التحصيل من المحصول
السِّرَاج الأُرْمَوي
هَذَا الْكتاب قدم لنيل دَرَجَة الدكتوراة ونوقش مسَاء الِاثْنَيْنِ الْمُوَافق للتاسع من شهر شَوَّال سنة 1398 هـ ونال مقدمه مرتبَة الشّرف الأولى مَعَ التوصية بالطبع والتداول بَين الجامعات.
جَمِيع الْحُقُوق مَحْفُوظَة الطبعة الأولى 1408 هـ - 1988 م مؤسَّسَة الرسَالة للطباعةِ والنشر والتوزيع مؤسَّسَة الرسَالة بَيرْوت - شَارع سُوريَا - بنَاية صَمَدي وَصَالحَة هَاتف: 319039 - 241692 - صَ. بَ: 7460 برقيًّا، بيوشران
مقدمة المحقق
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الحمد لله رب العالمين الذي هدانا لطريق الحق وجعلنا مسلمين. ووفقنا لتحقيق التحصيل من المحصول، وأعاننا في البدء ويسّر لنا الختام. وكان عوناً لنا على مرِّ الليالي والأيام. وأمدّنا بالصبر والمثابرة، كلما غزا القلب والعينين الملل والسهاد. فله الحمد والشكر اللذان يليقان بكماله وجلاله سبحانه. وصلواته وسلامه على من أدّى الأمانة وبلَّغ الرسالة، وتركنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها إلَّا هالك، وعلى الآل والصحب الطيبين الطاهرين، وعلى من اتبعهم بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد: فإن الله جلَّ شأنه لم يخلقنا عبثاً بل خلقنا لأمر عظيم. قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} (¬1). ولم يتركنا جلَّ شأنه هملاً بل بعث إلينا الرسل، وأيدهم بالمعجزات فمن أطاعهم واتبع سبيلهم دخل جنةً عرضها السموات والأرض أعدت للمتقين. ومن عصى وتولى أعدَّ له ناراً وقودها الناس والحجارة. قال تعالى: {رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} (¬2). وقال تعالى: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} (¬3). وأوحى لرسله شرائع تصلح حال الناس في المعاش والمعاد. وكان آخر هذه الشرائع شريعة خاتم الأنبياء والمرسلين محمدٍ -صلى الله عليه وسلم- التي امتازت عن ¬
سائر الشرائع بالعموم والشمول. قال -صلى الله عليه وسلم-: "أعطيت خمساً لم يعطهن نبي قبلي". ومنها (كان كل نبي يبعث في قومه خاصة "وبعثت إلى الأحمر والأسود" (¬1). واحتفظ جلَّ شأنه بحق التشريع لنفسه، وأمر عباده بالاحتكام إلى ما نزَّل قال تعالى: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} (¬2). وقال تعالى: {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ} (¬3) وقال تعالى: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} (¬4) وقال تعالي: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} (¬5) وقال تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} (¬6) وما ذلك إلَّا لعلم اللُه سبحانه وتعالى بالإنسان، وما أودع فيه من غرائز، كحب النفس وحب المال والبنين وإيثار الحياة الدنيا، وما ركب فيه من شهواتٍ، كشهوة البطن والفرج وحب الظهور وحب الاستطلاع، فيعلم ما يكنه صدره وما توسوس به نفسه. زد على ذلك أن العلم الذي منحه إياه علم محدود، والعقل الذي وهبه إياه له مجال لا يتخطاه، فتحقيق هذه الغرائز والرغبات والمصالح المختلفة معوقات عن كون الإنسان أهلاً للتشريع. وما عليه البشرية اليوم من الحيرة وعدم استقرار النفوس وكدر العيش والقلق المستمر، والعداوة والبغضاء والتقاطع بين الأرحام والتهارش على هذه الدنيا، إنما سببه الاحتكام إلى شريعة وضعها البشر لا يكاد يستقر لها قرار، ولا يثبت لها حال، فكل يوم مرسوم يعدل ما مضى ونظام ينسخ ما سلف وسرعان ما ينقض الجديد بالأجد. ولعلَّ هذا التبديل والتغيير يكون لمصلحة أفرادٍ معدودين، حتى إذا حصلت لهم المصلحة استبدل بنظام آخر وهلم جراً. قال تعالى: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} (¬7). ¬
ولا خروج للبشرية مما هي فيه إلَّا بالرجوع لدين الله الذي لا يقبل سواه قال تعالى: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (¬1). ولن يُصلح شأن هذه الأمة إلا ما صلح به أولها. وهي ليست في حاجة لاستيراد التعاليم، بل مأمورة بالتصدير إلى البشرية جمعاء. وكل ما يجري في أرجاء المعمورة الآن هو برهان قاطع ودليل ساطع على أن المستقبل لهذا الدين. وما يقذف به الإسلام وأنظمته من عدم صلاحيته للحكم لتغير الحياة واختلاف الزمان، سواء أكان هذا الهراء من أعداء الدين الظاهرين، أم ممن تسموا بأحمد ومحمد وعاشوا بين أظهرنا، فهو إما نابع عن حقدٍ خبيث أو جهل بالإسلام. فالإسلام قد سيَّر دفةَ الحكم ونظم الحياة للخلافة الإسلامية، لما كان امتدادها من الصينِ شرقاً إلى المحيط الأطلسي غرباً ومن فينَّاَ شمالًا إلى أواسط إفريقيا جنوباً، فكيف يرمى الآن بالجمود ويتهم بالقصور؟. بل هو صالح لكل زمانٍ ومكان، ولكن يحتاج إلى علماء أفذاذ لا تأخذهم في الحق لومة لائم، ينكبون عليه تنقيحاً وتنظيماً ودرساً واستنباطاً، فيكشفون لنا عن عظمة هذا الدين ومدى صلاحيته لأن يسود الأرض. وما دام أن الهدف من وجودنا في هذه الحياة هو تحقيق العبوديَّة لله، وما دام أن الله جل شأنه لم يكلنا لأنفسنا في تحقيق ذلك، بل أرسل إلينا الرسل وأيدهم بالوحي، فلابد لنا من فهم هذا الوحي ومعرفة مراميه وأهدافه، وما فيه من التعاليم التي تصلح لنا المعاش والمعاد. فكتاب الله وسنّة رسول الله-صلى الله عليه وسلم-هما النبعان الصافيان اللذان تكفلا بسعادة الدنيا ونعيم الآخرة لمن تمسك بهما. ولكن فهم ما فيهما بعد أن فسدت السليقة وأصاب اللسان العجمة لا يتسنى لكل فردٍ من الأمة. فاختص بالفهم الشامل والاستنباط جماعة توفرت فيهم شروط وظهرت فيهم مميزات، تؤهلهم لذلك، فأحاطوا بدقائق علمٍ خاص سموه علم أصول الفقه، ونص العلماء على أن حكم تعلمه فرض ¬
كفاية لحاجة الأمة إلى استنباط الأحكام الشرعية للحوادث المتجددة. وعلم أصول الفقه من أشرف (¬1) علوم الشريعة، وذلك لعموم موضوعه بالنسبة لسائر علوم الشريعة، لحاجة الفقيه والمفسر والمحدث وغيرهم إليه. وبالتالي يكون أفضل العلوم على الإطلاق لشرف علوم الشريعة على غيرها، وبعضهم فضل العلم الذي يبحث في ذات الله تعالى وذلك لشرف موضوعه. وقد ذكر علماء الأصول فضل هذا العلم في بداية مصنفاتهم فقال حجة الإسلام محمد الغزالي في مقدمة كتابه المستصفى (¬2): (وأشرف العلوم ما ازدوج فيه العقل والسمع واصطحب فيه الرأي والشرع. وعلم الفقه وأصوله من هذا القبيل. فإنه يأخذ من صفو الشرع والعقل سواء السبيل. فلا هو تصرفٌ بمحض العقول بحيث لا يتلقاه الشرع بالقبول ولا هو مبني على محض التقليد الذي لا يشهد له العقل بالتأييد والتسديد). ومن أهم فوائد هذا الفن التي لا تحصى (¬3): 1 - التمكين من نصب الأدلة السمعية على مدلولاتها ومعرفة كيفية استنباط الأحكام الشرعية منها. إذ بدون معرفة قواعد هذا الفن لا يتسنى للإنسان النظر في الأدلة، وذلك لأنه لا بد للمستنبط من معرفة أشياء منها: دلالات الألفاظ من حيث الحقيقة والمجاز، والمجمل والمبين والعام والخاص، والمطلق والمقيد، والمنطوق والمفهوم، والناسخ والمنسوخ، والمجمع عليه والِإجماع الذي يعتد به، ومعرفة ظنية الأخبار من قطعيتها، وما يحتج به منها وما لا يحتج به، ثم إذا تعارضت الأدلة فلابد وأن يكون متمكناً من مسالك النظر فيها. وهذه كلها تتوفر في الأصولي. فالمتقن لهذا الفن يصل إلى مرتبة الاجتهاد والاستنباط. وحتى إذا لم يصل إلى مرتبة الاجتهاد فعلى الأقل تؤهله للنظر في أقوال ¬
المتقدمين وحججهم، وبسبرها يتوصل للقول الراجح من المرجوح، ويعرف عقيم الأدلة وصحيحها بواسطة القواعد التي اكتسبها من هذا الفن، فيخرج من دائرة التقليد الذي هو طريق معرفة الأحكام للعامي ومن في منزلته. 2 - العالم بهذا الفن يشعر بالاطمئنان إلى ما نقل إليه من أحكام في كتب المتقدمين من الأئمة الأعلام، الذين ملكوا ناصية هذا الفن ودونوا لنا أحكاماً تدل على علو كعبهم ورسوخ أقدامهم، وأنها كانت بناء على قواعد ثابتة وأسس حكيمة فليست تبعاً لميل النفس وتلبيةً للرغبة والشهوة. 3 - يشعر العالم بهذا الفن بأن هذا الدين وقد جعله الله خاتم الشرائع، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وأن المستقبل له وسيظهر فساد كل ما عداه من القوانين الوضعية البشرية مهما كان واضعها. ومهما رُفع لترويجها من شعارات، فالعدالة الاجتماعية هي روح الِإسلام ومنه نبعت، والتعاون الذي يلوحون به طَبَّقه الِإسلام في صورةٍ مثالية. قال تعالى: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} (¬1). وقال تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} (¬2) وأما الإحسان فيكفينا فيه قوله-صلى الله عليه وسلم-: "دخلت امرأة النار في هرةٍ حبستها لا هيَ أطعمتها ولا تركتها تأكل من خشاش الأرض حتى ماتت" (¬3). وأما الإِحسان للِإنسان فيقول تعالى فيه: {وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ (24) لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} (¬4). بل جعل الِإسلام هذا الحق ركناً من أركان الإِسلام لا يتم إسلام المؤمن إلَّا بالاعتراف به. فإذن كل ما يدعونه من الخير، فقد جاء به الِإسلام قبل أربعة عشر قرناً فأخذوا من الِإسلام جذوة بل بصيصاً من عدله ورحمته ¬
ورفقه وادَّعوه لأنفسهم، والأغرب من ذلك استوردناه من عندهم متجاهلين أن ما عندنا خير منه. 4 - وبهذا العلم نستطيع أن نرد على الفِرَق الضالة الملحدة التي تنتسب للِإسلام وتكيل إليه التهم في أصله الأصيل. سواء أكان ذلك بالنسبة للقرآن الكريم أن فيه ألفاظاً مهملة (كالحشوية). أو أنه لا دلالة فيه على حلالٍ أو حرام كالهشامية (¬1) من الشيعة الِإمامية. أم بالنسبة للسنة المطهرة كقول بعض المعتزلة (لا حجة في أخبار الآحاد) وكإنكار كون القياس والِإجماع من الحجج الشرعية (كالنطام وبعض الرافضة) (¬2). وقد أجمل جمال الدين الأسنوي المتوفى سنة 772 هـ فوائد هذا الفن، وغايته في مقدمة كتابه التمهيد بقوله: (فأصول الفقه هو المعلم الذي يكوَّن المجتهد المبدع والفقيه المثمر المنتج، ويقضي على أُكذوبة غلق باب الاجتهاد، ويذهب بأسطورة سد طريق الاستنباط، وأنه لا يمكن أن يستغني عنه من أراد أن يتأهل للنظر والاجتهاد. ولا من يهتم بعلم الفقه والخلاف ويتعرض لمقارنة المذاهب المختلفة والموازنة بين الآراء المتباينة، ويعنى بإظهار أدلتها وعللها وكيفية دلالتها عليها، ويحرص على التقريب بينها أو إظهار الحق فيها وبيان قويها من ضعيفها وصحيحها من سقيمها. ومعرفة أسرار آيات القرآن وأحاديث السنة المطهرة والوصول للأحكام التي تؤخذ منها). عملي في الكتاب: 1 - ترجمت للمؤلف بترجمة وافية تبين نَسبه ومولده ونشأته ومنزلته بين العلماء وشيوخه وأقرانه وتلاميذه ومؤلفاته. والكتب التي تأثر بها وتأثرت بكتاب التحصيل وبينت مسلك الأرموي في الاختصار. كما أظهرت قيمة الكتاب العلمية. ¬
2 - قمت بنسخ إحدى النسخ وهي التي غلب على ظني أنها أفضل النسخ الموجودة، وسلكت في ذلك أنني كنت أكتب سبعة أسطرٍ في كل صفحة من الصفحات اليسرى، وتركت الصفحة اليمنى خالية وذلك لتدوين الحواشي، وإثبات المقابلات بين النسخ عند الاختلاف وتوضيح ما يحتاج إلى ذلك. 3 - قمت بمقابلة الصورة المنسوخة بما نسخت للتأكد من صحة النسخ. ثم قابلت باقي النسخ مع إثبات مخالفة كل نسخةٍ للنسخة المنسوخة في الهامش وبعد أن وضعتُ لكل نسخة رمزاً خاصاً، وقد بينتُ الرمز المستعمل لكل نسخةٍ في المبحث الخاص بنسخ كتاب التحصيل ولم أترك من هذه الفروق إلا ما لا تدعو الحاجة إلى إثباته ومن ذلك: أ- ألفاظ تنزيه الله تعالى الواردة بعد لفظ الجلالة، فاخترت منها لفظ تعالى. ب - ألفاظ الصلاة والسلام على الرسول-صلى الله عليه وسلم-فكنت أثبت أكملها في الغالب، مثل-صلى الله عليه وسلم-أو عليه الصلاة والسلام. جـ - ألفاظ الترضي، والترحم، فاخترت رضي الله عنه للصحابة، ورحمه الله لغيرهم من المسلمين. د- تصحيح صور كتابة بعض الكلمات التي تخالف قواعد الِإملاء العصرية، ولم أنبه على ذلك في كل موضع لكثرته، وخاصة إبدال الهمزة ياء. 4 - قابلت التحصيل مع المحصول فقرة فقرة وكلمة كلمة لأعرف مدى الاختصار، ودونت ما دعت إليه الحاجة لتوضيح التحصيل، واستعنت بالمحصول في ترجيح الراجح من الألفاظ المختلفة بين النسخ. 5 - قابلت التحصيل مع نهاية السول للعلامة جمال الدين الأسنوي، وذلك لأنه أكثر من النقل عنه وتأكدت من صحة ما عزاه له. 6 - رقمت الآيات القرآنية الموجودة في المتن مبيناً لسورة ورقم الآية.
7 - خرجت الأحاديث النبوية الشريفة وآثار الصحابة والتابعين، وعزوتها للكتب التي وردت فيها وبينت درجتها من الصحة. 8 - خرجت الأشعار والأمثال بذكر قائليها ومناسبتها ومكان ورودها. 9 - ترجمة للأعلام والأماكن والفرق الواردة في المتن. 10 - تأكدت من صحة نسبة الأقوال الفقهية والأصولية لأصحابها، مع ذكر مكان ورودها في كتبهم كلما أمكن ذلك. 11 - شرحت بعض الألفاظ الغريبة والعبارات المشكلة والمصطلحات العلمية. 12 - أجبت عن معظم اعتراضات القاضي الأرموي على الإمام الرازي - رحمهما الله تعالى-، وأحصيتها إحصاءً كاملًا فوجدتها أربعةً وثمانين اعتراضاً. 13 - نسخت الكتاب مرة أخرى مثبتاً اللفظ الصحيح أو الأصح في المتن، مشيراً للفظ المخالف ذاكراً في الغالب سبب اختيار اللفظ المختار في الهامش. 14 - أثناء نسخ الكتاب في المرة الأخيرة وضعتُ عناوين مناسبةً بشكل بارزٍ مع إضافة ألفاظٍ لا بد منها. ووضعتُ الفواصل والنقط بما يسهل فهم المعنى، لأن الكتاب كان كسائر كتب ذلك العصر لا يوجد فيه فواصل وعناوين بارزة، بل مقسماً تقسيماً جيداً إلى أبواب وفصول ومسائل مدموجة بين السطور. 15 - صححت بعض الألفاظ المخالفة لقواعد الصرف والنحو وهي نادرة جداً. 16 - ألحقت بالكتاب ثمانية فهارس: فهرساً للآيات، وفهرساً للأحاديث والآثار، فهرساً للشعر والأمثال، فهرساً للأعلام، فهرساً للطوائف والأماكن، فهرساً للكتب، فهرساً للمراجع، فهرساً لمحتويات الرسالة. هذا وانني لا أدّعي الكمال فيما قمت به بل هو جهد المقل، فإن كان صواباً فهو من توفيق الله جلَّ شأنه وله الحمد والشكر، وإن كان غير ذلك- لا
سمح الله- فهو مني وأستغفر- الله من ذلك. وحسبي أنني بذلت قصارى جهدي وعملت ما في وسعي. وإنني والحمد لله ممن يثلج صدره أن تهدى إليه عيوبه فرحم الله امرأً أهدى إلينا عيوبنا. وكل إِنسان يؤخذ منه ويرد عليه إلا صاحب هذا القبر، كما قال الإمام مالك مشيراً لقبر رسول الله-صلى الله عليه وسلم-، سائلاً المولى أن يوفقنا للعمل بما علمنا لأنه هو الغاية والمبتغى. المحقق
ترجمة المؤلف
ترجَمَة المؤلّف نَسَبهُ وَمَولدهُ وَنشْأته هو أبو الثناء سراج الدين محمود بن أبي بكر بن أحمد بن حامد الأرموي (¬1) الأذربيجاني التنوخي (¬2) الدمشقي الشافعي. ولد في مدينة أُرمية من أعمال أذربيجان وهي الآن تسمى رضائية تابعة لدولة إيران. وذلك سنة 594 هـ. وقد زار هذه المدينة ياقوت الحموي، ووصفها في كتابه العظيم ¬
معجم البلدان، وذلك سنة 617 هـ عندما كان عمر القاضي سراج الدين الأرموي ثلاثة وعشرين عاماً فقال: (هي مدينة عظيمة قديمة بأذربيجان، بينها وبين البحيرة نحو ثلاثة أميال أو أربعة، وهي فيما يزعمون مدينة زرادشت نبي المجوس. رأيتها سنة 617 هـ. وهي مدينة حسنة كثيرة الماء إلا أنها غير مرعية من جهة السلطان لضعفه وهو (إزبك بن البهلوان بن إيدكز) وبينها وبين تبريز ثلاثة أيام، وبينها وبين أربيل سبعة أيام. ونسب إليها جماعة منهم: أبو عبد الله الحسين بن عبد الله بن محمد الشويخ. وأبو الفضل محمد بن عمر بن يوسف الأرموي ومظفر بن يوسف الأرموي (¬1). ونشأ وتلقى علومه الأولية في بلده، ولم أجد من ذكر على من أخذ علومه ومتى كانت بداية طلبه العلم ولا نوع العلوم التي حصلها، ولا متى هجر بلاده ليلتقي بموسوعة العلوم آنذاك في الموصل كمال الدين بن يونس، ولكن يغلب على ظننا أنه كان بعد أن بلغ مبلغ الرجال لأن العلوم العقلية المنطقية والفلسفية لا يبدؤ بها في الطلب. ولم نعرف شيئاً عن بيئته الخاصة وأسرته التي ترعرع فيها، وأعوذ بالله أن أتكلف ما لم أجد رغم البحث الشديد والتقصي (¬2). ¬
المدارس الأصولية في هذا العصر ومن أيها كان القاضي الأرموي بعد أن دوَّن الإِمام الشافعي رضي الله عنه في أواخر القرن الثاني الهجري قواعد علم أصول الفقه، أخذ العلماء يقتبسون من نوره وينسجون على منواله، ويوسعون ما استنبطه ودونه من أفكار، بالاستدلال عليها والتمثيل لها ووضع التفريعات عليها والذي يظهر من أسماء المصنفات التي صنفت في القرنين الثالث والرابع الهجريين أنها كانت تبحث في موضوع واحد من مواضيع علم أصول الفقه. ¬
ثم ازدهر بعد ذلك علم الكلام بعد أن بدأت في عهد الخليفة العباسي المأمون ترجمة الكتب الفارسية واليونانية، وأقبل العلماء على هذه الترجمات وتأثروا بها وظهر الاعتزال وقامت دولته، وعاش رؤساء الاعتزال في ردهات القصور وفي كنف الحكام. ثم خبت نارهم التي اكتوى بها أهل السنة فعذب منهم من عذب. ثم قامت دولتهم مرة أخرى في كنف الصاحب بن عباد. ومعظم مصنفات هذه الفترة قد اندثرت وضاعت فيما ضاع من التراث الإسلامي الضخم، لما أفلت شمس الخلافة في بغداد، ودهى الأمة الإسلامية ما دهاها من غزو التتار، حيث قذف بالمكتبات في دجلة لتكون جسوراً يُعبر عليها. ولكن من النقول التي وصلتنا في بطون كتبٍ كتبَ الله لها البقاء، علمنا أن الكتابة في هذا الفن أصبح لها منحيان، وأخذت تسلك طريقين لم يكن بينهما عظيم فارق في البداية، ولكن الفرق أخذ يظهر بالتدريج ويبرز شيئاً فشيئاً إلى أن انتهى بينهما الأمر إلى فارق واضح، ولكل طريقة ومنهج خاص وميزات لا تشارك إحداهما الأخرى فيها، وقد يصعب على الناظر في هذا الفن تحديد بداية التباين، ولعل ظهور طريقة الشافعية أو المتكلمين كان على يد أحمد بن عمر بن سريج المتوفى سنة 306 هـ، الذي ألّف كتاباً في الرد على أبي داود الظاهري في إبطال القياس. فقد نقل ابن السبكي (¬1) في طبقاته عن القاضي أبي بكر الباقلاني في التقريب وأبي إسحاق الشيرازي في التعليقة أنهما قالا: (إن ابن سريج وغيره كانوا قد برعوا في الفقه وغيره، ولم يكن لهم قدمٌ راسخة في الكلام، فطالعوا على الكبر كتب المعتزلة، فاستحسنوا عباراتهم وقولهم يجب شكر المنعم عقلًا. فذهبوا إلى ذلك غير عالمين بما تؤدي إليه هذه المقالة. ثم وضحت هذه الطريقة على يد عبد الجبار بن أحمد المعتزلي المتوفى سنة 415 هـ، حيث وضع كتابه العظيم الذي سماه العمد. ومحمد بن الطيب أبي بكر الباقلاني المالكي الأشعري المتوفى سنة 453 هـ، حيث صنف المقنع في أصول الفقه، وأمالي إجماع أهل المدينة، والتقريب الذي قال عنه ابن السبكي: ¬
وهو أجل كتب الأصول، والذي بين أيدينا مختصره ويبلغ أربعة مجلدات، ويحكى أن أصله كان في إثني عشر مجلداً) ثم انتهت الكتب المصنفة على هذه الطريقة إلى أربعة كتب. قال ابن خلدون في تاريخه (¬1): (وعنى الناس بطريقة المتكلمين فكان من أحسن ما كتب فيه المتكلمون: كتاب البرهان لِإمام الحرمين والمستصفى للغزالي، وهما من الأشعرية وكتاب العمد للقاضي عبد الجبار بن أحمد، وشرحه المعتمد لأبي الحسين البصري، وهما من المعتزلة. وكان الأربعة قواعد هذا الفن وأركانه. ثم لخص هذه الكتب الأربعة فحلان من المتكلمين المتأخرين، وهما الإمام فخر الدين بن الخطيب في كتاب المحصول وسيف الدين الآمدي في كتاب الأحكام، واختلفت طرائقهما بين التحقيق والحجاج، فابن الخطيب أميل للاستكثار من الأدلة والاحتجاج- والآمدي مولع بتحقيق المذاهب وتفريع المسائل). وأما جمال الدين الأسنوي (¬2): فقد قال: (والمحصول استمداده من كتابين لا يكاد يخرج عنهما غالباً. أحدهما: المستصفى لحجة الإسلام الغزالي، والثاني: المعتمد لأبي الحسين البصري. حتى رأيته ينقل منهما الصفحة أو قريباً منها بلفظها وسببه على ما قيل: إنه كان يحفظهما). ويظهر مما نقلناه عن العلامة ابن خلدون في تاريخه والإمام جمال الدين الأسنوي في نهاية السول: أن علم الأصول على طريقة المتكلمين، قد انتهى في القرن السادس وأوائل السابع الى الِإمامين فخر الدين الرازي وسيف الدين الآمدي ومعظم من كتب في القرن السابع لم يخرج عن إطارهما، فهم ما بين مختصرٍ لكتابيهما أو شارح أو معلقٍ عليهما، ولقد كانت العناية بكتاب فخر الدين الرازي أشد. وسنذكر في فصل من اشتغل بكتاب المحصول مزيداً من البيان، ولعل ما رمي به سيف الدين الآمدي كان سبباً في تنفير الناس عن كتابه في ذلك الوقت، وهو في الحقيقة لا يقل فائدةً عن كتاب فخر الدين الرازي. ¬
وهذه المدرسة- مدرسة المتكلمين- كانت هي المسيطرة في القرن السابع الهجري، حيث إن المصنفات على هذه الطريقة كانت لا تعد ولا تحصى، وكان القاضي سراج الدين الأرموي- رحمه الله- ممن أدلى بدلوه مع سائر الدلاء، ولكنه بلغ من البئر غوره، ووصل لما لم يصله غيره، لأن الميدان ميدانه فقد بلغ الأرموي- رحمه الله- في العلوم العقلية مبلغاً فاق أهل زمانه، لأنه ورد النبع الصافي وأخذه من علامة ذلك الزمان كمال الدين بن يونس وصنف فيه الكتب التي لا تزال المورد العذب والمنبع الصافي، فما إن أراد طاش كبري زاده في كتابه مفتاح السعادة أن يدخل في مصنفات علم المنطق والحكمة والجدل، حتى بدأ بمصنفات سراج الدين الأرموي. وقد كان لعلمه الغزير وحذقه بالفنون العقلية أثر بالغ على كتابه التحصيل، فظهر التنظيم المنقطع النظير، والبحث الدقيق، وإقامة الأدلة العقلية، ونقاش أدلة الخصوم بما يظهر عوارها وزيفها، ولا يكون ذلك إلاَّ لمن له القدح المعلى في الإحاطة بهذا الفن وإدراك عويصات مسائله. فالقاضي الأرموي- رحمه الله- هو ابن هذه المدرسة، وما إن بلغ مبلغ الرجال، حتى أصبح شيخها ورئيسها الذي تربع على عرشها بحق. وأما انغمار ذكره في كتب التراجم العربية فله أسباب ومبررات، ولعل من أهمها وأعظمها، أنه عاش فترة نضوج علمه وكمال شخصيته في بلاد الروم في فترة تمزقت فيها الأمة الإسلامية إلى دويلات بينها تقاطِع وتدابر. زد على ذلك أنه عاش هذه الفترة بين جماعة يختلفون عنه مذهباً وجنساً، ومع هذا سطرت الصفحات المتلألئة في مزاياه وصفاته الحميدة حتى من أقرانه الذين يخالفهم مسلكاً ومنهجاً في الكتب الفارسية والتركية ككتاب مناقب العارفين وغيره. وينبغي أن نختم ذكر هذه المدرسة بذكر بعض مميزاتها: 1 - أن القواعد الأصولية في هذه الطريقة تدرس دراسة دقيقة عميقة بقصد إثباتها بأدلة عقلية وبراهين قاطعة، بغض النظر عن الفروع الفقهية المذهبية التي تتعلق بهذه القواعد. وذكر الفروع الفقهية فيها على سبيل التمثيل لا لبناء القواعد.
2 - تطرق الكاتبون على هذه الطريقة إلى مباحث كلامية هامة وأكثروا منها. واستعملوا الأدلة المنطقية والمباحث الفلسفية في إثبات هذه القواعد، ومن ذلك ما تعرضوا له من التحسين والتقبيح العقليين، وعصمة الأنبياء، وشكر المنعم عقلاً وشرعاً. 3 - امتازت هذه الطريقة بالترتيب والتنظيم والتقسيم إلى أبواب وفصول ومباحث ومسائل. وأما المدرسة الأصولية الأخرى، فهي طريقة الفقهاء أو الحنفية وقد وصف العلامة ابن خلدون (¬1) هذه الطريقة في تاريخه بقوله: (ثم كتب الحنفية فيه وحققوا تلك القواعد وأوسعوا القول فيها، وكتب المتكلمون أيضاً كذلك، إلَّا أن كتابة الفقهاء فيها أمس بالفقه وأليق بالفروع، لكثرة الأمثلة فيها والشواهد وبناء المسائل فيها على النكت الفقهية ثم قال: فكان لفقهاء الحنفية اليد الطولى في الغوص على النكت الفقهية والتقاط هذه القوانين من مسائل الفقه ما أمكن). وقال العالم محمد أبو زهرة (¬2): وتمتاز هذه الطريقة: بأنها تقرر القواعد تبعاً للفروع الفقهية المنقولة عن الأئمة، ولهذا يلتزمون بعدم مخالفة القاعدة للفروع، ولذا دونت هذه الطريقة بعد تدوين الفروع، ولذا اتسمت بحشد كثيرٍ من الفروع أثناء إثبات القاعدة. ولعل من أقدم من صنف من الحنفية هو عيسى بن أبان بن صدقة الحنفي المتوفى سنة 220 هـ، ثم عبيد الله بن الحسن بن دلال بن دلهم الكرخي المتوفى سنة 340 هـ، ثم تلميذه الجصاص أحمد بن علي أبو بكر الرازي المتوفى سنة 370 هـ، ثم الدبوسي أبو زيد عبد الله بن عمر المتوفى سنة 430 هـ، ثم السرخسي محمد بن أحمد شمس الأئمة وكتابه مطبوع في مجلدين المتوفى سنة 482 هـ، ثم الصدر الشهيد الحنفي عمر بن عبد العزيز بن عمر أبو محمد حسام الدين المتوفى سنة 536 هـ، له عمدة المفتي ¬
والمستفتي وكتاب أصول حسام الدين، ثم أبو المفاخر الكردي الحنفي عبد الغفور بن لقمان بن محمد شرف القضاة تاج الدين له المفيد والمزيد في أصول الفقه توفي سنة 562 هـ، ثم عبد العزيز بن عثمان بن إبراهيم القاضي النسفي المتوفى 563 هـ، صاحب كفاية الفحول في علم الأصول. وأما هذه المدرسة فقد هدأت حالة التصنيف فيها في القرن السابع الهجري، فلم يظهر من المصنفات على هذه الطريقة كما ظهر من المصنفات على طريقة المتكلمين، ومن المصنفات في القرن السابع الهجري على هذه الطريقة: كتاب الفصول في علم الأصول للموفق الخاصي المتوفى 634 هـ، وهو الموفق بن محمد بن الحسن بن أبي سعيد الخاصي صدر الدين الخوارزمي. وكتاب الطريقة الحصيرية في الخلاف بين الحنفية والشافعية لجمال الدين الحصيري محمود بن أحمد بن عبد السيد البخاري الحصيري أبي حامد جمال الدين المتوفى سنة 637 هـ. والمجتبى في أصول الفقه للمختار بن محمود بن محمد أبي الرجاء نجم الدين القزميني الفقيه الحنفي، المتوفى سنة 658 هـ، وشرح أصول فخر الإسلام البزدوي، للإمام علي بن محمد بن علي نجم العلماء حميد الدين الضرير الرامشي، المتوفى سنة 667 هـ، والكتاب الشهير المسمى بالمغنى للشيخ الخبازي عمر بن محمد بن عمر الخبازي الحنفي جلال الدين أبي محمد، المتوفى سنة 671 هـ. ثم في آخر هذا القرن ظهر الكتاب العظيم المسمى بالمنار مع شرحه لنفس المؤلف أبي البركات حافظ الدين النسفي عبد الله بن أحمد بن محمود تلميذ شمس الدين الكردري، المتوفى سنة 710 هـ. وهذا الكتاب كثرت عليه الشروح والحواشي واعتني به كثيراً. وبرزت للوجود في هذا القرن طريقة ثالثة قد حاز قصب السبق فيها علامة من علماء الأحناف الأجلاء وهو ابن الساعاتي أحمد بن علي بن ثعلب مظفر الدين، المتوفى سنة 694 هـ. فقد ابتكر كتابه العظيم الذي سماه (بديع النظام) الذي جمع فيه بين طريقتي سيف الدين الآمدي الشافعي في كتابه الأحكام الذي اعتنى فيه الآمدي بالاستدلال على القواعد الكلية
رحلاته في طلب العلم والوظائف التي شغلها
وتحقيق المذاهب، وبين طريقة فخر الِإسلام البزدوي علي بن محمد بن الحسين بن عبد الكريم، المكنى بأبي العسر في كتابه الذي عني فيه بالشواهد الجزئية الفرعية، وقد افتتح ابن الساعاتي كتابه هذا بعبارة لطيفة وهي: (قد منحتك أيها الطالب لنهاية الوصول إلى علم الأصول هذا الكتاب البديع في معناه المطابق اسمه لمسماه لخصته لك من كتاب الأحكام ورصعته بالجواهر النقية من أصول فخر الِإسلام، فإنهما البحرانْ المحيطان بجوامع الأصول الجامعان لقواعد المعقول والمنقول. هذا حاوٍ للقواعد الكلية الأصولية وذلك مشمول بالشواهد الجزئية الفرعية). رحْلَاته في طَلَب العِلْم وَالوَظائِفُ الّتي شَغَلَهَا ذكرت بأن القاضي سراج الدين محمود بن أبي بكر الأرموي، قد ولد في أرمية من أعمال أذربيجان عام 594 هـ. في وقتٍ كان حاكم بلدته ضعيف الشخصية عديم المسؤولية. عازفاً عن الجد إلى اللهو والعبث. وقد زار بلدته أرمية في هذه الآونة العلاّمة ياقوت الحموي (¬1)، صاحب معجم البلدان فوصفها لنا وصفاً دقيقاً، وذكر من خيراتها وجمالها ما ذكر مع الِإهمال وعدم رعاية الجانب من قبل السلطان. "إزبك بن البهلوان بن إيدكز". أما تفاصيل حالة أسرته العلمية والمادية وطبقتهم الاجتماعية، فلم أجد فيما اطلعت عليه من المراجع العربية والفارسية ما يكشف عنها. سوى أن بعض المراجع ذكرت أنه تلقى مبادئ العلوم في بلدته أُرمية، ولعله يوجد في المستقبل من يكشف لنا عن مزيدٍ من تفاصيل حياة القاضي الأرموي - رحمه الله- إذا استقصى الكتب الفارسية، لأن معظم أخباره وجدتها فيها. ولا أبيح لنفسي أن أرسم في ذهني شخصاً وأسرة ثم أبدأ في إطلاق الأوصاف جزافاً، وأعوذ بالله أن أقول ما لا أعلم. وإنني وصلت في بحثي عن حال القاضي الأرموي وآثاره لا إلى طريق مسدود، بل إلى طريق شاق وصعب بالنسبة لي، حيث إنني لا أعرف اللغة الفارسية والتركية. ومن يعرف ¬
هاتين اللغتين بلا شك سيصل إلى ما لم أصل إليه، وسيعرف ما لا أعرف عن أحواله وتفاصيل صفاته. وكذلك لا أدري كم المدة التي قضاها من عمره في أحضان بلدته وأكناف أسرته وعشيرته وكل ما وجدته أن محقق كتابه لطائف الحكمة، المطبوع أخيراً باللغة الفارسية في إيران أنه قال: العله فرَّ أمام الزحف التتاري كسائر العلماء). وجيوش التتار قد وصلت في زحفها إلى بلاد أذربيجان كما في كتاب الكامل لابن الأثير (¬1). عام 617 هـ حيث فر أمامها حاكم تلك البلاد إزبك بن البهلوان، ولكن لم تسقط في أيديهم حيث دخلت تحت وطأة التتار في عام 654 هـ فيما بعد. وذكرت كتب التراجم أنه هاجر من بلده طلباً للعلم، متوجهاً تلقاء كعبة العلم آنذاك، وموسوعة المعارف كمال الدين موسى بن يونس بن منعة الكردي في الموصل، المتوفى عام 639 هـ، والذي كان يتقن أربعةً وعشرين فناً على ما في طبقات ابن السبكي (¬2)، وكان يشرح لليهود والنصارى التوراة والِإنجيل أحسن من أحبارهم، ولازمه القاضي سراج الدين الأرموي، وخدمه حباً في العلم فترة من الزمن فيظن أن تحصيله العلمي الذي أكسبه هذه الشهرة كان في الموصل، ويغلب على الظن أنه قد تهيأ له أيضاً، الأخذ عن علماء الموصل الآخرين الذين كانت تعج بهم الموصل آنذاك، وخاصةً آل منعة بيت العلم والفضل، ولا ندري هل هجر بلده مع أسرته أم وحيداً فريداً، لأنه فيما اطلعنا عليه لم نجد أنه رجع لزيارة بلده والله أعلم. غرف القاضي الأرموي- رحمه الله- من بحور معارف كمال الدين بن يونس العقلية والشرعية ما شاء الله له أن يغرف، حتى ارتوى وتضلع من تلك العلوم وقد ورد في سيرة كمال الدين بن يونس، أنه لما وصلت كتب فخر الدين الرازي درسها وشرحها ولم يعرف أحد مصطلحاته إلا هو والذي يغلب على الظن أن القاضي الأرموي- رحمه الله- ممن استمع لهذه الشروح، ولعل هذا هو سبب تعلق القاضي سراج الدين الأرموي- رحمه ¬
الله- بكتب الِإمام فخر الدين الرازي، وخاصة المحصول وكتاب الأربعين فاختصرهما، والذي يظهر أن القاضي الأرموي لم يغادر الموصل، إلا وقد بلغ مبلغ العلماء، وأتقن الفنون وذاع صيته وظهرت شهرته. وهذا نجده واضحا جلياً في استقبال حاكم ملطية له، علاء الدين كيقباذ السلجوقي، الذي تربّع على كرسي الحكم بعد موت أخيه عز الدين بن كيكاوس بن كيخسرو بن قلج السلجوقي سلطان قونية وأقصرا وملطية. وقد وجدنا قصة استقباله له في كتاب مطبوع بالفارسية يسمى مناقب (¬1) أوحد الدين حامد بن أبي الفخر الكرماني، المتوفى سنة 635 هـ في مدينة ملطية. ومطبوع في طهران سنة 1347 هـ وخلاصة ترجمة القصة: أن القاضي سراج الدين الأرموي قد قدم إلى ملطية من مصر، قاصداً التشرف والتقرب من الشيخ أوحد الدين الكرماني. وكان ذلك في عهد علاء الدين كيقباذ الذي استقبله بنفسه، ورحب به ترحيباً يليق بجلالة قدره وعظيم منزلته، واستفسر منه عن مراده من الحضور، فلما أجابه وكشف عن رغبته التقرب من الشيخ أوحد الدين الكرماني استنكر ذلك واستغربه وقال له: إن ملطية لا تليق بمقام القاضي سراج الدين الأرموي، ولا تتسع إلى طموحه وعلومه التي في حاجة لها المدن الكبيرة ثم أسكنه مدرسةً أمام الجامع وعينه مدرساً فيها. وما هذا إلا لشهرة الأرموي- رحمه الله- وفي مناقب أوحد الدين الكرماني وردت قصص أخرى عن ملازمته للشيخ أوحد الدين الكرماني وإعجابه به، والتقائه مع عالم من علماء الكلام والهيئة والحكمة وإقليدس والمنطق والنجوم والرياضيات هو جمال الدين الواسطي، الذي توفي قبل أوحد الدين الكرماني، ولكن لم نعثر على ترجمة له في كتب التراجم. وكما يظهر من هذه الرواية أن القاضي سراج الدين الأرموي قد زار مصر قبل ملطية، ولكن لا نعلم كم مدة أقام سواء في مصر أو في ملطية. وبلغنا من كتاب مفرج الكروب (¬2) في أخبار بني أيوب الذي ألفه صديقه ¬
وقرينه جمال الدين محمد بن سالم بن نصر الله بن سالم بن واصل الحموي الشافعي، قاضي القضاة المتوفى 697 هـ أن القاضي سراج الدين الأرموي قد بعثه الملك الصالح نجم الدين أيوب إلى الانبراطور الذي صالحه الملك الصالح نجم الدين على تسليم بيت المقدس للنصارى، وأقام سراج الدين عنده مكرماً مدةً، وصنف له كتاباً في المنطق، وأحسن إليه الانبراطور إحساناً كبيراً، وعاد سراج الدين الأرموي للملك الصالح منعماً. وهذه القصة إن دلت على شيء إنما تدل على منزلة القاضي الأرموي - رحمه الله- حيث إنه في هذه السن المبكرة وصل إلى أن يكون سفيراً لملك بني أيوب. ثم بعد ذلك يظهر لنا أن الركائب قد أناخت به في دمشق الشام ملتقى العلماء، والتي شهدت من العلماء ما لم تشهده مدينة أخرى في هذا القرن بلا نزاع، والذي يبدو لي من نسخ كتابه التحصيل أنه صنف كتابه التحصيل في دمشق، حيث إن معظم النسخ قد أثبتت في آخرها أنها دُونت في دمشق الشام، وكانت الشام في هذه الفترة تحت سلطان بني أيوب. ثم ربما سافر خلال مدة إقامته في دمشق إلى بلاد أخرى، وقد ذكر المقريزي في كتاب السلوك (¬1) لمعرفة دول الملوك، أن القاضي سراج الدين الأرموي قد قدم إلى مصر، وكان ذلك برفقة الملك السلطان المعظم غياث الدين توران شاه بن الصالح نجم الدين أيوب بن الكامل محمد بن العادل، المتوفى 648 هـ، عندما طلبت منه زوجة أبيه شجرة الدر الحضور لتولي الأمر لموت أبيه، وكان برفقته أيضاً سلطان العلماء عز الدين بن عبد السلام وبهاء الدين بن الجميزي وبعض العلماء، وحدث بينهم مناظرات ومباحثات فقهية منها في 2 ذي الحجة سنة 647 هـ، وكان موضع الحديث قوله- صلى الله عليه وسلم-: "نعم العبد صهيب لو لم يخف الله لم يعصه" (¬2). ¬
علومه ومنزلته بين العلماء
ثم لا ندري متى رجع إلى قونية للاستقرار فيها، إلَّا أن كاتب مقدمة كتابه لطائف الحكمة قد- ذكر أن لطائف الحكمة قد صنفه القاضي سراج الدين الأرموي باسم سلطان السلاجقة في قونية والذي دخل في خدمته سراج الدين الأرموي عام 655 هـ، وبعد ذلك استقر في قونية عاصمة سلاطين بني سلجوق واشتغل فيها قاضياً ثم قاضياً للقضاة، وكذلك مدرساً حيث عرفنا اثنين فقط من تلاميذه في بلاد الروم وهما: الصفي الهندي محمد بن عبد الرحيم الهندي المتوفى سنة 715 هـ، والشيخ تاج الدين الكردي ولم نعثر على أسماء تلاميذ له آخرين في كتب التراجم. وبقي في مدينة قونية حتى انتقل إلى رحمة ربه راضياً مرضياً. وعلى العموم يظهر لنا أن الأرموي- رحمه الله- قد قضى صدر حياته طالباً للعلم في بلده ثم في الموصل. وبلغ من العلم أوجه حتى حظي بالمنازل الرفيعة عند السلاطين والحكام فبدأ حياته العملية مدرساً في ملطية، ثم سفيراً للملك الصالح نجم الدين أيوب عند الانبراطور، ثم انتظم في سلك القضاء مع المواظبة على مهنة التعليم، فبلغ من القضاء منصب قاضي القضاة وهو أعلى منصب علمي في ذلك الزمان، فكان في ذلك مثال النزاهة والذكاء والفطنة، ومع هذا لم يكن ليغفل مع تزاحم الأعمال عليه الاتصال بأقرانه، فكان يتردد على جلال الدين الرومي ويشارك في شؤون المسلمين العامة ويهتم بأمورهم. عُلومُه وَمَنزلَتُهُ بَيَن العُلَماء ذكر المترجمون لحياة القاضي سرج الدين الأرموي- رحمه الله- تعالى أنه برع في عدة فنون، وأجاد في أخرى. ولهذا، فالقاضي الأرموي لم يختص بنوع واحدٍ من الفنون بل كان موسوعة علمية متحركة. ويدل على ذلك مصنفاته العظيمة التي لازالت تتلألأ ناصعة نقية تكشف لنا عن دقةِ ¬
فهمه ورجاحةِ عقله. ولذا سيكون الكلام عن علومه موزعاً على شتى العلوم التي برع فيها وخاض غمارها. فالقاضي الأرموي- رحمه الله-: منطقي حكيم جدلي أصولي فقيه، متكلم شاعر مفسر ولذلك سنقسم الحديث عن علومه إلى خمسة أقسام: 1 - القاضي سراج الدين الأرموي المنطقي الحكيم الجدلي: عاش القاضي الأرموي في عصرٍ غلبت عليه العلوم العقلية وخاصة في بلاد المشرق، فلذا كان لابد له أن يتسلح بسلاح العلم بها. وقد قامت طائفة أخرى في نفس العصر تعادي هذه العلوم وترمي أهلها بالزيغ والضلال والانحراف، ولذا قال الناظم يصف رأي علماء عصره في المنطق بقوله: ابن الصلاح والنواوي حرما ... وقال قوم ينبغي أن يعلما وفعلاً رمي جهابذة علماء ذلك العصر بالانحراف لغلبة العلوم العقلية عليهم وكانوا ينسبون من تكلم بتلك العلوم إلى فساد الاعتقاد، وقد رمي فيمن رمي بذلك علامة الموصل وشيخ القاضي الأرموي كمال الدين موسى بن يونس- رحمه الله- قال الناظم: وأعطيته صهباء من فيه مزجها ... كرقة شعري أو كدين ابن يونس وكان بعض الأفاضل يطلبون هذه العلوم سراً خوفاً من أن يظن فيهم العوام فساد الاعتقاد، ويقذفونهم بما يطعن في دينهم. ومن ذلك ما حدث لعلّامة الحديث في ذلك العصر عثمان أبي عمرو بن الصلاح الشهرزوري، حيث حاول سراً دراسة علم المنطق على الشيخ كمال الدين بن يونس، ولكنه أظلم قلبه فلم يفتح الله عليه بشيء ونصحه العلاّمة كمال الدين بن يونس بعدم دراسة هذا الفن لكي لا تفسد عقائد الناس فيه. ومع هذا فإن القاضي سراج الدين الأرموي- رحمه الله- لم أجد لفظةً واحدةً من الغمز أو اللمز أو الطعن في دينه لا من أقرانه ولا من مخالفيه في
المسلك، فقد عاش- رحمه الله- موفور العرض مصون الجانب رغم تعدد الاتجاهات وكثرة النزعات في عصره، بل وصفوه بأسمى ألفاظ الثناء والفضل، وأعلى درجات العلم مما يدل على سمو علمه وخلقه. والقاضي الأرموي أجاد في هذه الفنون العقلية الثلاثة: المنطق والحكمة والجدل، وصنف فيها أنفع المصنفات، وقد بلغ في ذلك الذروة، وحاز قصب السبق، حتى أصبح يشار لمؤلفاته بالبنان. فإذا ذكر علم المنطق تبادر للذهن مطالع الأنوار الذي تلقته العلماء بالشرح والتعليق بما لم يحدث لكتاب آخر كما سنوضح ذلك في فصل مصنفاته. وإذا ذكرت الحكمة تبادر للذهن لطائف الحكمة ذلك الكتاب العظيم الذي وضعه باللغة الفارسية وطبع بها. وإذا ذكر الجدل تبادر للذهن رسائله في هذا الفن وكتابه تهذيب النكت للشيرازي. ولم يكتفِ بمصنف واحد في كل فن، بل صنف عدة مصنفات ففي المنطق والحكمة بالِإضافة إلى مطالع الأنوار فقد صنف بيان الحق في المنطق والحكمة، وشرح الِإشارات والتنبيهات لابن سينا، والمناهج في المنطق والحكمة، ولطائف الحكمة، ولعله يوجد أيضاً ما لم يصل علمنا إليه. وهذه الكتب تعطينا فكرةً صادقةً عن مدى تمكن القاضي الأرموي من العلوم العقلية على العموم، فقد كان فارس حلبتها وخبير خباياها وعويصات مسائلها وحلاَّل عقدها وغوامضها. فلا مبالغة إن قلنا: إنه تربع على عرش هذه الفنون، وفاق من قبله ووقف من بعده دونه وعاش عالةً عليه. يرتوي من نبعه ويأكل من ثماره، ويحاكيه فيما ذهب إليه. 2 - القاضي سراج الدين الأرموي الأصولي: لقد كانت طريقة المتكلمين في فن الأصول هي السائدة في هذا العصر - القرن السابع الهجري- وقد غلب على مصنفات الأصول طابع الاختصار والشرح والتعليق على مصنفات قد تقدمت، وكان صنيع القاضي الأرموي
- رحمه الله- متناسباً مع ما ساد في ذلك القرن فشارك وأدلى بدلوه مع من أدلى، ولقد انتهى علم الأصول في القرن السادس إلى كتاب المحصول لفخر الدين الرازي، والِإحكام لسيف الدين الآمدي، وقد حظي كتاب المحصول بما لم يحظ به كتاب سيف الدين الأمدي من الشرح والتعليق. والقاضي الأرموي الحاذق لفن المنطق والحكمة المجيد لعلم الكلام خير من تمتد يده إلى المحصول، ولذا فقد كان مختصراً متميزاً عن غيره من المختصرات، بأنه التزم منهجاً رسمه في صدر كتابه مقيداً بقوانين وضوابط، تدل على الدقة في الفهم والبراعة في التصنيف والترتيب والتقسيم إلى أبواب وفصول ومسائل وفروع، وكان يبدي من الملاحظات ما يدل على علو كعبه ورسوخ قدمه فيِ فن الأصول، ولذا فاق مختصره المحصول سائر المختصرات تنظيماً وترتيباً وتنبيهاً على مشكلاتٍ، وحلاً لعويصات ودفعاً لإيهام قد يرد على بعض الأدلة والحدود. وأسئلته الواردة فيه تشهد له بذلك. لم يكتف القاضي الأرموي بهذا الكتاب الذي اشتهر به كأصولي، بل وجدت له كتاباً آخر لا يشعر اسمه في فهارس المكتبات بحاله ولا ينبئ عما فيه، فالعنوان لا يناسب المحتوى، فقد سموه في الفهارس بأسئلة القاضي الأرموي على المحصول، فيتبادر للذهن أن المقصود هو الأسئلة التي أوردها القاضي سراج الدين الأرموي داخل التحصيل، ولكن الواقع والحال بعد أن نظرتها، وجدت أن البون شاسع والفارق عظيم والذي وجدته شرح للمحصول، ولكن الموجود في دار الكتب المصرية ليس مستوعباً لجميع المحصول وقد سماه القاضي الأرموي في بدايته: (مقاصد العقول من معاقد المحصول) وهو كتاب عظيم فصلت التعريف به في مصنفاته. وقد ساهم في هذا الفن أيضاً برسالةٍ في أمثلة التعارض في أصول الفقه، وقد حررت ما تحتويه في مصنفاته، وذكرت أنها ليست شاملة لجميع أمثلة التعارض، بل هي في عشر مسائل في دلالات الألفاظ فقط. فالقاضي الأرموي- رحمه الله- بما قدم للمكتبة الِإسلامية في هذا الفن استحق أن يوسم بالانتساب لعلمائه، وأن يجلس معهم جنباً إلى جنب،
مع أنه تربع على كرسي الصدارة في علم المنطق والحكمة. 3 - القاضي سراج الدين الأرموي الفقيه قاضي القضاة: كثير من العلماء يرتقون من المجد أعلاه ويصلون من العلم منتهاه، ولكن لم يخلِّفوا لمن بعدهم علماً مدوناً مكتوباً، لأنهم لا يريدون شهرة، أو قد يكون لأسباب أخرى. فالقاضي الأرموي- رحمه الله- قد وصل لرتبة قاضي القضاة في دولة بني سلجوق. وهذه المرتبة لا يصلها أحد وفي زمانه من يدانيه علماً، فضلاً عن أن يفوقه والقضاء ينبع من الفقه ويسانده الذكاء والفطنة، وتؤيده العزيمة وقوة الشخصية، فكلِ ذلك اتصف به القاضي الأرموي ومع هذا لم يذكر المترجمون له إلَّا كتاباً واحداً في فروع الفقه وهو شرح الوجيز. فقد جرت عادة الأفذاذ أن لا ترضى إلا بمصافحة الأفذاذ، فبعد أن مدَّ القاضي الأرموي يده ليصافح فخر الدين الرازي علَّامة عصره من خلال اختصار المحصول، فيحدث له بذلك اقتران اسمه باسمه، ويندرج ذكره مع ذكره، فنجد يد القاضي الأرموي- رحمه الله- تمتد لمصافحة حجة الِإسلام وحيد زمانه وفريد عصره وأوانه، فيضع ظلال قلمه في جملة من وضع على معجزته التي تبارى العلماء في شرحها واختصارها والتعليق عليها، وذلك هو كتابه الوجيز الذي سارت بذكره الركبان، وأصبح عمدة في فروع مذهب الإمام الشافعي رضي الله عنه فشرحه شرحاً لم نطلع عليه، ولكن شخصية القاضي سراج الدين الأرموي ووصوله إلى منصب قاضي القضاة ينبئ عن عظيم فائدته، وليس ما في شرح الوجيز هو كل فقه القاضي الأرموي بل في أحكامه إبَّان مهنة القضاء الذي تولاه ما يقارب الثلاثين عاماً ما قد يكون أضعاف شرحه للوجيز. ولذا نجد معظم من ترجم له وصف بالاجتهاد، ومرتبة الاجتهاد، مرتبة عزيزة لم يصل إليها إلا أفذاذ العلماء. 4 - القاضي سراج الدين الأرموي المفسر والشاعر: لم يذكر من ترجم للقاضي الأرموي تراثاً له في التفسير، ولكن وصفوه
بأنه عالم بالتفسير (¬1)، وفي الحقيقة فإن علوم الشريعة حلقات متداخلة، فلا يكون فقيهاً من لم يكن عالماً بالتفسير، فليس في وصفه بالمفسر مع عدم ذكر إنتاجٍ له في ذلك مخالفة، فقد يكون له إنتاج ولكن لم يصل إلينا، وقد تكشف الأيام ما لم نره اليوم وتخبرنا عما لا نعلمه الآن. وأما كونه شاعراً مع عدم ذكر شيء من شعره فلا غرابة فيه، لأنه قد نقل ذلك مشاهد أعيان ورفيق زمانه أحمد الأفلاكي (¬2)، الذي يقول: سمعته يقول شعراً في رثاء جلال الدين الرومي وقت دفنه على تبره، ولعل البحث والتنقيب سيكشف لنا عن شيء من شعره، وهل كان باللغة العربية أم الفارسية أم التركية. 5 - القاضي سراج الدين الأرموي المتكلم: قد ظهرت شخصية القاضي سراج الدين الأرموي- رحمه الله- كمتكلم من خلال كتاب التحصيل، فيما تعرض له من مسائل على سبيل التبع والارتباط بينها، وبين بعض مسائل أصول الفقه، وهي كثيرة في كتابه التحصيل ومنها: التحسين والتقبيح العقليان، وعصمة الأنبياء، وشكر المنعم عقلاً وشرعاً، والصفة هل هي ذات الموصوف أم غيره وتكليف ما لا يطاق، وغير ذلك من المسائل. وأظهر في كل ذلك قدرة فائقةً في بحث هذ المسائل ونقاش أدلة المذاهب وخاصة المعتزلة، وأظهر احترازاً شديداً من قاعدتهم المشهورة التحسين والتقبيح العقليين حيث أدخل كلمة شرعاً في جميع حدود الأحكام الشرعية الخمسة. وقد صنف في ذلك كتباً مستقلة، ومن ذلك مختصره لكتاب الأربعين للإمام فخر الدين الرازي المتمكن من ناصية علم الكلام في عصره، وقد بلغ فيه الذروة وسماه اللباب، وهو أيضاً من أمهات الكتب في هذا الفن. والأرموي في صنيعه هذا كأنه يأبى إلَّا أن تمتد يده إلا للأمهات، ويرفض أن يقارن إلَّا العظماء فكما سبق له أن امتدت يده ليضع ظلال قلمه على ¬
صفحات الوجيز، فيعانق بذلك حجة الِإسلام، فقد مدَّ يده ليصافح ابن سينا علامة زمانه وفيلسوف عصره، فيضع شرحاً للِإشارات التي تعتبر من عيون كتب المنطق والحكمة، وقد شارك فقهاء الشافعية في اختصار الوجيز، ليقف بذلك في صف حجة الإسلام الغزالي، وهنا كذلك يسيل مداد قلمه ليسطر لنا مختصراً من أعظم المختصرات لكتاب الأربعين الشهير في أصول الدين، ولم يكتف بذلك فقد وجدت له رسالةً في "الفرق بين موضوع العلم الإلهي والكلامي" في مكتبة الحرم المكي حرسه الله. وقد أجاد في كل ما كتب في هذا الفن لارتباطه بفنه الذي فاق فيه الأقران، وهو علم المنطق والحكمة، فكان بذلك متكلماً مناظراً ومجادلًا، يحسب له الحساب في بلاط بني سلجوق. هذه هي العلوم التي برع فيها القاضي سراج الدين الأرموي، وتراثه العلمي الضخم يدل بالبرهان ويقيم الحجة على صحة الدعوى، ويشهد له بالفضل وحيازة قصب السبق في كل مضمار. وقد أحسن العلّامة محمود بن محمد الأقسرائي المتوفى سنة 723 هـ، والذي عاش في عصره فترة من الزمن في كتابه "مسامرة الأخبار ومسايرة الأخيار" المطبوع باللغة الفارسية بأنقرة سنة 1944 م. حيث يقول عن سراج الدين الأرموي في فصل وفيات الأكابر صفحة 121 ما معناه: (كان سراج الدين الأرموي علماً للعالم وبحر الفضائل وشمس سماء الشريعة ومركز محيط الحقيقة والطريقة. فقد سلب من علماء العالم قصب السبق في المعقول والمنقول، وكان أفاضل الدنيا يأتون من الأطراف والأكناف بقصد الاستفادة من مجلسه. وكانوا يجتمعون جميعاً حول ملك قونية مثل كوكب "بروين" (ويتفرقون مثل بنات نعش). وقد سارت بذكره الركبان في حياته من مقارنيه فعطروا كتبهم بذكره الجميل، وسطرت أقلامهم له أنصع الصفحات وأحلى الذكريات، وقلما أن يُفعل ذلك لِإنسان في حياته وليس له صولة السلطان ولا جبروت الحاكم فيكون ما كتب عنه رياءً ونفاقاً وخوفاً وتزلفاً، بل الخلق القويم والفضل العميم والعلم الغزير ينطق الأقلام فتتكلم، ويوحي لها فترسم ما تكنه له
القلوب وما تلمسه مما ترى وتسمع، فتسجل طائعة مختارة عين الحقيقة. وهذا هو الحسين بن محمد بن علي الجعفري الرودكي الشهير بابن بي بي المتوفى قبل الأرموي سنة 679 هـ، ينطق كتابه بالصدق ويظهر الحق ويدون الذكرى الحميدة التي نظرها بعينه ووعاها بقلبه، فيسطر ما شاء الله له أن يسطر من الفضائل، ويذكر مركز الأرموي بين علماء زمانه في شتى العلوم والفنون على صفحات كتابه الشهير. الأوامر العلائية في الأمور العلائية المطبوع باللغة الفارسية صفحة 700، 701، واكتفى بذكر الألقاب التي أوردها له خوفاً من التطويل، وليتناسب المقال مع المقام. فيقول المصنف في فصل حادثة جمرى القرماني في التعريف بالقاضي سراج الدين الأرموي: قاضي القضاة ملك العلماء، سلطان الأئمة، قدوة الأمة، شُرَيْح الزمان، سراج الملة والدين، حجة الإسلام والمسلمين، أبو الملوك والسلاطين، أبو الثناء محمود الأرموي أدام الله علاه، وأطال بقاه، فريد دهره ووحيد عصره، حاز قصب السبق على العلماء الأوائل والحكماء الأفاضل وزعيم المحافل، يشار له بالبنان في جملة فنون لاسيما الأصولين (¬1): (والمنطق والفقه والخلاف واقتبس من مصنفاته واستفاد الأعاظم والأماثل والأماجد). انتهى مترجماً. أوردت هذه النقول من كتب أقرانه ومعاصريه، ليعلم الناظر أنني لم أبالغ فيما وصفته به، وما ذكرته من علماء الجم، وفضله العميم فهؤلاء عاصروه وقارنوه، فوصفوه بشُرَيْح الزمان في القضاء وبشمس السماء في العلوم والعهدة عليهم، ولكن دليلهم قائم والآثار شاهدة. ومنزلته بين العلماء لم تبرز بشهادة معاصريه فحسب، بل في منزلته عند عظماء حكام الأمة الإسلامية آنذاك بني أيوب، الذين فرجوا الكروب وكسروا الصليب وهزموا آله وأعادوا للمسلمين عزهم ومجدهم التليد، وتحطمت على سواعدهم الفتية أطماع الطغاة، الذين لا زالوا يكيدون للإسلام وأهله وإن تغير السلاح وتبدل الأسلوب، فقد كان سفيراً للملك ¬
الصالح نجم الدين وهو في عنفوان شبابه، فيمثله في لقاء إمبراطور الروم على ما ذكر صديقه وقرينه جمال الدين محمد بن سالم بن واصل الحموي في كتابه مفرج الكروب. ثم يجلس في حلقات الملوك والعلماء للمناظرة والنقاش والاستفتاء برفقة سلطان علماء زمانه بل سلطان علماء المسلمين، إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، عز الدين بن عبد السلام قدَّس الله روحه وأعلى درجاته في الجنة، وذلك في اليوم الثاني من شهر ذي الحجة سنة 647 هـ في ردهات قصر آخر ملوك بني أيوب في القاهرة الملك المعظم السلطان غياث الدين توران شاه ابن الملك الصالح نجم الدين أيوب بن الكامل محمد بن العادل، فيدلي برأيه غير خافتٍ ولا متروك، وروى لنا ذلك شاهد عيان حاضر ذلك المجلس فلا ريبة ولا شك في صحة ما نقل. وأما شأنه في قصور سلاجقة الروم فهو ليس أدنى من ذلك ولا أقل، وقد أوردنا فيما مضى من شأنه في ذلك من المواقف والحوادث، وما يبهر العقل ويثير في النفس العجب. وهناك سؤال يفرض نفسه على كل ناظر في ترجمة القاضي سراج الدين الأرموي هذه، وهو كيف تكون سيرة هذا العالم بهذا الشكل العظيم، ونحن معاشر العلماء لا نكاد نسمع إلَّا باسمه؟ ولا نعرف من شأنه وحاله إلا اختصاره للمحصول؟ والجواب على هذه الصفحات مسطور وخزانات الكتب بآثاره تقول: كم من عالم اليوم مغمور الذكر أصبح نسياً منسياً، وكان قد ارتقى أعلى المنابر، وتصدر أكبر المحافل وجالس أعظم الأماثل، ثم يأتي زمان فترفع الستائر، وتنقشع الحجب عن دُرٍّ مستور، ويتبدد السحاب عن شمس صافية وينفض الغبار المتراكم عن رفوف الكتب، فيظهر الحق ويزهق الباطل، إن الباطلَ كان زهوقاً. فهذه منزلة القاضي سراج الدين الأرموي- رحمه الله- بين علماء زمانه ومنها تظهر منزلته بين علماء المسلمين جميعاً، قد أقمنا عليها الأدلة وأحضرنا لها الشهادات من بطون الكتب ليس ما دوِّن منها بالعربية فحسب، بل ما دوِّن باللغتين الفارسية والتركية أيضاً، ولعل المستقبل يكشف لنا عن المزيد.
وفاته
وَفَاتُهُ لقد عاش القاضي سراج الدين الأرموي حياة حافلة بالرحلات، مملوءة بالعمل الشاق الدؤوب في التدريس والسفارة للسلاطين والملوك، ثم استقر به المقام قاضياً ومدرساً في بلاد الروم، ثم ارتقى منصب قاضي القضاة بما أودع الله فيه من المؤهلات العلمية والنفسية فوصل إلى ما وصل إليه من الجاه، وعاش حميدَ السيرة موفور العرض، سليماً من أذى الحساد، مُحباً للجميع حتى من كان ينكر أحوالهم كالمولوي جلال الدين الرومي، فيعوده في مرضه ويسقيه الدواء ويجلس على وسادته بل ويتقدم أتباعه وتلاميذه ليصلي عليه. فقد ألف القلوب من حوله، فبكته العيون يوم لبى نداء ربه، وفقدته كراسي القضاء يوم احتاج له المتخاصمون، ورثه طلاب العلم، وخسرته المدارس، ولكن لكل أجلٍ كتاب ولكل أمر نهاية وأمر الله نافذ وقضاؤه ماض ولا حول ولا قوة لمخلوق في صرفه، فذاق كأس الموت التي لثمت فاهه شفاه الأنبياء من قبله، ولكن بعد أن عمر آخرته بما زرعه في دنياه فسيجني ثمار غرسه، ويحصد نتاج أرضه التي أتت أكلها ضعفين تغمده الله برحمته، وأسكن روحه الدرجات العليا في الجنة وجزاه الله عن طلبة العلم والمسلمين خير الجزاء وإنا لله وإنا إليه راجعون- وذلك عام 682 هـ في مدينة قونية. شيوُخه بعد تقصي ترجمة القاضي سراج الدين أبي الثناء محمود بن أبي بكر الأرموي- رحمه الله تعالى- في جميع كتب التراجم، لم أجد أنها ذكرت له إلَّا شيخاً واحداً، وما من شك أنه تتلمذ على عدد من أفاضل العلماء، ولكن التاريخ يخفي كثيراً من الأخبار، فتصبح نسياً منسياً مع أن كتب التراجم نقلت لنا: أن القاضي محمود بن أبي بكر الأرموي- رحمه الله- قد بدأ دراسته في بلده التي ولد فيها أرمية، ولكن لم تذكر لنا على يد من أخذ علومه في مقتبل العمر. ولم تذكر لنا إلَّا اسم شيخه في الموصل بعد هجر بلاده لعله أمام الزحف التتاري. وكم نحن في شوق لمعرفة المزيد عمن أخذ عنهم، لأن
معرفة ذلك يؤنس القلب ويطمئن النفس، فيعرف المنبع الذي نهل منه والمصدر الذي تغذى عليه، فتزداد الثقة بعلمه. ولكن لو لم يكن له شيخ إلا كمال الدين موسى بن أبي الفضل يونس بن محمد بن منعة- أبا الفتح الموصلي- لكفى ذلك دافعاً للثقة بعلم الأرموي والاعتراف بمنزلته، لأن العبرة ليست بالعدد والكثرة، ولكن العبرة بإتقان العلوم والإِلمام بها. فكم من عالم احتوى قلبه علم مئات العلماء، وأتقن من الفنون ما يعجز عنه العشرات وقديماً قال الشاعر: فكم رجل يعد بألف رجلٍ ... وكم رجلٍ يمر بلا عداد وكمال الدين بن يونس (كما سيظهر لك من ترجمته التي أنقلها من مرجع واحد فقط، لأنني لو ذهبت أتقصى ترجمته في شتى الكتب لاتسع الأمر، ولأصبح تطويلًا قد يمجه الناظر مع ما فيه من الأخبار الشيقة) موسوعة علمية وبحر زاخر لشتى الفنون والعلوم العقلية والنقلية، وكان حظه من كل علم أعظم من حظ أربابه، حتى سعى له عظماء العلماء يلتمسون بصيصاً من نوره وجذوة من قبسه، وسوف لا أتكلف في نسبة تلمذة الأرموي لغير كمال الدين بن يونس، وأتشبث بخيوط العنكبوت حتى أصله بأناس لم يقم الدليل القاطع على وصله بهم، وأعني بذلك أني وجدت عباراتٍ في بعض الكتب تدل على أنه تتلمذ على فخر الدين الرازي المتوفى سنة 606 هـ، وعدلت عن ذلك، لضعف هذه النسبة ولاحتمال الوهم أو التجوز في النسبة.
كمال الدين أبو الفتح موسى بن أبي الفضل يونس بن محمد بن منعة الموصلي والد شارح التنبيه "شرف الدين أحمد بن موسى" (¬1) ولد في صفر سنة 551 هـ بالموصل، وتفقه على والده الشيخ رضي الدين يونس (¬2). ثم توجه إلى بغداد فتفقه بالمدرسة النظامية على معيدها السديد السلماسي (¬3). وقرأ العربية بالموصل على الِإمام يحيى بن سعدون (¬4)، وببغداد على الكمال عبد الرحمن الأنباري (¬5). ¬
ثم عاد إلى الموصل مقيماً بها. وكان رجلاً متبحراً في كثير من فنون العلم موصوفاً بالذكاء المفرط، إليه مرجع أهل الموصل وما والاها في الفتوى. وأصحابه يعظمونه كثيراً. وقد ذكره ابن خلكان في الوفيات وقال: أنه درَّس بعد وفاة والده في موضعه بالمسجد المعروف بالأمير زين الدين (¬1) صاحب أربل قال وهذا المسجد يعرف الآن بالمدرسة الكمالية، لأنه نسب إلى كمال الدين المذكور لطول إقامته فيه. ولما اشتهر فضله انثال عليه الفقهاء، وتبحر في جميع فنون العلم. وجمع من العلوم ما لم يجمعه أحد وتفرد بعلم الرياضة، ولقد رأيْته بالموصل في شهر رمضان سنة 626 هـ. وترددت إليه دُفَيْعاتٍ عديدةٍ لما كان بينه وبين الوالد- رحمه الله- من المؤانسة والمودة الأكيدة، ولم يتفق لي الأخذ عنه لعدم الِإقامة وسرعة الحركة إلى الشام. وكان الفقهاء يقولون: إنه يدري أربعةً وعشرين فناً درايةً متقنة، ومن ذلك المذهب وكان فيه أوحد الزمان. وكان جماعة من الطائفة الحنفية يشتغلون عليه بمذهبهم، ويحل لهم مسائل الجامع الكبير أحسن حل، مع ما يجيء عليه من الِإشكال المشهور، وكان يتقن فن الخلاف العراقي والبخاري وأصول الفقه وأصول الدين. ولما حملت كتب فخر الدين الرازي للموصل وكان بها إذ ذاك جماعة من الفضلاء، لم يفهم أحد منهم إصطلاحه فيها سواه، وكذلك الِإرشاد للعميدي (¬2) فلما وقف عليها حلها في ليلة واحدة وأقرأها على ما قالوا. ¬
وكان يدري فن الحكمة والمنطق والطبيعي والإلهي. وكذلك الطب ويعرف فنون الرياضة من إقليدس والهيئة والمخروطات والمتوسطات والمجسطي (وهي لفظة يونانية معناها بالعربية: الترتيب) وأنواع الحساب المفتوح منه، والجبر والمقابلة والأرتماطيقي وطريق الخطابين، والموسيقى والمساحة معرفة لا يشاركه فيها غيره، إلَّا في ظواهر هذه العلوم دون دقائقها والوقوف على حقائقها. وبالجملة فلقد كان كما قال الشاعر: وكان من العلوم بحيث يقضى ... له في كل علمٍ بالجميع واستخرج في علم الأوفاق طرقاً لم يهتد إليها أحد، وكان يبحث في العربية والتصريف بحثاً تاماً مستوفى، حتى أنه كان يقرئ كتاب سيبويه والإيضاح والتكملة لأبي علي الفارسي والمفصل للزمخشري (¬1). وكان له في التفسير والحديث وأسماء الرجال وما يتعلق به يد جيدة، وكان يحفظ من التواريخ وأيام العرب ووقائعهم والأشعار والمحاضرات شيئاً كثيراً. وكان أهل الذمة يقرؤون عليه التوراة والإنجيل، ويشرح لهم هذين الكتابين شرحاً يعترفون أنهم لا يجدون من يوضحهما لهم مثله. وكان في كل فنٍ من هذه الفنون، كأنه لا يعرف سواه لقوته فيه. وبالجملة: فإن مجموع ما كان يعلمه من الفنون لم نسمع عن أحد ممن تقدمه أنه كان قد جمعه. ولقد جاءنا الشيخ أثير الدين المفضل (¬2) بن عمر بن المفضل الأبهري، ¬
صاحب التعليقة في الخلاف والزيج والتصانيف المشهورة من الموصل إلى إربل في سنة 626 هـ، ونزل بدار الحديث وكنت أشتغل عليه بشيء من الخلاف، فبينما أنا يوماً عنده إذ دخل عليه بعض فقهاء بغداد. وكان فاضلاً فتجاريا في الحديث زماناً. وجرى ذكر الشيخ كمال الدين في أثناء الحديث، فقال له الأثير: لما حجَّ الشيخ كمال الدين ودخل بغداد كنتَ هناك؟ فقال: نعم. فقال: كيف كان إقبال الديوان العزيز عليه؟ فقال: ذلك الفقيه. ما أنصفوه على قدر استحقاقه فقال الأثير: ما هذا إلَّا عجبٌ والله ما دخل بغداد مثل الشيخ فاستعظمت منه هذا الكلام وقلت: يا سيدنا كيف تقول كذا؟ فقال: يا ولدي ما دخل بغداد مثل أبي حامد الغزالي ووالله ما بينه وبين الشيخ نسبة. وكان الأثير على جلالة قدره في العلوم، يأخذ الكتاب ويجلس بين يديه فيقرأ عليه والناس يوم ذلك يشتغلون في تصانيف الأثير، ولقد شهدت هذا بعيني وهو يقرأ عليه كتاب المجسطي. وقد حكى لي بعض الفقهاء: أنه سأل الشيخ كمال الدين عن الأثير ومنزلته في العلوم. فقال: ما أعلم. فقال: وكيف هذا يا مولانا وهو في خدمتك منذ سنين عديدة يشتغل عليك؟ فقال: لأنني مهما قلت تلقاه بالقبول. وقال: نعم يا مولانا. فما جادلني في مبحثٍ قط حتى أعلم حقيقة فضله. وكان الأثير معيداً عنده في المدرسة البدريَّة وكان يقول: ما تركت بلادي وقصدت الموصل إلا للاشتغال على الشيخ. وكان شيخنا تقي الدين أبو عمرو عثمان بن عبد الرحمن المعروف بابن الصلاح المتقدم ذكره يبالغ في الثناء على فضائله وتعظيم شأنه وتوحده في العلوم فذكره يوماً وشرع في وصفه على عادته. فقال له بعض الحاضرين: يا سيدنا على من اشتغل ومن كان شيخه؟ فقال: هذا الرجل خلقه الله إماماً عالماً في فنونه، لا يقال: على من اشتغل ولا من كان شيخه فإنه أكبر من هذا. ¬
وحكى (¬1) لي بعض الفقهاء بالموصل أن ابن الصلاح المذكور سأله أن يقرأ عليه شيئاً من المنطق سراً، فأجابه إلى ذلك، وتردد إليه مدة فلم يفتح عليه بشيء، فقال له يا فقيه، المصلحة عندي أن تترك الاشتغال بهذا الفن. فقال له: ولمَ ذلك يا مولانا؟ فقال: لأن الناس يعتقدون فيك الخير، وهم ينسبون كل من اشتغل بهذا الفن إلى فساد الاعتقاد، فكأنك تفسد عقائدهم فيك، ولا يحصل لك من هذا الفن شيء فقبل إشارته وترك قراءته. ومن يقف على هذه الترجمة فلا ينسبني إلى المغالاة في حق الشيخ، ومن كان من أهل تلك البلاد وعرف ما كان عليه الشيخ، عرف أني ما أعرته وصفاً ونعوذ بالله من الغلو والتساهل في النقل. وقد ذكره أبو البركات بن المستوفي (¬2) المتقدم ذكره في تاريخ أربل. فقال: هو عالم مقدم، ضرب في كل علم. وهو في علم الأوائل كالهندسة والمنطق وغيرهما ممن يشار إليه، حل إقليدس والمجسطي على الشيخ شرف الدين المظفر بن محمد بن المظفر الطوسي الفارابي (¬3) يعني صاحب ¬
الأسطرلاب (¬1) الخطي المعروف بالعصا. وقال ابن المستوفي: وردت عليه مسائل من بغداد في مشكلات هذا العلم فحلها واستصغرها ونبه على براهينها بعد أن احتقرها، وهو في الفقه والعلوم الإِسلامية نسيج وحيد، ودرَّس في عدة مدارس بالموصل وتخرج عليه خلق كثير في كل فنٍ. ثم قال: أنشدنا لنفسه وأنفذها إلى صاحب الموصل يشفع عنده: لئن شرفت أرض بمالكٍ رقها ... فمملكة الدنيا بكم تتشرف ومكنت من حظ البسيطة مثل ما ... تمكن في أمصار فرعون يوسف بقيت بقاء الدهر أمرك نافذٌ ... وسعيك مشهور وحكمك منصف قلت أنا: ولقد أنشدني هذه الأبيات عند أحد أصحابه بمدينة حلب، وكنت بدمشق سنة 633 هـ، وبها رجل فاضل في علوم الرياضة فأشكل عليه مواضع من مسائل الحساب والجبر والمقابلة والمساحة وأقليدس، فكتب جميعها في درج وسيَّرها إلى الموصل، ثم بعد أشهر عاد جوابه وقد كشف عن خفيها وأوضح غامضها، وذكر ما يعجز الِإنسان عن وصفه ثم كتب في آخر الجواب: فليمهد العذر في التقصير في الأجوبة فإن القريحة جامدة، والفطنة خامدة قد استولى عليها كثرة النسيان وشغلها حوادث الزمان، وكثير مما استخرجناه وعرفناه نسيناه بحيث صرنا كأنا ما عرفناه. وقال لي صاحب المسائل المذكورة: ما سمعت مثل هذا الكلام إلا للأوائل المتقنين لهذه العلوم، ما هذا من كلام أبناء هذا الزمان. وحكى لي الشيخ الفقيه الرياضي علم الدين قيصر بن أبي القاسم بنِ عبد الغني بن مسافر الحنفي المقرئ، المعروف بتعاسيف (¬2)، وكان إماماً ¬
في علوم الرياضة قال: لقد أتقنت علوم الرياضة بالديار المصرية وبدمشق، تاقت نفسي إلى الاجتماع بالشيخ كمال الدين، لما كنت أسمع من تفرده بهذه العلوم، فسافرت إلى الموصل قصداً للاجتماع، فلما حضرت في مجلسه وخدمته وجدته على حلية الحكماء المتقدمين، وكنت قد طالعت أخبارهم وحلاهم فسلمت عليه، وعرفته قصدي له للقراءة عليه فقال لي: في أي العلوم تريد تشرع؟ فقلت: في الموسيقى، فقال: مصلحة هو، فلي زمان ما قرأه علىَّ أحد، أوثر مذاكرته وتجديد العهد فشرعت فيه، ثم في غيره حتى شققت عليه أكثر من أربعين كتاباً في مقدار ستة أشهر، وكنت عارفاً بهذا الفن، لكن كان غرضي الانتساب في القراءة إليه، وكان إذا لم أعرف المسألة أوضحها لي، وما كنت أجد من يقوم مقامه في ذلك، وقد أطلت الشرح في نشر علومه، ولعمري لقد اختصرت. ولما توفي أخوه الشيخ عماد الدين (¬1) محمد المتقدم ذكره، تولى الشيخ المدرسة العلائية موضع أخيه، ولما فتحت المدرسة القاهرية تولاها ثم تولى المدرسة البدريَّة في ذي الحجة سنة 620 هـ، وكان مواظباً على إلقاء الدروس والإِفادة وحضر في بعض الأيام دروسه جماعة من المدرسين أرباب الطيالس وكان العماد أبو علي عمر بن عبد النور بن يوسف الصنهاجي (¬2) ¬
النحوي البجائي حاضراً، فأنشد على البديهة: كمالَ كمالُ الدين للعلم والعلى ... فهيهات ساعٍ في مساعيك يطمعُ إذا اجتمع النظار في كل موطنٍ ... فغاية كلٍ أن تقول ويسمعوا فلا تحسبوهم من غناءٍ تطيلسوا ... ولكن حياء واعترافاً تقنعوا وللعماد المذكور فيه أيضاً: تجر الموصل الأذيال فخراً ... على كل المنازلِ والرسومِ بدجلة والكمالِ هما شفاءٌ ... لهيمٍ أو لذي فهمٍ سقيم فذا بحر تدفق وهو عذب ... وذا بحر ولكن من علوم وكان الشيخ- سامحه الله- يُتهم في دينه، لكون العلوم العقلية غالبةً عليه، وكانت تعتريه غفلة في بعض الأحيان، لاستيلاء الفكرة عليه بسبب هذه العلوم، فقال فيه العماد المذكور: أجدك أن قد جاد بعد التعبس ... غزال بوصلٍ لي وأصبح مؤنس وأعطيته صهباء من فيه مزجها ... كرقة شعري أو كدين ابن يونس انتهى كلام ابن خلكان.
