¬4) الأُسبوعِ والشَّهرِ والسَّنَةِ. * * * * النوعُ الثاني: شَيْءٌ صُورتُه تعليقٌ، ولكنْ قَرينةُ المُجازاةِ مع النِّيةِ تَصرِفُه إلى التَّنجيزِ كما إذا قالتْ لِزَوجِها: "يا خَسيسُ"، فقال: "إنْ كنتُ كذلك فأنتِ طالقٌ" فإنه قصَدَ إسماعَها الطَّلَاق كما أسْمعَتْه المَكروهَ، تَطْلُقُ وإنْ لَمْ يُوجدُ فيه تلك الصِّفةُ، وأما إذا قصَدَ التَّعليقَ أوْ أَطلَقَ فلا يَتَنَجَّزُ شَيْءٌ، وفِي الإطلاقِ (¬5) وجْهٌ له قُوَّةٌ. * * * ¬
النوع الثالث
* النوعُ الثالثُ (¬1): الصادِرُ مِنَ الجاهِلِ والنَّاسِي (¬2) والمُكرَهِ مِن الزَّوجِ أو الزَّوجةِ أو الأجنبيِّ على ما سيُذْكَرُ مما يُخالِفُ الحَلِفَ لا يَقتضِي الحِنْثَ ولا انحلالَ الحَلِفِ على الأصحِّ فيهما. فإذا قال: "إنْ فعلتُ كذا فزَوْجَتِي طَالقٌ" ففعَلَه ناسيًا لِلْحلِفِ، أو جاهلًا، كما إذا قال: "إنْ كلمتُ زيدًا فزوْجَتِي طالقٌ" ففعَلَه ناسيًا للحَلِفِ، فكَلَّمه، وهو جاهِلٌ بأنه زَيدٌ، فإنه لا يَقعُ الطَّلَاقُ على الأصحِّ. ويُستثْنَى مِن ذلك ما إذا قال: "إنْ فعلتُ كذا عامِدًا أوْ ناسيًا فزَوْجتِي طالقٌ" ففعلَه ناسيًا؛ نقَلَ القاضِي الحُسينُ أنه يَحنَثُ بِلا خِلافٍ. وهذا عِندنَا مَمْنوعٌ؛ لأنَّ النِّسيانَ لا يُمكِنُ الحلِفُ على الامْتِناعِ منه؛ لأنَّ الحَلِفَ ما يَحصُلُ به (¬3) حَثٌّ أو مَنْعٌ أو تَحقِيقُ خَبر وليس شَيْءٌ مِن ذلك مَوْجودًا (¬4) فِي هذِه الصُّورةِ، وهكذا لو [قال: "إن] (¬5) فعلتُ كذا -عالمًا أو جَاهلًا- فزَوجَتِي طالِقٌ". * * * * وأمَّا المُكرَهُ فلا يَحنَثُ أيضًا على الأصحِّ. فإذا قال: "إنْ فعلتُ كذا -باخْتيارِي أوْ مُكرَهًا- فزَوْجَتِي طَالقٌ" ففعلَه ¬
مُكرَهًا، فمُقتضَى ما سبقَ فِي الناسِي أنه يَحنَثُ بلْ أَوْلى؛ لأنَّه عالِمٌ بِحَلِفِه وكان يُمكنُه ألا يَفعلَه ويَحتمِلُ أن لا يَحنَثَ؛ لأنَّ فِعْلَه كَلَا فِعْلَ، وهو الأرْجَحُ. وأمَّا الزوجةُ فإذا وُجِدَ منها مُخالفةُ الحَلِفِ باختيارِها عَمْدًا مع العِلْمِ، فإنه يقَعُ الحِنثُ، وإن كانَتْ ناسيةً لِلْحَلِفِ فلا حِنْثَ (¬1)، وكذا إنْ كانتْ جاهلةً أو مُكرَهةً وسواءٌ أَشَعرتْ بالحَلِفِ أم (¬2) لَمْ تَشعُرْ، واشتراطُ الشُّعورِ ضَعيفٌ. وأمَّا غَيرُ الزَّوجينِ فإن كان يُبالِي بالحَلِفِ (¬3) بِحيثُ يَمتثِلُ أَمْرَه، ويُراعِي خَاطِرَه، فإنَّه إذا خَالفَ الحَلِفَ ناسيًا أو جاهلًا أو مُكرهًا، فلا حِنثَ على الحالِفِ أيضًا (¬4) على الأصحِّ، ولا (¬5) يُشترَطُ الشُّعورُ هنا أيضًا. وأمَّا الأجنبيُّ الذي لا يُبالِي بالحالِفِ، فإنه يَحنَثُ الحالِفُ بمُخالفةِ الأجنَبيِّ لِلْحلِفِ ناسيًا أو جاهلًا أو مُكرَهًا، والأرْجحُ فِي المُكرَه (¬6) أنه لا يَحنَثُ الحالِفُ، خِلافًا لِمَنْ رَجَّح خِلافَ ذلك؛ لأنَّ فِعْلَه كالعدَمِ. ولو علَّقَ بِدُخولِ طِفْلٍ أو بَهيمةٍ أوْ سنَّورٍ فدخَلَ وَقعَ الطَّلَاقُ، قال الحناطي: ويُحتملُ المَنعُ. وعندَ تَمحُّضِ التَّعليقِ فِي غيرِ ذلك مما قَدَّمْناهُ يَقعُ عنْدَ وُجودِ الصِّفةِ، ولا يَمنعُ مِن ذلك نسيانٌ ولا جهْلٌ ولا إكراهٌ، ويحتملُ المَنع. ¬
وأمَّا جَهْلُ الحُكمِ فَلا يَمنعُ مِن الحِنثِ للتَّقصيرِ بِتَركِ السُّؤالِ. سلَّمَنَا اللَّهُ مِنْ آفةِ التَّقصيرِ، وأَصْلحَ عاقِبتَنا فيمَا إليه نَصيرُ، واللَّهُ أَعلَمُ. * * *
كتاب الرجعة
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ كتاب الرجعة (¬1) فتحُ رائِهَا أفصحُ مِن كسْرِهَا، ودَليلُها: قولُهُ تعالى: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ} (¬2) وقولُه تعالى: {فَإِمْسَاكٌ ¬
بِمَعْرُوفٍ} (¬1). وعنِ النبيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- مِن (¬2) فعلِهِ: مَا رَواهُ عُمَرُ -رضي اللَّه عنه-: أنَّ النَّبيَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- طلَّقَ حَفْصةَ ثُمَّ راجَعَها. أخرجَه أبو داودَ والنَّسائيُّ وابْنُ ماجه (¬3). وفِي حديثِ أنَسٍ -رضي اللَّه عنه- أنَّ النبيَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- لمَّا طلَّقَ حَفصةَ أُمِرَ أن يُراجِعَها فراجَعَهَا. أخرجَه البَيهقيُّ (¬4). ¬
وثَبتَ فِي "الصحيحَيْنِ" (¬1) وغيرِهِما فِي طلاقِ ابْنِ عُمَرَ زوجتَه وهِيَ حائضٌ أنَّ النبيَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- (¬2) قالَ لِعُمرَ -رضي اللَّه عنه-: "مُرْهُ فلْيُرَاجِعْها"، فراجَعَها. والإجماعُ على مَشروعيَّتِها (¬3). وَ"رَجَعَ" يُستعمَلُ مُتعدِّيًا، ومنه قولُه تعالى: {فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ} ويُستعمَلُ قاصرًا، ومنه قولُه تعالى: {إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ} وهُو كَثيرٌ، وهو ثُلاثيٌّ فيهما، وهُذَيلٌ يَستعمِلونَه رُباعيًّا فيقولون: أَرْجَعَه غيرُه. * * * وهو لُغةً: رَدُّ الشَّيءِ على ما كان عليه. وشَرْعًا (¬4): استِباحةُ البُضعِ بعْدَ التحريمِ بالطَّلَاقِ بِغَيرِ عَقْدِ النِّكاحِ، ذكرَهُ المَاورْديُّ (¬5). ويَنبغِي أَنْ يُقالَ: "رَدُّ البُضعِ إلى الحِلِّ بعْدَ التَّحريمِ. . " إلى آخرِه، ويَزِيدُ: ¬
"ولا بِمِلْكٍ" لِيخرُجَ مَنْ طَلَّقَ زَوْجتَه الأمَةَ طَلاقًا رَجْعيًّا، ثمَّ مَلَكَها بِغَيرِ عَقْدِ النِّكاحِ فإنه قدِ استباحَ بُضعَها بِشَرطِه وليس بِرَجعةٍ (¬1). وخَرجَ بالطَّلَاقِ: الظِّهارُ ووَطْءُ الشُّبهةِ، والإحرامُ، والإسْلامُ والرِّدةُ، فإنه إذا حصَلَت الاستِباحةُ بِزَوالِ المَانعِ لا تَكونُ رَجْعةً شَرعيَّة (¬2). والجامِعُ فِي ضَبطِها: أنَّها الرَّدُّ المُنجَّزُ الصادِرُ مِنَ المطلِّقِ أو مِمَّنْ يَقومُ مَقامَهُ بِلَا تأقيتٍ، ولا شرطٍ مُخِلٍّ بمَقْصُودِها, لِمُطلَّقةٍ (¬3) مَدخولٍ بِها، خَلا طَلاقُها عنْ لُزومِ عِوَضِ الزَّوجِ، وعنْ تَكمِلةِ العَددِ إلى الحِلِّ القَابلِ مِنَ الجَانِبَينِ مع تعيُّنِها وبقاءِ عدَّتها غَير الزائدِ المُتميزِ (¬4) المُختصِّ بالوَطءِ الحَادثِ، أو بالمُعاشَرةِ على رأيٍ بقَولٍ صَريحٍ أو مَكنِيٍّ أو مَكتوبٍ معَ نِيَّةٍ فيهما (¬5). ¬
ولَمْ يَخرُجْ عن هذا الضَّابطِ إلا ما نصَّ عليه فِي قَولِ الحُرِّ زَوجِ الأَمَةِ: "نكحتُها وأنا واجِدٌ طَوْلَ حُرَّةٍ" ونحوُ ذلك، ولَمْ يصدِّقْه السيِّدُ، مِن أنَّه يكونُ طَلاقًا بائنًا. وكذا ما أُلحِقَ (¬1) به مِن قَولِ الزَّوجِ: كان الشاهِدُ فاسِقًا عِندَ العَقْدِ، ولَمْ تُصدِّقْه الزَّوجةُ ونحوُ ذلك. فإنْ فُرِّعَ على ذلك (¬2) زِيدَ (¬3) على الضَّابِطِ غيرَ مُغَلَّظٍ فيه بِبَينونةٍ، أو حكم بِها" لِيدخُلَ فيه حُكْمُ الحَاكمِ فِي مَواضِعِ الخِلافِ فِي أنه بائِنٌ أو رجعيٌّ، كما فِي الطَّلَاقِ فِي الإيلاءِ، فإنه رَجعيٌّ عند الشافعيِّ. وقال غيرُه: إنَّه بائِنٌ (¬4). ¬
ومُقتضَى الضابطِ: أنَّه تَصحُّ رَجعةُ السَّفيهِ، وإنْ لَمْ يَأذنْ وليُّه، والعبدِ البَالغِ العَاقلِ، وإنْ لَمْ يَأذنْ سيِّدُهُ، وفيه وَجْهٌ، والوَكيلِ مِن جِهَةِ رَشيدٍ، أوْ سَفيهٍ أوْ عَبدٍ (¬1)، والوَليِّ فِي الذي جُنَّ بعد طَلاقِه، أو وَقعَ طَلاقُه فِي جُنونِه بِتعليقٍ فِي حَالِ تَكليفِه، ذكَرَه الرَّافعي تَفقُّهًا حَيثُ يَجوزُ لِوليِّه ابْتداءُ النِّكاحِ له وهو حَسنٌ معمولٌ به إلا أنَّ الأرْجحَ هُنا الاكتِفاءُ بالمَصلحةِ. ويُراجِعُ له الوَصيُّ أيضًا، قلتُهُ تخريجًا مِمَّا سَبقَ فيمَنْ يُزوِّجه. وتصِحُّ رَجْعةُ المُحرِمِ والمُحرِمةِ والأَمَةِ، وإنْ كان مُوسِرًا، أو تحتَه (¬2) حُرةٌ؛ على الأصحِّ فِي الكُلِّ. ولا تَصِحُّ فِي حالِ رِدَّةِ الزَّوجينِ أوْ أحدِهما, ولا فِي حالِ مُخالَفةٍ فِي الدِّين تَقتضِي الفُرقةَ. ويُراجِع المُسلِمُ الكافرةَ، حيثُ يَجوزُ له ابتِداءُ نِكاحِها. ولا يُراجِعُ الكافرُ المُسلمةَ إلا فِي صُورةٍ واحِدةٍ بِصُورةِ الرَّجعةِ لا حقِيقتِها، وهِي ما إذا جَاءتِ امرأةٌ مُسلِمةٌ مِن بَلدِ الهُدنةِ، وجاءَ زَوجُها يَطلُبُها، وكان قدْ طَلَّقَها رَجعيًّا، وقُلْنَا بالقَولِ المَرجوحِ إنها تَغْرَمُ له المَهرَ فنَصَّ فِي "الأُمِّ" (¬3) أنَّها لا تَغْرَمُ له حتَّى يُراجِعَها, لِيظْهرَ مِنه قَصْدُ الرَّغبةِ فيها. ¬
وفِي "الروضة" (¬1) قولٌ (¬2) أنَّه يَستحِقُّ المَهْرَ بِمُجرَّدِ الطَّلبِ بِلا رَجعةٍ؛ لأنَّها فاسِدةٌ، فلا مَعنى لاشتِراطِه. . انتهى. والمُعتمَدُ ما نَصَّ عليه. ولو أَسلَمَ بعد الرَّجعةِ وقبْلَ انقِضاءِ العِدَّةِ: ففِي العَمل بِرَجْعتِه السابقةِ تَردُّدٌ، والأرجَح صحَّتُها، بخِلافِ ما فِي الردَّةِ واختِلافِ الدِّينِ؛ لأنَّ الرَّجعةَ قدْ أَثَّرَتْ فِي غُرْمِ المَهْرِ، فأثَّرتْ بعْدَ الإسْلامِ فِي صِحَّةِ الرَّجعةِ. * * * وخَرجَ بقَوْلِنا: "إنها الرَّدُّ المُنجَّزُ": تعليقُها على شرْطٍ فإنَّها لا تَصحُّ (¬3). وبِقَولِنا: "لِمطلَّقةٍ": المفسوخُ نكاحُها، فلا تَصِحُّ رَجعتُها، و (¬4) المحرَّمةُ أبدًا بِرَضاعٍ أوْ لِعانٍ. ودخَلَ فِي المَدخولِ بِها: الدخولُ السابقُ على الطَّلَاقِ، والذي حصَلَ الطَّلَاق معه، كما إذا قال لِغَيرِ المَدخولِ بِها: "إنْ وطِئتُكِ فأنْتِ طَالقٌ"، فإنه إذَا وطِئَها يَقَعُ رجْعيًّا قَطْعًا، ويَجِبُ عليه النَّزعُ عَقِبَ (¬5) تَغيِيبِ الحَشَفَةِ. والمرادُ بالدُّخولِ الإصابةُ على ما سبَقَ فِي الصَّداقِ فِي تَقْريرِ المُسمَّى. ¬
وفِي ثبوتِ الرَّجعةِ باستِدخالِ الماءِ المُعتبَرِ وَجْهانِ: أحدُهما: نَعَم، جَزمَ به الربيعُ وغيرُه فِي صُورةِ الطَّلَاقِ الرَّجعيِّ مِن العِنِّينِ، وعليه اقتَصرَ الرافعيُّ هناكَ، وصحَّحَ فِي مَوانعِ النِّكاحِ تَبَعًا لِلبغوِيِّ أنَّها لا تَثْبتُ، والأوَّلُ أقْوَى. * * * وقولُنا: "خَلا طَلاقُها عَنْ لُزومِ عِوَض": ما لَمْ يخْلُ عنْ عِوَضٍ تَحصُلُ به البَينونةُ على ما سَبقَ فِي الخُلعِ والرَّجعةُ مُمْتنِعةٌ حِينئِذٍ اتفاقًا. ودَخلَ فِي الخالي عَنِ العِوَضِ: الموصوفُ بالبَينونةِ لَفْظًا كما فِي قولِه: "أنتِ طالقٌ طَلقةً بائنةً"، فإنَّها تَطلُقُ طَلْقةً رَجعيةً قَطْعًا، ودخَلَ فيه طَلاقُ الاخْتيارِ والتَّمليكِ. * * * وخَرجَ بِقَولِنا: "وعنْ (¬1) تَكملةِ العَددِ": ما استَوفى فيه المُطلِّقُ عَدَدَه فلا رَجْعةَ فيه، فالحُرُّ (¬2) الكَامِلُ عند الثانيةِ إذا استَوفَى الثالثةَ، ولَو فِي الأَمَةِ حَرُمَتْ عليه حتَّى يُصيبَها زَوجٌ كما سَبقَ. ومَنْ فِيه رِقٌّ عنْدَ الثَّانيةِ إذا استَوفَى الثَّانيةَ، ولو فِي الحُرَّةِ كان كاستِيفاءِ الحُرِّ الثالثةَ، فالعِبْرَةُ عندنَا فِي الطَّلَاقِ بالرِّجالِ (¬3). ¬
ولَو قال مَن فِيه رِقٌّ لِزَوجتِه: "إنْ أَعتَقَنِي سيِّدِي، فأنْتِ طَالقٌ طَلقَتَينِ" فأعْتقَه سيِّدُه، فإنَّ له أَنْ يُراجعَها. * * * وقولُنا: "إلى الحِلِّ": مُتعلِّقٌ بالرَّدِّ. ووصَفْنَا الحِلَّ (¬1) بالقَبولِ مِن الجَانِبَينِ لنُخرِجَ به حالةَ الرِّدةِ، واختلافِ الدِّينِ كما سَبقَ. وقولُنا: "مَع تعيُّنِها": يَخرُجُ به ما (¬2) إذا طَلَّقَ امَرَأَتَيْه مُبهِمًا، ثُم رَاجَعَ إحداهُما مبْهِمًا، فإنَّه لا يَصحُّ، وفيه وجْهٌ قويٌّ أنه يصِحُّ (¬3). وقولُنا: "وبَقاءُ عِدَّتِها" إلى آخِرِه. . واضحٌ. * * * وفِي المُعاشَرةِ كَلامٌ يَأتِي فِي العِدَّةِ. ¬
ولا يُعتبَرُ رِضى المَرأةِ، ولا وليِّها, ولا مالكِ الأَمَةِ بِلا خلافٍ. ويُستحبُّ إعلامُ المَرأةِ. ولا يُعتبَرُ فِي صِحَّةِ الرَّجعةِ الإشهادُ (¬1)؛ على مَنصوصِ "الأُمِّ" (¬2) و"المختصر" و"القديم". وقال فِي "الإملاء": لَا رَجْعةَ إلا بشاهَدَينِ، وهو آخِرُ قولَيْه كما ذكَرَه الرَّبيعُ فِي غَيرِ "الأُمِّ". ويَنبغِي أَنْ يرجَّحَ، ولَمْ يُرجِّحُوه، ونَسبَه جَمْعٌ مِن المَراوِزةِ للْقَديمِ، والأثْبَتُ ما سَبقَ. ويُستحَبُّ الإشهادُ قَطْعًا إذا لَمْ يَعتبِرْه، وعلى الإقْرارِ بالرَّجعةِ إنْ لَمْ يَشْهَدْ على إنْشَائِها, ولا سِيَّما فِي العِدَّةِ. * * * وصَريحُها: "راجَعْتُكِ" أو: "ارتجعتُكِ" وأَلْحقَ به جَمْعٌ: "رجعتُها" أو: ¬
"رجعتُكِ" (¬1) وعليه المتأخِّرونَ، ولَمْ يَذكُرْه الشافعي فِي "الأم" ولا فِي "المختصر" ويَنبغِي أَنْ يُلحَقَ بـ "رددْتُها" (¬2). ويُستحَبُّ فيما سَبقَ أَنْ يَقولَ: "إلى" أو: "إلى نِكاحِي" (¬3). و"أمْسكتُها": صَريحٌ على النَّصِّ. وقال العراقيونَ: هو كِنايةٌ لا تَصِحُّ الرَّجعةُ به وإن نَوى؛ لأنَّهم لا يصحِّحونَ الرَّجعةَ بالكنايةِ مَعَ النِّيةِ، ومَن نَقلَ فيه وَجهًا أنه لَيْسَ بِصَريحٍ ولَا كِنايةٍ فليس بِصحيحٍ، ولا يحتاجُ فيه أَنْ يَقولَ: "إليَّ" أو: "إلى نكاحِي" على المُعتمَدِ (¬4). وصَريحُ الرَّجعةِ مُنحصِرةٌ فِي هذِه الثَّلاثةِ (¬5). ¬
وتَصِحُّ بالعَجَميةِ وإنْ أحْسَنَ العَربيةَ، وتَصِحُّ بالكِنايةِ (¬1)، والكِنايةُ معَ النِّيةِ فيهِما كما سَبقَ، وهذا عند المَراوزةِ، وهو أقْيَسُ وأرْجَحُ، وليس الخِلافُ فيه مَبْنيًّا على الإشْهادِ لِمَا سَبقَ عَنِ العِراقيِّينَ، والبِناءُ المَذكورُ غيرُ مُستقيمٍ. ولا تَصحُّ الرَّجعةُ بـ "نكحتُها" ولا "تزوجتُها" ولو كان فِي صُورةِ العَقدِ؛ لأنَّه غَيرُ مَشروعٍ هُنا؛ ولأنَّه تَحصيلُ الحاصلِ، خِلافًا لِمَنْ أجَازَ ذلك (¬2). * * * ومِنَ الكِنايةِ: "رفعتُ التحريمَ" و"أعدتُ الحِلَّ". وإشارَةُ الأخْرسِ كعِبارةِ الناطِقِ، فإنْ كانَتْ مُفهِمةً إفهامًا ظاهرًا صَحَّتْ بها الرَّجعةُ، وإنْ لَم يُفهِمْهَا ظاهرًا صَحَّتْ بِها الرَّجعةُ، وإنْ لَم يَفْهَمْهَا إلا الفَطِنُ صُحَّتْ بِها عند المَرَاوِزَةِ مَع النِّيةِ. وكذا بالكَتْبِ؛ نَصَّ عليه فِي "الأُمِّ" (¬3)، وهو شَاهدٌ لِطَريقةِ (¬4) المَراوِزَةِ إلا ¬
أَنْ يُحمَلَ على أنَّ الكَتْبَ صَريحٌ فِي حَقِّ الأخْرسِ. وفِي "الأُمِّ" (¬1) فِي "رددتُها إليَّ" تَفريعٌ على أنَّه كِنايةٌ أنَّه يَصحُّ بالنِّيةِ، وهذا تَصريحٌ بمَا قالَه المَراوِزةُ (¬2). * * * ولا تَحصُلُ الرَّجعةُ بفعْلٍ: مِنْ وَطْءٍ، وتَقْبيلٍ، وغيرِهما، وإنْ نَوى بذلك الرَّجعةَ على النَّصِّ المُعتمَدِ (¬3). ¬
ضابط
وهذا فِي غَيرِ رَجعةِ الكُفارِ. . قلتُه تَخريجًا. ووطؤُها حَرامٌ وسَائرُ الاستِمتاعاتِ، ويعزَّرُ العالِمُ بالتَّحريمِ ولابدَّ، ويَجِبُ المَهْرُ وإنْ رَاجعَها على ظاهِرِ النَّصِّ (¬1). وإنْ وَطِئَ مِرارًا لَمْ يَجبْ إلا مهرٌ واحدٌ. . قلتُهُ تخريجًا. * * * * ضابطٌ: للرَّجعيَّةِ حُكمُ الزَّوجةِ فِي مَواضعَ قَطْعًا، [وحُكمُ البائِنِ فِي مَواضِعَ قَطْعًا، وفِي مَواضِعَ خلافٌ والأصحُّ كالأوَّلِ] (¬2)، وفِي مَواضعَ خِلافٌ والأصحُّ كالثانِي. * فالأوَّلُ: اشْتَهرَ عنِ الشافعيِّ -رضي اللَّه عنه-: الرجعيَّةُ زوجةٌ فِي خَمسِ آياتٍ مِن كِتابِ اللَّه تعالى. قالوا: أَرادَ بِها آياتِ الطَّلَاقِ والظِّهارِ واللِّعانِ والإيلاءِ والميراثِ. وكُنْتُ قَديمًا ذَكرْتُ أنَّ الرجعيةَ زوجةٌ فِي إحدى عَشرةَ: هذِه الخَمْسُ. ¬
- وآيةُ عِدَّةِ الوَفاةِ. - وآيةُ {وَرُبَاعَ} فإنَّ الرجعيةَ محسُوبةٌ مِنهنَّ. - وآيةُ {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ}. - ثمَّ وَجدتُ فِي "الأُمِّ" ما يُفهِمُ السابعةَ والثامنةَ والتاسعةَ والعاشرةَ والحاديةَ عشرَ دُخُولُها فِي آيةِ النَّفقةِ على الزَّوجات، وآية كسوتهن وآية سكناهن. الثانيةَ عشرةَ: أنَّ الآيةَ المُثبِتةَ لِلْوليِّ شركاء (¬1) فِي تَزويجِ ولِيَّتِه تقْتضِي أنه لا مَدخلَ للوَليِّ فِي رَجْعتِها لِأنَّها زَوْجةٌ. الثالثةَ عشرَ: الآيةُ التي فيها اعْتِبارُ رِضى مَنْ يَعقِدُ علَيها تَدلُّ على أنَّ الرَّجعيةَ زَوجُةٌ إذْ لا يُعتبَرُ رِضاهَا. الرابعةَ عشرَ: قولُه تعالى: {فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ} هو تَدلُّ على أنَّ الرَّجعيةَ مَنْكوحةٌ لِعدَمِ اعْتِبارِ الإِذْنِ مِن أهْلِها اتفاقًا حُرَّةً كانَتْ أوْ أمَةً. الخامسةَ عشرةَ: قولُه تعالى: {أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ} فيمَنْ (¬2) يَبتغِيها للتَّزويجِ، وذلك فِي غَيرِ الرَّجعيةِ إذْ لا مَدخلَ لِلْمالِ فِي الرَّجعيةِ. السادسةَ عشرةَ: قولُه تعالى: {وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ} إلى قولِه: {وَإِمَائِكُمْ} وليس للسيِّدِ مَدخلٌ فِي رَجْعَتِها؛ لأنَّها مَنكوحةٌ، والمُرادُ مِن تَناوُلِ الآياتِ المذكورةِ لها إمَّا بِطريقِ العُمومِ أو بِطَريقِ المَفهومِ. ¬
والمَواضعُ السبعةُ فِي الجُزءِ السابعِ مِن الأُمِّ مِن تَجزِئةِ ثَمانيةِ أجْزاءِ فِي تَرجمةِ الخِلافِ فِي هذا البابِ، وأَشارَ إلى البابِ، وهو بابُ ما جاءَ فِي عَدَدِ ما تَحِلُّ به الحَرائرُ والإماءُ، وما تَحِلُّ به الفُروجُ. * * * وجعلَ الشافعيُّ آيتَيِ المَواريثِ واحدةً، وهي مُشتملةٌ على أربعةِ أحْكامِ، وكذلك آيَةُ الإيلاءِ مُشتملةٌ على أحْكامٍ، وكذلك آيَةُ الظِّهارِ مشتمِلةٌ على أَحكامٍ وتَسمياتٍ، وكذلك آيةُ اللِّعانِ والقَذفِ مُشتمِلةٌ على أَحكامٍ وضَمائرَ، فلَو نَظرَ إلى ذلك لَكثَرَ العَددُ وفِي قولِه: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ} ممَّا يَظهرُ منه عَدُّها فيما نَحنُ فيه، ومنه أنه لا يُحدُّ بِوَطئِها مع العِلْمِ بالتَّحريمِ بِخلافِ البَائنِ. * وأمَّا الثانِي: وهو أنَّ لها حُكمَ البائنِ قَطْعًا: فمِنه تَحريمُ وَطْئِها والاستمتاعِ بها، والنَّظرِ إليها بِشَهْوةٍ ونحوِ ذلك. * وأمَّا الثالثُ: فمِنه صحةُ خُلْعِها على الأظْهَرِ، ومِثلُه يأتي فِي الوَصيةِ والوَقفِ قلتُه تَخْريجًا، وعدمُ وجوبِ الإشهادِ على الرَّجعةِ [على الأظْهَرِ] (¬1)، وفي (¬2) خِطْبتِها ما تَقدَّمَ * وأما الرابعُ: فمثالُهُ عزيزٌ، ووجدتُ فيه (¬3) بعد التفكُّرِ، ما إذا قال ¬
للرَّجعيةِ: "أنتِ عليَّ حَرامٌ" فإنَّ الأصحَّ، أنَّه لا تَجِبُ علَيْها كفَّارةٌ كالبَائِنِ. وأمَّا احتسابُ أكثرِ مُدةِ الحَمْلِ ففِي البائِنِ يُحتَسبُ مِن حِينِ الطَّلَاقِ، وفيه تَعَقُّبٌ يأتي فِي العِدَّةِ وفِي الرَّجعيةِ قَولانِ، أصَحُّهما كالبَائنِ. وما استُنْبِطَ مِنَ الأحْكامِ مِن أنَّ الطَّلَاقَ الرَّجْعيَّ هلْ يَقطَعُ النِّكاحَ، ويُزيلُ المِلْكَ أمْ لا أم يكونُ (¬1) مَوقُوفًا كلامٌ مَردودٌ، لِعدَمِ تَوارُدِهما على مَحَلٍّ واحدٍ. * * * وللاختلافِ (¬2) بيْنَ المُطلَّقةِ والزَّوجِ صُوَرٌ واختلافٌ لَنا فيه تعقُّبٌ، فنقولُ: إنِ اختلفَا والعِدةُ باقِيَةٌ باتفاقِهِما فالقولُ قولُهُ (¬3)، زادَ المَاورْديُّ: "بِلَا يَمينٍ" إلا أَنْ يُريدَ بذلك إسقاطَ حقٍّ لها بأنْ وَطِئَها فطَالبَتْه بِمَهْرِ المِثْلِ، فيدفعُه (¬4) بِدَعْوى الرَّجعةِ، فيكونُ إنشاءً للرَّجعةِ. والتَّحقيقُ أنَّه لا يكونُ إنشاءً للرَّجعةِ لِتَنَافِي الإنشاءِ والإخْبارِ، فعَلَى هذا يَحتاجُ (¬5) إلى اليَمينِ، والاحتياطُ أَنْ يُنشئَ الرَّجعةَ. ولو قال "راجعتُكِ اليَومَ"، فقالتْ: "انقضَتْ عِدَّتي قَبْلَ رَجعتِكَ" صُدِّقَتْ هِيَ، نصَّ علَيهِ. ¬
قالَ الأصحابُ: المرادُ إذا اتَّصلَ كلامُها بِكلَامِه قالوا: قولُه "راجعتُ" إنشاءٌ، وقولُها "انقضَتْ عِدَّتي" إخبارٌ، فيكونُ الإنشاءُ (¬1) سابقًا على قولِها، كذا فِي "الروضة" (¬2) تَبَعًا للشرحِ. وهُو متعقَّبٌ مِن جِهَةِ أنَّ النَّصَّ بتَصْديقِها لَمْ يُقيِّدْه الشافعيُّ بالاتِّصالِ المَذكورِ الذي لا مَعنى له، ولا شَاهِدٌ يَشهَدُ له، والصوابُ: أنَّ القولَ قولُ الزَّوجةِ بِيَمينِها فِي هذِه الصُّورةِ مِنْ غَيرِ تَقْييدٍ بالاتِّصالِ. وما اعتُرِضَ به مِن أنَّه لَمْ يُوجَدْ مَع واحدٍ منهُما دَعْوى انقِضاءِ العِدَّةِ حتى حَصَلتِ الرَّجعةُ باتَفاقِهما فيَنبغِي أَنْ يُصدَّقَ الرَّجلُ مَمْنوعٌ إذْ لا أصْلَ هُنا يُستصحَبُ اتَّفقَا (¬3) عليه، والرجلُ يُريدُ إثباتَ سَلْطَنةٍ لَه علَيْها (¬4)، وهِيَ تُنكِرُها، والأصلُ عدَمُها. وهذا مستمَدٌّ ممَّا لَو اختلَفَ الزَّوجانِ الوثَنيَّانِ المُسلِمانِ قَبْلَ الدُّخولِ فقال الزَّوجُ: "أسْلَمْنَا مَعًا"، فالنِّكاحُ بَاقٍ (¬5)، وقالتِ الزَّوجةُ: "بَلْ أَسْلَمْنا على التَّرتِيبِ"، فإنَّ الأصحَّ أنَّ القولَ قولُ الزَّوجةِ خِلافًا لِمَا صحَّحه فِي "المنهاجِ" (¬6) فِي الدَّعوى والبيِّناتِ؛ لأنَّ الزَّوجَ يُريدُ إثْباتَ سَلْطَنةٍ له (¬7) ¬
علَيْها، والأصلُ عَدمُها، وظَهَرَ بِذلك التَّعقُّبُ على ما حُكيَ عنِ الأصْحابِ. ويتخرَّجُ فِي الصُّورةِ قَولٌ بِتَصديقِ الزَّوجِ، والأصحُّ الأوَّلُ. وإنِ اختلفَا والعدَّةُ مُنقضِيَةٌ باتفاقِهِما فقالَ الزَّوجُ: "راجَعْتُك فِي العِدَّةِ" فأنْكرَتْ هِيَ، فالقولُ قولُها. نصَّ عليه فِي "الأُمِّ" (¬1) و"مختصر المُزني" (¬2) وللزَّوج تَحْليفُها. وما نصَّ عليه الشافعيُّ هو المُعتمَدُ فِي الفَتوى. وأمَّا مَا صحَّحه فِي "الروضة" (¬3) تَبَعًا للشرحِ، وفِي "المنهاج" (¬4) تَبَعًا للْمُحررِ (¬5): مِن أنَّ القولَ قولُ السابقِ بالدَّعوَى، فهُوَ كلامٌ لا أصْلَ لَه، ولَمْ يَذكرِ الشافعيُّ هذا فِي شَيْءٍ مِن كُتُبِه، وليس فِي الكِتابِ ولا فِي السُّنةِ ما يَشهَدُ بتَصديقِ السابقِ بالدَّعوَى. وعلى هذا الطَّريقِ الضَّعيفِ إنِ ادَّعيَا مَعًا صُدِّقَتْ. وإنِ اتَّفقَا على وقْتِ الانقِضَاءِ كيَومِ الجُمعةِ، وقال: "راجعتُك يَوْمَ الخَميسِ" ففِي "الروضة" (¬6): الصحيحُ الذي عليه الجُمهورُ: أنَّ القولَ قولُ الزَّوجةِ بِيَمينِها، وهذا مُستقيمٌ. ¬
وإنِ اتَّفقَا على أنَّ الرَّجعةَ يَومَ الجُمعةِ وقالت: "انْقضَتْ عِدَّتِي يَومَ الخَميسِ" وقال هو: "بَلْ يَومَ (¬1) السبْتِ" فصحَّحُوا أنه المُصَدَّقُ. ولَمْ يَذكرِ الشافعيُّ فِي صُورةٍ مِن صُوَرِ الاخْتلافِ بعْدَ انقِضاءِ العِدَّةِ أنَّ القَوْلَ قَوْلُ الزَّوجِ، وإنَّما جَعلَ القولَ قولَه قَبْلَ انقِضاءِ العِدَّةِ. * * * فإنْ قيلَ: فِي الصُّورةِ المَذكورةِ مَعَ الزَّوجِ أصْلٌ مُستصْحَبٌ وهو بَقاءُ العِدَّةِ. قلنا: إنما يَنفعُ (¬2) ذلك إذا كانتِ العِدَّةُ بَاقيةً، والترجمةُ فِي "الأُمِّ" تَشهَدُ بذلك. وإن كانَ الاختلافُ بعْدَ أَنْ تَزوَّجتْ، فجاءَ الأوَّلُ وادَّعى الرَّجعةَ فِي العِدَّةِ: فإنْ أقامَ بيِّنةً فهِيَ زَوجتُه، وإنْ أقرَّتْ هِيَ بالرَّجعةِ لم يُقبَلْ إقرارُها على الثاني، بِخِلافِ ما لو ادَّعى على امرأةٍ تَحْتَ رَجُلٍ أنَّها زَوجتُه، فقالتْ: "كنتُ زوجتَك فطلَّقْتَني" فإنَّها تكون مُقرَّة له، وتُجعَلُ زَوجتَه (¬3)، والقولُ قولُه فِي أنَّه لمْ يطلِّقْها، كذا فِي "الروضة" (¬4) تَبَعًا للشرحِ. ¬
ومحلُّ ما ذكرَاه فيما (¬1) إذا لَمْ تُقِرَّ المَرأةُ بالنِّكاحِ لِمَنْ هِيَ تَحْتَه، فإنْ كانَتْ قدْ أقرَّتْ بِذلكَ فلا تُجْعلُ زَوجةً لِلْأوَّلِ، وتَستمِرُّ لِمَنْ هِي تحتَه. وفِي الصُّورِ كلِّها لا فرْقَ بيْنَ الزَّوجةِ الحُرةِ والأَمةِ؛ خِلافًا للْمُتولِّي والشَّاشِي فِي قولهما: "إن القولَ قولُ السيد" حيث كان القولُ قولَ الحرَّة. وفِي "زيادات الروضة" (¬2): هُو قَويٌّ. وليس كذلك، بلْ هو ضَعيفٌ، وخِلافُ نَصِّ الشَّافعيِّ (¬3)، وهو قولُه: "وَهَكَذَا لَوْ كَانَتْ زَوْجَتُهُ أَمَةً فَصدَّقَتْهُ (¬4)، كَانَتْ كَالْحُرَّةِ فِي جَمِيعِ أَمْرِهَا، وَلَوْ كَذَّبَهُ مَوْلَاهَا لَمْ أَقْبَلْ قَوْلَهُ، لِأَنَّ التَّحْلِيلَ بِالرَّجْعَةِ وَالتَّحْرِيمَ بِالطَّلَاق فِيهَا وَلَهَا". نصَّ على ذلك فِي "مختصر البويطي". وحيثُ صدَّقْنا الزَّوجةَ فِي إنْكارِها فرجَعتْ عنِ الإنْكارِ صُدِّقَتْ. وكذلك لَوْ أنْكَرتْ إذنَها فِي النِّكاحِ وهي ممَّنْ يُعتبَرُ إذنُها، ثمَّ رَجَعَتْ، عند الغزَّاليِّ ونقلَ عنِ النَّصِّ أنَّه لا يُقبَلُ رُجوعُها، وهُو المُعتمَدُ. وأمَّا (¬5) لو أقرَّتْ بنَسبٍ أو رَضاعٍ مُحرَّمٍ ثمَّ رَجعتْ، فإنَّه لا يُقبَلُ منها ¬
ذلك؛ لانتِشارِ الحُرمةِ. ولو ادَّعتْ أنه طلَّقَها ثلاثًا ثُمَّ رَجعَتْ، فقلَّ مَنْ ذَكَرَ هذِه المسألةَ، وهي محتمِلَةٌ، والأرْجحُ قَبولُ رُجوعِها؛ لأنَّ المرأةَ قدْ تَنسِبُ ذلك لِزَوجِها مِنْ غَيرِ تَحقيقٍ. ولَو طَلَّقَ الرَّجلُ زَوجتَه، ثُمَّ قال: "طلقتُكِ بعد الدُّخولِ، فلِيَ رَجعةٌ (¬1) "، فأنكرتْ ذلك، فالقولُ قولُها بِيَمِينِها على النَّصِّ فِي الجَديدِ (¬2). ولَو أتتْ بِوَلدٍ يُمكِنُ أن يكونَ منه، ولَمْ ينفِه باللِّعانِ، فإنَّ القولَ قولُهُ حينئِذٍ، قلتُهُ تخْريجًا ممَّا ذَكرُوه فِي عكسِهَا. وحيثُ لَمْ يَكنِ القولُ قولَها، فإنْ لَمْ تَكنْ قَبَضتِ المهرَ فليس لها أَنْ تُطالِبَ إلا بالنِّصفِ، ولو كانتْ قد قَبضَتِ المهرَ لَمْ يَرجِعْ علَيها بِشَيْءٍ. كذا قالُوه، ولَمْ يُخرِّجوه على الخلافِ فيمَنْ أقرَّ لإنسانٍ بشَيءٍ فكذَّبه المُقَرُّ له، وللتخريجِ وجْهٌ قويٌّ. وفِي "الروضة" (¬3) تَبَعًا للشَّرحِ أن فِي "شرح المفتاح" لأبِي مَنصورٍ البَغداديِّ: "أَنَّهُ لَوْ كَانَتْ قَبَضَتِ الْمَهْرَ وَهُوَ عَيْنٌ، وَامْتَنَعَ الزَّوْجُ مِنْ قَبُولِ ¬
النِّصْفِ، فَيُقَالُ (¬1) لَهُ: إِمَّا أَنْ تَقْبَلَ النِّصْفَ، وَإِمَّا أَنْ تُبْرِئَهَا مِنْهُ (¬2)، وَلَوْ كَانَتِ الْعَيْنُ الْمُصدَّقَةُ فِي يَدِهِ، وَامْتَنَعَتْ مِنْ أَخْذِ الْجَمِيعِ، أَخَذَهُ الْحَاكِمُ، وَإِنْ كَانَ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِ، قَالَ لَهَا: إِمَّا أَنْ تُبْرِئِيهِ، وَإِمَّا أَنْ تَقْبَلِيهِ" (¬3). وهو كلامٌ معقَّبٌ مِن جِهَةِ أنَّ الإبْراءَ مِن الأعيانِ لا يَصِحُّ، وإنَّما يَصِحُّ التمليكُ بالاخْتِيارِ، وأخْذُ الحاكمِ ضعيفٌ، وفِي هذا الكلامِ التفاتٌ إلى شَيْءٍ مما أَشَرْنَا إليه (¬4) في التَّخريجِ، واللَّهُ أعلمُ. * * * ¬
كتاب الإيلاء
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ كتاب الإيلاء (¬1) أصْلُهُ قولُه تعالى: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ} الآيتَينِ. ولا يُذكَرُ هُنا أنَّ النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- آلَى مِنْ نِسائِه شَهْرًا، فذلكَ الإيلاءُ ليس هو المَعقودَ له البابُ؛ لأنَّ المَعقودَ له البابُ حَرامٌ يَأْثمُ به مَنْ عَلِمَ حالَه، وذلك (¬2) لا يَجوزُ فِي حقِّ النبيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، والصادِرُ منه عليه الصلاة والسلام الحَلِفُ على مُجرَّدِ الامتِناعِ مِنَ الدُّخولِ علَيْهِنَّ شهْرًا، وذلك جَائزٌ. * * * وهو لُغةً: الحَلِفُ، يُقَالُ، آلَى يُولِي إيلاءً، وتَأَلَّى تأليًا، والأَلِيَّةُ اليَمينُ، ¬
والجَمعُ: أَلايَا، كعَطيةٍ وعطايَا (¬1) * * * وشَرْعًا: الحَلِفُ (¬2) المُنعقِدُ أو ما نُزلَ مَنْزِلتَهُ مِنَ الزَّوجِ المُكلَّفِ المُتَمَكِّنِ مِن الوَطءِ المُقتضِي لامْتِناعِه مِن وَطءِ زَوْجتِهِ المُمْكِنِ وَطْؤُها حسًّا وشرْعًا فِي قُبُلِها أوْ مُطلَقًا امتِناعًا مُطْلَقًا أو مُقيَّدًا بما فَوقَ أرْبعةِ أشْهُرٍ بزَمانٍ يُمْكنُ الوَقفُ فيه أو بِغايةٍ كذلك (¬3) بِحَيثُ يُمْكنُ استِمرارُ الزَّوجيةِ إلى ذلكَ الزَّمانِ. ولا بُدَّ مِن اتحادِ الحَلِفِ، وشَملَ الحَلِفَ باللَّه تعالى، وكذا ما عُلِّقَ به مِن طلاقٍ أو عِتْقٍ أو نَذْرِ لَجَاجٍ، أو نحو ذلك على الجَديدِ. * * * وأدخَلْنا بقَوْلِنا: "أوْ ما نُزل منزِلتَه": قولُه: "أنتِ علىَّ كظَهْرِ أُمِّي خَمسةَ أشْهُرٍ" مَثَلًا، فإنَّه إيلاءٌ, وليس بِحَلِفٍ، ولو قال: "إذا وَطِئتُكِ فأنْتِ عليَّ حَرامٌ"، أو "فأنْتِ عليَّ كظَهْرِ أُمِّي" كان مُولِيًا. وهذا يُمكنُ أن يَدخُلَ فِي الحَلِفِ. وخَرجَ بالمُتمكِّنِ مِنَ الوَطْءِ مَجبوبُ جَميعِ الذَّكَرِ أو بعضِه بِحيثُ لَمْ يَبْقَ مِنه مِقدارُ الحَشَفةِ، فإنه لا يَصحُّ إيلاؤُه على أظْهَرِ القَولَيْنِ. وكذلك مَن شُلَّ ذَكَرُهُ بِحَيثُ لا يُرجى زوالُه، أمَّا إذا كان مَرجوَّ الزَّوالِ ¬
فيصحُّ إيلاؤُه كالعِنِّينِ (¬1) (¬2). * * * وقولُنا: "المُمْكِنِ وَطؤُها حِسًّا أو شَرْعًا": يَخرُجُ بالحِسِّ [على ما ذكروه] (¬3) الرَّتْقاءُ والقَرْناءُ، فقدْ صحَّحَ جَمْعٌ أنه لا يَصِحُّ الإيلاءُ منهُما كالمَجبوبِ (¬4)، ولا نصَّ للشافعيِّ فِي ذلك (¬5)، ولَمْ يَذكُرْه (¬6) القُدماءُ مِنْ أصحابِه. والمُعتمَدُ صِحَّةُ الإيلاءِ منهُما لإمْكانِ زَوالِ المَانعِ، ثم لا نَضربُ المُدَّةَ إلا بعد زَوالِ المَانعِ. وصحَّحوا الإيلاءَ مِنَ الصغيرةِ ولَو بِنتَ يَومٍ. ومَحلُّ صِحَّتِه عندنَا فِي مُطْلقٍ أوْ مُقيَّدٍ يَجيءُ فيه وقْتُ إمْكانِ وَطئِها معَ ¬
لا يوقف الإيلاء إلا في مواضع
بَقاءِ زِيادةٍ على أرْبعةِ أشهُرٍ، كما تقدَّمَ، ويُمكِنُ أَنْ يُقالَ فِي ابتدائِه إنه مَوقوفٌ. * * * ضابطٌ: لا يُوقَفُ الإيلاءُ إلا فِي مَواضعَ: منها: هذا. ومنها: إيلاءُ المُرتدِّ أوْ مِن المُرتدةِ فِي زَمنِ العِدةِ، ويَجيءُ فِي الإسلامِ نحوُه، وحيثُ توقَّفْنَا فحصَلَتِ (¬1) البَينونةُ بانَ بُطلانُ الإيلاءِ والحَلِفُ باقٍ. * * * وخرَجَ بقَولِنا: "شرعًا": المُعتدةُ عَن وَطءِ الشُّبهةِ بزمانٍ يتحقَّقُ بَقاؤُه، بحيثُ لا يَبقَى مِن مُدةِ الإيلاءِ فَوقَ أربعةِ أشهُرٍ كما سَبقَ، ولا يخرُجُ بِه المُتحيِّرةُ لإمكانِ شِفائِها, ولا المُحْرِمَةُ ولو مِن بُعْدٍ لإمكانِ تَحلُّلِها. وأما المشرقيُّ يتزوجُ بالمغرِبيةِ ويُولِي منها، فإنه يَصِحُّ إيلاؤُه، وتُضرَبُ له المُدةُ حالًا على الأرْجَحِ، ويُطالبُه وكيلُها عندَ مُضيِّ المُدةِ بالفَيئةِ (¬2) باللِّسانِ، وفِي نَصٍّ للشافعيِّ ما يقتضِيه. وقولُنا: "أو مُقيَّدًا بما فَوقَ أربعةِ أشهُرٍ بِزمانٍ يُمكِنُ الوَقْفُ فيه": هو مُقتضَى نَصِّ الشافعيِّ وكَلامِ الأصْحابِ، خِلافًا للإمامِ فِي اكتِفائِه بلَحظةٍ. ¬
وقولُنا: "بغايةٍ كذلك" يَدخلُ فيه ما إذَا قالَ: واللَّهِ لا أَطؤُكِ حتى تَحمِلي الحَبلَ، أو: تَحبَلِي وتَلِدِي فِي يَومٍ واحدٍ، ونحوُ ذلك ممَّا يُنَزَّلُ مَنزِلةَ المُطلَقِ، ويَدخلُ فيه قولُه: واللَّهِ لا أطؤكِ حتى يَنزِلَ عيسى ابنُ مريمَ -صلى اللَّه عليه وسلم-، ونحوُ ذلك، أو: حتى يَموتَ زَيدٌ، فإنه مُولٍ؛ لأنَّه يُنَزَّلُ مَنزِلةَ الزَّائدِ على أرْبعةِ أشْهُرٍ (¬1). وقولُنا: "بِحيْثُ يُمْكنُ استِمرارُ الزَّوجيةِ إلى ذلك الزَّمانِ": يَخرجُ بِه (¬2) مَن تَحقَّقَ انقِطاعُ زَوجيَّتِها بِطلاقٍ بائنٍ معلَّقٍ على زَمنٍ يَنقضِي بحيثُ لا تَبقَى مُدَّةُ الضَّربِ فإنه لا (¬3) يَنعقِدُ الإيلاءُ حِينئِذٍ، ولَمْ أرَ مَن تعرَّضَ لذلك. واعتِبارُ اتِّحادِ (¬4) الحَلِفِ يُخرِجُ ما إذا قال: "واللَّهِ لا وَطِئْتُكِ أرْبعةَ أشْهُرٍ، فإذَا مَضَتْ فواللَّهِ لا أطؤُكِ أرْبعةَ أشهُرٍ أُخرَى"، فإنه لا يَكونُ مُوليًا على الأصحِّ. وفِي المُنَزَّلِ منزِلتُه: "أنتِ عليَّ كظَهْرِ أُمِّي أرْبعةَ أشْهُرٍ، فإذا مَضَتْ فأنْتِ عليَّ كظَهْرِ أُمِّي أرْبعةَ أشْهُرٍ أُخرَى"، فإنَّه لا يكونُ مُوليًا. ¬
والمحلوف عليه له صريح وله كناية
ولو حَلَفَ فِي آخِرِ يَومٍ مِن الشَّهرِ على أن لا يَطأَها أربعةَ أشهرٍ وقَفَتْ معرفةُ الإيلاءِ لا الإيلاءُ، فإذا جاءَتْ أرْبعةُ أشْهُرٍ بالأَهلةِ بِطُلوعِ الهِلالِ فِي أثْناءِ النَّهارِ التاسِعِ والعِشرينَ وُقِفَ هو. ومَن قال: "لا أَطؤُها مِائةً وعِشرينَ يَومًا" وتَبيَّنَ بِالهِلالِ نُقصَانُ الشَّهرِ الأوَّلِ فقَدْ عُرِفَ أنَّه مُولٍ، وتُوُقِّفَ فِي وَقتِه (¬1)، ولَمْ أرَ مَن تعرَّضَ لِشيْءٍ مِن ذلك. * * * والمحلوفُ علَيه له صَريحٌ وله كِنايةٌ: فمِن الصريحِ (¬2): " لا أُغَيِّبُ" أو "لا أُولِجُ" أو "لا أُدْخِلَ حَشَفتِي فِي قُبلِكِ"، أو "فِي فَرْجِكِ"، أو "لا أُجامِعُكِ بذَكَرِي" أو "لَا أَطَؤُكِ بذَكَرِي". ولِلْبِكرِ: "لا أفتضُّكِ بذَكِرِي"، وما كان مِن نَيْكٍ. وقالوا: لا يُدَيَّنُ فيما ذُكِرَ، وهو خلافُ مُقتضَى نَصِّ "الأمِّ" (¬3). والمعتمدُ أنه يُدَيَّنُ حيثُ ذَكَرَ ما لا (¬4) يُنافِيه اللفظُ بل أقبله ظاهرًا فيما يرجع إلى تَخصيصِ عُمومٍ كما فِي "لا أطؤُكِ بذَكَرِي"، وقالَ: "أردْتُ فِي الدُّبُرِ" وديَّنوه فِي "لا أطؤُكِ ولا أُجامِعُكِ". ¬
ومن الكناية
ومِن الكِنايةِ (¬1): " لا أُباضِعُكِ" و"لا أُباشِرُكِ" و"لا أَمَسُّكِ" و"لا أَغْشاكِ"، و"لا أَقْربُكِ"، "لا تَجمعُ رَأسِي ورَأسَكِ وِسادةٌ"، ولا يكونُ مُوليًا فيها إلا بِنيةِ الوَطءِ (¬2). ونحوه: "ولأبعُدَنَّ عنْكِ" أو "لَتَطُولَنَّ غَيبَتِي عَنْكِ"، كِنايةً فِي الجِماعِ، والمُدَّةِ. ولِزَوجاتِه: "واللَّهِ لا أَطؤُكُنَّ" ولَمْ يُرِدْ كُلَّ واحدةٍ، فليس بِمُولٍ فِي الحالِ مِن (¬3) الجميعِ (¬4) , ولا مِن واحدةٍ بِعَينِها. فإذا وطِئَهُنَّ إلا واحدةً تعيَّنَتْ لِلْإيلاءِ، وهذا وَقْفُ (¬5) التَّعيينِ لا وَقْفَ (¬6) الإيلاءَ، وإنْ أَرادَ كُلَّ وَاحدةٍ أوْ صَرَّحَ به فمُولٍ مِن كُلِّ واحدةٍ. فإنْ وَطِئَ واحدةً مِنهُنَّ انحلَّتِ اليمينُ والإيلاءُ فيمَنْ لَمْ يَطأْ؛ على ما ¬
وقد ينحل الإيلاء ويبقى اليمين في مواضع
صحَّحُوه، وهو مقيَّدٌ بما إذَا وَطِئَ مُختارًا ذاكرًا حَلِفَه، وأنْ يكونَ الحَلِفُ (¬1) باللَّهِ تعالى، فلَو كان بِطلاقٍ أوْ بِعِتقٍ فلا انحِلالَ. وحيثُ انحلَّتِ اليَمينُ ارْتفَعَ الإيلاءُ كما إذا زَالَ مِلْكُه عنِ العَبدِ المَنذورِ عِتْقُه أوِ المُعلَّقِ عِتْقُه على وَطْئِها، وبَينُونةُ الضَّرَّةِ في "إنْ وطِئْتُكِ فَضَرَّتُكِ طَالقٌ" (¬2). * * * * وقدْ يَنحلُّ الإيلاءُ ويَبْقى اليَمينُ (¬3) في مَواضِعَ: منها: بَينونةُ المُولِي منها، ولا يَعودُ بِعَودِها على ما صحَّحُوه. ومنها: وَطْءُ المُولِي منها مُكرَهًا أو مجنونًا، أو استدخَلَتْ ذَكَرَه حيثُ لا حِنْثَ. ويُمْهَلُ المُولِي أرْبعةَ أَشهُرٍ مِن الإيلاءِ في حَقِّ مَن يَتمكَّنُ مِنْ وَطْئِها حسًّا وشَرعًا كما سَبقَ، ولا يُحتاجُ إلى ضَربِ القَاضِي، وتُحسَبُ هذِه المُدةُ في الرَّجعيةِ مِن رَجعَتِها، وفِي الرِّدةِ مِن الإسْلامِ. ¬
ولَو طَلَّقَ المُولِي منها رَجْعيًّا انقطَعتِ المُدَّةُ، وإنْ رَاجَعَها استؤنِفَتِ المُدَّةُ، وكذلك في الإسلامِ مِن الرِّدةِ حَيثُ لَمْ يَرتفِعِ النِّكاحُ. وأمَّا الرِّدةُ بعد المُدَّةِ إذا حَصلَ العَوْدُ إلى الإسْلامِ فلا تُستأنَفُ المُدَّةُ، ويُلزَمُ بِالفَيئةِ حَالًا على نَصِّ الإمامِ، وهو المُعتمَدُ، خِلافًا لِمَا جَزمَ به في "الروضة" (¬1) تَبَعًا للشَّرحِ. ولَو طَلَّقَ رَجْعيًّا ثم رَاجَعَها فإنَّ المُدةَ تُستأنَفُ، لأن الطَّلَاقَ أَحدُ المَقصودَينِ بعد المُدةِ. وما يُوجَدُ في المُدةِ مِن مَانعِ وَطْءٍ مِن غَيرِ إخلالِه بالنِّكاحِ، إن كانَ بالزَّوجِ لَمْ يَمنعْ مِنِ (¬2) احتِسابِها فيُحتَسبُ (¬3) مَعَ جَبٍّ طَارئٍ وفَيئةٍ باللِّسانِ، وتُنتظَرُ إفاقتُه للطَّلبِ، ومرضُهُ وإحرامُهُ وصَومُهُ. وإنْ كان بالزَّوجةِ حِسيٌّ قَطَعَ المُدةَ، أو شَرْعِي كذلك إلا الحَيضَ والنفاسَ. وما قَطَعَ في (¬4) المُدةِ يَستأنِفُها بعد زَوالِه. وإذا انقَضتْ فالطَّلبُ للزَّوجةِ البالغةِ العاقِلةِ لا للْوليِّ، ولا لِمالكِ الأَمَةِ، ولو تَركَتْ حَقَّها لَمْ يَمنعْها ذلك مِن الطلبِ، ويُوجَّهُ الطَّلبُ للفَيئةِ (¬5)، ¬
وإنما يُطالَبُ بالفَيئةِ (¬1) إذا لَمْ يَكنْ بها مانع مِنْ مَرَضٍ، وحَيضٍ ونَحوِها. وإن كانَ به وهو طَبعيٌّ فأمَّا للسانِ بأن يقولَ: "إذَا قَدَرْتُ فِئْتُ". واعتَبرَ الشيخُ أبو حامدٍ مع ذلك أن يقولَ: "نَدِمتُ على ما فعلتُ". ولا يُمْهَلُ للفَيئةِ باللِّسانِ. وفِي الشرعيِّ: كصَومِه وإحْرامِه يُطالَبُ بالطَّلَاقِ [على الأصحِّ. فإنْ وَطِئَ عاصيًا سَقطتِ المطالبةُ. وحيثُ لا مانِعَ به ولا بها، فاستَمْهَلَ للفَيئةِ أُمْهِلَ، وإن أبَى الفَيئةَ طُولِبَ بالطَّلَاقِ] (¬2)، فإنْ أبَى طَلَّقَ القَاضي عليه، ولَو بغَيبتِهِ واحدةً، ويَقعُ (¬3) رَجعيًّا بشَرْطِه، فإنْ رَاجعَها استُؤنِفَتِ المُدةُ كما سبَقَ. وإذا وَطِئَ بعْدَ الطَّلبِ أو قبْلَه جَائيًا لَزِمَه كفَّارةُ يَمينٍ إذا كان الحَلِفُ بالله، ولَو تَعدَّدَ الحَلِفُ ولو بقَصْدِ الاستِئنافِ على المُعتَمَدِ، وكذلك في غَيرِ الإيلاءِ (¬4). * * * ¬
ضابط
* ضابطٌ: ليس لنا يَمينٌ باللَّه تعالى يَحنَثُ فيها، ثُم لا تَجِبُ الكفَّارةُ على رأيٍ إلا في الإيلاءِ (¬1)، وقيل: بإِجرائِه في اليَمينِ المَحضةِ يَمنعُ وَطْءَ الزَّوجةِ، وسببُهُ: {فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (226)}. * * * ¬
كتاب الظهار
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ كتاب الظهار أُخِذَ (¬1) ظَاهَرَ مِنْ لَفظِ الظَّهْرِ (¬2) في صِيغتِه، وظاهَرَ هنا لغيرِ (¬3) مُفاعَلَة كـ "عاقب" (¬4). ومَصدرُ ظَاهَرَ ظِهَارٌ ومُظاهَرةٌ (¬5)، ويقالُ: تَظَهَّرَ وتَظَاهَرَ لِغَيرِ معنى تفعَّلَ، وتَفَاعَلَ، ومصدَرُه تَظهُّرٌ وتَظَاهُرٌ. ¬
وأصلُه قولُه تعالى (¬1): {الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ} إلى قولِه: {فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا}. والمرأةُ المُجادِلةُ المُشتكيةُ التي (¬2) نزَلَ ذلك بِسَبَبِها خَوْلَةُ -على الصحيحِ- وفِي اسمِها ونَسبِها خلافٌ كثيرٌ، وزوْجُها أَوْسُ بنُ الصامِتِ. وروى يحيى بنُ أبي كَثيرٍ، قال: حدَّثنا أبو سلمةَ ومحمدُ (¬3) بنُ عبدِ الرحمنِ بن ثَوبانَ أنَّ سلمةَ بْنَ صَخْرٍ الأنصاريَّ -أَحدُ بَنِي (¬4) بَياضةَ- جَعلَ امرأتَه عليه كظَهْرِ أُمِّه حتى يَمضِيَ رَمضانُ، فلمَّا مَضَى نصفُ رَمضانَ وقَع علَيْها ليلًا، فأَتى رسولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- فذَكَرَ ذلك له (¬5)، فقال له رسولُ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "أَعتِقْ رقَبةً"، قال: لا أَجِدُها، قال: "فَصمْ شَهْرَينِ مُتَتابِعَينِ"، قال: لا أسْتَطيعُ، قال: "أطْعِمْ سِتِّينَ مِسْكينًا" قال: لا أجِدُ، فقال النبيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- لِفَرْوةَ (¬6) بنِ عَمرٍو: "أعْطِهِ ذلكَ العَرَقَ" (¬7)، وهو مِكْتَلٌ يأخُذُ خَمسةَ عَشرَ صاعًا (¬8) إطْعامَ سِتِّينَ مِسكينًا، أخْرجَه الترمذي، وقال: هذا حَديثٌ حَسنٌ، ويقال: سلمانُ بنُ صَخْر (¬9). ¬
وروى عِكرمةُ عنِ ابْنِ عبَّاسٍ -رضي اللَّه عنهما-: أنَّ رَجُلًا أتى النبيَّ (¬1) -صلى اللَّه عليه وسلم- قدْ (¬2) ظَاهرَ مِن امرَأتِه فوَقعَ عليها فقال: يا رسولَ اللَّهِ، إني ظَاهرْتُ مِن امرأتِي فوقعْتُ عليها قبْلَ أَنْ أُكفِّرَ، فقال رسولُ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "وما حَمَلَكَ عَلَى ذلِكَ يَرْحمُكَ اللَّهُ؟ " قال: رأيتُ خَلْخَالَها في ضَوءِ القَمَرِ، فقال: "لا تَقْربْهَا حتَّى تَفعَلَ ما أَمَرَك اللَّهُ". أخرجَهُ الترمذيُّ، وقال: هذا حديث حَسن صَحيح، وأخرجَه النَّسائيُّ وقال: المُرسَلُ أَوْلَى بالصَّوابِ مِن المُسنَدِ [-يعني مُرسَلَ عِكرِمَةَ، وأخرجَ ابنُ ماجه المُسنَدَ] (¬3) (¬4). ¬
ومِن ذلك تعلُّمُ (¬1) الردِّ على مَنْ قال: ليس في الظِّهارِ حَديثٌ صَحيحٌ. * * * وحُكمُه الأصليُّ مُجمَعٌ عليه، وهو حَرامٌ لِقَولِه تعالى: {وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا}. ويكونُ منجَّزًا ومُعلَّقًا ومُطْلَقًا ومُؤقَّتًا، ولا ينجَّزُ مَشروطًا، فهو ممَّا يَقبَلُ التَّعليقَ، ولا يَقبَلُ الشَّرْطَ. ولا يَصحُّ إلا مِن زَوجٍ يَصحُّ طَلاقُه (¬2). وإذا عاشَرَ الرَّجعيةَ، ومَضتِ الأقْراءُ أو الأشْهُرُ، لم يصحَّ ظِهارُها عند مَن لا يُصحِّحُ رَجْعتَها (¬3). ¬
ضابط
ومَنْ أوْقَعَ عليها الطَّلَاقَ ولَمْ يُصَحِّحْ رَجْعتَها لا يُمكِنُه أَنْ يُصحِّحَ ظِهارَها، إذْ لا سَبيلَ إلى إِعمالِه لِعدَمِ إمْكانِ العَودِ فيه بِخلافِ الرَّجعيةِ (¬1) وبذلك يَتبيَّنُ الرَّدُّ على مَنْ أوْقَعَ المُعاشرةَ المَذكورةَ بالطَّلَاقِ (¬2). * * * * ضابطٌ: ليس لنا امرأةٌ يصحُّ ظِهارُها حيثُ لا تَصحُّ رَجعتُها إلا ثلاثًا، واحدةً على ما رُجِّحَ، وثِنْتَينِ على وجْهٍ: الواحدةُ المُبهَمةُ في: إحداكما طَالقٌ، لا تَصِحُّ رَجعتُها مع الإبْهامِ، ويَصحُّ ظِهارُها مع الإبهامِ. والثِّنتانِ (¬3): الحامِلُ مِن الشُّبهةِ لا تَصِحُّ رَجعتُها على وَجهٍ، ويَصحُّ ظِهارُها (¬4) قَطْعًا. وفِي حالةِ الإحْرامِ تَصِحُّ (¬5) الرَّجعةُ على وَجْهٍ، ويَصِحُّ الظِّهارُ قَطْعًا. * * * ويُوقَفُ الظِّهارُ حيثُ يُوقَفُ الطَّلَاقُ في صُورٍ: الإسلامُ، والردةُ وغيرُها. ¬
وإذا عَلَّقَه وهو مُكَلَّفٌ فوُجِدَتِ الصِّفةُ، وهو غَيرُ مُكلَّفٍ صَحَّ، وصَريحُه الأصلِيُّ: "أنتِ على كظَهْرِ أُمِّي" (¬1). وهو مُشتمِلٌ على مُبتدأ، وخَبَرٍ (¬2)، وَصِلَةٍ (¬3)، والمَجرور معها، وكافِ التَّشبيهِ، والظَّهْر (¬4)، ومُضاف، ومُضاف إليه. وتَخرُجُ مِن ذلك صُوَرٌ كثيرةٌ مِن جِهَةِ ما يُذكَرُ (¬5) المُبتدَأُ ونَواسِخُه، والصِّلةُ (¬6) ومجرُورَاتُها وما يشبَّهُ بِه غَيرُ الكَافِ، وما يُذكَرُ مِنْ غَيرِ الظَّهْرِ، وما يُذكَرُ مِن غَيرِ الأُمِّ مِن المَحارِم (¬7) نَسَبًا ورَضَاعًا ومُصاهَرَةً، والأب، وغَير ذلك. وما يُذكَرُ مِن أُمِّ غَيرِه (¬8) ونحوِ ذلك، فَلا يَتعيَّنُ لِلْمبتدأ "أنتِ" بلْ يقُومُ مَقامَه زَوجَتِي، أو هذه، أو سمَّاهَا، أو قالَ "هِيَ" بعد تقدُّمِ ذِكْرِها، أو قال جُملَتُكِ، أو كُلُّكِ، أو ذاتُكِ، أو جِسمُكِ، أو بِدنُكِ، أو شَخصُكِ، أو مُسَمَّاكِ، أو ذَكرَ جُزءًا شائعًا، أو بعْضًا متَّصلًا غيرَ مُلصَقٍ لَمْ يَصرْ (¬9) حيًّا بِشَرطِ أَنْ ¬
يكونَ ظاهرًا مَحلًّا للاستِمتاعِ لا كقَلبٍ ودُبُرٍ (¬1)، خِلافًا لِمَنْ لَمْ يَشترطِ الظَّهرَ في ذلك، ويُلحِقُه (¬2) بالطَّلَاقِ (¬3). ومِنَ النَّواسخِ تَخرُجُ صُوَرٌ كَثيرةٌ، وما (¬4) فيه مُقاربةٌ فلا ظِهارَ فيه، وما فيه إثْباتُ الظِّهارِ فهو صَريحٌ، كـ "ما برحْتِ عليَّ كظَهْرِ أُمِّي"، ونحوِه، ولو قال: "كنتِ عليَّ كظَهْرِ أُمِّي" رُوجعَ فإن قال: "صَدَرَ ذلك منِّي في هذا النِّكاحِ، وعدْتُ وكفَّرتُ" قُبِلَ مِنه. وكذا لَوْ قالَ: "في نكاحٍ قَبْلَه"، وإنْ أَطلقَ فهُو ظِهارٌ، ولو قال: "عَلِمتُكِ عليَّ كَظَهْرِ أُمِّي" فهذا صَريحٌ، لا "ظَنَنْتُكِ" و"وَجَدْتُكِ" ونحوُه ليس بِصَريحٍ على الأرْجحِ. والنواسِخُ مِنَ الحُروفِ نحوُ: "إنَّكِ" بالغٌ في الصَّراحةِ لا "كأنَّكِ" و"ليتَكِ" ونحوهما. ¬
ولو عَدَلَ إلى الجُملةِ الفِعْليةِ نحو: "صَيَّرْتُكِ" أو "جعلتُكِ" فصَريحٌ. ولو عَدَلَ إلى الابْتداءِ بِنَفسِه (¬1) نحو: "أنَا مِنْكِ مُظاهر" فإنْ كَسرَ الهاءَ فإقْرارٌ إنْ قَصَدَه، وإلا فكِنايةٌ، كما لو فَتحَها، ولو قال: "أنَا مَنْكِ كظَهْرِ أُمِّي"، فكقولِه: "أنا مِنْكِ طَالقٌ". وأما الصِّلاتُ فذَكرَ الشافعيُّ منها "علَيَّ" و"مَعِي" و"مِنِّي" وفتح الباب بقولِه: "وما أَشبَه ذلك". وأعلاها: "على"، ولا خِلافَ في انْعقادِ الظِّهارِ بها، وفيما سِواها خِلافٌ. وألحقَ بـ "معي" و"مِنِّي" (¬2): "عندي" (¬3) و"لي" و"إليَّ" و"قِبلي" و"جِهَتي" و"حكمي" و"حُلي" و"عِصْمتي" و"إباحتي" و"زوجتي" و"حوزتي" و"عُلقتي" و"حَقِّي". ولو قال: "أنتِ في داري كظَهْرِ أُمِّي" فإنْ أرادَ "في حَوزَتِي" فظِهارٌ، وإنْ لَم يُرِدْ ذلك كان مُؤَقَّتًا بالمَكانِ، ولَمْ يَذكرُوه، والأرْجحُ إلغَاؤُه، ولَمْ يَتعرَّضُوا لإبْداءِ اليَاءِ المَجرورةِ في "عليَّ". ولو قال: "أنتِ على زَوجِكِ" أو "على فُلانٍ"، وذَكرَ اسمَه، فكقَولِه: "عليَّ"، ولو قال: "على فَرجِي" أو "بعْضِي" أو "يَدِي" فكـ "عليَّ". ولو أَسقطَ الصِّلةَ فصحَّحَ المُتأخِّرونَ أنَّ الصَّراحةَ باقية، وقال الداركي: ¬
ليس بِصريحٍ، وصحَّحه بعْضُهم، وهو أرْجَحُ كما في "أنتِ عليَّ حرامٌ"، فإنه ليس صريحًا في الكفَّارةِ والفَرقُ عسر (¬1). ولا يُقبَلُ مع الصَّريحِ إرادةُ غَيرِ الظِّهارِ إلا في "بعضِكِ" ولو قالَ: "أَردتُ الدُّبُرَ" (¬2). ولو عَدَلَ عنِ الكافِ إلى "مِثل" و"شَبه" و"عِدل" و"حُكم" و"نَظير"، فالصراحةُ باقيةٌ. ولو عَدَلَ عَن الظَّهْرِ إلى ما يَشملُه كـ "بَدن" و"جِسم" و"ذاتٍ" و"شبهها" أو إلى "قُبُلٍ" و"بَطنٍ" أو "صَدرٍ" أو "يدٍ" أو "رِجلٍ" أو "شَعَرٍ" فكالظَّهر على الأظْهرِ (¬3). وما يُستعمَلُ لِلْكَرامةِ كـ "أبي" و"مِثل أُمِّي" و"عَيْنها" و"رُوحها" كِنايةٌ، وكذا "رأْسها" عند السَّرخسيِّ، ورُجِّحَ خِلافًا للعِراقيِّينَ (¬4). ¬
ولو عَدَلَ عنِ الأُمِّ إلى "أُنثَى مُحرَّمةٍ" بِنَسبٍ أو رَضاعٍ أو مُصاهرةٍ فظِهارٌ بشَرطِ تَحريمِ الرَّضاعِ أو المُصاهَرةِ قبْلَ وِلادتِه [على ظاهر النَّصِّ، وكلامِهم، بلْ قِيلَ حمله على الأرْجحِ عندِي، ولَمْ يَذكرُوه. ومَن حَرُمتْ عليه قبْلَ وِلادتِه] (¬1) بغَيرِ ذلك فلا ظِهارَ بالتشبيهِ بها (¬2) كما في أُمهاتِ المُؤمنينَ، وكذا من حَرُمَتْ بوَطْءِ شُبهةٍ على الأرْجحِ، وقلَّ (¬3) مَن ذَكرَها. ولو شَبَّه بظَهْرِ (¬4) مَن تحرُمُ بالبَاءِ أوبالتَّاءِ فكِنايةٌ في المُشبَّهِ بِه (¬5). فإنْ نَوى الأُنثَى المُحرَّمةَ بنَسبٍ أو رَضاعٍ أو مُصاهرةٍ كما سبَقَ، فظاهِر (¬6)، وإلا فَلا، أو بِظَهْرِ رَجُلٍ فلَغْوٌ. * * * ¬
فصل
فصل العَوْدُ (¬1) في الظِّهارِ المُطْلقِ في غَيرِ الرَّجعيةِ عِندَهم يُمكنُه (¬2) أن يُمْسِكَها في نِكاحِه زَمنًا يُمكِنُه مُفارقتُها فِيه. وبعضهم يَقولُ: يُمكِنُه أَنْ يُطلِّقَ، فلا يُطَلِّقَ. وهو تعيينٌ (¬3) غيرُ مُحَصِّلٍ للمَقصودِ؛ لأنَّه إنْ أُريدَ أقلُّ زَمنٍ يُمكِنُ فيه فِراقُ ما وَرَدَ عليه إذا لاعنَها عقِبَ (¬4) الظِّهارِ، فإنه لا يكونُ عائدًا على النَّصِّ المُعتمَدِ. وإذا قال: "أنتِ طالقٌ على أَلْفِ دِرْهَمٍ" فلَمْ تَقبَلْ، فطلَّقَها عَقِبَه بِلا عِوَضٍ، فإنه لا يكونُ عائدًا. و"فلانةٌ بنتُ فلانِ ابنِ فلانٍ طالقٌ"، و"يا زينبُ أنتِ طالقٌ" و"فلانةٌ وفلانةٌ وفلانةٌ طَوَالقُ". ¬
وابتياعُ الزَّوجةِ الأمَةِ عقِبَ (¬1) الظِّهارِ وتَعليقُ طَلاقِها على دُخولِه دارًا فبَادرَ ودَخلَها، وفسْخُها نكاحَه عَقِبَ ظِهارِه كما قالُوه، وتكريرُ ظِهارِها لا بقَصْدِ الاستِئنافِ. وأيضًا فلا بُدَّ في ذلك مِن مَعرفَةِ أنَّه ظَاهرَ، ولَو في تَعليقِ الظِّهارِ بِفِعْلِ غَيرِهِ أو بفِعلِ نفْسِهِ على المُعتَمَدِ. ولو جُنَّ عَقبَ (¬2) الظِّهارِ فلا عَوْدَ. وكذا لَو ارْتدَّ أحدُهما، أوْ حَصلَ إسلامٌ يَقتضي الفُرقةَ، فالضابطُ أَنْ يُمسكَها عَارفًا بأنَّه ظَاهر زمنًا ما (¬3) يُمكنُه أَنْ يُفارقَها فيه، غيرَ مُكَرِّرٍ لفظَ الظِّهارِ، بغَيرِ قصْدِ الاستِئنافِ، ولَمْ يَحصُلْ شُروعٌ فيما يَقتضِي الفُرقةَ بِحَسبِ العادةِ. ويُعتبَرُ الزمانُ بحسَبِ الإمكانِ، فإذا أَمكنَه اللِّعانُ لَمْ يَكنْ عَائدًا حتى يُمسكَها قَدْرًا يُمكنُه (¬4) اللِّعانُ، نصَّ عليه في "الأُمِّ" و"المختصر" ولَمْ يَذكرُوه. وعلى هذا: فإنْ كان على شخصٍ (¬5) بحسَبِ حَالتِه، وفِي الرَّجعيةِ بالرَّجعةِ، وفِي الإسْلامِ والرِّدةِ لا بدَّ مِن إمْساكٍ بعد زَوالِ المُقتضي لِلْفُرقةِ ¬
على ما سَبقَ. والعَودُ في المؤقَّتِ بالوَطءِ، مُختارًا عالِمًا بأنَّه مُظاهِر، وإذا حَصَلَ العَودُ حَرُمَتْ كالحائِضِ حتى تكفِّرَ. وقد سَبقتِ الكفَّارةُ في "كتاب الصيام"، واللَّهُ أعْلَمُ. * * *
كتاب اللعان
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ كتاب اللعان هو مَصدرُ "لاعَنَ": فَفَاعَلَ (¬1) مصدَرُه "فِعال"، وأصلُه: "فِيعال" بكَسْرِ الفَاءِ، وسُمِعَ ضَاربَ ضِيرابًا، ثم خُفِّف على فِعال، وكلامُ بعضِهم يقْتَضِي أنَهما أصْلَانِ. وله مصْدَرٌ آخَرُ، وهو مُفاعَلَة، وهو مُطِّردٌ لا يَنكسِرُ (¬2). وهذا المَصدرُ يَدُلُّ غالبًا على أمْرٍ صادِرٍ مِن جَانِبَينِ (¬3)، وهو هنا مِن جانِبِ الرَّجلِ لَفْظًا، ومِن جانِبِ المَرأةِ معنى. * * * ¬
وأصله
وهو لُغةً: مَأخوذٌ مِن اللَّعنِ وهو الإبعَادُ، لِبُعدِ أحَدِ المُتلاعنَينِ بِكَذِبِه مِن حَضرةِ اللَّه تعالى. وقيل: لِما فِيه مِن لَعْنِ الزَّوجِ نفْسَه. ويقالُ: "التَعَنَ": إذا لَعَنَ نفْسَه، و"لاعَنَ": إذَا لاعَنَ غيرَه. * * * وشرْعًا: كلماتٌ مَعْلومةٌ جُعِلتْ حُجةً للمُضطرِ إلى قذْفِ مَن لَطَخَ فِرَاشَهُ وأَلْحَقَ العارَ به (¬1). . كذا في "شرح الرافعي". لكن الاضطرارُ ليس بِشَرطٍ لِمَا سَيأتِي فِيمَنْ له بَيِّنةٌ. وتَرَكَ جانِبَ المرأةِ، فيُرادُ في غَيرِ المَملوكةِ، ودفعًا للحَدِّ عَن المَرأةِ، وسِترًا لَها. * * * * وأصلُه: الكتابُ والسنةُ والإجماعُ. قال تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ} الآياتِ. وصَحَّتِ الأحاديثُ عنِ النبيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- في ذلك. وهو مُجمَعٌ عليه، والعملُ به قَلِيلٌ. والرَّجُلُ مدَّعٍ، وجُعِلَ القَولُ في جانِبه بالكلماتِ المَخصوصةِ للضرورة (¬2) ¬
وشروط صحته [من جهة الرجل]-إذا لم ينف ولدا ولا حملا- ثلاثة عشر شرطا
التي لَحِقتْهُ بالتَّلويثِ فهو قَريبٌ مِن اللَّوْثِ (¬1) الذي بِسبَبِه جُعلَتِ الأيْمان في جَانِبِ المُدَّعِي. * * * * وشُروطُ صِحَّتِهِ [مِن جِهَةِ الرَّجلِ] (¬2) -إذا لَمْ ينفِ ولدًا ولا حَمْلًا- ثَلاثَةَ عَشَرَ شَرْطًا: * أحدُها: الزَّوجيةُ، فلا يُلاعِنُ واطِئُ الشُّبهةِ، ولا السيِّدُ، ولا الأجْنَبيُّ (¬3) في قَذْفِ الأجْنبيِّ إلا الذي قَذَفَه بِزَنى امْرأتِهِ، سواءٌ نُسِبَ الزِّنَى إليْها وصدَّقَتْه (¬4)، أو كذَّبتْه، أو قال: "زَنى بِكِ وأنْتِ مُكرَهةٌ" فإنه يلاعِنُ زوجَتَه لِيسقُطَ عنه حَدُّ القَذْفِ لِلْأجنَبِيِّ (¬5). وكلُّ مَوضعٍ قُلْنا: "لا يُلاعِنُ فيه الزوجةَ لِزَوالِ المُقتضي لذلك" فإنه ¬
الثاني
يُلاعِنُ لِدفْعِ حَدِّ القَذْفِ لِلْمَرمِيِّ (¬1) به إذا طَلَبه، وكذا لِلْعُقوبةِ (¬2) غير (¬3) الحَدِّ إذا طَلَبَها. * الثاني: صِحةُ الزَّوجيةِ، فلا (¬4) يُلاعَنُ في النِّكاحِ الفاسِدِ (¬5). * الثالثُ: سَبْقُ قَذفٍ منه (¬6)، ولَو بإِقامَتِها البيِّنَةَ عندَ سُكوتِه (¬7)، فلَو لَمْ يَسبِقْ مِنه قذفٌ، وثَبَتَ زِناهَا بالبيِّنةِ أو بإِقْرارِها، فإنه لا يُلاعِنُ على المَذهبِ المُعتمَدِ عند الجُمهورِ، وجوَّزَه ابنُ سَلمةَ. * الرابعُ: أن لا يَثبُتَ زِناهَا مَع وُجودِ القَذفِ، فإنْ ثَبتَ بِبيِّنةٍ أو بإقرارِها، فلا لِعَانَ على الأصَحِّ، وعلى ذلك يُحمَلُ قولُه تعالى: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ} أو إنَّه (¬8) خَرجَ مَخرَجَ الغالبِ (¬9) فلا مَفهومَ له، فيُلاعِنُ وإنْ كان لَه بيِّنةٌ. * الخامسُ: أن لا يَحلِفَ يَمينَ الرَّدِّ في دَعواه علَيها بالزِّنى فإنْ حَلَفَ فلا ¬
السادس
لِعانٍ. * السادسُ: أَنْ لا يَحدُثَ زِناها بعد القَذفِ، فإنْ حَدثَ، فلا لِعانَ، لِسُقوطِ الحَدِّ، خِلافًا للمُزنيِّ (¬1). * السابعُ: أَنْ يَقذِفَها بِزنًى مُطْلَقٍ، أو مُضافٍ إلى نِكاحِه، فإنْ قَذَفَها بزنًى مُضافٍ إلى ما قَبْلَ نِكاحِه لَم يُلاعِنْ قَطْعًا (¬2). * الثامنُ: أَنْ تَطلُبَ هِيَ العُقوبةَ الوَاجبةَ لها، فإن عَفَتْ عنها فَلا لِعانَ على الأصحِّ، وكذا لو سَكتَتْ فلَمْ (¬3) تَطْلُبْ، ولَمْ تعفُ على الأصحِّ عند الأكثرينَ، خِلافًا لِما صَحَّحه الإمامُ، كذا في "الشرح"، و"الروضة" (¬4)، والأصحُّ ما صحَّحه الإمامُ، وهو قَضيةُ النُّصوصِ (¬5). فعلَى هذا الشَّرطِ عَدَمُ عَفوِها لا طَلبِها، وعلى المَنعِ إذا قَذفَ مُكلفةً فحَنِثَ، فليس له اللِّعانُ فإذا حَصلَ التَّكليفُ والطَّلبُ لَاعنَ. * التاسعُ: قيامُ الزَّوجيةِ (¬6) حالةَ القَذفِ، فلَو حَصَلتْ فُوقَة لا رَجعةَ فيها، ثم قَذفَها بِزنًى مُضافٍ إلى حَالةِ نِكاحِه، أو مُطلَقٍ، فإنه لا يُلاعِنُ على ¬
العاشر
الصحيحِ، وقيل: لَه اللِّعانُ إنْ أَضافَ الزِّنى إلى حالةِ النِّكاحِ. * العاشرُ: أن لا يُنكِرَ الزَّوجُ القَذفَ وزِنَاها، فإن قال: "ما قذفتُكِ، وما زَنَيْتِ"، فقَامَتْ (¬1) عليه البيِّنةُ، فإنه يُحَدُّ ولا لِعَانَ، لأنَّه (¬2) شَهِدَ بعِفَّتِها، فكيف يُحقِّقُ زِناهَا بلِعانِه، فإنْ أنْشَأ قَذْفًا بِزنًى يُمكِنُ حُدوثُه بعد ذلك فلاعَنَ له سَقطَ الحَدُّ عنِ الأوَّلِ، على الأصحِّ (¬3). * الحاديَ عشرَ: أن لا يعاقَبَ لِلْقَذْفِ، فإنْ عُوقِبَ بالحَدِّ أو بغَيْرِه، وتَمَّتِ العُقوبةُ فلَمْ يَبْقَ منها شَيْءٌ، فلا يَصِحُّ لِعانُه بعد ذلك، ويَجرِي مِثلُ هذا في عُقوبةِ التَّعزِيرِ إذا انْتَهى الحالُ فيه، ولَمْ يَذكرُوه. * الثانيَ عشرَ: أَنْ يَكونَ قَذْفُهُ يُمكِنُ (¬4)، فحيث كان كاذبًا قَطْعًا، فإنه يُعَزَّرُ، ولا يُلاعِنُ، وتَعزيرُه لِلأذَى معه (¬5). * الثالثَ عَشرَ: أن لا يُحَدَّ لِقَذفٍ سابقٍ منه لِزوجته (¬6)، فإن حُدَّ لِقَذفٍ سابقٍ منه (¬7)، ثم قَذفَ (¬8) به فلا حَدَّ، ويُعزَّرُ، ولا يُلاعَنُ على الصحيحِ. ¬
وإنْ قذَفَها بِزِنًى آخَرَ حادِثٍ على فِراشِهِ فرجَّحَ البَغويُّ التَّعزيرَ، ورجَّحَ أبُو الفَرجِ الزاز الحَدَّ، ولا يُلاعَنُ فيهما على الأصحِّ، كذا في "الروضة" (¬1) تَبَعًا للشرحِ. والصوابُ: أنه يُلاعِنُ، لأنَّه زَوْج قاذِفٌ تَتناوَلُه الآيةُ الشريفةُ، ولَمْ يَظهَرْ كذِبُه في هذا القَذْفِ. وأمَّا إذا أَزادَ المُلاعِنُ نفْيَ ولدٍ أوْ حَمْلٍ فلا يُعتبَرُ الشَّرطُ الأوَّلُ ولا الثاني، فيصِحُّ اللِّعانُ مِن واطِئٍ بِشُبهةٍ أو في نِكاحٍ فاسِدٍ لِنفْي الوَلدِ، وكذا لِنفْي الحَملِ على الأظْهرِ، ونفي ولدِ الأَمَةِ سَيأتي. * * * * وأما الثالثُ: فهلْ يُستغنَى هُنا عنِ القَذفِ بالشهادةِ؟ قال المَاورْديُّ: فيه وَجْهانِ مُحتمَلانِ، الاستِغناءُ وعدمُه، [ولمْ يُرجِّحْ شَيئًا مِنهُما، والأرْجحُ الاستِغناءُ] (¬2). وإذا كان هُناكَ حَمْلٌ فقَولانِ، مَنصوصُ "المختصر" (¬3) أنه لا يُلاعِنُ حتى تَضعَه. قال المَاورْديُّ: واختارَه أكثَرُ أصحابِنَا. وما نقَلَه عن اختِيارِ الأكْثرِ هو مَنصوصُ "الأُمِّ" (¬4) أيضًا، وصحَّحه الشيخُ أبو حَامدٍ، وهو المَذهبُ المُعتمَدُ، بِخِلافِ ما سبق في وَاطِئِ الشُّبهةِ وما ¬
سَيأتِي في البائِنِ، لِسقُوطِ الحَدِّ فيهما بِلِعانِه تَبَعًا لِنَفْي الحَملِ، وهنا الحَدُّ ساقِطٌ بثُبوتِ زِناهَا، فيُجرَّدُ اللِّعانُ لِنفْي الحَملِ فاعتُبِرَ فيه التيقُّنُ بالوِلادةِ. وليس لنا صُورةٌ لا يُلاعَنُ فيها لِنفْي الحَمْلِ على المَذهبِ إلا هذه. وقدْ يُتخيَّلُ إلْحَاقُ صُورةِ العَفْوِ بها والأقرَبُ الفَرْقُ؛ لأنَّه يُريدُ فيها أن يَخْرُجَ بتَنْجيزِ لِعانِه عنْ حُكمِ القَذفِ، وليستِ المسألةُ في "الروضة" ولا في أَصلِها. ولا تُلاعِنُ الزَّوجةُ هنا مُعارضةً لِلِعانِه قَطْعًا، وما وقَعَ في "الروضة" (¬1) تَبَعًا للشرحِ (¬2) مِنْ إثْباتِ خِلافٍ في ذلك: وَهْمٌ؛ لأنَّ الحَدَّ قَدْ لَزِمَها فلا فَائدةَ لِلِعانِها (¬3). * وأمَّا الرابعُ فهُوَ كالثالثِ. * وأما الخامسُ والسادسُ فلَهُ فيهِما اللِّعانُ لِنَفي الوَلدِ، وكذا لِنَفي الحَمْلِ قَطْعًا كالزَّوجةِ، وفيها طَريقة ضَعيفة بإثْباتِ قَولَينِ. * وأمَّا السابعُ فإنَّه يُلاعَن فيه لِنَفْي الوَلدِ الذي ادَّعى أنه مِن الزِّنَى السابقِ على نِكاحِه، ويُمكِنُ لُحوق بِه على الصَّوابِ، خِلافًا لِمَا في "المنهاج" (¬4) تَبَعًا للمحررِ (¬5)، فإنْ كان حَمْلًا فلَه نَفْيُه باللِّعانِ تَفريعًا على القَولَينِ ¬
السابِقَينِ. ويَسقطُ الحَدُّ باللِّعانِ في الصُّورتَينِ. * وأما الثَّامنُ فإنه يُلاعنُ في صُورِه كلِّها (¬1) لِنفْي الوَلدِ ولِنفْي الحَمْلِ، ويَتخرَّجُ فيه القَولانِ. * وأمَّا التاسعُ فإنه يُلاعنُ فيه لِنفْي الوَلدِ ولِنفْي الحَمْلِ على النَّصِّ في "المختصر"، وهو المُعتمَدُ خِلافًا لِنصِّ "الجامع". ولو ماتَتِ الزَّوجةُ ثم قَذفَها وهناك ولدٌ يَنفِيه، كان له نفيُهُ باللِّعانِ، والحملُ يَندُرُ تَصويرُه، فإنِ اتَّفقَا جاءَ فيه الخِلافُ، والأرجحُ يلاعَنُ، وإن كان يُمكِنُ الكشفُ في الحالِ بشَقِّ بَطْنِها وإخْراجِه منهَا كما يُلاعَنُ في نَفْي الحَمْلِ عند الطَّلْقِ. * وأمَّا العاشِرُ فيَتعذَّرُ فيه تَصويرُ ولَدٍ بِنَفْيٍ (¬2)، فإنْ فُرِضَ أنَّه نَفَى نَسَبَ ولَدٍ ظَهرَ بعد ذلك (¬3) ونَسبَه إلى وَطءٍ هِيَ فيه مُكرَهةٌ أو نائمة ونحوُ ذلك مِمَّا (¬4) لا يُنافِي مما أَقرَّ به مِن عِفَّتِها، فلَه اللِّعانُ لِنفْي الوَلدِ. وفِي نَفْي الحَمْلِ الطَّريقانِ السابِقانِ. ومَنْ أكذَبَ نفسَه في القَذْفِ لا يُلاعِنُ، فإنْ ظَهرَ نسبٌ (¬5) بعْدَ ذلك جاءَ ¬
فيه ما تقدَّمَ. * وأما الحادي عَشرَ: فإذا ظَهرَ فيه ولد كان له نفْيُه قَطْعًا، وفِي الحَملِ الطريقانِ. * وأما الثانيَ عشرَ: فلا شَيءَ فيه. * وأما الثالثَ عشرَ: فإذا (¬1) كان هُناكَ ولد كان له نفْيُه باللِّعانِ قَطْعًا، وفِي الحَملِ الطريقانِ. وشَرْطُ نفْيِ الحَملِ في الصُّورِ كلِّها على ما خَرَّجْتُه انتفاءُ احتِمالِ أنه تَوْءَمٌ لَمَّا انفصَلَ ولَحِقَ به، فإنِ احتَمَلَ ذلك امتَنعَ نفيُهُ عنه لاحتِمالِ أن يكونَ لاحِقًا به، ولا يَجوزُ نفي أحَدِ التوءَمَينِ دُونَ الآخَرِ. ولو نسب (¬2) المرأةَ إلى وَطءِ شُبهةٍ وجَبَ لها التَّعزيرُ على الأصحِّ، وله دَفْعُهُ باللِّعانِ. فإنْ كان هناكَ ولَدٌ أو حَمْلٌ، فمَنْ أَجازَ نفْيَ الوَلدِ باللِّعانِ هُنا (¬3)، أَجازَ نفْيَ الحَملِ على ما سَبَقَ، ومَنْ مَنعَ وهو الأكثَرُ وقال (¬4): يُعرَضُ على القَافَةِ إمَّا مُطْلَقًا أو عند تَصديقِ الوَاطئِ (¬5)، فيَمتنِعُ عِندَه (¬6) نفْي الحَمْلِ هُنا. ¬
ويترتب على لعان الرجل أحكام كثيرة
وفِي كُلِّ صُورةٍ يُعرَضُ فيها على القَائفِ (¬1)، وإذا عُرِض هنا على القَائفِ فألْحَقَه بالزَّوجِ لَحِقَه (¬2) ولا لِعانَ، كذا في "الروضة" (¬3) تَبَعًا للشَّرحِ نقْلًا عن البغَويِّ وغيرِهِ، وليس بمعتمَدٍ، بل لَهُ اللِّعانُ كما جَزمَ به جَمْعٌ مِنَ الأصحابِ، لأنَّ قولَ القائفِ إنما جُعِلَ حُجَّةً لأَحدِ المُدَّعِيَيْنِ لا أنه (¬4) يُثبِتُ نَسبًا لازمًا على مُنكِرٍ. * * * ويَترتبُ على لِعانِ الرجلِ أحكامٌ كثيرةٌ: * منها: قَطعُ النِّكاحِ قَطْعَ بَينونةٍ، ولو كانتْ رَجعيةً. فأمَّا اللِّعانُ بعد مَوتِها، فإنه مُعْضَلٌ مِنْ حَيثُ أنَّه هَلْ يُقتصَرُ فيه على دَفعِ الحَدِّ والنَّفي كالبائِنِ حتَّى يَرِثَ منها ويُغَسِّلَها ويَتولَّى دفْنَها، ولو كان قَبْلَ الدُّخولِ استقَرَّ المُسمَّى، أو (¬5) يَمْنَعُ جَميعَ ما ذُكِرَ. ويَرتَفِعُ النِّكاحُ كما في الفَسخِ بِعَيبٍ بعدَ المَوتِ على وَجْهٍ أمْ يُفَرَّقُ فلا يَرفَعُ (¬6) النِّكاحَ، ولكنْ يَرْفَعُ ما يُصادِفُه مِن إرثٍ وغُسْلٍ ونحوِه (¬7)، هذا فيه احتِمالات مُشكلات، وقدْ جَزمَ المَاورْديُّ وجَماعةٌ بإرْثِه منها، وقَضيتُه ¬
وللثالث شاهد من النص والمعنى
إثْباتُ الكُلِّ. * وللثَّالثِ شاهِدٌ مِن النصِّ والمَعْنى: * أمَّا النصُّ: فقَولُ الشافعيِّ -رضي اللَّه عنه-: "وَأَيُّهُمَا مَاتَ قَبْلَ أَنْ يُكْمِلَ الزَّوْجُ اللِّعَانَ وَرِثَ صَاحِبُهُ وَالْوَلَدُ غَيْرُ مَنْفِيٍّ حَتَّى يُكْمِلَ ذَلِكَ كُلَّهُ" (¬1)، فظَاهِرُ الغَايةِ أنها (¬2) تتعلَّقُ بهما (¬3). * وأمَّا المَعنى (¬4): فلِأنَّ اللِّعانَ يرفَعُ ما يُصادِفُه مِن الحِلِّ (¬5) في البَائنِ وغَيرِها، فكذلك يَرفعُ الإرثَ والغُسْلَ ونحوَه، وهذا أرْجحُ. * ومنها: تَحريمُ الزَّوجةِ مُؤبَّدًا بِلا خلافٍ، فإنْ لَمْ يَتَرَتَبْ على لِعانِه (¬6) قَطْعُ نِكاحٍ -كما في لِعانِ المَوطُوءةِ بِشُبهةٍ وفِي النِّكاحِ الفاسدِ والبَائنِ- فإنَّها تَحرُمُ مُؤبَّدًا على الأصحِّ، وقيل: لا تَحرُمُ، وقيل: تَحرُمُ كالمُستوفَى عَددُ طَلاقِها. ¬
ضابط
* ضابطٌ: ليس لنا امرأةٌ تَلحَقُ بِمَن (¬1) استَوفَى إلَّا مَن ذَكرْنَا على وَجهٍ، وهذانِ الحُكمانِ مُستمرَّانِ ولو أَكْذَبَ نَفْسَه (¬2). * * * * ومنها: نفي نَسَبٍ لَمْ يَستقرَّ (¬3)، ويُمكِنُ إلْحاقُه بِه (¬4) مِن ولَدٍ ولَو ميتًا (¬5) وأولادٍ وحُمِلَ على ما سَبقَ بِشَرطِ ذِكْرِ نفْيِه عنه في الكَلِماتِ على ما سَيأتِي، ويَرْتفعُ ما يَترتَّبُ على النَّسبِ مُطْلَقًا إلا حُرْمةَ نِكاحِ المَنفيةِ التي لَمْ يَدخُلْ بِأمِّها على الأصَحِّ، وإِجراءُ (¬6) الخِلافِ في قِصاصٍ مِنه وَحَدِّهِ بقَذْفِها والقَطعِ (¬7) بالسَّرقةِ وقَبول الشهادةِ: ضعيفٌ، ومَتى أَكْذبَ نفْسَه هُنا لَحِقَه المَنفيُّ. * ومنها: سُقوطُ عُقوبةِ قَذْفِها؛ مِن حدٍّ -ولو بعضهِ- أو (¬8) تَعزيرٍ إلا تَعزيرَ تَأدِيبٍ. * ومنه: ما سبَقَ في الثالثَ عشرَ. ¬
وللسقوط شرطان
* ومنها: سُقوطُ عقوبةٍ تتعلَّقُ بالمَرمِيِّ (¬1) به المُعيَّنِ مِنْ حَدٍّ أو تَعزيرٍ، وإن لَمْ يَذكُرْه في لِعانِه على المَذهبِ المُعتمَدِ، وهو مُتقضَى نُصوصِه في كُتبِه كلِّها خِلافًا لمَنْ صَحَّحَ غَيرَ ذلك. * ومنها: أنَّه لَمْ يَفسُقْ بِقَذْفِه إيَّاهَا، ولوِ التَعنَتْ على الأصحِّ مِن احتِمالِ وَجهَينِ. ذكرَهُما المَاورديُّ. * ومنها: سُقوطُ حَضانتِها في حَقِّه، ولو بِزِنًى آخَرَ، ولو لاعَنتْ على المَذهبِ فيهما، وما وقَعَ في "الروضة" ليس بِمُعتمَدٍ. * ولِلسُّقوطِ شَرْطانِ: 1 - أحدُهما: أنه (¬2) لا يَنسبُه لِمَا قبْلَ نِكاحِه، وِفاقًا لِمَا جَزمَ به الماورْديُّ، وهو الأرْجحُ، خِلافًا لِمَا جِزمَ به في "الروضة" ونقَلَه الشرحُ عن المتولِّي، فلِعانُهُ (¬3) قاصرٌ على ما بعْدَ نِكاحِه، بِخلافِ مَن ثَبَتَ زِناهُ بعْدَ القَذفِ بِحُجَّةٍ. الثاني: أَنْ تكونَ زَوجةً، فالمَوطُوءةُ بِشُبهةٍ ونَحوِها لا تَسقُطُ حَضانتُها على الأصحِّ، قلتُه تَخريخًا ممَّا ذَكرُوه في إيجابِ الحدِّ عليها. وتَسقُطُ حضَانةُ الزَّوجةِ بالنِّسبةِ إلى [الأجْنبيِّ على وَجْهٍ في غَيرِ مَن لاعَنَتْ وقَذَفَها بِزنًى آخَرَ. * * * ¬
ومنها:] (¬1) إثباتُ حَدِّ الزِّنى على الزَّوجةِ، فأمَّا المَوطُوءةُ بِشُبهةٍ ونحوِها فلا يلزَمُ حَدُّ الزِّنَى على الأصحِّ. ومنها: جَوازُ نِكاحِ أُختِها، وأَربعٍ سِواهَا في عِدَّتِها، كذا في "زيادة الروضة" (¬2). ولا يُقتَصرُ على ما ذُكرَ بلْ كُلُّ حكمٍ يتعلَّقُ بالبَينونة (¬3) في الأبْوابِ كلِّها غَيرَ عَقدِ النِّكاحِ وغَيرَ المُحللِ آتٍ هنا. ويتشطَّرُ الصَّداقُ به (¬4) قَبْلَ الدُّخولِ على مُقتضَى نَصِّ "الأُمِّ" أنَّ الفُرقةَ مِن قِبَلِهِ، وأنَّه كالخُلعِ. وأَثْبتَ الإمِامُ والغَزَّاليُّ فيه خِلافًا، وهو غَيرُ مَعروفٍ فبعُدَ عليه حينئِذٍ سُقوطُ الكُلِّ بِه، والمُتعةُ كالتشطرِ (¬5). ومنها: إيجابُ أرْبعِ كَفاراتٍ على الحانِثِ مِنهُما (¬6) على الأصحِّ. ويَختصُّ اللِّعانُ مِن جِهَةِ المَرأةِ باعتِبارِ زَوجِيَّتِها، ويُقدَّمُ لِعانُ الزَّوجِ، وحينئِذٍ يَترتَّبُ عليه رَفْعُ العُقوبةِ عنها، وانتِفاءُ فِسْقِها، فتُقبَلُ شَهادتُها ويَبقَى ما يليه بِنظرٍ أو وَصيةٍ أو حَضانةٍ ونحوِها. ¬
وكلمات اللعان خمس
وشرْطُ المُلاعَنِ منها: أَهليَّةُ اليَمينِ، فالمَعروفُ أنَّ اللِّعانَ يَمينٌ مُؤكَّدةٌ بِلَفظِ (¬1) الشَّهادةِ. * * * وكلماتُ اللِّعانِ خَمسٌ: أربعُ شَهاداتٍ، والخامسةُ الموجِبةُ. ولا يُعْتَدُّ بشَيءٍ مِنها إلا بتَلقِينِ الحاكِمِ أو المُحكَّمِ. ولا يُحتاجُ إلى أَمْرِه خِلافًا لِمَا جَزمُوا به تَبَعًا لِظاهِرِ النَّصِّ، لأنَّ عُمدةَ الشافعيِّ في ذلك حديثُ رُكانةَ وليس فيهِ أَمْرٌ، وإنما فيه تَلقينٌ. وجَعلَ الشافعيُّ التلقينَ فيه أمْرًا، ولا يَكفِي المحكَّمُ إلا أن يكونَ مُكلَّفًا ويُحكَّمَ، قاله (¬2) في "التَّتمةِ". ولا يُحتاجُ إلى تَحكيمِ المَرميِّ (¬3) به، إذ لا دُخولَ له في المُحاكمةِ، ولا يَجِبُ عليه (¬4) حَدُّ الزِّنَى على ما رجَّحْتُه الآنَ (¬5)، إذِ المُحكَّمُ لا يَدخلُ في حُدودِ اللَّه تعالى، ولا مَدخلَ لِمالكِ الزَّوجِ ولا لِمالكِ الزَّوجةِ في ذلك. وما وَقعَ في "الروضة" (¬6) تَبَعًا للشرحِ و"التتمة" ما يُخالِفُ ذلك: وَهْمٌ. ¬
وأمَّا المالكُ لها فجَزمَ فيه المَاورْديُّ وغيرُه، بأنه يُلاعِن بينهُما (¬1) كما يُقيمُ الحدَّ علَيهما، وليس ذلك بالمُعتمَدِ لِمَا فيه من الأُمورِ المُختصَّةِ بالأَمَةِ. فنصوصُ الشافعيِّ قاضيةٌ بذلك. ويَلزَمُهم دُخولُ المرأةِ المَالكةِ لهُما، والفاسِقِ والكافِرِ (¬2) في ذلك، وهو خرْقٌ عظِيمٌ. فيَقولُ الزَّوجُ أربعَ مَراتٍ: "أَشْهدُ باللَّهِ إنِّي لَمِن الصادقِينَ فيما رَمَيْتُ بهِ فُلانةً مِن الزِّنَى"، ويُسمِّيها إنْ كانَتْ غَائبةً، ويَرفَعُ في نَسبِها بِحَيثُ تَتميزُ، وإنْ كانتْ حاضرةً كفَتِ الإشارةُ إليها على الأرْجحِ (¬3). وما ذُكِرَ في الشَّهاداتِ الأرْبعِ ظَاهرُ كلامِ الشافعيِّ وأصحابِهِ أن يُعتبَرَ الفِعلُ والاسْمُ والحَرفُ (¬4) والتَّرتيبُ والتَّتابُعُ. ويُخَرَّجُ مِن مُخالفةِ ذلك مَسائِلُ كثيرةٌ مِن جِهةِ الإثْباتِ (¬5) بِغيرِ الهَمزةِ ¬
وغَيرِ الفِعلِ، كـ "أُقْسِمُ" و"أَحْلِفُ" و"أُولي"، ونحوِها، و"شهدتُ" ونحوِه، وإسقاطِ الفِعلِ، وذِكْرِ واوٍ وياءٍ مَوضعَ التاءِ، وإسقاطِ الحَرفِ، وذِكْرِ اسمٍ مِن أسمائِه تعالى غَيرَ الجَلَالَةِ، وفتحِ هَمزةِ إنِّي أو (¬1) إسقاطِ لامِ لَمِن، وذِكْرِ صادِقٍ وإسْقاطِه، وذِكْرِ "لَقدْ زَنَتْ". وقَد ذَكرُوا في "أُقسِمُ" ونحوِه وجْهَينِ، وصحَّحُوا المنعَ مُراعاةً للنَّصِّ والتَّغليظِ، ولَمْ يَذكرُوا بَقيةَ ما أَشرْنَا إليه، والحُكْمُ فيه امتِناعُ غَيرِ الهَمزةِ وغَيرِ الفِعْلِ المُضارعِ بِصيغةِ الشَّهادةِ وامتِناعُ إسقاطِه. وفِي خَبَرٍ في البيهقيِّ ما يَقتضِي جَوازَهُ. ويَمتنِع غيرُ الباءِ وإسْقاطِ الحرفِ، ويَجُوزُ ذِكْرُ اسْمٍ أو (¬2) وصْفٍ يَختَصُّ باللَّهِ تعالى كالرَّحمنِ ونحوِه على الأرْجَحِ. ويَمتنِعُ الإبْدالُ في غَيرِ ذلك إلَّا في قولِه: "إنِّي لَصادِق"، أو: "إنَّها زَنَتْ"، ولَمْ يَذكرُوا ذلك. والترتيبُ لابدَّ منه، وفِي التَّتابعِ خِلافٌ؛ صحَّحَ في "الروضة" (¬3) الاشْتِراطَ، فيؤثِّرُ الفَصْلُ الطَّويلُ، والمذهبُ في القَسامةِ، وفِي "الشرح": الأشْبَهُ أنه لا تُعتبَرُ المُوالاةُ. ويُستثْنَى مِن قَولِه: "فيما رَميْتُها بِهِ مِن الزِّنى" ما إذا سَكَتَ عن الجوابِ (¬4) ¬
دَعْواها أنه قَذَفَها، فقَامتْ عليه البيِّنةُ، فيقولُ في لِعانِهِ: "إنِّي لَمِنَ الصَّادِقِين فيما أَثْبَتَتْ (¬1) علَيَّ مِنْ رَمْيَتِي (¬2) إيَّاها بالزِّنى"، كذا جَزَمَ به في "الروضة" (¬3) تَبَعًا لأَصلِه، وهو مَردُودٌ، فإنه لَمْ يَعْترِفْ بالرَّمْي، فكيف يقولُ: "إنِّي لَمِنَ الصادقِينَ". وكذا لو أنْكَرَ، وقامتِ البينةُ، ولَمْ يَذكُرْ تأويلًا، ولو كان ذلك في رَدِّ اليَمينِ عليها كان مُمْكنًا؛ لأنَّه مُقِرٌّ تَقْديرًا (¬4). والصوابُ أن يَقُولَ: "أَشْهدُ باللَّه إنِّي لا يَلزَمُنِي حَدُّ القَذفِ الذي ادَّعتْه". ومِمَّا (¬5) يُستَثْنى ما إذا ثَبَتَ زِنَاهَا بِبَينةٍ أو بإِقْرارِها، واستُغْنِي عن قَذْفِه كما سَبقَ فيقولُ: "إنِّي لَمِنَ الصَّادِقِينَ في زنَاهَا" ولا يقولُ: "فيمَا رَمَيْتُها"، لأنَّه لَمْ يَرْمِها كذا قالَه المَاورْديُّ، وهو مَردودٌ، فإنَّ الصُّورةَ في نفْي ولَدٍ، أو حَمْلٍ على تَصويرٍ يَقتضِي اللِّعانَ، وذلك متعينٌ في الزنى، فهو كغَيرِهِ. وكلُّ مَوضِعٍ لَمْ يَرمِها بالزِّنى وجَوَّزْنَا له اللِّعانَ، فإنه لا يقولُ: "فيما رميْتُها بِه مِن الزِّنَى"، وإنما يقولُ ما يُناسِبُ الواقعَ. ففِي قولِه: "زَنَى بِكِ فلانٌ وأنتِ مُكرَهةٌ -أو نَائمةٌ" يقُولُ: "فيمَا رَمَيْتُ به فُلانا مِن الزِّنى بِكِ" وإنْ لَمْ يُسمِّه قال: "فيما ذكرْتُه مِن أنَّه زَنَى بها وهِيَ ¬
مُكرهةٌ" أو "نائمةٌ" وفِي الشُّبهةِ يَقولُ: "مِنْ وَطْءِ الشُّبهةِ". ولا (¬1) يَجِبُ عليها عُقوبةٌ في كُل مَوضعٍ لَمْ يَرمِها بالزِّنَى، ولا بما يُوجِبُ عليها تَعزِيرًا ويَذكُرُ (¬2) في كلِّ شهادةٍ ما يَقتضِيه الحالُ. وَيُسَمِّي المَرميَّ به المُعَيَّنَ لِيَخرُجَ مِنَ الخلافِ، ويَذكُرُ النَّفيَ بِمَا يَقتضِيهِ الحالُ، فإنْ كانَ مِنْ زِنًى يقولُ: "مِنْ زِنى ما هو مِنِّي" هذا هو النَّصُّ. وصحَّحَ جَماعةٌ الاكتفاءَ بقَولِهِ: "مِنْ زنى". وعِندِي لا يَكفِي، بلْ يَقولُ: "مِن زِناه"، لِجَوازِ أَنْ تكونَ هيَ الزَّانيةَ دُونَه لِشُبهةٍ، فلا يَكونُ له اللِّعانُ حِينئذٍ على ما سَبقَ، وأَغْربَ المَاوَرْديُّ فقال: لا يَجُوزُ ذلك. ولَو أَغْفَلَ ذِكْرَ الولدِ في بَعضِ الكَلِماتِ احتاجَ إلى إِعادةِ لِعانِه. . كذا ذكَرُوه، وعِندِي يَنبنِي (¬3) على ما سَبقَ، وفِي كَلامِ بَعضِهم ما يَقتضِيه. وتَرتيبُ الخامسةِ على الأرْبعِ مُعتبَرٌ في الأصحِّ. ويُستحَبُّ قبْلَ اللِّعانِ أَنْ يَعِظهَا الحاكِمُ ويقولَ لها: "إنَّ عَذابَ الآخِرةِ أَشَدُّ مِنْ عَذابِ الدُّنيا". ويُسَنُّ أَنْ يَقولَ الحاكمُ عِندَ شهاداتِ الزَّوجِ: "إنَّ اللَّهَ يَعلَمُ أنَّ أحَدَكما كاذِبٌ، فهَلْ مِنْكُمَا مِنْ تَائبٍ". . صحَّ ذلك في البخاريِّ وغَيرِه عَنِ النَّبيِّ ¬
-صلى اللَّه عليه وسلم- (¬1)، ولَم يَذكُرُوه. فإذَا انْتَهى إلى الخَامسةِ قال الشافعيُّ في "الأُمِّ" (¬2) و"المختص" (¬3): (وَقَفَهُ الْإمَامُ وَذَكَّرَهُ اللَّهَ تعالى، وَقَالَ: "إنِّي أَخَافُ إنْ لَمْ تَكُنْ صَدَقْت أَنْ تَبُوءَ بِلَعْنَةِ اللَّهِ"، فَإِنْ رَاَهُ يُرِيدُ أَنْ يَمْضِيَ، أَمَرَ مَنْ يَضَعُ يَدَهُ عَلَى فِيهِ، ويَقُولُ إنَّ قَوْلَك: "عَلَيَّ لَعْنَةُ اللَّهِ [إنْ كُنْت مِنْ الْكَاذِبِينَ] (¬4) " مُوجِبَةٌ إنْ كُنْت كَاذِبًا، فَإِنْ أَبَى تَرَكَهُ وَقَالَ: قُل "عَلَيَّ لَعْنَةُ اللَّهِ إنْ كُنْت مِنْ الْكَاذِبِينَ فِيمَا رَمَيْتُ بِهِ فُلَانَةَ مِنْ الزِّنَى". .) هذا نصُّه. وفيهِ تقديمُ "عليَّ" والذي في القُرآن تَقديمُ اللَّعنةِ، وكأنَّ الشَّافعىَّ -رضي اللَّه عنه- رأى استواء الكلامَينِ، وأنَّ التَّرتيبَ في هذا لا يَلزَمُ، وهذا غيرُ ما تقدَّمَ في تَرتيبِ (¬5) (¬6) كلمات كُلِّ شهادةٍ. * * * ويُسَنُّ أَنْ يُلاعِنَ الرَّجلُ قَائمًا، وتَكونَ المَرأةُ جَالسةً، فإذا فَرغَ مِن لِعانِه أُقيمَتِ المَرأةُ، زادَ المَاورْديُّ: "وأُجلِسَ الرَّجُلُ" وهو غَريبٌ. فإذا فَرعتْ مِن اللِّعانِ، وظَهَرتْ له جرْءَتُها قالَ لَها: "مَهْ" كما قال ذلك (¬7) ¬
النبيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- (¬1)، ثُم يُلقِّنُها الشَّهاداتِ الأربعَ -وفيها ما مرَّ- ولَفْظُها: "أَشْهدُ باللَّهِ أنَّ فُلانًا -وفِي التَمييزِ (¬2) والإشَارةِ مَا سَبقَ- لَمِنَ الكاذِبِينَ فيما رَمانِي به مِن الزِّنَى" أوْ تَذكُرُ ما يَقتضِيه الحالُ في غَيرِه. فإذا فَرغَتْ مِنَ الأرْبعِ قال في "الأُمِّ" (¬3): وقَّفَها الإمَامُ، وذكَّرَها اللَّهَ تعالى، وقالَ لها: "احذَرِي أَنْ تَبوئِي بِغَضبِ اللَّه عز وجل إنْ لَمْ تَكونِي صَادقةً في أَيمانِكِ". زاد في مَوضعٍ آخَرَ مِن "الأُمِّ" (¬4): "فإنَّ قَولَكِ عليَّ (¬5) غَضَبُ اللَّه يُوجِبُ عليكِ غضبَ اللَّهِ إنْ كُنتِ كاذِبةً". فإنْ رَآها تَمضِي وحَضَرَتَها (¬6) امْرأةٌ أَمَرَهَا أَنْ تَضعَ يَدَها على فِيها، وإنْ لمْ يَحضرْها ورَآها تَمضي قال لها قُولِي: "وعليَّ غَضبُ اللَّهِ إنْ كان مِن الصادقِينَ فيمَا رَمانِي به مِن الزِّنى" هذا نصُّه. وفِي غيرِ الزِّنى يَذكُرُ ما يَقتضِيه الحالُ. ¬
فإذا فَرغَتْ قال الحاكِمُ: "اللَّهُ يَعلمُ أنَّ أَحدَكما كاذبٌ، فهَلْ مِنكُمَا مِن تَائبٍ؟ "، يَذكُرُ ذلك ثَلاثًا، كمَا ثَبتَ في "صحيح البخاري" (¬1)، ويَقولُ: "حِسابُكما على اللَّهِ، أحدُكما كاذِبٌ". ولو قال: "فهَلْ (¬2) مِن تَائبٍ؟ " كان حَسنًا (¬3). ولا يُحتاجُ بعد ذلك إلى حُكْمِ الحاكِمِ (¬4) بالتَّفريقِ بيْنَهُما، فالفُرقةُ قدْ وقَعتْ بِلِعانِ الزَّوجِ. وتَنفُذُ بَاطنًا -وإن كان كاذبًا- على الأصحِّ، وما وقَعَ في "الروضة" (¬5) تَبَعًا للشرحِ في القَضاءِ مِنْ قَولِه: "حُكْمُ القاضِي يَكونُ إِنشاءً كالتَّفريقِ بَيْنَ المُتلاعِنَينِ" وَهْمٌ. ويُسَنُّ التَّغليظُ في اللِّعانِ بالزَّمانِ: كـ "بعد العصر" و"يوم الجمعة"، وبالمَكانِ (¬6)، فبِمكةَ للْمُسلمينَ: "بيْنَ (¬7) الحَجرِ الأسْوَدِ والمَقامِ"، وفِي المَدينةِ: "عند المنبر" وقيل: عليه (¬8)، ورَجَّحُوه. وتُلاعِنُ الحائِضُ ببَابِ المَسجدِ، وكذلك مَنْ يُخافُ مِنْ دُخولِه أن ¬
يُلوِّثَ (¬1) المَسجدَ بالنَّجاسةِ. وأهْلُ الذِّمةِ يُلاعِنونَ في المَساجدِ -غَيْرَ المَسجدِ الحَرامِ- ولا تَمنعُهمُ الجَنابةُ ونحوُها مِن ذلك، وفِي كَنائِسِهم على زَعْمِهم. ولا يُغَلَّظُ بِهذِه الأُمورِ على الزِّنديقِ على ما صحَّحوهُ ونُسِبَ إلى النَّصِّ. ويُلاعِنُ الأخْرَسُ بالإِشارةِ المُفهِمةِ لِلْفَطِنِ وغَيرِه، ويُلاعِنُ الأعْجميُّ بِلِسانِه، وإنْ أَحسنَ العَربيةَ في الأصحِّ. * * * ¬
خاتمة
خاتمة اللِّعانُ لا يَكونُ إلَّا واجبًا أو حَرامًا، والقَذْفُ يَكونُ واجِبًا وحَرامًا وجائزًا. فاللِّعانُ الوَاجبُ: في نفْي النسبِ (¬1) الذي ظَهَرَ له (¬2) أنَّه ليس مِنه، وفِي دَفعِ العُقوبةِ والفِسْقِ للصَّادقِ، وهذا يَعُمُّ الرَّجلَ والمَرْأةَ. والحَرامُ: للْكاذِبِ. والقَذفُ: لِنَفْي النَّسبِ وَاجِبٌ (¬3) عِنْدَ تَعيُّنِه طَريقًا لذلك، وفِي غيرِه: جَائزٌ، والأَوْلى: ترْكُه إلا لِلْمُتجاهرةِ (¬4) بفُجُورِها، فالأَوْلى: فِعلُه. والحَرامُ: قَذْفُ الكاذِبِ. ويَنفرِدُ اللِّعانُ لِنَفي النَّسبِ باعْتِبارِ الفَورِ فيه، إلَّا في مَوضِعَينِ: أحدُهما: الحَمْلُ، فلَه التَّأخيرُ إلى المَوضعِ، إلا إذا قال: "عَلِمتُ أنها حامِلٌ، ولكنْ رَجَوتُ أَنْ يَموتَ فأُكْفَى (¬5) اللِّعانَ"، فإنَّه يَبطُلُ حقُّه على النَّصِّ. الثاني: فيما يُحتاجُ فيه إلى القَائفِ، ثُم يُلاعِنُ فيه، كما سَبقَ، ويَتعيَّنُ في هذا التأخِيرُ، وكلُّ لِعانٍ غَيرِ ذلك لا فَوْرَ فِيه. ¬
باب العدة
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ باب (¬1) العدة هي بِكسْرِ العَينِ اسمٌ مِن الاعْتدادِ، وقال المَاورْديُّ: مَصدرُ الإحْصَاءِ، وهُو مَردودٌ، والعِدَّة (¬2) بالفتحِ الجُملةُ المَعدودةُ، وبالضَّمِّ الشيءُ المُعَدُّ. وشَرْعًا: اسم لِمُدةٍ مَعدودةٍ تَتربَّصُ فيها المَرأةُ لِخُلُوِّها عنْ عِلْقَةِ وَطءٍ أو ماءٍ محتَرمَيْنِ (¬3) أو لتفجُّعٍ. وآياتُ العِدَدِ: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ}. {وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي (¬4) لَمْ ¬
وهي أربعة أقسام
يَحِضْنَ وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ (¬1)}. {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا}. * * * وهيَ أربعةُ أقْسَامٍ: 1 - معنًى مَحضٌ. 2 - وتعبدٌ مَحضٌ. 3 - ويَجتمِعُ الأمْرانِ، والمَعنى أغْلَبُ. 4 - ويَجتمِعُ الأمْرَانِ، والتعبُّدُ (¬2) أغْلَبُ. * * * - فالأولُ: عِدَّةُ الحائلِ (¬3). - والثاني: عِدَّةُ المُتوفَّى عنها زَوجُها التي لم يَدخُلْ بها. وفي (¬4) التي وقع الطَّلَاق عليها (¬5) بيَقين بَراءةِ الرَّحمِ. وفِي موطُوءَةِ الصَّبِيِّ الذي يُقطعُ بأنه لا يولَدُ لِمثلِهِ. ¬
والعدة تكون عن
وفِي الصغيرةِ التي لا تَحبلُ قَطْعًا. - والثالثُ: في عِدَّةِ المَوطوءةِ التي يُمْكنُ حبلُها (¬1) مِمَّنْ يولَدُ لمِثلِهِ سواءً كانتْ ذاتَ أقْراءٍ أو أشهُرٍ، فإنَّ مَعنى بَراءةِ الرَّحِمِ أغْلَبُ من التعبُّدِ (¬2) بالعددِ المعتبَرِ لغلبةِ ظنِّ البراءةِ (¬3). - والرابعُ: كما في عِدَّةِ الوفاة للمدخول بِها التي يمكنُ حمْلُها، وتمضِي أقراؤُها في أثناءِ الأشهُرِ، فإنَّ العددَ الخاصَّ أغلبُ في التعبُّدِ (¬4). * * * والعدةُ تكونُ عن: - فراقٍ في حياةِ الزوجينِ في النكاحِ الصحيحِ. - وتفريقٍ في الفاسِدِ. - وتكون عن وفاةِ الزوجِ في النكاحِ الصحيحِ. ¬
* أما الأول: فكلُّ فرقةٍ من طلاقٍ أو فسْخٍ بَعْدَ الوطءِ -ولو في الدُّبُر (¬1) - أو استدخالِ الماءِ المحترمِ، فإنها توجِبُ العدَّةَ إلَّا في موضِعَين: - أحدهما: في الزوجةِ الحربيَّة إذا سُبيتْ، وكان زوجُها حربيًّا، فإنَّها لا تلزمُها العدةُ، وإنما اللازمُ على مَنْ مَلَكَها الاستبراءُ. فإن كانَ الزوجُ مُسلمًا: فهل يلزمُها العِدَّةُ (¬2) لِحُرْمة ماءِ المسلِمِ، أو تُستَبْرَأُ بحيضةٍ؟ يظهرُ مِنْ كلامِهم في السِّيرِ الأولُ؟ والأرجحُ عندِي الثانِي؛ لِعموم الأخبارِ في استبراءِ المسبِيَّات. وذَكَر المتولي في المسبية في العدة ما يوافق الأول. وإن كانت زوجة ذمي برئت على ما سبق، وأولى بالاكتفاء بحيضة. - الموضع الثانِي: الرضيع مثلًا، إذا استدخلتْ زوجتُه ذكره ثُم فُسخ النكاحُ، فإنه لا عِدَّة عليها، فمثلُ هذا لا يترتبُ عليه حُكم مِنْ أَحْكامِ الوَطءِ، وفِي "النهاية" ما يَقتضِيه. وإنَّما توجِبُ (¬3) هذه الفُرقةُ العِدةَ إذا لَمْ تَقعْ في أثْناءِ عِدة قَابلةٍ للفُرقةِ فيها. فإنْ كانَتْ في أثْنائِها لمْ تُوجِبْ عِدَّةً مُستأنفةً (¬4)، وتَكفِيها بَقيةُ العِدةِ على ¬
أصحِّ القَولَينِ المَنصوصَينِ في "الأمِّ" حتى لو وَقعتِ الفرقةُ قبْلَ انقِضاءِ العِدَّةِ بِساعةٍ، فمَضتِ الساعةُ، انقَضتْ عدَّتُها. ووقَع في "الروضة" تبَعًا للشرحِ في العِدةِ تَضعيفُ طَريقةِ القَولَينِ، وفِي الطَّلَاق ترجيحُ وُجوبِ الاستِئنافِ، وهو غَيرُ مُعتمَدٍ. ويُمكِنُ حَمْلُ ما في (¬1) الطَّلَاقِ على ما إذا (¬2) رَاجعَ، ثُمَّ طَلَّقَ قبْلَ الوَطءِ، وفِي هذه يَجِبُ الاستِئنافُ على ما رُجِّحَ مِن القَولَينِ، وظاهِرُ نصِّ "الأمِّ" يَقتضِي استِواءَهما (¬3) مَع صُورةِ غَيرِ الرَّجعيةِ (¬4). فإنْ أَمسكَها بعْدَ الرَّجعةِ حتَّى مَضَتِ الأَقراءُ ثمَّ طلَّقَها قبْلَ الوَطءِ وَجَبَ الاستِئنافُ بِلَا خِلافٍ، كذا في "الشرح"، وأسْقطَ ذلك في "الروضة". ويُمكِنُ أَنْ يُقالَ: لا يَجبُ عليها شَيءٌ، لأنَّه طَلاقٌ قَبْلَ المَسيسِ (¬5)، وفِي كَلامِهم ما يَشهَدُ له، ويُمْكِنُ البِناءُ. وأمَّا إذا كانَتْ تَعتدُّ بالحَمْلِ، ثمَّ حَصَلَتْ فُرقَة، فإنها تَعتدُّ (¬6) بالوَضعِ، وسواءٌ وَطِئَ أمْ لَمْ يَطَأْ. والبائنُ إذا جدَّدَ نِكاحَها في العِدَّةِ، ثُم طَلَّقَها قبْلَ الوَطءِ ونَحوِه، فإنها تَبنِي على ما سَبقَ قَطْعًا. ¬
ضابط
وفِي "التنبيه" حكايةُ قولِ مَن طريقُهُ بالاستِئنافِ. قيلَ: ولَمْ يُوجَدْ لِغَيرِه، وهو مَوجُود فِي كَلامِ الزاز. والفُرقَةُ فِي الرَّجعيةِ (¬1) يَدخُلُ فيها اللِّعانُ وغَيرُه، والبائِنُ لا يَقعُ لها فُرقة، وإنْ وَقعَ لِعانُها فِي العِدَّةِ. * * * * ضابطٌ: ليس لنا لفظٌ يَحصُلُ به فسْخُ النِّكاحِ، ثُم تُوجَدُ صُورَتُه بعْدَ البَينونةِ [دُونَ الفُرقةِ إلا اللِّعانُ] (¬2). * * * وهذِه العِدَّةُ تكونُ بالأَقْراءِ والأشهُرِ والحَملِ. والأقراءُ واحدُها قَرْءُ، بفَتحِ القَافِ وضَمِّها، وقال (¬3) الشافعيُّ (¬4): القرْءُ اسمٌ (¬5) وُضِعَ لِمعنًى، ومعروفٌ مِن لِسانِ العَربِ: أنَّ القَرْءَ الحَبْسُ، تقولُ العربُ: "هو يَقرِي المَاءَ فِي حَوضِه"، وفِي الطُّهرِ: دمٌ يُحْبَسُ (¬6). ¬
فالقُرْءُ: هو الطُّهرُ، والأقراءُ الأطْهَارُ. وهذا النصُّ يقْتضِي أنَّ القُرْءَ فِي اللُّغةِ حقيقة فِي الطُّهْرِ، مَجازٌ فِي الحَيضِ، وهو المُعتمَدُ خِلافَ ما صحَّحه فِي "الروضة" تَبَعًا للشرحِ مِن الاشْتِراكِ (¬1)، وفيه مَقالة أُخرَى لِأهْلِ اللُّغةِ: أنَّه حَقيقة فِي الحَيضِ، مَجازٌ فِي الطُّهْرِ (¬2)، وما يُحكَى عَن الشافعيِّ مَع أبي عُبيدٍ إنْ صَحَّ يُحمَلُ على هذا. وأما فِي العِدَّةِ: فتَعليقُ (¬3) الطَّلَاقِ على الأَقْراءِ، فلا خِلافَ فِي المَذهبِ: أنَّه الطُّهْرُ، ولكنْ لا (¬4) يُعتبَر فِي الطَّلَاقِ تقدُّمُ (¬5) حَيْضٍ عليه، على الأصَحِّ، بِخِلافِ العِدَّةِ بِعِلَّةِ ظَنِّ البَراءةِ، فهُو شَرْطٌ شَرعيٌّ هنا على الأصَحِّ، ولَمْ يُفْصِحُوا عنْ هذا المَعنَى. * * * ¬
والمعتدة ذات الأقراء لا ينظر في حقها إلى الأشهر إلا في موضعين ذكروهما وهما متعقبان
والمُعتدَّةُ ذاتُ الأقْراءِ لا يُنظَرُ فِي حَقِّها إلى الأشْهُرِ إلا فِي مَوضِعَينِ ذَكرُوهما وهُما مُتَعَقَّبانِ: * أحدُهما: المستحاضةُ المبتدَأةُ غيرُ (¬1) المُميِّزةِ، تُرَدُّ إلى أَقَلِّ الحَيضِ على أَصحِّ القَولَيْنِ، وإلى غَالبِه فِي الثاني. وفِي "الروضة" تَبَعًا للشرحِ وغَيرِه على القَولَيْنِ إذا مَضَتْ ثلاثةُ أشهُرٍ -يعني: فِي الحُرَّةِ- انقَضَتْ عدَّتُها لاشتِمالِ كلِّ شهْرٍ على حَيضٍ وطُهْرٍ غالبًا. وشهرُها ثلاثونَ يومًا، والحسابُ مِنْ أولِ رُؤيةِ الدَّمِ، والتعقُّبُ عليه أن محلَّ (¬2) هذا فيما إذا كانَ أوَّلُ شَهْرِ الدَّمِ عَقِبَ (¬3) الفِراقِ. فأمَّا إذا وقَعَتِ الفُرقةُ فِي أثْناءِ شَهْرِ الدمِ، فإنَّها تَكفِيها تلك البقيةُ وشَهْرانِ بعْدَ البَقيَّةِ المَذكورةِ، وطَعنٍ كاشِفٍ عن الانقضاءِ كما سيأتي، ويُعتبَرُ الطَّعْنُ فِي جَميعِ ما يُناسبُه، فلا يُكررُ، وإنْ كان فيها رِقّ كَفَتْها تلك البَقيةُ، وشهر بَعْدَها. * * * * الثاني: المتحيِّرةُ: تَعتدُّ بثلاثةِ أَشْهُرٍ فِي الحالِ على ما صحَّحُوه، [ونصَّ فِي "البويطي" أنَّ عدَّتَها ثلاثةُ أشهُرٍ بعد أرْبعِ سنينَ (¬4). ¬
وعلى ما صحَّحُوه] (¬1) نَظرُوا فيه إلى الهِلاليةِ والأَقْراءِ، فلزِمَ منه اضْطِرابٌ شَديدٌ، وهو أنه: - إنْ وقعَتِ الفُرقةُ أولَ شَهْرٍ انْقضَتْ بثلاثةِ أشهُرٍ هِلاليةٍ، ولو نَقصتْ، ويَلزَمُ عليه على تَقديرُ (¬2) أقلِّ (¬3) الطُّهرِ، وأكْثرِ الحَيضِ أن لا يَحصُلَ ثلاثةُ أقْراءٍ، فإنها إنَّما تَحصلُ فِي تِسعينَ يومًا، والنظرُ إلى الغَالبِ لا يُخَلِّصُ لاختلافِ الحالِ بالنِّسبةِ إلى الهِلالِ. - وإنْ كانَتِ الفُرقةُ فِي أثْناءِ الشَّهرِ والباقي أكثرُهُ حُسِبَ قُرءًا وتَعتدُّ بعْدَهُ بشَهريْنِ هِلالِيَّيْنِ. والتَّحقيقُ بشَهرَينِ عَدَدِيَّيْنِ (¬4). وإن كان الباقِي (¬5) خَمسةَ عَشرَ فما دُونَها، فرجَّحَ جَمْعٌ تحسَبُ قرءًا، ورُدَّ باحتِمالِ أن يَكونَ كلُّه حَيضًا، وعنِ الأكثَرِ لا يُحسَبُ الباقي، وتَعتدُّ بعْدَه بِثلاثَةِ أشهُرٍ هِلاليةٍ، وهو ضَعيفٌ. وقيل: الأشْهُرُ فِي حقِّها أصْلٌ كالصغيرةِ فتُحسَبُ البقيةُ وتُكَمَّلُ. والفَتوى عندِي: أنَّه يكفِيها تِسعونَ يومًا، وعلى الصَّبر لِلْإياسِ وغيرِهِ لا يَمتدُّ حَقُّها فِي النَّفقةِ ولا رَجعةَ له، وإنما يُحتاطُ فِي عدَّتِها لِتحريمِ نِكاحِها. ¬
ولا تتبعض العدة المذكورة من أقراء أو أشهر إلا في موضعين على وجه
ولا تَتبعَّضُ العِدَّةُ المَذكورةُ مِن أقراءٍ أو أشهُرٍ إلا فِي مَوضِعَينِ على وجْهٍ: - أحدُهما: فِي الآيسةِ إذا رأتِ الدَّمَ بعْد سِنِّ الإياسِ، فإنها تَرجِعُ إلى الإقْراءِ ويُحسَبُ ما مَضَى قُرءًا قَطْعًا، ثم إذا لَمْ يُعاوِدْها الدَّمُ، فلا تُؤمَرُ بالتربُّصِ على ما صُحِّح، وتَعْتَدُّ بشَهْريْنِ على ما فِي "التتمة" فقدْ تبعَّضتْ عِدَّتُها مِنْ قُرءٍ (¬1) وشَهريْنِ، والنَّصُّ فِي "الأم" أنَّها تَعتدُّ بثلاثةِ أَشهُرٍ تَستأنِفُها. - الموضِعُ الثاني: فِي التي انْقطَعَ دَمُها لا لِعلةٍ تُعرَفُ وقُلْنا بأنها تتربَّصُ تِسعةَ أشهُرٍ، فتربَّصَتْ ثم حاضَتْ فِي التربُّصِ أو بعدَه فِي العِدَّةِ، حُسِبَ قُرْءًا قَطْعًا، ثم إذا لَمْ يُعاوِدْها الدمُ تربَّصَتْ (¬2) ثم بَنَتْ على ما سبَقَ مِن المدةِ فِي العِدَّةِ، فتَحسِبُه (¬3) قُرءًا، وتَعتدُّ حينئِذٍ بشَهريْنِ على وَجهٍ، فقدْ تَبعَّضَتْ، وصُحِّحَ أنها تَحْسِبُ ما مَضَى مِنَ الأيامِ وتُتِمُّهُ ثلاثةَ أشهُرٍ، ويَبطُلُ على هذا ذلك القَرءُ، ولا يَبطُلُ القَرْءُ فِي هذه العِدَّةِ إلا فِي هذَينِ المَوضعَينِ. * * * وعلى هذا فلِلْقَرءِ المَحسوبِ فِي العدَّةِ شَرطانِ: - الاحتواشُ (¬4)، كما سَبقَ. ¬
وإن حصلت الحرية بعد الفراق قبل انقضاء العدة
- وتكمِيلُ العدَّةِ مِن جِنسِه. والمُعتدةُ إنْ كانَتْ حُرَّةً قَبْلَ الفِراقِ واستمرَّتْ حرِّيتُها إلى انقِضاءِ العِدَّةِ، فعِدَّتُها ثَلاثةُ أقْراءٍ، وفِي المُبتدَأةِ والمُتحيِّرةِ ما سبَقَ. وإنْ وَقعتِ الحرِّيةُ (¬1) مَع الفِراقِ بتَعليقٍ ونحوِه، فهِيَ كالحرَّةِ قبْلَها، جَزمَ به المَاورْديُّ، وهو واضح، ولا يتَأتَّى (¬2) فيه الخِلافُ فيما إذا ماتَ زَوجُ المُستولَدَةِ وسيِّدُها معًا، لأنَّ العِتقَ وَقَعَ بعْدَ مَوتِ الزَّوجِ، وهنا وقَعَ مع الفِراقِ. * * * وإن حصَلتِ الحرِّيةُ بعْدَ الفِراقِ قبْلَ انقِضاءِ العِدةِ: - فإنْ كانَتْ رَجعيةً ولو فِي المُعاشرةِ أكمَلَتْ عِدَّةَ الحَرائِرِ على الجَديدِ، وأَحدِ قَولَي القَديمِ. - وإن (¬3) كانَتْ بَائنةً، فالقَديمُ وأحَدُ قَولَي الجَديدِ: أنها تَعتدُّ عِدَّةَ أَمَةٍ، وصحَّحه جماعةٌ، وهو قَويٌّ. ولكنْ قال الشافعيُّ فِي "الأم" و"المختصر" عن مقابِلِهِ أنه أشبَهُ القَولَينِ بالقِياسِ. واخْتَارَه المُزنيُّ، وصحَّحه جَماعةٌ، وهو (¬4) المُعتمَدُ نصًّا. - وإن حَدثَ بَعْدَه ما يُوجِبُ استِئنافَ عِدَّةٍ، فعِدَّة حُرَّةٍ قَطْعًا. ¬
- ومَنْ وقَّتَ فِي أثْناءِ العِدَّةِ بالسَّبي هلْ تُكمِلُ عِدَّةَ حُرَّةٍ أوْ أَمَةٍ؟ وجْهانِ فِي "التتمةِ"، ولَمْ يَذكُرِ الثَّالثَ، وهو الفَرْقُ بيْنَ البَائنِ والرَّجعيةِ، لأنَّ الرِّقَّ حَصلَ به البَينونةُ، ويُمكِنُ أن يأتِيَ بِضعفٍ، والأرْجَحُ عِندنَا الاستِبراءُ، وإنْ كان صَاحبُ العِدَّةِ مُسلِمًا أو ذمَيًّا على ما سَبقَ. - وإن وُجِدَ الرِّقُّ (¬1) والفُرقةُ معًا بِسبْي الزَّوجةِ، فقدْ سَبقَ. وحيثُ كانَتْ زَوجةَ مُسلمٍ (¬2) أو ذمِّيٍّ وقلنا: "تَعتدُّ"، فهَلْ تَعتدُّ عِدةَ حُرَّةٍ أو أَمةٍ؟ فيه خلافُ المُستولَدةِ السابقُ، ومُقتضَى النَّصِّ فيه: أنها تَعتدُّ عدةَ أَمَةٍ، وعِدةُ الأمَةِ وَمَنْ فيها رِقّ قَرءانِ، وإن كانَتْ مُبتدأةً غيرَ مُميزةٍ فعدَّتُها سِتُّونَ يومًا. وإنْ وُجدَتِ الفُرقةُ فِي أثْناءِ شَهْرِ الدَّمِ كَفَتْهَا تلك البَقيةُ وثلاثونَ يومًا بَعْدَها. وإن كانَتْ مُتحيِّرةً فسِتُّونَ يومًا، إلا إذا بَقِيَ مِن الشَّهرِ أكثَرُ، فيَكونُ قَرءًا وتَكتفِي بثلاثينَ يَومًا بَعْدَه. * * * وأمَّا الحُرَّةُ التي لَمْ تَحِضْ قَط، وإنْ كَبِرَتْ، فعِدَّتُها ثلاثةُ أشهُرٍ هِلاليةٍ. فإنِ انْكسرَ الأوَّلُ كمَّلتْه ثَلاثينَ يَومًا بَعْدَ شَهريْنِ بالهِلالِ، فإن تَكَمَّلَتْ ثلاثةٌ بالأهِلَّةِ قبْلَ تَكميلِ المُنكسِرِ اكتُفِيَ بذلك على المُعتمَدِ؛ خِلافًا لِمَنْ أَطْلقَ تَكميلَ المُنكَسِرِ. ¬
ولَو وَلدَتِ التي لَمْ تَحِضْ ولَم تَر دَمَ نِفاسٍ فهِيَ مِن ذَواتِ الأشهُرِ على الصَّحيحِ. وإنْ رَأتْهُ فهِيَ مِن ذَواتِ الأَقْراءِ على الأرْجَحِ، خِلافًا لِمَا أَفْتى به البغويُّ والنَّوويُّ، فإنَّ دَمَ النِّفاسِ له حُكْمُ دَمِ الحَيْضِ. * وأمَّا مَنِ انْقطَعَ دمُها لِعله تُعرَفُ كرَضاعٍ أوْ مَرضٍ: فإنَّها (¬1) تَصبِرُ حتى تَضعَ حَمْلًا لاحِقًا، وكذا (¬2) غيرُ لاحِقٍ مع إمْكانِه عِندَ جَماعةٍ مِن الأصْحابِ، والأرْجحُ خِلافُهُ. أوْ تَحيضُ فتَعتَدُّ بالأَقْراءِ، أو تيأسُ فتعتدُّ بالأشهُرِ، كذا جَزمُوا به، ولَمْ يَذكُروا فيه التربُّصَ. ومقتضى كلامِ "الأم" أَنْ يأتيَ فيه فِي غَيرِ صُورة الرَّضاعِ، ويُحتَمَلُ أَنْ يَجيءَ فِي الرَّضاعِ إذا كان الانقِطاعُ على غَيرِ عَادتِهَا، وإنِ انقَطعَ لا لِعَلَّةٍ تُعرَفُ (¬3). ومنه: أَنْ يَنقطِعَ بعْدَ فَراغِ الرَّضاعِ والنَّقاءِ مِنَ المَرضِ، ففِي "الجديد": تَصبِرُ، وحَكَوا عن "القديم" تَربُّصَ تِسعةِ أَشهُرٍ، وعنه أرْبع سنِينَ، وخُرِّجَ ستة أشهُرٍ. والقَولانِ الأَوَّلانِ فِي "الأم"، فهُما (¬4) فِي الجَديدِ، وقولُ التِّسعةِ فِي ¬
"الإملاء". وبعْدَ التَّربُّصِ على الأقْوال تَعتدُّ بِثلاثةِ أشْهُرٍ، [وهِي بَعْدَ أرْبعِ سِنينَ آيِسةٌ، قاله فِي "الأم"، نظرًا لِحالِها خاصةً، وفِي التِّسعةِ نظرًا إلى غالِبِ مُدَّةِ الحَملِ، وفِي سِتةِ أشهُرٍ] (¬1) إلى ما يَغلِبُ ظُهورُ الحَملِ فيه، وغَلبةُ الظَّنِّ كافٍ فِي العِدَّةِ، وقد تَأكَّدَ بالعِدَّةِ بعْدَه. والمختارُ تربُّصُ التِّسعةِ، والعدَّةُ بَعْدَه، لِصحَّةِ ذلك عنْ عُمَرَ (¬2) -رضي اللَّه عنه- (¬3) ¬
وقالَ الشافعيُّ فِي "القديم": إنَّ عُمَرَ أعْلَمُ بمَعنى بكتابِ اللَّه عز وجل، وهذا قضاؤُه بيْنَ المُهاجِرينَ والأنْصارِ مُسْتفيضًا لا يُنكِرُه مُنكِر علِمْناهُ (¬1)، ولا يخالِفُه، ولم يُجَبْ فِي الجَديدِ عَنِ ابنِ عُمَرَ بجَوابٍ ظَاهرٍ، واختارَ بعضُ المُتأخرينَ الاكتفاءَ بستةِ أشهُرٍ، وهو غيرُ مُعتمَدٌ. * * * وأمَّا الآيسةُ باعْتِبارِ غَيرِها، فإنَّها تَعْتدُّ بالأشهُرِ مِن غيرِ تربُّصٍ بلا خلافٍ. والمُعتبَرُ إياسُ أكبَرِ نِسائِها على نَصه فِي "الأم" الذي (¬2) أقطع به، ولَمْ يذكرْ فِي "الأم" عشيرةِ الأبَويْنِ، ولَمْ أجِدْ له نصًّا صريحًا يُخالِفُه، وما ذُكِر مِن إياسِ جَميعِ النِّساءِ، وتفْرِيعاتِه، ومِنْها أنَّه اثْنانِ وسِتُّونَ سَنَةً، فَهُوَ غَيْرُ مُعتمَدٍ، ولا دَليلَ يَقتضيه. * * * وعِدَّةُ مَنْ فيها رِقٌّ فِي الأشْهُرِ، حَيْثُ لا حَيْضَ، شَهْرٌ ونِصفٌ؛ على النَّصِّ المَقطوعِ به فِي "الأُم" (¬3) و"مختصَر المُزَني" (¬4)، وقال فيه: لَمْ أَعْلَمْ مُخالِفًا مِمَّنْ حَفِظتُ عَنه مِن أهْلِ العِلْمِ أنَّ عِدةَ الأَمَةِ نِصفُ عِدَّةِ الحُرَّةِ فيما له نِصفٌ [مَعلوم، فلم يُجِزْ إلا أَنْ يَجْعَلَ عِدَّةَ الأمَةِ نِصْفَ عِدَّةِ الحُرَّةِ فيما لَه ¬
نِصْفٌ، وذلك الشُّهورُ] (¬1). وجَرى على التَّنْصِيفِ فِي "البويطي". وقالَ فِي القَديمِ: قالَ بعْضُ أصْحَابِنا: عِدَّةُ الأَمَةِ إذا لَمْ تَحِضْ ثَلاثةُ أَشهُرٍ، لأنَّ الحَمْلَ لا يَبينُ فِي أَقَلَّ مِنها، وقالَ غيْرُه: شَهرٌ ونِصفٌ، وهذا أَقْيَسُ، والأوَّلُ أحْوطُ. ونَقلَ المُزَنِيُّ عنه فِي غَيرِ "مختصَره" أنَّه سَمِعه يقولُ: تَعتدُّ بِثَلاثةِ أشْهُرٍ، ثُمَّ رَجعَ إلى نِصْفِ عِدَّةِ الحُرةِ، وهو أَقْيَسُ، فقَولُ الثَّلاثةِ ليس مُخرَّجًا كما قالَه الرَّافعيُّ (¬2) تَبَعًا لِغَيرِه. وأمَّا قولُ شَهرَيْنِ، فلَمْ أقِفْ علَيه فِي كَلامِ الشَّافعيِّ، إلا فِي الأَثرِ الذي وَقعَ التردُّدُ فيه (¬3) عنْ عُمرَ، وهو مُستقِرٌّ على شَهْرٍ ونِصفٍ، وَوُجِّه بالبدَلِ عن قرءَينِ، وهذا إنَّما يَجيءُ فِي الآيِسةِ (¬4). أمَّا مَن (¬5) لَمْ تحِضْ فالشُّهورُ أصْلٌ فِي حَقِّها، فلَو قِيلَ بِالشَّهريْنِ فِي الآيِسةِ ونَحوِها، وبالتَّنصيفِ فيمَنْ (¬6) لَمْ تَحِضْ، لَكانَ لَه وَجْهٌ. وعِدَّةُ الأَقْراءِ والأَشْهُرِ فِي الحَياةِ يُؤثِّرُ فِيها ظَنُّ الحُرِّيةِ، كما فِي الغُرورِ واللَّقيطةِ فتَعتدُّ فيهما عِدَّةَ حُرَّةٍ، أما مَنْ عُقِدَ علَيْها مَع العِلْمِ بأنَّها أَمةٌ، ¬
ووَطِئَها على ظَنِّ أنها زَوجتُه الحُرَّةُ، فلا أَثرَ لِهذَا الظَّنِّ، وتَعتدُّ عِدَّةَ أَمةٍ قَطْعًا. وأمَّا مَن وَطِئها بُشُبَهٍ فيُؤَثِّرُ الظَّنُّ (¬1) فيها بالزِّيادةِ فإذا ظَنَّها زَوجتَه الحُرَّةَ اعتَدَّتْ عِدَّةَ حُرَّةٍ أوْ زَوْجتَه الأَمةَ، فقرْءانِ على ما صُحِّحَ فِيهما، ولا أثَرَ لِظن يَقتضِي النَّقصَ على الأرْجحِ. * ضابطٌ: كُلُّ مَن انقضَتْ عِدَّتُها بالأَقراءِ فلا تَبطُلُ إلا إذَا ظَهرَ أنها حَاملٌ بِحَملٍ ليْسَ مِن زِنى. والمُتحيِّرةُ إذَا زَالَ تَحيُّرُها بعد انقِضاءِ عِدَّتِها على مَا سَبقَ، فظَهرَ أنَّه بَقِيَ علَيها بَقيةٌ فإنَّها تُكملُها. وأمَّا مَن انقضَتْ عِدَّتُها بالأشْهُرِ، فتَبطُلُ بِتَبيُّنِ الحَمْلِ المَذكورِ وبِوُجودِ الحَيْضِ فِي الآيِسةِ على قَولٍ رجَّحه جَماعةٌ، فيُحسَبُ ما مَضَى قَرْءًا، وتَعتدُّ بقَرءَيْنِ. والمَنصوصُ فِي "الأُم" وهُو المُعتمَدُ على ما قرَّرْناهُ مِن اعتِبارِ إِياسِ أَكثرِ نِسائِها، ولا اعْتِبارَ بما نَدُرَ. * * * ومَا نُقِلَ عَن تَرجيحِ الأَكثرِ مِن الفَرقِ بيْنَ أَنْ تَحيضَ قَبْلَ أَنْ تَنكِحَ فتُكَمِّلَ الأقْراءَ وبيْنَ أَنْ تَنْكِحَ ثُمَّ تَحيضَ فيَستمِرَّ نِكاحُها: ضَعيفٌ، لِتبيُّنِ عُذرِ إياسِها فِي الحَالَيْنِ. وليس للشافعيِّ نصٌّ صَريحٌ بذلك، وإنَّما قِيلَ فِي إمْلاءِ ذِكْرِ التَّزويجِ، وهُو ¬
وأما الحمل فإنه تنقضي به [العدة في كل حالة] في الحياة والوفاة بشروط
محتمِلٌّ للتَّصويرِ. وعَودُ الأَمةِ المُستولَدةِ (¬1) أو غَيرِها إلى فِراشِ السيِّدِ يَحتمِلُ أن يُنَزَّلَ على هذا مَنزِلةَ النِّكاحِ. ويَحتمِلُ أن لا ينزَّلَ لأنَّه ليس فيه عَقْدٌ يرتفعُ. ويَحتمِلُ أَنْ ينزَّلَ إذَا وَطِئَ. ويَحتمِلُ الفَرْقَ بيْنَ المُستولَدةِ وغيرِها، فيُنزَّلُ مَنزِلةَ النِّكاحِ فِي المُستولَدةِ. وكلُّ هذا يَدُلُّ على ضَعفِ المُفرَّعِ (¬2) علَيه. * * * وأمَّا الحَمْلُ فإنه تَنقضِي به [العِدَّةُ فِي كلِّ حالةٍ] (¬3) فِي الحياةِ والوَفاةِ بشُروطٍ: * أحدُها: أَنْ يكونَ مَنسوبًا إلى مَن تعتدُّ مِنه، ومِنْه الحَمْلُ المَنفيُّ باللِّعانِ، فإنه منْسُوبٌ إليه لولا اللِّعانُ، فتَنقضِي بِه العِدَّةُ، إلا إذا أَقرَّتْ أنه مِن زِنًى، فلَا تَنقضِي عِدَّتُها به (¬4)، حيثُ اعْترَفتْ بما يُوجِبُ عليها عِدَّةً بعد وضْعِهِ. (¬5) ¬
وأمَّا الحَمْلُ مِن وطءِ الشُّبهةِ، فإنَّه تَنقضِي به عدةُ الشُّبهةِ ثُمَّ تَحتاجُ إلى عِدَّةٍ بعده إنْ صَدَّقَتِ الزوجَ على مُدَّعاه، وإنْ لَمْ تُصدِّقْه فعِدَّتُها بِوَضعِه. وأمَّا ما لا يُنسَبُ إليه، ولا يُحتمَلُ أن يكونَ منْهُ كمَنْ عَقدَ وطَلَّقَ فِي المَجلِسِ أو تَزوجَ مَشرِقيٌّ بمَغْربيةٍ، أو كان صَبيًّا لا يُولدُ لِمِثلِهِ أو مَمْسوحًا (¬1)، فلا يَلحقُ هؤلاء الولدُ قَطْعًا لِعَدمِ الإمْكانِ. وحيثُ وجبتِ العدةُ بوَطءِ الصَّبيِّ، فإنها لا تَنْقضِي بوَضْعِ هذا الحَملِ قَطْعًا. وأمَّا ما يُحتمَلُ أَنْ يكونَ مِنْه بوَطءِ شُبهةٍ مُتقدِّمٍ أوْ مُتأخِّرٍ، والواقعُ فِي الظاهرِ خلافُهُ، كمَنْ وُضِعَ لِدُونِ سِتَّةِ أشهُرٍ مِن العَقْدِ، أوْ لِأكثَرَ مِنْ أرْبَعِ سِنينَ [مِن الطَّلَاقِ، ولو كان رَجعيًّا، أوْ لِأَرْبعِ سِنينَ] (¬2) مِن وَضْعِ الوَلدِ الذي وقَعَ به الطَّلَاقُ على المُعتمَدِ، فإنهُ لا تَنقضِي العِدَّةُ به (¬3)، خِلافًا لِمَا فِي "الشرح" و"الروضة" عنِ ابْنِ الصَّباغِ (¬4). ¬
الشرط الثاني
والنصُّ فِي حَبَلِها (¬1) بوَضعِ الثَّاني مَحمولٌ على مُضِيِّ عدتِها قَبْلَ ذلك مَع رِيبةٍ فيها، وبالوَضعِ تَزولُ الرِّيبةُ، فتحِلّ. وصَحَّح بعضُهم إنِ ادعتْ أنهُ منهُ بشُبهةٍ انْقَضَتْ عدَّتُها به، وإلا فلَا. وظَهرَ مِن ذلك أكثَرُ مِن مُدَّةِ الحَملِ، وهِيَ أرْبَعُ سِنينَ (¬2)، وتُعتبَرُ مِن وقْتِ الطَّلَاقِ فِي الحاضِرِ ومِن وقْتِ الإمْكانِ إلى (¬3) الطَّلَاقِ (¬4) فِي الغَائِبِ؛ نصَّ علَيه فِي "البويطي". * * * * الشرْطُ الثاني: انفصالُ كلِّ الحَمْل الذي تَنقضِي به العِدَّةُ، ولو تَعدَّد كما فِي يَوميْنِ فأكثَرَ. ومتَى تَخلَّلَ بيْنَ الوَلدينِ سِتَّةُ أشهُرٍ فما دُونَها فتَوءَمانِ على المُعتمَدِ، كما فِي "الوَجيز"، ومَن تَبِعَه، خِلافًا لِما فِي "المحرر" (¬5) و"المنهاج" (¬6) وغيرِهما؛ لأنَّ أقَلَّ مُدةِ مُكْثِ الحَملِ فِي البَطنِ سِتةُ أشهُرٍ (¬7). ¬
الشرط الثالث
ولابُدَّ مِن تقدُّمِ لَحظةِ الوَطءِ، ولَمْ تُوجَدْ، وهذه المُدَّةُ تُعتبَرُ بيْنَ الأوَّلِ والآخِرِ، فإنْ لَمْ تُوجَدْ بيْنَ الأوَّلِ والآخِرِ، ووُجِدَتْ بيْنَ الثَّانِي والآخِرِ لَحِقَ الأوَّلانِ (¬1) دُونَ الثالثِ عند البغَويِّ، وفِي "النهاية" أنَّ هذا لا يُتصوَّرُ. ولا بُدَّ مِن لحاقِ (¬2) الثاني وانقِضاءِ العِدَّةِ به مِن انفِصالِه قبْلَ مُجاوَزةِ أَكثرِ مُدَّةِ (¬3) الحَملِ. فإنْ جَاوزَها وبيْنَه وبيْنَ الأوَّلِ دُونَ سِتَّةِ أشْهُرٍ، فهِيَ مُعضِلةٌ مُدةَ أن (¬4) يُتصوَّرَ (¬5) وُدوعُها فإلحاقُهما يؤدِّي إلى إلْحاقِ مَنْ وُضِعَ بعْدَ أرْبعِ سِنينَ، وعَدمُ إلحاقِهِما يؤدِّي إلى عدَمِ إلْحَاقِ مَنْ وضِعَ دُونَ الأرْبعِ، وإلْحَاقُ الأوَّلِ دُونَ الثَّانِي يُؤدِّي إلى إلْحَاقِ أَحدِ التَّوأَمَيْنِ دُونَ الآخِرِ، وهو أحَقُّ ما تَرتَّبتْ (¬6) فيها. * * * * الشرطُ الثالثُ: أَنْ تَضَعَ ما ظَهر فيه خَلْقُ آدميٍّ مِن مُضغةٍ وغيرِها، وإن خَفِي، فإنْ وَضعتْ لَحمًا لا صُورةَ فيه، وقالتِ القَوابلُ (¬7) إنه أصْلُ آدميٍّ، انقضَتْ به العِدةُ، على النصِّ المُعتمَدِ، وإن شَكَكْنَ لَمْ تَنقضِ به العدةُ (¬8). ¬
ولنا حامل بحمل منسوب إلى صاحب العدة فيها غرائب
ولَو ذَهبَ السِّقطُ، وقالتِ المرأةُ: هو مِمَّا تَنقضِي به العدةُ، وأنْكرَ الزَّوجُ، فالقَولُ قَولُها بيَمِينِها (¬1). ولنا حامل بِحَملٍ مَنسوبٍ إلى صاحِبِ العِدَّةِ فيها غَرائِبُ: منها: أنها تَضعُ حَمْلَها، والزَّوجيةُ قائمة، ثم يُفارِقُها زَوجُها، ولا عِدَّةَ علَيها، ولو فَارقَها قبْلَ الوَضعِ فعِدَّتُها بوَضْعِ الحَمْلِ. ومنها: لو مَاتَ عنها لَمْ تنقضِ عدَّتُها بوَضعِ الحَمْلِ (¬2) على الأرْجحِ، بَلْ ¬
تَعتدُّ بأقْصَى الأَجلَينِ مِن الحَملِ. ومُدَّةُ عِدَّةِ الوَفاةِ وهِيَ التي عُقِدَ نِكاحُها، وهِيَ حَامل مِنه مِنْ نِكاحٍ فاسدٍ أو شُبهةٍ ذَكَرَ ذلك فِي الشُّبهةِ، وخَرَّجْتُه فِي النِّكاحِ الصَّحيحِ، ويحتملُ الفَرقَ بانبِناءِ (¬1) نِكاحٍ على نِكاحٍ بِخِلافِ (¬2) غَيرِه. وصُورةُ الأُولَى: أَنْ يُفارِقَها قبْلَ الدُّخولِ. وأمَّا العِدَّةُ عَن وَفاةِ الزَّوجِ فِي النِّكاحِ الصَّحيحِ فَواجبة، دَخلَ بِها أو لَمْ يَدخُلْ بِها، ولا يُؤَثِّرُ ظَنُّ الحُرِّيةِ فِي زِيادتِها، ويَجِبُ على الرَّجعيةِ فيَنتقلُ إليها. فإذا لَمْ تكنْ حامِلًا بِحَملٍ تَنقضِي بِه العِدةُ على ما سَبقَ، ولا فِي صاحِبةِ الغَرائبِ، وكانتْ حُرةً قبْلَ الوَفاةِ، أوْ مَعَها، فإنها تَعْتدُّ بأربعةٍ أشهُرٍ وعَشرةِ أيامٍ (¬3)، ما لَمْ تَرِقَّ فِي أثْناءِ العِدةِ. فإنْ رقَّتْ فيها، والعِدَّةُ لِحَربيٍّ سَقطَ مَا بَقِيَ واسْتُبرِئَتْ. وإنْ كانَتْ لِمُسلِمٍ أو ذمِّيٍّ لَمْ تَسقُطْ عِندَهم معَ تَرتيبِ (¬4) الذِّمِّيِّ على المُسلمِ وأَوْلى بالسُّقوطِ، وعلى ما خَرَّجتُه تَسقُطُ البَقيَّةُ وتُسْتَبَرَأُ. وأمَّا مَن فيها رِقٌّ عند الوَفاةِ فعِدَّتُها شَهْرانِ وخَمسةُ أَيَّامٍ قَطْعًا، وأَغربَ صاحبُ "البَيانِ" فنَقلَ عنِ الشَّيخِ أبي حَامدٍ حِكايةً قولٍ: إنَّ عَدَّتَها كالحُرَّةِ، ¬
ضابط
ولَمْ أَجِدْ (¬1) فِي تَعليقِ الشَّيخِ ولا فِي غَيرِه. ولو أُعْتِقتْ فِي أثْناءِ عِدَّتِها ففِيها خِلافُ البَائنِ، وقدْ سَبقَ. وإذَا عَتقَتِ (¬2) الرَّجعيةُ ثم مَاتَتْ قبْلَ انقِضاءِ عِدَّتِها اعتدَّتْ عِدةَ حُرةٍ قَطْعًا. * * * * ضابطٌ: الأشهُرُ هُنا، وفِي كلِّ مَوضعٍ هِيَ الهِلاليةُ، إلا فِي الأشهُرِ السِّتةِ المُعتبَرةِ فِي أقَلِّ مُدةِ الحَمْلِ، فإنَّها عَدديةٌ عِندنَا قَطْعًا (¬3)، وكذلك أشهُرُ المُبتدَأةِ غيرِ المميِّزةِ، وفِي المُتحيِّرةِ على ما سَبقَ، وحيثُ لمْ يُعرف الهِلالُ فالعِبْرةُ بالأيَّامِ. * * * ولَو طَلَّقَ إحدى امْرأتَيهِ ومَاتَ، ولَمْ تُعرَفِ المُطلقةُ؛ فَمَن كانَتْ حامِلًا (¬4) اعتدَّتْ بالحَملِ على ما سَبقَ، وحيثُ لا حمْلَ ولا دُخولَ فبِأَشهُرِ الوَفاةِ. وكذا إنْ دَخلَ، ومَضتْ عِدةُ الطَّلَاقِ فِي الحَياةِ حَيثُ نوى مُعَينةً، ولَمْ يَذكرُوه، وكذا إذَا لَمْ تَمضِ فِي ذَاتِ الأَقراءِ الرَّجعيةِ وذَاتِ الأشهُرِ مُطْلقًا. ¬
