التحفة المهدية شرح العقيدة التدمرية

فالح بن مهدي آل مهدي

المجلد الأول

المجلد الأول مقدمة ... مقدمة الكتاب بقلم الأستاذ زيد بن عبد العزيز بن فياض الحمد لله رب العالمين حمداً كثيراً طيباً مباركا فيه وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله خاتم النبيين وأفضل الرسل، بعثه بالهدى ودين الحق، صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحابته ومن تبعهم إلى قيام الساعة. "وبعد" فإن الأمة الإسلامية مازالت بخير وهدى مستقيم عندما كانت متمسكة بعقيدتها التي جاء بها نبيها وسار عليها صحابته الكرام، حتى فشت عقائد زائغة وضلالات جائرة قد روجها ذوو الإلحاد وأهل الفتن، وتلقفها عنهم أناس- عموا عن الحق - عناداً أو جهلا، فكانت عوامل هدم في الأمة فتفرق أمرها وتشتت جمعها، وظلت هذه العقائد الزائغة تعمل في تخريب عملها إلى يومنا هذا وإلى ما شاء الله. وقيد الله للدفاع عن الإسلام، والذود عن حياضه، وتبيان عقائده الصحيحة من وفقه لهذا الأمر العظيم. وما فتئوا في كل عصر وجيل يناضلون ويذبون عنه بأسنتهم وألسنتهم وأقلامهم وهم الطائفة المنصورة الذين قال عنهم النبي صلى الله علية وسلم "لا تزال طائفة

من أمتي على الحق منصورة لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يَأتِي أمر الله تبارك وتعالى". كان شيخ الإسلام أحمد بن تيمية من أجل علماء القرنين السابع والثامن للهجرة فجند وقته للرد على الملحدين وذوي الزيغ وجاهد بلسانه وسلاحه أعداء الإسلام وأهل البدع والخرافات، وصبر على الأذى والظلم، وترك ذكراً طيباً ومؤلفات نافعة تبلغ المآت وأنتفع بهذه الكتب خلق عظيم وكانت طريقته فيها الاستدلال بالآيات القرآنية والأحاديث النبوية، وسيرة السلف، وأقوال علماء الإسلام مع أيراد الحجج العقلية والبراهين المنطقية في أسلوب واضح، وعبارة سلسلة، وعلم غزير يندر وجود مثيل له فيه. وإن كانت كتبه المختصرة تحتاج إلى شيء من التوضيح وإظهار ما يقصده بكلامه فهو يشير إلى أشياء - لا تستوعب تلك الرسالة أو الكتاب المختصر- بسطها، وحينئذ قد لا يعرف قارئها مقصد الشيخ وهدفه من الإشارة التي ذكرها عرضاً وإيماء. وليس كل من اطلع على رسالته تلك يعرف ما تعنيه. فمثلا "كتاب التدمرية" فيه عبارات وجمل يشير بها شيخ الإسلام إلى طوائف ومقاولات معروفة في كتب الملل والنحل ولكنها ليست معروفة لكل من قرأ هذا الكتاب لذلك فإن هذا الشرح الذي ألفه "الشيخ فالح بن مهدي" المدرس بكلية العلوم الشرعية يؤدي هذا الغرض ويجلو ذلك الغموض ويسد فراغاً في إيضاح مقاصد شيخ الإسلام في كتابه التدمرية. وقد أحسن الأستاذ فالح صنعاً عندما جعل كتب شيخ الإسلام من أهم مراجعه التي استقى منها هذا الشرح. والأستاذ فالح الذي يقوم حاليا بالتدريس في كلية العلوم الشرعية التي تخرج منها عام 1377هـ هو من خير من أنجبتهم هذه الكلية وقد

عرفته طالبا- في حلقات المشائخ- ثم دارسا في المعهد العلمي بالرياض- ثم في كلية الشريعة وأخيرا مدرسا في المعهد العلمي ثم في الكلية. وكان نبيهاً حافظاً طموحاً- متقدماً بين أقرانه وزملائه. ولم يكن الأستاذ فالح ممن فرش طريقه بالورود بل كان عصاميا فجد واجتهد حتى نال درجة هو بها جدير. ولم يثن عزيمته فقدان البصر، بل ربما كان حافزاً له على الجد في الدراسة والتحصيل "وهو اليوم إذ يقدم هذا الشرح للعقيدة السلفية "رسالة التدمرية " فإنه بذلك يضيف إلى المكتبة العربية والإسلامية كتابا نفيساً ينافح عن العقيدة السلفية، ويبين المذهب السلفي الصحيح الذي ينأى عن العقائد المحرفة والسفسطات المموهة والخرافات المشعوذة وهو مجهود ليس سهلا.. وعمل حرى بالتقدير والتكريم. إنني أدرك ما في مثل هذا العمل من صعوبة وما يحتاجه من صبر وبحث فقد عانيت في شرحي للعقيدة الواسطية "المسمى الروضة الندية شرح العقيدة الواسطية المطبوع في أواخر سنة 1377 وأوائل سنة 1378 والذي هو أول شرح مطبوع للعقيدة الواسطية أقول عاينت في ذلك الشرح ما جعلني أقدر مجهود الأخ فالح في هذا الكتاب الذي أرجو أن ينفع الله به، وأن يثبت مؤلفه خيراً. وبالله التوفيق. حرر في 18/5/1385 هـ زيد بن عبد العزيز بن فياض

"حياة المؤلف" بقلم أحد تلاميذه علي بن حسن شهراني في قرية (الهدار) خلف سعد بن مهدي الدوسري، وأسرته هموم الحياة وضيق العيش، واستوطنوا (ليلى) حاضرة - إقليم الأفلاج فقرت بها أعينهم، واطمأنت قلوبهم ورضيت نفوسهم بما نالوا فيها من رغيد العيش وطيب المقام عن طريق العمل والكدح. مولده: وتمضي الأيام سريعة الخطى حتى عام 1352هـ إذ أهلت فرحة وولد أمل فرحة غمرت قلوب الأسرة وأمل أنتشت به نفوس أفرادها ... تلك الفرحة وذلك الأمل مولد أستاذي الشيخ فالح بن مهدي. نشأته: ولد أستاذي فالح بن مهدي بن سعد بن مهدي بن مبارك آل مهدي الدوسري ونشأ كغيره من الأطفال في (ليلى) - الأفلاج -يقضي أوائل النهار في قراءة القرآن الكريم لدى أستاذه الأول "عبد العزيز بن يحيى بن سليمان البواردي" ويقضي أخره في مرح الطفولة وألعابها. كف بصره: وفي عام 1362هـ وعمره عشرة أعوام أصيب برمد كف بصره وقد حزنت الأسرة لذلك كثيرا غير أن حزنها تضاءل عندما رأته يسير في قراءة

القرآن بجد ونشاط فيختمه عن ظهر قلب خلال ثلاث سنوات أي في عام1365هـ وعمره 13 عاما. ولم يثبط من عزيمة أستاذي وهمته الطامحه ورغبته في العلم كف بصره إلى أن يهجر مسقط رأسه في الرياض حاضره العلم ومنبع العرفان، ليدرس على مشائخها الأجلاء. مشائخه: درس على الشيخ عبد اللطيف بن إبراهيم آل الشيخ النحو وثلاثة الأصول والفرائض، ثم على سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ مفتي الديار السعودية كتاب التوحيد وكشف الشبهات والعقيدة الواسطية ولمعة الاعتقاد وبلوغ المرام وقطر الندى وكما درس في فترات على كل من الشيخ عبد اللطيف بن محمد آل الشيخ والشيخ سعود بن رشود والشيخ إبراهيم بن سليمان في علمي التوحيد والنحو. لتحاقه بمعهد الرياض العلمي: وفتح معهد الرياض العلمي عام1371هـ فالحق في السنة الثانية الثانوية ودخل صفوف الدراسة النظامية فسار فيها فكان في طليعة أقرانه على أيدي صفوة من علماء الفقه، والتوحيد، واللغة، والتفسير، والحديث حتى عام 77 حيث أنهي دراسته العالية في كلية الشريعة، وبتخرجه ودع دنيا الدراسة إلى دنيا العمل حيث عين عام 1378هـ مدرسا بمعهد الرياض العلمي ومكث به حتى عام 81 حيث رفع للتدريس بكلية الشريعة بالرياض ولا يزال بها حتى الآن. أستاذي كما عرفته: لقد عرفت أستاذي ديناً دمث الخلق متواضعا يحب التواضع يكره المظاهر أيا كانت يحب الحياة البسيطة لا يعكر صفوة سعادتها كدر.. يحب العلم وطلابه.

ويسرني أن اختتم هذه العجالة بأبيات نظمها ووجهها إلى أبنائه مهدي وسعد ومبارك يحثهم فيها على طلب العلم والتحلي بمكارم الأخلاق: تعلم بني العلم واتعب لنيله ... وزاحم ذوي التحصيل عند التعلم ولا ترضين بالجهل ما عشت صاحبا ... ذوو الجهل أشباه لموتى ونوم فبادر لأخذ العلم عن كل فاضل ... حريص على الطاعات خاش التأثم وصاحب من الطلاب براً مهذبا ... وباعد من الشرير واحذره تسلم وكن عاملاً بالعلم فالعلم خشية ... لذي العرش والتقوى أساس التفهم وكن عارفاً حق المعلم ناطقا ... بحسن سؤال منصتا للتكلم وكن حافظا للوقت واعلم بأنه ... ثمين على الإنسان فاشغله تغنم أمهدي وسعد والمبارك فاسمعوا ... ولا تعدلوا عن نهج أهل التعلم سألت إله العرش ربي وخالقي ... جزيل العطايا راحماً ذا ترحم يهبكم بني العلم والزهد والتقى ... وصل إله العالمين وسلم على المصطفى الهادي إلى خير شرعة ... وأصحابه أهل التقى والتقدم

بسم الله الرحمن الرحيم أحمد الله رب العالمين يهدي من يشاء بفضله ويضل من يشاء بعدله فاللهم اجعلنا من المهتدين وأصلى وأسلم على عبده ورسوله نبينا محمد الذي أرسله الله رحمة للعالمين وحجة على المعاندين وعلى آله وأصحابه وأتباعه الذين هم بهديه مستمسكون وعلى نهجه سائرون: - أما بعد فإنه لما كان عام ألف وثلاثمائة وإحدى وثمانين للهجرة صدر أمر من نائب المفتي لشؤون الكليات والمعاهد العلمية صاحب الفضيلة الشيخ عبد اللطيف بن إبراهيم آل الشيخ بنقلي من التدريس بمعهد الرياض العلمي إلى التدريس بكلية العلوم الشرعية، وكان مما أسند إلي تدريسه بها مادة التوحيد للسنة الأولى وكان المقرر فيها "الرسالة التدمرية" لشيخ الإسلام بن تميمة وقد لاحظت أثناء تدريسي هذه الرسالة أنها في حاجة "ماسة إلى شرح يكشف النقاب عن غامضها ويميط اللثام عن مراميها" ويجمع مفصلها ويوضح مجملها فاستعنت الله تعالى على تأليف هذا الشرح وهو وإن كان مختصرا إلا أنه قد يستعين به الطالب القاصر المستفيد ولا يستغني عنه الأستاذ الراغب المستزيد، بذلت فيه الجهد والوسع رجاء أن يعم الله بنفعه وأن لا يحرمني أجره فرب دعوة مخلصة من مستفيد منه قبلها الله فكانت لي ذخراً يوم لقاه راجيا ممن وقف عليه أن يعمل بما قاله الأول: إن تجد عيبا فسد الخللا ... جل من لا عيب فيه وعلا وسميته "التحفه المهدية" شرح الرسالة التدمرية: وما توفيقي إلى بالله عليه توكلت وهو حسبي ونعم الوكيل:

صدق العزائم واللجاء ... لا لهنا أقوى سبب توفيق ربي وحده ... نعم المؤمل في الطلب والشوق خير مطية ... تطوي الفيافي في طرب بالأمس كنت وفكرتي ... واليوم تقرأ في كتب هذي رسالة تدمر ... لإمامنا عال الرتب أحببت تنبيها على ... ما كان فيها منتقب أو مجملا فصلته ... والشرح بسط المقتضب أسميته "مهدية" ... بل تحفة عبر الحقب نهج الرسول وصحبه ... نهج الأئمة لا عجب قد شع فيها نوره ... يرمي الضلالة بالشهب يرمي ضلالة واصل ... مع جهمهم أو من قرب صلى الإله وسلما ... ما هل ودق من سحب على النبي وصحبه ... بيض الصحائف والنجب فالح بن مهدي بن آل مهدي المدرس بكلية العلوم الشرعية بالرياض في غرة شهر ذي الحجة عام 1384 من هجرة المصطفى صلى الله عليه وسلم

نبذة عن حياة شيخ الإسلام ابن تيمية

نبذة عن حياة شيخ الإسلام ابن تيمية ... وهذا أوان الشروع في المقصود قوله: قال الشيخ الإمام العالم العلامة، شيخ الإسلام تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن تيمية الحراني رضي الله عنه وأرضاه: ش: الشيخ جمعه أشياخ وشيوخ وهو إما مصدر شاخ أو صفة وسمي المؤلف شيخا لما حوى من كثرة المعاني لأن معناه في الاصطلاح من بلغ رتبة أهل الفضل ولو صبيا، وأما في اللغة فمعناه من جاوز الأربعين، وقوله:- الإمام- معناه لغة المقدم على غيره، وفي الاصطلاح من يصح الإقتداء به، وله معان أخر، والعالم كل من اتصف بالعلم ولو كان مبتدئاً في الطلب، والعلامة- صفة مبالغة فلا يوصف بها إلا من حاز المعقول والمنقول والمراد بها هنا كثير العلم وقوله "شيخ الإسلام" أي عالم الإسلام وحجة الإسلام وذلك لما امتاز به على غيره من فرط الذكاء وسيلان الذهن وقوة الحافظة وغزار ة العلم، فقد كان إذا سئل عن فن من العلم ظن الرائي والسامع أنه لا يعرف غير ذلك الفن، وحكم أن أحداً لا يعرف مثله ولم يبرح رحمه الله تعالى في ازدياد من العلم وتدريسه ونشره والاجتهاد في سبيل الخير حتى انتهت إليه الإمامة في العلم، والعمل، والزهد، والورع والحلم، والأناة، وبهذا استحق أن يلقب بحق شيخ الإسلام فهو كقولهم حجة الإسلام، ومعنى اللقبين العالم بعلوم الشريعة والحجة فيها. وقوله "تقي الدين" أي صينه ونقيه، فقد كان ورعاً صواما ذاكراً لله تعالى في جميع أحواله عابداً ناسكاً وقافاً عند حدود الله، وقوله "أبو العباس " أحمد: يعني- ابن الشيخ الإمام العلامة شهاب الدين أبي المحاسن عبد الحليم بن الشيخ الإمام العلامة شيخ الإسلام مجد الدين أبي

البركات عبد السلام بن أبي محمد عبد الله بن أبي القاسم الخضر بن محمد بن الخضر بن علي بن عبد الله بن تيمية الحراني نزيل دمشق. وقد ذكر ابن خلكان في كتابه وفيات الأعيان أن المسؤول عن اسم تيمية هو محمد بن الخضر بن محمد بن الخضر بن علي بن عبد الله: فعلى هذا يكون عبد السلام بن عبد الله بن محمد بن الخضر بن محمد بن الخضر بن علي بن عبد الله المعروف بابن تيمية: قوله: "ابن تيمية " سبب نسبته إلى تيمية هو ما ذكره أبو البركات ابن المستوفي في تاريخ "اربل " قال سألت محمدا يعني ابن الخضر عن اسم تيمية ما معناه " فقال حج أبي أو جدي أنا أشك أيهما قال: وكانت امرأته حاملا فلما كان بتيماء رأى جويرية حسنة الوجه قد خرجت من خباء فلما رجع إلى حران وجد امرأته قد وضعت جارية فلما رفعوها إليه قال: يا تيمية يا تيمية، يعني أنها تشبه التي رآها بتيماء فسمي بها أو كلاما هذا معناه وتيماء بليدة في بادية تبوك إذا خرج الإنسان من خيبر إليها تكون على منتصف طريق الشام. وتيمية نسبة إلى هذه البليدة وكان ينبغي أن تكون تيماوية لأن النسبة إلى تيماء تيماوي لكنه هكذا قال واشتهر كما قال: قوله الحراني نسبة إلى حران وهي مدينة مشهورة ذكر ابن جرير الطبري رحمه الله تعالى في تاريخه أن هارون عم إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام عمرها فسميت باسمه فقيل هاران ثم أنها عربت فقيل حران وهاران المذكور هو أبو سارة زوجة إبراهيم وكان لإبراهيم عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام أخ يسمى هاران أيضا وهو أبو لوط عليه السلام. وقال الجوهري في كتاب الصحاح حران اسم بلد والنسبة إليه حرناني على غير قياس والقياس حراني على ما عليه العامة وهذه الكلمة الوجيزة عبارة عن تقدمة تعريفية بالمؤلف تشير إلى مكانته العلمية ونسبه ووطنه فهي من بعض تلاميذه أو غيرهم ممن نسخو هذه الرسالة أما صلب

كلام المؤلف فيبدأ من قوله الحمد لله نحمده ونستعينه: وقد ولد الشيخ بحران يوم الاثنين عاشر وقيل ثاني عشر من شهر ربيع الأول سنة ستمائة وإحدى وستين هجرية وسافر والده به وبإخوته عند جور التتار إلى دمشق أثناء سنة ستمائة وسبع وستين وقد برع في الفنون العديدة وهو ابن بضع عشرة سنة فانبهر أهل دمشق من فرط ذكائه وسيلان ذهنه وقوة حافظته وسرعة إدراكه وقد سمع العلم عن أكثر من مائتي شيخ وجهاده بلسانه وسنانه في سبيل الله مشهور معروف وقد حسده منافسوه وسعوا في مكيدته بغيا وعدواناً وجرى له من المحن أشياء كثيرة منها محنته بسبب تأليفه الحموية ومنها سجنه بسبب فتياه في الطلاق ولما كان في سنة سبعمائة وست وعشرين وقع الكلام في شد الرحال وإعمال المطي إلى قبور الأنبياء والصالحين فأفتى الشيخ رحمه الله بالمنع عن شد الرحال فحصل ما حصل من قضاة عصره وعلماء زمانه فحبس بأمر من السلطان بقلعة دمشق وقد بقي مقيما بهذه القلعة سنتين وثلاثة أشهر وأياما ثم توفي إلى رحمة الله ورضوانه سنة سبعمائة وثمان وعشرين: وكان في هذه المدة مكباً على العبادة والتلاوة وتصنيف الكتب والرد على المخالفين فما حاله مع خصومه إلا كما قال الشاعر: فإن تسجنوا القسرى لا تسجنوا اسمه ... ولا تجنوا معروفه في القبائل وإذا صح لنا أن نسلب معنى بيت الشاعر قلنا: فإن تسجنوا التيمي لا تسجنوا اسمه ... ولا تسجنوا مأثورة في العوالم

خطبة الحاجة

خطبة الحاجة ... قوله: الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ به من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمد عبد هـ ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.

ش: هذه خطبة الحاجة التي كان النبي صلى الله عليه وسلم يعلمها أصحابه روى الإمام أحمد والأربعة من حديث عبد الله بن مسعود قال: علمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم التشهد في الحاجة: "إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله": والحاجة هنا عامة تقال في النكاح وغيره كما في الرواية التي عند البيهقي من حديث ابن مسعود إذا أراد أحدكم أن يخطب لحاجة من النكاح أو غيره فليقل "الحمد لله نحمده ونستعينه" الخ. ويشهد لهذا ما روي من حديث سعيد بن جبير عن ابن عباس أن رجلا كلم النبي صلى الله عليه وسلم في شيء فقال النبي صلى الله عليه وسلم "إن الحمد لله نحمده ونستعينه من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله". أما بعد: قال شيخ الإسلام بن تيمية: والأحاديث كلها متفقة على أن نستعينه نستغفره ونعوذ به بالنون والشهادتان بالإفراد، وأشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله وقد ذكر لهذا علة وجيهة ونكتة بديعة وهي قوله "لما كانت كلمة الشهادة لا يتحملها أحد عن أحد ولا تقبل النيابة بحال افرد الشهادة بها: ولما كانت الاستعانة والاستعاذة والاستغفار أموراً تقبل النيابة فيستغفر الرجل لغيره ويستعين الله له ويستعيذ بالله أتى فيها بلفظ الجمع " ولهذا يقول: اللهم أعنا واغفر لنا، قال وفيه معنى آخر وهو أن الاستعانة والاستعاذة والاستغفار طلب وإنشاء فيستحب للطالب أن يطلبه لنفسه ولإخوانه المؤمنين وأما الشهادة فهي إخبار عن شهادته لله بالوحدانية ولنبيه

بالرسالة وهي خبر يطابق عقد القلب وتصديقه وهذا إنما يخبر به الإنسان عن نفسه لعلمه بحاله بخلاف إخباره عن غيره فإنه إنما يخبر عن قوله ونطقه لا عن عقد قلبه والله أعلم، "وقد جاء لفظ الحمد في بعض الروايات بغير النون وفي حديث ابن عباس نحمده بالنون مع أن الحمد لا يتحمله أحد عن أحد ولا يقبل النيابة فإن كانت هذه اللفظة محفوظة فيه فقد جاءت بهذه الصيغة لتكون ألفاظ الحمد والاستعانة والتعوذ والاستغفار على نسق واحد" وقوله: "من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له" يعني أن الهداية والإضلال بيد الله يهدي من يشاء بفضله ورحمته ويضل من يشاء بعدله وحكمته وهو أعلم بمواقع فضله وعدله وهو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بمن اهتدى وله في ذلك الحكمة البالغة والحجة الدامغة: قال الله تعالى: {مَنْ يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} وقال: {مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَأولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} وقال: {مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلا هَادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيانهِمْ يَعْمَهُونَ} وقال: {وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أولِياءَ مِنْ دُونِهِ} إلى أمثال هذه الآيات الكريمة الدالة علي هذا المعنى: فمن العباد الشقي وهو من أضله بعدله ومنهم السعيد وهو من وفقه وهداه بفضله فلله الحمد على فضله وعدله. وهذه الخطبة كثيراً ما يفتتح بها المؤلفون كتبهم اقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم حيث جاء عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان في غالب أحواله يفتتح خطبه بخطبة الحاجة وذلك والله أعلم لما اشتملت عليه من صدق اللجاء إلى الله وطلب العون منه والاعتماد عليه والتبري من الحول والقوة إلا به سبحانه والإقرار بوحدانيته وطلب المغفرة منه والاستعانة به من شرور النفس وسيئات الأعمال.

الداعي إلى تحقيق أصلي التوحيد

الداعي إلى تحقيق أصلي التوحيد ... قوله: أما بعد: فقد سألني من تعينت إجابتهم أن أكتب لهم مضمون ما سمعوه مني في بعض المجالس من الكلام في التوحيد، والصفات، والشرع، والقدر لمسيس الحاجة إلى تحقيق هذين الأصلين وكثرة الاضطراب فيهما. فإنهما مع حاجة كل أحد إليهما، ومع أن أهل النظر، والعلم، والإرادة، والعبادة: لابد أن يخطر لهم في ذلك من الخواطر، والأقوال ما يحتاجون معه إلى بيان الهدى من الضلال. لاسيما مع كثرة من خاض في ذلك بالحق تارة وبالباطل تارات، وما يعتري القلوب في ذلك: من الشبه التي توقعها في أنواع الضلالات. ش: يشير المؤلف إلى أن هذه الرسالة عبارة عن مجموعة تقريرات سمعها منه تلاميذه فعز عليهم أن تترك دون تقييد لها مع دعاء الحاجة إلى ذلك والظاهر أن التلاميذ الذين سألوه كتابتها كانوا من أهل "تدمر" كما قال تلميذه ابن عبد الهادي عند بيانه لمصنفات الشيخ قال: ورسالة كتبها لأهل تدمر- انتهى: وتدمر بلدة من بلدان الشام من أعمال حمص وهذا وجه نسبة الرسالة إليها وقد بين المؤلف الأسباب التي من أجلها ألف هذه الرسالة وهي أولا مسيس الحاجة إلى تحقيق الأصلين، ثانيا كثرة الاضطراب فيهما وقوله " فإنهما مع حاجة كل أحد إليهما ومع أن أهل النظر" الخ. الظاهر أن خبر إن في قوله- فإنهما - إلى قوله من الشبه - التي توقعها في أنواع الضلالات- محذوف تقديره لفي أمس الحاجة إلى التحقيق والإيضاح الكامل والبيان الشافي، وقد أشار المؤلف فيما بين ذلك إلى الأسباب الموجبة للتحقيق والإيضاح وهي أولا: حاجة الناس إلى هذين الأصلين إذ بهما قوام الدين. ثانيا: أن أهل النظر والعلم والإرادة والعبادة، يحصل عندهم من الخلجات النفسية في هذا الباب ما يحتاجون معه إلى بيان الهدى من الضلال خاصة وأن هذا الباب قد خاض فيه بعض الناس

بالحق تارة وبالباطل مرات عديدة مما سبب بعث الشبه وإدخال الشكوك إلى القلوب، والذين يقومون بهذا الخوض هم الذين اندسوا في عداد المسلمين لا رغبة في الإسلام بل ليكيدوا له ولأهله فإن العقيدة السلفية مازالت على منصة العزة وقمة الكرامة حتى استطاع أعداء الإسلام أن يندسوا بين ظهراني المسلمين وأن يلبسوا الحق بالباطل ويزخرفوا الشبهات والشكوك باسم الدين وفي صورة تنزيه الله عما لا يليق به فردوا آيات الله وحرفوا كتاب الله وعطلوا صفاته العليا وأسماءه الحسنى التي وصف بها نفسه ووصفه بها نبيه محمد صلى الله عليه وسلم ومازالوا يجلبون بنظريات اليونان ومقالات الفرس والهند وآراء الجعد بن درهم والجهم بن صفوان وإخوانهما من أولئك الزائفين الملحدين حتى راجت تلك الترهات ومضت في طريقها إلى القلوب المريضة تفرح بها والى الأقلام الموبوءة تسجلها على الصحف وتسود بها وجوه الكتب وتنقلها جراثيم فساد وإفساد إلى الذين فتنوا بها فتلوث العقول والفطر وإذاً. فثالث الأسباب لتحقيق هذين الأصلين هو كثرة من خاض في هذا الباب بالحق تارة وبالباطل تارات. ورابعها ما يعتري القلوب من الشبه التي توقعها في أنواع الضلالات ونتيجة لذلك أصبحت كتب التوحيد بحاجة إلى من يصقلها ويبعد عنها تلك الترهات والشبه التي دسها هؤلاء المغرضون بحيث يعود التوحيد صافيا نقيا لا لبس فيه كما كان في عهد الرسالة حيث كان محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم يبلغ عن ربه ثم ينقل عنه صحابته "ذلك التوحيد ناصع البياض " والمقصود أن هذين الأصلين بعد خلط كتب التوحيد بعلم الكلام ومقالات الفرس واليونان قد أصبحنا في حاجة ماسة إلى التحقيق وبيان الهدى من الضلال ولقد أحسن القائل: لا تخش من بدع لهم وحوادث ... ما دمت في كنف الكتاب وحرزه من كان حارسه الكتاب ودرعه ... لم يخش من طعن العدو ووخزه

لا تخش من شبهاتهم واحمل إذا ... ما قابلتك بنصره وبعزه والله ما هاب امرؤ شبهاتهم ... إلا لضعف القلب منه وعجزه والشبهات جمع شبهة "وهي برزخ بين الحق والباطل " وقد جعل الله عز وجل بين كل متباينين برزخاً وأهل النظر والعلم والإرادة والعبادة هم قوم من أهل السلوك والسير إلى الله والنظر هو التأمل والتفكر في آيات الله الأفقية والنفسية والعلم هو النور الذي يقذفه الله في القلب وذلك بأن يتحقق انتفاعه مما دعته إليه الرسل وتضرره بمخالفتهم والإرادة هي العقد الجازم على المسير، ومفارقة كل قاطع وعائق، ومرافقة كل معين وموصل، والعبادة "هي كمال الذل والخضوع لله والانكسار له والافتقار إليه مع كمال الحب" وكل هذه الأوصاف التي ذكر المؤلف هي منازل أهل السير إلى الله.

الكلام في باب توحيد الربوبية من باب الخبر، وفي باب الشرع من باب الإنشاء

الكلام في باب توحيد الربوبية من باب الخبر، وفي باب الشرع من باب الإنشاء ... قوله: فالكلام في باب "التوحيد والصفات " هو من باب الخبر الدائر بين النفي والإثبات، "والكلام في الشرع والقدر" هو من باب الطلب، والإرادة: الدائر بين الإرادة والمحبة، وبين الكراهة والبغض نفيا وإثباتا، والإنسان يجد في نفسه الفرق بين النفي والإثبات، والتصديق، والتكذيب، وبين الحب والبغض، والحض والمنع، حتى أن الفرق بين هذا النوع وبين النوع الآخر معروف عند العامة والخاصة وعند أصناف المتكلمين في العلم، كما ذكر ذلك الفقهاء في كتاب الإيمان وكما ذكره المقسمون للكلام، من أهل النظر، والنحو، والبيان، فذكروا أن الكلام نوعان خبر، وإنشاء، والخبر دائر بين النفي والإثبات والإنشاء أمر، أو نهي، أو إباحة. ش: الخبر معناه الكلام المخبر به كما في قولهم الخبر هو الكلام المحتمل للصدق والكذب، فالخبر هو ما يحتمل الصدق والكذب لذاته،

ويجوز أن يثبت كما يجوز عليه أن ينفى مع قطع النظر عن قائله. وذكر المؤلف أن التوحيد الطلبي الإرادي منقسم إلى مطلوب مراد، وإلى ممنوع مبغض، وقوله في الأول نفيا، وإثباتا معناه أن منه ما يثبت كإثبات أن الله الخالق الرازق، الموصوف بصفات الكمال، ومنه ما ينفى كنفي الشريك له والمثل والكفؤ، وقوله كما ذكره الفقهاء في كتاب الإيمان يعني عند ذكرهم أن اليمين لابد أن تكون على مستقبل ممكن فلا تنعقد على ماض كاذباً عالماً به "وهي الغموس " أو ظاناً صدق نفسه فيتبين بخلافه ومعناه الثاني أن منه ما هو مثبت كالأوامر فهي مراد مطلوب فعلها، ومنفي، كالنواهي. ففعلها مكروه مبغض ممنوع وذكر أن الفرق بين الإثبات والنفي، والتصديق والتكذيب، وبين المحبوب المراد، وبين المكروه المبغض، معروف لدى كل أحد. مستقر في الفطر وقد نص على ذلك الفقهاء والأصوليون والباحثون في قواعد اللغة العربية والبلاغة، فإن صحة هذا التقسيم اللفظي تابع لصحة انقسام المدلول المعنوي، فإن هذه حقائق ثابتة في نفسها معقولة متميزة يميز العقل بينها ويحكم بصحة أقسامها. فالمقصود أن معاني الكلام: أما طلب، والطلب أمر ونهي "وهو الإنشاء" وأما خبر وهو ما يصح إثباته كما يصح نفيه لذاته " فمن الطلبي الإرادي توحيد، الشرع "والقدر" فمنه ما هو مطلوب مراد محبوب" كالتوحيد وسائر الطاعات "ومنه ما هو مبغض ممنوع "كالشرع والمعاصي" ومن الخبري "توحيد الربوبية والأسماء والصفات، فمنه ما يثبت كأوصاف الكمال ونعوت الجلال، ومنه ما ينفي، كنفي النقص والعيوب والشريك والمثيل.

ما يجب على العبد في كل منهما

ما يجب على العبد في كل منهما ... قوله: وإذا كان كذلك، فلابد للعبد أن يثبت لله ما يجب إثباته له من صفات الكمال، وينفي عنه ما يجب نفيه عنه مما يضاد هذه الحال ولابد له

في أحكامه من أن يثبت خلقه وأمره فيؤمن بخلقه التضمن كمال قدرته، وعموم مشيئته ويثبت أمره المتضمن بيان ما يحبه ويرضاه، من القول والعمل، ويؤمن بشرعه وقدره أيماناً خاليا من الزلل. ش: يقول المؤلف وإذا كان منقسماً إلى منفي ومثبت. والطلب إلى محبوب مراد. ومبغض ممنوع، فيجب في باب الصفات أن يثبت لله من الأسماء الحسنى والصفات الكاملة العليا، ما وصف به نفسه، وما وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم كما أنه يجب نفي النقائص والعيوب عن الله سبحانه وسيَأتِي شرح هذه الجملة إذ شاء الله تعالى، إذ الكلام على هذا الأصل هو جل موضوع هذه الرسالة. وأما الأصل الثاني وهو"توحيد الشرع والقدر" فيجب أن يثبت لله ويسلم له ما شرعه من أحكام ويؤمن بقدر السابق، فإن الإيمان بالقدر مرتبط بامتثال الشرع، وامتثال الشرع مرتبط بالإيمان بالقدر، وانفكاك أحدها من الآخر محال، فإن الإقرار بالقدر مع الاحتجاج به على الشرع ومحاربته به مخاصمة لله تعالى في أمره وشرعه، ووعده ووعيده، وثوابه وعقابه، وطعن في حكمته وعدله، وانتقاد عليه في إرسال الرسل، وإنزال الكتب، ونسبة أحكم الحاكمين وأعدل العادلين إلى العبث والظلم، في ذلك كله وكذلك الانقياد "للشرع " مع نفي القدر وإخراج أفعال العباد ذلك كله، وكذلك الانقياد "للشرع" مع نفي القدر وإخراج أفعال العباد عن قدرة الباري وجعلهم مستقلين مستغنين عنه طعن في ربوبية المعبود وملكوته ونسبته إلى العجز، فالإيمان بالقدر"خيره وشره " هو نظام التوحيد كما أن الإتيان بالأسباب التي توصل إلى خيره وتحجز عن شره واستعانة الله عليهما "هو نظام الشرع" ولا ينتظم أمر الدين ولا يستقيم إلا لمن آمن بالقدر وامتثل الشرع، كما قرر النبي صلى الله عليه وسلم الإيمان بالقدر ثم قال: لما قيل له، أفلا نتكل على كتابنا وندع العمل؟ قال: "لا اعملوا فكل ميسر لما خلق له" فمن نفى القدر وزعم منافاته للشرع فقد عطل الله عن علمه وقدرته ومعاني

ربوبيته، وجعل العبد مستقلا بأفعاله، خالقاً لها فأثبت خالقاً آخر مع الله تعالى، بل أثبت أن لجميع المخلوقين خالقون ومن أثبته محتجاً به على الشرع محارباً له به نافيا عن العبد قدرته التي منحه الله تعالى إياها وأمره ونهاه، فقد نسب الله تعالى إلى الظلم، وإلى العبث، وإلى ما لا يليق به، فالمؤمنون حقا يؤمنون "بالقدر خيره وشره" وأن الله تعالى خالق ذلك كله لا خالق غيره ولا رب سواه وينقادون للشرع أمره ونهيه ويصدقون خبر الكتاب والرسول ويحكمونه في أنفسهم سراً وجهراً وهذا هو الإيمان الخالي من الزلل.

دلالة سورتي الإخلاص على أنواع التوحيد

دلالة سورتي الإخلاص على أنواع التوحيد ... قوله: وهذا يتضمن" التوحيد في عبادته"وحده لا شريك له، وهو التوحيد في القصد والإرادة والعمل، والأول يتضمن" التوحيد في العلم والقول" كما دل على ذلك سورة {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} ودل على الأخر سورة {قُلْ يا أيهَا الْكَافِرُونَ} وهما سورتا الإخلاص، وبهما كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ بعد الفاتحة في ركعتي الفجر، وركعتي الطواف، وغير ذلك. ش: الإشارة في قوله "وهذا" راجعة إلى توحيد الشرع والقدر وكما يسمى بذلك، يسمى أيضا التوحيد الطلبي الإرادي، وتوحيد العبادة، وتوحيد الألوهية. والتوحيد الفعلي نسبة إلى أفعال العباد، وتوحيد القصد والعمل، فهذه كلها ألقاب لهذا النوع وقوله "والأول " يعني "توحيد الربوبية والأسماء والصفات " السابق ذكره في كلامه رحمه الله، ويسمى هذا النوع، التوحيد العلمي، القولي والعلمي الخبري. وتوحيد الربوبية، والأسماء والصفات وتوحيد المعرفة والإثبات، والإشارة في قوله "كما دل على ذلك " راجعة إلى "توحيد الربوبية، والأسماء والصفات " وقوله "ودل على الآخر"يعني "وهو توحيد العبادة " وقوله "وهما سورتا الإخلاص، الضمير راجع إلى سورة {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} وسورة {قُلْ يا أيهَا الْكَافِرُونَ} وسميتا

بالقصد والإرادة " وأما سورة {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} فمتضمنة للتوحيد القولي العلمي كما ثبت في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها أن رجلا كان يقرأ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} في صلاته فقال النبي صلى الله عليه وسلم سلوه لم يفعل ذلك؟ فقال: لأنها صفة الرحمن فإنا أحب أن أقرأ بها فقال أخبر وه أن الله يحبه، "فقل يا أيها الكافرون" اشتملت على التوحيد العملي نصا؟ وهي دالة على العلمي لزوماً و {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} اشتملت على التوحيد القولي نصا وهي دالة على التوحيد العملي لزوماً. ولا يتم أحد التوحيدين إلا بالآخر، والظاهر أن السر في قراءته صلى الله عليه وسلم سورة {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} وسورة {قُلْ يا أيهَا الْكَافِرُونَ} في ركعتي الطواف أنه لاستحضار عظمة الله وإشعار القلب أن الطواف بالكعبة ليس عبادة لها، وإنما هو عبادة الله الأحد الصمد الذي لا يستحق العبادة سواه، وإنما الطواف كسائر العبادات امتثالا لأمر الله وشرعه، على حد قول عمر رضي الله عنه، لما قبل الحجر الأسود "والله أني أعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع ولولا أني رأيت رسول الله صلى اله عليه وسلم يقبلك ما قبلتك" وقوله: وغير ذلك، يعني كالمغرب والوتر فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ بهما في ذلك، لأن المغرب خاتمة النهار، والوتر خاتمة عمله بالليل كما كان يقرأ بها في الفجر ليكون أول نهاره توحيداً.

الأصل في باب الأسماء والصفات

الأصل في باب الأسماء والصفات ... قوله: فأما الأول، وهو التوحيد في الصفات فالأصل في هذا الباب أن

يوصف الله بما وصف به نفسه، وبما وصفه به رسوله نفيا وإثباتا، فيثبت لله ما أثبته لنفسه وينفي عنه ما نفاه عن نفسه. ش: قوله فأما الأول. يعنى من الأصلين وهو توحيد الأسماء والصفات: فالأصل فيه أن يوصف الله بما وصف به نفسه في كتابه العزيز، وبما وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم فيما صح عنه، وينفى عنه ما نفاه عن نفسه وما نفاه رسوله صلى الله عليه وسلم، قال الإمام أحمد "لا يوصف الله إلا بما وصف به نفسه أو وصفه به رسوله لا يتجاوز القرآن والحديث " ويعلم أن ما وصف الله به نفسه من ذلك فهو حق ليس فيه لغز ولا أحاجي. بل معناه يعرف من حيث يعرف مقصود المتكلم بكلامه، لاسيما إذا كان المتكلم أعلم الخلق بها يقول، وأنصح الخلق في بيان العلم وأفصح الخلق في البيان، والتعريف، والدلالة، والإرشاد، وهو سبحانه مع ذلك "ليس كمثله شيء" لا في نفسه المقدسة المذكورة بأسمائه وصفاته، ولا في أفعاله: فكما نستيقن أن الله سبحانه له ذات حقيقة، وله أفعال حقيقة، فكذلك له صفات حقيقة، وهو ليس كمثله شيء لا في ذاته ولا في صفاته، ولا في أفعاله، وقول الإمام أحمد "لا يتجوز القرآن والحديث " معناه أن الأسماء والصفات توقيفية، فمصدرها الكتاب والسنة.

نموذج مما ورد عن بعض السلف في هذا الباب

نموذج مما ورد عن بعض السلف في هذا الباب ... يوصف الله بما وصف به نفسه، وبما وصفه به رسوله نفيا وإثباتا، فيثبت لله ما أثبته لنفسه وينفي عنه ما نفاه عن نفسه. ش: قوله فأما الأول. يعنى من الأصلين وهو توحيد الأسماء والصفات: فالأصل فيه أن يوصف الله بما وصف به نفسه في كتابه العزيز، وبما وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم فيما صح عنه، وينفى عنه ما نفاه عن نفسه وما نفاه رسوله صلى الله عليه وسلم، قال الإمام أحمد "لا يوصف الله إلا بما وصف به نفسه أو وصفه به رسوله لا يتجاوز القرآن والحديث " ويعلم أن ما وصف الله به نفسه من ذلك فهو حق ليس فيه لغز ولا أحاجي. بل معناه يعرف من حيث يعرف مقصود المتكلم بكلامه، لاسيما إذا كان المتكلم أعلم الخلق بها يقول، وأنصح الخلق في بيان العلم وأفصح الخلق في البيان، والتعريف، والدلالة، والإرشاد، وهو سبحانه مع ذلك "ليس كمثله شيء" لا في نفسه المقدسة المذكورة بأسمائه وصفاته، ولا في أفعاله: فكما نستيقن أن الله سبحانه له ذات حقيقة، وله أفعال حقيقة، فكذلك له صفات حقيقة، وهو ليس كمثله شيء لا في ذاته ولا في صفاته، ولا في أفعاله، وقول الإمام أحمد "لا يتجوز القرآن والحديث " معناه أن الأسماء والصفات توقيفية، فمصدرها الكتاب والسنة. قوله: وقد علم أن طريقة سلف الأمة، وأئمتها إثبات ما أثبته من الصفات من غير تكييف ولا تمثيل، ومن غير تحريف ولا تعطيل وكذلك ينفون عنه ما نفاه عن نفسه، مع إثبات ما أثبته من الصفات من غير إلحاد: لا في أسمائه ولا في آياته. ش: معناه أن السلف رضي الله عنهم ورحمهم لا يتجاوزون طريقة الكتاب والسنة ولا يخالفون ما جاء فيهما بل يؤمنون بذلك ويصفون الله بما

وصف به نفسه، وبما وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم، إثباتا بلا تمثيل، وتنزيها بلا تعطيل، على حد قوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} والمراد بالسلف الصحابة والتابعون وتابعوهم وكل من سلك طريقهم فهو سلفي نسبة إليهم ومعنى السلف المتقدمون بعكس الخلف فإنهم المتأخرون، فمن جاء بعد القرون المفضلة وسلك طريقة المبتدعين فهو من الخلف ومن هؤلاء السلف "الإمام أحمد، ونعيم بن حماد، ومحمد بن إدريس الشافعي، والإمام مالك بن أنس" وبناسب أن نذكر هنا بعض ما جاء عن هؤلاء الأئمة في الصفات قال نعيم بن حماد شيخ البخاري رحمهما الله "من شبه الله بخلقه كفر ومن جحد ما وصف الله به نفسه كفر وليس فيما وصف الله به نفسه أو وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم تشبيه ولا تمثيل " وقال الإمام الشافعي: رحمه الله لله أسماء وصفات لا يسع أحداً جهلها فمن خالف بعد ثبوت الحجة عليه كفر وأما قبل قيام الحجة فيعذر بالجهل، وقد سبقت الإشارة إلى بعض ما جاء عن الإمام أحمد. في هذا الباب، أما الإمام مالك رحمه الله فيَأتِي بعض ما جاء عنه في هذا الباب في موضعه من هذه الرسالة. والتكييف معناه تعيين كنه الصفة، يقال كيف الشيء أي جعل له كيفية معلومة، وكيفية الشيء صفته وحاله، ومعنى التكييف اصطلاحا تعيين كنه الصفة وكيفيتها: فالمكيفة هم الذين يطلبون تعيين كنه صفات الباري، وهذا مما استأثر الله به، فلا سبيل إلى الوصول إليه، والتمثيل هو التشبيه، يقال مثل الشيء بالشيء إذا سواه وشبهه به وجعله مثله، وعلى مثاله فالشبيه والمثيل والنظير ألفاظ متقاربة، ومعنى التحريف تغيير ألفاظ الأسماء والصفات أو تغيير معانيها: فالتحريف لغة التغيير وإمالة الشيء عن وجهه: يقال أنحرف عن كذا أي مال وعدل- واصطلاحا هو تغيير ألفاظ الأسماء والصفات أو معانيها: فالتحريف ينقسم إلى قسمين، الأول تحريف اللفظ كقراءة بعض المبتدعة قول الله سبحانه {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً} بنصب لفظ الجلالة، والثاني: التحريف المعنوي، كقولهم

في قوله سبحانه وتعالى {اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} استولى عليه: والتعطيل لغة الاخلاء، يقال جيد عطل- أي خال من الزينة ومعناه هنا جحد الصفات، وإنكار قيامها بذاته سبحانه، ونفي ما دلت عليه من صفات الكمال، وقوله "من غير إلحاد" أي من غير ميل وعدول عن الحق الثابت والإلحاد معناه لغة الميل والعدول عن الشيء، ومنه اللحد في القبر لانحرافه إلى جهة القبلة، واصطلاحا العدول بأسماء الله وصفاته وآياته عن الحق الثابت، فإن إتباع رسوله وورثته القائمين بسنته لم يصفوه إلا بما وصف به نفسه، ولم يجحدوا صفاته، ولم يشبهوها بصفات خلقه، ولم يعدولوا بها عما أنزلت له لفظا ولا معنى، بل أثبتوا له الأسماء والصفات، ونفوا عنه مشابهة المخلوقات، فكان إثباتهم بريئاً من التشبيه، وتنزهيهم خاليا من التعطيل، لا كمن شبهه حتى كأنه يعبد صنما أو عطله كأنه يعبد عدماً، فإثبات أوصاف الكمال ونفي المماثلة هي طريقة أتباع الرسل وورثة الأنبياء، بخلاف الذين يلحدون في أسماء الله وآياته ويتأولون نصوص الصفات على غير تأويلها، ويدعون فيها صرف اللفظ عن الاحتمال الراجح إلى الاحتمال المرجوح بغير دليل سوى آرائهم الكاسدة وشبههم الفاسدة التي ظنوها بينات وإنما هي في واقع الأمر جهالات وضلالات فتأويلهم لنصوص الصفات حقيقته تحريف كلام الله وكلام رسوله عن مواضعه، وكذب وافتراء على الله وعلى رسوله، فإن التأويل الصحيح هو الذي يوافق ما جاء في الكتاب والسنة، وما خالف ذلك باطل: فإن كل تأويل لم يدل عليه دليل من الكتاب ولا معه قرينة تقتضيه فهذا لا يقصده الهادي المبين بكلامه إذ لو قصده لحف به قرائن تدل على المعنى المخالف لظاهره حتى لا يوقع السامع في اللبس والخطأ: فإن الله أنزل كلامه بياناً وهدى، فإذا أراد به خلاف ظاهره ولم يلحق به قرائن تدل على المعنى الذي يتبادر غيره إلى فهم كل أحد لم يكن بياناً وهدى. فالتأويل إخبار بمراد المتكلم لا إنشاء، فإذا قيل يعنى اللفظ كذا وكذا كان إخبارا بالذي عنى

المتكلم فإن لم يكن الخبر مطابقاً كان كذباً عليه. قوله: فإن الله تعالى ذم الذين يلحدون في أسمائه وآياته، كما قال تعالى: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كانوا يَعْمَلُونَ} وقال تعالى: {إن الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آياتنَا لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا أَفَمَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمَّنْ يَأتِي آمِناً يَوْمَ الْقِيامَةِ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ} الآية فطريقتهم تتضمن إثبات الأسماء والصفات مع نفي مماثلة المخلوقات، إثباتا بلا تشبيه، وتنزيها بلا تعطيل. كما قال تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} ففي قوله {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} رد للتشبيه والتمثيل وقوله {وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} رد للإلحاد والتعطيل. ش: يعني أن السلف أثبتوا لله أوصاف الكمال ونفوا عنه مماثلة المخلوقات، فلم يسلكوا طريقة المبتدعين الذين ذمهم الله على إلحادهم وتحريفهم الكلم عن مواضعه، ووجه الذم في الآية الأولى أن الله أمر بترك الملحدين واجتناب طريقتهم وتهددهم له تعالى بقوله {سَيُجْزَوْنَ مَا كانوا يَعْمَلُونَ} بعد أن أخبر بأن له الأسماء الحسنى- وهي الكاملة العليا- وفي الآية الثانية أخبر أن إلحاد الملحدين غير خاف عليه سبحانه، بل هو يعلمه، وهذا تهديد لهم أكده بقوله {َأفَمَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمَّنْ يَأتِي آمِناً يَوْمَ الْقِيامَةِ} فأخبر أن الآمنين هم الذين لا يلحدون في آياته، والذين يلقون في النار هم الملحدون ثم توعدهم بقوله {اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ أنهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} والعرب قد تخرج الكلام بلفظ الأمر ومعناه فيه النهي، أو التهديد والوعيد كما قال تعالى {فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} فقد خرج ذلك مخرج الأمر، والمقصود به التهديد والوعيد والزجر، والشاهد من الإلحاد هنا هو إلحاد التشبيه، والحاد التعطيل، فإن للإلحاد خمسة

أقسام: ثالثها تسمية الأصنام بأسماء الله كتسمية اللات من الإله، والعزى من العزيز، ونحوه: ورابعها تسميته سبحانه بما لا يلق بجلاله، كتسمية النصارى له أباً وتسمية الفلاسفة له موجباً أو علة فاعله: وخامسها وصفه بما يتعالى ويتقدس عنه من النقائص كقول أخبث اليهود أن الله فقير، وقولهم يد الله مغلولة فذم الملحدين بالتشبيه لتشبيههم صفات الله بصفات خلقه، وذم الملحدين بالتعطيل لتعطيلهم الأسماء الحسنى عن معانيها وجحد حقائقها، تعالى الله عن قول الملحدين علواً كبيراً: والمقصود أن السلف أثبتوا لله ما يجب إثباته إثباتا بلا تمثيل، وتنزيهاً بلا تعطيل، على مقتضى قوله سبحانه {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِير} والكاف في قوله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} أصح الأقوال فيها أنها صلة والحروف الزائدة تأتي في الأسلوب العربي لتقوية المعنى وتأكيده كما في قول الشاعر: ليس كمثل الفتى زهير ... خلق يوازيه في الفضائل وعلى هذا يكون المعنى ليس مثل الله شيء: والقول الثاني أن الكاف بمعنى مثل، وعلى هذا يكون المعنى ليس مثل الله شيء، ووجه كونها ردا على المشبهة، الممثلة، النفي الصريح بأنه ليس مثل الله شيء ووجه كونها رداً على أهل الإلحاد والتعطيل، أن فيها نسبة السمع والبصر إلى الله حقيقة، وذلك يقتضي أتصاف الباري بها وإذا كان متصفاً بها وهى على ما يليق به فكذلك سائر الصفات.

بعث الله رسله بإثبات مفصل ونفي مجمل

بعث الله رسله بإثبات مفصل ونفي مجمل ... قوله: والله سبحانه: بعث رسله "بإثبات مفصل، ونفي مجمل، فاثبتوا لله الصفات على وجه التفصيل، ونفوا عنه ما لا يصلح له من التشبيه والتمثيل، كما قال تعالى {فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيا؟}

قال أهل اللغة هل تعلم له سميا؟ أي نظيراً يستحق مثل اسمه، ويقال مساميا يساميه، وهذا معنى ما يروى عن ابن عباس {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيا} مثيلا أو شبيهاً. وقال تعالى {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ} وقال تعالى {فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} وقال تعالى {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أندَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً} وقال تعالى {وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سبحانه وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ بَدِيعُ السَّمَاواتِ وَالْأَرْضِ أنى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} وقال تعالى {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَان عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاواتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ} وقال تعالى {فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَنَاتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ أَمْ خَلَقْنَا الْمَلائِكَةَ إناثاً وَهُمْ شَاهِدُونَ أَلا إنهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ وَلَدَ اللَّهُ وَإنهُمْ لَكَاذِبُونَ أَصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ أَفَلا تَذَكَّرُونَ أَمْ لَكُمْ سُلْطَان مُبِينٌ فَأْتُوا بِكِتابِكُمْ إن كُنْتُمْ صَادِقِينَ وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ أنهُمْ لَمُحْضَرُونَ سبحان اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ} إلى قوله {سبحان رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} فسبح نفسه عما يصفه المفترون المشركون، وسلم على المرسلين لسلامة ما قالوه من الإفك والشرك، وحمد نفسه إذ هو سبحانه المستحق للحمد بما له من الأسماء والصفات، وبديع المخلوقات. ش: المعنى أن ما جاء في الكتاب والسنة من إثبات الصفات جاء على طريقة التفصيل: مثل وصفه بالاستواء، والعلم، والقدرة، والمحبة، والرضا، وما جاء في الكتاب والسنة من نفي مماثلة أحد من الخلق للباري سبحانه جاء على طريقة النفي الإجمالي، كقوله تعالى {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيا} وقوله سبحانه {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} ونحو ذلك فنفى المماثلة مطلقاً

والمشابهة والمسامات مطلقاً ولم ينف المماثلة في شيء معين كأن يقول لا سمي له في علمه، أوفي استوائه، أولا مثل له في محبته، أو كلامه ونحو ذلك. والواو في قوله "فأثبتوا ونفوا" مرجعه الرسل ثم أتباعهم من أئمة الدين وأهل السنة والجماعة، وقد سبق معنى هذا: ومقصود المؤلف أن السلف يثبتون إثباتا مفصلا، وينفون نفيا محملا، علي طريقة الكتاب والسنة، ثم شرع رحمه الله يمثل للنفي الإجمالي في القرآن الكريم فذكر آية "مريم " وكلام اللغويين في معنى السمي: والمعنى أنه ليس له مثل ولا نظير حتى يشاركه في العبادة: فلما انتفى المشارك استحق الله سبحانه أن ينفرد بالعبادة وتخلص له: هذا مبني على أن المراد بالسمي هو الشريك في المسمى- وقيل المراد به- الشريك في الاسم كما هو الظاهر من لغة العرب- وقوله: "وهذا ما يروى عن ابن عباس" يعني أن ابن عباس فسر السمي بالشبيه والنظير، وإذا قيل في الآية هل تعلم له سميا، يستحق مثل اسمه أو مساميا يضارعه؟ فالمعنى لا شبيه له ولا نظير: والاستفهام في الآية مراد به النفي فالمعنى لا سمي له في الاسم ولا المسمى. قال أهل اللغة "المعنى أنه لم يسم شيء من الأصنام ولا غيرها بالله قط " يعني بدخول الألف واللام التي عوضت عن الهمزة ولزمت قال الزجاج "تأويله والله أعلم هل تعلم له سميا يستحق أن يقال له خالق وقادر وعالم بما كان وبما يكون "وعلى هذا لا سمي لله في جميع أسمائه، لأن غيره وإن سمي بشيء من أسمائه فلله سبحانه حقيقة ذلك الوصف، والمراد بنفي العلم المستفاد من الإنكار هنا نفي المعلوم على أبلغ وجه وأكمله. ووجه الدلالة من الآية الثانية أن الله نفى أن يكون له كفوء أي شبيه ونظير مكافئ له، فنفى المكافأة والمشابهة عموماً، وهذا نفي مجمل والشاهد قوله {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ} وأما قوله تعالى {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ} فهي من باب

النفي المفصل لأنه نفى صفة معينة، وقد خرجت هذه الآية عن القاعدة الأغلبية: وهي أن طريقة القرآن في النفي "الإجمال " وذلك لسببين: الأول أن اليهود والمشركين نسبوا الولد إلى الله فرد الله عليهم ونفى هذه الصفة بعينها. والثاني أن الولد والولادة صفة كمال في المخلوق، فنفيت لئلا يتوهم أن الله متصف بها، فهي وإن كانت وصف كمال في المخلوق إلا أنه كمال مقترن بالنقص، هذا هو السبب في خروج هذه الآية عن القاعدة ولها نظائر قليلة. الآية الثالثة والرابعة "الأنداد" جمع ند وهو الشبيه، والنظير فلا شبيه لله ولا نظير له في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله، والشاهد من الآيتين الدلالة على النفي المجمل، فإنه لم يقل لا ند له في علمه أو استوائه أو قدرته ونحو ذلك. الآية الخامسة: "الجن" الشياطين المعنى جعلوا الشياطين شركاء الله حيث أطاعوهم "خرقوا" اختلقوا وافتروا "بديع " مبدع ومخترع الأشياء على غير مثال سابق "أنى يكون " كيف أو من أين يكون والشاهد من الآية- الدلالة على النفي المجمل حيث نزه نفسه عما يصفه به المفترون المشركون على وجه العموم. الآية السادسة" تبارك" تعاظم وتقدس " الفرقان" القرآن والشاهد من الآية الدلالة على النفي المجمل حث إنه لا مثل له لاتصافه بصفات الكمال وانفراده بالوحدانية. فنفي العيوب والنقائص يستلزم ثبوت الكمال، ونفي الشركاء يقتضي الوحدانية وهو تمام الكمال. الآية السابعة "أفكهم " كذبهم "اصطفى" اختار"سلطان " حجة وبرهان "الجنة " الملائكة، والشاهد من الآية الدلالة على النفي المجمل حيث نزه نفسه عما يصفه به المفترون تنزيهاً عاما عن كل ما ينسب إليه مما لا يليق به سبحانه وتعالى "وابن عباس " هو عبد الله بن عباس بن عبد المطلب رضي الله عنهما الإمام البحر عالم الأمة، ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم مات رسول الله صلى الله عليه وسلم ولعبد الله ثلاث عشرة سنة وقد دعا له النبي صلى الله عليه وسلم أن يفقهه الله في الدين، ويعلمه التأويل، روى عكرمة عن ابن عباس قال:

دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم المخرج ثم خرج فإذا تور مغطى فقال: من صنع هذا؟ قال عبد الله: فقلت أنا، فقال: اللهم علمه تأويل القرآن! وقال ابن مسعود "نعم ترجمان القرآن ابن عباس لو أدرك أسناننا ما عاشره منا أحد" توفي ابن عباس بالطائف في سنة ثمان وستين فصلى عليه محمد بن الحنفية وقال: اليوم مات رباني هذه الأمة رضي الله عنه. قوله: "وأما الإثبات المفصل " فإنه ذكر من أسمائه وصفاته ما أنزله في محكم آياته كقوله {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} الآية بكمالها، وقوله {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ} السورة وقوله {وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} {وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ} {وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} {وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} {وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} ، {هُوَ الْأولُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ} ، {هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أيامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أينَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} . وقوله {ذَلِكَ بِأنهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوانهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ} وقوله {فَسَوْفَ يَأتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ} الآية وقوله {رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ} وقوله {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ} وقوله {إن الَّذِينَ كَفَرُوا يُنَادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أنفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الإيمان فَتَكْفُرُونَ} وقوله {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أن يَأتِيهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلائِكَةُ} وقوله {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَان فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أو كَرْهاً قَالَتا أَتَيْنَا طَائِعِينَ} وقوله {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً} وقوله {وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانبِ الطُّورِ الْأيمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيا} وقوله {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أينَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ} وقوله: {إنما أَمْرُهُ

إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أن يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} وقوله {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سبحان اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} ش: سبق الكلام على النفي المجمل وهذا بيان الإثبات المفصل، وقد ذكر المؤلف أن الله قد ذكر من أسمائه، وصفاته، ما هو واضح بين مفصل، في القرآن تفصيلا لا غموض معه والصمد هو الذي يقصد في الحوائج دون سواه، والصمد الذي لا جوف له، "الودود" كثير المودة وهي أعلا درجات المحبة "المجيد" العظيم، الجليل المتعالي، "سبح " نزه الله ومجده، "العزيز" القوي العظيم، الغالب، "الأول " السابق على جميع الموجودات، الذي لم يسبقه عدم، "الأخر "الباقي بعد فنائها، "الظاهر" الذي ليس فوقه شيء، "الباطن" الذي ليس دونه شيء، "ما يلج " ما يدخل، "تعرج " تصعد، "أذلة " خاضعين متذللين، "أعزة " أشداء غليظين، "أحبط أعمالهم " أبطلها، "ما أسخط الله" أغضبه غضباً شديداً، "ظلل " ما يستظل به جمع ظلة، "والغمام" السحاب الأبيض الرقيق، "لمقت الله" غضبه الشديد "لعنه " طرده وأبعده عن رحمته، "استوى" عمد وقصد غير استوى التي بمعنى علا وارتفع فتلك تتعدى بعلى وهذه تتعدى بإلى والدخان هو في اللغة الكدرة في سواد، "الملك " المالك لكل شيء "القدوس " البليغ في النزاهة عن النقائص، "السلام " ذو السلامة من كل عيب وتمثيل، " المؤمن " المصدق لرسله بالمعجزات "المهيمن " الرقيب على كل شيء، "الجبار"القاهر العظيم وجابر الكسر، "المتكبر" البليغ الكبرياء والعظمة، "البارىء" المبدع المخترع، "المصور" خالق الصور على ما يريد، "وناديناه " أي نادينا موسى وكلمناه بقولنا {يا مُوسَى إني أنا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} الطور هو اسم جبل بين مصر ومدين والأيمن الذي يلي يمين موسى حين

اقبل من مدين "ونجيا" معناه مناجيا والنداء هو الصوت الرفيع وضده النجاء. قال ابن القيم رحمه الله تعالى: إن النداء الصوت الرفيع وضده ... فهو النجاء كلاهما صوتان قوله: إلى أمثال هذه الآيات، والأحاديث الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم في أسماء الرب تعالى وصفاته، فإن في ذلك من إثبات ذاته وصفاته على وجه التفصيل، وإثبات وحدانيته بنفي التمثيل، ما هدى الله به عباده إلى سواء السبيل، فهذه طريقة الرسل صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين ". ش: يعني أنه لم يحصر هنا كل ما ورد في ذلك من الآيات بل مثل لذلك "وفي البعض تنبيه على الكل ". فقد تطابقت نصوص الكتاب والسنة على إثبات الصفات لله، وتنوعت دلالتها أنواعاً توجب العلم الضروري بثبوتها وإرادة المتكلم اعتقاد ما دلت عليه، فتارة يذكر الاسم الدال على الصفة كالسميع، البصير، العليم، القدير، العزيز، الحكيم، وتارة يذكر المصدر وهو الأصل الذي اشتقت منه تلك الصفة كقوله: أنزله بعلمه، وقوله: إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين، وقوله: إني اصطفيتك على الناس برسالاتي وبكلامي، وقوله: فبعزتك لأغوينهم أجمعين، وقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح "حجاب النور لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه، وقوله في دعاء الاستخارة "اللهم إني أستخيرك بعلمك وأستقدرك بقدرتك" وقوله: "أسألك بعلمك الغيب وقدرتك على الخلق" وقول عائشة رضي الله عنها "سبحان الذي وسع سمعه الأصوات" ونحوه. وتارة يذكر حكم تلك

الصفة كقوله {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ} {إننِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} وقوله: {فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ} وقوله: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً} وقوله: {عَلِمَ اللَّهُ أنكُمْ كُنْتُمْ تَخْتانونَ أنفُسَكُمْ} ونظائر ذلك كثيرة؛ ويصرح في الفوقية بلفظها الخاص وبلفظ العلو والاستواء، وأنه في السماء، وأنه ذو المعارج، وأنه رفيع الدرجات، وأنه تعرج إليه الملائكة وتنزل من عنده، وأنه ينزل من عنده، وأنه ينزل إلى السماء الدنيا، وأن المؤمنين يرونه بأبصارهم عياناً من فوقهم، إلى أضعاف ذلك مما لو جمعت النصوص والآثار فيه لم تنقص عن نصوص الأحكام، ومن أبين المحال وأوضح الضلال حمل ذلك كله على خلاف حقيقته وظاهره ودعوى المجاز فيه والاستعارة وأن الحق في أقوال النفاة المعطلين وأن تأويلاتهم هي المرادة من هذه النصوص، إذ يلزم من ذلك محاذير ثلاثة لابد منها وهي القدح في علم المتكلم بها أوفي بيانه أوفي نصحه، وكان ورثة الصابئة وأفراخ الفلاسفة وأوقاح المعتزلة والجهمية وتلامذة الملاحدة أفصح منه وأحسن بيانا وتعبيرا عن الحق وهذا مما يعلم بطلانه بالضرورة. ولم يذكر المؤلف هنا بعض الأحاديث المثبتة لشيء من الصفات وإن كان قد ذكره في غير هذا الموضع من هذه الرسالة. والإشارة في قوله فإن في ذلك راجعة إلى النصوص الواردة في الكتاب، والسنة، من إثبات صفات الرب ونفي المماثلة عنه يعني فيما ذكر من إثبات لصفات، تفصيليا لا إجماليا ما هدى الله به أهل السنة والجماعة، وهم الفرقة الناجية الذين تلقوا ما ورد في الكتاب، والسنة، بالقبول ورضوا لله ما رضيه لنفسه، فهذه يعني الإثبات المفصل والنفي المجمل واثبات ذلك للرب سبحانه هي طريقة الرسل عليهم الصلاة والسلام إثباتا بلا تمثيل، وتنزيهاً بلا تعطيل، وقوله:"من إثبات الوحدانية" يشير إلى أن الله سبحانه كما أنه لا مثل له ولا شبه له فهو كذلك واحد لا شريك له في ألوهيته.

أسماء الطوائف التي زاغت وحادت عن سبيل المرسلين

أسماء الطوائف التي زاغت وحادت عن سبيل المرسلين ... قوله: وأما من زاغ وحاد عن سبيلهم، من الكفار والمشركين، والذين أوتوا الكتاب ومن دخل في هؤلاء من الصابئة، والمتفلسفة، والجهمية، والقرامطة الباطنية ونحوهم. فإنهم على ضد ذلك، يصفونه بالصفات السلبية على وجه التفصيل ولا يثبتون إلا وجوداً مطلقا لا حقيقة له عند التحصيل، وإنما يرجع إلى وجود في الأذهان، يمتنع تحققه في الأعيان. فقولهم يستلزم غاية التعطيل وغاية التمثيل فإنهم يمثلونه بالممتنعات، والمعدومات، والجمادات، ويعطلون الأسماء والصفات تعطيلا يستلزم نفي الذات. ش: بعد فراغ المؤلف من بيان طريقة السلف في- باب أسماء الله وصفاته، شرع في بيان طريقة مخالفيهم فقال: وأما من انحرف ومال عن طريقة الرسل وأتباعهم من السلف، من أنواع الكفار، وأصناف المشركين واليهود، والنصارى، ومن سار على منهاجهم ودخل في عدادهم "كالصابئة " والفلاسفة، والقرامطة، والجهمية وغيرهم كالمعتزلة، فإنهم على العكس من طريقة الرسل وأتباعهم. فالإشارة في قول المؤلف "على ضد ذلك، راجعة إلى طريقة الرسل وورثتهم من ملف الأمة وأئمتها، فهؤلاء مثبتون لأوصاف الكمال نافون ما يضاد هذه الحال: أما أصناف هؤلاء الطوائف فإنهم ينفون صفات الكمال، ويصفون الله بالصفات السلبية تفصيليا: كقولهم: "ليس بمستو على عرشه ولا يغضب ولا ينزل ولا يحب" وقوله ولا يثبتون إلا وجوداً مطلقاً لا حقيقة له عند التحصيل وإنما يرجع إلى وجود في الأذهان يمتنع تحققه في الأعيان " معناه أن سلب الصفات عن الله غايته ونهايته أن الله تعالى غير موجود أصلا فإن الوجود المطلق يعني المجرد عن جميع الصفات- لا حقيقة له إلا في الذهن وليس له وجود خارجي بتاتا؟ لأن الذات لا تتحقق بلا صفة أصلا؟ بل هذا بمنزلة

من قال: أثبت إنساناً لا حيواناً ولا ناطقاً ولا قائماً بنفسه ولا بغيره ولا قدرة له ولا حياة ولا حركة ولا سكون! ونحو ذلك. أو قال: أثبت نخلة ليس لها ساق، ولا جذع، ولا ليف، ولا غير ذلك. فإن هذا يثبت ما لا حقيقة له في الخارج ولا يعقل ولهذا كان السلف والأئمة يسمون نفات الصفات معطلة، لأن حقيقة قولهم تعطيل ذات الله تعالى، وبسلبهم هذه الصفات أيضا مثلوا وضلوا حيث شبهوه بالجمادات التي لا تسمع، ولا تبصر، ولا تعلم، ولا تقدر، وشبهوه بالمعدومات، حيث زعموا أنه لا يستوي، ولا يغضب، ولا يحب، ولا يعلم، وليس بحي، وعطلوه عما يستحقه من الأوصاف! فصار نهاية تعطيلهم أن ذاته غير موجودة فإن من ليس متصفاً بهذه الصفات لا جود له. والصابئة: هم أصحاب كنعان ونمرود الذين بعث إليهم الخليل، وكانوا يعبدون الكواكب، ويبنون لها الهياكل، وكان الصابئة إذ ذاك على الشرك؟ وإن كان الصابئي قد لا يكون مشركاً. بل مؤمنا بالله واليوم الآخر، كما في الآيتين الكريمتين: {إن الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ} الآية {إن الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ} الآية. لكن كثيرا منهم أو أكثرهم كانوا كفاراً ومشركين كما أن كثيراً من اليهود والنصارى بدلوا وحرفوا وصاروا كفاراً ومشركين، وقد اختلف في هذه النسبة فقيل إنها إلى صابئي بن متوشلح بن إدريس _ عليه السلام _ وكان على الحنيفية الأولى؟ وقيل إلى صابئي بن ماري وكان في عصر الخليل عليه السلام والصابئي عند العرب من خرج عن دين قومه لذلك كانت قريش تسمي رسول الله صلى الله عليه وسلم صابئاً لخروجه عن دين قومه والله أعلم.

والمتفلسفة: جمع متفلسف والفلسفة بلسان اليونان- الحكمة - فالفيلسوف هو صاحب الحكمة والمراد بالفلاسفة هنا الإلهيون لا الدهريون والدوريون. وهؤلاء الفلاسفة الإلهيون، الملحدون، لا يؤمنون بالبعث والنشور، على ما جاء في الكتاب والسنة، كما أنهم لا يثبتون للرب أسماءه وصفاته، فمن قدمائهم أرسطو تلميذ "أفلاطون " اليونانيان، ومن متأخريهم "أبو نصر الفارابي" وابن سيناء وأشباههما. القرامطة: كان ظهور هذه الطائفة سنة ست وسبعين بعد المائة بظهور_ ميمون بن ديصان الذي نصب للمسلمين الحبائل، وبغي بهم الغوائل، وكان يسر المجوسية ويظهر الإسلام وكان يجعل لكل آية تفسيرا، ولكل حديث تأويلا، وجعل الفرائض والسنة رموزا وإشارات، وكان يخدم إسماعيل بن جعفر، وظهر أيام حمدان قرمط، فاجتمعا وتساعدا على نشر هذا المذهب الشنيع، فسموا بالقرامطة، وهذان الشخصان هما المؤسسان لأصل هذا المذهب، ثم ظهر بعدهما في الدعوة الجنابي وهو "أبو سعيد الحسن بن بهرام الجنابي" وهو من أتباع _ حمدان قرمط _وقد طالت أيامهم، وعظمت شوكتهم، وأخافوا السبيل، واستولوا على بلاد كثيرة، وأخبارهم مستقصاة في التاريخ. "وميمون بن ديصان" كان مجوسيا من سبي الأهواز "وحمدان قرمط" كان من الصابئة الحرانية، والمنسوب إليهم "قرمطي" بكسر القاف وسكون الراء وكسر الميم وبعدها طاء مهملة، وأصل القرمطة في اللغة تقارب الشيء بعضه من بعض يقال خط مقرمط ومشي مقرمط إذا كان كذلك.

والجهمية: هم أصحاب جهم بن صفوان، تلميذ الجعد بن درهم وقد ظهرت بدعته بترمذ وقتله سلم بن أحوز المازني في آخر ملك بني أمية، وقد اشتهر مذهب التعطيل باسم الجهم، وإن كان أخذه عن الجعد بن درهم، والجعد عن أبان بن سمعان، وأبان عن طالوت وطالوت عن لبيد بن الأعصم اليهودي، نظرا لأن جهماً هو الذي تزعم هذه المقالة ونشرها في الناس؟ فكل من اعتنق هذه المقالة نسب إليه لأنه كان رأسا فيها.

شبهة غلاة القرامطة ومن ضاهاهم

شبهة غلاة القرامطة ومن ضاهاهم ... قوله: فغلاتهم يسلبون عنه النقيضين، فيقولون لا موجود ولا معدوم، ولا حي ولا ميت، ولا عالم ولا جاهل، لأنهم يزعمون أنهم إذا وصفوه بالإثبات شبهوه بالموجودات، وإذا وصفوه بالنفي شبهوه بالمعدومات، فسلبوا النقيضين، وهذا ممتنع في بداهة العقول، وحرفوا ما أنزل الله من الكتاب وما جاء به الرسول فوقعوا في شر مما فروا منه، فإنهم شبهوه بالممتنعات، إذ سلب النقيضين كجمع النقيضين كلاهما من الممتنعات. ش: يعني غلاة الجهمية المحضة، كالقرامطة وأشباههم من غلاة هذه الطوائف المذكورة ينفون عن الله الأمرين المتناقضين، والمراد بالغلاة المتجاوزون الحد الموغلون في الأمر إيغالا عميقاً، ومعنى يسلبون ينفون والنقيضان هما اللذان لا يجتمعان ولا يرتفعان في أن واحد بل يلزم من ثبوت أحدهما عدم الآخر، ومن نفي أحدهما ثبوت الآخر. ثم مثل المؤلف للنقيضين بقوله: "كالوجود والعدم والحياة والموت والعلم وجهل" ثم بين رحمه الله الشبهة التي من أجلها نفى هؤلاء الغلاة النقيضين عن الله فقال: "لأنهم يزعمون أنهم إذا وصفوه بالإثبات شبهوه بالموجودات، وإذا وصفوه بالنفي شبهوه بالمعدومات فسلبوا النقيضين

خشية التشبيه، هذا تقرير شبهتهم، ولكن آل بهم إغراقهم في نفي التشبيه إلى أن وصفوه بغاية التعطيل، ثم أنهم لم يخلصوا مما فروا منه بل يلزمهم على قياس قولهم أن يكونوا قد شبهوه بالممتنع الذي هو أخس وأفضع من الموجود والمعدوم الممكن ففروا في زعمهم من التشبيه بالموجودات والمعدومات، ووصفوه بصفات الممتنعات، التي لا تقبل الوجود، بخلاف المعدومات الممكنات، وتشبيهه بالممتنعات شر من تشبيهه بالموجودات والمعدومات الممكنات، وما فرمنه هؤلاء الملحدة. ليس بمحذور، فإنه إذا سمي موجوداً قائماً بنفسه، حيا عليماً، رؤوفاًً، رحيماً، وسمي المخلوق بذلك لم يلزم من ذلك أن يكون مماثلا للمخلوق أصلا ولو كان هذا حقاً لكان كل موجود مماثلا لكل موجود، ولكان كل معدوم مماثلا لكل معدوم، ولكان كل ما ينفى عنه شيء من الصفات مماثلا لكل ما ينفى عنه ذلك الوصف. ثم ذكر المؤلف أن سلبهم للنقيضين أمر ممتنع، وامتناعا واضح بديهي عند ذوي العقول، "والبديهي جمعه بديهيات "وهي العلوم الأولية التي يجعلها الله في النفوس ابتداءاً بلا واسطة، وهي كالعلم بأن الواحد نصف الاثنين فهي لا تحتاج إلى تأمل ونظر وتفكير. ثم بين أن هؤلاء النافين لأسماء الله وصفاته قد حرفوا بتأويلاتهم الباطلة ما جاء في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم من الأسماء الحسنى والصفات العليا استنادا إلى أقيستهم الفاسدة وتأويلاتهم الباطلة وبين المؤلف أن سلب النقيضين مثل جمع النقيضين كل منهما ممتنع فقولك زيد موجود معدوم الآن ممتنع وقولك زيد لا موجود ولا معدوم الآن ممتنع أيضا.

اسم القديم ليس من أسماء الله الحسنى

اسم القديم ليس من أسماء الله الحسنى ... قوله: وقد علم بالاضطرار: أن الوجود لابد له من موجد واجب بذاته، غني عما سواه، قديم أزلي، لا يجوز عليه الحدوث ولا العدم، فوصفوه بما

يمتنع وجوده فضلا عن الوجوب أو الوجود أو القدم. ش: يعني أن العلم بوجود الله أمر ضروري، فطري، وإن كان يحصل لبعض الناس ما يخرجه إلى الطرق النظرية، فنحن نشاهد حدوث الحيوان والنبات، والمعادن وحوادث الجو، كالسحاب، والمطر، وغير ذلك، وهذه الحوادث لم توجد من غير موجد، ولا هي أوجدت نفسها كما قال تعالى {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ} ومعلوم أن الشيء لا يوجد نفسه، فالممكن الذي ليس له من نفسه وجود ولا عدم لا يكون موجوداً بنفسه بل أن حصل ما يوجده وإلا كان معدوما. وقوله "لا يجوز عليه الحدوث ولا العدم" هو شرح لقوله -واجب بذاته- والغنى عما سواه هو القائم بنفسه، ليس محتاجا إلى غيره في شيء من الأمور، يقول تعالى: {يا أيهَا النَّاسُ أنتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} وغناه شامل وخزائنه ملأى: {وَإن مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ} وقول المؤلف "قديم أزلي" القديم في لغة العرب التي نزل بها القرآن هو المتقدم على غيره، فيقال هذا قديم للعتيق، وهذا حديث للجديد، ولم يستعمل هذا إلا في المتقدم على غيره -لا فيما لم يسبقه عدم- كما قال تعالى: {حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ} والعرجون القديم هو الذي يبقى إلى حين وجود العرجون الثاني فإذا وجد الحديث قيل للأول قديم وأما إدخال القديم في أسماء الله تعالى فهو مشهور عند أكثر أهل الكلام وقد أنكر ذلك كثير من السلف والخلف، وحيث أن التقدم في اللغة مطلق لا يختص بالمتقدم على الحوادث كلها وأسماء الله هي الأسماء الحسنى التي تدل على خصوص ما يمدح به فلا يكون القديم من الأسماء الحسنى، وجاء الشرع باسمه الأول وهو أحسن من القديم لأنه يشعر بأن ما بعده آيل

إليه، وتابع له، بخلاف القديم، والله تعالى له الأسماء الحسنى، لكن لما كان القديم عند أهل الكلام عبارة عما لم يزل، أو عما لم يسبقه وجود غيره، وأهل الاصطلاح تجوز مخاطبتهم باصطلاحاتهم عبر به المؤلف عن الأول وقيده بقوله: "أزلي" لأن القديم قد يطلق على المتقدم على غيره وأن كان حادثا، فهذا السر في التقييد بالأزلية، فالأزلي منسوب إلى الأزل، والأزلية هي الأولية: وقول المؤلف "فوصفوه بما يمتنع وجوده فضلا عن الوجوب أو الوجود أو القدم " يعني أن القرامطة ونحوهم من الجهمية المحضة السالبين النقيضين عن الله قد شبهوا الله بالممتنعات فضلا عن الوصف بالوجوب، أو الوصف بالوجود، أو الوصف بالقدر، فهذه أوصاف لله، والقرامطة بتشبيههم إياه بالممتنع قد جعلوه في غاية البعد عن الاتصاف بهذه الأوصاف.

مذهب الفلاسفة في الصفات

مذهب الفلاسفة في الصفات ... قوله: وقاربهم طائفة من الفلاسفة وأتباعهم فوصفوه بالسلوب والإضافات دون صفات الإثبات، وجعلوه هو الوجود المطلق بشرط الإطلاق، وقد علم بصريح العقل أن هذا لا يكون إلا في الذهن، لا فيما خرج عنه من الموجودات، وجعلوا الصفة هي الموصوف، فجعلوا العلم عين العالم، مكابرة للقضايا البديهيات، وجعلوا هذه الصفة هي الأخرى، فلم يميزوا بين العلم والقدرة والمشيئة، جحدوا للعلوم الضروريات. ش: يعني أن الفلاسفة الإلهيين -أمثال أرسطوا- ليس من أصلهم وصف الله بصفات الإثبات: بل إنما يصفونه بالسلوب أو الإضافات، وقوله: "وأتباعهم" يعني كباطنية الشيعة -أمثال بن سيناء- وباطنية الصوفية أمثال ابن عربي -والسلوب جمع سلب والسلب هو النفي، وذلك مثل

قولهم" أن الله ليس بجسم ولا عرض ولا متحيز" والإضافات: هي الأمور المتضايفة التي لا يعقل الواحد منها إلا بتعقل مقابله، وذلك مل قولهم "أن الله مبدأ الكائنات وعلة الموجودات" وقوله: دون صفات الإثبات يعني أن الله في زعمهم مجرد عن جميع الصفات الثبوتية، ليس له حياة، ولا علم، ولا قدرة، ولا كلام، وقوله "وجعلوه هو الوجود المطلق بشرط الإطلاق" يعني أن منتهى قولهم أن وجود الله مشروط بسلب كل أمر ثبوتي وعدمي أو بسلب الأمور الثبوتية، كما يقول بعضهم، ومعلوم بصريح العقل الذي لم يكذب قط أن هذه الأقوال باطلة متناقضة، وهذا معنى قول المؤلف "وقد علم بصريح العقل أن هذا لا يكون إلا في الذهن لا فيما خرج عنه من الموجود" ففيه إضافة الصفة إلى الموصوف: ومعنى هذا أن من سلبت عنه الصفات الثبوتية والعدمية لا وجود له في الواقع والخارج المشاهد، وإنما يتصوره الذهن فقط، والوجود المطلق ومثله الإنسان المطلق والحيوان المطلق، والجسم المطلق، ونحو ذلك من الحقائق إنما توجد في الأذهان ولا وجود لها في الأعيان، وإنما الذي يوجد في الشاهد هو الإفراد -مثل زيد وعمرو وشبه ذلك - وإذا جعلوا الله هو الوجود المطلق بشرط الإطلاق. لم يجز أن ينعت بعت يوجب امتيازه فلا يقال هو واجب بنفسه، ولا ليس واجبا بنفسه، فلا يوصف بنفي ولا إثبات، لأن هذا نوع من التمييز والتقييد وهذا حقيقة قول القرامطة وأشباههم، وهذا معنى قول المؤلف فيما سبق عنهم وقاربهم طائفة من الفلاسفة فهذا وجه مقاربتهم إياهم في هذا المذهب حيث يمتنعون عن وصفه بالنفي والإثبات، ومعلوم أن الخلو من النقيضين ممتنع، كما أن الجمع بين النقيضين ممتنع، فلزمهم أن يكون الوجود الواجب الذي لا يقبل العدم هو الممتنع الذي لا يتصور وجوده في الخارج وإنما يقدره الذهن تقديراً، كما يقدر كون الشيء موجوداً معدوماً، أو لا موجوداً ولا معدوماً، فلزمهم الجمع بين النقيضين والخلو عن النقيضين وهذا من أعظم الممتنعات والمطلق هو ما دل على الحقيقة، بلا قيد فهو

يتناول واحدا لا بعينه من الحقيقة. والمقيد هو ما دل على الحقيقة بقيد، فالمطلق هو الذي لا يتقيد بصفة أو شرط، وقوله: "وجعلوا الصفة هي الأخرى" الخ. يعني أن جعل عين العلم عين القدرة، ونفس القدرة هي نفس الإرادة، ونفس الحياة هي نفس العلم والقدرة، ونفس العلم نفس الفعل والإبداع، ونحو ذلك معلوم الفساد بالضرورة، فإن هذه حقائق متنوعة فإذا جعلت هذه الحقيقة هي تلك كان بمنزلة من يقول أن حقيقة السواد هي حقيقة الطعم، وحقيقة الطعم هي حقيقة اللون، وأمثال ذلك. مما يجعل الحقائق المتنوعة حقيقة واحدة، ومن المعلوم أن القائم بنفسه ليس هو القائم بغيره والجسم ليس هو العرض، والموصوف ليس هو الصفة، والذات ليست هي النعوت، فمن قال: أن العالم هو العلم، والعلم هو العالم، فضلاله بين التفريق بين الصفة والموصوف مستقر في كل الفطر والعقول ولغات الأمم فمن جعل أحدهما هو الآخر كان قد أتى من السفسطة بما لا يخفى على من يتصور ما يقول وجحد ما هو معلوم بالضرورة، والقضايا هي مواد البرهان وأصوله.

أصل تسمية المعتزلة

أصل تسمية المعتزلة ... قوله: وقاربهم طائفة ثالثة من أهل الكلام، من المعتزلة ومن أتبعهم، فأثبتوا لله الأسماء دون ما تتضمنه من الصفات. فمنهم من جعل العليم، والقدير، والسميع، والبصير، كالأعلام المحضة المترادفات، ومنهم من قال عليم بلا علم، قدير بلا قدرة، سميع بصير بلا سمع ولا بصر، فأثبتوا الاسم دون ما تضمنه من الصفات. والكلام على فساد مقالة هؤلاء وبيان تناقضها بصريح المعقول المطابق لصحيح المنقول: مذكور في غير هؤلاء الكلمات.

ش: "الطائفة " الجماعة و"أهل الكلام" أصحابه، وسموا بذلك لأنهم كانوا يسلكون الطرق الصعبة الطويلة، والعبارات المتكلفة الهائلة وليس لذلك فائدة إلا تضييع الزمان وإتعاب الأذهان، وكثرة الهذيان، ودعوى التحقيق بالكذب والبهتان، ولكون هذه الطرق التي سلكوها، والحدود التي ذكروها، لا تفيد الإنسان علما لم يكن عنده، وإنما تفيده كثرة كلام فقط سموا أهل الكلام، "والمعتزلة" سبب تسميتهم بالمعتزلة أنه دخل رجل على الحسن البصري فقال: "يا إمام الدين لقد ظهرت في زماننا جماعة يكفرون أصحاب الكبائر والكبيرة عندهم يخرج بها عن الملة وهم وعيدية الخوارج وجماعة يرجئون أصحاب الكبائر والكبيرة عندهم لا تضر مع الإيمان بل العمل على مذهبهم ليس ركنا من الإيمان ولا يضر مع الإيمان معصية كما لا ينفع مع الكفر طاعة، وهم مرجئة الأمة، فكيف تحكم لنا في ذلك اعتقاداً؟ " فتفكر الحسن في ذلك وقبل أن يجيب قال واصل بن عطاء "الغزال" أنا لا أقول إن صاحب الكبيرة مؤمن مطلقا ولا كافر، ثم قام واعتزل إلى اسطوانة من اسطوانات المسجد يقررها أجاب به على جماعة من أصحاب الحسن، فقال الحسن: اعتزل عنا واصل بن عطاء فسمي هو وأصحابه "معتزلة " وقيل هم سموا أنفسهم "معتزلة " وذلك عندما بايع الحسن بن علي معاوية وسلم إليه الأمر واعتزلوا الحسن ومعاوية، وقوله "ومن أتبعهم" يعني كالخوارج وكثيرا من المرجئة" وبعض الزيدية، وقوله: "فمنهم من جعل العليم" الخ: يعني بعض المعتزلة - قالوا العليم والقدير ونحو ذلك أعلام لله وليست دالة على أوصاف وهي بالنسبة إلى دلالتها على ذات واحدة هي مترادفة- وذلك مثل تسميتك ذاتا واحدة بزيد وعمرو ومحمد وعلي فهذه الأسماء مترادفة وهي أعلام خالصة لا تدل على صفة لهذه الذات المسماة بها، وبعضهم قال: كل من علم منها مستقل، فالله يسمى عليما، وقديرا، وليست هذه الأسماء مترادفة ولكن ليس معني ذلك أن هناك حياة أو قدرة، وهذا معنى قول المؤلف "وقاربهم

طائفة ثالثة من أهل الكلام من المعتزلة ومن تبعهم " فالمعتزلة مجمعون على تسمية الله بالاسم ونفي الصفة عنه، وكذلك من تبعهم من الطوائف المشار إليها. والترادف سيَأتِي له ذكر في غير هذا الموضع. والعلم اسم يعين مسماه مطلقا "والمحضة " الخالصة الخالية من الدلالة على شي، آخر وقوله: "والكلام على فساد مقالة هؤلاء وبيان تناقضها" الخ. معناه أن بسط الكلام في إيضاح بطلان أقوال المعتزلة ومن على شاكلتهم بط القول في ذلك مذكور في غير هذه الرسالة، وقد بسطه "رحمه الله " في كتابيه "موافقة مريح المعقول لصحيح المنقول". و"منهاج السنة" وغيرهما من مؤلفاته وبين فيها وجه التناقض والفساد؟ موضحا بطلان ذلك بالحجج العقلية والنقلية: وقوله: "بصريح المعقول" يعني "بالمعقول "الصريح، وكذلك قوله: "وصحيح المنقول " يعني "بالمنقول " الصحيح: فهو من إضافة الصفة إلى الموصوف "والصريح " هو السليم الخالي من المعارضة والصحيح " السليم من الأمراض: وهي علل التجريح. ووجه تناقض مقالتهم أنهم يقولون القولين المتضادين في المسألة الواحدة، فيفرقون بين المتماثلين ويسوون بين المختلفين، وقوله "المطابق" يشير إلى إنه لا اختلاف بين العقل الصريح، والنقل الصحيح، بل هما متفقان تمام الاتفاق.

السفسطة في العقليات والقرمطة في السمعيات

السفسطة في العقليات والقرمطة في السمعيات ... قوله: وهؤلاء جميعهم يفرون من شيء فيقعون في نظيره، بل وفي شر منه " مع ما يلزمهم من التحريف والتعطيل، ولو أمعنوا النظر لسوووا بين المتماثلات، وفرقوا بين المختلفات، كما تقتضيه المعقولات، وكانوا من الذين أوتوا العلم، الذين يرون إنما أنزله إلى الرسول هو الحق من ربه، وبهدي إلى صراط العزيز الحميد. ولكنهم من أهل المجهولات، المشبهة بالمعقولات، يسفسطون في العقليات ويقرمطون في السمعيات.

ش: يعني هذه الطوائف كلها سلكت هذا المسلك في صفات الله، خشية من محذور هو التشبيه ولكنها وقعت في تشبيه نظير الذي فرت منه، ووجه ذلك إنهم فروا من تشبيه الله بالحي الموجود، إلى تشبيه بالمعدوم، حيث وصفوه بصفات لا تنطبق إلا على المعدوم، بل وشبهوه بالأشياء الممتنعة، حيث وصفوه بصفات لا تنطبق إلا على مستحيل الوجود، مع أنهم بنفيهم لصفات الله، وتشبيههم إياه بالمعدوم، قد حرفوا كلام الله عن مواضعه، وعطلوا النصوص عن مدلولها، وقوله: "ولو أمعنوا النظر" يعني لو دققوا ونظروا بعين البصيرة والإنصاف لسووا بين الأمور المتماثلة، وفرقوا بين الأمور المختلفة، فمن يثبت الاسم وينفي الصفة ومن يثبت بعض الصفات وينفي البعض الآخر مفرق بين متماثلين، فباب الأسماء والصفات واحد فإن كان هناك محذور في إثبات الصفة فهو موجود في إثبات الاسم وكذلك أن كان هناك محذور في إثبات بعض الصفات فهو موجود في إثبات البعض الأخر وسيَأتِي لذلك أمثلة عديدة في كلام المؤلف، ومن يجعل العلم هو القدرة والسمع هو عين الكلام قد سوى بين مختلفين، فالعلم ضد الجهل والقدرة ضد العجز وهكذا، وكذلك من جعل العلم عين العالم فالذات شيء وصفة الذات شيء آخر كما تقتضيه المعقولات يعني أن العقل المدرك للأمور يقتضي التسوية بين الأمور المتماثلة والتفريق بين الأمور المختلفة، وقوله "ولكانوا" معطوف على قوله "لسووا" فلو دققوا النظر لم يفرقوا بين أمور متماثلة، ولم يسووا بين أمور مختلفة، ولكانوا من جملة أهل السنة والجماعة الذين يعلمون أن ما أنزل إلى الرسول في باب أسماء الله وصفاته وسائر ما أنزل عليه هو الحق من ربه فلا تحريف، ولا تأويل، ولا تمثيل، هذا هو ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم وما جاء به من ربه هو الحق الهادي إلى صراط الله العزيز الحميد، أما زبالة أذهان هذه الطوائف، ونحاتة عقولهم الملوثة بالخرافات والبدع فهي التي ينبغي أن تطرح لأنها لا تهدي إلا إلى الحيرة والشكوك ولكن واقع هؤلاء أنهم ليسوا من أهل العلم الذي

جاء به الوحي بل هم من أهل الجهالات والشبه التي ظنوها بينات وهي في الحقيقة مجهولات حيث لا سند لها إلا الشبه الفاسدة والآراء الكاسدة وهذا معنى قوله "المشبهة بالمعقولات " يعني ظنهم جهالاتهم بينات، وهي في الواقع ليست من الأمور المعقولة البينة الواضحة المستندة إلى دليل صحيح، "والسفسطة " هي نفي الحقائق الثابتة، مع العلم بها تمويها ومغالطة نسبة إلى" السفسطائية" وهم فرقة ينكرون المحسوسات وهم من أصناف الكفرة؟ الذين قبل الإسلام، ووجه سفسطة هذه الطوائف أنهم جحدوا معان نصوص الصفات مع علمهم بما دلت عليه تلك النصوص من المعان المعروفة لغة وشرعاً كقولهم: "في استوى". استولى. فجحدهم معنى الاستواء اللغوي وهو الصعود والاستقرار تمويه وتلبيس ومغالطة والقرمطة، سلوك مسلك القرامطة في تفسيرهم النص بمعنى يخالف ما هو مقتضى لفضله: ووجه قرمطتهم أنهم جعلوا للنص معنى باطناً يخالف معناه الظاهر. المعروف من جهة اللغة والشرع _ وسيَأتِي مزيد بيان لتأويل القرامطة للنصوص، المقصود هنا بيان وجهة قرمطة هذه الطوائف.

معنى الواجب والممكن

معنى الواجب والممكن ... قوله: وذلك أنه قد علم بضرورة العقل أنه لابد من موجود قديم، غني عما سواه إذ نحن نشاهد حدوث المحدثات: كالحيوان والمعدن، والنبات، والحادث ممكن ليس بواجب ولا ممتنع، وقد علم بالاضطرار أن المحدث لابد له من محدث، والممكن لابد له من موجد، كما قال تعالى: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ} فإن لم يكونوا خلقوا من غير خالق ولا هم الخالقون لأنفسهم تعين أن لهم خالقا خلقهم. ش: الظاهر أن في الكلام محذوفا وتقديره هو كما يَأتِي: وهذه الطوائف تنفي الصفات نفياً يستلزم نفي الذات، لأن حقيقة تعطيل ذات الله تعالى عن الوجود وهذا ممتنع، ووجه امتناعه أنه قد علم

بضرورة العقل أنه لابد من موجود قديم، فمن المعلوم بالمشاهدة والعقل وجود موجودات، ومن المعلوم أيضا أن منها ما هو حادث بعد أن لم يكن، كما نعلم نحن أننا حادثون بعد عدمنا وأن السحاب حادث، والمطر والنبات حادث، والدواب حادثة، وأمثال ذلك من الآيات التي نبه الله تعالى عليها بقوله: {أن فِي خَلْقِ السَّمَاواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أنزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيات لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} وهذه الحوادث المشهودة يمتنع أن تكون واجبة الوجود بذاتها: فإن ما وجب وجوده بنفسه امتنع عدمه ووجب قدمه، وهذه كانت معدومة فوجدت، فدل وجودها بعد عدمها على أنه يمكن وجودها ويمكن عدمها، فعلم بالضرورة اشتمال الوجود على موجود محدث ممكن فنقول حينئذ: الموجود المحدث الممكن لابد له من موجود قديم بنفسه فإنه يمتنع وجود المحدث بنفسه، كما يمتنع أن يخلق الإنسان نفسه، وهذا من أظهر المعارف الضرورية: فإن الإنسان بعد حدوثه ووجوده لا يقدر أن يزيل في ذاته عضواً ولا قدراً ولا يجعل رأسه أكبر مما هو ولا أصغر: وكذلك أبواه لا يقدران على شيء من ذلك وهذه قضية ضرورية معلومة بالفطرة حتى للصبيان. فإن الصبي لو ضربه ضارب وهو غافل لا يبصره لقال: من ضربني؟ فلو قيل له لم يضربك أحد لم يقبل عقله أن تكون الضربة حدثت من غير محدث! بل يعلم أنه لابد للحادث من محدث. فإذا قيل فلان ضربك بكى حتى يضرب ضاربه، فكان في فطرته الإقرار بالصانع وبالشرع الذي مبناه على العدل ولهذا قال تعالى: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ} وفي الصحيحين عن جبير بن مطعم أنه لما قدم في أساري بدر قال: وجدت النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في المغرب بالطور قال: فلما سمعت هذه الآية {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ} أحست بفؤادي قد انصدع، وذلك أن هذا تقسيم حاصر

ذكره الله بصيغة استفهام الإنكار ليبين أن هذه المقدمات معلومة بالضرورة لا يمكن جحدها. يقول "أم خلقوا من غير شيء" أي من غير خالق خلقهم أم هم خلقوا أنفسهم؟ وهم يعلمون أن كلا الأمرين باطل، فتعين أن لهم خالقاً خلقهم سبحانه وتعالى وقوله: "ليس بواجب ولا ممتنع " معناه أن عدم المحدث قبل وجوده ينفي كونه واجب الوجود، ووجوده بعد عدمه ينفي كونه ممتنع الوجود، والمعدن بكسر الدال هو المكان الذي عدن به الجوهر ونحوه. سمي به لعدون ما أنبته الله في أي إقامته به ثم سمي به الجوهر ونحوه فهو إذا كل متولد في الأرض لا من جنسها. قوله: وإذا كان من المعلوم بالضرورة أن في الوجود ما هو قديم واجب بنفسه وما هو محدث ممكن، يقبل الوجود والعدم: فمعلوم أن هذا موجود، وهذا موجود، ولا يلزم من اتفاقهما في مسمى الوجود أن يكون وجود هذا مثل وجود هذا، بل وجود هذا يخصه ووجود هذا يخصه، واتفاقهما في اسم عام. لا يقتضي تماثلهما في مسمى ذلك الاسم عند الإضافة والتخصيص والتقييد ولا في غيره، فلا يقول عاقل إذا قيل أن العرش شيء موجود، وأن البعوض شيء موجود. أن هذا مثل هذا، لاتفاقهما في مسمى الشيء والوجود، لأنه ليس في الخارج شيء موجود غيرهما يشتركان فيه، بل الذهن يأخذ معنى مشتركاً كليا- هو مسمى الاسم المطلق وإذا قيل هذا موجود وهذا موجود: فوجود كل منهما يخصه لا يشركه فيه غيره مع أن الاسم حقيقة في كل منهما. ش: يقول الشيخ قد علم ضرورة أن الكون فيه قديم واجب الوجود هو الله سبحانه. ومحدث ممكن يقبل الوجود والعدم هو المخلوق. فكل منهما موجود ولكن لا يقول أحد أن وجود القديم الواجب

بنفسه مثل المحدث الممكن: بل وجود كل منهما خاص به وان كانا يتفقان في المعنى العام للوجود، ثم ضرب المؤلف مثلا للتفاوت بين وجود بعض المخلوقات ووجود البعض الآخر: كالعرش والبعوض فإذا كان وجود بعض الموجودات لا يماثل وجود بعضها فكيف بوجود الخالق للكون بأسره. ووجود المخلوق الحادث بعد أن لم يكن ويطرأ عليه العدم بعد وجوده. وقوله: "واتفاقهما في اسم عام" الخ: معناه أن الخالق سبحانه يسمى عليما والمخلوق يسمى عليما، وكون الخالق متصفا بالعلم، والغضب، والمحبة، ونحو ذلك والمخلوق متصفا بذلك لا يوجب هذا التوافق تماثلا في مدلول العليم ومدلول الغضب والمحبة لا حين يضاف الاسم أو الصفة إلى الخالق ويصبح الاسم والصفة مقيدين بمن نسبا إليه ومختصين به ولا في حالة كون المعنى مشتركا بينهما: فالضمير في قوله: "ولا في غيره" راجع إلى التقييد والتخصيص وغيره هو الإطلاق: فالمعنى التوافق في الاتصاف بالصفة والتسمي بالاسم لا يوجب تماثلا في حالة التخصيص والتقييد والإطلاق وقوله: "لأنه ليس في الخارج شيء موجود غيرها يشتركان فيه" المراد أن المسميين يشتركان في المعنى العام الكلي، وهذا لا وجود له إلا في الذهن أما أن هناك شيئا متجسدا يشاهد عيانا تشترك فيه المسميات فلا، بل هذا مخالف للحس والعقل والشرع: وضمير التثنية راجع إلى العرش والبعوض: وقوله "بل الذهن يخذ معنى مشتركا كليا" الخ. معناه أن العقل يدرك أن المعنى العام مشترك بين المسميات لكل منها نصيب منه إلا أن ما يخص بعضها من هذا المعنى العام يخالف ما يخص بعضها الآخر فلكل منها ما أضيف إليه . وإذا لم يلزم مثل ذلك في العرش والبعوض فماذا قيل في الخالق العظيم أنه موجود لا معدوم حي لا يموت لا تأخذه سنة ولا نوم فمن أين

يلزم أن يكون مماثلا لكل موجود وحي وقائم؟ وما ينفى عنه العدم والموت والنوم: كأهل الجنة الذين لا ينامون ولا يموتون وذلك أن هذه الأسماء العامة المتواطئة التي تسميها النحاة أسماء الأجناس كالوجود والحياة. سواء اتفقت معانيها في محالها وهو التواطؤ العام أو تفاضلت وهو التواطؤ المسمى بالمشكك تستعمل مطلقة عامة، كما إذا قيل الموجود ينقسم إلى واجب وممكن، وقديم ومحدث، والعلم ينقسم إلى قديم ومحدث، وتستعمل مضافة مختصة كما إذا قيل وجود زيد وعمرو وذات زيد وعمرو، فإذا استعملت خاصة معينة دلت على ما يختص به المسمى لم تدل على ما يشركه فيه غيره: فإنما يختص به المسمى لا شركة فيه بينه وبين غيره، فإذا قيل علم زيد ونزول زيد، واستواء زيد، ونحو ذلك لم يدل هنا إلا على ما يختص به زيد. من علم ونزول واستواء _ ونحو ذلك لم تدل على ما يشركه فيه غيره، فإذا كان هذا في صفات المخلوق فذلك في الخالق، أولى: فإذا قيل علم الله، وكلام الله ونزوله واستواؤه، ووجوده وحياته، ونحو ذلك لم يدل ذلك على ما يشركه فيه أحد من المخلوقين بطريق الأولى، ولم يدل ذلك على مماثلة الغير له في ذلك، فالله لا مثل ولا كفؤ له ولا ند فلا يجوز أن نفهم من ذلك أن علمه مثل علم غيره. ولا كلامه مثل كلام غيره، ولا حياته مثل حياة غيره.

الصفات لها ثلاث اعتبارات

الصفات لها ثلاث اعتبارات ... قوله: ولهذا سمى الله نفسه بأسماء، وسمى صفاته بأسماء، وكانت تلك الأسماء مختصة به إذا أضيفت إليه لا يشركه فيها غيره" وسمى بعض مخلوقاته بأسماء مختصة بهم، مضافة إليهم، توافق تلك الأسماء إذا قطعت عن الإضافة والتخصيص، ولم يلزم من اتفاق الاسمين، وتماثل مسماهما واتحاده عند الإطلاق والتجريد عن الإضافة والتخصيص، اتفاقهم، ولا تماثل المسمى عند الإضافة والتخصيص، فضلا عن أن يتحد مسماها عند الإضافة والتخصيص.

ش: يعني أن الله سمى نفسه بأسماء ووصف نفسه بصفات، كما سمى بعض خلقه بأسماء ووصفهم بصفات، وتلك الأسماء والصفات لكل من الخالق والمخلوق تتفق عند الإطلاق وتختلف عند الإضافة والتخصيص، وأصل هذا أن ما يوصف الله به، ويوصف به العباد يوصف الله به على ما يليق به ويوصف به العباد على ما يليق بهم، وذلك مثل الحياة والعلم، والقدرة، والسمع " والبصر، والكلام، فإن الله له حياة، وعلم، وقدرة، وسمع، وبصر وكلام، فكلامه مشتمل على حروف وهو يتكلم بصوت نفسه، والعبد له حياة وعلم وقدرة وسمع وبصر وكلام، وكلام العبد مشتمل على حروف وهو يتكلم بصوت نفسه، فالصفات لها ثلاثة اعتبارات، تارة تعتبر مضافة إلى الرب، وتارة تعتبر مضافة إلى العبد، وتارة تعتبر مطلقة، لا تختص بالرب، ولا بالعبد، فإذا قال العبد حياة الله، وقدرة الله، وكلام الله، ونحو ذلك فهذا كله غير مخلوق ولا يماثل صفات المخلوقين وإذا قال علم العبد وقدرة العبد وكلام العبد فهذا كله مخلوق ولا يماثل صفات الرب، وإذا قال: العلم والقدرة والكلام فهذا مجمل مطلق لا يقال عليه كله أنه مخلوق ولا أنه غير مخلوق، بل ما اتصف به الرب من ذلك فهو غير مخلوق وما اتصف به العبد من ذلك فهو مخلوق: فالصفة تتبع الموصوف، فإن كان الموصوف هو الخالق فصفاته غير مخلوقة، وإن كان الموصوف هو العبد المخلوق فصفاته مخلوقة، وقوله: " ولم يلزم من اتفاق الاسمين وتماثل مسماها" الخ: يعني فلا يلزم من اتفاق المسميين في المعنى العام تماثل مسماهما ولا اتحاده عند التجريد عن الإضافة وهو الإطلاق كما أنه لا يلزم تماثل مسماها في حالة الإضافة والاختصاص فضلا عن اتحاد مسماها في هذه الحالة. فذلك منفي بطريق الأولى فلا تماثل في الحالتين بين المسميين وبطريق الأولى لا اتحاد بينهما: وإنما يحصل اشتراك بينهما في المعنى العام عند الإطلاق، وعبارة المؤلف هنا موهمة أنه يحصل تماثل واتحاد بين المسميين في حالة الإطلاق وهذا غير مراد المؤلف، فإن

قوله فيما سبق "باتفاق المسممين في اسم عام لا يوجب تماثلهما عند الإضافة والتخصيص والتقييد ولا في غيره " صريح في نفي هذا فكلامه السابق واللاحق يقرر نفي المماثلة بين المسلمين وإن حصل بينهما اشتراك في الاسم والمعنى العامين.