ورأيت بخط الشيخ كمال الدين بن يونس على الجزء الأول من أقليدس إصلاح ثابت بن قرة (¬1) ما نصه: قرأت على الشيخ الإمام العالم الزاهد الورع شرف الدين فخر العلماء تاج الحكماء أبي المظفر أدام الله أيامه بعد عوده من طوس هذا الجزء، وكنت حللته عليه نفسي مع كتاب المجسطي وشيء من المخروطات واستنجزته ما كان وعدنا به من كتاب الشكوك، فأحضره واستنسخه وكتَبَه موسى بن يونس بن محمد بن منعة في تاريخه هذا صورة خط وتاريخ الكتاب المشار إليه. التاسع عشر من ربيع الأول سنة 576 هـ. انتهى من طبقات الشافعية الكبرى لتاج الدين أبي نصر عبد الوهاب بن علي عبد الكافي السبكي المتوفى سنة 771 هـ. ولم أضف لما نقلته شيئاً من غيره (¬2). وروى القاضي الأرموي- رحمه الله تعالى- كما نقل ذلك مؤلف كتاب مناقب أوحد الدين حامد بن أبي الفخر الكرماني، المتوفى سنة 635 هـ حيث يقول: انتقلت من مصر إلى بلاد الروم بقصد التشرف والتقرب من الشيخ أوحد الدين الكرماني، وكان ذلك في عهد السلطان علاء الدين ¬
تلاميذه
كيقباذ، الذي استقبلني بنفسه واستفسر مني عن مرادي، فأخبرته مرادي مصاحبة الشيخ أوحد الدين الكرماني، واستنكر ذلك، حيث إن ملطية لم تكن مركزاً يصلح مقراً لأمثال القاضي الأرموي، ثم أصدر أمره بأن أُنزلَ بمدرسةٍ أمام الجامع والتحقت بالتدريس فيها. ثم أخذت في الذهاب للشيخ أوحد الدين الكرماني في كل يوم بعد العصر، وقد وجدت من لطفه وحسن خلقه ما لا أستطيع وصفه، وكنت مواظباً على الأذكار عنده، ويذكر قصة رجل آخر اسمه جمال الدين الواسطي، وهو عالم حكيم يجيد علوم الهيئة وأقليدس والمنطق والحكمة والنجوم والرياضيات، كان يتذاكر مع القاضي الأرموي في هذه العلوم واستفسر منه عن مكان ذهابه كل يوم، فأخبره أنه يذهب لملازمة الشيخ أوحد الدين الكرماني، فاستنكر ذلك جمال الدين الواسطي على القاضي محمود بن أبي بكر الأرموي، ولكن استطاع القاضي الأرموي- رحمه الله- أن يقنع زميله بالذهاب إلى الشيخ الكرماني، فأعجب به ولازمه أيضاً. فهذه القصة قد يثبت منها أخذ القاضي محمود بن أبي بكر الأرموي عن أوحد الدين الكرماني، فيعتبر أوحد الدين الكرماني أحد مشايخ الأرموي، وإن كانت تلمذته عليه تلمذة تزكية النفس والأخلاق، وأما العلوم فالأرموي قد حازها قبل ذلك. فاستقبال علاء الدين كيقباذ له يدل على علو منزلته وعظمة علومه قبل وصوله إلى ملطية، فعينه مدرساً في مدرستها حال وصوله. ولا أظن أنه كان عظيم تأثير لأوحد الدين الكرماني على قدرة الأرموي العلمية، ولهذا لم أعتبره شيخاً له. تَلاميذهُ مما لا شك فيه أن عالماُ كالفاضي سراج الدين الأرموي في سعة العلوم وإتقانها والتصنيف فيها، لا بد وأن يكون له طائفةٌ ليست بالقليلة من طلبة العلم ولكن جميع من ترجم له لم ينقل اسم أحدٍ من تلاميذه رغم ورود
ترجمته في مراجع كثيرة ولهذا لا بد لي من دراسة كتب التراجم التي ترجمت لمن عاصره لمن دونه سناً. وبعد عناءٍ وتفتيش في كل كتابٍ يظن وجود ذلك فيه وصلت إلى أنه تتلمذ عليه عالمان من العلماء وهما: 1 - محمد (¬1) بن عبد الرحيم (¬2) بن محمد الشيخ صفي الدين الهندي الأرموي المتكلم على مذهب الأشعري، كان من أعلم الناس بمذهب الشيخ أبي الحسن وأدراهم بأسراره متضلعاً بالأصلين. اشتغل على القاضي سراج الدين صاحب التحصيل وسمع من الفخر بن البخاري، وروى عنه الذهبي شيخ السبكي صاحب الطبقات، ولد ببلاد الهند سنة 644 هـ، ورحل إلى اليمن سنة 667 هـ، ثم حجَّ وقدم إلى مصر، ثم سار إلى بلاد الروم، واجتمع بسراج الدين وقرأ عليه وخدمه حباً في العلم. ثم قدم دمشق سنة 685 هـ، واستوطنها ودرَّس بالأتابكية والظاهرية الجوانية، وشغل الناس بالعلم. كان خطه في غاية الرداءة. وكان رجلًا ظريفاً ساذجاً فيحكى أنه قال: وجدت في سوق الكتب مرةً كتاباً بخط ظننته أقبح من خطي فغاليت في ثمنه، واشتريته لأحتج به على من يدعي أن خطي أقبح الخطوط، فلما عدت إلى البيت وجدته بخطي القديم. ولما وقع من ابن تيمية في المسألة الحموية ما وقع، وعقد له المجلس بدار السعادة بين يدي الأمير تنكز وجمعت العلماء أشاروا بأن يحضر الشَّيخ الهندي فحضر، وكان الهندي طويل النفس في التقرير إذا شرع في وجه يقرره لا يدع شبهةً ولا اعتراضاً، إلا قد أشار إليه في ¬
التقرير بحيث لا يتم التقرير إلا وقد بعد على المعترض مقاومته، فلما شرع يقرر أخذ ابن تيمية يعجل عليه على عادته ويخرج من شيء إلى شيء. فقال له الهندي: ما أراك يا ابن تيمية إلا كالعصفور حيث أردت أن أقبضه من مكانٍ فر إلى مكان آخر. وكان الأمير تنكز يعظم الهندي ويعتقده، وكان الهندي شيخ الحاضرين كلهم فكلهم صدر عن رأيه وحبس ابن تيمية بسبب تلك المسألة، وهي التي تضمنت قوله بالجهة ونودي عليه في البلد وعلى أصحابه وعزلوا من وظائفهم، توفي بدمشق في 29 صفر سنة 715 هـ. وله من المصنفات: نهاية الوصول إلى علم الأصول في ثلاث مجلدات رأيت الجزء الثالث منه في دار الكتب وهو شرح للمحصول، والفائق في أصول الفقه، والزبدة في علم الكلام، والرسالة التسعينية في الأصول الدينية. 2 - تاج الدين الكردي (¬1): قرأ رحمه الله على علماء عصره منهم العالم الفاضل سراج الدين الأرموي صاحب المطالع وبيان الحكمة. وحصل من العلوم شيئاً كثيراً وبرع في جميعها وتمهر في الفقه واشتهرت فضائله في الآفاق. ولما مات داود القيصري نصبه السلطان أورخان مقامه مدرساً بمدرسة أزنيق وأفاد تلاميذه. زوج إحدى ابنتيه للشيخ إده بالي وزوج ابنته الأخرى للمولى خير الدين القاضي الذي أصبح وزيراً ولقب بخير الدين باشا. ¬
مؤلفات القاضي سراج الدين الأرموي بوجه عام
مؤَلَّفَاتُ القَاضي سِرَاجِ الدّين الأَرمَوي بوَجهٍ عَام مع بيان موضوعها ولمحة عن كل منها ومكان وجود المخطوط منها القاضي أبو الثناء سراج الدين محمود بن أبي بكر بن أحمد الأرموي من الأئمة المكثرين في التأليف ومن المحققين في التصنيف، رغم عدم استقرار الأحوال في زمانه إذ كان عصره (السابع الهجري) عصر قلاقلٍ وفتنٍ وحروبس داميةٍ وزحفٍ دمويٍ منقطع النظير. ففي باكورة شبابه دهم بلاده الزحف التتاري، ويغلب على الظن أنه فرَّ أمامه إلى الموصل في شمال العراق محط رحل العلماء آنذاك، ولازم فيها موسوعة العلوم في ذلك الزمان كمال الدين (¬1) موسى بن يونس بن محمد بن منعة أبا الفتح الموصلي الكردي، المتوفى سنة 639 هـ. والذي أفردناه بترجمةٍ طويلةٍ تدل على مدى سعة علومه، حتى إن عظماء الزمان قد سعوا للارتشاف من علمه وعلى رأسهم علامة الحديث أبو عمرو عثمان بن عبد الرحمن بن موسى الكردي الشهرزوري الموصلي الشافعي المتوفى في دمشق سنة 643 هـ والمشهور بابن الصلاح، وابن خلكان أحمد بن محمد بن إبراهيم الأربيلي القاضي، المتوفى 681 هـ صاحب وفيات الأعيان، المتوفى قبل سراج الدين الأرموي بعامٍ واحد، وغيرهم من العلماء في شتى الفنون والعلوم. ولا ندري عن مدة ملازمته لهذا العلّامة. ¬
ثم توجهت به الركائب إلى ملطية من بلاد الروم، حيث لقي التجلة والاحترام من حاكمها حينذاك علاء الدين كيقباذ السلجوقيِ، الذي تولى الحكم سنة 615 هـ ثم هجرها بعد أن أقام فيها فترةً ملازمًا لأوحد الدين الكرماني (¬1)، ثم توجه لدمشق حيث كما يبدو أنَّه استقر فيها فترةً من الزمن، وألف فيها كتابه التحصيل، وبعض مؤلفاته الأخرى ثم توجه إلى مصر في أواخر عام 647 هـ، حيث تشرف بمقابلة السلطان الملك غياث الدين توران شاه ابن الصالح نجم الدين أَيُّوب آخر من حكم مصر من الأكراد، وكان برفقة سلطان العلماء آنذاك، عز الدين بن عبد السلام المتوفى سنة 660 هـ، ثم استقر به المطاف في عاصمة الروم السلاجقة أعظم مدن الروم آنذاك، فاشتغل بالقضاء حتَّى أصبح قاضي القضاة. ورغم هذا التجوال في البلاد واضطراب الأحوال واشتغاله بالقضاء، وكل هذه عوامل تحول بينه وبين التأليف والتصنيف، فقد خلَّف تراثًا ضخمًا في شتى العلوم والفنون، وربما لم يصل إلينا كاملًا، كما حدث لكثيرٍ من العلماء الذين ذهبت مصنفاتهم أدراج الرياح وحتى هو نفسه، فقد عثرنا له على ثلاثة مصنفات لم يرد لها ذكر في فهارس المصنفات، وخاصة أنَّه يجيد اللغتين الفارسية والعربية، وقد صنف بعض كتبه بالفارسية وقد طبع له بالفارسية "لطائف الحكمة" الكتاب العظيم الذي طبع حديثًا في إيران. فالقاضيِ -رحمه الله- قد شارك في شتى الفنون والعلوم، ولكن كان له القدح المعلى في علم المنطق وعلم الحكمة فما إِن أراد طاش كبري (¬2) زادة في كتابه مفتاح السعادة (¬3). أن يكشف لنا النقاب عن غرر فن المنطق ¬
والحكمة، فإذا به يصدِّرها بمؤلفات سراج الدين الأرمويّ، وفي مقدمتها مطالع الأنوار (¬1) الذي شاء الله له أن يشتهر، وتتناوله العلماء بالشرح والتحقيق ووضع الحواشي، ويقبلوا عليه إقبالًا منقطع النظير، فلا شك أن علمي المنطق والحكمة كان القاضي الأرموي فارسهما المغوار ورائدهما المحنك بعد أن ألمَّ بمصنفات الشيخ الرئيس أبي علي بن سيناء (¬2) والِإمام فخر الدين الرَّازيّ، فقد حذق دقائق هذا الفن وخباياه، وعرف عويصات مسائله ولا زال أجلة العلماء في هذا الفن يَردون مصنفاته العظيمة عطاشًا فيصدرون عنها بعد أن تبتل العروق ويذهب الظَمأ. وأما سراج الدين الأرموي العالم بالأصول، فلم يقتصر على كتاب واحد في هذا الفن. والناظر في كتابه التحصيل يجد علمًا غزيرًا ونظرًا ثاقبًا دقيقًا وتنظيمًا غريبًا عجيبًا في التصنيف وإيراد الإشكالات والرد عليها، فذلَّل بذلك علم المنطق لخدمة علم الأصول. ولا تكاد تفارق التحصيل رائحة علم الكلام، فقد أورد الكثير من مسائله في كتابه التحصيل مما تمس له الحاجة، فقد كان -رحمه الله- أصوليًا بارعًا ذا رأي سديد واجتهاد مصيب، فاستدرك على إمام الزمان وعلّامة القرن السادس الهجري بلا منازع فخر الدين محمَّد ابن عمر الرَّازيّ المتوفى سنة 606 هـ، صاحب العلوم الغزيرة والعقل المستنير، وصاحب التفسير الذي سارت بذكره الركبان ولا يزال منهلًا عذبًا للحكماء والعلماء. وقد ساهم القاضي الأرموي -رحمه الله- في علم الكلام بكتابه العظيم اللباب مختصر الأربعين للإمام الفخر الرَّازيّ. وقد ساهم في الفقه حيث امتدت يده إلى الوجيز (¬3)، الذي ذاع صيته بين الفقهاء، وتناولته الفقهاء بالاختصار والشرح ووضع الحواشي والتعليق حتَّى قال البيلقاني (¬4): وقفتُ للوجيز على سبعين شرحًا. ¬
1 - مطالع الأنوار في المنطق والحكمة
والأرموي -رحمه الله- وإن لم تذكر له المصنفات التي بين أيدينا تراثًا شعريًا، فإننا لا نشك في أنَّه كان يقرض الشعر، حيث روى ذلك عنه من سمع بأذنه، وهو أَحْمد الأفلاكي المتوفى سنة 745 هـ (¬1). الذي ألَّف مناقب العارفين (¬2)، وعاصر الأرموي -رحمه الله- وعاش معه في مدينةٍ واحدةٍ وهي (قونية) عاصمة بني سلجوق آنذاك. والآن قد حان الوقت للشروع في ذكر مصنفات القاضي الأرموي -رحمه الله- معرفين بها بقدر الاستطاعة بادئين بمؤلفاته المنطقية والحكمية، نظرًا لأن المصنفين يعدونه مؤلفًا في هذا الفن من الدرجة الأولى. 1 - مطالع الأنوار في المنطق والحكمة قال صاحب كشف الظنون (¬3) حاجي خليفة: (عن مطالع الأنوار): كتاب اعتنى بشأنه الفضلاء، واهتموا ببحثه ودرسه وتدريسه أوله: اللهمَّ إنَّا نحمدك والحمد من آلائك، ونشكرك والشكر من نعمائك، ونعوذ بك من الغباوة والغواية، ونبتغي منك إعلام الحق وإلهام الصدق، فإنَّه لا علم إلَّا ما علَّمت، ولا دراية إلَّا ما ألهمت، إنك أَنْتَ العليم الحكيم والجواد الكريم ونبتهل إليك في أن تصلي على محمَّد سيد المرسلين وخاتم النبيين وعلى آله الطيبين الطاهرين وبعد: فهذا مختصر في العلوم الحقيقية والمعارف الِإلهية ¬
سميته بمطالع الأنوار، رتبته على طرفين الأول: في المنطق، والثاني: أربعة أقسام: الأول: في الأمور العامة. الثاني: في الجواهر خاصة. الثالث: في الأعراض خاصة. الرابع: في العلم الإلهي خاصة. وهذا الكتاب قد اعتنى به طائفة من أجلّة العلماء والحكماء ما بين شارح وناقد وواضع حاشية زادوا عن الثلاثين. وسنذكر طائفةً منهم على سبيل المثال لا الحصر وهذا إن دلَّ على شيء فإنما يدل على مدى أهمية هذا الكتاب ومنزلته بين كتب هذا الفن. وفيما يلي أذكر بعضًا ممن اشتغل به (¬1). 1 - شرحه قطب الدين محمَّد بن محمَّد الرَّازيّ التحتاني المتوفى سنة 706 هـ، شيخ بدر الدين التستري، شرحه لغياث الدين الوزير، فصار عظيم القدر كثير النفع، وسماه لوامع الأسرار. أ- وضع حاشية على هذا الشرح السيد الشريف علي بن أَحْمد الجرجاني، المتوفى سنة 816 هـ. كتبها حين قرأ الشرح على مباركشاه المنطقي (¬2). ومطالع الأنوار مع لوامع الأسرار، وحاشية الجرجاني طبع مرتين (¬3)، الأولى: في الآستانة (أستانبول) سنة 1303 هـ، في جزأين في حوالي 600 صفحة كبيرة في مطبعة محرم أفندي. والثانية: في طهران بإيران سنة 1314 هـ. ¬
ب- حاشية أخرى لمولانا حسن بن عليّ الشَّافعيّ (أبي وردى) المتوفى سنة 816 هـ، ويوجد نسخةٌ مخطوطةٌ منها في مكتبة ليدن برقم 1543 (¬1). جـ- حاشية أخرى لمولانا داود المتوفى سنة 850 هـ، يوجد منها نسخة مخطوطة في مكتبة برلين برقم (5090) والإسكندرية برقم 23 منطق، وكوالالمبور برقم 2/ 350. د- حاشية أخرى لحاجي باشا المتوفى سنة 816 هـ، رد فيها على الاعتراضات الواردة على شرح القطب الرَّازيّ التحتاني، وفرغ من تصنيفها في جمادى الأولى سنة 784 هـ، ويوجد منها نسخة مخطوطة في باريس برقم 2388. هـ - وحاشية أخرى لمير مرتضى الشيرازي المتوفى سنة 994 هـ، ويوجد منها نسخة مخطوطة في مكتبة كوالالمبور برقم 2/ 352، ونسخة أخرى في المركز الهندي بلندن برقم 529. و- حاشية أخرى لمولانا لطفي المقتول سنة 900 هـ، وموجود معها نسخة مخطوطة في دار الكتب بالقاهرة برقم 5/ 92، ومكتبة برلين برقم 1/ 266، 2/ 482. ز- حاشية أخرى لسيدي علي العجمي المتوفى سنة 860 هـ، يوجد منها نسخة مخطوطة في المركز الهندي بلندن برقم 528، ونسخة أخرى في مكتبة ليدن برقم 1540. ح- رسالة للفياض القاضي زادة الرومي وشرف الدين حسن شاه المتوفى سنة 815 هـ، يوجد منها نسخة مخطوطة في مكتبة كوالالمبور برقم 2/ 343. ط- حاشية أخرى لمولانا عبد الرَّحِيم الشرواني، المتوفى سنة 1134 هـ. ي- حاشية أخرى لأحمد بن سليمان كمال باشا، المتوفى سنة 940. ¬
ك- حاشية أخرى لعلاء الدين الطوسي، المتوفى سنة 887 هـ. ل- حاشية أخرى لشجاع الدين إلياس الرومي، المتوفى سنة 929 هـ. م- حاشية أخرى للقاضي شمس الدين محمَّد بن أَحْمد البسطامي، المتوفى سنة 842 هـ. ن- حاشية أخرى للشيخ شمس الدين محمَّد بن شهاب الشرواني، المتوفى سنة 892 هـ. س- حاشية أخرى لسيف الدين أَحْمد بن محمَّد حفيد السعد التفتزاني، المتوفى سنة 842 هـ. 2 - شرح مطالع الأنوار شمس الدين أبو الثناء محمود بن عبد الرَّحْمَن الأصفهاني، المتوفى سنة 749 هـ وعليه الحواشي الآتية: أ- حاشية للمولى محمَّد شاه بن يوسف الفناري المتوفى سنة 929 هـ. ب- حاشية أخرى للمولى قرة داود بن كمال القوجوي المتوفى سنة 948 هـ. جـ- حاشية أخرى لعلاء الدين علي بن محمَّد الشهير بمصنفك المتوفى سنة 872 هـ. د- حاشية أخرى لعز الدين بن جماعة محمَّد بن أَحْمد المتوفى سنة 816 هـ. 3 - شرح المطالع لبدر الدين محمَّد بن أسعد التستري صاحب حل عقد التحصيل المتوفى سنة 732 هـ، بتبريز، وهو أستاذ جمال الدين الأسنوي، صنفه سنة 707 هـ بتبريز، وسماه حل عقد مطالع الأنوار. 4 - شرح لعلاء الدين الطوسي المتوفى سنة 887 هـ ألفه بأمر السلطان محمَّد خان ومطبوع بالفارسية. وموجود منه نسخة مخطوطة في مكتبة ليدن برقم 3/ 1542. 5 - شرح لجلال الدين محمَّد بن أسعد الدواني المتوفى سنة 908 هـ وسماه تنوير الطالع وتبصير المطالع يوجد نسخة منه مخطوطة في مكتبة كوالالمبور برقم 2/ 327. وأخرى في مكتبة برلين برقم 1/ 509، وثالثة في مكتبة باريس برقم 2398.
2 - شرح الإشارات والتنبيهات في المنطق والحكمة
ويوجد له ثلاث حواشي: أ- حاشية لصدر الدين الدشتكي، يوجد منه نسخة مخطوطة في مكتبة السيد النجومي في كرمان شاه (¬1). ب- حاشية أخرى لسراج الدين محمَّد بن عمر الحلبي المتوفى سنة 850 هـ. جـ- حاشية أخرى للمولى عبد الكريم المتوفى سنة 900 هـ (¬2). 2 - شرح الإِشارات والتنبيهات في المنطق والحكمة كتاب الإشارات يعتبر من عيون كتب المنطق والحكمة, لأنه للشيخ الرئيس أبي علي بن الحسين بن عبد الله، الشهير بابن سينا المتوفى سنة 428 هـ. وابن سينا من رواد هذا الفن البارعين، وكتابه الإشارات له من اسمه نصيب، فهوكتاب صغير الحجم كثير العلم مستصعب على الفهم منطوٍ على كلام أولي الألباب، مبينٍ للنكت العجيبة والفوائد الغريبة التي خلا عنها أكثر المبسوطات، أورد المنطق في عشرة مناهج والحكمة في عشرة أنماط. الأول: في الأجسام. الثاني: في الجهات. الثالث: في النفوس. الرابع: في الوجود. الخامس: في الإِبداع. السادس: في الغايات والمبادئ. السابع: في التجريد. الثامن: في السعادة. ¬
3 - بيان الحق في المنطق والحكمة ذكره صاحب كشف الظنون
التاسع: في مقامات العارفين. العاشر: في أسرار الآيات. ثم ذكر صاحب كشف الظنون (¬1) جماعة ممن شرح الإِشارات، أو وضع عليها حاشيةً أو رد على الشيخ الرئيس ابن سينا فيها، وكان من بين من كان لهم الشرف العظيم بالاشتغال بها علاّمة عصره القاضي الأرموي حيث حلّ عويص مسائلها، ووضّح أفكارها ونقّب عن غوامضها. 3 - بيان الحق في المنطق والحكمة ذكره صاحب كشف الظنون قال بروكلمان (¬2): كتاب بيان الحق حسبما ذكر حاجي خليفة في كتابه كشف الظنون (¬3) 2/ 78، 1983، كتاب في المنطق والفلسفة ربما تكون منه نسخة في المتحف البريطاني برقم 149 في الفيزيا والميتافيزيقيا (¬4)، تابع فيه أرسطو (¬5) وتنقيح الفارابي (¬6)، والعنوان الموجود لدى حاجي خليفة يبدو أنَّه ¬
متعلق بالجزء الأخير منه فقط. وذكره طاش كبري زاده في كتابه مفتاح السعادة (¬1). 4 - المناهج في المنطق والحكمة: ذكره صاحب كشف الظنون برقم 1846، وذكره أَحْمد بن مصطفى الشهير بطاش كبري زادة في كتابه مفتاح السعادة. 5 - لطائف الحكمة في المنطق: لم يذكره صاحب، كشف الظنون ولا صاحب مفتاح السعادة، وذكره الزركلي في الأعلا م وغيره، وقد وجدته مطبوعًا في المعرض العاشر للكتاب المقام بالقاهرة في شهر كانون الثاني من عام 1978 م، باللغة الفارسية في جناح دولة إيران وهو في مجلد ضخم. 6 - شرح الموجز في المنطق لمحمد بن ناماور بن عبد الملك القاضي أفضل الدين الخونجي المتوفى سنة 649 هـ، وقد أشار لذلك ملحق بروكلمان 1/ 838، ويوجد منه نسخةٌ خطية بجامع القرويين بفاس برقم 1375. 7 - رسالة في الفرق بين موضوع العلم الإلهي والكلامي لم يذكر أحد ممن ترجم للقاضي محمود بن أبي بكر الأرموي هذه الرسالة، وقد عثرت عليها في مكتبة الحرم المكي زاده الله تشريفًا وتكريمًا، وقد رأيتها بعيني رأسي أثناء مطالعتي في المكتبة المذكورة في غرة جمادى الآخرة سنة 1395 هـ، وتقع الرسالة في ثمان صفحات مكتوبة بخط ممتاز في كل صفحةٍ واحدٌ وعشرون سطرًا، وهي موجودة ضمن مجاميع في قسم العقائد برقم (456). بدأها بمقدمةٍ ذكر فيها أن العلوم إما نظريَّة أو عمليَّة، والنظرية منها هي التي الغاية منها حصول رأي واعتقاد، والعمليَّة بها استكمال النفس في قوتها ¬
العملية، ويعرف بعلم الأخلاق والسياسات، والعلوم النظرية إما طبيعية أو تعليمية وإما إلهيَّة. أمَّا الطبيعية فموضوعها الأجسام من حيث إنها متحركة أو ساكنة، ويبحث فيها عن العوارض التي تلحقها من هذه الجهة ... ألخ. وتتميمًا للفائدة وجدت برفقها رسالة لقطب الدين الرَّازيّ (¬1) وموضوعها: (رسالة في معنى التصور والتصديق). وقد شارك الأرموي -رحمه الله- في علم الجدل, حيث أَلّف بعض المؤلفات فيه وقد وجدت له في ذلك كتابين وهما: 8 - الرسائل في علم الجدل ذكره صاحب كشف الظنون في صفحة رقم 902. 9 - تهذيب النكت في علم الجدل مختصر كتاب النكت في علم الجدل لأبي إسحاق الشيرازي المتوفى سنة 476 هـ، ولم يذكر هذا الكتاب إلَّا محقق كتاب لطائف الحكمة نقلًا عن كتاب فارسي، وقد رأيت كتابًا نسبه طاش كبري زادة في مفتاح السعادة (¬2) باسم تهذيب النكت لمحمد بن عبد الله بن أبي بكر الأبهري المالكي المتوفى 375 هـ، وهو قطعًا غير الكتاب المنسوب للقاضي الأرموي, لأن الذي نسب هذا الكتاب للقاضي الأرموي ذكر بأنه مختصر لكتاب النكت لأبي إسحاق الشيرازي (¬3)، المتوفى سنة 476 هـ، أي بعد الأبهري بمائة عام. 10 - وقد شارك الآرموي -رحمه الله- في أصول الدين بالإضافة للمسائل التي بحثها في التحصيل عرضًا باختصار أحد أعظم مؤلفات الإِمام فخر الدين الرَّازيّ في هذا الفن، وهو كتاب الأربعين المشهور وسماه "اللباب" وقد ذكره صاحب كشف الظنون في صفحة 61، وذكره طاش ¬
كبري زادة في مفتاح السعادة في 1/ 297، ونسبه غيره من المترجمين للأرموي. 11 - وقد ساهم سراج الدين الأرموي في الفقه حيث امتدت يده ليصافح حجة الإِسلام محمَّد بن محمَّد الغزالي المتوفى 505 هـ، ليكون من جملة منَ ألقى بظلال قلمه على معجزة الغزالي "الوجيز" فشرحه وسماه (شرح الوجيز). والوجيز أخذه حجة الإِسلام من كتابيه البسيط والوسيط، وزاد فيه، وهو عمدة في مذهب الإِمام الشَّافعيّ، وقد اهتم به العلماء غاية الاهتمام بالشرح والاختصار وذكر صاحب كشف الظنون (¬1) حوالي عشرين شخصًا ممن اشتغلوا به، وذكر من بينهم سراج الدين الأرموي -رحمه الله- وبعد أن عدد حاجي خليفة في كشف الظنون طائفةً ممن اشتغل به، نقل عن البيلقاني أنَّه قال: وقفت للوجيز على سبعين شرحًا وقد قيل: (لوكان الغزالي نبيًا لكان معجزته الوجيز) وفي الطالع السعيد (¬2): (أن ابن دقيق (¬3) العيد لما وصل إليه الشرح الكبير (¬4) للرافعي (¬5)، اشتغل بمطالعته وصار يقتصر من الصلوات على الفرائض). ¬
12 - رسالة في أمثلة التعارض في أصول الفقه لا زالت مخطوطةً وموجودة في الخزانة التيمورية الملحقة بدار الكتب المصرية برقم (140)، وهي عبارة عن جزءٍ واحدٍ مجلد مكتوبة في عام (645 هـ) وأشار لها صاحب كشف الظنون في صفحة 848، وقد طالعتها في دار الكتب المصريَّة في غرة ربيع الأول عام 1398 هـ، وهي تقع في ثلاث عشرة صفحة في كل صفحةٍ سبعةَ عشرَ سطرًا في كل سطر عشر كلمات تقريبًا وخطها مقروء. أولها: "بسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم. اللهم تمم بخير. أمثلة التعارض للشيخ الإِمام العلامة سراج الدين محمود بن أبي بكر بن أَحْمد الأرموي". ثم ذكر أمثلة لعشر مسائل وأتبعها بثلاثة فروع وهي: المسألة الأولى: النقل أولى من الاشتراك. المسألة الثَّانية: المجاز أولى من الاشتراك. المسألة الثالثة: الإضمار أولى من الاشتراك. المسألة الرابعة: التخصيص أولى من الاشتراك. المسألة الخامسة: المجاز أولى من النقل. المسألة السادسة: الإِضمار أولى من النقل. المسألة السابعة: التخصيص أولى من النقل. المسألة الثامنة: المجاز والإضمار سيان. المسألة التاسعة: التخصيص أولى من المجاز. المسألة العاشرة: التخصيص أولى من الإِضمار. ¬
" فروع" الأول: الاشتراك راجح على النسخ. الثاني: التواطؤ أولى من الاشتراك. الثالث: الاشتراك بين علمين أولى، ثم بين علم ومعنى، ثم بين معنيين. وختمها بقوله: تمّ بحمده وعونه وحسن توفيقه ويمنه، والصلاة والسلام والإيمان الأكملان على سيدنا ونبينا محمدٍ رسوله وعبده، وذلك يوم الأحد عاشر ذي الحجة الحرام سنة 645 هـ بالعادلية الكبرى بدمشق المحروسة علقها لنفسه أقل عبيد الله وأفقرهم وأذلهم الراجي عفو ربه ومغفرته. يوسف بن محمَّد بن عبد القوي بن غازي بن عبد الوهَّاب الجناني الثبوتي غفر الله له ولوالديه ولمن نظر فيها، ودعا له بالتوبة ولجميع المسلمين آمين آمين آمين. وصلواته على سيدنا محمَّد وحسبنا الله ونعم الوكيل. ثم نقل بعدها صفحةً من كتاب هواتف الجن (¬1)، ولم يذكر اسم مصنف الكتاب ومما نقله فيها حديث الاستعاذة بالله من هول الوادي والنهي عن الاستعاذة بالجن، ثم نقل قصة عبد المطَّلب (¬2) بن هاشم مع سيف بن ذي يزن (¬3) وفيها خطبته المشهورة. ¬
13 - أسئلة أوردها القاضي محمود بن أبي بكر الأرموي على المحصول للإمام فخر الدين الرَّازيّ المتوفى سنة 606 هـ، وهي محفوظة في دار الكتب المصرية ضمن مجموعة برقم (30)، وقد ذكرها صاحب كشف الظنون في صفحة 92. وبعد الرجوع لهذه النسخة وقراءتها وجدتها ملحقةً بنسخةٍ من نسخ المحصول، وهي في حوالي أربعين صفحة كبيرة جدًا، في كل صفحةٍ سبعة وعشرون سطرًا، وفي كل سطر حوالي اثنتين وعشرين كلمة، ومكتوب في بدايتها، كراريس من كلام الشيخ سراج الدين الأرموي على المحصول لفخر الدين الخَطيب- رحمه الله-. ثم بدأها بقوله: بسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم والحمد لله المستحق الحمد ووليه والصلاة على سيدنا محمَّد عبده ونبيه، هذه الأسطر من (مقاصد العقول من معاقد المحصول للإمام العلامة سراج الدين محمود بن أبي بكر الأرموي). قول المصنف -رحمه الله- في تعريف الفقه: (بالأحكام الشرعية) فالعلم كالجنس في هذا التعريف، والقيد الأول وهو قوله: بالأحكام احتراز عن العلم بالذوات والصفات الحقيقية، وبيانه أنَّه إنما يكون علمًا بالحكم إيجابًا كان أوسلبًا أو بغيره سواء كان من الصفات، وإنما قيد بالحقيقة لأن الحكم صفة لكن غير حقيقية بل مضافة فإذا قلنا العلم بالأحكام خرج عنه العلم بالتصورات. ثم أخذ يعدد أشياء من ألفاظ المحصول للرازي مثل: قوله: العملية احتراز عن العلم بكون الإجماع وخبر الواحد والقياس حجة. قول المستدل على أعيانها إلى آخره: بيانه ... وفي الصفحة الأخيرة قال: قوله: الدليل الثاني عشر لفظ "إفعل" دل على اقتضاء الأمر، فوجب أن يكون مانعًا من نقيضه قياسًا على الخبر فيه بحث.
وهذا يدل على أن هذه الصفحات الموجودة كان آخرها يبحث في باب الأوامر وهو في خمس الكتاب الأول، حيث إن باب الأوامر يلي الكلام على اللغات مباشرة، ومعنى ذلك أنَّه لو تم الكتاب على هذا النحو كان أضخم من كتاب التحصيل بكثير، وظاهر من كلام الناسخ أنَّه كتب كراريس من هذا الكتاب ولم يستوعبه. وكثير من المصنفين الذين نوهوا بهذه الأسئلة، يشيرون إلى أنها هي الأسئلة التي أوردها القاضي الأرموي في التحصيل. ونحن بعد الاطلاع على هذه النسخة وبعد قراءة التحصيل مرات عديدة، وإحصاء كل ما أورده الأرموي على التحصيل، كأسئلة بدون أجوبة نجزم ونقطع أن هذا كتاب مغاير للأسئلة الواردة في التحصيل، وظاهر من كلام الناسخ أنَّه كتابٌ آخر، حيث بيَّن الناسخ أن اسمه (مقاصد العقول من معاقد المحصول)، وإنني أستطيع أن أسميه شرحًا للمحصول، والأسئلة الواردة على التحصيل وجدتها مجموعة في آخر إحدى نسخ التحصيل، وذكر ناسخها أنَّه وضعها في آخر الكتاب من باب الإلحاق، حيث إنه نقَّب عنها من داخل التحصيل، وذكرها في آخره، وهي لا تعدو عشر صفحات كان يبدؤها بقوله: "ولقائلٍ أن يقول". وما إن اطلعتُ على هذه الحقيقة، حتَّى دهشتُ واستغربتُ ممن ترجم للأرموي كيف أن هذا الكتاب يبقى في عالم النسيان، وهذا أوقد في نفسي شكًا في صحة نسبة الكتاب إليه، فدفعني ذلك إلى البحث من جديد في مصنفات من اشتغل بمؤلفات القاضي سراج الدين الأرموي، لعلي أجد بصيصًا من النور يرشدني لصحة نسبة هذا الكتاب إليه. وفعلًا طفقتُ أبحث عمن ذكر هذا الكتاب أو نقل عنه، حتَّى هداني الله لقراءة كتاب نهاية السول من ألفه إلى يائه, لأنه أكثر كتاب استفاد من التحصيل فإذا بي أجد ضالتي المنشودة في نهاية جزئه الأول 1/ 235 في (مسألة إعمال المشترك في جميع مفهوماته غير المتضادة) فنقل الإِمام الإسنوي -رحمه الله- عن شمس الدين محمَّد بن محمود الأصفهاني المتوفى
678 هـ أنَّه ذكر في كتابه الكاشف عن المحصول أنَّه رأى في تصنيفٍ آخر لصاحب التحصيل (أن الأظهر من كلام الأئمة وهو الأشبه أن الخلاف في الكلي المجموعي، فإنهم صرحوا بأن المشترك عند الشَّافعيّ كالعام). وبهذا يظهر صحة نسبة هذا الكتاب للقاضي الأرموي، وأنه غير أسئلته الواردة على التحصيل والتي لا نعتبرها مؤلفًا منفصلًا عن التحصيل.
الكتاب
من اشتغل بالمحصول للإِمام فخر الدين الرَّازيّ بالشرح أو الاختصار قد اتفق علماء الأصول على أن علم الأصول في القرن الخامس الهجري قد انتهى إلى أربعة كتبٍ، حوت جميع ما تقدم عليها من أبوابٍ وفصول ومسائل هذا الفن وهذه الكتب هي (¬1): 1 - كتاب العمد للقاضي عبد الجبار بن أَحْمد المعتزلي المتوفى سنة 415 هـ، وهو شيخ المعتزلة في عصره بلا منازع. 2 - كتاب المعتمد (¬2) لأبي الحسين البَصْرِيّ المعتزلي المتوفى سنة 436 هـ، وهو تلميذ القاضي عبد الجبار بن أَحْمد الآنف الذكر، وهو شرح للعمد كتاب أستاذه. وهذان الكتابان يشم الدارس لهما رائحة الاعتزال كما كان البحث له علاقة بعلم الكلام. 3 - كتاب البرهان لإمام الحرمين عبد الملك بن يوسف الجويني المتوفى سنة 478 هـ، شيخ حجة الإِسلام وإمام الأشعرية في عصره. 4 - المستصفى لحجة الإِسلام أبي حامد محمَّد بن محمَّد الغزالي المتوفى ¬
سنة 505 هـ، وحيد زمانه وفريد عصره ورعًا وتقوى وعلمًا ومناظرةً وجدلًا، حتى سُمي فيلسوف الإِسلام وقد اعتصره من مصنفين في الأصول تقدما عليه في التأليف، وهما المنخول وتهذيب الأصول وهذا الكتاب المستصفى- صنفه في آخر حياته فظهرت فيه شخصيته واستقلال آرائه، فهجر بعض الآراء التي كان يتابع فيها شيخه إمام الحرمين رحمه الله. ثم انتهت هذه الكتب الأربعة إلى كتابين عظيمين جامعين لعلوم الأولين في هذا الفن وهما: 1 - الإحكام في أصول الأحكام لسيف الدين الآمدي المتوفى سنة 631 هـ، وهو موسوعةٌ أصولية زاخرة أكثر فيه من الاستدلال على القواعد بالحجج العقلية والنقلية. 2 - المحصول في الأصول للِإمام فخر الدين محمَّد بن عمر الرازي المتوفى سنة 606 هـ، وهذا الكتاب لا يكاد يخرج عن المستصفى للِإمام الغزالي والمعتمد لأبي الحسين البَصْرِيّ. وهذا الكتاب هو الذي اختصره القاضي سراج الدين أبو الثناء محمود بن أبي بكر الأرموي وسماه (التحصيل من المحصول) والمحصول من الكتب التي أقبل عليها العلماء إقبالًا منقطع النظير، فاشتغل به جمهرة من العلماء المتكلمين في حياة المؤلف وبعد مماته ممن يتعذر حصرهم، وهذا إن دلَّ على شيء فإنما يدل على مدى تلقي هذا الكتاب بالقبول والرضا، وما ذاك إلَّا لأنه قد فاق كل ما تقدمٍ عليه من المصنفات تنظيمًا وترتيبًا وتنسيقًا وإحاطة بدقائق هذا الفن وتوضيحًا لعويصات مسائله. وإنه ليبهر عقل الناظر هذا العدد الضخم الذي شارك في العمل في هذا الكتاب، ومهما حاولنا التقصي لهؤلاء فإننا بلا شك سوف لا نتمكن من ذلك وخاصة وأن هذا الكتاب قد ألف قبيْل الغزو التتاري الذي لم يبقِ ولم يذر، الذي زحف على بلاد المشرق فسال دجلة شهورًا وفيه زرقة السماء من مداد مصنفات التراث الإِسلامي العريق، وكم من مصنفات ذهبت أدراج الرياح لا نسمع منها إلَّا
اسمها, ولم يصلنا منها إلَّا عباراتٍ وكلماتٍ كانت قد اختطتها الأقلام في غابر العصور فدونتها في كتب غير أصحابها فذابت فيها ذوبان الملح في الماء، ولكن ما لا يدرك كله لا ينبغي أن يترك جله، ولذا سنذكر في هذا المبحث كل ما شاء الله له أن يصل إلى أذهاننا بعد التفتيش الدقيق المتواصل طيلة أربع سنوات عشناها بين رفوف الكتب، سائلين المولى عَزَّ وَجَلَّ أن يمدنا بعونه وتوفيقه وأن يلهمنا رشدنا وأن يهدينا سواء السبيل. والأن آن الأوان أن نذكر كل من عرفناه اشتغل بهذا الكتاب، سواء أكان بالشرح أم بالاختصار أم بوضع الأسئلة أم الاعتراضات أم التعليقات، وذلك بحسب الترتيب الزمني لوفاة مصنفيها, ولتكن البداية من مصنف المحصول نفسه: 1 - فخر الدين محمَّد بن عمر الرازي المتوفى سنة 606 هـ مؤلف "المحصول": اختصره في كتاب سماه "المنتخب" أوله: الحمد لله على نعمائه ... ثم قال: هذا مختصر انتخبته من كتاب المحصول، ورتبته على مقدمةٍ وفصول، أما المقدمة الأولى ففي تعريف أصول الفقه، أعلم أن الأصل هو المحتاج إليه، وأما الفقه فهو في أصل اللغة عبارة عن فهم غرض المتكلم من كلامه، وفي اصطلاح العلماء عبارة عن العلم بالأحكام الشرعية العملية المستدل على أعيانها، بحيث لا يعلم كونها من الدين ضرورة ولا يقال: الفقه من باب الظنون دون العلم, لأنا نقول: الحكم معلوم قطعًا وإنما الظن في طريقه. والذي وصل لعلمي من مخطوطات هذا الكتاب أربع نسخ: الأولى: موجودةً في دار الكتب المصرية برقم 115، ومكتوبة في عام 775 هـ. الثَّانية: موجودة في المكتبة الأزهرية برقم (175) 6101 فرغ من كتابتها عام 653 هـ، في تسع وأربعين ومائة ورقة، الورقة الأولى مقطعة وبها خروم وتلويث.
الثالثة: موجودة في المكتبة العمومية بدمشق، وكانت محفوظة في المكتبة العمرية، ورقمها في فهرست المكتبة 15 في صفحة 57 من الفهرست. الرابعة: موجودة في المكتبة الملحقة بمسجد محمَّد الفاتح بإستانبول برقم 1464، ويوجد منها ميكروفلم في معهد المخطوطات التابع لجامعة الدول العربية بالقاهرة. 2 - اختصره (¬1) عماد الدين محمَّد بن يونس بن منعة الأربيلي المتوفى سنة 608 هـ، أخو كمال الدين موسى بن يونس شيخ سراج الدين الأرموي صاحب التحصيل ولعماد الدين كتاب في الجدل سماه التحصيل. 3 - اختصره: أمين الدين مظفر بن محمَّد التبريزي المتوفى سنة 621 هـ، المشهور بالمظفر الوزاني، وسماه التنقيح، وقد نقل عنه جمال الديِن عبد الرَّحِيم الإسنوي المتوفى سنة 772 هـ في كتابه نهاية السول كثيرًا. ويوجد لهذا المختصر نسخة خطية في مكتبة جامع أَحْمد الثالث بإستانبول برقم 1246، ولها صورة في معهد المخطوطات التابع لجامعة الدول العربية بالقاهرة. 4 - يوجد تعليقة على المحصول لعز الدين عبد الحميد هبة الله المدائني المعتزلي المتوفى سنة 655 هـ، ذكر ذلك حاجي خليفة في كشف الظنون 2/ 1615. ووجدت حاشية على كتاب لطائف الحكمة المطبوع باللغة الفارسية عند تعداد مؤلفات القاضي سراج الدين الأرموي -رحمه الله- وهي: أن التحصيل عبارة عن مختصر عن تعليقة عز الدين عبد الحميد بن هبة الله المعتزلي، المعروف بابن أبي الحديد نقلًا عن رسالةٍ مطبوعة باللغة الفارسية، ولم نطلع على تعليقة عز الدين المدائنيّ حتَّى نثبت ذلك أو ننفيه. 5 - اختصره: القاضي تاج الدين محمَّد بن حسين الأرموي المتوفى سنة ¬
656 هـ، وسماه الحاصل، وذكر فيه أنَّه أتمّه سنة 614 هـ، وقد ألفه استجابةً لطلب الإِمام العالم العامل صدر الإِسلام (أبي حفص عمر بن همام الوزان). ويوجد له عدة نسخ مخطوطة منها نسخة في دار الكتب المصرية برقم (61) أصول فقه، وهي مكتوبة سنة 694 هـ، وعدد لوحاتها 141 لوحة في كل صفحة 19 سطرًا وفي كل سطر 12 كلمة تقريبًا، وخطها مقروء واضح. وبهامشها إشعار بالمقابلة على الأصل، ويوجد نسخة مخطوطة أخرى في مكتبة آية الله الحكيم بالنجف الأشرف بالعراق، عدد لوحاتها 169 لوحة، بقياس 27/ 19 سم، في كل صفحةٍ 19 سطرًا في كل سطرٍ عشرُ كلمات. فيها نقص من أولها إلى الباب السادس في الحقيقة والمجاز، ومن هذه النسخة يوجد ميكروفلم بمعهد المخطوطات التابع لجامعة الدول العربية برقم 150. ويوجد نسخة ثالثة في رواق المغاربة الملحق بالجامع الأَزْهَر الشريف حرسه الله برقم (1858) أصول فقه، عدد أوراقها 175 ورقة بقياس 27 × 19 سم في كل صفحة 22 سطرًا وفي كل سطر تسع كلمات تقريبًا، خطها مغربي بأولها نقص قليل جدًا، ومنسوخة في شهر رجب سنة 628 هـ، ولها ميكروفلم في معهد المخطوطات التابع لجامعة الدول العربية بالقاهرة. ويوجد نسخة أخرى في مكتبة ليدن بهولندا وتقع في 158 لوحةً، في كل صفحةٍ 19 سطرًا ومتوسط السطر 12 كلمة خطبها جيد، وبأولها نقص قليل جدًا وبآخرها نقص حوالي ثلاث صفحات. وقد اشتغل بالحاصل جماعة من العلماء منهم: أ- شرحه أبو عبد الله القفطي (¬1) المتوفى سنة 736 هـ في تونس وسماه تحفة الواهل في شرح الحاصل. ب- اختصره: القاضي عبد الله بن عمر البيضاوي المتوفى سنة 685 هـ، وسماه منهاج الوصول إلى علم الأصول، وهو رغم صغر حجمه غزير ¬
العلم، كثير الفوائد جليل المنافع، لذا كان عمدة المشتغلين بهذا الفن فبلغت شروحه بين مخطوط ومطبوع اثنين وثلاثين (¬1) شرحًا، ومن أشهرها نهاية السول للعلاّمة جمال الدين أبي محمَّد عبد الرَّحِيم بن الحسن الإسنوي المتوفى سنة 772 هـ على الراجح. 6 - اختصره (¬2): تاج الدين عبد الرَّحِيم بن محمَّد بن يونس بن منعة الموصلي المتوفى سنة 671 هـ، المولود في عام 598 هـ تلميذ كمال الدين بن يونس، شيخ القاضي سراج الدين الأرموي. 7 - شرحه شمس الدين محمَّد بن محمود الأَصْبهانِيّ المتوفى سنة 678 هـ (¬3)، تلميذ صاحب الحاصل تاج الدين الأرموي، يوجد منه نسخة في دار الكتب المصرية برقم (473) أصول فقه، وهو كتاب حافل ضخم، مات ولم يكمله، والموجود في دار الكتب الجزء الأول فقط، مكتوب في 26 جمادى الأولى سنة 714 هـ. وبه نقص من أوله مقدار ثمان كراسات وينتهي إلى أول القسم الثاني في المسائل المعنوية وهذا الجزء في 212 ورقة، وبأوراقه تآكل كثير من الأرضة، في كل صفحةٍ منه خمسة وعشرون سطرًا، ومقياس الورق 18 × 28 سم، وسماه بالكاشف وهو مكتوب بخط محمَّد أَيُّوب بن وحشي العلوي الشَّافعيّ، ومن أهم مزايا هذا الشرح العظيم أن مصنفه كان يرجع أثناء شرحه إلى أمهات كتب الأصول، فينقل منها بلفظ مصنفيها. ومنها كتب اندثرت مع ما اندثر من التراث الِإسلامي العريق مع مر العصور وتقلب الظروف، وبذلك يكون قد حفظ لنا هذا المصنف ثروةً عظيمةً من تراثنا. 8 - اختصره: سراج الدين أبو الثناء محمود بن أبي بكر الأرموي المتوفى سنة 682 هـ، بمدينة قونية عاصمة بني سلجوق وسماه التحصيل، وهو هذا الكتاب الذي بين يديك، وسنذكر في فصل خاص عدد مخطوطاته ¬
التي علمنا بوجودها وسنشير لمكان وجودها وأرقامها وصفة كل منها بالتفصيل، فليرجع إليه في موضعه، وهو المبحث التالي لهذا المبحث. وهو بلا شك أجل مختصرات المحصول كما ستعرف هذا أثناء مطالعتك له، وقد ارتبط بهذا المختصر كتبٌ أخرى سنتكلَّم عليها بعد قليل إن شاء الله تعالى. 9 - اختصره: شهاب الدين أبو العباس أحمد بن إدريس القرافي، المتوفى سنة 684 هـ. وسماه (تنقيح الفصول في اختصار المحصول في الأصول) وجعل كتابه التنقيح مقدمة لكتابه الذخيرة في الفقه، ثم لما رأى النَّاس قد أقبلوا عليه وضع له شرحًا سماه (شرح تنقيح الفصول) وهذا الشرح قد طبع مرتين: المرة الأولى في سنة 1306 هـ في المطبعة الخيريَّة في الجمالية في القاهرة في 308 صفحات. والمرة الثَّانية فيها تبويب وتنسيق بتحقيق طه عبد الرؤوف سعد عام 1393 هـ في 464 صفحة، طبع شركة الطباعة الفنية المتحدة بالعباسية. ويوجد مختصر لتنقيح الفصول لم يعلم مختصره، وهو مطبوع ضمن مجموع متون في دمشق من ص 40 - 79، ويوجد منه نسخة في المكتبة الأزهرية برقم 908. 10 - شرحه شهاب الدين أبو العباس أحمد بن إدريس القرافي المتوفى سنة 684 هـ المتقدم الذكر صاحب التنقيح، وسماه "نفائس الأصول في شرح المحصول" ويوجد منه نسخة مخطوطة في دار الكتب المصرية في ثلاثة مجلدات تقرب من 1700 صفحة، وهو شرح عظيم هائل يعتبر موسوعة في الأصول. 11 - أحمد (¬1) بن كمال الدين أحمد بن نعمة المقدسي النابلسي المولود سنة 622 هـ والمتوفى سنة 694 هـ في دمشق، تلميذ عز الدين بن ¬
عبد السلام وأبي عمرو عثمان بن الصلاح، وأستاذ شيخ الإِسلام ابن تيمية له كتاب جمع فيه بين المحصول لفخر الدين الرَّازيّ والأحكام لسيف الدين الآمدي، قال ابن كثير وهو موجود عندي بخط مؤلفه. 12 - اختصره (¬1): مجد الدين دقيق العيد المتوفى سنة 702 هـ، والمولود عام 624 هـ والد الإِمام تقي الدين ابن دقيق العيد قاضي قضاة المالكية، وسماه مختصر المحصول. 13 - اختصره: محيي الدين سليمان بن عبد القوي الحنبلي المتوفى سنة 710 هـ. 14 - اختصره علاء الدين علي بن محمَّد بن خطاب المغربي ثم المصري الباجي الشَّافعيّ، المتوفى سنة 714 هـ، وسماه غاية السول مرتب على أربعةَ عشرَ نوعًا موجود منه نسخة خطية في دار الكتب المصرية ضمن مجاميع برقم (209) ومكتوبة في الرابع من شوال سنة 709 هـ، بخط محمَّد بن محمَّد الشَّافعيّ ورقمها العام (21733 ب)، قياس الورقة 18/ 28 سم وموجود منه نسخة خطية أخرى في باريس برقم 1/ 6559، ونسخة ثالثة في الرباط برقم (132) ونسخة رابعة في جامع الزيتونة بتونس برقم 4/ 36/ 1831. 15 - يوجد شرح ضخم جدًا للعلّامة محمَّد بن عبد الرَّحِيم الهندي الأرموي أبي عبد الله صفي الدين الشَّافعيّ، المتوفى سنة 715 هـ بدمشق تلميذ القاضي سراج الدين الأرموي، يوجد منه نسخة مصورة في دار الكتب المصرية برقم 162 أصول فقه ورأيت المجلد الثالث منه وهو يبدأ بباب القياس، وهو يقع في 193 ورقة كبيرة جدًا وفي آخره نقص لا يتجاوز الورقة. 16 - شرحه شمس الدين محمَّد بن محمَّد الجزري المتوفى سنة 733 هـ في ثلاثة مجلدات. 17 - علق عليه أحمد بن عثمان بن صبيح الجوزقاني المتوفى سنة 744 هـ، ¬
والمولود سنة 681 هـ. والمشهور بتاج الدين التركماني، وذكر ذلك صاحب كشف الظنون (¬1). 18 - تلخيص المحصول لا يعلم مؤلفه وتوجد منه نسخة مخطوطة في مجلد بقلم معتاد وقديم في مكتبة الجامع الأَزْهَر حرسه الله برقم (115) 4493. مكتوبة عام 875 هـ. وبها خروم، وبأوراقها تلويث وترقيع في 138 ورقة. أوله: رب تمم بخير. أما بعد: أحمد الله رب العالمين والصلاة والسلام على نبيه خاتم النبيين وعلى آله وصحبه وسلم الطاهرين الطيبين. فإن أصول الفقه من أشرف العلوم الشرعية الغامضة فيه مجال البحث الدقيق، ومتسع الإتقان والتحقيق، وهو المتوسط بين الحكمة النظرية التي هي علم الكلام وبين الحكمة العملية السياسية التي هي الفقه، فمن لم يطلع عليه لم يتمكن من استنباط الأحكام، ولا يوثق باجتهاده ... ثم قال: (إني وجدت الكتب المؤلفة في هذا الفن غير خالية عن الانحراف عن الحق). وأن كتاب المحصول هو المتداول في زماننا، وهو وإن نقل أكثر ما في كتاب المعتمد والمستصفى والبرهان، ولكن الانحراف في تصرفاته أكثر، فأحببت أن أنظر في هذا الفن، وأظهر ما فيه من الانحراف وسميت كتابي هذا: (تلخيص المحصول لتهذيب الأصول). وأول اعتراض اعترض به مصنف هذا الكتاب على الِإمام الرَّازيّ هو (قوله الشرعية احترازًا عن العقلية). ثم ذكر أن إدراك الأحكام بالعقل لا يخرجها عن كونها شرعية. ثم اعترض على قوله: (العملية احترازًا عن العلمية)، ومثل له بالإجماع قائلًا: إنه علم بكيفية عمل ولا يجوز للمجتهد متى وجد الإجماع في صورةٍ أن يخالفه. ¬
تنبيهات
تنبيهات الأول (¬1): يوجد كتاب باسم المحصول في أصول الفقه للقاضي أبي بكر بن العربي المتوفى سنة 543 هـ. الثاني (¬2): يوجد كتاب في أصول الفقه باسم التحصيل، للإمام أبي منصور عبد القادر بن طاهر البغدادي الشَّافعيّ المتوفى سنة 429 هـ، وهو صاحب الكتاب المشهور "بالفرق بين الفرق" في المذاهب. الثالث (¬3): يوجد كتاب في أصول الفقه أَيضًا يسمى المحصول للسيد محسن بن حسن الكاظمي الشيعي المتوفى سنة 1240 هـ، وهو شرح لوافية الأصول. ¬
كتاب التحصيل وعدد نسخه الموجودة ومكان وجودها وصفتها
كتَابُ التّحْصِيل وعَدَدُ نُسُخهَ الموَجُوَدَة وَمَكان وُجُودهَا وَصفَتها ما إن وضعتُ خطة البحث في هذه الرسالة وأبلغت بالموافقة على تسجيلها حتَّى شرعت أبحث عن نسخ هذا الكتاب في شتى الفهارس العربية والأجنبية، وأراسل بعض من لهم اهتمام بهذا الشأن، وبذلتُ في ذلك من الوقت ما يقارب العام، فما من مكتبة خطر ببالي وجوده فيها حتَّى راسلتها، وبحمد الله تعالى استطعت معرفة وجود أكثر من عشر نسخ موزعة على مكتبات العالم العربية والأجنبية الغربية والشرقية، مما يدل على أن هذا الكتاب قد كان متداولًا عند طلاب العلم، وبالفعل فقد قال حاجي خليفة في كشف الظنون (¬1): (وهو مشهور متداول) فانتشار هذا الكتاب يثير العجب ويبعث على الارتياح، ويبهج النفس في آنٍ واحد، ويشعر الباحث بطمأنينة النفس، ويغلب على الظن أن الكتاب له أهمية عظمى، حيث إن نسخه كانت موزعةً على القارات الثلاث أوروبا وآسيا وإفريقيا وفي بلدان متعددة منها. مع أن العصر الذي صنف فيه عصر الحروب والمعارك، ولم يأت على الأمة الإِسلامية أيام أحلك من تلك الأيام فالفوضى ضاربة أطنابها لذهاب هيبة الحاكم، وتمزق الأمة الإِسلامية إلى دويلات وإمارات على رأس كل منها هو يحكى انتفاخًا صولة الأسد. ودماء جارية بلا رحمة، وفلول هاربة أمام المارد التتاري الذي أخذ يسيل من جهة المشرق بعنفوانه ووحشيته يمر على الحدائق الغناء فيذرها يبابًا، وكأنما أسراب من الجراد دهمت البلاد تأكل الأخضر واليابس، ومع هذا كله نجا هذا العدد من النسخ، أنَّه ليبعث ¬
النفس على الارتياح ويزيد فيها الثقة، وإنني لا أدّعي أنني استقصيت، فقد يكون ما لم أعلم وجوده من النسخ أضعاف ما بلغني علمه، فكم من مكتبات خاصة لا أعرف اسمها ولا مكان وجودها وكم من فهارس لم تكتحل برؤيتها عيناي، ولكن القلب مطمئن جدًا إلى أن ما وصلني من النسخِ كافٍ جدًا للتحقيق لأنها في صورة جيدة جدًا، بل إحداها مقابلة على أصل المصنف زد على ذلك أن بعضها قد كتب قبل موت المصنف بسنوات فكل هذا يبعث على الارتياح. وبعد أن بلغني مكان وجود هذه النسخ حاولت الحصول عليها بالمراسلات، وبتكليف بعض من جمعتنا وإياهم أخوّة الإِسلام، ولكن يحز في نفسي أن أسطر هنا حقيقة أبت نفسي، إلَّا أن أسجلها لعل الأنّات والزفرات التي يطلقها طلاب العلم وهم يتنفسون الصعداء مما يلاحظونه من الفارق العظيم في خدمة العلم وتذليل عقباته وتسهيل سبله بين الغرب والشرق تصل لآذان من لهم الأمر، فيعيدوا النظر في أنظمة المكتبات وأسلوب المعاملات، إن هذه الورقات ليست مكان بث أحزاني وإظهار آلامي، ولكن أريد من ذلك العظة والعبرة فإحدى النسخ كانت في بلد عربي فأرسلت الرسالة تلو الرسالة بأرق العبارات وألطف الأساليب بل اضطررت إلى التملق، ولم أحظ بجواب سلبي أو إيجابي. ثم اغتنمت فرصة سفر أحد الإِخوان الذين نحبهم في الله لتلك البلاد. وذكرت لهم الحاجة إلى صورة من هذه المخطوطة، فكان الجواب قد أزعجنا صاحبك بكثرة رسائله، فأمر الإِذن ليس لنا ولكن لوزارة التعليم الأصلي، فإذا أذنت تطلب الوزارة النسخة، ثم نرسلها للعاصمة حيث تبعد حوالي مائتي كيلومتر، ثم يتم التصوير هناك وهذا العمل يستغرق نصف العام، وقد لا تسمح الوزارة بتصويرها وبعد جهدٍ جهيد تلطفوا وسمحوا له أن ينقل ما يوجد على البطاقة الخاصة بها من كلام ولم يسمحوا له برؤية النسخة لينقل لي ما طلبته من معلوماتٍ عنها. وفي المقابل طلبت صورة عن نسخة مدينة جوتا بألمانيا الشَّرقية فإذا بالصورة عندي خلال أسبوعين وبرفقها فاتورة دراهم معدودة لا أظنها تزيد عن أجرة البريد فهل من مدَّكر؟.
وأما بعض النسخ فقد اضطررت للسفر للحصول عليها؛ لأن أنظمة تلك البلاد لا تسمح بتصوير المخطوطات فيها بحجة أنها تراث لها، وينبغي المحافظة على التراث ومن شروط التصوير فيها أن يأتي طالب التصوير بصورة لمخطوطة نادرة غير موجودة عندها، أو أن يصورها باسم طالب يحمل جنسية تلك البلاد. وفعلًا سافرت لتركيا رغبة في الحصول على صورٍ لما يوجد فيها من مخطوطات هذا الكتاب، وهي خمس نسخ معظمها مكتوب في دمشق وتمكنت من تصوير ثلاثِ نسخ منها اصطحبتها معي، وهي التي مدار التحقيق عليها لجودة خطبها وتمامها، وإنني سأذكر في هذا البحث مكان وجود العشر نسخ التي بلغني علم وجودها وسترى أنها انتشرت في بلاد شتى فشملت: ألمانيا ولندن وإستانبول وفاس والقاهرة وبغداد ومدينة الرسول الأعظم على ساكنها أفضل الصلاة وأزكى السلام. وسأذكر معلوماتٍ وافية عن كل منها شاملة لتاريخ كتبها، ورقمها في المكتبة الموجودة فيها، وصفتها من حيث الجودة، وحسن الخط وامتداد التلف إليها وعدمه وقد استعملت في المقابلة من هذه النسخ خمسًا فقط، لأن أربعًا منها لم أتمكن من تصويرها والخامسة فيها نقص شديد، وقد رمزت للنسخ التي استعملت في المقابلة (أ، ب، جـ، د، هـ). والآن حان الوقت لنتكلم عن هذه النسخ. 1 - النسخة التي رمزنا لها "أ": وهي مصورة من مكتبة دماد إبراهيم الملحقة بالمكتبة السليمانية العامة في إستانبول في تركيا. ورقمها 436، وعدد لوحاتها ثلاثٌ وثمانون ومائة لوحة. وهي مكتوبة بخط نسخ جيد جدًا، وحالتها كذلك، ويوجد في كل صفحة من صفحاتها سبعةَ عشرَ سطرًا. وفي كل سطرٍ حوالي اثنتي عشرةَ كلمة، وكثيرًا ما تكون كلماتها مشكولة وغالبا ما تكون الحروف غير منقوطة مما يصعب التفريق بين الياء والتاء في غالب الأحيان، وكان كاتبها يبرز الفقرات والأرقام والعناوين بخط متين، ويوجد بهامشها بعض التعليقات
اليسيرة وتبدأ صفحتها الأولى بقوله: "بسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم" رب تمم بفضلك نحمدك اللهمَّ والحمد من نعم أوليت ومنح أسديت، ونستعين بك والتوفيق للاستعانة بك من قدرٍ قدرت وقضاء قضيت ونسترشدك ونستهديك، فاهدنا إلى سبل الرشاد وسواء الصراط ولا تزغنا بعد إذ هديت، وأسر بأرواحنا إلى معارج قدسك ومدارج أنسك فيمن بروحه أسريت. وأجر على قلوبنا من سبحات جلالك ونفحات كمالك خير ما على قولب خلائقك أجريت ... إلى أن قال: أما بعد: (فلقد كانت الهمم فيما قبل لا تقصر عن الارتقاء إلى المراتب القاصية، ولا تفتر دون الوصول إلى المطالب العالية، والآن قد أفضى الحال بالأمم في تقصير الهمم إلى أن استكثروا اليسير واستكبروا النزر الحقير). وهذه النسخة كما يرى المطالع لها لم تبدأ بأي كلمة من الناسخ كغيرها من النسخ، حيث إن النسخ الأخرى قد بدأت بكلمات من ناسخيها وجميع صفحات هذه النسخة مرقمة. وقد ختمت هذه النسخة بقوله: (وإذ وفينا بالمقصود ختمنا الكتاب حامدين لله تعالى ومصلّين على نبيه ومحمَّد وآله أجمعين وسلّم تسليمًا كثيرًا). (كتابة الكتاب المسمى بتحصيل الأصول من كتاب المحصول بدمشق المحروسة في الرباط المسمى بالمنابع خارج المدينة في العشر الأوسط من شهر جمادى الأخرى سنة أربع وثمانين وستمائة. والحمد لله). وعلى الصفحة الأخيرة أختام ثلاثة: أحدها: يدل على أن واقفها هو إبراهيم باشا الصدر الأعظم والوزير للسلطان المغازي أحمد خان. والثاني: مكتوب عليه وقف دماد زادا وتكرر في الصفحات 25، 162. والثالث: كتابته غير ظاهرة.
2 - النسخة المرموز لها: "ب". وهي مصورة من مكتبة الجامع الجديد (Yeni Gami) الملحقة بالمكتبة السليمانية بإستانبول بتركيا. ومحفوظة برقم 309. وعدد لوحاتها إحدى وسبعون ومائة لوحة وخطها أدق من خط نسخة "أ" وهي متقنة الكتابة، وبعض كلماتها مشكولة والحروف غير المنقوطة فيها أقل من نسخة "أ"، ويوجد في كل صفحةٍ من صفحاتها سبعةَ عشرَ سطرًا، وفي كل سطر أربعَ عشرَة كلمة تقريبًا، ويوجد بهامشها بعض التعاليق. وفي أثناء تجليد هذه النسخة وقع تقديم وتأخير في ترتيب أوراقها، وهو يبدأ من اللوحة الثَّانية عشرة منها وينتهي باللوحة العشرين. وقد اكتشفته أثناء المقابلة مع النسخ الأخرى، وهذه وإن كانت من أقدم النسخ المكتوبة وجدت فيها كثيرًا من السطور الساقطة. واللوحة الأولى من لوحات هذه النسخة مكتوبٌ عليها ما يلي: (كتاب التحصيل في أصول الفقه تصنيف الشيخ الإِمام الفاضل الزَّاهد ملك الفضلاء والحكماء، أفضل المتأخرين سراج الملة والدين عماد الإِسلام والمسلمين، أبو الثناء محمود بن أبي بكر بن أحمد الأرموي، متَّع الله المسلمين بطول بقائه). ومعلق (¬1) عليها: صاحب المطالع في المنطق، وهو أستاذ القاضي البيضاوي وتلميذ فخر الدين الرَّازيّ ومكتوب عليها أَيضًا، ملك العبد الضعيف الراجي رحمة الله تعالى محمود بن عبد القادر بن محمود بن عمر بن أبي بكر النشوي التَّمِيمِيّ، ويوجد عليها ختمان: الأول: ختم المكتبة وفيه رقم الكتاب الخاص وهو 309 ورقمه العام وهو 4/ 297. الثاني: ختم وقف السلطان أحمد خان بن غازي. ¬
ويوجد في بداية هذه النسخة مقدمة من كلام الناسخ، وهو قوله: (بسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم. وبه أستعين. قال سيدنا ومولانا الإِمام العلّامة سراج الدين الأرموي، متَّع الله المسلمين بطول مدته، وصرف المكاره عن سدته، نحمدك اللهمَّ والحمد من نعم أوليت، ومنح ابتديت). وهذه النسخة مختومة بقوله: (وإذ وفَّينا بالمقصود ختمنا الكتاب حامدين لله تعالى ومصلِّين على نبيه وآله أجمعين وسلّم تسليمًا كثيرًا تم الكتاب). وقع الفراغ في وقت الظهر يوم السبت التاسع من صفر سنة تسع وستين وستمائة على يد يوسف المعروف بابن مهذب الفقه، ومختومة بالختمين المتقدمين في الصفحة الأولى. وهذه النسخة بينها وبين النسخة المرموز لها "د" صلة رحم وثيقة فهي لا تكاد تفارقها، إذ التطابق عليهما ظاهر ويعرف التطابق والصلة بالتوافق في السقط والخطأ، وليس في التوافق في الصواب ولهذا ما سقط من إحداهما غالبًا يكون ساقطًا من الأخرى، ولا نعرف أيهما نسخت أولًا، حيث إن نسخة "د" لم نعرف تاريخ نسخها, ولكن يغلب على الظن أن نسخة "ب" متقدمة نسخًا على نسخة "د" والله أعلم. وامتازت نسخة "ب" و"د" بميزة خاصة، وهي أن ناسخ الأولى منهما كان يتابع المحصول أثناء النسخ، ولذا نجده أحيانًا يستبدل لفظ التحصيل بلفظ المحصول، بل وفي بعض الأحيان يضع أحد اللفظين في المتن واللفظ الآخر في الهامش. 3 - النسخة المرموز لها "جـ": وهي مصورة من المكتبة المحمودية الملحقة بالحرم النبوي الشريف على ساكنة أفضل الصلاة وأزكى السلام ومحفوظة برقم (14) أصول فقه. وعدد لوحاتها 132 لوحة مقاسها 20 × 13 سم، وفي كل صفحةٍ 23 سطرًا،
في كل سطرٍ حوالي أربعَ عشرةَ كلمة. ويوجد ميكروفلم منها في معهد المخطوطات التابع لجامعة الدول العربية بالقاهرة. خطها أشبه بالفارسي في قراءته صعوبة، ومعظم حروفها ليست منقوطة وخطها أدق من نسخة "أ، ب" وفي كتابتها رموز واصطلاحات تعرف بعد التمرن على قراءة النسخة ومقابلتها بغيرها ومن ذلك: أنَّه يكتب "لا" بخطين قائمين ويصور النُّون في آخر الكلمة كالزاي. وحينئذٍ كان يشير لها بالحاء، ولكنها وإن كانت من أضعف النسخ الموجودة خطًا فهي من أعظمها فائدةً لحواشيها، وتحقق ناسخها من المعنى حيث إن ناسخها كان يدرج بعض الألفاظ من عنده، وهي ألفاظ تفسيرية كوضع مرجع الضمير بدل الضمير، وله قيودات كثيرة جدًا ونافعة في تحليل المعنى، وبيان المراد في الهامش وكان أحيانًا يستبدل "أ" بالأول والزاي بالسابع دلالة على أنَّه متحقق مما ينقل. وناسخها مطَّلع على نسخة "أ، ب" بل نسخ نسخته منهما، إذ حيث ما سقط من إحداهما كثيرًا ما يثبته في الهامش، مما يدل على أنَّه بعد ما نسخه قابله بالنسخة الأخرى، ويظهر ذلك واضحًا في اللوحة "73"، وفي بعض الأحيان يظهر أنَّه لم يتمكن من الترجيح بين لفظي النسختين فكان يدون إحدى اللفظتين في الأصل، ثم يشير إلى اللفظ الآخر في الهامش. وأولها: (بسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم، وبه نستعين. قال مولانا وشيخنا العلامة فريد الدهر وحيد العصر مظهر الحق ومثبت الحقائق ملك العلماء والأفاضل، أفضل المتقدمين والمتأخرين، سراج الملة والدين، حجة الإِسلام والمسلمين، أبو الثناء محمود بن أبي بكر الأرموي قدَّس الله سره. نحمدك والحمد من نعم أوليت ومن منح ابتديت ونستعين بك والتوفيق للاستعانة بك من قدر قدرت ومن قضاء قضيت). ويوجد على اللوحة الحادية عشرة أشعار بتاريخ وقف هذه النسخة، وهو غرة رجب سنة 1320 هـ.