كذا أَطْلَقُوه (¬1)، وهو مُقيَّدٌ (¬2) بِغيرِ (¬3) الأمَةِ البَائنِ تفْريعًا على أنَّ (¬4) عِدَّتَها للطلاقِ ثَلاثةُ أشهُرٍ، أو كان ذلك فيمَنْ ظَنَّ حُرِّيَّتَها، ولِلْوَفاةِ شَهْرانِ وخَمسةُ أيَّامٍ، فإنها تَعتدُّ بالأقْصَى مِن عِدَّة الوَفاةِ، وبَقيةِ أشهُرِ الطَّلَاقِ إذا نوى مُعيَّنةً، فإنْ أَبهمَ اعتدَّتْ بِثَلاثةِ أشْهُرٍ مِن الوَفاةِ. والبائِنُ ذاتُ الأَقراءِ تَعْتدُّ بأقْصَى الأَجَلَيْنِ مِنْ أشهُرِ الوَفاةِ، [والباقي مِن الأقْراءِ فِي نِيَّةٍ مُعينةٍ، وفِي الإِبهامِ بأَقْصى الأجَلَينِ مِنْ أشهُرِ الوَفاةِ] (¬5) والأَقراءِ، وهِيَ هُنا مِن المَوتِ، خِلافًا لِمَا أَطْلقَه فِي "المنهاج" (¬6) تَبَعًا للمُحرَّر (¬7) مِنْ أنَّ الأَقراءِ مِن الطَّلَاقِ. * * * ومَنِ ارْتابَتْ مِن حمْلٍ غَيرِ زِنًى فِي عِدَّةِ أَقراءِ أو أشهُرٍ، ومَضتِ العِدةُ والرِّيبةُ قائِمةٌ، لَم تَنكِحْ نكاحًا يُعتبَرُ فِي صِحَّتِه انقِضاءُ تِلكَ (¬8) العِدَّةِ حتى تَزولَ الرِّيبةُ. فإنْ خالفَتْ أَساءَتْ، وجَزَمُوا بإِبطالِ النِّكاحِ حَالًا، وظَاهرُ نَصِّ "الأم" (¬9) ¬
و"المختصر" أنَّا لا نُبطِلُه فِي الحالِ (¬1) [بَلْ يُتوقَّفُ للتَّبيُّنِ، ويمنعُه مِن الدُّخولِ حتَّى يَتبيَّنَ] (¬2) أَنْ ليس حَمْلٌ. فإنْ بَرِئتْ مِن الحَملِ فالنِّكاحُ ثَابِت، وإنْ وضَعتْه أبطَلْنَا النكاحَ. ومَا جَزمُوا به له وَجْهٌ، وظاهرُ النَّصِّ أرجحُ عَملًا بما ظَهرَ مِن انقِضاءِ العِدَّةِ. وإنِ ارْتابَتْ بعدَ انقِضائِها، فالأَوْلَى أن لا تَنكِحَ حتَّى تَزولَ الرِّيبةُ، كذا قالُوه، وظَاهرُ النَّصِّ يَقتضِي المَنعَ. ¬
فإنْ خالَفَ لَم يَبطُلِ النِّكاحُ على المَذهبِ، ويُتوقَّفُ للتَّبيُّنِ (¬1) كما سَبقَ. وإنِ ارْتابَتْ بعد النِّكاحِ لَمْ نُبطِلْه، والأَوْلَى أَنْ يُمنعَ مِن مُعاشَرتِها حتَّى تَزولَ الرِّيبةُ. فإنْ وضعتْ لِدُونِ سِتَّةِ أَشهُرٍ مِن النكاحِ تَبَيَّنَّا بُطلانِه؛ كذا قالُوه، وعِندِي أنَّ السِّتةَ أَشهُرٍ فِي ذلك (¬2) كدُونِها لِمَا تَقدَّمَ. وأنَّه لا يَبطُلُ النِّكاحُ إذا تَوافَقَ صاحِبُ العِدَّةِ والمُعتدَّةُ على أنَّه (¬3) مِنْ زنًى ونَفاهُ باللِّعانِ. وإنِ ارْتابَتْ مَن وَضَعَتْ مِن بَقاءِ حَركةٍ تَجدُها وبمحَتْ، فالنِّكاحُ مَوقُوفٌ؛ نَصَّ علَيه فِي "الأُم"، وهِيَ كمَنِ ارْتابَتْ بعْدَ انقِضاءِ عِدَّتِها فيما (¬4) سَبقَ، ويَحتَمِلُ أن تكونَ كالأُولى. ولَو رَاجعَ المُطلِّقُ زَمنَ التَّوقُّفِ فِي الصُّوَرِ كلِّها، وُقِفَتِ الرَّجعةُ؛ نَصَّ عليه فِي "الأُم". * * * ومَن تعلَّق بها عِدَّتانِ (¬5) فأكثرُ لِشَخصٍ واحدٍ ثَبتَ التَّداخُلُ، وسواءٌ ¬
أكانَتْ (¬1) مِنْ جِنسٍ أوْ مِنْ جِنسَينِ على الأصَحِّ: فالأوَّلُ حَيثُ لا حمْلَ تَعتدُّ به فيمَنْ شَرعَتْ فِي عِدَّةِ فِراقِ زَوجٍ فِي حياتِه (¬2)، ثُمَّ وَطِئها مَرَّةً أوْ مِرارًا (¬3)، وهِيَ رَجعيةٌ أو مَع الجَهلِ بالتَّحريمِ فِي البَائنِ. والتَّداخلُ أنَّها تَعتدُّ لِلآخِرِ (¬4) بِمَا (¬5) يَجِبُ علَيها بسَبَبِه مِنْ أَقراءٍ أوْ أشهُرٍ، ويَدخلُ فيه بَقيَّةُ (¬6) مَا سَبقَ، فالبَقيَّةُ مُشترَكةٌ بيْنَ السابِقِ والمُتأخِّرِ. ولو مَضَى شَهْرٌ فِي الحُرَّةِ التي لَمْ تحِضْ، ثُمَّ وَطِئ، وحَدَثَ الحَيضُ، انفَردَ الماضِي بِشَهْرٍ، واشَتركَ مَع الحادِثِ فِي قَرءَينِ، وانَفردَ الوَطءُ بقَرءٍ، وتَبعَّضَتِ الأُولى مِن أشهُرٍ وأَقْراءٍ. وكذا لو فَارقَ مَن تَحيضُ فاعتدَّتْ بِقَرءٍ، ثُمَّ وَطِئ وأَيِسَتْ، فإنَّه يَنفرِدُ الماضِي بقَرءٍ، ويَشترِكُ مَع الحَادثِ فِي شَهريْنِ، ويَنفرِدُ الحَادثُ بشَهْرٍ. ولو أَيِستْ، فاعتدَّتْ بِشَهرٍ، ثُمَّ وَطئَ (¬7)، وحاضَتْ، فتَعْتَدُّ لِلأَخيرِ بالأقْراءِ مِنها قَرءانِ للمَاضِي، وقَرءٌ لِلْحادِثِ. ولو اعتدَّتْ مَن لَم تحِضْ بشَهرٍ، ثُمَّ وَطِئها، وحاضَتْ، فاعتدَّتْ بقَرءٍ، ثُمَّ وَطِئها وأيِسَتْ، فإنها تَعتدُّ بثلاثةِ أشهُرٍ، فالأولُ منها مُشتَرَكٌ بيْنَ الثلاثةِ، ¬
والثاني مُشتَرَكٌ بيْنَ الثاني والأخِير، والثالثُ مُختصٌّ بالأخِيرِ. ومَا ذَكرْنَاه هُو قَضيَّةُ إطْلَاقِ التَّداخُلِ الذي دخَلَتْهُ المُسامَحةُ، ومَنْ نَظرَ إلى ما يُوجِبُه السبَبُ، وأَبْطلَ التَّبعيضَ، لَمْ يَتأْتَّ عِنْده ذلك، وهُو خِيارٌ له وَجْهٌ، والأرْجحُ خِلافُه، لِوُجودِ عِدَّةٍ كامِلةٍ غَيرِ مُبعضةٍ. ولا يُعرفُ التَّبعيضُ على الفَتوى إلا فِي التَّداخُلِ [على ما (¬1) رجَّحْناهُ وما سَبقَ على وَجْهٍ هُو فِي غَيرِ التَّداخُلِ] (¬2). وإنْ كانتَا (¬3) مِن جِنْسَينِ كحَملٍ مِن نِكاحٍ، أوْ مِن حَادثٍ بِشُبهةٍ، فالأصحُّ التداخلُ (¬4)، فتَنقضِيانِ بالوَضعِ، ولا أثَرَ لِمُضيِّ الأشهُرِ مَع الحَملِ، ولا لِرُؤيةِ الدَّمِ على الحَملِ، وإن جَعلْناهُ حَيْضًا. ومَا وَقعَ فِي "الروضة" تَبَعًا (¬5) للشرحِ مِن قولِه: "إنْ جَعلْنَاهُ حَيْضًا انْقضَتِ العِدَّةُ بالأَقْراءِ مَعَ الحَملِ على الأصَحِّ" إنَّما هو (¬6) تَفريغ على عَدَمِ التَّداخُلِ (¬7)، ولَزِمَ مِنْ فَهْمِ خِلافِ ذلك أوْهَامٌ كَثيرةٌ تَتَعلَّقُ بِالرَّجعةِ، ¬
والمِيراثِ، والنَّفقةِ، ولحاقِ الطَّلَاقِ، وغَيرِ ذلك، وعلى (¬1) عَدمِ التداخُلِ تَنقضِي بالأشهُرِ أيضًا فيمَنْ تَعتدُّ بالأشهُرِ. ولو أحْبَلَ خَلِيةً بشُبهةٍ، ثم نكَحَهَا، ووَطِئَهَا، ثُم فارقَهَا، فلا تداخُلَ على الأرْجَحِ، فتَعتدُّ بعْدَ وَضْعِهِ للفِراقِ (¬2). ولَوْ رَأَتِ الدَّمَ على الحَمْلِ، وجَعلْنَاه حَيْضًا؛ انقَضتْ به عِدَّةُ الفِراقِ على الأرْجحِ، وكذلك بالأشهُرِ. ¬
ضابط
* ضابطٌ: لا تَنقضِي العِدَّةُ بالأَقْراءِ أوِ الأشهُرِ مع وُجودِ الحَمْلِ على الأرْجَحِ إلا فِي هذا، وحَمْلِ الزِّنى، وطردَه القاضِي حُسينٌ فِي العِدتَينِ مِن شَخصَينِ -يعني؛ حَيثُ لا تَداخُلَ- وذكَرَه فِي الأَقْراءِ، وهو القِياسُ؛ خِلافًا لِمَنْ ضَعَّفَه، ويأتي مِثلُه فِي الأشهُرِ. * * * وأمَّا ما تعلَّقَ مِن العِدَدِ لِشخصَينِ (¬1) فأكثَرَ فِي أَهْلِ الحَربِ، فإنه يُحكَمُ فيها بالتداخُلِ على النَّصِّ فِي "الأُم" فِي تَفريعِ نِكاحِ أهْلِ الشِّركِ (¬2). ونَسبَه البَندَنيجِي إلى "الجامع الكبير" وصحَّحَه هو والبغويُّ، فهُو المُعتمَدُ (¬3)؛ خِلافًا لِمَنْ رَجَّحَ عَدمَ التَّداخُلِ، ولِمَنْ رَجَّحَ سُقوطَ بَقيةِ الأوَّل. ولو أنَّ الأولَ حَربيٌّ، والثاني مُسلِمٌ أو ذِمِّيٌّ، دخَلتْ بقيةُ الأوَّلِ فِي عدَّةِ الثاني، بخِلافِ (¬4) العَكسِ. وحيثُ كانتِ المَرأةُ مُسلِمةً أو ذِمِّيَّةً فلا تَداخُلَ، وعلى التَّداخُلِ لا تَنقضِي ¬
العِدَّةُ بالأَقْراءِ على الحَمْلِ كمَا سَبقَ، وأمَّا فِي غَيرِ ذلك فلا تَداخُلَ على المَذهبِ، فتُقدَّمُ عِدَّةُ الحَملِ (¬1) وإنْ تأخَّرَ سَببُها. وحيثُ لا حَمْلَ تَتَقدَّمُ عِدَّةُ الطَّلَاقِ، وإنْ تَأخَّرَ عَن عِدَّةِ الشُّبهةِ، وفِي غَيرِ ذلك يُقدَّمُ السابِقُ. وتَنقطِعُ عِدةُ الطَّلَاقِ فِي غَيرِ الحَملِ (¬2) بالوَطءِ، لا بِمُجرَّدِ العَقدِ الفَاسِدِ، وتَعودُ إلى عِدَّةِ الطَّلَاقِ مِن التَّفريقِ، وفِي الحَامِلِ مِن الوَضعِ، ولا يُحسَبُ زَمَنُ الافتِراشِ بعْدَ الوَطءِ عنْ عِدَّةٍ بِغَيرِ الحَملِ، فإنْ لَم يَطأْ لَمْ يَمنع الاحتِسابَ على الأصَحِّ. ومُخالطةُ صَاحبِ العِدَّةِ بالوَطءِ غَير الزِّنى والاستِفْراش مَعَه، حيثُ لا حَملَ مانعٌ مِن انقِضاءِ عِدُّتِه (¬3)، فإنْ لَمْ يَطأْ لَم تَمنعْ مخالطتُه الانقضاءَ فِي البائِنِ ولا فِي الرَّجعيةِ على الأصَحِّ المُعتمَدِ الذي قالَه المُحقِّقونَ، ولا نَصَّ للشافعيِّ فِي المَسألةِ، وإطلاقاتُهُ تُوافِقُ ما ذَكرْنَاهُ، وكذَا إطْلاقُ العِراقِيِّينَ (¬4). ومَنْ صَحَّحَ عَدمَ الانقِضاءِ فِي الرَّجعيَّةِ لَمْ يَأتِ بحُجَّةٍ قَويَّةٍ (¬5) ولا شَاهدٍ مِنْ كَلامِ الشَّافعيِّ، فلا يُفتَى به، وعليه تصِحُّ رَجعتُهُ وطلاقُهُ بعْدَ مُضيِّ صُورةِ ¬
العِدَّةِ، ولَمْ يَقُلْ أَحدٌ بعْدَ مُضِيِّها أنَّه يَقَعُ طَلاقُهُ، ولا تَصِحُّ رَجْعتُه، وما ذُكِرَ فِي "الرَّوضةِ" (¬1) وأَصْلِها و"المنهاج" (¬2) فِي ذلك وَهْمٌ. ومَا الذِي يُقالُ فِي تَزويجِ أُختِها وأَرْبعٍ سِواهَا ونَفقتِها وانتِقالِها لِعِدَّةِ الوَفاةِ، وكلُّ ذلك يَدلُّ على خَطإِ التَّفصيلِ المَذكورِ. ولَو عاشَرَها غَيرُ صَاحبِ العِدَّةِ بِشُبهةٍ مِن غَيرِ وَطءٍ انقَضتْ على الأرْجَحِ، ولَو كانَ مَالكَها، فإنْ وَطِئَ لَمْ يُحسَبْ زَمنُ الوَطءِ، ولا زَمنُ الاستِفراشِ (¬3) بَعْدَه، ومتَى وَضعتِ الحملَ انقضَتِ العدةُ قَطْعًا. * * * ¬
فصل في الإحداد وسكنى المعتدة وزوجة المفقود
فصل في الإحداد وسكنى المعتدة وزوجة المفقود يَجِبُ الإحْدادُ على المُعتدَّةِ عَن (¬1) وَفاةِ زَوجِها (¬2). فلَوْ مَاتَ وهِيَ حَاملٌ بوَطءِ شُبهةٍ مِن غَيرِه، وقُلْنا "لا تُحسَبُ المُدةُ معَ الحَملِ" فلَا إِحْدادَ علَيها حتَّى تَضَعَ. وإنْ قُلْنَا "تُحسَبُ" وَجَبَ الإحْدادُ مِنَ الوَفاةِ إلى أَنْ تَنقضِيَ عِدَّةُ الوَفاةِ قَبْلَ الوَضعِ أو بَعْدَه. وهذَا الأَخيرُ يَجيءُ فِي الحَامِلِ المُعتدَّةِ بأَقْصَى الأَجَلَيْنِ، وأمَّا مَن تَعتدُّ بِأقْصاهُما للاحتِياطِ فلَا إِحْدادَ علَيْها، إذْ لَمْ يَتعينْ أنَّها للْوَفاةِ، ولَا المُرتابةُ لانقِضاءِ العِدَّةِ ظَاهرًا. ¬
وزَمَنُ الافتِراشِ الذي لا يُحسَبُ مِن عِدَّةِ الوَفاةِ [لا إِحدادَ علَيها فيه. وإذَا أَحْبلَتْ فِي أَثناءِ عِدَّتِها بِشُبهةٍ، حَيثُ لا تَنقطعُ عِدَّةُ الوَفاةِ فيه] (¬1)، فالإِحدَادُ مُستمِرٌّ، وحيثُ انقطَعتْ: فلا إِحدادَ حِينئِذٍ. ولا يَجِبُ الإحدادُ على البَائِنِ على الجَديدِ، ولا على الرَّجعيةِ قَطْعًا، ويُستحبُّ على الأرْجَحِ، فإذا ماتَ قبْلَ انقِضاءِ عِدَّةِ الرَّجعيةِ انتَقلَتْ لِعدَّةِ الوَفاةِ وَوجَبَ حينئِذٍ الإحْدادُ. ولا إِحدادَ على مُعتدَّةٍ مِن وَطءٍ بِشُبهةٍ أوْ مُستبرأَةٍ (¬2). ويَحرُمُ الإحدادُ بمُجردِ مَوتِ قَريبٍ ونحوِه فوقَ ثَلاثةِ أيَّامِ. ولا يَحرُمُ على أُمِّ الوَلدِ زَمنَ الاستِبراءِ الإحدادُ بِمَوتِ السيِّدِ ولَا بإِعْتاقِه إيَّاها لأنَّها تُشبِهُ الزَّوجةَ، ولا يَقْوى (¬3) الشَّبهُ للإيجابِ، وكذلك المُعتدَّةُ عنِ الشُّبهةِ. وما وَقعَ فِي "الروضة" (¬4) وأَصلِها و"المنهاج" ممَّا يُخالِفُ ذلك، فلَيْسَ بِمُعتمَدٍ. ¬
ويجِبُ الإحدادُ على الكَافِرَةِ، وغَيرِ المُكلَّفةِ، ويَمنعُها الوليُّ ممَّا تَمتنِعُ (¬1) منه المُكلَّفةُ (¬2). ويَسقُطُ الإحْدَادُ بِمَوتِ الحَادِّ. * * * والإِحْدادُ: ترْكُ التزيُّنِ بِوَاحِدٍ مِن خَمسةٍ مَخصوصةٍ، وهي: ثيابٌ وحُلِيٌّ وكحلٌ وخِضابٌ ودُهنٌ وتطيُّبٌ. وفِي الثّيابِ زِينتانِ: فأمَّا التي لَمْ يَدخُلْ علَيها شَيءٌ مِن غَيرِها فلَا يَحرُمُ، ومِن ذلك الإبْرَيْسِمُ (¬3)، نَصَّ عليه فِي "الأُمِّ" (¬4) وفِي "الرافعي" لم يُنْقَلْ فيه نصٌّ عنِ الشَّافعيِّ. وأمَّا التي صُنِعتْ (¬5) للزِّينةِ أو فيها شَيْءٌ فَحرامٌ معَ الغِلَظِ أيضًا، نَصَّ عليه فِي "الأُم". ¬
وأمَّا ثَوْبُ العَصْبِ ففِي "الأُم": يَحرُمُ ولو كان غَلِيظًا. ونَقَلَ ابنُ بِشرِي عنِ القَديمِ يُجْتنبُ (¬1) العَصْبُ إلا عَصْبًا غَلِيظًا. وما ذَكرَه (¬2) فِي "الأُم" يَحتاجُ إلى جَوابٍ عما صَحَّ فِي الخَبَرِ مِن حديثِ أمِّ عطيةَ وفيه: "لا نَلْبَسَ ثَوْبًا فَصْبُوغًا، إِلَا ثَوْبَ عَصْبٍ" (¬3). وهذا الاستِثْناءُ ثَابتٌ فِي "الصحِيحَينِ" مِن حَديثِ هِشامِ بْنِ حَسَّانَ، عنْ حَفصةَ بنتِ سِيرينَ، عَنْ أُمِّ عَطيةَ عنِ النَّبيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- (¬4). وثَابتٌ فِيهما مِنْ حَديثِ أَيُّوبَ، عنْ حَفْصةَ، عنْ أُمِّ عَطيةَ: كُنَّا نُنهَى، وفيه: "إلا ثَوبَ عَضبٍ" (¬5). ولا يُعارِضُ هذا روايةُ مُحمَّدِ بْنِ المِنهالِ، عَنْ يَزيدَ بْنِ زُريعٍ، عَن هِشامٍ: ¬
"وَلا ثَوب عَصْب" (¬1) لأنَّ عَباسَ بْنَ الوَليدِ رَواه عن يَزيدَ: "إلَّا ثَوْبَ عَصْبٍ". وأمَّا رِوايةُ: "إلَّا ثوبًا مَغْسُولًا" (¬2) فهيَ رِوايةٌ مُخالِفة للرِّواياتِ كلِّها، والمُعتمَدُ رِوايةُ الجَماعةِ. فإمَّا أَنْ يَكونَ ذلك لَمْ يَبلُغِ الشَّافعيَّ، أو بَلَغهُ وقامَ عِندهُ ما يَمْنعُ مِن العَملِ به: مِن تَعارضٍ ورُجوعٍ إلى أَصْلٍ وقِياسٍ، أو حَمَلهُ على الأَسْودِ كُلِّه. والمُعتَمَدُ الفَتوى بالخَبَرِ. والعَصْبُ على هذا بَياضٌ وسَوادٌ، وذلك غَيْرُ مَمْنوعٍ، خِلافًا للمَاوَرْديِّ وغَيرِه. ¬
وأما الحلي
ومُقتضَى نَصِّ "الأُم" أنه يَحرُمُ ما صُبغَ قَبْلَ النَّسيجِ، وأَجازَ أبُو إسْحاقَ ذلك، وهو قَضيةُ نصِّ البُويطيِّ، وقال الخَطَّابيُّ: هو أَشْبَهُ بالخَبَرِ. وأمَّا ما صُبغَ لِغَيرِ الزِّينةِ مِن أَسْودَ وكُحليٍّ فلا يَحرُمُ، ونصَّ فِي "الأُم" أنَّ الأخْضَرَ غيرَ الصافِي يُقارِبُ السَّوادَ فلا يَحرُمُ (¬1). وفِي "الروضة" (¬2) تَبَعًا للشَّرحِ وغَيرِه: أنَّ الأخْضَرَ أو الأزْرَقَ إنْ كانَ برَّاقًا حَرُمَ، فإن حُمِلَ البرَّاقُ على الصَّافِي وَافَقَ النصَّ. ولا يَحرُمُ الطرازُ مِن الحَريرِ أو المَصبوغُ بمَا لا يمنعُ منهُ وكان لَونُه كَلَونِ الثَّوبِ، وإلا فيحرُمُ لأنَّه زِينةٌ. وكذا مَا كانَ فِي تَطريزِ صَدرٍ وجَمعِه وغيرِها. ولَو لَبِستْ ما مُنِعَتْ منه لَيْلًا لِلإِحْرازِ أو نهارًا تَحْتَ ثَوبٍ غَير مَمنوعٍ مِنه، فجَائِزٌ. ويَحرُمُ علَيْها أَنْ تَلْبسَ المَمنوعَ مِنه نَهارًا ظَاهرًا ولو كانَتْ وَحْدَها. * وأمَّا الحُلِيُّ: ففِي حَديثِ أُمِّ سَلَمةَ زَوجِ النَّبيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- عنه صلى اللَّهُ عليه ¬
وأما قلادة العنبر
وسلَّمَ أنه قالَ: "المُتوفَى عَنْها لا تلبَسُ الحُلِيَّ" (¬1). ولَمْ يِتعرَّضْ له الشافعي إلَّا فِي "البويطي" ففيه: ولا تَلْبَسُ شَيئًا مِن الحُلِيِّ خَاتمًا ولا غُيرَه (¬2). وهذا يَحتمِلُ أنَّه أخَذَه مِنَ الخَبَرِ أو القِياسِ على ما منعَ مِنه للزِّينةِ. ويَحرُمُ التَّحلَي باللاَلئِ على الراجِحِ؛ لأنَّ المَدارَ هُنا على مَعْنى الزِّينةِ لا على عَينِ (¬3) الذَّهبِ والفِضَّةِ (¬4). ويَحرُمُ المُمَوَّهُ بِوَاحدٍ مِنْهما والمُشابِهُ له، وكذا إنْ عُرِفَ بِغَيرِ تأمُّلٍ فِي حقِّ مَن تَتزيَّنُ بِه. * وأمَّا قِلادةُ العَنبَرِ (¬5): ففِيها زِينةٌ وطِيب، ولَو لَبِستْه لَيْلًا لِلإِحرازِ لَمْ تُمنعْ مِنه، وإلا مُنِعتْ إذا كان ظاهرًا. * وأمَّا الكحْلُ: فقدْ صَحَّ فِي حديثِ أُمِّ سَلَمةَ وأُمِّ عَطيةَ -رضي اللَّه عنهما- نَهيُ النَّبيِّ ¬
-صلى اللَّه عليه وسلم- عنْهُ. وروَى الشَّافعيُّ فِي "الأُم" حَديثَ أُمِّ سَلمةَ، وقال: "كلُّ كحْلٍ كانَ زِينةً، فلا (¬1) خَيْرَ فيه، لَها مِثل الإثمِدِ وغيرُهُ مما يَحْسُنُ موقعُهُ فِي عينِها" (¬2). ولَمْ يُفرِّقِ الشافعيُّ بيْنَ أَنْ يَكونَ فيه طِيبٌ أو لا يَكونَ، ولا بيْنَ البَيْضاءِ والسَّوداءِ. وفِي "النِّهاية" (¬3) نصَّ الشافعيُّ فِي بَعْضِ المَواضِعِ على تَجْويزِ اكتِحالِ السَّوداءِ بالإثمِدِ، قال: وأَجْمعَ الأصْحابُ على أنَّ ذلك فِي العَرَبيَّاتِ؛ لأنَّهُنَّ يَغلُبُ على ألْوانِهنَّ السَّوادُ، فلا يَتبيَّنُ الإثِمِدُ فِي أعينِهِن. وهذا الذي ذَكرَهُ فِي "النهاية" مِن النصِّ وإجْماعِ الأصْحابِ هو مَوجودٌ فِي "إبانة الفوراني" و"تعليق القاضي حسين"، وهو مُخالِفٌ لِلْمَشهورِ المَعروفِ مِن التَّسويةِ فِي الإثمِدِ بيْنَ البَيْضاءِ والسَّوداءِ (¬4). ¬
ويُوجَدُ فِي السَّوداءِ تَحسين بالكحْلِ بالإثمِدِ، ويَحرُمُ أَنْ تَستعمِلَه فِي الحَاجِبِ. * وأمَّا الكحْلُ الأصْفَرُ -وهو الصَّبْرُ- فحَرامٌ على السوداءِ، وكذا على البَيْضاءِ (¬1) على الأصحِّ، لأنه يُحَسِّن العَيْنَ (¬2). * وأمَّا الكحْلُ الأبيَضُ فإنه لا يحرُمُ. ويحرُمُ أن تَطلِيَ الوَجْهَ بما يُحسِّنُهُ. ويُستثنَى مِن الطِّيبِ صُورةٌ مَرويةٌ فِي الخَبرِ المَشهورِ الصَّحيحِ (¬3)، لَمْ يَتعرَّضُوا لَها، وهيَ: ما إذَا طَهُرَتْ مِن حَيضِها، ففِي الحديثِ: "وَلا تَمَسَّ طِيبًا، إِلَا عِنْد (¬4) أَدْنَى طُهْرِهَا إِذَا [اغتَسلَتْ مِن حَيضِها] (¬5) نُبْذَةً (¬6) مِنْ قُسْطٍ وَأَظْفَارٍ (¬7) " (¬8). . . انتهى. ¬
ويلحقُ انقطاعُ دَمِ النِّفاسِ بما ذُكِرَ فِي الحَيضِ، ولَمْ يَذكرُوه. وإذا احْتَاجَتْ إلى الكُحلِ للرَّمَدِ اكتَحَلَتْ لَيْلًا ومَسحتْه نَهارًا. ويحرُمُ أَنْ تَختضِبَ (¬1) بحِنَّاءٍ ونَحوِهِ فيمَا ظَهرَ مِن البَدنِ كالوَجْهِ واليَدَينِ والرِّجلَيْنِ، ولا يَحرُمُ فيما تَحْتَ الثِّيابِ. والغَاليةُ إنْ ذَهبَ رِيحُها فهِيَ كالخِضابِ، وأمَّا الرَّأسُ فإن غَالِبَها تَحْتَ الثِّيابِ، وهِيَ فِي حَديثِ أُمِّ سَلَمةَ فِي أبي دَاودَ والنَّسائيِّ: "وَلا تَمْشِطِي بِالطِّيبِ وَلا بِالحِنَّاءِ، فَإِنَّهُ خِضَاب"، قَالَتْ: قُلْتُ: بِأَيِّ شَيْءٍ أَمْتَشِطُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: "بِالسِّدْرِ تُغَلِّفِينَ بِهِ رَأْسَكِ" (¬2). * وأما تَجْعِيدُ الْأَصْدَاغِ، وَتَصْفِيفُ الطُّرَّةِ، ففِي "النهاية" (¬3) لا نَقْلَ فيه، ¬
قال: ولا يمتنعُ أن يكونَ كالحُلِيِّ. * وأمَّا دهْنُ الرَّأسِ فحَرامٌ، بِكُلِّ دُهنٍ، وإنْ لَمْ يَكنْ فِي الدُّهنِ طِيبٌ؛ لأنه زِينةٌ. ويَجوزُ لَها دهنُ البَدَنِ ممَّا لا طِيبَ فيه كالزَّيتِ ونحوِه (¬1). ويحرُمُ عليها أَكْلُ طَعامٍ فيه طِيبٌ ظَاهرٌ (¬2). ويَحِلُّ لها دُخولُ الحَمَّامِ، وقلْمُ أظفارٍ، وإزالةُ شَعَرِ العَانةِ، والأوْساخِ، فإنَّها ليْسَتْ مِن الزِّينةِ (¬3). ولَو تَركتِ الإحْدادَ فِي العِدَّةِ أو بعضِها عَصَتْ وانقضَتْ عدَّتُها (¬4). * * * * وأما سُكنَى المُعتدَّةِ فتَجِبُ للرَّجعيةِ فِي حالِ عدَّتِها مِن المُطلِّقِ بالحَمْل وبِعيرِهِ (¬5). فإنْ كَانَتْ فِي عِدَّةِ غَيرِ الطَّلَاقِ لِغَيرِ المُطلقِ، فلا سُكْنى لَها على المُطلِّقِ حَتى تَدخُلَ فِي عِدَّةِ الرَّجعةِ. ¬
وإذا قُلْنا: لا تَنقضِي عِدةُ الرَّجعيةِ (¬1) التي يُعاشِرُها المُطلِّقُ فلَها السُّكْنَى؛ لأنَّها فِي حُكْمِ الزَّوجةِ وتَجِبُ لِلْبائِنِ بخُلعٍ أو استيفاءِ العَدَدِ أو باللِّعانِ. وأمَّا فُرقَةُ الفَسخِ بِعَيبٍ أوْ إسلامٍ أو رِدَّةٍ أو رَضاعٍ أو بِخُلْفِ شَرْطٍ أو عِتْقٍ ففِي ذلك طُرُقٌ واضْطِرابٌ (¬2). وفِي "مختصَرِ المُزنيِّ" (¬3) في (باب العيب فِي المنكوحةِ) [ما نصُّه] (¬4): ¬
فإن اخْتَارَ فِراقَها قَبْلَ المَسيسِ فَلَا (¬1) مَهْرَ (¬2)، وإنِ اختارَ فِراقَها بعْدَ المَسيسِ فلَها مَهْرُ المِثلِ بالمَسيسِ، ولا نفقةَ عليه فِي عدَّتِها ولا سُكنى. انتَهَى. ونصَّ على ذلك فِي "الأُم" (¬3) فِي التَّرجمةِ المَذكورةِ. وفِي "الأُم" فِي تَرجمةِ النَّفقةِ فِي العِدَّةِ: [إذَا أَسْلَمتِ المَرأَةُ قبْلَ الزَّوجِ ثُمَّ أَسْلمَ الزَّوجُ وهِيَ فِي العِدَّةِ، فهُما على النِّكاحِ، وإنْ أسْلَمَ الزَّوج بعْدَ انقِضاءِ العِدَّةِ انْقَضتِ العِصْمةُ بيْنَهُما، ولَها علَيْه النَّفقةُ فِي العِدَّةِ] (¬4) فِي الوَجْهَينِ جَميعًا، لأنَّها كانتْ مَحْبوسةً (¬5) علَيْه، ثم قال: ولَوْ كانَ الزَّوْجُ هو المُسلِمَ وهِي المُتخلِّفةُ عنِ الإسلام (¬6)، ثُمَّ أسْلمَتْ فِي العِدَّةِ أو لَمْ تُسلِمْ حتَّى تَنقَضِيَ لَمْ يَكنْ لَها نَفقة فِي أَيَّامِ كُفرِها، لأنَّها هِيَ (¬7) المانِعةُ نَفْسَها مِنه. وفِي تَرجمةِ (مال (¬8) المُرتدِّ وزَوجِه) (¬9) مِن "كتاب المرتد": (وَلَوْ كَانَتْ هِيَ الْمُرْتَدَّةُ كَانَ الْقَوْلُ فِيمَا (¬10) [تَحِلُّ بِهِ وَتَحْرُمُ عَلَيْهِ وَتَبِينُ ¬
مِنْهُ وَتَثْبُتُ مَعَهُ] (¬1) كَالْقَوْلِ لَوْ كَانَ هُوَ الْمُرْتَدُّ وَهِيَ الْمُؤْمِنَةُ (¬2)، لَا تخْتَلِفُ فِي شَيْءٍ، إلَّا أَنَّهَا إذَا ارْتَدَّتْ عَنْ الأيمَانِ فَلَا نَفَقَةَ لَهَا فِي مَالِهِ؛ فِي عِدَّةٍ وَلَا غَيْرِهَا لِأنَّهَا هِيَ الَّتِي حَرَّمَتْ فَرْجَهَا عَلَيْهِ. وَكَذَلِكَ لَوْ ارْتَدَّتْ إلَى نَصْرَانِيَّةٍ أَوْ يَهُودِيَّةٍ (¬3) [لَمْ تَحْلُلْ لَهُ لِأنَّهَا لَا تُتْرَكُ عَلَيْهَا] (¬4) وَإِن (¬5) ارْتَدَّ هُوَ أَنْفَقَ عَلَيْهَا فِي عِدَّتِهَا لِأنَّهَا لَمْ تَبِنْ مِنْهُ إلَّا بِمُضِيِّ عِدَّتِهَا). وقولُه -رضي اللَّه عنه-: "لِأنَّهَا لَمْ تَبِنْ مِنْهُ إلَّا بِمُضِيِّ عِدَّتِهَا"؛ يَقتضِي أنَّها مُلْحَقة بالرَّجعيةِ، ولَمْ أَرَ مَنْ صَرَّحَ بِذلك. ويَظهَرُ مِمَّا قَدَّمناهُ مِن النُّصوصِ (¬6) أنَّ الذي فِي "المحرر" و"المنهاج" (¬7) و"الشرح" و"الروضة" (¬8) فِي ذلك غَيرُ مُعتمَدٍ: فإنَّ فِي "المحرر" (¬9): الأظْهَرُ أنَّ المُعتدَّةَ عنْ سَائِرِ أسْبابِ الفِراقِ فِي الحَياةِ كالمُطلَّقةِ، وهذا (¬10) يَقتضِي أنه إذا فُسِخَ بِعَيْبِها أنَّ لَها السُّكْنَى. ¬
وأما الفرقة بالإسلام
وقال فِي "المنهاج" (¬1): إنَّه المَذهبُ. وذلك كلُّه غَيْرُ مُعتمَدٍ، وخِلافُ نصِّ الشَّافعيِّ فِي "المختصر" وقدْ تَقدَّمَ، ولَمْ أَرَ نصًّا يُخالِفُ ذلك. وإذَا فسخَتْ بِعَيبِه فأَوْلَى أن لا سُكنَى لَها، وقدْ ذَكَرَ فِي "الروضة" (¬2) تَبَعًا للشَّرحِ فِي العُيوبِ مِثْلَ ما قرَّرْناهُ، فقالَ: (الْمَفْسُوخُ نِكَاحُهَا بَعْدَ الدُّخُولِ، لَا نَفَقَةَ لَهَا فِي الْعِدَّةِ وَلَا سُكْنَى إِذَا كَانَتْ حَائِلًا بِلَا خِلَافٍ، وَإِنْ كَانَتْ حَامِلًا، وقُلْنَا إن النَّفقَةَ لِلْحَامِلِ (¬3)، لَمْ تَجِبْ. وَأَمَّا السُّكْنَى فلَا تَجِبُ عَلَى الْمَذْهَبِ، وَبِهِ قَطَعَ الْجُمْهُورُ) (¬4). ولَمْ يفرِّقِ الشَّافعيُّ بَيْنَ أَنْ تَفسَخَ بِعَيْبِها أو تفسخَ بِعَيبِه، وهذا هو المُعتمَدُ. وذَكرَ هُنا القَطعَ بأنَّها تَستحقُّ السُّكنَى، وأنَّ المُتولِّي قال: إنَّه المَذهَبُ، ومِنْه عبَّر فِي "المنهاج" (¬5) بالمَذْهَبِ، والمَذهبُ خِلافُه، كمَا تَقدَّمَ. * * * * وأمَّا الفُرقَةُ بالإسْلامِ: فقدْ نَصَّ الشَّافعيُّ فيها على التَّفصيلِ بيْنَ ¬
وأما الرضاع
إسْلامِها وإسْلامِه بالنِّسبةِ إلى النَّفقةِ، وذلك يَجرِي فِي السُّكنَى لَها، فإطْلاقُ القَولِ باسْتِحقاقِها السُّكنَى كما وَقعَ فِي الكُتبِ الأرْبعةِ غَيرُ مُعتمَدٍ، وهو فِي الكُتبِ الأرْبعةِ فِي النِّكاحِ على الصَّوابِ. وكذلك القولُ فِي الرِّدَّةِ. * * * * وأمَّا الرَّضاعُ: فمُقتضى ما فِي الكُتبِ الأرْبعةِ إطْلاقُ (¬1) إيجابِ السُّكنَى لَها، وليس ذلك بِمُعتمَدٍ، بَلْ إن كان الزَّوجُ أرْضَعَها أوْ أجنَبيٌّ، فلَها السُّكنَى، وإنْ كانَتْ هي أرْضَعتْ ولو صغيرةً، فإنه (¬2) لا سُكنَى، لأنَّ الفُرقةَ جَاءتْ مِن قِبَلِها، فأشْبَهَ ما إذا فَسخَتْ بِعَيْبِه. ويَجرِي ما ذَكرْناه فِي الرَّضاعِ فِي الفُرقةِ (¬3) بالمُصاهرةِ. * * * * وأمَّا الفُرقةُ بِخيارِ العِتْقِ: فمُقتضَى ما فِي الكُتبِ الأرْبعةِ إيجابُ السُّكنَى لَها، وليس ذلك بِمُعتمَدٍ، ومُقتضَى النَّصِّ فِي الفَسْخِ بِالعَيْبِ أنَّه لا سُكنَى لَها لِلمُفارَقةِ بِخُلْفِ شَرطٍ أوْ غُرورٍ، والمَدارُ على التَّفصيلِ المَذكورِ لِوُجودِ النُّصوصِ به، وهو طَريقٌ مِن الطُّرقِ الخَمسةِ المَذْكورةِ (¬4) فِي "الروضة" تَبَعًا للشرْحِ. ¬
ولا تَستحِقُّ السُّكْنَى صَغيرةٌ؛ لا (¬1) تَحتمِلُ الجِماعَ، ولا أَمَةٌ لَمْ يُسَلِّمْها السيِّدُ نَهارًا ولَيْلًا (¬2). ولا سُكنَى لِمُعتدَّةٍ عنْ وَطءِ شُبهةٍ، أوْ نِكاحٍ فاسدٍ، أوْ أُمِّ وَلدٍ. وتَجِبُ السُّكنَى لِلْمُتوفَّى عنها زَوجُها على (¬3) الأصحِّ. وعلى مَن استَحقَّتِ السُّكنَى مِن المُعتدَّاتِ مُلازَمةُ المَسكَنِ الذي (¬4) كانتْ فيه عِنْدَ الفِراقِ، إلا أَنْ يَمنعَ مِنه مانعٌ شرعيٌّ، كما سَيأتِي إنْ شاءَ اللَّهُ تعالَى. وليس لِلزَّوجِ ولا لِأهْلِه (¬5) إخْراجُها مِنه، ولا لَها أَنْ تَخرُجَ، ولو اتفقَ الزَّوجانِ على الانتِقالِ مِنْ غَيرِ حَاجةٍ لَمْ يَجُزْ. كذا أطْلَقه أصحابُ الكُتبِ الأرْبعةِ، وقيَّدَه المَاورْديُّ والشيخُ فِي "المهذب" وصاحبُ "المِنهاج" فِي "تعليقه على التنبيه" بالطَّلَاقِ، وغيرُهم بالطَّلَاق البائِنِ، فإنْ كانَتْ رَجعيَّة فلِلزَّوجِ أن يُسكِنَها حيثُ شَاءَ. وهذا القَيْدُ عندي غيرُ مُعتبَرٍ، وهو مَردودٌ بآياتِ سورةِ الطَّلَاقِ، ومُخالِفٌ لِنَصِّ الشَّافعيِّ فِي "الأُم" و"مختصر المزني" (¬6) على خِلافِه فِي مَواضِعَ. ¬
قال فِي "الأُم" (¬1) فِي تَرجمة (مقام المُتوفَّى عنها زَوجُها (¬2) والمُطلَّقةِ فِي بَيتِها): "وَإِذَا طَلَّقَ الرَّجُلُ الْمَرْأَةَ فَلَهَا سُكْنَاهَا فِي مَنْزِلِهِ حَتَّى تَنْقَضِيَ عِدَّتُهَا مَا كَانَتِ الْعِدَّةُ حَمْلًا أَوْ شُهُورًا كَانَ الطَّلَاق يَمْلِكُ فِيهِ الرَّجْعَةَ أَوْ لَا يَمْلِكُهَا". ثم قال (¬3): "وَلَا يَكُونُ لِلزَّوْجِ الْمُطَلِّقِ إخْرَاجُ الْمَرْأَةِ مِنْ مَسْكَنِهَا الَّذِي (¬4) كَانَتْ تَسْكُنُ مَعَهُ كَانَ لَهُ الْمَسْكَنُ (¬5) أَم لَمْ يَكُنْ". وقال بعد ذلك (¬6): "إذَا طَلَّقَهَا طَلَاقًا يَمْلِكُ فِيهِ الرَّجْعَةَ أَوْ لَا يَمْلِكُهَا لَمْ يَكُنْ لَهُ نَقْلُهَا عَنْ الْمَوْضِعِ الَّذِي قَالَ لَهَا انْتَقِلِي إلَيْهِ أَقِيمِي فِيهِ حَتَّى يُرَاجِعَهَا فَيَنْقُلَهَا مِن حيثُ شاء إلى حيثُ شَاءَ" (¬7). [ولَو أَرادَ نَقْلَها قَبْلَ أَنْ يَرتجِعها] (¬8) أوْ مِنْ مَنزِلِها الذي طلَّقَها فيه، أو مِن سَفرٍ (¬9) أَذِنَ لها فِيه، أوْ مِن مَنزلٍ حَوَّلَها إلَيْه: لَمْ يَكنْ ذلك له عندي كما لا يَكونُ له فِي التي لا يَملِكُ رَجعَتَها. وذَكَرَ مَواضِعَ فِي الطَّلَاقِ الذي لا يَملِكُ فيه الرَّجعةَ لِمعنى يخُصُّها لا ¬
والصور التي يجوز للمعتدة الانتقال من مسكن الفراق المستحق لها إلى غيره كثيرة
يُخالِفُ ما نحن فيه. وفِي "المختصر" (¬1): (فإذَا طَلَّقَها فلَها السُّكنَى فِي مَنزلِه [حتى تَنقضيَ عدَّتُها] (¬2) يَملكُ الرَّجعةَ أوْ لَا (¬3) يَمْلِكُها). فهذه نُصوصُ صاحبِ المَذْهبِ رادَّةٌ على مَن خالَف ذلك. والمَنزِلُ الذي تَجِبُ مُلازمتُه هو ما كان مُستحَقًّا لها، فلو كان زائدًا على المُستحقِّ لها؛ فلِلزَّوجِ أَنْ يُخرِجَها منه إلى ما تَستحِقُه، وإنْ كانَ ناقصًا عنِ المستحَقِّ لها فلها طَلَبُ المُستحَقِّ لها والانتقالُ إليه، وتجِبُ مُراعاةُ الأقْربِ. * * * والصُّورُ (¬4) التي يَجُوزُ لِلْمعتدةِ الانتقالُ مِن مَسْكنِ الفِراقِ المستحَقِّ لها إلى غَيرِهِ كَثيرةٌ: * مِنْهَا: إِذَا خَافَتْ عَلَى نَفْسِهَا أَوْ مَالِهَا مِنْ هَدْمٍ أَوْ حَرِيقٍ، أَوْ غَرَقٍ، أو نهبٍ، أو انَتقلَ السَّاكِنونَ عنِ الخطةِ التي هي فيها أو لَمْ تَكُنِ الدَّارُ حَصِينَةً وَخَافَتِ اللُّصوصَ، أَوْ كَانَتْ بَيْنَ فَسَقَةٍ تَخَافُ منهم عَلَى نَفْسِهَا، أَوْ تَتَأَذَّى مِنَ الْجِيرَانِ أَوِ الْأَحْمَاءِ تَأَذَيًا شَدِيدًا، أَوْ تَبْذُو على أَحْمائِها أَوْ (¬5) تَسْتَطِيلُ بِلِسَانِهَا عَلَيْهِمْ (¬6). ¬
ولا تَسقُطُ سُكناها على النَّصِّ فِي "الأُم" وقال به الجُمهورُ خِلافًا للبغَويِّ (¬1). ويَتحرَّى القريبَ مِن مَسكَنِ الفِراقِ، كذا قالوه (¬2)، والأرْجَحُ خِلافُهُ. ولَم يَذكُرِ النبيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- فِي حديثِ فاطمةَ بِنْتِ قَيسٍ (¬3) ما يَقتضِي اعْتِبارَ القُربِ. وقيَّدَ فِي "الروضة" (¬4) تَبَعًا للشرحِ موضِعَ النَّقل بالبَذَاءِ بما إذا كانتِ الأحْمَاءُ فِي دَارٍ تَسَعُ جَميعَهُم، فإن كانتْ لا تسَعُ الجَميعَ نَقلَ] (¬5) الزوجُ (¬6) الأحماءَ، ¬
وبقي من المعتدات البدوية وساكنة السفينة مع زوجها الذي لا مسكن له سوى السفينة
وَتَرَكَ الدَّارَ لها. وهذا القيدُ عندي غيرُ مُعتبَرٍ. وفِي "الأُم" (¬1): "إن بذَتْ أَخرجَ أهلَهُ عنها إنْ لَمْ يَكنْ أخَرجَها"، ولَم يتعرَّضْ لِهَذا القيدِ الذي لا معنى له. وإن كَانَ الْبَذَاءُ مِنَ الْأَحْمَاءِ دُونَهَا، نُقِلُوا دُونَهَا، وَلَوْ كَانَتْ فِي دَارِ أَبَوَيْهَا فبذتْ عليهما أَوْ بَذَا الْأَبَوَانِ عَلَيْهَا، لَمْ يُنْقَلْ وَاحِد مِنْهُمْ، لِأَنَّ الشَّرَّ [وَالْوَحْشَةَ] (¬2) لَا تَطُولُ بَيْنَهُمْ، فَلَوْ كَانَ أَحْمَاؤُهَا فِي بيت أَبَوَيْهَا، وَبَذَتْ عَلَيْهِمْ، نُقِلُوا دُونَهَا، لأَنَّهَا أَحَقُّ بِدَارِ أَبَوَيْهَا. * * * وبَقِي مِن المُعتدَّاتِ البَدويَّةُ وساكِنةُ السَّفينةِ مَع زوجِها الذي لا مَسْكنَ لهُ سِوى السفينةِ: * فأمَّا البَدويةُ التي بيتُها مِن صُوفٍ أو شعرٍ فتلازِمُهُ، كمَنزلِ الحضَريةِ، وإذَا ارْتحَلُوا جَميعًا ارْتَحلَتْ معهُم، وإن ارتحلَ أهلُها تخيَّرتْ بيْنَ أن تُقيمَ وبَيْنَ أَنْ ترتَحِلَ (¬3). ¬
وأما ساكنة السفينة
هكذا ذَكَرُوه، وهو مقيَّدٌ بغيْرِ الرَّجعيَّةِ، ونصُّ "الأم" شاهِدٌ له، فأمَّا الرَّجعيةُ فالخِيَرَةُ فِي ذلك لِزَوجِها. * * * * وأما ساكنةُ السَّفينةِ (¬1): فَإِنْ كَانَتِ السفِينَةُ كَبِيرَةً فِيهَا بُيُوتٌ مُتَمَيِّزَةُ الْمَرَافِقِ، اعْتَدَّتْ فِي بَيْتٍ مِنْهَا مُعْتَزِلَةً عَنِ الزَّوْجِ، وَإِنْ كَانَتْ صَغِيرَةً، [نُظِرَ، إِنْ كَانَ] (¬2) مَعَهَا مَحْرَمٌ لَهَا يُمْكِنُ أَنْ يُعَالِجَ السَّفِينَةَ، خَرَجَ الزَّوْجُ، وَاعْتَدَّتْ هِيَ فِيهَا، وَإِلَّا فَتَخْرُجُ هِيَ وَتَعْتَدُّ فِي أَقْرَبِ الْمَوَاضِعِ إِلَى الشَّطِّ. والذي أَبْدَيناهُ فِي اعتِبارِ الأقْربِ يجِيءُ فِي جَميعِ الصُّوَرِ التي ذُكر فيها ذلك. وَإِذَا تَعَذَّرَ خُرُوجُهُ وَخُرُوجُهَا، فَعَلَيْهَا أَنْ تَبْعُدَ وتَسْتَتِرَ مِنْهُ بِقَدْرِ الإِمْكَانِ. وإذَا أَمكنَ الاعتدادُ فِي السَّفينةِ، فهلْ يَجوزُ لَها أَنْ تَخرُجَ منها فتَعتدَّ فِي أَقْربِ القُرى إلى الشَّطِّ أو لا يَجوزُ لَها الخُروجُ؟ ¬
فيه وجهانِ: الأصحُّ المَنعُ (¬1)، وهو مُقتضَى نَصِّ "الأُم". * ومِن المَواضعِ التي يجوزُ فيها الخُروجُ مِن مَنزلِ الفِراقِ ما إذا كان المَنْزلُ مِلْكًا للمُعتدَّة، فإنه لا يَلزمُها أَنْ تَعتدَّ فيه، ولها أَنْ تَطلُبَ نَقْلَها منه. وإذَا كانَ المَنزِلُ مُستعارًا لازَمَتْه ما لَمْ يَرجعِ المُعيرُ فيه، وفِي صُورةِ مَوتِ الزَّوجِ تَرتفعُ، وكيف كان الحالُ فلِصاحِبِ المِلْكِ طَلبُ نَقْلِها مِنه (¬2). * ومِمَّا يَجُوزُ فيه الانتقالُ مِن مَسكَنِ الفِراقِ -بلْ مِن بَلدِ الفِراقِ- مَا إذَا أَسْلَمتْ ولَزِمتْها عدةٌ وهي فِي دَارِ الحَربِ (¬3)، فإنها يَلزَمُها أَنْ تُهاجِرَ إلى دَارِ الإسلامِ. وفي (¬4) اعتِبارِ القربِ مِن دَارِ الحَربِ [ما سَبقَ فِي سَاكنةِ السَّفينةِ. ولو كانَتِ السُّكنةُ (¬5) فِي مَوضعِ دَارِ الحَربِ] (¬6) تأْمَنُ فيه على دِينِها ¬
ونَفْسِها، فقالَ المُتولِّي: "لا تَخرجُ حتَّى تَعتدَّ" وهذا مَمنوعٌ؛ لأنَّ المَرأةَ مَظِنَّةُ التَّطرُّقِ إليها، فلا تَأمَنْه، ولا تَأمنُ في (¬1) المُستقبَلِ ما يجري عليها. وفِي جَميعِ الصُّورِ لَو زَالَ المَانعُ، فالقياسُ وجوبُ العَودِ إلَّا في البَذاءةِ والهِجرةِ، ولَم يَذكرُوه. ولو أَحرمَتْ بالحَجِّ ثم حَصلَتِ الفُرقةُ وتَخشَى فَواتَ الحَجِّ لو أقامَتْ، فإنَّها تَخرجُ مِن البَيتِ إلى الحَجِّ. وإنْ لَمْ تَخش فواتَ الحَجِّ أو كانتْ قد أَحرمَتْ بِعُمرةٍ، فتتَخيَّرُ بين أن تُقيمَ، وبين أن تَخرُجَ في الحَالِ، خِلافًا لِما في "المُهذَّب". وأمَّا الخُروجُ مِن غَيرِ انتِقالٍ: فيجوزُ عند الاحتياجِ إليه، فتَخرجُ بالنَّهارِ لِشراءِ طَعامٍ، وغَزلٍ، وبَيعِه، ولِعَهْدِ بُستانِها، وجَدَادِ نَخْلِها في عِدَّةِ الوَفاةِ. وكذا البائِنُ على الجَديدِ إذا لَمْ يكنْ عندها مَنْ يَكفِيها ذلك. وأمَّا الرَّجعيةُ فلا تَخرجُ إلَّا بإِذنه إذا كفَاها الزَّوجُ ذلك، فإن لَمْ يَكفِها فلَها أَنْ تَخرُجَ كالبائِنِ. وتَخرجُ المُتوفَّى عنها والبائِنُ ليْلًا للحديثِ مَع جَارتِها لِلْأُنْسِ. وأمَّا الخُروجُ ليلًا لِمُجرَّدِ الغَزْلِ عند جَارتِها فلا يَجوزُ؛ خِلافًا لِما في "الروضة" و"المنهاج" (¬2) (¬3). ¬
والذي أَجازَه النَّبِيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- مِن الخُروجِ إنما هو الحديثُ (¬1) للتأنُّسِ، وتَعودُ إلى بَيْتِها لِلنَّومِ فيه. وتخرُجُ نَهارًا للزِّيارةِ والعِمَارةِ. وفِي "الروضة" (¬2): "لَا تُعْذَرُ في الْخُرُوجِ لِأَغْرَاضٍ تُعَدُّ مِنَ الزِّيَارَاتِ دُونَ الْمُهِمَّاتِ، كَالزِّيَارَةِ وَالْعِمَارَةِ وَاسْتِنْمَاءِ الْمَالِ بِالتِّجَارَةِ، وَتَعْجِيلِ حَجَّةِ الْإسْلَامِ وَأَشْبَاهِهَا". فإنْ كان الخُروجُ نهارًا وليلًا فمسلَّمٌ، وإنْ أَرادَ النَّهارَ فممنوعٌ، فقد أَسندَ البيهقيُّ عنِ ابن عُمرَ -رضي اللَّه عنهما- أنَّه قال: "الْمُطَلَّقَةُ الْبَتَّةَ تَزُورُ بِالنَّهَارِ وَلا تَبِيتُ غَيْرَ (¬3) بَيْتِهَا" (¬4). ¬
وأما العِمارةُ ونَحوُها فقد صَحَّ مِن حديثِ جابرِ بن عبد اللَّه -رضي اللَّه عنه- قال: طُلِّقَتْ خَالَتِي ثلاثًا، فخرجتْ تَجُدُّ نَخْلًا، فلقيها رَجُلٌ فنهاها، فَأَتَتِ النَّبِيَّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فذكرتْ له ذلك فَقَالَ: "اخْرُجِي فَجُدِّي نَخْلَكِ، فلعلَّكِ أَنْ تَصَدَّقِي، أَوْ تَفْعَلِي مَعْرُوفًا". رواه الشافعيُّ، وأخرجَه مُسلِمٌ في "صحيحه" (¬1). وإِذَا لَزِمَهَا حَقٌّ، وَاحْتِيجَ إلى اسْتِيفَائِهِ، فَإِنْ أَمْكَنَ اسْتِيفَاؤُهُ في مَسْكَنِهَا، كَالدَّيْنِ وَالْوَدِيعَةِ، فُعِلَ، وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ، وَاحْتِيجَ فِيهِ إلى الْحَاكِمِ، بِأَنْ تَوَجَّهَ عَلَيْهَا حَدٌّ أَوْ يَمِينٌ في دَعْوَى، فَإِنْ كَانَتْ بَرْزَةً خَرَجَتْ وَحُدَّتْ، أَوْ حَلَفَتْ، ثُمَّ تَعُودُ إلى بَيْتِها، وَإِنْ كَانَتْ مُخَدَّرَةً، بَعَثَ الْحَاكِمُ إِلَيْهَا (¬2) نَائِبًا، أَوْ حْضَرَهَا بِنَفْسِهِ (¬3). ولو زَنتِ المُعتدَّةُ التي لم تُحصَنْ، فإن كان الحاكِمُ يقيمُ عليها الحدَّ كما تقدَّمَ ويُغَرِّبُها ناجِزًا, ولا يُؤخِّرُه إلى انقِضاءِ عدَّتِها على الأصحِّ. . ذَكرَه في "الروضة" (¬4) في عِدَّةِ الوَفاةِ. ويَجرِي في غيرِها أَيضًا. ولو انتَقلتْ إلى مَسكنٍ بِإِذنِ الزَّوجِ، ثم وَجبَتِ العدَّةُ بعد وُصولِها إليه، أو ¬
قَبْلَ وُصولِها إليه، فإنَّها تعتدُّ فيه. وأَطلقَ في "المنهاج" (¬1) تَبَعًا لِغَيرِه الزَّوجَ. وهو عندي مقيَّدٌ بأن يكونَ الزَّوجُ بالغًا، فيُعتبَرُ إذْنُ السَّفيهِ دُونَ الصَّبِيِّ على الأرجحِ. والخروجُ مِن بلدٍ إلى بلدٍ كالخُروجِ مِن مَسكنٍ إلى مَسكنٍ. ولو خرجَتْ لحجٍّ أو تِجارةٍ، ثم وَجبَتِ العِدةُ ففِي "المنهاج" (¬2) لها الرُّجوعُ والمُضِيُّ، وهذا في غَيرِ مَنْ أَحرمَتْ بِحَجٍّ. والحُكمُ فيه ما سَبقَ. ولو خَرجَتْ إلى غَيرِ الدارِ المَألُوفةِ، ثم حصَلَتِ الفُرقةُ، وقال الزَّوجُ: "ما أذنتُ في الخُروجِ" صُدِّقَ بيمينِهِ. ولو قالتْ: "نقَلْتَنِي" فقال: "بَلْ أذِنتُ لِحاجةٍ" صُدِّقَ بِيَمينِهِ على المَذهبِ. كذا في "المنهاج" (¬3). وهو يَقتضِي أنَّ الوارِثَ يُصَدَّقُ بِيَمينِه في صُورةِ المَوتِ؛ لأنَّ الثَّابتَ للمُوَرِّثِ مِن اليَمينِ يثبُتُ للوَارثِ. وفِي "الروضة" (¬4) أنَّ المذهبَ تصديقُها، وهذا يُخالِفُ ما يَقتضِيهِ كلامُ "المِنهاجِ" (¬5). ¬
ضابط
والمَنصوصُ في "الأُم" (¬1) في صُورةِ الوَارثِ أنَّ القولَ قولُها يَعنِي بِيَمينِها. * * * * ضابطٌ: كلُّ يَمينٍ ثبتَتْ لِشَخصٍ فماتَ، فإنَّه يَثبُتُ لِوارثِه تلك اليمينُ إلَّا في صُورةِ الوارِثِ المَذكررة (¬2) هنا. * * * وإذا اتَّفقَ الزَّوجانِ على جَريانِ (¬3) لَفظِ الانتقالِ أو الإقامَةِ بأنْ قال: "انتقلِي إلى مَوضعِ كذا" أو: "اخرُجِي إليه" أو: "أَقيمِي به" وقال الزَّوجُ: "ضَمَمْتُ إليه للنُّزهةِ أوْ شَهْرًا" وغير ذلك، وأنكرتْ هذه الضَّمِيمةَ، أو قال ذلك وارثُهُ فالقولُ قولُها؛ لأنَّ الأصلَ عدمُ هذه الضَّميمةِ (¬4). وحيثُ صَدَّقَتِ الزوجَ، فماتَ بعد أن ادَّعى ذلك، فإن الوارثَ يحلِفُ ولم يَذكرُوه هُنا، وذَكرُوا نحوَه في الوديعةِ. ولا يَصِحُّ بيْعُ البيتِ المستحَقِّ للعدَّةِ إلَّا إذا كانتْ تعتدُّ بالأشهُرِ، فإن حاضَتْ في أثْنَائِها ففِي "الروضة" (¬5): الأظهرُ لَا يَنْفَسِخُ الْبَيْعُ، ويَثْبُتُ الْخِيَارُ ¬
لِلْمُشْتَرِي. وهذا عندنا مَمْنوعٌ بَلِ الأظهرُ إبطالُ البَيعِ لِحُصولِ الجَهالةِ في المَنافِعِ المُستثناةِ حينَئِذٍ. ولَو أَفْلَسَ الزَّوجُ وحُجِرَ عليه بَقِيَ لَها حقُّ السُّكْنى، وتُقَدَّمُ به على الغُرمَاءِ والورَثةِ (¬1). وإذا ماتَ بعْدَ أن حُجِرَ عليه وكان قدْ طلَّقَها رَجعيًّا قَبْلَ الإفْلَاسِ فإنَّها تَنتقِلُ إلى عِدَّةِ الوَفاةِ، فلا تُقَدَّمُ على الغُرَماءِ، بل تضاربُ الغُرماءُ كالزَّوجةِ. ومتى ضَاربَتْ فإن كانتْ عدتُها بالأشهُرِ ضَاربَتْ بأُجرةِ المِثْلِ للأشهُرِ. وإنْ كانَتْ عدتُها بالأَقْراءِ أو الحَمْلِ ولها عادةٌ مستقيمةٌ ضاربَتْ بأقلِّ مُدَّةٍ يُمكِنُ انقضاءُ الأقراءِ فيها بأُجرَةِ ما بَقِيَ مِن أقلِّ مدَّةِ الحَمْل، وهي ستَّةُ أشهُرٍ من حِينِ العُلوقِ (¬2). واختارَ المَاورْدِيُّ (¬3) الأخْذَ بالعادةِ الغَالبةِ، وهو حَسَنٌ، والأولُ أرْجحُ. ويَحرُمُ على الزَّوجِ مُساكَنَتُها ومُداخَلَتُها، وإن كان في الدَّارِ لها مَحرَمٌ مُميِّزٌ ذَكَر أو (¬4) له أُنثَى أو زَوجةٌ أُخرَى أوْ أَمَةٌ جَازَ، كذا في "المنهاج" (¬5). ¬
والمُميِّزُ لا يَكفِي بل لا بد مِن البُلوغِ نصَّ عليه (¬1) الشافعيُّ -رضي اللَّه عنه-: في "المختصر". ولَمْ يَقُلْ أَحَدٌ بالاكتِفاءِ بالتَّمييزِ (¬2). وقال الشَّيخُ أبو حامدٍ: عِندِي يَكفِي المُراهِقُ. وما ذُكِرَ في "المنهاج" من (¬3) مَحرمٍ لها ذَكَرٍ يُوهِمُ أنَّ مَحرَمَها مِن النِّساءِ لا يَكفِي، وليس كذلك. فالمَرْأةُ الواحدةُ الأجنبيَّةُ الثِّقةُ كافيةٌ على ما صحَّحَه في "الروضة" (¬4) فمَحرَمُها مِن النِّساءِ إذا كانَتْ ثقةً أَوْلَى بالجَواز. وما ذُكِرَ مِن الاكتِفاءِ بِزَوجةٍ أُخرَى أو أَمَةٍ يَنبغِي أن تكونَ ثِقَةً. * * * ¬
فصل في زوجة المفقود
فصل في زوجة المفقود حُكْمُها بعد الحُكْمِ بِمَوتِه كالمُتوفَّى عنها في الإحْدَادِ والسُّكنَى. وفِي القَديمِ: تَتربَّصُ أَرْبعَ سِنينَ، ثُمَّ تَعتدُّ عِدةَ الوَفاةِ، ثم تَنكِحُ. ولِلْقَديمِ فُروعٌ كثيرةٌ لا يُفتَى بها. وقدْ سَبقَ في الفَرائضِ ما يَقتضِي إلحاقَهُ بالمَوتَى بالاجْتِهاد. * * * * ضابطٌ: ليس لنا مَوضعٌ يكونُ مُستنَدُ الحُكمِ فيه مُجرَّدَ الاجْتهادِ إلَّا هذا. * * *
باب الاستبراء
باب الاستبراء الاستِبراءُ لُغَةً. طَلبُ البَراءةِ. وفِي الشَّرعِ: عِبارةٌ عَن تربُّصٍ واجبٍ بِسَببِ مِلْكِ اليَمينِ حُدوثًا أو زَوالًا، ذَكرَ ذلك الرَّافعي عن "التتمة". ويُزادُ عليه حدوثُ الحلِّ في مِلْكِ الجَاريةِ كما سَيأتِي، وفِي التتمة نصٌّ بهذا الاسمِ لِتَقريرِه بأقَلِّ ما يَدُلُّ على البراءَةِ مِن غَيرِ تَكرُّرٍ وتَعَدُّدٍ (¬1) فيهِ. وخُصَّ التربُّصُ الواجبُ بِسَببِ العِدةِ اشتِقاقًا مِن العَددِ لِما فيه مِن التعدُّدِ. وهذا الذي قاله صاحب "التتمة" مردودٌ. والأصلُ في الاستِبراءِ مِن السُّنة: عن أبي سعيدٍ الخُدريِّ رَفَعَه إلى النبيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- أنَّه قال في سَبايَا أوطاس (¬2): "لا تُنْكَحُ حَامِلٌ حَتَّى تَضَعَ، وَلا غَيْرُ ذَاتِ حَمْلٍ حَتَّى تَحِيضَ حَيْضَةً". ¬
رواهُ أبُو داودَ وغيرُه بإسنادٍ صالحٍ للاحْتِجاجِ بِهِ (¬1). ورواه الشعبي عن النبيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- مُرْسلًا (¬2). ¬
وروى أبو داود وغيرُه مِنْ حَديثِ رُويفعِ بْنِ ثَابتٍ الأنصاريِّ -رضي اللَّه عنه-: أنَّه سَمِعَ رَسولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- يقولُ يَوْمَ حُنينٍ: "لا يَحِلُّ لِامْرِئٍ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ أَنْ يَسْقِيَ مَاءَهُ زَرْعَ غَيْرِهِ" -يَعْنِي: إِتْيَانَ الْحَبَالَى- "وَلا يَحِلُّ لِامْرِئٍ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ أَنْ يَقَعَ عَلَى امْرَأَةٍ مِنَ السَّبْي حَتَّى يَسْتَبْرِئَهَا" (¬1). وفِي حديثِ ابنِ إسحاقَ: "بحيضةٍ" (¬2). قال أبو داود: الحَيضةُ ليسَتْ بِمَحفوظةٍ (¬3) -يعنِي مِن حديثِ رُويفعٍ، وقد سَبقَ في حَديثِ أبي سَعيدٍ ذِكْرُ الحَيضةِ. وفِي "صحيح مسلم" (¬4) مِن حديثِ أبي الدَّرداءِ -رضي اللَّه عنه- عَن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- أنَّه أُتِي بامْرَأةٍ مُجِحٍّ (¬5) على باب فُسطاطٍ فقال: "لَعَلَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُلِمَّ بِهَا؟! "، فقالُوا: ¬
نَعَم، فقال رسولُ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ أَلْعَنَهُ لَعْنةً تدْخُلُ مَعَهُ قَبْرَهُ، كَيْفَ يُوَرِّثُهُ وَهُوَ (¬1) لَا يَحِلُّ لَهُ؟ أم (¬2) كَيْفَ يَسْتَخْدِمُهُ وَهُوَ لا يَحِلُّ لَه؟! " (¬3)، انتهى (¬4). المُجِحُّ: بضمِّ المِيمِ، وكسرِ الجِيمِ وبعدها حاءٌ مهملةٌ، وهي الحامِلُ المقرِبُ. وثَبَتَ في "صحيح البخاري" مِنْ حَديثِ أَنَسٍ ما يَقتضِي أنَّ النبيَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- استَبَرأَ صَفيَّة، ثم تزوَّجَها -يعني: بعد أَنْ أَعتَقَهَا، قال أنسٌ: فخَرَجَ حتَّى بَلَغَ بِها سَدَّ الصَّهْباءِ (¬5) حلَّتْ، فبَنَى بها رَسولُ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- (¬6). ¬
ولا خلافَ في أنَّ النبيَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- استَبرَأَ صَفيةَ. ويُتعجَّبُ مِن الحافظ (¬1) البيهقيِّ في تَرْكِ (¬2) ذِكْرِ هذا الحديثِ الثابتِ والاقتصارِ (¬3) على حديثِ أنَسٍ أن النبيَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- استبَرَأَ صَفيَّةَ بِحَيضةٍ. قال البيهقيُّ: في إسنادِهِ ضعفٌ (¬4). ¬
يجب الاستبراء بواحد من سبعة أسباب
فإنْ قيلَ: لَعلَّه أَرادَ ما يتعلَّقُ بِحيضةٍ (¬1). قلتُ (¬2): الحديثُ الثابتُ يَقتضِي ذلك، وعلي الجُملةِ فذِكْرُ الحديثِ الثابتِ متعيَّنٌ. * * * يجِبُ الاستِبراءُ (¬3) بوَاحدٍ مِن سَبعةِ أسبابٍ: ¬
أحدها
* أَحدُها: مِلْك أَمةٍ بِأَيِّ وُجوهِ المِلْكِ كان، وبِأيِّ حَالةٍ كانَتْ، [إلَّا إذا كانَتْ] (¬1) زَوجةً للمُشترِي (¬2) الحُرِّ، فإنْ كان مُكاتَبًا فاشتراهَا (¬3)، فإنَّه لا يحِلُّ له وَطْءُ أَمَتهِ وكذلك المُبَعَّضُ. * السَّببُ الثاني: تجدُّدُ حِلِّ الاستِمتاعِ للمالِكِ في مَملوكتِه التي زَالَ المَانعُ مِن الحِلِّ فيها بالنِّسبةِ إلى خَلَلٍ في الدِّينِ، فإذا كانتْ جَاريةً مجُوسيةً أوْ وَثَنيةً أوْ زِندِيقةً أو مُرتدَّةً أو يَهُوديةً أوْ نَصرانيةً مِن غَيرِ بَنِي إسرائيلَ على المَذهبِ المُعتمَدِ، أو مُنتقِلةً مِن كُفرٍ إلى غَيرِ دَينِ الإِسلامِ: ففِي جَميعِ هذه الصُّوَرِ يَجبُ استِبراؤُها عند زَوالِ المَانعِ لِتَجدُّدِ الحِلِّ. وأمَّا مَن كانَتْ صَائمةً أوْ مُصَلِّيَةً أوْ مُعتكِفَةً أوْ مُحرِمةً، فإنَّه لا يَجبُ استِبراؤُها عند زَوالِ المَانعِ، بِلا (¬4) خِلافٍ، وشَذَّ مَن قال إنَّ المُحرِمةَ يَجبُ استِبراؤُها إذا فَرغَتْ مِن إِحرامِها. * السببُ الثالثُ: الحِلُّ في البُضْعِ بالنِّسبةِ إلى عُلْقةٍ لِغَيرِه فيه، فإذا اشترى ¬
السبب الرابع
جاريةً مزوَّجَةً بِغَيرِه، مُعتدةً مِنْ غَيرِه، فإنَّه إذا زَالتْ تِلك العُلْقةُ يَجبُ استِبراؤُها. * السببُ الرابعُ: مُركَّبٌ مِن الحِلِّ في المِلْك والبُضْعِ، كما إذا كانتْ مُكاتبةً أو جاريةَ مُكاتَبِهِ، فإنَّه يَحرُمُ وَطْؤُها على السيِّدِ الأَصليِّ لِوُجودِ الخَللِ في المِلْكِ والبُضعِ، ومِن ذلك الجَاريةُ التي استَبرأَها المكاتَبُ ولَم يَطأْهَا فإذا صَارتْ للسيِّدِ وَجبَ عليه استِبراؤُها، وكذلك فيما قَبْلَها، ومِن ذلك جَاريةُ (¬1) المَأذُونِ له في التِّجارةِ إذا كان (¬2) عليه دُيونٌ فقُضِيَتِ الدُّيونُ، فإنَّ السيِّدَ يَحتاجُ إلى استِبرائِها، فإنْ كانتْ مُحرَّمةً عليه لِلْخَلَلِ المَذكورِ بِخلافِ المَرهونةِ، فإنَّه لا يَجِبُ استِبراؤُها بعد فَكِّ الرَّهنِ، إذْ لا خَللَ في مِلكِ المَرهونةِ، ولِهذَا إذا وَطِئَ المَالِكُ المَرهونةَ لا يَجِبُ عليه المَهْرُ قَطْعًا بخِلافِ جَاريةِ المَأذونِ في صُورةِ الدُّيونِ، فإنَّه يَجِبُ عليه المَهْرُ على وَجْهٍ رُجِّحَ. ومِن ذلك جَاريةُ القِراضِ إذا انْفَسخَ واستَقلَّ بها المَالكُ، وقُلْنا "إنه لا يَجوزُ له وَطْؤُها، والقِراضُ قَائمٌ"، فإنَّه يَجبُ الاستِبراءُ لِتَجدُّدِ الحِلِّ، وزَوالِ شُبهةِ المِلْكِ. * السببُ الخامسُ: زَوالُ الشَّكِّ في المُقتضِي لِلْحِلِّ، فإذا اشْتَرى زَوجتَه، ففِي حالِ خِيارِ المَجلسِ للْمُتعاقِدَيْنِ أو خِيارِ الشَّرْطِ لَهُما فإنَّه (¬3) لا يَجوزُ للزَّوجِ أَنْ يَطأَها في هذا الحالِ، نَصَّ الشافعي في "الأُم" (¬4) في تَرجمةِ مَن ¬
يَقعُ عليه الطَّلَاقُ مِن النِّساءِ على ما يَقتضِيه، فقال: لو أنَّ رَجلًا وُهِبَتْ له امْرأةٌ أو اشتَرَاها أو تُصُدِّقَ بها عليه فلَم يَقبِضِ المَوهوبَ له ولا المتصدَّقَ عليه، ولَمْ يُفارِقِ البيع من مَقامِهما الذي تَبايعَا فيه ولَمْ يُخَيِّرْ أحدُهما صاحبَه بعد البَيعِ، فيختارُ البَيعَ لَمْ يَكُنْ له أَنْ يَطأَ امْرأتَه بالنِّكاحِ؛ لأنَّ (¬1) له فيها سَببًا بمِلكٍ (¬2) حتَّى يَرُدَّ المالكُ فتكونَ زَوجتَه بحالِها أو يَقومَ (¬3) فيَفسَخَ (¬4) ويكونَ له الوَطءُ بالمِلْكِ. انتهى. وفِي "الروضة" (¬5) تَبَعًا للشرحِ: لو اشْتَرى زَوجتَه بِشَرطِ الخِيارِ فَهَلْ له وَطْؤُها في مُدَّةِ الخِيارِ؛ لأنها مَنكوحةٌ أوْ مَمْلوكةٌ، أَمْ لا؛ للتردُّدِ في حَالِها؟ وَجهانِ، قال البغويُّ: المَنصوصُ أنَّه لا يَحِلُّ. وذَكرَا في البَيعِ أنَّه ليس له الوَطءُ في زَمنِ الخِيارِ؛ لأنَّه لا يَدرِي أَيَطَأُ بالمِلْكِ أم بالزَّوجيةِ (¬6). هذا هو الصَّحيحُ المَنصوصُ، وفِي وَجْهٍ: لَه الوَطْءُ [وما ذَكرَاه مِن التَّوجيهِ ليس بِمُعتمَدٍ؛ لأنَّ التردُّدَ بين حَلالَيْنِ لا يَمنعُ الوَطْءَ] (¬7) فمَنْ وَجَدَ في فِراشِه امرأةً، وشَكَّ: هلْ هِيَ زَوجتُه أو أَمَتُه مَع قَطْعِه بأنها لا تَخرُجُ ¬
السبب السادس
عنهما لا يَمتنِعُ وَطْؤُها، والتَّوجيهُ المُعتمَدُ ما سَبقَ ذِكرُه عن الشافعيِّ رضي اللَّه عنه. ومُلخَّصُهُ: أنَّه شَكَّ في ارْتِفاعِ النِّكاحِ وفِي حُصولِ المِلْكِ، فامَتنعَ الوَطءُ؛ لأنَّه لَمْ يَتحقَّقْ بَقاءَ النكاحِ ولا وُجودَ المِلْكِ. ومِنْ ذلك ما إذَا اشْتَرى خُنثَى ثُمَّ بَانَ أُنثَى، فإنَّه يَجِبُ الاستِبراءُ لِوُجودِ الحِلِّ عند ظُهورِ الأُنوثةِ. * السببُ السادسُ: انتقالُ المَنفعةِ المُوصَى بها إلى الوَارثِ مالكِ (¬1) الرَّقَبةِ، فإنَّها تَحِل له الآنَ إن (¬2) كانَت مِمَّنْ يَحبَلُ كان في وَطءِ الوَارثِ (¬3) الجَاريةَ المَذكورةَ أَوْجه، الأصحُّ ثالثُها: إنْ كانَتْ مِمَّنْ يَحبَلُ فلا يَحِلُّ له وَطْؤُها، وإلا حلَّتْ، وهذا السببُ غريبٌ. * السببُ السابعُ: زَوالُ الفِراشِ عنْ مُستولَدَتِه أو عن مَوطُوءتِه بمِلكِ اليَمينِ، وهذا السَّببُ لا يَتعلَّقُ بِحِلِّ الوَطءِ للسيِّدِ، وإنما يَظهَرُ أَثرُه في تَزويجِها لِغَيرِ السيِّدِ، ولو كانَتِ المَوطُوءَةُ بمِلْكِ اليَمينِ مُدبَّرةً، فإنَّها تَعتَقُ بِالمَوتِ، فيَجِبُ استِبراؤُها لِتُزَوَّجَ بعدَ (¬4) السيِّدِ، ولو استَبرأَ المستولَدَةَ ثم أَعْتقَها أو ماتَ عَنْها، فلا تُزَوَّجُ إلَّا بعد الاستِبراءِ؛ لأنَّ فِراشَها يُشبِهُ فِراشَ النِّكاحِ بِخِلافِ الأَمةِ المَوطوءةِ، فإنَّها تُزوَّجُ في الحالِ. ولَو ولَدَتْ أُمُّ الوَلدِ لَمْ يَنقطِعْ فِراشُها على الأرْجَحِ. ¬
ولو أَعتَقَ مُستولَدتَه فلَه أَنْ يَتزوَّجَها بِلَا استِبراءٍ على الأصحِّ، وكذا لَو استَبرأَها ثُمَّ أَعتقَها, ولَو أَعتقَ مُستولَدتَه أو ماتَ عنها وهِي مُزوَّجةٌ أو مُعتدَّةٌ فلا استِبراءَ عليها؛ لأنها لَيْسَتْ فِراشًا للسيِّدِ. * * * ومَتى انْقضَتْ عِدةُ الزَّوجِ، وكان السيِّدُ حيًّا، فإنها تَعودُ فِراشًا للسيِّدِ بِغَيرِ استِبراءٍ على المَذهَبِ، ولو ماتَ عَقِبَ (¬1) انقِضاءِ عِدَّةِ الزَّوجِ وجبَ الاستِبراءُ على النصِّ، بخِلافِ الأَمَةِ المزوَّجَةِ إذا زالَ حقُّ الزَّوجِ عنها، فإنَّه يَحتاجُ السيِّدُ إلى استِبرائِها على النصِّ في "الأُم" (¬2). وفِي "شرح (¬3) الرَّافعي" الحِكايةُ عن نصِّه في "الأُم" (¬4)، فيما إذا كانتْ (¬5) أَمَتُه (¬6) مُعتدَّةً مِن زَوجٍ أنَّه لا يَلزَمُه (¬7) الاستِبراءُ بعد انقِضاءِ العِدَّةِ، وفيما إذا زَوَّجَ أَمَةً، وطَلَّقَها الزَّوجُ بعد الدُّخولِ: أنَّه يَلزَمُ الاستِبراءُ بعد انقِضاءِ العِدَّةِ. وفِي "الإملاء" عنْ نَصِّهِ عَكْسُ الجَوابَينِ في الصُّورَتَينِ، فحصَلَتْ في ¬
الصُّورتَينِ قَولانِ مَنصوصانِ. ولَم يُرجِّحِ الرَّافعي (¬1) شَيئًا في ذلك. ولَمْ يَذكُرْ في "الروضة" هذه الحِكايةَ عَن النُّصوصِ (¬2)، ولَمْ أَقِفْ على ما ذَكرَه عن "الأُم". والذي في "الأُم" (¬3) في الصُّورتَينِ لُزومُ الاستِبراءِ، وفِي "الروضة" (¬4) تَبَعًا للشَّرحِ تَرجيحُ وُجوبِ الاستِبراءِ، ونقَلَه البندنيجي عن النَّصِّ فيما ذَكراه، وفِي هذا المَوضعِ زَادتِ الفتنة على المُستولَدةِ. فعلى هذا يُزادُ سَببٌ ثامنٌ، وهو زَوالُ فِراشِ الزَّوجِ عن الأَمَةِ غيرِ المُستولَدَةِ، فإنَّه يَجِبُ عليها الاستِبراءُ بعد انقِطاعِ عُلْقَةِ الزَّوجِ، ومُضِيِّ مُدَّتِه (¬5). والاستِبراءُ في ذَواتِ الأَقْراءِ بقَرءٍ، وهو حَيْضة كاملة على الجَديدِ؛ كذا ذَكرُوه، وليس ذلك في الجَديدِ. ففِي "مختصَر المُزَنِي" (¬6): "الِاسْتِبْرَاءُ أَنْ تَمْكُثَ عِنْدَ الْمُشْتَرِي طَاهِرًا بَعْدَ مِلْكِهَا ثُمَّ تَحِيضُ حَيْضَةً مَعْرُوفَةً فَإِذَا طَهُرَتْ مِنْهَا فَهُوَ الِاسْتِبْرَاءُ" (¬7). ¬
[وفِي "الأم" (¬1): "الِاسْتِبْرَاءُ أَنْ تَمْكُثَ عِنْدَ الْمُشْتَرِي طَاهِرًا مَا كَانَ الْمُكْثُ قَلَّ أَوْ كَثُرَ ثُمَّ تَحِيضَ فَتَسْتَكْمِلَ حيضةً، فَإِذَا طَهُرَتْ مِنْهَا فَهُوَ اسْتِبْرَاؤُهَا"] (¬2). وفي (¬3) "مختصر المزني" (¬4): "وَإِنَّمَا قُلْت: طُهْرٌ ثُمَّ (¬5) حَيْضَةٌ حَتَّى تَغْتَسِلَ مِنْهَا؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- دَلَّ عَلَى أَنَّ الْأَقْرَاءَ الْأَطْهَارُ بِقَوْلِهِ في ابْنِ عُمَرَ يُطَلِّقُهَا طَاهِرًا [مِنْ غَيْرِ جِمَاعٍ فَتِلْكَ الْعِدَّةُ الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ أَنْ يُطلَّقَ لَهَا النِّسَاءُ] (¬6) وَأَمَرَ النَّبِيُّ (¬7) -صلى اللَّه عليه وسلم- في الإِمَاءِ أَنْ يَسْتَبْرِئْنَ بِحَيْضَةٍ، فَكَانَتْ الْحَيْضةُ الأُولَى أَمَامَهَا طُهْرٌ كَمَا كَانَ الطُّهْرُ أَمَامَهُ حَيْضٌ (¬8) فَكَانَ قَصْدُ النَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- في الِاسْتِبْرَاءِ إلَى الْحَيْضِ وَفِي الْعِدَّةِ إلَى الْأَطْهَارِ". وفِي "الأُم" (¬9) نحوُ ما في "المُختصَر" بأَبسطَ منه، وفيه (¬10): فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: لِمَ زَعَمْت (¬11) أَنَّ الِاسْتِبْرَاءَ طُهْرٌ ثُمَّ حَيْضَة، وَزَعَمْت في الْعِدَّةِ أَنَّ الْأَقْرَاءَ ¬
الْأَطْهَارُ؟ قُلْنَا لَهُ: بِتَفْرِيقِ الْكِتَابِ ثُمَّ (¬1) السُّنَّةِ بَيْنَهُمَا، فساق الكلام على ذلك، ثم قال: "كَانَ قَوْلُ النَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "يَسْتَبْرِئْنَ بِحَيْضَةٍ" يَقْصِدُ قَصْدَ الْحَيْضِ بِالْبَرَاءَةِ، فَأَمَرْنَاهَا أَنْ تَأْتِيَ بِحَيْضٍ، كَمَا أَمَرْنَاهَا (¬2) إذَا قَصَدَ (¬3) الْأَطْهَارَ أَنْ تَأْتِيَ بِطُهْرٍ كَامِلٍ". فهذِه نُصوصُ الجَديدِ، وهِيَ (¬4) مُخالفةٌ لِما ذَكرُوه. وقَضيةُ هذه النُّصوصِ أنَّه لو (¬5) مَلكَ الأَمَةَ آخِرَ الطُّهْرِ بِحيْثُ يَعْقُبُه الحَيْضُ مِن غَيرِ طُهْرٍ سَابقٍ أنَّه لا يُعتدُّ بِهذَا الاستِبراءِ، وقَضيةُ ما ذَكرُوه أنَّه يُعدُّ (¬6) استِبْرَاءً (¬7). والمُعتمَدُ ما ذَكرَه الشافعيُّ رضي اللَّه عنه في نُصوصِه، وحيثُ ذَكرَ الحَيْضةَ فمُرادُه التي يَتقدَّمُها طُهْرٌ، كما صرَّحَ به رضي اللَّه عنه في غَيرِ ذلك، ولَمْ أَقِفْ على نصٍّ يُخالِفُه. ومَا حَكاهُ الرَّافعيُّ عن "الإملاء" والقَديمِ مِن أنَّ القَرْءَ في الاستِبراءِ الطُّهْرُ، وفرَّعَ عليه أنَّه لو وُجِدَ سَببُ الاستِبراءِ، وهي طَاهِرٌ أنَّه يُكتفَى ببقيةِ (¬8) الطُّهرِ على وَجْهٍ رَجَّحَه في "البسيط" لَمْ أَقِفْ على هذا النَّصِّ في كَلامِ ¬
الشافعيِّ، وهو مردودٌ بقولِه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "حتَّى تَحيضَ حَيضةً" (¬1). ولا فَرْقَ في الاستِبراءِ الذي ذَكرْناه عن النُّصوصِ بيْنَ المُستولَدةِ وغيرِها. * * * * وأمَّا المُتحيِّرةُ، فلَمْ يَتعرَّضُوا لها في الاستِبراءِ، وتعرَّضُوا لها في العِدَّةِ، وهِي مِن المُشكلاتِ، فإنَّها وإنْ كانَتْ لها (¬2) حَيضٌ وطُهْرٌ (¬3) إلَّا أنَّ ذلك غَيرُ مَعلومٍ، فيُنظرُ إلى الزَّمانِ بالاحتِياطِ المُقرَّرِ في عِدَّتِها، فإذا مَضَتْ خَمسةٌ وأرْبعونَ يَومًا، فقَدْ حَصلَ الاستِبراءُ. وبَيَانُ ذلك أَنْ يُقدَّرَ ابتِداءُ حَيْضِها في أوَّلِ الشَّهرِ مَثَلًا، فلَمْ يُحسَبْ ذلك الحَيضُ، فإذا مَضَتْ خَمسةَ عَشرَ يَومًا طُهْرًا، ثم بعد ذلك خَمْسةَ عَشرَ يومًا فيها حَيضةٌ كامِلةٌ، فقَدْ حَصلَ الاستِبراءُ. وشَرطُ الاستِبراءِ بالحَيضِ أن لا يكونَ هناك حَمْلٌ، فإن كان هناك حَمْلٌ فلا يَكفِي استِبراؤُها بالحَيضِ، ولو كان الحَملُ مِن الزِّنى على الأصحِّ بِخلافِ العِدةِ. وأما النِّفاسُ فقد سبق في "آخِر الحَيضِ في فصلِ النِّفاسِ": أنَّه لا يحصلُ به الاستبراءُ؛ لأنه ليس بحَيضٍ، وإذا لم تكنِ المستَبْرَأةُ مِن ذَواتِ الأقْراءِ فاستِبراؤُها بِشَهرٍ؛ نصَّ عليه في "مختصر المزني" وغيرِه في أُمِّ الوَلدِ. وقال في كتابٍ آخَرَ: إن كانتْ لا تحيضُ لِصِغَرٍ أو كِبَرٍ فثلاثةُ أشهُرٍ أحبُّ ¬
وأما الحامل
إليْنَا, لأن الحَمْلَ لا يَتبيَّنُ (¬1) في أقلَّ مِنه (¬2). واختارَ هذا جماعةٌ مِن الأصحابِ، مِنهم صاحبُ "المهذَّب" (¬3). ويَشهدُ له قولُ الشافعيِّ -رضي اللَّه عنه-: إنَّه أَحَبُّ إليْنَا. وقال المُزَنِيُّ: الأَشْبَهُ بما قال: إنَّ الشهرَ في الأمَةِ مقامُ الحَيضةِ (¬4). وفِي "شرح الرافعي" أنَّه الأصحُّ عند المُعْظَمِ، وفيه نَظرٌ. ولو قيل: إن كانَتْ كبيرةً لَمْ تَحضْ أو آيسةً فاستِبراؤُها بِثلاثةِ أشهُرٍ، وإن كانتْ صغيرةً يَستحيلُ عادةً أَنْ تَحبَلَ، فيُكتفَى فيها بِشَهرٍ لَكانَ له وجْهٌ. وقولُ الشافعيِّ -رضي اللَّه عنه- "لأنَّ الحَملَ لا يتبيَّنُ (¬5) في أقَلَّ مِن ثلاثةِ أشهُرٍ" (¬6)؛ يُشيرُ إلى [ما] (¬7) قرَّرْناهُ، ولَمْ نرَ مَنْ قال به. والفَتوى بما أَحبَّه الشافعيُّ أَحوَطُ. * * * * وأما الحامِلُ: فاستِبراؤُها بوَضعِ الحَملِ بِتَمامِه للحديثِ السابقِ. ولو كان الحملُ مِن الزِّنى، فإنَّه يحصُلُ بوَضعِه الاستبراءُ لِعُمومِ الخَبر عنِ النبيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-. ¬
وإذا مَلَكَها مَنْ صارتْ إليه مِن شَريكَيْنِ كانَا يطئانها، فإنَّه يَجِبُ استِبراءان على ما صحَّحه في "الروضة" (¬1) تبَعًا للشرحِ قُبَيلَ البابِ الثالثِ في عِدَّةِ الوَفاةِ. وذَكرَا قُبَيْلَ الكَلامِ على وَطءِ المُستبرَأةِ أو الاستِمْتاعِ بها (¬2) أنَّه لو اشْتراها مِن شَريكَيْنِ ووَطئاها في طُهْرٍ واحدٍ، فهَلْ يَكفِي استِبراءٌ واحِدٌ لِحُصولِ البَراءةِ، أمْ يَجِبُ استِبراءانِ كالعِدَّتَينِ (¬3) مِن شَخصَينِ؟ وَجهانِ. ويَجريانِ فيما لَو وَطئاها وأرادا (¬4) تَزويجَها هلْ يَكفِي استِبراءٌ أم (¬5) يَجبُ استِبراءانِ (¬6)؟ ولَمْ يُصحِّحَا شَيئًا مِنَ الوَجهَينِ، وقدْ صَحَّحَا المَنْعَ في ذلك كما سَبقَ، وتَقيِيدُ وَطْئِهما بطُهرٍ واحدٍ، فيه نَظرٌ. ومَحلُّ الخِلافِ في غَيرِ المَسبِيَّةِ، فأمَّا المَسبِيَّةُ فلا يَتعدَّدُ فيها الاستِبراءُ مُطْلقًا لإطلاقِ الخَبرِ السابقِ. ولَو مَضَى زَمنُ الاستِبراءِ بأنْوَاعِه بعد المِلْكِ وقَبْلَ القَبضِ فهو مَحسوبٌ إن مُلِك بإِرثٍ، وإنْ مُلِك بِهِبةٍ فَلَا، كذا في "المنهاج" (¬7) و"الروضة" (¬8) تَبَعًا للشَّرحِ، وهو مُتعقَّبٌ، فإن المِلْكَ في الهِبَةِ لا يَحصُلُ إلَّا بالقَبضِ على ¬
الجديد، وإن مُلِكَ بالشِّراءِ اعْتُدَّ به على الأصحِّ، كذا (¬1) في "المنهاج" (¬2). ومحلُّه ما إذا لَمْ يَكنْ هُناكَ خِيارُ مَجلسٍ ولا شرطٍ، فإن كان هناك خيارُ مَجلسٍ، فلا يُعتَدُّ بهذا الاستِبراءِ، نَصَّ عليه في "الأُم" (¬3)، فقال: ولو اشتَراها فلَمْ يَقبِضْها, ولمْ يَتفرقَا حتَّى وَلدَتْ في يَديه (¬4) البائعِ، ثم قَبضَها, لم يكُنْ له وَطؤُها حتَّى تَطهُرَ مِن نِفاسِها، ثم تَحيضَ في يَدِه (¬5) حَيضةً مُستقبَلةً (¬6)، مِنْ قِبَلِ أنَّ البَيعَ إنما تَمَّ له حين لَمْ يَكنْ لِلْبائعِ فيها (¬7) خِيارٌ بأن يَتفرقَا عنْ مَقامِهما الذي تَبايَعَا فيه. وفِي "مختصر المزني" (¬8) نحوُ ذلك. * * * * وأمَّا خيارُ الشَّرطِ، [ففِي "الروضة" (¬9): "لَوْ وَقَعَ الْحَمْلُ أَوِ الْحَيْضُ في زَمَنِ خِيَارِ الشَّرْطِ] (¬10) في الشِّرَاءِ، فَإِنْ (¬11) قُلْنَا: الْمِلْكُ لِلْبَائِعِ، لَمْ يَحْصُلِ ¬
الِاسْتِبْرَاءُ. وَإِنْ قُلْنَا: لِلْمُشْتَرِي، لَمْ يَحْصُلْ أَيْضًا عَلَى الْأَصَحِّ". ولَمْ يَتعرضْ لِما إذا شُرِطَ الخيارُ للْمُشترِي وحدَه. وفِي "الأُم" (¬1): "لَوْ اشْتراهَا وَقَبَضَهَا، وَشَرَطَ لِنَفْسِهِ الْخِيَارَ ثَلَاثًا ثُمَّ حَاضَتْ قَبْلَ الثَّلَاثِ، ثُمَّ اخْتَارَ الْبَيع كَانَتْ تِلْكَ الْحَيْضةُ اسْتِبْرَاءً". وصوَّرَ الشافعيُّ ذلك بأن يقبِضَها المُشترِي، والكَلامُ السابقُ فيما قَبْلَ القَبضِ. ويَحرُمُ الاستمتاعُ بالمُستَبْرَأةِ بالوَطءِ وغَيرِه إلَّا في المَسْبِيَّة فيحِلُّ غيرُ الوَطءِ؛ كذا صحَّحَه في "المنهاج" (¬2) و"الروضة" (¬3) تَبَعًا للشرحِ. وهو خِلافُ نَصِّ الشافعيِّ رضي اللَّه عنه الذي نقلَهُ ابنُ بِشرِي عن "كتاب السير"، ولَفْظُه: وإذَا اشْتَرى مِن المَغنَمِ جَاريةً أو وَقعت (¬4) في سَهْمِه لَمْ يُقَبِّلْها ولَمْ يتَلذَّذْ منها حتَّى يَستَبْرِئَهَا. وفِي نُصوصِه غَير هذا إطلاقُ مَنع الاستِمتاعِ لِلْمَمْلوكةِ حتَّى يَستبرِئَها، [ولَمْ يَستثْنِ] (¬5) مسبيَّةً ولا غيرَها. واستَثْنَى المَاورْديُّ مِنْ ذلك الحامِلَ مِنَ الزِّنى، فحكَى [فيها، وفِي المَسبيَّةِ وَجهَيْنِ، ثانِيهما: لا يَحرُمُ، ولَمْ يُرجِّحِ الماورْدِيُّ] (¬6) في ذلك شَيْئًا (¬7). ¬
ووجَّه الشافعيُّ المنعَ من قِبَلِ أنه قد يَظهَرُ بِها (¬1) حَمْلٌ مِن بائِعِها، فيكونُ قد نَظرَ مُتلذِّذًا، أو تَلذَّذَ بِأكثرَ (¬2) مِنَ النَّظرِ مِنْ أُمِّ وَلدِ (¬3) غَيرِه، وذلك مَحظورٌ عليه. وفِي "المختصر" نحوُ ذلك. وهو يَعُمُّ المَسبيَّةَ وغيرَها كما تقدَّمَ، مَعَ أنَّ المَسبيَّةَ قدْ يَظهرُ أنها أمُّ ولدٍ لِمُسلِمٍ فيظهَرُ أنَّه لا مِلْكَ للسَّابِي (¬4) عليها. وكأنهم لَمْ يلتَفِتُوا إلى ذلك لِنُدورِه، مع أنَّ النُّدرةَ فِي هذا البابِ لَمْ يَلتفِتِ الشافعيُّ إليها. ويَلزَمُ على الجَوازِ أنَّه لو اشترَى صَبيَّةً أو مِنْ صَبيٍّ أو امْرأةٍ بِحَيثُ (¬5) يَستحيلُ ظُهورُ أنها مُستولَدةٌ لِأحدٍ أنَّه لا يَحرُمُ الاستِمتاعُ فيها بِغَيرِ الوَطءِ ولَمْ أَرَ مَن ذَكَرَهُ. وإذا قالتِ المُستَبْرَأةُ: "حِضْتُ"، صُدِّقَتْ؛ كذا في "الروضة" (¬6) و"المنهاج" (¬7)، وظاهرُهُ غيرُ مَعمولٍ به، فإنَّها لا تُصَدَّقُ مُطْلَقًا، حتَّى لو اختَلفَ البَائعُ والمُشتَرِي في وُجودِ حَيْضِها وعَدمِه، فإنَّها لا تُصَدَّقُ على ¬
واحدٍ مِنْهُما. والذي في "شرح الرافعي" (¬1): "اعتَمَدَ قولَهَا؛ يعني: السيِّدَ؛ فإنَّ ذلك لا يُعلَمُ إلَّا مِنها" (¬2). وما ذَكرَه مِن أنَّه لا يُعلَمُ إلَّا منها مَمْنوعٌ، فإنَّ إقامةَ البيِّنةِ على الحَيضِ مَسموعةٌ. ومُرادُهُ بِقَولِه: "اعتَمَدَ" أنَّه يَجُوزُ للسيِّدِ أن يَعتمِدَ قولَها، ومحلُّ ذلك ما (¬3) إذا لَمْ يَظهَرْ منها ما يمنعُ مِن الثِّقةِ بِقَولِها. وفِي "الروضة" تَبَعًا للشَّرحِ: "لا تُحلَّفُ"، زاد في "الشرح": فإنَّها لَو نكلَتْ لَمْ يَقْدِرِ السيِّدُ على الحَلِفِ (¬4). وما ذَكرَهُ مِن عَدمِ القُدرَةِ على الحَلِفِ مَمنوعٌ. فإنْ (¬5) تعلَّق بأنَّ النُّكولَ واليمينَ المردودةَ من تعلُّقاتِ الخصوماتِ عند الحاكِمِ. قلنا: هذا وجهٌ، وقضيةُ مقابلةِ القدرةِ على ذلك، وقد رُجِّح ذلك وسيأتي. ¬
ولَو أَرادَ السيِّدُ أَنْ يَطأَهَا فامتَنعَتْ، فقال السيدُ: "أَخبَرتْنِي بِتَمامِ (¬1) الاستِبراءِ" فإنَّه يُصدَّقُ السيِّدُ؛ كذا في "المنهاج" (¬2) و"الروضة" (¬3) تَبَعًا للشرحِ، وهو كلامٌ لا معْنى له فإنَّه لا مُحاكَمةَ عند حَاكمٍ حتَّى يُقالَ: "صدق". واللائِقُ أَنْ يقال: عَمَلُ السيِّدِ بما أَخبَرتْه، وفيه وَجْه: أنَّه لا يُعمل به. وهلْ لَها تَحليفُه؟ فيه وجهانِ، حقيقتُهُما أنَّه هَلْ لِلأَمَةِ المُخاصَمةُ في ذلك والارْتِفاعُ إلى الحَاكِم فيه الخِلافُ. وكذا لو قالتْ "وطِئَنِي أبُوكَ، فأنَا حَرامٌ علَيكِ"، وأنكَرَ (¬4) هو ذلك؛ زاد في "الروضة" (¬5): الأصحُّ أنَّ لها التَّحليفَ في الصُّورَتَيْنِ، وعليها الامتناعُ إذا تيقَّنَتْ بقاءَ شيءٍ مِن الاستِبراءِ، ولا تَصيرُ الأَمَةُ فِراشًا إلَّا بالوَطْءِ الذي عُرِفَ بإِقْرارِه أو ببَيِّنةٍ (¬6)، فإذا وَلَدتْ [لزِمَن الإمكان] (¬7) مِن وَطْئِهِ، فإنَّه يلحقُهُ إلَّا أَنْ يَدعيَ الاستِبراءَ ويحلَّفُ على نفْي الوَلدِ. وإذا وَلدتْ بعْدَ الاستِبراءِ لِدُونِ الإمكانِ فإنَّه يَلحَقُه، ويُلغى الاستِبراءُ، ¬
ولا يُنْفى باللِّعانِ، خِلافًا لِمَا صحَّحه المُتولِّي، وهو عَجيبٌ. وإذا ادّعتِ الوطْءَ وأُمِّيةَ الولدِ، وأَنْكرَ السيِّدُ الوَطْءَ، ففِي "الروضة" (¬1) و"المنهاج" (¬2): إنْ كان هناك وَلَدٌ لَم يُحَلَّفْ على الصَّحيحِ، زاد في "الروضة" (¬3) تَبَعًا للشرحِ: وإنْ لَم يَكنْ هُناكَ وَلَدٌ لَمْ يُحَلَّفْ، بِلَا خِلافٍ. وهذا لا يُعرَفُ في الطَّريقَيْنِ، وهو مَحْكيٌّ عن القفَّالِ ومَن تبِعَهُ، وهو مُخالِفٌ لِمَا عُلِمَ مِن قاعدةِ الشَّرعِ في الدَّعوى، وهو مَردودٌ لا يُعمَلُ به. ولو قال: "كنتُ أطأُ وأعزِلُ" فلا يَندفِعُ به نَسَبُ الوَلدِ على النصِّ، ومحِلُّ الخِلافِ فيما إذا كان الوَطءُ في القُبُلِ، فأما إذا كانَ في الدُّبُرِ، فإنَّه لا يلحقُ الولدُ قَطْعًا, ولَم أَرَ مَنْ تعرَّضَ لِذلك، واللَّه أعلمُ. * * * ¬
كتاب الرضاع
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ كتاب الرضاع هو بِفَتحِ الرَّاءِ وكَسرِها، ورضِعَ بكَسْرِ الضَّادِ، يَرْضَعُ بِفَتحِ الياءِ والضَّادِ، وبِفَتحِ ضَادِ المَاضِي وكَسرِها في المُضارعِ، وامرأةٌ مُرْضِعٌ؛ أي: لها ولَدٌ تُرْضِعُه، فإنْ وَصفْتَها بإِرضَاعِه قُلتَ: مُرْضِعَةٌ. وهُو لُغَةً: اسمٌ لِمَصِّ الثَّدْيِ لِشُربِ اللَّبَنِ، وما تصرَّفَ منه رَاجعٌ إلى هذا المعنى، ورَضُعَ الرَّجلُ -بالضمِّ- كأنَّه كالشيءِ يطبعُ عليه. وشَرْعًا: وُصولُ لَبَنِ آدَميةٍ، يُمْكِنُ بُلوغُها، انفَصلَ منها في حَياتِها،
وحَصَلَ في جَوفِ آدميٍّ حيٍّ قبْلَ الحَولَينِ (¬1) على وجْهٍ مَخصوصٍ. وهو مِمَّا ثَبتَ (¬2) حُكْمُهُ شَرعًا، وإنْ تقدَّمَ الرَّضاعُ البعثةَ المُحمديةَ لِمَا صحَّ مِن قَولِه -صلى اللَّه عليه وسلم- في بنتِ أَبي سَلمةَ: "إنَّها لَو لَمْ تَكنْ (¬3) رَبيبتِي في حَجْرِي ما (¬4) حلَّتْ لِي أرْضعَتْيي وأبَاهَا ثُوَيْبةُ" (¬5). وقال رسولُ اللَّه (¬6) -صلى اللَّه عليه وسلم- في ابنةِ حمزةَ: "إِنَّهَا لا تَحِلُّ لِي، إِنَّهَا ابْنَةُ أَخِي مِنَ الرَّضَاعَةِ" (¬7). فَظهرَ (¬8) بذلك تَرتيبُ الحُكمِ الشَّرعيِّ لِما سَبقَ مِن الرَّضاعِ قَبْل البعثةِ. [وقولُه تعالى: {وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ ¬
وشرط الرضاع المحرم
الرَّضَاعَةِ} يَقتضِي وُجودَ رَضاعٍ في الزَّمنِ الماضِي، ولو قَبْلَ البعثةِ] (¬1)، وكذلك [ما صَحَّ مِن] (¬2) قولِه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "يَحْرُمُ مِنَ الرَّضَاعِ مَا يَحْرُمُ مِنَ الْوِلادَةِ" (¬3). ولِلرَّضاعِ أَثرٌ في تَحريمِ النِّكاحِ وقَطْعِه، وإيجابِ مَهْرٍ أوْ نِصفِه أو بعضِهِ، أو مُتْعَةٍ على مَا سيأتِي تفصِيلُهُ، وثُبوتِ المحرميَّةِ المُقتضيَةِ لِجوازِ النَّظرِ والخَلوةِ، وعدمِ انتِقاضِ الوُضوءِ على أصحِّ القوليْنِ، وغسلِ الميتِ، والمُسافَرَةِ، دونَ سائِرِ أحكامِ النَّسبِ مِن ميراثٍ ونفقةٍ وإعفافٍ وعتقٍ بملكٍ وسقوطِ قِصاصٍ وتَحَمُّلِ عاقلةٍ وحضانةٍ وولايةٍ وولاءٍ ورَدِّ شهادةٍ وحكمٍ وغيرها (¬4). * * * وشَرْطُ الرَّضاع المحرِّمِ (¬5): ¬
1 - أَنْ يكونَ مِن آدمِيَّةٍ (¬1)، ولم يقُلْ مِن (¬2) امرأةٍ. وقال الشافِعِيُّ -رضي اللَّه عنه- في "الأم" (¬3) في الرضاع (¬4): "إنَّمَا يُحَرِّمُ لَبَنُ الْآدَمِيَّاتِ". فعلى هذا؛ الرَّضاعُ مِن بَهيمةٍ أو ما يظهرُ مِن البحرِ على شَبَهِ الإنسانِ -وهُو أُنثى- لا يثبُتُ بِهِ التَّحريمُ (¬5). أمَّا في البهيمةِ فنصَّ عليه، واتَّفق عليه الأصحابُ (¬6). فلو ارتَضَعَ طِفلانِ مِن بَهيمةٍ فَلَا أُخوةَ بينهما بسببِ الَّلبنِ المذكورِ, لأنَّ الأُخوَّةَ مِن قِبَلِ الأُمومةِ (¬7)، ولا أُمومةَ، فَلَا أُخُوَّةَ مِن جهتِها، وقد ثبتَ (¬8) في الرَّضاعِ أُخوةُ الأبِ، وإنْ لم تثبتِ الأُمومةُ، كما في المُستَوْلَدَاتِ ونحو ذلك، وسيأتِي (¬9). ¬
وأما الجِنِّيَّةُ فيُحْتَمَلُ أن يحرِّمَ لبنُها؛ لأنَّها مِن جِنس المُكلَّفين، بِخِلافِ البهيمةِ وأُنثى البحرِ، وظاهِرُ النصِّ يقتضِي أنَّ لبنَهَا لا يُحرِّمُ (¬1)، وهذا إذا كان لها لَبنٌ، فإنْ لم يكُنْ لها لبنٌ، فالصُّورةُ مُحالة، وكذلك أُنثى البحْرِ (¬2). فإن قيل: فقد ذُكِر عن أُنثى البحْرِ أنَّها حبلتْ مِن آدمِيٍّ (¬3)، قلتُ (¬4): لا (¬5) تصِحُّ هذِهِ الحكايةُ، وإن صحَّتْ فليستْ مِن جِنسِ المُكلَّفين. وخَرَج بِـ "الآدميَّةِ": الرجلُ والخُنثى، فلو دَرَّ لرجُلٍ لبنٌ، فأرضَعَ بِهِ أُنثى، لم تَحْرُمْ عليهِ، لكِنْ يُكرهُ له نكاحُها؛ نصَّ عليه في "البويطي" (¬6). وفِي "الأم" (¬7): لَا أَحْسَبُهُ يَنْزِلُ لِلرَّجُلِ لَبَنٌ، فَإِنْ نَزَلَ لَهُ لَبَنٌ فَأَرْضَعَ بِهِ (¬8) مَوْلُودَةً (¬9) كَرِهْتُ لَهُ نِكَاحَهَا وَلِوَلَدِهِ، وإِنْ نَكَحَهَا لَمْ أَفْسَخْهُ؛ لِأَنَّ اللَّه تَعَالَى ذَكَرَ رَضَاعَ الْوَالِدَاتِ، وَالْوَالِدَاتُ إنَاثٌ، وَالْوَالِدُونَ غَيْرُ الْوَالِدَاتِ، وَذَكَرَ الْوَالِدَ بِأَنَّ عَلَيْهِ مُؤْنَةَ الرَّضَاعِ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ حُكْمُ الْآبَاءِ حُكْمَ الْأُمَّهَاتِ ¬
وَلَا حُكْمُ الْأُمَّهَاتِ حُكْمَ الْآبَاءِ وَقَدْ فَرَّقَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بَيْنَ أَحْكَامِهِمْ (¬1). وما نَصَّ عليه -رضي اللَّه عنه- هو المشهورُ، وفيهِ وجهٌ يُنسب إلى الكَرَابِيسي (¬2) بالتَّحرِيم (¬3). وقيل: إنه مخرَّج. وقد سَبَقَ في النَّجاساتِ أنَّ ابنَ الصَّباغ قال: إنَّه نجسٌ يحرُمُ شربُهُ (¬4)، وهو خلافُ مقتضى حكايتِهِ (¬5) عن الشافِعِيِّ -رضي اللَّه عنه- وهي: أنَّه حَضَرَ رجلٌ عندَ الرَّشِيدِ له لَبَنٌ أَرْضَعَ منه، ولم يُنكِر ذلك الشافِعِيُّ (¬6). ¬
وأما الخُنثى (¬1): فإن اسْتُدِلَّ بلبنِهِ على أُنوثتِهِ عندَ (¬2) فَقْدِ سائِرِ الأَماراتِ فهو مُحَرِّم (¬3). وعن أبِي إسحاقَ (¬4): يُعرض اللبنُ على القَوَابِلِ، فإنْ قُلْنَ: إنَّ مثلَ هذا اللبَنَ (¬5) لا يكونُ إلَّا لِلإناثِ، حُكِمَ بأُنُوثتِهِ، وَحَرَّمَ. والمذهبُ أنَّه لا يثبُتُ بِهِ أُنوثةٌ؛ فعلى هذا يوقفُ التحريمُ على تبيُّنِ حالِهِ، فإنْ بأن أنَّه أُنثى ثَبَتَ التحريمُ، فإنْ قال بعد ذلك: "أنا ذَكَرٌ" لم يُقبلْ منهُ، وإنْ بأن أنَّه ذَكَرٌ، فَلَا تَحريمَ (¬6) إلَّا على وجهِ الكَرَابِيسيِّ (¬7). * * * 2 - ومِن شرطِ ذاتِ اللبَنِ: أَنْ تكونَ حيةً حالَةَ (¬8) انفِصالِ اللبَنِ منها، فلو ارْتَضَعَ مِن مَيتةٍ أو حُلب لبَنُها (¬9) وهي ميتةٌ: لم يتعلَّقْ بِهِ التحريمُ (¬10). ¬
ولو حُلِب في حياتِها و (¬1) أُوجِرَهُ الرضيعُ بعد موتِها: حرَّم على النَّص المعتمَدِ (¬2)؛ لِخروج اللبنِ مِنها وهِي حيةٌ، وفِيه وجهٌ: أنَّه لا يُحَرِّم، إذْ لا أُمومةَ بعدَ الموتِ بِخِلاف الأُبوَّةِ بعدَ الموتِ، فإنَّها تثبُتُ اتِّفاقًا. ومحلُّ هذا الوجهِ فِيما إذا ماتَتْ قبلَ (¬3) حصولِ اللبَنِ في فيهِ، أمَّا إذا ماتَتْ (¬4) بعْدَ حُصولِ اللبَنِ في فَيهِ، ثُم شرِبهُ [بعدَ موتِها] (¬5)، فإنَّه يحرِّمُ قطعًا. وقِيل: الوجْهُ مُطلقًا، وهو الأرجحُ. ولو خَرَجَ اللبَنُ مِن غيرِ الطرِيقِ المُعتادِ بأنْ خَرَجَ مِن ثُقبٍ في [الثَّدي، فالقياسُ أنَّه يُحرِّمُ، ولو قُطِع الثَّديُ فشُرِبَ مِن اللبَنِ الخَارِج مِن أصلِهِ حرَّم، وللمسألةِ شَبَهٌ بِخُروج المنيِّ مِن ثقبٍ في] (¬6) الذَّكَر أو في الأُنْثَيين أو انكسر صلبُهُ فَخَرَجَ مِنه المَنِيُّ (¬7)، لكن الأرجحُ هُنا التحريمُ؛ لوجود الغِذاءِ بِهِ، ومحلُّ ذلِك فِيما إذا كان مُسْتحيلًا، أمَّا إذا كان دمًا، فَلَا أثرَ له قطعًا. * * * ¬
واعلمْ أنَّه لَا يُشْتَرَطُ لثبوتِ التَّحريم بقاءُ الَّلبنِ المُحرِّم على هيئتِهِ حالةَ انفِصالِهِ عنِ الثَّدي، فلو تغيَّر بحموضةٍ أو انعقادٍ أو غليٍ (¬1)، أو صار جُبنًا، أو أقِطًا، أو زُبدًا، أو سَمنًا، أو مخيضًا، أو مصْلًا، أو مشًّا، وتناوَلَ ذلك الرضيعُ ثَبَتَ التحريمُ بشرطِهِ؛ لِوصولِ الَّلبنِ إلى الجَوْفِ، وحصولِ التَّغذِّي بِهِ (¬2). وقد نصَّ في "الأم" و"المختصر" (¬3) على الجُبنِ، فقال: "وَلَوْ جَبُنَ اللَّبَنُ فَأُطْعِمَهُ كَانَ كَالرَّضَاعِ" (¬4). فلم يتْبَع الشافعيُّ اسمَ اللبن؛ قال الغزالِيُّ (¬5): اعتَبَرَ الشافعيُّ اسمَ الإرْضاع، ولم يعتَبِرْ اسمَ اللبنِ (¬6). وما قاله الغزاليُّ مُشكلٌ مِن أجلِ أنَّ الرَّضاعَ والإرضاعَ لا يُشْترطُ وجودُ حقيقتِهِما. ¬
وأما المخلوط ففيه صور
وما قاله الغزاليُّ يُقررُ بأنَّ الإرضاعَ يقتضِي إيصالَ جُزءٍ مِن الذِي يحصُلُ بِهِ الغِذاءُ، وذلك هو المُعتَبَرُ عندَ الشَّافِعِيِّ -رضي اللَّه عنه- وَلَا يُعتبَرُ عِلاجُ المرأةِ. وفي (¬1) "البسيط" (¬2): لَم يتبع الشافعيُّ اسمَ اللبن، وإن اتَّبع اسمَ الإرضاع (¬3)، وكأنه (¬4) يتخيلُ وصولَ جزءٍ مِن المُرْضِع (¬5) إلى المُرتضِع، وقد وَصَل قطعًا. ولم يذكروا في الجُبن ونحوِهِ القَدْرَ الذي يثبُتُ بِهِ (¬6) التحريمُ، والقياسُ: أنَّه يعتَبَرُ أن يأكُلَ مِن ذلك (¬7) قدْرًا لو كان لبنًا أَمْكن أن يرتَضِعَ مِنهُ خَمْسًا، وأنْ يكونَ التفرِيقُ موجودًا في الابْتِداءِ والانْتِهاءِ، ولا يُعتبَرُ في كلِّ أكلةِ الشِّبَعُ مِن ذلك المأكولِ، والمُعْتَبَرُ ما ذُكر في اللبن. * * * وأمَّا المخلوطُ فِفِيه صورٌ: * أحدُها: أن يُعْجَنَ باللبنِ دقيقٌ ويُخبزُ، ففِي"الروضة" (¬8): الصحيحُ أنَّه يحرِّمُ، وفِي "الشرح": فيه وجهٌ عنِ القاضِي حُسين. ¬
الصورة الثانية
والراجِحُ عندي التفصيلُ؛ فإنْ ذَهَبَ أثرُ اللبن فَلَا تحرِيمَ، وإنْ بَقِي أثرُهُ بِنعومةٍ ونحوِها مِما يخالِفُ عجنَه بالماءِ، فإنَّه يثبُتُ بِهِ التحريمُ. * الصورةُ الثَّانية: المخلوطُ في غيرِ صورةِ الخُبزِ، فإنْ كان بِمائع أو جامِدٍ يَنْمَاعُ كالسُّكَّرِ أو ثُرِدَ (¬1) به طعام، ففِي "الأم" (¬2) في ترجمة رَضَاعَةِ الكبير (¬3): "وَإِنْ خُلِطَ لِلْمَوْلُودِ لَبَن في طَعَامٍ فَيَطْعَمُهُ كَانَ اللَّبَنُ الْأَغْلَبَ (¬4) أَوْ الطَّعَامُ إذا وَصَلَ اللَّبَنُ إلَى جَوْفِهِ، وَسَوَاءٌ شِيبَ لَهُ اللَّبَنُ بِمَاءٍ كَثِيرٍ أَوْ قَلِيلِ إذَا وَصَلَ إلَى جَوْفِهِ فَهُوَ كُلُّهُ كَالرَّضَاعِ" (¬5). ثم قال الشافِعِيُّ (¬6): "وَلَوْ أَنَّ صَبِيًّا أُطْعِمَ لَبَنَ امْرَأَةٍ في طَعَامٍ مَرَّةً وَأُوجِرَهُ أُخْرَى، وَأُسْعَطهُ أُخْرَى، ثُمَّ أُوجِرَهُ وَأُطْعِمَ حَتَّى يَتِيّمَ لَهُ خَمْسُ مَرَّاتٍ كَانَ هَذَا الرَّضَاعُ الَّذِي يُحَرِّمُ، كُل وَاحِدٍ مِنْ هَذَا يَقُومُ مَقَامَ صَاحِبِهِ، وَسَوَاءٌ لَوْ كَانَ مِنْ صِنْفِ هَذَا (¬7) خمسٌ مِرَارًا، أَوْ كَانَ مِنْ أَصْنَافٍ شَتَّى". وقال المزنِيُّ (¬8): "أَدْخَلَ الشَّافِعِيُّ عَلَى مَنْ قَالَ: إنْ كَانَ مَا خُلِطَ بِاللَّبَنِ أَغْلَبَ لَمْ يُحَرِّمْ، وَإِنْ كَانَ اللَّبَنُ الْأَغْلَبَ (¬9) حَرَّمَ فَقَالَ: أَرَأَيْت لَوْ خَلَطَ ¬
حَرَامًا بِطَعَامٍ وَكَانَ مُسْتَهْلَكًا في الطَّعَامِ (¬1) أَمَا يُحَرِّمُ؟ فَكَذَلِكَ اللَّبَنُ" (¬2). ولم يختلِفْ قولُ الشافِعِيِّ في ذلك، وذكر في "الروضة" (¬3) تبعًا للشرح، وفِي "المنهاج" (¬4) تبعًا للمُحرَّر (¬5) قولين في التَّحريم بالمغلوبِ، وهذا مخالفٌ لِكلام الشافِعِيِّ في "الأم" و"مُختصر المُزنِي"، ولم يذكُرِ العِراقِيون ذلك ولَا المراوزةُ إلَّا البغويَّ والزَّازَ ومَن تبِعهما، وأما المخلوطُ بالماء فهو كالمخلوطِ بالمائِعِ. ومِنَ الأصحابِ مَن فرَّق بينَ الماءِ وغيرِهِ، وقال في الماءِ واللبن: مغلوبٌ فيه إنِ امتَزَج بما دون القُلَّتين، وشَرِبَه الرضيعُ كلَّه، ففِي ثبوتِ الحُرْمةِ قولان (¬6). وإن شرب بعضَه فوجهانِ، أو قولان مرتَّبان، وأولى بأنْ لَا يثبت، وإنِ امتَزَج بقُلَّتينِ فأكثر، فإنْ (¬7) لم يثبتِ التحريمُ بدون (¬8) القُلَّتين، فهنا أَولى، وإنْ ¬
وفي المراد بالمغلوب وجهان
أثبتناه، وتناول بعضَهُ لم يؤثِّرْ. وإنْ شرِبَه كلَّه فقولانِ مُرتبَّان، وأولى بأنْ لَا يُؤثِّر (¬1). وهذه الطريقةُ ضعيفةٌ لا تُلائِمُ أدلةَ الشرع، ولا يُعْتَبَرُ بِجريان الغزالِيِّ عليها، وهي مردودةٌ. (¬2). * * * وفِي المُراد بِالمغلوبِ وجهان: * أحدهما: خروجُه عن كونِهِ مُغذِّيًا. * والثانِي: أنَّ الاعتبارَ بِصفاتِ الَّلبنِ: الطعمُ واللونُ والرائحةُ؛ فإنْ ظَهَرَ شيْءٌ في المخلوطِ فاللبنُ (¬3) غالِبٌ، وإلَّا فمغلوبٌ، وصُحح (¬4). والصحيحُ عندنا أَنْ نقدِّر اللبنَ بالمخالِفِ الأشدِّ كما في النَّجاسةِ المواقعةِ لِلماءِ (¬5). * ضابطٌ: ليسَ (¬6) في الشريعةِ اعْتبارُ قُلَّتينِ إلَّا في بابينِ (¬7): الطهارَةُ، والرَّضاعُ. ¬
ومِن شرْطِ ذاتِ اللبنِ كونُها مُحتملَةً للبلوغ، وفِي "الروضة" (¬1) تبعًا للشرح كونُها مُحتملَةً لِلولادة، وهو غيرُ مُستقِيم؛ لأنَّ احتمالَ الولادةِ يَستدعِي تقدُّمَ مدةِ الحملِ، وذلك (¬2) غيرُ معتبَرٍ اتِّفاقًا. وقولُنا: "مُحتملةً لِلْبلوغ" أردْنَا (¬3) بِهِ البُلُوغَ بِالمنِيِّ، وكذا بالحيْضِ، وفِي "المنهاج" (¬4) تبعًا للمُحَرَّر (¬5): أن يحصُلَ اللبَنُ بعدَ تِسع سِنين، وليس كذلك، بل اللبنُ الموجودُ قبلَ تِسع سنين بزمنٍ لا يسعُ حيضًا وطُهرًا يُحَرِّمُ (¬6)؛ تفريعًا على ما صححوه من"التقريب"، كما يُحْكم بأنَّ الدَّمَ الموجودَ في الزمنِ (¬7) المذكُورِ حيْضٌ، وحيْثُ لم يَصِلْ إلى الإمكانِ، فلبنُها لا يُحَرِّمُ، وأما البِكْرُ التي يُمكِنُ أن تحبَلَ فلبنُها مُحَرِّمٌ. وقال الشافعيُّ: لَوْ أَنَّ بِكْرًا لَمْ تُمَسَّ (¬8) بِنِكَاحٍ وَلَا غَيْرِهِ، أَوْ ثَيِّبًا، وَلَمْ يُعْلَمْ لِوَاحِدَةٍ (¬9) مِنْهُمَا حَمْلٌ نَزَلَ لَهُمَا (¬10) لَبَنٌ فَحُلِبَ فَخَرَج (¬11) فَأَرْضَعَتَا بِهِ مَوْلُودًا خَمْسَ رَضَعَاتٍ؛ كَانَ ابْنَ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا، وَلَا أَبَ لَهُ، وَكَانَ في ¬
غَيْرِ (¬1) مَعْنَى وَلَدِ الزِّنَا (¬2). وأمَّا المَحِلُّ الذِي يصِلُ إليه ما ذُكر فهو مَعِدةُ الرَّضيعِ الحيِّ، أو مَا في معنى المعِدةِ؛ فلو حُقِنَ بِاللبنِ أو قُطِر في إحلِيلِهِ فَوَصَلَ مَثَانَتَه، أو كان على بطنِهِ جراحةٌ فَصُبَّ اللبنُ فِيها حتَّى وَصَل إلى الجوفِ، فإنَّه لا يثبُتُ التحريمُ في ذلك (¬3) إلَّا أَنْ يصِلَ إلى المعدةِ لِخرْقٍ في الأمعاءِ فإنهُ يثبُتُ التَّحريمُ (¬4). وعندي أنَّه (¬5) يثبتُ التحريمُ، وإن لم يحصُلِ الخرقُ المذكورُ، وما ذكرناهُ في الحُقنةِ هو أحدُ القولينِ المنصوصينِ في "المختصر"، واختَارَ المزنِيُّ ثبوتَ الحُرمةِ كما يحصُلُ بِهِ الفِطرُ. ولو صُبَّ في أُذنِهِ لم يثبتِ التَّحريمُ على الأرجح (¬6). وأما الصَّبُّ في العَينِ فَلَا يؤثِّرُ؛ كذا ذكروهُ (¬7)، ومحلُّهُ فِيما إذا لم يوجَدْ في حَلْقهِ اللبَنُ [فإن وُجِد في حلقِهِ اللبَنُ] (¬8) وانحَدَرَ إلى المعِدةِ فإنَّه يثبُتُ التَّحريمُ. ¬
ولو ارتَضَع وتقيَّأ في الحالِ حَصَل التَّحريمُ على ما صححوه، ومَحَلُّه ما إذا وَصَل إلى المعدةِ، فإنْ لمْ يصِلْ (¬1) فَلَا تحريمَ (¬2). ويُعتَبَرُ في الصورِ كلِّها [التِي يثبتُ فِيها التحريمُ] (¬3) أَنْ يكونَ ذلك في مَن لم يبلغْ حَولينِ؛ فمَن بَلَغ سنتينِ فَلَا تَحريمَ يتعَلَّق بِهِ (¬4). ويُعتَبَرُ الحولان بالأهِلَّة؛ فإنِ انْكَسَرَ الشهرُ الأولُ اعتُبِرَ ثلاثةٌ وعشرون شهرًا (¬5) بعدَهُ بِالأهِلَّة، ويكملُ المنكسِرُ ثلاثينَ مِن الشهرِ الخامِسِ والعِشرين. ويُحسبُ ابتداءُ الحَوْلينِ مِن وقتِ انفِصالِ الولدِ بِتمامِهِ، فلو ارتَضَع قبلَ انفصالِ جميعِهِ لم يتعلَّقْ بِهِ التحريمُ على ما رَجَّحُوه (¬6). وعِندِي يثبتُ التحريمُ في هذِهِ لحصولِهِ في معدتِهِ، ولا يمنَعُ مِن ذلك استِتارُ باقِيهِ إذا كان حيًّا، فالميِّتُ لَا يتعلَّقُ بِهِ تحريمٌ. ولا تثبتُ حُرْمةُ الرَّضاع إلَّا بخمْسِ رضَعَاتٍ على المنصوصِ (¬7). ¬
والرجوعُ في الرضعةِ إلى العُرْفِ، فإنْ تخلَّل فصلٌ طويلٌ تعدَّدتْ، ولو ارتَضَع ثُم قَطَعَ إعراضًا واشتَغَل بشيءٍ آخَرَ ثُم عاد فرضْعَتانِ (¬1). ولو قَطَعتِ المُرضعةُ، ثُم عادتْ إلى الإرْضاعِ، فإن لم تتسوَّفْ فكقطْعِهِ، وإنْ تسوَّفَتْ وذهبتْ لِشغلٍ خفيفٍ، وعادتْ فواحدةٌ، وإلَّا فَمُرَجَّحُ المَرَاوزةِ وبعضِ العِراقيين أنَّه يُحسب رضعةٌ (¬2) أخرى (¬3)، وظاهِرُ النَّصِّ مع المخالِفِ. ولو حُلب لبنُ امرأةٍ دفعةً وأُوجِر في خمسٍ فرضعةٌ على الأظهرِ (¬4). * * * وتحريمُ الرضاع يتعلقُّ بالمُرضعةِ والفَحْلِ الذِي لهُ اللبنُ، والطِّفلِ الرضيعِ. وتنتشرُ الحُرمةُ من المُرضعةِ إلى آبائِها وأمهاتِها مِن النَّسبِ والرضاعِ وإلى (¬5) أولادِها وإخوتِها وأخواتِها كذلك، وتنتشرُ مِن الفحلِ كذلك، وتنتشرُ مِن الرضيع إلى أولادِهِ مِن النسبِ والرضاع فقط. * * * ¬
ويعتبر لتحريم الرضاع من جهة الرجل أربعة شروط
ويُعتَبَرُ لِتحريمِ الرَّضاعِ مِن جِهةِ الرَّجلِ أربعَةُ شُروطٍ: * أحدُها: [أن تحمل] (¬1) ذاتُ اللبنِ مِن الفحلِ؛ فلا يكفِي فِي التحريمِ مِن جهتِهِ أن تُرضع امرأتُه التي لم (¬2) يدخُلْ بِها أو دَخَل بِها ولكن لم تحملْ. وفِي "التنبيه" (¬3): "وإن ثار (¬4) لها لبن بوَطْءٍ مِن غيرِ حملٍ ففِيهِ قولان (¬5) " (¬6) وهذا لَا (¬7) يمكنُ حملُه على التَّحريم مِن جِهة المُرضِعةِ، بل يُحَرِّمُ مِن جهتِها قطعًا، وإنما الخلافُ فِي التَّحريم على الواطِئِ خِلافًا لِما اعتقده فِي "الكفاية". ونَقَل القاضِي حُسينٌ فِي "التعليقة" عن روايةِ حرملَةَ أنَّه يحرِّمُ بِمجرد (¬8) الوطْءِ، فعليه يُنزل ما فِي "التنبيه". * * * * الشرط الثاني: أن يكونَ اللبنُ منسوبًا إلى الفَحْلِ، واللبنُ النازلُ على حملِ الزِّنى لا حُرْمةَ له، فلا يحرُمُ على الزانِي أَنْ ينكِحَ الصغيرةَ المُرتضِعَةَ (¬9) من ذلك اللبنِ، لكن يُكره؛ نصَّ عليه (¬10). ¬
وحكاية "الروضة" (¬1) تبعًا لأصلها فِي بُطْلانِ النِّكاح خِلافًا نتعقَّبُهُ بالنَّص على عدمِ فسْخِ النِّكاح؛ حيثُ قال فِي "المختصر" (¬2): وأكرهُ لهُ فِي الورع أن ينكحَ بناتِ الذي وُلِد مِن زِناه، فإنْ نكَح لم أفسخْهُ. ولو نفى وَلدًا بالِّلعان (¬3)، وارتَضَعتْ (¬4) صغيرةٌ بلبنِهِ لم تَثبتِ الحُرمةُ. ولو ارتضعتْ به، ثم لاعَنَ انتَفَى الرضيعُ عنه، كما ينتفِي الولدُ، فلو (¬5) استلحَقَ الولَدَ بعد ذلك لَحِقَهُ الرَّضيعُ، نصَّ عليه، وأطلَقَهُ الأصحابُ (¬6)، ولابُدَّ مِن تقييدِ ذلِك بأنْ لَا يكونَ (¬7) دَخَل بِالملاعنةِ، فإنَّ المنفيَّةَ باللِّعانِ التِي دَخَل بأمِّها يحرُمُ نكاحُها قطْعًا. ولا يأتِي هُنا الخلاف (¬8) فِي نِكاح المنفيَّةِ باللِّعانِ التي لم يُدْخلْ بأمِّها، خِلافًا لِما فِي "الروضة" (¬9) وأصْلِها، فإجراءُ الوجهينِ هُنا ذُهولٌ عن شرْطِ ثبوتِ الحُرمةِ، وهُو الحملُ، كما تقدَّم، وإذا لم يُوجَدِ الدُّخولُ كيف يُوجدُ الحَمْلُ؟! ¬
الشرط الثالث
ولو كان الحملُ مِن واطِئِ شُبهةٍ فاللبنُ النازِلُ عليهِ يُنْسَبُ إلى الواطِئِ كالولدِ على المشهورِ. * الشرطُ (¬1) الثالثُ: أَنْ لَا يكونَ قد سبقتْ نِسبةُ اللبنِ (¬2) إلى زوجٍ آخَرَ أو وَطْءِ (¬3) شُبهةٍ، فإنْ سبقتْ لم يَكْفِ الحملُ من الثانِي فِي قطْع أثرِ النسبةِ للأولِ، بلْ لَابُدَّ مِن الولادةِ. فلو طلَّق زوجتَه أو مات عنها، ولها لبنٌ فأرضعتْ بِهِ طفلًا قبلَ أَنْ تنكِحَ فالرضيعُ ابنٌ للمُطَلِّقِ (¬4) والميتِ، سواءً انقَطَع وَعَاد أو لم ينقطِعْ على الصحيح، فلو نكحتْ بعدَ العِدَّةِ زوجًا وولدتْ منهُ فاللبنُ بعد الولادةِ للثانِي. وأما قَبْلَ الوِلادةِ مِن الزوْجِ الثَّانِي فإنْ لم يُصِبْها أو أصابَها وَلَم تحْبَلْ أو حبلَتْ، ولم يدخُلْ وقتَ حُدُوثِ اللبَنِ [لِهذا الحملِ، فالَّلبَنُ لِلأولِ، وإن دخل وقتَ حدوثِ اللبنِ] (¬5) للحَمْلِ الثانِي، فاللبَنُ لِلأولِ على المشهورِ. فلو نَزَلَ للبِكْرِ لبنٌ فنكحَتْ ثُم حَبَلَتْ مِن الزوج، فحيْثُ قُلنا فِي صورةِ الزوجَيْنِ إنَّ اللبَنَّ للثانِي فهو للزوْجِ، وحيثُ قُلنا هو لِلأولِ، فهُو لِلمرأةِ ولَا أَبَ لِلرضِيعِ. * * * ¬
الشرط الرابع
* الشرط الرابع: أَنْ يكونَ الارْتِضاعُ مِن جِهةٍ واحِدةٍ، فأمَّا إنْ وُجِد مِن جهاتِ موطوآتٍ كمستولدَاتٍ، فقالوا: يحرِّمُ على الأصَحِّ، لَا مِن جِهاتِ (¬1) محارِمٍ كبناتٍ وأخواتٍ فَلَا (¬2) تحريمَ على الأصَحِّ (¬3). والمعتمَدُ فِي الفتوى أنَّه لَا تحريمَ (¬4) مُطلقًا؛ لِأنَّ (¬5) وجودَ أبٍ وَلَا أُم محالٌ فِي النَّسب (¬6)، فكذا (¬7) فِي الرَّضاع. * * * وإذا وُطِئت منكوحةٌ بشبهةٍ، أو وَطِئَ رجُلان امرأةً بشبهةٍ، وأتَتْ بولدٍ، وأَرضعتْ باللبنِ النَّازِلِ عليه (¬8) طِفلًا فهو تابعٌ للولدِ (¬9). فإنِ انحَصَرَ الإمكانُ فِي أحدِهِما فالرضيعُ ولدُهُ، وإنْ لمْ يَلْحَقْ واحدًا مِنهما فالرضيعُ مقطوعٌ عنهُما. وإنْ تحقَّق الإمكانُ فِيهما عُرِض على القائِفِ فبأيِّهما ألحقَهُ لَحِقَه الرضيعُ، فإنْ لم يُكن (¬10) قائِفٌ ¬
أو نفَاهُ (¬1) عنهُما، أو تحيَّرَ، توقَّفْنا إلى البُلوغ، وانتِسابِ الولدِ؛ فإن مات الولدُ وله ولدٌ فللرضِيعِ الانتِسابُ (¬2) على الأظهرِ. وحُرمةُ الرَّضاعِ الطَّارِئةِ، قاطِعةٌ للنِّكاح، وإنْ لمْ تَكُنْ حرمةً مؤبَّدَةً، فكُلُّ (¬3) امرأةٍ يحرُمُ عليهِ أَنْ ينكِحَ بِنتَهَا (¬4) إذا أرضَعَتْ زوجتَهُ الصغيرَةَ الرَّضاعَ المُحرِّمَ ثبتتِ الحُرمةُ المؤبَّدةُ وانقَطعَ النِّكاحُ، وتَستحِقُّ الصغيرَةُ نِصفَ المُسمَّى إنْ كان صحيحًا، ونِصْفَ مهْرِ المِثلِ إنْ كان فاسِدًا، إلَّا أَنْ تكونَ المُرضعةُ مالكتَها فَلَا شَيْءَ لَها (¬5)، وعلى المرضعةِ للزوْجِ إنْ كان حُرًّا ولِسيدِهِ إن كان عبدًا نصْفُ مهْرِ المِثلِ؛ نصَّ عليه؛ فإن كانت المرضعة سيدة العبد فلا شيء له عليها. وقد ذَكَر شيخُنا فِي المُتعةِ أنَّ ابنَ الحدَّادِ أثبَتَ الرُّجوعَ بِها على المرضِعةِ فِي الأَمَةِ (¬6) المفوضةِ؛ قالوا: وهو تفريعٌ على إيجابِ نِصفِ [المُسمَّى، وإمَّا على إيجابِ نصفِ] (¬7) مهرِ المِثل، وهو المنصوص فيجِبُ هنا نصفُ مهْرِ المِثل. وصوَّب شيخُنا فِي فوائِدِه هنا مقالةَ ابنِ الحداد؛ لأنَّه لم ينظُرْ إلى المُسمى، ونَظَرَ إلى ما جُعِلَ عِوَضَ البُضْع شرعًا، وهو مَهْرُ المِثل، وقبلَ الدخول فِي المفوضةِ قوبل بالمتعةِ فيجِبُ على المرضعةِ المتعةُ. ¬
ولو أُوجر أجنبِيٌّ اللبنَ المحرِّم، فالغُرمُ على الأجنبِيِّ، فلو كانوا خمسَةً فعلى كُلِّ واحِدٍ خُمْسُ الغُرم، وإن كانوا ثلاثَةً فالغُرْمُ بالتوزِيع (¬1) على عددِ الرَّضعاتِ فِي الأصحِّ. ولو أُكرهتْ على الإرضاع، فَصَحَّح الرويانِيُّ أنَّ الغُرْمَ عليها لا على المُكرِهِ (¬2). ولو دَبَّت الصغيرةُ فرضَعَتْ من نائمةٍ فَلَا شَيءَ لها (¬3)، ولَا غُرْمَ على ذاتِ اللبنِ على الأَصَحِّ فِيهما. وإذا كانتْ تحتَهُ صغيرةٌ وكبيرةٌ فأرْضَعَ أصْلَ الكبيرةِ أو أختَهَا أو بنتَ أختِها الصغيرةَ انفَسَخَ نِكاحُ الصغيرةِ قطعًا، والكبيرةُ أيضًا على الأظهرِ، وهي (¬4) حُرمةُ جَمع. ولو أرضعتها (¬5) بنتُ الكبيرة، ففِي "الروضة" (¬6) حُكمُ الانفِساخ كما ذكرنا. قال شيخُنا: وهو وهْمٌ، بل ينفسخُ نكاحُ الكبيرةِ قطعًا، وكذا الصغيرةِ إنْ دَخَلَ بالكبيرةِ، وإلَّا فهو تحريمُ جَمْع فينفسخُ على الأظهرِ، وتحرُمُ الكبيرةُ على التأبِيدِ، وكذا الصغيرةُ إن كانتِ الكبيرةُ مَدخولًا بِها أو استدخَلَتْ ماءهُ على ما جزمُوا به، ويأتِي فِي نظائِرِهِ. ¬
وحُكمُ مهْرِ الكبيرةِ إنْ لم يكُن مدخولًا بِها كما سبق فِي الصغيرةِ، فإنْ دَخَلَ بِها فالأظهرُ غُرْمُ مهرِ المِثل. ولو طَلَّقَ الصغِيرةَ فأرضعتْهَا امرأةٌ صارتْ أُمَّ زوجتِهِ. ولو تزوَّجتْ مُطَلَّقتُه (¬1) صغيرًا وأرضعتْهُ بلبنِ المطلِّقِ حرُمَتْ على المطلِّق والصغِيرِ أبدًا. ولو زَوَّج أُمَّ ولده عبدَهُ الصغيرَ، وجوَّزنا إجبارَ العبدِ الصَّغِيرِ (¬2) وهو المرجوحُ، فأرضعتْهُ بِلبنِ السيِّدِ حرُمَتْ عليه، وعلى السيِّدِ. وعن المزنِيِّ (¬3) عن الشافعيِّ: إنْ أرضعتْ أُمُّ ولدِهِ بلبنِها منه زوجَهَا الصغِيرَ حرُمَتْ عليه، ولم تحرُم على السَّيدِ؛ لأنَّها لم تَصِرْ أُمًّا لهُ إلَّا فِي عدَمِ النِّكاح. وليسَ هذا النصُّ غلَطًا خِلافًا لهم، فقد وجَّههُ الشافعيُّ -رضي اللَّه عنه- بتوجيهٍ حسَنٍ، فإنَّها لم تكُنْ حليلةً للابْنِ حالةَ البُنُوَّةِ، وليس لأنَّ النكاحَ لم يصِحَّ كما قال الشيخُ أبو علي، ولْيجْرَ هذا النصُّ فِي المطلَّقةِ ونحوِها. ولو أرضعتْ موطوءتُهُ الأمهُ (¬4) صغيرةً تحتَهُ بلبنِهِ أو لبنِ غيرِهِ حرُمتْ عليه الأمةُ والزوجةُ (¬5) أبدًا. ¬
والزوجةُ الكبيرةُ إذا أرضعتْ ضرَّتَها الصغيرَةَ انفسَخَ نِكاحُهما وحرُمت الكبيرةُ أبدًا، وكذا الصغيرةُ إنْ كان الإرْضاعُ بلبنِهِ، وإلَّا فَربِيبةٌ. والكبيرةُ إذا أرْضَعَتْ ضَرَّاتِها الصغائِرَ حرُمَتْ أبدًا، وكذا الصغائِرُ إنْ أرضعَتْهُنَّ بلبنِهِ أو (¬1) بلبنِ غيرِهِ، وهي مدخولٌ بِها، فإنْ لم يدخُل بِها لم يحرُمنَ أبدًا. وإن (¬2) أوجرتْهُنَّ (¬3) الخامسةَ معًا انفسَخَ نكاحُهُنَّ، أو مرتَّبًا انفسخ نِكاحُ الأُولى (¬4)، فإذا أرضعَتِ الثالثةَ، انفسخ نِكاحُها، وكذا الثانيةَ، وفِي الثانِيةِ قولٌ. ويَجرِي (¬5) القولانِ فِي ضَرتينِ صغيرتينِ أرضعَتْهُما أجنبِيَّةٌ مُرتَّبًا انفسخ لهما أم للثانية. * * * ¬
فصل
فصل قال: "هنْدٌ بِنتي" أو "أُختِي مِن الرَّضاع"، أو قالتْ هِي عنه ذلك؛ حرُمَ النِّكاحُ بينهُما. وهذا فِي بِنتي أو ابْنِي: مقيَّد بالإمْكانِ، فإنْ لم يُمْكِنْ ذلك فَلَا تَحرِيمَ؛ نَصَّ عليه. وجزموا بِهِ، وكذا فِي أخي أو أختي أرضعتنا فُلانةٌ، وذلك غيرُ مُمْكِنٍ. وإنِ اتَّفق الزَّوجانِ اللذانِ ينفُذُ إقرارُهُما فِي ذلك على رَضاعٍ مُحَرَّم بينَهُما فُرِّق بينهما، وَسَقَط المُسمَّى إذا كان الإقرارُ بِرضاعٍ قَبلَ النِّكاح. وإنْ كان بِرضاعٍ بعدَهُ سَقَطَ نِصفُ المُسمَّى إلَّا إذا كان الرَّضاعُ المُحرِّمُ بعدَ الدُّخولِ كما فِي رَضاعِ زوجتِهِ الكبِيرةِ المدخُولِ بِها ضَرَّتَها الصَّغيرةَ، فإنَّه يجِبُ للكبيرةِ المُسمَّى كلُّه. وحيثُ سَقَطَ المُسمَّى كلُّه وَجَبَ مَهْرُ المِثْلِ إن حَصَلَ وَطْءٌ. وإنِ اعتَرَف بِهِ الزوجُ وأنكرتِ: انفَسَخ، وَلَها المُسمَّى إنْ وَطِئَ وإلَّا فنِصْفُهُ. وإنِ ادَّعته فأنكَرَ صُدِّق بيمينِهِ؛ إنْ لم يكُنْ هناك عذْرٌ، وإلَّا فالأصحُّ تصديقُها. ومنهم مَن رجَّح تصدِيقَهُ بيمِينه -وهُو القِياسِ- على ما إذا ادَّعت مُفْسِدًا
للنكاح غيرَ المحرَمِيةِ فأَنْكر الزوجُ. وعلى الأولِ: لها مهرُ المِثل إنْ وَطِئ، وإلَّا فَلَا شيْءَ عليه. ويحلِفُ مُنكِرُ الرَّضاعِ على نفِي علمِهِ؛ كذا قالوه، والنصُّ فِي "الأم" أنَّه يحلِفُ على البَتِّ وهُو المُعتمدُ، لِملاقاتِهِ التحريمَ بِخصوصِهِ قبل النِّكاح وبَعدَهُ، ويَحلِفُ مُدَّعيهِ على البَتِّ. ويثبتُ بشهادةِ رجُلين، أو رجُلٍ وامْرأتيْنِ، وبأربعِ نسوةٍ (¬1)، والإقرارُ بِهِ شرْطُهُ رجُلان (¬2)، وكذا شُربُ اللبنِ من إناء ونحوِهِ عند القفَّال. وتُقبلُ شهادةُ المُرضِعةِ إنْ لم تَطلُبْ أُجرةً (¬3)، ولو تعرَّضَتْ لِفعلِها فِي الأصحِّ. والأصحُّ فِي شهادةِ الرَّضاع اعْتبارُ تفصيل ذِكْرِ الوقتِ والعددِ ووصولِ اللبنِ للمكانِ المُحرم، ويُعرفُ ذلك بِمشاهدةِ الحلْبِ والإيجارِ والازْدِرادِ والإسعاطِ، وقرائِنَ مِنَ التِقامِ الثَّدْي والمَصِّ والحركةِ والتجرع والازدراد ومعرفة أنَّها ذاتُ لبنٍ (¬4). [واللَّه تعالى أعلم بالصواب وإليه المرجع والمآب] (¬5). ¬
التَّدريب في الفِقه الشَّافِعي المُسَمَّى بِـ «تَدريب المُبتدي وَتَهذيب المُنتَهِي» [4]
جَمِيع الْحُقُوق مَحْفُوظَة الطبعة الأولى 1433 هـ - 2012 م دَار الْقبْلَتَيْنِ المملكة الْعَرَبيَّة السعودية - الرياض جوال: 0506639380 - تليفاكس: 014497216
باب النفقات
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ اللهم صل على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم باب النفقات هي جمعُ نفقةٍ، إذْ تكونُ للزَّوجيةِ ولقرابةِ البعضيةِ، ولِملكِ اليمينِ ولِتابع ذلك، وقد تكونُ بالنذرِ، ونفقةُ المستعارِ سبقتْ فِي بابِهِ، واللقيطُ واتصالُهُ والمؤجِّرُ والمودع ونحوها سبقَ ما فيها. وتكونُ حفظًا للروحِ فتتعين، وتكونُ فرضَ كفايةٍ بحسبِ الحالِ، قال اللَّهُ تعالى: {لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ} الآيةَ. وصحَّ من حديثِ عائشةَ -رضي اللَّه عنها- فِي قضيةِ هند: "خُذِي مِن مالِهِ ما يكفيكِ
وولدَكِ بِالمَعرُوفِ" (¬1). فتجبُ على الزوجِ ولو كان صغيرًا لكُلِّ زوجةٍ حرَّةٍ، أو أَمَةٍ مُسلمةٍ، أو كافرةٍ غيرَ مرتدَّةٍ ممكنةٍ كُلَّ اليوم بليلتِهِ الآتيةِ بعدَهُ أو بعضه فِي أوائِلِ اليومِ بلا تقصير فِي الماضِي، قلتُهُ تخريجًا. ولو كانتْ رتْقَاءَ أو قَرْناءَ أو مريضَةً أو حائِضًا أو نُفَسَاءَ أو مُستحاضةً أو متحيرةً، أو مظاهرًا منها أو مُحرِمَةً، إلَّا أن تكونَ ناشزًا أو وُطئت بشبهةٍ. والمعتَبَرُ النكاحُ الصحيحُ ظاهرًا وتابعه. وإن زادتِ الزوجاتُ على العددِ الشرعيِّ كما فِي الكافرِ قبلَ الإسْلامِ وبعدَهُ قبلَ الاختيارِ، وكذا فِي الحرِّ المسلِمِ قال: عنْ أربَعٍ انقَضَتْ عدتُهُنَّ فِي الرجعِيِّ وأنْكَرْنَ فَلَا تسقُطُ نفقتُهُنَّ ويَتَزَوجُ عليهِن، ويُنفقُ على الجمِيع. والعبدُ فِي عَدَدِهِ كذلك. وكذا مَنْ عَقَدَ مُرتَّبًا على نسوةٍ زائِداتٍ على عددِهِ المُباح لهُ، وَلَا يعلمُ عَينَ المُتقدِّمِ. ويُنفِقُ الكافِرُ على أُختينِ كما سَبَقَ، وكذا المُسلمُ فِي دعوى الانْقِضاءِ ونِسيانِ السَّابقةِ فِي عقديْنِ على أُختَينِ مُرَتَّبًا. ومِن توابع الصحِيحِ: لو أسلمتْ هِي أو ارتدَّ هُو بعدَ الدخولِ فِيهما، وكذا فِي إبْهامِ الطلاقِ والتباسِه، وعلى المطلقةِ الرجعية. ولو ادَّعى الخُلْعَ منها، فقالت: "طَلَّقَنِي بِلا عِوضٍ"، أَنْفَق عليها. وتجِبُ للبائِنِ الحامِلِ. ¬
ضابط
ولو تزوَّج أُختَ البائِنِ أو أربعًا سواها فينفِقُ على الجميع. ولا تجِبُ فِي الفاسِدِ الذي علمتِ الزوجةُ فسادَه. فإنْ لم تعلمْ أو كان فسادُه مما تخفى عاقبتُهُ كما فِي العَتيقةِ فِي مرضِ الموتِ غيرِ المُستولدَةِ يتزوجُها مُعتقُها فلها النفقةُ حالًا. وكذا إنْ لم تَخْفَ عاقبتُهُ فلها الطلبُ، ونُوجبه ظاهرًا. فإنْ بان الفسادُ فيها لم يرجِعْ بما أنفق، ولا يُطالَبُ هو بما مضى مِن غيرِ إنفاقٍ. وإن خرجتِ العتيقةُ مِن الثلُثِ لو لم يحسبْ دَيْنُ النفقةِ تخيَّرَتْ كما سبق فِي المهرِ. ويُقَسَّطُ الواجِبُ على زوجيْنِ عُلِم تقدُّمُ أحدِهما ونُسي -وفاقًا لابن كَجٍّ- إذ لا مانِعَ مِن الزوجيَّةِ خلافًا لِما صححهُ الإمامُ مِن أنَّها لا تجِبُ. وعلى ما اختَرْناه إذا تعيَّن السابِقُ رجع اللَّاحِقُ عليه بما أنفق، فلو كان أحدُهما موسِرًا والآخرُ متوسطًا وَجَب لها نفقةُ متوسِّطٍ عليهما، أو كان أحدُهما مُعْسرًا مع مُوسِرٍ أو متوسطٍ فنفقةُ معسر عليهما؛ لاحتمالِ أن يظهرَ السابقُ المتوسطُ فِي الأولى والمعسرُ فِي الأخيرتين، فلا نُوجب على الآخَرِ زيادةً مشكوكًا فيها، والنظرُ إلى أنه يقسط بمقتضى حالهما، ثم يرجعُ مَنْ فضلَ له شيءٌ على الزوجةِ: بعيدٌ. * ضابطٌ: ليس لنا حرٌّ كلُّه موسرٌ أو متوسط غير مفلسٍ ينفقُ نفقةَ المُعْسِرين إلَّا فِي هذا الموضِع. ولا يجبُ على الرجلِ فيها أقلُّ مِن مدٍّ إلَّا فِي هذا الموضعِ، وفِيما إذا كان أولَ التَّسليمِ بلا تقصِيْرٍ فِي أثناءِ النَّهارِ بعد فواتِ الباكورةِ على ما اخترتُهُ
تخريجًا. والواجب على الموسِر المنفرِدِ لِكلِّ واحدةٍ مِمن ذَكرنا مُدَّان، وعلى المتوسِّطِ مُدٌّ ونصف على المشهور (¬1). وقال البويطيُّ: عليه مُدٌّ وثلثٌ، وعلى المقتِرِ مدٌّ. والمدُّ: مِكيالٌ معروفٌ، وتقديرُهُ بالوزنِ لا يُعتمدُ لثقل ما يُوزنُ وخِفتهُ وانتشارُه واجتماعُه، والربوياتُ التي يُعتبَرُ فيها التساوي لا يُنظر فيها إلى الوزن، فكذا هنا. ويُرجع فِي اليسارِ وغيرِهِ إلى العُرْفِ. ومِن المقتِرِين: المكاتَبُ والمبعَّضُ على ظاهر النصِّ، وأصل فِي إعفاف فرعه الموسر (¬2). ومن المُوسِرين: المفلِسُ إلى فَراغِ مالِهِ، خلافا للإمام فِي إلحاقِهِ بالمقتِرِ، واستُحْسِنَ أن المقتِرَ هنا مسكينُ الزكاة، أو قادرٌ على كسْبٍ يكفيهِ أو يزيدُ، ومَن فوقَ المقتِرِ إن كان لو كُلف مُدَّين رَجَع مقترًا فمتوسِطٌ وإلَّا فموسِرٌ (¬3) ولم يبينوا مُدَّةَ التكليفِ بالمُدَّينِ، والظاهِرُ اعتبارُ السَّنة كما سبق فِي الزكاة. * * * والواجب: غالبُ قوتِ البلد، ولو أقِطًا لأهلِ الباديةِ، فإنْ لم يكْفِ ولم يغلبْ شيءٌ وَجبَ اللائقُ به (¬4). ¬
ضابط
ومعتبَرُ اليسارِ وغيرِهِ: طلوعُ الفجرِ فِي مبدَأ التَّسليم، ويستمِرُّ الحالُ على النظَرِ إلى طلوع الفجْرِ فِي حادِثِ يسارٍ أو إعسارٍ أو توسطٍ، وإنَّما يُعتَبَرُ طُلوعُ الفجرِ فِي الممكنة قبله، أما الممكنة عقبه فيعتبَرُ الحالُ حينئذٍ (¬1). وعليه إعطاءُ الحبِّ للنفقةِ وتملِكُه هي إلَّا أن تكونَ أَمَةً غيرَ مكاتِبةٍ ما لم تأكله، فإن أكلتْهُ ملكتْهُ. * ضابطٌ: لا يملِكُ الرقيقُ بتمليكِ غيرِ السيدِ، ولا السيدِ على المذهبِ إلَّا فيما أكلهُ الرقيقُ حلالًا؛ لأنه نِهايةُ التصرفِ، وقد ذكر الماوردِيُّ ما يقتضيه، وقبض المحجور عليها بإذن الولِيِّ ولو صغيرةً كافٍ. * ضابطٌ: لا يحصُلُ مِلكٌ لِصغيرِ باختيارٍ يجري بينَهُ وبينَ مَن ينتقِلُ الملكُ عنه إلَّا فِي هذا الموضعِ، وفِي الخُلعِ نحوه. * * * وعليهِ طحنُ الحَبِّ وخبزُهُ فِي الأصحِّ، إلَّا إذا عُدَّا من الخدمةِ، ومثلها يتعاطى ذلك بنفسِهِ. ولو طلبَ أحدُهما بَدَلَ الواجِبِ لم يُجْبَرِ الممتنعُ، ولو حَصَل اعتِياضٌ عنه بنقدٍ أو عَرَضٍ غَيْرِ رِبويٍّ أو رِبوىٍّ ليس مِن جِنس الواجِبِ جاز فِي الأصحِّ، خِلافا لِما صححه القاضِي حُسين والزَّازُ من المنع بِعلةِ أنَّه بيعُ طعامٍ قبل القبضِ أو أنَّه يُشْبِهُ السَّلَمَ. والمعتمدُ منْعُ الاعْتياضِ لَا للعلَّةِ المذكورةِ، بل لِجهالةِ صفتِه فأشبه بيْعَ إبلِ الدِّيةِ. ¬
وغلبةُ الجِنس لا تُفيدُ العلمَ بالصفة، ولا غلبةُ النوع عند اختلافِ قيمةِ الصِّنْفِ، وعلى هذا فلا يُحال به ولا عليه، ولا تَقِرُّ بِهِ الحرةُ لغيرها أبدًا. وإن أخذتْ دقِيقًا مِن جنسِهِ أو خُبْزًا منهُ بصريحِ المُعاوضةِ الخالِيةِ عن معنى الاستِيفاءِ بَطَلَ قطعًا، وكونُ الحِنطةِ مع دقِيقِها جِنسانِ شاذٌّ لا تفريع عليه. وإنْ وقَع ذلك على أنَّه وَصَلَها إلى ما عليه استيفاءٌ جاز بِرضاها قطعًا. وإنْ أظهَرَا صُورةَ التبادل والمعنى استيفاء، فهلْ يبطُل نظرًا لمقتضى الظاهر أو يصِحُّ نظرًا للاستيفاءِ؟ هذا محلُّ تردُّدٍ والأرجحُ المنعُ. وشرطُ صحةِ الاعتِياضِ على ما صحَّح الأكثَرُ: أَنْ يكونَ العوضانِ معلومَينِ للمتعاوضَيْنِ، والشرطُ أن يُعين فِي العقد أو يُقبض فِي خيار المجلِسِ. ولو اعتاضتْ موافقًا فِي العلَّة كقمحٍ عن شعيرٍ وعكسِهِ، فلابُدَّ مِن قبْضِ العوضِ فِي خيار المجلسِ. ولو أكلتْ معهُ على العادة سقطَتْ نَفَقَتُها فِي الأصحِّ، وقد تقدَّم فِي الحَجْر. ويجبُ أدمٌ من غالِبِ أدم البلدِ، كجُبنٍ وتمرٍ وزيتٍ وسمنٍ، ويختلِفُ بالفصولِ (¬1)، وهو إلى اجتهادِ القاضِي (¬2)، ويقارِنُ بين الموسرِ وغيرِه، فعلى ¬
الموسِرِ مَثْلا ما يفرِضُهُ على المُعسِرِ، وعلى المتوسِطِ مثلُه ونصفه، ولحمٌ لائِقٌ بحالِهِ كعادة بلده (¬1). ولو قنعتْ بالخبزِ وَجَب الأدمُ (¬2). * * * وتجبُ كسوةٌ تكفيها من قميصٍ وسراويلَ، وإزارٍ، وخِمارٍ، ومُكْعَبٍ (¬3) أو نعلٍ (¬4). ويزاد فِي الشتاء جُبةٌ أو فروةٌ. والكسوةُ من القطنِ، فإن جرَتْ عادةُ البلدِ لمثله بكتَّانٍ أو حريرٍ وَجَبَ فِي الأصحِّ (¬5). ويَجِبُ ما تقعد عليه كطنفسة أو زِلِّيةٍ (¬6) أو لِبْدٍ أو حصيرٍ، فعلى الموسر طنفسة شتاءً ونِطعٌ صيفًا، وعلى المتوسط زِلِّيةٌ، وعلى المعسِرِ حَصِيرٌ صيفًا ولِبدٌ شتاءً (¬7). وكذا فراشٌ للنوم فِي الأصحِّ للعادةِ مِن مضربةٍ وثِيرةٍ، أو قطيفة. ¬
وتجِب مخدَّةٌ ولحافٌ فِي الشتاء، أو كساءٌ وشعارٌ فِي الصيف بمقتضى العادة على المعتمد (¬1). * * * وتجبُ آلةُ تنظيفٍ كمشطٍ ودهنٍ وما يُغسل الرأسَ والبدنَ مِن سِدْرٍ أو خطىٍّ ومَرْتَك (¬2) ونحوه لدفع صُنَانٍ، لا كُحلَ وخِضابَ وما يُزينُ، ولا دواءَ مرضٍ وأجرةَ طبيبٍ وحاجِمِ، ولها نفقة ألم المرض (¬3)، والأصحُّ وجوبُ أُجرة حمَّام إلَّا إذا كانتْ من قوم لا يعتادون دخولَهُ، وحيثُ وجب ففِي الشهر مرة (¬4). وعليه ماءُ غُسلِ جماعٍ ونفاسٍ لا حيضٍ واحتلامٍ فِي الأصحِّ، ولا ماءَ وضوءٍ إلَّا إذا كان هو السببَ فِي النقضِ (¬5). * * * ولها آلاتُ أكْلٍ وشُربٍ وطبْخٍ كقِدرٍ وقصعةٍ وكوزٍ وجرَّةٍ ونحوها ومسكنٌ يليق بِها، وإن لم يكن مِلْكَهُ (¬6). ¬