سمى الله نفسه بأسماء، وسمى بعض عباده باسماء

سمى الله نفسه بأسماء، وسمى بعض عباده باسماء ... قوله: فقد سمى الله نفسه حيا فقال: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} وسمى بعض عباده حياً! فقال: {يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ} وليس هذا الحي مثل هذا الحي، لأن قوله الحي اسم لله مختص به، وقوله {يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ} اسم للحي المخلوق مختص به، وإنما يتفقان إذا أطلقا وجردا عن التخصيص ولكن ليس للمطلق مسمى موجود في الخارج، ولكن العقل يفهم من المطلق قدراً مشتركا بين المسميين، وعند الاختصاص يقيد ذلك بما يتميز به الخالق عن المخلوق والمخلوق عن الخالق، ولابد من هذا في جميع أسماء الله وصفاته، يفهم منها ما دل عليه الاسم بالمواطأة والاتفاق، وما دل عليه بالإضافة والاختصاص: المانعة من مشاركة المخلوق للخالق في شيء من خصائصه- سبحانه وتعالى. وكذلك سمى الله نفسه عليما، حليما، وسمى بعض عباده عليما فقال: {وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ} يعني إسحق، وسمى آخر حليما، فقال: {فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ} يعني إسماعيل وليس العليم كالعليم، ولا الحليم كالحليم، وسمى نفسه سميعاً بصيراً فقال: {إن اللَّهَ يأمُرُكُمْ أن تُؤَدُّوا الْأماناتِ إِلَى أهلهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أن تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ أن اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ أن اللَّهَ كان سَمِيعاً بَصِيراً} . وسمى بعض عباده سميعاً بصيرا فقال: {إنا خَلَقْنَا الإنسان مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً} وليس السميع كالسميع ولا البصير كالبصير. وسمى نفسه بالرؤوف الرحيم فقال: {إن اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَحِيمٌ} . وسمى بعض عباده بالرؤوف

الرحيم فقال: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} وليس الرؤوف كالرؤوف، ولا الرحيم كالرحيم، وسمى نفسه بالملك فقال: {الملك القدوس} وسمى بعض عباده بالملك فقال: {وَكان وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يأخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً} {وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ} وليس الملك كالملك. وسمى نفسه بالمؤمن المهيمن، وسمى بعض عباده بالمؤمن فقال: {أَفَمَنْ كان مُؤْمِناً كَمَنْ كان فَاسِقاً لا يَسْتَوُونَ} وليس المؤمن كالمؤمن. وسمى نفسه بالعزيز فقال: {الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ} وسمى بعض عباده بالعزيز، فقال: {قَالَتِ امْرَأَتُ الْعَزِيز} وليس العزيز كالعزيز. وسمى نفسه الجبار المتكبر وسمى بعض خلقه بالجبار المتكبر فقال: {كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ} وليس الجبار كالجبار، ولا المتكبر كالمتكبر ونظائر هذا متعددة. ش: هذا تمثيل للقاعدة السابقة وهي أن الله سمى نفسه باسم الحي كما في قوله: {الْحَيُّ الْقَيُّومُ} والمخلوق يسمى باسم الحي كما في قوله {يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ} ولكن لكل منهما ما أضيف إليه من اسم الحي المتضمن صفة الحياة لا يشركه الآخر فيه. فالآية الأولى أضيف الاسم فيها إلى الله فلا يشركه مخلوق في ذلك. والآية الثانية أضيف فيها الاسم إلى المخلوق، فلا يشركه الخالق في مدلوله الخاص وحينئذ فالخالق والمخلوق لا يتفقان إلا في الاسم والمعنى المطلق "كالحي ضد الميت " فكل من الخالق والمخلوق يسمى بحي ضد ميت، وفي هذا يكون الاشتراك فقط: وأما الحياة المضافة إلى الله فهي خاصة به حيث أنها كاملة ولم يبقها عدم ولن يطرأ عليها فناء، وحياة المخلوق تخصه فهي ناقصة حيث وهبت له بعد أن كان عدماً، ثم إنه يصير إلى الفناء والزوال وهذا معنى قول المؤلف، وليس الحي كالحي.

وقوله: وكذلك سمى الله نفسه عليما حليما وسمى بعض عباده عليما فقال: {وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ} إلى قوله: ونظائر هذا متعددة: المراد أنه يقال في هذه الأسماء التي سمى الله بها نفسه وسمى بها بعض عباده كالعليم، والحليم، والرؤوف والرحيم، الخ. يقال في هذا مثل ما قيل في تسمية الله حياً وتسمية المخلوق بذلك فيقال: وليس الحليم كالحليم، ولا العليم كالعليم، ولا الرؤوف كالرؤوف، ولا العزيز كالعزيز، ولا الجبار كالجبار، ولا السميع كالسميع، ولا البصير كالبصير لأن ما أضيف إلى الله اسم له سبحانه، مختص به، وما أضيف إلى المخلوق اسم له مختص به، وإنما يشتركان في المعنى العام في حالة التجرد عن الإضافة وقوله:" ولكن ليس للمطلق مسمى موجود في الخارج ولكن العقل يفهم من المطلق قدرا ًمشتركا بين المسميين" يعني أن المعنى العام الذي يحصل فيه الاشتراك لا وجود له خارج عن الذهن بحيث يكون متشخصا في عين من الأعيان، ولكن العقل يفهم من المطلق قدراً مشتركا بين المسميين. وقوله:" وعند الاختصاص يقيد ذلك بما يتميز به الخالق عن المخلوق والمخلوق عن الخالق" يعني عندما تضاف الصفة إلى واحد منهما يقيد ذلك يعني المعنى العام المطلق بما يتميز به الخالق من المخلوق، أو المخلوق من الخالق- فصفة الله كاملة لا نقص فيها بوجه من الوجوه، وصفة المخلوق ناقصة وهذا هو المميز بينهما، وقوله: "ولابد من هذا في جميع أسماء الله وصفاته" يعني أن الباب في هذا باب واحد فبين أسماء الله وأسماء المخلوقات تواطؤ وتوافق في اللفظ والمعنى العام المطلق فعند القطع عن الإضافة والتخصيص يحصل التوافق بينهما، وحينما يحصل التخصيص يمتاز كل منهما بما يناسبه ويليق به، وكذلك خصائص الله التي لا يتصف بها سواه، فإنه لا اشتراك في شيء من ذلك بين الخالق والمخلوق، وكذلك خصائص المخلوق التي لا يتصف بها إلا مخلوق، هذا أيضا لا شركة فيه بين الخالق والمخلوق، وسيَأتِي لذلك أمثلة في مواضعها إنشاء الله تعالى، ومعنى

"أمشاج" أخلاط من عناصر مختلفة. ومعنى "نبتليه" نختبره بالتكاليف، و"الرأفة" معناها شدة الرحمة و"إسحاق وإسماعيل" هما ابنا إبراهيم الخليل عليهم وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام ". قوله: وكذلك سمى صفاته بأسماء وسمى صفات عباده بنظير ذلك فقال: {وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ} {أنزله بعلمه} وقال: {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} وقال: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً} وسمى صفة المخلوق علما وقوة فقال: {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً} وقال: {وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ} وقال: {فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ} وقال: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً} وقال: {وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ} وقال: {وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ} أي قوة وقال: {وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُدَ ذَا الْأَيْدِ} أي ذا القوة. وليس العلم كالعلم ولا القوة كالقوة. ش: معناه أن الله تعالى وصف صفاته بأوصاف؟ وكذلك وصف صفات المخلوقين، بصفات، فوصف علمه بالشمول والإحاطة {وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ} والسعة والعموم {أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ} ووصف علم المخلوق بالقلة {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً} وعدم السعة {فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ} كما وصف سبحانه قوته بالشدة {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً} ووصف قوة المخلوق بالضعف {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً} فالمعنى أن كون صفة الباري موصوفة بصفة، وصفة المخلوق موصوفة بصفة لا يوجب ذلك تماثلا: بل لكل منهما ما يناسبه! فلا تماثل بين الصفتين كما أنه لا تماثل بين الموصوفين. كما أن أوصاف الله وأوصاف

المخلوق تتفق في الاسم دون أن يقتضي ذلك تماثل. قوله: ووصف نفسه بالمشيئة، ووصف عبده بالمشيئة، فقال: {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أن يَسْتَقِيمَ} {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أن يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} وقال: {إن هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً} {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أن يَشَاءَ اللَّهُ إن اللَّهَ كان عَلِيماً حَكِيماً} وكذلك وصف نفسه بالإرادة وعبده بالإرادة فقال: {تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} . ووصف نفسه بالمحبة ووصف نعبده بالمحبة فقال: {فَسَوْفَ يَأتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} وقال: {قُلْ إن كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} ووصف نفسه بالرضا ووصف عبده بالرضا فقال: {رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} ومعلوم أن مشيئة الله ليست مثل مشيئة العبد، ولا إرادته مثل إرادته، ولا محبته مثل محبته، ولا رضاه مثل رضاه، وكذلك وصف نفسه أنه يمقت الكفار، ووصفهم بالمقت فقال: {إن الَّذِينَ كَفَرُوا يُنَادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أنفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الإيمان فَتَكْفُرُونَ} وليس المقت مثل المقت وهكذا وصف نفسه بالمكر والكيد، كما وصف عبده بذلك، فقال: {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ} وقال: {أنهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً وَأَكِيدُ كَيْداً} وليس المكر كالمكر، ولا الكيد كالكيد، ووصف نفسه بالعمل فقال: {أولَمْ يَرَوْا أنا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أيدِينَا أنعَاما فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ} ووصف عبده بالعمل فقال: {جَزَاءً بِمَا كانوا يَعْمَلُونَ} وليس العمل كالعمل، ووصف نفسه بالمناداة والمناجاة فقال: {وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانبِ الطُّورِ الْأيمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيا} وقال: {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ} وقال: {وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا} ووصف عباده بالمناداة والمناجاة فقال: {إن الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ} وقال: {إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ} وقال: {إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلا تَتَنَاجَوْا بِالْإثْمِ وَالْعُدْوَان} وليس المناداة والمناجاة كالمناداة والمناجاة. ووصف نفسه بالتكليم في قوله تعالى:

{وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً} وقوله: {وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ} وقوله: {تِلكَ الرُسلُ فَضَّلنَا بَعضَهُم عَلَى بَعضٍ مِنهُم مَن كَلَّمَ اللََّهُ} ووصف عبده بالتكليم في قوله {وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إنكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ} وليس التكليم كالتكليم. ووصف نفسه بالتنبئة، ووصف بعض الخلق بالتنبئة فقال: {وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثاً فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أنبَأَكَ هَذَا قَالَ نَبَّأنيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ} وليس الإنباء كالإنباء. ووصف نفسه بالتعليم، ووصف عبده بالتعليم فقال: {الرَّحْمَنُ عَلَّمَ القرآن خَلَقَ الإنسان عَلَّمَهُ الْبيان} وقال: {تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ} وقال: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} وليس التعليم كالتعليم، وهكذا وصف نفسه بالغضب، فقال: {وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ} ووصف عبده بالغضب في قوله: {َلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَان أَسِفاً} وليس الغضب كالغضب، ووصف نفسه بأنه استوى على عرشه، فذكر ذلك في سبع مواضع من كتابه {اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} ووصف بعض خلقه بالاستواء على غيره في مثل قوله: {لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ} وقوله {فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ} وقوله: {وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ} وليس الاستواء كالاستواء. ووصف نفسه ببسط اليدين فقال: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أيدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتان يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاء} ووصف بعض خلقه ببسط اليد في قوله: {وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ} وليست اليد كاليد، ولا البسط كالبسط، وإذا كان المراد بالبسط الإعطاء والجود فليس إعطاء الله كإعطاء خلقه، ولا جوده كجودهم ونظائر هذا كثيرة.

ش: قوله "ووصف نفسه بالمشيئة ووصف عبده بالمشيئة" إلى قوله "ومعلوم أن مشيئة الله ليست مثل مشيئة العبد ولا إرادته مثل إرادته ولا محبته مثل محبته ولا رضاه مثل رضاه" هذا شروع في التمثيل لكون الله سبحانه وصف نفسه بصفات ووصف عباده بصفات، وقوله: "ومعلوم......الخ" لف ونشر مرتب، فبعد أن ذكر الآيات الدالة على صفة المشيئة والإرادة والمحبة والرضا قال: ومعلوم أن صفة الله المضافة إليه ليست مثل الصفة المضافة إلى العبد بل لكل منهما ما يناسبه. والإرادة لفظ فيه إجمال فيراد بها الإرادة الكونية الشاملة لجميع الحوادث كقول المسلمين "ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن" وكقول الله تعالى: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ} وقول نوح عليه السلام {وَلا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إن أَرَدْتُ أن أنصَحَ لَكُمْ إن كان اللَّهُ يُرِيدُ أن يُغْوِيَكُمْ} ولا ريب أن الله قد يأمر العباد بما لا يريده بهذا التفسير فإن الإرادة الكونية ليست مستلزمة للأمر، قال تعالى: {وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا} فدل على أنه لم يؤت كل نفس هداها مع أنه قد أمر كل نفس بهداها، وكما اتفق العلماء على أن من حلف بالله ليقضين دين غريمه غداً إنشاء الله وليردن وديعته أو غصبه أو ليصلين الظهر أو العصر إن شاء الله، أو ليصومن رمضان إن شاء الله، ونحو ذلك مما أمره الله به، فإنه إذا لم يفعل المحلوف عليه لا يحنث مع أن الله أمره به لقوله إن شاء الله فعلم أن الله لم يشأه مع أمره به. ويراد بها الإرادة الدينية وهي التي بمعنى المحبة والرضا: وهي ملازمة للأمر كقوله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ} ومنه قول المسلمين: هذا يفعل شيئا لا يريده الله، إذا كان يفعل بعض الفواحش، أي أنه لا يحبه ولا يرضاه بل ينهى عنه ويكرهه. وقوله: وكذلك وصف نفسه بأنه يمقت الكفار ووصفهم بالمقت"

إلى قوله "ونظائر هذا كثيرة". يعني وهذه الآيات أيضا استشهد بها المؤلف على كون الله تعالى وصف نفسه بصفات ووصف عبده بصفات، والمكر فعل شيء يراد به ضده، والكيد الاستدراج كما في الآية الكريمة {سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ} قال ابن القيم رحمه الله تعالى:" إن الله سبحانه وتعالى يكيدهم كما يكيدون دينه ورسوله وعباده" وكيده سبحانه استدراجهم من حيث لا يعلمون، والإملاء لهم حتى يأخذهم على غرة فإذا فعل ذلك أعداء الله بأوليائه ودينه كان كيد الله لهم حسنا لا قبح فيه، فيعطيهم ويعاقبهم ويستدرجهم من حيث لا يعلمون" ومكره سبحانه بأهل المكر، مقابلة لهم بفعلهم عمل ممدوح لا ذم فيه وجزاء لهم من جنس عملهم، قال تعالى: {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} وهذه التفاسير المتقدمة للمكر والكيد ليست من باب التأويل الذي ينكره أهل السنة والجماعة، بل من باب التفسير فإن جميع الصحابة والتابعين يصفون الله سبحانه وتعالى بأنه شديد القوة، وكذلك شديد المكر، وشديد الأخذ، كما وصف نفسه بذلك في غير آية من كتابه كقوله: {إن أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيد} وقوله: {وَإن رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ} فيعرفون معانيها ولكن لا يكيفونها ولا يشبهونها بصفات المخلوقين. وهذا مجمع عليه بين أهل السنة، وقوله في سبع مواضع، يعني كما في سورة الأعراف {إن رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أيامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} وفي سورة يونس {أن رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أيامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} وفي سورة الرعد {اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} وفي سورة طه {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} وفي سورة الفرقان {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ} وفي سورة السجدة {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاواتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أيامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} وفي سورة الحديد {هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أيامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} .

ومعنى "يزكيهم" يطهرهم من الشرك والمعاصي "طبع" ختم "أسفاً" حزينا أو شديد الغضب "الجودي" جبل بالموصل "مغلولة" مقبوضة عن العطاء "استوى" استقر وارتفع "وإذ أسر النبي إلى بعض أزواجه حديثا" هي حفصة، والحديث هو تحريم مارية، أو العسل، أو تحريم التي وهبت نفسها له، "ونبأت به" أي أخبرت به غيرها "وأظهره الله عليه" أي أطلع الله نبيه على ذلك الواقع منها من الإخبار لغيرها "أستخلصه لنفسي" أجعله خالصا لي دون شريك. وقول المؤلف"وليس اليد كاليد، ولا البسط كالبسط، وإذا كان المراد بالبسط الإعطاء والجود فليس إعطاء الله كإعطاء خلقه، ولا جوده كجودهم" يعني كما أن اليد الحقيقية لله ليست كاليد الحقيقية للمخلوق، فكذلك صفة اليد-وهي البسط- ليست متماثلة بل لكل منهما يده التي تناسبه، وبسط يده اللائق به، وقد أشار المؤلف إلى أن للبسط معنيين، أحدهما أنه كناية عن كثرة الجود والعطاء وعدم البخل قال ابن عباس في معنى قوله {وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ} أنهم لا يعنون بذلك أن يد الله موثقة، ولكن يقولون بخيل يعني أمسك ما عنده بخلا، والثاني أن معنى كون اليدين مبسوطتين أنهما غير مغلولتين ولا مقبوضتين، بل مطلقتين وعلى كل حال فليست يد الله مثل يد خلقه ولا بسطه كبسطهم، بل للمخلوق ما يناسبه، وللخالق ما يناسبه، "ليس كمثله شيء ولم يكن له كفوا أحد"

تفسير بسط اليدين

تفسير بسط اليدين ... قوله: فلا بد من إثبات ما أثبته الله لنفسه، ونفي مماثلته بخلقه فمن قال ليس لله علم، ولا قوة ولا رحمة ولا كلام، ولا يحب ولا يرضى، ولا نادى، ولا ناجى، ولا استوى كان معطلا جاحدا، ممثلا لله بالمعدومات والجمادات، ومن قال له علم كعلمي، أو قوة كقوتي، أو حب كحبي، أو

رضاء كرضائي، أو يدان كيداي، أو استواء كاستوائي كان مشبها ممثلا لله بالحيوانات، بل لابد من إثبات بلا تمثيل، وتنزيه بلا تعطيل. ويتبين هذا "بأصلين" شريفين و"مثلين" مضروبين- ولله المثل الأعلى- "وبخاتمة جامعة". ش: بعد أن بين المؤلف أن الله تعالى مسمى بأسماء وموصوف بصفات، والمخلوق مسمى بأسماء وموصوف بصفات، ولم يوجب ذلك أن تكون الأسماء مثل الأسماء أو الصفات مثل الصفات، بل لكل منهما ما يليق به، وبعد أن استشهد المؤلف على ذلك بالآيات الصريحة في الدلالة على إثبات أسماء الله وصفاته ونفي مماثلته لمخلوقاته قال رحمه الله: "فلابد من إثبات ما أثبته الله لنفسه ونفي مماثلته لخلقه" وهذا هو مذهب سلف الأمة وأئمة السنة، ومن تبعهم بإحسان فهم معتدلون في باب –توحيد الله- يصفونه سبحانه بما وصف به نفسه وبما وصفه به رسوله، أعرف الناس بربه صلى الله عليه وسلم من غير تعطيل فلا ينفي عنه ما وصف به نفسه أو وصفه به رسوله ولا تشبيه فلا يقال له سمع كأسماعنا ولا بصر كأبصارنا، ونحو ذلك كما قال تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} وقوله "بلا تعطيل" أي خلافا للذين نفوا حقائق أسماء الله وصفاته وعطلوه منها، من الجهمية والمعتزلة والأشاعرة وأشباههم وقوله "بلا تمثيل" يعني خلافا للمشبهة الذين شبهوا الله بخلقه ومثلوه بهم – كغلاة الشيعة ونحوهم – تعالى الله عن قولهم علواً كبيراً فإنه سبحانه لا شبيه له ولا مثل، فالمعطلة غلوا في النفي حتى شبهوه بالمعدومات والناقصات، والمشبهة غلوا في الاثبات حتى مثلوه بالمخلوقات، وأهل السنة والجماعة أثبتوا لله الأسماء والصفات، ونفوا عنه مشابهة المخلوقات، والإشارة في قوله: وهذا يتبين راجعة إلى" بيان أن الله تعالى متصف ومسمى بما له من الأسماء والصفات، وأنه سبحانه منزه عن مماثلة المخلوقات خلافاً لمن نفى فعطل، أو أثبت فشبه ومثل، فهذه المقدمة وما ذكر فيها يوضحه ويقرره ما سيَأتِي في الأصلين الجليلين، والمثلين

الواضحين – ولله المثل الأكمل – ويتضح ذلك أيضا بالخاتمة الجامعة التي ذكر المؤلف فيها سبع قواعد جليلة، وباختتامه للقواعد السبع ينتهي الكلام في "باب الأسماء والصفات" حيث يبتدئ كلامه في الأصل الثاني وهو توحيد "الشرع والقدر"

مناظرة مع الأشعري

مناظرة مع الأشعري ... قوله: "فصل" فأما الأصلان فأحدهما أن يقال "القول في بعض الصفات كالقول في بعض" فإن كان المخاطب ممن يقول: بأن الله حي بحياة، عليم بعلم، قدير بقدرة، سميع بسمع، بصير بصر، متكلم بكلام، مريد بإرادة، ويجعل ذلك كله حقيقة وينازع في محبته ورضاه وغضبه وكراهته، فيجعل ذلك مجازاً، ويفسره إما بالإرادة، وإما ببعض المخلوقات، من النعم والعقوبات فيقال له لا فرق بين ما نفيته، وبين ما أثبته، بل القول في أحدهما كالقول في الآخر، فإن قلت إن إرادته مثل إرادة المخلوقين، فكذلك محبته ورضاه وغضبه، وهذا هو التمثيل وإن قلت إن له إرادة تليق به، كما أن للمخلوق إرادة تليق به، وقيل لك وكذلك له محبة تليق به، وللمخلوق محبة تليق به، وله رضا وغضب يليق به، وللمخلوق رضا وغضب يليق به، وإن قلت: الغضب غليان دم القلب لطلب الانتقام، فيقال لك: والإرادة ميل النفس إلى جلب منفعة، أو دفع مضرة، فإن قلت هذه إرادة المخلوق قيل لك وهذا غضب المخلوق. وكذلك يلزم القول في كلامه وسمعه وبصره وعلمه وقدرته: إن نفي عنه الغضب، والمحبة والرضا، ونحو ذلك مما هو من خصائص المخلوقين، فهذا منتف عن السمع والبصر، والكلام وجميع الصفات، وإن قال: إنه لا حقيقة لهذا إلا ما يختص بالمخلوقين، فيجب نفيه عنه قيل له وهكذا السمع، والبصر، والكلام وجميع الصفات، وإن قال أنه لا حقيقة لهذا إلا ما يختص بالمخلوقين فيجب نفيه عنه قيل له وهكذا السمع، والبصر، والكلام، والعلم، والقدرة. ش: هذا شروع تفصيلي ما أجمله المؤلف في المقدمة. وقوله

"أحدهما" أن يقال القول في بعض الصفات كالقول في البعض الآخر" يعني أول الأصلين الشريفين المتضمنين إيضاح القاعدة الماضية هو أن الكلام –في باب الصفات واحد- ومن يحاول إثبات البعض ونفي الآخر يقع في التناقض والاضطراب لا محالة وقوله: فإن كان المخاطب ممن يقول"بأن الله حي" الخ: يعني إذا كان البحث والمناقشة مع المنتسب للأشعري فإنه هو الذي يثبت هذه الصفات السبع، وينازع في بقية الصفات، ويجعل نسبتها إلى الله على سبيل المجاز ويسلك في ذلك أحد طريقين، إما تأويل الصفة بصفة أخرى-كتفسيره المحبة بالإرادة- وإما تفسير الصفة ببعض المخلوقات من النعم والعقوبات، مثل تفسيره اليد بالنعمة، وتفسير الغضب بالعقوبة، فإنه يقال له حينئذ لا فرق بين الصفة التي تثبتها والصفة التي تنفيها من حيث لزوم المحذور وعدم لزومه، فدلالة النصوص على أن له محبة ورحمة، وغضبا ورضا، وفرحاً وضحكاً، ووجهاً ويدين، كدلالة النصوص على الصفات السبع-فلم نفيت حقيقة رحمته ومحبته ورضاه وغضبه وفرحه وضحكه وأولتها بصفة الإرادة؟ فإن قلت إن إثبات الإرادة لا يلزم منه تشبيه وتجسيم، وإثبات حقائق هذه الصفات يستلزم التشبيه والتجسيم، فإنها لا تعقل إلا في الأجسام، فإن الرحمة رقة تعتري طبيعة الحيوان، والمحبة ميل النفس لجلب ما ينفعها، والغضب غليان دم القلب لورود ما يرد عليه، قيل لك: وكذلك الإرادة هي ميل النفس إلى جلب ما ينفعها ودفع ما يضرها، وكذلك جميع ما أثبته من الصفات إنما هي أعراض قائمة بالأجسام في الشاهد فإن العلم انطباع صورة المعلوم في العالم أو صفة عرضية قائمة به وكذلك السمع والبصر والحياة أعراض قائمة بالموصوف، فكيف لزم التشبيه والتجسيم من إثبات تلك الصفات ولم يلزم من إثبات هذه، فإن قلت أنا أثبتها على وجه لا يماثل صفات المخلوقين، قيل لك: هكذا القول في سائر الصفات تثبت لله كما أثبتها لنفسه على وجه لا يماثل فيها صفات المخلوقين. فإن قلت: هذا لا يعقل

إلا من جنس ما يثبت للمخلوقين. قيل لك: فكيف عقلت سمعا وبصرا وحياة وإرادة ليست من جنس صفات المخلوقين؟. وقوله: "وكذلك يلزم القول في كلامه وسمعه، وبصره، وعلمه، وقدرته" الخ. المعنى لما مثل المؤلف – بالإرادة والغضب – وأن الأشعري إن أثبت الإرادة على ما يليق بالله لزمه ذلك في سائر الصفات، وإن مثلها بإرادة المخلوق صار مشبهاً، وأنه إذا فسر الغضب بما هو من خصائص المخلوق بينت له الإرادة التي هي من خصائص المخلوق فإذا قال: هذه إرادة المخلوق قيل له: والغضب الذي ذكرت هو غضب المخلوق. أقول: لما ذكر المؤلف هذا المثال الذي هو عبارة عن مناقشة يفحم فيها صاحب السنة خصمه من الأشعري قال: وهكذا يلزم الكلام في السمع والبصر، إذا نفى الأشعري المحبة والرضا والرحمة، وغير ذلك من الصفات، وفسر ذلك بما يناسب المخلوقين قيل له: وهذا المحذور أيضا يقال بالنسبة للسمع والبصر، ونحو ذلك من الصفات التي تثبت وإذا قال: لا حقيقة للمحبة والغضب، ونحو ذلك إلا من جنس ما قوله: فهذا المفرق بين بعض الصفات وبعض يقال له فيما نفاه كما يقوله هو للمنازعة فيما أثبته، فإذا قال المعتزلي: ليس له إرادة، ولا كلام قائم به، لأن هذه الصفات لا تقوم إلا بالمخلوقات فإنه يبين للمعتزلي أن هذه الصفات يتصف بها القديم، ولا تكون كصفات المحدثات، فهكذا يقول له المثبتون لسائر الصفات من المحبة والرضا ونحو ذلك. ش: يعني أنه يقال للأشعري مثلما يقول هو للمعتزلي حينما يقول له: إثبات الصفات السبع مستلزم للتشبيه. فإن الأشعري يبين ويوضح لخصمه المعتزلي قائلا: هذه الصفات يتصف بها الرب ولا يقتضي إثباتها له يختص بالمخلوقين قيل له ولا حقيقة للسمع والبصر إلا من جنس ما يثبت للمخلوقين، إذ الباب واحد.

تمثيلا بالمخلوقات، فإذا قال الأشعري هذا الجواب للمعتزلي قال له أهل السنة: جوابك على المعتزلي هو جوابنا عليك بالنسبة لسائر الصفات.

وجه الاستدلال على الصفات السبع بالعقل

وجه الاستدلال على الصفات السبع بالعقل ... قوله: فإن قال تلك الصفات أثبتها بالعقل، لأن الفعل الحادث دل على القدرة والتخصيص دل على الإرادة والأحكام دلت على العلم، وهذه الصفات مستلزمة للحياة، والحي لا يخلو عن السمع، والبصر، والكلام أو ضد ذلك. قال له سائر أهل الإثبات: لك جوابان، أحدهما أن يقال: عدم الدليل المعين لا يستلزم عدم المدلول المعين، فهب أن ما سلكت من الدليل العقلي لا يثبت ذلك، فإنه لا ينفيه والنافي لابد أن يَأتِي بدليل كالمثبت سواء بسواء، وليس لك أن تنفيه بغير دليل، لأن النافي عليه الدليل كما على المثبت، والسمع قد دل عليه، ولم يعارض ذلك معارض عقلي ولا سمعي، فيجب إثبات ما أثبته الدليل – السالم عن المعارض المقاوم – الثاني أن يقال: يمكن إثبات هذه الصفات بنظير ما اثبت به تلك من العقليات، فيقال: نفع العباد بالإحسان إليهم، يدل على الرحمة، كدلالة التخصيص على المشيئة، وإكرام الطائعين يدل على محبتهم، وعقاب الكافرين يدل على بغضهم، كما قد ثبت بالمشاهدة والخبر من إكرام أوليائه وعقاب أعدائه، والغايات المحمودة في مفعولاته ومأموراته – وهي ما تنتهي إليه مفعولاته ومأموراته من العواقب الحميدة – تدل على حكمته البالغة، كما يدل التخصيص على المشتبه، وأولى لقوة العلة الغائبة، ولهذا كان ما في القرآن من بيان ما في مخلوقاته من النعم والحكم أعظم مما في القرآن من بيان ما فيها من الدلالة على محض المشيئة. ش: يعني إذا قال إني أثبت الصفات السبع، لدلالة العقل عليها، وأما بقية الصفات فلا أثبتها لعدم دلالة العقل عليها أجيب

بجوابين: وفيما بين ذلك ذكر المؤلف وجه استدلال الأشعري على إثبات هذه الصفات بالعقل فقال: لأن الفعل الحادث دل على القدرة،" والتخصيص دل على المشيئة، والأحكام دلت على العلم" فإن الفعل المحكم، والخلق والرزق، وإنزال المطر، وإنبات النبات، وتخصيص بعض الناس بالاصطفاء أو الكرامات، وكون الأحكام في غاية السداد والملاءمة للأحوال، كل ذلك يدل على إثبات هذه الصفات لله، وهذه الصفات لا يتصف بها إلا من كان حيا، والحي لا يخلو عن أن يكون سميعا، بصيرا، متكلما، أو يكون أصم، أعمى، أبكم، والسمع، والبصر، والكلام،-أوصاف كمال- وضدها-أوصاف نقص-والله تعالى له الوصف الأكمل فهو متصف بها هذا وجه الاستدلال على الصفات السبع بالعقل – والجوابان هما أولا أن يقال لمن زعم عدم دلالة العقل على ماعدا الصفات السبع: افرض أن العقل لم يدل عليها؟ فإن عدم دلالته عليها ليس معناه أنها غير موجودة إذ قد دل عليها دليل آخر- هو السمع – والسمع دليل مستقل بنفسه، بل الطمأنينة إلى مجرد العقل، فما الذي يسوغ لك نفي مدلوله؟ وقوله: "والنافي عليه الدليل كما على المثبت" معناه أن النافي عليه إقامة الدليل على الانتفاء، كما أن المثبت للشيء عليه إقامة الدليل على إثباته، وثانيا يقال له: بقية الصفات ثابتة بالعقل، كما أن الصفات السبع ثابتة به، فالإنعام، والإحسان، وكشف الضر، وتفريج الكربات، دال على الرحمة، كدلالة التخصيص على الإرادة والتخصيص بالكرامة والاصطفاء والاختيار دال على المحبة، كدلالة ما ذكرت على الإرادة. والإهانة والطرد والإبعاد والحرمان دال على المقت والبغض كدلالة ضده على الرضا والحب، والعقوبة والبطش، والانتقام دال على الغضب، كدلالة ضده على الرضا. وإذا قدر اثنان أحدهما يحب نعوت الكمال ويفرح بها ويرضاها، والآخر لا فرق عنده بين صفات الكمال وصفات النقص، فلا يحب هذا ولا

هذا، ولا يرضى هذا ولا هذا، ولا يفرح بهذا ولا بهذا، كان الأول أكمل من الثاني، ومعلوم أن الله سبحانه وتعالى يحب المحسنين والمتقين والمقسطين، ويرضى عن الذين آمنوا وعملوا الصالحات، وهذه كلها صفات كمال، وكذلك إذا قدر اثنان أحدهما يبغض المتصف بضد الكمال كالظلم، والجهل، والكذب، ويغضب على من يفعل ذلك، والآخر لا فرق عنده بين الجاهل الكاذب والظالم، وبين العالم الصادق والعادل. كان الأول أكمل وأيضا فنحن نعلم بالاضطرار أنه إذا فرضنا موجودين أحدهما يرحم غيره فيجلب له المنفعة ويدفع عنه المضرة، والآخر قد استوى عنده هذا وهذا، فليس عنده ما يقتضي جلب منفعة ولا دفع مضرة – كان الأول أكمل – وقوله: "والغايات المحمودة في مفعولاته ومأموراته وهي ما تنتهي إليه مفعولاته ومأموراته من العواقب الحميدة تدل علة حكمته البالغة" الخ. الغايات المحمودة مبتدأ خبره – قوله تدل على حكمته البالغة – وما بين المبتدأ والخبر جملة معترضة مفسرة للغايات، فقول المؤلف: "وهي ما تنتهي إليه مفعولاته ومأموراته من العواقب الحميدة" توضيح لمعنى الغايات المحمودة. فالخلاصة أن العواقب الحميدة في أفعال الله وأوامره تدل على صفة الحكمة كدلالة التخصيص على الإرادة فالمشيئة بمعنى الإرادة الكونية وقوله: "لقوة العلة الغائية" معناه أن دلالة العواقب الحميدة في أفعال الله وأوامره على الحكمة أقوى من دلالة تخصيص بعض العباد دون بعض على صفة الإرادة ثم بين المؤلف وجه ذلك فقال: ولهذا كان ما في القرآن في بيان مخلوقاته من النعم، والحكم أعظم مما في القرآن من بيان ما فيها من الدلالة على محض المشيئة، المعنى ومن أجل أن دلالة العواقب الحميدة على الحكمة أقوى من دلالة التخصيص على المشيئة نجد أن الله سبحانه

ذكر في القرآن ما في مخلوقاته من النعم والحكم أكثر مما ذكر أنه شاءها وخلقها فمثلا قوله تعالى: {وَالْأنعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تأكُلُونَ وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأنفُسِ إن رَبَّكُمْ لَرَؤُوفٌ رَحِيمٌ وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لا تَعْلَمُونَ} وقال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتأكُلُوا مِنْهُ لَحْماً طَرِيا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أن تَمِيدَ بِكُمْ وَأنهَاراً وَسُبُلاً لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ وَعَلاماتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ} هذه الآيات التي يذكر الله فيها أنه أنعم على عباده بما خلق لهم، وبيانه للحكمة في خلقه الأشياء أكثر من ذكره أنه كون الأشياء وخلقها بمشيئته، كقوله تعالى: {إنما أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أن يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} ونحوها من الآيات فهذه الأدلة العقلية التي دلت على هذه الصفات السبع، فتبين أنه لابد للأشعرية من واحد من أمرين، إما النفي والتعطيل وإما أن يصفوا الله بما وصف به نفسه، وبما وصفه به رسوله، ويتبعوا في ذلك سبيل السلف الذين هم أعلم الأمة بهذا الشأن نفياً وإثباتاً وأشد تعظيماً لله وتنزيها له عما لا يليق بجلاله وكان الباب عندهم واحداً. واعلم أن إثبات الصفات السبع فقط خلاف قول السلف وخلاف قول الجهمية والمعتزلة فالناس كانوا طائفتين، سلفية، وجهمية فحدثت الطائفة السبعية واشتقت قولا بين قولين، فلا للسلف اتبعوا ولا مع الجهمية بقوا، والأشعري منسوب إلى أبي الحسن علي ابن إسماعيل ابن أبي بشر، اسحاق بن سلمان بن اسماعيل بن عبد الله بن موسى بن بلال بن أبي بردة عامر بن أبي موسى الأشعري، صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو صاحب الأصول، والقائم بنصرة مذهب أهل السنة وإليه تنسب الطائفة الأشعرية- ومولده سنة سبعين وقيل ستين ومأتين بالبصرة، وتوفي بعد نيف وثلاثين وثلاثمائة، وقيل سنة أربع وعشرين وثلاثمائة، والأشعري بفتح

الهمزة وسكون الشين المعجمة وفتح العين المهملة وبعدها راء نسبة إلى أشعر، واسمه نبت بن أدد بن زيد بن يشجب، وإنما قيل له أشعر لأن أمه ولدته والشعر على يديه، هكذا قال السمعاني. وكان أبو الحسن الأشعري أولا معتزليا، ثم تاب من القول بخلق القرآن في المسجد الجامع بالبصرة يوم الجمعة، رقى كرسيا ونادى بأعلى صوته من عرفني، فقد عرفني، ومن لم يعرفني فإنا أعرفه بنفسي، أنا فلان بن فلان: كنت أقول بخلق القرآن وأن الله لا تراه الأبصار وأنا تائب مقلع معتقد للرد على المعتزلة، مخرج لفضائحهم، ومعائبهم، وهو صاحب الكتب في الرد على الملاحدة وغيرهم من المعتزلة والرافضة والجهمية والخوارج وسائر أصناف المبتدعين والتي منها: الموجز والمقالات، والإبانة، وقد صرح في كتبه برجوعه عن مذهب نفاة الصفات، وأنه معتقد لمذهب السلف وهو إثبات الأسماء والصفات دون تفريق بين صفة وأخرى.

رجوع أبي الحسن الأشعري عن مذهبه

رجوع أبي الحسن الأشعري عن مذهبه ... قوله: وأن كان المخاطب ممن ينكر الصفات ويقر بالأسماء، كالمعتزلي الذي يقول: أنه حي عليم قدير، وينكر أن يتصف بالحياة والعلم والقدرة، قيل له لا فرق بين إثبات الأسماء، واثبات الصفات، فإنك إن قلت: إثبات الحياة والعلم والقدرة يقتضي تشبيها أو تجسيما، لأنا لا نجد في الشاهد متصفا بالصفات إلا ما هو جسم قيل لك ولا نجد في الشاهد ما هو مسمى حي عليم قدير إلا ما هو جسم، فإن نفيت ما نفيت لكونك لم تجده في الشاهد إلا للجسم فإنف الأسماء، بل وكل شيء لأنك لا تجده في الشاهد إلا للجسم. فكل ما يحتج به من نفي الصفات يحتج به نافي الأسماء الحسنى، فما كان جوابا لذلك كان جوابا لمثبتي الصفات.

ش: يعني يقال للمعتزلي إذا كان الخطاب معه فإنه هو الذي يقر بالأسماء وينفي الصفات، يقال له أن الصفات لا تقوم إلا بالجسم- ردنا عليك هو أن نقول لك: والأسماء التي يسمى بها المخلوق لا تقوم في الشاهد إلا بجسم وأنت تثبت لله الأسماء فيلزمك التشبيه. وحينئذ فما كان جوابا عن ثبوت الأسماء، كان جوابا لأهل الإثبات عن إثبات الصفات، والمقصود أنه يقال للمعتزلة- قولكم منقوض بإثبات الأسماء- الحسنى- فإنكم تقولون: أن الله يسمى حيا عليما قديراً وإذا أمكن إثبات حي عليم قدير وليس بجسم، أمكن أن يكون له حياة وعلم وقدرة وليس بجسم، وإن لم يكن ذلك، فما كان جوابكم عن إثبات الصفات، ويقال لهم أيضا، ما تعنون بالجسم، أتعنون به ما كان مركبا من الجواهر المفردة، أو من المادة والصورة، أم تعنون به ما يمكن الإشارة إليه، أو ما كان قائماً بنفسه، أو ما هو موجود، فإن عنيتم الأول، لم نسلم أن هذه الصفات لا تقوم إلا بجسم بهذا التفسير وإن عنيتم به الثاني، لم نسلم امتناع اللازم، فإن الرب تعالى موجود، قائم بنفسه مشار إليه، كما جاء ذلك مصرحا به في الأحاديث الصحيحة.

دحض شبه المعتزلة

دحض شبه المعتزلة ... قوله: وإن كان المخاطب من الغلاة نفاة الأسماء والصفات، وقال لا أقول، هو موجود، ولاحي، ولا عليم، ولا قدير بل هذه الأسماء لمخلوقاته، إذ هي مجاز لأن إثبات ذلك يستلزم التشبيه بالموجود الحي العليم. قيل لله: وكذلك إذا قلت: ليس بموجود ولاحي، ولا عليم، ولا قدير، كان ذلك تشبيها بالمعلومات، وذلك أقبح من التشبيه بالموجود. ش: الكلام الآن مع الجهمية، وهم غلاة بالنسبة للأشاعرة، والمعتزلة حيث نفى كل منهما البعض دون البعض ونفت الجهمية الأسماء والصفات معا.

فيقال لهم: أولا يستحيل مع كمال علم المتكلم وفصاحته وبيانه ونصحه أن يريد بكلامه خلاف حقيقته وظاهره. وأن الحق في أقوال النفاة المعطلين وأن تأويلاتهم هي المرادة من هذه النصوص فإن المتكلم بهذه النصوص أما أن يكون عالما أن الحق في تأويلات النفاة المعطلين، أولا يعلم ذلك فإن لم يعلم ذلك كان ذلك قدحاً في علمه وإن كان عالما أن الحق فيها فلا يخلو أما أن يكون قادراًَ على التعبير بعباراتهم التي هي تنزيه الله بزعمهم عن التشبيه والتمثيل والتجسيم، وأنه لا يعرف الله من لم ينزه اله بها، أو لا يكون قادرا على تلك العبارات فإن لم يكن قادراً على التعبير بذلك، لزم القدح في فصاحته، وهذا مما يعلم بطلانه بالضرورة أولياؤه وأعداؤه، وموافقوه، ومخالفوه، فإن مخالفيه لم يشكو أنه أفصح الخلق وأقدرهم على حسن التعبير بما يطابق المعنى ويخلصه من اللبس والإشكال وإن كان قادراً على ذلك ولم يتكلم به، وتكلم دائما بخلافه كان ذلك قدحا في نصحه وقد وصف الله رسله بأنهم أنصح الخلق لأممهم، فمع النصح والبيان والمعرفة التامة، كيف يكون مذهب النفاة، المعطلة، أصحاب التحريف، هو الصواب، وقول أهل الإثبات أتباع القرآن والسنة باطل، وقد سبقت الإشارة إلى ذلك عند قول المؤلف إلى أمثال هذه الآيات والأحاديث، ويقال لهم: ثانيا إنكم بنفيكم هذه الصفات تشبهون الله بالمعدوم، فقد فررتم مما هو تشبيه على زعمكم ولكن وقعتم في شر منه، فإن التشبيه بالمعدوم أفظع من التشبيه بالموجود.

ما يترتب على نفي الجهمية للصفات

ما يترتب على نفي الجهمية للصفات ... قوله: فإن قال: أنا أنفي النفي والإثبات، قيل له: فيلزمك التشبيه بما اجتمع فيه النقيضان من الممتنعات، فإنه يمتنع أن يكون الشيء موجوداً معدوماً، أو لا موجوداً ولا معدوماً، ويمتنع أن يوصف ذلك باجتماع

الوجود والعدم، أو الحياة والموت، أو العلم والجهل، أو يوصف بنفي الوجود والعدم، ونفي الحياة والموت، ونفي العلم والجهل، فإن قلت إنما يمتنع نفي النقيضين عما يكون قابلا لهما، وهذان يتقابلان تقابل العدم والملكة، لا تقابل السلب والإيجاب، فإن الجدار لا يقال له أعمى، ولا بصير، ولا حي ولا ميت، إذ ليس لهما قابلا، قيل لك: أولا هذا لا يصح في الوجود والعدم، فإنهما متقابلان، تقابل السلب والإيجاب باتفاق العقلاء فيلزم من رفع أحدهما ثبوت الآخر. وأما ما ذكرته من الحياة والموت، والعلم والجهل، فهذا اصطلاح اصطلحت عليه المتفلسفة المشاؤون، والاصطلاحات اللفظية ليست دليلا على الحقائق العقلية، وقد قال تعالى {وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْياءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أيان يُبْعَثُونَ} . فسمى الجماد ميتا، وهذا مشهور في لغة العرب وغيرهم. وقيل لك ثانيا فما لا يقبل الاتصاف بالحياة والموت والعمى والبصر ونحو ذلك من المتقابلات أنقص مما يقبل ذلك فالأعمى الذي يقبل الاتصاف بالبصر أكمل من الجماد الذي لا يقبل واحدا منهما، فأنت فررت من تشبيه بالحيوانات القابلة لصفات الكمال، ووصفته بصفات الجمادات التي لا تقبل ذلك. وأيضا فما لا يقبل الوجود والعدم، أعظم امتناعا من القابل للوجود والعدم، بل ومن اجتماع الوجود والعدم، ونفيهما جميعا فما نفيت عنه قبول الوجود والعدم، كان أعظم امتناعا مما نفيت عنه الوجود والعدم وإذا كان ممتنعا في صرائح العقول كان أعظم امتناعا، فجعلت الوجود الواجب الذي لا يقبل العدم هو أعظم الممتنعات. وهذا غاية التناقض والفساد. ش: يعني إذا قال الغالي: أنا أنفي النفي والإثبات، فلا يلزمني التشبيه بالموجودات والمعدومات، قيل له: فيلزمك حينئذ التشبيه

بالممتنعات، فإن من ليس بموجود ولا معدوم، ولا حي ولا ميت، ولا عالم ولا جاهل، ممتنع الوجود وكما يمتنع وصف الشيء بالعلم والجهل بمسألة معينة، والحياة والموت الحقيقيين والوجود والعدم يمتنع كذلك سلب هذه المتقابلات فإنهما نقيضان يلزم من ثبوت أحدهما ارتفاع الآخر، وإذا قال هذا الغالي: لا يلزم التشبيه بما اجتمع فيه النقيضان من الممتنعات، إلا إذا نفيتهما عن محل قابل لهما، قيل له: فما لا يقبل الاتصاف بالحياة والموت والعلم والجهل ونحو ذلك من المتقابلات أنقص مما يقبل ذلك فالأعمى الفاقد لصفة البصر أكمل من الجماد، لأنه وإن كان فاقدا للبصر فهو قابل للاتصاف به بخلاف الجماد، فإنه ليس من شأنه الاتصاف بالبصر أو العمى. فأنت فررت من تشبه بالحيوانات القابلة لصفات الكمال، ووصفته بصفات الجمادات التي لا تقبل الاتصاف بالكمال أو النقص. وقيل له ثانيا: بالنسبة لنفي الوجود والعدم – قولك لا يقبل الوجود والعدم – تشبيه لله بأعظم الممتنعات، فإن من ينفي عنه الوجود والعدم ممتنع، ومن ينفي عنه قبول الوجود والعدم أعظم امتناعا منه، وكذلك من يوصف بالوجود والعدم معاً ممتنع أيضا، ومن ينفي عنه قبول الوجود والعدم، أعظم امتناعا منه، فقد فررت من تشبيه الممتنع الأسهل امتناعا، ووقعت في تشبيه بالأشد امتناعا، وهو معنى قول المؤلف، وإذا كان هذا ممتنعاً في صرائح العقول كان أعظم امتناعا. وأما قولك: وهذان يتقابلان تقابل العدم والملكة لا تقابل السلب والإيجاب فجوابنا عليه أن نقول: أولا هذا لا يصح بالنسبة للوجود والعدم، فإن التقابل بينها تقابل نقيضين باتفاق العقلاء، فيلزم ثبوت أحدهما انتفاء الآخر. وثانيا قولك: وما لا يقبل الحياة والموت والعلم والجهل والعمى

والبصر "كالجدار" لا يوصف بذلك، جوابنا على هذه الدعوى أن نقول: هذه الدعوى غير صحيحة ففي لغة العرب وصف الجماد بالحياة والموت ونحو ذلك، وأن لم يكن الجماد على زعمك قابلا قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْياءٍ} ومن جملة معبوداتهم الأصنام وفيها الجماد. والعرب تقول: "اشتر الموتان ولا تشتر الحيوان" وسيَأتِي لهذا المبحث مزيد بيان في موضعه، وإنما قولك: أن ما لا يقبل الاتصاف بهذه الأوصاف لا يوصف بها – مجرد اصطلاح – لفظي اصطلحت عليه الفلاسفة المشاؤون، والاصطلاحات اللفظية ليست دليلا على الحقائق العقلية، فلا يمكن اطراح ما هو مدرك معروف بالعقل واعتبار ما هو اصطلاح لفظي والفلاسفة المشاؤون هم أتباع أرسطو – وهو المقدوني – من أهل مقدونة من بلاد الروم من تلاميذ أفلاطون وكان مولده سنة ثلاثمائة وأربع وثمانين قبل الميلاد، وتوفي سنة ثلاثمائة واثنتين وعشرين قبل الميلاد، عن ثلاث وستين سنة. وكان يعلم الحكمة وهو ماش تحت الرواق المظلل له من حر الشمس، فسمي تلاميذه- المشائين- فتسمية أتباعه بالمشائين إنما هو أخذ من عادته. إذ كان يلقي عليهم الدرس وهو يمشي وهم يسيرون حوله، ويسمون أيضا الرواقية نسبة إلى الرواق الذي كان يتمشا في ظله وهو يلقي الدروس، والمتقابلان بالعدم والملكة أمران: أحدهما وجودي، والآخر عدمي، فالوجودي هو الصفة الثبوتية التي تقوم بمن من شأنه الاتصاف بها كالبصر، والعلم، والعدمي هو فقدان تلك الصفة كالعمى والجهل، فإن العمى – عدم البصر – عما شأنه قبول البصر والجهل فقدان العلم عما من شأنه قبول العلم، فالوجودي هو الملكة، والعدمي فقدانها والمتقابلان بالإيجاب والسلب هما أمران يلزم من ثبوت أحدهما انتفاء الآخر فالإيجاب

معناه الإثبات، والسلب معناه النفي وقوله "فجعلت الوجود الواجب الذي لا يقبل العدم هو أعظم الممتنعات وهذا غاية التناقض والفساد"، معناه أن هذا الغالي بنفيه عن الله قبول الاتصاف بالوجود والعدم، وقبول الاتصاف بسائر الصفات، قد شبهه بأعظم الممتنعات في حين أن الله سبحانه واجب الوجود، الذي لا يجوز عليه حدوث ولا عدم، وهذا يبين مدى فساد مقالة هؤلاء الغلاة، ويوضح تهافت شبههم التي زعموا بها أنهم ينزهون الله عن التشبيه. فمقالتهم فاسدة، وشبههم متضاربة متناقضة، منقوضة بصريح المعقول، وصحيح المنقول.

اتفاق المسميات في في الأسماء والصفات لا يوجب تماثلها

اتفاق المسميات في في الأسماء والصفات لا يوجب تماثلها ... قوله: وقيل له أيضا: اتفاق المسلمين في بعض الأسماء والصفات، ليس هو التشبيه والتمثيل، الذي نفته الأدلة السمعيات والعقليات، وإنما نفت ما يلتزم اشتراكهما فيما يختص به الخالق مما يختص بوجوبه أو جوازه أو امتناعه، فلا يجوز أن يشركه فيه مخلوق، ولا يشركه مخلوق في شيء من خصائصه سبحانه وتعالى. ش: يعني أن الغالي الذي ينفي الصفات أو ينفي قبولها عن الله يقال له: اتفاق المسميات في الاسم والمعنى العام لا يوجب تماثل المسميين، فنحن إذا قلنا: أن الله موجود حي عليم سميع بصير متكلم وقلنا: أن المخلوق موجود حي عالم سميع بصير متكلم، لم يكن ذلك تشبيها بل الله موجود لم يزل حيا، قديماً، قيوماً، عالماً، سميعاً بصيراً ولا يجوز أن يوصف بأضداد هذه الصفات، والموجود منا إنما وجد عن عدم وحييي بمعنى ثم يصير ميتا بزوال ذلك المعنى، وعلم بعد أن لم يعلم، وقد ينسى ما علم، وسمع وأبصر، وتكلم بجوارح قد تلحقها الآفات، فلم يكن فيما أطلق للخلق تشبيه بما أطلق للخالق، سبحانه وتعالى وأن اتفقت

مسميات هذه الصفات عند الإطلاق، فالرب سبحانه وتعالى مستحق للكمال، مختص به على وجه لا يماثله فيه شيء، فليس له سمي ولا كفؤ سواء كان الكمال مما لا يثبت منه شيء للمخلوق كربوبية العباد والغنى المطلق ونحو ذلك، أو كان مما يثبت منه نوع للمخلوق فالذي يثبت للخالق منه نوع هو أعظم مما يثبت من ذلك للمخلوق والتفاوت الذي بينهما أعظم من التفاوت الذي بين أدنى المخلوقات وأعلاها. فالأسماء والصفات نوعان: نوع يختص به الرب مثل الإله، ورب العالمين ونحو ذلك، فهذا لا يثبت للعبد بحال ومن هنا ضل المشركون الذين جعلوه أندادا. والثاني: ما يوصف به العبد في الجملة -كالحي والعالم والقادر- فهذا لا يجوز أن يثبت للعبد مثلما يثبت للرب أصلا: فإنه لو ثبت له ما ثبت له للزم أن يجوز على أحدهما ما لا يجوز على الآخر، ويجب له ما يجب له، ويمتنع عليه ما يمتنع عليه، ومثال ما يمتنع على الرب: اتخاذ الولد، والصاحبة، والشريك، والولي من الذل فإن نفى هذا من خصائص الربوبية، وكذلك السنة والنوم، واللغوب والنسيان، والعجز، والموت، والظلم وغير ذلك مما هو مستحيل عليه ممتنع في حقه، ولكنه واقع في العباد، فهذا القسم ممكن واقع بالنسبة للعباد، ومستحيل فيحق الله ومما يجب له كونه رب العالمين، وعلى كل شيء قدير، وبكل شيء عليم، ومما يجوز عليه كونه يحي ويميت ويرزق ويعز ويذل.

مراد النفاة بحلول الحوادث والاعراض والاغراض

مراد النفاة بحلول الحوادث والاعراض والاغراض ... قوله: وأما ما نفيته فهو ثابت بالشرع والعقل، وتسميتك ذلك تشبيها وتجسيما تمويه على الجهال، الذين يظنون أن كل معنى سماه مسم بهذا الاسم يجب نفيه، ولو ساغ هذا لكان كل مبطل يسمى الحق بأسماء ينفر عنها بعض الناس ليكذب الناس بالحق المعلوم بالسمع والعقل، وبهذه الطريقة أفسدت الملاحدة على طوائف الناس، عقلهم، ودينهم، حتى أخرجوهم إلى الكفر والجهالة وأبلغ الغي والضلالة.

ش: يعني يقال للنفات: تسميتكم إثبات أسماء الله وصفاته: تشبيها وتجسيما وتلقيبكم من يثبت ذلك بالمشبه والمجسم لا يغير من الواقع شيئا ولا يغير من وجهة أهل البصيرة والمعرفة بالله: فالتوحيد لا يكون شركا، ووصف الله بأوصاف الكمال ونعوت الجلال لا يكون تشبيها، وإنما التشبيه هو ما يقوله "النفاة المعطلة" الذين سموا تعطيلهم وإلحادهم ونفيهم توحيداً، وهو غاية النقص فقد قلبوا الحقائق، ونفوا حقائق أسمائه وصفاته تحت ستار ألفاظ، يسمعها الغر المخدوع، فيظنها تنزيها لله عن النقائص والعيوب، وأنهم يعظمون الله ويمجدونه، ويكشف الناقد البصير ما تحت هذه الألفاظ، فيرى تحتها الإلحاد، وتكذيب الرسل، وتعطيل الرب، سبحانه وتعالى عما يستحقه من كمال ومن هذه الألفاظ قولهم نحن ننزه الله عن الإعراض، والأغراض، والأبعاض، وننزهه عن الحدود والجهات، وعن حلول الحوادث، وتنزيهم لله عن الإعراض، هو جحد صفاته-كسمعه وبصره وحياته وعلمه وكلامه وإرادته- فإن هذه أعراض على زعمهم لا تقوم إلا بجسم فلو كان متصفا بها لكان جسما، وكانت إعراضاً له، وهو منزه عن الإعراض وأما الأغراض فهي الغاية والحكمة، التي لأجلها يخلق، ويأمر، وينهى، ويثبت، ويعاقب، وهي الغايات المحمودة المطلوبة له من أمره، ونهيه، وفعله، فيسمونها أغراضا وعللا ينزهونه عنها وأما تنزيهم لله عن الأبعاض فمرادهم أنه ليس له وجه ولا يدان، ولا يمسك السموات على إصبع، والأرضين على إصبع، والشجر على إصبع، والماء على إصبع، فإن ذلك كله ابعاض، والله منزه عن الابعاض، وأما الحدود والجهات فمرادهم بتنزيهه عنها أنه ليس فوق السموات رب، ولا على العرش اله، ولا يشار إليه بالأصابع إلى فوق كما أشار إليه أعلم الخلق به، ولا ينزل منه شيء ولا يصعد إليه شيء، ولا تعرج الملائكة والروح إليه، ولا رفع المسيح إليه، ولا عرج برسول الله محمد صلى الله عليه وسلم إليه، إذا لو كان كذلك للزم إثبات الحدود والجهات

له، وهو منزه عن ذلك: وأما تنزيههم لله عن حلول الحوادث، فمرادهم بذلك أنه لا يتكلم بقدرته ومشيئته، ولا ينزل كل ليلة إلى سماء الدنيا، ولا يَأتِي يوم القيامة، ولا يحب، ولا يريد شيئا بعد أن لم مريدا له، فلا يقول كن حقيقة، ولا استوى على عرشه بعد أن لم يكن مستويا، ولا يغضب يوم القيامة غضباً لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده، مثله، ولا ينادي عباده يوم القيامة بعد أن لم يكن مناديا لهم، ولا يقول للمصلى إذا قال: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} حمدني عبدي فإن هذه كلها حوادث، وهو منزه عن حلول الحوادث ونحن لا ننفي أوصاف الرب ونعوت جلاله، لأجل تسميتهم لها بهذه الأسماء، كما أننا لا ننسب الصحابة لأجل تسمية الروافض لمن يحبهم ويواليهم، نواصب- ولا ننفي قدر الرب ونكذب به لأجل تسمية القدرية لمن أثبته جبريا، ولا نرد ما أخبر به الصادق عن الله وأسمائه وصفاته وأفعاله لتسمية النفاة لنا حشوية ولا نجحد صفات خالقنا وعلوه على خلقه واستواءه على العرش، لتسمية الفرعونية المعطلة لمن أثبت ذلك مجسما مشبها. فإن كان تجسيما ثبوت استوائه ... على عرشه إني ذاً لمجسم وإن كان تشبيها ثبوت صفاته ... فمن ذلك التشبيه لا أتكتم وإن كان تنزيها جحود استوائه ... وأوصافه أو كونه يتكلم فعن ذلك التنزيه نزهت ربنا ... بتوفيقه والله أعلى وأعظم قال ابن القيم رحمة الله تعالى عليه، بعد إنشاده هذه الأبيات ورحمة الله على الشافعي حيث فتح للناس هذا الباب بقوله: يا راكبا قف بالمحصب من منى ... واهتف بقاعد خيفها والناهض إن كان رفضا حب آل محمد ... فليشهد الثقلان أني رافضي وهذا كله مأخوذ من قول الشاعر الأول: وعيرني الواشون أني أحبها ... وذلك ذنب لست منه أتوب

فنفيهم للصفات بهذه الألقاب المنكرة خطأ في اللفظ والمعنى، وجناية على ألفاظ الوحي أما الخطأ اللفظي فتسميتهم هذه الصفات تركيبا وتجسيما وتشبيها، فكذبوا على القرآن، وعلى الرسول، وعلى اللغة، ووضعوا للصفات ألفاظاً منهم بدأت وإليهم تعود، وأما خطؤهم في المعنى فنفيهم وتعطيلهم لصفات كماله بواسطة هذه التسمية والألقاب، فنفوا المعنى الحق، وسموه بالاسم المنكر، وكانوا في ذلك بمنزلة من سمع أن في العسل شفاء ولم يره، فسأل عنه فقيل له مائع رقيق أصفر يشبه العذرة -تتقيؤه الزنابير- فمن لم يعرف العسل ينفر عنه بهذا التعريف، ومن عرفه وذاقه لم يزده هذا التعريف عنده إلا محبة له، ورغبة فيه، ولله در القائل: تقول هذا جناء النحل تمدحه ... وإن تشأ قلت ذا قيء الزنابير مدحا وذما وما جاوزت وصفهما ... والحق قد يعتريه سوء تعبير وقوله:"وبهذه الطريقة أفسدت الملاحدة على طوائف الناس عقلهم ودينهم حتى أخرجوهم إلى أعظم الكفر والجهالة وأبلغ الغي والضلالة" يعني وبسبب تسمية الحق الثابت بأسماء منكرة وتلقيب أصحاب العلم الإلهي، وأهل الديانة والصلاح بالألقاب الشنيعة أفسدت الملاحدة فطر الناس ولوثت عقولهم فإن أشد ما سلكت الملاحدة في التنفير عن الحق سوء التعبير عنه، وضرب الأمثال القبيحة له والتعبير عن تلك المعاني التي لا أحسن منها بألفاظ منكرة، ألقوها في مسامع المغترين المخدوعين فوصلت إلى قلوبهم، وأكثر العقول يقبل القول بعبارة ويرده بعبارة أخرى، ومثل هذا ما يستعمله الفساق والملاحدة في زماننا من الألفاظ البذيئة التي يطلقونها على الفضلاء وأهل الديانة كقولهم: متحجرون، وجامدون، ورجعيون، ومتأخرون، بينما ينعتون أشباههم بالتقدميين، والمتنورين، والراقين فهي إذا شنشنة معروفة من اخزم في قديم

الدهر وحديثه، وفي قوله"أعظم الكفر والجهالة وأبلغ الغي والضلالة إضافة الصفة إلى الموصوف"

مناقشة نفاة الصفات في تسميتهم تعطيلهم توحيدا

مناقشة نفاة الصفات في تسميتهم تعطيلهم توحيدا ... قوله: وإن قال نفاة الصفات: إثبات العلم والقدرة والإرادة مستلزم تعدد الصفات، وهذا تركيب ممتنع. وإذا قلتم: هو موجود واجب، وعقل وعاقل ومعقول أفليس المفهوم من هذا هو المفهوم من هذا؟ فهذه معان متعددة متغايرة في العقل، وهذا تركيب عندكم، وأنتم تثبتونه وتسمونه توحيداً. فإن قالوا: هذا توحيد في الحقيقة وليس هذا تركيباً ممتنعاً. قيل لهم: واتصاف الذات بالصفات اللازمة لها توحيد في الحقيقة، وليس تركيباً ممتنعاً. ش: يعني إذا قال نفاة الصفات: من غلاة الفلاسفة والجهمية إثبات الصفات لله يستلزم التركيب وهذا تشبيه للخالق بالمخلوق، لأن هذه صفات متغايرة متعددة فيلزم أن يكون المتصف بها مركبا منها، قيل لهم: أولا أنتم تثبتون صفات متغايرة متعددة، كوصفكم الله بالوجود والوجوب، وقولكم عنه سبحانه أنه عقل وعاقل ومعقول فالمفهوم من هذه الصفات التي أثبتموها مثل المفهوم من الصفات التي وصف بها نفسه ووصفه بها رسوله ووصفه بها المؤمنون: كالاستواء، والعلم، والقدرة، والمحبة، والغضب، والرضا، المفهوم من الجميع واحد، من حيث كل صفة مغايرة للأخرى، ومن حيث التعدد فلم نفيتم هذه الصفات وأثبتم تلك الصفات؟ فإذا قالوا: الذي أثبتناه إنما هو في الحقيقة توحيد وليس تركيباً، قيل لهم: والذي أثبتناه لأن الله أثبته لنفسه وأثبته له رسوله، إنما هو في الحقيقة توحيد وليس مستلزماً للتركيب، ويقال لهم: ثانيا أتعنون بالمركب الذي كان مفترقا فاجتمع؟ أو ركبه مركب فجمع أجزاءه أو ما أمكن تأليفه أو تبعيضه وانفصال بعضه عن بعض ونحو ذلك؟ فإن أردتم

بالمركب المعاني المتقدمة: فهذا منتف عن الله قطعاً، وهو كذب وبهت على الله وعلى الشرع وعلى العقل: فالله سبحانه خالق الفرد والمركب، الذي يجمع المتفرق ويفرق المجتمع ويؤلف بين الأشياء فيركبها كيف يشاء. فالحاصل أنه يقال لهم قد وصفتموه بصفات يتميز بعضها عن بعض فهل كان هذا عندكم تركيباً؟ وقد دل الوحي والعقل والفطرة على ثبوت ما نفيتم أفننفيه لمجرد تسميتكم الباطلة؟ والعقل كما دل على إله واحد، ورب واحد، لا شريك له ولا شبيه له لم يدل على أن الرب الواحد لا اسم له ولا صفة، ولا وجه ولا يدين، ولا هو فوق خلقه، ولا يصعد إليه شيء، ولا ينزل منه شيء، فدعوى ذلك على العقل كذب صريح عليه كما هو كذب صريح على الوحي وقولهم: "إنما هو توحيد" كذب وافتراء، بل إثبات ما جاء في الكتاب والسنة، هو التوحيد، وضده الشرك، فهم يسمون نفي الصفات توحيداً، وهم ابتدعوا هذا التعطيل وجعلوا اسم التوحيد واقعا على غير ما هو عليه في دين المسلمين. فإن التوحيد الذي بعث الله به رسله، وأنزل به كتبه، هو أن يعبد الله لا يشرك به شيء ولا يجعل له ند كما قال تعالى {قُلْ يا أيهَا الْكَافِرُونَ} السورة ومن تمام التوحيد: أن يوصف الله تعالى بما وصف به نفسه، وبما وصفه به رسوله، ويصان ذلك عن التحريف والتعطيل، والتكييف والتمثيل، كما قال تعالى {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} السورة. وعقل: مصدر عقل، وعاقل اسم فاعل، ومعقول اسم مفعول فالتمييز بين مسمى المصدر، ومسمى اسم الفاعل، واسم المفعول والتفريق بين هذه الأمور مستقر في كل الفطر والعقول السليمة، ولغات الأمم: أما هؤلاء الفلاسفة، فمعنى كونه عقلا عندهم أنه مجرد عن المادة منزه عن اللوازم المادية ومعنى كونه عاقلا هو

-إنه مجرد لذاته- ومعنى كونه معقولا هو أنه غير محجوب عن ذاته بذاته ولا بغيره- وسيَأتِي الشرح الصحيح للعقل في الكلام على القاعدة الأولى إنشاء الله تعالى.

من نفى شيئا ثابتا فرارا من محذور

من نفى شيئا ثابتا فرارا من محذور ... قوله: وهذا باب مطرد، فإن كل واحد من النفاة لما أخبر به الرسول من الصفات لا ينفي شيئا فرارا إلا وقد أثبت ما يلزمه فيه نظير ما فر منه، فلا بد في آخر الأمر من أن يثبت موجوداً واجباً قديما، متصفا بصفات تميزه عن غيره، ولا يكون فيها مماثلا لخلقه، فيقال له: هكذا القول في جميع الصفات، وكل ما تثبته من الأسماء والصفات فلابد أن يدل على قدر تتواطأ فيه المسميات، ولولا ذلك لما فهم الخطاب، ولكن نعلم أن ما اختص الله به، وامتاز عن خلقه أعظم مما يخطر بالبال أو يدور في الخيال. ش: يعني كما يقال لهؤلاء الفلاسفة إنكم نفيتم الصفات- فراراً من التركيب اللازم من التعدد- وقد لزمكم مثل ما فررتم منه حيث تثبتون أنتم صفات متعددة متباينة يقال أيضا لكل من نفى شيئا مما أثبته الله ورسوله فالباب واحد والقاعدة مطردة، فمثلا إذا قال الأشعري- الرضا والغضب والفرح والمحبة ونحو ذلك- هو من صفات الأجسام فإنه يقال له: كذلك الإرادة، والسمع، والبصر، والعلم، والقدرة، من صفات الأجسام، فإنه كما لا نعقل في الشاهد ما ينزل ويستوي ويغضب ويرضى، إلا جسما لم نعقل ما يسمع ويبصر، ويريد، ويعلم، ويقدر، إلا جسما. فإذا قال: سمعه ليس كسمعنا، وبصره ليس كبصرنا، وإرادته ليس كإرادتنا، وكذلك علمه وقدرته. قيل له: ورضاه ليس كرضانا، وغضبه ليس كغضبنا، وفرحه ليس كفرحنا، ونزوله ليس كنزولنا. فإذا قال: لا يعقل في الشاهد غضب، إلا غليان دم القلب لطلب الانتقام. قيل له:

ولا يعقل في الشاهد إرادة إلا ميل القلب إلى جلب ما يحتاج إليه وينفعه ويفتقر فيه إلى ما سواه ودفع ما يضره والله سبحانه كما أخبر عن نفسه المقدسة في حديثه الإلهي" يا عبادي إنكم لن تبلغوا نفعي فتنفعوني ولن تبلغوا ضري فتضروني" فهو منزه عن الإرادة التي لا تعقل في الشاهد إلا هكذا وكذلك السمع لا يعقل في الشاهد إلا وصول صوت في الصماخ، وذلك لا يكون إلا في أجوف، والله سبحانه أحد صمد منزه عن ذلك: والمعتزلة نفوا الصفات فرارا من التشبيه بالمخلوقات فيقال لهم: أنتم تثبتون الأسماء لله فتسمونه حياً عليما قديرا وهذه الأسماء يسمى بها المخلوق، فيلزم من ذلك التشبيه فقد فررتم من أمر ونفيتم من أجله الصفات، ولكن المحذور لازم لكم فيما تثبتون من الأسماء، فإنه كما يسمى بها الخالق يسمى بها أيضا المخلوق، فكما سمى نفسه عليما، سمى المخلوق عليما، وسمى نفسه سميعا بصيرا، وسمى المخلوق سميعا بصيرا، إلى غير ذلك. ويقال للجهمية: المخلوق يوصف بالخلق كما في قوله سبحانه: {وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي} ويوصف بالفعل كما قوله: {فَلا تَبْتَئِسْ بِمَا كانوا يَفْعَلُونَ} وقوله: {صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ أنهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ} والله سبحانه يوصف بالخلق كما في قوله تعالى: {يا أيهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا} ويوصف بالفعل كما في قوله عز وجل: {فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} وأنتم أيها الجهمية تثبتون كون الله خالقا فاعلا فهل فعله وخلقه سبحانه مثل المخلوق؟ إن قلتم هذا فهذا هو التشبيه وأنتم تفرون منه، وإن قلتم بل فعل الله وخلقه على ما يليق به، وفعل المخلوق وخلقه على ما يناسبه، فيجب أن تقولوا: هذا في سائر الصفات، فالحاصل أن هؤلاء النفاة جميعا لم يستفيدوا من نفيهم إلا تعطيل حقائق النصوص، وأنهم لم يتخلصوا مما ظنوه محذورا، بل هو لازم لهم فيما فروا إليه، بل قد يثبتون ما هو أعظم محذورا- كحال الذين تأولوا نصوص العلو والفوقية والاستواء فرارا من التحيز والحصر- ثم قالوا: هو في

كل مكان بذاته، فنزهوه عن استوائه ومباينته لخلقه وجعلوه في أجواف البيوت والآبار والأواني والأماكن التي يرغب عن ذكرها، فجعلوا نسبته إلى العرش كنسبته إلى أخس مكان، فتعالى الله عن قولهم علوا كبيرا. وقوله" فلابد في آخر الأمر من أن يثبت موجودا واجبا قديما متصفا بصفات تميزه عن غيره" الخ ... معناه أن هؤلاء الذين ينفون شيئا فرارا من محذور، لابد وأن يثبتوا شيئا يمتاز به الخالق عن المخلوق- ككونه سبحانه موجودا قائما بنفسه- وأن وجوده لا يماثل وجود خلقه، وأن قيامه بنفسه لا يماثل قيام المخلوقين بأنفسهم، فإنه سبحانه غني عما سواه، والخلق مفتقرون إليه، فإذا اثبت المعطل هذه الصفات لله قيل له- فيجب أن تقول هذا في سائر الصفات- فالباب واحد، ومهما أثبت من وصف لله فلا بد أن يدل على قدر مشترك بين الخالق والمخلوق، بحيث يتفقان فيه عند الإطلاق، فإنك لابد أن تثبت لله وصفا ككونه شيئا موجودا، فالشيء والوجود يتصف به كل من الخالق والمخلوق، ولولا أننا نفهم قدراً مشتركا بين الخالق والمخلوق في مسمى الشيء والوجود ونحو ذلك لما فهمنا ما خاطبنا الله به، فإن الشيء ضد لا شيء والوجود ضد العدم، كما أن القدرة ضد العجز، والعلم ضد الجهل، وهكذا سائر الصفات، لكننا نعلم أن ما يضاف إلى المخلوق من الأوصاف هو على ما يناسب ذاته ويليق به، وما يضاف إلى الله من حقائق أسمائه ونعوت جلاله هو أعظم مما يخطر ببال إنسان أو يدور في خلده، فالله أعلى من أن يتصور عظمته متصور، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك" وقوله عليه الصلاة والسلام " أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك أو أنزلته في كتابك أو علمته أحد من خلقك أو استأثرت به في علم الغيب عندك". الحديث.

معنى قول الماتن فإن الله ليس كمثله شيء لا في ذاته ولا في صفاته

معنى قول الماتن فإن الله ليس كمثله شيء لا في ذاته ولا في صفاته ... قوله: وهذا يتبين بالأصل الثاني وهو أن يقال:" القول في الصفات كالقول في الذات" فإن الله ليس كمثله شيء لا في ذاته ولا في صفاته، ولا في أفعاله، فإذا كان له ذات حقيقة لا تماثل الذوات، فالذات متصفة بصفات حقيقية لا تماثل سائر الصفات، فإذا قال: كيف استوى على العرش؟ قيل له: كما قال ربيعة ومالك وغيرهما رضي الله عنهما،" الاستواء معلوم والكيف مجهول والإيمان به واجب والسؤال عن الكيفية بدعة " لأنه سؤال عما لا يعلمه البشر، ولا يمكنهم الإجابة عنه. وكذلك إذا قال: كيف ينزل ربنا إلى السماء الدنيا؟ قيل له: كيف هو؟ فإذا قال لا أعلم كيفيته، قيل له: ونحن لا نعلم كيفية نزوله، إذ العلم بكيفية الصفة يستلزم العلم بكيفية الموصوف، وهو فرع له وتابع له، فكيف تطالبني بالعلم بكيفية سمعه وبصره، وتكليمه، واستوائه ونزوله، وأنت لا تعلم كيفية ذاته، وإذا كنت تقر بأن له حقيقة ثابتة في نفس الأمر مستوجبة لصفات الكمال لا يماثلها شيء، فسمعه وبصره وكلامه، ونزوله واستواءه، ثابت في نفس الأمر، وهو متصف بصفات الكمال التي لا يشابهه فيها سمع المخلوقين وبصرهم وكلامهم، ونزولهم واستواؤهم. ش: الإشارة في قوله: وهذا يتبين، راجعة إلى ما ذكر في الأصل الأول من أنه لا فرق بين بعض الصفات والبعض الآخر، وأن الله تبارك وتعالى، مسمى بأسماء حسنى، وموصوف بصفات عليا، مع نفي مماثلته لخلقه، وأن إثبات ذلك ليس بتشبيه بل هو محض التوحيد، وأن ما يمتاز به الخالق أعظم مما يخطر ببال أو يدور بخيال. وقوله:" القول في الصفات كالقول في الذات "يعني من حيث الثبوت ونفي المماثلة وعدم العلم بالكيفية: فكما أن ذات الله ثابتة بحقيقة الإثبات، فالصفات ثابتة أيضا

بحقيقة الإثبات، إذ لا يعقل وجود ذات بدون صفات وكما أن ذات الله لا تماثل ذوات خلقه، فكذلك صفاته لا تماثل صفات خلقه، وكما أن ذاته لا يمكن العلم بكيفيتها، فكذلك صفاته، إذ العلم بكيفية الصفات يستلزم العلم بكيفية الذات ويتفرع عنه، وقوله: فإن الله ليس كمثله شيء لا في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله، يعني كما قال تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} فإنه سبحانه ذكر ذلك عقب ذكر نعوت كماله وأوصافه فقال: {حم عسق كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} إلى قوله: {يَذْرؤكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُْ} فهذا الموصوف بهذه الصفات والأفعال، والعلو والعظمة، والحفظ والعزة، والحكمة والملك، والحمد والمغفرة، والرحمة والكلام، والمشيئة، والولاية، وإحياء الموتى، والقدرة التامة الشاملة، والحكم بين عباده، وكونه فاطر السموات والأرض. وهو السميع البصير، هذا هو الذي ليس كمثله شيء، لكثرة نعوته وأوصافه، وأسمائه، وأفعاله، وثبوتها على وجه الكمال، فالمثبت لصفات كماله- هو الذي يصفه بأنه ليس كمثله شيء- وقوله: فإذا قال السائل كيف استوى على العرش؟ قيل له: كما قال ربيعة ومالك وغيرهما" الخ. معناه إذا سأل مبتدع عن كيفية صفة من الصفات كالاستواء، فإنه يجاب بما أجاب به مالك وربيعة وغيرهما، وهذا الجواب وإن كان مرويا بالنص عن مالك وربيعة، فهو جواب لسائر أئمة السنة وسلف الأمة، وقد ذكر المؤلف هنا نص جواب الإمام مالك، وذكر جواب ربيعة في غير هذا الموضع ومعنى قول مالك الاستواء معلوم، يعني غير مجهول بل هو معلوم باللغة والشرع، فإن معناه اللغوي العلو والاستقرار، وقد صرحت النصوص بفوقية الله سبحانه، واستوائه على عرشه وقوله: الكيف مجهول، معناه إنا لا ندرك كيفية استواء الله بعقولنا وإنما طريق ذلك السمع ولم يرد السمع بذكر الكيفية فوجب الكف عنها وقوله: الإيمان به واجب،

معناه أن الإيمان باستواء الله على عرشه على الوجه اللائق به لأن الله أخبر به عن نفسه في كتابه وعلى لسان رسوله، فوجب تصديقه، وقوله: والسؤال عن الكيفية بدعة، بين المؤلف وجه كونه بدعة، بأنه سؤال عما لا يعلمه البشر ولا يمكنهم الإجابة عنه، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى، فالسؤال عن كيفية الصفات لم يكن معهوداً على ألسنة الصحابة وأئمة السنة وسلف الأمة، بل هو من ديدن أهل البدع، ولهذا قال الإمام مالك للسائل" وما أراك إلا رجل سوء" ثم أمر به فأخرج عن مجلسه، وهكذا سائر الأئمة قولهم يوافق قول مالك في أنا لا نعلم كيفية استوائه كما لا نعلم كيفية ذاته ولكن نعلم المعنى الذي دل عليه الخطاب، فنعلم معنى الاستواء ولا نعلم كيفيته وهكذا سائر الصفات، ففرق مالك رحمه الله بين المعنى والمعلوم من هذه اللفظة، وبين الكيف الذي لا يعقله البشر، وجواب مالك رحمه الله تعالى وغيره جواب كاف شاف في جميع مسائل الصفات فإذا سئل إنسان عن المجيء، أو النزول، أو السمع، أو البصر، أو غير ذلك أجيب بجواب مالك رحمه الله، فيقال مثلا: المجيء معلوم والكيف مجهول، وكذلك من سأل عن كيفية الغضب، أو الرضى، أو الضحك وغير ذلك فمعانيها كلها مفهومة. وأما كيفيتها فغير معقولة إذ تعقل كيفية الصفات فرع العلم بكيفية الذات، وقوله وكذلك إذا قال كيف ينزل ربنا إلى سماء الدنيا؟ قيل له كيف هو؟ فإذا قال: لا اعلم كيفيته قيل له ونحن لا نعلم كيفية نزوله، إذ العلم بكيفية الصفة يستلزم العلم بكيفية الموصوف، يعني هذا جواب آخر يجاب به من سأل عن كيفية نزول الله إلى سماء الدنيا، أو استوائه على عرشه، أو غضبه، أو محبته ونحو ذلك، فعندما يسأل عن كيفية الصفة، يقال له كيف لنا ذات الله؟ فإذا قال لا يعلم كيفية الله إلا هو سبحانه، قيل له وهكذا صفاته، لا يعلم كيفيتها إلا هو، فالعلم بكيفية الصفة فرع العلم بكيفية الذات، وكل من هذا الجواب، وجواب مالك ومن ورد عنه

هذا الجواب، صحيح ومقنع، ومفحم للخصم، ولفظ ذات تأنيث ذو: وذلك لا يستعمل إلا فيما كان مضافا إلى غيره فيقال: فلان ذو علم وقدرة، ونفس ذات علم وقدرة، وحيث جاء في القرآن، أو لغة العرب لفظ ذو، ولفظ ذات لم يجيء إلا مقرونا بالإضافة، كقوله: {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ} وقوله: {عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} وقول خبيب حين قدمه كفار قريش للقتل: ولست أبالي حين أقتل مسلما ... على أي جنب كان في الله مصرعي وذلك في ذات الإله وإن يشأ ... يبارك على أوصال شلو ممزع لكن لما صار النظار يتكلمون في هذا الباب قالوا: إنه يقال أنها ذات علم وقدرة ثم أنهم قطعوا هذا اللفظ عن الإضافة وعرفوه فقالوا: الذات، فليست الذات من العربية العرباء بل هي لفظ مولد وربيعة هو أبو عثمان ربيعة بن أبي عبد الرحمن فروخ مولى آل المنكدر التيميين المعروف بربيعة الرأي، فقيه أهل المدينة أدرك جماعة من الصحابة، وعنه أخذ مالك بن أنس وغيره، وهنا قصة طريفة له مع مالك قال بكر بن عبد الله الصنعاني: أتينا مالك بن أنس فجعل يحدثنا عن ربيعة الرأي، وكنا نستزيده من حديث ربيعة، فقال لنا ذات يوم: ما تصنعون بربيعة وهو نائم في ذلك الطاق، فأتينا ربيعة فأنبهناه وقلنا له أنت ربيعة؟ قال نعم، فقلنا كيف حظي بك مالك وأنت لم تحظ بنفسك؟ قال: أما أن مثقالا من دولة، خير من حمل بعير من علم، توفي ربيعة سنة ست وثلاثين ومائة، ومالك هو الإمام أبو عبد الله مالك بن أنس بن مالك الأصبحي المدني، إمام دار الهجرة، وأحد الأئمة الأعلام، سمع عن الزهري ونافع مولى بن عمر رضي الله عنهما وأخذ العلم عن ربيعة الرأي. وروى عنه الأوزاعي ويحيى بن سعيد، ولد مالك في سنة خمس

وتسعين للهجرة وقد حمل به ثلاث سنين وتوفي رحمه الله في شهر ربيع الأول سنة تسع وسبعين ومائة بعد أن عاش أربعا وثمانين سنة. وقول المؤلف وغيرهما، يشير إلى أن هذا الجواب مروي عن غير مالك وربيعة كأم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم واسمها هند بنت أبي أمية، تزوجها النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة سنة أربع من الهجرة، وتوفيت سنة تسع وخمسين، ودفنت بالبقيع وعمرها أربع وثمانون سنة، وسيَأتِي نص كلامها عند ذكر جواب ربيعة في موضعه إنشاء الله تعالى.

الأشاعرة يسلكونفيما ينفونه إما التأويل وإما التفويض

الأشاعرة يسلكونفيما ينفونه إما التأويل وإما التفويض ... قوله: وهذا الكلام لازم لهم في العقليات، وفي تأويل السمعيات، فإن من أثبت شيئا ونفى شيئا بالعقل ألزم إذا فيما نفاه من الصفات التي جاء بها الكتاب والسنة، نظير ما يلزمه فيما أثبته، ولو طلب بالفرق بين المحذور في هذا وهذا، لم يجد بينهما فرقا. ش: الضمير راجع إلى الأشاعرة المفرقين بين الصفات السبع التي يسمونها عقليات، وبين بقية الصفات التي يسمونها سمعيات، فالكلام السابق من حيث ثبوت الصفات ونفي المماثلة وعدم العلم بالكيفية شامل لسائر الصفات، فالباب واحد، ومن حاول التفريق بين الصفات كالأشاعرة تناقض، فإنه إذا تأول المحبة والرضا والرحمة والغضب بالإرادة، قيل له يلزمك في الإرادة ما يلزمك في الصفات، وإذا تأول الوجه بالذات لزمه في الذات ما يلزمه في الوجه، وكذلك إذ تأول الإصبع بالقدرة فإن القدرة أيضا صفة قائمة بالموصوف، ففر من صفة إلى صفة، وكذلك من تأول الضحك بالرضى والرضى بالإرادة إنما فر من صفة إلى صفة، فهلا أقر النصوص على ما هي عليه ولم ينتهك حرمتها؟ فإن المتأول إما أن يذكر معنى ثبوتها أو يتأول اللفظ بما هو عدم محض، فإن تأوله بمعنى ثبوتي كائن ما كان لزمه فيه نظير ما فر منه.

وإذا طولب بالفرق بين المحذور فيما أثبته وهي الصفات السبع وبين المحذور فيما نفاه وهي ماعدا الصفات السبع لم يجد بينهما فرقاً، وذلك لأن المخلوق يتصف بهذه الصفات، كما يتصف بتلك الصفات، فإن كانت المماثلة منفية في الصفات السبع، فهي منفية في الجميع، وإن أدعى المماثلة فيما عدا الصفات السبع ونفيها في الصفات السبع، كان مفرقا بين متماثلين بدون حجة أو برهان، وقد سبق إيضاح ذلك مفصلا. قوله: ولهذا لا يوجد لنفاة بعض الصفات دون بعض الذين يوجبون فيما نفوه إما التفويض، وإما التأويل المخالف لمقتضى اللفظ، قانون مستقيم، فإذا قيل لهم لم تأولتم هذا وأقررتم هذا، والسؤال فيهما واحد، لم يكن لهم جواب صحيح. ش: ومن أجل أنه لا فرق بين بعض الصفات والبعض الآخر من حيث لزوم المحذور وعدم لزومه لا يوجد لنفاة بعضها دون بعض منهج مستقيم، ويوجد فعل مضارع مبني للمجهول ونائب الفاعل قوله: "قانون مستقيم" وبين المؤلف فيما بين ذلك مسلك الذين ينفون بعض الصفات دون بعض وهم الأشاعرة، كما سبق بيانه، بين أنهم يسلكون فيما ينفونه أحد طريقين، أما تأويل النص بما يخالف مقتضى لفظه، أو يقولون لا نفهم معناه، بل نفوضه إلى الله، فلا أحد يعلم معناه، وكلا المسلكين خطأ، فإن التأويل المقبول هو ما دل على مراد المتكلم، والتأويلات التي يذكرونها لا يعلم أن الرسول أرادها، بل يعلم بالاضطرار في عامة النصوص أن المراد منها نقيض ما قالوه، وحينئذ فتأويل النفاة للنصوص باطل، فيكون نقيضه حقاً وهو إقرار الأدلة الشرعية على مدلولاتها ومن خرج عن ذلك لزمه من الفساد ما لا يقوله إلا أهل الإلحاد، وأما التفويض، فمن المعلوم أن الله

تعالى أمرنا أن نتدبر القرآن وحثنا على عقله وفهمه، فكيف مع ذلك يراد منا الإعراض عن إدراكه ومعرفته؟ فإنه على قول هؤلاء يكون الأنبياء والمرسلون لا يعلمون معاني ما أنزل الله عليهم من هذه النصوص، ولا الملائكة، ولا السابقون الأولون، وحينئذ فيكون ما وصف الله به نفسه في القرآن أو كثير مما وصف الله به نفسه لا يعلم الأنبياء معناه، بل ويقولون كلاما لا يعقلونه، ومعلوم أن هذا قدح في القرآن والأنبياء، إذ كان الله أنزل القرآن وأخبر أنه جعله هدى، وأمر الناس بتدبره وعقله، ومع هذا فأشرف ما فيه وهو ما أخبر به الرب عن صفاته لا يعلم أحد معناه، فلا يعقل ولا يتدبر، ولا يكون الرسول بين للناس ما أنزل إليهم، ولا بلغ البلاغ المبين، فيبقى هذا الكلام سداً لباب الهدى والبين من جهة الأنبياء، وفتحا لباب الزندقة والإلحاد، وبهذا يتبين أن قول أهل التفويض الذين يزعمون أنهم متبعون للسنة والسلف من أشر أقوال أهل البدع والإلحاد وقوله: فإذا قيل لهم لم تأولتم هذا وأقررتم هذا؟ الخ.. يعني أن الأشاعرة مثلا حين ما يتأولون قوله تعالى: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتان} فينفون صفة اليد بينما يقرون مدلول قوله تعالى: {وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} فيصفون الله بصفة السمع والبصر، كما هو مدلول النص إذا سئلوا عن الفرق بين مدلول- بل يداه مبسوطتان- ومدلول- وهو السميع البصير- لم يستطيعوا أن يجيبوا إجابة صحيحة، بل غاية ما عندهم أن يقولوا إثبات اليدين حقيقة لله يقتضي تشبيهه بالمخلوقين فيقال لهم حينئذ: واثبات السمع والبصر لله يقتضي مشابهته للمخلوقين، فإذا قالوا: السمع والبصر متصف بهما الله، وهما على ما يليق به ويناسب ذاته، ولا يماثل فيهما صفات المخلوقين، قيل لهم: وهو سبحانه، متصف باليدين، وهي على ما يليق به ويناسب ذاته، ولا يماثل فيها صفات المخلوقين، وهكذا القول في سائر الصفات.

يلزمهم في المعنى المصروف إليه ما يلزمهم في المعنى المصروف عنه

يلزمهم في المعنى المصروف إليه ما يلزمهم في المعنى المصروف عنه ... قوله: فهذا تناقضهم في النفي وكذا تناقضهم في الاثبات، فإن من تأول النصوص على معنى من المعاني التي يثبتها، فإنهم إذا صرفوا النص عن المعنى الذي هو مقتضاه إلى معنى آخر، لزمهم في المعنى المصروف إليه ما كان يلزمهم في المعنى المصروف عنه. ش: المعنى يقول المؤلف: كما أن الأشاعرة متناقضون في إثباتهم للصفات السبع ونفيهم ما عداها، فهم متناقضون أيضا في تأويلهم النص من معنى إلى معنى آخر كما سيَأتِي مثاله بعد هذا وقوله: فإن من تأول النصوص على معنى من المعاني التي يثبتها: خبر إن هو قوله:" لزمهم في المعنى المصروف إليه ما كان يلزمهم في المعنى المصروف عنه المصرح به في مدخول إن الثانية. فمعنى هذه العبارة: هو بعينه معنى قول المؤلف بعدها فإنه إذا صرفوا النص عن المعنى الذي مقتضاه إلى معنى آخر لزمهم في المعنى المصروف إليه ما كان يلزمهم في المعنى المصروف عنه. قوله: فإذا قال قائل: تأويل محبته ورضاه، وغضبه وسخطه هو إرادته للثواب والعقاب، كان يلزمه في الإرادة نظير ما يلزمه في الحب والمقت والرضا والسخط. ش: هذا هو المثال الذي قلنا أنفا إنه سيَأتِي: فمن تأويله قوله تعالى: {قُلْ أن كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّه} وقوله سبحانه: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ} وقوله تعالى: {رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ} وقوله: {ذَلِكَ بِأنهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانهُ} ونحو ذلك من الآيات من تأول محبة الله أو رضاه بإرادته للثواب، كان ما يلزمه من المحذور من إثبات الحجة والرضى لازم له في

إثبات الإرادة، ومن تأول غضب الله وسخطه بإرادته العقاب، كان ما يلزمه من المحذور في صفة الغضب والسخط، لازم له في إثبات صفة الإرادة فالمعنى المصروف عنه هو المحبة والغضب والسخط والمعنى المصروف إليه- هو الإرادة- فاتضح أن من تأول النصوص على معنى من المعاني التي يثبتها لزمه من المحذور في المعنى المصروف إليه ما كان يلزمه في المعنى المصروف عنه. قوله: ولو فسر ذلك بمفعولاته، وهو ما يخلقه من الثواب والعقاب، فإنه يلزمه في ذلك نظير ما فر منه، فإن الفعل لابد أن يقوم أولا بالفاعل، والثواب والعقاب المفعول إنما يكون على فعل ما يحبه وبرضاه، وبسخطه وببغضه المثيب المعاقب. ش: يعني وإذا تأولوا المحبة أو الرضا ببعض مخلوقات الله كالثواب والنعم أو فسروا الغضب والسخط ببعض مخلوقات الله- كالعقوبات- إذا تأولوا النصوص على هذا أجيبوا بجوابين: أولا أن الإثابة والمعاقبة فعل يقوم بالله، والمخلوق يوصف بالفعل، وثانيا يقال: الثواب إنما يكون على فعل ما يحبه المثيب، والعقوبة إنما يكون على فعل ما يحبه المثيب، والعقوبة إنما تكون على فعل ما يبغضه المعاقب، فما فسروا به المحبة والبغض، هو نفسه يدل على الصفة التي فروا من إثباتها. قوله: فهم إن أثبتوا الفعل على مثل الوجه المعقول في الشاهد للعبد مثلوا، وإن أثبتوا على خلاف ذلك فكذلك الصفات. ش: يعني أن الإثابة والعاقبة فعل يتصف الله به، والمخلوق يوصف بالفعل فهل الفعل الذي تثبتونه لله مثل الفعل الذي يتصف به المخلوق؟ أن قلتم إنه مثله فهذا هو التشبيه، وأنتم تفرون من ذلك! وإن

قلتم: بل فعل الله يليق به وفعل المخلوق يليق به، فهكذا يجب أن تقولوا هذا القول في سائر الصفات، فصفات الله ثابتة له، وهي على ما يناسب ذاته المقدسة، وصفات المخلوق ثابتة له وهي على ما يناسب ذاته.

كلام اللغويين في المثل

كلام اللغويين في المثل ... قوله: "فصل" وأما المثلان المضروبان فإن الله سبحانه وتعالى أخبر عما في الجنة من المخلوقات من أصناف المطاعم والملابس، والمناكح والمساكن، فاخبر أن فيها لبناً وعسلا، وخمراً، وماء، ولحماً وحريراً وذهباًٍِ وفضة، وفاكهة وحوراً وقصوراً، وقد قال ابن عباس رضي الله عنهما ليس في الدنيا شيء مما في الجنة إلا الأسماء، وإذا كانت تلك الحقائق التي أخبر الله عنها هي موافقة في الأسماء للحقائق الموجودة في الدنيا وليست مماثلة لها، بل بينهما من التباين ما لا يعلمه إلا الله تعالى فالخالق سبحانه وتعالى أعظم مباينة للمخلوقات من مباينة المخلوق للمخلوق، ومباينته لمخلوقاته أعظم من مباينة موجود الآخرة لموجود الدنيا، إذ المخلوق أقرب إلى المخلوق الموافق له في الاسم من الخالق إلى المخلوق، وهذا بين واضح. ش: بعد أن فرغ المؤلف من بيان الأصلين المتضمنين بيان إثبات الأسماء والصفات لله مع نفي المماثلة للمخلوقات، شرع في بيان المثلين المضروبين المتضمنين لبيان ذلك أيضا والمثل هو كما قال المبرد قول يشبه سائر يشبه به حال الثاني بالأول والأصل فيه التشبيه فقولهم: مثل بين يديه إذا انتصب معناه أشبه الصورة المنتصبة وفلان أمثل من فلان أي أشبه بماله من الفضل، فحقيقة المثل ما جعل كالعلم للتشبيه بحال الأول كقول كعب بن زهير: كانت مواعيد عرقوب لها مثلا ... وما مواعيدها إلا الأباطيل

فمواعيد عرقوب علم لكل ما لا يصح من المواعيد وقال ابن السكيت: المثل لفظ يخالف لفظ المضروب له ويوافق معناه معنى ذلك اللفظ، شبهوه بالمثال الذي يعمل عليه غيره فالحاصل أن المثل كلام سائر شبه مضربه بمورده لغرابته، كقولهم: " الصيف ضيعت اللبن" وفي ضرب الأمثال زيادة تذكير وتفهيم وتصوير للمعاني، قال ابن المقفع: إذا جعل الكلام مثلا كان أوضح للمنطق، وآنق للمسمع وأوسع لشعوب الحديث: وقوله: " فإن الله سبحانه تعالى أخبر عما في الجنة من المخلوقات، من أصناف المطاعم والملابس، والمناكح والمساكن" يعني كما قال تعالى: {وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِآنيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوَابٍ كانتْ قَوَارِيرَا قَوَارِيرَ مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوهَا تَقْدِيرا ًوَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْساً كان مِزَاجُهَا زَنْجَبِيلاً عَيْناً فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلاً وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَان مُخَلَّدُونَ إِذَا رَأيتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاً مَنْثُوراً وَإِذَا رَأيتَ ثَمَّ رَأيتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً عَالِيَهُمْ ثِيابُ سُنْدُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَسَاورَ مِنْ فِضَّةٍ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَاباً طَهُوراً} وقال تعالى: {وَأَمْدَدْنَاهُمْ بِفَاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ} وقال عز وجل: {فِيهَا أنهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأنهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأنهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأنهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفّىً وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ} وقال تعالى: {أن الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ يَلْبَسُونَ مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَقَابِلِينَ كَذَلِكَ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ} وقال تعالى: {لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِهَا غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأنهَارُ وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعَادَ} وما ذكره الله في الآخرة، من أنواع المطاعم والمشارب، والمناكح والملابس، والمساكن، يشبه ما في الدنيا من هذه الأنواع في الاسم، وفي المعنى العام، وهذا التوافق في الاسم وفي الحقيقة من حيث العموم لم يوجب أن تكون حقائق الآخرة مثل حقائق الدنيا من كل وجه، بل بينهما بون شاسع وفرق بعيد، وقول ابن عباس: "ليس في الدنيا شيء مما في الجنة إلا الأسماء" معناه أن التفاوت بينهما كبير في اللذة والكمال والعظمة، حتى أنه لا يكاد

التوافق يكون بينهما في الاسم لشدة التفاوت، وإذا تقرر هذا فالرب تبارك وتعالى وإن كان متصفا بالصفات ومسمى بالأسماء، والمخلوق يسمى بتلك الأسماء ويوصف بتلك الصفات فهما متفقان في الاسم وفي المعنى العام، غير أن هذا الاتفاق ليس معناه أنهما متماثلان، بل بينهما تفاوت عظيم وفرق كبير، التباين الذي بين الخالق والمخلوق أعظم من التفاوت الذي بين المخلوق والمخلوق، فإن المخلوق أقرب إلى المخلوق، لموافقته في اسمه وجنسه وهذا جلي لا غموض فيه.

أقسام الناس في باب الإيمان بالله واليوم الآخر

أقسام الناس في باب الإيمان بالله واليوم الآخر ... قوله: ولهذا افترق الناس في هذا المقام ثلاث فرق: فالسلف والأئمة وأتباعهم آمنوا بما أخبر الله عن نفسه وعن اليوم الآخر مع علمهم بالمباينة التي بين ما في الدنيا وبين الآخرة، وأن مباينة الله لخلقه أعظم. والفريق الثاني: الذين أثبتوا ما أخبر به في الآخرة من الثواب والعقاب، ونفوا كثيرا مما أخبر به في الآخرة من الثواب والعقاب، والفريق الثالث: نفوا هذا وهذا، كالقرامطة، والباطنية، والفلاسفة، أتباع المشائين ونحوهم من الملاحدة الذين ينكرون حقائق ما أخبر الله به عن نفسه وعن اليوم الآخر. ثم إن كثيرا منهم يجعلون الأمر والنهي من هذا الباب، فيجعلون الشرائع المأمور بها، والمحظورات المنهي عنها تأويلات باطنة تخالف ما يعرفه المسلمون منها، كما يتأولون الصلوات الخمس، وصيام شهر رمضان وحج البيت، فيقولون: أن الصلوات الخمس معرفة أسرارهم، وأن صيام رمضان كتمان أسراهم، وأن حج البيت سفر إلى شيوخهم، ونحو ذلك من التأويلات التي يعلم بالاضطرار أنها كذب وافتراء على الرسل، صلوات الله عليهم، وتحريف لكلام الله ورسوله عن مواضعه، والحاد في آيات الله، وقد يقولون: الشرائع تلزم العامة دون الخاصة، فإذا

صار الرجل من عارفيهم ومحققيهم وموحديهم، رفعوا عنه الواجبات وأباحوا له المحظورات. ش: يعني ومن أجل التوافق في الاسم، وفي المعنى العام وكون التفاوت بين الخالق والمخلوق أعظم من التفاوت الحاصل بين حقائق الدنيا وحقائق الآخرة، من أجل هذا افترق الناس فيما أخبر الله به عن نفسه من حقائق الصفات، وما أخبر به عن اليوم الآخر إلى ثلاث فرق: فأهل السنة والجماعة آمنوا بما أخبر الله به عن نفسه من صفات الكمال ونعوت الجلال ونزهوه عن الند والمثال كما آمنوا بما أخبر الله به عن اليوم الآخر، وما أعد الله لمن أطاعه وعصاه من الجزاء، والفرقة الثانية آمنوا ببعض وهو الإيمان بما أخبر الله به عن اليوم الآخر وامتثال الأمر، واجتناب النهي، والجزاء على الأعمال، بينما نفوا حقائق أسماء الله وصفاته، وهم أهل التحريف والتأويل، الذين يقولون أن الأنبياء لم يقصدوا بهذه الأقوال – ما في نفس الأمر- وأن الحق في نفس الأمر هم ما علمناه بعقولنا، ثم يجتهدون في تأويل هذه النصوص بأنواع التأويلات التي يحتاجون فيها إلى إخراج اللغات عن طرقها المعروفة، وإلى الاستعانة بغرائب المجازات والاستعارات، فلا يقصدون مراد المتكلم به وحمله على ما يناسب حاله، وكل تأويل لا يقصد به صاحبه بيان مراد المتكلم وتفسير كلامه على الوجه الذي يعرف به مراده فصاحبه كاذب على من تأول كلامه، وقول المؤلف "مثل طوائف من أهل الكلام" يعني كالجهمية والمعتزلية ونحوهم، والفرقة الثالثة نفت ما دلت عليه نصوص المعاد، من البعث والنشور والجزاء على الأعمال، كما نفت ما دلت عليه نصوص الصفات من نعوت الجلال وأوصاف الكمال، وهذا ضلال صراح وكفر بواح، وهؤلاء هم الغلاة، من القرامطة والباطنية الإسماعيلية، والفلاسفة المشائين، وقول المؤلف "والباطنية بالعطف على القرامطة" يشير إلى أن هذه فرقة أخرى غير أتباع حمدان.

وأغلب ما يطلق هذا الوصف على أتباع إسماعيل بن جعفر، وقد تميزوا عن بقية طوائف الشيعة باسم الباطنية وأما قول المؤلف فيما سبق: عند ذكر الطوائف التي زاغت وحادت عن سبيل المرسلين، "والقرامطة الباطنية " فمعناه أن أتباع حمدان قرمط يوصفون بأنهم باطنية لموافقتهم هذه الفرقة في جعلهم نصوص الشرع عبارة عن رموز وإشارات لها تأويلات باطنة تخالف ما يعرفه المسلمون منها. وقوله: ونحوهم من الملاحدة الذين ينكرون حقائق ما أخبر أنه به عن نفسه وعن اليوم الآخر يعني كملاحدة الصوفية مثل ابن عربي وابن سبعين وأشباههما فإن هؤلاء قد ملكوا مسلك ملاحدة الشيعة: وقوله: "ثم أن كثيرا منهم " الخ. بعد أن فرغ المؤلف من بيان مذهب الملاحدة فيما يتعلق بحقائق أسماء الله وصفاته، وما وعد الله به في الآخرة من الجزاء على الأعمال: بين مذهبهم في فروع الشريعة فذكر أن الكثير منهم يسلكون فيها ما سلكوه فيما سبق، وذلك بإبطالهم معناه الحقيقي وتأويلهم لنصوصها بتأويلات، يعلم بالاضطرار من لغة العرب أنها ليست هي المفهوم من لفظ الصلاة والصوم والحج ولا يمكن أن يدعى أن أهل اللغة التي نزل بها القرآن كانوا يريدون هذا المعنى بهذا اللفظ. والقرآن نزل بلغة الذين خاطبهم الرسول صلى الله عليه وسلم، فليس لأحد أن يستعمل ألفاظه في معان وضعها من عندياته مع عدم الشبه والمناسبة التي تسوغ في اللغة. مثل هذا. وقوله: "ونحو ذلك من التأويلات يعني كتأويلهم الفرائض بموالاة زعمائهم والمحرمات بتحريم موالاة أبي بكر وعمر، وتأويلهم الملائكة بزعمائهم والشياطين بمخالفيهم ". وهذه التأويلات وأمثالها، يعلم بالاضطرار أنها كذب وافتراء على الرسل صلوات الله وسلامه عليهم وتخويف لكلام الله ورسوله عن مواضعه، والحاد في آيات الله وقوله قد يقولون الشرائع تلزم العامة دون الخاصة إلى قوله: "وأباحوا له المحظورات" يعني أن بعض هؤلاء الملاحدة قد يفرق بين عوام الناس وخواصهم في تطبيق الفروع، فالمحقق منهم والعارف

بمذهبهم والموحد المخلص لإلحادهم. هؤلاء طبقة فوق العمل بفروع الشريعة وأما بقية الناس فهم حشو ورعاع يلزمهم أن يعملوا وأن يمتثلوا المأمور ويجتنبوا المنهي، لأن أمرهم في الدنيا لا يصلح إلا بذلك والبعض منهم يقرها بالنسبة للعموم فهذه طريقة الملاحدة الباطنية الإسماعيلية ونحوهم. من قرامطة ومتفلسفة.