وختمت اللوحة الأخيرة بقوله: (وإذ وفينا بالمقصود، ختمنا الكتاب حامدين لله تعالى ومصلين على نبيه محمَّد وآله أجمعين ومسلمين تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين). وقع الفراغ من تحريره ليلة الأحد السادس من شهر الله الأصم الرجب عمت مغفرته على سائر المسلمين، وختمه الله بالخير والسرور في المدرسة ... غفر الله ... (¬1) فضلًا منه عن الآفات في سنة أربع وثمانين وستمائة. والحمد لوليه والصلاة على نبيه. وهذه النسخة مطابقة للنسخة التي كانت بين يدي بدر الدين محمد بن أسعد التستري صاحب حل عقد التحصيل, لأنها انفردت بذكر اعتراضٍ للقاضي الأرموي لم يوجد في سائر النسخ وقد ذكره بدر الدين التستري، وذلك في لوحة رقم 14 من حل عقد التحصيل. 4 - النسخة المرموز لها "د": وهي ميكروفلم جاءني بالمراسلة من مكتبة البودليانا الملحقة بجامعة أكسفورد والنسخة محفوظة برقم 1/ 267. خطها دقيق لكنه جميل في 124 لوحة، في كل صفحةٍ واحدٌ وعشرون سطرًا، في كل سطرٍ ثلاثَ عشرةَ كلمة تقريبًا. وهي مبدوءة: ببسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم وبه أستعين. قال مولانا وشيخنا الِإمام العلّامة فريد الدهر وحيد العصر مظهر الدقائق كاشف الحقائق ملك العلماء المتكلمين سراج الحق والدين قاضي قضاة المسلمين، أبو الثناء محمود بن أبي بكر الأرموي، أدام الله ظلال معاليه. (بسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم، نحمدك اللهم والحمد من نعم أوليت ومن منح ابتديت، ونستعين بك والتوفيق للاستعانة بك من قدر قدرت وقضاء قضيت ونسترشدك ونستهديك فاهدنا سبل الرشاد وسواء الصراط). ¬
ويوجد في هذه النسخة نقص في آخرها يقارب الصفحة، والنقص ليس ناتجًا عن فقدان ورقة من آخرها بعد نسخها, لأن لفظ الختام موجود فيها. فقد يكون النقص من النسخة المنقولة منها أو سهوًا من الناسخ نفسه، حيث لم يقلب الصفحة لأن الناسخ ختم النسخة بقوله: (ولا يعارض بقول النافي تم الكتاب، وحسبنا الله ونعم الوكيل والحمد لله وحده) ولم يذكر تاريخ نسخها ولا اسم ناسخها. وبعد الاطلاع على نسخة دار الكتب المصرية، وجدت أن فيها نقصًا بقدر النقص الذي في هذه النسخة، إلَّا أن كاتبها لم يذكر لفظ الختام في آخرها بل وضع نقطًا مما يدل على أنَّه كان شاعرًا بنقصها، وبذلك تكون هذه النسخة منسوخة من نسخة دار الكتب والله أعلم. وقد تقدمت إشارتنا لعلاقة هذه النسخة مع نسخة "ب". 5 - النسخة المرموز لها "هـ": وهي مصورة من مكتبة دماد زادا الملحقة بمكتبة مراد ملا في إستانبول بقرب جامع محمَّد الفاتح، ورقمها القديم 629 ورقمها الجديد 436. عدد لوحاتها 181 لوحة، في كل صفحةٍ سبعةَ عشرَ سطرًا، في كِل سطرٍ حوالي عشر كلمات. وهي منقوطة ومشكولة وخطها واضح جدًا. وموجود في حوالي عشرين موضعًا منها إثبات مقابلتها على أصل المصنف في اللوحات (28، 31، 40، 42، 47، 50. 60، 70، 80، 90، 92، 97، 100، 110، 120، 122، 130، 140، 150، 160، 170). ومثبت على صفحتها الأولى أن واقفها الشيخ جاويش زاده أفندي سنة 1073 هـ، وفي مكان آخر مكتوب أن واقفها نعمة الله خاتون بنت الشيخ جاويش زادة. ومختومة بختم وقف الشيخ أحمد الشهير بجاوش زادة، ويوجد ختم آخر يدل على أن واقفها الشيخ أحمد الشهير بدماد زادا سنة 1117 هـ في أماكن متفرقة من المخطوطة. بدأت النسخة بقوله: (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، وما توفيقي إلا بالله
عليه توكلت، قال شيخنا وسيدنا وإمامنا وعلّامة دهرنا الشيخ الِإمام العالم العامل الكامل سيد العلماء وأوحدهم بقية السلف سراج الدين أبو الثناء محمود بن أبي بكر الأرموي متَّعنا الله بطول حياته آمين، نحمدك اللهَ والحمد من نعم أوليت ومنح ابتديت، ونستعين بك والتوفيق للاستعانة بك من قدر قدرت وقضاء قضيت، ونسترشدك ونستهديك فاهدنا إلى سبيل الرشاد وسواء الصراط، ولا تزغنا بعد إذ هديت). ويوجد على الصفحات الأولى حواشي كثيرة جدًا ومفيدة تنتهي باللوحة الرابعة والعشرين، وبعدها تكاد تكون الحواشي معدومة إلَّا من تصحيح المقابلة. وفي الصفحة الأخيرة يقول: (وإذ وفينا بالمقصود ختمنا الكتاب حامدين لله تعالى ومصلين على نبيه محمَّد وآله وأصحابه أجمعين إلى يوم الدين). (ووافق الفراغ من نسخه يوم السبت ثامن رجب المبارك سنة خمس وخمسين وستمائة بمدينة دمشق المحروسة، غفر الله لكاتبه ولقارئه ولمن نظر فيه ولجميع المسلمين برحمتك يَا أرحم الراحمين، بلَغ مقابلة بأصل المصنف فصح والله أعلم بالصواب). ولم يذكر اسم كاتبها وهذه النسخة تعتبر أقدم النسخ التي حصلت عليها، إذ نسخت قبل موت المصنف بحوالي سبعة وعشرين عامًا. وهي أَيضًا أصح النسخ نظرًا لمقابلتها بأصل المصنف ويغلب على الظن أن كاتبها من تلاميذ المؤلف والله أعلم. وهذه النسخ الخمسة المتقدمة تمت مقابلتها، وهي التي حصلت على صور منها وأما النسخ الآتية فلم أحصل على نسخ منها سوى مخطوطة جوتا بألمانيا. ولم أقابلها للنقص الشديد في أولها وآخرها، وقد استطعت الحصول على معلومات عن النسخ الأخرى سأذكرها للفائدة. 6 - نسخة أخرى موجودة في مكتبة ولي الدين جار الله أفندي الملحقة بالسليمانية، محفوظة برقم 444 في صفحة 27 من فهرس المكتبة
المذكورة. وعدد أوراق النسخة 221 ورقة، ومقاسها 20 × 9 سم في كل صفحةٍ عشرون سطرًا، وفي كل سطرٍ سبع كلماتٍ تقريبًا فرغ من كتابتها في أوائل شهر ربيع الآخر سنة 707 هـ. وموجود على الصفحة الأولى منها: هذا كتاب تحصيل الأصول من كتاب المحصول من أهم المهمات في هذا الفن، ويليه حاشية متعلقة ببيان اعتراضات صاحب التحصيل على صاحب المحصول المبدوءة بقوله: (ولقائل أن يقول) وعلى ظهر الورقة الأولى: بسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم. رب تمم بحمدك اللهم، والحمد من نعم أوليت ومنح أسديت ونستعين بك والتوفيق للاستعانة بك من قدر قدرت وقضاء قضيت، ونسترشدك ونستهديك فاهدنا إلى سبيل الرشاد وسواء الصراط فلا تزغنا بعد إذ هديت. وفي الصفحة الأخيرة: (وإذ وفينا بالمقصود ختمنا الكتاب حامدين لله تعالى ومصلين على نبيه محمَّد وآله وأصحابه أجمعين إلى يوم الدين. وقع الفراغ منه في أوائل شهر ربيع الآخر سنة سبع وسبعمائة، اللهم اغفر لصاحبه ولجميع المُؤْمنين والمؤمنات برحمتك يَا أرحم الراحمين. وأما الاعتراضات الملحقة بالنسخة فقد كتبت بخط دقيق وعدد أوراقها سبع ورقات، في كل صفحةٍ خمسة وأربعون سطرًا في كل سطر أربعَ عشرةَ كلمة، ولكن الأرضة قد عبثت بهذه النسخة عبثًا بالغًا مما قلل من قيمتها. وبدأت هذه الاعتراضات بقوله: (بسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم وبه نستعين. رب كما أنعمت علي بالتوفيق اهدني إلى معرفة الحق بالتحقيق، وزدني علماً واجعل لي في العالمين ذكرًا جميلًا. عليك توكلت لا آله إلَّا أَنْتَ اتخذتك وكيلًا، وصل على نبيك المصطفى محمَّد وعلى آله بكرةً وأصيلًا وبعد: فهذا بيان للإِيرادات التي أوردها صاحب التحصيل على الإِمام، وإيضاح لتلك الاعتراضات حررته على سبيل الإدخال والله ولي التوفيق. ولقائل أن يقول: (بالحبر الأحمر) إنما يتم الإِشكالان بإثبات الحصر في الأقسام المذكورة إلى آخره. الإِشكالان أحدهما ما أورده على قوله: ليس
له أن يفعله، والآخر ما أورده على قوله: يستحق فاعله الذم، إنما يتمان إذ لو أثبت أن استعمال الأول في الموارد الأربعة منحصر، واستعمال الثاني أَيضًا منحصر في الموضعين، ثم أقام الدليل على امتناع إرادة كل واحدٍ من حيث هو هو، ومن حيث أن المعنى المشترك يتناوله، ولم تقم الدلالة على الحصر وهو ظاهر إذ ثم قسم آخر وهو المراد. وهو أنَّه ليس له أن يفعله لأن الفعل يمنعه. وأيضًا أنَّه لم تقم الدلالة على امتناع الِإرادة, لأن امتناع الاشتراك بين الأول والرابِع يوجب امتناع الاشتراك بين كل واحدٍ منهما وبين الباقين، وفي الثاني أَيضًا معنى آخر وهو المراد وهو الإِيجاب فإنَّه يقال: المؤثر يستحق الأثر أي يوجبه والتخلف في الكذب النافع للمانع فلا يقدح. وختم التعليقات بقوله: ولقائلٍ أن يقول: الِإثبات أعم منه بصيغة العموم الضمير في "منه" يرجع إلى الإِثبات وقيده بصفة العموم حتَّى يصح تفصيله عليه. 7 - نسخة أخرى موجودة في خزانة القرويين بمدينة فاس بالمغرب ورقمها 1311/ 80، ولم أتمكن من الحصول على صورة منها رغم تكرار المحاولة، وكل ما استطعت عليه هو السماح بنقل المعلومات المدونة على البطاقة الخاصة بها في المكتبة، وما وجد في البطاقة أنقله حرفيًا: (الأصول شرح المحصول في أصول الفقه للرازي كتب عليه أنَّه شرح للأرموي، ولم نعرف من هو الأرموي هذا إذ عندنا أرمويان وكل منهما اختصر المحصول، ثم بعد هذا تبين أنَّه شرح محمود بن أبي بكر سراج الدين الأرموي ذكروا له من كتبه التحصيل من المحصول. وتوفي سنة 682 هـ جزء متوسط بخط مشرقي واضح كتب فيه المتن بالأحمر. السفر الأول منه فقط مبتور الطرفين أول الموجود منه الكلام على الحسن والقبح العقليين، وآخره موضوع استعمال المشترك المفرد، انتهى ما على البطاقة). وكما يظهر لا نعلم متى كتبت ومن كاتبها, ولا عدد أوراقها ولا حال الأجزاء الأخرى.
8 - نسخة أخرى: موجودة في دار الكتب المصرية، ومحفوظة برقم 771 عدد أوراقها 179 ورقة، وصفحاتها صغيرة في كل صفحةٍ تسعةَ عشرَ سطرًا في كل سطرٍ حوالي ثمان كلمات. والعناوين وأوائل المسائل مكتوب بالحبر الأحمر. أصابتها الرطوبة ولا يوجد نقص في أولها - وآخرها به نقص يقارب الصفحة. موافقة في نقصها إلى مخطوطة البودليانا بجامعة أكسفورد. أولها: (نحمدك اللهم والحمد من نعم أوليت ومنح أسديت، ونستعين بك والتوفيق للاستعانة بك من قدرٍ وقضاءٍ قضيت، نسترشدك ونستهديك فاهدنا إلى سبيل الرشاد وسواء الصراط). وأما آخر سطرين من المخطوطة فهما: (أما الحكم الوجودي فيمكن إثباته بوجوه: أ- قال به مجتهد فلاني فيكون حقًا لقوله عليه السلام: "ظن المؤمن لا يخطئ". ترك العمل به في العامي، إذ لا يستند فيه إلى وجهٍ صحيح ولا يعارض بقول النافي لأن ... ولم يذكر فيهما تاريخ النسخ ولا اسم الناسخ). 9 - نسخة أخرى في مكتبة "لا له لي" الملحقة بالمكتبة السليمانية بإستانبول بتركيا. وردت في صفحة 53 من فهرس المكتبة برقم 705، ولم أتمكن من مشاهدتها. 10 - نسخة أخرى موجودة في مكتبة جوتا برقم 934 في ألمانيا مقطوع من أولها حوالي تسع ورقات، فتبدأ من قوله: هـ: الاصطلاح يمنع الأمان عن الشرع لجواز تبدل اللغات وآخرها به نقص كثير جدًا. 11 - نسخة بالمكتبة القادريَّة الملحقة بجامع الشيخ عبد القادر الكيلاني ببغداد، منسوخة بخطٍ معتاد في القرن الثاني عشر، عليها تمليك لعبد الرَّحْمَن القادري من السيد فيض الله سنة 1179 هـ. عدد أوراقها 189 ورقة في كل صفحةٍ سبعة عشر سطرًا، مقاس 17.5 × 13.5 سم.
علاقة كتاب التحصيل بما تقدم عليه من كتب الأصول
أولها: (نحمدك اللهمَّ، والحمد من نعمٍ أوليت، ومن منحٍ أسديت، ونستعين بك ...) وآخرها: (وإن نقص من حركة الفاء وزيد فيها حرف المضارعة فهذه الأقسام التي كسبها وأمثلتها. والحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلَّم على سيدنا محمدٍ وآله وصحبه أجمعين). عَلَاقة كِتَاب التَّحْصِيل بِمَا تقدّم عَلَيْه منْ كتُب الأصُول يحسن بنا قبل أن نبين علاقة كتاب التحصيل من المحصول، للقاضي سراج الدين أبي الثناء محمود بن أبي بكر الأرموي مع الكتب التي تقدمته، ولها علاقة وثيقة معه سواء أكانت مباشرة أم غير مباشرة، كاستمداد معلوماته منها أو مشاركته لها في استمداد المعلومات أن نذكر لمحة موجزة عن نشأة هذا العلم وتطوره حتَّى عصر سراج الدين الأرموي القرن السابع الهجري، وسنقسم الكلام في ذلك على أربعة أقسام: 1 - التشريع قبل تدوين علم أصول الفقه وهذه الفترة تبلغ حوالي القرنين من الزمان تعبدًا منذ أن بزغت شمسِ المعرفة بانبعاث نور الوحي السماوي، ليبدد الظلام الدامس الذي كان مخيمًا على جزيرة العرب بصورةٍ خاصة، وعلى سائر أرجاء المعمورة بصورة أعم، حيث أخذ النور يطارد الظلام، وفلول الظلم والكفر تهرول أمام جحافل الحق وجنود الله، وأخذ الوحي السماوي ينزل على قلب خير البشر منذ تلك اللحظة المباركة التي التقي فيها جبريل عليه السلام بخاتم الأنبياء في مكان تعبده في غار حراء في قمة جبل النور، إلى أن أصبح الشَّافعيّ رضي الله عنه مرجع العلوم وموسوعة الفقه في زمانه في أواخر القرن الثاني الهجري. كان الوحي في عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ينزل منجمًا حسب الحوادث بلسان عربي مبين، وكان القرآن معجزة الرسول - صلى الله عليه وسلم - الخالدة، حتَّى تحدى الله به أفصح من وجد على ظهر البسيطة على ثلاث مراحل (¬1): ففي المرة الأولى ¬
أن يأتوا بمثله، وفي المرة الثَّانية أن يأتوا بعشر سورٍ، وفي المرة الثالثة أن يأتوا بسورةٍ من مثله، ولكن من أين لكلام البشر أن يضاهي كلام الله تعالى أو يدانيه. واعترف صناديد قريش في أنفسهم بأن القرآن معجزة، وإن ظلوا في ضلالهم يعمهون. وكان الرسول - صلى الله عليه وسلم - هو المرجع في الأحكام، والقاضي في الخصومات، فينتظر الوحي فينزل الوحيِ بالقول الفصل، والصحابة رضوان الله عليهم إذا بلغهم ذلك ما عليهم، إلَّا أن يقولوا سمعنا وأطعنا، وكان الرسول - صلى الله عليه وسلم - يقضي في بعض الأمور بدون انتظارٍ للوحي. فإذا حدث أن قضى في أمرٍ بخلافِ الأولى، نزل الوحي يسدده لأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لا يُقَرُّ على الخطأ. وَذلك كما حدث في قصة أسارى بدرٍ، وكما حدث في إعراضه عن ابن أم مكتوم رضي الله عنه قال تعالى: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ} (¬1) وقال تعالى: {عَبَسَ وَتَوَلَّى أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى وَهُوَ يَخْشَى فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى كَلَّا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ} (¬2). وقد ساعد على تطبيق الأحكام وفهم دقائقها أنها كانت تنزل منجمةً حسب الحوادث، وما على الصَّحَابَة رضوان الله عليهم إلَّا أن يُلحقوا بها كل ما ضارعها من الحوادث. وكانت الصَّحَابَة في عهد رسول الله-صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لاتساع الدولة الإِسلامية يجتهدون فيما يعترض لهم من حوادث، لعدم تمكنهم من مراجعة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لبعده عنهم، وقد سنّ ذلك - صلى الله عليه وسلم - وعلمهم إياه بفعله وورد في ذلك من ¬
السنة الشيء الكثير، ومن ذلك قوله -صلى الله عليه وسلم- لعمر بن الخطاب لما سأله عن قبلة الصائم: "أرأيتَ لو تمضمضت بماء ثم مججته أكنت شاربه" (¬1). وكذلك قوله للخثعميَّة لما سألته عن قضاء الحج عن الميت "أرأيتِ إن كان على أبيك دينٌ فقضيته أكان يجزئ. فقالت: نعم. قال: فدين الله أحق بالقضاء" (¬2). ولم يكتف الرسول-صلى الله عليه وسلم- بأنه اجتهد ليعلمهم ذلك، بل أمرهم بذلك ودرّبهم عليه ومن ذلك حديث معاذ المشهور (¬3) عندما أرسله قاضيًا لليمن. وزاد على ذلك أنَّه حثّهم عليه، ورغّبهم فيه لعلمه صلوات الله وسلامه عليه أنَّه سيجدُّ للنَّاس أقضية بعد أن يلحق بربه تحتاج إلى أحكام. ولا وحي بعد وفاته، فلا بد أن يطمئن قبل أن يلحق بالرفيق الأعلى على أن ما خلفه من تراثٍ كافٍ لسد كل ما تحتاجه أمته من أحكام، ولهذا أطلقها صراحةً واطمأن على ذلك حيث قال: "تركتكم على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلَّا هالك". وقال: "تركت فيكم أمرين لن تضلوا ما تمسكتم بهما كتاب الله وعترتي" (¬4). وقد روى عمرو بن العاص رضي الله عنه أنَّه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب فله أجران وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر" (¬5). وهذا حث على الاجتهاد ليس بعده حث، حيث رتّب على الاجتهاد الخطأ أجر فإذن كانت مصادر التشريع في عهد رسول الله-صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-. ¬
الكتاب الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه والسنّة المطهرة بأنواعها الثلاثة القولية والفعلية والتقريرية، والاجتهاد في استنباط الأحكام منهما الذي حثّ عليه ودرّب قضاته في حياته عليه الصلاة والسلام. وبعد وفاته - صلى الله عليه وسلم - اجتهدت الصَّحَابَة فيما اعترضها من حوادث ومن طبيعة الاجتهاد أن تختلف الآراء فقد تجد في المسألة الواحدة أقوالًا متعددة لهم مما يدل على أن الحكم فيها كان عن اجتهادٍ لا عن نص، ولو كان عن نص ما اختلفوا أبدًا لأنهم كانوا يعظمون النصوص فلا يخالفونها أبدًا، وكان إذا نزلت بهم نازلة سألوا عن من سمع فيها شيئًا عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ومن ذلك لما عرض لعمر رضي الله عنه أمر المجوس، وهل يأخذ منهم الجزية، توقف في ذلك حتَّى سأل أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فشهد عبد الرَّحْمَن بن عوف رضي الله عنه على أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "سُنوا بهم سنة أهل الكتاب" (¬1). فأخذ منهم الجزية. وكذلك لما جاءت الجدة تطلب الميراث من أبي بكرٍ رضي الله عنه سأل صحابة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- هل سُمع منه في ذلك شيء. "فأخبر المغيرة بن شعبة أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أعطاها السدس" (¬2). وشهد له محمَّد بن مسلمة بذلك. وغير ذلك من الحوادث كثير جدًا. وهذا يدل على أن الصَّحَابَة رضوان الله عليهم لا يلجأون للاجتهاد إلَّا بعد أن يستنفذوا الوسع في عدم وجود النص، سواء أكان من القرآن أم من السنّة المطهرة بأقسامها الثلاثة، ولم يتجرأ أحد منهم أن يترك النص الصريح للعقل أبدًا. وقد اجتهد الصَّحَابَة في أحكام كثيرة ونقلت لنا الكتب بين صفحاتها الكثير من آرائهم، وقد ساعدهم في ذلك ما خلفه لهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من تراثٍ عظيم فيه خبر ما قبلهم وما بعدهم، وقد كانوا على دراية تامة بألفاظ القرآن ومرامي التشريع، وبأسباب النزول لأنهم عاصروا التنزيل، ورافقوا تطبيق الأحكام، وكانوا على علم بالسنة المطهرة يحفظونها عن ظهر قلب غضة طرية يتذكرون المجالس التي قيلت فيها والحوادث التي نزلت من ¬
أجلها، ويذكرون مع ذلك الرسول - صلى الله عليه وسلم - فيشعرون بالهيبة، ويدفعهم ذلك لإجلالها واحترامها والمسارعة للعمل بموجبها، وكانت الألسن لم تفسد بعد ولم يستشر داء المعجمة إلى الأفهام والألسنة فكانوا على علم بالمطلق والمقيد والعام والخاص والمجمل والمبين والمنطوق والمفهوم ومدلولات الألفاظ على المعاني، والناسخ والمنسوخ، حتَّى كان عبد الله بن مسعود رضي الله عنه يقول في عدة الحامل المتوفى عنها زوجها أنَّه وضع الحمل، وكان يقول: آية النساء الصغرى نزلت بعد آية عدة الوفاة ومن شاء باهلته (¬1). وكان كبار الصَّحَابَة رضوان الله عليهم يرسمون لمن دونهم منهج الاجتهاد، ويحثونهم عليه ويدربونهم عليه بنوعٍ من الحذر, لأن الخطأ في الأحكام أمر خطير وتعتبر رسائل عمر بن الخطاب رضي الله عنه في ذلك إلى قضاته أساسًا رصينًا بنى عليه من جاء بعده، ومن أعظم هذه الرسائل رسالته إلى أبي موسى الأَشْعريّ رضي الله عنه والتي جاء فيها: (الفهم الفهم فيما أدلي إليك مما ليس في كتاب ولا سنة، ثم قس الأمور عند ذلك واعرف الأمثال). وقد ذكرتها بطولها في أول كتاب القياس من القسم التحقيقي، لما لهذه الرسالة من أهمية عظمى في التشريع الِإسلامي على وجه العموم والقضاء على وجه الخصوص. وكتبَ عمر رضي الله عنه أَيضًا إلى قاضيه شريح يقول: (إذا حضرك أمر لا بد منه، فانظر ما في كتاب الله فاقض به، فإن لم يكن فَبما قضى به الرسول - صلى الله عليه وسلم -، فإن لم يكن فَبما قضى به الصالحون وأئمة العدل، فَإِنْ لم يكن فأنت بالخيار، فإن شئتَ أن تجتهد رأيك فاجتهد رأيك، وإن شئت أن تؤامرني فآمرني ولا أرى مؤامرتك إياي إلَّا خيرًا لك والسلام) (¬2). ونقل البغدادي عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنَّه قال: (يَا أيها ¬
النَّاس أنَّه قد أتى علينا زمان لسنا نقضي ولسنا هناك، وأنه قد قدر أن بلغنا من الأمر ما ترون فمن ابتلي منكم بقضاءٍ فليقض بما في كتاب الله، فإن لم يكن في كتاب الله فليقض بما قضى به النَّبِيّ -صلى الله عليه وسلم-، فإن لم يكن في كتاب الله ولا في قضاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فإن الحلال بين والحرام بيَن، وشبهات بين ذلك، فدع ما يريبك إلى ما لا يريبك) (¬1). ونقل عن جمهور من الصَّحَابَة رضوان الله عليهم أنَّهم استعملوا القياس. فنقل عن ابن عباس رضي الله عنه أنَّه قال: (ألا يتقي الله زيد بن ثابت يجعل ابن الابن إبنًا، ولا يجعل أبي الأب أبًا). ونقل عن علي وزيدٍ رضي الله عنهما أنهما شبها الأخ والجد بغصنيْ شجرة وجدوليْ نهر، وشركا بينهما في الميراث. وقد ذكر النظام (¬2) أن الذين استعملوا القياس من الصَّحَابَة عمر وعثمان وعلي وابن مسعود وأبي بن كعب وزيد بن ثابت ومعاذ بن جبل وأبو الدَّرداء وأبو موسى الأَشْعريّ وعائشة وعبد الله بن عباس وعبد الله بن عمر. وبهذا يظهر أنَّه قد أصبح الاجتهاد مصدرًا بارزًا ظاهرًا في التشريع الإِسلامي أكثر من عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، حيث كانت الحاجة للاجتهاد في حياة الرسول - صلى الله عليه وسلم - قليلة لوجوده بينهم، فيقضي هو فيها أو ينتظر الوحي من رب العباد. ومن البديهي أن تظهر أقوال مختلفة في المسألة الواحدة، إما لاختلاف وجهات النظر في دلائل النصوص إذا لم تكن جلية أو لمشابهة المسألة أكثر من أصل، ومن ذلك ما أورده صاحب التحصيل تبعًا لما تقدمه من كتب الأصول مسألة الحرام (¬3) اختلف فيها الصَّحَابَة على خمسة أقوال (¬4): أولها: أن التحريم في حكم الطلاق الثلاث، وهو منقول عن علي ¬
وزيد بن ثابت وابن عمر رضي الله عنهم، وعمدتهم في ذلك أنَّه كناية عن الطلاق وأدرجوه تحت آية الطلاق ونزَّلوه على أعظم أحواله. ثانيها: أنَّه في حكم الطلقة الواحدة، وهو منقول عن عبد الله بن مسعود وغيره. وبعضهم قال: إنها طلقة واحدة بائنة، وبعضهم قال: إنها رجعية، وعمدتهم في ذلك أنَّه كناية عن الطلاق وأدرجوه تحت آية الطلاق، ولكن نزلوه على أقل أحواله. ثالثها: أنَّه يمين تلزم فيه الكفارة وهو منقول عن أبي بكر وعمر وعائشة رضي الله عنهم، وذلك لأنهم تمسكوا بقوله تعالى: {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} (¬1). نزلت لما حرَّم النَّبِيّ على نفسه مارية القبطية (¬2) فالله سبحانه وتعالى جعل حكمه حكم اليمين. رابعها: أنَّه في حكم الظهار، وهو المنقول عن ابن عباس رضي الله عنهما، وذلك لأنه اعتبره كناية عن الظهار وأدرجه تحت قوله: {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} (¬3) الآية. خامسها: أنَّه ليس بشيء، وهو منقول عن علي رضي الله عنه وعن مسروق (¬4)، وذلك لأنه من لغو الكلام الذي لا يترتب عليه حكم, لأن المحلل والمحرم هو الله جل شأنه، ولا عبرة بتحريم العبد وتحليله، وشبهوه بمن يحرم على نفسه نوعًا من الطعام. فكل قول من هذه الأقوال كما يظهر للناظر فيها لم يكن قولًا بالتشهي، ولا نابعًا من هوى النفس، بل كل قولٍ له مستند لو لم يكن غيره لأيقن الناظر فيه أنَّه صحيح فمنشأ الاختلاف بين أقوالهم له ما يبرره، وهو أمر لا مفر منه. وسبحان الله الذي تنزهت أقواله عن التعارض، وعصمت عن الاختلاف. قال ¬
تعالى: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} (¬1). ومن ذلك أَيضًا المسألة المشتركة أو المشركة في الفرائض المشهورة، ومن ذلك أيضًا اختلافهم في توريث الجد مع الأخوة (¬2)، وغير ذلك لا حصر له. وعلى العموم فقد ذكر محمَّد بن أبي بكر المعروف بابن القيم الجوزية (¬3) في كتابه إعلام الموقعين (¬4) نيفًا وثلاثين صحابيًا أُثر عنهم القياس، والذين اشتهروا منهم بذلك تقدم ذكرهم قبل صفحتين. والناظر في فقههم يدرك أن لهم طرقًا في الاستنباط واضحةً، وإن لم يدونوها ويذكروا لها أسماءًا اصطلاحية. فكانت هذه الأسس التي اعتمدوا عليها عبارة عن سليقةٍ سليمة وقريحةٍ وقَّادة وفطنةٍ خارقة ودراية بأهداف التشريع ومرامي الأحكام، ويلمس الناظر في فقههم أنَّهم كانوا يأخذون بعين الاعتبار تحصيل المصالح ودفع المفاسد وسد الذرائع، وغير ذلك من الأسس التي بني عليها الفقه الإِسلامي الشامخ البناء المتين الأساس. ومع هذا فقد كانوا رضوان الله عليهم يهابون من القول بآرائهم، خوفًا من أن تزل الأقدام بعد الثبوت, لأن الأمر خطير والخطب جسيم، وكانوا ¬
يحلون القول بالقياس وينزلونه منزلة الميتة للمضطر فلا يقدمون عليه إلَّا بعد نفاذ السبل في الحصول على حكم صريح من كتاب الله أو سنّة نبيه - صلى الله عليه وسلم -. فروى عبد الرَّحْمَن بن مهدي عن حماد بن زيد عن سعيد بن المسيّب عن محمَّد بن سيرين قال: (لم يكن أهيب لما لا يعلم بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من أبي بكر وعمر. وأنها نزلت بأبي بكر فريضة فلم يجد لها في كتاب الله أصلًا ولا في سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أثرًا. فقال: أقول فيها برأي، فإن يكن صوابًا فمن الله وإن يكن خطأً فمني وأستغفر الله) (¬1). وأخرج أبو عبيد في فضائل أبي بكر، وعبد بن حميد عن إبراهيم التَّمِيمِيّ قال: (سئل أبو بكر الصديق عن قوله تعالى: {وأبا} فقال: أي سماء تظلني وأي أرض تقلني إذا قلتُ في كتاب الله ما لا أعلم) (¬2). وقد ورد عن بعض من أثر عنهم القياس من الصَّحَابَة ذم القياس، وقد اعتنى بنقل هذه الآثار أبو علي محمَّد بن حزم (¬3) صاحب ملخص إبطال القياس، ونقل طائفةً منها الِإمام الدَّارميّ (¬4) في سننه (¬5)، ونقلها أَيضًا ابن ¬
عبد البر النمري (¬1) في كتابه جامع (¬2) بيان العلم وفضله، فنقلوا عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنَّه قال: (لو كان الدين يؤخذ قياسًا لكان باطن الخف أولى بالمسح من أعلاه) (¬3). ونقلوا عن ابن عمر رضي الله عنه أنَّه قال: (من أراد أن يقتحم جراثيم جهنم فليقل في الجد برأيه) (¬4). ونقلوا عن ابن عباس رضي الله عنه أنَّه قال: (يذهب قراؤكم وصلحاؤكم ويتخذ النَّاس رؤساء جهالًا يقيسون الأمور برأيهم) (¬5). ونقلوا عن عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنَّه قال: (السنة ما سنه رسول الله، لا تجعلوا الرأي سنّة المسلمين) (¬6). وقد وردت آثارٌ أخرى كثيرة جدًا أَيضًا عن تلاميذهم من كبار التابعين، والتناقض بين فعل الصَّحَابَة رضوان الله عليهم وهذه الأقوال لا يليق بهم أبدًا، فلذا لا مناص من الجمع بين هذه الأقوال وما ورد عنهم من القول بالقياس أن هذه الأقوال محمولة على القياس المذموم، وهو الذي يكون قبل التفتيش والتدقيق عن وجود النص. والقياسِ مع وجود النص باطل عند كل من يعتد بقولهم من علماء الإِسلام وقد صرَح أئمة الفقه بذلك قال الإِمام مالك: (كلٌّ يؤخذ من قوله ويرد عليه إلَّا صاحب هذا القبر). وقال الشَّافعيّ: (إذا خالف رأي قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فاضربوا به عرض الحائط). وقد يكون ذمهم للقياس الفاقد لشرائط القياس أو ما يتعارض مع عمومات الشريعة ¬
السمحة، ويحمل ما ورد عنهم من العمل بالقياس على القياس الصحيح المتوفر فيه شروط صحة القياس. وعلى العموم فإن التجرؤ على القول بالقياس بدون الإلمام بما ورد غير محمود، وينبغي الإقدام على ذلك بعد استفراغ الوسع في البحث عن النص، وأن يكون الإقدام مع الحذر الشديد حتَّى لا يُحرم ما أحل الله ولا يُحلل ما حرم الله عصمنا الله من ذلك. وينبغي أن لا نغفل عن نقطةٍ هامة جدًا يتميز بها اجتهاد صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وينبغي أن نجعلها دائمًا أمام عيوننا وفي قلوبنا لنتأسى بهم ونهتدي بهداهم، ألا وهي الرجوع للحق ولو كان مرًا، والتنازل عن آرائهم إذا ظهر الصواب مع غيرهم مهما كانت صفة الذي معه الحق فهذا خليفة خليفة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أمير المؤمنين، وماذا عساه يستحق من الألقاب لو عاش في هذا الزمان، وماذا عساه يستحق من الألقاب لو عاش في هذا الزمان، وماذا عساه يستحق من الأوسمة والنياشين لو قُدِّر له العيش في هذه الأيام يعتلي المنبر يريد أن يحدد المهور رأفةً وشفقةً بشباب هذه الأمة، وحرصًا على المصلحة العامة واستئصالًا لآفةٍ اجتماعية قد يستشري ضررها لجسم الأمة الإِسلامية، فإذا بامرأة عجوز تنهض من مجلسها وتقول: اتق الله يا عمر، كيف تقول ذلك، والله جل شأنه يقول: {وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا} (¬1). فينزل عن المنبر حامدًا الله شاكرًا له. ويعلنها صريحة مدوية على مسمع ومرأى من مئات الصَّحَابَة. (أصابت امرأة وأخطأ عمر). وتناقلها التاريخ عبر العصور وبين سطور الكتب لكي نعتبر بها ونتعظ بما نسمع. وهو الذي وقف قبلها على المنبر وخطب النَّاس وقال: (من رأى منكم فيَّ اعوجاجًا فليقوِّمه). فينهض رجل من ضعفاء الصَّحَابَة فيقول: (والله لو رأينا فيك اعوجاجًا لقومناه بسيوفنا). فيرد عليه بقوله: (الحمد لله الذي وجد في المسلمين من يقوِّم اعوجاج عمر بسيفه). وهو الذي سنّ لقضاته الرجوع إلى الحق حيث يقول ¬
في رسالته لأبي موسى الأَشْعريّ رضي الله عنه: (لا يمنعنك قضاء قضيته بالأمس راجعت فيه نفسك وهديت فيه لرشدك أن تراجع الحق، فإن الحق قديم، ومراجعة الحق خير من التمادي في الباطل) (¬1). وكانوا يرجعون للحق لا تأخذهم في ذلك لومة لائم، ويتنازلون عن آرائهم لآراء غيرهم، وقد صرحوا بذلك كثيرًا في موسوعات الفقه الإِسلامي، فاجتهادهم يختلف عن كثير ممن جاء بعدهم بعصور حيث كانوا يدورون في فلك غيرهم، أو يجهدون أنفسهم في الحصول على الأدلة المؤيدة لمذهبهم ويسوؤهم الإقلاع عن مذهب إمامهم مع وضوح الحق مع غيره وضوح الشمس في رابعة النهار، مع أن الله رزقهم من العلم ما أوصلهم إلى رتبة الاجتهاد فكفروا بالنعمة وأساؤوا استعمالها ولم ينطلقوا من قيودٍ ما أنزل الله بها من سلطان، فالعصمة لله وحده جل شأنه، ثم لرسوله - صلى الله عليه وسلم - في ما أمره بتبليغه اتفاقًا، ولم تثبت العصمة لبشرٍ بعده ولم يدع من أنزلوهم منزلة المعصومين العصمة لأنفسهم، بل ثبت عنهم رضوان اللهَ عليهم نفي العصمة عن أنفسهم وأجازوا على أنفسهم الخطأ. ثم انقرض عهد الصَّحَابَة رضوان الله عليهم وظهر عصر التابعين، وكان من أعظم فقهاء التابعين الحسن البَصْرِيّ وإبراهيم بن يزيد النَّخَعيّ وسعيد بن المسيّب وعروة بن الزُّبير ومحمَّد بن سيرين وعطاء بن أبي رباح وغيرهم، وكبار التابعين سلكوا مسلك الصَّحَابَة رضوان الله عليهم في استنباط الأحكام من الكتاب والسنة، والأخذ بما أجمع عليه الصحابة، ثم الاستئناس بأقوالهم وما صدر عنهم من أحكام وكانوا يجلون آراء الصَّحَابَة ويلتزمون بها إذا عرفوها. فروي عن أبي حنيفة النُّعمان رضي الله عنه أنَّه قال: (وما جاء عن الصحابة فعلى الرأس والعين وما جاء عن التابعين فهم رجال ونحن رجال). ونقل صاحب إعلام الموقعين عن الإِمام الشَّافعيّ رضي الله عنه أنَّه قال عن الصَّحَابَة: (أدوا إلينا سنن رسول الله-صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وشاهدوه والوحي ينزل عليه ¬
فعلموا ما أراد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عاماً وخاصاً وعزماً وإرشاداً، وعرفوا من سننه ما عرفناه وجهلناه، وهم فوقنا في كل علمٍ واجتهاد وورعٍ وتقوى وعقل، وآراؤهم لنا أحْمدُ وأولى بنا من آرائنا عند أنفسنا) (¬1). وعن الحسن بن عبد الله قال: قلت لِإبراهيم النخعي أكلَّ ما أسمعك تفتي به سمعته فقال: لا. فقلت: تفتي بما لم تسمع. فقال: (سمعت الذي سمعت وجاءني ما لم أسمع فقسته بالذي سمعت) (¬2). وفي هذه الفترة أيضاً لم تظهر قواعد مدونة للاستنباط يرجع إليها، ومع هذا فالناظر في فقههم يقطع ويجزم أنهم كانوا يُصدرون أحكامَهم عن ضوابط وقواعد تكاد تكون فردية فمثلاً الإمام مالك رضي الله عنه أدخل مصدراً جديداً في التشريع، وهو عمل أهل المدينة وإجماعهم. وكذلك قال بالمصالح المرسلة وكذلك وضع ضوابط لرواية الحديث، وكان أيضًا للإِمام أبي حنيفة رضي الله عنه أصول يستنبط الأحكام بموجبها ولكن لم تجمع وتدون في فصول وأبواب. وخلال هذه الفترة بدأت تلوح في الأفق طريقتان (¬3) متمايزتان لاستنباط الأحكام، فالأولى تنحو نحو التمسك بظواهر الألفاظ، والوقوف عند ظواهر النصوص وهؤلاء لهم سلف من الصحابة رضوان الله عليهم، وقصة قول الرسول - صلى الله عليه وسلم - للصحابة رضوان الله عليهم بعد الرجوع للمدينة من غزوة الخندق: "لا يصلين أحد العصر إلَّا في بني قريظة". مشهورة مسطورة في كتب المغازي والسير وكتب الفقه والسنّة. فبعضهم لم يصل العصر إلَّا في بني قريظة عملاً بظاهر النص مع أن الصلاة أدركته في الطرَيق، والبعض الآخر صلى في الطريق لأنه فهم من قول النبي - صلى الله عليه وسلم - حثهم على الإِسراع في السير، ولما عرضوا الأمر على الرسول - صلى الله عليه وسلم - أقر كلا الفريقين فيما فهم وفيما عمل، ولكن ¬
كان هذا الخلاف عند الصحابة لا يدعو للمشاحنة والقذف بالتُّهم، بل كان يعذر بعضهم بعضاً فيما ذهب إليه. والذين التزموا بهذه الطريقة هم أهل الحجاز تلاميذ عبد الله بن عمر، وعلى رأسهم سعيد بن المسيِّب، وذلك لأن السنة كانت بين أيديهم وفي صدورهم نقيةً صافيةً لم تمتد لها أيدي الوضاعين ولا ألسنتهم، وكانوا على معرفة بسقيمها وصحيحها. وفي الحقيقة أنهم لم يهملوا العقل، لأن العقل السليم لا يتعارض مع النقل الصحيح، ولكن يقفون عند النصوص ولا يلجأون للرأي إلا نادراً. وكان ما عندهم من الآثار كافٍ لما عندهم من الحوادث لقلة ما يحتاجونه من الأحكام لبعدهم عن مركز الخلافة. وأهل الحديث في الحجاز يختلفون قليلاً عن أهل الحديث في العراق، وهم الذين حدث التصادم بينهم وبين أهل الرأي. وأما الطريقة الثانية فهي طريقة أهل الرأي وكان هؤلاء في العراق وهم تلاميذ الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود الهذلي رضي الله عنه، وهؤلاء اهتموا بالبحث عن علل الأحكام اعتقاداً منهم أن أكثر الأحكام الشرعية معقولة المعنى، والمقصود من شرعيتها مصالح العباد. وذكر بعض المؤرخين للتشريع الإِسلامي أن سبب تمسكهم بالرأي أن بضاعتهم كانت في الحديث مزجاة، وهذا الكلام يحتاج إلى برهان ودليل، ولكن الذي يظهر لي أن سبب تمسكهم بالرأي أن المشرق كان مركزاً لوضاعي الحديث، نظراً لظهور الفرق الإسلامية الكثيرة بعد التحكيم، وعلى رأسهم الشيعة. ثم هؤلاء تفرقوا إلى شيع وأحزابٍ سخرت من يضع الحديث تأييداً لأرائهم وتقويةً لمذهبهم، زد على ذلك ظهور جماعة من السذج، أخذوا يضعون الأحاديث على زعمهم حسبةً لله ترغيباً للناس في الإِقبال على قراءة القرآن وغير ذلك من الأذكار، وقالوا: إن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قد قال: "من كذب عليَّ متعمداً فليتبوأ مقعده من النار". ولم يقل: "من كذب لي". ولما كثر الوضع في الحديث تعسر عليهم معرفة السقيم من الصحيح بسهولة، وهذا السبب نفسه هو الذي أدى إلى ظهور صيارفة للحديث في المشرق لم تشهد الدنيا من يضارعهم أو يدانيهم حتى في جميع أرجاء الدولة الإِسلامية على
وجه العموم والحجاز على وجه الخصوص، فمن الذي يقارب محمد بن إسماعيل البخاري ومسلم بن الحجاج وأبا داود والترمذي وإسحاق بن راهويه وأحمد بن حنبل وغيرهم من أئمة السنة، ولا يوجد في الحجاز من يقارب هؤلاء إلَّا مالك بن أنس - رحمه الله -. وكان من أشهر تلاميذ ابن مسعود علقمة وإبراهيم والنخعي - رحمهما الله -. وكان من دوافع انتشار الرأي وجود الخلافة في بغداد التي نتج عنها كثرة الحوادث التي في حاجة إلى أحكام متجددة باستمرار، وظهور طريقتين للاستنباط بينهما تغاير طفيف لا غبار عليه، لأن طبيعة الاجتهاد يؤدي لذلك وقد حدث بين الصحابة ما يماثل ذلك، كما مثلنا له باختلافهم في فهم لفظ الرسول - صلى الله عليه وسلم - عند أمرهم بالصلاة في بني قريظة. ولكن الأمر لم يقف عند هذا الحد، بل احتدم النزاع بين الفريقين، فأسرف كل فريق في الطعن على الآخر. فعاب أهل الرأي على أهل الحديث الجمود عند ظواهر النصوص وعدم التدبر وإشغال الفكر في الاستنباط. وكان أهل الحديث (¬1) يعيبون على أهل الرأي بأنهم يأخذون في دينهم بالظن ويحكمون العقل في الدين، ولكن كما يبدو أن كفة أهل الرأي كانت راجحة وطعنهم على أهل الحديث كان شديداً لأن السلطان كان معهم، ولأنهم أقدر على الحجاج واللجاج. قال الإِمام الرازي: (أما أصحاب الحديث فكانوا حافظين لأخبار رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، إلا أنهم كانوا عاجزين عن النظر والجدل وكلما أورد عليهم أحد من أصحاب الرسول سؤالًا أو إشكالًا أُسقط في أيديهم عاجزين) (¬2). وظهر متعصبون لكلا المدرستين واتسع الخلاف وزادت الشقة واحتدم النزاع وأخذ كل فريق ينتصر لمذهبه ولطريقة شيخه. ¬
2 - الشافعي واضع علم الأصول
2 - الشافعي واضع علم الأصول قد بيّنا فيما تقدم أنه لم يكن هناك قواعد مدونة في هذا الفن، لا في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا عهد صحابته رضوان الله عليهم أجمعين، ولا عهد التابعين. وقد بينا أن الحاجة أصبحت ماسةً لوضع قواعد لهذا الفن بعد أن تأسست المدارس الفقهية في العراق والحجاز، واحتدم النزاع بينهما، وكادت أن تدب الفرقة بين الصفوف والشقاق بين الفريقين فاستدرك هذا الوضع عالم الحديث في المشرق عبد الرحمن بن مهدي (¬1) المتوفى سنة 198 هـ، لأنه عاش تلك الفرقة واكتوى بنارها وأدرك أنه لا بد من وجود قواعد مدونة لتكون مرجعاً لفض النزاعات، ولتكون قاعدة للنقاش والمناظرات، ولم يكن هذا بالأمر الهين فابتكار نظام وقواعد ثابتة وأساس محدد في غاية الأهمية والخطورة، ومن الذي ستكون عنده المؤهلات للتصدي لهذا الأمر العظيم. فهذا لا يتسنى إلا لمن اطلع اطلاعاً واسعاً إن لم يكن تاماً على مصادر التشريع الإِسلامي، وملماً بشتى المذاهب بالحجاز والمشرق، وأن يكون حجة في اللغة العربية، ومطبوعاً على الذكاء الخارق والقريحة الوقّادة الذي بهما يصل لأغوار الأشياء ومقاصدها وغاياتها. وأن يكون متسربلًا بلباس التقوى والإِخلاص في النية والعمل التي بهما تذلل الصعاب. قال الشافعي رضي الله عنه: شكوت إلى وكيعٍ سوء حفظ ... فأرشدني إلى ترك المعاصي وقال: إن علم الله نورٌ ... ونور الله لا يهدى لعاصي ¬
ولا يحوز على هذه الصفات من البشر إلا النادر. وأدرك عبد الرحمن بن مهدي - رحمه الله - أنه ليس لها إلَّا الشافعي عالم قريش الذي كان جديراً بها وأهلًا لها. فكان - رحمه الله - حجةً في اللغة وملماً بالكتاب والسنة، وعالماً بفقه أهل الحجاز، حيث حفظ الموطأ على الإِمام مالك في المدينة، وكان عالماً بفقه أهل العراق، حيث تتلمذ على محمد بن الحسن الشيباني صاحب الإِمام أبي حنيفة. فجمع بين أسس المدرستين وأما فطنته وذكاؤه فيكفينا فيهما ما روي أنه كان إذا أراد قراءة كتاب وضع يده على الصفحة المقابلة لئلا يلمحها نظره فيحفظ الصفحتين معاً فيتشوش حفظه وكفاه أنه استنبط من حديث: (يا نقير ماذا فعل النغير سبعين مسألة وهو مستلق على فراشه). وذكر مثل ذلك يطول. ولقد كان اختيار الإِمام عبد الرحمن بن مهدي (¬1) موفقاً. فأرسل رسالةً للإِمام الشافعي يسأله فيها وضع قانون كلي يضبط مناهج الاستنباط، ووضع كتاب جامع يبين مراتب السنة وكيفية الاحتجاج بها، فصادف هذا الطلب رغبةً في نفس الإِمام الشافعي. واستحثه على إجابة طلب عبد الرحمن بن مهدي المحدث علي بن المديني حيث قال: قلت لمحمد بن إدريس الشافعي: أجب عبد الرحمن بن مهدي عن كتابه، فقد كتب إليك يسألك وهو متشوق إلى جوابك. قال: فأجابه الشافعي وهو كتاب الرسالة ووضعها الإِمام الشافعي وهو في مكة على الراجح، وأرسلها له مع الحارث (¬2) بن سريج النقال الخوارزمي المتوفى سنة 236 هـ. وأقبل الناس على الرسالة ودرسوها ووجدوا فيها بغيتهم وضالتهم المنشودة، وهي تلك القواعد الأصولية التي كان يعييهم البحث قبل العثور عليها. وخرج أهل الحديث بها من ¬
جمودهم وساعدتهم على نصرة السنة. وأقبل عليها أيضاً أهل الرأي واهتموا بها، وأصبحوا يشعرون بوزن أهل الحديث، لأنه أصبح لهم قواعد وأسس يناظرون عليها. وكان في هذه الرسالة ما تمس حاجة أهل الرأي إليه مثل متى يقبل خبر الواحد ومتى يرد؟ ومتى يحتج بالقياس ومتى يرد؟ وما شروط صحة القياس؟. وعلى العموم أصبحت رسالة الشافعي مناراً يهتدي به السالكون سبل الأحكام الشرعية بمأمن من الزلل والخروج عن الجادة، وبها تحول الصراع الذي كان بين الفريقين إلى مناظراتٍ علميةٍ هادفة لها آداب وضوابط يحترمها معظمهم، فتقاربت بها وجهات النظر وضاقت شقة الخلاف والنزاع، وتكون مذهب وسط يعتمد على المنقول ويستخدم العقل في الاستنباط وفعلاً ساعدت على تنمية الثروة الفقهية. ولهذا الكتاب وما تبعه من كتب مفيدة سنذكرها بعد قليل استحق الشافعي أن يسمى بناصر السنة لكثرة دفاعه عنها. قال الرازي في كتابه مناقب الإِمام الشافعي: "أن أبا زرعة الرازي نقل عن سعيد بن عمر البرادعي أنه قال: وردت الري فدخلت على أبي زرعة فقلت: يا أبا زرعة سمعت حميد بن الربيع يقول: سمعت أحمد بن حنبل يقول: (ما علمت أحداً أعظم منةً على الإسلام في زمن الشافعي من الشافعي، فقال أبو زرعة: قد صدق أحمد ولا أحداً أدرأ عن سنن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الشافعي، ولا أحداً أكشف لسوءات القوم مثل ما كشف الشافعي) (¬1). وقال أبو حاتم الرازي: (لولا الشافعي لكان أصحاب الحديث في عمى). وقال الإمام أحمد: لولا الشافعي ما عرفنا فقه الحديث. وقال: (كانت أقضيتنا في أيدي أصحاب أبي حنيفة ما تنزع حتى رأينا الشافعي فكان أفقه الناس في كتاب الله وسنّة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -). ¬
وهذه الرسالة التي وضعها الإِمام الشافعي، والتي قصصنا عليك خبرها قد اندثرت مع ما اندثر من تراث إسلامي على مر العصور وكر الدهور، ولكنها كانت موجودة حتى القرن الثامن الهجري، وتوجد منها نقول في بعض الكتب فنقل عنها أبو عمرو بن الصلاح، والحافظ البيهقي ومحيي الدين النووي والتاج السبكي وابن القيم الجوزية. والرسالة الموجودة الآن هي القاهرية التي وضعها بعد أن استقر في مصر (¬1) فأعاد النظر في الأولى، وتعديله في أبوابها لا يعتقد بأنه كثير. وقد أملاها بعد تأليفها على أصحابه المصريين وعلى رأسهم الربيع بن سليمان المرادي أبو محمد المصري المتوفى سنة (¬2) 270 هـ. ورواها أيضاً الإِمام أحمد بن حنبل (¬3). وهذه الرسالة وصلت إلينا كاملة وطبعت عدة طبعات بالقاهرة. ورسم الشافعي في رسالته هذه المنهج الذي يجب أن يسير عليه كل مجتهد وجمع بين منهجي أهل السنة وأهل الرأي بحيث لا يطغى الرأي وتهمل السنة، ولا يجمد الفقه على ظواهر الألفاظ وقد بحث فيها مهمات قواعد هذا الفن، وكل ما زاده المتأخرون بعده كان من باب التتميم والتوضيح ومن المباحث التي تعرضت لها الرسالة: 1 - الناسخ والمنسوخ في الكتاب والسنة. 2 - العام والخاص والمطلق والمقيد والمجمل والمبين والعام المراد به ظاهره والعام الذي لا يراد به ظاهره. 3 - حجية خبر الواحد ومنزلة السنة ومكانتها. 4 - القياس والاجتهاد وشروط المفتي. 5 - الإجماع وغير ذلك من المباحث المهمة. ¬
وقد أردف الشافعي - رحمه الله - الرسالة بمؤلفات أخرى في أصول الفقه، لا زالت تعتبر المرجع كما كانت في الماضي كذلك ومنها: 1 - إبطال الاستحسان: الذي رد فيه على من قال بالاستحسان وقال في ذلك كلمته المشهورة: (من استحسن فقد شرع). 2 - اختلاف الحديث: وفيه جمع بين الأحاديث المتعارضة، وكان هذا الكتاب الأول في بابه، حيث تبعه في ذلك ابن قتيبة (¬1) فألف كتابه (¬2) مختلف الحديث والطحاوي (¬3) فألف مشكل الآثار (¬4). 3 - جماع العلم: الذي عقده لإِثبات حجية خبر الواحد ووجوب العمل به والرد على من أنكره. دعوى الشيعة الإمامية أنهم السابقون لهذا الفن والرد عليها ادعت الشيعة الإِمامية أنها قد سبقت الإِمام الشافعي لهذا الفن، فقالوا: إن أول من دون فيه هو الإمام محمد الباقر بن علي زين العابدين المتوفى سنة 114 هـ، وتابعه ابنه الإِمام أبو عبد الله جعفر الصادق المتوفى سنة 148 هـ. ¬
قال آية الله السيد حسن الصدر: (اعلم أن أول من أسس أصول الفقه وفتح بابه وفتق مسائله الإِمام أبو جعفر محمد الباقر، ثم من بعده ابنه الإِمام وقد أمليا على أصحابهما قواعده وجمعوا من ذلك مسائل رتبها المتأخرون على ترتيب المصنفين برواياتٍ مسندةٍ إليهما متصلة الإِسناد) (¬1). وبعض الحنفية ادعت أيضاً أن واضع علم الأصول الإِمام قاضي القضاة أبو يوسف، ثم تابعه محمد بن الحسن - رحمهما الله -. ونقول: إن دعوى الإِمامية أن الإمام محمد الباقر - رحمه الله - هو واضع علم الأصول، ودعوى الحنفية بأن أبا يوسف ومحمد بن الحسن قد سبقا الشافعي في وضع قواعد هذا الفن، إنما ما حدث منهم هو التكلم في قواعد لمسائل فقهية عارضة أو بينوا منهجهم في استنباط حكم من الأحكام، أو أوضحوا طريقة استدلالهم. وكل هذا لا يعارض دعوى كون الإِمام الشافعي - رحمه الله - هو أول من صنّف مصنفاً شاملًا لمعظم أبواب هذا الفن الذي أتم بناءه الأصوليون من بعده، فلا تعارض بين الدعوتين. وقد أثبت الفقهاء والأصوليون والمؤرخون سبق الوضع للإِمام الشافعي كما تقدم في الكلام على سبب وضع "الرسالة"، وسنذكر أيضاً بعضاً من شهادات العلماء بذلك. قال جمال الدين الأسنوي المتوفى سنة 772 هـ - رحمه الله - في كتابه التمهيد: (إن الركن الأعظم والأمر الأهم في الاجتهاد إنما هو علم أصول الفقه. وكان إمامنا الشافعي - رحمه الله - هو المبتكر لهذا العلم بلا نزاع وأول من صنف فيه بالإِجماع. وتصنيفه المذكور فيه موجود بحمد الله تعالى، وهو الكتاب الجليل المشهور المسموع عليه المتصل إسناده الصحيح إلى زماننا المعروف بالرسالة، الذي أرسل الإِمام عبد الرحمن بن مهدي من خراسان إلى الشافعي بمصر فصنفه له، وتنافس في تحصيله علماء عصره، على أنه ¬
قد قيل: إن بعض من تقدم (¬1) على الشافعي نقل عنه إلمام ببعض مسائله في أثناء كلامه على بعض الفروع. وجواب عن سؤال السائل لا يسمن ولا يغني من جوع، وهل تعارض مقالة قيلت في بعض المسائل تصنيف كتابٍ موجود مسموع مستوعب لأبواب العلم) (¬2) انتهى. قال الإِمام فخر الدين الرازي في كتابه مناقب الشافعي: (الناس كانوا قبل الإِمام الشافعي رضي الله عنه يتكلمون في مسائل أصول الفقه ويستدلون ويعترضون، ولكن لم يكن لهم قانون كلي يرجعون إليه في معرفة دلائل الشريعة وكيفية معارضتها وترجيحاتها، فاستنبط الشافعي - رحمه الله - علم أصول الفقه، ووضع للخلق قانوناً كلياً يُرجع إليه في مراتب أدلة الشرع. ثم قال: والناس وإن أطنبوا بعد ذلك في علم أصول الفقه إلَّا أن كلهم عيال على الشافعي فيه، لأنه هو الذي فتح هذا الباب، والسبق لمن سبق) (¬3). قال جلال الدين السيوطي: أول من ابتكر هذا العلم الإمام الشافعي رضي الله عنه بالإِجماع، وألف فيه كتاب الرسالة الذي أرسل به إلى عبد الرحمن بن مهدي، وهو مقدمة كتاب (¬4) الأم. وعقد بدر الدين الزركشي المتوفى سنة 794 هـ في كتابه البحر المحيط فصلاً بعنوان: الشافعي أول من صنَّف في أصول الفقه (¬5). ويكاد يكون كل من أرخ لهذا الفن ذكر أن الشافعي رضي الله عنه هو أول من صنف في هذا العلم، وبهذا البيان الشافي بطلت دعوي كون الإمام - رحمه الله - مسبوقاً في تدوين هذا الفن. ¬
3 - علم الأصول في القرنين الثالث والرابع الهجريين ومن ورد ذكره في التحصيل من أصولي هذين القرنين
3 - علم الأصول في القرنين الثالث والرابع الهجريين ومن ورد ذكره في التحصيل من أصولي هذين القرنين لقد بينا أن أول كتاب برز إلى الوجود في علم أصول الفقه هو الرسالة، للإِمام محمد بن إدريس الشافعي - رحمه الله -. وكانت الرسالة شاملة لمعظم أبواب وفصول هذا الفن، ولكنها لم تكن مستوعبة لجميع مسائل هذا الفن. ثم أخذ هذا الفن ينمو في القرنين الثالث والرابع الهجريين، وذلك بالإِكثار من الأدلة على إثبات القواعد، وبحث المسائل التي لم تتعرض لها رسالة الشافعي، ولكن كما يظهر من أسماء هذه المصنفات أنها كانت في مواضيع من علم أصول الفقه وليست شاملةً لجميع أبحاث هذا الفن بالصورة التي عليها الكتب المتكاملة التي وجدت في القرنين الخامس والسادس، وكتب الشافعية كانت أشمل من غيرها لأنها كانت شارحةً للرسالة، والرسالة كما علمنا تحتوي على جزء كبير من مواضيع أصول الفقه. وتعرضت هذه الكتب الشارحة للرسالة إلى بسط ما قرره الشافعي والرد على اعتراضات المخالفين له من كتب غير الشافعية. ومعظم المصنفات في هذين القرنين لا نعرف منها إلا اسمها أو نقولاتٍ في كتبٍ أخرى منسوبة لها، لأنها ضاعت مع ما ضاع من التراث الإِسلامي في غزوا لتتار لبلاد الإِسلام، فمثلاً ذكر صاحب كشف الظنون عدة شروح للرسالة في هذين القرنين نذكر منها: 1 - شرح محمد بن عبد الله الصيرفي المتوفى سنة 330 هـ، قال عنه أبو إسحاق الشيرازي في طبقات الفقهاء: أنه أعلم خلق الله بالأصول بعد الشافعي. 2 - شرحها أبو الوليد حسان بن محمد النيسابوري الأموي، المتوفى سنة 349 هـ. 3 - شرحها محمد بن علي الشاشي القفال الكبير، المتوفى سنة 365 هـ. 4 - شرحها محمد بن عبد الله الشيباني أبو بكر الجوزقي، المتوفى سنة 388 هـ. 5 - شرحها عبد الله بن يوسف أبو محمد الجويني والد إمام الحرمين، المتوفى سنة 438 هـ.