وعليهِ لِمَنْ لا يليقُ بِها خدمةُ نفسِها -على ما كانتْ فِي بيتِ أهلِهَا- إخدامُها بالحرَّةِ أو الأَمَةِ المستأجَرَةِ، أو المملوكةِ، أو بالاتفاقِ على من صحبتها مِن حرةٍ أو أمةٍ لخدمةٍ يستوي فِي إيجاب الإخدام مُعسرٌ وعبدٌ وغيرُهما. والواجِبُ خادمٌ واحدٌ. والصحيحُ اختلافُ نفقةِ المصحوبة باختِلافِ حالِ الزوج؛ فعلى الموسِرِ مُدٌّ وثلثٌ، وعلى المقتِرِ مُدٌّ، وكذا متوسط على الصحيح، ولها الأدمُ، وأنَّها دونَ نوعِ أدمِ المخدومةِ. ومَنْ تخدُمُ نفسَهَا فِي العادةِ يجبُ إخدامُها لزِمانةٍ أو مرضٍ، ويُزَاد بحسبِ الحاجةِ على الواحدةِ (¬1). وللخادم كسوةٌ لائقةٌ بِها دونَ كسوةِ المخدومةِ مِنْ قميصٍ ومقنعةٍ وفِي الشتاءِ جبةٌ أو فروةٌ، ولها خفٌّ وملحفةٌ وما يُجلسُ عليه كبارِيَةٍ فِي الصيف، ولِبد فِي الشتاء، ووِسادةٌ وكساءٌ للنومُ (¬2). * * * وتملِكُ الزوجةُ الطعامَ والأدمَ وما يُستهلك مِن آلاتِ التنظيفِ، وكذا الكسوةُ على الأظهر، وتملِكُ الخادمةُ نفقتَها وكسوتَها إن كانت حرَّةً على الأرجح، وما يُنتفع بِهِ مع بقاءِ عينِهِ مِن الفرشِ وظروفِ الطعامِ كالكُسوة عندَ البغويِّ، وألحقهما الغزاليُّ بالمسكنِ، وهو أرجحُ لجوازهِما بالمستأجَرِ والمُستعار فهما إمتاعٌ، وكذا الخادمُ إمتاعٌ ونفقتُهُ بعد وجودِهِ ¬
والفرق بين ما واجبه التمليك وما هو إمتاع من وجوه
واجِبُها التَّمليكُ (¬1). * * * والفرْقُ بين ما واجِبُه التَّمليكُ وما هو إمتاعٌ مِن وجوهٍ: أحدُها: أنَّ ما واجبُهُ التمليكُ لا يسقُطُ بِمضيِّ الزمانِ، وما هو إمتاعٌ يسقُطُ. الثانِي: أن ما واجِبُهُ التمليكُ لا يكفِي فِيه المستأجَرُ والمستعارُ، وما واجِبُهُ الإمتاعُ يكفِي فيه ذلك. الثالِثُ: أنَّ ما هو إمتاعٌ يجِبُ إبدالُهُ إذا بلغتْهُ الزوجةُ بخلافِ ما واجِبُهُ التملِيكُ. الرابع: أنَّ ما هُو تمليكٌ لَا يُستَرَدُّ إذا حَصَل الموتُ أو الإبانةُ فِي الإفناءِ، وما هو إمتاعٌ يستَرَدُّ، ولو نَثَرَتْ في أثناءِ الفصلِ فهو كاليوم بالنسبةِ إلى النفقةِ، فيُستَرَدُّ، ثُم إذا عادتْ إلى الطاعةِ يكونُ ذلك أوَّلَ فِعلها بِخلافِ اليومِ تعودُ إلى الطاعةِ فيه؛ لأنَّ التبعِيضَ فيه متعذِّر. الخامسُ: أنَّ ما واجبُه التملِيكُ لَا يبدَلُ إلَّا بالرِّضى، وما هُو إمتاعٌ يُبدل بغيرِ الرِّضى. * * * فصل (¬2) تجبُ النفقةُ بِالتمكِينِ، فلو اختَلَفا فيه فالقولُ قولُ الزَّوجِ، فإذا سلَّمتْ ¬
نفسهَا للزوْجِ فعليهِ النفقةُ، ولو بعثتْ إليه: "إنِّي مُسلِمةٌ نفسي" فعليهِ النفقةُ مِن وقتِ بُلوغِ الخَبَرِ، فإنْ كان غائبًا رَفعتِ الأمرَ إلى القاضي وأعلمتْهُ بالطاعةِ؛ لِيُعْلِمَ الزوجَ إن عَرَف موضِعَهُ، فإن سار إليها أو بعَثَ وكيلَهُ وجَبَتِ النفقةُ مِن حِينِ التَّسلِيمِ. فإنْ لم يحضرْ ومضى زمنُ إمكانِ حضورِهِ جُعل كالمسلَم. فإن لم يعرفْ موضِعَه كَتَبَ مطلقٌ ونُودي باسمِهِ. فإنْ لمْ يظهرْ أُعطيتِ النفقةُ من مالِهِ بكفيلٍ. والمعتَبَرُ عرْضُ الولِيِّ فِي المراهقةِ والمجنونةِ، ويسقُطُ بالنشوزِ ولو بعضَ النهارِ فِي الأصح. وامتناعها من الوطْءِ بِلا عُذرٍ نشوزٌ، وكذا امتناعُها من التسلِيمِ، والمهرُ مؤجَّل، ولو حَلَّ قبل الامتناع أو حالٌّ، وقد جرى الدخولُ، أمَّا إذا لم يجزْ دخولٌ فلها النفقةُ مِن حينِ قالتْ: سلِّمِ المهرَ لأُسلمَ نفسي (¬1). وهربُها وسفرُها وخروجُها مِن بيتِ الزوج بغيْرِ إذنِهِ نشوزٌ (¬2) إلَّا إذا أشرف المنزلُ على الانْهِدام أو أُخرجتْ مِن المنزِلِ الذي هو لِغيرِ الزَّوج أو خرجَتْ مِن بيتِ أبِيها لزيارةٍ أو عيادةٍ (¬3). وسفرُها وحدَها بإذنِهِ فِي حاجاتِها يُسقطُ النفقةَ على الأظهر. ولو حُبستْ أو كانت مؤجَّرةً قبلَ النكاح إجارةَ عينٍ فَلَا نفقةَ. وإذا نشَزَتْ فغاب الزوجُ لم يعُد استحقاقُها بعودِها إلى الطاعةِ فِي الأصح، بل يُرفعُ الأمرُ إلى القاضِي كابْتِداءِ التَّسليمِ لِيقضي بِطاعتِها ويخْبِرُ ¬
الزوجَ بذلك. فإنْ عاد إليها أو أرسَلَ إليها وكيلَهُ فاستأنَفَ تسليمَهَا عادتْ لها النفقةُ. وإذا مضى زمنُ إمكانِ العودِ ولمْ يعدِ الزوجُ إليها، ولم يُرسلْ إليها وكيلَهُ عادتْ لها النفقةُ أيضًا، وأظهرُ القولينِ أنَّ الصغِيرةَ لا تجِبُ نفقتُها على زوجِها سواءٌ كان كبيرًا أو صغيرًا. وتجبُ للكبيرةِ على الصغيرِ، وقد سبقَ فِي أولِ البابِ، والمرادُ بالصغيرةِ والصغِيرِ مَن لا يتأتَّى جِماعُهُ، والكبير مَن تأتَّى منه الجِماعُ لِيدخلَ المراهِقُ (¬1). ولو (¬2) أحرمتْ بالحجِّ أو العمرةِ بِغيرِ إذنِ زوجِها فلَا يخلو إمَّا أن تخرجَ أم لا: فإنْ خرجتْ ولم يكنْ معها سقطَتْ نفقتُها، وإن لم تخرجْ فَلَا تسقطُ؛ لأنَّها فِي قبضتِهِ، وهو قادرٌ على تحليلِها. وإنْ خَرَجَ معها لم تسقطْ نفقتُها على الصحيح. وإن أحرمتْ بإذنِهِ وخرجتْ ولم يكن معها سقطتْ نفقتُها على أظهرِ القولينِ. وإن كان معها لم تسقطْ نفقتُها على أقوى الطريقين. ولا فرقَ فِي الخروجِ بين أن يكونَ بإذنهِ أو لا، إذا كان إحرامُها بإذنِهِ، ولا أثَرَ للنهي عنِ الخُروجِ (¬3). وللزوج منْعُها مِنْ صومِ التَّطوعِ، فإنْ أبتْ سقطتْ نفقتُها فِي الأصحِّ، وله منْعُها عن القضاء الموسَّع، وفيه وجهٌ لا يمنع. ¬
فصل
وليس له منْعُها مِن تعجيلِ الفرائضِ فِي أولِ وقتِها ولَا مِن السُّننِ الراتبةِ ما لم تُطِلْ، ولا مِن صوم عرفةَ وعاشوراءَ. وله منْعُها مِن صومِ الكفارةِ، فإن صامتْ سقطتْ نفقتُها كُلُّها، وقيل: يسقُطُ نِصفها للتمكِين من الاستمتاع فِي الليلِ، والأظهرُ الأوَّلُ كما لو سلَّمت ليلًا فقط، أو نَهارًا فقط فلا نفقةَ على أرجحِ الوجهينِ (¬1). * * * فصل تجبُ النفقةُ للرَّجعيَّةِ، وكذلكَ الكسوةُ، وسائرُ المؤناتِ كالزوجةِ، إلَّا آلةُ التنظيفِ، فإنَّ الزوجَ ممتنعٌ عنها. ولا فرقَ بينَ أَنْ تكونَ الرجعيةُ حرَّةً أو أمةً، حائلًا أو حاملًا. ولا تسقطُ نفقتُهَا إلَّا بما تسقطُ به نفقةُ الزوجاتِ (¬2). وإذَا كانَتْ حاملًا استمرَّتِ النفقةُ إلى انقضاءِ عدَّتِهَا بوضعِ الحملِ، أو غيرِهِ، فلو ظهَرَ بِهَا أماراتُ حملٍ بعدَ الطلاقِ فأنفقَ، ثم ظهرَ أنَّهُ لم يكُنْ حمل استَرَدَّ ما دفعَهُ إليهَا بعدَ انقضاءِ عدتِها، وتُسأَلُ عنْ قدرِ الأقراءِ، فإن عيَّنَتْ قدرَهَا صُدِّقَتْ بيمينِهَا إنْ كذبَها الزوجُ، وإن صدقَها، فلا يمينَ عليها (¬3). ولا تجبُ للبائنِ بخُلْعٍ، أو طلاقٍ ثلاثٍ إن كانت حائلًا، وإن كانتْ حاملًا وجَبَ لها النفقةُ والكِسوةُ، والأظهرُ أنَّ وجوبَهَما لها بسببِ الحملِ، وقِيلَ: ¬
وفي كيفية نفقة العدة وجهان
للحملِ خاصةً -وقد تقدَّمَ شيءٌ من هذا أولَ البابِ. ولا تجبُ للمُعْتَدَّةِ عنِ الوفاةِ، ولو كانتْ حاملًا، سواءٌ قلنا: للحاملِ أو للحملِ، لأنَّ نفقةَ القريبِ تسقطُ بالموتِ. ولا نفقةَ للحامِلِ عنْ شبهةٍ، ولا للمنكُوحَةِ نِكَاحًا فاسدًا. ولو أنفقَ على زوجتِهِ ثمَّ بانَ فسادُ النكاحِ لم يستردَّ ما أنفقهُ، سواءٌ كانتْ حاملًا أو حائلًا (¬1). * * * وفِي كيفيَّةِ نفقةِ العدَّةِ وجهانِ: 1 - أصحُّهُمَا: التقديرُ، كزمنِ النكاحِ. 2 - والوجهُ الثانِي: الكِفايةُ. ولا تجبُ النفقةُ حتَّى يظهرَ الحملُ، فإذا ظهرَ وَجَبَ الإنفاقُ يومًا بيومٍ -على الأرجحِ. وقيل: عندَ الوضع. والأصحُّ من الطريقينِ: أنها لا تسقطُ بمضيِّ الزمانِ. * * * فرعٌ: مَن وجبتْ عليه نفقةُ الزوجةِ غيرَ الرجعيَّةِ من زوجٍ وفرعٍ لزوجةِ أصلٍ وجبَ عليه إعفافُه، أو أصلٍ لفرعٍ فِي نفقتِهِ، على وجهٍ قطعَ به المَحَامليُّ والمهذب وهو خلافُ الأصحِّ، فإنَّه إذا أعسرَ الزوجُ -ومنه إعسارُه بإعسارِ فرعِهِ أو أصلِهِ فيما تقدَّمَ- كانَ للزوجةِ الخيارُ فِي فسخِ النكاحِ على المنصوصِ المشهورِ المعتَمَد، ولم يثبت العِراقيون وبعضُ ¬
المراوِزَةِ مَا يخالفه، وخالفهم أكثرُ المراوزةِ، فإثباتُ القولين فِي طريقتِهم أصحُّ، والمعتمدُ القطعُ. وإن رضيَتْ بالإقامَةَ معهُ ليسارِهِ صارَتْ دينًا فِي ذمَّتهِ ولو امتنعَ من الدفعِ معَ اليسارِ فلا فسخَ على الأصحِّ، سواءٌ كان حاضرًا أو غائبًا. وقيل: لها الفسخُ إلحاقًا لهُ بالمعسرِ (¬1). ويجري الوجهانِ فيما لو غابَ عنهما وهو موسِرٌ فِي غيبتِه، ولا يوفِّيها حقَّها، فالأصحُّ: لا فسخَ، وكان المؤثر تَغَيُّبُهُ لخرابِ ذمَّتِه، ولَكِن يبعثُ القاضِي إلى حاكِم بلدِهِ ليُطالبَهُ إذا علِمَ موضِعَهُ (¬2). وعلى الوجهِ الآخَرِ: لها الفسخُ إذا تعذَّرَ تحصيلُها، واختارُه جماعةٌ من أصحابِنا (¬3)، فعلى الصَّحيحِ: لو جهِلْنَا يسارَهُ أو إعسارَهُ يكونُ الحكمُ كذلكَ ولا فسخَ، لأنَّ السببَ لم يتحققْ، ولو كانَ حاضرًا ومَاله غائبًا فلا يخلُو: إمَّا أن يكونَ بمسافةِ القصرِ، أو دُونَها، فإنْ كان المالُ بمسافةِ القصرِ فلها الفسخُ، ولا يلزمُها الصَّبْرُ. وإنْ كانَ دونَ مسافة القصرِ فلا فسخَ لها، ويلزمُ بالإحضارِ (¬4). وإذا تبرَّعَ بالنفقةِ مُتَبرِّعٌ لم يلزمِ الزوجةَ قبولُها، ولها الفسخُ على الأصحِّ، كما لو كانَ له دينٌ على إنسانٍ فتبرعَ غيرُهُ بقضائِهِ لا يلزمُه القبولُ، لأنَّ فيهِ مِنَّةً للمُتبرِّع (¬5). ¬
وعنِ ابنِ كَجٍّ: أنَّه لا خيارَ لها لعدَمِ تضرُّرِها بفواتِ النَّفقةِ، فلو تبرَّع على الزوجِ وملكُه الزوجُ بذلك أو بالنذرِ بإعطائِه فلا فسخَ لها (¬1). وَمَنْ وجدَ النَّفقةَ بقرضٍ فليسَ لها أن تفسخَ وكذلكَ لا فسخَ عندَ وجود ضامنٍ موسرٍ لما وَجَبَ حالًا بالإذنِ، وكذا بغيرِ الإذنِ على وجهٍ خرَّجَهُ شيخُنا فِي النَّذرِ للدفعِ للزوجةِ، وقدرتُهُ على الكسبِ كقدرتِهِ على المالِ، ولا يثبتُ لها الفسخُ إلَّا إذا عجزَ عن نفقةِ المُعسرينَ، فلو قدرَ عليها وعجزَ عن نفقةِ المتوسطين أو الموسرينَ فلا فسخَ لها (¬2). والمعتَبَرُ هنا من لايملكُ ما يُباع فِي دينِه، ولا كسبَ له أوْ لَهُ كسبٌ ينقطعُ يومين فأكثر. فإن كانَ ينقطعُ يومًا وبعضَ الثاني ثُمَّ يكتسبُ قَبْلَ تكملةِ يومين ما يفِي بالحالِ فلا فسخَ لها، لأنَّ الضرَرَ حينئذٍ يسيرٌ، ومِلْكُ المؤجَّلِ لا يمنعُ الفسخَ إلَّا إن قَرُبَ أجلُهُ بيومٍ وبعضِ الثاني، وحُكْمُ الإعسارِ بالكسوةِ والمسكنِ حُكْمُ الإعسارِ بالنفقةِ على الأرجحِ. ولا يثبتُ الخيارُ بالإعسارِ بالأدمِ على الأصحِّ عندَ الأكثرينَ، وعن الداركي: يثبتُ، وقال الماورديُّ: إن كانَ القوتُ مما ينساغُ دائمًا بلا أدمٍ فلا خيارَ لها، وإلَّا فيثبت وهو حسنٌ (¬3). وإذا أعسرَ بالمهرِ ففيهِ أقوالٌ (¬4)، أصحُّها: إنْ كانَ قبلَ الدُّخولِ ثبتَ لها الفسخُ وإن كانَ بعدَهُ فلا. ¬
وإذَا ثبتَ لها الخيارُ فلا تستقلُّ بالفسخِ بالإعسارِ، بل يرفعُ أمرَها للحاكمِ ليثبتْ إعسارَه. فإذا ثبتَ عندهُ إعسارُهُ أمهلَهُ ثلاثةَ أيَّامٍ على الأظهرِ، ثمَّ يخيَّرُ صبيحةَ اليومَ الرَّابعِ بينَ أَنْ يتولَّى الفسخَ بنفسِهِ أو يأذنَ لها فيهِ، فلو سلَّم نفقةَ اليومِ الرَّابعِ فلا فسخَ لما مضَى، وليسَ لها أن تقولَ: "آخُذُ هذا عن نفقةِ بعضِ الأيامِ الثلاثةِ، وأفسخُ بتعذُّر نفقة اليوم"؛ لأنَّ الاعتبارَ فِي الأداءِ بقصدِ المُؤَدِّي لا إلى قصدِ القابضِ، فلو رضي الزوجُ بذلك وجعلها كما قالتْ جازَ لها الفسخُ على أقوَى الاحتمالينِ، ولو عجزَ عن نفقةِ اليومِ الخامسِ كانَ لها الفسخُ على الأظهرِ، قال الداركيُّ: ولا تمهل اكتفاءً بالإمهالِ السابق خلافًا للروياني حيثُ قال: يُمهلُ مرةً أخُرى حيثُ لم يتكرَّرْ منهُ، فإنْ تكرَّرَ لمْ يُمهَلْ إمهالًا بعدَ إمهالٍ، والأصحُّ الفسخُ فِي الحالِ (¬1). وإذا مضى يومانِ بلا نفقةٍ ووجدَ نفقةَ اليومِ الثالثِ وعجزَ فِي الرابعِ ثبتَ على أصحِّ الوجهينِ، والثاني: يستأنفُ (¬2). ويجوزُ لها الخروجُ فِي مدةِ الإمهالِ لتحصيلِ النفقةِ بكسبٍ أو تجارةٍ أو سؤالٍ، وليسَ له منعها من الخروجِ على الصحيحِ المنصوصِ، وعليها أن تعودَ إلَى منزلِهِ بالليلِ (¬3). وإذا مضتِ المدَّةُ ورضيتْ بإعسارِهِ أو المقام معه، ثم أرادتِ الفسخَ فليسَ لها ذلك، لأنَّ الضررَ لا يتجددُ. ¬
وليسَ لولي الصغيرةِ والمجنونةِ الفسخُ، وإن كانَ فيه مصلحتُهما، وينفقُ عليهما منْ مالِهما، فإنْ لم يكنْ لهما مالٌ فنفقتُهُما على مَن عليه نفقتُهُما لو كانتا خليتينِ، وتصيرُ نفقةُ الزوجةِ ديْنًا عليه يطالبُ به (¬1) إذا أيسرَ (¬2). وكذا لا يفسخُ الوليُّ بإعسارِ الزوجِ بالمهْرِ (¬3). وإذا امتنعَ على الوليِّ ذلك فِي الصغيرةِ والمجنونةِ (¬4)؛ فلأن يمتنعَ ذلك عليهِ فِي البالغةِ العاقلةِ من بابِ أولَى. ولو أَعْسَرَ زوجُ الأمةِ بالنفقةِ فلها الفسخُ كما يفسخُ بِجَبِّهِ؛ ولأنها صاحبةُ حقٍّ فِي تناولِ النفقةِ، فإنْ أرادتِ الفسخَ لم يكنْ للسيدِ منعها، فإنْ ضمنَ النفقةَ فهو كالأجنبيِّ يضمنها (¬5). ولو رضيتْ بالمقامِ أو كانتْ صغيرةً أو مجنونةً، فلا فسخَ للسيدِ على الأصحِّ، ولا يلزمُ السيدَ حينئذٍ نفقةُ الكبيرةِ العاقلةِ، بل يقولُ: افسخِي أو اصبرِي على الجوعِ (¬6). وإذا أعسرَ زوجها بالمهرِ فالفسخُ للسيدِ؛ لأنَّه محضُ حقِّه (¬7). * * * ¬
فصل
فصل (¬1) تجبُ النفقةُ لقرابةِ البعضيةِ فيجبُ للفروعِ على الأصولِ وبالعكسِ، وسواءٌ فِي الأصولِ والفروعِ الذكورِ والإنات، والوارث وغير الوارث والمسلم والكافر من الطرفينِ، والعالي من الأصولِ والسافلِ من الفروعِ إذا كان الذي يجبُ عليه موسرًا، وهو من يفضلُ عن قوتِه وقوتِ عيالِه فِي يومِهِ وَلَيْلَتِهِ ما يصرفُه إلى القريبِ (¬2). ولا يختصُّ بالقوتِ بل يعم الواجباتِ. قال القاضي الحسينُ: لا يلزمُ أحدًا نفقةُ أحدٍ من الأقرباءِ حتى يفضلَ من مؤنتهِ من طعامِه ومسكنِه وملبسِه وما يُقامُ عليه ويستعملُه فِي وضوئهِ وأكله وشربِه ما لاغناءَ لمثلهِ عنهُ، فإنْ وقَعَ لهُ خلل فِي شيءٍ من هذا فلا يكلَّفُ نفقةَ ابنٍ ولا أبٍ، لأنَّها مواساةٌ والمواساةُ إنما تليقُ بمن يفضلُ عن حاجةِ ما هُوَ معهُ، وإلَّا فهو محتاجٌ للمواساةِ. انتهى. ويباعُ فِي نفقةِ القريبِ ما يُباعُ فِي الدَّيْنِ مِنْ عقارٍ وغيرِهِ؛ لأنَّ نفقةَ القريبِ مقدَّمةٌ على وفاء الدينِ، وهما يباعانِ فِي الدَّيْنِ، ففيما هو مقدَّمٌ عليه أوْلَى لما فيهِ من حفظ الروح (¬3). وإذا لم يكنْ لمن تجبُ عليه نفقةُ القريبِ مالٌ، لكنه كسوبٌ يمكنه أن يكتسبَ ما يفضلُ عنه، فيلزمُه أن يكتسبَ لنفقةِ قريبِهِ لأنَّه يلزمُه إحياءُ نفسِه ¬
بالكسبِ، فكذا إحياءُ بعضِه. ولا تجبُ لمن يملكُ كفايتَهُ ولا لمن يقدر على أن يكتسبها لأنَّه غنيٌّ بكسبِهِ حيثُ كانَ كسبُهُ يكفيهِ، فإن كانَ لا يُحَصِّلُ قدرَ الكفايةِ استحقَّ القدرَ المعجوز عنهُ صاحبُه (¬1). ومن لا مالَ له ولا كسبَ، وكانَ صغيرًا أو مجنونًا، أو زَمِنًا، أو مريضًا، أو أعمَى، فيلزمُ القريبَ نفَقتُهُ. وإن لم يكنْ به نقصٌ فِي الحكمِ ولا فِي الخِلْقةِ، لكنه لا يكتسبُ مع القدرةِ على الكسبِ، فإن كانَ من الفروعِ لم تجبْ نفقتُه على المذهب، وإن كانَ من الأصولِ وجبت على الأظهرِ (¬2). ولا تتقدَّرُ نفقةُ القريبِ، بل هي علَى قدرِ الكفايةِ، وتسقطُ بمضيِّ الزمانِ إلَّا إذا نُفِيَ الولدُ، ثم استلحقه فإنَّ الأُمَ ترجعُ عليه بالنفقةِ. ولا تصيرُ دينًا فِي الذِّمَّةِ (¬3) سواء تعدى بالامتناعِ من الإنفاقِ أمْ لا. ويستثنَى ما إذا أذنَ القاضي فِي استقراضها، أو أقرضَها، ومحلُّ الرجوعِ إذا استقرضتْ وأنفقتْ فلو تأخَّرَ الاستقراضُ بعدَ إذنِ القاضي ومضى زمنٌ لم يستقرضْ فيه فلا. ويستثنَى أيضًا ما لوْ لمْ يكنْ هناكَ حاكمٌ واستقرضتِ الأمُّ عنهُ، وأشهدتْ، فعليهِ قضاءُ مَا استقرضَتْهُ، وإنْ لم تشهدْ فوجهانِ بمقتضَى كلامِ الرَّافعيِّ فِي ¬
فرع
بابِ زكاةِ الفطرِ ترجيحُ أنَّها لا ترجعُ. * * * فرع: يجبُ على الأمِّ أن تُرضعَ ولدَها اللبأَ (¬1)، وهو اللبنُ النازلُ أوَّلَ الولادةِ؛ لأنَّه لا يعيشُ بدونِه غالبًا، ولها أَنْ تأخذَ عليهِ الأجرةَ، ثم إنْ لم يوجدْ بعدَ سقي اللبأ مرضعةٌ غيرُها لزمِهَا الإرضاعُ، وكذا لو لمْ يوجدْ إلَّا أجنبيةٌ لزمها الإرضاعُ. وإنْ وجَدَ غيرها وامتنعتِ الأمُّ من الإرضاعِ لم تُجْبَرْ عليه سواء كانتْ فِي نكاحِ الأبِ أم لا، وسواء كانت ممن يرضع مثلُها الولدَ أمْ لا. وإن رغبتْ فِي الإرضاعِ وهي فِي نكاحِ الأب، فليسَ لهُ المنعُ على الأصحِّ. فإن توافقَا علَى الإرضاعِ وتبرعَتْ به فذاكَ. وإن طلبتْ أجرةَ مثلٍ أُجيبتْ إنْ لم تتبرعْ أجنبية بالإرضاعِ، أو أرضعتْ بأقلَّ من أجرةٍ المثلِ فتقدَّمُ على الأمِّ حينئذٍ، وكذا تقدَّم على الأمِّ إذا طلبتْ أجرة المثلِ وطلبتْ الأم فوقها (¬2). وإذا اجتمعَ لِلأصلِ المحتاجِ اثنانِ من الأولادِ (¬3)، واستويا فِي القربِ، والوِراثةِ أو عدمِها، والذكورةِ والأنوثةِ، فالنفقةُ عليهما بالسويَّةِ، سواء استويا فِي اليسارِ أو تفاوتَا، وسواءٌ أيْسَرَا بالمالِ أو الكسبِ، أو أحدُهما بالمالِ، ¬
والآخرُ بالكسبِ، فإن كانَ أحدُهما غائبًا أخذَ قسطَه من مالِه، فإنْ لمْ يكُنْ لَهُ مالٌ اقترضَ عليه (¬1). وإنِ اختلفَا فِي شيءٍ مِنْ ذلكَ فأصحُّ الطريقينِ النظر إلى القربِ، فإن كان أحدُهما أقربَ فالنفقةُ عليه سواءٌ كانَ وارثًا أو غيره، ذكرًا أو أنثى، فإنِ استويا فِي القربِ فالنفقةُ على الوارثِ منهما على الأصحِّ (¬2). * * * وإذا اجتمع للفرعِ المحتاج قريبانِ من أصولِهِ، فإن اجتمعَ أبوهُ وأمُّهُ، وكانَ الولدُ صغيرًا، أو معتوهًا كبيرًا، فالنفقةُ على الأبِ قطعًا، وإن كان كبيرًا عاقلًا فالنفقةُ على أبيهِ على الصحيحِ (¬3). وإن اجتمعتِ الأمُّ وواحدةٌ من آباءِ الأبِ فالصحيحُ أنها على الجدِّ (¬4). وإنِ اجتمعَ اثنانِ من الأجدادِ والجَّداتِ: فإنْ كان أحدُهما يُدلي بالآخرِ فالنفقةُ على القريبِ، وإلَّا فأرجحُ الأوجُهِ: اعتبارُ القربِ (¬5). وإذا اجتمعَ للمحتاجِ واحدٌ منْ أصولِهِ وآخرُ من فروعِهِ فالنفقةُ على الفرعِ على أصحِّ الأوجهِ وإن بعدُ (¬6). وإنِ اجتمعَ على الشخصِ الواحدِ محتاجونَ ممنْ تلزمُه نفقتُهم نظرَ، إنْ وفا ومالُه أو كسبُه بنفقتهم فعليه نفقةُ الجميعِ، قريبِهم وبعيدِهم، فإنْ ¬
لم يفضلْ عن كفايةِ نفسِه إلَّا نفقةُ واحدٍ قَدَّم نفقةَ زوجتِهِ على نفقةِ الأقاربِ، ثم بعدها الأقربَ فالأقربَ (¬1). وإذا لم يكنْ لهُ زوجةٌ، وله أبٌ وأمٌّ خاصة، وهما محتاجانِ وعندهُ ما ينفقُ على واحدٍ فتقدَّمُ الأمُّ على الأصحِّ لعجزِها، وفِي زكاةِ الفطرِ يقدَّمُ الأبُ عليها على الأصحِّ؛ لأنَّها تطهرٌ، والأبُ به أولَى (¬2). * * * ¬
باب الحضانة
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ باب الحضانة هي بفتحِ الحاء، مأخوذةٌ من الحِضن بكسرِها، وهو الجَنْبُ؛ لأنها تضمُّه إلى حضنِها، وتنتهي بالتمييز، ثم بعده إلى البلوغِ تسمَّى كفالةً، كما قاله الماورديُّ (¬1). والأصلُ فيها قوله تعالى: {وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا}. ومن السُّنةِ ما رواه الحاكم وأبو داود عن ابنِ عمرٍو: أنَّ امرأة قالت: يا رسولَ اللَّهِ، إنَّ ابني هذا كان بطني له وعاءً، وثديي له سقاءً، وحِجْري له حواءً، وإنَّ أباهُ طلقني، وأراد أن ينتزِعَهُ مِنِّي. فقال -صلى اللَّه عليه وسلم-: "أنتِ أحقُّ به ما لم تنكِحي" (¬2). والحضانةُ هي القيامُ بحفظِ مَن لا يميزُ ولا يستقلُّ بأمرِه وتربيتِه بما يصلحُه ¬
وقال المحاملي: الأم أولى بالحضانة من الأب ما لم يبلغ الولد سبع سنين إلا في ثمان مسائل
ووقايته عمَّا يؤذيه، فيشملُ الطفلَ والكبيرَ والمجنونَ، وهي نوعُ ولايةٍ وسلطنةٍ، ولكنها بالإناثِ أليقُ؛ لأنَّهُنَّ أشفقُ وأهدى إلى التربيةِ وأصْبَرُ على القيامِ بها، وأشدُّ ملازمةً للأطفالِ، والأمُّ أولَى لوفورِ شفقتِها، للحديثِ المتقدِّم. * * * وقال المحامليُّ (¬1): الأمُّ أولى بالحضانةِ من الأبِ ما لم يبلغِ الولدُ سبعَ سنينَ إلَّا فِي ثمانِ مسائلَ: أحدُها: أن يقولَ كلُّ واحدٍ منهما: "أنا أمسكُ الولدَ" (¬2)، فالأبُ أولى. والثاني: أن يكونَ الأبُ مأمونًا دونَ الأمِّ. والثالثُ: إذا لم تكمُلِ الحريةُ فِي الأمِّ، ويكونُ الأبُ حرًّا. الرابعُ: إذا افترقَ الدارُ بهما، فالأبُ أولَى. والخامسُ: إذا تزوجتِ الأمُّ، فالأبُ أولى. والسادسُ: إذا كانَ الأبُ مسلمًا والأمُّ ذميَّةٌ. والسابعُ: إذا كانَ الأبُ مسلمًا، والأمُّ مرتدَّةٌ. والثامنُ: إذا كانتِ الأمُ مجهولةَ النسبِ، فأقَرَّتْ بالرقِّ لإنسانِ. انتهى (¬3). ومحلُّ تخصيصِ الأبِ بالحضانةِ فِي هذه المسائلِ ما إذا لمْ يُوجدْ من أمهاتِ الأمِّ لإدلائهنَّ بإناثٍ مَن هي متصفةٌ بصفاتِ الحضانةِ، فإنْ وجدتْ ¬
قال المحاملي: ويتعلق بالنسب اثنى عشر حكما
واحدةٌ منهنَّ متصفةً بالصفةِ المذكورةِ فهي مقدَّمةٌ على الأبِ. ومحل انتقال الحضانةِ عن الأمِّ بالتزويجِ، إذا تزوجت ممن لا حقَّ له فِي الحضانة، فإن تزوجتْ بمن له حقٌّ فِي الحضانة، ورضي زوجُها بأنْ تحضن الولدَ، فحقُّها باقٍ. ويُزاد على المحاملي فِي انتقالِ الحضانةِ عنِ الأمِّ: إذا كانتْ مجنونةً فلا حضانةَ لها، وكذلك لا حضانةَ لها إذا كانتْ برصاء، أو جذماء (¬1) كما أفتى به الصلاحُ العلائيُّ، وقال إنه ذكر بعضُ من يثق من أصحابه أنَّ الرُّوياني قال فِي "البحرِ": إنَّ الحاضنةَ إذا كان بها مرضٌ أو جذامٌ سقطتْ حضانتها. وكذلك لا حضانة لها إذا كانت برصاء أو جذماء، وكذلك لا حضانةَ لها إذا كانتْ عمياءَ، كما أفتى به عبدُ الملكِ بن إبراهيمَ الفرضيُّ الهمدانيُّ من تلامذةِ الماورديِّ، وجرى عليهِ شيخُنا الوالدُ -رضي اللَّه عنه-. وفِي "فتاوَى ابنِ الصباغِ": إن كان الولدُ صغيرًا فلها الحضانةُ؛ لأنَّهُ يمكنُهَا أَنْ تحضنَه، وإن كانَ كبيرًا فلا. انتهى. والمعتمدُ المنعُ كما تقدَّمَ ولا يختصُّ ذلكَ بالأمِّ بل متَى وجدَ مانعٌ من موانعِ الحضانةِ فِي غيرِ الأمِّ من مستحقِّي الحضانةَ فلا حضانةَ له إن كانَ ذكرًا، ولا حضانةَ لها إن كانتْ أُنثى. * * * قال المحامليُّ: ويتعلق بالنسبِ اثنى عشرَ حكمًا: أحدُها: توريثُ المالِ. والثاني: توريثُ الولاءِ. ¬
والثالثُ: تحريمُ الوصيةِ. والرابعُ: تحمُّلُ الدِّيةِ. والخامسُ: ولايةُ التزويجِ. والسادسُ: ولايةُ غسلِ الميتِ. والسابعُ: ولايةُ الصلاةِ عليه. والثامنُ: ولايةُ الحضانةِ. والتاسعُ: ولايةُ المالِ. والعاشرُ: طلبُ الحدِّ. والحادي عشر: سقوطُ القصاصِ. والثاني عشرَ: تغليظُ الدِّيةِ. انتهى (¬1). * * * وفِي قوله: "توريثُ الولاء": تجوُّزٌ، فإنَّ الولاءَ لا يورثُ، وإنما يورثُ به. وأطلقَ تحريمَ الوصيةِ، ومحلُّها إذا أوصَى لوارثِه بمقدارِ إرثِه، فإنَّ الوصيةَ لاغيةٌ حينئذٍ، أما إذا أوصَى له بعين هي قَدْرُ حصَّته فهي صحيحةٌ، ولكن يحتاجُ إلى إجازَةِ بقيةِ الورثةِ. وكذلكَ إذا أوصَى له بزائدٍ على إرثه فتصحُّ الوصيةُ، وتحتاجُ إلى الإجازةِ، ومحل تحمُّلِ الديةِ إذا كانَ المتحملُ غيرَ أصلٍ ولا فرعٍ، ومحلُّ سقوطِ القصاصِ إذا قتلَ الأصلُ فرعَه، ومحلُّ ولاية المال الأبُ أو الجدُّ وإن علَا. ويزادُ على المحامليِّ مسائلٌ أخر: إرثُ القصاصِ، وإرثُ الحقوقِ التي لا ¬
ترتفعُ بالموتِ، وقد ذكرهما شيخُنا فِي الفرائضِ والسفيه فِي الإسلامِ أو الكفرِ للأصولِ. ووجوبُ النفقةِ للأصولِ والفروعِ. والإعفافُ لأصلِه الذكر. وإذا ملَكَ أصلَهُ أو فرعَهُ عتقَ عليه. وعدمُ قبولِ الشهادةِ من أحدِهِمَا للآخرِ فِي الأصولِ والفروعِ. وكذلكَ الحكمُ من أحدِهِما للآخرِ، واعتبارُ مهرِ المثلِ. وعدمُ إجزاءِ الزكاةِ إذا دُفِعَتْ لمن تجبُ عليه نفقتُه من أصلٍ أو فرعٍ. ووجوبُ الحجِّ على المغصوبِ إذا وجدَ ولدًا يحجُّ عنهُ. وبيعُ مالِ الابن من نفسِه، وكذا ابنُ الابنِ، وإن سَفل. وتحريمُ موطوءة أحدهما على الآخرِ، وثبوتُ المحرميَّة، واعتبارُ الكفاءَةِ، وتزويجُ الجد بنتَ ابنِهِ من ابن ابنِه. * * * ثم بعد الأم أمهاتها لإدلائهنَّ بالإناثِ كما تقدَّم، يُقدَّمُ الأقربُ منهنَّ فالأقربُ، ثم تقدَّم أم الأبِ ثمَّ أمهاتها المدليات بالإناثِ، ثم أم أبي الأب، كما ذكرَ، ثم أبي الجدِّ كذلكَ. وتقدَّمُ الأختُ من أي جهةٍ كانت على الخالةِ، وتقدَّمُ الخالةُ على بنتِ الأخِ والأختِ؛ لأنَّها كالأمِّ، وتقدَّمُ بنتُ الأخِ والأختِ على العمَّةِ، وتقدَّمُ الأختُ الشقيقةُ على الأختِ للأب، وعلى الأختِ للأمِّ، وتقدَّمُ الأختُ من الأبِ على الأختِ من الأمِّ، على الأصحِّ المنصوصِ، والأصحُّ تقدَّمُ الخالةُ والعمَّةُ من أبٍ على الخالةِ والعمَّةِ للأمِّ، والأصحُّ سقوطُ كلِّ جدَّةٍ لا ترثُ،
وهي من تُدْلي بذكرٍ بين أُنْثيين كأم أبي الأم. ولا تسقط الأنثى غير المحرمِ على الأصحِّ كبنت الخالةِ وبنتِ العمِّ، وبنتِ العمةِ، وأما بنتُ الخالِ فقد مثَّل بها الرافعيُّ، وفيه نظر؛ فإنَّها تدلي بذكر غير وارثٍ، وقد تقررَ أنَّ من كانتْ بهذهِ الصفةِ لا حضانةَ لها. وإذا لم نثبتها لأم أبي الأم لهذا المعنى مع وجودِ الولادَةِ فيها فبطريقِ الأوْلى بنتُ الخالِ بخلافِ بنتِ الخالةِ والعمةِ؛ فإنَّها تدلي بأنثى، وبخلافِ بنتِ العمِّ، فإنَّها تُدْلي بذكرٍ وارثٍ، وإنما تثبت لبنت الخالةِ والخالِ وبنتِ العمِّ وبنتِ العمَّةِ الحضانةُ فِي ذكرٍ لا يشتهى وإلَّا فلَا حَضَانةَ لهنَّ. وكأنَ المرادَ أنَّه لا تثبتُ لهنَّ الكفالةَ لأنَّها بعدَ سنِّ التمييزِ الذي بعدهُ يحصلُ الاشْتِهاءُ. هذا حكمُ الإناثِ المنفرداتِ المستحقاتِ للحضانةِ. فأما الذُّكورُ؛ فتثبتُ الحضانةُ للذكرِ المحرمِ الوارثِ على ترتيبِ الإرثِ، فيقدَّمُ الأبُ، ثم الجدُّ للأبِ، وإن علَا، ثم الأخُ الشقيقُ، ثم الأخُ للأبِ، ثم الأخُ للأمِّ، ثم ابن الأخِ الشقيقِ، ثم ابنُ الأخِ للأبِ، ثم العمُّ الشقيقُ، ثم العمُّ للأبِ، ثم العمُّ للجدِّ. وكما ثبتَ للمحرمِ الوارثِ ثبتَ للوارثِ غيرَ المحرمِ كابنِ العمِّ وابنه، وابن عمِّ الأبِ وابن عمِّ الجدِّ. ولا حضانةَ للمعتقِ على الصحيحِ، وإن كان وارثًا غير محرم، لعدم القرابة التي هي منوطُ الشفقةِ. ولا يسلَّمُ إلى الوارثِ غير المحرم مشتهاةٌ حذرًا من الخلوةِ، ولكن تسلَّم إلى ثقةٍ يُعَيِّنها هوَ؛ لأنَّ الحقَ لهُ، هذا إذا قُلنا "إنَّ لهُ الحضانةَ" كما جزَمَ به
النوويُّ تبعًا للرافعيِّ، ولكن الذي قطعُ به الشيخُ أبو حامدٍ أنَّه لا حقَّ له فِي الحضانةِ مخافةَ الافتتانِ بها، وتابعهُ غالبُ العراقيينِ، وقيدوا استحقاقَ العصبةِ الحضانةَ بأن يكون مَحْرمًا، وقال الجرجانِيُّ فِي "التحرير": لا خلافَ فيه، وجرى عليه جمع من المراوزةِ. فإنْ لم يوجدْ الإرثُ والمحرميةُ أو لم يوجدِ الإرثُ، فالأصحُّ لا حضانةَ، كابن الخالِ وابنِ الخالةِ، وابنِ العمةِ. وإذا اجتمعَ الذُّكورُ والإناثُ مِن مستحقِّي الحضانة قدِّمتِ الأمُّ للحديثِ السابقِ، ثم أُمهاتُها المدلياتِ بالأمهاتِ؛ لأنهنَّ فِي معنى الأمِّ، ثم بعد ذلكَ يقدَّمُ الأبُ على أمهاتِهِ على الصحيحِ. وتقدَّمُ الأصولُ على الحواشي على ظاهرِ المذهبِ، فإنْ لم يوجدْ من ذكرِ من الأصولِ فيقدمُ الأقربُ على الأصحِّ ذكرًا كان أو أنثى، فإن لم يوجدِ الأقربُ، واستوى اثنان أو جماعةٌ فِي القربِ، كأخٍ وأختٍ فالأصحُّ التقديمُ بالأنوثةِ، وإن استويا فِي كلِّ وجهٍ أقرعَ قطعًا للنزاعِ. ولا يستحقُّ الحضانةَ رقيقٌ، ولو كان مكاتبًا، ولا منْ فيه رقٌّ، إلَّا مستولدةُ الكافرِ إذا أسلمتْ، فإنَّ ولدَها يتبعها فِي الإسلامِ، ولها حضانتُه، فإنْ كانَ الولدُ حرًّا، فالحضانةُ لمن له الحضانةُ بعدَ الأمِّ الحرَّةِ من أبٍ وغيرِه، وإن كان رقيقًا فحضانتُه لسيدِه. ولا حضانةَ لمجنون سواء كان جنونُه مُطبقًا أو منقطعًا، إلَّا أن يَقِلَّ جنُونُه، كيومٍ فِي سنتين مثلًا، فلا يمنع، ولا لفاسقٍ؛ لأنَّه لا يلي، ولا لكافرٍ على مسلمٍ، ولا لمتزوجةٍ بمن لا حقَّ له فِي الحضانةِ. وإذا كانت مستأجرةً للحضانة مدة إجارة لازمة، ثم تزوَّجتْ فِي أثناء المدةِ، فنقلَ النوويُّ تبعًا للرافعيِّ -في آخرِ الخلعِ عن فتاوَى القاضي
الحسين-: أن الأبَ لا ينزعهُ منها بتزوجِها؛ لأنَّ الإجارةَ عقدٌ لازمٌ. وإذا تزوَّجتِ بمن له حقٌّ فِي الحضانةِ ورضيَ زوجُها بذلكَ، فحضانتُها باقيةٌ كما تقدَّمَ، فلو منعها سقطتْ حضانتها كما قاله الماورديُّ والإمامُ وغيرُهما. ومن شروطِ الحضانةِ أَنْ لَا يكونَ مغفَّلًا، كما عدَّه الجرجانيُّ فِي الشافي وهو حسنٌ، وعدَّ الماورديُّ والقاضي أبو الطيب فِي كتاب "اللقيط" من الشروطِ: الرشدَ، فالسفيهُ ليس أهلًا لحضانةِ الطفلِ، وقد نصَّ الشافعيُّ رضي اللَّهُ عنهُ على هذا ففِي "مختصرِ المزنى" (¬1) أنَّهُ إذا كانَ الأبُ غيرَ رشيدٍ، انتقلتِ الحضانةُ إلى الجدِّ. انتهى. وهل يشترطُ لاستحقاقِ الحضانةِ أَنْ تُوضعَ الولدَ إذا كانَ رضيعًا، وكانَ لها لبنٌ؟ فيه وجهانِ: صرَّح ابنُ الرِّفعةِ بالاشتراطِ تبعًا لظاهرِ الشَّرحِ، فعدَّ من الموانِعِ فقد الرَّضاعِ منها إمَّا بامتناعِها أو بعدَمِ اللبنِ منها، وفيهِ نظرٌ، والمسألةُ إنَّما أخذَها الرَّافعيُّ من التهذيبِ، ولا تكادُ تعرفُ إلَّا لَهُ ومن تبعهُ. وكلامُ الجمهورِ يقتضِي الجزمَ بأنَّهُ لا يشترطُ كونُها ذاتَ لبنٍ، وهو الصوابُ. فإنْ غابتِ الأمُّ أو امتنعت فالصحيحُ -خلافًا لما في "المنهاج" (¬2) - انتقالُ الحضانةِ للجدَّةِ أم الأمِّ، كما لو ماتَتْ أو جُنَتْ. وإنَّمَا يُحْكم بأنَّ الأمَّ أحقُّ بالحضانةِ من الأب فِي حقِّ منْ لا تمييزَ لَهُ أصلًا، وهو الصغيرُ فِي أولِ أمره، والمجنونُ، فأَمَّا إذا صارَ الصغيرُ مميزًا ¬
فيخيرُ بينَ الأبوينِ، إذا افترقَا، ويكونُ عندَ من اختارَ منهمَا، وسواءٌ في التمييز الابنُ والبنتُ، وسنُّ التمييزِ غالبًا سبعُ سنينَ، أو ثمانٍ تقريبًا (¬1). قال الأصحابُ: وقد يتقدَّمُ التمييزُ على السَّبْعِ أو يتأخَّرُ عن الثمانِ، ومدارُ الحكمِ على نفسِ التمييزِ لا على سنِّه. وإنَّما يخيَّرُ بين الأبوينِ إذا اجتمعَ فيهما شروطُ الحضانةِ المتقدِّمةِ، فإنِ اختلَّ فِي أحدِهما بعضُ الشروطِ فلا تخيير، والحضانةُ للآخرِ، فإنْ زالَ الخللُ أُنشئ التخيير (¬2). ويجري التخييرُ بين الأمِّ والجدِّ عندَ عدمِ الأبِ، ويجري أيضًا بينها وبين مَن على حاشيةِ [النسب] (¬3) كالأخِ والعمِّ على الأصحِّ، ويجري أيضًا بين الأبِ والأختِ لغير الأبِ، وبين الخالةِ على الأصحِّ. وإذا اختارَ أحدَ الأبوينِ، ثم اختارَ الآخر حوِّلَ إليهِ، فإن عادَ واختارَ الأوَّلَ أعيدَ إليهِ (¬4). وإذا اختارَ الأبَ وسلِّمَ إليهِ، فإن كان ذكرًا لم يمنعهُ من زيارة أمِّه، وإن كان أنثى منعها من زيارةِ أمِّها لئلا تعتاد البروز، ولا يمنعُ أمَّها منَ الدخولِ عليها، ثم الزيارةُ تكونُ فِي الأيامِ على العادَةِ لا فِي كلِّ يومٍ، وإذا دخَلَتْ لا تطل المكثُ. ولو مرضَ الولدُ ذكرًا كان أو أنثَى، فالأمُّ أولَى بتمريضِه، فإنَّها أشفقُ وأهدَى إليهِ، فإنْ رضيَ بأنْ تمرضَ فِي بيتِهِ فذاكَ، وإلَّا فينتقلُ الولدُ إلَى بيتِ ¬
الأمِّ. ويجبُ الاحترازُ عنِ الخلوةِ إذا كانتْ تمرِّضُه فِي بيتِ الأبِ، وكذا إذا زارتْ الولدَ فإنْ لم يكنْ هناكَ ثالثٌ خرجَ حتى تدخُلَ (¬1). وإذا اختارَ الأمَّ، فإن كانَ ذكرًا أوى إليها ليلًا، وكان عندَ الأبِ نهارًا، يؤدِّبه، ويعلمُه أمورَ الدينِ والمعاشِ والحرفةِ. وإن كان أنثى كانتْ عندَ الأمِّ ليلًا ونهارًا، ويزورُها الأبُ على العَادَةِ، ولا يطلبُ إحضارَها عندَهُ، وهكذَا الحكمُ إذا كانَ الولدُ عندَ الأمِّ قبلَ سنَ التخييرِ (¬2). وإذا اختارَ الأمَّ فليسَ للأبِ إهمالُهُ بمجرَّدِ ذلكَ، بل يلزمُهُ القيامِ بتأديبِه وتعليمِهِ، إمَّا بنفسِه وإمَّا بغيرِه، ويتحملُ مؤنتَهُ، وكذلك المجنونُ الذي لا تستقلُّ الأمُّ بضبطِه يلزمُ الأبُ رعايتَه، وإنَّمَا تقدَّمُ الأمُّ فيما يتأتى منها وما هو شأنُها (¬3). وتأديبُه وتعليمُه واجبٌ علَى وليِّه، أمًّا كانَ أو جدًّا أو قيمًا، وتكونُ أجرةُ ذلكَ فِي مالِ الصَّبيِّ، فإنْ لمْ يكُنْ لهُ مالٌ، فعلى مَن تلزمُهُ نفقتُه (¬4). وإذا خيَّرناهُ فاختارهما أقرع بينهما، وإن لم يَخْتَرْ واحدًا منهما فالأصحُّ أنَّ الأمَّ أحقُّ به، لأنَّه لم يخترْ غيرها، وكانت الحضانةُ لها فيستصحب، وبه قطع فِي "البسيطِ" (¬5). ¬
فصل
وما تقدَّم من أنَّ الأمَّ أولَى من الأبِ قبلَ التمييزِ، وأنَّه يخيَّرُ بينهما بعده، هو فيما إذا كان الأبوانِ مقيمينِ فِي بلدٍ واحدٍ، فأمَّا إذا أراد أحدُهما سفَرًا، فإنْ كانَ سفرَ حاجةٍ، كحجٍّ وغزوٍ وتجارةٍ، لم يسافرْ بالولدِ، لما فِي السَّفرِ من الخطَرِ والمشقَّةِ، بلْ يكونُ معَ المقيمِ إلَى أَنْ يعودَ المسافرُ. وإنْ أرادَ سفرًا يختلفُ فيهِ بلدُها، كانَ مع الأمِّ على مختارِ النوويِّ (¬1)، وهو قضيةُ كلامِ الأصحابِ. وإن كانَ سفرَ نقلةٍ، فللأبِّ انتزاعُه مِنَ الأمِّ، ويستصحبهُ معهُ، سواءٌ كانَ المنتقلُ الأبَ أو الأمَّ، أو أحدَهما إلى بلدٍ والآخرُ إلَى بلدٍ آخرَ احتياطًا للأنسابِ، بشرطِ أمنِ الطريقِ وأمنِ البلدِ المقصودِ، وسائرُ العصباتِ من المحارمِ كالجدِّ والاخِ والعمُّ بمنزلةِ الأبِ، فيما تقدَّم احتياطًا للنسبِ، وكذَا غيرُ المحَارِمِ كابنِ العمِّ إنْ كانَ الولدُ ذكرًا، فإنْ كانَ أنثَى لمْ تُسلَّمْ إليه. قالَ المتولِّي: إلَّا إذا لم تبلغْ حدًّا يشتهى مثلُها. وفِي "الشامل" أنَّه لو كان له بنت ترافقُه سلِّمتْ إلى بنتِه أي المكلَّفةِ الثِّقةِ، وأما المَحْرَمُ الذي لا عُصوبَة فيه كالخالِ والعمِّ للأمِّ فليسَ لَهُ نقلُ الولدِ إذا انتقَلَ؛ لأنَّهُ لا حقَّ لهُ فِي النَّسبِ (¬2). * * * فصل (¬3) يجبُ على السَّيدِ نفقةُ رقيقِهِ قوتًا وأدمًا وكسوةً وسائرُ مؤناتهِ، قِنًّا كانَ أو ¬
مدبرًا، أو أم ولدٍ، وسواء الصغيرُ والكبيرُ والزمنُ والأعْمَى والسَّليمُ، والمرهُونُ، والمستأجَرُ، وغيرُهم؛ لقوله تعالى: {وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلَاهُ}، وقولِه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "للمملوكِ طعامُه وكسوتُه ولا يكلَّفُ من العمل ما لا يُطيق" رواه مسلمٌ. ويجب على سيِّدِه شراءُ الماءَ لطهارتِهِ على الأصحِّ، كما تجبُ عليه فطرتُه، ولا تتقدَّر نفقة الرقيقِ، بل هي على الكفايةِ، وأصحُّ الأوْجُهِ اعتبارُ كفايةِ نفسِه، ويراعي رغبته وزهادتُه وإن زاد ذلك على كفايةِ مثلِهِ غالبًا (¬1). وجنسُ نفقة الرقيقِ غالبُ القوتِ الذِي تطعمُ منهُ المماليكُ فِي البلدِ من الحنطَةِ والشعيرِ، وغيرهمَا، وكذا الأدمُ الغالبُ، والكسوةُ من القطنِ والكتَّانِ والصوفِ وغيرهمَا، ويراعَى حالُ السَّيِّدِ فِي اليسارِ والإعسارِ، فيجبُ ما يليقُ بحالِهِ من رفيعِ الجنسِ الغالبِ وخسيسِهِ. وَلا يجوزُ الاقتصارُ على ستْرِ العورَةِ، وإنْ كانَ لا يتأذَّى بحرٍّ ولا بردٍ. ولو تَنَعَّمِ السَّيدُ فِي الطَّعامِ والأدمِ والكسوةِ استحبَّ أَنْ يدفعَ إليهِ مثلَهُ، ولا يلزمُه (¬2). ولا يجبُ عليه نفقةُ مكاتبِهِ. ولو اشتركَ جماعةٌ فِي رقيقٍ فالنفقةُ عليهمْ بحسبِ أنصبَائِهمْ. ولا تصير نفقة الرقيق دينًا، بل تسقطُ بمضيِّ الزمانِ (¬3). وإذا امتنَعَ السيدُ من الإنفاقِ على رقيقِهِ أو غابَ، وكانَ مطلقُ التصرُّفِ باعَ الحاكِمُ فيها مالَهُ. ¬
وهل يبيعُ شيئًا فشيئًا، أم يستدينُ عليهِ، فإذَا اجتمَعَ عليهِ شيءٌ صالحٌ باعَ عليه؟ وجهانِ، أصحُّهما الثَّاني (¬1). فإن لم يجدْ له مالًا أمرَهُ بإزالةِ ملكِهِ عنهُ. فإن لمْ يفعَلْ باعَهُ الحاكمُ عندَ تعذُّرِ إيجادِه، ويبيعُ منهُ بقدرِ الحاجةِ. فإن لمْ تتعذَّرْ إجارتُه أجَّرهُ حينئذٍ (¬2). وأمُّ الولدِ تؤجَّر، أو تزوج، فإن لم يمكنْ ففِي بيتِ المالِ، وأمَّا المحجورُ عليهِ فيجبُ أن يفعلَ وليُّهُ الأحظَّ من بيعِه أو بيعِ غيره من مالِهِ فِي نفقتِهِ، أو الإقراضِ عليه. وللسيِّدِ إجبار أمتِهِ على إرضاعِ ولدِها منهُ أو منْ غيرِهِ مملوكٌ له مِن زوجٍ أو زنًا؛ لأنَّ لبنها ومنافعها لهُ. وليسَ لهُ أَنْ يُكلِّفهَا إرضاعَ غيرَ ولدها معهُ بأجرةِ ولا بغيرهَا، إلَّا أن يفضل لبنُها عن ريِّ ولدها لقلَّةِ شربه، أو لكثرةِ اللبنِ، أو لاجتزائِه بغيرِ اللبنِ فِي أكثرِ الأوقاتِ، ولو ماتَ ولدُها أو استغنى عَنِ اللبنِ فلَهُ ذلكَ. وله إجبارُها على فِطامِهِ قبلَ الحولينِ إذا اجتزَأ الولدُ بغيرِ اللبنِ. وله إجبارُها علَى الإرضاعِ بعدَ الحولينِ، وإنْ كانَ يجتزئ بغيرِ اللبنِ إلَّا إذا تضررتْ بِهِ، وليسَ لها الاستقلالُ بالفطامِ والإرضاعِ (¬3). هذا حكمُ الأمةِ، وأمَّا الحرَّةُ فلهَا حق فِي تربيةِ الولدِ، فليسَ لواحدٍ من الأبوينِ الاستقلالُ بالفطام قبلَ الحولينِ، وعلى الأبِ الأجرةُ إذا امتنعتْ الأمُّ ¬
منَ الفطامِ إمَّا لَهَا وإمَّا لغيرِها. وإن اتفقَا على الفطامِ جازَ إذا لم يتضرَّرِ الولدُ، وأمَّا بعدَ الحولينِ فيجوزُ لكلِّ واحدٍ منهما الفطامُ إذا اجتزأ بالطعامِ، ويجوزُ أن يُزادَ فِي الإرضاعِ على الحولينِ إذا اتفقا (¬1). ويجوزُ المخارجةُ، وهيَ ضربُ خراجٍ معلومٍ على الرَّقيقِ يؤدُّونَهُ كلَّ يومٍ أوْ كلَّ أُسبوعٍ مما يكتسبُهُ، وليسَ للسيِّدِ إجبارُ العبدِ عليها، ولا للعبدِ إجبارُ السيدِ، كالكتابةِ (¬2). ولا يجوزُ للسيِّدِ أن يكلِّفَ رقيقَهُ من العملِ ما لا يُطيقُ الدوامَ عليهِ، ولا يجوزُ أَنْ يُكلِّفَهُ عملًا يقدرُ عليه يومًا أو يومين، ثم يعجزُ عنهُ. وإذا استعملَهُ نهارًا أراحَهُ ليلًا، وكذا بالعكسِ، ويريحُهُ فِي الصيفِ وقتَ القيلولةِ، ويستعملُهُ فِي الشتاءِ النهارَ معَ طرفِي الليلِ، وعلى العبدِ بذلُ المجهودِ وتركُ الكسلِ (¬3). * * * ¬
فصل
فصل مَن ملكَ دابةً لزمَهُ علفُها وسقيُهَا، ويقومُ مقامَ العلفِ والسَّقي تخليتها لترعى، وترد الماءَ إنْ كانتْ مما يرعى، ويكتفَى به لخصبِ الأرضِ ونحوِهِ، ولم يكنْ مانعٌ. ويحرُمُ تحميلُ الدابةِ ما لا تطيقُ الدوامَ عليهِ، وإن كانتْ تطيقُهُ يومًا ونحوُه كما سَبَقَ فِي الرَّقيقِ (¬1). ولا يجوزُ نَزْفُ لبنِ الدابَّةِ بحيثُ يضرُّ ولدَها، وإنَّما يحلبُ ما فضلَ عن ريِّ ولدِها. قالَ الرُّوياني: ويعني بالريِّ ما يقيمه حتَّى لا يموتَ. قال المتولي: ولا يجوزُ الحلبُ إذا كان يضرُّ البهيمةَ لقلَّةِ العلفِ. قال: ويكره تركُ الحلبِ إذا لمْ يكنْ فيهِ إضرار بها؛ لأنَّه تضييعٌ للمالِ. قال: والمستحبُّ أن لا يُستقصى فِي الحلبِ، ويدع فِي الضرع شيئًا وأن يقصَّ الحالبُ أطفاره لِئلَّا يؤذيها (¬2). انتهى. * * * ويجب على مالكِ النحلِ أن يبقِي فِي الكوارةِ شيئًا من عسلِها لتأكُلَهُ، فإن كانَ فِي الشِّتاءِ وتعذَّرَ خروجُها كان المتبقي أكثر، فإن قامَ شيءٌ مقامَ العسلِ فِي غذائِهَا لم يتعيَّنِ العسل (¬3). وقد قيل: تُشوى دجاجة وتُعلق بباب الكوارة. وعلَى مقتنِي الكلبِ المباحِ اقتناؤه أَنْ يطْعِمَهُ أو يرسلَه أو يدفعَهُ لمنْ له ¬
الانتفاعُ بِه، ولا يحلُّ حبسُه ليهلكَ جوعًا. ودودُ القزِّ يعيشُ بورقِ التوت فعلى مالكه تخليتُه ليأكلَ منهُ، فإن عزَّ الورقُ اشترى له مِن مالِ مالكِهِ كالرقيقِ. والظاهرُ أنَّهُ يجبُ أَنْ يلبسَ الخيلَ والبغالَ والحميرَ ما يَقيهَا الحرَّ والبردَ الشديدَ إذا كانَ ذلِكَ يضرُّ بهَا. وغيرُ ذواتِ الأرواحِ كالعقارِ والقنى والزرعِ والثمارِ لا يجبُ القيامُ بعمارتِها على مالكِها المكلَّف المطلقِ التصرُّفِ إذا لمْ يتعلقْ به حق لغيره، فأمَّا إذا أجَّرَ دارَهُ ثم احتلَّت فعليه عمارتُها إن أرادَ دوامَ الإجارةِ، فإن لم يفعلْ يخيَّرُ المستأجر (¬1). ولا يكرهُ تركُ زراعةِ الأرضِ لكن يكرهُ تركُ سقي الزرعِ والأشجارِ عندَ الإمكانِ لما فيهِ من إضاعةِ المالِ، وصحَّحَ الروياني التحريمَ، وجرى عليه فِي المهمات، ثم فصَّل فقال: الصوابُ أن يُقالَ: إنْ كانَ سببُ الإضاعةِ تركَ الأعمالِ فلا تحريمَ؛ لأنَّها قد يشقُّ عليهِ، وإنْ لم يكنْ إعمال كإلقاءِ المتاعِ فِي البحرِ حرم. قال المتولِّي (¬2): ويكرهُ أيضًا تركُ عمارةِ الدارِ إلى أَنْ تخربَ، ولا تكرهُ عمارةُ الدورِ وسائرِ العقارِ للحاجةِ، والأوْلى تركُ الزيادةِ، وربَّما قيلَ تكرهُ الزيادة. وأمَّا المحجورُ عليهِ فعلى وليِّه عمارةُ دارِهِ وحفظُ شجرهِ وزرعِه بالسَّقي وغيره، وأمَّا الوقفُ فعلى ناظرِهِ حفظُ رقبتِهِ ومستغلاته ولو غابَ الرشيدُ عن ¬
مالِهِ غيبةً طويلةً ولا نائبَ له، فهلْ يلزم الحاكمُ أن يُنيبَ من يعمرُ عقارَه ويسقي زرعهُ وثمره من ماله أم لا، والظاهرُ اللزومُ؛ لأنَّ عليه حفظَ مالِ الغائبِ كالمحجورينَ. ويكرهُ للإنسانِ أَنْ يدعوَ على نفسِهِ وولده وخادمِهِ ومالِهِ، واللَّهُ أعلمُ. * * *
كتاب الجنايات
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ كتاب الجناياتِ على أنفس البشر بقتلِها وعلى أجزائِها ومعانيها بتفويتها قال اللَّه تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} إلى قوله: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَاأُولِي الْأَلْبَابِ}. وقال تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً} ألى قوله: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا} الآية. وقال تعالى: {وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا}. وقوله تعالى: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} إلى قوله: {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ}، وظهر من قولِه: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ}، ومن مُقتضى الأدلةِ إلزامُنَا بذلكَ.
وعنْ عبدِ اللَّهِ بنِ مسعودٍ -رضي اللَّه عنه- أنَّ رسولَ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قالَ: "لا يحلُّ دمُ امرئٍ يشهدُ أنَّ لا إلهَ إلَّا اللَّهُ وأنِّي رسول اللَّهِ إلَّا بإحدَى ثلاثٍ؛ الثيِّب الزاني، والنَّفسُ بالنفسِ، والتاركُ لدينِه المفارقُ للجماعةِ" (¬1) أخرجه الصحيحان وغيرهما. والقتلُ من المكلَّفِ بغيرِ حقٍّ عمدًا بلا تأويلٍ من الكبائرٍ. والموجبُ للقصاصِ منه كلُّ فعل بمباشرةٍ أو سبب عمد محضٍ مزهقٍ للروحِ غالبًا، ولو في مثلِ المجني عليه والزمان، عدوان من حيث كونُه مُزْهقًا من واحدٍ أو جمعٍ، بتواطؤ فيما لا يزهقُ بعضهُ، ليس معه شركة شبه عمدٍ ولا خطأ، ولا عمدٍ من الجاني، غير موجبٍ للقصاصِ ولا شركة المجني عليهِ بالمداواةِ ولا ترك منه ما يوثق بهِ فِي دفعِ الهلاكِ، مقصودٌ فيه عين المجني عليه، مع معرفةِ أنَّهُ آدميٌّ منفردًا أو معَ غيرِهِ علَى مَا رجِّحَ، والأوجهُ خلافُه كما فِي صورة المنجنيقِ. وصدرَ الفعلُ فِي حالةِ التكافِي وتكليفِ الجانِي والتزامِهِ وانتفاءِ المانعِ منْ شُبهةٍ وغيرِها مستمرًّا فيه عصمته على الجاني من الفعلِ إلى الفوت غيرَ مقبولٍ فِي حربِ بغاةٍ ولا ذِي شوكَةٍ وأهلِ ردَّةٍ على قول رجَّحهُ بعضُهم. وفِي غيرِ قطعٍ، فإن فيهِ معنَى القصاصِ على الأرجحِ، لكنْ لا يتوقَّفُ استيفاؤُه على طلبِ أولياءِ القتيلِ، ويُقتل ولو كانوا صغارًا، وسيأتِي فِي بابِه بسطُه إن شاء اللَّهُ تعالى. فالفعلُ بالمباشَرَةِ ما أثَّرَ فِي الزُّهوقِ وتخيُّلُه كحزِّ رقبةٍ وقدٍّ بنصفين ورمي بسهمٍ، وإلقاءٍ من شاهقٍ، وعصر خصيةٍ، وخنقهِ، ورمي بمثقل، وجرح سار، ¬
وتوالي ضربُه، وسقيه ما يقتله بإنجاز بكرهٍ أو أكرههُ حتَّى تناوَلَ بنفسِه، وإن علمَ أنَّه مسمومٌ على الأظهَرِ، وليسَ هذا كما إذا أكرههُ على أَنْ يَقْتلَ نفسَه، خلافًا لقوله الرَّافعيِّ أنَّه الوجهُ؛ لأنَّه قد يحصلُ الشفاءُ منَ السَّهمِ فيتخلَّصُ من قبل ناجز بأمرٍ مرجو فيه الشفاء. ومن المباشرةِ الموجبةِ للقود غرز إبرةٍ بمقتلٍ، أو بدن صغير أو شيخٍ هرم، وأمَّا غرزها فِي غيرِ ذلكَ فيما يتألَّمُ به، فإن تورَّمَ وبقي متألِّمًا إلى الموتِ وجبَ القودُ على المذهبِ، ومنهُم مَن لم يعتبرِ التورُّمَ واكتفَى باستمرارِ التألُّمِ، فإن كانَ لا ينفكُّ عنْ تورُّمٍ توافقًا. وإن كان ينفكُّ فالأرجحُ إيجابُ القود بالقيد المعتبر فِي كلِّ الصورِ، وهو أن يكونَ ذلكَ الفعلُ يقتُلُ غالبًا، ولا معنَى لِمَا رجَّحَهُ المتأخَرونَ من اعتبارِ الورمِ. وإنْ مَاتَ فِي الحالِ فصححوا أنَّه لا قودَ عليه، وهو شبهُ عمدٍ، فتجبُ فيه ديتُه، والمعتمدُ أنَّه إن كانَ يقتُلُ غالبًا وجبَ القودُ. وإذا ألقاهُ فِي ماءٍ لا يمكنُهُ التخلُّص منه فالتقمَهُ حوتٌ فعليه القصاص على النصِّ. وإن رفعَ الحوتُ رأسَهُ فألقمَهُ الحوتَ فماتَ فإنَّهُ يجبُ القصاصُ بلا خلافٍ. ومنعهُ الطعامَ والشرابَ بحيثُ لا يمكنه التوصُّلُ إليهِ مدَّةً يموتُ فيها مثلُهُ غالبًا يوجبُ القودُ. وإن كانَ بهِ بعضُ جوعٍ أو عطشٍ سابقٍ، وعلم المانعُ بحالِهِ وجبَ القصاصُ على الأصحِّ، فإن عفَى على مالٍ وجبتِ الدِّيةُ كلُّهَا. كذا ذكروه.
ولَمْحُ الشركةِ يقتضي إيجاب النصف، وهو قويٌّ. ومن أقرَّ أنَّه قتله بسحره الذي قصدَهُ بهِ وأقرَّ أنَّهُ يقتلُ غالبًا فعليهِ القودُ. وأمَّا مَن قتلَ بالعينِ أو بالحالِ كما يجرِي لبعضِ الفقراء فلا شيء فيه. ومقابلُ العمدِ شبهُ العمدِ والخطأِ: فالعمدُ: قصْدُ الفِعْلِ والشخصِ بما يقتلُ غالبًا مباشرةً أو تسببًا كما سبقَ، وسيأتي قَصْدُ السبب. وشبهُ العمد: أن يقصدَ مباشرةً أو تسببًا الفعل والشخص بما لَهُ مدخلٌ فِي الإهلاكِ، لكن لا يقتلُ غالبًا، ومنهُ الضربُ بالسَّوطِ والعصا الخفيفةِ، وبجمعِ الكفِّ بشرطِ أن لا يتوالى فِي شيءٍ منْ ذلكَ إلَى ما يقتلُ غالبًا، ومنه الرَّمي بالحجرِ الصغيرِ. والخطأ: أن لا يقصدَ الفعلَ بأن زلقَ فسقطَ على غيرِهِ بغيرِ اختيارِهِ فقتلَهُ، أو يقصدُ الفعلَ ولا يقصدُ الشخصَ بأنْ رمَى إلى هدفٍ فأصابَ إنسانًا أو قصدَ الشاخصَ على أنَّه غيرَ إنسانٍ بأنْ ظَنَّهُ صيدًا فبانَ إنسانًا. والسببُ: ما أثَّرَ فِي تحصيلِ ما يؤثِّرُ فِي الزُّهوقِ إما حسًّا، وهو الإكراهُ، أو شرعًا كما فِي الشهادةِ، أو عُرفًا كما فِي تقديمِ الطَّعامِ المسمومِ. فإذا أكرههُ على صعودِ شجرةٍ أو نزولِ بئرٍ لا يسلمُ منهُ غالبًا فهو عمدٌ موجبٌ للقودِ كما سبقَ فِي السُّمِّ، وإن كانَ يحصلُ منهُ الهلاكُ نادرًا فشبهُ عمدٍ. وإنْ كانَ لا يحصلُ هلاكٌ أصلًا لم يجبْ شيءٌ، ويحتَمَلُ أن يكونَ خطأ. وإذَا أكرَهَهُ على قتلِ آخرَ يكافئهما فقتلَهُ مكرهًا وجبَ القودُ على كلٍّ منهُما، وفِي الأمرِ رجلًا أنَّهُ لا قودَ عليه، وفِي المأمورِ قول أنَّهُ لا قودَ عليهِ
والقودُ على الآمرِ، والمعتمدُ أنَّهُمَا شريكَانِ. فإذا آلَ الأمرُ إلى الديةِ فهي عليهِمَا بالسويَّةِ. وإن كان أحدُهما مكافئًا قُتِلَ المكافئُ، ووجبَ نصفُ الديةِ على غيرِ المكافئِ. ولو أكرهَ بالغٌ مميزًا على قتلِ إنسانٍ فقتلَهُ وجبَ القصاصُ على الآمرِ إنْ جعلْنَا عمدَ الصبيِّ عمدًا، وهو الأصحُّ، وتجبُ نصفُ الديةِ فِي مالِ الصبيِّ إن جعلْنَا عمدَهُ عمدًا، وهو الأصحُّ كما تقدَّم، فإن جعلناهُ خطأً فعلى عاقلتِهِ. ولو أكرَهَ مميزٌ بالغًا فلا قصاصَ على المميزِ، وفِي البالغِ الخلافُ، فإن جعلْنَا عمدَ الصبيِّ عمدًا، وهو الأصحُّ، فعليهِ القصاصُ، وإنْ قُلنا خطأٌ، فلا قصاصَ قطعًا؛ لأنَّهُ شريكُ مخطئ (¬1). ولو أكرَهُ رجلٌ رجلًا على أن يرمي إلَى طَلَلٍ عَلِمَ الآمر أنَّهُ إنسانٌ، وظنَّهُ المأمورُ حجرًا أو صيدًا، أو على أَنْ يرمِي سُتْرةً ورآها إنسان وعلمه الآمرُ دونَ المأمورِ فلا قصاصَ علَى المأمورِ، وأمَّا الآمرُ فالأصحُّ المعتمد في الفتوى أنَّهُ لا قصاصَ عليهِ؛ لأنَّه شريكُ مخطئ، خلافًا لما صحَّحَهُ فِي "المنهاجِ" (¬2) تبعًا لأصلِه منْ وجوبِ القصاصِ عليهِ تفريعًا على أنَّ المأمورَ كالآلةِ، وهو رجلًا مرجوحٌ كما قالَ شيخُنا. والأصحَّ أنَّه شريكٌ مخطئٌ (¬3). وإذا أكرَهَهُ على صعودِ شجرةٍ فزلقَ وماتَ فصحح المصنِّفانِ أنَّهُ شبهُ ¬
عمدٍ، وقال شيخنَا: والذي عندنا أنَّ الأصحَّ أنَّه خطأ محضٌ (¬1). وإذا أكرهه على قتلِ نفسِه فلا قصاصَ عليهِ كما جزمَ بهِ القفال والقاضِي حسين، والإمامُ، والغزاليُّ، وما وقعَ فِي "المنهاجِ" من إثبات قولِه. قال شيخنَا: لم أقفْ عليهما فِي منصوصاتِ الشَّافعيِّ -رضي اللَّه عنه- ولا يعرفانِ فِي كتبِ المذهبِ، وانفردَ البغويُّ بنقلهما فِي "التهذيبِ" وتبعهُ الخوارزميُّ فِي "الكافي" (¬2). ولو قالَ لهُ: "اقتلنِي وإلَّا قتلتُكَ"، فالمذهبُ لا قصاصَ ولا ديةَ جزمًا (¬3). وإن قتلَهُ للدفعِ كما إذا قالَ: "أنا لا أفعل ذلك فِي. . . (¬4) بحيث يعني قتله للدفع فلا قصاصَ، ولا ديةَ جزمًا (¬5). وإذا قالَ "اقتلْ زيدًا أو عمرًا وإلَّا قتلتُكَ" فالأصحُّ كما قالَهُ شيخُنا تبعًا للقاضي حسينِ أنَّه إكراهٌ، خلافًا لما رجحاهُ من عدمِ الإكراهِ وعلَّلا ذلكَ بأنَّهُ تخييرٌ، فإنَّه لَا يتخلَّصُ من قتلِهِ إلَّا بقتلٍ واقعٍ على معيَّنٍ منهما، وليسَ كمَا لو أكرهَهُ علَى أن يطلِّقَ إحدَى زوجتيهِ فإنَّهُ يمكنُهُ أن يقول: إحداهُما طالقُ، فإذا طلَّقَ معينةً كانَ مختارًا فِي تعيينها، وأمَّا هنا فلا يمكنُه أن يتخلَّصَ منهُ إلَّا بفعلهِ فِي معيَّنٍ (¬6). وإذا شهدَ الشاهدُ أنَّ على رجلٍ بقصاصٍ فقتلَ، ثم رجعا وقالَا: تعمَّدنا، ¬
فعليهما القصاصُ، وكذَا لو رجَعَ أحدُهما وقال: تعمَّدنَا، يلزمُه القصاصُ أيضًا، وإنِ اقتصَرَ على قولِهِ تعمَّدتُ فلا قصاصَ عليه. وإن قالَ كلُّ واحدٍ منهُما تعمَّدتُ، ولا أعلمُ حالَ صاحبِي، أو قالَ: كلُّ واحدٍ منهُما تعمدتُ مقتصرًا عليه، فإنَّهُ يلزمهُما القصاصُ، ولا (¬1) بدَّ فِي إلزامِهمَا القصاصَ فِي صورةِ مَن يخفى عليهما أن يقولَا: وعلمنا أنَّهُ يقتلُ بشهادتِنَا، فلو لم يقولَا ذلكْ وكانَا ممن يجوز خفاؤُه عليهما لقربِ عهدِهمَا بالإسلامِ ونحوِه، فالذي قالَهُ الأصحابُ أنَّه شبهُ عمدٍ، لا يوجبُ قصاصًا. ولو قالَ الشهودُ: لم نعلمْ أنَّه يُقتلُ بشهادتنا لظهورِ أمورٍ فينا تقضي بردِّ شهادتِنا فيمَا شهدْنَا به، ولكن الحاكمَ قصَّر. قالَ شيخُنَا: فيكونُ هذا شبهُ عمدٍ، ولم أرَ مَنْ تعرَّضَ لهُ، فإن اعترَفَ الوليُّ بأنَّه كانَ عالمًا بكذبِ الشاهدينِ عندَ قتلِه فلا قصاصَ عليهما، ويلزمُ وليَّ المقتول حينئذٍ القصاصُ. وإذا لم يعرفِ الوليُّ ولكنْ رجعَ القاضِي والشهودُ وقالَ القاضِي: كنتُ عالمًا بكذبِ الشُّهودِ حينَ حُكمِي بشهادتِهم بالقتلِ، أو حينَ القتلِ، فلا قصاصَ على الشهودِ، ويكونُ القصاصُ على القاضِي؛ لأنَّهُ هو الذي قتَلَ ولا أثرَ لشهادةِ الشُّهودِ كما فِي الوليِّ (¬2). * قاعدةٌ: قالَ الشَّيخُ أبو حامدٍ: لا يجبُ القصاصُ بغيرِ مباشرةٍ إلَّا فِي صُورتينِ: المكرهُ، وإذَا شهدَا عليهِ بمَا يقتضي القتلَ، فقتلَ ثمَّ رجعَا، وقالَا تعمَّدنا. انتهى. وقد تقدَّمَ ما فِي ذلكَ، ويُزادُ عليهِ الضيافةِ بالمسمومِ، وإذا ضيفَ بمسمومٍ ¬
يقتلُ غالبًا صبيًّا غيرَ مميزٍ أو مجنونًا فماتَ، وجبَ القصاصُ. وأمَّا المميزُ فإن بينَ له حالَ الطَّعامِ كان كالبالغِ العاقلِ وحكم البالغ العاقل أنَّهُ إذا ضيَّفهُ بمسمومٍ يقتلُ غالبًا ولم يبينْ لَهُ حالَ الطَّعامِ أنَّه يجبُ عليهِ القصاصُ كما رجَّحَهُ الشافعيِّ رضي اللَّه عنه فِي "الأمِّ" (¬1) حيثُ قالَ: ولو كانَ الساقي للسمِّ الذِي أقيدَ من ساقيِهِ (¬2) لم يكره المسقي، ولكنَّهُ جعلَهُ لَهُ فِي طعامٍ أو خاص لَهُ عسلًا أو شرابًا غيرهُ فأطعمَهُ إياهُ أو سقاهُ (¬3) إياهُ غيرَ مكره عليه، ففيها قولانِ: أحدُهما: عليهِ القودُ إذا لم يعلمه أنَّ فيه سمًّا، وكذلك لو قالَ: هذا دواءٌ فاشربْهُ، وهذا أشبههما. والثاني: أن لا قودَ عليِه وهو آثمٌ لأنَّ الآخرُ شربَهُ. هذا نصُّه رضي اللَّه عنه. وقد رجَّح من القولين الأوَّلَ، فهو مذهبُهُ خلافًا لما رجَّحهُ النوويُّ من ترجيحِ لزومِ الديةِ ومنعِ القصاصِ. وإن دسَّ شخصٌ سُمًّا يقتلُ غالبًا فِي طعامِ شخصٍ فأكلَهُ جاهلًا فلا عقلَ ولا قودَ ولا كفَّارةَ على النصِّ، وإذا تركَ المجروحُ علاجَ جرحٍ مهلكٍ فماتَ منهُ وجبَ القصاصُ بلا خلافٍ. ولو ألقَى إنسان إنسانًا فِي ماءٍ مغرقٍ فمكثَ الملقَى فيهِ مضطجعًا حتَّى ماتَ فلا شيءَ علَى مَنْ ألقاهُ؛ لأنَّهُ هوَ أهلَكَ نفسَهُ. فإن كانَ الماءُ مغرقًا، ولا يمكنُ الخلاصُ منهُ إلَّا بالسباحةِ ولم يحسنْها الملقَى، أو كانَ مكتوفًا أو زَمِنًا، فذاك عما يوجبُ القصاصُ على مَن ألقَاهُ. ¬
فصل في اجتماع مباشرين
وإن أحسنَ السباحةَ وأمكنهُ فتركَهَا، فلا قصاصَ ولا ديةَ؛ لأنَّهُ بمنزلةِ مَن طرَحَ نفسَهُ، وكذلكَ لا قصاصَ ولا ديةَ فيما إذا ألقاهُ فِي نارٍ يمكنهُ الخلاص منه فمكث. وإذا أمسكه إنسانٌ فقتله غيرُهُ أو حَفَرَ بئرًا فردَّاهُ فيها آخرُ والتردية فِي البئر يحصلُ منها القتلُ غالبًا، أو ألقاهُ فِي طَلَلٍ فتلقاهُ غيرُهُ فقدَّه فالقصاصُ على مَن قتلَ وردَّى، وقدَّ خاصَّة؛ لأنَّهُم المباشرون. * * * فصل في اجتماع مباشرين فإذا صَدَرَ فِعْلانِ مزهقانِ للروحِ من شخصينِ، ينظر؛ إنْ وُجدا معًا فهما قاتلانِ، سواء كانا مُذَفِّفَين (¬1) بأنْ حزَّ أحدُهما رقبتَه، وقدَّهُ الآخرُ نصفين، أو لم يكونَا مُذَفِّفَين بأنْ أجافَ (¬2) كلّ منهُما أو قَطَعَا عضوينِ، وماتَ منهُما. وإنْ كانَ أحدُهمَا مُذَفِّفًا دونَ الآخرِ فالمُذَفِّف هو القاتل. وإن طرأ فعلُ أحدِهما على الآخرِ فإن وجد فعل الثَّاني بعد انتهاءِ المجني عليهِ إلى حركةِ المذبوحِ، فالقاتلُ هوَ الأوَّلُ، ولا شيءَ على الثَّانِي سوى التعزيرُ. والمرادُ بحركةِ المذبوحِ الحالةُ التي لا يبقَى معها الإبصارُ والإدراكُ، ¬
فرع
والنطقُ والحركةُ الاختياريان (¬1). وإنْ وُجدَ فعلُ الثَّاني قبلَ انتهائِه إلى حركةِ المذبوحِ، فإن كانَ الثَّانِي مُذَفِّفًا بأن جرحَهُ الأوَّلُ وحزَّ الثَّاني رقبتَهُ فالقاتلُ هو الثَّاني، وعلى الأولِ قصاصٌ فِي العضوِ أو المالِ على ما تقتضيهِ الحالُ، وإن لم يكنِ الثَّاني مُذَفِّفًا وماتَ بسرايتِهمَا فهما قاتلانِ، ويجبُ القصاصُ على قاتلِ المريضِ المشرفِ على الموتِ (¬2). * * * فرع: قتل مسلمًا ظنَّ حرابتَهُ بدارِ الحربِ، فلا يجبُ عليهِ القصاصُ، ولا تجبُ الديةُ على الأظهرِ، وتجبُ الكفَّارةُ قطعًا. وإن كانَ القاتلُ ذميًّا، لم يستعنْ بهِ المسلمونَ وقتلَهُ بدارِ الحربِ، على ظنِّ أنَّهُ حربيٌّ فإنَّه يقتلُ به على الأرجحِ المعتَمَدِ، وفِي نصِّ الشافعيِّ ما يشهدُ لَهُ. وإذا قتلَهُ بدارِ الإسلامِ، وكانَ فِي صفِّ أهلِ الحربِ فلا قصاصَ قطعًا، وكذا لا دية على الأظهرِ. وإذا كان فِي دارِ الإسلامِ وليسَ فِي صفِّ أهلِ الحربِ وظنَّهُ (¬3) كافرًا حربيًّا من غيرِ أن يعهدَهُ بالصفةِ المذكورةِ فبانَ أنَّهُ مسلم فإنَّهُ يجبُ القصاصُ قطعًا بخلافِ ما إذا ظنَّهُ حربيًّا فِي دار الحربِ، فإنَّه لا فرقَ بين أن يعهدَهُ كذلك أو لا يعهدُهُ. ¬
وإذا قتلَ من عهدَهُ مرتدًّا أو ذميًّا أو عبدًا فبانَ أنَّهُ أسلمَ أو عتقَ والقاتلُ بمقتضَى ما عهدَهُ ممن يُقتل بهِ، وجبَ القودُ، وكذا إن لم يكن ممن يقتلُ بهِ على الأظهرِ، أو ظنَّهُ قاتلَ أبيهِ، فلم يكن وجبَ القودُ على المذهبِ. ولو ضرَبَ مريضًا جهلَ مرضَهُ ضربًا يقتلُ المريضَ غالبًا وصدرَ الضربُ فِي غيرِ تأديبٍ، فيجبُ القصَاصُ حينئذٍ، ويشترطُ لوجوبِ القصاصِ إسلامُ القتيلِ، أو أمانُهُ، وعدمُ صِيالٍ معين قَبْلَه فيه للدفعِ، ومن عليهِ القصاصُ إن قتله غير المستحقِّ قُتِلَ، إلَّا أَنْ يقتلَهُ فِي قطع الطريقِ فلا يقتلُ بهِ إلَّا إذا قتَلَهُ مَن هوَ فِي مِثلِ حالتِهِ بالنسبةِ إلى أنهُ يقتل فِي حق اللَّهِ تعالى، كالزانِي المحصَن، وتارك الصلاةِ، ونحوهما على الأصحِّ. والزاني المحصنُ الذِّميُّ الكتابيُّ إذا قتَلَهُ ذميٌّ ليسَ زانيًا محصنًا ولا وجبَ قتلُهُ بقطعِ طريقٍ ونحوِه، فإنَّهُ لا يقتلُ بِهِ على المعتمدِ. إن قتلَهُ مَن هوَ مثلُهُ قتل، وإن قتلَهُ مسلمٌ فلا، على الصحيحِ المنصوصِ، والزاني المسلمُ المحصنُ إذا قتَلَهُ مَن هو مثلُهُ فالأصحُّ أنَّهُ يقتلُ بِهِ، وإن قتلَهُ مسلم غيرُ زانٍ محصنٍ بعد أمرِ الإمامِ بقتل الزاني المحصن المذكورِ فإنَّهُ لا يقتلُ بهِ قطعًا، وإن قتلَهُ بغيرِ إذنِ الإمامِ له عُزِّرَ لافتياتِهِ، وإذَا كانَ القاتلُ لَهُ بالصفةِ المذكُورةِ قد رآه يزني، وعلم أنَّه محصنٌ فإنَّه لا يُقتَلُ بِهِ بلَا خلافٍ. ويشترطُ فِي القاتِلِ أَنْ يكونَ ملتزمًا للأحكامِ (¬1)، فلا قصاصَ على صبيٍّ ولا مجنونٍ ولا حَرْبِيِّ إذا قَتَلَ فِي حرابتِهِ، وتجبُ على المرتدِّ والمعصومِ، وعلى مَن سَكَرَ ومَن تعدَّى بشربِ دواءٍ مزيلٍ للعقلِ، ولو قالَ القاتلُ: كنتُ ¬
ضابط
يومَ القتلِ صغيرًا؛ صدِّق بيمينِهِ بشرطِ الإمكَانِ، ولو قالَ كنتُ مجنونًا عندَ القتلِ، وكانَ عُهِدَ لَهُ جنون صدِّقَ، وإلَّا فَلَا. وشرطُه التكافؤ، فلا يقتلُ مسلمٌ بكافرٍ، ويقتلُ الكافرُ بالمسلمِ، ويقتَلُ الذِّميُّ بالذمِّي، ويقتلُ المرتدُّ بالذِّمِّيِّ، ولا يُقتَلُ الذِّمِّيُّ بالمرتدِّ، ويقتلُ المرتدُّ بالمرتدِّ. وإذا أسلمَ الكافرُ بعدَ أَنْ قتَلَ المسلمَ؛ فعليهِ القِصاص على الأصحِّ، ولو جَرَحَ ذميٌّ ذميًّا ثم أسلمَ الجارحُ، ثمَّ بعد ذلك ماتَ المجروحُ لم يسقطِ القصاصُ على المنصوصِ. ويقتلُ القِنُّ والمُدَبَّر والمكاتَبُ وأمُّ الولدِ بعضهم ببعضٍ للتساوي فِي (¬1)، ولا نظرَ إلى ما انعقدَ لَهُم من سبب الحريةِ، ولا يقتل المكاتبُ بعبده على المذهبِ، وإن كان رقيقًا مثلُه؛ لأنَّه سيِّدُه، ولا يقتلُ المكاتبُ بِأَبِيهِ إذا قتلَهُ وهو يملكُهُ. * ضابطٌ: ليسَ لنَا عبدٌ لا يُقتلُ بعبدٍ، ولا ولدٌ لا يقتلُ بأبِيهِ فِي حالةِ تكافئهما، إلَّا هذا، ولو قَتَلَ من يَرِثُهُ، وكذا القاتلُ لم يجبِ القِصاصُ. وإن قَتَلَ عبدٌ عبدًا، ثم أُعتِق القاتلُ أو جرحه وعُتق، ثم ماتَ المجروحُ، فعلى ما تقدَّم فيما لو قتل ذميٌّ ذميًّا، أو جرحه ثم أسلمَ من وجوب القصاصِ، ولا يقتل المبعَّض بمثله. وإذا قتل عبدٌ مسلمٌ حرًّا ذميًّا أو حرٌّ ذميٌّ عبدًا مسلمًا، أو قتل كافر ابنه المسلم أو الابنُ المسلمُ أباهُ الكافرَ فلا قِصاص؛ لأنَّ الحرَّ والمسلمَ والأبَ لا يُقتلُ بمفضولِه. ¬
قاعدة
ولا يقتلُ الأصلُ وإن علَا بفرعِهِ وإن سفُلَ فِي غيرِ ما تقدَّمَ، وكمَا لا يُقتلُ بهِ لا يجبُ له على أبيهِ قصاصٌ. وتُقتلُ الفروعُ بالأصولِ بشرطِ التساوِي فِي الإسلامِ والحريَّةِ وما سبقَ. * قاعدةٌ: قال ابنُ القاصِّ فِي "التلخيصِ": وكلُّ عاقلٍ بالغٍ قَتَلَ عمدًا وجبَ عليِهِ القودُ إذا كانَا متكافئينِ، إلَّا فِي خمسةٍ: الآباءِ، والأمهاتِ، والأجدادِ، والجداتِ، ولو قتلَ رجلٌ رجلًا فورثَ القاتلُ بعضَ قصاصِ المقتولِ لم يقتَلْ. انتهى. والقاتلُ لا يرثُ من المقتولِ ابتداءً، ولعلَّ المرادَ: استحقَّ بعضَ القصاصِ ولدُ القاتل. وإذا تداعى رجلانِ مجهولًا (¬1)، ثم قتلَهُ أحدُهُما، أو قتلاهُ، فلا قصاص فِي الحالِ، فإن ألحقَهُ القائفُ بأحدِهما، وكانَا مشتركين فِي القتلِ فلا قصاصَ على الذي ألحق به، ولا يقتصُّ مِنَ الآخرِ بمجرَّدِ إلحاقٍ بغيرِ القائفٍ -خلافًا لما فِي "المنهاجِ" تبعًا لأصلِهِ- سواءٌ كانَ القائفُ لم يرَ الولدَ إلَّا بعدَ القتلِ، أو كانَ رآهُ قبلَ القتلِ كما هو ظاهرُ نصِّ الشافعيِّ فِي "الأمِّ" (¬2) فِي ترجمةِ ما جاءَ فِي الرجلِ يقتلُ ابنَهُ، وبِهِ جزَمَ الماورديُّ، وهو المعتمدُ. قال الشافعيُّ رضي اللَّهُ عنهُ: (وإذا تداعَى الرَّجُلانِ ولدًا فقتَلَهُ أحدُهمَا قبلَ يبلغَ فينتسبُ إلى أحدِهمَا أو يراهُ القافةُ دَرَأْتُ عنهُ القوَدَ للشبهةِ، وجعلتُ الديةَ فِي مالِهِ). فقد درأ الشافعيُّ عنهُ القوَدَ مطلقًا من غيرِ توقفٍ علَى قولِ القائفِ؛ لأنَّ قولَهُ حجَّةٌ على خلافِ القياسِ، فيقتصرُ بِهَا على مجرد ¬
فرع
إلحاق النسبِ بشُروطه من غيرِ إيجابِ قصاصٍ على القاتلِ كما إذا أثبتنا هلالَ رمضانَ بواحدٍ، لا يُحكمُ بحلولِ الدينِ المؤجل ولا بإيقاعِ الطَّلاقِ المعلَّقِ على مجيءِ رمضانَ قبلَ الثُّبوتِ، وعَدمُ القتلِ أولى. * * * فرع (¬1): أخوان لأبٍ وأمٍ فقتل أحدُهما الأبَ والآخرُ الأمَّ معًا، فكُلُّ واحدٍ يستحقُّ القصاصَ على الآخرِ، حيث كانا حائزين على معنى أنَّ كلَّ واحدٍ لو انفردَ حازَ جميعَ إرثِ أبيهِ وأمهِ، فإن تنازعا قدمُ أحدُهما بالقرعةِ. وإن طلب أحدهما القصاص ولم يطلب الآخر فإنَّه يجاب الطالبُ، وإذا استوفى أحدُهما بالقرعةِ أو بالمبادرةِ بلا قرعةَ. فإن قلنا: القاتلُ بحقٍّ لا يحرَمُ الميراثَ، ولم يكنِ المقتصُّ محجوبًا سقطَ القصاصُ عنهُ. وإنْ قلنا: يحرمُ الميراثُ -وهو المذهبُ- أو كان هناك من يحجُبُه فلوارثِ المقتصِّ منْهُ أن يقتصَّ من المبادِر. وأن يعاقب القَتْلان والزوجية (¬2) بقية بين الأب والأم فلا قصاصَ على القاتل أولًا، ويجب على الثَّاني، وإن لم تكن الزوجيةُ باقيةً فلكلِّ واحدٍ منهما حقُّ القِصاصِ على الآخرِ. وهل يقدمُ بالقرعةِ أم يقتصُّ من المبتدئِ بالقتلِ؟ رجَّحَ شيخُنا الإقراعَ، تبعًا لقطعِ الشَّيخِ أبي حامدٍ والمحاملي وابن الصَّباغِ وغيرهم، ونَقل الإمامُ ¬
عن الأصحابِ أنَّهُ يقتصقّ من المبتدئِ وهو الأرجحُ فِي "الرَّوضة" (¬1). وإذا قَتَلتْ جماعةٌ واحدًا قُتِلُوا به (¬2)، ثمَّ للولي أَنْ يقتلَ جميعَهم وله أن يقتلَ بعضَهم، ويأخذَ حصَّةَ الباقين منَ الدِّيةِ، وله أن يقتصرَ على الدِّيةِ فيكونُ على جميعهم ديةٌ واحدةٌ موزَّعةٌ على عددِ رءوسِهم لا عددِ الجراحاتِ، والصَّحيحُ فِي الضَّرَباتِ التَّوزيع على عددِها لا عدد الرُّءوسِ. * * * وإذا شاركَ الأبُ أجنبيًّا فِي قتلِ الولدِ فعلى الأجنبيِّ القِصاصُ وعلى الأبِ نصفُ الدِّيةِ المغلَّظةِ. ومثلهُ لو شاركَ حرٌّ عبدًا فِي قتلِ عبدٍ، أو مسلم ذميًّا فِي قتلِ ذمِّيٍّ لا قِصاص على الحرِّ والمسلمِ، ويجبُ على العبدِ والذِّميِّ. وإذا جرحَ حربيٌّ ومسلمٌ وماتَ منهما أو قطعتْ يد إنسانٍ فِي مرضه أو قصاص ثم جرحه رجلُ عدوانًا، أو جرحَ مسلم مرتدًّا أو حربيًّا ثم أسلمَ فجرحهُ غيرُهُ، أو جرحَ ذمِّيٌّ حربيًّا ثمَّ عُقِدَتِ الذمة للمجروحِ فجرحه ذميٌّ آخرُ أو جرح صائلًا ثم جرحهُ غيرُه، فأظهرُ القولينِ وجوبُ القصاصِ فِي هذهِ الصُّورِ كشريك الأبِ. ولو جرحَ شخصٌ شخصًا جراحتينِ إحداهُما عمدٌ والأخرى خطأٌ، فمات بهما فلا قصاصَ فِي النفسِ، وتجبُ نصفُ الدِّيةِ المغلَّظةِ فِي ماله ونصفُ المخفَّفةِ على عاقلتِه (¬3). ¬
وإذا داوى المجروحُ نفسَهُ بسمٍّ قاتلٍ، فليسَ على الجارحِ قصاصٌ فِي النَّفسِ وإنَّما عليه أرشُ جراحتِه، أو القصاصُ إنْ تعلَّق بها قصاصُ طرفٍ وغيرِهِ مما فيه القصاصُ (¬1). وإن كانَ السُّمُّ مما لا يقتلُ غالبًا فالجارحُ شريكٌ لصاحبِ شِبْه عمدٍ، فلا قصاصَ عليه فِي النَّفسِ ولكنْ عليه نصفُ الدِّيةِ المغلَّظةِ أو القصاص فِي الطرفِ أو غيره كما تقدَّم، فإن كانَ السُّمُّ قاتلًا غالبًا ولم يعلمِ المجروحُ ذلك فهو كالحالةِ الثَّانيةِ. وإن علمَهُ فالأصحُّ أنَّه كشريكِ جارح نفسِه، فيجبُ القصاصُ على الأظهرِ. وإذا ضربَ جماعَةٌ رَجُلًا بسياطٍ أو عصى خفيفةٍ حتَّى قتلوه (¬2)، فإن كانتْ ضرباتُ كلِّ واحدٍ منهم قاتلةً لو انفردتْ، فعليهم القصاصُ. وإنْ آلَ الأمرُ إلى الدِّيةِ فتوزَّعُ عليهم على عددِ الضَّرباتِ على أرجحِ القولينِ. وإنْ لَم يكُنْ ضربُ كلِّ واحدٍ قاتلًا، فأصحُّ الأوجهِ وجوبُ القصاصِ عليهم إنْ تواطَئُوا. وإذا قتلَ واحدٌ جماعةً قُتِلَ بأحدِهِمْ ووجبَتْ دِيَةُ الباقينَ، ثم إنْ قتلهم مرتبًا فيقتلُ بالأولِ. ¬
فرع
وإنْ قتلهم دفعةً واحدةً أُقرِعَ بينهم؛ فَمَنْ خرجتْ قرعته قُتِلَ به، فإن قتلهُ غيرُ الأولِ من المستحقينَ كان عاصيًا ووقع ذلك القتلُ قِصاصًا، ويجبُ للأولِ دِيَةٌ لتعذُّرِ القصاصِ. * * * فرع (¬1): أَذا جرحَ مرتدًا أو حربيًّا أو عبد نفسه ثم أسلمَ وعتق فلا يجبُ القصاصُ قطعًا، ولا دِيَةَ على الصحيحِ المنصوصِ إن لم يكن جارح المرتدِّ مرتدٌّ، أو إن كان مرتدًا وجبَ القصاصُ كما تقدَّم. وإذا رمى مرتدًّا أو حربيًّا أو عبد نفسه فأسلمَ وعتق، فلا يجبُ القصاص إن لم يكن رامي المرتد مرتدًّا، فإن كان مرتدًّا وجبَ عليه القصاصُ كما تقدَّمَ، والمذهبُ المنصوصُ وجوبُ دِيَةِ مسلمٍ أو حرٌّ، وتكون فِي مالِهِ حالَّةً، كما نصَّ عليه الشافعي -رضي اللَّه عنه- فِي "الأم" فِي المرتد. قالَ شيخُنا: وإذا كان الشَّافعيُّ أوجب الدِّيةَ حالَّة فِي مالِ الجاني فِي صورةِ المرتدِّ، فإيجابُ ديةِ حرٍّ حالَّة فِي مالِ السيدِ فِي صورةِ عبد نفسه أولى، وأمَّا الحربيُّ فقد صحَّحوا التسويةَ بينهُ وبينَ المرتدِّ فِي إيجاب الدية، وقضية إلحاقه بالمرتدِّ أن تكون الديةُ فِي مال الجاني. انتهى. وما صحَّحهُ فِي "المنهاجِ" (¬2) منْ أنَّ المذهبَ وجوبُ ديةٍ مخفَّفةٍ على العاقلةِ خلافُ النصِّ. وإن ارتدَّ المجروحُ ومات بالسِّرايةِ، وكانَ جارحُهُ مرتدًّا أو النَّفس ¬
مضمونةٌ على الجارحِ بالقصاصِ على الأصحِّ، ثمَّ إن كانت الجراحةُ ممَّا يوجبُ القِصاصُ كالمُوضِحةِ وقطع اليدِ، فيجبُ القصاصُ فِي الموضحةِ والطرف يستوفيه الذي كان يرثُهُ لولا الردة. وإن كانت الجراحة موجبةً للمالِ، فالأصحُّ أنَّه يجب أَقَلُ الأمرين من الأرش الذي تقضيه الجراحةُ وديةُ النَّفس. وإذا جرح مسلمٌ أو ذميٌّ مسلمًا ثم ارتد، ثم أسلم ومات بالسراية وقلنا: إن الذمي لا يقتل بالمرتد -وهو الأصح كما تقدم- فلا قصاص، وتجب الدية بكمالها على الأصحِّ، ونصفها فِي قول. وإذا جَرَحَ مسلمٌ ذميًّا فأسلمَ، أو جرحَ حرٌّ عبدًا فعتق، ومات كلٌّ منهما بالسَّراية، فلا يجبُ القصاصُ؛ لأنَّ كلًّا منهما لم يقصد بالجناية من يكافئه. وتجبُ ديةُ المسلمِ لورثتِهِ. والعتقُ لمعتقه إن كانتْ ديةُ العتيق مثل قيمته أو أقلَّ؛ لأنَّهُ استحق هذا القَدْرَ بالجنايةِ الواقعةِ فِي ملكِهِ. وإنْ زادتْ ديةُ العتيقِ على قِيمتِهِ كانتْ الزِّيادَةُ لورثتِهِ؛ لأنَّها وجبتْ لسببٍ، وهَذَا إذا كانَ الجُرحُ ليس له أرشٌ مقدَّرٌ، فإن كانَ لهُ أرشٌ مقدَّرٌ كالموضحةِ فللسيدِ على أصحِّ القولينِ أقلُّ الأمرينِ من الدِّيَةِ، ومن. . . . (¬1) عشر قيمةِ الأمِّ. وإذَا لم يكنْ مقدَّرًا ولكنه تابع لمقدر كالجرح على أصبع فللسيدِ على أصحِّ القولينِ الأقلُّ من الديةِ، ومن عُشْر ناقص شيئًا باجتهادِ الحاكم. ولوْ كانَ المتبوعُ للإصبعِ لمْ يكُنْ للمالكِ على أصحَّ القولينِ إلَّا أقل ¬
قاعدة
الأمرينِ من عشرِ القيمةِ، وكلُّ الديةِ ففِي الجراحةِ على الإصبعِ لا يمكنُ أن يصلَ إلى عشرِ القيمةِ، فيجبُ الأقلُّ كما تقرَّرَ. ولو قَطَعَ حرٌّ يدَ عبدٍ فعتق فجَرَحهُ آخرُ وماتَ بسرايتهم فلا يجبُ القصاصُ على الأوَّلِ، ويجبُ على الآخرِ (¬1). قاعدةٌ: كلُّ جرحٍ أوله غيرُ مضمونٍ لا ينقلبُ مضمونًا بتغيُّرِ الحالِ فِي الانتهاءِ. وإنْ كانَ مضمونًا فِي الحالينِ اعتبر فِي قدر الضمان الانتهاءُ، وهذا بخلافِ القصاصِ؛ فإنَّه تعتبرُ الكفاءةُ فِي الطرفينِ والوسطِ. * * * فصل يُشترطُ فِي القصاصِ فِي الأطرافِ أن يكونَ القطعُ عمدًا محضًا عُدوانًا كالقتلِ الموجبِ للقصاصِ (¬2)، فلا يجبُ القصاصُ فِي الجراحاتِ وإبانةِ الأطرافِ إذا كانتْ خطأً أو شبه عمدٍ، ومِن صُورِ شبهِ العمدِ أن يضربَ رأسَهُ بحجرٍ لا يَشُجُّ غالبًا، فيتورَّمُ الموضعُ وينتهي الحالُ إلى وضوحِ، فلا قصاصَ، ويستثنى من ذلكَ ما إذا قُلعَ سنُّ منْ لم يثغرْ فإنَّه ليس ممَّا يفسدُ غالبًا، فإذَا بأنَّ فساد المنبتِ وجبَ القصاصُ على النصِّ. * * * * ضابطٌ: تفارِقُ الأطرافُ النفسَ فِي أمورٍ: أحدُها: أنَّ الأجسامَ لا تُضمنُ بالسِّرايةِ، بخلاف الروحِ. ¬
الثَّاني: أنَّ الجنايةَ ينبغي أَنْ تكونَ قابلةً للضبطِ حتَّى يستوفى مثلها بلا زيادةٍ ولا نقصان؛ لأنَّ الروحَ مستبقاة، فلا بد من الاحتياطِ، بخلافِ الجناية التي نشأ عنها الزُّهوقُ، فإنَّها قد تكونُ منضبطة، وقد تكونُ غيرَ منضبطةٍ، وذلك لا يؤثرُ فِي استيفاء القصاصِ؛ لأنَّ القصدَ الزهوق، وهو. . . (¬1) والجنايةُ على الأطرافِ قد تكونُ منضبطة وقد تكونُ غيرَ منضبطةٍ، فلا سبق فِي. . . (¬2) إلَّا إذا كانتِ المماثلةُ ممكنةً. والثالثُ: أن محلَّ الجنايةِ لا يراعى فِي النفسِ حتَّى لو قطعَ طرَفَ إنسانٍ فماتَ كان للولي أن يحزَّ رقبتَه، وفِي الطرَفِ يراعَى المحلّ. الرابعُ: أنَّ شرطَ قطع أطرافِ الجماعةِ بالطرفِ أن تصدرَ جنايتهم معًا على ما سيأتي ولا كذلكَ فِي النفسِ حتَّى لو جرحَهُ واحدٌ جراحة، ثم جرحَهُ آخرُ وماتَ بهما أو من ثلاثةٍ فأكثر، وكانوا متكافئينَ بوجهِ القصاصِ إلى الكلِّ على ما سبقَ، وسببه أنَّ زهوقَ الرُّوحِ حصلَ بالسراياتِ وهي مختلطةٌ بالقطعِ لا تميُّزَ فيها، وإبانة اليد حصل بالقطع المحسوسِ، والقطعُ متميز عن القطع. قال الإمام: وهذا يكادُ يخرم طرق تشبيه الطرف بالنفس. الخامسُ: أنَّ النفسَ الناقصةَ بعضَ الأطرافِ أو المعاني تقتلُ بالكاملةِ بلا أرشٍ، بخلافِ اليدِ الناقصةِ أصبعًا فإنَّها تقطعُ مع أرشِ النقصِ. السادسُ: لو قتل السيَّدُ مكاتبَهُ لم يضمنْهُ، ولو قطعَ طرفَهُ ضَمِنَهُ؛ لأنَّ الكتابة تبطلُ بقتلهِ فيموتُ على ملكِ السيدِ ولا تبطلُ بقطعِ طرفِهِ، ¬
والجراح الواقع على الرأس والوجه -ويسمى الشجاج- عشر
وأرشه كسب. . . . (¬1) له ذلك. * * * ويقطعُ الجماعةُ بالواحدِ إذا اشتركوا بأنْ وضعُوا السكينَ على يدِهِ وتحاملوا عليها دفعةً واحدةً حتَّى أبانوها، قياسًا على النفسِ، فلو تميزَ فعلُ الشركاءِ فلا قصاصَ على واحدٍ منهمْ، ويلزمُ كلَّ واحد الحكومة بالنسبةِ الحاصلةِ. ولو قطعَ واحدٌ أيدي جماعةٍ فحكمُه بالقطعِ إلى الأولِ، وأمر القرعة عند المعية ما تقدَّمَ فيما إذا قتلَ الواحدُ جماعةً. والجراحُ الواقعُ على الرأسِ والوجهِ -ويسمى الشِّجاج- عشرٌ: 1 - الخارصة: وهي التي تشقُّ الجلدَ قليلًا نحوَ الخدش، وتسمَّى الخرصة أيضًا. 2 - والدامية: وهي التي تدمي موضعها من الشقِّ والخدشِ ولا يقطر منها دمٌ، فإن سألَ منها دم فهي الدامعةُ -بالعينِ المهملةِ-. 3 - والباضعة: وهي التي تبضعُ اللحمَ بعد الجلدِ، أي تقطعُه. 4 - والمتلاحمةُ: وهي التي تغوص فِي اللحمِ ولا تقطعُ الجلدة التي بين اللحم والعظمِ. 5 - والسِّمْحاق: وهوَ الذي يبلغُ تلكَ الجلدةَ. 6 - والموضحةُ: وهي التي تخرقُ السمحاقَ، وتوضح العظم. ¬
7 - والهاشمةُ: وهي التي تهشم العظمَ، يعني تكسره. 8 - والمُنْقِلةُ: وهي التي تنقلُ العظمَ من موضعٍ إلى موضعٍ. 9 - والمأمومةُ: وهي التي تبلغُ أمَّ الرأسِ، وهي خريطةُ الدماغِ المحيطةُ به. 10 - والدامغةُ: -بالغين المعجمة- وهي التي تخرقُ الخريطةَ وتصلُ الدماغَ، وهي مدففة، وزاد بعضهم فِي الشجاج: "الجائفة" -بالجيم والفاء- وعن إبراهيم الحربي أنها الأولى من الشجاج، والخارصة تليها، والأكثرون عكسها، وقالوا إنها تلي الخارصةَ، وهي التي تغشى الجلد مع اللحم، وعلى هذا فلا يخرج عن الشجاج المذكور لأنها إن قَطَعَتْ قليلًا من اللحم كانت باضعة، وإن غاصتْ كانت متلاحمة، وإن استوعبته قطعًا فهي السمحاق (¬1) أو ما بعدها، ويجوزُ أن تُجعلَ بين الخارصةِ والداميةِ؛ كأنها أخفَى مِنَ الخارصةِ، لكن لا تدمي الموضع منها. وتذكرُ فِي الشجاج المَفْرِشة -بالفاء- وهي التي تصدع العظم أي لا تشقُّه ولا تكسرهُ، وقد يُقالُ المقرشة -بالقاف-. وذكر بعضهم القاشرة، وهي الجائفةُ بعينها، ويجوز أن يجعل القاشرة هي الجائفة أو دونها، وفوق الخارصة. وجميعُ هذهِ الشجاجِ تتصور فِي الجبهة كما تتصور فِي الرأس. والقصاص واجبٌ فِي الموضحةِ فقطْ لتيسرِ ضبطِها، واستيفاء مثلها، وأمَّا المُوضحةُ التي توضح عظمَ الصدرِ والعنقِ أو الساعدِ أو الأصابع فيجبُ ¬
القصاصُ فيها على أصحِّ الوجهينِ، وهو ظاهرُ النصِّ، وإذا. . . (¬1) فِي الجراحاتِ فِي جميعِ البدنِ بالمختارِ. قلتُ: يجبُ القصاصُ فِي الجراحةِ على أي موضعٍ كانت بشرطِ أن ينتهي إلى عظمٍ ولا بكسرهِ، ولو قطع بعض الأذن وبعض المارنِ من غير إبانةٍ وجبَ القصاصُ على الأظهرِ. واعلمْ، أنَّ فِي القطعِ من المفاصلِ القصاصَ حتَّى فِي أصلِ الفخذِ والمنكبِ إن أمكنَ من غير إجافةٍ، فإن لم يمكنْ إلَّا بالإجافةِ فلا قصاص على ظاهرِ النَّصِّ إن كانَ الجاني قد أجافَ بقطعِه من الفخذِ أو المنكبِ. وقال أهلُ البصرِ: يمكنُ أن يُقطعَ ويجافَ مثلَ إجافتِه، فأمَّا إذا لم يجف ولم يمكن القصاصُ إلَّا بإجافةٍ فلا يجوز بلا خلافٍ. وكذلك لو قَالَ أهلُ البصَرِ: لا يمكنُ إلَّا بإجافةٍ زائدةٍ على إجافتِه؛ فإنَّه لا يقتصُّ كذلك قطعًا. ويجبُ القصاصُ في فقأِ العينِ وقطعِ الأذنِ والجفنِ والمارنِ والشفةِ واللسانِ والذكَرِ والأنثيينِ، ويجب القصاصُ فِي الشِّفرينِ على النصِّ، ولا يجبُ فِي الأليتينِ على المعتمدِ عندَ الأكثرينَ، وادعَى الإمامُ اتفاقَ الأصحابِ عليهِ خلافًا لما صححهُ فِي "المنهاجِ" تبعًا لأصلِه. ولا قصاصَ فِي كسرِ العظامِ إلَّا السِّنَّ فيجبُ فيها القصاصُ على النصِّ إذا أمكنَ. قال الشافعيُّ (¬2) -رضي اللَّه عنه-: وإذا كسرَ الرجلُ سِنَّ الرَّجُلِ مِن نصفِها سألتُ أهلَ ¬
ضابط
العلمِ فإن قالوا: يُقْدَرُ على كسرِها من نصفها بلا إتلافٍ لنفسها ولا صدع أقدتُه، وإن قالوا لا يُقدرُ على ذلك لم يقدْه. هذا نصُّه، وهو الذي ينبغِي أن يُفتَى به؛ لأنَّه الثابتُ عن رسولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- فِي قصَّةِ الرُّبيِّع -بضمِّ الرَّاءِ- التي لطمتْ جاريةً فكسرتْ ثنيَّتها، فأتَوا النَّبيَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- فأمرَ بالقصاصِ. رواهُ الصحيحان. وفيه دلالةٌ واضحةٌ على إيجابِ القصاصِ فِي كسرِ السِّنِّ، وهو محمولٌ على إمكانِ المماثلةِ. وحملُ الحديثِ على أنها قلعتها بعيدٌ من الظاهرِ، فإنَّه لا يقالُ فِي ذلك كسرتها، بل يُقال قلعتها. * ضابطٌ: ليسَ لنَا موضعٌ يجبُ فيه القصاصُ فِي كسرِ العظامِ إلَّا هذا، والسنُّ عظمٌ كما قال النبيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "أمَّا السِّنُّ فعظمٌ" (¬1). وللمجنيِّ عليهِ أن يقطعَ أقربَ مفصلٍ إلى موضعِ الكسرِ الذي حصلَ به انفصالُ ذلكَ، ولو أرادَ أن يقطعَ أبعدَ مفصلٍ فلهُ ذلكَ على الأرجحِ، ويأخذ حكومةَ الباقي مكان البَطْل إلى تمامِ حقِّه (¬2). ولو قطعَ يدَهُ من نصفِ الكفِّ فلا يقتصُّ فِي الكفِّ، لعدمِ إمكانِ رعايةِ المماثلةِ، ولهُ الالتقاطُ الأصابعِ، وإن تعددَّتِ الجراحةُ؛ لأنَّه لا سبيلَ إلى إهمالِه، وليس بعد موضع الجراحة إلَّا مفاصلَ متعددة، ويجب له بعد قطع الأصابع حكومةُ نصف الكفِّ على الأصحِّ. ¬
فرع
فإن قيلَ: لِمَ جرى خلافٌ هنا فِي الحكومةِ، ولم يجرِ خلافٌ فِي الفرعِ السَّابقِ فِي حكومةِ الباقي؟ فالجوابُ: أنَّ الكفَّ تابعٌ للأصابعِ فِي إيجابِ نصفِ الدِّيةِ فِي الكلِّ، ولا يفردُ بحكومةٍ بعدَ لقطِ الأصابعِ على وجهٍ مرجوحٍ. ولوْ أوضحَ رأسَهُ وهشمها فلهُ أن يقتصَّ فِي الموضحةِ ويأخذَ ما بينَ أرشِ الموضحةِ والهاشمةِ وهو خمسٌ من الإبلِ. ولو أوضحَ ونقلَ، فله أن يقتصَّ فِي الموضحةِ ويأخذَ ما بين أرشِها وأرشِ المنقلةِ، وهو عشر، ولو أوضحَ وأمَّ فله أن يوضحَ ويأخذ ما بين الموضحةِ والمأمومةِ، وهو ثمانية وعشرون بعيرًا وثلثُ بعيرٍ. ولو قطعَ يدهُ من الكوعِ فليسَ لهُ أن يلقطَ أصابعه، فإن تعدَّى وفعلَ فلا غُرمَ عليهِ لاستحقاقِه إتلافَ الجملةِ، فلا يلزمهُ غرمٌ بإتلاف بعضِها، ولكن يعزَّر لتعدِّيه بقطعِ شيءٍ غير ثابتٍ له شرعًا، وأصحُّ الوجهينِ أنَّ لهُ أَنْ يعودَ فيقطعَ الكفَّ. وإذا كسرَ عظمَ العَضُد وأبانَ اليدَ منهُ فللمجنيِّ عليهِ القطعُ مِنْ المرفقِ، والحكومةُ لبقيةِ العضدِ قطعًا، ولو أرادَ أن يتركَ المرفقَ ويقطعَ من الكوعِ مُكِّنَ على الأرجحِ. * * * فرع: لو أوضحَ رأسهُ فذهب ضوءُ عينِه، وجبَ القصاصُ فِي الضوءِ والموضحةِ معًا، فإن أوضحَ رأسَ الجانِي فذهبَ ضوءُ عينه فذاكَ، وإلَّا أذهبَ بأخفَّ ممكنٍ كتقريبٍ حديدةٍ محماةٍ منْ حدقتِه.
ضابط
وإنْ لَطَمَهُ فذهبَ ضوءُ عينهِ واللطمةُ بحيثُ تُذهبُ الضوء غالبًا لُطِمَ مثل تلك اللطمةِ، فإن لمْ يذهبِ الضوءُ أزيلَ بالمعالجةِ. * ضابطٌ: ليس لنا موضعٌ يجبُ فيه القصاصُ فِي اللطمةِ إلَّا هذا، نصَّ عليهِ الشَّافعيُّ رضي اللَّه عنه. والمرادُ هنا بذهابِ الضوءِ ذهابُهما، ولا يجبُ القصاصُ فِي السمعِ على النصِّ، قال الشافعيُّ -رضي اللَّه عنه-: ولا قودَ فِي السَّمعِ؛ لأنَّه لا يوصل إلى القودِ فيه، فإذا ذهبَ السمعُ كلُّه ففيه الديةُ كاملةً. وقالَ بعدَ ذلكَ: والأذنانِ غيرَ السَّمعِ، فإذا قطعتا ففيهما القود، وفِي السمعِ إذا ذهبَ الديةُ، وكلُّ واحدٍ منهما غير صاحبهِ. انتهى. وما صحَّحهُ فِي "المنهاج" تبعًا لأصلِهِ من وجوبِ القصاص بمعتمَدٍ (¬1)، وما نصَّ عليه صاحبُ المذهبِ هو المعتمدُ، وكما لا يجبُ القصاصُ فِي السمعِ لا يجبُ القصاصُ فِي البطشِ والذُّوقِ والشَّمِّ على الأصحِّ خلافًا لمَّا صححهُ فِي "المنهاجِ" (¬2) تبعًا لأصلِهِ من الوجوبِ. ولا يجبُ القِصاصُ فِي العقلِ كما جزمَ بهِ فِي "المهذبِ" (¬3)، ولا فِي الكلامِ. قال شيخنا: والذي أعتقدُه أنَّ الأصحَّ فِي الكلِّ عدمُ وجوبِ القصاصِ كما فِي السمعِ، وكذا الأمرُ فِي بقيةِ المعاني من قوةِ الإحبالِ والإمناء، كلها لا ¬
فصل
قصاصَ فيها إلَّا البصر. انتهى. وكذَا وإذا قطعَ أصبعَه فسرى إلى الكفِّ أو إلى أصبعٍ أخرى بالتآكلِ، لم يجبِ القصاصُ فيما سرَى إليه. * * * فصل لا تُقطعُ اليمنى باليسرَى، ولا الشفة العليا بالسُّفلَى، ولا السبابةَ بالوسطَى، ولا بالعكسِ فيها، ولا أنملةُ أصبعٍ بأنملةٍ أخرى من تلكَ الأصبعِ، ولا أصبعٌ زائدةٌ بزائدةٍ أخرى، إذا اختلف محلَّهما، فإن اتفقَ محلَّهما قطعَ الزائدُ بالزائدِ، ولكن يُستثنى منه ما لو اختلفا فِي المفاصلِ، بأنْ كان لأصبعِ الجاني الزائدة ثلاث مفاصل، ولزائدةِ المجني عليه مفصلٌ أو مفصلانِ، فلا يقطعُ أصبعُ الجاني بها. نصَّ عليه؛ لأنَّه أعظمُ من تفاوتِ المحل. ولا يقطع حادث بعدَ الجاني بأصلي، فلو قطع شيئًا وليس للجاني مثلُهُ فلا قصاصَ، فلو نبتَ بعد ذلك لم يُقْتَصَّ أيضًا؛ لأنَّها لم تكنْ موجودةً حالة الجنايةِ، والتفاوت فِي الحجم صغرًا وكبرًا وطولًا وعرضًا أو قوةَ البطش وضعفه، لا يؤثِّرُ فِي الأعضاءِ الأصليَّة قطعًا، وكذا فِي الزائدةِ على الأصحِّ. ويراعَى قدرَ الموضحةِ طولًا وعرضًا فِي قصاصِها، فلا تقابل ضَيِّقَةٌ بواسعةٍ، ولا تصحُّ بضيقةٍ عن واسعةٍ، ولا عبرةَ بتفاوت الشاجِّ والمشجوج فِي غلظِ الجلدِ واللحمِ. ولو أوضحَ جميعَ رأسِ إنسانٍ ورأس الشَّاجِّ أصغر استوعبنا رأسَهُ إيضاحًا ولا يكتفَى به، ولا ينزلُ الإتمام إلى الوجهِ ولا إلى القَفَا، يؤخذ قسطَ الباقي
من أرشِ الموضحةِ إذا وُزِّع على جميعِها، فإن كانَ رأسُ الشَّاجِّ أكبرَ لم يوضِح المشجوج جميع رأسِه، بل قدر ما أوضح، وأصحُّ الأوجُهِ أنَّ الاختيارَ فِي موضَعِ ما يوضَح إلى الجاني، ولو أوضحَ جميعَ ناصيته وناصيةَ الجاني أصغر تمَّمناهُ قدر الموضحة من باقي الرأسِ، ولو زادَ المقتصُّ من الموضحة على القدرِ المستحَقِّ، فعليه القصاص فِي الزيادةِ إن تعمَّد، فإن أخطأَ أو آل الأمرُ إلى المال وجبَ أرشٌ كاملٌ فِي الأصحِّ. وإذا اشتركَ جماعةٌ فِي موضحة فتوضحُ من كلِّ واحدٍ منهم مثلَ تلك الموضحةِ على النصِّ (¬1)، وإذا آل الأمر إلى المال وُزَعَ الأرشُ. ولا تُقطعُ الصحيحةُ بالشَّلَّاء، وإن رَضِيَ الجاني، فلو خالفَ المجنيُّ عليهِ وقطعَ الصحيحةَ لم يقع قصاصًا (¬2)، بل عليه ديتها، فلو سَرَى فعليهِ قصاصُ النفسِ إنْ لمْ يكُنْ برضَى الجاني، فإن كانَ لم يجب قصاصُ النفسِ. وتقطعُ الشلاءُ بالصحيحةِ إلَّا أن يقولَ أهلُ البصرِ أنَّ أفواهَ العروقِ لا تنحسمُ، ولا ينقطعُ الدمُ، فلا تقطعْ حينئذٍ بالصحيحةِ، وحيثُ جازَ قطعها بالصحيحة، فعلى مستوفيها أن يقنع بها، وليسَ لهُ طلبُ أرشٍ للشَّلَلِ. وتقطع يدُ السليم ورجلُه بيد الأعسمِ ورجلِ الأعرجِ (¬3)، ولا اعتبارَ باخضرارِ الأظفار واسودادها وزوال نضارتِها، وذاهبة الأظفار تقطع بسليمةِ الأظفارِ بلا خلافٍ، ولا تقطعْ سليمةُ الأظفارِ بالتي لا أظفارَ لها على ¬
المنصوصِ. وحكمُ الذَّكَرِ الصَّحيحِ والأشل حكمُ اليدِ الصحيحةِ والشلاءِ (¬1)، والذكرُ الأشلُّ الذي يكونُ منقبضًا لا ينبسطُ، أو منبسطًا لا ينقبضُ، ولا عبرةَ بالانتشارِ وعدمِهِ، بل يقطعُ ذكرُ الفحلِ بذكرِ الخصيِّ، والعنين. ويقطعُ الأنفُ الصحيحُ بالأنفِ الأخسم، وأذنُ السميعِ بأذنِ الأصمِّ، ولا تؤخذُ العين الصحيحة بالحدقةِ العمياءِ، ولا لسان الناطقِ بلسانِ الأخرسِ الَّذِي تجاوز أوان النطقِ ولم ينطق، فإن لم يتجاوزْ كالمرضَعِ فيقطع لسان الناطق بهِ، بشرطِ أَنْ يظهر فيه أثرُ النطقِ بالحركةِ عندَ البكاءِ وإلَّا فلا. وفِي السنِّ القصاصُ قلعًا لا كسرًا، كما نصَّ عليه الشافعيِّ، وقد تقدَّم، ولو قلع المثغور سن صغيرٍ لم يثغر، فلا قصاصَ فِي الحالِ ولا ديةَ، فإن جاءَ وقتُ نباتِها بأنْ سقطت البواقي وعادتْ ولم تعُدْ هي، وقالَ أهلُ البصرِ: فسدَ المنبتُ وجبَ القصاصُ، ولا يستوفَى فِي صغرهِ، وهذا إذا قلعَها عمدًا محضًا عدوانًا، فلو قلعها للاستصلاحِ لا للجنايةِ فلا قصاصَ فيه، وإنَّما يجبُ القصاصُ إذا لم يكنْ خطأً ولا شبهَ عمدٍ، ولو عادتْ ناقصةً فقد تقدَّم أنَّ النصَّ القصاصُ فيجيء هنا من القصاصِ فِي الناقصِ ما سبقَ من أنَّه يقتصَّ إذا قالَ أهلُ الخبرةِ أنَّ ذلك يمكنُ من غيرِ زيادةٍ، لو قَلَعَ سنَّ مثغورٍ فنبتت لم يسقط القصاص على أرجحِ القولينِ. وإذا كانتْ يد الجاني ناقصةً أصبعًا وقد قطعَ يدًا كاملةً يخيَّر المجني عليه ¬
بينَ أخذِ الديةِ وبين قطع يد الجاني وأخذ أرشِ الأصبعِ، ولو قطعَ صاحبُ اليدِ الكاملةِ يدًا ناقصةً بأصبع فليس للمجني عليه قطع اليد الكاملة من الكوع، ولكن إن شاء أخذ ديةَ الأصابعِ الأربعِ، وإنْ شاءَ لقطعها، والمنصوصُ إيجابُ حكومةِ منابتِ أصابعِ المجني عليهِ إنْ لَقَطَ قالَ الشافعيُّ -رضي اللَّه عنه-: ولَوْ كَانَ أقطعَ أصبعٍ واحدةٍ فقطعتْ كفُّه أُقِص من أربعةِ أصابع، وأخذت له حكومة فِي كفِّه، ولا أبلغُ بحكومة كفُّه دية أصبع؛ لأنها تبعٌ فِي الأصابعِ كلها، وكلُّها مستويةٌ، فلا يكونُ أرشها كأرشِ واحدةٍ منها. وإنْ أخذَ ديتَها دخلتْ حكومةُ منابتها من الكفِّ فِي ديتها على الأظهرِ، وأنَّه يجب فِي حالة القصاصِ خمس الحكومة لا حكومة الخمس؛ لأنَّ حكومةَ خمسِ الكفِّ أقلُّ من خمس الحكومة، والواجب له فِي هذه الحالة حكومةٌ كاملةٌ أربعةُ أخماسِها عن منابتِ أصابِعِهِ التي قُطعتْ من المجني عليهِ ولم يستوْفِها من الجاني، وخمسُ الحكومة عن منبت الأصبع الفائتة من المجني عليه، ويجبُ فِي حالتِهِ أخذُ ديةِ الأصابعِ خمسُ الحكومةِ، لا حكومة الخمس، لأنَّ أربعةَ أخماسِ الحكومةِ دخلتْ فِي ديةِ الأصابعِ الأربعْ فبقيَ لَهُ خمس الحكومة لا حكومة الخمس. ولو قَطَعَ كفًّا لا أصبع عليها فلا قصاصَ إلَّا أَنْ يكونَ كفُّ القاطعِ مثلها، ولو قطعَ صاحبُ هذا الكفِّ يدًا كاملةً فللمجني قطعُ كفِّه وديةُ الأصابع. وإذا كان على يد الجاني أصبعانِ شلَّاوان، ويد المجني عليه سليمة، فإن شاء قطع يده وقَنَعَ وإن شاء لقط الثلاثَ السليمة وأخذَ ديةَ أصبعين، وثلاثةَ أخماسِ حكومةِ الكفِّ.
فرع
فرع: إذا قدَّ ملفوفًا فِي ثوبٍ نصفينِ، وقال: كان ميتًا، وقال الوليُّ: كانَ حيًّا، فالمصدَّقُ الوليُّ بيمينهِ على الأظهرِ (¬1)، إن عهدت للملفوفِ فِي الدنيا، فأمَّا لو قدَّ ملفوفًا ولم تعرف حياته، فالمصدَّقُ الجاني قطعًا؛ لأنَّه ليس معنا أصلٌ نستصحبهُ حتى نقولَ: الأصلُ بقاُء الحياة، فيصدقُ الوليُّ بسبب ذلك على قول، على أن نصَّ الشافعيِّ: أنَّ الجاني يُصدَّقُ مطلقًا بيمينهِ وعلى الوليِّ البيانُ خلافًا لما فِي "المنهاج" تبعًا لأصلِه، ولا تكفِي يمينٌ واحدةٌ، بل لا بدَّ من خمسين يمينًا إذا حلف الوليُّ حيث جعلنا القول قوله. ولو قطع طرف إنسانٍ وادعى نقصانًا فيه، فإن كانَ العضوُ ظاهرًا صُدِّق الجاني على أصحِّ الطرق إن أنكر أصلَ السلامةِ، وإلَّا فالمصدَّق المجني عليه على أظهرِ القولينِ. ولو قطع يديه ورجليه ومات فقال الجاني: ماتَ بالسرايةِ فعليَّ دية (¬2)، وقال الولي مات بعد الاندمال فعليك ديتان نظر إن لم يمكن الإندمالُ فِي تلك المدة لقصرها كيومٍ ويومين، فالقولُ قولُ الجاني بلا يمينٍ. وإن أمكن الاندمالُ فِي تلكَ المدةِ فالنصُّ تصديقُ الوليِّ، فلو قال الجاني: مات بالسرايةِ، وقال الولي: بسبب آخر، وعيَّنه أو لم يعينه ولكن طال الزمان بحيث يمكن فيه الاندمالُ فالمعتَمَدُ تصديقُ الجاني، فيما إذا ادعى الولي سببًا غيرَ الاندمالِ وعينه، وتصديق الولي فِي الاندمالِ، فإن إمكانه بطول المدة يقوي جانبه، ولو قطع إحدى يديه وقال الجاني: مات بسبب آخر، وقال ¬
نادرة فقهية
الوليُّ: بل مات بالسراية، فإن كان السبب مطلقًا وأمكن الاندمالُ فالقولُ قولُ الجاني بيمينهِ، على قياسِ ما سبقَ فِي الصورةِ قبلها، وإنْ لم يمكنِ الاندمالُ فهوَ كما لو عينَ سببًا غيرَ الاندمالِ، فيصدَّقُ الولي هنا على الأصحِّ. ولو أوضحَ رأسَهُ موضحتين ثمَّ رفع الحاجزَ بينهما وقال: رفعته قبل الاندمالِ فلا يلزمني إلَّا أرش واحدٌ (¬1)، وقال المجني عليهِ: بل بعده. فعليك ثلاثة أروش، فإن قصر الزمانُ بحيث لا يكون الاندمالُ ممكنًا صُدِّقَ الجاني بلا يمينٍ. وإن قصُرَ الزمانَ وكانَ الاندمالُ ممكنًا مع بُعْدٍ فيصدَّقُ الجاني باليمين، وإن طالَ الزمانُ صدقَ المجني عليه، وإذا حلفَ وجبَ أرشان، ولا يثبت الثالثُ على الأصحِّ. نادرةٌ فقهيةٌ: وهي أن كلًّا من المدعي والمدعَى عليه صُدِّق فِي أمرٍ واحدٍ فِي شيء دون شيء، لأنَّا صدقنا المجنيَّ عليه فِي أن الرفعَ كان بعد الاندمال لإثبات أرشين لا لإثبات ثالث، وصدقنا الجاني فِي أن الرَّفع كان قبل الاندمال حتَّى لا يجبَ الأرشُ الثالثُ لا فِي إيجاد الأرشِ، وأمَّا أن الإنسان يصدَّقُ فِي شيءٍ دونَ شيءٍ فذاك فِي صورٍ كثيرة، لكن ندرتْ هذه لوجودِ ذلك من الجانبينِ. فصل المذهبُ المنصوصُ أنَّ القصاصَ فِي النفسِ يستحقُّه جميعُ الورثةِ على فرائضِ اللَّهِ تعالى. ¬
وإذا مَاتَ مستحقُّ قصاصٍ فإنَّه يثبت لجميع ورثته كذلك بلا خلافٍ، وقد يثبت القصاص يعني الوارث فِي صورةِ مَن ارتدَّ بعد الجراح كما سبقَ، ويثبت للمالكِ فِي عبدِه وللإمامِ فيمن لا وارثَ لَهُ على الأظهرِ. ولا يثبتْ للورثةِ فِي قطعِ الطريقِ، بل الأمرُ فيه للإمامِ، ويُنْتَظَرُ في غير قاطع الطريقِ غائِبُهُمُ وكمال صبيهم ومجنونهم، ويحبس فِي حال الانتظارِ ولا يخلى بالكفيل، والمتولي لذلك الحاكم دونَ ولي الصَّبيِّ والمجنونِ؛ لأنَّ أمر أنفذ من أمرِ الوليِّ، فإن أرادَ الوليُّ ملازمتَه لم يُمْنَعْ منه. ولا نَقِفُ حبسَ الحاكمِ لهُ على الاستعداء إليه وينفردُ به إذا ثبت عنده القتلُ لما يجب عليه من حفظِ الحقوقِ على المولَّى عليهم. صرَّح بذلك كلُّه الماورديُّ. ويستثنى مستحقو القصاصِ على واحدٍ أو ليوكلوا أجنبيًّا حيث لم يكنْ ذلك المتفق عليه منهُم، أو الوكيل الأجنبي كافرًا فِي قتلِ المسلمِ، فإن كان كافرًا لم يمكَّن من ذلك، فإن أسلمَ الوارثُ قَبْل الاستيفاءِ مُكِّن منه. وإن أسلمَ بعضُ الورثةِ واتفقوا على أنَّه يستوفى جاز، فإن تراجعوا أقرع بينهم إن كان القتل بجارح أو مثقَّل يحصل باجتماعهم عليه زيادةٌ فِي تعذيبِه. فأمَّا إن كان القتل بإغراقٍ أو بحريقٍ أو رمي صخرةٍ عليه، فإنَّه إذا اجتمع الورثة على ذلك فُعل، ولا يحتاج إلى قرعةٍ. وإذا خرجتِ القرعةُ لأحدِهم فِي صور الاحتياجِ إليها، فلا يستبدُّ بها بالاستيفاء، ولا بدَّ من إذنِ الباقين فِي الاستيفاءِ، ولا يدخلُ فِي القرعةِ العاجزُ على ظاهرِ نصِّ الشافعيِّ فِي "الأمِّ"، وهو المعتمدُ فِي الفتوى، وقال فِي "الروضةِ" أنَّهُ الأصحُّ عند الأكثرينَ، ولم يذكر ترجيح ما صححه فِي
"المنهاج" من أحدٍ، ونسب الرافعيُّ فِي "الشَّرح" ترجيحه إلى صاحب "التهذيب"، وقال: إن مقابله أرجح عندَ القاضي ابن كَجٍّ وأبي الفرج والإمام وغيرهم، وجرى فِي "المحرر" على ترجيح البغوي وخالفه فِي "الشَّرح الصَّغير" فقال: إن الأظهر منع دخول العاجز. وإذا بادر أحدهم فقتله عالمًا بالتحريمِ فلا قصاصَ على الأظهرِ، وكذا إنْ كانَ جاهلًا لا قصاصَ عليهِ بلا خلافٍ، كما قالهُ فِي "الروضةِ" تبعًا للشرحِ. لكن الخلافَ موجودٌ. قال شيخنا: وعندي يجري الخلافُ بالترتيبِ، وأولى بأن لا يجب. انتهى. وأعلم أن محلَّ الخلافِ ما إذا لم يكن هناك حكم من الحاكم يمنع المبادِر من القودِ، فإن كانَ قد قبلهُ بعدَ حكمِ الحاكمِ بمنعِهِ من القودِ، فإنَّهُ يجبُ عليهِ القودُ قطعًا. وفِي كلام الماورديُّ ما يقتضي إثباتَ خلافٍ فِي ذلك، وليس بالمعتمد، كما قاله شيخنا، ومحل الخلافِ أيضًا ما إذا لم يحكم له حاكمٌ باستقلاله بالقصاصِ، فإن حكم له حاكم بذلك فإنَّه لا قود على المبادر قطعًا، وفِي كلام الماوردي ما يقتضي إثباتَ خلافٍ فِي ذلك، وهو مردودٌ كما قال شيخنا، إذا كان هذا قد قال به جمعٌ من العلماءِ، ولهُ وجهٌ من النظرِ. وإنْ كانتِ المبادرةُ بعدَ عفوِ سائرِ الشركاءِ أو بعضِهم، فالأظهرُ وجوبُ القصاصِ، وليسَ لمن يستحقُّ القصاصِ أن يستقل به، بل يستوفَى بإذنِ الإمامِ، فإنِ استقل عُزِّر. وإذا راجعَ الإمام ورآه أهلًا فرض إليه قصاص النفس لا الطرف على النصِّ.
وإذا أذنَ له فِي ضربِ الرقبةِ فأصاب غيرَها عامدًا عزَّره ولم يعزله. وإن قال: أخطأتُ -وهو محتمل- فلا يعزَّر ولا يُعزلُ فِي صورةِ الخطأ الممكن، وهو يُحسَّنُ على ما عليهِ النصُّ وما عليه الفتوى عند أئمةِ المذهبِ. وأجرةُ الجلَّادِ على المقتصِّ منهُ على المنصوصِ، ومحلهُ إذا لم ينصبِ الإمامُ من يقيمُ الحدود ويرزقه من مالٍ للصالحِ، فإن نصبه فلا أجرةَ له؛ لأنَّه واجبٌ عليه، ومحل وجوبها على المقتصِّ منه إذا كان موسرًا، فإن كان معسرًا ففِي "التتمة": إن كان القصاص فِي النَّفس استقرض على بيت المال، وإن كان فِي الطرفِ فوجهان: أحدهما: كذلك، والثاني: يستقرض على الجاني على الأصحِّ. للمستحقِّ القصاصُ على الفور، ولو التجأَ الجاني إلى الحرمِ فله الاستيفاءُ فيه، ويستثنى من اعتبار الفور ما إذا التجأ إلى المسجد الحرامِ وغيره من المساجدِ، فإنَّه يُخْرَجُ منه ويقتل؛ لأنَّ هذا تأخيرٌ يسيرٌ، وفيه صيانةٌ للمسجدِ، وفيه وجهٌ أنَّه يبسط الأنطاع ويقتلُ فِي المسجد تعجيلًا لتوفيةِ الحقِّ وإقامةً للهيبة. ومما يستثنَى أيضًا: الالتجاءُ إلى الكعبةِ أو إلى ملكِ إنسانٍ لا نعرف رضاه بالقتل فِي مِلكهِ، فإنَّه يُخْرَجُ، وكذلك لو التجأ إلى مقابرِ المسلمينَ ولا يمكن قتله إلَّا بإراقةِ الدَّمِ عليها، فإنَّه يُخرج منها. ولا يؤخَّرُ القصاصِ فِي النفسِ بشدةِ الحرِّ والبردِ والمرضِ (¬1)، وأمَّا فِي الطرفِ ¬
فيؤخَّرُ فِي الحالاتِ المذكورةِ كما نصَّ عليه الشافعيِّ فِي "الأم" (¬1) فِي ترجمةِ أمر الحاكم بالقودِ ولفظُهُ: (وإذا كنتُ أقيدُ بالقتل لم أُؤَخِرْهُ بالمرضِ، وهذا (¬2) إذا كان القودُ فِي بلادٍ باردةٍ وساعة باردةٍ، أو بلاد حارَّةٍ وساعةٍ حارَّة، فإن كان ما دونَ النفسِ أخِّر حتَّى يذهب حدُّ البردِ وحدُّ الحرِّ، ويقتصُّ منه فِي الحالة التي ليست بحال تلفٍ ولا شديدة مدة المباينة لما سواها من الأحوالِ، وكان حكمُ الحرِّ والبردِ وحكم مرضه يقتصُّ منه فِي النفسِ ولا يقتصُّ منه فيما دونها) هذا نصُّه، وهو المعتمدُ خلافًا لما فِي "المنهاج" (¬3) تبعًا لأصلِه من إطلاق عدم التأخيرِ فِي هذه الحالاتِ، فإنَّه ليس بمعتمدٍ. ويؤخَّرُ قصاصُ حاملٍ فِي نفسٍ أو طرفٍ إلى الوضعِ وارتضاعِ اللِّبَأِ، ثم فِي النفسِ إلى أَنْ يستغنِي بغيرِها، أو يُفطمُ حيث يجوز، ولا يزاد على حولين، وتحبس الحاملُ إن طلب المستحقُّ الذي يقتص بطلبه. والنصُّ تصديقُها فِي حملِهَا يعني تخيُّلهُ حيثُ أمكنَ أن تكونَ حاملًا عادةً، فلو كانت آيسة لم يصدق، واكتفِي بدلالةِ الإياسِ، وهو معنى قولِ الشافعيِّ: أو يعلم أنَّه لا حملَ بها. ومن قُتلَ بمحددٍ أو غيره من تخنِيقٍ وتغريقٍ وتحريق وتجويع، اقتصَّ منه بمثلِ فعلِه (¬4). ¬
ويستثنى من اعتبار المماثلة صور
ويستثنى من اعتبارِ المماثلةِ صورٌ: أحدها: إذا قتلهُ بسحرٍ اقتصَّ منهُ بالسَّيفِ. الثانيةُ: إذا أوجره خمرًا حتَّى ماتَ، فأصحُّ الوجوهِ أنَّه يُقتلُ بالسَّيف. الثالثةُ: إذا قتلَهُ باللواطِ، وهوَ مما يقتلُ غالبًا، بأن لاطَ بصغيرٍ وآلتُهُ كبيرةٌ، فيقتل بالسيفِ على الأصحِّ تفريعًا على الصحيحِ أنَّهُ يجبُ بهِ القصاصُ. الرابعةُ: إذا سقاهُ بولًا فمات منهُ، فإنَّهُ كالخمرِ على الأصحِّ فيقتلُ بالسيفِ. الخامسةُ: إذا شهدُوا بالزنَا فرُجِمَ، ثم رجعوا، فعليهمُ القصاصَ، بالسيف على الصواب فِي "المهمات"، وقيل: الرجمُ، وصححه فِي "الروضة" تبعًا لأصلها. السادسةُ: إذا ذبحَهُ مثل البهائم هل يقتل به مثله أو بمعنى السيف؟ فيه وجهان: قال ابن الرِّفْعَة: يتعيَّنُ السيفُ، وهو كذلك فِي "الحاوي". ولو جُوِّع مثل تلك المدةِ التي ماتَ المجني عليه من تجويعِهِ فيها فلم يمتِ الجاني فالنصُّ أنَّه يُقتلُ بالسيفِ ولا يزادُ فِي التجويعِ خلافًا لما فِي "المنهاجِ" تبعًا لأصلِه. قال الشافعيُّ -رضي اللَّه عنه-: "وَإِذَا أَقَدْته بِمَا صَنَعَ بهِ حُبِسَ وَمُنِعَ كَمَا حَبَسَهُ وَمَنَعَهُ فَإِنْ مَاتَ فِي تِلْكَ الْمُدَّةِ وَإِلَّا قُتِلَ بِالسَّيْفِ" (¬1) انتهى. قال القاضي الحسين: لم يختلفْ مذهبُه فيه، وجرى عليه الجمهورُ، ¬
ومهما عدل المستحقُّ من غير السيفِ إليه مكِّن منه إن لم يكن فِي السيفِ زيادةٌ عن المماثلةِ، فإن كان فيه زيادةٌ عنها فلا ينبغي أن يعدلَ إليه. وإذا حصل القتلُ بسِراية الموضِحة وقطع اليدَ أو الرجل فلِوليِّ المجنِيِّ عليه أن يحزَّ الرقبةَ وَأن يوضحَ أو يقطعَ، ثم إنْ شاءَ حزَّ وإن شاءَ أخَّر إلى السرايةِ، ولو ماتَ بجائفةٍ أو كسر عضد فعل كفعلهِ، وفِي قولٍ: السيفُ، وعلى الأولِ: إن لم يمتْ لم نردَّ الجوائف على المذهبِ. ولو اقتصَّ مقطوعُ يد أو رجل أو أذن ونحو ذلك ثم ماتَ بالسرايةِ فلوليه حزُّ رقبةِ الجاني فِي مقابلةِ نفس مُوَرِّثِهِ وله عفوٌ بنصفِ ديتهِ إذا استوتِ الديتان. فلو قطعتِ امرأةٌ يدَ رجلٍ فاقُتصَّ منها ثم ماتَ الرجلُ فعفا وليهُ على مالٍ فأصحُّ الوجهين: ثلاثةُ أرباعها؛ لأنَّه استحقَّ دية رجل سقط منها دية ما استوفاه وهو يد امرأةٍ بربع يد رجل، ولو قطعت يداه فاقتصَّ منهما ثم ماتَ المقطوعُ بالسراية فللولي أن يحز رقبته، فإن عفا فلا دية إذا لم يحصل تفاوتٌ فِي الديتين كما تقدَّم. فإن حصلَ بأنْ قطع يدي المرأةِ القاطعة ليديْ الرجل الذي مات بالسراية فإنَّه يجبُ عند العفوِ عن نفسِها عليها نصفُ الديةِ الكاملةِ على الأصحِّ، ولو ماتَ بالسرايةِ قبل أن يقتصَّ فَقَطَعَ وليه فِي الصورةِ الأولى يدًا وفِي الثَّانية اليدين، فالحكم فيهما سواء. وقس على هذا صورَ الذمِّي والمسلم الذي طرأَ إسلامُه أو قارن وكان مجنيًّا عليه، ولو مات الجاني من قَطع القصاص فلا ضمان على المقتص. وإن ماتا جميعًا بالسراية فإن ماتَ المجنيُّ عليه أولًا فالذي حكاه القاضي
ابن كَجٍّ عن عامة الأصحابِ: أنَّه لا يقعُ قصاصًا، وهو القياسُ؛ لأنَّ القاعدةَ أنَّ سرايةَ الجاني من جهة قطعهِ فِي القصاصِ مهدرةٌ، وما يكونُ مهدرًا لا يقعُ قصاصًا، فعلى هذا لولي المجنيِّ عليه نصفُ الديةِ فِي تَرِكَة الجاني. وإن ماتا معًا، فالأصحُّ أنَّه لا يقع قصاصًا خلافًا لما فِي "المنهاج" تبعًا لأصله من وقوعِهِ قصاصًا فِي هذه الصورةِ والتي قبلها، لأنَّ القاعدةَ المقررَّةَ: أنَّ القصاصَ إنَّما يقعُ بعدَ وجوبِهِ، فإذا مات الجاني والمجنيُّ عليه معًا بالسرايةِ، فقد مات الجاني قبل وجوب قصاص النَّفس، فالحكم بأنه اقتصَّ منه بعيدٌ لا سيما مع تصحيحِ أنَّهُ إذا سبق موتُ الجاني بالسراية لا يكون قصاصًا كما تقدَّم. وإن ماتَ الجاني أولًا، فأصحُّ الوجهينِ أنَّه لا يحصلُ، وللمجنيِّ عليه نصفُ الدية فِي تَركَةِ الجاني. وإذا طلبَ مستحقُّ القصاصِ فِي اليمينِ إخراجَها فأخرجَ الجاني يسارَهُ فقطعَهَا، فإن قصدَ الجاني إباحتَها فلا قصاصَ فِي اليسارِ ولا ديةَ، ويبقى قصاصُ اليمينِ كما كانِ. ولو كان المُخرِجُ الذي قصد الإباحة عبدًا فلا تكون يساره مهدرةً قطعًا، بل يجب ضمانُها قطعًا، وفِي سقوطِ القصاصِ إذا كان القاطعُ عبدًا وجهانِ: الأرجح سقوطُه، ولو قال القاطعُ: "قطعتُ اليسار على ظنِّ أنها تجزِئُ عن اليمينِ"، فالأصحُّ سقوطُ قصاصِ اليمينِ، لأنه رَضِيَ بسقوطِهِ اكتفاءً باليسارِ، فعلى هذا يُعدلُ إلى دية اليمينِ، لأنَّ اليسارَ وقعتْ هدرًا، ولو قال: "قصدت" إيقاعَهَا عن اليمينِ وظننتُ أنَّها تجزئُ عنها، وقال القاطعُ: "عرفتُ أن المُخرَجَ اليسارُ، وأنَّها لا تجزئُ عن اليمينِ"، فلا يجبُ القصاصُ فِي اليسارِ
فرع
على الأصحِّ، لكن تجبُ الديةُ ويبقَى القصاصَ فِي اليمين، وكذا لو قال: "دهشتُ فأخرجتُ اليسارَ وظنِّي أني أُخرِجُ اليمينَ"، وقال القاطع: "ظننتُ أن المخرجَ اليمين"، فلا قصاص فِي اليسارِ على الأصحِّ، ويبقى قصاصُ اليمين. * * * فرع: موجبُ العمدِ حيثُ ثبتَ القصاصُ القودُ المحضُ، والديةُ تدل على الأظهر (¬1)، والثاني أحد الأمرين لا بعينِهِ، ويستثنى من محلِّ القوليْن كلُّ موضعٍ وجبَ فيهِ القودُ ولا ديةَ على الأصحِّ، فلا يأتي فِي هذا -على المصححِ- القولانِ، وكذلكَ إذا استوفى قطعَ ما يوجبُ الديةَ بحيثُ يبقى له حزُّ الرقبةِ من غيرِ عفوٍ على ديةٍ، فإنَّه لا يأتي فِي هذهِ المواضعِ القولانِ، بل يُقطعُ بأنَّ الواجب القودُ خاصَّةً. ويستثنى أيضًا العمدُ الذي لا يوجبُ القصاصَ، كقتلِ الوالدِ ولدَهُ، ونحوه، فإن موجبَهُ الديةُ قطعًا، وعلى القولينِ للوليِّ العفوُ على الديةِ، ولا يحتاج إلى رِضَى الجاني، ولو عفِي على غير جنس الديةِ ثبتَ إن قُتِلَ الجانِي، وإلا فلا يثبتُ ولا يسقطُ القودُ فِي الأصحِّ، وعلى الأظهرِ لو عفا وأطلقَ العفوَ، فقال: عفوتُ عن القصاص ولمْ يتعرَّضْ للديةِ بنفي ولا إثباتٍ، فالأصحُّ لا ديةَ، ما لم يَخْترِ الديةَ على الفورِ، فإنِ اختارَ الديةَ على الفورِ ثبتَتْ، ويكون اختيارُها بعد العفو كالعفوِ عليها كما قالَهُ القاضي ابن كَجٍّ، وحُكي عنِ النَّصِّ أن هذا الاختيارَ ينتفِي أن يكونَ عقبَ العفوِ، وعلى الأظهرِ: لو عفِي عنِ الديةِ كان ¬
فصل
لغوًا، ولهُ العفوُ عنِ القصاصِ بعدَهُ على الديةِ. وأمَّا المحجورُ عليه بالفلَسِ فليسَ لَهُ العفوُ على المالِ إنْ قلنا أَنَّ موجبَ العمدِ أحدُ الأمرينِ، فإن قلنا بالأظهرِ فلُهُ العفوُ على الديةِ قطعًا. وإن أطلقَ العفوَ فعلى ما سبقَ فِي أنَّ العفوَ هلُ يوجبُ المالَ فإن قلنَا بالأصحِّ أنَّه لا يُوجبُهُ لم يثبُتْ هنا، وإلَّا ثبتَ. وإن قالَ: "عفوتُ على أن لا مالَ"، فالأصحُّ أنَّه لا يجبُ شيءٌ. وحكمُ المريضِ فِي الزائد على الثلثِ والورثةِ إذا عَفَوْا والتركةُ مستغرَقةٌ بالديونُ حكمُ المفلسِ، كما صرَّحَ به القاضي الحسينُ والإمامُ وغيرهما، وحكم المبذِّرِ المحجورِ عليه فِي الدية حكمُ المفلس على قولِ الأكثرينَ، وقيل: حكمُهُ حكمُ الصبِيِّ ولو تصالحَا عنِ القصاصِ على مائتين من الإبلِ لم يصحَّ إنْ قلنا أنَّ الواجبَ أحدُ الأمرينِ، فإن قلنا: "الواجبُ القصاصُ" فالأصحُّ الصحةُ. * * * فصل لو قال حرٌّ مكلَّفٌ لغيرِهِ: "اقطعْ يدي"، فقطعها لمْ يلزمْهُ قصاصٌ، ولا ديةٌ، فإن سَرَى القطعُ أو قَالَ: "اقتلْنِي" فقتَلَهُ لم يجبِ القصاصُ ولا الديةُ على أظهرِ القولينِ، ولو قطعَ عضوًا من إنسانٍ فعفا المجنِيُّ عليهِ عنِ موجبِ تلكَ الجنايةِ أرشًا وقودًا، فإن لم تتعدَ الجنايةُ محلَّها فلا قصاصَ ولا أرشَ، وإن سرتْ إلى النَّفس فلا قصاصَ.