أهل التصوف والسلوك

أهل التصوف والسلوك ... قوله: وقد يدخل في المنتسبين إلى التصوف والسلوك من يدخل في بعض هذه المذاهب. ش: يعني قد يشارك ملاحدة الشيعة والمتفلسفة في أقوالهم الباطلة، ومذاهبهم الزائفة: قد يشاركهم أناس ينتسبون إلى التصوف والملوك، لكن تظاهر هؤلاء بالمعرفة والعبادة والزهد التباس أمرهم وخفاء حالهم على كثير من أهل العلم، بخلاف أولئك الذين تظاهروا بمذاهب التشيع والغلو فإن ذلك مما نفر الناس عنهم، إذ هو ضلال صراح وكفر بواح، فأهل الفقر والزهد والعبادة لمشاركتهم الجمهور في الانتساب إلى السنة والجماعة يخفى من إلحادهم ما لا يخفى من الحاد ملاحدة الباطنية المنتسبين إلى التشيع "والتصوف " العكوف على العبادة والانقطاع إلى الله تعالى والإعراض عن زخرف الدنيا وزينتها، والزهد فيما يقبل عليه الجمهور من لذة ومال وجاه، وكان نوع ذلك عاما في الصحابة والسلف: فلما فشى الإقبال على الدنيا في القرن الثاني وما بعده: وجنح الناس إلى الانهماك في الدنيا، اختص المقبلون على العبادة باسم المتصوفة: وعلى القول بأن التصوف مشتق لا لقب، يكون مشتقاً من الصوف وهم في الغالب مختصون بلبسه، لما كانوا عليه من مخالفة الناس من لبس فاخر الثياب وسيَأتِي ذلك زيادة بحث في وضعه - من هذه الرسالة إنشاء الله

تعالى: "والسلوك" معناه السير، فأهل السلوك هم أهل السير إلى العبادة، إلا أن فيهم العابد المحقق والمحرف الملحد. قوله: وهؤلاء الباطنية هم الملاحدة الذين أجمع المسلمون على أنهم أكفر من اليهود والنصارى. ش: يعني من سبق ذكرهم، من قرامطة ومتفلسفة، وباطنية الشيعة، وباطنية الصوفية، هؤلاء هم الملحدون الذين أتفق المسلمون على أنهم كفار، بل على أن كفرهم أعظم من كفر اليهود والنصارى، وذلك لأنهم- زنادقة منكرون للرسالات كلها، والشرائع جميعها، فلا يقرون بمدلول نصوص الصفات ولا بمدلول نصوص البعث والنشور، وامتثال ما في النصوص الشرعية من أوامر، واجتناب ما فيها من نواه، فقولهم غاية في الزندقة والإلحاد. قوله: وما يحتج به على الملاحدة أهل الإيمان والإثبات، يحتج به كل من كان من أهل الإيمان والإثبات على من يشارك هؤلاء في بعض إلحادهم. ش: يعني برهان المؤمنين بالله، المثبتين لمدلول نصوص الوحيين، برهانهم في إثبات ما وصف الله به نفسه، وما وصفه به رسوله من حقائق الأسماء والصفات، ووقوع البعث والنشور والجزاء على الأعمال، برهانهم على ملاحدة الفلاسفة والصوفية، هو برهانهم على من يشارك هؤلاء الملاحدة في قسم من إلحادهم، والذين يشاركونهم هم نفاة الأسماء والصفات من الجهمية ونحوهم. فحجة أهل الإيمان بالله والإثبات لما دلت عليه نصوص الوحيين على الفريقين واحدة: وذلك أن ما أنكروه شيء ثابت قد دلت جميع الكتب السماوية على إثباته، وهو المفهوم الذي تظافر

على إثباته السمع والعقل، فإثبات أسماء الله وصفاته مع نفي مماثلته لمخلوقاته هو محض التوحيد، ونفي ذلك هو محض التعطيل والتنقص، وكون هناك دار أخرى يجازى فيها المحسن على إحسانه، والمسيء على إساءته: هو مقتضى الرحمة والعدل، فأهل العلم والإيمان، يجعلون كلام الله ورسوله هو الأصل الذي يعتمد عليه، وإليه يرد ما تنازع الناس فيه، فما وافقه كان حقا وما خالفه كان باطلا، وهؤلاء الملاحدة ليس معهم إلا محض التحريف لما هو معلوم بالضرورة باللغة التي نزل بها القرآن، وتكلم بها رسول الرحمن. واعلم أن من كان قصده متابعة ما جاء في الكتاب والسنة من المؤمنين، واخطأ بعد اجتهاده وإفراغ وسعه لم يجز تكفيره ولا التعنيف في الرد عليه، والله يغفر لعباده الخطأ والنسيان ما لم تقم عليه الحجة التي لا يعذر بمخالفتها وتزال شبهته. قوله: فإذا أثبت لله تعالى الصفات، ونفى عنه مماثلة المخلوقات، كما دل على ذلك الآيات البينات، كان ذلك هو الحق الذي يوافق المعقول والمنقول، ويهدم أساس الإلحاد والضلالات. ش: يعني أن المثبت لحقائق أسماء الله وصفاته مع نفي مماثلته سبحانه لمخلوقاته، هو الموافق لما جاء في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم من وصف الله تبارك وتعالى بأوصاف الكمال ونعوت الجلال، والموافق لمقتضى العقل السليم، من أمراض الشبه والإلحاد، فإن الرب المالك والإله الواحد لابد وأن يكون متصفا بكل وصف كمال، ومتنزها عن كل عيب ونقص، أما هؤلاء الملحدون النافون لأسماء الله وصفاته والمنكرون للمعاد والجزاء على الأعمال، وهكذا من شاركهم في بعض إلحادهم، هؤلاء جميعا مخالفون لما أثبته النقل ودل عليه العقل.

قياس التمثيل والشمول

قياس التمثيل والشمول ... قوله: والله سبحانه لا تضرب له الأمثال التي فيها مماثلة لخلقه، فإن الله لا مثيل له، بل له المثل الأعلى، فلا يجوز أن يشرك هو والمخلوق في قياس تمثيل، ولا في قياس شمول تستوي أفراده، ولكن يستعمل في حقه المثل الأعلى، وهو أن كل ما اتصف به المخلوق من كمال فالخالق أولى به، وكل ما ينزه عنه المخلوق من نقص فالخالق أولى بالتنزيه عنه، فإذا كان المخلوق منزها عن مماثلة المخلوق مع الموافقة في الاسم، فالخالق أولى أن ينزه عن مماثلة المخلوق، وإن حصلت موافقة في الاسم. ش: يعني أن العلم الإلهي لا يجوز أن يستدل فيه بقياس تمثيل يستوي فيه الأصل والفرع، ولا بقياس شمول تستوي أفراده، فإن الله سبحانه وتعالى، ليس كمثله شيء فلا يجوز أن يمثل بغيره ولا يجوز أن يدخل هو وغيره تحت قضية كلية تستوي أفرادها، ولهذا لما سلك طوائف من المتفلسفة والمتكلمة مثل هذه الأقيسة في المطالب الإلهية لم يصلوا بها إلى يقين، بل تناقضت أدلتهم وغلب عليهم بعد التناهي الحيرة والاضطراب، لما يرونه من فساد أدلتهم وتكافئها ولقد أحسن القائل: حجج تهافت كالزجاج تخالها ... حقا وكل كاسر مكسور ولكن يستعمل في ذلك قياس الأولى سواء كان تمثيلا أو شمولا كما قال تعالى: {وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى} مثل أن نعلم أن كل كمال ثبت للممكن المحدث لا نقص فيه بوجه من الوجوه فالواجب القديم أولى به وكل كمال لا نقص فيه بوجه من الوجوه ثبت نوعه للمخلوق المربوب المدبر، فإنما استفادة من خالقه وربه ومدبره، فهو أحق به منه، وأن كل نقص وعيب في نفسه وهو ما تضمن سلب أوصاف الكمال إذا وجب نفيه عن شيء من أنواع المخلوقات والمحدثات والممكنات، فإنه يجب نفيه عن الرب تبارك

وتعالى بطريق الأولى، وأنه أحق بالأمور الوجودية من كل موجود، وأما الأمور العدمية فالممكن بها أحق وقياس التمثيل: هو إلحاق الفرع بالأصل في الحكم بجامع الوصف المشترك بينهما، ومثاله في قول النفات: لو كان الله متصفاً بالصفات لكان جسماً قياساً على المخلوق: فقد قاسوا الخالق على المخلوق، وحكموا بالمماثلة، لاشتراك الخالق والمخلوق في أن كلا منها متصف بالصفات، وقياس الشمول هو ما كان مركباً من مقدمتين فأكثر مستعملا فيه لفظة، كل، الدالة على الشمول: ومثاله في كلام نفاة الصفات قولهم: المخلوق متصف بالصفات وكل متصف بالصفات فهو جسم، فنفوا صفات الله لئلا يدخل في هذا العموم فيكون مثيلا للمخلوق: فهؤلاء النفات أشركوا الخالق مع المخلوق، واستعملوا في حقه قياس التمثيل الذي يستوي فرعه بأصله بجامع العلة المشتركة بينها، واستعلموا في حقه سبحانه، قياس الشمول الذي تستوي أفراده وتندرج تحت قضية كلية، وهذا كما أنه مخالف لما جاء في الكتاب والسنة، فهو مخالف أيضا للفطر السليمة، والعقول الصحيحة، فإن الذي يجب أن يستعمل في حق الله، هو القياس الأولى، وهو المثل الأعلى، الذي وصف الله به نفسه كما في قوله تعالى: {لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} فجعل "مثل السوء" المتضمن للعيوب، والنقائص، وسلب الكمال- للمشركين- وأخبر: أن المثل الأعلى المتضمن لإثبات الكمالات كلها" له وحده. و"الأعلى" أفعل تفضيل، فمعنى ذلك: أنه أعلى من غيره: فكيف يكون أعلى وهو عدم محض، ونفي صرف! تعالى الله عن قول المعطلين علواً كبيراً. قال ابن جرير: "الأعلى" هو الأطيب والأفضل والأحسن والأجمل، فهذا المثل الأعلى الذي له سبحانه والأول مثل السوء للصنم وعابديه. فحاصل المثل: أن الله قد أخبر أن في الآخرة من أنواع النعيم ما له شبه في الدنيا: كأنواع المطاعم والمشارب والملابس، والمناكح وغير ذلك:

فحقائق تلك أعظم من حقائق هذه بما لا نعرف قدره وكلاهما مخلوق. والنعيم الذي يعرف جنسه قد أجمله الله سبحانه وتعالى، بقوله: {فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ} وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "يقول الله تعالى: أعددت لعبادي ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر" فإذا كان هذان المخلوقان متفقين في الاسم والمعنى العام مع أن بينهما في الحقيقة تباينا لا يعرف في الدنيا قدره فمن المعلوم أن ما يتصف به الرب من صفات الكمال مباين لصفات خلقه أعظم من مباينة مخلوق لمخلوق.

وصف الروح في النصوص

وصف الروح في النصوص ... فحقائق تلك أعظم من حقائق هذه بما لا نعرف قدره وكلاهما مخلوق. والنعيم الذي يعرف جنسه قد أجمله الله سبحانه وتعالى، بقوله: {فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ} وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "يقول الله تعالى: أعددت لعبادي ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر" فإذا كان هذان المخلوقان متفقين في الاسم والمعنى العام مع أن بينهما في الحقيقة تباينا لا يعرف في الدنيا قدره فمن المعلوم أن ما يتصف به الرب من صفات الكمال مباين لصفات خلقه أعظم من مباينة مخلوق لمخلوق. قوله: وهكذا القول في المثل الثاني وهو أن الروح التي فينا- فإنها قد وصفت بصفات ثبوتية وسلبية، وقد أخبرت النصوص أنها تعرج وتصعد من سماء إلى سماء، وأنها تقبض من البدن وتسل منه كما تسل الشعرة من العجينة. ش: يعني كما قيل في "المثل الأول" يقال أيضا: في "المثل الثاني" فإن روح ابن آدم تسمع، وتبصر، وتتكلم، وتنزل، تصعد، كما ثبت ذلك بالنصوص الصحيحة، والمعقولات الصريحة، ومع ذلك فليست صفاتها وأفعالها كصفات البدن وأفعاله، فإذا لم يجز أن يقال: أن صفات الروح وأفعالها مثل صفات الجسم الذي هو الجسد، وهي مقرونة به، وهما جميعا الإنسان فكيف يجوز أن يجعل الرب تبارك وتعالى وصفاته وأفعاله مثل المخلوق وصفاته وأفعاله؟ كما سيبين المؤلف ذلك في آخر البحث. ومثال ما ورد من النصوص: في أخبار الروح قول الله تبارك وتعالى: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً أن فِي ذَلِكَ لَآيات لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} وقوله

سبحانه: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلائِكَةُ بَاسِطُو أيدِيهِمْ أَخْرِجُوا أنفُسَكُمُ} وقوله عز وجل: {يا أيتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً فَادْخُلِي فِي عِبَادِي وَادْخُلِي جَنَّتِي} وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول عند النوم: "باسمك رب وضعت جنبي وبك أرفعه، أن أمسكت نفسي فاغفر لها وارحمها وإن أرسلتها فاحفظها بما تحفظ به عبادك الصالحين " وفي الصحيح أيضا أنه كان يقول: "اللهم أنت خلقت نفسي وأنت تتوفاها لك مماتها ومحياها فإن أمسكتها فارحمها وإن أرسلتها فاحفظها بما تحفظ به عبادك الصالحين" وروى الإمام أحمد بسنده عن البراء بن عازب رضي الله عنه قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في جنازة رجل من الأنصار فانتهينا إلى القبر ولما يلحد، فجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم وجلسنا حوله كأن على رؤوسنا الطير، وفي يده عود ينكت به الأرض، فرفع رأسه فقال: "استعيذوا بالله من عذاب القبر" مرتين أو ثلاثا- ثم قال: "أن العبد المؤمن إذا كان في انقطاع من الدنيا وإقبال من الآخرة نزل عليه من السماء ملائكة بيض الوجوه كأن وجوههم الشمس، معهم كفن من أكفان الجنة، وحنوط من حنوط الجنة حتى يجلسون منه مد بصره، ثم يجيء ملك الموت حتى يجلس عند رأسه فيقول: "أيتها النفس الطيبة أخرجي إلى مغفرة من الله ورضوان، قال: فتخرج فتسيل كما تسيل القطرة من في السقاء فيأخذها، فإذا أخذها لم يدعوها في يده طرفة عين، حتى يأخذوها فيجعلوها في ذلك الكفن، وفي ذلك الحنوط، ويخرج منها ريح كأطيب نفحة مسك وجدت على وجه الأرض فيصعدون بها فلا يمرون يعني بها على ملاء من الملائكة بين السماء والأرض إلا قالوا ما هذه الروح الطيبة؟ فيقولون: "فلان بن فلان بأحسن أسمائه التي كانوا يسمونها في الدنيا حتى ينتهوا به إلى السماء الدنيا، فيستفتحون له فيفتح له فيشيعه من كل سماء مقربوها إلى السماء التي تليها حتى ينتهوا به إلى السماء السابعة فيقول الله تعالى: اكتبوا كتاب عبدي في عليين وأعيدوه إلى الأرض فإني

منها خلقتهم وفيها أعيدهم ومنها أخرجهم تارة أخرى، قال: فتعاد روحه، يَأتِيه ملكان فيجلسانه، فيقولان له من ربك؟ فيقول الله ربي، فيقولان له وما دينك؟ فيقول ديني الإسلام، فيقولان له ما هذا الرجل الذي بعث فيكم؟ فيقول هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيقولان له ما علمك؟ فيقول قرأت كتاب الله فآمنت به وصدقت، فينادي مناد من السماء أن صدق عبدي فافرشوه من الجنة وألبسوه من الجنة!! وافتحوا له بابا إلى الجنة!! قال: فيَأتِيه رجل حسن الوجه حسن الثياب طيب الريح فيقول: أبشر بالذي يسرك هذا يومك الذي كنت توعد، فيقول له: من أنت فوجهك وجه الذي يجيء بالخير؟ فيقول: أنا عملك الصالح فيقول رب أقم الساعة حتى أرجع إلى أهلي ومالي. وقال إن العبد الكافر إذا كان في انقطاع من الدنيا وإقبال من الآخرة، نزل عليه من السماء ملائكة سود الوجوه، معهم المسوح فيجلسون منه مد البصر، ثم يجيء ملك الموت حتى يجلس عند رأسه فيقول: أيتها النفس الخبيثة: اخرجي إلى سخط من الله وغضب قال: فتتفرق في جسده فينتزعها كما ينزع السفود من الصوف المبلول فيأخذها فإذا أخذها لم يدعوها في يده طرفة عين حتى يجعلوها في تلك المسوح، ويخرج منها كأنتن ريح جيفة وجدت على وجه الأرض فيصعدون بها، فلا يمرون على ملاء من الملائكة إلا قالوا ما هذه الروح الخبيثة؟ فيقولون فلان بن فلان، بأقبح أسمائه التي كان يسمى بها في الدنيا، حتى ينتهي بها إلى السماء الدنيا فيستفتح فلا يفتح له، ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم {لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِياطِ} فيقول الله: اكتبوا كتابه في سجين، في الأرض السفلى فتطرح روحه طرحاً ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم {وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فكأنما خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أو تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكان سَحِيقٍ} فتعاد روحه في جسده ويَأتِيه ملكان فيجلسانه، فيقولان له من ربك؟ فيقول هاه هاه لا أدري! فيقولان له ما دينك؟ فيقول هاه هاه لا

أدري! فينادي مناد من السماء أن كذب عبدي فافرشوه من النار وألبسوه من النار! وافتحوا له بابا إلى النار! فيَأتِيه من حرها وسمومها! ويضيق عليه قبره! حتى تختلف أضلاعه ويَأتِيه رجل قبيح الثياب منتن الريح فيقول: أبشر بالذي يسوؤك هذا يومك الذي كنت توعد فيقول: من أنت؟ فوجهك وجه الذي يجيء بالشر؟ فيقول أنا عملك الخبيث!! فيقول رب لا تقم الساعة" وهذا الحديث مما اتفق السلف والخلف على روايته وتلقيه بالقبول، وفي هذه النصوص من صعود الروح إلى السماء، وعودها إلى البدن ما يبين أن صعودها ونزولها نوع آخر ليس مثل صعود البدن ونزوله. قوله: والناس مضطربون فيها، فمنهم طوائف من أهل الكلام يجعلونها جزءا من البدن، أوصفة من صفاته كقول بعضهم: "أنها النفس أو الريح التي تردد في البدن " وقول بعضهم: "أنها الحياة أو المزاج أو نفس البدن " ش: هذه عدة أقوال في حقيقة الروح وكلها باطلة ليس مع أصحابها سوى الظنون الكاذبة، وهذه الأقوال: هي أولا قولهم: أنها جزء من البدن، يعني كالكبد أو الطحال، ثانيا قولهم: أنها البدن، يعني هذا الجسم بأعضائه وشكله. ثالثا قولهم: أنها النفس، وهو الهواء المتردد في البدن، رابعا: أنها الحياة، وهي الحرارة الغريزية، خامسا قولهم: أنها المزاج، وهو ما ركب عليه البدن من الطبائع والذي تظاهرت عليه أدلة القرآن والسنة والاعتبار، والعقل، وإجماع سلف الأمة وأئمة السنة، أن الروح "جسم " مخالف بالماهية لهذا الجسم المحسوس، نوراني علوي خفيف حي متحرك، ينتقل في جوهر الأعضاء، ويسري فيها سريان الماء في الورد، وسريان الدهن في الزيتون، والنار في الفحم، فما دامت هذه الأعضاء صالحة لقبول الآثار الفائضة عليها، من هذا الجسم اللطيف بقي

ذلك الجسم ساريا في هذه الأعضاء، وإفادتها هذه الآثار من الحس والحركة الإرادية وإذا أراد الله موت هذا المخلوق الحي انفصلت عنه الروح، فهي إذاً ذات قائمة بنفسها تصعد وتنزل وتتصل وتنفصل، وتخرج وتذهب، وتحبيء وتتحرك وتسكن، وقد ذكر ابن القيم على هذا القول أكثر من مائة دليل. قوله: ومنهم طوائف من أهل الفلسفة يصفونها بما يصفون به واجب الوجود، وهي أمور لا يتصف بها إلا ممتنع الوجود، فيقولون: لا هي داخل البدن ولا خارجه، ولا مباينة له ولا مداخلة، ولا متحركة ولا ساكنة، ولا تصعد ولا تهبط، ولا هي جسم ولا عرض وقد يقولون: أنها لا تدرك الأمور المعينة والحقائق الموجودة في الخارج وإنما تدرك الأمور الكلية المطلقة وقد يقولون: أنها لا داخل العالم ولا خارجه، ولا مباينة له ولا مدخلة، وربما قالوا ليست داخلة في أجسام العالم ولا خارجة عنها، مع تفسيرهم للجسم بما لا يقبل الإشارة الحسية، فيصفونها بأنها لا يمكن الإشارة إليها، ونحو ذلك من الصفات السلبية، التي تلحقها بالمعدوم والممتنع. ش: يعني ومن جملة الناس المضطربين في حقيقة الروح طوائف من الفلاسفة وقد ذكر المؤلف أنهم يصفون الروح بما يصفون به واجب الوجود، فكما يقولون عن الله سبحانه أنه لا جسم ولا عرض، ولا هو داخل العالم ولا خارجه، كذلك: يصفون الروح بهذه الصفات السلبية، التي تجعل وجود الموصوف بها لا حقيقة له عند التحصيل، وإنما يرجع إلى وجود في الأذهان، يمتنع تحققه في الأعيان، وقد ذكر المؤلف: أمثلة لسلبهم النقيضين عن الروح فقال: "كقولهم لا هي داخل البدن ولا خارجه، ولامباينة له ولا مداخلة".

ومثال آخر أعم من الأول وهو قولهم: أنها لا داخل العالم ولا خارجه، ولا مباينة له ولا مداخلة، ومثال ثالث أعم من الأول وأخص من الثاني، وهو قولهم: ليست داخلة في أجسام العالم ولا خارجة عنها، وقوله: "ولا مداخلة له ولا مباينة" هو بمعنى لا داخله ولا خارجه فمدلول العبارتين واحد، وقوله: "لا متحركة ولا ساكنة، ولا تصعد ولا تنزل، ولا هي اسم ولا عرض" هذه من جنس الأمثلة السابقة من حيث أنها سلب للنقيضين، ولا يوصف بها إلا ممتنع الوجود، وذكر لمن هذه الطوائف أنها تقول: أن الروح لا تدرك ولا تعقل إلا الأمور الكلية المطلقة وهي التي لا يمنع تصورها من وقوع الشركة فيها ضد الجزئيات: أما الجزئيات والأمور المعينة المتشخصة في الخارج فلا تدركها، وهو قول باطل: فالروح كما تدرك الأمور العامة المشتركة، تدرك الأمور الجزئية المعينة، وذكر أنهم يفسرون الجسم بما لا يقبل الإشارة الحسية وهذا مجرد اصطلاح لهم في الجسم يخالفهم فيه جماهير العقلاء وقالوا بناء على هذا: أن الروح مما لا يشار إليه، وقوله "ونحو ذلك من الصفات السلبية التي تلحقها بالمعدوم. والممتنع" يعني كقولهم: "لا هي حية ولا ميتة ولا عالمة ولا جاهلة " فكل هذه الأوصاف تلحق الروح بالمعدوم، بل بالممتنع فإن من لا تصح الإشارة إليه، ولا هو جسم ولا عرض، ولا متحرك ولا ساكن، ونحو ذلك يمتنع وجوده في الأعيان. قوله: وإذا قيل لهم: إثبات مثل هذا ممتنع في ضرورة العقل. قالوا: بل هذا ممكن بدليل أن الكليات موجودة وهي غير مشار إليها، وقد غفلوا عن كون الكليات لا توجود كلية إلا في الأذهان لا في الأعيان، فيعتمدون فيما يقولون به في المبدأ والمعاد على مثل هذا الخيال، الذي لا يخفى فساده على غالب الجهال.

ش: يعني إذا قيل لهؤلاء الفلاسفة إثبات شيء لا يشار إليه وليس بجسم ولا عرض ولا متحرك ولا ساكن ولا داخل العالم ولا خارجه، إثبات مثل هذا ممتنع وامتناعه معلوم بالضرورة، قالوا محتجين: بل إثبات مثل هذا ممكن بدليل وجود الكليات، وهي غير مشار إليها، وليست جسما ولا عرضا" وقد نسوا أن الكليات إنما توجد في الذهن، ولا يوجد في الخارج إلا أفرادها المعينة، ثم قال المؤلف: "إن هؤلاء الفلاسفة يعتمدون في كلامهم عن المبدأ والبعث والنشور على مثل هذا الخيال الذي يقولونه في وجود الكليات، وكلامهم هذا فساد لا يخفى على كثير من الجهال، فضلا عن العلماء، فهو مخالف للحس والعقل والشرع، فهم يقولون: إن العالم قد يم لا محدث والبعث للأرواح دون الأبدان، ويقولون: النعيم الموعود به هو بهجة النفس وسرورها والعذاب هو حزنها وألمها: إلى غير ذلك من ترهاتهم التي لا تستند إلى منطق أو عقل أو نقل.

كلام الفلاسفة في الروح

كلام الفلاسفة في الروح ... قوله: واضطراب النفاة والمثبتة في الروح كثير، وسبب ذلك أن الروح التي تسمى بالنفس الناطقة عند الفلاسفة. ليست هي من جنس هذا البدن، ولا من جنس المناصر والمولدات منها بل هي من جنس آخر مخالف لهذه الأجناس، فصار هؤلاء لا يعرفونها إلا بالأسلوب التي توجب مخالفتها للأجسام المشهودة، وأولئك يجعلونها من جنس الأجسام المشهودة وكلا القولين خطأ ش: النفاة للروح هم الفلاسفة الذين يصفونها بأوصاف سلبية تلحقها بالمعدوم والممتنع، والمثبتون للروح من طوائف المتكلمين وهم الذين يقولون عنها: أنها نفس البدن أو جزء منه أو الحياة أو المزاج أو الريح، يقول المؤلف: أن سبب اضطرابهم، أن الروح المسماة عن الفلاسفة النفس الناطقة ليست من جس البدن وليست من العناصر المشاهدة التي

نتكون منها الأشياء، ولا من جنس ما يتولد من العناصر كتولد الخل من عناصره التي هي أصله بل الروح من شكل آخر، واضطربوا فيها لكونهم لم يتلقوا العلم بها عن مشكاة النبوة، كما لم يتلقوا العلم بالله وصفاته من كتابه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فصار الفلاسفة لا يعرفونها إلا بالأوصاف السلبية وطوائف المتكلمين يجعلونها البدن أوصفة من صفاته، وكلا القولين باطل، مخالف لما دل عليه الكتاب والسنة، والمراد "بالناطقة " المفكرة العاقلة، والروح لها نفس، فمدلول الروح والنفس واحد، ولكن غالبا ما تسمى نفساً، إذا كانت متصلة بالبدن، وأما إذا أخذت مجردة فتسميت الروح أغلب عليها.

المعاني الاصطلاحية في الجسم

المعاني الاصطلاحية في الجسم ... قوله: وإطلاق القول عليها بأنها جسم أو ليست بجسم يحتاج إلى تفصيل: فإن لفظ الجسم للناس فيه أقوال متعددة اصطلاحية غير معناه اللغوي: فإن أهل اللغة يقولون: الجسم هو الجسد والبدن، وبهذا الاعتبار فالروح ليت جسما ولهذا يقولون: الروح والجسم، كما قال تعالى: {وَإِذَا رَأيتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَأن يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ} وقال تعالى: {وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ} وأما أهل الكلام فمنهم من يقول: الجسم هو الموجود، ومنهم من يقول: هو القائم بنفسه، ومنهم من يقول: هو المركب من الجواهر المفردة، ومنهم من يقول: هو المركب من المادة والصورة وكل هؤلاء يقولون: أنه مشار إليه إشارة حسية، ومنهم من يقول: ليس مركبا من هذا ولا من هذا، بل هو مما يشار إليه ويقال: أنه هنا أو هناك. ش: يعني من أطلق على الروح بأنها جسم أو ليست بجسم استفسر عن مراده والسبب في ذلك أن للناس في لفظ الجسم عدة

اصطلاحات بالإضافة إلى معناه اللغوي ثم ذكر المؤلف اصطلاحات المتكلمين في الجسم وهي أولاً أنه الموجود ثانياً القائم بنفسه ثالثاً المركب من الجواهر المفردة، رابعاً المركب من المادة والصورة، خامساً هو ما يقبل الإشارة الحسية فيصح عنه أن يقال أنه هنا أوهناك وهذه الاصطلاحات غير معناه اللغوي فإن أهل اللغة يطلقون لفظ الجسم على البدن والجسد، أوكل ما كان كثيفاًَ غليظاً، وقوله: ولهذا يقولون: الروح والبدن، معناه إنهم يفرقون بين مدلولها كما تشير إليه آية سورة المنافقين، وآية سورة البقرة فإن الذي يعجب الرائي شكلهم الظاهر {وَإِذَا رَأيتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ} والذي بسط فيه هو الجسم. {وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ} وقوله:" وكل هؤلاء يقولون أنه مشار إليه" معناه أن أقوال المتكلمين في الجسم تخالف قول الفلاسفة، فإنهم يقولون عن الجسم: هو ما لا يقبل الإشارة الحسية وقوله ومنهم من يقول: ليس مركباً من هذا ولا من هذا، يعني أن بعض المتكلمين ينفي أن يكون الجسم مركباً من الجواهر المفردة، أومن المادة والصورة وهذا قول صحيح، فأكثر العقلاء يقولون الجسم ليس مركباً من هذا ولا من هذا. والجوهر الفرد هو الجزء الذي لا يقبل القسمة وهو شيء لم يدركه أحد بحسه ولا يتميز منه جانب عن جانب، وما من شيء يفرض إلا وهو أصغر منه عند القائلين به، وأصل الجوهر كل حجر يستخرج منه شيء ينتفع به، وجوهر الشيء ما وضعت عليه جبلته، والمادة هي عناصر الشيء التي يتكون منها وصورة الشيء شكله. قوله: فعلى هذا إن كانت الروح مما يشار إليها ويتبعها بصر الميت كما قال صلى الله عليه وسلم "أن الروح إذا خرجت تبعها البصر" وأنها تقبض ويعرج بها إلى السماء، كانت الروح جسما بهذا الاصطلاح.

ش: يشير المؤلف إلى أن القول: بأن الجسم هو ما يقبل الإشارة الحسية وتمكن رؤيته بالأبصار، ويتصف بالصفات هو القول الصواب في تعريف الجسم اصطلاحا وبهذا الاعتبار يصح أن تسمى الروح جسماً، فإنه يصح أن يشار إليها، ويمكن أن ترى فإن بصر الميت يتبعها ويراها كذلك ترى بعد الموت فإن الروح قائمة بنفسها، باقية بعد الموت منعمة أو معذبة، كما دل على ذلك نصوص الكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة، ثم تعاد إلى الأبدان. وهذا الحديث رواه مسلم بسنده عن أم سلمة رضي الله عنها، قالت: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على أبي سلمة وقد شق بصره فأغمضه ثم قال: أن الروح إذا قبض تبعه البصر فسبح ناس من أهله فقال: لا تدعوا على أنفسكم إلا بخير، فإن الملائكة يؤمنون على ما تقولون، ثم قال "اللهم اغفر لأبي سلمة، وارفع درجته في المهديين، واخلفه في عقبه في الغابرين واغفر لنا وله يا رب العالمين وأفسح له في قبره ونور له فيه" وروى مسلم أيضا عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ألم تروا أن الإنسان إذا مات شخص بصره؟ قالوا بلى: قال فكذلك حين يتبع بصره نفسه" وروى الإمام أحمد، وابن ماجه، عن شداد بن أوس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إذا حضرتم موتاكم فأغمضوا البصر، فإن البصر يتبع الروح وقولوا خيرا فإنه يؤمن على ما يقول أهل الميت ".

وجه ضرب المثل بالروح

وجه ضرب المثل بالروح ... قوله: والمقصود: أن الروح إذا كانت موجودة حية، عالمة قادرة، سميعة بصيرة، تصعد وتنزل، وتذهب وتجيء، ونحو ذلك من الصفات والعقول قاصرة عن تكييفها وتحديدها، لأنهم لم يشاهدوا لها نظيراً والشيء إنما تدرك حقيقته بمشاهدته، أو مشاهدة نظيره، فإذا كانت الروح متصفة بهذه الصفات مع عدم مماثلتها لما يشاهد من المخلوقات فالخالق أولى بمباينته لمخلوقاته مع اتصافه بما يستحقه من أسمائه وصفاته

وأهل المعقول هم أعجز عن أن يجدوه أو يكيفوه منهم عن أن يحدوا الروح أو يكيفوها فإذا كان من نفى صفات الروح جاحدا معطلا لها ومن مثلها بها يشاهده من المخلوقات جاهلا ممثلا لها بغير شكلها، وهي مع ذلك ثابتة بحقيقة الإثبات، مستحقة لما لها من الصفات، فالخالق سبحانه وتعالى أولى أن يكون من نفى صفاته جاحدا معطلا، ومن قاسه بخلقه جاهلا به، ممثلا وهو سبحانه وتعالى ثابت بحقيقة الإثبات، مستحق ما له من الأسماء والصفات. ش: يعني هذا هو المقصود من المجيء ببحث الروح هنا ووجه ضرب المثل بها فإذا علم أن الروح متصفة بصفات، والبدن متصف بصفات، ولم يوجب ذلك أن تكون الروح مثل البدن، فالرب سبحانه متصف بالصفات التي وصف بها نفسه في كتابه وعلى لسان رسوله، والمخلوق متصف بصفات، وليست صفات الخالق مثل صفات المخلوق بل لكل منهما ما يناسب ذاته وإذا كان من نفى صفات الروح جاحدا معطلا لما ثبت في النصوص من صفاتها، ومن مثلها بشيء من المخلوقات كان جاهلا بها مشبها لها بغير مثلها، فكذلك بطريق الأولى من نفى صفات الله فهو جاحد لما جاء في كتاب الله وسنة رسوله من وصف الله بصفات الكمال، ونعوت الجلال، ومن مثل صفاته بصفات خلقه كان مخالفا لما جاء في النصوص من نفى الشبيه عنه والمثال، وكذلك إذا كانت العقول قاصرة عن الوصول إلى العلم بكيفية الروح والإحاطة بها لأنها لم تشاهدها ولم تشاهد لها مثيلا فعجزهم عن الوصول إلى العلم بكيفية الخالق وإلاحاطة به بطريق الأولى، وإذا كانت الروح ثابتة موصوفة بصفاتها اللائقة بها رغم المعطلين لها والمشبهين لها بغير شكلها، فكذلك بطريق الأولى ذات الرب موجودة ثابتة متصفة بأوصاف الكمال.

كل نفي وصف الرب به نفسه فهو متضمن لاثبات المدح والكمال

كل نفي وصف الرب به نفسه فهو متضمن لاثبات المدح والكمال ... قوله: "فصل " وأما الخاتمة الجامعة ففيها قواعد نافعة، القاعدة الأولى: أن الله سبحانه موصوف بالإثبات والنفي، فالإثبات كأخباره بأنه بكل شيء عليم، وعلى كل شيء قدير، وأنه: سميع بصر، ونحو ذلك، والنفي كقوله {لا تأخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ} ش: تقدم الكلام في بيان الأصلين والمثلين، وهذا أوان الشروع في بيان الخاتمة الجامعة، القاعدة الأولى من القواعد التي تضمنتها الخاتمة الجامعة: هي أن الله موصوف بالإثبات كوصفه بأنه عليم قدير، سميع بصير، إلى غير ذلك من الصفات وموصوف بالنفي كما في قوله: {لا تأخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ} وقوله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} ووصفه سبحانه، بالإثبات ونفي مماثلة المخلوقات هو محض التوحيد، ونفي صفاته هو محض الشرك والتعطيل، فلو لم يكن لا علم ولا قدرة، ولا سمع ولا بصر، ولم يقم به فعل لما يريد، ولا يمكن أن يشار إليه لكان العدم المحض كفواً له. قوله: وينبغي أن يعلم أن النفي ليس فيه مدح ولا كمال إلا إذا تضمن إثباتا، وإلا فمجرد النفي ليس فيه مدح ولا كمال، لأن النفي المحض عدم محض، والعدم المحض ليس بشيء، وما ليس بشيء فهو كما قيل: ليس بشيء، فضلا عن أن يكون مدحاً أو كمالا، ولأن النفي المحض يوصف به المعدوم والممتنع، والمعدوم والممتنع لا يوصف بمدح ولا كمال. ش: العدم المحض هو النفي المجرد الذي لا يتضمن إثبات مدح ولا كمال، وليس في النفي المجدد إثبات صفة كمال، وذلك لسببين، بين المؤلف السبب الأول بقوله: "لأن النفي المحض عدم محض " وبين الثاني بقوله: "ولأن النفي المحض يوصف به المعدوم والممتنع " ثم بين حال العدم المحض وأنه ليس بشيء، وما ليس بشيء فهو على اسمه، فيبعد أن يكون

وصف كمال أو مدح، فلا يمدح به أحد ولا يكون كمال، بل هو أنقص النقص، وبين حال المعدوم والممتنع بأنه لا يوصف بمدح ولا كمال، ولذلك يوصف بالعدم المحض. قوله: فلهذا كان عامة ما وصف الله به نفسه من النفي متضمنا لإثبات المدح، كقوله: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تأخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ} إلى قوله: {وَلا يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا} فنفي السنة والنوم يتضمن كمال الحياة والقيام، فهو مبين لكمال، أنه الحي القيوم، وكذلك قوله: {وَلا يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا} أي لا يكرثه ولا يثقله وذلك مستلزم لكمال قدرته وتمامها، بخلاف المخلوق القادر إذا كان يقدر على الشيء بنوع كلفة ومشقة، فإن هذا نقص في قدرته وعيب في قوته وكذلك قوله: {لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ} فإن نفي العزوب مستلزم لعلمه بكل ذرة في السموات والأرض، وكذلك قوله: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاواتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أيامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ} فإن نفي مس اللغوب، الذي هو التعب والإعياء دل على كمال القدرة ونهاية القوة، بخلاف المخلوق الذي يلحقه من التعب والكلال ما يلحقه. وكذلك قوله:} لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ {إنما نفى الإدراك الذي هو الإحاطة كما قاله أكثر العلماء، ولم ينفي مجرد الرؤية، لأن المعدوم لا يرى، وليس في كونه لا يرى مدح، إذ لو كان كذلك لكان المعدوم ممدوحاً وإنما المدح في كونه لا يحاط به وأن رؤي، كما أنه لا يحاط به وأن علم، فكما انه إذا علم لا يحاط به علما، فكذلك إذا رؤي لا يحاط به رؤية، فكان في نفي الإدراك من إثبات عظمته ما يكون مدحاً وصفة كمال وكان ذلك دليلا على إثبات الرؤية لا على نفيها، لكنه دليل على إثبات الرؤية مع عدم الاحاطة، وهذا هو الحق الذي اتفق عليه سلف الأمة وأئمتها.

ش: يعني ومن أجل أن النفي المجرد ليس فيه مدح ولا كمال، نجد أن جميع ما وصف الله به نفسه من النفي متضمناً لإثبات أوصاف الكمال، ثم مثل المؤلف لهذا النفي الذي وصف الله نفسه فقال: "كقوله: {لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ} لكمال حياته وقيوميته وقوله: {وَلا يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا} لكمال قوته، وقوله: "وما مسنا من لغوب" لكمال قدرته، وقوله: {لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ} يعني لعظمته واحاطته بما سواه، وقد أوضح المؤلف تضمن الآيات الكريمات التي استشهد بها أوصاف المدح والكمال لله، فهو نفي متضمن للمدح، والقيوم، هو القائم بنفسه المقيم لغيره فجميع الموجودات مفتقرة إليه وهو غني عنها، ولا قوام لها بدون أمره كما قال تعالى: {وَمِنْ آياته أن تَقُومَ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ} وفي الصحيحين من دعائه صلى الله عليه وسلم في صلاة الليل "اللهم لك الحمد أنت رب السموات والأرض، ولك الحمد أنت قيوم السموات والأرض وما فيهن، ولك الحمد أنت نور السموات والأرض" الحديث، ومن أجل أنه لا يعتريه نقص ولا غفلة ولا ذهول عن خلقه أردف اسم الحي والقيوم بنفي السنة والنوم "والسنة" الوسن والنعاس، "والنوم" أثقل من ذلك فهو "سبحانه" قائم على كل نفس بما كسبت، شهيد على كل شيء ولا يغيب عنه شيء، وفي الصحيحين عن أبي موسى "رضي الله عنه" قال: "قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بأربع كلمات فقال: أن الله لا ينام ولا ينبغي له أن ينام، يخفض القسط ويرفعه، يرفع إليه عمل الليل قبل عمل النهار، وعمل النهار قبل عمل الليل، حجابه النور لو كشفه لا حرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه"،والكلال مصدر، كل يكل كلا وهو التعب قال الأعشى: فآليت لا أرثى لها من كلالة ... ولا من وجى حتى تلاقي محمدا فمادة كل تدل على الضعف والإعياء، يقال: كل الرجل يكل كلا

وكلالة إذا أعيا وذهبت قوته، وقوله: لا تدركه الأبصار" إنما نفى الإدراك الذي هو الإحاطة كما قاله أكثر العلماء: ولم ينف مجرد الرؤية، معناه أن جمهور العلماء فسروا الإدراك هنا بالإحاطة، فالمنفي هو الإحاطة دون الرؤية فلا تحتاج الآية إلى تخصيص ولا خروج عن الظاهر، فلا نقول معناها أنا لا نراه في الدنيا، أو نقول لا تدركه الأبصار، بل المبصرون، أولا تدركه كلها، بل بعضها ونحو ذلك من الأقوال التي فيها تكلف، فالآية واضحة في نفي إحاطة الأبصار به سبحانه، فإن نفي الرؤية ليس بصفة كمال، وإنما الكمال في إثبات الرؤية، ونفي إدراك الرائي له إدراك إحاطة كما في العلم، فإن نفي العلم به ليس بكمال " وإنما الكمال في إثبات العلم ونفي الإحاطة به علماً، فهو سبحانه لا يحاط به رؤية كما لا يحاط به علماً، فقد دل القرآن الكريم على رؤية المؤمنين ربهم يوم القيامة، والأحاديث بها متواترة عن النبي صلى الله عليه وسلم عند أهل العلم بالسنة، وأما احتجاج النفاة بهذه الآية، فالآية حجة عليهم لا لهم، ولكن ليس كل من رأى شيئا يقال أحاط به رؤية، كما سئل ابن عباس رضي الله عنهما، عن ذلك فقال: ألست ترى السماء؟ قال بلى، قال: هل تحيط بها؟ قال:. ومن رأى جوانب الجيش أو الجبل أو البستان أو المدينة لا يقال أنه أدركها، وإنما يقال أدركها " إذا أحاط بها رؤية، فبين لفظ الرؤية ولفظ الإدراك عموم وخصوص من وجه الله تعالى: {فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَان قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إنا لَمُدْرَكُونَ قَالَ كَلَّا أن مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ} فنفى موسى الإدراك مع إثبات الترائي فعلم أنه قد يكون رؤية بلا إدراك، ومما يبين ما سبق أن الله تعالى ذكر هذه الآية يمدح بها نفسه "سبحانه وتعالى" ومعلوم أن كون الشيء لا يرى ليس ذلك صفة مدح له، لأن المعدوم لا يرى، والمعدوم لا يمدح فعلم أن مجرد نفي الرؤية لا مدح فيه. وقوله: "وهذا هو الحق الذي اتفق عليه سلف الأمة وأئمتها" يعني أن إثبات الرؤية مع نفي الإحاطة هو القول الصواب، الذي دل عليه الكتاب والسنة، واتفق عليه الصحابة والتابعون، وأئمة الإسلام المعروفون

بالإمامة في الدين، كمالك، والثوري، والأوزاعي، والليث بن سعد، والشافعي، وأحمد، واسحق، وأبي حنيفة، وأبي يوسف" وأمثال هؤلاء وسائر أهل السنة، وكذلك الطوائف المنتسبون إلى السنة والجماعة كالكلابية، والكرامية، والأشعرية، والسالمية، كلهم متفقون على إثبات الرؤية لله تعالى في الآخرة، ولم ينكر رؤية المؤمنين لربهم في دار الخلود، إلا الجهمية والمعتزلة والخوارج ونحوهم من طوائف الضلال وما احراهم بأن يكونوا ممن قال الله فيهم: {كلا إنهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} نسأل الله السلامة والعافية، كما نسأله سبحانه، لذة النظر إلى وجهه الكريم.

حقيقة مذهب المعطلة

حقيقة مذهب المعطلة ... قوله: وإذا تأملت ذلك: وجدت كل نفي لا يستلزم ثبوتا هو مما لو يصف الله به نفسه، فالذين لا يصفونه إلا بالسلوب، لم يثبتوا في الحقيقة إلها محمودا، بل ولا موجوداً، وكذلك من شاركهم في بعض ذلك كالذين قالو لا يتكلم أو لا يرى أو ليس فوق العالم، أو لم يستو على العرش، ويقولن ليس بداخل العالم ولا خارجه، ولا مباين للعالم ولا مجانب له، إذ هذه الصفات يمكن أن يوصف بها المعدوم، وليست هي صفة مستلزمة صفة ثبوت ش: بعد أن مثل المؤلف بعدة آيات فيها وصف الله بالنفي المتضمن لإثبات صفات الكمال قال بعد ذلك: إذا تتبعت القرآن ونظرت فيه نظر متأمل وجدت كل نفي وصف الله به نفسه هو من هذا القبيل، وذلك كنفي الظلم الدال على إثبات العدل، ونفي الشريك والظهير الدال على إثبات الوحدانية وتمام الملك، ونفي الكفؤ والمثيل الدال على الكمال المطلق، فالوجود كمال كله، فإن العدم كاسمه لاشيء وهو سبحانه قد وصف نفسه بأنه لم يكن له كفواً أحد، بعد وصفه

نفسه بأنه "الصمد" السيد الذي كمل في سؤدده وهذا هو المعقول في فطر الناس، فإذا قالو فلان عديم المثل، أو قد أصبح ولا مثل له في الناس، وما له شبيه ولا من يكافيه: فإنما يريدون بذلك أنه تفرد من الصفات والأفعال والمجد بما لا يلحقه فيه غيره، فصار واحداً في الجنس لا مثيل له: ولو أطلقوا ذلك عليه باعتبار نفي صفاته وأفعاله ومجده، لكان ذلك عندهم غاية الذم والنقص له، فإذا أطلقوا ذلك في سياق المدح والثناء لم يشك عاقل في أنهم إنما أرادوا كثرة أوصافه وأفعاله وأسمائه الحميدة التي لها حقائق تحمل عليها، فهل يقول عاقل لمن لا قدرة له ولا علم ولا بصر ولا يتصرف بنفسه ولا يفعل شيئاً ولا يتكلم ولا له وجه ولا يد ولا قوة ولا فضيلة من الفضائل، أنه لا شبه له ولا مثيل له وأنه وحيد دهره وفريد عصره ونسيج وحده؟ وهل فطر الله الأمم وأطلق ألسنتهم ولغاتهم إلا على ضد ذلك؟ فمن نفى صفات الله فقد وصفه بغاية العدم "فالذين لا يصفونه إلا بالسلوب الذي هو النفي لم يثبتوا في واقع الأمر إلهاً يحمد ويثنى عليه، لما له من حقائق الأسماء والصفات، بل لم يثبتوا في الحقيقة إلهاً موجوداً. فإن من تسلب عنه جميع الصفات الثبوتيه ما هو إلا معدوم والذين لا يصفونه إلا بالسلوب هم طوائف الفلاسفة كما سبق بيانه ويشاركهم في هذا النفي المعطلة من الجهمية والمعتزلة ونحوهم، فإنهم يعطلون صفات الله تعطيلا يستلزم نفي الذات وهذا معنى قول المؤلف: وكذلك شاركهم، فإن الجميع يصفون الباري تعالى بصفات العدم المحض الذي ليس هو بشيء البتة، وهذا هو الذي صرح به غلاة الجهمية وقد كان قدماؤهم يتحاشون عنه ويتسترون منه، وكان السلف من الأئمة مثل عبد العزيز بن الماجشون، وعبد الله بن المبارك، وحماد بن زيد ومحمد بن الحسن، وأحمد بن حنبل، وغيرهم هؤلاء، يتفرسون فيهم ذلك. فمذهبهم يرجع إلى مذهب الدهرية الطبائعية في المعنى، وهذا السلب بالإضافة إلى أنه لا ينطبق إلا على المعدوم فهو أيضاً لا يتضمن إثبات صفة يمدح بها

الموصوف، وهذا معنى قول المؤلف: "إذ هذه الصفات يمكن أن يوصف بها المعدوم وليست هي صفة مستلزمة صفة ثبوت". قوله: ولهذا قال "محمود بن سبكتكين" لمن أدعى ذلك في الخالق: ميز لنا بين هذا الرب الذي ثبته وبين العدم؟ ش: يعني من أجل أن هذه الصفات السلبية لا تنطبق إلا على المعدوم قال محمود: لمن ينفي صفات الله متحدياً له إذا كنت تثبت إلهاً ولا تصفه بصفات ثبوتية فما الفرق بينه وبين الشيء المعدوم؟ "ومحمود بن سبكتكين" هو الملقب بيمين الدولة، وكان مولده سنة ثلاثمائة وإحدى وستين، ووفاته سنة أربعمائة وإحدى وعشرين هجرية وكان يخطب في سائر مملكته للخليفة العباسي القدر بالله، وكان يحب العلماء والمحدثين ويكرمهم ويجالسهم، وكان على مذهب الكرامية في الاعتقاد، وكان من جملة من يجالسه منهم، محمد بن الهيضم، وقد جرى بينه وبين أبي بكر بن فورك مناظرة بين يدي السلطان محمود، في مسألة العرش فنقم على ابن فورك كلامه، وأمر بطرده وإخراجه من مجلسه، لموافقته لرأي الجهمية ولعل هذه القصة هي التي قال فيها محمود ميز لنا بين هذا الرب الذي تثبت وبين المعدوم. قوله: وكذلك كونه لا يتكلم، أو لا ينزل ليس في ذلك صفة مدح ولا كمال، بل هذه الصفات فيها تشبيه له بالمنقوصات أو المعدومات، فهذه الصفات، منها ما لا يتصف به إلا المعدوم، ومنها ما لا يتصف به إلا الجمادات والناقصات.

ش: يعني أن نفي صفة الكلام عن الله ليس فيه مدح ولا كمال، فمن تكلم أكمل من لا يتكلم، وكذلك كونه لا ينزل ليس في ذلك وصف كمال فلو قدرنا موجودين أحدهما يقدر على التصرف بنفسه فيَأتِي ويجيء، وينزل ويصعد، ونحو ذلك من أنواع الأفعال، والآخر يمتنع ذلك منه لكان هذا القادر على الأفعال التي تصدر عنه أكمل ممن يمتنع صدورها عنه: فالكلام والنزول، والحياة، والعلم، والقدرة، والسمع، والبصر، ونحو ذلك، أوصاف كمال لا نقص فيها، وإنما النقص في انتفائها لا في ثبوتها، فمن تسلب عنه هذه الصفات فهو شبيه بالجماد والمعدوم والممتنع، وحينئذ فسلبها عن الله تشبيه له بأعظم الناقصات.

القول بأنه لاداخل العالم ولا خارجه هو بمنزلة القول بأنه لاقديم ولا محدث

القول بأنه لاداخل العالم ولا خارجه هو بمنزلة القول بأنه لاقديم ولا محدث ... قوله: فمن قال: لا هو مباين للعالم ولا مداخل للعالم فهو منزلة من قال: لا هو قائم بنفسه ولا بغيره، ولا قديم ولا محدث، ولا متقدم على العالم ولا مقارن له. وبطلانه بالضرورة، فإن هذا سلب للنقيضين وسلب النقيضين أمر ممتنع، وهكذا القول في بقية الأمثلة التي ذكرها المؤلف. ش: يعني أن هؤلاء النفاة بسلبهم الصفات عن الله قد شبهوه بالمعدوم، فمقالة من وصف الله بأنه لا هو مباين للعالم ولا مداخل للعالم هو منزلة مقالة من قال: أن الله لا قائم بنفسه ولا قائم بغيره، ووجه كون هذه المقالة بمنزلة تلك المقالة، أن كلا منهما لا ينطبق إلا على المعدوم. فالحاصل أن قولهم: لا داخل العالم ولا خارجه، ولا مباين له ولا مداخل له، خلاف المعلوم بالضرورة، فإن العقل لا يثبت شيئين موجودين إلا أن يكون أحدهما مباينا للآخر أو داخلا فيه، أما إثبات موجود قائم بنفسه لا يشار إليه ولا يكون داخل العالم ولا خارجه، فهذا مما يعلم العقل استحالته

أربعة أوجه يرد بها شيخ الإسلام على اعتذار النفاة

أربعة أوجه يرد بها شيخ الإسلام على اعتذار النفاة ... قوله: ومن قال: أنه ليس بحي، ولا سميع ولا بصير، ولا يتكلم، لزمه أن يكون ميتا أصم أعمى أبكم، فإن قال: العمى عدم البصر عما شأنه أن يقبل البصر، وما لم يقبل البصر كالحائط لا يقال له أعمى ولا بصير. ش: يقول المؤلف: سلب هذه الصفات عن الله يلزم منه أن يكون متصفا بنقيضها، والله منزه عن ذلك، ثم بين اعتذار النفاة إذا قيل لهم: هذا القول، وحاصل اعتذارهم أنهم يقولون لا يلزم من سلب الصفة عن الموصوف اتصافه بنقيضها، إلا إذا كان قابلا للاتصاف بالصفة، أما إذا كان غير قابل للاتصاف بها فلا يلزم من سلبها عنه اتصافه بنقيضها ويضربون لذلك مثلا بالجماد، وقد أجابهم المؤلف على هذه المقالة بأربعة أجوبة. قوله: قيل له: هذا اصطلاح اصطلحتموه، وإلا فما يوصف بعدم الحياة والسمع والبصر والكلام، يمكن وصفه بالموت والعمى، والخرس والعجمة، وأيضاً فكل موجود يقبل الاتصاف بهذه الأمور ونقائضها، فإن الله قادر على جعل الجماد حيا كما جعل عصى موسى حية ابتلعت الحبال والعصي، وأيضاً فالذي لا يقبل الاتصاف بهذه الاتصاف بهذه الصفات أعظم نقصا مما يقبل الاتصاف بها مع اتصافه بنقائضها، فالجماد الذي لا يوصف بالبصر ولا العمى، ولا الكلام ولا الخرس، أعظم نقصا من الحي والأعمى الأخرس، فإن قيل إن الباري لا يمكن اتصافه بذلك، كان في ذلك من وصفه بالنقص أعظم مما إذا وصف بالخرس والعمى والصمم ونحو ذلك، مع أنه إذا جعل غير قابل لها كان تشبيها له بالجماد الذي لا يقبل الاتصاف بواحد منها، وهذا تشبيه بالجمادات، لا بالحيوانات فكيف من قال ذلك

على غيره مما يزعم أنه تشبيه بالحي، وأيضا فنفس نفي هذه الصفات نقص، كما أن إثباتها كمال، فالحيات من حيث هي: هي مع قطع النظر عن تعيين الموصوف بها صفة كمال، وكذلك العلم والقدرة، والسمع والبصر، والكلام والعقل، ونحو ذلك، وما كان صفة كمال، فهو سبحانه أحق أن يتصف به من المخلوقات، فلو لم يتصف به مع اتصاف المخلوق به، لكان المخلوق أكمل منه. ش: هذا مشروع في بيان الأجوبة الأربعة التي رد بها المؤلف على النفاة وقد بين الأول بقوله: "قيل له هذا اصطلاح اصطلحتموه"الخ. يعني هذا مجرد اصطلاح منكم وإلا فمالا يتصف بالصفة يمكن وصفه وتسميته بنقيضها، كما هو معروف في لغة العرب، وقد سبق بيان ذلك وذكر الثاني بقوله: "وأيضاً فكل موجود يقبل الاتصاف بهذه الأمور ونقائضها" الخ. يعني فالقدرة الإلهية شاملة لذلك، والقابلية موجودة في المخلوق وقد جعل الله الجماد الأصم حيا، يسمع ويبصر كما في قصة عصى موسى!! وبين الثالث بقوله: وأيضاً فالذي لا يقبل الاتصاف بهذه الصفات أعظم نقصاً مما يقبل الاتصاف بها، مع اتصافه بنقائضها. وضرب لذلك مثلا بالجماد والحيوان الأعمى الأخرس: فالحيوان الناقص وإن كان فاقداً للصفة فهو أكمل من الجماد لأنه قابل للاتصاف بها: أما الجماد فهو غير قابل لها أصلا. وهذا من المؤلف على سبيل الفرض والتنزل معهم، وإلا فكل موجود فهو قابل للاتصاف بالصفات، كما تقدم ومعلوم أن القابل للاتصاف بصفات الكمال أكمل من غير القابل لذلك، وحينئذ: فالرب إن لم يقبل الاتصاف بصفات الكمال لزم اتصافه بنقيضها: فيكون القابل لها وهو الحيوان الأعمى الأخرس الذي يقبل البصر والكلام أكمل منه، وعلى هذا فالنفاة قد شبهوا الله بالجماد الذي هو أنقص من الحيوان الفاقد صفة الكمال فلو سلبوا عن الله صفة الكمال ولم ينفوا قبوله لها لكان ذلك أسهل. ونفي قبول صفة النقص تشبيه بالجماد، وإذا كان نفي قبول صفة النقص

تشبيه بالجماد، لا بالحيوان فكيف من قال ذلك على غيره مما يزعم أنه تشبيه بالحي". والمقصود أنه إذا كان من نفى قبول صفة النقص مشبهاً لله بالجماد فكيف من نفي عن الله قبول صفة الكمال زاعماً أن إثباتها يلزم منه تشبيه الله بالحي المخلوق، فالإشارة في قوله ذلك: راجعة إلى نفي القبول. والضمير في قوله: علي غير راجع إلى نفي قبول صفة النقص. والرابع بقوله "وأيضاً فنفس نفي هذه الصفات نقص كما أن إثباتها كمال" الخ. يعني أن مجرد نفي هذه الصفات نقص، كما أن مجرد إثباتها كمال. وما كان صفة كمال فالله أولى به. فلو لم يتصف به مع أن المخلوق متصف به، لكان الخالق أنقص من المخلوق. ومن المعلوم أن لله المثل الأعلى، فما كان وصف كمال لا نقص فيه بوجه من الوجوه فالله أولى به. فإذا قدر اثنان أحدهما موصوف بصفات الكمال كالعلم والقدرة، والفعل والبطش، والآخر يمتنع أن يتصف بهذه الصفات لكان الأول أكمل من الثاني، وسائر الصفات بها: فالحي اليقضان أكمل من النائم الوسنان، والله "لا تأخذه سنة ولا نوم" وكذلك من يحفظ بلا اكتراث، أكمل ممن يلزم فيه ذلك، والله تعالى "وسع كرسيه السموات والأرض ولا يؤده حفظهما" وكذلك من يفعل ولا يتعب، أكمل ممن يتعب، والله تعالى "خلق السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام" وما مسه من لغوب والعقل من حيث هو مصدر عقل يعقل عقلا: وهو في لغة الرسول وأصحابه عرض من الأعراض، كما في قوله سبحانه: "لعلهم يعقلون" "ولعلكم تعقلون" "ولهم قلوب لا يعقلون بها" ونحو ذلك، وقد يراد به الغريزة التي في الإنسان. قال أحمد بن حنبل، والحارث المحاسبي، وغيرهما "أن العقل غريزة" فالعقل ما به تحصل معرفة الأمور وإدراكها، ولا ريب أن الله سبحانه متصف من ذلك بما يعجز العقل

البشري عن تصوره وإدراكه، ولكن لفظ العقل مما لم يرد وصف الله به في الكتاب أو السنة. والظاهر أن أصل قول المؤلف: "والفعل كما في بعض النسخ" لأن الفعل مما ورد وصف الله به دون لفظ العقل، ولكن بما أن أكثر النسخ التي بأيدينا متفقة على لفظ العقل شرحناه على هذا المعنى. وقوله: ونحو ذلك يعني كصفة الوجه، فإن الوجه وصف كمال لا وصف نقص ووجه كل شيء بحسبه وهو ممدوح به لا مذموم، كوجه النهار ووجه الثوب، ووجه القوم. فوجه الله سبحانه هو كما يليق به ويناسب ذاته المقدسة فهو بحسب المضاف إليه وسائر الصفات على هذا النهج، فلله الأسماء الحسنى، والصفات الكاملة العليا.

مقالة النفاة العاديين أعظم كفرا من مقالة النفاة المحضة من وجه

مقالة النفاة العاديين أعظم كفرا من مقالة النفاة المحضة من وجه ... قوله: واعلم أن الجهمية المحضة كالقرامطة ومن ضاهاهم: ينفون عنه تعالى اتصافه بالنقيضين، حتى يقولون ليس بموجود ولا ليس بموجود، ولا حي ولا ليس بحي، ومعلوم أن الخلو عن النقيضين ممتنع في بدائه العقول كالجمع بين النقيضين. ش: سبق بيان هذا عند قول المؤلف في المقدمة: " فغلاتهم يسلبون عنه النقيضين" ولكن كرر المؤلف ذلك: بمناسبة كلامه على النفي الذي لا يتضمن إثبات صفة كمال وإنما هو تشبيه بالناقصات، من جمادات أو معدومات، أو ممتنعات. وسلب هؤلاء الغلاة من جهمية وقرامطة ومن شابههم كالفلاسفة، إنما هو تشبيه لله بالممتنعات، فإنه يلزمهم أن يكون الوجود الواجب الذي لا يقبل العدم، هو الممتنع الذي لا يتصور وجوده في الخارج وإنما يقدره الذهن تقديرا، كما يقدر كون الشيء موجودا معدوماً أولا موجودا ولا معدوما. فلزمهم الجمع بين النقيضين، والخلو عن النقيضين. وهذا من أعظم الممتنعات باتفاق العقلاء.

قوله: وآخرون وصفوه بالنفي فقط، فقالوا: ليس بحي، ولا سميع، ولا بصير وهؤلاء أعظم كفراً من أولئك من وجه. ش: معناه أن مقالة النفاة العاديين أشنع في الكفر من مقالة النفاة المحضة، لأنه يلزم من نفيهم صفة الكمال عن الله وصفهم له بنقيضها، أما النفاة المحضة فقد صرحوا بنفي صفة النقص، كما صرحوا بنفي صفة الكمال، فهم أقرب إلى التنزيه من جهة تصريحهم بنفي صفة النقص، ومقالة الفريقين تشبه مقالة طائفتين من الفلاسفة إحداهما تصف الله بسلب الأمور الثبوتية والسلبية والأخرى تصف الله بسلب الأمور الثبوتية فقط. والأولى أقرب إلى الصواب من الثانية لأنه إذا وصف بسلب الأمور الثبوتية دون العدمية، فهو أسوء حالا من الموصوف بسلب الأمور الثبوتية والعدمية، حيث يشارك سائر الموجودات في مسمى الوجود، وتمتاز عنه بأمور وجودية وهو يمتاز عنها بأمور عدمية، وأما إذا وصف بسلب الأمور الثبوتية والعدمية معاً، كان أقرب إلى الوجود، وأن كان هذا ممتنعاً فذاك ممتنع وهو أقرب إلى العدم. قوله: فإذا قيل لهؤلاء هذا مستلزم وصفه بنقيض ذلك، كالموت والصمم والبكم، قالوا إنما يلزم ذلك لو كان قابلا لذلك، وهذا الاعتذار يزيد قولهم فساداً. ش: يعني أن النفاة غير المحضة إذا قيل لهم سلبكم لهذه الصفات يلزم منه اتصاف الله بنقيضها، فنفي العلم عنه سبحانه يلزم من اتصافه بالجهل، ونفي الكلام يلزم منه اتصافه بالبكم، ونفي القدرة يلزم منه

اتصافه بالعجز، وهكذا سائر الصفات. إذا قيل لهم هذا القيل: قالوا معتذرين: إنما يلزم من نفي الصفات عن الله اتصافه بأضدادها لو كان قابلا لتلك الصفات: أما إذا كان غير قابل لها فإنه لا يلزم من نفيها عنه اتصافه بضدها، فالإشارة في قوله إنما يلزم ذلك راجعة إلى اتصافه بنقائض تلك الصفات كالجهل والعجز والبكم. والإشارة في قوله لو كان قابلا لذلك: راجعة إلى صفات الكمال ولا شك أن اعتذارهم هذا يزيد قولهم سوءاً إلى سوء: لأن نفي قبول الصفة أفظع من مجرد نفي الصفة كما تقدم إيضاحه.

قولهم ليس بمتحيز هو بمعنى قولهم لاداخل العالم ولا خارجه

قولهم ليس بمتحيز هو بمعنى قولهم لاداخل العالم ولا خارجه ... قوله: وكذلك من ضاهى هؤلاء وهم الذين يقولون: ليس بداخل العالم ولا خارجه، إذا قيل هذا ممتنع في ضرورة العقل، كما إذا قيل: ليس بقديم ولا محدث ولا واجب ولا ممكن، ولا قائم بنفسه، ولا قائم بغيره، قالوا هذا إنما يكون إذا كان قابلا لذلك، والقبول إنما يكون من المتحيز فإذا انتفى التحيز انتفى قبول هذين المتناقضين. ش: يعني ومثل مقالة النفاة السابقة واعتذارهم عنها قول من يقول: أن الله لا داخل العالم ولا خارجه، فهؤلاء قالوا إنما يلزم من سلب للدخول والخروج، والقبول إنما يكون من المتحيز وما دام أن الله غير متحيز، فهو غير قابل للدخول والخروج. ومن ثم لا يكون سلبهما عنه أمراً ممتنعاً، وأولئك قالوا إنما يلزم من سلب الصفة عنه اتصافه بنقيضها لو كان قابلا لها، فالجميع نفوا عنه قبول الصفات، ومن المعلوم أن نفى القبول أشنع من نفي الصفة. وقوله "كما إذا قيل ليس بواجب ولا ممكن" يعني أن هذه المقالة بمنزلة هذه المقالة في أن الجميع معلوم الامتناع بالضرورة.

قوله: فيقال لهم علم الخلق بامتناع الخلو من هذين النقيضين: هو علم مطلق لا يستثنى منه موجود، والتحيز المذكور: أن أريد به كون الاحياز الموجودة تحيط به فهذا هو الداخل في العالم، وإن أريد به أنه منحاز عن المخلوقات، أي مباين لها متميز عنها فهذا هو الخروج، فالمتحيز يراد به تارة ما هو داخل العالم، وتارة ما هو خارج العالم، فإذا قيل ليس بمتحيز كان معناه ليس بداخل العالم ولا خرجه، فهم غيروا العبارة ليوهموا من لا يفهم حقيقة قولهم أن هذا معنى آخر وهو المعنى الذي علم فساده بضرورة العقل، كما فعل أولئك بقولهم: ليس بحي ولا ميت، ولا موجود ولا معدوم، ولا عالم ولا جاهل. ش: هذا مشروع في بيان الجواب على المقالة السابقة واعتذار أصحابها فإنه يقال لهم: قولكم "لا داخل العالم ولا خارجه" سلب للنقيضين والنقيضان لا يمكن الخلو منهما، بل ذلك ممتنع وامتناع الخلو من التقيضين عام لا يستثنى منه أي شيء والخلق جميعا يعلمون أن النقيضين كما لا يمكن اجتماعهما في أن واحد كذلك لا يمكن ارتفاعهما فقولكم "لا داخل ولا خارج العالم" ممتنع لأن كل موجود فهو أما أن يكون مخالطاً للعالم، ممتزجا به، وأما أن يكون منفصلا عن العالم مباينا له وقولكم "قبول الدخول والخروج" إنما يكون من المتحيز والله ليس بمتحيز "فإذا انتفى التحيز انتفى قبول هذين النقيضين" يقال لكم قولكم ليس بمتحيز هو معنى قولكم لا داخل العالم ولا خارجه، ولكن غيرتم العبارة مغالطة لتوهموا من لا يدرك معنى كلامكم أنكم أتيتم بمعنى جديد، وهو نفس كلامكم الذي رد عليكم بأنه أمر ممتنع في ضرورة العقل: وبيان هذا أنهم أن أرادوا بالتحيز أن الاحياز الموجودة كالسموات والعرش تحيط به فهذا هو الداخل في العالم، وأن أرادوا به أنه منحاز المخلوقات، أي مباين لها متحيز عنها، فهذا هو

الخروج، فإذا المتحيز يراد به تارة ما هو داخل العالم وتارة ما هو خارج العالم: فإذا قيل ليس بمتحيز كان معناه ليس بداخل العالم ولا خارجه. وقوله "كما فعل أولئك يعني الجهمية المحضة الذين يسلبون عنه تعالى اتصافه بالنقيضين، فهؤلاء الذين يقولون لا داخل العالم ولا خارجه عن غلاة الجهمية مشبهون بالقرامطة في سلبهم النقيضين، وفي اعتذاراهم الذي يزيد قولهم فساداً: ونختم الكلام على هذه القاعدة بآيتين كريمتين تدل كل منهما على أنه سبحانه متصف بالنفي والإثبات بأوضح عبارة وأصرح دلالة وتدمغ النفاة المعطلين، والمفترين على الله وعلى رسوله بنفي صفات الله ونعوت جلاله بغير دليل، من كاتب أو سنة أو عقل سليم أو فطرة مستقيمة: قال تعالى {رَبُّ السَّمَاواتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيا} أخبر أنه لا سمي له عقب قول العارفين به: {وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أيدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ وَمَا كان رَبُّكَ نَسِيا رَبُّ السَّمَاواتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ} فهذا الرب الذي له الجند العظيم ولا يتنزل إلا بأمره وهو المالك لما بين أيديهم وما خلفهم وما بين ذلك، وهو الذي كملت قدرته وسلطانه وملكه، وكمل علمه فلا ينسى شيئاً أبدا، وهو القائم بتدبير السموات والأرض وما بينهما، كما هو الخالق لذلك كله، وهو ربه ومليكه هذا الرب هو الذي لاسمي له، لتفرده بكمال الصفات والأفعال: فأما من لا صفة له ولا فعل ولا حقائق لأسمائه أن هي إلا ألفاظ فارغة من المعاني فالعدم سمي له: قال تعالى {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} ذكر سبحانه هذا النفي بعد ذكر أوصافه ونعوت كماله فقال: {حم عسق كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ لَهُ مَا فِي السَّمَاواتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} إلى قوله: {فَاطِرُ السَّمَاواتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً وَمِنَ الْأنعَامِ أَزْوَاجاً يَذْرَأُكُمْ فِيهِ

لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} فهذا "الموصوف بهذه الصفات" والأفعال والعلو، والعظمة، والحفظ، والعزة، والحكمة، والملك، والحمد والمغفرة، والرحمة والكلام، والمشيئة والولاية والحياة، والقدرة التامة الشاملة، والحكم بين عباده وكونه {فَاطِرُ السَّمَاواتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً وَمِنَ الْأنعَامِ أَزْوَاجاً يَذْرَأُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} هذا هو الذي "ليس كمثله شيء" لكثرة نعوته وأوصافه وأسمائه وأفعاله وثبوتها على وجه الكمال، فلا يماثله فيها شيء. وقد سبقت الإشارة إلى ذلك عند الكلام على الأصل الثاني.

لايتوقف الايمان بما جاءبه الرسول على معرفة المعنى

لايتوقف الايمان بما جاءبه الرسول على معرفة المعنى ... قوله: "القاعدة الثانية" أن ما أخبر به الرسول عن ربه فإنه يجب الإيمان به سواء عرفنا معناه أو لم نعرف_ لأنه الصادق المصدوق، فما جاء في الكتاب والسنة وجب على كل مؤمن الإيمان به، وأن لم يفهم معناه. ش: يقول المؤلف ما يثبت عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم تعين علينا تصديقه والإذعان له ولا يتوقف إيماننا به على معرفتنا لمعناه، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم "هو الصادق المصدوق" "الذي لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى" فما جاء في كتاب الله أوضح عن رسوله صلى الله عليه وسلم تحتم علينا الإيمان به والعمل بمقتضاه، وإن لم ندرك معناه، بل ما ظهر لنا وأدركته عقولنا فهو من تعليم الله لنا ونعمته علينا، وما لم يصل علمنا إليه قلنا "سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم". روى الإمام أحمد بسنده عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: لقد جلست أنا وأخي وإذا مشيخة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم جلوس عند باب من أبوابه فكرهنا أن نفرق بينهم، فجلسنا حجرة إذ ذكروا

آية من القرآن فتحاوروا فيها حتى ارتفعت أصواتهم فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم مغضباً قد أحمر وجهه يرميهم بالتراب ويقول: مهلا يا قوم بهذا هلكت الأمم من قبلكم، باختلافهم على أنبيائهم وضربهم الكتب بعضها ببعض. أن القرآن لم ينزل يكذب بعضه بعضا، فما عرفتم منه فاعملوا به وما جهلتم منه فردوه إلى عالمه. وروى البخاري عن الإمام محمد بن شهاب الزهري رحمه الله أنه قال: "من الله الرسالة، ومن الله الرسول البلاغ، وعلينا التسليم" وهذا كلام جامع نافع فعلى العبد أن يجعل ما بعث الله به رسله وأنزل به كتبه هو الحق الذي يجب أتباعه فيصدق بأنه حق وما سواه من كلام سائر الناس يعرض عليه فإن وافقه فهو حق وإن خالفه فهو باطل. فإن الأمور الإلهية والتعارف الدينية إنما يتلقى العلم بها عن الوحيين لا غير. فلا يثبت إسلام من يسلم لهما واعترض عليهما أو عارضهما برأيه ومعقوله وقياسه. قوله: وكذلك ما ثبت باتفاق سلف الأمة وأئمتها، مع أن هذا الباب يوجد عامته منصوصا في الكتاب والسنة، متفق عليه بين سلف الأمة. ش: يعني كما يجب تلقي ما جاء في الكتاب السنة بالقبول، كذلك يجب تلقي ما ثبت عن سلف الأمة من الصحابة والتابعين وأئمة السنة بالقبول أيضاً، مع أن باب الأسماء والصفات إنما يتلقى العلم به عن الوحيين لكن المراد بيان أن سلف الأمة وأئمة السنة أثبتوا ما أثبته الكتاب والسنة من صفات الله ونعوت جلاله كما نفوا ما نفاه عن نفسه أو نفاه عنه رسوله صلى الله عليه وسلم. فيجب إذن تلقي ما جاء عنهم بالقبول. ونذكر هنا شيئاً مما ورد عن بعضهم: في الصحيح عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: "كانت زينب

تفتخر على أزواج النبي صلى الله عليه وسلم تقول زوجكن أهاليكن وزوجني الله من فوق سبع سماوات". وروى عبد الله بن أحمد وغيره بأسانيد صحاح عن ابن المبارك أنه قيل له: بم نعرف ربنا؟ قال: بأنه فوق سمواته على عرشه بائن من خلقه ولا نقوم كما قالت الجهمية، وحكى الأوزاعي أحد الأئمة الأربعة في عصر التابعين الذين هم مالك، إمام أهل الحجاز، والأوزاعي إمام أهل الشام، والليث إمام أهل مصر، والثوري إمام أهل العراق: حكى شهرة القول في زمن التابعين بالإيمان بأن الله تعالى فوق العرش وبصفاته السمعية، وإنما قال ذلك بعد ظهور جهم المنكر لكون الله فوق عرشه النافي لصفاته ليعرف الناس أن مذهب السلف خلافه. فالحاصل أن ما ورد في الكتاب والسنة من أسماء الله وصفاته فقد اتفق على إثباته سلف الأمة وأئمتها، وجل هذا الباب منصوص عليه في الكتاب والسنة. وهناك أسماء وصفات لله استأثر بها في علم الغيب عنده كما جاءت بذلك النصوص.

الأقوال المجملة تشتمل على حق وباطل

الأقوال المجملة تشتمل على حق وباطل ... قوله: وما تنازع فيه المتأخرون نفيا وإثباتاًُ فليس على أحد، بل ولا له: أن يوافق أحداً على إثبات لفظه أو نفيه حتى يعرف مراده، فإن أراد حقا قبل، وإن أراد باطلا رد، وإن اشتمل كلامه على حق وباطل لم يقبل مطلقا ولم يرد جميع معناه بل يوقف اللفظ ويفسر المعنى. ش: لقد ابتدع أهل الإلحاد والضلال ألفاظاً مجملة يدخل فيها الحق والباطل، وذلك_ كلفظ الجهة والتحيز والجسم وحلول الحوادث_ فتنازع المتأخرون في هذه الألفاظ بين مثبت لها وناف، والصواب التفصيل

في ذلك والتنقيب عنها، واستفصال المتكلم بها كما كان السلف والأئمة يفعلون، فإن البدعة لا تكون حقاً محضاً موافقا للسنة، إذ لو كانت كذلك لم تكن باطلا، ولا تكون باطلا محضاً لا حق فيه، إذ لو كانت كذلك لم تخف على الناس، ولكن تشتمل على حق وباطل، فيكون صاحبها قد لبس الحق بالباطل: أما مخطئاً غالطاً وأما متعمدا لنفاق فيه والحاد. كما قال تعالى {لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالاً وَلَأوضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ} فأخبر أن النافقين لو خرجوا في جيش المسلمين مازادوهم إلا خبالا، ولكانوا يسعون بينهم مسرعين يطلبون لهم الفتنة. ومن المؤمنين من يقبل منهم ويستجيب لهم، إما لظن مخطيء أو لنوع من الهوى أو لمجموعهما، فإن المؤمن إنما يدخل عليه الشيطان بنوع من الظن وإتباع هواه، ولهذا جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إن الله يحب البصر النافذ عند ورود الشبهات ويحب العقل الكامل عند حلول الشهوات" وبعد الاستفصال: إن كان مراده حقا قبل منه، وإن كان مراده باطلا رد، وإن اشتمل كلامه على حق وباطل لم يرد كله، ولم يقبل كله، بل يقبل ما فيه من حق، ويرد ما فيه من باطل: مثال ذلك أن يقول لمبتدع إني أريد بقولي_ ليس بجسم_ نفي قيامه بنفسه وقيام الصفات به ونفي كونه مركباً من المادة والصورة أو يقول أريد بقولي هو جسم أنه مركب من الجواهر المفرده. وكونه تصح الإشارة إليه وتمكن رؤيته بالأبصار ويتصف بالصفات فقد اشتمل هذا الكلام على حق وباطل في حالة النفي وفي حال الاثبات

ش: يقول المؤلف لفظ الجهة قد يراد به أمر وجود مخلوق، كما إذا أريد به الإجرام السماوية أو العرش، وقد يراد به أمر عدمي كما إذا أريد به ما فوق العالم، ولفظ الجهة لم يرد في الكتاب، ولا قاله الرسول، ولا تكلم به سلف الأمة. وإنما الذي ورد وصف الله بالعلوي على خلقه واستوائه على عرشه، وأنه تعرج إليه الملائكة والروح. وقد علم أن ما في الوجود إلا الخالق والمخلوق. ومن المعلوم شرعاً وعقلا أن كلا منهما مباين للآخر منفصلا عنه ليس حالا فيه. وقوله_شيء موجود غير الله _ المراد بالموجود ضد المعدوم فيدخل فيه الخالق والمخلوق ولهذا استثنى بقوله "غير الله" ثم بين هذا الغير في قوله: "كما إذا أريد به نفس العرش أو نفس السماوات" وقوله ما ليس بموجود معناه أنه قد يراد بلفظ الجهة مالا وجود له. ولهذا استثنى بقوله غير الله، فيكون هذا الغير أمراً. عدميا وهو ما وراء العالم. وقوله "ونحو ذلك" يعني ككونه سبحانه أنزل القرآن ونزل من عند جبريل واشتباه ذلك مما فيه إثبات علوه على خلقه سبحانه وتعالى. قوله: فيقال لمن نفى: أتريد بالجهة أنها شيء موجود مخلوق؟ فالله ليس داخلا في المخلوقات، أم ترد بالجهة ما وراء العالم؟ فلا ريب أن الله فوق العالم مباين للمخلوقات. وكذلك يقال لمن قال "الله في جهة" أتريد بذلك أن الله فوق العالم أو تريد أن الله داخل في شيء من المخلوقات؟ فإن أردت الأول فهو حق وإن أردت الثاني فهو باطل

ش: يقول المؤلف لفظ الجهة قد يراد به أمر وجود مخلوق، كما إذا أريد به الإجرام السماوية أو العرش، وقد يراد به أمر عدمي كما إذا أريد به ما فوق العالم، ولفظ الجهة لم يرد في الكتاب، ولا قاله الرسول، ولا تكلم به سلف الأمة. وإنما الذي ورد وصف الله بالعلوي على خلقه واستوائه على عرشه، وأنه تعرج إليه الملائكة والروح. وقد علم أن ما في الوجود إلا الخالق والمخلوق. ومن المعلوم شرعاً وعقلا أن كلا منهما مباين للآخر منفصلا عنه ليس حالا فيه. وقوله_شيء موجود غير الله _ المراد بالموجود ضد المعدوم فيدخل فيه الخالق والمخلوق ولهذا استثنى بقوله "غير الله" ثم بين هذا الغير في قوله: "كما إذا أريد به نفس العرش أو نفس السماوات" وقوله ما ليس بموجود معناه أنه قد يراد بلفظ الجهة مالا وجود له. ولهذا استثنى بقوله غير الله، فيكون هذا الغير أمراً. عدميا وهو ما وراء العالم. وقوله "ونحو ذلك" يعني ككونه سبحانه أنزل القرآن ونزل من عند جبريل واشتباه ذلك مما فيه إثبات علوه على خلقه سبحانه وتعالى. قوله: فيقال لمن نفى: أتريد بالجهة أنها شيء موجود مخلوق؟ فالله ليس داخلا في المخلوقات، أم ترد بالجهة ما وراء العالم؟ فلا ريب أن الله فوق العالم مباين للمخلوقات. وكذلك يقال لمن قال "الله في جهة" أتريد بذلك أن الله فوق العالم أو تريد أن الله داخل في شيء من المخلوقات؟ فإن أردت الأول فهو حق وإن أردت الثاني فهو باطل

شيء من النصوص الداله على عظمة الله وانه لايحوزه شيء من مخلوقاته

شيء من النصوص الداله على عظمة الله وانه لايحوزه شيء من مخلوقاته ... قوله: فيقال لمن نفى: أتريد بالجهة أنها شيء موجود مخلوق؟ فالله ليس داخلا في المخلوقات، أم ترد بالجهة ما وراء العالم؟ فلا ريب أن الله فوق العالم مباين للمخلوقات. وكذلك يقال لمن قال "الله في جهة" أتريد بذلك أن الله فوق العالم أو تريد أن الله داخل في شيء من المخلوقات؟ فإن أردت الأول فهو حق وإن أردت الثاني فهو باطل

وكذلك لفظ التحيز: أن أراد به أن الله تحوزه المخلوقات فالله أعظم وأكبر بل قد وسع كرسيه السماوات والأرض، وقد قال الله تعالى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَالسَّمَاواتُ مَطْوِياتٌ بِيَمِينِهِ} وقد ثبت في الصحاح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:"يقبض الله الأرض ويطوي السماوات بيمينه" ثم يقول: "أن الملك أين ملوك الأرض؟ " وفي حديث آخر: "وأنه ليدحوها كما يدحوا الصبيان بالكرة" وفي حديث بن عباس: "ما السماوات السبع والأرضون السبع وما فيهن في يد الرحمن إلا كخردلة في يد أحدكم". وأن أراد به أنه منحاز عن المخلوقات، أي مباين لها منفصل عنها ليس حالا فيها: فهو سبحانه كما قال أئمة السنة: فوق سماواته على عرشه بائن من خلقه". ش: بعد أن بين المؤلف أن الجهة قد يراد بها أمر وجودي وقد يراد بها أمر عدمي، شرع في بيان كيفية استفسار النافي للجهة والمثبت لها. وخلاصة مناقشة النافي أن يقال له: أن كان مرادك بالجهة أمراً وجوديا كالعرش أو السماوات فنفيك صحيح؟ فمن المعلوم شرعا وعقلا أن الله ليس حالا في شيء من مخلوقاته. وإن كان مرادك بالجهة أمراً عدمياً وهو ما وراء العالم فنفيك باطل، فإنك إذا قلت: الباري ليس في جهة كان حقيقة قولك: أن الباري لا يكون موجوداً قائماً بنفسه وهذا باطل حيث لا موجود فوق العرش إلا هو سبحانه. فإن من المعلوم بالضرورة أن الله فوق سمواته على عرشه. وخلاصة مناقشة المثبت أن يقال له: أن كان مرادك بالجهة أمراً عديماً وهو ما وراء العالم فلا ريب أن الله فوق مخلوقاته عال على عرشه، وإن كان مرادك بالجهة أمرا وجوديا كالعرش أو السموات فإثباتك باطل،

لأن الله سبحانه ليس داخلا في شيء من مخلوقاته. وقوله "فإن أردت الأول" يعني إذا أردت بالجهة ما وراء العالم. وقوله "وإن أردت الثاني" يعني إذا أردت بالجهة شيئاً من المخلوقات. أما لفظ المتحيز فهو في اللغة اسم لما يتحيز إلى غيره يقال هذا لابد أن يحيط به حيز وجودي ولابد أن ينتقل من حيز إلى حيز. قال تعالى: {وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ أو مُتَحَيِّزاً إِلَى فِئَةٍ} ومعلوم أن الخالق جل جلاله لا يحيط به شيء من مخلوقاته فلا يكون متحيزاً بهذا المعنى اللغوي وأما أهل الكلام فاصطلاحهم في المتحيز أعم من هذا، فيجعلون كل جسم متحيزاً والجسم عندهم ما يشار إليه، فتكون السموات والأرض وما بينها على اصطلاحهم متحيزاً وإن لم يسم ذلك في اللغة. والحيز تارة يريدون به معنى موجوداً وتارة يريدون به معنى معدوماً. فمن تكلم باصطلاحهم وقال إن الله متحيز بمعنى أحاط به شيء من الموجودات فهذا مخطيء، فهو سبحانه بائن من خلقه، وإذا كان الخالق يائنا عن المخلوق امتنع أن يكون متحيزا بهذا الاعتبار وأن أراد بالحيز معنى عديماً فالأمر العدمي لا شيء، وهو سبحانه بائن من خلقه، فإذا سمي العدم الذي فوق العالم حيزا وقال: يمتنع أن يكون فوق العالم لئلا يكون متحيزاً فهذا معناً باطل، لأنه ليس هناك موجود غبره حتى يكون فيه بل يجب أن يعلم أن العالم العلوي والسفلي بالنسبة إلى الخالق تعالى في غاية الصفر كما قال تعالى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَالسَّمَاواتُ مَطْوِياتٌ بِيَمِينِهِ سبحانه وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} . وفي الصحيحين عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "يقبض الله تبارك وتعالى الأرض يوم القيامة ويطوي السماء بيمينه، ثم يقول: أنا الملك أين ملوك الأرض؟ ".

وفي الصحيحين واللفظ لمسلم "عن عبد الله بن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يطوي الله السماوات يوم القيامة ثم يأخذهن بيده اليمنى ثم يقول: أنا الملك أين الجبارون أين المتكبرون؟ " ثم يطوي الأرض بشماله ثم يقول: "أنا الملك أين الجبارون أين المتكبرون" وفي لفظ في الصحيحين عن عبد الله بن مقسم أنه نظر إلى عبد الله بن عمر كيف يحكي النبي صلى الله عليه وسلم قال: يأخذ سماواته وأرضه بيده ويقول: أنا الملك ويقبض أصابعه ويبسطها حتى نظرت إلى المنبر يتحرك من أسفل شيء منه حتى إني أقول: أساقط هو برسول الله صلى الله عليه وسلم وفي لفظ قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر وهو يقول: "يأخذ الجبار سماواته وأرضه" وقبض بيده وجعل يقبضها ويبسطها ويقول: أنا الرحمن أنا الملك أنا السلام أنا المؤمن أنا المهيمن أنا العزيز أنا الجبار المتكبر أنا الذي بدأت الدنيا ولن تكن شيئاً أنا الذي أعدتها أين الملوك؟ أين الجبارون؟ أين المتكبرون؟ يتمايل رسول الله صلى الله عليه وسلم على يمينه وعلى شماله حتى نظرت المنبر يتحرك من أسفل شيء منه، حتى إني أقول أساقط هو برسول الله صلى الله عليه وسلم؟ والحديث مروي في المسانيد وفي الصحاح وغيرها بألفاظ يصدق بعضها بعضا، وفي بعض ألفاظه قال قرأ على النبر "والأرض جميعا قبضته يوم القيامة". الآية: قال مطوية في كفه يرمى بها كما يرمي الغلام بالكرة، وفي لفظ "يأخذ الجبار سمواته وأرضه بيده، فيجعلها في كفه ثم يقبض بها هكذا كما يقول الصبيان بالكرة" أنا الله الواحد، وفي لفظ عنه "ما السموات السبع والأرضون السبع وما فيهن وما بينهن بيد الرحمن إلا كخردلة في يد أحدكم" وهذه الآثار معروفة في كتب الحديث وفي الصحيحين عن عبد الله بن مسعود قال: أتى النبي صلى الله عليه وسلم رجل يهودي فقال: يا محمد إن الله يجهل السماوات على أصبع، والماء والثراء على أصبع، وسائر الخلق على أصبع، فيهزهن فيقول: أنا الملك أنا الملك. قال فضحك النبي صلى الله عليه وسلم حتى

بدت نواجذه، تصديقا لقول الحبر ثم قال: "وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعاً قبضته يوم القيامة" إلى آخر الآية. والحاصل أن في هذه الآية والأحاديث الصحيحة المفسرة لها المستفيضة التي اتفق أهل العلم على صحتها وتلقيها بالقبول، ما يبين أن السماوات والأرض وما بينها بالنسبة إلى عظمة الله تعالى، أصغر من أن تكون مع قبضه لها إلا كالشيء الصغير في يد أحدنا: ودحي الكرة دحرجتها: والعرش في اللغة سرير الملك كما في قوله تعالى عن يوسف: {وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ} وقال عن ملكة سبأ: {وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ} . وأما عرش الرحمن الذي استوى عليه فهو عرش عظيم، محيط بالمخلوقات وهو أعلاها وأكبرها. كما في حديث أبي ذر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما السماوات السبع والأرضون السبع عند الكرسي إلا على الحلقة" والحديث له طرق وقد رواه أبو حاتم وابن حبان في صحيحه وأحمد في المسند وغيرهم والكرسي في اللغة السرير وما يقعد عليه وأما الكرسي الذي أضافه إلى نفسه فهو موضع قدميه. قال ابن عباس رضي الله عنهما: "الكرسي موضع القدمين والعرش لا يقدر قدره إلا الله عز وجل" رواه الحاكم في المستدرك، وقال: أنه على شرط الشيخين. وقد روى مرفوعاً والصواب أنه موقوف. وهذا المعنى الذي ذكره بن عباس هو المشهور بين أهل السنة وهو المحفوظ عنه، وما روى عنه أنه العلم فغير محفوظ عنه. وكذلك ما روى عن الحسن أنه العرش_ ضعيف لا يصح عنه_ "والخردلة" واحدة الخردل وهو نبات له حب صغير جداً أسود. واعلم أن هذه الألفاظ المجملة وما أشبهها من الألفاظ الاصطلاحية يجوز مخاطبة أهلها بها وأن لم تكن واردة وذلك يحتاج إلى معرفة الكتاب والسنة، ومعرفة ما عنى هؤلاء بألفاظهم ثم اعتبار هذه المعاني ليظهر الموافق

والمخالف: والدليل على جواز مخاطبة أهل الاصطلاح باصطلاحهم قوله صلى الله عليه وسلم لأم خالد بنت خالد: بن سعيد بن العاص: وكانت صغيرة ولدت بأرض الحبشة "هذا سناء" والسناء الحسن في لغتهم، لأنها كانت من أهل هذه اللغة. وكذلك يترجم القرآن في لغتهم، لأنها كانت من أهل هذه اللغة. وكذلك يقرأ المسلم ما يحتاج إليه من كتب الأمم وكلامهم بلغتهم ويترجمه بالعربية. كما أمر النبي صلى الله عليه وسلم زيد بن ثابت أن يتعلم كتاب اليهود ليقرأ ويكتب له ذلك حيث لم يأتمن اليهود عليه. وكثير ممن قد تعود عبارة معينة إن لم يخاطب بها لم يفهم صحة القول. وأكثر الخائضين في الكلام والفلسفة من هذا القبيل: يرى أحدهم تذكر له المعاني الصحيحة بالنصوص الشرعية فلا يقبلها: لظنهم أن في عبارتهم من المعاني ما ليس في ذلك. فإذا أخذ المعنى الذي دل عليه الشرع واستعمل بلغتهم وبين بطلان قولهم المناقض للمعنى الشرعي خضعوا لذلك وأذعنوا، كالتركي، والرمي والفارسي، الذي تخاطبه بالقرآن العربي وتفسيره، فلا يفهم حتى تترجم له شيئاً بلغته، فيعظم سروره وفرحه ويقبل الحق ويرجع عن باطله.

لفظ الظاهر فيه إجمال واشتراك

قوله: "القاعدة الثالثة" إذا قال القائل ظاهر النصوص مراد أو ظاهرها ليس بمراد، فإنه يقال: لفظ الظاهر فيه إجمال واشتراك، فإن كان القائل يعتقد أن ظاهرها التمثيل بصفات المخلوقين أو ما هو من خصائصهم فلا ريب أن هذا غير مراد، ولكن السلف والأئمة لم يكونوا يسمون هذا ظاهرها، ولا يرتضون أن يكون ظاهر القرآن والحديث كفراً وباطلا، والله سبحانه وتعالى أعلم وأحكم من أن يكون كلامه الذي وصف به نفسه لا يظهر منه إلا ما هو كفر أو ظلال.

ش: مذهب السلف من القرون الثلاثة ومن سلك سبيلهم من أهل السنة أن نصوص الصفات تمر كما جاءت، ويؤمن بها وتصدق وهي صريحة الدلالة واضحة المعنى وظاهرها هو مراد الله بكلامه وذلك على ما يليق به ويناسب ذاته المقدسة فتصان عن تأويل يفضي إلى تعطيل، وتكييف يفضي إلى تمثيل: إذا عرف هذا فالقول بأن ظاهرها مراد أو ليس بمراد قول مجمل يحتاج إلى تفصيل. فإن لفظ الظاهر قد صار مشتركا بين معنيين: أحدهما: مثلا أن يقال: أن اليد جارحة مثل جوارح العباد، وظاهر الغضب غليان دم القلب لطلب الانتقام، وظاهر كونه في السماء أن يكون مثل الماء في الظرف فلاشك أن من قال: أن هذه المعاني وشبهها من صفات المخلوقين ونعوت المحدثين غير مراد من الآيات والأحاديث فقد صدق وأحسن، إذ لا يختلف أهل السنة أن الله ليس كمثله شيء لا في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله، بل أكثر أهل السنة يكفرون المشبه، لكن هذا القائل اخطأ حيث ظن أن هذا المعنى هو الظاهر من هذه الآيات والأحاديث فإن ظاهر الكلام هو ما سبق منه إلى العقل السليم لمن يفهم تلك اللغة ثم قد يكون ظهوره بمجرد الوضع وقد يكون بساق الكلام وليست هذه المعاني المحدثة المستحيلة على الله تعالى هي السابقة إلى عقول المؤمنين.

والمعنى الثاني: أن هذه الصفات إنما هي لله تعالى كما يليق بجلاله نسبتها إلى ذاته المقدسة كنسبة صفات كل شيء إلى ذاته. فيعلم أن العلم صفة ذاتية للموصوف وكذلك الوجه واليدين وسائر الصفات. فهذا هو الذي يظهر من إطلاق هذه الصفات، وهو الذي يجب أن تحمل عليه فالمؤمن يعلم أحكام هذه الصفات وآثارها وهو الذي أريد منه فهمه. فيعلم أن الله على كل شيء قدير، وأن الله قد أحاط بكل شيء علما، وأن الأرض جميعا قبضته يوم القيامة والسموات مطويات بيمينه، وأن المؤمنين ينظرون إلى وجه خالقهم في الجنة ويتلذذون بذلك لذة ينغمر في جانبها ونحو ذلك. كما يعلم أن له ربا وخالقاً ومعبوداً ولا يعلم كنه شيء من ذلك، بل غاية علم الخلق هكذا، يعلمون الشيء من بعض الجهات ولا يحيطون بكنهه فمن قال أن الظاهر غير مراد بمعنى أن الصفات المخلوقين غير مرادة. قلنا له: أصبحت في المعنى لكن أخطأت في اللفظ وأوهمت البدعة وجعلت للجهمية طريقاً إلى غرضهم وكان يمكنك أن تقول: تمر كما جاءت على ظاهرها مع العلم بأن صفات الله تعالى ليست كصفات المخلوقين، وأنه منزه مقدس عن كل ما يلزم حدوثه أو نقصه ومن قال: الظاهر غير مراد بالتفسير الثاني وهو مراد الجهمية ومن تبعهم من المعتزلة وغيرهم فقد أخطأ: والكلام مع هؤلاء الذين ينفون ظاهرها بهذا التفسير، فإذا وصف الله نفسه بصفة أو وصفه بها رسوله فصرفها عن ظاهرها اللائق بجلاله سبحانه وحقيقتها المفهومة إلى باطن يخالف الظاهر كفر وضلال. وكلا الله ورسوله منزه عن ذلك والله أعظم من أن يكون ما وصف به نفسه أو وصفه به رسوله يقتضي المشابهة للمخلوقين.

الذين يجعلون ظاهر النصوص هو التشبيه يغلطون من وجهين

الذين يجعلون ظاهر النصوص هو التشبيه يغلطون من وجهين ... قوله: والذين يجعلون ظاهرها ذلك يغلطون من وجهين: تارة يجعلون المعنى الفاسد ظاهر اللفظ، حتى يجعلوه محتاجا إلى تأويل يخالف الظاهر ولا يكون كذلك. وتارة يردون المعنى الحق الذي هو ظاهر اللفظ لاعتقادهم أنه باطل. ش: الإشارة في قوله: "ذلك" راجعة إلى جعل ظاهر نصوص الصفات هو التشبيه والتمثيل بصفات المخلوقين. وقوله: "تارة يجعلون المعنى الفاسد ظاهر اللفظ" هذا هو الوجه الأول من الوجهين اللذين يغلطون من جهتها. وخلاصته أنهم يعتقدون أن مدلول النص باطل فيجب تأويله على خلاف ظاهره وهو في الواقع ليس مدلوله باطلا. وبالتالي فليس النص بحاجة إلى تأويل. وقوله: "وتارة يردون المعنى الحق" هذا هو الوجه الثاني. وحاصله أنهم ينفون المدلول الحقيقي للنص لاعتقادهم أنه يدل على تشبيه الله بخلقه، وهو في الواقع إنما يدل على اتصاف الله بصفاته اللائقة به مع نفي مماثلته لخلقه. قوله: "فالأول": كما قالوا في قوله: "عبدي جعت فلم تطعمني" الحديث وفي الأثر الآخر "الحجر الأسود يمين الله في الأرض فمن صافحه أو قبله فكأنما صافح الله وقبل يمينه".

وقوله: "قلوب العباد بين أصبعين من أصابع الرحمن" فقالوا: قد علم أن ليس في قلوبنا أصابع الحق. ش: هذا الحديث رواه مسلم في صحيحه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم "يقول الله عبدي مرضت فلم تعدني، فيقول رب كيف أعودك وأنت رب العالمين". الحديث والمعنى الفاسد الذي يتوهمون أنه ظاهر النص هو اعتقادهم أن الحديث يدل على أن الله نفسه هو المتصف بالمرض والجوع وسيَأتِي تفسيره. وأما الحديث الثاني: فقد روى عن النبي صلى الله عليه وسلم بإسناد لا يثبت والمشهور إنما هو عن ابن عباس، ولهذا قال المؤلف "مع أن هذا إنما يعرف عن ابن عباس" وعبر عنه أيضاً بقوله "وفي الأثر" والمعنى الفاسد الذي يتوهمونه ظاهر النص هو اعتقادهم أنه يدل على أن الحجر هو نفس يمين الله. وأما الحديث الثالث: فقد رواه المسلم في صحيحه وأحمد وغيرهما من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص وغيره، والمعنى الفاسد الذي يتوهمون أنه ظاهر الحديث هو اعتقادهم أنه يدل على أن أصابع الرحمن متصلة بقلوب العباد اتصالا مباشراً وإليه يشير قول المؤلف: "قالو قد علم أن ليس في قلوبنا أصابع الحق".

قوله: فيقال لهم لو أعطيتم النصوص حقها من الدلالة لعلمتم أنها لم تدل إلا على حق أما "الواحد" فقوله: "الحجر الأسود يمين الله في الأرض فمن صافحه وقبله فكأنما صافح الله وقبل يمينه" صريح في أن الحجر الأسود ليس هو صفة الله ولا هو نفس يمينه لأنه قال: "يمين الله في الأرض" وقال: "فمن قبله وصافحه فكأنما صافح الله وقبل يمينه" ومعلوم أن المشبه ليس هو المشبه به، ففي نفس الحديث بيان أن مستلمه ليس مصافحا لله، وإنه ليس هو نفس يمينه، فكيف يجعل ظاهره كفراً لأنه محتاج إلى التأويل مع أن هذا الحديث إنما يعرف عن ابن عباس، وأما الحديث الآخر فهو في الصحيح مفسراً "يقول الله عبدي! جعت فلم تطعمني فيقول رب كيف أطعمك وأنت رب العالمين! فيقول: أما علمت أن عبدي فلانا جاع فلو أطعمته لوجدت ذلك عندي، عبدي! مرضت فلم تعدني، فيقول رب كيف أعودك وأنت رب العالمين؟ فيقول أما علمت أن عبدي فلانا مرض فلو عدته لوجدتني عنده. وهذا صريح في أن الله سبحانه لم يمرض ولم يجع، ولكن مرض عبده وجاع عبده فجعل جوعه: جوعه، ومرضه: مرضه، مفسراً ذلك بأنك لو أطعمته لوجدت ذلك عندي، ولو عدته لوجدتني عنده: فلم يبق في الحديث لفظ يحتاج إلى تأويل. وأما قوله: "قلوب العباد بين أصبعين من أصابع الرحمن" فإنه ليس في ظاهره أن القلب متصل بالأصابع ولا مماس لها، ولا إنها في جوفه، ولا في قول القائل: "هذا بين يدي" ما يقتضي مباشرته ليديه وإذا قيل: السحاب المسخر بين السماء والأرض لم يقتض أن يكون مماسا للسماء والأرض ونظائر هذا كثيرة. ش: هذا بيان كون هذه الأحاديث لم تدل إلا على حق فليس

ظاهرها معنى فاسد وليست في حاجة إلى تأويل أما أحد هذه الأحاديث فهو قوله صلى الله عليه وسلم "الحجر الأسود"الخ. فمن تدبر اللفظ المنقول تبين له أنه لا إشكال فيه إلا على من لم يتدبره، فإنه قال "يمين الله في الأرض" وحكم اللفظ المقيد يخالف حكم اللفظ المطلق، ثم قال "فمن صافحه وقبله فكأنما صافح الله وقبل يمينه" فأول الحديث وآخره يبين أن الحجر ليس من صفات الله كما هو معلوم عند كل عاقل، ولكن يبين أن الله تعالى كما جعل للناس بيتا يطوفون به جعل لهم ما يستلمونه ليكون ذلك بمنزلة تقبيل يد العظماء فإن ذالك تقرب إلى المقبل وإجلال له كما جرت به العادة، فظنهم أن هذا وأمثاله يحتاج إلى تأويل غلط منهم لو كان هذا اللفظ ثابتا عن النبي صلى الله عليه وسلم فإن هذا اللفظ صريح في أن الحجر الأسود ليس هو من صفات الله إذ قال: "هو يمين الله في الأرض" فالقيد بالأرض يدل على أنه ليس هو يده على الإطلاق فلا يكون اليد الحقيقية. وقوله: "فمن صافحه وقبله فكأنما صافح الله وقبل يمينه" صريح في أن مصافحه ومقبله ليس مصافحاً لله ولا مقبلا يمينه لأنه المشبه ليس هو المشبه به. وقد أتى بقوله "فكأنما" وهي صريحة في التشبيه وإذا كان اللفظ صريحا في أنه جعل بمنزلة اليمين كان من اعتقد أن ظاهره حقيقة اليمين قائلا للكذب المبين: وقول المؤلف "لأنه محتاج إلى تأويل" غير واضح فلعل الأصل فكيف يجعل ظاهره كفراً محتاجاً إلى تأويل فالعلة هي كون ظاهره كفراً، والمعلول هو حاجته إلى تأويل: أما على ظاهر هذه العبارة فتكون المسألة بالعكس. فلو كان هذا هو المراد لقال المؤلف فكيف يجعل محتاجاً إلى تأويل لأن ظاهره كفر وباطل والله أعلم.

وأم الحديث الثاني: فهو كما قال المؤلف في الصحيح مفسراً "عبدي جعت فلم تطعمني قال: كيف أطعمك وأنت رب العالمين؟ قال: أما عملت أن عبدي فلان جاع! عبدي مرضت فلم تعدني قال رب كيف أعودك وأنت رب العالمين؟ قال: أما علمت أن عبدي فلان مرض! " فهو نص صريح أن الله سبحانه لم يمرض ولم يجع، وإنما الذي مرض وجاع هو عبده، وفيه إثبات التمييز بين الرب والعبد. وقوله: لوجدتني عنده! لفظ ظرف وهو هنا يفيد ما تفيده المعية الخاصة من الإحاطة والرعاية. ولو كان الرب المريض والجائع لكان إذا عاده وأطعمه يكون قد وجده إياه وقد وجده آكله. وفي قوله في المريض وجدتني عنده، وفي الجائع لوجدت ذلك عندي فرقان حسن، فإن المريض الذي تستحب عيادته ويجد الله عنده هو المؤمن بربه الطائع لإلهه الذي هو وليه: وأما الطاعم فقد يكون فيه عموم لكل جائع يستحب إطعامه، فإن الله يقول: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافاً} فمن تصدق بصدقة واجبة أو مستحبة فقد أقرض الله سبحانه بما أعطاه لعبده. وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من تصدق بعدل تمرة من كسب طيب ولا يقبل الله إلا طيبا فإن الله يأخذها بيمينه فيربيها كما يربي أحدكم فلوه أو فصيله حتى تكون مثل الجبل العظيم" وقال: "أن الصدقة لتقع بيد الحق قبل أن تقتع بيد السائل" فإن الله يثبت على إطعام الفاسق والذمي وغيره فالإطعام والقرض فيه هموم لا يختص بشخص دون شخص. وأما العيادة فإنما تكون لمن يوجد الحق عنده، والعندية التي بمعنى المعية الخاصة، إنما هي لعباد الله الصالحين.