ولا نجد الأن من ذلك كله إلا بعض نقولٍ لا تشفي الغليل من شرح محمد بن عبد الله الصيرفي، ومن الكتب التي صنفت في القرن الثالث الهجري كما ذكر ابن النديم في الفهرست كتاب العموم والخصوص، والفصول في معرفة الأصول لإبراهيم بن أحمد المروزي صاحب المزني، ومن ذلك كتاب خبر الواحد وكتاب الاجتهاد. وكتاب إثبات القياس لعلي بن موسى القمي. ومن ذلك خبر الواحد، وإثبات القياس، وكتاب اجتهاد الرأي لعيسى بن أبان بن صدقة الحنفي المتوفى سنة 220 هـ ومن ذلك: كتاب الإجماع. وإبطال التقليد وإبطال القياس، وكتاب خبر الواحد، وكتاب الخبر الموجب للعلم، وكتاب الخصوص والعموم وكتاب المفسر والمجمل، وكتاب الكافي لمقالة المطلبي، ومن ذلك كتاب العلل للإِمام أحمد بن حنبل، والناسخ والمنسوخ لأحمد بن حنبل أيضاً، وكلها كما ترى كتب مؤلفة في موضوعٍ واحد فقط. وقد استفاد القاضي سراج الدين الأرموي - رحمه الله - في كتابه التحصيل تبعاً للإِمام الرازي - رحمه الله - في المحصول من أقوال علماء هذين القرنين، فنقل عنهم أقوالاً كثيرةً وسنذكر طائفةً من علماء الأصول في هذين القرنين ممن وجدت لهم أقوالًا في التحصيل مرتبين حسب سنة الوفاة. 1 - عيسى (¬1) بن أبان بن صدقة الحنفي المتوفى سنة 220 هـ، وهو أول من نقل عنه أنه صنف في أصول الفقه من الأحناف فيما أعلم وله كتب عدة في هذا الفن وهي: إثبات القياس، وكتاب خبر الواحد، وكتاب اجتهاد الرأي، وكتاب الحُجج، وكتاب الجامع. 2 - إبراهيم (¬2) بن سيَّار بن هانئ المعروف بالنظَّام المتوفى سنة 221 هـ، المعتزلي تلميذ أبي الهذيل العلاف وأستاذ الجاحظ له كتاب النكت، وهو الذي نفى فيه حجية الإِجماع، وطعن فيه على صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. ¬
3 - داود (¬1) بن علي بن داود الأصبهاني الظاهري أبو سليمان المتوفى سنة 270 هـ. له في الأصول: كتاب إبطال القياس، وكتاب خبر الواحد، وكتاب الخبر الموجب للعلم، وكتاب الحجة، وكتاب الخصوص والعموم، وكتاب المفسر والمجمل. 4 - أحمد (¬2) بن عمر بن سريج المتوفى سنة 306 هـ، تلميذ المزني وأبو داود السجستاني ألف كتاباً في الرد على ابن داود الظاهري في إبطال القياس. ونقل ابن السبكي في طبقاته عن القاضي أبي بكر الباقلاني في التقريب، وعن الأستاذ أبي إسحاق في التعليقة أنهما قالا: (إن ابن سريج من الشافعية وغيره كانوا قد برعوا في الفقه، ولم تكن لهم قدم راسخة في علم الكلام، فطالعوا كتب المعتزلة فاستحسنوا عباراتهم وقولهم يجب شكر المنعم عقلاً فذهبوا إلى ذلك غير عالمين بما تؤدي إليه هذه المقالة) (¬3). وبذلك يكون ابن سريج قد سبق القاضي أبا بكر الباقلاني والقاضي عبد الجبار بن أحمد في التصنيف على طريقة المعتزلة. 5 - عبد الله (¬4) بن أحمد أبو القاسم الكعبي المتوفى سنة 319 هـ، له آراء خاصة في الأصول اشتهرت عنه وهو قوله: إن المباح مأمور به، وإن العلم الحاصل من الخبر المتواتر نظري. 6 - عبد السلام (¬5) بن محمد بن عبد الوهاب أبو هاشم الجبائي المتوفى سنة 321 هـ، له كتاب في الاجتهاد وفي أصول الفقه. 7 - أبو الحسن (¬6) الأشعري علي بن إسماعيل المتوفى 324 هـ، له كتاب في إثبات القياس وآخر في العام والخاص. 8 - الحسن (¬7) بن أحمد الاصطخري الشافعي المتوفى سنة 328 هـ، له آراء في الأصول مشهورة منها: فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - إن كان مجرداً عن القرينة ¬
الدالة على الوجوب يفيد الوجوب في حقه وحق أمته، ووافقه على ذلك ابن سريج المتقدم وابن أبي هريرة وابن خيران والحنابلة وجماعة من المعتزلة. 9 - محمد بن عبد الله أبي بكر البغدادي الصيرفي (¬1) المتوفى سنة 330 هـ، وقد دوَّن كتباً في الأصول غير شرح رسالة الشافعي السالف الذكر في غاية الأهمية، منها: كتاب لم يسبق له مثيل في الشروط، وكتاب البيان في دلائل الإِعلام في أصول الأحكام، وكتاب في الإِجماع. 10 - الحسن بن الحسين ابن أبي هريرة (¬2) الشافعي المتوفى سنة 345 هـ، له آراء خاصة في الأصول منها: تحريم الأفعال الاختيارية قبل البعثة. 11 - عبيد الله بن الحسن بن دلَّال بن دلهم الكرخي (¬3) المتوفى سنة 340 هـ، له في الأصول رسالةٌ مطبوعة ذكر فيها الأصول التي مدار كتب أبي حنيفة عليها. اهتم بها نجم الدين النسفي. 12 - القفال (¬4) الكبير الشاشي محمد بن علي بن إسماعيل المتوفى سنة 365 هـ، شارح رسالة الشافعي - رحمه الله -، وله كتاب في أصول الفقه. 13 - أحمد بن علي أبي بكر الرازي الحنفي المعروف بالجصاص (¬5) تلميذ أبي الحسن الكرخي وأبي العباس الأصم المتوفى سنة 375 هـ، له كتاب الأصول، وهو كتاب جامع طويل حقق ولم يطبع جعله مقدمة لكتابه أحكام القرآن. 14 - المعافى بن زكريا النهرواني (¬6) المتوفى سنة 390 هـ، تفقه على مذهب ابن جرير الطبري. وله التحرير والمنقر في أصول الفقه. 15 - محمد بن محمد بن جعفر المعروف بابن الدقاق (¬7) ويلقب بالخياط، أبو بكر المتوفى سنة 392 هـ، له كتاب في أصول الفقه. ¬
16 - إبراهيم (¬1) بن أحمد أبو إسحاق المروزي المتوفى في مصر سنة 340 هـ، تلميذ ابن سريج له في الأصول: الفصول في معرفة الأصول، وكتاب العموم والخصوص. 17 - وأبو علي (¬2) محمد بن خلاد البصري، تلميذ أبي علي وأبي هاشم الجبائيين صاحب كتاب الأصول والشرع. 18 - أبو مسلم (¬3) الأصفهاني محمد بن علي بن بحر المعتزلي المتوفى سنة 322 هـ، له جامع التأويل لمحكم التنزيل وناسخ الحديث ومنسوخه. ويوجد بعض علماء الأصول لم ينقل عنهم القاضي سراج الدين الأرموي تبعاً للإِمام الرازي، ومن هؤلاء الأبهري محمد بن عبد الله أبو بكر المالكي المتوفى سنة 375 هـ، له كتاب في إجماع أهل المدينة وكتاب في الأصول، وكذلك عبد الواحد بن الحسين الصيمري المتوفى سنة 386 هـ صاحب كتاب القياس والعلل في الأصول. وقد نقل عن عدد ضخم من علماء هذه الفترة غير الأصوليين وخاصة بالنسبة للأبحاث اللغوية وبعض مسائل الكلام، ومن هؤلاء. عباد بن سليمان الصيمري المتوفى سنة 250 هـ، والخليل بن أحمد الفراهيدي المتوفى 170 هـ، ومحمد بن عبد الوهاب بن سلام الجبائي المعتزلي المتوفى سنة 303 هـ، وسيبويه أبو بشر عمرو بن عثمان المتوفى بعد المئتين، وأبو عبد الله الحسين بن علي البصري المعتزلي المتوفى سنة 369 هـ، وأبو الفتح عثمان بن جني المتوفى سنة 392 هـ، أبو بكر محمد بن داود الأصفهاني المتوفى سنة 297 هـ، وابن متويْه إبراهيم بن محمد بن الحسن المتوفى سنة 302 هـ، والأصمعي عبد الملك بن قريب اللغوي المتوفى سنة 217 هـ، والمبرد أبو العباس محمد بن عبد الله البصري النحوي المتوفى سنة 285 هـ، وأبو علي الحسن بن أحمد بن عبد الغفار ¬
الفوي الفارسي النحوي المتوفى سنة 377 هـ، والجرجاني أبو الحسن علي بن عبد العزيز الشاعر المتوفى سنة 366 هـ، وأبو ثور إبراهيم بن خالد الكلبي البغدادي الفقيه المتوفى سنة 240 هـ، والكسائي أبو الحسن علي بن حمزة النحوي اللغوي المتوفى بعد عام 182 هـ، والفراء أبو زكريا يحيى بن زياد النحوي المتوفى سنة 207 هـ، والمزني إسماعيل بن يحيى أبو إبراهيم المصري الفقيه الشافعي المتوفى سنة 264 هـ، وأبو الهذيل محمد بن الهذيل أبو عبد الله العلَّاف المعتزلي المتوفى سنة 235 هـ، وابن خيران أبو علي الحسين بن صالح الفقيه الشافعي المتوفى سنة 320 هـ، وأبو الحسين عبد الرحيم بن أبي عمرو الخياط المعتزلي المتوفى سنة 350 هـ، وأبو جعفر محمد بن جرير بن يزيد بن خالد الطبري المفسر المؤرخ المتوفى سنة 310 هـ، والحاكم أبو الفضل محمد بن محمد بن أحمد المروزي البلخي السلمي المتوفى سنة 334 هـ، والجاحظ عمرو بن بحر أبو عثمان الفيلسوف الأديب المعتزلي المتوفى سنة 255 هـ، وابن الراوندي الملحد الزنديق الحسين أحمد بن يحيى الفارسي الأصبهاني صاحب المصنفات التي فيها الكيد للإِسلام، المعاصر لأبي علي الجبائي وأبي الحسين الخياط، وعمرو بن عبيد بن باب أبو عثمان البصري التميمي بالولاء شيخ المعتزلة المتوفى في خلافة أبي جعفر المنصور، وابن علية إبراهيم بن إسماعيل الأسدي أبو إسحاق المحدث الجهمي الجدلي المتوفى سنة 218 هـ، والمازني النحوي أبو عثمان بكر بن محمد البصري المتوفى سنة 136 هـ، وبشر بن غياث المريسي تلميذ أبي يوسف القاضي رمي بالزندقة والكفر وكان جهمياً، وعثمان البتي أبو عمرو البصري المتوفى سنة 143 هـ، وعبيد الله بن الحسن العنبري القاضي المتوفى سنة 168 هـ، والأصم أبو بكر عبد الرحمن بن كيسان معاصر لأبي علي الجبائي وأبي الهذيل العلَّاف، وإسحاق بن راهويه إبراهيم بن مخلد الحنظلي التميمي المروزي المحدث تلميذ البخاري ومسلم وأحمد بن حنبل، وموسى بن عمران المعتزلي من الطبقة السابعة. ومن الطبيعي أنه نقل آراءً للصحابة رضوان الله عليهم والتابعين والأئمة الأربعة أصحاب المذاهب، بالإضافة إلى بعض الشعراء الجاهليين كشواهد
4 - علم الأصول في القرنين الخامس والسادس الهجريين وذكر من وردت آراؤهم في كتاب التحصيل من الأصوليين
في اللغة يطول الأمر بذكرهم، والذي يهمنا ذكر الأصوليين الذين استفاد منهم القاضي الأرموي - رحمه الله - تبعاً للإِمام الرازي في المحصول، ومعظم من ذكرناهم قد اندثرت كتبهم مع ما اندثر من الكتب ولكن آراءهم مدونةٌ في كتب من تبعهم التي لا تزال محفوظة في خزائن المكتبات، أو قدر لها الله أن ينفض عنها الغبار وتخرج لحيز الوجود وتطبع، وما علينا الآن إلا أن نتكلم عن عصر نضوج هذا العلم وهو القرن الخامس الهجري. 4 - علم الأصول في القرنين الخامس والسادس الهجريين وذكر من وردت آراؤهم في كتاب التحصيل من الأصوليين في القرن الخامس الهجري اكتمل بناء علم أصول الفقه، بعد أن أرسى قواعده محمد بن إدريس الشافعي، وأصبح بناءً شامخاً يضاهي سائر علوم الشريعة بعد أن كان متأخراً عنها في النضوج، ولا نستطيع أن نجزم على يد من اكتمل البناء، لأنه ما من كامل إلا ويوجد أكمل منه. قال ابن خلدون: (ثم جاء أبو زيد الدبوسي من أئمتهم (الحنفية) فكتب في القياس أوسع من جميعهم، وتمم الأبحاث والشروط التي يحتاج إليها فيه، وكملت صناعة أصول الفقه بكماله وتهذيب مسائله، وتمهدت قواعده. ثم قال: (وعنى الناس بطريقة المتكلمين فيه، فكان من أحسن ما كتب فيه المتكلمون كتاب البرهان لإمام الحرمين والمستصفى للغزالي). ومن كلام ابن خلدون يظهر أن اكتمال الأصول الذي كتب على طريقة الحنفية كان على يد أبي زيد الدبوسي المتوفى سنة 430 هـ، والكتب التي ألفت على طريقة المتكلمين كملت على يد إمام الحرمين عبد الملك بن يوسف الجويني المتوفى سنة 478 هـ. ولا شك بأن هنالك كتباً قاربت الكمال وأصبحت من الأمهات التي يرجع إليها قبل البرهان لإِمام الحرمين، ومن ذلك المعتمد لأبي الحسن والعمد للقاضي عبد الجبار بن أحمد. ولا ننسى كتاب القريب للقاضي أبي بكر الباقلاني، ولكننا الآن لا نعرف ما فيه لأنه اندثر مع ما اندثر من تراثٍ
إسلامي في عصر الركود. ومعظم الكتب التي صنفت في هذه الفترة استفاد القاضي سراج الدين الأرموي منها. تبعاً للإِمام فخر الدين الرازي في المحصول. وسنذكر الآن الكتب التي ورد آراء أصحابها في كتاب التحصيل من علماء هذين القرنين مراعين في ذلك الترتيب الزمني حسب الإِمكان، ثم نذكر طائفة من الكتب التي لم يستفد منها. فلقد نقل القاضي الأرموي - رحمه الله - آراءً لعلماء هذين القرنين من الأصوليين وهم: 1 - محمد بن الطيب بن محمد أبو بكر الباقلاني (¬1) المالكي المتوفى سنة 403 هـ، له المقنع في أصول الفقه، وأمالي إجماع أهل المدينة، وذكروا له التقريب والإِرشاد قال ابن السبكي: (وهو أجل كتب الأصول، والذي بين أيدينا مختصره ويبلغ أربع مجلدات، ويحكى أن أصله كان في إثني عشر مجلداً، ولم نطلع عليه). انتهى ابن السبكي. 2 - أبو حامد الإِسفرائيني (¬2) أحمد بن أبي طاهر الشافعي المتوفى سنة 406 هـ، له كتاب لم يصل إلينا وآراؤه المنقولة كثيرة في كتب الأصول. 3 - ابن فورك (¬3) محمد بن الحسن المتوفى سنة 406 هـ، له آراء في الأصول، أكثر من النقل عنه الأسنوي في شرح المنهاج، والآمدي في الأحكام، وابن السبكي في جمع الجوامع، والإِمام الرازي في المحصول. 4 - الأستاذ أبو إسحاق (¬4) الإِسفرائيني إبراهيم بن محمد المتوفى سنة 418 هـ، قال ابن خلكان له رسالة في أصول الفقه. 5 - أبو زيد الدبوسي (¬5) عبد الله بن عمر المتوفى سنة 430 هـ، له تأسيس النظر فيما اختلف فيه أبو حنيفة وصاحباه، وكتاب الأمد الأقصى. 6 - أبو إسحاق الشيرازي (¬6) إبراهيم علي بن يوسف الأصولي الجدلي ¬
المتوفى سنة 476 هـ، له كتاب في الأصول يسمى اللمع وله أيضاً شرحه. 7 - المرتضى (¬1) علي بن الحسين بن موسى الشريف الإِمامي المتوفى سنة 436 هـ، له في الأصول الذخيرة. 8 - وأبو جعفر الطوسي (¬2) الإِمامي محمد بن الحسن المتوفى سنة 460 هـ، له العدة في الأصول. ويوجد عدد من كبار علماء الأصول في هذين القرنين لم يود لهم ذكر كتاب التحصيل تبعاً للمحصول، ومن هؤلاء: 1 - القاضي عبد الوهاب (¬3) بن علي بن نصر أبو محمد المالكي تلميذ أبي بكر الأبهري، المتوفى سنة 422 هـ، له في أُصول الفقه، الأدلة في مسائل الخلاف والإِفادة والتلخيص، وأوائل الأدلة، والإِشراف على مسائل الخلاف، وقد أكثر من النقل عنه القرافي في شرح التنقيح حتى أنه لم يكن ليترك رأيه في كل مسألة. 2 - ابن حزم (¬4) أبو محمد علي بن أحمد بن سعيد المتوفى سنة 456 هـ، صاحب الأحكام لأصول الأحكام المطبوع في ثمانية أجزاء، وصاحب المحلى كتاب الفقه العظيم وله تلخيص إبطال القياس، وله مسائل في أُصول الفقه وكلها على المذهب الظاهري. 3 - القاضي أبو يعلى (¬5) محمد بن الحسين المتوفى سنة 458 هـ، أُستاذ أبي الخطاب - الكلوذاني. له في أُصول الفقه العدة، ومختصرها، والكفاية، ومختصرها. 4 - فخر الإِسلام البزدوي (¬6) علي بن محمد بن الحسين الحنفي المتوفى سنة 482 هـ، له مؤلف عظيم في الأُصول يسمى كنز الوصول إلى معرفة ¬
الأُصول. وقد اعتنى بكتابه هذا جماعة منهم عبد العزيز البخاري وسمّاه بكشف الأسرار. 5 - محمد بن أحمد شمس الأئمة السرخسي (¬1) الحنفي المتوفى سنة 483 هـ، له في أُصول الفقه أُصول السرخسي مطبوع في مجلدين. 6 - أبو الخطاب (¬2) الكلوذاني محفوظ بن أحمد الحنبلي المتوفى سنة 510 هـ، له في أْصول الفقه التمهيد. 7 - أبو الوفاء (¬3) علي بن عقيل الحنبلي المتوفى سنة 513 هـ، تلميذ أبي يعلى، وصاحب كتاب الفنون الكبير، وله في الأُصول كتاب عظيم أثنى عليه ابن تيمية في المسودّة وقال: إنه استفاد منه، واسمه الواضح ولا يزال مخطوطاً، منه نسخة في الظاهرية بدمشق وأُخرى في أمريكا. ومن النظر لهؤلاء الثمانية الذين لم ينقل عنهم القاضي سراج الدين الأرموي تبعاً للإِمام في المحصول مع تقدمهم عليه نجد أنهم ليسوا من الشافعية أو المعتزلة، فأبو يعلى وأبو الخطاب وأبو الوفاء من الحنابلة، والسرخسي والبزدوي من الحنفية، وابن حزم من الظاهرية، والقاضي عبد الوهاب من المالكية وكتاب المحصول لا يكاد يخرج عن ما في المعتمد لأبي الحسين البصري المعتزلي، والمستصفى لحجة الإِسلام الغزالي الشافعي الأشعري، وإنما ورد ذكر الإِمامية كثيراً لأن قسماً كبيراً منهم دخل في الاعتزال، ولهذا اهتم بآرائهم أبو الحسين البصري المعتزلي. وقد وردت آراء لبعض العلماء من غير الأُصوليين، لكنه عدد قليل جداً منهم أبو علي بن سينا المنطقي الكبير صاحب الإِشارات، المتوفى سنة 428 هـ، والميداني صاحب الأمثال المتوفى سنة 518 هـ، وعبد القادر الجرجاني النحوي المتوفى سنة 474 هـ. وعبد الله بن سعيد بن كلاب من فقهاء الشافعية وابن العارض المتوفى سنة 448 هـ. ¬
ولم نتعرض في الكلام على أُصول الفقه في هذين العصرين للكلام عن قواعد هذا الفن الأربع، التي حوت كل ما تقدمها، وكل ما جاء بعدها عالةٌ عليها، وذلك لأننا نريد أن نفردها ببحث خاص لأهميتها، ولأن اعتماد الإِمام في المحصول كان عليها مباشراً. قال ابن خلدون في تاريخه (¬1): (وعنى الناس بطريقة المتكلمين فيه، فكان من أحسن ما كتب فيه المتكلمون كتاب البرهان لإِمام الحرمين والمستصفى للغزالي وهما من الأشعرية، وكتاب العمد لعبد الجبار وشرحه المعتمد لأبي الحسين البصري وهما من المعتزلة، وكان الأربع قواعد هذا الفن وأركانه، ثم لخص هذه الكتب الأربعة فحلّان من المتكلمين المتأخرين، وهما الإِمام فخر الدين بن الخطيب في كتاب المحصول، وسيف الدين الآمدي في كتاب الأحكام. واختلفت طرائقهما في الفن بين التحقيق والحجاج. فابن الخطيب أميل إلى الاستكثار من الأدلة والاحتجاج، والآمدي مولع بتحقيق المذاهب وتفريع المسائل، وأما كتاب المحصول فاختصره تلميذه الإِمام سراج الدين الأرموي في كتاب التحصيل ...). لقد ذكرنا أن علماء الأصول أخذوا يسيرون بهذا الفن نحو الكمال رويداً رويداً، منذ أن وضع الإِمام الشافعي رسالته واتسم القرنان الثالث والرابع الهجريان بتصنيف الكتب ذات الموضوع الواحد على الغالب أو شرح الرسالة، وبمطلع القرن الخامس الهجري ظهرت الكتب التي صنفت وشملت معظم مواضيع علم الأصول، وذلك بوضع محمد بن أبي بكر الباقلاني كتابه التقريب. (وهو مفقود الآن، ولكنه كان موجوداً في عصر ابن السبكي حيث يقول في طبقاته (¬2) أنه اطّلع عليه فقال: وكنت أغتبط بكلام رأيته للقاضي أبي بكر في التقريب والإِرشاد). واختصر هذا الكتاب إمام الحرمين (¬3) أبو المعالي عبد الملك الجويني المتوفى سنة 478 هـ وسمّاه ¬
التلخيص، ومعظم الآراء المنقولة عن أبي بكر الباقلاني في كتب الأُصول أخذوها من هذا الكتاب. ثم صنّف إمام الحرمين كتابه الشهير "البرهان" الذي ظهرت فيه شخصيته وتكاملت فيه سائر أبواب أُصول الفقه، وهو من أهم كتب الأصول على طريقة المتكلمين، كما ذكر ابن خلدون. وإمام الحرمين في هذا الكتاب لم يلتزم بآراء مَن تقدمه من الأشاعرة والشافعية، وقد شرح هذا الكتاب عالِمان من المالكية هما أبو عبد الله المازري (¬1) المتوفى سنة 536 هـ ولم يتم شرحه، وأبو الحسن الأنباري المتوفى سنة 618 هـ، والبرهان مخطوط بدار الكتب المصرية برقم (25) أُصول فقه، وطبع في قطر سنة 1399 هـ. ثم ظهرت كتب تلميذ إمام الحرمين (¬2) حجة الإِسلام محمد بن محمد الغزالي المتوفى سنة 505 هـ، وهو الذي وصفه أُستاذه إمام الحرمين بأنه بحر مغدق وهي: 1 - تهذيب الأُصول: قال في مقدمة المستصفي (¬3): (اقترح عليَّ بعض طلبة العلم وضع كتاب أقصر من تهذيب الأُصول وأطول من المنخول فأجبتهم لذلك). 2 - المنخول: وهو أقصر من المستصفى ومتقدم عليه في التأليف، وفي الغالب كان يلتزم فيه آراء أُستاذه إمام الحرمين. 3 - شفاء الغليل. 4 - المستصفى: وهو آخر ما ألّف في الأصول فظهرت فيه شخصيته المستقلة، وهو أهم كتبه وقد قدّم لهذا الكتاب مقدمة عظيمة المنفعة، ذكر فيها أُسس علم المنطق وأفاض فيها، وخاصة ما يتعلق بالحدّ والشرط ¬
والدليل وأقسامه، ثم قسّمه إلى أقطاب أربعة واستوعب كتابه معظم دقائق علم الأُصول إلا النادر، وله آراء خالف فيها من تقدّمه فلم يكن مقلِّداً، وبعضها لم يرتضها مَن جاء بعده. وأما المعتزلة: فقد وضع القاضي عبد الجبار (¬1) بن أحمد المعتزلي المتوفِى سنة 415 هـ، كتاباً عظيماً سمّاه "العمد". وقد كان هذا الكتاب مماثلاَ في الأسلوب والمنهج لكتاب التقريب للقاضي أبي بكر الباقلاني، إلَّا أنه كان يخالفه في بعض المسائل الكلامية. ثم تصدى لشرح هذا الكتاب أبو الحسين البصري المعتزلي المتوفى سنة 435 هـ، تلميذ القاضي عبد الجبار بن أحمد في كتاب عظيم سمّاه المعتمد (¬2). وقد تقدم كلام ابن خلدون أن هذه الكتب الأربعة - العمد والمعتمد والبرهان والمستصفى - أصبحت أركان هذا الفن، وأنها انتهت إلى كتابين عظيمين هما الأحكام لسيف الدين الآمدي، والمحصول للإِمام فخر الدين بن الخطيب الرازي رحمهما الله. قال جمال الدين الأسنوي (¬3): والمحصول استمداده من كتابين لا يكاد يخرج عنهما. غالباً، أحدهما المستصفى لحجة الإِسلام الغزالي، والثاني المعتمد لأبي الحسين البصري حتى رأيته ينقل منهما الصفحة أو قريباً منها بلفظها، وسببه على ما قيل: (إنه كان يحفظهما). ورأيت في نسخة مخطوطة في مكتبة الجامع الأزهر برقم (115) 4493 لم يعلم مؤلفها ويظن أنه الشنواني أنه قال: (إني وجدت الكتب المؤلفة في هذا الفن غير خالية عن الانحراف عن الحق، وإن كتاب المحصول هو المتداول في زماننا، وهو وإن نقل أكثر ما في كتاب المعتمد والمستصفى والبرهان ولكن الانحراف في تصرفاته أكثر. ¬
وبالجمع بين النقلين يظهر أن الإِمام الرازي اعتمد في تأليف كتابه المحصول على ثلاثة كتب هي (المعتمد والمستصفى والبرهان). والقاضي أبو الثناء سراج الدين الأرموي في كتابه التحصيل التزم باختصار كتاب المحصول لفخر الدين محمد بن عمر الرازي، فلم يذكر فيه آراءً لعلماء لم ينقل عنهم الإِمام الرازي، وإنما كان ينبّه على أدلة لم يرتضها لعدم وجود اعتراضات عليها أو وجود غيرها أقوى منها، وقد يضيف دليلاً ارتضاه، أو يدمج مسألة في مسألةٍ أُخرى، وسنذكر ذلك بالتفصيل مع الأمثلة في طريقته في الاختصار بعد المبحث التالي. والإِمام الرازي صرف النظر عن آراء معاصريه من الأُصوليين، حيث إنه التزم بما ورد في الكتب التي اعتمد عليها، ولم نجد أثراً لأمثال الكيا الهراسي علي بن محمد المتوفى سنة 554 هـ، زميل حجة الإِسلام في الدراسة، الذي له كتاب في أُصول الفقه أكثر من النقل عنه صاحب إرشاد الفحول محمد بن علي الشوكاني، ولم يذكر ابن برهان أحمد بن علي الشافعي المتوفى سنة 520 هـ صاحب البسيط والوسيط والأوسط والوجيز في أُصول الفقه وعلّامة زمانه أبا المظفر السمعاني منصور بن محمد المتوفى سنة 489 هـ، صاحب قواطع الأدلة والاصطلام والبرهان. والإِمام المازري محمد بن علي المتوفى سنة 536 هـ شارح كتاب البرهان بالإِضافة إلى ما سبق ذكرهم من الأحناف والحنابلة، والحنابلة على وجه الخصوص لم يرد في التحصيل أي نقل عنهم، ولعلَّ السبب في ذلك هو تأخرهم في التأليف في هذا الفن وأول مَن دوّن منهم في الأصول كما أعلم، هو القاضي أبو يعلى بن الفراء المتوفى سنة 458 هـ. وأما المعتزلة فقد كان لهم النصيب الأوفر وذلك لاعتماد الإِمام في المحصول في الدرجة الأولى على المعتمد لأبي الحسين البصري المعتزلي فذكر منهم: العلاَّف والجاحظ والنظَّام والكعبي وأبا علي وأبا هاشم الجبائيين وابن الراوندي وعبيد الله بن الحسن العنبري والقاضي عبد الجبار، وأبا الحسين الخياط وعمرو بن عبيد وغيرهم.
الكتب التي تأثرت بالتحصيل
وأما الشيعة الإِمامية فقد أكثر من النقل عنهم، وذلك لأنهم التزموا بالاعتزال وبذلك نكون قد ألممنا بعلاقة كتاب التحصيل بكل ما تقدم عليه من كتب علم الأصول ومدى وكيفية ارتباطه به، وسنذكر في المبحث التالي علاقة كتاب التحصيل بما بعده من الكتب. الكتُبُ الّتي تأثّرَت بالتّحصِيل تدل نسخ كتاب التحصيل على أن الأرموي انتهى من تأليفه قبل عام 655 هـ قطعاً، حيث إن النسخة المرموز لها "هـ" والموجودة في مكتبة دماد زادا الملحقة بمكتبة مراد ملا بإستنبول قد فرغ من نسخها سنة 655 هـ. ويغلب على الظن أنه قد ألّفه قبل عام 645 هـ، حيث انتهى ناسخ رسالته التي في أمثلة التعارض من نسخها سنة 645 هـ، ويغلب على الظن أن التحصيل قد تم تأليفه قبلها. ونقطع بأن الكتاب قد ألّف في دمشق، وذلك أنه لم يسافر ليستقر في قونية إلا في أواخر عام 655 هـ على ما في مقدمة كتاب لطائف الحكمة، المطبوع بالفارسية حيث التحق في آخر ذلك العام بخدمة السلطان أبي الفتح عز الدين كيكاوس بن كيخسرو من سلاجقة آسيا الصغرى، حيث قدّم له كتابه المشهور (لطائف الحكمة) وكتبه باسمه. ومعظم نسخ الكتاب كما يذكر ناسخوها نسخت في دمشق، وكانت الحركة العلمية آنذاك في عنفوان قوتها، والقدح المعلى فيها للأكراد، لأن الحكم كان في يد بني أيوب فكان في دمشق سلطان العلماء العز بن عبد السلام الكردي، وشيخ دار الحديث أبو عمرو عثمان بن الصلاح الشهرزوري الكردي، وابن خلكان المؤرّخ المشهور الكردي وغيرهم. وكان سراج الدين الأرموي على اتصال بهم، فابن خلكان وابن الصلاح زميلاه في الدراسة على كمال الدين بن يونس والعز بن عبد السلام رفيقة في السفر إلى مصر سنة 647 هـ، حيث تشرّفا بلقاء آخر ملوك بني أيوب في مصر السلطان الملك المعظم غياث الدين توران شاه ابن الملك الصالح نجم الدين أيوب، المتوفى قتلاً على يد مماليك أبيه سنة 648 هـ.
حيث تناظرا معه في حديث: "نعم العبد صهيب لو لم يخف الله لم يعصه" (¬1) مع جماعة من العلماء (¬2). وانتشار نسخ كتابه في معظم أرجاء المعمورة دليل قاطع على ذيوع هذا الكتاب وانتشاره والاستفادة منه، وقد صرّح بذلك حاجي خليفة في كتابه كشف الظنون حيث قال في التعريف بالتحصيل: (وهو كتاب معروف متداول). والنسخ التي بلغني علم وجودها كانت موزعة توزيعاً يثلج الصدر ويبعث في النفس الطمأنينة إلى أهمية الكتاب، وأنه تلقاه طلاب العلم بالنسخ والاستفادة فإحدى نسخه موجودة في جامع القرويين بمدينة فاس بالمغرب الأقصى برقم 1311/ 80، وأُخرى في ألمانيا الشرقية بمكتبة جوتا برقم 934، وأُخرى في لندن في مكتبة البودليانا التابعة لجامعة أكسفورد برقم 1/ 267، وأُخرى في دار الكتب المصرية بالقاهرة برقم 771 أُصول فقه، وأُخرى بمدينة الرسول الأعظم على ساكنها أفضل الصلاة وأتم السلام برقم 14 أُصول فقه، وأربعة في عاصمة الخلافة الإِسلامية سابقاً إستانبول وأُخرى بالمكتبة القادرية ببغداد. ولا شك أنه يوجد نسخ أُخرى لم يبلغني مكان وجودها حيث لا يعقل أن تخلو مكتبات دمشق عن هذا الكتاب، وخاصة أن معظم النسخ نسخت هناك. واستقصاء التفتيش في خزانات مكتبات العالم يحتاج إلى وقت طويل. وأما على وجه الخصوص، فقد استفاد منه تلميذاه اللذان استطعنا معرفتهما وهما: تاج الدين الكردي (¬3) الذي اشتغل مدرِّساً في مدرسة أزنيق ¬
عندما أسّسها أورخان، وكان من العلماء الذين يُشار لهم بالبَنَان في دولة بني عثمان عند تأسيسها فحصل من العلوم شيئاً كثيراً وبرع في جميعها وتمهّر في الفقه، ولم تذكر التراجم له تراثاً علمياً لنرى مدى تأثره بكتاب التحصيل. وأما تلميذه الآخر فهو صفي الدين (¬1) أبو عبد الله محمد بن عبد الرحيم الهندي الأرموي الشافعي المتكلم الأشعري الأصولي. شارح المحصول في ثلاثة مجلدات ضِخام، شيخ الذهبي ومناظر ابن تيمية وبسبب هذه المناظرة سجن ابن تيمية. وقد قدم على سراج الدين الأرموي ولازمه في مدينة قونية ببلاد الروم بعد سنة 667 هـ. ولا شك بأنه استفاد من التحصيل حيث أنه شرح المحصول، وكِلا الكتابين يخرجان من مشكاة واحدة، وقد استفاد من كتاب صفي الدين الهندي صاحب إرشاد الفحول حيث أكثر من النقل عنه. وأما الكتب المطبوعة المشهورة المتداولة فلم نجد نقلاً فيها من التحصيل إلَّا في نهاية السول للإِمام جمال الدين الأسنوي المتوفى سنة 772 هـ، فلا يكاد يغفل ذكر اسمه في مسألة من المسائل، وخاصة ما كان فيه مخالفاً للإِمام فخر الدين الرازي. وكان كثيراً ما يصوِّبه ويرجح ما ذهب إليه. وقد نقل عنه أيضاً البدخشي في شرحه للمنهاج المسمى "مناهج العقول" في مواضع معدودة، ومن ذلك ما ورد في صفحة (141) من الجزء الأول. وقد نقل عنه أيضاً شمس الدين محمد بن محمود الأصفهاني المتوفى 678 هـ، تلميذ تاج الدين الأرموي صاحب الحاصل. حيث أثبت ذلك الإِمام جمال الدين الأسنوي (¬2) في نهاية السول في مسألة إعمال المشترك في جميع مفهوماته غير المتضادة. وقد تكون هناك نقول أُخرى في هذا الكتاب عن التحصيل بلا شك. ¬
وقد اهتم بالكتاب جماعة من كبار الأصوليين جاؤوا بعد القاضي سراج الدين الأرموي، وعلى رأسهم الإِمام بدر الدين محمد بن أسعد التستري الشيعي المتوفى سنة 732 هـ، شيخ جمال الدين الأسنوي، وشارح مختصر ابن الحاجب الذي كثيراً ما كان يحيل إليه داخل كتابه الذي سمّاه "حل عقد التحصيل". وهذا الكتاب ليس شرحاً مستغرقاً لكتاب التحصيل بل اختصّ بتوضيح بعض ما ورد مبهماً غامضاً في التحصيل، والنسخة المصوّرة عندي من دار الكتب المصرية تقع في 147 لوحة مكتوبة بخط دقيق، ورقمها في دار الكتب المصرية 14 م أُصول فقه. وذكر أنه صنّفه للصدر الأعظم أحمد بن علي البناني. وقد تكلم فيها على معظم اعتراضات القاضي سراج الدين الأرموي، وحل كثيراً من الغموض الناتج عن الاختصار، وقد بيّن سبب تأليفه كتابه هذا في مقدمته حيث قال: (قد ساقني القدر إلى أن صرفت بعض زمن التحصيل في البحث في كتاب التحصيل للقاضي العلّامة سراج الدين محمود الأرموي - رحمه الله -، فوِجدته مشتملاً على فوائد هذه الصناعة، وعيون قلائد هذه البضاعة، متضمناً لأقسام الحسن والكمال، مستحقاً لصرف الهمّة إليه في الأيام والليالي لما فيه من حُسْن النظم مع صغر الحجم، واختصاصه بإيرادات لطيفة ونكات ظريفة من قبله مكمّلة تدل على جودةِ قريحةِ موردها وكثرة تحقيقه وقوة مظنته وشدة تدقيقه. غير أن المحقّقين في هذه الأقطار أحجموا عن تدريسه، والمشتغلين في هذه الديار عن تحصيله، لما فيه من المواضع الصعبة واللطائف الغريبة والمضايق المنغلقة والمواقف العميقة. فأجبت بعد استدعاء المحقِّقين والتماس المشتغلين أن أكشف القناع عن وجوه مخدرات لا تُغني عن التدقيق في الأنظار. وأرفع الحجاب عمّا يفتقر إلى التعمّق في الأفكار ...) (¬1). ولم يذكر في النسخة التي عند اسم ناسخها ولا تاريخ نسخها، ويوجد نسخ كثيرة (¬2) من حل عقد التحصيل منها نسخة في المكتبة الملحقة بجامع ¬
بايزيد بإستانبول رأيتها وتصفحتها (¬1). وأما الأسئلة التي أوردها القاضي سراج الدين الأرموي في كتابه التحصيل، فقد جمعها أحد نسّاخ كتاب التحصيل في آخر النسخة وتكلم عليها، وهي محفوظة في مكتبة وليّ الدين جار الله أفندي الملحقة بالمكتبة السليمانية العامة بإستانبول برقم 444 في صفحة 27 من الفهرس، والمكتوِبة سنة 707 هـ، وتبلغ سبع لوحات بخط دقيق جداً في كل صفحة 45 سطراً، في كل سطرٍ عشر كلمات. وهذه الأسئلة شرحها محمد بن يوسف (¬2) الجزري المتوفى سنة 711 هـ في كتاب مستقل لم أتمكن من معرفة مكانه ولا الاطّلاع عليه. وعلى العموم فإنه يظهر مما كتبته عن مَن استفاد من التحصيل للقاضي سراج الدين الأرموي ليس على سبيل الحصر، بل قد تكشف لنا الأيام التي أخذ يُظهر فيها كثير من التراث الإِسلامي المدفون تحت طبقات الغبار على رفوف المكتبات، الذي بُدئ في تحقيقه وطبعه، ومما ذكرنا يظهر مدى اهتمام مَن جاء بعده بهذا الكتاب ومدى أهميته وعظم منزلته بين كتب الأُصول، ولعلّ اكتفاء الناس بالنقل عن المحصول مباشرة قلّل من النقل عن التحصيل حيث اتحد منبعهما واستوى مشربهما. ¬
مسلك القاضي سراج الدين الأرموي في الاختصار ومدى إلتزامه بآراء الإمام فخر الدين الرازي
مَسْلَكُ القَاضِي سِرَاج الدّين الأَرمَويّ في الاخِتِصَار وَمَدَى إلتزامه بآراء الإِمَام فخر الدّين الرّازي لقد بيَّن القاضي سراج الدين محمود بن أبي بكر الأرموي في صدر كتابه التحصيل الدافع الذي دفعه إلى اختصار المحصول، وبيّن منهجه الذي رسمه لنفسه ليسير عليه بياناً شافياً حيث قال: (لقد كانت الهِمم فيما قبل لا تقصر عن الارتقاء إلى المراتب القاصية، ولا تفتر دون الوصول إلى المراتب العالية، والآن فقد أفضى الحال بالأُمم في تقصير الهِمم إلى أن استكثروا اليسير، واستكبروا النذر الحقير، حتى أن الكتاب الذي صنّفه الإِمام العالم العلّامة فخر الملة والدين، حجة الإِسلام والمسلمين، ناصر الحق مغيث الخلق محمد بن عمر الرازي، نوَّر الله ضريحه، في أُصول الفقه وسمّاه بالمحصول، مع نظافة نظمه ولطافة حجمه، يستكثره أكثرهم ولا يقبل عليه أيسرهم. على أنه يشتمل من الفوائد على جملٍ كافية، ويحتوي من الفرائد على قوانين متوافية، ثم إن بعض مَن صدقت فيه رغبته وتكاملت فيما يحتويه محبته التمس مني أن أُسهّل طريق حفظه بإيجاز لفظه ملتزماً بالإِتيان بأنواع مسائله، وفنون دلائله، مع زياداتٍ من قبلنا مكملة، وتنبيهات على مواضع منه مشكلة، لا على سبيل استيفاء الفكر واستكمال النظر لإِخلاله بالمقصود من هذا المختصر، وأجبته إليه مستعيناً بالله ومتوكلاً عليه، وسمّيته بتحصيل الأُصول من كتاب المحصول ليتوافق اسمه ويتطابق لفظه ومعناه. والله وليّ التوفيق والمعين وعليه أتوكل وبه أستعين). بهذه الكمات بيَّن الإِمام سراج الدين الأرموي رحمه الله منهجه، وأُسسه التي شرع يختصر كتاب المحصول بموجبها، وفعلاً فقد التزم بالمنهج الذي وضعه، وسار على الخطة التي رسمها، فلم يكد يفارقها. وقد تتبعت التحصيل مع المحصول كلمة كلمة وفقرة فقرة ومسألة مسألة فما وجدته خرج عن منهجه. ومسلك القاضي الأرموي هذا في الاختصار هو المنهج القويم لأي
مختصر، فالاختصار هو ضغط المعنى في ألفاظ أقل مع عدم التصرّف في الآراء المنقولة في الكتاب، إلَّا على سبيل التنبيه مع إظهار أن ما أدخل ليس من الأصل. والأرموي - رحمه الله - كان إذا ما عنَّ له تدوين ملاحظة ابتدأها بقوله: (ولقائلٍ أن يقول) تمييزاً لها عن ما ورد في الكتاب، وعبارته هذه تدل على ذوق سليم وأدب رفيع كان يتحلى به القاضي سراج الدين الأرموي، حيث أنه ينسب الملاحظة أو الاستدراك لمجهول تواضعاً منه، ووأداً لغريزة حب الظهور لأن العلم لا يتعلم ليُمارى به العلماء، ولا ليُقال فلان أعلم من فلان، فروى ابن ماجه عن ابن عمر رضي الله عنه عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "مَن طلب العلم ليباهي به العلماء أو ليُماري به السفهاء وليصرف وجوه الناس إليه فهو في النار". ورواه أيضاً عن ابن دريك بلفظ: "مَن طلب العلم لغير الله أو أراد به غير الله فليتبوأ مقعده من النار". وما نبّه عليه القاضي الأرموي - رحمه الله - لم يكن كله اعتراضاً وردّاً لما ذهب إليه الإِمام محمد بن عمر الرازي - رحمه الله -، بل وجدته بعد التقصّي له في كتابه أن أغلبه كان تنبيهاتٍ على أدلةٍ ضعيفةٍ لا تقف أمام مناظرات الخصوم، ويوجد ما هو أقوى منها، فيسدّ بالتنبيه على ذلك ثغرة قد تنفتح على دليل الإِمام الرازي أو خلل قد ينفذ للاستدلال به، وقد أحصيت هذه التنبيهات والاعتراضات فوجدتها نيِّفاً وثمانين، جمعها أحد النسّاخ أيضاً في آخر إحدى مخطوطات التحصيل بعد أن نسخها. والمخطوطة هذه محفوظة برقم 444 في مكتبة وليّ الدين جار الله أفندي الملحقة بالمكتبة السليمانية بإستنبول بتركيا. وقد تصدى لبيان معظم هذه التنبيهات والاعتراضات الإِمام بدر الدين محمد بن أسعد التستري المتوفى سنة 732 هـ في كتابه حل عُقَد التحصيل، فكان غالباً يقرّها، وكان في بعض الأحيان يبيِّن عدم وجاهتها وعدم رضائه بها. وقد أفردها بمصنف مستقل محمد بن يوسف الجزري، المتوفى سنة 711 هـ بكتابه المسمى أجوبة أسئلة القاضي الأرموي على التحصيل، ولم أتمكن من معرفة مكان وجوده.
وكانت معظم التنبيهات والاعتراضات موجهة للأدلة العقلية، وذلك لأنه فارس حلبتها ومغوارها الحاذق الذي كان له الباع الأطول فيها. ولهذا خلا القسم الأخير من هذه الاعتراضات لقلة المباحث الكلامية فيه، حيث أن آخر ما ورد من الاعتراضات كان في الفصل الثاني من التراجيح، ولم أجد شيئاً منها في الفصول الآتية (ترجيح الأخبار، الاجتهاد، المفتي، والمستفتي، الأدلة المختلف فيها). وكان القاضي الأرموي - رحمه الله - يورد هذه التنبيهات بعبارةٍ موجزةٍ جداً، قد تصل إلى حدّ الإِلغاز، ولا يمكن أن يعرف الناظر المُراد منها إلَّا بعد الرجوع للمحصول، وحتى بعد الرجوع للمحصول قد يكون معرفة مراد الأرموي - رحمه الله - من باب الاجتهاد. وليس هذا طابع جميع التنبيهات بل يوجد بعض التنبيهات الواضحة وضوح الشمس في رابعة النهار. ومن الاعتراضات التي ظهر عليها الإِبهام والإِلغاز. أ- ما أورده على أجوبة الإِمام الرازي عن أدلة مَن قال بعدم جواز تخصيص الكتاب بخبر الواحد حيث قال في التحصيل: (احتج القائل بعدم جواز التخصيص بما يلي: أ- الإِجماع: (إذ ردّ عمر خبر فاطمة بنت قيس. وقال: لا ندع كتاب ربنا وسنّة نبيِّنا بقول امرأة لا ندري لعلّها نسيت أم حفظت). ب - قوله عليه السلام: "إذا روي عني حديث فاعرضوه على كتاب الله، فإن وافق فاقبلوه وإن خالف فردّوه". جـ - الكتاب مقطوع فقدّم على الخبر المظنون. د- لو جاز تخصيصه به لجاز نسخه به بجامع تقديم الخاص). والجواب عن: أ- أنه ردٌّ للتهمة بالكذب والنسيان. ب- أنه ينفي تخصيصه بالمتواتر، ولو قيل تخصيص الكتاب لا يكون على خلافه قلنا: كذلك ههنا.
جـ - أن خبر الواحد تترك به البراءة الأصلية اليقينية على أن الكتاب مقطوع المتن مظنون الدلالة، والخبر بالعكس، وأيضاً لما دل القاطع على وجوب العمل بخبر الواحد كان وجوب العمل مقطوعاً فاستويا ... ولقائلٍ أن يقول: في هذه الأوجه نظر: (انتهى من التحصيل ..). فكيف يمكن أن يعرف هذا النظر الذي في الأجوبة، وإذا توصل الناظر في الأجوبة إلى خلل فيها فهل يكون موافقاً لما في ضمير القاضي سراج الدين الأرموي، فلا يعلم ما في ضميره على وجه القطع إلَّا الله جلّ شأنه، ولهذا لما أراد الإِمام بدر الدين محمد بن أسعد التستري أُستاذ جمال الدين الأسنوي أن يوضّح هذا الاعتراض قال: (لعله كانت بالنسبة للدليل الأول أن فاطمة بنت قيس لم تكن متهمةً بالكذب). وقوله: أصدقت أم كذبت لا يوجب تهمتها. وبالنسبة للدليل الثاني أنه لا يلزم من ترك العمل بخبر الآحاد ترك العمل بالخبر المتواتر لزيادة قوة المتواتر وبالنسبة للثالث، فإن البراءة الأصلية ربما يقدم عليها خبر الواحد لأنها ليست من الأدلة الشرعية) (¬1). ب- ومن ذلك ما أورده اعتراضاً على بعض الأحكام المتعلقة بكون الإِجماع ناسخاً للنص، أو لإِجماع آخر أو للقياس حيث قال: ولقائلٍ أن يقول: (في هذه الأقسام نظر ما فليتأمله الناظر). وهو يشبه المثال المتقدم في الإِبهام، وقد اجتهد بدر الدين التستري في معرفة ذلك مع عدم الجزم بما يقول ولهذا قال: إن محل النظر يحتمل أن يكون ما أقوله: 1 - عدم تسليم وقوع الإِجماع بخلاف النص، وكذلك قد ينسخ الإِجماع النص وذلك إذا كان الإِجماع مستنداً إلى نص راجح على النص المنسوخ، وحينئذٍ يكون الناسخ النص الراجح. ¬
2 - ما ذكر من عدم نسخ الإِجماع إجماعاً آخر سواء كان يفيد الحكم مطلقاً أم إلى وقت فهو منقوض بجواز نسخ نصٍ بنص، ويلزم كذلك عدم إمكان نسخ نصٍ بنص أصلاً. 3 - عدم تسليم أن الإِجماع لا ينسخ القياس، لجواز أن يكون سند الإِجماع قطعياً أو ظنياً راجحاً. 4 - يجوز نسخ النص بقياس يكون قطعي المقدمات، باعتبار أن يكون أصل القياس متأخراً عن نص متناول لما يتناوله القياس. 5 - لا نسلم نسخ النص أو الإِجماع للقياس، فإن صحته مشروطة بعدم وجودهما فإذا وجد النص أو الإِجماع زال القياس لزوال شرطه (¬1). ولم يُجب القاضي سراج الدين الأرموي عن ما أورده من اعتراضات وتنبيهات، بل تركها للناظر الحاذق، والمتأمل النبيه. وهي كما قال بدر الدين محمد بن أسعد التستري تدل على علو كعب القاضي سراج الدين الأرموي في هذا الفن، ودقة فهمه وصفاء ذهنه، لأنها نكات لطيفة لا يتنبه إليها إلَّا مَن له قريحةٌ وقّادة وذكاء خارق وذهن عبقري، اعتاد النظر في عويصات علم الكلام، والاشتغال بدقائق الاستنباط والاجتهاد. وما كان لغير سراج الدين الأرموي أن يستدرك على الإِمام فخر الدين الرازي، الذي بهر علمه علماء زمانه، ومناظراته شهد له بها أقرانه، فإن كان القاضي الأرموي - رحمه الله - قد لمح هذه الملاحظات، فهي إن دلّت على شيء إنما تدل على منزلته بين العلماء، ودقة فهمه وحذاقته لفن الأصول. وهذا لا يضير الإِمام الرازي - رحمه الله -، حيث إن العصمة لله وحده، وما من أحدٍ إلَّا يؤخذ منه ويردّ عليه إلَّا الرسول الحبيب صلوات الله وسلامه عليه. وكفى الرازي فخراً وعلوّاً في المنزلة وارتفاعاً في الرتبة أن يتلقى كتابه بالشرح والاختصار والتدقيق والتعليق عشرات من العلماء الأجلّة، فلم يوجد كتاب في فن الأُصول ذاع صيته وعمّت شهرته المشرق والمغرب والروم والعرب ككتاب المحصول، ¬
وليس ذلك محل استغراب إذا اعلمنا أنه خلاصة كل ما كتب في هذا الفن قبله كما بينا ذلك وأيدناه بالنقل عن مؤرخ العلوم العلّامة ابن خلدون. وقد التزم القاضي الأرموي - رحمه الله - بنقل الأقوال المنسوبة لأصحابها في المحصول، ولا يكاد يحذف أو يزيد اسماً ممّن نسبت إليهم الأقوال، ولهذا خلا كتاب التحصيل من ذكر آراء أقران الإِمام الرازي، والمتأخرين عنه تماماً. والإِمام الرازي نفسه التزم بنقل الآراء التي نسبها صاحب المستصفى وصاحب المعتمد لأصحابها ولم يتعرض لنقل آراء مَن تأخر عن هذه الكتب إلا ما ندر. ووجدتُ أن القاضي الأرموي - رحمه الله - يغيِّر أحياناً نسبة القول من أبي حنيفة إلى الأحناف، وكأنه يسوّي بين النسبتين، ومن ذلك أن الإِمام الرازي في المحصول نسب القول بعدم جواز التعليل بالعلة القاصرة للإِمامٍ أبي حنيفة وأصحابه، ولكن القاضي الأرموي قال: وجوّزه الشافعي خلافاً للحنفية (¬1). ومن ذلك أيضاً ما وقع في مسألة إثبات التقديرات والحدود والكفّارات والرخص بالقياس، حيث نقل الإِمام فخر الدين الرازي الخلاف في جواز ذلك عن الإِمام أبي حنيفة وأصَحابه، وأما القاضي الأرموي قال خلافاً للحنفية (¬2)، وجدت مثل هذا في عدة مواضع في الكتاب. وقد وجدت أن القاضي سراج الدين الأرموي قد أبدل كلمة الإِجماع في مواضع بلفظ الجمهور أو ما يقاربها، وكان موفقاً في ذلك لأن الإِمام نقل الإِجماع على أُمورٍ لا تسلم له أبداً، حيث هو نفسه نقل في موضع آخر الخلاف فيها. ولعله لم يكن يقصد بإطلاق لفظة الإِجماع الإِجماع الاصطلاحي المعروف. ولكن هذا الاحتمال أيضاً واهٍ، حيث إن الإِمام الرازي من عظماء علماء الأصول وعالم بمصطلحاتهم وعامل بها. ومن ذلك ما نقله الإِمام الرازي في أدلة مَن قال بالقياس: إن الدليل الرابع هو إجتماع الصحابة على العمل به ثم عدّد رهطاً من الصحابة عملوا به، وهذا لا يسمى ¬
إجماعاً عند عامة الأصوليين لأنه نقل عن بعضهم إنكار القياس، وبعضهم حذّر منه. فالإِجماع لا يسلم للإِمام الرازي ولكن القاضي الأرموي قال: ومعتمد الجمهور هو أن بعض الصحابة عمل بالقياس (¬1). وكان اختصار القاضي الأرموي - رحمه الله تعالى- يتناول أحياناً بعض المعاني الإِضافية التي ليست أساسية، كبيان المحترزات بالتعريف أو حذف دليل ضعيف وكان هذا في مواضع معدودة. وهذا ليس عيباً في الاختصار لأن المحترزات بالقيود من الأشياء التي يدركها الناظر بالتأمل، وكان في بعض الأحيان يشير للمحترز عنه بذكر المثال، وصنيعه هذا من مستلزمات الاختصار التي لا محيد عنها، وإنما ذكرته لأُبيِّن أن اختصاره لم يتناول الفِكَر الأساسية، بل كان في الأمور الجانبية، ومن ذلك في المقدمة الأولى من الجزء التحقيقي لم يستوعب المحترزات الخارجة بقيود تعريف الفقه، وقد بيّنها الإِمام الرازي في المحصول. ولم يبيِّن القاضي الأرموي - رحمه الله - ما خرج بقوله: (لا يعرف كونها من الدين بالضرورة)، وهو مثل الصلاة والصيام المعلومين من الدين بالضرورة، ولم يبيِّن ما خرج بقوله: (بالاستدلال على أعيانها) بما أخذه المقلّد من الأحكام فهو لا يسمى فقهاً لعدم أخذه الحكم بالدليل. وحدث مثل هذا في تعريف أُصول الفقه أيضاً، فلم يبيِّن القاضي الأرموي - رحمه الله - ما خرج بقوله: (مجموع طرق الفقه) حيث خرج العلم ببابٍ واحد ككون القياس حجة، ولم يبيِّن ما خرج بقوله: (من حيث هي طرق) حيث خرج الفقيه والخلافي، لأنهما يبحثان في حجية الدليل في مسألة معينة. وأما حذفه لبعض الأدلة الضعيفة فلم يحدث إلَّا في موضعين أو ثلاثة في جميع الكتاب نبّهت عليها في مكانها ومن ذلك. أورد الإِمام الرازي - رحمه الله - على تعريف القاضي أبي بكر الباقلاني للقياس ستة اعتراضات، ولم يورد القاضي سراج الدين الأرموي ¬
- رحمه الله - سوى خمسة اعتراضات، فحذف خامس الاعتراضات وهو: (أن كلمة "أو" للإِبهام وماهية كل شيء معينة، والإِبهام ينافي التعيين)، وحذف هذا الاعتراض لضعفه لأن "أو" ليست دائماً للإِبهام. وطبيعة الاختصار جعلت القاضي سراج الدين الأرموي - رحمه الله - يتصرف في تقسيمات الكتاب، فكثيراً: ما كان يحوِّل الأبواب إلى فصول، والفصول إلى مسائل، ومع هذا كان يحافظ على الأفكار الواردة، وهذا كثير جداً في الكتاب ومنه ما ورد في الكلام على اللغات حيث قسَّمه الإِمام الرازي إلى أبوابٍ، وقسّمه القاضي سراج الدين الأرموي إلى فصول ينطوي تحتها مسائل وجعل الكلام في اللغات باباً واحداً (¬1). ومن ذلك أيضاً أن الإِمام فخر الدين الرازي - رحمه الله تعالى- ذكر في بداية المحصول عشر مقدماتٍ ثم عدّدها واحدة تلو الأُخرى، ولكن القاضي الأرموي - رحمه الله - في التحصيل ذكر أن المقدمات ست، وبعد التقصّي وجدته لم يحذف من المادة العلمية شيئاً، ولكنه دمج بعض المقدمات مع ما يناسبها لقوة ارتباطها بها وشدة تعلقها. وكل ما تقدم في هذا المبحث ذكرته إظهاراً لمسلكه، ولمس على سبيل إظهار مآخذ على كتابه لأنه لا بدّ للمختصر من فعل ما تقدم. وأما ما قد يكون عيباً في مسلك الاختصار في كتاب التحصيل فهما أمران، وهما أيضاً يدلّان دلالة واضحة على دقة فهمه وقوة قريحته ورسوخ قدمه في علم الأصول المركب من المعقول والمنقول، وإنما هما عيبان من زاوية أُخرى غير الزاوية التي يدلّان منها على سعة علمه وقوة عقله، وإنني حينما أكتب هذه الكلمات أشعر بشيء من الوجل، لأن النقد سهل والعمل صعب، ولكن الأمانة العلمية تلزمني بتدوين كل ما انطبع في ذهني عن هذا الكتاب لتلاوته المرة بعد المرة، ولمحت فيه ما لا يلمحه القارئ العجل. أما الأمر الأول: تصرفه في بعض التعاريف الواردة في الكتاب بما ¬
يصلحها ويسدّ ثغرة فيها مع بقائها منسوبة لأصحابها مع عدم التنبيه على ذلك، والتعاريف نقلها مبني على التضييق في نظري، فلا يجوز التصرّف فيها أدنى تصرف، مع أن الأقوال قد يتجوّز في نقلها بما لا يحدث اختلافاً في المعنى. وهذا الِإصلاح الذي حدث في التعاريف يدل على دقة فهم القاضي الأرموي - رحمه الله -. ومن ذلك: قد عرَّف القاضي أبو بكر الباقلاني القياس كما ورد في المحصول بلفظ: (حمل معلومٍ على معلوم في إثبات حكم لهما أو نفيه عنهما بأمر جامع بينهما من حكم أو صفة أو نفيهما عنهما). والقاضي سراج الدين الأرموي - رحمه الله - نقله في التحصيل منسوباً للقاضي أبي بكر الباقلاني بلفظ: (حمل معلوم على معلوم في إثبات حكمٍ لهما أو نفيه عنهما بجامع حكمٍ أو صفةٍ أو نفيهما) (¬1). فمن حيث المدلول التعريفان متقاربان إلَّا أن تعريف القاضي الأرموي كان أشد اختصاراً، وحبذا لو ذكر التعريفين لأن التعريف الثاني لا يمكن القول عنه أنه تعريف القاضي أبي بكر الباقلاني. وقد تصرف أيضاً في تعريف أبي الحسين البصري صاحب المعتمد للقياس، حيث أورده القاضي سراج الدين الأرموي في التحصيل منسوباً لأبي الحسين بلفظ: (تحصيل مثل حكم الأصل في الفرع لاشتباههما في علة الحكم في ظن المجتهد) (¬2). والإِمام فخر الدين الرازي أورده في المحصول بلفظ: (تحصيل حكم الأصل في الفرع لاشتباههما في علة الحكم عند المجتهد). فالقاضي سراج الدين الأرموي - رحمه الله - أضاف كلمة "مثل"، وذلك لأن الحكم الحادث في الفرع ليس عين الحكم الذي في الأصل، فتعبير الأرموي أدق وأبدل "عند المجتهد" بقوله: "في ظن المجتهد" وذلك لكي لا يدخل القياس الذي يعتقد المجتهد فساده لأنه ليس بقياس، وكان ¬
القاضي الأرموي موفقاً في إضافة هاتين اللفظتين إذ بهما انسدّ خلل التعريف. ومن ذلك أيضاً: أورد القاضي الأرموي في التحصيل تعريف الحقيقة منسوباً لأبي الحسين البصري بلفظ: (ما أُفيد بها في اصطلاحٍ به التخاطب ما وضعت له فيه). وعرفها أبو الحسين البصري كما ورد في المعتمد (¬1) ونقله الإِمام فخر الدين الرازي في المحصول بلفظ: (ما أُفيد بها ما وضعت له في أصل الاصطلاح الذي وقع التخاطب به). ومدلول التعريفين واحد، مع أن التعريف الذي أورده القاضي الأرموي أشد اختصاراً. ومن ذلك أيضاً نقل القاضي الأرموي - رحمه الله - عن العلماء أنهم عرفوا الفقه بلفظ: (العلم بالأحكام الشرعية العملية التي لا يعرف بالضرورة كونها من الدين إذا حصل بالاستدلال على أعيانها) (¬2). وقد أورده الإِمام فخر الدين الرازي في المحصول بلفظ: (العلم بالأحكام الشرعية العملية المستدل على أعيانها بحيث لا يعلم كونها من الدين ضرورة). فاستبدل القاضي الأرموي كلمة يعلم بكلمة "يعرف"، وذلك للاعتراض الذي أورده الإِمام فخر الدين الرازي - رحمه الله - ثم أجاب عنه وهو: أن الفقه من باب الظنون فكيف يجعل علماً، وأجاب أنه إذا غلب على ظن المجتهد مشاركة صورة بصورة قطع بوجوب العمل بما أدى إليه ظنه، فالحكم معلوم قطعاً، والظن واقع في طريقه. وأما الأمر الثاني: أن القاضي الأرموي - رحمه الله - كان يقول في مواضع كثيرة. والجواب عن أ - من غير ذكر المجاب عنه وإذا نظر الإِنسان فيما تقدم لم يجد أشياءً مرقمة، وعندئذ يظهر أن الأجوبة عن أشياء لم ترد مرقمة، وهذا يشوِّش ذهن الناظر ويحتاج أحياناً إلى جهد في تعيين المُجاب عنها، لأنها قد تكون تقدمت قبل صفحات وهي مرقمة في ذهنه وهذا ورد كثيراً، وفي مواضع متعددة نبّهت على هذا في مواضعه بعد قراءة الأجوبة ¬
ومعرفة ما أُجيب بها عنه. وفي بعض الأحيان كنت أضع ترقيماً لما أُجيب عنه موافقاً للأجوبة. وهذا يدل على سعة علمه ورجاحة عقله، ولكنه يشوِّش على الناظر فيه، ويؤخر عليه الوصول إلى معرفة المراد، ومن ذلك على سبيل المثال. قوله: احتجوا (القائلون بأن الكفّار غير مخاطبين بفروع الشريعة) بأن الصلاة مثلاً لا تجب عليه بعد الإِسلام وفاقاً ولا قبله لامتناعه، ولأنها لو وجبت لوجب قضاؤها كالمسلم بجامع تدارك المصلحة. والجواب عن: أ- أن ما ذكرتم لا ينفي العقاب على تركها. ب- النقض بالجمع، والفرق (أن وجوب القضاء عليه تنفير له عن الإِسلام) (¬1). ويقصد بالجواب عن أ- عن دليلهم الأول، وهو بأن الصلاة مثلاً لا تجب عليه بعد الإِسلام وفاقاً ولا قبله لامتناعه. ويقصد بالجواب عن ب- عن دليلهم الثاني وهو: لأنها لو وجبت لوجب قضاؤها كالمسلم بجامع تدارك المصلحة، وكلاهما لم يرد مرقماً. وقد برزت شخصية القاضي سراج الدين الأرموي - رحمه الله - بروزاً واضحاً كمختصر متمكِّن من فنه ولغته، فقد كانت عباراته بقدر المعاني، فلا حشو ولا إلغاز. فلو حذفت كلمة من موضعها لحدث بها خلل كبير في التركيب. وأظهر قدرة فائقةً في إبراز المعاني الكثيرة في ألفاظ قليلة، وهذا من سمات الحكماء المتكلمين الذين كل حرف في كلامهم له وزن ومعنى. فالأسلوب العلمي الذي يعتني بالحقائق يختلف عن الأسلوب الأدبي الذي يعكس العواطف. واختصاره كتاب المحصول وهو لأعظم الحكماء العلماء المتكلمين في القرن السادس الهجري إلى الثلث مع عدم نقص المادة العلمية لَدليلٌ قاطع على التمكّن من لغته ودقة تعبيره، وكتاب علمي مثل هذا لا يتأتى اختصاره لأقل من ذلك إلَّا إذا كان الاختصار على حساب المعاني، وحينئذٍ تضيع القيمة العلمية للأصل. ¬
وأما وضوح العبارة وسهولة إيصالها المعاني للناظر فيها فقد حالف القاضي الأرموي فيها الحظ، فقد خلا كتابه مما احتوت عليها المختصرات الأخرى من تعقيد اللفظ، والإِلغاز في التركيب، ولكن ليس معنى وضوح المعنى أنه واضح للقاصي والداني، بل واضح لمن اعتاد النظر في كتب هذا الفن، وكثيراً ما يتكلم إنسان بكلام واضح في ذهنه وضوح الشمس مع وجود غموض فيه على بعض الناس. وقد ألانَ الله له التراكيب فانسابت على قلمه فنمنم بها صفحات كتابه، كما ألانَ الله لسليمان الحديد فنسج منه الدروع فمعظم ما كتب واضح يدرك بالنظر الثاقب ودقة الفهم، ولم أجد العبارة قد خانت القاضي الأرموي - رحمه الله - فلم توصل المعنى للقارئ لأول وهلة إلَّا في مواضع قليلة ناتجة عن اجتهاد الأرموي في الاختصار بقدر الإِمكان. نبّهت عليها في مواضعها وهي: أولاً: دمج القاضي سراج الدين الأرموي - رحمه الله - مسألتين في مسألة واحدة في موضعين، فحدث بذلك التباس وتشويش في الفهم، مما يجعل الفهم صعباً إلا بالرجوع للمحصول. أ- الموضع الأول: دمج مسألة الاختلاف في صدق المشتق بدون المشتق منه بمسألة بقاء وجه الاشتقاق، هل هو شرط لصدق المشتق أم لا (¬1). ففي المسألة الأولى ارتضى القاضي الأرموي - رحمه الله - تبعاً للإِمام الرازي - رحمه الله تعالى- عدم صدق المشتق دون المشتق منه، لاستحالة صدق الكل بدون الجزء، وخالفه في ذلك الجبائيان أبو علي وأبو هاشم. وارتضى في الثانية أن الاشتقاق شرط لصدق المشتق منه. وخالف في ذلك أبو علي بن سينا وأبو هاشم الجبائي المعتزلي، ونظراً لترابط المسألتين أراد القاضي الأرموي حرصاً منه على الاختصار أن يجعلهما مسألةً واحدة فحدث الالتباس. ¬
ب- دمج القاضي الأرموي - رحمه الله - مسألتين مشهورتين في مسألة واحدة وهما: الأولى: هل الأمر يفيد التكرار أم المرة الواحدة. الثانية: هل الأمر على الفور أم على التراخي (¬1). والذي دفع القاضي الأرموي - رحمه الله - لدمج المسألتين كما يبدو والله أعلم - أن الرأي المختار في المسألتين كان واحداً، وهو أنهما يدلّان على القدر المشترك ولهذا كانت معظم الأدلة متحدة، فحدث بذلك تشويش وخاصة في الاستدلال، لأن كل مسألة انفردت ببعض الأدلة، ولم أرَ في الكتب الأُصولية التي نظرتها أن أحداً جعلهما مسألةً واحدةً. ثانياً: نقل القاضي الأرموي - رحمه الله - عن الإِمام الغزالي تبعاً للإِمام الرازي في المحصول أربعة أوجه، للتفريق بين الحقيقة والمجاز فقال: (أ- اطراد الحقيقة: فلا يقال واسأل البساط وهو ضعيف) (¬2). والناظر في هذا الوجه لا يفهم منه شيئاً إلا بعد الرجوع للمحصول أو المستصفى ليعرف المراد، ومراده أن الطريق الأول من طريق التفريق بين الحقيقة والمجاز، أن الحقيقة مطّردة والمجاز غير مطّرد. فلا يقال: واسأل البساط إلحاقاً لقوله تعالى: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} وضعَّف هذا الطريق الإِمام الرازي في المحصول، وتابعه القاضي سراج الدين الأرموي بقوله: (وهو ضعيف) والضمير (هو) راجع للتفريق، والتفريق لم يتقدم وهذا يرد على ما يرد عليه في اللغة. ¬
وقد ظهرت شخصية القاضي الأرموي - رحمه الله - في اختصار المحصول في التبويب بالتقسيم، فكانت في غاية الدقة. فقد أحسن تنظيم الكتاب وتقسيمه إلى أبوابٍ وفصول ومسائل، وكثيراً ما كان يذيّل المسائل إما بتفريعات أو بتنبيهات. وقد أكثر القاضي الأرموي - رحمه الله - في تقسيماته وتعداد بعض الأمور من استعمال الحروف. وكان يستعملها بشكل عجيب لم يسبق لي الاطّلاع على مثله، حيث كان يركب الحروف الهجائية لتدل على الأرقام، ففي باب التراجيح ركّب حرفاً لتدل على ستةٍ وستين نوعاً. وبرزت شخصية القاضي الأرموي - رحمه الله - في التحصيل كمتكلمٍ ممسك بناصية فنه، عالم بأبعاده ومراميه خبير بدقائقه وخباياه. فظهر ذلك في الإِضافات الدقيقة والملاحظات اللطيفة التي أوردها على أدلة الإِمام الرازي في المحصول، والتي بينّاها في الجزء التحقيقي بياناً شافياً. وظهرت دقة علمه في ترتيب الأدلة، حيث كان في بعض الأحيان يقدم بعض الأدلة، ويؤخر أُخرى، وبعد السبر وجدت أن هذا لم يكن عبثاً، بل لأنه لمّح أن بعضها أقوى من الآخر فقدّم الأقوى. والإِضافات الدقيقة لبعض التعاريف وحذْف بعض الألفاظ منها لسد الخلل فيها، ومنع توجه الاعتراض عليها أيضاً يدل على مدى تمكنه من فنه. ومن ذلك ما تقدم ذكره من إضافة "مثل" و"ظن" لتعريف أبي الحسين البصري للقياس، لاحتمال ورود اعتراضين عليه وهما أن الحكم الحادث في الفرع ليس عين الحكم الموجود في الأصل، ولكي لا يدخل القياس الفاسد. ومن ذلك أيضاً استبداله كلمة "يعلم" بكلمة "يعرف" في تعريفه الفقه عند العلماء، وذلك لاحتمال ورود اعتراض عليه، وهو أن الفقه من باب الظنون فكيف يجعل علماً؟. وظهرت شخصية القاضي الأرموي - رحمه الله - في سلامة لغته، مع أنه أعجمي ولد في أذربيجان، ونشأ وترعرع فيها، ثم كانت دراسته على بني قومه من الأكراد ثم ختم حياته بالإِقامة في بلاد الروم، وكانت السلطة الحاكمة التى يعيش في ظلها سلجوقية ومع هذا كله، كانت لغته سليمة لا
الخاتمة
لحن فيها، وانقادت له الألفاظ والتراكيب، وانسابت على سنان قلمه انسياب الماء الرقراق في الجدول الصافي، لا تكدره رواسب العجمة، فكانت عبارته سليمة نحوياً ودلالةً ودقةً. وأما ما تكرر في كتابه من قلب الهمزة ياءً وَحذف همزة الممدود أو الهمزة في آخر الكلمة، فهذا أمر شائعٌ في ذلك الزمان رأيته في بعض المخطوطات الأُخرى، وهذا يحمل على أن اللغة العربية تميل للتسهيل في اللفظ، وحتى اليوم يوجد في كثير من الأقطار مَن يقلب الهمزة ياء ويحذف الهمزة من آخر الكلمة في اللفظ، وأما من ناحية الكتابة فالأمر فيها محمول على التضييق، فينبغي الالتزام بقواعد الإِملاء، وجميع نسخ التحصيل متوافقة في هذا المسلك من الكتابة، مما يدل على أن هذا التصرف ليس من النسّاخ، ومما ورد على هذا النحو ما رأيته في الصفحة الأولى أن كتابة (أنبيائك وأنبائك وخلائقك والفوائد) قد وردت مكتوبة على النحو الآتي: (أنبيايك، أنبايك وخلايقك، والفوايد). وأما حذف الهمزة في آخر الكلمة فقد ورد منه في الصفحة الأولى: (النجبا والكرما والارتقا). وقد أصلحت ما حدث في المخطوطة بدون الإِشارة إليه في كل موضع لكثرته. " الخاتمة" لقد خلَّف سلف هذه الأمة لخلفها تراثاً ضخماً. فمنذ عصور الدولة الإِسلامية الزاهرة حتى يومنا هذا والمكتبة الإسلامية تستقبل مواليد جدداً في عالم المعرفة، ولكن لا يزال القديم يتميز بغزارة المادة العلمية، وتفوح منه رائحة الإِخلاص والتجرّد في تصنيفه من الأغراض الدنيويَّة التي لا بدّ وأن تضفي على المصنَّف بركةً وقوةً في التأثير في النفوس، وتشعر النفوس بانجذابٍ إليها لصفائها، وسلامتها مما شابَ غيرها من الأغراض الدنيوية. ولا يزال يعيش الخلف عالةً على ما سطّرته أقلام السلف من تراثٍ ضخمٍ فني منه الشيء الكثير في ما مرّ على الأُمة الإِسلامية من حروب
طاحنة، ونقل منه ما نقل لخزائن مكتبات المستشرقين إبان غفوة الأُمة الإِسلامية واستهانتها بتراثها الضخم فملأت منه خزائن مكتبات أوربا. ومع هذا فقد بقي قسم ضخم ينتظر مَن يمدّ يده إليه ليُخرجه من غياهب سجنه، فيعيش عضواً فعّالًا في هذا المجتمع الإسلامي يؤدي دوره المطلوب منه. وإخراجٍ الكتب المخطوطة من المكتبات ينبغي أن يكون في ثوبٍ جذاب. خالياً مما يشوبه من التصحيف والتحريف الذي حدث فيها على أيدي النسّاخ. نقياً من الأخطاء النحوية التي تكدّر الصفاء، منسقاً منظماً بعناوين بارزة، وفهارس تنبئ عما يحتويه الكتاب فيوفر الوقت على الناظر فيه، ويسهّل الوصول إلى المراد. ولا سبيل لذلك إلا بتحقيق الكتاب قبل نشره بجمع جميع نسخه ومقابلتها، وتحقيق مادته العلمية تحقيقاً دقيقاً. وكتاب التحصيل كسائر الكتب المخطوطة كان في أمسّ الحاجة لمن يميط عنه اللثام، ويزيل عنه النقاب فيُظهره وضّاءً في ثوبٍ جذاب ظاهر العناوين، بارز الفقرات خالٍ من التصحيف والتحريف، تحيط به فهارس ترشد الناظر فيه لما يريده في يُسرٍ وسهولة، وتحفّ به أبحاث وتعليقات تخبر مَن رآه عن قيمته العلمية، وتعرفه بمصنفه وتظهر طول باعه ورسوخ قدمه في هذا الفن وسائر الفنون، لأن معرفة شخصية المؤلف تبعث في النفوس الاطمئنان والثقة فيما تجده في الكتاب. فنسخ كتاب التحصيل العشر لم تخلُ كسائر نسخ المخطوطات - من اختلافات في ألفاظ كثيرة كما يظهر ذلك للناظر في هامش الجزء التحقيقي واضحاً جليّاً. وبعض هذه الألفاظ يخلّ بالمعنى إخلالاً بيِّناً، بل قد يؤدي إلى عكس المعنى المراد، وقد وجدتُ أن إحدى النسخ وهي النسخة التي رمزت لها في التحقيق "ب" قد حدث فيها تقديم وتأخير في ترتيب صفحاتها عند تجليدها وبعد كتابتها ولا يمكن إصلاح هذا الخلل إلا بمقابلتها بالنسخ الأُخرى. ولم يقف الأمر عند هذا بل وجدت سطوراً ساقطة بالكلية، وأحياناً كلماتٍ لا يمكن استدارك كل ذلك إلَّا بتحقيق الكتاب ومقابلة نسخه، ولو خرجت كل نسخةٍ على ما هي عليه لظهرت أخطاء علمية ولغوية يصعب تلافيها.
والتحصيل في حاجة أيضاً لتحقيق مادته العلمية، والتأكد من صحة نسبة الأقوال إلى أصحابها، وتوضيح بعض الإِبهامات والغموض الناتج عن الاختصار. وهو لم يخلُ من مواضع وقع فيها غموض وإيهام غير الظاهر، وقد تعرضت لبيان ذلك في المبحث المتقدم الذي بحث فيه مسلك الأرموي في اختصار المحصول، ومن هذا الغموض ما كان نتيجةً لدمج مسألتين في مسألةٍ واحدةٍ. وأما المادة العلمية فالقاضي سراج الدين الأرموي - رحمة الله - مختصر ملتزم بالمحصول في آرائه، إلا ما نبّه عليه من اعتراضات وتنبيهات على أدلة ضعيفة وإضافة أُخرى أقوى منها في نظره. ولذا وجدت أنه تابعِ الإِمام الرازي في المحصول، وربما الإِمام الرازي - رحمه الله - تابع من قبله في هفواتٍ علميةٍ قد تكون تصحيفاً تابع فيه اللاحق السابق ومن ذلك: قد ورد في التحصيل (¬1) أن الذي قال له الرسول - صلى الله عليه وسلم -: ما منعك أن تستجيب وقد سمعت قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ}. لما دعاه فلم يجبه لأنه كان في الصلاة هو أبو سعيد الخدري. وبعد الرجوع للمحصول وجدت الأمر كما في التحصيل، ونظرت الأحكام لسيف الدين الآمدي فوجدت الأمر كما في التحصيل أيضًا. وأما كتب السنة التي أوردت الحديث ومن بينها صحيح محمد بن إسماعيل البخاري، ذكرت أن صاحب القصة هو أبو سعيد بن المعلى وليس أبا سعيد الخدري. وما كان يعرف ذلك بدون تخريج الحديث من كتب السنة. ونظير ذلك ورد في جميع نسخ التحصيل (¬2) تبعاً للمحصول لفخر ¬
الدين الرازي أن راوي قوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تقض في شيءٍ واحدٍ بحكمين مختلفين". هو أبو بكر الصديق رضي الله عنه وبعد تقصّي كتب الحديث عند تخريجه، وجدت أن أبا بكر ليس من رواة هذا الحديث، بل راويه هو أبو بكرة. وقد تأكدت من أن التصحيف قد وقع في المحصول والتحصيل، وليس في كتب الحديث، لأنه في إحدى طرقه في معجم الطبراني الكبير عن عبد الرحمن بن حوشب قال كتب أبو بكرة إلى ابنه وهو عامل على سجستان: إني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "لا يقضيَنَّ أحد في أمر قضاءين". ولم تكن سجستان قد دخلت تحت ظل الدولة الإِسلامية في عهد الخليفة الراشد أبي بكر رضي الله عنه، ولم نعلم أحداً من أولاده وليّ سجستان. ومن ذلك أيضاً ما ورد في جميع نسخ التحصيل (¬1) تبعاً للمحصول، أن القائل ليزيد بن المهلب بن أبي صفرة: أمرتك أمراً جازماً فعصيتني ... فأصبحت مسلوب الإرادة نادماً هو الحباب بن المنذر. والحباب بن المنذر هو الصحابي الجليل صاحب المشورة في غزوة بدر بردم العيون، وهو لم يعش إلى إمارة يزيد بن المهلب. وبعد طلب هذا البيت في بطون كتب الأدب والتواريخ مدة طويلة، وجدت في تاريخ بغداد وفي تاريخ الطبري أن قائله هو الحصين بن المنذر الرقاشي البصري، حامل راية بكر بن وائل في معركة صفين وكان في جيش علي رضي الله عنه. وكيف يمكن معرفة هذا التصحيف الذي تابع فيه القاضي سراج الدين الأرموي فخر الدين الرازي في المحصول لولا البحث عن مكان ورود البيت أثناء تحقيق النص. ونظير ذلك كثير محله هوامش القسم التحقيقي. ¬
وقد ورد في التحصيل تبعاً للمحصول نسبة بعض الأقوال لبعض العلماء بصورة قاطعة، مع أن أولئك العلماء لم يقولوا بذلك بل وردت عباراتٍ في كتبهم توهم ذلك فنسبت لهم أقوالٌ لم يقولوها. ومثال ذلك ما ورد في التحصيل (¬1) تبعاً للمحصول من أن الإِمام حجة الإِسلام الغزالي - رحمه الله - يقول: إنه لا بدّ من تحقّق العقاب على ترك الواجب. وبعد الرجوع للمستصفى للتحقّق من صحة نسبة هذا القول إليه، وجدت أن الإِمام الغزالي - رحمه الله - قد زيَّف التعريف الذي يقول: بأن الواجب ما يعاقب على تركه. ثم قال: لأنه قد يعفى عن العقوبة، وزيف تعاويف أُخرى، ثم نقل تعريف القاضي أبي بكر الباقلاني - رحمه الله -، وهو: (ما يذم تاركه ويلام شرعاً بوجه ما). ولم يعترض عليه ثم نقل عن القاضي أبي بكر الباقلاني أنه قال: (لو أوجب الله علينا شيئاً ولم يتوعد بعقاب على تركه لوجب، فالوجوب إنما هو بإيجابه لا بالعقاب). ثم قال الغزالي: (وهذا فيه نظر، لأنه ما استوى فعله وتركه في حقنا فلا معنى لوصفه بالوجوب، إذ لا نعقل وجوباً إلّا بأن يترجح فعله على تركه بالإِضافة إلى أغراضنا، فإذا اقتضى الترجيح فلا معنى للوجوب أصلًا). انتهى ما ورد في المستصفى. ولا أدري كيف نسب هذا القول للغزالي - رحمه الله - حيث إنه لم يصرّح بتحقق العقاب على ترك الواجب، بل زيّف التعريف الذي دل على ذلك، ولعلّ هذا قد صدر عنه في كتاب غير المستصفى، ولكن المعتمد في أقواله ما جاء في المستصفى، لأنه آخر ما صنّف في فن الأُصول وظهر فيه استقلال شخصيته وأما قوله: (وفيه نظر). بعد نقله ما نقل عن القاضي أبي بكر الباقلاني ليس كافياً في نسبة هذا القول إليه، بل قد يكون النظر من جهة أُخرى. ¬
ومن ذلك ما ورد في التحصيل (¬1) تبعاً للمحصول ومعظم كتب الأصول كمختصر ابن الحاجب والأحكام لسيف الدين الآمدي من أن الإِمام الشافعي - رحمه الله - يقول بأن العبرة بخصوص السبب وليس بعموم اللفظ، وسبب ما وقع فيه الأُصوليون من الخطأ في نسبة هذا القول للإِمام الشافعي أن إمام الحرمين في البرهان قال: (إنه الذي صح عندي من مذهب الشافعي). ثم نقله عنه الإِمام الرازي في المحصول وغيره من علماء الأُصول. والصحيح أن الإِمام الشافعي - رحمه الله - قد نصّ على أن السبب لا أثر له، فقال في الأُم في باب ما يقع به الطلاق ما نصه: (وما يصنع السبب شيئاً إنما يصنعه الألفاظ، لأن السبب قد يكون ويحدث الكلام على غير السبب. فإذا لم يصنع السبب بنفسه شيئاً لم يصنعه لما بعده، ولم يمنع ما بعده أن يصنع ما له حكم)، وهذا يدفع ما نسبه إمام الحرمين للإِمام الشافعي. والِإمام فخر الدين الرازي - رحمه الله - قد كشف عن عدم صحة هذه النسبة للإِمام الشافعي في كتابه مناقب الشافعي، حيث قال: (إنه التبس على ناقل هذا القول عن الشافعي، وذلك لأن الإِمام الشافعي - رحمه الله - يقول: إن الأَمة تصير فراشاً بالوطء حتى إذا أتت بولد يمكن أن يكون من الوطء لحقه سواءً اعترف به أم لا لقصة عبد بن زمعة لما اختصم هو وسعد بن أبي وقاص في المولود. فقال سعد: هو ابن أخي عهد إليَّ أنه منه. وقال عبد بن زمعة هو أخي، ولد على فراش أبي من وليدته فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -، الولد للفراش وللعاهر الحجر، وذهب أبو حنيفة إلى أن الأَمة لا تصير فراشاً بالوطء، ولا يلحقه الولد إلَّا إذا اعترف به، وحمل الحديث المتقدم على الزوجة وأخرج الأمة من عمومه. فقال الشافعي: إنَّ هذا قد ورد على سبب خاص وهي الأمة لا الزوجة، قال الإِمام. فخر الدين الرازي فتوهم الواقف على هذا الكلام أن الشافعي يقول: إنَّ العبرةَ بخصوص السبب ومراده أن خصوص السبب لا يجوز إخراجه عن العموم بالإِجماع، والأمة هي السبب في ورود العموم فلا يجوز إخراجها). ¬
وما تقدم يُظهِر مدى الحاجة لمقابلة النسخ قبل نشر الكتاب، ومدى الحاجة لتحقيق النَص بالتأكد من صحة نسبة الأقوال لأصحابها، وتظهر ضرورة تخريج الأحاديث والأشعار والآثار وذلك لتصحيح ما ورد في الكتاب من تصحيف وتحريف أثناء النسخ، وكانت الحاجة أيضًا ماسّة لتخريج الآيات القرآنية بذكر اسم السورة التي وردت فيها ورقمها في السورة مع التأكد من صحتها وفعلاً وجدت أيضاً بعض الأخطاء - وإن كانت يسيرة في بعض الآيات. ولقد كانت عدد الآيات الواردة في النص ليست بالقليلة فقد بلغت ثلاثمائة واثنتين وأربعين آية، جعلت لها فهرساً خاصاً في آخر القسم التحقيقي، وأما الأحاديث النبوية والآثار فقد بلغت في النص ثمانية أحاديث ومائتين، وأفردتها أيضاً بفهرس خاص في آخر القسم التحقيقي. وأما الأشعار والأمثال فكانت قليلةً جداً حيث بلغت واحداً وعشرين نصاً. لقد كان من الضروري أيضاً أثناء التحقيق الترجمة لبعض الأعلام الواردة في النص، وذلك لمعرفة ما لهم من مصنفات وزمن وفاتهم ليكون الناظر في الكتاب على بصيرةٍ مما يجده منسوباً لهم، وقد بلغ عدد الأعلام المترجم لهم مائة وخمسة وثمانين علماً. كانت الترجمة لبعضهم في غاية المشقّة، وذلك لورود الاسم مصحفاً أحياناً، وورود اسمه فقط أو كنيته فقط وهو غير مشهور بذلك مثل أبي خازم القاضي، ومثل الحاكم صاحب المختصر ومثل ابن علية والقاشاني ومويس بن عمران. ولكن بحمد الله بعد البحث والتدقيق في بطون الكتب الناقلة عنهم استطعت كشف التصحيف ومعرفة المجهول منهم. وكذلك ترجمت للطوائف والفِرَق الواردة في النص، وذكرت أرقام الصفحات التي وردت فيها وجعلت لها فهرساً في آخر القسم التحقيقي. أما القسم الدراسي فكانت فائدته لا تقلّ عن القسم التحقيقي، والنتائج فيه تربو على القسم التحقيقي. فالقاضي سراج الدين الأرموي - رحمه الله - قبل التنقيب عن آثاره والبحث عن شخصيته لم تكن شخصيته واضحةَ المعالم بارزة الحدود. فقد كان في أذهان العلماء مرتبطاً فقط
بالتحصيل الذي يذكر تبعاً كلما ذكر المحصول ولا يعرف ما يحتويه هذا الكتاب، ومرتبطاً أيضاً بكتابه المشهور مطالع الأنوار في المنطق والحكمة، والآن ظهرت شخصيته على حقيقتها فقد استطعنا معرفة أربعة عشر مصنفاً له لم يطبع منها إلَّا ثلاثة فقط، ومؤلفاته موزعة في علوم شتى وليست محصورة في أصول الفقه والمنطق. وشخصيته لم تكن واضحةً لعامة الناس فحسب، بل التبس أمره على أعظم مَن اشتغل بمعرفة أحوال العلماء ومصنفاتهم، وهو صاحب هداية العارفين في أسماء المؤلفين وآثار المصنفين إسماعيل باشا البغدادي (¬1)، الذي نسب للقاضي سراج الدين محمود بن أبي بكر الأرموي ثلاثة مصنفات ليست له. بل هي لأرموي آخر اشترك معه في الاسم واسم الأب والنسبة وهو محمود بن أبي بكر الأرموي الصوفي المتوفى سنة 722 هـ بدمشق. وهذه الكتب الثلاثة هي: 1 - تهذيب المحكم والمحيط الأعظم لابن سيده في اللغة. 2 - ذيل النهاية لابن الأثير في غريب الحديث. 3 - مختصر شرح السنّة للبغوي. وبعض مَن ترجم له ذكر في مصنفاته أيضاً لوامع الأسرار، وهو ليس له، بل هو شرح لكتابه مطالع الأنوار لقطب الدين الرازي التحتاني المتوفى سنة 766 هـ. وجميع التراجم التي اطّلعت عليها للقاضي سراج الدين الأرموي - رحمه الله- لم تظهره كما هو حيث لم تذكر له إلَّا جزءاً من مصنفاته، ولعل كونه عاش فترة نضوجه العلمي في بلاد الروم من أهم الأسباب في ذلك، وعندما أدركت هذه النقطة طفقت أبحث عن شخصيته من خلال الكتب المدونة بالفارسية والتركية، وفعلاً حصلت على نتائج باهرة ومعلومات قيِّمة، واكتشفت له مصنفات لم تذكرها له التراجم في الكتب العربية ومن ذلك: ¬
1 - شرح الوجيز لأفضل الدين الخونجي. 2 - شرح كتاب التهذيب للشيرازي في الجدل. 3 - رسالة في علم الكلام عثرت عليها بطريق الصدفة في مكتبة الحرم المكّي أثناء مطالعتي فيها. 4 - ذكرت التراجم العربية أن له أسئلة على المحصول نقلاً عن فهارس المخطوطات، وبعد مطالعة هذه المخطوطة المُشار إليها، وجدت أنها ليست الاعتراضات المعروفة التي أثبتها في التحصيل، بل هو كتاب ضخم أشبه بالشرح للمحصول وقد سمّاه (مقاصد العقول من معاقد المحصول). وقد شرحت كل هذا مفصلًا في فصل مصنفاته من القسم الدراسي. ولعل المستقبل يكشف عن مصنفاتٍ أُخرى للقاضي الأرموي- رحمه الله- ومن خلال بحثي في الكتب الفارسية عرفت أنه كان يقرض الشعر، وقد وصفه معاصروه بأنه وصل لمرتبة الاجتهاد. وأما بالنسبة لمنزلته وفضله، فقد كشفتُ عن المناظرات التي كان يحضرها برفقة سلطان العلماء عز الدين بن عبد السلام في ردهات قصور بني أيوب، وأثبتُ سفارته للإمبراطور فردريك الثاني من قِبَل سلاطين بني أيوب، وكشفتُ النقاب عن ما وصل إليه من الجاه والمنصب في دولة سلاجقة الروم حيث كان قاضياً للقضاة. ومن خلال دراسة شخصية القاضي سراج الدين الأموري- رحمه الله- في كتب التراجم والتواريخ العربية والفارسية والتركية ظهر- رحمه الله- أنه من كبار علماء عصره وأنه متقن لشتى الفنون، وخاصة علمي أُصول الفقه والمنطق والحكمة، وأنه مصنف متقن واضح الشخصية فيما كتب وليس إمعةً يقول كما يقول غيره بدون سَبْر وتمحيص. فكان يُبدي رأيه ويظهر ما يتلجلج في صدره ومع هذا كان كريم الخلق لطيف العبارة، بعيداً عن مُماراة العلماء، ولذا كان يبدأ ما يعنّ له من ملاحظات بقوله: ولقائلٍ أن يقول:
وهذه الملاحظات تدل على دقةِ فهمه وشدةِ فطنته ورسوخ قدمه في فنه، فرحم الله القاضي الأرموي تلقاء ما قدم للمكتبة الإسلامية من تراث ضخم. ونفع الله طلبة العلم بما أنتج إنه سميع مجيب، وسبحان ربك رب العزّة عمّا يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين.