ولا يجبُ أرشُ العضوِ وتجبُ الزيادةُ عليه إلى تمامِ الديةِ، وفِي قولٍ: إن تعرَّضَ فِي عفوِهِ لما يحدُثُ منها سقطتْ، ولو لم يتحَرَّ عفوًا ولا إبِراءً بل قال: أوصيتُ لهُ بأرشِ هذِهِ الجنايةِ فوصيةٌ لقاتلٍ، والأصحُّ فيها الصحةُ. وإذا سرى القطعُ إلى عضوٍ آخرَ، كما إذا قَطَعَ أصبعًا فأكل الكفَّ فالأصحُّ وجوبُ ضمانِ السراية. وإذا استحقَّ الوليُّ قصاص النفسِ فقطع الطرفَ فعفَى عن قصاصِ النفسِ، فلِهُ قطعُ الطرفِ على مقتضى النصِّ، وهو المعتمدُ، وبه صرَّحَ الغزاليُّ فِي "البسيط"، وهو مقتضى كلامِ "النهاية"، خلافًا لما فِي "المنهاج" تبعًا لأصله. ولو قطعَهُ ثم عفى عن النفسِ فإن سرى بان بطلانُ العفوِ بناءً على أنَّهُ يقعُ قصاصًا، وإلَّا فيصحُّ ولو وَكَّلَ باستيفاءِ القصاصِ ثُمَّ عفَى وقتل الوكيلُ الجاني جاهلًا بالعفوِ، فلا قصاص عليه، وأظهرُ القولينِ: وجوب ديةٍ على الوكيلِ إن كان على مسافةٍ بحيثُ يمكنُ إعلامُ الوكيلِ بالعفوِ فيها. وإنْ كانَ على مسافةٍ لا يمكنُ إعلامُ الوكيلِ فيها، كأنْ يكونَ الوكيلُ على مسافةِ عشرةِ أيامٍ، ويعفو الموكلُ قبلَ القصاصِ بخمسةِ أيامٍ، فإنَّه يكونُ عفوُ الموكلِ باطلًا لا حكمَ لهُ، ووضعُهُ هذا أن لا يجبَ على الوكيلِ الديةُ قطعًا. ذكَرَ هذَا القيدَ الماورديُّ، وفِي تعليلِ الأصحابِ ما يُرشدُ إليهِ. وحيثُ وجبتِ الديةُ فهي على الوكيلِ لا على عامليهِ، على الأصحِّ، وأنَّهُ إذا غرمَ لا يرجعُ بها على العافِي على الأرجحِ، إذا لم ينسبِ الموكلُ إلى تقصير فِي الإعلامِ، فإن نُسبَ إلى تقصيرٍ فالأرجحُ أن الوكيلَ يرجعُ عليه؛
لأنَّ الوكيلَ لم ينتفعْ بشيءٍ. ولو استحقَّ القصاص على امرأةٍ فنكحَهَا عليه جازَ، وكذلكَ الحكمُ لو وجبَ له على عبد المرأةِ فنكحَهَا عليهِ، أو أصدقَ الأمةَ القصاصَ الواجبَ له على سيدِهَا أيضًا وسقط القصاصُ. وإذا طلقَهَا قبلَ الدخولِ رجعَ عليها بنصفِ الأرشٍ قطعًا على المنصوصِ. وشذَّ البغويُّ ومنْ تبَعُه بحكايةِ قولٍ: أنَّه يرجعُ عليهَا بنصفِ مهرِ المثل؛ لأنَّهُ غريبٌ خارجٌ عن قاعدةِ المذهبِ، وذلك أنَّ المستحقَ للزوجِ عند الفراقِ وقبلَ الدخولِ إنَّما هو بدلُ التالفِ لا بدل البضعِ، والمستحقُّ لبدلِ البُضع إنَّما هو الزوجةُ أو سيدُها وحينئذٍ فالجاري على القواعدِ القطع بأنهُ يرجعُ عليها بنصفِ الأرشِ كما تقدَّم، واللَّهُ أعلمُ. * * *
كتاب الديات
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ كتاب الديات (¬1) هي جمعُ ديةٍ، وأصلُها وَدْيةٌ، فالهاء عوضٌ من الواوِ، وهي مشتقةٌ من الودي، وهو دفعُ الديةِ كالزِّنةِ من الوزنِ، يقول: وديتُ القتيلَ ودْيًا وديةً، أعطيتُ دِيَتَهُ، واتديتُ إذا أخذتُ ديتَهُ. والديةُ مصدرٌ واسمٌ للمالِ المأخوذِ عن النفسِ الحرةِ المقتولةِ، وأطرافِها المجنيِّ عليها، هذَا هوَ المدلولُ اللغويُّ. وهي في الشرعِ كذلكَ مع اعتدادِ أَنْ يكونَ تلكَ النفسُ وأطرافُها مضمونةً ¬
على الجاني، واختُصَّ ما يجبُ في الجنينِ باسم الغرَّةِ وما يجبُ في العبدِ وأطرافِهِ بالقيمةِ. والأصلُ فيها من الكتابِ قوله تعالى: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ} الآية. ومن السُّنَّةِ ما رواهُ النسائيُّ والحاكمُ وابنُ حبَّانَ عن النبيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- أنَّه كتبَ لعمرِو بنِ حزمٍ كتابًا إلى أهلِ اليمنِ فيهِ ذكر الفرائضِ والدياتِ (¬1). والإجماعُ منعقدٌ على تعلُّق الديةِ بالقتلِ، يجبُ في قتلِ الحرِّ المستقرّ حريتُهُ، المسلم بنفسِهِ أو بالتبعيةِ، الذكرُ المضمونُ مائةٌ من الإبل مثلثةٌ في العمدِ، إذا لم يكنْ في قاتلِهِ رقٌّ، فإنْ كانَ رقيقا أو مبغَضًا لم يكنْ في قتلِ الحرِّ المسلمِ حينئذٍ مائةٌ من الإبلِ، بل الواجبُ إذا قتلهُ رقيقٌ لغيرهِ أقل الأمرينِ من قيمةِ الرقيقِ، والديةُ على أظهرِ القولينِ وكذا مكاتبُ غيرِه ومكاتبُ نفسهِ فإذا كانت القيمةُ أقلُّ من الديةِ لم تجبِ الديةُ. وأمَّا المبعضُ المملوكُ باقِيهِ لغير القتيل وأنه يجب على المبعض لجهة الحرية القدر الَّذي يناسب الحريةُ من نصفٍ أو ثلثٍ، وأما القدرُ الرقيقُ فيتعلقُ بهِ بقدرِةِ أقلُ الأمرينِ من الحصةِ من الديةِ، والحصة من القيمةِ، فإذا كانت الحصةُ من القيمةِ أقلَّ فَهوَ الواجبُ، وأما إذا كانَ القاتلُ عبدَ القتيلِ، فلا يجبُ عليه شيءٌ منَ المالِ، ولا يتعلقُ بهِ، ولو كان مرهونًا على الأظهرِ. ¬
ولو أنَّ إنسانًا أعتقَ في مرضِ موتِهِ عبدًا، ثمَّ إنَّ المريضَ قتلَ العتيقَ ثم ماتَ المريضُ، ولو أوجبنا دية القتيلِ فَخَرج عنْ أن يُعتقَ شيءٌ منه، فههنا لا تجبُ الديةُ للدَّوْرِ، فيخرجُ بذلكَ من أن يكونَ مضمونًا على المريضِ في هذهِ الحالةِ. وكلُّ من لم يكنْ مضمونًا على قاتلِهِ لا ضمانَ عليهِ، كالباغي إذا قتلَ العادلَ فِيِ حالِ القتالِ كالذي له شوكةٌ بلا تأويل، والمُرتدون الذينَ لهم شوكة كا لك على ما رَجَّحَهُ بعضهم خِلافًا للبغويِّ. وقولُنا "المستقرُّ حريُتُه": أخرجنا به من حُكِمَ بحريتِهِ ظاهرًا كالعتيقٍ في مرضِ الموتِ، فإنه محكوم بحريته الآنَ ظاهرًا. وإذا قتلَهُ قاتلٌ بعدَ موتِ السيدِ، ثم لم يحصلْ عتقُ شيءٍ منه لوجودِ الدَّيْنِ وعدمِ الإجازةِ من أصحابِ الديونِ، أو لم يحصُلْ عتقَ كله لعدمِ إجازةِ الوارثِ في الزائدِ على الثلثِ ونحو ذلك، أو قتل قبلَ موتِ السيدِ، وفرَّعنا على أن العتيق في المرضِ إذا لم يملك غيره إذا مات قبل موتِ المعتِقِ يكونُ رقيقًا أو مبعضًا، فلا تجبُ الديةُ في هذه الأحوالِ. فإن قلنا: "يموت حرًّا كلُّهُ" تكمَّلتْ فيه الديةُ. واللقيطُ محكومٌ بحريتهِ بمقتضَى الظاهرِ، فإذا قتلَهُ قاتلٌ وآل الحالُ إلى المالِ وجبت عليه الديةُ الكاملةُ على المذهبِ. وقولنا: "الذَّكرُ": يخرجُ به الأنثى والخنثى، وسيأتي ذكرُهما. وقولنا: "المضمون": أخرجنا غيرَ المضمونِ، وقد سبقَ. وقولنا: "مثلثة في العمد": أردنا به حيثُ لم يجبِ القصاصُ ووجبَ
المالُ، أو سقطَ ووجبَ المالُ، ولا يختصُّ التثليثُ بالنفسِ بل الأطراف يأتي فيها عندَ العمدِ المحض. . . (¬1) القصاص التثليثُ نصَّ عليه الشافعيُّ في "الأم"، و"مختصر المزني"، واتفق عليه الأصحاب. والتثليثُ ثلاثون حقةً وثلاثون جذعةً وأربعون خَلِفةً، يعني حاملًا، هذا في العمدِ، فأمَّا في الخطأ فتكونُ مخمسةً على العاقلةِ، عشرونَ بنتُ مخاضٍ، وعشرون ابنَ مخاضٍ، كما هو المختارُ على أصلِ الشافعيِّ في ذلك أن التخميسَ ببني المخاض موضعُ بني اللَّبُون، ثم بعدها عشرون بنت لبون، وعشرون حقةً، وعشرون جذعةً، إلَّا أن يقعَ القتلُ الخطأ في حرمِ مكةَ، سواء أكانا فيه أو كانَ أحدُهُما فيه والآخرُ خارجُهُ، كجزاءِ الصيدِ، فتثليثُ الديةِ على العاقلةِ، ويلتحقُ بذلك ما إذا جرحَهُ والمجروحُ في الحرم، فخرجَ المجروحُ إلى الحلِّ وماتَ، وكذلك تثليثُ الديةِ على العاقلةِ إذَا وقعَ القتلُ الخطأُ في الأشهرِ الحرمِ، وهي: ذو القعدةِ وذو الحجةِ ومحرمُ ورجب، أو قتلَ خطأً ذا رحمٍ. وإن لم يكنْ مُحْرِمًا كما نصَّ عليهِ الشافعيُّ في "الأمِّ" (¬2) حيثُ قالَ: (وَتَغْلِيظُ الدِّيَةِ في الْعَمْدِ وَالْعَمْدِ الْخَطَأِ وَالْقَتْلِ في الشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْبَلَدِ الْحَرَامِ وَقَتْلِ ذِي الرَّحِمِ كَمَا تَقَدَّمَ في الْعَمْدِ غَيْرِ الْخَطَأِ لَا تَخْتَلِفُ). انتهى. وهذا هو المعتمدُ خلافًا لما في "المنهاج" تبعًا للمحرر. ¬
وإذا وجبتْ على العاقلةِ ديةُ الخطأِ مخمسةً (¬1) أو مثلثةً كما تقدَّم فتجبُ عليهم مؤجلةً. وإذا كانَ القتلُ عمدًا فالواجبُ الديةُ المثلثةُ، وتكونُ على الجاني معجَّلةً، وفِي شبهِ العمدِ تجبُ الديةُ المثلثةُ لكن على عاقلةِ الجاني مؤجَّلة. ولا يؤخذُ في الديةِ مريضٌ ولا معيبٌ إلَّا أن يرضى المستحقُّ ويرجعُ في الخلفاتِ إلى قولِ أهلِ الخبرةِ، إنْ أنكرَ المستحقُّ، وأصحُّ القولينِ أن التي حملتْ قبلَ خمسِ سنين تجزئُ. ومن لزمتهُ الديةُ من العاقلةِ أو الجاني إنْ لم يملكْ إبلًا لزمهُ تحصيلها من غالبِ إبل، البلدةِ أو القبيلةِ إن كانَ من أهلِ الباديةِ. وإن لم يكن في البلدةِ أو القبيلة إبلٌ اعتبرَ إبلُ أقربِ البلادِ إلى بلد القاتلِ، إذا قرُبتِ، المسافةُ، ولم تعظُمْ مؤنْةُ النقل، فإنْ بعدتْ وعظمتِ المؤنةُ والمشقةُ لم يلزمْهُ، وسقطتِ المطالبةُ بالإبلِ، فذاكَ وإلَّا فالمنصوصُ وهوَ الذِي أورده أكثرُ الأصحابِ أنَّ الديةَ تؤخذُ من الصنفِ الذِي يملكُهُ المستحقُّ عليه. وإذا تعيَّنَ نوعٌ فلا يعدل إلى غيره إلَّا بالتراضي، نظرًا إلى أن هذا استيفاء بصفةٍ زائدةٍ لا معاوضةَ. وإذا لم توجدِ الإبلُ هناك نَقَل الأصحاب عن القديمِ: أنَّ الرجوعَ إلى ألفِ دينارٍ أو اثني عشرَ ألفَ درهمٍ، والذِي نقلهُ المزنيُّ عنِ القديمِ ليسَ فيهِ التصريحُ بذلكَ، وأنَّ كلامَهُ يشعرُ به لذكره صورةَ الإعوازِ أولًا، وساقَ فيها ¬
الجديدَ، ثم ذكرَ القديمَ. قالَ شيخُنا: وقد وقعَ في خاطرِي من كلامِ المزني ما يقتضي أن القديمَ يوجبُ ما ذُكرَ منْ غيرِ نظرٍ إلى إعوازٍ ونحوِهِ، فإنَّ المزنِيُّ قال: (وَقَوْلُهُ الْقَدِيمُ عَلَى أَهْلِ الذَّهَبِ أَلْفُ دِينَارٍ وَعَلَى أَهْلِ الْوَرِقِ اثْنَا عَشَرَ أَلْفَ دِرْهَمٍ، وَرُجُوعُهُ عَنْ الْقَدِيمِ رَغْبَةٌ عَنْهُ إلَى الْجَدِيدِ وَهُوَ أَشْبَهُ بِالسُّنَّةِ) (¬1)، فكانَ نقلُ المزنيِّ يقتضي أن القديمَ مقتضاهُ التيسرُ، فعلى أهلِ الذهبِ ذهبٌ، وعلى أهلِ الورقِ ورقٌ من غيرِ اعتبارِ العجزِ عن الإبلِ. انتهى. والجديدُ أنَّه يرجَعُ إلى قيمةِ الإبلِ بالغةً ما بلغت، وتقوَّمُ بغالبِ نقدِ بلد العدم، إما العدمُ الحسيِّ، أو وجدَها تُباعُ بأكثرَ من ثمن المثلِ في بلدِهِ أو في بلدٍ قريبٍ من البلد أو في أقربِ البلادِ إلى بلدِه، ففِي هذه الصورِ يعدلُ (¬2) إلى القيمةِ، أمَّا إذا وجدَ النوعَ الغالبَ في البلدِ يباعُ في بلدٍ قريبٍ من البلدِ بثمنِ المثلِ فإنَّه تجبُ عليهِ الإبلُ من النوعِ الغالبِ في البلدِ حينئذٍ، ولا يعدلُ إلى القيمةِ. وإذا وجدَ بعض الإبلِ الواجبة أخذ الموجودَ وقيمةَ الباقي. وديةُ المرأةِ على النصفِ من ديةِ الرَّجلِ (¬3)، وكذا ديةُ أطرافِها وجراحاتها على النصفِ من ديةِ أطرافِ الرجلِ وجراحاته. والخنثى المشكلُ كالمرأةِ. وديةُ اليهوديِّ والنصرانيِّ الثابت له ذلكَ بطريقِهِ ثلثُ ديةِ المسلمِ، وهي ¬
فصل
من الإبلِ ثلاثةٌ وثلاثونَ وثلثٌ (¬1). وديةُ المجوسي ثلثا عشْرِ ديةِ المسلم، وهي من الإبلِ ستةٌ وثُلُثَانِ. ودية الوثنيِّ الَّذي لهُ أمانٌ كديةِ المجوسي، ويتصور له عقدُ ذمةٍ، كأن يكون أحد أبويه وثنيًّا فإنه يُقرُّ بالجزية على الأصحِّ، وما وقعَ في "الروضةِ" تبعًا لأصلِه من أنَّ الوثنيَّ لا يتصورُ لهُ عقد ذمةٍ ممنوعٌ، فقد تُصُورَ ثبوتُ عقدِ الذِّمةِ للوثنيِّ والنصرانيِّ من لم يبلغهُ الدعوةُ من هؤلاء إن كان متمسكًا بدينٍ لم يبدَّلْ وجبت فيه ديةُ ذميٍّ من جنسه، وفِي وجهٍ أو قولٍ: ديةُ مسلمٍ. وإن تمسكَ بالمحرفِ فكذميٍّ من جنسه على ظاهرِ النصِّ. وقيل: كمجوسيٍّ، وقيل: لا شيءَ. وإن لم يبلغه دعوةَ نبيٍّ وهو وثنيٌّ فكمجوسيٍّ، ويحتملُ: لا شيءَ. * * * فصل فِي موضحةِ الرأسِ أو الوجهِ للحرِّ نصفُ عشرِ ديته (¬2)، سواء كانتْ موضحةً على الهامةِ أو الناصيةِ والقُذال، وهو جماع مؤخرِ الرأسِ، أو الخُشّاءُ -بضم الخاء المعجمة، وفتح الشين المعجمة المشددة وبعدها همزةٌ ممدودةٌ- وهوَ العظمُ الَّذي خلفَ الأذنِ، أو منحدرِ القَمْحدُوةَ إلى الرقبة، وهي ما خلفَ الرأسِ. وذُكِرَ في العظم الواصل بين عمود الرقبة وكرة الرأس وجه أنَّه ليس محلًّا ¬
للموضحةِ، كالرقبة، ويُشبِهُ أن تكونَ هي المنحدرَ المذكورَ أو تكونَ منه. وأما الوجهُ والجبهةُ منه والجَبِينانِ والخدانِ وقصبةُ الأنفِ واللَّحْيانِ كلُّها محل الإيضاح سواءٌ المقبلُ من اللحيين الَّذي يقعُ به الواجهةُ وما تحت المقبل من اللحيين الخارجِ عن حدِّ المغسولِ في الوضوءِ، وهوَ من موضحة الوجِهِ وليسَ منَ المغسولِ. واعلمْ أنَّ موضعَ الأذنين ليسَ من الرأسِ ولا من الوجهِ، ولو أزالَ الأذنين وأوضحَ مع ذلكَ العظم الَّذي تحتَ أطرافِ الأذنين، فإنَّهُ يجبُ مع ذلكَ أرشُ موضحتينِ. ويجبُ في الهاشمةِ مع الإيضاحِ عشرُ ديتهِ، وإن كانتْ دونَ الإيضاحِ ففيها نصفُ عشرِ ديتهِ، وفِي المنقلةِ عشرُ الديةِ ونصفُ العشرِ، وفِي المأمومةِ ثلثُ الديةِ (¬1). وإذا أوضح واحدٌ وهشم آخرُ ونقل ثالثٌ وأمَّ رابعٌ فعلى كلٍّ من الثلاثة نصفُ عشرِ ديته، وعلى الرابعِ تتمةُ الثلثِ تغليظُهُا وتخفيفها، وما يعتبرُ في ذلكَ (¬2). ومحلُّ وجوب نصف عشرِ ديةِ الأولُ، وهو الَّذي أوضحَ إذا اقتصرَ المستحقُّ على طلبِ ذلكَ ولم يطلبِ القصاصُ، فلو أراد القصاصَ وأخذَ الأرشَ من الباقينَ مُكِّن منه على النصِّ. ¬
والشجاجُ قبلَ الموضحةِ يجبُ فيهِ حكومةٌ (¬1). نصَّ عليه الشافعيُّ -رضي اللَّه عنه- في "الأمِّ" و"مختصرِ المزني" و"مختصرِ البويطي" وجرَى عليه جمهورُ الأصحابِ كما ذكرَ الماورديُّ خلافًا لما في "المنهاج" تبعًا للمحررِ. ويجبُ في الجراحاتِ على سائرِ البدنِ الحكومةُ؛ لأنهُ ليسَ فيها أرشُ مقدرٌ إلَّا الجائفة فتجبُ فيها ثلث الديةِ، وإذا جَرَحَ بجانبها جاء فيه الخلاف في التقسيطِ والحكومةِ (¬2). والجائفة التي تجب فيها ثلث الدية هي جرح نفذ إلى جوف محيل للغذاء أو الدواء من البطنِ أو الصدرِ أو ثُغْرة النَّحْرِ أو الجنب أو الخاصرة، أو غيرها (¬3)، ويقتصر فيها على الثلثِ حيثُ لم يكنْ مبدؤها متميزًا بجراحةٍ، ولم يكن في دخولها مالَ بها حتَّى كسرت ضلعًا ولم تكن في آخرها لدعت الطحال أو الكبد، فإنْ كانَ الأولُ متميزًا كما إذا شرطَ بطنَهُ بسكينٍ ثم أجافهُ في آخرِ الشرطِ فإن عليه حكومةُ الشرطِ، وكذلك إذا تعدتِ الجائفةُ من غير الضلعِ فكسرت الضلعَ فإنه يلزمُهُ حكومةُ الضلعِ، وإن لم تنفذْ إلَّا بكسرِ الضلعِ دخلت حكومته فيه، وكذلكَ إذا أجافهُ حتَّى لدع الحديد كبدهُ أو طحالهُ فإنهُ يلزمُهُ ثلثُ الديةِ وحكومةٌ، ذكر ذلك كلَّهُ الماورديُّ. وأرشُ الموضحةِ لا يختلفُ بصغرِها ولا كبرِها (¬4)، وإن تعددتْ تعددَ ¬
الأرشُ، فإذا أوضحَ في موضعينِ وبقي الجلدُ واللحمُ فهما موضحتان (¬1)، وإن بقي أحدُهما دون الآخرِ فموضحةٌ واحدةٌ على الأصحِّ، والأصحُّ أنهُ لو نزلَ في الإيضاحِ منَ الرأسِ إلى الوجهِ، أو أوضحهُ موضحةً بعضُها عمدٌ (¬2) وبعضها خطأٌ فالحاصلُ موضحتان، وأنهُ لو أوضحَ موضحةً واحدةً ثم عادَ ووسَّعها فالحاصلُ موضحةٌ واحدةٌ، ولو وسعها غيره فهما موضحتانِ (¬3). وتتعددُ الجائفةُ بما تتعددُ به الموضحةُ، ولو تعدتْ في البطنِ وخرجتْ من الظهرِ فجائفتانِ على النصِّ، ولو طعنَ بسنانٍ له رأسانِ فنفذَ إلى جوفهِ فهما جائفتانِ. واندمالُ الموضحةِ والجائفةِ بالتحامِ الموضعِ لا يُسقطُ أثرهما، ولو أوصلَ السنانَ الَّذي له رأسانِ من دبرِه أو من حلقِه أو من جائفة جناها غيرُه أو جناها هو ولم يخرقْ بها حاجزًا فلا تكونُ جائفتانِ ولا جائفةً واحدةً على النصِّ (¬4). والنصُّ أنَّ في الأذنينِ الديةَ لا الحكومةُ (¬5)، وفِي بعضها قسطُه ولو ضربهُما فأيْبَسهما (¬6) ففيهما الحكومةُ على مقتضى نصِّ الشافعيِّ. ولو قطعَ اليابستين فعليه الحكومة. ¬
وفِي عينٍ نصفُ دية، ولو لأعورَ (¬1)، ولا تنقصُ بحَوَلٍ وعمشٍ، وإن نقصَ ضوءُ العينِ بالجنايةِ يقسِّطُ (¬2)، وإن لم يضبطِ النقصُ فحكومةٌ، وإذا انضبطَ بعضُ نقصِ العينِ ولم ينضبطْ كلُّه فإنهُ يؤخذُ بنسبةِ ما نقصَ من الديةِ قطعًا، والقدرُ الذي لا ينضبطُ من الضوءِ نعتبرُه بالحكومةِ من الأصلِ، فإنْ ساوتِ الحكومةُ أرشَ القدرِ المنضبطِ فلا كلامَ، وإنْ نقصتْ أوجبنا أرش المنضبطِ، وإن زادتْ أوجبنا الحكومةَ، فيجِبُ عند الشكِّ أكثرُ الأمرينِ من أرشِ المقدَّرِ ومن الحكومةِ، هذا إذا كانَ إفرادُ غيرِ المنضبطِ بالحكومةِ لا ينضبطُ، فإن اتفقَ أن غيرَ المنضبطِ يمكن إفرادُهُ بالحكومةِ وجبَ المقدرُ، وحكومة أرش المنضبط. ومحلُّ الحكومة في غير المنضبطِ ما إذا لم يتعدَّ الجاني ويجني جناية أخرى تذهبُ ما بقيَ من الضوءِ، فإن عادَ قبلَ الاندمالِ وأذهبَ ما بقيَ وجبَ عليه نصفُ الديةِ، فإن كانَ أخذَ في الجنايةِ الأولى حكومةً لعدمِ الانضباطِ بالكليةِ، أو مقدرًا وحدَهُ للانضباط أو مقدرًّا وحكومةً، فإنَّا نأخذُ منه في الجنايةِ الثانيةِ تكملةَ نصفِ الديةِ، فإنْ كانَ الجاني الثاني غيرَ الأولِ، وكان الباقي منضبطًا وجبَ بقدره من الديةِ. وإن لم ينضبط منهُ شيءٌ فالواجبُ الحكومةُ، وإن انضبطَ بعضُهُ وشكَّ في بعضِهِ فيؤخذُ للمنضبطِ حصتُهُ من الديةِ، ولغير المنضبطِ الحكومةُ، وفيه ما سبق. ¬
وفِي كلِّ عينٍ مَن بعينه بياضٌ لا ينقصُ الضوءَ نصفُ ديةٍ، فإن نقص فالواجبُ الضبطُ، فإنْ لمْ ينضبطْ فالحكومةُ. وفِي كلِّ جفنٍ ربعُ الديةِ (¬1)، وجفنُ الأعمى كجفنِ البصيرِ. وفِي المارنِ ديةٌ عندَ الاستيعابِ، وهي موزعةٌ على الطرفينِ والحاجزِ أثلاثًا على النصِّ، فتتوزعُ عندَ عدمِ الاستيعاب كذلك. وفِي قولٍ أو وجهٍ: في كلِّ طرفٍ نصفٌ، وفِي الحاجزِ الحكومةُ تتَبعُ عندَ الاستيعابِ، وتفردُ عندَ عدمِهِ، وقياسُ الاستتباع أن يستتبع النصفُ نصفها. وفِي الشفتينِ الديةُ (¬2)، وفِي أحدِهما النصفُ، والشفةُ في عرضِ الوجهِ إلى الشدقينِ، وفِي طولهِ إلى محل الارتتاقِ من أعلى ومن أسفل على النصِّ. وفِي اللسانِ الديةُ (¬3)، ولو للألكنِ والأرتِّ والألثغِ وغيرِهم، ويستثنى من وُلِد أصمَّ فقطع لسانهُ الَّذي ظهرَ فيه أمارةُ النطقِ، فإن الأصحَّ عدمُ وجوب الديةِ؛ لأنَّ المنفعةَ المعتبرة في اللسانِ النطقُ، وهو مأيوسٌ في الأصمِّ؛ لأنَّه إنما ينطقُ بما يسمعُه، فإذَا لم يسمعْ لم ينطق شيئًا. وأمَّا الطفلُ فإنْ لم يبلغْ وقتَ التحريكِ ففيهِ الديةُ، ووقتُ التحريكِ هو ما بعدَ الولادةِ في الزمنِ القريبِ منها الَّذي يحركُ المولودُ فيه لسانَهُ لبكاءٍ ومصٍّ ونحوهما، فإن كان بلغَ وقتَ التحريكِ ولم يوجدْ تحريكٌ فالواجبُ الحكومةُ. وإذا قطعَ قاطعٌ لسانَ من ولدَ عقبَ ولادته قبلَ أن يتحركَ لسانُه، فالذي ¬
يظهرُ من كلامِ كثيرٍ من أصحابِ الطريقين ترجيحُ إيجابِ الحكومةِ، وهو المعتمدُ. وفِي لسان الأخرسِ الحكومةُ إن لم يذهبْ ذوقُه، فإنْ قطعَ لسانَه فذهب ذوقُه ففيهِ الديةُ. وفِي كلِّ سنٍّ من الحُرِّ نصفُ عشْرِ ديتِهِ، ويكمُلُ الأرشُ بكسرِ ما ظهرَ من السنِّ وإن بقي السِّنْخُ (¬1)، ولو قلع السنخَ مع السنِّ لم تجبْ زيادةٌ على الأرشٍ، وفِي السنِّ الشاغية حكومةٌ، ولا أثر لكونِ السنِّ متحركةً حركةً يسيرةً، فإن بطلت منفعتُها ففيها حكومةٌ. وإن نقصتْ فالأصحُّ بمقتضى نصوصِ الشافعيِّ وقاعدته أنَّه ينظر في العملِ فإنْ لم يمكن المضغُ عليها ولم يبقَ فيها إلَّا الجمالُ، فالأصحُّ بمقتضى نصِّه في الأذنِ والأنفِ أنهُ لا يجبُ بقَلْعِها إلَّا الحكومةُ. وإن بقيَ بعضُ المضغِ فالأصحُّ وجوبُ عقلها تامًّا كاليدِ إذا جنى عليها جانٍ فنقصَ عملُها. ولو قلعَ سنَّ صبيٍّ لم يثغر ولم تَعُد، وبان فساد المنبت وجبَ الأرشُ، وأظهر القولين وجوبُ حكومةٍ إذا ماتَ قبل البيانِ، وأنهُ لو قلع سن مثغور وأخذَ الأرشَ فنبتَتْ سنٌّ لا يستردُّهُ، وإنْ لم يأخْذ لا يسقُطُ، ولهُ أخْذُهُ. وإذا لم تَعْدُ السنُّ فيجبُ الأرشُ قطعًا. ويجبُ، بقلعِ الأسنانِ كلِّها ما يقتضيه الحسابُ في أظهرِ القولين، وفِي قولٍ لا يزيدُ على ديةٍ عند اتحادِ الجاني والجناية، وعند جنايةِ جانيين معًا فإنْ جنى ¬
فائدة
الجاني جنايةً بعد جنايةٍ، وفِي كلِّ جنايةٍ يُتَركُ حتَّى تندملَ، ثم قلعَ أخرَى، وهكذا إلى استيعابِ الأسنانِ، لزمه لكل سنٍّ نصفُ عشرِ ديةٍ قطعًا. * فائدة: لو اتفقَ أنَّ شخصًا كانتْ أسنانُه كلُّها نظمةً واحدةً من فوقَ ومن أسفلَ، فإن قلَعَها كلَّها قالعٌ عمدًا بأن سقاهُ دواء فأسقطها كلَّها، فإنهُ يجبُ القصاصُ، فيقلعُ أسنانَهُ كلَّها؛ لأنهُ عظمٌ يدخلُهُ القصاصُ عند القلعِ. وإن كسر منابتها عمدًا فإن أمكنَ المماثلةُ في ذلك بالمساحةِ من غير ضررٍ على باقي السنِّ وجبَ القصاصُ على النصِّ كما تقدَّم. وإنْ لم يمكن المماثلةُ فلا قصاصَ على الأصحِّ وينتقلُ إلى الديةِ، ولو قلعها كلَّها خطأً وجبتِ الديةُ الكاملةُ تفريعًا على أنهُ لا يزادُ في التعددِ منها على الديةِ، وعلى المذهبِ يرجح هذا أيضًا؛ لأن التعدد غير موجودٍ، وصونًا عن الاقتصارِ على الديةِ في المتعددِ، وقول النبيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "في كل سنٍّ مما هنالك خمسٌ من الإبل" (¬1)، ولا تعدد هنا، فوجبت الديةُ. وإن كسَرَ منها شيئًا خطأً أو قلنا لا قصاصَ عند العمدِ فالواجبُ الحكومةُ؛ لأنَّ إيجابَ الخمسِ بالنصِّ كانَ في المتعددِ، فلا يتعدَّى إلى ما ليسَ في معناهُ، وذكرَ الخطيبُ البغداديُّ في "تاريخ بغداد" أنَّ عبدَ الصمدِ بنَ عليِّ بنِ عبدِ اللَّه بنِ عباس رضي اللَّه عنه كانتْ أسنانُه قطعةً واحدةً من فوقَ، وقطعةً واحدةً من أسفلَ. انتهى. ويجبُ في اللحيين الديةُ (¬2)، وهما العظمان اللذانِ تنبت عليهما الأسنانُ ¬
السفلى، وفي أحدها إن نبت الآخر النصفُ. وإن كان عليهما الأسنانُ لم يدخل أرشها في دية اللحيين على النصِّ. وفِي اليدينِ الديةُ، وتكملُ الديةُ بالتقاطِ الأصابعِ، ولو أبانَ الكفَّ مع الأصابعِ بالقطعِ من الكوعِ لم يزد للكفِّ شيءٌ، وفِي كلِّ أصبع أصليٍّ عشرُ ديةِ صاحبه، وأصبعان من كفين على معصم لا يتميزُ منها زائد من غيره كأصبعٍ أصليةٍ مع حكومةٍ، وأنملةُ أصلي ثلث العشرُ، وأصبعا ملتبستين كذلك مع حكومةٍ، وأنملة إبهامٍ أصليةٍ نصفُ عشرِ ديةِ صاحبه، وإبهامان من ملتبستين كإبهامٍ أصليٍّ بزيادة حكومةٍ. وفي الرِّجْلينِ الديةُ، وفِي أحدِهما النصفُ، وتكمل الدية في أصابعهِمِا والقدمُ كالكفِّ (¬1)، والساقُ كالساعدِ، والفخذُ كالعضدِ، وما تقدمَ في اليدينِ وما يتعلقُّ بالكوعِ وفوقِهِ وما يتعلقُ بالأصابعِ الأصليةِ والزائدةِ وأصابعِ الملتبستين يأتي هنا، فلا يحتاجُ إلى ذكرِهِ. وفِي ثديي المرأةِ ديتُها بلا حكومةٍ (¬2)، وفِي حلَمتها ديتها ويجيءُ مثل ذلك على القولِ الثاني إذا قلنا يجبُ في حلمتي الرجلِ الديةُ، فإذا قطعَ ثدييه المشتملتينِ على حلمتَيه لم يزدْ للثديينِ شيءٌ من الحكومةِ كما سبقَ. وفِي الذَّكرِ الديةُ، وكذلكَ في الأُنثَيينِ الصغيرُ والشيخُ والعِنِّينُ كغيرِهِم (¬3)، وتكمُلُ الديةُ بقطعِ الحشفةِ، وباقي الذكِر مع الحشفة كالكفِّ مع ¬
فصل
الأصابعِ، وفِي بعضِ الحشفةِ قسطُه منها، وفِي قولٍ: من الذكر، وكذا حكمُ بعضِ حلمةٍ في دخول الثديِ في النسبةِ، وبعض مارنٍ في دخولِ القصبة في النسبةِ إن أدخلنا حكومة القصبة في ديةِ المارنِ، وهو خلافُ النصِّ، وعلى النصِّ يقطع لأنَّ النسبةَ من المارن فقط. وفِي الأليتين الديةُ، والمرادُ القدرُ المشرفُ على استواءِ الظهرِ والفخذِ، وفِي شفري المرأة ديتُها، وفِي سلخ الجلد الحكومة على النص (¬1). * * * فصل في إزالةِ العقل بالضربِ على الرأسِ وغيرِ الضربِ الديةُ (¬2)، ولو صاحَ على صبيٍّ غيرَ مميِّزٍ أو مميزٍ غيرَ مراهقٍ، أو مراهق غيرَ متيقظٍ، أو مَن يعتريهِ الوسواسُ أو النائمُ أو المرأةُ الضعيفةُ فزال عقلُ من ذُكِرَ من هؤلاءِ فإنهُ تجبُ ديةُ العقلِ، وشهر السلاحِ والتهديد كالصياحِ، وكذا لو صاحَ على صيد فزال عقل من ذُكِرَ من هؤلاءِ، لكن الديةُ -والحالة هذه- مخففة على العاقَلةِ على الأصحِّ، وعلى الثاني تكون مغلظةً على الجاني. وعن ابن القاصِّ أن الصائحَ على الصيدِ إن كانَ محرِمًا أو في الحرمِ تعلَّقَ بصيحتِهِ الضمانُ لتعديهِ، وإلَّا فلا. وذكرَ على قياسِه أنهُ لو صاحَ على صبيٍّ في ملكهِ، أنَّه لا يجبُ الضمانُ تشبيهًا بما لو حفرَ بئرًا في مِلكِهِ فسقطَ فيها إنسانٌ. ¬
والأصحُّ أنَّه لا فرق، وما سبق منصوصٌ للشافعيِّ رضي اللَّه عنه في "الأمِّ" في ترجمة ذهاب العقل من الجناية (¬1)، فقال: (ولو صاحَ عليه أو ذعرهُ بشيءٍ فذهب عقله لم يبنْ لي أن عليه شيئًا إذا كان المصاحُ عليه بالغًا يعقلُ، ولكن لو صاح على صبيٍّ فذهبَ عقلُ الصبيِّ ضمنَ ديتَهُ، ولو عدا رجلٌ على بالغٍ يعقلُ بسيفٍ فلم يضربْهُ، وذعرَهُ ذُعرًا أذهبَ عقلَهُ لم يبن لي أنَّ عليهِ ديةً من قِبَل أنَّ هذا لم يقع في جنايةٍ، وأن الأغلب من البالغين أن مثلَ هذا لا يذهبُ العقلَ). انتهى. فإن زالَ بجرحٍ له حكومةُ فالديةُ أو لَهُ أرشٌ مقدرٌ وجُبارٌ في قولٍ يدخلُ الأقل في الأكثر، فإن تساويا فواحدٌ. هذا مقتضى نص "الأم"، وأجرى الأكثرُ القولين مطلقًا ولوِ ادَّعَى الولي زوالَ العقلِ بجنايةٍ يحتملُ زوالُ العقلِ بها، وأنكر الجاني فالقولُ قولُ الجاني بيمينِهِ، فإن حلفَ فلا شيء له عليه، وإن نَكَلَ لم يحلفِ الوليُّ على الأصحِّ. فإن قال الوليُّ عندي من يشهدُ بأنه مجنونٌ، فَشهِدَ أهلُ الخبرةِ بذلكَ قبلتْ شهادتُهم على مقتضى الظاهر، كما تشهدُ البينةُ بالمرضِ المخُوفِ ونحوه، وحينئذٍ يثبت جنون المجنيِّ عليه ويأخذ الوليُّ الدية ولا يحلف المجني عليه اليمينَ المردودةَ إذا نكلَ الجاني، حيث كانَ جنونهُ مطبِقًا، فإن كان منقطعًا وهو في زمانِ الإفاقةِ صالحٌ للدعوى، فإنهُ حينئذٍ يدعي ولا يُجعل القولُ قولُه بمجردِ عدمِ انتظامِ أفعالِهِ وأقوالِهِ في زمنِ الجنونِ، بل نقولُ القولُ قولُ الجاني بيمينهِ، فإنْ نكَلَ رددناها على المجني عليه، وأخذنا ¬
من الجاني ما يقتضيه التقسيطُ. ولو أقام المجنيُّ عليه البينةَ في حالِ إفاقتِهِ سمعناها ووجبَ له ما يقتضيه التقسيطُ. وفِي إبطالِ السمعِ الديةُ، ولا نقضي بها بمجردِ الجنايةِ التي حصلَ منها صممُهُ حتَّى يراجعَ أهلُ الخبرةِ (¬1)، فإن قالوا له مدةٌ إنْ بلغها ولمْ يسمع تم صممُهُ، فإنه لا يقضى له بشيءٍ حتَّى يبلغ تلك كما نصَّ عليه الشافعيُّ، وجرى عليه الأصحاب، واستثنى في "النهاية" من ذلك ما إذا قدروا مدةً يغلب على الظنِّ انقراضُ العمرِ قبل انقضائها، وقال: الوجهُ أن تؤخذُ الدية، ولا تنتظر هذه المدة، كما لو لم يقدروا. وإن قال أهل البصر لطيفةُ السمعِ باقية ولكن حصل ارتتاقٌ داخل الأذن وامتنعَ نفوذُ الصوتِ ولم يتوقعوا زوال الارتتاق، فالأرجحُ ما جزم به المتولي من إيجاب الحكومة؛ خلافًا لمَيْلِ الإمام إلى وجوبِ الديةِ. وفِي أذنٍ نصفُ ديةٍ على النص. وإن ادعى زواله بجناية يحتملُ ذهابُ السمع بها، ويصدقُهُ الجاني المكلفُ الرشيدُ فلا يحتاج حينئذٍ إلى الاستظهارِ بالأماراتِ (¬2)، ويلزم الجاني الدية. وإن أنكر الجاني المسموعُ إنكارُهُ أو كان غيرَ أهلٍ للتصديقِ، فإن انزعج المجنيُّ عليه للصياح في نومٍ أو غفلةٍ فكاذب، ومتى قُطعَ بكذبِهِ لا يحلفُ الجاني، ومتى لم يقطع بكذبِهِ حلفَ الجانِي، وإن لم ينزعج حلف وأخذ دية. ¬
وإنْ نقصَ فقسطُهُ إن عرفَ ووافقهُ الجاني على قولهِ: لم أسمعْ إلَّا في هذا الحدِّ، فإن خالفُهُ الجاني، وقال: سمعَ من موضعٍ فوقَهُ، ولكنه كتمَ ذلكَ وأنكره ليزيد لهُ الحالُ في النقصِ، فالقول قول الجاني بيمينه، فإنْ نكلَ ردَّتِ اليمينُ على المجنيِّ عليهِ، فإذا حلفَ ثبت له ما ادَّعاه. فإن امتحنَ بوجوهٍ غلبت على الظنِّ صدقُهُ كانتِ اليمينُ في جهتهِ، وإن لم يُعرفِ النقصُ فتؤخذُ حكومةٌ يقدرُهَا القاضي باجتهادِه. وفِي ضوءِ العينِ الديةُ، وفيه من أحدهما النصفُ، ولو فقأ عينيهِ لم تجبْ إلَّا ديةٌ، وفِي الواحدةِ النصفُ فقط. وإذا ادعى زوالهُ سئلَ أهلُ الخبرةِ أولًا كما نصَّ عليهِ صاحب المذهب، فإن شهدُوا بزوالهِ عمل بمقتضاهُ. وإن لم يظهرْ شيءٌ من جهتهم إمَّا لشكِّهم وإما لعدمهم، فيمتحنُ بتقريبِ عقربٍ أو حديدةٍ من حدقته مُغافَصةً (¬1) وينظر أينزعجُ أم لا. وإذا امتحنَ بتقريبِ ما ذكرنا ونحو ذلكَ مما يزعج وردَّ طرفه ونحو ذلك فإنهُ يكونُ كاذبًا ولا يحلفُ خصمُهُ إذا قطعَ بكذبه، وإلَّا حلَّفناه كما تقدَّم في السمعِ. وإذا روجع أهلُ الخبرة وشهدوا بذهابِ البصرِ فلا حاجةَ إلى التحليفِ، وتؤخذ الديةُ بخلافِ الامتحانِ فإنه لا بدَّ من التحليفِ بعدَهُ، هكذا في "الروضة" تبعًا لأصلها، وهذا يدلُّ على ترجيحِ كلامِ أهلِ الخبرةِ على ¬
الامتحانِ، لا كما وقع في "المنهاجِ" تبعًا لأصله من التخييرِ بينهما، ومقتضاهُ التسويةُ بين الأمرينِ في الأحكامِ، وليسَ كذلكَ لما تقدَّم. وإن نقصَ من إحدى العينينِ وجبَ ثُلثا ديةِ العليلةِ، وإن نقص من العينين وجب ثلثا الديةِ الكاملة (¬1)، حيث ذكر أهل الخبرة ما يوجب ذلك. وإذا نقصَ من أحدِهِما عُصَبت العليلةُ وأطلقتِ الصحيحةُ ويقف شخصٌ متباعدًا حيثُ لا يراهُ، ثم يقربُ إلى أن يقولَ: رأيتُهُ، فيضبط ذلك الموضع، وعليه يقع الامتحانُ في العليلةِ، فلا يزالُ يتقرَّبُ منهُ إلى حيثُ يقولُ رأيتُه. ولو عصبَ الصحيحةَ أولًا وامتحن العليلةَ إلى الموضعِ الَّذي ينتهي إليه بصرُ العليلةِ ثم عصبها وأطلقَ الصحيحةَ وتباعدَ إلى حيث ينتهي نظرُ الصحيحةِ كان ممكنًا، وهذا رواه البيهقيُّ في "السنن" عن علي بن أبي طالب -رضي اللَّه عنه-. وفِي الشمِّ إذا أزالهُ بالجنايةِ على الرأسِ وغيرِهِ ديةٌ على النصِّ (¬2)، وفِي الكلامِ الديةُ، وفِي بعض الحروفِ مع بقاءِ بعضِ الكلامِ قسطُهُ، والموزع عليهما على النَّصِّ ثمانيةٌ وعشرونَ حرفًا في لغةِ العربِ التي هي أصولُ الحروفِ، ومنها الهمزةُ، وأن الساقطَ لا كما ظهر من نصِّ "الأم" وكيفية الاعتبار بمقتضى نصِّ "الأم" أن يأتيَ المجنيُّ عليه بالحروفِ على ما عليه في الأصولِ، فيقول: ألف با تا ثا إلى آخرِ الحروف، فإن عرفَ المجنيُّ عليه لغةً أخرى غير لغةِ العربِ، وذهب حروفٌ منهما وكانت تلكَ اللغةُ أكثرَ حروفًا ¬
فالتوزيعُ على الأكثر على أرجحِ الوجهينِ؛ لأنَّ الأصل براءة ذمةِ الجاني، فلا يلتزم إلَّا اليقينَ، فعلى هذا يوزعُ على غيرِ الحروفِ المذكورة للعربيِّ، وقيل: توزعُ على ثمانيةَ عشَرَ حرفًا بإخراج الشفهية والحلقيةِ، ولو عجز عن بعضها خلقةً أو بآفةٍ سماوية كالأرتِّ والألثغ فدِيةٌ، وقيل: قسطُ الديةِ من جميع الحروف. وإن عجز عن بعضها لجناية أجنبيٍّ فالأرجح أنَّه لا يُكملُ ديةً، ولو قطع نصفَ لسانِهِ فذهبتْ نصفُ أحرفِ كلامِهِ فنصفُ ديةٍ (¬1)، ولا يجبُ في الصوتِ لذاته دية قطعًا، خلافًا لما في "المنهاج" تبعًا لأصله؛ لأنَّ القصدَ الأعظمَ بالصوتِ إنما هو الكلامُ، وقد تقدَّم أنَّ فيه الديةَ، وأما مجرَّدُ الصوتِ فإنه إنما يقعُ بالحروفِ الحلقيةِ، والديةُ في مقابلةِ الحروفِ كلِّها بذهابِ الكلامِ، فإذا ذهب الصوتُ فالذاهبُ إنما هو الحرفُ الحلقيّ، وقد أُخذتِ الديةُ فيه، فلا سبيل إلى إيجابِ ديةٍ في الصوتِ بمفردِهِ، لدخولِهِ فيما وجب. وفِي كلامِ الشافعيِّ -رضي اللَّه عنه- في "الأم" ما يشهدُ لذلكَ، حيث لم يجعلِ الديةَ إلَّا في حالةِ ذهابِ الكلامِ كلِّه، ولا توقفَ أنَّ الصوتَ لا منفعةَ فيه إلَّا الكلام، فإيجاب ديةٍ أخرى للصَّوتِ غيرُ صوابٍ. ويجبُ في الذوق ديةٌ، وتدرك به الحلاوةُ، والحموضةُ، والمرارةُ والملوحةُ والعذوبةُ، وتوزَّعُ عليهنَّ، فإذا أبطل إدراكَ واحدٍ وجبَ خمسُ الديةِ ولا تجبُ الدِّيةُ في المضغِ على النصِّ (¬2). ¬
قال الشافعيُّ في "الأم" (¬1) في ترجمة دية اللحيين: (وَإِنْ قُلِعَ أَحَدُهُمَا وَثَبَتَ الآخَرُ فَفِي الْمَقْلُوعِ نِصْفُ الدِّيَةِ). ولم ينظرِ الشافعيُّ إلى المضغِ كم انظرَ إلى الكلامِ، وأيضًا فإنَّ المضغَ منفعةٌ مشتركةٌ بين اللحيينِ، وبينَ ما فوقَهُما من الأسنانِ النابتة في عظمِ الرأسِ ومنابتها من اللحيةِ تحتَ الشفةِ العليا، فلا تُفرد بإيجابِ ديةٍ، وقد نصَّ الشافعيُّ على أن شللَ اللحيين موجبٌ للديةِ، وأنهُ لا شيء في الأسنان، فإذا لم يوجبِ الشافعيُّ الديةَ في الأسنان مع أنها أجرامٌ مركبةٌ في اللحيينِ تفردُ بالدية، فلأن لا يوجبُ الديةَ في المضغِ وهو منفعةٌ قائمةٌ فما ذكرنا أولى. وتجب في إبطال قوَّةِ الإمناء بكسرِ صلبٍ الحكومةُ لا الديةُ (¬2)، لأنَّ الإمناءَ هو الإنزالُ، فإذا أبطلَ قوةَ الإنزال ولم يذهبْ نفسُ المنيِّ فهذا لا يوجبُ الديةَ، وإنما يوجبُ الحكومةَ، فإنه قد يمتنعُ الإنزالُ بما يسدُّ طريقهُ، فيشبه ارتتاقَ الأذنِ حيث لا يسمع، ولكنَّ السمعَ باقٍ، وقد تقدَّم أنَّ الأصحَّ أنَّهُ لا يجبُ فيه الديةُ، وهذا أولى بالتصحيح، بل قد يُقطعُ فيه بعدمِ وجوبِ الديةِ. وتجب في ذهاب الجماعِ بكسر الصُّلبِ ديةٌ إنْ كانتْ لذلك علامةٌ يعرفُ بوصفِها، فإن لم يكن معلومًا عندَ أهلِ الخبرةِ فله حكومةٌ لا ديةَ، كما نص عليه الشافعيُّ -رضي اللَّه عنه-، ولا تجبُ بإذهابِ قوَّةِ الحبلِ وحدها ديةٌ خلافًا لما في "المنهاج" تبعًا لأصله. ¬
تنبيه
وتجب في إفضاء الموأة من زوجٍ أو غيره ديةٌ، وهو رفعُ ما بينَ مدخلِ ذكرٍ ودبرٍ، وفِي وجهٍ رُجح ذَكَرٌ وبولٌ، وفِي السابقِ ديةٌ على هذا على الأرجحِ، هذا إذا استمسك الغائطُ، فإن لم يستمسكْ وجبتْ مع هذا حكومةٌ، وعلى الوجه المذكورِ: إذا استمسك بولُها، فإن لم يستمسكْ وصارَ بولُها يسترسلُ فتلزمهُ مع الديةِ حكومةٌ؛ لزوالِ المنفعةِ، وقيلَ: لا حكومةَ، وهو ضعيفٌ. وإذا أزال البكارةَ بذكر بشبهةِ غير نكاحٍ فاسد أو مكرهةً فمهر بكرٍ وأرشُ البكارةِ على النصِّ، وفِي وجهٍ: مهرُ ثيبٍ وأرشُ البكارةِ، وفِي وجهٍ أو قولٍ: مهرُ بكرٍ، وفِي أمةٍ سقط مهُرها لطوعٍ أو غيره أرشُ البكارةِ، وكذا يرجحُ له الزائدُ على مهرِ ثيبٍ إلى تمامِ مهر بِكرٍ على إدخال الأرشِ في المهرِ أو أزالها بغير ذكرٍ فأرشُها. ويجب في البطش ديةُ، وكذا في المشي، وفِي بعض كلٍّ منهما حكومةٌ، ولو كسر صلْبه فذهب مَنِيُّهُ مع جماعه أو مع منيه فديتان، وقيل: ديةٌ، وإن شلَّتْ رجلُه أو ذكرُه وجَبَ مع ذلكَ حكومةٌ لكسرِ الصُّلبِ. تنبيهٌ (¬1): إذا أزال أطرافًا ولطائف تقتضي دياتٍ فماتَ سرايةً منها أو من بعضها فلأوليائه الخيارُ بين القصاصِ أو الدية، فإن اختاروا الديةَ وسألوا أن يعطَوْا أرشَ الجراحاتِ كلِّها والنفسِ، أو أرشَ الجراحاتِ دونَ النفسِ لم يكن لهم ذلكَ، وكانت لهم ديةٌ واحدةٌ، وتكونُ الجراحات ساقطةٌ بالنفسِ إذا كانتِ النفسُ من الجراحاتِ، أو بعضها، هكذا نصَّ عليه الشافعيُّ ¬
فصل
-رضي اللَّه عنه- وكذا تجبُ ديةٌ واحدةٌ إذا حزَّه الجاني قبلَ الاندمال على المنصوصِ، وإن حزَّ عمدًا والجنايات خطأ أو بالعكس فلا تداخل على أرجحِ القولينِ. * * * فصل تجبُ الحكومةُ فيما لا مقدَّرَ فيه ولا عُرِفَ نسبتُهُ من مقَّدرٍ، وهو جزءٌ من الديةِ، نسبتُهُ إليها نسبةُ ما ينقصُ تلكَ الجنايةِ من قيمتِه لو كان رقيقًا، فإن عرفَ نسبته من مقدر لم يحتجْ إلى القرعةِ عبدًا سليمًا ومعيبًا، بل يؤخذ بالنسبةِ من المقدرِ ويستثنى من النسبةِ ما إذا قطعَ أنملةً لها طرفانِ، فإنه يجبَ فيها ديةُ الأنملةِ وحكومةٌ، وهذه الحكومةُ لا تعتبرُ بالنسبةِ، فيوجب فيها الحاكم ما يؤدي إليه اجتهادُه، ويلتحق بذلك كلُّ موضعٍ تعذَّرت فيه النسبةُ. وقيل: تؤخذ النسبة من أرشِ العضوِ، وفِي الرأسِ والوجهِ تُقدر النسبةُ من الموضحةِ وفِي غيرِها تؤخذ النسبة من الجائفةِ، والمنصوص ما سبق. ولا يستقرُّ التقويمُ إلَّا بحكمِ الحاكمِ، فإنِ اجتهدَ فيها مَن ليسَ بحاكمٍ ملزمٍ، لم يستقرَّ ذلك. صرَّحَ به الماورديُّ، ومقتضى إطلاقِ غيرِه. فإذا كانتِ الجنايةُ على الرأسِ وليس لها أرش يقدَّرُ ولا تعرفُ نسبتُها من الموضحة، فإنه يعتبر في الحكومة أن لا تبلغَ أرشَ الموضحةِ. نصَّ عليه، واتفق عليه الأصحابُ، فإن بلغته نَقصَ القاضي شيئًا بالاجتهادِ مع الاحترازِ عن فتاوى الجانبيْنِ المتفاوتين، فإذا كانت الشجةُ متلاحمةً ولم يمكنْ تقديرُها من الموضحة، وحصلَ التقويمُ واقتضى نقصان نصف العشرِ فنقص ذلك عن خمس من الإبل لئلَّا يساوِي الموضحةَ.
وإذا نقصَ في السمحاقِ فليحترزْ عن أن تستوي المتلاحمةُ مع السمحاقِ، ويقوَّمُ بعد الاندمال، فإنْ لم يبقَ نقصٌ اعتبر أقربُ نقصٍ إلى الاندمالِ على ظاهرِ النصِّ، فإن لم ينقصْ قدَّره قاضٍ باجتهاده على الأرجح، وقيل: يقدره قاضٍ باجتهادِه من غير اعتبارِ أقرب نقصٍ، وقيل: لا غرمَ. وتقوَّمُ لحية المرأة لحية عبد متزين بها (¬1)، والسن الزائدة تعتبر ولا أصلية خلفها، ثم تقوَّمُ وهي مقلوعة والفرجةُ موجودةٌ (¬2). والجرحُ المقدرُ كموضحةٍ في غير حاجبٍ يتبعه الشين في محلِّهِ من رأسٍ أو وجهٍ، وفِي حاجبه يجب الأكثرُ، ومَا لا يقدَّرُ لا يستثنيه الشين حواليه على النصِّ، وعلى مقابله يجب الأكثرُ، فإن استويا فأحدهما، وينسبُ إلى الجرحِ لأنَّهُ الأصلُ. وتجبُ في نفسِ الرقيقِ قيمتُه، وفِي غيرها إن كانَ الجرحُ في رأسِه أو وجهِهِ أو بطنِهِ، وقلنا في الحرِّ: تجبُ الحكومةُ التقويمية فإنَّهُ يعتبر أن لا يبلغ أرش الموضحة (¬3). وإن كان الجرح في بطنِه يعتبر أن لا يبلغ أرش الجائفة، كذلك نقولُ في العبدِ. وإنْ قُلنَا: الواجبُ النسبة إن عُرفَ مقدارَ ذلك من موضحةٍ هناك أو جائفةٍ هنا فلذلك تجبُ النسبةُ في العبدِ، والنظرُ إلى الأكثرِ لا يخفَى، ويجيء في الشين ما سبق من أنَّه يتبعُ المقدر، ولا يتبع غيرَ المقدر، وقسْ على ما سبق. ولو قطعَ ذكرَهُ وأنثياهُ فعليه قيمتانِ على أظهرِ ¬
القولينِ، وعلى الثاني: ما نقصَ من قيمتهِ، فإنْ لم ينقصْ شيئًا أو زادتْ فلا يجبُ شيءٌ على الأصحِّ. * * *
باب ما يوجب الدية وما لا يوجبها غير ما سبق والعاقلة وكفارة القتل
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ باب ما يوجب الديةَ وما لا يوجبها غير ما سبق والعاقلةُ وكفارة القتل (¬1) صاح على صبيٍّ أو مجنونٍ أو معتوهٍ أو نائمٍ أو امرأةٍ ضعيفةٍ على طرفِ سطحٍ أو حافةِ بئرٍ أو نهرٍ، فمات منه، فدِيَةٌ مغلَّظةٌ على عاقلتِه إذا قصدَ من ذكرنا بالصياحِ، فإن صاحَ لسببٍ آخرَ فماتَ فهيَ مخففَّةٌ على العاقلةِ. ويلتحقُ بالموتِ ما لو تلفَ بعضُ أعضائِه، فإنَّهُ يضمنهُ بأرشهِ، ولو زالَ عقلُهُ وجبتِ الديةُ على النصِّ، ولا قصاصَ على أصحِّ الوجهينِ، وقيلَ القولين. ¬
ولو كان بأرضٍ أو صاحَ على بالغٍ عاقلٍ متماسكٍ في وقوفِهِ فلا ديةَ على النصِّ، فإن زالَ عقلُ الصَّبيِّ بذلك وجبَ الضمانُ على مُقتضَى النصِّ ولا قصاصَ فِي البالغِ المذكور قطعًا ولا في الصبيِّ على الأصحِّ. وحكمُ شهرِ السلاحِ حكمُ الصِّياحِ، وحكمُ المراهقِ حكمُ الصبيِّ خلافًا لمن جعلَهُ كالبالغِ في حالَةِ تيقُّظهِ؛ لأنَّ الشافعي رضي اللَّه عنه أناطَ عدمَ الضمانِ بالبلوغِ معَ العقلِ، وأناطَ الضمانَ بالصبيِّ مع قيدِ أن يكونَ على حائطٍ ونحوه بالنسبةِ إلى غيرِ زوالِ العقلِ، وصارَ الصبيُّ وصفًا ضابطًا بحكمةٍ لا حِكمةً مجردةً لعدمِ الانضباطِ، فلا يخرجُ عن صور الصبيِّ أحدٌ أو إنْ كانَ مراهقًا، لأنَّهُ لم يكملْ عقلُه. ولو طلبَ السُّلطانُ امرأةً أو طلبَ رجلًا عندها ففزعتْ لدخولِ الرَّسولِ أو جلبتهم، أو انتهارِهم، أو للذُّعرِ من السلطانِ فأجهضتْ ضمنَ الجنينَ، كما نصَّ عليه الشافعيُّ -رضي اللَّه عنه- في "الأم" (¬1) في ترجمةِ جنايةُ السلطانِ، فقالَ: (وَإِذَا بَعَثَ السُّلْطَانُ إلَى امْرَأَةٍ أَوْ رَجُلٍ عِنْدَ امْرَأَةٍ فَفَزِعَتْ الْمَرْأَةُ لِدُخُولِ الرُّسُلِ. .) وذكر ما تقدَّم بحروفِهِ، إلى أَنْ قالَ: (فَأَجْهَضَتْ فَعَلَى عَاقِلَةِ السُّلْطَانِ دِيَةُ جَنِينِهَا إذَا كَانَ مَا أَحْدَثَهُ الرُّسُلُ بِأَمْرِهِ فَإِنْ كَانَ الرُّسُلُ أَحْدَثُوا شيْئًا بِغَيْرِ أَمْرِ السُّلْطَانِ فَذَلِكَ عَلَى عَوَاقِلِهِمْ دُونَ عَاقِلَةِ السُّلْطَانِ؛ لِأَنَّ مَعْرُوفًا أَنَّ الْمَرْأَةَ تُسْقِطُ مِنْ الْفَزَعِ) هذا نصُّه. وعلى هَذا فلو فزَّعَ إنسانٌ امرأةً بسيفٍ ونحوه فأسقطتْ ضمن الجنينَ، ولو ماتت من الإجهاضِ ضمنَ عاقلتُهُ ديتَها، فلو طلبَها في دينٍ فأسقطتْ، ¬
فإن كانت مُخدَّرَةً فطلبه لها تعدٍّ عليها، فيكون ضامنًا لما يسقطه بذعره. وإنْ لم تكن محذرةً فالعادةُ جاريةٌ في أن الديونَ يتحدَّثُ فيها الحُكَّامُ الذين لا يخاف من ظلمهم، فيكونُ إسقاطُ الجنينِ بذعره مقتضيًا لضمانِهِ. حتَّى لو كان بعضُ القضاةِ يخافُ من سطوتِهِ فحصلَ للمرأةِ الفزع بطلبِهِ فأسقطت جنينًا ضمنَهُ. ولو وضع حرًّا في صحراءَ مُسْبِعةٍ، فأكله السبعُ فلا ضمانَ إن أمكنَهُ التخلُّصُ، فإن لم يمكنه التخلُّص ضمنَهُ بالديةِ مغلَّظةً على العاقلةِ، على الأصحِّ. وإذا تبعَ بسيفٍ هاربًا منه فرمى نفسَهُ بماءٍ أو نارٍ أو من سطحٍ فلا ضمانَ إن كان المتبوع بالغًا عاقلًا، فإن كان صبيًّا لا يعقِلُ عَقَلَ مثلَهُ أو مجنونًا لا تمييزَ له فألقى نفسه في ماءٍ أو نارٍ ونحوَ ذلكَ ضمنَهُ التابعُ له، تفريعًا على أن عمدَ هذين خطأٌ على ما جَرَى عليه الأئمةُ. فأما إذا كان يعقِلُ عقَلَ مثلَهُ أو كان المجنونُ له تمييزٌ فأصحُّ القولينِ أن عمدهما كعمدِ البالغِ العاقل، فلا يضمنانِ في صورةِ الماءِ والنارِ ونحوِهما، فلو سقطَ جاهلًا لعماهُ، أو لظلمةٍ، فعلى تابعِهِ الضمانُ، وكذا لو انخسفَ به سقفٌ في جريه على النصِّ (¬1). ولو سلِّم صبيٌّ إلى سباحٍ يعلِّمهُ أو علَّمه الوليُّ السباحةَ أو أخذه أجنبيٌّ بنفسه برضى الصبيِّ أو بغير رضاهُ فغرق وجبتْ دِيَتهُ على السبَّاحِ، فلو رفعَ ¬
السباحُ يدهُ من تحتِ الصبيِّ عمدًا فغرقَ فعليه القصاصُ، لأنهُ هو الَّذي أغرقَهُ (¬1) (¬2). وإذا سلَّم البالغُ نفسَهُ إلى السباحِ فجاءَ في الموضعِ المغرقِ رفعَ يدَهُ من تحتهِ فغرقَ البالغُ فعلى السبَّاحِ الضمانُ بالديةِ، بل بالقصاصِ، كما قاله شيخُنَا، لأنَّهُ هو الَّذي أغرقَهُ، أما لو غَرَقَ من غير قصدِ المعلمِ فلا يجبُ ضمانهُ، ويجبُ الضمانُ بحفرِ البئر عدوانًا مع دوامِ العدوانِ (¬3). وإن حفرَ في مِلْكِ نفسه أو موات فلا عدوانَ، فإن حفر حفرةً واسعةً في ملكه قريبًا من أرضِ جارِهِ بحيث يؤدي إلى إضرار أرضِ جارِهِ فإنهُ يكون متعديًا ضامنًا لمن وقعَ في موضِعِ التَّعدِّي. وإذا حفَرَ بدهليزهِ بئرًا ودعى غيره ولم يعرفْهُ البئرَ، وكانَ الداخلُ أعمى، أو كانَ الموضعُ مظلمًا أو غيرَ مظلمٍ، ولكن كانَ رأسُ البئرِ مغطَّى على وجهٍ لا يُعرفُ أنَّ هناك بئرًا فسقطَ الداخلُ فأظهر القولين أنَّه يضمنه بالديةِ. فلو أدخل صبيًّا لا يميزُ دارَه فسقطَ في البئرِ المذكورةِ بالقيودِ السابقةِ فإنهُ يجبُ الضمانُ، بل يجبُ القصاصُ عند "الكافي" على ما تقرَّر كما جزم به شيخنا قال: وكذلك المُكْرَهُ، أو حفر بطريقٍ ضيقٍ يضرُّ المارَّةَ فالحكمُ كذلك، أو لا يضرُّ وأذنَ الإمامُ في ذلك فلا ضمانَ، وكذا لا ضمانَ إذا حفرَ بغيرِ إذن الإمامِ، ولكن أقرَّهُ الإمامُ على ذلكَ. ¬
فإنْ حفرَ لمصلحةِ نفسهِ بغيرِ إذن الإمامِ ولم يقرَّهُ على ذلك بعدَ حفرِه فعليه الضمانُ. وإن حفرَ لمصلحةٍ عامةٍ ولم ينههُ الإمامُ عن ذلكَ فلا ضمانَ على الجديدِ، وإنْ نهاهُ كانَ ضامنًا، ذكره أبو الفرج الزَّاز في تعليقهِ، وهوَ ظاهر، وإذا حفرَ في المسجدِ لمصلحةِ نفسهِ بإذنِ الإمامِ فعليهِ الضمانُ، وإذا حفرَ للمصلحةِ العامةِ فلا يجوزُ أيضًا، لأنَّ الواقفَ للمسجدِ إنما جعلَهُ لمصلحةِ الصلاةِ، فلا يجوزُ أن يغيرَ بمنفعةِ البئرِ ونحوِها، وإذا تعدَّى بذلك حينئذٍ فعليه الضمانُ. وما تولَّد من جناحٍ إلى شارعٍ فمضمونٌ إن سقطَ الجناحُ أو بعضُه، فإن تولَّدَ منهُ الهلاكُ لا بسقوطه بل لأن شخصًا راكبًا شيئًا عاليًا صدمه، فإنَّهُ لا يكونُ مضمونًا (¬1). قال شيخنا: ولم أرَ مَن تعرَّض لهذه، والقياسُ ما ذكرته. ولو سقطَ من الجناحِ حيوانٌ من فأرٍ ونحوه فما يتولد منه من الهلاكِ لا يكون مضمونًا على صاحبِ الجناحِ، لأنهُ غيرُ الجناحِ، وللحيوانِ اختيار، ولم أر من تعرَّضَ لهذا أيضًا. انتهى. ثم إن سقط الكلُّ فالواجبُ النصفُ، وإن سقطَ الخارج خاصة ضمن الكلَّ، ويجوزُ إخراج الميازيبِ إلى الشارعِ إذا كان الَّذي أخرجَهُ مسلمًا، فأمَّا الذِّمِّيُّ في بلادِ المسلمينَ فإنه لا يجوزُ له أن يخرجَ ميزابًا كما لا يخرجُ جناحًا على الأصحِّ، فلو سقطَ منهُ شيءٌ فهلكَ به إنسانٌ أو مالٌ فقولان: ¬
القديمُ: لا ضمانَ. والجديدُ: يضمنُ (¬1). فعلى هذا إن كانَ الميزابُ كلُّه خارجًا بأنْ سمَّر عليه تعلَّق به جميع الضمان. وإن كان بعضُه في الجدارِ وبعضه خارجًا فإن انكسرَ سقطَ الخارجُ أو بعضُه تعلق به جميعُ الضمان أيضًا. وإن سقطَ كلُّه بأن اقْتُلِع من أصلِهِ، ثلاثة أقوال حكاها أبو حامدٍ المروروذيُّ في "جامعه": أحدُها: يضمنُ جميع ديتِهِ. والثاني: يضمنُ نصفَ ديتهِ. والثالثُ: يضمنُ من الديةِ بقسط الخارجِ من الخشبةِ. مثالُهُ: أن يكونَ طولُ الخشبةِ خمسةَ أذرعٍ، فإن كانَ الخارجُ منها ثلاثة أذرع ضمنَ ثلاثةَ أخماسِ الديةِ. قال الشافعيُّ: ولا أبالي بأيِّ طرفها أصابه؛ لأنه قتله بثقلها. انتهى. والأرجحُ ضمانُ النِّصفِ عَلَى عاقلةِ مَن هوَ مالكٌ لهُ حالةَ الإتلافِ، ولو بنَى جدارَه مائلًا إلى الشارعِ فحكمُهُ حكمُ الجناحِ بالقيودِ السابقةِ فيه، والضمانُ على عاقلةِ مالكه حالة الإتلافِ كما تقدَّمَ، ولو بناهُ مستويًا فمالَ وسقطَ فلا ضمانَ على النصِّ. وإن سقطَ الجدارُ الَّذي مالَ بعد بنائه مستويًا في الطريقِ فتعثَّرَ به إنسانٌ أو ¬
تلفَ به مالٌ فلا ضمانَ على الأرجحِ إذا لم يقصر في رفعِ الآلاتِ الساقطةِ من الجدارِ المذكورِ، فإن قصَّر في رفعِها كانَ ضامنًا لتعدِّيه بالتأخيرِ ولو طرحَ بالطريقِ دونَ العمامةِ على الأصحِّ عندَ شيخِنا. وإذا اجتمعَ سببا هلاكٍ على التعاقبِ فالحوالةُ على الأولِ، مثالُه: حفرَ بئرًا متعديًا أو نصبَ سكينًا ووضعَ آخرَ حجرًا متعديًا، فتعثَّر إنسانٌ بالحجرِ ثم وقعَ في البئرِ، أو على السِّكينِ، وهلكَ، فالضمانُ على واضعِ الحجر إن كان من أهلِ الضمانِ، فلو تعدَّى بحفرِ البئرِ ووضعَ حربيٌّ أو سَبُع الحجرَ فلا ضمانَ على أحدٍ على الصَّحيحِ، فإنْ لَمْ يتعدَّ الواضعُ فالأرجحُ تضمينُ الحافرِ. ولو وضع حجرًا وآخران حجرًا فالضمانُ عليهما نصفان، نصفٌ على الأولِ ونصف على الآخرين خلافًا لما في "المنهاجِ" تبعًا لأصلِهِ، لأنَّ التعثُّرَ إنما كانَ بالحجرينِ، فالتوزيعُ عليهما لأنَّهما اللذانِ لاقيا البدنَ. (¬1) ولو تعدَّى بوضعِ حجرٍ فَعَثَر به رجل فدحرجه فعثرَ به آخر ضمنه المدحرِجُ، ولو عثرَ بقاعدٍ أو نائمٍ أو واقفٍ بالطريقِ لم يتحرَّك مقبلًا، وماتا أو أحدهما فلا ضمان إنِ اتَّسعَ الطريقُ، كذا قيل، وليس هذا الخلاف بمعتمدٍ، بل تجبُ دِيَةُ الواقفِ والقاعدِ والنائمٍ على ظاهرِ النصِّ المعتمدِ (¬2). وإن ضاقَ فصححَ البغويُّ إهدارَ قاعدٍ ونائمٍ لا عاثرهما، وضمان واقف لا عاثرٍ بِه، وإطلاق النص في "الأمِّ" إهدارُ الماشي وضمانُ مَن سواهُ. * * * ¬
فصل
فصل اصطدما بلا قصدٍ فعلى عاقلةِ كلٍّ نصفُ ديةٍ مخفَّفةٍ، فإن كان أحدُهما قويًّا والآخرُ ضعيفًا وحركتُه ضعيفة، بحيث يُقطع أنَّه لا أثر لحركتهِ مع الآخرِ، فإنه يكونُ كالواقِفِ فهَدَر القويُّ وعلى عاقلتِهِ ديةُ الضعيفِ (¬1). وإن تعمَّدا الاصطدامَ فالحاصلُ شبه عمدٍ، فعلى عاقلةِ الآخرِ نصفُها مغلظةً، وعلى كلٍّ كفارتان، إذ لا يتجزَّأ على المشهور، ويجبُ على قاتلِ نفسِهِ على الأصحِّ، وفِي تركة كلٍّ نصف قيمة دابَّةِ الآخر إن ماتَ مركوباهما. وإن كانت الدَّابتان قويتين، فإن كانت إحداهُما ضعيفةً بحيثُ يقطعُ بأنَّه لا أثرَ لحركتها مع قوَّةِ الدَّابَّةِ الأخرَى، فلا يناطَ بحركتها حكم، كغرزِ الإبرةِ في جلد العقب مع الجراحاتِ العظيمةِ (¬2). وحكمُ الصبيينِ والمجنونينِ حكمُ الكاملينِ بالقيدِ السابقِ فيهما وفِي دابَّتيهِما، ولا يتعلق بولي حضانتهما الضمانُ إذا أركبهما على النصِّ، قال الشافعيُّ -رضي اللَّه عنه-: (وَسَوَاءٌ في الِاصْطِدَامِ الْفَارِسَانِ اللَّذَانِ يَعْقِلَانِ وَالْمَعْتُوهَانِ والأعميان وَالْبَصِيرَانِ وَأَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا مَعْتُوهًا وَالْآخَرُ عَاقِلًا أَوْ أَحَدُهُمَا صَبِيًّا وَالآخَرُ بَالِغًا إذَا كَانَا رَاكِبَي الدَّابَّتَيْنِ بِأَنْفُسِهِمَا أَوْ حَمَلَهُمَا عَلَيْهِمَا أَبَوَاهُمَا أَوْ وَلِيَّاهُمَا في النَّسَبِ إنْ لَمْ يَكُنْ لَهُمَا أَبٌ) (¬3). فَإِنْ أركبهما الوليُّ دابةً شرسةً جموحًا تعلَّق به الضمانُ، ولو أركبهما ¬
أجنبيٌّ بغيرِ إذنِ الوليِّ، ومثلهما لا يضبطُ الدابةَ فديةُ مَن أصابا على عاقلةِ الَّذي حملَهُما على النصِّ (¬1)، وعليه ضمانُ مركوبِهما، فإنْ كانَا ممن يضبطها فهو كما لو ركبا بأنفُسِهِما، أو حاملانِ وأسقطتا فالدية كما سبق بالقيودِ السابقةِ فيما إذا اصطدمَا بلا قصدٍ، وعلى كلٍّ أربعُ كفَّاراتٍ أو لا تتجزَّأُ على المشهورِ. وتجبُ على قاتِلِ نفسِهِ على الأصحِّ، وعلى عاقلةِ كلٍّ منهما نصف غرتي جنينيهما. وإذا اصطدمَ عبدانِ (¬2) لا يمتنعُ بَيْعُهما، ولم يكونا مغصوبين ولم يكن هناك وصية بأرشِ ما يجنيه العبدان، أو وقفٌ: فإنهما يهدران حينئذٍ، فإن امتنعَ بَيْعُهما امتناعًا مطلقًا كابني مستولدتين أو موقوفين أو منذورًا إعتاقهما فإنهما لا يهدرانِ، لأنهما حينئذٍ كالمستولدتينِ، والمستولدتانِ إذا اصطدمتا وماتتا فعلى سيدِ كلِّ واحدةٍ فداء النصفِ الَّذي جَنَتْهُ عليه مستولدتُه للآخر، لأنَّ السيدَ باستيلادِها مانعٌ من بيعها، والفداءُ فيها بأقلَّ الأمرين من قِيمتها وأرشِ الجنايةِ. وإن كانا مغصوبين فإنهما لا يهدران بل على الغاصبِ فداءُ كلِّ نصفٍ منهما بأقل الأمرين، ولو لم يكونا مغصوبين ولا أحدُهما، لكن كانَ هناكَ وصية بأرش ما يجنيهِ العبدانِ، أو وقفٌ، فإنه يصرفُ من ذلكَ لسيدِ كلِّ عبدٍ نصفُ قيمة عبدِهِ. ¬
أو سفينتانِ فكدابَّتين، والملاحان كراكبينِ بالغينِ حَصَلَ الاصطدامُ بفعلِهما أو بتقصيرِهما، ونزيدُ هنا إجراءَ حكمِ العمدِ على فعلهما المُفْضِي إلى الهلاكِ غالبًا. ثمَّ إنْ كان فيهما مالٌ لأجنبيٍّ لزمَ كلًّا نصفَ ضمانِهِ. وإن كانتا لأجنبيٍّ لزم كلًّا نصفَ قيمتها، وإن حصلَ بغلبةِ الريحِ بلا تقصيرٍ، فالكلُّ هدرٌ، ولو أشرفتْ سفينة على غرقٍ جازَ طرحُ متاعها بإذن المالكِ الرشيدِ المطلقِ التصرُّف فيما يلقيه، حيث حصل بعضُ هولٍ، لكنه قد تغلبُ السلامةُ منه (¬1). فلو كانت الأمتعةُ لصبيٍّ أو مجنونٍ أو محجورٍ عليه بسفهٍ لم يَجُزْ إلقاؤها في محل الجوازِ، لكن لو كان الوليُّ في هذا المحلِّ على كلِّ أمتعةِ محجورِهِ ورأى أنَّ إلقاءَ بعضِها يسلم به باقيها فيجوزُ لهُ ذلك قياسًا على ما ذكره العبادي فيما لو خافَ الوصيُّ أن يستوليَ غاصبٌ على المالِ فله أن يؤدِّيَ شيئًا لخلاصِه، وقد يغلبُه الهلاكُ ويغلبُ على الظنِّ حصولُ نجاةِ الراكبِ بطرحِ ما ذكر فيجبُ الطرحُ رجاءَ نجاةِ راكبٍ محترمٍ. فلو كان حربيًّا أو مرتدًّا أو زانيًا محصنًا أو من تَحتم قتلُه في قطع الطريق فإنه لا يجوز إلقاءُ المالِ المحترمِ لنجاة الراكبِ غيرَ المحترمِ، ولا يلقي ما لا روحَ فيه لأجل الكلبِ العقورِ والخنزيرِ. وإذا وجبَ الإلقاءُ بالقيد المتقدم فيجبُ إلقاءُ ما لا روحَ فيه لتخليصِ ذي الروحِ المحترمِ، ولا يجوز إلقاءُ الدوابِ إذا أمكن دفعَ الغرقِ بغير الحيوانِ. ¬
وإذا مسَّتِ الحاجةُ إلى إلقاءِ الدوابِّ ألقيتْ لإبقاءِ الآدميينَ المحترمينَ، والعبيدُ كالأحرارِ، ويضمنُ المُلقى من وليٍّ وأجنبيٍّ في محلِّ الوجوبِ، ولو كانتِ الأمتعةُ مرهونةً أو كان صاحبها محجورًا عليه بفلسٍ أو لمكاتب ولم يأذن السيدُ فإنه لا يجوزُ إلقاؤها في محل الجواز، ويجب في محل الوجوبِ (¬1). ويضمنُ الملقى من راهنٍ أو مرتهن، فإن اجتمعَ الراهنُ والمرتهنُ أو السيدُ والمكاتبُ على الإلقاءِ في حالةِ الجوازِ لم يمتنع الإلقاءِ، ومثلُه مالُ العبدِ المأذونِ إذا ركبتْهُ الدُّيونُ لا يجوزُ إلقاؤُهُ في حالةِ الجوازِ إلَّا إنِ اجتمعَ السيدُ والعبدُ والغرماءُ على ذلكَ، ولَوْ قَالَ: ألقِ متاعكَ، هذا -أو كانَ المتاعُ معلومًا عند القائلِ- وأنا ضامنُه أو ضامن له، فألقاهُ ضمنَ ما سمَّاه لهُ من دراهمَ أو غلَّةٍ، فإنْ لم يذكرْ لهُ شيئًا ضمنَ القيمةَ مطلقًا على الأرجحِ من نقدِ البلدِ باعتبارِ حالة القولِ لأجل الهيجانِ خلافًا للبغويِّ وتعذرَ ردُّ المثلِ لأنَّه لا مثلَ لمشرفٍ على الهلاكِ إلَّا مشرف على الهلاكِ، وذلك بعيدٌ، فتعيَّنتِ القيمةُ (¬2). وإنِ اقتصرَ على قولهِ: "ألقِ متاعكَ في البحر"، ولم يقل: "وعليَّ ضمانُه"، فألقاه. فقيلَ في وجوبِ الضمانِ خلافٌ، كقولِه: "أدِّ دَيْنِي". وقطعَ الجمهورُ بأنَّه لا ضمانَ، وإنَّما يضمنُ ملتمس مخوفِ غرقٍ، ولم يختص منع الإلقاء بالملقي صاحب المتاعِ. ¬
فرع
ولو عادَ حجرُ منجنيقٍ فقتلَ أحدَ رُماتِه هُدِرَ قسطُه، وعلى عاقلةِ الباقينَ الباقي إلَّا أَنْ يتصوَّر عمدُهم بقتلِهِ فعليهمْ في أموالهم الباقي، أو غير رماتِهِ ولم يقصدوه فخطأٌ، أو قصدوه فعمدٌ. وقيل: إن غلبتْ إصابتُه. وقيل: لا يتصوَّر العمدَ فيه (¬1). فرع (¬2): ديةٌ وبعضها خطأ وشبهُ عمدٍ وغرة يلزم العاقلة تحملًا عن الجاني بشرطِ كونِهم عاقلةً له عندَ رميهِ وجرحهِ، وسبب وشرط مضمنين مستمرًا ذلك إلى الفوتِ، فإنْ تبدَّلَ حالُه دونهم وعادَ أولم يَعُدْ عقلوا عنهُ ما وجبَ، قبلَ التبدُّل إنْ لم يَصِرْ نفسًا. وإن صار نفسًا عقلوا عنه الديةَ إنْ كانَ قبلَ التبدلِ وجب أو أكثر منها، وإن كانَ الواجبُ دونها بالزائدِ في مالِهِ، وإن تبدلتِ العاقلةُ بعد الرمي وقبلَ الإصابةِ لم يتحمَّل واحدة منها، وإن تبدَّلتْ بعد الجرح حملتِ الأولى الديةَ، إنْ كانَ في زمانها صدرَ ما يقابلُ بذلكَ، أو أزيد منه، وإلَّا فتحمل قدرَ الأرشِ في ذمتها والزائد على الجاني إلَّا فيما إذا حَزَّ فما سَبَقَ على الأولى والباقي إلى تمامِ الديةِ على الثانيةِ خلافًا لما في النهايةِ والبيانِ من أنَّ جميعها على الثانيةِ. والعاقلةُ هم عصبتهُ المذكورُ المكلفونَ إلَّا أصلَ الجاني وفرعِهِ أو أصلَ مَن ثبتَ لهُ الولاءُ أولًا وفرعه. ويقدمُ الأقربُ، فإن بقيَ شيءٌ فمن يليهِ، وبدل بأمرين على بدل ¬
بأحدهما (¬1). وأمَّا ذوو الرحمِ معنى المتولي أنَّا إذا قلنا بتوريثهم فيتحملونَ عندَ عدمِ العصباتِ كما يرثونَ عندَ عدمهم، وقد ذكرَ شيخُنا في "الفرائضِ" حكمَ توريثهم فلينظر منه. ويعتبر هنا أن يكونوا ذكورًا كما هُوَ أصلُ البابِ، ثم العتقُ إذا لم يكن للجاني عصبات من النسبِ، أولم يكن منهم كفايةٌ، وتتحمَّلُ عصبةُ العتيقِ معه عندَ عجزِ المعتقِ على النصِّ غيرَ أصلهِ وفرعهِ على مقتضى النصِّ المعتمدِ، ثمَّ معتق المعتقِ، ثم عصبته غير أصوله وفروعه على الأصحِّ، ويدخل بقيتهم معه في حياتِهِ على المذهبِ كما سبقَ، وإلَّا فمعتق أبي الجاني، ثم معتق عصبة الأب غير أصولِ معتق الأبِ وفروعِهِ، وتتحملُ بقيتُهم معه كما سبَقَ، ثم معتق معتق الأبِ، ثم عصبته غير أصوله وفروعه، وتتحمَّل بقيتهم معه كما سبقَ، وهكذا إلى حيثُ ينتهي. وإذَا لم يوجدْ عتقٌ في جهةِ الآباء انتقلنا إلى معتقِ الأمِّ، ثُم إلى عصبته غير أصوله وفروعه، ويتحمل نصيبهم معَ المعتقِ فِي حياتهِ كما سبقَ. وهكذا نقولُ في موالي الجداتِ من جهةِ الأمِّ ومن جهةِ الأبِ وموالي المذكور والمُدلين بالإناثِ كالجدِ أبي الأمِّ، ومَن جَرَى مَجْرَاهُ، وعتيقها يعقله عاقلتها لأن الذكورةَ شرطٌ في التحملِ. ¬
والمعتقون كمعتقٍ فإذا أعتق جماعةٌ عبدًا فجنى خطأً يحملونَ عنهُ تحمل شخصٍ واحدٍ. وكلُّ شخصٍ من عصبة كل معتقٍ غيرَ أصولِه وفروعِهِ يحملُ ما كانَ يحملُهُ ذلكَ المعتقُ، ويحملُ نصيبَهُ عصباته معهُ في حياتِه عندَ العجزِ كما سبقَ. ويعقلُ العتيقُ على ما نصَّ عليه الشافعيُّ -رضي اللَّه عنه- في "الأمِّ" و"مختصرِ المزني"، و"مختصرِ البويطي"، خلافًا لما في "المنهاجِ" تبعًا لأصله من أنهُ لا يعقلُ على الأظهرِ. ولفظه في "الأم" (¬1): (ولا أَجْعَلْ عَلَى الْمَوَالِي مِنْ أَسْفَلَ عَقْلًا بِحَالٍ حَتَّى لَا يُوجَدَ نَسَبٌ وَلَا مَوَالٍ مِنْ فَوْقَ بِحَالٍ ثُمَّ يَحْمِلُونَهُ فَإِنَّهُ يَعْقِلُ عَنْهُمْ لَا لأَنَّهُمْ وَرَثَةٌ؛ وَلَكِنَّهُمْ يَعْقِلُونَ عَنْهُ كَمَا يَعْقِلُ عَنْهُمْ). وفِي "مختصر المزني" (¬2) في باب عقل الموالي: (ولا أحمل الموالي من أسفل عقلًا حتَّى لا أجد نسبًا ولا موالي من أعلى ثم يحملونه لا أنهم ورثته ولكن يعقلون عنه كما يعقل عنهم). وفِي "مختصرِ البويطي": (وإنْ لم يكنْ لرجلٍ موالي من فوق تعقلُ عنهُ وكانَ لهُ موالي في أسفلَ عقلوا عنهُ، ولم أجعلِ العقلَ من قبلِ الميراثِ ولكن جعلتُه لأنَّه يعقلُ عنهم فيعقلونَ عنهُ). فهذِهِ نصوصه في هذهِ الكتبِ، على تحمُّلِ الموالي من أسفلَ عند عدمِ ¬
المتحملين من جهةِ الولاءِ من أعلى. ولما ذكر الشيخُ أبو حامد في تعليقه نص الشافعي في "مختصر المزني" قال: الَّذي نصَّ عليهِ ههنا أنَّهم يتحمَّلون الديةَ، وحكى أبو إسحاقَ في الشرحِ أنَّ الشافعيَّ قال في موضعٍ آخر أنهم لا يعقلونَ. قال الشيخ أبو حامدٍ: ولستُ أدري أينَ قالَ الشافعيُّ هذَا، إلَّا أنَّهُ لا يختلفُ أصحابُنا أنَّ المسألةَ على قولينِ. انتهى. وإذا قُلنا بالمذهبِ المنصوصِ أن العتيقَ يحملُ فإنما يتحملُ بالترتيبِ الَّذي سبقَ في نصِّ "الأمِّ" ولا يأتي في ولدِهِ من الخلاف ما أتى في ولَدِ المولى مِن أعلى ههُنا على أنَّهم يعقلونَ عنه مما يعقلُ عنهم، وهذا معنى (نعم ولد المولى من أسفل)، وأما أصل المولى من أسفل فلا علقة للولاءِ بهِ قطعًا. فإنْ فقد العاقلَ أو لم يفِ فالعقلُ على جماعةِ المسلمينَ كما قالَ الإمامُ الشَّافعيُّ، ثم ينظرُ، فإنْ وُجِدَ لهمْ مالى في بيتِ المالِ من جهةِ الإرثِ ثبتَ التَّحمُّلُ في ذلك المالِ، وكذا فيما يحدثُ من الإرثِ المتعلقِ بجماعةِ المسلمينَ، والظاهرُ أنَّهُ يتعلقُ التحملُ بسهمِ المصالح من الفيءِ والغنيمةِ، ويحتمل خلافه، ولا يتعلق بمال غير ذلك من بيت المال، فإن لم يكن فيه مالٌ يُعقل منه أو كان فيه، ولكن منع المتكلم في بيت المال لظلمِه فإنهُ يؤخَذُ جميعه أو ما يفِي من الضروبِ منْ جماعةِ المسلمينَ الموسرينَ والمتوسطينَ على مُقتضَى مذهبِ الشافعيِّ. وحيثُ تعذَّرَ الاستيعابُ اجتهدَ الإمامُ وضربَ الواجبَ على مَنْ يراهُ على مقتضى التأجيلِ هذا هو الظاهرُ من نصوصِ الشافعيِّ -رضي اللَّه عنه-، والمعنى يساعده
لأنَّ بينَ المسلمِ وبينَ المسلمينَ موالاةً ومناصرةً فتحمَّلوا عقل جنايةِ الخطأِ وشبه العمد في الصورةِ المذكورةِ. وما وقعَ في "المنهاجِ" (¬1) تبعًا لأصلهِ من قولهِ: "فإن فقد فكله على الجاني في الأظهرِ"، فخلاف المعتمد. وأما الذميُّ والمستأمنُ فالحكم فيهما أن الواجب عليهما عند فقد عاقلتيهما الخاصة ويدخلُ كلٌّ منهما في كلِّ سنة في الفاضِلِ عن العاقلةِ الخاصَّةِ ودية النفسِ كاملة في خطأ أو شبه عمد مؤجَّلة على عاقلةٍ وجانٍ ثلاثَ سنين، في كل سنة ثلث دية وذمي منه بناء على الأصح؛ لأنها قدر ثلث دية المسلم، وقيلَ ثلاثًا بناءً على أنها دية نفس امرأة مسلمة في سنتينِ في الأولى ثلث الدية الكاملة، والباقي في الثانية. وتحمل العاقلة العمدَ في الأظهر نفسًا وطرفًا خطأً وشبه عمدٍ، ففِي كلِّ سنةٍ قدرُ ثلثِ الديةِ، وقيلَ كلها في سنةٍ. ولو قتلَ رجلينِ مسلمينِ أو امرأتينِ كذلكَ ففِي ثلاثِ سنينَ؛ لأنَّ كلَّ نفسٍ متميزةٌ عن غيرها كديةِ الواحدِ، وقيل في ستٍّ؛ لأنَّ بدلَ النفسِ الواحدة يضربُ في ثلاثٍ، فيزادُ للأخرى مثلها. والأطرافُ في كلِّ سنةٍ قدرُ ثلثِ الديةِ، وقيلَ كلها في سنةٍ، فإن كانَ الواجبُ قدرَ ثلثِ الديةِ حملته العاقلةُ. وأجلُ النفسِ من وقتِ زهوقِ الروحِ، وأجلُ غيرِ النفسِ من الجنايةِ، فلو قطعَ أصبعه فسرت الجنايةُ إلى كفِّه واندملت فأصحُّ الوجوهِ أنَّ أجلَ أرشِ ¬
الأصبعِ من وقتِ قطعهِ، وأجلُ أرشِ الكفِّ من وقت سقوطِهِ. ولا يعقلُ فقير ورقيقٌ وصبيٌ ومجنونٌ ومسلمٌ عن كافرٍ وعكسه، ولا امرأةٌ ولا خُنثَى مُشكل لاحتمال أن يكونَ امرأةً. والاعتبارُ في الإعسارِ بآخرِ الحول، واعتبارُ وجود هذه الصفاتِ المانعةِ من التحمُّلِ من الرقيقِ ومن بعده إلى الكافرِ من حين الفعلِ. ولو كانَ بعضُهم في أولِ الحولِ كافرًا أو رقيقًا أو صبيًّا أو مجنونًا، وصارَ في آخرهِ بصفة الكمال فلا تُؤخذُ منه حصَّةُ تلكَ السنةِ، ويؤخذُ ما بعدها على أرجحِ الوجوهِ عند شيخِنا خلافًا لما صحَّحهُ في "الروضة" من عدمِ أخذِ ذلكَ منهُ. وإذا بانَ الخنثَى ذكرًا فلا يغرم حصته التي أداها غيره على الأصحِّ خلافًا لما جاءَ في "زيادة الروضة" من الغرم. وأما البعضُ الَّذي أعتقهُ غير مالك الباقي فالظاهرُ أنَّه يتحمَّلُ؛ لأنَّه ناقصٌ بالنسبةِ إلى النصرةِ. وإن أعتقَهُ مالكُ الباقي ولم يسرِ عليه يحمل عنه معتقُه على الأرجحِ بالنسبةِ إلى نصيبِ الحرِّ، ويتحمَّل هو عن معتقه كما تقدَّم. ويعقلُ يهوديٌّ عن نصرانيٍّ وعكسُه، إذا كانا ذِميينِ أو مستأمنينِ، أو أحدُهما ذِميًّا والآخرُ مستأمنًا، فأما الحربيُّ فإنه لا يتحمَّل عن الذِّمِّي ولا عكسه (¬1). * * * ¬
فرع
فرع (¬1): مالُ جناية العبدِ يتعلَّقُ برقبتِهِ، ولو كانَ صغيرًا لا يميزُ، أو مجنونًا ضاريًا أو أعجميًا يرى طاعةَ الأمرِ على الأصحِّ، وهو مقتضى النصِّ خلافًا لما صحَّحه في "الروضةِ" تبعًا للشرحِ، من أنَّ جنايةَ الَّذي لا يميزُ ومن بعدهُ لا تتعلقُ برقبتِهم. ولو كانَ السيدُ هو الَّذي أَمَرَ عبدَهُ وكانَ صبيًّا لا يميزُ، أو مجنونًا ضاريًا، أو أعجميًّا يرى طاعة السيد واجبة في كل شيء، فأتلف شيئًا بأمرِ السيدِ، تعلقتِ الجنايةُ المذكورةُ برقبةِ هذا العبدِ، وسائر أموالِ السيدِ على النصِّ خلافًا لما صحَّحه في "الروضةِ" تبعًا للشرحِ من عدم تعلُّقِ جنايةِ هذا العبدِ برقبتهِ. ولو أمرَ أجنبيٌّ العبدَ الَّذي لا يميزُ ومن بعده فإنه تتعلقُ برقبةِ العبدِ، وبالأجنبيِّ على مقتضى النصِّ خلافًا لما صحَّحهُ في "الروضةِ" فيباع في الجنايةِ بالغًا ما بلغ، فإنْ بقيَ شيءٌ فعلى الأجنبيِّ الأمرُ. وحيث تعلَّقتْ جنايةُ العبدِ برقبته فقط، فلسيدهِ بيعه لمحاولةِ فدائه بالأقلِّ من قيمتِه وأرشِها. وفِي قولٍ قديم بأرشها بالغًا ما بلغ، هذا إذا لم يكن العبد مرهونًا مقبوضًا بالإذنِ. فإنْ كان كذلكَ وأعرف الراهن بأنه جَنَى بعد لزومِ الرهنِ جناية تُوجبُ مالًا وأنكر المرتهنُ ذلك فالقولُ قولُ المرتهنِ بيمينه، فيباعُ في الدين ولا شيءَ على الراهنِ للمُقرِّ لَهُ بالجنايةِ على الأصحِّ، وحكى ابن كجٍّ وجهًا أنَّه يُقبَلُ إقرارُ الراهنِ ويُباعُ العبدُ في الجناية ويغرم الراهن للمرتهن. ¬
ضابط
ولا يتعلق مالُ الجنايةِ بذمةِ العبدِ مع رقتبتِهِ في الجديدِ. ويستثنى من مطلقِ المعيةِ صورةٌ، وهي ما لو أقرَّ السيدُ بأنه جنى على عبدٍ قيمته ألف جنايةَ خطأ، وقال العبدُ قيمته ألفانِ، فنصَّ الشافعيُّ في "الأمِّ" في الإقرارِ أنَّه يلزمُ العبد بعد العتقِ القدرَ الزائدَ على ما أقرَّ بِهِ سيدُه. * ضابطٌ: ليس لنا صورةٌ اجتمع فيه التعلق بالرقبةِ والتعلق بالذِّمَّةِ على المذهبِ إلَّا في هذه الصورة. وتعتبرُ قيمةُ العبدِ وقتَ الجنايةِ على النصِّ، وإنْ كان العبدُ الجاني مكاتبًا وفِي يده مالٌ فدَى نفسه من الَّذي في يده، ويفدِي نفسه بأقلِّ الأمرينِ من قيمتِه وأرشِ الجنايةِ على أظهرِ القولينِ. وإن لم يكن في يدِه مالٌ وسألَ مستحقُّ الأرشِ الحاكم تَعْجِيزَهُ عَجَّزَه ثم باعَ منه ما يوفِي الأرشَ ويبقى الباقي مكاتبًا. فإنْ كانَ الأرشُ يستغرق قيمته باعَهُ. ولو أرادَ السيدُ أن يفديه وتستمرّ الكتابة فله ذلك، وعلى المستحقِّ قبوله. ولو فداهُ ثم جنى ثانيًا سلَّمهُ للبيعِ، أو فداهُ، وكذا لو تكرر ذلك مرارًا مع تخللِ الفداءِ. ولو جنى ثانيًا قبل الفداء باعه فيهما أو فداهُ بالأقلِّ من قيمته والأرشِ -وفِي قولٍ قديمٍ بالأرشين- إذا لم يمنع من بيعه مختارًا للفداءِ، فإنْ منعَ لزمَهُ أن يفدي كلًّا منهما، كما لو كان منفردًا. ولو أعتقَهُ وهو موسرٌ أو باعه بعد اختيارِهِ الفداء أو قبله فداه حينئذٍ حتمًا بأقلِّ الأمرين، كما تقدَّم، لأنَّه فوت محلَّ حقِّه، وهذا إذا أمكنَ دفعُ الفداءِ. فإن تعذَّر تحصيلُهُ أو تأخَّر لإفلاسِه أو غيبته، فُسِخ البيعُ، وبِيع في الجناية؛ لأنَّ حقَّ المجنيِّ عليه مقدَّمٌ على حقِّ المرتهنِ.
ولو هربَ ولم يعلم سيدُهُ مكانَه، أو ماتَ قبلَ اختيار سيده الفداء فلا شيءَ على سيدِهِ؛ لأنَّ الحق متعلقٌ برقبتِهِ، وقد فاتتْ. هذا إن لم يمنع سيدُه مِن بيعِهِ عندَ الطلب، فإنْ طلبَ المستحقُّ بيعه فمنعه سيدُهُ فعليه فداؤُه حينئذٍ بتعدِّيه بالمنع، ولأَنهُ مختارٌ للفداءِ فمنعه، وإذا علم سيدُهُ مكانَه وأمكنهُ ردَّه فالمتجه وجوبُ الردِّ؛ لأن التسليمَ واجبٌ عليه. ولو اختارَ الفداءَ فالصحيحُ أنَّ له الرجوعَ وتسليمه إذا لم تنقصْ قيمتُهُ بعد اختيارِ الفداءِ، فإن نقصتْ لم يمكنْ من الرجوعِ والاقتصارِ على تسليمِ العبدِ قطعًا؛ لأنَّه فَوَّتَ باختيارِهِ ذلك القدر من قيمته. ولو تأخَّر بيعه تأخُّرًا يضرُّ بالمجني عليهِ، وللسيدِ أموالٌ غيره، فليس له الرجوعُ قطعًا للضررِ الحاصلِ للمجني عليه بالتأخيرِ. وأمَّا أمُّ ولدِهِ التي لا تباعُ فتقدَّر بالأقلِّ من قيمتِها والأرش على أقوى الطريقتين، فأمَّا أمُّ ولدِهِ التي تُباعُ؛ لأنَّه استولدها وهي مرهونةٌ الرهنَ اللازم، وهو معسرٌ، إذا جنتْ جنايةً توجبُ مالًا متعلِّقًا بالرقبةِ فإنه يقدَّم حقُّ المجني عليه على حقِّ المرتهنِ. فإذا قالَ الراهنُ: أنا أفديها على صورة لا يكون بها موسر اليسار انعقدَ به الاستيلادُ في حقِّ المرتهن فله ذلك؛ لأنه حينئذٍ يكون بفدائِها مانعًا للمجني عليه من بيعها فتصيرُ كالعبدِ القنِّ. وإذا فداها استمرَّت مرهونةً، ثم إنْ وفى الدينَ من غيرها نَفَذَ الاستيلادُ حينئذٍ على المذهبِ، وإن بيعتْ في الدينِ استمرَّ عليها حكمُ القنِّ في حقِّ مَن يشتريها، ثم إن عادت للراهنِ نَفَذَ الاستيلادُ على الأظهرِ. وإذا جنتْ أمُّ الولدِ هذه في حالِ كونِها مرهونة جناية، ثم جناية أخرى وهي مرهونةٌ فلا نقول جناياتها كواحدةٍ؛ لأنه يمكنُ بيعها، بل هذه
كالقنِّ يجني جنايةً ثم أخرى قبلَ الفداءِ، فيقطع فيه بأنَّ السيدَ إمَّا أن يسلمها لتباعَ فِي الجنايتينِ، وإمَّا أن يفديها بأقلِّ الأمرينِ من قيمتها وأرش الجنايةِ على ما تقدَّم في القنِّ. وليستْ جنايةُ أمِّ الولدِ التي لا تباعُ كواحدةٍ على الَّذِي أحبه الشافعي صاحبُ، المذهبِ، بل تُفرد كلُّ جنايةٍ بحكمِها، وتعتَبَرُ قيمتُها وقتَ الجنايةِ على الأصحِّ. وحكمُ العبدِ الموقوفِ والمنذورِ إعتاقُه إذا جَنَيَا حكمُ أمِّ الولدِ التي لا تباعُ، ويفدي العبدَ الموقوفَ الواقفُ على أصحِّ الوجوهِ إذا قلنا بالأصحِّ أن الملكَ فيه للَّهِ تعالى، إذا كانَ حيًّا، فإذا كانَ الواقفُ ميتًا فالأرجحُ ما ذكرَهُ في الجُرجانيات أنَّ الفداءَ في تركتِهِ. وأمَّا المنذورُ إعتاقُهُ فإنَّهُ يفدِيه الناذرُ قطعًا لبقاءِ ملكهِ، كالمستولدةِ، فإنْ ماتَ قبلَ أن يعتقهُ كانَ الحكمُ في جنايتهِ كالحكمِ في جنايةِ الموصَى بإعتاقهِ إذا جنى، بعد موتِ الموصي وقبلَ الإعتاقِ. قالَ شيخُنا: والحكمُ فيه أنَّ ذلكَ يتفرَّعُ على أَنْ كَتَبَ الموصي بإعتاقِه لمن، وفيه خلاف؛ فإدنْ قلنَا أنهُ للعبدِ كما هو مقتضى نصِّ "الأمِّ" وقالَ في "الروضة" في الخصيصة الرابعةِ: القرعةُ أنَّهُ المذهب لجنايتهِ في كسبِهِ. وإنْ لم يكُن في يدهِ كسبٌ فيتعينُ هنا أن يعتقَ ويأخذه منه موجَّلًا، ويحتمل الحلول، والحكمُ في العبد المنذور يظهر مما قررناه في الموصى بإعتاقه، ولم أرَ مَن تعرَّضَ لشيء من ذلكَ، وهو من النفائس. انتهى كلامُ شيخِنا. * * *
فصل في الغرة الواجبة بالجناية على الحامل بالجنين المضمون على الجاني الذي ظهر ميتا بتلك الجناية
فصل في الغرَّةِ الواجبةِ بالجنايةِ على الحاملِ بالجنينِ المضمونِ على الجاني الَّذي ظَهَرَ ميتًا بتلكَ الجنايةِ الغرَّةُ لغةً تدلُّ على شرفٍ وتقدُّمٍ، وهي هُنَا للعبدِ أو للأمةِ، كأنَّه عبَّرَ عن الذاتِ كلها بالغرَّةِ. وفِي "الصحيحين" (¬1) وغيرهما أنَّ امرأتينِ من هُذيلٍ رمتْ إحداهما الأخرَى، فطرحتْ جنينَها، فقضَى فيهِ النبيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- بغرَّةِ عبدٍ أو أمةٍ، وفِي حديثِ الشافعيِّ: بغرةِ عبدٍ أو وليدةٍ (¬2)، وفِي روايةٍ في "الصحيحين": رمتْهَا بحجرٍ فأصابَ بطنَهَا (¬3)، وفِي روايةٍ: قضَى في جنينِ امرأةٍ من بني لحيان بغرَّةِ عبدٍ أو أمةٍ (¬4)، وللمغيرةِ بن شعبةَ في ذلكَ حديثٌ في "الصحيحين" (¬5) وغيرهما، ولحمْلِ بن مالك في ذلك حديثٌ رواهُ الشافعيُّ (¬6) وغيره. ¬
وأما الأحاديثُ التي جاءَ فيها عبدٌ أو أمةٌ أو فرسٌ أو بغلٌ فالمحفوظُ خلافها، وفيها مرسلٌ، وأحاديث مائةُ شاةٍ أو مائةُ وعشرون شاةٍ ضعاف، وحديث خمسمائة شاةٍ خطأ. ومَن جنى غير حربي ولو بتخويفٍ على حاملٍ بجنين مسلم بتبعية أحدِ أصولِهِ، فلا يتصوَّر هنا تبعية السابي ولا الدار، حر ولو بإعتاقِهِ دونَ أمِّه، أو مَن وطئ بظن أن أمته حُرَّةٌ ظهر وقد بدا فيه التخطيط ففيه الغرةُ الكاملةُ. وما ذُكِرَ في جنينِ الحربيةِ أنهُ لا يجب فيه شيءٌ وكذا لو أسلمتْ قبل الإجهاض محلُّه ما إذا لم يكنْ جنينُها مسلمًا بتبعيَّةِ أصل له، وكذلك تجبُ الكاملة في حملِ الذميةِ المحكوم بكفره إذا أسلمتْ قبلَ إجهاضِهِ، كذا جزمُوا به، وقياس مقالة ابن الحداد في المشركةِ يحصلُ فيها عتقٌ من اعتبار حالةِ القربِ أن لا تجب الكاملةُ هنا، وله نظيرٌ في تحمُّلِ العاقلةِ عند انجرار الولاءِ يشهدُ لما قرَّرناهُ. وأمَّا الجنين اليهوديُّ أو النصرانِيُّ تبعًا لأبويه حيثُ لا حرابة، فالصحيحُ يجبُ فيه ثلثُ غرَّةِ المسلمِ، وفِي وجهٍ غرةٌ كاملةٌ؛ لإطلاقِ القضاءِ في الجنينِ: وفِي وجهٍ لا يجب فيه شيءٌ. ولو كانَ أحدُ أبويه نصرانيًّا والآخرُ مجوسيًّا فهو كالجنينِ النصرانيِّ على النصِّ. ومَنْ أحدُ أبويهِ ذميٌّ والآخرُ حربيٌّ تجبُ فيه غرتُه على الأصحِّ. وفِي الرقيقِ عُشرُ قيمة الأمِّ أكثر ما كانتْ من حينِ الضربِ إلى الإجهاضِ على النصِّ لسيدِهِ، فلو كانتْ مقطوعةً والجنينُ سليمًا وعكسه قوِّمت سليمةً، فإن جنى سيدها عليها وهي حاملٌ مِن غيرِه، ثم عتقت ثم ألقتِ الجنينَ لم
يجب شيء على السيدِ على الأصحِّ. وسواءٌ انفصلَ الجنينُ ميتًا بجنايةٍ في حياةِ أمِّه أو بعد موتِها بجنايةٍ في حياتها تجبُ فيه الغرةُ، بخلافِ ما إذا ضربَ بطن امرأة ميتةٍ فانفصلَ منها جنينٌ ميتٌ فإنهُ لا غرَّةَ فيه على الأرجحِ، كما قاله البغويُّ. وإنْ ماتَ حينَ خرج أو دام ألمه فماتَ ففيه الديةُ الكاملةُ، وإن لم يظهرْ منه شيءٌ، ولم ينفصلْ، لم يجب شيءٌ، وإن انفصلَ حيًّا وبقيَ زمنًا بلا ألمٍ، ثم ماتَ فلا شيءَ، ولو ألقتْ جنينينِ ميتينِ برأسينِ وبدنينِ منفصلينِ ففيهما غرتانِ، أو ثلاثةٌ فثلاثةٌ، وهكذا، فلو ألقتْ حيًّا وميتًا، ومات الحيُّ من تلك الجنايةِ وجبَ له ديةٌ كاملةٌ، وغرةٌ للميتِ، ولَو ألقتْ يدًا أو رجلًا ولم تُلقِ بعدها الجنينَ فغرةٌ، فلو ألقت جنينًا بعد ذلك فقيد ذلك العضو وألقته ميتًا بعد الاندمالِ وزوالِ ألمِ الضربِ بها فنصفُ غرة. وإن خرجَ حيًّا وماتَ بعد الاندمالِ أو عاش فالأرجحُ وجوبُ نصفِ غرَّةٍ، وإن انفصلَ الجنينُ قبل الاندمالِ حيًّا ثم ماتَ من الجنايةِ ففيه ديةٌ، ويدخلُ فيها أرشُ اليدِ، وإن عاشَ فالأرجحُ وجوبُ نصفِ غرَّةٍ إلَّا إذا أسقطت اليدَ عقبَ الضربِ، وأسقطت عقبه الولدَ حيًّا فإنَّه يجبُ نصف الدية. ولو ألقتْ لحمًا قال القوابلُ فيه صورةٌ خفيَّةٌ فلا غرَّةَ فيه على النصِّ، وفِي قولٍ: تجب غرةٌ إذا قلن: لو بقيَ لتصوَّر، والمعتمدُ عدمُ الوجوبِ. والغرَّةُ عبدٌ أو أمةٌ مميزٌ بسبع أو ثمانٍ، لا قبل السبعِ على النصِّ، مسلمٌ سليمٌ من عيب مبيع، والنصُّ قبول كبيرٍ لم يعجز بهرمٍ، وبشرط بلوغ قيمة الغُرَّة نصفُ عشرِ الديةِ الكاملةِ على النصِّ، فإن تعدَّتْ فخمسةُ أبعرةٍ، وفِي قولٍ لا يُشترطُ، فإذا فقد قيمتها.
فرع
فرع: يجبُ بالقتلِ كفَّارةٌ، وإنْ كانَ القاتلُ صبيًّا ومجنونًا، وعبدًا، وذميًّا، وعامدًا أو مُخطئًا، ومُتسببًا، فَقَتَلَ مسلم ولو بدارِ حربٍ. ومَنْ قَتَلَ بالشرطِ من حَفْرٍ وبهيمةٍ ونحوهما وذميٍّ ومستأمنٍ وجنينٍ وعبدِ نفسِهِ ونفسِهِ، وقيل: لا يجبُ في نفسهِ، ويجبُ فيمن قتله بإذنهِ. ولا تجبُ في المرتدِّ، ولو قتلَهُ مرتدٌ مثلُه، ولا في امرأةٍ وصبيٍّ مجوسيينِ، وباغٍ ولو في غير القتال معَ وجودِ المنعةِ والتأويلِ على النصِّ، وصائل ومقتص منه، وعلى كلٍّ من الشركاءِ كفارةٌ على المنصوصِ. * * *
باب دعوى الدم والقسامة والشهادة على الدم
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ بابُ دعوى الدَّمِ والقسامةِ والشهادةِ على الدمِ القسامةُ مشتقَّةٌ من القسمِ، وسميتْ بها لكثرةِ القسمِ فيها، قاله الجرجانيُّ، وهي بفتحِ القافِ. قال الجوهريُّ وابنُ فارسٍ: هي اسْمُ الأيمانِ؛ لأن في روايةٍ: "تحلفونَ خمسينَ يمينًا قَسَامةً تستحقُّونَ بها" وقالَ القاضي أبو الطيبِ وغيرُه: هي اسمٌ للحالفينَ. وهو ما ذكرَهُ الأزهريُّ والرافعيُّ عن أهلِ اللغةِ. قالَ القاضي أبو الطيبِ وغيرُه: والفقهاءُ يسمُّون الأيمانَ قسامةً. قال صاحبُ "الفائقِ": وجاءتْ على بناءِ الغرامةِ والحمالةِ لاشتراكِهم في القسمِ. ورَوَى الدارقطنيُّ (¬1) والبيهقيُّ (¬2) عن عمرو بن شعيبٍ عن أبيهِ عن جدِّه أنَّ ¬
رسولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "البينةُ على المدَّعِي واليمينُ على مَن أنكرَ إلَّا في القسامة" وفِي إسنادِهِ ضعفٌ، لكنْ قالَ ابنُ عبدِ البرِّ: إسنادُهُ لينٌ فخففَ أمرهُ. وأوَّلُ مَن قضى بِها في الجاهليةِ الوليدُ بنُ المغيرةِ، كما قالَهُ ابنُ قتيبةَ، وأقرَّهُ الشارعُ في الإسلامِ. يشترطُ أن يفصلَ ما يدعِيه من عمدٍ وشبهِ عمدٍ وخطأٍ وانفرادٍ وشركةٍ، فإنْ أطلقَ استفصلَهُ القاضي على النصِّ استحبابًا، وقيلَ يعرضُ عنهُ، ويشترط أن يُعَيِّنَ المدَّعَى عليهِ، فلو قالَ: قتلَهُ أحدُ هؤلاءِ العشرةِ ولا أعرفُ عَيْنهُ فتسمعُ الدعوى على الأصحِّ للحاجةِ، ولا يحلفهم القاضي على الأصحِّ للإبهامِ، ويجري الوجهانِ في دعوى غصبٍ وسرقةٍ وإتلافٍ وأخذِ الضالَّةِ. والضابطُ بجريانها أن يكونَ سببُ الدعوى قد يخفى متعاطيه على المستحقِّ؛ لأنَّه مما ينفردُ به المُدَّعى عليه. وشرطُ سماعِ الدَّعوى أن تكونَ مِن مكلَّفٍ ملتزمٍ، وتسمعُ دعوى المعاهَدِ وإن لم يكنْ ملتزمًا إذا ادَّعى بمالٍ استحقَّه على مسلمٍ أو ذميٍّ أو مستأمنٍ مثله، أو ادعى دمَ مورثه الذمي أو المستأمن. وتُسمع دعوى الحربيِّ وإن لم يكنْ ملتزمًا للأحكامِ، فيما إذا اقترضَ منه حربيٌّ شيئًا أو اشتراهُ منه ثم أسلمَ المعترض أو المشتري، أو دخلَ إلينا بأمانٍ فإن المنصوصَ المعتمدَ أن دَيْنَ الحربيِّ باقٍ بحالِهِ. ولو اقترضَ منهم مسلمٌ في دارِ الحربِ شيئًا أو اشتراهُ ليبعثَ إليهِم ثمنه أو أعطوهُ شيئًا ليبيعَهُ في دارِ الإسلامِ ويبعثه إليهم، فإنَّهُ يلزمه ذلكَ، وحينئذٍ فتسمعُ الدَّعوى من الحربيِّ، لكنْ يكون في أمانٍ بطلب ذلك فإنَّهُ لا يبطلُ حقه من ذلكَ.
وشرطُ المُدَّعَى عليه أن يكونَ مكلفًا فلا تُسمع الدعوى على صبيٍّ ومجنونٍ، وتسمعُ على المحجورِ عليه بالفلسِ والسَّفهِ والرقِّ، وتسمعُ الدعوى على المستأمنِ وإن لم يكنْ ملتزمًا للأحكامِ كما تقدَّم، وتسمعُ الدعوى على الحربيِّ إذا صدرَ منهُ الإتلافَ في حالِ التزامِهِ. وإذا ادَّعى انفراده بالقتلِ، ثم ادَّعى على آخر لم تسمعِ الثانيةُ إذا لم يصدقْهُ الثاني، فإنْ صدَّقهُ الثاني سمعتِ الدعوى على الثاني، ويؤاخذُ المقر، ويُعمل بمقتضى إقراره على الأصحِّ. ثم إن لم يقسم في الدعوى الأولى فلا يمضي حكمها، ولا يُمَكَّنُ من العودِ إليها، وإن مضى حكمها والحكمُ بالمال، فإن وجد منه ما يرفع الأولى كقوله: "ليس الأول قائلًا"، فإنَّهُ يردُّ المالَ المأخوذَ على مستحقهِ. وإنْ وجدَ منه أنَّ الثاني شريك فيرتفعُ ذلك من أصلِهِ، وتنبني قسامةٌ على الاشتراكِ الذِي ادَّعاهُ آخرُ كما هو قياسُ البابِ. وإن ذكر عمدًا ثم وصفَهُ لغيره لم يبطلْ أصلُ الحقِّ في الأظهرِ، ولا يحتاجُ إلى تجديدِ دَعْوَى في الأصحِّ. ثم إنْ فسَّر العمدَ بالخطأ أو بعمدِ الخطأ فهل يقسم أم لا؟ فيه خلافٌ، قال شيخُنا: والذي عندَنا أنَّه تترتبُ صورةُ العدول منَ العمدِ إلى الخطأِ على صورةِ العدولِ من العمدِ إلى عمدِ الخطأ فإنْ قُلنا هناكَ لا يقسمُ، فهنا أوْلَى، وإنْ قُلنا هناكَ يقسمُ، فههنا وجهانِ؛ لأنَّ العمدَ قدْ يلتبسُ بعمدِ الخطأِ، بخلافِ الخطأِ المحضِ، والأصحُّ أنَّهُ يقسمُ لاشتراكِهما في الرجوعِ مِن الأغلظِ إلى الأخفِّ. انتهى. وتثبتُ القسامةُ في القتلِ بمحلِّ لوثٍ، وهي قرينةٌ تغلبُ وتوقعُ في القلبِ
صدقَ المُدَّعِي، فإنْ وجدَ قتيلٌ أو بعضُه إذا تحققَ موتُه في محلِّةٍ أو قريةٍ صغيرةٍ لأعدائِه أو أعداءِ قبيلتِه أو تفرَّقَ عنهُ جمعٌ يعتبرُ أَنْ يكونوا على وجهٍ ينحصرُ قبلَ القتيلِ فيهم، وإنما تثبتُ القسامةُ بذلكَ حيثَ لم يعرفْ مَن قتلَهُ ببينةٍ أو بإقرارٍ أوْ بعلمِ الحاكمِ. وأمَّا إذا وقعَ في الشبه العامِ والخاصِّ أنَّ زيدًا قتلَ فلانًا فهذا لا يثبتُ به عليهِ القتلُ ولكنَّه يكونُ لوثًا في حقِّه. ولو تقابلَ صفَّانِ لقتالٍ، وانكشفوا عن قتيلٍ فإنِ التحمَ قتالٌ كانَ لوثًا في حقِّ الصفِّ الآخرِ لأنَّه يغلبُ عندَ التحامِ القتالِ أنَّ أهلَ كلِّ صفٍّ يطلبونَ قتلَ الآخرينَ، فإذا تفرَّقُوا عن قتيلٍ كان لوثًا في حقِّ الطالبينَ. وإنْ لم يلتحمِ القتالُ فهو لوثٌ في حقِّ أهلِ صفِّه إذا لمْ يترامَى الصفَّانِ، فإنْ ترامَى الصفَّانِ وكان ينالُه رَميُ أضدادِهِ فإنَّه يكونُ لوثًا في حقِّ أضدادِه. وقولُ عدلٍ فيما لا يثبتُ بشاهدٍ ويمين لوث، وكذا قولُ نساء وعبيدٍ بشرطِ التفرُّقِ على النصِّ، وليس قولُ فسقةٍ وصبيان وكفارٍ لوثًا في الأصحِّ. ولو ظهرَ لوثٌ فقال أحدُ ابنيهِ: قتلَهُ فلانٌ، وكذَّبَهُ الآخرُ، وقد ثبتَ اللوثُ بالشاهدِ الواحدِ بعد الدعوَى، والحالُ أنَّ المدعي قتلُ شبه عمدٍ أو خطأ، فلا يبطلُ هذا اللوثُ بتكذيبِ أحدِ الولدينِ قطعًا، بناءً على أن شهادة العدلِ الواحدِ لوثٌ، ولو ثبتَ اللوثُ في حقِّ أهلِ المحلة أو الجماعةِ كما تقدَّم واتفقَ الأخَوانِ على ذلك، ولكن عيَّن الذي كذَّبَ أخاهُ آخرُ، وقالَ: هذا هو القاتلُ. ولم يكذِّبْهُ أخوهُ فيما قَالَهُ، فإنَّهُ لا يبطلُ حقُّ الذي كذَّب أخاهُ من الذي عيَّنَهُ لأنَّ المعنَى المقتضي لإبطالِ القسامةِ أنَّ اللوثَ قد انخرمَ الظنُّ به، وإنما انخرمَ الظنُّ في المعينِ لا في أصلِ اللوثِ، لاتفاقِ الأخوينِ على
اللوثِ الثابتِ بالنسبة إلى أهل المحِلَّةِ أو الجماعةِ، ولا سيما إذا كان للقتلِ المدعى به شبهُ عمدٍ أو خطأَ، وكانت عاقلةُ المعينين واحدة، كأب وابن، اختلف الوارثان في تعيينهما من أهلِ المحلةِ والجماعةِ. وإذا كذَّبه الآخرُ ولم يثبتِ اللوثُ بشاهدٍ واحدٍ بعد الدعوَى ولا يثبتُ الموتُ في حقِّ أهلِ المحلةِ أو الجماعةِ على ما تقدَّمَ، فلا يبطلُ اللوثُ أيضًا على أصحِّ القولينِ؛ لأنَّ الشافعيُّ قطَعَ بهِ في موضعِ منَ "الأمِّ" و"مختصر المزنيِّ" واختاره المزنيُّ، وقدمهُ الشافعيُّ في كلِّ موضعٍ، وصححهُ البغويُّ، والدليلُ يعضدهُ، فهو المعتمدُ خلافًا لما في "المنهاجِ" تبعًا لأصله من تصحيح بطلان اللوثِ. وقيل: لا يبطلُ اللوثُ بتكذيبِ فاسقٍ. ولو قالَ أحدُهما: قتلَهُ فلانٌ وآخر لا أعرفهُ، وقال الآخر: قتلهُ فلانٌ وآخرُ لا أعرفُه، حلفَ كلّ منهما على ما عيَّنُه وله ربعُ الديةِ، ولو ظهر لوثٌ تأجَّلَ قبلَ دونَ عمدٍ وخطأ، وفصل الولي سمعتِ الدعوى بلا خلافٍ، وأقسم قطعًا، ومتَى لم يفصل لم تسمعِ الدعوَى وتثبتُ القسامةُ، فإذا حلفَ الوليُّ غرَّمنا الجاني الديةَ مخففةً مؤجَّلةً في ثلاثِ سنينَ؛ لأنَّ قتلَ العمدِ لم يثبُتْ ولا شبه العمدِ، والمخففةُ أقلُّ ما يجبُ، فألزمناهُ. قالَ شيخُنا: ولم أرَ أحدًا حرَّرَ هذا الموضعَ علَى ما ينبغي. انتهى. ولا يقسمُ في طرفٍ وإتلافِ مالٍ إلَّا في قتلِ عبدٍ على المذهبِ، فلو جرحَ وهو عبدٌ ثمَّ أعتقَ وماتَ حرًّا ثبتتِ القسامةُ للسيدِ قطعًا، والقسامةُ أن يحلفَ الورثةُ أو السيدُ أو هُما على قتلٍ ادَّعاه خمسين يمينًا، وكذا الحكم لو ازدحمَ جماعةٌ ومنهم حاملٌ فأجهضتْ جنينًا فللمستحقِّ بالغرَّةِ أن يحلفَ كما صرَّح به الماورديُّ، وهو مقتضى كلامِ غيرِه، ولا يسمَّى هذا قتلًا، وإنما
ضابط: ليس لنا موضع تثبت فيه القسامة في غير القتل إلا في هذا الموضع.
يطلقُ القتلُ على مَن تحقَّقت فيه الحياةُ المستقرَّةُ، فجنَى عليه جانٌ فأزهقَ روحَه، وأمَّا الجنينُ فإنَّهُ لا تتحقَّقُ حياتُه، وقد لا يكونُ نفختْ فيه الروحُ. والغرَّةُ واجبة وتدخلُها القسامةُ، وإن لم يكنِ الحاصلُ قتلًا. * ضابطٌ: ليس لنا موضعَ تثبتُ فيه القسامةُ في غيرِ القتلِ إلَّا في هذا الموضعِ. ولا يشترط موالاتها على النصِّ ولو تخلَّلها جنون أو إغماءٌ بنى إذا أفاقَ، ولو ماتَ لم يبنِ وارثُه على المنصوصِ. وإذا كانَ للقتيلِ ورثةٌ وزعتِ الأيمانُ بحسبِ الإرثِ المحتملِ، فإذا كان الورثةُ ابنًا وولدًا خُنثَى، حلفَ الابنُ ثلثي الخمسين، وأخذ النصفَ، ويحلف الخنثى نصف الخمسينَ، ويأخذ الثلث. ويوقف الباقي، والضابطُ لذلكَ أَنْ يؤخذَ بالاحتياطِ في الطرفينِ؛ الحلف بالأكثر والأخذُ بالأقلِّ، ثم توزَّعُ الأيمانُ بحسبِ الإرثِ، هل هو بحسب الأسماءِ أم بحسبِ السهامِ يظهرُ أثرُه في العولِ، فإذا كانت المسألةُ عائلةٌ من ستةٍ إلى عشرةٍ مثلًا كزوج وأم وأختين لأب، وأختينِ لأمٍّ، فهل يحلفون على أسماء فرائضهم، فيحلف الزوجُ نصف الخمسين، والأمُّ سدسها بجبر المنكسرِ، والأختان للأبِ ثلثيها، والأختان للأم ثلثها بجبر المنكسرِ، أو يحَلفُ كل واحدٍ منهم على نسبةِ سهامِه، فيحلفُ الزوجُ ثلاثةَ أعشار الخمسين، والأمُّ عشر الخمسين، والأختان للأبِ خمسيها، والأختان للأمِّ خمسها؟ فيه وجهان، ذكرهما الماورديُّ وصحَّحَ الثاني. وقيل: يحلفُ كلٌّ خمسين، ولو بكل أحد مما يحلف الآخر خمسين؛ لأنَّ حقَّه لا يثبتْ بأقلَّ من ذلك، ولو غابَ حلفَ الآخرُ خمسين وأخذَ حصَّته من
الديةِ، وإلَّا صبرَ إلى حضورِ الغائبِ. والمذهبُ أنَّ يمينَ المدعى عليهِ بلا لوثٍ خمسون وكذا يمينٌ مع شاهدٍ بلا لوثٍ في الأظهرِ، وتجبُ بالقسامة الكاملةِ ولو بالاحتمالِ في قتلِ خطأ أو شبهَ عمدٍ ديةٌ على العاقلةِ، وفِي عمدٍ على المقسم عليه، وفِي القديم: بالكاملةِ ممن تحققَ مدخله قصاصٌ، حيث تجبُ لو ثبتَ بغيرِها، ويقتلُ من الجماعةِ واحدٌ، ولو ادعى عمد الموتَ على حاضرٍ شريك لاثنينِ غائبينَ أقسم عليهِ خمسين وأخذَ منهُ ثلث الديةِ، فإن حضرَ آخرُ ادعى عليهِ وأقسم عليه خمسينَ يمينًا على النصِّ، وعلى مقابله خمسًا وعشرين، فإذا حضرَ الثالث ادعى عليه وأقسمَ خمسين، وعلى مقابله سبع عشرة. وإن كان ادعى على الحاضر والغائبينَ وهما بمسافةٍ سمع الدعوى عليهما أقسمَ على الجميع خمسين، ولا يعيد شيئًا لمن حضرَ، ومن استحقَّ بدلَ الدَّمِ منَ مسلمٍ أو كافرٍ عدلًا كان أو فاسقًا، محجورًا عليه أو غيره أقسم. ويقسمُ السيدُ إذا قتلَ عبده على المذهبِ. ويقسمُ المكاتبُ لقتل عبده ولا يقسم سيده؛ لأنَّ المكاتبَ استحقَّ بدل العبدِ ليستعينَ بالقيمة على أداءِ النجومِ (¬1)، ومن ارتدَّ بعد استحقاقِه بدل الدمِ مالًا بطل تأخيرُ أقسامِهِ. والأولَى أن لا يعرضَ الحاكمُ عليه القسامةَ إلَّا بعد عودِه إلى الإسلامِ؛ لأنَّه لا يتورَّع في الردَّةِ عن الأيمانِ الكاذبةِ، فإن أقسم في الردَّةِ صحَّ على المذهبِ ومن لا وارث له لا قسامة فيه. ¬
فرع
وإن كان هناك لوثٌ إذ تحليفُ بيت المال لا يمكن، لكن ينصبُ الحاكمُ مَن يدعي عليه ويحلِّفه، فإنْ نَكل ففِي القضاء عليه بالنكولِ خلافٌ يأتي بيانه إن شاءَ اللَّهُ تعالى. * * * فرع: إنما يثبتُ موجبُ القصاصِ بإقرارٍ، أو عدلينِ، أو علم الحاكمِ بمشاهدتِه ما يوجبُ القصاصَ والمِلكَ بذلك، أو برجلٍ وامرأتينِ، أو يمين. وتتعددُ الأيمانُ في الجراحِ كما تتعددُ في القتلِ على المنصوصِ، ولو عفا عن القصاصِ عفوًا يوجبُ المالَ، وقال: اقبلوا مني رجلًا وامرأتينِ لم يقبلْ على النصِّ. ولو شهدَ هو وهما بهاشمة قبلها إيضاحٌ من جنايةٍ واحدةٍ لم يجب أرشها على المذهبِ. ويجب أن تكونَ الشهادةُ بالقتلِ مفسَّرةً مصرِّحةً بالمقصودِ، فلو قالَ الشاهدُ: ضربَه بسيفٍ فجرحَه فماتَ لم يثبتِ القتلُ حتَى يقولَ: فماتَ منهُ، أو: فقتلهُ أو ضربهُ بالسيفِ فأنهرَ دمهُ وماتَ مكانهُ. كما نصَّ عليه في "مختصر المزنيِّ"، فجعلَ: "ومات" مكانَهُ كقولِه "ماتَ من جراحتِه". ولو قال: ضربَ رأسَهُ فأدماهُ أو قال: سالَ دمهُ، تثبت داميةٌ. ويشترط في الموضحةِ: ضرَبَهُ فأوضحَ عظمَ رأسِه. ولو قال: ضربَه فأوضحَ عظمَ رأسه، ولو قال: ضربه فأوضحَ رأسَه، كان ذلك كافيًا على المنصوصِ في "الأمِّ" و"مختصرِ المزنيِّ" وهو الذي جرى عليه الجمهور خلافًا لما فِي "المنهاج" تبعًا لأصلِه من عدم الاكتفاء به. ويجب بيانُ محلِّها وقدرِها على ما نصَّ عليه في "الأمِّ" ليمكن قصاصٌ،
فإن عجزوا عن التعيين فلا سبيل إلى القصاصِ، ولكنه لا يسقط بمجردِ ذلك. ويجب أرشُ الموضحةِ عند العجزِ عن التعيين. ويثبتُ السحرُ بإقرارِ الساحرِ لا ببينةٍ، ثم إنْ قالَ: قتلتُه بسحري وسحري يقتلُ غالبًا، فقد أقرَّ بقتلِ العمدِ. وإن قال: وسحري يقتل نادرًا، فهو إقرارٌ بشبه عمدٍ. وإن قال: أخطأتُ من اسم إلى غيره، فهو إقرار بالخطأ، ثم دية شبه العمدِ ودية الخطأ المخففة كلاهما في مال الساحرِ، ولا تطالبُ العاقلةُ بشيءٍ إلَّا أن يصدِّقوهُ. ولو قالَ أمرضتُه بسحري ولم يمتْ به، بل بسحرٍ آخرَ، ولم يتعرَّض للاندمالِ، فالنصُّ أنَّه يقسم الوليُّ خمسين يمينًا ويأخذُ الديةَ. وإن تعرَّضَ للاندمالِ دخلتِ البينةُ في أنَّه لم يزل ضمنًا إلى أَنْ ماتَ، ويحلفُ الوليُّ أنَّه ماتَ من سحرِ الساحرِ. ولو ادَّعى جرحًا وشهد له وارثه غير الأصولِ والفروعِ، فإن شهد بعد الاندمال قبلت شهادتُه. وإن شهدَ قبلَه لم تقبلْ، ولو أدى أثنان محجومَانِ عن الوراثةِ لجرح قبلَ الاندمالِ ثم صارا وارثينِ قبل أن يقضي القاضي بشهادتِهما فلا تقضى. وإن كانَ بعده لم ينقضِ القضاءُ. وإن شهدَ بمالٍ في مرضِ موتِه قبلَ في الأصحِّ، ولا تقبلُ شهادةُ العاقلةِ بفسقِ شهودِ قتيلٍ يحملونَه، ولو شهدَ اثنانِ على اثنينِ بقتلِه فشهدا على الأولينِ بقتلِه حُكِم بشهادةِ الأولينِ الصادرةُ بعدَ الدَّعوى الصحيحةِ. وإن لم يصدقْهُما الوليُّ خلافًا لما في "المنهاجِ"، لأنَّ دعواهُ القتل على المشهودِ عليهما وطلبُ الشهادةِ بذلك من الشاهدينِ كافٍ في جوازِ الحكمِ.
وإن صدقَ الوليُّ الآخرينَ أو صدقَ الجميعَ أو كذب الجميع بطلت الشهادتان، ولو أقرَّ بعضُ الورثةِ بعفو بعضِهم عن القصاصِ سقطَ كلُّه لعدمِ تبعيضِه. وإذا اختلفَ شاهدانِ في زمانٍ أو مكانٍ أو آلةٍ أو هبة فلوثٌ على النصِّ خلافًا لما في "المنهاج". * * *
كتاب اللغة
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ كتاب اللغة هو لغةً: التعدِّي والظلم، سمي البغاةُ بذلكَ لظلمهمْ وعدولِهم عن الحقِّ، وهو جمعُ باغٍ تجاوزَ الحدَّ في الفسادِ، كما يُقالُ: بغتِ المرأةُ أو من الظلمِ، كقوله تعالى: {ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ}. والأصلُ في الباب قولُه تعالى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا} الآية. وفِي الصحيح أن النبيَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- قال لعمَّارٍ: "تقتلك الفئة الباغية" (¬1) وأجمعتِ الصحابةُ -رضي اللَّه عنهم- على قتال البغاةِ. ¬
وتعريفُ البغاةِ في اصطلاحِ العلماءِ أنَّهم: مخالفو الإمامِ العدلِ بخروجٍ عليه وتركِ الانقيادِ لَهُ، أو امتناعِهم من أداءِ حقٍّ يوجبُه عليهم. ومنْ صُورِ البُغاةِ: ما نصَّ عليه الشافعيُّ رضي اللَّه عنه في "الأمِّ" (¬1) و"مختصرِ المزنيِّ" (¬2) الفرقتانِ منَ المؤمنينَ اللتانِ اقتتلتا فأصلحَ بينهما المؤمنونَ غيرهما، ثم بغتْ أحدهُما على الأخرَى، فهي باغيةٌ، ولم تخرجْ على الإمامِ. ويشترطُ في البغاةِ أن تكونَ جماعةٌ لهم منعةٌ وتأويلٌ بُطلانِهِ مظنون، ويشترط في الفرقةِ الخارجةِ على الإمامِ وتريدُ خلعهُ وتزيلُ حكمه وتحكم عليه نصب إمام قطعًا، وأما الفرقةُ الخارجةُ على الإمامِ ولا تريدُ خلعهُ ولا إقامةَ غيرِه فلا يشترطُ فيها نصبُ إمامٍ قطعًا، خلافًا لما في "المنهاجِ". ولو أظهرَ قومٌ رأيَ الخوارجِ كتركِ الجماعةِ وتكفيرِ ذي كبيرةٍ، إن لم يقاتلُوا أو لم يكنْ على المسلمينَ ضررٌ منهم فإنَّهم يُتركون حينئذٍ. وإن تأولوا وقامتْ لهم شوكةٌ ونصَّبوا إمامًا ولم يجعلهم مرتدينَ وقاتلُوا فلهم حكمُ البغاةِ، كما هو مذهبُ الشافعيِّ. وأمَّا الذينَ كابرُوا وليسَ لهم تأويلٌ، وأخذوا الأموالَ وسفكُوا الدماءَ على الوجهِ المذكورِ فحكمهم حكمُ قُطَّاعِ الطريقِ. وتقبلُ شهادةُ البغاةِ إن لم يستحلُّوا دماءَ أهل العدلِ وأموالَهم، ويُقبلُ قضاءُ قاضيهم فيما يقبلُ قضاءُ قاضينا إلَّا أن يستحل الحكمَ بالباطلِ ليتوصَّل بذلك إلى إراقةِ دمائِنَا بالباطلِ، وإتلافِ مالنا ونحو ذلك، ولو وردَ من قاضِي ¬
البغاةِ كتابٌ على قاضينا ولم يُعلمْ أنَّه ممن يستحلُّ دماءَ أهلِ العدلِ أم لا، ففِي قبولِه والعملِ به قولانِ حكاهُما ابنُ كَجٍّ، قال: واختيارُ الشافعيِّ منهما المنعُ، ومحلُّ قبولِ قضاء قاضيهم وكتابه في الفرقةِ التي خرجتْ بشوكةٍ، والتأويلِ وخلعتِ الإمامَ ونصبتْ إمامًا غيره -كما تقدَّم. فأمَّا التي لم تخرجْ على هذا الوجهِ، فإنَّه لا قاضي لهم ينفُذُ حكمُه، ولا يحكَمُ بكتابِه، ولو أقام إمامُ أهلِ البغي حدًّا أو أخذَ زكاةً وجزيةً وخراجًا، وفرق سهم المرتزقة على جندهم صحَّ، فلو فعلَ ذلك آحاد رعيته الذي لم يجعل له ذلكَ أو الفرقة التي منعتِ الواجبَ عليها من غيرِ خروجٍ على الإمامِ لم يقعْ شيءٌ من هذا الموقعِ. ومحل صحَّة أخذهم الزكاةَ ما إذا لم يتعجلوا منهم ذلك قبلَ الوجوبِ، أو تعجلُوا قبلَ الوجوبِ وجاء وقتُ الوجوبِ وشوكتُهم قائمةٌ على ذلك الموضعِ، فأمَّا إذا جاءَ وقتُ الوجوبِ وقد ظَهرَ أهلُ العدلِ عليهم وزالتْ شوكتُهم عن ذلكَ المكانِ، فإنَّه لا يقعُ ما أخذوهُ من المعجَّلِ الموقع، لأنَّ وقتَ الوجوبِ لم يكونوا أهلًا للأخذِ. قال شيخُنا: ولم أرَ مَن تعرَّضَ لذلك. انتهى. وما أتلفهُ باغٍ ممتنعٌ بشوكتِه على عادلٍ بتأويلٍ لا ضمانَ فيه في الأظهرِ، وما أتلفَهُ عادلٌ على باغٍ في غيرِ قتالٍ أو فيه بلا ضرورةٍ ضمن، وإلَّا فلا. وكذا باغٍ بلا تأويلٍ سلف للعادلِ والمتأولِ بلا شوكةٍ يضمنُ، وعكسه ضامنٌ كالقطاع على المذهبِ الذي نصَّ عليه وقال به الجمهورُ. ولا يقاتلُ البغاةُ حتَى يبعثَ إليهم أمينًا فطِنًا ناصحًا يسألهم ما ينقمونَ، فإن ذكروا مظلمةً أو شبهةٍ أزالهَا، فإن أصرُّوا نصحَهُم ووعظَهم وأمرَهم بالعودِ إلى
الطاعةِ، فإن أصرُّوا دعاهُم إلى المناظرةِ، فإنْ لم يجيبوا أو أجابُوا فغُلِبوا أو أصرُّوا مكابرينَ آذنهم بالقتالِ، فإن استمهلوا اجتهدَ وفعلَ ما يراهُ صوابًا. ولا يقتلُ مدبرَهم ومنجيهم وأسيرهم، ولا يطلق الأسيرُ قبلَ انقضاء الحربِ، ولا بعد الانقضاء إذا كانت جموعهم باقيةٌ إلَّا أن يرجعَ إلى الطاعةِ باختيارِه، أو يفرَّق شملهم. وإن أُسرَ نساؤهم وصبيانُهم حُبسُوا إلى انقضاءِ القتالِ ثم يخلَّونَ، وأما العبيدُ والمراهقونَ والنساءُ وإن كانوا يقاتلونَ لا يحبسون كالرجالِ الأحرارِ على مقتضى النصِّ، ويردُّ سلاحُهم وخيلُهم إليهم، إذا انقضتِ الحربُ، وأمنتْ عائلتُهم. وكذا يردُّ إليهم غيرهما من الأموالِ التي ليستْ عونًا لهم في القتالِ. ولا يستعملُ في قتالٍ سلاحُهم وخيلُهم إلَّا لضرورةٍ، ولو وقعتِ ضرورةٌ في غير القتالِ ولم يجدْ أحدُنا ما يدفعُ بهِ عنْ نفسهِ إلَّا سلاحهم أو ما يركبه وقد وقعتْ هزيمةٌ إلَّا خيولهم جازَ الاستعمالُ والرُّكوبُ، ولهُمْ أجرةُ ذلك. كما يجوزُ أكلُ مالِ الغيرِ للضرورةِ، وعلى المضطرِّ بذل عوضه لمالكِه، ولا يقاتلونَ بما يعظُمُ أثرُه كالنارِ والمنجنيقِ وإرسالِ السيولِ الجارفةِ إلَّا لضرورةٍ، فإن قاتلوا بهذه الأوجِه واحتجنا إلى المقاتلةِ بمثلها دفعًا، أو أحاطوا بنا واضطررنا إلى الرمي بالنَّارِ ونحوِها فعلناهُ للضرورةِ. ولا يجوزُ الاستعانةُ عليهم بكافرٍ، ويكرهُ الاستعانةُ بالمسلمِ الذي يرى قتلَهم مدبرينَ، على ظاهرِ النصِّ خلافًا لما في "المنهاجِ" تبعًا لأصلهِ من المنعِ مطلقًا. فلو احتجنا إلى الاستعانةِ بمن ذكرنَا منعًا أو كراهةً جاز بشرطين: أحدُهما: أن يكونَ فيهم جرأةٌ وحسنُ إقدامٍ.
فصل
والثاني: أَنْ يتمكنْ من منعهِم لو اتبعوا أهلَ البغي بعدَ هزيمتِهم. ولو أمَّنُوا أهلَ الحربِ على أن يقاتلُونا معهم لم ينفذْ أمانُهم علينا ونفذ عليهم على الأرجحِ، فلو قالُوا: ظننا أنَّهُ يجوزُ لنا أن نُعينَ بعضَ المسلمينَ على بعضٍ، أو ظننا أنهم المحقُّونَ، أو ظننا أنهم استعانُوا بنا في قتالِ الكفارِ، فالأصحُّ أنا نبلغهم المأمنَ ونقاتلهم مقاتلةَ البغاةِ، ولا يتعرضُ إليهم مدبرينَ. وإذا أعانهم أهلُ الذِّمَّةِ عالمينَ بتحريمِ قتالِنا انتقضَ عهدهم مطلقًا في حق أهلِ العدلِ وأهلِ البغي أو مكرهينَ فلا على المذهبِ، ولا يشترطُ ثبوتُ الإكراهِ بل يكفِي في عدمِ انتقاضِ عهدهم ذكرُ عذرِ الإكراهِ، وكذلك لا ينتقض عهدهم إن قالوا: "ظننا جوازَهُ"، أو أنَّهم محقُّون على المذهب، ويقاتلونَ حينئذٍ كبغاةٍ، حتى لا يُتبع مدبرهم، ولا يُذفف على جريحهم، ويضمنون ما أتلفوه في حالِ القتالِ على المنصوصِ (¬1). * * * فصل شرطُ الإمامِ كونُه مسلمًا مكلفًا حرًّا ذكرًا عدلًا قرشيًّا مجتهدًا شجاعًا ذا رأيٍ وكفايةٍ وسمعٍ وبصرٍ ونطقٍ، سليمًا من نقصٍ يمنعُ استيفاءَ الحَركةِ وسرعةِ النهوضِ واحدًا واحدًا (¬2)، فلا يجوز نصبُ إمامينِ في وقتٍ، وإن تباعد إقليماهما (¬3). فإن لم يوجدْ قرشيٌّ مستجمعُ الشروطِ، فكنانيٌّ، فإن لم يوجد فرجلٌ من ¬
ولد إسماعيلَ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فإن لم يكن فيهم مستجمعُ الشرائطِ ففِي "التهذيب" أنَّه يُوَلَّى رجلٌ من العجمِ، وفِي "التتمةِ" أنَّه يُوَلَّى جرهميٌّ، وجرهم أصلُ العربِ، فإن لم يوجد جرهميٌّ فرجلٌ من ولدِ إسحاق -صلى اللَّه عليه وسلم-. وتنعقدُ الإمامةُ بالبيعةِ، والأصحُّ اعتبارُ بيعة أهلِ الحل والعقدِ من العلماءِ والرؤساءِ ووجوهِ الناسِ الذين تيسَّر اجتماعُهم. وشرطُهُم: صفة الشهود، ولا يعتبر العدد حتى لو تعلَّق الحل والعقد بواحدٍ مطاعٍ كفتْ بيعتُه لانعقادِ الإمامة، والأصحُّ أنَّه لا يشترط الإشهاد إن كان العاقدون جميعًا، فإنْ كانَ واحدًا اشترط الإشهاد حينئذٍ. وتنعقدُ الإمامة أيضًا باستخلافِ الإمامِ، فلو جعلَ الأمرَ شورى بين جمعٍ فكالاستخلافِ، فيرتضونَ واحدًا منهم، وتنعقد أيضًا باستيلاء جامع الشروط، والأصحُّ انعقادها بالفاسق والجاهل. وتنعقدُ الإمامةُ لعبد عدلٍ قامتْ له الشوكة، ولو قامت الشوكةُ لامرأةٍ فالظاهرُ كما قال شيخنا تنفيذُ ما يصدُر منها للضرورةِ، ولو قامت الشوكة لكافرٍ فهي كما قال شيخنا بليَّةٌ طامَّة وداهية عامَّة، ولا بدَّ من نفادِ أحكامِ الناسِ، وصحةُ عقودِ أنكحتهم، ولكن من الحكامِ المسلمينَ الذينَ نصبهُم ذلكَ الكافرُ ولا حولَ ولا قوَّة إلا باللَّه. وإذا ادَّعى مَن عليهِ الزكاةُ دفعها لإمامِ البُغَاةِ أو إلى مَن فوَّضَ إليه إمامُهم ذلكَ صدِّقَ بيمينهِ استحياء عندَ الارتيابِ، ولا يصدَّقُ مَن عليه الجزيةُ في دفعها لمنْ ذكرنَا على الصحيحِ، ولا مَن عليه الخراجُ في دفعهِ على الأصحِّ، ويُصدَّق في حدّ أقرَّ بهِ، وإلَّا فيعملُ بما إذا أقامَ البينةَ بأنَّ إمامَ البغاةِ أو مَن فوَّضَ إليهِ ذلكَ استوفاهُ. * * *
كتاب الردة
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ كتاب الرِّدَّةِ هي لغةً: الرجوعُ عن الشيءِ إلى غيرِهِ. وشرعًا: ما سنذكرُهُ. والأصلُ في البابِ قولُه تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ}، وقوله: {وَلَا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ}، وأشباه ذلك. ومن السنَّةِ قولُه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "مَن بدَّلَ دينَه فاقتلوهُ" رواه البخاريُّ (¬1). وردَّةُ المسلمِ ظاهرًا إتيانُه بالكفرِ بنيةٍ، أو قول كفرٍ، أو فعل، سواء قاله استهزاءً، أو عنادًا، أو اعتقادًا. فمن نفى الصانع أو الرسلَ أو كذَّبَ رسولًا، أو حلَّلَ محرَّمًا بالإجماعِ معلومًا ¬
من الدينِ بالضرورةِ بلا تأويلٍ، أو نفى وجوبَ مجمعٍ عليه يُعلمُ مِن دينِ الإسلامِ ضرورةً وعكسه بلا تأويلٍ أو عزمٍ على الكفرِ غدًا أو ردَّدَ فيه كفر. والفعل المكفرُ ما تعمده استهزاءً صريحًا بالدينِ أو جحودًا له كإلقاءِ مصحفٍ بقاذورة (¬1) وسجود لصنمٍ، أو شمسٍ. ولا تصحُّ ردةُ صبيٍّ ومجنونٍ ومكرهٍ، ولو ارتدَّ، ثمَّ جُنَّ ولم يستتب قبلَ الجنونِ حرم قتلُه. فإن كانَ استتيبَ قبلَ جنونِه فلم يتبْ فإنَّهُ لا يحرُمَ قتلُه حينئذٍ. وأصحُّ القولينِ صحَّة ردَّةِ السَّكرانِ وإسلامِه، وتقبلُ الشهادةُ بالردةِ مطلقًا، وقيل: يجب التفصيلُ. ومحلُّ الخلافِ إذا أظهر أنَّهُ ارتدَّ عنِ الإيمانِ أو شهدَا بأنَّه كفرَ باللَّه، أما لو شهدا بأنَّهُ ارتدَّ ولم يقولا عن الإيمانِ أو كفرٍ فلا تقبلُ هذه الشهادةُ قطعًا. ويشترطُ في البينةِ أن لا يكونَ من الخوارجِ الذين يكفِّرونَ بارتكابِ الذنوبِ، إمَّا بالكبائرِ وإما بها وبالصغائرِ، كما هو طريقُ بعضِ الخوارجِ. فإن كان الشاهدانِ أو أحدهما من الخوارجِ فلا تقبلُ شهادةُ الخارجيِّ إلَّا مفصلَّةً قطعًا، لا يوقفُ في ذلك هذا إذا أثبتنا الخلافَ في قبول الشهادةِ بالردَّةِ كما تقدَّمَ. فإنَّ ثبتَ الخلافُ وعلمنا بنصِّ الشافعيِّ المعتمدِ في ذلكَ أنَّه لا تقبلُ الشهادةُ بالردَّةِ إلَّا بالتفصيلِ، لا مطلقًا، فلا حاجةَ لما قيَّدناه، فإنَّه حينئذٍ لا ¬
تقبلُ الشهادةُ بالردةِ إلَّا بالتفصيلِ في كلِّ موضعٍ وقعتِ الشهادةُ فيه بالردَّةِ خلافًا لما في "المنهاجِ" تبعًا لأصلِه. ومتى شهدا ولم يفصلا (¬1) وأنكرَ حُكِمَ بالشهادةِ ولا يُغنيه التكذيبُ، بل يلزمه أن يأتيَ بما يصيرُ به الكافرُ مسلمًا، فإنْ أنكرَ ثمَّ تلفَّظَ بالشهادتين وبَرِئَ من كلِّ دينٍ يخالفُ دينَ الإسلامِ على مَا في هذا مِنَ الاختلافِ، فإنَّا لا نحكُمُ بالشهادة بردتهِ. ولو قالَ: "كَنتُ مكرهًا" واقتضتهُ قرينةٌ كأسر كفارٍ صُدِّقَ بيمينهِ، وإلَّا فلا، ولو قالا لَفِظَ لَفْظَ كفرٍ، فادَّعى إكراهًا صُدِّقَ بيمينهِ، وإن كانَ هناكَ قرينةٌ تقتضي الإكراهَ، وإلَّا فلا يصدَّقُ، ولو ماتَ معروفٌ بالإسلام عن اثنين مسلمينِ، فقالَ أحدهما ارتدَّ فماتَ كافرًا، وإن بينَ سببَ كفرِه لم يرتدَّ ونصيبُهُ فيءٌ. وإن أطلقَ فثلاثةُ أقوالٍ، أظهرُها يستفصلُ فإن ذكرَ ما هوَ كفر كان فيئًا وإن ذكر ما ليسَ مكفرٍ صرف إليه. وتجبُ استتابة المرتدِّ والمرتدَّةِ فإن لم يتوبا قُتلا، وفِي قولٍ تستحبُّ استتابتهما، وتكونُ في الحالِ فإن تابا، وإلَّا قُتلَا كما تقدَّمَ، وفِي قولٍ إلى ثلاثةِ أيامٍ، فإذا أصرَّ قُتلَ، وإن أسلمَ صحَّ، وإن ارتدَّ إلى كفرٍ خفِي كزنادقةٍ وباطنيةٍ ثم أسلمَ قُبِلَ إسلامُهُ، ولا يُقبل على المنصوص (¬2). ¬
وولدُ المرتدِّ إنِ انعقدَ قبلَ الردَّةِ أو بعدَها وأحد أبويهِ مسلمٌ فهو مسلمٌ، أو مرتدان فمسلمٌ، وفِي قولٍ مرتدٌّ، وفِي قولٍ كافرٌ أصليٌّ، هذا إذا لم يكن لَهُ أصلٌ مسلمٌ ممن ذُكر، فإنَّه لا يأتي فيه ترجيح أنَّه مرتدٌّ ولا ترجيح أنَّه كافرٌ أصليٌّ، بل يتفق الترجيحُ على أنه مسلم. وما وقع في "المنهاج" (¬1) من قوله: "قلتُ: الأظهر مرتدٌّ ونقل العراقيون الاتفاق على كفره"؛ ليس بمعتمدٍ. وهل يزولُ ملكُ المرتدِّ عن مالِه بالردَّةِ أم لا، أم يوقفُ؟ قال شيخُنا: الذي تلخَّصُ لنا من مجموع متفرقاتِ كلامِ الشافعيِّ -رضي اللَّه عنه- أن على قولِ زوالِ الملك يبقى لهُ فيهِ حَقٌّ وعُلَقٌ وتجب الزكاةُ على هذا القول إن رجعَ إلى الإسلام. ويستوي مع قولِ الوقفِ في هذا وإنْ على قول بقاء الملك تصرفاته نافذة ما لم يحجرْ عليه الحاكمُ، وتجبُ الزكاةُ على هذا القولِ وإن لم يعدْ إلى الإسلامِ إن ثبت. قلتُ: يعطى في النفقاتِ والغراماتِ حكم الباقي قطعًا، وفِي منعِ التصرُّفِ بعد الحجرِ حكمَ الزائلِ قطعًا. وفِي بقاءِ الملكِ مجرَّدًا عما ذكرَ ثلاثةُ أقوالٍ، وفِي الزكاةِ قولانِ: أحدُهما: تجبُ، والثاني: إن عادَ إلى الإسلامِ وجبتْ على قولِ زوالِ الملكِ والوقفِ، وإن لم يعدْ لم تجبْ. وإنما أوجبناهَا على قولِ زوالِ الملكِ إذا عادَ إلى الإسلامِ لأنَّه ليسَ زوالًا ¬
إلى آدميٍّ معينٍ، ولا إلى أهلِ الفيء، حتى يتصرَّفُوا فيه، وإنما هُو زوالٌ للمرتدِّ فيه علقةٌ من نفقةٍ وغيرها، فلم يمنعْ ذلك من إيجابِ الزكاةِ عليه إذا عادَ، ولهذا لم ينصَّ الشافعيُّ في موضعٍ من المواضعِ على أنَّ الزكاةَ لا تجبُ مطلقًا، وإنما نصَّ على الوجوبِ على ما نقلوهُ أو على أنَّه إن عادَ أخذتْ منهُ، وهذا على القولينِ كما بينتُه، ولم أرَ منْ حرَّرَ هذا على ما حررتُه، وللَّهِ الحمدُ. انتهى كلامُ شيخِنا. وإذا قلُنا بزوالِ ملكِه فيلزمُه نفقةَ زوجاتِه الموقوف نكاحهنَّ، ونفقة قريبه وغرامة ما أتلفَهُ في الردَّةِ على المنصوصِ. والمذهب أنا نوقفُ مالَه تحتَ يدِ عدلٍ، وما فعله على قولِ الزوالِ مما يتوقفُ على ملكِه وهو مذهبُ الشافعيِّ يكون باطلًا، وما فعلهُ على قولِ بقاء الملكِ قبل إيقافِ الحاكمِ مالَه يكون نافذًا، وما فعلهُ بعد حجرِ الحاكمِ عليهِ لا يكونُ نافذًا ولوْ كانَ عتقًا أو تدبيرًا. وأما الوصيةُ فأمرُها سهلٌ؛ لأنَّها تصحُّ من المحجورِ عليه بالسفهِ والفلسِ، والحجرِ على المرتدِّ حجر فلسٍ على الأصحِّ، وإنما وقفتُ في المرتدِّ لأنَّه إذا ماتَ انتقلَ مالُه لأهلِ الفيءِ ولا يعملُ بالوصيةِ بخلافِ المفلسِ إذا فضلَ له شيءٌ أو أجازها الغرماءُ. وبيع المرتدِّ وهبتُه باطلانِ، وكتابتهُ موقوفةٌ على قولِ الوقفِ (¬1) كالخلعِ، وهو الأرجحُ، وفاقًا لما في الشرحين في الكتابة، خلافًا لما في الشرحين في ¬
الردةِ، و"المحرر" و"المنهاج" في الموضعين، وفِي القديم: موقوفةٌ، وفِي الجديد أيضًا إذا قلنا إنَّهُ وقفٌ تبين (¬1). وعلى الأقوالِ يجعلُ مالُه عندَ عدلٍ وأمتُه عندَ امرأةٍ ثقةٍ، ويؤجرُ مالُه ويؤدِّي مكاتبه النجومَ إلى القاضي، وعلى قولِ بقاءِ الملكِ لا بدَّ مع ذلك من ضربِ الحجرِ عليه. * * * ¬
كتاب الزنا
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ كتاب الزنا هو بالقصرِ لغةُ أهلِ الحجازِ، وبالمدِّ لغةُ نجدٍ، قال اللَّهُ تعالى: {وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا} الآية. وفِي "الصحيح" (¬1) من طريق عبادة بن الصامت: أنَّ النبيَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "خُذوا عنِّي، خذوا عنِّي، قد جعلَ اللَّهُ لهنَّ سبيلًا، البكرُ بالبكرِ جلدُ مائة وتغريب عام، والثيبُ بالثيِّبِ الرجمُ". وهو من أفحشِ الكبائر، ولم يحلَّ في ملَّةٍ قطُّ، ولذلك قامَ الإجماعُ على تحريمِه. والزنا الموجبُ للحدِّ (¬2) هو إيلاجُ الحشفة أو قدرها من مقطوعِهَا من آدميٍّ متصلٍ به أصليٍّ يحصلُ به التحليل، بفرجٍ من آدميٍّ أو دبره، محرم لعينِه ¬
خالٍ عن شبهةٍ، مشتهى، ودبر ذكر وأنثى غير زوجتِه وأمتهِ كقبلٍ على الأظهَرِ، هذا حكم الفاعلُ. وأمَّا المفعولُ بهِ فإِنْ كانَ ذكرًا فإنَّه يُجلدُ ويغرَّبُ محصنًا كانَ أوْ غيرُه، بخلافِ المفعولِ بها في قُبُلِهَا المطاوِعة، فحكمُها حكمُ الفاعلِ، وإن كانَ امرأةً وفعلَ بها في دُبرِها مطاوعةً فالأصحُّ أن عقوبتَها الجلدُ، والتغريبُ، بكرًا كانَتْ أو محصنةً. ولا يجبُ الحدُّ بمقدماتِ الجِماعِ ولَا بوطء زوجتِهِ وأمتِه في حيضً وصومٍ وإحرامٍ، والمذهبُ أنَّه لا يُحَدُّ بوطء أمتِهِ المزوَّجة أو المُعْتدَّةِ، وكذا مملوكته المحرم، ورجلٌ مكرهٌ على الأصحِّ، ولا يحدُّ بكلِّ جهةٍ أباحَها عالمٌ، يكونُ للعالِمِ في تلكَ الجهةِ مستندٌ متماسكٌ، فأمَّا إذا لمْ يكنِ الأمرُ كذلكَ فلا أثرَ لخلافِهِ، ويحدُّ الواطئُ. ومحلُّ إسقاطِ الحدِّ بشبهةِ العالم ما لم يحكمِ الحاكمُ المخالفُ له بإبطالِ ذلكَ الأمرِ في الواقعةِ الشخصية، كالنكاحِ بلا وليٍّ مثلًا، إذا حكَمَ فيه الشافعيُّ بإبطالِهِ وفرَّقَ بينَ الزوجينِ فإذا أصابَهَا بعدَ ذلكَ، فالذي جزَمَ بهِ الماورديُّ أنَّهُمَا زانيانِ عليهِما الحدُّ؛ لأنَّ شبهةَ العقدِ قد ارتفعتْ بحكمِ الحاكمِ بينهما بالفرقةِ. ومحلُّ الخلافِ في إسقاطِ الحدِّ بالشبهةِ المذكورةِ وعدمه ما لم يحكم الحاكمُ الموافقُ بصحته، فإن حكمَ بها بحيثُ لا تنقض، فلا يحدُّ مَن وطئَ فيه قطعًا؛ لأنَّه صارَ بالحكمِ بالنسبةِ إلى الواقعةِ الشخصيَّةِ كالنكاحِ المتفقِ عليهِ. ولا يحدُّ بالوطءِ في النكاحِ بلا شهودٍ، ولا بوطء ميتةٍ في الأصحِّ، ويحدُّ
بالبهيمةِ على المنصوصِ خلافًا لما في "المنهاجِ" (¬1) تبعًا لأصلِهِ، ويحدُّ في مستأجرةٍ ليزني بها، لأنَّه عقدٌ باطلٌ لا يوجب شبهةً، ويحدُّ في مبيحة؛ لأنَّ الأبضاعَ لا تُباحُ بالإباحاتِ، ومحرمٌ بنسبٍ أو رضاعٍ أو مصاهرةٍ، وإن كانَ تزوَّجها؛ لأنَّهُ وطءٌ صادفَ محلًّا ليسَ فيه ملكٌ ولا شبهةُ ملكٍ، وهو مقطوعٌ بتحريمِهِ، وكذا لو نكَحَ مَن طلَّقَها ثلاثًا ولم تتصلْ بزوجٍ غيرِه لشرطه أو لاعَنَ منها، أو نكحَ مَن تحتهُ أربعٌ خامسةً، أو أختَ زوجتِه أو عمَّتَها أو خالتَها، ووطئ مَن ذُكرَ عالمًا بالتحريمِ، فإنَّهُ يحدُّ حينئذٍ. وشرطُهُ التكليفُ والتزامُ الأحكامِ، وعلمُ تحريمِهِ (¬2). وحدُّ محصنٍ رجلِ أو امرأةٍ: الرجمُ، بشرطِ التكليفِ والحرمةِ المستقرَّةِ والإصابةِ بعدَ التكليفِ، ولا يشترطُ في الإحصانِ الإسلامُ، بل يُرجمُ الذِّميُّ إذا زنا، وهو بالصفاتِ المشروطةِ: غيَّبَ حشفتَهُ أو قدرها من مقطوعِها بما يناسب هذا الموضعِ من ثبوتِ الإحصانِ من القيودِ السابقةِ في أوَّلِ البابِ. ولو غابتِ الحشفةُ منَ الأشلِّ أو العِنينِ فهل نقولُ: لا يحصلُ الإحصانُ كما لا يحصلُ التحليل؟ أم نقولُ: التحليلُ متوقفٌ على ذوقِ العسيلةِ بخلافِ بقية الأحكامِ؟ قال شيخُنا: هذا محتملٌ، ومقتضى إطلاقهم الثاني. بِقُبُلِ مَن يوطأ مثلُها في نكاحٍ صحيحٍ لا فاسدٍ على المشهورِ، والمنصوصُ اشتراطُ التغييبِ حالَ حريةٍ، وتكليفٍ، وأن الكاملَ المصيب ناقصًا محصن يرجمُ إذا زنَا (¬3). ¬
وحدُّ البكرِ الحر حريَّةٌ مُستقرَّةٌ جلدُ مائةٍ وتغريبُ عامٍ إلى مسافةِ القصرِ فما فوقَها، ولا يحدُّ في حالِ جنونِه بعدَ الزنَا، ولا يعرفُ إلَّا في حالِ إفاقتِه، وإذا عيَّن الإمامُ جهة لم يعدل إلى غيرِها في الأصحِّ (¬1). ولو صادفنا مَن وجَبَ عليهِ التغريبُ مُحْرِمًا أو خارجًا لجهادٍ، تعيَّنَ عليه ولو غرَّبنَاهُ إلى جهةٍ أخرى فاتَهُ الحجُّ أو الجهادُ، ففي هذه الصورةِ إذا طلبَ جهةَ قصدِه يجيبُهُ الإمامُ إلى ذلكَ، ولا يصارُ إلى تفويتِ مقصدِه عليه، ولا إلى تأخيرِ التغريبِ حتَّى يفرغَ مِن ذلكَ، كما ذكرَهُ شيخُنا. ويغرَّبُ غريبٌ من بلدِ الزنا إلى غيرِ بلدِهِ بحيثُ يكونُ بينَ المُغَرَّبِ إليهِ وبينَ بلدِه مسافةُ القصرِ، هذا في غريب لهُ وطنٌ، فإنْ لم يكنْ؛ بأنْ هاجرَ حربيٌّ لدارِ الإسلامِ ولم يتوطَّنْ بلدًا فيغربُه الإمامُ منْ غيرِ أن يتوقَّفَ حتَّى يرجعَ إلى بلدِه أو يقيمَ في موضع، خلافًا للمتولِّي حيث قالَ: يتوقفُ الإمامُ حتَّى يتوطَّنَ بلدًا، ثم يغرِّبُه. وتغرَّبُ المرأةُ وحدَها على النصِّ، وهو مقيَّدٌ بما إذا كانَ الطريقُ آمنًا، خلافًا لما في "المنهاجِ" (¬2) تبعًا لأصلِهِ، وإن فرَّعنا على ما في "المنهاجِ" فمعَ زوج أو محرمٍ، ولو عاجزة أو نسوةٍ ثقاتٍ، والواحدةُ كافيةٌ للجوازِ، كما قيلَ بمثلِهِ في الحجِّ. ومَنْ فيهِ رقٌّ خمسونَ ويُغرَّبُ نصف سنةٍ (¬3)، وفي قولٍ: سنة، وفي قولٍ: لا يغرَّبُ. والمرادُ أَنْ يكونَ وصفُ الرقِّ قائمًا وقتَ الزِّنا لا وقتَ الحدِّ، ويثبت ¬
ببينةٍ أو إقرارِه مرة إقرارًا تحقيقيًّا، أو لعانٍ في حقِّ المرأةِ إن لم يلاعن كما سبق في بابِه. ولو أقرَّ ثمَّ رجع سقطَ الحدُّ (¬1)، ولو قالَ: لا تحدوني، أو هربَ، فلا يسقطُ الحدُّ بذلكَ على ظاهرِ النصِّ (¬2). ولو شهدَ أربعةٌ بزناها، وأربع أنَّها عذراء لم تحدَّ هي، ولا قاذفها (¬3)، إذا لم تكنْ غورًا بحيثُ يمكنُ تغييبُ الحشفةِ معَ بقَاءِ البكارَةِ، فإنْ كانَتْ كذلكَ حُدَّتْ لثبوتِ الزِّنا. وإذا عيَّنَ كلُّ واحدٍ من شهودِ الزِّنَا زاويةً من زوايَا البيتِ لم يجبِ الحدُّ على المشهورِ، وأصحُّ القولينِ وجوبُ حدِّ القذفِ على الشهودِ لعدمِ إتمامِ عدتهم (¬4) في زنية واحدةٍ. ويجبُ حدُّ القذفِ على القاذِفِ الذي قذَفَ وأتَى بالبينةِ التي وقعَ منها الاختلافُ، ويستوفي حدَّ الزِّنا الإمامُ أو نائبُهُ من حرٍّ (¬5). والمرادُ بالحريةِ ههنا بِالنسبةِ إلَى أنَّ الإمامَ يقيمُ الحدَّ بسببهَا هي الموجودة عندَ الزنَا أو عندَ الاستيفاء، حتَّى لو زنى ذميٌّ حرٌّ نُقِضَ العهدُ، والتحقَ بدارِ الحربِ ثم استرققناهُ، فإن الحدَّ الواجبَ عليهِ بالزِّنَا في حالِ الحريَّةِ يقيمُهُ الإمامُ خاصَّة ولا مدخلَ للسيِّدِ في ذلكَ. ولو زنَى رقيقٌ ثمَّ عتقَ فإقامةُ الحدِّ عليهِ بعدَ عتقِهِ للإمامِ. ¬
ويكفي في الحريَّةِ المعتبرةِ لإقامةِ الحدِّ الظهور، فيقيمُ الإمامُ على اللقيطِ الزَّاني بعدَ بلوغِه، وعلى العتيقة في المرضِ، وإن احتمل أن لا يخرج من الثلثِ؛ لأنَّه يقيمُ على مَن تيقَّنَ رقُّه، فلأنْ يُقيمَ على مَن هُوَ حرٌّ في الظاهرِ أولَى، ولا يقيمُ عليها المعتق شيئًا لخروجِها الظاهرِ عن ملكِه، وأمَّا المبعَّض فيستوفي حدَّه الإمامُ إذا لم يكنِ الإمامُ أو الحاكمُ عنه هو المالكُ لبعضِه، فإن كانَ مالكًا لبعضِهِ، فلهُ أن يستوفي منه ما تقابل الحرية بجهةِ الحكمِ، وما يقابلُ الرِّقَّ بجهةِ المِلكِ. * ضابطٌ: لا يتصوَّرُ أَنْ يدخلَ المالكُ في حدِّ المبعَّضِ بجهة الملك إلَّا فيما إذا كانَ له حكمٌ يقيمُ به الحدَّ عَلَى مَن وجبَ عليهِ. ويستوفي الإمامُ حدَّ العبدِ الموقوفِ كلِّه أو بعضِه، ورقيقِ بيتِ المالِ والعبدِ الموصَى بإعتاقِهِ إذا مَاتَ الموصي، وهو يخرجُ من ثلثِه، وزنى بعدَ موتِ الموصي قبل إعتاقِه بناءً على أنَّ إكسابه لَهُ كمَا هُوَ المذهبُ. ويحدُّ الرقيقَ سيدُهُ عندَ إقامةِ الحدِّ، أو الإمامُ، فإن تنازعَا فالإمامُ على الأصحِّ، سواء كانَ ذكرًا أم أنثَى، إذا كانَ السيدُ رشيدًا، فإن كان سفيهًا أو صبيًّا أو مجنونًا فإن الذي يُقيمُ على عبدِهِ حينئذٍ وليهُ الخاص من أبٍ وجدٍّ ووصيٍّ وقيمٍ. وللسيدِ المتأهِّل تغريبُهُ ولولي المحجورِ عليه ذلك، والمكاتبُ كالحرِّ على المنصوصِ. ويحدُّ الفاسقُ عبدَهُ على الأصحِّ، وكذلك الكافرُ إذا لم يكن رقيقُهُ مسلمًا، فإن كانَ رقيقُه مسلمًا كمستَوْلَدَتِه ونحوها فإنَّه لا يحدُّه بحالٍ، وإنما يحدُّ رقيقه الزاني الكافرَ إذا اعتقدَ أنَّ عليهِ الحدَّ.