هذه وجهة رأي في التفريق بينها والأشبه كما قال شيخ الإسلام: "إن هذا العبد المذكور في الجوع هو المذكور في المرض وهو العبد الولي". أما الحديث الثالث: فقد أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن أم سلمة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول "يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك" ثم قرأ {رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا} الآية وروى بن جرير بسنده عن شهر بن حوشب قال: سمعت أم سلمة تحدث: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يكثر في دعائه أن يقول "اللهم مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك" قالت: قلت يا رسول الله وأن القلب ليقلب قال: "نعم ما خلق الله من نبي آدم من بشر إلا وقلبه بين أصبعين من أصابعه فإن شاء أقامه وأن شاء أزاغه_ فنسأل الله ربنا أن لا يزيغ قلوبنا بعد إذ هدأنا، ونسأله أن يهب لنا رحمة أنه هو الوهاب" قالت: قلت يا رسول الله، ألا تعلمني دعوة أدعو بها لنفسي، قال بلى "قولي اللهم رب النبي محمد اغفر ذنبي واذهب غيظ قلبي وأجرني من مضلات الفتن" رواه بن خزيمة في كتاب التوحيد كما رواه الإمام أحمد والترمذي مختصراً. وروى بن جرير بسنده عن أنس قال: " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم كثيراً ما يقول يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك، قلنا يا رسول الله_ قد آمنا بك وصدقنا بما جئت به فيخاف علينا؟ قال "نعم إن القلوب بين أصبعين من أصابع الله يقلبها تبارك وتعالى" وعن النواس بن سمعان الكلابي قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ما من قلب إلا بين أصبعين من أصابع الرحمن أن شاء أقامه وأن شاء أزاغه" وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "يا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على دينك" والميزان بيد الرحمن يرفع قوماً ويخفض آخرين إلى يوم القيامة، رواه أحمد وابن ماجد وعن عبد الله بن عمرو بن العاص قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول "إن قلوب بني آدم كلها

بين أصبعين من أصابع الرحمن كقلب واحد يصرفه كيف يشاء. ثم يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اللهم مصرف القلوب صرف قلوبنا إلى طاعتك" رواه أحمد ورواه مسلم في صحيحه. ولفظة بين لا تقتضي المخالطة ولا الملاصقة لغة ولا عرفاً. قال تعالى: {وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} وهو لا يلاصق السماء والأرض. وقوله: "ونظائر هذا كثيرة" يعني كقوله {نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ} {فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً} {يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرُجُلِهِنَّ} وقوله صلى الله عليه وسلم "بيده الميزان الحديث". واعلم أن جميع ما يحتج به المبطل من الأدلة الشرعية والعقلية إنما تدل على الحق لا تدل على قول المبطل وهذا ظاهر يعرفه كل واحد من أهل البصيرة. فإن الدليل الصحيح لا يدل إلا على حق لا على باطل، ولكن قد يؤتي الإنسان من سوء فهمه فيفهم من كلام الله ورسوله معان يجب تنزيه الله سبحانه عنها فحال المبطل مع كلام الله ورسوله كما قيل: وكم من عائب قولا صحيحا ... وآفته من الفهم السقيم وكما قال الآخر: ومن يك ذا فم مر مريض ... يجد مراً به الماء الزلالا ويجب على أهل العلم أن يبينوا نفي ما يظنه الجهال من النقص في صفات الله تعالى وأن يبينوا صون كلام الله ورسوله عن الدلالة على شيء من ذلك فإن القرآن بيان وهدى وشفاء وأن ضل به من ضل فإنه من جهة تفريطه كما قال تعالى {وَنُنَزِّلُ مِنَ القرآن مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلاخَسَاراً} وقوله: {قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذَأنهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمىً} . وقد علم بالكتاب والسنة والإجماع ما يعلم بالعقل أيضاً أن الله

تعالى ليس كمثله شيء في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله، فلا يجوز أن يوصف بشيء من خصائص المخلوقين، من زعم أن القرآن دل على ذلك فقد كذب على القرآن فليس في كلام الله سبحانه ولا في كلام رسوله صلى الله عليه وسلم ما يوجب وصفه بذلك.

الفروق بين آيتي (ص) ، (يس)

الفروق بين آيتي (ص) ، (يس) ... قوله: ومما يشبه هذا القول أن يجعل اللفظ نظيراً لما ليس مثله، كما قيل في قوله: {مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} فقيل هو مثل قوله: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَاماً} فهذا ليس مثل هذا، لأنه هنا أضاف الفعل إلى الأيدي، فصار شبيهاً بقوله: "بما كسبت أيديهم" وهنا أضاف الفعل إليه فقال: {مَا خَلَقْتَ} ثم قال: {بِيَدَيَّ} وأيضاً فإنه هنا ذكر نفسه المقدسة بصيغة المفرد، وفي اليدين ذكر لفظ التثنية، كما في قوله: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} وهناك أضاف الأيدي إلى صيغة الجمع، فصار كقوله: {تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا} وهذا "في الجمع" نظير قوله: {بِيَدِهِ الْمُلْكُ} ، "وبيده الخير" في "المفرد" فالله سبحانه وتعالى يذكر نفسه تارة بصيغة المفرد مظهراً أو مضمراً، وتارة بصيغة الجمع كقوله: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً} وأمثال ذلك. ولا يذكر نفسه بصيغة التثنية قط، لأن صيغة الجمع تقتضي التعظيم الذي يستحقه، وربما تدل على معاني أسمائه. وأما صيغة التثنية فتدل على العدد المحصور وهو مقدس عن ذلك فلو قال {مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} لما كان كقوله: {مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا} وهو نظير قوله: {بِيَدِهِ الْمُلْكُ} ، "وبيده الخير" ولو قال: "خلقت" بصيغة الإفراد لكان مفارقا له، فكيف إذا قال خلقت بيدي؟ بصيغة التثنية. هذا مع دلالات الأحاديث المستفيضة. بل المتواترة وإجماع السلف على مثل ما دل عليه القرآن، كما هو مبسوط في موضعه مثل قوله: "المقسطون عند الله على منابر من نور عن يمين الرحمن وكلتا يديه يمين الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما ولوا" وأمثال ذلك.

ش: يقول المؤلف مما هو نظير المقالة السابقة، وهي أن ظاهر النصوص معنى فاسد وأنها محتاجة هذه المقالة دعوى من قال: أن آية "ص" مثل آية "يس" والواقع أنهما غير متماثلين فإنه في آية "ص" أضعاف الفعل إليه وبين أنه خلقه بيده، وفي آية "يس" أضاف الفعل إلى أيدي وفي آية "ص" ذكر اليدين بصيغة التثنية أما في آية "يس" فقد ذكرهما بصيغة الجمع، ومن لغة العرف أنهم يستعملون اسم الجمع موضع التثنية إذا أمن اللبس، كقوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} أي يديهما وقوله: {فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} أي قلباكما فكذلك قوله: {مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا} ونفس هذا التركيب المذكور في قوله: {خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} يأبى حمل الكلام على القدرة لأنه نسب الخلق إلى نفسه سبحانه، ثم عدى الفعل إلى اليد ثم ثناها، ثم أدخل عليها الباء التي تدخل على قولك كتبت بالقلم ومثل هذا النص صريح لا يحتمل المجاز بوجه، بخلاف قوله سبحانه: "بما كسبت أيديكم" {بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ} فإنه نسب الفعل إلى اليد ابتداء وخصها بالذكر لأنها آلة الفعل في الغالب فهكذا في آية "يس" لما لم يكن خلق الأنعام مساويا لخلق أبي الأنام قال تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَاماً} فأضاف الفعل إلى أيدي وجمعها ولم يدخل عليها الباء فهذه ثلاثة فروق تبطل إلحاق أحد الموضعين بالآخر وليست آية "ص" مثل آية "يس" سناد الفعل ومن حيث تعدي الفعل بالباء وحتى لو كانت آية "ص" "ما منعك أن تسجد لما خلقت" بدون ذكر اليدين لم تكن مثل آية "يس" لاختلافهما من حيث إسناد الفعل فكيف إذا قال "خلقت بيدي بصيغة التثنية وإسناد إليه وتعديته بالباء. وقوله: فصار شبيهاً بقوله: بما كسبت أيديهم.

يعني من حيث إسناد الفعل إلى الأيدي ولو لم تباشره، وقوله: كما في قوله: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} يعني من حيث لفظ التثنية، وقوله فصار كقوله: {تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا} وهذا في الجمع نظير قوله: {بِيَدِهِ الْمُلْكُ} "وبيده الخير" في المفرد يعني من حيث المثنى حيث أضيف إلى صيغة الجمع وآية "يس" مثل قوله سبحانه {بِيَدِهِ الْمُلْكُ} "وبيده الخير" من حيث عدم إرادة مباشرة اليد: إلا أن آية "يس" بصيغة الجمع "بيده الملك وبيده الخير" بصيغة الإفراد، وقوله: "فالله سبحانه وتعالى يذكر نفسه تارة بصيغة الفرد مظهراً أو مضمراً" يعني كقوله: {مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} وقوله سبحانه: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاواتِ وَالْأَرْضَ} وقوله: "وتارة بصيغة الجمع" كقوله: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً} وأمثال ذلك. يعني وتارة يذكر نفسه بالصيغة الموضوعة للجمع والتعظيم _ معظما نفسه ومشيراً إلى ما له من كثرة الأسماء وتعدد الصفات_ وذلك كما في آية الفتح وكما في قوله: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ} {نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ} ونحو ذلك وقوله: ولا يذكر نفسه بصيغة التثنية قط لأن صيغة الجمع تقتضي التعظيم الذي يستحقه وربما تدل على معاني أسمائه. وأما صيغة التثنية فتدل على العدد المحصور وهو مقدس عن ذلك: يعني هذا وجه كونه سبحانه لم يذكر نفسه بصيغة التثنية وإنما ذكرها بصيغة الإفراد والجمع فإن التثنية لا تفيد المعنى الذي تفيده صيغة الجمع والإفراد من الدلالة على العظمة والجلال وكثرة الأسماء والنعوت، والدلالة على الوحدانية والاستقلال، وإنما تفيد حصر عظمته أو وجود شريك له تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً. والقول بأن آية "ص" مثل آية "يس" مشهور عن بشر بن غياث المريسي وأمثاله من نفات الصفات والقول بأن الآيتين سواء يريدون به أن كلا منهما لا تدل على مباشرة الخلق باليدين ليتوصلوا بذلك إلى نفي

اليدين عن الله "تبارك وتعالى" وقولهم باطل مخلف لصريح القرآن والسنة وإجماع سلف الأمة. وقوله: "هذا من دلالة الأحاديث المستفيضة بل المتواترة" الخ. يعني ويضاف إلى الأدلة السابقة في إثبات اليدين لله لأدلة الأحاديث الصحيحة الصريحة التي تلقتها الأمة بالتصديق ونقلتها من بحر غزير وهي مشهورة، بل قد بلغت حد التواتر. وقد ذكر عثمان بن سعيد الدارمي الإمام المشهور في رده على بشر المريسي طرفاً كبيراً منها. كما ذكر الشيخ المؤلف قسما كبيراً منها في الرسالة التي وجهها إلى شمس الدين بالمدينة. وهذا الحديث رواه مسلم في صحيحه من حديث عبد الله من عمرو بن العاص رضي الله عنهما. وقوله وأمثاله ذلك: يعني كقوله صلى الله عليه وسلم "يمين الله ملأى لا يغيضها نفقة سحاء الليل والنهار أرأيتم ما أنفق منذ خلق السموات والأرض فإن لم يغض ما في يمينه والقسط بيده الأخرى يرفع ويخفض إلى يوم القيامة" رواه مسلم في صحيحه وفي الصحيح أيضاً عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "تكون الأرض يوم القيامة خبزه واحده يتكفؤها الجبار بيده كما يتكفؤ أحدكم بيده خبزته في السفر". وفي الصحيح أيضاً عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يقبض الله الأرض ويطوي السماء بيمينه ثم يقول: أنا الملك أين ملوك الأرض؟ . وفي الصحيح أنه لما تحاج آدم وموسى قال آدم: "يا موسى اصطفاك الله بكلامه وخط لك التوراة بيده" وقد قال موسى: "أنت آدم الذي خلقك بيده ونفخ فيك من روحه" وفي الحديث آخر في السنن "لما خلق الله آدم مسح ظهره بيمينه فستخرج من ذريته" فقال: خلقت هؤلاء للجنة وبعمل أهل

الجنة يعلمون، ثم مسح ظهره بيده الأخرى فقال خلقت هؤلاء للنار وبعمل أهل النار يعلمون! فهذه الأحاديث لا تقبل التأويل بل هي نصوص صريحة وقد تلقتها الأمة بالقبول. وقد علم أن التجوز في مثل هذا لا يستعمل بلفظ التثنية بل لا يستعمل إلا مفردا أو مجموعاً، كقولك: له عندي يد يجزيه الله بها، وله عندي أياد. وأما إذا جاء بلفظ التثنية لم يعرف استعماله قط إلا في اليد الحقيقة وهذه موارد الاستعمال أكبر شاهد. وليس من المعهود أن يطلق الله على نفسه معنى القدرة والنعمة بلفظ التثنية، بل يلفظ الإفراد الشامل لجميع الحقيقة كقوله إن القوة لله جميعا. وقوله: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا} . وقد يجمع النعم كقوله: {وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً} وأما أن يقول خلقتك بقدرتي أو بنعمتي بالتثنية فهذا لم يقع في كلامه ولا كلام رسوله صلى الله عليه وسلم فتظافر الكتاب والسنة على إثبات اليدين لله "تبارك وتعالى" وإثبات أنه باشر خلق آدم بيديه فبعداً وسحقاً للمنافقين وأفراخ المجوس والصابئين، وتلاميذ اليهود والملحدين من جهميين وجعديين.

النصوص المتفق على معناها بين أهل السنة والأشاعرة

النصوص المتفق على معناها بين أهل السنة والأشاعرة ... قوله: وإن كان القائل يعتقد أن ظاهر النصوص المتنازع في معناها من جنس ظاهر النصوص المتفق على معناها والظاهر هو المراد في الجميع _ فإن الله لما أخبر أنه بكل شيء عليم، وأنه على كل شيء قدير، وأتفق أهل السنة وأئمة المسلمين على أن هذا على ظاهره، وأن ظاهر ذلك مراد: كان من المعلوم أنهم لم يريدوا بهذا الظاهر أن يكون علمه كعلمنا وقدرته

كقدرتنا، وكذلك لما اتفقوا على أنه حي حقيقة، عالم حقيقة، قادر حقيقة، لم يكن مرادهم أنه مثل المخلوق الذي هو حي عليم قدير فكذلك إذا قالوا في قوله تعالى: {يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} {رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} وقوله: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} أنه على ظاهره لم يقتض ذلك أن يكون ظاهره استواء كاستواء المخلوق، ولا حباً كحبه، ولا رضا كرضاه. فإن كان المستمع يظن أن ظاهر الصفات تماثل صفات المخلوقين لزمه أن لا يكون شيء من ظاهر ذلك مراداً. وإن كان يعتقد أن ظاهرها ما يليق بالخالق ويختص به لم يكن له نفي هذا الظاهر، ونفي أن يكون مراداً إلا بدليل يدل على النفي، وليس في العقل ولا السمع ما ينفي هذا إلا من جنس ما ينفي به سائر الصفات فيكون الكلام في الجميع واحداً. ش: الكلام فيما سبق في أول هذه القاعدة مع المشبهة ونفاة الصفات كلها أما هنا فالخطاب مع الأشعري حين يقول "ظاهر النصوص مراد" أو يقول: "ظاهر النصوص ليس بمراد" ولذا قال المؤلف: "وإن كان القائل يعتقد أن ظاهر النصوص المتنازع في معناها من جنس ظاهر النصوص المتفق على معناها". والمتفق على مدلولها بين الأشاعرة وأهل السنة هي الصفات السبع. والمتنازع في إثبات مدلولها هي ماعدا الصفات السبع، إذا كان القائل يجري الجميع مجرى واحداً قيل له ماذا تقصد بالظاهر؟ أتقصد به ما يماثل صفات المخلوقين؟ أن تقصد به ما يليق بالله؟ وعلى كل فمن المعلوم أن الله سبحانه لما وصف نفسه بالحياة والعلم والقدرة والإرادة والكلام والسمع والبصر واتفق أهل السنة والأشاعرة ومن تبعهم على إثبات ذلك، وأن ظاهر ذلك مراد: كان من المعلوم أنهم لا يقصدون أن ظاهرها هو ما يماثل صفات المخلوقين: فكذلك لما قال أهل السنة أنه موصوف بالاستواء

والمحبة والرضا ونحو ذلك. لم يكن مرادهم أن ظاهرها يقتضي المماثلة، وحينئذ فإن كان المخاطب يظن أن ظاهر صفات الله هو ما يماثل صفات المخلوقين لزمه أن لا يثبت هذا الظاهر في جميع نصوص الصفات، إذ الباب في الجميع واحد وإن كان المخاطب يعتقد أن ظاهر صفات الله هو على ما يليق به ويناسب ذاته المقدسة، فليس له نفي هذا الظاهر ولا نفي كونه مراداً لله بكلامه فإن قال: الظاهر مراد في نصوص الصفات السبع وغير مراد في الباقي قيل له هذا تفريق بين متماثلين وإن قال: أن الظاهر مراد في الجميع وهو على ما يليق بالله فليس له أن ينفي مدلول بقية النصوص، حيث لا دليل له من عقل أو نقل على نفيه إلا من جنس قول الجهمية "إن إثبات الصفات يقتضي التشبيه" وحينئذ يرد عليه بما يرد عليهم به، وهو إن إثبات الأسماء والصفات مع نفي المماثلة للمخلوقات هو مقتضي العقول السليمة والفطر المستقيمة. وقد دل عليه الكتاب والسنة فالمتصف بالصفات مع نفي مماثلته للمخلوقات أكمل وأعظم ممن لا صفة له. هذا وقد ذكر المؤلف أن الذين يجعلون ظاهر النصوص التشبيه يغلطون من وجهين "تارة يجعلون المعنى الفاسد ظاهر النص حتى يجعلوه محتاجا إلى التأويل ولا يكون كذلك، وتارة يردون المعنى الحق الذي هو ظاهر النص لاعتقادهم إنه باطل". وقد مثل المؤلف للوجه الأول بثلاثة أمثلة وشرحها. أما الوجه الثاني: فلم يعترض له وذلك لأنه ينطبق على جميع نصوص الصفات وعلى هذه الأمثلة الثلاثة أيضاً فإنهم يردون المعنى الحق الذي هو ظاهر النص لاعتقادهم أنه باطل. وحينئذ فالأمثلة الثلاثة كافية لأنها من جملة النصوص.

قوله: وبيان هذا أن صفاتنا منها ما هي أعيان وأجسام، وهي أبعاض لنا كالوجه واليد: ومنها معان وأعراض وهي قائمة بنا، كالسمع والبصر والكلام والعلم والقدرة. ثم إن من المعلوم أن الرب لما وصف نفسه بأنه حي عليم قدير: لم يقل المسلمون أن ظاهر هذا غير مراد لأن مفهوم ذلك في حقه مثل مفهومه في حقنا، فكذلك لما وصف نفسه بأنه خلق آدم بيديه لم يوجب ذلك أن يكون ظاهره غير مراد، لأن مفهوم ذلك في حقه كمفهومه في حقنا بل صفة الموصوف تناسبه. فإذا كانت نفسه المقدسة ليست مثل ذوات المخلوقين، فصفاته كذاته ليست كصفات المخلوقين ونسبة صفة المخلوق إليه كنسبة صفة الخالق إليه وليس المنسوب كالمنسوب، ولا المنسوب إليه كالمنسوب إليه، كما قال صلى الله عليه وسلم "ترون ربكم كما ترون الشمس والقمر" فشبه الرؤية بالرؤية، ولم يشبه المرئي بالمرئي. ش: يقول الشيخ أن كون ظاهر النصوص هو مراد الله بكلامه وهو على ما يليق به. يتضح بالمقارنة بين الصفات المخلوقين وصفات الله. فصفات المخلوقين منها ما هو عين قائمة متجسدة وهي قائمة بنا. ومثل للأول بقوله: "كالوجه واليد" ومثل للثاني بقوله: "كالسمع والبصر والكلام والعلم والقدرة". والمعنى: إذا كان المعلوم أننا متصفون بالصفات العينية والعرضية وإذا قيل: لنا وجه ويدان وعلم وكلام، فمفهوم هذا أننا متصفون بهذه الصفات حقيقة.

وهذا الكلام على ظاهره فنحن متصفون بها على ما يليق بنا. فمن المعلوم أيضاً أن الرب سبحانه لما وصف نفسه بأنه حي عليم قدير مريد متكلم سميع بصير فهذا الكلام على ظاهره. والله متصف بهذه الصفات حقيقة وهي على ما يليق به. وقوله: "لأن مفهوم ذلك في حقه مثل مفهومه في حقنا" معناه أن كلا من الخالق والمخلوق متصف بالحياة ضد الموت، وبالقدرة ضد العجز، وبالكلام ضد الخرس، وهكذا سائر الصفات. وكما نفهم من الصفات المنسوبة إلينا أننا متصفون بها وهي على ما يليق بنا. كذلك نفهم من الصفات المضافة إلى الخالق أنه متصف بها حقيقة وهي على ما يليق به. وقوله: "فكذلك لما وصف نفسه بأنه خلق آدم بيديه لم يوجب ذلك أن يكون ظاهره غير مراد لأن مفهوم ذلك في حقه كمفهومه في حقنا" معناه كما أن أهل السنة والأشاعرة متفقون على إثبات مدلول نصوص الصفات السبع وأن ذلك على ظاهره اللائق بالله، وأن الله أراد بكلامه هذا المعنى اللائق به. فكذلك لما قال أهل السنة: أن قوله سبحانه: {مَا مَنَعَكَ أن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} على ظاهره لم يكن مقصودهم بهذا الظاهر ما يماثل صفات المخلوقين، بل مرادهم أن ذلك على ظاهره اللائق بالله. فكما نفهم من قوله: {غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ} وقوله: {ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ} أن المخلوق متصف باليدين حقيقة فهكذا "خلقت بيدي" "وعملت أيدينا" فالمفهوم في كل من الخالق والمخلوق_ الاتصاف باليدين حقيقة_ ثم قال المؤلف "بل صفة الموصوف تناسبه" يعني وأن كان المفهوم في حق الله مثل المفهوم في حقنا من حيث أن كلا متصف بالصفة حقيقة، لكن كل موصوف تناسبه صفته فصفات الله تناسب ذاته وصفات المخلوقين تناسب ذواتهم.

وهذا معنى قول المؤلف فيما سبق "أن الله سمي نفسه بأسماء ووصف نفسه بصفات، وسمي بعض مخلوقاته بأسماء ووصفهم بصفات. ويتفق الخالق والمخلوق في الأسماء والصفات عند الإطلاق ويختلفان عند الإضافة والاختصاص_ فلكل منها ما يناسبه ثم قال المؤلف موضحاً كون كل موصوف تناسبه صفته فإذا كانت نفسه المقدسة ليست مثل ذوات المخلوقين فصفاته كذلك ليست كصفات المخلوقين". والمعنى أن الصفات فرع الذات، فكما أن الذات لا تشبه الذوات، فكذلك الصفات لا تشبه الصفات، لأن المماثلة إذا انتفت بالنسبة للذات انتفت بالنسبة للصفات. وقوله "ونسبة صفة المخلوق إليه كنسبة صفة الخالق إليه". يعني من حيث أن كلا منهما ثابتة له الصفة المنسوبة إليه، وهو متصف بها حقيقة. وقوله "وليس المنسوب كالمنسوب، ولا المنسوب إليه كالمنسوب إليه" معناه أن الصفة ليست مماثلة كما أن الموصوف ليس مماثلا للموصوف: فالمنسوب هو الصفة والمنسوب إليه هو الموصوف. والشاهد من الحديث أنه صلى الله عليه وسلم يشبه رؤية الشمس والقمر برؤية الله من حيث أنهم يشاهدون الله سبحانه عيانا دون حجاب، كما يشاهدون الشمس والقمر عيانا دون سحاب. فشبه الرؤية بالرؤية ولم يشبه الشمس والقمر بالله، فكل منهما مرئي وموصوف بأنه يرى، ولكن ليس المرئي مثل المرئي. وهذا الحديث رواه البخاري ومسلم ولفظه عن أبي هريرة رضي الله عنه "أن الناس قالوا يا رسول الله هل نرى ربنا يوم القيامة؟ قال: تمارون في القمر ليلة البدر، ليس دونه سحاب؟ قالوا لا يا رسول الله. قال: فهل تمارون في

الشمس ليس دونها سحاب؟ قالوا: لا يا رسول الله. قال: فإنكم ترونه كذلك" وفي الصحيحين أيضاً عن أبي سعيد قال: قلنا يا رسول الله، هل نرى ربنا يوم القيامة؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "نعم فهل تضارون في رؤية الشمس بالظهيرة صحواً ليس معها سحاب؟ هل تضارون في رؤية القمر ليلة البدر صحواً ليس فيه سحاب؟ قالوا: لا يا رسول الله. قال: ما تضارون في رؤية الله_ تبارك وتعالى_ يوم القيامة، إلا كما تضارون في رؤية أحدهما" الحديث.

أربعة محاذير يقع فيها من من نفى شيئا من الصفات

أربعة محاذير يقع فيها من من نفى شيئا من الصفات ... قوله: "وهذا يتبين بالقاعدة الرابعة" وهي أن كثيراً من الناس يتوهم في بعض الصفات أو كثير منها، أو أكثرهم أو كلها، أنها تماثل صفات المخلوقين، ثم يريد أن ينفي ذلك الذي فهمه، فيقع في "أربعة أنواع" من المحاذير أحدهما كونه مثل ما فهمه من النصوص بصفات المخلوقين، وظن أن مدلول النصوص هو التمثيل. "الثاني أنه إذا جعل ذلك هو مفهومها وعطله بقيت النصوص معطلة عما دلت عليه من إثبات الصفات اللائقة بالله فيبقى مع جنايته على النصوص، وظنه السيء الذي ظنه بالله ورسوله_ حيث ظن أن الذي يفهم من كلامهما هو التمثيل الباطل_ قد عطل ما أودع الله ورسوله في كلامهما من إثبات الصفات لله. والمعاني الإلهية اللائقة بجلال الله تعالى. "الثالث" أنه ينفي تلك الصفات عن الله عز وجل بغير علم فيكون معطلا لما يستحقه الرب

"الرابع" أنه يصف الرب بنقيض تلك الصفات، من صفات الأموات والجمادات، أو صفات المعدومات، فيكون قد عطل به صفات الكمال التي يستحقها الرب ومثله بالمنقوصات والمعدومات، وعطل النصوص عما دلت عليه من الصفات وجعل مدلولها هو التمثيل بالمخلوقات فيجمع في كلام الله بين التعطيل والتمثيل، فيكون ملحداً في أسماء الله وآياته. ش: الإشارة في قوله "وهذا يتبين" راجعة إلى قوله "بل صفة الموصوف تناسبه ولكن ليس المنسوب كالمنسوب ولا المنسوب إليه كالمنسوب إليه". فمضمون ما ذكر في القاعدة الثالثة يتبين ويتضح بما ذكر في القاعدة الرابعة وهي أن بعض الناس لم يفهموا من أسماء الله وصفاته إلا ما هو اللائق بالمخلوق، ثم شرعوا في نفي تلك المفهومات، فقد جمعوا بين التعطيل والتمثيل، مثلوا أولا وعطلوا آخراً. وهذا تشبيه وتمثيل منهم للمفهوم من أسمائه وصفاته، بالمفهوم من أسماء خلقه وصفاتهم وتعطيل لما استحقه هو سبحانه من الأسماء والصفات اللائقة به. وقد جمعوا بين هذه المحاذير الأربعة، التمثيل والتعطيل. وكون ذلك صادراً بغير علم ولا دليل، وكونه يلزم من سلبهم هذه الصفات عن الله وصفهم له بنقائضها، وجنوا على النصوص وظنوا ظناً سيئاً، حيث ظنوا أن ظاهر كلام الله ورسوله يقتضي مماثلة الله لخلقه، وحرفوا النصوص عن مواضعها وعطلوها عما دلت عليه من حقائق أسماء الله وصفاته اللائقة به. وهذا منطبق على الجهمية والمعتزلة والأشاعرة، ومن دخل في هذه الطوائف وسار في فلكها.

ولهذا عبر المؤلف بقوله "بعض الصفات أو كثير أو أكثرها أو كلها" وحقيقة الأمر أن كل معطل ممثل وكل معطل، أما المعطل فتعطيله هو جحده الصفات، وأما تمثيله فهو من جهة أنه اعتقد أن إثبات الصفات لله يستلزم التشبيه فأخذ ينفي الصفات فراراً من ذلك، فمثل أولا وعطل ثانيا. وأما الممثل فتمثيله هو تشبيه صفة الخالق بصفة المخلوق، وأما تعطيله فمن وجوه ثلاثة: أحدها: أنه عطل نفس النص الذي دل أثبت الصفة حيث صرفه عن مقتضى ما يدل عليه، فإن النص دال على إثبات صفة تليق بالله لا على مشابهة الله لخلقه. الثاني: أنه إذا مثل الله بخلقه فقد عطله عن كماله الواجب، حيث شبه الرب الكامل من جميع الوجوه بالمخلوق الناقص. الثالث: أنه إذا شبه الله بخلقه فقد عطل كل نص يدل على نفي مشابهة الله لخلقه. مثل قوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ} .

نصوص فوقية الله على خلقه واستوائه على عرشه

نصوص فوقية الله على خلقه واستوائه على عرشه ... قوله: "مثال ذلك" أن النصوص كلها دلت على وصف الإله بالعلو والفوقية على المخلوقات، واستوائه على العرش. ش: الإشارة في قوله "مثال ذلك" راجعة إلى توهم بعض الناس في بعض الصفات أو كلها أنها تماثل صفات المخلوقين، ثم يريد هذا البعض من طوائف الابتداع أن ينفي ذلك الذي فهمه فيقع في المحاذير الأربعة.

والذي يدل على العلو من الكتاب قوله تعالى: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} وقوله: {إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ} وقوله تعالى: {أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِباً} وقوله تعالى: {يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ} وقوله {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} في ستة مواضع. وقوله: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} وأمثال ذلك والذي يدل عليه من السنة قصة معراج الرسول إلى ربه، ونزول الملائكة من عند الله وصعودها إليه. وقوله في الملائكة الذين يتعاقبون في الليل والنهار "فيعرج الذين باتوا فيكم إلى ربهم فيسألهم وهو أعلم بهم" وفي حديث الخوارج "ألا تأمنوني وأنا أمين من في السماء". وفي حديث الرقية "ربنا الله الذي في السماء تقدس اسمك" وفي حديث الاوعال "والعرش فوق ذلك، والله فوق العرش وهو يعلم ما أنتم عليه" وفي حديث قبض الروح "حتى يعرج بها إلى السماء التي فيها الله". وفي الصحيح عن جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما خطب خطبة عظيمة يوم عرفات في أعظم جمع حضره رسول الله صلى الله عليه وسلم جعل يقول "اللهم هل بلغت" فيقولون نعم! فيرفع إصبعه إلى السماء وينكبها إليهم ويقول "اللهم اشهد" غير مرة. وأمثاله وعلى ذلك اتفق سلف الأمة وأئمتها وكلامهم مشهور في ذلك.

معاني الاستواء

معاني الاستواء ... قوله: فأما علوه ومباينته للمخلوقات فيعلم بالعقل الموافق للسمع، وأما الاستواء على العرش فطريق العلم به هو السمع. وليس في الكتاب والسنة وصف له بأنه لا داخل العالم ولا خرجه، ولا مباينه ولا مداخله.

ش: هذه جملة معترضة بين المثال المذكور وبين قوله فيما يَأتِي فيظن المتوهم أنه إذا وصف بالاستواء على العرش كان استواؤه كاستواء الإنسان" بين بها المؤلف الفرق بين طريق العلم بالعلو وطريق العلم بالاستواء وأن وصف الجهمية لله بسلب النقيضين مخالف لما جاء في الكتاب والسنة من وصفه سبحانه بالعلو على خلقه واستوائه على عرشه بل قولهم مخالف أيضاً للعقول السليمة والفطر المستقيمة ولا داخل العالم ولا خارجه كما سبق بيان ذلك في القاعدة الأولى. والمقصود أن علو الله سبحانه فوق جميع مخلوقاته يعلم بطريق العقل الموافق لصريح نصوص الكتاب والسنة. فهو معلوم بالنص كما هو معلوم بالفطرة الضرورية التي يشترك فيها جميع بنى آدم وكل من كان بالله أعرف وله أعبد ودعاؤه له أكثر وقلبه له أذكر، كان علمه الضروري بذلك أقوى وأكمل فالفطرة مكملة بالشريعة المنزلة. فإن الفطرة تعلم الأمر مجملا، والشريعة تفصله وتبينه وتشهد بما لا تستقل الفطرة به. وأما نفس استوائه على العرش بعد أن خلق السموات والأرض في ستة أيام فقد علم بالسمع الذي جاءت به الرسل كما أخبر الله به في القرآن والتوراة. وهنا يحسن ذكر الحكاية المشهورة عن الشيخ العارف أبي جعفر الهمداني، لأبي المعالي يقول على المنبر "كان الله ولا عرش" فقال يا أستاذ دعنا من ذكر العرش يعني لأن ذلك إنما جاء في السمع أخبرنا عن هذه الضرورة التي نجدها في قلوبنا؟ فإنه ما قال عارف قط "يا الله" إلا وجد من قلبه ضرورة تطلب العلو لا تلتفت يمنة ولا يسرة، فكيف ندفع هذه الضرورة عن قلوبنا؟ قال فلطم أبو المعالي على رأسه وقال: حيرني الهمداني! حيرني الهمداني ونزل!.

قوله: فيظن المتوهم أنه إذا وصف بالاستواء على العرش: كان استواؤه كاستواء الإنسان على ظهور الفلك والأنعام، كقوله: {وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِه} فيتخيل له أنه إذا كان مستويا على العرش كان محتاجاً إليه، كحاجة المستو على الفلك والأنعام، فلو غرقت السفينة لسقط المستوي عليها ولو عثرت الدابة لخر المستوي عليها. فقياس هذا أنه لو عدم العرش لسقط الرب سبحانه وتعالى. ثم يريد بزعمه أن ينفي هذا فيقول: ليس استواؤه بقعود ولا استقرار، ولا يعلم أن مسمى القعود والاستقرار يقال فيه ما يقال في مسمى الاستواء، فإن كانت الحاجة داخلة في ذلك: فلا فرق بين الاستواء والقعود والاستقرار_ وليس هو بهذا المعنى مستويا ولا مستقراً ولا قاعداً، وإن لم يدخل في مسمى ذلك إلا ما يدخل في مسمى الاستواء فإثبات أحدهما ونفي الآخر تحكم. ش: يعني أن الجهمية ونحوهم من النفاة لم يفهموا من استواء الله على عرشه إلا كما يثبت للمستوي على ظهر الفلك والدابة من الحاجة والافتقار وسائر اللوازم الباطلة التي يؤدي إليها قياس الخالق للكون بأسره، على المخلوق الضعيف العاجز في كل شئونه. وبناء على هذا الفهم الفاسد قالوا: ليس استواء الله الوارد في النصوص بقعود ور استقرار ولا علو ولا صعود، وإنما هو استيلاء بمعنى الملك والغلبة. ولا يعلمون أنه يقال في مدلول الاستيلاء الذي هو الارتفاع والصعود والاستقرار. فبقال في مدلوله عندهم مثل ما يقال في مدلوله الحقيقي، من حيث لزوم المحذور وعدم لزومه. فإن كانت الحاجة داخله في الاستيلاء فهي

أيضاً لازمة في القعود والاستقرار وليس الله سبحانه بهذا المعنى مستوليا ولا قاعداً ولا مستقراً ولا مرتفعا فإن الحاجة غير لازمة بالنسبة إلى الحي القيوم الغني بذاته عم سواه، بل هو ممتنع غاية الامتناع لأن الحاجة تنافي كمال الغنى. فهم يقولون: إذا قلتم أن معنى استواء الله على عرشه علوه عليه لزم من ذلك أن يكون الله محتاجاً إلى العرش. فيقال لهم وإذا قلتم أن معنى استوائه على العرش وغلبته. لزم من ذلك أن يكون الله مغالباً على عرشه وأنه كان خارجاً عن ملكه ثم استولى عليه. وإن قالوا استيلاؤه على عرشه هو على ما يليق به ولا يلزم منه محذور. قيل لهم: وصعوده وارتفاعه على عرشه هو على ما يليق به، ولا يلزم منه محذور وحينئذ فإثباتكم للاستيلاء ونفيكم للعلو والارتفاع تعسف ومغالطة. وعلم أنه لم يثبت استعمال لفظ استوى في اللغة بمعنى استولى. وإنما عمدة الذين قالوا ذلك البيت المشهور: ثم استوى بشر على العراق ... من غير سيف أو دم مهراق ولم يثبت بنقل صحيح أنه شعر عربي. وكان غير واحد من أئمة اللغة قد أنكروه وقالوا أنه بيت مصنوع لا يعرف اللغة. وقد علم أنه لو احتج بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم لاحتاج إلى إثبات صحته فكيف ببيت من الشعر لا يعرف اسناده؟ وقد طعن فيه أئمة اللغة. وذكر عن الخليل كما عند أبي المظفر في كتابه "الإفصاح" قال: سئل الخليل هل وجدت في اللغة استوى بمعنى استولى؟ فقال: هذا مالا تعرفه العرب ولا هو جائز في لغتها. وهو أمام في اللغة على ما عرف من حاله، فحينئذ حمله على ما لا يعرف حمل باطل، وأيضاً فأهل اللغة قالوا: لا يكون استوى بمعنى استولى إلا فيما كان مغالباً فإذا غلب أحدهما صاحبه قيل استولى" والله لم ينازعه أحد في العرش. قال الإمام محيي السنة الحسين بن مسعود البغوي قدس الله روحه في تفسيره "وهو شجى في حلوق الجهمية والمعطلة"

في سورة "الأعراف" في قوله: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} قال الكلبي ومقاتل: "استقر" وقال أبو عبيدة: "صعد" قال: وأولت المعتزلة "الاستواء بالاستيلاء" قال: وأما أهل السنة فيقولون: "الاستواء على العرش صفة الله بلا كيف، ولو ساغ ادعاء المجاز لكل مدع ما ثبت شيء من العبادات وجل الله أن يخاطب إلا بما تفهمه العرب من معهود مخاطباتهم مما يصح معناه عند السامعين". والاستواء معلوم في اللغة مفهوم وهو العلو والارتفاع على الشيء والاستقرار والتمكين فيه. قال أبو عبيدة في قوله: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} قال: علا. قال وتقول العرب استويت فوق الدابة، واستويت فوق البيت. وقال غيره استوى أي استقر. واحتج بقوله تعالى: {وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى} . انتهى شبابه واستقر فلم يكن في شبابه مزيد. قال ابن عبد البر: الاستواء الاستقرار في العلو، وبهذا خاطبنا الله تعالى في كتابه فقال: {لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ} وقال تعالى: {وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ} وقال تعالى: {فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ} وقال الشاعر: فأوردتهم ماءٍ بفيفاء قفرة ... وقد حلق النجم اليماني فاستوى وهذا لا يجوز أن يتأول فيه أحد استوى لأن النجم لا يستولي. وقد ذكر النضر بن شميل وكان ثقة مأموناً جليلا في علم الصيانة واللغة قال: أعلم ما رأيت فإذا هو على سطح فسلمنا فرد علينا السلام وقال: استووا فبقينا متحيرين ولم ندر ما قال. فقال لنا أعرابي إلى جانبه أنه يأمركم أن ترتفعوا. فقال الخليل هو من قول الله ثم استوى إلى السماء وهي دخان، فصعدنا إليه. وقال عبد الله ابن المبارك وغيره من أهل العلم وأن معنى {اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} استقر. وتقول العرب: "استويت على ظهر الفرس" بمعنى علوت عليه،

واستويت على سقف البيت بمعنى علوت عليه. وقال الثعالبي ومقاتل ثم "استوى على العرش" يعني استقر، قال وقال أبو عبيدة صعد. وهذه العبارات وإن اختلفت فمقصودهم واحد، وهو إثبات علو الله على العرش. قوله: وقد علم أن بين مسمى الاستواء والاستقرار والقعود فروقاً معروفة. ولكن المقصود هنا أن يعلم خطأ من ينفي الشيء مع إثبات نظيره. ش: هذه الألفاظ متقاربة المعنى، فبعضها يفسر ببعض فتقول مفسراً للاستواء هو الاستقرار. وتقول: قعد على شيء واستقر معناه استوى عليه. وإذا عرفت أن كلا منها يفسر الآخر فاعلم أن بعضها قد يؤدي زيادة معنى لا يؤديه الآخر، فمثلا قعد على الشيء يدل على الاستواء عليه. وزيادة معنى وهو أن هذا الاستواء قعود وليس استواء مع قيام. واستقر على الشيء تدل على أنه استوى عليه، وزيادة معنى وهو الثبوت والتمكن عليه. والاستواء أعم من أن يكون قعوداً وأعم من أن يكون معه ثبوت أو تمكن، أو ليس معه ذلك، ولكن مقصود المؤلف أن إثبات الجهمي للاستيلاء ونفيه للارتفاع تفريق بين متماثلين، فإن الاستواء بمعنى الاستقرار، مثل الاستواء بمعنى الاستيلاء من حيث لزوم المحذور وعدم لزومه. وقد علم أن ظاهر الاستواء وحقيقته هو العلو والارتفاع كما نص عليه جميع أهل اللغة وأهل التفسير المقبول كما هو معلوم بين الصحابة والتابعين وتابعيهم فيكون التفسير المحدث بعده باطلا قطعاً. قال يزيد بن هارون الواسطي أن من قال "الرحمن على العرش استوى" خلاف ما نقرر في نفوس العمة فهو جهمي.

قوله: وكان هذا الخطأ من خطئه في مفهوم استوائه على العرش، حيث ظن أنه مثل استواء الإنسان على ظهور الأنعام والفلك، وليس في هذا اللفظ ما يدل على ذلك، لأنه أضف الاستواء إلى نفسه الكريمة كما أضاف إليه سائر أفعاله وصفاته. فذكر أنه خلق ثم استوى، كما ذكر أنه قدر فهدى، وأنه بنى السماء بأيد، وكما ذكر أنه مع موسى وهارون يسمع ويرى وأمثال ذلك. فلم يذكر استواء مطلقاً يصلح للمخلوق، ولا عاماً يتناول المخلوق كما يذكر مثل ذلك في سائر صفاته، وإنما ذكر استواء أضافه إلى نفسه الكريمة. ش: يقول الشيخ أن أصل خطأ الجهمي في نفيه لشيء مع إثبات نظيره إنما جاءه من جهة فهمه الخاطئ بأنه يلزم من كون الله مستو على عرشه أن يكون مثل استواء المخلوق، فإنه بناء على هذا الظن الفاسد نفى أن يكون استواء الله استقراراً وعلواً، وجعله ملكاً وغلبة وليس في نصوص الاستواء ما يدل على المماثلة، فإنه سبحانه أضافه إلى نفسه كما أضاف إليها تقديره وبناءه ورؤيته وسمعه وعلمه ونحو ذلك من سائر صفاته. وحينئذ فهذا توهم فاسد وظن خاطئ، فإن الله هو الخالق للعرش، والمخلوق مفتقر إلى الخالق لا يفتقر الخالق إلى المخلوق، وبقدرته قام العرش وسائر المخلوقات وهو الغني عن العرش. وكل ما سواه فقير إليه كيف وأنه كان موجوداً قبل العرش! فإذا كان موجوداً قائماً بنفسه قبل العرش لا يكون إلا مستغيناً عنه. وإذا كان الله فوق العرش لم يجب أن يكون محتاجاً إليه ولله تعالى استواء على عرشه حقيقة، وللعبد استواء على الفلك حقيقة، وليس استواء الخالق كاستواء المخلوقين. فإن الله لا يفتقر إلى شيء ولا يحتاج إلى شيء، بل هو الغني عن كل شيء. والله يحمل العرش وحملته بقدرته، ويمسك السموات والأرض أن تزولا، فهو

مستو على عرشه استواء يليق بجلاله ويختص به وكما أنه سبحانه موصوف بأنه بكل شيء عليم، وعلى كل شيء قدير ونحو ذلك. ولا يجوز أن يثبت لعلمه وقدرته خصائص الإعراض التي لعلم المخلوقين وقدرتهم، فكذلك هو سبحانه فوق العرش. ولا يثبت لفوقيته خصائص فوقية المخلوق على المخلوق وملزماتها، فاقترن الاستواء بحرف "على" وعطف فعله "بثم" على خلق السموات والأرض، وكونه بعد أيام التخليق وكونه سابقاً في الخلق على السموات والأرض، وذكر تدبير أمر الخليقة معه الدال على كمال الملك، كل ذلك دال على أن استواءه سبحانه لا يماثل استواء المخلوقين، ولا يلزمه ما هو من خصائصهم. فإذا أضيف الوصف إلى المخلوق لم يصح أن يدخل فيه وصف الخالق سبحانه، ولم يكن وصف المخلوق كوصف الخالق وإذا أضيف إلى الخالق لم يصلح أن يدخل فيه وصف المخلوقين، ولم يكن وصفه كوصفهم وإذا كان الوصف مطلقاً فهو عام فيهما، متناول لهما لاتفاقهما في المعنى الكلي المشترك.

ذكر الله استواء يخصه ويليق به

ذكر الله استواء يخصه ويليق به ... قوله: فلو قدر على وجه الفرض الممتنع أنه هو مثل خلقه_ تعالى عن ذلك_ لكان استواؤه مثل استواء خلقه، أما إذا كان هو ليس مماثلا لخلقه بل قد علم أنه الغني عن الخلق، وأنه الخالق للعرش ولغيره، وأن كل ما سواه مفتقر إليه وهو الغني عن كل ما سواه، وهو لا يذكر إلا استواء يخصه، لم يذكر استواء يتناول غيره ولا يصلح له، كما لم يذكر في علمه وقدرته ورؤيته وسمعه وخلقه إلا ما يختص به، فكيف يجوز أن يتوهم أنه إذا كان مستويا على العرش كان محتاجاً إليه، وأنه لو سقط العرش لخر من عليه؟ سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون والجاحدون علواً كبيراً. هل هذا إلا جهل محض وضلال ممن فهم ذلك وتوهمه، أو ظنه اللفظ ومدلوله، أو جوز ذلك أو جوز ذلك على رب العالمين الغني عن الخلق؟ بل لو قدر أن

جاهلا فهم مثل هذا أو توهمه لبين له أن هذا لا يجوز، وأنه لم يدل اللفظ عليه أصلا، كما لم يدل على نظائره في سائر ما وصف به الرب نفسه. ش: يقول المؤلف: أن استواء الله سبحانه لا يمكن أن يكون مثل استواء المخلوق إلا لو كانت ذاته مثل ذوات المخلوقين. فلو قدر على سبيل الفرض الممتنع أن الذات مثل الذوات لأمكن أن يكون الاستواء مثل الاستواء، ومن المعلوم بالضرورة أن ذاته سبحانه لا تماثل الذوات. وقد علم بالضرورة أنه الخالق للعرش ولغيره، وأنه الغني عنا سواه وكل شيء فهو مفتقر إليه، وهو سبحانه أضاف استواءه إلى نفسه. فهو على ما يليق به، وهكذا القول في سائر ما وصف به الرب نفسه. فإن إضافته إليه تقتضي عدم صلاحيته لغيره أو تناوله لسواه، ومن ظن أن قول الأئمة أن الله مستو على عرشه حقيقة يقتضي أن يكون استواؤه مثل استواء العبد على الفلك والأنعام، لزمه أن يكون قولهم أن الله له علم حقيقة وسمع حقيقة وبصر حقيقة، وكلام حقيقة يقتضي أن يكون علمه وسمعه وبصره وكلامه مثل المخلوقين وسمعهم وبصرهم وكلامهم. وهذا ما لم يقولوه أصلا. وإذا كان كذلك فكيف يتوهم في حقه سبحانه ما هو من خصائص المخلوقين؟ وكيف يظن أنه يلزم من استوائه على العرش حاجته إليه؟ ما هذا إلا ضلال بين وجهل واضح ممن فهمه أو ظنه ظاهر نصوص الاستواء ومدلولها. فبعداً لهؤلاء المكابرين للمعقولات والمتجنين على النصوص من زعماء الابتداع ورؤساء الضلال. ولو قدر أن أحداً ممن لا يفهم معاني النصوص ولا يعلم مدلولاتها توهم أن ظاهرها يقتضي مماثلة الله بخلقه لبين لهذا الجاهل أن هذا ليس هو مراد الله بكلامه، ولا هو مقتضى العقل والفطرة ولم يدل عليه النص البتة، وإنما صرحت النصوص بنفي مماثلته لخلقه سبحانه وتعالى

قوله: فلما قال تعالى: {وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأيدٍ} فهل يتوهم أن بناءه مثل بناء الآدمي المحتاج الذي يحتاج إلى زنبيل ومجارف وضرب لبن وأعوان؟ ش: يعني أن الخالق سبحانه أخبر عن نفسه بأنه بنى السماء بقوة. والمخلوق يوصف بالبناء، ولكن من يقول للشيء كن فيكون. ومن يقول: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاواتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ} من هذا شأنه لا يمكن أن يتوهم في حقه ما هو من خصائص المخلوق. ومن المعلوم أن السموات والأرض من أكبر مخلوقاته كما قال تعالى: {لَخَلْقُ السَّمَاواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ} . وكما قال: {أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاواتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ} والرب سبحانه موصوف ببناء السماء والمخلوق موصوف بالبناء، ولكن المخلوق محتاج في بنائه إلى آلات البناء وأدواته ومحتاج إلى مساعدين، أما الرب "تبارك وتعالى" فغير محتاج إلى شيء من ذلك فلا شريك له، ولا ظهير ولا يعجزه شيء سبحانه وتعالى. وكما أنه لا يلزم من بنائه لسمواته أن يكون مثل بناء المخلوق، فكذلك هو مستو على عرشه. ولا يلزم في حقه ما يلزم في حق المخلوق من الحاجة واللوازم الباطلة.

خلق الله العالم بعضه فوق بعض

خلق الله العالم بعضه فوق بعض ... قوله: ثم قد علم أن الله خلق العالم بعضه فوق بعضه، ولم يجعل عاليه مفتقراً إلى سافله، فالهواء فوق الأرض وليس مفتقراً إلى أن تحمله، والسموات فوق الأرض وليست مفتقره إلى حمل الأرض لها، فالعلي الأعلى رب كل شيء ومليكه إذا كان فوق جميع خلقه، كيف يجب أن يكون محتاجاً إلى خلقه أو عرشه؟ وكيف يستلزم علوه على خلقه هذا الافتقار وهو ليس بمستلزم في المخلوقات؟ وقد علم أن ما ثبت لمخلوق من الغنى عن غيره فالخالق سبحانه أحق وأولى

ش: يعني أن الله سبحانه فوق العرش وليس محتاجاً إليه، فإن الله قد خلق العالم بعضه فوق بعض ولم يجعل عاليه محتاجاً إلى سافله، فالهواء فوق الأرض وليس محتاجاً إليها، وكذلك السحاب فوقها وليس محتاجاً إليها، وكذلك السموات فوق السحاب والهواء والأرض وليست محتاجة إلى ذلك، والعرش فوق السموات والأرض وليس محتاجاً إلى ذلك، فكيف يكون العلي الأعلى خالق كل شيء محتاجا إلى مخلوقاته لكونه فوقها عاليا عليها. ونحن نعلم أن الله خالق كل شيء، وأنه لا حول ولا قوة إلا به، وأن القوة التي في العرش وفي حملة العرش هو خالقها، بل نقول أنه خالق أفعال الملائكة الحاملين، فإذا كان هو الخالق لهذا كله ولا حول ولا قوة إلا به، امتنع أن يكون محتاجاً إلى غيره، فهو سبحانه فوق سماواته على عرشه بائن من خلقه، ليس في مخلوقاته شيء من ذاته ولا في ذاته شيء من مخلوقاته، وهو أجل وأعظم وأغنى وأعلى من أن يفتقر إلى شيء بحمل أو غير حمل، بل هو "الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد" الذي كل ما سواه مفتقر إليه، وهو مستغن عن كل ما سواه. قوله: وكذلك قوله: {أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أن يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ} من توهم أن مقتضى هذه الآية أن يكون الله في داخل السماوات فهو جاهل ضال بالاتفاق، وأن كان إذا قالا: أن الشمس والقمر في السماء يقتضي ذلك، فإن حرف "في" متعلق بما قبله وما بعده، فهو بحسب المضاف إليه. ولهذا يفرق بين كون الشيء في المكان، وكون الجسم في الحيز، وكون العرض في الجسم، وكون الوجه في المرآة، وكون الكلام في الورق، فإن لكل نوع من هذه الأنواع خاصية يتميز بها عن غيره، وإن كان حرف "في" مستعملا في كل ذلك. فلو قال قائل: العرش في السماء أو في الأرض؟ لقيل في السماء، ولو قيل: الجنة في السماء أم في الأرض؟ لقيل الجنة في السماء، ولا يلزم من ذلك أن يكون العرش داخل

السموات، بل ولا الجنة. فقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إذا سألتم الله الجنة فاسألوه الفردوس، فإنه أعلى الجنة، وأوسط الجنة، وسقفها عرش الرحمن" فهذه الجنة سقفها الذي هو العرش فوق الأفلاك. مع أن كون الجنة في السماء يراد به العلو، سواء كان فوق الأفلاك أو تحتها. قال تعالى: {فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ} . وقال تعالى: {وَأنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُوراً} . ش: بعد أن فرغ المؤلف من دحض شبه نفاة استواء الله على عرشه، وبيان فساد توهمهم، شرع في بيان فساد توهم نفاة علو الله على مخلوقته. فذكر أن قوله "جل وعلا"} أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} لا يدل على معنى فاسد، وأن من توهم من كون الله في السناء أنه في جوف السماء وأن السموات تحصره وتحويه فهو جاهل ضال_ باتفاق المسلمين_ فلم يقله أحد من سلف الأمة وأئمتها، بل هم متفقون على أن الله فوق سماواته على عرشه بائن من خلقه، ليس في مخلوقاته شيء من ذاته ولا في ذاته شيء من مخلوقاته. قال مالك بن أنس: "أن الله فوق السماء وعلمه في كل مكان" إلى أن قال: "من أعتقد أن الله في جوف السماء محصور محاط به وأنه مفتقر إلى العرش أو غيره من المخلوقات وأن استواءه على عرشه كاستواء المخلوق على كرسيه فهو ضال مبتدع جاهل" فمن لم يعتقد ما جاء به الكتاب والسنة، واتفق عليه سلف الأمة وأئمتها، من أن الله فوق سماواته على عرشه بائن من خلقه فقد اخطأ، وكذب الله ورسوله صلى الله عليه وسلم واتبع غير سبيل المؤمنين، بل يكون في الحقيقة معطلاً لربه، نافياً له، فلا يكون له في الحقيقة إله يعبده، ولا رب يسأله ويقصده، وهذا قول الجهمية ونحوهم من أتباع فرعون المعطل، فليس مقتضى الآية الكريمة أن الرب سبحانه وتعالى داخل الأجرام السماوية. وأن كان قولك الشمس في السماء أو المر في السماء يقتضي الظرفية فإن حرف "في" معناه بحسب ما قبله وما

بعده. فقد يقتضي ظرفية ما بعده لما قبله وقد لا يقتضي ذلك، ومن أجل هذا يفرق بين كون الشيء في المكان، وكون الجسم في الحيز، وكون العرض في الجسم، وكون الوجه في المرآة، وكون الكلام في الورق فالأول يقتضي ظرفية المكان للشيء وأن كان ذلك الشيء لا يشغل عموم المكان، بينما قولك "الجسم في الحيز" يقتضي ظرفية الحيز للجسم مع شغل الجسم لكل ذلك المقدار من المكان، وكون العرض في الجسم يقتضي الاتصال والظرفية، بينما قولك الوجه في المرآة، وكذلك قولك الكلام في الورق لا يقتضي الظرفية، وإنما المداد بشكله المعين، كما أن الذي يشاهد في المرآة هو الصورة، إذن فلكل نوع من هذه الأنواع خاصية يتميز بها عن غيره. ثم ضرب المؤلف مثلا كونه لا يلزم من كون الله في السماء أن يكون مظروفا لها. فذكر أن النصوص قد صرحت بأن العرش هو سقف جميع المخلوقات، كما دلت النصوص على أن الجنة ليست داخل الأجرام السماوية، وإذا لم تلزم الظرفية من كون المخلوق في السماء فكيف يلزم ذلك في العلي الأعلى؟ وقول المؤلف: مع أن كون الجنة في السماء، يراد به العلو سواء كانت فوق الأفلاك أو تحتها، يشير إلى أن القول بأن الجنة في داخل الأجرام السماوية لا يترتب عليه محذور، والحديث الذي استشهد به المؤلف وأمثاله من النصوص يدل على أنها فوق الأفلاك. وقد روى هذا الحديث البخاري ومسلم ولفظه، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من آمن بالله ورسوله وأقام الصلاة وصام رمضان فعن حقا على الله أن يدخله الجنة جاهد في سبيل الله أو جلس في أرضه التي ولد فيها "قالوا: يا رسول الله، ننبئ الناس بذلك؟ قال: " أن في الجنة مائة درجة أعدها الله للمجاهدين في سبيله ما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض فإذا سألتم الله فاسألوه الفردوس فإنه وسط الجنة وأعلى الجنة، وفوق عرش الرحمن منه يتفجر أنهار الجنة". وأخرج الترمذي والحاكم والبيهقي عن عبادة بن الصامت رضي الله

عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أن في الجنة مائة درجة بين كل درجتين كما بين السماء والأرض، والفردوس أعلاها درجة، ومن فوقها العرش، ومنها تفجر أنهار الجنة الأربعة، فإذا سألتم الله فاسألوه الفردوس". وقول المؤلف: "وأن كنا إذا قلنا أن الشمس والقمر في السماء يقتضي ذلك" ظاهره أنه يرى أن كلا من الشمس والقمر داخل الأجرام السماوية والله أعلم. قال شيخنا محمد الأمين الشنقيطي في كتابه "أضواء البيان ما نصه: والله أعلم أن الآية صريحة في أن نفس القمر في السبع الطباق لأن لفظة جعل في الآية هي التي بمعنى صير وهي تنصب المبتدأ والخبر والمعبر عنه بالمبتدأ هو المعبر عنه بالخبر بعينه لا شيئاً آخر. فقولك: جعلت الطين خزفًا والحديد هو خاتمًا لا يخفى فيه أن الطين هو الخزف بعينه، والحديد هو الخاتم. وكذلك قوله تعالى: "وجعل القمر فيهن نورا " فالنور المجعول فيهن هو القمر بعينه. فلا يفهم من الآية بحسب الموضع اللغوي احتمال خروج نفس القمر عن السبع الطباق وكون المجعول فيها مطلق نوره لأنه لو أريد ذلك لقيل وجعل نور القمر فيهن. أما قوله: "وجعل القمر فيهن نورا " فهو صريح في أن النور المجعول فيهن هو عين القمر، ولا يجوز صرف القرآن عن معناه المتبادر بلا دليل يجب الرجوع إليه. ويوضح ذلك أنه تعالى صرح في سورة "الفرقان" بأن القمر في خصوص السماء ذات البروج بقوله تعالى: {تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجاً وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجاً وَقَمَراً مُنِيراً} وصرح في سورة " الحجر" بأن ذات البروج المنصوص على أن القمر فيها هي بعينها المحفوظة من كل شيطان رجيم بقوله: {وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجاً وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ وَحَفِظْنَاهَا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ} انتهى. والأفلاك جمع فلك وهو الشيء المستدير فإن لفظ الفلك يدل على الاستدارة ومنه قولهم: تفلك ثدي الجارية إذا استدار والأفلاك

مستديرة في الكتاب والسنة والإجماع. ومنه قوله تعالى: {كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} وقال ابن عباس: في فلكة كفلكة المغزل. وأهل الهيئة والحساب متفقون عل ذلك، وأما العرش فإنه مقبب لما روى في السنن لأبي داوود عن جبير بن مطعم رضي الله عنه قال: جاء أعرابي على النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله " نهكت الأنفس وجاع العيال وهلكت الأموال فاستسق لنا ربك فإنا نستشفع بالله عليك وربك على الله" قال النبي صلى الله عليه وسلم: سبحان الله، سبحان الله فما زال يسبح حتى عرف ذلك في وجوه أصحابه، ثم قال: " ويحك أتدري ما الله؟ إن شاء الله أعظم من ذلك أنه لا يستشفع بالله على أحد من خلقه شأن الله أعظم من ذلك. ويحك أتدري ما الله؟ إن عرشه على سماواته لهكذا وقال بأصابعه مثل القبة عليه وأنه ليئط به أطيط الرحل بالراكب" وأمثاله من النصوص الدالة على ذلك والشاهد من آيتي "الحج" و "الفرقان" ورود السماء بها مراداً بها مطلق العلو.

حرف (في) يختلف معناه بحسب ما قبله وما بعده

حرف (في) يختلف معناه بحسب ما قبله وما بعده ... قوله: ولما كان قد استقر في نفوس المخاطبين أن الله هو العلى الأعلى، وأنه فوق كل شيء كان المفهوم من قوله: أنه في السماء. أنه في العلو. وأنه فوق كل شيء. وكذلك الجارية لما قال لها أين الله؟ قالت في السماء، إنما أرادت العلو، مع عدم تخصيصه بالأجسام المخلوقة وحلوله فيها، وإذا قيل العلو فإنه يتناول ما فوق المخلوقات كلها، فما فوقها كلها هو في السماء، ولا يقتضي هذا أن يكون هناك ظرف وجودى يحيط به، إذ ليس فوق العالم شيء موجود إلا الله. كما لوز قيل: العرش في السماء، فإنه لا يقتضي أن يكون العرش في شيء آخر موجود مخلوق، وأن قدر أن السماء المراد بها الأفلاك، كان المراد أنه عليها، كما قال: {وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ} وكما قال: {فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ} وكما قال {فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ} ويقال: فلان في الجبل، وفي السطح وأن كان على أعلى شيء فيه

ش: لما بين المؤلف أن الآية الكريمة لا تقتضي ظرفية السماء للخالق سبحانه وأن حرف"في" يختلف معناه بحسب ما أضيف إليه ذكر بعد ذلك أن ذوي العقول السليمة والفطر المستقيمة يفهمون بمقتضى فطرتهم أن معنى كون الله سبحانه في السماء أنه عال على مخلوقاته، وهكذا قصد الجارية من قولها: "في السماء" إنما أرادت علوه سبحانه فوق جميع المخلوقات، ولم تتوهم أبداً أو تظن أن السماء تحصره وتحيط به، وهكذا سائر سلف الأمة وأئمتها، لم يتوهموا هذا المعنى بل لا يظن هذا أو يتوهمه إلا من انتكست فطرته وعميت بصيرته. وإذا أطلق العلو فالمراد به العلو على جميع المخلوقات وليس معنى ذلك أن هناك ظرفا موجودا فوق العرش فليس معنى كونه في السماء أنه داخل في شيء يحيط به فضلا عن أن يحتاج له. وضرب المؤلف لذلك مثلا بأنه العرش يوصف بأنه في السماء دون أن يقتضي ذلك أن يكون داخل في ظرف وجودي يحيط به إذ قد علم أنه سقف جميع المخلوقات. ثم ذكر أن السماء إذا فسرت بالأجرام السماوية فالمراد بكون الله فيها أنه عليها، وهو أسلوب معروف في اللغة، وقد ورد به القرآن الكريم، كما في الآيات التي استشهد فيها المؤلف. وقد حكى البيهقي عن أبي بكر الضبعي قال العرب تضع"في" موضع"على" كقوله {فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ} . وقوله: {وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ} فكذلك قوله: {أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} أي على العرش فوق السماء كما صحت الأخبار بذلك. وقال مثل ذلك غير واحد وقوله للجارية "أين الله؟ " هذا حديث صحيح روى من طرق متواترة على معاوية بن الحكم السلمي قال: "كانت لي غنم بين أحد والجونية فيها جارية لي فأطلقتها ذات يوم فإذا الذئب قد ذهب بشاة منها فأسفت فصككتها، فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له فعظم ذلك على فقلت يا رسول الله أفلا أعتقها؟

قال: ادعها. فدعوتها، فقال لها: أين الله؟ قالت: في السماء. قال: من أنا؟ قالت: أنت رسول الله. قال: أعتقها فإنها مؤمنة". أخرجه مسلم في صحيحه ورواه أبو داود والنسائي.

النصوص الداله على تدبر القرآن وتفهم معانيه

النصوص الداله على تدبر القرآن وتفهم معانيه ... قوله: القاعدة الخامسة أنا نعلم ما أخبرنا به من وجه دون وجه فإن الله قال: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ القرآن} {وَلَوْ كان مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً} . وقال: {أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ} وقال: {كِتابٌ أنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آياته وَلِيَتَذَكَّرَ أولُو الْأَلْبَابِ} وقال: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ القرآن أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} فأمر بتدبر الكتاب كله. وقد قال تعالى: {هُوَ الَّذِي أنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آيات مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأما الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تأويلهِ وَمَا يَعْلَمُ تأويلهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أولُو الْأَلْبَابِ} . ش: يقول الشيخ أننا نعلم ما خاطبنا الله به في كتابه وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم ونفهم من ذلك ما أراد الله من فهمه، ولكن نفهمه ونعلمه من جهة دون جهة. نفهمه من جهة المعنى ونجهله من جهة الكيفيات وتفاصيل الأمور التي لم يرد تفصيلها في النصوص، واستدل على الأول بكون الله سبحانه قد حث على تدبر القرآن وتعقله وإتباعه في غير موضع ومن ذلك قوله سبحانه في آية النساء {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ القرآن وَلَوْ كان مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً} وقوله في آية المؤمنون: {أَفَلَمْ

يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأتِ آبَاءَهُمُ الْأولِينَ} وقال في آية ص: {كِتابٌ أنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آياته} وقال في سورة القتال: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ القرآن أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} . فإذا كان حض الكفار والمنافقين على تدبره علم أن معانيه مما يمكن الكفار والمنافقين فهمها ومعرفتها. فكيف لا يكون ذلك ممكناً للمؤمنين؟ وهذا يبين أن معانيه كانت بينة لهم. فقد بين سبحانه أنه أنزله عربيا ليعقل، والعقل لا يكون إلا مع العلم بمعانيه كما قال تعالى {أنا أنزَلْنَاهُ قُرْأناً عَرَبِيا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} وقد ذم الله من لا يفهمه كما قال جل وعلا {فَمَالِ هَؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً} وذم من لم يكن حظه من السماع إلا سماع الصوت دون فهم المعنى وإتباعه فقال تعالى: {وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ} وقال تعالى: {أَمْ تَحْسَبُ أن أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أو يَعْقِلُونَ أن هُمْ إِلَّا كَالْأنعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً} فلو كان المؤمنون لا يفقهون أيضاً لكانوا مشاركين للكفار والمنافقين فيما ذمهم الله تعالى به. فالسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار، والتابعون لهم بإحسان يعلمون معاني القرآن. إذا تبين فقد وجب على كل مسلم التصديق بما أخبر به عن الله تعالى من أسمائه وصفاته مما جاء في القرآن وفي السنة الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. كما كان عليه السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان، الذين رضي الله عنهم ورضوا عنه فإن هؤلاء هم الذين تلقوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم القرآن والسنة وكانوا يتلقون عنه ما في ذلك من العلم والعمل كما قال أبو عبد الرحمن السلمي: "لقد حدثنا الذين كانوا يقرؤوننا القرآن كعثمان بن عفان وعبد الله بن مسعود وغيرهما أنهم كانوا إذا تعلموا من النبي صلى الله عليه وسلم عشر آيات لم يجاوزوها حتى يتعلموا ما فيها من العلم والعمل جميعاً" وقد قام عبد الله بن عمر وهو من أصاغر الصحابة في تعلم البقرة ثمان سنين وإنما ذلك لأجل الفهم والمعرفة، وكان ابن مسعود يقول: لو

أعلم أحداً أعلم بكتاب الله مني تبلغه الإبل لأتيته. وكل واحد من أصحاب ابن مسعود وابن عباس نقل عنه من التفسير مالا يحصيه إلا الله والنقول بذلك عن الصحابة والتابعين ثابتة معروفة عند أهل العلم بها. واستدل على الثاني بآية آل عمران {وَمَا يَعْلَمُ تأويلهُ إِلَّا اللَّهُ} بالوقف على لفظ الجلالة. ويقول ابن عباس: "وتأويل لا يعلمه إلا الله من ادعى علمه فهو كاذب" كما سيَأتِي والهمزة في قوله {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ} للإنكار والفاء للعطف على مقدر أي يعرضون عن القرآن فلا يتدبرونه، والتدبر التأمل والتفكر، يقال تدبرت الشيء تفكرت في عاقبته وتأملته، ثم استعمل في كل تأمل، فدلت الآيات على وجوب التدبر للقران ليعرف معناه. وقوله في آية آل عمران: {هُنَّ أُمُّ الْكِتاب} أي أصله الذي يعتمد عليه ويرد ما خالفه إليه وهذه الجملة صفة لما قبلها "والمحكمات" اسم مفعول من أحكم "والإحكام" الإتقان ولا شك في أن ما كان واضح المعنى لا إشكال فيه إنما يكون كذلك لوضوح مفردات كلماته وإتقان تركيبها. وقوله سبحانه: {وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} وصف لمحذوف مقدر أي وآيات متشابهات "والزيغ" الميل ومنه زاغت الشمس وزاغت الأبصار يقال زاغ يزيغ زيغاً إذا ترك القصد، ومنه قوله تعالى: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} ومعنى قوله: {ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ} أي طلباً منهم لفتنة الناس في دينهم والتلبيس عليهم وإفساد ذات بينهم: {وَابْتِغَاءَ تأويلهِ} أي طلباً لتأويله على الوجه الذي يريدونه ويوافق مذاهبهم الفاسدة. وأصل الرسوخ في لغة العرب الثبوت في الشيء وكل ثابت راسخ وأصله في الإجرام أن ترسخ أقدام الخيل أو الشجر في الأرض وهؤلاء ثبتوا في امتثال ما جاءهم عن الله من ترك إتباع المتشابه وإرجاع علمه إلى الله سبحانه.

القائلون بأن الوقف في آية آل عمران على لفظ الجلاله

القائلون بأن الوقف في آية آل عمران على لفظ الجلاله ... قوله: وجمهور سلف الأمة وخلفها على أن الوقف على قوله: {وَمَا يَعْلَمُ تأويلهُ إِلَّا اللَّهُ} وهذا هو المأثور عن أبي بن كعب، وابن مسعود، وابن عباس وغيرهم. روي عن ابن عباس أنه قال: التفسير على أربعة أوجه: تفسير تعرفه العرب من كلامها، وتفسير لا يعذر أحد بجهالته، وتفسير تعلمه العلماء، وتفسير لا يعلمه إلا الله، من ادعى علمه فهو كاذب. وقد روي عن مجاهد وطائفة أن الراسخين في العلم يعلمون تأويله. وقد قال مجاهد: عرضت المصحف على ابن عباس من فاتحته إلى خاتمته، أقفه عند كل آية وأسأله عن تفسيرها. ش: بعد أن استشهد المؤلف بآية آل عمران على أن من القرآن ما لا يعلمه إلا الله، بين خلاف علماء الأمة في الوقف في الآية. فذكر أن الأكثر على القول بأن الوقف على لفظ الجلالة، ومن هؤلاء أبي بن كعب، وابن مسعود، وابن عباس، وقوله "وغيرهم" يعني كابن عمر وعائشة وعروة بن الزبير وعمر بن عبد العزيز. حكاه ابن جرير الطبري عن مالك واختاره. ومن القائلين بأن الوقف على العلم من قوله "والراسخون في العلم، طائفة على رأسهم مجاهد، ومنهم الربيع ومحمد بن جعفر بن الزبير، والقاسم بن محمد" وروي هذا القول أيضاً عن ابن عباس فعلى القول الأول "الواو" في قوله "والراسخون" للاستئناف والراسخون، مبتدأ خبره يقولون. وعلى الثاني فالواو للعطف ويقولون حال، واستدل الأولون بمثل ما رواه الحاكم في مستدركه عن ابن عباس أنه كان يقرأ وما يعلم تأويله إلا الله. ويقول الراسخون في العلم آمنا به. وبقراءة ابن مسعود وأن تأويله إلا عند الله، والراسخون في العلم يقولون آمنا به، وبما دلت عليه الآية من ذم متبعي المتشابه ووصفهم بالزيغ وابتغاء الفتنة. فقد أخرج الشيخان وغيرهما عن عائشة قالت: تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية: {هُوَ الَّذِي

أنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ} إلى قوله تعالى: {أولُو الْأَلْبَابِ} قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فإذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه فأولئك الذين سمى الله فاحذروهم". ومن جملة ما استدل به القائلون بالعطف أن الله سبحانه مدحهم بالرسوخ في العلم فكيف يمدحهم وهم لا يعلمون ذلك. والتفسير الذي تعرفه العرب من كلامها هو تفسير مفردات اللغة كمعرفة معنى القرؤ والنمارق والكهف ونحوها. وأما الذي لا يعذر أحد بجهالته فهي الأمور المكلف بها اعتقاداً وعملاً كمعرفة الله بأسمائه وصفاته واليوم الآخر، والطهارة والصلاة والزكاة وغيرهما، وأما الذي يعلمه العلماء فهو الذي يخفى على غيرهم مما يمكن الوصول إلى معرفته، كمعرفة أسباب النزول، والناسخ والمنسوخ، والعام والخاص، والمحكم والمتشابه، ونحو ذلك. وأما الذي لا يعلمه إلا الله فهو حقائق ما أخبر الله به عن نفسه وعن اليوم الآخر. فإنه هذه الأشياء نفهم معناها، لكننا لا ندرك حقيقة ما هي عليه في الواقع، مثال ذلك. أننا نفهم معنى استواء الله على عرشه ولكننا لا ندرك الكيفية التي هي حقيقة ما هو عليه في نفس الأمر. وكذلك نفهم معنى الفاكهة والعسل واللبن والماء وغيرهما مما أخبر الله أنه في الجنة، لكن لا ندرك حقيقته في الواقع، كما قال تعالى: {فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ} . وإذا جاز أن يكون في هذه المخلوقات ما يعرف معناه دون إدراك حقيقته ففي صفات الله أولى، والشاهد من كلام ابن عباس قوله رضي الله عنه "وتفسير لا يعلمه إلا الله من ادعى علمه فهو كاذب" وقد سبقت الإشارة إلى ذلك، ووجه الدلالة من قول مجاهد رضي الله عنه "عرضت القرآن على ابن عباس من فاتحته إلى خاتمته أقفه عند كل آية وأسأله عن تفسيرها، أن الراسخون في العلم في يعلمون معاني القرآن" وأبي، هو

ابن كعب بن قيس بن منذر الأنصاري الخزرجي، أقرأ الصحابة وسيد القراء، شهد بدراً والمشاهد، وقرأ القرآن على النبي صلى الله عليه وسلم. سمع الكثير وجمع بين العلم والعمل، ومناقبه جمة. حدث عنه أبو أيوب الأنصاري وابن عباس وأبو هريرة، ومن أقواله رضي الله عنه ما رواه الربيع بن أنس عن أبي العالية قال: "قال رجل لأبي بن كعب أوصني، قال: اتخذ كتاب الله إماماًً وارض به حكماً وقاضيا، فإنه الذي استخلف فيكم رسولكم، شفيع مطاع وشاهد لا يتهم، فيه ذكركم وذكر من قبلكم وحكم ما بينكم وخبركم وخبر من بعدكم". توفي بالمدينة سنة تسع عشرة وقيل اثنتين وعشرين رضي الله عنه. وابن مسعود هو عبد الرحمن بن أم عبد الهذلي صاحب رسول الله عليه السلام وخادمه وأحد السابقين الأولين، ومن كبار البدريين، ومن نبلاء الفقهاء والمقرئين، كان ممن يتحرى في الأداء ويشدد في الرواية، ويزجر تلاميذه عن التهاون في ضبط الألفاظ، وحفظ من في رسول الله صلى الله عليه وسلم سبعين سورة وتسمع عليه النبي صلى الله عليه وسلم ليلة وهو يدعو، فقال "سل تعطه". وقال "من أحب أن يقرأ القرآن غضاً كما أنزل فليقرأه على قراءة ابن أم عبد" وقال عمر بن الخطاب في كتاب له "أني قد بعثت إليكم عمار بن ياسر أميراًَ وعبد الله بن مسعود معلماً ووزيراً وهما من النجباء من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم من أهل بدر فاقتدوا بهما واسمعوا وقد آثرتكم بعبد الله من مسعود على نفسي" وقد نظر عمر إلى ابن مسعود وقد قام فقال "كنيف ملئ علماً" توفي بالمدينة سنة اثنتين وثلاثين وله نحو من ستين سنة. ومجاهد هو ابن جبر الإمام أبو الحجاج المخزومي بالولاء المكي المقرئ، المفسر الحافظ، سمع من عائشة وأبي هريرة، وأم هانئ، وعبد الله بن عمر، وابن عباس، ولزمه مدة وقرأ عليه القرآن، وكان أحد أوعية العلم، وروى عنه قتادة وعمر بن دينار والأعمش وخلق كثير. ومن أقوال مجاهد رضي الله عنه قوله "عرضت القرآن على ابن عباس ثلاث عرضات أقفه عند كل آية أسأله فيم نزلت وكيف كانت؟ " قرأ على مجاهد: ابن

كثير، وأبو عمرو بن العلاء، وقال الأعمش "كنت إذا رأيت مجاهد ازدريته مبتذلاً كأنه خربندج قد ضل حماره وهو مهتم لذلك! فإذا نطق خرج من فيه اللؤلؤ!! " توفي سنة مائة وثلاث.

انقسام التأويل إلى ثلاثة أقسام

انقسام التأويل إلى ثلاثة أقسام ... قوله: ولا منافاة بين القولين عند التحقيق. فإن لفظ "التأويل" قد صار بتعدد الاصطلاحات مستعملاً في ثلاثة معان "أحدها" وهو اصطلاح كثير من المتأخرين من المتكلمين في الفقه وأصوله "أن التأويل" هو صرف اللفظ عن الاحتمال الراجح إلى الاحتمال المرجوح، لدليل يقترن به، وهذا هو الذي عناه أكثر من تكلم من المتأخرين في تأويل نصوص الصفات، وترك تأويلها، وهل ذلك من محمود أو مذموم، أو حق أو باطل؟. "الثاني": أن التأويل بمعنى التفسير، وهذا هو الغالب على اصطلاح المفسرين للقرآن كما يقول ابن جرير وأمثاله من المصنفين في التفسير واختلف علماء التأويل، ومجاهد أمام المفسرين، قال الثوري: إذا جاءك التفسير عن مجاهد فحسبك به، وعلى تفسيره يعتمد الشافعي وأحمد والبخاري وغيرهم، فإذا ذكر أنه يعلم تأويل المتشابه فالمراد به معرفة تفسيره. "الثالث": من معاني التأويل هو الحقيقة التي يؤول إليها الكلام، كما قال الله تعالى: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ} . فتأويل ما في القرآن من أخبار المعاد هو ما أخبر الله به فيه مما يكون من القيامة والحساب والجزاء والجنة والنار ونحو ذلك، كما قال الله تعالى في قصة يوسف لما سجد له أبواه وإخوته، قال: {يا أَبَتِ هَذَا تأويل رُؤْياي مِنْ قَبْلُ ... } فجعل عين ما وجد في الخارج هو تأويل الرؤيا.

ش: يعني أنه لا تنافي بين رأي من قال أن الوقف في الآية على لفظ الجلالة، وبين رأي من قال أن الوقف على قوله "والراسخون في العلم" بل كل منهما حق وصواب، فإن التأويل يطلق في القرآن ويراد به شيئان: "أحدهما" التأويل بمعنى حقيقة الشيء وما يؤول الأمر إليه، ومنه قوله: {هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيايَ} وقوله: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأتِي تَأْوِيلُهُ} أي حقيقة ما أخبروا به من أمر المعاد، فإن أريد بالتأويل هذا فالوقف على لفظ الجلالة لأن حقائق الأمور، وكنهها لا يعلمه إلا الله عز وجل، وأما أن أريد بالتأويل المعنى الآخر وهو التفسير والبيان والتعبير عن الشيء، كقوله: {نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ} أي بتفسيره فالوقف على {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} لأنهم يعلمون ويفهمون ما خوطبوا به بهذا الاعتبار، وأن يحيطوا علماً بحقائق الأشياء على كنه ما هي عليه، فإن تسميتهم الراسخين تقتضي أنهم يعلمون أكثر من المحكم الذي يستوي في علمه جميع من يفهم كلام العرب، لكن المتشابه يتنوع. فمنه مالا يعلم البتة وهو ما استأثر الله بعلمه، ومنه ما يعلمه أهل الرسوخ في العلم وأن كان غامضاً ومشكلاً على غيرهم، والحاصل أن الجميع متفقون على أن من القرآن ما لا يعلم تأويله إلا الله، ومتفقون على تفسير القرآن وأنه مفهوم المعنى وبين المراد. وقوله: "فإن لفظ التأويل قد صار بتعدد الاصطلاحات مستعملاً في ثلاثة معان" معناه أن التأويل كما يطلق ويراد به التفسير ويطلق ويراد به الحقيقة، فكذلك يطلق ويراد به صرف اللفظ عن معناه الراجح إلى معناه المرجوح، لدلالة توجب ذلك، وهذا هو اصطلاح طائفة من المتأخرين من الفقهاء والأصوليين كما تجد ذلك في كلام صاحب "روضة الناظر" وأمثاله من الباحثين في الفقه وأصوله وليس هو عرف السلف من الصحابة والتابعين والأئمة الأربعة وغيرهم، وإنما كان لفظ التأويل في عرف السلف يراد به التفسير أو الحقيقة. أما هذا المعنى الاصطلاحي فقد عبر به

المتأخرون من الفقهاء والأصوليين عن ترجيح المعنى الضعيف الخفي على المعنى الظاهر، لدليل من الكتاب والسنة اقتضى ذلك الترجيح، ومن أمثلته عندهم ما رواه البخاري والترمذي وصححه من قوله صلى الله عليه وسلم "الجار أحق بصقبه" فإنه ظاهر في ثبوت الشفعة للجار الملاصق والمقابل أيضاً مع احتمال أن المراد به الجار الشريك المخالط أما حقيقة أو مجازاً، لكن هذا الاحتمال ضعيف بالنسبة إلى الظاهر فلما نظرنا إلى قوله عليه السلام "إذا وقعت الحدود وصرفت الطرق فلا شفعة" رواه البخاري وأبو داود والترمذي صار هذا الحديث مقويا لهذا الاحتمال الضعيف في الحديث المتقدم، حتى ترجح على ظاهره فقدمناه وقلنا لا شفعة إلا للشريك المقاسم، وحملنا عليه الجار في الحديث الأول. وطوائف المبتدعة قد استعملوا هذا المعنى الاصطلاحي في نصوص الصفات فقالوا "لا بد من صرف النص عن المعنى الذي هو مقتضى لفظه إلى معنى آخر لأن إثبات الصفات لله يقتضي مشابهته لخلقه" وأنت ترى أنهم لم يصرفوا النص عن معنى راجح إلى معنى مرجوح، لدليل اقترن بذلك وإنما حرفوا الكلام عن مواضعه، وألحدوا في أسماء الله وصفاته لشبهة فاسدة، ورأي كاسد لا سند له من كتاب أو سنة أو عقل سليم وفطرة سليمة. وهذا النوع من التأويل هو الذي عناه من تكلموا وبحثوا في صحة التأويل أو إفساده وكونه حقاً أو باطلاً، وهل يذم أو يمدح؟ ولا شك في فساده وبطلانه وذمه وتبديع أهله فإنه مخالف لصريح الكتاب والسنة، إذ التأويل المقبول هو ما دل على مراد المتكلم. والثاني من معاني التأويل هو التفسير، وكثيراً ما يعبر المفسرون عن التفسير بالتأويل. وقد استشهد المؤلف على ذلك بعبارة ابن جرير الطبري في تفسيره، واختلف علماء التأويل، يريد علماء التفسير ومن عباراته: القول في تأويل قوله تعالى يريد تفسير قوله تعالى. والشاهد من قوله "ومجاهد أمام المفسرين فإذا ذكر أنه يعلم تأويل المتشابه فالمراد به معرفة

تفسيره" استعمال مجاهد التأويل مريداً به التفسير. وما بين قوله "ومجاهد أمام المفسرين" وقوله "فإذا ذكر" جملة معترضة المراد منها بيان مكانة مجاهد العلمية، فإنه عمدة في التفسير وقدوة في العلم وحسبه علماً وفقهاً أنه عرض المصحف من أوله إلى آخره على حبر الأمة وترجمان القرآن، يستوقفه عند كل آية ويسأله عن معناها، فلا غرو أن يعتمد هؤلاء الأئمة وأمثالهم على تفسيره. والمعنى الثالث من معاني التأويل هو الحقيقة التي يصير إليها الأمر، وقد استشهد المؤلف على مجيء التأويل مراداً به كنه الشيء وحقيقته بقوله تعالى في سورة الأعراف: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تأويلهُ يَوْمَ يَأتِي تأويلهُ} أي يوم يرون ما يوعدون من البعث والنشور والعذاب. يقول الذين نسوه أي تركوه {قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ} يعني قد رأينا تأويل ما أنبأتنا به الرسل. وكذلك استشهد على هذا النوع بقوله سبحانه عن يوسف {يا أَبَتِ هَذَا تأويل رُؤْياي مِنْ قَبْلُ} يعني هذا حقيقة ما رأيت. فجعل نفس ما وحد في الخارج وهو سجود أبويه وإخوته هو تأويل رؤياه. وابن جرير هو أبو جعفر محمد بن جرير بن يزيد بن خالد الطبري صاحب التفسير الكبير والتاريخ الشهير، كان إماماً في فنون كثيرة، منها التفسير والحديث والفقه والتاريخ وغير ذلك، وله مصنفات مليحة في فنون عديدة تدل على سعة علمه وغزارته وكان من الأئمة المجتهدين لم يقلد أحداً، وكان ثقة في نقله، وتاريخه أصح التواريخ، وكانت ولادته سنة أربع وعشرين ومائتين بآمل طبرستان، وتوفي يوم السبت في السادس والعشرين من شوال سنة عشر وثلاثمائة ببغداد رحمه الله تعالى. وسفيان هو بن سعيد بن مسروق "الإمام شيخ الإسلام" سيد الحفاظ أبو عبد الله الثوري، ثور مضر لا ثور همدان، الكوفي الفقيه حدث عن أبيه، وحبيب بن أبي ثابت، والأسود بن قيس، وحدث عنه بن

المبارك، ويحيى القطان، وابن وهب، ووكيع وخلائق كثيرون. وقال شعبة ويحيى بن معين وجماعة في حقه "سفيان أمير المؤمنين في الحديث" ولد سفيان في سنة سبع وتسعين، وطلب العلم وهو حدث، فإن أباه كان من علماء الكوفة، ومات في البصرة، في الاختفاء من المهدي في شعبان سنة مائة وإحدى وستين رضي الله عنه. والشافعي: هو أبو عبد الله الإمام محمد بن إدريس بن العباس بن عثمان بن شافع ابن السائب بن عبيد بن عبد يزيد بن هاشم بن عبد المطلب بن عبد مناف بن قصي بن كلاب القرشي المطلبي المكي نسيب رسول الله صلى الله عليه وسلم وناصر سنته. ولد سنة خمسين ومائة بغزة، وحمل إلى مكة لما فطم، فنشأ بها وأقبل على العلوم. حدث عن عمه محمد بن علي، وعبد العزيز بن الماجشون، والإمام مالك وإسماعيل بن جعفر، وخلق كثير. وعنه أحمد والحميدي وأبو ثور، وأمم سواهم، وكان قد برع في الشعر واللغة وأيام العرب. ثم أقبل على الفقه والحديث، وجود القرآن على إسماعيل بن قسطنطين مقرئ مكة، ثم حفظ الموطأ وعرضه على مالك، وأذن له مسلم بن خالد في الفتوى وهو ابن عشرين سنة أو دونها، وتوفي في أول شعبان سنة أربع ومائتين بمصر. وأحمد هو بن محمد بن حنبل بن هلال بن أسد الهذلي الشيباني المروزي، ثم البغدادي ولد سنة مائة وأربع وستين، سمع من هشيم وإبراهيم بن سعد، وسفيان بن عيينة، ويحيى بن أبي زائد وطبقتهم، وعنه البخاري ومسلم وأبو داود وأبو زرعه وعبد الله بن أحمد وأبو القاسم البغوي وخلق عظيم. قال إبراهيم الحربي "رأيت أحمد كان الله قد جمع له علم الأولين والآخرين! " وقال حرملة "سمعت الشافعي يقول: خرجت من بغداد فما خلفت بها رجلاً أفضل ولا أعلم ولا أفقه من أحمد بن حنبل! وقال علي بن المديني أن الله أيد هذا الدين بأبي بكر الصديق يوم الردة! وبأحمد

بن حنبل يوم المحنة! توفي رحمه الله تعالى في يوم الجمعة ثاني عشر ربيع الأول سنة إحدى وأربعين ومائتين وله سبع وسبعون سنة. والبخاري هو أبو عبد الله محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة بن بردزبة الجعفي بالولاء، صاحب الجامع الصحيح والتاريخ، رحل في طلب الحديث إلى أكثر محدثي الأمصار، وكتب بخراسان ومدن العراق والحجاز والشام ومصر، وقدم بغداد واجتمع إليه أهلها واعترفوا بفضله، وشهدوا بتفرده في علم الرواية والدراية، ونقل عنه محمد بن يوسف الفربري أنه قال: "ما وضعت في كتابي الصحيح حديثاً إلا اغتسلت قبل ذلك وصليت ركعتين". وعنه أنه قال: "صنفت كتابي الصحيح لست عشرة سنة، خرجته من ستمائة ألف حديث، وجعلته حجة فيما بيني وبين الله". وكانت ولادته يوم الجمعة بعد الصلاة لثلاث عشرة ليلة خلت من شوال سنة أربع وتسعين ومائة وتوفي ليلة السبت بعد صلاة العشاء وكانت ليلة عيد الفطر سنة مائتين وستة وخمسين بخرتنك قرية من قرى سمرقند.

التفسير هو البيان

التفسير هو البيان ... بن حنبل يوم المحنة! توفي رحمه الله تعالى في يوم الجمعة ثاني عشر ربيع الأول سنة إحدى وأربعين ومائتين وله سبع وسبعون سنة. والبخاري هو أبو عبد الله محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة بن بردزبة الجعفي بالولاء، صاحب الجامع الصحيح والتاريخ، رحل في طلب الحديث إلى أكثر محدثي الأمصار، وكتب بخراسان ومدن العراق والحجاز والشام ومصر، وقدم بغداد واجتمع إليه أهلها واعترفوا بفضله، وشهدوا بتفرده في علم الرواية والدراية، ونقل عنه محمد بن يوسف الفربري أنه قال: "ما وضعت في كتابي الصحيح حديثاً إلا اغتسلت قبل ذلك وصليت ركعتين". وعنه أنه قال: "صنفت كتابي الصحيح لست عشرة سنة، خرجته من ستمائة ألف حديث، وجعلته حجة فيما بيني وبين الله". وكانت ولادته يوم الجمعة بعد الصلاة لثلاث عشرة ليلة خلت من شوال سنة أربع وتسعين ومائة وتوفي ليلة السبت بعد صلاة العشاء وكانت ليلة عيد الفطر سنة مائتين وستة وخمسين بخرتنك قرية من قرى سمرقند. قوله: "الثاني" هو تفسير الكلام، وهو الكلام الذي يفسر به اللفظ حتى يفهم معناه، أو تعرف علته أو دليله. "وهذا التأويل الثالث" هو عين ما هو موجود في الخارج، ومنه قول عائشة: "كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول في ركوعه وسجوده: سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، اللهم اغفر لي. يتأول القرآن يعني قوله: {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ} . وقول سفيان بن عيينة "السنة هي تأويل الأمر والنهي"، فإن نفس الفعل المأمور به هو تأويل الأمر به، ونفس الموجود المخبر عنه هو تأويل الخبر.

والكلام خبر وأمر، ولهذا يقول أبو عبيدة وغيره "الفقهاء أعلم بالتأويل من أهل اللغة" كما ذكروا ذلك في تفسير اشتمال الصماء، لأن الفقهاء يعلمون تفسير ما أمر به ونهى عنه، لعلمهم بمقاصد الرسول صلى الله عليه وسلم، كما يعلم إتباع بقراط وسيبويه ونحوهما من مقاصدهما ما لا يعلم بمجرد اللغة، ولكن تأويل الأمر والنهي لا بد من معرفته، بخلاف تأويل الخبر. ش: هذا رجوع من الشيخ إلى شرح النوع الثاني والثالث، من أنواع التأويل لمزيد الإيضاح، وكان السياق يقتضي أن يكون الكلام. فالثاني هو تفسير الكلام بالفاء، ولكن لعلها سقطت سهواً من الناسخ. وبعد أن ذكر أن النوع الثاني من أنواع التأويل، هو التفسير بين معنى بقوله: "وهو الكلام الذي يفسر به اللفظ" فالتفسير إذاً هو إيضاح معنى الكلام وبيان المراد منه، أو الكشف عما اشتمل عليه من حكمة، أو ذكر ما دل عليه من دليل، أو بيان ما استنبط من حكم. قال الزركشي "التفسير علم يفهم به كتاب الله المنزل على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، وبيان معانيه واستخراج أحكامه وحكمه، واستمداد ذلك من علم اللغة والنحو والصرف وعلم البيان وأصول الفقه، ويحتاج لمعرفة أسباب النزول، والناسخ والمنسوخ" ومن شواهد مجيء التأويل مراداً به التفسير قوله سبحانه في قصة يوسف: {نَبِّئْنَا بِتأويلهِ أنا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} وقوله تعالى: {وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أنا أنبِّئُكُمْ بِتأويلهِ فَأَرْسِلُونِ} . والنوع الثالث من أنواع التأويل هو حقيقة الشيء وكنه ما هو عليه، وهذا معنى قول المؤلف: هو عين ما هو موجود في الخارج. وقد استشهد على هذا النوع بما رواه البخاري ومسلم من حديث عائشة قالت: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتأول القرآن" يعني يوجد حقيقة ما أمر به بقوله في

الركوع والسجود "سبحانك اللهم ربنا وبحمدك اللهم اغفر لي". فيشرع للمصلى أن يقول هذا الدعاء في ركوعه وسجوده، كما يشرع له أن يقول في السجود: "سبحان ربي الأعلى" لما في الحديث الذي رواه أهل السنن. وفي حديث حذيفة الذي رواه مسلم أنه صلى الله عليه وسلم صلى بالليل صلاة قرأ فيها بالبقرة والنساء، وآل عمران ثم ركع، ثم سجد نحو قراءته، يقول في ركوعه "سبحان ربي العظيم، وفي سجوده سبحان ربي الأعلى" وفي الحديث "وأما السجود فأكثروا فيه من الدعاء فقمن أن يستجاب لكم" وذلك أن السجود غاية الخضوع من العبد، وغاية تسفيله وتواضعه بأشرف شيء فيه لله، وهو وجهه بأن يضعه على التراب فناسب في غاية سفوله أن يصف ربه بأنه الأعلى. والشاهد من كلام سفيان بن عيينة مجيء التأويل في كلام السلف مراداً به الحقيقة، ومن أجل أن التأويل يرد في كلام السلف مراداً به الحقيقة يقول أبو عبيدة: الفقهاء أعلم بالتأويل من أهل اللغة. يعني أعلم بحقيقة ما أراده الله ورسوله بكلامهما، لمعرفتهم النصوص، وعلمهم بقواعد الشرع العامة، وخبرتهم بذلك أكثر من مجرد العلم بالمعنى اللغوي للنص. ومثل المؤلف لذلك باختلاف الفقهاء واللغويين في تفسير اشتمال الصماء الواردة في الحديث الذي رواه مسلم من حديث أبي سعيد رضي الله عنه قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صوم يومين الفطر والنحر، وعن الصماء وأن يحتبي الرجل في الثوب الواحد، وعن الصلاة بعد الصبح والعصر، وتفسير اشتمال الصماء عند الفقهاء: هو أن يشتمل الإنسان بثوب ويرفعه من أحد جانبيه فيضعه على منكبيه، فالنهي عنه لأنه يؤدي إلى التكشف وظهور العورة. وأما تفسير أهل اللغة فقال الأصمعي: هو أن يشتمل بالثوب فيستر به جميع جسده بحيث لا يترك فرجة يخرج منها يده، واللفظ مطابق لهذا

المعنى. والنهي عنه يحتمل وجهين: أحدهما أنه يخاف معه أن يدفع إلى حالة سادة لمتنفسه فيهلك غماً تحته إذا لم تكن فيه فرجة، والآخر أنه إذا تجلل به فلا يمكن من الاحتراس والاحتراك إن أصابه شيء، أو نابه مؤذ ولا يمكنه أن يتقيه بيديه لإدخاله إياهما تحت الثوب الذي اشتمل به. قال عبد الغافر الفارسي بعد حكايته لتفسير الفقهاء: وهذا التفسير لا يشعر به لفظ الصماء. قال الصنعاني مؤيداً قول الفارسي، قوله لا يشعر به لفظ الصماء أقول: لأنه مأخوذ من الصمم وهو انسداد الأذن، وهذا المعنى الذي ذكروا ليس فيه انسداد. وفي القاموس اشتمال الصماء أن يرد الكساء من قبل ميمنته على يده اليسرى وعاتقه الأيسر، ثم يرده ثانية من خلفه يده اليمني وعاتقه الأيمن فيغطيهما، أو الاشتمال بثوب واحد ليس عليه غيره، ثم يضعه على أحد جانبيه فيضعه على منكبه فيبدو فرجه. وقوله "لأن الفقهاء يعلمون تفسير ما أمر به ونهى عنه، لعلمهم بمقاصد الرسول صلى الله عليه وسلم كما يعلم أتباع بقراط وسيبويه" الخ. معناه أن أهل العناية بعلم الرسول العالمين بالقرآن وتفسير الرسول صلى الله عليه وسلم والصحابة والتابعين لهم بإحسان، عندهم من العلوم الضرورية بمقاصد الرسول صلى الله عليه وسلم ومراده أكثر مما يعلمه علماء اللغة، كما أن أهل العلم بمذهب بقراط في الطب، وأهل العلم بمذهب سيبويه في النحو، وما قعدا من قواعد ورسما من ضوابط أكثر معرفة بمقاصدهما وشرح كلامهما من مجرد معرفة المعنى اللغوي. وقوله ونحوهما يعني كرؤساء أهل الكلام والفلسفة، وتأويل الخبر هو نفس وقوع المخبر به وعين وجوده، كما أن تأويل الأمر هو نفس فعل المأمور به، ولكن تأويل الأمر لا بد من العلم به لامتثال المأمور وترك المحذور. أما تأويل الخبر فيكفي فيه الإيمان به وما ظهر للإنسان من معناه فهو من تعليم الله له، وما لم يظهر له وكل علمه إلى قائله، كما أن الكيفيات وحقيقة الأمر

على ما هو عليه مما لا يعلمه إلا الله سبحانه وتعالى. ويصلح أن يستشهد بكلام أبي عبيدة على مجيء التأويل في كلام السلف مراداً به التفسير. وعائشة هي أم عبد الله حبيبة رسول الله صلى الله عليه وسلم، بنت خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، أبي بكر الصديق رضي الله عنه من أكبر فقهاء الصحابة، بنى بها النبي صلى الله عليه وسلم في شوال بعد وقعة بدر فأقامت في صحبته ثمانية أعوام وخمسة أشهر، فكانت أحب نسائه ونزلت الآيات في تبرئتها مما رماها به أهل الإفك، وعاشت خمساً وستين سنة، حدث عنها جماعة من الصحابة، ومسروق والأسود وابن المسيب، وعروة والقاسم والشعبي وعطاء وابن أبي مليكة، ومجاهد وعكرمة، ومعاذ العدوية، ونافع مولى بن عمر، وخلق كثير. وكانت غزيرة العلم بحيث أن عروة يقول "ما رأيت أحداً أعلم منها بالطب" وكانت عالمة بالقرآن، وبالفريضة، وبالحلال والحرام، والشعر وكلام العرب والنسب، رضي الله عنها توفيت سنة سبع وخمسين. وسفيان هو بن عيينة بن ميمون، العلامة الحافظ، شيخ الإسلام أبو محمد الهلالي الكوفي، محدث مولى محمد بن مزاحم، أخي الضحاك بن مزاحم، ولد سنة سبع ومائة، وطلب العلم في صغره، سمع عمرو بن دينار والزهري، وأبا إسحاق والأسود ابن قيس، وأمماً سواهم. وحدث عنه الأعمش وابن جريج وشعبة، وخلق لا يحصون فقد كان خلق كثير يحجون والباعث لهم لقيا بن عيينة! فيزدحمون عليه في أيام الحج وكان إماماً حجة، حافظاً، واسع العلم، كبير القدر. قال الشافعي "لولا مالك وسفيان لذهب علم الحجاز" وقال حرملة "سمعت الشافعي يقول: ما رأيت أحداً فيه من آلة العلم ما في سفيان! " وما رأيت أحداً أكف عن الفتيا منه! وما رأيت أحداً أحسن لتفسير الحديث منه!! " مات في جماد الآخر سنة ثمان وتسعين ومائة. وأبو عبيدة: هو معمر بن المثنى المصري، اللغوي الحافظ، صاحب

التصانيف الكثيرة روى عن هشام بن عروة، وأبي عمرو بن العلاء، وروى عنه علي بن المديني، وأبو عثمان المازني وغيرهم. قال الجاحظ "لم يكن في الأرض خارجي ولا جماعي أعلم بجميع العلوم من أبي عبيدة" مات سنة عشر بعد المائتين وقيل غير ذلك. وبقراط: هو أبو الطب المشهور ولد بجزيرة كوس سنة أربعمائة وستين قبل الميلاد، من أشرف بيت من أسرة فريسامس الملك، وتعلم صناعة الطب من أبيه إيرقليدس، ورأى أن صناعة الطب كادت أن تبيد فأحب يذيعها في جميع الأرض وينقلها إلى سائر الناس، ويعلمها مستحقيها، حتى لا تبيد، إذ كانت صناعة الطب قبله كنزاً أو ذخيرة يكنزها الآباء للأبناء من الملوك والزهاد فقط، يقصدون بها الإحسان إلى الناس بالمجان، ولم يزل كذلك، إلى أن نشأ بقراط وتعلم. وهو أول من دون صناعة الطب وشهرها وأظهرها، وله من المؤلفات في ذلك نحو من ثلاثين كتاباً. وقد توفي سنة ثلاثمائة وخمس وستين قبل الميلاد. وسيبويه: هو أستاذ النحاة أبو بشر عمرو بن عثمان بن قنبر، مولى بن الحارث بن كعب. ولقب سيبويه لجماله وحمرة وجنتيه، حتى كانتا كالتفاحتين، فسيبويه في لغة فارس رائحة التفاح. وهو الإمام العلامة شيخ النحاة، فالناس عيال على كتابه المشهور في هذا الفن وقد شرح بشروح كثيرة. أخذ سيبويه العلم عن الخليل بن أحمد ولازمه. وأخذ أيضاً عن عيسى بن عمر ويونس بن حبيب، وأبي زيد الأنصاري، وأبي خطاب الأخفش الكبير، وغيرهم. قدم من البصرة أيام كان الكسائي يؤدب الأمين بن الرشيد، ورحل عن بغداد فمات ببلاد شيراز في قرية يقال لها البيضاء، سنة مائتين وثمانين وقد ناف على الأربعين سنة.

موجودات الدنيا تشبه موجودات الآخرة

موجودات الدنيا تشبه موجودات الآخرة ... قوله: إذا عرف ذلك، فتأويل ما أخبر الله تعالى به عن نفسه المقدسة المتصفة بما لها من حقائق الأسماء والصفات، هو حقيقة لنفسه المقدسة، المتصفة بما لها من حقائق الصفات، وتأويل ما أخبر الله به تعالى من الوعد والوعيد هو نفس ما يكون من الوعد والوعيد. ولهذا ما يجيء في الحديث نعمل بمحكمه ونؤمن بمتشابهه، لأن ما أخبر الله به عن نفسه وعن اليوم الآخر، فيه ألفاظ متشابهة تشبه معانيها ما نعلمه في الدنيا، كما أخبر أن في الجنة لحماً ولبناً، وعسلاً وخمراً ونحو ذلك. وهذا يشبه ما في الدنيا لفظاً ومعنى، ولكن ليس هو مثله ولا حقيقته. فأسماء الله تعالى وصفاته أولى، وأن كان بينها وبين أسماء العباد وصفاتهم تشابه لا يكون لأجلها الخالق مثل المخلوق، ولا حقيقته كحقيقته. والإخبار عن الغائب لا يفهم أن لم يعبر عنه بالأسماء المعلومة معانيها في الشاهد، ويعلم بها ما في الغائب بواسطة العلم بما في الشاهد، وفي الغائب ما لا عين رأت ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر. فنحن إذا أخبرنا الله بالغيب الذي اختص به: من الجنة والنار علمنا معنى ذلك وفهمنا ما أريد منا فهمه بذلك الخطاب وفسرنا ذلك. وأما نفس الحقيقة المخبر عنها مثل التي لم تكن بعد، وإنما تكون يوم القيامة فذلك من التأويل الذي لا يعلمه إلا الله. ولهذا لما سئل مالك وغيره من السلف عن قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} قالوا: "الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة". وكذلك قال ربيعة بن أبي عبد الرحمن شيخ مالك قبله: "الاستواء معلوم، والكيف مجهول، ومن الله البيان، وعلى الرسول البلاغ، وعلينا الإيمان" فبين أن الاستواء معلوم، وأن كيفية ذلك مجهولة.