مراجع القسم الدراسي
مراجع القِسم الدّراسي - إتمام الدراية لقرّاء النقاية: لجلال الدين السيوطي، طبع بمصر بالمطبعة الميمنية بهامش العلوم للسكاكي سنة 1317 هـ. - آداب الشافعي: لأبي حاتم الرازي طبع السعادة سنة 1372 هـ، تحقيق الدكتور عبد الغني محمد عبد الخالق. - أُصول أبي زهرة: طبع دار الثقافة العربية للطباعة سنة 1973 م. - أُصول السرخسي: تحقيق أبي الوفا الأفغاني، طبع دار الكتاب العربي سنة 1372 هـ. - أُصول الخضري: الطبعة الخامسة سنة 1965 م، طبع مطبعة السعادة بمصر. - الأنس الجليل بتاريخ القدس والخليل: تأليف قاضي القضاة مجير الدين الحنبلي طبع دار الجيل ببيروت سنة 1973 م. - آثار البلاد وأخبار العباد: لأبي الحسين زكريا القزويني، المتوفى سنة 682 هـ. - البدر الطالع بمحاسن من بعد القرن السابع: لمحمد بن علي الشوكاني، الطبعة الأولى سنة 1348 هـ بمطبعة السعادة بالقاهرة. - تاريخ التشريع الإِسلامي: للخضري، مطبعة عيسى البابي الحلبي سنة 1343 هـ. - تاريخ التشريع الإِسلامي: لعبد اللطيف السبكي وجماعة، طبع الاستقامة سنة 1946 م.
- تاريخ المذاهب الإِسلامية: لمحمد أبي زهرة، طبع دار الفكر العربي سنة 1976 م. - تاريخ ابن خلدون المسمى بالعبر وديوان المبتدأ والخبر: طبع الأعلمي بيروت سنة 1391 هـ. - تاريخ الإِسلام السياسي والديني: للدكتور حسن إبراهيم حسن، طبع النهضة المصرية سنة 1967 م. - تاريخ الخلفاء: للسيوطي تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد، الطبعة الثالثة سنة 1383 هـ بمطبعة المدني. - تأويل مختلف الحديث: لابن قتيبة الدنيوري المتوفى سنة 276 هـ، طبع دار القومية العربية للطباعة والنشر سنة 1386 هـ. - تراث العرب العلمي: لقدري طوقان، طبع دار مصر للطباعة بدون تاريخ. - ترجمة المثنوي: لمحمد بن عبد السلام كفافي، طبع صيدا المكتبة العصرية. - التعريف بالمؤرخين: للعزاوي، طبع بغداد سنة 1957 م. - التمهيد: لجمال الدين الأسنوي، الطبعة الثانية 1387 هـ، طبع مكتبة النهضة العربية بمكة. - توالي التأسيس بمعالي محمد بن إدريس: لابن حجر العسقلاني، طبع بولاق سنة 1301 هـ. - تهذيب الأسماء واللغات: للنووي، طبع المنيرية القاهرة. - جامع كرامات الأولياء: تأليف يوسف بن إسماعيل النبهاني المتوفى 1350 هـ، تحقيق إبراهيم عطوة طبع مصطفى البابي الحلبي سنة 1394 هـ. - الدارس في تاريخ المدارس: للنعيمي، تحقيق جعفر الحسني دمشق سنة 1370 هـ. - الدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة: لابن حجر العسقلاني، تحقيق محمد سيد جاد الحق طبع مطبعة المدني. - ذيل مرآة الزمان: طبع حيدر أباد الهند سنة 1955 م.
- ذيل الروضتين: لأبي شامة المقدسي الدمشقي المتوفى سنة 665 الطبعة الثانية 1974 م، دار الجيل. - دليل المخطوطات: للسيد أحمد الحسيني، طبع المطبعة العلمية- سنة 1397 هـ. - الرسالة: للإِمام الشافعي، تحقيق أحمد محمد شاكر مطبعة الحلبي سنة 1358 هـ. - رحلة ابن بطوطة: طبع دار التراث بيروت. - ريحانة الأدب في تراجم المعروفين بالكنية واللقب: تأليف محمد علي مدرس. - السلوك في أخبار دول الملوك: للمقريزي، تحقيق الدكتور محمد مصطفى زيادة طبع القاهرة سنة 1941 م. - سيرة صلاح الدين الأيوبي: لأبي شداد، تحقيق الدكتور جمال الدين الشيال الطبعة الأولى سنة 1964 م. - الشقائق النعمانية في علماء الدولة العثمانية: لأحمد مصطفى طاش كبري زادة المتوفى سنة 968 هـ، المطبوع على هامش وفيات الأعيان بالمطبعة الأميرية. - الشيعة وفنون الإِسلام: للسيد حسن الصدر طبع صيدا سنة 1331 هـ. - الطالع السعيد الجامع لأسماء فضلاء الصعيد: لكمال الدين جعفر بن تغلب الأدفوي الشافعي المتوفى سنة 749 هـ. - طبقات الفقهاء: لأبى إسحاق الشيرازي، طبع بغداد سنة 1356 هـ، وطبع بيروت سنة 1970 م. - العقد المنظوم في ذكر أفاضل الروم: بهامش الجزء الثاني لوفيات الأعيان بولاق 1299 هـ. - الفتوح: للبلاذري، طبع مطبعة الموسوعات القاهرة سنة 1319 هـ. - فرق الشيعة: للنوبختي طبع محمد كاظم الكتبي القاهرة سنة 1959 م. - الكنى والألقاب: للشيخ عباس القمي، طبع المطبعة الحيدرية بالنجف الأشرف سنة 1376 هـ.
- الموسوعة الثقافية: بإشراف الدكتور حسين سعيد، طبع دار الشعب سنة 1972 م، حقوق الطبع لمؤسسة فرانكلين للطباعة والنشر بالقاهرة. - مذكرة في تاريخ علم أُصول الفقه: لفضيلة أُستاذنا الدكتور عبد الغني محمد عبد الخالق لم تطبع. - مشكل الآثار: لأبي جعفر الطحاوي، طبع دائرة المعارف النظامية الكائنة بحيدر آباد الدكن بالهند سنة 1333 هـ. - المعرفة: للحاكم النيسابوري دار الكتب سنة 1937 م. - مناقب الشافعي: للشيخ مصطفى عبد الرازق. - مناقب الشافعي: لفخر الدين محمد بن عمر الرازي، طبع حجر القاهرة سنة 1279 هـ. - نكت الهميان: للصفدي تحقيق أحمد زكي، طبع الجمالية بمصر سنة 1911 م.
المراجع غير العربية
المراجع غير العربيّة - الأوامر العلائية في الأمور العلائية: لحسين محمد علي الجعفري الرودكي الشهير بابن بي بي المتوفى سنة 679 هـ، طبع بأنقرة سنة 1956 م. - بزورزم: للعزيز الأسترابادي، طبع إستانبول سنة 1928 م. - مكتوبات مولانا جلال الدين الرومي: طبع إستانبول سنة 1356 هـ. - مسامرة الأخبار ومسايرة الأخبار: لكريم الدين محمود الآقسرائي، طبع بأنقرة سنة 1944 م. - مناقب العارفين: لأحمد الأفلاكي المولوي، طبع بأنقرة سنة 1959 - 1961 م. - مناقب الشيخ أوحد الدين الكرماني: مجهول المؤلف، طبع في طهران سنة 1969 م. - لطائف الحكمة: تأليف سراج الدين الأرموي، بتصحيح غلامجسين يوسفي بطهران. - رسالة فريدون بن أحمد سبهسالار. - رسالة در أحوال مولانا جلال الدين الرومي. - لغت نامة دهخدا (دائرة المعارف الفارسية). - دانشمندان أذربيجان. 1 - Brocklman,g,1614,s,1\ 848,649. 2 - Mingana Catalugae of Arabic manuseripts. 669. ملاحظة: لم أذكر جميع المراجع المستعملة في القسم الدراسي، حيث أن بعضها قد ذكر في القسم التحقيقي.
التحصيل من المحصول تأليف سراج الدين محمود بن أبي بكر الأرموي المتوفي سنه 682 هـ دراسة وتحقيق الدكتور عبد الحميد على أبو زنيد القِسْم التَحقِيقيّ الجزء الأوّل
مقدمة المصنف
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (¬1) رَبّ تَمِّم بفضْلِكَ (¬2) نحمدك اللَّهمّ والحمد من نعم أوليت ومنح أسديت (¬3) ونستعين بك والتوفيق للاستعانة بك من قدر قدرت وقضاء قضيت ونسترشدك ونستهديك، فاهدنا الى سبيل (¬4) الرشاد وسواء الصراط، ولا تزغنا بعد اذ هديت. واسرِ ¬
بأرواحنا إِلى معارج قدسك ومدارج (¬1) أنسك فيمن بروحه (¬2) أسريت. وأجر على قلوبنا من سبحات جلالك ونفحات كمالك خير ما على قلوب خلائقك (¬3) أجريت. وأمددنا بالإعانة على الإِبانة (¬4)، وأملنا على الغواية إلى الدراية. ولا تجعلنا من جملة مَن أضللت. ولا تحشرنا في زمرة مَن أغويت. ونبتهل إِليك ونرغب في أن تصلي على جملة أنبيائك وحَملة أنبائك أفضل ما على أحدٍ صليت، واخصص من بينهم بأجل تسليم سلمت وأكمل تحيةٍ حييت مولانا وسيدنا محمداً عبدك ورسولك وصفيّك وخليلك الذي بلغ ما أنزلت وأبلغ ما أوحيت، ثم (¬5) آله الخيرة النجباء وأصحابه البررة الكرماء الذين لم يعصوا ما أمرت ولا فعلوا ما نهيت وسلم تسليماً (¬6). (سبب اختصار المحصول وطريقة الأرموي في الاختصار) (¬7): أما بعد: فلقد كانت الهمم فيما قبل لا تقصر عن الارتقاء إلى المراتب القاصية، ولا تفتر دون الوصول إلى المطالب العالية. والآن فقد أفضى الحال بالُأمم في تقصير الهمم إلى أن استكثروا اليسير، واستكبروا النزر الحقير، حتى أن الكتاب الذي صنّفه الإِمام العالم العلّامة فخر الملّة والدين حجة الإِسلام والمسلمين ناصر الحق مغيث الخلق (¬8) محمد بن عمر الرازي نوَّر ¬
الله ضريحه في أُصول الفقه وسمَّاه بالمحصول مع نظافة نظمه ولطافة حجمه يستكبره (¬1) أكثرهم ولا يقبل عليه أيسرهم على أنه يشتمل من الفوائد على جملٍ كافية ويحتوي (¬2) من الفرائد على قوانين متوافية. ثم أن بعض مَن صدقت فيه رغبته وتكاملت فيما يحتويه محبته التمس منّي أن أُسهّل طريق حفظه بإيجاز لفظه ملتزماً بالإِتيان (¬3) بأنواع مسائله وفنون دلائله مع زيادات من قِبلنا مكمّلة وتنبيهات على مواضع منه مشكلة لاعلى سبيل استيفاء الفكر واستكمال النظر لإِخلاله بالمقصود من هذا المختصر ... فأجبته (¬4) إليه مستعيناً ومتوكلًا عليه وسمّيته بتحصيل الأصول من كتاب المحصول ليتوافق اسمه ومسماه ويتطابق لفظه ومعناه والله الموفق والمعين (¬5)، وعليه أتوكل وبه أستعين. ¬
الكلام في المقدمات
الكَلَام في المقَدِّمَات (¬1) وَهي سَتّ (¬2) ¬
المقدمة الأولى
المقدمة الأولى أُصول الفقه مركب (¬1). فيتوقف معرفته على معرفة مفرداته من حيث يصح تركبها. فالأصل (هو المحتاج إليه) (¬2). والفقه عند العلماء: (العلم بالأحكام (¬3) الشرعية العملية التي لا يعرف بالضرورة كونها من الدين إذا حصل (¬4) بالاستدلال على أعيانها) (¬5). وإنما جعل الفقه علماً لقطع المجتهد بوجوب العمل بموجب ظنه فالحكم معلوم وقع (¬6) الظن في طريقه وخرج عنه العلم بالذوات والصفات (الحقيقية) (¬7). ¬
وبالأحكام (¬1) الشرعية العملية. العقلية والعلمية ككون الإِجماع (¬2) حجةً والعلم بوجوب الصوم والصلاة وعلم المستفتي (¬3). وإضافة اسم المعنى لغيره لاختصاص المضاف بالمضاف إليه في معنى لفظ (¬4) المضاف فإذن أُصول الفقه: "جميع طرق الفقه من حيث هي طرق وكيفيتي الاستدلال وحال المستدل بها" (¬5). والطريق: "ما يفضي النظر الصحيح- وهو ترتيب أُمور (¬6) مطابقة لمتعلقاتها في الذهن ليتوسل بها إلى غيرها- فيه إلى العلم أو الظن" (¬7). ¬
(المقدمة) الثانية
والأول يسمى دليلاً، والثاني أمارة. والكيفية الأولى: بيان شرائط الاستدلال والثانية: بيان وجوب الاجتهاد على المجتهد والاستفتاء على غيره. (المقدمة) الثانية إذا تصور أمر وحكم به على غيره كان تصديقاً (¬1). فإن كان جازماً كان جهلاً (¬2) إن لم يطابق، وتقليداً (¬3) إن طابق ولم يكن لموجب. وعِلماً (¬4) إن كان لموجب عقلي أو حسّي أو مركب. والأول يسمى علماً بديهياً (¬5) إن كفى تصور طرفيه لحصوله، وإلا نظرياً (¬6) والثاني عِلماً بالمحسوسات. والثالث بالمتواترات إن كان الحس سمعاً. وإلا فبالمجربات (¬7) أو بالحدسيات (¬8). وإن لم يكن جازماً وتساوى طرفاه سُمي شكاً (¬9) وإلا فالراجع ظناً (¬10) والمرجوح وهماً. ¬
تنبيهان
تنبيهان (¬1) الأول (¬2): من التصور ما هو بديهي وإلَّا لدار أو تسلسل وهما يمنعانه. والعلم منه (¬3) إذ كل أحدٍ يعلم أنه عالم بجوعه وشبعه بلا كسب. والتصديق مسبوق بالتصور وكذا الظن. الثاني: الظن هو الاعتقاد الراجح من اعتقادي الطرفين ويغايره اعتقاد الراجح من الطرفين فقد لا يكون معه اعتقاد آخر. والأول: ظن صادق أو كاذب والثاني: فيه التقسيم من رأسي (¬4). (المقدمة) الثالثة قال أصحابنا (¬5): الحكم الشرعي: هو الخطاب (¬6) المتعلق بأفعال المكلفين بالاقتضاء أو التخيير. لا يقال: هذا يقتضي قِدم الحكم وأنه يمنع من وصف الفعل بالحل، ومن صِدقِ قولنا: حلَّ هذا بعد أن لم يحل، ومن تعليله بالحادث كالملك وخروج (¬7) الحكم بالسببية والشرطية والصحة والفساد. وتعلق الضمان بفعل الصبي. لأن الحكم يحل (¬8) الفعل. قوله: ¬
رفعت الحرج عن فاعله (¬1) والفعل متعلقه (¬2) وهو لا يتصف بالمتعلق وإلا ¬
(المقدمة) الرابعة
اتصف المعدوم بصفةٍ ثبوتية لو تعلق به غيره، والمراد من قولنا حل تعلق الإِحلال به، ومن التعليل: التعريف، ومن سببيَّة الشيء إيجاب الفعل عنده، ومن صحة العقد: الإِذن في الانتفاع بالمعقود عليه ومن تعليق الضمان بفعل الصبي تكليف الولّي بأدائه من مال الصبي (¬1). (المقدمة) الرابعة للحكم تقسيمات التقسيم الأول: الخطاب إما أن يقتضي الفعل جازماً وهو الإِيجاب (¬2) أو غير جازم وهو الندب، أو الترك جازماً وهو التحريم، أو غير جازمٍ وهو الكراهة (¬3) وإما أن لا يقتضيها وهو التخيير والإِباحة. قال القاضي أبو بكر (¬4): الواجب ما يذم تاركه شرعاً على بعض الوجوه (¬5). ¬
وقولنا يذم خير من قولنا يعاقب ويتوعد بالعقاب ويخاف العقاب لاحتمال عفو الله تعالى: واستحالة الخلف في خبره. وخوف الشاكّ في وجوب الفعل من العقاب على تركه. وإنما قيد بالشرع ليوافق مذهبنا (¬1)، وببعض الوجود ليدخل فيه الموسع والمخيَّر وفرض الكفاية (¬2) ولا تدخل فيه السنّة وإن قُوتل أهل بلد على تركها إصراراً لما نجيب عنه. والفرض يرادف الواجب، وعند الحنفية يفارقه باستناده إلى قاطع. قال أبو زيد (¬3) الفرض (¬4): هو التقدير، والوجوب: السقوط. فخصص الفرض بالأول لأنه المعلوم التقدير علينا، وهو ضعيف إذ ليس الفرض هو المقدّر قطعاً كالواجب (¬5) ليس هو الساقط قطعاً (¬6). ¬
المحظور: ما يذم فاعله شرعاً. وأسماؤه المعصية- أي فعل ما نهى الله عنه. وهي (¬1) عند المعتزلة (¬2): فعل ما كرهه الله تعالى. وهو مبني على خلق الأعمال وإرادة الكائنات، والمحرم ويقرب من المحظور. والذنب: أي المنهي عنه المتوقع عليه المؤاخذة والمزجور عنه والمتوعد عليه (¬3) أي من الشرع. والقبيح وسنفسِّره (¬4). المباح: ما أعلم فاعله أو دلّ على (¬5) أنه لا يترجح أحد طرفيه على الآخر شرعاً (¬6) وأسماؤه: الحلال والطِّلْق. وقد يقال الحلال لما لا ضرر في فعله وإن حرم تركه كدم (¬7) المرتد. المندوب: ما جاز تركه وترجح عليه فعله شرعاً ليخرج الأكل قبل ¬
التقسيم الثاني
الشرع. وإنما ذمّ تارك جميع النوافل لأنه يدلّ على زهده في الطاعة واستهانته بها. وأسماؤه المرغب فيه أي بالثواب، والمستحب أي من الله تعالى، والنفل: أي الطاعة الغير واجبة، والتطوع أي الانقياد في قربة بلا حتم، والسنّة أي الطاعة غير الواجبة. لأنها تذكر في مقابلة الواجب. وقيل: ما يعلم وجوبه أو ندبيته بأمره عليه السلام أو إدامة فعله فهو سنّة لأنها مأخوذة من الإِدامة. يقال: الختان من السنّة، والإِحسان (¬1) إذا كان نفلًا موصلًا إلى الغير قصداً. المكروه: ما جاز فعله وترجح تركه شرعاً. وقد يقال بالاشتراك للمحظور وترك الأولى كترك صلاة (¬2) الضحى وإن لم يرد عن تركها نهي. " التقسيم الثاني": الفعل إن نهي عنه شرعاً فهو القبيح وإلا فهو الحسن. ولو فسر الحسن بما أذن فيه شرعاً خرج فعل الله تعالى، ولو فسر بما يصح من فاعله أن يعلم أنه غير ممنوع عنه شرعاً خرج عنه فعل البهائم والساهي والنائم دون فعل الله تعالى لأن الوجوب لا يمنع الصحة. وقال أبو الحسين (¬3): القبيح: هو الذي ليس للمتمكّن من فعله والعالم (¬4) بحاله أن يفعله. ويتبعه أنه يستحق الذمّ فاعله، وأنه على صفةٍ ¬
تؤثر في استحقاق الذم (¬1) والحسن ما يقابله (¬2). فنقول: قولنا ليس له أن يفعله يقال للعاجز عن الفعل والممنوع (¬3) عنه حسّاً، ولمن به نفرة طبيعية، وللممنوع عنه شرعاً وشيء منها غير مراد ولا مشترك بينها يمكن تفسيره به لأن الأول إشارة إلى العدم والثاني (¬4) إلى الوجود. قوله: يستحق الذم فاعله. قلنا: قد يقال: الأثر (¬5) يستحق المؤثر أي يفتقر إليه لذاته. والمالك يستحق الانتفاع بملكه أي يحسن منه. والأول باطل والثاني دور- لتفسيره الحسن بالاستحقاق. ثم قالوا: الذم فعل أو قول أو ترك فعل أو قول ينبئ عن اتضاع حال الغير فنقول: إن عنوا بالاتضاع النفرة الطبيعية. خرج عنه فعل الله تعالى وإن عنوا به (¬6) غيره فليبيِّنوا (¬7). ولقائل أن يقول (¬8): إنما يتم الإِشكالان بإثبات الحصر في الأقسام ¬
(التقسيم) الثالث
المذكورة ونفي كلٍّ منها بخصوصه وعمومه، ولم تقم الدلالة على واحدٍ منها. والثالث مجرد مطالبة. (التقسيم) الثالث قالوا الخطاب قد يرد بجعل الشيء سبباً (¬1) وشرطاً ومانعاً. فلله تعالى في حق (¬2) الزاني حكمان. وجوب الحد وجعل الزنا سبباً له. فنقول: إن عنوا بالسبب المعرّف فهو حق. وإن عنوا به المؤثر فهو باطل، إذ الحادث لا يؤثر في القديم ولأن حقيقة الزنا بعد الجعل إن بقيت كما كانت لم تؤثر كما قبله وإلا فالمعدوم لا يؤثر. ولأن الصادر من الشّارع بعد الجهد إما الحكم فلم يكن الزنا مؤثراً أو موجبه وهو (¬3) قول المعتزلة وسنبطله. أو غيرهما (¬4) فلم يكن له تعلق بالحكم. ولقائل أن يقول (¬5) على الأول: لعلّهم أرادوا جعل الزنا سبباً لتعلّق ¬
(التقسيم) الرابع
الحكم به وعلى الثاني: إنه يجوز بقاء الحقيقة مع طرآن (¬1) صفة المؤثرية. وعلى الثالث: إن الصادر من الشارع المؤثريَّة (¬2): وهي غيرهما ولها تعلق بالحكم. (التقسيم) الرابع الحكم قد يكون (¬3) إما بالصحة أو بالبطلان. وأراد المتكلمون بصحة العبادة "موافقة الشرع"، والفقهاء "إسقاط القضاء"، وعليه تبتنى (¬4) صلاة مَن ظن أنه متطهر (¬5). ومعنى صحة العقد: ترتب آثاره عليه. والبطلان (¬6) والفساد يقابلانها (¬7). وعند الحنفية الفاسد ما ينعقد بأصله دون وصفه كالربا. ويقرب من صحة العبادة إجزاؤها. وإنما يوصف الفعل به لو أمكن أن لا يترتب أثره عليه. لا كمعرفة الله تعالى وردّ الودائع. فإجزاء الفعل: أن يكفي الإِتيان به في سقوط التعبّد به. وقيل: هو إسقاط (¬8) القضاء. وهو باطل لسقوط القضاء بالموت عند الإِتيان به بدون شرطه بلا إجزاء. ولتعليلنا وجوب القضاء بعد الإِجزاء ولأن القضاء يجب بأمر مجدد لما سنبيِّن. ¬
(التقسيم) الخامس
ولقائل أن يقول (¬1): لو فسّر الإِجزاء بما يكفى الإِتيان به فى سقوط القضاء اندفع الوجهان الأولان. (التقسيم) الخامس العبادة إن أُدِّيت في وقتها بلا خلل فإن سبقه أداء بخلل سمِّيت إعادة وإلا أداء. وإن أُدِّيت خارج وقتها المضيق سميت قضاء إن وجد سبب وجوب الأداء وجب أو لم يجب أو (¬2) لا يصح منه عقلاً كالنائم أو شرعاً كالحائض. أو يصح منه لكن سقط الوجوب بسبب (¬3) من جهة الله تعالى كالمرض، أو من جهته كالسفر. وقيل: إنما سمي قضاء في هذه الصور لأنه واجب الأداء وترك، وهو باطل إذ جواز الترك ينافي جزء (¬4) ماهية الوجوب وهو المنع منه: (التقسيم) السادس ما جاز فعله سُمي (¬5) عزيمة (¬6) إن لم يوجد المقتضي للمنع منه ورخصة (¬7) إن وجد، وجب كأكل الميتة في المخمصة أو لا كالإِفطار في السفر. ¬
(المقدمة) الخامسة
(المقدمة) الخامسة الحسن والقبح: بمعنى ملاءمة الطبع ومنافرته. وصفة الكمال والنقص عقلي (¬1) وبمعنى ترتب الذم عاجلًا والعقاب آجلًا على الفعل وعدمه عندنا شرعي، وعند المعتزلة عقلي. وهو الموصوف بصفة لأجلها استحق فاعله الذم والعقاب، استقل العقل بمعرفته ضرورة كالكذب الضار، أو نظراً كالكذب النافع. أو لا يستقل كصوم يوم العيد إذ الشرع يعرف اتّصافه بما لأجله قبح. لنا: إن فاعل القبيح إن لم يتمكن من تركه كان فعله اضطرارياً. وإن تمكن ولم يتوقف ترجح فاعليته على تاركيته على مرجح كان اتفاقياً. وإن توقف لم يكن ذلك المرجح منه، ويجب الفعل عنده لئلا يتسلسل (¬2) ولا يلزم خلاف ما فرض من المرجح التام، وحينئذ يكون اضطرارياً. والاضطراري والاتفاقي لا يقبحان عقلًا بالاتفاق. ¬
ولقائل أن يقول: وجوب الشيء بشرط غيره لا ينافي إمكانه وقدرة الغير عليه، وإلَّا لزم نفي قدرة الله تعالى. فإن قلت الفرق أن مرجح فاعليته تعالى يحصل (¬1) باختياره. قلت (¬2): فالكلام في فاعليته لذلك المرجح كما في الأول فلزم (¬3) التسلسل في أفعاله تعالى أو الاعتراف بالمنع المذكور. ادّعى الخصم العلم الضروري بقبح الكذب الضار، وزعم أنه لا يستفاد من الشرع لحصوله لمنكريه، وأن المقتضي لقبحه (¬4) كونه كذلك بالدوران. ومنهم مَن استدل بأوجه: أ- المختص بالوجوب لو لم يختص بما يقتضيه (¬5) لترجح أحد الجائزين على الآخر بلا مرجع. ب- لو حسن من الله كل شيء لحسن منه أظهار المعجزة على يد الكاذب والتبس النبي بالمتنبي. جـ - ولحسن منه الكذب فلم يعتمد على أخباره. د- العاقل يختار الصدق على الكذب إذا استويا فدلّ على أن كونه صدقاً يقتضي حسنه. هـ- ما لا يعلم قبل الشرع لا يرد به الشرع. والجواب (¬6): المعلوم بالضرورة الحسن والقبح بمعنى الملاءمة والمنافرة. ولا يقال: الظلم ملائم لطبع (¬7) الظالم، ولا ينفر الطبع عن خطاب الجماد، وإنشاد قصيدة غراء في شتم الملائكة والأنبياء بصوت طيب مع العلم الضروري بقبحه لأن الظلم لولاه من طبع الظالم لما دفع (¬8) عن نفسه. ¬
وإنما رغب فيه لمعارضة أخذ المال وحكم العقل بحسن الإِحسان لإِفضاء ذلك الحكم إلى وقوعه وبقبح الكذب لمخالفته لمصلحة (¬1) العالم. ويقبح خطاب الجماد لأنه اشتغال بما لا يفيد. ويقبح الإِنشاد المذكور لأنه مقابلة أرباب الفضائل بالشتم المخالف (¬2) لمصلحة العالم. فرجع الكل إلى ملاءمة الطبع. سلّمناه: لكن لا نسلّم تعليل قبح الظلم بكونه ظلماً والدوران لا يفيد العلية لما يأتي بعد. كيف (¬3) والمفهوم من الظلم أنه إضرار غير مستحق. والعدم لا يكون جزء علة الوجود وإلا لانسد (¬4) باب معرفة وجود (¬5) الصانع، ولا شرطاً لتأثير العلة إذ العلية تدور معه، ولا سبب سواه فيعلل (¬6) به ويعود (¬7) المحذور. ولقائل أن يقول: لما فُسر القبح بالأمر العدمي كما سبق لا يتوجه هذا (¬8). والجواب عن أوب: أن الرجحان بلا مرجح إن لم يجز لزم الجبر كما سبق وبطل القبح العقلي. وإن جاز اندفع الأول وورد الثاني عليكم لجواز خلق المعجزة لا لغرض أو لغرض غير التصديق. لا يقال خلق المعجزة على يد الكاذب وإن لم يوجب التصديق لكنه يوهمه وأنه قبيح لأن إيهام القبيح إذا لم يوجبه لا يقبح إذ التقصير من المكلف في قطعه لا في محل القطع كإنزال المتشابهات. ¬
ولقائل أن يقول (¬1): الجواب مبني على الدليل المذكور وقد سبق ضعفه. ثم لا حاجة (¬2) في جواب الثاني إلى الترديد. بل جوابه: أن حسن الشيء لا يوجب وقوعه بل قد يجزم بانتفائه، وهاهنا كذلك. وجواب الأول منع الملازمة إذ ليس المرجح منحصراً في صفة الفعل. وعن "جـ" أنه وارد عليكم بحسن الكذب لإنقاذ النبي وفي المتوعد (¬3) ظلماً. لا يقال: الحسن هو التعريض ثم المقتضي قد يتخلف الأثر عنه لمانع. لأن الخبر إنما يصير تعريضاً بصرفه عن ظاهره بطريق لا يتنبه السامع اليه وحينئذٍ لا يمكن القطع بإجراء كلام الله تعالى على ظاهره إلا إذا علم أنه ليس ثمة مصلحة تقتضي صرفه عن ظاهره ولا طريق إليه البتة. بل غايته أن لا يعلم ذلك لكن عدم العلم لا يدل على العدم. وأما تخلف الأثر عن المؤثر العقلي فمُحال. وإلا كان عدم المانع جزءاً منه. ولو جاز ذلك لجاز في كل كذب أن لا يكون قبيحاً لمانع (¬4) وعاد الإِلزام. وعن "د" أن اختيار الصدق للألف العام. فإن العقل لا يأتي بما يخالف نظام العالم. وعن "هـ" أن الموقوف على الشرع ليس تصور الحسن والقبح بل التصديق بهما. التفريع: مهما بطل الحسن والقبح العقلي لم يجب شكر المنعم عقلاً. ولا يكون قبل الشرع حكم لكن الأصحاب أبطلوا قول المعتزلة في المسألتين تفريعاً على القول بالحسن والقبح العقلي. ¬
مسألة: شكر المنعم لا يجب عقلاً خلافاً للمعتزلة (¬1). لنا قوله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} (¬2)، ولأنه لا يجوز أن يجب لا لفائدة لكونه عبثاً. ولا لفائدة تعود إلى الله تعالى لتنزهه عنها. ولا إلى العبد لأنها إما جلب منفعةٍ. وهو غير واجبٍ عقلاً. فالمفضي إليه أولى. ولأن أداء الواجب لا يقتضي غيره. ولأن توسيطً الشكر يكون عبثاً لإِمكان إيقاعه بجميع المنافع بدونه وإما دفع مضرّة إما عاجلة- والمضرّة العاجلة لا تدفع مضرّة عاجلة- وإما آجلة. وأنه تعالى لا يضرّه الكفر ولا يسرّه الشكر، فلا نقطع بها. بل يحتمل العقاب على الشكر (¬3). لأنه تصرف في ملك الغير بدون إذنه بلا ضرورة، ومجازاة للمولى (¬4) على نعمه وشكر لنعمه التي (¬5) هي بالنسبة إلى خزانة الله أقل من كسرة خبز (¬6) بالنسبة إلى خزانة ملك، ولأنه قد لا يليق به تعالى. فإن قيل: لِمَ لا يجوز أن يجب لدفع ضررٍ عاجل وهو خوف العقاب على الترك، فإنه (¬7) راجح على خوف العقاب على الفعل: إذ فاعل الشكر أحسن حالاً من تارِكه. ثم ما ذكرتم ينفي الوجوب الشرعي أيضاً (¬8). وهو (¬9) في مقابلة ما تقرر في بداية العقول من وجوب شكر المنعم. ثم نقول الشكر طريق آمن فاقتضى العقل وجوب سلوكه. ولأنه لو لم يجب عقلاً لما وجب النظر في المعجزة أيضاً عقلاً إذ لا فرق بينهما وأنه يفضي إلى إفحام الأنبياء. إذ المكلف يقول ¬
لا أنظر في معجزتك ما لم يجب ولا يجب إلَّا بالشرع ولا يثبت الشرع إلا بالمعجزة. والجواب: أن الرجحان ممنوع في حق مَن لا يضرّه الكفر ولا يسرّه الشكر. وما ذكرنا وإن نفى الوجوب شرعاً لكن المدعى أن القبح العقلي ينفي الوجوب العقلي، وتقرر وجوب شكر منعم شأنه ما ذكرناه في البداية ممنوع. ولا نسلّم أن الشكر طريق آمن لما سبق. والإِفحام المذكور لازم على المذهبين. لأن وجوب النظر نظري فللمكلف أن يقول لا أنظر في المعجزة ما لم يجب النظر ولا يجب إلا بنظري فلا أنظر. ولقائل أن يقول: لِمَ لا يجوز أن يجب لفائدة هي منفعة العبد. ولا نسلّم أن جلب المنفعة لا يجب عقلًا إذ المنافع تختلف فيه (¬1). ولا نسلّم أن أداء الواجب لا يقتضي غيره. سلّمناه: لكنه لا ينفي الوجوب لفائدة هي منفعة العبد. إذ تلك الفائدة قد تكون نفس الشكر، إذ عندنا وجب الشكر لكونه شكراً. ولا نسلم أن توسيط الشكر عبث. إذ تلك الفائدة قد يمتنع حصولها بدونه لما سبق. فإن عُني بالفائدة أمر زائد على نفس كونه شكراً منعنا الحصر. إذ عندنا الشيء قد يجب لكونه ذلك الشيء. ولا نسلم أن المضرّة العاجلة لا تدفع مضرّة عاجلة فوقها. فقد (¬2) يكون ضرر خوف العقاب مثلاً (¬3) راجحاً على ضرر الإِتيان بالشكر وضرر خوف العقاب عليه. وحديث الإِفحام ضعيف جداً. ومن جانبكم (¬4) أضعف. فإن لم يأت بالنظر إلا بعد معرفة وجوبه فقد يعرف وجوبه بالعقل قبل دعوى النبوّة. ¬
مسألة: في حكم الأشياء قبل الشرع (¬1). ما يضطر المكلف إليه كالتنفس يؤذن (¬2) فيه قطعاً إن لم يجز تكليف ما لا يُطاق. وما لا (¬3) (يضطر المكلف إليه) فهو عند معتزلة البصرة (¬4) وبعض فقهاء الشافعية والحنفية مباح. ¬
وعند معتزلة بغداد وبعض الإِمامية (¬1) وأبي علي بن أبي هريرة (¬2) منّا محظور وعند الأشعري (¬3) والصيرفي (¬4) وبعض الفقهاء على الوقف بمعنى لا حكم أو بمعنى لا نعلم. ¬
لنا: ماسبق (¬1). للأولين (¬2) وجهان: أ- أنه انتفاع خالٍ من أمارة المفسدة لا يضر المالك فحسن لدوران الحسن معه في الاستنشاق (¬3) والاستظلال بحائط الغير. ب- الله تعالى خلق الطعوم في الأجسام لغرض وإلا (¬4) كان عبثاً وليس يعود إلى الله تعالى لاستحالته، بل إلى العبد. وليس هو غير نفعه بالاتفاق. ونفعه بإدراكها أو استحقاق الثواب باجتنابها لكون تناولها مفسدة وأنه يتوقف (¬5) على ميل النفس إليها الموقوف على إدراكها (¬6) أو الاستدلال بها الموقوف على معرفتها الموقوفة على إدراكها ولازم المطلوب مطلوب. وللآخرين (¬7): إنه تصرف في مُلْك الغير (¬8) بغير إذنه فقبح كما في الشاهد. ولهما على إبطال قولنا (¬9): إن التصرّف محظور إن كان ممنوعاً عنه وإلا فمباح. ¬
(المقدمة) السادسة
والجواب عن: أ- بمنع حكم العقل في الأصل. ئم تضعيف (¬1) الدوران بما سيأتي (¬2). ب- بالنقض (¬3) بالطعوم المهلكة. ولقائل أن يدفع (¬4) النقض بأنه يمكن الانتفاع بالمؤذي (¬5) بالتركيب مع ما يصلحه بل الجواب بمنع الحصر ثم بمنع توقف المعرفة على التناول حالة التكليف فإنّا لا نسمّى فعل غير المكلف مباحاً. جـ- بمنع عدم الإِذن. د- إنه غير وارد إلَّا على الجزم بعدم الحكم. ولا نسلّم أن المباح ما لم يمنع عنه، بل ما أعلم فاعله أنه لا حرج عليه أقدم أو أحجم وإلا كان فعل البهيمة مباحاً. (المقدمة) السادسة لما كان أُصول الفقه: جملة طرق الفقه والكيفيتين (¬6). والطريق إما عقلي- ولا مجال له عندنا في الأحكام (¬7). وعند المعتزلة حكمه في المنافع الإِباحة وفي المضار الحظر- وإما سمعي وهو إما منصوص أو مستنبط. ¬
والمنصوص قول مَن لا يجوز عليه الخطأ، وهو الله تعالى ورسوله - صلى الله عليه وسلم - ومجموع الأُمة (¬1) أو فعله. والنظر في القول مقدّم إذ الفعل لا يدل إلَّا معه. وهو إما (¬2) في ذاته وهو باب الأمر والنهي، أو في عوارضه بحسب متعلقاته وهو باب العموم والخصوص، أو بحسب كيفية دلالته وهي نسبة بين (¬3) الذات ومتعلقاته، وهو باب المجمل والمبين، وبعده باب الأفعال ثم النسخ لأن الدلالة قد ترد لرفع الحكم. وإنما قدّم على الإِجماع والقياس لأنهما لا ينسخان ولا ينسخ بهما، ثم الإِجماع. ويقدم على الكل اللغات لافتقاره إليها، ثم الأخبار إذ المتمسك قد لا يشاهد المنصوص (¬4)، ثم المستنبط وهو القياس (¬5)، ثم التراجيح، ثم الاجتهاد، ثم الاستفتاء ثم نختم بذكر ما اختلف فيه كونه طريقاً. خاتمة: معرفة أحكام الله تعالى واجبة إجماعاً وهي إما بالاستدلال أو السؤال من مستدل دفعاً للتسلسل. ولا بدّ للمستدل من طريق. وأُصول الفقه هي تلك الطرق، وما يتوقف عليه الواجب المطلق وكان مقدوراً فهو واجب لما سيأتي فهذا العلم واجب وليس فرض عين لما نبيِّن من جواز الاستفتاء (¬6) فهو فرض كفاية. ¬
الكلام في اللغات
الكَلَام في اللّغَات وفيه فصول
الفصل الأول في أحكامها الكلية
الفصل الأول في أحكامها الكلية وفيه مسائل " المسألة الأولى" الكلام يطلق على المعنى القائم بالنفس والأصوات المقطعة، والنظر (¬1) في الثاني. قال أبو الحسين "هو المنتظم من حروف مسموعة متميزة متواضع عليها" وزيد فيه صادرة عن قادرٍ واحد. فالنظام (¬2) هو: التأليف المختص بالأجسام فأطلق على الحروف للتشبيه. والمراد بالحروف الزائد على الواحد ظاهراً كان "كقم" أو في الأصل "كق" إذ أصله "قي" نقول في التثنية "قِيا" والحد يدخل الكلمة في الكلام. والنحاة تخالف الُاصوليين فيه وتخرج "ياء النسبة ولام التعريف" عنه مع أنهما (¬3) كلمة وكل كلمة كلام. فالأولى أن يقال: المنطوق به الدال على معنى بالاصطلاح إن لم يكن جملة مفيدة فهو الكلمة، وإن كان فهو الكلام وربما زيد فيه أو نقص فلا يبقى معه كلاماً. والجملة المفيدة إن تركبت من جملتين فهي الشرطية نحو: "إن كانت الشمس طالعة فالنهار موجود" وإلا فهي الاسمية نحو: "زيد قائم" أو الفعلية نحو: "قام زيد". تنبيه: النداء جملة مفيدة وفي كونها من الأقسام بحث. ¬
المسألة الثانية
المسألة الثانية دلالة الألفاظ لو كانت لذواتها لما اختلفت بالُأمم ولاهتدى إليها كل عاقل. وخالف عباد (¬1) بن سليمان محتجاً بأنه لو لم يناسب الاسم معناه (¬2) لترجح الجائز بلا مرجح. وجوابه: إن التخصيص من الله تعالى كتخصيص إيجاد العالم بوقت معين، ومن الناس كتخصيص الأعلام بالأشخاص. ثم إن كان وضع الكل من الله تعالى وهو مذهب الأشعري وابن فورك (¬3) سمي توقيفياً. وإن كان من الناس وهو مذهب أبي هاشم (¬4) وأتباعه سمي اصطلاحياً. وقيل: في ابتداء اللغات لابدّ من اصطلاح (¬5) دون الباقي (¬6) وقيل: بالعكس وهو مذهب الُأستاذ أبي إسحاق (¬7). ¬
وتوقف (¬1) جمهور المحققين في الكل، لأنه يمكن أن يخلق الله تعالى فيهم علماً ضرورياً بأن هذه الألفاظ وضعت لهذه المعاني. وبأن يضع الواحد اللفظ للمعنى ويعرفه غيره بإيماء أو إشارة ويساعده غيره عليه كتعليم الوالد لغته ولده. ولا جزم بواحد لضعف دليله فوجب التوقف. حجة التوقف وجوه: أ- قوله تعالى: {وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا} (¬2) دلّ أن الأسماء توقيفية فكذا الأفعال والحروف. لأنه لا قائل بالفرق، ولأن التكلّم بها وحدها متعذر، ولأنها إنما سمِّيت أسماء (¬3) لكونها علامة على معانيها. ب- قوله تعالى: {إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا} (¬4). وإنما يصح الذم لو كان غيرها من الأسماء توقيفياً. ج- قوله تعالى.: {وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ} (¬5) وليس المراد اختلاف تأليفاتها لأنه في غير الألسن أبلغ بل اختلاف لغاتها. فى- إنه لا بدّ في الاصطلاح من تعريف الغير ما في الضمير بطريق يدل لا بالاصطلاح لئلا يتسلسل، بل بالتوفيق. وبه تمسك الُأستاذ لكنه قال هذا في الابتداء، أما في الدوام فقد يحصل اصطلاح، بل هو معلوم الوقوع. ¬
هـ (¬1) - الاصطلاح يرفع الأمان عن الشرع (¬2) لجواز تبدل اللغات. حجة الاصطلاح وجهان: أ- قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ} (¬3) دلّ على تقدم اللغة على البعثة المتوقف عليها التوقيف. ب- حصول التوقيف إما بخلق (¬4) الله تعالى علماً ضرورياً بوضعه هذه الألفاظ إما في غير عاقل وهو بعيد جداً أو في عاقل، وأنه يتضمن العلم به تعالى فيكون ضرورياً وأنه ينافي التكليف بمعرفته وإما بطريق آخر ولا يتسلسل بل ينتهي إلى الاصطلاح. والجواب عن: أ- إن التعليم هو الفعل الصالح لحصول العلم. يقال علّمته فما تعلم. والإِقدار على الوضع كذلك. ثم العلم الحاصل بعد الوضع بإيجاده تعالى ولأن الاسم مشتق من السمو أو السمة. فما يكشف عن حقيقة شيء اسم وتخصيصه بالألفاظ لعُرفٍ طارئ. فلعله أراد بالأسماء الصفات من صلاحية المخلوقات للمصالح. سلّمنا أنه ينافي وضع آدم عليه السلام. لكنه لا ينافي وضع مَن سبقه من خلق الله تعالى. ب- إن الذم لاعتقاد تحقّق الإِلهية في الصنم. جـ- المعارضة بمجاز آخر وهو الإِقدار على اللغات. د- النقض بتعليم الولد ولده. سلّمنا توقيف لغة فلم تتعين هذه. هـ- إن التغير لو وقع لاشتهر وسنجيب عن النقض بمعجزات الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأمر الإِقامة في الأخبار. و- منع توقف التوقيف على البعثة. ¬
المسألة الثالثة
ز- أنه يجوز أن يخلق الله تعالى العلم الضروري (¬1) بأن واضعاً وضع لا أنه تعالى وضع، سلّمناه فَلِمَ لا يجوز أن يعلم المجنون بالعلم الضروري بعض الأحكام الدقيقة؟. المسألة الثالثة الإِنسان لاحتياجه إلى غيره يحتاج إلى تعريفه ما في ضميره بطريق. واختيرت العبارة طريقاً لسهولتها فإنها من كيفية التنفس الضروري ولوجودها عند الحاجة وانقضائها عن انقضائها. ولإِمكان الإِفادة بها كان ما في الضمير موجوداً أولاً، محسوساً أولاً. ولقلة لزوم الاشتراك فيها (¬2). ثم لو كان لكل معنى لفظ والألفاظ متناهية دون المعاني لوجد لفظ مشترك بين معاني غير متناهية وهو مُحال لافتقار الوضع لذلك (¬3). ومعرفته منّا إلى تعقلها مفصلًا. نعم ما تشتد الحاجة إلى التعبير عنه يجب الوضع له للداعي التام مع القدرة. وما لا يعرفه العوّام لا يكون اللفظ المشهور موضوعاً له كلفظ الحركة لما يقوله مثبتوا الحال من المعنى الموجب لكون الذات متحركاً. المسألة الرابعة ليس الغرض من وضع الألفاظ المفردة إفادة معانيها المفردة لتوقف إفادتها إياها على العلم بها. بل التمكّن من إفادة المعاني المركبة بتركيب الألفاظ ويكفي في تلك الإِفادة العلم بوضع الألفاظ المفردة بحركاتها المخصوصة (¬4) لتلك المعاني وانتساب بعضها إلى بعض بالنسب المخصوصة فلا يلزم الدور. ¬
المسألة الخامسة
ولا وضعت الألفاظ للدلالة على ما في الخارج بل في الذهن، أما المفردة فلاختلافها عند تغير الصورة (¬1) الذهنية واستمرار الخارجية (¬2)، وأما المركبة فلأن قولك "زيد قائم" لا يفيد قيام زيد وإلا لم يكن كذباً بل حكمك به. نعم قد يستدل بالحكم على الوجود الخارجي إذا عرفت (¬3) براءته عن الخطأ. ولقائل أن يقول (¬4): اختلاف اللفظ الموضوع للخارجي ممنوع في نفس الأمر، وجواز إطلاق اللفظ على الشيء مشروط باعتقاد أنه كذلك في الخارج. والكذب في المركب إنما يمتنع لو كانت دلالته قاطعة. المسألة الخامسة معرفة العربية واجبة لتوقف معرفة شرعنا على معرفة القرآن والأخبار الواردين بها. ولا طريق إليها بالعقل بل بالنقل أو بالمركب منهما. كما يعلم (¬5) كون الجموع للعموم بالعقل بواسطة نقل جواز الاستثناء منها وأنه إخراج ما لولاه لدخل. والنقل إما متواتر يفيد العلم أو آحاد يفيد (¬6) الظن. فإن قيل التواتر ممنوع إذ (¬7) اختلف في أكثر الألفاظ دوراناً على الألسن كلفظ ¬
الله تعالى اختلافاً كثيراً أهو سوري (¬1) أو عربي مشتق (¬2) أو موضوع مع اختلاف كثير فيما اشتق منه. وما وضع له أهو الذات أو كونه قادراً أو معبوداً أو بحيث تتخير العقول في إدراكه أو غيره. وكذا الإِيمان والصلاة وغيرهما. ولأن شرطه استواء الطرفين والواسطة. ولم يعلم ولا يعتمد على أنه لو تغير لاشتهر. إذ ليس وضع لفظ معين لمعنى واقعة عظيمة ولأنه منقوض بما يتكلم به العرب الآن من ألفاظ وإعرابات فاسدة. وبالألفاظ المنقولة إذ لا يعلم مَن غيَّر ولا متى غُيِّر. ثم اشتهر أخذ اللغات عن جمع خاص كالخليل (¬3) وغيره مع قلتهم وعدم عصمتهم والقطع بأن الكل لم ينقل كذباً لا يفيد القطع بصدق واحد معين. والآحاد لا تفيد الظن ما لم تسلم عن القدح والمعارضة. ورواة اللغة جرَّح (¬4) بعضهم بعضاً. وقال بعضهم زيد في اللغة وآخر نقص منها. وبعد إفادتها الظن كيف نقطع بشيء من مدلولات القرآن والأخبار. والتمسك بالمركب موقوف على امتناع التناقض على الواضع ولا علم به. والإِجماع فرع هذا الطريق فإثباته به دور. والجواب: أنّا نعلم ضرورة أن الألفاظ المشهورة كالأرض والسماء وغيرهما كانت في زمان النبي - صلى الله عليه وسلم - مستعملة في معانيها المعلومة. وأكثر القرآن منها. وما ليس منها لا يثبت به إلا الظن. ويثبت وجوب العمل به بالإِجماع. ويثبت الإِجماع بآية ألفاظها منها ويزول الإِشكال. ¬
الفصل الثاني في تقسيم الألفاظ
" الفصل الثاني" في تقسيم الألفاظ دلالة اللفظ على تمام مسمّاه هي المطابقة. وعلى جزئه التضمّن. وعلى لازمه الالتزام وليعتبر في الكل كونه كذلك احترازاً عن اللفظ المشترك بين الشيء وجزئه أو لازمه وفي الالتزام اللزوم الذهني إذ لا فهم دونه. لا الخارجي لحصول الفهم دونه كما في الصدين والاستدلال بتلازم (¬1) الجوهر والعرض. وعدم استعمال لفظ أحدهما في الآخر ضعيف (¬2) إذ دلالة اللفظ غير استعماله، ولأنه استدلال بانتفاء الشيء ومع تحقّق غيره على عدم اعتبار الغير. والدّال بالمطابقة مفرد إن لم يدل جزء منه على شيء حين هو جزؤه، ومركب إن دلّ (¬3) جزء منه كذلك وما يدل جزء منه دون جزء غير موجود (¬4). والمفرد جزئي أن منع نفس تصور معناه من الشركة، وكلّي إن لم يمنع وهو إن دلّ على تمام الماهية كان مقولًا في جواب ما هو؟ بحسب الشركة والخصوصية إن صلح لذلك حالتي الجمع والإِفراد بالسؤال كالنوع بالنسبة إلى أفراده. وبحسب الشركة فقط إن صلح له (¬5) حالة الجمع فقط كالجنس بالنسبة إلى أنواعه. وبحسب الخصوصية فقط إن صلح له (5) حالة الإِفراد فقط كالحدّ بالنسبة إلى محدوده. ¬
وإن دلّ على جزء الماهية فإن لم يكن مشتركاً بينها وبين ماهية ما غيرها كان فصلًا قريباً. وإن كان تمام المشترك كان جنساً قريباً أو بعيداً. وإن لم يكن تمام المشترك كان بعضاً منه مساوياً له دفعاً للتسلسل. وكان (¬1) فصلاً بعيداً لصلاحيته لتمييز الماهية. عن شيء ما في ذاته. ولو فسر الفصل بتمام المميز لم يكن حصر (¬2) الجزء في الجنس والفصل والأجناس تنتهي في الارتقاء إلى ما لا جنس فوقه وهو جنس الأجناس. والأنواع في النزول إلى ما لا نوع تحته وهو نوع الأنواع. وإن دلّ على (¬3) الخارج عن الماهية فهو إما لازم لها أو لشخصيتها بوسط وهو المقرون بقولنا "لأنه" حين قال لأنه كذا. أو بغير وسط. وإما غير لازم بوطء زواله أولًا. وأيضاً الخارج خاصة إن اختص بالماهية وإلا فعرض عام (¬4). وأيضاً المفرد إن لم (¬5) يستقل بالمفهومية فهو الحرف. وإن استقل ودلّ على زمان معيق لمعناه فهو الفعل. وإلا فهو الاسم. فإن كان مسمّاه جزئياً مضمراً فهو المضمر وإن كان مظهراً فهو العَلَم. وإن كان كلياً هو نفس الماهية فهو اسم الجنس عند النحاة. وإن كان موصوفية أمر ما بصفةٍ فهو المشتق. ثم حصول الكلي بإن كان في بعض تلك المواضع أولى أو أقدم فهو المشكك (¬6) والا فهو المتواطئ وأيضاً المفرد إن وافقه غيره في معناه ¬
سميا مترادفين (¬1) وإلا فمتباينين (¬2). وأيضًا إنه قد ينسب لمعنى غير واحد. فإن وضع أولًا لمعنى ثم نقل إلى غيره لا لمناسبة بينهما فهو المرتجل (¬3). أو لمناسبة فإن ترجح المنقول إليه سمي منقولاً شرعيًا أو عرفياً أو اصطلاحيًا على اختلاف الناقلين. وإلا سمي بالنسبة إلى الأول حقيقة وإلى الثاني مجازًا. ومنه المستعار وهو المنقول للمشابهة. وإن وضع لهما وضعًا أولًا فهو المشترك إن نسب إليهما. والمجمل إن نسب إلى كل واحدٍ منهما. وأيضًا المفرد إن لم يحتمل غير معنى فهو النص وإن احتمله سواء سمي مجملًا (¬4) وإلَّا سمي بالنسبة إلى الراجح ظاهرًا (¬5). وبالنسبة إلى المرجوح مؤولًا. والنص الظاهر يشتركان في الرجحان. والمجمل والمؤول في عدمه. واللفظ (¬6) بالنسبة إلى الأول يسمى محكماً وإلى الثاني متشابهًا. ولا يحسن جعل الظاهر من قبيل وضع اللفظ لمعنيين (¬7). وأما المركب فإما أن يفيد طلب شيء إفادة أولية فإن كان المطلوب ¬
ذكره (¬1) فهو الاستفهام وإن كان تحصيله فهو مع الاستعلاء أمر ونهي: ومع التساوي التماس. ومع الخضوع سؤال وإما أن لا يفيده فإن احتمل التصديق كان خبراً وإلا تنبيهاً ومنه التمنّي والترجّي والقَسَم والنداء. والدال بالالتزام إما مفرد - فإن كان معناه الالتزامي شرطًا للمطابقي سمي اقتضاء عقلية (¬2) كانت الشرطية أو شرعية (¬3) - وإما مركب وهو إما أن يكون الالتزامي مكمِّلًا للمطابقي كدلالة تحريم التأفيف على تحريم الضرب أولا يكون. وهو إما ثبوتي كدلالة قوله تعالى: {فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ} (¬4) مادّاً إلى تبين الخيط الأبيض على صحة صوم المصبح جنبًا. أو عدمي كدلالة تخصيص الشيء بالذكر على نفي ما عداه. واعلم أن اللفظ قد يدل على لفظ مفرد أو مركب قال على معنى أو غير دال. والأول كلفظ الكلمة والاسم، والثاني (¬5): كلفظ الخبر، والثالث (¬6): كحرف المعجم الدال على لفظ لا يفيد. ولم يوجد الرابع (¬7) إذا لتركيب للإفادة. ¬
الفصل الثالث في الأسماء المشتقة
" الفصل الثالث" في الأسماء المشتقة وفيه مسائل المسألة الأولى قال الميداني (¬1): الاشتقاق (¬2) أن تجد بين اللفظين تناسبًا في المعنى والتركيب فتردّ أحدهما إلى الآخر. وأركانه: اسم وضع لمعنى. وآخر له نسبة إلى ذلك المعنى. ومشاركتهما في الحروف الأصلية. وتغير يلحق ذلك الاسم في حرف أو حركة أو فيهما بزيادة أو نقصان أو بهما. " المسألة الثانية" (¬3) لا يصدق المشتق بدون المشتق منه لاستحالة الكل بدون الجزء. ¬
وجوّزه أبو علي (¬1) وأبو هاشم. إذ قالا العلم والقدرة والحياة (¬2) معانٍ توجب العالميَّة والقادِريَّة والحيية الثابتة لله تعالى دونها. ولا بدون (¬3) بقائه خلافًا لأبي علي بن سينا (¬4) وأبي هاشم. إذ يصدق بعد الضرب أنه ليس بضارب لصدق الأخص منه وهو قولنا ليس بضارب في الحال ¬
فلا يصدق قولنا ضارب. لأن استعمال أهل اللغة كل واحد منهما لتكذيب الآخر يدل على عدم تناقضهما وتناولهما لزمان معين. وإذ ليس هو غير الحاضر وفاقًا فهو عينه. ولقائل أن يقول (¬1): لا نسلم أن قولنا ليس بضارب في الحال سلبٌ أخصٌ بل سلبُ أخصٍ كقولنا: الحمار ليس بحيوان ناطق. ثم لا نسلم تناولهما للزمان الحاضر. إذ الفرق بين قولنا ضارب وبين قولنا ضارب في الحال معلوم بالضرورة من أهل اللغة. وكذا في السلب. وهذا يصلح ابتداء دليل في المسألة. وإنما يستعملان في التكاذب عند توافق المتخاطبين على إرادة (¬2) زمان معين حاضر أو غيره. ثم إنه معارض بما أنه يصدق في الحال أنه ضارب في الماضي وأنه أخص من قولنا ضارب فليصدق. ولهما وجوه: أ- صحة تقسيم الضارب إلى الضارب في الماضي والحال. ب- اتفاق أهل اللغة على أن اسم الفاعل إذا كان بمعنى الماضي لا يعمل عمل الفعل إذ يدل على جواز إطلاقه بمعنى الماضي والأصل فيه الحقيقة. جـ - لو شرط البقاء لما كان اسم المخبر والمتكلم حقيقة إذ لا يوجد معناهما دفعة ولا اسم المؤمن عندما لا يكون الشخص متلبسًا بمعنى الإِيمان. والجواب عن: أ- النقض بصحة تقسيمه إلى الحال والمستقبل. ب- المعارضة باتفاقهم على أنه إذا كان بمعنى المستقبل عمل عمل الفعل. ¬
المسألة الثالثة
ولقائل أن يقول (¬1): فيما ذكرناه تقليل المجاز فكان أولى. جـ - أن المعتبر وجود آخر جزء مما لا يوجد دفعة. ودعوى الإِجماع على عدم الفرق ممنوع. والتسمية المذكورة مجاز، إذ لا يقال للصحابة كفره (¬2) ولليقظان نائم باعتبار ما مضى. ولقائل أن يقول: الحقيقة قد تهجر لمعارض (¬3) من تعظيم أو عرف أو غيرهما (¬4). " المسألة الثالثة" المعنى الذي له اسم يجب أن يشتق منه لمحله اسم. ولا يجوز أن يشتق لغير محله منه اسم. والمعتزلة تخالف أصحابنا فيهما إذ قالوا: الله تعالى متكلم بكلام يخلقه في جسم. ولا يسمى ذلك الجسم متكلماً وتمسكوا (¬5) بأن القتل قائم بالمقتول ولا يسمى قاتلًا وأجيبوا بأن القتل هو التأثير القائم بالقاتل. وأجابوا بأن التأثير نفس وقوع الأثر. وإلا فإن كان حادثًا تسلسل وإلا لزم قدم الأثر وتقدم النسبة على المنتسبين. وأيضًا المكي والحداد مشتقان مما يمتنع قيامه بمحل الاشتقاق. ¬
ولقائل أن يقول (¬1): العلم بأن التأثير غير وقوع الأثر ضروري ثم لا برهان على وجوب الانتهاء إلى أثر أخير بل إلى مؤثر أول. والتسلسل في الثاني ممنوع وتقدم النسبة على محلها ممتنع دون المنسوب إليه كالتقدم. ولعل الأصحاب لا تدعي ذلك إلَّا في المشتق من المصادر. تنبيه: المشتق لا يدل على حقيقة ما سميَ به بل على (¬2) أنه أمر ما له المشتق (¬3) منه. ¬
الفصل الرابع في الترادف والتوكيد
" الفصل الرابع" في الترادف والتوكيد وفيه مسائل " المسألة الأولى" المترادفان: هما اللفظان المفردان الدالان على مسمى واحد باعتبار واحد. والقيد الأول احتراز عن الرسم (¬1) والحد (¬2). والأخيران: عن الموضوعين لذاتين ولذات وصفة (¬3). والتأكيد: هو اللفظ الموضوع لتقوية ما يفهم من آخر. وبه يفرق بينه وبين الترادف، والفرق بينه وبين التابع أن التابع وحده لا يفيد. ¬
المسألة الثانية
" المسألة الثانية" جواز الترادف والتأكيد معلوم بالضرورة واستقراء اللغات يدل على وقوعهما، وأنكر الملاحدة (¬1) التأكيد وقوم الترادف. وزعموا أن ما يظن أنه (¬2) من المترادفة فهو من المتباينة تباين (¬3) الصفتين أو الصفة والموصوف. ثم الداعي إلى الترادف: التسهيل والإِقدار على الفصاحة برعاية الوزن والقافية والسجع وأصناف البديع والتمكن من التعبير بأحدهما إذا نسي الآخر ووضع القبيلتين (¬4) واشتهاره. وإلى التأكيد ما يأتي من فوائد. وقيل: الأصل عدم الترادف لإِخلاله بالفهم عند اختلاف علم المتخاطبين بالمترادفين. " المسألة الثالثة" النظر إلى اتحاد معنى المترادفين يوهم صحة (¬5) إقامة كل واحد منهما مقام الآخر (¬6) وليس كذلك إذ قد يختص أحدهما بصحة ضمه إلى غيرهما كالمترادفين من لغتين لكنه (¬7) قد يمتنع ذلك كما في المترادفين من لغتين. واعلم أن أحد المترادفين قد يكون أجلى فيكون شرحًا للآخر وقد يختلف الجلاء بالأمم. ¬
المسألة الرابعة
" المسألة الرابعة" قد يؤكد الشيء بنفسه بأن يكرر، وبغيره. فالمختص (¬1) بالمفرد النفس والعين وبالمثنى كلا وكلتا وبالجمع أجمعون واكتعون (¬2) وأبصعون والكل وهو (¬3) أم الباب. ¬
الفصل الخامس في الاشتراك
" الفصل الخامس" في الاشتراك وفيه مسائل " المسألة الأولى" المشترك (¬1): هو اللفظ الواحد المتناول لعدد معان من حيث هو كذلك بطريق الحقيقة على السواء. خرج بالقيد الأول: المتباينان. وبالثاني: العلَم. وبالثالث: المتواطئ. وبالرابع: ما تناوله العدد أو لبعضه بالمجاز. وبالخامس: المنقول. ثم قيل: هو واجب في اللغة لأن الألفاظ متناهية فلو وزعت على المعاني وهي غير متناهية وجب الاشتراك. ولأن اللفظ العام كالوجود واجب في اللغة. ووجود كل شيء عين ماهيته فوجب الاشتراك. وجوابه ما تقدم: أنه لم يوضع للمعاني الغير متناهية (¬2) لفظ مفرد. ولا نسلم وجوب الاشتراك. وإن سلمنا المقدمتين إذ يجوز وضع لفظ الوجود لأمر عام وقيل هو ممتنع لمفاسد الاشتراك من إخلاله بالفهم التام وغيره. وجوابه: إن تلك المفاسد لا توجب النفي كما في أسماء الأجناس. ويدل على إمكانه أن ذكر الشيء إجمالًا قد يكون غرض المتكلم حيث لا يعلم التفصيل أو يكون ذكره مفسدة. والوضع (¬3) يتبع الغرض، ولأن القبيلتين ¬
المسألة الثانية
قد تضعان ثم يشتهر الوضعان. وقيل: لم يقع. وما يظن مشتركًا فهو متواطئ أو حقيقة في معنى مجازٌ في آخر، فالعين وضع للجارحة المخصوصة ثم نقل إلى الدينار والشمس (¬1) والماء لمشابهتها إياها في الصفاء والضياء. وغالب الظن وقوعه لتردد الذهن عند سماع القرء (¬2) بين الطهر والحيض بلا قرينة. ثم المشترك قد لا يصدق أحد مفهوميه على الآخر كالقرء وقد يصدق صدق الجزء على الكل كالممكن. أو صدق الصفة على الموصوف كالأسود إذا سُمي به شخص أسود. " المسألة الثانية" إطلاق المشترك بين النقيضين لا يفيد، فوضع اللفظ لذلك عبث. ولقائل أن يقول: هذا لا ينفي ما يحصل من وضع القبيلتين (¬3). ثم سبب وقوع الاشتراك ما مضى وسبب معرفته هو سماع تصريح أهل اللغة به (¬4) أو وجدان دليل كون اللفظ حقيقة بالنسبة إلى معنيين. وزيد فيه (¬5) الاستعمال وحسن الاستفهام وسيأتي ضعفهما. ¬
المسألة الثالثة
" المسألة الثالثة" جوز الشافعي (¬1) والقاضي أبو بكر رضي الله عنهما استعمال المشترك المفرد في معانيه على الجمع وهو قول الجبائي والقاضي عبد الجبار (¬2). ومنع آخرون وهو قول أبي هاشم وأبي الحسين (¬3) البصري والكرخي (¬4). ثم المانع يرجع إلى القصد عند بعض وإلى الوضع عند بعض وهو المختار. إذ الموضوع للمفردات ما لم يوضع للمجموع لم يجز استعماله فيه وحينئذٍ لو استعمل في جميع معانيه لزم أن يحصل الاكتفاء بكل مفرد لاستعماله فيه وأن لا يحصل ولا بواحد لاستعماله في المجموع وهو محال. ولقائل أن يقول (¬5): النزاع في استعماله في كل واحد من المفهومات ¬
لا في كلها وبينهما فرق. ثم استعمال اللفظ في معنى لا يوجب الاكتفاء (¬1) به مع استعماله في غيره معه. كاستعمال العام في كل واحد من أنواعه وأفراد أنواعه. وأيضًا المحال المذكور يلزم من استعماله في كل واحد من المفردين فلا حاجة (¬2) إلى المقدمة الأولى. وأيضًا إن عني بالوضع للمجموع ما يعم الحقيقة والمجاز لا يلزم من استعمال اللفظ في جميع معانيه استعماله في المجموع. وإن عني به المختص بالحقيقة لا يلزم من عدم الوضع له عدم جواز استعماله فيه. للمجوزين وجوه: أ- قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ} (¬3) والصلاة من الله تعالى رحمة (¬4) ومن الملائكة استغفار. ب- قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ} (¬5). الآية. أراد بالسجود من الدواب الخشوع (¬6) ومن الناس ¬
وضع الجبهة على الأرض (¬1) لتخصيص كثير ممن حق عليه العذاب منهم. جـ - أراد بلفظ القرء في آية العدة الطهر والحيض لوجوب الاعتداد على المرأة المجتهدة بكل واحدٍ منهما بشرط أداء اجتهادها إليه. د- قول سيبويه (¬2): قول القائل ويل لك (¬3) دعاء، وخبر جعله مفيدًا لهما. والجواب (¬4): لو صح ما ذكرتم لكان اللفظ موضوعًا للمجموع كما للآحاد لئلا يلزم استعماله في غير موضعه وحينئذٍ يكون مستعملًا في أحد مفهوماته لا في كلها لما بينا وقد عرفت ما فيما بيَّن (¬5). التفريع: إن منع في المفرد فمنهم من جوز في الجمع نفياً وإثباتًا والحق المنع إذ قوله: اعتدي بالأقراء معناه بقرء وقرء. والمفرد لا يفيد إلاَّ واحدًا فكذا جمعه. وفي النفي نظر إذ لم يدلنا قاطع على أن الواضع ما استعمله لإفادة الكل. وقد يجاب عنه بأن النفي يرفع مقتضى الإِثبات وهو واحد ولو أريد به المسمى بهذا الاسم صار اللفظ كالمتواطئ. ولقائل أن يقول (¬6): إذا كان الجمع معناه تعديد الأفراد جاز أن يفاد به الكلي كما بالمفردات. ولأنهم يجمعون العام لإِفادة الأشخاص المختلفة. ¬
المسألة الرابعة
وإن جوز في المفرد فقد قال الشافعي وأبو بكر (¬1): المشترك (¬2) إذا تجرد عن القرينة وجب حمله على جميع معانيه. وفيه نظر لأن اللفظ ما لم يوضع للمجموع لا يجوز استعماله فيه وحينئذ لو استعمله فيه مع أنه أحد المعاني لزم الترجيح بلا مرجح. والترجيح بالأحوط سنتكلم عليه. ولقائل أن يقول (¬3): هذا ينفي الجواز أَيضًا فلا يتمسك به تفريعًا عليه. " المسألة الرابعة" الأصل عدم الاشتراك لوجوه: أ- إنه لولاه لما حصل فهم المخاطب ولا أفادت السمعيَّات الظن. ولقائل أن يقول (¬4): ظن وضع اللفظ للمعنى يوجب حمله عليه ¬
المسألة الخامسة
وإن احتمل وضعه لغيره احتمالًا سواء. وأنه كافٍ في الفهم والظن. ب - الانفراد أكثر للاستقراء وأنه آية الرجحان. وإنما يلزم من اشتراك الحروف، وكثير من الأسماء بين المعاني، واشتراك الفعل الماضي بين الخبر والدعاء، والمضارع بين الحال والاستقبال، والأمر بين الندب والوجوب كثرة الاشتراك لو لم تكن الأسماء المنفردة أكثر من الألفاظ المشتركة. جـ - الاشتراك يخل بالفهم ويوقع في الجهل بتعذر الاستكشاف لمهابة القائل أو استنكاف السامع عن السؤال. ويضر بالقائل بحمله (¬1) على ما يضره ولم يرده وذلك يوجب ظن عدمه. د - الحاجة إلى وضع الألفاظ المنفردة ضرورية لما سبق دون المشتركة (¬2) لحصول التعريف الإِجمالي بالترديد فكان أولى. ولقائل أن يقول: هذان (¬3) لا ينفيان وضع القبيلتين وهو السبب الأكثري (¬4) للاشتراك. " المسألة الخامسة" المشترك إن تجرد عن القرينة بقي مجملًا، إن منعنا حمله على كل مفهوماته وإن كان معه قرينة، فإن اعتبرت بعض المفهومات تعيَّن. وإن ¬
المسألة السادسة
اعتبرت كلها وهي متنافية كان كالمتجرد. وإن لم تكن متنافية فقيل بتعارض القرينة والدليل المانع من استعماله في كل مفهوماته فتعيَّن الترجيح بينهما (¬1)، وهو خطأ. إذ الدليل المانع قاطع فلا تعارض. سلمناه. لكنه يحتمل كون اللفظ موضوعًا للمجموع كما للآحاد. أو (¬2) أنه تكلم به مرتين. وإذ لا تعارض فليحمل (¬3) على الكل. وإن ألغت القرينة بعضها والباقي واحد تعيَّن. وإن كان أكثر بقي مجملًا فيه (¬4). وإن ألغت كلها والحقائق ومجازاتها متساوية بقي مجملًا في مجازاتها. وإن تساوت الحقائق دون مجازاتها أو بالعكس حمل على المجاز الراجح أو مجاز (¬5) الراجحة. وإن لم تتساو الحقائق ولا مجازاتها، فإن ترجح مجاز الراجحة تعيَّن، وإلا طلب ترجيح آخر. " المسألة السادسة" جاز حصول المشترك (¬6) في القرآن والأخبار. بل وقع في آية العدة وفي قوله تعالى: {وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ} (¬7) فإنه مشترك بين الإِقبال والإِدبار. حجة (¬8) المانع: إنه لو لم يقصد من اللفظ المشترك الإِفهام أو قصده بلا بيان لزم العبث أو تكليف ما لا يطاق. وإن بيَّن مقارنًا (¬9) له كان تطويلًا ¬
بلا فائدة وإلا أمكن أن لا يصل إليه (¬1) البيان فيبقى الخطاب مجهولًا (¬2). والجواب (¬3) على مذهبنا: أنه تعالى يفعل ما يشاء. وعلى مذهب المعتزلة ما سيأتي في تأخير البيان عن وقت (¬4) الخطاب. ¬