وليس للمكاتبِ أن يقيمَ الحدَّ على عبدِه على النصِّ في "الأمِّ" (¬1) خلافًا لما في "المنهاج" تبعًا لأصلِهِ. قال الشافعيُّ رضي اللَّهُ عنه: وللمكاتبِ أن يؤدِّبَ عبدَهُ، وليسَ لهُ أن يحدَّهُ لأنَّ الحدَّ لا يكونُ إلى غيرِ حرٍّ، وللسيدِ أَنْ يعزِّرَ عبدَهُ على النصِّ في حقوق اللَّهِ تعالى، وأمَّا غيرُ ذلكَ فإنَّهُ يودِّبه لحقّ نفسِه قطعًا. وللسيدِ سماعُ البينةِ فالعقوبةِ (¬2)، ويحدُّ عبدَهُ بعلمه إذا أقرَّ عندهُ بموجبها، أو شاهدَهُ السيِّدُ على الأصحِّ. والرجمُ بحسبِ ما يجده الراجمُ في ذلك الموضع، ولكن لا يُبتدأُ بصخرةٍ عظيمةٍ يموتُ بها في أولِ الحالِ، ولا يستمرُّون بالحصى الخفيفِ. ويجوزُ الحفرُ للرجلِ (¬3)، والإمامُ مخيَّرٌ إن شاءَ حفَرَ له، وإن شاءَ لم يحفرْ، وصحَّ أنَّ النبيَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- حفرَ لماعزٍ (¬4)، وفي "سنن أبي داود" أنَّه حفَرَ للفتَى الذي أقرَّ عندَهُ بالزِّنَا وبالإحصانِ (¬5). والأصحُّ استحبابُهُ للمرأةِ (¬6) إن لم يثبُتْ بإقرارِهَا. ولا يؤخَّرُ الرجمُ لمرضٍ وحرٍّ وبردٍ مُفرطين على المنصوصِ (¬7)، وفي قولٍ ¬
يؤخَّرُ، وهذا محلُّه في المرضِ الذي يرجَى برؤهُ، أما الذي لا يرجَى زوالُهُ فلا خلافَ في أنَّهُ يُرجمُ في حالِ وجودِه، وأن يكونَ الذي يُرْجَمُ زانيًا فقط، فإنْ كانَ مرتدًّا أو قاطعُ طريقٍ تحتَّم قتلُهُ وسبقَ الزِّنَا الموجبُ للرجمِ، فإنَّهُ لا أثرَ لمرضٍ مرجوِّ البرءِ، ولا لحرٍّ وبردٍ شديدينِ، ويقامُ عليه الرجمُ قطعًا. وحيثُ قُلنَا بالتأخيرِ على ما تقدَّمَ فيؤخَّر استحبابًا لا وجوبًا. ويؤخَّرُ الجلدُ للمرضِ الذي يرجَى برؤُهُ استحبابًا إن كانَ الجلدُ فيه لا يهلكُ غالبًا، ولا كبيرًا (¬1)، فإن ظَهَرَ منْ حالِةِ المرضِ ما يقتضي أنَّ جلدَه يفضِي إلى الهلاكِ غالبًا أو كثيرًا، فإنَّهُ يمنعُ قطعًا، فإنْ لم يُرجَ برؤُه جلدَ بعثكال عليه مائة غصنٍ، فإن كان عليه خمسونَ ضُرب مرَّتينِ ويمسه الأغصانِ أو ينكبِسُ بعضها على بعضٍ لينالَه بعضُ الألمِ، وإذا برئ أجزأهُ، ولا يتعين العثكالُ، بل لَهُ الضربُ بالنِّعالِ وأطرافِ الثِّيابِ إنْ لم يكنِ ألمُهُما أكثرَ مِن ألمِ ما يحصلُ من العِثْكالِ، فإن كانَ أكثرَ فلا (¬2). ولا جلدَ في حرٍّ وبردٍ مفرطينِ (¬3)، وإذا كان المحدودُ في بلادِ الحرِّ التي لا يسكنُ حرُّها أو في بلادِ البردِ التي لا يقلُّ بردُها، لم يؤخَّرِ الحدُّ، ولم ينقلْ إلَى البلادِ المعتدلَةِ لما فيهِ من تأخيرِ الحدودِ، ولكنْ يخفَّفُ، ويقابلُ إفراطُ الحرِّ وإفراطُ البردِ بتخفيفِ الضربِ حتَّى يسلمَ فيهِ منَ القتلِ كما ذكرهُ الماورديُّ. وإذا جلدَ الإمامُ في مرضٍ أو حرٍّ أو برد فلا ضمانَ (¬4) على النصِّ. ¬
ثمَّ إنْ كانَ الجلدُ في الحالاتِ المذكورةِ يخشَى منهُ الهلاكُ غالبًا أو كثيرًا فإنَّه يجبُ التأخيرُ، وإن كانَ لا يُخشَى منهُ الهلاكُ على الوجهِ المذكورِ فإنَّهُ يستحبُّ التأخيرِ خلافًا لقولِ "المنهاج" (¬1) فيقتضي أنَّ التأخيرَ مستحبٌّ، وأطلقَ الاستحبابَ، والصوابُ كمَا قالَ شيخُنَا التفصيلُ المذكورُ. * * * ¬
باب القذف
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ باب القذف هو بالذالِ المعجمةِ. وهو لغةً: الرَّميُ، وليس لهم قدف بالدال المهملة. وفي الشرع: رميٌ بزنَا أو ما يتضمنه على وجهٍ مخصوصٍ، قال اللَّه تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} الآية. والمحصن هنا هو المسلمُ البالغُ الحرٌّ العفيفُ في حالِ تكليفِهِ (¬1) عن وطء يوجبُ الحدَّ، وعن وطء مملوكتِه التي تحرمُ عليه مؤبدًا، أو عنْ وطءٍ في دبرِ زوجتِهِ أو مملوكتِهِ، هذا هو المعتمدُ من خلافٍ منتشرٍ. ¬
وحد القذف واجب على الرامي في صورتين
والثمانون إنما تجبُ على القاذفِ الحرِّ المكلَّفِ الملتزمِ المختار (¬1)، فأمَّا الرقيقُ المكلَّفُ الملتزمُ ولو مبعَّضًا فالواجبُ عليه أربعونَ، لخروجهِ من الآيةِ بالقياسِ، وهو أنَّه حَدٌّ يتبعَّضُ فكانَ على النصفِ على مَن فيه رقٌّ لحدِّ الزِّنا (¬2). وحدُّ القذفِ واجبٌ على الرَّامِي في صورتين: إحداهما: رمي المحصن بالزِّنا الموجبِ للحدِّ، أو ما يتضمَّنُ ذلك. الثانيةُ: نفي نسبِ المقولِ لَهُ عن قبيلتِهِ على المذهبِ الظاهرِ من نصِّ المختصَرِ، ولا تُعتبرُ حضانة أم المقولِ لَهُ ولا رميها بالزنَا. وممنْ حَكَى ذلكَ عن مذهب الشافعيِّ القاضِي أبو الطِّيبِ، وصححهُ ابنُ الصَّبَّاغِ والرُّوياني في "الكافي" خلافًا للشيخ أبي حامدٍ ومن تبعَهُ، حيثُ جعلوا ذلك قذفًا للأمِّ فيعتبرُ فيهَا ما يعتَبرُ في غيرِها. وفي اختلافِ العراقيينِ ما قد يتعلَّقُ بهِ كلٌّ من الفريقينِ، وعلى الأوَّلِ لا تعتبرُ حصانةُ المنفي. قاله شيخُنا تخريجًا. والقذفُ إنِ اقتَضَى الكفرَ قُتِلَ القاذفُ بكفرِهِ، كما في قذفِ نبيٍّ منَ الأنبياءِ عليهم الصلاةُ والسلامُ، ولو تعريضًا، أو نفيهُ عنْ قَبِيلتِهِ، فإذا أسلَمَ القاذِفُ لم يسقطِ القتلُ على وجهٍ قويٍّ، ويسقطُ على المصحَّح، ورُجح أنَّه لا يجلدُ، والأرجحُ أنَّه يجلدُ حدَّ القاذفِ في التصريحِ. ولو قتلَ بإيجابِ جلدِه الحدَّ، ثم قتله إن لم يسلم لكان له وجهٌ. وقاذفُ عائشةَ -رضي اللَّه عنها- كافرٌ، فإذا أسلَمَ جُلدَ، وإن لم يسلمْ جلدَ بطريقه، قاله ¬
ويستثنى من إيجاب الحد في الموضعين السابقين صور، منها: ما يعم الموضعين، ومنها ما يختص بالرمي بالزنا.
شيخنا تخريجًا. وقيل: يُقتلُ بكفرِه. وإذا لم يكنِ القذفُ مقتضيًا للكفرِ فهو موجبٌ للحدِّ الذي سبقَ. ولو كانَ على صورةِ الشَّهادَةِ عندَ الحاكمِ إذا لم يتم العدد أو تمَّ بزوجِ المرميةِ بالزِّنَا أو كانَ الشهودُ عبيدًا أو كفَّارًا أو نسوةً أو شهدَ لها العدولُ لا عندَ حاكمٍ أو عند حاكمٍ ثم رجعوا بعد حكمِهِ أو قبلَهُ أو رجعَ بعضهُم بحيثُ نقصَ النصابُ المعتبرُ. ويستثنى من إيجابِ الحدِّ في الموضعينِ السابقينِ صورٌ، منها: ما يعمُّ الموضعينِ، ومنها ما يختصُّ بالرمي بالزِّنا. * إحداها: إذا كانَ الرَّامي أحدَ أصولِ المرمي. * الثانية: إذا قال له أقررتُ بأنَّك زنيتَ، وإن ذكرَهُ في معرضِ القذفِ، وكذا لو قال: أقررتَ بأنَّكَ لستَ من العربِ، ونحوه. قاله شيخُنا تخريجًا. * الثالثة: إذا نقصَ العددُ في شهادةِ الإقرارِ بالزِّنَا. * الرابعةُ: القذفُ الثاني ولو بزنا آخر، لا يوجب حدًّا آخر على الجديد، فإن تخلل بينهما حد، وكان الثاني بزنيةٍ أخرى حُد للثاني على ما جزمَ به جماعةٌ، وصحَّحهُ جماعة، ولا يعتمدُ على تصحيحِ إيجابِ التعزيرِ، فإنْ كانَ في زوجةٍ فالثاني موجبٌ للحدِّ. صححه الزَّازُ، وصحَّحَ البغويُّ التعزير، وإن اختلفَ الحكمُ تعددَ الحدُّ على المذهبِ المعتمدِ، بأن يقذفَ أجنبيَّةً ثم يتزوَّجها ثمَّ يقذفها بزنًا آخر صادرٍ منها في الزوجيةِ، وكذا لو قَذفَ زوجتَهُ ثم أبانَها بلا لعانٍ، ثم قذفَهَا بزنًا آخرَ صادرٍ منها بعد البينونةِ. * الخامسةُ: القذفُ بزنًا آخرَ ممنْ لاعَنَها ولاعنتْ، خلافًا لما قال في
ضابط
"الروضة" أنَّه المذهبُ، فإنْ لم يلاعنْ وحُدت فقد سقطتْ حضانتها في حقِّه، وكذا في حقِّ الأجنبيِّ على الأصحِّ عندَ شيخِنا؛ وفاقًا لما قالَ الماورديُّ أنَّه الأشبَهُ بالحقِّ؛ خلافًا لما صحَّحه المتأخِّرونَ. وكيفَ يمكنُ أن يحدَّ قاذفُ مَنْ رُجِمَتْ بالزِّنا أوْ جُلِدَتْ فيه، ولا يسقطُ الحدُّ الواجبُ ببينةٍ أو بإقرارٍ باليمينِ المردودةِ أنَّ المقذوفَ زنا. ولا حدَّ على المقذوفِ، ويسقطُ عن الزوجِ بلعانِهِ، ويجبُ عليها حدُّ الزِّنَا إنْ لم تلاعنْ، ويسقطُ بعفوِ المستحقِّ وبإذنِ المقذوفِ في القذفِ، ومنهمْ مَنْ صَحَّحَ في الإذن عدم السقوطِ. وإذا ماتَ المقذوفُ ووارثه المستغرق هو القاذفُ سقطَ عنه الحدُّ، ويثبتُ استيفاءُ حدِّ القذفِ والتعزيرِ بموتِ المستحقِّ أو الواجب لقاذفِه بعدَ موتِهِ لكلِّ مَن يقومُ مقامَهُ من وارثٍ أو سلطانٍ لمنْ لا وارِثَ لَهُ أَو مالكٌ، فإن عفى أحدُ الورثةِ أو غابَ أو كانَ غيرَ أهلٍ للطلبِ كانَ لمن عداه استيفاء الجميعِ. ولو تقاذفَ شخصَانِ لم يتقاصَّا، ولا يستوفَى إلَّا بالحاكمِ، ولو استقلَّ المقذوفُ بالاستيفاءِ لم يقع الموقع إلَّا أن يكونَ المقذوفُ مالكًا للقاذفِ فيحدُّه. * ضابطٌ: ليسَ لنَا موضعٌ يستقلُّ المقذوفُ باستيفاءِ حدَّ القذفِ ويقعُ الموضع إلَّا هذا. * * *
باب السرقة
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ باب السرقة هي بفتحِ السِّينِ وكسرِ الرَّاءِ، وقد تسكن الراء مع فتحِ السِّين أو كسرِها، وقد تسقطُ الهاءُ مع كسرِ الراءِ، ويقالُ: سرقَ منهُ مالًا، وسرقه مالًا، يسرقه سرقًا، بفتح السين والراء، وهي مأخوذةٌ مِنْ مسارقةِ النَّظَرِ إذا اهتبلَ غفلتَهُ، واسترقَ السمعَ أي مستخفيًا لمن أخذ شيئًا خفية فهو سارقٌ لغةً. وفي الشَّرعِ: عبارةٌ عن أخذِ الواجدِ منْ مِلكِ غيرِهِ نصابًا فأكثرَ من حرزِ مثله خفيةً بقصدِ السرقةِ، فأما الأخذُ بغير خفيةٍ معتمدًا على الهربِ لمختلسٍ وفي ما يقتضي أنَّ الخِلْسةَ الأخذُ من غيرِ حرزٍ، وعلى الغلبةِ من غيرِ هربِ مع القُربِ من الخوفِ فنهب، قال اللَّهُ تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38].
يشترط لوجوب القطع في المسروق شروط
وفي "الصحيحين" (¬1) من طريق عائشة -رضي اللَّه عنها-: أنَّ رسولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "تقطعُ اليدُ في ربعِ دينارٍ فصاعدًا". يشترطُ لوجوبِ القطعِ في المسروقِ شروط: * [الشرط الأول] (¬2): كونُه ربعَ دينارٍ، خالصا مضروبًا أو قيمته قطعًا فيهما، ولو سرق ربعًا سبيكةً لا يساوي ربعًا مضروبًا وجبَ القطعُ على ظاهرِ نصوصِ الشَّافعيِّ، وهو المذهَبُ المعتمَدُ، وعليهِ أكثرُ الأصحابِ خلافًا لمَا في "المنهاجِ" (¬3) تبعًا لأصلِهِ. ولو سرقَ دنانيرَ ظنها فلوسًا لا تساوِي ربعَ دينارٍ قطعَ، وكذا ثوبٌ رَثٌّ في جبَّتِه تمامُ ربعٍ جهِلَهُ في الأصحِّ. ولو أخرَجَ نصابًا من حرزٍ مرَّتينِ وتخلَّلَ إعادةُ الحرزِ فلا قطعَ، وإن تخلَّلَ علم المالك أو الطَّارقين ولم يعد الحرز فلا قطعَ على الصحيحِ، وإن لم يوجدْ ما ذُكر قُطع في الأصحِّ. ولو ثقبَ وعاء حنطةٍ ونحوِها فانصبَّ منهُ نصابٌ قطعَ في أصحِّ الوجهينِ. ولو اشتركا في إخراجِ نصابَينِ قطعَا، وإلَّا فلا قطعَ. ولو سرقَ خمرًا أو خنزيرًا أو كلبًا أو جلدَ ميتةٍ بلا دبغٍ فلا قطعَ، فإنْ صارَ الخمرُ خلًّا قبلَ أن يضعَ السَّارقُ يدَهُ عليِهِ قُطعَ قطعًا إذا كانَ يساوِي نصابًا، وإن صارَ خلًّا بعد أَنْ وضَعَ السارِقُ يدهُ عليهِ قبلَ إخراجِهِ من الحرزِ فعنهُ الوجهانِ في الجلدِ إذا دبَغَهُ السارِقُ وإن لم يذكروهُ، وإذا دبغَ السارِقُ جلد ¬
الشرط الثاني
الميتةِ قبلَ إخراجِهِ من الحرزِ، وصارَ بالدبغِ يُساوِي نصابًا فَأكْثَر وقُلنَا يجوزُ بيعهُ وهو الجديدُ وقلنَا أنَّ الجلدَ إذا دبغَ يكونُ للمغصوبِ منهُ وهو الأصحُّ فحيئذٍ في قطعِه وجهَانِ أرجَحَهُمَا أنَّهُ يُقطعُ؛ لأنَّهُ أخرجَ من الحرزِ مَا يُساوِي نصابًا فأكثر. وإذا بلغَ إناءُ الخمرِ نصابًا قطعَ على النصِّ، ولا يقطعُ في طنبورٍ ومزمارٍ، وكذا كلُّ ما سلطَ الشرعُ على كسرِهِ، فإنْ بلَغَ بكثيرِهِ نصابًا فلا قطعَ على المنصوصِ، وصححهُ الأكثرونَ، خلافًا لما صحَّحهُ في "المنهاجِ" من القطعِ. * * * * الشرطُ الثاني (¬1): أن يكونَ مملوكًا لغيرهِ، فلو ملكَهُ بإرثٍ أو غيرِهِ قبلَ إخراجِهِ من الحرزِ أو بعدَ إخراجِهِ قبلَ الرفعِ إلى الحاكِمِ أو نقصَ في الحرزِ عن نصابٍ بأكلٍ أو غيرِهِ لم يُقطَعْ. ولو ادَّعى السارقُ أنَّ المأخوذَ مِلْكُهُ سقطَ القطعُ على المنصوصِ. ولو سرقَ اثنانِ شيئًا، فادَّعاهُ أحدهما لهُ أو لهما، وكذَّبَهُ الآخرُ، لم يقطع المدَّعِي، وقُطِعَ الآخرُ في الأصحِّ، إنْ كانَ الذي سَرَقَهُ نصابًا. وإن سرقَ من حرزِ شريكِهِ مشترَكًا، فلا قطْعَ على النصِّ، وإنْ قلَّ نصيبه. * * * * الشرطُ الثالثُ (¬2): عدمُ شُبهةٍ فيهِ، فلا يقطعُ بسرقةِ مالِ أصلٍ وفرعٍ وسيدٍ، وأصل سيدٍ وفرع سيدٍ، إلَّا في صورةٍ واحدةٍ، وهي ما لو نَذَرَ مالكُ عبدٍ غيرَ مميزٍ إعتاقَهُ، فإنَّه لا يزولُ ملكه عنهُ، ولكنْ يمتنعُ أَنْ يتصرَّفَ فيهِ، ¬
ضابط
وحينئذٍ، لو سرقَ أصلَ الناذرَ أو فرعَهَ أو عبدَهُ هذا العبدُ الصغيرُ الذي لا يميز، فإنَّهُ يقطعُ، وإنما كان كذلكَ لأنَّ شبهةَ استحقاق النفقةِ إنَّما تتعلقُ بالمالِ الذي لمالِكِهِ تصرُّفٌ فيهِ، وهذا مالٌ لا تصرُّف لَهُ فيهِ. * ضابطٌ: ليس لنا موضعٌ يُقطَعُ فيه الأصلُ بسرقةِ مالِ فرعِهِ وبالعكسِ، والعبدُ بسرقِةِ مال سيِّدِه إلَّا هذا. ولا يقطعُ أحدُ الزوجينِ بسرقةِ مالِ الآخرِ على المنصوصِ، خلافًا لما في "المنهاجِ" تبعًا للمحررِ. قال الشافعيُّ (¬1) -رضي اللَّه عنه-: (ولا قطعَ على زوجٍ سرقَ مِنْ متاعِ امرأتهِ ولا على امرأةٍ سرقتْ من متاعِ زوجِهَا، ولا علَى عبدِ واحدٍ منهما سرقَ متاعَ صاحبِهِ للأثرِ والشُّبهةِ وخلطةِ كلِّ واحدٍ منهما بصاحبِهِ). انتهى. ومَن سرَقَ مالَ بيتِ المالِ (¬2) إن فرزَ لطائفة ليس هو منهم كذوي القُربى، ولا أصلَ ولا فرعَ ولا عبدَ لمن أفرزَ له فإنَّه يقطعُ حينئذٍ، وإلَّا فالأصحُّ أنَّهُ إن كانَ له حقٌّ في المسروقِ، كمال المصالحِ، وكصدقةٍ وهو مقترٌ أو غنيٌّ غارمٌ لإصلاحِ ذاتِ البينِ، أو غازٍ فلا قطعَ، وإنْ لمْ يكُنْ لهُ حقٌّ في المسروقِ قُطِعَ إلَّا إذا كانَ أصلًا أو فرعًا أو عبدًا لمن إذا سرق من ذاك لا يقطعْ فلا يقطع. * ضابطٌ: ليس لنا سارقٌ ليسَ له حقّ في المسروقِ لا يقطعُ إلَّا هذا. والذِّميُّ يقطعُ إذا سرقَ منْ مالِ المصالحِ أو من الزكاةِ لأنَّه لا حقَّ لَهُ في ذلكَ، والصحيحُ قطعُ السارقِ لبابِ مسجدٍ وجذوعِهِ إنْ كانَ مسلمًا (¬3)، فإن ¬
الشرط الرابع
كان ذميًّا قطعَ بسرقتِها بلا خلافٍ، ولاٍ يقطعُ بسرقةِ حصرِهِ وقناديلَ تسرج، إذا كانَ مسلمًا، فإن كانَ السارقُ ذميًّا قُطِعَ بسرقتِهَا بلا خلافٍ، والأصحُّ قطعُهُ بموقوفٍ إذا كانَ سارقُ الوقفِ غيرَ الموقوفِ عليهِ وغيرَ أصلِهِ وفرعِهِ، أو لَمْ يكُن فقيرًا وسرقَ رقيقُهُ نصابًا من الوقْفِ على الفقراءِ، فإنْ لمْ يكُنْ كذلِكَ بلْ كانَ واحدًا ممن ذُكِرَ فلَا قطعَ بلا خلافٍ. ويقطعُ بسرقةِ أمِّ الولدِ في حالةِ نومِهَا أو جُنُونِهَا على الأصحِّ، وكذلكَ إذا سرقَهَا مكرهةً يقطعُ، كما إذا سرقَهَا نائمةً. * * * * الشرطُ الرابعُ (¬1): كونُه محرزًا بملاحظة وحصانةِ موضعه، وما نزل منزلة الملاحظةِ كالنائم على نوبة، فإن كانَ بصحراءَ أو بمسجدٍ اشتُرِطَ اللحاظُ المعتادُ في مثلِهِ، وإن كان بحصنٍ كفى اللحاظُ المعتادُ من صاحب المتاع ومن غيرِهِ خاصًّا أو عامًّا. وإصطبلُ حرزِ دوابٍّ وحينئذٍ فهو كالدارِ، وليس الإصطبلُ حرزَ آنيةٍ وثيابٍ، إلَّا آنية الإصطبلِ كالسطلِ وثياب الغلام وآلاتُ الدوابِّ من سروجٍ وبرادعَ ولُجَم ورِحال جمالٍ وقربةِ السقاءِ، والراويةِ ونحو ذلك مما جرتِ العادةُ بوضعهِ في إصطبلاتِ الدوابِّ، فإنَّهُ حرزُ ذلِك. ولو كانَ الإصطبلُ بيتًا في خانٍ كان حرزًا لما يوضعُ في بيوتِ الخاناتِ. وعَرْصَةُ دارٍ وصفَّتُها حرز آنيةٍ وثيابٍ (¬2) وأما النقدُ والحليُّ فإنَّه قد يكونُ في صندوقٍ مفتوحٍ أو مغلقٍ، أو خزانة مفتوحةٍ أو مغلقةٍ، فكلُّ ذلكَ حرزٌ، ولو كان في صندوقٍ مفتوحٍ في الصفةِ أو في بقجةٍ أو غيرها؛ لأنَّ الدارَ حرزٌ لذلك ¬
كلِّه، وإنما يتخذُ الناسُ لمالهم وحليهم حرزًا خاصًّا غير الصفة من أجلِ عائلتِهم لا من أجلِ السارقِ، وحينئذٍ فالعادةُ أنَّ الدارَ المحكمة البابِ العالية البناء حرزٌ لذلك، وإن لم يوضعْ في خزانةٍ أخرَى مغلقةٍ، هذا ظاهرُ نصِّ الشافعيِّ في "الأمِّ" و"مختصرِ المزنيِّ" خلافًا لما في "المنهاجِ" تبعًا لأصلِه. وإذا نامَ بصحراءَ أو مسجدٍ على ثوبٍ أو توسَّدَ متاعًا لمحرز، فلو انقلبَ بنفسِه فزالَ عنهُ فلا، ولو نامَ في موضعٍ غيرَ مباحٍ لهُ النَّومُ فيهِ لم يكنْ حرزًا. وثوبٌ ومتاعٌ وضعَهُ بصحراءَ وهو ينظرُ إليهِ فحرزٌ بملاحظةٍ إذا كانَ الملاحِظُ في موضعٍ بحيثُ يراهُ السارقُ حتَّى يمتنعَ عن السرقةِ، إلَّا بغفلةٍ، وإلَّا فلا يكون محرزًا حينئذٍ. ويشترطُ في الملاحظِ أَنْ يكونَ قادرًا على منعِ السارقِ بقوةٍ أو استغاثَةٍ. والدارُ المنفصلةُ عنِ العمارةِ إذا كانَ بها قويٌّ يقظان، فهي حرزٌ مع فتحِ البابِ، وكذا لو كانَ البابُ مغلقًا، والذي فيها نائمٌ على الأرجحِ في الفتوى. والمتصلةُ بالعمارَةِ حرزٌ مع إغلاقِهِ، ولا يعتَبَرُ وجودُ الحافظِ مع إغلاقِ البابِ؛ كما هوَ ظاهرُ نصِّ الشافعيِّ في "الأمِّ" خلافًا لما في "المنهاجِ" تبعًا لأصلِهِ، ومع فتحَ البابِ ونومِ الحافظِ غير حرزٍ ليلًا ونهارًا، ويستثنَى من ذلكَ الأبوابِ المنصوبةِ داخلها المفتوحة، فإنَّها محرزة بتركيبها، ووجود النائمِ فيها، وكذلك سقفُها ورخامُها، بخلافِ المنقولِ فيها وبابُ الدار نفسه المفتوح مُحْرَزٌ بتركيبه فمنْ سرقَهُ قُطِع، ولو كانَ الذي فيه نائمًا أو لمْ يكُن فيها أحدٌ. وكذلكَ الحلقةُ. . . (¬1) باب الدار والبستان لأنَّه إذا غصبه فهو في حرزٍ وإن ¬
لم يغلقْه، لأنَّه هكذا بحرزٍ. وإذا كانَ البابُ مردودًا والنائم خلفه بحيثُ أنَّه إذا فتحَ البابَ أصابَهُ البابُ وانتبَهُ فلا توقُّف كما قالَ شيخُنا في أنَّ هذا حرزٌ والنائمُ خلفَ البابِ، حينئذٍ أبلغُ من الضَّبَّةِ ومن المتراسِ. وإنْ كانَ مَن في الدارِ متيقظًا، لكنَّهُ لا يتم الملاحظةَ بل يتردد في الدارِ فتغفلهُ السارقُ فسرقَ، لم يُقطعْ على الأصحِّ المنصوصِ، فإن خلتِ وهي مغلقةٌ فهي حرزٌ على المنصوصِ. ولا فرقَ في ذلكَ بينَ الليلِ والنَّهارِ، ولا بينَ الأمنِ والخوفِ، خلافًا لما في "المنهاجِ" (¬1) تبعًا لأصلِهِ. ويعتبَرُ في الخيمةِ نفسها إذا كانتْ بصحراءَ أمران: شَدُّ الأطنابِ، والحافظ، ويعتبرُ في إحراز ما فيها مع هذين الأمرين: إرخاءُ الأذيالِ وماشية بأبنيةٍ مغلقةٍ متصلة بالعمارة محْرَزَةٌ ببرية بشرط حافظ ولو كان نائمًا، وإبل بصحراء محْرَزَةٌ بحافظ يراها، ويمكنه العدوُ إلى قاصدِها ليأخذ منها، ودفعه عن مقصوده، والإبلُ المقطورة إذا كان قائدُها يقودُها محْرَزَةٌ على المنصوصِ. قال الشافعيُّ (¬2) -رضي اللَّه عنه-: (وأيُّ إبلٍ كانتْ تسيرُ وهو يقودُها يقطرُ بعضُهَا إلى بعضٍ، فسرقَ منها أو مما عليها بشيءٍ، قطِعَ). ولم يتعرَّضِ الشَّافعيُّ للالتفاتِ كلَّ ساعةٍ، وهذا أمرٌ يشقُّ على القائدِ، ولو كانَ هذا معتبرًا لذكرَهُ الشافعيُّ، فما وقعَ في "المنهاج" تبعًا لأصلِهِ من اشتراطِ التفاتِ القائدِ إليهَا كلَّ ساعةٍ غيرُ معتمدٍ. ولو كانَ القطارُ مارًّا في ممرِّ الناسِ في الأسواقِ وغيرها فإنَّه يكونُ محرزًا ¬
فصل
برؤيةِ الناسِ من غيرِ اعتبار التفاتٍ من القائدِ ولا يتقيدُ القطارُ في الصحراءِ بعددٍ، وفي العمرانِ يعتبرُ ما جرتْ به العادةُ بأنْ يجعلُ قطارًا وهو ما بينَ سبعةٍ إلى عشرةٍ، وغير المقطورةِ محرزة إذا كان سائقها حافظًا لها. والكفنُ في القبر بالبيت المحرز محرزٌ ولو زاد على خمسة أثواب، ولا يختصُّ ذلكَ بالكفَن، بل غيره من الثيابِ والدراهمُ والتابوتُ محرزٌ أيضًا، والكفن بالمقبرةِ بطرفِ العمارةِ محرز إن لم يزد على الخمسة الأثواب التي تلي الميتِ وكانَ لها حارسٌ، ويجبُ حينئذٍ قطعًا، فإن زاد على الخمسةِ المذكورةِ فلا يقطع بسرقة ما زادَ عليها على الأصحِّ، وإنْ لمْ يكُنْ لهَا حارسٌ وجبَ القطعُ في الأصحِّ. ولو كانَ الكفنُ قد غالى فيه؛ بحيثُ جرتِ العادةُ أن لا يخلَّى مثل ذلك بغير حارسٍ، فإنَّه إذا ترك بغير حارسٍ لا قطع على سارقِه. ذكره أبو الفرج الزاز في تعليقهِ، وكذا بمضيعةٍ على النصِّ خلافًا لما في "المنهاج" تبعًا لأصلِهِ، قال الشافعي (¬1) -رضي اللَّه عنه-: (ويقطعُ النبَّاشُ إذا أخرجَ الكفنَ من جميعِ القبر؛ لأنَّ هذا حرز مثله) فلم يقيِّدِ الشافعيُّ بأن يكونَ القبرُ في المقبرةِ المتصَلةِ بالعمران. * * * فصل يقطع مؤجر الحرز (¬2) الذي لم يثبت له خيار الفسخِ بطريقٍ يعتبر قطعًا، وكذا مُعيرُهُ عاريةً لازمة يمتنع الجروع فيها يقطع قطعًا، فإن ثبت له الفسخ بطريقٍ معتبرٍ أو كانَ للمعيرِ الرجوع في العاريةِ فيقطعانِ على النصِّ. وقيلَ: لا ¬
قطعَ عليهما. ولو استأجَرَ موضعًا لزرع الحنطَةِ مثلًا، فغرسَ فيه أشجارًا فدخلَ المالكُ وسرَقَ منهَا فإنَّه لا يُقطعُ؛ لأَنَّ الموضوعَ مِن الغراسِ ليسَ محرَّزًا لاستحقاقِهِ القلعَ، والصورةُ أَنْ تكونَ الأشجارُ حرزًا بنباتها في الأرضِ خاصَّة، وإذا استعملَ المستعيرُ المستعارَ في غيرِ الوجهِ المأذونِ فيهِ كما لَو استعارَ للزرْعِ بغرس فدخل المعير وسرقَ من الغراسِ وقلَعهُ فإنَّه لا يقطَعُ على الأصحِّ، كما تقدَّمَ في صورةِ المؤجر. ولو غصبَ حرزًا لم يقطع مالكه (¬1) بسرقة ما أحرزه الغاصب فيه، وكذا أجنبىٌّ في الأصحِّ، ولو غصبَ مالًا وأحرزَهُ فسرقَ المالكُ منه مال الغاصب قطع في الأصحِّ -كما قال شيخُنا- لئلَّا يؤدي إلى أن من غصب من شخصٍ فلسًا ووضعهُ في حرزه الذي فيه النقود والحلي أن المالكَ يسرقُ جميعَ ما هنالِكَ ولا يقطعُ، وهذا خرقٌ عظيمٌ لا يصارُ إليهِ، ولا يعول عليه. وكذا يقطعُ الأجنبيُّ بأخذهِ المالَ المغصوبَ بسرقةٍ خلافًا لما في "المنهاجِ" (¬2) تبعًا لأصلِهِ من تصحيح بعضهم القطع فيهما (¬3)، ولا يقطَعُ مختلسٌ ومنتهبٌ وجاحدٌ وديعة لعدمِ شروطِ القطعِ. ولو نقبَ وعادَ في ليلةٍ أخرَى فسرقَ (¬4)، قطع في الأصحِّ إن لم يُعِدِ الحرزَ، فإن أعيدِ فسرقَ السارقُ قطعَ بلا خلافٍ، وإذا علمَ المالكُ النقبَ وظهرَ للطارقينَ فلا يقطعُ على الصحيح، وقيل قطعًا. ¬
وإذا نقبَ واحدٌ وأخرجَ آخرُ فلا قطعَ إذا لم يكن في الدارِ حافظٌ قريبٌ من النَّقبِ، وهو يلاحظُ المتاعَ، فإن كانَ كذلكَ وجبَ القطعُ بهِ على الأخذِ، وإنْ كانَ نائمًا لم يكنِ المالُ محفوظًا به في أصحِّ الوجهينِ. ولو تعاونا على النقبِ (¬1) وانفردَ أحدُهما بالإخراجِ، أو وضعهُ بقربِ النَّقبِ فأخرَجَهُ الآخرُ قطع المخرِجُ. ولو وضعه أحدُ النَّاقبينِ بوسطِ نقبٍ فأخرجهُ الآخرُ وهو يساوي نصابينِ لم يقطعا في الأظهرِ. ولو رماهُ إلى غير حرزِ المالكِ، أو وضعه بماء جارٍ أو على ظهرِ دابَّةٍ وسيَّرها أو وضعه وهي في السيرِ فخرجتْ بهِ، أو عرضه لريحٍ هابَّةٍ فأخرجته قطع (¬2)، ومنَعَ شيخُنا القطع بهذه الأخيرة؛ معللًا بأن تعرضه للريحِ ليسَ مما تقتضي العادةُ أن يخرجَ بِهِ، بخلافِ الماء الجاري. وإن وضعه على دابَّةٍ واقفةٍ فمشيت بوضعه ولم يستولِ عليها، وكان البابُ مفتوحًا فخرجتْ فلا قطعَ في الأصحِّ. ولا يقطعُ سارقُ الحرِّ (¬3)، ولو سرقَ صغيرًا حرًّا لا تمييزَ لهُ بقلادةٍ فلا قطع على الصحيحِ، وحكمُ الأعجمي الذي لا تمييز له والمجنون حكمُ غير المميزِ، فإن كانت لغير الصبيِّ وسرقَ السارقُ الصبيَّ الذي عليه القلادة، والقلادةُ تبلغُ نصابًا فإنَّهُ يقطعُ، وجهًا واحدًا. ذكره الماورديُّ؛ لأنَ يدُ الصبيِّ ليستْ على القلادةِ يد مالك، ولا حافظَ. ¬
فرع
ولو نام عبدٌ مستقلٌّ غير مكاتب على بعيرٍ وقادَهُ فأخرجَهُ من القافلةِ، وجعلَهُ في مضيعةٍ قطعَ، أو مكاتبٌ أو حُر فلا في الأصحِّ (¬1). ولوْ نقلَ المتاعَ من بيتٍ مغلقٍ إلى صحنِ دارٍ بابُها مفتوح قطع، وإلَّا فلا، وقيل: إن كانَا مغلقين قطع إذا لم يكن الصحن حرزًا لَهُ، فإنْ كانَ الصحنُ حرزًا له فينبغي أَنْ لا يُقطعُ قطعًا، ويقطعُ الذي أخرَجَ منَ البيتِ إلى الصحنِ المشتركِ، سواءٌ أكانَ البابُ الجامعُ مفتوحًا أم كانَ مغلقًا على مقتضَى النصِّ، هو المعتمَدُ في الفتوَى (¬2). * * * فرع: لا يقطعُ صبيٌّ ومجنون لعدمِ التكليفِ، ولا يُقطَعُ مكرَهٌ لعدمِ الاختيارِ، ولا يقطَعُ الذي أكرَهَهُ على السرقَةِ، ويقطَعُ المسلمُ والذمِّيِّ بمالِ المسلمٍ، والذِّميُّ على الصحيحِ من المذهب، ولا يقطعُ المعاهَدُ بسرقةِ مالِ مسلمٍ، ولا ذميٍّ على الأظهَرِ (¬3)، ولا يقطعُ لسرقةِ معاهدٍ قطعًا كما قالهُ الماورديُّ. وتثبُتُ السرقَةُ (¬4) بإقرارِ السارقِ وبالبيِّنَةِ برجلينِ، ولا يثبتُ قطع السرقةِ باليمينِ المردودةِ على المنصوصِ خلافًا لما في "المنهاجِ" تبعًا لأصلِهِ. قال الشافعيُّ -رضي اللَّه عنه- (¬5): (ولا يقامُ على سارقٍ ولا محاربٍ حدٌّ إلَّا بواحدٍ من وجهينِ: إمَّا شاهدان عدلانِ يشهدانِ عليه بما في مثله الحد، وإمَّا باعترافٍ ¬
ثَبَتَ عليهِ حتى يُقامَ عليهِ الحدُّ) هذا نصُّه. ولو أقرَّ ثمَّ رجَعَ فالأرجحُ أنَّه لا يقبلُ في المالِ، ويقبلُ في سقوطِ القطعِ. ومَن أقرَّ بعقوبةٍ للَّه تعالى فالمنصوصُ أنَّ للقاضِي أَنْ يعرضُ له بالرجوعِ إذا كانَ الرَّجُلُ ممن لا يعرفُ أنَهُ مندوبٌ إلى ستر ذلك، وإنَّه إذا عرفَ به فيثبت عليه سقط برجوعِه، وليسَ للقاضي أن يقولَ لهُ ارجِع (¬1). ولو أقرَّ أنَّه سَرَقَ مال زيد الغائب لم يقطعْ في الحالِ، بل ينتظرُ حضورُه على المذهبِ إنْ لمْ يكُنْ سفيهًا، فإن كانَ سفيهًا وطلبَ وليهُ المالَ قطعَ المقرُّ بالسرقةِ، ولا ينتظرُ حضورُ السفيهِ، ومجردُ حضورِ الغائبِ الذي ينتظر حضوره لا يكفي، بل المتعبَرُ مع حضورِهِ مطالبتُهُ بالمالِ بالدَّعوَى بنفسِهِ أو بوكيلِهِ، وإن لم يحضر، والمذهبُ أنَّهُ لو أقرَّ أنَّه أكره أمة فلان الغائب على زنًا حُدَّ في الحالِ، وكذلك الحكمُ لو قالَ زنيتُ بجاريةِ فلانٍ، ولم يذكرْ إكراهًا (¬2). ويثبتُ القطعُ بشهادةِ رجلينِ، فلو شهدَ بها رجلٌ وامرأتَانِ بعد دعوى المالِكِ أو وكيلِهِ ثبت المالِ، ولا قطعَ، وكذلكَ الحكمُ بالشاهدِ واليمينِ يحصلُ به ثبوتُ المالِ ولا قطعَ (¬3). ويُشترطُ ذكر الشاهدِ من شروطِ السَّرقَةِ ما يجبُ عليه ذكرُه، ولا يشترط ما لا يجبُ، فمما لا يجبُ عليه ذكرُهُ كونُ المسروقِ نصابًا، بل يكفي تعيينُ المسروقِ، ثمَّ الحاكمُ ينظرُ فيه، فإذَا ظهَرَ لَهُ أنَّهُ نصابٌ على ما تقرَّرَ عمل ¬
بمقتضاهُ، ومما لا يجبُ عليه ذكرُهُ كونُ المسروقِ ملكًا لغيرِ السَّارِقِ، بل يكفِي أَنْ يقولَ: سرقَ هَذَا. ثم المالكُ يقولُ: "هذا ملكي"، والسارقُ يوافقُهُ فيقطع بشروطِهِ. وممَّا لا يجبُ ذكرُهُ كما قال ابن الصبَّاغِ أن يقول: "ولا أعلمُ له فيهِ شبهةً"؛ لأنَّ الأصلَ عدمُ الشبهةِ، وإذا اختلفَ الشاهدَانِ فقالَ أحدُهما: سرقَ بكرةً، وقالَ الآخرُ: "سرقَ عشيَّةً" بطلتْ شهادتُهما لعدمِ اتفاقِهما. ويجبُ على السارقِ ردُّ ما سرَقَهُ إن كانَ باقيًا، فإن تلفَ ضمِنَهُ، وتُقطع يمينُهُ إنْ لم تكنْ شلَّاء، أو كانت شلَّاءَ تنحسمُ عروقها، فأمَّا إذا كانت شلَّاء وقال أهلُ الخبرةِ "إنَّها لو قطعتْ لم ينحسمِ الدَّمُ" فلا تقطعُ قطعًا، فإنْ قالُوا ينقطعُ الدَّمُ، قُطعت، واكتفي بها (¬1). ولا يجزئ قطعُ اليدِ اليُسرَى مع إمكانِ قطعِ اليدِ اليُمنَى، والرجلُ اليسرَى أصلًا، إلَّا إذا قالَ الجلادُ للسارقِ: "أخرجْ يمينَك"، فأخرجَ يسارَهُ فقطعَهَا، وقالَ المخرجُ: "ظننتُها اليُمنَى"، أو أنها تجزئ، فإنَّه يسقطُ القطعُ في اليمينِ على الأظهَرِ، لأنَّ المقصودَ التنكيلُ، وقدْ حصَلَ؛ ولأنَّ الحدَّ مبنيٌّ على التخفيفِ، فإن سرقَ ثانيًا بعد قطعَ اليمينِ قطعَتْ رجلُهُ اليُسرَى، إذا لم يكن له يدٌ أخرَى على المعصمِ الأيمنِ مساويةً للمقطوعةِ في البطشِ والخلقةِ، فإن كانَ كذلك فإنَّهُ تقطعُ في السرقَةِ الثانيةِ اليدُ الأخرى. ولو أمْكَنَ قطعُ أحدهما لأنَّها أصليَّةٌ فبطشتِ الأُخرَى أو كانَ بطشُها ناقصًا أو ناقصةَ الخلقَةِ، فإنَّه يُكتفَي بِهَا في القطعِ في المرَّةِ الثانيةِ، ويجيءُ في القدمين مثل هذا، أو في هذا اليسرى مثل هذا أو على هذا، فقد يسرقُ خامسًا ¬
فيقطع بعض ما ذكر، وكذلك سادسًا، وإذا فرغتِ الأطرافُ كلها عزر، وممنْ يُعزَّرُ أيضًا الصبيُّ، ومن سرَقَ على صورةٍ لا يجبُ عليه فيها القطعُ، ويغمسُ محلُّ قطعِه بزيتٍ أو دهنٍ مغليٍّ، قيلَ هو تتمَّةُ الحدِّ، والأصحُّ أنَّه حقٌّ للمقطوعِ، فعلى الأولِ لا يتركُهُ الإمامُ، ويكونُ ثمنُ الزيتِ ومؤنة الحسمِ على السارقِ على الأصحِّ، وعلى الأصحِّ أنَّهُ حقٌّ له، فمؤنتُه في بيتِ المالِ، وهو الذي جزمَ به جمعٌ من الأصحابِ العراقيينَ، والخراسانيينَ. ولو تركَ الإمامُ الحسمَ فلا شيءَ عليه، إن لم يكنْ في إهمالِهِ ما يؤدي إلى تلفِ المقطوعِ، فإن أغمي عليه أو زال عقلُهُ وليس لَهُ من يقومُ بحالِهِ أو كانَ على حالٍ يتعذر فلو لم يكن في بيت المالِ شيءٌ فمن مالِ المقطوعِ، فإن لم يعطِ المالَ ترك. وتُقطعُ اليدُ من الكوعِ (¬1)، والرِّجلُ من مفصلِ القدمِ، ومن سرقَ مرارًا بلا قطعٍ يكفي قطعُ يمينِهِ، وإن نقصتْ أربع أصابع، فإن نقصتِ الخمسُ فالأصحُّ عند الشيخ أبي حامدٍ والغزاليِّ وعليه اقتصر ابنُ الصباغِ: الاكتفاء، وصحَّحهُ النوويُّ في زياداتِه، والأصحُّ عند شيخِنَا تبعًا للقاضي حُسين عدمُ الاكتفاءِ، وتقطعُ اليدُ الزائدةُ الأصبعِ على الصحيحِ، وحُكم زيادةِ الإصبعين أو أكثرَ كالأصبعِ الزائدِ، وأمَّا اليدُ الزائدةُ الكفَّ فإنْ كانَ لا يمكنُ قطعُ الكفِّ الزائدُ بأصابعِهِ كالأصابعِ الزائدةِ، وإذا سرقَ فسقطتِ يمينه بآفةٍ أو جنايةٍ، سقطُ القطعُ، وإن سقطت يسارُه فلا يسقطُ القطعُ على الأرجحِ. * * * ¬
باب قاطع الطريق
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ بابُ قاطع الطريق قال اللَّهُ تعالى: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [المائدة: 33] الآية. وهو مكلَّفٌ ملتزمٌ واحدًا كان أو أكثرَ (¬1)، خرجَ على مَن مالُهُ محترمٌ لأخذ ماله أو لقتال، فمنهُ إخافة السبل مع اعتمادٍ على قوةٍ يتغلَّبُ بها مجاهرةً، مع بعدٍ عن الغوثِ ولوْ في البلدِ، ولو ليلًا مكابرةً مع منعِ أصحابِ الدَّارِ من الاستغاثَةِ، وبالبعدِ عن الغوثِ فارقُ المنتهبِ، ولا يشترطُ ذكورةً، فلو اجتمع نسوةٌ لهنَّ شوكةٌ وقوَّةٌ فهنَّ قاطعاتِ طريقٍ، ولا إسلامه، خلافًا لما ذكرَهُ الرَّافعيُّ ومَن تبعهُ. ¬
فالذِّميُّ اذا قطعَ الطريقَ يقامُ عليه مقتضاهُ، سواءٌ انتقضَ عهدَهُ بذلك أم لم ينتقضْ، فإنْ قاتَلَ انتقَضَ عهدُهُ بالقتالِ، ثم ما يفعلهُ بعدَ ذلكَ لا يجري عليه حكم قاطع الطريقِ، والمستأمَنُ لا يجري عليهِ حكمُ القطاعِ، وقياس ما قيلَ في السرقَةِ من القولِ بقطعِهِ أو إن شرطَ عليه أن يأتي هنا. وأمَّا المختلسونَ (¬1) الذين يتعرَّضونَ لآخر القافلةِ ويعتمدون الهربَ فليسوا بقطاعٍ، والذينَ يغلبونَ شرذمةً بقوتهِم قطاعٌ في حقهم لا في حقِّ القافلَةِ العظيمةِ، وحيث يلحقُ غوث قبلَ حصول مقصودِهم فليسوا بقطَّاعٍ، وإذَا عرَفَ الإمامُ من واحدٍ أو جمعٍ إخافةَ الطريقِ من غيرِ أخذِ مالٍ ولا جرح ولا قتل عزَّر من هذا حاله بما يراهُ من حبسٍ وغيرِه، ومَن كان مكثرًا لهم خاصَّةً فيعزر بما يراهُ من حبسٍ أو تغريبٍ أو غيرهما، وكذا من أخذ منهم دون نصابِ السرقةِ. ونصَّ في "الأمِّ" أنَّ من جُرحَ منهم، ولم يقتل ولا أخذ مالًا أنَّهُ يقتصُّ منهُ بما فيه القصاصُ وعُزِّرَ وحُبس، ومن أخذ منهم نصابَ سرقة محرزًا قطعتْ يدُهُ اليُمنَى ورجلُه اليُسرَى (¬2)، ولاء، ولو مع حسم، وإن جرح وأخذ المالَ قطع للمالِ الأولى قتل قطع الثانية إن خيفَ عليه، وإن لم يوجَدْ إلَّا أحدهما قطعتْ، كانَ فقدَ أوْ عادَ ثانيًا بعد قطعهما، فقطعتْ يدُهُ اليُسرى ورجلهُ اليمنَى كمَا سبقَ، أو ما وجدَ منهما. وإنْ قَتَلَ مكافئًا لَهُ قتلَ ولمْ يُصلب (¬3)، وإنْ قتلَ وأخذَ من المالِ نصابًا فأكثرَ فلا يقطع، ولكنْ يُقتلُ ويُصلَبُ ثلاثةَ أيامٍ، ثم ينزلُ إن لمْ يخفِ التغير ¬
قبلَ الثلاثِ، فإنْ خِيفَ التغير قبلَ الثلاثِ نزلَ على أصحِّ الوجهينِ، وحيثُ قتل القاطع فيعطى حكمُ الحد في مواضعِ قطعًا، وعلى الأصحِّ، وحكم القصاصِ في مواضعِ قطعًا، وعلى الأصحِّ. فمنَ الأوَّلِ: أنَّ الإمامَ يقتُلُه من غيرِ توقُّفٍ على طلب ولي القتيلِ، ولا ينتظر تكليفُه إذا كانَ غيرَ مكلَّفٍ ولا حضورُهُ إنْ كانَ غائبًا، ولا يسقطُ بعفوِهِ، ويتحتَّمُ قتلُهُ إذا قَدَرنا عليهِ قبلَ التوبةِ، وكانَ قدَ قَتَلَ مَن يُقتلُ بِه لولا قطع الطريقِ، ولم يرجع عن إقرارِهِ الذي ثبتَ القتلُ بِه، وكانَ القتلُ لأخذِ المالِ، وإذا قتلَ قاطعُ الطريقِ جماعةً على الترتيبِ فإنَّهُ يتحتمُ قتلُهُ ويدخلُ الأوَّلُ لا محالةَ حتَّى لو عفَى وليُّ الأولِ لم يسقط قتله بالأوَّلِ، كما نقلَهُ المصنفانِ المتأخرانِ عن البغويِّ ولم يتعقَّباهُ، ومقتضَى هذا أن قتلَهُ محتمٌ قطعًا، وهذا مقتضَى تغليبِ الحدِّ بالنسبةِ إلى ذلكَ قطعًا. ومن الثانِي: أنَّه لو عفى وليُّ القتيل على الديةِ، فلا ديةَ لَهُ على القولينِ، على الطريق المعتمدِ الخارجةِ منَ نصِّ "الأمِّ" وكلامُ العراقيينَ وجمعٌ من المراوزةٍ وشذَّ الفُورانيُّ ومن تَبِعَهُ، وتبعهُ صاحبُ "المحرر"، و"المنهاج" فأوجبَ للعافي الديةَ تفريعًا على تغليبِ القصاصِ، وهذا غيرُ معتمدٍ، وهو غلطٌ، ويمكن أن يجعلَ هذا من الأوَّلِ. وأمَّا الثالثُ: فمنهُ أنَّه لا يقتلُ بالمرتدِّ إذا علمَ بردَّتِه وتجبُ الكفَّارُةُ. ومنَ الرابعِ: أنَّه لا يقتلُ بغيرِ الكافرِ على الأصحِّ، وتؤخذُ الديةُ من مالِهِ لو ماتَ بلا قتلٍ أو قتلَ بالأوَّلِ أو بمرقُوع. ولا يسقطُ القصاصُ بالتوبَةِ قبلَ القدرةِ عليه، وتراعَى المماثلةُ، وعلى قاتلِهِ بغيرِ إذنِ الإمامِ الدية لورثتِهِ. وإذا تابَ قاطعُ الطريقِ قبلَ القدرَةِ عليهِ لم يسقطْ حقُّ الآدميِّ، ويسقطُ
التعزيرُ وانحتام القتل، ويسقطُ الصلبُ والقطعُ في الرِّجلِ، وكذا اليد على الأصحِّ. وكذلكَ يسقطُ ما ذكر إذا ثبَتَ ذلكَ بإقرارِهِ ثمَّ رجَعَ عنهُ، وأمَّا إذَا تابَ بعدَ القدرَةِ عليهِ فلا يسقطُ شيءٌ من ذلكَ على أصحِّ القولينِ. وتسقطُ سائرُ حدُودِ اللَّهِ تعالى بالتوبَةِ على المنصوصِ خلافًا لما في "المنهاجِ" تبعًا لأصلِهِ. قالَ الشافعيُّ -رضي اللَّه عنه- (¬1): وإذا شهدَ الشُّهودُ على حدٍّ للَّهِ تعالى، أو للنَّاسِ، أو حدٍّ فيهِ شيءٌ للَّهِ وللناسِ مثلِ الزِّنا والسرقةِ وشربِ الخمرِ فأثبتُوا الشهادَةَ علَى الشهودِ عليهِ أنَّهَا بعدَ بلوغِهِ وفي حالٍ يعقلُ فيها، أقيمَ عليهِ ذلك الحدُّ، إلَّا أَنْ يُحدِثَ بعدَهُ توبةً فيلزمُهُ مَا للناسِ ويسقُطُ عنه ما للَّهِ عز وجل؛ قياسًا على قولِ اللَّه عز وجل في المحاربينَ: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ} الآية. فما كانَ من حدٍّ للَّهِ تعالَى تابَ صاحبُهُ من قبلِ أَنْ يقدرَ عليهِ سقطَ عنْهُ والتوبةُ مما كانَ ذنبًا بالفعلِ مثلَ الزِّنَا وأشباهِهِ، فيتركُ الفعلُ مدَّة يختبرَ فيها حتَّى يكونَ ذلكَ معروفًا، وإنَّما يُخرَجُ من الشيء بتركِ الذي دخلَ فيهِ. وقد جَزَمَ الشافعيُّ بالسقوطِ لما ذكر الكلام علَى توبَةِ قاطِعِ الطريقِ، قالَ الشافعيُّ رحمه اللَّه: السارقُ مثلُهُ قياسًا عليهِ، يسقُطُ عنْهُ القطعُ ويوجدُ مغرمُ ما سرقَ، وإنْ فاتَ مَا سرَقَ. انتهَى. * * * ¬
فصل
فصل لا توالي في غيرِ قطعِ الطريقِ بين قطعينِ إلَّا في القصاصِ فيوالي فيه بينَ قطعِ الأطرافِ. ولو قطعَ يسارَ إنسانٍ وسرقَ، قطعتْ يسارُهُ قصاصًا وأمهلِ إلى الاندمالِ، بخلافِ ما لو استحقتْ يمينهُ للقصاصِ وأخذِ المالِ في قطعِ الطريقِ، فإنَّهُ تقطعُ اليمينُ قصاصًا، وتقطعُ الرجلُ اليُسرَى عن قطعِ الطريقِ عقبَ القصاصِ كما في قطعِ الطريقِ المتمحض. ولو قطعَ اليد اليمنَى والرجل اليسرى بحيثُ يجبُ القصاصُ ثم أخذَ المالَ في قطعِ الطريقِ قطعيًّا قصاصًا ولا حد، ومن لزمه قصاصٌ في نفسٍ وغيرها وحد قذفٍ، وطالبوهُ، فينظرُ فيهِ إلى تقديمِ الأخفِّ، فيقدَّمُ حدُّ القذفِ، ثمَّ يؤخَّرُ لئلَّا يهلكَ بالقطعِ بعدَ الجلدِ، فيفوت القتل، ولا يؤثر رضى مستحق القتل بتعجيل القطعِ على الصوابِ، وقال الإمامُ: إذا لم يخفِ الهلاكَ يبادر بالقطعِ برضى مستحق القتل وإذا بادر مستحق القتل فقتل فات حدُّ القذفِ ورجع مستحق القطع إلى الديةِ في تركة الجاني، لا على المبادر. ولو أخَّر مستحق الجلد جلده؛ فذكر صاحب "المحرر" و"المنهاج" أنَّ القياسَ صبر الآخرين، وهذا ممنوع، بل القياسُ أن يُقالَ له: إمَّا أن تستوفي حقَّك وإلَّا قطعناهُ وقتلناه لئلَّا يتأخر حقهما فيضيع. ولو اجتمع عقوباتٌ للَّهِ تعالَى قدِّمَ الأخفُّ فالأخفُّ، وأخفُّها التعزيرُ، ثمَّ يمهل، ثم يحدُّ للشربِ، ثمَّ يمهلُ، ثمَّ يجلدُ للزِّنَا، ثم يمهلُ، ثم يقطعُ للسرقةِ، ولا يمهلُ للقتل. ولو اجتمع عقوباتٌ للَّهِ تعالى وللآدميينَ؛ قدِّمَ حدُّ القذفِ على حدِّ الزِّنَا،
ومقتضَى نصِّ "الأمِّ" تقديمُ حدِّ القذفِ على حدِّ الشرب، وهو المعتمدُ خلافًا لمَّا صححوهُ، نظرًا إلى تقديمِ حدِّ الآدميِّ لا إلى الأَخفِّ، وأنَّه يقدَّمُ القطعُ قصاصًا على حدِّ الزنَا، وأما القتلُ قصاصًا فلا يقدَّمُ على حدِّ الزنا الذي هو الجلدُ، بل يجلدُ، ثم يمهلُ، ثم يقتلُ قصاصًا، نصَّ عليه. وإن كانَ حدُّ الزنا الرجمُ ففي وجهٍ يرجمُ بإذنِ الوليِّ ليتأدى به الحقَّانِ، والأصحَّ أنَّه يسلَّمُ إلى الوليِّ ليقتله قصاصًا، وما وقعَ في "المحرر" و"المنهاج" (¬1) من إطلاقِ وتقديمِ القتلِ قصاصًا على الزِّنَا متعقبٌ بما ذكرناهُ. * * * ¬
باب الحدود
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ باب الحدود قالَ اللَّهُ تعالى: {إِنَّمَا الْخَمْرُ} الآيةَ، وصحَّ أنَّ رسولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "كلُّ شرابٍ أسكرَ كثيرُهُ فقليلُهُ حرامٌ" (¬1). عصير العنبِ الذي اشتدَّ وأسكرَ وقذفَ حرامٌ بالإجماعِ، ويفسَّقُ شاربُهُ المكلَّفُ المسلمُ المختارُ العارفُ بحالِهِ، ويلزمه الحدُّ، ويكفرُ مستحلُّه، وألحقَ بهِ البغويُّ عصيرَ الرطبِ النيئ، واختارَ الرُّويانِيُّ أنَّهُ كسائرِ الأشربةِ المسكر كثيرُها، وهي كلُّها عندنا محرَّمةٌ، يجبُ بها الحدُّ، لكنْ لا يكفرُ مستحلُّ ما فيهِ الخلافُ. ¬
ولا حدَّ على صبيٍّ ومجنونٍ وذميٍّ يشربُ خمرَ ولا غيرُه مما ذكرَ، ولا علَى مَن غُصَّ بلقمةٍ وتغيبت أساغها بما ذكر، بل تجبُ الإساغةُ لحفظِ الرُّوحِ، ويحرمُ التَّداوِي بِهَا وشربِها للعطشِ والجوع على ما صحَّحوهُ، ويحدُّ، والأرجحُ أنَّه إنْ كَانَ يدفعُ جوعًا ومعهُ فيها سائغٌ فلا يجوزُ ويحدُّ. أو عطشًا كذلكَ جازَ بلا حدٍّ كالإساغَةِ، ولا مَن أوجر سكرها، وكذا مَن أكرِهَ حتَّى شربَهُ على الأصحِّ. ولا حدَّ على مَن جهِلَ أنَّهَا خمرٌ، أو جهلَ التحريمِ لقرْبِ عهدِهِ بالإسلامِ، فإن علِمَ التحريمَ وجهلَ الحدَّ حُدَّ. ويحدُّ الحنفيُّ بشربِ النبيذِ الذي يعتقدُ إباحتَهُ ولا يفسَّقُ، ويحدُّ بشربِ الدردي والتخبُّز منهُ إذا أكلَهُ بخبزٍ، أو ثردَ فيهِ وأكلَ الثريدَ، أو طبخَ بهِ وأكلَ المَرَقَ لا باللحمِ المطبوخِ بِهِ، ولا بأكلٍ خبزٍ معجونٍ بِه على الأصحِّ، ولا بما استهلَكَ فيه الخمرَ، ولا يحدُّ بحقنَةٍ ولا سعوط، كما جزمَ بهِ ابنُ الصباغِ، وحكى غيرُهُ فيه وجهين وصححَ المتأخرونَ أنَّهُ لا يحدُّ. قال شيخُنا: والأرجحُ عندِي أنَّهُ يحدُّ إذا كانَ يحصلُ منهُ سكرُ بوجهٍ ما، كما في الشربِ، وكذلك لو جعلَ يسكر بوصولِهِ إلى جائفةٍ ومأمومةٍ، ولم يذكروه. وما يزيل العقلَ من غيرِ الأشربةِ المذكورَةِ يحرمُ تناوُلُه، ولا حدَّ فيهِ، وكذلكَ الحشيشةُ التي يحصُلُ منهَا التخدُّرُ. والحدُّ في هذا البابِ حتمًا على مَن تكملتْ فيهِ الحريَّةُ أربعون، وعلى مَن فيهِ رقٌّ عشرونَ بالسوطِ أو الأيدِي أو النعال أو أطرافِ الثِّيابِ. وفي وجهٍ أنَّه يتعيَّنُ ما عدا السوطِ من الأيدِي والنِّعال وأطرافِ الثِّيابِ، وفي وجهِ آخر أنَّه يتعينُ السوطُ، وهو أضعفُ منَ الأوَّل.
ولو رأَى الإمامُ بلوغَه للحرِّ ثمانينَ جازَ علَى المنصوصِ، ولا يزيدُ على الثمانينَ بلا خلافٍ، والزيادةُ على الأربعينَ إلى الثمانينَ بغيرِ السوطِ تعزيراتٍ، وأمَّا الأربعونَ بالسوطِ فليستْ حدًّا، وأنَّه إذا ماتَ منها ضمنهُ الإمامُ علَى مقتضَى نصِّ الشافعيِّ -رضي اللَّه عنه-: ولفظه: (وإذا ضربَهُ -يعني السلطانُ- في خمرٍ أو سكرٍ من شرابٍ بنعلينِ أو طرفِ ثوبٍ أو يدٍ ما أشبههُ ضربًا يحيطُ العلمُ أنَّهُ لا يبلغُ أربعينَ أو يبلغُها ولا يجاوزها فماتَ من ذلكَ فالحقُّ قتله، وما قلت: الحق قتله، فلا عقلَ فيهِ ولا قودَ ولا كفَّارَةَ على الإمامِ، ولا علَى الذي يلي ذلكَ من المضروبِ. ولو ضربَهُ بما وصفتُ أربعينَ أو نحوَهُ لم يؤد عليِه شيئًا فكذلكَ، ثم قال: فإنْ ضرَبَهُ أربعينَ أو أقلَّ منهَا بسوطٍ، أو ضربَهُ أكثرَ من أربعينَ بالنِّعالِ أو غيرِ ذلكَ فماتَ فديتُهُ على عاقلةِ الإمامِ، وفي وجهٍ أنَّها حدٌّ، وصاحبُ هذا الوجهِ وهو أبو إسحاق المروزي يقول: إنَّه لا يتحتَّمُ، وإنَّه يتعلَّقُ بالاجتهادِ وما كانَ كذلكَ كانَ مضمونًا على الإمامِ إذا حصلَ التلفُ به اتِّفاقًا. ويكفي في إقرارِ الشَّاربِ أَنْ يقولَ: شربتُ خمرًا، أو يقولُ: شربَ رجلٌ خمرًا، وهو أنَا. وأمَّا الشاهدُ فيقولُ: أشهدُ أنَّ هذا، أو: أنَّ فلانَ ابقَ فلانٍ -وينسبه بما يعرفُ به- شربَ الخمرِ المحرَّمةِ عليهِ من غيرِ أن يسيغَ بهَا ما غصَّ بهِ. ويقولُ في شربِ الشاربِ النبيذَ: أشهدُ أنَّهُ شربَ النبيذَ الذي يسكرُ كثيرُهُ. ولا يشترطُ أَنْ يقولَ: "وهو عالمٌ أنَّه مختار" على المنصوصِ، وفي وجهٍ يشترطُ. ولا يحدُّ في حالِ سكرِهِ، فلو حدَّ في تلكَ الحالةِ أجزأ على أصحِّ الوجهينِ، ويكونُ السوطُ المجلود بِهِ بينَ الرطبِ واليابس، ويفرِّقُهُ على الأعضاءِ إلَّا
فصل
المَقَاتِلَ، والوجه والرأس على المنصوصِ في البويطي، ولا نصَّ له يخالفة، فهو المعتمدُ خلافًا لما في "المنهاج" (¬1) تبعًا لأصلِه، من جعلِ استثناءِ الرأسِ وجهًا ضعيفًا، ولا تُشدُّ يدُ المجلود ولا يجرَّدُ عن ثيابِهِ، ويوالي الضربَ بحيثُ يحصلُ الزجرُ والتنكيلُ. * * * فصل يعزرُ في كلِّ معصيةٍ لا حدَّ فيها (¬2) من لم يكنْ أصلًا في حقِّ فرعِهِ ولا ذا هيئةٍ في عترتِهِ ولا مخاصمًا لخصمِه في حالِ المخاصمةِ أنَّه ظالمٌ أو فاجرٌ، ويحتملُ ذلكَ منهُ ولا من ارتدَّ أوَّلَ مرَّةٍ ثم أسلمَ، ولا من وطئَ زوجتَهُ في دبرها أوَّلَ مرَّةٍ على النصِّ. ويعزَّرُ الصبيُّ والمجنونُ، وإن لم يكنْ فعلهما معصيةً على النصِّ، وقد يقعُ ما صورتُهُ صورةَ التعزيرِ، وإن لم توجَدِ المعصيةُ فحبسُ الحاكمِ من ثبتَ عليه الدينُ ولم يظهر منهُ تقصيرٌ، ولم يثبتْ ملاؤُهُ ولا مماطلته، وادَّعى الإعسارَ، ولم يثبتْ ما ادَّعاهُ نوعٌ فيه نظر، لأنَّ الحبسَ الذي تعلَّقَ ممنْ ظهرتْ ملاؤُهُ ومماطلتُه لهُ وجهٌ باعتبارِ معصيتهِ، وهذا متعذِّرٌ هنا، ولا وجهَ له إلَّا بأنْ يدعي أن هذا طريق في الظاهرِ بينَ الناس إلى خلاصِ الحقوقِ، فيفعلُ ذلك عملًا بأنَّ الظاهرَ الملاءَةُ؛ لأنَّ ثبوتَ الدينِ يقضيه المعاملة ونحوها يدلُّ على الملاءَةِ. ¬
ومما يقعُ في صورة التعزير ولا معصيةَ وذكر في "المنهاج" (¬1) تبعًا للمحرر بعد نفي الحدِّ نفي الكفارة فقالَ: يُعزرُ في كلِّ معصيةٍ لا حدَّ فيها ولا كفَّارة، ولم يذكر "ولا كفارة" جمع من الأصحابِ في الطريقينِ. ويستثنى من إطلاقِهِ "وإلَّا كفارةَ" مسائل يشرعُ فيها التعزيرُ والكفارةُ. فمنها إذا جامعَ زوجَتَهُ أو أمتَهُ في نهارِ رمضانَ الجماعَ الموجبَ للكفَّارَةِ، فإنَّه يجبُ عليه التعزيرُ على ما جزَمَ بِهِ صاحبُ التعجيز وادَّعى البغويُّ في "شرحِ السُّنَّةِ" إجماعَ الأمَّةِ عليه، ونازعَهُ شيخُنا في ذلك، وقال: إن الصحيحَ من الأوجُهِ أنَّهُ لا يعزَّرُ، وجزمَ ابنُ الرِّفعةِ بهذا، وهو المعتمدُ، وقالَ: ووهِمَ مَن جعلَهُ وجهًا. انتهَى. ومنها: إذا قتلَ منْ لا يقادُ بِهِ، فإنَّه يُعزَّرُ، معَ أنَّ الكفَّارَةَ واجبة. ومنها: اليمينُ الغموسُ، فإنَّ فيهَا الكفَّارَةَ والتعزيرَ، كما جَزَمَ بِهِ صاحبُ "المهذَّب" خلافًا لمنْ منع استثناءَها مِن ذلك. ويستثنى من قولِنا: "لا حدَّ فيهَا" ما لو جلدَ للزِّنا بشهادةٍ، ولم يؤثِّرْ فيهِ الجلدُ، ثمَّ رجعَ الشاهدُ فكذَّبَ نفسَهُ. ففي الكفاية عن الكافي أنَّهُ يحدُّ للقذفِ، ويعزَّرُ لاعترافِهِ بشهادةِ الزُّورِ. ومما يرد على العبارتينِ جميعًا ما إذا رأَى مَن زنَى بزوجتِهِ والزَّانِي محصنٌ فقتلَهُ، فلا تعزيرَ عليهِ، وإنِ افْتَاتَ على الإمامِ ويُعْذَرُ لأجلِ الحميَّةِ، ويحل لَه قتله فيما بينَهُ وبينَ اللَّهِ تعالى إذا لمْ تكُنْ بيِّنَة، وإنْ كانَ يُقادُ بِهِ في الظاهرِ كما نصَّ عليهِ. ¬
والتعزيرُ بالحبسِ أوِ الضربِ أو الصفعِ أو التوبيخِ، أو النَّفي (¬1)، وللإمامِ أَنْ يجمَعَ بين الحبسِ والضربِ والاقتصارِ على أحدِهِما، وعليهِ أَنْ يرَاعِي الترتيبَ والتدريجَ كمَا يراعيهِ دافعُ الصائل، فلا يرقَى إلى مرتبةٍ وهو يَرَى ما دونَهَا مؤثرًا كافيًا، ويجتهدُ في تركِهِ، فإنْ رأَى المصلحَةَ في العفوِ فلَهُ ذلكَ. ويجتهدُ في جنسِهِ بينَ الحبسِ أو الضربِ جلدًا أو صفعًا أو غيرَ ذلكَ منَ التَعازيرِ، وإذا رأَى التعزيرَ بالحبسِ فقالَ الزبيريُّ يتقدر بشهرٍ للاستبراء، أو للكشفِ، وستة أشهرٍ للتأدُّبِ والتقويمِ، والذي نصَّ عليه الشافعي -وهو المشهورُ- أنَّه لا يبلغُ بحبسِهِ سنةً. فإنْ جلَدَ وجبَ أن ينقصَ في عبدٍ عن عشرينَ، وحرٍّ حريةً مستقِرَّةً عن أربعينَ على ظاهرِ النَّصِّ، وفي وجهٍ عن عشرينَ، ويستوي في هذا جميعُ المعاصي على الأصحِّ. وإذا عفى مستحقُّ حدٍّ فلا تعزيرَ للإمامِ في الأصحِّ، أو عفَى مستحقُّ تعزيرٍ فللإمامِ التعزيرُ حينئذٍ على الأصحِّ. * * * ¬
[كتاب الصيال وضمان الولاة]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ [كتابُ الصيال وضمان الولاة] (¬1) الصِّيالُ والمصاولةُ: المواثبة. والصائلُ: الظالمُ. واستؤنس للصيالِ بقولِهِ تعالى: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} الآيةَ. واحتج الشافعي -رضي اللَّه عنه-: والأصحابُ بالحديثِ الصَّحيحِ: "مَن قُتِلَ دونَ مالِهِ فهو شهيدٌ" (¬2) قالوا: والشهيدُ مَن كانَ لَهُ الصِّيالُ. وصحَّ أنَّ رسولَ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- ¬
قالَ: "انصُر أخَاكَ ظالمًا أو مظلومًا" (¬1) الحديثَ. مَن قصدَ التعرُّض لنفس شخصٍ معصومٍ أو عضو من أعضائِهِ أو لمالِ المعصومِ أو بضعٍ فهدرٌ إذا دُفِعَ وأتى الهلاكُ على نفسِهِ، وسواء كانَ ذلكَ القاصدُ كافرًا أو مسلمًا قريبًا أو أجنبيًّا حرًّا أو عبدًا (¬2). وزوالُ العصمةِ قد يكونُ مطلقًا، وقد يكونُ مقيدًا، فالحربيُّ الذي ليسَ لَهُ ما يقتضي تأمينَه لا عصمَة له مطلقًا، فليسَ لَهُ دفعُ مسلمٍ ولا ذميٍّ ولا مرتدٍّ إذا صالوا عليهِ. والمرتدُّ معصومٌ على مرتدٍّ مثلهُ، فيدفعُ المرتدَّ إذا صالَ عليه، والزاني المحصن إذا صالَ عليهِ مَن لا يقتلُ بِهِ فليسَ لهُ دفعُه بالقتلِ، وكذلك تاركُ الصلاةِ ومَن تحتمُ قتلُهُ في قطعِ الطريقِ، ومن عليهِ قصاصٌ لا يدفع مستحقه بالقتلِ إذا صالَ عليهِ. وأمَّا الصائلُ على الطرفِ من مسلمٍ أو ذمِّيٍّ أو مرتدٍّ فإنَّه ليسَ للمصولِ عليهِ الحربي دفعُهُ؛ لأنَّ نفسَهُ مهدرةٌ، وأطرافَهُ غيرُ معصومةٍ، وإذا صالَ على طرفِ المرتدِّ مسلمٌ أو ذميٌّ فله الدفع عن طرفه على أرجح الاحتمالاتِ؛ لأنَّ الحقَّ لهُ في ذلكَ بخلافِ النفسِ، وكذلك ممن يسوغُ قتلُه دون قطع طرفه، وإذا صال على مال الحربي مسلمٌ أو ذميٌّ فليسَ له الدفعُ، فإن صالَ عليهِ مرتدٌّ احتملَ أنَّ لَهُ دفعُهُ؛ لأنَّ المرتدَّ لا يملكُ في حالِ الردَّةِ، واحتملَ أَنْ لا يدفعَهُ -وهو الأقربُ- لأنَّ الخمسَ ينتقلُ باستسلامِهِ لأهلِ الخُمسِ قطعًا، وأمَّا الأخماسُ ¬
الأربعةُ فأعطي المِلْكُ فيها لأهلِ الفيءِ على المعتمدِ. وأمَّا مالُ المرتدِّ إذا صالَ عليهِ مسلمٌ أو ذميٌّ أو مرتدٌّ فللمرتدِّ دفعُه لبقاء علقته فيه، وأما غير المرتدِّ ممن يسوغُ قتلُهُ فإنَّه لا يزولُ ملكُهُ فله الدفعُ (¬1). ولو كانَ المالُ عبدًا مرتدًّا أو تحتَّمَ قتله بما صدَرَ منهُ من القتلِ في قطعِ الطَّريقِ أو تركِ صلاةٍ أو زنًا وهو محصنٌ، ثم طرأ عليهِ الرِّقُّ لنقضهِ العهدَ والتحاقِهِ بدارِ الحربِ فلسيِّدِهِ دفعُ الصائلِ عنْهُ إبقاءً لمالِهِ على الأقيسِ؛ لأنَّه يجوزُ لَهُ بيعُهُ، ولا يجبُ الدفعُ عنْ مالٍ إلَّا إذَا كانَ المالُ حيوانًا معصومًا، وأرادَ الصائلُ إتلافَهُ، فإنَّهُ يجبُ عليه دَفْعُه. ولو رأَى أجنبيٌّ إنسانًا يتلفُ حيوانَ نفسِهِ إتلافًا محرَّمًا فإنَّهُ يجبُ على الأجنبيِّ أَنْ يدفعَهُ عنهُ على الأصحِّ. ويجبُ الدفعُ عن البضعِ إذَا لم يخفْ علَى نفسِهِ، ويجبُ عنِ النفسِ إذا قصدَهَا كافرٌ أو بهيمةٌ، وكانَ المصولُ عليهِ مسلمًا، فإنْ كانَ كافرًا فلا يجبُ عليهِ الدفعُ إذا قصدَهُ كافرٌ، لكنْ يجوزُ. ولا يجبُ الدفعُ إذا قصَدَهُ مسلمٌ، لكن يجوزُ إلَّا أن يكونَ المسلمُ الصائلُ غيرَ محقونِ الدَّمِ وقد صالَ على محقونِ الدَّمِ فيجبُ على المسلمِ الدفعُ عن نفسِهِ المحقونةِ قطعًا، وكذلكَ إذا قصَدَ المسلمَ المعصومَ مسلمٌ غيرُ مكلَّفٍ فإنَّهُ يجبُ الدفعُ حينئذٍ على أصحِّ الطريقينِ، وإنْ أمكَنَ المصولُ عليهِ دفعَ الصائلِ المسلمِ بغيرِ القتلِ وجَبَ حينئذٍ. وحكمُ الدفعِ عنْ غيرِهِ كحكمِ الدفعِ عنْ نفسِهِ فيما تقدَّمَ، وقيلَ يجبُ قطعًا، وقيلَ لا يجبُ قطعًا. ¬
ولو سقطَتْ جرَّةٌ ولم تندفعْ عنْهُ إلَّا بكسرِهِا وكانتْ على روشنٍ أو لم تكن على روشنٍ، ولكن وضعها واضعُها مائلةً أو على وجهٍ يغلبُ على الظنِّ سقوطُها، فلا ضمانَ على كاسرها حينئذٍ قطعًا، وإنْ لمْ تكنْ كذلَك فلا ضمانَ على كاسرِها على الأصحِّ عندَ شيخِنَا خلافًا لما صحَّحهُ في "المنهاجِ" (¬1) تبعًا لأصلِهِ. ويُدفَعُ الصائلُ المعصومُ بالأخفِّ، فإنْ كانَ غيرَ معصومٍ فلا يجبُ على الدافعِ مراعاةُ الأخفِّ، وله العدولُ إلى القتلِ، وإذا أمكَنَ دفعُ المعصومِ بكلامٍ واستغاثَةٍ فيحرمُ الضربُ، أو يضربُ بيدٍ حَرُمَ سوط، أو بسوطٍ حَرُمَ عصا، أو بقطع عضوٍ حرُمَ قتلٌ، فإن أمكنَ هربٌ فالأظهرُ وجوبُهُ. وتحريم القتال إن لم يكنِ الصائلُ حربيًّا، ولا مرتدًّا، فإن كانَ كذلكَ لم يجبِ الهربُ، بلْ يجوزُ في الحالةِ التي يحرمُ فيها الفرارُ، كما سيأتِي في الجِهَادِ إن شاء اللَّهُ تعالى. ولو عضَّ يدَهُ خلَّصَهَا بالأسهلِ من فكِّ لحييهِ، وضرب شدقيهِ، وكذا بعج بطنه وعصر خصْيةٍ على الصحيحِ، فإن عجَزَ فسلها فندرت أسنانُه فهدر إن كانَ المعضوضُ معصومًا، فإن لم يكنْ معصومًا فليسَ لَهُ أَنْ يفعلَ بالعاضِّ ما يؤدي إلى أن تندر أسنانُهُ فإن فعلَ ذلكَ ضمنَ أسنانَهُ. قال شيخُنا: وهذا لا توقف عندي فيه، وإن وقفَ مَن وقفَ فيه. انتهى. ومن نظرَ إلى حُرمةٍ في دارِهِ مِن كوةٍ أو ثقبٍ غير واسعين فرماهُ بخفيفٍ كحصاةٍ فأعماهُ أو أصابَ قربَ عينيهِ فجرحَهُ فماتَ فهدرٌ، بشرطِ عدمِ محرم وزوجةٍ للناظرِ، وكذا لو كانَ المنظورُ إليهَا أمةً يقصد ابتياعَها، ولم ينظرْ إليهَا ¬
النظرَ الممتنع، وهو ما بينَ السُّرَّةِ والرُّكبةِ، فلا يجوزُ رميُهُ، والأظهَرُ أنَّهُ لا فرقَ بين أن تكونَ الحُرَمُ في الدَّارِ متستراتٍ أو متكشفاتٍ، وأنَّهُ لا يجبُ تقديمُ الإنذارِ على الرَّمي. ولو عزر وليٌّ ووالٍ وزوجٌ ومعلمٌ فمضمونٌ إذا كانَ التعزيرُ لهُ مدخل في الإهلاكِ ولم يحضرْ مَن عليهِ التعزيرُ إلى الوالِي فيعترفُ بمَا يقتضي التَّعزيرُ، ويطلبُ من الوالي أَنْ يعزِّرَهُ فعزَّرَهُ بطلبِه ولم يعزرِ الزوجُ زوجتَهُ الأمة بإذنِ مالكِها، ولم يعزر المعلمُ العبد أو الأمة بإذن المالك، ولو حدَّ فلا ضمَانَ. ولو ضُرب شاربٌ بنعالٍ وثيابٍ فلا ضمانَ على المنصوصِ، فإنْ ضرَبَهُ أربعينَ سوطًا ضمنَ على النصِّ خلافًا لما في "المنهاج" (¬1) تبعًا لأصلِهِ أو أكثرُ فالأصحُّ بمقتضَى النصِّ إيجابُ نصفِ الدية خلافًا لما في "المنهاجِ" (¬2) تبعًا لأصلِهِ. وإذا جلدَ في القذفِ إحدى وثمانينَ فماتَ منها ففيهِ قولانِ: أحدُهما: نصفُ دِيَةٍ، والآخرُ: جزءٌ منْ واحدٍ وثمانينَ. هذا إذا ضربه الزائدَ مع بقاء ألمِ ضربِ الحدِّ الكاملِ، فإن ضربَهُ الحدَّ كاملًا وزال ألمُ الضربِ، ثم ضربَهُ الزائدَ فإنَّه يضمنُ ديتَهُ كلها بلا خلافَ. وللمستقل بنفسِهِ، وهو المكلَّفُ الحرُّ أو الرَّقيق الذي يكونُ كسبُهُ له قطع سَلْعَة غير مخوفة، فإن كانتْ مخوفةَ القطعِ ولا خطَرَ في التركِ، أو كانَ في كلٍّ مَنَ التركِ والقطعِ خطرٌ، لكن الخطرَ في القطعِ أكثرُ، واستوَى الأمرانِ، فليسَ لَهُ القطعُ في ذلك، خلافًا لمَا صحَّحهُ في "الروضةِ" (¬3) تبعًا لأصلِها من الجوازِ ¬
في الاستواءِ، ثم محل الجوازِ فيما تقدَّم ما إذَا لمْ يَكُنِ الخوفُ في التركِ أكثر، فإن كانَ أكثر وقالَ الأطباءُ: إن لم تقطعْ حصلَ أمرٌ يفضي إلى الهلاكِ، فإنَّه يجبُ حنيئذٍ، كما يجبُ دفعُ المهلكاتِ، ويتحمل الاستحبابُ. وللأب والجد قطع السَّلعةِ من غيرِ مكلَّفٍ مع الخطرِ إن زادَ خطرُ التركُ وليس للسلطانِ ذلك، ولهما وللسلطانِ قطعها بلا خطرٍ، وفصد وحِجَامة، فلو مَاتَ بجائزٍ مِن هذا، فلا ضمانَ علَى الصَّحيحِ، وإذا فعلَ السلطانُ بصبيٍّ ما يقعُ منهُ من ذلكَ فعليهِ ديةٌ مغلَّظَةٌ مالِهِ حيثُ لمْ يكُنِ الخوفُ في القطعِ أكثرَ من التركِ، فإن كانَ أكثرَ فعليهِ القصاصُ قطعًا. ولو فعلَ الأبُ والجدُّ ما مُنع منهُ فتجبُ الديةُ في مالِهِ على الأصحِّ، وقيلَ لا يجبُ عليه، وقيلَ على عاقلتِهِ، والضمانُ الواجبُ بخطأ الإمام في حدٍّ أو حكمٍ على عاقلتِهِ على المنصوصِ. ولو حدَّهُ ببينةٍ، فبانَ فيها أو في بعضِهَا مانعٌ من قبولِ الشهادَةِ، فإنْ قصَّرَ في الاختبارِ، فالضمانُ عليهِ إذا تعمَّدَ، فإنْ لم يتعمَّدْ تعلَّقَ بالعاقلةِ لا يثبت المال، وإن لم يقصِّر، فمذهبُ الشافعيِّ المقطوع به أنَّ ذلكَ على عاقلتِهِ، فإنْ ضمنا عاقلة أو بيت مالٍ فلا رجوع على مَنْ بِه مانع كالذميين والعبدين والمراهقين على الصحيح. ومن حجمَ أو فصدَ بإذنِ مَن لَهُ ذلكَ لم يضمنْ، وقتلُ الجلادِ وضربُهُ بأمرِ الإمامِ كمباشرةِ الإمامِ إنْ جَهلَ ظلمَهُ وخطأَهُ، وإلَّا فالقصاصُ والضمانُ على الجلادِ وحدَهُ، فإن كانَ مُكرهًا فعلى ما سبقَ. ويجبُ ختانُ المرأةِ (¬1) بجزءٍ من اللحمةِ بأعلى الفرجِ، والرجلُ بقطعِ ما ¬
فصل
يغطِّي حشفتهُ بعدَ التكليفِ، ويندبُ تعجيلهُ في سابعِ ولادتِهِ، فإنْ ضعفَ عَنِ احتمالِه أخِّرَ، ومن ختنهُ في سنٍّ لا يحتمله لزمَهُ قصاصٌ إن كانَ ممن يعقلُ به، وإلَّا فدية، فإن احتملَهُ وختنَهُ وليٌّ فلا ضمانَ على الأصحِّ. وإن ختنَهُ أجنبيٌّ فعليهِ القصاصُ، حيثُ سرَى الجرحُ العمدُ إلى النفسِ. وأجرةٌ الختانِ في مالِ المختونِ. * * * فصل (¬1) مَن كانَ معَ دابَّةٍ أو دوابٍّ وهو مكلفٌ ملتزمٌ للأحكامِ، ولم يصدر من غيره فعل بغيرِ إذنِهِ أقوى من ركوبِهِ، والدابَّةُ حيَّة، ولم يكن معه في مسكنه ضمنَ إتلافَها كما لو أتلَفَهُ هو، ولو بالَتْ أو راثَتْ بطريقٍ فتلف (¬2) [بطريقٍ فتلفتْ به نفسٌ أو مالٌ فلا ضمانَ، ويحترزُ عما لا يعتادُ كركضٍ شديدٍ في وحل، فإن خالف ضمن ما تولد منه، ومَن حمل حطبًا على ظهره أو بَهيمة فحك بناءً فسقط ضمنه، فإن دخل سوقًا فتلف به نفسٌ أو مالٌ ضمن إن كان زحامٌ، فإن لم يكن وتمزق ثوبٌ فلا، إلا ثوب أعمى ومستدبر لبهيمةٍ فيجبُ تنبيهُه، وإنما يضمنه إذا لم يقصر صاحبُ المال، فإن قصَّر بأن وضحه بطريقٍ أو عرضه للدابة فلا، وإن كانت الدابةُ وحدها فأتلفت زرعًا أو غيره نهارًا لم يضمن صاحبُها أو ليلًا ضمن إلا أن لا يفرط في ربطها، أو حضر ¬
صاحب الزرع وتهاون في دفعها، وكذا إن كان الزرع في محوطٍ له بابٌ تركه مفتوحًا في الأصح، وهرة تتلف طيرًا أو طعامًا إن عهد ذلك منها ضمن مالكها في الأصح ليلًا ونهارًا وإلا فلا في الأصح]. * * *
[كتاب الجهاد]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ [كتاب الجهاد] [كان الجهادُ في عهدِ رسولِ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- فرضَ كفايةٍ، وقيل: عين، وأما بعدهُ فللكفارِ حالان: أحدُهما: يكونون ببلادِهِم ففرضُ كفايةٍ إذا فعلهُ مَن فيهم كفايةٌ سقط الحرجُ عن الباقين. ومِن فرضِ الكفايةِ: القيامُ بإقامة الحجج وحلِّ المُشكلاتِ في الدِّينِ وبعلومِ الشرعِ كتفسيرٍ وحديثٍ، والفروع بحيثُ يصلحُ للقضاءِ، والأمرُ بالمعروف والنهيُ عن المنكر وإحياءُ الكعبة كلَّ سنة بالزيارة، ودفعُ ضرر المسلمين: ككسوة عارٍ، وإطعامٍ جائعٍ إذا لم يندفعْ بزكاة وبيت مال، وتحملُ الشهادة وأداؤها، والحرفُ، والصنائعُ، وما تتم به المعايشُ، وجوابُ سلام على جماعة، ويسنُّ ابتداؤها لا على قاضي حاجةٍ، وآكلٍ، وفي حمامٍ، ولا جوابَ عليهم. ولا جهادَ على صبيٍّ، ومجنونٍ، وامرأةٍ، ومريضٍ، وذي عرجٍ بيِّن، وأقطع،
وأشلَّ، وعبدٍ، وعادِمِ أُهبة قِتالٍ. وكلُّ عذرٍ منع وجوبَ الحج منَعَ الجهادَ إلا خوفَ طريقٍ من كفار، وكذا من لصوصِ المسلمين على الصحيح. والدَّيْنُ الحالُّ يحرمُ سفرَ جهادِهِ وغيرِهِ إلا بإذنِ غريمِهِ، والمؤجَّلُ لا، وقيل: يمنع سفرًا مخوفًا. ويحرم جهادُ إلا بإذن أبويه إن كانا مُسلمين، وعبد بلا إذن] (¬1) سيده بما فيهِ من الرِّقِّ، فإنِ اجتمعُوا على الإذنِ جاهَدَ، وإنْ افترقوا فيه امتنعَ، فإن سافر يعلم فرض عينٍ أو كفايةٍ، والطريق غير مخوفٍ، فلا يحتاج إلى إذنِ أصولِهِ أو أصلِهِ المسلمين فيها، وفيه وجه في فرضِ الكفايةِ أنَّه يحتاج إلى إذنِ الأصلِ المسلمِ، هذا إذا لم يكن نفقة أصولِهِ أو أحدهمْ لازمةً لَهُ، فإنْ كانتُ ولم يستنبْ في الإنفاقِ علَى مَن ذُكِرَ من الأصولِ فإنَّه يجبُ استئذانُهُ حينئذٍ كصاحبِ الدَّينِ، لأنَّ وجوبَ نفقةِ مَن ذكر كالدَّينِ للمنفق عليه، وسواء كان مَن يلزمُهُ نفقتُهُ ممن ذكرَ مسلمًا أو كافر. فإن أذنَ أبواهُ والغريمُ، ثم رجعُوا وجبَ الرجوعُ إنْ لمْ يحضرِ الصَّفَّ ولا خيفَ انكسارٌ على المسلمين، ولا كان خروجُهُ بجُعلٍ مع سلطان، فإن التقى الفريقانِ حرمَ الانصراف على الأصحِّ، فإن خشي انكسارَ المسلمين حرمَ الانصرافُ قطعًا. الحالُ الثاني: أن يدخلوا بلدةً لنَا أو وصلوا إليها ولم يدخلُوا، أو نزلُوا على خرابٍ أو جبلٍ في دارِ الإسلامِ بعيد عن البلدانِ والأوطانِ، فيلزمُ أهلُها الدفعُ بالممكنِ، فإن أمكنَ تأهُّب لقتالٍ لعيالٍ وجبَ الممكنُ، ولا يجبُ على ¬
فقيرٍ ولا ولد مدين ولا عبدٍ بلا إذنٍ على النصِّ خلافًا لما في "المنهاجِ" تبعًا لأصلِهِ. والمعتمدُ في الفتوَى وهو مقتضَى النصِّ أنَّهُ إنْ حصلتْ مقاومة بأحرار اشترط إذن السيِّدِ خلافًا لما جعله في "المنهاجِ" وجهًا ضعيفًا. وإن لم يمكنِ التأهُّبِ للقتالِ، فمن قُصد دفع عن نفسِه بالممكنِ إن علم أنَّه إن أخذ قتلَ، أو علمتِ المرأةُ أنَّها لو أسرتْ امتدَّتْ إليها الأيدي، فعليها أن تدفعْ، وإن كانت تقتلُ، ويستوي في الدفعِ حينئذٍ كلُّ مكان، وإن جوَّز الأمر فلهُ أن يستسلمَ. ولو امتنعَ لقتلَ، فأمَّا إذا كان يجوزُ الأمر، ولو امتنعَ لا يقتلُ فلا يجوزُ لهُ أن يستسلمَ. وأمَّا من ليسَ له من أهلِ تلك الناحيةِ (¬1) فإنْ كانَ في أهلِها كفاية، فالذين قربوا منهم، وكانُوا دونَ مسافةِ القصرِ ينزلون إن وجدوا الزادَ بمنزلةِ أهلِ الناحيةِ إذا قامَ بالدفعِ مَن فيهِ الكفايةُ، وإن لم يكنْ في أهلِ الناحيةِ كفايةٌ فيتعيَّنُ على الأقربينَ أَنْ يطيرُوا إليهم. ومن على المسافةِ قيلَ يلزمُهُم الأقربُ فالأقربُ، والأصحُّ إنْ كَفَى أهلُهَا لم يلزمْهم، ولو أسروا مسلمًا وجبَ النُّهوضُ إليهم لخلاصِهِ إن توقعناه. يكره الغزوُ بغيرِ إذنِ الإمامِ أو نائبِهِ إلَّا إذَا كانَ من يريدُ الغزوَ لو ذَهَبَ إلى الاستئذانِ فاتهُ المقصودُ، وإلَّا إذا عطَّلَ الإمامُ الغزوَ وأقبلَ هو وجندُهُ على أمورِ الدُّنيا وغير ذلك، وإلَّا إذا كانَ مَن يريدُ الغزوَ لا يقدِرُ على الاستئذانِ ويغلبُ على ظنِّهِ أنَّهُ لو استأذَنَ لم يؤذنْ لَهُ فلا كراهَةَ في هذهِ الصور. ويندبُ لَهُ إذا بعثَ سريةً أَنْ يؤمِّرَ عليهم، ويأخذُ البيعةَ بالثباتِ، ولَهُ ¬
الاستعانَةُ بكفارٍ، ويشترطُ أن يؤمِّنَ حياتَهُمْ، وأن يعرفَ الإمامُ حسنَ رأيهم في المسلمينَ، وأن يكثرَ المسلمونَ بحيثُ لو انحازَ المستعانُ بهم وانضمُّوا إلى الذين يغزونهم لأمكننا مقاومَتُهم جميعًا، وأن يكونَ في المسَلمينَ قلَّة، وتمسُّ الحاجةُ إلى الاستعانةِ. وله الاستعانةُ بعبيدٍ بإذنِ السَّادَةِ، ومراهقينَ أقوياء ليس لهمْ أصلٌ حيٌّ مسلمٌ، وإذا حصلتْ من المميزِ غير المراهقِ إعانةٌ، ورأى الإمامُ استصحابه بما يعتبر في غيرِهِ جازَ. فإن كانَ العبدُ موصًى بمنفعتِهِ لبيتِ المالِ أو مكاتبًا كتابةً صحيحةً فللإمامِ الاستعانةُ بهمَا، والسفر بهما بغير إذنِ سيِّدِهما، وله بدل الأهبةِ والسلاحِ من بيتِ المالِ، ومِن مالِهِ. ولا يصحُّ استئجارُ مسلمٍ للجهادِ إلَّا إذا كانَ عبدًا وأجرة مالكه للجهادِ، ووقعتِ الإجارةُ مع الإمامِ، وإلَّا إذا كانَ الحرُّ المسلمُ غيرَ بالغٍ وأجرة وليِّه للإمامِ لأجلِ الجهاد. * ضابطٌ: ليسَ لنَا مسلمٌ يصحُّ استئجارُهُ للجهادِ إلَّا في هذينِ الموضعينِ. ويصحُّ للإمامِ استئجارُ ذميٍّ ومعاهَدٍ للجهادِ بالشروطِ السابقةِ في الاستعانةِ من خُمُسِ الخمسِ على النصِّ، فإن أسلمَ في أثناءِ العقدِ انفسختِ الإجارةُ كما تنفسخُ بإعتاقِ العبدِ البالغِ، وبلوغُ الصبي المسلمَيْنِ المستأجرينَ للجهادِ، ولا يجوزُ لغيرِ الإمامِ من آحادِ المسلمينَ استئجارُ ذميٍّ للجهادِ على النصِّ. وفيه وجهٌ أنَّهُ يجوزُ. ويكرهُ للنصارَى قتلُ القريب، وقتلُ المَحْرَمِ أشدُّ كراهةً من القريبِ غيره إلَّا أن يسمعَهُ يسبُّ اللَّهَ تعالَى، أَو يسبُّ رسولَهُ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فلا كراهةَ قطعًا.
ويحرمُ صبيٍّ (¬1) ومجنونٍ وامرأةٍ وخنثى مشكِلٍ إلَّا أن يقاتلوا فيجوزُ قتلُهُم حينئذٍ على المنصوصِ. ويحلُّ قتلُ راهبٍ على الأظهرِ سواءٌ كانَ فيه قتالٌ أو رأي، أو لم يكنْ، ويحلُّ قتلُ الأجيرِ على المذهبِ المقطوعِ بِهِ، وهو المعتمدُ خلافًا لمنْ أثبتَ خلافًا في ذلك، ويحلُّ قتلُ الشيخِ الضعيفِ والأعمَى والزَّمِن الذينَ لا قتالَ فيهم ولا رأيٍ على الأظهرِ، فإن كانَ منهم رأيٌ قُتلوا قطعًا، وإذا جوزنَا قتلَهُم فيسترقُّونَ وتُسبَى نساؤُهم وتغنم أموالُهُم، وإن قُلنا بالمنعِ فالمذهبُ أنَّهم يسترقونَ بنفسِ الأمرِ كالنساءِ والصِّبيانِ، وتُسبَى نساؤُهم وتُغنمُ أموالُهم. ويجوزُ حصارُ الكفَّارِ في البلادِ والقِلاع، وإرسالُ الماءِ عليهم، ورميهم بنارٍ، ومنجنيقٍ إلَّا في مكَّةَ المشرَّفَةِ، فإنَّه لو تحصَّنَ بِهَا أو بموضعٍ من حرمِهَا طائفةٌ من الكفَّارِ الحربيينَ لم يجُزْ قتالُهُم بما يعمُّ كالمنجنيقِ وغيرِهِ إذا أمكَنَ إصلاحُ الحالِ بدونِ ذلك. ولا نصبُ الحربِ عليها كغيرِها. نصَّ على هذا الأخيرِ الشافعيُّ رضي اللَّه عنه. وإذا لم يكنْ بالإمامِ حاجةً إلى نصبِ المنجنيقِ عليهم وفيهم نساؤهم وذراريهم يكرَهُ نصبُ المنجنيق عليهم، لأنَّهُ ربمَا يصيبُ مَن لا يحلُّ قتلُهُ، والإمامُ مستغنٍ عن ذلكَ. وأمَّا التحريقُ والتغريقُ، فإنْ كانُوا كلُّهم مُقاتِلةً فلا بأسَ بِهِ، وإن كانَ فيهم نساؤُهم وذرارِيهم كان أشدَّ منعًا من نصبِ المنجنيقِ. ويجوزُ للإمامِ تبييتُهم في غفلةٍ بلا كراهةٍ إذا كانَ لَهُ بالتبييتِ حاجةٌ. ولو كانَ في البلدِ أو القلعةِ مسلمٌ أسيرٌ أو تاجرٌ مستأمنٌ أو طائفةٌ من هؤلاءِ ¬
فيجوزُ قصدُ أهلِها بالنارِ والمنجنيقِ وما في معناهُما قطعًا إنْ كانتِ ضرورةً كخوفِ ضررهم أو لم يحصل فتح القلعةِ إلَّا بِهِ، وإن لم يكنْ ضرورةً كُره ولا يحرمُ على الأظهرِ. ولو التحمَ حربٌ فتترسُّوا بنساء وصبيانٍ جاز رميُهم عندَ الضرورةِ، وإلَّا فالأظهرُ تركُهُم. وإن تترَّسُوا بالمسلمينَ، ولم تدعُ ضرورةٌ إلى رميهِم تركناهم، وإن دعتِ جازَ رميهم على المنصوصِ. ويحرمُ الانصرافُ عنِ الصفِّ إذا لم يزدِ عددُ الكفَّارِ على عددِ المسلمينَ مائة ضعفًا من مائتين من أبطالهم، أو مائة وتسعة وتسعين من أبطالهم، في الأصحِّ. ولا يحرمُ انصرافُ متحرِّفٍ لقتالٍ أو متحيِّزٍ إلى فئةٍ يستنجدُ بِهَا وهو في حالِ القدرةِ. وأمَّا مَن عجَزَ بمرضٍ ونحوِهِ أو لم يبقَ معهُ سلاح فلَهُ الإنصرافُ بكلِّ حالٍ. ولو ماتَ فرسُهُ ولا يقدرُ على القتالِ راجلًا فلَهُ الانصرافُ. والعبدُ إذَا شهِدَ القتالَ بغيرِ إذنِ سيِّد لا يحرمُ عليهِ الانصرافُ، وكذلكَ النساءُ إذا شهدنَ القتالَ ثم ولينَ فإنهنَ لا يأثَمْنَ بالتوليةِ. نصَّ عليه الشافعيُّ -رضي اللَّه عنه- (¬1). ويجوزُ إلى فئةٍ بعيدةٍ على النصِّ، إن غلبَ على الظن أنَّ العدوَّ بقبلِهِم، فان فرُّوا كلُّهم إلى الفئةِ البعيدةِ ليدفعوا عنهم ما غلبَ على ظنِّهم من القتلِ ¬
فيحصلُ لهم العونُ، وإذا اتفقَ لهمْ ذلك عادوا لجهادِ عدوِّهم، جازَ. وكذلك يجوز لبعضهم أن ينصرفَ متحيزًا إلى الفئةِ البعيدةِ، لوجودِ ما حصلَ من غلبةِ الظنِّ على الأرجحِ، ومحل الجواز إذا لم يجد من جوزنا له ذلك فئةً قريبةً يتحيزُ إليها للعونِ على الجهادِ، فإنْ وجدَ امتنعَ التحيزُ إلى الفئةِ البعيدةِ قطعًا. ثم المتحيزُ إلى الفئةِ البعيدةِ لا يشاركُ الغانمينَ فيما يغنمونَهُ بعد المفارقةِ، ولا المتحيزُ إلى الفئة القريبةِ على النصِّ، خلافًا لما في "المنهاجِ" (¬1) تبعًا لأصلِهِ. فإنْ زادوا على المثلين جازَ الانصرافُ، إلَّا أَنْ يغلبَ على ظنِّ المسلمينَ أنَّهم يغلبونَ عدوَّهُم فظاهرُ المذهبِ وجوبُ المصابرةِ. وتجوزُ المبارزةُ، فإنْ طلبَهَا كافرٌ استحبَّ الخروجُ إليهِ، وإنما يحسنُ ممنْ جرَّبَ نفسَهُ وعرفَ قوَّتَهُ وجرأتَهُ بإذنِ الإمامِ أو أميرِ الجيشِ، وتجوزُ بغيرِ الإذنِ في الأصحِّ، وأن لا يدخلَ بقتل المبارزِ ضررٌ على المسلمينَ بهزيمةٍ تحصلُ لَهُم، إمَّا لأنَّهُ كبيرهم، أو لأنَّه أَميرُهم الذي تختلُّ بعقده أمورهم. فإن كانَ كذلكَ لمْ يجُزْ أن يبارِزَ. ولا يستحسنُ المبارزةُ من العبدِ بغيرِ إذنِ سيِّدِه، ولا منَ الولدِ بغيرِ إذنِ أصلِهِ المسلمِ. ويجوزُ إتلافُ نباتِهم وشجرِهم لحاجةِ القتالِ، والظفرِ بهم، فإنْ علِمنَا أنَّا لا نصلُ إلى الظفرِ بهم إلَّا بفعلِ ذلكِ وجبَ فعلُهُ، كما جزَمَ بِه الماورديُّ، وهو صوابٌ. ¬
فصل
وإن لم يحتج إلى ذلكَ نظر؛ إنْ لم يغلبْ على الظنِّ حصولُهُ للمسلمين جاز إتلافُهُ مغايظةً لهم وتشديدًا عليهم، وإن غلب على الظنِّ حصولُهُ فيستحبُّ التركُ على النصِّ، ويحرمُ إتلافُ الحيوانِ إلَّا ما يقاتلونُ عليهِ، فيعقرُهُ للدفعِ أو الظفرِ، وأمَّا الذي غنمناهُ وخفنا رجوعَهُ إليهم وضرره، فإنَّا نذبحُهُ للأكلِ، إن كانَ مأكولًا، وإن لم يكن مأكولًا لم نذبحْهُ. وإن كان مأكولًا ولم نتمكَّنْ من ذبحِهِ لم نتلفهُ بغيرِ الذَّبحِ، ولو خفنا رجوعَهُ إليهم وضررهِ. هذا مذهبُ الشافعيِّ الذي ذكرَهُ في كتبِهِ وجرى عليه أصحابُهُ، وما وقعَ في "المنهاجِ" (¬1) تبعًا لأصلِهِ مما يخالفُ ذلكَ ليسَ بمعتمدٍ. * * * فصل نساءُ الكفَّارِ الكافراتِ الأصليَّاتِ غير المكلفينَ منهم إذا أُسرُوا رقوا، وكذا الخناثى، فأمَّا المرأةُ الحربيةُ إذا قتلتْ مسلمًا ثم ظفرنا بها فإنَّهُ يجوزُ للإمامِ قتلُها كما تقدَّمَ، وكذلك حكمُ مَن ذكرنا بعد النساءِ من غيرِ المكلَّفينَ، والخُنثَى إذا قاتلُوا كمَا تقدَّمَ. وأمَّا العبيدُ الكفَّارُ إذا وقعوا في الأسرِ كانُوا كسائرِ أموالِ الغنيمةِ. فالحاصلُ لهُم استمرارُ رِقٍّ لا رقٌّ جديدٌ. وعبيدُ الحربيين يجري عليهم رقُّنا وإن كانوا مسلمين أو مرتدين، والعبيد الحربيون إذا قتلوا في حالِ حرابتهم مسلمين ثم ظفرنا بهم وهم كفار جاز لنا قتلُهم، ويجتهدُ الإمامُ في الأحرارِ الكاملينَ، ويفعلُ الأحظَّ للمسلمينَ استحبابًا من قتل ومن فداءٍ بأسرى مسلمينَ أو مالٍ واسترقاقٍ. فإن ¬
خفيَ الأحظُّ اختارَ ما شاءَ تفريعًا على النصِّ أن فعل الأحظِّ مستحبٌّ كما تقدَّم. وفي وجهٍ لا يسترقُّ وثنيٌّ، ولا يجري رق على عربيٍّ في القديمِ، ولو أسلمَ أسيرٌ عصم دمَهُ وبقيَ الخيارُ في الباقي إنْ لم يخترِ الإمامُ فيه قبلَ إسلامِهِ المنَّ أو الفداءَ، فإنِ اختارَ ذلكَ ثُمَّ أسلمَ لم يتخير في الباقي، بل يتعيَّنُ ما اختارَهُ الإمامُ، ومحل اختيارِهِ الفداءُ الذي هو من جملة الباقي ما إذا فادى وأقام في بلادِ الإسلامِ، فأمَّا إذا فادَى به ليأخذَهُ المشركونَ ولم يكنْ له هناكَ عشيرةٌ تمنعهم منهُ فلا يجوزُ اختيارُ الفداءِ حينئذٍ. نصَّ عليهِ في الأمِّ، وجرى عليه الأصحابُ. وإسلامُ الكافرِ قبلَ الظفرِ به يعصمُ دمَهُ ومالَهُ وصغارَ ولدِهِ، وكذلكَ المجانين البالغين سواءٌ بلغوا مجانينَ أو بلغوا عقلاءَ (¬1) ثمَّ جُنُّوا بعدَ ذلكَ على الأصحِ. وإذا أسلمَ الجدُّ للأبِ عصمَ صغارَ ولدِ ولدِهِ ومجانينهم على الأصحِّ كالأبِ. وإذا أسلمتِ الأمُّ قبلَ الظفرَ بها عصمتِ صغارَ أولادِها على المشهورِ، ولو أسلمتِ الجدَّةُ فكإسلامِ الأمِّ. ولا يعصمُ زوجتَهُ على المذهبِ، فإن قلنَا: "لا يعصمها"، فبمجرَّد وقوعِها في السبي صارتْ رقيقةً، وانقطعَ نكاحُها في الحالِ، وقيل: إن كانَ بعد دخولٍ وقلنا: "تعتدُّ" استبرأتْ بعد دخولٍ فلعلهُ يحدثُ منها ما يحلُّها. وترقُّ زوجةُ الذِّميِّ وكذلك عتيقُهُ على المنصوصِ، لا عتيقَ مسلمٍ سواء ¬
أسلمَ قبلَ الأسرِ أو بعدَهُ، والمذهبُ المعتمدُ أنَّهُ لا فرقَ بين زوجةِ مَن أسلمَ قبلَ الأسرِ ومَن كان مسلمًا وله زوجةٌ حربيَّةٌ وقعتْ في الأسرِ في أنَّ كلًّا منهما لا يعصم إسلامُهُ زوجتَهُ منَ الحكمِ برقِّهَا بمجردِ السَّبي خلافًا لما في "المنهاجِ" (¬1) تبعًا لأصلِهِ. وإذا سُبِيَ الزوجانِ أو أحدُهما وكان الزوجُ غيرَ مكلَّفٍ أو مكلَّفًا وأرقَّهُ الإمامُ انفسخَ النكاحُ إن كانا حُرَّين أو كانَ أحدهما حرًّا فإن كانا رقيقينِ فالأصحُّ عند شيخنا بمقتضى إطلاقِ الأخبارِ وإطلاق نصوص الشافعيِّ أنَّ النكاحَ ينفسخُ بسبيهما، وبسبي الزوجةِ، وما وقعَ في "المنهاجِ" (¬2) تبعًا لأصلِهِ مما يخالفُ ذلكَ ليسَ بمعتمدٍ. وإذا أرق وعليه دينٌ لمسلمٍ أو ذميٍّ لم يسقط فيقضي من مالِه إن غنم بعد إرقاقهِ، فإن عتقَ ولم يغنم ماله وأخذه فإنَّه يقضي منه الدين المذكور، وكذلك إن غنم ماله مع إرقاقه فإنه يقضي منه الدين المذكور على الأرجحِ. ولو ثبت لحربيٍّ على حربيٍّ مطالبة بقرضٍ أو ببيع جائز عندنا، ثم أسلما أو قبلا جزية، أو أسلمَ صاحبُ الحقِّ أو قبل الجزية دام الحق، وكذا لو أسلمَ المديونُ أو قبل الجزيةَ على الأرجحِ. ولو أتلفَ عليه شيئًا يضمنونَهُ على اعتقادهم فأسلما أو أحدهما، فلا ضمانَ على الصحيحِ، وإن كانوا لا يضمنونَهُ فلا ضمانَ بلا خلافٍ، وإن لم يسلمْ واحدٌ منهما فالذي قالَهُ شيخُنا أنَّه إنْ تحاكَمُوا إلينا بعدَ الأمانِ جاء الخلافُ، وإلَّا لم نتعرَّضْ لهم. ¬
والمالُ المأخوذُ من حربيين قهرًا بإيجاف خيلٍ أو ركابٍ، والموجفُ من المسلمين غنيمة، وكذلك إذا أخذَهُ مشاةٌ مسلمون، وكذا حكمُ الذي أخذهُ واحدٌ أو جمعٌ من دارِ الحربِ سرقةً أو وجد كهيئةِ اللُّقطَةِ على المنصوصِ إن لم يؤخذ بالقهرِ والغلبةِ وإلَّا فهوَ غنيمة قطعًا، وأن لا يؤخذ بقوةِ الجندِ فإنْ كانَ مأخوذًا بقوتهم فهو فيءٌ قطعًا، فإنْ أمكَنَ كونُهُ لمسلمٍ وجبَ تعريفُهُ ثم بعدَ التعريفِ تجيءُ فيهِ الأحوالُ الثلاثُ. فإن كانَ الانجلاءُ عنهُ بالإيجافِ فهو غنيمةٌ قطعًا أو بالإرهابِ والإرعابِ من غيرِ قتالٍ ففيءٌ قطعًا، وإنْ انتفى الأمرُ إن كانَ فيئًا على الأرجحِ، ولا تعرفُ سنه على المعتمدِ عند شيخنا، بل يكفي أن يعرفه المسلمونَ الذينَ هناك، كما نصَّ عليهِ الشافعيُّ. فإذا لمْ يعرفوهُ ردَّ إلى المغنَمِ، وعلى هذا تُستثنى هذه الصورة من إطلاقِ التعريفِ سنة في غيرِ الحقير. * ضابطٌ: ليس لنا لقطةٌ غيرُ حقيرةٍ لا يجبُ فيهَا التعريفُ سنةً إلَّا في هذا الموضعِ. ولأهلِ التبسُّطِ في الغنيمةِ على الوجهِ الذي ذكرَهُ الشافعي حيثُ قالَ (¬1): (ولا يجوزُ لأحدٍ من الجيشِ أَنْ يأخذَ شيئًا دونَ الجيشِ مما يتمولُهُ العدوُّ إلَّا الطعامَ خاصَّةً، فالطعامُ كلُّهُ سواءٌ، وفي معناهُ الشرابُ، فلمنْ قدَرَ منهم على شيءٍ (¬2) أَنْ يأكلَهُ ويُشرِبَهُ ويُعلفَهُ ويُطْعِمُه غيرَهُ ويُسِقيه ويَعْلِفَ له) هذا نصُّهُ. ولم يخصصْ ذلك بالفاتحين الذين لهم سهم، والذين لهم رضْخٌ لكن ¬
مقتضَى نصِّه وقواعدِهِ أنَّ الذِّمِّيَّ ليسَ له التبسُّط. ولهم ذبحُ مأكولٍ للحمِهِ عندَ الاضطرارِ، والأرجحُ جوازُ الفاكهةِ، وأنَّهُ لا يجبُ قيمةُ المذبوحِ، وأنَّه لا يختصُّ الجوازُ بمن ليس معه ما يقوم بما يحتاجُ إليهِ منَ الطعامِ والعلفِ وأنَه لا يجوزُ ذلكَ لمن لحقَ الجيشَ بعدَ الحربِ والحيازَةِ، ومن رجعَ إلى دارِ الإسلامِ ومعه بقية لزمه ردُّها إلى المغنمِ على النصِّ. وموضع التبسُّط دارِهِم حيثُ كانَ الجهادُ في دارهم، وكذا موضعُ القتالِ في دارِ الإسلامِ عندَ الحاجَةِ، وفي الأوَّلِ يستمرُّ التبسُّطُ على الأصحِّ إلى وجودِ عمارةِ المسلمينَ أو هدنتهم يُباعُ فيها ما يحتاجونَ إليهِ. ولغانِمٍ مكلَّفٍ ولو كان محجورًا عليهِ بفلسٍ أو سفهٍ على المذهبِ المعتمدِ أو كانَ مريضًا حرًّا كانَ أوْ مكَاتَبًا أو مبعضًا الإعراضُ عنِ الغنيمةِ قبلَ القسمةِ وقبلَ اختيارِ التملُّكِ، ويكونُ إعراضُ المبعَّضِ في نوبةِ الحرية عند المهايأة، وإن لم تكن مهايأة فالأقيسُ تبعيضُ الحالِ في المستحقِّ، والمنصوصُ جوازهُ بعد فرز الخمسِ. والأصحُّ إبطالُ إعراض الكل دفعة واحدةً، فإن أعرضوا مُرَتَّبين صحَّ الإعراضُ إلى أن يبقى واحدٌ فلا يصحُّ إعراضُهُ، ويبطلُ إعراضُ ذوي القُربَى وإعراضُ بعضهم أيضًا، ويبطلُ إعراضُ من أعرضَ عن السَّلَبِ المتعين له، والمعرض كمن لم يحضر، ومن مات منهم فحقه لوارثه، ولا الغنيمة إلَّا بالقسمة، ومن اختارَ ملك نصيبِهِ قبلَ القسمةِ ملكه على الإبهامِ حتى لا يصحَّ إعراضُه على الأصحِّ، ويملكُ العقارَ بما يملكُ به المنقولُ. ولو كانَ في الغنيمةِ كلبٌ أو كلابٌ تنفع فالذي أطلقه الشافعيُّ وقدماء العراقيينَ تفويض ذلكَ إلى رأي الإمامِ، يخصُّ بِهِ من شاءَ من الغانمينَ لما
يظهرُ لهُ، فإن لم يردهُ أحدٌ من الغانمينَ أعطاهُ لبعضِ أهلِ الخمسِ، فإن لم يردَّهُ أحدٌ منهم خلَّاهُ أو قتلَهُ على النصِّ. والمنصوصُ أن سوادَ العراقِ منحَ عنوةً، والمشهورُ أنَّ عمرَ رضي اللَّهُ عنهُ قسمها بين الغانمينَ، ولم يخصصها بأهلِ الخمسِ، ثم استطابَ قلوبَهم واستردَّها. والمنصوصُ أنَّه وقفهَا على المسلمينَ وآجرَها من ساكنيها، والخراجُ المضروبُ عليها أجرةٌ منجَّمةٌ تؤدَّى كلُّ سنةٍ، وتصرفُ إلى مصالحِ المسلمين. وأمَّا حدُّ السواد فأطلقَ جماعةٌ أنَّه من عبادان إلى مدينةِ الموصلِ طولًا، ومن القادسيةِ إلى حلوانِ عرضًا، وقيدَ الماورديُّ والرويانيُّ مبدأ هذا الحد فقالا: هو من مدينة القادسية، وذكرَ ابنُ الصباغ حده في العرض من مسطحِ الجبالِ بحلوان إلى طرفِ القادسيةِ المتصل بالمدينة من أرضِ الغرب، ومن نجوم الموصل إلى ساحل البحر بلاد عبادان من شرقي دجلة، وأما البصرةُ وإن كانت داخلةً في حدِّ السوادِ فليسَ لهَا حكمٌ إلَّا في موضعٍ من شرقي دجلتها يبيعها أهل البصرةِ الفرات، وموضع من غربي دجلتها تعرفُ بنهرِ الصَّراة، والذي نصَّ عليهِ الشافعيُّ أنَّ الدُّورَ والمساكنَ التي في السوادِ، ووقع الفتحُ وهي موجودةٌ لا يجوز بيعُها (¬1)، خلافًا لما في "المنهاجِ". وأما المشكوكُ فيه من ذلك فظاهر اليد بدل على الملكِ، فيجوزُ بيعُهُ حينئذٍ. ومكةُ فُتحتْ قهرًا بغيرِ قتالٍ، وذاكَ القتالُ الذي وقَعَ في أسفلِهَا لم يكنْ لَهُ ¬
أثرٌ في فتحِها لحصولِ فتحِها من غيرِ احتياجٍ إلى ما صدرَ في أسفَلِها، ويجوزُ بيعٌ دورِها وأراضيها المحياة المملوكة لملاكها. * * *
كتاب الأمان
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ كتاب الأمان يصحُّ من كلِّ مسلمٍ مكلَّفٍ مختارٍ أمانُ حربيٍّ قبلَ أسرِهِ، وعدد محصورٌ فقط كعشرةٍ ومائةٍ، إن لم يؤدِّ ذلك إلى انسدادِ الجهادِ، أو بعصابةٍ نقصانًا لَهُ وقع. والأسيرُ المقهورُ في أيدي الكفَّارِ إذَا أمنَ بعضهم مكرهًا لم يصحّ، وإن أمنهُ مختارًا لم يصح أيضًا على الأصحِّ إذا لمْ يَكُنْ في أمانٍ، ممن هو في أسره، فإنْ كانَ في أمانٍ منهُ صحَّ أمانُهُ إياهُ إذا صارَ منهُ ذلكَ مع معرفتِهِ وجه النظر. وينعقدُ الأمانُ بكلِّ لفط يفيدُ الغرضَ صريحًا أو كنايةً مع نيةٍ، وبالكناية مع النيةِ، وبالرِّسالةِ فإنْ كانَ المرسلُ بهِ فيها صريحًا فذاكَ وإنْ كانَ كنايةً فلا بدَّ منَ النيَّةِ كما سبقَ. ومحلُّ اعتبارِ الصريح أو اعتبار ما يحتاج غيره إلى النيةِ ممَّا يقدمُ ما لم يدخل الحربي دار الإسلامِ رسولًا أو دخل ليسمعَ الذِّكر وينقادَ للحقِّ إذا ظهرَ لَهُ، فإنْ
دخَلَ كذلكَ لم يحتجْ إلى ما ذكر، وكذلكَ إذ دخَلَ مستحق المال الذي نقضَ العهدَ والتحقَ بدارِ الحربِ لطلبِ ماله الذي بقي في حكمِ الأمانِ على الصحيحِ لا يحتاجُ إلَى ما ذكر. ولا يشترطُ علمُ الكافرِ بالأمانِ على النصِّ وجرى على عدمِ اعتبارِهِ العراقيونَ وجمع من المراوزةِ، خلافًا لمنِ اعتبرر فإنْ ردَّهُ بطلَ. ولا يشترطُ قبولُ الكافرِ الأمان على المنصوصِ فلو سكتَ لم يبطلِ الأمانُ. وتكفي إشارةٌ مفهمةٌ للقبولِ، أو أَنْ تبدو عليه مخايل القبول. وإن كان الذي أمَّنَهُ يا دخولِه رجلًا من المسلمين كانَ أمانُهُ مقصورًا على حقنِ دمِهِ ومالِهِ دونَ مقامه، ونظر الإمامُ في حالِهِ، فإن كانَ من المصلحةِ إقرارُهُ أقرَّهُ على الأمانِ، وقررَ لَهُ مدَّةَ مقامِهِ، ولم يكُنْ لمنْ أمَّنَهُ من المسلمين تقدير مدته. ويجوزُ أَنْ تؤمَّنَ المرأةُ والعددُ من النساء من غيرِ تقييدٍ بأربعةِ أشهرٍ ولا دونَ السَّنَةِ على النصِّ، ولا يجوزُ أمانٌ من الإمامٍ إلَّا بالنظرِ للمسلمين، وإنما يجوزُ أمانُ الواحدِ من المسلمينَ من كانَ إذا اتَّصل بالمصلحةِ على الأرجحِ كما نقلَهُ القاضي حسين عن الأصحابِ. وعقدُ الأمانِ جائزٌ من جهةِ المؤمَّنِ له بيده متى شاء، ويصير حربًا لنا يبلغ المأمن، ولازم من جهة المؤمِّن لا يجوزُ له نبذه إلَّا بأنْ يظهرَ منه خيانةٌ فينبذه حينئذٍ ويقتضي إطلاق نصوص الشافعي حصول الأمان في المالِ حيثُ كانَ، ولا يدخلُ الأصلُ في الأمانِ إلَّا. . . (¬1). والمسلمُ بدارِ الحرب إنْ أمكَنَهُ إظهارَ دينِهِ ولم يرج ظهور الإسلام هناك ¬
بمقامِهِ يستحبُّ لَهُ الهجرةُ فإنْ رجَا فالأفضل أن يُقيمَ (¬1). وإنْ قدَرَ على الامتناعِ في دارِ الحربِ والاعتزال وجبَ عليهِ المقامُ بها، وإن لم يمكنْهُ ما تقدَّمَ، ولم يكن في مقامِهِ مصلحةٌ للمسلمينَ وجبتِ الهجرةُ إنْ أطاقَهَا، وإذَا قَدَرَ الأسيرُ عَلى الهَرَبِ لزمَهُ وإنْ أطلَقُوهُ بلا شرطٍ فلهُ اغتيالُهُم، أو على أنَّهم في أمانِهِ حرُم اغتيالُهُم، وكذلك الحكمُ إذا أطلقوهُ على أنَّهُ في أمانِهِم على النصِّ فإنْ تَبِعَهُ قومٌ فليدفعْهم ولو بِقتلهم. ولو شرطوا أن لا يخرج من دارهم لم يجزِ الوفاء إذا لم يمكنْهُ إظهارَ دينِهِ فإنْ أمكنَهُ لم يحرُم الوفاء. ولو عاقدَ الإمامَ مَن يدله على قلعة كذا، وله منها جارية جازَ، فإنْ فُتحت بدلالتِهِ عَنْوَة أعطيها، وإن فتحت صلحًا وكانتِ الجاريةُ المشروطةُ خارجةً عَنِ الأمانِ، وكان الصلحُ على أمانِ صاحبِ القلعةِ وأهله ولم تكنِ الجارية من أهلِه سلِّمتْ إليهِ، وإن كانتْ داخلةً في الأمانِ أعلمنا صاحبَ القلعةِ بشرطِنَا معهُ، وقُلنَا لَهُ إن رضيتَ بتسليمِها إليهِ غرمنا لك قيمتها وأمضينا الصلحَ، وتكونُ القيمةُ من بيتِ المال وإن لمْ يرضَ راجعناهُ فإنْ رضِيَ بقيمتِها أو بجاريةٍ أخرى فذاك، وإلَّا قلنا لصاحبِ القلعَةِ إن لم تسلمْها فسخنا الصلحَ ونبذنا عهدك، فإنِ امتنعَ رددناهُ إلى القلعةِ واستأنفنَا القتالَ، وإنْ لمْ يفتحِ بدلالته أعطيها على المنصوصِ (¬2)؛ خلافًا لما في "المنهاجِ" تبعًا لأصلِهِ، فإنْ لم يفتحْ فلا شيءَ لَهُ. وقيل: إنْ لم يعلَّقِ الجعلُ بالفتحِ فلَهُ أجرةُ مثلٍ، فإنْ لم يكنْ فيها جارية أو ¬
فصل
ماتتْ قبل العقدِ فلا شيءَ له، أو بعدَ الظفرِ قبلَ التسليمِ وجبَ بدل، أو قبلَ ظفر فكذا على المذهبِ المنصوصِ خلافًا لمن صحَّحَ عدمَ الوجوبِ. وإن أسلمتْ ولم ينزلْ عليها رقٌّ وجبَ البدلُ، وإن كانتْ رقيقةً أخذها الدَّالُّ إلَّا إنْ كانَ كافرًا وأسلمَتْ قبلَ الظفرِ فلَهُ البدلُ، فإن أسلمَتْ بعدَ الظفرِ أمِرَ بإزالةِ ملكِهِ عنها، والبدلُ قيمتها على المنصوصِ، وقيلَ أجرة مثل. * * * فصل في قسمِ الفيء والغنيمة إنما ذكرناهُ هُنَا لأنَّ شيخَنا رضي اللَّه عنه وعدَ في آخرِ كتابِ قسم الصدقاتِ أن يذكره هنا. القسمُ بالفتح مصدر قسمتُ الشيءُ والفيء؛ مصدر فاء يفيءُ، إذا رجعَ، ثم اسْتُعْمِلَ في المالِ الراجعِ إلينَا من الكفَّارِ من استعمالِ المصدرِ في اسمِ الفاعلِ واسمِ المفعولِ؛ لأنَّهُ مردودٌ على المسلمينَ. قال القفالُ (¬1) في "المحاسن" سُمِّيَ الفيءُ به لأنَّ اللَّهَ تعالى خَلَقَ الدنيا وما فيها للاستعانةِ على طاعتهِ، فمَنْ خَالفَهُ فقد عَصَاهُ، وسبيلُهُ الردُّ إلى مَن يطيعُهُ. والغنيمَةُ فعيلةٌ منَ المغنَمِ وهو الرِّبحُ؛ لأنَّها فائدَة محقَّقَة. قال اللَّهُ تعالى: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى}، وقال: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ} الآيتين. الفيء (¬2) ما أخذ من الكفَّارِ من غيرِ قتالٍ أو إيجافِ خيلٍ، أو ركابٍ كجزية ¬
ويقسم ذلك خمسه أسهم متساوية
وعُشْر تجارة، وما جَلَوْا عنه، ومال مرتدٍّ، قتل أو ماتَ على الردَّةِ، وذميٍّ ماتَ بلا وارثٍ. ويقسمُ ذلك خمسهُ أسهم متساوية: أحدها: مصالحُ المسلمينَ كالثغورِ والقضاةِ والعلماءِ، ونعني بالقضاةِ قضاة البلادِ، وأما قضاةُ العسكرِ الذينَ يحكمونَ بين أهلِ الفيءِ في مغزاهُم فإنَّما يُرزقَونَ في الأخماسِ الأربعةِ. . قالهُ الماورديُّ وغيرهُ (¬1)، والمرادُ بالعلماءِ أصحابُ العلومِ المتعلِّقَةِ بمصالحِ المسلمينَ، يقدَّمُ الأهمُّ فالأهمِّ وجوبًا. والثاني (¬2): بنو هاشمٍ وبنو المطلب، فيشتركُ فيه الغنيُّ والفقيرُ، والذَّكرُ والأُنثى، ويفضَّلُ الذَّكرُ على الأنثى كالإرثِ. الثالثُ (¬3): اليتامَى: واليتيمُ الصغيرُ الذي لا أبَ لهُ، ويشترطُ فقرُهُ على المشهورِ. والرابعُ والخامسُ (¬4): المساكينُ وأبناءُ السبيل -وقد ذكرهما شيخُنا في قسم الصدقاتِ، ويعمُّ الأصنافَ الأربعةَ المتأخِّرةَ بالعطاءِ- الغائبُ عن موضعِ الفيءِ والحاضرُ على الأظهرِ. وأمَّا الأخماسُ الأربعةِ التي كانتْ لرسولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- في حياتِهِ فالأظهَرُ أنَّها ¬
للمرتزقةِ المرصدينَ للجهادِ، وبتعيينِ الإمامِ، وأبنائهم في الديوانِ (¬1). وينبغي للإمامِ أن يضعَ ديوانًا (¬2)، وينصبَ لكلِّ قبيلةٍ أو جماعةٍ عَرِيفًا، ويبحثَ عن حالِ كلِّ واحدٍ وعياله وما يكفيهم، فيعطيه كفايتهم، ويقدِّم في إثباتِ الاسمِ وفي العطاءِ قريشًا استحبابًا، وهم ولد النَّضرِ بن كنانةَ، ويقدِّم منهم بني هاشمٍ، والمطلب، ثم بني عبد شمس، ثم نوفل، ثم بني عبد العزَّى، ثم سائر البطون الأقرب فالأقرب إلى رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، ثم الأنصار، ثم ربيعة، ثم جميع ولد عدنان، ثم قحطان، ثم العجم (¬3)، والتقديم من العجم بالسنِّ والفضيلةِ لا بالنسبِ. ولا يثبتُ في الديوانِ [أعمى] (¬4) ولا زمِنًا ولا من لا يصلحُ للغزوِ، وإن مرضَ بعضُهم أو جنَّ ورُجِيَ زوالُه وإن طالَ أعطي، ويبقى اسمُهُ في الديوانِ وإن لم يرجَ، فهل يعطى؟ وكذا هل تعطى زوجتُهُ وأولادُه إذا مات؟ فيه قولان، أظهرهما نعم، وتعطى الزوجةُ إلى أن تنكِحَ، والأولادُ حتَّى يستقلُّوا (¬5). وإذا فضلتْ الأخماسُ الأربعةُ عن حاجاتِ المرتزقةِ وزعَ عليهم على قدرِ مؤنتِهم، لأنَّهُ حقُّهم، والأصحُّ أنَّه يصرفُ بعض هذا الفاضل عن حاجاتهم في إصلاحِ الثُّغورِ والسلاحِ والكراعِ (¬6). ¬
وجميعِ ما ذكرنا في منقولاتِ أموالِ الفيء، فأمَّا الدُّورُ والأراضي: فالمذهبُ أنَّها تُجعلُ وقفًا، وتقسم غلَّتُها كذلك (¬1). والغنيمةُ ما حصلَ من الكفَّارِ بقتالٍ وإيجافِ خيلٍ أو ركابٍ، وكذا المأخوذُ بقتالِ الرجالة، وفي السُّفنِ، وكذا إذا التقَى الصفَّانِ وانهَزَمَ الكفَّارُ قبل شهرِ السِّلاحِ وتركوا أموالَهُم، فإنَّها غنيمةٌ (¬2). والمأخوذُ على وجهِ السرقَةِ غنيمةٌ مخمَّسةٌ، وكذا ما أهدوه والحربُ قائمةٌ، وكذا ما يعطونَهُ بطيبِ نفسٍ كالهديةِ في غيرِ الحربِ، والمرادُ بالمالِ هو الذي كانوا يملكونَهُ، فإنْ كانُوا أخذُوهُ من المسلمينَ أو الذِّميينَ واستولوا عليه وجبَ ردُّهُ إلى أصحابِهِ، وليسَ بغنيمةٍ بناء على مذهبنا، أنهُم لا يملكونَهُ، فيُقدَّم من أصلِ مالِ الغنيمةِ السَّلَبُ للقاتلِ -وهو ثيابُ القتيلِ التي عليهِ، والخفُّ والزادُ وآلاتُ الحربِ كالدِّرعِ والسِّلاحِ والركوب-، سواء كان يقاتِلُ عليهِ أو ماسكًا بعنانِهِ، وهو يقاتِلُ وما علَى المركوبِ كسرجٍ ولجامٍ. والأظهَرُ عدُّ السِّوارِ والمنطقِ والخاتَمِ وما مَعَهُ من دراهِمَ النفقَةِ والجَنِيبَةِ التي تعادُ معهُ من السَّلَبِ، لا حقيبةً مشدودةً على الفرسِ على المذهبِ (¬3). وإنما يستحقُّ السلبَ بركوبٍ غرر يكفي شر كافرٍ أصليٍّ في حالِ الحربِ، فلو رمي من حصنٍ أو من الصفِّ أو قتل نائمًا أو أسيرًا أو قتلهُ وقد انهزَمَ الكفَّارُ بالكليةِ لم يستحقَّ السلبَ، وكفاية شرِّه بأن يقتلَهُ أو يزيلَ امتناعَهُ بأنْ يفقأَ عينيهِ ¬
أو يقطعَ يديهِ ورجليهِ، وكذا لو أسرَهُ أو قطعَ يديهِ أو رجليهِ على الأظهرِ. ولا يخمَّسُ السلبُ على المشهورِ (¬1)، ثم بعد السلب يخرج مؤنة الحفظ والنقل وغير ذلكَ من المؤنِ اللازمةِ كأجرةِ الجمالِ والزراع ونحوه (¬2)، فيخاصمه إليها، ثم يخمَّسُ الباقي، فيجعلُ خمسةَ أقسامٍ متساويةٍ: فخمسه لأهلِ خمس الفيءِ، يقسَّمُ كما سبَقَ، والأصحُّ أنَّ النفلَ يكونُ من خمسِ الخمسِ المرصدِ للمصالِحِ إذا نقلَ الإمامُ ممَّا سيغنمُ في هذا القتالِ، ويجوزُ أن ينفلَ منْ مالِ المصالحِ الحاصلِ عندَهُ في بيتِ المالِ، والنفل زيادة يشرطُهَا الإمامُ، أو الأمير لمن يفعل ما فيهِ نكايةٌ في الكُفَّارِ كالتقدُّمِ طليعةً أو الهجومِ على قلعةٍ أو الدلالةِ عليها، وكحفظِ مكمنٍ. ومنهُ أَنْ ينفل من صدَرَ منهُ أمرٌ محمودٌ بمبادرةٍ وحسنِ إقدام، لكنْ هذا يتعيَّنُ من منهم المصالح مما عنده، أو من هذهِ الغنيمةِ، وإنَّما يكونَّ النفلُ إذَا مسَّتِ الحاجةُ إليهِ لكثرةِ العدوِّ وقفَةِ المسلمينَ، واقتضى الرأيُ بعثَ السرايا وحفظ المكامِنِ، ويجهد الإمامُ في قدره بحسب قلة العمل وكثرته، وخطره وضدِّه. والأخماسُ الأربعةُ (¬3) عقارُها ومنقولُها للغانمين، وهم الذين شهدُوا الوقعةَ على نيّةِ القتالِ -وإن لم يُقاتِلُوا- إلَّا المخذَّلَ والمُرْجِفَ إذا فرضتْ النية مع التخذيل والإرجافِ، فلا يستحقان سهمًا ولا رَضْخًا. ولو دخَلَ الإمامُ أو نائبُه دارَ الحربِ بجيشٍ، فوقعتْ سريةٌ في ناحيته ¬
فغنمتْ شاركَها الخمسُ، وبالعكسِ، لاستظهارِ كلٍّ منهما بالآخرِ. ولو بعثَ سريتين إلى جهة اشتركَ الجميعُ فيما تقسم كل واحدةٍ منهما، وكذا لو بعثهما إلى جهتينِ، وإن ساعدتا في الأصحِّ. ولو بعثَ جاسوسًا فغنمَ الجيشُ قبلَ رجوعِهِ شارَكَهُم في الأصحِّ. ولو أخَّر في العسكرِ من يحرسُهُ من هجومِ العدوِّ أو أفردَهُ من الجيشِ كمينًا أسهم له، وإن لم يشهدِ الوقعةَ ذكرَهُ الماورديُّ (¬1) وغيرُه. ولا شيءَ لمنْ حضرَ بعدَ انقضاءِ القتالِ، ولو ماتَ بعدَ انقضاءِ القتالِ والجنازَةِ فحقُّه لوارِثِهِ، وكذا بعدَ الانقضاء، وقبلَ الجنازَةِ على الأصحِّ، ولو ماتَ في أثناءِ القتالِ بالمنصوصِ أنَّهُ لا شيءَ لهُ (¬2). وأمَّا الأجيرُ لسياسةِ الدَّوابِّ وحفظِ الأمتعةِ والمتاجر، والمحترفُ كالحنَّاطِ والبقَّالِ فيستحقونَ السَّهمَ إذا قاتلوا على الأظهرِ. ويعطَى الرَّاجلُ سهمًا، والفارسُ ثلاثة أسهمٍ، ولا يعطَي إلَّا لفرسٍ واحدٍ عربيًّا كان الفرسُ أو غيرَهُ، ولا يعطَي لبعيرٍ وغيرِهِ، ولا يعطَي لفرس أعجفَ، وما لا غناءَ فيه، وفي قولٍ يعطَى إن لم يعلمْ نهيَ الأميرِ عن إحضارِهِ (¬3). ويرضخ للعبيدِ والنساءِ والصبيانِ، وأهلِ الذمَّةِ إذا حضروا، وهو دونَ سهمِ راجلٍ، يجتهد الإمامُ في قدرِه ومحله الأخماس الأربعة على الأظهرِ، ¬
وإيما يرضح لذمِّيٍّ حضرَ بلا أجرَةٍ، وبإذنِ الإمامِ على الصَّحيحِ (¬1)، وأن يكونَ مختارًا كما ذكرَهُ الماورديُّ (¬2). * * * ¬
باب الجزية
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ بابُ الجزية هي لغةً: اسمٌ لما يؤخذُ من أهلِ الذِّمَّةِ، والجمع الجِزى بكسرِ الجيمِ، وهي مشتقَّةٌ من الجزاء، كأنَّه جزاء دمائهم وأموالِهم ومقربوهم. ويقالُ: من قتلهم جزا يجزي إذا قضا. وشرعًا: مالٌ يؤخذُ من أهلِ الذِّمَّةِ بعقدٍ مخصوصٍ على وجهٍ مخصوصٍ، وهل هو جزاء مقامهم بدارِ الإسلامِ، أو جزاءُ حقنِ الدَّمِ، أو جزاءُ كفِّنا عن قتالِهم في دارِ الإسلامِ سنة، أو جزاء كفنا عن قتالِهم، وتمكينهم من الإقامَةِ بدارنا سنة؟ خلافٌ، الأصحُّ عند شيخنا هذا الأخير. * ضابطٌ: العقود التي تفيد الأمنَ للكفارِ ثلاثةٌ: الأمانُ -وقد سبق- وعقد الجزية، وعقد الهدنة. وأهلُ الجزية من الكتاب قولُه تعالى: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ
صَاغِرُونَ}، وصحَّت الأحاديثُ بأخذ النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- الجزية، وأجمع العلماء عليها في الجملة، ولا يعقدها إلَّا الإمام أو مأذونه، وفي الآحادِ وجهٌ شاذٌّ عن كتاب ابن كجٍّ. وصورة عقدها لمن يريد الإقامة بدار الإسلامِ (¬1): "أقررتُكُم آمنينَ بدارِ الإسلامِ". أو: "أذنتُ لكم بالإقامةِ في دارِنا غيرَ الحجازِ، على أن تبذلُوا الجزيةَ" ويعيِّنُها رأسَ كلِّ سنةٍ من تاريخِ هذا العقدِ، "وتنقادوا لحكم الإسلامِ الذي نرَاهُ يلزمكم". ولو أتى بمضارعٍ نحوَ: "أقرُّكُم" وانسلخَ عنِ الوعدِ كفى، ومن يريدُ الإقامةِ ببلادِهِ التي هي في وسطِ بلادِ الحربِ إذا سألُوا عقد الذِّمَّةِ على إقامتِهم عاقدهم عليها، وليسَ عليهِ حينئذٍ منعُهم من الحرمينِ. ولو عقدَ لنصارَى بلدٍ وليسُوا حاضِرينَ فبلغَهُمُ الخبرُ فرضُوا بذلكَ جازَ، ولو قالَ الكافرُ الذِي يحوزُ بفرسِه بالجزيةِ: "سألتُك أَنْ تؤمنني على كذا" فأمَّنَهُ الإمامُ كفى ذلك. ولو وُجد كافرٌ بدارِنَا فقالَ: دخلته لسماعِ كلامِ اللَّهِ تعالى، أو رسولِه، أو بأمانِ مسلمٍ؛ صُدِّقَ إذَا ادّعى ذلكَ قبلَ أن يَصيرَ في قبضتِنَا أسيرًا، فإنْ ادَّعاهُ بعدَ أن صَارَ في قبضتِنَا أسيرًا لم يقبلْ إلَّا ببينةٍ. وعلى الإمامِ الإجابةُ إذَا طَلَبُوا إلَّا مَن كانَ أسيرًا حرًّا مكلَّفًا كتابيًّا أو من يلحقُ به على المنصوصِ؛ لأنَّهم صارُوا غنيمةً أو فيئًا، وإلَّا عندَ خوفِ غائلةٍ فيمتنع ولا يعقدُ إلَّا ليهوديٍّ أو نصرانيٍّ أو مجوسيٍّ إن دخل هو أو أحد أصولِهِ في التهوُّدِ أو التنصُّرِ قبلَ الفسخِ، أو شككنا في وقته. ولا جزيةَ على امرأةٍ وخُنثَى مشكلٍ لم تتبينْ ذكورَتُه، فإنْ بانتْ بعد أن ¬
فرضَ أنَّه صدرَ العقد معه في حالِ الخنوثةِ أخذَ منهُ جزيةَ ما مضَى من السِّنينِ لظهورِ العملِ بالبراءةِ. ولا جزيةَ على مَن فيهِ رقٌّ، وصبيٍّ، ومجنونٍ، فإنِ انقطعَ جنُونُهُ وجبتْ من غيرِ تلفيقٍ على النصِّ. ولو بلغَ ابن ذمِّيٍّ ولم يبذلْ جزيةً أُلْحِقَ بمأمنِهِ وإن بذلها عقد له، ولو كان سفيهًا ولكن لا يعقدُ إلَّا إذا امتنعَ وليُّه من ذلكَ كمَا نصَّ عليهِ، ويعقدُ بدينارٍ فقط. والأظهرُ وجوبُها على راهبٍ وغيرِ ذي رأيٍ من شيخٍ وزَمِنٍ وأعمَى وأجير بناءً على جواز قتلِهم، ومقتضى النصِّ يقتلونَ قطعًا، وعلى فقيرٍ عجزَ عن كسبٍ على المشهورِ. والحجازُ غير حرم مكَّة يمنعُ الكافرُ الأصليُّ منَ الإقامَةِ بهِ، والحجازُ: الحرمانِ واليمامةُ وقُرَاهُنَّ وأرضُ ذَلِكَ كلِّه. وأمَّا حَرَمُ مكَّة فيمنعُ مِن دخُولِهِ، وفي وجهِ ضعيفٍ له الإقامةُ بالمواضع التي بينَ البلاد، وليست بموضع إقامة عادةً، إلَّا الحربيُّ فلا يمكَّن من الإقامةِ في هذه المواضعِ بلا خلافٍ. ولو دخَلَ كافرٌ الحجازَ بغيرِ إذنِ الإمامِ أخرجهُ، وعزَّرَه إن علمَ أنَّهُ ممنوعٌ. فإنِ استأذَنَ في الدخولِ لغير حرمِ مكَّةَ أُذِنَ لَهُ إن كانَ فيه مصلحةٌ للمسلمينَ كرسالةٍ وحملِ ما يحتاجُ إليهِ، فإن كانَ لتجارةٍ ليسَ فيها كبير حاجةٍ -والتاجرُ ذِميٌّ- لم يأذن إلَّا بشرطِ أخذِ شيءٍ منها، ولا يقيمُ في كلِّ بلدٍ من بلادِ الحجازِ غير حرم مكَّةَ إلَّا ثلاثة أيامٍ، وإنْ كانَ حربيًّا فلا يُمكَّنُ من دخولِ الحجازِ للتجارَةِ أصلًا، وحكمُ المرأةِ الذِّميَّةِ في التجارةِ كالذميِّ التاجرِ فيما تقدَّم.