ش: يعني إذا عرف أننا نعلم ما أخبرنا به من وجه دون وجه وعرفت أنواع التأويل وأن منها ما يعلمه العباد وهو التفسير، ومنها مالا يعلمه إلا الله وهو الكيفيات وعرف انقسام الكلام إلى خبر وأمر، وأن تأويل الخبر هو عين وقوع المخبر ووجوده، وتأويل الأمر هو نفس فعل المأمور به. إذا عرف ذلك كله فإن تأويل ما أخبر الله به عن نفسه هو نفس الحقيقة التي أخبر عنها، وهي كنه ذاته وصفاته وتأويل ما أخبر الله به عن الوعد والوعيد هو نفس ما يكون من البعث والنشور والحساب والجزاء والجنة والنار، فكيفية صفات الله هي التأويل الذي لا يعلمه إلا الله سبحانه وتعالى، وكذلك ما وعد به في الجنة يعلم العباد تفسيره. وأما حقائقه على ما هي عليه فلا يمكن أن نعلمها نحن حتى تكون الساعة، ومن أجل أن من التأويل مالا يعلمه إلا الله، يتعين على المسلم أن يعمل بمحكم السنة ويؤمن بمتشابهها. فما جاء في القرآن الكريم أو حديث الرسول صلى الله عليه وسلم وجب العمل بمحكمه والإيمان بمتشابهه، وفي نصوص القرآن والحديث ألفاظ ومعاني تشبه ما نعلمه في الدنيا، ولكن ليست الحقيقة هي نفس الحقيقة، كما أن هذه الحقيقة ليست مماثلة لتلك الحقيقة، بل بينهما قدر مشترك وقدر مميز، فأسماء الله وصفاته وأن كان بينها وبين أسماء العباد وصفاتهم تشابه في اللفظ والمعنى الكلي، إلا أن حقيقة الخالق وصفاته ليست كحقيقة المخلوق وصفاته، وكذلك الشأن بالنسبة إلى إخبار الله عن اليوم الآخر ففيها ألفاظ تشبه معانيها ما هو معروف لدينا في الدنيا، إلا أن الحقيقة ليست مثل الحقيقة، ففي الآخرة لبن وعسل وخمر وأنهار من ماء، وفيها سرر مرفوعة وأكواب موضوعة ونمارق مصفوفة وزرابي مبثوثة، فبينهما اتفاق في الاسم وفي المعنى الكلي المشترك، بواسطته عرفنا معاني ما خوطبنا به، فإن الإخبار عن الغائب لا يفهم أن لم يعبر عنه

بالأسماء المعلومة معانيها في الشاهد، فنحن نعرف أشياء بحسب الظاهر أو الباطن، ثم إنا بمعقولنا نعتبر الغائب بالشاهد، فيبقى في أذهاننا قضايا عامة كلية، فلولا أننا نشهد من أنفسنا جوعاً وعطشاً وشبعاً وريا وحباً وبغضاً ولذةً ورضاً وسخطاً لم نعرف حقيقة ما خوطبنا به إذا وصف لنا وأخبرنا به وكذلك لو لم نعلم ما في الشاهد من حياة وقدرة وعلم وكلام ونحو ذلك لم نفهم ما نخاطب به وحينئذ فبين موجودات الدنيا وموجودات الآخرة مشابهة وموافقة واشتراك من بعض الوجوه، وبها فهمنا المراد وأحببناه ورغبنا فيه وبينهما مباينة ومفاضلة لا يقدر قدرها في الدنيا، بل هي داخلة تحت قوله تعالى: {فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ} وقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه البخاري ومسلم. عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قال الله عز وجل أعددت لعبادي الصالحين مالا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر مصداق ذلك في كتاب الله فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين جزاءاً بما كانوا يعملون" وإذا كان هذا في هذين المخلوقين فالأمر في الخالق والمخلوق أعظم، فإن مباينة الله لخلقه وعظمته وكبريائه أعظم وأكبر مما بين مخلوق ومخلوق، فإذا كانت صفات ذلك المخلوق مع مشابهتها لصفات هذا المخلوق بينهما من التفاضل والتباين مالا نعلمه ولا يمكن أن نعلمه في الدنيا بل هو من التأويل الذي لا يعلمه إلا الله تبارك وتعالى، فصفات الخالق عز وجل أولى أن يكون بينها وبين صفات المخلوق من التباين والتفاضل مالا يعلمه إلا الله تبارك وتعالى. فنحن نفهم ما أخبرنا الله به من صفات المخلوقين ونعلم تفسيره، ونعلم معنى العسل واللحم واللبن والحرير والذهب والفضة ونفرق بين مسميات هذه الأسماء: وما حقائقها على ما هي عليه فلا يمكن أن نعلمها حتى تكون الساعة، بل هذا من التأويل الذي لا يعلمه إلا الله تبارك وتعالى، ولهذا كان قول من قال: أن المتشابه لا يعلم تأويله إلا الله حقاً، وقول من قال "أن الراسخين في العلم يعلمون تأويله

حقاً" فالذين قالوا: "أنهم يعلمون تأويله، مرادهم بذلك أنهم يعلمون معناه، ومن قال أنهم لا يعرفون تأويله أرادوا به الكيفية الثابتة التي اختص الله بعلمها، ومن أجل ذلك أجاب الإمام مالك من سأله عن الاستواء. وكذلك شيخه ربيعة بن أبي عبد الرحمن، وكذلك أم سلمة أجابوا بأن الاستواء معلوم وأن كيفيته مجهولة. فمعنى الاستواء معلوم وهو التأويل الذي يعلمه الراسخون. والكيفية هي التأويل المجهول لبني آدم وغيرهم. وقد ذكر الشيخ نص جواب مالك، ونص جواب ربيعة، كما ترى. وأما جواب أم سلمة فنصه "عن أم سلمة رضي الله عنها في قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} : قالت الكيف غير معقول والاستواء غير مجهول والإقرار به من الإيمان والجحود به كفر".

حديث أسألك بكل أسم هو لك

حديث أسألك بكل أسم هو لك ... قوله: ومثل هذا يوجد كثيراً في كلام السلف والأئمة، ينفون علم العباد بكيفية صفات الله، وأنه لا يعلم كيف الله إلا الله، فلا يعلم ما هو إلا هو. وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك" وهذا في صحيح مسلم وغيره. وقال في الحديث الآخر: "اللهم أني أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك أو أنزلته في كتابك أو علمته أحداً من خلقك أو استأثرت به في علم الغيب عندك" والحديث في المسند وصحيح أبي حاتم، وقد أخبر فيه أن لله من الأسماء ما استأثر به في علم الغيب عنده، لا يعلمها غيره. ش: يعني مثل ما جاء عن الإمام مالك وغيره من نفي العلم بكيفية الصفات مع معرفة المعنى وتفسيره، يروى أيضاً عن أئمة السنة: كالإمام أحمد والشافعي وأبي حنيفة وعبد العزيز بن الماجشون ونعيم بن حماد وغيرهم، فإن الجميع يوجد في كلامهم نفي العلم بكيفية الصفات مع إثبات المعنى وتفسيره.

وقد استشهد المؤلف على عدم العلم بكيفية الصفات وعدم حصر ما لله من الأسماء والصفات بما رواه مسلم في صحيحه بسنده عن الأعرج عن أبي هريرة عن عائشة قالت: "فقدت رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة من الفراش، فالتمسته فوقعت يدي على بطن قدميه، وهو في المسجد وهما منصوبتان، وهو يقول: اللهم أني أعوذ برضاك من سخطك، وبمعافاتك من عقوبتك، وأعوذ بك منك لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك" والضمير في قوله وغيره، راجع إلى صحيح مسلم فقد رواه أيضاً الخمسة من حديث علي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يدعو بهذا الدعاء في آخر وتره. كما استشهد المؤلف أيضاً بما رواه أبو حاتم في صحيحه والإمام أحمد في مسنده من حديث عبد الله بن مسعود عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ما أصاب أحداً قط هم ولا حزن فقال: اللهم أني عبدك ابن عبدك ابن أمتك ناصيتي بيدك ماض في حكمك عدل في قضاؤك، أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحداً من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك، أن تجعل القرآن العظيم ربيع قلبي ونور صدري وجلاء حزني وذهاب همي وغمي، إلا أذهب الله همه وحزنه وأبدله مكانه فرحاً" فقيل يا رسول الله ألا نتعلمها؟ فقال: "بلى ينبغي لمن سمعها أن يتعلمها". قال ابن القيم في شرح هذا الحديث "فجعل أسماءه سبحانه ثلاثة أقسام: قسماً سمى به نفسه فأظهره لمن شاء من ملائكته أو غيرهم ولم ينزل به كتابه، وقسماً أنزل به كتابه وتعرف به إلى عباده، وقسماً استأثر به في علم غيبه فلم يطلع عليه أحداً من خلقه" ومنه قوله عليه السلام في حديث الشفاعة "فيفتح من محامده بما لا أحسنه الآن" وتلك المحامد هي بأسمائه وصفاته. وقال رحمه الله مبيناً أنه لا منافاة بين هذه الأحاديث وبين

ما رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله وعليه وسلم قال "أن لله تسعة وتسعين اسماً مائة إلا واحداً من أحصاها دخل الجنة وهو وتر يحب الوتر" فالكلام جملة واحدة. وقوله "من أحصاها دخل الجنة" صفة لا خبر مستقل، والمعنى له أسماء متعددة من شأنها أن من أحصاها دخل الجنة، وهذا لا يعني أنه ليس أسماء غيرها، بل هذا مثل قولك: لفلان مائة مملوك قد أعدهم للجهاد، فإنه لا يعني أنه ليس له مماليك غيرهم أعدهم لغير الجهاد. ومسلم: هو ابن الحجاج، الإمام الحافظ حجة الإسلام أبو حسين القشيري النيسابوري، صاحب التصانيف ولد سنة مائتين وأربع وأول سماعه سنة مائتين وثماني عشرة، سمع من يحيى بن يحيى التميمي، والقعنبي وأحمد بن يونس اليربوعي، وأحمد بن حنبل وخلق كثير. وروى عنه الترمذي وإبراهيم بن محمد بن سفيان الفقيه، وعبد الرحمن بن أبي حاتم وخلق سواهم. وقد قال محمد من الماسرجس: "سمعت مسلماًِ يقول: صنفت هذا الصحيح من ثلاثمائة ألف حديث مسموعة وهو اثنا عشرة ألف حديث" مات مسلم في رجب سنة إحدى وستين ومائتين. وأبو حاتم: هو الإمام الحافظ الكبير محمد بن إدريس بن المنذر الرازي أحد الأعلام، ولد سنة خمس وتسعين ومائة وقال: "كتبت الحديث سنة تسع ومائتين" رحل وهو لا يزال أمرد! فسمع عبيد الله بن موسى، ومحمد بن عبد الله الأنصاري، والأصمعي، وأبا نعيم، وأمماً سواهم. وبقي في الرحلة مدة قال عن نفسه: "أول ما رحلت أقمت سبع سنين ومشيت على قدمي زيادة على ألفي فرسخ، ثم تركت العدد، وخرجت من البحرين إلى مصر ماشيا، ثم إلى طرسوس، ولي عشرون سنة! " وقد حدث عنه يونس بن عبد الأعلى، ومحمد بن عوف الطائي، وأبو داود والنسائي وخلق كثير. قال أحمد بن سلمة

الحافظ: "وما رأيت بعد محمد بن يحيى أحفظ للحديث ولا أعلم بمعانيه من أبي حاتم" توفي أبو حاتم في شعبان سنة سبع وسبعين ومائتين وله اثنتان وثمانون سنة.

تعتبر الصفات مترادفة بالنسبة لدلالتها على ذات واحدة ومتباينة من جهة اختلاف المعنى

تعتبر الصفات مترادفة بالنسبة لدلالتها على ذات واحدة ومتباينة من جهة اختلاف المعنى ... قوله: والله سبحانه أخبرنا أنه عليم قدير، سميع بصير، غفور رحيم، إلى غير ذلك من أسمائه وصفاته. فنحن نفهم معنى ذلك، ونميز بين العلم والقدرة، وبين الرحمة والسمع والبصر، ونعلم أن الأسماء كلها اتفقت في دلالتها على ذات الله، مع تنوع معانيها، فهي متفقة متواطئة من حيث الذات، متباينة من جهة الصفات. وكذلك أسماء النبي صلى الله عليه وسلم مثل محمد وأحمد والماحي والحاشر والعاقب. وكذلك أسماء القرآن مثل القرآن والفرقان والهدى والنور والتنزيل والشفاء وغير ذلك. ومثل هذه الأسماء تتنازع الناس فيها، هل هي من قبيل المترادف – لإتحاد الذات – أو من قبيل المتباين لتعدد الصفات؟ كما إذا قيل: السيف والصارم والمهند، والقصد في الصارم معنى الصرم، زفي المهند النسبة إلى الهند، والتحقيق أنها مترادفة في الذات متباينة في الصفات. ش: يعني أن الله سبحانه أخبرنا في كتابه العزيز وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم بأنه متصف بالعلم والقدرة، قال تعالى: {إِنَّهُ كَانَ عَلِيماً قَدِيراً} ومتصف بالسمع والبصر، قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً} ومتصف بالمغفرة والرحمة {وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً} إلى غير ذلك مما ورد من أسمائه وصفاته كوصفه بالغضب والرضا، والمحبة والكلام واليدين

والاستواء، ونحن نفهم هذه الصفات ونعرف معانيها ونميز بين بعضها والبعض الآخر. ونعلم أن كلها متفقة من جهة دلالتها على ذات الله سبحانه. فهو الموصوف والمسمى بها، وكل اسم يدل على معنى لا يدل عليه الاسم الآخر مع أن الجميع حق. قال تعالى: {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيّاً مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} فإذا قيل: الرحمن الرحيم الملك القدوس السلام، فهي كلها أسماء لمسمى واحد سبحانه وتعالى وأن كان كل اسم يدل على نعت لله تعالى لا يدل عليه الاسم الآخر. ولولا أن هذه الأسماء والصفات تدل على معنى مشترك كلي، يقتضي من المواطأة والموافقة والمشابهة ما به نفهم ونثبت هذه المعاني لله، لم نكن قد عرفنا من الله شيئاً. ولا صار في قلوبنا أيمان به ولا علم ولا معرفة ولا محبة ولا إرادة لعبادته ودعائه وسؤاله وتعظيمه. قال الشيخ ومن فهم هذه الحقائق الشريفة والقواعد الجليلة النافعة، حصل له من العلم والمعرفة والتحقيق والتوحيد والإيمان، وانجاب عنه من الشبه والضلال والحيرة ما يصير به في هذا الباب من الذين أنعم الله عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين فأسماء الله وصفاته مترادفة من جهة دلالتها على الذات الواحدة، ومتباينة من جهة تغاير معانيها، وقد استشهد المؤلف على كون الأسماء تكون مترادفة باعتبار ومتباينة باعتبار آخر، بثلاثة أمثلة: أحدها: أسماء الرسول صلى الله عليه وسلم، وثانيها: أسماء القرآن الكريم. وثالثها: أسماء السيف. فمحمد وأحمد والماحي والحاشر والعاقب كلها أسماء تدل على شيء واحد هو ذات الرسول محمد صلى الله عليه وسلم. قال تعالى: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ} وقال تعالى: {وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ

مَرْيَمَ يا بَنِي إِسْرائيلَ أني رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ} . وعن محمد بن جبير بن مطعم عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أنا محمد وأنا أحمد وأنا الماحي الذي يمحى بي الكفر، وأنا الحاشر الذي يحشر الناس على قدمي، وأنا العاقب" والعاقب الذي ليس بعده نبي. وعن حذيفة قال: "سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "أنا محمد وأحمد والحاشر والمقفي ونبي الرحمة". والفرقان والقرآن والهدى والنور والشفاء والتنزيل كلها أسماء لشيء واحد هو كتاب الله المنزل على عبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم، مع تبلين معانيها، قال تعالى: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَان عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً} وقال عز وجل: {أنا أنزَلْنَاهُ قُرْأناً عَرَبِيا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} وقال: {قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفَاءٌ} وقال: {وَأنزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً} وقال: {وَنُنَزِّلُ مِنَ القرآن مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} وقال: {وَأنهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ} . وقول المؤلف "وغير ذلك" يعني كتسميته روحاً {أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنَا} ووحيا {إِنَّمَا أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ} وعربيا {قُرْآناً عَرَبِيّاً} وبصائر {هَذَا بَصَائِرُ} وبياناً {هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ} وعلماً {مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ} وحقاً {إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ} وهاديا {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي} وعجباً {قُرْآناً عَجَباً} وتذكرة {وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ} وصدقاً {وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ} وعدلا {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً} وأمراً {ذَلِكَ أَمْرُ اللَّهِ أَنْزَلَهُ إِلَيْكُمْ} ومناديا {سَمِعْنَا مُنَادِياً يُنَادِي لِلْإِيمَانِ} وبشرى {هُدىً وَبُشْرَى} ومجيداً {بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ} وزبوراً {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ} وبشيراً ونذيراً {كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ بَشِيراً وَنَذِيراً} وعزيزاً {وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ} وبلاغاً {هَذَا بَلاغٌ لِلنَّاسِ} وقصصاً {أَحْسَنَ الْقَصَصِ} . والسيف: يطلق عليه المهند والصارم وكلها أسماء لشيء واحد، هو

الآلة الحادة المعروفة، ومعنى هذه الأسماء متباينة، حيث يلاحظ في المهند النسبة إلى الهند، ويلاحظ في الصارم معنى الصرم وهو القطع، فأسماء الله الحسنى كالأول والآخر، والظاهر والباطن، والرحمن والرحيم، الملك القدوس، السلام المؤمن المهيمن، العزيز الجبار المتكبر، العليم الحكيم. وأمثال ذلك تدل كلها على ذاته. وهو أحد صمد، ويدل هذا من صفاته على مالا يدل عليه الآخر، فهي متفقة في الدلالة على الذات متنوعة في الدلالة على الصفات. واعلم أن الأسماء منها ما هو مترادف وهو ما اختلف لفظه واتحد معناه: كالليث والأسد والغضنفر، ومنها ما هو مشترك، وهو ما اتحد لفظه واختلف معناه كالعين والقرؤ، ومنها ما متباين، وهو ما اختلف لفظه ومعناه، كالسماء والأرض، ومنها ما هو متواطئ، وهو ما اتفق لفظه ومعناه. فإن كان المعنى متساويا في الجميع فهو التواطأ المطلق، وأن كان هذا المعنى متفاوتا متفاضلاً، فهو المتواطئ المشكك، كالرجل لزيد وعمر في الأول وكالنور للشمس والسراج في الثاني.

التواطؤ والاشتراك

التواطؤ والاشتراك ... قوله: ومما يوضح هذا أن الله وصف القرآن كله بأنه محكم وبأنه متشابه، وفي موضع آخر جعل منه ما هو محكم ومنه ما هو متشابه، فينبغي أن يعرف الأحكام والتشابه الذي يعمه، والأحكام والتشابه الذي يخص بعضه. قال تعالى {الر كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياته ثُمَّ فُصِّلَتْ} فأخبر أنه أحكم آياته كلها. وقال تعالى: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشَابِهاً مَثَانيَ} فأخبر أنه كله متشابه. والحكم هو الفصل بين الشيئين، فالحاكم يفصل بين الخصمين، والحكم فصل بين المتشابهات، علماً وعملاً، إذا ميز بين الحق والباطل، والصدق والكذب، والنافع والضار، وذلك يتضمن فعل النافع وترك

الضار، فيقال: حكمت السيف وأحكمته، إذا أخذت على يديه، وحكمت الدابة وأحكمتها، إذا جعلت لها حكمة، وهي ما أحاط بالحنك من اللجام. وإحكام الشيء إتقانه. فإحكام الكلام إتقانه بتمييز الصدق من الكذب في أخباره، وتمييز الرشد من الغي في أوامره، والقرآن كله محكم بمعنى الإتقان، فقد سماه الله حكيماً بقوله: {الر تِلْكَ آيات الْكِتابِ الْحَكِيمِ} فالحكيم بمعنى الحاكم، كما جعله يقص بقوله {أن هَذَا القرآن يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرائيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} . وجعله مفتيا في قوله: {قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ} أي ما يتلى عليكم يفتيكم فيهن، وجعله هاديا ومبشراً في قوله: {أن هَذَا القرآن يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ} . وأما التشابه الذي يعمه فهو ضد الاختلاف المنفي عنه في قوله: {وَلَوْ كان مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً} وهو الاختلاف المذكور في قوله: {أنكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ} . فالتشابه هنا هو تماثل الكلام وتناسبه، بحيث يصدق بعضه بعضاً، فإذا أمر بأمر لم يأمر بنقيضه في موضع آخر، بل يأمر به أو بنظيره أو بملزوماته، وإذا نهى عن شيء لم يأمر به في موضع آخر، بل ينهى عنه أو عن نظيره أو عن ملزوماته، إذا لم يكن هناك نسخ. وكذلك إذا أخبر بثبوت شيء لم يخبر بنقيض ذلك، بل يخبر بثبوته أو بثبوت ملزوماته، وإذا أخبر بنفي شيء لم يثبته، بل ينفيه أو ينفي لوازمه، بخلاف القول المختلف الذي ينقض بعضه بعضاً، فيثبت الشيء تارة وينفيه أخرى أو يأمر به وينهى عنه في وقت واحد، ويفرق بين المتماثلين، فيمدح أحدهما ويذم الآخر. فالأقوال المختلفة هنا: هي المتضادة. والمتشابهة: هي المتوافقة. وهذا التشابه يكون في المعاني وأن اختلفت الألفاظ، فإذا كانت المعاني

يوافق بعضها بعضاً، ويعضد بعضها بعضاً، ويناسب بعضها بعضاً، ويشهد بعضها لبعض، ويقتضي بعضها بعضاً، كان الكلام متشابهاً، بخلاف الكلام المتناقض الذي يضاد بعضه بعضاً. فهذا التشابه العام لا ينافي الإحكام العام، بل هو مصدق له، فإن الكلام المحكم المتقن يصدق بعضه بعضاً، لا ينافي بعضه بعضاً. ش: يعني ومما يوضح أننا نجهل الكيفيات والحقائق التي استأثر الله بعلمها. ونعلم معاني ما خوطبنا به ونفسره، وأن الأسماء تكون مترادفة من جهة دلالتها على شيء واحد ومتباينة من جهة تغاير معانيها مما يوضح ذلك كله: أن الله سبحانه وصف القرآن كله بأنه محكم، كما في آية هود، ووصفه كله بأنه متشابه كما في آية الزمر. وفي قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي أنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آيات مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} بين أن بعضه محكم وبعضه متشابه، فهذه الأوصاف كلها نعوت لشيء واحد هو كتاب الله المنزل على عبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم. ولا منافاة بين وصفه كله بالإحكام ووصفه كله بالتشابه، فإن المراد بإحكامه إتقانه وعدم تطرق النقص والاختلاف إليه، وبتشابهه كون يشبه بعضه بعضاً في الحق والصدق والإعجاز، والمحكم لغة مأخوذة من حكمت الدابة. وأحكمت بمعنى منعت، والحكم: هو الفصل بين الشيئين، فالحاكم يمنع الظالم ويفصل بين الخصمين، ويميز بين الحق والباطل، والصدق والكذب، ويقال حكمت السفيه وأحكمته إذا أخذت على يده، وحكمت الدابة وأحكمتها، إذا جعلت لها حكمة. وفسر الحكمة بقوله: "وهي ما أحاط بالحنك من اللجام" لأنها تمنع الفرس عن الاضطراب ومنه الحكمة، لأنها تمنع صاحبها عما لا يليق، وإحكام الشيء إتقانه والمحكم المتقن، فإحكام الكلام إتقانه بتمييز

الصدق من الكذب في إخباره والرشد من الغي في أوامره. والمحكم منه ما كان كذلك. وقد سمى الله القرآن حكيما كما في آية يونس، كما أنه يقص ويفتي، ويهدي ويبشر، وقد استشهد المؤلف على ذلك بآية يوسف، والنساء، والإسراء، فالقرآن كله محكم أي أنه كلام متقن فصيح يميز بين الحق والباطل والصدق والكذب، وهذا هو الإحكام العام، والمتشابه لغة مأخوذ من التشابه، وهو أن يشبه أحد الشيئين الآخر لما بينهما من التناسب. وتشابه الكلام هو تماثله وتناسبه، بحيث يصدق بعضه بعضا. وقد وصف الله القرآن كله بأنه متشابه على هذا المعنى كرا في آية الزمر. فالقرآن كله متشابه أي يشبه بعضه بعضا في الكمال والجودة، ويصدق بعضه بعضا في المعنى، وهذا هو التشابه العام. وكل من المحكم والمتشابه بمعناه المطلق لا ينافي الآخر. فالقرآن كله محكم بمعنى الإتقان، وهو متماثل يصدق بعضه بعضا. فإذا أمر بأمر لم يأمر بنقيضه في موضع آخر، وإنما يأمر به أو بنظيره أو يلازمه كأمره بالصلاة فإنك لا تجده في موضع آخر ينهى عنها، وإنما يأمر بها نفسها أو يأمر بنظيرها من العبادات كالزكاة، أو يأمر بشيء من لوازمها كالوضوء، وكذلك الشأن في نواهيه وأخباره. فإذا نهى عن الشرك لم تجده في موضع آخر يأمر به وإنما ينهى عنه أو عن نظيره؟ كنهيه عن ضرب الأمثال له المذكور في قوله تعالى: {فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ} أو ينهى عن شيء من لوازمه: كنهيه عن الوسائل المفضية إليه، وإذا أخبر عمن أطاعه أو عصاه من الأمم وماذا عمل بهم أو أعد لهم لم تجده في موضح آخر ينفي هذا الخبر. كما أنه إذا نفى عن نفسه الند والشريك والسنة والنوم، وأشباه ذلك. لم تجده في موضع آخر يثبت ما نفى. وقوله إذا لم يكن هناك نسخ يعني كما في آية التخير للمقيم بين الصوم والفطر مع الفدية مع أيجاب آية الصوم عزما. وكالوصية للوالدين والأقربين المنسوخة بآية المواريث، وكالصلاة إلى القدس المنسوخة بالتوجه إلى الكعبة.

والكلام المحكم المتقن تتفق معانيه وأن اختلفت ألفاظه فلا تضاد فيه ولا اختلاف ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا والمراد بالاختلاف التناقض والاضطراب فلا يتناول وجوه القراءات. واختلاف مقادير السور والآيات، واختلاف الأحكام من الناسخ والمنسوخ، والأمر والنهي والوعد والوعيد، ووصف القرآن بالمثاني لتثنية القصص فيه وتكرير المواعظ والأحكام، ولأنه يثنى في التلاوة فلا يمل سامعه ولا يسأم قارؤه.

التشابه الخاص والاحكام الخاص

التشابه الخاص والاحكام الخاص ... قوله: بخلاف الأحكام الخاص، فإنه ضد التشابه الخاص، والتشابه الخاص هو مشابهة الشيء لغيره من وجه مع مخالفته له من وجه آخر، بحيث يشتبه على بعض الناس أنه هو أو هو مثله وليس كذلك. والأحكام هو الفصل بينهما بحيث لا يشتبه أحدها بالآخر، وهذا التشابه إنما يكون بقدر مشترك بين الشيئين مع وجود الفاصل بينهما. ثم من الناس من لا يهتدي للفصل بينهما فيكون مشتبها عليه، ومنهم من يهتدي إلى ذلك! فالتشابه الذي لا يتميز معه قد يكون من الأمور النسبية الإضافية، بحيث يشتبه على بعض الناس دون بعض ومثل هذا يعرف منه أهل العلم ما يزيل عنهم هذا الاشتباه، كما إذا اشتبه على بعض الناس ما وعدوا به في الآخرة بما يشهدونه في الدنيا فظن أنه مثله فعلم العلماء أنه ليس مثله وأن كان مشبها له من بعض الوجوه. ش: بعد أن ذكر المؤلف أنه لا منافاة بين الأحكام العام والتشابه العام، بين أن الأحكام الخاص والتشابه الخاص غير متفقين، بل هما ضدان، وهما المذكور أن في قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي أنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آيات مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأما الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تأويلهِ وَمَا يَعْلَمُ تأويلهُ إِلَّا اللَّهُ} .

والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا وقد عرف التشابه الخاص بقوله: وهو مشابهة الشيء لغيره من وجه مع مخالفته له من وجه آخر، كما عرف الأحكام الخاص بقوله: والأحكام هو الفصل بينهما والوجه الذي يحصل به الاشتباه هو القدر المشترك بين المشتبهين. أما الوجه الذي تحصل به المخالفة فهو القدر الفارق المميز، فأسماء الله تعالى وصفاته تتفق مع أسماء المخلوقين وصفاتهم في اللفظ وفي المعنى الكلي المشترك. قال تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} وقال سبحانه: {فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أنتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ} وقال عز وجل: {فَسَوْفَ يَأتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} . فالذين لا يفرقون بين الأمور وأن اتفقت من وجه واختلفت من وجه آخر يظنون أنهم إذا أثبتوا الصفات لله شبهوه بالمخلوقات، ومن الناس من يهتدي لمعرفة ما يحصل به الاشتراك وما يحصل به الاختلاف بين المتشابهين، وهؤلاء هم الذين اثبتوا له ما أثبته لنفسه، وما أثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم، ونفوا عنه ما نفاه عن نفسه، أو نفاه عنه رسوله كما قال تبارك وتعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} وحينئذ فالتشابه الخاص إنما يعتبر متشابها بالنسبة لبعض الناس دون بعض وليس في حد ذاته متشابها غير أن ذلك، ومثل المؤلف لذلك: باشتباه موجودات الآخرة، من لبن وعسل، وماء وخمر، وذهب وفضة، وحور ومساكن بموجودات الدنيا. فإن بعض الناس تشتبه عليهم هذه الأمور فيظنون أن هذه الحقيقة مماثلة لتلك الحقيقة من كل وجه. أما أهل العلم بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم فيفهمون من النصوص ما يزيل عنه هذا الاشتباه ويعلمون أن ما أعده الله في دار البقاء والخلود من أنواع النعيم أكمل وأعظم مما يشهدونه في دار الفناء والزوال. وقوله "والتشابه الذي لا يتميز معه" معناه أن التشابه الخاص الذي لا يتضح معه المعنى بسبب ما بين الأمرين المشتبهين من

القدر المشترك ليس هو في حل ذاته متشابها وإنما يشتبه على بعض الناس دون بعض بخلاف المتشابه لذاته، كحقيقة ذات الله وكنهها وكيفية أسمائه وصفاته وحقيقة المعاد، فإن هذا المتشابه بالنسبة لكل الخلق، إذ هو داخل تحت قوله تبارك وتعالى: {وَمَا يَعْلَمُ تأويلهُ إِلَّا اللَّهُ} .

ما من شيئين إلاويشتبهان من وجه ويختلفان من وجه آخر

ما من شيئين إلاويشتبهان من وجه ويختلفان من وجه آخر ... قوله: ومن هذا الباب الشبه التي يضل بها بعض الناس، وهي ما يشتبه فيها الحق والباطل حتى تشتبه على بعض الناس، ومن أوتي العلم بالفصل بين هذا وهذا لم يشتبه عليه الحق بالباطل، والقياس الفاسد، إنما هو من باب الشبهات، لأنه تشبيه للشيء في بعض الأمور بما لا يشبهه فيه. فمن عرف الفصل بين الشيئين، اهتدى للفرق الذي يزول به الاشتباه والقياس الفاسد، وما من شيئين إلا ويجتمعان في شيء ويفترقان في شيء، فبينهما اشتباه من وجه وافتراق من وجه فلهذا كان ضلال بني آدم من قبل التشابه. والقياس الفاسد لا ينضبط كما قال الإمام أحمد: أكثر ما يخطىء الناس من جهة التأويل والقياس فالتأويل في الأدلة السمعية، والقياس في الأدلة العقلية، وهو كما قال: والتأويل الخطأ إنما يكون في الألفاظ المتشابهة، والقياس الخطأ إنما يكون في المعاني المتشابهة. ش: يعني ومن قبيل الضلال بسبب الاشتباه وعدم معرفة الفرق بين الأمور التي يحصل بينهما اشتراك من وجه واختلاف من وجه آخر، من هذا القبيل الشبه التي سرت في الناس فضلوا بسببها. ثم عرف الشبه بقوله: "وهي ما يشتبه فيها الحق والباطل" فهي إذاً أقوال مشتبهة يكون فيها ما يقتضي تناولها الحق والباطل، يعارض أصحابها بما فيها من الباطل نصوص الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم. هذا منشأ ضلال من ضل من الأمم قبلنا وهو منشأ البدع، فإن

البدعة لو كانت حقاً محضاً لا شوب فيه لكانت موافقة للسنة، ولو كانت باطلا محضاً لم تخف على أحد، ولكن البدعة تشتمل على حق وباطل ولهذا قال تعالى فيما يخاطب به أهل الكتاب على لسان محمد صلى الله عليه وسلم {يا بَنِي إِسْرائيلَ} إلى قوله: {وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأنتُمْ تَعْلَمُونَ} فنهاهم عن لبس الحق بالباطل. ولبسه به خلطه به حتى يلتبس أحدها بالآخر. وأول شبهة وقعت في الخليقة شبهة إبليس لعنه الله، ومصدرها استبداده بالرأي في مقابلة النص واختياره الهوى في معارضة الأمر واستكباره بالمادة التي خلق منها وهي النار على مادة آدم عليه السلام وهي الطين. وانشعبت من هذه الشبهة عدة شبه سرت في أذهان الناس حق صارت مذاهب بدعة وضلال وأصبحت تلك الاعتراضات بمثابة البذور، وظهرت منها الشبهات كالزروع. فمقالات أهل الزيغ لا تعدو شبهة إبليس وأن اختلفت العبارات وتباينت الطرق، ويرجع جملتها إلى إنكار الأمر بعد الاعتراف بالحق وإلى الجنوح إلى الهوى في مقابلة النص. هذا ومن جادل نوحا وهودا وصالحا وإبراهيم ولوطا وشعيبا وموسى وعيسى ومحمد صلوات اله عليهم أجمعين، كلهم نسجوا على منوال اللعين الأول في إظهار شبهاتهم فحاصلها يرجع إلى دفع التكاليف عن أنفسهم وجحد أصحاب الشرائع والتكاليف بأسرهم، إذ لا فرق بين قولهم {أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا} وبين قوله: {أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً} . فالشيطان لما أن حكم العقل على من لا يحتكم عليه العقل لزم إجراء حكم الخالق في الخلق، والأول غلو، والثاني تقصير. فثار من الشبهة الأولى مذاهب الحلولية والتناسخية، والمشبهة والغلاة من الروافض حيث غلوا في حق شخص من الأشخاص حتى وصفوه بصفات الجلال.

وثار من الشبهة الثانية مذاهب القدرية والجبرية. فالمعتزلة غلوا في توحيدهم حتى وصلوا إلى التعطيل بنفي الصفات، والروافض غلوا في النبوة والإمامة، حتى وصلوا إلى الحلول. وقد قال تعالى: {وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَان أنهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ} . وقد جاء في الآثار تشبيه كل أمة ضالة من هذه الأمة بأمة ضالة من الأمم السابقة فشبهت القدرية بالمجوس، والمشبهة باليهود، والروافض بالنصارى. وبعد أن عرف المؤلف الشبهات ذكر أن القياس الفاسد من جملتها، وعرفه بقوله لأنه تشبيه للشيء في بعض الأمور بما لا يشبهه فيه ومن أوتي العلم بالفصل بين الأمور المتشابهة لم يلتبس عليه الحق بالباطل. ومما هو معلوم أن ما من شيئين إلا وبينها اشتباه من وجه، وهو القدر المشترك، وافتراق من وجه آخر، وهو الفارق الذي يزيل الاشتباه؟ وذلك مثل جنس الوحي والتنزيل، قال تعالى: {إنا أوحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أوحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ} وقال عز وجل: {وَإن الشَّياطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أولِيائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ} وقال سبحانه: {وَإنهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ} وقال: {"هَلْ أنبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّياطِينُ تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ} . فالكهان والمتنبئون، والأنبياء والمرسلون، قد اشتركوا في جنس الوحي والتنزيل، ولكن مع الفارق المميز بين من هو كاذب في قوله فاجر في عمله، ينزل عليه وحي الشيطان بالخبث والبهتان، ومن هو صادق في قوله، بر في عمله، ينزل عليه وحي الرحمن بواسطة الروح الأمين ليحيي به الأرواح والأبدان، ويرشد به إلى ما يصلح أمور الدنيا والدين، ومثل العرش والبعوض، فكل منهما شيء موجود فهما مشتركان في مسمى الشيء والوجود مع اختلافهما في الذات والصفات. والخطأ في تأويل النص تفسيره بغير مراد المتكلم به وتحريفه عن

مواضعه. والخطأ في القياس دعوى مماثلة المعاني للمعاني، لما بينها من القدر المشترك. ووجه خطئهم من جهة التأويل تلاعبهم بالنصوص، وإساءة الظن بها، ونسبة قائلها إلى التكلم بما ظاهره الضلال والإضلال، وليس لهم على ذلك حجة من كتاب ولا سنة، بل العمدة عندهم نحاتة الأفكار، وزبالة الأذهان. ووجه خطئهم من جهة القياس أنهم أتوا بألفاظ مجملة ليست في الكتاب ولا في السنة مثل متحيز ومحدود، وجسم ومركب، ونحو ذلك وجعلوا منها مقدمات مسلما بها عندهم ومدلولا عليها بنوع قياس، وذلك القياس أوقعهم فيه مسلك سلكوه في إثبات حدوث العالم بحدوث الإعراض؟ أو إثبات إمكان الجسم بالتركيب من الأجزاء، فوجب طرد الدليل بالحدوث والإمكان لكل ما شمله هذا الدليل. والقياس الفاسد لا ينضبط كما أن التأويل الفاسد ليس له قانون مستقيم. وذلك أن كلا منهما غير مرتكز على نقل صحيح أو عقل صريح. والتأويل الخطأ يكون في النصوص المتشابهة؟ وذلك كألفاظ نصوص صفات الله وألفاظ نصوص صفات المخلوقين قال تعالى: {فَسَوْفَ يَأتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} وقال سبحانه: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} وقال: {فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أنتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ} فتأولت المبتدعة مدلول نصوص صفات الله لما بين النصوص من التشابه. والقياس الخطأ يكون في المعاني المتشابهة حيث أن كلا من المقيس والمقيس عليه له نصيب من المعنى الكلى المشترك.

حقيقة مذهب الاتحادية

حقيقة مذهب الاتحادية ... قوله: قد وقع بنو آدم ني عامة ما يتناوله هذا الكلام من أنواع الضلالات حتى آل الأمر بمن يدعي التحقيق والتوحيد والعرفان منهم إلى أن اشتبه عليهم وجود الرب بوجود كل موجود، فظنوا أنه هو،

فجعلوا وجود المخلوقات عين وجود الخالق، مع أنه لا شيء أبعد عن مماثلة شيء، أو أن يكون إياه أو متحدا به، أو حالا فيه من الخالق مع المخلوق. فمن اشتبه عليه وجود الخالق بوجود المخلوقات كلها، حتى ظنوا وجودها وجوده، فهم أعظم الناس ضلالا من جهة الاشتباه. وذلك أن الموجودات تشترك في مسمى الوجود فرأوا الوجود واحدا ولم يفرقوا بين الواحد بالعين والواحد بالنوع. ش: يقول المؤلف أن كثيرا من الناس قد وقعوا في حبائل الزيغ والضلال بسبب الاشتباه، حتى آل الأمر. بطائفة من بني آدم تدعي أنها بلغت في توحيد الله غايته، وفي العلم والتحقيق نهايته، أن اشتبه عليهم وجود رب العالمين بوجود كل موجود، فظنوا أن المخلوق هو عين الخالق مع أنه لا شيء أبعد عن مماثلة شيء من بعد مماثلة الخالق للمخلوق، ولا شيء ابعد من أن يكون متحداً بشيء من بعد اتحاد الخالق بالمخلوق، ولا شيء أبعد من أن يكون حالا في شيء من بعد حلول الخالق في المخلوق. وجهة غلطهم أنه ظنوا أن الوجود شيء واحد غير منقسم، وهؤلاء هم أهل الإلحاد القائلون بوحدة الوجود، وأنه ما ثم موجود قديم خالق وموجود حادث مخلوق، بل وجود هذا العالم هو عين وجود الله وهو حقيقة وجود هذا العالم. فليس عند القوم رب وعبد، ولا مالك ومملوك، ولا راحم ومرحوم، ولا عابد ومعبود، ولا مستعين ومستعان به ولا هاد ولا مهدي، ولا منعم ومنعم عليه، ولا غضبان ومغضوب عليه، بل الرب هو نفس العبد وحقيقته، والمالك هو عين المملوك، والراحم هو عين المرحوم، والعابد هو نفس المعبود، فما سوى ولا غير بوجه مز الوجوه، وإنما الكائنات أجزاء وأبعاض له، بمنزلة أمواج البحر في البحر وآخر البيت من البيت، ومن شعرهم:

البحر لاشك عندي في توحده ... وأن تعدد بالأمواج والزبد فلا يغرنك ما شاهدت من صور ... فالواحد الرب سار العين في العدد وقال ابن عربي الحاتمي شيخ الصوفية الناطق بلسانهم: العبد رب والرب عبد ... يا ليت شعري من المكلف إن قلت عبد فذاك رب ... أو قلت رب أنى يكلف على أن ابن عربي متناقض مضطرب في مسألة الاتحاد، فالله أعلم بما مات عليه، وبالجملة فهؤلاء أكفر من اليهود والنصارى من جهة أن أولئك قالوا أن الرب يتحد بعبده الذي قربه واصطفاه بعد أن لم يكون متحدين. وهؤلاء يقولون مازال الرب هو العبد وغيره من المخلوقات ليس هو غيره. ومن جهة أن أولئك خصوا ذلك بمن عظموه كالمسيح، وهؤلاء جعلوه ساريا في الكلاب والخنازير والأقذار والأوساخ، وإذا كان الله تعالى قد قال: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ} الآية. فكيف بمن قال أن الله هو الكفار والمنافقون والصبيان والمجانين والأنجاس وكل شيء؟ وإذا كان الله قد رد قول اليهود والنصارى لما قالوا نحن أبناء الله وأحباؤه. وقال لهم: {قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أنتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ} الآية. فكيف بمن يزعم أن اليهود والنصارى ما هم إلا عين وجود الرب الخالق؟ ليسوا غيره ولا سواه، ولا يتصور، أن يعذب إلا نفسه، وأن كل ناطق في الكون: فهو عين السامع. والواحد بالعين هو الذي لا يقبل التنويع والتقسيم، بل هو شيء واحد والواحد بالنوع هو الذي يقبل التنويع والتقسيم، فهو جنس تندرج تحته أنواع عديدة. واعلم أن الحلول نوعان كما أن الاتحاد نوعان. فهذه أربعة أقسام:

الأول هو الحلول الخاص: وهو قول النسطورية من النصارى ونحوهم، ممن يقولون أن اللاهوت حل في الناسوت كحلول الماء في الإناء، وهو قول من وافق هؤلاء النصارى من غالية هذه الأمة، كغالية الرافضة الذين يقولون: أنه حل بعلي بن أبي طالب وأئمة أهل بيته. وغالية النساك: الذين يقولون بالحلول فيمن يعتقدون فيه الولاية. والثاني هو الاتحاد الخاص: وهو قول يعقوبية النصارى، حيث يقولون أن اللاهوت والناسوت اختلطا وامتزجا وصارا شيئا واحدا. الثالث هو الحلول العام: وهو القول الذي ذكره أئمة أهل السنة عن طائفة من الجهمية المتقدمين، الذين يقولون أن الله بذاته في كل مكان، ويتمسكون بمتشابه القرآن كقوله سبحانه: {وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاواتِ وَفِي الْأَرْضِ} وقوله: {وَهُوَ مَعَكُمْ} والرد على هؤلاء كثير مشهور في كلام أئمة السنة وأهل المعرفة. الرابع الاتحاد العام: وهو قول هؤلاء الملاحدة الذين يزعمون أنه عين وجود الكائنات.

لفظ الوجود من باب التواطؤ

لفظ الوجود من باب التواطؤ ... قوله: وآخرون توهموا أنه إذا قيل: الموجودات تشترك في مسمى الوجود لزم التشبيه والتركيب. فقالوا: لفظ الوجود مقول بالاشتراك اللفظي، فخالفوا ما اتفق عليه العقلاء مع اختلاف أصنافهم، من أن الوجود ينقسم إلى قديم ومحدث، ونحو ذلك من أقسام الموجودات. وطائفة ظنت أنه إذا كانت الموجودات تشترك في مسمى الوجود لزم أن يكون في الخارج عن الأذهان موجود مشترك فيه، وزعموا أن في الخارج عن الأذهان كليات مطلقة، مثل وبود مطلق، وحيوان مطلق، وجسم مطلق، ونحو ذلك فخالفوا الحس والعقل والشرع. وجعلوا ما في الأذهان ثابتا في الأعيان وهذا كله من نوع الاشتباه.

ش: هذه طائفة أخرى من بني آدم، وقعت في مأزق الضلال بسبب الاشتباه حيث ظنوا أن الخالق إذا وصف بالوجود والمخلوق يوصف بالوجود لزم التشبيه، ولزم أن يكون الخالق مركبا من الصفة والذات، وهذا تشبيه للخالق بالمخلوق. هذا هو زعم هذه الطائفة من الجهمية والمعتزلة وهو قول واضح الفساد، وبين البطلان، فإن الموجود لا يكون مركبا من ذاته وصفته. اتفاق الموجودين في مسمى الوجود لا يعني أن يكون وجود أحدهما مثل وجود الأخر كما لا يلزم ذلك في سائر الصفات، وقد سبق بيان هذا في غير هذا الموضع ومن أجل أن هؤلاء لا يمكن أن يجحدوا وجود الله قالوا: أن اشتراك الخالق والمخلوق في الوجود إنما هو من باب الاشتراك اللفظي فخالفوا بهذا القول سائر العقلاء على اختلاف أصنافهم وتباين فنونهم حيث اتفقوا على أن الوجود منقسم إلى واجب وممكن وقديم ومحدث، كما تنقسم سائر الأسماء العامة الكلية لا كما تنقسم الألفاظ المشتركة، كلفظ سهيل المقول على الكوكب، وعلى سهيل بن عمرو. فإن تلك لا يقال فيها: أن هذا ينقسم إلى كذا وكذا، ولكن يقال: أن هذا اللفظ يطلق على هذا المعنى وعلى هذا المعنى مع العلم بأن المعاني الكلية قد تكون متفاضلة في مواردها، بل أكثرها كذلك. وهذا هو المسمى بالمتواطئ المشكك، وقد تكون متساوية في مواردها وهذا هو المتواطئ العام. فالوجود ونحوه من الأسماء أسماء عامة كلية سواء متواطئة أو مشككة ليست ألفاظا مشتركة اشتراكا لفظيا فقط. وطائفة من الفلاسفة ضلت أيضا بسبب الاشتباه حيث ظنوا أن الموجودات إذا كانت تشترك في مسمى الوجود لزم أن يكون هناك شيء موجود متشخص تشترك فيه، وهذا غلط واضح فإنه إذا قيل يشتركان في الوجود المطلق الكلي، فذاك المطلق الكلي لا يكون مطلقا كليا إلا في

الذهن. فليس في الخارج مطلق كلي يشتركان فيه، بل هذا له حصة منه، وهذا له حصة منه؟ وكل من الحقيقتين ممتازة عن الأخرى والكليات هي الكليات الخمس: الجنس، والنوع، والفصل، والخاصة، العرض العام. والقول فيها واحد، فليس فيها ما يوجد في الخارج كليا، ولا تكون مطلقة إلا في الأذهان لا في الأعيان. والحاصل أن قول هذه الطائفة: بأن الكليات المطلقة مثل وجود ضد عدم، وحيوان ضد جماد، وجسم ضد عرض، وإنسان ضد فرس توجد في الشاهد والعيان. وأن الموجودات إذا كانت مشتركة في مسمى الوجود لزم وجود شيء متشخص تشترك فيه قول باطل، مخالف للمعقول والمحسوس، كما أنه مخالف للنصوص، وهذه الطوائف كلها إنما ضلت بسبب الاشتباه وعدم التفريق، بينما تشترك فيه الموجودات وما يمتاز به بعضها عن بعض.

دحض شبهة النصارى في استدلالهم بمثل (إنا) و (نحن) على تعدد الآلهة

دحض شبهة النصارى في استدلالهم بمثل (إنا) و (نحن) على تعدد الآلهة ... قوله: ومن هداه الله فرق بين الأمور وأن اشتركت من بعض الوجوه، وعلم ما بينهما من الجمع والفرق، والتشابه والاختلاف، وهؤلاء لا يضلون بالمتشابه من الكلام، لأنهم يجمعون بينه وبين المحكم الفارق الذي يبين ما بينهما من الفصل والافتراق وهذا كما أن لفظ "أنا" و "نحن" وغيرهما من صيغ الجمع يتكلم بها الواحد له شركاء في الفعل، ويتكلم بها لواحد العظيم الذي له صفات تقوم كل صفة مقام واحد، وله أعوان تابعون له، لا شركاء له. فإذا تمسك النصراني بقوله تعالى: {إنا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإنا لَهُ لَحَافِظُونَ} ونحوه على تعدد الآلهة، كان المحكم كقوله تعالى: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} ونحو ذلك مما لا يحتمل إلا معنى واحد يزيل ما هناك من الاشتباه،

وكان ما ذكره من صيغة الجمع مبينا لما يستحقه من العظمة والأسماء والصفات وطاعة المخلوقات من الملائكة وغيرهم. وأما حقيقة ما دل عليه ذلك هن حقائق الأسماء والصفات، وما له من الجنود الذين يستعملهم في أفعاله، فلا يعلمهم إلا هو {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ} . وهذا تأويل المتشابه الذي لا يعلمه إلا الله، بخلاف الملك من البشر إذا قال: قد أمرنا لك بعطاء، فقد علم أنه هو وأعوانه، مثل كاتبه وحاجبه وخادمه ونحو ذلك أمروا به، وقد يعلم ما صدر عنه ذلك الفعل من اعتقاداته وإراداته ونحو ذلك. والله سبحانه وتعالى لا بعلم عباده الحقائق التي أخبر عنها من صفاته وصفات اليوم الأخر، ولا يعلمون حقائق ما أراد بخلقه وأمره من الحكمة ولا حقائق ما صدرت عنه من المشيئة والقدرة. ش: يقول المؤلف أن من أنار الله بصيرتهم وهداهم لتمييز الحق من الباطل، لا يضلون بسبب ما بين الأمور من اشتباه من بعض الوجوه، وهؤلاء هم العلماء الذين يعرفون ما يدل عليه كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ويعرفون القدر المشترك بين الشيئين وما يمتاز به كل واحد عن الآخر، فيردون المشكل وغير الواضح إلى قطعي الدلالة وواضح المعنى، فيزول الاشتباه، ويتضح ما بين الشيئين من جهة الجمع وجهة الافتراق بواسطة ردهم المتشابه إلى المحكم. وكمثال على التشابه الخاص الذي يوضحه المحكم ويزيل ما به من الاشتباه مثل المؤلف بلفظ "إنا" و"نحن" كقوله تعالى: {إنا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً

مُبِيناً} وقوله: {إنا أنزَلْنَاهُ قُرْأناً عَرَبِيا} وقوله: {نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا} ونحو ذلك كقوله: {نَتْلُو عَلَيْكَ} وقوله: {فَرَضْنَا} و {وَرَفَعْنَا} حيث تمسك النصارى بمثل هذه النصوص، واستدلوا بها على أن الله ثالث ثلاثة! تعالى الله عن قولهم علوا كبيرا وقد غفلوا عن كون هذه الصيغة في أصل وضعها العربي يتكلم بها الواحد المعظم نفسه، ويتكلم بها الواحد الذي معه شركاء في فعله. فيؤتى لهؤلاء النصارى بالآيات المصرحة بوجدانية الله كقوله تعالى: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا أن اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ} و {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} ، {قُلْ إنما أنا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ إنما إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} . ونحو ذلك من الآيات المصرحة ببطلان ما يدعون، والمزيلة للاشتباه الذي به يلبسون. فهذه الصيغة في كلام العرب للواحد العظيم المتحدث عن نفسه، وللعظيم الذي له أعوان يطيعونه! فإذا فعل أعوانه فعلا بأمره قال: نحن فعلنا كما يقول الملك نحن فتحنا هذا البلد، وهزمنا هذا الجيش ونحو ذلك، وحينئذ فالرب تبارك وتعالى يتكلم ب"أنا" و"نحن " لما له من العظمة والجلال. وعديد الأسماء والصفات التي لا يحصيها إلا هو وما له من الجود الذين هم عبيده وتحت قهره يديرهم كيف يشاء فهم {عِبَادٌ مُكْرَمُونَ لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ} . كما وصفهم الله في سورة الأنبياء، فهو سبحانه أحق بالتكلم ب"إنا" و"نحن" ونحو ذلك. فنحن إذا نفهم مراد الله بقوله: "إنا"و"نحن" وإن كنا نجهل ما دل عليه ذلك من كيفية صفات الله وحقيقة ذاته المقدسة كما نجهل حقيقة ذوات الملائكة وكيفية صفاتهم، ولا نعلم عددهم ولا كيف يأمرهم الله يفعلون. أما الملك من البشر إذا تكلم ب" إنا" و"نحن" فقد يكون مراده

قوله: وبهذا يتبين أن التشابه يكون في الألفاظ المتواطئة كما يكون في الألفاظ المشتركة التي ليست بمتواطئة، وأن زال الاشتباه بما يميز أحد النوعين، من إضافة أو تعريف، كما إذا قيل: فيها أنهار من ماء. فهناك قد خص هذا الماء بالجنة، فظهر الفرق بينه وبين ماء الدنيا. لكن حقيقة ما امتاز به ذلك الماء غير معلومة لنا. وهو ما أعده الله لعباده الصالحين. مما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، من التأويل الذي لا يعلمه إلا الله. وكذلك مدلول أسمائه وصفاته الذي يختص بها، التي هي حقيقة لا يعلمها إلا هو. ش: يعني بهذه الأمثلة التي تقدمت في بحث " إنا" و"نحن" وبحث الوجود، يتبين أن الاشتباه يكون في الألفاظ المتواطئة _ وهي المتوافقة لفظا ومعنى كما يكون في الألفاظ المشتركة التي ليس بمتواطئ! بل هي مشتركة اشتراك لفظيا فقط. ويزول الاشتباه الحاصل بين الشيئين، ويتميز أحدها عن الآخر بالنص القاطع. النافي للمماثلة ويزول أيضا بالتعريف

والإضافة، فالمضاف إلى الجنة يعرف الفرق بينه وبين حقائق الدنيا بمجرد الإضافة إليها، لأن ما في الجنة أعظم وأكمل مما في الدنيا. وهكذا المضاف إلى الله يعرف الفرق بينه وبين المضاف إلى المخلوق بمجرد الإضافة! لأن صفات العظيم عظيمة. وكذلك التعريف فيحصل الفرق بين المعلوم المعهود وبين نيره بمجرد التعريف بأل وحينئذ فمعاني أسماء الله وصفاته وما أخبر به عن اليوم الأخر معلومة مفهومة من الخطاب وإن كنا نجهل كيفية ذلك، فإن حقائق ما وعد الله به في الآخرة داخلة في قوله تبارك وتعالى في الحديث القدسي: أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، ونجهل حقائق أسماء الله وصفاته، إذ هذا داخل تحت قوله تعالى: {وَمَا يَعْلَمُ تأويلهُ إِلَّا اللَّهُ} .

يزول الاشتباه بكل من الاضافة والتعريف

يزول الاشتباه بكل من الاضافة والتعريف ... قوله: ولهذا كان الأئمة كالإمام أحمد وغيره ينكرون على الجهمية وأمثالهم من الذين يحرفون الكلم عن مواضعه. تأويل ما تشابه عليهم من القرآن على غير تأويله، كما قال أحمد في كتابه الذي صنفه في الرد على الزنادقة والجهمية فيما شكت فيه من متشابه القرآن وتأولته على غير تأويله. وإنما ذمهم لكونه تأولوه على غير تأويله. وذكر في ذلك ما يشتبه عليهم معناه، وأن كان لا يشتبه على غيرهم، وذمهم على أنهم تأولوه على غير تأويله، ولم ينفوا مطلق لفظ التأويل كما تقدم من أن لفظ التأويل يراد به التفسير المبين لمراد الله فذلك لا يعاب بل يحمد. ويراد بالتأويل الحقيقة التي: استأثر الله بعلمها، فذلك لا يعلمه إلا هو، وقد بسطنا هذا في غير هذا الموضع.

ش: ومن آجل أن معاني صفات الله معلومة ومراده بكلامه مفهوم، أنكر الإمام أحمد بن حنبل وعثمان الدار مي وابن خزيمة وأمثالهم من أئمة السنة وسلف الأمة أنكروا على الجهمية وأشباههم من الزنادقة، والمعتزلة تحريفهم لكلام الله عن مواضعه، وتأويلهم ما تشابه عليهم من كلام الله على غير تأويله، وقد صنف الإمام أحمد كتابا في الرد على هؤلاء وسماه الرد على الزنادقة والجهمية فيما شكت فيه من متشابه القرآن وتأولته على مني تأويله، فعاب أحمد عليهم أنهم يفسرون القرآن بغير معناه. ولم يقل أحمد ولا احد من الأئمة أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يكن يعرف معاني آيات الصفات وأحاديثها، ولا قالوا أن الصحابة والتابعين لهم بإحسان لم يعرفوا تفسير القرآن ومعانيه. كيف، وقد أمر الله بتدبر كتابه فقال تعالى: {كِتابٌ أنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آياته} ولم يقل بعض آياته. وقال: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ القرآن} وقال: {فَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ} . وأمثال ذلك من النصوص التي تبين أن الله يحب أن يتدبر الناس القرآن كله، وأنه جعله نورا وهدى لعباده، ومحال أن يكون ذلك مما لا يفهم معناه. وهذا الكتاب مما ألفه الإمام أحمد بن حبل في حبسه، وقد ذكره عنه الحلال في كتاب السنة والقاضي أبو يعلى، وأبو الفضل التيمي، وأبو الوفاء بن عقيل وغير واحد من أصحابه، وقد قال في أوله: "الحمد لله الذي جعل في كل زمان فترة من الرسل بقايا من أهل العلم، يدعون من ضل إلى الهدى ويصبرون منهم على الأذى، يحيون بكتاب الله الموتى ويبصرون بنور الله أهل العمى، فكم من قتيل لإبليس قد أحيوه، وكم من تائه ضال قد هدوه، فما أحسن أثرهم على الناس، وأقبح أثر الناس عليهم! ! ينفون عن كتاب الله تحريف الضالين، وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين، الذين عقدوا ألوية البدعة، وأطلقوا عنان الفتنة، فهم مختلفون في الكتاب، مخالفون للكتاب متفقون على مخالفة الكتاب، يقولون على

الله وفي الله وفي كتاب الله بغير علم، يتكلمون بالمتشابه من الكلام ويخدعون جهال الناس بما يشبهون عليهم، فنعوذ بالله من فتن المضلين. ومما جاء في هذا الكتاب بصدد الرد على الزنادقة فوله "وأما قوله تعالى: {مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصلينَ} وقال في آية أخرى: {فَوَيْلٌ لِلْمُصلينَ} فقالوا: أن الله قد ذم قوما كانوا يصلون فقال: {فَوَيْلٌ لِلْمُصلينَ} وقد قال في قوم أنهم إنما دخلوا النار لأنهم لم يكونوا يصلون فشكوا في القرآن من أجل ذلك وزعموا أنه متناقض. قال: وأما قوله: {فَوَيْلٌ لِلْمُصلينَ} عنى به المنافقين {الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ} حتى يذهب الوقت {الَّذِينَ هُمْ يُرَاؤُونَ} يقول إذا رأوهم صلوا وإذا لم يروهم لم يصلوا، وأما قوله: {مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصلينَ} يعني الموحدين المؤمنين. فهذا ما شكت فيه الزنادقة. وأما قوله. عز وجل: {خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ} ثم قال: {مِنْ طِينٍ لازِبٍ} ثم قال: {مِنْ سُلالَةٍ} ثم قال: {مِنْ حَمَأٍ مَسْنُونٍ} ثم قال: {مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ} فشكوا في القرآن وقالوا هذا ينقض بعضه بعضا. فهذا بدأ خلق آدم، خلقه الله أول بدء من تراب ثم من طينة حمراء وسوداء وبيضاء من طينة طيبة وسبخة، فكذلك ذريته طيب وخبيث، أسود وأحمر وأبيض ثم بل التراب فصار طينا. فذلك قوله: {مِنْ طِينٍ} فلما لصق الطين بعضه ببعض صار طينا لازبا يعني لاصقا ثم قال {مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ} يقول مثل الطين إذا عصر أنسل من بين الأصابع ثم نتن فصار حمأ مسنوناً فخلق من الحمأ فلما صار صلصالا كالفخار. يقول صار له صلصلة الفخار، له دوي كدوي الفخار، فهذا بيان خلق آدم. وأما قوله {مِنْ سُلالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ} فهذا بدء خلق ذريته من سلالة بعني النطفة "مهين ضعيف" فهذا ما شكت فيه الزنادقة. وبصدد الرد على الجهمية جاء في قوله: "باب بيان ما أنكرت الجهمية أن يكون الله على

العرش فقلنا لم أنكرتم أن يكون الله على العرش؟ وقد قال جل ثناؤه: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} وقال {خَلَقَ السَّمَاواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أيامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} وقال: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيراً} فقالوا هو تحت الأرض السابعة كما هو على العرش؟ فهو على العرش، وفي السموات وفي الأرض، وفي كل مكان لا يخلو منه مكان، ولا يكون في مكان دون مكان وتلوا آية من القرآن {وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاواتِ وَفِي الْأَرْضِ} فقلنا قد عرف السلمون أماكن كثيرة ليس فيها من عظم الرب شيء. فقالوا: أي مكان؟ قلنا: أجسامكم وأجوافكم وأجواف الخنازير والحشوش والأماكن القذرة ليس فيها من عظم الرب شيء، قد أخبرنا أنه الله في السماء. فقال {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أن يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أن يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِباً} وقال: {إلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ} وقال: {أني مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ} وقال: {بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ} وقال: {وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاواتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ} وقال: {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ} وقال: {ذِي الْمَعَارِجِ} وقال: {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ} وقال: {وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} . فهذا إخبار الله اخبرنا أنه في السراء ووجدنا كل شيء أسفل منه حيث يقول الله جل ثناؤه هـ: {أن الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ} ، {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنَا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلَّانا مِنَ الْجِنِّ وَالْأنسِ نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا لِيَكُونَا مِنَ الْأَسْفَلِينَ} وقلنا لهم أتعلمون أن إبليس كان مكانه والشياطين مكانهم؟ فلم يكن الله بمجتمع هو وإبليس في مكان واحد؟ وإنما معنى قوله جل ثناؤه: {وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاواتِ وَفِي الْأَرْضِ} يقول: هو إله من في السموات واله من في الأرض، وهو على العرش وقد أحاط بعلمه ما دون العرش ولا يخلو من علم الله مكان، ولا يكون علم الله في مكان دون مكان. فذلك قوله تعالى: {لِتَعْلَمُوا أن اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأن اللَّهَ قَدْ أَحَاَطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً} انتهى.

وحينئذ، فالإمام أحمد بن حنبل وغيره من أئمة السنة لم ينكروا التأويل بالمعنى الذي جاء في الكتاب والسنة وتكلم به سلف الآمة، وهو الكيفية والحقيقة التي يؤول إليها الكلام والتفسير وبيان مراد المتكلم بكلامه فإن هذا لا يذمه أحد من السلف وإنما ذمهم منصب على تأويلات الزنادقة وطوائف الابتداع "حيث حرفوا كلام الله عن مواضعه وصرفوا النص عن معناه إلى غير معناه بغير دليل يوجب ذلك. وقد بسط المؤلف الكلام على هذه المسألة في غير هذه الرسالة ككتابه "موافقة مريح المعقول لصحيح المنقول " كما أنه رحمه الله قد ذكر في أول هذه القاعدة انقسام التأويل إلى ثلاثة أقسام بحسب تعدد الاصطلاحات وبين أن تأويل أهل التحريف والبدع هو الذي حصل في الكلام من حيث الذم والبطلان.

اضطراب مقالة الطائفة التي تنفي التأويل وتستدل على بطلانه بقوله تعالى: {وما يعلم تأويله إلا الله}

اضطراب مقالة الطائفة التي تنفي التأويل وتستدل على بطلانه بقوله تعالى: {وما يعلم تأويله إلا الله} ... قوله: ومن لم يعرف هذا، اضطربت أقواله، مثل طائفة يقولون أن التأويل باطل، وأنه يجب إجراء اللفظ على ظاهره، ويحتجون بقوله تعالى: {وَمَا يَعْلَمُ تأويلهُ إِلَّا اللَّهُ} ويحتجون بهذه الآية على إبطال التأويل، وهذا تناقض منهم، لأن هذه الآية تقتضي أن هناك تأويلا لا يعلمه إلا الله، وهم ينفون التأويل مطلقا. وجهة الغلط أن التأويل الذي استأثر الله بعلمه هو الحقيقة التي لا يعلمها إلا هو. وأما التأويل المذموم والباطل: فهو تأويل أهل التحريف والبدع، الذين يتأولونه على غير تأويله ويدعون صرف اللفظ عن مدلوله إلى غير مدلوله بغير دليل يوجب ذلك، ويدعون أن في ظاهره من المحذور ما هو نظير المحظور اللازم فيما أثبتوه بالعقل، ويصرفونه إلى معان هي نظير المعاني الق نفوها عنه، فيكون ما نفوه من جنس ما أثبتوه، فإن كان الثابت حقا عكنا كان المنفي مثله، وأن كان المنفي باطلا ممتنعا كان الثابت مثله.

ش: المعنى أن من لم يعرف أقسام التأويل ولم يميز صحيحها من فاسدها تناقض في أقواله واضطرب في مقالاته، مثل طائفة من الجهمية والمفوضة تقول: أن التأويل باطل وأنه يجب إجراء اللفظ على ظاهره وتقول: التأويل باطل بدليل قوله تعالى {وَمَا يَعْلَمُ تأويلهُ إِلَّا اللَّهُ} فقد تناقضت هذه الطائفة من جهتين أولا من جهة قولها ببطلان التأويل مع قولها يجب إجراء اللفظ على ظاهره، فإن الجملة الأولى تعني أنه ليس له معنى مفهوم. والجملة الثانية تعني أن ما يسبق إلى العقل ويتبادر إلى الفهم من اللفظ هو مراد اله بكلامه. ثانيا: قولهم ببطلان التأويل فإنه يتنافى مع استدلالهم بآية آل عمران فإن الآية الكريمة تبين أن له تأويلا ولكن هذا التأويل لا يعلمه إلا الله وهم ينفون التأويل بجميع معانيه وجهة غلطهم أنهم لم يفهموا تأويل الشيء بمعنى حقيقته وتأويله بمعنى تفسيره وإنما يعرفون التأويل الذي هو صرف النص من مدلوله إلى غير مدلوله بغير دليل يوجب ذلك فظنوا أن قوله تعالى: {وَمَا يَعْلَمُ تأويلهُ إِلَّا اللَّهُ} يراد به هذا المعنى، وهذا غلط فاحش! فإن هذا التأويل من باب تحريف الكلم عن مواضعه، فهو من جس تأويل القرامطة والباطنية وهو التأويل الذي اتفق سلف الآمة وأثمتها على ذمه وصاحوا بأهله من أقطار الأرض ورموا في آثارهم بالشهب وبهذا يتبين أن القول في بعض صفات الله كالقول في سائرها، وأن القول في صفاته كالقول في ذاته فمن نفى النزول والاستواء أو الرضا والغضب أو العلم والقدرة، أو اسم العليم أو القدير، أو الوصف بالوجود، فرارا بزعمه من التشبيه والتركيب والتجسيم لزمه فيما أثبته نظر ما ألزمه لغيره فيما نفاه هو وأثبته المثبت، وكل ما استدل به على نفى النزول والاستواء والرضا والغضب أمكن منازعة أن يتدلى بنظيره على نفى

الإرادة والسر والبصر والقدرة والعلم وكل ما استدل به على نفى القدرة والعلم والسمع والبصر، أمكن منازعة أن يتدل بنظيره على نفى العليم والقدير والسميع والبصير وكل ما استدل به على نفى هذه الأسماء يمكن منازعة أن يتدل به على نفي الموجود والواجب. والحاصل أن ما نفوه هو من جنس ما أثبتوه من حيث لزوم المحذور أو عدم لزومه، فإن كان المعنى المصروف إليه حقا ممكنا لا يقتضى تشبيها فالمعنى المصروف عنه حق ثابت لا يقتضى تشبيها، وأن كان المصروف عنه باطلا ممتنعا يقتضى تشبيها فالمعنى المصروف إليه مثله. قوله: وهؤلاء الذين ينفون التأويل مطلقا، ويحتجون بقوله تعالى: {وَمَا يَعْلَمُ تأويلهُ إِلَّا اللَّهُ} قد يظنون أنا خوطبنا في القرآن بما لا يفهمه احد، أو بما لا معنى له، أو بما لا يفهم منه شيء. وهذا مع أنه باطل فهو متناقض، لأنا إ ذا لم نفهم منه شيئا لم يجز لنا أن نقول له تأويل يخالف الظاهر ولا يوافقه، لا مكان أن يكون له معنى صحيح، وذلك المعنى الصحيح لا يخالف الظاهر المعلوم لنا، فإنه لا ظاهر له على قولهم فلا تكون دلالته على ذلك المعنى دلالة على خلاف الظاهر، فلا يكون تأويلا. ولا يجوز نفي دلالته ملى معان لا نعرفها على هذا التقدير. فإن تلك المعان التي دل عليها قد لا تكون عارفين بها، ولأنا إذا لم نفهم اللفظ ومدلوله فلان لا نعرف المعاني التي لم يدل عليها اللفظ أولى، لأن إشعار اللفظ بما يراد به أقوى من إشعاره بما لا يراد به! فإذا كان اللفظ لا إشعار له بمعنى من المعاني ولا يفهم منه معنى أصلا لم يكن مشعرا بما أريد به، فلان لا يكون مشعرا بما لم يرد به أولى

فلا يجوز أن يقال: أن هذا اللفظ مؤول بمعنى أنه مصروف عن الاحتمال الراجح إلى الاحتمال المرجوح، فضلا عن أن يقال: أن هذا التأويل لا يعلمه لم لا الله. اللهم إلا أن يراد بالتأويل ما يخالف ظاهره المختص بالخلق. فلا ريب أن من أراد بالظاهر هذا لابد وأن يكون له تأويل يخالف ظاهره. لكن إذا قال هؤلاء: أنه ليس لها تأويل يخالف الظاهر، أو أنها مجرى على المعاني الظاهرة منها كانوا متناقضين، وأن أرادوا بالظاهر هنا معنى، في هناك معنى، في سياق واحد من غير بيان كان تلبيسا. وأن أرادوا بالظاهر مجرد اللفظ. أي تجرى على مجرد اللفظ. الذي يظهر من غير فهم لمعناه كان إبطالهم للتأويل أو إثباته تناقضا، لأن من أثبت تأويلا أو نفاء فقد فهم معنى من المعاني. وبهذا التقسيم يتبين تناقض كثير من الناس من نفاة الصفات ومثبتيها في هذا الباب. ش: الإشارة راجعة إلى الطائفة التي اضطربت وتناقضت بسبب عدم معرفة التأويل وعدم تمييز صحيحه من فاسده، ولهذا نعتها المؤلف بقوله: الذين ينفون التأويل مطلقا ويحتجون بقوله: {وَمَا يَعْلَمُ تأويلهُ إِلَّا اللَّهُ} وإذاً فمراد المؤلف أنه يلزم على قول هذه الطائفة أن يكون الرسول لا يعرف معنى ما أنزل إليه من هذه الآيات، ولا أصحابه يعلمون معنى ذلك، بل لازم قولهم: أنه صلى الله عليه وسلم لم يكن يعرف معنى ما تكلم به من أحاديث الصفات، بل يتكلم بكلام لا يعرف معناه. ولاشك في بطلان ظنهم وفساد لوازم قولهم، فالرسول صلى الله عليه وسلم ومتبعوه منزهون عن ذلك، بل مات صلى الله عليه وسلم وقد تركنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك.

والحاصل أنه يلزم من قال هذه المقالة احد ثلاثة لوازم إما أنا خوطبنا في القرآن بما لا يفهمه أحد لا جبريل الذي نزل به من عند الله، ولا الرسول الذي نزل عليه وحي الله ولا الصحابة الذين تلقوا الوحي عن رسول الله. والثاني: أنا خوطبنا في القرآن بما لا معنى له أصلا، بل هي ألفاظ جوفاء مجردة من المعاني. والثالث: أنا خوطبنا في القرآن بما لا نفهم منه شيئا بل هو عبارة عن ألغاز ورموز لا نفهمها. والقول بنفي التأويل والاستدلال على نفيه بالآية وما يلزم عليه من لوازم قول باطل ومع بطلانه فهو متناقض. وقد بين المؤلف وجه التناقض بأمرين: أحدهما: قوله لأنا إذا لم نفهم منه شيئا لم يجز لنا أن نقول له تأويل يحالف الظاهر ولا يوافقه ثم بين وجه ذلك بقوله لإمكان أن يكون له معنى صحيح لا يخالف المعنى المعلوم لنا ثم قال فإنه لا ظاهر له على قولهم فلا تكون دلالته على ذلك المعنى الذي يزعمونه دلالة على خلاف الظاهر. فهم يقولون: التأويل باطل! وهذا يعني أنه لا تأويل له، وحينئذ لا يجوز أن يكون دالاً على معان لا نعرفها على تقدير نفي التأويل لأنا والحالة هذه لا نكون عالمين بمعنى من المعاني أصلاً. والأمر الثاني: ذكره بقوله "ولأنا إذا لم نفهم اللفظ ومدلوله فلان لا نفهم ما لا يدل عليه اللفظ أولى" ثم شرح ذلك بقوله "لأن إشعار اللفظ بما يراد به أقوى من إشعار بما لا يراد به ". وحينئذ فلا يجوز أن يقال إذ هذا اللفظ مصروف عن المعنى الراجح إلى المعنى المرجوح، فإنه لا معنى له أصلاً حيث لم يشعر اللفظ بشيء ولا يقال أيضاً بطريق الأولى: له تأويل لا يعلمه إلا الله لا مكان أن يكون المعنى الظاهر المعلوم لنا بمقتضى اللفظ هو المراد، وحيث قالوا نريد

بالظاهر ما يماثل صفات المخلوقين فنصرف النص عن هذا المعنى إلى المعنى اللائق بالله. قيل لهم: لاشك أن النصوص ليست دالة على هذا الظاهر، بل ظاهرها السابق إلى العقل والمتبادر إلى الفهم هو إثبات صفات الله اللائقة به، وليست مماثلة لصفات خلقه، وحينئذ فلها تأويل يخالف هذا المعنى الذي تزعمون أنه ظاهرها. لكن إذا قالت هذه الطائفة: التأويل باطل، وللنصوص تأويل يخالف ظاهرها، أو قالت: التأويل باطل، وتجرى النصوص على ظاهرها كانت بهذا القول متناقضة، ووجه ذلك أن قولهم: التأويل باطل، معناه ليس للنصوص تأويل يخالف الظاهر ولا يوافقه. وقولهم: لها تأويل يخالف الظاهر معناه أنهم يثبتون أن لها تأويلا. وقولهم تجرى على ظاهرها، معناه إثبات تأويل لها فلا يتفق مع قولهم: التأويل باطل لأن مدلول هذه الكلمة نفي دلالة اللفظ على معنى من المعاني. وحيث قالوا نريد بالظاهر في قولنا للنصوص تأويلا يخالف الظاهر. نريد بالظاهر هنا ما يماثل صفات المخلوقين، وفي قولنا: ليس لها تأويل يخالف الظاهر أو تجرى النصوص على ظاهرها. نريد بالظاهر هنا المعنى اللائق بالله حين يقولون هذه المقالة في سياق واحد من غير بيان وإيضاح لمرادهم بكلمة الظاهر في الموضعين كان هذا منهم تدليسا على السامع لأنهم ينفون التأويل مطلقا. وهذا يعني أنه ليس لها معنى يوافق الظاهر أو يخالفه، وحيث قالوا نريد بالظاهر في قولنا، تجرى على ظاهرها مجرد اللفظ من غير أن يفهم منه معنى كانوا متناقضين لأن قولهم: تجرى على ظاهرها، معناه أنهم حكموا بأن لها معنى. كم أن قولهم: لها تأويل يخالف الظاهر حكم منهم بإثبات معنى من المعاني.

الإشارة إلى مراجع الكتاب

الإشارة إلى مراجع الكتاب ... وبهذا. يتضح أن فول هذه الطائفة في غاية البطلان والتناقض والفساد، وبتقسيم التأويل إلى ثلاثة أقسام، ومعرفة الصحيح منها من الفاسد يتبين تناقض نفاة الصفاة كالجهمية والمعتزلة، ومثبتي بعضها كالأشاعرة "في باب الأسماء والصفات ". إلى هنا تم الجزء الأول من التحفة المهدية، شرح الرسالة التدمرية ويليه الجزء الثاني أن شاء الله، وأوله القاعدة السادسة هذا وليعلم الناظر في هذا الشرح أنني قد نقلت تراجم الأعلام من تذكرة الحفاظ للذهبي ووفيات الأعيان لابن خلكان، ومنها شيء يسير من سواهما. كما أنني أيضا في غير التراجم قد أنقل بعض الكلام بنصه دون أن اعزوه إلى صاحبه. وذلك طلبا للاختصار من ناحية ومن ناحية أخرى ليحصل الربط المنسجم بين بعض الكلام والبعض الآخر. وفي الجزء الثاني سأذكر المراجع بإذن الله تعالى علما بأن معظم هذه المراجع إنما هو كتب صاحب المتن رحمة الله عليه. والله جل وعلا هو الموفق والهادي إلى سواء السبيل.

المجلد الثاني

المجلد الثاني الاعتماد على الاثبات المجرد عن نفي التشبيه طريقة المشبهة ... قوله: القاعدة السادسة إن لقائل أن يقول لابد في هذا الباب من ضابط يعرف به ما يجوز على الله مما لا يجوز في النفي والإثبات إذ الاعتماد في هذا الباب على مجرد نفي التشبيه أو مطلق الإثبات من غير تشبيه ليس بسديد, وذلك أنه ما من شيئين إلا بينهما قدر مشترك وقدر مميز. فالنافي إن اعتمد فيما ينفيه على أن هذا تشبيه قيل له: إن أردت أنه مماثل له من كل وجه. فهذا باطل. وإن أردت أنه مشابه له من وجه دون وجه أو مشارك له في الاسم. لزمك هذا في سائر ما تثبته. ش: يقول الشيخ بعد ما سبق من البحث مع طوائف المبتدعة ومناقشتهم إذا سأل أحدا من الناس قائلا ما هو الأصل الذي يعتمد عليه في باب الأسماء والصفات قيل له: لك إن تسأل هذا السؤال وجوابنا عليه هو أن هناك أصلا يعتمد عليه وضابطا يركن إليه وهو الكتاب والسنة فما جاء في القران أو صحت به الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من صفات الله ونفي المثيل عنه فهو المعتمد, إما الاعتماد على النفي المجرد عن الإثبات كما هي طريقة المعطلة فلا يكفي, وكذلك الاعتماد على الإثبات المجرد عن نفي التشبيه كما هي طريقة المشبهة فلا يكفي, بل هذا قول فاسد ورأي ليس بسديد, فإنه ما من شيئين إلا وبينهما قدر مشترك "هو المعنى العام" وقدر مميز هو ما يختص به كل منهما وقد سبق الكلام على هذه المسألة: وحينئذ إذا قال المعطل إثبات الصفات يقتضي تشبيه الله بخلقه: قيل له إن أردت أن إثبات الصفات يقتضي تشبيه الله بخلقه: قيل له إن أردت أن إثبات الصفات تقتضي المشابهة من كل وجه فهذه دعوى غير صحيحة، وإن أردت أن المشابهة تحصل من وجه هو الاتفاق في الاسم وفي المعنى العام دون وجه هو ما يمتاز به أحدهما عن الآخر فيجب أن تقول هذا في سائر أسماء الله وصفاته. وهذا الإلزام شامل للأشاعرة والمعتزلة والجهمية، فإن

الجميع ينفون شيئا ثابتا بينما يثبتون شيئا يلزمهم فيه نفس المحذور الذي فروا منه كما تقدم. وسبيل المؤمنين في الاعتقاد هو الإيمان بصفات الله تعالى وأسمائه التي وصف بها نفسه وسمى بها نفسه في كتابه أو على لسان رسوله من غير زيادة عليها أو نقص منها.

معنى التشبيه عند المعطلة

معنى التشبيه عند المعطلة ... قوله: وأنتم إنما أقمتم الدليل على إبطال التشبيه والتماثل الذي فسرتموه بأنه يجوز على أحدهما ما يجوز على الآخر ويمتنع عليه ما يمتنع عليه، ويجب له ما يجب له، ومعلوم أن إثبات التشبيه بهذا التفسير مما لا يقوله عاقل يتصور ما يقول، فإنه يعلم بضرورة العقل امتناعه، ولا يلزم من هذا نفي التشابه من بعض الوجوه كما في الأسماء والصفات المتواطئة ولكن من الناس من يجعل التشبيه مفسر بمعنى من المعاني. ثم إن كل من أثبت ذلك المعنى قالوا إنه مشبه ومنازعهم يقول ذلك المعنى ليس من التشبيه. ش: يعني أنه يقال لمن نفى الصفات زاعما أن إثباتها يقتضي التشبيه يقال له بالإضافة إلى ما سبق أنكم معشر النفاة قد أقمتم البرهان على نفي التشبيه الذي مقتضاه أنه يجب لله ما يجب للمخلوق ويجوز عليه ما يجوز عليه ويمتنع عليه ما يمتنع عليه، ولا شك أن التشبيه بهذا التفسير مما لا يقوله عاقل يتصور ما يقول. لفساده ووضوح بطلانه. ولكن إثبات الصفات مع نفي مماثلة الله للمخلوقات ليس من هذا القبيل، وحينئذ فاتفاق الخالق والمخلوق في الاسم وفي المعنى العام لا يقتضي تشبيها ولكن المعطلة اصطلحوا على تسمية تعطيلهم توحيدا، وتسمية توحيد المرسلين تشبيها، فيقال لهؤلاء المدلسين الملبسين على أمثالهم: المحذور الذي نفاه العقل والشرع والفطرة وأجمعت الأنبياء على بطلانه هو أن يكون مع الله آلهة أخرى أو أن يكون لله مثيل أو ند لا أن يكون إله العالمين الواحد القهار حيا قيوما سميعا بصيرا متكلما آمرا ناهيا فوق عرشه له الأسماء الحسنى والصفات الكاملة العليا.

المحذور الذي نفته الأدلة هو أن يكون لله شريك أو مثيل

المحذور الذي نفته الأدلة هو أن يكون لله شريك أو مثيل ... قوله: وقد يفرق بين لفظ التشبيه والتمثيل وذلك أن المعتزلة ونحوهم من نفاة الصفات يقولون: كل من أثبت لله صفة قديمة فهو مشبه ممثل، فمن قال: بأن لله علما قديما أو قدرة قديمة كان عندهم مشبها ممثلا لأن القديم عند جمهورهم هو أخص وصف الإله، فمن أثبت له صفة قديمة فقد أثبت لله مثلا قديما ويسمونه ممثلا بهذا الاعتبار، ومثبتة الصفات لا يوافقونهم على هذا بل يقولون أخص وصفه ما لا يتصف به غيره مثل كونه رب العالمين، وأنه بكل شيء عليم، وأنه على كل شيء قدير وأنه إله واحد ونحو ذلك، والصفة لا توصف بشيء من ذلك. ش: التشابه ليس هو التماثل في اللغة، فتشبيه الشيء بالشيء يكون لمشابهته له من بعض الوجوه، وذلك لا يقتضى التماثل الذي يوجب أن يشتركا فيما يجب ويجوز ويمتنع، فإذا قيل هذا حي عليم قدير وهذا حي عليم قدير فقد تشابها في مسمى الحي والعليم والقدير ولم يوجب ذلك أن يكون هذا المسمى مماثلا لهذا المسمى من كل وجه، فهناك ثلاثة أشياء: أحدها: القدر المشترك الذي تشابها فيه وهو معنى كلي لا يختص به أحدهما. والثاني: ما يختص به الرب من الحياة والعلم والقدرة وسائر صفاته. والثالث: ما يختص به العبد في الحياة والعلم والقدرة ونحو ذلك فما اختص به الرب عز وجل لا يشركه فيه العبد ولا يجوز عليه شيء من النقائص التي تجوز على صفات العبد وما يختص به العبد لا يشركه فيه الرب ولا يستحق شيئا من صفات الكمال التي يختص بها الرب عز وجل. وأما القدر المشترك "وهو المعنى الثابت في ذهن الإنسان" فهذا لا يستلزم خصائص الخالق ولا خصائص المخلوق فالمماثلة تقتضي المساواة من كل

وجه بخلاف المشابهة، وقد يعبر بأحدهما عن الآخر. ولهذا عبر المؤلف بقوله: وقد يفرق بين لفظ التشبيه والتمثيل. والمعتزلة والجهمية ونحوهم اصطلحوا على تسمية إثبات أسماء لله وصفاته تشبيها وتمثيلا. ولذلك قالت المعتزلة: إن أخص وصف الرب هو القدم، وأن ما شاركه في القدم فهو مثله، فإذا أثبت له صفة قديمة لزم التشبيه وكل من أثبت صفة قديمة فهو مشبه. وقوله ونحوهم: يعنى كالجهمية فإنهم قالوا نحن نثبت قديما واحدا ومثبتو الصفات يثبتون عدة قدماء قالوا: والنصارى أثبتوا ثلاثة قدماء مع الله تعالى فكفرهم. فكيف من أثبت سبعة قدماء أو أكثر. قال الشيخ: فانظر إلى هذا التدليس والتلبيس الذي يوهم السامع أنهم أثبتوا قدماء مع الله تعالى وإنما أثبتوا قديما واحدا بصفاته، وصفاته داخلة في مسمى اسمه كما أنهم إنما أثبتوا إلها واحدا ولم يجعلوا كل صفة من صفاته إلها بل هو الإله الواحد بجميع أسمائه وصفاته. وقول الطائفتين متلقى من عباد الأصنام المشركين بالله تعالى المكذبين لرسوله حيث قالوا يدعو محمد إلها واحدا ثم يقول يا الله يا سميع يا بصير فيدعو آلهة متعددة وقد أنزل الله في الرد عليهم: {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيّاً مَا تَدْعُوا فَلَهُ الأسماء الْحُسْنَى} والمعنى أي اسم دعوتموه به فإنما دعوتم المسمى بذلك الاسم فالمعتزلة إذا نفوا الصفات بناء على أنها قديمة والقدم عند أكثرهم أخص أوصاف الإله فحيث أثبتت الصفات صارت مثلا له وكلا الرأيين باطل، فإن أخص أوصافه سبحانه ما لا يتصف به سواه ككونه رب العالمين وعلى كل شيء قدير وبكل شيء عليم وكونه الغني عما سواه والصفة لا تتصف بهذه الخصائص. والصفة لا تكون مثلا للموصوف إذ الموصوف هو الذات القائمة بنفسها والصفة قائمة بها والقائم بغيره لا يكون مثل القائم بنفسه. قال الشيخ وإذا كانت صفة النبي المحدث موافقة له في الحدوث ولم يلزم أن تكون نبيا مثله فكذلك صفة الرب اللازمة له إذا كانت قديمة بقدمه لم يلزم أن تكون إلها مثله. فالمعتزلة مذهبهم نفي صفاته اللازمة لذاته وشبهتهم أنها لو كانت قديمة لكان القديم أكثر من وأحد. وهذا تلبيس فليس

بواجب أن تكون صفة الإله إلها. كما أن صفة الإنسان ليست إنسانا ولا صفة النبي نبيا ولا صفة الحيوان حيوانا. فلفظ القديم فيه إجمال فإذا أريد به القائم بنفسه، والفاعل القديم أو الرب القديم ونحو ذلك. فالصفة ليست قديمة بهذا الاعتبار بل هي صفة القديم وإذا أريد ما لا ابتداء له أو ما لم يسبقه عدد مطلقا فالصفة قديمة.

من الصفاتيه من لا يصف الصفات بالقدم

من الصفاتيه من لا يصف الصفات بالقدم ... قوله: ثم من هؤلاء الصفاتية من لا يقول في الصفات أنها قديمة بل يقول. الرب بصفاته قديم. ومنهم من يقول هو قديم، وصفته قديمة، ولا يقول هو وصفاته قديمان. ومنهم من يقول هو وصفاته قديمان ولكن يقول ذلك لا يقتضي مشاركة الصفة له في شيء من خصائصه. فإن القدر ليس من خصائص الذات المجردة بل من خصائص الذات الموصوفة بصفات وإلا فالذات المجردة لا وجود لها عندهم فضلا عن أن تختص بالقدر والصفات متصفة بالقدر. وليست الصفات إلها ولا ربا كما أن النبي صلى الله عليه وسلم محدث وصفاته محدثة، وليست صفاته نبيا. ش: بعد أن فرغ المؤلف من ذكر شبهة المعتزلة في نفيهم الصفات, وأنهم فروا من ذلك خشية أن يثبتوا قديما مع الله، بين رأي المثبتين في وصف الصفة بالقدم فذكر أن منهم من لا يصف الصفة وإنما يصف الرب بذاته وصفاته بأنه قديم: أما الصفة وحدها فيتحاشا من وصفها به لا شعار ذلك بانفصال الصفة عن الموصوف، ومنهم من لا يرى بأسا بوصف الصفة بالقدم كما يوصف الرب بالقدم مع العلم بأن قدم الصفة تابع لقدم الموصوف، ولكن هذا الصنف يتحاشا من وصف الرب وصفاته بالقدم بصيغة التثنية: فلا يقول الرب وصفاته قديمان لإشعار التثنية بشيء من استقلال أحد المثنيين عن الآخر ولكن يقول الرب قديم وصفته قديمة

، ومنهم من لا يرى من قوله الرب وصفاته قديمان بصيغة التثنية لأن الصفة قديمة بقدم الموصوف وليست مثلا له. وطائفة من المثبتة كابن كلاب لا تقول في الصفات وحدها بأنها قديمة حتى لا تقول بتعدد القدماء بل تقول الله بصفاته قديم كما أن القدم ليس من خصائص الذات المجردة عن الصفات لا وجود لها فضلا عن أن يكون القدم من خصائصها، وقد يقول هذا الصنف الذات متصفة بالقدم والصفة متصفة بالقدم والجميع يعلمون أن الذات المجردة عن الصفات لا وجود لها كما يعلمون أن صفة الذات لا تكون مثلا لها فالقدم يوصف به الله وليس القدم إلها ولا ربا, وكمثال على ذلك ذكر المؤلف أن النبي صلى الله عليه وسلم يوصف بأنه مخلوق محدث وصفاته مخلوقة محدثة وليست صفاته نبيا.

اصطلاح المعتزلة والجهمية في مسمى التشبيه

اصطلاح المعتزلة والجهمية في مسمى التشبيه ... قوله: فهؤلاء إذا أطلقوا على الصفاتية اسم التشبيه والتمثيل كان هذا بحسب اعتقادهم الذي ينازعهم فيه أولئك ثم يقول لهم أولئك: هب أن هذا المعنى قد يسمى في اصطلاح بعض الناس تشبيها فهذا المعنى لم ينفه عقل ولا سمع وإنما الواجب نفي ما نفته الأدلة الشرعية والعقلية، والقرآن قد نفى مسمى المثل والكفء والند ونحو ذلك ولكن يقولون الصفة في لغة العرب ليست مثل الموصوف ولا كفأه ولا نده فلا يدخل في النص. وأما العقل فلم ينف مسمى التشبيه في اصطلاح المعتزلة. ش: الإشارة في قوله فهؤلاء راجعة إلى المعتزلة ونحوهم، والإشارة في قوله أولئك راجعة إلى أهل السنة والجماعة والأشاعرة أيضا فإن الجميع يطلق عليهم لفظ الصفاتية نسبة إلى الصفات فأهل السنة صفاتية

لإثباتهم جميع الصفات والأشاعرة صفاتية بالنسبة لإثباتهم بعضها، والجميع خصوم للمعتزلة والجهمية، والمعنى أن المعتزلة والجهمية إذا أطلقوا على إثبات الصفات اسم التشبيه والتمثيل كان هذا الإطلاق حسب اعتقادهم الذي ينازعهم فيه المثبتون ثم يقول لهم المثبتون: افرضوا أيها النفاة أن إثبات حقائق الأسماء والصفات لله سبحانه قد يسمى في اصطلاحكم تشبيها لله بخلقه، فهذا المعنى لم ينفه دليل صحيح أو عقل صريح، والواجب نفي ما نفاه الكتاب والسنة وإثبات ما أثبته الكتاب والسنة وقد ورد في النصوص الكفء والند والمثل لله، والصفات التي وصف بها الرب نفسه أو وصفه بها رسوله ليست كفؤا له ولا مثلا ولا ندا, فلا تدخل فيما نفته النصوص، فليس في لغة العرب تسمية صفة الموصوف كفؤا أو ندا أو مثلا له، ثم إن العقل الصريح الخالي من لوثة الإلحاد وأمراض الشبه لم ينف أسماء الله وصفاته التي سمت المعتزلة والجهمية إثباتها تشبيها، قال الشيخ: إذا علم الرجل بالعقل أن محمدا رسول الله وعلم أنه أخبر بشيء ووجد في عقله ما ينازعه في خبره كان عقله يوجب عليه أن يسلم موارد النزاع إلى من هو أعلم به منه وأن لا يقدم رأيه على قوله ويعلم أن عقله قاصر بالنسبة إليه وأنه أعلم بالله تعالى وأسمائه وصفاته واليوم الآخر منه، وأن التفاوت الذي بينهما في العلم بذلك أعظم من التفاوت الذي بين العامة وأهل العلم بالطب فإذا كان عقله يوجب أن ينقاد لطبيب يهودي فيما أخبره به من مقدرات الأغذية والأشربة والأضمدة والمسهلات واستعمالها على وجه مخصوص مع ما في ذلك من الكلفة والألم لظنه أن هذا أعلم بهذا منه وأنه إذا صدقه كان ذلك أقرب إلى حصول الشفاء له مع علمه بأن الطبيب يخطئ كثيرا وإن كثيرا من الناس لا يشفى بما يصفه الطبيب بل قد يكون استعماله لما يصفه سببا في هلاكه ومع هذا يقبل قوله ويقلده وإن كان ظنه واجتهاده قد يخالف وصفه، فكيف حال الخلق مع الرسل عليهم الصلاة والسلام؟، والرسل صادقون مصدقون لا يجوز أن يكون خبرهم على خلاف ما أخبروا به قط، وأن الذين يعارضون

أقوالهم بعقولهم عندهم من الجهل والضلال ما لا يحصيه إلا ذو الجلال فكيف يجوز أن يعارض ما لم يخطئ قط بما لم يصب في معارضته له قط؟.

فساد القول بتماثل الأجسام

فساد القول بتماثل الأجسام ... قوله: وكذلك أيضا يقولون إن الصفات لا تقوم إلا بجسم متحيز والأجسام متماثلة فلو قامت به الصفات للزم أن يكون مماثلا لسائر الأجسام وهذا هو التشبيه. ش: يعنى وبالإضافة إلى الشبهة السابقة وهي أن إثبات صفة قديمة لله يلزم منه إثبات مثيل له بالإضافة إلى هذه الشبهة تقول المعتزلة والجهمية: إن الصفات كالحياة والعلم والقدرة والاستواء والعلو والمحبة والرضا لا تقوم إلا بجسم متحيز والأجسام متماثلة فلو أثبتنا لله الصفات للزم أن يكون جسما متحيزا وهذا هو التشبيه. هذا هو تقرير شبهتهم والجواب أن يقال أولا: ما تعنون بالمتحيز هل تعنون به المباين لغيره أم تقصدون به الداخل في الأحياز بحيث تحيط به إحاطة الظرف بالمظروف، فإن عنيتم الأول فهذا المعنى ثابت لله فهو فوق سمواته عال وعلى عرشه مباين لخلقه وإن عنيتم الثاني فالله أعظم وأجل من أن يحوزه شيء من مخلوقاته قال تعالى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأرض جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سبحانه وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} . ويقال لهم ثانيا: ما تعنون بالجسم أتعنون به الذات التي تمكن رؤيتها بالأبصار وتصح الإشارة إليها وتتصف بالحياة والسمع والبصر والوجه واليدين والاستواء ونحو ذلك من الصفات أم تعنون به ما كان مركبا من المادة والصورة أو ما كان مركبا من الجواهر الفردة، فإن عنيتم الأول فهو حق وإن عنيتم الثاني فهو باطل وقد سبق بيان هذا عند الكلام على القاعدة الثانية. ويقال لهم ثالثا: قولكم بأن الأجسام متماثلة دعوى غير صحيحة,

فمن المعلوم أن الموجودين إذا اشتركا في أن هذا قائم بنفسه لم يكن أحدهما مثلا للأخر وإذا اشتركا في أن هذا لون وهذا لون وهذا طعم وهذا طعم وهذا عرض وهذا عرض لم يكن أحدهما مثلا للآخر، فإذا اشتركا في أن لهذا مقدارا ولهذا مقدارا ولهذا حيزا ومكانا ولهذا حيزا ومكانا كان أولى أن لا يوجب هذا تماثلهما لأن الصفة للموصوف أدخل في حقيقته من القدر للمقدر والمكان للمتمكن والحيز للمتحيز، فإذا كان اشتراكهما فيما هو أدخل في الحقيقة لا يوجب التماثل, فاشتراكهما فيما هو دونه أولى بعدم التماثل، قال الشيخ: فإنا نعلم أن النار والثلج والتراب والخبز والإنسان والشمس والفلك وغير ذلك كلها مشتركة في أنها متحيزة ممتدة في الجهات كما أنها مشتركة في أنها موصوفة بصفات قائمة بها وفي أنها حاملة لتلك الصفات، وما به افترقت وامتاز بعضها عن بعض أعظم مما فيه اشتركت، فالصفات الفارقة بينها الموجبة لاختلافها ومباينة بعضها لبعض أعظم مما يوجب تشابهها ومناسبة بعضها لبعض.

معنى الأفعال الاختيارية

معنى الأفعال الاختيارية ... قوله: وكذلك يقول هذا كثير من الصفاتية الذين يثبتون الصفات. وينفون علوه على العرش وقيام الأفعال الاختيارية به ونحو ذلك، ويقولون الصفات قد تقوم بما ليس بجسم وأما العلو على العالم فلا يصح إلا إذا كان جسما، وحينئذ فالأجسام متماثلة فيلزم التشبيه. فلهذا تجد هؤلاء يسمون من أثبت العلو ونحوه مشبها ولا يسمون من أثبت السمع والبصر والكلام ونحوه مشبها كما يقول صاحب الإرشاد وأمثاله. وكذلك يوافقهم على القول بتماثل الأجسام القاضي أبويعلى وأمثاله من مثبتة الصفات والعلو لكن هؤلاء يجعلون "العلو" صفة خبرية كما هو أول قولي القاضي أبي يعلى. فيكون الكلام فيه كالكلام في الوجه. وقد يقولون إن ما يثبتونه لا ينافي الجسم كما يقولونه في سائر الصفات، والعاقل إذا تأمل وجد الأمر فيما نفوه كالأمر فيما أثبتوه لا فرق.

ش: يعني ومثل المقالة السابقة للمعتزلة والجهمية قول كثير من مثبتة بعض الصفات كالأشاعرة فإنهم هم المراد بالصفاتية هنا فهؤلاء يسمون إثبات ماعدا الصفات السبع تشبيها. كما يقولون ذلك في العلو والاستواء ونحوه من الصفات الاختيارية ويقولون الصفات التي نثبتها يمكن قيامها بغير جسم وأما العلو والاستواء ونحوه فلا يمكن أن يتصف بها إلا ما هو جسم وهذا معنى قول المؤلف ولهذا تجد هؤلاء يسمون من أثبت العلو ونحوه يعني كالاستواء مشبها، ولا يسمون من أثبت السمع والبصر والكلام ونحوه يعني كالعلم والقدرة والإرادة والحياة مشبها. ويقولون إثبات هذه الصفات يلزم منه الجسمية والأجسام متماثلة فنفوا تلك الصفات بناء على هذا الزعم. والقاضي أبو يعلى يوافق النفاة في القول بتماثل الأجسام وإن كان يثبت صفة العلو لكنه وأمثاله يقولون إن العلو من الصفات السمعية، فهو كالوجه والعينين واليدين، وهؤلاء الأشاعرة قد يقولون بأن الصفات السبع لا تنافي الجسمية وإن كان الاتصاف بها غير مستلزم لذلك. والعاقل إذا تدبر الأمر وجد الباب وأحدا وأن الكلام فيما أثبتوه وهو الصفات السبع من جنس الكلام فيما نفوه وهو ما عدا الصفات السبع بل ما يقال في أحدهما يقال في الآخر وأفعال الله الاختيارية هي الأمور التي يتصف بها عز وجل فتقوم بذاته بمشيئته وقدرته مثل كلامه وسمعه وبصره وإرادته ومحبته ورضاه ورحمته وغضبه وسخطه ومثل خلقه وإحسانه وعدله ومثل استوائه وإتيانه ونزوله ونحو ذلك من الصفات التي نطق بها الكتاب والسنة. والإرشاد هو الكتاب المسمى "بالإرشاد إلى قواطع الأدلة" وصاحبه: هو أبو المعالي عبد الملك ابن عبد الله بن يوسف ابن عبد الله بن يوسف بن محمد الجويني المعروف بإمام الحرمين المتوفى سنة 478هـ، وقد شرح كتابه المذكور تلميذه أبو القاسم سليمان بن ناصر الأنصاري المتوفى سنة 512هـ. والقاضي أبو يعلى هو محمد بن الحسين بن محمد بن خلف بن أحمد ابن الفراء شيخ الحنابلة في عصره سنة 458هـ ذكر له ابنه في طبقات

الحنابلة سبعة وخمسين مصنفا: منها إبطال التأويلات لأخبار الصفات وأربعة ردود على الأشعرية والكرامية والسالمية. وقول المؤلف وأمثاله "يعني" كابن عقيل وأبي الحسن ابن الزاغوني فإنهما يوافقان القاضي على القول بتماثل الأجسام وفي جعل صفة العلو من الصفات الخبرية أما أمثال أبي المعالي فكالقاضي أبي بكر الباقلاني والقاضي أبى بكر ابن العربي. وقد قال شيخ الإسلام في هؤلاء المذكورين أنه ما من هؤلاء إلا وله في الإسلام مساع مشكورة وحسنات مبرورة وله في الرد على كثير من أهل الإلحاد والبدع والانتصار لكثير من أهل السنة والدين ما لا يخفى على من عرف أحوالهم وتكلم فيهم بعلم وصدق وعدل وإنصاف، لكن لما التبس عليهم هذا الأصل المأخوذ ابتداءً عن المعتزلة - وهم فضلاء عقلاء - احتاجوا إلى طرده والتزام لوازمه فلزمهم بسبب ذلك من الأقوال ما أنكره المسلمون من أهل العلم والدين وصار الناس بسبب ذلك فيهم فريقين منهم من يعظمهم لما لهم من المحاسن والفضائل ومنهم من يذمهم لما وقع في كلامهم من البدع والباطل وخيار الأمور أوساطها والله يتقبل من جميع عباده المؤمنين الحسنات ويتجاوز لهم عن السيئات قال تعالى: {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإيمان وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} . والأشعري وأئمة أصحابه كأبي الحسن الطبري وأبي عبد الله بن مجاهد الباهلي والقاضي أبي بكر الباقلاني: متفقون على إثبات الصفات الخبرية التي ذكرت في القرآن كالاستواء والوجه واليد وإبطال تأويلها ليس له في ذلك قولان أصلا. ولأتباعه في ذلك قولان: وأول من اشتهر عنه نفيها أبو المعالي الجويني. فإنه نفى الصفات الخبرية وله في تأويلها قولان: ففي الإرشاد

أولها ثم إنه في الرسالة النظامية رجع عن ذلك وحرم التأويل: والقاضي أبو يعلى ينفي الصفات الاختيارية في أحد قوليه.

معنى الهيولى

معنى الهيولى ... قوله: وأصل كلام هؤلاء كلهم على أن إثبات الصفات مستلزم للتجسيم. والأجسام متماثلة. والمثبتون يجيبون عن هذا تارة بمنع المقدمة الأولى. وتارة بمنع المقدمة الثانية. وتارة بمنع كل من المقدمتين وتارة بالاستفصال. ولا ريب أن قولهم بتماثل الأجسام قول باطل سواء فسروا الجسم بما يشار إليه أو بالقائم بنفسه أو بالموجود أو بالمركب من الهيولى والصورة ونحو ذلك، فأما إذا فسروه بالمركب من الجواهر الفردة على أنها متماثلة فهذا يبنى على صحة ذلك وعلى إثبات الجوهر الفرد وعلى أنه متماثل. وجمهور العقلاء يخالفونهم في ذلك. ش: يقول الشيخ إن أصل شبهة الجهمية والمعتزلة والأشاعرة وأتباعهم هو أن إثبات الصفات يستلزم الجسمية والأجسام متماثلة، والرد عليهم يكون طورا بمنع المقدمة الأولى: وهو أن يقال الاتصاف بالصفات لا يستلزم الجسمية وطورا بمنع المقدمة الثانية، وهو أن يقال قولكم بأن الأجسام متماثلة غير مسلم، وطورا بمنع كل من المقدمتين وذلك بأن يقال: ليس كل متصف بالصفة فهو جسم وليست الأجسام متماثلة: وطورا بالاستفصال عن المراد بالجسم. والجسم بأي تفسير فسروه فلا شك في بطلان قولهم: بأن الأجسام متماثلة فإنه قول مخالف لصريح المعقول وصحيح المنقول: وقول المؤلف أما إذا فسروه بالمركب من الجواهر المفردة الخ. معناه أنهم حين يفسرون الجسم بأنه المركب من الجواهر الفردة فهذا القول يبنى على صحة كونه مركبا وعلى صحة وجود الجواهر الفرد وعلى صحة تماثل الأجسام. وكل هذه الأقوال ليس مع أصحابها سوى الظنون الكاذبة والشبه الفاسدة ولذلك يخالفهم فيها جماهير العقلاء على اختلاف أصنافهم. والهيولى هي كما قال في "شفاء الغليل فيما في كلام العرب من

الدخيل" عن المزهر في كلام المتكلمين: أصل الشيء فإن يكن من كلام العرب فهو صحيح الاشتقاق. ووزنه فعولى أولا: والصواب أنه لفظ يوناني بمعنى الأصل والمادة وفي الاصطلاح. جوهر في الجسم قابل لما يعرض له من الاتصال والانفصال.