الفصل السادس في الحقيقة والمجاز
" الفصل السادس" في الحقيقة والمجاز وفيه مسائل " المسألة الأولى" قال أبو الحسين (¬1): "الحقيقة ما أفيد بها في اصطلاح به التخاطب ما وضعت (¬2) له فيه". والمجاز: "ما أفيد به في اصطلاح به التخاطب غير ما وضع له لعلاقة بينهما". وهذا (¬3) القيد لم يذكره ولا بد منه ليخرج عنه الوضع الجديد. ومن يشترط (¬4) الوضع في المجاز زاد فيه "معنى مصطلحًا عليه" وهذان يتناولان الحقيقة اللغوية والشرعية والعرفية ومجازاتها. وقال أبو عبد الله البصري (¬5) أولًا: (الحقيقة ما انتظم لفظها معناها بلا ¬
زيادة ونقصان (¬1) ونقل). والمجاز: (ما لا ينتظم لفظه معناه إما بزيادة (¬2) أو نقصان أو نقل) وهو خطأ لأن المجاز بالزيادة والنقصان للنقل إلى موضوع آخر معنى وإعرابًا. أما معنى فلأن قوله: ليس كمثله شيء {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} لنفي مثل المثل وسؤال القرية وقد نقلا إلى نفي المثل وسؤال أهل القرية. وأما إعرابًا فلأنهما ما لم يغيرا إعراب الباقي لم يكونا مجازين كقولهم: جاءني (¬3) زيد وعمرو، وقال (¬4) ثانيًا الحقيقة: "ما أفيد بها ما وضعت له" والمجاز: "ما أفيد به غير ما وضع له". وقال ابن جني (¬5): الحقيقة ما أقرت في الاستعمال على أصل وضعها في اللغة والمجاز بضده (¬6) وهما متقاربان. وقال عبد القاهر النحوي (¬7): (الحقيقة كل كلمةٍ أريد بها ما وقعت له في وضع واضعها وقوعًا لا يستند فيه إلى غيره) والمجاز: (كل كلمة أريد بها ¬
المسألة الثانية
غير ما وقعت له في وضع واضعها لملاحظة بينهما) وهذه الثلاثة تخرج الحقيقة الشرعية والعرفية عن حد الحقيقة وتدخلها في حد المجاز وأيضًا قوله في الأول منها (المجاز ما أفيد به غير ما وضع له) لا بد وأن يريد به مع القرينة وحينئذ (¬1) ينتقض باستعمال لفظ الأرض في السماء والأعلام المنقولة. واعلم أن لفظي الحقيقة والمجاز حقيقتان في المعنيين عرفيتان (¬2). مجازان لغويان. إذ الحقيقة فعيلة من الحق وهو الثابت إذ يذكر في مقابلة الباطل الذي هو المعدوم. والفعيل بمعنى الفاعل أو المفعول. والتاء (¬3) لنقل اللفظ من الوصفية إلى الإسمية. فلا يقال شاة أكيلة ونطيحة. ثم نقل إلى العقد. ثم إلى القول المطابق (¬4) لأنهما بالوجود أولى من غير المطابق. ثم إلى اللفظ المستعمل في موضوعه، لأن استعماله فيه تحقيق لذلك الوضع. والمجاز مفعل من الجواز إما بمعنى التعدي وأنه مختص بالجسم فاستعماله في اللفظ مجاز للتشبيه ولأن بناء المفعل للمصدر أو الموضع لا للفاعل. فاستعماله في اللفظ المنتقل (¬5) مجاز. وأما بالمعنى المذكور في مقابلة الوجوب والامتناع فإنه وإن أمكن حصوله في اللفظ لكنه يرجع إلى الأول. لأن الجائز لتردده بين الوجود والعدم كأنه ينتقل من أحدهما إلى الآخر. " المسألة الثانية" احتج الجمهور على الحقيقة اللغوية بأن ما استعمل فيه اللفظ إن كان ما وضع له كان حقيقة فيه وإلا مجازًا لكنه فرعها فلا بد منها وهو ضعيف إذ ¬
المجاز فرع الوضع ونفي الوضع لمعنى ليس بحقيقة بل يتوقف بعده على استعمال اللفظ فيه وقد لا يتفق. نعم ها هنا ألفاظ مستعملة في موضوعاتها فهي حقائق فيها. والحقيقة العرفية: (هي اللفظة المنتقلة عن معناها إلى غيره (¬1) بعرف الاستعمال العام أو الخاص). ولا شك في إمكانها. ووقوع الثاني كألفاظ أهل العلم والصنائع. والنزاع في وقوع الأول. والحق ثبوت تصرف العرف في الألفاظ باشتهار مجازاتها في الاستعمال بحيث يستنكر معها الحقائق كتسمية قضاء الحاجة بالغائط الموضوع للمطمئن من الأرض. والمزادة بالراوية الموضوعة للجمل الذي يحملها وبتخصيصها ببعض مسمياتها كتخصيص الدابة المأخوذة من الدبيب. والملَك والجن المأخوذين من الألوكة التي هي الرسالة ومن الاجتنان ببعض ما هو كذلك. وأما على غير هذين الوجهين فلم يثبت. والحقيقة الشرعية: (هي اللفظة (¬2) المستفاد وضعها للمعنى من الشرع). والقاضي أبو بكر منعها مطلقًا (¬3). والمعتزلة أثبتوها مطلقاً وزعموا أنها أسماء أجريت على الأفعال كالصوم والصلاة. أو الفاعلين كالمؤمن والفاسق، وسموا الثاني بالأسماء الدينية تفرقة بينه وبين الأول. والمختار (¬4) أن إطلاق هذه الألفاظ على هذه المعاني (¬5) مجاز لغوي. لأن إفادتها لها لو لم تكن عربية لما كان القرآن كله عربياً. لأن كون اللفظ ¬
عربيًا حكم يحصل له بإفادته لمعناه، وتسمية البقر (¬1) بالأسود مع نقط بيض فيه وتسمية الشِّعر بالفارسي مع كلمات عربية فيه مجاز لجواز (¬2) الاستثناء لكنه عربي لقوله تعالى: {قُرْآنًا عَرَبِيًّا} (¬3) وقوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ} (¬4). فإن قيل: هذا يقتضي كون هذه الألفاظ موضوعة لما استعملته (¬5) العرب فيه فلم تتناول محل النزاع. سلمناه: لكن القرآن حقيقة في بعض الكتاب أيضًا لوجوه: أ- لو حلف لا يقرأ القرآن حنث بالبعض (¬6). ب- القرآن مشتق من القراءة والقرء وهو الجمع وأنه حاصل في البعض والخارج عن الكتاب لا يسمى به للعرف. جـ - يقال هذا كل القرآن وهذا بعض القرآن والتكرار والنقص خلاف الأصل. د- أنه تعالى أراد بالقرآن المذكور في سورة يوسف نفسها، فلا يلزم من عربية القرآن عربية كل الكتاب، ويدل عليه أن الحروف في أوائل السور غير عربية والمشكاة (¬7) حبشية والأستبرق (¬8) والسجيل (¬9) فارسيان، والقسطاول (¬10) رومي. ¬
ثم ما ذكرتم معارض بوجوه (¬1): أ - هذه (¬2) المعاني حدث تعقلها فلا بد من حدوث أسمائها كالولد يحدث فيوضع له اسم. ب - الإِيمان في اللغة التصديق وفي الشرع فعل الواجبات لوجوه: 1 - فعل الواجبات هو الدين لقوله تعالى: {وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} (¬3). فإنه يرجع إلى جميع (¬4) ما تقدم والدين الإِسلام لقوِله تعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} (¬5) والإِسلام الإِيمان، وإلَّا لم يقبل ممن ابتغاه لقوله تعالى: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ} (¬6). ولما صح استثناء المسلمين من المؤمنين لكن صح في قوله تعالى: {فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} (¬7). استثناء المسلمين من المؤمنين. 2 - قوله تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} (¬8) أي أعمالكم، وقيل: صلاتكم إلى بيت المقدس. 3 - قوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولَئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (¬9) والرسول لا يستغفر للفاسق حالة (¬10) فسقه فلم يكن مؤمنًا. ¬
4 - قاطع الطريق يُخزى يوم القيامة لقوله تعالى: {وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} (¬1). مع قوله حكاية عنهم: {رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ} (¬2) فإن عدم تكذيبهم فيه يدل على أنه صدَّقهم فيه. والمؤمن لا يخزى يوم القيامة لقوله تعالى: {يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ} (¬3). 5 - لو كان الإِيمان نفس التصديق لما سُمي الشخص بعد الفراغ منه مؤمنًا لانتفاء شرط (¬4) صدق المشتق ولكان كل مصدِّقٍ ولو بالجبت والطاغوت مؤمنًا. ولكان المصدق بالله الساجد للشمس مؤمنًا. ولما جامع الشرك الإِيمان بالله لكنه يجامعه لقوله تعالى: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} (¬5). جـ - الصلاة في اللغة المتابعة أو الدعاء أو عظم الورك. ولم تفد في الشرع شيئًا منها. إذ لم (¬6) يخطر بالبال عند سماعها. ولأن صلاة المنفرد والإِمام لا متابعة فيها ولا يكون (¬7) رأسه عند عظم ورك غيره وصلاة الأخرس لا دعاء فيها. د - الزكاة في اللغة الزيادة، وفي الشرع تنقيص مخصوص. والصوم في اللغة الإمساك، وفي الشرع إمساك خاص. والجواب عن: أ - إن هذا يقتضي وضع هذه الألفاظ لمعانٍ هي عند العرب حقائق فيها أو مجازات وتسمية الشيء باسم جزئه مجاز مشهور عندهم كتسمية الزنجي ¬
بالأسود والدعاء جزء المسمى بالصلاة. بل الجزء المقصود لقوله تعالى: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي} (¬1). لا يقال شرط المجاز تصريح أهل اللغة بتجويز النقل وهو بدون تعقل المنقول إليه ممتنع. لأنا نمنع شرطية التصريح على أنهم صرحوا بتجويز نقل اسم الجزء إلى الكل فيتناول هذا. ب- إجماع الأمة على أنه تعالى لم ينزل إلَّا قرآناً واحداً والوجوه الأربعة معارضة بما يقال في كل آيةٍ وسورة إنه بعض القرآن. ولقائل أن يقول: هذا لا يعارض الوجوه (¬2) لصدقه في المقول على الجزء والكل بالاشتراك اللفظي أو المعنوي (¬3). جـ - إن تلك الحروف عندنا أسماء السور (¬4)، وأنه لا امتناع في توافق العربية (¬5) للغة أخرى في مثل لفظ المشكاة. أ- إنه يكفي فيها المجاز بتخصيص (¬6) بعض الألفاظ ببعض مواردها وعن الوجوه الخمسة في ب: إنَّ لفظة "ذلك" (¬7) للوحدان والذكران فلا ينصرف إلى أمور كثيرة ولا إلى إقامة الصلاة. فلا بد من إضمار. وإضماركم الذي أمرتم به ليس أولى من إضمار الإِخلاص والدين (¬8)، إذ يدل ¬
عليهما قوله تعالى (¬1): {مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} (¬2). بل إضمارنا أولى لأنه تقرير اللغة: والمراد من قوله تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} (¬3). التصديق بوجوب تلك الصلاة وبقية الآيات معارضة بآيات تدل على محلية القلب للإِيمان كقوله تعالى: {كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ} (¬4). وقوله تعالى: {وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ} (¬5). وقوله تعالى: {يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ} (¬6). وبقوله عليه السلام: "يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك" (¬7). وبآيات تدل على ترتب الأعمال الصالحة على الإِيمان كقوله تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} (¬8). وقوله تعالى: {وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا} (¬9). وقوله تعالى: {وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ} (¬10). وقوله تعالى: {وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ} (¬11). وبآيات تدل على مجامعة الإِيمان للمعاصي كقوله تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} (¬12). وقوله تعالى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا} (¬13). ¬
والملازمة (¬1) الأولى متعارضة والثلاث (¬2) الباقية لا تفيد. فإنا نسلم أن الإيمان في الشرع ليس نفس التصديق بل تصديق النبي عليه السلام في كل أمر ديني علم بالضرورة مجيئه به. وعن جـ (¬3)، د، أنهما ينفيان كون تلك الألفاظ حقائق لغوية لا مجازات. " فروع" الأول: النقل خلاف الأصل لتوقفه على الوضع اللغوي ثم نسخه ثم وضع جديد. ولإِخلاله بالفهم ولأن الأصل بقاء ما كان على ما كان (¬4). الثاني: في الألفاظ الشرعية المتواطئ وفاقًا. واختلف في المشترك. والحق وقوعه إذ لفظة الصلاة مستعملة في معان لا يجمعها جامع كصلاة الأخرس والقاعد وصلاة الجنازة والصلاة بالإِيماء على مذهب الشافعي فهو بالاشتراك. ولقائل أن يقول (¬5): الفعل الواقع على أحد الوجوه المخصوصة جامع إياها فلم لا يجوز وضع لفظ الصلاة له. ¬
وأما الترادف (¬1) فالأظهر أنه لم يوجد إذ الترادف خلاف الأصل فيقدر بقدر الحاجة (¬2). الثالث: الأقرب أنه لم يوجد فعل شرعي كما وجد إلاسم للاستقراء ولأن الفعل يتبع المصدر. فيكون كونه شرعيًا بالعرض تبعًا (¬3) لكون المصدر شرعيًا لا بالذات. الرابع: صيغ العقود اخبارات لغة فإذا استعملت في الشرع لاستحداث الأحكام فالأقرب أنها إنشاءات لوجوه: أ- لو كان قوله أنت طالق إخبارًا عن الماضي أو الحال لامتنع تعليقه. أو عن المستقبل لما وقع الطلاق كما لو قال ستصيرين طالقًا (¬4). ب- لو كان إخبارًا كاذبًا لما اعتبر ولو كان صادقًا لما توقف وقوع الطلاق عليه لئلا يلزم الدور لتوقف صدق الخبر (¬5) على وقوع المخبر عنه. جـ - الأمر بالتطليق (¬6) يقتضي القدرة عليه ولا قدرة إلَّا على اللفظ فهو المؤثر في الطلاق. ¬
المسألة الثالثة
د- لو أضاف إلى الرجعية وقع، وإن صدق دون الوقوع (¬1). " المسألة الثالثة (¬2) " المجاز إما في مفردات الألفاظ كإطلاق الأسد على الشجاع أو المركب (¬3) دون مفرداته كقوله (¬4): أشاب الصغير وأفنى الكبير ... كر الغداة ومر العشي (¬5) أو فيهما كقوله: (أحياني اكتحالي بطلعتك) فإن المفردات ونسبة بعضها إلى بعض مجاز. ومنهم من منع المجاز في المفرد بأن اللفظ لا يفيد المعنى المجازي بدون القرينة وهو معها لا يحتمل غيره، فكان حقيقة فيه وهو ضعيف. إذ المجاز لفظ لا يفيد إلا مع القرينة ودلالة القرينة ليست وضعية ليكون المجموع حقيقة. والمجاز المفرد على إثني عشر وجهًا (¬6): ¬
أ - إطلاق اسم السبب على المسبَّب كان السبب قابليًا كقولهم: سال الوادي أو صُوريًا: كتسمية اليد بالقدرة. أو فاعليًا كتسمية المطر بالسماء. أو غائيًا: كتسمية العنب بالخمر. ب - عكسه (¬1) كتسمية المرض والمذلة (¬2) العظيمين بالموت ويحتمل كون هذا المجاز من باب المشابهة. والأول أقوى لاستلزام العلة المعينة للمعلول المعين من غير عكس. والعلة الغائية أولى الجميع لاجتماع العلية والمعلولية فيها. جـ - تسمية الشيء باسم شبيهه وهو المسمى بالمستعار. د - تسمية الشيء باسم ضده كتسمية جزاء السيئة سيئة (¬3) ويمكن جعله مجازًا للمشابهة. هـ - تسمية الجزء باسم الكل. و- عكسه. والأول أولى لأن الكل يستلزم الجزء بلا عكس. ز - تسمية إمكان الشيء باسم وجوده كتسمية الخمر في الدن بالمسكر. ح - إطلاق المشتق بعد زوال المشتق منه. ط - المجاز بالمجاورة كتسمية الشراب بالكأس ويمكن جعله مجازًا بسبب (¬4) القابل. ي - المجاز بسبب نقل أهل العرف اللفظ العرفي إلى معنى آخر كتسمية الكلب بالدابة. وهذا وإن كان حقيقة لغوية لكنه مجاز عرفي. ويمكن جعل هذا مجازًا للمشابهة. يا - المجاز بالزيادة والنقصان وقد سبقا (¬5). يب - تسمية المتعلق باسم المتعلق كتسمية المعلوم عِلمًا. ¬
المسألة الرابعة
" المسألة الرابعة" (¬1) المجاز لا يدخل بالذات إلا في أسماء الأجناس. فإن الحرف إن ضُمَّ إلى ما ينبغي ضمه إليه كان حقيقة وإلا كان مجازًا في التركيب. ومجازية الفعل والاسم المشتق تابعة للمصدر والمشتق منه. والعلم لا علاقة بين مسماه وبين الأصل، وإنها (1) شرط المجاز. " المسألة الخامسة" (¬2) لا بد من السمع في استعمال المجاز لأن النخلة تطلق على الِإنسان الطويل دون غيره، ولأنه لا يعار الأبخر - اسم الأسد - وإن شابهه فيه. ولقائلٍ أن يقول (¬3): لعل المعتبر المشابهة في أخص الصفات وأشهرها (¬4). حجة المخالف وجهان: أ- الاتفاق على توقف استخراج وجوه المجاز على تدقيق النظر. ب- إذا قلت للشجاج أنه أسد فالتعظيم إنما يحصل بإعارة معناه دون لفظه فوجب الجواز حيث حصلت. والجواب عن: أ- إنَّ الموقوف جهات حسن المجاز لا نفسه. ب- إن الإِعارة أمر تقديري فيجوز منع الواضع منه في بعض الصور. ¬
المسألة السادسة
"المسألة السادسة" (¬1) المجاز المركب عقلي كقوله تعالى: {وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا} (¬2) وقوله تعالى: {مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ} (¬3) إذ الإِخراج والانبات مستندان إلى الله تعالى، وهوحكمٌ عقلي. فنقله نقل لحكم عقلي لا للفظ لغوي. ولا يقال (¬4): جاز أن يكون لفظ أخرج موضوعًا لصدور الخروج عن القادر فاستعماله في غيره يكون مجازًا لغوياً. لأن (¬5) أمثلة الأفعال لو دلت على خصوصية المؤثر لكان لفظ أخرج خبرًا تامًا (¬6). وقولنا أخرجه القادر تكرارًا. سلمنا: لكنها لا تدل على تعين القادر. وإلا لزم الاشتراك بحسب كل قادرٍ فإذا أضيف إلى غير القادر الذي صدر عنه (¬7) لا يكون التعبير واقعًا في مفردات الألفاظ بل في الإِسناد. ثم القرائن الحالية أو المقالية يتميز هذا المجاز عن الكذب. " المسألة السابعة" (¬8) جاز دخول المجاز في الكتاب والسنّة كما في قوله تعالى: {جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقَامَهُ} (¬9) وقوله تعالى: {وَجَاءَ رَبُّكَ} (¬10). ومنع منه أبو بكر الأصفهاني (¬11) محتجًا بأمور: ¬
المسألة الثامنة
أ - المجاز يصحح وصف من صدر عنه (¬1) بالمتجوز. ب - إنه يقتضي عجزه عن الحقيقة. جـ - وروده في القرآن يوجب الإِلباس إذ لا ينبئ بنفسه. د - كلامه تعالى حق فله حقيقة ولا شيء من الحقيقة بمجاز. والجواب عن: أ - إنَّ أسماء الله تعالى توقيفية. سلمنا كونها اصطلاحية لكن لفظ المتجوز يوهم كونه فاعلًا لما لا ينبغي. ب - إن العدول عن الحقيقة قد يكون لأغراضٍ أخرى. جـ - إنه لا إلباس مع القرينة. د - إن كلامه تعالى حق بمعنى الصدق دون (¬2) كونه مستعملًا في موضوعه. " المسألة الثامنة" الداعي إلى المجاز اختصاص لفظة بالعذوبة أو صلاحية (¬3) الشعر والسجع وأصناف البديع، أو اختصاص معناه بالتعظيم، أو التحقير أو زيادة البيان أو تلطيف الكلام، إذ لفظ الحقيقة يوقف على المقصود بتمامه، فلا يبقى إليه شوق والمجاز الذي هو ذكر اللازم يوقف عليه من وجهٍ دون وجه فيتعاقب بسبب (¬4) الشعور والحرمان لذات وآلام فيحصل حالة كالدغدغة النفسانية فلأجله كان التعبير بالمجاز ألذ. ¬
المسألة التاسعة
" المسألة التاسعة" قال ابن جني: أكثر اللغة مجاز. أما في الأفعال فلأن قولك (قام زيد) يفيد المصدر المتناول لكل الأفراد الممتنع صدورها منه، وهو ضعيف. إِذ المصدر يفيد الماهية دون كليتها أو جزئيتها. وقال: قولك "ضربتُ زيدًا" مجازٌ إذا ضربتَ بعضه. واعترض أبو محمَّد بن متوْيه (¬1)، بأن المتألم كله وهو ساقط. إذ الكلام في لفظ الضرب وهو: إمساس الحيوان بعنف دون التألم. ثم قولك (ضربتُ زيدًا) مجاز من وجه آخر، إذ زيد عبارة عن الأجزاء الباقية من أول عمره إلى آخره. وربما لم يُمس شيء منها. وقولك (رأيت زيدًا) مجاز إذ المرئي لونه وسطحه دون أجزائه الكامنة فيه (¬2) وليعلم أن هذا مجاز في التركيب. " المسألة العاشرة" المجاز خلاف الأصل لوجوه: أ- شرط المجاز حصول القرينة إذ لا معنى للحقيقة إلا ما يحمل عليه بلا قرينة لكن الأصل عدم القرينة. ب- إنه يتوقف بعد الوضع على النقل وعلته دون الحقيقة فكان أندر (¬3). جـ - السابق إلى الفهم هو الحقيقة وأنه دليل رجحانها. ¬
د- استدل الكل بالاستعمال على الحقيقة. قال ابن عباس (¬1) رضي الله عنه: ما كنت أعرف معنى الفاطر حتى اختصم إلى شخصان في بئر فقال أحدهما: (فطرها أبي. أي اخترعها) (¬2). وقال الأصمعي (¬3): ما كنت أعرف الدَّهاق حتى سمعت جاريةً تقول: (إسقني دهاقًا) أي ملآنًا. هـ - لولا (¬4) أن الأصل هو الحقيقة لما فهم المراد دون الاستفهام. إذ الأصل ليس هو المجاز وفاقًا. " فروع" (¬5) الأول: إذا دار اللفظ بين الحقيقة المرجوحة والمجاز الراجح فالأول أولى عند أبي حنيفة (¬6) والثاني عند أبي يوسف (¬7). وقيل يستويان فرجحان كل منهما على الآخر من وجه. ¬
الثاني: اللفظ في أول وضعه ليس بحقيقة ولا مجاز إذ شرطهما الاستعمال بعده. الثالث: اللفظ بحسب الوضع الواحد بالنسبة إلى المعنى الواحد لا يكون حقيقة ومجازًا (¬1) معاً. أما بحسب الوضعين أو بالنسبة إلى المعنيين فنعم. الرابع: الحقيقة قد تصير مجازًا (¬2) وبالعكس إذ الحقيقة العرفية كانت مجازًا لغوياً والحقيقة اللغوية صارت مجازًا عرفيًا. الخامس: المجاز في معنى حقيقة في غيره بأن يستعمل في موضوعه ولا ينعكس. إذ لا يلزم من وضع اللفظ لمعنى تجوز نقله إلى غيره لمناسبةٍ بينهما. ولقائل أن يقول (¬3): إن ادعيت لزوم إمكان الحقيقة للمجاز فهو مسلم لكن هذا ينعكس. وإن ادعيت لزوم الفعل فممنوع (¬4) إذ المجاز فرع الوضع العاري عنهما. فإن التزم أنه حقيقة فقد ناقض ما بيَّن في إثبات الحقيقة اللغوية. السادس: يفرق بين الحقيقة والمجاز بنص الواضع عليهما أو على أحدهما أو ¬
خواصهما أو خواص أحدهما. وبفهم (¬1) أهل اللغة المعنى أو إفهامه إياه دون القرينة وبتعليق اللفظ بما يستحيل تعليقه (¬2) به. وباستعماله (¬3) له فيما ترك استعماله فيه. وفرق الغزالي (¬4) رحمه الله بأمور (¬5): أ - اطراد (¬6) الحقيقة: فلا يقال واسأل (¬7) البساط. وهو ضعيف إذ المثال لا يصحح دعوى عامة. وأيضًا إذا أراد بالاطراد الاستعمال في موارد نص الواضع فالمجاز كذلك (¬8). وإن أراد به الاستعمال (¬9) في غيرها وأنه قياس في اللغة ولا يقول هو به. ¬
وأيضًا الحقيقة قد لا تطرد بأن يمنع منه العقل (¬1). كالدليل لا يقال على الله تعالى إلا مقيداً وإن جعل حقيقة في فاعل الدلالة. أو السمع (¬2). فلا يقال لله تعالى فاضل سخي. أو اللغة فلا يقال لغير الفرس أبلق. فإن شرط فيه كون الملون باللونين فرسًا جاز أن يشرط في المجاز وصفًا لا يطرد فاستويا فيها. ب - جواز (¬3) الاشتقاق منها. فلفظ الأمر بمعنى القول يشتق منه الأمر والمأمور ولا يشتق منه بمعنى الفعل. وهو أيضًا تمسك بالمثال ومنقوض بقولهم للبليد حمار وللجمع حمر. وبأن الرائحة لا يشتق منها اسم (¬4). جـ - اختلاف جمع اللفظ باختلاف معناه يوجب كونه مجازًا في أحدهما. فلفظ الأمر بمعنى القول يجمع على أوامر وبمعنى الفعل على أمور. وهو ضعيف إذ لا إشعار لاختلاف الجمع بالحقيقة والمجاز. د - إذا استعمل لفظ (¬5) معناه الحقيقي يتعلق (¬6) بشيء فيما لا يتعلق بشيء كان مجازًا فيه. كما (¬7) يقال القدرة (¬8) على الشاب الحسن الصورة وهو ضعيف إذ قد يكون له بحسب حقيقةٍ متعلق دون الأخرى. ¬
الفصل السابع في تعارض أحوال الألفاظ
" الفصل السابع" (¬1) في تعارض أحوال (¬2) الألفاظ وهو من عشر أوجه إذ الاحتمالات المخلة بالفهم خمسة: (الاشتراك والنقل والمجاز والإِضمار والتخصيص). وإنما تركنا احتمال الاقتضاء إذ الاقتضاء إثبات شرط يتوقف عليه وجود المذكور دون صحة اللفظ. " المسألة الأولى" النقل أولى من الاشتراك لأنه حقيقة منفردة في كل الأوقات. لا يقال الاشتراك أولى لوجوه (¬3). أ - إنه لا يقتضي (¬4) النسخ. ب - إنه لم ينكره أحد من المحققين. ¬
المسألة الثانية
جـ - إنه لا يتوقف بعد الوضع على نسخه ثم وضع جديد. د- إنه أقل احتمالًا للخطأ إذ يتوقف فيه عند الجهل بالقرينة لما تقدم، والمنقول يحمل على المعنى الأول عند الجهل بالنقل. هـ - أنه أقل مفسدة لأنه أكثر وجوداً ولأن المنقول قد يعتقد كونه مشتركًا بسماع (¬1) استعماله في المعنى الثاني. لأن النقل إذا وجد يجب اشتهاره فتزول المفاسد. ولقائل أن يقول (¬2): اشتهار النقل كيف يزيل نسخ الوضع الأول وتوقفه عليه وعلى وضع جديد وقلة وجوده. سلمناه لكن التواتر لا يحصل إلا متدرجًا والمفاسد قائمة قبله ولأنهما إنما يتعارضان في لفظ لا يعلم كونه منقولًا ولا مشتركًا. نعم لو تعارض لفظ منقول مع آخر مشترك في آيتين (¬3) مثلًا، فالتمسك بالمنقول أولى لاقتضاء النقل إرادة معين دون الاشتراك. ولا يرد عليه (¬4) شيء من تلك الوجوه (¬5). " المسألة الثانية" المجاز أولى من الاشتراك لكثرته وإفادته المراد وجدت القرينة أولًا. لا يقال: الاشتراك أولى لوجوه (¬6): ¬
المسألة الثالثة
أ- المجاز يقتضي النسخ (¬1). ب- إنه يحمل على غير المراد لو وجدت القرينة ولم تسمع (¬2). جى- إنه يتوقف بعد الوضع على ما يناسب الحقيقة ثم تعذرها. د- إلغاء إحدى الحقيقتين (¬3) يعين الأخرى وإلغاء الحقيقة لا يعين مجازًا لكثرته. هـ - تعيين إحدى الحقيقتين لتساويهما يحصل بأدنى قرينة. و- إفادة المشترك أحدهما لا عينًا حقيقة. ز- الاشتراك يوجب كثرة البحث عن القرينة لتعذر العمل بدونها لأنا نعارض الوجوه بفوائد المجاز. " المسألة الثالثة" الإِضمار أولى من الاشتراك لتخصيص الِإجمال فيه ببعض الصور والِإضمار وإن احتاج إلى قرينة أصله وقرينة موضعه وقرينة تعين المضمر لكن في صورة واحدة، كيف والِإضمار إيجاز. وهو من محاسن الكلام. قال عليه السلام: "أوتيت جوامع الكلم فاختصر ليَ الكلام اختصارًا" (¬4) " المسألة الرابعة" التخصيص أولى من الاشتراك لأنه أولى من المجاز الأولى (¬5) منه. ¬
المسألة الخامسة
" المسألة الخامسة" المجاز أولى من النقل لأنه لا يتوقف إلا على القرينة وهي متيسرة والنقل يتوقف على اتفاق أهل اللسان على تغيير الوضع وأنه متعسر أو متعذر. لا يقال: النقل إذا وجد يجب اشتهاره فيحصل الفهم. والحقيقة إذا تعذرت قد يخفى (¬1) وجه المجاز لأنا نعارضه بفوائد المجاز، وبأن الحقيقة (¬2) تعين على فهم المجاز لتناسبهما بخلاف المنقول عنه. " المسألة السادسة" الإِضمار أولى من النقل كما في المجاز (¬3) " المسألة السابعة" التخصيص أولى من النقل لأنه أولى من المجاز الأولى (¬4) منه. " المسألة الثامنة" المجاز والإِضمار سيَّان لاستوائهما في الحاجة إلى القرينة وتوقع الخفاء وإعانة الحقيقة على الفهم، إذ الِإضمار إسقاط شيء من الكلام يدل عليه الباقي. " المسألة التاسعة" التخصيص أولى من المجاز لأنه يحصل المراد عرفت القرينة (¬5) أم لا، ¬
المسألة العاشرة
ولأن اللفظ العام دليل على كل الأفراد. فإذا تعذر البعض حمل على الباقي، والحقيقة إذا تعذرت لم تحمل على المجاز إلا بعد تأمل. " المسألة العاشرة" التخصيص أولى من الِإضمار لرجحانه على ما يساويه (¬1) " فروع" الأول: الاشتراك راجح على النسخ، وهو تخصيص في الأزمان. فإن ترجح عليه التخصيص في الأعيان فلأنه يحتاط في النسخ أكثر منه في التخصيص إذ يصير الخطاب بعده كالباطل ولهذا جاز التخصيص بالقياس وخبر الواحد دونه (¬2). ولقائل أن يقول (¬3): هذا لا يقتضي رجحان الاشتراك على النسخ بل طريقه ترجح مفاسد النسخ على مفاسد الاشتراك. الثاني: التواطؤ أولى من الاشتراك وهو ظاهر. وإذا تناول اللفظ الشيء بالجهتين كان اعتقاد جهة (¬4) التواطؤ أولى كتناول الأسود الزنجي المسمى به. الثالث: الاشتراك بين علمين أولى. ثم بين علم ومعنى ثم بين معنيين لقلة الاختلال بقلة الموارد. ¬
الفصل الثامن في تفسير حروف تشتد الحاجة إلى معرفة معانيها في الفقه
" الفصل الثامن" " في تفسير حروف تشتد الحاجة إلى معرفة (¬1) معانيها في الفقه" وفيه مسائل " المسألة الأولى" أجمع (*) إنحاة البصرة والكوفة على أن واو العطف (¬2) لمطلق الجمع ونص عليه سيبويه (¬3) في سبعة عشر موضعًا من كتابه. وقيل: إنه للترتيب. لنا وجوه: أ - إنه لا يفيد الترتيب في قوله تعالى: في البقرة {وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ} (¬4) وعكسه في الأعراف (¬5). مع اتحاد القصة. ولا في قوله تعالى: {وَاسْجُدِي وَارْكَعِي} (¬6) وكثير من الآيات، ولا في قول السيد اشتر اللحم والخبز، ولا في قولنا: تقاتل زيد وعمرو. والاشتراك والمجاز خلاف الأصل. ¬
ب - لو كان للترتيب لكان قولنا: جاءني زيد وعمرو عند مجيئهما معًا كذبًا ولكان إردافه بقولنا بعده أو قبله تكرارًا أو نقضًا. ولما سألت الصحابة رضي الله عنهم عما يبدأ به في السعي بين الصفا والمروة. ج - قال أهل اللغة واو العطف في الأسماء المختلفة كواو الجمع في الأسماء المتماثلة وذلك لا يفيد الترتيب. حجة المخالف أمور (¬1): أ - قوله عليه السلام (¬2) لمن قال: "من أطاع الله ورسوله فقد اهتدى ومن عصاهما فقد غوى" قل: (من عصى الله ورسوله فقد غوى) (¬3). وقول عمر رضي الله عنه لمن أنشد: (كفى الشيب والإِسلام للمرء ناهيًا) (¬4). ¬
لو قدمت الإِسلام على الشيب لأجزتك وقول الصحابة لابن عباس رضي الله عنهم لم تأمرنا بالعمرة قبل الحج وقد قال الله تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} (¬1). ب- لو قال لغير المدخول بها أنت طالق وطالق طلقت واحدة. ب- الترتيب في الذكر له سبب والترتيب في الوجود صالح له فيضاف إليه إلا لمعارض. د- الترتيب بصفة التعقيب له "الفاء" وبصفة التراخي له "ثم" ومطلقه تمس الحاجة إلى تعريفه فليكن له لفظ وما ذلك إلا "الواو" ولا يعارض بمثله لأنا نرجحه بأنه لو جعل حقيقة في الترتيب أمكن جعله مجازًا في الجمع للزومه إياه من غير عكس. والجواب عن: أ- إن المعصيتين متلازمتان. فالأمر بالدلالة على ما قلنا أولى. لكن الإِفراد بالذكر أكثر تعظيمًا فأمره به. وحمل أثر عمر رضي الله عنه على أن الأدب تقديم الأفضل. وأثر ابن عباس رضي الله عنهما معارض بأمره بتقديم العمرة. ب - إن الطلاق الثاني لا يفسر الأول فبانت (¬2) به وقوله طلقتين يفسره والكلام بآخره. جـ - إنه لا يقتضي إفادة الواو للترتيب. د- معارضة الترجيح بزيادة الحاجة إلى التعبير عن العام. ¬
المسألة الثانية
" المسألة الثانية" " الفاء" للتعقيب حسب ما يمكن لإِجماع أهل اللغة عليه (¬1). ومنهم من استدل بأنه لو لم يفد التعقيب (¬2) لما وجب دخوله على الجزاء إذا لم يكن ماضيًا أو مضارعًا لوجوب تعقيب الجزاء للشرط لكنه واجب. وقول الشاعر: "ومن يفعل الحسنات الله يشكرها" (¬3) أنكره المبرد (¬4). وزعم أن الرواية الصحيحة "ومن يفعل الخير فالرحمن يشكره". ولقائل أن يقول (¬5): لم لا يجوز أن يجب دخول "الفاء" على المذكور عقيب الشرط ليجعله جزاء. ويكون التعقيب مقتضى الجزاء. حجة المخالف (¬6) أمور: أ- قوله تعالى: {لَا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ} (¬7). وقوله تعالى: {وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} (¬8). ¬
المسألة الثالثة
ب- "الفاء" قد تدخل على التعقيب والأصل عدم التكرار. جـ- التعقيب يخبر عنه وبه دون "الفاء". والجواب: أنَّه استدلال في مقابلة النص فكان الأول مجازًا والثاني تأكيدًا وفي الثالث بحث دقيق مذكور في "المحرر" (¬1). " المسألة الثالثة" " في" للظرفية تحقيقًا أو تقديرًا كما في قوله تعالى: {فِي جُذُوعِ النَّخْلِ} (¬2) لتمكن المصلوب على الجذع تمكن الشيء في المكان وقيل: إنه للسببية، ولم يذكره أهل اللغة. " المسألة الرابعة" المشهور أن "مِنْ" ترد لابتداء الغاية نحو (سرت من البصرة) وللتبعيض نحو (باب من حديد) وللتبيين كقوله (¬3) تعالى: {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ} (¬4) وصلة نحو: (ما جاءني من أحدٍ) والحق (¬5) إنه "للتمييز" لاشتراك الكل فيه. وإلى: لانتهاء الغاية. وقيل بإجماله لِإدخاله الغاية في قوله تعالى: {إِلَى الْمَرَافِقِ} (¬6) وإخراجه إياها في قوله تعالى: {إِلَى اللَّيْلِ} (¬7) وهو ضعيف لتوقف إجماله على اشتراكه بين الدخول وعدمه وقد بينا امتناعه (¬8). والحق إنه إنما (¬9) تدخل غايةً لا تتميز عن ذي الغاية حِسًا. ¬
المسألة الخامسة
" المسألة الخامسة" (¬1) " الباء" الداخل على فعل متعد بنفسه للتبعيض خلافًا للحنفية. فإنا نفرق ضرورةً بين قولنا (مسحت المنديلَ وقولنا مسحت بالمنديل) في إفادة الأول: الشمول، والثاني: التبعيض. احتجوا بأمرين: أ- قولنا: كتبت بالقلم وطفت بالبيت، إنما يفيد إلصاق الفعل بالمفعول به. ب- قال ابن جني: كون الباء للتبعيض لم يعرفه أهل اللغة (¬2). والجواب عن: أ- إن النزاع في فعلِ متعد بنفسه والطواف هو الدوران حول جميع البيت. ب- إنه شهادة على النفي. ¬
المسألة السادسة
" المسألة السادسة" " إنما" للحصر نقله أبو علي (¬1) عن النحاة. وقال الأَعمش (¬2): (وإنما العزة للكاثر) (¬3) وقال الفرزدق (¬4): (وإنما يدافع (¬5) عن أحسابهم أنا أو مثلي) (¬6). ولأن "إنَّ" للِإثبات "وما" للنفي. والأصل عدم التغير بالتركيب. ولا يقتضي "إنَّ" إثبات غير المذكور. و"ما" نفي المذكور وفاقًا فتعيَّن عكسه. احتجوا بقوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} (¬7). وجوابه أنَّه للمبالغة. ¬
الفصل التاسع في كيفية الاستدلال بالخطاب
" الفصل التاسع" " في كيفية الاستدلال بالخطاب" وفيه مسائل " المسألة الأولى" لا يجوز أن يرد في القرآن والأخبار ما لا يفهم خلافًا للحشوية (¬1). إذ التكلم به هذيان وهو نقص. ولأن وصف القرآن بكونه هدى وشفاء وبيانًا ينفيه. احتجوا بأمور: أ- إنَّ الحروف التي في أوائل السور. وقوله تعالى: {كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ} (¬2) وقوله تعالى: {عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ} (¬3) وما شابهه لا يفيد شيئًا. ب- يجب الوقف على قوله تعالى: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إلاَّ الله} (¬4) وإلاّ لعاد الضمير في قوله تعالى: {يَقُولُونَ آمَنَّا} إلى الله تعالى وللراسخين. وأنه محال وحينئذ لا يعلم تأويل المتشابهات. جـ- إنه تعالى خاطب الفُرس بالعربية ولا إفهام. ¬
المسألة الثانية
والجواب عن: أ- إنها أسماء السور {كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ} ضرب مثل في القبح {عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ}. وأمثالها تأكيد. ب- إن موضع الوقف والراسخون في العلم والضمير يعود إلى الراسخين إذ التخصيص أهون من التكلم بما لا يفيد. هـ - إن الفرس يتمكنون من الفهم بالرجوع إلى العرب. " المسألة الثَّانية" لا يجوز أن يرد فيهما ما يعني به غير ظاهره ولا يدل عليه خلافًا للمرجئة (¬1). لنا: إنه بالنسبة إلى غير ظاهره مهمل، وقد بينا امتناعه. لا يقال: المهمل ما لا يفيد. وما ظاهره الوعيد يفيد تخويف الفساق. فإن عنيت به غير المفهم فهو أول المسألة لأن فتح هذا الباب ينفي الاعتماد على أخبارهما لجواز كون المقصود غير الِإفهام. " المسألة الثالثة" قيل (¬2) الدليل اللفظي لا يفيد اليقين لأنه مبني على نقل اللغة والنحو والتصريف وعدم الاشتراك والمجاز والإِضمار (¬3) والنقل والتخصيص والتقديم والتأخير والناسخ والمعارض العقلي وهما ظنيان. أما الأول: فلما تقدم من عدم عصمة الرواة وبلوغهم التواتر. ولأن ¬
المسألة الرابعة
الأدباء لحنوا أكابر شعراء الجاهلية كما يشهد به كتاب الوساطة (¬1) بين المتنبي (¬2) وخصومه الذي صنفه الجرجاني (¬3). أما الثاني: فلأن غايته عدم الوجدان الذي (¬4) لا يفيد إلَّا ظن العدم. ولا شك أن المبني على المظنون مظنون. والِإنصاف إفادة (¬5) اليقين تتوقف على القرائن مشاهدة كانت أو معلومة بالتواتر. " المسألة الرابعة" الخطاب إن استقل بالِإفادة بلفظه (¬6) حمل أولًا على الحقيقة الشرعية. ثم العرفية ثم اللغوية ثم المجاز. ويجب على كل طائفة حمله على ما يتعارف لئلا يخاطب بما يعني به غير ظاهره بلا قرينة. وإن استقل بها بمعناه فهي (¬7) أقسام الدلالة الالتزامية التي سبقت وإن لم يستقل فالمضموم إليه قد يكون نصًا وهو قسمان: أ- أن يفيد أحدهما إحدى (¬8) المقدمتين والآخر الأخرى كقوله تعالى: ¬
المسألة الخامسة
{أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي} (¬1) مع قوله تعالى: {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} (¬2) الآية. ب- أن يفيد أحدهما حكمًا لشيئين والآخر بعضه لأحدهما فيتعين الباقي للآخر كقوله تعالى: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا} (¬3) مع قوله تعالى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ} (¬4). وقد يكون (¬5) إجماعًا أو قياسًا أو شهادة حال المتكلم فإن كونه شارعًا يعين الحكم الشرعي من الخطاب المتردد بينه وبين الحكم العقلي. " المسألة الخامسة" إذا عُلم عدم إرادة ظاهرة الخطاب حُمل على مجازه المتعين في نفسه أو بتعيين الدليل إياه ابتداء. أو بنفي غيره. أو على الأقوى أو الكل على البدل إن انحصرت وجوه المجاز ومن يمنع استعمال اللفظ في معنيين مختلفين فإنَّه يوجب الدلالة المعينة. وإن لم ينحصر قال القاضي عبد الجبار: لا بد من دلالة معينة لتعذر العمل على الكل مع تعذر حصره علينا. واعترض أبو الحسين. بأن حمله على الكل على البدل ممكن. نعم يليق ذلك بمن (¬6) يمنع استعمال اللفظ الواحد في معنيين مختلفين إذ اللفظ لم يوضع للتخيير. واعلم أن هذه الأقسام يتقدمها في اللفظ العام قسم وهو تعيين بعض ما يتناوله بنفي الدليل ¬
المسألة السادسة
غيره، وأن الدلالة المعينة لا بد منها، فيه مهما تردد المراد بين بعض ما يتناوله وما لا يتناوله لامتناع اجتماعهما. فرع: إذا دل دليلًا على إرادة ظاهرة وغير ظاهرة وهو معين حمل عليهما ولزم أن يقال اللفظ موضوع لهما لغة أو شرعًا، أو تكلم به مرتين. " المسألة السادسة" ثبوت حكم الخطاب فيما يتناوله مجازًا (¬1) لا يدل على أنَّه المراد به خلافًا للكرخي وأبي عبد الله البَصْرِيّ. مثال قوله تعالى: {أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ} (¬2) فإنَّه يتناول المجامع بطريق الكناية. فوجوب التيمم عليه لا ينفي إرادة الحقيقة إذ المقتضي لإِرادتها موجود. وثبوت الحكم ثمة قد يكون لدليل (¬3) آخر فلا يعارضه. احتجوا: بأن ذلك الحكم لا بد له من دليل ولا دليل سواه وإلا لنقل، والجمع بين الحقيقة والمجاز متعذر. وجوابه: لعل الإِجماع أغنى عن نقل ذلك الدليل. ¬
الكلام في الأوامر والنواهي
الكلَام في الأوامِر وَالنّواهي وَفيهِ فصُول
الفصل الأول في المقدمات
" الفصل الأول" في المقدمات وهي سبع (¬1) " المقدمة الأولى" لفظ الأمر حقيقةٌ في القول المخصوص فقط عند الجمهور. وعند بعض الفقهاء (¬2) مشترك بينه وبين الفعل. وعند أبي الحسين (¬3) مشتركٌ بينهما وبين الشأن والشيء والصفة (¬4) والطريق. حجتنا: النافي للاشتراك. ومنهم من تمسك بوجوه: أ- لو كان حقيقة في الفعل لاطرد. ب- ولاشتق منه الآمر والمأمور. ب- ولدخل فيه الوصف بالمطيع والعاصي، ومضادة النهي إياه، ومنع الخرس والسكوت، وانقسام الكلام إليه. د- ولما صح نفي الأمر عنه (¬5). ¬
وهو ضعيف (¬1). لأن اطراد الحقيقة ثم عدم الاطراد ههنا ممنوعان، وكذا لزوم الاشتقاق في الحقيقة، وكذا كون تلك الصفات لازمة لمطلق الأمر، وكذا صحة نفي الأمر مطلقًا عنه. وللفقهاء أمران: أ- إنه استعمل بمعنى الفعل. قال الله تعالى: {فَإِذَا جَاءَ أَمْرُنَا} (¬2) وقال تعالى: {أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ} (¬3) وقال تعالى: {وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ} (¬4) وقال تعالى: {وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ} (¬5) وقال تعالى: {تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ} (¬6) وقال تعالى: {مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ} (¬7) وقال الشَّاعر: (لأمرٍ ما يسود من يسود) (¬8) يُقال: (لأمرٍ ما جدعَ قصيرٌ أنفه) (¬9). يُقال: (أمرٌ مستقيم، وأمرٌ عظيم، وأمرٌ هائل). ب- إنَّ جمعه بمعنى الفعل على أمور دليل الحقيقة. ولأبي الحسين: إنَّ تردد الذهن عند سماع لفظ الأمر بين الكل إلى سماع القرينة دليل الحقيقة فيه. ¬
المقدمة الثانية
والجواب عن. أ- إن المراد من الآية الأولى والثانية القول أو الشأن لصدقه على الفعل ومن الثالثة القول لتقدم قوله تعالى: {فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ} (¬1) أي أطاعوا أو الشأن الصادق على الفعل والثلاث البواقي لتعذر إجرائها على ظاهرها إذ فعل الله تعالى ليس واحدًا ولا كلمح البصر في السرعة ولا حصل الجري والتسخير بفعله بل بقدرته محمولة (¬2) على الشأن. سلمنا استعماله فيه لكنه مجاز إذ هو أولى من الاشتراك. ب- إن الأمور جمعه بمعنى الشأن. ثم لا نسلم أن الجمع علامة الحقيقة. وعن دليل أبي الحسين (¬3): منع تردد الذهن بين الكل، بل السابق إليه الأول. " المقدمة الثَّانية" قال القاضي أبو بكر: "الأمر هو القول المقتضي طاعة المأمور بفعل المأمور به. وارتضاه الأصحاب وهو ضعيف (¬4). إذ الطاعة عندهم موافقة الأمر. والمأمور مشتق. من الأمر فتعريفه بهما دور (¬5) لتوقف معرفتهما على معرفته. وقالت المعتزلة: (هو قول القائل لمن دونه افعل أو ما يقوم مقامه). وهو ضعيف لوجوه: أ- إن الأمر يوجد دون هذا اللفظ بأن يوضع له لفظٌ آخر أو يُعبر عنه بلغةٍ ¬
المقدمة الثالثة
أخرى. وقولنا (¬1): أو ما يقوم مقامه إنما يدفع (¬2) لو عني به ما يقوم مقامه في الدلالة على طلب الفعل وحينئذٍ يصير الأمر هو: (القول الدال على طلب الفعل) ويضيع التعرض بخصوص افعل. ولقائل أن يقول: هذا (¬3) تغيير العبارة. ب- عكسه بأن يصدر من نائمٍ أو ساهٍ أو حاكٍ أو سابق إليه لسانه أو قبل وضعه لمعنى. ولقائل أن يقول: لا نسلم أنَّه قول (¬4) القائل لغيره افعل (¬5). هـ - إن العلو غير معتبر لما نبين (¬6). بل الأمر طلب الفعل بالقول استعلاءً ومنهم من لم يعتبر القيد الأخير. " المقدمة الثالثة" تصور ماهية الطلب أوَّلي، إذ كل أحدٍ يفرق بالضرورةِ بين طلب الفعل وطلب الترك، وبينهما وبين المفهوم من الخبر. ويعلم ضرورة أن ما يصلح لأحدَهما جوابًا لا يصلح للآخر. وهي (¬7) غير الصيغة لأنها لا تختلف باختلافها بل هي صفة المتكلم كعلمه وقدرته، والصيغة تدل عليها. وأنها (¬8) غير الِإرادة خلافًا للمعتزلة لوجوه: أ- أنَّه تعالى أمر الكافر بالِإيمان ولم يرده منه لوجهين. ¬
الأول: إن صدوره (¬1) منه مع علمه تعالى بعدمه محال. وتمامه في مسألة تكليف ما لا يطاق والعالم باستحالة الشيء لا يريده وفاقًا. ولأن الإِرادة صفة مرجحة لأحد (¬2) جانبي الجائز. الثاني: إن صدور الكفر منه يتوقف على مرجحٍ يخلقه الله ويجب الفعل عنده لما عرف. وخالق الموجب مريد لموجبه، فلو أراد الِإيمان منه والحالة هذه لزم إرادته للضدين (¬3). وهو باطل وفاقًا. ولا يقال: الأمر هو اللفظ الدال على إرادةِ العقاب بتقدير الترك. لأنه لو كان كذلك لتطرق إليه التصديق والتكذيب. ولأنَ العقاب قد يسقط بالعفو أو التوبة، والخلف في خبره تعالى محال. ب- يصح أن يقال أريد هذا الفعل منك ولا آمرك به. وأن يأمر الحكيم عبده بما لا يريده إظهارًا لتمرده. جـ- إنَّا نبين جواز النسخ قبل وقت (¬4) الامتثال. ولا تجتمع الِإرادة والكراهية في فعلٍ واحد في وقتٍ واحد. واحتجوا (¬5) بأمرين: أ- الطلب الذي وضع الأمر (¬6) له معلوم للعقلاء وغير الإِرادة غير معلوم. ب- إنه لو لم تعتبر الِإرادة في الأمر (¬7) لصح الأمر بالماضي والحال كالخبر. ¬
المقدمة الرابعة
والجواب عن: أ (¬1) - إن أمرهم بما لا يريدون دليلُ علمهم به. ب- طلب الجامع على أن من يجوَّز تكليف ما لا يطاق يجوزه. " المقدمة الرابعة" ترجيح الفعل أعم منه مع المنع من الترك. ومنه مع عدمه. ولكل منهما (¬2) لفظ يدل عليه عربيًا كان أو غيره. والأمر (¬3) اسمٌ للفظ لا للترجيح لوجوه: أ- قال أهل اللغة الأمر من الضرب اضرب. ب- لو علق (¬4) العتق على الأمر لا يحصل بالإِشارة إلى معناه. ولا يعارض بما لو أشار بعد الخرس لأنا نمنع المسألة. جـ - جعله حقيقة في اللفظ مجازًا في المعنى أولى من العكس لاستلزام الدليل المدلول من غير عكس. د- لو عُلم خطران المعنى بباله لا يقال له إنه (¬5) أمرَ. هـ - المتبادر إلى الفهم عند سماع لفظ الأمر اللفظ (¬6). احتجوا بأمرين: أ- قوله تعالى: {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ} (¬7) الآية كذبهم مع صدقهم في ¬
اللفظ وقول عمر رضي الله عنه: (زوَّرتُ في نفسي كلامًا) (¬1). وقول الأخطل (¬2): إنَّ الكلامَ لفي الفؤادِ وإنما ... جُعل اللسان على الفؤادِ دليلا (¬3) ب- لو سميت الألفاظ كلامًا لكان كونها معرفات لما في النفس والكتابة والإِشارة كذلك. والجواب عن: أ- إن الشهادة هي الِإخبار عن الشيء مع العلم (¬4) به. وقوله زوَّرتُ أي قدرت. ولا يلزم منه كونه في النفسِ، كما يقال قدرت في نفسي دارًا وبناءً. ولا نسلم كون الشَّاعر عربيًا. سلمناه: لكنه محمول على المقصود من الكلام. ب- منع القياس في اللغة. فرعٌ: الأمر اسم لمطلق اللفظ (¬5) لا للفظ العربي. إذ العربي يسمي الفارسيّ إذا أتى بلفظ يدل على ذلك الترجيح بلغته آمرًا وأما أنَّه لمطلق اللفظ (5) الدال على أي ترجيحٍ فيعرف من أن الأمر للوجوب أو ليس. ¬
المقدمة الخامسة
" المقدمة الخامسة" (¬1) دلالة هذه الصيغة على الطلب يكفي فيها الوضع. وقال أبو علي وأبو هاشم يتوقف بعده على إرادة أخرى تؤثر في صيرورتها أمرًا. لنا وجوه: أ- القياس على سائر الألفاظ (¬2). ب- إنها لو توقفت على الِإرادة وأنها أمرٌ باطني لما أمكن الاستدلال بالصيغة على الطلب. جـ - الأمرية ليست صفةً لمجموع الحروف إذ لا وجودَ لها ولا لآحادها إذ لا واحدَ منها بأمرٍ. احتجا (¬3): بأنا نميز بين كون الصيغة طلبًا أو تهديدًا ولا مميزَ إلَّا الإرادة. وجوابه: إنها مجاز في التهديد. والأصل الحقيقة إلَّا لمعارض. " المقدمة السادسة" قال أصحابنا (¬4) لا يعتبر في الأمر علو رتبة الآمر (¬5) خلافًا للمعتزلةِ (¬6) ¬
لقوله تعالى حكايةً عن فرعون (¬1): إذ قال لقومه {فَمَاذَا تَأْمُرُونَ} (¬2) وقال عمرو (¬3) بن العاص لمعاوية (¬4): أمرتك أمرًا جازمًا فعصيتني ... وكان من التوفيقِ قتل ابن هاشمِ (¬5) وقال دريد (¬6) بن الصِّمة لنظرائه ولمن هو فوقه: أمرتهم أمري بمنعرج اللوى ... فلم يستبينوا الرشد إلَّا ضُحى الغدِ (¬7) وقال الحصين بن المنذر (¬8) .................................... ¬
........... ليزيد (¬1) بن المهلب أمير خراسان والعراق: أمرتك أمرًا جازمًا فعصيتني ... فأصبحت مسلوبَ الِإمارةِ نادما ولا الاستعلاء خلافًا لأبي الحسين البَصْرِيّ لما يقال في العرف "فلانٌ أمرَ فلانًا" على وجه (¬2) الرفق واللين "نعم لو بالغ في التواضع لا يسمى أمرًا عرفًا وإن سُمي لغةً". احتجوا: باستقباح العرف قول القائل: أمرت الأمير. قال أبو الحسين: اعتبار الاستعلاء أولى. فإن من قال لغيره استعلاء افعل يقال إنه أمره وإن كان أعلى رتبةً ولهذا يصفونه بالجهل والحمق. الجواب: منع الاستقباح. ¬
المقدمة السابعة
" المقدمة السابعة" قد يقوم الأمر والنهي مقام الخبر كقوله عليه السلام: "إذا لم تستح فاصنع ما شئت" (¬1). أي صنعتَ ما شئت. وبالعكس كقوله تعالى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ} (¬2) وقوله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ} (¬3) وقوله تعالى: {لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} (¬4). وجه المجاز أن الخبر يشابه الأمر في الدلالة على الوجود والنهي في الدلالة على العدم. ¬
الفصل الثاني في المباحث اللفظية
" الفصل الثاني" في المباحث اللفظية وفيه مسائل " المسألة الأولى" صيغة افعل مستعملةٌ في خمسةَ عشرَ وجهًا. 1 - الإِيجاب: {أَقِيمُوا الصَّلَاةَ} (¬1). 2 - الندْبُ: "فكاتبوهم". ويقرب منه التأديب كقوله عليه السلام: "كل مما يليك" (¬2). 3 - الإرشاد: {وَاسْتَشْهِدُوا} (¬3) وهو لمنافع الدنيا. 4 - الإباحة: {كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} (¬4). 5 - التهديد: اعملوا ما شئتم. ويقرب منه الإِنذار. كقوله تعالى: {قُلْ تَمَتَّعُوا} (¬5). 6 - الامتنان: {فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ} (¬6). 7 - الإِكرام: {ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ} (¬7). ¬
8 - التسخير: {كُونُوا قِرَدَةً} (¬1). 9 - التعجيز: {فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ} (¬2). 10 - الِإهانة: {ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ} (¬3). 11 - التسوية: {فَاصْبِرُوا أَوْ لَا تَصْبِرُوا} (¬4). 12 - الدعاء: "اللهم اغفر لي". 13 - التمني: (ألا أيها الليل الطويل ألا انجلِ) (¬5). 14 - الاحتقار: {أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ} (¬6). 15 - التكوين: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} (¬7). ثم إنها ليست حقيقةً في الكل وفاقًا. لكن قيل: هي مشتركة بين الوجوب والندب والإِباحة والتنزيه والتحريم. وقيل: بين الثلاثة الأولى. وقيل: حقيقةٌ في الإِباحة. لنا: التفرقة الضرورية بين مدلولات صيغ افعل ولا تفعل وإن شئت افعل وإن شئت لا تفعل. ولا يقال: لعل ذلك لعرف طارئ. ثم الاستعمال في هذه المعاني يعارضه لأن الأصلَ عدم التغيير. والمجاز أولى من الاشتراك ووجه المجازِ المضادة (¬8). ¬
المسألة الثانية
" المسألة الثَّانية" الأمر للوجوب عند أكثر الفقهاء والمتكلمين. وللندب عند أبي هاشم. وللمشترك بينهما (¬1) عند قوم ويليق بمذهبهم حمله (¬2) على الندب باستصحاب جواز الترك. وقيل: إنه حقيقة فيهما. وقيل: لا يدري أنَّه حقيقة فيهما أو في أحدهما وهو قول الغزالي (¬3). لنا وجوه: أ- إنه تعالى ذمَّ على مخالفة الأمر بقوله تعالى: {مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ} (¬4) إذ ليس مستفهمًا. وبقوله: {وَإِذَا (¬5) قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لَا يَرْكَعُونَ} (¬6). لا يقال: الأمر قد يفيد الوجوب في لغةٍ أو لقرينة (¬7) وأيضًا إنَّما ذمَّهم لا لترك الركوع بل لأنهم لم يعتقدوا حقيَّة الأمر بدليل قوله تعالى: {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ} (¬8). لأن ترتب الذم على مجرد مخالفة الأمر يفيد أنها هي المنشأ له، واستحقاق الويل بالتكذيب لا ينفي استحقاق الذم بترك الركوع، إذ الكافر عندنا يعاقب بترك العباداتِ كما يعاقب بترك الإِيمان. ¬
ب- الزام الأمر يقتضي لزوم المأمور به لقوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} (¬1). والقضاء: الإلزام. والمراد الخِيَرة في المأمورِ به لاستحالةِ خيرة المكلف فيَ أمر الله والزام ما لا يقتضي لزوم شيءٍ لا يقتضي لزومه كالقضاء بإباحته. ولقائلٍ أن يقول (¬2): سبق الذهن إلى إيجاد معنى الأمريْن يوجب حملَ الأوَّل على الشيء وإن كان مجازًا فيه. جـ - تارك ما أمرَ الله به مخالفٌ لأمره إذ مخالفة الأمر تقابل موافقته وهي الِإتيان بالمأمورِ به. ومخالف أمره يستحق العقاب لقوله تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (¬3) وإنما يحسن الأمر بالحذر عن العذاب بعد قيام المقتضي له. لا يقال: الاعتراض من وجوه: أ- موافقة الأمر الإتيان بمقتضاه كما يقتضيه (¬4) أو اعتقاد حقيته (¬5). ب- إنه أمرٌ بالحذر عن المخالف، لا أمرُ المخالفِ بالحذر. هـ - إنَّ المأمور ليس مخالف الأمر. بل المخالف عن الأمر. ولا يجعل عن صلةٍ لأنها خلافُ الأصلِ. ¬
د- إنه يحسن الأمر بالحذر لاحتمال المحذور (¬1). وأنه حاصل إذ المسألة اجتهاديَّة. سلمناه: لكن لفظ الأمر مفردٌ فلا يعم. لأنَّا نجيب عن: أ- بأن سبق الذهن إلى ما ذكرنا (¬2) يلغى ذلك القيد واعتقاد حقية الأمر موافقة دليل حقيته (¬3) لا له (¬4). ب- إنه لو كان أمرًا بالحذر عن المخالف لكان الحذر مسندًا إلي مفعوله. وإسناد الفعل إلى فاعله أولى ولكان لا يتعين المأمور بالحذر إذ ليس في سياق الآية سوى المتسللين لواذًا (¬5) وهم المخالفون. وحذر الإنسان عن نفسه محالٌ. ولكان قوله: أن تصيبهم إلى آخره ضائعًا. إذ الحذر لا يتعدى إلى مفعوليْن. جـ- إن النحويين قالوا: كلمة "عن" للمجاوزة والبعد. يقال: جلس عن يمينه أي متراخيًا عنه في الجهةِ التي يليها، ومخالفة الأمر بعدٌ عنه، فذكر بلفظ "عن". د- استقباح العرف الأمر بالحذر بدون المقتضي. هـ (¬6) - إن جواز الاستثناء يفيد عمومه ولأن ترتيب الحكم على الوصف يشعر بالعليَّةِ ولأن استحقاق العقاب في الفرد لاقتضاء مخالفة الأمر عدم المبالاةِ بالأمر المناسب للزجر. ¬
ولقائلٍ أن يقول (¬1): مناقضة الأول ستأتي (¬2). د- تارك المأمور به عاص لقوله تعالى: {أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي} (¬3) وقوله تعالى: {وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا} (¬4). وقوله تعالى: {لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ} (¬5). والعاصي يستحق العقابَ بالنص. لا يقال: لو كان ترْك المأمور به معصيةً لكان قوله تعالى: {وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} (¬6) تكرارًا ولم يصح تقسيمُ الأمر إلى أمرِ إيجاب وأمر استحباب. ثم آية المعصية حكايةُ حالٍ فلا تعم وآية العقاب مختصة بالكفار بقرينةِ الخلود. لأنَّا نجيب عن: أ- يحمل قوله تعالى: {وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ}. على المستقبل وما قبله على الماضي. ب- إن تسميةَ المستحب مأمور به مجاز محافظة على عموِم قوله تعالى: {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ} (¬7) أولى من جعل المستحب مأمورًا به محافظة (¬8) على صيغ الأوامر لأنه أحوط. ولأن الاستحباب لازم للوجوب ولا ينعكس. ¬
جـ- أنَّه رتَّبَ اسم (¬1) المعصية على (¬2) مخالفة الأمرِ فتكون هي (¬3) المقتضي لاستحقاقه. - إن الخلود هو (¬4) المكث الطَّويل. تقرير آخر: بأن العصيان هو الامتناعِ. لهذا سميت العصا عصًا. والاجتماع عصا. يقال: شققت عصا المصلين أي اجتماعهم. وهذا كلام يستعصي على الحفظ وحطب يستعصي على الكسر. وقال عليه السلام: "لولا أنا نعصي الله لما عصانا" (¬5). أي لم يمتنع عن إجابتنا وترك الفعل بعد الأمر المقتضي له امتناع عنه. واسم العاصي يختص بتارك الواجبًا وفاقًا. ولأن (¬6) العاصي هو المخالف لما منع منه. وإلا لكنا عصاةً بتصدقنا اليوم بعد مجرد (¬7) الأمر بالصلاة غدًا. ولقائلٍ أن يمنع الملازمةَ بجواز اختصاص العصيان بالامتناع عما حث عليه بلفظ إفعل. هـ - قوله عليه السلام لأبي سعيد بن المعلى (¬8) لما دعاه فلم يجبه لأنه كان (3) ¬
في الصلاة ما منعك أن تستجيبَ وقد سمعت قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} (¬1). فلولا أنَّ الأمرَ للوجوب لما صحَّ ذلك. إذ (¬2) حينئذٍ لا يكون سؤالًا عن العذر. إذ الصلَاة عذرٌ في تركِ كلام لا يجب. ولا ذمًا على ترك الاستجابة. إذ لا ذمَ على ترك ما لم يجب. ويجوز التمسك بخبر الواحد في مسألة علميَّة تكون وسيلةً إلى العمل. و- قوله عليه السلام: "لولا أنْ أشق على أمتي" (¬3) الحديث. وكلمة لولا لانتفاء الشيء لوجِود غيره. والسؤال مندوبٌ مع وجود المشقة فلا يكون المندوب (¬4) مأمورًا به. ولقائلٍ أن يمنع (¬5) انتفاء أمر الله تعالى عند انتفاء أمر النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - حتَّى يبين تلازمهما. ثم هذا يفيد أن بعض المندوب ليس بمأمورٍ به. ولعلَّ الخصم يقول إنَّ بعضه أَيضًا مأمور به. ز- قالت بريرة (¬6) للنبي عليه السلام: "أتأمرني بذلك؟ فقال: لا. إنما أنا ¬
شفيع" (¬1). أثبت الشفاعة الدالة على الندبيَّة مع نفي الأمر. ح- تمسك الصَّحَابَة رضوان الله عليهم بالأمرِ في قوله عليه السلام: (سُنوا بهم سنةَ أهلِ الكتاب) (¬2). وقوله عليه السلام: "فليغسله سبعًا" (¬3). وقوله عليه السلام: "فليصلها إذا ذكرها" (¬4). على الوجوب ولم ينكر عليهم. فكان إجماعًا لما سيأتي في القياس. ولا يعارض بأنهم لم يرتبوه على مثل قوله تعالى: {وَأَشْهِدُوا} ¬