فصل
وإذا جاءَ الكافرُ رسولًا والإمامُ في حرمِ مكَّةَ خرجَ إليهِ أو نائبُهُ يسمعُهُ، وإن مرضَ فيه نُقِلَ، وإن خِيفَ موتُهُ فإن ماتَ لم يُدفَنْ فيهِ، فإن دُفِنَ نُبشَ وأخرجَ إذا لم يتقطَّع، فإنْ تقطّعْ لم ينبشْ على النصِّ. وإن مرضَ في غيرِهِ من الحجازِ وعظمتِ المشقّةُ في نقلِهِ تُركَ، وإلَّا نُقلَ، فإن ماتَ وتعذَّرَ نقله، دفنَ هناكَ إنْ كانَ ذِميًّا. فإن كان حربيًّا فلا يجبُ دفنُهُ، بل يجوزُ إغراء الكلابِ عليهِ، فإنْ دُفِنَ فلئلّا يتأذَّى الناسُ بريحِهِ، وهذا يوارَى مواراة الجيفِ، والمرتدُّ كالحربي (¬1). * * * فصل أقلُّ الجزيةِ دينارٌ لكلِّ سنة (¬2)، ولا يتغيَّر ذلك، فلو عقدَ على المتقومات والمِثلياتِ جازَ إذَا كانَت قيمتها لا تنقص عن دينارٍ خالصٍ مضروبٍ. ويستثنى من ذلكَ صورةٌ واحدة، وهي محتملة أن لا جزيةَ فيهَا مع الإقامةِ سنة فأكثر، في دار الإسلام. وفيها جزيةٌ مشطورةٌ في مقابلة العمل الذي جعل شطر الثمرة والزرع مع الجزية في مقابله، وهي ما إذا افتتحَ الإمامُ أرضًا عَنْوةً أو صلحًا على أنَّ الأرضَ للمسلمينَ وللأرض أهلٌ ممن يقرُّونَ بالجزيةِ، فَمَنَّ على الرجالِ في صورةِ العَنْوة، وعاملهم في صورة العنوةِ أو في صورةِ الصُّلحِ عندَ الحاجةِ إلى ذلكَ بمساقاةٍ على الشجرِ وما يتبعها، فإنَّهُ يجوزُ أن يُقيموا في تلك الأرضِ سنينَ بلا جزيةٍ أو بجزيةٍ مشطورة مع الشطرِ من الثمرِ والزرعِ في مقابلةِ ¬
العملِ. ولا يشترطُ في هذه الجزيةِ أَنْ تبلغَ دينارًا لكلِّ رأسٍ، وذلكَ مستنبطٌ من قضيةِ خيبرٍ، وقد أشارَ إلى ذلكَ الشافعيُّ في "الأمِّ". * ضابطٌ: ليس لنا ذِمِّيونَ مُقيمونَ في بلادِ الإسلامِ سنةً فأكثر لا تلزمُهم الجزيةُ الواجبةُ في كلِّ سنةٍ إلَّا هذَا. ويُستحبُّ للإمامِ مماكسة (¬1) حتَّى يعقد على صفة التوسُّط بدينارين، وعلى صفة الغنى بأربعة، فيأخذ عند تمامِ الحولِ منهم ما عقدَ عليه إن وجدتِ الصِّفة آخر الحول. ولو عقدتْ بأكثر ثم امتنعوا من بَذْلِ الزَّائدِ لزمَهُم ما التزَمُوه، فإنْ أبوا، فالنصُّ أنَّهم ناقضُونَ، ومحلُّ نقضهم العهد بالإباءِ من بَذْلِ الزيادَةِ على الدِّينارِ في غيرَ ما دفع باسمِ الصدقةِ (¬2). ولو أسلَمَ ذميٌّ بعدَ سنةٍ أو مَاتَ لم تسقُطْ، ويؤخذُ ما مضَى من السَّنَةِ والسنين، ولا تداخل. ويسوى بين الجزيةِ وبين دين الآدمي على المذهَبِ (¬3). ولو أسلَمَ أو مَاتَ أو أفلسَ أو جُنَّ في خلالِ سنةٍ فقسطٌ، وفي قولٍ لا شيءَ فيها إذا ماتَ أو أسلَمَ في خلالِ السنَةِ. وتؤخذُ الجزيةُ بإجمالٍ، كما نصَّ عليه الشافعيُّ -رضي اللَّه عنه-: حيث قال (¬4): (وإذا ¬
أخذَ منهُمُ الجزيةَ -يعني الإمامَ- أخذَهَا بإجمالٍ، ولم يضربْ منهُم أحدًا، ولم ينلهُ بقولٍ قبيحً، والصَّغارُ أَنْ يُجْرِيَ عليهُمُ الحكمَ لا أَنْ يُضرَبُوا ولا يؤذُوا). ويستحبُّ للإمامِ إذا أمكنَهُ أن يشرطَ عليهم إذا صُولِحُوا في بلدِهِم ضيافَةَ من يمرُّ بِهم من المسلمينَ زائدًا على أقلِّ جزيةٍ على النصِّ (¬1)، وقيل منها، وتجعلُ على غنيٍّ ومتوسطٍ لا فقيرٍ على المنصوصِ -والفقيرُ في هذا البابِ من لا يملِكُ فاضلًا عن قوتِ يومِهِ آخر الحولِ ما يقدره على أداءِ الجزيةِ- ويذكرُ عددَ الضِّفيانِ، فعلى الموسع أن ينزل كلَّ مَن مرَّ به ما بين ثلاثة إلى ستة، لا يزيدونَ على ذلكَ، وعلى المتوسِّطِ أن ينزلَ كلَّ مَن مرَّ بِهِ رجلينِ أو ثلاثة لا يزيد عليهِم، كما نصَّ عليه. ويذكر جنسَ الطَّعامِ، والأدم من نفقةٍ عامَّة أهله، مثل الخبزِ والخلِّ والزيتِ والجبنِ واللبنِ والحيتانِ، والبقول المطبوخةِ، وعلف دابة كلِّ واحدٍ تبنًا أو ما يقومُ مقامه في مكانه. ومنزل الضِّيفانِ من كنيسةٍ وفاضلِ مسكنٍ، فإن كثرَ الجيشُ حتَّى لا تحتملُ منازِلُهُم أهلَ الغنَى ولا يجدُونَ منزلًا أنزلهُم أهلُ الحاجةِ في فضلِ مساكِنِهمْ، وليستْ عليهم ضيافةٌ (¬2). ومدَّة الإقامَةِ، ولا (¬3) تزيدُ على ثلاثةِ أيَّامٍ، وإذا قالَ قومٌ نؤدِّي الجزيةَ باسم صدقةٍ لا جزية، فللإمام إجابتهم إذا رأى، ويُضَعِّفُ عليهم الزكاة في الأموال ¬
فصل
الزكويَّةِ، فيأخذُ مثلي ما يجبُ في الزَّكاةِ. ولو وجبَ بنتا مخاضٍ (¬1) مع جُبرانين لم يضعفا على النصِّ، ولو كانَ بعضُ نصابٍ لم يجب قسطُه على المشهورِ، ثمَّ المأخوذ جزية فلا يؤخذُ من مال من لا جزيةَ عليه، ولا يجوزُ أن ينقص عن دينارٍ لكلِّ رأسٍ، ولا يمنع التضعيفُ في التجارَةِ أخذ عشرَ تجارتهم بالحجاز أو بغيره. * * * فصلٌ يلزمنا الكفُّ عنهم، وضمانُ ما نتلفه عليهم نفسًا ومالًا، ودفع أهلِ الحربِ عنهم إذا لم ينفردُوا ببلدٍ وسطَ دارِ الحربِ، وفي وجهٍ لا يلزمُنا الدَّفعَ عنهم بشرطِ أن يفردوا ببلدٍ في جوارِ دارِ المُسلمينَ، وأن يجري العقدُ مطلقًا، وأن لا يمرَّ أهلُ الحربِ بشيءٍ من دارِ الإسلامِ، وأن لا يكون هناك مالٌ لمسلمٍ (¬2). ونمنعهم من إحداثِ كنيسةٍ في بلدٍ أحدثناهُ (¬3)، أو أسلَمَ أهلُهُ عليهِ، وما فُتحَ عَنوة لا يحدثونها فيها، ويقرُّون على كنيسةٍ كانت فيه على المنصوصِ. وإن فتح صلحًا بشرطِ الأرضِ لنا وشرطِ إسكانِهم وإبقاءِ الكنائس جاز، وإن أطلق فالأصحُّ المنعُ، أو لهمْ قُرِّرَتْ ولهم الإحداث على النصِّ (¬4). ويُمنعون وجوبًا -وقيل ندبًا- من رفعِ بناءٍ علي بناءِ جارٍ مسلمٍ، وفي ¬
الرَّفعِ قولٌ أنَّه لا يمنعُ منهُ، والمنصوصُ عدمُ المنعِ من المساواةِ وجوبًا، والأحبُّ إلى الشافعيِّ المنعُ من المساواة -يعني: استحبابًا (¬1). ومحلُّ المنعِ من الرَّفعِ ومن المساواة إن قيل به إذا كان بناءُ المسلمِ مما يُعتادُ للسُّكنَى، فلو كانَ جدارُ المسلمِ قصيرًا لا يعتادُ للسُّكنَى؛ إمَّا لأنَّهُ بناهُ كذلك، ولم يتمَّ بناءَهُ، أو لأنَّه هَدَمَهُ، أو انهدَمَ إلى أَنْ صارَ إلَى ما ذكرنَاهُ، فإنَّه لا يمنعُ الذِّميُّ من بناءِ جدارِهِ علَى أقلَّ ما يعتادُ للسُّكنَى لئلَّا يتعطَّلُ عليه حقُّ السُّكَنى الذي عطَّلَهُ المسلمُ باختيارِهِ أو تعطَّلَ عليهِ لإعسارِهِ. ثم إنْ بنَى المسلمُ أرفعَ مِن بناءِ الكافرِ فلا كلامَ، وإنْ بنى دونَهُ مما لا يعتاد للسُّكنَى، فلا يكلَّفُ الذِّميُّ أن ينقصَ عنهُ؛ لأنَّ المسلمَ لم يبنِ المعتادَ، وإن بناهُ أقلَّ ما يعتادُ للسُّكنَى قلنا للمسلمِ: لا تُكلِّف الذِّميَّ أن ينقصَ عن أقلَّ ما يعتادُ، فإمَّا أن ترفعَ بناءَك، وإما أن تتركَه. ولا يكلَّفُ الذِّميُّ دونَ ذلكَ. وظاهرُ نصِّ الشافعيِّ منعهم منْ رفعِ البناءِ في دارِ الإسلامِ، ولو كانُوا مُنفردِينَ بمحلَّةٍ أو قريةٍ، وهذا هو المُعتمَدُ في الفتوى، خلافًا لمنْ صحَّحَ خلافَ ذلكَ (¬2). ويمنعُ الذميُّ من ركوبِ الخيلِ لا حميرَ وبغالَ، إلَّا أن تكونَ البغالُ نفيسةً فيُمنعونَ من ركوبِها في هذا الزمانِ؛ لأنَّ الغالبَ فيهِ أنَّه لا يركبُها إلَّا الأعيانُ من المسلمين، أو من يتشبَّهُ بهم منهم (¬3). ويَركبُ بالإكافِ عرضًا، وهو أَنْ يجعلَ الراكبُ رجليهِ من جانبٍ ويركبُ ¬
بركابٍ خشبٍ خسيسٍ لا حديدٍ ولا سَرْجٍ، ويلجأ إلى أضيقِ الطُّرقِ، ولا يوقَّرُ ولا يصدَّرُ في مجلسٍ، ويؤمرُ بالتمييز في اللباسِ بأنْ يلبسوا الغيار، وهو أن يحيطَ على ثيابِهِ الظَّاهِرَةَ ما يخالفُ لونُه لونَها، وإذا دخَلَ حمَّامًا فيه مسلمون أو تجرَّدَ عن ثيابِه جعلَ عليهِ جلاجل، أو في عنقِهِ خاتمٌ من حديدٍ أو رصاص (¬1). ويمنعون من إسماعِ المسلمينَ شركًا، وقولهم في عزيرٍ والمسيحِ، ويمنعونَ من إظهارِ خمرٍ وخنزيرٍ وناقوسٍ وعيدٍ (¬2)؛ إذا كانوا في أمصارِ المسلمين، فإنْ كانُوا في قريةٍ منفردةٍ يملكونها فلا منعَ من ذلكَ. نصَّ عليه. ولو شُرطتْ هذه الأمورُ التي ذكرناها وشرط عليهم الانتقاضُ بها، فخالفُوا انتقضَ العهدُ عملًا بمقتضَى الشرطِ، هذا مقتضَى النصِّ (¬3). ولو قاتلونَا أوِ امتنعُوا من الجزيةِ أو من إجراءِ حُكمِ الإسلامِ انتقضَ. ولو زَنَى ذميٌّ بمسلمةٍ أو أصابَها بنكاحٍ قد عقدَهُ عليها في حال إسلامِها، أو علمَ إسلامهَا حالة الإصابَةِ أو دلَّ أهلَ الحربِ على عورةِ المسلمينَ أو فتنَ مُسلمًا عن دينِهِ بأنْ دعاهُ إليهِ، وزيّنَهُ لهُ، أوْ طعنَ في الإسلامِ، أو القرآنِ، أو ذكرَ رسولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- بسوءٍ، فأصحُّ القولينِ؛ أنَّه إن شُرط انتقاضُ العهدِ بها انتقضَ، وإلَّا فلَا (¬4). ويُقامُ عليهِ حدُّ الزِّنا، سواءٌ قلنَا ينتقضُ عهدُهُ أمْ لَا، ثم بعدَ إقامةَ الحدِّ يجري عليه مقتضى الانتقاضِ، إذا حكمنا بالانتقاضِ، فإذا قتلَ لزناهُ وهو ¬
محصنٌ صارَ مالُهُ فيئًا على الأصحِّ، لأنَّه حربيٌّ مقتولٌ، ومالُهُ تحتَ أيدينا. ومَنِ انتقضَ عهدُهُ بقتالٍ، وجبَ دفعُهُ وقتالُهُ، أو بغيرِهِ لم يجبْ إبلاغُهُ المأمنَ على الأظهَرِ، بل يخيَّرُ الإمامُ فيهِ بين القتلِ والرِّقِّ والمنِّ والفداءِ، فإن أسلمَ قبلَ الاختيارِ امتنعَ الرِّقُّ، إلَّا إن نصبُوا القتالَ وصاروا حربًا لنا، وقاتلونا وقاتلناهم، فأخذنَاهم أسِرَّاءَ، فإنَّهُ يجرِي عليهم حكمُ الأسراءِ قطعًا، بل همْ أسراءُ، وإذا بطَل أمانُ رجالٍ لم يبطلْ أمانُ نسائهم، ولا الصِّبيانِ على الأصحِّ، وإذا اختارَ ذميٌّ نبذَ العهدِ واللحوقَ بدارِ الحربِ بُلِّغَ المأمنَ (¬1). * * * ¬
باب الهدنة
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ باب الهُدنَةِ هي لغةً: المُصالحَةُ. وشرعًا: المصالحةُ معَ الكُفَّارِ بعوضٍ أو غيرِهِ، ويسمَّى هذا العقدُ مهادنةً (¬1)، ومعاهدةً، ومسالمةً، وموادعةً. وقَد هادَنَ النبيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- قريشًا عامَ الحديبيةِ عشرَ سنينَ، ووادعَ اليهودَ على غيرِ جزيةٍ لمَّا نَزَلَ المدينةَ حينَ كانَ في المسلمينَ قلَّةٌ. والأصلُ في البابِ قبلَ الإجماعِ قولُهُ تعالَى: {بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} إلى ¬
قوله: {فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ} أي: كونوا آمنينَ فيها هذه الأشهرِ، وقوله تعالى: {وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا}. المهادنة معَ الكُفَّارِ مطلقًا، أو معَ أهلِ إقليمٍ لا يعقدُهَا إلَّا الإمامُ (¬1)، ويجوزُ لوالي الإقليمِ المفوض إليهِ القيامُ بمصالحِ البلدِ من غيرِ تقييدٍ المهادنةُ معَ أهلِ قريةٍ أو بلدةٍ في إقليمِهِ للمصلحةِ، أو بلادٍ في إقليمِهِ دعتِ الحاجةُ إلى مهادنةِ أهلِها، وظهرتِ المصلحةُ في ذلكَ، وكذا لو كانتِ البلدَةُ مجاورةً لإقليمِهِ وظهرتِ الحاجةُ لذلكَ، ورأَى المصلحةَ لأهلِ إقليمِهِ في ذلكَ أو القريةِ أو القُرَى أو البلادِ المجاوِرَةِ لإقليمِهِ؛ من جهةِ أنّهُ مفوَّضٌ إليهِ القيامُ بمصالِحِ إقليمِهِ. وهذا من جملةِ المصالحِ، وإنَّمَا تعقد لحاجَةِ الضعفِ مع مصلحةٍ منتظرَةٍ، وتحصيل أُهْبةٍ، وتعقدُ مع القوَّةِ للمصلحةِ، وإذا لمْ يَكُنِ بالمسلمينَ ضعفٌ لم تجُزِ المهادَنةُ سنةً على المذهبِ، وتجوزُ أربعةَ أشهرٍ، ولا تجوزُ دونَ سنة بمدَّةٍ يمكنُ الخروجُ في ذلك الدونِ على الأظهرِ، ويضعف تجويزٌ بحسب الحاجةِ، ولا يُزاد على عشرٍ (¬2). ويستثنى من المدتينِ المذكورتينِ الهدنةُ مع النساءِ خاصَّةً، فإنهنَّ يجوزُ أَنْ يعقد لهنَّ الهدنةُ من غيرِ تقييدٍ. وقد سبَقَ شيءٌ من هذا في الأمانِ. ¬
وفيه وجه أنه ينزل عند ضعف المسلمين على عشر، وعند القوة قولان
ومتى زادَ على الجائِزِ في حالِ القوَّةِ فقولا تفريقُ الصفقةِ (¬1) وفي حالةِ الضعفِ ينقضُ العقدُ كلُّه، وإطلاق العقدِ مفسدةٌ على الصَّحيحِ (¬2). وفيه وجهٌ أنَّهُ يُنزل عندَ ضعفِ المسلمينِ على عشرٍ، وعند القوَّة قولانِ: أحدهما: يتركُ على سنة. والثاني: على أربعةِ أشهرٍ. والشرطُ الفاسدُ يفسدُه على المنصوصِ بأن شرط منعَ فكِّ أسرانا، أو تركِ مالِنا لهم، أو لنعقدَ لهم ذمَّةً بدون دينارٍ، أو بدفعِ مالٍ إليهم، فإن دعتْ ضرورةٌ إلى بذلِ مالٍ؛ بأن كانوا يُعدِمونَ الأسرَى في أيديهم، فديناهم، أو أحاطُوا بنَا وخفنا الاصطدامَ، فيجوزُ بذلُ المالَ، ودفع أعظمِ الضررينِ بأخفِّهِما، بل يجبُ البذلُ هُنا للضرورةِ على الأصحِّ. وتصحُّ الهدنَةُ على أَنْ ينقُضَهَا الإمامُ متَى شاءَ (¬3)، ويصحُّ عقدُها إذا قالَ الإمامُ: هادنتكم على أنَّ لفلانٍ نقضَها متَى شاءَ، وكان فلانٌ مسلمًا عدلًا ذا رأيٍ، والأمر في نقضِهِ كما في الإمامِ. ومتَى صحَّتْ وجبَ الكفُّ عنهُم حتَّى تنقضِيَ أو ينقضوهَا (¬4)، أو يشاءُ الإمامُ نقضَهَا في صورةِ عقدِها على ذلك، أو يشاءُ نقضَها المسلمُ الذي شُرِطَ ¬
لَهُ ذلكَ بصريحٍ، أو قتالنا، أو مكاتبةِ أهلِ الحربِ بعورةٍ لنا، أو قتْلِ مسلمٍ أو ذميٍّ، أو معاهَدٍ، أو أخذوا مالًا، أو سبُّوا رسولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-. وإذا انتقضتْ (¬1) جازتِ الإغارةُ عليهم، وبياتِهم إذا كانُوا في بلادِهم، وعلموا أنَّ الذي فعلوه ناقضٌ، فإن لم يعلموا أو كان الغالبُ أنَّ ذلكَ مما تعرفُ الأنفسُ أنها خالفتْ ما صدرَ منهَا، فإنَّه ينتقضُ بهِ العهدُ (¬2). فإنْ لم يعلموه لأنهم مقصرُّون بإقدامهم عليه، ولكن ينذرون، فإن قالوا: نجدد صلحًا، أجابهم إليه. ومن دخل دارَ الإسلامِ بهدنةٍ وأمانٍ، فإنَّه يغتالُ إذا انتقض عهدُهُ على النصِّ المعتمدِ، خلافًا لما في "الروضة" تبعًا للشرح، من أنَّه يبلَّغُ المأمنَ. ولو نقضَ بعضُهم، ولم ينكرِ الباقونَ بقولٍ ولا فعلٍ انتقضَ فيهم أيضًا، وإن أنكروا باعتزَالِهم أو إعلامِ الإمامِ ببقائهم على العهد فلا، ولو خافَ جنابَهم، فلهُ نبذُ عهدهم إليهم، ويبلغهم المأمنَ (¬3). ولا ينبذ عقدَ الذِّمَّةِ بتهمةٍ، ولا يجوزُ شرطُ ردِّ مسلمةٍ تأتينا منهم، فإن شرط فسد الشرطُ (¬4)، وكذا العقدُ على النصِّ، وإن شرطَ ردَّ النساءِ فجاءتِ امرأةٌ مسلمةٌ، لم يجبْ دفعُ مهرٍ إلى زوجِها إذا طلبَها بنفسِهِ أو بوكيلِه، وجاءتِ المرأةُ بلد الإمامِ أو نائبِهِ، وهي في العدَّةِ ولم يطلِّقْها ثلاثًا في العدَّةِ ¬
وكانتْ حيَّةً عندَ الطَّلَبِ، على الأظهرِ في ذلكَ (¬1). ولا يردُّ صبيٌّ ومجنونٌ، وكذَا عبدٌ وحرٌّ لا عشيرَةَ لَهُ، ويغلبُ على الظَّنِّ أنَّه يُذلُّ ويُهانُ على الأصحِّ. ويردُّ مَن له عشيرةٌ طلبَتْهُ إليهَا لا إلَى غيرِها، فلا يردُّ إلى غيرِ عشيرتِهِ. ولو قدَرَ على قهرِ الطالبِ والهربِ منه؛ لأنَّ ذلكَ قد لا يتفقُ، هذا هو المعتمدُ خلافًا لما في "المنهاجِ" تبعًا لأصلِهِ. ومعنى الرَّدِّ أَنْ يخلَّى بينهُ وبينَ طالبِهِ، ولا يجبرُ على الرُّجوعِ، ولا يلزمُهُ الرُّجوعُ، ولهُ قتلُ الطالبِ في غيرِ حضرَةِ الإمامِ، ولنا التعريضُ لَهُ بهِ في غيرِ حضرَةِ الإمامِ، وليسَ لنَا التّصريحُ مطلقًا. ولو شُرِط أَنْ يردُّوا مَن جاءَهم مرتدًّا منَّا لزمهمُ الوفاءُ، والمشهورُ جوازُ شرطِ أن لا يردُّوا مَن جاءَهم مرتدًّا إلَّا الإناثَ والعبيدَ، ومَن جُنَّ بعدَ الرِّدَّةِ فعليهم ردهم، ولو أطلقُوا الشرط. * * * ¬
كتاب الصيد والذبائح
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ كتابُ الصيدِ والذبائح الصيدُ مصدرُ صادَ يصيدُ صيدًا، ثم أُطلقَ على الصَّيدِ، قالَ اللَّهُ تعالى: {لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ}. والأصلُ في البابِ قولُهُ تعالَى: {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا}، وقولُهُ تعالَى: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ}، ومفهومها على حِلِّ صيدِ البَرِّ في حالةِ عدمِ الإحرامِ. والذَّبائحُ جمع ذبيحةٍ، وأصلُها قولُهُ تعالى: {أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ} والمذكَّى منها. ومن السُّنَّةِ ما رواهُ الدارقطنيُّ والبيهقيُّ عن أبي هريرةَ أنَّ النبيَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- بعثَ بُدَيْلِ بنِ ورقاءَ يَصِيحُ فِي فجاجِ مِنى: "ألَّا إنَّ الذَّكاةَ في الحلقِ واللُّبَّةِ" (¬1). ورواهُ ¬
الشافعي موقوفًا على ابنِ عمرَ وابنِ عبَّاسٍ، وهو أصحُّ من رفعِهِ (¬1). وأجمعتِ الأُمَّةُ على حلها. والحيوانُ المأكولُ المقدورِ عليهِ ذكَاتُهُ بالذَّبحِ في حلقٍ أو لبةٍ، وغير المقدورِ عليهِ يُعقَرُ مرهقٌ في أيِّ موضعٍ كانَ (¬2). والجنينُ الذي يوجدُ في بطنِ أمِّهِ المذكَّاةِ ميتًا، ذكاتُهُ بطريقِ التَّبعيَّةِ لذكاةِ أمِّه. وشرطُ ذابحٍ وصائدٍ يحلُّ صيدُهُ بتذكيتِهِ حلُّ مناكحتنا لهُ، وتحلُّ ذكاةُ أمةٍ كتابيَّةٍ. ويعتبرُ في ذابحِ المتوحِّشِ أو ما في أصلِه متوحِّشٌ أو صائِدِهِ [أَنْ] (¬3) لا يكونَ محرمًا بعمرةٍ ولا بحجٍّ لم يتحلَّل منهُ التَّحلُّلَ الأوَّلَ، وأن لا يكونَ في حرمِ مكَّةَ شرَّفها اللَّهُ تعالى. ولو شاركَ مجوسيٌّ مسلمًا في ذبحٍ أو الاصطيادِ الذي به التذكية حرم (¬4)، ولو أرسلا سهمينِ أو كلبينِ، أو سهمًا وكلبًا، فإن سبقَ آلةُ المسلمِ بقتلٍ أو أنهاهُ إلى حركةِ مذبوحٍ حلَّ، ولو انعكسَ حرُمِ (¬5). وكذلكَ يحرمُ، إذا سبقَ كلبُ المجوسيِّ فأمسكَ ولم يقتل، ولا جرحَهُ لأنَّهُ لمَّا أمسكَهُ كلبُ المجوسيِّ فأمسكَ ولم يقتُلْ ولا جرحه، فقد صارَ مقدورًا عليهِ، فلا يحلُّ بأن يقتُلَهُ كلبُ المسلمِ، وإن جرحاهُ معًا أو جهل أو ¬
مرتبًا ولم يذفِّفْ أحدُهما، وهلكَ بهما حرمَ (¬1). ويحلُّ ذبحُ صبيٍّ مميَّزٍ، وكذا غيرُ مميزٍ إذا أطاقَ ذلك، ومجنونٍ وسكرانٍ على المذهبِ، ويكرَهُ كالأعمَى، ويحرمُ صيدُ الأعمَى الذي يحصلُ به الذَّكاةُ برمي، وكلبٍ على مقتضَى النصِّ (¬2). وتحلُّ ميتةُ السَّمكِ والجرادِ، ولو قتلهما مجوسيٌّ، إلَّا إذا وجدتْ ميتةُ السمكِ متقطعةً صغيرةً في بطنِ سمكةٍ أخرَى فلا تحلُّ على الأصحِّ، فإنْ وُجدَتْ متقطعةً في بطنِ حيوانٍ آخر غيرَ مأكولٍ قطعَ بتحريمِها؛ لأنَّ رجيعَ غيرَ المأكولِ نجسٌ قطعًا (¬3). ويحلُّ الدودُ المتولِّدُ من طعامٍ كخلٍّ وفاكهةٍ، إذا أُكل معهُ من غيرِ نقلِهِ اختيارًا إلى موضعٍ آخر من الطَّعامِ، أو سحبِه من موضعٍ من الطعامِ إلى آخر من غيرِ نقلٍ على الأصحِّ. ولا تقطع بعضُ سمكةٍ حيَّةٍ، فإن فعلَ مع بقاءِ الحياةِ في الباقي حلَّ المقطوعُ منها على النصِّ (¬4). ويحلُّ ابتلاع السَّمكةِ حيَّةً على الأصحِّ، وهي حلالٌ في نفسِها، وإنما الخلافُ في أنَّ هذا الفعلَ هل يحرُمُ أمْ لا (¬5). وإذا رمى صيدًا متوحِّشًا أو بعيرًا ندَّ أو شاةً شردتْ بسهمٍ فيه نصلٌ من الحد وذات الجارحة أو بسهمٍ لا نصلَ فيه، ولكن له حدٌّ يمورُ مورَ السلاحِ، ¬
أو بسيفٍ أو سكِّينٍ، أو رمحٍ أو مزراقٍ، أو أرسلَ إليهِ جارحةً، فأصابَ شيئًا من بدنِهِ وماتَ في الحالِ أو تحاملتِ الجارِحَةُ عليه فقتلتْهُ بثقلِها، حلَّ في الأظهَرِ، فإنْ جرحتْهُ حلَّ قطعًا (¬1)، ولو تردَّى بعيرٌ ونحوُه ولم يمكنْ قطعُ حلقومِهِ فكنادٍّ (¬2). ومتى تيسَّرَ لحوقُهُ بعَدْوٍ أو استعانةٍ ممن يستقبله فمقدورٌ عليه، فإنْ تحقَّقَ العجزُ عنهُ في الحالِ فغير مقدورٍ عليه. ويكفي في النَّادِّ والمتردِّي والصيدِ جرحٌ يُفضي إلى الزُّهوقِ. وقيل في السِّهمِ في المتردِّي: يشترطُ تذفيف، ويترتبُ النادّ والصيد عليه، وأولى أن لا يشترطُ، وإذا أرسل سهمًا أو جارحةً على صيدٍ فماتَ بإصابَتِهِ، فإن لم يدركْ فيه حياةً مستقرَّةً أو أدركها، وتعذَّرَ ذبحُه بلا تقصيرٍ، كأنَ سل السكين فماتَ قبلَ إمكانٍ، أو استعمل بتوجيهه إلى القبلةِ أو امتنع بقوته، وماتَ قبلَ القدرةِ حلَّ، وإنْ ماتَ بتقصيرِهِ كأن لا يكون معه سكينٌ أو عصبت أو نشبتْ في الغمد حرم. فلو اتخذ قرابًا معتادًا، فنسيت لعارضٍ فإنَّهُ يحلُّ، ولو رماهُ فقدَّه قطعتين بحيث إنَّه لا تبقَى في واحدةٍ منها حياةٌ مستقرَّةٌ حلَّتا. ولو أبانَ منه عضوًا بجرحٍ مذففٍ حلَّ العضوُ والبدنُ، أو بغير مذففٍ ثمَّ ذبحَه أو جرحَه جرحًا آخر مذففًا حرم العضو وحلَّ الباقي، فإن لم يتمكَّنْ من ذبحِهِ وماتَ بالجرحِ حلَّ ما عدا العضو المبان على الصحيحِ؛ لأنَّه عضو أبينَ ¬
من هذا الحيوانِ وهو حيٌّ، فيكونُ ميتًا بخلاف ما إذا أُبِين بجرحٍ مذففٍ فإنَّ العضوَ يكونُ حلالًا حينئذٍ. وذكاةُ كلِّ حيوانٍ قُدرَ عليهِ بقطعِ كلِّ الحُلْقُومِ -وهو مخرجُ النَّفَسِ- والمرِّيءِ، وهو مجرَى الطَّعامِ، ويستحبُّ قطعُ الودجَينِ، وهما عرقانِ في صفحتَي العنقِ. ولو ذبحَهُ من قفاهُ عصى، فإنْ أسرعَ فوصلَ إلى الحلقومِ والمريءِ وفيه حياةٌ مستقرَّةٌ حلَّ، وإلَّا فلا. وكذا إدخالُ سكينٍ بأذنِ ثعلبٍ (¬1)، إذا وصلَ إلى الحلقومِ والمريء وفيه حياةٌ مستقرِّةٌ. ويسنُّ نحرُ إبلٍ وذبحُ بقرٍ وغنمٍ، ويجوزُ عكسُهُ، ولكنْ يُكرَهُ على النصِّ. ويسنُّ أَنْ يكونَ البعيرُ قائمًا معقولَ ركبتِهِ اليُسرى، والبقرةُ والشاةُ مضجعةٌ لجنبها الأيسر، ويتركُ رجلَها اليمنَى ويشُدُّ باقي القوائم، وأن يَحُدَّ شفرته ويوجِّهَ بذبحها إلى القبلة، ويقولَ: بسم اللَّه. والأحبُّ إلى الشافعيِّ أن يصلي على النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، ولا يقول: باسم اللَّه، واسم محمد. فإنْ أرادَ: أذبحُ باسم اللَّهِ، وأتبرَّكُ باسم محمد -صلى اللَّه عليه وسلم-، فينبغي أن لا تحرَّم كما قالَهُ في "الرَّوضة" (¬2) تبعًا للشرحِ. ¬
* ضابطٌ: يحلُّ ذبحُ مقدورٍ عليه وجرح غيره بكلِّ محدَّدٍ يجرحُ، كحديدٍ ونُحاسٍ ورصاصٍ، وذهبٍ وفضَّةٍ وخشبٍ وقصبٍ، وحجرٍ، وزجاجٍ، إلَّا ظفرًا وسنًّا. ويحل الذبحُ بالعظمِ غير السنِّ على النصِّ. ولو قتل بمثقِّلٍ وثِقَلِ محددٍ؛ كبندقة وسوط وسهم بلا نصلٍ ولا حد، أو سهم وبندقة حرم (¬1). وإن جرحه نصل وأثَّرَ فيه عرض السهم، فلا يحرمُ على المعتمدِ؛ لأنَّه إذا جرحَهُ النصلُ ثم مرَّ السهمُ وأثر فيه عرضُهُ كان ذلك من ضرورة الرَّمي، فأشبه ما لو خرقَهُ بالنصلِ، ونفذَ السهمُ من ذلكَ الخرقِ، فإنْ مثل هذا لا يؤثرُ قطعًا، وإذا انخنقَ بأحبولةٍ أو أصابَهُ سهمٌ فوقعَ على طرفِ سطحٍ، ثم سقطَ منهُ، أو على جبلٍ ثمَّ سقطَ منه وفيه حياةٌ مستقرَّةٌ حرمَ. ولو أصابَهُ سهمٌ بالهواءِ فسقطَ بأرضٍ، أو في ماءٍ أو على شجرةٍ، أو غير ذلك، وماتَ حلَّ إن كان الذي وقعَ في الماء طير الماء وهو على وجهِ الماءِ فأصابَهُ وماتَ. وكذلكَ يحلُّ الطيرُ الذي وقعَ على شجرةٍ ولم يسقطْ من غصنٍ إلى غصنٍ ففيهِ ما سبقَ في الساقطِ من الجبلِ. وأمَّا الساقطُ في النارِ فهو حرامٌ كما ذكرَهُ الماورديُّ إنْ لم ينتَهِ إلى حالِ المذبوحِ كما سبقَ (¬2). * * * ¬
ويحلُّ الاصطيادُ الذي تحصلُ به الذكاةُ بجوارِحِ السِّباعِ والطيرِ ككلبٍ وفهدٍ وبازٍ وشاهين، ويشترطُ كونها معلَّمَةً بأنْ ينزجر جارحةُ السِّباعِ بزجرِ صاحبِهِ، ويسترسلَ بإرسالِهِ، ويمسكُ الصيدَ ولا يأكُلُ منهُ عقبَ القتلِ، أو قبله، مع حصولِ القتلِ على المشهورِ (¬1). ويشترطُ في جارحةِ الطيرِ أن يدعَى فيجيبَ، ويُسْتَشْلَى فيطيرُ، ويأخذ فيحبس مرَّة بعد مرَّة، كما نصَّ عليه الشافعيُّ (¬2). ويشترطُ تركُ الأكلِ في جارحةِ الطيرِ على الصَّحيحِ، ويشترطُ تكرُّرِ هذه الأمورِ، بحيثُ يُظنُّ تأدُّبَ الجارحةِ. وإذا ظهرَ كونُهُ معلَّمًا، ثم أَكلَ من صيدٍ غيرَ شعرِهِ لم يحلَّ ذلكَ الصيدُ على الأظهرِ إذا قتلَ الصيدَ وأكلَ منهُ عقبَ القتلِ، وكذلك إذا أكلَ من صيدٍ آخر عقبَ القتلِ، فإنَّه يحرمُ على الأرجحِ، إلَّا أن يصيرَ الأكلُ له عادةً فيحرمُ الأخيرُ بلا خلافٍ. وفي تحريمِ الصيود تبعًا لأصلِهِ، وحيث قلنا بتحريمِ ذلك الصيد -وهو الأظهرُ- فيشترطُ تعليمٌ جديدٌ، ومعضُّ الكلبِ منَ الصيدِ نجسٌ عَلَى المذهبِ، والأصحُّ أنَّهُ لا يعفَى عنهُ، وأنَّه يكفي غسلُهُ بماءٍ وترابٍ، ولا يجبُ أَنْ يفورَ ويطرح. ولو جرحتِ الجارحةُ صيدًا ثمَّ تحاملتْ عليهِ وقتلتهُ، فإنَّه يحلُّ في الأظهر (¬3). ¬
فصل
فإنْ تحامَلَتْ عليهِ من غيرِ جرحٍ فقتلتهُ بثقلِها، لم يحلَّ على المنصوصِ في البويطي المجزوم به، خلافًا لما في "المنهاجِ" (¬1) تبعًا لأصلِهِ. ولو كان بيدهِ سكينٌ فسقطَ وانجرحَ به صيدٌ أو احتكت به شاةٌ وهي في يدِهِ فانقطعَ حلقومُها، ومر بها، أو استرسلَ كلبٌ بنفسِه فقتَلَ، لم يحلَّ، وكذا لو استرسلَ فأغراهُ صاحبُهُ فزادَ عدوُهُ ولم ينفرج على النصَّ فإنِ انفرجَ فإنَّه يحلُّ ما قتلَهُ. نصَّ عليه. ولو أصابَهُ سهمٌ بإعانةِ ريحٍ حلَّ، ولو أرسلَ سهمًا لا يقصدُ الصيدَ فقتلَ صيدًا حرمَ على النصِّ، ولو رمى صيدًا سربَ ظباءٍ فأصابَ واحدةً حلَّت، وإن قصدَ واحدةً فأصابَ غيرَها حلَّتْ على المنصوصِ. ولو غابَ عنه الكلبُ أو الصيدُ، ثم وجدَهُ ميتًا حرمَ على الأظهرِ إذا لم ينهه الجرح إلى حركة المذبوح، ولكن وجدَهُ في ماء أو وجدَ عليه أثر صدمةٍ أو جراحةِ آخرَ، فإنَّهُ لا يحلُّ بلا خلافٍ. * * * فصل يملكُ الصيدَ بضبطِهِ بيدِهِ (¬2)، وبجرحٍ مذففٍ، وبإزمانٍ (¬3) وكسر جناح عجز معه عن الطيران، والعدو، ويكفي للملك إبطال شدة العدوِ، وصيرورته بحيث يسهلُ لحاقه، وبوقوعه في شبكةٍ نصبها للصيدِ ولم يقدرْ على الخلاصِ منها، وبإلجائه إلى مضيقٍ لا يفلتُ منهُ، ويستثنى من ذلكَ صيد الحرمين؛ ¬
مكَّة والمدينة، فإنَّه لا يملكه الصَّائدُ سواء كانَ حلالًا أم محرمًا. ويستثنى المحرِمُ في الصيد خارج الحرم، فإنَّه لا يملكه، ويستثنى المرتدُّ تفريعًا على ما قاله الشافعيُّ: أن ملكه يزولُ بالرِّدَّةِ، هو أشبهُ الأقوالِ، وبهِ نَقُولُ، فيبقى على الإباحةِ كما ذكَرَهُ المتولي، أو يثبتُ الملكُ فيه لأهلِ الفيءِ، كما قالَ صاحبُ النهايةِ أنَّهُ ظاهرُ القياسُ. وإن قُلنا نقول للوقفِ كما صحَّحَهُ النوويُّ تبعًا للرافعيِّ، فيبقَى ملك الصيد موقوفًا، فإنْ عادَ إلى الإسلامِ بانَ أنَّه ملكه من حينِ الأخذِ، وإن ماتَ مرتدًّا فهو لأهلِ البغي على المعتمدِ. ولو وقعَ صيدٌ في ملكِه أو مستأجَرٍ أو مستعارٍ أو مغصوبٍ، وصار مقدورًا عليه بتوحُّل وغيره لم يَملِكْهُ على الأرجح إذا لم يقصد بذلك التوحُّل الاصطياد، فإن كان مما يقصد به الاصطياد فهو كنصبِ الشبكة للصيدِ، فيملكهُ قطعًا، ومتى ملكَهُ لم يزُلْ مِلْكُه بانفلاتِه، ويزول بإرسال المالك لهُ على المنصوصِ إذا قصدَ إخراجَهُ من ملكِه خلافًا لما في "المنهاجِ" تبعًا لأصلِهِ (¬1). ولو تحوَّلَ حمامه من برجِهِ إلى برجِ غيرِهِ، فأخذَهُ ذلكَ الغيرُ، فعليهِ ردُّهُ. فإنِ انتقلَ من حمامِ كلِّ واحدٍ منها إلى برجِ صاحبِهِ واختلطَ وعَسُرَ التمييز لم يصح بيع أحدهما، وهبته شيئًا منه لثالث إذا باع أو وهبَ شيئًا معينًا بالشخصِ، ثم لم يظهر أنَّه ملكه، فأمَّا إذا باع شيئًا معينًا بالجزء كنصفِ ما ملكه أو ثلث ما ملكه، أو باع جميع ما يملكه، وفي كلِّ الصُّورِ الثمنُ معلومٌ، فإنَّه يصحُّ إذا رأى المشتري جميع الحمام كما ذكرَ شيخُنَا. وكما لا يصحُّ بيعُ الشيءِ المعيَّنِ بالشخصِ ولا هبته لثالثٍ، لا يجوز لصاحبِهِ على الأرجحِ لما تقرَّرَ خلافًا لمن قالَ بخلافِهِ، فإن باعاهُ والعددُ ¬
معلومٌ والصحَّةُ سواءٌ صحَّ، وإن لم يكن كذلك فلا يصحُّ إلَّا إذا قالَ: كلُّ واحدٍ منهما بعتكُ الحمامُ الذي لي بكذا، أو عيَّن الثمنَ فيصحُّ حينئذٍ. وإذا جرحَ الصيدَ اثنانِ متعاقبانِ، فإن لم يكن الأوَّلُ مذففًا ولا مزمنًا، والثاني مذفف أو مزمن فهو للثاني، وإن ذفف الأوَّل فله أو أزمنَ فله، ثم إن ذففَ الثانِي بقطعِ حلقومٍ ومري؛ فهو حلالٌ، إذا كانتْ فيهِ حياةٌ مستقرِّةٌ، وعليه للأوَّلِ ما نقصَ بالذبحِ. وإن جرحَا معًا وذففا أو أزمنا فهو لهما، وإن ذفف أحدهما وأزمنَ دونَ الآخرِ فلهُ، وإن ذفف أحدهما وأزمن الآخر، فهو بينهما على النصِّ. وإن احتملَ أن يكونَ الإزمان بهما أو بأحدهما، فهو بينهما في ظاهرِ الحُكمِ، وإنْ ذففَ واحدٌ لا بقطعِ الحلقومِ والمريءِ وأزمن الآخرُ، وجُهِلَ السابقُ حرم على المذهب (¬1). * * * ¬
كتاب الأضحية
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ كتابُ الأضحيةِ هي بضمِّ الهمزةِ وكسرِها وتشدَّدُ ياؤُها وتخفَّفُ، ويقال: ضحيِّةٌ وجمعُها ضحايَا، وهي ما يُذبَحُ من النَّعمِ تقرُّبًا إلى اللَّهِ تعالى يومَ عيدِ النَّحرِ وأيامَ التَّشريقِ بقصدِ التضحية. قال إبراهيم المَرْوَرُّوذيُّ: وهي مشتقَّةٌ من الضحوةِ، وهي اسمٌ لزمانٍ يعقبُ طلوعَ الشمسِ وارَتفاعِها، وقيل: مشتقة من الضحى، وهو مكانُ ذبحِها. وقيل: إنَّما سُمِّيتْ أضحيةً لأنَّها تُذبحُ وقتَ شروقِ الشَّمسِ. انتهى. والأصل في الباب قبل الإجماعِ قولُه تعالى: {وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} الآية. وقوله: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} على أشهرِ الأقوال، وثبتتْ فيه أحاديث في الصحيحين وغيرهما. هي سُنَّةُ كفايةٍ لغيرِ الحمل، وإنَّما تتعلقُ هذه السنة بالحرِّ المسلمِ القادرِ
عليها، ويعتَبَرُ اليسارُ عندَ جوازِ الذَّبحِ في يوم العيدِ. ولا تلزمُ الأضحيةُ إلَّا بالنذرِ، بأن يقول: "جعلتُ هذه الشاةَ ضحيةً". فإن قال: "الأضحية لازمة لي"، أو: "التزمتُ الأضحية" كانَ كفاية قطعًا، ولا تلزم إلَّا بالنيةِ. ويكرهُ لمريدها إذا دخلَ عشر ذي الحجة، أو أرادها في أثناء العشرِ أن يزيل شعره أو ظفره أو شيئًا من بدنِه من جلدة ونحوها لغير حاجةٍ، بعذر، تشبُّهًا، حتى يضحِّي، وسُنَّ أن يذبحَها بنفسه إن أحسنَ الذبحَ، وإلَّا فليشهدها، ولا تصحُّ إلّا بالحيوان الزكوي، وهو الإبلُ، والبقرُ، والغنمُ (¬1). وشرطُ الإجزاء في الإبلِ أن تَطْعَنُ في السادسةِ، وبقرٍ ومعز في الثالثة، وضأنٍ في الثانيةِ ما لم تجذع قبل ذلك، فإن أجذع قبل ذلك كان كافيًا، ويصحُّ بالذكرِ والأنثى والخصي. ويجزئ البعيرُ عن سبعةٍ، والبقرةُ عن سبعةٍ، والشاةُ عن واحدٍ، وأفضلُها الإبلِ، ثم البقر، ثم الضأن، ثم المعز (¬2). والتضحيةُ بسبع شياه أفضلُ من بدنةٍ أو بقرةٍ، وشاةٌ أفضلُ من الشركة فيها. وشرطُها سلامةٌ من عيبٍ يفسدُ اللحمِ، وينقصُ الثَّمن، فلا تجزئ العجفاءُ ولا مقطوعةُ بعضِ الأذنِ، ولا بعضُ الذنبِ، ولا بعضُ الضرعِ، ولا بعضُ الأليةِ، ولا بعضُ اللسانِ، ولا التي خُلِقتْ بلا أُذُنٍ (¬3). ويستثنى منه ما إذا قُطِعَ بعضُ الأذنِ وبقيَ متدليًا، فإنَّه لا يمنعُ على ¬
الأصحِّ. ولا تجزئُ العرجاءُ البينُ عرجُها، والعوراءُ البينُ عورُها بذهابِ الحدقةِ، أو النور كله أو غطَى البياضُ أكثرَ الحدقةِ. فأما ضعفُ البصرِ فلا يمنعُ. ولا تجزئُ المريضةُ البيِّنُ مرضُها، ولا الجرباءُ البيِّنُ جربُها، كثيرًا كانَ الجربُ أو قليلًا. وأمَّا التَّولاءُ، وهو المجنونةُ فإنْ كانتْ هزيلةً امتنعتِ الأضحيةُ بِها، إلحاقًا لها بالعجفاء. وتجزئُ الأضحيةُ بالحامل على المنصوصِ ما لم يحصُل نقصٌ فاحشٌ، فإنْ نهكها الحملُ وتفاحشَ نقصان اللحمِ فهذه يمتنع الأضحية بِها. ولا يضرُّ فقدُ قرونٍ، وكذا شقُّ أذنٍ وخَرْقُها وثقبُها في الأصحِّ، فإنِ انكسرَ القرنُ وأثَّرَ الانكسارُ في اللحمِ كانَ كالجربِ. ويدخلُ وقتُ التضحيةِ إذا طلعتِ الشَّمْسُ بائنة يومَ النحرِ، ثم مضى قدرُ ركعتين وخُطبتين خفيفات، ويبقى حتى تغربَ آخرَ التشريقٍ، والسنَّةُ عندَ الشافعيِّ -رضي اللَّه عنه- التَّعجيلُ في صلاةِ النحرِ (¬1). وإذا نذرَ بمعينة مُجزئة عن الأضحيةِ أو غير مجزئة، فقال: "للَّه عليَّ أَنْ أضحي بهذه" لزمَهُ ذبحها في هذا الوقتِ، وبعد أيام التشريقِ إذا أخَّرها عن هذا الوقت على النصِّ، فإن تلفت قبله فلا شيء عليه، وإن أتلفها لزمه أكثر الأمرين من قيمتها، وتحصيلُ مثلِها، ويذبَحُها فِي ذلكَ الوقتِ أو بعدَهُ إذا فاتَ كما تقدَّم (¬2). ¬
وإن نذرَ في ذمتهِ لربِّه ذبحه فيه عيَّن أم لم يعيِّن، فإن فاتَ الوقتُ ضحَّى بعد ذلك الذي عيَّنه عن نذرِهِ الذي كانَ في الذِّمَّةِ، فإنْ بلغتْ قبلَ الذبحِ بقي الأصلُ عليهِ علَى المذهبِ، وإنْ تلفتْ بعد أيامِ التشريقِ مع إمكانِ الذَّبحِ في وقتِهِ فإنَّه يبقى الأصلُ قطعًا. وتشترطُ النيةُ عندَ الذَّبحِ (¬1) إنْ لم يسبقْ تعيينٌ غيرُ موجبٍ، فإن سبقَ جازَ تقديمُ النيةِ على الذبحِ على الأصحِّ، وإن سبقَ تعيينٌ موجبٌ، لم يغنِ عن النيةِ على الأصحِّ، ويجوز بعدَهُ تقديمُ النيَّةِ على الذبحِ على الأصحِّ، ولو وكَّلَ بالذبحِ نوى عند إعطاءِ الوكيلِ أو ذبحه. ويجوزُ من الوكيلِ ولو فوضَ النيةَ إلى الوكيلِ المسلمِ العاقلِ المميزِ الضَّاحي جاز. وله الأكلُ من أضحيةِ التطوُّعِ، إذا لم يرتدَّ، فإن أرتدَّ لم يكنْ لهُ أَنْ يأكُلَ من أضحيتِهِ التي تطوَّع بِها قبلَ الرِّدَّةِ شيئًا، وله إطعامُ الأغنياء المسلمين ولا يمتنعُ تمليكُهم على ظاهرِ النصِّ (¬2). وأما الأضحيةُ الواجبةُ بالنذرِ غير المجازاة في معين، فيجوزُ الأكلُ منها على قولِ أكثرِ الأصحابِ، وقال في "العدة" أنَّه المذهبُ. ويأكُلُ المسلمُ من أضحيتِهِ التي تطوَّعَ بها ثلثها على الجديدِ، ونقلَ الماورديُّ عنِ القديمِ أنَّه يأكُلُ ويدَّخِرُ ويُهدي النصف، ويتصدَّقُ على الفقراءِ بالنصفِ. ¬
ولا تضحية عن الغير بغير إذنه إلا في مسائل
وأظهَرُ القولينِ: وجوب التصدُّق ببعضِها (¬1)، وهو الذي ينطلقُ عليه الاسمُ من اللحمِ لا الشيء التافه، والأفضلُ أن يتصدَّقَ بكلِّها إلَّا لُقَمًا يتبرَّكُ بأكلها، ويتصدَّقُ بجلدها أو ينتفعُ به. وولد الأضحيةِ الواجبةِ بذبحٍ ولهُ أكلُ كلِّهِ، وإن منعنا الأكل من أمِّه؛ لأنَّه ليس بأضحيةٍ مستقلَّةٍ، والنذرُ إنَّما يتوجَّهُ إلى الأمِّ، وله شُرْبُ فاضلِ لبنِها، أي عن ولدِها، وعن القدر الذي ينهك لحمها، ولا يجوزُ للعبدِ ولا للمُدَبَّر ولا للمستولَدةِ الأضحية، فإن أذنَ السيِّدُ وقعتِ التضحيةُ عنهُ. ولا يضحِّي المكاتَبُ بلا إذنٍ، ويضحي المبعَّضُ من الذي ملكه ببعضه الحرِّ. ولا تضحية عن الغير بغير إذنِهِ إلا في مسائل: أحدها: إذا كانتِ الشاةُ معيَّنةً بالنذرِ فذبحها أجنبيٌّ في وقتِ التضحيةِ، فالمشهورُ أنَّهُ تقعُ الموقعَ، فيأخذُ صاحبُ الأضحيةِ لحمها ويفرِّقُه، ولا يشترطُ ذبحُه؛ لأنَّ الذبحَ لا يفتقرُ إلى النيَّةِ. الثانية: الولي إذا ضحَّى من مالِهِ عن الذي تحتَ حجرِهِ من الأطفالِ والسُّفهاءِ، والمجانين، فمقتضى نصِّ الشافعيِّ في "الأمِّ" الجوازُ (¬2). الثالثةُ: الأضحيةُ الواقعةُ من واحدٍ في البيتِ، تحصلُ بها سنة الكتابة لأهلِ البيت، وإن لم يصدر من بقيةِ أهلِ البيتِ إذنٌ. الرابعةُ: الإمامُ يضحِّي عن المسلمينَ من بيتِ مالِهِم، كما صرَّحَ به الماورديُّ. ¬
فرع
ولا تضحيةَ عن الميتِ مطلقًا على الأرجحِ الذي يقتضيه مذهبُ الشافعيِّ سواءٌ أوصَى بها أم لم يوصِ، خلافًا لما في "المنهاجِ" (¬1) تبعًا لأصلِهِ. * * * فرع: العقيقةُ في اللغةِ كما قَالَ الأصمعيُّ: اسمٌ للشعرِ على رأسِ المولودِ، قال أبو عبيدٍ: وكذلك كلُّ مولودٍ من البهائمِ، فإنَّ الشعرَ الذي يكونُ عليهِ حينَ يولدُ يُسمَّى عقيقةً. وهي في الشَّرعِ: اسمٌ لما يذبحُ يومَ حلقَ رأسِهِ تسميةً لها باسمِ ما يقارنها. والأصلُ في العقيقةِ قولُهُ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "عن الغلامِ شاتانِ وعنِ الجاريَةِ شاةٌ" رواهُ أصحابُ السُّننِ الأربعةِ، وصحَّحه الحاكمُ وابنُ حبَّان (¬2). والسُّنَّةُ أن يعقَّ الأصلُ عن فرعِهِ بشاتينِ (¬3)، إن كانَ المولودُ ذكرًا، أو بشاةٍ عن الأنثى، وأولى الأصولِ بالفرعِ الأبُ، ثم أبوهُ، ثم الجدُّ للأمِّ. ولو ذبحَ الأبعدُ معَ وجودِ الأقربِ ويسارِهِ وقعَ ذلك الموقع، ولو كان الأصلُ كافرًا والمولود مسلمًا بإسلامِ أمِّهِ مثلًا، أو كانَ الجدُّ قد أسلَمَ وله ولدٌ بالغٌ لم يُسلمْ، ثم حصلَ للولدِ الكافرِ ولدٌ، فإنَّه يتبعُ الجدَّ في الإسلامِ، ويُسنَّ لأبيهِ أن يعقَّ عنهُ كما يتعلَّقُ به إخراج زكاةِ الفطرِ عنهُ على الأصحِّ. ولا بدَّ في المولودِ أن يكون حرًّا ينسبُ إلى أصلِهِ، فلو كان رقيقًا فلا تتعلَّق سنَّةُ العقيقةِ لوالدِهِ؛ لأنَّه لا تلزمهُ نَفَقَتُهُ ولا بمالكهِ؛ لأنَّه لا ينتسبُ لصاحبِ ¬
الفراشِ، فلا تسنُّ فيهِ عقيقةٌ لصاحبِ الفراشِ فلا يسنُّ ولكن يسنُّ لأمِّه أن تعقَّ عنهُ إذا كانتْ نفقته تلزمها. ولو عقَّ عنِ الغلامَ بشاةٍ كانَ آتيًا بأصلِ السُّنَّةِ، والسنةُ في الشاتينِ أن تكونَا متكافئتين، وينبغي أن تتأدَّى السُّنةُ بسُبْعِ بقرةٍ، أو بدنةٍ. والقولُ في سنِّ الشاةِ وسلامَتِها والأكلِ والتصدُّقِ منها، كما في الأضحيةِ، لكنْ يستحبُّ إعطاءُ الرِّجْلِ للقابلةِ، ويُعطَى منها للجزَّارِ، ويملِكُ الأغنياءُ ما يهدى لهم من العقيقة، بخلافِ الأضحية، فخرجتِ العقيقةُ عنِ الأضحيةِ في التثليثِ والأكلِ، وفيما ذُكرَ. ويسنُّ أن يطبخُ من لحمها طبخًا حلوًا تفاؤلًا بحلاوةِ أخلاقِ الولدِ، ولا تكسرُ عظامُها تفاؤلًا بسلامةِ أعصابِهِ. ويسنُّ أن تذبحَ يومَ سابعِ ولادتِهِ (¬1)، فإنْ وُلدَ قبلَ الفجرِ فذلك اليومُ يحسبُ، وإن ولدَ بعد الفجرِ فلا يحسبُ، ويسمَّى في السَّابعِ من ولادتِهِ، ويستحبُّ أَنْ يبدأ بحلقِ رأسِهِ فيه، ثم يذبحُ على المنصوصِ. وقطعَ به جماعةٌ، فهو المذهبُ. ويسنَّ أن يتصدَّقَ بزنةِ شعرِهِ ذهبًا أو ورِقًا (¬2) وأن يؤذَّنَ في أذنِهِ اليمنى حينَ يولد، ويقيم في اليُسرَى، ويحنَّكَ بتمرٍ، فإن لم يكنْ تمرٌ فشيء آخرُ حلوٌ ولو قيل: إن وجد رطبًا حنَّك به، لكان مناسبًا، كحال الصائم، والتحنيكُ مختصٌّ بالصِّبيانِ، فلم يجئ في السُّنَّةِ تحنيكُ الإناثِ. ¬
ويستحبُّ (¬1) أن يكونَ التَّحنيكُ بوترٍ من واحدةٍ أو ثلاث، وأن يكونَ المحنِّكُ من الصالحينَ، فإن لم يكنْ رجلٌ فامرأةٌ صالحةٌ. * * * ¬
كتاب الأطعمة
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ كتابُ الأطعمةِ هي جمعُ طعامٍ، والمرادُ بيانُ ما يُباحُ أكلُهُ وشُربُهُ من المطعومِ والمشروبِ، وللإنسانِ في ذلك حالتا اختيار واضطرار، فلذلك انعقدَ هذا الكتاب. والأصلُ فيهِ قولُه تعالى: {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ} الآية، والمرادُ بالطيباتِ هنا ما تستطيبُهُ النُّفوسُ وتشتهيه. حيوان البحرِ الذي لا يعيشُ إلَّا في الماءِ سواءٌ كان ببحرٍ أو نهرٍ، والسمكُ منه حلالٌ حيًّا كانَ أو ميتًا، وكذا غيره على المنصوص (¬1). وفي قولٍ: لا يحلُّ إذا كانَ ميتًا فإن ذُكِّي حلَّ، وفي قولٍ: إن أُكل مثلُهُ في البرِّ حلَّ، وإلَّا فلا إلّا من السمكِ ما لا نظيرَ له في البِرِّ حلالٌ أيضًا. ¬
وحمارُ البحر حلالٌ، ولا اعتبارٌ باشتراكِ الاسمِ، بدليل اشتراك الحمار الأهلي المحرَّم بالوحشي المباح؛ لأنَّ هذا وحشيٌّ أيضًا، فإلحاقُ الوحشي بالوحشي أولى. والذي يعيشُ في البرِّ والبحرِ كضفدعٍ وسرطانٍ وتمساحٍ حرامٌ، والحيةُ ذاتُ السُّمِّ حرامٌ؛ لأنّها لا تمكثُ في الماءِ بخلافِ التي لا تعيشُ إلَّا في البحرِ، فإنَّها حلالٌ (¬1) كما تقدَّم. ويحرمُ البغلُ والحمارُ الأهلي، وأكلُ ذي نابِ من السباع، ومخلبٍ من الطيرِ، كالأسدِ والنمرِ والذئبِ والدُّبِّ والقردِ والبازِ والشاهينَ والَصقرِ والنسرِ والعُقابِ، وكذا الفيلُ وابن آوى، والهرة على الأصحِّ (¬2). ويحرُمُ ما نُدِبَ قتلُهُ (¬3)، كحيةٍ وعقربٍ، وغرابٍ أبقعَ، وحدأةٍ، وفأرةٍ، وكل سبع ضارٍ، وكذا رخمة، وبغاثة، والأصحُّ حلُّ غراب زرعٍ، والغراب الأسود الرمادي الذي يقالُ له: الغداق الصغير، لأنَّه يلقطُ الحبَّ. وتحريم ببغاء وطاووسٍ، وتحلُّ النعامةُ والكُركيُّ والدجاجُ والحمامُ، وهو كلُّ ما عَبَّ وهدر، وما على شكلِ عصفورٍ وإنِ اختلَفَ لونُهُ ونوعُهُ كالعندليبِ، والصعوةِ (¬4) والزُّرْزُورِ، ويحرمُ الخطافُ والنملُ والنحلُ والذبابُ والحشراتُ، وكذا ما تولَّد من مأكولٍ وغيرِهِ كالسبعِ فإنه متولد من الذئبِ والضبع، وما ليس فيه نصُّ تحريمٍ ولا تحليلٍ من ذواتِ الأرواحِ (¬5) ¬
فقال الشافعيُّ (¬1): (انظر هل كانت العربُ تأكلُهُ، فإن كانتْ تأكلُه ولم يكنْ فيهِ نصُّ تحريمٍ فأكُلْهُ، فإنَّه داخلٌ في جملةِ الحلالِ والطيبات عندَهُم، لأنَّهم كانوا يحلون ما يستطيبونُ وما لم تكن تأكلْهُ تحريمًا له باستقذاره فحرمته لأنَّه داخلٌ في معنى الخبائثِ التي حرموا على أنفسهم فأثبت عليهم تحريمها). انتهى. والجلَّالة التي تأكلُ العذِرة، إذا ظهرَ النتنُ والتغيُّرُ في لحمها، وكذلك في عرقها، أو أوجد ريح النجاسة، فيحرمُ أكلُها على ظاهرِ النصِّ، خلافًا لما صحَّحه في "المنهاجِ" (¬2) من الكراهةِ، فإنْ عُلِفتْ طاهرًا فطابَ لحمُها بزوالِ الرائحةِ من عرقِها حلَّ. وكذا لو مرَّ عليها الزمانُ في حياتها من غير أن تعلفَ الطاهرَ بحيث زالتِ الرائحةُ فإنَّ لحمها يحلُّ حينئذٍ، وحكم لبنها وبيضها حكم لحمها حرمةً وحِلًا. ويحرمُ أكلُ نَجِسِ العينِ والمتنجس كالدِّبْسِ (¬3) والخلِّ واللبنِ والدُّهنِ. وما كُسِبَ بمخامرةِ نجِسٍ كحجامةٍ وكنْسٍ مكروةٌ للحرِّ، وكلُّ ما فيه دناءةٌ فكسبه يكره للحرِّ ويكرَهُ أن يأكُلَهُ، ويجوزُ أَنْ يُطعمَهُ رقيقَهُ، وناضحه (¬4). ومحلُّ جنينٍ وجد ميتًا أو في حكمِ الميتِ في بطنِ المذكاةِ إذا ظهرتْ صورة الحيوانية فيه ولم يوجد قبلَ الذبح سببٌ يحالُ عليه موتُهُ، ولو بقي زمانًا طويلًا بعدَ الذبحِ يضطربُ ويتحرَّك ثم سكنَ، فإن أحيل الاضطراب ¬
على حركة خروجِ الرُّوحِ بسببِ ذبحِ الأمِّ الذي أثَّر فيهِ حلَّ حينئذٍ، وإن لم يحلَّ على ذلك حرمَ على الصحيحِ. ومَن خافَ على نفسِهِ موتًا أو مرضًا مخوفًا، أو طولَ المرضِ أو عِيلَ صَبْرُهُ، أو جهدَهُ الجوعُ أو خافَ الهلاكَ على نفسِهِ، لو لم يأكل أن يضعفَ عن المشي، أو عنِ الرُّكوبِ، وينقطع عن الرفقةِ ويضيعُ لعدمِ المأكولِ الحلالِ، ولم يكن مُراقَ الدمِ ولم يشرِفْ على الموتِ لزمه أكل سدِّ الرمق على الأصحِّ إذا لم يخف الهلاكَ، لو تركَ الشِّبع، فإنْ خافَهُ، لزمهُ الشبع على الأصحِّ، وإذا توقَّعَ حلالًا قريبًا فلهُ أن يأكُلَ ما يردُّ به نفسَه، ويخرجُ به من الاضطرارِ على النصِّ، وإن لم يتوقَّع الحلالَ عن قربٍ، فالأحبُّ إلى الشافعيِّ أن يكونَ أكلُهُ على ما يقطعُ عنهُ الجوعَ، وأنَّه لا يتبيَّنُ له تحريمُ الشبع (¬1). وله أكلُ آدميٍّ ميتٍ، إلَّا أن يكونَ نبيًّا أو مسلمًا وكان المضطرُّ ذميًّا، ولا يأكلُ من الآدميِّ غير منَ ذكر إلَّا سد الرَّمق، ويأكله نيئًا، ولا بدَّ مِن فقدِ الميتةِ ونحوِها، وله قتلُ مرتدٍّ عاقلٍ وحربيٍّ لا ذميٍّ ومستأمَنٍ وصبيٍّ وامرأة حربيين. ولو وجدَ طعام غائبٍ غيرَ مضطرٍ يحضرُ عن قريبٍ أكلَ وغرِمَ قيمتَهُ إن كانَ مُتقوَّمًا، أو مثلهُ إنْ كانَ مثليًّا، ووجدَ المثلَ في غيرِ موضعِ التلفِ، وكانتْ قيمتُهُ في بلدِ التلفِ أكثر، فإن لم يكنْ كذلِكَ غرمَ المثل. ولو وجدَ طعام حاضرٍ مضطرٍّ لم يلزمه بدله إنْ لم يفضل عنه، إلَّا إذا كان المضطرُّ نبيًّا فإنَّه يجبُ على المالكِ بدلَهُ. ¬
فإنْ أثر مسلمًا غيرَ مراقِ الدَّمِ شرعًا، ولو كانَ المضطَّرُّ مستأمنًا فكالذِّميِّ. ولو كانَ صبيًّا من أهلِ الحربِ أو امرأةً منهم أو خُنثى أو مجنونًا، فالقياسُ كمَا قالَ شيخُنا أنَّه يلزمُهُ إطعامُهُم، فإنِ استولَى عليهم بحيثُ رُقُّوا لزمَهُ ذلكَ لهُمْ قطعًا. ويلزمُهُ إطعامُ المرتدِّ المجنونِ، وحيثُ تعدَّى المالكُ بالمنعِ فللمضطرِّ قهرُهُ، وإن أتَى على نفسِهِ، وإنَّما يلزمُهُ بعوضٍ ناجزٍ إن حضر واحتملَ الحالُ التأخيرَ حتَّى يقعُ الاتفاقُ على العوضِ، فإنْ لمْ يحتملِ الحالُ التأخيرَ وجبَ على صاحبِ المالِ أَنْ يطعمَهُ على الفورِ، ولا يلزمُهُ العوضُ. ثمَّ إنْ لم يقدر العوض لزمَ المضطرُّ قيمة ما أكَلَ في ذلكَ الزّمانِ والمكانِ، وفيهِ ما يقدم من قولنا، وغرم قيمته إلى آخره. وإن قدره ولم يفردْ مَا أكلَهُ فالحكمُ كما لو لمْ يقدر. وإن أفردَهُ فإنْ كانَ المقدَّرُ عن المثلِ أو دونَهُ صحَّ البيعُ، وللمضطرِّ ما فضل، وإن كانَ أكثرَ والتزمَهُ ففيما يلزمه أوجه: أقيسها -وهو الأصحُّ عند القاضي أبي الطيب-: المسمَّى، والثاني -وهو الأصحُّ عند الرويانيِّ-: ثمن المثل في ذلك المكانِ والزمانِ، وفيهِ ما تقدَّم، وهو اختيارُ صاحبِ "الحاوي" إن كانتِ الزِّيادَةُ لا تشقُّ على المضطرِّ ليسارِه لزمته، وإلَّا فلا. وإن لم يكنْ لَهُ مالٌ ماضٍ لزمه التزامه في ذمَّتِهِ؛ سواء أكانَ لهُ مالٌ غائبٌ أم لا، ويلزمُ المالكُ في هذا الحالِ البيع بنسيئة، ففي حالة أن يكون له مال غائب ينبغي أن يكونَ الأجلُ ممتدًّا إلى وصولِهِ لبلدِ ماله بمقتضَى العادةِ. وفي حالةِ مَا إذا لم يكنْ لَهُ مالٌ معيَّنٌ أن يكونَ المرادُ بالنسيئة مجرد التأخيرِ، والرِّضَا بالذمة.
وإذا أطعمَهُ ولم يذكر عوضًا فلا عوضَ على الأصحِّ، وإنْ ظَهَرَ ما يدلُّ على عدَمِ العِوَضِ من قرينةِ إباحةٍ أو تصدُّقٍ ونحوهما، فلا عوضَ قطعًا. وإذا وجدَ المضطرُّ ميتةً وطعامَ غيرِهِ، فإنْ كانَ المالكُ حاضرًا أو بذلَهُ بلا عوضَ أو بثمنٍ مثلِهِ أو بزيادةٍ لا يتغابنُ الناسُ بمثلِها، ومعه ثمنه أو رضي بذمته لزمه القبولُ. وإنْ لم يبعْهُ إلَّا بزيادةٍ كبيرةً فلا يلزمُهُ شراؤُه على المذهبِ، ويعدلِ إلى الميتةِ. وإنْ كانَ المالكُ غائبًا، وجبَ أكلُ الميتةَ على الأصحِّ. وإذا وجدَ المُحْرِمُ المضطرُّ ميتةً وصيدًا أكلها على المذهبِ إذَا لم يجدْ المحرم حلالًا يذبحُهُ. فإنْ وجَدَ حلالًا يذبحُهُ لا للمحرمِ أو للمحرمِ المضطرِّ، يعني: على المضطر الأكل منه، ويحرمُ عليهِ الميتةَ بلا خلافٍ. وإنْ ذبَحَهُ الحلال للمحرمِ فهو حرامٌ على المحرمِ خاصَّةً، ولا يحرمُ على غيرِهِ، وحينئذٍ يتعيَّنُ على المحرمِ المضطَّرِّ الأكلُ منهُ، ولا يحلُّ لَهُ أكلُ الميتةَ. والمرادُ بالصيدِ البريُّ لا البحريُّ، ويستثنَى من البريِّ غيرُ المأكولِ كالمتولِّدِ من الذئب والضبع، فإنَّه لو وجدَهُ المحرمُ المضطرُّ ووجدَ الميتةَ قدَّم الميتةَ بلا خلافٍ. ويحرم قطعُ بعضِهِ لأكلِهِ على الأصحِّ، ومحلُّ الخلافِ في غيرِ ما يجوزُ قطعُهُ كسليمه، وأن تفقد الميتةُ ونحوها، وأن يكون الخوف في قطعهِ أقل، والأصحُّ جوازُهُ بقدرِ ما يدفعُ المخوف. ويحرمُ قطعَ بعضِهِ لغيرِهِ، والحضو المعصوم من غيره (¬1). ¬
كتاب المسابقة والمناضلة
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ كتاب المسابقةِ والمناضلةِ المسابقةُ مفاعلة من السبقِ، بسكون الباءِ، وهو يطلقُ على الاستباقِ بالخيلِ، وبالسهامِ. والمناضلَةُ المغالبةُ في رمي السهامِ على وجهٍ مخصوصٍ، والأصلُ في جوازهما قبل الإجماعِ، قوله تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ} الآية. وفي "صحيح مسلم" (¬1) عن عقبة بن عامر أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "ألَا إنَّ القوَّةَ الرَّميُّ" ثلاثًا. وفي "الصحيحين" (¬2): أن النبيَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- أجرى مَا ضُمِّرَ مِنَ الخَيْلِ مِنَ الحَفْيَاءِ ¬
إِلَى ثَنِيَّةِ الوَدَاعِ، وَأَجْرَى مَا لَمْ يُضَمَّرْ مِنَ الثَّنِيَّةِ إِلَى مَسْجِدِ بَنِي زُرَيْقٍ. والمسابقةُ والمُناضلةُ مستحبَّانِ للرجالِ، يقصدِ التَّأهُّبِ بهما للجهادِ. ويكرَهُ لمن علم الرمي تركهُ كراهةً شديدةً، لما ثبتَ في "صحيح مسلمٍ" (¬1) أنَّ رسولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- قالَ: "مَن علم الرمي ثمَّ ترَكَهُ فليسَ منَّا" قال شيخنا: والذي نقولُهُ أنَّهما من فروضِ الكفايةِ لأنَّهُما متعلِّقَانِ بالجهادِ الذي هو فرضٌ على الكفايةِ. ويحلُ أخذُ عوضٍ عليهما، وسيأتِي تفصيلُهُ. وتجوزُ المناضلةُ على السهامِ العربيةِ والعجميةِ، وهي النُّشَّابِ، وعلى جميعِ أنواعِ القسيِّ حتَّى يجوزُ الرَّمي بالمسلَّاتِ إذَا كانَ يحصلُ برميهَا النكايةُ الحاصلةُ من السَّهمِ. وأمَّا الإبرُ فجوَّزَ في "الروضةِ" تبعًا لأصلها النكل بها، وقال شيخُنا: الذي يظهرُ امتناعُ ذلك في الإبرِ. وتحلُّ المناضلةُ بالمزاريقِ، والرميُّ بالأحجارِ، والمنجنيقِ على المذهبِ. وكلُّ نافعٍ في الحربِ ونكايتُهُ كنكايةِ السهمِ. وبالرِّماحِ على الأصحَّ في ذلك. لا كرة صولجان، ورمي بندقٍ باليدِ، وسباحةٍ، وشطرنج، وخاتم، ووقوفٍ على رجلٍ، ومعرفةِ ما في يدِهِ من شفعٍ أو وترٍ. وأمَّا المناضلةُ على قسي البندقِ فجائزةٌ على الأرجحِ. وتصحُّ المسابقةُ على خيلٍ يعتاد المسابقةُ بهَا، وكذا على بغلٍ وحمارٍ على ¬
وشرط المسابقة
الأظهرِ، لا على فيلٍ على المنصوصِ. وهو المعتمدُ في المذهب. ولا طيرٍ وصراعٍ على النصِّ، والأظهرُ أنَّ عقدَهما لازمٌ على من التزمَ المالَ، وجائزٌ ممنْ لم يلتزِمْ قطعًا. وحيثُ كانَ العقدُ لازمًا من الجانبينِ، فليسَ لأحدِهمَا فسخُهُ، فإنْ كانَ لازمًا من جانِبٍ واحدٍ فليسَ لملتزمِ المالِ فسخُهُ، وإذا فسخَ من لمْ يلتزمْ ارتفعَ العقدُ، كما لو فسَخَ المرتهن الرهنَ، أو العبدُ المكاتبُ الكتابةَ. ولا يترك العمل قبلَ شروعٍ وبعدهُ في حقِّ من التزمَ المالَ، أمَّا مَن لم يلتزمْ فلَهُ ذلكَ كما تقدَّمَ في الفسخِ، ولا زيادة ونقص في العملِ بالنسبةِ إلى من التزمَ المالَ من المتعاقدين. فأمَّا مَن لم يلتزمْ فيجوزُ لهُ ذلكَ، إذا طلبه ورضيَ بذلكَ الملتزمُ، وليسَ لهُمَا زيادةٌ ونقصٌ في المالِ. وشرطُ المسابقةِ: علمُ الموقفِ والغايةِ التي يعتبَرُ السَّبقُ عندها، ولو تعددتْ، كما لو عيَّنَا غايةً وقالا: إنِ اتَّفَقَ السَّبقُ عندها فذاكَ، وإلَّا تعدَّينَا إلى غايةٍ أُخْرَى -اتفقَا عليها-، فإنَّه يجوزُ على الأصحِّ. ويشترطُ مساوتهما فيها، وتعيينُ الفرسينِ ولو بالوصفِ على الأصحِّ. ويتعينانِ فيمنع إبدالُهما، وإمكان سَبْقِ كلِّ واحدٍ الإمكانَ الغالبَ، وأنْ تكونَ المسافةُ بحيثُ يمكنُ الفرسينِ قطعها ولا ينقطعانِ، فإن كان بحيث لا يصلان غايتهما إلَّا بانقطاعٍ وتعبٍ فالعقدُ باطلٌ. وأن يَتسابقَا على الدابَّتينِ، فلو شرطا إرسالهما لتجريا بأنفسهما، فالعقدُ باطلٌ، ولا ينبغِي أن يعدَّ هنا من الشروطِ اجتناب الشروط الفاسدة، فإنَّ الشروطَ ما يعتبرُ وجودها للصحة، وهذا عدمٌ. نبَّه على ذلك شيخُنَا.
وشرطُ مُخْرِجِ المالِ أَنْ يكونَ مطلقَ التصرُّفٍ، وأمَّا الذي لم يُخْرِج شيئًا فيجوزُ أَنْ يكونَ سفيهًا؛ لأنَّه إمَّا آخذ أو غير غارمٍ، وذلكَ لا يُمنعُ منه السَّفيهُ. ويشترطُ في العِوضِ أن يكونَ معلومًا، وفي المتَّعاقدِينِ الإسلامُ على الأرجحِ كمَا قالَ شيخُنا؛ لأنَّ هذا العقدُ أبيحَ للمسلمينَ ليتقووا على قتالِ الكُفَّارِ. ويجوزُ شرطُ المالِ من غيرِهما ممن يكونُ عالمًا بالأمورِ التي سبقَ اعتبار العلم بها للمتسابقينَ، بأن يقولُ الإمامُ أو أحدُ الرَّعيَّةِ: عاقدتكُما أو عاقدتكم على المسابقةِ المعلومةِ بينهم على أنَّ مَن سبقَ منكُمَا أو منكُم فلَهُ في بيتِ المالِ من مالِ المصالحِ أو على كذا أو يجوزُ من أحدِهما فيقولُ: إن سبقتَني فلكَ عليَّ كذا، وإن سبقتكَ فلا شيءَ عليكَ. فإن شرطَ أنَّ من سبقَ منهما فلَهُ على الآخرِ كذا، لم يصحَّ إلَّا بمحلِّلٍ فرسُه كفْءٌ لفرسهما. وكذا لو شرطَ أنَّ من سبقَ منهما فلَهُ على الآخرِ كذا، وللمسبوقِ منهما على السَّابقِ دونَ ما شرطَ للسابقِ على المسبوقِ فلا بدَّ من المحللِ، فإن سبقهما أخذ المالينِ، وإن سبقاهُ وجاءَا معًا فلا شيءَ لأحدٍ، وإن جاءَ مع أحدهما فمال هذا لنفسه، ومال الآخر للمحلِّلِ وللذي معه. وفي وجهٍ للمحلِّل فقط، وإن جاء أحدهما ثمَّ المحلِّلُ، ثم الآخرُ فمالُ الآخر للأوَّلِ على النصَّ (¬1). وإن تسابقَ ثلاثةٌ، فصاعدًا، وشرطَ للثاني مثل الأولِ، فالمعتمدُ أنَّه يفسدُ من المسمَّى للثاني، بحيثُ يجعلُ له من المسمَّى ما يسمَّى الثاني غالبًا ناقصًا ¬
عن الذي للأوَّلِ، ولا يطلقُ الفسادُ كما أطلقَهُ في "المنهاجِ" (¬1) تبعًا للمحررِ، ودونه يجوز على الأصحِّ. وأقلُّ السبقِ في الإبل بالكتِدِ أو بعضه -والكتدُ ما بينَ الكاهلِ إلى الظهرِ-. وأقلُّ السبقِ في الخيلِ بالهادي، أو بعضه -والهادي هو العنقُ- إن كانتْ تمد أعناقَها، فإن كانتْ ترفعُ أعناقَهَا عند العدوِ، فالاعتبارُ في سبقِها بالكتدِ (¬2). وإن كانَ للرُّماةِ عرفٌ في المناضلةِ، فينزلُ الإطلاقُ عليهِ، وإن لم يكنْ لهمْ عرفٌ في ذلكَ فلا بدَّ من التعيينِ، والمذهبُ اشتراطُ ذكر الأرشاقِ، وبيانِ عددها في المبادرة والمحاطة لكونِ العملِ ضبط (¬3). والأرشاقُ في المناضلةِ كالميدانِ في المسابقةِ. والمبادرةُ، أن يبدرَ أحدُهما بإصابةِ العددِ المشروطِ بشرطِ اعتبارِ ذكر عدد الرمي كما تقدَّم. والمحاطة أن يقابل إصاباتهما ويطرح المشترك، فمن زاد بعدد كذا فأفضلُ، بشرطِ اعتبارِ ذكر عدد الرمي، كما تقدَّم. ويشترطُ بيان المسافةِ التي يرميانِ فيها، وهي التي يمكن الإصابة فيها بغيرِ نُدرة، ويستثنى من ذلك ما إذا تناضلا على أن يكونَ السبقُ لأبعدِهمَا رميًا ولم يقصدا غرضًا، فإنَّهُ يصحُّ العقدُ على الأصحِّ. ويشترطُ بيانُ قدرِ الغرضِ طولًا وعرضًا، إلَّا أن يعقدَ بموضع فيه غرض ¬
ومن شروط المناضلة
معلوم فيحملُ المطلقُ عليهِ. ولا يشترطُ حينئذٍ بيانُ مسافةِ الرَّمي، ولا قدرَ الغرضِ طولًا وعرضًا. ولا بدَّ من الإعلامِ بالانخفاضِ والارتفاعِ، إذا لم يكنْ هناكَ عادةٌ. وليتبينا صفة الإصابة مِنْ قَرْعِ وهو إصابةُ السنِّ بلا خدشٍ أو خرقٍ، وهو أن يثقبه، ولا يثبت فيه، أو خسق وهو أن يثبت السن، ثم يثبت، ولو ثبت ثم سقط حسب خاسقًا كما لو نزعَهُ غيرُهُ، ولو لم يثقبه ولكن وقَعَ في خرمٍ هناك وثبتَ فإنَّهُ يحسبُ خاسقًا على الأصحِّ، وكذا لو لم يثقب السنِّ، ولكن أصابَ السهمُ طرفَ الغرضِ فخرمه، وثبت هناك، فأظهرُ القولينِ أنَّهُ يحسبُ خاسقًا. ولا يتعين القرع إذا شرطاه، بل يغني عنهُ ما بعدهُ، وما حسبَ خاسقًا على الأصحِّ في صورة إصابةِ الطرف يُحسب فارغًا على الأصحِّ. وإذا شرطا الخرقَ لم يغنِ عنهُ القرع، ويغني عنهُ ما بعدَهُ. وإذا شرطَا الخسقَ لم يغنِ عنه ما قبلَهُ، ويغني عنهُ ما بعدَهُ وهو المرقُ على النصِّ، أو مرق إن اعتبرناه في الرمي، فيشترطُ بيانه في صفةِ الإصابةِ، وهو عبارة عن أن يخرجَ من الجانبِ الآخرِ ويقعُ منهُ. وما ذكرناهُ من بيانِ صفةِ الإصابةِ من قرعٍ ونحوه هو فيما إذا أرادا ذلكَ، فإنْ أطلقَا العقدَ المذكورَ فيه الإصابة حُملَ على القرعِ؛ لأنَّه المتعارفُ (¬1). ومِن شُروطِ المُناضلةِ: اتحادُ جنسِ ما يُرمَى بهِ، فإنِ اختلفَ كالسهامِ مع المزاريقِ، لم يصحَّ على الأصحِّ، ولو اختلفَ أنواعُ القسيِّ والسهامِ جازَ. ومنها: أَنْ تكونَ الإصابةُ المشروطةُ ممكنةً، لا ممتنعة عادةً، ولا منتفيةً ¬
ولا نادرةً. ومنها: تعيينُ الموقفِ، وتساوي المناضلينَ فيهِ. * * * ويجوزُ عوضُ المناضلةِ من حيثُ يجوزُ عوضُ المسابقةِ، ولا يشترطُ تعيينُ قوسٍ وسهمٍ، فإن عين لغا، وجاز إبدالُهُ بمثلِ المعين. والمرادُ مثلُهُ من نوعِهِ. ومحلُّ هذا إذا عينا في عقدِ المناضلةِ نوعه، فإنْ لم يعينا نوعهُ فالأصحُّ أنَّهُ لا يقومُ هنا تعيينُ القوسِ مقامَ تعيينِ النوعِ، وحينئذٍ فيئول الحالُ إلى أنَّ العقدَ يُطلقُ، فإن كانَ في الناحيةِ عرف رميهم بنوعٍ واحدٍ من القسيِّ، حملَ المطلقُ عليهِ، وجازَ إبدالُ القوسِ بغيرِ مثله، إذا كان النوع المتعارف غير نوعِ القوسِ المعيَّن، فإن لم يكنْ في الناحيةِ عرفٌ مطردٌ في نوعٍ واحدٍ فلا بدَّ من تعيينِ نوع القوس على الأصحِّ عند شيخِنا، واختارَهُ صاحِبُ "التقريبِ"، فإن شرطَ منع إبدالِهِ فسدَ العقدُ. وإذا لم يعينا البادي بالرمي صحَّ العقدُ، ويقرعُ على النصِّ، وهو المعتمدُ، ولو حضرَ جمعٌ للمناضلةِ فانتصَبَ زعيمانِ يختارانِ أصحابًا قبل العقدِ جازَ، إذا اختارَ زعيمٌ واحدًا، ثم الزعيمُ الآخرُ في مقابِلِهِ واحدًا، ثم الأوَّلُ واحدًا، ثم الثَّانِي واحدًا، وهكذا حتى يستوعبوا. ولا يجوزُ أن يختارَ واحدٌ جميعَ الحزبِ أولًا؛ لأنَّهُ لا يؤمنُ أَنْ يستوعِبَ الحذَّاقَ في جانبٍ، فيفوتُ مقصودُ المناضلَةِ. وقطعَ صاحبُ "المهذَّب" و"التهذيب" باشتراطِ استواءِ الحزبينِ في الرءوسِ، وأما استواءُ الحزبينِ في عددِ الأرشاقِ والإصاباتِ فمعتبرٌ قطعًا.
وذكَرَ الماورديُّ أنَّهم إذا سارعُوا في الاختبارِ قبلَ العقدِ فعدلُوا إلى القرعةِ في التقدُّمِ بالاختيارِ جازَ؛ لأنَّها قرعةٌ في الاختيارِ لا في العقدِ. فإنِ اختارَ ظنَّهُ راميًا فبانَ أنَّهُ لا يحسنُ الرَّمي أصلًا بطل العقدُ، أمَّا لو بانَ أنَّهُ ليسَ معدودًا من الرماةِ ولكنَّه يحسنُ شيئًا منَ الرمي معَ ضعفٍ أو كثرة خطأٍ، فهذا لا يبطلُ العقدَ فيهِ على المذهبِ المنصوصِ. ويبطلُ العقدُ في الذي عيَّنه الزعيمُ في مقابلته، وفي الباقي قولا تفريق الصفقةِ، فإنْ صححنا فلهم جميعًا الخيارُ، فإن أجازوا فالمعتمدُ أنَّه يسقطُ واحدٌ معيَّنٌ من الجانبِ الآخرِ كما تقدَّم. وإذا نضلَ حزبٌ، وكان يخرجُ المالَ الإمامُ أو آحادُ الرَّعية غير الحزبين، وقالَ من نضلَ من الحزبينِ الحزب الآخر: فلَهُ كذا، فالأصحُّ أنَّ المالَ مقسومٌ على عددِ الإصاباتِ. وإنْ كانَ المخرجُ للمالِ أحدَ الحزبينِ فإنَّه يقسمُ المالُ على المناضلينَ، على عددِ الإصاباتِ أيضًا. وإن كان المخرجُ الحزبينِ فهذا يحتاجُ إلى محلِّلٍ، وإذا وُجِدَ ونضلَ أحدُ الحزبينِ الحِزْبَ الآخرَ والحزبَ المُحَلِّلَ فإنَّه يحرز الحزب المناضل ما أخرجوه، ويقسم عليهم السبقُ الذي أخرجه الحزبُ الآخر على عددِ رءوسِهم. ويشترطُ في الإصابةِ المشروطةِ أَنْ تحصُلَ بالنصلِ، فلو تلفَ وترٌ أو قوسٌ أو غرضٌ بشيء انصدمَ به السهمُ، وأصابَ حُسِبَ لهُ، وإلَّا لم يحسَبْ عليهِ، إلَّا إذا كانَ التلفُ بتقصيرِهِ وسوءِ رميهِ، فإنَّهُ يحسبُ عليهِ. ولو نقلتِ الرِّيحُ الغرضَ فأصابَ موضعَهُ لا يحسبُ له على النصِّ، وإلَّا
فيحسبُ عليهِ. ولو شُرِطَ خسقٌ فثقبَ وثبتَ ثم سقطَ، أو لقي صلابةً زائدةً على الصُّلْب المعتاد، وخدشَ النَّصلُ موضِعَ الإصابةِ وخرقَهُ بحيثُ يثبتُ فيهِ مثلُ هذا السهمِ، لكنَّه رجعَ لوجودِ المانِعِ من حصاةٍ ونواةٍ ونحوِهما، حُسِبَ لهُ. * * *
كتاب الأيمان
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ كتابُ الأيمان هي جمعُ يمينٍ، وهو والحلفُ والإيلاءُ والقَسَمُ ألفاظٌ مترادِفَةٌ. وأصلُها في اللغةِ: اليدُ اليُمنَى، وأطلقتْ على الحلِفِ لأنَّهُم كانُوا إذا تحالَفُوا أخذَ كلٌّ يمينَ صاحبِهِ. وقيل: لأنَّهَا تحفظُ الشيءَ على الحالِفِ كما تحفظُ اليدُ. وهي في الشَّرعِ: تحقيقُ ما يحتملُ المخالفةَ، أو تأكيدُهُ بذكرِ اسمِ اللَّهِ تعالَى أو صفةٍ من صفاتِهِ. والأصلُ في البابِ قولُهُ تعالَى: {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ} الآية، {وَلَا تَجْعَلُوا عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ} والعرضةُ في الأيمانِ أَنْ يحلفَ بِهِ في كلِّ حقٍّ وباطلٍ. وفي البخاريِّ عن ابنِ عمرَ: أكثرُ ما كانَ النَّبيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- يحلفُ: "لا ومقلِّبِ
القلوبِ" (¬1). واجتمعتِ الأمَّةُ على انعقادِ اليمينِ وتعلُّقِ الكفَّارَةِ بهَا. لا ينعقدُ اليمينُ إلَّا بالحلفِ بِما يُفْهِمُ ذاتَ اللَّهِ تعالى، كقولِهِ: "والذي أعبدُ"، أو"نفسي بيده". أو باسمٍ من أسمائِهِ، أو صفةٍ من صفاتِهِ. فمن الاسمِ المختص: "اللَّهُ رب العالمين"، و"الحيُّ الذي لا يموت". ولا يقبلُ قولُهُ لم أردْ بِهِ اليمين. وما لم يختصُّ ولكن يقبلُ إطلاقُهُ في حقِّ اللَّهِ تعالى بحيثُ ينصرفُ إليِهِ عندَ الإطلاقِ كالرحيم، والخالق، والرازق، والربِّ ينعقدُ به اليمينُ، سواء قصدَ أو أطلقَ، إلَّا أَنْ يريدَ غيرُهُ. وما استعملَ فيه وفي غيرِه سواء فإن كانَ المذكورُ اسمًا يعمُّ الواجبَ والممكنَ وليس فيه صفةُ مدحٍ كالشيء، والموجودِ، فهذا لا يكونُ يمينًا، وإنْ نوَى به اللَّهَ تعالَى، وألحق الإمامُ بذلك الحق. وإن ذكرَ اسمًا يختصُّ بأولي العلمِ كالعالمِ والعليمِ والحكيمِ والحليمِ. فإنْ نَوَى بهِ اللَّهَ سبحانَهُ وتعالَى كانَ يمينًا. وإن ذكرَ اسمًا لا يختصُّ بأولي العلمِ، ولكنَّه أخصُّ من النبيِّ ويعمُّ أولي العلمِ وغيرهم كالحيِّ والمتكلِّم، فإن نوى به اللَّهَ سبحانه وتعالى كانَ مترتبًا على ما قبلَهُ، وأولَى بأن لا يكون يمينًا. والصفةُ كـ (وعظمة اللَّه، وعزته وكبريائه وعلمه وقدرته ومشيئته) يمينٌ، إلَّا أن ينوي بذلك ما يتعلَّقُ بالمخلوقِ. ¬
ومن الصفةِ: كلام اللَّه، وحق اللَّه. إلَّا أن يريدَ بالحقِّ العباداتِ. وحروفُ القسمِ المشهورةِ (باء، وواو، وتاء) كـ (باللَّه، وواللَّه، وتاللَّه)، ولا تختصُّ التاء باللَّهِ، على معنى أنَّه لا يصحُّ القسمُ شرعًا إلَّا إنْ دخلتْ على اللَّهِ، فلو قالَ: (تالرحمن) انعقدتْ يمينهُ وغايتُهُ أنَّه استعمالٌ شاذًّا. وكذا لو قالَ: تحياة اللَّهِ، ولو قال: تالرحمن، أو غير ذلك مما سبق، انعقدت يمينه على ما سبقَ نبَّه على ذلك شيخُنا. ولو قالَ: "اللَّه" ورفع أو نصبَ أو جرَّ فليسَ بيمينٍ، إلَّا بنيَّةٍ، وإذا قالَ: أقسمتُ باللَّه، أو أقسمُ باللَّهِ، أو حلفتُ باللَّهِ، أو أحلفُ باللَّهِ لأفعلنَّ كذا، فيمينٌ إن نواها، أو أطلق، فإن قال: قصدتُ خبرًا ماضيًا أو مستقبلًا يصدَّق باطنًا، ويصدَّقُ ظاهرًا على الأظهرِ إذا لم يُعرف له يمينٌ ماضيةٌ، فإن عُرِف، قُبِل قوله في الظاهر أيضًا بلا خلافٍ. وإنْ قالَ: لغيرِه: أقسمُ عليه باللَّه ليفعلنَّ كذا، فيمينٌ عندَ الإطلاقِ على الأظهرِ، وإن قال: أسألُك باللَّهِ لتفعلنَّ، وأرادَ يمينَ نفسِهِ فيمينٌ، وإلَّا فلا، وإذا قالَ: إنْ فعلتُ كذا فأنا يهوديٌّ، أو بريءٌ من الإسلامِ، فليسَ بيمينٍ. ومن سبقَ لسانُهُ إلى لفظِها بلا قصدٍ لم ينعقدْ، ويصحُّ اليمينُ على ماضٍ ومستقبلٍ لا يمنعُ الحنثَ فيه، كقوله: واللَّهِ لا أصعدُ إلى السماء. فلا ينعقد اليمين حينئذٍ على الأصحِّ. وتكرهُ اليمينُ إلَّا في طاعةٍ، وإلَّا في الأيمانِ الواقعةِ في الدعاوَى، إذا كانتْ صادقة، وإلَّا إذا دعتْ إليهِ حاجةٌ كتوكيدِ كلامٍ وتعظيمِ أمرٍ، ومن ذلك لو ظُنَّ بهِ أو بغيرِهِ سوءٌ، أو جنايةٌ، أو ركوبُ فاحشةٍ، وهو يعلمُ براءتَهُ فحلفَ على نفي ذلك فلا يكرَهُ، بل ينبغي استحبابُ الحلفِ إذا كان يُصَدَّق فيه ليدفعَ ظنَّ السوءِ عن نفسِهِ وعن عِرضِ أخيهِ.
فإنْ حلَفَ على أن يتركَ واجبًا أو يفعلَ حرامًا عصى ولزمَهُ الحنثُ، والكفَّارَةُ، ويستثنى من الواجبِ الذي يعْصِي بتركِه الواجبُ الذي يمكنُ سقوطُهُ، فإنَّ الإنسانَ إذا حلفَ على تركِهِ لا يعصي لقصَّةِ أنس بن النضرِ، فإنَّه بعدَ قضاء النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- بالقصاصِ في ثنيَّةِ الرُّبيعِ قالَ أنسُ بن النَّضرِ: "واللَّهِ لا تكسرُ ثنيَّةِ الرُّبيع" فقال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "يا أنسُ، كتابُ اللَّهِ القصاص" فرضوا بأرشٍ أخذُوه، فتعجَّبَ النبيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- وقال: "إنَّ من عبادِ اللَّهِ مَن لو أقسَم على اللَّهِ لأبرَّهُ" (¬1) فلم يذكرِ النبيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- لأنسِ بن النضرِ ولا لأمِّ الرُّبيعِ التي حلفتْ كأنسٍ في بعضِ الرِّواياتِ عصيانًا، ولا ما يدلُّ عليهِ، وجعلهما من عبادِ اللَّهِ الذينِ يبر اللَّهُ قسمهم. ووجهُ ذلكَ أنَّ القصاصَ مما يمكنُ سقوطُهُ فلا إثمَ عليهِ في الحَلِفِ على عدَمِ وقوعِ ذلكَ إمَّا لثقتِهِ بفضلِ اللَّهِ ولطفِهِ أنَّهُ لا يحنثُه، أو رغبةً إلى مستحقِّ القصاصِ بالعفو، وعلى هذا فلا فرقَ بينَ الجانِي وغيرِهِ. وإذا حلفَ الإنسانُ على تركِ الواجبِ على الكفايةِ، لم يعصِ؛ لأنَّ الفرضَ لم يتوجَّهْ إليهِ بخصوصِهِ، نبَّه على ذلكَ شيخُنا، ولو حلفَ على تركِ مندوبٍ أو فعلِ مكروهٍ، فيسنُّ حنثُهُ وعليهِ الكفَّارَةُ. أو تركِ مباع أو فعلِهِ، وكان ذلك المباحُ مما لا يتعلَّقُ به غرضٌ في الامتناعِ منهُ، فالأفضلُ تركَ الحنثِ، ونقلَ الإمامُ عن قطع العراقيين أن الأفضلَ الحنثَ، واختارَهُ والدُهُ، وممن جزَمَ بِه الفورانيُّ في العمد. ولو حلفَ أن يفعلَ واجبًا أو يترك محرَّمًا فالأفضلُ البقاءُ على اليمينِ، والحنثُ فيهِ مع العلمِ بالحالِ حرامٌ، وعليه الكفَّارةُ إذا حنثَ، والأفضلُ ¬
البقاءُ على اليمينِ أيضًا إذا حلَفَ أن يفعلَ مندوبًا أو يتركَ مكروهًا، ولا يحرمُ الحنثُ. ومتَى حنث لزمت الكفارةُ. وللحالفِ تقديمُ الكفَّارَةِ بغيرِ الصَّومِ على حنثٍ جائزٍ، وكذا حرام على الأصحِّ، وله تقديمُ كفارةِ ظهارٍ على العود وقتلٍ على الزهوق بعد حصول الجرحِ، ولا يجوزُ تقديمُ الكفارةِ على الجرح بحالٍ، وفيه احتمالٌ لابن أبي سلمةَ تنزيلًا للعصمة منزلة أحد السببين. والمنذور يجوزُ تعجيله أيضًا قبل وجود المعلق عليه إن كان ماليًّا، مثل أن يقول: إن شفا اللَّهُ مريضي فلله عليَّ أن أعتقَ عبدًا، أو أتصدَّقَ بكذا، وإن كانَ بدنيًّا فلا يجوزُ. * * * فرع: يُخَيَّرُ الحالفُ الرشيدُ غيرُ المُفلسِ، والمريضُ في كفَّارةِ اليمينِ بينَ عتقٍ كالظِّهارِ، وبينَ إطعامِ عشرةِ مساكينَ مسلمينَ أحرارٍ غيرِ الهاشِميينَ والمُطَّلبيين ومواليهم، لكلِّ مسكينٍ مُدٌّ من غالبِ قوتِ بلدِهِ كما في الفطرةِ. وبين كِسوتِهم بِما يُسمَّى كسوَةً، كقميصٍ، أو عمامَةٍ أو إزارٍ أو منديلٍ. ولا يُجْزئ الخفُّ ولا القُفَّازانِ، ولا المنطقةِ. ويشترطُ صلاحيةُ المدفوعِ إليهِ على ظاهِرِ النَّصِّ خلافًا في "المنهاجِ" تبعًا لأصلِهِ، وأما جنسُ الكسوةِ فيجزئ المتخذُ من صوفٍ وشعرٍ وقطنٍ، وكتَّانٍ وقزٍّ وإبريسم، وأمَّا لباسُ الجلودِ والفِرَى فإنْ كانَ في بلدٍ يلبسُ أهلُهُ ذلكَ أجزأَهُ، وإنْ كانَ في بلدٍ لا يلبسُهُ أهلُهُ جازَ على أصحِّ الوجهينِ، فإنْ عجَزَ عنِ الثَّلاثَةِ لزِمَهُ صومُ ثلاثةِ أيامٍ، والأظهَرُ عدمُ وجوبِ تتابعِها، هذا حكمُ الرَّشيدِ غيرُ المفلسِ، والمريضِ.
فأمَّا السَّفيهُ، فالمنصوصُ أنَّهُ كالمعسِرِ، يكفِّرُ بالصَّومِ، ولو أنَّ رشيدًا حلفَ وحنثَ، ثُمَّ حُجِرَ عليه بالسفَّهِ، فيخرجُ الوليُّ عنهُ، ولو حلفَ وهو رشيدٌ، ثمَّ حُجِرَ عليهِ بالسَّفَهِ ثم حنثَ، فهي مرتَّبةٌ على ما قبلها، وأولى بالمنعِ. ولو أنَّ العاقلَ الرشيدَ حلفَ وحنثَ ثمَّ جُنَّ، فيخرجُ وليهُ عنهُ من مالِهِ الكفَّارةَ. وأمَّا المحجورُ عليه بالفلسِ إذا حنثَ لا يتخيَّرُ، بل حكمُهُ حكمُ المُعسرِ، فلهُ الانتقالُ إلى الصَّومِ، إذا أرادَ ذلك، فإنِ انفكَّ الحجرُ ولم يصم وأيسَرَ فالنظرُ إلى حالِ الأداءِ على الأصحِّ، فيثبتُ التخيير حينئذٍ. وأمَّا المريضُ المرض المخوف إذا حلفَ وحنثَ، فإنْ أخرَجَ الكفَّارَةَ في حياتِهِ بمقتضَى خيرتِه، فلا حجرَ للورثَةِ عليهِ في ذلكَ، وإذا أعتقَ عبدًا عن كفارتِه قيمتُهُ ثلاثمائة درهمٍ مثلًا، ثمَّ ماتَ، وكانَ ثلثُ مالِهِ مائتي درهمٍ مثلًا، قالَ شيخُنا: فإن قلنا يحسبُ من الثلثِ لم يعتَقْ إلَّا ثُلثا العبدِ، ولا يفيدُ الميتَ ذلكَ في خلاصِ ذِمَّتِهِ من الكفَّارَةِ، ولا سبيلَ إلى إبطالِ عتق كلِّه والانتقالِ إلى ما يخرجُ من الثُّلثِ من الخصالِ؛ لأنَّهُ أمرٌ لا نظيرَ له، فاحتجنا إلى تنفيذِ ما فعلَهُ المريضُ لهذهِ الضَّرورةِ، وقُلنا يحسبُ عن رأسِ المالِ لما يلزمُ مِن حسابِهِ مِنَ الثُّلثِ من المحذورِ المذكورِ. ولمْ أَرَ مَن تعرَّضَ لذلكَ. انتهى. وإنْ ماتَ هذا الحالِفُ في المرضِ الحانِثِ فيهِ، ولم يكنْ قد فعلَ شيئًا من الخصالِ المذكورةِ، ولكن أوصَى بفعلٍ معيَّنٍ منها فهذا يمكن اعتبارُهُ من الثُّلثِ، فإن لم يخرجْ من الثُّلثِ ولم تحصل إجازة عدلَ إلى ما خرَجَ من الثُّلثِ. وإن صدرَ الحنثُ في الصحَّةِ، وقلنا إنَّ المعتَبَرَ في اليسارِ والإعسارِ بحالةِ
الأداءِ، وهو الأصحُّ، فهو معسرٌ إلَّا في الثلثِ، فيعتبَرُ الكلُّ من الثُّلُثِ، ويحتملُ أَنْ يُقالَ القدرُ المشتركُ بين الخصالِ الثلاثِ يعتبرُ من رأسِ المالِ، والزَّائدُ من الثلثِ، وإذا غابَ مالُ الحالِفِ الحانِثِ إلى مكانٍ لا يعدُّ به معسرًا انتظرَهُ ولم يصم. وإن غابَ إلى مسافةِ القصْرِ فما فوقَها بحيثُ يعدُّ معسرًا جازَ لَهُ أن يُكَفِّرَ بالصَّومِ. ولا يكفِّرُ عبدٌ غيرُ المكاتبِ بمالٍ إلَّا إذا ملكَهُ سيِّدُهُ طعامًا أو كسوةً، وقلنا يملكُ به وأذنَ لهُ أَنْ يُكفرَ بِهِ، وإلَّا إذا ملكَهُ مالًا وأذن لَهُ أن يشتريَ بِهِ طعامًا أو كسوةً فَفَعَلَ، وأذن له أَنْ يُكفِّرَ بِه فكفَّرَ جازَ. ولو ماتَ العبدُ وعليهِ كفَّارَةُ يمينٍ، فللسيدِ أَنْ يُكفِّرَ عنهُ بالإطعامِ أو الكسوةِ، وإنْ قُلنا لا يملكُ بالتمليكِ؛ لأنَّ التكفيرَ عنهُ في الحياةِ بنفسِ دُخولِهِ في ملكِه، والتكفيرُ بعدَ الموتِ لا يستدعِي ذلك، ومحلُّ هذا لو أعتقَ عنهُ لم يجزئه على الأصحِّ لإشكالِ الولاء، وحيثُ قُلنا لا يكفِّرُ عبدٌ بمالٍ في غيرِ ما استثني فكفَّرَ بالصومِ، فإنْ ضرَّه، وكانَ حلفَ وحنثَ بإذنِ السَّيدِ صامَ بلا إذنٍ، وإن وجدا بلا إذنٍ لم يصم إلَّا بإذنٍ، وإن أذن في أحدهما، فإن كانَ قد أذنَ في الحلفِ فقط وحنثَ بغيرِ إذنِهِ لم يستقلَّ بالصومِ على الأصحِّ، بل لا بدَّ من إذنِ السَّيدِ في ذلكَ، وفي عكسِهِ وهو الحنثُ بالإذنِ يستقلُّ بالصومِ على المذهبِ. ومَن بعضُهُ حرٌّ وله مالٌ يكفِّرُ بالإطعامِ أو الكسوةَ لا بالإعتاقِ إلَّا في صورةٍ واحدةٍ وهيَ ما إذا قالَ لَهُ مالكُ بعضِهِ إذا أعتقتَ عنْ كفَّارتِكَ فنصيبِي منكَ حرٌّ قبلَ إعتاقِكَ عنِ الكفَّارَةِ، فنصيبي حرٌّ مع إعتاقكَ عنِ الكفَّارَةِ، فإنَّهُ في الأولى يصحُّ إعتاقُهُ عنْ كفَّارَتِهِ قطعًا، وكذا في الثانيةِ على الأصحِّ.
فصل
* ضابطٌ: ليسَ لنا مبعَّضٌ يكفرُ بالإعتاقِ إلَّا هذا. * * * فصل حلفَ لا يسكُنُها، أو لا يقيمُ فيها، فليخرجْ في الحالِ من بابِها إن أمكنَهُ، فلو لم يمكنهُ أن يخرجَ مِن بابِها لم يحنثْ بالصُّعودِ للخروجِ، ولو كانَ لها بابانِ لم يحنَثْ بالخروجِ من أحدهما؛ لأنّه أخذَ في الخُروجِ، وإن بَعُدَ مسلكُهُ، فإنْ مكثَ بلا عذرٍ حسِّيٍّ بأنْ أغلقَ عليه البابَ أو منعَ من الخُروجِ، أو خافَ على نفسِهِ أو مالِهِ لو خرَجَ، أو كانَ مريضًا أو زَمِنًا لا يقدرُ على الخروجِ ولم يجدْ من يخرجُهُ أو مرضَ وعجزَ بعد الحلفِ على الأصحِّ من قولي المكره. أو شرعيٌّ كما لو ضاقَ عليهِ وقتُ الصَّلاةِ، ويعلمُ أنَّه إنْ خرَجَ منهَا فاتتهُ، فإنَّهُ يحنثُ لعدمِ عذرِهِ، ولا يحنَثُ بوجودِ عذرٍ مما تقدَّمَ. وإن اشتغلَ بأسبابِ الخروجِ كجمعِ متاعٍ، ولبس ثوبٍ، وإخراج أهلٍ لم يحنَثْ، ولا يمكثُ في عود لِنقلِ متاعٍ، أو زيارة، أو عيادة، أو عمارة، ولو حلفَ لا يساكنه في هذه الدارِ فكالتي قبلَهَا، وغير الحالفِ لو خرجَ في الحالِ فلا حنثَ، ولو بني بينهما حائلٌ من طينٍ أو غيرِهِ فالأصحُّ عندَ الجمهورِ يحنثُ، لحصولِ المساكنَةِ إلى تمامِ البناءِ، هذا إذا كانَ البناءُ بفعلِ الحالفِ أو بأمرِهِ أو بفعلِهما أو بأحدِهما. فأمَّا لو كان البناءُ بأمرِ غيرِ الحالفِ إمَّا المحلوفِ عليهِ أو غيره، فإنَّه يحنثُ الحالِفُ قطعًا؛ لأنَّه لم يفعلْ ولم يأمُرْ بالبناء، لم يكن مشتغلًا برفعِ المُساكنَةِ، فتوجَّهَ إليه الحنثُ قطعًا.
ولو حلفَ لا يدخلُها وهو فيها، فلا حنثَ بالإقامةِ فيها، أو لا يخرج منها وليس فيها، فلا حنثَ إلَّا بخروجٍ منها بعد دخولِها. وإن حلفَ لا يتزوجُ، أو لا يتطهَّرُ أو لا يلبسُ أو لا يركبُ، أو لا يقعدُ، فاستدام هذه الأحوالَ حنثَ إلَّا في التزوجِ والتطهُّرِ فلا يحنثُ باستدامتهما. ولا يحنثُ إذا حلفَ لا يتطيب واستدامه على الأصحِّ، ويحنث باستدامة الوطء والصوم والصلاة على الأصحِّ خلافًا في "المنهاجِ". وإذا حلفَ لا يدخلُ دارَ كذا، حيث بأن يصيرَ داخل محوط الدارِ بأي وجهٍ كانَ باختيارِهِ، إلَّا في الحجرةِ التي باجها خارجَ الدَّارِ وهي فوقَ الدارِ، ولا يحنثُ بالسطحِ غيرِ المحوطِ، وكذا المحوط من جانبين أو ثلاثةٍ أو أربعةٍ على الأصحِّ بتحويط مانع نيئًا أو خشب ونبق، فأمّا ما ليس بمانع كالقصب وما ضعفُ من الخشبِ فلا يحنثُ بمصيره فيه قطعًا. فإن كان المحوطُ سقفًا كلُّه حنثَ قطعًا، إذا كانَ يصعدُ إليهِ من الدَّارِ، وكذا إن كان مسقفًا بعضُهُ وصارَ الحالفُ تحتَ المسقفة، فإن صارَ في المكشوفِ من السطح بالتسور أو بالنزولِ من دار الجارِ مثلًا، فإنَّهُ لا يحنثُ. ولا يحنثُ بدخولِ طاقٍ قدام البابِ على الأصحِّ، ولا يحنثُ بدخولِ يدهِ أو رأسِهِ أو رجلِهِ التي إنْ وضعَ رجلَهُ فيها معتمدًا عليها، وباقي بدنِهِ خارجها حنثَ. وإذا انهدمَتِ وبقي منها شيءٌ فإن منعَ الهدمُ من سُكنَى الباقي وسكنى المنهدم لم يحنثْ بدخولِ الباقي، ولا بدخولِ المستهدمِ، وإن نفع من سكنى المستهدم دون الباقي على عمارتِه لم يحنثْ بدخول المستهدمِ منها، ويحنثُ بدخولِ الباقي من عمارتِها.
ولو انهدمت بيوتها وبقي سورها، وهو مانعٌ لعلوِّه، فإنَّ الحالفَ يحنثُ بدخولِهِ، وإن كانَ غيرَ مانعٍ لِقصرِهِ فلا يحنثُ بدخولِهِ على الصحيحِ، ولا يحنثُ إذا صارتْ فضاءً، أو جُعلتْ مسجدًا أو حمًّامًا أو بستانًا بعدما انهدمت. وإذا حلفَ لا يدخلُ دار زيدٍ، حنثَ بدخولِ ما ملكَهُ، وإن لم يسكنْهُ، إلَّا أن يريدَ مسكنَهُ. وإن حلفَ لا يدخلُ دارَ زيدٍ، أو لا يكلِّمُ عبدَهُ أو زوجتَهُ فباعهما، وزالَ ملك البائعِ عنهما، أو طلَّقهَا بائنًا، لم يحنَثْ. فلو قالَ دارُهُ هذهِ، أو زوجتُهُ هذه، أو عبدُهُ هذا، فيحنثُ، إلَّا أن يريدَ ما دامَ ملكَهُ، ولا يحنثُ إذا كلَّمهما بعد البيعِ وزوالِ الملكِ عنهما، أو كلمهما بعدَ الطلاقِ البائنِ. وإن حلفَ لا يدخلها من ذا البابِ، فنُزع ونُصبَ في موضعٍ آخرَ منها حنث بالأوَّلِ على النصِّ دونَ الثَّاني. وقيل: لا يحنثُ بواحدٍ منهما. ولو حلفَ لا يدخلُ بيتًا حنثَ بكلِّ بيتٍ من طينٍ أو حجرٍ أو آجرٍّ أو خشبٍ أو خيمةٍ إذا كانَ الحالفُ عربيًّا، فأمَّا العجميُّ إذا قال بالفارسيَّةِ "درخانة نشوم" (¬1) فعنِ القفَّالِ أنَّه لا يحنثُ بالخيمةِ، ولا ببيتِ الشعرِ؛ لأنَّ العجمَ لا يطلقونَ هذا الاسمَ عليها، بل على المبنيِّ، وعلى هذا جرَى الإمامُ والغزاليُّ والرُّويانيُّ وغيرُهم، ورجَّحَهُ الرَّافعيُّ في "الشرحِ الصغيرِ". ولا يحنثُ بمسجدٍ وكنيسةٍ وغار جبلٍ لم يتَّخذْ مسكنًا، فأما ما اتُّخذَ من ذلك مسكنًا فإنَّه يحنثُ به على أصلِ الشافعيِّ -رضي اللَّه عنه-. ¬
فصل
ولو حلفَ لا يدخلُ على زيدٍ، فدخلَ بيتًا فيه زيدٌ وغيرُهُ حنثَ على. . . (¬1) الطريقين، فلو جهل حضورَهُ فخلاف حنث الجاهل، ولو حلفَ لا يسلِّم عليه فسلَّمَ على قومٍ هو منهم واستثناهُ لم يحنثْ، وإن أطلقَ حنث على المذهب، إلَّا أَنْ يُسلِّمَ الحالفُ من الصَّلاةِ فلا يحنثُ سواء أكانَ إمامًا، أو مأمومًا، أَو منفردًا، والمحلوفُ عليه هناك غير مصلٍّ؛ لأنَّ الذي يحلفُ عليه الإنسانُ أنَّه لا يسلِّمُ إنما هو السَّلامُ الخاصُّ الذي يحصُلُ به الأنسُ، وزوالُ الهُجرانِ، وهذا إنَّما يكون في السلامِ في غيرِ الصَّلاةِ، فإنَّهُ هو الذي يحلفُ على تركه (¬2). * * * فصل حلف لا يأكلُ الرءوسَ، ولم يكن له نية، فإنَّه يحنثُ برءوسٍ تُباع وحدها عادةً، ولا يحنثُ بالطَّيرِ والحوتِ والصيدِ إلَّا ببلدٍ تباعُ فيه منفردةً، وكانَ الحالفُ من أهلِ تلك البلد. فإن كانَ من غيرِ أهلِ البلدِ وحلفَ ولم يبلغه عرفُ تلكَ البلدِ ثمَّ جاءَ إليها، فإنَّه لا يحنثُ بذلكَ. والبيضُ يُحملُ على مُزايلِ بايضِهِ في الحياة كدجاجٍ ونعامة وحمامٍ، ويحنثُ بأكلِ البيضةِ المتصلةِ التي خرجتْ مِنَ الدَّجاجَةِ بعدَ موتِها على أرجحِ الوجهينِ، لا سمك وجراد (¬3). واللحمُ على لحمِ نعمٍ وخيلٍ ووحشٍ وطيرٍ، إذا كانَ مُذَكًّا، فأمَّا لحمُ ¬
الميتةِ منه فالأرجحُ عدمُ الحنثِ (¬1). وإذا اصطادَ الحلالُ لأجلِ المحرمِ الاصطيادَ بالجرحِ الذي يكونُ به حلالًا، فإنَّه يحرمُ على المحرمِ خاصَّةً، فلو حلَفَ هذا المحرمُ أن لا يأكُلَ لحمًا حنثَ بأكلِ هذا اللحمِ على الأقوى؛ لأنَّ هذا الحل لغيرِهِ في حالِ الاختيارِ، بخلافِ الميتةِ فإنَّها لا تحلُّ لأحدٍ في حالِ الاختيارِ. ويتناولُ اللحمُ لحمَ الرَّأسِ واللسانِ على المذهبِ (¬2)، ولا يتناولُ شحمَ الظَّهرِ والجَنبِ، ولا الشحم الذي يتخلل اللحم على الأصحِّ في الجميعِ عندَ شيخِنَا خلافًا لما في "المنهاجِ" تبعًا لأصلِهِ، ولا يتناولُ الكرشَ والكبدَ والطِّحالَ والقلبَ على الأصحِّ. وأن الأليةَ والسنامَ ليستا شحمًا ولا لحمًا، والدسمُ يتناولُهما، وشحم الظهر والبطنِ وكل دهن مأكول، ولحم البقرِ لا يتناولُ الجاموس على الأصحِّ عند شيخِنا، إلَّا أن يكونَ الحالفُ قد بلغَهُ الأمرُ الشَّرعي في أنَّ هذا بقرٌ شرعًا في الزَّكاةِ والأضحيةُ والهدايا وفدية الجماعِ، فيكون الحلفُ منصبًّا إليهِ حينئذٍ. وإذا قالَ مُشيرًا إلى حنطَةٍ: لا آكلُ هذه، حنثَ بأكلِها على هيئتها وبطحينها وخبزها، ولو قال: لا آكلُ هذه الحنطةَ حنثَ بها نيَّة ومقلية ومطبوخة (¬3). والحنطةُ باقيةٌ مع الطبخِ، ولا يحنثُ بها مطبوخة وزالَ اسمُ الحنطةِ عنها على النصِّ، ولا بطحينها وسويقها وعجينها وخبزها. ¬
ولا يتناول رطبٌ تمرًا ولا بُسْرًا ولا عنبٌ زبيبًا، وكذا السكوتِي. ولو قالَ لا آكلُ هذا الرطب بتمرٍ فأكلَهُ أو: لا أكلِّمُ ذا الصبيَّ، فكلَّمه شابًّا أو شيخًا حنثَ على النصِّ (¬1). والخبزُ يتناولُ كلَّ خبزٍ يسمَّى خبزًا لغةً، ولا يحنثُ بأكلِ الخبزِ الذي يحرُمُ أكلُهُ شرعًا، وهو خبزُ الحشيشة المفترة. ولو حلفَ لا يأكلُ السويقَ فسفَّهُ، حنثَ إنْ لاكَه ثم ازدردَهُ، فأمَّا لو ابتلعَهُ من غيرِ أَنْ يلوكَهُ فإنَّه لا يُسمَّى أكلًا على الأصحِّ، فلا يحنثُ به حينئذٍ على الأصحِّ، وإن تناولَهُ بإصبعٍ ولاكَهُ ثم ابتلعه حنثَ كما في السَّفِّ، وإلَّا فلا، وإن جعلَهُ في ماءٍ فشربَهُ فلا حنثَ، أو لا يشربه فبالعكس (¬2). أو لا يأكلُ لبنًا أو مائعًا آخرَ فأكلَهُ بخبزٍ حنثَ، وإن شربَهُ فلا، أو لا يشربُه فبالعكسِ. أو لا يأكلُ سمنًا، فأكلَ جامدًا أو ذائبًا بخبزٍ حنثَ، وإن شربًا ذائبًا فلا حنثَ، وإن أكلَهُ في عصيدةً، حَنَثَ، إن فاتَ عنه ظاهره (¬3). ويدخل في فاكهةٍ بسرٌ، ومنصف، ورطب، ورمان إن وصل إلى حال نضجه، وأترج صلح للتفكُّه، وما أطلق عليه فاكهة في حال رطوبته، فإنَّه يستمرٌّ عليه ذلك الاسم ولو يبس (¬4). ونبق وكذا بطيخ أصفر وأخضر، وهو الهنديُّ (¬5)، وإن أطلق بطيخٌ دخل الهنديُّ إن كان الحالف بالديار المصرية، كما قالَهُ شيخُنا، ولب الفستقِ ¬
فصل
والبندقِ وغيرهما على الأصحِّ. ويدخل فيه القِثَّاء والخيار على النصِّ، ولا يدخلُ الليمون خلافًا لما في "المنهاجِ" (¬1) لأنَّه يصلح به بعض الأطعمةِ كالملحِ، وليس هو من الفاكهةِ، ولا النارنج كما ذكره شيخنا، ويدخلُ في الثِّمارِ اليابسُ لغةً وعرفًا، ولو أطلق تمر وجوز لم يدخل الهنديُّ فيهما (¬2). والطعامُ يتناولُ عُرفَ أهلِ بلدِ الحالفِ، فمن كانَ عُرفُ بلدِهِ الطعامُ المطبوخُ كعرفِ الدِّيارِ المصريَّةِ حملَ عليه، ومن كانَ عُرفُهم أنَّ الطَّعامَ هو البرُّ كأهلِ الحجَازِ حمِلَ عليهِ، فلا يحنثُ أحد إلَّا بما يفهمه، ويكونُ ما أطلقَ لغةً وشرعًا إنَّما يلزمُهُ بهِ حِنثٌ بلغَةِ ذلكَ الإطلاقِ وفهمه، هكذا ذكرَ شيخُنا. ولو قالَ: لا آكلُ من هذه البقرةِ، يتناولُ لحمَهَا وشحمَهَا ومُخَّها، وما ليسَ بلحمٍ ولا شحمٍ كالقلبِ وشحمة العينِ، ونحو ذلك مما يؤكَلُ من الحيوانِ إذا ذكي دونَ ولدٍ ولبنٍ، ولو قالَ: لا آكلُ من هذه الشجرةِ، فتمرٌ وجُمَّارٌ دونَ ورق لم يؤكلْ عادةً، وطرف غصنٍ. * * * فصل حلفَ لا يأكلُ هذه التمرةَ (¬3)، فاختلطتْ بتمرٍ فأكلَهُ إلَّا بعضَ تمرِةٍ لم يحنَثْ، وكذلك الحكمُ لو ضاعَ من الجميعِ تمرةٌ وأخذها طائرٌ، وجاز أنها ¬
المحلوفُ عليها، هذا إذا لم يتيقن أنَّه أكلها، فإنْ تيقَّنَ أنَّه أكلَها (¬1) أكل المحلوفَ عليها حنثَ جزمًا. ويحنثُ بآخرِ تمرة يأكُلُها إذا أكلَ الكُلَّ، كما قالَهُ القَفَّالُ، حتَّى لو كانَ الحلفُ بالطلاقِ، فالعدَّةُ من حينئذٍ لا من وقتِ الاشتغالِ بالأكلِ. ولو حلفَ ليأكلنَّها، فاختلطتْ لم يبرَّ إلَّا بالجميعِ إن لم يتيقَّنْ إلَّا بذلك، فإن تيقَّنَ بدونِهِ كأنْ وقعتِ التمرةُ في جانبِهِ من الصبرةِ ولا تغُص فيها، وأَكَلَ الحالفُ من ذلكِ الجانب الذي وقعتْ التمرةُ عليهِ فلا حنثَ، حيثُ تيقَّنَ أنَّه أتى عليها. أو ليأكلنَّ هذه الرُّمَّانة، لم يبرَّ إلَّا بجميعِ حبِّها ولا يحنثُ بتركِهِ قشرها وشحمها. وإن حلفَ لا يأكُلُ هذه التَّمرةَ فأكلَهَا إلَّا قُمعها أو شيئًا بقي عليها مما جرَتِ العادةُ بتركِهِ فقد حنثَ. قالَهُ الضمريُّ. أو لا يلبس هذين، أو لا يلبسُ هذا وهذا لم يحنثْ بأحدهما، أو لا ألبسُ هذا ولا هذا، حنثَ بأحدهِما، وتبقى اليمينُ منعقدةً على الفعلِ الآخرِ على أصحِّ الوجهينِ، حتَّى إذا وجدَ يكفِّرُ أخرَى. وإن حلفَ ليأكلنَّ هذا الطَّعامَ غدًا فماتَ قبلَهُ من غيرِ أن يقتلَ نفسَهُ فلا شيءَ عليهِ على المذهبِ، وإنْ مَاتَ أو تلفَ الطعامُ في غدٍ بعدَ غلته من أكلِهِ لا يحنثُ على النصِّ مع بقاءِ الوقتِ الذي يمكنُ فيهِ البرُّ لو بقيَ الطَّعامُ. قال شيخنا: وهو المذهبُ المعتمدُ. ولو قتلَ نفسَهُ بعدَ مجيءِ الغدِ، فإنَّه يحنَثُ، كما إذا قتَلَ نفسَهُ قبلَ الغدِ، ¬
وإن ماتَ قبلَ التَّمكُّنِ من غيرِ قتلِ نفسِهِ أو تلفَ الطَّعامُ قَبلَهُ بغيرِ تقصيرٍ منهُ ففيهِ قولَانِ؛ لأنَّهُ كالمُكرهِ، والأظهرُ عدمُ الحنثِ. وإنْ أتلفَهُ بأكلٍ أو غيرِهِ مختارًا ذاكرًا لحلفِهِ حنثَ، وإن تلفَ بغيرِ تقصيرٍ منه، أو أتلفَهُ أجنبيٌّ ولم يمكنْهُ دفعُهُ فلا يحنثُ على الأصحِّ كالمكرهِ. وإن حلفَ ليقضينَّ حقَّه عندَ رأسِ الهلالِ، فليأخذ في القضاءِ عندَ دخولِ الشهرِ، ويكفي في ذلك أَنْ يشرعَ في أسبابِ القضاءِ من ذلكَ الوقتِ، فإذا أخذَ في إحضارِ المالِ ذلك الوقتِ وورثه كان ذلك مقتضيًا لبرِّة، وإن لم توجدْ حقيقة قضاء الدَّينِ عند رأسِ الهلالِ، ولهذا لو احتاجَ إلى زمانٍ طويلٍ في الكيلِ أو الوزنِ لم يحنثْ بعدَ الشُّروعِ في ذلكِ من أوَّلِ جزءٍ من تلكَ الليلةِ، فإنْ قدم القضاء على الوقتِ أو مضى بعد الغروبِ قدر إمكانِ ولم يفعلْ ما تقدَّم حنث. ولو حلفَ لا يتكلَّمَ فسبَّحَ حنثَ على الأرجحِ؛ لأنَّهُ تكلَّمَ، ولكنَّه لم يكلِّمِ النَّاسَ، وهو لم يحلِفْ على أن لا يكلِّمَ النَاسَ، ولا يحنثُ إذا قرأ القرآنَ. وإن حلفَ أَنْ لا يكلمه، فسلَّمِ عليه في غيرِ الصلاةِ حنثَ. وإن كاتَبَهُ أو راسلَهُ أو أشارَ إليه بيدِهِ أو غيرها فلا يحنثُ على الأظهرِ. وإنْ قرأ آيةً وقعدا لِقراه، أو أطلقَ لم يحنثْ، وإلَّا حنثَ. وإن حلفَ لا مالَ لهُ حنثَ بكلِّ نوعٍ من مالٍ، وإن قلَّ، بحيثُ يكونُ متمولًا حتى ثوبَ بدنِهِ، ومدبَّره، ومعلق عتقه على صفة في حياةِ المعلَّق، وأم ولدِهِ، ومقضي به كذلكَ، ودين حالّ، ومؤجَّلٌ في الأصحِّ، إلَّا الدين الذي للسَّيِّدِ على المكاتب، وإلَّا إذا مات المديون ولم يخلفْ تركة وليسرَ بالدينِ ضامنٌ لأنَّ الدينَ حينئذٍ صارَ في حكمِ العدمِ، لا مكاتبَ كتابةً صحيحةً على الأظهرِ.
وإن حلفَ ليضربنَّه، فالبرُّ بِمَا يُسمَّى ضربًا، ولا يشترطُ الإيلامُ، إلَّا أن يقولَ: ضربًا شديدًا، فيشترطُ الإيلامُ مع ضربٍ تطلقُ اللغةُ عليه شديدًا، ولا يكفي وضع سوطٍ عليهِ، وعضٌّ، وخنقٌ، ونتفُ شعرٍ؛ لأنَّ ذلكَ لا يسمَّى ضربًا. وأمَّا اللطمُ والوكزُ فيكفيانِ في البرِّ إذا حلفَ على الضربِ على الأصحِّ. ولو حلفَ ليضربنَّه مائة سوطٍ، أو خشبةٍ، فشدَّ مائة مما سمَّاهُ، وضربَهُ بها ضربةً، أو بعثكالٍ عليهِ مائة شمراخٍ برَّ بالشدِّ فيما سمَّاه ولا يبرُّ بالعثكالِ فيما إذا حلفَ ليضربنَّه مائة سوطٍ على الصحيحِ، خلافًا لما في "المنهاجِ" (¬1)، وإنَّما يبرُّ فيما تقدَّمَ إذا أصابَهُ الكلُّ أو تراكمَ بعضٌ على بعضٍ، فوصلَ إليهِ ثقلُ الكُلِّ. ولو شكَّ في إصابةِ الجميعِ برَّ على النصِّ، إذا كانَ الضربُ بحيثُ يغلبُ على الظنِّ وصولُ الجميعِ، إنِ اعتبرنا المماسَّةَ، أو ثقلَ الجميعِ، إنِ اكتفينا بالانكباسِ، وأن لا يغلبَ على ظنِّ الحالفِ أنَّه لم يصل الجميع، بل يكونُ على خلافِ ذلك واحدٌ من أمرين: إمَّا بأن يغلبَ على ظنِّه إصابةُ الجميع، وإمَّا بأن يشكَّ شكًّا مستويًا. ولو حلفَ ليضربنَّهُ مائةَ مرَّةٍ، لم يبرَّ بذلك، وإن قالَ: لا أفارقَكَ حتى أستوفي حقِّي منكَ، فهربَ قبلَ استيفاءِ المحلوف على استيفائِهِ، وكانَا ماشيينِ، ولم يقصِّرِ الحالفُ في الخُطَى، ولم يقفْ، أو واقفين ولم يمكنهُ اتباعه لم يحنثْ، وكذا إن أمكنَهُ على الصحيحِ، وإن فارقَهُ أو وقفَ حتَّى ذهبَ وكانَا ماشيينِ، أو أبرأهُ أو احتالَ على غريمٍ ثم فارقَهُ، أو اعتبرَ مفارقة ¬
ليوسر حنثَ. وإنِ استوفَى وفارقَهُ فوجدَه ناقصًا، إن كانَ من جنسِ حقِّه لكنَّه أردأ لم يحنثْ، وإن لم يكنْ من جنسِ حقِّهِ حنثَ إن كانَ عالمًا، وإلَّا فعلى الخلافِ في حنثِ النَّاسِي. وإذا حلفَ لا يرى منكرًا إلَّا رفعهُ إلى القاضي، فرأى وتمكَّن ولم يرفعْ حتَّى ماتَ الحالفُ حنثَ، ويحملُ على قاضي البلدِ، فإن عزلَ فالبرُّ بالرفعِ إلى القاضِي، وإن قال: لأرفعنَّه إلى قاضٍ، برَّ بكلِّ قاضٍ. أو لأرفعنَّه إلى القاضي فلان، فرآه ثم عزل، فإن نوى ما دام قاضيًا حنثَ إن أمكنَهُ رفعُهُ فتركَهُ، وإن لم يمكنْهُ فكمكرهٍ، وإن لم ينوِ بَرَّ بالرفعِ إليهِ بعدَ عزلِهِ، ومحلُّ حنثِهِ جزمًا في صورة موتِ الحالفِ، وفيما إذا أمكنَهُ رفعُهُ إلى القاضي ما دامَ قاضيًا فتركَهُ ما إذا لم يرَ المنكرَ بين يدي القاضِي الذي يبرُّ بالرفعِ إليه، فإن رآهُ فإنما يحصل البرُّ بأن يخبره به كما قاله المتولي. ولو رأَى المنكرَ بعدَ اطلاع القاضي عليهِ، فالأصحُّ -وبه أجابَ البغويُّ- أنَّه يبرُّ بالإخبارِ وصورةِ الرفعِ. وقد نصَّ في "الأمِّ" (¬1) على نحو ما قالَ المتولِّي، وعلى ما يساعد هذا التصحيح الذي أجابَ به البغويُّ، ولفظُه: وإن علماهُ جميعًا فعليهِ أن يخبرَهُ إنْ كانَ ذلك مجلسًا واحدًا. انتهى. وهو المعتمدُ. * * * فرع (¬2): حلفَ لا يبيعُ ولا يشتري، فعقدَ لنفسِهِ أو غيرِهِ حنثَ، ولا يحنثُ بعقدِ وكيلِهِ لَهُ. ¬
وإن حلفَ أن لا يزوجَ أو لا يطلقَ أو لا يعتقَ أو لا يضربَ، فوكَّلَ من فعلَ ذلكَ لا يحنثُ إلَّا أَنْ يُريدَ أن لا يفعلَ هو ولا غيرُه. وإن حلفَ أن لا ينكِحَ فلا يحنثُ بعقدِ وكيلِهِ لَهُ على مقتضَى النصِّ، وقالَ به أكثرُ الأصحابِ، وهو المعتمدُ في الفتوَى، خلافًا لما في "المنهاجِ" تبعًا لأصلِهِ، وكذا لا يحنثُ بقبولِهِ هو لغيرِهِ. وإن حلفَ لا يبيعَ مال زيدٍ فباعَهُ بيعًا صحيحًا حنثَ، وإلَّا فلا، وإن حلفَ أن لا يهبَ لَهُ فأوجبَ لَهُ فلم يقبلْ لم يحنثْ على الأرجَحِ، وإنْ قبلَ ولم يقبضْ حنثَ على المعتمدِ في الفتوى. ويحنثُ بعمرَى، ورُقبى، وهبة تقديريَّة، كقولِه: أعتق عبدك عنِّي مجانًا، وصدقة تطوع. ولا يحنثُ بالإعارةِ والوصيةِ والوقفِ الذي لا يكونُ في الموقوف حال الوقف عين يملكها الموقوف عليه، وإن حلفَ لا يتصدَّقُ فلا يحنثُ بالهبةِ على الأصحِّ. وإن حلفَ أن لا يأكلَ طعامًا اشتراهُ زيدٌ، فاشتراهُ زيدٌ وغيرُهُ لم يحنثْ على النصِّ فيهما، ويحنثُ بما اشتراهُ سلمًا. ولو اختلطَ ما اشترَاهُ بمشترى غيرِهِ لم يحنثْ حتَّى يأكُلَ قدرًا يعتقدُ أنَّهُ أكلَ من المختلطِ وإن لم يبلغْ مقدارَ طعامِهِ فيحنثُ حينئذٍ. وإن حلفَ لا يدخلُ دارًا اشتراهَا زيدٌ، لم يحنَثْ بدارٍ ملكَ بعضَها بشفعةٍ. * * *
كتاب النذر
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ كتابُ النذر جمعهُ نذور، ويقالُ نذر ينذرُ بكسر الذال المعجمة في المضارعِ وضمها لغتانِ. وهو في اللغةِ: الوعدُ بخيرٍ أو شرٍّ. وفي الشرع: الوعدُ بالخيرِ دونَ الشَّرِّ. وحدَّهُ بعضُهم بأنَّه التزامُ قربةٍ غير لازمةٍ بأصلِ الشَّرعِ. وأصلُ البابِ قوله تعالى: {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ}، وقوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "مَن نذَرَ أَنْ يطيعَ اللَّهَ فلْيُطِعْهُ، ومن نذَرَ أن يعصيَهُ فلا يعصِه" رواهُ البخاريُّ (¬1) وغيرُهُ. وأركانُهُ ثلاثةٌ: الناذِرُ، والصيغةُ، والمنذور: فأمَّا الناذرُ: فشرطُهُ أَنْ يكونَ مسلمًا مُكلَّفًا، مختارًا، مطلقَ التَّصرُّفِ فيما نذَرَهُ، ونذرُ العبدِ والزوجَةِ متوقفٌ على إذنِ السيِّدِ والزوجِ. ¬
وأمَّا الصيغةُ: فيشترطُ اللفظُ من الناطقِ، ويشترطُ فيه التنجيز. والنذرُ ضربان (¬1): (1) نذرُ لجاجٍ، وهو أن يمنعَ نفسَهُ من شيءٍ أو يجبرها عليهِ، على وجهِ اللجاجِ والغضبِ، بالتزامِ قربةٍ كإن كلمَّته أو إن لم أخرج من البلدِ فلله عليَّ عتقٌ أو صومٌ. وفيه كفَّارَهُ يمينٍ على أظهرِ الأقوالِ؛ لأنَّهُ هو الذي أفتى به الشافعيُّ، والصحابةُ قبلهُ، والتابعونَ، ورجَّحه جمعٌ كثيرٌ من أصحابِهِ، فهو المعتمدُ في الفتوى، وعليه لو أرادَ المكلفُ أن يفعلَ ما التزمَهُ من القربِ أجزأهُ ذلكَ، بل هو أفضلُ إن كانَ أكثر من الكفَّارَةِ، وإن قال: إن دخلتُ الدارَ فعليَّ كفارةُ يمينٍ، أو نذرٌ لزمتهُ كفارةٌ بالدُّخولِ. (2) الضربُ الثَّاني: نذرُ التبَرُّر، بأن يلتزمَ قربةً إن حدثَتْ نعمةٌ، أو ذهبتْ نِقمةٌ، مثلَ أن يقول: إن شفى اللَّهُ مريضي للَّه عليَّ أَنْ أفعلَ كذا. فيلزمَهُ ذلك إذا حصل المعلَّقُ عليه في حياةِ النَّاذرِ، سواء أكانتْ القربةُ ماليَّةً أو غيرها، وإن كانتِ القُربةُ ماليَّة فتعتبَرُ مع حياةِ الناذِرِ أن يكونَ أهلًا للملكِ، ولم يكنْ عليهِ حجرُ سفهٍ، وإن لم يعلقه بشيءٍ كـ "للَّه عليَّ عتقُ رقبةٍ لما أنعمَ اللَّهُ عليَّ من شفاءِ مريضي"، فإنَّه يلزمُهُ الوفاءُ بالمنذورِ قولًا واحدًا. ذكرَهُ القاضي الحسينُ في "تعليقِهِ"، وهو حسنٌ. ولا يصحُّ نذر معصيةٍ، ولا واجب العينِ على طريقِ التخصيص، فأمَّا واجبُ الكفايةِ الذي يحتاجُ في أدائها إلى بذلِ مالٍ، ومزيدِ مشقَّةٍ كالجهادِ وتجهيزِ الموتَى، فإنَّه لازمٌ. وأمَّا واجبُ العينِ على طريقِ العمومِ كما إذا نذرَ الوضوءَ لكلِّ صلاةٍ، فإذا ¬
توضّأ لصلاةٍ عن حدثٍ خرجَ به عن واجبي الشَّرع والنَّذرِ. ولو نذرَ صومَ أيامٍ غيرَ مؤقَّتة ندب تعجيلها، إن لم يكنْ عليه صومُ كفَّارةٍ سبقتْ النذرَ، وهي على التراخِي، فإن كانَ عليه كفَّارَةٌ سبقتِ النَّذرَ ندب تعجيلها، وتقدمُ على تعجيلِ النَّذْرِ. وأمَّا الكفَّارَةُ على الفورِ فإنَّه يجبُ تعجيلُها، ولا توقف في تقديمِ الواجبِ على المندوبِ، ولو كانَ عليه نذرُ أيامٍ سبقتْ هذا النذرَ ندبَ تعجيلُ الأوَّلِ قبلَ الثَّانِي، وإن قيَّدَ بتفريقٍ أو موالاةٍ جازَ التتابع، ولا يجبُ على الأصحِّ. ولو نذَرَ ما هو مندوبٌ إليهِ شرعًا، كصومِ يومين ويومٍ، أو يومٍ ويومٍ، فإنَّهُ يجبُ التفريقُ حينئذ. وكذا لو قالَ: "للَّه عليَّ أن أصومَ يومَ الاثنينِ من هذا الأسبوعِ، ويوم الأربعاءِ من الأسبوعِ المذكورِ"، فإنَّه يجبُ التفريقُ، لأنَّه يتعينُ اليومُ المعين للصومِ بالنذرِ على الأصحِّ. وإنْ نذرَ صومَ سنةٍ معيَّنةٍ، صامها وأفطر العيد والتشريقَ، وصام رمضانَ عنه ولا قضاء. وإن أفطرتْ بحيضٍ أو نفاسٍ وجبَ القضاءُ على الأصحِّ إذا أفطرتْ في غير شهرِ رمضانَ، فأمَّا أيامُ الحيضِ الواقعةِ في رمضانَ فإنَّها لا تقضيها إلَّا عن رمضانَ فقطْ، لا عنِ النَّذرِ بلا خلافٍ، ولا عنه وحدَهُ وعن النذرِ وحدَهُ، ولو أفطرَ يومًا بلا عذرٍ أو بعذرِ المرضِ أو السفرِ وجبَ قضاؤُه، ولا يجبُ استئنافُ ما مضَى، فإن شرطَ التتابع لم يجبْ على الأصحِّ، أو غير معيَّنة غير المبهمةِ بإحدى ونحوه، وشرط التتابع لم يجب كالمعيَّنة. وإذا نذرَ صومَ سنةٍ مطلقةٍ متتابعة، وصام رمضان عنه، وأفطر العيدين
وأيام التشريق، وأفطرت المرأةُ بالحيض لم ينقطع التتابع بذلك؛ لأنَّه لا يمكنُ صومُ سنةٍ متتابعةٍ ليس فيها رمضانُ والعيدانِ، وأيامِ التشريقِ، ولا يمكنُ صومُها عن الحيضِ، ولكن يلزمها قضاء ذلك متتابعًا؛ لأنَّه قضاءٌ عن صومٍ متتابعٍ، فيقضِي النَّاذِرُ ما ذكر متصلًا بآخرِ السنةِ متتابعًا كما تقدَّمَ. وإن لم يشترطَ التتابعِ لم يجبْ، فإن صامَ سنةً متواليةً فقد بقيَ عليه من نذرِهِ نظير أيَّامِ رمضانَ والعيدينِ والتَّشريقِ وأيامِ الحيضِ، إن كانَ الناذِرُ امرأةً، وكذا أيامِ النِّفاسِ، وأيامِ الجنونِ، وأيامِ الإغماءِ، وأيامِ المرضِ الذي أفطرَ فيهِ، وأيامِ السفرِ الذي يُفطر فيه. وإن نذرَ صومَ يوم الاثنين أبدًا، لم يقضِ أثاني رمضانَ الأربعةِ التي لا يخلو عنها الشَّهرُ، فلو جاءَ فيه خامسٌ لم يقضِهِ على الأرجحِ، وإذا وقعَ يوم عيدٍ في يوم الاثنين، أو في أيامِ التشريقِ، قضى على الأظهرِ، وصححهُ الشيخُ أبو حامدٍ وغيرهُ. وإذا لزمَهُ صومُ شهرينِ متتابعينِ لكفَّارةٍ، وسبقتِ الكفارَةُ النذرَ فإنَّهُ يجبُ قضاءُ الأثانين الواقعة في شهري صومِ الكفَّارَةِ على المنصوصِ. وإن سبقَ النذرُ الكَفَّارَةَ قضى الأثانين الواقعةِ في الشهرينِ؛ لأنَّه أدخلَ على نفسِهِ صومَ الشَّهرينِ. وإن نذرَ أن يصومَ يومًا معيَّنًا بعينِهِ، كيومِ اثنين حادي عشرَ الشهرِ ونحوهِ، أو بوصفِهِ، كـ "للَّهِ على صوم الاثنين أبدًا". أو ما أبهم فيه، كـ "للَّهِ عليَّ أن أصومَ أحد يومين أول الشهرِ" لم يصم قبله وبعده يكون قضاء. ولو نذرَ صوم يوم من أسبوعٍ ثم نسيه صام آخره، وهو الجمعة، فإذا لم يكن هو وقعَ قضاء.