قول الروافض لا ولاء الا ببراء

قول الروافض لا ولاء الا ببراء ... قوله: والمقصود هنا أنهم يطلقون التشبيه على ما يعتقدونه تجسيما بناء على تماثل الأجسام، والمثبتون ينازعونهم في اعتقادهم كإطلاق الرافضة "النصب" على من تولى أبا بكر وعمر رضي الله عنهما بناء على أن من أحبهما فقد أبغض عليا رضي الله عنه، ومن أبغضه فهو ناصبي وأهل السنة ينازعونهم في المقدمة الأولى ولهذا يقول هؤلاء: أن الشيئين لا يشتبهان من وجه ويختلفان من وجه، وأكثر العقلاء على خلاف ذلك، وقد بسطنا الكلام على هذا في غير هذا الموضع وبينا فيه حجج من يقول بتماثل الأجسام وحجج من نفى ذلك، وبينا فساد قول من يقول بتماثلها. ش: يعني وخلاصة القول أن النفاة يطلقون اسم التشبيه على ما يعتقدونه مقتضيا للجسمية وهو إثبات الصفات. وهذا الحكم منهم مبناه على القول بتماثل الأجسام والمثبتون لأسماء الله وصفاته ينازعونهم في هذا الحكم، فليس إثبات الصفات تشبيها بل هو التوحيد وليست الأجسام متماثلة، فليس السماء كالأرض ولا الخبز كاللبن ولا الحديد كاللحم وهكذا سائر الأجسام. ومثل مقالة هؤلاء النفاة مقالة الرافضة وحكمهم بأن من تولى أبا بكر وعمر فقد نصب العداوة لآل البيت فإنه حكم باطل ينازعهم فيه أهل السنة والجماعة فإنهم يحمون الجميع ويترضون عنهم ومحبة بعضهم لا تنافي محبة البعض الآخر. ولكن هؤلاء الرافضة جعلوا الأشياء لا تتفق من وجه وتختلف من وجه آخر فعندهم لا ولاء إلا ببراء، ولاشك في أن قولهم من تولى أبا بكر وعمر فقد نصب العداوة لعلي مقدمة باطلة، وأما

قولهم ومن أبغضه فهو ناصبي فهي مقدمة صحيحة فإن من أبغض أحدا من الصحابة فقد نصب العداوة له، وحب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم جميعا واجب كما ثبتت به النصوص. فإذا قال الرافضي: أنتم ناصبة تنصبون العداوة لآل محمد فإنه يقال له نحن نتولى الصحابة والقرابة فإذا قال لا ولاء ببراء فمن لم يتبرأ من الصحابة لم يتول القرابة بل يكون قد نصب لهم العداوة قيل له هب أن هذا يسمى نصبا فلم قلت أن هذا محرم فإنه لا دلالة على ذم النصب بهذا التفسير كما أنه لا دلالة على ذم الرفض بمعنى موالاة أهل البيت. إذا كان الرجل مواليا لهم. ولقد أحسن القائل: فإني كما زعموا ناصبي ... إذا كان نصبا ولاء الصحاب فلا أبرح الرفض من جانبي ... وإن كان رفضا ولاء الجميع والرفض هو بغض أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، قيل للإمام أحمد: "من الرافضي؟، قال: الذي يسب أبا بكر وعمر"، وبهذا سميت الرافضة فإنهم رفضوا زيد بن علي لما تولى الخليفتين أبا بكر وعمر لبغضهم لهما، فالمبغض لهما هو الرافضي. وأصل الرفض من المنافقين الزنادقة فإنه ابتدعه بن سبأ الزنديق وأظهر الغلو في علي بدعوى الإمامة والنص عليه وادعى العصمة له، ولهذا لما كان مبدؤه من النفاق قال بعض السلف حب أبي بكر وعمر إيمان وبغضهما نفاق، واعلم أن الأصل في الحكم على الأشياء وتسميتها هو باعتبار أن الألفاظ نوعان مذكور في كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وكلام أهل الإجماع فهذا يجب اعتبار معناه وتعليق الحكم به. فإن كان المذكور به مدحا استحق المدح وإن كان ذما استحق الذم، وإن أثبت شيئا وجب إثباته وإن نفي شيئا وجب نفيه لأن كلام الله حق وكلام رسوله حق وكلم أهل الإجماع حق، وحينئذ فمن دخل في اسم مذموم في الشرع كان مذموما كاسم الكافر والمنافق والملحد ونحو ذلك ومن دخل في اسم محمود في الشرع كان محمودا كاسم المؤمن والتقي والصديق وما أشبه ذلك.

وأما الألفاظ التي ليس لها أصل في الشرع فتلك لا يجوز تعليق المدح والذم والإثبات والنفي على معناها. والألفاظ التي يعارض فبها النفاة النصوص هي من هذا الضرب كلفظ الجسم والحيز والجهة والجوهر والعرض والتركيب. وقول المؤلف: "وقد بسطنا الكلام على هذا في غير هذا الموضع" معناه أنه قد استوفى الكلام على مسالة الرفض والنصب كما أوضح القول في بطلان تماثل الأجسام وتهافت حجج القائلين بذلك: والبراهين العقلية والنصوص السمعية الدالة على عدم تماثلها: قد بسط الكلام على هذا في غير هذه الرسالة كما في كتابيه منهاج السنة وموافقة صريح المعقول لصحيح المنقول.

من دخل في اسم مذموم في الشرع كان مذموما

من دخل في اسم مذموم في الشرع كان مذموما ... قوله: وأيضا فالاعتماد بهذا الطريق على نفي التشبيه اعتماد باطل وذلك أنه إذا ثبت تماثل الأجسام فهم لا ينفون ذلك إلا بالحجة التي ينفون بها الجسم. وإذا ثبت أن هذا يستلزم الجسم وثبت امتناع الجسم كان هذا وحده كافيا في نفي ذلك لا يحتاج نفي ذلك إلى نفي مسمى "التشبيه" لكن نفي التجسيم يكون مبنيا على نفي هذا التشبيه بأن يقال لو ثبت له كذا وكذا لكان جسما. ثم يقال. والأجسام متماثلة، فيجب اشتراكهما فيما يجب ويجوز ويمتنع. وهذا ممتنع عليه لكن حينئذ يكون من سلك هذا المسلك معتمدا في نفي التشبيه على نفي التجسيم. فيكون أصل نفيه نفي الجسم. وهذا مسلك آخر سنتكلم عليه إن شاء الله تعالى. ش: يقول الشيخ بالإضافة إلى ما سبق من الرد على النفاة وإبطال مقدماتهم التي جعلوها أساسا لنفي الصفات يقال لهم: اعتمادكم على نفي التشبيه بطريق نفي الصفات لاستلزامها الجسمية وكون الأجسام متماثلة اعتماد باطل لأنه على فرض أن الأجسام متماثلة فأنتم لا تنفون الصفات إلا بالحجة التي تنفون بها الجسمية وإذا ثبت انتفاء الصفات وانتفاء الجسمية كان هذا وحده كافيا في نفي التشبيه لا يحتاج في الأمر إلى

نفي مدلول التشبيه الذي هو تماثل الجسمين بحيث يجوز على أحدهما ما يجوز على الآخر ويجب له ما يجب له ويمتنع عليه ما يمتنع عليه لكن في هذه الحال يكون من اعتمد على نفي الجسمية لاستلزامها التشبيه نافيا للجسم أولا ثم نافيا للتشبيه لانتفاء الجسمية وهذا مسلك غير المسلك الأول الذي هو الاعتماد في نفي الجسمية على نفي الصفات، وكون الأجسام متماثلة فإن المسلك الأخير هو الاعتماد في نفي التشبيه على امتناع الجسمية فقط: وسيتكلم المؤلف على هذا المسلك عند قوله فصل: وأفسد من ذلك ما يسلكه نفاة الصفات أو بعضها.

بيان فساد طريقة المعطلة

بيان فساد طريقة المعطلة قوله: وإنما المقصود هنا أن مجرد الاعتماد في نفي ما ينفى على مجرد نفي التشبيه لا يفيد إذ ما من شيئين إلا ويشتبهان من وجه ويفترقان من وجه بخلاف الاعتماد على نفي النقص والعيب، ونحو ذلك مما هو سبحانه مقدس عنه فإن هذه طريقة صحيحة، وكذلك إذا أثبت له صفات الكمال ونفي مماثلة غيره له فيها فإن هذا نفي المماثلة فيما هو مستحق له وهذا حقيقة التوحيد وهو أن لا يشاركه شيء من الأشياء فيما هو من خصائصه، وكل صفة من صفات الكمال فهو متصف بها على وجه لا يماثله فيها أحد. ولهذا كان مذهب سلف الأمة وأئمتها إثبات ما وصف الله به نفسه من الصفات، ونفي مماثلته لشيء من المخلوقات. ش: يقول المؤلف إنما المراد في هذا البحث هو بيان فساد طريقة النفاة المعطلة حيث اعتمدوا في نفي مشابهة الله لخلقه على النفي المجرد عن إثبات الصفات، فان هذا طريق فاسد وإنما الطريق الصحيح إثبات حقائق أسماء الله وصفاته ونفي مماثلته لشيء من مخلوقاته: وكونه سبحانه يتفق مع المخلوق في الاسم وفى المعنى الكلي المشترك لا يلزم منه مماثلته لخلقه: فإنه ما من موجودين إلا وبينهما اتفاق من وجه واختلاف من وجه آخر ألا ترى أنه إذا قيل بين الإنسان والفرس تشابه من جهة أن هذا

حيوان وهذا حيوان واختلاف من جهة أن هذا ناطق وهذا صاهل وغير ذلك من الأمور كان ذلك صحيحا: فإن بين الصفتين من التشابه والاختلاف بحسب ما بين الذاتين: فالله تعالى موصوف بصفات الكمال الذي لا نقص فيه منزه عن صفات النقص مطلقا ومنزه عن أن يماثله غيره في صفات كماله: وحينئذ فإثبات أسماء لله وصفاته مع نفي المماثلة لأحد من مخلوقاته هو محض التوحيد فلا يشركه أحد في خصائصه وأوصافه المضافة إليه وله المثل الأعلى: فكل وصف كمال لا نقص فيه بوجه من الوجوه فهو متصف به على وجه لا يماثله فيه أحد: وكل وصف نقص وعيب فهو منزه عنه: ومن أجل أن الاعتماد في نفي التشبيه على الإثبات البريء من التمثيل والنفي الخالي من التعطيل هو الموافق لصريح كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وهو مقتضى العقول السليمة والفطر المستقيمة من أجل ذلك كان مذهب سلف الأمة وأئمتها وصف الله بما وصف به نفسه أو وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم في النفي والإثبات: فالله سبحانه وتعالى قد نفى عن نفسه مماثلة المخلوقين فقال تعالى: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أحد اللَّهُ الصَّمَدُ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أحد} فبين سبحانه أنه لم يكن أحد كفوا له: وقال تعالى: {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً} فأنكر أن يكون له سمي وقد بين سبحانه أن لا مثل له في صفاته ولا أفعاله فإن التماثل في الصفات والأفعال يتضمن التماثل في الذات فإن الذاتين المختلفتين يمتنع تماثل صفاتهما وأفعالهما: إذ تماثل الصفات والأفعال يستلزم تماثل الذوات فإن الصفة تابعة للموصوف بها والفعل أيضا تابع لفاعله: بل هو مما يوصف به الفاعل.

من نفى اشتراك الموجودات في المعنى العام لزمه التعطيل المحض

من نفى اشتراك الموجودات في المعنى العام لزمه التعطيل المحض ... قوله: فإن قيل إن الشيء إذا شابه غيره من وجه جاز عليه من ذلك الوجه. ما جاز عليه ووجب له ما وجب له، وامتنع عليه ما امتنع عليه، قيل هب أن الأمر كذلك ولكن إذا كان ذلك القدر المشترك لا يستلزم إثبات ما يمتنع على الرب سبحانه ولا نفي ما يستحقه لم يكن ممتنعا كما إذا

قيل أنه موجود حي عليم سميع بصير وقد سمى بعض عباده حيا سميعا عليما بصيرا، قيل لازم هذا القدر المشترك ليس ممتنعا على الرب تعالى، فإن ذلك لا يقتضي حدوثا ولا إمكانا ولا نقصا، ولا شيئا مما ينافي صفات الربوبية وذلك أن القدر المشترك هو مسمى الوجود أو الموجود، أو الحياة أو الحي، أو العلم أو العليم أو السمع أو البصر، أو السميع أو البصير، أو القدرة أو القدير، والقدر المشترك مطلق كلى لا يختص بأحدهما دون الأخر، فلم يقع بينهما اشتراك، لا فيما يختص بالممكن المحدث ولا فيما يختص بالواجب القديم، فإن ما يختص به أحدهما يمتنع اشتراكهما فيه فإذا كان القدر المشترك الذي فيه صفة كمال كالوجود والحياة والعلم والقدرة ولم يكن في ذلك شيء مما يدل على خصائص المخلوقين. كما لا يدل على شيء من خصائص الخالق، لم يكن في إثبات هذا محذورا أصلا، بل إثبات هذا من لوازم الوجود، فكل موجودين لابد بينهما من مثل هذا ومن نفي هذا لزمه تعطيل وجود كل موجود. ش: يعني أن قال قائل: إن الموجودين إذا تشابها من وجه جاز على أحدهما من ذلك الوجه ما جاز على الآخر ووجب له من ذلك الوجه ما وجب للآخر وامتنع عليه من ذلك الوجه ما امتنع على الآخر قيل له افرض أن ذلك صحيح ولكن إذا كان لازم ذلك القدر المشترك الذي حصل فيه الاتفاق ليس فيه محذور وليس ممتنعا ولا يستلزم نفي صفات كمال ولا إثبات أوصاف نقص كما إذا قيل عن الله سبحانه أنه موجود حي عليم قدير سميع بصير والمخلوق يوصف بهذه الصفات فقد اتفقا في المعنى العام وهو القدر المشترك وهو مدلول الوجود ضد العدم والموجود ضد المعدوم ومدلول الحي ضد الميت والحياة ضد الموت ومدلول العليم ضد الجاهل والعلم ضد الجهل ومدلول القدير ضد العاجز والقدرة ضد العجز. ومدلول السميع ضد الأصم والسمع ضد الصمم ومدلول البصير ضد الأعمى والبصر ضد العمى: فقد اتفقا في مدلول الاسم ومدلول الصفة وذلك هو القدر المشترك

وهو معنى عام كلي ولم يوجب ذلك أن يشترك المحدث الممكن وهو المخلوق مع الواجب القديم وهو الله سبحانه فيما هو من خصائص أحدهما: بل ما أضيف إلى وأحد منهما فهو مختص به وهو على ما يليق به فإن الصفة تتبع الموصوف: فإذا كان القدر المشترك كما لا نقص فيه: ولم يحصل اشتراك فيما يختص بكل منهما لم يكن في إثبات ذلك القدر محذور؟ بل إثباته من مقتضيات الوجود: فإن الموجودات لابد بينها من الاتفاق في المعنى العام ومن نفى هذا المعنى المشترك لزمه تعطيل سائر الموجودات عن الوجود. قوله: ولهذا لما اطلع الأئمة على أن هذه حقيقة قول الجهمية سموهم معطلة، وكان جهم ينكر أن يسمى الله شيئا، ولربما قالت الجهمية هو شيء لا كالأشياء. فإذا نفى القدر المشترك مطلقا، لزم التعطيل العام، والمعاني التي يوصف بها الرب تعالى، كالحياة والعلم والقدرة، بل والوجود والثبوت والحقيقة ونحو ذلك تجب لوازمها، فإن ثبوت الملزوم يقتضي ثبوت اللازم، وخصائص المخلوق التي يجب تنزيه الرب عنها ليست من لوازم ذلك أصلا. بل تلك من لوازم ما يختص بالمخلوق من وجود وحياة وعلم، ونحو ذلك، والله سبحانه منزه عن خصائص المخلوقين وملزومات خصائصهم، وهذا الموضع من فهمه فهما جيدا وتدبره زالت عنه عامة الشبهات وانكشف له غلط كثير من الأذكياء في هذا المقام، وقد بسط هذا في مواضع كثيرة. وبين فيها: أن القدر المشترك الكلي لا يوجد في الخارج إلا معينا مقيدا وأن معنى اشتراك الموجودات في أمر من الأمور هو تشابهها من ذلك الوجه، وأن ذلك المعنى العام يطلق على هذا وهذا لأن الموجودات في الخارج لا يشارك أحدها الأخر في شيء موجود فيه، بل كل موجود متميز عن غيره بذاته وصفاته وأفعاله.

ش: يعني ومن أجل أن من نفى اشتراك الموجودات في المعنى العام يلزمه التعطيل المحض لكل موجود من أجل ذلك كان أهل السنة والجماعة يسمون نفاة صفات الله معطلة: لأن حقيقة قولهم تعطيل ذات الله عن الوجود: وكان رأسهم الجهم ينكر أن يسمي الله شيئا زعما منه أن إثبات كون الله شيئا يلزم منه مشابهته لسائر الأشياء، وبعدا وسحقا لتنزيه مدلوله، تعطيل الذات العلية عن الوجود، وأتباع الجهم قد يتحاشون في بعض الأحيان عن قول الجهم بإنكار كون الله شيئا فيقولون هو شيء لا كالأشياء وهذه الكلمة حق فالله سبحانه شيء لا يماثله أحد من خلقه: ولكن يقال لهم هلا أثبتتم أسماء الله وصفاته الواردة في كتابه وعلى لسان رسوله وقلتم بنفي المماثلة كما قلتم أنه شيء لا كالأشياء، والحقائق التي يوصف بها الرب من حياة وعلم وقدرة ووجود وذات ونحو ذلك ككونه شيئا ثابتا هذه الحقائق تجب لوازمها ولوازمها هي صفات الحي الموجود الرب الكامل: فالذات والحقيقة والوجود ملزومات والصفات لازمها: وثبوت الملزوم يوجب ثبوت اللازم ولازم صفات الله الكمال كما أن لازم أوصاف المخلوق النقص: ومن أدرك هذه الحقائق وميّز ما تشترك فيه وما تختلف فيه زالت عنه الشبهة التي التبس عليه الأمر بسببها وانكشف له غلط كثير من الأذكياء الذين غلطوا في باب أسماء الله وصفاته لالتباس هذه الحقائق عليهم والأمور الموجودة في الخارج لا اشتراك فيها. وإنما الاشتراك في المعنى العام الذي يطلق على هذه الحقيقة وهذه الحقيقة. وليس في الخارج ذات موجودة تشترك فيها الموجودات. أما الموجودات التي في الخارج فبعضها متميز عن بعض في الذات والصفات والأفعال. وقد بسط المؤلف هذا البحث في عدد من كتبه. ومنها رسالته التي رد فيها على أهل القول بوحدة الوجود.

الاشاعرة يجمعون بين الأمرين المتناقضين

الاشاعرة يجمعون بين الأمرين المتناقضين ... قوله: ولما كان الأمر كذلك كان كثير من الناس متناقضا في هذا المقام،

فتارة يظن أن إثبات القدر المشترك يوجب التشبيه الباطل، فيجعل ذلك حجة فيما يظن نفيه من الصفات، حذرا من ملزومات التشبيه. وتارة يتفطن إلى أنه لابد من إثبات هذا على تقدير فيجيب به فيما يثبته من الصفات لمن احتج به من النفاة. ش: يقول الشيخ ولكون الموجودات في الخارج يتميز بعضها عن بعض وإنما اشتراكها في المعنى العام الموجود في الذهن لذلك تجد بعض طوائف المبتدعة كالأشاعرة يجمعون بين الأمرين المتناقضين فطورا ينفون الاشتراك في المعنى العام خشية التشبيه ظنا منهم أن الصفات تقتضي المشابهة. فملزومات التشبيه على زعمهم هي الصفات ولازمها هو التشبيه فيجحدونها لهذا الزعم الموهوم. وطورا يثبتون الاتفاق في القدر المشترك بين الخالق والمخلوق وأن ذلك لا يوجب أن تكون الصفة المضافة إلى الله مثل الصفة المضافة إلى المخلوق وإن حصل اشتراك واتفاق في المعنى الكلي كما يقولون ذلك بالنسبة للصفات السبع التي يثبتون. وحينما ينازعهم الجهمي أو المعتزلي في إثباتهم للصفات السبع يجيبونه قائلين: إن الاتفاق في المعنى العام لا يوجب المماثلة. فالله ما يليق به وللمخلوق ما يليق به والقدر المشترك بينهما لا يقتضي المشابهة فيما يخص وأحدا منهما.

اضطراب أساطين الكلام في المسائل الخمس

اضطراب أساطين الكلام في المسائل الخمس ... قوله: ولكثرة الاشتباه في هذا المقام وقعت الشبهة في أن وجود الرب. هل هو عين ماهيته. أو زائد على ماهيته؟ وهل لفظ {الوجود} مقول بالاشتراك اللفظي أو التواطؤ. أو التشكيك. كما وقع الاشتباه في إثبات الأحوال ونفيها. وفي أن المعدوم. هل هو شيء أم لا؟ وفي وجود الموجودات. هل هو زائد على ماهيتها أم لا؟ وقد كثر من أئمة النظار الاضطراب والتناقض في هذه المقامات. فتارة يقول أحدهم القولين المتناقضين. ويحكي عن الناس مقالات ما قالوها. وتارة

يبقى في الشك والتحير. وقد بسطنا الكلام في هذه المقامات. وما وقع من الاشتباه والغلط والحيرة فيها لأئمة الكلام والفلسفة بما لا تتسع له هذه الجمل المختصرة. وبينا أن الصواب هو: أن وجود كل شيء في الخارج هو ماهيته الموجودة في الخارج بخلاف الماهية التي في الذهن فإنها مغايرة للموجود في الخارج. وأن لفظ "الذات" و"الشيء" و"الماهية" و"الحقيقة"} ونحو ذلك. ألفاظ كلها متواطئة. فإذا قيل.. إنها مشككة لتفاضل معانيها. فالمشكك نوع من المتواطىء العام الذي يراعى فيه دلالة اللفظ على القدر المشترك. سواء كان المعنى متفاضلا في موارده أم متماثلا. وببنا أن المعدوم شيء أيضا في العلم والذهن. لا في الخارج "فلا فرق بين الثبوت والوجود، لكن الفرق ثابت بين الوجود العلمي والعيني، مع أن ما في العلم ليس هو الحقيقة الموجودة، ولكن هو العلم التابع للعلم القائم به وكذلك الأحوال التي تتماثل فيها الموجودات وتختلف، لها وجود في الأذهان، وليس في الأعيان إلا الأعيان الموجودة وصفاتها القائمة بها المعينة فتتشابه بذلك وتختلف به، وأما هذه الجملة المختصرة، فإن المقصود بها التنبيه على جمل مختصرة جامعة من فهمها علم قدر نفعها، وانفتح له. باب الهدى، وأمكنه إغلاق باب الضلال ثم بسطها وشرحها له مقام آخر إذ لكل مقام مقال. ش: يقول الشيخ ومن أجل حصول الاتفاق بين الموجودات في القدر المشترك، حصل الإشكال في هذه المسائل الخمس وكثر الاضطراب والتناقض من أئمة الفلسفة وأساطين الكلام. فطورا تجد أحدهم يقول في المسالة قولين متناقضين ويحكي عن غيره من أرباب الكلام أقوالا لم تصدر عنهم وطورا يبقى الواحد منهم حائرا لا يستطيع الجزم برأي معين. وذكر المؤلف أنه قد بسط البحث في هذه المسائل في كتبه المطولة وذكر هنا رأيا مختصرا جامعا شافيا في هذه المسائل. وهو كما يلي: أولا: الصحيح أن وجود الرب سبحانه هو عين ماهيته في الخارج بل الصواب أن وجود كل

موجود في المشاهد هو عين ماهيته فلا فرق بين الوجود والماهية في المشاهدة. بخلاف الماهية التي في الذهن. فإنها مغايرة للموجود في الخارج إذ الماهية التي في الذهن عامة مشتركة والماهية التي في الشاهد معينة خاصة. ثانيا: الصواب في لفظ الذات ولفظ الشيء والماهية ونحو ذلك كالحياة أنها متواطئة لتوافقها في اللفظ والمعنى، ومن أطلق عليها اسم المشكك فهو مصيب. فإن المشكك نوع من المتواطيء فإن الحقائق إما أن تتساوى في محالها وإما أن تتفاضل. فالأول هو التواطؤ العام الذي يلاحظ فيه وجود القدر المشترك بين الحقائق مع قطع النظر عن تساويها أو تفاوتها، والثاني هو المسمى بالمتواطيء المشكك. ثالثا: الصواب أن المعدوم شيء بالنسبة للعلم به وكونه متصورا في الذهن أما أنه موجود في المشاهد فلا. والثبوت والوجود بمعنى وأحد. والوجود الذهني يخالف الوجود في الشاهد والتصور الذهني للشيء ليس هو عين حقيقته وإنما هو تابع للعلم القائم بتلك الحقيقة المعلومة. رابعا: الصواب أن الأحوال لا وجود لها إلا في الذهن أما في المشاهدة فلا يوجد إلا الذوات وصفاتها القائمة بها، والأحوال عند القائلين بها هي كون الصفة قائمة بالذات فهي عبارة عن نسبة الصفة إلى الموصوف. والأحوال تختلف وتتشابه باختلاف الذوات وصفاتها والجواب على المسالة الخامسة هو الجواب على المسالة الأولى فالصواب أن الوجود الخارجي لسائر الموجودات هو عين ماهيتها الخارجية. وبين رحمه الله أن هذه الجمل الموجزة التي ذكر في هذه الرسالة المختصرة لا تتسع لبسط القول في هذه المقامة العظيمة. ومقام الاختصار غير مقام الإطالة والإسهاب ولكل مقام مقال كما قرره أهل البيان. وأنا أذكر لك هنا خلاصة مما بسطه المؤلف في غير هذه الرسالة تكون كالتفصيل لما أسلفت من الشرح الموجز لهذه المسائل. فالذي عليه أهل السنة والجماعة وسائر العقلاء أن ماهية كل شيء عين وجوده وأنه ليس وجود الشيء قدرا زائدا على ماهيته بل ليس في الخارج إلا الشيء الذي هو الشيء وهو عينه ونفسه وماهيته وحقيقته. قال الشيخ: فيقال إن أريد بالذات المجردة التي يقر بها نفاة الصفات فالصفات

زائدة عليها، وإن أريد بالذات الموجودة في الخارج فتلك لا تكون موجودة إلا بصفاتها اللازمة والصفات ليست زائدة على الذات المتصفة بالصفات وإن كانت زائدة على الذات التي يقدر تجردها عن الصفات. وقد ظن طائفة أن من قال: الوجود متواطيء عام فإنه يقول وجود الخالق زائد على حقيقته وطائفة ظنت أن لفظ الوجود مقول بالاشتراك اللفظي وهذه مكابرة للعقل فإن هذه الأسماء عامة قابلة للتقسيم كما يقال الموجود ينقسم إلى واجب وممكن وقديم وحادث. ومورد التقسيم مشترك بين الأقسام. فإن تفاضل المعنى المشترك الكلي لا يمنع أن يكون أصل المعنى مشتركا بين اثنين كما أن معنى السواد مشترك بين هذا السواد وهذا السواد وبعضه أشد من بعض. والذي عليه أهل السنة والجماعة وعامة عقلاء بني آدم من جميع الأصناف أن المعدوم ليس في نفسه شيئا وأن ثبوته ووجوده وحصوله شيء وأحد وقد دل على ذلك الكتاب والسنة والإجماع القديم. قال الله تعالى لزكريا: {وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً} وقال تعالى: {أَوَلا يَذْكُرُ الإنسانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئاً} وقال تعالى: {فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ شَيْئاً} ولو كان المعدوم شيئا لكان التقدير لا يظلمون موجودا ولا معدوما: والمعدوم لا يتصور أن يظلموه ونظائر ذلك كثير فمتصورات العقل ومقدراته أوسع مما هو موجود حاصل بذاته كما يتصور المعدومات والممتنعات ويقدر ما لا وجود له البتة مما يمكن أولا يمكن كتصور جبل ياقوت وبحر زئبق وإنسان من ذهب وفرس من حجر فثبوت الشيء في العلم والتقدير ليس هو ثبوت عينه في الخارج بل العالم يعلم الشيء ويتكلم به ويكتبه وليس لذاته في الخارج ثبوت ولا وجود أصلا. قال الشيخ: وإنما نشأ الاشتباه على هؤلاء والله أعلم من حيث رأوا أن الله سبحانه يعلم ما لم يكن قبل كونه وإنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون فرأوا أن المعدوم الذي يخلقه ويتميز في علمه وإرادته وقدرته شيء ثابت وظنوا ذلك التمييز ذات له ثابتة وليس الأمر كذلك وإنما هو متميز في علم الله. والواحد منا يعلم الموجود والمعدوم الممكن والمعدوم المستحيل

ويعلم ما كان كآدم والأنبياء ويعلم ما يكون كالقيامة والحساب، ويعلم ما لم يكن لو كان كيف يكون كما يعلم ما أخبر الله به عن أهل النار في قوله تعالى: {وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْه} وأنهم {وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأسْمَعَهُمْ} وأنه {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} ونحو ذلك. فثبوت هذه الأمور في العلم والكتاب والكلام ليس هو ثبوتها في الخارج عن ذلك وهو ثبوت حقيقتها التي هي هي، فينبغي للعاقل أن يفرق بين ثبوت الشيء ووجوده نفسه وبين ثبوته ووجوده في العلم فإن ذاك هو الوجود الذهني والعلمي وما من شيء إلا له هذان الثبوتان.

بيان فساد مسلك المعطلة في ردهم

بيان فساد مسلك المعطلة في ردهم ... قوله: والمقصود هنا أن الاعتماد على مثل هذه الحجة فيما ينفى عن الرب وينزه عنه، كما يفعله كثير من المصنفين خطأ لمن تدبر ذلك، وهذا من طرق النفي الباطلة. ش: يعنى والمهم أن الاعتماد في تنزيه الله عن النقائص على نفي صفات الكمال عنه طريق باطل ومسلك غير صحيح كما أن الاعتماد في إثبات الصفات على نفي التشبيه لا يكفي ما لم تكن الصفة واردة في كتاب لله أو سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم كما سيأتي قريبا إن شاء تعالى. قوله: فصل وأفسد من ذلك ما يسلكه نفاة الصفات أو بعضها إذا أرادوا أن ينزهوه عما يجب تنزيهه عنه، مما هو من أعظم الكفر، مثل أن يريدوا تنزيهه عن الحزن والبكاء ونحو ذلك، ويريدون الرد على اليهود الذين يقولون. انه بكى على الطوفان حتى رمد. وعادته الملائكة والذين يقولون بالإلهية بعض البشر وأنه الله فإن كثيرا من الناس يحتج على هؤلاء بنفي التجسيم والتحيز ونحو ذلك، ويقولون لو اتصف بهذه النقائص والآفات لكان جسما أو متحيزا وذلك ممتنع، وبسلوكهم مثل هذه الطريق استظهر عليهم الملاحدة نفاة الأسماء والصفات.

ش: يقول الشيخ: وأفسد من الطريق السابق وهو الاعتماد في تنزيه الله على مجرد النفي. أفسد من ذلك الطريق الذي يعتمدون عليه في تنزيه الله عن النقائص والعيوب كالحزن والبكاء واللغوب والقول بأنه استراح بعد خلقه السماوات والأرض والقول بأن يده مغلولة وأشباه هذه الأقوال التي هي من أعظم الكفر وأشنع الضلال. إذا أراد نفاة الصفات أو نفاة بعضها أن ينزهوا الله سبحانه عن هذه النقائص وأن يردوا على أصحابها. اعتمدوا في ردهم على نفي الجسمية والتحيز ونحو ذلك كالتركيب. فمثلا: إذا أرادوا أن يردوا على اليهود القائلين بأن الله بكى على طوفان نوح حتى رمدت عيناه ثم عادته الملائكة إلى غير ذلك من أوصاف النقص التي وصفوا الله بها. أو على النصارى القائلين بإلهية عيسى. أو على غلاة الشيعة القائلين بإلهية على. قالوا لو كان الله متصفا بهذه الصفات التي ذكرتم لكان جسما أو متحيزا والله منزه عن أن يكون جسما أو متحيزا. وبسلوكهم هذا المسلك الفاسد. تطاول عليهم الفلاسفة ونحوهم من الملاحدة. قال الشيخ: ومن هنا دخلت الملاحدة الباطنية على المسلمين حتى ردوا عن الإسلام خلقا عظيما فصاروا يقولون لمن نفى شيئا عن الرب مثل من ينفي بعض الصفات، أو جميعها أو الأسماء: لم نفيت هذا؟ فيقول لأن ذلك يستلزم التشبيه والتجسييم فيقولون وهذا اللازم يلزمك فيما أثبته فيحتاج أن يوافقهم على النفي شيئا بعد شيء حتى ينتهي أمره إلى أن لا يعرف الله بقلبه ولا يذكره بلسانه ولا يعبده ولا يدعوه، فالملاحدة ألزموهم في النصوص نصوص المعاد نظير ما ادعوه في نصوص الصفات: فقالوا لهم نحن نعلم بالاضطرار أن الرسول جاء بمعاد الأبدان وقد علمنا فساد الشبهة المانعة منه: فكيف يجوز أن يكون ما أخبر به من الصفات ليس كما أخبر به من المعاد وما أخبر به من المعاد هو على ما أخبر به؟ قال الشيخ: ولهذا كان ابن النفيسة المتطبب الفاضل يقول ليس إلا مذهبان مذهب أهل السنة أومذهب الفلاسفة: فأما هؤلاء المتكلمون

فقولهم ظاهر التناقض والاختلاف: يعني وأهل السنة أثبتوا كل ما جاء به الرسول وأولئك جعلوا الجميع تخييلا وتوهيما ومعلوم بالأدلة الكثيرة السمعية والعقلية فساد مذهب هؤلاء، ومذهب الملاحدة. فتعين أن يكون الحق مذهب السلف أهل السنة والجماعة.

أمور أربعة يتضح بهافساد مسلك المعطلة

أمور أربعة يتضح بهافساد مسلك المعطلة ... فساد مسلك المعطلة يتضح في أربعة أمور قوله: فإن هذه الطريقة لا يحصل بها المقصود لوجوه: أحدها: أن وصف الله تعالى بهذه النقائص والآفات أظهر فسادا في العقل والدين من نفي التحيز والتجسيم، فإن هذا فيه من الاشتباه والنزاع والخفاء ما ليس في ذلك، وكفر صاحب ذلك معلوم بالضرورة من دين الإسلام والدليل معرف للمدلول ومبين له، فلا يجوز أن يستدل على الأظهر الأبين بالأخفى، كما لا يفعل مثل ذلك في الحدود. الوجه الثاني: أن هؤلاء الذين يصفونه بهذه الصفات يمكنهم أن يقولوا. نحن لا نقول بالتجسيم والتحيز، كما يقوله من يثبت الصفات وينفي التجسيم فيصير نزاعهم مثل نزاع مثبتة الكلام وصفات الكمال. فيصير كلام من وصف الله بصفات الكمال ومن وصفه بصفات النقص وأحدا ويبقى رد النفاة على الطائفتين بطريق وأحد وهذا في غاية الفساد. الثالث: أن هؤلاء ينفون صفات الكمال بمثل هذه الطريقة، واتصافه صفات الكمال واجب ثابت بالعقل والسمع. فيكون ذلك دليلا على فساد هذه الطريقة. ش: يعنى أن الاعتماد في تنزيه الله على نفي التجسيم والتحيز ونحو ذلك لا يحصل به المراد لأمور: أحدها: أن وصف الرب بهذه الآفات والعيوب أظهر فسادا في المعقول الصريح والمنقول الصحيح من وصفه بالتجسيم والتحيز فإن وصفه

بهذه النقائص أمر واضح الفساد وبين البطلان لكل ذي عقل سليم وفطرة مستقيمة. وكفر صاحبه واضح لا إشكال فيه بينما التجسيم والتحيز والتركيب ألفاظ مجملة تحتمل الحق والباطل لما فيها من الاشتباه وخفاء المراد وحينئذ لا يجوز الاستدلال بما فيه الاشتباه وخفاء على ما هو واضح بين، فشأن الدليل إيضاح المدلول وتعريفه. فهو كالحد الذي يشرح المحدود ويعرفه تعريفا واضحا. ثانيها: أن الذين يصفون الله بهذه النقائص والعيوب يستطيعون أن يقولوا: نحن نصف الله بهذه الأوصاف دون أن نصفه بالجسمية والتحيز، وإذا أجابوا بهذا الجواب كان النزاع مع من يثبت أوصاف النقص كالنزاع مع من يثبت أوصاف الكمال من كلام وعلم وقدرة إلى غير ذلك من الصفات ويكون رد المعطلة على الجميع وأحدا، بأن يقولوا: لا نصف الله بالصفات الواردة في الكتاب والسنة كما لا نصفه بأوصاف النقص: لأنه لا يتصف بهذه أو تلك إلا جسم متحيز وهذا ممتنع في حق الله، فتبين بهذا فساد الطريق الذي سلكوه في ردهم على من يصف الله بأوصاف النقص. ثالثها: أن هؤلاء المعطلة ينفون عن الله أوصاف الكمال بهذا الطريق الفاسد في حين أن الرب سبحانه متصف بأوصاف الكمال ونعوت الجلال، كما وردت بذلك النصوص وكما هو مقتضى العقل السليم والفطرة المستقيمة؟ فيكون نفيهم هذا دليلا على فساد طريقتهم: وأنهم لم يستفيدوا بها إحقاق حق وإنما استفادوا إطال ما هو حق ثابت بالعقل والشرع. قوله: الرابع: أن سالكي هذه الطريقة متناقضون، فكل من أثبت شيئا منهم ألزمه الآخر بما يوافقه فيه من الإثبات. كما أن كل من نفى شيئا منهم الزمه الآخر بما يوافقه فيه من النفي. فمثبتة الصفات كالحياة والعلم

والقدرة والكلام والسمع والبصر. إذا قال لهم النفاة كالمعتزلة هذا تجسيم إن هذه الصفات أعراض والعرض لا يقوم إلا بالجسم أولانا لا نعرف موصوفا بالصفات إلا جسما قالت لهم المثبتة: وأنتم قد قلتم أنه حي عليم قدير. وقلتم ليس بجسم وأنتم لا تعلمون موجودا حيا عالما قادرا إلا جسما فقد أثبتموه على خلاف ما علمتم. فكذلك نحن وقالوا: لم أنتم أثبتم حيا عالما قادرا بلا حياة ولا علم ولا قدرة. وهذا تناقض يعلم بضرورة العقل. ثم هؤلاء المثبتون إذا قالوا لمن أثبت أنه يرضى ويغضب ويحب ويبغض إلى من وصفه بالاستواء والنزول والإتيان والمجيء. وبالوجه واليد ونحو ذلك إذا قالوا: هذا يقتفي التجسيم. لأنا لا نعرف ما يوصف بذلك إلا ما هو جسم. قالت المثبتة فأنتم قد وصفتموه بالحياة والعلم والقدرة والسمع والبصر والكلام وهذا كهذا. فإذا كان هذا يوصف به الجسم فالأخرى كذلك. وإن أمكن أن يوصف بأحدهما ما ليس بجسم فالآخر كذلك فالتفريق بينهما تفريق بين المتماثلين. ش: يقول المؤلف: الرابع من الأمور التي يتضح بها فساد المسلك المذكور: هو أن هؤلاء المبتدعين الرادين على من يصف الله بأوصاف النقص بنفي التجسيم والتحيز متناقضون ومتضاربة أقوالهم فمن يثبت شيئا من الصفات يرد على من ينازعه في إثباتها قائلا: أنت توافقني على إثبات الأسماء، ومن ينفي شيئا من الصفات يقول له من ينفي الصفات كلها: أنت توافقني في نفي شيء من الصفات، ثم شرح الشيخ هذه القضية بمناقشة الأشعري مع المعتزلي بقوله: "فمثبتة الصفات كالحياة والعلم والقدرة والكلام والسمع والبصر ... إلى آخره"، وخلاصة ذلك أن المعتزلة إذا قالوا للأشاعرة أنتم تثبتون الصفات السبع وهي أعراض والأعراض حادثة فهي لا تقوم إلا بجسم حادث ولا يعلم في المشاهد متصف بالصفات إلا ما هو جسم حادث. قال الأشاعرة: وأنتم أيها المعتزلة تثبتون الأسماء لله مع أنه لا

يعلم في المشاهد مسمى حيا عليما قديرا إلا ما هو جسم، فقد أثبتم ذلك على خلاف ما تعلمونه في المشاهد، فنحن إذاً نثبت الصفات السبع لله على خلاف ما هو معلوم في المشاهد، ويقولون أيضا أنتم أيها المعتزلة تثبتون أسماء محضة لا تتضمن صفات وهذا معلوم الفساد بالضرورة.، فإن الحي هو المتصف بالحياة، والعليم هو المتصف بالعلم وهكذا سائر الأسماء. ثم إن هؤلاء المثبتين للصفات السبع إذا قالوا لمن يثبت الصفات الذاتية والفعلية والاختيارية والخبرية نحن لا نجد في الشاهد متصفا بهذه الصفات إلا ما هو جسم، والأجسام متماثلة فمن أثبتها لله فقد مثله بخلقه إذا قالوا هذه المقالة قال لهم سائر أهل الإثبات أنتم قد أثبتم الصفات السبع فما نفيتم هو مثل ما أثبتم فإن كان الذي أثبتموه يقتضي الجسمية والمماثلة فالذي نفيتموه مثله وإلا فلا، وحينئذ فتفريقكم بين الصفات السبع وبين ما عداها تفريق بين متماثلين، وهذا خلاف ما تقتضيه المعقولات بل هو خلاف المعقول والمنقول وقد سبقت الإشارة إلى ذلك. قوله: ولهذا لما كان الرد على من وصف الله تعالى بالنقائص بهذه الطريق طريقا فاسدا لم يسلكه أحد من السلف ولا الأئمة، فلم ينطق أحد منهم في وصف الله بالجسم لا نفيا ولا إثباتا، ولا بالجوهر والتحيز ونحو ذلك، لأنها عبارات مجملة لا تحق حقا ولا تبطل باطلا، ولهذا لم يذكر الله في كتابه فيما أنكره على إليهود وغيرهم من الكفار ما هو من هذا النوع، بل هذا هو من الكلام المبتدع الذي أنكره السلف والأئمة. ش: يقول الشيخ: ومن أجل أن رد المبتدعة على من يصف الله بالبكاء والحزن ونحو ذلك من صفات النقص، بأن هذه الأوصاف لا تقوم إلا بجسم متحيز، من أجل أن هذا الطريق طريق غير صحيح لم يسلكه أحد من سلف الأمة من الصحابة والتابعين وأئمة السنة، فلم يقولوا بأن

الله جسم أو ليس بجسم. وهكذا بالنسبة للجوهر والتحيز ونحوه كالتركيب والعرض، وذلك أن هذه ألفاظ مستحدثة مجملة لا يحصل بواسطتها بيان حق ولا دحض باطل، لذلك لم ترد في القرآن العزيز في رد الله سبحانه على اليهود والنصارى والمشركين الذين نسبوا إليه النقائص والعيوب التي يتقدس عنها، وسلف الأمة وأئمة السنة قد أنكروا على المبتدعين هذه الألفاظ المجملة وبينوا ما تحتها من المعاني التي يقصدونها وقد تقدم ذلك.

الأعتماد على مجرد نفي التشبيه لا يكفي في إثبات الصفات

الأعتماد على مجرد نفي التشبيه لا يكفي في إثبات الصفات ... فصل: قوله: وأما في طرق الإثبات، فمعلوم أيضا أن المثبت لا يكفي في إثباته مجرد نفي التشبيه، إذ لو كفى في إثباته مجرد نفي التشبيه لجاز أن يوصف سبحانه من الأعضاء والأفعال بما لا يكاد يحصى مما هو ممتنع عليه مع نفي التشبيه. وأن يوصف بالنقائص التي لا تجوز عليه مع نفي التشبيه، كما لو وصفه مفتر عليه بالبكاء والحزن والجوع والعطش مع نفي التشبيه وكما لو قال المفتري: يأكل لا كأكل العباد، ويشرب لا كشربهم، ويبكي ويحزن لا كبكائهم ولا حزنهم، كما يقال: يضحك لا كضحكهم. ويفرح لا كفرحهم، ويتكلم لا ككلامهم. ولجاز أن يقال: له أعضاء كثيرة لا كأعضائهم كما قيل له وجه كوجوههم. ويدان لا كأيديهم حتى يذكر المعدة والأمعاء والذكر وغير ذلك مما يتعالى الله عز وجل عنه، سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علوا كبيرا. فإنه يقال: لمن نفى ذلك مع إثبات الصفات الخبرية وغيرها من الصفات، ما الفرق بين هذا وما أثبته إذا نفيت التشبيه وجعلت مجرد نفي التشبيه كافيا في الإثبات؟ فلابد من إثبات فرق في نفس الأمر. ش: يعنى أن الاعتماد في إثبات الصفات لله لا يكفي فيه مجرد نفي التشبيه: فلا يقال نصف الله بكل وصف حتى ولو كان غير وارد، مادمنا ننفي مشابهته لخلقه، فهذا الطريق لا يكفي لما يترتب عليه من اللوازم الباطلة، إذ لو كان الأمر كذلك لجاز أن يوصف الرب بما يمتنع عليه من أوصاف النقص كأن يقال له بكاء وحزن وجوع وعطش وأكل وشرب لا يماثل ما يختص بالمخلوقين، كما يوصف بالعلم والقدرة والسمع والبصر والمحبة والرضا والوجه واليدين إلى غير ذلك من الصفات الواردة في الكتاب والسنة، أو لجاز أن يقال: له أعضاء كما أن للمخلوق أعضاء دون

أن يكون ما يختص بالله مماثلا لما يختص بالمخلوق الفقير المحدث. ولو كان الاعتماد في الإثبات يكفي فيه النفي المجرد عن التشبيه، لقيل لمن ينفي أوصاف النقص عن الله ويثبت له أسماءه الحسنى وصفاته العليا دون تفريق بين بعضها والبعض الآخر: ما الفرق بين ما نفيت وبين ما أثبت، مادام أن العمدة في الإثبات هو مجرد نفي التشبيه دون اعتبار آخر؟ وحينئذ فلابد من فارق ثابت بين ما يجوز إثباته لله وما لا يجوز. وأنت خبير بأن الفارق هو ورود الوصف أو عدم وروده، وما يليق بالله وما لا يليق به كما سيأتي. قوله: فإن قال: العمدة في الفرق هو السمع فما جاء به السمع أثبته دون ما لم يجئ به السمع. قيل له: أولا: السمع هو خبر الصادق عن ما هو الأمر عليه في نفسه. فما أخبر به الصادق فهو حق من نفي أو إثبات. والخبر دليل على المخبر عنه، والدليل لا ينعكس، فلا يلزم من عدمه عدم المدلول عليه. فما لم يرد به السمع يجوز أن يكون ثابتا في نفس الأمر وإن لم يرد به السمع إذا لم يكن نفاه. ومعلوم أن السمع لم ينف هذه الأمور بأسمائها الخاصة، فلابد في ذكره ما ينفيها من السمع وإلا فلا يجوز حينئذ نفيها، كما لا يجوز إثباتها. وأيضا فلابد في نفس الأمر من فرق بين ما يثبت له وبين ما ينفى عنه، فإن الأمور المتماثلة في الجواز والوجوب والامتناع يمتنع اختصاص بعضها دون بعض في الجواز والوجوب والامتناع، فلابد من اختصاص المنفي عن المثبت بما يخصه بالنفي ولابد من اختصاص الثابت عن المنفي بما يخصه بالثبوت. وقد يعبر عن ذلك بأن يقال: لابد من أمر يوجب نفي ما يجب نفيه عن الله كما أنه لابد من أمر يثبت له ما هو ثابت، وإن كان السمع كافيا كان مخبرا عما هو الأمر عليه في نفسه. فما الفرق في نفس الأمر بين هذا وهذا؟. فيقال: كل ما نافى صفات الكمال الثابتة لله فهو منزه عنه، فإن ثبوت أحد

الضدين يستلزم نفي الآخر فإذا علم أنه موجود واجب الوجود بنفسه، وأنه قديم واجب القدم، علم امتناع العدم والحدوث عليه، وعلم أنه غني عما سواه. فالمفتقر إلى ما سواه في بعض ما يحتاج إليه لنفسه ليس هو موجودا بنفسه، بل وجوده بنفسه وبذلك الآخر الذي أعطاه ما تحتاج إليه نفسه. فلا يوجد إلا به وهو سبحانه غني عن كل ما سواه. فكل ما نافى غناه فهو منزه عنه وهو سبحانه قدير فكل ما نافى قدرته وقوته فهو منزه عنه وهو سبحانه حي قيوم فكل ما نافى حياته وقيوميته فهو منزه عنه. ش: يعني أن المثبت للأسماء والصفات النافي لصفات النقص قد يعترض عليه من يثبت لله أوصافا كالأكل والشرب والعطش والجوع وشبه ذلك من أوصاف لا تليق به، إذا قال المثبت العمدة في هذا الباب على السمع فما ورد في السمع أثبتناه، وما لم يرد به السمع لم يكف في إثباته مجرد نفي التشبيه. إذا قال هذا القول قال له المعترض: السمع هو خبر الله أو خبر رسوله عن ما الأمر عليه في الواقع، فما ورد في الكتاب أو السنة من نفي أو إثبات فهو حق يجب تصديقه دون أن ننفي ما لم ينف كما لم نثبت ما لم يثبت، فإن الدليل دال على المخبر عنه، وحال الدليل أنه لا ينعكس فلا يلزم من عدم الدليل عدم المدلول. فمثلا: ما لم يرد السمع بنفيه يجوز أن يكون في الواقع ثابتا لله مادام أن السمع لم يرد بنفيه، ومن المعلوم أن النصوص لم تنف الأكل والشرب والبكاء والحزن ونحو ذلك بأسمائها الخاصة بها فلابد والحالة هذه من ورود نفي هذه الصفات بأسمائها وإلا فلا يجوز الحكم بنفيها كما قلتم لنا بأنه لا يجوز إثباتها لله. ويقول المعترض بالإضافة إلى ما سبق لابد من أمر يميز لنا بين الأشياء التي يجوز إثباتها لله وما لا يجوز إثباته، ويميز لنا بين الأشياء التي تنفى عن الله وبين الأشياء التي لا يصح نفيها، فإن الثبوت والنفي متماثلان فيما يجب ويجوز ويمتنع فلابد من فارق يميز الإثبات عن النفي والنفي عن الإثبات وإلا فلا يجوز حينئذ أن ننفي شيئا غير منفي في النص كما لا يجوز أن نثبت شيئا غير وارد

فيه. وبعبارة أصرح قد يعبر عما سبق بأن يقال: لابد من اعتبار يحتم ما يجب إثباته لله ويحتم ما يجب نفيه عنه، وإن كان النص كافيا في ذلك كان خبره مطابقا لما الأمر عليه في نفس الواقع، وحينئذ فما الفرق بين نفي ما ينفى وإثبات ما يثبت؟ فكما تقولون يجب أن لا يثبت لله إلا ما ورد في النص فقولوا لا ينفى عن الله إلا ما جاء السمع بنفيه. هذا حاصل كلام المعترض فيقال ردا عليهم ودحضا لباطلهم: كل ما نافى صفات الكمال فهو منفي عن الله، فإن إثبات الشيء نفي لضده، كما أن نفي الشيء إثبات لضده. فمثلا: هو سبحانه موصوف بالوجود والأولية والغنى والحياة والقيومية والقدرة والقوة وإثبات هذه الأوصاف مستلزم لنفي أضدادها.

اعتراض المعتزلة على الأشاعرة

اعتراض المعتزلة على الأشاعرة ... قوله: وبالجملة. فالسمع قد أثبت له من الأسماء الحسنى وصفات الكمال ما قد ورد، فكل ما ضاد ذلك فالسمع ينفيه، كما ينفي عنه المثل والكفء فإن إثبات الشيء نفي لضده ولما يستلزم ضده، والعقل يعرف نفي ذلك كما يعرف إثبات ضده، فإثبات أحد الضدين نفي للآخر ولما يستلزمه، فطرق العلم بنفي ما ينزه عنه الرب متسعة لا يحتاج فيها إلى الاقتصار على مجرد نفي التشبيه والتجسيم. كما فعله أهل القصور والتقصير الذين تناقضوا في ذلك وفرقوا بين المتماثلين، حتى أن كل من أثبت شيئا احتج عليه من نفاه بأنه يستلزم التشبه، وكذلك احتج القرامطة على نفي جميع الأمور، حتى نفوا النفي والإثبات، فقالوا: لا يقال لا موجود ولا ليس بموجود ولا حي، ولا ليس بحي، لأن ذلك تشبيه بالموجود أو المعدوم، فلزم نفي النقيضين، وهو أظهر الأشياء امتناعا، ثم إن هؤلاء يلزمهم من تشبيهه بالمعدومات والممتنعات والجمادات أعظم مما فروا منه من التشبيه بالأحياء الكاملين، فطرق تنزيهه وتقديسه عما هو منزه عنه متسعة لا تحتاج إلى هذا.

ش: بعد أن مثل المؤلف بصفة الوجود والأولية والغنى المطلق والقوة والقدرة والحياة والقيومية وأن إثبات هذه الأوصاف مستلزم لنفي أضدادها أردف يقول: ومجمل القول أنه قد ورد في النصوص من أسماء الله الحسنى وأوصافه العليا ما هو ثابت معلوم، وإثبات ذلك مستلزم لنفي ضده كالعلم مع الجهل والكلام مع الخرس والسمع مع الصمم وأشباه ذلك ونفي الشيء إثبات لضده كالظلم مع العدل ونفي المثيل والكفء والشريك إثبات للوحدانية والتفرد بالخلق والتدبير والكمال المطلق: فإثبات أحد الضدين نفي للآخر ولما يستلزمه ولقد أحسن القائل: والضدُّ يظهرُ حسنَه الضدُّ ... وبِضِدِّها تتبينُ الأشياءُ وسيأتي بعد هذا في كلام الشيخ أمثلة توضح هذا المقام، والعاقل بما وهبه الله من عقل سليم يدرك ذلك فهي قضية بدهية ضرورية، وحينئذ فطرق تنزيه الله عما لا يليق به متعددة ليست منحصرة فيما يدعيه أهل الجهل والتفريط من أن نفي التشبيه يكفي في إثبات ما لم يرد من الصفات، أو أنه يعتمد عليه في نفي ما ورد بحجة التنزيه كما هي طريقة الجهمية والمعتزلة والأشاعرة وأضرابهم. فقد أثبت البعض شيئا ونفى شيئا والبعض منهم نفى الجميع، ولاشك أن هذه الطوائف قد تناقضت في مقالاتها وفرقت بين الأمور المتماثلة في الحكم. وأخذ بعضها يحتج على البعض الآخر بما يوافقه فيه. ثم إنهم لم يستفيدوا من دعوى التنزيه ونفي التشبيه إلا تنقص رب العالمين وتشبيهه بالناقصات، فقد فروا من تشبيهه سبحانه بالأحياء الكاملين، على زعمهم أن إثبات صفاته تشبيه، فوقعوا في التشبيه بالجماد والمعدوم والممتنع، شأنهم في ذلك شأن القرامطة النافين الإثبات والنفي، زعما منهم أن الإثبات يلزم منه التشبيه بالموجودات والنفي يلزم منه التشبيه بالمعدومات، فوقعوا في تشبيهه بالممتنعات. وحينئذ فتنزيه الله عما لا يليق به لا يكون بوصفه بأوصاف النقص، كما لا يكون بنفي أوصاف الكمال.

سورة (قل هو الله أحد) : هي نسب القرآن

سورة (قل هو الله أحد) : هي نسب القرآن ... قوله: وقد تقدم أن نفي ما ينفي عنه سبحانه، نفي متضمن للنفي والإثبات إذ مجرد النفي لا مدح فيه ولا كمال، فإن المعدوم يوصف بالنفي والمعدوم لا يشبه الموجودات وليس هذا مدحا، لأن مشابهة الناقص في صفات النقص نقص مطلقا كما أن مماثلة المخلوق في شيء من الصفات تمثيل وتشبيه ينزه عنه الرب تبارك وتعالى والنقص ضد الكمال، وذلك مثل أنه قد علم أنه حي والموت ضد ذلك، فهو منزه عنه، وكذلك النوم والسنة ضد كمال الحياة، فإن النوم أخو الموت، وكذلك اللغوب نقص في القدرة والقوة، وأكل والشرب ونحو ذلك من الأمور فيه افتقار إلى موجود غيره، كما أن الاستعانة بالغير والاعتضاد به ونحو ذلك تتضمن الافتقار إليه والاحتياج إليه، وكل من يحتاج إلى من يحمله أو يعينه على قيام ذاته وأفعاله فهو مفتقر إليه ليس مستغنيا عنه بنفسه فكيف من يأكل ويشرب، والآكل والشارب أجوف، والمصمت الصمد أكمل من الآكل والشارب، ولهذا كانت الملائكة صمدا لا تأكل ولا تشرب، وقد تقدم أن كل كمال ثبت لمخلوق فالخالق أولى به وكل نقص تنزه عنه المخلوق فالخالق أولى بتنزيهه عن ذلك، والسمع قد نفى ذلك في غير موضع، كقوله تعالى: {اللَّهُ الصَّمَدُ} والصمد الذي لا جوف له، ولا يأكل ولا يشرب، وهذه السورة هي نسب الرحمن، أو هي الأصل في هذا الباب. وقال في حق المسيح وأمه: {مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ} ، فجعل ذلك دليلا على نفي الألوهية، فدل ذلك على تنزيهه عن ذلك بطريق الأولى والأحرى. والكبد والطحال ونحو ذلك هي أعضاء الأكل والشرب، فالغني المنزه عن ذلك منزه عن آلات ذلك بخلاف اليد فإنها للعمل والفعل وهو سبحانه موصوف بالعمل والفعل، إذ ذاك من صفات الكمال، فمن يقدر أن يفعل أكمل ممن لا يقدر على الفعل، وهو سبحانه منزه عن الصاحبة والولد وعن آلات ذلك

وأسبابه. وكذلك البكاء والحزن هو مستلزم الضعف والعجز الذي ينزه عنه سبحانه، وبخلاف الفرح والغضب، فإنه من صفات الكمال. فكما يوصف بالقدرة دون العجز، وبالعلم دون الجهل، وبالحياة دون الموت وبالسمع دون الصمم، وبالبصر دون العمى، وبالكلام دون البكم، فكذلك يوصف بالفرح دون الحزن وبالضحك دون البكاء ونحو ذلك. ش: يقول الشيخ: قد تقدم يعني في القاعدة الأولى، أن جميع ما وصف لله به نفسه من النفي فهو متضمن لنفي أوصاف النقص وإثبات أوصاف الكمال. فنفي السنة والنوم واللغوب وكونه لا يؤوده حفظ السماوات والأرض ولا يعزب عنه شيء وكونه يرى ولا يحاط به رؤية، كل ذلك نفي متضمن لإثبات الكمال، ونفي ما يضاد هذه الحال، وهكذا القول في سائر ما ورد، وحينئذ فالنفي المحض ليس بشيء، ولهذا يوصف به المعدوم والمعدوم لا يشبه الموجودات وليس ذلك مدحا له لأن مشابهة الناقص نقص بكل حال كما أن المماثلة لشيء من الموجودات فيه مشابهة ومماثلة للغير، وذلك نقص كما أن عدم المماثلة كمال. ولذلك يوصف الرب بأوصاف الكمال دون أضدادها كما يتنزه ويتقدس عن الشبيه والمثال. ثم سرد المؤلف أمثلة لأوصاف الكمال المستلزمة لنفي أضدادها، ونفي أوصاف النقص المستلزمة لإثبات أضدادها فقال: "وذلك أنه قد علم أنه حي والموت ضد ذلك فهو منزه عنه" إلى قوله: "والأكل والشرب فيه افتقار إلى موجود غيره" يعني ففي إثبات هذه الصفات نفي لأضدادها ولما يستلزم أضدادها. وقوله: "والآكل والشارب أجوف والمصمت الصمد أكمل من الآكل والشارب " إلى قوله: "فجعل ذلك دليلا على نفي الألوهية فدل ذلك على تنزيهه عن ذلك بطريق الأولى والأحرى" معناه: إذا عرف أن من اعتضد بغيره واستعان به في أن يحمله أو يقضي حوائجه فهو مفتقر إلى ذلك الغير، فمن يأكل ويشرب مفتقر إلى الأكل والشرب لتقوم به ذاته ويقوى به. والمصمت أكمل من الأجوف لعدم افتقاره إلى

وقوله: "وهذه السورة، هي نسب الرحمن أو هي الأصل في هذا الباب " يعني: كما أخرج الإمام أحمد وابن خزيمة والبيهقي في "الأسماء والصفات " عن أبي ابن كعب أن المشركين قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: "يا محمد انسب لنا ربك فأنزل الله: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ، اللَّهُ الصَّمَدُ، لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ} "ليس شيء يولد إلا سيموت وليس شيء يموت إلا سيورث وأن الله لا يموت ولا يورث " {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ} "لم يكن له شبيه ولا عدل وليس كمثله

شيء" وروى البخاري ومسلم عن عائشة رضي الله عنها: "أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث رجلا في سرية فكان يقرأ لأصحابه في صلاتهم فيختم بقل هو الله أحد فلما رجعوا ذكروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: سلوه لأي شيء يصنع ذلك؟! فسألوه فقال لأنها صفة الرحمن وأنا أحب أن أقرأ بها فقال: أخبروه أن الله تعالى يحبه ". قوله: وأيضا فقد ثبت بالعقل ما أثبته السمع من أنه سبحانه لا كفء له ولا سمي له، وليس كمثله شيء، فلا يجوز أن تكون حقيقته كحقيقة شيء من المخلوقات ولا حقيقة شيء من صفاته كحقيقة شيء من صفات المخلوقات، فيعلم قطعا أنه ليس من جنس المخلوقات لا الملائكة ولا السموات، ولا الكواكب ولا الهواء، ولا الماء ولا الأرض ولا الآدميين ولا أبدانهم ولا أنفسهم ولا غير ذلك بل يعلم أن حقيقته عن مماثلة شيء من الموجودات أبعد من سائر الحقائق، وأن مماثلته لشيء منها أبعد من مماثلة حقيقة شيء من المخلوقات لحقيقة مخلوق آخر. فإن الحقيقتين إذا تماثلتا جاز على كل واحدة ما يجوز على الأخرى ووجب لها ما يجب لها: فيلزم أن يجوز على الخالق القديم الواجب بنفسه ما يجوز على المحدث المخلوق من العدم والحاجة، وأن يثبت لهذا ما يثبت لذلك من الوجوب والغنى فيكون الشيء الواحد واجب بنفسه غير واجب بنفسه موجودا معدوما، وذلك جمع بين النقيضين. وهذا مما يعلم به بطلان قول المشبهة الذين يقولون بصر كبصري، أو يد كيدي ونحو ذلك، تعالى الله عن قولهم علوا كبيرا، وليس المقصود هنا استيفاء ما يثبت له ولا ما ينزه عنه واستيفاء طرق ذلك، لأن هذا مبسوط في غير هذا الموضع وإنما المقصود هنا التنبيه على جوامع ذلك وطرقه، وما سكت عنه السمع نفيا وإثباتا ولم يكن في العقل ما يثبته ولا ينفيه، سكتنا عنه فلا نثبته ولا ننفيه، فنثبت ما علمنا ثبوته، وننفي ما علمنا نفيه، ونسكت عما لا نعلم نفيه ولا إثباته والله أعلم.

ش: يعني أن العقل السليم يدرك أن الرب الخالق للكون بأسره لا بد أن يكون متصفا بالكمال ومنزها عن النقص، كما أن السمع قد ورد بذلك فيعلم بالضرورة من العقل والسمع أن ذات الله سبحانه ليست كذوات المخلوقين ولا صفاته كصفاتهم فليس كشيء من الموجودات من سماء أو ملائكة أو أبدان آدميين أو أرواحهم أو غير ذلك، ويعلم علما يقينيا أن مباينته لمخلوقاته أعظم من مباينة مخلوق لمخلوق، فإذا كان بعض الموجودات لا يماثل بعضا فالمباينة التي بين الخالق والمخلوق أعظم من ذلك. فإذا انتفت المماثلة بين مخلوق ومخلوق فانتفاؤها بين الخالق والمخلوق بطريق الأولى، والحقيقتان إذا تماثلتا جاز على إحداهما ما يجوز على الأخرى ووجب لها ما وجب لها، فلو تماثل الخالق والمخلوق لجاز على الله ما يجوز على المخلوق من العدم والحدوث والافتقار، ووجب للمخلوق ما يجب للخالق من البقاء والقيومية والغنى المطلق ووجوب الوجود، وحينئذ فيكون كل منهما واجب الوجود ليس واجب الوجود، غني عما سواه غير غني عما سواه، باقيا ليس باقيا وهكذا. وحينئذ فيلزم الجمع بين النقيضين وذلك ممتنع، وبهذا يعلم أن قول المشبه: لله سمع وبصر ويد واستواء كسمعي وبصري ويدي واستوائي ونحو ذلك قول واضح الفساد، حيث يلزم منه أن يجوز على الخالق ما يجوز على المخلوق ويجب له ما يجب له، وليس القصد في هذه الرسالة المختصرة استيعاب طرق النفي والإثبات، فمحل بسط ذلك هو المطولات وإنما المقصود هنا لفت النظر إلى ضوابط وقواعد نافعة مع لفت النظر والتنبيه إلى طرق النفي والإثبات الواجبين لله، وإذا عرف هذا فما أثبته الشرع وجب إثباته وما نفاه وجب نفيه وما سكت عنه فلم يثبته ولم ينفه فإن كان في العقل ما يثبته ككونه وصف كمال لا نقص فيه بوجه من الوجوه أثبتناه ضمن المثل الأعلى وإن كان في العقل ما ينفيه ككونه وصف نقص نفيناه ضمن المثل الأعلى أيضا، وإن لم يكن في العقل ما يثبته ولا ينفيه سكتنا عنه فلم نثبته ولم ننفه والله جل وعلا متصف بما وصف به نفسه في كتابه أو على لسان رسوله وهو أعلم بما يستحقه مما علمنا وما لم نعلم من

أوصاف الكمال ونعوت الجلال.

اشارة الشارح إلى القاعدة السابعة

اشارة الشارح إلى القاعدة السابعة ... إلى هنا تمت القواعد الست الموجودة في النسخ المتداولة، وقد وجد البحاثة النجدي الشيخ عبد الرحمن بن قاسم نسخة لمتن التدمرية بمكتبة الآلوسي بالعراق، ولما جمع فتاوى ابن تيمية ورتبها وطبع المجموع كان فيه متن التدمرية وكان ضمنه قاعدة سابعة اشتملت عليها الخاتمة الجامعة، وقد رقم الشيخ ابن قاسم لهذه القاعدة بالحروف الأبجدية إشارة إلى أنها ليست من صلب التدمرية في النسخ المعتمدة. وكنت قد عزمت على شرحها وضمها إلى القواعد الست وبعد النظر والتأمل فيها وجدتها غير خالية من سقط في الكلمات وارتباك في التعبير في بعض المواضع. وظهر لي أنها ربما كانت موجودة في نسخة مسودة. ثم بيضت الرسالله بدونها ولهذا نجدها لم ترد في النسخ المشهورة والمتداولة بين الناس بل أهملت ولم تذكر، ومن أجل ذلك عدلت إلى إغفالها وعدم ضمها إلى أخواتها في هذا الشرح. على أن جل ما فيها قد وردت زبدته في كلام الشيخ في موضعين، أحدهما عند قوله في الأصل الأول: "فإن قال أنا أنفي النفي والإثبات قيل له فيلزمك التشبيه بما اجتمع فيه النقيضان من الممتنعات" إلى قوله: "فجعلت الوجود الواجب الذي لا يقبل العدم، هو أعظم الممتنعات وهذا غاية التناقض والفساد". والثاني عند قوله: في القاعدة الأولى: "ومن قال أنه ليس بحي ولا سميع ولا بصير ولا متكلم لزمه أن يكون ميتا أصم أعمى أبكم" إلى قوله: "واعلم أن الجهمية المحضة كالقرامطة ومن ضاهاهم ينفون عنه تعالى اتصاله بالنقيضين حتى يقولون ليس بموجود ولا ليس بموجود ولا حي ولا ليس بحي، ومعلوم أن الخلو من النقيضين ممتنع في بدائه العقول. كالجمع بين النقيضين، والله الموفق للصواب".

الأصل الثاني من نوعي التوحيد

قوله: وأما الأصل الثاني وهو التوحيد في العبادات المتضمن للإيمان بالشرع والقدر جميعا فنقول لابد من الإيمان بخلق الله وأمره، فيجب الإيمان بأن الله خالق كل شيء وربه ومليكه، وأنه على كل شيء قدير، وأنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، ولا حول ولا قوة إلا بالله، وقد علم ما يكون قبل أن يكون، وقدر المقادير وكتبها حيث شاء، كما قال تعالى: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالأرض إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إن الله قدر مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة وكان عرشه على الماء" ويجب الإيمان بأن الله أمر بعبادته وحده لا شريك له كما خلق الجن والإنس لعبادته، وبذلك أرسل رسله وأنزل كتبه. ش: هذا شروع في بيان الأصل الثاني من نوعي التوحيد وهو توحيد الشرع والقدر، وقد سبق الكلام في أنهما متلازمان وأنه لابد من الإيمان بالشرع والقدر إيمانا خاليا من الزلل، وكما أنه لابد في الأصل الأول من أمرين وهما إثبات ما أثبته الله ورسوله من أوصاف الكمال ونفي ما يجب نفيه مما يضاد هذه الحال، فلابد أيضا في باب شرع الله وتقديره من أمرين: أحدهما: الإيمان بربوبية الله الشاملة وأنه خالق كل شيء ومليكه. وأن ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، وأنه لا تحول للخلق من حال إلى حال ولا قوة لهم إلا به وأنه العليم بكل شيء فلا تخفى عليه خافية، يعلم ما كان قبل كونه وما لم يكن لوكان كيف يكون، علم ما العباد فاعلون وكتب مقادير كل شيء قبل أن يخلق السموات والأرض، فإنه لا يكون إلها مستحقا للعبادة إلا من كان خالقا رازقا مالكا متصرفا مدبرا لجميع الأمور حيا قيوما

سميعا بصيرا عليما حكيما موصوفا بكل كمال منزها عن كل نقص غنيا عما سواه، مفتقرا إليه كل ما عداه، فاعلا مختارا لا معقب لحكمه ولا راد لقضائه، ولا يعجزه شيء في السموات ولا في الأرض، ولا تخفى عليه خافية. والثاني: أنه لابد من الإيمان بأنه سبحانه شرع الشرائع وأمر العباد ونهاهم، ليطيعوا أمره ويجتنبوا نهيه فقد خلقهم ليعبدوه ولا يشركوا به شيئا، قال تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ} فحيث كان متفردا بالخلق والبدء والإعادة ولا يشركه في ذلك أحد، فهو الذي يستحق أن يفرد بالعبادة دون سواه كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} وهذه هي الحكمة من خلق الجن والإنس كما قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} وبذلك أنزل كتبه المقدسة وأرسل رسله عليهم الصلاة والسلام كما قال جل وعلا: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} والشاهد من آية الحج كونه سبحانه يعلم كل شيء في السماء والأرض وأن ذلك مكتوب عنده في كتاب. والشاهد من الحديث كونه تعالى قدر مقادير الخلق قبل خلقه لسمواته وأرضه، بهذه المدة المذكورة، وهذا الحديث رواه مسلم عن عبد الله بن عمرو بن العاص عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "قدر الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة وكان عرشه على الماء" ومثله رواه البخاري في صحيحه من حديث عمران بن حصين رضي الله عنه "أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: يا بني تميم اقبلوا البشرى، قالوا: قد بشرتنا فأعطنا، فأقبل على أهل اليمن فقال: اقبلوا البشرى إذ لم يقبلها بنو تميم فقالوا قد قبلنا يا رسول الله، قالوا جئناك لنتفقه في الدين ولنسألك عن أول هذا الأمر فقال: "كان الله ولم يكن شيء قبله وفى لفظ معه وفي لفظ غيره وكان عرشه على الماء وكتب في الذكر كل شيء وخلق السموات والأرض " قال ثم جاءني رجل فقال: أدرك ناقتك فذهبت فإذا السراب ينقطع دونها فوالله لوددت أني تركتها ولم أقم"، وقوله: "اسمه كتب في الذكر" يعني اللوح

المحفوظ كما قال تعالى: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ} أي من بعد اللوح المحفوظ، ومعنى الحديث إخباره صلى الله عليه وسلم عن خلق هذا العالم المشهود، الذي خلقه الله في ستة أيام ثم استوى على العرش كما أخبر القرآن العظيم بذلك في غير موضع ومثله أيضا الحديث الذي رواه أبوداود والترمذي وغيرهما عن عبادة بن الصامت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "أول ما خلق الله القلم فقال اكتب قال وما أكتب قال ما هو كائن إلى يوم القيامة". فهذا القلم خلقه الله لما أمره بالتقدير المكتوب قبل خلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة وكان مخلوقا قبل السموات والأرض، وهو أول ما خلق من هذا العالم، وخلقه بعد العرش كما دلت عليه النصوص وهو قول جمهور السلف. والأمر يراد به المصدر ويراد به المفعول به وهو المأمور الذي كونه الله بأمره، والشرع هو ما سن الله من الدين وأمر به كالصوم والصلاة والحج والزكاة وسائر أعمال البر، و"القدر" مصدر قدر يقدر وقد تسكن داله، وهو ما قضاه الله تعالى وحكم به من الأمور، كما سيأتي.

معنى حديث الأنبياء اخوة لعلاة

معنى حديث الأنبياء اخوة لعلاة ... قوله: وعبادته تتضمن كمال الذل والحب له. وذلك يتضمن كمال طاعته {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} وقد قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ} وقال تعالى: {وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ} وقال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إله إلا أَنَا فَاعْبُدُونِ} وقال تعالى: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ} وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحاً إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ، وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ} فأمر الرسل بإقامة الدين وأن لا يتفرقوا فيه ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح "إنا معاشر الأنبياء ديننا واحد، والأنبياء

إخوة لعلات وإن أولى الناس بابن مريم لأنا، إنه ليس بيني وبينه نبي". ش: جماع العبادة هو كمال الحب مع كمال الذل. وهي كما قال الشيخ اسم جامع لما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الظاهرة. كالصلاة والزكاة والصيام والحج وصدق الحديث وأداء الأمانة وبر الوالدين وصلة الأرحام والوفاء بالعهود والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وجهاد الكفار والمنافقين والإحسان إلى الجار واليتيم والمسكين وابن السبيل والمملوك من الآدميين والبهائم والدعاء والذكر وأمثال ذلك. والباطنة كالصبر والرضاء بقضاء الله والتوكل عليه والرجاء لرحمته والخوف من عذابه وأمثال ذلك. وذلك كله يتضمن طاعة الله وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم وقد جعل الله عز وجل طاعة رسوله طاعة له وعلق محبته سبحانه باتباع رسوله صلى الله عليه وسلم كما في آيتي النساء وآل عمران، والشاهد من آية النساء والزخرف وآية الأنببياء والمؤمنون والشورى هو أن الغاية من إنزال الكتب السماوية جميعها وإرسال الرسل كلهم هي عبادة لله وحده وترك عبادة ما سواه، وهذا الحديث متفق عليه، وهو مروي عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم، والشاهد منه أن القدر المشترك بين الأنبياء هو عبادة الله وحده لا شريك له وإن اختلفت شرعتهم ومناهجهم كما في قوله جل جلاله {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً} وقوله سبحانه: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ... الآية} . معناه كما قال أهل التفسير: شرع لكم ولمن قبلكم من الأنبياء دينا واحدا، يعني التوحيد، ولم يبعث الله نبيا قط إلا وصاه بإقام الصلاة وإيتاء الزكاة والإقرار لله بالطاعة فذلك دينه الذي شرع لهم، وخص نوحا وإبراهيم وموسى وعيسى بالذكر مع نبينا عليهم الصلاة والسلام لأنهم أرباب الشرائع. ثم أمرهم سبحانه بإقامة الدين ونهاهم عن الاختلاف فيه، أي لا يختلفوا في التوحيد والإيمان بالله وطاعة رسله وقبول شرائعه فإن هذه قد تطابقت عليها الشرائع وتوافقت فيها الأديان فلا ينبغي الخلاف في مثلها.

وليس من هذا فروع المسائل التي تختلف فيها الأدلة وتتعارض فيها الأمارات وتتباين فيها الأفهام فإنها من مطارح الاجتهاد ومواطن الخلاف. والعلات: جمع بمعنى الضرات وحده علة، سميت بذلك لأن الذي تزوج أخرى على أولى قد كانت قبلها "نهل " ثم "عل " من هذه. ومعنى أولاد علات: أي بني أمهات شتى من رجل واحد، والمعنى في الحديث أن الأنبياء بعثوا متفقين في أصول التوحيد متباينين في فروع الشرع، وقيل: أراد أن الأنبياء يختلفون في أزمانهم وإن شملتهم النبوة، فكأنهم أولاد علات لم يجمعهم زمن واحد، كما لم يجمع أولاد العلات بطن واحد.

دين الأنبياء واحد وان اختلفو افي الشرعة والمنهاج

دين الأنبياء واحد وان اختلفو افي الشرعة والمنهاج ... قوله: وهذا الدين هو دين الإسلام الذي لا يقبل الله دينا غيره لا من الأولين ولا من الآخرين، فإن جميع الأنبياء على دين الإسلام، قال الله تعالى عن نوح: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآياتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ} ، إلى قوله: {وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} ، وقال عن إبراهيم: {وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَه} إلى قوله: {إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} إلى قوله: {وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} وقال عن موسى: {وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ} وقال في حواري المسيح: {وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ} وقال فيمن تقدم من الأنبياء: {يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا} وقال عن بلقيس أنها قالت: {رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} فالإسلام يتضمن الاستسلام لله وحده فمن استسلم له ولغيره كان مشركا ومن لم يستسلم له كان مستكبرا عن عبادته، والمشرك به والمستكبر عن عبادته كافر، والاستسلام له وحده يتضمن عبادته وحده، وطاعته وحده فهذا دين الإسلام الذي لا يقبل الله غيره، وذلك إنما يكون

بأن يطاع في كل وقت، بفعل ما أمر به في ذلك الوقت فإذا أمر في أول الأمر باستقبال الصخرة، ثم أمرنا ثانيا باستقبال الكعبة، كان كل من الفعلين حين الأمر به داخلا في الإسلام، فالدين هو الطاعة والعبادة له في الفعلين، وإنما تنوع بعض صور الفعل وهو وجهة المصلي، فكذلك الرسل، وإن تنوعت الشرعة والمنهاج والوجهة والمنسك فإن ذلك لا يمنع أن يكون الدين واحدا كما لم يمنع ذلك في شريعة الرسول الواحد. ش: يقول الشيخ: إن دين الأنبياء والمرسلين دين واحد وإن كان لكل منهم شرعة ومنهاج. فدين المرسلين يخالف دين المشركين المبتدعين الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا، قال تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ، مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ، مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} وهذا التوحيد هو أصل الدين الذي لا يقبل الله من الأولين والآخرين دينا غيره وبه أرسل الله الرسل وأنزل الكتب كما قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إله إلا أَنَا فَاعْبُدُونِ} وأمثال ذلك من الآيات. وقد ذكر الله عز وجل أن كل واحد من الرسل افتتح دعوته بأن قال لقومه: {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} وفي المسند عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "بعثت بالسيف بين يدي الساعة حتى يعبد الله وحده لا شريك له وجعل رزقي تحت ظل رمحي وجعل الذل والصغار على من خالف أمري ومن تشبه بقوم فهو منهم"، واعلم أن الله قد خص نبينا محمدا صلى الله عليه وسلم بخصائص ميزه بها على جميع الأنبياء والمرسلين وجعل له شرعة ومنهاجا هي أفضل شرعة وأكمل منهاجا كما جعل أمته خير أمة أخرجت للناس. فهم يوفون سبعين أمة هم خيرها وأكرمها على الله من جميع الأجناس. هداهم لله بكتابه وإرسال رسوله لما اختلف فيه من الحق قبلهم وجعلهم وسطا عدلا خيارا. فهم وسط في توحيد الله وأسمائه وصفاته وفي الإيمان

برسله وكتبه وشرائع دينه من الأمر والنهي والحلال والحرام فأمرهم بالمعروف ونهاهم عن المنكر وأحل لهم الطيبات وحرم عليهم الخبائث، لم يحرم عليهم شيئا من الطيبات كما حرم على اليهود، ولم يحل لهم شيئا من الخبائث كما استحلتها النصارى، ولم يضيق عليهم باب الطهارة والنجاسة، بينما كانت اليهود لا يرون إزالله النجاسة بالماء بل إذا أصابت ثوب أحدهم قرضه بالمقراض، والنصارى ليس عندهم شيء نجس. وكذلك المسلمون وسط في الشريعة فلم يجحدوا شرعة الناسخ لأجل شرعة المنسوخ كما فعلت اليهود، ولا غيروا شيئا من شرعه المحكم، ولا ابتدعوا شرعا لم يأذن به الله كما فعلت النصارى ولا غلوا في الأنبياء والصالحين كغلو النصارى ولا بخسوهم حقوقهم كفعل اليهود ولا جعلوا الخالق سبحانه وتعالى متصفا بخصائص المخلوق ونقائصه ومعايبه من الفقر والبخل والعجز كفعل اليهود ولا المخلوق متصفا بخصائص الخالق سبحانه التي ليس كمثله فيها شيء كفعل النصارى. ولم يستكبروا عن عبادته كفعل اليهود ولا أشركوا بعبادته أحدا كفعل النصارى. وأهل السنة والجماعة في الإسلام كاهل الإسلام في أهل الملل. فهم وسط في باب صفات الله عز وجل بين أهل الجحد والتعطيل وبين أهل التشبيه والتمثيل. يصفون الله بما وصف به نفسه وبما وصفه به رسوله من غير تعطيل ولا تمثيل، إثباتا لصفات الكمال وتنزيها له عن أن يكون له فيها أنداد وأمثال. فالإسلام بهذا المفهوم العام متضمن للانقياد التام والطاعة الكاملة لله وحده دون من سواه، وحينئذ فمن انقاد لغيره وعبده فهو غير مسلم له. بل هو مستكبر عن الاستسلام له وجاحد لألوهيته، كما أن من عبده وعبد غيره مشرك به سواه وغير مستسلم له. وكل من المتكبر عن عبادته والمشرك به غير مسلم. فإن الاستسلام له سبحانه يستلزم عبادته وطاعته وحده لا شريك له،

فالدين الذي لا يقبل الله من جميع الأمم سواه هو الإسلام بهذا المعنى. وحقيقة الأمر أن طاعته في كل حين هي الإسلام: فمثلا ما شرعه الله لموسى وعيسى من العبادة وإن اختلف عما شرعه الله لنبينا محمد عليهم الصلاة والسلام بأن اختلفت في كيفية عبادة أو تحليل شيء كان محرما أو تحريم شيء كان حلالا. فتختلف في شريعة رسول عنها في شريعة رسول آخر، إلا أن الأصل واحد وهو: الاستسلام لله بالتوحيد والانقياد له بالطاعة. قال تعالى {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّه} ، {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إله إلا أَنَا فَاعْبُدُونِ} فهذا الاختلاف في المنهج مع الاتفاق في الأصل حاصل ما بين شريعة وشريعة كما يحصل في شريعة الرسول الواحد. فأمر الرسول صلى الله عليه وسلم باستقبال الصخرة في بيت المقدس، وامتثاله لذلك طاعة وإسلام قبل النسخ ثم أمره بالتحول إلى استقبال الكعبة بالبيت الحرام وامتثاله لذلك طاعة وإسلام. والشاهد من آية يونس وآيات البقرة وأيضا آية يونس وآيتي المائدة الشاهد من الجميع: أن جميع الرسل جاؤوا بدين الإسلام الذي هو التوحيد، وسفه نفسه: جهلها. والحواريون هم أصفياء عيسى وأنصار دينه وأول من آمن به. والمسيح هو عيسى بن مريم عليه السلام وسمي بذلك لأنه مسح الأرض أي ذهب فيها فلم يستكن بها، أو لأنه كان لا يمسح ذا عاهة إلا برئ فسمي مسيحا. فهو على هذين فعيل بمعنى فاعل أو لأنه كان ممسوح الأخمصين أو لأنه مسح بالتطهير من الذنوب وهو على هذين القولين فعيل بمعنى مفعول. وأما الدجال فسمي مسيحا لأنه ممسوح إحدى العينين، وقيل لأنه يمسح الأرض أي يطوف ببلدانها إلا مكة والمدينة وبيت المقدس. وبلقيس هي بنت شرحبيل ملكة سبأ بمدائن اليمن، والمنسك هو العبادة عموما فيشمل الحج وغيره.

أول الرسل يبشر بآخرهم

أول الرسل يبشر بآخرهم ... قوله: والله تعالى جعل من دين الرسل، أن أولهم يبشر بآخرهم ويؤمن به وآخرهم يصدق بأولهم ويؤمن به، قال الله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ} قال ابن عباس: لم يبعث الله نبيا إلا أخذ عليه الميثاق، لئن بعث محمد وهو حي ليؤمنن به ولينصرنه، وأمره أن يأخذ الميثاق على أمته لئن بعث محمد وهم أحياء ليؤمنن به ولينصرنه، وقال تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً} ، وجعل الإيمان بهم متلازما وكفر من قال: إنه آمن ببعض وكفر ببعض. قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً، أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقّاً} ، وقال تعالى: {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} . وقد قال لنا: {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ، فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} فأمرنا أن نقول: آمنا بهذا كله، ونحن له مسلمون، فمن بلغته رسالله محمد صلى الله عليه وسلم فلم يقر بما جاء به لم يكن مسلما ولا مؤمنا، بل يكون كافرا وإن زعم أنه مسلم أو مؤمن، كما ذكروا أنه لما أنزل الله تعالى {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ

الْخَاسِرِينَ} قالت اليهود والنصارى فنحن مسلمون، فأنزل الله {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً} ، فقالوا لا نحج فقال تعالى: {وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} ، فإن الاستسلام لله لا يتم إلا بالإقرار بما له على عباده من حج البيت، كما قال صلى الله عليه وسلم: "بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت"، ولهذا لما وقف النبي صلى الله عليه وسلم بعرفة أنزل الله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِيناً} . ش: يعني أن الله سبحانه قد جعل من ضمن ما شرعه لعباده أن السابق من الأنبياء يبشر باللاحق وأن المتأخر يؤمن بالمتقدم، كما في قوله: {وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرائيلَ} الآية. وكما في الحديث الذي رواه الإمام أحمد بسنده عن أبي أمامة قال: قلت يا رسول الله ما كان بدء أمرك؟، قال: "دعوة أبي إبراهيم وبشرى عيسى ورأت أمي أنه يخرج منها نور أضاءت له قصور الشام" وكما في الأثر الذي رواه الإمام أحمد أيضا بسنده إلى عبد الله بن مسعود في قصة وفد قريش إلى النجاشي في طلب المهاجرين إلى الحبشة وفيه "قال جعفر بن أبي طالب: أنا خطيبكم اليوم فاتبعوه فسلم ولم يسجد، فقالوا: له ما لك لا تسجد للملك؟، قال: إنا لا نسجد إلا لله عز وجل، قال: وما ذاك، قال: إن الله بعث إلينا رسوله فأمرنا أن لا نسجد لأحد إلا لله عز وجل وأمرنا بالصلاة والزكاة، قال عمرو بن العاص: فإنهم يخالفونك في عيسى بن مريم، قال: ما تقولون في عيسى بن مريم وأمه؟، قال: نقول كما قال عز وجل: هو كلمة الله وروحه ألقاها إلى العذراء البتول التي لم يمسها بشر، قال: فرفع عودا من الأرض ثم قال: يا معشر الحبشة والقسيسين والرهبان والله ما يزيدون على الذي نقول فيه ما يساوي هذان، مرحبا بكم وبمن جئتم من عنده أشهد أنه رسول الله وأنه الذي نجد في الإنجيل وأنه الذي يبشر به عيسى بن مريم انزلوا حيث شئتم"، وكما أن

السابق يبشر باللاحق ويؤمن به فاللاحق يصدق السابق ويؤيده، كما في آية المائدة التي استشهد بها المؤلف وأمثالها من الآيات. وقد جعل الله الإيمان بالرسل مرتبطا بعضه ببعض، فمن فرق بينهم في الإيمان فليس بمؤمن بأحد منهم كما دل على ذلك آية النساء وآيتا البقرة ومثلهما آية آل عمران: {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا} الآية. وحينئذ فمن جملة الرسل نبينا محمد عليه وعليهم الصلاة والسلام وقد أخذ الله على جميع من سبقه من الأنبياء أن يؤمنوا به وأن يأخذوا العهد على أممهم: بالإيمان به كما في آية آل عمران. وقد ذكر المؤلف أثر ابن عباس كشاهد على معنى الآية الكريمة وقد روى هذا الأثر ابن جرير وغيره عن ابن عباس رضي الله عنهما. ومثله ما رواه بن جرير أيضا عن علي رضي الله عنه قال: "لم يبعث الله نبيا آدم فمن بعده إلا أخذ عليه العهد في محمد لئن بعث وهو حي ليؤمنن به ولينصرنه ويأمره فيأخذ العهد على قومه ثم تلا: {وإذ أخذ الله ميثاق النبيين} الآية". وإذاً فعلى جميع من بلغته رسالة خاتم الرسل محمد عليه الصلاة والسلام أن يؤمن بمقتضاها وأن لا يؤمن ببعض الكتاب ويكفر ببعض. وقد حكم الله على اليهود والنصارى حين زعموا الإسلام وأمروا بالحج فامتنعوا بقوله: {وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} وهذا الأثر رواه بن جرير والبيهقي في سننه عن عكرمة ولفظه: قال لما نزلت {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينا} قالت اليهود والنصارى: فنحن مسلمون، فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الله فرض على المسلمين حج البيت"، فقالوا: أيكتب علينا؟ وأبوا أن يحجوا، قال الله {وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} وذلك أن حج بيت الله الحرام أحد أركان الإسلام الخمسة كما في حديث ابن عمر الذي رواه البخاري ومسلم، فقد ختم الله الأنبياء بمحمد صلى الله عليه وسلم وأكمل له ولأمته الدين كما في آية المائدة. وقوله: "ولهذا لما وقف النبي بعرفة". يشير إلى ما رواه البخاري ومسلم عن طارق بن شهاب قال قالت اليهود لعمر: "إنكم

تقرؤون آية في كتابكم لو علينا معشر اليهود نزلت لاتخذنا ذلك اليوم عيدا، قال: وأية آية؟ قالوا: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} ، قال عمر: والله إني لأعلم اليوم الذي نزلت فيه على رسول الله صلى الله عليه وسلم والساعة التي نزلت فيها: نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم عشية عرفة في يوم جمعة". وأقررتم هو من الإقرار بمعنى الاعتراف. والإصر في اللغة: الثقل سمي العهد إصرا لما فيه من التشديد، والمعنى وأخذتم على ذلك عهدي. والأسباط: هم أولاد يعقوب وهم اثنا عشر ولدا وكل واحد منهم له من الأولاد جماعة. والسبط في بني إسرائيل بمنزلة القبيلة في العرب، وسموا الأسباط من السبط وهو التتابع فهم جماعة متتابعون. الفرق بين مسمى الإيمان والإسلام وقوله: "لم يكن مسلما ولا مؤمنا" يشير إلى أن من لم يؤمن بجميع ما بعث به محمد صلى الله عليه وسلم فليس بمسلم وبطريق الأولى نفي الإيمان عنه، لأن الإسلام يفسر بالأعمال الظاهرة والإيمان يفسر بالأعمال الباطنة كما فرق النبي صلى الله عليه وسلم في حديث جبريل عليه السلام بين مسمى الإسلام ومسمى الإيمان. وهذا إنما هو إذا ذكرا جميعا. وأما إذا ذكر أحدهما فقط فإن الآخر يدخل فيه. كما في قوله تعالى: {إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم} الآية. وكما في قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه البخاري ومسلم عن أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم. قال: " مثل المؤمن الذي يقرأ القرآن مثل الأترجة طعمها طيب وريحها طيب ... الحديث" فالإسلام داخل في مسمى الإيمان. ومثال دخول الإيمان في مسمى الإسلام قوله تعالى: {وأنزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين} . فالحاصل أن دين الأولين والآخرين من الأنبياء وأتباعهم هودين الإسلام وهو عبادة الله وحده لا شريك له، وعبادته تعالى في كل زمان ومكان تكون بطاعة رسله عليهم السلام فلا يكون عابدا له من عبده بخلاف ما جاءت به رسله، ولا يكون مؤمنا به ولا عابدا له إلا من آمن بجميع رسله وأطاع من أرسل إليه فيطاع كل رسول إلى أن يأتي الذي

عده فتكون الطاعة للرسول الثاني طاعة للأول {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّه} ، وقال تعالى: {وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله} ! ومن فرق بين رسله فآمن ببعض وكفر ببعض كان كافرا.

تنازع الناس في اسلام من تبقى من أمة موسى وعيسى

تنازع الناس في اسلام من تبقى من أمة موسى وعيسى ... قوله: وقد تنازع الناس فيمن تقدم من أمة موسى وعيسى: هل هم مسلمون أم لا؟ وهو نزاع لفظي، فالإسلام الخاص الذي بعث الله به محمدا صلى الله عليه وسلم المتضمن لشريعة القرآن ليس عليه إلا أمة محمد صلى الله عليه وسلم والإسلام اليوم عند الإطلاق يتناول هذا، وأما الإسلام العام المتناول لكل شريعة، بعث الله بها نبيا فإنه يتناول إسلام كل أمة متبعة لنبي من الأنبياء، ورأس الإسلام مطلقا: شهادة أن لا إله إلا الله وبها بعث جميع الرسل، كما قال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} ، وقال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إله إلا أَنَا فَاعْبُدُونِ} ، وقال عن الخليل: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ، إِلاَّ الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ، وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} ، وقال تعالى عنه: {أفرأيتم ما كنتم تعبدون، أنتم وآباؤكم الأقدمون فإنهم عدو لي إلا رب العالمين} وقال تعالى: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} ، وقال تعالى: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} ، وذكر عن رسله كنوح وهود وصالح وغيرهم أنهم قالوا لقومهم {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} ، وقال عن أهل الكهف: {إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدىً وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهاً لَقَدْ قُلْنَا إِذاً شَطَطاً} إلى قوله: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً} .

ش: يقول الشيخ: اختلف العلماء في جواز إطلاق اسم الإسلام على من سبق الأمة المحمدية من الأمم. والخلاف في الحقيقة ما هو إلا لفظي. فإن الجميع متفقون على أن كل امة أطاعت رسولها الذي جاءها بشرع الله فهي مسلمة منقادة لأمر الله خاضعة لشرعه الذي شرعه على لسان ذلك الرسول المرسل. فإن الإسلام دين والدين مصدر دان يدين دينا إذا خضع وذل، ودين الإسلام الذي ارتضاه الله وبعث به رسله هو الاستسلام لله وحده فأصله في القلب الخضوع لله بعبادته وحده دون ما سواه، فمن عبده وعبد معه إلها آخر لم يكن مسلما، ومن لم يعبده بل استكبر عن عبادته لم يكن مسلما. وأما الإسلام الخاص فهو كما فسره رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث جبريل: "الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا لله وأن محمدا رسول الله.. الخ" رواه مسلم، وروى الإمام أحمد عن بهز بن حكيم عن أبيه عن جده أنه قال: والله يا رسول الله ما أتيتك حتى حلفت عدد أصابعي هذه أن لا آتيك فبالذي بعثك بالحق ما بعثت به؟، قال: الإسلام، قال: وما الإسلام؟، قال: أن تسلم قلبك لله وأن توجه وجهك إلى لله وأن تصلي الصلاة المكتوبة وتؤدي الزكاة المفروضة أخوان نصيران لا يقبل الله من عبد أشرك بعد إسلامه.. الحديث"، وذكر الله تعالى عن موسى أنه قال: {يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ} ! وأخبر تعالى عن السحرة أنهم قالوا لفرعون: {وَمَا تَنْقِمُ مِنَّا إلاَّ أَنْ آمَنَّا بِآياتِ رَبِّنَا لَمَّا جَاءَتْنَا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ} وقال تعالى عن المسيح: {فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ} ، وقال تعالى: {وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ} ، وكما قال عن نوح أنه قال لقومه: {فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ

فَمَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} ، وقال تعالى عن إبراهيم: {إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} ، وقال تعالى عن يوسف الصديق: {رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ} ، وقال عن بلقيس: {وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} ، فالإسلام عند الجميع هو الاستسلام لله وهو الخضوع له والعبودية له، كما يقول أهل اللغة: أسلم الرجل إذا استسلم، وحينئذ فرأس جميع الأديان هو الشهادة بوحدانية الله دون من سواه كما في آية النحل والأنبياء والشعراء والممتحنة، وآيتي الزخرف، ولقد أخبر الله تعالى عن كل رسول بأنه أمر قومه بعبادة الله وحده كما حكى ذلك عن نوح وهود وصالح، وإخوانهم من الأنبياء، قال الله تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} ، وقال: {وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} ، وقال سبحانه: {وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحاً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} ، وقال عن شعيب: {وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} ، وأخبر سبحانه عن أهل الكهف أنهم قالوا: {لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهاً لَقَدْ قُلْنَا إِذاً شَطَطا} ، والخلة أعلى مراتب المحبة، {وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ} أي جعل إبراهيم كلمة التوحيد باقية في ذريته بأن وصاهم بها كما في قوله سبحانه: {وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} والكهف جمعه كهوف وهو الغار المتسع في الجبل {وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ} أي قويناها على قول الحق، {ولَقَدْ قُلْنَا إِذاً شَطَطاً} أي قولا ذا شطط أي إفراطا في الكفر أن دعونا إلها غير الله.

قوله: وقد قال سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} ذكر ذلك في موضعين من كتابه، وقد بين في كتابه الشرك بالملائكة والشرك بالأنبياء، والشرك بالكواكب والشرك بالأصنام فقال عن النصارى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا إِلَهاً وَاحِداً لا إله إلا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} ، وقال تعالى: {وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ} ، وقال تعالى: {مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَاداً لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ} إلى قوله {وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَاباً أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} ، فبين أن اتخاذ الملائكة والنبيين أربابا كفر ومعلوم أن واحدا من الخلق لم يزعم أن الأنبياء والأحبار والرهبان ومريم شاركوا الله في خلق السموات والأرض، بل ولا زعم أحد من الناس أن العالم له صانعان متكافئان في الصفات والأفعال. بل ولا أثبت أحد من بني آدم إلها مساويا لله في جميع صفاته وعامة المشركين بالله مقرون بأنه ليس شريكه مثله. بل عامتهم يقرون أن الشريك مملوك له، سواء كان ملكا أو نبيا أو كوكبا أو صنما، كما كان مشركو العرب يقولون في تلبيتهم: لبيك لا شريك لك، إلا شريكا هولك، تملكه وما ملك، فأهل رسول الله صلى الله عليه وسلم بالتوحيد وقال: لبيك اللهم لبيك لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك. وقد ذكر أرباب المقالات ما جمعوا من مقالات الأولين والآخرين في الملل والنحل والآراء والديانات، فلم ينقلوا عن أحد إثبات شريك مشارك له في خلق جميع المخلوقات، ولا مماثل له في جميع

الصفات، بل من أعظم ما نقلوا في ذلك عن الثنوية الذين يقولون بالأصلين النور والظلمة وأن النور خلق الخير، والظلمة خلقت الشر، ثم ذكروا لهم في الظلمة قولين: أحدهما أنها محدثة، فتكون من جملة المخلوقات له، والثاني أنها قديمة، لكنها لم تفعل إلا الشر، فكانت ناقصة في ذاتها وصفاتها ومفعولاتها عن النور، وقد أخبر الله سبحانه عن المشركين من إقرارهم بأن الله خالق المخلوقات ما بينه في كتابه، فقال: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ} ، وقال تعالى: {قُلْ لِمَنِ الأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ، سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ، قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ، سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ} إلى قوله {فَأَنَّى تُسْحَرُونَ} إلى قوله {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ} ، وقال: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلاَّ وَهُمْ مُشْرِكُونَ} . ش: بعد أن بين الشيخ أن الإسلام بمعناه العام هودين جميع الرسل وأن من أطاع رسوله من الأمم السابقة، يقال له مسلم كما يقال ذلك لأمة محمد صلى الله عليه وسلم. بين بعد ذلك أن من صرف شيئا من أنواع العبادة لغير لله بأن تقرب إلى ملك أو نبي أو ولي أو كوكب، أو شجرة، أو حجر، فهو مشرك وقد قال الله جل وعلا في حق المشركين {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْماً عَظِيماً} ، وقال في الموضع الآخر من سورة النساء أيضا: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً} ، ثم استشهد المؤلف بآية براءة وآية المائدة وآية آل عمران على ذم عابد العلماء والعباد والملائكة والأنبياء وبيان شركهم وكفرهم، وحكم الله عليهم بالكفر إنما

هو بسبب شركهم مع الله في عبادته ما لا يخلق شيئا وهم يخلقون ولا يستطيعون لهم نصرا ولا أنفسهم ينصرون، فكان المشركون من النصارى والعرب وغيرهم من أصناف الأمم الضالة، يعتقدون في الملائكة أو الأنبياء أو الشيوخ أنهم شفعاء لهم عند الله كما يشفع الشفعاء إلى ملوك الدنيا ويضربون لله مثلا فيقولون: من أراد أن يتقرب إلى ملك عظيم فلا ينبغي له أن يأتي إليه أولا، بل يتقرب إلى خاصته وهم يرفعون حوائجه ويقربونه إليه قال تعالى: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} ، ذكر سبحانه هذا بعد قوله: {تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ، إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ، أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} ثم قال سبحانه: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ} وقد نفى هذه الشفاعة التي يزعمونها كما قال تعالى: {وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لا يُؤْخَذْ مِنْهَا أُولَئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِمَا كَسَبُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ} ، وقال: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ} ، وقال تعالى: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَداً سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ، لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ، يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ، وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ} ، وقال سبحانه: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ، وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} ، وقال تعالى: {وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلاَّ مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى} .