وقوله تعالى: {فَكَاتِبُوهُمْ}. وقوله تعالى: {فَانْكِحُوا}. وقوله تعالى: {فَاصْطَادُوا} لأن التمسك بما لا يفيد الوجوب عليه لا يجوز. ويجوز تخلف الحكم عن المقتضي لمانعٍ. ط- أنَّه ليس (¬1) حقيقةً في الندب فقط لأن الواجب مأمور باتفاق الأمة وصرح كثير من الأصوليين بأن المندوب غير مأمور به فيمتنع مثله. ولا هو حقيقةٌ فيه وفي الوجوِب إذ الاشتراك خلافُ الأصل. ولا في المشترك بينهما إذ جعله مجازًا فيه حقيقةً في الوجوب أولىَ من العكس (¬2) لما عرف. فتعين جعله حقيقةً في الوجوب فقط. ي- اقتصار العقلاء في تعليل حسن (¬3) ذم العبد إذا ترك ما أمره به سيدُه على أنَّه ترك ما أمر به، يدل على أنَّ ترك المأمور (¬4) به عِلةٌ لحُسْن الذم. ولا يقال إنما ذموا لكراهية السيد تركه أو لأن الشارع (¬5) أوجبَ طاعة السيد أو إيصال النفع إليه. ثم إنه معارض بما أنَّه لا يذم لو كان ما أمر به معصيةً. لأن الاقتصار على القدر المذكور ينفي اعتبار الكراهة. والشرع إنما يوجب طاعة السيد وإيصال المنافع إليه فيما يوجبه (¬6) السيد عليه. حتَّى لو قال لك أن تفعله وأن لا تفعله لا يجب عليه ذلك. والمعصيةُ لما خرجت بدليل وجب فيما وراءها حمل كلامهم على ظاهره. يا- الأمر يفيد الوجود فليمنع من العدم (¬7) كالخبر بجامع تكميل المقصود من ¬
الوضع (¬1) له. لا يقال لعلَّ الأمر يفيد أولويَّة الوجود لأن الفعل إنما يشعر بالمصدر لا بأولويته. يب- الأمر يفيد رجحان مصلحة الوجود لامتناع الأمر بما فيه مفسدة راجحة أو مساوية والإذن في تركه إذنٌ في تفويت المصلحة الخالصة وأنه قبحٌ عرفًا فكذا شرعًا لقوله عليه السلام: "ما رآه المسلمون قبيحًا فهو عند الله قبيح" (¬2) تُرك العمل به في المندوبات فيبقى فيما عداها. ولا يقال: إلزام المكلف استيفاء المصلحة الخالصة (¬3) لنفسه قبيح عرفًا فكذلك شرعًا لأن ذلك (¬4) ينفي أصل التكليف. ولقائلٍ أن يقول: لما انتقض كل (¬5) منهما وجب الترجيح (¬6). يج- لأمر يفيد رجحان الوجود على العدم وأنه (¬7) لا يخلو عن الإذن في الترك والمنع منه والمفضي إلى الراجح راجح في الظن فالمنع من الترك راجحٌ في الظن فوجب العمل به لقوله عليه السلام: "اقض بالظاهر" (¬8). وقياسًا على الشهادة والفتوى وقيم المتلفات وأروشَ ¬
الجنايات وتعيين القبلة ولأن العمل بالمرجوح لا يجوز عقلًا. يد- الوجوب له لفظ مفرد لشدة الحاجةِ إلى تعريفه الداعية إلى الوضعِ المقدور عليه بلا مانع. وليس ذلك سوى الأمر وفاقًا. لا يقال: لم لا يكفي القرينة والمركب. ولا نسلم عدم المانع. إذ توقيف اللغة مانع. ثم هو منقوض بشدةِ الحاجةِ إلى تعريف معنى الحال والاستقبال والاعتمادات والروائح. ومعارض بشدةِ الحاجةِ إلى تعريف أصل الترجيح والندب وتعريف الوجوب أو (¬1) الندب مبهمًا. وبأنه لو كان له لفظ مفرد لاشتهر لشدة الحاجة إلى الَتعبير به. لأنا نجيب عن: أ (¬2) - بأن التعريف باللفظ أسهل. والمفرد على اللسان أخف فيغلب ذلك على الظن كسائر الألفاظ المفردة. ب- بأن الأصل عدم المانع والتوقيف. ¬
النقض بزيادة (¬1) الحاجة إلى تعريف معنى الوجوب لتكررها. المعارضة الأولى: بأن جعله حقيقةً في الوجوب مجازًا في الترجيح أولى من العكس لما عرف. ب- بأن الحاجة إلى تعريف ما لا يجوز الِإخلال (¬2) به أمس. هـ - بأن الاشتراك خلاف الأصل (¬3). د- بأن الاشتهار إنما يجب فيما (¬4) لا يعارضه ما لا يظهر الفرق بينهما إلَّا بوجهٍ غامض. يه- حمله على الوجوب يفيد القطع بعدم مخالفة الأمر وعلى غيره يفيد الشك فيه لجواز أن يكون المأمورُ به واجبًا. ويتركه بناءً على جواز تركه فوجب العمل على الوجوب لقوله عليه السلام: "دع ما يريبك إلى ما لا يريبك" (¬5). ولأن ترجيح الطريق الآمن على المخوف واجب عقلًا. وأما أمر الاعتقاد (¬6) فهو متعارض. ¬
لا يقال: العلم بأنه لغير الوجوب لغة. وأنه لا يجوز تجريده عن القرينة عند وجوب (¬1) المأمور به بنفي هذا الشك لأن النظر إلى مجرد ما ذكرنا يوجب ما ذكرنا ودعوى العلم معارضة (¬2). احتجوا بأمور: أ- العلم بكونه للوجوب لا يجوز أن يكون للعقل إذ لا مجال له في اللغة. ولا للنقل المتواتر وإلا لعرفه كل واحدٍ ولا لآحادٍ إذ المسألة علميَّة وهذه حجة من ينفي الدراية (¬3)، فإنَّها واردة على من يدعي الوضع لمعين ولو بالاشتراك (¬4). ب- قال أهل اللغة: لا فرق بين الأمر والسؤال إلَّا في (¬5) الرتبة ثم السؤال لا يفيد الوجوب. جـ - إنه ورد في الكتاب بمعنى الوجوب وبمعنى الندب والأصل عدم الاشتراك والمجاز. فكان حقيقة في القدر (¬6) المشترك بينهما وأنه لا إشعار (¬7) له بواحدٍ منهما. والجواب عن: أ- إنه يجوز أن يعرَّف بالمركب من العقل والنقل كما سبق (¬8) في بعض الوجوه، ولا نسلم كون المسألة علميَّة. ¬
المسألة الثالثة
ب- إنَّ السؤال أَيضًا إيجاب. فإن السائل قد يقول أعطني ألبتة ولا تخيب رجائي وإن لم يجب المسؤول. جـ- إن ما سبق من الأدلة دلَّ على المجاز. " المسألة الثالثة" الأمر بعد الحظر والإِذن (¬1) للوجوب خلافًا لبعض أصحابنا. لنا: إن المقتضي قائم لما سبق (¬2) والموجود لا يصلح معارضًا إذ يجوز الانتقال من الحظر إلى الوجوب كما منه (¬3) إلى الإباحة والعلم به ضروري (¬4). احتجوا بقوله تعالى: {فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا} (¬5) وبقوله تعالى: {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا} (¬6). وبقوله تعالى: {فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ} (¬7). والأصل الحقيقة. ويقول السيد لعبده: افعل بعد منعه منه إذ لا يفهم منه الوجوب. والجواب عن (¬8): أ- المعارضة بقوله تعالى: {فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا} (¬9). ¬
المسألة الرابعة
والجهاد فرض كفاية. وقوله تعالى: {وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} (¬1). والحلق نسك ليس بمباح. ب- المعارضة "بقول الأب لابنه. أخرج إلى المكتب بعد منعه منه إذ يفهم منه الوجوب". تنبيه: من قال بأن (¬2) الأمر بعد الحظر للإباحة، اختلفوا في النهي الوارد بعد الوجوب. فقيل إنه للإباحة قياسًا. وقيل: إنه للتحريم. " المسألة الرابعة" قيل: الأمر مفيدٌ للتكرار. وقيل للمرة الواحدة لفظًا. وقيل: بالتوقف. ثم قال الحنفية: إنه مفيد للفور (¬3). وقيل: للتراخي. وقيل: بالتوقف إما لدعوى الاشتراك أو عدم العلم بالواقع. والحق أنَّه يفيد الاشتراك بين الكل. لوجوه. أ- إنه استعمل في كل واحدٍ شرعًا وعرفًا والأصل الحقيقة الواحدة لكن المرة الواحدة ضرورية فدل اللفظ عليه (¬4) معنى. ب- قال أهل اللغة: لا فرق بين من يفعل وافعل إلَّا في الخبرية والأمرية. لكن يفعل الخبر (¬5) لا يفيد شيئًا من القيود سوى المرة الواحدة بجهة المعنى. ¬
جـ- لو قال: افعل مرةً أو مرارًا أو حالًا أو استقبالًا لم يكن نقضًا ولا تكرارًا. د- صحة تقسيمه إلى كل واحدٍ يدل على إفادته للمشترك. هـ - حمله على التكرار يقتضي استغراق العمر بفعل المأمور به. إذ لا إشعار للفظ بوقت وليس البعض أولى فإنَّه باطل إجماعًا ولأنه يلزم منه (¬1) أن يكون كل أمرٍ ناسخًا لما قبله (¬2). حجة التكرار وجوه: أ- تمسك (¬3) أبو بكر رضي الله عنه علي تكرار الزكاة بقوله تعالى: {وَآتُوا الزَّكَاةَ} ولم ينكر أحد فكان إجماعًا. ب- القياس على النهي (¬4). ب- لو لم يفده لكان ورود النسخ والاستثناء عليه بداءً ونقضًا. د- إنه ليس بعض الأوقات أولى فيحمل على الكل. هـ - طريقه الاحتياط (¬5). ¬
حجة الفور وجوه: أ- قوله تعالى: {مَا مَنَعَكَ أَن لا (¬1) تَسْجُدَ} (¬2). ب- قوله تعالى: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ} (¬3) وقوله تعالى: {فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ} (¬4). جـ - إنه يفهم من أمر السيد عبده (¬5) بالسقي الفور والأصل الحقيقة. د (¬6) - الأمر يفيد وجوب الفعل في الحال كما يفيد النهي وجوب الانتهاء في الحال ولأن الأمر بالشيء نهي (¬7) عن تركه. والانتهاء عن الترك في الحال إنما يكون (¬8) بالفعل في الحال. هـ- لا يجوز التأخير لا إلى بدل لأنه ينفي الوجوب. ولا إلى (غير) (¬9) بدل وإلاَّ لسقط التكليف به، إذ البدل ما يقوم مقام المبدل من كل الوجوه. وليس الأمر للتكرار ليقال يقوم مقامه في الوقت الأول. وقد قام مقامه مرةً واحدةً. و- لا يجوز التأخير لا إلى غير (¬10) غاية لأنه ينفي الوجوب ولا إلى غاية لأنها إن لم تكن معلومة لزم تكليف ما لا يطاق. وإن كانت معلومة كانت زمانًا يظن المكلف أنَّه لو لم يشتغل به فيه (¬11) لفاته إجماعًا. لكن ذلك الظن إن لم يكن لِإمارة فلا عبرةَ به. وإن كان لإمارةٍ كانت هي المرض الشديد (¬12) أو علو السنن وفاقًا. لكن كم من شابٍ يموت فجأة وذلك ¬
ينفي الوجوب في علم الله تعالى مع (¬1) ظاهرٍ يقتضيه. ز- القياس على وجوب اعتقاد الوجوب على الفور بجامع المسارعة إلى امتثال الأمر. ح- إِن الأمر وإيجاب العقد يستدعيان الفعل والقبول فيقتضيان الفورَ قياسًا. ط- طريقه الاحتياط (¬2). حجة الاشتراك: الاستعمال وحُسْنُ الاستفهام. والجواب عن: أ (¬3) - إنَّ ذلك لدليلٍ خاص. ب- إن الانتهاء عن الفعل أبدًا ممكن، ولأن النهي كالنقيض للأمر لامتيازه عنه بحرف السلب، ونقيض الكلي الجزئي. جـ- إنَّ النسخ قرينةٌ في إرادة التكرار والاستثناء يمنعه القائل بالفور. والمانع منه يقول: فائدتُه دفع التخيير بين ذلك الوقت وبين سائرِ الأوقات. د- إنَّ الوقت الأول أولى إن قلنا بالفور وإلَّا حُمل على المشترك. هـ- إنَّ العلم بأنه ليس للتكرار يؤمن من الضرر على أن الخوف في التكرار حاصل لأنه قد يكون معصيةً كما إذا قال لعبده. اشتر اللحمَ أو ادخل الدار. أ- من وجوه الفور (¬4). أن ذلك للقرينة. ب- إن المراد (¬5) من المغفرة ما يقتضيها وليس في الآية تعيينه. سلمنا لكن للآية دلالةٌ خارجيةٌ عن نفس اللفظ. ¬
جـ- المعارضة بأمرِ السيد بما لا يعلم حاجته إليه حالًا وحُسْن تعليل السيد ذم عبده عند (¬1) التأخير معارض بحسن اعتذار العبد بأنه لم يأمره بالتعجيل ولم يعلم أن في التأخير مضرةً. د- إنَّ النهي يفيد التكرار (¬2). وعن البواقي: النقض بقوله: افعل في أي وقتٍ شئت وبالواجبات الموسعة. وعن السابع: جواب آخر وهو أن الاعتقاد غير مستفاد من اللفظ بل من العقل. وآخر عن الثامن: إن الجامع وصفٌ طردي (¬3). وعن وجهي الاشتراك: ما سيأتي في العموم. ولقائل أن يقول (¬4): طريقة الاحتياط غير منقوضةٍ إذ لا خوف ثمة. فرع: من قال الأمر (¬5) المطلق لا يفيد التكرار. اختلفوا في المقيد بصفةٍ كقوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} (¬6) أو بشرط كقوله: إن كان زانيًا فارجموه والمختار أنَّه لا يفيده بحسب اللفظ ويفيده من جهة الأمر بالقياس. ¬
المسألة الخامسة
أما الأول فلوجوه: أ- لو قال لعبده: إن دخلتَ السوقَ فاشترِ اللحم. أو لامرأته إن دخلتِ الدار فأنت طالق. أو لوكيله إن دخلتَ الدار فطلق زوجتي. أو قال: إن شفى الله مريضي فله عليَّ كذا لا يفيد التكرار. ب- القياس على الخبر بجامع دفع ضرر التكرار (¬1). جى- صحة تقسيمه إلى التكرار وعدمه. وأما الثاني: فلأن ترتيب الحكم علي الوصف يشعر بعليته (¬2) له. وإلَّا لما قَبُحَ أن يقال: (إن كان الرَّجل جاهلًا فأكرمه وإن كان عالمًا فأهنه) إذ الجهلُ لا ينافي حسن الِكرام لشجاعة أو لنسب أو غيرهما. والعلم لا ينافي حسن الإهانة لفسقٍ أو حمقٍ أو غيرهما. والحكم يتكرر بتكرر العلة باتفاق القائسين. ولا ينقض بما ذكرنا منِ الصور لأنه يفيد العلية فيها. إلَّا أن الحكم لا يتكرر بتكرر ما جعله العبدُ علةً. حتَّى لو قال أعتقتُ غانمًا لسواده لا يُعتق سالم مع سواده. لا يقال: إنه قد يفيد العلة في هذه الصورة فقط لأنا نقيس عليها باقي الصور بجامع زيادة قبول الحكم المذكور معه علته. أو نبين ذلك في صور كثيرة. ونقول لا بد فيها من مشترك وهو ما ذكرناه، إذ الأصل عدم غيره. " المسألة الخامسة" الأمر والخبر المعلق بشيء بكلمة "إن" عدمٌ عند عدمه خلافًا للقاضي أبي بكر وأكثرِ المعتزلة. لنا وجهان: أ- إن النحاةَ سموا الكلمة "إن" بحرف الشرط والأصل عدم النقل ¬
والمجاز، والشرط ما ينتفي الحكم عند انتفائه. يقال الوضوء شرط صحة الصلاة. والحول شرط وجوب الزكاة (¬1). والأصل الحقيقة. وأشراط الساعة إنما سميت بها لانتفاء الساعة عند انتفائها. لا لأنها علامات لئلا يلزم المجاز في تسمية ما ليس بعلامة شرطًا. ب- قال يعلى (¬2) بن أمية لعمر رضي الله عنه: (ما بالنا نقصر الصلاة وقد أمِنا) فقال: عجبتُ مما عجبتَ منه فسألت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: "صدقةٌ تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته" (¬3). لا يقال: إنما تعجَّبَ لأن الأصل (¬4) الإتمام وحالة الخوف مستثناة، ثم معارضة (¬5) بقوله تعالى: {وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا} (¬6). وبقوله تعالى: {أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ} (¬7). وبقوله تعالى: {فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا} (¬8). وقوله تعالى: {وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} (¬9). وقوله تعالى: {وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} (¬10) ولجواز تنجيز الطلاق بعد التعليق (¬11). ¬
لأنا نجيب عن: أ- بأن آيات الصلاة لا تشعر بالإتمام. ولا نسلم أن الأصل هو الإتمام إذ قالت (¬1) عائشة (¬2) رضي الله عنها: (كانت صلاة السفر والحضر ركعتين فأقرت صلاة السفر وزِيد في صلاة الحَضر) (¬3). وعن الآية الأولى: بمنع النهي عند عدم إرادة التحصن. (فإنهن إذا لم يُردنَ التحصن يردن (¬4) البغاء). والإكراه على المراد ممتنع (¬5). وعن باقي الآيات (¬6): إن ظاهر (¬7) الشرط يمنع منه بدليل التعجب المذكور لكنه لا يمتنع مخالفة الظاهر لمعارض. ولقائلٍ أن يقول: لِمَ (¬8) كان مخالفة هذا الظاهر أولى من مخالفة ظاهر قولهم إن كلمة "إنْ" للشرط (¬9). أو أن الشرط ما ينتفي الحكم عند انتفائه ¬
المسألة السادسة
والتعجب محتمل لما سبق، ومعارض بأن ما قلنا لا يوجب مخالفة الدليل بخلاف ما قلتم. وعن الأخير: إن المنجز عندنا غير المعلق حتى لو وجد الشرط بعد تنجيز الثلاث في نكاحٍ آخر يقع المعلق. " المسألة السادسة" الحكم المقيد بعدد إن كان معلول ذلك العدد ثبت (¬1) في الزائد لوجوده فيه. كما لو حرم جلد مائة أو حكم بدفع القلتيْن حكم النجاسة. وإلَّا لم يلزم كما لو أوجب جلد مائة. والناقص عن ذلك العدد إن كان داخلًا فيه والحكم إيجاب أو إباحة ثبت فيه كما لو أوجب أو أباح لجلد مائة. وإن كان تحريمًا فلا يلزم. وإن لم يكن داخلًا فيه كالحكم بشهادة شاهدٍ واحدٍ فإنَّه لا يدخل في الحكم بشهادةِ شاهدينْ فالتحريم قد ثبت فيه بطريق الأولى. وبالإباحة والإيجاب لا يلزمان فيثبت أن قصر الحكم على عدد لا ينفيه عما زاد ونقص إلَّا لمنفصل (¬2). احتج المخالف بقوله عليه السلام لما نزل قوله تعالى: {إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ} (¬3) والله لأزيدنَّ على السبعين (¬4). عقل عليه السلام نفي الحكم عن الزيادة. وبأن الأمة عقلت من تحديد جلد القاذف بثمانين نفي الزيادة. ¬
المسألة السابعة
والجواب عن: أ- إنه (¬1) لا ينفي الحكم عن الزائد ولا يوجبه فلعله عليه السلام جوَّز المغفرة عند الزيادة. ب- إن ذلك للتمسك بالبراءة الأصلية. " المسألة السابعة" الحكم المقيد بالاسم لا يدل (¬2) على نفي الحكم عما عداه خلافًا لأبي (¬3) بكر الدقاق (¬4). لنا وجوه: أ- إنه لا يدل عليه بلفظه إذ ليس فيه غيرُ ذكر زيد. ولا بمعناه. إذ قد يعلم الحكم فيهما ويخص أحدهما بالذكر لغرضٍ يخصه. ب- لو دلَّ عليه لما صحَّ القياس. إذ عدم الحكم في الفرع يثبت حينئذٍ بالنص. جـ- ولا يقال (¬5) أكل زيد مع العلم بأن عمرًا أكل (¬6). احتج المخالف: بأنه لا فائدة للتخصيص إلَّا نفي الحكم عما عداه. وجوابه: إن الغرض قد يختص بذكر أحدهما. ¬
المسألة الثامنة
" المسألة الثامنة" تقييد الحكم بالصفة لا ينفي الحكم عما عداه وهو قول أبي حنيفة وابنِ سريج (¬1) والقاضي أبي بكر وإمام الحرمين (¬2) وجمهور المعتزلة خلافًا للشافعي والأشعري ومعظم فقهاء أصحابنا. لنا وجوه: أ- أنَّه لا يدل عليه بلفظه لما (¬3) عرف ولا بمعناه لأن إثبات الحكم في أحدِ القسمين لا يستلزم نفيه عن الآخر. لجواز أن يختصَّ الأول بوجوب البيان كمن يملك السائمةَ فقط أو بيَّن حكم الآخرِ بنصٍ، أو تكون الفائدة البيان بلفظ أقوى في الدلالة. وهو الخاص، أو بغير نصٍ وذلك إذا لم يدل حكم الأول على حكم الثاني من طريق الأولى كما في قوله تعالى: {وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ} (¬4) وهذا الجواز ينفي اللزوم وإن كان ظاهرًا احترازًا عن مخالفة الظاهر. ب- إنه ورد مع نفي الحكم عما عداه وعدمه. والأصل الحقيقة الواحدة. جـ- إن الصورتين المختلفتين يجوز اشتراكهما في الحكم والإخبار عنه واختلافهما فيهما عقلًا. فلا يدل الإِخبار عن الحكم في إحداهما على ¬
ثبوته في الأخرى ولا على نفيه عنها. د- القياس على تقييد الحكم بالاسم بجامع صلاحية نفي الحكم عما عدا المذكور فائدة لتخصيص المذكور بالذكر. احتجوا بأمور: أ- أنَّه يفيد (¬1) عرفًا. إذ يستقبحِ قول القائل: الِإنسان الطَّويل لا يطير. ويعلل بأن القصير أَيضًا لا يطير والنقل خلاف الأصل. ب- التخصيص له فائدة ونفي الحكم عما عداه يصلح فائدةً فحمل عليه تكثيرًا للفوائد. ولأن المناسبة مع الاقتران دليل العليَّة. جـ- إن ترتب الحكم على الوصف يشعرُ بالعليَّة. والأصل تعليل الأحكام المتساويَة بالعلل المتساوية. والجواب عن: أ- النقض باستقباح قوله: زيد الطَّويل لا يطير. مع أن التقييد بالاسم لا ينفي الحكم عما عداه. وهذا مندفع لأنه تقييد بالصفة، ولو قال زيد لا يطير فإنما يستقبح لأنه بيان للواضحات لا لأنه عبث. ب- إن تخصيص القادر لا يتوقف على مرجح. إذ التخصيص بالأحكامِ المعينةِ من هذا القبيل. إذ لا حُسنَ ولا قبحَ عقلًا. وتخصيص إحداث العالم بوقتٍ معين منه. سلمناه لكن ما ذكرنا من الفوائد مرجحات. ولقائل أن يقول (¬2): إن تلك الفوائد محتملة (¬3). ¬
جـ- لا نسلم أن الأصل ذلك لما سيأتي (¬1). " فرعان" الأول (¬2): التقييد بالصفة إنما ينفي الحكم عما عداه ما لم يكن ثمة عادة يحتمل أنها السبب في التخصيص بالذكر كما في قوله تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا} (¬3) وقوله عليه السلام: "أيما امرأةٍ نكحت نفسها (¬4) بغير إذن وليها" (¬5). الثاني (¬6): التقييد بالصفةِ في جنس إنما ينفي ذلك (¬7) الحكم عما عداه في ذلك الجنس وقيل: ينفيه في غيره أَيضًا. لنا: إن دليل الخطاب مقتضى النطق وأنه لم يتناول غير ذلك الجنس. احتجوا: بأن السوْم كالعلة لوجوب الزكاة فينتفي حيث ينتفي. وجوابه: إن المذكور هو السوم في الغنم. ¬
المسألة التاسعة
" المسألة التاسعة" في دخول الآمر تحت الأمر (¬1). الحق إنه يمكن قول القائل لنفسه افعل مريدًا للفعل من نفسه لكنه لا يسمى أمرًا لأن الاستعلاء أو المغايرة (¬2) معتبرة في الأمر ولا يَحسنُ أَيضًا إذ الفائدةُ منه إعلام طلب الفعل. نعم لو حكى أمرَ الغير بلفظِ نفسه دخل فيه إن تناوله وإلاَّ فلا. وإن حكاه بلفظ ذلك الغير كقوله تعالى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ} (¬3) دخل فيه لعموم الخطاب للمكلفين. " المسألة العاشرة" إذا أمر عقب أمرٍ فإن اختلف المأمور بهما وجبا متفرقيْن إن لم يصح اجتماعهما عقلًا كالصلاة في مكانين، أو سمعًا كالصلاة والصدقة. وإن صح لم يتعين الجمع أو التفريق إلَّا لمنفصلٍ. وإن تماثلا فإن (¬4) صح الزائد في ذلك المأمور به ولم يعطف الثاني على الأول قال أبو الحسين: الأشبه الوقف. وقال القاضي عبد الجبار يفيد غير ما أفاد الأول إن لم تمنع منه العادة كقوله: اسقني اسقني. أو التعريف كقوله: صل ركعتين صل الصلاة. إذ لام الجنس تصرف إلى المعهود وهو المختار إذ الأمر للإيجاب- وإيجاب الواجب محال ولأن إفادة فائدة زائدة أولى من إفادة التأكيد. وإن عطف عليه فإن (¬5) لم يكن معرفًا له (¬6) أفاد غيره وإن كان معرفًا ¬
قال أبو الحسين: الأشبه الوقف لتعارض لَام التعريف وواو العطف. ولعلَّ (¬1) الثاني أولى إذ اللام قد تكون لتعريف الماهية أو لتعريف معهود آخر سابق. وإن لم يصح الزائد في ذلك المأمور به عقلًا كصوم يوم أو شرعًا كعتق زيد إذا كان يمكن توقفه على العدد كالطلاق فإن كانا عاميْن أو خاصيْن كان الثاني تأكيدًا للأول وإِن كان أحدهما عامًا والآخر خاصًا فإن لم يُعطف الثاني على الأول كان تأكيدًا وإن عطف عليه قيل دل واو العطف على أن الخاص غير مرادٍ من العام والأشبه الوقف لمعارضة ظاهر العموم إياه. ¬
الفصل الثالث في المباحث المعنوية
" الفصل الثالث " في المباحث المعنوية والنظر في أمور " النظر الأول" .. في الواجب وهو بحسب نفسه إما معين أو مخيَّر .. .. وبحسب وقته إما مضيقٌ أو موسع .. .. وبحسب فاعله إما فرض عين أو فرض كفاية .. " المسألة الأولى" قالت المعتزلة: الأمر بالأشياء على التخيير يقتضي وجوب الكل على التخيير. وقالت الفقهاء: الواجب واحد لا بعينه ولا خلاف بينهما في المعنى (¬1) لإِرادة كل منهما أنَّه (¬2) لا يجوز الإِخلال بجميعها، ولا يجب الإِتيان بجميعها وله اختيار أي واحدٍ كان. نعم ههنا مذهب يرويه المعتزلة عن أصحابِنا وأصحابُنا عنهم. وهو أن الواجبَ واحدٌ معين عند الله تعالى غير معين عندنا لكنه تعالى عَلِمَ أن المكلف لا يختار إلَّا ذلك ويدل على فساده أن معنى ¬
الواجب (¬1) على التخيير يجيز ترك كلٍّ وجهٍ بشرط الإِتيان بالآخر. ومعنى الواجب عينًا ينافي ذلك التجويز (¬2) عَلِمَ أنَّه يختار ذلك المعيَّن أولم يعلم. لا يقال: اختيار المكلف يجعله واجبًا أو يكون ما عداه مباحًا يَسقطُ الفرض به لأن الكلام فيما قبل الاختيار. والأمْة اتفقت على أنَّه إذا (¬3) فعل أي واحدٍ كان فاعلًا لما كُلِّفَ به. احتجوا بأمرين (¬4): أ - إذا أتى المكلف بالكل دفعةً سقط الفرض وأتى بالواجب واستحق (¬5) ثواب الواجب. وذلك لا يجوز أن يكون لكل واحدٍ منها، ولا لمجموعها لعدم (¬6) وجوب ذلك، ولا لواحد غير معين إذ لا وجود له بل لواحدٍ معين. ب - إذا ترك الكل استحق العقاب وعاد التقسيم (¬7). حجة من (¬8) قال الواجب واحدٌ لا بعينه إنه لو قال ابتعت قفيزًا من هذه الصبرةِ أو أعتقتُ عبدًا من عبيدي فالمعتق والمبتاع واحدٌ لا بعينه يتعين باختياره. ¬
المسألة الثانية
والجواب عن: أ - إنه يسقط الفرض بكل واحدٍ بمعنى أنَّ كلَّ واحدٍ يُعرفُ سقوط الفرض لا أنَّه يؤثر ليلزم اجتماع المؤثرات المستقلة على أثرٍ واحد. وكل واحد واجب على البدل على ما مر من التفسير. ثم هما لا زمان عليكم فإن الواجب عندكم ما يختاره المكلف. فإذا أتى بالكل فقد اختار الكل فلزم وجوب كل واحدٍ وسقوط الغرض بكل واحد. وأما استحقاق الثواب والعقاب فإنه يستحق الثواب على فعل الواجبات على البدل والعقاب على ترك الواجبات على البدل. وقيل يستحق ثواب الواجب على فعل أكثرها ثوابًا. وعقابه على ترك أدناها عقابًا. وعن الآخر أن كل واحدٍ من القفزان العبيد مبتاع، ومعتق على البدل بمعنى أنَّه لا اختصاص للابتياع، والعتق بمعيَّن وإنما يتعيَّن الملك والعتق المختار باختياره. فرعٌ: الأشياء المأمور بها على الترتيب أو البدل قد يَحرم الجمع بينها، كأكل الميتة والمباح في الترتيب. وتزويج المرأة من كفؤين في البدل وقد يباح كالوضوء والتيمم في الترتيب. وستر العورة بثوبين في البدل. وقد يستحب كخصال كفارة الإِفطار في الترتيب وخصال كفارة الحنث في البدل. " المسألة الثانية" الفعل إن زاد على الوقت، كان الأمر به تكليف ما لا يطاق، إذا لم يقصد منه إيجاب القضاء. كما لو طهرت الحائض وقد بقي من الوقت قدر ركعة. وإن نقص عنه فهو الواجب الموسع. والمنكرون له اختلفوا على أقوال .. الأول: قول بعض أصحابنا: إن الوجوب يختص بأول الوقت وما يؤتى به بعدُ قضاءٌ.
الثاني: قول بعض الحنفية: إنه يختص بآخر الوقت وما يؤتى به قبلُ تعجيل. الثالث (¬1): أن الآتي به في أول الوقت إن بقي مكلفًا إلى آخره كان ما فعله واجبًا إلا نفلًا. والمعترفون به وهم جمهور أصحابنا وأبو علي وأبو هاشم وأبو الحسين. فمنهم من لم يجوَّز ترك الفعل في أول الوقت إلَّا إلى بدل وهو العزم عليه (¬2) وهم أكثر المتكلمين. والمختار وهو قول أبي الحسين: أنَّه لا حاجة إلى هذا (¬3) العزم. لنا: أن الأمر تناول الوقت ولم يتعرض لجزء منه وجميع أجزائه قابل فكان حكمه إيقاع الفعل في أي (¬4) جزء أراده المكلف. لا يقال: جواز ترك الفعل في أول الوقت ينفي وجوبه فيحمل على الندب. فإن قلتَ: يجوز ترك المندوب مطلقًا ولا يجوز ترك الصلاة في أولِ الوقتِ إلَّا لبدلٍ وهو العزم. قلتُ: قد نفيْنا جواز التأخير إلى بدلٍ في أن الأمر للفور ولأن الموجود ليس إلَّا الأمر بالصلاة. وأنه لا يدل على إيجاب العزم ولا في العقل ما يدل عليه لأنا نعلم أنَّه لو قال السيد (¬5) لعبده. لا يجوز لك إخلاء جميع أجزاء (¬6) ¬
المسألة الثالثة
هذا الوقت عن الفعل، ولا يجب عليك إيقاعه في جميعها، ولك اختيار أي جزء شئتَ منها فإنه لا يحتاج إلى بدلٍ وإيجاب العزم من غير دليلٍ يدل عليه تكليفُ ما لا يطاق. ولأنه لو وجب العزم لوجب مَرةً واحدةً. إذ البدل إنما يجب على جهة وجوب الأصل فلا يكون الفعل في الجزء الأول والثاني من الوقت واجبًا ولا بدلَ له فيكون مندوبًا. لأنا نقول: الواجب الموسع في التحقيق يرجع إلى الواجب المخيِّر، كما سبق من تمثيله، يقول السيد لعبده: فوصفِ الفعل في كل واحدٍ من أجزاء الوقت بالوجوب، كوصف كلٍّ واحدٍ من الواجب المخيِّر بالوجوب، وحينئذٍ لا حاجةَ إلى العزم. واختار أكثر الأصحاب وأكثر المعتزلة في الجواب الفرق المذكور (¬1) وقد عرفت ضعفه. فرع: الواجب الموسع في جميع العمر إنما يجوز تأخيره إذا غلب على ظنه بقاؤه بعد ذلك (¬2) ولم يجوِّز أبو حنيفة تأخير الحج لأن البقاء إلى سنةٍ لا يغلب على الظن. ويرى الشافعي (¬3) ذلك غالبًا على الظن في حق الشاب الصحيح دون الشيخ المريض. " المسألة الثالثة" الأمر إذا تناول جماعةً فإن كان على سبيل الجمع فقد يكون فعل البعض شرطًا في فعل البعض كصلاة الجمعة. وقد لا يكون. وإن كان على سبيل البدل فهو فرضُ الكفاية. وذلك إذا كان الغرض يحصل بفعل البعض كالجهاد. ومناطُ التكليف فيه غلبةُ الظنِ فمن غلب على ظنه أن غيرَه لا يقوم به تعيَّن عليه. ومن غلب على ظنه أنَّ غيرَه يقوم به سقط عنه. وإن كان حصوله في حق الكل يفضي إلى أن لا يقوم به أحدٌ لأن الممكن تحصيل الظن بعدم قيام الغير به. ¬
النظر الثاني في أحكام الوجوب وفيه مسائل
" النظر الثاني " في أحكام الوجوب وفيه مسائل " المسألة الأولى" (¬1) الأمر المطلق بالشيء أمرٌ بمقدماته المقدورة للمكلف. ¬
وقالت الواقفية (¬1): إن كانت المقدمة سببًا للمأمور به كان أمرًا بها وإلا فلا (¬2). لنا: إن الأمر اقتضى إيجاب الفعل على كلٍّ حالٍ إذ لا فرق بين قوله: أوجبت عليك الفعل في هذا الوقت وبين قوله: (ينبغي أن لا يخرج الوقت إلَّا وقد أتيْتَ به) فلو لم يقتضِ إيجاب المقدمة كان مأمورًا بالفعل حال عدمها وهو تكليفُ ما لا يطاق. لا يقال: الأمر مقيد بحال حصول المقدمة. فإن قلتَ: إنه خلاف الظاهر قلتُ: وإيجاب المقدمة مع أن الظاهر لا يقتضيه خلاف الظاهر أيضًا. لأن خلاف الظاهر رفع ما يقتضيه لا إثبات ما لا يقتضيه. وأيضًا لو قال السيد لعبده: اسقني والماء على مسافة لم تتقيد بحال قطع المسافة، وإلا لم يتوجه الأمر نحوه لو قعد عن قطعها. ولقائلٍ أن يقول: لمَّا كان حال عدم (¬3) المقدمة من جملة الأحوال، كان تكليف مَا لا يطاق، إن لزم لازمًا على المذهبين، إلَّا أن تفسير (¬4) تلك الأحوال بما عدا حالتي (¬5): وجود ما يقتضي الأمر إيجابه، وعدمه، وحينئذٍ يمنع لزوم تكليف ما لا يطاق، إذ المحال هو الفعل مع عدم المقدمة. لا هو في حال عدمها والمكلف به هو الثاني. ¬
" فروع" الأول: ما لا يتم الواجب بدونه (¬1) إما أن يكون وصلةً إليه أو لا. والأول: إما أن يستلزمه كالإِيلام الَّذي لا يتم بدون الضرب المستلزم إياه. وإما أن (¬2) لا يستلزمه وهو إما أن يكونَ احتياجه إليه شرعيًّا كالوضوء والصلاة. أو عقليًا وهو: إما أن يمكن تحصيله من المكلف كبعض الآلات أو لا يمكن كالقدرة. والثاني: إنما يلزم مع الواجب، لأنه لا يمكن استيقان الواجب بدونه. إما للاشتباه به كصلاة نُسيَت من صلاتيْن، أو للمقاربة بينهما كغسل جزءٍ من الرأس مع غسل (¬3) الوجه. الثاني: إذا تعذَّر ترك المحرم بدون تركِ غيره لالتباسه به فقد يكون متغيرًا في نفسه، كاختلاط النجاسةِ بالماء الطاهر (¬4)، وقد لا يكون كاشتباه (¬5) إناءٍ نجسٍ بإناءٍ طاهرٍ. وللفقهاء فيه خلاف والأقوى تحريم الكل تغليبًا للحرمة. الثالث: إذا اشتبهت منكوحته بأجنبية وجب الكف عنهما، لكن قيل: الحرام (¬6) هو الأجنبية. وهو باطل لأن إثبات الحرج في الفعل ينفي حله. نعم حُرَّمتْ الأجنبية لكونها أجنبية والمنكوحة لاشتباهه بها. أما لو طلق إحدى امرأتيه أمكن القول بحلهما إذ ¬
المسألة الثانية
الطلاق شيء معين يستدعي محلًا معينًا. والموجود قبل (¬1) التعيين لا يكون طلاقًا. بل ما له (¬2) صلاحية التأثير في الطلاق عند البيان. وقيل بحرمتهما تغليبًا للحرمة. فإن قلتَ: الله تعالى عَلِمَ ما بعينها فتكون (¬3) هي المتعينة. قلتُ: الله تعالى يعلم الأشياءَ كما هي فيعلم قبل التعيين أنها غير متعينة وأنها ستتعين بالتعيين. الرابع: قيل الزيادة على الواجب غير المقدر كمسح الرأس توصف بالوجوب وهو باطل لأن جواز تركها ينفي وجوبها (¬4). " المسألة الثانية" الأمر بالشيء نهي عن ضده خلافًا لجمهور المعتزلة وكثيرٍ منا. لنا: إن ما دل على الشيء دل على ما هو من ضروراته. والمنع من الترك من ضرورات الطلب الجازم فكان الأمر دالًا عليه التزامًا. ولأنه يمتنع الإِذن في الترك عند الطلب الجازم لتناقضهما، وهو المعني بقولنا. لا يقال: ليس هو من ضروراته لجواز الأمر بالمحال وجواز الأمر بالشيء عند الغفلة عن ضده وامتناع النهي عما لا شعور به، لأن يمتنع تصور ¬
المسألة الثالثة
ماهية الإِيجاب بدون تصور المنع من الترك. نعم، قد لا يتصور أضداد الفعل الوجودية لكنه لا ينافيها بالذات بل بالعَرَض. فكان الأمر بالفعل نهيًا عن الترك بالذات وعن تلك الأضداد بالعرض. سلمنا الغفلة عن الضد. لكن سلمتم كون الأمر بالشيء أمرًا بمقدماته وإن غفل عنها فكذا ههنا. سلمنا لكنا ندعي أن الأمر بالشيء نهي عن ضده المشعور به ما لم يكلف (¬1) بما لا يطاق. ولقائل أن يقول (¬2): لا نزاع في أن الدال على إيجاب الفعل دالٌ على المنع من الترك تضمنًا. بل النزاع في دلالته على المنع من أضداده الوجودية والدليل المذكور نُصبَ (¬3) لا في محل النزاع مع إمكان نصبه فيه. " المسألة الثالثة" (¬4) المختار وهو: قول القاضي أبي بكر أنَّه ليس من شرط الوجوب تحقق العقاب على الترك، خلافًا للغزالي. ¬
المسألة الرابعة
لنا (¬1): جواز العفو عن الكبائر. وأن الواجب ما يذم تاركه شرعًا وبه (¬2) زيَّف الغزالي ما قيل: إن الواجب ما يعاقب على تركه. " المسألة الرابعة" الوجوب إذا نسخ بقي الجواز خلافًا للغزالي (¬3). لنا: إن المقتضي بالوجوب مقتضي للجواز بمعنى الإذن في الفعل، لكونه جزءًا منه والموجود لا يصلح معارضًا (¬4) له، لجواز أن يكون رفع الوجوب يرفع المنع (¬5) من الترك، فوجب بقاء الإِذن في الفعل. فإذا انضم إليه رفع المنع من الترك الحاصل من النسخ ثبت الإِذن في الفعل، والترك المشترك (¬6) بين المندوب والمباح. ¬
المسألة الخامسة
" المسألة الخامسة" ما يجوز تركه لا يجب فعله لتنافيهما. وقال الكعبي (¬1): المباح واجب لأنه ترك المحرم وهو واجب. وجوابه: إنه فردٌ من أفراد ما يترك به المحرم لا هو هو. وقال كثير من الفقهاء: يجب الصوم على المريض والمسافر والحائض، وما يؤتى (¬2) به بعد العذر قضاءٌ لما وجب. وقيل: يجب على المريض والحائض دون المسافر. وعندنا لا يجب على المريض والحائض ويجب على المسافر صوم أحد الشهرين على البدل. احتجوا بقوله تعالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} (¬3) وبأنه يسمى قضاءٌ وينوى قضاءً وهو يحكي وجوبًا سابقًا. ولأن القضاء يساوي الأداء فكان بدلًا عنه كغرامات المتلفات. والجواب أنَّه استدلال في مقابلة الضرورة (¬4)، لاستحالة الجمع بين جوازِ الترك ووجوبِ الفعل. ¬
" فروع" الأول (¬1): المندوب هل هو مأمور به. هذا بناء على أن الأمر حقيقة في ماذا؟ الثاني: المندوب لا يجب بالشروع فيه، خلافًا لأبي حنيفة (¬2). لنا: قوله عليه السلام: "الصائم المتطوعٍ أمير نفسه إن شاء صام وإن شاء أفطر" (¬3). ولأنه لو نوى صومًا يجوز له تركه. وقع كذلك لقوله عليه السلام: "ولكل امرئ ما نوى" (¬4). الثالث: ليس المباح من التكليف، لأنه لم يرد تكليف بفعله بل باعتقاد ¬
إباحته، وهما متغايران، والأستاذ أبو إسحاق سماه تكليفًا بهذا المعنى. الرابع: المباح حَسَنٌ إن عني به رفع الحرج عن فعله، وإن عني به ما يثاب على فعله (¬1) فلا. الخامس: قيل: المباح ليس من الشرع، لأن رفع الحرج كان معلومًا قبل السمع (¬2)، وقيل: هو من الشرع، لأنه إنما يثبت بإذن الشرع في الفعل أو الترك أو بإخباره عن رفع الحرج عنهما، أو بانعقاد الإجماع على أن ما لم يرد فيه طلب من الشرع لا للفعل ولا للترك فهو مباحٌ، والخلاف لفظي لأنه إن عني بكونه من الشرع أنَّه أثبت حكمًا لم يكن فليس منه. وإن عني به أنَّه ورد به خطابُ الشرع فهو كذلك لما سبق (¬3). ¬
النظر الثالث في المأمور به وفيه مسائل
" النظر الثالث " في المأمور به وفيه مسائل " المسألة الأولى" (¬1) يجوز تكليف ما لا يطاق خلافًا للمعتزلة والغزالي. لنا وجوه: الأول: الكافر مأمور بالإِيمان وهو منه محال لإفضائه (¬2) إلى انقلاب علم الله جهلًا. لا يقال: لو فرض الإِيمان بدلًا عن الكفر كان العلم (¬3) أزلًا متعلقًا به دون الكفر فلم يلزم محال. ثم لو وجب كل ما علم الله تعالى وجودَه وامتنع كل ما علم عدمه لزم أن يكون العلم (¬4) التابع للمعلوم مؤثرًا فيه. وأن يكون العلم قدرة. إذ لا معنى لها سوى الصفة المؤثرة. وأن لا يكون لنا اختيار وأن يكون العالم غنيًا عن المؤثر وأن لا يقدر الله تعالى على إيجاد شيء. ثم النزاع في ¬
الممتنع لذاته لا للعلم ثم ما ذكرتم يقتضي كون كل تكليفٍ تكليفُ ما لا يطاق ولم يقل به أحدٌ. ثم هو معارضٌ بوجوه: أ - قوله تعالى: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} (¬1). وقوله تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} (¬2). ب - إن تكليف العاجز عبثٌ وهو على الله تعالى محال. ج - المحال لا يتصور، إذ المتصور متميز، والمتميز ثابت. وما لا يتصور لم يكن إليه إشارة. والمأمور به إليه إشارة. د - لو جاز ذلك جاز أمر الجماد. لأنا نجيب عن: أ (¬3) - بأن علمه لما تعلق بعدم الإِيمان أزلًا فلولا حصول متعلقه انقلب العلم جهلًا في الماضي. ولقائل أن يقول (¬4): لا ينقلب (¬5) العلم جهلًا بل يكون تعلقه (¬6) أزلًا بالإِيمان، بدلًا عن تعلقه بعدمه. وهذا (¬7) لازم لتلازم عدم الإِيمان مع تعلق العلم به أزلًا. ب، جـ - أنَّه لا يلزم من وجوب الشيء عند العلم كونه أثرًا له. د - بمنع استحالته. هـ، و- أن العلم تبع الوقوع التابع للقدرة فلم يمنع منها (¬8). ¬
ز - أن العلم بعدم الإيمان لمَّا نافى الإيمان، كان الأمر به زمان ذلك العلم أمرًا بالجمع بين المتنافيين. ج - أنا نقول به. وعن المعارضة الأولى: بقوله تعالى: {رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ} (¬1). ثم ظواهر النقل لا يعارض القواطع بل تؤول وإن لم نعلم عين التأويل. ب - أنَّه إن عنى بالعبث الخالي عن المصلحة منعنا استحالته. جـ - أن الحكم عليه بالامتناع يستدعي تصوره ولأنا نميز بين الجمع بين الضدين وبين قولنا الواحد نصف الاثنين. د - أن الأمر إعلام (¬2) وهو في الجماد ممتنع. الثاني (¬3): إنه تعالى أخبر (¬4) عن عدم إيمان قوم فاستحالة الإيمان منهم لما سبق. الثالث: أمر أبا لهب (¬5) بالإيمان. ومن الإيمان تصديق الله تعالى في كل ما أخبر عنه. ومما أخبر عنه أنَّه لا يؤمن فقد أمر بأنه لا يؤمن وهو جمع بين الضدين (¬6). ولقائل أن يقول (¬7): لو سُلم أن تصديق الله في كل ما أخبر عنه ¬
من الإِيمان لم يلزم منه أمره بتصديق هذا الخبر عينًا إذ ما هو من الإِيمان من التصديق يجب أن يكون جمليًا. الرابع: دليل الجبر (¬1) المذكور في مسألة الحسن والقبح. الخامس: الأمر إما حال استواء الداعي إلى الفعل والترك والفعل فيها ممتنع. وأما حال رجحان الداعي إلى أحدهما، والراجح فيها واجب والمرجوح ممتنع لما مرَّ في الرابع. السادس: أفعال العبد مخلوقة لله تعالى إذ لو كانت مخلوقة له لكان عالمًا بتفاصيلها وليس كذلك وهذا مقرر في الكلام (¬2) فلا قدرة للعبد على أفعاله. ولقائل أن يقول (¬3): ذلك التقرير ضعيف يعرف في الكلام. السابع: الأمر قبل الفعل والقدرة مع الفعل إذ لا بد لها من متعلق موِجود لامتناع أن يكون المعدوم الَّذي هو نفي محض مستمر مقدورًا. لا قدرة للعبد حال وجود الفعل لامتناع إيجاد الموجود ولا قبله. إذ القدرة المتقدمة لو أثرت في الفعل المتأخر كان ذلك التأثير مغايرًا لوجود المقدور ويعود الكلام في تأثير القدرة في ذلك المغاير. والوجهان يشكلان بقدرة الله تعالى. التاسع: أمر الله تعالى بمعرفته في قوله: (فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إلَّا اللهَ} (¬4). فالمأمور إما العارف به، وتحصيل الحاصل محال، أو غير العارف ¬
به وهو ما دام غير عارفٍ به يمتنع أن يعلم أنَّه مأمور بمعرفته. وهو تكليفُ ما لا يطاق. ولقائل أن يقول (¬1): ذلك أمر بمعرفة وحدانيته تعالى. سلمنا، لكن العلم بأمره تعالى يكفي فيه علمه به باعتبارٍ ما. العاشر: إنه ورد الأمر بالنظر في قوله تعالى: {قُلْ انْظُرُواْ} (¬2) وأنه غير مقدور إذ لا قدرة على تحصيل التصور فإنه إن لم يكن مشعورًا به امتنع توجيه الذهن نحوه. وكذا إن كان (¬3) لامتناع تحصيل الحاصل. وكذا إن كان (¬4) مشعورًا به من وجه دون وجه. لأن الوجه الأول: معلوم مطلقًا، والثاني: مجهول مطلقًا وإذا امتنع تحصيل التصور امتنع تحصيل التصديق البديهي لوجوبه عند حصول تصور طرفيه، وامتناعه عند عدمه. وإذا امتنع تحصيل (¬5) البديهي فكذا تحصيل النظري لوجوبه عند حصول التصديقين البديهيين (¬6)، وامتناعه عند عدمه. فلم يكن الاستدلال مقدورًا. ولقائل أن يقول (¬7): المعلوم باعتبار صادق عليه أمكن توجه الطلب نحوه. وإنما يمتنع ذلك في المجهول بجميع اعتباراته. ثم حضور (¬8) التصديقات البديهية في الذهن كيف كان لا يوجب العلم ¬
المسألة الثانية
بالنتيجة. بل لا بد من ترتيب خاص وهو النظر وإذا كان هذا (¬1) الترتيب مقدورًا كانت العلوم النظرية مقدورة. " المسألة الثانية" (¬2) قال الأكثرون منا ومنِ المعتزلة: الكافر مخاطب بفروع الشرع (¬3) بمعنى أنَّه يعاقب على تركها خلافًا لجمهور الحنفية وأبي حامد الإِسفرائيني (¬4) منا. وقيل: يتناوله النهي دون الأمر. ¬
لنا وجوه: أ- المقتضي لوجوبها قائم لقوله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ} (¬1). والكفر ليس بمانع إذ يمكنه رفعه أولًا كرفع الحديث ولهذا قلنا: الدهري (¬2) مكلف بتصديق الرسول عليه السلام. ب - قوله تعالى: {يَتَسَاءَلُونَ عَنِ الْمُجْرِمِينَ مَا سَلَكَكُمْ في سَقَرَ قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ} (¬3) الآية. عللوا ذلك بتركهم الصلاة وغيره. ولو كذبوا لكذَّبهم الله تعالى فيه. إذ لا يستقل العقل بمعرفة كذبهم فيه ليكون ذكره بدون تكذيبهم بيانًا لعنادهم كما في قوله تعالى: {قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} (¬4). وقوله تعالى: {مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ} (¬5) فلم يبق فيه فائدة زائدة يجب حمل كلامه تعالى عليها. لا يقال: تكذيبهم بيوم الدين مذكور. وأنه مستقل باقتضاء دخول سقر، فلم يجز إحالته على غيره. ثم المراد من المصلين المسلمين كما في قوله عليه السلام: "نهيت عن قتل المصلين" (¬6). لئلا يلزم الكذب إذ أهل الكتاب منهم في سقر مع أنهم كانوا يصلون ويؤمنون بالغيب. سلمناه: لكن المراد قوم فعلوا هذه الأشياء ثم ارتدوا. ¬
لأنا نجيب عن: أ (¬1) - بأن الحكم مرتب على القيود أجمع. والتكذيب مستقل باقتضاء دخول الجحيم لا باقتضائه في موضع معين. ب - أن هذا تأويل لا يأتي في قوله تعالى: {لَمْ نَكُ نِطْعِمُ الْمِسْكِينَ} (¬2). ثم الصلاة في عرف شرعنا لما كانت هي الأفعال المخصوصة لم يكن أهل الكتاب مصلين. جـ- (¬3) أن لفظ المجرمين عام. د - قوله تعالى: {وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا (68) يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا} (¬4). وكذلك قوله تعالى: {فَلَا صَدَّقَ وَلَا صَلَّى (31) وَلَكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى} (¬5). ذمهم على الكل وكذلك قوله تعالى: {وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ (6) الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ} (¬6). هـ - النهي يتناوله لوجوب الحد عليه فكذا الأمر بجامع التمكن من استيفاء المصلحة المدلول عليها بالتكليف. لا يقال: إنما وجب عليه الحد لالتزامه أحكامنا. والفرق أن الانتهاء عن المنهي عنه مع الكفر ممكن. لأنا نجيب عن: أ (¬7) - إن من أحكام شرعنا أن لا يحد أحد بالفعل المباح. ¬
المسألة الثالثة
ب - إن النية إن اعتبرت في الامتثال فالأقدام كالاحجام في الامتناع وإلا فكذلك في الإِمكان. احتجوا (¬1): بأن الصلاة مثلًا لا تجب عليه بعد الإسلام وفاقًا ولا قبله لامتناعه، ولأنها لو وجبت لوجب قضاؤها كالمسلم بجامع تدارك المصلحة. والجواب عن: أ (¬2) - إن ما ذكرتم لا ينفي العقاب على تركها. ب (¬3) - النقض بالجمع (¬4)، والفرق أن وجوب القضاء عليه تنفير له عن الإِسلام. " المسألة الثالثة" فعل المأمور به يقتضي الإِجزاء بمعنى (¬5) سقوط الأمر خلافًا لأبي هاشم (¬6). ¬
المسألة الرابعة
لنا: إن الأمر لم يتناول غير المأتي به لأنه تمام المأمور به فامتنع بقاؤه بعده لامتناع تناوله إياه بعده. ولأنه لو قال السيد لعبده افعل هذا فإذا فعلت، لا يجزئ عنك عُدَّ مناقضًا. احتجوا بوجوه: أ - النهي لا يقتضي الفساد فالأمر لا يقتضي الإِجزاء. ب - يجب إتمام الحج والصوم الفاسدين بلا إجزاء. ج - كون المأمور به سببًا لسقوط التكليف زائد على مدلول الأمر. والجواب عن: أ - إن النهي لا ينفي كون المنهي (¬1) عنه سببًا لغيره والأمر يقتضي فعل المأمور به فاستحال بقاؤه بعده. ب - إنه لا (¬2) يجزئ عن الأمر بالحج والصوم بل عن الأمر بالإتمام (¬3). جـ - إن الأمر يقتضي فعل المأمور به وهو يقتضي سقوط التكليف وهو المعني في اقتضائه للإجزاء. " المسألة الرابعة" الإِخلال بالمأمور به المؤقت (¬4) لا يوجب القضاء لوجهين: أ - إن الأمر لم يتناول غير ذلك الوقت لغة فلم يدل عليه نفيًا ولا إثباتًا. ب - إن الأمر انفك عن إيجاب القضاء كما في الجمعة. ووجود (¬5) الدليل بدون المدلول خلافُ الظاهر. وإثبات ما لا يدل عليه اللفظ ليس خلاف الظاهر. ¬
المسألة الخامسة
وإن كان الأمر مطلقًا (¬1) فمن نفى الفور أوجب الفعل مطلقًا ومن أثبته لم يوجب القضاء إذا فات الفعل في أول وقت الإِمكان إلَّا لمنفصل محتجًا بما ذكرنا في الأمر المؤقت إلّا (¬2) أبا بكر (¬3) الرازي. فإنه قال الأمر اقتضى وجوب الفعل وأنه يقتضي كونه فاعلاً على الفور. واقتضى أيضًا كونه فاعلًا على الإِطلاق. فإذا فات الأول وجب بقاء الثاني. " المسألة الخامسة" الأمر بالأمر بالشيء كقوله عليه السلام: "مروهم بالصلاة" (¬4) ليسِ بأمرٍ به وإن انضم إليه قوله: وكل من أمرته (¬5) بشيء فقد أمرته به كان آمرًا به. لكن إنما جاء ذلك من القول الثاني. ¬
المسألة السادسة
" المسألة السادسة" الأمر بالماهية ليس أمرًا بشيء من جزئياتها. لأنها ليست هي هي. ولا لازمة لها فلم يدل اللفظ عليها لا بالمطابقة ولا بالتضمن ولا بالالتزام. نعم لو دلت القرينة على الرضا بشيء منها نزل عليه كقوله (¬1): "بع" فإن العرف يشهد بالرضا بثمن المثل. ¬
النظر الرابع في المأمور وفيه مسائل
" النظر الرابع" (¬1) في المأمور وفيه مسائل " المسألة الأولى" يجوز أن يصير الشخص مأمورًا بعد وجوده بأمر وجد قبله خلافًا لسائر الفرق (¬2). ¬
لنا: إنَّ الواحد منا مأمور بأمر الرسول - صلى الله عليه وسلم -، ولأنه كما جاز قيام طلب العلم من الولد قبل وجوده بذات الأب، جاز أن يقوم بذات الله تعالى طلب فعل العبد قبل وجوده. لا يقال: أمره عليه السلام إخبار عن الله تعالى بأمر أحدنا عند وجوده. سلمنا لكن كان ثم من يسمع ذلك الأمر ثِم يبلغه إلينا، ولم بكن في الأزل أحد يسمع أمره تعالى، فكان أمره أزلًا عبثًا. لأنه أجيب عن: أ (¬1) - بأن أمره تعالى أيضًا إخبار عن نزول العقاب بتركه. لكنه مشكل لأن أمره تعالى لو كان خبرًا لتطرق إليه التصديق والتكذيب ولامتنع العفو، لامتناع الخلف في خبره. ولأن أخباره تعالى في الأزل لنفسه عبث ولغيره محال. ومن هذا الإِشكال قال أبو عبد الله بن سعيد (¬2): إن كلام الله تعالى إنما يصير أمرًا ونهيًا أو خبرًا، فيما لا يزال ولو أورد عليه بأن المفهوم منه الأمر والنهي والخبر. فإذا سلمت حدوثها لزم حدوث الكلام. فله أن يعني بالكلام القدر المشترك بينها (¬3). ¬
المسألة الثانية
ولقائلٍ أن يقول: إذا لم ينفك المشترك عن أحد القيود لزم من حدوثها حدوثه. ويمكن الجواب عن أصل الإِشكال، بأنه مبني على الحسن (¬1) والقبح وقد تقدم. " المسألة الثانية" لا يجوز تكليف الغافل لقوله عليه السلام: "رفع القلم عن ثلاثة" (¬2). ولأن شرط فعل الشيء العلم به. فالأمر بالفعل حال عدم العلم به تكليفُ ما لا يطاق. لا يقال: الجاهل قد يتفق الفعل منه وحكم الشيء حكم مثله فليمكن ذلك مرارًا وحينئذٍ يجوز أنْ يعلم الله تعالى صدور ذلك من شخصٍ فلم يكن تكليفه به تكليفًا بما لا يطاق. ثم إنه منقوض بالأمر بمعرفة الله. فإنه قبل العلم به لئلا يلزم الأمر بتحصيل الحاصل أو الجمع بين المثلين. وبالأمر (¬3) بالنظر فإنه لا يعلم إلَّا بعد الإِتيان به وبعد الإِتيان به (¬4) لا يجب تحصيله لما سبق (¬5) آنفًا. ¬
المسألة الثالثة
ومعارض (¬1) بقوله تعالى (¬2): {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى} (¬3). لأنا نجيب عن أ: أنا ندعي أن فعل الشيء لغرض الإِمتثال مشروط بالعلم به وهو ضروري. ب - ما قيل: إن العلم بوجوب النظر ضروري. وهو ضعيف لتوقفه على كون النظر في الإِلهيات، يفيد كونه متعينًا (¬4) له وهما نظريان (¬5). ج - أن المراد من ظهر منه مبادئ النشاط معناه حتَّى يتكامل فيكم العلم كما يقال للغضبان: اصبر حتَّى تعلم ما تقول. وقيل وردت في ابتداء الإِسلام. والمراد المنع من إفراط الشرب كما يقال: لا تتهجد وأنت شبعان. أي لا تشبع فيثقل عليك التهجد. " المسألة الثالثة" يجب قصد الامتثال في المأمور به لقوله عليه السلام: "إنما الأعمال بالنيات" (¬6) ويستثنى عنه ................................................ ¬
المسألة الرابعة
... الواجب الأول (¬1) لعدم العلم بوجوبه قبل الإتيان به وقصد الامتثال لامتناع التسلسل. " المسألة الرابعة" الملجأ إلى الفعل لا يؤمر به ولا بتركه لوجوب الفعل وامتناع الترك. وقد يقال فعل المكلف إما اضطراري وإما (¬2) اتفاقي كما سبق. ولا شيء منهما باختياره. وإذا جاز ذلك فلم لا يجوز تكليف المكره. " المسألة الخامسة" المأمورا إنما يصير مأمورًا بالفعلِ حال وقوعه لا قبله، خلافًا للمعتزلة. والموجود قبله إعلام بأنه يصير مأمورًا. لنا: إن الفعل قبل وقوعه ممتنع، وإلا تناول الأمر زمان الإِمكان. والمثل مندفع، لأن وجوب الفعل بالقدرة لا يمنع وقوعه بها. لا يقال: إنه في الزمان الأول (¬3) مأمور بإيقاع الفعل في الزمان الثاني، ¬
المسألة السادسة
لأن كونه موقعًا للفعل إن كان عين القدرة (¬1) أو غيرها، ولم يحصل في الزمان الأول لم يوجد فيه إلَّا نفس القدرة. وإن حصل كان مأمورًا بالإِيقاع زمان حصوله. ولقائلٍ أن يقول: لا امتناع في تناول الأمر زمان إمكان الفعل، ولو فرض وقوعه في ذلك الزمان كان مأمورًا بالفعل قبله فلا خلف فيه. ثم ما ذكرتم يقتضي أن لا يذم تارك المأمور به أصلًا (¬2) لامتناع الذم قبل الأمر. " المسألة السادسة" الجاهل بفوات شرط المأمور به جاز أن يؤمر به. ويكون أمرًا بشرط حصول (¬3) الشرط. والعالم به لا يجوز أن يؤمر به عند جمهور المعتزلة. ويجوز ذلك عند القاضي أبي بكر والغزالي، إذ الأمر كما يحسن لمصلحة المأمور به يحسن أيضًا لمصلحة تنشأ من نفس الأمر من الامتحان، وتوطين النفس على الامتثال فيكون لطفًا له معادًا ومعاشًا. ¬
الفصل الرابع في المناهي
" الفصل الرابع " في المناهي وفيه مسائل " المسألة الأولى" النهي للتحريم لقوله تعالى: {وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُواْ} (¬1). ومعنى تحريم الفعل وجوب الانتهاء عنه والمذاهب فيه كما في أن الأمر للوجوب. " المسألة الثانية" المشهور أنَّه يفيد التكرار، وقيل لا. وهو المختار. لنا: إنه يقال للمريض لا تقعد وللصبي لا تلعب أي اليوم. والأصل الحقيقة الواحدة. ولأنه ليس تقيده بالدوام وعدمه تكرارًا ونقضًا. احتجوا بأمور: أ - إن الامتناع عن الماهية بالامتناع عن كل أفرادها وذلك بالامتناع دائمًا. ب (¬2) - إنه في العرف نقيض الأمر المفيد للمرة. جـ - إن الامتناع دائمًا ممكن ولا يخصص اللفظ بوقت فيعم. ¬
المسألة الثالثة
الجواب عن: أ - أن الامتناع أعم منه مع الدوام وعدمه. ب - أن تناقضهما لدلالتهما على النفي والإِثبات والمدلولان إنما يتناقضان عند اتحاد الوقت. ج - أن دلالته على نفس الامتناع فقط. تنبيه: إن قلنا: إنه (¬1) يفيد التكرار أفاد الفور وإلا فلا. " المسألة الثالثة" (¬2) المنهي عنه لا يؤمر به لدخول إثبات الحرج في الفعل في ماهية النهي (¬3)، ورفعه في ماهية الأمر. والجمع بينهما تكليفٌ بالمحال. وجوزه الفقهاء فيما له جهتان، كالصلاة في الدار المغصوبة. إذ جهة كونها صلاةً تباين جهة كونها غصبًا، فجاز تعلق الأمر بأحدهما والنهي بالأخرى وهو ضعيف. أما إجمالًا فلأنه إن لم تتلازم الجهتان فلا نزاع فيه. وإن تلازمتا والأمر بالملزوم أمر بلازمه، فالجهة المنهي عنها مأمورٌ بها. وأما تفصيلًا فلأن الحركة والسكون جزء ماهية الصلاة وشغل الحيز جزؤهما فشغل الحيز جزء الصلاة فشغل هذا الحيز جزء هذه الصلاة، وأنه منهي عنه فلا يكون مأمورًا به فلم تكن هذه الصلاة مأمورًا بها إذ الأمر بالكل أمر بالجزء. ولقائلٍ أن يقول: لا نزاع في أن الفعلِ المعين إذا أمر به بعينه لا يُنهى عنه إنما النزاع في الفعل المعين إذا كان فردًا من أفراد الفعل المأمور به هل ينهى عنه وما نفيتموه جوازه بيِّن إذ عندكم. الأمر بالماهية، ليس أمرًا بشيء من أفرادها، ولأنه لو امتنع ذلك لامتنع النهي عن فعل ما، لأن نفس الفعل مأمور ¬
المسألة الرابعة
به لكونه جزءًا من الفعل المأمور به. وكل منهي عنه فرد من أفراد نفس الفعل (¬1). احتجوا بقوله تعالى: {أَقِيْمُواْ الْصَّلَاةِ}. وجوابه: لو سَلِمَ عمومه فهو مخصوص بما ذكرناه فإنه لا قضاء بعد هذه الصلاة إجماعًا. قلنا: يسقط عندها لا بها، كما قال القاضي أبو بكر. " المسألة الرابعة" النهي لا يفيد الفساد عند أكثر الفقهاء ويفيده عند بعض أصحابنا. وقال أبو الحسين البصري: يفيده في العبادات دون المعاملات وهو المختار. ومعنى الفساد في العبادات عدم الإِجزاء، وفي البيع مثلًا أنَّه لا يفيد الملك. لنا: في العبادات أنَّه لم ياتِ بالمأمور به، لأن المنهي عنه لا يؤمر به لما سبق فلا يخرج عن العهدة، لأن تارك المأمور به يستحق العقاب. احتجوا بوجوه: أ - المنهي عنه قد يكون سببًا للخروج عن العهدة، كالصلاة في الثوب المغصوب. ب - أن النهي وضع للزجر وعدم الإِجزاء، ليس هو ولا لازمه لجواز أن يقال: لا تصل في كذا وإذا صليت فيه صحت فلم يدل عليه (¬2) بلفظه ولا بمعناه. ¬
جـ (¬1) - الصلاة في الأوقات المكروهة والوضوء بالماء المغصوب، منهي عنهما مع صحتهما. الجواب عن: أ - أن مماسة (¬2) البدن ليس جزءًا من الصلاة ولا مقدمةً لها. فالآتي بها آتٍ بالمأمور به بلا خلل. ب - أن النهي دل على أن المنهي عنه غير المأمور به، والنص على أن عدم الإِتيان به لا يخرج عن العهدة، فدل النهي عليه بهذه الواسطة. ج - أن متعلق النهي مجاور لمتعلق الأمر لما بينا. ولنا في المعاملات: أن عدم إفادة الملك ليس معنى النهي، ولا لازمه لجواز أن يقال: لاتبع وإذا بعتَ أفاد الملك فلم يدل عليه لا بلفظه ولا بمعناه. فلأن قال هذا يشكل بالعبادات ثم نقول: يدل عليه بمعناه لوجهين: الأول: إنه يدل على أن المنهي عنه معصية، والملك نعمة فناسب أن لا يناط به. الثاني: النهي يدل على اشتمال المنهي عنه على المفسدة الخالصة أو الراجحة أو المساوية، فيكون الإِقدام عليه عبثًا، فيناسب الفساد وأصله المنهيات الفاسدة. ثم أنَّه معارض بوجوه: أ - قوله عليه السلام: "من أدخل في ديننا ما ليس منه فهو رد" (¬3). والمنهي ¬
المسألة الخامسة
عنه (1) ليس من الدين فكان (2) ردًا والمردود لا يفيد الحكم. ب - تمسك الصحابة على الفساد في الربا، ونكاح المتعة بالنهي. ج - النهي نقيض الأمر المفيد للإِجزاء فيفيد الفساد. د - القياس (3) على المنهيات الفاسدة. والجواب عن: أ (4) أنَّه لا نقض مع تابين المعنيين. ب (5) - مذكور في الخلاف. جـ - أن المنهي عنه من حيث إنه كذلك ليس من الدين، ومن حيث إنه يفيد الحكم منه. د - أن تمسكهم بالنهي مع القرينة إذ حكموا في كثيرٍ من المناهي بالصحة وترك الظاهر خلاف الأصل. هـ - أن المتضادين قد يشتركان في بعض اللوازم ثم كونه نقيض الأمر يقتضي أن لا يفيد الإِجزاء إلَّا أن يفيد الفساد. و- ما سبق. " المسألة الخامسة" ممن قال النهي في المعاملات لا يدل على الفساد من قال: إنه يدل على الصحة وهو أبو حنيفة ومحمد بن الحسن (6) رحمهما الله. وأنكره (1) سقط من "أ، جـ، هـ". عنه. (2) وفي "ب، د" (فيكون) بدل (فكان). (3) وقياس النهي على المنهيات الفاسدة بجامع السعي في إعدام تلك المفاسد. (4) هذا الجواب عن قوله: وهذا يشكل بالنهي في العبادات. (5) هذا الجواب عن "أ، من أوجه المعارضة والذي بعده، عن "ب" والذي بعده عن "ج" والذي بعده عن "د". ولا يوجد "هـ"، في الترقيم السابق. (6) هو أبو عبد الله محمد بن الحسن الشيباني صاحب أبي حنيفة ولازم أبا يوسف ناظر الشافعي واعترف له بالفضل توفي عام 189 هـ له تراجم في الفتح المبين 1/ 110، الأعلام 3/ 182، الفهرست 287، وفيات الأعيان 1/ 574.