ومَن شرعَ في صومِ تطوُّعٍ، ثم نذرَ إتمامه لزمَهُ إتمامُهُ والقضاء لو أفطرَ فيهِ، ومحلُّ لزومِ الإتمامِ إذا نوَى من الليلِ، فإنْ نوَى قبلَ الزَّوالِ ثمَّ نذرَ إتمامَهُ لم يلزمه الوفاءُ على الصَّحيحِ. ولو نذرَ بعضَ يومٍ غيرَ اليومِ الذي هو فيهِ لم ينعقدْ، وقيلَ ينعقدُ ويلزمه يوم، وقيلَ ينعقدُ ويلزمُهُ صومُ بعض يومٍ إمَّا بالإمساكِ قبله، وإمَّا مطلقًا، فلو نذرَ صوم بقيَّة اليومِ الذي هو فيهِ، ولم يكن أكلَ، وكانَ قبلَ الزَّوالِ، فإنَّ فيه وجهين: أحدُهما: يجزئه، وصححهُ الإمامُ، وخالفهُ شيخُنا في "التصحيحِ". والثاني: لا يجزئه، وليس فيه وجهٌ أنَّه يلزمه صوم يومٍ كاملٍ، ولكن فيه وجه آخر، أنَّه تجزئه تلك البقيَّةُ. ولو نذرَ صومَ يومِ قدومِ زيدٍ، فالأظهرُ انعقادُهُ، فإنْ قدِمَ ليلًا، أو يومَ عيدٍ، أو يوم تشريقٍ، أو في رمضانَ فلا شيءَ عليهِ، ونهارًا وهو مفطر أو صائمٌ قضى، أو نذرًا وَجَبَ يومٌ آخرُ عَن هذَا، أو وهو صائمٌ نفلًا، فكذلك، وقيلَ يجبُ تتميمه، ويكفيه، ولو تبيَّنَ للناذرِ أنَّ فلانًا يقدُمُ غدًا، فنوى الصومَ من الليلِ، ثم قدمَ زيدٌ غدًا، أو الناذرُ صائمٌ بتبييت النيَّةِ فإنَّه يجزئهُ عن نذرِهِ على الصحيحِ، ويكونُ أداءً. * * * فرع (¬1): نَذَرَ المشيَ إلى بيتِ اللَّهِ الحرام، أو إتيانَهُ، أو نذرَ المشي فقط، ونوى بيتَ اللَّهِ الحرام، فالمذهبُ وجوبُ إتيانِهِ بحجٍّ أو عمرةٍ، وكذا لو نذرَ المشيَ إلى مكَّةَ أو إلى الحرمِ، أو ذكرَ بقعةً من بقاعِ الحرمِ كالصفا، والمروةَ، ¬
ومسجد الخيفِ، ومنى، ومزدلفة، أو الإتيان إلى ذلك، فالحكمُ كما (¬1) من وجوبِ الإتيانِ بحجٍّ أو عمرةٍ. ولو نذرَ المكيُّ أو المُزدلفيُّ أو السَّاكنُ بمنى، أو في موضعٍ من مواضعِ الحَرَمِ المشيَ إلى بيتِ اللَّهِ تعالَى الحرام أو إتيانَه فلا يلزمه إتيانهُ بحجٍّ ولا عمرةٍ، ولا يلزمُه الإتيانُ مطلقًا على الأظهرِ، كمن نذرَ إتيانَ مسجدِ المدينةِ أو الأقصى، فإن كانَ قال: "أحجُّ ماشيًا"، فمن حيثُ يحرمُ على الصحيح، وإن قال: "أمشي إلى بيت اللَّه تعالى الحرام"، فمن دويرةِ أهلِهِ على الأصحِّ إذا كانَ الناذرُ في دويرةِ أهلِهِ في بلادِ المغربِ وجاءَ إلى الإسكندريَّةِ مثلًا، فقال هناكَ: "للَّه عليَّ أَنْ أمشي إلى بيتِ اللَّهِ تعالى" فإنَّه يلزمه المشي من الإسكندريَّةِ على الأصحِّ. ولو كانتِ دارُ الناذِرِ فوقَ المواقيتِ، فإنَّه يمشي من دويرةِ أهلهِ، ويحرمُ من الميقاتِ على الأصحِّ. وحيثُ أوجبنا المشيَ فركبَ لعذرٍ أجزأَهُ، وعليهِ دمٌ على الأظهرِ إن ركبَ وهو محرمٌ من الميقاتِ، أو قبلَهُ، أو ركبَ بعد أن جاوزَ الميقاتَ غير محرمٍ مَشْيًا وإن ركبَ بلا عذرٍ أجزأَهُ على المشهورِ، وعليهِ دمٌ (¬2). ومَن نذرَ حجًّا أو عمرة، لزمَهُ فعلُهُ بنفسِهِ حالًّا إن لم يكن عليه حجَّة الإسلامِ، أو القضاء، وكان النذرُ مُقيَّدًا بوقتٍ، ووجدتِ الأمور المعتبرة في الاستطاعةِ في ذلك الوقتِ المقيَّدِ، وإن كانَ عليه حجَّةُ الإسلامِ وقيَّدَ النذرَ بتلكَ السَّنةِ ووجدتِ الأمورُ المعتبرة بالنسبةِ إلى الفرضِ الأصليِّ وحج تلك ¬
السنةِ فإنَّه يخرج به عن فرضِ الإسلامِ والنذرِ. وفائدةُ النذرِ التعجيلُ، وإن لم يحج تلكَ السنةِ مع الإمكانِ فلا يلزمُهُ قضاء يتعلَّقُ بالنَّذرِ، ولكن يأثمُ بالتأخيرِ عن السَّنةِ التي عيَّنها. وإن كانَ النذرُ مطلقًا وفعلَ النَّاذِرُ ذلك عن الفرضِ المتعلِّقِ بالإسلامِ أو القضاء، وإن كانَ قد فعلَ الفرضَ المذكورَ ووجدتِ الأمورُ المعتبرةُ في الاستطاعةِ، فعله. وحكمُ عمرةِ الإسلامِ والقضاءِ حُكْمُ حجَّةِ الفرضِ المذكور إذا نذرَ أن يأتي بعمرةٍ. فإن كانَ الناذرُ معضوبًا استنابَ (¬1). ويستحبُّ تعجيلُهُ في أولِ الإمكانِ في المطلقِ، حيث يجوزُ فعله، وفي المقيدِ بأوَّلِ الإمكانِ بعدَ دخولِ الوقتِ الذي قيَّد بِه. فإن تمكن فتأخر فمات (¬2) حجَّ من مالِهِ مِن رأسِ المالِ إنْ صدرَ النذرُ في الصحَّةِ ولم يقيد في وصيته بالثلث، وإن كانَ النذرُ في المرضِ، فإنَّ المنذورَ يكونُ من الثلثِ. وإن نذرَ الحجَّ عامَهُ وأمكنَهُ لزمَهُ (¬3)، فإن منعَهُ مرضٌ لم يحصلْ به غلبَةٌ على العقلِ أو حصلَ ولكنْ رَجَعَ إليه عقلُه في وقتٍ لو خَرَجَ فيه أدركَ فيه الحجَّ فإنَّه يجبُ القضاءُ حينئذٍ، أو عدوٌّ عامٌّ فلا قضاء على الأظهرِ، وإن كانَ العدو خاصًّا بالناذرِ فعليه القضاءُ على مقتضى النصِّ، وهو المعتمَدُ. ¬
وإنْ نذرَ صلاةَ وقتٍ غير أوقاتِ النهي في غيرِ حرمِ مكَّةَ تعيَّنَ، أو صومًا في وقته تعيَّنَ، إلَّا المتحيِّرة، فلا يصحُّ نذرها لصلاةٍ ولا لصومٍ في وقت معيِّنٍ، ولا يلزمها النذرُ لاحتمالِ أن تكونَ حائضًا. ولا ينعقدُ النذرُ في الزمانِ المشكوكِ في أنَّه حيضٌ، ولا يلزمُ الذمَّة ما هو مشكوك فيه، فإنْ مَنَعَ النَّاذرُ من ذلك مرضٌ لا يغلبُ على العقلِ من إغماءٍ. . . (¬1) أو يغلب، فإنْ لم يغلبْ وجبَ القضاءُ، وكذا إن غلبَ وحصلتِ الإفاقةُ من الإغماءِ في أوَّلِ وقتها بقدرِ الصلاةِ وبقدرِ الطَّهارَةِ إن لم يمكنْ تقديمُها على الوقتِ كطهارَةِ المستحاضةِ، والسَّلس، والمتيمم، فإنَّه يجبُ عليه قضاءُ المنذورةِ، إذا زالَ المانعُ تفريعًا على إنزالِ المنذورةِ منزلةَ الفريضةِ شرعًا. وإذا زالَ المانعُ آخر الوقتِ بتكبيرةٍ فقد أدركَ الناذرُ بعضَ الوقتِ، فإذا خلَا من الموانِعِ ومِن سفهٍ لزمَهُ قضاءُ المنذورةِ. وأمَّا الصومُ فإنَّهُ يجبُ قضاءُ ما فاتَ في الإغمَاءِ بخلافِ الجنونِ على الأصحِّ. وأما الحيضُ والنِّفاسُ فإمَّا أن يكونَ ذلكَ في الصلاةِ وإما أن يكونَ في الصومِ، فإن كان في الصلاةِ، واستغرقَ المانعُ الوقتَ كلَّه، فإنَّه يلزمُهَا قضاءُ الصَّلاةِ المنذورةِ بخلافِ الصَّلاةِ المفروضَةِ، لأنَّ الفريضةَ تتكرَّرُ بخلافِ المنذورةِ، وأمَّا الصومُ فيجبُ قضاءُ أيَّامِ الحيضِ، وكذا حكمُ النِّفاسِ، وإن غلبَ على العقلِ واستغرقَ الإغماء جميعَ الوقتِ المعينِ للصلاةِ لم يجبْ قضاءُ الصلاةِ المنذورَةِ التي استغرَقَتِ الغلبةُ على العقلِ جميعَ وقتِها. وحكمُ ¬
الصومِ يقدَّمُ، وإن مَنَعَ الناذِرَ من ذلكَ عدوٌّ وجبَ القضاءُ. وإنْ نذرَ هديًا معينًا (¬1) لزمَهُ حملُهُ إلى الحرمٍ، إن كانَ حملُه معتادًا، فأمَّا ما لا يكونُ معتادًا كالأحجارِ، أو غير منقول، فإنَّ الناذرَ يبيعُهُ ويحملُ ثَمَنَهُ، ثمَّ إنْ وجدَ في الحرمِ مساكينَ قبل مكَّة فرَّقه عليهم، وإنْ لم يجدْ إلَّا بمكَّةَ حملَهُ إلى مكَّةَ وتصدَّقَ بِه، وإن كانَ الهديُ من النَّعَمِ السليمةِ، حالة النذرِ لم يجزِ التصدُّقِ بِه حيًّا؛ لأنَّ في ذبحِهِ قربةً، ويجبُ الذبحُ في الحرمِ على الأصحِّ. وإن نوى صرفَ المنذورِ إلى تنظيفِ الكعبةِ، أو جعل الثوب سترًا لها أو قربةً أخرَى صرفه إلى ما نوى. نصَّ عليه. وإن نذرَ التصدُّق على أهلِ بلدٍ معيَّنٍ أو التصدُّقَ بالنحرِ والأضحيةِ مع التلفُّظِ أو بنيَّة لزمَهُ. وإن نوَى صومًا في بلدٍ لم يتعيَّن، وكذا حكم الصَّلاةِ إلَّا في المسجدِ الحرامِ، فيتعيَّن على الأظهرِ، ولا يتعيَّن مسجدُ المدينة والأقصى على الأظهَرِ، خلافًا لما في "المنهاجِ". ولو نذرَ صومًا مطلقًا، فيوم أو صوم أيامٍ فثلاثةٌ. وإن نذرَ صدقةً وأطلقَ فيجزئهُ أَنْ يتصدَّقَ بدانقٍ، ودونَهُ مما يتموَّل، وإن نذرَ صلاةً فركعتانِ، وفي قولٍ: ركعةٌ، وعلى الأظهَرِ: يجبُ القيامُ فيهما مع القدرَة، وعلى الثَّانِي: لا يجبُ. وإن نذر (¬2) عتقًا فعلى الأوَّل رقبةٌ كفارةٌ على المشهورِ، وعلى الثاني: رقبة، والأوَّلُ هو المذهب المعتمد، خلافًا لما في "المنهاجِ". ¬
وإن نذرَ عتقَ كافرة معيّنة أجزأه كاملةٌ، فإنْ عيَّن ناقصةً بغيرِ الكفرِ تعيَّنت. وإن نذرَ صلاة قائمًا، ولم يكن الناذرُ شيخًا همًّا ولا مريضًا لم يجز قاعدًا، بخلافِ عكسهِ. وإن نوَى طولَ قراءةٍ في الصَّلاةِ المفروضَةِ ولم يكنْ إمامًا في مكانٍ لا يحضرُ جماعةً، لزمَهُ على الأصحِّ، وإن نذرَ أَنْ يقرأَ في الصُّبحِ سورةَ كذا غيرَ الفاتحةِ، أو الجماعةِ في الفرضِ لزمَهُ على الأرجحِ، وينعقدُ النَّذرُ بكلِّ قربةٍ لا تجبُ ابتداءً، كعيادةٍ، وتشييعِ جنازَةٍ، وإفشاءِ السلامِ، على الصَّحِيح (¬1). * * * ¬
كتاب القضاء
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ كتابُ القضاءِ هو بالمدِّ الولايةُ المعروفةِ، وجمعُه أقضية، كقباء وأقبية. وهو لغةً: بمعنى أحكامُ النبيِّ وإمضاؤه. وفي الشرع: فصلُ الخصومةِ بحكمِ اللَّهِ تعالَى. والأصلُ فيهِ قبلَ الإجماعِ قولُهُ تعالَى: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ}، {وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ}، {وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ} إلى غير ذلك من الآيات. ومن السنَّةِ ما رواه الصحيحان أنَّ رسولَ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجرانِ، وإن اجتهدَ فأخطأَ فله أجرٌ" (¬1). وإقامَةُ القاضي المحتاجُ إلى إقامتِهِ فرضُ عينٍ على الإمامِ، وقبولُ ولاية ¬
القضاءِ فرضُ كفايةٍ (¬1). ومَن تعيَّن عليه لزِمَهُ قبولُهُ إنْ قُلِّد، وطلبه إن لم يُعرف، أو لم يُبتَدَأْ بالتقليدِ، وإلَّا فإنْ كانَ غيرُهُ أصلحَ، وكانَ يتولَّاهُ فالمفضولُ المساوي للفاضلِ في مطلقِ الاجتهادِ أو التبحر عند تقليدِهما القبول على الأصحِّ. ويكرَهُ طلبه، وقيلَ يحرمُ، وإن كانَ مثله، فيندبُ له القبول، ويندبُ الطلب إن كانَ خاملًا يرجو به نشر العلم، أو محتاجًا إلى الرزقِ، أو كانَ ذلكَ الذي مثله في الاجتهادِ أو التقليدِ يرتكبُ في اجتهادِهِ وتقليدِهِ أمورًا. . . (¬2) يدركها. وقد يقوى الإيجابُ هنا، لا سيما إذا كانتْ تلكَ الأمورُ يُنقضُ القضاء فيها. ويندبُ الطلبُ أيضًا (¬3) إذا كان الذي هو مثلُهُ لا يقومُ بكفايةِ الناسِ في خصوماتِهم وأحوالِهم إلَّا بجُهدٍ وتعبٍ، وتكلُّفٍ، وربما تأخَّر بعضُ القضايا الكبيرة، فيندبُ الطلب على مَن يقومُ بالمصالحِ، بحيثُ يزولُ ما ذُكِرَ. وإن لم توجدْ واحدةٌ مما ذكر من صورِ النَّدبِ، فالأولَى تركُهُ، ولا يكرهُ حينئذٍ، خلافًا لما "المنهاجِ" (¬4)؛ لأنَّه ليس هناك متعينٌ، والداخلُ من الدين يَصْلُحون للقضاء مع اللعانِ في طلبِ القضاءِ داخلٌ في طلبِ فرض الكفايةِ، وذلك إنْ لم ينتهِ إلى الإيجابِ ولا إلى الندبِ، فلا أقل من انتفاء الكراهةِ. ومحلُّ ما تقدَّم من التفصيلِ إذا لم يَكُنْ هناكِ قاضٍ متولٍّ أهلٍ للقضاء غير ¬
ضابط
مستحق للعزلِ، فإن كانَ هناكَ من هوَ غيرُ مستحقٍّ للعزلِ، والطالبُ يرومُ عزلَهُ، فالطلبُ حرامٌ، والطالبُ مجروحٌ. ذكره الماورديُّ. وإنْ كانَ مستحقًّا للعزلِ، بجورٍ، أو جهلٍ، فهو كما لو لم يكنْ. وشرط قاضي المسلمينَ أو قاضي الناسِ بالإطلاقِ (¬1): أن يكونَ مُسلمًا، مكلَّفًا، حرًّا، ذكرًا، عدلًا، سميعًا، بصيرًا. إلَّا القاضِي الذي ينزلُ أهلُ القلعةِ على حُكمِهِ فلا يشترطُ أَنْ يكونَ بصيرًا. * ضابطٌ: ليسَ لنا أعجميٌّ يجوزُ إبتداء ولايته القضاء إلَّا هذا. ومن شروطِ القاضي: أَنْ يكونَ ناطقًا، كافيًا، مجتهدًا، وهو أَنْ يعرِفَ من القرآنِ والسُّنَّةِ ما يتعلَّقُ بالأحكامِ، وخاصِّه، وعامِّه، ومجملِهِ، ومبينِهِ، وناسخِهِ، ومنسوخِهِ، ومطلقِهِ ومقيدِهِ، وحقيقتِهِ ومجازِهِ، ومنطوقِهِ ومفهومِهِ، وظاهرِهِ، ومؤولِهِ، ومقتضياتِ الترجيحِ عندَ اختلافِ الأدلَّةِ، ومتواترِ السُّنَّةِ وغيره، والمتصلِ والمرسلِ، وحالِ الرواةِ قوَّةً وضعفًا، ولسانِ العربِ لغةً ونحوًا، وأقوالِ العلماءِ من الصحابَةِ فمن بعدَهم، إجماعًا، واختلافًا، والقياسِ بأنواعهِ (¬2). ويستثنى من المجتهدِ المتصفِ بما ذكرناهُ: الحاكمُ الذي ينزلُ أهلُ القلعَةِ على حُكمِهِ، فلا يشترطُ فيه ذلكَ، بل يكفي اهتداؤُه إلى طلبِ الصلاحِ، وما فيهِ النظرُ للمسلمينَ، وكذلك الذي يوليه الإمامُ القضاءَ في واقعةٍ معيَّنةٍ لا يشترطُ أن يكونَ بصفةِ الاجتهادِ المطلقِ، بل يكفيهِ أَنْ يكونَ عارفَ الحكمِ فيها بطريقِ الاجتهادِ المتعلِّق بتلك الواقعة، بناءً على أن الاجتهادَ ¬
يتجزَّأُ، وهو الأرجحُ. ومن شروطِ القاضي: أن يكونَ ممنْ تجوزُ شهادتُه، فمن لا تجوزُ شهادتُهُ من أهلِ البدعِ لا يجوزُ تقليدُه القضاءَ، ولا يجوزُ تقليدُ القضاءِ لمن لم يَقُل بالإجماعِ، أو لم يقل بأخبارِ الآحادِ، وكذا حكمُ نفاةِ القياسِ الذينَ لا يقولونَ بالاجتهادِ أصلًا، كالشيعةِ. وأن يكونَ غيرَ محجورٍ عليهِ بسفهٍ في المالِ. فإنْ تعذَّرَ المجتهدُ صحَّ توليةُ المقلِّدِ، وإن لم يتعذَّرْ وولَّى سلطانٌ له شوكةٌ مقلدًا مع وجودِ المجتهدِ، أو جاهلًا مع وجودِ عالمٍ، أو فاسقًا، نفذ قضاؤُه للضرورةِ. ولو ولَّى ذو الشوكَةِ عبدًا أو امرأةً أو أعمَى فيما يعرفه وينضبط له، نفذ قضاؤُهم للضرورةِ، كما قالَهُ شيخُنا، وقال: إنَّ قاضِي الضرورةِ إنما ينفذ قضاؤُه فيما وافقَ ما لا يُنقضُ القضاءُ به، ولكن لا يستحق. . . (¬1) على القضاءِ في بيتِ المالِ. وإذا زالتِ شوكةُ مَن ولَّاهُ انعزَلَ، ويُندبُ للإمامِ إذا ولَّى قاضيًا أن يأذَنَ له في الاستخلافِ في الطُّرق، وهو الموضعُ الذي يتعسَّرُ على الأصلِ الحُكمُ فيه، أو يتعذَّرُ، كما قيَّده الشافعيُّ بذلك، وهو المعتمدُ، فإن نهاهُ ولم يستخلفْ ولاية صحيحة إن كانَ يمكنُه القيامُ بما فوَّضه إليه، وإن لم يمكنْهُ القيامُ بذلكَ، فلا تصحُّ هذه التولية، إن كان عدمُ الإمكانِ لاتساعِ العملِ كمِصْرَينِ متباعدين مثلِ البصرةِ وبغداد، وإن كان عدمُ الإمكانِ لكثرَةِ الخُصومَاتِ صحَّتِ الولايَةُ، ويأتِي بما يُمكنُهُ، ويلزمُهُ أن يُعلِمَ الإمامَ عندَ كثرَةِ ¬
الخُصومَاتِ بالحالِ، ليأذَنَ له في الاستخلافِ، أو يقيمَ مَن يقومُ بذلك. وإن أطلقَ التوليةَ استخلفَ فيما لا يقدرُ عليه لا غيره في الأصحِّ. وشرطُ المستخلِفِ كالقاضي إلَّا أن يستخلفَ في أمرٍ خاصٍّ كسماعِ بينةٍ، فيكفي علمه بما يتعلَّقُ به، ولا تشترطُ رتبةُ الاجتهادِ فيه، ويحكم باجتهادِه أو اجتهادِ مقلدِهِ، إن كان مقلدًا (¬1). ولا يجوزُ أن يشرطَ عليه خلافُ ذلك، فلو قلَّدَهُ بشرط أن يقضي بمذهب غيرِهِ بطلَ التقليدُ. ولو حكمَ خصمانِ يجوزُ تحكيمُهما وحدَهُما رجلًا أو رجلينِ في غيرِ العقوبةِ المتمحضة للَّهِ تعالَى، وكانَ المحكِّمُ في تلكَ العقوبَةِ مستقلًّا، أو حكمتِ المرأةُ التي يلي تزويجها من له الحكمُ، وحكمَ خاطبُ الحر الرشيد في النِّكاحِ جازَ بشرطِ أهليةِ القضاءِ، ولكن لا يتناولُ حكمُهُ استيفاءَ القصاصِ، ولا استيفاءَ حدَّ القذفِ، ولا استيفاء التعزيرِ المختص بحقِّ الآدميِّ، ولا الحبس. وفي قول: لا يجوزُ إلَّا إذا كانَ أحدُ المحكمينَ الإمامُ، والآخرُ ينازِعهُ في الإمامَةِ، فإنَّه يجوزُ التحكيمُ قولًا، وإلَّا إذا خلى الزمان عن قيام الإمامِ بأحكامِ الإسلامِ، فهذا ينفذُ فيه أمر المحكم قطعًا. وينبغي هُنا أن يستوفي العقوبات المتعلِّقَة بالآدميينَ، وتحبس بأصولهم، وإلَّا إذا وقعتْ للإمامِ منازعةٌ فيما يتعلَّقُ بشيءٍ من المالِ، أو نحو ذلكَ من المنازَعاتِ الخاصَّةِ، كما جرَى لأميرِ المؤمنينَ عمر بن الخطَّابِ رضي اللَّهُ عنهُ مع أبيِّ بنِ كعبٍ رضي اللَّه عنهُ، فحكَّمَ زيدَ بنَ ثابتٍ رضي اللَّه عنه، وكما جرَى لأمير المؤمنينَ عثمان بن عفَّانَ رضي اللَّه عنه مع جبيرِ بن مطعمٍ رضي اللَّه عنه، فلا يجزئ مثل ذلك المنع. ¬
وفي وجهٍ: يشترطُ عدمُ قاضٍ بالبلدِ، وهذا في غيرِ الصُّورِ المقدمة التي يجوزُ فيها التحكيم قطعًا. وفي طريقٍ يختصُّ بمالٍ دونَ غيرِهِ، ولا ينفذ حكمُهُ إلَّا على راضٍ، والبينةُ في ذلك استمرارها على التحكيم السابقِ بحيثُ لا يظهرُ ما ينافيه إلى أن يفرغ المحكم من حكمِهِ، ولا يعتبرُ إظهارُ الرِّضا به وقتَ الحكم. ولا يكفي تحكيمُ القاتلِ الذي ثبتَ قتلُهُ بالبيِّنةِ أو بالقسامةِ عندَ المحكم في إلزام عاقلتِهِ المنكرينَ بالديةِ. وإذا رجعَ أحدُهما قبلَ الحكمِ امتنعَ الحكم، ولا يشترطُ الرضا بعد الحكم على الأظهرِ. وأمَّا النازلونَ من القلعةِ على حكمِ الحاكمِ، فإنَّه إذا حَكمَ بأمرٍ لم يُحتَجْ إلى رضاهُم بعد الحكمِ قطعًا. ويستثنى من الخلاف أيضًا: اللعان؛ فإنَّه لا يشترطُ الرِّضا بعد صدورِ اللعانِ من الزوجِ قطعًا. وإذا حكَمَ المحكمُ أشهدَ محكمةً في المجلسِ الذي حكمَ فيه قبل التفرُّقِ؛ لأنَّ قولَه لا يقبلُ عليهما بعدَ الافتراقِ، كما لا يقبلُ قولُ الحاكمِ بعد العزلِ. ولو نصَّبَ الإمامُ أو القاضِي الذي لهُ الاستخلافِ قاضيينِ (¬1) أو أكثرَ بقدرِ الحاجةِ، وخصَّصَ كلًّا منهما بمكانٍ، حكمًا وطلبًا، جازَ، وكذا إن لم يخص، وكانا أصلين على المنصوص، فإن جعلَ أحدَهُما أصلًا والآخرُ خليفةً عنه، جاز قطعًا، فإن شرط اجتماعهما على الحكمِ صحَّت التوليةُ ولغى الشرطُ على الأصحِّ. ¬
فصل
فصل إذا جُنَّ القاضي، أو أغميَ عليهِ (¬1)، أو ذهبتْ أهليَّةُ اجتهادِهِ وضبطِه لغفلةٍ أو بيان أو عمًى انعزلَ، ويستثنى من العزلِ بالعمَى ما إذا سمعَ البينةَ وهو بصيرٌ، وقبلَ البينةَ واستوفى الشروط، ولم يبقَ إلَّا قولُه حكمت، أو ثبتَ عنده بطريقٍ غيرَ البينةِ ألْحِقَ، ولم يبقَ إلَّا الحكمُ به. والصورةُ أنَّ الحكمَ لا يحتاجُ إلى إشارةٍ، فإنَّهُ إذا حكم بعد عماهُ فيما صُوِّر نفذ حكمُهُ على الأصحِّ، كما قاله شيخُنا؛ لأنَّ العمى إنَّما يمنعُ الحكمَ لاحتياجِه إلى البصرِ في كثيرٍ من الأحوالِ، وما نحنُ فيه لا يحتاجُ إلى ذلك، وإذا فسقَ القاضِي فالصوابُ الذي يقتضيهُ كلامُ الشافعيِّ وأصحابِهِ كما قالَ شيخُنا: القطعُ بالانعزالِ بالفسقِ المنافِي لابتداءِ الولايةِ. فإن زالتْ هذه الأحوالُ لم تعدْ ولايتُهُ (¬2)، إلَّا في المرضِ المانعِ من الاجتهادِ من غيرِ. . . (¬3) إغماء، فإنه وإن لم ينفذ حكمه فيه، لكنه إذا كان. . . (¬4) الزوال فإنه لا ينعزلُ، فإذا زالَ المانعُ فالولايةُ مستمرَّةٌ قطعًا، وللإمامِ. . . (¬5) فوض إليه الإمام عزل قاض في ولايته خلل، ويكفي في الظهورِ غلبة الظنِّ باستفاضةٍ أو قرائن ونحو ذلك، إذا كانَ غيرَ مشهورٍ فإنْ لم يكنْ مَن يصلح للقضاءِ غيرُه لم يجزْ عزلُهُ بمجردِ ظهورِ الخللِ الذي يقتضي انعزالُه، ولا بتحقيق الخللِ الذي لا يقتضي انعزاله، وهذا لا توقُّف فيه، ولو لم يظهر الخلل، وهناك ¬
صالح، نظر إن كان أفضل منه جازَ عزلُهُ، وإن كان مثلَهُ أو دونه، وكان في العزل مصلحةُ كتسكين فتنة ونحوها جاز عزلُهُ، وإلَّا فلا. لكن ينفذ العزلُ (¬1) حيث لم يكنْ المتولِّي متعينًا أو لم يكن، ولكن عزله بمن هو دونه، فلا ينفذ حينئذٍ، والمذهبُ أنَّه لا ينعزلُ قبل بلوغِه خبرَ عزلِه، إذا لم يكنْ متعينًا، كأن كان متعينًا لم ينعزل، وإن بلغه خبر عزلِهِ وغير المتعينِ إذا بلغه خبر عزلِه وله نوابٌ لم يبلغْهم خبرُ عزلِ أصلِهم، وكانُوا ممنْ ينعزلونَ بعزلِهِ لا ينعزلُون حتى يبلغهم خبر عزلِه. وتبقَى ولايتُهُ مستمرَّةً حكمًا، وإن كانَ لا ينفذُ حكمُهُ، ويستحقُّ ما رتِّبَ على الولايةِ التي يحصلُ بها سدُّ الوظيفةِ، حتى يبلغَ نوابَهُ خبرُ عزلِهِ. ولو انعكستِ المسألة بأنْ بلغَ النائبُ خبرَ عزلَ أصلِهِ، ولم يبلغْ أصله ذلك، قال شيخُنا: فالقياسُ أنَّ النائبَ لا ينعزلُ حتَّى يبلغَ أصلَهُ خبرُ العزلِ، وينفذُ حكمُه كما ينفذُ حكم أصلِه. ولم أرَ مَن تعرَّضَ لذلك. انتهى. وإذا كتبَ الإمامُ إليه إذا قرأتَ كتابِي فأنتَ معزولٌ، فتأمَّلهُ، وهو ممن يحسنُ القراءةَ انعزلَ، وإن كانَ أُمِّيًّا فقرئ عليه انعزلَ قطعًا، وكذا إن كتبَ إليه الكتابَ بالعبرانيِّ وهو لا يُحسنُهُ، ويحسنُ العربيَّ، وإن لم يكنْ أُميًّا فلا ينعزلُ إذا قرئَ عليهِ، خلافًا لما صحَّحه في "المنهاجِ" (¬2)، تبعًا لأصلِه. وينعزلُ بموتِ القاضي، وانعزالُه من أذن لَهُ في شغل معين كبيعِ مال ميت ليس له يتيم، والأصحُّ عدم انعزال نائبه المطلق إن لم يؤذنْ له في الاستخلافِ أو قيل لهُ: "استخلفْ عن نفسِكَ، أو أطلق"، خلافًا لمن صحَّح خلافَ ذلك، فإن قيلَ له: "استخلفْ عنِّي" فلا ينعزلُ قطعًا، ولا ينعزلُ قاضٍ بموتِ الإمامِ، ¬
ولا بانعزالهِ، وحكى الماورديُّ وجهًا، أنَّ القضاةَ ينعزلونَ بموتِ الإمامِ، واستثنى شيخُنا من أن القاضي لا ينعزلُ بموتِ الإمامِ الذي أقامَهُ قاضيًا ليحكم بين الإمامِ وبين خصمائِه، فإنَّه ينعزلُ بموتِ الإمامِ لزوالِ المعنى المقتضَى لذلك. ولا ينعزلُ ناظرُ وقفٍ من جهةِ القاضِي، ولا ناظرُ يتيمٍ بموتِ قاضٍ على الأصحِّ، إلَّا إذا شرطَ الواقفُ النظرَ لقاضِي البلدةِ فلان، فأقامَ عنهُ ناظرًا ثم ماتَ القاضي، فإنَّهُ ينعزلُ الناظرُ الذي أقامَهُ من جهتِهِ. ولا يقبلُ قولُهُ بعدَ انعزالِهِ: "حكمتُ بكذا"، إلَّا إذا انعزلَ بالعمَى، فإنَّه يقبلُ قولُهُ بعدَ عماهُ "حكمتُ بكذا"، لأنَّهُ إنَّما انعزلَ بالعمَى فيما يحتاج إلى الإبصارِ، وقوله: "حكمتُ بكذا" لا يحتاج إلى إبصارِ. فيقبلُ قولُهُ لبقاءِ ولايتِهِ فيه. ولا يقتصر عدمُ القبولِ على "حكمتُ"، بل يتعدَّى أيضًا إلى قولِهِ: "لست حكمت بكذا"، فلا يقبلُ منهُ، ولا يقبلُ منهُ: "ثبتَ عندي كذا"، ولا "عقدتُ عقد النكاح على فلانة لفلان"، ولا "بعتُ كذا على فلانٍ"؛ لأنَّه كان تحت حجري من جهة الحكم أو كان ممتنعًا من وفاء الدين، نعم لو قال: "صرفت مال الوقف بجهته العامة" قُبِلَ منه ذلك، ولو قال: "صرف في عمارتِهِ كذا" مما يقتضيهِ الحالُ؛ فإنَّهُ يقبلُ منهُ ذلك. ولو قالَ: "المالُ الذي في يد الأمين سلمته إليهِ زمنَ قضائي، وهو لزيدٍ" وصدَّقه الأمينُ على أنَّه تسلَّمهُ منه، وادعَى أنه لعمرٍو، فالقولُ قولُ القاضي بلا يمينٍ، ولا يغرمُ الأمينُ لعمرٍو شيئًا على الأرجحِ. ولو لم يصدقه الأمينُ في تَسَلُّمِه فالقولُ قولُ الأمينِ، ولو شهدَ مع آخرَ بحكمِهِ لم يُقبلْ على الصحيحِ، أو يحكم حاكم جائز الحكم قُبلتْ على الأصحِّ إذا لم يعلم القاضي أنَّه شهد على فِعْلِ نفسِهِ، فإن علم فلا فرقَ بين
فصل
المطلقِ والمضافِ. وإذا ادعَى شخصٌ على معزولٍ أنَّه أخذَ مالَهُ رشوةً أو أخذَ منهُ مالًا بِشهادة عبدين أو غيرهما مما لا تقبلُ شهادتُه ودفعه إلى فلانٍ الذي قامتْ له عنه لا تقبل أحضره أو وكَّله، وفصل الخصومةِ بينهما، وإن قال: حكم على شهادة من لا تقبلُ شهادتُهُ ولم يذكرْ مالًا أخذَهُ منهُ ودفعَهُ لخصمِهِ، أحضر أو وكيله على الأصحِّ. وقيلَ: لا يحضرُهُ حتَّى تقومَ بينةٌ بدعواهُ، وإذا حضرَ وأنكرَ صدق بلا يمينٍ على الأصحِّ. وإذا ادَّعى على قاضٍ جور لم يحضره إلى أن يقومَ عنهُ بما يدعيه المدَّعِي المذكور، فإن شكي إلى الإمامِ ورأى إحضارَهُ أحضرَهُ؛ لأنَّ إحضارَ الإمامِ له ليسَ نقصًا في حقِّهِ. وكذا نائبُ الإمامِ العامِّ، فأمَّا قاضٍ مثلُهُ فليسَ له ذلكَ إلَّا إذا اشتُهِرَ جورُ ذلكَ القاضي، فيستغني بذاكَ على البينةِ، وإذا قامتِ البينةُ فحضَرَ القاضي وأوقع الطالبُ عليه الدَّعوى فأجابَ بالإنكارِ، وتعذَّرَتِ إقامةُ البينةِ فلا يحلفُ القاضِي، وإن لم يتعلَّق بحكم حكم بينهما خليفته أو غيرِه لفصلِ الخصومةِ. * * * فصل يستحبُّ (¬1) للإمامِ ولقاضي الإقليمِ أَنْ يكتُبَ كلٌّ منهما ولايةَ العملِ لمن يولِّيه القضاءَ بما فوَّضهُ إليه، وما يشترطُهُ عليه، وإن أرادَ أن يشهدَ بالكتابِ شاهدًا واحدًا للإخبارِ بذلكَ فلَهُ ذلكَ؛ لأنَّ المدارَ على الإخبارِ لا على ¬
قواعدِ الشَّهادةِ. وتكفي الاستفاضَةُ على الأصحِّ، ومجردُ الكتابِ على المنصوصِ، مع قولِ المتولِّي، وظهورِ مخايلِ الصِّدقِ على المذهبِ. ويبحثُ القاضي عن حالِ علماءِ البلدِ وعدُولِهِ، ويدخلُ يومَ الاثنينِ، فإن تعسَّرَ يومُ الاثنينِ فالخميسُ، وإلَّا فالسَّبتُ، ويستحبُّ أن يكونَ دخولُهُ صبيحةَ النهارِ، وينزلُ وسطَ البلدِ، وينظرُ أولًا في أهلِ الحبسِ، إن لم يكنْ هناك أمرٌ أهمَّ من المحبوسينَ. فإن كانَ هناكَ أمرٌ أهمَّ من النَّظرِ في المحبوسينَ قدَّمه عليهم، فمن ذلك المحاجيرُ الجائعونَ الذين يجب نظره (¬1)، وما أشرفَ على هلاكٍ من الحيواناتِ في التركاتِ وغيرِها، وما أشرفَ من الأوقافِ وأملاكِ محاجيرهِ على السُّقوطِ، بحيثُ يتعيَّنُ الفورُ فيهِ بتدارُكٍ، ونحوَ ذلكَ (¬2). وذكرَ الماورديُّ وغيرُهُ (¬3) أنَّ أولَى الأشياءِ التي يفعلها القاضي بعد قراءَةِ تقليدِهِ قيل: النظرُ في المحبسينِ، وغيرهم، وتَسَلُّمُ (¬4) المحاضرِ والسجلاتِ من القاضِي المنصرفِ، ليحفَظَ على أصحابِها، وكذا تسلُّم أموالِ الأيتامِ والضوال والوقوف (¬5). وما ذكرنا نحنُ تبعًا لشيخنا أهمُّ وأولَى. وإذا نظرَ في أهلِ الحبسِ فمن اعترفَ أنَّه حُبسَ بحقٍّ أمضى الحكمَ عليهِ، ¬
ولو كانَ الحقُّ تعزيرًا ورأى القاضِي إطلاقَهُ فلَهُ ذلكَ، كما جزَمَ به الغزاليُّ، قال الرافعيُّ: وسكتَ المعظم عنه، ولو بانتْ جنايتُهُ عند الثاني وأراد إدامة حبسه فالقياسُ الجواز (¬1). انتهى. وقد جزمَ الماورديُّ والرويانيُّ بما قالَه الغزاليُّ. وإن لم يستكمل مدَّةَ حبسِهِ مع بقاء نظرِ الأوَّلِ؛ لأنَّ القاضي الثاني لا يُعزر لذنبٍ كانَ مع غيرِهِ لكن لا يطلق حتى ينادي عليه، لاحتمالِ أنَّه حبسَ لخصمٍ أنكره، ويحلفه عليه، وإن قال المحبوسُ: "حبستُ ظلمًا" فعلى خصمِه حجة، ويُصَدَّق بيمينه. كذا جزَمَ به في "الروضة" (¬2) تبعًا للشرحِ. قال شيخُنا: وهذا الذي جزَما بهِ عندنا ممنوعٌ؛ فإنَّ المحبوسَ إذا قالَ: حبسني الحاكمُ المنصرفُ ظلمًا فقدِ اعترفَ بحبسٍ صدرَ من الحاكِمِ، وادَّعى أنَّ الحاكمَ ظلمَهُ فيهِ، وخصمُهُ يدَّعي أنَّ الحاكمَ حبسَهُ بحقَّه الذي له عليه، فالظاهرُ أنَّ حبسَ الحاكمِ يكونُ على الوجهِ المعتبرِ بالمحبوسِ حينئذٍ هو المدَّعِي، وخصمه هو المُدَّعَى عليه، فالقولُ قولُ خصمِهِ بيمينِهِ، ولا يكلَّفُ خصمُه الحجَّةَ؛ لأنَّ معهُ حجَّةً سابقةً، قدِ اعترفَ المحبوسُ بها، وهي أنَّ الحاكمَ حبسَهُ. وقد جزمَ الفوارنيُّ بأنَّه لا يقبلُ قولُهُ، وأصابَ في ذلكَ، وكذا ذكرَ الماورديُّ في "الحاوي" (¬3) أنَّ دعوَى المحبوسِ أنَّ الحاكمَ حبسَهُ ¬
بغيرِ حقٍّ، ولغيرِ خصمٍ مخالفةٌ للظاهرِ من أحوالِ القضاةِ، وحبسهُ حكمٌ فلا ينقض إلَّا بيقينِ الفسادِ، والعمل على بيِّنةٍ إنْ كانتْ، فإنْ شهدتْ أنَّه حبسَ بحقٍّ عُزِّرَ في جرحِهِ لحابِسِهِ، أو ظلمًا نادى ثلاثًا في حضورِ خصمٍ إن كانَ لهُ، وأطلق بعدَ الثلاثِ إنْ لم يحضرْ، وإن لم تَقُمْ بينةٌ بأحدِ الأمرينِ أعادَهُ إلى حبسِهِ، ويكشفُ عن حالِه، فمَن كانَ مقيمًا في حبسِهِ حتَّى ييأسَ القاضِي بعد الكشفِ منْ ظُهورِ حقٍّ عليه، وطالبَهُ بكفيلٍ، ثم أطلقَهُ، فإنْ قيلَ فالكفالَةُ في النفسِ لا تصحُّ إلَّا فيمن ثبتَ عليه حقٌّ. قِيلَ الحبسُ من جملةِ الحقوقِ، فإن عدم كفيلًا استظهرَ في بقاءِ حبسِهِ على طلب كفيلٍ، ثم أطلقَهُ عندَ إعوازهِ، وهو غايةُ ما يقدرُ عليه القاضِي من استظهارِهِ (¬1). فإنْ كانَ غائبًا، وهو في غيرِ محلِّ ولايتِهِ، فلا يحضرُه، وإن كانَ في ولايتِهِ وهناكَ نائبٌ لم يحضرْه، بل يكتبُ إليه بما جرَى ليسمعَ جوابَ الخصمِ، وإن لم يكُن هناكَ فيحضرهُ من مسافَةِ العدوى (¬2) فقط، إذا أقامَ المحبوسُ بينةً على ما يدَّعيهِ من الظُّلمِ. ثم ينظرُ القاضِي في الأوصياءِ، فمن ادَّعى وصايةً سألَ عنها، فإن أقام بينةً بأنَّ القاضي المعزولَ نفذَ وصايتَهُ وأطلقَ تصرُّفَهُ سألَ عن حالِهِ وتصرُّفِه، فمن وجدَهُ فاسقًا أو شكَّ في عدالتِهِ أخذَ منهُ المالَ، وإن كانَ أمينًا عضَّدَهُ بمعين (¬3). ¬
ويتخذ دِرَّةً أو سوطًا للتأديبِ، وسجنًا لأداء حقٍّ ولتعزيرٍ، وينبغي أن يكونَ له مزكُّونَ وأصحاب مسائل، فالمُزَكُّون هم الذينَ يبعثُهم إلى المُزَكِّينَ ليبحثُوا ويسألُوا، وكاتبًا (¬1). شرطُهُم صفةُ الشهودِ، وينبغي أَنْ يكونَ الكاتبُ عارفًا بكتابةِ محاضرَ وسجلاتٍ، ويستحبُّ فقهٌ ووفورُ عقلٍ، وجودَةُ خطٍّ. ويتخذُ مترجمًا، وشرطُهُ عدالةٌ وحريةٌ، وعددٌ إن كانتِ الترجمةُ عن الدَّعوى مطلقًا أو عن الإنكارِ، أو عن الإقرارِ بغيرِ المالِ، ولا تثبتُ حينئذٍ برجلٍ وامرأتينِ، بل لا بدَّ من عدلينِ (¬2) وإن كانتِ الترجمةُ عنِ الإقرارِ بالمالِ تثبتُ برجلٍ وامرأتينِ، والأصحُّ جوازُ ترجمة أعمَى إن كانَ أهلُ المجلسِ سكوتًا، فإنْ كانَ هناكَ كلامٌ، واحتملَ حصولُ الإلباسِ بذلك فلا تقبلُ شهادتُهُ بالترجمةِ قطعًا. ويشترطُ العددُ في استماعِ القاضِي الذي به صممٌ على الأصحِّ، فإن كانَ القاضِي والخصمانِ صمًّا اشترطَ العددُ في إسماعِهم قطعًا (¬3). ويستحبُّ أَنْ يكونَ مجلسَهُ فسيحًا بارزًا مصونًا من أذى حرٍّ وبردٍ، لائقًا بالوقتِ والقضاء (¬4). ويكرهُ اتخاذُ المسجدِ مجلسًا للقضاءِ، ولا بأسَ في فصلِ ما يعرض وتغليظ يمينٍ به. ¬
ويكرهُ أَنْ يقضي في حالِ غضبٍ وجوعٍ وشبعٍ مفرطينِ، وكلِّ حالٍ يحيلُ به فكره (¬1) وإذا كانَ الغضبُ يخرجُهُ عن طريقِ الاستقامةِ حرمَ عليهِ القضاءُ في هذه الحالةِ. وإذا احتدَّ احتدادًا لا يمنعُه من الاسْتدادِ (¬2)، وكانَ احتدادُه ذلك للَّهِ تعالى فلا كراهةَ في هذه الحالَةِ. ويستحبُّ أَنْ يُشاورَ الفقهاءَ (¬3)، وأنْ لا يبيعَ ويشترِي بنفسِهِ إذا أمكنَهُ أَنْ يفعلَ ذلكَ غيرُهُ، فإن لم يمكنْهُ ذلكَ وتعاطاهُ بنفسِهِ لم يكنْ مخالفًا للندبِ، ولكن لا يتعاطاهُ في مجلسِ الحُكمِ (¬4). ولا يكونُ لهُ وكيلٌ معروفٌ. فإنْ أهدى إليهِ مَن له خصومة أو لم يهد له قبلَ ولايتِه حرمَ عليه قبولها، ولا يحصلُ له فيها ملأ إن قبلهَا على الأصحِّ. ومَن أهدى إليهِ في غير محلِّ ولايتِهِ ولا خصومةَ له، فلا يحرُمُ قبولُها. وإن كانَ يُهدي قبل ولايته، ولا خصومة له جازَ بقدرِ العادةِ (¬5)، فإنْ زادَ زيادةً تتميز عن المعتادِ حرمَ قبولُ الزيادةِ، وإن كانتِ الزيادَةُ لا تتميزُ فالكلُّ حرامٌ، ولا يجوزُ أَنْ يقبلَ من ذلكَ شيئًا. والأولى أن يُثبتَ على ما يجوزُ له قبوله (¬6). ¬
ولا ينفذُ حكمُهُ لنفسِهِ ولا عليها (¬1)، أمَّا الأوَّلُ فللتهمةِ، وأما الثانِي فلئلَّا يؤدِّي إلى اتحادِ الحاكمِ والمحكومِ عليه، والحاكمُ لا بدَّ أن يكونَ غيرَ المحكومِ عليه، وتستثنَى صورٌ تتضمنُ حكمُه فيه الحكمَ لنفسِه وهو نافذ: الأولى: إذا حكمَ لمن هو تحتَ نظرِهِ بجهةِ الحكمِ من يتيمٍ، ومجنونٍ، وسفيهٍ بالمالِ، فإنَّه ينفَّذُ، وإن تضمَّن ذلكَ أنهُ يستولي على المالِ. الثانيةُ: وصي اليتيم يتولَّى القضاءَ في بلدِ إقامةِ اليتيمِ، فيسمعُ البينةَ ويحكمُ لليتيمِ بالمالِ على الأصحِّ في "الروضة" تبعًا للشرحِ. ورجَّح شيخُنا المنعَ تبعًا لابن الحداد، والقاضي أبي الطيب، وعليه لا استثناء. الثالثةُ: الأوقافُ التي تحتَ نظر الحاكمِ بجهةِ الحكم، يقضِي فيها بالمالِ على مَن عليه من مستأجرٍ وغيرهِ. الرابعةُ: ناظرُ وقفٍ خاصٍّ تولَّى الحكم، إذا رُفعتْ إليهِ قضيَّةٌ تتعلَّقُ بالوقفِ الذي هو ناظرُهُ، ففي حكمِهِ ذلك الخلافُ السابقُ في صورةِ الوصيِّ على اليتيم يتولَّى الحكمَ ببلدِ اليتيم. الخامسةُ: الأوقافُ التي فيها شرطُ النَّظرِ للحاكِمِ، أو انقطَعَ فيها شرطُ النَّاظرِ الخاصِّ، وصارَ النظرُ بجهةِ الحكمِ للحاكِمِ أَنْ يحكمَ بِصِحَّتِها وموجبها، وإن كانَ يتضمَّنُ ذلك الحكمُ لنفسِهِ في الاستيلاءِ والتصرُّفِ. السادسةُ: إذا ماتَ مَن لا وارثَ لَهُ أو لهُ من الورثةِ مَن لا يستغرقُ ماله، وارتفعتْ للإمامِ قضيتُه أو قضية تتعلقُ بأملاكِ بيتِ المالِ، فإنَّهُ يحكمُ في ذلكَ كلِّهِ، وإنْ كانَ يصرفُ إليهِ في جامِكيَّتِهِ ونحو ذلكَ والتُّهمةُ هنا أبعدُ منهُ في الذي قبله ولا ينفذ حكمه لرقيقه (¬2). ¬
ويستثنى من ذلك صور
ويستثنى من ذلك صورٌ: أحدها: إذا وجبَ لرقيقِهِ شيءٌ قبلَ أن يكونَ رقيقًا، بأنْ جنَى مسلمٌ أو ذميٌّ أو معاهدٌ على حرٍّ ذميٍّ أو معاهدٍ بقطعِ طرفه، ثم نقضَ المجنيُّ عليه العهد، والتحقَ بدارِ الحربِ، ثم استرقَّ، ووصلَ ملكه إلى حاكمٍ فادَّعى عند الحاكمِ المذكورِ على الجاني الذي جنَى عليهِ بالجنايةِ الصَّادِرَةِ في حالِ حريَّتِهِ، فإنَّ الحاكم المذكور يسمع الدعوى، ويحكمُ على الجاني بالبيِّنةِ، أو بإقرارِهِ بما يقتضيه الحالُ. قال شيخُنا: وإنما جوزنا له ذلك؛ لأن المدعي بالنسبة إلى الجناية المذكورَةِ كحرٍّ أو عبدِ غيرِهِ، ومجردُ كونِهِ مالكًا لا يمنعُ الحكمَ في هذه الصُّورَةِ، وأطالَ شيخُنا الكلامَ على ذلكَ في تصحيح "المنهاجِ". الثانيةُ: العبدُ الموصَى بإعتاقِهِ الخارج من الثُّلثِ إذا قلنا إنَّ كسْبَهُ له دونَ الوارث، وكان الوارثُ حاكمًا فادَّعى العبدُ عندَهُ فإنَّه تسمع دعواه، ويُحكم لهُ، فإنَّه لا حقَّ لَهُ في الكسبِ واحتمالِ أن يموتَ، فينتقلُ له بعيد لا يمنعُ من الحكمِ، وهكذا المنذورُ إعتاقُه، وهي صورةٌ ثالثةٌ. * * * ولا ينفذُ حكمُهُ لشريكِهِ في المشتركِ، إلَّا إذا حُكمَ له في المشتركِ بشاهدٍ ويمينه، فإنَّه يجوزُ أن يحكمَ حينئذٍ، ولا يشاركُه فيه شريكه، ولا ينفذُ حكمُهُ لأصلِهِ ولا فرعِهِ على النصِّ (¬1)، إلَّا في الصُّورِ التي ينفذ حكمه فيها لنفسهِ، فإنَّه ينفذُ حكمُهُ فيها لهما، ويحكمُ له ولهؤلاءِ الإمامُ أو قاضٍ آخر، أو نائبِهِ على الصحيحِ، أو المحكم، ولا يحكم على عدوِّه، والمدارُ على أنَّ القاضيَ يقضي لمن يشهدُ لَهُ، وعلى من يشهدُ عليهِ. ¬
وإذا أقرَّ المدعى عليهِ أو نكَلَ (¬1) فحلفَ المدَّعي، أو أقام بينة وسأل القاضي أن يشهدَ على إقرارِه عنده أو يمينه، أو الحكم بما ثبتَ والشهادةَ بهِ لزمَهُ، وإن سأل المدعى عليه القاضي الإشهاد بمالِهِ في مصلحةٍ فإن حلفه المدعي فسأل المدعى عليه القاضي في الإشهادِ بما جرى ليكونَ حجةً له، فلا يطالبه مرة أخرى بالحلف لزمه إجابته. وإن سأل المدعي القاضي أن يكتبَ له محضرًا بما جرَى من غيرِ حكمٍ، أو سجلًا بما حكمَ استحبَّ إجابتُهُ، وقيل: يجبُ إذا كانَ هناكَ قرطاسٌ من بيتِ المالِ، أو أتى الطالبُ به، أو تبرَّعَ به متبرِّعٌ، وإلَّا فلا يأتي وجه الإيجابُ. ويُستحبُّ كتابةُ نسختين: إحداهما له، والأخرَى تحفَظُ في ديوانِ الحكمِ. وإذا حكمَ بنصٍّ ثم بانَ أنَّه منسوخٌ كانَ منقوضًا، وكذا لو حكَمَ بعمومِ نصٍّ ثُمَّ بانَ أن تلكَ الصورةَ المحكومَ فيها بمقتضَى العمومِ خُصَّتْ بدليلٍ، فإنَّهُ منقوضٌ أيضًا، وكذا لو حكَمَ بالاجتهادِ، ثمَّ بانَ خلافُهُ بنصِّ كتابٍ أو سُنَّةٍ أو إجماعٍ أو قياسٍ جليٍّ، وكذا إذا خالفَ عمومَ كتابٍ أو سنَّةٍ كانَ قضاؤهُ منقوضًا من غيرَ احتياجٍ إلى نقضٍ لكونِهِ ومعَ فِي نفسِهِ غيرَ معتبَرٍ. ويلزمُ القاضي تعريفُ الخصمينِ صورةَ الحالِ ليترافعَا إليِهِ فيُنقضُ الحُكمُ، وإنْ عَلِمَا أنَّهُ بانَ له الخطأُ على الصَّحيحِ، هذا في حقُوقِ الآدميينَ، أمَّا ما يتعلَّقُ بحدودِ اللَّهِ تعالَى، فيبادِرُ إلى تدارُكِهِ إذا بانَ له الخطأُ (¬2). وأمَّا الأبضاعُ، فإذا حكَمَ القاضي بنكاحٍ ثم بانِ له الخطأ فيهِ بواحدٍ من الطُّرقِ المذكورةِ التي يتبيَّنُ بِهَا أنَّ حُكمَهُ صدرَ باطلًا لزمَهُ المبادَرَةُ إلى التفريقِ بينَ الزوجينِ (¬3). ¬
وحكمُ القاضِي الإنشاء، كفسخِ النِّكاحِ، بطريقٍ من الطُّرقِ المسوغةِ، كذلكَ إنْ ترتَّبَ على أصلٍ صادقٍ ولم يكنْ في محلِّ اختلافِ المجتهدينَ فإنَّه ينفذُ ظاهرًا وباطنًا قطعًا، وإن كانَ هذا الإنشاء المترتبُ على أصلٍ صادقٍ في محلِّ اختلافِ المجتهدينَ نفذَ ظاهرًا، وكذا باطنًا على الأصحِّ، وإن ترتَّبَ على أصلٍ كاذبٍ لم ينفذ باطنًا. وإن لم يكنْ حُكمُ القاضي إنشاء، وإنما هو تنفيذٌ لما قامتْ بهِ الحُجَّةُ وكانتِ الحُجَّةُ موافقة لما في الباطنِ نفذَ ظاهرًا وباطنًا. وإن لم يكنْ موافقةً لما في الباطِنِ فإنَّه ينفذُ ظاهرًا لا باطنًا (¬1). ولا يقضِي بما يعلمُ خلافَهُ، لكنْ لو أقرَّ الخصمُ عندَ القاضِي بدينٍ قد علمَ القاضِي أنَّ المقرَّ له أبرَأَهُ وكانَ ذلكَ الإبراءُ بحضورِ المقرِّ، وذكَّرَهُ القاضِي بهِ أو بغيرِ حضورِهِ وعَرَّفهُ القاضِي بالإبراءِ، فقالَ المقرُّ: أعرفُ ما صدرَ منهُ من الإبراءِ، ومع ذلكَ فدينُهُ باقٍ عليَّ، فإنَّ القاضِي يقضِي على المقرِّ بما أقرَّ بِه. وإنْ كانَ على خلافِ ما علِمَهُ القاضِي؛ لأنَّ الخصمَ قد أقرَّ بما يرفعُ علمَ القاضِي (¬2). ولو رأى الحاكمُ شخصًا يزنِي، وعلم زناهُ، وقذَفَهُ شخصٌ، وثبتَ عندَ القاضِي أنَّه قذفَهُ القذفَ الموجبَ للحدِّ وطلبَ المقذوفُ من القاضِي أن يحدَّ القاذِفَ. قال شيخُنا: فالذي أجبتُ فيها أنَّ الحاكمَ يُجيبُهُ لذلكَ؛ لأنَّ القاذِفَ إذا لم يأتِ بالشهداء كاذبٌ في حكمِ اللَّهِ تعالى، فيمامُ عليه الحدُّ، وحدودُ اللَّهِ لا يقضي فيها بعلمِهِ، فيقضي فيها بخلافِ علمِهِ. كذا استثني هاتينِ الصُّورتينِ شيخُنا، وقال: إنَّه لم يرَ مَن تعَرَّضَ لهُما. وينبغي أَنْ يكونَ المرادُ هُنا بالعلمِ ما هو الأعمُّ من المستيقَنِ والظَّنِّ ¬
المؤكَّد، وآخرُ كلامِ الرَّافعيِّ يقتضي قصره على الثاني، وأظهَرُ الأقوالِ أنَّه يقضي بعلمِهِ إلَّا في عقوبةِ اللَّهِ تعالى، ويستثنى ما علمه من جهةِ التواتُرِ الظَّاهِرِ، فإنَّه يقضي فيه بعلمِهِ على الطريقةِ المقطوعِ بها، وكذلكَ الجرحُ والتَّعديلُ فإنَّه يقضِي به على الطريقةِ المقطوعِ بِها. وإذا ظَهَرَ للقاضِي من الخصمِ في مجلسِ الحُكم (¬1) ما يقتضي تعزيرًا عزَّرَهُ، وهذا من القضاءِ بالعلمِ، وليسَ كما لو أقرَّ؛ لأنَّ الإقرارَ مستند الحكمِ. وإذا صَدَرَ منهُ ما يُوجبُ الحدَّ في مجلسِ الحُكم على رءوسِ الأشهادِ فإنَّهُ يُقيمُ عليه الحدَّ كما إذا ارتدَّ في مجلسِ الحُكمِ، فإنَّ القاضِي يحكُمُ عليهِ مستندًا لإصرارِهِ على الرِّدَّةِ بعد استتابتهِ بضربِ عنقِهِ. وكذا لو شَرِبَ الخمرَ في مجلسِ الحُكمِ، أو زنا، وكذا إذا اعترَفَ على مَن عليه الحدُّ بالحدِّ ولم يرجعْ عَن إقرارِهِ، فإنَّ القاضِي يقضي فيه بعلمِهِ سواء اعترفَ بحضرةِ الناس أم اعترفَ سرًّا. وإذا علمَ القاضِي من مكلَّفٍ أنَّه أسلمَ وظهرَ منهُ الرِّدَّةُ فقد أفتى شيخُنا بأنَّ القاضِي يقضِي بعلمِهِ بالإسلامِ، فإنْ أسلَمَ الرجلُ فذاكَ، ويؤمرُ بقضاءِ ما فاتَ من الصلواتِ المفروضاتِ في زمنِ الرِّدَّةِ المذكورةِ، ويفرَّقُ بينَهُ وبينَ زوجَتِهِ التي لم يدخُلْ بِهَا، وكذا التي دخلَ بها إن انقضَتْ عدَّتُها في زمانِ ردَّتِهِ، ولو ماتَ له قريبٌ أو عتيقٌ أو زوجةٌ فلا ميراثَ لَهُ من واحدٍ من هؤلاءِ. وإن لم يسلمْ وأصرَّ على الكُفرِ فيضربُ عنقُهُ بقضاءِ القاضِي بعلمه بإسلامِهِ، وذلك يقتضي بإظهارِ الكُفرِ أنَّه مرتدٌّ، فيقتلُ بكفرِهِ مترتبًا على حُكمِ القاضِي بعلمِهِ بإسلامِهِ. ¬
وإذا رأى ورقةً فيه حكمُهُ أو شهادتُهُ، أو شهد شاهدانِ أنَّك حكمتَ بكذَا أو شهدتَ بكذا يعملْ بِهِ، ولم يشهدْ حتَّى يتذكَّرَ هذا في حقِّ غيرِهِ، أما في حقِّ نفسِهِ فيجوزُ أن يعملَ به، وإن لم يتذكَّرْ. فإذا رأَى ورقةً فيها حكمُهُ بعينٍ في يدِ شخصٍ، أو دينٍ على شخصٍ لأخيهِ، أو لعتيقِهِ، أولغيرهما، ممن ينفذُ حكمهُ لهُ، وماتَ المحكومُ لَهُ وورثَهُ الحاكمُ، ووجد العينَ في يدِ ذلكَ الشَّخصِ فطالبَهُ بها فأنكرَ وردَّ اليمينَ على الوارثِ الحاكمِ، فإنَّهُ يسوغُ لهُ أن يحلفَ بمقتضَى ما وجدَهُ من حكمِهِ، وكذلك لو طالب المديونَ بالدَّينِ فأنكرَ ونكَلَ عنِ اليمينِ، وردها على المدعي. وكذلكَ لو أقامَ شاهدًا بذلكَ، فإنَّه يجوزُ أن يحلفَ معه في الصورتينِ، ولا يختصُّ ذلكَ بمن ورثَهُ، بل لو حكمَ لشخصٍ أجنبيٍّ بذلك، واشترى منهُ العينَ أو أحالَهُ بالدينِ، فإنَّه يأتِي فيه ما تقدَّم من الحلفِ عندَ النُّكولِ، ورد اليمينِ وعند شهادةِ الشَّاهدِ (¬1). وكذلكَ إذا شهِدَ شاهدَانِ أنَّكَ حكمتَ بكذا أو شهدتَ بكذا، فإنَّه يجوزُ أن يحلفَ كما تقدَّمَ؛ لأنَّه أقوى من مجردِ وجودِ الورقةِ المتضمِّنة لما ذكرَ، ولَهُ الحلفُ على استحقاق حقٍّ أو أدائِه اعتمادًا على خطِّ مورثِه أو خطِّ نفسِهِ، والظنُّ المؤكَّد الحاصل من نكولِ الخصمِ، أو شهادةِ الشاهدِ الواحدِ كافٍ في ذلكَ من غير احتياجٍ إلى الخطِّ (¬2). وتجوزُ روايةُ الحديثِ بخطٍّ محفوظٍ عندَهُ الأصح (¬3)، قاله شيخُنا، وكذا غير محفوظٍ بالمعتمدِ عندَ العلماء قديمًا، وحديثًا العملُ بما يوجدُ من ¬
فصل
السَّماعِ أو الإجازَةِ تفريعًا على جوازِها مكتوبًا في الطباقِ التي يغلبُ على الظِّنِّ صحتها، وإن لم يتذكَّرِ السماعَ ولا الإجازَةِ، ولم تكنِ الطبقةُ محفوظة عندَه (¬1). * * * فصل تجبُ التسويةُ بين الخصمين (¬2) في الدُّخولِ عليه إذا جاءا معًا، ولم يكنْ للمدَّعي إلَّا خصمٌ واحدٌ، وقيام لهما إذا كانَا مستويينِ، فإن كانَ أحدُهما ممن يعتادُ القاضي القيامَ لهُ، والآخرُ لا يعتادُ القاضي القيامَ لَهُ فينبغي تركُ القيامِ. * * * . . . (¬3) وجه واستماع لهما، وجوابٌ وسلامٌ إنْ سلَّمَا معًا، فإن سلَّم واحدٌ ولم يسلِّمِ الآخرُ صبَرَ حتَّى يُسلمَ الآخرُ، فإن لم يُسلِّمْ فلا بأسَ أَنْ يَقولَ لَهُ: "سلِّمْ"، فإذا سلَّم أجابَهما. ويجلسُ، فيجلسهما بين يديهِ، والأصحُّ رفع مسلمٍ على ذميٍّ فيما تقدَّم، وإذا جلسا فلَهُ أن يسكتَ، وله أن يقولَ: "ليتكَّلمَ المُدَّعِي منكما" حيثُ لم يكن كلٌّ منهما مدعيًا ومدَّعى عليه. فإن كانَا كذلكَ قال لَهُما تكلَّما، وإن سكتا عن تعبٍ ونحوِهِ أمهلَ عليهما حتَّى يزولَ ما بهما. والأولى للقاضي أن يسكتَ، ويكونَ القائلُ لهما ذلكَ مَن يُقيمُهُ القاضِي ¬
لهذا الأمرِ ونحوِهِ، وهو الذِي يُطلقُ عليهِ نقيب القاضي. فإذا ادَّعى المُدَّعِي وقال للقاضي: "سَلْهُ جوابَ دعوايَ". طالبَ القاضِي خصمَهُ بالجوابِ، فإنْ أقرَّ بالمدعَى، فللمدعي أَنْ يطلبَ من القاضي الحُكمَ عليه، وحينئذٍ يحكمُ بأنْ يقولَ: "اخرجْ من حقِّه" أو "ألزمتُك" وما أشبههما، وإن أنكَرَ فالأولى للمدَّعِي ألكَ بينة إن تردَّد في أن المدعي عالمٌ بالحكم، أو لم يعلم، وإن علمَ أن المدعِي عالمٌ بالحكمِ فالأولَى أن يسكتَ، وإن علمَ أنَّه جاهلٌ بأنَّ هذا موضِعُ البينةِ وجبَ الإعلامُ بما يُزيلُ جهلَهُ. وإن كانَ ذلكَ الشيءٌ مما يثبتُ بالشَّاهدِ واليمينِ، والقاضِي يعلمُ جهلَ المُدَّعِي بالاكتفاءِ بذلكَ، فيجبُ عليه أن يقولُ: "ألكَ بينةٌ أو شاهدٌ مع يمينك" وإن تردد استُحِبَّ أن يعلمَهُ بذلكَ، وإن كانَ اليمينُ في جانبِ المدَّعِي كما في الدَّعوى بالقتلِ في محلِّ اللوثِ الثابتِ، فإنَّ القاضِي عند إنكارِ المدَّعَى عليه القتلَ خاصّة وهو معترفٌ بأنَّه كانَ مع القومِ الذينَ تفرَّقُوا عنهُ يقول: للمدَّعِي الحلف خمسين يمينًا أنَّ هذا قتلَ مورِّثَكَ على حسبِ ما وقعتِ الدَّعوى به. ومن هذه المادَّةِ ما إذا ادَّعى على زوجتِهِ أنَّها زَنَتْ، فأنكرتِ الزِّنا، فيقولُ لَهُ القاضِي: "أتلاعِنُها؟ " ولا يقولُ: "ألكَ بينةٌ؟ ". وإنِ ادَّعى القاذِفُ أنَّ المقذوفَ زنَا، فأنكَرَ المقذوفُ فيندَبُ للقاضي أن يبينَ لَهُ الحالَ من أوَّلِ الأمرِ تغليظًا عليهِ، فيقولُ لَهُ: "ألَكَ أربعةٌ من الشُّهودِ يشهدُونَ بالمعاينةِ؟ " لعلَّه أن يرجعَ عمَّا ادعاهُ. ولو قالَ له: "ألكَ شاهدَان يشهدانِ على إقرارِهِ بالزِّنا؟ " جازَ. وإذا قالَ المدَّعِي: "لي بينةٌ، وأريدُ تحليفَهُ" فله ذلك إذا كانَ يدَّعي لنفسه وهو حرٌّ رشيدٌ مطلقُ التَّصرُّفِ، أو "لا بينةَ" لي قبلتْ في الأصحِّ إذا كانَ قائلُ ذلكَ ممن يؤاخذُ بإقرارِهِ، وأن لا يذكر
تأويلًا لقوله: "لا بينة لي" فإن كانَ محجورًا عليه بالسَّفهِ ثم أحضرَ بينته قُبلتْ قطعًا، وإن ذكرَ الذي يؤاخذُ بإقرارِهِ تأويلًا لقوله بأن قالَ: "كنتُ ناسيًا أو جاهلًا بها" فتقبل بينته قطعًا. وأمَّا الوليُّ أو الوكيلُ إذا قالَا ذلكَ، ثم أحضرَا البينةَ، فإنَّها تقبلُ قطعًا؛ لأنهما وإن كانَا يؤاخذانِ بإقرارِهما إلَّا أنَّ إقرارَهما لا يؤثِّرُ في حقِّ الأصلِ. وإذا ازدحمِ خصومٌ قُدِّمَ الأسبقُ وجوبًا، وهو المدعي وخصمه، فإن كانَ السابقُ كافرًا فلا يقدِّمُهُ قاضي المسلمينَ على المسلمين. قالَ شيخُنا: وهذا لا يُوقف فيه، ولم أرَ من تعرَّضَ له. ومحلُّ الوجوبِ إذا تعيَّنَ على القاضي فَصْلُ الخصوماتِ، فإن لم يتعيَّن عليه ذلك قدَّم مَن شاء. وإذا لم يكنْ لَهُ رزقٌ من بيتِ المالِ، وقال للخصمينِ: "لا أقضِي بينكما حتَّى تجعلَا لي رزقًا"، فجعلَا لَهُ رزقًا، جازَ. وقضيةُ هذا أنَّ لَهُ تقديمَ مَن جعَلَ لَهُ الرزقَ، وإنْ كانَ مسبوقًا، فإنْ جهلَ أو جاءوا معًا أقرَعَ حيثُ لم يكثرُوا، فإن كثرُوا بحيثُ تتعذَّرُ القرعةُ، فإنَّه يُثبتُ اسمَ كلِّ واحدٍ منهم في رقعةٍ مفردَةٍ ويطويهَا بينَ يديهِ، ثم يُخرجُ رقعةً رقعةً ويرتِّبُهُم على ما تخرجُ بهِ رقاعُهم، ولو غطَّاهَا كانَ أولَى. ويجوزُ تقديمُ مسافرينَ مستوفزِينَ ونسوةٍ، ون تأخروا، وكذلكَ يقدَّمُ المريضُ المسبوقُ الذي يستضرُّ بالصبر إن كانَ مطلوبًا، ولا يقدِّمُهُ إذا كانَ طالبًا. ولا يُقدَّمُ سابقٌ وقارعٌ إلَّا بدعوى واحدةٍ، وأمَّا المقدَّم بالسفرِ فإن كانت دعاويه قليلةً أو خفيفةً بحيثُ لا يضرُّ بالباقينَ إضرارًا بيِّنًا قُدم بجميعها، وإلَّا فيقدَّمُ بواحدةٍ.
ويحرمُ اتخاذُ شهودٍ مُعَيَّنين لا يُقبل غيرهم، وإذا شهدَ شهودٌ فعرفَ ما يقتضي قبولَ شهادتِهم أو ما يردُّ شهادتهم عمل به، وإلَّا وجب الاستزكا، والواجبُ أن يطلبَ بيان عدالة الشاهدِ عندهُ، لترتُّبِ الحكمِ على شهادَتِهِ بالطريقِ المعتبر عندهُ، وسواء طلب إنسان بكتابة ما يتميزُ به الشاهد أو بغيرها، وكذَا ماَ شهدَ بِهِ على النصِّ، ويبعثُ به إلى (¬1) المزكِّي، ثم المزكِّي يُشافِهُ القاضي بما عنده، ولا يُقبلُ تعديلُ المعدِّل إلا من اثنين، ولا المسألةُ عنه إلَّا من اثنينِ، وشرطُ المزكِّي كشاهدٍ، مع معرفة الجرح والتعديلِ، وخبرة باطن مَن يعدِّله لصحبةٍ أو جوارٍ أو معاملةٍ، وأن لا يكون من أهلِ الأهواءِ، والعصبيةِ، والمماطلةِ للنَّاسِ، يعني اللجاج، ولا يشترطُ في أصحابِ المسائلِ الخبرةُ الباطنةُ، والأصحُّ اشتراطُ لفظِ الشهادَةِ، ولا يقبلُ التعديلُ إلَّا بأنْ يقولُ المعدِّلُ: "هو عدلٌ عليَّ وليٌّ". على المنصوصِ. ويجبُ ذكرُ سببِ الجرحِ إذا لم يقتضِ الحالُ إيجابَ حدَّ القذفِ، فإنِ اقتضى الحال ذلك لنقصانِ النِّصابِ فإنَّهُ لاَ يجبُ على الشاهدِ ذكرُ السببِ. وقد ذكَرَ الماورديُّ أنَّ أصحابَ المسائلِ إذا لم تكملْ شهادتُهم لا يصيرونَ بِها قذفة، وأنَّ الجيرانَ إذا لم تكملْ شهادتُهم يصيرونَ بها قذفة؛ لأنَّ أصحابَ المسائلِ ندبُوا للإخبارِ بما سَمِعوا، ولم يندبِ الجيرانُ إليهِ، وهو حسنٌ. ويعتمدُ فيه المعاينة، أو الاستفاضَةُ في غيرِ أصحابِ المسائلِ، فأمَّا أصحابُ المسائلِ فإنَّهم لا يعتمدونَ المعاينةَ ولا الاستفاضَة، وإنما يعتمدُون ما يقولُهُ لهم المسئولُون المذكورون والمسئولونَ هم الذينَ يعتمدونَ المعاينةَ أو الاستفاضَةِ. وقد يسمعُ أصحابُ المسائِلِ الجرحَ من جَمْعٍ يبعدُ اتفاقُهُم على الكذبِ، ¬
فيكونُ من معتمدهم أيضًا الاستفاضةُ إن اتُّفقَ ذلكَ، ولكنَّه لا يتعيَّنُ ولا يغني عنِ التَّعديل اعترافُ الخصمِ بعدالتهم ودعواهُ خطئهم في جوازِ الحُكمِ عليهِ على الأصحِّ إذا كانَ المدعى عليهِ أهلًا للإقرارِ بالحقِّ المدَّعَى به، فإن لم يكنْ أهلًا لذلكَ لكونِهِ وكيلًا أو سفيهًا أو عبدًا فلا أثرَ لقولِهِ قطعًا، ولا حاجَةَ لقولِهِ، وقد غلطَ، بل اعترافُه بعدالتِهِ يجري في الحكمِ عليهِ بشهادتِهِ الوجهانِ، وإنْ لم يقلْ غلط. * * *
فصل في القضاء على الغائب المكلف والمفقود والميت، والصبي والمجنون، والجماعة العامة، والحاضر الممتنع من الحضور، وسماع البينة على من ذكر، والقضاء بالغائب وسماع البينة به، وكتاب القاضي إلى القاضي، وما يتعلق بذلك
فصل في القضاء على الغائب المكلف والمفقود والميت، والصبي والمجنون، والجماعة العامَّة، والحاضر الممتنع من الحضور، وسماع البينة على من ذكر، والقضاء بالغائب وسماع البينة به، وكتاب القاضي إلى القاضي، وما يتعلق بذلك القضاءُ على الغائبِ المكلَّفِ ولو حربيًّا ببلادِ الحربِ فيما لزمَهُ جائز إلَّا في صورتينِ: إحداهما: حدودُ اللَّهِ تعالى، على الأشهرِ. الثانيةُ: القضاءُ بإحضارهِ الغائِب الذي ثبتَ زناهُ على مُقتضَى ما نُقلِ عنِ ابنِ القاضِي في الشَّهادَةِ على الشَّهادَةِ، وهو قويٌّ معتمدٌ لما في القضاءِ بذلكَ من الإعانَةِ على قتلِهِ الذي يمتنعُ القضاءُ بهِ على الغائبِ. * ضابطٌ: تخالفُ حدودُ اللَّهِ تعالى غيرَها في القضاءِ على المفتي به في ثلاثةِ مواضع: إحداها: ما نحنُ فيهِ. الثاني: يمتنع فيهَا القضاءُ بالعلمِ. الثالثُ: يمتنعُ فيها القضاءُ بالتحكيم. ويمتنع فيها كتابُ القاضِي إلى القاضِي بسماعِ البينةِ، كما يمتنعُ فيها الشهادةُ على الشَّهادَةِ على الأظهَرِ. ويجيء في إحصانِ منْ سترناهُ في المواضعِ المذكووَةِ ما جاءَ في حدودِ اللَّهِ تعالَى. والغيبةُ المعتبرةُ لسماعِ الدَّعوَى على الغائبِ والبينةِ عليهِ، والقضاءِ عليه، لا نصَّ في تحديدها للشافعيِّ رضي اللَّه عنه، بل نصوصُهُ مطلقةٌ في ذلك من
غيرِ تقييدٍ، وهذا هُو المذهبُ المعتمدُ، كما قالَ شيخُنا، ولذلكَ لم يشترطِ العراقيونَ حدًّا لها، والشرطُ عندهم كونُه خارجَ البلدِ، فإذا لم يكنْ في ولايةِ القاضِي فالقضاءُ على إطلاقِهِ، وإن كان في ولايتِهِ فيحتملُ أن يعتدَّ بما إذا يلزمه حضورُ جمعة البلد، كما في غيبة وليِّ النكاحِ، ويحتملُ الإطلاقُ لئلَّا يتعطَّلَ القضاءُ لصاحبِ الحقِّ بغيبةِ المدَّعَى عليه. وأمَّا النكاحُ فهو مما يعظَّم أمرُهُ، فقيِّدَ بذلكَ على رأي. وأمَّا المراوزةُ فكلامُ جَمْعٍ منهم يقتضي موافقةَ العراقيين، واعتبرَ بعضُهم أن تكونَ الغيبةَ فوقَ العدوى، من غير اعتبارِ مسافة القصرِ على المرجَّحِ عندهم، وهذا إذَا كانَ في محلِّ ولايةِ القاضِي، فإن لم يكن في محلِّ ولايتِهِ جازَ القضاءُ عليه قربتِ المسافَةُ أم بعدتْ، وتوجيهُهُم يقتضيه. والعدوى هي التي يتمكَّنُ المبكَر إليها من مسكنِهِ من الرجوعِ إليه أوَّل الليلِ، على عادَةِ الأسفارِ، ومن قالَ قبلَ الليلِ أرادَ ذلك، واعتبرَ ذلكَ المراوزةُ؛ لأنَّ في إحضارِهِ مِن فوقِها مفارقةَ الأهلِ ليلًا، وعلي هذا فينبغي أن يعتبرَ معَ ذلكَ قضاءُ حاجتِهِ المتيسرةِ الموجودَةِ في البلدِ، فإن كانتِ المحاكمةُ لا يفرغُ منها إلَّا في وقتٍ لا يتمكَّنُ من العودِ إلى أهلِهِ ليلًا فحينئذٍ يقضى عليه في غيبتِهِ؛ لأنَّه لا يلزمُهُ الحضورُ حينئذٍ. وحيث تيسَّرتِ الحاجةُ، وأمكنَ العودُ ليلًا على العادَةِ فلا يكفي مجرَّدُ الفوقيةِ، بل لا بدَّ من فوقيةٍ يتعذَرُ معها العودُ إلى أهله ليلًا على العادةِ بضابطٍ يعتبر فوق العدوى، على ما تقرَّرَ في ثلاثةِ مواضعَ: أحدها: هنا على طريقِ بعض المراوزةِ بقيدِهِ. الثاني: في الشَّهادَةِ على الشهادَةِ، وما وقع في "المنهاجِ" في هذا من اعتبارِ العدوى وَهْمٌ، وليس في "المحرر".
الثالثُ: في كتابِ القاضِي إلى القاضِي من غيرِ حكمٍ. وليس مِن شرطِ صحَّةِ الدعوى على الغائبِ أن تكونَ للمدَّعِي بينةٌ خِلافًا لما في "الروضة" تبعًا للشرحِ، ولا أن يدَّعي جُحودَهُ، ويكفي الإطلاقُ. فإن قالَ: "هو مقرٌّ" لم تسمع بينتُه إلَّا في خمسةِ مواضِعَ: أحدُها: أن يكونَ الغائبَ لا يُقبَلُ إقرارُه لسفهٍ ونحوِهِ. الثاني: أن لا يكونَ إقرارُهُ مؤثِّرًا في المقصدِ الذي قامتْ به البينةُ، كمفلسٍ ادعي عليه دينُ معاملةٍ بعد الحجرِ، فإنَّه لا يمنع من سماعِ دعواهُ، ولا بينته بالمعاملة قوله: "هو مقرٌّ"، لأنَّ إقرارَهُ لا يؤثِّرُ فيما يقصد بالبينةِ الشاهدةِ بالمعاملةِ من المضاربَةِ، وكذلك لو قالَ الغائبُ: "هذه العينُ لزيدٍ، بل لعَمْرٍو"، ويريدُ الحاضرُ إقامةَ البينة على أنها لَهُ، فإنَّه لا يمنعُ من ذلك. قوله: "وهو مقر لي بذلكَ"، قال شيخنا: ويجيء في الرهنِ والجنايَةِ، ولم أرَ من تعرَّضَ لذلكَ. الثالثُ: أَنْ يقولَ: هو مقرٌّ، ولستُ آمنُ جحودَهُ، فإنَّ الأرجحَ عندَ شيخِنا أنَّ القاضِيَ يسمعُ دعواه وبينتَهُ ويقضي بها، قال: وكذلك لو قالَ: هو مقرٌّ ممتنعٌ من تسليمِ حقِّي، فإنَّ المعتمدَ عندي السماعُ. الرابعُ: إذا كانَ للغائبِ مالٌ حاضرٌ، وأرادَ المدعي الوفاءَ منهُ، فإنَّ القاضِي يسمعُ الدَّعوَى والبينةَ، وإن قالَ: "هو مقرٌّ" وفاقًا لفتوى القفَّالِ. الخامسُ: إذا كانتِ بينةُ المدعي شاهدةً بالإقرارِ، فإنَّه لا بدَّ أن يدَّعي بما تشهدُ به البينةُ، فيقولُ: "أقرَّ لِي". ومقتضَى هذا دوامُ إقرارِهِ. * * * ولا يلزمُ القاضِي نصبُ مُسَخَّرٍ ينكرُ على الغائبِ، بل لا يجوزُ؛ لأنَّهُ كذبٌ
إذا كانَ الواقعُ خلافَ ذلكَ (¬1). وإذا ادَّعى دينًا مما يجبُ وفاؤُه، أو عينًا هي في يدِ المدَّعى عليه، أو حقًّا من الحقوقِ المتعلِّقَةِ بالمدَّعى عليه، مما يتوجَّهُ للمدعي على الغائبِ في ذلك استحقاقٌ ناجزٌ، فإنَّهُ تُسمعُ الدعوى والبينةُ. ولو ادَّعى عفوه عنِ الشُّفعةِ المستحقَّةِ له على الحاضرِ، أو أنَّه قبَضَ دينَهُ الفلاني عليَّ، أو أبرأني منهُ، وقال: لست آمنَ أَنْ ينكرَ. لم يسمعِ القاضي بينتَهُ. ذكرَهُ الماورديُّ (¬2)، وهو متجهٌ، وحيثُ قلنا لا تسمعُ بينتُهُ فلا تسمعُ دعواهُ. ثم إنْ أرادَ المدَّعِي من الحاكِمِ حُكمًا بما ثبتَ له إجابةٌ سواءٌ كان للغائبِ المحكومِ عليه مالٌ حاضرٌ، أم لمْ يكنْ، ويجبُ أن يحلِّفَهُ بعد قيامِ البينةِ الكاملةِ وتعديلها، فإنْ كانَ المُدَّعى به مما يثبتُ بشاهدٍ ويمينٍ، فإنَّ هذا التحليفَ يكونُ بعد شهادَةِ الشاهدِ وبعدَ الحلفِ معَ الشاهدِ، فيحلفُ حينئذٍ أنَّ الحقَّ ثابتٌ في ذمَّتِهِ، وأنَّه يجبُ تسليمُهُ إليَّ، وإن كانَ الحقُ عينًا فلا يحلفُ فيها على ذلكَ، بل يحلفُ على ما لوِ ادَّعاهُ الغائبُ في العينِ، وطلب حَلِفَ المُدَّعي يجابُ إليهِ، ويتعرَّضُ الحاكمُ لما يتعلَّقُ بالبينةِ، مما لوِ ادَّعاهُ الغائبُ وطلَبَ حَلِفَ المُدَّعي بذلك يُجابُ إليه احتياطًا للغائبِ. وهذا التَّحليفُ واجبٌ على الأرجحِ، وقيلَ: مستحبٌّ، ومحلُّهُ حيثُ لم يكنِ للغائبِ وكيلٌ، فإن كانَ لَهُ وكيلٌ فلا يجبُ على القاضِي أن يحلفَ المُدَّعي اليمين المذكورَةَ ولا يستحبُّ له ذلكَ، وطلبُ الحلفِ حينئذٍ من وظيفةِ الوكيلِ، فإنْ لم يكُنْ وكيلًا في طلبِ الحلفِ جاءَ الخلافُ المذكورُ. ¬
ومن ادَّعى على صبىٍّ أو مجنونٍ أو مفقودٍ أو ميتٍ، ولا نائبَ لهم فإذا أقام بينته حلفَ وجوبًا على أصحِّ الطريقينِ، وقيل فيه وجهان: أصحهما هذا، والثاني: أنَّ التحليفَ مستحبٌّ. وإذا ادَّعى وكيلُ الغائبِ على غائبٍ فلا بدَّ من حلفِ الغائبِ المدعي له قبل أن يقضِي القاضِي على الغائب، على المعتمدِ كما قاله شيخُنا، فيؤخَّرُ القضاءُ إلى أن يحضَ المدَّعى لَهُ، ويحلفُ، ولو حضرَ المدعَى عليه وقال لوكيلِ المدعي: "أبرأَنِي مُوكلُكَ"، وكانَ موكِّلُه غائبًا عنِ البلدِ دونَ العدوى، فؤمرُ بالتسليمِ، فلو طلبَ الحاضرُ من الوكيلِ أن يحلفَ على نفي العلمِ بأنَّ موكِّلَهُ لم يبرئهُ أو لم يستوفِ منهُ أو لم يعلمْ أنَّ موكِّلَهُ عزله ونحو ذلك مما لو اعترفَ به الوكيلُ لسقطتْ مطالبتُهُ، فإنَّ القاضِي يُجيبُهُ إلى ذلكَ، ويحلفُ الوكيلُ حينئذٍ. وإن ثبتَ مالٌ على غائبٍ، وله مالٌ حاضرٌ قضاهُ الحاكمُ منهُ إذا لم يقتضِ الحالُ إجبارَ الحاضرِ على دفعِ مقابله للغائب فإن كانَ كما في الزوجَةِ تدعي بصداقها الحال قبل الدخولِ على الغائبِ، وله مالٌ حاضرٌ فلا يوفيها القاضِي منهُ، لأن الزوجَ والزوجَةَ يُجبرانِ، وقضيةُ إجبارِهما امتناعُ قضاءِ الصداقِ من مالِ الغائبِ. ومثلُهُ لو كانَ البائعُ حاضرًا وادَّعَى بالثمنِ على المشتري الغائبِ، فإنَّه لا تسمعُ هذه الدَّعوى؛ لأنَّه لا يلزم الغائبَ تسليمه؛ لأن البائعَ يجبر على التسليمِ. ومما يُمنعُ الوفاءُ من ذلكَ المالُ الحاضِرُ الذي للغائبِ ما إذا كانَ هناكَ بائعٌ له لم يقبضْهُ الثمنَ، وطلبَ من الحاكمِ الحجرَ على المشتري الغائبِ، حيثُ استحقَّ البائعُ ذلك، فإنَّ القاضِيَ لا يوفِّي مدَّعِي الدينِ في المال
الحاضرِ، ويجيبُ طالبُ الحجرِ إلى مدعاهُ. ومما يُمنعُ الوفاءُ من ذلكَ المالِ الحاضرِ ما إذا تعلَّقَ بِهِ حقٌّ لازمٌ كأرشِ جنايةٍ متعلِّقَةٍ برقبة العبدِ، أو رهنٍ مقبوضٍ، ولم يفضلْ من ذلك المالِ شيءٌ لوفاءِ الدَّينِ المذكورِ، ولا بعضه، فلا يوفي القاضي منهُ الدَّينَ المذكورَ، ولا شيئًا منهُ، وحيثُ لم يوفَّ الدينُ من المالِ الحاضرِ، أو كانَ يمكنهُ الوفاءَ منهُ ولم يكنْ لَهُ مالٌ حاضرٌ، ولكن سأل المدعي إنهاءَ الحالِ إلى قاضِي بلدِ الغائبِ أجابَهُ، فيكتبُ له ما ثبتَ عندهُ، إمَّا بالبينةِ الكاملَةِ، أو بعلمِهِ وبالشاهدِ واليمينِ، وقد يكتبُ بالبينةِ الكاملةِ ولم يثبت عندهُ لعدمِ التعديلِ، بخلافِ الشاهد واليمينِ فإنَّه لا يحلفُ المدعي إلَّا بعدَ تعديلِ الشاهدِ. ويستحبُّ كتابٌ يُذكر فيه ما يتميزُ به الغائبُ وصاحبُ الحقِّ، ويختمُهُ ويشهدُ الشاهدَانِ بما جرَى عندَ القاضِي من الثبوتِ أو الحكمِ، فإذا انتهى الكتابُ أحضرَ منَ يزعمُ حامل الكتابِ أنَّه المشهودُ عليهِ، فإن أقرَّ فذاكَ، وإلَّا شهدَ الشاهدانِ بمَا جرَى عندَ القاضِي الكاتب. فإنْ قالَ: لستُ المسمَّي في الكتابِ صُدِّقَ بيمينِهِ، وعلى المدعي بيِّنَةٌ بأنَّ هذا المكتوبَ اسمُهُ، ونسبه، فإن أقامَها فقال: لستُ المحكومَ عليه، لزمهُ الحكمُ إن لم يكنْ هناكَ مَن يشارِكُهُ في الاسمِ والصفاتِ، إذا كانَ حيًّا أو ميتًا بعد صدورِ ما جرى في الكتابِ أو قبلَهُ، ولم يظهرْ في أمرِ المدَّعِي به ونحوه مَا لا يمكنُ صدوره معَ الميتِ. فإنْ كانَ هناكَ مشارِكٌ لَهُ فيما ذُكِرَ أحضِرَ، فإنِ اعترفَ بالحقِّ طُولِبَ به، وتركَ الأوَّلُ، وإلَّا فلا بدَّ من حكمٍ مستأنفٍ على الموصوفِ بالصفَةِ الزائدَةِ المميزَةِ لَهُ، ويكتبُ الكاتبُ ذلك. ثانيًا: قال شيخُنا: ولا يحتاج إلى تجديد دعوى ولا حلفٍ، وإنما يحتاج
إلى حكم على ما قررناهُ. ولم أرَ مَن تعرَّضَ لذلك. وإذا حضرَ قاضِي بلدِ الغائبِ ببلدِ الحاكمِ فشافههُ بحكمِهِ فهو شاهدٌ على الحكمِ، وذاكَ لا يحصلُ به العلمُ المُجوِّزُ للقضاءِ؛ لأنَّ القاضِي في غيرِ محلِّ ولايتِهِ كالمعزولِ، ولو ناداهُ في طرفي ولايتهما ففي إمضائِهِ الخلافُ في القضاءِ بالعلمِ. قال شيخُنا: وهذا أولي بتخريجِهِ على القضاءِ بالعلمِ دونَ ما ذكرَ في الصورةِ قبلَهُ لما قدَّمناه، ولنا أَنْ نمنعَ التخريجَ في هذه أيضًا؛ لأنَّ إخبارَ الحاكمِ في طرفِ ولايتِهِ للحاكمِ في طرفِ ولايتِهِ لم تكملْ فيه ولايةُ كلٍّ منهما في الموضعينِ، وإذا لمْ تكمُلْ ولايةُ كلٍّ منهما في الموضعينِ، فالحاصلُ للحاكمِ السامعِ مجردُ علمٍ، لو سلمَ ذلك فيكونُ أحقَّ بالتخريجِ على القضاءِ بالعلمِ من التصويرِ قبلَهُ، ولِمانعٍ أن يمنعَ التخريجَ المذكور؛ لأنَّ المستندَ لم يسمعْهُ ممن هو في محلِّ ولايتِه، فأشبَه ما لو شهدَ الشهودُ وهم في غيرِ ولايتِهِ، وهو في طرفِ ولايتِهِ سامعٌ لما شهدِ الشُّهودُ بهِ. انتهى. ولو اجتمعا في محلِّ ولايتهما، وشافَهَ أحدُهما الآخرَ بحكمٍ حكم به أمضاهُ، وإن اقتصرَ الحاكمُ على سماعِ بينةٍ، كتبَ: "سمعتُ بينةً على فلانٍ". ويسميها إن لم يعدِّلْها، وإلَّا فالأصحُّ منعُ تركِ التسميةِ، بل قد نقلَهُ الإمامُ عن إجماعِ الأصحابِ. وسماعُ البينةِ لا يُقبلُ على المنصوصِ إلَّا في مسافَةِ قبولِ شهادَةٍ على شهادَةٍ إذا سمع البينةَ وأثبت ما قامتْ بهِ، فأمَّا لو سمعَ البينةَ ولم يثبتْ ما قامتْ به فلا يقبلُ إلَّا في مسافةٍ تقبلُ فيها شهادَةٌ على شهادَةٍ بلا خلافٍ. * * *
فرع
فرع: ادَّعى عينًا غائبةً عن البلدِ يؤمَنُ اشتباهها، كعقارٍ وعبدٍ وفرسٍ، سمع البينةَ وحكمَ بها، وكتبَ إلى قاضِي بلدِ المالِ، ليسلِّمَهُ للمدعِي، ويعتمدُ في عقارٍ غير مشهورٍ حدودُهُ، ولا بدَّ أن تستقصَى فيه الصِّفاتُ المحصِّلَةِ للعلمِ، أو لا يؤمنُ، فالأظهرُ سماعُ البينةِ، ومحلُّ الخلافِ ما إذا لم يعلمِ القاضِي العينَ التي شهدَ بِهَا الشُّهودُ، وأن لا تكونَ البينةُ شاهدةً بملكِ العينِ من غيرِ أن تشهدَ على إقرارِ المستولِي على العينِ بأنَّ العينَ التي هي تحتَ يدي من صفتِها كذا ملك لفلانٍ، فإنَّ البينةَ إذا قامتْ عند القاضِي قضى بها جزمًا، ويبالغ المدَّعي في الوصفِ، ويذكرُ القيمةَ في غيرِ النَّقدِ، ويُعتبرُ في النقدِ ذكر الجنسِ والنَّوعِ والقدرِ والصحَّة والتكسيرِ، ولا حاجةَ إلى ذِكْرِ القيمةِ، كما قالَ شيخُنا، خلافًا لما في "المنهاجِ" من الإطلاقِ، وأنَّه لا يحكمُ بالبينةِ، بل يكتبُ إلى قاضِي بلدِ المالِ بما شهدتْ به، فأخذَهُ ويبعثه إلى الكاتبِ ليشهدُوا على عينه. والأظهرُ أنّه يُسلِّمُه إلى المدعي بكفيلٍ ببدنهِ على الأرجَحِ، فإن كانتْ جاريةً فالأصحُّ أنَّه يُسلِّمُها إلى أمينٍ في الرفقةِ لا إلى المدعي، وإذا لم يظهر أنَّه للمدعي في صورةِ العينِ الغائبةِ عن البلدِ لزمَ المدعي مؤنةَ الإحضارِ، والردَّ، وأجرَةُ المثلِ مدَّةَ تعطِيلِ المنافِعِ إذا تلفَ يلزمُهُ ضمانُ بدلِهِ. وإنِ ادَّعى عينًا غائبةً عنِ المجلسِ لا البلدِ، أمرَ بإحضارِ ما يُمكنُ إحضارُهُ لتقعَ الدَّعوى على العينِ المشخَّصةِ، ثم تقامُ البينةُ عندَ الإنكارِ عليها، هذا إذا كانَ الذي يمكنُ إحضارُهُ يعرفُهُ المدعِي والشهودُ ويشخصُّه المدعي، فإن لم يكن كذلك بأن كانتِ الدَّعوى في ثيابٍ مشتبهةٍ كالنصافي والبعلبكي وغير ذلك مما لا يعرفُه المدعي، فلا يؤمرُ المدعَى عليهِ بإحضارِ شيءٍ؛ لأنَّ
المدَّعي لم يشخِّص شيئًا، والمدعَى عليهِ منكرٌ. ولا تُسمع شهادةٌ بصفةٍ هنا، ثم للمدعي دعوى القيمةِ إن كانتِ العينُ متقوَّمةً لاحتمالِ أنها هلكتْ، فإن كانتْ مثلية فعند هلاكِها يذكرُ المثلَ لا القيمةَ، فإن نكَلَ وحلفَ المدَّعي أو أقامَ بينةً حين أنكرَ على أنَّ في يدِهِ مثله، كما ذكرهُ الغزاليُّ، أو تشهدُ على إقرارِه أنَّ يدَهُ اشتملتْ على عينٍ لفلانٍ صفتُها كذا، أو تشهد مما يعرفها القاضي من العينِ التي تشخَّصتْ له في وقتٍ كما سبَقَ كلفَ الإحضارَ، وحبسَ عليهِ، ولا يطلقُ إلَّا بإحضارٍ أو دعوى التَّلفِ، ويحلفُ على التَّلفِ إن طولِبَ بالحلفِ، أو يدَّعي تعذُّرَ ردِّ عينها لمانعٍ حسيٍّ منعه من ذلكَ، ويحلفُ عليه إنْ طولِبَ بالحلفِ. ولو شكَّ المدعي هل تلفتِ العينُ فيدعي قيمةً إن كانتْ متقوَّمَةً، وإلَّا فيدعي مثلَها إن كانتْ مثليَّة، أو غير تالفة، فيدعيها، فقال: غصبَ منِّي كذا، فإن بقي فأطالبه بردِّه حيث كانتِ العينُ في بلدِ الدَّعوى، فإن لم تكنْ في بلدِ الدعوى فيطالبُهُ بالقيمةِ للحيلولةِ. وإن لم تكنْ باقيةً فأطالبُهُ بردِّ القيمةِ، إن كانتِ العينُ متقوِّمةً، وإلَّا فأطالبُهُ بردِّ المثلِ، حيثُ كانَ اللازمُ لهُ المثلُ سمعتْ دعوَاهُ للحاجَةِ. ونقلَ الإمامُ عنِ القياسِيِّينَ من أصحابِنا لا تسمعُ هذه الدَّعوَى المرددة، والوجهُ ردُّ الدعوَى إلى الماليةِ كما وصفناها. ثم البينةُ لا تُسمعُ على هذا الوصفِ في هذا النوعِ، فإن كانتِ الدَّعوَى ماليةً سمعتْ فيصفُ الشُّهودُ ويذكرونَ القيمةَ، وهذا أقصَى ما في هذا الموضعِ. ثم يَدَّعي القيمةَ في المتقوِّمِ، وفي المثليِّ إذا حصلتِ الحيلولةُ، ويحلفهُ عليها، فأمَّا مع تلفِ المثليِّ فالدعوَى بالمثلِ.
فرع
وحيثُ أوجبنا الإحضارَ فثبتت للمدعِي استقرَّت مؤنته على المدَّعَى عليهِ إذا لم يكنِ المدَّعِي قد قامَ بها استقلالًا من غيرِ طريقٍ يقتضي إلزامِ المدعَى عليهِ بها، فإن جرَى ذلكَ لم تستقرَّ المؤنةُ على المدعَى عليهِ، وإنما تظهرُ فائدةُ الاستقرارِ إذا قامَ بها المدَّعَى عليه بمقتضَى إلزامِهِ بإحضارِ المدعي به، أو حصلَ إقراض على ذلكَ بطريقٍ معتبرٍ. * * * فرع: الغائبُ بمسافةٍ قريبةٍ كحاضرٍ، فلا تسمعُ دَعْوَى عليهِ ولا بينةٌ ولا يحكمُ بغيرِ حضورِهِ إلَّا التواريه أو تعززه، والمشهورُ جواز سماعِ الدعوَى على الغائبٍ، وسماع البينةِ والقضاءِ عليه في قصاصٍ، وحدِّ قذفٍ في غير من له إسقاطه باللعان، فأمَّا مَن له إسقاطُه باللعانِ فلا يجوزُ أن يقضى عليه بحدِّ القذفِ في غيبتهِ، لتمكُّنِهِ من إسقاطِهِ، ولو سمع بينةً على غائبٍ فقدم قبلَ الحُكمِ لم يستعدها إذا لم يتحقَّقْ كونُهُ من الحاضِرينَ عندَ الدَّعْوَى، وسماعِ البينةِ، فإنْ تحقَّقَ ذلكَ وجبَ استعادتُهما. وكذلكَ الحكمُ إذا قدمَ بعدَ الحُكمِ وتحقَّقَ أنَّهُ كانَ حاضرًا عندما ذكر من سمع الدَّعوى، وسمع البينةَ والحكمَ فإنَّه يجبُ استعادةُ ذلكَ أيضًا، وإن تحقَّقَ حضورُهُ عندَ الحكمِ دونَ سماعِ الدَّعوى وسماعِ البينةِ أعادَ الحكم لوقوعِه بغير شرطِهِ وجبتْ؛ لم تجبِ الاستعادةُ أخبره ومكَّنه من الجرح. ولو عزلَ بعد سماعِ بينةٍ ثم ولي وجبتِ الاستعادَةُ إن لم يحكمْ بقبولِ البينةِ، فإن حكمَ بقبولِ قولِ البينةِ من غيرِ أن يحكمَ بالإلزامِ بالحقِّ فلا تجبُ الاستعادَةُ إذا عزلَ ثمَّ وليَ، وإذا استعدى على حاضرٍ بالبلدِ أحضرَهُ إن لم يعلمِ القاضِي كذبَهُ، ولا يلزم القاضي الحكم بينه وبين خصمِهِ، وأن يمكنَ
إحضارُهُ، وأن لا يكونَ من ذوِي الهيئات، وقدْ وكَّل وكيلًا عنه بخاتمٍ، أو يكتبُ بإحضارِهِ، فإن لم يحضرْ بذلك بعثَ إليهِ من أعوانِهِ الذين يكونونَ عندَهُ أو غائب في غيرِ محلِّ ولايتِه أو فيه وله هناك نائبٌ فليس له إحضارُهُ، وإلَّا فيحضرُهُ من مسافةِ العدوى كما سبقَ. وأنَّ المرأةَ المخدَّرَةَ لا تكلَّف الحضَورَ مجلس الحكمِ للدَّعوى في غيرِ اللعانِ، فأمَّا إذا جاءَ الزَّوجُ وقذفَهَا فإنَّ القاضِي يُحضرُها، وإذا توجَّهت عليها اليمينُ فلا يمتنعُ أن يغلظَ عليها بحضورها المكانَ الذي يغلظُ فيه. والمخدَّرَةُ هي التي لا تُكثِرُ الخروجَ للحاجاتِ المتكرِّرَةِ، وأمَّا غيرُ المخدَّرَةِ فتكلَّفُ الحضورَ، ولو من خارجِ البلد إذا بعثَ الحاكمُ إليها محرمًا، أو نسوة تقاة كما في الحجِّ. * * *
باب القسمة
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ باب القسمة هي بكسرِ القافِ الاسمُ، من قولِك: قسمتُ الشيءَ قَسمًا، بفتحِ القافِ، وهو تمييزُ بعضِ الأنصباءِ من بعضٍ، وإفرازها عنها. والأصلُ في جوازها قبل الإجماعِ قوله تعالى: {وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ} الآية. ومن السُّنَّةِ: قسمتُه -صلى اللَّه عليه وسلم- الغنائمَ، وقوله أن الشُّفعةَ فيما لم يُقْسم (¬1). وقد يتولَّي الشريكانِ أو الشركاءُ القسمةَ بأنفسِهم، وقد يتولاها منصوبُهم أو منصوبُ الإمامِ. ويشترطُ في منصوبِهم التكليفُ، ويشترطُ في منصوب الإمامِ الذُّكورَةُ، والحريَّةُ، والتكليفُ، وأنْ يكونَ مقبولَ الشَّهادَةِ، فلا بدَّ من كونِهِ ضابطًا، بصيرًا، سميعًا، وأن يكونَ قليلَ الطمعِ، نَزِهَ النَّفسِ، حتَّى لا يرتشِي فيما يلي، ولا يخونُ، وأنْ يكونَ عالمًا بالمساحَةِ. وهل يشترطُ معرفة التقويم؟ فيه ¬
وجهان في "الروضة" (¬1) تبعًا للشرحِ من غير ترجيحٍ، والمعتمدُ عن شيخنا الجزمُ بالاحتياجِ إلى ذلك في قسمةِ التعديلِ والردِّ، ولا تعتبرُ في قسمةِ الأجزاءِ، فإن كان فيها تقويمٌ فقاسمان ينصبهما القاضي، إذا لم يكنِ الواحدُ حاكمًا في التقويمِ بمعرفتِه، فإن حكمَ فيه كان كقضائِه بعلمه، وإذا جوَّزنا القضاء بالعلمِ في هذا كما هو الأصحُّ فلا يعتبرُ التعدُّدُ. وأمَّا منصوبُ الشُّركاءِ، فيجوزُ أن يكونَ واحدًا قطعًا، وإن لم يكنْ فيها تقويم فقاسمٌ على المذهبِ، وقيل قولان؛ ثانيهما: يشترطُ اثنانِ، وللإمامِ جعلُ القاسمِ حاكمًا في التقويمِ، فيعملُ فيه بعدلينِ، أو بعلمِه، ويقسمُ ويجعلُ الإمامَ رزقَهُ مِن بيتِ المالِ، فإن لم يكنْ فأجرتُهُ على الشركاءِ (¬2) إذا استأجرُوهُ إجارَةً صحيحةً، أو فاسدةً. فأمَّا إذا طلبَ الشُّركاءُ من قسامِ القاضي القسمةَ، فقسمَ، ولم يذكروا أجرةً، فإنَّ المعتمدَ في ذلك أن لا أجرةَ للقسَّامِ عليهم، وأن يكونَ ذِكْرُ الأجرةِ من جميعهم، فإن ذكرها بعضُهم دونَ بعضٍ، فما خصَّ الذاكِرِ يلزمُهُ، ولا يلزمُ غير الذاكرِ على المعتمدِ، كما تقدَّم. وأن يكونَ جرى ذلك من جميعهم، وهم متأهلون للالتزامِ، أو بعضُهم غيرُ متأهِّلِ ولا غبطةَ في القسمةِ، فإنْ كانَ بعضُهم غيرَ متأهِّلٍ للالتزامِ لصغرٍ أو جنونٍ ولا غَبطةَ له في القسمةِ بل عليه ضررٌ فيها، ولو وجه، لا يمنع من الإجبارِ على القسمةِ، فإنَّ الشافعيَّ قد توقَّفَ في إلزامِ المذكورِ شيئًا من الأجرةِ. فإذا استأجروهُ جميعًا بأنْ قالوا: استأجرناكَ لتقسمَ بيننا كذا بدينارٍ على ¬
فلانٍ، ودينارينِ على فلانٍ -مثلًا- ووكَّلُوا وكيلًا، فعقد لهم كذلك، لزمهم ما وقعَ عقد الإجارة عليهِ (¬1). وإن ذكروا الأجرةَ ولم يسمِّ كلُّ أحدٍ ما يخصُّه فالأجرةُ موزَّعةٌ على قدرِ الحصصِ على المذهب، وقيل قولانِ، ثانيهما: على عدد الرءوسِ، وإن دعوه إليها ولم يسموا أجرةً فلا أجرةَ له على الصحيحِ، وإن كانَ الدَّاعي إليها الحاكمُ ولم يسمِّ أجرةً استحقَّ أجرةَ المثلِ، ويُستثنَى من ذلكَ قسمةُ التعديل، فإن الأجرةَ توزَّعُ بحسبِ المأخوذِ قلةً وكثرةً، لا بحسبِ الحصصِ على الأصحِّ، ويُستثنَى منهُ أيضًا حصَّةَ الطِّفلِ والمجنونِ والمحجورِ عليه بالسَّفَهِ، وحصَّة الوقفِ حيمث يلحقهم بالقسمةِ الضَّرَرُ، فلا أجرةَ عليهم. * * * ثمَّ ما عظم ضررُه كجوهرةٍ وثوبٍ نفيسٍ لم تكنِ العادةُ مستمرَّةً بقطعِهِ على وجهٍ يحصلُ لكلِّ واحدٍ بما صارَ إليه منفعةٌ إن طلبَ الشُّركاءُ كلُّهم قسمتَهُ لم يجبهم القاضِي، لكن لا يمنعُهُم أن يقسموا بأنفسهم إذا لم تبطُلْ منفعتُهُ بالكليَّةِ، كالسَّيفِ يكسَرُ، وما تبطلُ منفعتُهُ المقصودَةُ كحمامٍ وطاحونٍ صغيرينِ، لا يجابُ طالبُ قسمتِهِ على الأصحِّ، فإنْ أمكَنَ جعلُهُ حمَّامينِ، وجبتْ (¬2)، وكذا لو أمكنَ جعلُ نصيبٌ منهُ -وهو الأكثرُ- حمَّامًا دونَ الآخرِ، فتجبُ القسمةُ أيضًا، إذا طلبَها صاحبُ الأكثَرِ، فإن طلبَهما صاحبُ الأقلِّ الذي لا يجيء حمَّامًا فإنّه لا يجابُ، قال شيخُنا: ولم أرَ مَن تعرَّضَ لذلكَ. ¬
وما لا يعظم ضرره فقسمته أنواع
ولو كانَ له عُشْرُ دارٍ لا يصلحُ للسُّكنَي، فالمنصوصُ إجبارُ صاحبِ الأقلِّ الذي لا ينتفعُ بنصيبِهِ بطلبِ صاحبِ الأكثرِ الذي ينتفعُ بنصيبِهِ، وإن كانَ صاحبُ الأقلِّ ينتفعُ بنصيبِهِ بأن يكونَ له مكانٌ يضمُّه إلى عشرٍ هو يصلحُ الكل للسكنَى أو ينتفع غيرُهُ بما صارَ إليهِ، فإنَّه يُجابُ إلى ذلكَ على مقتضى إطلاقِ نصِّ "الأمِّ"، و"المختصر"، ومفهومُ نصِّ "الأمِّ" لأنَّ لَهُ مقصدًا في تمييزِ ملكِهِ وإراحتِهِ من شريكِهِ، وهو مقصدٌ حسنٌ، فينبغي أَنْ يُجابَ كمَا تقدَّمَ. * * * وما لا يعظُمُ ضرَرُهُ فقسمتُهُ أنواعٌ (¬1): أحدها: بالإجزاءِ، كمِثْلِيٍّ، ودارٍ متفقَة الأبنية، وأرض مشتبهة الأجزاء، فيجْبَرُ الممتنعُ على الأصحِّ، فتميز السِّهامُ كيلًا، ولو خرصًا في ثمرةِ النَّخلِ، والعنبِ، أو وزنًا، أو زرعًا بعددِ الأنصباء إنِ استوتْ، ويكتبُ في كلِّ رقعةٍ اسمَ شريكٍ، وتُدْرَجُ في بنادِقَ مستويةٍ، ثم يُخرجُ مَن لم يحضرها رقعة على الجزءِ الأوَّلِ، ولا يجوزُ العدولُ إلى كتابةِ الأجزاءِ؛ لما فيه من المحذوراتِ، كما قالَهُ شيخُنا. فإنِ اختلفتِ الأنصباءُ، كنصفٍ وثلثٍ، وسدسٍ، جزِّئتِ الأرضُ على أقلِّ السِّهامِ وقسِّمَتْ على ما (¬2) تقدَّمَ من كتابَةِ الأسماءِ وإخراجِها على الأجزاءِ، ويُحترزُ على تفريقِ حصَّةِ واحدٍ. ¬
الثَّاني: بالتعديلِ (¬1)، كأرضٍ تختلفُ قيمةُ أجزائِها بحسبِ قوَّةِ إنباتٍ، وقربِ ماءٍ، ولا يمكنُ قسمتها إلَّا بالتعديلِ، فيجبرُ الممتنعُ عليها على المذهب. ولو استوتْ قيمةُ دارينِ، أو حانوتينِ، فطلبَ جَعْلَ كلِّ واحدٍ لواحدٍ فلا إجبارَ إلَّا إذا كانتِ الدارانِ لهما بملكِ القُربَةِ المشتملة عليهما أو شركتهما بالنصفِ وملكا قسمة للقربةِ، واقتضتِ القسمةُ نصفينِ، جعلَ كلَّ دارٍ نصيبًا، فإنَّه يُجْبَرُ على ذلك. وإذا كان الحانوتانِ مثلًا صفينِ ولا يتحملُ كلٌّ منهما القسمةَ، فيُجْبَرُ الممتنعُ على القسمةِ في الأصحِّ للحاجَةِ. أو استوتْ قيمةُ عبيدٍ أو ثيابٍ من نوعٍ، أُجْبِرَ على الأصحِّ، إلَّا إذا تباينتْ فيها القيمةُ، بحيثُ لا يمكنُ تعديل إلَّا ببقيةٍ تبقَى الشركةُ فيها، فإنَّهُ لا إجبارَ في ذلك على المذهبِ، أو نوعينِ فأكثرَ، فلا إجبارَ إلَّا إذا كانَ منها نوعٌ متعددٌ فيُجْبَرُ في هذه الصورةِ على قسمةِ المتعدِّدِ من النوعِ بالتعدِيلِ الذي لا يبقَى معهُ بقيةُ شركةٍ، كما سبقِ. الثالث (¬2): بالردِّ، بأن يكونَ في أحدِ الجانبينِ بئرٌ أو شجرٌ لا يمكنُ قسمتُهُ، ولا بنقلِهِ في أحدِ الجانبينِ بالتعديلِ، فيردُّ مَن يأخذه قسطَ قيمتِهِ، ولا إجبارَ فيه، وهو بيعٌ إلَّا القدرَ الذي لم يحصُلْ في مقابلةِ ردٍّ، فإنَّ الذي له منه بطريقِ الإشاعةِ لم يقعْ عليهِ بيعٌ، وقسمةُ التعديلِ بيعٌ على المذهبِ في القدرِ الذي حصلتْ فيه الزيادَةُ والنُّقصانِ، فأمَّا ما لسُوى ذلكَ فإنَّ الأرجحَ فيه الإقرار. ¬
وإذا جرتْ قسمةُ التعديلِ بالتراضِي فبيعٌ قطعًا، وقسمةُ الأجزاءِ إفرازٌ على الأرجحِ، فإنْ جرتْ بالتراضِي فبيعٌ قطعًا. ويشترطُ في الردِّ الرضَا بعدَ خروجِ القُرعةِ على الأصحِّ، وكذا لو تراضيَا بقَسْمةٍ فلا إجبارَ فيه، فإنَّه يُشترطُ الرِّضا بعد خروجِ القرعةِ على الأصحِّ، وإذا جرتِ القسمةُ التي يُجبر عليها بالتراضِي فيعتَبَرُ تكريرُ الرِّضا بعد خروجِ القرعةِ على الصحيحِ، كقولهما: رضينا بهذه القسمةِ، أو بما أخرجتْهُ القُرعةُ، ولا بدَّ من سبقِ علم ذلك على الرضا. ولو ثبتت أيُّ بينةٍ غلطٌ أو حيفٌ في قسمةِ إجبارٍ نقضت، فإن لم يثبتْ وادَّعاهُ واحدٌ الدعوى المعلومةَ القدرِ، فله تحليفُ شريكِهِ إذا كانتِ الدَّعوى عليه، أو كانت عليه وعلي القسام، فإن كانت الدعوى على القسَّامِ وحدَهُ فلا يُحَلِّفُ واحدًا منهما، ولو دعاه في قسمةِ تراضٍ لا إجبارَ فيها فالأصحّ أنَّه لا أثرَ لهذا الغلطِ، ولا فائدةَ لهذه الدعوَى، إذا وجدَ تحديد الرضا بعد خروجِ القرعةِ، ولم يذكر تأويلًا يقتضي سماع دعواهُ، ولم يعترفْ له الشركاءُ بما ادَّعاه، وإذا قلنَا أنها إفرازٌ نُقِضَتْ إن ثَبَتَ إذا لم يعلمِ الزائدُ أو علمه، ولم يرضَ بمصيرِه لشريكِهِ أو رضيَ بهِ، ولم يحصلْ من الشريكِ رضًا به، أو رضيَ به ولم يحصل أمرٌ يلزمْ به التمليكُ، وإلَّا فيحلفُ شريكُهُ كما قدَّمناهُ. وإذا لم تنقضِ القسمةُ لو ثبتَ فلا يحلفُ شريكُهُ، ولو استحقَّ بعضَ المقسومِ شائعًا بطلتْ فيه وصار الكلُّ مشاعًا، أو من النصيبين معينٌ سواء، فإن كانَ ذلك المعينُ بين القسمين من أولهما إلى آخرهما، ولم يكن بين الشريكينِ المقتسمين إشاعة في المستحقِّ المعيَّن، وإنما كان بينهما شركةٌ في كلٍّ من الطرفينِ.
ومثل ذلكَ لا يُقسم إلَّا إجبارًا (¬1)، فإذا قُسِم إجبارًا على هذا الوجهِ فقدْ تبيَّنِ إبطالُ الإجبارِ فيها، وإبطالها، وإن صدرتْ بالتراضِي على الظنِّ المذكورِ لظنِّ الإشاعَةِ في الجميعِ، فإذا ظهرَ أنَّ الإشاعَةَ في الوسطِ، فهذا يحتمل أَنْ يُقال فيها: تبقى القسمةُ لازمةً. ويحتملُ أَنْ يُقالَ: ثبتتْ لكلٍّ منهما الخيارُ، وهذا أولَى بقضيَّةِ البابِ. وإنْ لم يستغرقْ ما بينَ القسمين، فإنْ كانتْ قطعةً من أوَّلِ ما بين القسمينِ إلى أثنائِها ثم الشركةُ واقعةٌ في القدرِ الباقِي وحصلتِ القسمةُ في البقيَّةِ وما وراء المعينِ من الجانبينِ، وحصلَ تعديل، بحيثُ حصلَ في قسمةِ كلِّ واحدٍ منَ الشجر نظيرُ ما عند الاَخرِ، وخرجتِ القطعةُ المعيَّنَةُ المستحقَّةُ من الوسطِ على السواءِ في النصيبينِ، فهاهنا يأتي خلاف تفريقِ الصفقةِ. ولو كانَ المعينُ قطعتين من الجانبين خرجتْ إحداهما في قسمةِ أحدِ الشريكينِ، والأخرى في قسمةِ الآخرِ على السواء، فهاهنا تبقى القسمةُ في الوسطِ المشاعِ؛ لأنَّه حقُّها. ولو فرضنا أنَّ المعيَّنَ الذي ظهر استحقاقُهُ أدَّى إلى تفريقِ حصَّةِ الواحدِ أو حصةِ كلٍّ منهما، فإنَّه يثبتُ الخيارُ لذلك الواحدِ في نقضِ القسمةِ وإبقائها، ويثبت الخيارُ لهما في الصورة الثانية على الأرجحِ. قال شيخُنا: ولم أرَ مَن حرَّرَ المسألةَ على ما قرَّرناهُ. انتهى. * * * ¬
كتاب الشهادات
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ كتابُ الشهادات هي جمعُ شهادةٍ، وهو مصدرُ شهدَ يشهَدُ. قال الجوهريُّ: الشهادةُ خبَرٌ قاطعٌ. والمشاهدَةُ المعاينةُ، مأخوذَةٌ منَ الشُّهودِ بمعنى الحضورِ، لأنَّه شاهدَ ما غابَ عن غيرِهِ. وقيل: مأخوذٌ من الإعلامِ. والأصلُ فيها قولُهُ تعالى: {وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ}، وقوله تعالى: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ}، وقوله تعالى: {وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ}. ومن السُّنَّةِ: "ليسَ لكَ إلَّا شاهداكَ أو يمينهُ" (¬1)، وروي عن ابن عباسٍ أنَّ النبيَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- سئلَ عنِ الشَّهادَةِ فقال: "ترى الشَّمسَ؟ " قال: نعم. قال: "على مثلِها فاشهدْ، أو دع" صححهُ الحاكمُ، وضعَّفه البيهقيُّ (¬2). ولأنَّ الحاجَةَ داعيةٌ إليها، ولا خلافَ بين المسلمينَ فيها. ¬
شرطُ مقبولِ شَهادَةٍ: إسلامٌ، وحريَّةٌ، وتكليفٌ، وعدالةٌ، ومروءةٌ، ونطقٌ، وتيقظٌ، وعدمُ تهمةٍ، وعدمُ سفهٍ، كما نقلَهُ في "الروضة" (¬1) عن الصَّيْمريِّ، وجزمَ به الرافعيُّ في كتاب "الوصية". والعدالةُ: اجتنابُ الكبائرِ (¬2)، وعدمُ غلبةِ الصَّغائرِ على الطاعةِ. * * * ويحرمُ اللعب بالنردِ على الأظهَرِ، وفي قول: يكرَهُ، والأولَى أن لا يعلبَ بالشطرنجِ (¬3)؛ لأنَّ الشافعيَّ رضي اللَّهُ عنه قال: إنه لا يحبُّ اللعبَ به. قال شيخُنا: والذي لا يحبُّه قد يكونُ خلافَ الأولَى، وقد يكونُ المرادُ لا أحبُّ أَنْ أفعلَهُ لما يؤدِّي إليهِ؛ لا أنَّهُ مكروهٌ في نفسِهِ، لكنْ إن أدَّى اللعبُ بِهِ إلى شغلِ المكلَّفِ بحيثُ تخرجُ الصلاةُ عن وقتِها وهو غافلٌ حرمُ اللعبُ به حينئذٍ. وإذا اقترنَ به قمارٌ أو فحشٌ، أو إخراجُ صلاةٍ عن وقتها عمدًا رُدَّتْ شهادتُه بذلك المقارنِ. وإنَّما يكونُ قمارًا إذا شرطَ المالَ من الجانبين، وكان اللاعبان (¬4) متكافئين، أو قريبًا من التكافؤِ، فإن أخرج أحدهما ليبذله إن غَلَبَ ويمسِكَه إن غُلِبَ؛ فليس بقمارٍ، وكذا إن شرطَ المالَ من الجانبينِ ويقطع بأنَّ أحدَهما يغلبُ فليس بقمارٍ للقطعِ بأنَّ للقطعِ المال الذي من جانبِ الغالب يمسكه، ¬
وأنَّ المال الذي بذلهُ الآخرُ يأخذه المقطوعُ بأنَّه غالبٌ. وإذا بذلَ المالَ من جانبٍ أو من الجانبينِ صورةً لا معنى كما تقدَّم فإنَّه وإن لم يكنْ قمارًا إلَّا أنَّه يحلُّ أخذُ المالِ فيما ذُكِرَ لعدمِ صحَّةِ العقدِ، فإن أخذَ المالَ بمقتضى ذلك لم يجز. وإذا علمَ تحريمَ أخْذِ المالِ بمقتضَى ذلكَ، وأقدَمَ عليِهِ فتردُّ شهادتُهُ لتعدِّيهِ بالأخذِ. * * * ويباحُ الحداءُ وسماعُهُ، ويكرَهُ الغناءُ بلا آلةٍ، إذا اتخذَ المغنِّي صناعةً يؤتى عليه، ويأتي، ويكون منسوبًا إليهِ مشهورًا به، معروفًا على النصِّ (¬1). ويكرَهُ سماعُهُ، فإن سمعه من امرأةٍ أجنبيَّةٍ يخافُ من ذلك الفتنة، حرُمَ، وكذا إن سمعهُ من صبيٍّ يخافُ منه الفتنةَ. ولا يحرمُ الغناءُ بالآلةِ غير المحرَّمَةِ، ولا سماعه، لكنَّ المحرَّمَ الآلةُ. ويحرمُ استعمالُ آلةٍ من شعارِ الشَّرَبةِ (¬2)، كطنبورٍ، وعودٍ، وصَنْجٍ، ومزمارٍ عراقي، واستماعُها، لا يَرَاعَ في الأصحِّ؛ لأنَّها ليستْ من الملاهِي، فإن أضيف إليها الدُّفُّ حرمَ ذلك (¬3). ويجوزُ ضربُ دُفٍّ لعرسٍ، وكذا الختانِ، وغيرِهِ، وإنْ كانَ فيه جلاجلُ على الأصحِّ (¬4). ويسنُّ ضربُهُ في كلِّ أمرٍ مهمٍّ من الشعارِ، ويستثنى مِن محلِّ ¬
الخلافِ في غيرِهِ ما يتعلَّقُ بضربِ الدُّفِّ في أمرٍ مهم من قدومِ عالمٍ، أو سلطانٍ، ونحوهما. ويحرمُ ضربُ الطبل الذي يحصلُ بضربهِ اللهوُ الشاغِلُ عنِ الخيرِ الموقع في الفسادِ (¬1). * * * ويكرَهُ الرقصُ، إلَّا أن يكونَ فيهِ تكسُّرٌ، كفعلِ المخنَّثِ، أو يكثرُ بحيث يُخلُّ بمروءةِ الرَّجُلِ الفاعلِ لذلك، فيحرمُ في الصورتينِ حينئذٍ. * * * ويباحُ قولُ شعرٍ وإنشادُهُ، ومع الإباحَةِ يكونُ في بعضِ الأحوالِ حسنًا مستحبًّا كالكلامِ الذي ليس بشعرٍ، إلَّا أن يهجوَ، ويقصدَ به إشاعة فاحشةٍ، أو يفحشَ بالإطراءِ فيحرمُ، أو يعرِّضُ بامرأةٍ لا يحلُّ له وطؤها، فيحرمُ (¬2). * * * والمروءةُ: صونُ النفسِ عن تعاطِي مباحاتٍ، أو مكروهاتٍ، غير لائقةٍ بفاعلها عرفًا، أو دالَّةً على قلَّةِ مبالاتِه بما يهتمُّ به، فالأكلُ في الطريقِ المطروقِ مرارًا دالَّةٌ على قلَّةِ المبالاةِ يسقطها، إلَّا أن يكونَ الشخصُ سوقيًّا، وكذا السماسرةُ الذين لا حِشْمَةَ لهم، أو يدهَمُه الجوعُ، فيأكلُ على بابِ دُكَّانِهِ كما قاله البندنيجي (¬3)، وقد جرتْ عادَةُ أهلِ سُوقِهِ بذلك، أَو أكلَ داخلَ حانوتِهِ مستترًا، وكذلك الشُّربُ من سقاياتِ السُّوفِ يسقطُ المروءةَ، إلَّا أَنْ ¬
يكونَ الشخصُ سوقيًّا، أو شربَ لغلبةِ عطشٍ. ومن تركِ المروءةِ: المشي في السُّوقِ أو الطريقِ مكشوفَ الرَّأسِ، أو البدنِ، إذا لم يكنِ الشخصُ من يليقُ به مثله. وكذلكَ الوقوفُ في السُّوقِ أو الطريقِ على هذه الحالةِ، والمرادُ غير العورةِ، فإنَّ ذلكَ من المحرَّماتِ، وليسَ الكلامُ فيه. ومن تركِ المروءةِ: قبلةُ زوجتِهِ أو أمتِهِ بحضورِ النَّاسِ الذي يستحيي منهم في ذلكَ، والتقبيل الذي يستحيي من إظهارهِ. ومن تركِ المروءةِ: لبسُ الفقيهِ القباء، والقلنسوةُ، ويتردُد في بلدٍ لم تجر عادة الفقهاء بلبسِهما فيه، فلو لبسهما في بيتِهِ لم يكنْ تاركًا للمروءةِ، إذا كانَ لا ينتابُهُ الناسُ في بيته، فإنِ انتابَهُ الناسُ في بيتِهِ وهو على هذه الحالَةِ فهو كمن ترددَ في البلدِ، ولو كان الفقيهُ اللابسُ للقلنسوةِ مغربيًّا يعتادُ ذلكَ في بلدِهِ وجاء إلى بلدٍ لا يعتادُ ذلكَ فيها، فيترك على سجيتِهِ وحالِهِ التي كانت في بلدِهِ. وأمَّا الإكبابُ على لعبِ الشطرنجِ، فإن لم يسلمِ اللاعبُ من ارتكابِ محرَّمٍ كبيرٍ ومن إصرارٍ على صغيرٍ فهو من تركِ المروءةِ (¬1). والحرفةُ الدنيَّةِ التي فيها مخامرة القاذوراتِ ممن لا تليق بهِ يسقطها على الأصحِّ، فإن تلبَّسَ بها ولم يتلبَّس بصنعةٍ أشرف منها، وكان مع هذا برًّا تقيًّا زكيًّا، فتقبلُ شهادتُهُ على الأصحِّ. والمتهمُ مَن يجرُّ بشهادتِهِ إلى نفسِهِ أو أصلِهِ أو فرعِهِ نفعًا، أو يدفعُ عنه أو عن أصلِهِ أو فرعِهِ ضررًا، فتردُّ شهادتُهُ لعبدِهِ بشيءٍ يعودُ نفعُه للسيدِ ومكاتبِهِ ¬
وغريمٍ له ميتٍ أو مرتدٍّ، أو عليه حَجْرُ فلس، وغريمٌ لأصلِهِ أو فرعِهِ ميتٍ أو مرتدٍّ أو عليه حَجْرُ فلسٍ، أو شهادةُ الوكيلِ لموكِّلِهِ فيما هو وكيلٌ فيه، مما يقتضي بقاءَ تصرُّفِهِ، والضامِنِ ببراءةِ من ضمنَهُ، وببراءَةِ مَن ضمنه عبدُهُ، أو مكاتبُهُ، أو غريمٌ له ميتٌ أو محجورٌ عليه بفلسٍ ونحوه على ما تقدَّم. ومن ضمنه أصلُهُ أو فرعُهُ إذا لم يصدرِ الضمانُ بشرطِ براءَةِ الأصلِ، فإن صدَرَ بذلك وصححناهُ لم تردَّ شهادتُهُ ببراءَةِ الأصيلِ؛ لأنَّها لا تجرُّ إلى الشاهدِ نفعًا، ولا تدفع عنه ضررًا. ولو شهدَ أن فلانًا جَرَحَ مُوَرِّثَهُ لم يُقبل إذا كان وارثًا عند الشهادَةِ أو عندَ الموتِ، ولم يُحكم بشهادته قبل ذلك. ولو ادعى حَرَجًا، وشهد للمدعِي وارثُهُ من غيرِ الأصولِ والفروعِ، فإن شهدَ بعد الاندمالِ قُبِلَ، أو قبلَهُ لم تقبَلْ، وردُّ شهادةِ الأصولِ والفروعِ لا تتقيَّدُ بهذا كما سيأتي (¬1). ولو شهدَ لمُوَرِّثٍ له مريضُ مرضَ الموتِ أو جريحٍ بما ليس بأرشِ الجرحِ قبلَ الاندمالِ قبلتْ في الأصحِّ. وينبغي أن يعتبرَ في الجراحَةِ أن يكونَ مما يسري إلى النَّفسِ. وتردُّ شهادَةُ عاقلةٍ بفسقِ شُهودِ قتل يحملونَهُ لو كانوا موسرين. ولو شهدَ اثنانِ لاثنينِ بوصيةٍ من تركةٍ فشهد المشهودُ لهما للشاهدينِ بوصيةٍ من تلك التركةِ قبلَتْ الشَّهادتانِ على الصحيح، ولا تقبلُ لأصلٍ ولا فرعٍ في غيرِ أمرٍ ضمني أو غير عام ينظر فيه الأصلُ أو الفرعُ، أو يُقبلُ فيهِ قولُ الأصلِ أو الفرعِ (¬2). ¬
وتُقبلُ عليهما إذا كانتِ الشَّهادةُ تشملُهما لمن ليس بأصلٍ ولا فرعٍ. وتُقبلُ على أبيهما بطلاقِ ضَرَّةِ أُفَهما، أو قَذْفِها على الأظهرِ، إذا كانتْ أمُّهما زوجةَ أبيهما. وإذا شهدَ لفرعٍ وأجنبيٍّ قُبلتْ للأجنبيِّ في الأظهرِ إذا لم يكنْ في حالٍ مشتركٍ، بحيثُ ينفردُ الأجنبيُّ بما شُهِد له به، فأمَّا في مشتركٍ لا ينفردُ الأجنبيُّ بشيءٍ منهُ، فلا تُقبلُ فيهِ الشَّهادَةُ للأجنبيِّ أيضًا. وتقبلُ لكلٍّ من الزوجينِ إذا لم يشهدْ لزوجتِهِ بأنَّ فلانًا قذفَها، ولا تُقبلُ شهادَةُ الزوجِ على زوجَتِهِ بالزِّنا على فراشِه، وكذلك لا تُقبلُ شهادتُهُ على أجنبيٍّ بأنَّه زنا بزوجتِهِ أو أَمتِه (¬1). وكُلُّ مَن لم تُقبلْ شهادتُهُ لمن ذُكِرَ في جميعِ الصُّورِ لا تُقبلُ شهادتُهُ لمكاتبِهِ ولا لعبدِهِ، على ما سبقَ. ولا تزكيةُ مَن يشهدُ فيما لو شهدَ به لردَّ، ولا تجريحُهُ الذي يُتَّهم فيه بجرِّ النَّفعِ أو دفعِ الضَّررِ. وتُقبلُ شهادةُ الأخِ لأخيهِ إذا لم يشهدْ له بالنسبِ على المنكِرِ من الورثةِ. وتُقبلُ شهادَةُ الصديقِ لصديقِهِ، ولا تُقبل من عدوٍّ عليه، ولا على أصلِه وفرعِه، ولا يُشترطُ ظهورُ العداوةُ، بل ما دلَّ على العداوةِ من المخاصمَةِ ونحوها كافٍ في ذلكَ على النصِّ، فكلُّ قضيةٍ ظهرتْ تدلُّ على عداوةٍ فإنها تَمْنَعُ من قبولِ شهادةِ من ظهرَ منهُ ذلكَ، وإن لم يظهرْ ما يقتضي ذلك، فلا تردُّ الشهادةُ بما لم يظهرْ (¬2). ¬
وتُقبلُ شهادَةُ العدوِّ لعدوِّه (¬1)، وأمَّا العداوةُ الدينيةُ فلا توجبُ ردَّ الشَّهادَةِ، بل تُقبلُ شهادَةُ المسلمِ على الذميِّ، والسُنيِّ على المبتدعِ، وتقبلُ شهادَةُ المبتدعِ الذي لا يَكْفُرُ ببدعتِهِ إذا كان الابتداعُ في الفروعِ على السُّنيِّ، شرطَ أن يكونَ ممنْ لا يستحلُّ في مذهبِه أن يشهدَ لمن يذهبُ مذهبَه بتصديقِهِ على ما لم يَسْمَعْ ولم يعاينْ، وأن لا يستحلَّ أن ينالَ من بدنِ مَنْ خالفه أو مِنْ مالِه شيئًا، يجعلون الشهادَةَ بالباطلِ ذريعةً إليهِ، وبشرطِ انتفاءِ العداوةِ الدنيويةِ. أمَّا الابتداعُ في الأصولِ، فإنَّ مبتدِعَه يَكْفُرُ بذلكَ، ولا تقبلُ حينئذٍ شهادتُهُ (¬2). ولا تجوزُ شهادَةُ مَن يعرفُ بكثرةِ الغلطِ والغفلةِ، فتردُّ شهادتُهُ مجملةً، وتُقبلُ مفصَّلة إذا وصفَ الزمانَ والمكانَ وتأنَّق في ذكرِ الأوصاف (¬3). والمبادِرُ في الشهادَةِ متهمٌ مردودُ الشهادَةِ. نعم تُقبلُ شهادَةُ الحسبةِ في حقوقِ اللَّهِ تعالَى عندَ الحاجَةِ إليها، وفيما له حقٌّ مؤكَّدٌ، وهو الذي لا يتأثَّرُ برضا الآدميينَ كالعتقِ وجِهاتِ التَّحريمِ (¬4). * * * ويثبتُ النسبُ بشهادَةِ الحسبة على الأصحِّ، إذا لم تتعذَّرِ الدعوَى، وأمكنتِ الخطوطُ، فإنْ تعذّرَتِ الدعوى وانتفتِ الخُطوطُ، فيثبتُ النسبُ بشهادَةِ الحسبةِ قطعًا. ¬
وإذا غلطَ القاضِي فحكمَ بشاهدينِ، فبانا كافرينِ، أو عبدينِ، أو صبيينِ، أو بانَ أحدُهما خُنثَى كذلك عند أداءِ الشَّهادَةِ أو عندَ الحكمِ، فالحكمُ مردودٌ، ولا يحتاجُ إلى نقضٍ؛ لأنَّه تبيَّنَ أنَّ الحكمَ يصادِفُ محلًّا (¬1). لكن إذا كانَ الحاكمُ بشهادَةِ الشَّاهدينِ اللَّذَيْنِ تبيَّن أنهما كافرانِ من معتقدِهِ جوازُ الحكمِ بشهادَةِ الكافرِ، إمَّا على الكافرِ وإمَّا في الشهادَةِ بالوصيَّةِ في السفرِ كما قال به جمعٌ من العلماءِ، فلا يكونُ حكمُهُ منقوضًا على مقتضى ما ذكرَهُ في "الروضةِ" تبعًا للشرحِ في صورةِ العبدين مِن أنَّ الصورةَ مفروضةٌ فيمن لا يعتقدُ الحكمَ بذلك. وإذا أعتقَ مريضٌ عبدينِ في مرضِ الموتِ، وشهدَا عندَ حاكمٍ وقد ثبتَ عندَهُ عِتْقُهما، فماتَ المريضُ، ولم يُخْرَجا من الثُّلثِ، فقد تبيَّنَ أنَّهما عبدانِ حالة الشَّهادَةِ، وتبينَ أن الحكمَ مردودٌ إذا كانَ الحاكمُ ممن يعتقدُ أنَّ شهادَةَ العبدِ لا تُقبلُ، فإن كانَ ممن يعتقدُ قبولها، فقد سبقَ ما فيه. وإن بانَ أن الشاهدينِ فاسقانِ، فالحكمُ مردودٌ على المذهب، ولو شهدَ كافرٌ مُعْلِنٌ بكفرِهِ، أو عبدٌ أو صبيٌ، ثم أعادها بعد كماله، قُبلتْ (¬2). ولو شهد فاسقٌ غير مُعْلِنٍ بفسقِهِ رُدَّت شهادتُهُ، ثم تابَ وأعادها لم تُقبل، بخلافِ سائرِ الشهاداتِ. ولا يكفي لقبولِ الشهادَةِ إظهارُ التوبَةِ عنِ المعصيةِ، بل يُختبرُ مدَّةً يغلبُ على الظنِّ فيها صدقُهُ في توبتِهِ، وقدَّرها الشافعيُّ بأشهرٍ، والعبرةُ ببينةٍ تقومُ عندَ القاضِي بتوبتِهِ وصلاحِ حالِهِ بعدَ توبتِهِ، أو بعلمِ القاضِي ذلك (¬3). ¬
* ويستثنَى من الاختبارِ ستةٌ لا يشترطُ فيهم ذلك: أحدهم: الشاهدُ بالزِّنا، حيثُ أوجبنا عليه الحدَّ لعدمِ تمامِ العددِ، فإنَّه إذا تابَ تُقبلُ شهادتُهُ في الحالِ، من غير اعتبارِ الاستبراء. الثاني: قاذفُ غيرِ المحصنِ إذا تابَ، لا يشترطُ في قبولِ شهادتِهِ الاختبار. الثالث: الصبيُّ -مراهقًا كان أو دونَهُ- إذا فعلَ ما يقتضي تفسيقَ البالغِ، ثم بلغَ وهو تائبٌ، فلا يشترطُ في قبولِ شهادتِهِ الاختبارُ؛ لأنَّه لم يفسقْ بعدَ التكليفِ. الرابعُ: الفاسقُ إذا كانَ يُخفِي فسقَهُ، وتابَ، وأظهَرَ الإقرارَ بهِ بعدَ توبَتِهِ، وسلَّمَ نفسَهُ للحدِّ، فهذا يعودُ بعدَ التوبةِ إلى حالِهِ قبلَ التوبةِ، ولم يتوقف لاستبراءِ صلاحِهِ؛ لأنَّه لم يظهرِ التوبةَ عمَّا كانَ مستورًا عليه إلَّا عن صلاح يُغْني عنِ استبراءِ الحالِ. صرَّحَ بذلكَ الماورديُّ، وجزم بهِ، وتبعهُ الرُّويانيُّ، وهو متجهٌ. الخامسُ: المرتدُّ إذا كانَ ممن تقبَلُ شهادتُهُ قبل الرِّدَّةِ فأسلم من ردَّتِهِ، فإنَّه تقبلُ شهادتُهُ بعد إسلامِهِ من غيرِ توقُّفٍ على الاختبارِ. ذكرَهُ الماورديُّ، ومقتضَى كلام غيره، واعتبر الماورديُّ فيه أن يكونَ أسلمَ غيرَ مُتَوَقٍّ للقتلِ، ولنا الكافرُ الأصليُّ إذا أسلمَ فإنَّه تقبلُ شهادتُهُ من غيرِ توقُّفٍ على الاختبارِ. السادسُ: العدوُّ إذا رُئيتِ العداوةُ بينَه وبين عدوِّه، وكانت العداوةُ نفسها معصيةً كبيرةً، فتابَ منها، فلا يُشترطُ في قبولِ شهادتِهِ على مَن زالتِ العداوةُ بينه وبينه الاختبار على الأصحِّ؛ لأن العداوةَ ليستْ من الأمورِ التي تميلُ النفوسُ إليها، بل هي مكروهةٌ للنفوسِ غالبًا. * * *
ولو كانَ فسقُ الشاهدِ مختلفًا فيه، أو كانَ مع فسقِه أهلًا للشهادَةِ عند قومٍ يحكى عنهم قبولُ شهادَةِ الفاسقِ الذي لا يكذِبُ (¬1)، وشهدَ عندَ مَن يرى فسقَهُ، أو يرى أنَّه لا تقبلُ شهادَتُهُ، وإن كانَ لا يكذبُ، ولم يحكم بردِّ شهادته، وإنما توقَّفَ ليستبرئ حالَه، ثم تابَ وأعادَ تلك الشهادةَ، فإنها تُقبلُ، كما قالَ شيخُنا؛ لأنَّه لا يدفعُ عن نفسهِ بالإعادَةِ عارَ الكذِب، ولا عار الردِّ لعدمِهِ (¬2). ويشترطُ في توبةِ معصيةٍ قوليةٍ القولُ (¬3)، إذا كان يُبرِزُها قائلُها على صورةِ أنَّه مُحِقٌّ فيها، كالقاذِفِ، والشَاهدِ بالقذفِ، إذا لم يتمَّ الشُّهودُ، والشاهدُ بالزورِ -على ما سيأتي-، فيقولُ القاذِفُ: القذفُ باطلٌ حرامٌ، ولو قالَ: ما كنتُ مُحِقًّا في قذفِي، وقد تُبْتُ منه، ونحو ذلكَ كانَ كافيًا، وكذلكَ يكتفي بقولهِ: تُبتُ من القذفِ. وأمَّا شهادَةُ الزُّورِ، فإن ثبتَ زورُ الشاهدِ بإقرارِهِ فقد اعترَفَ بلسانِهِ بزورهِ، ويكفيه ذلك، وإن ثبتَ بغير إقرارِهِ فيكفيهِ أَنْ يقولَ: تبتُ من شهادَةِ الزورِ. ويُشترطُ في القوليَّةِ وغيرِ القوليَّةِ إقلاعٌ وندمٌ، واستغفارٌ، والخروجُ مما عليه من ظَلَامةِ آدميٍّ، فلو تلفَ المالُ الذي ظَلَمَ بأخذِهِ أو أتلفه ثُم أَعْسَرَ به فإنَّه يُنظرُ به إلى ميسرتِهِ، وصحَّتْ توبتُه. ¬
فصل
ولو بَذَلَ مَن عليه القِصاصُ نفسَه ليستوفَى منه فلم يستوفَ، فقد جزمَ الماورديُّ (¬1) بصحَّةِ توبته، وقال: لأنَّ عليه الانقيادَ، وليس عليه الاستيفاء. انتهى. ومن شروطِ صحَّةِ التوبةِ أن لا يصلَ الإنسانُ إلى حالة الغرغرةِ وإلى حالةِ الاضطرابِ. * * * فصل يحكمُ في هلالِ رمضانَ بشاهدٍ بالنسبةِ إلى الصيامِ فقطْ، إذا قُلنا بالقولِ القائلِ به، فإذا قُلنا بقولِ الشافعيِّ الذي رجعَ إليهِ فلا يقبل فيه إلَّا شاهدانِ، وهذا هو المعتمدُ (¬2). ويشترطُ للزِّنا واللواطِ وإتيانِ الميتةِ والبهيمةِ أربعةُ رجالٍ (¬3) يقولون: رأيناه أدخل ذكرَهُ في فرجِ امرأةٍ أجنبيَّةٍ، بحيثُ غابتْ حشفتُهُ في فرجها، أو غابَ قَدْرٌ ضامنٌ مقطوعَها، أو ثَنَى ذكرهُ وأدخَلَ منَ المثنى قدرَ الحشفةِ، حيث أمكنَ فعلُ ذلكَ في حالِ يقظتِهِ. ويشترطُ للزنا رجلانِ يشهدانِ بالتفصيلِ بالنسبة إلى هيئة الفعل، وفي قول أو وجهٍ أربعةٌ (¬4). ¬
ويشترطُ لثبوتِ المال (¬1) ولو في السرقة دونَ القطع رجلان أو رجلٌ وامرأتانِ حيثُ لم تسبقْه الشهادَةُ الواحدةُ بالجنايَةِ الواحدَةِ على واحدٍ بما لا يثبتُ برجلٍ وامرأتينِ. ويشترطُ لثبوتُ العقدِ الماليِّ الذي لا يكونُ فيه إذنٌ يقتضي صحَّة التصرُّف رجلانِ أو رجلٌ وامرأتانِ، كبيعٍ وإقالةٍ وحوالةٍ، وضمانِ مالٍ لا إحضارَ بدنٍ، وحقٍّ ماليٍّ موجودٍ كخيارٍ وأجلٍ أو غيرَ موجودٍ، ولكنه يؤولُ إليه، كحقِّ التحجُّرِ وطاعةِ الزوجَةِ وقتلِ الكافِرِ الذي يترتَّبُ عليهِ استحقاقُ السَّلَبَ وأزمان الصيدِ الذي يترتَّب عليه مِلْكُ الصيد، وعجزِ المكاتبِ عن النجوم فإنَّه يترتبُ عليه الرقُّ الذي تجدد للسيدِ، والإبراءِ فإنَّه إسقاطُ مالٍ، والترجمةُ في الدعوى بمالٍ، ويشترطُ لغير ذلك من عقوبةٍ للَّه تعالى، أو لآدميٍّ. وما يطِّلعُ عليه رجالٌ غالبًا أو للناس اطلاعٌ عليه، لكنه ليس كالذي قبله كنكاحٍ وطلاقٍ ورجعةٍ وإسلامٍ وردَّةٍ وجرحٍ وتعديلٍ وموتٍ بغير قتلٍ يوجبُ المال، وإعسارٍ في غيرِ المكاتبِ كما سبق، ووكالةٍ ووديعةٍ وشهادةٍ على شهادةِ رجلانِ، وما يخفَى على الرِّجالِ غالبًا كالبكارَةِ وولادةٍ وحيضٍ، ورضاعٍ من ثدي المرأةِ، وعيوبٍ تحتَ الثيابِ من النساءِ غير جراحَةٍ تحتَ الإزارِ يثبت برجلٍ وامرأتينِ، وبأربع نسوةٍ (¬2). وأمَّا العيبُ في الأمةِ تحتَ ثيابِها غير ما تحتَ الإزارِ الذي يقصدُ منه المالُ فلا يثبتُ بالنسوةِ المتمحضات، وما لا يثبتُ برجلٍ وامرأتينِ، لا يثبتُ برجلٍ ¬
ويمينٍ، وما يثبتُ بهم يثبتُ برجلٍ ويمينٍ إلَّا عيوب النساء ونحوها. ويستثنى من ذلكَ العيبُ الذي يتعلَّقُ بِه المالُ، فإنَّه يثبتُ بالشاهدِ واليمين، ويستثنَى أيضًا الترجمة في الدعوى بالمالِ، فإنها تثبت برجلٍ وامرأتينِ، ولا مدخل للشاهدِ واليمين فيها (¬1)، وكذلك الترجمة عن مقالةِ الشُّهودِ لا مدخلِ للشاهد واليمين فيها، ولا يثبت شيءٌ بامرأتينِ ويمينٍ، وإنما يحلف المستحق بعد شهادَةِ شاهده وتعديله، ويجب أن يَذْكُرَ في حلفِهِ صدقَ الشاهدِ فيما شهد له به، فإن ترك الحلفَ وطلبَ يمينَ خصمِه؛ فله ذلك، فإن نكلَ المدعَى عليهِ عَنِ الحلفِ فللمدَّعي أن يحلفَ يمينَ الردِّ على الأظهَرِ. ولو كانَ بيده أمة وولدها فقال رجل: "هذه مستولدتي، وهي باقيةٌ على مِلكي على حكمِ الاستيلادِ، وهذا الولدُ منِّي علقتُ به في ملكِي"، وحلفَ مع شاهده ثبتَ ملك المستولدة بالحجَّةِ الناقصَةِ، وثبت الاستيلادُ بإقرارِهِ لا نسبَ الولد وحريَّتهِ على الأظهَرِ، بل يبقَى في يدِ المدعَى عليه (¬2). ولو كان بيدِهِ غلامٌ فقالَ رجلٌ: كان لي وأعتقتهُ، وحلف مع شاهدِهِ فنصَّ الشافعيُّ أنَّه ينتزعُ منهُ ويحكم بأنَّه عتقَ على المدعي بإقرارِهِ (¬3). وإن ادَّعت ورثةُ ميِّتٍ مالًا لمورثِهم، وأقاموا شاهدًا حلفَ معهُ بعضهُم، فإنَّه يأخذُ نصيبَهُ ولا يشاركُ فيه، ويبطلُ حق مَن لم يحلفْ بنكولِهِ، ولم يقم شاهدًا مع الشاهدِ الأوَّلِ، فان كانَ غيرَ مَن حلفَ مع الشاهدِ صبيًّا أو مجنونًا، ¬
ثم زالَ عذرهما حَلَفَا، وأخذا بغير إعادَةِ الشهادَةِ، أو كانَ غائبًا فأرسلَ إليه القاضي من حلَّفَهُ وهو غائبٌ، أو حضرَ فحلفَ أخذ بغيرِ إعادَةِ الشهادَةِ (¬1). * * * ولا تجوزُ شهادةٌ على فعلٍ؛ كزِنى وغصبِ وإتلافٍ وولادَةٍ إلَّا بالإبصار، وتقبلُ من أصمَّ (¬2). نعم (¬3)، تقبلُ من أعمى بأَن يضعَ يدَهُ على ذَكَرٍ داخلٍ في فرجِ امرأةٍ أو دبرِها، أو دبرِ صبيٍّ فأمسكَهما ولزمهما، حتى شهدَ عند الحاكمِ بما عرفه بمقتضى وضع اليدِّ، فهذا أبلغُ من الرؤيةِ، وكذلك في بقيَّةِ الأفعالِ (¬4). وأمَّا الأقوالُ كالعقدِ (¬5)؛ فيشترطُ سمعُها وإبصارُ قائلِها، وأن يكونَ الشاهدانِ عارفينِ باللغةِ التي يعقد النكاحُ بها، ولا يقبلُ أعمَى إلَّا في الترجمَةِ، وما شهدَ فيه بالاستفاضَةِ، وما إذا أقر في أذنِهِ فيتعلَّق به حتى يشهدَ عندَ قاضٍ به عليه، أو يشهدُ على شهادَةِ بصيرٍ ويسترعيه، حيث تسوغ الشهادَةُ على الشهادَةِ، وما إذا تحمَّلها وهو بصيرٌ، ثم عميَ، فإنَّه يشهدُ بها؛ إن كان المشهودُ له وعليه معروفي الاسمِ والنسب (¬6). ¬
ومن سمعَ قولَ شخصٍ أو رأى فعله، فإن عرفَ عينَه شهدَ عليه في حضورِهِ إشارةً، وغيبتِه وموتِه جثُ لا يمكنُ إحضارُهُ وهو ميتٌ يشهدُ باسمِه واسم أبيهِ، إن عرَّفه القاضي بذلك، فإن لم يعرِّفْه بذلك لم يشهدْ عند غيبتِهِ وموتِهِ. ولا يجوزُ تحمُّلُ الشهادَةِ على المرأةِ المنتقبة اعتمادًا على الصوتِ، كذا قالوه، ولكنَّ التحمُّلَ جائزٌ، فإن وجد ما يقتضي الإثبات عمل به، وإلَّا فلا (¬1). وعلى قولنا: التحملُ جائزٌ على المنتقبة، فيجوز التحمُّل عليها بتعريف عدلٍ أو عدلين، ولكن لا يجوز اعتماد ذلك في الأداء. ولو قامت بينةٌ على عينه بحقٍّ، فطلبَ المدعي التسجيلَ، سجَّل القاضي بالحلية لا الاسم والنسب، ما لم يثبتا (¬2)، إما بإقرارِ مَن قامتْ عليه البينةُ أو بالبينةِ وله الشهادة بالتسامع على نسبٍ من أبٍ وقبيلةِ لا الأم على الأصحِّ المنصوص؛ بشرط أن يسمعَهُ ينسب زمانًا، ويسمعَ غيرَه ينسبُهُ إلى نسبِهِ، ولم يسمع دافعًا ولا دلالة يرتاب بها (¬3). ومما تقبلُ فيه الشهادَةُ بالتسامع: ولايةُ القضاءِ، والولاياتِ العامَّةِ، وعزلُ القاضِي والخلافةُ هي الأصلُ، فالاكتفاء فيها بالاستفاء (¬4) منهُ أولَى، وما أثبتَ التحريمَ المؤبَّدَ من الرضاعِ أو المصاهرةِ والجرحِ والتعديلِ والحريةِ الأصليةِ بناءً على الأصلِ، وما ظهرَ من القرائنِ. ومما يثبتُ بالسماعِ الملكُ غير حدود العقارِ بشرطِ أن لا نرى منازعًا في ¬
فرع
الملكِ، والاعتبار لا العتقِ والولاء، والنكاحِ، والوقفِ على المنصوصِ (¬1). وشرطُ التسامعِ أَنْ يتظاهرَ الإخبارُ بحيثُ يثبتُ في قلبِ السامِعِ معرفتُهُ. هكذا اعتبرَهُ الشافعيُّ، وذكرَ ابنُ الصباغِ عن جماعةٍ من أصحابنَا المتأخِّرينَ أنَّه يكفِيهِ أَنْ يسمعَ من عدلينِ، ويسكنَ قلبُهُ إلى خبرهِما، وقد تقدَّمَ أنَّ هذا القيدَ ذكرَهُ الشافعيُّ (¬2). ولا تجوزُ الشهادَةُ على ملكٍ بمجرَّدِ يدٍ ولا بيد، وتصرُّف في مدة قصيرةٍ، وتجوزُ في المدةِ الطويلةِ على الأصحِّ (¬3). وشرطُهُ تصرُّف ملاكٍ في عقارٍ من سكني أو هدمٍ أو بناءٍ وتصرفِ ملاكٍ فيه وفي غيرهِ؛ من عبيدٍ وثيابٍ ونحوهما ببيعٍ أو رهنٍ، ولا بدَّ من تكرُّرِ التصرُّفِ بحيثُ يغلبُ على الظنِّ الملكُ، فيشهدُ له به. وتُبنَى شهادةُ الإعسارِ على قرائنَ ومخايلِ الضر والإضاقة، ويشترطُ في الشهودِ -مع شرطِ الشاهدِ- الخبرةُ الباطنةُ بطولِ الجوارِ أو المخالطَةِ (¬4). * * * فرع: تحمُّلُ الشهادَةِ فرضُ كفايةٍ في نكاحٍ وعقد الوكيلِ المقيد بالإشهادِ، بحيثُ لا يصحُّ ذلك العقدُ إلَّا به، وكذا إقرارٍ وتصرُّفٍ وكتابةِ صكٍّ وشهادة ¬
وأما الأداء فلوجوبه شروط
على شهادة على الأصحِّ (¬1). ومحلُّ كونِه فرضَ كفايةٍ: إذا كانَ المتحمِّلونَ كثيرينَ، فأمَّا إذا لم يوجدْ إلَّا العدد المعتبرَ في الحكمِ، فإنَّ التحمُّلَ حينئذٍ يكونُ فرضَ عينٍ، وحيث يكونُ فرضَ كفايةٍ بما تقدَّمَ، فلو طلبَ التحمُّلَ من اثنين وتم غيرهما لم يتعيَّنا. ومحلُّ كونِهِ فرضَ كفايةٍ: إذا حضرَهُ المتحمِّلُ، وكان الشاهدُ مستجمعًا لشرائطِ العدالةِ معتقدًا لصحَّته، فأمَّا إذا دعي إلى التحمُّلِ، فالأصحُّ أنَّه لا يجيبُ إلَّا إذا كانَ الداعي قاضيًا، أو معذورًا بمرضٍ، أو حبسٍ، أو كانتِ المرأةُ المطلوبُ التحمل عليها مخدَّرَةً. وإذا لم يكنْ في القضيةِ إلَّا اثنانِ لزمهما الأداءُ، فلو أدَّى واحدٌ وامتنعَ الآخرُ، وقال: أحلفُ معهُ، عصى، وإن كانَ في القضيةِ أكثرُ من اثنينِ فالأداءُ فرضُ كفايةٍ، وإذا طلبَ من اثنين لزمهما في الأصحِّ إن علِما أنَّ الباقينَ يرغبونَ أو لم تبِن رغبتُهم ولا آباؤهم (¬2). وإذا لمْ يكُنْ إلَّا واحدٌ وطلبَ منهُ لزمَهُ؛ إن كانَ فيما يثبتُ بشاهدٍ ويمينٍ عند قاضٍ يراهُ، وإلَّا فلا (¬3). * وأمَّا الأداءُ فلوجوبِهِ شروطٌ: أَنْ يُدْعى من موضع لا يخرجُ به عن بلدِهِ، ويعتادُ المشي إليه. ¬
فصل
وأن يكونَ عدلًا، فإن دعي ذو فسقٍ مجمعٍ عليه -قيل: أو مختلف فيه عندَ الحاكمِ الذي يرى تفسيقَهُ وكان الحاكمُ مجتهدًا- وكانَ الفسقُ ظاهرًا لا يجوزُ له أن يشهدَ، وأن لا تحصلَ مشقَّةٌ للمدعو من مرضٍ ومطرٍ ووحلٍ، وكون المرأةِ مخدَّرةً، فإن حصلت أشهد على شهادته، أو بعثَ القاضي من يسمعها (¬1). * * * فصل تقبلُ الشهادَةُ على الشهادَةِ ولو في عقوبةٍ لآدميٍّ على المذهبِ (¬2)، لا في عقوبةٍ للَّهِ تعالى على الأظهرِ، وإنما يجوزُ التحمُّلُ إذا علم أنَّ عندَ الأصلِ شهادةً جازمةً بحقٍّ ثابتٍ، ولمعرفته أسباب: أحدها: أن يسترعيه الأصلُ، فيقولُ: أنا شهدٌ على زيدٍ بكذا، وأشهدك على شهادتي، أو يقول: اشهد على شهادتِي، أو يقول: إذا استشهدتَ على شهادتِي فقد أذنتُ لكَ في أَنْ تشهدَ على شهادَتِي. الثاني: أَنْ يسمعَهُ يشهدُ عندَ قاضٍ بأنَّ لفلانٍ على فلانٍ كذا، فيجوزُ له أن يشهدَ على شهادتِه، وإن لم يسترعِه. الثالثُ: أن يسمعه يسترعي شاهدًا للتحمُّلِ، فإنَّ له أن يشهدَ وإن لم يسترعِهِ. ¬
الرابعُ: إذا سمعَهُ يؤدِّي عند المحكِّمِ، إذا جوَّزنا حكمُه. الخامسُ: لو كانَ حاكمًا أو محكِّمًا فشهدا عندَهُ ولم يحكمْ به، جازَ له أن يشهدَ على شهادتِهما، ولا يكفي ذكرُ السببِ بأن يقولَ: أشهدُ أنَّ لفلانٍ على فلانٍ ألفا من ثمنِ مبيعٍ أو غيرِهِ، بل لا بدَّ من الاسترعاءِ على المذهبِ المنصوصِ، وليبين الفرع عند الأداءِ جهةَ التحمُّلِ، ولو وثقَ القاضِي بعلمِهِ. * * * ولا يصحُّ التحمُّلُ على شهادَةِ مردودِ الشهادَةِ، ولا تحمُّلُ النسوةِ (¬1)، ولا الخناثى، لكنْ لو تحمَّلَ وهو خُنثَى، ثم بانَ أنَّه رجلٌ فإنّه يجوزُ تحمُّلُهُ، ويجوزُ الأداءِ بالتحمُّلِ في حالةِ الخُنوثَةِ، كما في تحمُّلِ العبدِ والفاسقِ ونحوهما إذا حصلَ الأداءُ في حالةِ الكمالِ. فلو ماتَ الأصلُ، أو غابَ أو مرض لم تمنعْ شهادةُ الفرعِ، وإن حدثَتْ ردَّةٌ أو فسقٌ أو عداوةٌ مُنِعَتْ شهادةُ الفرعِ (¬2)، فلا يحكمُ القاضِي بها، ويستثنَى من هذا ما إذا كانَ الفرعُ شاهدًا على شهادَةِ مَن قضى بعلمِه، فإنها شهادَةٌ على شهادَةٍ ملازمةٍ للقضاءِ، فإذا حدث من القاضي بعلمه ردةٌ أو فسقٌ أو عداوةٌ، فإنَّ ذلكَ لا يمنعُ من قبولِ شهادَةِ الفرعِ والعملِ بها، ولو حدثتْ عداوةٌ بسببٍ كقذفٍ مجردٍ بعد أداءِ الشهادةِ وقبل الحكمِ لم يؤثِّرْ على المنصوصِ، وجنونه، كموتِهِ على الصحيحِ (¬3). ¬
فصل
وتكفي شهادةُ اثنين على الشاهدينِ، على الأظهرِ (¬1)، وشرطُ قبولها تعذُّر أو تعسُّر الأصيلِ بموتٍ، وكذا عمى على الصحيح، أو مرضٍ يشقُّ معه حضورُهُ أو غيبة إلى ما فوق مسافة العدوى، وقيل: قصر، وأن يسمِّيَ الفرعُ أصلَهُ، ولا يشترطُ أن يزكيهم الفروعُ، فإن زكوهم قبلوا، وإن شهدوا على شهادَةِ عدلينِ أو عدولٍ، ولم يسموهم لم يجز (¬2). * * * فصل رجعوا عن الشَّهادَةِ قبلَ الحُكمِ امتنعَ الحكمُ (¬3)، إن لم يبقَ بعد الراجح النصابُ المعتبرُ في ذلك المحلِّ، وإذا بقي في المالِ واحدٌ، وقال صاحبُ المالِ: حلِّفونِي مع شاهدي، فإنَّهُ يُجابُ إلى ذلكَ، ولا يمتنعُ الحكمُ حينئذٍ. وإن رجعوا قبلَ الحكمِ وبعدَ الاستيفاءِ فإن كانَ في عقدٍ أو مالٍ استُوفي على المذهبِ، وقيل: لا يستوفي، أو عقوبةٍ فلا تستوفَى، وإن رجعوا بعدَ الاستيفاءِ فإنْ كان المتسوفى قصاصًا أو قتلَ ردَّةٍ أو رجم زنًا أو جلدًا ومات عن الجلد الخارجِ عنِ الحدِّ إلى أن صارَ يقتل غالبًا، أو قطعَ سرقةٍ، وقالوا: "تعمَّدنا وعلمنا أنَّه يقتلُ أو يقطعُ بشهادتنا"، فعليهمُ القصاصُ حيث اقتضَى الحالُ إيجابُ القصاصِ وديةٌ مغلَّظة، حيث اقتضى الحالُ إيجابُ الدِّيةِ (¬4). ¬
وكذلك الحكمُ لو قالَ أحدهما: "تعمَّدتُ ولم أعلم حالَ من شهد معي"، وقال صاحبُهُ مثلُهُ، واقتصَرَ على قوله: "تعمَّدتُ"، ولو قالَ أحدهما: "تعمَّدتُ أنا وصاحبي"، وقال الآخرُ: "أخطأتُ، أو أخطأنا، أو تعمَّدت وأخطأ صاحبي"، فلا قصاصَ على الثاني، وعلي الأوَّلِ القصاصُ على الأصحِّ. وإذا لم يمتْ من الجَلْدِ تعلَّقَ بهم التعزيرُ، وإن حصلَ أثرٌ في بدنِ المحدودِ بحيثُ يقتضِي الحالُ إيجابَ حكومةٍ، فإنَّه يجبُ عليهم ذلكَ، ويجبُ على القاضِي القصاصُ إنْ قالَ: تعمَّدتُ. وإذا اقتضى الحالُ إيجابَ الديةِ، فعلى القاضِي إذا رجع وحدَهُ كلَّ الديةِ، نظرًا إلى استقلالِ جهةِ الحكم كاستقلالِ جهةِ الشهادَةِ إذا رجعَ الشهودُ وحدهم، وإن رجعَ القاضِي والشهودُ، فالقصاص على القاضِي وحدَهُ على الأصحِّ، كما إذا رجعَ الوليُّ والشهودُ، فإدنَ القصاصَ يختصُّ بالوليِّ، ولو رجعَ مُزكٍّ تعلَّق به القصاصُ عند وجودِ مقتضيه على أصحِّ الوجوهِ في "الروضةِ" تبعًا للشرحِ. وإن رجعَ الوليُّ وحدَهُ فعليه قصاصٌ أو ديةٌ أوْ مَعَ الشُهودِ، فكذلكَ، وقيلَ: هو وهم شركاءٌ، ثم محلُّ اختصاصِ الوليِّ بالقصاصِ أوِ الدِّيةِ إذا توقَّفَ الحكمُ على طلبِ الوليِّ، وكانَ في القصاصِ المحصنِ، فأمَّا إذا كانَ القتلُ في قطعِ الطريقِ، فلا أثرَ لرجوعِهِ، ولو قُلنا: إن المغلَّبَ فيه معنى القصاصِ، للاتفاق على أنَّه لا يسقطُ بعفوِه، وحينئذٍ فإذا استمرَّ القاضِي والشهودُ على ما صدر منهم فلا قصاص على الوليِّ، ولا ديةَ، كما سبقَ في قطعِ الطريقِ. وإذا شهدوا بطلاقٍ بائنٍ أو رضاعٍ محرِّمٍ، أو لعانٍ أو فسخٍ بعيبٍ، أو غيرها
من جهاتِ الفراقِ، وقضى القاضِي بشهادتِهما، وفرَّقَ بينهُما بعدَ الحُكمِ، ثم رجَعَا لم يرتفعِ الفراقُ، وعليهم مهرُ المثلِ للزَّوجِ المشهودِ عليهِ إلَّا في صورٍ (¬1): إحداها: إذا ماتَ الزَّوجُ بعدَ حُكمِ القاضِي بما صدرتْ به شهادَةُ الشُّهودِ، ثم رجعَ الشُّهودُ، فإنَّهم لا يغرمونَ لورثةِ الزَّوجِ شيئًا. الثانية: إذا أبانَ الزوجةَ بطريقٍ من الطُّرقِ بعدَ الحكمِ عليه بالبينونةِ على زعمهِ في أنَّ عصمتَهُ باقيةٌ، ثم رجعَ الشُّهودُ، فإنَّهم لا يغرمونَ له شيئًا. الثالثةُ: أَنْ ينكِرَ الزَّوجُ، وتقومُ عليهِ الشَّهادَةُ ويحكمُ القاضِي بها، ثم يقولُ الزوجُ إنَّ الشهودَ محقُّونَ فيما شهدُوا بِهِ، ثم يَرجِعونَ أو يُرجَعونَ، ثم يقولُ الزوجُ: هم محقُّونَ في شهادتِهم، فلا تغريمَ في واحدَةٍ من هاتينِ الصُّورتينِ. الرابعةُ: أَنْ تصدُرَ الشَّهادَةُ بالطَّلاقِ على عوضٍ على المرأةِ، أو على أجنبيٍّ نظيرَ مهرِ المثلِ، أو زائدٍ عليه، ويقضي القاضِي بشهادتِهم ثمَّ يرجعوا، فإنَّهم لا يغرمون للزوجِ شيئًا، كما صرَّحَ به الماورديُّ، ورجَّحَ شيخُنا الغرمَ، فعليهِ لا استثناءَ. الخامسةُ: إذا كانَ الزوجُ المشهودُ عليه بالبينونةِ عبدًا غيرَ مكاتَبٍ، فإنَّه لا يثبتُ له التغريمُ، لأنَّه لا يملكُ شيئًا من المالِ، ولا يمكنُ أن يثبتَ الغرمُ لمالكِهِ لعدمِ تعلُّقِه بزوجة عبده، ويجبُ في قولٍ نصفٌ المهر إن كانَ قبلَ وطئ، ومتى شهدوا بطلاقٍ وحصلَ التفريقُ، ثم رجعوا فقامتِ بينةٌ إن كان بينهما رضاعٌ محرِّمٌ، فلا غرمَ. ¬
ولو رجعَ شهودُ مالٍ غرموا في الأظهرِ إذا لم يشهدُوا بعوضِ المالِ الذي فوَّتوهُ بشهادتِهم بقدرِ قيمتِهِ، فإن شهدوا بذلك، فلا غرمَ. * * * ومتى رجعَ الشُهودُ كلُّهم في أمرٍ متحدٍ في الواقعةٍ وزِّعَ عليهمُ الغرمُ، حيث ثبت التغريمُ، وإن رجعَ بعضُهم، وبقي نصابٌ فلا غُرمَ على النصِّ، وقيل: يغرمُ قسطَه، وإن زادَ ونقصَ بالرجوعِ كانَ على الراجعِ حصَّةٌ بمقتضَى التوزيعِ على الكلِّ (¬1). وإن شهدَ رجلٌ وامرأتانِ ثمَّ رجعُوا فعليه نصفٌ وهما نصفٌ، أو رجلٌ وأربعُ نسوةٍ في رضاعٍ، ثم رجعَ الرجُلُ وحدَهُ، فلا غُرمَ عليه على الأصحِّ، لبقاءِ أربعِ نسوةٍ، وإن رجعَ امرأتانِ فقط فلا غرمَ عليهما، على الأصحِّ لبقاءِ رجلٍ وامرأتينِ، وإنْ رجعَ رجلٌ وامرأةٌ، فقد نقصتِ الحُجَّةُ، فيكونُ على الراجِعينَ نصفُ الغرمِ، وهو حصَّتُهم بمقتضَى التوزيعِ على الكُلِّ، وكذلكَ لو رجعَ ثلاثُ نسوةٍ وبقي رجلٌ وامرأةٌ، ولو رجعَ رجلٌ وامرأتانِ، فعليهم ثلثا الغرمِ، ثلثٌ على الرجلِ، وثلثٌ على المرأتينِ، وإذا شهدَ رجلٌ وأربعٌ بمالٍ، ثم رجعَ الرجلُ وحدَهُ غرمَ بلا خلافٍ تفريعًا على الغُرمِ في المالِ، وهو الأرجحُ، ويغرمُ النصفُ على مقتضَى ما صحَّحُوه، وعلى مقابله الثلث، ولو قيلَ: يغرمُ الكلُّ لكانَ له وجهٌ؛ لأنَّ الرجلَ الأصلُ، والنساءُ لا مدخلَ لهنَّ في الأموالِ إلَّا تبعًا، فإذا زالَ المتبوعُ زالَ التابعُ. نبَّه على ذلك شيخُنا. وإن رجَعَ من النسوةِ ثنتانِ فلا غُرمَ عليهما، وإن رجع ثلاثٌ غرمنَ النصفَ على مقتضَى النصِّ؛ توزيعًا للكل على الكُلِّ. وإذا رجعَ الشاهدُ في صورةِ ¬