قال الشيخ: فهذه الشفاعة التي يظنها المشركون هي منتفية يوم القيامة كما نفاها القرآن، وأما شفاعته صلى الله عليه وسلم في الآخرة فقد أخبر "أنه يأتي فيسجد لربه ويحمده لا يبدأ بالشفاعة أولا، فإذا سجد وحمد ربه بمحامد يفتحها عليه، قيل له أي محمد ارفع رأسك وقل تسمع وسل تعط واشفع تشفع فيقول أي رب؟ أمتي، فيحد له حدا فيدخلهم الجنة وكذلك في الثانية وكذلك في الثالثة، قال أبوهريرة: من أسعد الناس بشفاعتك يوم القيامة، قال من قال لا إله إلا الله خالصا من قلبه، فتلك الشفاعة لأهل الإخلاص بإذن الله ليست لمن أشرك بالله ولا تكون إلا بإذن الله" وحقيقة الأمر أن الله هو الذي يتفضل على أهل الإخلاص والتوحيد فيغفر لهم بواسطة دعاء الشافع الذي أذن له أن يشفع ليكرمه بذلك وينال المقام المحمود الذي يغبطه به الأولون والآخرون، كما كان صلى الله عليه وسلم في الدنيا يستسقي لهم ويدعو لهم، فمقصود القرآن بنفي الشفاعة نفي الشرك وهو أن لا يعبد إلا الله ولا يدعى سواه ولا يسئل غيره ولا يتوكل على غيره لا في شفاعة ولا غيرها، فليس له أن يتوكل على أحد في أن يرزقه وإن كان الله يأتيه بأسباب، وحينئذ فالمشركون جميعا لم يكونوا جاحدين يرب العالمين، ولا قال أحد قط من الآدميين أن الشمس أو القمر أو شيئا من الكواكب أبدع السموات أو غيرها بل عباد الشمس والقمر وغيرهما من الكواكب يعبدونها كما يعبد عباد الأصنام الأصنام بل قد يجعلونها شفعاء ووسائط بينهم وبين رب العالمين كما قال تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ} حتى الثنوية من المجوس يقولون أن العالم صادر عن أصلين، النور والظلمة، والنور عندهم هو إله الخير المحمود والظلمة هي الإله الشرير المذموم، وبعضهم يقول أن الظلمة هي الشيطان. ومنهم من قال إن الظلمة قديمة أزلية مع أنها مذمومة ليست مماثلة للنور ومنهم من قال بل هي حادثة، وأن النور فكر فكرة رديئة فحدثت الظلمة عن تلك

الفكرة الرديئة، وهؤلاء مع إثباتهم اثنين وتسمية الناس لهم بالثنوبة فهم لا يقولون أن الشر مماثل للخير، ومن ظن أن قوم إبراهيم الخليل كانوا يعتقدون أن النجم أو الشمس أو القمر رب العالمين أو أن الخليل عليه السلام لما قال هذا ربي أراد به رب العالمين فقد غلط غلطا بينا، بل قوم إبراهيم كانوا مقرين بالصانع وكانوا يشركون بعبادته كأمثالهم من المشركين. قال الله تعالى عن الخليل: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ، قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَاماً فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ، أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ، قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ. قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ - إلى قوله- فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ، وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ} ! فأخبر الله تعالى عن الخليل أنه عدو لكل ما يعبدون إلا رب العالمين، وأخبر عنهم أنهم يقولون يوم القيامة {تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ، إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} يعني آلهتكم، فلم يكونوا جاحدين للصانع بل عدلوا به وجعلوا له أندادا في العبادة والمحبة والدعاء، وكذلك مشركو العرب وأمثالهم كانوا مقرين بالصانع وأنه خلق السموات والأرض، إذ كانوا مقرين بأن هذه السموات والأرض مخلوقة لله حادثة بعد أن لم تكن. وقد استشهد المؤلف على ذلك بآية العنكبوت وآية الزمر وآيات المؤمنون، ثم استشهد بما كان العرب يقولونه في تلبيتهم من الإقرار بربوبية الله الشاملة، كما ذكر أهل السير أن التلبية من عهد إبراهيم عليه السلام: لبيك اللهم لبيك لا شريك لك لبيك، حتى كان عمرو بن لحي الخزاعي فبينما هو يلبي تمثل له الشيطان في صورة شيخ يلبي معه فقال: لبيك لا شريك لك، فقال الشيخ: إلا شريكا هو لك، فأنكر ذلك عمرو وقال: ما هذا؟ فقال الشيخ: تملكه وما ملك فإنه لا بأس بهذا فقالها ودانت بها العرب، وقد روى مسلم من حديث سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: رأيت عمرو بن لحي بن قمعة بن خندف أخا بني كعب وهو يجر قصبه في النار". ومن العلم المشهور أن عمرو بن لحي هو أول من نصب الأنصاب حول المبيت، ويقال أنه جلبها من

البلقاء من أرض الشام متشبها بأهل البلقاء وهو أول من سيب السائبة ووصل الوصيلة وحمى الحام. قال الشيخ: ومعلوم أن العرب قبله كانوا على ملة أبيهم إبراهيم، على شريعة التوحيد والحنيفية السمحة دين أبيهم إبراهيم، فتشبهوا بعمرو بن لحي وكان عظيم أهل مكة يومئذ لأن خزاعة كانوا ولاة البيت قبل قريش وكانوا سائر العرب متشبهين بأهل مكة لأن فيها بيت الله وإليه الحج. فتشبه عمرو بمن رآه في الشام واستحسن بعقله ما كانوا عليه ورأى أن في تحريم ما حرمه من البحيرة والسائبة والوصيلة والحامي تعظيما لله ودينا فكان ما فعله أصل الشرك في العرب وأصل تحريم الحلال فلم يزل الأمر يتزايد ويتفاقم حتى غلب الشرك بالله عز وجل وتغير دينه الحنيف إلى أن بعث الله رسوله صلى الله عليه وسلم فأحيا ملة إبراهيم عليه السلام وأقام التوحيد وحلل ما كانوا يحرمونه، وقوله فأهل رسول الله صلى الله عليه وسلم يعني كما في الحديث الطويل الذي رواه مسلم عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه "أن رسول صلى الله عليه وسلم أهل بالتوحيد لبيك اللهم لبيك لا شريك لك لبيك إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك" وكذلك عبادة الأحبار والرهبان لم تكن لاعتقادهم فيهم مشاركة الله في ربوبيته بل كان اعتقادهم كما قال الربيع بن أنس: "قلت لأبي العالية: كيف كانت تلك الربوبية في بني إسرائيل، قال: كانت الربوبية أنهم وجدوا في كتاب الله ما أمروا به ونهوا عنه، فقالوا: لن نسبق أحبارنا بشيء: فما أمرونا به ائتمرنا، وما نهوا عنه انتهينا، فاستنصحوا الرجال، ونبذوا كتاب الله وراء ظهورهم"، وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم أن عبادتهم إياهم كانت في تحليل الحرام وتحريم الحلال، لا أنهم صلوا لهم أو صاموا لهم، أو دعوهم من دون الله، وفى حديث عدي بن حاتم الذي رواه أحمد والترمذي وغيرهما، وكان قد قدم على النبي صلى الله عليه وسلم وهو نصراني، فسمعه يقرأ هذه الآية قال: فقلت له: إنا لسنا نعبدهم، قال: أليس يحرمون ما أحل الله فتحرمونه ويحلون ما حرم الله فتحلونه؟ قال: فقلت بلى، قال: فتلك عبادتهم" والصنم هو الوثن جمعه أصنام وهو ما قصد

بنوع من أنواع العبادة من دون الله من القبور والمشاهد والتماثيل، يقول الخليل عليه السلام: {إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَاناً وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً} مع قوله: {قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَاماً فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ} ، وقوله: {أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُون} فبذلك يعلم أن الوثن يطلق على الأصنام مما عبد من دون الله، وقيل الصنم هو ما صور على هيئة الإنسان وعبد من دون لله من خشب أو حجر أو ذهب أو فضة أو غير ذلك وقوله: وقد ذكر أرباب المقالات ما جمعوا من مقالات الأولين والآخرين في الملل والنحل والآراء والديانات معناه أن الباحثين في الملل والمتحدثين عن الديانات مثل: محمد بن عبد الكريم الشهرستاني في كتابه الملل والنحل ومثل عبد القاهر بن طاهر بن محمد البغدادي في كتابه "الفرق بين الفرق". ومثل أبي محمد علي بن حزم الأندلسي. في كتابه "الفصل في الملل والأهواء والنحل " فقد تحدث هؤلاء وغيرهم عن نحل العا لم ولم يذكروا عن أحد إثبات شريك مشارك لله في خلق جميع المخلوقات ولا مماثل له في جميع الصفات. وقوله سبحانه في آيتي النساء {وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} معناه: أن ما دون الشرك بالله من سائر المعاصي فهو تحت المشيئة إن شاء الله عذب مرتكبه وإن شاء غفر له، ففي ذلك رد على كل من الخوارج المكفرين بالذنوب وعلى المعتزلة القائلين بأن أصحاب الكبائر يخلدون في النار، وليسوا عندهم بمؤمنين ولا كفار، ولا يجوز أن يحمل قوله: سبحانه {وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ} على التائب فإن التائب من الشرك مغفور له كما قال تعالى: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً} فهنا عم وأطلق، لأن المراد هنا التائب وهناك خص وعلق لأن المراد به من لم يتب.

ما وقع من الغلط في مسمى التوحيد

قوله: وبهذا وغيره يعرف ما وقع من الغلط في مسمى "التوحيد" فإن عامة المتكلمين الذين يقررون التوحيد في كتب الكلام والنظر، غايتهم أن يجعلوا التوحيد ثلاثة أنواع، فيقولون هو واحد في ذاته لا قسيم له، وواحد في صفاته لا شبيه له وواحد في أفعاله لا شريك له، واشهر الأنواع الثلاثة، عندهم هو الثالث، وهو توحيد الأفعال، وهو أن خالق العالم، واحد وهم يحتجون على ذلك بما يذكرونه من دلالة التمانع وغيرها، ويظنون أن هذا هو التوحيد المطلوب، وأن هذا هو معنى قولنا "لا إله إلا الله" حتى يجعلوا معنى الإلهية، القدرة على الاختراع ومعلوم، أن المشركين من العرب الذين بعث إليهم محمدصلى الله عليه وسلم أولا لم يكونوا يخالفونه في هذا، بل كانوا يقرون بأن الله خالق كل شيء، حتى إنهم كانوا يقرون بالقدرة أيضا، وهم مع هذا مشركون. فقد تبين أن ليس في العالم من ينازع في أصل هذا الشرك ولكن غاية ما يقال، أن من الناس من جعل بعض الموجودات خلقا لغير الله كالقدرية وغيرهم، لكن هؤلاء يقرون بأن الله خالق العباد وخالق قدرتهم، وإن قالوا أنهم خالقو أفعالهم. وكذلك أهل الفلسفة والطبع والنجوم الذين يجعلون بعض المخلوقات مبدعة لبعض الأمور، هم مع الإقرار بالصانع يجعلون هذه الفاعلات مصنوعة مخلوقة، لا يقولون أنها غنية عن الخالق، مشاركة له في الخلق فأما من أنكر الصانع، فذاك جاحد معطل للصانع، كالقول الذي أظهره فرعون، والكلام الآن مع المشركين بالله، المقرين بوجوده فإن هذا التوحيد الذي قرروه لا ينازعهم فيه هؤلاء المشركون، بل يقرون به مع أنهم مشركون، كما ثبت بالكتاب والسنة والإجماع، وكما علم بالاضطرار من دين الإسلام، وكذلك النوع الثاني وهو قولهم: لا شبيه له في صفاته فإنه ليس في الأمم من أثبت قديما مماثلا له في الاستواء، وقال إنه

يشاركه، أو قال إنه لا فعل له، بل من يشبه به شيئا من مخلوقاته فإنما يشبهه به في بعض الأمور، وقد علم بالعقل امتناع أن يكون له مثل في المخلوقات يشاركه فيما يجب أو يجوز أو يمتنع عليه فإن ذلك يستلزم الجمع بين النقيضين، كما تقدم. وعلم أيضا بالعقل، أن كل موجودين قائمين بأنفسهما فلابد بينهما من قدر مشترك. كاتفاقهما في مسمى الوجود، والقيام بالنفس، والذات، ونحو ذلك، وأن نفي ذلك يقتضي التعطيل المحض، وأنه لابد من إثبات خصائص الربوبية، وقد تقدم الكلام على ذلك. ش: يقول الشيخ: بما تقدم من تقرير توحيد المرسلين الذي هودين الإسلام بمعناه العام وأن ضده الشرك وهو اتخاذ مع الله آلهة أخرى يتضح خطأ من غلط من أرباب الكلام وأهل التصوف الذين جعلوا الإقرار بربوبية الله الشاملة هو النهاية في التوحيد، وأن معنى كلمة الإخلاص: هو القادر على الاختراع. وقد استدلوا على أن توحيد الربوبية هو الغاية بدليل التمانع المشهور، وهو أنه لوكان للعالم صانعان فعند اختلافهما مثل أن يريد أحدهما تحريك جسم وآخر تسكينه أو يريد أحدهما إحياءه والآخر إماتته فإما أن يحصل مرادهما أو مراد أحدهما أو لا يحصل مراد واحد منهما، والأول ممتنع لأنه يستلزم الجمع بين النقيضين، والثالث: ممتنع لأنه يستلزم خلو الجسم عن الحركة والسكون وهو ممتنع ويستلزم أيضا عجز كل منها والعاجز لا يكون إلها، وإذ حصل مراد أحدهما دون الآخر كان هو الإله القادر والآخر عاجزا لا يصلح للإلهية، ولا ريب أن هذا غلط واضح واعتقاد فاسد فإن معنى لا إله إلا لله لا معبود بحق سوى الله سبحانه، كما قال تعالى: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لا إله إلا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} وقال: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إله إلا أَنَا فَاعْبُدُونِ} ، وقال: {وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} فأجابوا ردا عليه بقولهم: {قَالُوا أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ

آبَاؤُنَا} ، وقال تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} ، فالإله هو بمعنى المألوه المعبود الذي يستحق العبادة، ليس الإله بمعنى القادر على الخلق كما يقول ذلك من يقوله من الأشاعرة وغيرهم، فلو أقر الإنسان بما يستحقه الرب تعالى من الصفات ونزهه عن كل ما ينزه عنه وأقر بأنه وحده خالق كل شيء لم يكن موحدا حتى يشهد أن لا إله إلا الله فيقر بأن الله وحده هو الإله المستحق للعبادة ويلتزم بعبادة لله وحده لا شريك له فإن مشركي العرب كانوا مقرين بأن الله وحده خالق كل شيء ومع ذلك كانوا مشركين. وقد أنكروا ما جاء به صلى الله عليه وسلم من التوحيد، وما نفاه من الشركاء فقالوا: {أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً} وقصرها على الله سبحانه وقالوا: {إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} أي لأمر بالغ في العجب إلى الغاية، فهم إذاً أعلم بمعنى كلمة الإخلاص من أرباب الكلام والتصوف، كما كان المشركون يقرون بمشيئة الله النافذة وقدرته التامة. وبما سبق يتضح أنه ليس أحد من طوائف بني ادم ينازع في أصل الربوبية على اعتبار وجود ربين متماثلين من كل وجه، بل غاية ما يقال أن بعض الطوائف المشركة تنسب شيئا من التأثير لغير الله كما تقول القدرية في أفعال العباد بأنها مخلوقة لهم وأن كانوا يقرون أن الله هو خالق العباد وخالق قدرتهم على الفعل، وكما تقول المجوس بأن الظلمة تخلق الشر مع إقرارهم أن الله خالق الخير ويعبرون عنه بالنور، وكما تقول الفلاسفة بأن الكواكب السبع والاثني عشر برجا تحدث أمورا من غير إحداث الله لها. وكما تقول: المنانية بأزلية الطبائع الأربع وأنها كانت بسائط غير ممتزجة ثم حدث الامتزاج بينها فحدث العالم بامتزاجها، وكثير من المشركين قد يظن في آلهته شيئا من نفع أو ضر، بدون أن يخلق الله ذلك، فهؤلاء جميعا مشركون في الربوبية بهذا الاعتبار مع اعتقاد جميع هذه الطوائف أن العالم بأسره مخلوق مربوب، للكبير المتعال، غير أن هناك من يجحد ربوبية

الله سبحانه عنادا وتجاهلا كفرعون فهو أشهر من عرف تجاهله وتظاهره بإنكار الصانع، وقد كان مستيقنا به في الباطن، كما قال موسى: {لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلاءِ إِلاَّ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ بَصَائِرَ} وقال تعالى عنه وعن قومه: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً} وما يقربه هؤلاء النظار لا ينازعهم فيه المشركون الذين بعث إليهم الرسول صلى الله عليه وسلم، فإنهم يدعون آلهتهم كما يدعون الله ويسجدون وينسكون لها ويتقربون إليها ثم يقولون إن هذا ليس بشرك وإنما الشرك إذا اعتقدنا أنها هي المدبرة لنا فإذا جعلناها سببا وواسطة لم نكن مشركين. ولكن الكلام هنا مع المقرين بالله مع اتخاذهم آلهة أخرى، فهم إذاً مقرون بأن الله رب كل شيء ومليكه ومع هذا فهم غير موحدين بل هم كفار مشركون، كما هو معلوم بالضرورة من دين الإسلام. وقد دل عليه الكتاب والسنة وإجماع الأمة، وقد سبق الشيء الكثير من الآيات والأحاديث المصرحة بذلك. وقوله غايتهم أن يجعلوا التوحيد ثلاثة أنواع فيقولون هو واحد في ذاته لا قسيم له وواحد في صفاته لا شبيه له وواحد في أفعاله لا شريك له، معناه: أن هؤلاء المتكلمين يقسمون التوحيد في عرفهم إلى ثلاثة أقسام، أشهرها عندهم توحيد الله بأفعاله ويعبرون عنها بهذه العبارات المجملة فقولهم: (واحد) إن أرادوا به ما أراده الله ورسوله في قوله تعالى: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} - وقوله- {هو الله الواحد القهار} ونحو ذلك فهذا حق، وإن أرادوا بالواحد ما تريده الجهمية نفاة الصفات: من أنه ذات مجردة عن الصفات فهذا باطل، فإنهم يدرجون في هذا نفي علوه على خلقه واستوائه على عرشه ونفي ما ينفونه من صفاته ويقولون أن إثبات ذلك يقتضي أن يكون مركبا منقسما، ومن المعلوم أن من لا صفة له فلا حقيقة له في الخارج وإنما يقدر في الأذهان لا في الأعيان. وقولهم (واحد في صفاته) لا شبيه له إن أرادوا بذلك أنه سبحانه مسمى بالأسماء الحسنى ومتصف بالصفات الكاملة العليا التي لا يماثله فيها أحد

فهذا حق، وقد علم بالضرورة أنه ليس هناك أحد من بني آدم اعتقد وجود إله قديم لرب العالمين في ذاته سواء كان المعتقد لوجود إله آخر ينسب إليه نوع شركة مع الله في أفعاله أو كان يعتقد أن إلهه ليس له شيء من التدبير، بل غاية ما يقال أن من شبه به أحدا من خلقه فإنما يشبهه به في شيء دون شيء، وأما إن أراد القائل المعنى الباطل من أنه سبحانه غير مستو على عرشه ولا ينزل من السماء الدنيا، ولا يجيء لفصل القضاء يوم القيامة ولا يفعل ما يريد إلى غير ذلك فهو ملحد ضال، ومما هو معلوم بصريح العقل الموافق لصحيح النقل أن الله تبارك وتعالى ليس كمثله شيء لا في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله بل ذلك ممتنع فإنه يلزم منه أن يجوز على مثيله ما يجوز عليه، ويجب له ما يجب له ويمتنع عليه ما يمتنع عليه وهذا جمع بين النقيضين لأنه يكون كل منهما واجب الوجود ليس بواجب الوجود، خالقا ليس بخالق، قديما ليس بقديم إلى غير ذلك، وقد سبقت الإشارة إلى هذا في آخر القاعدة السادسة، كما سبق أيضا القول بأن كل موجودين فلا بد أن يكون بينهما قدر مشترك يشتركان فيه كمدلول الوجود ومدلول القيام بالنفس والذات والعلم والقدرة ونحو ذلك من المعاني العامة المشتركة ويختلفان في أن لكل منهما ما يضاف إليه ويليق به فالخالق وإن اتفق مع المخلوق في أن كلا منهما متصف بالصفات إلا أنهما يختلفان في أن لكل منهما ما يناسبه، أما اتصاف كل منهما بالصفات فليس فيه مماثلة بينهما ولله خصائصه التي اختص بها وللمخلوق خصائصه التي اختص بها فمن ادعى مشاركة المخلوق للخالق في شيء من خصائصه فهو المشبه الممثل، والنوع الثالث سيأتي الكلام عليه في محله قريبا.

القرآن منزل غير مخلوق

القرآن منزل غير مخلوق ... قوله: ثم إن الجهمية من المعتزلة وغيرهم أدرجوا نفي الصفات في مسمى ذلك، فصار من قال: إن لله علما أو قدرة أو أنه يرى أو أن القرآن كلام الله غير مخلوق، يقولون: إنه مشبه ليس بموحد وزاد عليهم غلاة الفلاسفة

والقرامطة فنفوا أسماءه الحسنى، وقالوا: من قال: إن الله عليم قدير عزيز حكيم، فهو مشبه ليس بموحد، وزاد عليهم غلاة القرامطة وقالوا: لا يوصف بالنفي ولا بالإثبات، لأن في كل منهما تشبيها له. وهؤلاء كلهم وقعوا في جنس تشبيه هو شر مما فروا منه، فإنهم شبهوه بالممتنعات والمعدومات والجمادات، فرارا من تشبيههم إياه - بزعمهم - بالأحياء ومعلوم أن هذه الصفات الثابتة لله لا تثبت له على حد ما تثبت لمخلوق أصلا وهو سبحانه ليس كمثله شيء لا في ذاته ولا في صفاته، ولا في أفعاله فلا فرق بين إثبات الذات وإثبات الصفات، فإذا لم يكن في إثبات الذات إثبات مماثلة الذوات لذاته لم يكن في إثبات الصفات إثبات مماثلة له في ذلك فصار هؤلاء الجهمية المعطلة يجعلون هذا توحيدا، ويجعلون مقابل ذلك التشبيه ويسمون أنفسهم الموحدين. ش: يعني أن المعتزلة وأشباههم من أهل التجهم يدخلون نفي أسماء الله وصفاته في مدلول التوحيد عندهم، فيقولون من أثبت لله سمعا أو بصرا أو عزة أو حكمة أو علما أو قدرة، أو قال بأن المؤمنين يرونه سبحانه في الآخرة عيانا بأبصارهم، من أثبت ذلك ونحوه فهو عندهم مشبه مجسم، وقد تبعهم في ذلك الفلاسفة والقرامطة بل زادوا على المعتزلة في عدد إثبات الاسم ولو كان غير دال على صفة وزادوا على بعض الجهمية في إثباتهم الاسم مجازا، وزاد عليهم غلاتهم فقالوا من وصف لله بالإثبات فهو مشبه ومن وصفه بالنفي فهو مشبه. وهؤلاء جميعا قد فروا من التشبيه على زعمهم بالحي المتصف بأوصاف الكمال فوقعوا في شر مما فروا منه، حيث شبهوه بالجماد أو المعدوم أو الممتنع ومن المعلوم أن الله جل وعلا متصف بما له من حقائق الأسماء والصفات على وجه لا يماثل فيه أحد من خلقه البتة، إذ هو سبحانه الكامل في ذاته وصفاته {وَلَهُ الْمَثَلُ الأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} وثبوت الصفات هو فرع ثبوت الذات، فكما أن الذات المقدسة ثابتة بحقيقة الإثبات فالأسماء الحسنى والصفات العلى

ثابتة بحقيقة الإثبات وليست الصفة كالصفة كما أن الموصوف ليس مثل الموصوف. وهؤلاء النفاة قد زعموا أن نفيهم للصفات هو تنزيه الله عن النقص وسموا أنفسهم بالموحدين، وفى واقع الأمر أنهم هم المعطلون الجاحدون المشبهون، وليس فيما وصف الله به نفسه أو وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم تشبيه، قال الإمام أبو حنيفة رحمه الله في (الفقه الكبير) : "لا يشبه شيئا من خلقه ولا يشبهه شيء من خلقه"، ثم قال بعد ذلك: "وصفاته كلها خلاف صفات المخلوقين، يعلم لا كعلمنا ويقدر لا كقدرتنا ويرى لا كرؤيتنا" وهكذا قول سائر الأئمة، كنعيم بن حماد والشافعي وقد سبق ذكر نموذج من ذلك، فسلف الأمة وأئمة السنة ومن تبعهم بإحسان هم ورثة الرسل وهم الموحدون، أما الجعديون والواصليون وأضرابهم فهم الملحدون المعطلون، وقوله عن النفاة الذين يصفون من قال أن القرآن كلام الله غير مخلوق، بأنه مشبه معناه أن الجهمية من المعتزلة وإخوانهم يقولون بأن كلام الله مخلوق غير منزل، ويستدل على ذلك، بمثل قوله تعالى: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} ويدخلون كلام الله في عموم (كل) . وقد غلطوا غلطا فاحشا وضلوا ضلالا مبينا فإن القرآن الكريم هو كلام الله وكلامه من صفاته، وصفاته داخلة في مسمى اسمه كعلمه وقدرته وحياته وسمعه وبصره ووجهه، وحينئذ فطرد باطلهم أن تكون جميع صفاته تعالى مخلوقة كالعلم والقدرة والحياة وسائر الصفات، وذلك صريح الكفر فإن علمه شيء وقدرته شيء وحياته شيء فيدخل ذلك في عموم (كل) فيكون مخلوقا، تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا، ولو صح أن يوصف أحد بصفة قامت بغيره لصح أن يقال للبصير أعمى وللأعمى بصير لأن البصير قد قام وصف العمى بغيره. والأعمى قد قام وصف البصر بغيره، إذا عرف هذا فعموم (كل) في كل موضع بحسبه، ويعرف ذلك بالقرائن ألا ترى إلى قوله تعالى {تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ} فمساكنهم شيء، ولم تدخل في عموم كل شيء دمرته الريح، وذلك لأن المراد في الآية كل شيء يقبل التدمير بالريح عادة واستحق التدمير، وكذا قوله تعالى حكاية عن

لقيس: {وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ} ، فإن المراد من كل شيء يحتاج إليه الملوك، وهذا القيد يفهم في قرائن الكلام، إذ مراد الهدهد أنها ملكة كاملة في أمر الملك غير محتاجة إلى ما يكمل به أمر ملكها، ونظائر هذا كثيرة، فالمراد من قوله تعالى: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} أي كل شيء مخلوق، وكل موجود سوى الله فهو مخلوق ولم يدخل في العموم (الخالق تعالى) وهو سبحانه موصوف بأوصاف الكمال، وصفاته ملازمة لذاته المقدسة. وشيخ المعتزلة الجهمية: الجعد بن درهم وتلميذه الجهم بن صفوان، هما أول من نقل عنه هذا الرأي الزائغ الفاسد، قال الشيخ: "والناس يقرؤون القرآن بأصواتهم ويكتبونه بمدادهم وما بين اللوحين كلام الله غير مخلوق، والمداد الذي يكتب به القرآن مخلوق، والصوت الذي يُقرأ به صوت العبد، والعبد وصوته وحركاته وسائر صفاته مخلوقة، فالقرآن الذي يقرأه الخلق كلام الباري والصوت صوت القارئ".

اقرار المرء بأن الله خالق كل شيء لا يغني عنه إلا إذا نطق بالشهادتين

اقرار المرء بأن الله خالق كل شيء لا يغني عنه إلا إذا نطق بالشهادتين ... قوله: وكذلك النوع الثالث، وهو قولهم: هو واحد لا قسيم له في ذاته أو لا جزء له أو لا بعض له، لفظ مجمل. فإن الله سبحانه أحد صمد، لم يلد ولم يولد. ولم يكن له كفوا أحد، فيمتنع عليه أن يتفرق، أو يتحيز، أو يكون قد ركب من أجزاء، لكنهم يريدون في هذا اللفظ نفي علوه على عرشه، ومباينته لخلقه وامتيازه عنهم ونحو ذلك من المعاني المستلزمة لنفيه وتعطيله، ويجعلون ذلك من التوحيد، فقد تبين أن ما يسمونه توحيدا فيه ما هو حق وفيه ما هو باطل، ولو كان جميعه حقا، فغن المشركين إذا أقروا بذلك كله لم يخرجوا من الشرك الذي وصفهم الله به في القرآن. وقاتلهم عليه الرسول صلى الله عليه وسلم. بل لابد أن يؤمنوا بأنه لا إله إلا الله، وليس المراد (بالإله) هو القادر على الاختراع- كما ظنه من ظنه من أئمة المتكلمين- حيث ظن أن الإلهية هي القدرة على الاختراع وأن من أقر بأن الله هو القادر على الاختراع دون غيره، فقد شهد أن لا إله إلا الله، فإن -

المشركين كانوا يقرون بهذا وهم مشركون كما تقدم بيانه بل 0 (الإله) الحق هو الذي يستحق أن يعبد، فهو إله بمعنى (مألوه) لا بمعنى (إله) والتوحيد أن تعبد الله وحده لا شريك له والإشراك أن تجعل مع الله إلها آخر. ش: يعني أن النوع الثالث من أنواع التوحيد عند أرباب الكلام والتصوف، هو قولهم أن لله واحد في ذاته لا قسيم له ولا جزء له ولا بعض له وهذا كلام مجمل مشتمل على حق وباطل فقد يراد به معنى صحيح كما إذا قصد به أن الله سبحانه لا يجوز عليه أن يتفرق بل هو أحد صمد. وقد يراد به نفي صفاته، وحينئذ فهم إنما يقصدون تعطيل حقائق أسمائه وصفاته التي هي من لوازم ذاته المقدسة زاعمين أن ذلك من التوحيد. وبما ذكر ينكشف زيغهم ويتضح باطلهم، فإن هذه المعاني التي تتناولها عباراتهم فيها ما يوافق ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم وفيها ما يخالفه. وليس الحق الذي فيها هو الغاية التي جاء بها الرسول بل التوحيد الذي جاء به أمر يتضمن الحق الذي في هذا الكلام وزيادة أخرى، ومقالتهم هذه هي الكلام الذي لبس فيه الحق بالباطل فلو أقر الإنسان بما يستحقه الرب تعالى من الصفات ونزهه عن كل ما تنزه عنه وأقر بأنه وحده خالق كل شيء لم يكن موحدا حتى يقر بأن لله وحده هو الإله المستحق للعبادة، والإله بمعنى المألوه المعبود الذي يستحق العبادة ليس هو الإله بمعنى القادر على الخلق. قال ابن جرير: الله أصله الألاه أسقطت الهمزة التي هي فاء الكلمة فالتقت اللام التي هي عين الاسم واللام الزائدة وهي الساكنة فأدغمت في الأخرى فصارتا في اللفظ لاما واحدة مشددة، وأما تأويل الله فإنه على معنى ما روي لنا عن ابن عباس قال: هو الذي يألهه كل شيء ويعبده كل خلق. وساق بسنده عن الضحاك عن عبد الله بن عباس قال: الله ذو الألوهية

والعبودية على خلقه أجمعين انتهى" فالإله هو الذي تألهه القلوب عبادة واستعانة ومحبة وتعظيما وخوفا ورجاء وإجلالا، ولله عز وجل حق لا يشركه فيه غيره، فلا يعبد إلا الله ولا يدعى إلا الله ولا يخاف إلا الله ولا يطاع إلا الله، وأول ذلك أن لا تجعل مع الله إلها آخر فلا تحب مخلوقا كما تحب الله ولا ترجوه كما ترجو الله ولا تخشاه كما تخشى الله، ومن سوى بين المخلوق والخالق في شيء من ذلك فهو من الذين بربهم يعدلون وقد جعل مع الله إلها آخر وإن كان مع ذلك يعتقد أن الله وحده خلق السماوات والأرض، فإن مشركي العرب كانوا مقرين بأن الله وحده خلق السموات والأرض وكانوا مع ذلك مشركين يجعلون مع الله آلهة أخرى. وقد سبق ذكر جملة من الآيات الدالة على ذلك. فتبين أن جعل هذا التوحيد الذي يقر به المتكلمون هو الغاية لا يخرجهم عن الشرك، فقد كان المشركون يقرون به ومع ذلك وصفهم الله بالشرك، وقاتلهم الرسول صلى الله عليه وسلم فالتوحيد الذي بعث الله به رسله وأنزل به كتبه هو أن يعبد الله وحده لا شريك له، وضده الشرك وهو أن يتخذ مع الله آلهة أخرى. قوله: وإذا تبين أن غاية ما يقرره هؤلاء النظار- أهل الإثبات- للقدر المنتسبون إلى السنة، إنما هو توحيد الربوبية، وأن الله رب كل شيء ومع هذا فالمشركون كانوا مقرين بذلك مع أنهم مشركون، وكذلك طوائف من أهل التصوف والمنتسبين إلى المعرفة والتحقيق والتوحيد، غاية ما عندهم من التوحيد: هو شهود هذا التوحيد، وأن تشهد أن الله رب كل شيء ومليكه وخالقه لا سيما إذا غاب العارف عندهم بموجوده عن وجوده، وبمشهوده عن شهوده وبمعروفه عن معرفته ودخل في فناء توحيد الربوبية، بحيث يفنى من لم يكن، ويبقى من لم يزل، فهذا عندهم هو الغاية التي لا غاية وراءها.

ومعلوم أن هذا هو تحقيق ما أقر به المشركون من التوحيد ولا يصير الرجل بمجرد هذا التوحيد مسلما، فضلا عن أن يكون وليا لله أو من سادات الأولياء وطائفة من أهل التصوف والمعرفة يقررون هذا التوحيد مع إثبات الصفات، فيفنون في توحيد الربوبية، مع إثبات الخالق للعالم المباين لمخلوقاته، وآخرون يضمون هذا إلى نفي الصفات، فيدخلون في التعطيل مع هذا. وهذا شر من حال كثير من المشركين. ش: يعني إذا اتضح وتقرر ما سبق من أن أرباب الكلام المثبتين لمشيئة الله النافذة وقدرته التامة المنتسبين إلى الشريعة إذا تقرر أن غاية التوحيد عندهم هو الإقرار بأن الله هو رب كل شيء ومليكه وكذلك إذا تبين أن أرباب التصوف المدعين التحقيق والمعرفة والزاعمين أنهم بلغوا من التوحيد غايته، إنما حاصل ما عندهم هو الإقرار بربوبية لله الشاملة فليعلم أن هذا هو حقيقة ما أقر به المشركون، ومع ذلك لم يدخلهم هذا الاعتراف في الإسلام بل نعتهم الله بالشرك في غير ما آية من القرآن، وقاتلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم واستباح دمائهم. ثم إن طائفة من الصوفية يقرون بأن الله رب كل شيء ومليكه ويثبتون أسماءه الحسنى وصفاته العليا، وطائفة منهم يعترفون بربوبية الله الشاملة، أما أسماء الله وصفاته فيجحدونها. وصنعهم هذا أسوأ حالا من كثير من المشركين فإنهم كانوا يقرون بأسماء الله وصفاته في الجملة. والحاصل أن هؤلاء النظار والمتصوفة المثبتين للصفات منهم والنافين لها غاية ما عندهم من التوحيد: هو الإقرار بأن الله هو خالق الخلق لا خالق لهم غيره ولا رب لهم سواه، أما أن يشرك معه غيره باتخاذ الوسائط ونحو ذلك من أنواع الشرك فذلك عندهم لا يضر مع الإقرار بالربوبية، وإذا كان ذلك حالهم فكيف يستحقون أن يوصفوا بأنهم مسلمون، فضلا عن أن يوصفوا بأنهم من أولياء الله أو من كبار عظمائهم. وقد تقدم الكثير من الأدلة على أن هذا هو عين شرك المشركين، وقوله: "لا سيما إذا غاب العارف عندهم بموجوده عن معرفته ودخل في فناء توحيد الربوبية بحيث

يفنى من لم يكن ويبقى من لم يزل" معناه: أن البالغ في التوحيد عندهم نهايته هو من يصل إلى هذه الحالة، ومعنى فناء المعرفة في المعروف، اضمحلال معرفته وتلاشيها في معروفه وهو الرب سبحانه بأن يغيب بمعروفه عن معرفته كما يغيب بمشهوده عن شهوده وبمذكوره عن ذكره وبمحبوبه عن حبه وبمخوفه عن خوفه، قال ابن القيم رحمه الله وهذا: لا ريب في إمكانه ووقوعه فإن القلب إذا امتلأ بشيء لم يبق فيه متسع لغيره وأنت ترى الرجل يشاهد محبوبه الذي قد استغرق في حبه بحيث تخلل حبه جميع أجزاء قلبه أو يشاهد المخوف الذي امتلأ قلبه بخوفه فتراه دهشا عن شعوره بحبه أو خوفه، لاستيلاء سلطان المحبوب أو المخوف على قلبه وعدم اتساعه لشهود غيره البتة، لكن هذه حالة نقص لا حالة كمال والكمال وراء ذلك فإنه لا أحد أعظم محبة لله عز وجل من الخليلين عليهما الصلاة والسلام وكانت حالهما أكمل من هذه الحال وشهود العبودية أكمل وأتم وأبلغ من الغيبة عنها بشهود المعبود، فشهود العبودية والمعبود درجة الكمل والغيبة بأحدهما عن الآخر درجة الناقصين فكما أن الغيبة بالعبادة عن المعبود نقص فكذلك الغيبة بالمعبود عن عبادته نقص. فالحق تعالى، مراده من عبده استحضار عبوديته لا الغيبة عنها فكيف يكون قائما بحقيقة العبودية من يقول إياك نعبد ولا شعور له بعبوديته البتة، فإن حقيقة إياك نعبد، علم ومعرفة وقصد وإرادة وعمل، وهذا مستحيل في وادي الفناء" انتهى كلامه رحمه الله، وسيأتي قريبا مزيد بيان لهذا البحث إن شاء الله تعالى.

معنى الجبر

معنى الجبر قوله: وكان جهم بن صفوان ينفي الصفات ويقول بالجبر، فهذا تحقيق قول جهم، لكنه إذا أثبت الأمر والنهي، والثواب والعقاب فارق المشركين من هذا الوجه لكن جهما ومن اتبعه يقولون بالإرجاء فيضعف الأمر والنهي، والثواب والعقاب عنده، والنجارية والضرارية وغيرهم

يقربون من جهم في مسائل القدر والإيمان مع مقاربتهم له أيضا في نفي الصفات. والكلابية والأشعرية خير من هؤلاء في باب الصفات فإنهم يثبتون لله الصفات الفعلية، وأئمتهم يثبتون الصفات الخبرية أيضا كما فصلت اقوا لهم في غير هذا الموضع. وأما في باب القدر ومسائل الأسماء والأحكام فأقوالهم متقاربة، والكلابية: هم أتباع أبي محمد عبد الله بن سعيد بن كلاب، الذي سلك الأشعري خطته وأصحاب بن كلاب كالحارث المحاسبي، وأبي العباس القلانسي ونحوهما خير من الأشعرية في هذا وهذا. فكلما كان الرجل إلى السلف والأئمة أقرب كان قوله أعلى وأفضل. والكراميه قولهم في الإيمان قول منكر لم يسبقهم إليه أحد، حيث جعلوا الإيمان قول اللسان وإن كان مع عدم تصديق القلب فيجعلون المنافق مؤمنا. لكنه يخلد في النار فخالفوا الجماعة في الاسم دون الحكم وأما في الصفات والقدر والوعد، فهم أشبه بأكثر طوائف المتكلمين الذين في أقوالهم مخالفة للسنة. ش: يعني أن رئيس أهل التعطيل وزعيم القائلين بأن العبد مجبور على أفعاله لا مشيئة له فيها ولا اختيار هو جهم، فقد كان يقول بذلك. وقاربه في هذا المذهب الشنيع طائفة النجارية وفرقة الضرارية فقد شابهت هاتان الطائفتان جهم في التعطيل وفي الغلو في إثبات القدر، والجهمية يشبهون المشركين حيث يقولون أن التدبير في أفعال الخلق كله لله تعالى، وهي كلها اضطرارية كحركات المرتعش والعروق النابضة وحركات الأشجار، والمشركون يقولون: لو شاء الله ما أشركنا، فالكل مخاصم لله ومحتج بالقدر، لكن فرق ما بين الجهمية والمشركين أن الجهمية يؤمنون بما يأمر الله به من أوامر كإفراده بالعبادة وسائر الطاعات وما ينهى عنه من نواهي كالشرك وسائر المعاصي، وأثبتوا ما يترتب على ذلك من الجزاء ولكن يضعف إيمانهم بذلك قولهم بالإرجاء. والكلابية والأشاعرة خير من هؤلاء

الجهمية ومن قاربهم حيث أن أصحاب ابن كلاب والمنتسبين إلى أبي الحسن الأشعري يثبتون لله الصفات الفعلية الاختيارية كالاستواء والنزول والمجيء لفصل القضاء ونحو ذلك، كما أن زعماء هاتين الطائفتين يثبتون بالإضافة إلى الصفات الفعلية الصفات الخبرية كالوجه واليدين ونحو ذلك كما قد بسط الكلام في هذا المقام في غير هذا الموضع. وهذه الطوائف جميعا يتشابهون في مسألة الأسماء كالفاسق والكافر والمؤمن كما يتشابهون في مسألة الحكم على بعض الناس بالإيمان والكفر والفسوق، كما يتشابهون أيضا في التخبيط في قدر الله السابق. والكلابية هم المنسوبون إلى أبي محمد عبد الله بن سعيد بن كلاب القطان التميمي البصري المتكلم رئيس الطائفة الكلابية وهو من المنتسبين إلى السنة، كانت بينه وبين المعتزلة مناظرات في زمن المأمون. وتوفي سنة أربعين ومائتين. ويقال له ابن كلاب لشدة مجادلته في مجلس المناظرة، وهو لقب له مأخوذ من الكلاب الذي هو المهماز وهو الحديدة التي على خف رائض الخيل. لا أن كلابا جده. ولهذا يصح أن يقال الكلابي بدل ابن كلاب. وابن كلاب هذا الذي سلك الأشعري منهجه في كثير من الأقوال الكلامية حين جرى بينه وبين أستاذه الجبائي المعتزلي مناظرة في مسائل الصلاح والأصلح فتخاصما وانحاز الأشعري إلى هذه الطائفة فأيد مقالتهم بمناهج كلامية. ابن كلاب هذا خير في الأشعرية في مسائل الإيمان والصفات كما أنه أيضا خير منهم في مسائل الأسماء والأحكام والقدر، كما أن أصحاب ابن كلاب كالحارث المحاسبي وأبي العباس القلانسي وأمثالهما من أصحابه هم أيضا خير من الأشاعرة في المسائل المذكورة. والضابط في هذا التفضيل، أنه كلما كان القول أقرب إلى الكتاب والسنة كان أعلى وأفضل من غيره، والكرامية لهم في مسألة الإيمان قول شنيع لم يسبقهم إليه أحد من الطوائف، وهو قولهم أن الإيمان يكفي فيه مجرد النطق باللسان وإن كان القلب غير مصدق، وعلى هذا فالمنافق عندهم مؤمن لكنهم يحكمون عليه بالخلود في النار فهو عندهم مؤمن في الاسم لا في الحكم، أما رأي الكرامية في مسائل

الصفات والقدر والوعيد فهو شبيه برأي كثير في طوائف المتكلمين الذين يوجد في آرائهم شيء من الصواب وشيء من مخالفة الشرع، والجبر: لفظ مجمل فإنه يقال جبر الأب ابنته على النكاح وجبر الحاكم الرجل على بيع ما له لوفاء دينه. ومعنى ذلك أكرهه ليس معناه جعله مريدا لذلك مختارا محبا له راضيا به، ومن قال أن الله تعالى جبر العباد بهذا المعنى فهو مبطل فإن الله أعلى وأجل قدرا في أن يجبر أحدا، وإنما يجبر غيره العاجز عن أن يجعله مريدا للفعل مختارا له راضيا به، والله سبحانه قادر على ذلك فهو الذي جعل المريد للفعل المحب له راضيا به فكيف يقال أجبره وأكرهه كما يجبر المخلوق المخلوق؟ وإذا أريد بالجبر خلق ما في النفوس من الاعتقادات فهذا المعنى صحيح، قال الأوزاعي وغيره: ليس في الكتاب والسنة لفظ جبر وإنما في السنة لفظ (جبل) كما في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأشج عبد القيس لما قدم عليه وفد عبد القيس من البحرين: "إن فيك لخلقين يحبهما الله الحلم والأناة فقال أخلقين تخلقت بهما أم خلقين جبلت عليهما قال بل جبلت عليهما، فقال الحمد لله الذي جبلني على ما يحب " ومن أجل ذلك أنكر الأوزاعي والثوري وأحمد وغيرهم من السلف لفظ الجبر في النفي والإثبات، ومن المعلوم بالضرورة أن الأفعال تنقسم إلى ما ينفع العباد والى ما يضرهم ولله قد بعث رسوله صلى الله عليه وسلم يأمر المؤمنين بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث، فمن لم يتبع شرع الله ودينه تبع ضده من الأهواء والبدع وكان احتجاجه بالقدر من الجدل بالباطل، ليدحض به الحق. والإرجاء هو التأخير ولذلك سمي أصحاب هذا الرأي بالمرجئة لأنهم أخروا الأعمال عن الإيمان حيث زعموا أن مرتكب الكبيرة غير فاسق، وأن الناس في الإيمان سواء فإيمان أفسق الناس كإيمان الأنبياء وأن الأعمال الصالحة ليست من الإيمان، ويكذبون بالوعيد والعقاب بالكلية، وشبهتهم الواهية هي مثل قولهم الإيمان في اللغة هو التصديق والرسول إنما خاطب الناس بلغة العرب لا بغيرها فيكون مراده بالإيمان التصديق، ثم قالوا والتصديق إنما يكون بالقلب واللسان أو القلب فقط، فالأعمال ليست في الإيمان. قال الشيخ: والمرجئة ثلاثة أصناف: الصنف الأول من يقول الإيمان مجرد ما في القلب. والثاني: من يقول هو مجرد قول اللسان وهذا لا يعرف لأحد قبل الكرامية. والثالث: من يقول هو تصديق القلب وقوة اللسان وهذا هو المشهور عن مرجئة الفقهاء. والحق أن الإيمان قوة وعمل، قول باللسان وإقرار واعتقاد بالقلب، وعمل بالجوارح مع الإخلاص بالنية الصادقة، وكل ما يطاع الله عز وجل به من فريضة ونافلة فهو من الإيمان، يزيد بالطاعة وينقص بالمعاصي. وأهل الذنوب مؤمنون غير مستكملي الإيمان من أجل ذنوبهم، وإنما صاروا ناقصي الإيمان بارتكابهم الكبائر. والخوارج والمعتزلة يقولون أن الدين والإيمان قول وعمل واعتقاد ولكن لا يزيد ولا ينقص، ومن أتى كبيرة كفر عند الحرورية وصار فاسقا عند المعتزلة في منزلة بين المنزلتين لا مؤمن ولا كافر، وأما الحكم فالمعتزلة وافقوا الخوارج على حكمهم في الآخرة فعندهم أن من أتى كبيرة فهو خالد مخلد في النار لا يخرج منها لا بشفاعة ولا بغير شفاعة، أما في الدنيا فالخوارج حكموا بكفر العاصي واستحلوا دمه وماله وأما المعتزلة فحكموا بخروجه من الإيمان ولم يدخلوه في الكفر ولم يستحلوا منه ما استحله الخوارج، وقابلتهم المرجئة والجهمية ومن اتبعهم فقالوا ليس من الإيمان فعل الأعمال الواجبة ولا ترك المحظورات البدنية، فإن الإيمان لا يقبل الزيادة والنقصان بل هو شيء واحد، والنجارية هم أصحاب الحسين بن محمد النجار وهم وإن اختلفوا أصنافا إلا أنهم لم يختلفوا في المسائل العامة، والضرارية هم أصحاب ضرار بن عمرو، الذي ظهر في أيام واصل بن عطاء، والحارث هو ابن أسد المحاسبي الزاهد الناطق بالحكمة صاحب المصنفات في التصوف والأحوال وهو أحد شيوخ الجنيد وكانت وفاته سنة ثلاث وأربعين ومائتين، وأبو العباس القلانسي هو أحد متكلمي أهل السنة في القرن الثالث، وله كتب ورسائل عديدة، والكرامية هم أصحاب أبي عبد الله محمد ابن كرام الذي ظهر ونشر بدعته في أيام محمد بن طاهر بن عبد لله.

مذهب القدرية والجهمية في الوعد والوعيد

مذهب القدرية والجهمية في الوعد والوعيد قوله: وأما المعتزلة، فهم ينفون الصفات، ويقاربون قول جهم لكنهم ينفون القدر: فهم وإن عظموا الأمر والنهي، والوعد والوعيد وغلوا فيه مكذبون بالقدر ففيهم نوع من الشرك من هذا الباب، والإقرار بالوعد والوعيد مع إنكار القدر خير من الإقرار بالقدر مع إنكار الأمر والنهي والوعد والوعيد، ولهذا لم يكن في زمن الصحابة والتابعين من ينفي الأمر والنهي والوعد والوعيد ولكن نبغ فيهم القدرية، كما نبغ فيهم الخوارج والحرورية، وإنما يظهر من البدع أولا ما كان أخفى وكلما ضعف من يقوم بنور النبوة قويت البدعة. فهؤلاء المتصوفون الذين يشهدون الحقيقة الكونية مع إعراضهم عن الأمر والنهي شر من القدرية المعتزلة ونحوهم. أولئك يشبهون المجوس، وهؤلاء يشبهون المشركين الذين قالوا: {لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ} والمشركون شر من المجوس، فهذا أصل عظيم، على المسلم أن يعرفه، فإنه أصل الإسلام الذي يتميز به أهل الإيمان من أهل الكفر وهو الإيمان بالوحدانية والرسالة "شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله" وقد وقع كثير من الناس في الإخلال بحقيقة هذين الأصلين أو أحدهما مع ظنه أنه في غاية التحقيق والتوحيد، والعلم والمعرفة، فإقرار المرء بأن الله رب كل شيء ومليكه وخالقه لا ينجيه من عذاب الله، إن لم يقترن به إقراره بأنه لا إله إلا الله فلا يستحق العبادة أحد إلا هو، وأن محمدا رسول الله فيجب تصديقه فيما أخبر، وطاعته فيما أمر فلابد كل من الكلام في هذين الأصلين. ش: بعد أن بين المؤلف رأي الجهمية القائلين بالتعطيل والجبر والإرجاء شرع في بيان مذهب المعتزلة كعمرو بن عبيد وواصل بن عطاء الغزال وأضرابهما فذكر أن القدرية وإن قاربوا جهما في التعطيل إلا أنهم يقولون أنه لا يغفر لمرتكب الكبيرة إلا بالتوبة وأن أهل الكبائر مخلدون في

النار ويخرجونهم من الإيمان بالكلية ويكذبون بشفاعة النبي صلى الله عليه وسلم وغيره زعما منهم أنه إذا أوعد عبيده فلا يجوز أن لا يعذبهم ويخلف وعيده، كما يغلون في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ويدخلون تحت ستار ذلك الخروج على الأئمة، بينما الجهمية المرجئة لا يجزمون بشيء من الوعد والوعيد، بل يغلون في إرجاء كل أمر فلا يجزمون بثواب من تاب كما لا يجزمون بعقوبة من لم يتب، وبذلك يضعف جانب إثباتهم للأمر والنهي والجزاء على الأعمال، غير أن المعتزلة وأن عظموا جانب الأمر والنهي فهم مكذبون بقدر الله السابق ومعتقدون بأن العبد يخلق فعل نفسه، ومن هذه الجهة فهم مشركون في الربوبية، وإنكارهم للقدر وغلوهم في الوعد والوعيد وإن كان باطلا إلا أنه خير من إثبات القدر مع الغلو فيه، وحينئذ فأهل الكلام وأرباب التصوف المجبرة شر من المعتزلة ونحوهم كالشيعة القدرية فإن هؤلاء يعظمون الأمر والنهي والوعد والوعيد وطاعة الله ورسوله ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر لكن ضلوا في القدر واعتقدوا أنهم إذا أثبتوا مشيئة عامة وقدرة شاملة وخلقا متناولا لكل شيء لزم من ذلك القدح في عدل الرب وحكمته، وقد غلطوا في ذلك. أما أهل الكلام والتصوف، فأثبتوا القدر وآمنوا بأن الله رب كل شيء ومليكه وأن ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، وأنه خالق كل شيء، وهذا حسن وصواب لكنهم قصروا في الأمر والنهي والوعد والوعيد وأفرطوا حتى أفضى بهم ذلك إلى الإلحاد فصاروا من جنس المشركين الذين قالوا: {لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ} والقدرية يشبهون المجوس، وهؤلاء المتصوفة المجبرة يشبهون المشركين فأولئك القدرية وإن كانوا يشبهون المجوس من حيث أنهم أثبتوا فاعلا غير الله سبحانه فهؤلاء شابهوا المشركين والمشركون شر من المجوس فإن المجوس يقرون بالجزية باتفاق المسلمين، وذهب بعض العلماء إلى حل نسائهم وطعامهم، وأما المشركون فاتفقت الأمة على تحريم نكاح نسائهم. أما إقرارهم على الجزية فجمهور العلماء على أن مشركي العرب لا يقرون بها وإن أقرت المجوس، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقبل الجزية من

المشركين بل قال: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأني رسول الله فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله عز وجل" وبما ذكر من تقرير توحيد الشرع وبيان ارتباطه بالقدر اتضح أن هذا الأصل هو العمدة الذي يميز بين الأبرار والفجار والمسلمين والكفار، فهذا حقيقة التوحيد: شهودا بوحدانية لله وبرسالة رسول الله علما وعملا، خلافا لأرباب الكلام وأهل التصوف الذين يعتقدون أن مشاهدة الربوبية العامة والفناء في معرفتها هو الغاية في التوحيد وأن معنى الإله هو القادر على الاختراع. وحينئذ فلابد في تحقيق شهادة أن لا إله إلا الله بأن لا يعبد إله غير الله، وشهادة أن محمدا رسول الله بأن لا يعبد الله إلا بما شرعه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقوله: "ولهذا لم يكن في زمن الصحابة والتابعين من ينفي الأمر والنهي والوعد والوعيد ولكن نبغ فيهم القدرية كما نبغ فيهم الخوارج والحرورية وإنما يظهر من البدع أولا ما كان أخفى وكلما ضعف من يقوم بنور النبوة قويت البدعة": يعني ومن أجل أن مقالة المجبرة شر من مقالة نفاة القدر نجد أن الصحابة رضوان الله عليهم لم يوجد في عهدهم من ينكر الأمر والنهي والوعد والوعيد، أما إنكار القدر فقد وجد من يقول به في أواخر عهد الصحابة، كما روى مسلم وأبوداود وغيرهما عن يحي بن يعمر، قال: "كان أول من تكلم في القدر بالبصرة معبدا الجهني فانطلقت أنا وحميد بن عبد الرحمن الحميري حاجين أو معتمرين فقلنا: لو لقينا أحدا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألناه عما يقول هؤلاء في القدر فوفق الله تعالى لنا عبد الله بن عمر داخلا في المسجد فاكتنفته أنا وصاحبي فظننت أن صاحبي سيكل الكلام إلي فقلت: أبا عبد الرحمن إنه قد ظهر قبلنا أناس يقرؤون القرآن ويتقفرون العلم يزعمون أن لا قدر وأن الأمر أنف، فقال: إذا لقيت أولئك فأخبرهم أني منهم بريء وأنهم مني براء والذي يحلف به عبد الله بن عمر لو أن لأحدهم مثل أحد ذهبا فأنفقه في سبيل الله ما قبله

الله منه حتى يؤمن بالقدر"، وروى أحمد وأبوداود عن عبادة بن الوليد بن عبادة بن الصامت قال: حدثني أبي قال: "دخلت على عبادة وهو مريض أتخايل فيه الموت فقلت: يا أبتاه أوصني واجتهد لي فقال أجلسوني قال: يا بني إنك لن تجد طعم الإيمان ولن تبلغ حقيقة العلم بالله حتى تؤمن بالقدر خيره وشره، قلت: يا أبتاه فكيف لي أن أعلم ما خير القدر وشره؟، قال: تعلم أن ما أخطاك لم يكن ليصيبك وما أصابك لم يكن ليخطئك يا بني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول "إن أول ما خلق الله القلم فقال له: اكتب فجرى في تلك الساعة بما هو كائن إلى يوم القيامة" يا بني إنك إن مت ولست على ذلك دخلت النار" وهذا يدل على بشاعة الاحتجاج بالقدر وإنكار الأمر والنهي والوعد والوعيد، والبدعة إنما تقوى وتنتشر كلما بعد الناس عن نور الرسالة وضعف الدعاة إليها، ولما كان القدر من المسائل الشائكة ذات الخفاء والإشكال وجد من ينكره حتى في العهد القريب من نور الرسالة، وقد أنكرت هذه البدعة أشد الإنكار وحوربت أعظم المحاربة، والمجوس هم عبدة النيران القائلون: أن العالم صادر عن أصلين هما النور والظلمة، والمجوس في الأصل النجوس لتدينهم باستعمال النجاسات والميم والنون يتعاقبان. والمجوس أقدم الطوائف وأصلهم من بلاد فارس، وقد نبغوا في علم النجوم، ومن جملتهم المانوية المنسوبون إلى أحد زعمائهم وهو مانىء بن فاتك الحكيم الذي ظهر فى زمان شابور بن أزدشير وذلك بعد عيسى عليه السلام. وقد استخرج مذهبه من المجوسية والنصرانية فهو ثنوي زنديق. ومنهم المزدكية المنسوبون إلى مزدك الذي ظهر في أيام قباذ والد أنوشروان، وقول المزدكية كقوة المانوية في الأصلين إلا أن مزدك كان يقول النور يفعل بالقصد والاختيار، والظلمة تفعل على الخبط والاتفاق. قال الشهرستاني: "وكان مزدك ينهى الناس عن المخالفة والمباغضة والقتال، ولما كان أكثر ذلك إنما يقع بسبب النساء والأموال أحل النساء والأموال وجعل الناس شركة فيها كاشتراكهم في الماء والنار والكلأ"، قال في حاشية الملل نقلا عن ابن خلدون: "مزدك الزنديق كان

إباحيا وكان يقول باستباحة أموال الناس وأنها فيء وأنه ليس لأحد ملك شيء ولا حجزه، والأشياء كلها ملك لله مشاع بين الناس لا يختص به أحد. وقد أمر مزدك أصحابه بتناول اللذات والعكوف على بلوغ الشهوات والأكل والشرب والمواساة والاختلاط وترك استبداد بعضهم على بعض. ولهم مشاركة في الحرم والأهل لا يمتنع الواحد منهم من حرمة الآخر ولا يمنعه، ولهم مذهب في الضيافات ليس هو لأحد من الأمم إذا أضافوا الإنسان لم يمنعوه من شيء يلتمسه كائنا ما كان"، وإذاً فمذهب المزدكية هو أصل الشيوعية الحمراء التي نادى بها كارل ماركس واحتضنها تلميذه لينين مؤسس الدولة الماركسية التي يغطي دخان جحيمها في هذه الأزمان سماء عدد من الأقطار المفتونة بمعسول قولها والمخدوعة ببريق دعايتها التي في ظاهرها الرحمة وفى باطنها العذاب. والخوارج هم الذين خرجوا على أمير المؤمنين علي رضي الله عنه حين جرى أمر الحكمين واجتمعوا بحروراء من ناحية الكوفة، وفيهم قال النبي صلى الله عليه وسلم: "تحقر صلاة أحدكم في جنب صلاتهم ويحقر صيام أحدكم في جنب صيامهم ولكن لا يجاوز إيمانهم تراقيهم"، وهم المارقة الذين قال فيهم صلى الله عليه وسلم: "سيخرج من ضئضئ هذا الرجل قوم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية"، ويجمع طوائفهم القول بالتبرؤ من عثمان وعلي ويقدمون ذلك على كل طاعة ولا يصححون المناكحة إلا على ذلك. ويكفرون أصحاب الكبائر. وقوله: "غنما يظهر من البدع أولا ما كان أخفى" يعني أن هؤلاء المجبرة لم يكونوا موجودين في عصر الصحابة والتابعين لهم بإحسان، فإن البدع إنما يظهر منها أولا فأولا الأخفى فالأخفى، كما حدث في آخر عصر الخلفاء الراشدين بدعة الخوارج والشيعة. ثم في آخر عصر الصحابة بدعة المرجئة والقدرية، ثم في آخر عصر التابعين بدعة الجهمية معطلة الصفات. وأما هؤلاء المباحة المسقطون للأمر والنهي محتجين على ذلك بالقدر فهم شر من جميع هذه الطوائف، وإنما حدثوا بعد هؤلاء كلهم، وكان ظهور جهم ومقالته في تعطيل الصفات وفي الجبر والإرجاء في أواخر

دولة بني أمية بعد حدوث القدرية والمعتزلة وغيرهم، فإن القدرية حدثوا قبل ذلك فلما حدثت المقالة المقابلة لمقالة القدرية أنكرها السلف والأئمة كما أنكروا قول القدرية من المعتزلة ونحوهم، (والوعيد) التخويف والتهديد وضده الوعد، فالوعيد والإيعاد فيما يحضر ويخاف منه. والوعد والعدة فيما يرغب ويشتاق إليه. قال الشاعر: لمخلف إيعادي ومنجز موعدي ... وإني وإن أوعدته أو وعدته ومذهب أهل السنة والجماعة في نصوص الوعيد هو إمرارها كما جاءت وعدم التعرض لها بالتأويل قال الشيخ عبد الرحمن بن حسن في فتح المجيد عند شرحه لقوله صلى الله عليه وسلم في حديث أبي موسى: "ثلاثة لا يدخلون الجنة مدمن الخمر ومصدق بالسحر وقاطع الرحم" ما نصه: "هذا من نصوص الوعيد التي كره السلف تأويلها وقالوا: أمروها كما جاءت. ومن تأولها فهو على خطر من القول على الله بلا علم وأحسن ما يقال: أن كل عمل دون الشرك والكفر المخرج عن ملة الإسلام فإنه يرجع إلى مشيئة الله، فإن عذبه فقد استوجب العذاب، وإن غفر له فبفضله وعفوه ورحمته" انتهى.

لابد من تحقيق الشهادتين

لابد من تحقيق الشهادتين ... تفسير الشهادتين قوله: الأصل الأول: توحيد الإلهية، فإنه سبحانه أخبر عن المشركين كما تقدم بأنهم أثبتوا وسائط بينهم وبين الله يدعونهم ويتخذونهم شفعاء بدون إذن الله، قال تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} ، وقال عن مؤمن يس: {وَمَا لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ، أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً وَلا يُنْقِذُونِ، إِنِّي إِذاً لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ، إِنِّي

آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ} ، وقال تعالى: {وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ} ، وقال تعالى: {أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلا يَعْقِلُونَ، قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعاً لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} ، وقال تعالى: {مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا شَفِيع} ، وقال تعالى: {وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ} ، وقال تعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِه} ، وقال تعالى: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَداً سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ} ، وقال تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ، وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} ، وقال تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلاً، أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُوراً} ، قال طائفة من السلف: "كان قوم يدعون العزير والمسيح فأنزل الله هذه الآية، يبين فيها أن الملائكة والأنبياء يتقربون إلى الله، ويرجون رحمته، ويخافون عذابه". ومن تحقيق التوحيد أن يعلم، أن الله تعالى أثبت له حقا لا يشركه فيه مخلوق كالعبادة والتوكل والخوف والتقوى، كما قال تعالى: {لاَ تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُوماً مَخْذُولاً} ، وقال تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ} ، وقال تعالى: {قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ} إلى قوله: َ {الشَّاكِرِينَ} ، وكل واحد من الرسل قال لقومه: {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} ، وقال تعالى في التوكل: {وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} ، وقال: {وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} ، وقال: {وحَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ} ، وقال تعالى: {وَلَوْ

أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ} ، فقال في الإيتاء: {مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ} ، وقال في التوكل: {وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ} ولم يقل (ورسوله) أن الإيتاء هو الإعطاء الشرعي، وذلك يتضمن الإباحة والإحلال الذي بلغه الرسول، فإن الحلال ما أحله الله والحرام ما حرمه والدين ما شرعه، قال تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} ، وأما الحسب فهو الكافي والله وحده هو كاف عبده، كما قال تعالى: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} فهو وحده حسبهم كلهم، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} أي حسبك وحسب من اتبعك من المؤمنين هو الله، فهو كافيكم كلكم وليس المراد أن الله والمؤمنين حسبك كما يظنه بعض المغالطين، إذ هو وحده كاف نبيه، وهو حسبه ليس معه من يكون هو وإياه حسبا للرسول، وهذا في اللغة كقول الشاعر: "فحسبك والضحاك سيف مهند"، وتقول العرب: "حسبك وزيدا درهم" أي يكفيك وزيدا جميعا درهم وقال في الخوف والخشية والتقوى: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ} فأثبت الطاعة لله وللرسول وأثبت الخشية والتقوى لله وحده، كما قال نوح عليه السلام: {إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ} فجعل العبادة والتقوى لله وحده وجعل الطاعة له، فإنه من يطع الرسول فقد أطاع الله، وقد قال تعالى: {فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ} ، وقال تعالى: {فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} ، وقال الخليل عليه السلام: {وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَاناً فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} ، وقال تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} . وفي الصحيحين عن ابن مسعود أنه قال: "لما نزلت هذه الآية شق ذلك على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا: وأينا لم يظلم نفسه؟، فقال النبي

صلى الله عليه وسلم: إنما هو الشرك، ألم تسمعوا إلى قول العبد الصالح: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} " وقال تعالى: {وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ} ، {وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ} ، ومن هذا الباب، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول في خطبته: "من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعصهما فإنه لا يضر إلا نفسه، ولن يضر الله شيئا"، وقال: "لا تقولوا ما شاء الله وشاء محمد، ولكن قولوا ما شاء الله ثم شاء محمد"،ففي الطاعة قرن اسم الرسول باسمه بحرف الواو وفي المشيئة أمر أن يجعل ذلك بحرف (ثم) وذلك لأن طاعة الرسول طاعة لله، فمن أطاع الرسول فقد أطاع الله، وطاعة الله طاعة للرسول بخلاف المشيئة فليست مشيئة أحد من العباد مشيئة لله ولا مشيئة الله مستلزمة لمشيئة العباد، بل ما شاء الله كان وإن لم يشأ الناس، وما شاء الناس لم يكن إن لم يشأ الله. الأصل الثاني: في حق الرسول صلى الله عليه وسلم، فعلينا أن نؤمن به صلى الله عليه وسلم ونطيعه ونرضيه ونحبه ونسلم لحكمه وأمثال ذلك: قال تعالى: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} ، وقال تعالى: {وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ} ، وقال تعالى: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ} ، وقال تعالى: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} ، وقال تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} وأمثال ذلك. ش: هذا شروع في بيان ما أجمله المؤلف في قوله: "فلابد من الكلام على هذين الأصلين" وتحقيقهما هو كما قال المؤلف قبل ذلك "فإقرار المرء بأن الله رب كل شيء ومليكه وخالقه لا ينجيه من عذاب الله إن لم يقترن به إقراره بأنه لا إله إلا الله فلا يستحق العبادة أحد إلا هو، وأن محمدا رسول لله فيجب تصديقه فيما أخبر. وطاعته فيما أمر"، وقد شرح الأول

بقوله "الأصل الأول توحيد الإلهية: فإنه سبحانه أخبر عن المشركين- كما تقدم - بأنهم أثبتوا وسائط بينه وبين الله يدعونهم ويتخذونهم شفعاء بدون إذن الله" يعني فلابد من تحقيق شهادة أن لا إله إلا الله فإن الله سبحانه قد كفر الذين دعوا معه آلهة أخرى أو تقربوا بهم إليه واتخذوهم وسطاء وشفعاء دون أن يأذن الله لهم بذلك. ثم استشهد المؤلف بجملة آيات تصرح بشرك وكفر من دعا غير الله، والتمس منه الشفاعة، وتبين الآيات أنهم لا يملكون لهم ضرا ولا نفعا وأنهم لا يشفعون إلا لمن ارتضى وأنه لا شفاعة عند لله إلا بإذنه وأن هؤلاء المدعوين من ملائكة وأنبياء وصالحين لا يملكون لأنفسهم ضرا ولا نفعا فضلا عن أن يملكوا ذلك لغيرهم وليس لهم من شرك في السموات ولا في الأرض ولا يملكون مثقال ذرة فيهما. وليست لله منهم عون ولا نصير بل الكون كله بأسره ملكه وتحت تصرفه، ثم بين المؤلف أن من تحقيق هذا الأصل أن يفرد الله جل وعلا بكل أنواع العبادة من خوف ورجاء وتوكل ورغبة وخشية وقد استشهد بعدة آيات فيها التصريح باستحقاق الله وحده سائر أنواع العبادات وإفراده بها دون من سواه، وأشار إلى بعض الأسرار التي تؤخذ من تعبير الآيات الكريمات كما في قوله سبحانه: {وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ} ، وكما في قوله: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ} ، وقوله عن نوح عليه السلام: {أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ} ، وقد بين الثاني بقوله: "الأصل الثاني في حق الرسول صلى الله عليه وسلم فعلينا أن نؤمن به صلى الله عليه وسلم ونطيعه ونرضيه ونحبه ونسلم لحكمه وأمثال ذلك " يعني ولابد من تحقيق شهادة أن محمدا رسول الله بأن يطاع في كل ما أمر ويجتنب ما عنه نهى وزجر وأن لا يعبد الله إلا بما شرع، وذلك يتضمن تقديم طاعته على طاعة كل أحد ومحبته وإرضائه باتباعه، وقد استشهد الشيخ على وجوب تحقيق هذا الأصل بجملة آيات، تبين أن طاعة الرسول طاعة لله وأن محبته ورضاه، مقرون برضاه.

قال الشيخ: وبالجملة فمعناه أصلان عظيمان: أحدهما أن لا نعبد إلا الله، والثاني: أن لا نعبده إلا بما شرع فلا نعبده بعبادة مبتدعة. وهذان الأصلان هما تحقيق شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وذلك تحقيق قوله تعالى: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً} ، وفي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد"، وفي لفظ في الصحيح "من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد"، وفي الصحيح وغيره أيضا "يقول لله تعالى أنا أغنى الشركاء من عمل عملا أشرك فيه غيري فأنا منه بريء وهو كله للذي أشرك"، وقد سبق إيضاح أنه ما من رسول إلا وقد أمر بأن يقول لقومه {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} ، وقوله: "قال طائفة من السلف" يعني كمجاهد وابن عباس وقوله: "وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} أي "حسبك وحسب من اتبعك من المؤمنين هو الله إلى آخره " المعنى أن الله وحده كافيك وكافي أتباعك فلا تحتاجون معه إلى أحد، وهذا اختيار المحققين كالشيخ رحمه الله، وقيل المعنى حسبك الله وحسبك المؤمنون، قال ابن القيم رحمه الله: "وهذا خطأ محض لا يجوز حمل الآية عليه فإن الحسب والكفاية لله وحده كالتوكل والتقوى والعبادة، قال الله تعالى: {وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ} ، ففرق بين الحسب والتأييد فجعل الحسب له وحده وجعل التأييد له بنصره وبعباده وأثنى على أهل التوحيد من عباده حيث أفردوه بالحسب فقال تعالى: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} ولم يقولوا حسبنا الله ورسوله ونظير هذا قوله سبحانه: {وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ} ، فتأمل كيف جعل الإيتاء لله ورسوله وجعل الحسب له وحده فلم يقل وقالوا حسبنا الله ورسوله بل جعله خالص حقه كما قال: {إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ} فجعل الرغبة إليه وحده كما قال: {وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ} ، فالرغبة والتوكل والإنابة

والحسب لله وحده كما أن العبادة والتقوى والسجود والنذر والخشية لا تكون إلا له سبحانه وتعالى. وتقرير الشيخ لهذا المعنى هو الموافق لما جاء في اللغة العربية كما في قول الشاعر: إذا كانت الهيجاء وانشقت العصا ... فحسبك والضحاك سيف مهند فإن المعنى: يكفيك سيف مهند مع الضحاك، ومعنى "حسبك وزيدا درهم" أي يكفيك أنت وزيد مجتمعين درهم واحد، وقوله: "وقال الخليل عليه السلام: {وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَاناً فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} ، وقال تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} "إلى آخره المعنى كما قال ابن جرير عن الربيع بن أنس قال: "الإيمان هو الإخلاص لله وحده"، وقال ابن كثير في الآية: "أي هؤلاء الذين أخلصوا العبادة لله وحده ولم يشركوا به شيئا هم الآمنون يوم القيامة المهتدون في الدنيا والآخرة". قال الشيخ في معنى حديث ابن مسعود: والذي شق عليهم أنهم ظنوا أن الظلم المشروط عدمه هو ظلم العبد نفسه وأنه لا أمن ولا اهتداء إلا لمن لم يظلم نفسه فبين لهم النبي صلى الله عليه وسلم ما دلهم على أن الشرك ظلم في كتاب الله فلا يحصل الأمن والاهتداء إلا لمن لم يلبس إيمانه بهذا الظلم فكان من أهل الأمن والاهتداء كما كان من أهل الاصطفاء في قوله تعالى: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ} وهذا لا ينفي أن يؤاخذ أحدهم بظلمه لنفسه بذنب إذا لم يتب كما قال تعالى: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ} ، فمن سلم من أجناس الظلم الثلاثة: الشرك وظلم العباد وظلمه لنفسه بما دون الشرك كان له الأمن التام والاهتداء التام ومن لم يسلم من ظلمه لنفسه كان له مطلق الأمن والاهتداء بمعنى أنه لا بد أن يدخل الجنة كما وعد بذلك في النصوص الأخرى وقد هداه الله إلى الصراط

المستقيم الذي تكون عاقبته فيه إلى الجنة ويحصل له من نقص الأمن والاهتداء بحسب ما نقص من إيمانه بظلمه لنفسه وليس مراد النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: "إنه الشرك" أن من لم يشرك الشرك الأكبر يكون له الأمن التام والاهتداء التام فإن أحاديثه الكثيرة مع نصوص القرآن تبين أن أهل الكبائر معرضون للخوف وحينئذ فمن لم يفرد الله سبحانه بجميع أنواع العبادة فإنه لم يحقق هذا الأصل، ثم بين المؤلف في معرض ذكره لبعض أسرار التعبير أن من هذا القبيل قول النبي صلى الله عليه وسلم في خطبته: "من يطع الله ورسوله" بينما قال في المشيئة: "لا تقولوا ما شاء الله وشاء محمد، بل قولوا ما شاء الله ثم شاء محمد" ففرق بين الطاعة والمشيئة، وقوله صلى الله عليه وسلم: "ومن يعصهما" هو مثل قوله صلى الله عليه وسلم في حديث أنس رضي الله عنه قال: "لما كان يوم خيبر أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا طلحة فنادى أن لله ورسوله ينهيانكم عن لحوم الحمر الأهلية فإنها رجس" متفق عليه بتثنية الضمير لله تعالى ولرسوله، وقد ثبت أنه صلى الله عليه وسلم قال للخطيب الذي قال:"في خطبته من يطع الله ورسوله فقد رشد ومن يعصهما الحديث: "بئس خطيب القوم أنت" لجمعه بين ضمير الله تعالى وضمير رسوله صلى الله عليه وسلم، وقال: "قل ومن يعص الله ورسوله" وقد أجيب عن هذا الإشكال بجوابين أحدهما: أنه صلى الله عليه وسلم نهى الخطيب عن ذلك لأن مقام الخطابة يقتضي البسط والإيضاح فأرشده إلى أن يأتي بالاسم الظاهر لا بالضمير وأنه ليس العتب عليه من حيث جمعه بين ضمير الله وضمير رسول الله صلى الله عليه وسلم، والثاني: أنه صلى الله عليه وسلم له أن يجمع بين الضميرين وليس ذلك لغيره لعلمه بجلال ربه وعظمته. وقوله: "ومن هذا الباب أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول في خطبته الخ"، يشير إلى ما رواه أبوداود من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا تشهد قال: الحمد لله نستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا من يهد الله فلا مضل له وفي يضلل فلا هادي له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله أرسله بالحق بشيرا ونذيرا بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعصهما فإنه لا يضر إلا نفسه ولا يضر الله

شيئا"،وقوله: "لا تقولوا ما شاء الله وشاء محمد"، يشير إلى ما رواه النسائي من حديث قتيلة بنت صيفي الأنصارية رضي الله عنها: "أن يهوديا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال إنكم تشركون تقولون ما شاء الله وشئت وتقولون والكعبة فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم إذا أرادوا أن يحلفوا أن يقولوا ورب الكعبة، وأن يقولوا ما شاء الله ثم شئت"،وقوله: "بل ما شاء الله كان وإن لم يشأ الناس وما شاء الناس لم يكن إن لم يشأ الله" يعني كما جاء في الأثر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "كل ما هو آت قريب لا بعد لما هو آت، ولا يعجل الله لعجلة أحد ولا يخف لأمر الناس، ما شاء الله لا ما شاء الناس، يريد الله شيئا ويريد الناس شيئا، وما شاء الله كان ولو كره الناس، ولا مبعد لما قرب الله، ولا مقرب لما بعد ولا يكون شيء إلا بإذن الله"، وما أحسن قول الإمام الشافعي: فما شئتَ كان وإن لم أشأ ... وما شئتُ إن لم تشأ لم يكن خلقتَ العباد على ما علمتَ ... ففي العلم يجري الفتى والمسن على ذا مننتَ وهذا خذلتَ ... وهذا أعنتَ وذا لن تُعن فمنهم شقي ومنهم سعيد ... ومنهم قبيح ومنهم حسن وعشيرتكم: قبيلتكم وهم بنو أب واحد. واقترفتموها: اكتسبتموها، وكساد التجارة: بوارها، والتربص: الانتظار.

مراتب القدر

مراتب القدر فصل: قوله: إذا ثبت هذا فمعلوم أنه يجب الإيمان بخلق الله وأمره، وبقضائه وشرعه، وأهل الضلال الخائضون في القدر انقسموا إلى ثلاث فرق مجوسية، ومشركية، وإبليسية. فالمجوسية: الذين كذبوا بقدرة الله وإن آمنوا بأمره ونهيه، فغلاتهم أنكروا العلم والكتاب ومقتصدوهم أنكروا عموم مشيئته وخلقه وقدرته، وهؤلاء هم المعتزلة ومن وافقهم، والفرقة الثانية: المشركية: الذين أقروا بالقضاء والقدر، وأنكروا الأمر والنهي، قال تعالى: {سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ} ، فمن احتج على تعطيل الأمر والنهي بالقدر فهو من هؤلاء، وهذا قد كثر فيمن يدعي الحقيقة من المتصوفة. والفرقة الثالثة: وهم الإبليسية: الذين أقروا بالأمرين لكن جعلوا هذا تناقضا من الرب سبحانه وتعالى وطعنوا في حكمته وعدله كما يذكر عن إبليس مقدمهم كما نقله أهل المقالات، ونقل عن أهل الكتاب. ش: يقول الشيخ: إذا تقرر أن أصل الدين وزبدة التوحيد: هوتحقيق شهادة أن لا إله إلا الله وشهادة أن محمدا رسول الله، فلابد بالإضافة إلى ذلك من الإيمان بخلق الله وبقضائه وشرعه وأمره، فإن الإيمان بالقدر السابق مرتبط بالإيمان بالشرع ارتباطا وثيقا فالإيمان بأن الله خالق كل شيء وربه ومليكه وأنه علم الأشياء وكتبها قبل أن تكون مستلزم للإيمان بأن الله شرع الشرائع، فأمر ونهى ووعد وتوعد وسيجازي كلا بعمله: {وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً} وأهل الزيغ المخبطون في قدر الله انقسموا في هذا الباب إلى ثلاثة أصناف مجوسية ومشركية وإبليسية، فالمجوسية هم القدرية المشبهون بالمجوس لاخراجهم أفعال العباد عن قدرة الله وهم قسمان: غلاة ومقتصدون، فالغلاة أنكروا مرتبتي العلم والكتابة كمعبد الجهني وهشام بن

عمرو الغوطي أما غير الغلاة منهم فلم ينكروا المرتبتين السابقتين وإنما أنكروا عموم مرتبتي الخلق والمشيئة، وإذاً فهذا الصنف هم المعتزلة ومن وافقهم من الشيعة، فهنا أربع مراتب، أولا: مرتبة العلم السابق، ثانيا: مرتبة الكتابة وهي أن الله كتب مقادير الخلائق وما هوكائن إلى يوم القيامة فى اللوح المحفوظ، ثالثا: مرتبة المشيئة وهي إثبات مشيئة الله النافذة وقدرته الشاملة، رابعا: مرتبة الخلق والإيجاد فكل ما سوى الله فهو مخلوق موجود كائن بعد أن لم يكن، قال الحافظ بن رجب: "والإيمان بالقدر على درجتين، أحدهما: الإيمان بأن الله سبق فى علمه ما يعمله العباد من خير وشر وطاعة ومعصية قبل خلقهم وإيجادهم، ومن هومنهم من أهل الجنة، ومن هم منهم من أهل النار، وأعد لهم الثواب والعقاب جزاء لأعمالهم قبل خلقهم وتكوينهم وأنه كتب ذلك عنده وأحصاه وأن أعمال العباد تجري على ما سبق في علمه وكتابه. والدرجة الثانية: أن الله خلق أفعال العباد كلها من الكفر والإيمان والطاعة والعصيان وشاءها منهم فهذه الدرجة يثبتها كثير من القدرية ونفاها غلاتهم، الصنف الثاني: هم الذين اعترفوا بالقضاء والقدر وزعموا أن ذلك لا يوافق الأمر والنهي واحتجوا بالقدر تماما كما قال المشركون فيما حكى الله عنهم {سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ} ، {لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ} ، {لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ} ، فهؤلاء حقيقة أمرهم تعطيل الشرائع والأمر والنهي مع الاعتراف بالربوبية العامة، وهذا الاعتقاد الفاسد قد فشى في كثير من أهل التصوف المدعين التحقيق والمعرفة وهم مجبرة المشركية. الصنف الثالث: أقروا بالأمر والنهي وبالقضاء النافذ والقدر السابق ولكن جعلوا الجمع بين هذا وذاك تناقضا من الرب تعالى وتقدس عن قولهم علوا كبيرا، فطعنوا فى حكمة الرب عز وجل وعدله، وهؤلاء هم الملاحدة والزنادقة المشبهون برئيسهم إبليس فى اعتراضه على ربه، كما نقل ذلك عن أهل الكتاب، فيما حكاه أرباب المقالات كالشهرستاني فقد

ذكر في كتابه (الملل والنحل) أنه جاء في التوراة وفي شرح الأناجيل: "أن إبليس لعنه الله اعترض على ربه باعتراضات منها قوله: إني سلمت أن الباري تعالى إلهي وإله الخلق عالم قادر ولا يسأل عن قدرته ومشيئته فإنه مهما أراد شيئا قال له كن فيكون وهو حكيم ولكن لقد علم قبل خلقي أي شيء يصدر عني ويحصل مني فلم خلقني أولا وما الحكمة في خلقه إياي، وقال: إذ خلقني على مقتضى إرادته ومشيئة فلم كلفني بمعرفته وطاعته وما الحكمة في التكليف بعد أن لا ينتفع بطاعة ولا يتضرر بمعصية"، قال شارح الإنجيل: "فأوحى الله تعالى إلى الملائكة عليهم السلام أن قولوا له إنك في تسليمك الأول أني إلهك وإله الخلق غير صادق ولا مخلص إذ لو صدقت أني إله العالمين ما احتكمت علي بـ (لم) ، فأنا الله الذي لا إله إلا أنا لا أسأل عما أفعل والخلق مسؤولون"، قال الشيخ: "وهوسبحانه خالق كل شيء وربه ومليكه وله فيما خلقه حكمة بالغة ونعمة سابغة ورحمة عامة وخاصة وهو لا يسأل عما يفعل وهم يسألون لا لمجرد قدرته وقهره بل لكمال علمه وقدرته ورحمته وحكمته فإنه سبحانه وتعالى أحكم الحاكمين وأرحم الراحمين" والخوض: هو اعتقاد الباطل والتكلم به في آيات الله وأحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم.

مجرد الأسباب لايوجب حصول المسبب

مجرد الأسباب لايوجب حصول المسبب ... قوله: والمقصود أن هذا مما تقوله أهل الضلال، وأما أهل الهدى والفلاح، فيؤمنون بهذا وهذا ويؤمنون بأن الله خالق كل شيء وربه ومليكه، وما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، وهو على كل شيء قدير، وأحاط بكل شيء علما، وكل شيء أحصاه في إمام مبين، ويتضمن هذا الأصل، من إثبات علم الله وقدرته ومشيئته، ووحدانيته وربوبيته وأنه خالق كل شيء وربه ومليكه، ما هو من أصول الإيمان ومع هذا لا ينكرون ما خلق الله في الأسباب التي يخلق بها المسببات، كما قال تعالى: {حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَاباً ثِقَالاً سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ} وقال

تعالى: {يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ} ، وقال تعالى: {يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً} فأخبر انه يفعل بالأسباب، ومن قال أنه يفعل عندها لا بها فقد خالف ما جاء به القرآن، وأنكر ما خلقه الله من القوى والطبائع وهو شبيه بإنكار ما خلقه الله من القوى، التي في الحيوان التي يفعل بها مثل قدرة العبد، كما أن من جعلها هي المبدعة لذلك فقد أشرك بالله، وأضاف فعله إلى غيره، وذلك أنه ما من سبب من الأسباب إلا وهو مفتقر إلى سبب آخر في حصول مسببه، ولابد من عدم مانع يمنع مقتضاه، إذا لم يدفعه الله عنه فليس في الوجود شيء واحد يفعل شيئا إذا شاء إلا الله وحده، قال تعالى: {وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} ، أي فتعلمون أن خالق الأزواج واحد. ش: يقول الشيخ: والخلاصة أن مقالة الأصناف الثلاثة هي مما افتراه أهل الزيغ والإلحاد، أما أهل الإيمان والتوحيد والاستقامة على الشرع فيؤمنون بقدر الله السابق وبما شرعه من شرائع وأن الله خالق كل شيء ولا يكون في ملكه إلا ما يريد وأنه بكل شيء عليم وكل شيء قد أحصاه في إمام مبين، والإيمان بهذا الأصل هو أحد دعائم الإيمان بوحدانية الله وربوبيته الشاملة، ومع الإقرار بما ذكر فأهل الإيمان والتوحيد لا ينكرون ما خلقه الله من الأمور التي جعلها الله سببا في حصول المسببات، وذلك أن الله علم الأشياء على ما هي عليه وقد جعل لها أسبابا بها يعلم أنها تكون فلابد من الأسباب التي قد علمها الله سبحانه وتعالى، فلا ينال العبد شيئا إلا بما قدره الله من جميع الأسباب والله خالق ذلك الشيء وخالق الأسباب، ولهذا قيل: "الالتفات إلى الأسباب شرك في التوحيد ومحو الأسباب أن تكون أسبابا نقص في العقل، والإعراض عن الأسباب بالكلية قدح في الشرع"، ومجرد الأسباب لا يوجب حصول المسبب بل لابد من تمام الشروط وزوال الموانع وكل ذلك بقضاء الله وقدره، مثال ذلك الكلمات الطيبات من الأذكار المأثورة المعلق عليها جلب المنافع أو دفع المضار فإن الكلمات بمنزلة

الآلة في يد الفاعل تختلف باختلاف قوته وما يعينها وقد يعارضها مانع من الموانع وكثيرا ما تجد أدعية دعا بها قوم فاستجيب لهم ويكون قد اقترن بالدعاء ضرورة صاحبه وإقباله على الله، أو حسنة تقدمت منه جعل الله سبحانه إجابة دعوته شكرا لحسنته، أو صادف وقت إجابة ونحو ذلك فأجيبت دعوته فيظن أن السر في ذلك الدعاء فيأخذه مجردا عن تلك الأمور التي قارنته من ذلك الداعي. قال الشيخ: وهذا كما إذا استعمل رجل دواءً نافعا في الوقت الذي ينبغي فانتفع به فظن آخر أن استعمال هذا الدواء بمجرده كاف في حصول المطلوب كان غالطا، فالأدعية والتعوذات والرقي بمنزلة السلاح والسلاح بضاربه لا بحده فقط فمتى كان السلاح سلاحا تاما والساعد ساعدا قويا والمحل قابلا والمانع مفقودا حصلت به النكاية في العدو، ومتى تخلف واحد من هذه الثلاثة تخلف التأثير، فإذا كان الدعاء في نفسه غير صالح أو الداعي لم يجمع بين قلبه ولسانه في الدعاء، أو كان ثَمّ مانع من الإجابة لم يحصل الأثر. والشاهد من آية الأعراف أن لله أخبر أن إنشاء السحاب سبب للمطر، روى أبو الفرج بن الجوزي بإسناد يرفعه إلى عبيد بن عمير أنه قال: "يبعث الله ريحا فتقم الأرض، ثم يبعث المثيرة فتثير السحاب وذلك أنها تحمل الماء فتمجه في السحاب، ثم يمر به فيدر كما تدر اللقحة"، وقد روي في الأثر: "أن الرياح أربع: ريح تقم وريح تثير فتجعله كسفا وريح تؤلف، فتجعله ركاما، وريح تمطر". وروي عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما أنه قال: "إن الله تعالى يرسل الرياح فتثير سحابا، وينزل عليه المطر فتتمخض به الريح كما تمخض النتوج بولدها" وأن الماء سبب لإنبات النبات، قال تعالى: {وَتَرَى الأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيج} والشاهد من آية المائدة والبقرة: أن القرآن الكريم سبب في الهداية لقوم، ويكون سبب في الإضلال، لقوم آخرين كما بين الله ذلك بقوله: {إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلاً يُضِلُّ بِهِ

كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفَاسِقِينَ، الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} ، فأما من زعم أن الله يفعل عند حصول السبب فقد أنكر ما صرح به القرآن العزيز من أن الله يفعل بالسبب، وأنكر أيضا ما خلقه من القوى والطبائع التي كونها الله في المخلوقات كالقوة المحرقة التي جعلها الله من طبيعة النار، وكالقوة المبردة التي جعلها من طبيعة الثلج وكالقوة التي وهبها الله للإنسان فبها يقوم ويقعد ويعمل ويتلذذ ويتصرف، وكالإسكار الذي جعله الله من طبيعة الخمر، وكطبيعة مني الرجال الذي يحصل منه الولد، ومني الجمال الذي تحصل منه الإبل، إلى غير ذلك من الشائع التي جبل الله خلقه عليها، فسبحان مبدع الخلق الذي خلق فسوى والذي قدر فهدى، كما أن من جعل الحيوان هو الذي يوجد فعل نفسه، أو جعل شيئا من الأمور الطبيعية يفعل بمقتضى طبيعته فقد أشرك مع الله غيره في الخلق بإضافة فعل ذلك الشيء إلى غير الله، وقد سبق إيضاح أنه ما من سبب من الأسباب إلا وهو مفتقر إلى سبب آخر لا استقلال له البتة، ولابد أيضا في حصول المسبب من انتفاء الموانع مع قبول المحل، والله تبارك وتعالى خالق الأسباب ومسبباتها، فما من أحد يفعل بالاستقلال ما يريد إلا رب كل شيء ومليكه، قال عز وجل: {وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} يعني فتعلمون أن خالق الزوجين من جميع أصناف الخلق واحد لا إله للخلق غيره ولا رب لهم سواه. قال الشيخ وأما الأسباب المخلوقة كالنار. في الإحراق، والشمس في الإشراق والطعام والشراب في الإشباع والإرواء ونحو ذلك فجميع هذه الأمور سبب لا يكون الحادث به وحده بل لابد أن ينضم إليه سبب آخر، فالمطر وحده لا ينبت النبات إلا بما ينضم إليه من الهواء والتراب وغير ذلك، ثم الزرع لا يتم حتى تصرف عنه الآفات المفسدة له والطعام والشراب لا يغذي إلا بما جعل في البدن من الأعضاء والقوى، ومجموع ذلك لا يفيد إن لم تصرف المفسدات، والمخلوق الذي يعطيك أو ينصرك فهو مع أن الله يخلق فيه الإرادة والقوة والفعل فلا يتم ما

يفعله إلا بأسباب كثيرة خارجة عن قدرته تعينه على مطلوبه، ولو كان ملكا مطاعا ولابد أن يصرف عن الأسباب المعينة ما يعارضها ويمانعها، فلا يتم المطلوب إلا بوجود المقتضي وعدم المانع. قوله: ولهذا من قال: أن الله لا يصدر عنه إلا واحد لأن الواحد لا يصدر عنه إلا واحد كان جاهلا فإنه ليس في الوجود واحد صدر عنه وحده شيء لا واحد ولا اثنان إلا الله {الَّذِي خَلَقَ الأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ} ، فالنار التي جعل فيها حرارة لا يحصل الإحراق إلا بها، وبمحل يقبل الاحتراق فإذا وقعت على السمندل والياقوت ونحوهما لم تحرقهما، وقد يطلى الجسم بما يمنع إحراقه، والشمس التي يكون منها الشعاع لابد من جسم يقبل انعكاس الشعاع عليه فإذا حصل حاجز من سحاب أو سقف لم يحصل الشعاع تحته وقد بسط هذا في غير هذا الموضع. ش: يعني ومن أجل أن الباري سبحانه هو خالق الأسباب والمسببات والجاعل من كل زوجين اثنين كانت مقالة أهل الضلال: "بأن الله لا يصدر عنه إلا واحد لأن الواحد لا يصدر عنه إلا واحد" قولا باطلا وضلالا مبينا، فإنه ليس في الوجود أحد صدر عنه واحد أو اثنان بالاستقلال غير خالق الأزواج كلها {ومما تنبت الأرض ومن أنفسهم ومما لا يعلمون} ، وكمثال على أنه لابد مع حصول السبب من انتفاء المانع مَثَّل الشيخُ بالنار والشمس، فالنار قد أودعها الله تعالى قوة الإحراق ولكن لا يحصل هذا إلا في المحل القابل، ولهذا فالسمندل والياقوت قد جعل الله فيهما طبيعة تضاد الاحتراق، كما أن بعض الأدهان قد خلق فيها مناعة تنافي الاحتراق فلا يحترق الجسم المطلي بها، وكذلك الشمس قد أودع الله فيها طبعية الحرارة ولكن لابد مع حصول هذه الحرارة من انتفاء الموانع، فالجسم الذي تحت سقف لا تصيبه حرارتها لعدم انعكاس شعاعها عليه

وكذلك إذا وجد السحاب لم ينفذ شعاعها إلى ما تحته فلابد من وجود جسم ينعكس عليه شعاعها مع انتفاء الموانع، وحينئذ فليس وجود السبب كافيا في حصول المسبب بل لابد مع ذلك من انتفاء الموانع. والسمندل هوى كما قال في القاموس المحيط: "طائر بالهند لا يحترق بالنار"، والياقوت هو من الجواهر معرب أجوده الأحمر الروماني. وقد ذكرنا فيما سبق أن أهل الإلحاد يدخلون في مسمى الواحد عندهم نفي أوصاف الرب جل وعلا، فقولهم: "واحد لا قسيم له" مثل قولهم: "الواحد لا يصدر عنه إلا واحد"، ومن المعلوم أنه ليس في كلام العرب بل ولا عامة أهل اللغات أن الذات الموصوفة بالصفات لا تسمى واحدا، بل المنقول بالتواتر عن العرب تسمية الموصوف بالصفات واحدا ووحيدا قال تعالى: {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً} وهو الوليد بن المغيرة وقال تعالى: {فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ} ، فسماها وهي امرأة متصفة بالصفات واحدة ويقال إنه أحد الرجلين، ويقال للأنثى إحدى المرأتين ويقال للمرأة واحدة، وللرجل واحد ووحيد، ولم يعرف أنهم أرادوا بهذا اللفظ ما لم يوصف بالصفات أصلا، قال الشيخ: وهذا مما يبين لك خطأ المتفلسفة الذين قالوا: الواحد لا يصدر عنه إلا واحد واعتبروا ذلك بالآثار الطبيعية كالمسخن والمبرد ونحو ذلك فإن هذا غلط، فإن التسخين لا يكون إلا بشيئين (أحدهما) فاعل كالنار (والثاني) قابل كالجسم القابل للسخونة والاحتراق وإلا فالنار إذا وقعت على السمندل والياقوت لم تحرقه، وكذلك الشمس فإشعاعها مشروط بالجسم المقابل للشمس الذي ينعكس عليه الشعاع، وله موانع من السحاب والسقوف وغير ذلك.

حديث ما منكم أحد إلا وقد كتب مقعده من الجنة أو النار

حديث ما منكم أحد إلا وقد كتب مقعده من الجنة أو النار ... قوله: والمقصود هنا أنه لابد من الإيمان بالقدر، فإن الإيمان بالقدر من تمام التوحيد، كما قال ابن عباس: "هو نظام التوحيد" فمن وحد الله وآمن بالقدر، تم توحيده، ومن وحد الله وكذب بالقدر نقص توحيده، ولابد من

الإيمان بالشرع وهو الإيمان بالأمر والنهي والوعد والوعيد، كما بعث الله بذلك رسله وأنزل كتبه، والإنسان مضطر إلى شرع في حياته الدنيا، فإنه لابد له من حركة يجلب بها منفعته وحركة يدفع بها مضرته، والشرع هو الذي يميز له بين الأفعال التي تنفعه والأفعال التي تضره، وهو عدل الله في خلقه، ونوره بين عباده فلا يمكن للآدميين أن يعيشوا بلا شرع يميزون به بين ما يفعلونه وما يتركونه وليس المراد بالشرع مجرد العدل بين الناس في معاملاتهم، بل الإنسان المنفرد لابد له من فعل وترك، فإن الإنسان همام حارث كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "أصدق الأسماء حارث وهمام" وهو معنى قولهم "متحرك بالإرادات" فإذا كان له إرادة فهو متحرك بها ولابد أن يعرف ما يريده، هل هو نافع له أو ضار وهل يصلحه أو يفسده وهذا قد يعرف بعضه الناس بفطرتهم، كما يعرفون انتفاعهم بالأكل والشرب وكما يعرفون ما يعرفون من العلوم الضرورية بفطرتهم وبعضهم يعرفه بالاستدلال الذي يهتدون إليه بعقولهم، وبعضه لا يعرفونه إلا بتعريف الرسل وبيانها وهدايتهم لهم. ش: يعني والحاصل مما تقدم أنه لابد من الإيمان بقدر الله السابق وأنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن وأنه خالق كل شيء من أفعال العباد وغيرها وأن الله علم ما سيكون كله قبل أن يكون، كما أنه لابد من الإيمان بما شرعه الله في كتابه وعلى لسان رسوله من أوامر ونواهي ووعد ووعيد وأن ذلك هو النهج الصحيح والسبيل المستقيم، وأنه لا حجة لأحد على الله في ترك مأمور أو فعل محظور، كما روى البخاري ومسلم عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: "كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ببقيع الغرقد في جنازة فقالت: "ما منكم أحد إلا قد كتب مقعده من النار ومقعده من الجنة. فقالوا: يا رسول لله أفلا نتكل على الكتاب وندع العمل؟، قال: اعملوا فكل ميسر لما خلق له، أما من كان من أهل السعادة فسييسر لعمل أهل السعادة وأما من كان من أهل الشقاوة فسييسر لعمل أهل الشقاوة" ثم قرأ قوله تعالى:

{فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى، وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى، فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى} ، وفي الصحيح أيضا أنه قيل له: "يا رسول الله أعُلم أهل الجنة من أهل النار؟، فقال: نعم، فقيل له: ففيم العمل؟، قال: اعملوا فكل ميسر لما خلق له"، قال الشيخ في بيان معنى هذا الحديث: "فبين النبي صلى الله عليه وسلم أن الله علم أهل الجنة من أهل النار وأنه كتب ذلك ونهاهم أن يتكلوا على هذا الكتاب ويدَعو العمل كما يفعله الملحدون وقال: "كل ميسر لما خلق له" وإن أهل السعادة ميسرون لعمل أهل السعادة وأهل الشقاوة ميسرون لعمل أهل الشقاوة وهذا من أحسن ما يكون من البيان وذلك أن الله سبحانه وتعالى يعلم الأمور على ما هي عليه وقد جعل للأشياء أسبابا تكون بها فيعلم أنها تكون بتلك الأسباب كما يعلم أن هذا يولد له بأن يطأ امرأة فيحبلها، فلو قال هذا إذا علم الله أنه يولد لي فلا حاجة إلى الوطء كان أحمق لأن الله علم أن سيكون بما يقدره من الوطء وكذلك إذا علم أن هذا ينبت له زرع بما يسيقه من الماء ويبذره من الحب، فلو قال إذا علم أن سيكون فلا حاجة إلى بذر كان جاهلا ضالا لأن الله علم أن سيكون بذلك، وكذلك إذا علم الله أن هذا يشبع بالأكل وهذا يروى بالشرب وهذا يموت بالقتل فلابد من الأسباب التي علم الله أن هذه الأمور تكون بها، وكذلك إذا علم أن هذا يكون سعيدا في الآخرة وهذا شقيا في الآخرة، قلنا: ذلك لأنه يعمل بعمل الأشقياء فالله علم أنه يشقى بهذا العمل، فلو قيل هو شقي وإن لم يعمل كان باطلا لأن الله لا يدخل النار أحدا إلا بذنبه كما قال تعالى: {لأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ} فأقسم أنه يملؤها من إبليس وأتباعه ومن اتبع إبليس فقد عصى الله تعالى ولا يعاقب الله العبد على ما علم أنه يعمله حتى يعمله، ولهذا لما سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن أطفال المشركين: "قال الله أعلم بها كانوا عاملين" يعني أن الله يعلم ما يعملون لو بلغوا، وقد روي أنهم في القيامة يبعث إليهم رسول فمن أطاعه دخل الجنة ومن عصاه دخل النار فيظهر ما علمه فيهم من الطاعة والمعصية، وكذلك الجنة خلقها الله لأهل الإيمان به

وطاعته فمن قدر أن يكون منهم يسَّره للإيمان والطاعة، فمن قال إني داخل الجنة سواء كنت مؤمنا أو كافرا إذا علم أني من أهلها كان مفتريا على الله في ذلك فإن الله إنما علم أنه يدخلها بالإيمان فإذا لم يكن معه إيمان لم يكن هذا هو الذي علم الله أنه يدخل الجنة، بل من لم يكن مؤمنا بل كافرا فإن الله يعلم أنه من أهل النار لا من أهل الجنة، ولهذا أمر الناس بالدعاء والاستعانة بالله وغير ذلك من الأسباب، ومن قال أنا لا أدعو ولا أسأل اتكالا على القدر كان مخطئا أيضا لأن الله جعل الدعاء والسؤال من الأسباب التي ينال بها مغفرته ورحمته وهداه ونصره ورزقه، وإذا قدر للعبد خيرا يناله بالدعاء لم يحصل بدون الدعاء. وما قدره الله وعلمه من أحوال العباد وعواقبهم فإنما قدره بأسباب، يسوق المقادير إلى المواقيت، فليس في الدنيا والآخرة شيء إلا بسبب والله خالق الأسباب والمسببات، ومجرد الأسباب لا يوجب حصول المسبب فإن الولد لا يولد بمجرد إنزال الماء في الفرج بل كم من أنزل ولم يولد له بل لابد من أن الله شاء خلقه فتحبل المرأة وتربيه في الرحم وسائر ما يتم به خلقه من الشروط وزوال الموانع، وكذلك أمر الآخرة ليس بمجرد العمل ينال الإنسان السعادة بل هو سبب ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إنه لن يدخل أحدكم الجنة بعمله. قالوا: ولا أنت يا رسول لله. قال: ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمة منه وفضل"، أما قوله تعالى: {ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} ونحوها من النصوص فهذه (باء السبب) أي بسبب أعمالكم والذي نفاه النبي صلى الله عليه وسلم: (باء المقابلة) كما يقال: اشتريت هذا بهذا، فالمعنى ليس العمل عوضا وثمنا كافيا في دخول الجنة بل لابد من عفو الله وفضله ورحمته فبعفوه يمحو السيئات ورحمته يأتي بالخيرات وبفضله يضاعف البركات، وقد سبق آنفا نظير لهذا البحث فيما نقلناه عن الشيخ رحمه الله تعالى، وحينئذ فالإيمان بالقدر أحد دعائم الإيمان فمن لم يؤمن بقدر لله لم يوحد الله، وفي هذا المقام يقول حبر الأمة فيما صح عنه: "القدر نظام التوحيد" يعني قوامه الذي يرتكز عليه، ولما كان الإنسان مضطرا في دروب سيره إلى الله وفي معاشه وفي حياته إلى نور يضيء له

السبيل: "اقتضت رحمة العزيز الرحيم أن بعث الرسل به معرفين وإليه داعين ولمن أجابهم مبشرين ولمن خالفهم منذرين وجعل مفتاح دعوتهم وزبدة رسالتهم معرفة المعبود سبحانه بأسمائه وصفاته وأفعاله إذ على هذه المعرفة تبنى مطالب الرسالة كلها من أولها إلى آخرها" قال في شرح الطحاوية: "ثم يتبع ذلك أصلان عظيمان أحدهما: تعريف الطريق الموصل إليه وهي شريعته المتضمنة لأمره ونهيه. والثاني: تعريف السالكين ما لهم بعد الوصول إليه من النعيم المقيم، ولهذا سمى الله ما أنزل على رسوله روحا لتوقف الحياة الحقيقية عليه ونورا لتوقف الهداية عليه، قال تعالى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ، صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الأُمُورُ} ، وإذا فشرع الله هو الشفاء من كل داء وهو عدله بين عباده الملائم لأحوالهم في أي زمان وفي أي مكان، والأمم المتناحرة في هذه الأزمان والتي لا تخرج من فتنة إلا لتدخل في مثلها أو تزيد لا نجاة لها من تخبطها وتعثرها إلا بالرجوع إلى نور الله وشرعه وصراطه المستقيم، يقول الأستاذ محمد قطب في كتابه جاهلية القرن العشرين: "لا مخلص للناس من جاهليتهم وضلالهم وحيرتهم، وقلقهم واضطرابهم وتمزق حياتهم وأفكارهم ومشاعرهم إلا بالإسلام ولم يكن للناس مخلص من الجاهلية في تاريخهم كله إلا بالإسلام بمعناه الواسع الشامل الإسلام الذي جاء به نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد صلوات الله وسلامه عليهم وقد اكتمل الإسلام في دين الله الأخير: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينا} ، وهذا الإسلام في صورته الأخيرة المكتملة: هو العلاج الوحيد لكل جاهليات الأرض ولهذه الجاهلية الحديثة على وجه التخصيص، إن الإسلام هو الذي يعطي الوضع الصحيح لكل ما انحرفت به الجاهلية في التصور والسلوك، في السياسة والاجتماع والاقتصاد، في الأخلاق والفن وعلاقات الجنس وكل شيء في حياة

الإنسان" انتهى. ووجه اضطرار الإنسان في حياته الدنيا إلى الشرع ليميز به بين ما يضره وما ينفعه: أن الله قد خلقه وركبه على صورة لا تصلح حياتها وبقائها إلا بالغذاء وهداه إلى التماسه بفطرته، وبما ركب فيه من القدرة على تحصيله، فله تفكير وهمة وقدرة يستطيع بها على العمل، وحركته وإرادته يحتاج معهما إلى التوجيه السليم فلا يمكن لأحد من بني ادم أن يعيش عيشة هانئة مستقرة إلا باتباعه لشرع الله الذي يعرفه بمصالحه، ويحرضه على هدايته ويأخذ بحجزه عن النار ويدله على طريق النجاة، وليس المعنى أن الشرع إنما يحتاج له المجتمع بشكله العام في فض منازعات العباد وتنظيم أحوالهم من حيث أنه لابد من وازع يدفع بعضهم عن بعض لما في طبائعهم الحيوانية من العدوان والظلم، بل كل فرد محتاج إلى نور الله وهدايته في تحصيل منافعه ودفع مضاره، ولإضاءة السبيل له حتى يفرق بين ما يصلح شأنه وما يفسده من معاملات وعبادات. فالشرع هو الذي يميز له بين الأمرين، على أن هناك من الأمور التي يحتاج لها الناس في معاشهم ما قد يعرفه الإنسان بمقتضى فطرته التي خلق عليها كمعرفته كيف يبذر وكيف يحصد وكيف يلقح، وكما يعرف الصبي ثدي أمه ويتناول الغذاء منه، ومنها ما قد يعرف عن طريق التجارب والاستدلال بالأقيسة العقلية على حصول النتائج ومنها ما لا يمكن معرفته إلا عن طريق الوحي من كتاب أو سنة، وحينئذ فالإنسان بما جبله الله عليه وما ركبه فيه من طبائع محتاج إلى الأخذ بيده إلى ما ينفعه وحجزه عما يضره فإنه متحرك مريد وحارث وهمام، وحديث أصدق الأسماء حارث وهمام أخرجه أبو داود والنسائي من حديث أبي وهب الجثمي ولفظه: "تسموا بأسماء الأنبياء وأحب الأسماء إلى الله عبد الله وعبد الرحمن وأصدقها حارث وهمام وأقبحها حرب ومرة".