الشاهدِ واليمينِ، غرمَ النصفَ على الأصحِّ بناءً على أنَّ القضاءَ بهما، وهو الأصحُّ، والأرجحُ كما قالَ شيخُنا أنَّ شهودَ إحصانٍ مع شهودِ زنًا، أو صفة مع شهود تعليق طلاقٍ وعتقٍ يغرمون (¬1). * * * ¬
كتاب الدعوى والبينات
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ كتابُ الدَّعوَى والبيناتِ الدَّعوَى لغةً: الطلبُ، ومنهُ قولُهُ تعالَى: {وَلَهُم مَّا يَدَّعُونَ}، وأَلِفُها للتأنيثِ، فلا تنوَّنُ، وتُجمعُ على دعاوَى، بفتحِ الواوِ وكسرِها. وشرعًا: إخبارٌ بنزاعِ حقٍّ أو باطلٍ بمجلسِ الحُكمِ. والبيناتُ: جمع بيِّنةٍ، وهم الشهودُ؛ سُمَّوا بذلكَ لأنَّ بهم تتبيَّنُ الحقوقُ، والأصلُ في البابِ قولُهُ تعالى: {وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ} الآية. ومن السنةِ ما رواهُ الصحيحانِ عنِ ابنِ عبَّاسٍ، أنَّ رسولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "لو يُعطَى الناسُ بدعواهم؛ لادَّعى ناسٌ دماءَ رجالٍ وأموالَهُم، ولكن اليمينُ على المدَّعي عليه" (¬1). ورواهُ البيهقيُّ بلفظ: "البينةُ على المدعِي، واليمينُ على من ¬
أنكرَ" وإسنادُهُ حسنٌ (¬1). لا بدَّ من المرافعةِ إلى القَاضِي، والدعوَى إن كانَ المستحَقُّ عقوبةً كالقصاصِ، وحدِّ القذفِ، والمحكم كالقاضِي إذا رضيا بحكمِهِ، والسيدُ يسمعُ الدعوَى على عبدِهِ، وإن لم يكنْ قاضيًا، وإذا استحقَّ عينًا فله أخذُها، إن لمْ يخفْ فتنةً، وكذا إنْ خافَ فتنةً خفيفةً لا ينتهي الحالُ فيها إلى ارتكابِ مفسدةٍ مقتضيةٍ للتحريمِ، وإلَّا فإن كانَ المستحِقُ رشيدًا، فلهُ التركُ، فلو أرادَ الخلاصَ، فلا بدَّ من الرفعِ إلى قاضٍ أو محكمٍ، فإنْ كانَ المتكلمُ في ذلكَ وليًّا لمحجورٍ عليه، أو ناظرَ وقفٍ وجبَ الرفعُ. وإنْ كانَ المستحَقُّ دينًا على غيرِ ممتنعٍ من الأداءِ طالَبَهُ، ولا يحلُّ أخذَ شيءٍ له أو على منكرٍ، أو محجورٍ عليه لسفهٍ أو جنونٍ، أو غيرِ ذلكَ من وجوهِ الحجرِ، غيرَ الفلسِ، ولا بينة أخذ جنسِ حقِّه إن كانَ مثليًّا، فإن كانَ متقوَّمًا فحكمُهُ حكمُ غيرِ الجنسِ، وهو أنَّه يأخُذُ غيرَ جنسه على المذهبِ إذا فقدَه، فكذا هنا. وغيرُ الجنسِ إذا لم يكن مثليًّا يأخذ قيمته من الدراهِمِ والدنانيرِ، ولا يعدلُ إلى العوضِ إلَّا (¬2) عندَ عدمِ النقدِ المذكور. وإذا كانَ المديونُ محجورًا عليه بفلسٍ، وهو منكرٌ ولا بيَّنةَ، فإنَّ صاحبَ الدينِ لا يأخذُ من مالِه إلَّا قدرَ حصَّته بمقتضى المضاربة إن علمَ قدرَ حصته من ذلك، فإن لم يعلم قدر حصَّته امتنع عليه الأخذُ لئلَّا يأخذ ما يستحقُّه الغرماءُ دونه، ¬
والحكم في الميتِ المديونِ كذلك، وإن لم يُحْجَزْ عليه في حياتهِ. وإن كان على مُقِرٍّ ممتنعٍ من الأداءِ، أو منكِرٍ وله بينةٌ فكذلك، وفي وجهٍ: يجبُ الرفعُ إلى القاضِي، وإذا جازَ الأخذُ فلهُ كسرُ بابٍ، ونقبُ جدارٍ، لا يصل إلى المالِ إلَّا به (¬1)، إذا كانَ البابُ أو الجدارُ للمديونِ المقصر بما ذكر، وأن يكونَ المديونُ غيرَ محجورٍ عليه بفلسٍ، وغيرَ راهنٍ الدَّارَ التي يُفعلُ في بابِها وجدارِها ما ذُكر الرَّهنَ اللازمَ بالقبض المعتبر، ولم يطرأ على المديونِ المقصِّرِ حَجْرُ سفهٍ. قال شيخُنا: والوقوف على إجازَةِ الكسرِ والنَّقبِ أولى. ثم إذا كان المأخوذُ من جنسِ الحقِّ مَلَكَهُ بمجردِ أخذِهِ عن حقِّه، ومن أخذه يبيعه بثمنِ المثلِ من نقدِ بلدِ الأخذِ حالًا أو معينًا، ويستوفي من النقدِ إن كانَ دينُه من ذلك النقدِ، وعندَ الاستيفاءِ بملك الذي استوفاه من النقدِ، وإن كانَ دينُهُ غيرَ نقدٍ فإنَّه يشتري بالنقدِ من جنسِ الدينِ الذي له بقيمةِ المثلِ، ويستوفي الدينَ الذي له ويملكه عند الاستيفاءِ، ولا يحتاجُ بها البيعِ إلى إذنِ القاضِي حيث كانَ القاضِي جاهلًا بالحالِ، ولا بينةَ، والمأخوذُ مضمون عليهِ في الأصحِّ إنْ كانَ منْ غيرِ الجنسِ، فإن كانَ من الجنسِ ضمنَهُ قطعًا، وإذا تعذَّرَ عليهِ جنسُ حقِّه فعدَلَ إلى غيرِ جنسِهِ جازَ، وإذا أخذَهُ صارَ ضامنًا لهُ قبلَ أن يبيعَهُ، وبعدَ أن يبيعَهُ إلى أَنْ يُسلِّمَهُ، فإذا سلَّمَهُ لا يكونُ ضامنًا له، ويصيرُ ضامنًا لما استوفَى من ثمنِهِ ضمانَ يدٍ مترتبةٍ على الاستيفاءِ. والمذهبُ المعتمدُ أنَّه لا يجوزُ لزيد أن يأخُذَ من مالِ بكرٍ ما لعمرٍو على بكرٍ، حيث كان لزيد على عمرو مال، خلافًا لما في "الروضة" (¬2) تبعًا للشرحِ، ¬
والأظهرُ أنَّ المدعي مَن يخالفُ قولَهُ الظاهر أو قرب منه، وفي قولٍ: مَن يخلّى وسكوتُهُ، والمدعى عليه بخلافِه فيهما (¬1). * * * واعلم أنَّ الظاهرَ غيرُ مطردٍ، فإنَّ مَن يدعي عدالة من شهدَ له من مستوي الحالِ لا يخالفُ قوله الظاهرُ، وهو مدعٍ قطعًا، وكذلك دعواه حريةَ من شهدَ لهُ أنَّ الظاهرَ في الناسِ الحريةُ، وقد جعلناهُ مدعيًا، فإذا أسلمَ زوجانِ قبل وطءٍ وجاءانا مسلمَيْنِ، فقال الزوجُ: أسلمنا معًا، فالنكاحُ باقٍ، وقالت: مرتبًا، على وجهٍ يقتضي انفساخَ النكاحِ. فالأظهرُ أنَّ القولَ قولُ الزوجَةِ بيمينِها؛ لأنَّ الظاهرَ هنا هو المعتادُ في إسلامِ الزوجينِ، وهو التعاقُبُ، وخالفَ في ذلك شيخُنا، فرجَّح أنَّ القولَ قولُ الزوجِ بيمينِهِ (¬2). ومتى ادَّعى نقدًا ولم يعين فيه جهةً يتعينُ فيها الحلولُ، فلا بدَّ من التعرُّضِ للحلولِ. ويشترطُ بيان النوعِ، ويكفي ذكرُهُ عنِ الجنسِ إذا عُرِفَ من ذِكْرِ النوعِ الجنسُ المدعَى وقدر إلَّا في الدينارِ والدراهِمِ، فلا يحتاجُ إلى ذكر القدرِ، ويحملُ على الدينارِ الشَّرعيِّ والدِّرهمِ الشرعيِّ، وصحَّةٍ وتكسيرٍ إن اختلف الغرضُ بهما، وإن كانَ مغشوشًا فلا بدَّ من ذكرِ القيمةِ. وإن ادعى عينًا تنضبطُ بالصفاتِ المعتبرَةِ في السَّلمِ، كحيوانٍ وجب ولم تكن حاضرةً في مجلسِ الدَّعوى وصفها بصفةِ السَّلَم، إلَّا إذا كانَ الحيوانُ قد استحقَّ بوصيَّةٍ، بأن قال الموصي: أعطوه بنتَ مخاضٍ من إبلي، وله بنتا ¬
مخاضٍ فأكثر، فإنَّه إذا ماتَ ومنع الوارثُ المستحَقَّ مما أوصَى له مورِّثُهُ به يدعى الموصى له حيئذٍ باستحقاقِ بنتِ مخاضٍ من إبلِ الموصي، ولا يتعرَّضُ لوصفِها؛ لأنَّ الموصِي لم يتعرَّضْ لذلكَ (¬1). ومما يستثنَى أيضًا: ما أثبتَهُ الشارعُ بسنٍّ لا بصفةٍ، فيما أوجبَهُ من المواشِي في الزَّكاةِ، فإنَّه إذَا ادَّعى المستحقونَ المحصورونَ على المالكِ بذلك، أو ادَّعى به حسبة حيث لم ينحصرِ المستحقُّونَ بناء على سماعِ دعوَى الحسبةِ، فإنَّه إنما يتعرَّضُ في الدعوى للسنِّ الذي أوجبَهُ الشارعُ، فيقولُ المستحقُّون المحصورون: نستحقُّ على هذا بنتَ مخاضٍ من النصابِ الذي وجبِ عليه فيه الزكاة، وهو خمسٌ وعشرون من الإبلِ السائمةِ التي حالَ الحولُ عليها وهي ملكه. ومما يستثثَى أيضًا: إذا قال مسلمٌ مكلَّفٌ رشيدٌ: إن شفَى اللَّهُ مريضي، أو ردَّ غائبِي، فللهِ عليَّ أَنْ أتصدَّقَ على الفقيرِ الفلانِي ببنتِ مخاضٍ من إبلي. وفي إبلِهِ بنتا مخاضٍ فأكثرَ، فإذا وجبَ عليه ذلك ومنع الفقيرَ مستحَقَّهُ، فالفقيرُ يدَّعي عليه بأنَّه يستحقُّ عليه بنتَ مخاضٍ من إبلِهِ، بمقتضَى النذرِ الذي صدَرَ منهُ، ولا يتعرَّضُ لوصفِ بنتِ المخاضِ؛ لأنَّ الناذِرَ لم يتعرَّضْ في النذرِ لوصفِها. وإن كانَ المدعى بِه عينًا غير نقدٍ، وهي مما لا يضبطُ بالصفَّةِ كالمختلطَاتِ التي لا ينضبطُ قدار أخلاطها، فيصفها على وجهٍ يحصل به التمييزُ، ولا يصفها بصفاتِ السلم. وإن كان المدعى بِه دينًا غيرَ نقدٍ، فإن كانَ دينًا ثبتَ بأمرٍ اختياريٍّ من بيعٍ ¬
وأجرةٍ وسلمٍ وقرضٍ، فلا يكونُ هذا إلَّا منضبطًا، فيذكرُ الصفةَ المعتبرةَ فيه، وفي. . . (¬1) يرد المثلَ من حيث الصورةِ في المتقوَّمِ، فلا بدَّ من مراعاةِ القيمةِ، فلا بدَّ من. . . (¬2) وإن كانَ المدعَى به دينًا ثبتَ بغيرِ الاختيارِ، كما في إبلِ الديةِ والغُرَّةِ في الجنينِ وما انتقلَ من العينِ إلى ذمَّةِ المالكِ في زكاةِ المواشِي. وأما زكاةُ الفطرِ فإنَّها لا تكونُ إلَّا في الذِّمَّةِ، فهذا إنما يضبطُ بما ضبطَهُ به الشارعُ، ولا يتعدَّى إلى غيرهِ، وإذا كانتِ العينُ تالفةً كفى الضبطُ لصفاتٍ إن كانتْ مثليَّة، ولا يشترطُ ذكرُ القيمةِ. فإن كانتْ مبيعةً لم يقبضها المشتري، لم يذكر الأوصاف وادَّعى الثمنَ فقط إن كان أقبضهُ أو بما أقبض منه، ولو كانت مثلية لكنها تضمن بالقيمةِ كما في المستعارِ، فإنَّه لا بدَّ من ذكرِ القيمةِ. وكذا حيثُ توجَّه الطلبُ بالقيمةِ في المثليِّ، كما ذكرَهُ شيخُنا في الغصبِ، وإن كانتْ متقوَّمةً شرطَ ذكر القيمةِ فقط. فإنَّ الواجبَ عندَ تلفِ العينِ إنَّما هو القيمةُ. هذا إذا لم تكنِ العينُ مبيعةً لم تُقبضْ. فإنْ كانتْ مبيعةً لم تقبضْ وتلفتْ في يدِ البائعِ، فإنَّ الواجبَ إنَّما هو الثمنُ للمشتري على البائعِ، إن كانَ البائعُ قد قبضَهُ، فيُذكرُ في الدَّعوَى الثمنُ لا القيمةُ كما تقدَّم. ولو كانتْ باقيةً، ولكنها في بلدٍ آخرَ، وهي البلدُ التي غصبها فيها، وكان لنقلِها مؤنةٌ فإنَّه يذكرُ قيمتها لأنها المستحقَّة في الحالةِ المذكورةِ. ويشترطُ في صحَّةِ الدَّعوى الالتزامُ، فيقولُ ويلزمهُ التسليمُ، إلَّا (¬3) إذا قصَدَ ¬
بالدعوى تحصيلَ المدعى به. ولا تصحُّ الدَّعوى بالمجهولِ إلَّا في مسائلَ؛ أفردناها بتصنيفٍ ورتَّبناها ترتيبَ أبوابِ الفقهِ. وتُسمعُ الدعوَى بالمختصاتِ كالكلبِ الذي يقتنى، والسرقين، والسرجين، ونحو ذلك طلبًا للردِّ لا للضمانِ. وإنِ ادَّعى نكاحًا لم يكفِ الإطلاقَ في الأصحِّ على الجديدِ، وعلى مقابله فلا بدَّ مِن تقييدِه بالصحَّةِ، وحيث قُلنا بالجديد، فيقولُ: نكحتُها بوليٍّ يصحُّ عقدُهُ، وإن كانَ فيها رقٌّ يقولُ: زوجنيها مالكُها الذي له إنكاحُها، وإن كان حرًّا قال: وأنا عاجزُ عن الطَّولِ، وخائف من العنتِ وهي مسلمة. إذا كان الزوجُ مسلمًا حرًّا كان أو عبدًا، وإن كانَا كافرينِ وحصلَ الإسلامُ، فلا بدَّ من التعرُّضِ لفقدِ طولِ حرَّةٍ، ووجود خوف العنتِ عندَ اجتماعهما على الإسلامِ، كما هو مقرَّرٌ في موضعِه. وفي المبعَّضَةِ يقولُ: تزوجتُها بوليٍّ ومالكٍ، ويذكر ما تقدَّمَ من الشروطِ، ويذكرُ مع الوليِّ شاهدَي عدلٍ ورضاها، إنْ كانَ يشترطُ. ويستثنَى من التفصيلِ أنكحةُ الكُفَّارِ، فلا يحتاجُ في الدَّعوى بها إليه، بل يقولُ: هذه زوجتِي. وإن ادَّعى استمرارَ نكاحِها بعد الإسلامِ فيذكرُ ما يقتضِي تقريرُه بعد الإسلامِ. وإنِ ادَّعى عقدًا ماليًّا كبيعٍ وهبةٍ كفى الإطلاقِ على الأصحِّ. ولا بدَّ من التقييدِ بالصحَّةِ كما سبقَ، ومَن قامتْ عليه بينةٌ ليس له تحليفُ المدعي إلَّا في صورتينِ:
إحداهما: إذا قامتِ بينةٌ باعتبارِ المديونِ، فإن لصاحبِ الدينِ تحليفَهُ على الأصحِّ بجوازِ أَنْ يكونَ لَهُ مالٌ في الباطنِ. الثانيةُ: إذا أقامَ (¬1) المدعي للعينِ بينةً أنها ملكه، وقال الشهودُ: لا نعلمه باعَ ولا وذهب، فإن الشافعيَّ قال: أُحلِّفُهُ أن هذه الدَّابَّةَ ما خرجتْ من ملكهِ بوجهٍ من الوجوهِ، ثم أدفعُها له. انتهى. وهاتانِ الصُّورتانِ يرجع أمرهما إلى أن الشهادَةَ التي لا تعتمد معاينةً ولا سماعًا، وإنما تعتمد ظاهرًا من إعسارٍ، واستصحابًا للملكِ لا بدَّ معها من الحلفِ بطلب الخصمِ، فإن ادَّعى أداءً وإبراءً، أو شراءَ العينِ أو هبتها، أو اقباضها، حلفَ على نفيهِ إذا ادعَى حدوثَ شيءٍ من ذلك بعدَ قيامِ البينةِ، ومضى بعد قيام البينة زمان إمكان حدوثِهِ، وادَّعى صدورَه قبل قيامِ البينة وقبل حكم القاضِي. فأمَّا إذا ادَّعى حدوثَ شيءٍ مِن ذلكَ بعد قيامِ البينةِ وقبل إمكانِ حدوثِهِ، فلا يلتفتُ إليه، وإذا كانتِ البينةُ من جهةِ المدعي شاهدًا ويمينًا فلا يحلفُ المدعي على نفي ما ادَّعاهُ المدَّعى عليه، من الإبراءِ، والأداءِ، لأنَّ الحلفَ مع الشاهدِ قد يعرضُ فيه الحالفُ لاستحقاقِ المدعَى به، فلا يكلَّفُ بعد ذلك الحلفَ على نفي ما ادَّعاه المدعي عليه لسبق ما يقتضي ذلك في الحلفِ مع الشاهدِ، ويحلفه إذا ادَّعى علمُهُ بفسقِ شاهدِهِ، أو كذبه على الأصحِّ. وإذا استمهلَ ليأتي ببينةٍ لم يمهَل على النصِّ، وعلى ذلك عملُ الناسِ، ويقضى للمدعي بما توجَّه. فإنْ أتَى المدَّعى عليه بما يخالفُ ذلكَ عمل بمقتضاهُ. ¬
فصل
وإذا ادَّعى رقَّ بالغٍ عاقلٍ، فقالَ: أنا حرُّ الأصلِ، فالقول قولُهُ بيمينِهِ. ولو ادَّعى رقَّ مَن لم يكلَّف ليس في يدِه لم يقبل إلَّا ببينةٍ إلَّا أن يصدِّقَهُ مَن هو في يدِه، فإنَّه يقبل ما ادَّعاهُ بغير بينةٍ، ويكفي في ذلك تصديقُ صاحبِ اليدِ، أو في يده حكم له به إن لم يعرفِ استنادها إلى التقاطِ ولا غيره، فلو أنكرَ الصغيرُ وهو مميزٌ أو بعد بلوغِهِ لم يؤثر إنكارُه، ولكن يحلفُ المدعي واليمينُ واجبةٌ على الأرجحِ. وقيلَ كالبالغِ في احتياجِ المدعي إلى بينةِ الرِّقِّ. ولا تُسمعُ الدعوَى بدَينٍ مؤجَّلِ لازمٍ متحققٍ لزومه لمن ادَّعى عليه في الأصحِّ إذا كانتِ الدَّعوى به على طريقِ الاستقلالِ، فإن كانت على سبيلِ التبعيةِ سمعتْ، كما إذا ادَّعى على القاتلِ بقتلٍ خطأٍ أو شبه عمدٍ، فإنَّه تُسمع قطعًا. وكما إذا كان بعضُ الدينِ حالًّا، وبعضه مؤجَّلًا، فإنَّه تُسمع الدعوى بالكلِّ كما جزمَ به الماورديُّ. وأمَّا المؤجَّلُ غير اللازمِ فلا تُسمع الدعوى به جزمًا كنجومِ الكتابَةِ والثمنِ في مدَّةِ الخيارِ، وكذا لو كانَ لازمًا لكن لم يتحقق لزومُهُ لمن ادَّعى به عليه كالدية اللازمة للعاقلةِ المؤجلة في ثلاثِ سنين، لا تصحُّ الدعوى به جزمًا. * * * فصل أصرَّ المدعى عليه الذي هو أصلٌ في الدعوَى على السُّكوتِ عن جوابِ المدعي (¬1)، جُعِلَ كمنكرٍ ناكلٍ بعدَ أن يقولَ له القاضِي: أنتَ بمنزلةِ المنكرِ، واليمينُ بها جهتِكَ، ويُصرُّ على السُّكوتِ حينئذٍ، وإن كان المدَّعى عليه وكيلًا ¬
فيجعل كالمنكرِ، ولا يجعل كالناكلِ؛ لأنَّ اليمينَ لا تتوجَّهُ إليهِ. وأمَّا المدعى عليه من جهة ما يتعلَّقُ بمن هو في ولايتِهِ فلا يحلُّ لهُ السُّكوتُ، ويجبُ عليه أن يجيبَ بما يعرِفُهُ من الحالِ، فإنْ أصرَّ على السُّكوتِ، وكان أبًا أو جدًّا أو وصيًّا من جهةِ أحدِهِما، عرَّفَهُ الحاكمُ: أنَّ هذا الذي تعمَّدَه من السُّكوتِ لقصدِ التعنُّتِ والإضرارِ قادحٌ في الولايةِ، فإن أنتَ بادرتَ إلى الجوابِ وأقلعتَ عن هذا التعنُّتِ فأنت على ولايتِكَ، وإلَّا فلا ولايةَ لكَ. وإنْ كانَ المدَّعى عليهِ قيِّمًا من جهةِ الحاكمِ زبرهُ الحاكمُ وأقامَ غيرَهُ عندَ إصرارِه بإصرارهِ، ولا يجعلُ كالمنكرِ. فإنِ ادَّعى عشرةٌ فقال: لا يلزمني العشرةُ، لم يكفِ حتَّى يقولَ: وما دونَ العشرةِ (¬1)، وإن أسند المدعي العشرةَ إلى عقدٍ بأنْ قالَ: استحق عليه عشرة دراهم ثمن مبيع ابتاعَهُ مني. فيكفي المدعى عليهِ أن يقولَ: لا يلزمني العشرةُ، ولا يحتاجُ أن يقولَ: وما دونها. وكذا يحلفُ. فإنِ اقتصرَ على نفي العشرةِ، وأصرَّ عليهِ فناكلٌ، فيحلفُ المدعي على استحقاقِ شيءٍ منها، فإنِ ادَّعى عليه ثانيًا بما دونَ العشرةِ بجزء فأنكر ونكل، حلف المدعى على استحقاق ما دونَ العشرةِ بجزءٍ، وكذا لو قالَ في الجوابِ: ولا ما دونَ العشرةِ، ونكلَ في الحلفِ عن قولِهِ: ولا ما دونَ العشرةِ، فإنَّه يحلفُ المدعي على استحقاقِ ما دونَ العشرةِ بجزء يأخذه. وإذا ادعى مالًا مضافًا إلى سببٍ (¬2) كأقرضتُك كذا. كفاه في الجواب: لا ¬
يستحقُّ عليَّ شيئًا. وإنِ ادَّعى عليه شفعةً كفاهُ (¬1): "لا شفعةَ لك عندي". ويحلفُ على حسبِ جوابِه هذا، فإن أجاب بنفي السبب المذكورِ حلفَ عليه على النصِّ. وقيل: له الحلفُ بالنفي المطلقِ، ولو كان بيده مرهونٌ أو مكرًى وادَّعاه مالكُهُ وثبت مِلكُهُ؛ وجب على واضع اليد حينئذٍ تسليمه إليه، وإن لم يظهرْ ملكُ مالكِهِ، فلا يكفي في الجوابِ أن يقولَ: لا يلزمني تسليمه لئلَّا يكون مبطلًا في دعواه، فيتعطَّل على المالكِ الوصولُ إلى ملكِهِ بمجردِ مقالةٍ قد يستعملُها المبطلُ. وإن اعترفَ بالملكِ وادَّعى الرهنَ أو الإجارَةَ، فلا تقبلُ إلَّا ببينةٍ، فإن عجزَ عنها وخاف إن اعترفَ بالملكِ جحْدَ ذلك كفاهُ: لا يلزمني تسليمه إليك. وإذا ادعى عليه عينًا فقالَ (¬2): ليستْ هي لي، فلا يكونُ كافيًا في الجوابِ، ويُقال له: الجوابُ أن تقولَ: ليستْ للمدعي. أو: هيَ لَهُ. فإن ذكرتَ واحدًا منهما عُملَ بمقتضاهُ، وإنْ أصررتَ على قولِكَ: ليستْ لي. جعلناك منكرًا، وقبلْنَا البينةَ عليكَ، وجعلناكَ بعدَ عرضِ اليمينِ عليكَ ناكلًا، وأحلفنَا المدَّعي وحكمنَا بانتزاعِ ذلكَ منكَ. وكذلكَ لو قالَ: "هي لرجلٍ لا أعرفُهُ" (¬3) لا يكونُ جوابًا كافيًا، ويقالُ لهُ: قد توجَّهَ عليكَ جوابٌ عدلتَ عنهُ، فإنْ أقمتَ عليه جُعلتَ ناكلًا، وأُحلفَ المدعي وحُكمَ له بانتزاعِها من يدكَ، وإن قال: لمحجوري، أو: وقفٌ على الفقراءِ، أو: مسجدِ كذا، وهو ناظرٌ عليهما، فلا تنصرفُ الخصومةُ عنهُ، ولا تنزعُ منهُ، بل يقيمُ ¬
المدعي البينةَ في مسألةِ وليِّ المحجورِ، وناظرِ الوقفِ على الفقراءِ والمسجدِ، وتقدَّم الحكمُ في قولِهِ: ليستْ هي لي، أو: لرجلٍ لا أعرفُهُ. وإذا أقرَّ به لمعيَّنٍ حاضرٍ (¬1) يمكنُ مخاصمتُهُ سئل، فإنْ صدَّقَهُ فلا تنصرفُ الخُصومةُ إليهِ بذلك، وللمدَّعِي أن يطلبَ يمينَ المدعَى عليه؛ بناءً على أنَّه يغرمَ له البدلَ لو أقرَّ لَه، وهو أصحُّ القولينِ، فإنِ حلفَ انصرفتِ الخصومَةُ عنهُ، وإن نكلَ حلفَ المدعي واستحقَّ الغرمَ. وإن أقرَّ له غرمَ له البدلَ على أصحِّ القولينِ، وإن كذَّبَهُ فلا تنصرفً الخصومَةُ عنِ المدعى عليهِ وتركَ المدعَى بهِ في يدِه. وقيلَ: يسلم إلى المدعي، وقيل: يحفظهُ الحاكمُ لظهورِ مالكٍ. وقيلَ: يجبرُ المقرُّ له على أخذِهِ، أو الإبراءِ منه. وإنْ أقرَّ به لغائبٍ فالأصحُّ انصرافُ الخصومة عنه، وحينئذٍ فإنْ لم يكنْ للمدعِي بينةٌ توقَّف الأمرُ إلى أن يحضُرَ الغائبُ، وإن كان له بينةٌ فيقضى له، والمرادُ بانصرافِ الخصومَةِ وإيقافِ الأمرِ بالنسبةِ إلى رقبةِ العينِ المدعاةِ، أمَّا بالنسبةِ إلى تحليفِ المدعَى عليه فلا تنصرفُ على الأصحِّ، بل له تحليفُهُ من أجلِ تغريمِ البدلِ لو أقرَّ لَهُ بها، ونكلَ، فحلفَ المدعي اليمينَ المردودة. والمذهبُ المعتمدُ أنَّه قضاءٌ على حاضرٍ، وما قُبِلَ إقرارُ عبدٍ به، فالدعوى عليهِ وعليهِ الجوابُ، وما لا يقبلُ إقرارُهُ فعلى السيدِ، وقد تكونُ على السيدِ والعبدِ، والحالةُ هذه كضمانِ الإحضارِ، والنسبِ، والنكاحِ إذا أريدَ إثباتُهُ نفسه. * * * ¬
فرع
فرع: تغلظُ يمينُ مدعٍ، ومدعًى عليه فيما لا يثبتُ بالشَّاهدِ واليمينِ (¬1)، وفي ما لا يبلغُ عشرينَ دينارًا عينًا، أو قيمةً، وحقُّ مال يبلغُ ما ذكر، وإن رأى القاضِي جرأةً في الحالفِ غلَّظَ فيما دونَ ذلكَ. قال شيخُنا: والذي يظهرُ أنَّ التغليظَ بذكرِ الأسماءِ والصِّفاتِ يفعلهُ القاضِي فيما دونَ النصابِ، وإنْ لم تظهرْ جُرأةُ الحالِفِ. وقدْ ذكَرَ شيخُنا في اللعانِ ما يسنُّ فيه التغليظُ بالزَّمانِ والمكانِ؛ ومن التغليظِ أَنْ يقولَ: واللَّهِ الذي لا إله إلَّا هوَ عالمِ الغيبِ والشهادَةِ الرَّحمنِ الرحيمِ، الذي يعلمُ السِّرَّ، ما يعلم من العلانيةِ. أو يقول: واللَّهِ الطالبِ الغالبِ المدركِ المهلكِ الذي يعلمُ السرَّ وأخفَى. واعلم أنَّ اليمينَ إمَّا أن تكونَ في جانِبِ المدَّعى عليه، أو في جانب المدَّعِي، فإن كانت في جانبِ المدَّعى عليه في الإثباتِ فيحلفُ على البتِّ، أوَ في النفي والمطلوبِ بالدعوى لاقاه ابتداءً، ويمكنُ اطلاعُهُ على سببِ الملاقاةِ حالة ضرورةٍ، وليسَ مما يغيبُ غالبًا عنِ المدعَى عليه، فإنَّ الحلفَ فيهِ يكونُ على البتِّ، وإن لم يلاقِهِ ابتداء؛ لأنَّه وارثٌ ولأنَّه لا تعلق له بالسببِ المدعَى به عند ضرورةٍ، أو لاقاهُ ابتداءً لكنْ لا يمكنُ اطلاعُهُ على سببِ الملاقاةِ، وليسَ من شأنِهِ أن يشتهرَ، فإنَّ الحلفَ يكونُ فيه على نفي العلمِ، وإن كانتِ اليمينُ من جانبِ المدعي، فهي على البتِّ دائمًا، إلَّا إذا كانتْ لدفعِ معارضٍ لا لإثباتِ المطلوبِ مع تصوُّرِ الحلفِ على نفي العلمِ. * ضابطٌ: لا يكونُ اليمينُ في جانبِ المدَّعي في غيرِ الردِّ إلَّا في خمسةِ ¬
أبواب: بابُ القسامَةِ، وبابُ اللعانِ، وبابُ اليمينِ مع الشَّاهِدِ، وبابُ الأمناءِ المدَّعين للردِّ على مَن ائتمنهم غير المرتهنِ والمستأجرِ والمتلفِ مطلقًا، ويدخلُ (¬1) في هذا البابِ ما يدَّعيه المالكُ في الزكاةِ؛ لأنَّه جعل أمينًا على ما خوَّلَهُ اللَّهُ تعالى. وكذلكَ يدخلُ فيه ما ائتمنتِ المرأةُ عليهِ من حيضٍ وولادَةٍ على ما هو مفصَّلٌ في موضعِهِ، والبابُ الخامسُ: بابُ التحالفِ، فإنَّ اليمينَ جعلتْ فيه في الإثباتِ في جانبِ المدَّعي، وهو خارجٌ عنِ الأبوابِ السابقةِ من وجهينِ: أحدهما: أنَّ جميعَ الأبوابِ السابقةِ اليمينُ فيها يعملُ بها في ذلك الشيءِ، بخلافِ الإثباتِ في التحالفِ، فإنَّه لا يثبتُ للمدعي حقًّا، ولهذا أسقطَهُ بعضُ الأصحابِ بيمين (¬2) الإثباتِ. والثانِي: أنَّ (¬3) جامع بين النفي والإثباتِ بخلافِ الأبوابِ السابقةِ. * * * وإذا ادَّعى دينًا لمورثِهِ (¬4) فقال: "أبرأني مورِّثُكَ وأنتَ تعلمُ أنَّهُ أبرأنِي من هذا الدينِ المدَّعى به". حلفَ على نفي العلمِ بالبراءةِ، وكذلك إذا ادَّعى عينًا يستحقُّها بطريقِ الإرثِ من مورثِهِ، وأتَى بالدَّعوى على وجهها، فقال المدعى عليه: "اشتريتُها من مورِّثك". أو: "وهبنيها" -أو نحو ذلك- "وأنتَ تعلمُ ذلك" فإن الوارثَ يحلفُ على نفي العلمِ. ¬
ولو قال (¬1): جنَى عبدُك عليَّ بما يوجبُ كذا جنايةً متعلِّقةً برقبتِهِ، فسلمهُ ليُباعَ فيها. أو فأقدْهُ بأقلِّ الأمرينِ. فيحلفُ السيدُ إذا أنكرَ على البتِّ على الأصحِّ. ولو أمرَ السيدُ عبدَهُ الذي لا يميزُ، أو الأعجميَّ الذي يعتقدُ وجوبَ طاعةِ السيِّدِ في كل ما يأمرُ بِه، فالجانِي هو السيِّدُ، ويحلفُ على البتِّ قطعًا. ولو قال (¬2): جنتْ بهيمتُك علىَّ أو على زرعي -ونحو ذلك- مما يوجب عليكَ كذا من جهةِ تقصيرِك. فأنكَرَ على البتِّ، وحكمُ العبدِ المجنونِ الضاري بطبعِهِ كالبهيمَةِ، حتَّى يحلفَ السيِّدُ على البتِّ إذا قصَّرَ في حفظِهِ، وأتلفَ هذا الضَّارِي شيئًا. وما حلفَ فيه على البتِّ لا يشترطُ بجوازِهِ اليقين، بل يجوزُ البتُّ بناءً على ظنٍّ مؤكَّدٍ يحصلُ من خطِّه أو خطِّ أبيهِ، وإنما يحلفُ المدعى عليه إذا طلبَ المدعي يمينَهُ، فإن لم يطلبْ ولم يقلع عنِ المخاصمةِ فلا يحلفه القاضي (¬3)، وهذا حيث احتيجَ إلى طلبِ اليمينِ، فإنْ لم يكنْ كذلكَ، كما لو كانتِ الدَّعوى لمحاجيرَ الحاكمِ، وكذا يمين الردِّ واليمين مع الشاهدِ، ويمين الأمناءِ الذينَ يدعونَ التَّلفَ، والردُّ على من ائتمنهم. وغيرُ الأمناءِ المذكورينَ الذين تفيد يمينهم ما لم يكنْ، فلا يحتاجُ في ذلكَ إلى طلبِ الخصمِ. ومما يعتبرُ في الحلفِ استحلافُ القاضِي، فلو حلفَ الخصمُ بعد طلبِ خصمِهِ على ما سبقِ، وقبلَ استحلافِ القاضِي، لم يعتدَّ باليمينِ. نصَّ عليه الشافعيُّ. واتفقَ عليه الأصحابُ. ¬
وتعتبرُ نيَّةُ القاضِي المستحلفِ الموافقة لظاهِرِ اللفظِ الواجب في الحلف؛ إن لم يكنِ الحالفُ محقًّا في الذي نواهُ، فإن كانَ محقًّا فيه فالعبرةُ بنيَّتِهِ لا بنيةِ القاضِي، والحالفُ هو كلُّ مَن يتوجَّه عليه دعوى صحيحة لو أقرَّ بمطلوبها ألزم، فإذا أنكرَ حلفَ عليه. ويستثنى من ذلكَ القاضِي، فلا يحلفُ، وقال الماورديُّ: كلُّ مَن نهي عن الكتمانِ كانَ القولُ قولُهُ بيمينٍ. واليمينُ يفيدُ قطعَ الخصومَةِ في الحالِ، إلَّا البراءَةَ، فلو حلفه ثم أقامَ بينةً حكمَ بها، ويستثَنى من ذلك صورةً واحدةً، وهي ما إذا ادَّعى إنسانٌ أنَّه أودعَ عندَ إنسانٍ شيئًا، فأجابَ المدعى عليه بنفي الاستحقاقِ، وحلفَ على ذلك، فإنَّ هذا الحلفَ يفيدُ البراءةَ، حتى لو أقامَ المدَّعي بينةً بأنَّه أودَعهُ الوديعةَ المذكورَةَ، فلا أثرَ لها؛ لأنَّ نفيَ الاستحقاقِ قد وقعَ الحلفُ عليه، ولم تقمِ البينةُ بما يخالفُهُ. وإذا قالَ المدعَى عليهِ: قد حلَّفني مرَّةً، فليحلفْ أنَّه لم يحلِّفْنِي. فالأصحُّ أنَّه يمكَّنُ منهُ. فإنْ قالَ القاضِي: قد حلَّفني له مرَّةً في هذا المدَّعَى به، وكان القاضِي يعرفُ ذلك، لم يحلِّفْهُ قطعًا. وإذا نكلَ حلف المدعي وقُضِيَ له بما يقتضيهِ الحالُ، وإنما يحصُلُ النكولُ بأنْ يعرضَ القاضِي اليمينَ عليه، فيمتنعُ، وفُسرَ العرضُ بأنْ يقولَ: قُلْ: واللَّهِ. والامتناعُ بأنْ يقولَ: لا أحلفُ. أو: أنا ناكلٌ، ولو قالَ لهُ القاضِي: قُل: باللَّهِ. فقال: بالرحمنِ. كان ناكلًا. وإذا صرَّح بالنكولِ، فلا بدَّ فيهِ من الحكمِ بأنَّه ناكلٌ، فإن سكتَ زمنًا يسمعُ (¬1) ¬
وفي اليمين المردودة قولان
قولَهُ: لا أحلف، أو: أنا ناكلٌ. من غيرِ ظهورِ أنَّ السكوتَ لدهشةٍ أو غباوةٍ ونحوهما حكمَ القاضِي بنكولِهِ (¬1). وقولُهُ للمدعِي: احلف. حكم بنكول المدعى عليه. وهذا لا بدَّ أن يتقدَّمَهُ طلبٌ من المدعي المحكومِ له بنكولِ المدعَى عليه. فإذا طلبَ تخيير (¬2) القاضِي، فإن شاءَ حكمَ بنكول المدعَى عليه، وإن شاء قال للمدعي: احلف. وحيث حكم بنكول المدعَى عليه لا يعودُ إلى الحلفِ الذي كانَ في جانبِهِ إلَّا برضَى المدعي بحلفِه. وفي اليمينِ المردودَة قولانِ: أحدُهما: أنها كالبينةَ الكاملةِ بقيودِ أَنْ يكونَ في حقِّ المدعَى عليه خاصَّةً، وأن لا يكونَ في حدِّ الزِّنا، وأنْ يكونَ الحلفُ على الإثباتِ، وأن لا تكونَ بالنسبةِ إلى تعارُضِها معَ البينةِ التحقيقيَّة، بل تقدَّمُ البينةُ التحقيقيةُ عليها على الصوابِ، وأظهَرُ القولينِ أنَّها كإقرارِ الرادِّ في غيرِ حلف الزنا. فإن قُلنا: إنَّها كالبينةِ، سمعتُ بينةَ المدعَى عليه بالإبراءِ، والأداءِ. وإن قلنا: كالإقرارِ، فكذلكَ على الصحيحِ، وقيل: على هذا القولِ لا تُسمعُ. فإن لم يحلفِ المدَّعِي (¬3)، ولم يتعللْ بشيءٍ سقط حقُّه من اليمينِ المردودَةِ في ذلك المجلسِ وفي غيرِهِ، وليسَ لَهُ مطالبةُ الخصمِ إنْ كانَ حلفهُ، ويثبتُ له حقًّا يأخذُهُ من المدَّعَى عليه، وأن لا يكونَ هناكَ حقٌّ للَّهِ تعالَى ¬
فصل
مؤكَّدٌ يسقط عن المدعي بحلفِهِ. فإن تعللَ بإقامَةِ بينةٍ (¬1) أو مراجعةِ حسابٍ أُمهلَ ثلاثةَ أيامٍ، وقيل: أبدًا، وإن استمهلَ المدعَى عليه حين استحلفَ لم يمهل على الأصحِّ، وقيل: يمهلُ ثلاثةَ أيَّامٍ، وإنِ استمهل المدعَى عليه في ابتداءِ الجواب ذكرَ الهرويُّ أنَّه يمهلُ إلَى آخرِ المجلسِ. قال شيخُنا: وهذا مخالفٌ لما يظهرُ من كلامِ الشافعيِّ وأصحابِهِ، ومخالفٌ لمقتضَى قواعدِ الشريعةِ، فإنَّ الدعَوى قد توجَّهتْ إليهِ، فيحتاجُ إلى الجوابِ على الفورِ، والإمهالُ إلى آخرِ المجلسِ توقيتٌ لا دليلَ عليهِ. وأطالَ الكلامَ على ذلك. ومَن طُولبَ بزكاةٍ (¬2) فادَّعى دفعها إلى ساعٍ آخرَ، أو غَلطِ خارصٍ، وقلنا بالوجهِ المرجوح بإلزامِهِ باليمينِ، فنكلَ وتعذَّرَ ردُّ اليمينِ لعدمِ انحصارِ المستحقِّينَ، فالأَصحُّ على المرجوحِ: أنها تُؤخَذُ منهُ. وإذا ادَّعى وليُّ صبيٍّ دينًا له، فأنكرَ ونكَلَ لم يحلَّف، وقيل: يحلَّفُ. وقيل: إن ادَّعى ثبوتَهُ بسببٍ باشرَهُ حلفَ. * * * فصل إذا ادَّعى اثنانِ عينًا في يدِ ثالثٍ (¬3)، لم تكنْ يدُهُ مبنية على يديهما، ولا يدُ ¬
ثم في كيفية الاستعمال أقوال
واحدٍ منهما تنافي دعوى الآخر، وأقامَ كلُّ واحدٍ منهما بينةً بما ادَّعاهُ، ولا ترجيحَ، سقطتا، حيث لم تشهدَا بسبب يقتضي التشريكَ. وفي قولٍ: تستعملانِ، فتنزعُ العينُ ممن هي في يدهِ. ثمَّ في كيفيَّةِ الاستعمالِ أقوالٌ: أحدُها: تقسمُ، فيجعلُ بينهما نصفينِ. والثاني: يقْرَعُ، ويرجحُ جانبُ مَن خرجتْ قرعتُهُ ويحتاجُ إلى الحلفِ بعدَها. والثالثُ: يوقفُ حتى يتبيَّنَ، أو يصطلحا. والضابطُ الذي يتمسكُ به الفقيهُ في المواضعِ التي تجري أقوال الاستعمالِ فيها، والتي لا تجرِي أقوالُ الاستعمالِ فيها، أن. . . (¬1) الأعيانِ المملوكَةِ أو الحقوق من منفعةٍ أو رهنٍ أو اختصاصٍ، ولا تجري في المواضع والقصاصِ. وإذا تعذَّرَ واحدٌ من الأقوالِ في كيفيَّةِ الاستعمالِ حملَ على ما يمكنُ من بقية أقوالِه، ولو كانتْ في يدهما، وادَّعى كلُّ واحدٍ منهما كلها له، وأقاما بينتين بقيتْ كما كانتْ بالبينةِ لا كما كانتْ باليدِ، ولو كانتْ بيدِ واحدٍ منهما فأقام غيرُهُ بينةً وهو بينةً قدِّمت بينةُ ذي اليدِ، ولا يحلفُ معها (¬2). فإن أقامَ الخارجُ بينةً بأنَّ الداخلَ غصبَها منهُ واستعارَها منهُ أو استأجرَها منهُ، قُدِّمت بينةُ الخارجِ على الأصحِّ المقتضِي للنصِّ. ولا تسمعُ بينةُ الداخلِ إلَّا بعدَ بينةِ الخارجِ (¬3) إلَّا إذا كان في إقامةِ بينةِ ¬
الداخلِ دفع ضررٍ عنهُ بتهمةِ سرقةٍ ونحوِها، فتسمعُ قبلَ بينةِ الخارجِ (¬1) كما إذا وجدنا إنسانًا خارجًا بمالٍ من حرزِ غيرِهِ، فقالَ صاحبُ الحرزِ: سرقَ من حرزي هذا المالَ، وقال الذي بيده المال: "هذا مالي"، وأقام بينةً بذلكَ قبل إقامةِ الخارجِ البينة، فإنَّها تُسمعُ لما تقدَم. ولو أزالَ يده ببينةٍ (¬2) ثم أقام بينة بملكِهِ مستندًا إلى ما قبل إزالة يده سمعتْ إن أسندت الملك إلى حالة قيام بينة، ثم يديمونه إلى وقتِ الشهادَةِ، وقدمتْ حينئذٍ، ولو أقامَ بينةً بالملكِ المطلقِ من غيرِ الإسنادِ المذكورِ سمعتْ، لكنَّه يكونُ خارجًا. ومَن أقرَّ لغيرِهِ بشيءٍ يمكن أن يدعيَه لنفسِه (¬3)، ثم ادَّعاهُ، لم يُسمعْ منه، إلَّا إن قالَ: مَلَكَهُ بهبةٍ صدرتْ منِّي. أو قال: وهبتُهُ لهُ وملكَهُ. وادعى في كلٍّ من الصُّورتينِ أنَّه لم يحصُلِ القبضَ المعتبر، وأنَّه اعتقدَ الهبةَ بمجردها، يحصلُ بها الملك من غيرِ قبضٍ، فتسمع حينئذٍ دعواهُ، والقولُ قولُهُ بيمينِهِ في ذلكَ على مقتضَى النصِّ. ومن أُخذَ منهُ مالٌ ببينةٍ (¬4) ثمَّ ادَّعاهُ لم يشترطْ ذكرُ الانتقالَ على الأصحِّ إذا شهدتِ البينةُ بالملكِ، وأطلقتْ أو إضافته إلى سببٍ لا يتعلَّقُ بالمأخوذِ منه، ومحلُّ الخلافِ في غيرِ الدَّاخِلِ والخارجِ. فإنَّ العينَ إذا أخذتْ منهُ ببينةِ الخارجِ ثم أقامَ الداخلُ البينةَ الشاهدةَ له بالملكِ مستندًا إلى ما قبل القضاءِ للخارجِ وشهدتْ بدوامِ الملكِ إلى حينِ الشَّهادَةِ فلا يشترطُ فيه ذكر الانتقالِ ¬
بلا خلافٍ، كما قالَ شيخُنا. وزيادَةُ عدد شهودِ أحدِهما (¬1)، أو صفةٌ في بينةِ أحدِهما لا ترجِّحْ على الجديدِ، ولو أقامَ أحدُهما رجلينِ، والآخرُ رجلًا وامرأتينِ، فالأشهرُ أنَّه لا ترجيحَ أيضًا، فلو كانَ للآخرِ شاهدٌ ويمينٌ، رجحَ الشاهدانِ على الأظهَرِ، فإن كانَ مع جانبِ الشاهدِ واليمينِ يد، فالأصحُّ تقديمُ الشاهدِ واليمين، ولو شهدتْ لأحدهما بملك من سنة، وللآخرِ من أكثر، فالأظهر ترجيحُ الأكثرِ، فإن كانَ الملكُ في يدِ صاحبِ الأكثَرِ ترجَّحَ الأكثرُ قطعًا. ولو تعرَّضتِ البينتانِ لسببِ الملكِ ونسبته إلى واحدٍ، كما لو شهدَتْ بينةٌ أنَّه اشتراهُ منْ زيدٍ من سنةٍ، وشهدتِ الأخرى أنَّه اشتراهُ من زيدٍ من سنتين، قدِّمتْ بينةُ السنتين قطعًا، ولصاحبها الأجرةُ والزيادَةُ الحادثةُ من يومِ الأكثرِ. ولو أُطلقتْ بينةٌ وأُرِّخَتْ بينةٌ (¬2)، فالأظهرُ ترجيحُ المؤرَّخة على الأظهرِ تقدم بينة الداخلِ على الأصحِّ (¬3)، والأظهرُ أنها لو شهدتْ بملكهِ أمس، ولم تتعرَّض للحالِ لم تسمع حتى تصرح بالحالِ، أو تذكرَ ما يقتضيهِ من قولهم: لم يزل ملكه (¬4). وتجوزُ الشَّهادَةُ بملكِهِ الآن (¬5)، وما ذكر معه استصحابًا لما سبقَ من إرثٍ وشراءٍ وغيرهما، مما يعرفً الشاهدُ فيه ملكَ المورِّثِ وملكَ البائعِ، وملكَ ¬
غيرِهِما من واهبٍ وموصٍ ونحو ذلكَ، ولو شهدُوا بأنَّ مورثه مات، وهو مالكٌ له أو باعهُ بايعه وهو مالك له كفى ذلك. ولو شهدوا أنَّه أقرَّ أمس بالملكِ للمدعي، قبلتِ الشَّهادَةُ واستديمَ حكمُ الإقرارِ، وإن لم يصرَّحِ الشاهدُ بالملكِ في الحالِ، ولو أقامها مطلقةً بملكِ دابَّةٍ أو شجرةٍ بحيث لم يسند إلى زمنٍ ماضٍ لم يستحقَّ ثمرةً موجودَةً عندَ إقامتِها، ولو لم تعدل، والمرادُ بالموجودَةِ التي لا تدخلُ في البيعِ الصادرِ على الشجرةِ، بأن تكونَ مؤبَّرَةً في ثمرةِ النخلِ، أو برزتْ في العنبِ والتينِ، أو خرجتْ في نورٍ ثمَّ تناثرَ النورُ عنها، كالمشمشِ والتُّفاحِ، ولا يستحقُّ ولدًا منفصلًا، ويستحقُّ حَملًا موجودًا عند إقامَةِ البينةِ على الأصحِّ. ولو اشترَى شيئًا (¬1) فأخذَ منه ببينةٍ رجعَ على بائعهِ بالثمنِ إذا لم يصدقِ المشتري البائع حالة البيعِ على أنَّ المبيعَ ملكه وإذا رجعَ المشتري حينئذٍ ردَّ على البائع النتاجَ والثمرةَ إن كانَ البيعُ فاسدًا، وإن كانَ صحيحًا فلا ردَّ ولا رجوعَ بالثمنِ، هذا هو المعتمدُ خلافًا لمن قالَ خلافَ ذلك. ولو ادَّعى ملكًا شهدوا لهُ مع سببهِ، لم تبطلْ شهادتُهم بذلك، لكن لا ينفعُه ذلك في إثباتِ السببِ لو أرادَهُ من أجلِ الترجيحِ على القولِ بذلكَ حتَّى تعادَ الدَّعوَى به، ثم تقومُ الشهادَةُ به على الأصحِّ، وإن ذكرَ سببًا وهم سببًا بطلتْ شهادتُهم، ولا يصيرونَ مجروحينَ على الأصحِّ. * * * ¬
فصل
فصل قال: أجَّرتُكَ البيتَ شهرًا (¬1)، ويعيِّنه بعشرةٍ، فقالَ المستأجِرُ: بل أجَّرتني جميعَ الدارِ ذلك الشهرِ بعشرةٍ، وأقاما بينتينِ تعارضتا، إذا لم يكونا مؤرَّخَتين بتاريخين مختلفين، واتفقا على أنَّه لم يَجْرِ إلَّا عقدٌ واحدٌ، والحكمُ المفتى به على التساقطِ، حيثُ تعارضتا أنهما يتحالفانِ على النصِّ، كما لو لم يكنْ هناكَ بينةٌ، وعلى قولٍ: الاستعمالُ لا يأتي قول القسمةِ، ولا قول الوقفِ. وشذَّ البندنيجي فحكى قولًا بتقديمِ بينةِ المستأجرِ، وإنما هو من تخريجِ ابن سريج، ومحلُّه في غيرِ مختلفتي التاريخ، ولم يخصَّه ابنُ سريجٍ ببينةِ المستأجِرِ، وإنما مدارُهُ على البينةِ الشاهدةِ بالزيادَةِ، وأمَّا مختلفتا التاريخِ ففيهما قولانِ: أحدهما: تقديمُ البينةِ السابقةِ التاريخِ، وهو الأظهرُ. والثاني: تقديمُ متأخرَةِ التاريخِ. وموضعُ القولينِ إذا لم يتَّفقَا على أنَّه لم يجر إلَّا عقدٌ واحدٌ. ولو ادَّعيا شيئًا في يدِ ثالثٍ (¬2)، وأقامَ كلُّ واحدٍ منهما بينةً أنَّه اشتراهُ منهُ، ووزنَ له ثمنه، فإنِ اختلف تاريخٌ حُكِمَ للأسبقِ إذا لم يصدر البيع المتأخرِ في حالةِ الخيارِ الثابتِ للبائعِ، إمَّا وحدهُ ومع المشتري. وحيث حكم للأسبقِ بالعينِ التي في يدِ البائعِ فيحكمُ للمتأخِّر على البائعِ بدفعِ الثمنِ الذي وزنه لهُ، وإلَّا تعارضتا له، ويرجعُ كلٌّ منهما بالثمنِ الذي وزنه، وإنما تساقطتا فيما فيه التعارضُ، وهو الرقبةُ دونَ الثمنين. ¬
ولو قالَ كلٌّ من المُدَّعيين (¬1) استحقَّ عليك ألف درهم ثمن هذا الثوب الذي بعتُه لك بالثمنِ المذكورِ، وهو ملكي، وسلمته لكَ، وأطالبك بدفعِ ثمنه، وأقامَا البينتين، فإنِ اتحدَ تاريخُهما بتعيينِ وقتٍ يضيقُ عنِ إمكانِ تقديرِ ما وقعتْ الدعوتانِ به فيتعارضانِ في الثمنِ فلا يلزمُ المشتري شيءٌ من الثمنينِ لتعارُضهما في مقابلِ الثمنِ. وإنِ اختلفَ اختلافًا يمكنُ فيه تقديرُ ما وقعتِ الدعوتانِ بهِ لزمَهُ الثمنانِ، وإنْ أطلقتا أو إحداهما وجبَ لكلِّ واحدٍ نصفُ الثمنِ مطلقًا على النصِّ. ولو ماتَ عن ابنينِ مسلمٍ ونصرانيٍّ (¬2)، فقالَ كلُّ واحدٍ منهما: ماتَ على دِينِي وإرثُه لي، فإن عُرِفَ أنَّه كانَ نصرانيًّا صُدِّقَ النصرانيُّ، فإن أقاما بينتينِ مطلقتينِ تشهدُ إحداهُما أنَّه ماتَ مسلمًا، والأخرى أنَّه مات نصرانيًّا، قدِّمَ المسلمُ. وكذلك يُقدَّمُ المسلمُ إذا شهدتْ إحداهُما بأنَّه مسلمٌ، وشهدتِ الأخرَى بأنَّه نصرانيٌّ، وإن شهدتْ إحداهُما بأنَّ آخرَ كلمةٍ تكلَّم بها كلمةُ الإسلامِ ومكثت عندهُ إلى أن (¬3) ماتَ ودفنَ. وشهدتِ الأخرَى بأنَّ آخرَ كلمةٍ تكلَّمَ بها كلمةُ الكفر، ومكثتْ عندَهُ إلى أَنْ ماتَ ودفنَ، فههنا يقعُ التعارضُ، وإن لم يعرفْ دينُهُ وأقامَ كلٌّ منهما بينةً أنَّه ماتَ على دينِهِ؛ قال شيخُنا: الصوابُ تقديمُ بينةِ المسلمِ، لأنَّ الإسلامَ يطرأُ على التنصُّرِ فيقطع التنصُّرَ، ولا سبيلَ إلى أن التنصُّرَ يطرأُ على الإسلامِ فيقطعُهُ، إنما ذلك الردَّةُ، ولا ميراثَ معها. ¬
ولو ماتَ نصرانيٌّ عنِ ابنينِ؛ مسلمٍ ونصرانيٍّ (¬1)، فقالَ المسلمُ أسلمتُ بعدَهُ، فالميراثُ بيننا، وقال النصرانيُّ: قبلَهُ، صُدِّقَ النصرانيُّ بيمينِهِ. فإن أقامَ كلٌّ بينةً بدعواهُ، قدِّم النصرانيُّ إلَّا إن شهدتْ بينةُ المسلمِ بأنها علمتْ منه دينَ النصرانيةِ حينَ موتِ أبيهِ، وبعدَ موتِ أبيهِ، وأنها لم تستصحبِ الحالة التي كانت قبل موتِ أبيه، فإذا شهدتْ بذلك قدمتْ بينةُ المسلمِ. فلو اتفقا على إسلامِ الابنِ بها رمضانَ، وقال المسلمُ: مات الأبُ في شعبان، وقال النصرانيُّ: في شوَّالٍ، صدِّقَ النصرانيُّ، وتقدَّم بينةُ المسلمِ على بينتِهِ إلَّا إذا شهدتْ بينةُ النصرانيِّ برؤيته حيًّا في شوَّالٍ، وأنها لم تستصحبِ الحياةَ الأصليةَ فتقدمُ بينةُ النصرانيِّ حينئذٍ. وإن ماتَ عن أبوينِ كافرينِ (¬2)، وابنينِ مسلمينِ، قال كلُّ فريقٍ: مات على ديننا، فإنْ كانَ كفر الأبوينِ بالتكفيرِ الأصليِّ ثابتًا بالبينةِ، أو سلمه الفرعُ المنازع وليس هناك أصل للميتِ يسلم، فالقولُ قول الأبوينِ بلا خلافٍ، وإن كان كفر الأبوين الكفرَ الأصلي غير ثابت، ولا يُسلمه الفرع فالفتوى على التوقُّفِ حتى يتبينَ الحالُ، أو يصطلحوا. ولو شهدتْ (¬3) أنَّه أعتق في مرضِ موتِهِ سالمًا، وأخرى غانمًا، وكلُّ واحدٍ ثلثُ ماله، فإنِ اختلفَ تاريخٌ قدِّم الأسبقُ، وإن اتحدَ أقرعَ. ويستثنى منهُ ما إذا كانَ الاتحادُ بمتقضى تعليقٍ وتنجيزٍ بأن يقولَ: إن أعتقتُ غانمًا، وسالمٌ حرُّ، ثم يعتقُ غانمًا فيعتقُ سالمٌ مع عتقِ غانمٍ بناءً على ¬
أنَّ الشرطَ والمشروطَ يقعانِ معًا، وهو المرجَّح، وهذا تاريخٌ متحدٌ ولا إقراعَ، ويتعيَّنُ السابقُ، وإن أطلقتا، فقيلَ: يقرع، وقيل: قولانِ مرجحان؛ الإقراع والتنصيف، والمذهبُ المعتمدُ الإقراع لا التنصيف (¬1). ولو شهدَ أجنبيانِ (¬2) أنَّهُ أوصى بعتقِ سالمٍ وهو ثلثُه ووارثانِ حائزانِ عدلانِ: أنَّه رجعَ عن ذلك، ووصى بعتقِ غانمٍ وهو ثلثه، ثبتَ لغانمٍ، فإن كانَ أحدُهما تقبل شهادتُهُ في الواقعِةِ لم يثبتِ الرُّجوعُ فيعتقُ سالمٌ، والأصحُّ يعتقُ غانم كلُّهُ؛ لأنَّ الشاهدينِ الفاسقينِ أو أحدَهما يعتقدانِ أنَّ سالمًا ملكُهُما، وإنما منعهما من التصرُّفِ فيهِ ظاهرًا الشهادةُ التي هي عندهما غيرُ معمولٍ بها، لما عرفا من الرجوعِ. * * * ¬
باب إلحاق القائف
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ باب إلحاق القائف هو لغةً: متتبعُ الآثارِ والاشتباهِ، والجمعُ قافة. والأصلُ فيه: حديثُ عائشةَ الثابتُ في "الصحيحين" (¬1) قالتْ: دخل عليَّ رسولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- وهو مسرورٌ فقال: "أيْ عائشةُ، ألم تري أنَّ مجزِّزًا المدلجِي دخلَ فرأَى أسامةَ وزيدًا عليهما قطيفةٌ قد غطَّيا رؤوسهما، وقد بدتْ أقدامُهما فقال: إن هذهِ الأقدامَ بعضُها من بعضٍ". ¬
شرط القائف
قال الشافعيُّ (¬1): فلو لم تكنِ القافةُ عِلمًا ولها اعتبارٌ، وعليها اعتمادٌ لمنعهُ النبيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم-؛ لأنَّه لا يقرُّ على خطأٍ، ولا يُسَرُّ إلَّا بالحقِّ. شرطُ القائفِ (¬2): مسلمٌ، عدلٌ، بصيرٌ، ناطقٌ، سميعٌ، غيرُ أصلٍ لطالبِ الإلحاقِ، ولا فرعٍ له، وغيرُ عدوٍّ لمن ينفيهِ عنهُ إذا كانَ طالبًا للإلحاقِ. وأنْ يكونَ فقيهًا فيما يتعلَّقُ بالنسبِ الذي يلحقُ به، أمينًا، مجربًا بالكيفيَّةِ التي نصَّ عليها الشافعيُّ، حيث قال: ولا يقبلُ قولُ القائفِ حتَّى يكونَ أمينًا، فإذا أحضرنا القائفَ والمتداعيينِ للولدِ وذوي أرحامِهم، إن كان المدَّعون له موتَى، أو كانَ بعضُ المدعين له ميتًا فأحضرنا ذوي رحمِهِ، أحضرنا احتياطًا أقربُ الناسِ نسبًا وشبهًا في الخلقِ والسنِّ والبلدِ بالمدعينَ له، ثم فرقنا بين المتداعيينِ منهم، ثم أمرنا القائفَ يلحقَهُ بأبيهِ، أو أقربِ الناسِ بأبيهِ، إن لم يكُنْ لهُ أبٌ، وإن كانتْ معهُ أمٌّ أحضرنا لها نساءً في القُربِ منها كما وصفتْ، ثم بدأنا فأمرنا القائفَ أَنْ يلحقَهُ بأمِّه، لأنَّ (¬3) القائفَ في الأمِّ معنى، ولكن يستدلُّ به على صوابِهِ في الأبِ إن أصابَ فيها، ويستدلُّ على غيرِه إن (¬4) أخطأ فيها. انتهى. ¬
والمذهبُ اشتراطُ حرٍّ ذكرٍ، لا عددٌ، ولا كونُه مُدْلجيًّا (¬1)، بل يجوزُ من سائرِ العربِ، فإنْ تداعَى اثنانِ، كلٌّ منهما أهلٌ للاستلحاقِ إنِ انفردَ مجهولًا لا يعرفُ نسبُهُ، ويصحُّ أن يستلحقَهُ مَن يدعي أنَّه ولدُهُ على ما سبقَ من الشرائطِ في اللقيطِ عرض ذلك المجهولُ على القائفِ إذا كانَ غيرَ مكلَّفٍ. وإنِ اشتركَ اثنانِ في وطءٍ بشبهةٍ، أو دخلَ ماؤهما في امرأةٍ بشبهةٍ، أو استدخلتْ ماءهما (¬2) بشبهةٍ، فولدتْ ممكنًا منهما، ونازعاهُ عُرضَ على القائفِ. ولو كانَ مكلَّفًا، وكذا إنِ ادَّعاهُ أحدُهما والآخرُ ساكتٌ أو منكرٌ ولا بدَّ من حكمِ الحاكِمِ في صحَّةِ إلحاقِهِ بالقافَةِ بخلافِ المجهولِ المتقدِّم وسواء كانتْ زوجةُ أحدِهما فوطئها وطلَّق، فوطئها آخرُ بشبهةٍ أو نكاحٍ فاسدٍ، أو أمتهُ وباعها فوطئها المشتري ولم يستبرئ واحدٌ منهما. وكذا لو وطئ منكوحَةً -على المذهبِ- بأن يكونَ الزوجُ قال لزوجتِهِ: "وطئكِ فلانٌ بشبهةٍ وهذا الولدُ منه"، ويعترفُ المنسوبُ إليه وطءُ الشبهةِ بذلكَ، ويدعي الولدَ فيعرض الولدُ حينئذٍ على القائفِ. وقيل: يلحقُ الزوجُ النسبَ ويلاعن، ولا يرى القافة، فإذا ولدته لأقلَّ مدَّةِ الإمكانِ لكلِّ واحدٍ، ولم يزد على أكثرِ مدَّته، عرض فإن تخلَّلَ بين وطئهما ¬
حيضةٌ، فللثاني إلَّا أن يكونَ الأولُ زوجًا في نكاحٍ صحيحٍ، وإلَّا أن يكونَ قد حصلَ بعد طلاقِهِ حيضةٌ أو حيضتانِ، فإنَّه لا يكونُ للثانِي بل يعرضُ على القائفِ، وسواء فيهما اتفقَا إسلامًا وحرِّيةً أم لا. * * *
كتاب العتق
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ كتابُ العتق هو لغةً: رفعُ رقٍّ أو أسرٍ أو عقابٍ، وقد يستعملُ للكرمِ والجمالِ وصلاحِ المالِ والسبقِ، يقال: عَتَقَتْ فرسُ فلان، إذا سبقتْ. ويقالُ: عتق يعتقُ بكسرِ التاءِ، وأعتقه مالكُه. وشرعًا: زوالُ الرِّقِ الحقيقيِّ عن ملكِ الآدميينِ بغيرِ الوقفِ. قال اللَّهُ تعالى: {فَكُّ رَقَبَةٍ}، وقال في الكفَّارَةِ {فَتَحرِيرُ رَقَبَةٍ}. وصحَّ العتقُ عن النبيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- من فعلِهِ وقولِهِ في أحاديثَ كثيرةٍ، منها في "الصحيحين" عن أبي هريرة رضي اللَّهُ عنهُ، عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "مَن أعتقَ رقبةً مؤمنةً أعتقَ اللَّهُ بكلِّ عضوٍ منها عضوًا منهُ من النارِ حتَّى فرجَهُ بفرجِهِ" (¬1). ¬
يعتبر في المعتق أمور
والإجماعُ على مشروعيتِه، وأنَّهُ قربةٌ (¬1). يعتبَرُ في المعتقِ أمورٌ: أحدُها: أن يكونَ مالكًا، أو وكَّلَهُ المالكُ في ذلك، إلَّا في محلينِ: أحدهما: الإمامُ فيما يُعتقه من رقيقِ بيتِ المالِ للمصلحةِ، فإنَّه يصحُّ. الثاني: الوليُّ يعتقُ عبدَ محجورِهِ المجنون، أو الصبيَّ الذي لا يميزُ عنْ كفَّارَةِ القتلِ، وكذا الظهارِ ووقاعِ رمضانَ. من بالغٍ جُنَّ بعد أَنْ لزمتْهُ كفَّارَةُ الظِّهارِ، وما وقعَ في الرّافعِي و"الروضة" (¬2) في الصداقِ مما يخالفُ ذلكَ في الصَّبيِّ ليسَ بمعتمدٍ. ولا يعتقُ عبدُ السَّفيهِ أصلًا، ولا في الكفَّارَةِ على ما صحح، وحكي عنِ النصِّ في اليمينِ والظِّهارِ تنزيلًا له منزلةَ المعسرِ بالنسبةِ إلى عبارتِهِ، فيكفِّر السفيهُ الصوم، وقياسُه أن يأتيَ هذا في الصبيِّ المميز، ولم يذكروه. يستثنى من ذلكَ موضعانِ: أحدُهما: ما لزمَ الرشيدَ من العتقِ بكفَّارَةٍ أو نذرٍ، ثمَّ حجرَ عليه بالسَّفَهِ، فإنَّه يعتقُ عنهُ وليهُ ما لزمَهُ. الثانِي: لو ماتَ مَن عليه عتقٌ وانتقلتْ تركتُهُ لصبي مميزٍ، أو سفيهٍ، والوليُّ على الوارثِ هو وصيُّ الميتِ، فإن كان وصيُّ الميتِ غيرَ وصيِّ الوارثِ فوصى الميتُ يعتقُ من التركَةِ أقل ما يجزئ، وفي اعتبار موافقة ولي الوارثِ ترددٌ، وإذا لم نعتبره، وهو الأرجحُ خرجَ من ذلك أنَّه يعتقُ عبدَ المحجورِ عليه غيرُ وليه، وهو غريبٌ. ¬
الأمرُ الثاني: أن يكونَ المالكُ أهلًا للولاءِ، فلا يصحُّ إعتاقُ المبعَّضِ عبده الذي ملكَه ببعضه الحر، ولا المكاتب رقيقَهُ، ولو أذن سيدُه على المذهبِ فيهما. الأمرُ الثالثُ: أن يكونَ المالكُ مطلقَ التصرُّفِ فيما يعتقُهُ، فلا يصحُّ إعتاقُ صبيٍّ، ولا مجنونٍ، ولا سفيهٍ، إلَّا إذا أذنَ وليُّ السفيهِ لهُ في عتقِ ما لزمه، فيصحُّ على الأرجحِ. قاله شيخُنا تخريجًا، بخلافِ البيعِ. * * * ولو قالَ السفيهُ لرشيدٍ: أعتق عبدَكَ عنِّي مجانًا (¬1)، أو عن كفَّارتِي مجانًا، فأعتقَهُ عنهُ، ولا ضررَ يلحقُ مالَ السفيهِ نفذ بناءً على صحَّةِ قبولِهِ الهبةَ. وهو الأصحُّ. ولو قالَ وليُّه ذلك صحَّ، وكذا ولي غير السَّفيهِ. وإعتاقُ المفلسِ باطلٌ، وكذا إعتاقُ المعسرِ المرهونِ المقبوضِ بغيرِ المرتهنِ، ولا يصحُّ إعتاقُ المعسرِ مَن تعلَّقَتِ الجنايةُ برقبتِهِ بغير إذنِ المجني عليه، ولا إعتاقُه رقيقَ المأذونِ المديونِ بغيرِ إذنِهِ وإذنِ الغرماءِ، وإعتاقُ المرتدِّ موقوفٌ كملكِه، وكذا إعتاقُ المشتري في زمنِ الخيارِ لهما، فإن كانَ الخيارُ له وحدَهُ نفذ. وينفذُ إعتاقُ البائعِ في الخيارِ مطلقًا، ومما يوقفُ عتقُ من توقف في ملكه، فبان ملكُهُ ولو في الغنيمة، فإذا اختارَ التملكَ، ثم أعتق ثم وقع في سهمه نفذ؛ وفاقًا للبغويِّ وغيره، خلافًا للماورديِّ في عدم نفاذه. وكلُّ رقيقٍ يمكن أن يعتق إلَّا واحدًا، وهو الموقوفُ، فإنَّه لا يمكن عتقه أبدًا، ولا يتعلَّقُ، وتدبيرُ سابقينِ على الوقفِ على الأصحِّ المعتمدِ خلافًا لما ¬
وقع في "الشرحِ" و"الروضة" تبعًا للبغوي. فإنْ بِيعَ الرقيقُ الموقوف بطريقٍ معتبرٍ، أمكنَ عتقُهُ. وللعتقِ الاختياري صرائحُ وكناياتٌ (¬1)، ولا يتغيَّرُ الحكمُ بلحنٍ في تذكيرٍ وتأنيثٍ وغيرهما، فالصرائحُ ثلاثةٌ: أحدُها: ما تصرَّف من التحرير نحو: حررتكُ، وأنت حرٌّ، أو: محرَّرٌ، أو: يا حرُّ، لا للمسمى به الآن أو قبلَ الرِّقِّ إذا قصد نداءه باسمهِ القديمِ على الأصحِّ (¬2). ومثله للأنثى إلَّا في قوله لمزاحمة لا يعرفها: تأخري يا حرَّة. الثاني. ما تصرَّفَ من الإعتاقِ، نحو: أعتقتُكَ، أو: أنت عتيقٌ، أو: معتق، أو: يا عتيقٌ، لا للمسمّى به كما سبقَ. الثالثُ: على الأصحِّ: فككتُ رقبتكَ، أو: أنتَ مفكوكُ الرقبةِ. وأمَّا الكناياتُ: فلا سلطانَ، أو: لا سبيل، أو: لا يد، أو: لا أمر، أو: لا خدمةَ لي عليك. وأزلتُ ملكي عنك، وأنت للَّهِ، وأنتِ سائبةٌ، وملكتك نفسك، لا على قصدِ التمليكِ، وأنت مولاي، ويا مولاي، وأما قوله: يا سيدي، فلغوٌ وفاقًا للقاضي الحسين والغزالي، خلافًا للإمام؛ لأنَّه إخبارٌ بغيرِ الواقعِ، أو خطابٌ بلطفٍ، ولا إشعارَ له بالعتقِ. وصرائحُ الطلاقِ وكناياتُهُ كنايةٌ في العتقِ للعبدِ والأمةِ (¬3)، وكذا: "حرمتُكِ"، وتختصُّ الأمةُ بـ: "استبرئي رحمك"، أو: "اعتدِّي"، إن كانَ ¬
وللعتق خاصيتان
عتقُها يوجبُ الاستبراءَ، خلافًا لما صحَّحوهُ من أنَّه كنايةٌ في غيرِ الموطوءَةِ. ويستثنَى من كناياتِ الطلاقِ: "أنَا منك طالقٌ" أو: "بائنٌ" ونحوهُما، فإنَّه لا يكونُ كنايةً لعبدٍ ولا أمةٍ، كما لو قال: "أنا منك حرٌّ"، أو: "أعتقتُ نفسي منك"، فإنَّه لا يكونُ كنايةً في الأصحِّ. وأمَّا قولُهُ للأمَةِ: أنت عليِّ كظهرِ أُمِّي، فليس بكنايةٍ -على المعتمدِ- خلافًا لما صحَّحهُ في "الشرحِ" و"الروضة"، لأنَّه لا يقتضي تحريمًا بمجردِهِ في الزوجَةِ، حتى يعودَ فيقتضِي التحريمَ إلى إخراجِ الكفَّارَةِ، وهو لغوٌ في الأمَةِ، فلا يكونُ كنايةً لعبد إشعارُهُ بالعتقِ. * * * ويصحُّ تعليقُ العتقِ بالصفاتِ (¬1) ممن يصحُّ منهُ التنجيزُ إلَّا من وكَّلَ بالتنجيزِ، ومن دخلَ في إعتاقِ عبدِ المحجورِ فيما سبقَ فإنَّه لا يعلقه تعليقًا بعيدًا قد يفوت به المقصودُ، وأما القريبُ فينبغي أن لا يفعلَهُ الموجِّهُ المرجوحُ المانعُ من حصول الكفَّارَةِ بذلك، فإنْ فعلَهُ، ففي صحتِهِ على الراجِحِ ترددٌ، والأرجحُ الصحَّةُ. قال شيخُنا: قلتُ ذلك كلَّه تخريجًا. وإذا زالَ الملكُ عنِ المعلَّقِ عتقُهُ ثم عادَ لم تعدِ الصفةُ على الأصحِّ. وللعتقِ خاصيتانِ (¬2): (1) إحداهُما: السِّرايةُ إلى الأشقاصِ التي لا يملكها المعتقِ بشروطها، ولا سراية في الأشخاصِ، فلو أعتقَ الحملَ بعد نفخ الرُّوح فيه لم تعتقِ الأمُّ، ¬
(2) الخاصية الثانية: الولاء.
خلافًا لأبي إسحاق، ولو أعتق الأمَّ والحمل ملكه عتقًا، ولو استثنى الحمل عتق أيضًا (¬1). (2) الخاصيةُ الثانية: الولاءُ. وأما حصولُ العتقِ بملكِ شيءٍ من الأصولِ أوِ الفروعِ بشرطِهِ، فذاكَ من خاصيته الأصليةِ والفرعيةِ. وأمَّا القرعةُ فإنها لا تختصُّ بالعتقِ، وكذلكَ امتناعُ العتقِ بالمرضِ (¬2). * * * ومن ينفذُ إعتاقُه في كل العبدِ إذا أعتق بعضه عتق كلُّهُ، إلَّا في أربعِ صورٍ: (1) إحداها: ما يعتقه الإمامُ من بعضِ رقيقِ بيتِ المالِ، فإنَّه يقتصرُ عليه قالَهُ شيخُنا تخريجًا. (2) الثانيةُ: إذا أعتقَ الوكيلُ حصَّةً من العبدِ الموكلِ في إعتاقِهِ كلِّهِ، فإنه يقتصرُ العتقُ على ما أعتقَهُ على ما صححوهُ، والصوابُ كما قالَ شيخُنا أنَّه يعتقُ كلُّه، وفيه وجهٌ أنَّه لا يعتقُ منه شيءٌ للمخالفةِ، وهو أقوَى مما صحَّحوهُ، وينبغي أَنْ يكونَ ما صحَّحوهُ مقيدًا بغيرِ المأمورِ بإعتاقِهِ عن كفَّارَتِهِ، فإنَّه يمتنعُ ما صحَّحوهُ فيه. (3) الثالثةُ: إذا قالَ لوارثِهِ: أعتقْ نصفَ هذا العبدِ بعدَ موتي، فإنَّ الوارثَ يملكُ إعتاق كلِّه، فلو أعتقَ ما أوصي به. لم يعتِق نصيبه، ولو أعتقَ نصيبَهُ لم يسر إلى ما أوصَى بإعتاقِه. (4) الرابعةُ: وكيل من شريكين بعشرين بإعتاقِ عبدٍ يصحُّ أن يعتقَ نصيبَ ¬
ويتصور عتق بعض عبده الخالص له في ست صور
أحدِهما، ولا يعتقَ كلَّهُ. ويتصور عتقُ بعض عبدهِ الخالصِ له في ستِّ صورٍ: مرهونٌ بعضُهُ مقبوض، والراهنُ معسِرٌ، فأعتقَ الذي ليس بمرهونٍ، أو أعتقَ من المرهونِ بعضًا هو موسرٌ بقيمته دون غيرِه، أو أعتقَهُ كلَّهُ، وهو موسرٌ بقيمةِ بعضِهِ، وكذلكَ في العبدِ الذي تعلَّقتِ الجنايةُ برقبتِه، ولو كانَ بين شريكينِ، ففدَى أحدُهما نصيبُهُ، ثم اشتراهُ منهُ الذي لم يفدِ فأعتقَ ما فداه، وهو معسرٌ بقيمةِ الباقِي، فإنَّه يعتق الذي اشتراه، وقد يكونُ موسرًا ببعضِ ما رهنهُ، أو لم يفده، فيعتقُ ذلك القدر، والتبعيضُ حاصلٌ (¬1). وإن أذنَ المرتهنُ أو المجني عليه للمالكِ المعسرِ في إعتاقِ بعضٍ، فأعتقهُ لم يتعدَّ إلى غيرِهِ، على الأرجحِ. والمريضُ مرضَ الموتِ إذا أعتقَ من عبدهِ ما يشمله الثُّلث، ثم ماتَ لم يعتقْ إلَّا ذلكَ القدرُ، ومن ينفُذُ عتقهُ في كلِّه أو بعضِهِ إذا أعتقَ منه يدًا ونحوها مما يقعُ به الطلاقُ فإنَّه يعتقُ من الرقيقِ ما ينفَذُ منه بالنسبةِ إلى الكلِّ أو الجزْءِ. وأمَّا السرايةُ، فإنها تثبتُ في المشتركِ إذا عَتَقَ المستحقُّ نصيبَهُ أو بعضَ نصيبِهِ منفردًا، أو معَ إعتاقِ نصيب شريكِهِ، أو بعضه بنفسه أو بوكيلِهِ، فإنَّه يسري إلى نصيبِ الشَّريكِ، وقياس ما سبقَ في الوكيل: أنَّه لو وكَّل وكيلًا بإعتاقِ نصيبه، فأعتقَ الوكيلُ بعضَ نصيبِهِ؛ أنَّه يعتقُ ما أعتقه الوكيلُ، ويسرِي إلى نصيبِ الشَّريكِ، ولا يعتقُ بقيةَ نصيبِ الموكل، وهو كما قالَ شيخُنا خرقٌ عظيمٌ، وبه يتبينُ بطلانُ ما صحَّحوه. ¬
وللسراية شروط
* وللسرايةِ شروطٌ (¬1): (1) أحدُها: يسارُ الشريكِ المعتق بقيمة نصيب من لم تعتق لتدفع ذلك الشريكة إلَّا في أربعِ صورٍ: - إحداها: إذا كانَ الشريكُ الذي أعتقَ هو بائعُ نصيبِ شريكِهِ، ولم يحصُلْ فيه القبضُ المعتبرُ، فإنَّه يسرِي إليهِ، وينفسخُ البيعُ على المذهبِ، ويسقطُ الثمنُ إن كانَ في ذمَّةِ المشتري أو يرده إليه إن كانَ مقبوضًا أو بدله عند تعذُّرِه، ولا يغرمُ له القيمة، وفي اعتبارِ اليسارِ بالقيمة أو بالثمنِ ترددٌ من جهةِ النظرِ إلى الأصلِ، أو المردود، والأرجحُ الثانِي. ويقاسُ بهذا كلُّ عقدِ معاوضَةٍ جَرَى فيهِ نظيرُ هذا. - الصورةُ الثانيةُ: أعتقَ البائعُ نصيبَهُ بعدَ أن قبضَ المشتري المبيعَ، وكانَ الخيارُ لهما، فالحكمُ فيه كالحكمِ فيما قبل القبضِ. - الصُّورَةِ الثالثةُ: إذا وهبَ من فرعِه بعض عبدٍ وقبضَهُ ثم أعتقَ الأصلُ نصيبَهُ، فإنَّهُ يسري إلى نصيبِ الفرعِ، بشرطِ اليسارِ، ثم يكونُ راجعًا ولا يغرمُ له شيئًا على الأرجحِ. قالَهُ شيخُنا تخريجًا؛ مما لو أعتق الأصلُ ما وهبَهُ لفرعِهِ، فإنَّه راجعٌ مع صحة العتقِ على وجهٍ، أو راجعٌ ولا عتقَ، أو لا عتقَ ولا رجوعَ، وصحَّحَ هذا. ولا يأتي فيما نحنُ فيهِ لصحَّةِ السرايةِ قطعًا، فتعيَّنَ أَنْ يكونَ راجعًا وليسَ كالإتلافِ الحسيِّ، لعدمِ دخُولِهِ في ملكِ المتلفِ، بخلافِ السرايةِ. ولو وجَّه الواهبُ عتقه للجميعِ عُتِقَ نصيبُ نفسِهِ، ثم إنْ قُلنا يصحُّ ¬
رجوعُهُ ويعتقُ، لم يشترطْ يسارٌ، وإن قلنا: يصحُّ رجوعُهُ ولا يعتقُ عتقَ هُنا، وفيه وقفةٌ. وإن قُلنا: لا يصحُّ فكالتي قبلها. - الصُّورةُ الرابعةُ: أعتقَ بائعُ المفلسِ نصيبَهُ، فإنّه يسرِي إلى الباقي الذي يرجعُ فيه بشرطِ يسارِهِ، ولا يغرمُ، قالَهُ شيخُنا تخريجًا، ومادَّتُهُ ما تقدَّمَ، وفيه ما تقدَّمَ فيما إذا أعتقَ الجميعَ، ولو أيسرَ الشريكُ ببعضِ قيمةِ نصيبِ شريكِهِ سرى بقدرِ يسارِهِ على النصِّ المعتمدِ في "الأمِّ"، ومحلُّ الخلافَ ما لم يكن معه شريكٌ آخر أعتقَ نصيبَهُ وهو موسِر بما بقي زائدًا على مقتضى التوزيعِ. فإنْ كانَ سرى عليهما بقدرِ يسارِهما إلى الكلِّ قطعًا؛ قالَهُ شيخُنا تخريجًا. ومعنى اليسارِ: أن يملكَ ما يصرفهُ في ذلكَ غير متعلِّق به رهنٌ بمؤجَّلٍ، فإن كان بحال أو مالكٍ لجانٍ تعلَّقَ الأرشُ برقبتِهِ، ويفضل فيهما فضلةً بيعًا، وصرفتِ الفضلةُ في السرايةِ. قالهُ شيخُنا تخريجًا. ولا يمنعُ من يسارِهِ دينٌ عليه، كما لا يمنعُ الزكاةَ، وإذا ملكَ المفلسُ شقصًا من قريبه بالاختيارِ عُتِق عليه، ويسري إلى الكُلِّ، ويصرف له ما تقتضيه المضاربةُ. قاله شيخنا تخريجًا من جزمِهِم بيسارِهِ في نفقةِ القريبِ، وكذا في نفقةِ الزَّوجَةِ على الأقيسِ. ويباع في المغرومِ في السِّرايةِ ما يُباعُ في الدين من مسكنٍ، وخادمٍ، وما فضلُ عن ثيابِ لبسه المحتاج إليها، وقوته وقوت من تلزمه نفقتُهُ ذلك اليومِ، وعن سُكنى نومِه ولا تصرف فيها الأجرةُ المستقبلةُ من موقوفِه ومستولدتِهِ، لعدَمِ اليسارِ بها حالَ العتقِ. ويعتبرُ اليسارُ حالةَ الإعتاقِ، ولا أثرَ لما يطرأُ من اليسارِ بعد ذلكَ قطعًا.
وإن كان في وقت السراية ثلاثة أقوال
* وإن كانَ في وقت السِّرايَةِ ثلاثة أقوالٍ: الأظهرُ: أنها تثبتُ بنفس الإعتاقِ. والثاني: بأداءِ القيمةِ. والثالث: موقوفٌ، فإن أدَّى تبيَّنَّا حصولَ العتقِ باللفظِ، وإن ماتَ تبيَّنَّا أنَّه لا سرايةَ؛ لأنَّ اليسارَ شرطُ التقويمِ، والشرطُ يسبقُ على مشروطِهِ الفعليِّ بلا خلافٍ، بخلافِ الشرطِ للمعنويِّ. والتقويمُ يترتَّبُ عليه الإعطاءُ والسِّرايةُ، فتردد النظرُ في وقتها وتعتبر قيمة محلِّ السرايةِ وقت الإعتاقِ على الأقوال والتحقيقِ عندَ العتقِ الذي به التلفُ، وعلى هذا يرجح على قولِ الأداءِ تعتبر قيمتُه وقت الأداء. والمريضُ معسرٌ إلَّا في الثلثِ، والذي قالَهُ شيخُنا أنَّ المريضَ موسرٌ بمالِهِ كلِّه للسرايةِ والتقويمِ، فإنْ صحَّ لزمَ ما جرَى وإن ماتَ نُظِرَ في الثلثِ عند الموتِ. ومنهُ الزيادةُ الحادثَةُ، فإن خرجَ مالُ السِّراية من الثلثِ نفذ، وإلَّا تبيَّن ردُّ الزائدِ وفَارَقَ المفلس لتعلُّق حقِّ الورثةِ بالأعيانِ خاصَّةً في الثُّلثينِ، ولم يذكروا هنا الإجارَةَ؛ لأنَّ السرايةَ قهريةٌ، والميتُ معسِر، فلا سرايةَ عليه، إلَّا في أربعِ صورٍ: - إحداها: إذا أوصَى بالتكميلِ، فإنَّه يصيرُ موسرًا في الثلثِ على المعتمدِ. - الثانيةُ: إذا أوصى الإنسانُ بشقصٍ ممن يعتقُ عليه فماتَ الموصى له بعدَ موتِ الموصِي، وقبلَ القبولِ، فقيل: الوصيةُ لوارِثِهِ (¬1)، فإنَّه يعتقُ ويسري ¬
(2) ثاني الشرط السراية
من الثلثِ، كذا جزموا بِهِ هنا، والتحقيقُ أنَّه إن كانَ الموصَى له حالة موت الموصي صحيحًا، فإنَّه يسري من رأسِ المالِ، وإن كانَ مريضًا مرضَ الموتِ فمن الموتِ؛ لأنَّه تبيَّنَ بقبولِ وارثِهِ أنَّه ملكَهُ بموتِ الموصي على أصحِّ الأقوالِ. - الثالثةُ: أوصَى لشخصٍ بأن يعتقَ عليهِ، فماتَ بعدَ موتِ الموصِي وقبل القبولِ، عن ابنينِ، فقبلَ أحدُهما الوصيةَ، فإنَّه يصحُّ قبولُهُ في النصفِ، ويعتقُ النصفُ على الميتِ، ويسري في نصيبِ القائلِ، ولا اعتبارَ بيسارِهِ من نفسه، كذا ذكرَهُ ابنُ الحدادِ، وهو المعتمدُ عندهم. والتحقيقُ أنَّه إن كانَ الموصَى له صحيحًا عندَ موتِ الموصِي فالأمرُ كما قالوه، وإن كان مريضًا مرضَ الموتِ فإنَّما يسرِي في ثلثِ نصيبِ مَن قبلَ، كما تقدَّم في التي قبلها. - الصورةُ الرابعةُ: إذا كاتَبَ الشريكانِ أمةً، ثم أتتْ من أحدِهما بولدٍ، واختارتِ المضيَّ على الكتابَةِ، ثم ماتَ المستولِدُ، وهي مكاتبةٌ، عتق نصيبُ المستولدِ وسرى العتقُ، وأخذ الشريكُ من تركة الميتِ القيمةَ المستحقَّةَ له. نصَّ عليه في "الأمِّ"، وهو المذهبُ المعتمدُ، ولا يعتبرُ يسارُهُ عندَ الاستيلادِ، ويعتبرُ يسارُهُ عندَ الموتِ. قالهُ شيخُنا تخريجًا، وهو غريبٌ. * * * (2) ثاني الشرط السراية: أَنْ يكونَ محلُّها قابلًا للنقلِ في الجملَةِ، فلا يسرِى إلى ما ثبتَ فيه الاستيلادُ على الأصحِّ، ولا إلى الموقوفِ، نقلَ عن النصِّ، ولا إلى المنذورِ إعتاقُهُ ونحوهِ مما لزمَ عتقُهُ بموتِ الموصِي، أو المعلَّق على صفةٍ بعد الموتِ.
وأمَّا إذا كاتَبَا عبدًا وأعتقَ أحدُهما نصيبَهُ، فإنه يسري في الحالِ إلى نصيبِ شريكِهِ. نصَّ عليه في "الأمِّ" و"مختصر المزني"، وهو المذهبُ المعتمدُ خلافًا لما صحَّح في الشرح و"الروضة" من تأخُّرِ السّرايةِ إلى ارتفاعِ الكتابةِ بالعجزِ، فلم ينصّ الشافعيُّ على ذلك، وما وقع عفى صورة التقدم بقبض النصيبِ وإعتاقَ أحد الوارثينَ وإيلاد أحد المكاتبينَ لا شاهدَ فيه، وما ذكر من وجهٍ على السرايةِ في الحالِ أنَّه يسري العتقُ مع بقاءِ الكتابةِ بعيدٌ، وإن أريد بقاءُ حكمِها بحيثُ يكونُ، ولا محلَّ السرايةِ للشريكِ الذي لم يعتقْ كما صرَّح به، فهو كما قال شيخُنا: خرق عظيمٌ لقواعدِ (¬1) الشَّريعةِ من جهةِ أن يغرمَ قيمته شرعًا قهرًا، والفائدةُ لغيرِهِ، لا يجري على القواعدِ الشرعيَّةِ، وعلى ما صُحِّحَ من تأخُّرِ السرايةِ إلى العجزِ يعتبرُ اليسارُ عندَ الإعتاقِ لا عندَ العجزِ، بخلافِ ما سبقَ في المستولَدَةِ لنجازِ العتقِ هنا في نصيبِ المعتقِ. ولو باعَ من لم يعتقْ نصيبَهُ برضَا المكاتبِ وقعتِ السرايَةُ. وهل الغرم للبائعِ أو للمشتري؟ ترددٌ، والأرجحُ الأوَّلُ، إن جعلنا ارتفاعَ الكتابَةِ بالرضا، ويسري في المدبَّر على المذهبِ، لإمكانِ نقلِهِ، وعلى مقابله إذا ارتفعَ التدبيرُ سرى كما في الكتابَةِ، خلافًا لما نقل عنِ الأكثرِ. وتسري إلى المشروطِ عتقُهُ؛ لأنَّه قابلٌ للنقلِ بارتفاعِ العقدِ المشروطِ بردٍّ بعيبٍ ونحوهِ. ويسري إلى المرهونِ على الأصحِّ، ولا يسرِي إلى المعلَّقِ عتقُهُ بالصفةِ، وينبغِي أن يتخرَّجَ فيه خلاف التدبيرِ، ولم يذكروهُ. * * * ¬
(3) ثالث شروط السراية
(3) ثالثُ شروطِ السرايَةِ: أَنْ يكونَ محلَّ الإعتاقِ مما يثبتُ عليهِ الولاءُ للمالكِ المعتقِ، نصَّ عليهِ في "الأمِّ"، ولم يذكروهُ، فإذا ماتَ سيِّد المكاتب عن ابنين، فأعتقَ أحدُهما نصيبه، أو أبرأه من نصيبه من النجومِ، فإنَّه يُعتقُ نصيبُهُ على النصِّ المشهورِ، ولا يسري في الحالِ ولا بعدَ العجزِ على النصِّ المعتمدِ لفواتِ الشرطِ، إذِ الولاءُ إنما يثبُتُ للميتِ خلافًا لما صحَّحهُ الشيخُ أبو حامدٍ، ومن تبعَهُ من السرايةِ، ومقابل المشهورِ، أنَّه لا يُعتقُ منه شيءٌ في الحالِ، بل يوقف العتقُ، وهو قويٌّ؛ لأنَّ المورث لا يمكنه تبعيضه، فكيف بتبعِيضِ مَن بعضُ ورثتِهِ، واختارَهُ المزنيُّ في صورةِ الإبراءِ، وصحَّحهُ البغويُّ و"المحرر" في الإعتاقِ. فإنْ أدَّى نصيبَ الآخرِ عُتقَ كلُّهُ الآن، وولاؤه للأبِ، فإن عجزَ قوِّم على المعتقِ إن كانَ موسرًا وقتَ العجزِ -كما هو ظاهرُ نصِّ المختصرِ-، وهو معنَى قولِ البغويِّ: عتق الآنَ نصيبُهُ. وتبطلُ الكتابةُ، وولاؤهُ للذي أعتقَ، وإن كانَ معسرًا، فلَهُ ولاءُ ما أعتقَ، والباقي للآخرِ. وفي صورةِ الإبراءِ لا يُعتقُ منهُ شيءٌ بالعجزِ. قاله البغويُّ، لأنَّ الكتابةَ تبطلُ بالعجزِ. والقياسُ التسويةُ؛ لأنَّ الإبراءَ منزَّلٌ منزلةَ قولِهِ: أعتقتُ نصيبي. وعلى ما صحَّحه الشيخُ أبو حامدٍ من أنَّ السرايةَ في الحالِ أم عندَ العجزِ؟ قولانِ: أظهرهما: عند العجزِ بخلافِ ما سبقَ في الشريكينِ في الكتابةِ؛ لأنَّ المعتِقَ منهما له ولاءُ نصيبه بعتقِهِ بلا خلافٍ، بخلافِ ما نحنُ فيه، فإذا أدَّى نصيبَ الابنِ الآخرِ عُتقَ كلُّه، وولاؤه للأبِ، وإن عجزَ سرى الآن على الذي سبقَ منه الإعتاقُ أو الإبراءُ. وولاء ما سرى له، وكذا له ولاء النصف الآخر على مقتضَى الشرطِ
المذكورِ. ومَن قالَ: يكونُ الولاءُ في ذلكَ النصفِ لهما، خالفَ النصَّ والشرطَ، ومن قالَ: في صورةِ الإبراءِ يكونُ لهما بخلافِ صورةِ الإعتاقِ، له وجهٌ. والتحقيقُ ما قدَّمناهُ. وصورةُ قبضِ أحدِ الابنينِ نصيبَهُ بإذنِ الآخرِ إذا أجزنَاهُ -وهو المرجوح- فتفريعها كما سبقَ في الإبراءِ. ولو ثبتتْ كتابَة في نصيبِ أحدِ الابنينِ بإقرارِهِ وحلف الآخرِ، ثم أعتقَ المقرُّ نصيبَهُ وهو موسِرٌ، لم يسرِ إلى نصيب المنكرِ على النصِّ المعتمد في "الأم" و"مختصرِ المزني" قال الشافعيُّ: (لأَنَّه إنَّما أقرَّ بأنَّه عتقَ بشيءٍ فعلهُ أبوهُ)، فجرى على مقتضَى الشرطِ المذكورِ، إذ لا ولاءَ لهُ بعتقِهِ، خلافًا للرافعيِّ ومَن تبعهُ من تصحيحِ السرايةِ وانفراد المصدق بولاءِ ما أعتقَهُ، وبهذا التصحيحِ لا يخرجُ عن الشرطِ، لكنه يخالفُ النَّصَّ، وإنْ أبرأهُ عن النجومِ لم يسرِ لا لأنَّ منكر الكتابةِ يعتقدُ أنَّ الإبراءَ لغوٌ كما وجهوه به، بل لفواتِ شرطِ ثبوتِ الولاءِ لَهُ بها محل ما عتق بالإبراءِ. وكذلِكَ لا سرايةَ إذا قبضَ النجومَ لفواتِ الشرطِ، وإثباتِ الولاءِ للمنكرِ مع تكذيبِهِ لا يتخرَّجُ على الخلافُ فيمن أقرَّ لإنسانٍ بشيءٍ وكذبه؛ لأنَّ الولاءَ ليسَ ممَّا يؤخذُ من المقرِّ، وليسَ مما يتركُ في يدِهِ، لكن إذا ترتَّبَ عليه مالٌ ونحوُهُ ظهرَ الخلافُ. ومما يتخرَّجُ على مقتضَى الشرطِ أنَّه إذا وكلَ أحدُ الشريكينِ شريكَهُ في أَنْ يعتقَ نصيبَهُ فأعتقَهُ، فإنَّ السرايَةَ على الموكَّلِ عملًا بالشرطِ المذكورِ، خلافًا لما ذكرَ الشيخُ أبو حامدٍ في "التعليق" مِن أنَّه يعتقُ على الوكيلِ. وهو غريبٌ. ولو قالَ أحدُ الشريكينِ للآخرِ، أو قال أجنبيُّ: أعتقْ نصيبَكَ عنِّي بكذا،
(4) رابع شروط السراية
فأعتقَهُ عنهُ فولَّاهُ للأمرِ، ويقومُ النصيبُ الآخرُ عليه لا على المعتقِ خلافًا لمن قالَ: يقومُ على المعتِقِ المأمور، فإنَّه وجهٌ غريبٌ لا يعوَّلُ عليه، وهو مخالفٌ للنصِّ والشرطِ. ويخرَّجُ على الشرطِ إذا أعتقَ الإمامُ بعضَ عبدِ بيتِ المالِ، فإنَّهُ لا يسرِي كما تقدَّم. * * * (4) رابعُ شروطِ السرايةِ: الاختيارُ فيما ينشئه الشريكُ مما يترتَبُ عليه العتقُ، إمَّا بتملُّكٍ وإما بتعليقٍ، وإما بالإعتاقِ بنفسِهِ، أو بوكيلِهِ كما سبقَ، إمَّا بقبولِ عقدٍ يترتَبُ عليه الملكُ، بقبضٍ أو بغيرِ قبضٍ، وإما بقبولِ نائبِهِ شرعًا عندَ تعذُّرِ عبارتِهِ وإما بقبضٍ نَساءٍ عن تعليقٍ باختيارِهِ، أو مِن كتابةٍ أنشأها لا من كتابةٍ مورَّثةٍ. وقد يحصلُ الملكُ بطريقٍ ضمنيٍّ، فيضعفً الاختيارُ ويقعُ الاختلافُ. وخرجَ بالإنشاءِ الإقرارُ، فمن ملكَ بعضَ أصلِهِ أو فرعِهِ باختيارِهِ بنفسِهِ أو بوكيلِهِ بعوضٍ أو بهبةٍ، أو وصيةٍ، فإنَّه يُعتقُ عليه ويسري بخلافِ ما لو ملكَهُ بإرثٍ أو بوقوعه في سهمِ ذوِي القُربَى، فإنَّه لا يسرِي، وقبولُ وارثه بعد موتِه كقبولِهِ، وفي اليسارِ ما تقدَّمَ، وفي قبولِ عبدِهِ ذلك خلافٌ؛ الأصحُّ أنَّه لا يسرِي، لأنّه لم تتعذَّرْ عبارةُ السيد، فكانَ القهرُ فيه أرجحُ. ولا يضعف الاختيارُ ما إذا ردَّ الوارثُ الثمنَ المعيَّنَ المعيب، وكان المبيعُ شقصًا ممن يُعتقُ عليه، فعاد إليهِ فإنَّه يعتقُ ويسري على الأصحِّ، بخلافِ ما إذا عجزَ مكاتبه الذي اشترى شِقصًا ممن يعتقُ على السيد، فإنَّه يعودُ الشقصُ
(5) خامس شروط السراية
للسيِّدِ ويُعتقُ عليه، ولا سرايةٍ على الأصحّ؛ لأنَّه لا يغلبُ به الملك. واختيارُ الملكِ في الغنيمةِ للغانِمِ الحرِّ المكلَّفِ الرشيدِ يقتضِي عتقُ بعضِ الأصلِ أو الفرعِ الواقعِ في نصيبِهِ، ويسرِي علمِه، ويعتبَرُ يسارُهُ وقتَ الاختيارِ. وفي جميعِ صورِ التملُّكِ يعتبرُ اليسارُ وقتَ التملُّكِ. * * * (5) خامسُ شروطِ السرايةِ: أن يوجَّه الإعتاقُ إلى ما يملكُهُ، فلو قالَ: أعتقتُ نصيبَ شريكي، فهو لغوٌ، وهذا الشرطُ لا حاجةَ إليهِ؛ لأنَّ صورةَ المسألةِ مغنيةٌ عنهُ، وهو ناقصٌ، وتمامُهُ أن يوجه العتقُ إلى شيءٍ مما يملكه أو إلى ما يملكُه منفردًا أو بإضافةِ شيءٍ من نصيبِ الشَّريكِ أو كله إليه كما سبقَ. * * * (6) سادسُ شروطِ السرايةِ: أن ينفذَ إعتاقُهُ فيما يملكُهُ أو شيء منهُ، فإنْ تعذَّرَ نفاذه فيه ولو بدورٍ، فقد تعذَّرَتِ السرايةُ إلَّا في إقرارِ المنشئ السرايةِ دونَ عتقِ ما يسرِي منهُ حينئذٍ، ولا غرمَ إلَّا في صورةٍ واحدَةٍ، وهي: ما لو ادَّعى شريكُهُ الموسر أنَّك أعتقتَ نصيبكَ، وسرى العتقُ إلى نصيبي، فلي عليك قيمةُ نصيبي، وسمَّاها فأنكرَ المدعَى عليهِ ونكلَ وحلفَ المدعِي، أخذَ قيمة نصيبِهِ. ولا يعتقُ نصيبُ المدعَى عليه على الصحيحِ. وإذا قالَ أحدُ الشريكينِ لصاحبِهِ: إن أعتقتَ نصيبكَ فنصيبي حرٌّ قبلَ إعتاقِكَ نصيبَكَ، ثم أعتقَ المقولُ لهُ نصيبَهُ بعد لحظَةٍ، والمعلِقُ موسرٌ، وصححنا الدورَ، فلا ينفذ العتقُ ولا سرايةَ. وكذا لو قالَ الشريكُ: مهما أعتقتُ نصيبي فهو حرٌّ قبلَهُ، ومن أبطلَ الدورَ
(7) سابع شروط السراية
-وهو المعتمدُ- يعتقُ نصيبَ كلِّ واحدٍ عن نفسِهِ، كما لو قالَ معه، كذا جزموا به هنا، وهو ممنوعٌ. ففي منعه (¬1) وجهان، بل يقطع هنا بأنَّه يعتقُ عن المنجزِ، كما قطعوا به فيه إذا أطلق؛ لأنَّه إذا بطلتِ القبليَّةُ بقي الاطلاقُ، ولا يُصارُ إلى المعيةِ إلَّا بالتصريحِ، إلَّا على نظرٍ ضعيفٍ. * * * (7) سابعُ شروطِ السرايةِ: أن يكونَ محلُّ الإعتاق قابلًا للنقلِ في الجملَةِ، فلو لم يقبلْ كما في شقصِ مستولَدٍ أعتقه المستولِدُ، فقدْ نقَلَ عنِ القَاضِي أبي الطيبِ أنَّه لا يسري، وهذا ضعيفٌ، والصوابُ السرايةُ. * تنبيهٌ: قد ينتجزُ العتقُ والسرايةُ ظاهرًا، ولكنْ يطرأُ ما يخالِفُهما، فيعمَلُ بالطارئِ، ولا ينتظرُ، فإذا قَالَ الشريكُ: إن متُّ فنصيبي حرٌّ قبلَ موتِي بشهرٍ، ونجزَ الآخرُ عتقَ نصيبُهُ بعد التعليقِ بساعةٍ، ومات لدونِ شهرٍ من التعليقِ، أو لشهرٍ من أوَّلِ التعليقِ، أو لأكثرِ من شهرٍ، بحيثُ يتقدَّمُ التنجيزُ فالعتقُ للمنجزِ، والسرايَةُ عليه. ولو ماتَ على رأسِ شَهرٍ من تمامِ صيغةِ التعليقِ، فقالوا: يعتقُ جميعُ العبدِ على المعلق، وهو ممنوع، والصوابُ كما قالَ شيخُنا: أنَّه يعتقُ عن المنجزِ؛ لأنَّه لم يمضِ بينَ تمامِ التعليقِ والشهرِ لحظةٌ ينزلُ فيها العتقُ. وإن ماتَ على تمامِ شهرٍ من تمامِ كلامِ المنجزِ فقالوا: يعتقُ على كلِّ واحد نصيبُهُ، ولا تقويم. قال شيخُنا: وهو ممنوعٌ، بل يعتقُ الكُلُّ عنِ المعلّقِ بالتعليقِ، والسرايةِ لسبقِهِ، فالعتقُ بلفظِ المنجزِ يكونُ عقبَ لفظِهِ عندَ الشيخِ أبي حامدٍ والأكثرُ، ¬
فرع: إذا ملك أهل التبرع أصله أو فرعه عتق عليه إلا في صور
وذلكَ فهو في الشهر، والعتقُ بالتعليقِ قبل الشهرِ. وإذا قلنا بوجهِ الشيخِ أبي محمد؛ من نزولِ الحُكمِ آخر اللفظِ، جاءَ ما قالوا، ويحتملُ خلافُهُ، إذ لا بدَّ منَ الترتبِ الذِّهنيِّ، وذلك يستدعي سبقُ الحريَّةِ بالتعليقِ والسرايةِ، حيث ثبتت على شريكينِ أو شركاء، فهي على عددِ الرءوسِ إلَّا في صورتينِ: (1) إحداهُما: إذا تفاوتتِ الحصصُ، ويسارُ كلِّ واحدٍ بقدرِ حصَّتِهِ، فإنَّه يسرِي بقدرِ الحصص. (2) الثانيةُ: إذا كانَ أحدُهما موسرًا ببعضِ ما يقتضيهِ التوزيعُ، وكان الآخرُ موسرًا بما يقتضيهِ والزيادَةُ الباقيةُ في نصيبِ الآخرِ، فإنَّه يسري عليه بذلك كله. والواجبُ على الشريك والشركاء قيمة ما يسري إليهِ لا المقابل له من القيمةِ باعتبارِ الكُلِّ؛ لأنَّ المتلفَ ما سرى إليه، وإذا اختلفا في القيمةِ، فالقولُ قولُ المعتقِ بيمينِهِ على الأصحِّ؛ لأنَّهُ غارمٌ، وما وقع في "الأمِّ" وغيرها منَ التحالفِ، فهو مشكلٌ كما قالَ شيخُنا؛ إذ ليسَ هنا عقدٌ يرتَفِعُ ثم يرجع إلى القيمَةِ؛ لأنَّ الاختلافَ ابتداءً في القيمةِ. وأمَّا الخاصِّيَةُ الثانيةُ، وهي الولاءُ، فقد ذكرَ شيخُنا في الفرائضِ في ذلكَ ما فيه كفايةٌ، فليُنظَرْ منهُ. * * * فرع: إذا ملكَ أهلُ التبرُّعِ أصلَهُ أو فرعَهُ عتقَ عليه إلَّا في صورٍ: (1) إحداها: إذا اشترَى أصلَهُ أو فرعَهُ وألزمَ البائعَ البيعَ في خيارِ المجلسِ، أو في خيارِ الشرطِ الثابِتِ للمتعاقدينِ، فإنَّه لا يكونُ ذلكَ سببًا للحكمِ بعتقِ المبيعِ على المشتري لئلَّا يتضررَ المشتري بإلزامِ البائعِ البيع.
وعلى هذا يبقَى الخيارُ للمشترِي، ويملكُ المبيعَ، ولا يعتقُ عليه، قال شيخُنا: ولم أرَ مَن تعرَّضَ لهذا الفرعِ. (2) الثانيةُ: إذا اشترَى المكاتبُ أصلَهُ أو فرعَهُ بإذنِ السيِّدِ، فإنَّه أهلٌ للتبرعُّ بإذنِ السيِّدِ، إلَّا في العتقِ والكتابَةِ، ويصحُّ الشراءُ حينئذٍ ويتكاتَبُ عليه ولا يعتقُ عليه، فهذا رجلٌ من أهلِ التبرُّع وقد ملكَ أصلَهُ أو فرعَهُ، ولم يعتقْ عليه، وكذا لو ملكَ أصلَهُ أو فرعَهُ بهبةٍ أو وصيَّةٍ فإنَّه لا يعتقُ عليه. (3) الثالثةُ: المبعَّضُ إذا اشترَى من يَعتِقُ عليه بما يملكُهُ ببعضِهِ الحر، أو وهبَ له في نوبتِه أحدَ أصولِهِ أو فروعِهِ، أو أوصى له به فماتَ الموصِي، وقبِلَ المبعَّضُ الوصيَّةَ، فإنَّه لا يعتقُ عليه، مع أنَّه أهلٌ للتبرُّعِ فيما يملكُهُ ببعضِهِ الحرِّ، ولكنَّه ليس أهلًا لثبوتِ الولاءِ كالمكاتِبِ. وأما غيرُ أهلِ التبرُّع من صبيٍّ، أو مجنونٍ، أو سفيهٍ، أو مفلسٍ، إذا ورثوا أحدَ أصولِهم، أو أحدَ فروعِهم، أو وهب لهم، فإنَّه يعتقُ عليهم. ولا يشترى لطفلِ قريبُه الذي يعتقُ عليه، ولو وهبَ له أو أوصى له به، والطفلُ لا مالَ له، فَعلى الوليُّ قبوله على النصِّ، ولو ملكَ في مرضِ موتِهِ من يعتقُ عليه بلا عوضٍ عتق من رأسِ المالِ على الأصحِّ في "الروضةِ" تبعًا للشرح، خلافًا لما في "المنهاج" من أنَّه يعتقُ من الثُّلثِ أو بعوضٍ بلا محاباةٍ من البائعِ، فمن ثُلُثِهِ ولا يرثُ؛ لأنَّ كلَّ مَن عتق من الثُّلث لا يرث، فإن كانَ عليهِ دينٌ مستغرِقٌ فلا يصحُّ الشراءُ على الأصحِّ، أو بعوضٍ بمحاباةٍ من البائعِ، فقدرها كهبةٍ. وقد تقدَّم أن الأصحَّ الحسبانُ من رأسِ المالِ. وإن وُهب لعبدٍ بعضُ من يعتقُ على سيدِه، فقبلَ، وقُلنا يستقلُّ به عُتقَ، ولا يسري على أظهرِ القولينِ كما ذكرَهُ في "الروضَة"، ومحل هذا ما إذا لم يتعلَّق وجوب النفقةِ بالسيدِ في الحالِ، فإنْ تعلَّقَ ذلكَ بالسيدِ لم يصحَّ قبولُ
العبدِ قطعًا، وإذا وهبَ للمكاتبِ بعضُ من يعتقُ على سيدِه صحَّ قبولُهُ من غيرِ احتياجٍ إلى إذنِ السيِّدِ، ولا يعتقُ منه شيءٌ ما دامتِ الكتابةُ قائمةٌ، فإن عجَّزَ المكاتِبُ نفسه بغير اختيار السيدِ ملك السيدُ ذلك الجزءُ، ولا يسري، وإن عجَّزَهُ السيد فإنه يسرِي على الأصحِّ، وإذا وهبَ المبعَّض من يعتقُ على سيد وكان بينهما مُهايأةٌ، فإن كانَ ذلك في نوبةِ الحرِّ فإنَّه لا يعتقُ ذلك الجزءُ، وإن وقعَ ذلكَ في نوبَةِ العبوديَّةِ فهو كالقِنِّ، وفيه ما سبقَ، وإن لم تكُنْ بينهما مهايأةٌ فالذي يتعلَّقُ بالحريَّةِ لا يملكُهُ السيِّدُ، والذي يتعلَّقُ بالعبوديَّةِ فيه ما سبقَ. * * *
كتاب التدبير
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ كتابُ التدبير هو لغةً: النظرُ إلى ما تزولُ إليه عاقبةُ الأمرِ، ودُبُرُ الأمرِ آخِرُهُ. وشرعًا: عتقُ العبدِ عن دبرِ الحياةِ مطلقًا أو مقيَّدًا، سمي بذلك، لأنَّ السيِّدَ دبَّرَ أمر دنياهُ باستخدامِ العبدِ واسترقاقِهِ، وأمرًا في آخرتِه بإعتاقِهِ، والأصلُ فيهِ ما رواهُ "الصحيحانِ" (¬1) من حديث جابرِ بن عبد اللَّهِ -رضي اللَّه عنهما-: أن رجلًا من الأنصارِ أعتقَ مملوكًا له عن دبرٍ لم يكنْ لهُ مالٌ غيرُهُ، فبلغَ ذلكَ النبيَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- فقال: "مَن يشتريهِ؟ " فاشتراهُ نعيمُ بن عبد اللَّهِ بثمانمائة درهمٍ، فدفعها إليه. وفي ذلك تقريرُ النبيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- على التدبيرِ، وكان البيعُ إمَّا لفقرِ السيِّدِ أو لدينٍ عليه، كما جاءَ في رواياتٍ، والمدبِّرُ هو أبو مذكورٍ، والغلامُ يعقوب. والإجماعُ على صحَّةِ التدبيرِ. ¬
ضابط
ويُشترطُ فيه الملكُ، فلا يصحُّ تدبيرُ عبدِ غيرِهِ، فإنْ علَّقَهُ على أن يملكَهُ فالأرجَحُ صحَّتُهُ. قالَهُ شيخُنا تخريجًا، وقد سبقَ في الوصيةِ نظيرُهُ. ويُشترطُ كون السيدِ مكلَّفًا حرًّا كاملًا مختارًا، فيصحُّ من السَّفيهِ كما تقدَّمَ في الحجرِ من المالكِ قبل القبضِ بإرثٍ أو وصيَّةٍ، وكذا بعوضٍ وفي زمنِ الخيارِ ممَّن لهُ الملكُ، وحيثُ قُلنَا بالوقفِ صحَّ إذا تبيَّنَ بعدَ ذلكَ أنَّ الملكَ له (¬1). ويصحُّ تدبيرُ الرَّاهِنِ بعدَ القبضِ، وتدبيرُ سيدِ من تعلَّقَ برقبتِهِ أرشٌ. قال شيخُنا ذلك كلَّه تخريجًا من تدبيرِ المحجورِ عليه بالفلسِ، فإنَّ المذهبَ صحَّتُهُ خلافَ ما وقعَ في الشَّرحِ و"الروضَة" هنا. وقد ذَكروا صحَّة تعليق العبد المرهونِ وتدبير المرتدِّ موقوفٌ، ويصحُّ تدبير الحمل وحدَه، وبعض عبدِه، ونصيبه من المشتركِ، ولا سراية فيهما حالًا ولا بعدَ الموتِ، ويصحُّ أن يدبِّرَ مكاتبَهُ كتابةً صحيحةً، والمؤجر والموصى بهِ، والمعلق عتقه بصفةٍ. * ضابطٌ: لا يمتنعُ التدبيرُ مع وجودِ الملكِ وأهليةِ المالكِ، إلَّا في صورةٍ واحدةٍ؛ وهي المستولَدَةُ؛ لاستحقاقِها العتقَ بجهةٍ أقوَى من التدبيرِ، وهي الاستيلادُ. فإن قال للمستولَدَةِ: إن متُّ فأنتِ حرَّة قبل موتِي بشهرٍ مثلًا، عند من قالَ أنَّ هذا تدبيرٌ مقيَّد، أمكنَ صحَّةَ تدبيرِ المستولدَةِ في هذه الصورةِ لفائدَةِ أنَّ كسبها يكونُ لها في الزمنِ الذِي انكشَفَ أنها حرَّةٌ فيه، قبل الموتِ، ¬
لكن هذا شيءٌ انفردَ به "الحاوِي الصَّغيرُ" (¬1) وهو وهمٌ، وليسَ هذا بتدبيرٍ، فامتنع التصويرُ. والتدبيرُ المطلقُ لا نزاعَ فيه (¬2)، كقولِهِ: إذَا متُّ فأنتَ حرٌّ أو مدبرٌ (¬3)، أو أنتَ مدبر، أو دبَّرتُك، وهو صريحٌ على النصِّ المعمولِ به، بخلافِ ما إذا قالَ لمن يريدُ كتابتَه من أرقائه: كاتبتُك. فلا يكون صريحًا لاحتمالِ كتابة الخراجِ الذي لا عتقَ بعدَهُ، وأما الكتابَةُ فيصحُّ بها التدبيرُ مع النيَّةِ، كقولِهِ: إذا متُّ فأنتَ حرامٌ، أو مالك نفسَكَ، ونحو ذلك من الألفاظِ المحتملةِ (¬4). والمرادُ بالنيَّةِ هنا -كما قال الماورديُّ-: أن يريدَ بهذه الألفاظِ العتقَ، فإن أَرادَ بها العتقَ صارَ مدبرًا، وإلَّا فلا. وإذا قالَ لعبدِهِ: "إذا متُّ في ذا الشهرِ أو المرضِ فأنتَ حرٌّ"، لم يكُنْ تدبيرًا مقيَّدًا على النصِّ، ولو ماتَ من غيرِ مرضِهِ ذلكَ لم يكنْ حُرًّا، وإن ماتَ من مرضِهِ أو في ذلكَ الشهرِ كان حرًّا, ولكنه وصيةٌ، وليسَ بتدبيرٍ، وعلى هذا فحقيقةُ التدبيرِ تعليقُ العتقِ بالموتِ المطلقِ. ويجوزُ معلَّقًا (¬5) كقولِهِ: "إن دخلتَ الدَّارَ فأنتَ حرٌّ بعدَ موتِي"، ويصيرُ مدبرًا بعدَ التعليقِ قبلَ الدُّخولِ، ولو قالَ: "إن متُّ ثم دخلتَ الدَّارَ، فأنت حرٌّ" لم يكن تدبيرًا، وإنما هذا تعليقُ عتقٍ بصفةٍ، فيشترطُ دخولُهُ بعدَ الموتِ. ¬
وكذلكَ لو قالَ: "إذا متُّ ومضى شهرٌ فأنتَ حرٌّ"، فليسَ بتدبيرٍ، بل هو تعليقُ عتقٍ بصفةٍ على الأصحِّ المنصوصِ فيهما، وقولهُ: "إن شئتَ فأنت مدبرٌ". صريحٌ في تعليقِ التدبيرِ على مشيئةِ العبدِ. وأمَّا قولُهُ: "أنتَ حرٌّ بعدَ موتِي إن شئتَ". فيحتملُ: إن شئتَ بعدَ موتِ الحريَّةَ، ويحتملُ: إن شئتَ الآنَ التدبيرَ، فلم يتعيَّنْ لتعلُّقِ التدبيرِ بالمشيئةِ، فيراجَع ويعمل بمقتضى نيَّته، فإن لم ينو شيئًا فالأصحُّ حملُهُ على المشيئةِ بعدَ الموتِ. فإنْ قالَ: "متَى شئتَ" فللتراخِي في الصورتينِ المذكورتينِ، ويكونُ في الأولَى تدبيرًا معلَّقًا، ويكونُ في الثانيةِ تعليقًا محضًا. وإن قالا لعبدِهما: "إذا مِتنا فأنتَ حرٌّ"، فإنْ ماتَا معًا حصلَ العتقُ بحصولِ الصفةِ، ولا تدبيرَ، وإنْ ماتَا مرتَّبًا فالصحيحُ في "الروضَة" تبعًا للشرحِ؛ أنَّه إذا ماتَ أحدُهما صارَ نصيبُ الثاني مدبرًا على المذهبِ، ولو ارتدَّ المدبرُ لم يبطلْ أيضًا, ولا يمنع الكافر من حملِ مدبرِه ومستولدتِهِ الكافرينِ إلى دارِ الحربِ، سواءٌ جرَى التدبيرُ في دارِ الإِسلامِ أو دارِ الحربِ، وليس له حملُ مكاتبِهِ الكافر قهرًا لظهورِ استقلالِهِ، ولو كانَ لكافرٍ عبدٌ مسلمٌ فدبَّرَه أجبر على إزالَةِ ملكهِ ببيعٍ أو إعتاقٍ، فإن كاتبَهُ اكتفينا بذلكَ، وإن امتنَع من ذلك كله باعَهُ الحاكمُ عليه. ولو زالَ ملك السيدِ عنِ المدبَّرِ ثم ملكَه لم يعدِ التدبيرُ على المذهبِ، ولو رجعَ عنهُ بقولٍ كـ "أبطلتُهُ"، أو: "فسختُهُ" أو: "نقضتُهُ" أو: "رجعتُ فيه". صحَّ إنْ قُلنا أنَّه وصيةٌ فيها سائبة التعليق، وهو المنصوصُ عليه في مواضعَ كثيرةٍ.
فرع
وإن قُلنا: "تعليقُ عتقٍ بصفةٍ"، وهو المرجوح كما قال شيخُنا: لم يصحَّ الرجوعُ المذكورُ. فرع: حبلتْ مُدَبَّرَةٌ من غيرِ السيِّدِ وولدته قبل الموتِ، تبعها ولدُها في التدبيرِ على أصحِّ القولينِ، خلافًا لما في "المنهاجِ" (¬1) تبعًا للمحرَّر. ولو دبَّر حاملًا، فإن أتت به لأقلِّ من ستَّةِ أشهرٍ، فليسَ بمدبرٍ، وإن أتت به لستة أشهرٍ فأكثَر، فهو مدبرٌ، هكذا نصَّ عليه بها البويطي، وهو المعتمَدُ، فإن ماتتْ أو رجع في تدبيرها بالقولِ دامَ تدبيرُهُ، ولو دبر حملًا بمفرِهِ صحَّ، وإن باعَ أمةً حاملًا صحَّ، وكان رجوعًا عن تدبيرِهِ، ولا يبيعُ مدبرًا ولده قطعًا. وجنايتُهُ كجناية لي، وكذا الجنايةُ عليه؛ لأن المدبر رقيقٌ، ويعتقُ بالموتِ، إن لم يذكرِ السيدُ شرطًا آخرَ بعد الموتِ، بحيثُ يبقَى التدبيرُ معهُ، فإن ذكرَ شرطًا آخرَ فلا يعتقُ بالموتِ، بل لا بدَّ بعدَ الموتِ من وجودِ الشرطِ الآخرِ. ويعتقُ من الثُّلُثِ كلُّه أو بعضه بعد الدينِ، وبعد المقدم على الدين من مؤنِ التجهيزِ، وما يقدَّم عليها، وبعد ما تقدَّم على التدبيرِ من تبرُّعاتٍ منجزةٍ في المرضِ. وإن علقَ عتقًا على صفةٍ تختصُّ بالمرضِ (¬2)، كـ: "إنْ دخلتَ الدارَ في مرضِ موتِي فأنتَ حرٌّ"، عتقَ من الثلثِ، وإن احتملتِ الصحَّةُ فوُجِدَتْ في المرضِ فمن رأسِ المالِ في الأظهَرِ إذا وجدتْ بغير اختيارِ المريضِ، فإنْ وجدتْ باختيارِهِ كقولهِ: "إن دخلتُ أنا الدارَ فأنتَ حرٌّ"، ثم دخلَ الدارَ في ¬
مرضِ موتِهِ، فإنّه يعتبَرُ من الثُّلثِ. ولو ادَّعى رقيقُهُ التدبيرَ (¬1) فأنكرَ، فليسَ برجوعٍ، بل يحلفُ، ولو وُجِدَ مع مدبرٍ مالٌ فقال: "كسبتُهُ بعد موتِ السيدِ"، وقال الوارثُ: "قبلَهُ". صُدِّقَ المدبرُ بيمينِه، وإن أقاما بينتينِ قدمت بينة المدبرِ على النصِّ (¬2). * * * ¬
كتاب الكتابة
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ كتاب الكتابة هي لغةً: راجعةٌ إلى مادَّةِ كتب، بالتاء المثنَّاة من فوق، وهي دالَّةٌ على معنَى الضمِّ والجمعِ، وأطلقتْ على هذا العقدِ لما فيه من انضمامِ نجمٍ إلى نجمٍ، وقيل: سميتْ كتابةٌ لأنَّها توثَّقُ بالكتابَةِ من حيثُ إنَّها منجمةً. وشرعًا: عقدٌ مع الرَّقيقِ على منجَّمٍ في ذمته بنجمينِ فصاعدًا يترتبُ عليه استقلالُهُ، ثم حرِّيتُهُ بفراغِ ذمته من العوضِ، وأصلها قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا} قال الشافعيُّ -رضي اللَّه عنه-: أظهر معاني قوله {خَيْرًا} قوة على الكسبِ وأمانة. وفي "الصحيحين" (¬1) من حديث بريرةَ أنَّها دخلتْ على عائشةَ -رضي اللَّه عنها- فقالت: إن أهلي كاتبوني على تسعِ أواقٍ في تسع سنينَ، كل سنةٍ أوقية، ¬
أما من يوجب الكتابة
فأعينيني. وذكرتْ عائشةُ القصةَ للنبيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- وأقرَّ على الكتابَةِ. وجاءت أحاديثُ كثيرةٌ تدلُّ على أنَّها مشروعةٌ، فَعَلَها جمعٌ من الصحابةِ وغيرُهُم، وذلك إجماعٌ، فتستحبُّ إذا طلبَها الرَّقيقُ البالغُ العاقلُ الكسوبُ الأمينُ، ممنْ تصحُّ منه الكتابةُ (¬1). والصارِفُ عن ظاهرِ {فَكَاتِبُوهُمْ} أنَّه أمرٌ بعد حظر (¬2)، من جهة أنَّه عوضٌ ملكَهُ بملكِهِ، فتحوَّلَ بها حكمُ الرَّقيقِ عمَّا كان عليه، فكان كقولهِ {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا} ونحوه، فلا وجوبَ، وقد أشارَ إلى ذلكَ الشافعي رضي اللَّه عنه في "الأمِّ"، وجاءَ الندبُ من قضيةِ القربةِ، وفي قولٍ: تجبُ. ولا تستحبُّ عندَ فقد الأمانَةِ أو الكسبِ، ولا تكرهُ (¬3)، ولو فُقِدَا على الأصحِّ، ولا يُجبرُ الرقيقُ عليها مطلقًا قطعًا. ومدارُ البابِ على معرفةِ مَن يوجب الكتابةَ ومن يقبلها، والصيغةُ، والعوض، والأحكامُ المترتبةُ على ذلك (¬4). أما مَن يوجبُ الكتابَةَ: فهو المالكُ الحرُّ المتأهلُ لذلكَ (¬5)، أو وكيلُهُ، فيبطلُ من غيرِ المالكِ، ومنه وليُّ الصبيِّ والمجنونِ والسفيهِ، أبًا كانَ أو جدًّا أو وصيًّا أو حاكمًا، إلَّا في صورةٍ واحدَةٍ، فتصحُّ، وهي: الإمامُ يُكاتِبُ عبدَ ¬
وأما القابل
بيتِ المالِ. قالَه شيخُنا تخريجًا من عتقِ الإمامِ عبدَ بيتِ المالِ كما سبقَ. وإذا جازَ العتقُ بغيرِ مالٍ فبمالٍ أولَى. وتبطلُ من المكاتبِ ولو أذنَ السيدُ على الأظهرِ، لعدمِ تأهُّلِه للولاء، وتبطلُ من المبعَّضِ إذا ملكَ بعضَهُ الحرُّ رقيقًا، كما لا يصحُّ إعتاقُهُ على المذهبِ المذكورِ في كفَّارَتِه بالعتقِ، بخلافِ الاستيلادِ؛ لأنَّه قهريٌّ، والقياس التسويةُ. وتبطلُ من مالكِ صبيٍّ أو مجنونٍ أو سفيهٍ، أو مرتدٍّ، أو مكرهٍ، وتصحُّ من مالكٍ ذمِّيٍّ أو حربيٍّ، ويبطُلُ الزائد على الثلثِ عندَ عدمِ الإجارَةِ إذا صدرَ من مريضٍ مرضَ الموتِ، أو ممن يجري مجراهُ، فإذا ماتَ عن عبدٍ كاتبه في الحالةِ المذكورةِ على مثلِ قيمتِهِ ولم يخلفْ غيره، ورد الورثةُ الزائدَ فثلثه مكاتِبٌ، فإذا أدَّى حصَّته من النجومِ عتقَ، ولا يزادُ في الكتابَةِ بقدرِ نصفِ ما أدَّى على الأصحِّ المنصوصِ. وأمَّا القابلُ: فهو العبدُ البالغُ العاقلُ المختارُ (¬1)، إذا لم يتعلَّقْ بشيءٍ منه حقٌّ من خيارٍ وعدمِ قبضٍ في المبيعِ ونحوهِ، وكرهنٍ مقبوضٍ وجناية أرشٍ متعلِّقة برقبتِه وإجارة ووصية بمنفعةٍ ودينٍ في مأذونٍ له في التجارَةِ، أو في رقيقِ التجارةِ، ولم يأذنْ صاحب الدينِ، فيبطلُ بمخالفة شيء مما ذُكِر. وتصحُّ كتابةُ المدبَّر والمعلَّق عتقه بصفةٍ، والمكاتبُ كتابةً فاسدَةً، والمستولدَةُ، ثم إنْ كانَ من تصحُّ كتابتُهُ ملكًا كله لواحدٍ، فأورد الكتابةَ على بعضِهِ فهي فاسدةٌ إلَّا في صورةٍ واحدةٌ، وهي ما إذا أوصَى بكتابتِه فلم يخرج من الثلث إلَّا بعضُهُ، فإنَّه يصحُّ كتابةُ ذلك الذي خرَجَ للضرورةِ. ¬
وأما الصيغة
وأمَّا الصيغةُ (¬1): فهي أن يقولَ الموجبُ: كاتبتكَ على كذَا مُنجَّمًا، إذا برئت منهُ أو فرغتَ ذمتكَ منهُ، فأنتَ حرٌّ. ولو قالَ: "كاتبتكُ على كذا منجمًا الكتابة التي يحصلُ فيها العتقُ". كانَ كافيًا في الصراحَةِ، ولو تركَ لفظ التعليقِ ونواهُ جازَ، ولا يكفي لفظُ كتابة بلا تعليقٍ ولا نيةٍ على المذهب، ويقولُ القائلُ: قبلتُ. وأما العوضُ (¬2): فشرطُهُ أَنْ يكونَ دينًا مؤجَّلًا، ومنفعة نفس المكاتبِ لا تقبلُ دينًا ولا تأجيلًا، ويشترطُ اتصالهما بعقدِ الكتابَةِ، وكونُ العوضُ نجمينِ فأكثرُ، ولا يكونُ من منفعةِ نفسِ المكاتِبِ إلَّا نجم واحد، ويعتبرُ معه غيرها، ويستثنَى من ذلكَ المبعَّضُ، على الأرجَحِ عندَ شيخِنا، فإنَّهُ تصحُّ كتابتُهُ بغيرِ تنجيمٍ، سواء أكان حالًّا أمْ كانَ مؤجَّلًا إلى أجلٍ واحدٍ؛ لأنَّ المعنى المقتضي لتعين التأجيلِ والتنجيمِ وهو أنَّ الرقيقَ الكامل لا يملكُ مفقود هنا، فإن المبعض يملك ببعضه الحُر، وذلك الذي يملكهُ يوفي منه ما كان حالًا، ولا عجز حينئذٍ بخلافِ الرقيقِ الكاملِ. ولو كاتَبَ على خدمةِ شهرٍ من العقدِ ودينار عندَ انقضائِه صحَّت، ولو قالَ: كاتبتكَ وبعتكَ هذا الثوبَ بألف ونجَّمَ الألف وعلَّق الحريةَ بأداءِ ما تعلَّقَ بالكتابَةِ أو بفراغِ الذِّمَّةِ منهُ فالأظهَرُ صحَّةُ الكتابَةِ، والمذهبُ بطلانُ البيعِ. ويستثنَى من ذلكَ ما إذا كانَ المكاتبُ مبعَّضًا، وكان بينهُ وبين سيدِه مهايأةٌ، وكان ذلك في نوبةِ الحريَّةِ، فإنَّه يصحُّ البيعُ أَيضًا. ¬
وأما الأحكام المترتبة على ذلك
ولو كاتبَ عبيدًا على عوضٍ منجم على أنَّهم إذا أدَّوا عتقوا صحَّتِ الكتابَةُ على النصِّ، ومعناهُ على أنَّ مَن أدَّى حصَّتَهُ عتقَ، ولو كاتباهُ معًا أو وكَّلا صحَّ إن اتفقتِ النُّجومُ، وجعل المالُ على نسبةِ ملكيهما، فلو عجزَ فعجَّزه أحدهما وأرادَ الآخرُ إبقاءه (¬1) فكابتداء عقدٍ، وفي طريقٍ: يقطع بالجوازِ بالإذن، ولو أبرأهُ منَ نصيبِهِ أو أعتقَهُ عتقَ نصيبه، وقوم الباقي، إن كانَ موسرًا. وأمَّا الأحكامُ المترتِّبَةُ على ذلك: فمنها ما يتعلَّقُ بالسَّيِّدِ، ومنها ما يتعلَّقُ بالمكاتِبِ. فمما يتعلَّقُ بالسيِّدِ (¬2): أنَّه يلزمُهُ أن يحطَّ عنِ المكاتَبِ كتابةً صحيحةً جزءًا من المالِ المأخوذِ من المكاتبِ، أو يدفعه إليه منه، أو من غيرِه من جنسِهِ، والحطُّ أولَى؛ لأنَّه الأصلُ، والدفعُ بدلَ عنه، وفي آخرِ النجمِ الأخيرِ أكمَلُ، وإنما يترجَّحُ الأخيرُ حيثُ لم يكنْ في الدفعِ أولًا ما يعينُ المكاتبِ على التكسُّبِ، فإن كان ترجحَ الدفعُ في الأولِ حينئذٍ. وإذا كاتبَ الشريكانِ عبدَهُما أو الشركاءُ عبيدَهم، لزمَ كلُّ واحدٍ ما يلزمُ المنفردُ بالكتابَةِ على الأرجحِ. ولو كاتَبَهُ بعضُ عبدٍ باقيه حر أو وصي بكتابةِ عبده فلم يخرج من الثلثِ إلَّا بعضه، وكوتبَ ذلكَ البعضُ فإنَّه يلزمُ في ذلكَ ما يلزمُ في الكتابَةِ الكاملةِ قطعًا. وأمَّا الورثةُ فإنَّ اللازمَ لهم ما كانَ يلزمُ مورثهم، نصَّ عليه، والأصحُّ أنَّ ¬
الذي يجبُ حطُّهُ ما يقعُ عليهِ اسمُ المالِ. وينبغي أن يكونَ الموضوعُ قدرًا يليقُ بالحالِ على العتقِ دونَ القليلِ الذي لا وقع له، كما قالَهُ أبو إسحاق المروزي. وقد نظرَ الشافعيُّ آية الإيتاءِ بقولِهِ تعالَى: {وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ} والمصحح في المتعةِ أنَّ الحاكمَ يقدرها باجتهادِهِ، فكذلَكَ هاهنا، ويستحبُّ الرُّبعُ، وإلَّا فالسُّدسُ، وإلَّا فالسبعُ. * * * ويحرمُ على السيدِ وطءُ مكاتبتِهِ (¬1)، ولا حدَّ فيه، ويجبُ مهرٌ واحدٌ، وإن تكرَّرَ، إلَّا إذا خُيِّرَتْ فاختارَتِ الصَّداقَ أو العجزَ، فإنِ اختارتِ الصداقَ وقبضتْهُ، ثم أصابها فلها صداقٌ آخرُ، وكلما خُيِّرَت فاختارَتِ الصداقَ ثم أصابها فلها صداقٌ آخرُ، وإنْ عجزَتْ سقطَ، والولدُ حرٌّ، ولا تجبُ قيمتُهُ على الأظهَرِ، وصارَتْ مستولَدَةً، ومكاتبةً، فإن عجزَتْ عتقتْ بموتِهِ. وولدُ المكاتبةِ موقوفٌ، يعتقُ بعتقِ الأمِّ، ويرقُّ برقِّها، وحقُّ الملكِ فيه للسيدِ، وفي قولٍ: لها علقة بالولدِ، بحيثُ تكونُ أحقَّ بكسبِهِ، وأرشُ جنايتِهِ عليه، ومهرٌ على واطئ ابنتها, ولو كان السيدَ. والأظهَرُ أنَّ أرشَ جنايتِهِ عليه (¬2)، وكسبه ومهره إذا كانَ الولدُ أنثى فوطئت وطئًا يوجبُ مهرًا، أو حصلتْ تسميةُ مهرٍ وتشطر بطريقة أو تقرَّر بطريقة ينفق من ذلك عليه، ومهما فضل وقف فإن ماتَ فللسيدِ. ¬
ومما يتعلق بالمكاتب
وإن عتقَ بعتقِ الأمِّ فله، وكذا إن عتق لا بعتقها, لكن إذا رقَّتِ الأمُّ بعد ذلك عاد ذلك للسيِّدِ. * * * ومما يتعلَّقُ بالمكاتب: أنَّه لا يعتقُ شيءٌ منهُ حتَّى تفرغَ ذمَّتُهُ من جميعِ النُّجومِ، أو يعتقَهُ السيدُ، ويؤخِّرَ النجومَ دينًا عليهِ على النصِّ في "الأمِّ". وإن خرجَ المؤدِّي مستحقًّا رجع السيدُ بمستحقه، ولو خرجَ في غيرِ النجمِ الأخيرِ أو في الأخيرِ بان بذلك الخروج مستحقًّا أنَّه لا عتقَ، وإن كانَ قالَ عند أخذهِ: أنتَ حرٌّ، على وجهِ الخبر. وإذا خرجَ معيبًا فله ردُّه، وأخَذ بذله، وإذا أدَّى المكاتِبُ بعد ذلكَ على الصفةِ المستحقة حصلَ العتقُ حينئذٍ. ولا يتزوجُ المُكاتِبُ إلَّا بإذنِ سيدهِ، ولا يطأ جاريتَهُ بغيرِ إذنِ سيدِهِ، وكذا بإذنِه على الجديد. وله شراءُ الجوارِي للتجارَةِ، فإن وطئها فلا حدَّ، والولدُ نسيب لشبهةِ الملكِ. فإن ولدتْهُ في الكتابَةِ أو بعدَ عتقِه لدون ستة أشهرٍ تبعه رقًّا وعتقًا, ولا تصيرُ الأمةُ مستولدَةً لهُ في الحالِ على المذهبِ، وقيل: إنها في الحالِ يتوقفُ في أمرِها، فإن عتقَ المكاتِبُ فقد استقرَّ لها أمية الولدِ، وإن رقَّ صارتْ رقِّيَّتُهُ للسيدِ الأصليِّ، وإن ولدتْهُ بعد العتقِ لفوقِ ستة أشهرٍ من الوطءِ وبعد العتقِ واستبرأها من الوطء الماضي فالولدُ حرٌّ وهي أمُّ ولدٍ (¬1). ولو عجَّلَ النُّجومَ لم يجبر السيدُ على القبولِ إن كان له، وفي الامتناعِ ¬
غرضٌ كمؤنةٍ تلزمُه، أو خوف عليه؛ بأن كان زمان نَهْبٍ أو كان طعامًا يريدُ أن يأخذَهُ عند المحلِّ طريًا، وإن لم يكنْ عليه ضررٌ فيُجبرُ إما على القبضِ، أو الإبراءِ، فإنْ أبَى قبضَه القاضِي (¬1). ولا يصحُّ بيعُ النجومِ، ويصحُّ اعتياضُ الحالِ عن المؤجَّلِ على النصِّ، وكذلك استبدال العينِ عن المؤجلِ، ولا يصحُّ بيعُ رقبةِ المكاتِب (¬2). * * * والكتابَةُ لازمَةٌ (¬3) من جهةِ السيدِ ليسَ له فسخَها إلَّا أن يعجَزَ المكاتِبُ عن الأداءِ، أو يمتنعُ من إعطاءِ النجمِ الذي حلَّ مع قدرتِهِ عليه. ويستثنَى من ذلك ما إذا عجزَ عن القدرِ الواجبِ في الإيتاء، فليس للسيدِ تعجيزُهُ؛ لأنَّ للمكاتبِ عليه ملكه، لكن يرفعه المكاتبُ إلى الحاكمِ حتَّى يرى رأيَهُ ويفصلُ الأمرَ بينهما. وجائزةٌ من جهةِ المكاتبِ، فله تركُ الأداءِ، وإن كانَ معهُ وفاءٌ, وله الفسخُ مطلقًا، فإذا عجَّزَ نفسه، فللسيدِ الصبرُ والفسخُ بنفسهِ، وإن شاء بالحاكمِ (¬4). ولا تنفسخُ الكتابَةُ بجنونِ المكاتِب (¬5) ويؤدي القاضي إن وجد لَه مالًا ورأَى المصلحةَ في الحريَّةِ، فإن رأى أنَّه يضيعُ إذا عتقَ، فلا يؤدي ما يقتضي الحرية لحصولِ الضررِ للمكاتِبِ المجنونِ بذلك. ولو استقلَّ السيدُ بأخذ النجمِ الحالِّ من مالِهِ أو أدَّاهُ المجنونُ لسيدِهِ ¬
ضابط
فأخذَهُ منهُ على قصدِ أخذه عن النجمِ، فإنَّه يصحُّ، هذا هو المعروفُ عند العراقيينَ، وغيرهم، وفي نصِّ "مختصرِ المزني" ما يدلُّ عليه، وهو محمولٌ على أنَّ الخبلَ حدثَ للرقيقِ بعدَ الكتابَةِ، ويستقلُّ بكلِّ تصرُّفٍ لا تبرع فيه. ولا خطرَ إلَّا الكفارة بالمالِ، فلا تستقلُّ بها مع أنها ليستْ تبرّعًا. وأمَّا ما فيه تبرعٌّ أو خطرٌ فلا يستقلُّ به، ويستثنى من التبرُّع ما تصدَّقَ به على المكاتبِ من لحمٍ وخبزٍ، مما العادَةُ أن يؤكَلَ ولا يباعُ، فإنَّ المكاتِبَ إذا أهدى شيئًا من ذلك لأحدٍ كان للمهدَى إليه أكله على النصِّ، لصحَّة الحديثِ فيه في قضيةِ بريرة، ويستثنَى من الخطرِ خطرٌ الغالبُ فيه السلامةُ، ويفعلُ للمصلحةِ كتوديج البهائم وكيها، وقطع السلع منها، والفصد، والحجامة، وختن الرقيق، وقطع السلعة التي في رقيقه، وفي قطعها خطرٌ، لكن في بقائِها أكثر، أو كانَ في قطعِها خطرٌ، وفي إبقائِها خطرٌ. وله أن يؤدِّبَ عبدَهُ ولا يحدُّه على النصِّ كما سبقَ، ويصحُّ بإذن سيدِهِ التبرُّع والخطرُ، وفي العقدِ كالبيعِ نسيئةً على المشهورِ، ويصحُّ الإقراضُ بإذنِ السيدِ قطعًا. * ضابطٌ: العتقُ يكونُ بالتنجيزِ بمالٍ أو بغيرِهِ، وقد سبقَ في بابِهِ مع السراية، ويكونُ بالتعليقِ في الحياةِ على مالٍ أو غيرِ مالٍ، ومنه الكتابة الباطلة المصرحُ فيها بالتعليق ممن يصحُّ منه، ويكونُ بالتعليقِ بما بعدَ الموتِ على غيرِ مالٍ، أو بمالٍ، ويكونُ العتقُ بالكتابةِ. * * * والكتابَةُ صحيحةٌ وفاسدَةٌ (¬1)، فالصحيحةٌ تعليقٌ في عقدٍ يغلبُ فيه معنى المعاوضةِ، والفاسدةُ يغلبُ فيها التعليقُ، وفيها سائبة المعاوضةُ، وقد سبقَ ¬
وتخالف الفاسدة الصحيحة في نحو مائة موضع أو أكثر، نذكرها على ترتيب أبواب الفقه
نظيرُهُ في الخلعِ بالنسبة إلى الزوجِ، وأنَّ العرقَ نزَّاعٌ، فالكتابةُ الصحيحةُ سبقَ بيانُها، الفاسدةُ هي التي صدرَ فيها الإيجابُ والقبولُ ممن تصحُّ عبادتُه، واشتملتْ على قصد الماليةِ، ولم يؤخذ فيها بقية ما يعتبرُ في الصحيحةِ لذكر شرطٍ فاسدٍ أو عوضٍ فاسدٍ، مقصود غير شرعي، كخمرٍ ونحوِهِ، أو مجهول يمكن دفعه أو لم يؤجلِ العوضُ، أو أخلَّ بنجمٍ، أو أَجلٍ مجهولٍ، أو كاتبَ بعضَ عبدٍ فيه رقٌّ لغيرِهِ أو له، ولا بدَّ فيها مع كونِ المالكِ مكلفًا مختارًا أن يكونَ حرًّا، فكتابةُ المكاتِبِ عبدَهُ باطلَةٌ، ولو أذنَ السيدُ على المذهبِ. وكذا المبعَّضُ كما سبقَ، وهي كالصحيحةِ في استقلالِ المكاتبِ بالكسبِ حتَّى فيما يوهَبُ له، ويوصَى له به، ويلتقطه، ويرضخُ له، ونحوها، وتبرعاتُه وخطره كالصحيحةِ، وقال البغويُّ: لا يتصرَّفُ فيما في يدهِ، وهو ضعيفٌ، وكالصحيحةِ في أنَّه يصرف إليه أرشُ الجنايةِ عليه، وعلى رقيقِه، وله مهر جاريته، حيث يجبُ بعقدٍ أو وطءٍ أو موت، والمكاتبةُ كذلك، ولها مهرُ نفسِها فيما ذُكِرَ. وإذا حصلَ العتقُ في الفاسدةِ بأداءِ المالِ تبعَهُ ما بقي من الكسبِ، ويتبعُ الولدُ أَيضًا على المذهبِ، وإذا استقلَّ سقطتْ نفقتُهُ وقياسُهُ سقوطُ فطرَتِهِ، وفي "الروضة" تبعًا للشرحِ تجبُ فطرتُهُ، وهو ممنوعٌ. * * * وتخالف الفاسدةُ الصحيحةَ في نحوِ مائةِ موضعٍ أو أكثرَ، نذكرها على ترتيبِ أبوابِ الفقهِ: يجبُ أن يشتري له ماءَ الطهارَةِ ونحوه، إذا لم يستقلَّ كما هو مصحح في القنِّ. ويزكِّي عنهُ زكاةَ التجارَةِ. قالهما شيخُنا تخريجًا.
ويُخرجُ عنه زكاةَ الفطرِ إذا لم يستقلَّ، ويمنعهُ من صومِ الكفَّارَةِ إذا حلفَ بغيرِ إذنِهِ، وكان يضعفُ بالصومِ. خرَّجَه شيخُنا من القنِّ. ويمنعُهُ من المسافرَةِ للتجارَةِ وغيرِها على المذهبِ. وخرَّجَ شيخُنا منعهُ من الإحرامِ وتحليلِه إذا أحرمَ بغيرِ إذنِهِ، ولَهُ هو أن تحللَ. ومن المنقولِ يتبعه وإن لم يرضَ، ولم يعجز نفسه، ويكون البيع فسخًا ولا تكفي الكتابةُ الفاسدُة في العبدِ المسلمِ للكافرِ. ومن المخرج إذا كاتبَ البائعُ في الخيارِ له أولهما، لم يكنْ فسخًا للبيعِ، فإنِ اتَّفقَ عتقُهُ بالأداءِ حالة الخيارِ كان فسخًا. ولو اطلَّعَ على عيبٍ به بعد أن كاتبَهُ فاسدًا يردُّه، ويكونُ فسخًا، وكذلك التقائل والتحالف، ويجعله رأس مال سلم، ويكون فسخًا, ولو أحضرَه في السلم جاز، وكان فسخًا، ويقرضه، ويكونُ ذلكَ فسخًا للكتابَةِ. ويرتهنهُ، ويكونُ فسخًا, ولا يقبضُ المرهونُ من سيدِه بوكالةِ المرتهنِ، وكذلك في الصرفِ وقبض غيره في بيعٍ وسلمٍ وقرضٍ ودينٍ ونحوها. ويباعُ في دينِ المفلس، ويكون فسخًا، ومن المنقولِ انفساخها بجنونِ السيِّدِ والحجرِ عليه بالسَّفَهِ، وهو في الصلحِ عليه كالعقدِ المرتب عليه، ولا تصحُّ له الحوالةُ عليه بالنجمِ. ومن المخرج: لا يقبل التوكيل بها, ولا تصدرُ من الوكيلِ لغلبة التعليقِ، ويحتملُ الجوازُ لسائبة المعاوضة، ولا يوكل السيد من يقبض له النجوم، ولا يوكل العبدُ من يؤدِّي عنه شيئًا من النجومِ رعايةً للتعليقِ بقوله: فإذا أديتَ إلي. ولا يعتقُ بإعطاءِ وكيله، ويصحُّ إقرارُ السيدِ به لغيره، ويقبل إقرارُ السيدِ على المكاتبِ كتابةً فاسدةً، بما يوجبُ الأرشَ بخلافِ الصحيحةِ، ولا يأخذ
بالشفعةِ من سيدِهِ؛ لأنَّه لا يعامله على ما ذكره البغويُّ وقوى خلافًا للإمامِ والغزالي. ويجعله أجرة في الإجارَةِ، ويكون فسخًا، ويجعل جعلًا في الجعالَةِ ويكونُ فسخًا، ويوقفُ ويكون فسخًا, ولا يأخذ من الوقفِ على الرقاب، ويصحُّ أن يهبَهُ أو يهديَهُ أو يتصدَّقَ به -علم فساد الكتابة أو جهلهُ- ويكونُ فسخًا، وإذا كاتَبَ الفرعُ ما وهبَ له أصلُهُ بعدَ قبضِهِ بإذنِهِ، فللأصلِ الرجوعُ فيه، ويكونُ فسخًا. وتنفسخُ بموتِ السيدِ ويوصي به من غيرِ تقييدٍ بالعجزِ، ويكون الإيصاءُ فسخًا, ولا يوصى بنجومِه، نصَّ عليه. ولا يوصي بأن يكاتبَ عبدَهُ فلانُ كتابةً فاسدةً، والصادرةُ في المرضِ لا تخرجُ من الثلثِ، ولا يأخذ من الوصية للرقابِ ولا يصرفُ فيها من سهمِ المكاتبينَ على الأصحِّ المنصوصِ، ولا يمتنعُ من النظرِ إلى مكاتبته كتابةً فاسدةً، والمعتبرُ في الفاسدَةِ جواب خطبتها من السيدِ، ويزوجُ السيدُ المكاتبةَ كتابةً فاسدةً إجبارًا، والأرجحُ أنَّهُ يكونُ فسخًا. وللسيدِ منعُ الزوجِ من تسلُّمها نهارًا كالقنَّةِ، ويسافرُ السيدُ بالمكاتبَةِ كتابةً فاسدةً، وله منعُ الزوجِ من السَّفَرِ بها, وليس للمكاتبة كتابةً فاسدةً حبس نفسها لتسليم المهرِ الحال، وللسيدِ أن يفوض بضعها, وله حبسها للفرض، وتسليم المفروض لا لها، وإذا زوجها بعبدِه لم يجب المهرُ، ويجوزُ جعلُ المكاتبِ كتابةً فاسدًة صداقًا، ويكونُ فسخًا، وإذا كاتبتْهُ الزوجةُ كتابةً فاسدَةً ثم وجد ما يقتضي رجوع الكلِّ أو النصفِ رجع إلى الزوجِ الذي أصدقَه لها، ويكونُ فسخًا، والتحالفُ في الصداقِ والرد بعيبٍ أو إقالة، وغير ذلك سبق نظيرُهُ في البيعِ.
ويخالعُ عليهِ ويكون فسخًا، وفي الردِّ والإقالةِ والتحالفِ وغيرها ما سبقَ، وإذا علقَ الطلاقَ بإعطاء المكاتب كتابةً فاسدةً وقع بائنًا وملكه وانفسختِ الكتابةُ. ولو قالَ: "إن أعطيتني عبدًا" أو "هذا العبدُ" -وهو مكاتبٌ كتابةً فاسدةً- طلقت فيهما بائنًا. ويُرد العبد في الأولى، ويملِكه في الثانيةِ بخلافِ الصحيحةِ. وإذا فسختِ الكتابةُ الفاسدةُ في الأمةِ لم يجب الاستبراءُ، كذا في "الروضة" تبعًا للشرحِ، وتعقبه شيخُنا بأنَّه لم يتجددْ للسيدِ فيها ملكٌ ولا حل، فلا معنى للاستبراءِ، ولكن الذي تخالف فيه الفاسدة الصحيحة في ذلك أنَّه لا يحرُمُ وطؤها, ولا الاستمتاعُ بها, ولا النظرُ إلى ما بينَ سُرَّتها وركبتها, ولا مهر بوطئها, ولا تعزير، ويستمرُّ تحريمُ أختِها وعمتها وخالتها في الوطء بملكِ اليمينِ، وفي عقدِ النكاحِ. وأرشُ جنايةِ المكاتبِ كتابةً فاسدةً يتعلَّقُ برقبتِه ابتداءً، ولو جنَى عليه السيدُ فلا أرشَ لهُ. ولا يدعى في قتلِ عبدِهِ في محلِّ اللوثِ، ولا في غيرِه، ولا يقسم، وذلك يتعلَّقُ بالسيدِ، وإذا حجرَ على السيدِ بالردَّةِ وقلنا أنَّه حجر فلس كما صححوه، ومالهُ لا يفي بديونِه فلبائعه الرجوع فيه، ولا يمنعه من ذلك الكتابةُ الفاسدَةُ. ويُباعُ في الدُّيونِ، وإذا سرقَهُ سارقٌ وهو نائمٌ بحيثُ لو انتبه لا قدرة له بدفعِ يدِ السارقِ فإنَّه يثبتُ الاستيلاءُ عليه، ويقطع على الأرجحِ، وبحنث (¬1) سيده بأنَّه لا مال له، ولا عبد، ولو حلف: لا يكاتب، أو: ليكاتبنَّ اليومَ، أو: لا ¬
يكلم مكاتب فلان، فإن البرَّ والحنثَ يتعلَّقانِ بالصحيحةِ دونَ الفاسدَةِ. ولو حلفَ لا يكاتبُ عبدَهُ كتابةً فاسدةً لم يحنثْ بالصحيحةِ، ويحنثُ بالفاسدَةِ، ويكاتبُهُ السيدُ كتابةً صحيحةً، ويكونُ فسخًا للفاسدَةِ، ويتعيَّنُ في الفاسدةِ أداءُ المسمَّى، وإن كاتبَ على أداءِ مالِ غيرِهِ فلا بدَّ من إذنِ مالكِ المالِ في الإعطاءِ. ويعتقُ بعضهُ فيما إذا كانتْ بعض عبد كتابة فاسدةً ووجدَ ما يقتضي العتقُ، ويسري إلَّا أن يكونَ مرهونًا والمالك معسر، أو تعلَّق برقبتِه أرش جنايةٍ والمالكُ معسرُ. وفي الشريكينِ إذا كاتَبَ أحدُهما وأداه وأدَّى الآخر بحصَّتِه عتق نصيبُ مَن كاتبه، وفي السرايةِ ما سبقَ، ولا يجبُ الحط فيها، بل لا يجوزُ قبل العتقِ، ولا يصحُّ الإبراءُ من المسمَّى في الكتابةِ الفاسدَةٍ، ولا يعتقُ به ولا يعتقُ بأداءِ غيره عنه تبرُّعًا إلَّا إذا فسدتْ لظهورِها مع غيرِ العبدِ. فإنَّه بأداءِ مَن صدرتِ الكتابةُ معه بمقتضَى التعليقِ، ولا يملكُ السيدُ ما أدَّاه غير العبدِ، ويرجعُ السيدُ عليه بقيمتِه يوم العتقِ، ويرجعُ هو على السيدِ بما أدَّى إن كانَ مالًا، أو مختصًّا، خلاف ما أطلقوه من أنَّه لا يردَّ الخمرَ ونحوهِ، فإن تجانسَ المالانِ فأقوالُ التقاصّ، ويرجعُ صاحبُ الفضلِ به، وللسيدِ فسخُ الفاسدةِ بنفسِهِ، وبالرفعِ إلى الحاكمِ، ليحكمَ بإبطالِها أو فسخِها. وإذا عتقَ لا عنْ جهةِ الكتابَةِ لم يستتبعْ كسبًا ولا ولدًا, وله إعتاقُه عن كفارَتِهِ على المنصوصِ. وتنفسخُ بإغماءِ السيدِ وجنونِه، وموتِه، ولا يعتقُ بالأداءِ إلى الوارثِ، نصَّ عليه، وفي كتبِ المتأخِّرين: إن قال: إن أديتَ إلى وارثي بعد موتي فأنت حرٌّ،
عتقَ بالأداء إليه، وما ذكروه تعليقٌ ليس عن كتابةٍ فاسدةٍ. ولا يعتقُ بتعجيلِ النُّجومِ على الأصحِّ، ولا بتأخيرها عن المحلِّ المعتبر في التعليقِ، ولا بالأخذِ من وكيلِه، وقد أشارَ إليه المرعسي، ويعتقُ بأخذِ السَيدِ في حالِ جنونِهِ، كذا ذكروهُ. قال الرافعيُّ: وينبغي أن لا يعتقَ لأنَّه لم يأخذْ من العبدِ. قال شيخُنا: ويزادُ عليهِ أنَّ العبدَ لم يؤدِّه، والعيبُ في المدفوعِ في الكتابَةِ الفاسدةِ لا يضرُّ، ولا يرد به إذِ المرجعُ إلى القيمةِ. وإذا كاتَبَ عبيدًا صفقةً كتابَةً فاسدَةً، وقال: إذا أديتم إليَّ كذا فأنتم أحرارٌ، لم يعتقْ واحدٌ منهم بأداءِ حصَّتِه على الأقيسِ، وتنفسخُ بموتِ غيرِ السيدِ وغير المكاتبِ، وهو من جعلِ القبض منه أو قبضه شرطًا في العتقِ بها. وللكافرِ حملُ المكاتبِ كتابةً فاسدةً إلى دارِ الحربِ، وهي جائزةٌ من الجانبينِ، ولا تستحبُّ إذا طلبَها العبدُ مطلقًا، بل تحرمُ إذا صدرتْ على خمرٍ أو خنزيرٍ، ونحو ذلك، ويكتفى في الصحيحةِ بنيةِ قولِهِ: فإذا أديتَ إليَّ فأنت حرٌّ، وإن لم يتلَّفظْ بِه، بخلافِ الفاسدَةِ؛ لأنَّ التعليقَ لا يصحُّ بالنيةِ، وإنَّما صحَّ في الصحيحةِ لغلبةِ المعاوضَةِ. قال شيخُنا: ولم أرَ من تعرَّضَ لذلكَ، وهو من النفائسِ. ولو عينَ في الفاسدَةِ موضعًا للتسليمِ تعين مطلقًا من أجلِ التعليقِ. ولو قالَ السيدُ: هذا حرامٌ، لم يؤثِّر في الفاسدَةِ المشتملةِ على الحرامِ، ولو اشترَى المكاتبُ كتابةً فاسدةً من يعتقُ على سيدِه عتقَ في الحالِ، ولا تحالفُ في الاختلافِ في الفاسدَةِ لأنَّها جائزةٌ من الجانبينِ، ولو اختلفا بعد العتقِ فلا تحالفَ أَيضًا، لثبوتِ التراجعِ والتقاصّ المتقدم يجري في غير هذا، وشرطه أن يكونَ في دينين من نقد واحدٍ حالَّين، أو مؤجَّلينِ بأجلٍ واحدٍ على الأرجحِ خلافًا للبغويِّ.
وأظهَرُ الأقوالِ: التقاصِّ سقوط الدينينِ بلا رضًا. والثاني: لا بدَّ من رضاهُما. والثالثُ: برضا أحدِهما. والرابعُ: لا. . . (¬1) * * * ¬
باب أم الولد
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ بابُ أمِّ الولدِ هي لغةً: الأنثَى ذات الولدِ، وشرعًا مَن ولدتْ ما ظهرَ فيه تخطيطُ آدميٍّ، وما ألحق بذلك وحبلتْ به من مالكِ كلِّها أو بعضِها غير المكاتبِ، أو من حرٍّ أصلٍ للمالكِ إذا لم يسبقِ استيلاد الفرع. وأصلُ البابِ: من القرآن قوله تعالى: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ}، ولمَّا قرأها عمر بن الخطَّابِ -رضي اللَّه عنه- على الصحابَةِ قال: وأيُّ قطيعةٍ أقطعُ من أن تباعَ أمُّ امرئٍ منكمْ، وقد أوسعَ اللَّهُ لكم. قالوا: فاصنعْ ما بدا لكَ. قال: فكتبَ في الآفاقِ: أن لا تباعَ أمُّ حرٍّ، فإنَّه قطيعةٌ، وإنَّه لا يحلُّ. رواه البيهقيُّ (¬1). ومن السُّنَّةِ ما ثبتَ عن عائشة -رضي اللَّه عنها- أنَّ النبيَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- ماتَ ولم يتركْ عبدًا ولا ¬
أمةً (¬1). ووجهُ الدلالةُ منهُ أنَّ ماريةَ أمَّ إبراهيمَ عليه السلام كانت حيَّةً، ولم يثبتْ أنَّ النبيَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- نجز عتقها في حياتِه، ولا علَّقَه بوفاتِه، ولم تعد متروكة، فدلَّ على أنَّها عتقتْ حينئذٍ. وسببُه الاستيلاد السابق. وثبتَ عنه -صلى اللَّه عليه وسلم- من حديثِ أبي سعيدٍ الخدريِّ أنَّهم سألوه: إنَّا نصيبُ السبيَ، فنحبُّ الأثمانَ، فكيفَ ترى في العزلِ؟ فقال رسولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "وإنَّكُمْ لتفعلونَ ذلك؟! ما عليكم ألَّا تفعلوا ذلك، فإنَّها ليستْ نسمة كتب اللَّه أن تخرجَ إلَّا وهي خارجةٌ" (¬2) وتقرير دلالته أن الاستيلادَ لو لم يمنعْ البيع لم يكن لعزلهم لمحبَّةِ الأثمانِ فائدة. وجاءتِ أحاديثُ صريحةٌ في المقصودِ، بعضها حسنٌ، وبعضها مرسلٌ، وبعضها ضعيفٌ. * * * من أحبلَ أمته الخالصةَ (¬3) لهُ أو المشتركَةَ على ما سيُبيَّن، أو حبلت منه باستدخالها ذكرَهُ وهو نائمٌ، أو مغمًى عليه ونحوه، أو استدخلتْ ماءه المحترم فولدتْ حيًّا أو ميتًا أو ما تجبُ فيه غُرَّة عتقتْ بموتِ السيدِ الذي حبلتْ منهُ وألقتْ ما تقدَّم، إلَّا إن كان سيدها مكاتبًا أو مبعَّضًا، أو راهنًا رهنًا لازمًا، وهو معسرٌ أو مأذونٌ له في التجارَةِ وركبتهُ الدُّيونُ، أو كانتِ الأمةُ جانيةً جناية توجبُ مالًا متعلِّقًا برقبتها، أو مالكُها معسرٌ. ولا الوارثُ إذا أحبلَ أمة التركةِ التي انتقلتْ إليه وحدَه وهو معسرٌ وتعلَّقَ ¬
بها الدينُ. والجاريةُ المنذور التصدُّق بثمنها (¬1)، أو بها، والموصى بإعتاقِها الخارجة من الثلثِ إذا وطئها الوارثُ وحبلتْ منهُ، فإنَّ كلَّ أمةٍ من ذكرٍ من المكاتبِ إلَّا (¬2) هذا لا يعتقُ بموتِ السيدِ. والمرادُ بالمشتركةِ الجاريةُ التي استولدها أحدُ الشريكينِ، فإنَّه ينفذ استيلادُه في حصَّته التي ليس بها مانع مما تقدَّمَ، ويسري الاستيلادُ إلى حصَّةِ شريكِهِ إن كان موسرًا، وكذلك لو كانَ الشريكُ الأصلُ مع فرعِه سرى الاستيلادُ إلى نصيبِ فرعِهِ، ولو كانَ الأصلُ معسرًا وبايع بعض الأمةِ إذا استولدها قبلَ أن يقبضَها المشتري وكانَ موسرًا بالثَّمن، فإنَّه يسري إلى حصة المشتري، وينفسخُ البيعُ، ويسقطُ الثمنُ. وإذا أحبلَ السيدُ أمةً مكاتبةً أو حبلتْ منهُ، ثبتَ الاستيلادُ، وكذلكَ الأصلُ الكاملُ الحرية إذا استولدَ أمةَ فرعِهِ، التي ليستْ مستولدةً للفرعِ، ولو وطئ مكاتبةَ فرعِهِ التي ليست مستولدة للفرعِ، ولو وطئَ مكاتبة فرعه واستولدها صارت مستولدةً لهُ على ما صحَّحه البغويُّ خلافًا للهرويِّ. ولو كانتِ الأمةُ مشتركةً بين فرعِه وغيره، نفذ الاستيلادُ في نصيبِ الفرعِ، وسرى إلى نصيبِ الشريكِ، إذا كان المستولد موسرًا. ولو أحبلَ أمةَ غيرِهِ أو حبلتْ منه بنكاحٍ (¬3)، فالولدُ رقيقٌ، ولا تصيرُ أمَّ ولدٍ إذا مات، فإنْ نكحَهَا أجنبيٌّ ثم ملَكَهَا ابنُه لم ينفسخِ النكاحُ، وكذلكَ لو نكحَ ¬
جاريةَ فرعِهِ، والناكحُ رقيقُ، ثم عتقَ لا ينفسخُ النكاحُ على الأصحِّ، فلو أولدها ثبتَ الاستيلادُ، وينفسخُ النكاحُ على الأرجحِ. أو أمةَ غيرِهِ بشبهةٍ، فالولدُ حرٌّ إذا اشتبهتْ عليه بأمتِهِ أو زوجتِهِ الحرة أو بأمةٍ مشتركَةٍ بينه وبين غيره، أو بأمة فرعه أو مشتركة بين فرعه وغيره، فأمَّا لو اشتبهتْ عليه بزوجتِه الأمة فلا يكون الولد حرًّا, ولا تصيرُ أمَّ ولدٍ على الأظهرِ (¬1). وله وطء أمِّ الولدِ أي: لم يمنعه من وطئها مانعٌ، فإن منعه من ذلكَ مانعٌ كما إذا كانَ مبعضًا فليسَ له وطؤها، إلَّا بإذن مالك بعضه، وليس له وطء التي لم ينفذ فيها الاستيلاد لرهن وضعي، أو شرعي، فيما يخلفه المديون، أو بجنايةٍ كما سبقَ. وكذلك المكاتبةُ إذا استولدها سيدُها ليس له وطؤها لوجود الكتابة، وله استخدامُ أمِّ الولدِ بأرشِ جنايةٍ عليها، وكذا تزويجها بغير إذنها في الأظهرِ، ويحرمُ بيعُها وهبتها، ورهنها، إلَّا إذا باعها من نفسها، فإنَّه يصحُّ على الأرجحِ، وإلَّا إذا ارتفعَ الاستيلادُ بالسبي بأنْ كانتْ كافرةً ليستْ مستولدةَ مسلمٍ، وسبيناها فيجوزُ بيعها لأنَّها صارتْ قنَّة، ويجوزُ بيعها لعلقة رهنٍ وضعيٍّ أو شرعيٍّ أو جناية. ولو ولدتْ من زوج أو زنًا أو وطء شبهةٍ، لا يكونُ الولد به حرًّا، فالولدُ للسيدِ وحكمه حكمُ أُمِّه، ويعتق بموتِه، هذا إذا لم تبع الأمَّ، فإن بيعتْ في رهنِ أو جنايةٍ كما تقدَّم فولدتْ من زوجٍ أو زنًا أو شبهة لا حرية فيها للولدِ ثم ملكها المستولد وأولادها فإنَّه لا يثبتُ لهم حكم أمهنَّ! على الأصحِّ؛ ¬
لأنها جاءتْ بهم في حالٍ هي فيه غير ثابتٍ لها حكمُ الاستيلادِ، وأولادها قبل الاستيلادِ من زوجٍ أو زنًا أو شبهةٍ لا حرية فيها للأولادِ، لا يعتقونَ بموتِ السيدِ وله بيعُهُم لحدوثهم قبل أن يثبتَ لها سببُ الحرية. وعتق المستولدةِ من رأس المالِ (¬1). وعلى إطلاق الإعتاقِ نختمُ هذا الكتابَ، ونرجو من ربنا الخلَّاقِ إعتاقنا يومَ الحسابِ، فإنَّه الكريمُ الوهاب، وحسبنا اللَّهُ ونعم الوكيل، فنعم الحسيب، ونعم الكفيل. قالَ مصنفُهُ رحمهُ اللَّهُ: وكانَ الفراغُ مِن تكملةِ هذا الكتابِ المبارك في يوم الاثنينِ المبارك الخامس والعشرين من شهر ذي الحجة، سنة سبع وخمسين وثمانمائة، وحسبُنا اللَّهُ ونعمَ الوكيلُ. * * * ¬