اتفاق الناس على ان الفعل يلائم الفاعل او ينافره يعلم بالعقل

اتفاق الناس على ان الفعل يلائم الفاعل او ينافره يعلم بالعقل ... قوله: وفي هذا المقام تكلم الناس في أن الأفعال، هل يعرف حسنها وقبيحها بالعقل، أم ليس فيها حسن ولا قبيح يعرف بالعقل؟ كما بسط في غير هذا الموضع وبينما وقع في هذا الموضع من الاشتباه فإنهم اتفقوا على أن كون الفعل يلائم الفاعل أو ينافره يعلم بالعقل، وهو أن يكون الفعل سببا لما يحبه الفاعل ويلتذ به، أو سببا لما يبغضه ويؤذيه، وهذا القدر يعلم بالعقل تارة، وبالشرع أخرى وبهما جميعا لكن معرفة ذلك على وجه التفصيل، ومعرفة الغاية التي تكون عاقبة الأفعال من السعادة والشقاوة في الدار الآخرة لا تعرف إلا بالشرع فيما أخبرت به الرسل من تفاصيل اليوم الآخر وأمرت به من تفاصيل الشرائع لا يعلمه الناس بعقولهم كما أن ما أخبرت به الرسل من تفاصيل أسماء الله وصفاته لا يعلمه الناس بعقولهم وإن كانوا قد يعلمون بعقولهم جمل ذلك، وهذا التفصيل الذي يحصل به الإيمان وجاء به الكتاب هو ما عليه قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا} ، وقوله تعالى: {قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ} ، وقوله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْي} ، ولكن طائفة توهمت أن للحسن والقبح معنى غير هذا وأنه يعلم بالعقل وقابلتهم طائفة أخرى ظنت أن ما جاء به الشرع من الحسن والقبح يخرج عن هذا فكلا الطائفتين اللتين أثبتتا الحسن والقبح العقليين أو الشرعيين وأخرجتاه عن هذا القسم غلطت. ش: يعني وفى باب قدر الله وأمره ونهيه تنازع الناس من أهل السنة والجماعة، من أهل المذاهب الأربعة وغيرهم، فالحنفية وبعض المالكية والشافعية والحنبلية يقولون بتحسين العقل وتقبيحه، فالأفعال فيها الحسن والقبيح ويعرف ذلك بالعقل عند هؤلاء، أما كثير من الشافعية والمالكية والحنبلية فينفون ذلك، فالأفعال ليس فيها حسن ولا قبيح ولا

يمكن معرفة ذلك بالعقل عند هؤلاء. وقد أشبع الشيخ رحمه لله البحث في هذه المسألة في كثير من كتبه، وبين هناك ما وقع في مسألة التحسين والتقبيح من الخفاء والاشتباه وما وقع فيها من الغلط والنزاع. وقد اتفق الفريقان على أن الحسن والقبح إذا فسرا بكون الفعل نافعا للفاعل ملائما له أو كونه ضارا للفاعل منافرا له أمكن معرفته بالعقل، وهذا حق فإن جميع الأفعال التي أوجبها الله تعالى وندب إليها هي نافعة لفاعليها ومصلحة لهم، وجميع الأفعال التي نهى الله عنها هي ضارة لفاعليها ومفسدة لهم، والحمد والثواب المترتب على طاعة الشارع نافع للفاعل ومصلحة له والذم والعقاب المترتب على معصيته ضار للفاعل ومفسدة له، فالله تعالى عليم حكيم علم بما تتضمنه الأحكام من المصالح فأمر ونهى لعلمه بما في الأمر والنهي والمأمور والمحذور من مصالح العباد ومفاسدهم، وحينئذ فكون الفعل سببا لما يحبه الفاعل ويلتذ به أو سببا لما يبغضه ويؤذيه يُعلم تارة بالعقل وتارة بالشرع وقد يعلم بالشرع والعقل جميعا، لكن معرفة الملائم والمنافر على وجه التفصيل ومعرفة النهاية التي هي نتيجة وثمرة الأفعال من نعيم أو عذاب على وجه التفصيل ومعرفة تفصيل ما شرعه من الشرائع وما أخبر به من حقائق الآخرة وحقائق أسمائه وصفاته معرفة ذلك بالتفصيل لا تمكن إلا عن طريق النصوص وإن كان الناس قد يعرفون ذلك بعقولهم بصفة إجمالية، وهذا التفصيل الذي يحصل به الإيمان بما خبر الله به وورد به النص هو ما عنت آية الشورى وآية سبأ وآية الأنبياء وأمثالهن من النصوص. لكن المعتزلة وأتباعهم أثبتوا حسنا وقبحا لا يعود إلى الفاعل منه حكم يقوم بذاته، إذ عندهم لا يقوم بذاته لا وصف ولا فعل بمعنى أنهم يقولون بالتحسين والتقبيح ويجعلون ذلك صفات ذاتية للفعل لازمة له ولا يجعلون الشرع إلا كاشفا عن تلك الصفات لا سببا لشيء منها، والأشاعرة وأتباعهم يقولون إن الأفعال لم تشتمل على صفات هي أحكام ولا على صفات هي علل للأحكام، بل القادر أمر بأحد المتماثلين دون

الآخر لمحض الإرادة لا لحكمة ولا لرعاية مصلحة في الخلق والأمر، ويقولون إنه يجوز أن يأمر بالشرك وينهى عن عبادته وحده ويجوز أن يأمر بالظلم والفواحش وينهى عن البر والتقوى، وليس المعروف في نفسه معروفا ولا المنكر في نفسه منكرا عندهم، بل إذا قال: {يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} فإنما يعبر عن ذلك بما يلائم الطبائع وذلك لا يقتضي عندهم كون الرب يحب المعروف ويبغض المنكر، فهذا القول ولوازمه باطل مخالف للكتاب والسنة وإجماع السلف والفقهاء مع مخالفته أيضا للمعقول الصريح، فإن الله نزه نفسه عن الفحشاء فقال: {قُلْ إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ} ، كما نزه نفسه عن التسوية بين الخير والشر فقال: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} ، وقال سبحانه: {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} ، وقال تعالى: {أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ} ، وعلى قولهم: لا فرق في التسوية بين هؤلاء وهؤلاء وبين تفضيل بعضهم على بعض، وليس تنزيهه عن أحدهما بأولى من تنزيهه عن الآخر، والحاصل أن المعتزلة وأتباعهم زعموا أن الحسن والقبح لا يكون إلا لما هو متصف بذلك بدون أمر الشارع، والأشعرية ونحوهم ادعوا أن جميع الشريعة من قسم الامتحان وأن الأفعال ليست لها صفة لا قبل الشرع ولا بالشرع، وهذا معنى قول المؤلف: "ولكن طائفة توهمت أن للحسن والقبح معنى غير هذا وأنه يعلم بالعقل، وقابلتهم طائفة أخرى ظنت أن ما جاء به الشرع من الحسن والقبح يخرج عن هذا فكلا الطائفتين اللتين أثبتتا الحسن والقبح العقليين أوالشرعيين وأخرجتاه عن هذا القسم غلطت"، فالطائفة الأولى هي المعتزلة ومن تبعهم، والطائفة الثانية هي الأشاعرة ومن تبعهم والأولى تفسر الحسن القبح بغير معنى الملائم والمنافر وتعتقد أن ذلك إنما يثبت بالعقل دون الشرع، والثانية نفت الحسن والقبح العقليين وأثبتت الحسن والقبح

الشرعيين وفسرته بغير الملائم والمنافر.

المعتزلة لا يثبتون حكمة تعود إلى الله تعالى فيما خلقه وأمر به

المعتزلة لا يثبتون حكمة تعود إلى الله تعالى فيما خلقه وأمر به ... قوله:- ثم إن كلتا الطائفتين لما كانت تنكر أن يوصف الله بالمحبة والرضا والسخط والفرح ونحو ذلك، مما جاءت به النصوص الإلهية، ودلت عليه الشواهد العقلية تنازعوا بعد اتفاقهم على أن الله لا يفعل ما هو منه قبيح، هل ذلك ممتنع لذاته، وأنه لا يتصور قدرته على ما هو قبيح أو أنه سبحانه منزه عن ذلك، لا يفعله لمجرد القبح العقلي الذي أثبتوه؟ على قولين والقولان في الانحراف من جنس القولين المتقدمين، أولئك لم يفرقوا في خلقه وأمره بين الهدى والضلال، والطاعة والمعصية والأبرار والفجار، وأهل الجنة وأهل النار، والرحمة والعذاب، فلا جعلوه محمودا على ما فعله من العذاب أو ما تركه من الظلم ولا ما فعله من الإحسان والنعمة، وما تركه من التعذيب والنقمة والآخرون نزهوه بناء على القبح العقلي الذي أثبتوه، ولا حقيقة له وسووه بخلقه فيما يحسن ويقبح وشبهوه بعباده فيما يأمر به وينهى عنه. ش: يعني أن المعتزلة وأتباعهم، والأشاعرة وأتباعهم بناء على قول الطائفة الأولى أن الله فعل المفعولات وأمر بالمأمورات لحكمة تعود إلى الخلق من غير أن يعود إليه من ذلك حكم أو يقوم به فعل أو نعت، وقول الطائفة الثانية أن الله خلق المخلوقات وأمر بالمأمورات لا لعلة ولا داع ولا باعث بل فعل ذلك لمحض المشيئة وصرف الإرادة وبناء على نفيهم صفة المحبة والبغض والغضب والرضاء والسخط والفرح ونحو ذلك من الصفات التي ينفيها كل من الطائفتين مما دل عليه نصوص الكتاب والسنة وشهدت به البراهين العقلية، بناء على كل ما سبق تنازعوا في عدم وقوع الظلم من الله، هل ذلك ممتنع لذاته وليس ممكنا ولا مقدورا أم أنه ممتنع على الله لمجرد القبح العقلي فقط؟، وكل من هذين القولين باطل وهما في

البطلان كالقولين الماضيين لهاتين الطائفتين في الحسن والقبح، مع أنهم جميعا متفقون على أن الله لا يفعل ما هو قبيح، والأشاعرة وأتباعهم بناء على نفيهم حكمة الله في خلقه وأمره، لم يفرقوا بين ما شاء وبين ما أمر به، بمعنى أنهم لم يميزوا بين ما هو هدى تترتب عليه السعادة ويمدح فاعله ويكون صاحبه من المؤمنين الأبرار، وبين ما هو ضلال يترتب عليه الشقاء، ويكون صاحبه من الكفار أو الفجار، وبناء على قولهم إن الظلم ممتنع على الله وأنه لا يتصور قدرته عليه جعلوا الله غير محمود على ما فعله من الإحسان والرحمة وغير محمود على ما تركه من العقاب والنقمة، وهذا عين قول الجبرية، ولا ريب في شناعة هذا القول وبطلانه فإن الله تعالى هو الذي يعطي ويمنع ويخفض ويرفع ويعز ويذل ويغني ويفقر ويضل ويهدي ويسعد ويشقي، وهو سبحانه حكم عدل لا يضع الشيء إلا في موضعه الذي يناسبه ويقتضيه العدل والمصلحة وهو سبحانه لا يفرق بين متماثلين ولا يساوي بين مختلفين فلا يعاقب إلا من يستحق العقوبة فيضعها موضعها لما في ذلك من الحكمة ولا يعاقب أهل البر والتقوى، أما المعتزلة ومن تبعهم فلم يثبتوا حكمة تعود إلى الله فيما خلقه وأمر به وإنما أثبتوا حكمة تعود إلى المخلوق فقط، ولم يثبتوا الحسن والقبح بالمعنى الذي يثبته الشرع ويشهد به العقل بل قاسوه على خلقه فيما يحسن ويقبح وجعلوا يوجبون على الله سبحانه ما يوجبون على العبد ويحرمون عليه من جنس ما يحرمون على العبد ويسمون ذلك العدل والحكمة مع قصور عقلهم عن معرفة حكمته وعدله، والحاصل: أنهم قاسوا الله على خلقه بقولهم ما حسن من المخلوق حسن من الخالق وما قبح من المخلوق قبح من الخالق فهم مشبهة الأفعال وهذا باطل كما أن تمثيل الخالق بالمخلوق في الصفات باطل. وقوله: "والآخرون نزهوه بناء على القبح العقلي الذي أثبتوه ولا حقيقة له" يعني أن المعتزلة تقول الكفر والفسوق والعصيان أفعال قبيحة، والله منزه عن فعل القبائح فلا تكون فعلا له، قالوا ولا يمكن إثبات كونه

سبحانه عدلا لا يظلم إلا بالقول بأنه لم يرد وجود الكفر والفسوق والعصيان ولا شاءها بل العباد فعلوا ذلك بغير مشيئته وإرادته، كما فعلوه بغير إذنه وأمره وقد رد عليهم سلف الأمة وأئمة السنة بأن الله خالق كل شيء وأنه ماشاء كان وما لم يشأ لم يكن، يضل من يشاء ويهدي من يشاء وأن العباد لهم مشيئة وقدرة فيفعلون بمشيئتهم وقدرتهم، كما قال تعالى: {كَلاَّ إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ، فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ، وَمَا يَذْكُرُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ ... الآية} ، وقال تعالى: {إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً} ، وقال: {إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ، لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} ، فكل شيء واقع بقدرته ومشيئته ولا يكون في ملكه ما لا يريد، وهو سبحانه لا يرضى لعباده الكفر ولا يحب إلا ما تعلق بالإرادة الدينية المتضمنة لرضاه وقد يريد ما يبغضه ويأباه إرادة كونية تتعلق بما قدره وقضاه وله في جميع خلقه حكمة بالغة، قال الشيخ رحمه الله: الحكمة تتضمن شيئين أحدهما: تعود إليه سبحانه يحبها ويرضاها. الثاني: إلى عباده هي نعمة عليهم يفرحون بها ويتلذذون بها وهذا في المأمورات وفى المخلوقات أما في المأمورات فإنه يحب الطاعة ويرضاها ويفرح بتوبة التائب أعظم فرح، فهو يفرح أعظم مما يفرح الفاقد لزاده وراحلته في الأرض المهلكة إذا وجدها بعد اليأس. كما أنه يغار أعظم من غيرة العباد، وغيرته أن يأتي العبد ما حرم عليه فهو يغار إذا فعل العبد ما نهاه ويفرح إذا تاب ورجع إلى ما أمر به، والطاعة عاقبتها سعادة الدنيا والآخرة وذلك مما يفرح به العبد المطيع فكان فيما أمر الله به من الطاعات عاقبة حميدة تعود إليه وإلى عباده، ففيها حكمة له ورحمة لعباده قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ، تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ، يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ، وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ} ، ففي الجهاد عاقبة محمودة للناس في الدنيا

يحبونها وهي النصر والفتح وفى الآخرة الجنة وفيه النجاة من النار. وقال تعالى في أول السورة: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفّاً كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ} ، ففيه حكمة عائدة إلى الله تعالى وفيه رحمة للعباد وهي ما يصل إليهم من النعمة في الدنيا والآخرة وهكذا سائر ما أمر به، وكذلك ما خلقه سبحانه خلقه لحكمة تعود إليه يحبها، وخلقه لرحمة بالعباد ينتفعون بها. ثم قال رحمه الله: "ومذهب أهل السنة والجماعة أن الله خالق كل شيء وربه ومليكه لا رب غيره ولا خالق سواه، ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن وهو على كل شيء قدير وبكل شيء عليم، والعبد مأمور بطاعة الله وطاعة رسوله، منهي عن معصية الله ومعصية رسوله، فإن أطاع كان ذلك نعمة وإن عصى كان مستحقا للذم والعقاب وكان لله عليه الحجة البالغة ولا حجة لأحد على الله تعالى وكل ذلك كائن بقضاء الله وقدره ومشيئته وقدرته لكن يحب الطاعة ويأمر بها ويثيب أهلها ويكرمهم ويبغض المعصية وينهى عنها ويعاقب أهلها ويهينهم، وما يصيب العبد من النعم فالله أنعم بها عليه وما يصيبه من الشر فبذنوبه ومعاصيه كما قال تعالى: {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} ، أي ما أصابك من خصب ونصر وهدى فالله أنعم به عليك وما أصابك من حزن وذل وشر فبذنوبك وخطاياك، فمن نظر إلى الحقيقة القدرية وأعرض عن الأمر والنهي والوعد والوعيد كان مشابها للمشركين، ومن نظر إلى الأمر والنهي وكذب بالقضاء والقدر كان مشبها للمجوسيين، ومن آمن بهذا وبهذا: فإذا أحسن حمد الله تعالى وإذا أساء استغفر الله تعالى وعلم أن ذلك بقضاء الله وقدره فهو من المؤمنين، فإن آدم عليه السلام لما أذنب تاب فاجتباه ربه وهداه، وإبليس أصر واحتج فلعنه الله وأقصاه، فمن تاب كان آدميا، ومن أصر واحتج بالقدر كان إبليسيا. فالسعداء يتبعون أباهم والأشقياء يتبعون عدوهم إبليس" واعلم أن الظلم الذي تنزه الله عنه هو المذكور في مثل قوله سبحانه: {وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا يَخَافُ ظُلْماً وَلا هَضْماً} أي لا يخاف أن يظلم فيحمل عليه من سيئات غيره ولا يهضم من

حسناته، وفي مثل قوله تعالى: {مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} وقول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث (البطاقة) الذي رواه الإمام أحمد والترمذي وغيرهما: "يجاء برجل من أمتي يوم القيامة فتنشر له تسعة وتسعون سجلا كل سجل مد البصر، فيقال: هل تنكر من هذا شيئا؟، فيقول: لا يا رب، فيقال: ألك عذر، ألك حسنة؟، فيقول: لا يا رب، فيقول: بلى إن لك عندنا حسنة وإنه لا ظلم عليك اليوم قال فتخرج له بطاقة فيها أشهد أن لا إله إلا الله فتوضع البطاقة في كفة والسجلات في كفة – قال صلى الله عليه وسلم - فطاشت السجلات وثقلت البطاقة".

خطأ من شهد الربوبية العامة فقط

خطأ من شهد الربوبية العامة فقط ... قوله: فمن نظر إلى القدر فقط وعظم الفناء في توحيد الربوبية، ووقف عند الحقيقة الكونية لم يميز بين العلم والجهل والصدق والكذب والبر والفجور، والعدل والظلم والطاعة والمعصية والهدى والضلال والرشاد والغي، وأولياء الله وأعدائه وأهل الجنة والنار، وهؤلاء مع أنهم مخالفون بالضرورة لكتاب الله ودينه وشرائعه فهم مخالفون أيضا لضرورة الحس والذوق وضرورة العقل والقياس، فإن أحدهم لابد أن يلتذ بشيء فيميز بين ما يأكل ويشرب وما لا يأكل ولا يشرب، وبين ما يؤذيه من الحر والبرد وما ليس كذلك، وهذا التمييز بين ما ينفعه ويضره هو الحقيقة الشرعية الدينية، ومن ظن أن البشر ينتهي إلى حد يستوي عنده الأمران دائما فقد افترى وخالف ضرورة الحس ولكن قد يعرض للإنسان في بعض الأوقات عارض كالسكر والإغماء ونحو ذلك مما يشغله عن الإحساس ببعض الأمور، فإما أن يسقط إحساسه بالكلية مع وجود الحياة فيه فهذا ممتنع، فإن النائم لم يفقد إحساس نفسه بل يرى في منامه ما يسوؤه تارة وما يسره أخرى، فالأحوال التي يعبر عنها بالاصطلام- كالفناء والسكر ونحو ذلك- إنما تنشأ عن عدم الإحساس ببعض الأشياء دون بعض، فهي مع نقص صاحبها لضعف تمييزه لا تنتهي إلى حد يسقط فيه

التمييز مطلقا، ومن نفى التمييز في هذا المقام مطلقا وعظم هذا المقام فقد غلط في الحقيقة الكونية والدينية قدرا وشرعا، وغلط في خلق الله وفي أمره، حيث ظن وجود هذا ولا وجود له، وحيث ظن أنه ممدوح ولا مدح في عدم التمييز وفقدان العقل والمعرفة. ش: يقول الشيخ إن من احتج بالقدر وشاهد الربوبية العامة فقطلم يفرق بين المأمور والمحظور والمؤمنين والكافرين وأهل الطاعة وأهل المعصية ولم يفرق بين النبي الصادق والمتنبىء الكاذب وأولياء الله وأعدائه وهكذا سائر الأضداد بل يشهدون وجه الجمع من جهة كون الكل بقضاء الله وقدره وإرادته العامة ولا ريب أن الله تعالى خالق كل شيء ومليكه، والقدر هوقدرة الله وهو المقدر لكل ما هو كائن، لكن هذا لا ينفي حقيقة الأمر والنهي والوعد والوعيد، وأن من الأفعال ما ينفع صاحبه فيحصل له به نعيم ومنها ما يضر صاحبه فيحصل له به عذاب، والجميع سواء من جهة المشيئة والربوبية، لكن هناك فرقا آخر من جهة الحكمة والأوامر الإلهية ونهاية الأمور، وحينئذ فالإنسان لابد أن يجوع ويعطش فلا يسوي بين الخبز والشراب وبين الملح الأجاج والعذب الفرات، بل لابد أن يفرق بينهما ويقول هذا طيب وهذا ليس بطيب، فمن الأمور ما هو ملائم للإنسان نافع له يحصل له به اللذة ومنها ما هو مضاد له ضار يحصل له به الألم وهذا الفرق معلوم بالحس والعقل والشرع، مجمع عليه بين الأولين والآخرين فما دام الإنسان حيا فلابد أن يفرق بين ما ينفعه وينعمه ويسره وبين ما يضره ويشقيه ويؤلمه، وهذا حقيقة الأمر والنهي فإن الله تعالى أمر العباد بما ينفعهم ونهاهم عما يضرهم، فقد بعث الرسل بتكميل الفطرة فأرشدوا الخلق إلى ما ينالون به النعيم في الآخرة وينجون به من العذاب، ومن لم يدرك هذا الفرق فإن كان لسبب أزال عقله هو به معذور، وإلا كان مطالبا بما فعله من الشر وما تركه من الخير، وإذاً فهذا الصنف من الناس مع مخالفتهم ما هو معلوم بالضرورة من الدين فهم مخالفون لما هو معلوم بالضرورة من

الحس والعقل، وكونه يفرق بين النافع والضار معناه أنه يستطيع التمييز بين أمر الله وخلقه، فإن الشرع قد فصل له ما ينفعه وما يضره، ومن زعم أن أحدا من الناس يصل به الأمر إلى درجة لا يميز فيها بين هذه المتضادات فقد ضل وافترى، وإن كان الإنسان قد يأتي عليه أحيانا ما يجعله في حالة يضعف فيها تمييزه ويقل فيها إدراكه ووعيه، كحالة السكران والمغمى عليه، هذا شيء مسلم به ولكن مع ذلك فإن إحساسه لا يذهب كله بل يبقى معه شيء من شعوره وإدراكه، فإما أن يذهب تمييزه نهائيا فهذا غير صحيح، وقوله:"ونحو ذلك" يعني كحالة النائم فإن النائم مع أنه أعظم نقصا من حالة السكران والمغمى عليه فإنه لا يذهب إحساسه كله بل يدرك ويشعر بأمور يراها في نومه مما قد يسوؤه أو يسره، فالأحوال التي تعبر عنها الصوفية بالاصطلام إنما تنشأ من عدم إحساس أصحابها ببعض الأمور ولكنها مع نقص حالة أصحابها فهي لا تصل إلى حالة يسقط معها التمييز سقوطا كاملا، ومن ادعى سقوط التمييز سقوطا تاما وعظم الفناء في مشاهدة الربوبية فقد غلط غلطا شنيعا وقصر في أمر الله وشرعه تقصيرا يخرجه إلى كفر أعظم منه في اليهود والنصارى، فإن هؤلاء مع كفرهم يقرون بنوع من الأمر والنهي والوعد والوعيد، بخلاف هؤلاء المباحية المسقطة للشرائع مطلقا، فإنهم يقولون أن العارف إذا صار في هذا المقام لا يستحسن حسنة ولا يستقبح سيئة، لشهوده الربوبية العامة والقيومية الشاملة، وحينئذ فمن ادعى سقوط التمييز سقوطا تاما فقد غلط غلطا بينا في تفريقه بين خلق الله وأمره وفي اعتقاده أن عمله هذا ممدوح فإنه لا وجود لهذا ولا مدح في عدم العلم وسقوط المعرفة، وهذا حال المتأخرين من الصوفية. قال الشيخ: "وأما أئمة الصوفية، والمشايخ المشهورون من القدماء: مثل الجنيد بن محمد وأتباعه، والشيخ عبد القادر وأمثاله، فهؤلاء من أعظم الناس لزوما للأمر والنهي، وتوصية بذلك وتحذيرا من المشي مع القدر، فالشيخ عبد القادر كلامه كله يدور على اتباع المأمور وترك المحذور، والصبر على المقدور، ولا يثبت طريقا تخالف ذلك أصلا، لا هو

ولا عامة المشائخ المقبولين عند المسلمين، وكان يحذر عن ملاحظة القدر المحض بدون اتباع الأمر والنهي، كما أصاب أولئك الصوفية الذين شهدوا القدر وتوحيد الربوبية، وغابوا عن الفرق الإلهي الديني الشرعي المحمدي. الذي يفرق بين محبوب الحق ومكروهه"، والأحوال هي أعمال القلوب التي تسميها الصوفية مقامات أو منازل السائرين إلى الله أو مقامات العارفين، وفيها ما هو من الإيمان وفيها ما هو من وحي الشيطان، والذوق: هو مباشرة الحاسة الظاهرة أو الباطنة للملائم والمنافر، قال ابن القيم: "ولا يختص ذلك بحاسة الفم في لغة القرآن بل ولا في لغة العرب"، قال الله تعالى: {ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ} ، وقال: {فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ} ، وقال: {فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} ، وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: "ذاق طعم الإيمان من رضي بالله ربا، وبالإسلام دينا، وبمحمد صلى الله عليه وسلم رسولا" فأخبر أن للإيمان طعما وأن القلب يذوقه كما يذوق طعم الطعام والشراب "والاصطلام": هو شهود القيومية العامة والفناء في شهود توحيد الربوبية وقوله: "بل يرى في منامه ما يسؤوه تارة وما يسره أخرى"، معناه أن الإنسان الحي غير فاقد للإحساس فقدانا تاما حتى حالة غيبوبته عما حوله من المحسوسات فإنه أحيانا يشاهد وهو نائم ما يزعجه ويؤلمه وهي المرائي السيئة وأحيانا يشاهد ما يسره ويفرح به قلبه وهي المرائي الصالحة، روى مسلم في صحيحه، عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأعرابي جاءه فقال: "إني حلمت أن رأسي قطع، فأنا أتبعه. فزجره النبي صلى الله عليه وسلم، وقال: لا تخبر بتلاعب الشيطان بك في المنام" وفي رواية: "أن أعرابيا قال: يا رسول الله، رأيت في المنام: كان رأسي ضرب، فتدحرج، فاشتددت في أثره فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تحدث بتلاعب الشيطان بك في منامك"، وقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد يخطب، فقال: "لا يحدثن أحدكم بتلاعب الشيطان به في منامه" زاد في رواية "فضحك النبي صلى الله عليه وسلم "، وروى مسلم وأبو داود عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "رأيت الليلة - وفى رواية - رأيت

ذات ليلة فيما يرى النائم، كأنا في دار عقبة بن رافع، وأتينا برطب من رطب ابن طاب، فأولت: أن الرفعة لنا في الدنيا، والعاقبة في الآخرة، وأن ديننا قد طاب" وعن أبي قتادة الحارث بن ربعي الأنصاري رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "الرؤيا من الله، والحلم من الشيطان، فإذا حلم أحدكم الحلم يكرهه فليبصق عن يساره، وليستعذ بالله منه، فلن يضره"، وفى رواية قال أبو سلمة: "إن كنت لأرى الرؤيا تمرضني، حتى سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: الرؤيا الصالحة من الله، والرؤيا السوء من الشيطان، فإذا رأى ما يكره فليتفل عن يساره ثلاثا، وليتعوذ بالله من الشيطان وشرها، ولا يحدث بها أحدا، فإنها لن تضره"، هذه رواية البخاري ومسلم وأخرجه في الموطأ وزاد بعد قوله: "لن تضره إن شاء الله" قال أبو سلمة: "إن كنت لأرى الرؤيا هي أثقل علي من الجبل فلما سمعت هذا الحديث فما كنت أباليها"، وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " إذا رأى أحدكم الرؤيا يحبها فإنها من الله فليحمد الله عليها وليحدث بها، وإذا رأى غير ذلك مما يكره فإنما هي من الشيطان فليستعذ بالله من شرها، ولا يذكرها لأحد فإنها لن تضره" أخرجه البخاري والترمذي.

قول بعض الصوفية أريدأن لا أريد

قول بعض الصوفية أريدأن لا أريد ... قوله: وإذا سمعت بعض الصوفية يقول: أريد أن لا أريد، أو أن العارف لا حظ له وأنه يصير كالميت بين يدي الغاسل ونحو ذلك فهذا إنما يمدح منه سقوط إرادته التي لم يؤمر بها، وعدم حظه الذي لم يؤمر بطلبه، وأنه كالميت في طلب ما لم يؤمر بطلبه وترك دفع ما لم يؤمر بدفعه ومن أراد بذلك، أنه تبطل إرادته بالكلية، وأنه لا يحس باللذات والألم، والنافع والضار، فهذا مكابر مخالف لضرورة الحس والعقل ومن مدح هذا فهو مخالف لضرورة الدين والعقل.

ش: يقول المؤلف إذا بلغك أن بعض مشائخ الصوفية يعبر بقولهأريد أن لا أريد كقول أبي يزيد الصوفي: أو إن العارف ليس له من نفسه أمر ونحو ذلك من العبارات وذلك كقول الشيخ عبد القادر "علامة فناء إرادتك بفعل الله أنك لا تريد مرادا قط فلا يكن لك غرض ولا تقف لك حاجة ولا مرام لأنك لا تريد مع إرادة الله سواها"، إذا سمعت هذه العبارات المروية عن بعض فضلاء الصوفية فاعلم أن مقصودهم أن لا يريد المريد شيئا إلا أن يكون مأمورا بإرادته، فقوله: "علامة فناء إرادتك بفعل الله أنك لا تريد مرادا قط" معناه أنك لا تريد مرادا لم تؤمر بإرادته فأما ما أمر الله ورسوله بإرادتك إياه فإرادته إما واجب وإما مستحب وترك إرادة هذا إما معصية وإما نقص. وهكذا قولهم "ينبغي أن يكون الإنسان كالميت بين يدي الغاسل" ليس معناه أن لا تكون له إرادة أصلا وهذا معنى قول المؤلف: "فهذا إنما يمدح منه سقوط إرادته التي لم يؤمر بها، وعدم حظه الذي لم يؤمر بطلبه وأنه كالميت في طلب ما لم يؤمر بطلبه وترك دفع ما لم يؤمر بدفعه"، وحينئذ فلا يجوز حمل كلام المشائخ المستقيمين، على ترك الإرادة مطلقا فإن هذا غلط فاحش، وذلك أن الحي لابد له من إرادة، فإن الإرادة التي يحبها الله ورسوله ويأمر بها أمر إيجاب وأمر استحباب لا يدعها إلا كافر أو عاصي إن كانت واجبة، وإن كانت مستحبة كان تاركها تاركا لما هو خير له، والله تعالى قد وصف الأنبياء والصديقين بهذه الإرادة فقال تعالى: {وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} ، وقال تعالى: {إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُوراً} ، وقال تعالى: {وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْراً عَظِيماً} ، وحينئذ فالله يأمر بإرادته وإرادة ما يأمر به وينهى عن إرادة غيره وإرادة ما نهى عنه، فهما إرادتان إرادة يحبها الله ويرضاها وإرادة لا يحبها الله ولا يرضاها، وأما من اعتقد أنهم فرغوا من الإرادة مطلقا ولم يبق لهم مراد وأن هذا المقام هو أكمل المقامات وأن من قام بهذا فقد قام بالحقيقة القدرية الكونية من اعتقد هذا الاعتقاد أو نسبه

للشيوخ الفضلاء فقد ضل ضلالا مبينا، وإذا فالذين يغلطون ويظنون أن الحقيقة القدرية يجب الاسترسال معها دون مراعاة الحقيقة القدرية الدينية التي تتصمن مرضاة الرب ومحبته وأمره ونهيه ظاهرا وباطنا هؤلاء بالإضافة إلى مخالفتهم لما شرع الله فهم مخالفون أيضا للحس والعقل، فإن الجائع يفرق بين الخبز والشراب والعطشان يفرق بين الماء والسراب فيحب ما يشبعه ويرويه دون ما لا ينفعه، ومن اعتقد هذا الاعتقاد أو مدح هذا الطريق فهو مخالف لصريح المعقول وصحيح المنقول، فقد ذم الله من حرم ما لم يحرمه، أو شرع ما لم يشرعه في كتابه أو على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، قال تعالى: {وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ، قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْط} ، وقال سبحانه: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْأِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} والنسبة في الصوفية إلى الصوف لأنه غالب لباس الزهاد وقد قيل هو نسبة إلى (صوفة بن مراد) قبيلة من العرب كانوا يجاورون حول البيت وأما من قال هو نسبة إلى "الصفة" فقد قيل كان حقه أن يقال "صُفِّية"، وكذلك من قال نسبة إلى "الصفا" قيل له كان حقه أن يقال "صفائية"، ولو كان مقصورا لقيل "صفوية"، ومن قال نسبة إلى الصف المقدم بين يدي الله، قيل له: كان حقه أن يقال: "صفية"، ولا ريب أن هذا يوجب النسبة والإضافة إذا أعطي الاسم حقه من العربية، قال الشيخ: "وقد تكلم بهذا الاسم قوم من الأئمة كأحمد بن حنبل وغيره وقد تكلم به أبو سليمان الداراني وغيره، وأما الشافعي فالمنقول عنه ذم الصوفية، وقد ذم طريقهم طائفة من أهل العلم من أصحاب احمد ومالك والشافعي وأبي حنيفة وقد مدحه آخرون، والتحقيق فيه أنه مشتمل على الممدوح والمذموم كغيره من الطرق وأن المذموم منه قد يكون اجتهاديا وقد لا يكون، وأنهم في ذلك بمنزلة الفقهاء في الرأي فإنه قد ذم الرأي من العلماء طوائف كثيرة وفي المتسميين بذلك من أولياء الله وصفوته وخيار عباده ما لا يحصى عدده إلا الله"، وقد سبقت الإشارة إلى

ذلك في المثل الأول عند قول الشيخ: "وقد يدخل في المنتسبين إلى التصوف والسلوك من يدخل في بعض هذه المذاهب".

الفناء يراد به ثلاثة أمور

لفناء يراد به ثلاثة أمور قوله: والفناء يراد به ثلاثة أمور أحدها: الفناء الديني الشرعي الذي جاءت به الرسل، ونزلت به الكتب وهو أن يفنى عما لم يأمره الله به بفعل ما أمره الله به فيفنى عن عبادة غير الله بعبادته وعن طاعة غير الله بطاعته وطاعة رسوله، وعن التوكل على غيره بالتوكل عليه، وعن محبة ما سواه بمحبته ومحبة رسوله، وعن خوف غيره بخوفه بحيث لا يتبع العبد هواه بغير هدى من الله وبحيث يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، كما قال تعالى: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ} ، فهذا كله مما أمر الله به ورسوله. وأما الفناء الثاني: وهو الذي يذكره بعض الصوفية فهو أن يفنى عن شهود ما سوى الله تعالى، فيفنى بمعبوده عن عبادته وبمذكوره عن ذكره وبمعروفه عن معرفته بحيث يغيب عن شهود نفسه لما سوى الله تعالى فهذا حال ناقص قد يعرض لبعض السالكين وليس هو من لوازم طريق الله ولهذا لم يعرف مثل هذا للنبي صلى الله عليه وسلم ولا السابقين الأولين ومن جعل هذا نهاية السالكين فهو ضال ضلالا مبينا وكذلك من جعله من لوازم طريق الله فهو مخطىء خطأ فاحشا بل هو من عوارض طريق الله التي تعرض لبعض الناس دون بعض ليس هو من اللوازم التي تحصل لكل سالك. وأما الثالث: فهو الفناء عن وجود السوى بحيث يرى أن وجود المخلوق هو عين وجود الخالق وأن الوجود فيهما واحد بالعين"، فهذا قول أهل الالحاد والاتحاد الذين هم أضل العباد.

ش: الفناء مصدر فني يفنى فناء إذا اضمحل وتلاقى وعدم، وقد يطلق على ما تلاشت قواه وأوصافه مع بقاء عينه كما قال الفقهاء لا يقتل في المعركة شيخ فان. وقال تعالى: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ} أي هالك ذاهب وأما معناه في كلام الصوفية فيراد به ثلاثة أمور الفناء عن إرادة السوى، والفناء عن شهود السوى والفناء عن وجود السوى، وقد بين المؤلف، الأول بقوله: "أحدها الفناء الديني الشرعي الذي جاءت به الرسل ونزلت به الكتب وهو أن يفنى عن ما لم يأمره الله به بفعل ما أمره الله به" ومعنى هذا أن القلب يفنى عن إرادة ما سوى الرب وهو في الحقيقة عبادة القلب وتوكله واستعانته وتألهه وإنابته وتوجهه إلى الله وحده لا شريك له، وليس لأحد خروج عن هذا، وهو ترجمة قول لا إله إلا لله وقول النبي صلى الله عليه وسلم: "لا إله إلا الله ولا نعبد إلا إياه له النعمة وله الفضل وله الثناء الحسن"، وبهذا الفناء يكون العبد غير متبع هواه بغير هدى من الله بل يكون على هدى مستقيم، ويكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما كما يوضح ذلك آية براءة وحديث أنس الذي رواه البخاري ومسلم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه" وهذا في الجملة هو أول الدين وآخره وهو حقيقة الإخلاص وليس لأحد خروج عنه. وبين الثاني بقوله: "فهو أن يفنى عن شهود ما سوى الله بحيث يغيب عن شهود نفسه لما سوى الله تعالى" يعني أن الواحد منهم يغيب عن سوى مشهوده فيغيب حتى عن نفسه وشهودها لأنه يغيب بمعبوده عن عبادته وبمذكوره عن ذكره وبموجوده عن وجوده وبمحبوبه عن حبه، وهذا الفناء هو الذي يشير إليه أكثر الصوفية المتأخرين ويعدونه الغاية، وهو الذي بنى عليه أبو إسماعيل الأنصاري كتابه "منازل السائرين" وجعله الدرجة الثالثة في كل باب من أبوابه، وليس مراد القوم فناء وجود ما سوى الله في الخارج بل مرادهم فناؤه عن شهودهم وحسهم، وقد يغلب شهود القلب لمحبوبه ومذكوره حتى يغيب به ويفنى به فيظن أنه اتحد به

وامتزج بل يظن أنه هو نفسه كما يحكى "أن محبوبا وقع في اليم فألقى المحب نفسه خلفه فقال: أنا وقعت فأنت ما الذي أوقعك؟، فقال: غبت بك عني فظننت أنك أني"، وصاحب هذا الحال إذا عاد إليه عقله يعلم أنه كان غالطا في ذلك وأن الحقائق متميزة في ذاتها، فالرب رب والعبد عبد والخالق خالق بائن عن المخلوقات ليس في مخلوقاته شيء من ذاته ولا في ذاته شيء من مخلوقاته، ولا شك أن شهود العبد قيامه بالعبودية أكمل في العبودية من غيبته عن ذلك، فإن أداء العبودية في حال غيبة العبد عنها وعن نفسه بمنزلة أداء السكران والنائم. وأداؤها في حال كما يقظته وشعوره بتفاصيلها وقيامه بها أتم وأكمل وأقوى عبودية، قال ابن القيم: "فتأمل حال عبدين في خدمة سيدهما أحدهما يؤدي حقوق خدمته في حال غيبته عن نفسه وعن خدمته لاستغراقه بمشاهدة سيده، والآخر يؤديها في حال كمال حضوره وتمييزه وإشعار نفسه بخدمة السيد وابتهاجها بذلك فرحا بخدمته وسرورا والتذاذا منه واستحضارا لتفاصيل الخدمة ومنازلها وهو مع ذلك عامل على مراد سيده منه لا على مراده من سيده فأي العبدين أكمل" ولاشك أن هذا حال ناقص يحصل أحيانا لبعض السائرين إلى الله وليس هذا الحال الناقص من مقتضيات سلوك الدرب الموصل إلى الله بل ذلك عارض يعرض لبعض الناس فيكون به أدنى مرتبة من غيره {فإن هذا لم يكن للنبي صلى الله عليه وسلم ولا حالا من أحواله، ولهذا في ليلة المعراج لما أسرى به وعاين ما عاين مما أراه الله إياه من آياته الكبرى لم تعرض له هذه الحال بل كان كما وصفه لله عز وجل بقوله تعالى: {مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى، لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى} ، وكذلك الصحابة رضي الله عنهم وهم سادات العارفين زائمة الواصلين المقربين وقدوة السالكين لم يكن منهم من ابتلي بذلك ولا شم له رائحة ولم يخطر على قلبه فلو كان هذا الفناء كمالا لكانوا هم أحق به وأهله وكان لهم منه ما لم يكن لغيرهم"، وحينئذ فهذا الفناء هو كما قال الشيخ: "هو من عوارض طريق الله التي تعرض لبعض الناس دون بعض فيكون من جعله نهاية السالكين ضالا ضلالا مبينا كما أن من جعله من لوازم طريق

الله فهو مخطىء خطأ فاحشا، وإذاً فأولى الناس بالله وكتبه ورسله ودينه هم المؤمنون بالحقيقة الدينية والكونية المعطون كل حقيقة حظها من العبادة. والسلوك سلوكان: سلوك الأبرار أهل اليمين وهو أداء الواجبات وترك المحرمات باطنا وظاهرا. والثاني: سلوك المقربين السابقين وهو فعل الواجب والمستحب بحسب الإمكان وترك المكروه والمحرم كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه وإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم" وكلام الشيوخ الكبار، كالشيخ عبد القادر وغيره يشير إلى هذا السلوك، ولهذا يأمرون بما هو مستحب غير واجب وينهون عما هو مكروه غير محرم، وطريق الخاصة طريق المقربين أن لا يفعل العبد إلا ما أمر به ولا يريد إلا ما أمر الله ورسوله بإرادته، وهو ما يحبه الله ويرضاه". وبين الثالث بقوله: "هو الفناء عن وجود السوى بحيث يرى أن وجود المخلوق هو عين وجود الخالق وأن الوجود فيهما واحد بالعين"، يعني أن الملاحدة القائلين بوحدة الوجود وأنه ما ثم غير، وأن غاية العارفين والسالكين الفناء في الوحدة المطلقة ونفي التكثر والتعدد، لا يفرقون بين كون وجود المخلوقات بالله وبين كون وجودها هو عين وجوده فليس عندهم فرقا بين العالمين ورب العالمين، وإذا فهؤلاء الزنادقة يجعلونه عين الموجودات وحقيقة الموجودات وأنه لا وجود لغيره، لا بمعنى أن قيام الأشياء ووجودها به كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "أصدق كلمة قالها الشاعر كلمة لبيد: ألا كل شيء ما خلا لله باطل"، فإنهم لو أرادوا ذلك لكان ذلك هو الشهود الصحيح، لكنهم يريدون أنه عين الموجودات وهذا كفر وضلال، وقد سبق بيان هذا في الكلام على القاعدة الخامسة عند قول المؤلف: "حتى آل الأمر بمن يدعي التحقيق والتوحيد والعرفان منهم إلى أن اشتبه عليهم وجود الرب بوجود كل موجود".

مخالفة الجبرية للعقل والقياس

مخالفة الجبرية للعقل والقياس ... قوله: وأما مخالفتهم لضرورة العقل والقياس، فإن الواحد من هؤلاء لا يمكنه أن يطرد قوله فإنه إذا كان مشاهدا للقدر من غير تمييز بين المأمور والمحظور فعومل بموجب ذلك مثل أن يُضرب ويُجاع حتى يبتلى بعظيم الأوصاف والأوجاع فإن لام من فعل ذلك به وعابه، فقد نقض قوله وخرج عن أصل مذهبه، وقيل له هذا الذي فعله بك مقتضي مقدور، فخلق الله وقدره ومشيئته متناول لك وله وهو يعمكما فإن كان القدر حجة لك فهو حجة لهذا، وإلا فليس بحجة لا لك ولا له، فقد تبين بضرورة العقل فساد قول من ينظر إلى القدر ويعرض عن الأمر والنهي. ش: يعني أن هؤلاء المتصوفة المجبرة الناظرين إلى الحقيقة القدرية والمشيئة العامة غير مشاهدين لأمر الله ونهيه ولا مفرقين بين ما يحبه الله ويبغضه، ليسوا على قاعدة مستمرة ولا رأي ثابت بل هم متناقضون مخالفون للحقائق العقلية والاعتبارات الصحيحة. فإنه لا يوجد أحد يحتج بالقدر في ترك الواجب وفعل المحرم إلا وهو متناقض لا يجعله حجة في مخالفة هواه بل يعادي من آذاه وإن كان محقا ويحب من وافقه على غرضه وإن كان عدوا لله، فيكون حبه وبغضه وموالاته ومعاداته بحسب هواه وغرضه وذوق نفسه، لا بحسب أمر الله ونهيه، ولا يمكن أن يجعل القدر حجة لأحد فإن هذا مستلزم للفساد الذي لا صلاح معه والشر الذي لا خير فيه، إذ لو جاز أن يحتج كل أحد بالقدر لما عوقب معتد ولا اقتص من ظالم ولا أخذ لمظلوم حقه من ظالمه، ولفعل كل أحد ما يشتهيه من غير معارض يعارضه فيه، وحينئذ فكلام هؤلاء ساقط ورأيهم متهافت مخالف لما هو معلوم بضرورة العقل والقياس، فإن الجائع يفرق بين الخبز والشراب، والعطشان يفرق بين الماء والسراب فيحب ما يشبعه ويرويه دون ما لا ينفعه والجميع مخلوق لله تعالى. قال الشيخ: "ومن المعلوم أن من أسقط الأمر والنهي الذي بعث الله به رسله فهو كافر باتفاق المسلمين فإن هؤلاء قولهم

متناقض لا يمكن أحد منهم أن يعيش به ولا تقوم به مصلحة أحد من الخلق، ولا يتعاشر عليه اثنان، فإن القدر إن كان حجة فهو حجة لكل أحد وإلا فليس حجة لأحد، فإذا قدر أن الرجل ظلمه ظالم أو شتمه شاتم أو أخذ ماله أو أفسد أهله أو غير ذلك فمتى لامه أو ذمه أو طلب عقوبته أبطل الاحتجاج بالقدر، وإذا فقوله: "فإن الواحد من هؤلاء لا يمكنه أن يطرد قوله ... الخ " معناه: أن هؤلاء المتصوفة المشركية المدعين التحقيق والمعرفة، متناقضون مخالفون للشرع والعقل والذوق، فإنهم لا يسوون بين من أحسن إليهم وبين من ظلمهم ولا يسوون بين العالم والجاهل والقادر والعاجز ولا بين الطيب والخبيث، وهؤلاء المجبرة لا يقفون لا مع القدر ولا مع الأمر، بل كما قال بعض العلماء: أنت عند الطاعة قدري وعند المعصية جبري، أيَّ مذهب يوافق هواك تمذهب به، وبهذا يتضح فساد قولهم وشناعة رأيهم وأنه مخالف للنهج المستقيم، والأوصاب: هي الأمراض واحدها وصب.

المؤمن مأمور بأن يفعل المأمور ويترك المحذور

المؤمن مأمور بأن يفعل المأمور ويترك المحذور ... قوله: والمؤمن مأمور بأن يفعل المأمور ويترك المحظور، ويصبر على المقدور كما قال تعالى: {وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئا} ، وقال في قصة يوسف: {إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} ، فالتقوى فعل ما أمر الله به وترك ما نهى الله عنه، ولهذا قال الله تعالى: {فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالإِبْكَار} ، فأمره مع الاستغفار بالصبر، فإن العباد لابد لهم من الاستغفار أولهم وآخرهم. قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: "يا أيها الناس، توبوا إلى ربكم فوالذي نفسي بيده إني لأستغفر الله وأتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرة"، وقال: "أنه ليغان على قلبي وإني لأستغفر الله وأتوب إليه في اليوم مائة مرة"، وكان يقول: "اللهم اغفر لي خطئي وعمدي وهزلي وجدي وكل ذلك عندي اللهم اغفر لي ما قدمت وما أخرت وما

أسررت وما أعلنت وما أنت أعلم به مني أنت المقدم وأنت المؤخر"، وقد ذكر عن آدم أبي البشر أنه استغفر ربه وتاب إليه فاجتباه ربه فتاب عليه وهداه وعن إبليس أبي الجن أنه أصر متعلقا بالقدر، فلعنه وأقصاه فمن أذنب وتاب وندم فقد أشبه أباه ومن أشبه أباه فما ظلم، قال الله تعالى: {وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً، لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً} ، ولهذا قرن الله سبحانه بين التوحيد والاستغفار في غير آية كما قال تعالى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إله إلا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} ، وقال تعالى: {فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ} ، وقال تعالى: {الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ، أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ، وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعاً حَسَناً إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً} ، وفي الحديث الذي رواه ابن أبي عاصم وغيره: "يقول الشيطان: أهلكت الناس بالذنوب وأهلكوني بلا إله إلا الله والاستغفار، فلما رأيت ذلك بثثت فيهم الأهواء فهم يذنبون ولا يتوبون لأنهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا"، وقد ذكر الله سبحانه عن ذي النون أنه {نَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لا إله إلا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} ، قال تعالى: {فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ} ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "دعوة أخي ذي النون ما دعا بها مكروب إلا فرج الله كربه". ش: يعني أن الناظرين إلى القدر المعرضين عن الشرع قد أخطئوا الصواب واتبعوا غير سبيل المؤمنين فإن واجب المؤمن الذي فرضه الله عليه، هو فعل ما أمر به وترك ما نهى عنه والصبر على ما قدره لله وقضاه من المصائب، كما في آية آل عمران وآية يوسف، وإذا فحقيقة تقوى الله هي فعل المأمور واجتناب المحظور والصبر على المقدور كما في آية غافر، فقد أمر الله فيها بفعل الطاعات والصبر والندم والإقلاع والعزم على ترك الذنوب وطلب العفو من الرحمن الرحيم، والعباد كلهم مأمورون بأن يتوبوا إلى الله

ويستغفروه قال تعالى في الحديث القدسي: "يا عبادي إنكم تخطئون بالليل والنهار وأنا أغفر الذنوب جميعا فاستغفروني أغفر لكم"، وقوله صلى الله عليه وسلم: "يا أيها الناس توبوا إلى ربكم"، أخرجه البخاري عن أبي هريرة رضي لله عنه، وقوله عليه الصلاة والسلام: "إنه ليغان على قلبي" رواه مسلم من حديث أبي بردة عن الأغر المزني. وقوله صلى الله عليه وسلم: "يغان على قلبي" معناه هو كما قال في فتح الباري عن عياض: "المراد (باِلغَين) فترات عن الذكر الذي شأنه أن يداوم عليه فإذا فتر عنه لأمر عد ذلك ذنبا فاستغفر عنه"، وقيل هو شيء يعتري القلب مما يقع من حديث النفس، وقيل هو السكينة التي تغشى قلبه والاستغفار لإظهار العبودية لله والشكر لما أولاه، وقال الشيخ الهروردي: "لا يعتقد أن الغين فيه حالة نقص بل هو كمال أو تمة كمال ثم مثل لذلك بجفن العين حين يسبل ليدفع القذى عن العين مثلا فإنه يمنع العين من الرؤية فهو من هذه الحيثية نقص وفي الحقيقة هو كمال"، وقوله صلى الله عليه وسلم: "اللهم اغفر لي خطئي" رواه البخاري ومسلم من حديث أبي موسى رضي الله عنه. وقوله: "وقد ذكر عن آدم أبي البشر أنه استغفر ربه وتاب إليه فاجتباه ربه فتاب عليه وهداه وعن إبليس أبي الجن أنه أصر متعلقا بالقدر فلعنه وأقصاه فمن أذنب وتاب وندم فقد أشبه أباه ومن أشبه أباه فما ظلم" يعني كما في قوله جل وعلا: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ، وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلا مِنْهَا رَغَداً حَيْثُ شِئْتُمَا وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ، فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ، فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} ، وكما في قوله سبحانه: {وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ، قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا

فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ، قَالَ أَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ، قَالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ، قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ، ثُمَّ لآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ، قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُوماً مَدْحُوراً لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ، وَيَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلا مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ، فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ، وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ، فَدَلاَّهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ، قَالا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} ، وحينئذ فمن ارتكب معاصي الله وتمرد عن طاعته وأصر على ارتكابه المحرمات فقد أشبه عدو أبيه، ومن جعل أباه قدوة له وإماما فسار سيرته واتبع أثره فقد ربح وفاز بسعادة الدنيا والآخرة، كما أن الذي يشبه أباه في خلقته أو سجاياه لم يظلم أمه لأنه جاء على مثال أبيه الذي ينسب إليه، وذلك أنه لو خالف أباه لنسب الناس أمه إلى الزنا وهذا القول مقتبس من بيت رؤبة ابن العجاج يمدح به عدي بن حاتم الطائي وأصله: بأبه اقتدى عدي في الكرم ... ومن يشابه أبه فما ظلم والشاهد من آية الأحزاب أن الله سبحانه عفو كريم، رؤوف بعباده رحيم، يتوب على من تاب وأقلع عن المعاصي وأناب، ومن أجل أن التوبة تمحو الذنب وتقضي عليه نجد أن الله تبارك وتعالى قد ذكر في كتابه العزيز، الاستغفار من الذنوب إلى جانب الأمر بتوحيده وطاعته كما في آية القتال وحم السجدة وهود، والعدو اللدود حريص على إغواء الناس وإضلالهم فهو يتحسر على أنهم أهلكوه بالذكر وطلب الغفران، وإنه حين رأى منهم ذلك لجأ إلى طريقة ينفذ منها إلى غرضه وهي بث الفرقة

والاختلاف بينهم في الآراء والمذاهب، كما في الحديث الذي رواه ابن أبي عاصم، وقوله "وغيره": يعني وقد رواه أيضا أبو يعلى بسنده عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه قال: قال رسول لله صلى الله عليه وسلم: "عليكم بلا إله إلا الله والاستغفار فأكثروا منهما فإن إبليس قال إنما أهلكت الناس بالذنوب وأهلكوني بلا إله إلا الله والاستغفار فلما رأيت ذلك أهلكتهم بالإغواء فهم يحسبون أنهم مهتدون" وقد روى الطبراني وابن مردويه عن عبد بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم:"أفضل الذكر لا إله إلا الله وأفضل الدعاء الاستغفار - ثم قرأ- {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إله إلا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} " وفى ذلك كله حث على كثرة الذكر والاستغفار: ومعنى قوله: "فهم يذنبون ولا يتوبون لأنهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا" أن أهل البدع والشبهات من هذه الأمة مصرون على ما هم عليه لاعتقادهم أنهم مصيبون، وهذا متناول لكل من عبد الله على غير طريقة مرضية يحسب أنه مصيب فيها وأن عمله مقبول وهو مخطىء وعمله مردود كما قال تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ، عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ، تَصْلَى نَاراً حَامِيَةً} وقد فسر الله سبحانه في آية الكهف الأخسرين أعمالا بالذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا أي عملوا أعمالا باطلة على غير شريعة مشروعة وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا أي يعتقدون أنهم على شيء وأنهم مقبولون، والله جل وعلا يجيب دعاء الداعين ويسمع استغاثة الملهوفين ويتوب على التائبين كما حكى الله ذلك في قصة ذي النون في سورة الأنبياء. وذو النون هو يونس بن متى ولقب ذا النون لابتلاع الحوت له فإن النون من أسماء الحوت، والمراد بالظلمات ظلمة الليل وظلمة البحر وظلمة بطن الحوت، وكان نداؤه هو قوله: {لا إله إلا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} ، ومعنى {سُبْحَانَكَ} تنزيها لك من أن يعجزك شيء، {إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} الذين يظلمون أنفسهم، قال الحسن وقتادة: "هذا القول من يونس اعتراف بذنبه وتوبة من خطيئته قال ذلك وهو في بطن الحوت"، ثم

أخبر الله سبحانه بأنه استجاب له فقال: {فَاسْتَجَبْنَا لَهُ} دعاءه الذي دعانا به في ضمن اعترافه بالذنب {وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ} بإخراجنا له من بطن الحوت {وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ} أي نخلصهم من همومهم وقوله صلى الله عليه وسلم: "دعوة أخي ذي النون ... الخ ". هذا الحديث رواه الترمذي وأحمد عن سعد بن أبي وقاص ولفظه سمعت رسول لله صلى الله عليه وسلم يقول: "دعوة أخي ذي النون إذ هو في بطن الحوت لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين لم يدع بها مسلم ربه في شيء إلا استجاب له"، وقد سمى صلى الله عليه وسلم قول ذي النون "لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين" دعوة لأنها تتضمن نوعي الدعاء، فقوله: "لا إله إلا أنت" اعتراف بتوحيد الإلهية وتوحيد الإلهية أحد نوعي الدعاء فإن الإله هو المستحق لأن يدعى دعاء عبادة ودعاء مسألة، وقوله: "إني كنت من الظالمين" صيغة خبر يتضمن طلب المغفرة فإن الطالب السائل تارة يسأل بصيغة الطلب وتارة يسأل بصيغة الخبر، إما بوصف حاله وإما بوصف حال المسئول وإما بوصف الحالتين، كقول نوح عليه السلام: {رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلاَّ تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ} فهذا ليس صيغة طلب وإنما هو إخبار عن الله أنه إن لم يغفر له ويرحمه خسر، ولكن هذا الخبر يتضمن سؤال المغفرة، وكذلك قول آدم عليه السلام: {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} هو من هذا الباب، ومن ذلك قول موسى عليه السلام: {إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ} فإن هذا وصف لحاله بأنه فقير إلى ما أنزل الله إليه من الخير وهو متضمن لسؤال الله إنزال الخير. وقريب من حديث ذي النون الحديث الذي رواه البخاري ومسلم عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول عند الكرب: "لا إله إلا الله العظيم الحليم لا إله إلا الله رب العرش العظيم لا إله إلا لله رب السموات ورب الأرض ورب العرش الكريم". والكرب: والكربة، الحزن والمشقة والغم الشديد، والمكروب:

لمهموم. وابن أبي عاصم، هو عاصم ابن علي الحافظ الإمام الثقة سمع أباه وعكرمة ابن عمار وغيرهما وحدث عنه البخاري في صحيحه وأحمد بن حنبل وأبو حاتم الرازي وغيرهم توفي سنة إحدى وعشرين ومائتين سنة 221هـ. وأبوه هو علي بن عاصم بن صهيب مولى قريبة بنت محمد بن أبي بكر الصديق وكان مولده سنة خمس ومائة وتوفى سنة 201هـ، كان حافظا حدث عنه أحمد ابن حنبل وأبو داود وغيرهما. وقوله: "وعن إبليس أبي الجن" معناه: أن الشيطان أصل الجن، كما أن آدم أصل البشر، وبذلك قال بعض السلف، وعليه فالاستثناء في الآيات التي فيها أمر الملائكة بالسجود لآدم منقطع. وقال الجمهور بل هو من الملائكة من حي يقال لهم الجن كما في آية الصافات، وعليه فالاستثناء في الآيات متصل. ومحل بسط ذلك كتب التفسير.

لابد للعبد في الأمر من أصلين وفي القدر من أصلين

لابد للعبد في الأمر من أصلين وفي القدر من أصلين ... ما يلزم على المسلم تحقيقه في باب الأمر والقدر قوله: وجماع ذلك، أنه لابد له في الأمر من أصلين ولابد له في القدر من اصلين، ففي الأمر، عليه الاجتهاد في امتثال الأمر علما وعملا، فلا يزال يجتهد في العلم بما آمر الله به والعمل بذلك ثم عليه أن يستغفر ويتوب من تفريطه في الأوامر وتعديه الحدود، ولهذا كان من المشروع أن يختم جميع الأعمال بالاستغفار فكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا صلى استغفر ثلاثا، وقد قال تعالى: {وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأَسْحَارِ} فقاموا بالليل وختموه بالاستغفار، وآخر سورة نزلت قوله تعالى: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ، وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً، فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً} ، وفي الصحيح عن عائشة: "أنه كان صلى الله عليه وسلم يكثر أن يقول في ركوعه وسجوده، سبحانك اللهم ربنا وبحمدك اللهم اغفر لي يتأول القرآن". وأما في القدر فعليه أن يستعين بالله في فعل ما أمر به، ويتوكل عليه

ويدعوه ويرغب إليه ويستعين به، ويكون مفتقرا إليه في طلب الخير وترك الشر وعليه أن يصبر على المقدور، ويعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه وما أخطأه لم يكن ليصيبه، وإذا آذاه الناس علم أن ذلك مقدر عليه، ومن هذا الباب احتجاج آدم وموسى لما قال موسى: "يا آدم، أنت أبو البشر خلقك الله بيده، ونفخ فيك من روحه، وأسجد لك ملائكته، لما أخرجتنا ونفسك من الجنة؟، فقال له آدم: أنت موسى الذي اصطفاك الله بكلامه، فبكم وجدت مكتوبا علي من قبل أن أخلق: {وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى} ، قال: بكذا وكذا، فحج آدم موسى"، وذلك أن موسى لم يكن عتبه على آدم لأجل الذنب فإن آدم كان قد تاب منه، والتائب من الذنب كمن لا ذنب له ولكن لأجل المصيبة التي لحقتهم من ذلك وهم مأمورون أن ينظروا إلى القدر في المصائب وأن يستغفروا من المعائب كما قال تعالى: {فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ} ، فمن راعى الأمر والقدر- كما ذكر- كان عابدا لله مطيعا له مستعينا به متوكلا عليه، مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا. ش: يعني والقول الجامع للبحث السابق في باب شرع الله وقدره، أنه يجب على العبد في كل منهما أصلان، ففي الأمر عليه الاجتهاد في تحصيل العلم بأوامر الله وامتثالها وهذا هو الأصل الأول، وعليه أن يستغفر الله من زلاته وتقصيره في واجباته وترك المحرمات فلا يتعدى حدود لله وهذا هو الأصل الثاني، ومن أجل أن على العبد أن يفعل المأمور ويترك المحذور ويستغفر عن خطيئته، شرع أن تختم الأعمال بالاستغفار كما في الحديث الذي رواه مسلم بسنده عن ثوبان رضي الله عنه قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا انصرف من صلاته استغفر ثلاثا وقال اللهم أنت السلام ومنك السلام تباركت يا ذا الجلال والإكرام"، قيل للأوزاعي وهو أحد رواة الحديث: "كيف الاستغفار؟، قال: يقول أستغفر الله"، وفي آية آل عمران بين الله جل وعلا أن المتقين كانوا إذا تهجدوا بالليل ختموا تهجدهم بالاستغفار. فقال

سبحانه: {الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأَسْحَارِ} ، وكان آخر سورة نزلت هي سورة النصر وفيها أمر الله نبيه بالتسبيح والاستغفار، وقد روى ابن جرير بسنده عن عائشة رضي الله عنها قالت: "كان رسول لله صلى الله عليه وسلم يكثر من قول سبحان الله وبحمده وأستغفر الله وأتوب إليه فقلت يا رسول الله أراك تكثر من قوة سبحان الله وبحمده وأستغفر الله وأتوب إليه، فقال: خبرني ربي أني سأرى علامة من أمتي فإذا رأيتها أكثرت من قول سبحان الله وبحمده وأستغفر الله وأتوب إليه فقد رأيتها"، {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} - فتح مكة- {وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً} فقد أمر الله نبيه بعد أن بلغ الرسالة وجاهد في الله حق جهاده وأتى بما أمر الله به مما لم يصل إليه أحد غيره أن يستغفر. وقوله: "وفي الصحيح" يعني وفي الحديث الصحيح فقد رواه البخاري ومسلم من حديث عائشة رضي الله عنها كما تقدم بيانه، والشاهد منه استغفاره صلى الله عليه وسلم وامتثاله ما أمر به في قوله سبحانه: {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً} . وعليه في باب القدر أن يستعين بالله في فعل المأمور واجتناب المحذور ويرغب إلى الله فيلجأ إليه ويسأله المدد والعون والتأييد، وأن ييسر له اليسرى ويجنبه العسرى وهذا هو الأصل الأول، وعليه أن يصبر على ما قضاه الله وقدره عليه من المصائب والآلام فلا يجزع أو يتسخط بل يعلم أن ذلك من عند الله فيرضى ويسلم، وأن يعلم أن الأمة لو اجتمعوا على أن ينفعوه بشيء أن ينفعوه إلا بشيء قد كتبه الله له ولو اجتمعوا على أن يضروه بشيء لم يضروه إلا بشيء قد كتبه الله عليه، وهذا هو الأصل الثاني. ومن قبيل الرضا بالمقدور ما جاء في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم في احتجاج آدم وموسى عليهما السلام لما قال له موسى: "أنت آدم أبو البشر خلقك الله بيده ونفخ فيك من روحه وعلمك أسماء كل شيء، لما أخرجتنا ونفسك من الجنة؟، فقال له آدم: أنت موسى الذي اصطفاك الله برسالته وبكلامه وخط لك التوراة بيده فبكم وجدت مكتوبا علي قبل أن أخلق {وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى}

قال بأربعين عاما (كما في رواية مسلم) قال فحج آدم موسى"، فآدم عليه السلام أنما حج موسى لأن موسى لامه على ما فعل لأجل ما حصل لهم من المصيبة بسبب أكله من الشجرة، لم يكن لومه لأحق حق الله في الذنب فإن آدم كان قد تاب من الذنب فتاب عليه. قال تعالى: {ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى} ، وقال تعالى: {ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى} ، وموسى ومن هو دون موسى يعلم أنه بعد التوبة والمغفرة لا يبقى ملام على الذنب، وآدم أعلم بالله من أن يحتج بالقدر على الذنب وموسى عليه السلام أعلم بالله تعالى من أن يقبل هذه الحجة فإن هذه لو كانت حجة على الذنب لكانت حجة لإبليس عدو آدم وحجة لفرعون عدو موسى وحجة لكل كافر وفاجر ولبطل أمر الله ونهيه، بل إنما كان القدر حجة لآدم على موسى لأنه لام غيره لأجل المصيبة التي حصلت له بفعله ذلك، وتلك المصيبة كانت مكتوبة وقد قال الله تعالى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ} . وحينئذ فالعباد مأمورون باتباع المأمور وترك المحذور والصبر على المقدور وعدم ملاحظة القدر المحض بدون اتباع الأمر والنهي خلافا لأولئك الصوفية الذين شهدوا القدر وتوحيد الربوبية وغابوا عن الفرق الإلهي الديني الشرعي الذي يفرق بين محبوب الحق ومكروهه. وبالمراعاة الصحيحة لقدر لله وشرعه يصير الإنسان عابدا حقيقة فيكون مع الذين أنعم الله عليهم من أنبياء وصديقين وشهداء وصالحين وكفى بهذه الصحبة غبطة وسعادة.

الأصلان اللذان لابد منهما في عبادة الله

الأصلان اللذان لابد منهما في عبادة الله ... قوله: وقد جمع الله سبحانه بين هذين الأصلين في غير موضع، كقوله في أم الكتاب: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} ، وقوله: {فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ} ، وقوله: {عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} ، وقوله: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً، وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ

بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً} . فالعبادة إنما هي لله والاستعاذة والاستعانة لا تكون إلا بالله ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول عند الأضحية: "اللهم منك ولك" فما لم يكن بالله لا يكون، فإنه لا حول ولا قوة إلا بالله، وما لم يكن لله لا ينفع ولا يدوم. ش: يقول الشيخ أن من الأصلين الواجبين في باب القدر: الاستعانة بالله وعبادته والإنابة إليه وقد جمعهما الله في مواضع عديدة من كتابه كما في آية الفاتحة وهود والشورى والطلاق، وحينئذ فالعبادة إنما هي لله والاستعاذة والاستعانة لا تكون إلا بالله ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول عند ذبح الأضحية: "اللهم منك ولك" كما في الحديث الذي رواه أبو داود والبيهقي وابن ماجه عن جابر رضي الله عنه ولفظه: "ضحى رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم عيد بكبشين، فقال حين وجههما: وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفا وما أنا من المشركين إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين اللهم منك ولك عن محمد وأمته". والله سبحانه هو المعطي والمنعم المتفضل كما أنه المانع، وحينئذ فما لم يكن بالله لا يكون فإنه لا تحول من حال إلى حال إلا بالله العلي العظيم، وأي مسعى أو عمل لا يكون لله فإنه غير نافع لصاحبه ومآله إلى الذهاب والزوال، فإن ما عند العباد فانٍ، وما عند الله باقٍ {وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَاباً وَخَيْرٌ أَمَلاً} . الأصلان اللذان لا بد منهما في عبادة الله قوله: ولابد في عبادته من أصلين أحدهما إخلاص الدين والثاني موافقة أمره الذي بعث به رسله، ولهذا كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول في دعائه: "اللهم اجعل عملي كله صالحا واجعله لوجهك خالصا ولا تجعل لأحد فيه شيئا"، قال الفضيل في قوله تعالى: " {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} قال أخلصه وأصوبه قالوا يا أبا علي، ما أخلصه وأصوبه؟، فقال: إذا كان العمل

خالصا ولم يكن صوابا لم يقبل وإذا كان صوابا ولم يكن خالصا لم يقبل"، والخالص: أن يكون لله والصواب أن يكون على السنة، ولهذا ذم الله المشركين في القرآن على اتباع ما شرع لهم شركاؤهم من الدين الذي لم يأذن به الله من عبادة غيره وعبادته بما لم يشرعه من الدين. كما قال تعالى: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّه} ، كما ذمهم على أنهم حرموا ما لم يحرمه الله. والدين الحق: أنه لا حرام إلا ما حرم الله ولا دين إلا ما شرعه. ش: يعني فإن دين الإسلام مبني على أصلين أحدهما أن يعبد الله وحده لا يشرك به شيء. والثاني: أن يعبد بما شرعه على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم وهذان هما حقيقة قولنا أشهد أن لا إله إلا لله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله فالإله هو الذي تألهه القلوب عبادة واستعانة ومحبة وتعظيما وخوفا ورجاء وإجلالا، والله عز وجل له حق لا يشركه فيه غيره فلا يعبد إلا الله ولا يدعى إلا الله ولا يخاف إلا الله ولا يطاع إلا الله، وكل من لم يعبد الله بعد مبعث محمد صلى الله عليه وسلم بما شرعه الله من واجب ومستحب فليس بمسلم، ولابد في جميع الواجبات والمستحبات أن تكون خالصة لله رب العالمين كما قال تعالى: {وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} ، وقال تعالى: {تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ، إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِص} ، فكل ما يفعله المسلم من القرب الواجبة والمستحبة كالإيمان بالله ورسوله والعبادات البدنية والمالية والإحسان إلى عباد الله هو مأمور بأن يفعله خالصا لله صوابا على السنة، والشاهد من كلام الخليفة الراشد هو أن العمل لا يكون مقبولا إلا إذا خلا من شوائب الشرك والبدع وكذلك الشاهد من تفسير الفضيل للآية الكريمة هو أن العبادة لها ركنان هما الإخلاص والمتابعة. ومن أجل ما ذكر نجد الله جل وعلا قد ذم المشركين

لصرفهم العبادة أو شيئا منها لغير لله أو عبادتهم إياه بغير ما شرعه في كتابه أو على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم كما في آية الشورى. كما ذمهم على أنهم حرموا ما لم يحرمه كما في قوله سبحانه: {وَقَالُوا هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لا يَطْعَمُهَا إِلَّا مَنْ نَشَاءُ بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعَامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُها وَأَنْعَامٌ لا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا افْتِرَاءً عَلَيْهِ سَيَجْزِيهِمْ بِمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} الآية. فالحرام ما حرمه الله والحلال هو ما أحله، كما أن الدين هو ما أنزل به كتبه وأرسل به رسله. وعمر بن الخطاب هو أبو حفص العدوي الفاروق وزير رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن أيد الله به الإسلام وفتح به الأمصار وهو الصادق الملهم الذي جاء عن المصطفى صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لو كان بعدي نبي لكان عمر"، وهو الذي فر منه الشيطان وأعلى به الإيمان، وأعلن الأذان. وقد استشهد رضي الله عنه في أواخر الحجة من سنة 32 وعاش نحوا من ستين سنة، والفضيل بن عياض هو الإمام القدوة أبو علي التميمي اليربوعي المروزي شيخ الحرم حدث عن منصور بن المعتمر وحصين بن عبد الرحمن وعطاء بن السائب وطبقتهم بالكوفة وروى عنه ابن المبارك ويحي القطان والقعنبي وخلق كثير وكان ربانيا قانتا ثقة، قال هارون الرشيد: ما رأيت في العلماء أهيب من مالك ولا أورع من الفضيل. توفي يوم عاشوراء سنة سبع وثمانين ومائة وقد نيف على الثمانين رحمة الله عليه.

الناس في عبادة الله، والاستعانة به أربعة أقسام

الناس في عبادة الله والاستعانة به أربعة أقسام قوله: ثم إن الناس في عبادته واستعانتهم به على أربعة أقسام: فالمؤمنون المتقون هم له وبه يعبدونه ويستعينونه وحده، وطائفة تعبده من غير استعانة ولا صبر فتجد عند أحدهم تحريا للطاعة والورع ولزوم السنة، ولكن ليس لهم توكل ولا استعانة ولا صبر بل فيهم عجز وجزع، وطائفة: فيهم استعانة وتوكل وصبر من غير استقامة على الأمر ولا متابعة للسنة، فقد

يمكن أحدهم ويكون له نوع من الحال باطنا وظاهرا، ويعطى من المكاشفات والتأثيرات ما لم يعطه الصنف الأول ولكن لا عاقبة له، فإنه ليس من المتقين والعاقبة للتقوى، فالأولون لهم دين ضعيف ولكنه مستمر باق إن لم يفسده صاحبه بالجزع والعجز، وهؤلاء لأحدهم حال وقوة، ولكن لا يبقى له إلا ما وافق فيه الأمر واتبع فيه السنة. وشر الأقسام من لا يعبده ولا يستعينه فهو لا يشهد أن عمله لله ولا أنه بالله. ش: لما بين المؤلف أنه لابد في باب القدر مع الصبر من عبادة الله والاستعانة به وأن الله قد قرن بينهما في مواضع عديدة من كتابه وأن العبادة لا تستقيم ولا تصح إلا بالإخلاص والمتابعة، ذكر بعد ذلك أن الناس في عبادة الله والاستعانة به أصناف أربعة أحدها - وهو المحمود - من جمع بين عبادة الله والاعتماد عليه فاستعان بالله واستقام على طاعته وهؤلاء هم الذين حققوا قوله تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} ، وقوله سبحانه: {فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ} فاستعانوا به على طاعته وشهدوا أنه إلههم الذي لا يجوز أن يعبد إلا إياه واعتقدوا أنه ربهم الذي ليس لهم من دونه ولي ولا شفيع وفهموا معنى قوله تعالى: {مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ} ، وقوله: {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ} ، وقوله: {قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ} ، والثاني: من عنده تعبد وورع وتحر لاتباع الشرع ولكن عنده إلى جانب ذلك ضعف وخور فلا صبر له وليس عنده استعانة بالله ولا توكل عليه وهؤلاء هم قوم ينظرون إلى جانب الأمر والنهي ويشاهدون إلهية الرب سبحانه الذي أمروا أن يعبدوه غير ناظرين إلى جانب القضاء والقدر والتوكل والاستعانة، فهم مع حسن قصدهم وتعظيمهم لحرمات الله ولشعائره يغلب عليهم الضعف والعجز والخذلان لأن الاستعانة بالله والتوكل عليه واللجوء إليه هي التي تقوي العبد وتيسر

عليه الأمور وقد فقدوها، وإنما التوكل المأمور به ما اجتمع فيه مقتضى التوحيد والعقل والشرع وقد جاء وصف النبي صلى الله عليه وسلم بأنه المتوكل كما فى الحديث الذي رواه البخاري ومسلم عن عبد الله بن عمرو: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صفته في التوراة: إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا وحرزا للآدميين أنت عبدي ورسولي سميتك المتوكل ليس بفظ ولا غليظ ولا صخاب بالأسواق ولا يجزي بالسيئة السيئة ولكن يجزي بالسيئة الحسنة ويعفو ويغفر ولن أقبضه حتى أقيم به الملة العوجاء فافتح به أعينا عميا وآذانا صما وقلوبا غلفا بأن يقولوا لا إله إلا الله"، ولهذا روي أن حملة العرش إنما أطاقوا حمله بقولهم لا حول ولا قوة إلا بالله. وفى صحيح البخاري عن ابن عباس رضي الله عنه في قوله: {وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} قالها إبراهيم الخليل حين ألقي في النار وقالها محمد صلى الله عليه وسلم حين {قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُم} "، وحينئذ فأهل العبادة والاستعانة بالله هم المؤمنون المتقون حقا، والثالث: من عنده استعانة بالله وتوكل عليه وعدم جزع، ولكن ليس عنده استقامة على طاعة الله بل هو معرض عن أوامره ومرتكب لنواهيه مشاهد لربوبية الحق غير ناظر إلى حقيقة أمره ونهيه ورضاه وغضبه، وهذا حال كثير من المتصوفة، وقوله: "فقد يمكن أحدهم ويكون له نوع من الحال باطنا وظاهرا ويعطى من المكاشفات والتأثيرات ما لم يعطه الصنف الأول ولكن لا عاقبة له فإنه ليس من المتقين والعاقبة للتقوى" معناه أن هذا الصنف من الناس قد يحصل له ما لا يحصل للصنف الثاني، من العلم بالكونيات والقدرة على التأثير فيها بالحال والقلب كالأحوال الفاسدة من العين والسحر، وكالاطلاع على سيئات العباد وركوب السباع والاجتماع بالجن والمشي على الماء وأمثال ذلك، وكثير من هؤلاء يبنون أحوالهم على منامات وأذواق وخيالات يحتقدونها كشفا؟ وهي خيالات غير مطابقة وأوهام غير صادقة: {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً} ، وهؤلاء كثيرا ما يسلبون أحوالهم، وقد يعودون بأنواع من المعاصي

والفسوق، بل كثير منهم يرتد عن الإسلام لأن العاقبة للتقوى ومن لم يقف عند أمر الله ونهيه فليس من المتقين فهم يقعون في بعض ما وقع المشركون فيه، تارة في بدعة يظنونها شرعة، وتارة في الاحتجاج بالقدر على الأمر، والله تعالى لما ذكر ما ذم به المشركين في سورة الأنعام ذكر ما ابتدعوه من الدين وجعلوه شرعة كما قال تعالى: {سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ} ، واعلم أن الكشف والتأثير منه ما هو محمود نافع ومنه ما هو مذموم ضار، كما أنهما قد يقعان للمؤمن الطائع وقد يقعان للمنافق والفاجر، فالأول هو علم الدين والعمل به والأمر به، بأن يؤتى الإنسان من علم الدين والعمل به ما يستعمل به الكشف والتأثير الكوني بحيث تقع الخوارق الكونية تابعة للأوامر الدينية، أو أن تخرق له العادة في الأمور الدينية بحيث ينال من العلوم الدينية ومن العمل بها ومن الأمر بها ومن طاعة الخلق فيها ما لم ينله غيره في مطرد العادة، فهذا أعظم الكرامات والمعجزات وهو حال نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وأبي بكر الصديق وعمر بن الخطاب وأمثالهم من المؤمنين المتقين. والثاني: كمخاطبة الشياطين، للمستغيث بغير الله من غائب وميت وقضائهم حوائجهم ودفعهم عنهم بعض ما يضرهم فيظن أحدهم أن الولي أو الميت هو الذي فعل ذلك فيقول أحدهم هذا سر المستغاث به وحاله وإنما هو الشيطان تمثل به ليضل المشرك المستغيث به فقد تدخل الشياطين في الأصنام وتكلم عابديها وتقضي بعض حوائجهم كما كان ذلك في أصنام مشركي العرب. قال الشيخ رحمه الله: ومن هؤلاء من يأتي إلى قبر الشيخ الذي يشرك به ويستغيث به فينزل عليه من الهواء طعام أو نفقة أو سلاح أو غير ذلك مما يطلبه فيظن ذلك كرامة شيخه وإنما ذلك كله من الشياطين، وهذا من أعظم الأسباب التي عبدت بها الأوثان، وقوله: "فالأولون لهم دين ضعيف ولكنه مستمر باق إن لم يفسده صاحبه بالجزع والعجز وهؤلاء لأحدهم حال وقوة ولكن لا يبقى له إلا ما وافق فيه الأمر واتبع فيه السنة"

يعني أن الصنف الثاني وهو من عنده عبادة وليس له صبر ولا استعانة، له دين ضعيف ومع ضعفه فهو باق مستمر إن لم يغلب على صاحبه الكسل والخمول، وأما هذا الصنف فعنده عمل وصبر ولكن لا يبقى معه من أعماله إلا ما كان على مقتضى شرع الله الذي أنزله في كتابه وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، قال صلى الله عليه وسلم: "من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد". والرابع: وهو شر الأصناف من يعرض عن عبادة لله والاستعانة به فلا يلاحظ أنه خلق لعبادة لله ولا يدرك أنه لا حول ولا قوة إلا بالله، في حين أن العبادة هي الغاية التي خلق الجن والإنس من أجلها فالعبد لا يكون مطيعا لله ورسوله فضلا أن يكون من خواص أوليائه المتقين إلا بفعل ما أمر به وترك ما نهى عنه، وفى حين أن العبد عاجز عن الاستقلال في جلب مصالحه ودفع مضاره ولا معين له على مصالح دينه ودنياه إلا الله عز وجل فمن أعانه الله فهو المعان ومن خذله فهو المخذول، وهذا تحقيق معنى لا حول ولا قوة إلا بالله فالعبد محتاج إلى الاستعانة بالله في فعل المأمورات وترك المحذورات والصبر على المقدورات كلها، فالصبر واجب على المؤمن حتما وفي الصبر خير كثير، فإن الله أمر به ووعد عليه جزيل الأجر قال عز وجل: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} ، وقال: {وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ، الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ، أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} . قوله: فالمعتزلة ونحوهم من القدرية، الذين أنكروا القدر هم في تعظيم الأمر والنهي والوعد والوعيد، خير من هؤلاء الجبرية القدرية، الذين يعرضون عن الشرع والأمر والنهي، والصوفية هم في القدر ومشاهدة توحيد الربوبية خير من المعتزلة ولكن فيهم من فيه نوع بدع مع إعراض عن بعض الأمر والنهي والوعد والوعيد حتى يجعلوا الغاية هي مشاهدة توحيد الربوبية والفناء في ذلك ويصيرون أيضا معتزلة لجماعة المسلمين

ش: يقول الشيخ إذا عرف كل ما تقدم من التفصيل في بحث القدر فليعلم أن القدرية المعتزلة - وهم نفاة القدر - هم من جهة تعظيم أوامر الله ونهيه واحترام وعد الله ووعيده أفضل من القدرية المجبرة وهم الذين يغلون في إثبات القدر حتى يسلبوا العبد قدرته واختياره كما سبق بيان ذلك. فإن المجبرة بسلبهم قدرة العبد واختياره لم يعظموا شرع الله ووعده ووعيده بل أعرضوا عن ذلك، وهؤلاء الصوفية المجبرة هم من جهة ملاحظتهم القضاء والقدر وعموم المشيئة أفضل من أولئك المعتزلة حيث قالوا إن العبد يخلق أفعال نفسه، على أن في الصوفية المجبرة من هو متلبس بشيء من البدع وفيه إعراض عن بعض أوامر الله ونهيه وعدم اكتراث بوعيده حتى يصل بهم الحال إلى أن يجعلوا مشاهدة الربوبية العامة والاستغراق في ملاحظتها هو الغاية المطلوبة من توحيد الله، وبهذا يكونون بمنأى عن جماعة المسلمين، وفي حيز عن شرع الله، وينطبق عليهم بهذا الاعتبار وصف المعتزلة على أن بدعتهم قد تكون أشنع وأخبث من بدعة القدرية المعتزلة. وكل من نفاة القدر والمحتجين به كان منشؤهم ومنطلق بدعتهم هو البصرة بالعراق.

دين الله هو ما بعث به رسله

دين الله هو ما بعث به رسله ... قوله: إنما دين الله ما بعث به رسله، وأنزل به كتبه، وهو الصراط المستقيم، وهو طريق أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم خير القرون وأفضل الأمة، وأكرم الخلق على الله تعالى بعد النبيين، قال تعالى: {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} فرضي عن السابقين الأولين رضا مطلقا ورضي عن التابعين لهم بإحسان، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في الأحاديث الصحيحة خير القرون القرن

الذين بعث فيهم، ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم، وكان عبد الله بن مسعود رضي الله عنه يقول: "من كان منكم مستنا فليستن بمن قد مات، فإن الحي لا تؤمن عليه الفتنة أولئك أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، أبر هذه الأمة قلوبا، وأعمقها علما وأقلها تكلفا، قوم اختارهم الله لصحبة نبيه صلى الله عليه وسلم، وإقامة دينه، فاعرفوا لهم حقهم، وتمسكوا بهديهم، فإنهم كانوا على الهدى المستقيم"، وقال حذيفة بن اليمان رضي الله عنهما: "يا معشر القراء، استقيموا وخذوا طريق من كان قبلكم، فوالله لئن اتبعتموهم لقد سبقتم سبقا بعيدا، ولئن أخذتم يمينا وشمالا لقد ضللتم. ضلالا بعيدا"، وقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: "خط لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم خطا وخط لنا خطوطا عن يمينه وعن شماله ثم قال: "هذا سبيل الله وهذه سبل على كل سبيل منها شيطان يدعو إليه" ثم قرأ {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} ، وقد أمرنا سبحانه أن نقول في صلاتنا: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ، صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "اليهود مغضوب عليهم والنصارى ضالون" وذلك أن اليهود عرفوا الحق ولم يتبعوه والنصارى عبدوا الله بغير علم ولهذا كان يقال: "تعوذوا بالله من فتنة العالم الفاجر والعابد الجاهل، فإن فتنتهما فتنة لكل مفتون"، وقال تعالى: {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى} ، قال ابن عباس رضي الله عنهما: "تكفل الله لمن قرأ القرآن وعمل بما فيه أن لا يضل في الدنيا ولا يشقى في الآخرة وقرأ هذه الآية"، وكذلك قوله تعالى: {ألم ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ، الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ، وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ، أُولَئِكَ عَلَى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} فأخبر أن هؤلاء مهتدون مفلحون وذلك خلاف المغضوب عليهم والضالين. فنسأل الله أن يهدينا وسائر إخواننا صراطه المستقيم صراط الذين أنعم

الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وحسن أولئك رفيقا وحسبنا الله ونعم الوكيل والحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا. ش: يعني أن ما عليه المبتدعة والملاحدة من جبرية وقدرية وجهمية ومعتزلة وغيرهم ممن زاغ عن سبيل المؤمنين ليسوا على هدى ولا شرع من الله، وإنما دين الله هو ما شرعه في كتابه العزيز، "الذي فيه نبأ ما قبلنا وخبر ما بعدنا وحكم ما بيننا الذي هو الفصل ليس بالهزل من تركه من جبار قصمه الله، ومن ابتغى الهدى من غيره أضله الله هو حبل الله المتين وهو الذكر الحكيم وهو الصراط المستقيم هو الذي لا تزيغ به الأهواء ولا تلتبس به اللسنة ولا تشبع منه العلماء ولا يخلق عن كثرة الرد ولاتنقضي عجائبه وهو الذي لم تنته الجن إذ سمعته حتى قالوا: {إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآناً عَجَباً، يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ} من قال به صدق ومن حكم به عدل ومن عمل به أجر ومن دعا إليه هدي إلى صراط مستقيم"، كما قال ذلك الخليفة الراشد علي بن أبي طالب رضي الله عنه فيما رواه أبو عيسى الترمذي رحمه الله، وكذلك دين الله هو ما سنه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد شرع الشرائع وسن السنن بإذن ربه ووحيه، لا من تلقاء نفسه كما شهد لله له بذلك في قوله عز وجل {مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى} ، وعلى هذا النهج المستقيم درج الصحابة رضي الله عنهم أجمعين يستضيؤون بمشكاة القرآن فيهديهم أقوم الطريق ويتحاكمون إليه وإلى سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولقد مدحهم سبحانه وأثنى عليهم حيث قبلوا عن رسول الله ما بلغه إليهم وهم المهاجرون والأنصار الذين ضرب بهم المثل في التوراة والإنجيل والقرآن فقال: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} الآية، وقال: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ} الآية، فهم حجة الله على خلقه بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم يؤدون عن رسوله ما أدى إليهم لأنه بذلك أمرهم فقال: "ليبلغ الشاهد منكم الغائب"،

ولقد مدحهم رسول الله صلى الله عليه وسلم كما في الحديث الذي رواه مسلم عن عمران بن حصين رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "خير أمتي قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم - قال عمران: فلا أدري أذكر بعد قرنه مرتين أو ثلاثا - ثم إن بعدكم قوم يشهدون ولا يستشهدون ويخونون ولا يؤتمنون وينذرون ولا يوفون ويظهر فيهم السمن"، وروى مسلم أيضا بسنده عن ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "خير الناس قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ثم يجيء قوم تسبق شهادة أحدهم يمينه ويمينه شهادته"، ومعنى الخيرية في الأحاديث راجعة لفضيلة أهل ذلك القرن في العلم والإيمان والأعمال الصالحة التي يتنافس فيها المتنافسون ويتفاضل فيها العاملون، فقد غلب الخير وكثر أهله واعتز فيها السلام والإيمان وكثر فيها العلم والعلماء ثم الذين يلونهم فضلوا على من بعدهم لظهور الإسلام فيهم وكثرة الداعي إليه والراغب فيه والقائم به وما ظهر فيه من البدع أنكر واستعظم وأزيل كبدعة الخوارج والقدرية والرافضة، فهذه البدع وإن كانت قد ظهرت فأهلها في غاية الذل والمقت والهوان ويكثر القتل فيمن عاند منهم ولم يتب. والمشهور في الروايات أن القرون المفضلة ثلاثة الثالث دون الأولين في الفضل لكثرة البدع فيه، لكن العلماء متوافرون والإسلام فيه ظاهر والجهاد فيه قائم، وإذاً فالشاهد من آية براءة وحديث عمران بن حصين هو مدح أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم والثناء عليهم، لاستقامتهم على أمر الله وتمسكهم بهدي رسول الله. وقوله: "فرضي الله عن السابقين رضا مطلقا ورضي عن التابعين لهم بإحسان" معناه أن الله أوجب لجميع أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم الجنة والرضوان وشرط على التابعين شرطا لم يشرطه فيهم وهو اتباعهم إياهم بإحسان، فالصحابة حصل لهم بصحبتهم للرسول صلى الله عليه وسلم إيمان ويقين لم يشركهم فيه من بعدهم، ومعنى الذين اتبعوهم بإحسان الذين اتبعوا السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار وهم المتأخرون عنهم من الصحابة فمن بعدهم إلى يوم القيامة وليس المراد بهم التابعين اصطلاحا، وهم كل من أدرك الصحابة ولم يدرك النبي صلى الله عليه وسلم، بل

هم من جملة من يدخل تحت الآية فتكون (مِن) في قوله (من المهاجرين) على هذا للتبعيض وقيل أنها للبيان فيتناول المدح جميع الصحابة ويكون المراد بالتابعين من بعدهم من الأمة، والمهاجرون جمع مهاجر، وأصل المهاجرة عند العرب: أن ينتقل الإنسان من البادية إلى المدن والقرى، والمراد به في الشريعة: من فارق أهله ووطنه وجاء إلى بلد الإسلام وقصد النبي صلى الله عليه وسلم رغبة فيه وإيثارا، ثم هي عموما الانتقال من بلد الشرك إلى بلد الإسلام وأثر ابن مسعود في وصف الصحابة رضي الله عنهم أجمعين رواه رزين بن معاوية العبدري، ومثله ما جاء عن عبد العزيز بن عبد الله بن أبي سلمه أنه قال: "عليك بلزوم السنة فإنها لك بإذن الله عصمة فإن السنة إنما جعلت ليستن بها ويقتصر عليها، وإنما سنها من قد علم ما في خلافها من الزلل والخطأ والحمق والتعمق فارض لنفسك بما رضوا به لأنفسهم فأنهم عن علم وقفوا وببصر نافذ كفوا ولهم كانوا على كشفها أقوى وبالفضل لو كان فيها أحرى، وإنهم لهم السابقون وقد بلغهم عن نبيهم ما يجري من الاختلاف بعد القرون الثلاثة، فلئن كان الهدى ما أنتم عليه لقد سبقتموهم إليه، ولئن قلتم حدثَ حدثٌ بعدهم فما أحدثه إلا من ابتغى غير سبيلهم ورغب بنفسه عنهم واختار ما نحته فكره على ما تلقوه عن نبيهم صلى الله عليه وسلم وتلقاه عنه من تبعهم بإحسان ولقد وصفوه منه ما يكفي وتكلموا منه بما يشفي فمن دونهم مقصر ومن فوقهم مفرط، لقد قصر دونهم أناس فجفوا وطمح آخرون فغلوا، وإنهم فيما بين ذلك لعلى هدى مستقيم"، وأثر حذيفة رواه البخاري، ومعشر القراء المراد بهم علماء القرآن والسنة، وقوله: "فقد سبقتم" قيل الرواية الصحيحة بفتح السين والباء، والمشهور ضم السين وكسر الباء، والمعنى على الأول اسلكوا طريق الاستقامة لأنكم أدركتم أوائل الإسلام فاستمسكوا بالكتاب والسنة لتسبقوا إلى خير، إذ من جاء بعدكم وإن عمل بعملكم لا يصل إلى سبقكم إلى الإسلام، وعلى الثانية سبقكم المتصفون بتلك الاستقامة إلى الله فكيف ترضون لنفوسكم هذا التخلف المؤدي إلى

انحراف عن سنن الاستقامة يمينا وشمالا الموجب للهلاك الأبدي، وحذيفة هو ابن اليمان صاحب سر رسول الله صلى الله عليه وسلم، شهد أحدا وروى عنه جماعة من الصحابة والتابعين مات بالمدائن سنة 36هـ. وقول عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: "خط لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم خطا الخ" رواه الإمام أحمد في المسند، قال محمد بن نصر المروزي في كتابه السنة قال الله عزوجل: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ} فأخبر الله أن طريقه واحد مستقيم وأن السبل كثيرة تصد من اتبعها عن طريقه المستقيم ثم بين لنا النبي صلى الله عليه وسلم ذلك بسنته. وروى بسنده عن أبي وائل عن عبد الله قال: "خط لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم خطا ثم قال: هذا سبيل الله ثم خط خطوطا عن يمينه وشماله وقال هذه سبل على كل سبيل منها شيطان يدعو إليه وقرأ {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ} الآية"،فحذرنا الله ثم رسوله المحدثات والأهواء الصادة عن اتباع أمر الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، ثم أخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم أن الله لا يدع عبده المؤمن مع ما بين له في كتابه وسنة نبيه حتى يعضه وينبهه بما يخطر بقلبه ليعتصم بذلك من دعاء الشياطين إلى الصد عن سبيله وعن طريق مرضاته، وروى بسنده عن النواس بن سمعان رضي لله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ضرب الله مثلا صراطا مستقيما وعلى جنبتي الصراط سور فيه أبواب مفتحة وعلى الأبواب ستور مرخاة وعلى باب الصراط داع يقول أيها الناس ادخلوا الصراط جميعا ولا تتعوجوا وداع يدعو من فوق الصراط فإذا أراد فتح شيء من تلك الأبواب قال ويحك لا تفتحه فإنك إن تفتحه تلجه" فالصراط: الإسلام والستور: حدود الله والأبواب المفتحة محارم الله وذلك الداعي على رأس الصراط كتاب الله والداعي من فوقه واعظ في قلب كل مسلم. وروى بسنده عن مجاهد في قول الله تعالى: {وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُل} قال البدع والشبهات، وروى أبو بكر محمد بن الحسين الآجري في كتابه الشريعة بسنده عن عبد الرحمن بن عمرو السلمي وحجر الكلاعي قالا دخلنا على العرباض بن

سارية رضي الله عنه وهو مريض فقلنا له: إنا جئناك زائرين وعامدين ومقتبسين، فقال عرباض رضي لله عنه: "إن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى صلاة الغداة ثم أقبل علينا بوجهه فوعظنا موعظة بليغة ذرفت منها العيون ووجلت منها القلوب فقال قائل يا رسول لله إن هذه لموعظة مودع فما تعهد إلينا، قال: أوصيكم بتقوى الله عز وجل والطاعة والسمع وإن عبدا حبشيا فإنه من يعش منكم بعدي سيرى اختلافا كثيرا فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين عضوا عليها بالنواجذ وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة" كما رواه أبو داود والترمذي والنسائي وحينئذ فالشاهد من حديث ابن مسعود الحث على لزوم السنة والتحذير من سلوك سبيل البدعة وأن الخير كله في الاتباع والشر كله في الابتداع، ولقد أمرنا الله جل وعلا أن نسأله أن يهدينا الصراط المستقيم صراط الذين أنعم عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين غير المغضوب عليهم ولا الضالين، فإنه إذ هدانا هذا الصراط أعاننا على طاعته وترك معصيته فلم يصبنا شر لا في الدنيا ولا في الآخرة، والذنوب من لوازم النفس وكل أحد محتاج إلى الهدى كل لحظة، وهو إلى الهدى أحوج منه إلى الأكل والشرب، ولهذا أمر به في كل صلاة لفرط الحاجة إليه، قال الشيخ: "وإنما يعرف بعض قدره من اعتبر أحوال نفسه ونفوس الإنس والجن المأمورين بهذا الدعاء ورأى ما فيها من الجهل والظلم اللذين يقتضيان أن يدعو الإنسان بما حصل به شفاءها في الدنيا والآخرة فيعلم أن الله تعالى بفضله ورحمته جعل هذا الدعاء من أعظم الأسباب المقتضية للخير المانعة من الشر"، وقوله صلى الله عليه وسلم: "اليهود مغضوب عليهم" هذا الحديث رواه الترمذي، ولفظه عن عدي بن حاتم قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو جالس في المسجد فقال: القوم هذا عدي بن حاتم، وجئت بغير أمان ولا كتاب فلما دفعت إليه أخذ بيدي، وقد قال قبل ذلك إني لأرجو أن يجعل الله يده في يدي، قال: فقام بي فلقيته امرأة وصبي معها فقالا: إن لنا إليك حاجة فقام معهما حتى قضى حاجتهما ثم أخذ بيدي حتى أتى بي داره فألقت له الوليدة وسادة فجلس

عليها وجلست بين يديه فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: ما يضيرك أيضيرك أن تقول لا إله إلا الله فهل تعلم من إله سوى الله؟، قال: قلت: لا. ثم تكلم ساعة ثم قال: ما يضيرك أن تقول الله أكبر، أو تعلم شيئا أكبر من الله؟، قال: قلت لا، قال: فإن اليهود مغضوب عليهم والنصارى ضلال، قال فقلت: فإني حنيف مسلم، قال: فرأيت وجهه ينبسط فرحا"، وكون اليهود مغضوب عليهم هو من جهة عدم العمل فهم يعلمون الحق ولا يتبعونه قولا أو عملا وكون النصارى ضالين هو من جهة عملهم بلا علم فهم يجتهدون في أصناف من العبادات بلا شريعة من الله ويقولون على الله ما يعلمون. وهذا معنى قول الشيخ "وذلك أن اليهود عرفوا الحق ولم يتبعوه والنصارى عبدوا الله بغير علم" ومن أجل وصف اليهود والنصارى بما ذكر كان السلف رحمهم الله يقولون "احذروا فتنة العالم الفاجر والعابد الجاهل فإن فتنتهما فتنة لكل مفتون "، وذلك أن الأول يشبه المغضوب عليهم الذين يعلمون الحق ولا يتبعونه، والثاني: يشبه الضالين الذين يعلمون بغير علم، قال سفيان بن عينية: "من فسد من علمائنا ففيه شبه من اليهود ومن فسد من عبادنا ففيه شبه من النصارى"، ومع أن الله قد حذرنا سبيل اليهود والنصارى فلابد من وقوع ما قدره الله وقضاه مما أخبر به رسوله صلى الله عليه وسلم فيما أخرجاه في الصحيحين عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه، قالوا: يا رسول الله اليهود والنصارى؟، قال: فمن"، وفيما رواه البخاري في صحيحه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تقوم الساعة حتى تأخذ أمتي مأخذ القرون قبلها شبرا بشبر وذراعا بذراع، فقيل: يا رسول الله كفارس والروم؟، قال: ومن الناس إلا أولئك". قال الشيخ رحمه الله: فأخبر صلى الله عليه وسلم أنه سيكون في أمته مضاهاة لليهود والنصارى وهم أهل الكتاب ومضاهاة لفارس والروم وهم الأعاجم، وقد كان صلى الله عليه وسلم ينهى عن التشبه بهؤلاء وليس هذا إخبارا عن جميع الأمة بل قد تواتر عنه أنه قال: "لا تزال طائفة من أمتي ظاهرة على الحق حتى تقوم الساعة"، وأخبر صلى الله عليه وسلم: "أن الله لا

يجمع هذه الأمة على ضلالة وأن الله لا يزال يغرس في هذا الدين غرسا يستعملهم فيه بطاعته"، وإذاً فالفرقة والاختلاف لابد من وقوعهما في الأمة ولكن كان صلى الله عليه وسلم يحذر أمته من ذلك لينجو من الوقوع فيه من شاء الله له السلامة، وهذا كله خرج منه مخرج الخبر عن وقوع ذلك والذم لمن يفعله كما كان يخبر عما يفعله الناس بين يدي الساعة من الأشراط والأمور المحرمات فعلم أن مشابهة هذه الأمة لليهود والنصارى وفارس والروم مما ذمه الله ورسوله. قال الشيخ: "ولا يقال فإذا كان الكتاب والسنة قد دلا على وقوع ذلك فما فائدة النهي عنه، لأن الكتاب والسنة أيضا قد دلا على أنه لا يزال في هذه الأمة طائفة متمسكة بالحق الذي بعث الله به محمدا صلى الله عليه وسلم إلى قيام الساعة وأنها لا تجتمع على ضلالة، ففي النهي عن ذلك تكثير لهذه الطائفة المنصورة وتثبيتها وزيادة إيمانها، والشاهد من آيتي طه والبقرة هو الحث على الاعتصام بحبل الله ولزوم الصراط المستقيم إذ في ذلك سعادة الدنيا والآخرة فلا ضلال في الدنيا ولا شقاء في الآخرة، بل إيمان ويقين ولذة واطمئنان وفوز وفلاح، وهذا بخلاف ما يحصل لليهود والنصارى ومن على شاكلتهم في الزيغ والإلحاد والكفر والعناد، مما وصفه الله عز وجل بقوله: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى، قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً، قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى، وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآياتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى} ، وقوله: {وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ، وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} ، وأثر ابن عباس رواه بن أبي حاتم والبيهقي في الشعب ولفظه عن ابن عباس قال: "أجار الله تابع القرآن من أن يضل في الدنيا أو يشقى في الآخرة، ثم قرأ {فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى} ، قال: لا يضل في الدنيا ولا يشقى في الآخرة"، وأخرج بن أبي شيبة والطبراني عن ابن عباس

قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من اتبع كتاب الله هداه الله من الضلالة في الدنيا ووقاه سوء الحساب يوم القيامة وذلك أن الله يقول: {فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى} ".

اشارة الشارح إلى أن الرسالة التدمرية لم تشرح قبله

اشارة الشارح إلى أن الرسالة التدمرية لم تشرح قبله ... نسأل الله تعالى أن يرزقنا وإخواننا في النسب والدين صحبة المنعم عليهم من الأنبياء والصديقين والشهداء والصالحين، فإن هؤلاء قد هدوا صراطا مستقيما وحسن أولئك رفيقا، وهم الموعودون في مثل قوله سبحانه {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً، أُولَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِيَاباً خُضْراً مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الأَرَائِكِ نِعْمَ الثَّوَابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقاً} ، وقوله عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ، وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ} ، وبالله ثقتنا وعليه اعتمادنا ومن يتوكل على الله فهو حسبه، وبعد: فإلى هنا ينتهي شرحي للتدمرية وهو جهد المقل، فأنا لا أدعي أنه هو كل ما تستحقه هذه الرسالة العظيمة، غير أنني أومن بأن ما لا يدرك كله لا يترك كله، ولكن قال الأوائل: "المؤلف مثل المكلف لا يخلو من المؤاخذة ولا يرفع عنه القلم"، وقالوا: "من ألف فقد استهدف، وأصم أذنا وإن كان لغيرها قد شنف"، لئن قالوا هذه المقالة وأمثالها فإنهم أيضا بلسان المقال أو بلسان الحال يقولون: "من تخوف ما ألف، ومن طلب الكمال فإنما طلب المحال"، على أنني أرجو أن يكون شرحي هذا فاتحة خير لشروح أخرى يتعرض أصحابها لجونب قد أكون قصرت فيها، ويكفيني ممن يأتي بعدي أن يعترف ويدعو بمثل ما اعترف ودعا به ابن مالك لسلفه ابن معطي حيث يقول: وهو بسبق حائز تفضيلا ... مستوجب ثنائي الجميلا والله يقضي بهبات وافرة ... لي وله في درجات الآخرة

هذا والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله الطاهرين صلاة وسلاما دائمين متعاقبين ما دامت الأرض والسموات.

مراجع الكتاب

مراجع الكتاب - مجموع الفتاوى. - مجموع الرسائل. - منهاج السنة. - موافقة صريح المعقول لصحيح المنقول. - الرد على المنطقيين. - شرح حديث النزول. - التوسل والوسيلة. - جواب أهل العلم والإيمان. - اقتضاء الصراط المستقيم: لشيخ الإسلام أحمد بن تيمية1. - مناقب ابن تيمية لابن عبد الهادي. - شرح الطحاوية: لعلي بن علي بن محمد بن أبي العز الأذرعي الدمشقي. - مدارج السالكين. - مختصر الصواعق. - اجتماع الجيوش الإسلامية: للعلامة ابن قيم الجوزية. - الملل والنحل: للشهرستاني. - الفرق بين الفرق: لعبد القاهر البغدادي. - مقالات الإسلاميين: لأبي الحسن الأشعري. - نقض عثمان بن سعيد الدارمي على بشر المريسي.

- الرد على الجهمية له أيضا. - تذكرة الحفاظ: للذهبي. - وفيات الأعيان: لابن خلكان. - مقدمة ابن خلدون. - الإتقان في علوم القرآن: لجلال الدين السيوطي. - فتح القدير: للشيخ محمد بن علي الشوكاني. - فتح المجيد: للشيخ عبد الرحمن بن حسن. - معارج القبول للشيخ حافظ بن احمد الحكمي. - الروضة الندية شرح العقيدة الواسطية: للشيخ زيد بن فياض. - التنبيهات السنية على العقيدة الواسطية: للشيخ عبد العزيز بن رشيد. - فتح رب البرية ملخص الفتوى الحموية: للشيخ محمد بن عثيمين.

§1/1