المسألة السادسة
أصحابنا لقوله عليه السلام: "دع الصلاة (¬1) أيام أقرائك" (¬2). "ونهى عن بيع المضامين والملاقيح" (¬3) مع عدم الصحة. احتجوا: بأن النهي عن (¬4) غير المقدور عبث. وجوابه: النقض بالنهي المذكور (¬5) ثم يجوز حمل النهي على النسخ (¬6) كقول الموكِّل لوكيله لا تبع ثم يجوز حمل البيع على معناه اللغوي وهو مقدور (¬7). " المسألة السادسة" المطلوب بالنهي فعل ضد المنهي عنه وعند أبي هاشم هو نفس أن لا يفعل. لنا: أن النهي تكليف وهو إنما يرد بالمقدور. والعدم المستمر لا يكون مقدورًا. احتج: بأن العقلاء يمدحون من لم يزنِ على عدم الزنا وان لم يخطر ببالهم فعل الضد. ¬
المسألة السابعة
وجوابه: أنَّه إنما يمدح على ما يقدر عليه وهو الامتناع وأنه وجودي. ولو قلت: الإِبقاء على العدمٍ الأصلي مقدور. قلنا: الإِبقاء على العدم، إن كان عدمًا لم يكن مقدورًا، وإلا كان وجوديًا وهو فعل الضد. " المسألة السابعة" الأشياء قد ينهى عنها على الجمع كقوله: لا تفعل هذا ولا ذاك. وعن الجمع كقوله: لا تجمع بينهما (¬1). وعلى البدل كقوله: لا تفعل هذا إن فعلتَ ذاك. وعن البدل ويفهم منه (¬2) تارةً النهي عن جعل الشيء بدلًا لغيره، وتارة النهي عن فعل أحدهما دون فعل الآخر. ثم ما كان منها ممكنًا جاز التكليف به. وإلا خرج على تكليف ما لا يطاق. ¬
الكلام في العموم والخصوص
الكَلَام في العُمُوم وَالخصُوص وَفيه فصُول
الفصل الأول في ألفاظ العموم
" الفصل الأول " في ألفاظ العموم "وفيه مسائل" " المسألة الأولى" العام: (لفظ مستغرق لكل ما يصلح له في وضعٍ واحد) (¬1). والأول: احتراز عن (¬2) النكرات وحدانًا وتثنيةً وجمعًا، وعن ألفاظ العدد. والثاني (¬3): عن المشترك وما له حقيقةٌ ومجاز فإن عمومه لا يستغرق جميع المفهومات. وقيل: (هو لفظة دالة على شيئين فصاعدًا بلا حصر) (¬4) واحترز باللفظة عن المعاني العامة والألفاظ المركبة. وبالدالة عن الجمع المنكر. وبالشيئين فصاعدًا عن النكرة في الإِثبات. وبقولنا: بلا حصر عن أسماء العدد. " المسألة الثانية" عموم اللفظ لغة إما على البدل كالنكرات أو الجمع، إما بنفسه (¬5) كأي، وما، ومن، في المجازاة (¬6) والاستفهام. وكل، وجميع، ومتى، ¬
المسألة الثالثة
وأين (¬1)، وحيث، أو بغيره. كالجمع مع الإِضافة أو الألف واللام، وكالنكرة مع النفي وعمومه عرفًا كتحريم الأمهات، فإنه يفيد تحريم جميع وجوه الاستمتاع عرفًا وعمومه عقلًا. كما يذكر الحكم بعد سؤالٍ بلفظ عامٍ، أو يقرن (¬2) به علته، وكدليل الخطاب (¬3) عند من يقول بعمومه. " المسألة الثالثة" (¬4) الماهية من حيث هي لا واحدةً ولا لا واحدة (¬5). ولا كثيرة ولا لا كثيرة (¬6). وكذا سائر القيود. فاللفظ الدال عليها من حيث هي: هو المطلق والدال عليها، مع كثيرةٍ معينة (¬7)، هو لفظ العدد، ومع كثرةٍ غير (¬8) معينة هو اللفظ العام. ومع وحدةٍ معينة المعرفة، ومع وحدةٍ (¬9) غير معينة النكرة. ¬
المسألة الرابعة
" المسألة الرابعة " لفظة: (أي، وما، ومن، وأين، ومتى، في الاستفهام والمجازاة. وكل، وجميع، للعموم). وهو قول المعتزلة والفقهاء. وقال أكثر الواقفية: إنها مشتركة بينه وبين الخصوص وتوقف فيه أقلهم. لنا وجوه: أ - أنها (¬1) إذا ذُكرت بلا قرينةٍ لو كانت للخصوص لما حسن الجواب بذكر العموم، ولا الجري (¬2) على موجب الأمر، بفعله لعدم المطابقة (¬3). ولو كانت مشتركة بينهما لوجب الاستفهام عن جميع مراتب الخصوص لاحتمالها، ولم يجب - لقبحه - لغة وتعذره عقلًا فهي للعموم. لا يقال: إنما حسن الجواب بالكل لأنه يفيد المطلوب جزمًا (¬4) ثم قبح بعض الاستفهامات يعارضه حسن بعضها. ثم ما ذكرتم معارض بأنها لو كانت للعموم، لكان جواب قولنا: من عندك؟ بلا أو نعم. كقولنا أكلُّ (¬5) الناس عندك؟. لأنا نجيب عن: أ (¬6) - بأنه يلزم منه حسن الجواب بذكر الرجال والنساء. لو قال: مَن عندك مِن الرجال؟ لجواز تعلق غرضه بالسؤال عن ¬
القبيلين. كيف؟ وقد يكون غرضه ذكر البعض والسكوت عن الباقي. ب - أن الاشتراك يعم بجميع مراتب الخصوص وفاقًا وذلك يوجب حسن جميع الاستفهامات، وعدم الاشتراك لا يوجب (¬1) قبح جميعها، لما نبين من فوائد الاستفهام. جـ - أن "لا ونعم" جواب سؤال للتصديق، وقوله من عندك؟ سؤال التصور. أي اذكر كل من عندك؟. ب - أنَّه يصح استثناء كل واحدٍ من الآحاد منها، أما في الاستفهام ففي جوابه (¬2)، وأما في غيره ففي أصله. والاستثناء يخرج من الكلام ما لولاه لوجب دخوله فيه إذ صحة الدخول معتبرة في الاستثناء من الجنس وفاقًا، ولأن الاستثناء مشتق من الثني، وهو الصرف فلو لم يعتبر الوجوب فيه لما فرق (¬3)، في الاستثناء بين الجمع المنكر والمعرف لحصول الصحة فيهما والفرق معلوم بالضرورة من أهل اللغة. لا يقال: هذا منقوض (¬4) بالاستثناء من جموع القلة (¬5) والجمع المنكر وبقولنا: صل إلَّا اليوم الفلاني. ثم لا نسلم صحة استثناء كل أحدٍ. إذ لا يصح استثناء الملك والجن والملوك واللصوص (¬6). ثم دليل اعتبار الوجوب في الاستثناء معارض، بأن الحمل على الأعم أولى. وبأنه يلزم منه كون الجمع المنكر للعموم. ثم إنما يلزم العموم (¬7) من المقدمتين لو لم تجز المناقضة على الواضع فإنه ممنوع. ¬
ثم صحة الاستثناء تنفي العموم لئلا يكون نقضًا له (¬1). لأنا نجيب عن: أ (¬2) - بأن استثناء كل عدد من جمع القلة كالألف وما فوقه لا يصح، وأنه إذا لم يفد الوجوب في الجمع المنكر فلمْ يفده في غيره والاستثناء قرينة في دلالة الأمر على التكرار. ولقائلٍ أن يقول: بأن النقض استثناء الأفراد من جموع القلة. ولو أفاد الوجوب في غير الجمع المنكر لزم الاشتراك أو المجاز. ولو دل الأمر على غير موضوعه لقرينة لزم المجاز. كيف وأن صحة الاستثناء لا (¬3) توجب وجوده (¬4). ب (¬5) - إن خروجهم بقرينة الحال إذ يصح أن يقول الله: أطعِم من خلقت إلَّا الملَك والجن وانظر بعين الرحمة إلى من خلقت إلَّا الملوك المتكبرين واللصوص. ¬
جـ (¬1) - أن مفيد الوجوب مفيد الصحة فالحمل عليه جمع بين الدليلين والجمع المنكر مرَّ جوابه. د (¬2) - أن الأصل عدم التناقض من العقلاء. هـ (¬3) - سيأتي: ولقائلٍ أن يقول (¬4): هذا الوجه حجةٌ على المتوقفين من الواقفية. والحجة على من يدعي الاشتراك أنها إذا كانت للعموم لا تكون للخصوص بالنافي للاشتراك. ج - لما نزل قوله تعالى: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ} قال ابن الزبعري (¬5) لأخمصن محمدًا به. ثم أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - وقال (¬6): ¬
أليس قد عُبد الملائكة أليس قد عُبد عيسى؟ تمسك بالعموم ولم ينكر عليه حتَّى نزل قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ}. ولم يكن سؤاله خطأً لأن "ما" تتناول العقلاء أيضًا. لقوله تعالى: {وَالْسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا} (¬1). الآية. د - قولنا: جاءني كل فقيه يناقضه قولنا: ما جاءني كل فقيه ورفع الكل لا يناقض ثبوت البعض. ولقائلٍ أن يقول: يكفي في تناقضهما دلالتهما على شيء واحد. هـ - سبق الفهم إلى العموم من قوله: أعط من دخل داري رغيفًا. وسقوط الاعتراض عن المأمور بالاستيعاب وتوجه اللوم عليه بالاقتصار يوجب عمومه. و- فرق أهل اللغة بين قولنا: جاءني الفقهاء أوكل فقيه وبين قولنا: جاءني فقهاء، ومبادرتهم إلى استعمال هذه الألفاظ للعموم يوجب عمومها. ز - كذَّب عثمان (¬2) بن مظعون .............................................. ¬
.......... قول لبيد (¬1): (وكلُّ نعيم لا محالةَ زائل) (¬2) بقوله (نعيم أهل الجنّة لا يزول) وإنما يصح تكذيبه لو أفاد العموم. تذنيب (¬3): النكرة في النفي للعموم لوجوه: أ - قوله أكلت اليوم شيئًا يناقضه قوله: ما أكلت اليوم شيئًا. ونقيض الجزئي كلي. ب - قوله تعالى: {قُلْ (¬4) مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى} (¬5). لما قالت اليهود (وما أنزل الله على بُشر من شيء) ولو لم يكن الثاني للعموم، لما كان الأول مكذبًا له. ج - لولا عمومها لما كان قوله) (¬6): لا إله إلَّا الله نفيًا للآلهة بأسرها سوى الله تعالى. وأما النكرة في الإِثبات إن كانت خبرًا لم تفد العموم، وإن كانت أمرًا أفادته عند الأكثر، للخروج عن العهدة بكل واحدة. ¬
احتج الواقفية بوجوه: أ- العلم بعمومها ليس ضرورياً ولا نظرياً عقلياً. إذ لا مجال للعقل في اللغات ولا نقلياً متواتراً، لوجود الخلاف ولا آحاداً لأنها لا تفيد العلم. ب- استعمال (¬1) اللفظ في العموم والخصوص يقتضي الاشتراك إذ لا طريق الى العلم بكون اللفظ حقيقة، إلا ذلك ولأنه لو لم يكن مشتركاً بينهما، لكان مجازاً في أحدهما لقرينة وهو خلف الأصل. ولأن تلك القرينة لا تعلم ضرورة لوجود الخلاف. ولا نظراً إذ ليس في أدلة مثبتيها ما يعوَّل عليه. جـ- لو كان للعموم. لما حسن الاستفهام لأن طلب الفهم عند المقتضي له عبث. د- ولكان تأكيده عبثاً، لِإفادته فائدة حاصلة. هـ (¬2) - ولكان الاستثناء نقضاً كتعديد الأشخاص واستثناء (¬3) واحدٍ. وكقوله: ضربت كل من في الدار. ما ضربت بعض من في الدار. و- ولكان إيراد الكل والبعض "على من وما" تكراراً ونقضاً. ز- ولامتنع جمع (¬4) "من " لكنه لم يمتنع لقول الشاعر: (أتوا ناريَ فقلتُ منون أنتم؟) (¬5). ¬
والجواب عن: أ- أنه معلوم بالضرورة بعد استقراء (¬1) اللغات. سلمناه: لكنه يجوز أن يعلم بالعقل (¬2) بواسطة كما سبق. سلمنا، لكن المسألة عندنا ظنية والآحاد تفيد الظن. ب- أن الاستعمال قد يوجد مع المجاز فلا يفيد العلم بالحقيقة، وعندكم المسألة علمية. وأيضاً المجاز أولى من الاشتراك. ثم لا نسلم أن الضروري لا ينكره جمع قليل. سلمنا، لكن لا يلزم من عدم الوجدان عدم الوجود. جـ- أن الاستفهام لو كان للاشتراك لوجبت الاستفهامات (¬3) المذكورة، ولامتنع أن يجانب عنه بعين ما منه (¬4) الاستفهام. ومن فوائد الاستفهام الثقة بتحفظ المتكلم، ونفي الظن بالمخصص وتقوية الظن بالعموم، وترجيح المعمم على المخصص (¬5). د- أن تاكيد ألفاظ العدد. وتأكيد الشيء بنفسه من غير اشتراك. وأيضاً التأكيد تقوية الحاصل. فلو كان هو الاشتراك كان التأكيد تقوية له. وتعيين أحد مفهومي اللفظ لا يكون تأكيداً بل بياناً. ومن فوائد التأكيد إبعاد التجوز والتخصيص وتقوية الظن بالعموم. هـ - أن استثناء ألفاظ العدد بلا اشتراك. والفرق أن الخبر يتعدد بتعدد الأشخاص وشيء منه لا يقبل الاستثناء. وقوله: ما ضربت بعض من في الدار. مستقل بنفسه فلا يتعلق بما تقدم فيناقضه. و- أن عمومها قد يشترط فيه عروها عن البعض. ز- أنه إشباع حركة وفاقاً لا جمع. ¬
المسألة الخامسة
" المسألة الخامسة" الجمع المعرف باللام للعهد إن كان. وإلا فللعموم خلافاً للواقفية وأبي هاشم. لنا وجوه: أ- تمسك أبو بكر رضي الله عنه على الأنصار لما طلبوا الإمامة، بقوله عليه السلام: "الأئمة من قريش" (¬1) وتمسك عمر (¬2) على أبَي بكر رضي الله عنهما، لما همَّ بقتال مانعي الزكاة بقوله عليه السلام: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله" (¬3) ولم ينكر عليهما. ب- أنه بعد التأكيد بكلهم وأجمعين يفيد العموم وفاقاً فكذا قبله إذ التأكيد تقوية الأصل. وقول سيبويه: جمع السلامة للقلة محمول على المنكَر منه لما بينا (¬4). وتأكيد جمع القلة والمنكر ممنوع عند البصريين. جـ (¬5) - الألف واللام للتعريف وفاقاً. والمعرف به ليس هو الماهية، لتعرفها بالجمع ولا البعض إذ لا بعض أولى من بعض فهو الكل. ولقائل أن يقول: هما لتعيين الجمع المشترك بين كل جمع، ¬
كما أنهما في المفرد (¬1)، لتعيين الماهية المشتركة بين كل فرد. د - التمسك بصحة الاستثناء. هـ - يصح انتزاع ما دون الكل من الجمع المعرف بلفظ الجمع المنكَّر والمنتزع منه أكثر (¬2). احتجوا: بانه لو كان للعموم لزم الاشتراك أو المجاز في استعماله في (¬3) العهد، وفي قولهم: جمع الأمير الصاغة. و- لكان إيراد الكل أو البعض (¬4) عليه تكراراً ونقضاً. والجواب عن: أ (¬5) - أنه للأظهر عند السامع من العهد والكل ولا اشتراك (¬6) ولا مجاز. وقد يقال: هو في العهد مجاز لتوقفه على قرينة العهد. ب - أنه تخصص بالعرف. جـ - أن لفظ الكل تاكيد ولفظ (¬7) لبعض تخصيص. فرع: الجمع (¬8) المعرَّف بالِإضافة كهو (¬9) باللام والكناية (¬10) يتبع ¬
المسألة السادسة
المكنى في العموم. أمر الجمع بلفظ الجمع للعموم لاستحقاق كل منهم الذم بتخلفه (¬1). " المسألة السادسة" المفرد المعرف باللام ليس للعموم خلافاً للفقهاء والجبائي والمبرد. لنا وجوه: أ- لا يفهم العموم من قوله: لبست الثوب وشربت الماء. والأصل عدم تخصيص العرف إلاَّ لمعارض. ب- لا يؤكد بما يؤكد به الجمع ولا ينعت بما ينعت به، وقولهم: أهلك الناسٍ الدرهم البيض والدينار الصفر مجاز إذ لم يطرد، ولأنه لو كان حقيقة لكان وصفه بالأصفر مجازاً كالدنانير. جـ -أن إحلالَ هذا البيع إحلالٌ للبيع لكونه جزؤه. فلو أفاد إحلال البيع العموم، لأفاده إحلال هذا البيع (ويجعل عروه عن) هذا شرطاً لعمومه ولا تقييده به مانعاً منه، لأن العدم لا مدخل له في التأثير والتعارض خلاف الأصل. ولقائلِ أن يقول (¬2): كيف جعلت عراء (¬3) لفظ الكل عن لفظ البعض شرطاً لِإفادته العموم مع هذا الجواب. د- أنه لا يفيد إلا الماهية التي لا إشعار لها بالوحدة والكثرة. ¬
المسألة السابعة
احتجوا بوجوه: أ- التمسك بصحة استثناء الأفراد كما في قوله تعالى: {إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا} (¬1). ب- الألف واللام ليستا لتعريف الماهية لحصوله بأصل الاسم ولا للوحدة ولا للبعض (¬2) فتعين للكل (¬3). جـ - ترتيب الحكم على الوصف مشعر بالعلية فيعم الحكم لعموم العلة (¬4). والجواب عن: أ- أنه مجاز إذ لم يطرد (¬5). وقد يقال: إنما صح ذلك لعموم الخسر كل الناس غير المؤمنين. ب- أنه لتعيين الماهية. جـ- أنه تمسكٌ بغير اللفظ. " المسألة السابعة" أقل الجمع ثلاثة عند الشافعي وأبي حنيفة. وقال بعض الصحابة والتابعين والأستاذ أبو إسحاق والقاضي إنه إثنان. لنا: أن أهل اللغة فصلوا بين الواحد والتثنية والجمع فكذلك فصلوا بين ضمائرها ولأن الجمع ينعت بالثلاثة والتثنية بالاثنين ولا ينعكس. ¬
احتجوا بأمور: أ- قوله تعالى: {وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ} (¬1). وأراد داود وسليمان عليهما السلام. وقوله تعالى: {إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ} (¬2) وكانوا إثنين وقوله تعالى: {خَصْمَانِ} وقوله تعالى: {إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُودَ فَفَزِعَ (¬3) مِنْهُمْ قَالُوا لَا تَخَفْ خَصْمَانِ} (¬4) وقوله تعالى: {هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا} (¬5). وقوله في قصة موسى: {إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ} (¬6). وقوله تعالى (¬7): {عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا} (¬8) وأراد يوسف وأخاه. وقوله تعالى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا} (¬9). وقوله تعالى: {إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} (¬10). ب- قوله عليه السلام: "الِإثنان فما فوقهما جماعة" (¬11). جـ- إن الاجتماع حاصل في الِإثنين. والجواب عن: 1 - الآية الأولى: أن المراد المتحاكمان والحاكم. وأن المصدر يضاف (¬12) إلى الفاعل والمفعول وعن آية الخصام. أن الخصم يطلق على ¬
الواحد والجمع كالضيف. والمراد في قصة موسى هو وهارون وفرعون. وفي قصة يعقوب يوسف وأخاه والأخ الثالث القائل: {فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي} (¬1). وعن آية الاقتتال: أن كل طائفة جمع. وعن الآية الأخيرة: أن القلب يطلق على الميل الحاصل فيه. يقال للمنافق ذو وجهين وقلبين. فوجب الحمل عليه إذ القلب لا يوصف بالصغو بل الداعي الحاصل فيه. وعن الخبر أنه محمول على إدراك فضيلة الجماعة (¬2). وقيل: إنه عليه السلام "نهى عن السفر إلا في جماعة" (¬3). ثم بيَّن أن الاثنين فما فوقهما جماعة في جواز السفر. وعن الأخير: أن النزاع في لفظ الرجال والمسلمين لا في لفظ الجمع. فرع: الجمع المنكَّر عندنا يحمل على أقل الجمع وهو الثلاثة. وقال الجبائي يحمل على العموم. لنا: أنه يمكن نعته بأي عدد شئنا، فكان للقدر المشترك بين الكل. ¬
المسألة الثامنة
واحتج (¬1): بأن حملُه على العموم حملٌ له على جميع حقائقه. وجوابه: أنه (¬2) لا حقيقة له إلا القدر المشترك، لكن الثلاثة لا بد منها فتعينها لذلك. " المسألة الثامنة" قوله تعالى: {لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ} (¬3). لا ينفي استواءهما من كل وجهٍ لأن نفي الاستواء أعم من نفيه من كل وجه ومن نفيه من وجه (¬4)، ولأن قولنا يستويان يعتبر فيه الكل (¬5) وإلا لصدق على كل شيئين أنهما يستويان، لاستوائهما في المعلومية والمذكورية ونفي ما عداهما عنهما وغير ذلك. وقولنا لا يستويان نقيضه (¬6) ونقيض الكلي جزئي. ولقائل أن يقول: كل من الوجهين متعارض ولا يتفصى (¬7) عنه إلا بأن يعتبر في تناقض قولنا يستويان. وقولنا لا يستويان وحده ما فيه الاستواء. وأيضاً لما وجب استواء كل شيئين. من وجه كفى ذلك في عدم نفي (¬8) قولنا: لايستويان الاستواء من كل (¬9) وجه. ¬
المسألة التاسعة
" المسألة التاسعة" قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ} لا يتناول الأمة (¬1). وقيل: ما ثبت في حقه ثبت في حقنا إلَّا لمخصص به. فإن زعم أنه مستفاد من اللفظ فهو جهالة وإن زعم أنه يستفاد من دليل آخر كان خروجاً عن المسألة. وكذلك الخطاب الموضوع للأمة لا يتناوله عليه السلام. " المسألة العاشرة" اللفظ المختص بالذكور لا يتناول الإِناث وبالعكس وغير المختص إن لم تتميز الِإناث عن الذكور بعلامة كمن يتناولهما بدليل دخولهما فيه لو ذكر في وصيةٍ أو توكيل أو تعليقِ (¬2) وقيل: (لا لقول العرب من منه؟ وهو ضعيف. لأنه وإن كان جائزاً لكَنهم اتفقوا على استعمال (مَنْ) فيهما). وإن تميز: فما فيه علامة الِإناث لا يتناول الذكور. وما لا علامة فيه لا يتناول الِإناث، لأن الجمع تضعيف الواحد. وأنه لا يتناول الأنثى فكذا الجمع (¬3). وقيل يتناولهن لاتفاق النحاة على أن التذكير يغلب التأنيث وهو ضعيف. إذ مرادهم أنه متى أريد التعبير عن الفريقين بلفظ واحد كان التذكير. " المسألة الحادية عشرة" متى وجب إضمار شئ وثمة أمور صالحة له (¬4) لا يضمر (¬5) الكل وهو المراد بقولهم: الاقتضاء لا عموم له (¬6). ¬
المسألة الثانية عشرة
لنا: أن الأصل عدم الِإضمار. ترك في واحدٍ للضرورة. وللمخالف: أن إضمار البعض ليس أولى من إضمار الباقي ولا بد من شيء فليضمر الكل. " المسألة الثانية عشرة" قوله: (والله لا آكل) يعم المواكيل عند أصحابنا. ويصح نية التخصيص ببعضها وبه قال أبو يوسف: وقال أبو حنيفة: (لا يصح) وهو المختار، لأن الفعل يدل على المصدر. والمصدر لا إشعار له بالتوحد والتعدد (¬1) المصححين لنية التعيين لا بحسب ذاته ولا بحسب المفعول به والمفعول فيه، فلم تصح نية (¬2) التخصيص من اللفظ ولا من المعنى أيضاً. كما لا تصح نية (2) التخصيص ببعض المفعول فيه بجامع تعظيم اليمين (¬3). ولقائلِ أن يقول (¬4): تعلق الفعل بالمفعول به أقوى منه بالمفعول فيه فكانت دلالتة الالتزامية عليه أقوى. حجة الشافعي: أنه لو قال: لا آكل أكلًا صحت نية التخصيص فكذا لو قال: لا آكل لوجود المصدر في الفعل. وجوابه: أن قوله: أكلاً يدل على المصدر بوصف التوحد (¬5) المصحح لنية التعيين فكانت نية التعيين من اللفظ. ¬
المسألة الثالثة عشرة
" المسألة الثالثة عشرة" قال الشافعي (¬1): (ترك الاستفصال في حكاية الحال مع قيام الاحتمال ينزل منزلة العموم في المقال). كقوله عليه السلام لابن غيلان (¬2) حين أسلم على عشرة نسوة: "أمسك أربعاً وفارق سائرهن " (¬3) من غير سؤال إيراد العقد عليهن جمعاً أو ترتيباً، وفيه نظر لاحتمال معرفة النبي - صلى الله عليه وسلم - الحال، فبنى (¬4) جوابه عليها. " المسألة الرابعة عشرة" العطف على العام لا يقتضي العموم. إذ مقتضاه نفس الجمع (¬5). قال الله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} (¬6) وقال تعالى: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ} والأول عام والثاني خاص. ¬
المسألة الخامسة عشرة
" المسألة الخامسة عشرة" خطاب المشافهة لا يتناول من يحدث بعده إلا لمنفصل فإنه لا يكون زمان الخطاب إنساناً ولا مؤمناً إلى غير ذلك، والحق أن العموم معلوم بالضرورة من دين محمد عليه السلام وذكر طريقان آخران: 1 - التمسك بقوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ} (¬1) وقوله عليه السلام: "بعثت إلى الأحرم والأسود" (¬2) وقوله عليه السلام: "حكمي على الواحد حكمي على الجماعة" (¬3). ب- أنه عليه السلام متى أراد التخصيص بين فحيث لم يبين دل على العموم. الأول: ضعيف إذ لفظ الناس والأحمر والأسود والواحد والجماعة يختص (¬4) بالموجودين. والثاني: ضعيف (¬5) إذ الحاجة إلى التخصيص حيث اللفظ الموهم للعموم، وقد ثبت أن لفظ المشافهة لا يتناول المعدومين. ¬
المسألة السادسة عشرة
" المسألة السادسة عشرة" (¬1) قول الصحابي: (نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن بيع الغرر (¬2) وقضى بالشفعة للجار) (¬3) لا عموم له، لأن الحجة في المحكي، ولعله وقع في صورة خاصة وكذا قوله: (سمعته عليه السلام يقول: قضيت بالشفعة للجار) (¬4) لجواز أن يكون ذلك القضاء بالشفعة لجارٍ معلوم ويكون الألف واللام للعهد. وهذا الاحتمال يقل (¬5) لو سمع منه هذا اللفظ مشافهة، إذ المعهود يعلمه السامع ظاهراً وكذا قول الراوي: (كان عليه السلام: يجمع بين الصلاتينِ في السفر) (¬6) إذ لفظ كان يفيد (¬7) تقدم الفعل دون التكرار. وقيل يفيده عرفاً. إذ لا يقال كان فلان يتهجد بالليل إذا تهجد مرة. وكذا قوله - صلى الله عليه وسلم - بعد الشفق (¬8) لا يحمل على الشفقين إذ المشترك لا ¬
المسألة السابعة عشرة
يستعمل في مفهوميه معاً. وكذا قوله (صلى عليه السلام في الكعبة) (¬1) لا يدل على جواز الفرض والنفل فيها. لأن العموم في اللفظ لا في الفعل. " المسألة السابعة عشرة" قال الغزالي (¬2): المفهوم لا عموم له، إذ العموم لفظ تتشابه دلالته بالنسبة إلى مفهوماته. فإن عنى به أنه لا يسمى عاماً، فالنزاع لفظي، وان عنى به أنه لا يفيد انتفاء الحكم عن كل ما عداه، فدليل كون المفهوم حجةً ينفيه. ¬
الفصل الثاني في الخصوص
" الفصل الثاني " في الخصوص "وفيه مسائل " " المسألة الأولى" التخصيص عندنا: (إخراج بعض ما يتناوله الخطاب عنه) (¬1). وعند الواقفية: (إخراج بعض ما صح تناوله إياه) فالعام المخصوص. ما استعمل في بعض ما يتناوله أو في بعض ما يصح تناوله، والمخصص بالحقيقة هو قصد المتكلم إلى ذلك الاستعمال. ويقال (¬2) بالمجاز لِإقامة الدلالة على التخصيص ولمن اعتقده أو قال به. " المسألة الثانية" (¬3) فرقوا بين التخصيص والنسخ، بأن النسخ قد يكون فيما ......... ¬
المسألة الثالثة
................................. (علم أنه (¬1) مراد من اللفظ وان لم يتناوله ويجوز نسخ شريعةٍ بأخرى وهو رفع الحكم بعد ثبوته والناسخ يجب تراخيه وأن لا يكون قياساً وخبر واحد). وفرقوا (¬2) بينه وبين الاستثناء، بأنْ الاستثناء مع المستثنى منه كاللفظ الواحد الدال على شيء واحد، وأنه لا يثبت بقرينة الحال ولا يجوز تأخيره. والحق أن التخصيص كالجنس للنسخ والاستثناء، وغيرهما فإن النسخ تخصيص بالأزمان. " المسألة الثالثة" عموم الخطاب إن كان من حيث اللفظ جاز تخصيصه، وإن كان من حيث المعنى كعمومه لعموم علته. وكمفهوم المخالفة والموافقة ففي تخصيص الأول (¬3) كلام، وتخصيص الثاني جائز. وكذا الثالث إذا لم يعد على اللفظ بالنقض. " المسألة الرابعة" إطلاق العام لِإرادة الخاص جائز في الخبر والْأمر خلافاً لقوم. ¬
المسألة الخامسة
لنا: قوله تعالى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} (¬1) وقوله تعالى: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} (¬2) احتجوا: بأن وقوعه في الخبر يوهم الكذب وفي الأمر البداء. وجوابه (¬3): أن اللفظ لما احتمل التخصيص فقيام الدلالة عليه (¬4) يدفع الِإيهام. " المسألة الخامسة" اتفق أصحابنا على جواز تخصيص ألفاظ الاستفهام والمجازاة إلى الواحد. واختلفوا في الجمع المعرف. فزعم القفال (¬5) أنه يجب إبقاء أقل الجمع. وقيل يكفي الواحد. قال أبو الحسين (¬6): إنه لا بد من الكثرة في الكل (¬7)، إلا إذا استعمل في الواحد تعظيماً، كقوله تعالى: {فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ} (¬8) وهو المختار (¬9). ¬
المسألة السادسة
لنا: أن من قال: أكلتُ كل ما في البيت من الرمان وإن كان أكل واحدةً أو ثلاثةً وفيه ألف. أو قال: من دخل داري فأكرمه. ثم قال: أردت زيداً. عابه أهل اللغة. احتجوا: بأنه ليس البعض أولى من البعض بالتخصيص إليه فجاز إلى الواحد. وجوابه (¬1): أنه ممنوع كما سبق. " المسألة السادسة" العام المخصوص حقيقة عند بعض الفقهاء ومجاز عند أبي علي وأبي هاشم. ومنهم من (¬2) فصل. والمختار تفصيل أبي الحسين (¬3). أن المخصوص بقرينة مستقلة عقلية أو لفظية مجاز (¬4)، لأنه مستعمل في غير موضوعهِ لقرينة. وبقرينة غير مستقلة كالشرط والصفة والاستثناء حقيقة، لأنه عند الضم إلى القرينة لا يفيد إلاَّ (¬5) ذلك البعضِ، وإلا لم تفد القرينة شيئاً، وإذا لم يفده لا يكون حقيقةً فيه (¬6)، ولا مجازاً، بل يكون هو مع القرينة حقيقةً في ذلك البعض. لا يقال: المخصوص بقرينة مستقلة يكون هو مع القرينة حقيقة فيه، لأن ذلك ينفي وجود المجاز أصلاً وهذا النزاع فرع (¬7) عليه. ¬
المسألة السابعة
تنبيه: إذا قال الله تعالى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} ثم قال النبي - صلى الله عليه وسلم - عقيبه إلا زيدا فهذا دليل متصل أو منفصل فيه احتمال. " المسألة السابعة" جوز الفقهاء التمسك بالعام المخصوص، ومنعه عيسى (¬1) بن أبان وأبو ثور (¬2) مطلقاً (¬3)، وجوزه الكرخي فيِ المخصوص بدليل متصل فقط. والمختار أن التخصيص إن كان مجملاً لم يجز، كقول المتكلم بالعام أردت به (¬4) بعضه. وإن كان معيناً جاز لوجوه: أ- أن كونه حجةً في كل بعض لا يتوقف على كونه حجة في الآخر، لامتناع الدور فكان حجةً في بعض، كان لم يكن حجةً (¬5) في آخر. ولقائلٍ أن يقول (¬6): لا يلزم من عدم توقف الشيء على غيره جواز وجوده بدونه كما في المتلازمين. وان عنى بتوقفه عليه عدم وجوده بدونه لا يلزم الدور كما في المتلازمين. ¬
ب- المقتضي للحكم في هذا البعض موجود، وهو اللفظ الدال على الحكم في كل فردٍ والمعارض (¬1) الموجود، وهو عدم الحكم في غيره لا يعارضه. إذ عدم الحكم في فردٍ لا ينافي ثبوته في آخر. جـ- تمسك عثمان بن عفان (¬2) رضي الله عنه بقوله تعالى: {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} (¬3). في الجمع بين الأختين في ملك اليمين (¬4) مع أنه مخصوص بالأخت والبنت ولم ينكره أحد من الصحابة. احتجوا: بأن العموم إذا لم يرد لم يكن البعض أولى من الآخر. وجوابه: أن الباقي أولى. ¬
المسألة الثامنة
" المسألة الثامنة" يجوز التمسك بالعام ابتداءً وهو قول الصيرفي. وقال ابن سريج: إنما يجوز إذا طلب المخصص فلم يجده. لنا (¬1) وجهان: أ- لو وجب طلب المخصص لوجب طلب المانع من الحقيقة في التمسك بها، بجامع تقليل احتمال الخطأ. ولم يجب ذلك عرفاً لأنهم يحملون الألفاظ على حقائقها بلا طلب فلم يجب شرعاً لقوله عليه السلام: "ما رآه المسلمون حسناً فهو عند الله حسن" (¬2). ب- أن الأصل عدم المخصص وأنه يجب ظن عدم التخصيص (¬3). احتج (¬4): بأنه قبل الطلب احتمل كونه حجةً في هذه الصورة مثلاً، بأن لا تكون مخصوصة وأن لا يكون حجةً فيها بأن تكون مخصوصة، والأصل أن لا يكون حجةً. وجوابه: أن احتمال كونه حجة راجح لما سبق (¬5). ¬
الفصل الثالث في مخصص العام المتصل به
" الفصل الثالث" في مخصص العام المتصل به وهو أربعة الأول: الاستثناء وفيه مسائل " المسألة الأولى" الاستثناء: (إخراج بعض الجمله عنها (¬1) بلفظ إلا) أو ما يقوم مقامه، أو يقال: (ما لا يدخل في الكلام إلا لإِخراج بعضه بلفظ ولا يستقل بنفسه). خرج عن هذا التخصيص بالأدلة العقلية والقياس فإنه ليس بلفظ. وبالأدلة اللفظية المنفصلة فإنها مستقلة، وبالصفة والشرط، لأن الخارج بهما ليس بعض الكلام إذ ليس ملفوظاً وبالغاية، فإن الغاية قد تكون داخلةً كقوله تعالى: {إِلَى الْمَرَافِقِ} (¬2). ولقائلٍ أن يقول (¬3): التعريف الثاني تعريف الاستثناء بالاستثناء. " المسألة الثانية" يجب اتصال الاستثناء بالمستثنى منه عادةً وعن ابن عباس (¬4): إنه ¬
المسألة الثالثة
يجوز تأخره ولو صح هذا فالمراد ما إذا نوى عند اللفظ (¬1) ثم أظهره بعده، فإنه يدين فيما بينه وبين الله تعالى. لنا: أنه لو جاز لما استقر العتاق والطلاق والحنث لجواز ورود الاستثناء بعده. ولأنه لو قال: بِع داري ممن شئت. ثم قال بعد غدٍ إلا من زيد (لم يعد إلى الأول عرفاً). والقياس (¬2) على النسخ (¬3) والتخصيص منقوضٌ بالشرط، وخبر المبتدأ على أنا نمنع الجامع. " المسألة الثالثة" الاستثناء من غير الجنس (¬4) صحيح مجازاً لا حقيقة (¬5)، فإنه لا يصح من اللفظ إذ لم يتناوله اللفظ فلا حاجة به إلى صارفٍ عنه. ولا من المعنى وإلا لجاز استثناء كل شيء من كل شيء، بوجوب اشتراك كل شيئين في معنى، لو حمل اللفظ عليه جاز الاستثناء عنه (¬6). ¬
احتجوا بقوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً} (¬1). {فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ إِلَّا إِبْلِيسَ} (¬2) {لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً} (¬3). {مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ} (¬4) {لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا تَأْثِيمًا إِلَّا قِيلًا سَلَامًا} (¬5). وقول الشاعر: وبلدة ليس بها أنيس ... إلاَّ اليعافير وإلَاَ العيس (¬6) وبقول النابغة (¬7): (وما بالدار من أحدٍ إلاَّ أواريَ) (¬8) وبأن الاستثناء قد يقع عن المدلول عليه بالمطابقة أو بالتضمن. وقد يقع عن المدلول عليه بالالتزام. فقوله لفلانٍ: عليَّ ألفٌ إلا ثوباً معناه قيمة الثوب. ¬
المسألة الرابعة
والجواب عن الآية الأولى: أن إلاً بمعنى لكن أو يقال "معناه إلا (¬1) قتلاً يخطئ فيه برمية إلى جرثومة واصابته إياه. وعن الثانية (¬2): لا نسلم أن كونه من الجن ينفي كونه من الملائكة. سلمناه. لكن إنما حسن الاستثناء لكونه مأموراً بالسجود (¬3). ولقائلٍ أن يقول (¬4): هذا استثناء من المعنى وقد بطل. وعن الآيات الباقية.: أنه ليس باستثناء باتفاق النحاة. بل هو عند البصريين بمعنى لكن وعند الكوفيين بمعنى سوى. وعن الشعر أن الأنيس المؤنس والمبْصَرُ فَدخلت اليعافير والعيس فيه. وعن الأخير: أنه يجوز استثناء كل شيء من كل شيء (¬5). " المسألة الرابعة" قال القاضي: يجب أن يكون المستثنى أقل من الباقي. وقيل: يجب أن لا يكون أكثر منه وهما باطلان. لأنه لو قال: له علي عشرة إلا تسعة لم يلزمه إلا واحد، ولأن قوله تعالى: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ} (¬6). وقوله حكاية عن إبليس: {لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ ¬
المسألة الخامسة
إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} (¬1). ينفي وجوب كونه أقل وإلا لزم أن يكون كل واحد من الغاوين وغيرهم أقلَ من الآخر (¬2). حجة القاضي: أن كون الاستثناء رجوعاً عن الِإقرار ينفي صحته. وإنما صح في (¬3) القليل، لأنه في معرض النسيان لقلة إلتفات القلب إليه. وأنه معدوم ههنا فلا يصح. والجواب: الاستثناء مع المستثنى منه كاللفظ الواحد الدال على الباقي، فلا يكون رجوعاً. " المسألة الخامسة" الاستثناء من الِإثبات (¬4) نفي وفاقاً ومن النفي (¬5) إثبات خلافاً لأبي حنيفة (¬6). لنا: أنه لو لم يكن كذلك لما تم الِإسلام بقوله: "لا إله إلَّا الله" فإنه لا يكون مثبتاً إلا له تعالى. احتج (¬7): بقوله عليه السلام: "لا نكاح إلَّا بولي" (¬8). "ولا صلاة إلَّا بطهور" (¬9). ¬
المسألة السادسة
ولقائلٍ أن يقول (¬1): الِإثبات أعم منه بصفة العموم. " المسألة السادسة" الاستثناء الثاني: إن عطف على الأول أو كان أكثرَ منه أو مساوياً له، عاد إلى المستثنى (¬2) منه. وإلا فإلى الأول فقط. إذ لا بد من عوده إلى شيء ولم يعد إلى المستثنى منه فقط، إذ البعد يوجب مرجو حيتَه ولا إليهما إذ يُثبت للأول (¬3) ما ينفيه عن الثاني، فيلغو ويتناقض فتعين هو. " المسألة السابعة" إذا تعقب الاستثناء جملاً عاد إليها عند الشافعي وأصحابه (¬4) رضي الله عنهم، وإلى الأخيرة عند أبي حنيفة وأصحابه- رحمهم الله تعالى-. ومشترك بينهما عند المرتضى (¬5) وتوقف القاضي في الكل. ومنهم من فصَّل وذكروا ¬
فيه وجوهاً منها: أن الجملتين إن تنوعتا بكون أحدهما خبراً والأخرى أمراً أو نهياً، أو لم تتنوعا ولا أضمر اسم أحدهما أو حكمها في الأخرى عاد إلى الأخيرة، إذ الظاهر عدم الانتقال من جملة مستقلة قبل إتمامها إلى جملة مستقلة، وإن أضمر (¬1) ذلك عاد إلى الكل إذ لا استقلال للثانية، فهما كلام واحد وهو الأقرب، لكنا في المناظرة نسلك مسلك القاضي. احتج الشافعي رضي الله عنه بوجوه: أ- القياس على الشرط والاستثناء بمشيئة الله تعالى. ب- العطف يجعل الجمل كالواحدة فعاد الاستثناء إليها. جـ- لوأريد الاستثناء من الجمل قبح تعقيب كل جملة باستثناء فلا طريق إلّاَ تعقيب الكل بواحد، والأصل الحقيقة الواحدة. د- لو قال: علي خمسةٌ وخمسةٌ إلَّا سبعة عاد إليهما، والأصل الحقيقة الواحدة. احتج أبو حنيفة رحمه الله بوجوه: أ- الاستثناء خلف الأصل وإنما تعلق بواحدة لئلا يلغو فلا يتعلق بغيرها، وتلك هي الأخيرة إذ لا قائلَ بالفرق، ولأن القرب مرجح لاتفاق البصريينِ على أولوية إعمال أقرب العاملين، ولأن الهاء في قوله ضرب زيدٌ عمراً، وضربته يعود إلى عمرو. وسلمى في قوله: ضربت سلمى سُعدى أولى بالفاعلية. وعمرو في قوله: أعطى زيد عمراً بكراً أولى بكونه مفعولًا أولًا. كل ذلك للقرب. ¬
ب- لو عاد الاستثناء إلى الجمل فإنْ أضمر عقيب كل جملةٍ لزم (¬1) الِإضمار، وإلا لزم اجتماع العاملين على معمولٍ واحدٍ، إذ العامل في نصب ما بعد الاستثناء هو ما (¬2) قبله من فعل أو تقديره وهو باطل لنص سيبويه، ولامتناع اجتماع مؤثرين على أثرٍ واحد. جـ- الاستثناء من الاستثناء يختص بالأخيرة، والأصل الحقيقة الواحدة. د- الظاهر عدم الانتقال من جملةٍ مستقلةٍ قبل إتمامها إلى أخرى مستقلة (¬3). احتج المرتضى بوجوه: أ- حسن الاستفهام (¬4). ب- الاستعمال في المعنيين (¬5). جـ- لو قال: ضربت غلماني، وأكرمت جيراني قائماً، أو في الدار، أو يوم الجمعة، احتمل عودُ الحال والظرفين إلى الكل، وإلى الأقرب فقط. فكذا الاستثناءُ إذ كل منها (¬6) فَضْلَةٌ يأتي بعد تمام الكلام. ¬
والجواب عن (¬1): أ- منع حكم الأصل ثم الجامع ولا يلزم من اشتراكهما في عدم الاستقلال وفي اقتضاء التخصيص اشتراكهما في كل الأمور. ولقائلٍ أن يقول (¬2): هذا يقدح في أصل القياس. ب- أن الجملتين ليستا بواحدة فلا بد من الجامع. جـ- أن رعاية الاختصار مع التنبيه على العود إلى الكل ممكن. ولقائلٍ أن يقول (¬3): هذا ظاهر الضعف بل جوابه المعارضة بمثله. د- أن (¬4) عوده إليهما لامتناع عوده إلى الأخير. وعن أول أدلة الحنفية، النقض بالشرط والاستثناء بالمشيئة (¬5)، فلو قال الشرط متقدم معنى فاشترط به الكل، قلنا هو متقدم معنى على الأخيرة فقط، وان تقدم الكل فلا يشترط به إلا (¬6) بما يليه. ¬
وعن ثانيها: معارضة نص سيبويه بنص الكسائي (¬1) وأما العوامل فهي معرفات. وعن ثالثها: أن ذلك للفسادين المذكورين (¬2). ولقائل ان يقول (¬3): الاستثناء الثالث لا يلغو بعوده إلى الكل. نعم يساويه عوده إلى ما يليه في الِإفادة. وعن رابعها: منع ظهور ذلك. وعن أول وثاني (¬4) أدلة المرتضى ما سبق في العموم (¬5). وعن ثالثها: أن الحال والظرفين تعود إلى الكل عند الشافعية وإلى الأخيرة عند الحنفية. سلمنا التوقف لكن بمعنى لا ندري. سلمنا بمعنى الاشتراك فلم يلزم ذلك في الاستثناء، ولا يلزم من اشتراكهما فيما (¬6) ذكر اشتراكهما في كل الأحكام. ¬
الثاني الشرط
الثاني الشرط: وفيه مسائل " المسألة الأولى" الشرط (¬1): (ما يتوقف عليه تأثير المؤثر لا ذاته) كالِإحصان المتوقف عليه إيجاب الزنا للرجم. ولفظه: "إن" وتختص بالمحتمل. "وإذا" وتدخل عليه وعلى المحقق. ثم الشرط قد لا يوجد إلا دفعةً (¬2) وقد لا يوجد إلا متدرجاً وقد يختلف فيهما (¬3). فإن كان الشرط وجوده حصل المشروط في الأول عند وجوده. وفي الثاني عند وجود آخر جزء منه. ونحكِم (¬4) بوجوده إذ ذاك. وفي الثالث عند وجوده دفعةً لِإمكان اعتبار وجوده حقيقةَ، وإن كان الشرط عدمه حصل عند أول زمان عدمه في الثلاثة. ¬
المسألة الثانية
" المسألة الثانية" إذا رتب جزاء على شرطين على الجمع لم يحصل إلا عند حصولهما (¬1). وإن كان على البدل (¬2) حصل عند أحدهما. وإذاِ (¬3) رتب جزاء إن كان على شرط الجمع (¬4) حصلا عند حصوله. وإن كان على البدل (¬5) حصل أحدهما عنده وإلى القائل تعيينه. " المسألة الثالثة" إذا دخل الشرط على جملٍ رجع إليها عند الِإمامين (¬6). وإلى ما يليه عند بعض الأدباء. والمختار التوقف كالاستثناء. " المسألة الرابعة" اتفقوا على وجوب اتصال الشرط بالكلام كما في الاستثناء. وعلى حسن التقييد. بشرط يكون الخارج به (¬7) أكثر من الباقي. " المسألة الخامسة" يجوز تقديم الشرط وتأخيره، والأولى تقديمه خلافاً للفراء (¬8)، لأنه متقدم طبعاً فليتقدم وضعاً. ¬
الثالث الغاية
" الثالث " الغاية: (وهي نهاية الشيء وطرفه) ولفظها (إلى وحتى) وحكم ما بعدها يخالف ما قبلها وإلاَّ لم يكن غاية. والأوْلى أن يقال: إن تميزاً حساً (¬1) كان كذلك وإلاَّ فلا. ولو اجتمع غايتان كما لو قيل: لا تقربوهن حتى يطهرن وحتى يغتسلن. فالغاية بالحقيقة الأخيرة والأولى تسمى بها لقربها منها. " الرابع" الصفة: وهي إذا تعقبت جملتين، فإن تعلقت إحداهما بالأخرى عادت إليهما (¬2). وإلأَ فإلى الأخيرة. وللبحث فيه مجال كما في الاستثناء. ¬
الفصل الرابع في مخصص العام المنفصل
" الفصل الرابع " في مخصص العام المنفصل وهو أربعة الأول: العقل كما يعلم بضرورته تخصيص الله تعالى عن قوله تعالى: {خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} (¬1) ونظيره تخصيص الصبي والمجنون عن خطاب التكليف لعدم فهمهما إياه. ومنهم من منع ذلك وهو باطل. إذ العقل لمَّا عارض العموم امتنع إعمالهما وتركهما وإعمال النقل فقط. إذ ترجيحه على العقل الذي هو أصله يقدح فيهما فتعين إعمال العقل فقط. فإن أراد بالمخصص المؤثر في التخصيص لم يكن العقل مخصصاً ولا الكتاب ولا السنة أيضاً. إذ الِإرادة هي المؤثرة في التخصيص. فرع: العقل قد يَنْسخ فإن من سقطت رجلاه دل العقل على سقوط (¬2) فرض غسلهما عنه. الثاني: الحس وقد علم به تخصيص قوله تعالى: {وَأُوتِيَتْ (¬3) مِنْ كُلِّ شَيْءٍ} (¬4) ¬
الثالث: المسموع المقطوع وفيه مسائل
" الثالث: المسموع (¬1) المقطوع " وفيه مسائل " المسألة الأولى" يجوز تخصيص الكتاب بالكتاب خلافاً لبعض أهل الظاهر. لنا: أن قوله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ} (¬2) الآية مع قوله تعالى: {وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} (¬3) امتنع اعمالهما. وترك أحدهما تخصيص أو نسخ له. ومن جوز النسخ جوَّز التخصيص. وقوله تعالِى: {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ} (¬4) لا ينفي أن يكون تلاوته عليه السلام الكتاب بياناً. كيف؟ وهو معارض بقوله تعالى: {تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} (¬5). " المسألة الثانية" يجوز تخصيص السنّة المتواترة بمثلها، لأن العام مع الخاص إذا اجتمعا فإعمالهما وتركهما وتقديم العام باطل وفاقاً فلزم تقديم الخاص. وكذلك تخصيص الكتاب بالسنّة المتواترة (¬6) فِعلاً كانت أو قولاً، وقد ¬
المسألة الثالثة
وقع أيضاً إذ خص قوله تعالى {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ} (¬1) بقوله عليه السلام: "القاتل لا يرث" (¬2) وخص قوله تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي} (¬3) بما تواتر من رجمه عليه السلام المحصن (¬4). وكذل يجوز عكسه. ومن فقهائنا من منع ذلك. ويجوز تخصيص الكتاب والسنّة المتواترة بالإِجماع فإنهم خصصوا آية الِإرث بالإِجماع على أن العبد لا يرث. وآية الجلد بالإِجماع على أن حد الأمة نصف حد الحرة ولا يجوز عكسه، إذ إجماعهم على حكم العام مع سبق التخصيص خطأ. " المسألة الثالثة" تخصيص الكتاب والسنّة المتواترة بفعله عليه السلام جائز. وتحقيقه بأن العام إن تناوله كان فعله مخصصا (¬5) له في حقه. وكذا في حق غيره إن علم بدليل أن حكمه كحكمه لكن المخصص هو فعله مع ذلك الدليل. وكذا إن كان العام متناولًا للأمة فقط وثبت بدليل أن حكمه كحكمها. احتج من منع مطلقاً: بأن المخصص هو الآية الدالة على وجوب متابعته مطلقاً وأنها أعم من العام المخصص بالفعل. ¬
المسألة الرابعة
وجوابه: أن المخصص هو تلك الآية مع الفعل ومجموعهما أخص من ذلك العام. " المسألة الرابعة" عدم إنكاره عليه السلام على من خالف موجب العموم، تخصيص في حقه وفي حق غيره أيضاً إذا عرف بدليلٍ أن حكمه على واحدٍ حكمه على الكل.
الرابع: المسموع المظنون
الرابع: المسموع (¬1) المظنون "وفيه مسائل " " المسألة الأولى" يجوز تخصيص الكتاب بخبر الواحد عند الشافعي وأبي حنيفة ومالك (¬2). وقيل: لا يجوز. وقال عيسى بن أبان: إن خص قبله بدليلٍ مقطوع جاز وإلا فلا. وقال الكرخي: إن خص بدليل منفصل قبله جاز وإلاَّ فلا. وتوقف القاضي فيه. لنا: أنهما دليلان وتقديم العام على الخاص يلغيه فوجب تقديم الخاص عليه وتمسك الأصحاب بإجماع الصحابة إذ خصصوا قوله تعالى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ} بخبر الصديق: "نحن معاشر الأنبياء لا نورث" (¬3) وقوله تعالى: {فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً} (¬4). يقول محمد بن مسلمة (¬5) والمغيرة (¬6) بن شعبة ¬
أنه عليه السلام جعل للجدة السدس (¬1). إذ الميتة إذا خلفت بنتين وزوجاً وجدةً كانت للبنتين أقل أقل الثلثين (¬2). وقوله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} (¬3) بخبر أبي سعيد (¬4) في المنع من بيع الدرهم بالدرهمين (¬5). وقوله تعالى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} (¬6) بخعبر عبد الرحمن (¬7) في المجوس: (سُنوا بهم سنة أهل الكتاب) (¬8) وقوله تعالى: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} (¬9) بخبر أبي هريرة في المنع من نكاح المرأة على عمتها وخالتها وبنت أختها وبنت أخيها (¬10). ¬
والاعتراض أن الصحابة إن أجمعت على تخصيص تلك الصور فلعلها خصت بالِإجماع وإلا سقط الدليل ولم يجب استناد (¬1) إجماعهم إلى هذه الأخبار إذ مستند الِإجماع قد يخفىِ للاستغناء بالِإجماع عنه. سلمنا: لكنها ربما كانت متواترة ثم صارت آحاداً. احتج المانع بوجوه: أ- الِإجماع (¬2): إذ رد عمر خبرَ فاطمة (¬3) بنت قيس وقال: (لا ندع كتاب (¬4) ربنا وسنّة نبينا يقول امرأةٍ لا ندري لعلها نسيت (¬5) أو كذبت). ب- قوله عليه السلام: "إذا روي عني حديث فأعرضوه على كتاب الله فإن وافقه فاقبلوه وإن خالف فردوه (¬6). جـ- الكتاب مقطوع فقدم على الخبر المظنون. د- لو جاز تخصيصه به لجاز نسخه به بجامع تقديم الخاص. ¬
والجواب عن: أ- أنه ردٌ للتهمة بالكذب والنسيان. ب (¬1) - أنه ينفي تخصيصه بالمتواتر. ولو قيل تخصيص الكتاب لا يكون على (¬2) خلافه. قلنا كذلك ههنا. جـ- أن خبر الواحد تترك به البراءة الأصلية اليقينية على أن الكتاب مقطوع المتن مظنون الدلالة والخبر بالعكس. وأيضاً لما دلً القاطع على وجوب العمل بخبر الواحد كان وجوب العمل به مقطوعاً فاستويا. ولقائلٍ أن يقول (¬3): في هذه الأجوبة نظر. د (¬4) - أن الِإجماع فَصلَ بينهما وضعف الِإجماع على التخصيص بخبر الواحد سبق فالجواب الفرق بأن التخصيص أهون. تنبيه: حيث جوز عيسى والكرخي تخصيصه به إنما جوَّزا لِصيرورة العام مجازاً عندهما فيكون الكتاب مقطوعَ المتن مظنونَ الدلالة والخبر بالعكس فتعادلا. ¬
المسألة الثانية
" المسألة الثانية" يجوز تخصيص الكتاب والسنّة المتواترة بالقياس عند الشافعي وأبي حنيفة ومالك والأشعري وأبي- الحسين البصري وأبي هاشم أخيراً. ومنع منه قوم- مطلقاً. وهو قول الجبائي وأبي هاشم أولاً. وفصل عيسى والكرخي كما تقدم. وقال ابن سريج (¬1) وكثير من فقهائنا يجوِّز بالقياس الجلي لا الخفي. ثم قيل الجلي قياس المعنى والخفي قياس الشبه (¬2). وقيل الجلي ما يفهم علته (¬3) كما يفهم تعليل قوله عليه السلام: "لا يقضي القاضي وهو غضبان" (¬4). بأنه يدهش عن تمام الفكر ليتعدى إلى الجائع (¬5). وقيل: هو ما ينقض القضاء بخلافه. وقال الغزالي (¬6): إن تعادل العام والقياس توقفنا وإلا رجحنا الأقوى (¬7). وتوقف القاضي أبو بكر وإمام الحرمين- رحمهما الله- فيه والخلاف جارٍ في خصيص كل عام بقياس أصله من جنسه، وإن كان العام كتاباً أو سنةً متواترةً وأصل القياس خبر واحدٍ، فالجواز أبعد وعلى العكس أقرب. لنا: ما تقدم في المسألة السالفة، والمعارضتان الأخيرتان (¬8) بجوابهما فيها آتية ههنا (¬9). ¬
احتجوا بوجوه: أ- القياس فرع النص فكان أضعف منه فلئن قيل: هو فرع نصٍ آخر. قلنا: لكن النصوص متساويةُ المقدمات، واختص القياس بزيادة (¬1) ضعف (¬2). ب- حديث معاذ (¬3) يدل على تأخير الاجتهاد عن النص. ¬
المسألة الثالثة
جـ- شرط القياس أن لا يرد (¬1) النص وفاقاً. والجواب عن: أ- أنه رب نص مقدماته مع مقدمات القياس لا تزيد على مقدمات نص آخر. ب- أنه يمتنع تخصيص الكتاب بالسنّة المتواترة. جـ- أن شرطه أن لا يدفع كل ما اقتضاه النص والنزاع في دفع بعضه (¬2). " المسألة الثالثة" دلالة المفهوم (¬3) بتقدير كونه حجة أضعف من دلالة المنطوق، ففي تخصيص المنطوق به نظر (¬4). ¬
الفصل الخامس في بناء العام على الخاص
" الفصل الخامس" في بناء العام على الخاص إذا تعارض خبران عام وخاص فله أحوال " الحالة الأولى: أن يعلم تقارنهما" فالخاص يخصص العام وقيل بتعارضهما في قدر الخاص. لنا وجوه: أ- ما سبق قبل (¬1). ب- الخاص أقوى دلالة إذ العام يجوز إطلاقه بدون إرادة ذلك الخاص. جـ- إذا قال السيد- اشترِ كلَّ ما في السوق من اللحم. ثم قال عقيْبه: لا تشتر لحم البقر فُهمَ إخراجه منه. فإن قلتَ (¬2) يحمل قوله في الخيل زكاة على التطوع. وقوله: ليس في ذكور الخيل زكاة على نفي الوجوب. قلتُ: هذا لا يتأتى في قولنا: أوجبتُ الزكاة في الخيل. وأيضاً ذلك يصرف اللفظ عن ظاهره في الِإناث بلا دليل. ¬
الحالة الثانية: أن يعلم تأخر الخاص
" الحالة الثانية: أن يعلم تأخر الخاص" فإن ورد قبل وقت العمل بالعام كان تخصيصاً للعام، وجوازه فرع تأخير البيان عن الخطاب. وإن ورد بعده كان نسخاً له لا تخصيصاً إذ لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة. " الحالة الثالثة: أن يعلم تأخير العام" فيبنى العام على الخاص عند الشافعي وأبي الحسين. وقال أبو حنيفة والقاضي عبد الجبار العام ينسخ الخاص. لنا: الوجوه المذكورة (¬1). احتجا بوجوه: أ- قول ابن عباس: (كنا نأخذ بالأحدث فالأحدث). ب- لفظان تعارضا فقدم الأخير، كما في العكس وفيه احتراز عن العقل المخصص. جـ - القياس على ما (¬2) إذا فصل آحاد العموم، لأن كل منهما في قوة الآخر. واحتج ابن العارض (¬3) على التوقف. بأن الخاص أخص في الأعيان ¬
الحالة الرابعة: أن لا يعلم التاريخ
وأعم في الأزمان، لتناوله ما بين ورود الخبرين فاستويا (¬1). والجواب عن: أ- أن قول الصحابي ضعيف الدلالة، فيخص بما إذا كان الحادث أخص. ب- أن دلائلنا (¬2) عين الفرق. ب- أن المفصل لا يحتمل التخصيص. د (¬3) - أنه إنما يصح لو كان الخاص المتقدم نهياً والعام المتأخر أمراً، فلو انعكس الأمر كان العام المتاخر عاماً مطلقاً إذ الأمر لا يفيد التكرار. " الحالة الرابعة: أن لا يعلم التاريخ" فالخاص يخصص العامِ عند الشافعي، وتوقف فيه أبو حنيفة، إذ الخاصِ بين أن يكوِن منسوخاً ومخصصاً وناسخاً مقبولاً إن كان متواتراً. ومردوداً إن كان آحاداً والعام متواتراً. وهذا الاحتمال الأخير يضعف ما تمسك به أصحابنا من أن الخاص مقدم قارن العام أو تقدم أو تأخر فقدم مطلقاً. وتمسكوا أيضاً بأنه يجوز التخصيص بالقياس مطلقاً، فبخبر الواحد أولى. وهو ضعيف أيضاً، لأن أصل ذلك القياس إن كان مقدماً على العام لم يصح القياس عليه عندنا، فكذا إذا لم يعلم تقدمه عليه، بل المعتمد أن فقهاء الأمصار في هذه الأعصار يخصصون أعم الخبرين بأخصهما بلا علم بالتاريخ. ولا يلزم علينا (¬4) عدم تخصيص ابن عمر (¬5) قوله تعالى: ¬
{وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ} (¬1) بقوله عليه السلام: "لا تحرم الرضعة والرضعتان" (¬2). وأنه لما سئل عن نكاح النصرانية حرمه بقوله تعالى: {وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ} (¬3) وجعله رافعاً لقوله تعالى: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} (¬4) مع خصوصه، لأنا إنما (¬5) ادعينا إجماع أهل (¬6) هذه الأعصار وأيضاً يحتمل أنه فعل ذلك لدليل. تنبيه: من توقف حيث توقف يجب عليه الترجيح. فذكر عيسى بن أبان فيه وجوهاً: عمل الأمة بأحد الخبرين، أو عمل أكثرهم به (¬7) مع عيبهم على من لم يعمل به أو شهرة رواية أحدهما. وزاد أبو عبدالله البصري وجهين: ورود أحدهما بياناً للآخر (¬8)، أو تضمنه حكماً شرعياً. قال أبو الحسين البصري: هذه الأمور أمارة تأخير أحد الخبرين إذ لو كان مقدماً منسوخاً (¬9) لما كان كذلك. وهذا في تضمن الحكم الشرعي ضعيف. ¬
الفصل السادس فيما يظن أنه من المخصصات
" الفصل السادس" فيما يظن أنه من المخصصات وفيه مسائل " المسألة الأولى" الجواب الذي لا يستقل بنفسه (¬1) لذاته أو للعادة يفيد مع سببه، وكان السبب معاداً فيه، والمستقل إن ساوى السؤال فلا كلام (¬2) فيه. وإن كان أخص منه جاز إن نُبه في المذكور على حكم غيره، والسائل مجتهد لا يفوت باجتهاده مصلحة، وإن كان أعم لم يتخصص بالسبب، خلافاً (¬3) للشافعي رضي الله عنه ........................... ¬
.......... والمزني (¬1) وأبي ثور إذ خصوص السبب لا يعارض مقتضى العموم لجواز منع الشارع من التخصيص به، ولأن آية السرقة واللعان والظهار وردت في أقوام بعينها مع عمومها (¬2). احتجوا: بأن المراد بيان ما سئل عنه وإلا تأخر البيان عن الواقعة فاختص به. وجوابه: أنه يقتضي تخصيصه بذلك الشخص وذلك الزمان ثم ذلك السؤال الخاص، لعله اقتضى هذا الجواب العام. تنبيه: دلالته على موضع (¬3) السؤال أقوى وإن دلَّ على غيره. ¬
المسألة الثانية
" المسألة الثانية" (¬1) مذهب الراوي لا يخصص (¬2) عند الشافعي، خلافًا لعيسى بن أبان. وقيل: إن وجد ما يقتضي تخصيصه خص بمذهبه وإلا فلا. لنا: أن خلاف الراوي قد يكون لظنه ما ليس بدليل دليلًا فلا يعارض مقتضى العموم. احتج الخصم: بأن مخالفته لا عن طريق يقدح في عدالته. والطريق إن كان محتملًا لذَكَرهُ إزالةً للتهمة عن نفسه، والشبهة عن غيره وإن كان قاطعًا اقتضى التخصيص. وجوابه: إنه إنما يجب ذكره عند المناظرة، ولعلها لم تتفق، ثم لا يلزم من ذِكْرِه اشتهاره. " المسألة الثالثة" لا يخص العام بذكر بعضه (¬3) خلافًا لأبي ثور. لنا: أن البعض لا ينافي الكل والمخصص منافٍ. احتج: بأن المفهوم حجة وأنه ينافي (¬4) العموم. ¬
المسألة الرابعة
وجوابه: أن دلالة العموم أقوى من دلالة المفهوم. " المسألة الرابعة" العادة إن علم وجودها في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - وأنه ما منعهم (¬1) منها جاز التخصيص بها وإلا فلا، لكن المخصص بالحقيقة هو تقريره عليه السلام. " المسألة الخامسة" كونه مخاطبًا لا يخصص العام إن كان خبرًا وإن كان أمرًا جعل جزءًا فيشبه أن يُجعل مخصصًا. " المسألة السادسة" قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ} يتناول النبي أيضًا وقيل: لا، لأن منصبه يقتضي إفراده بالذكر، وهو ضعيف إذ لا مانع من دخوله فيه. وقال الصيرفي: إن كان الخطاب صدر (¬2) بأمر الرسول - صلى الله عليه وسلم - بالتبليغ كقوله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ} لم يتناوله وإلا تناوله. " المسألة السابعة" الكفر لا يخصص العام لما سبق في الأوامر ولا الرق، إلَّا في عبادة تختص بالمالكين، إذ لا مانع سوى وجوب خدمة السيد والدال عليه، كالعام ¬
المسألة الثامنة
بالنسبة إلى الدال على وجوب العبادة لاختصاص كل عبادة بدليل فكان تخصيص ذلك بهذا أولى من العكس. " المسألة الثامنة" ذِكرُ العام في معرض المدح والذم لا يخصصه خلافًا لبعض (¬1) فقهائنا، إذ المدح والذم لا يعارض مقتضى العموم. " المسألة التاسعة" عطف الخاص على العام لا يخصصه خلافًا للحنفية إذ قالوا: قوله عليه السلام: "لا يقتل مؤمن بكافرٍ ولا ذو عهدٍ في عهده" (¬2) أي بكافر. ثم الكافر الذي لا يقتل به ذو عهد هو الحربي (¬3). فكذا الذي لا يقتل به المسلم وهو ضعيف. إذ قوله عليه السلام: "ولا ذو عهد في عهده"، كلام تام (¬4) لا يحتاج إلى إضمار قوله بكافر. سلمنا، لكن العطف لا يقتضي اشتراك المعطوف والمعطوف عليه من كل وجه. ¬
المسألة العاشرة
" المسألة العاشرة" تعقيب العام باستثناء أو صفة أو حكم لا يأتي في بعضه لا يخصصه به عند القاضي عبد الجبار، وقيل يخصصه به، وقيل بالتوقف وهو المختار. والأول كقوله تعالى: {لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ} إلى قوله: {إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ} (¬1). استثنى العفو بكناية راجعة إلى النساء ولم يصح العفو إلا من المكلفات. والثاني كقوله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ} إلى قوله تعالى: {لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا} (¬2). أي الرغبة في مراجعتهن. والثالث كقوله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ} إلى قوله تعالى: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ} (¬3) وهما يختصان بالرجعيات. لنا: أن مقتضى الكناية العود إلى كل ما سبق وليس تخصيصه لأعمال العموم الأول أولى من العكس فوجب التوقف. ¬
الفصل السابع في حمل المطلق على المقيد لا يحمل عليه إن اختلف حكمهما وإن تماثل حكمهما
" الفصل السابع " في حمل المطلق على المقيد لا يحمل عليه إن اختلف حكمهما وإن تماثل حكمهما "ففيه مسائل" " المسألة الأولى" إذا اتحد سبب الحكمين حمل المطلق على المقيد إذ المطلق جزءٌ من المقيد لما عرف فالآتي بالمقيد عامل بالدليلين. والآتي بالمطلق عامل بأحدهما، فكان الأول أولى. فإن قيل: مقتضى الِإطلاق التمكن من أي فرد شاء، والتقييد يزيله فلمَ كان هذا (¬1) أولى من حمل الأمر بالمقيد على الندب. قلنا: لأن التقييد مدلول عليه لفظًا، دون ذلك التمكن فكان بالرعاية أولى. " المسألة الثانية" إذا اختلف سبب الحكمين كتقييد الرقبة في كفارة القتل وإطلاقها في كفارة الظهار. فقال بعض أصحابنا: تقييد أحدهما يقتضي تقييد الآخر لفظًا، لأن القرآن كالكلمة الواحدة، ولأن الشهادة أطلقت مرارًا، وقُيدت بالعدالة مرة. وحمل الأول على الثاني وهو ضعيف، إذ إطلاق أحدهما لا يعد مناقضًا لتقييد الأخر. والقرآن كالكلمة الواحدة في عدم التناقض لا في كل شيء وذلك التقييد بالِإجماع. ¬
المسألة الثالثة
وقالت الحنفية: لا يجوز تقييده بطريق، لأن ذلك إزالة المكنة المطلقة (¬1) فكان نسخًا وهو ضعيف، لأن القياس إذا دل على تقييده وجب العملِ به. ولو كان التقييد نسخًا لكان تقييده بالسلامة عن العيوب نسخًا. وأيضًا الِإطلاق لا يزيد على العموم. وأنه يجوز تخصيصه بالقياس فهذا أولى. وقال المحققون من أصحابنا: جاز التقييد بالقياس على ذلك المقيد إن وجد القياس. " المسألة الثالثة" (¬2) إذا أطلق في موضعٍ وقيد في موضعيْن بقيدين متضادين حمل المطلق على ما كان القياس عليه. وعند الحنفية يبقى على إطلاقه، وكذلك على قول الأولين من أصحابنا إذ ليس تقييده بأحدهما أولى. ¬
الكلام فى المجمل والمبين
الكلام فى المُجمَل والمبَيَّن وفيه مقدّمة وفصول
المقدمة في تفسير ألفاظ أطلقت في هذا الباب
المقدمة في تفسير ألفاظٍ أطلقت في هذا الباب (1) البيان: وهو مَصدر بيَّن يقال بَيَّن (¬1) تِبيانًا وبيانًا، كما يقال كلَّم تكليمًا وكلامًا. وهو عبارة عن الدلالة. وفي اصطلاح الفقهاء: (هو الدال على المراد بخطاب لا يستقل في الدلالة عليه. (2) المبيَّن: يقال للمحتاج إلى البيان بعد وروده عليه وللمستغني عنه. (3) المفسَّر: يقال للمحتاج إلى التفسير بعد وروده عليه وللمستغنى عنه أيضًا. (4) النص: وهو كلام تظهر إفادته لمعناه ولم يتناول أكثر منه. خرج بالكلام دليلِ العقل والقياس والمجمل مع المبين. فإن المبين قد لا يكون كلامًا، ولأن المجموع خطاب غير واحدٍ. وبظهور الِإفادة المجمل. وقوله تعالى: {أَقِيمُوا الصَّلَاةَ} إنما يسمى نصًا بالنسبة إلى إفادة وجوب الصلاة، ومجملًا بالنسبة إلي تعيين الصلوات وبالأخير (¬2) قوله. اضرب عبيدي فإنه لا يسمى نصا بالنسبة إلى زيدٍ لتناوله أكثر منه. (5) الظاهر: وهو ما لا يفتقر في إفادته معناه إلى غيره إفادة وحده أو مع غيره، ¬
وبهذا امتاز عن النص امتياز العام عن الخاص، وهذان التعريفان لا ينافيان التعريفين المذكورين للنص والظاهر في اللغات (¬1). ولقائلٍ أن يقول (¬2): ما ذكره ههنا يقتضي كون النص قسمًا من الظاهر والمذكور ثمة يقتضي كونه قسيمًا له وبينهما تنافٍ (¬3). 6 - المجمل: (ما يفيد شيئًا من جملة أشياء معينًا في نفسه لا يعينه اللفظ). بخلاف قولنا: (اضرب رجلًا) فإنه غير معين لجواز ضرب أي رجل كان. 7 - المؤول والتأويل: احتمال يعضده دليل يصير به أغلب على الظن مما دلَّ عليه الظاهر. 8 - المحكم. 9 - المتشابه: وقد مرا في اللغات. ¬
الفصل الأول في المجمل
" الفصل الأول" في المجمل "وفيه مسائل" " المسألة الأولى" الدليل الشرعي إما أصل أو مستنبط منه، والثاني هو القياس ولا يمكن فيه إجمال والأول (¬1) إن كان قولًا أمكن إجماله عند استعماله في جميع ما وضع له (¬2)، كالمشترك والمتواطئ إذا أُريد به واحدٌ ولا يدل على عينه، وعند استعماله في بعض ما وضع له كالعام المخصوص بصفة مجملة أو استثناء مجمل، أو بدليل منفصل مجمل، وعند استعماله لا في شيء مما وضع له كالألفاظ الشرعية إذا لم يعلم عين ما نقلت إليه والتي تعذرت حقائقها وتساوت مجازاتها. وإن كان فعلًا أمكن إجماله إذا لم يقترن به ما يدل على وجه وقوعه. " المسألة الثانية" جاز ورود المجمل في الكتاب والسنّة لوروده في آية العدة، وقوله تعالى: {وَآتُوا حَقَّهُ} (¬3). احتجوا: بأن المجمل إن لم يبيَن لزم تكليف ما لا يطاق، وإن بُيِّن كان ¬
المسألة الثالثة
تطويلًا بلا فائدة، ومخلًا بالفصاحة وموجبًا للحيرة، لجواز وصول المجمل دون البيان إلى المكلف. وجوابه على أصلنا: أن الله تعالى يفعل ما يشاء. وعلى أصل المعتزلة لعل في إرداف المجمل بالبيان مصلحة لا نعلمها. " المسألة الثالثة" إضافة التحريم والتحليل إلى الأعيان تقتضي الِإجمال عند الكرخي. وعندنا تفيد بحسب العرف تحريم الفعل المطلوب من تلك الأعيان فتحريم الميتة تحريم أكلها، وتحريم الأمهات تحريم الاستمتاع بهن (¬1). لنا وجوه: أ - أن سبق الذهن في العرف إلى هذه المعاني يدل على كونها حقائق عرفية. ب - قوله عليه السلام: "لعن الله اليهود حرمت عليهم الشحوم فجملوها وباعوها وأكلوا (¬2) ثمنها" (¬3). يدل على أن تحريم الشحوم تحريم أنواع التصرف المعتاد فيها. جـ - ملك الدار يفيد حل السكنى والبيع، وملك الجارية حل الوطء والاستخدام والبيع وإذا أجاز ذلك في إضافة الملك جاز في إضافة التحريم. ¬
المسألة الرابعة
احتج (¬1): بأن العين لا تراد بالتحريم. بل فعلٌ يتعلق بها. وليس البعض أولى من البعض ولم يمكن إضمار الكل. إذ لا حاجة فوجب التوقف، ولأنه لو أفاد حرمة فعلٍ معين لكان هو المحرم في كل المواضع. وجوابه: أن العرف يقتضي تحريم الفعل المطلوب منه. " المسألة الرابعة" قال بعض الحنفية: قوله تعالى: {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ} (¬2) مجمل لاحتمال إرادة كل الرأس وبعضه. وقيل يفيد الكل لولا المعارض، لأن الباء للِإلصاق. قال ابن جني. لا فرق بين قوله: (مسحت الرأس) وبين قوله: (مسحت بالرأس) والرأس اسم للكل فيتناوله وقال بعض الشافعية: إنه يفيد التبعيض، وقيل يفيد القدر المشترك بين الكل والبعض، وهو إمساس اليد بجزءٍ من الرأس إذ اللفظ مستعملٌ في البعض كما في الكل. كما يقال: مسحت يدي بالمنديل وبرأس اليتيم، والأصل الحقيقة الواحدة وهو قول الشافعي. " المسألة الخامسة" قال أبو عبد الله البصري: إذا دخل حرف النفي على الفعل كان مجملًا لأنه لا ينفيه. ولشى إضمار بعض الأحكام أولى. ولا يمكن إضمار الكل إذ لا ضرورة وقد يتناقض. فإن نفي الكمال يستلزم الصحة فإضمارها يتناقض فوجب الِإجمال. وقيل: إن كان المسمى شرعيًا انتفى ولا إجمال. وقول القائل هذه صلاة فاسدة يحمل على اللغوي للتوفيق. وإن كان حقيقيًا وله حكم واحد فقط كالشهادة والاقرار فيما يسن ستره فلا إجمال، وإن كان أكثر كالجواز والفضيلة تحقق الِإجمال وهو قول الأكثر. ¬
المسألة السادسة
وقد يقال: الحمل على (¬1) الجواز أولى لوجوه: أ - اللفظ يدل على نفي الذات بالمطابقة وعلى نفي الصفات بالالتزام، فصار كالعام بالنسبة إليهما. تُركَ العمل به في الأول فعمل به في الثاني. ب - المشابهة بين المعدوم وما لا يصح ولا يفضل أكثر منها بينه (¬2) وبين ما يصح ولا يفضل (¬3). جـ - معنى قولنا: هذا لفلان. عود نفعه إليه. فقولنا: لا عمل له. معناه لا يعود نفعه إليه وأنه ينفي الصحة لاستلزامها عود النفع إليه. " المسألة السادسة" قيل آية السرقة مجملة في اليد، لأنه يطلق على العضو من المنكب والمرفق والكوع ومفصل (¬4) الأنامل وفي القطع أيضًا، لأنه يطلق على الِإبانة وعلى الشق. وجوابه: أن اليد هو العضو من المنكب فلا يقال قطعت يده بالكلية إلا اذا قطع من المنكب ويطلق على الباقي بالمجاز. والقطع هو الِإبانة فإذا أضيف إلى الجلد أفاد إبانة تلك الأجزاء. ¬
المسألة السابعة
" المسألة السابعة" قيل قوله عليه السلام: "رفع عن أمتي الخطأ" (¬1). مجمل لما قيل في نفي الفعل (¬2). وجوابه: أنه يفيد في العرف نفي المؤاخذة على الفعل كما يفهم من قول السيد لعبده. رفعت عنك الخطأ. ¬
الفصل الثاني في المبين
" الفصل الثاني" في المبيَّن "وفيه مسائل" " المسألة الأولى" إفادة الخطاب بنفسه إما للوضع كقوله تعالى: {وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} (¬1) أو لا وحينئذٍ إما للتعليل كما يكون الحكم في المسكوت عنه أولى وكقوله عليه الصلاة والسلام: "إنها من الطوافين" (¬2). أو لا (¬3) له. كما يدل الأمر بالشيء على وجوب شرطه وكقوله تعالى: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} (¬4) فإن إضمار الأهل متعين. " المسألة الثانية" البيان بالقول ظاهر، وأما بالفعل فكالكتابة وعقد الأصابع وإِشارة وكما يفعل فعلًا يعلم بالضرورة من قصده (¬5) كونه بيانًا. أو بالدليل العقلي كما يفعل في وقت الحاجة إلى العملِ بالمجمل ما يصلح بيانًا له فقط. أو اللفظِي كما يقول ما يدل على كونه بيانًا وأما بالترك فكما يترك التشهد الأول عمدًا، ¬
المسألة الثالثة
فيعلم أنه ليس بشرط ولا واجب. أو يسكت عن حكم الحادثة بعد السؤال عنه فيعلم أنه لا حكم فيها للشرع. أو بتناول الخطاب له ولأمته فيترك قبل فعله فيعلم تخصيصه منه أو بعده فيعلم نسخه في حقه. فإن علم أن حكم الأمة كحكمه علم نسخه في حقهم وإلا فلا. واعلم أن الفعل لا يدل على الوجوب والترك يدل على عدمه. " المسألة الثالثة" قيل: لا يجوز وقوع الفعل بيانًا. فإن عنى به أنه لا يجوز في العقل أصلًا فهو باطل، فإنه عليه السلام بيَن الصلاة والحج بفعله وقال: "خذوا عني مناسككم" (¬1). وقال: "صلوا كما رأيتموني أصلي" (¬2). وهو أدل عليهما من الوصف. وان عنى افتقاره إلى قوله: "هذا الفعل بيان لهذا المجمل" فمسلم لكن المبين هو الفعل (¬3) لتعليق الفعل بالمجمل. وان عنى به أنه لا يجوز في الحكمة (¬4) فأصلنا يأباه. وعلى أصل المعتزلة يجوز كون البيان بالفعل أصلح. احتج: بأن الفعل يطول فيتأخر البيان عن وقت الحاجة. وجوابه: أن القول قد يكون أطول. " المسألة الرابعة" القول والفعل إذا تطابقا في كونهما بيانًا، فالبيان هو الأول والثاني تأكيد، وإن تنافيا فيه كقوله عليه السلام: "من قرن الحج إلى العمرة فليطف ¬
المسألة الخامسة
لهما طوافًا واحدًا" (¬1) مع أنه قرن وطاف لهما طوافين فالقول مقدم، لأنه يدل بنفسه. " المسألة الخامسة" قال الكرخي: لا يجوز بيان المعلوم بالمظنون. والحق جوازه كجواز تخصيص القرآن بخبر الواحد والقياس. " المسألة السادسة" قيل: إذا كان المبيَّن واجبًا كان بيانه واجبًا فإن أريد أنه بيان لصفة شيء واجب صح. وإن أريد أنه يدل على الوجوب فلا. إذ ليس فيه ما يدل على الوجوب بل على صفة المبين. وإن أريد أن المبين إذا وجب بيانه على الرسول عليه الصلاة والسلام وإلا فلا. فهو باطل، لأن بيان المجمل واجب مطلقًا وإلَّا فقد كلف بالمحال. ¬
الفصل الثالث في وقت البيان
" الفصل الثالث " في وقت البيان وفيه مسألتان " المسألة الأولى" من منع تكليف ما لا يطاق منع تأخير البيان عن وقت الحاجة. ومن جوَّزه جوز، وأما تأخيره عن وقت الخطاب فجائز عندنا، سواء كان الخطاب ظاهرًا أريد خلافه كبيان التخصيص والنسخ والاسم الشرعي والنكرة إذا أريد بها معيَّن، أو لا كالمتواطئ والمشترك ومنع منه جمهور المعتزلة إلَّا في النسخ. ومنع أبو الحسين منه فيما له ظاهر وزعم أن البيان الِإجمالي كافٍ كما يقول هذا العام مخصوص، وهذا الحكم سينسخ وجوَّز فيما لا ظاهر له إلى وقت الحاجة. وذكر هذا التفصيل (¬1) من أصحابنا أبو بكر القفال (¬2)، وأبو إسحاق المروزي (¬3) وأبو بكر الدقاق ويدل على جواز تأخيره عن وقت الخطاب في الجملة قوله تعالى: {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} (¬4) وثم للتراخي لتواتره عند أهل اللغة. فإن قيل: ثم قد تستعمل بمعنى الواو كقوله تعالى: {ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ} {ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا}، ثم المراد بالبيان إظهاره بالتنزيل. ¬
نعم هو خلاف الظاهر ولكن تخصيص عود الضمير لبعض القرآن مع أن ضاهره العود إلى كله خلاف الظاهر، ثم المراد البيان التفصيلي. سلمنا: لكن المراد جمعه في اللوح المحفوظ والبيان متأخر عنه. ثم الآية تقتضي وجوب تأخير البيان ولا قائل به. والجواب عن: أ - أن (¬1) ثُمَّ في الآيات لتأخير الحكم. ب - أن المراد بقوله تعالى: {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ} (¬2) إنزاله، لأنه أمر عليه السلام باتباع قرآنه وإنما يمكنه اتباعه بعد إنزاله. فاستحال إرادته بالبيان. سلمنا إمكانها. لكنها (¬3) خلاف الظاهر. وظاهر الضمير لا يقتضي عوده إلى كل القرآن إذ القرآن أيضًا حقيقة في بعضه بدليل الحنث به. سلمنا أنه مجاز فيه لكن هذا المجاز أولى من ذلك إذ البيان لا يستلزم التنزيل. جـ (¬4) - أنه تقييد وهو خلاف الظاهر. د - أنه تعالى أخَّر البيان عن القراءة الواجب على النبي اتباعها. هـ - أنا نقول به (¬5) ويدل على جوازه في النكرة أمره تعالى بني إسرائيل بذبح بقرة موصوفة، إذ الهاء في قوله تعالى: {إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا فَارِضٌ} (¬6). إنها ¬
بقرة صفراء إنها بقرة لا ذلول (¬1)، تعود إلى المأمور به أولًا، لأنها في قوله ما هي عائدة إليه وتطابق السؤال والجواب واجب وليست ضمير الشأن والقصة، لأنها غير مذكورة والعود إلى المذكور أولى، ولأن قوله بقرة صفراء لا تفيد حينئذٍ إلَّا بإضمار، والأصل خلافه، ولأن الصفات المذكورة عند السؤال المتأخر ليست صفة بقرة أخرى وجبت عنده بعد نسخ الأولى لوجوب تحصيل الصفات المذكورة أولًا إجماعًا بل صفة الواجبة أولًا (¬2). ثم إنه لم يبين لهم إلا بعد سؤال. فإن قيل: الآية تقتضي وجوب (¬3) تأخير البيان عن وقت الحاجة ولا تقولون به. ثم الواجب ذبح بقرةٍ مطلقةٍ لِإطلاق اللفظ ولذمه تعالى إياهم على السؤال بقوله تعالى: {فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ} (¬4) ولا ذم عند الِإبهام ولقول ابن عباس: لو ذبحوا أية بقرة أرادوا لأجزأت ولكنهم شددوا فشدد الله عليهم (¬5). سلمنا: لكن يجوز تقديم البيان التام بدون التبيين فسألوا لذلك. سلمنا: لكن يجوز تقديم البيان الِإجمالي لقول موسى عليه السلام: إن البقرة ليست مطلقة وتأخير البيان التفصيلي جائز عند أبي الحسين. والجواب عن: أ - أنه إنما يقتضيه لو اقتضى الأمر الفور (¬6) وأنه ممنوع. ب - أن المراد خلاف مقتضى الِإطلاق لما تقدم. وذمهم يجوز أن يكون لتوقفهم عن الفعل بعد استكمال البيان بعد السؤال. وقول ابن عباس مرجوح بالنسبة إلى الكتاب. ¬
جـ - أنهم لو لم يتبينوا لسألوا التفهيم، ولأن البيان كان بالوصف المذكور، وأنه لا يخفى على العارفين باللغة. د - أنه لو كان كذلك لذكره الله تعالى إزالةً للتهمة. ويدل على جواز تأخير المخصص (¬1) تأخير قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ} (¬2) عن قوله تعالى: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ} (¬3) ورد حين قال ابن الزبعري (¬4). أليس عبد الملائكة والمسيح "وما" يتناول من يعقل لقوله تعالى: {وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى} (¬5) وقوله تعالى: {وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا} (¬6). ولفهم ابن الزبعري مع أنه من الفصحاء ولعدم تخطئته عليه السلام إياه ولاتفاق أهل اللغة على وروده. بمعنى (الذي) (¬7) المتناول للعقلاء. ولأنه لو قال: (ما لي صدقة) دخل فيه العقلاء، ولأن الاحتراز بقوله من دون الله، إنما يصح إذا اندرج فيه. فإن قيل: الخطاب مع العرب وأنهم إنما عبدوا الأوثان. سلمنا: لكن خص بدليل عقلي علموه. وهو أنه لا يجوز تعذيب الغير بفعل الغير. وإنما انتظر النبي عليه السلام ليتأكد البيان العقلي باللفظي. سلمنا لكنه خبر واحدٍ (¬8) والمسألة علميَّة. والجواب عن: أ (¬9) - أن عبادة بعض العرب للملائكة والمسيح مشهورة، وقد ذكره ¬
الواحدي (¬1) وغيره في سبب نزوله (¬2)، ولأن الخطاب لو كان مع عبدة الأوثان لما ورد السؤال. ب - أن تعذيب المعبود للرضا بالعبادة جائز. وقد يتوهم الرضا فيصح السؤال. ب - أن اتفاق المفسرين على ذكره في سبب نزول الآية ينفي ذلك. سلمنا لكن خبر الواحد يفيد الظن. والأدلة اللفظية لا تفيد إلا إياه. والدليل على غير أبي الحسين: القياس على جواز تأخير التخصيص في الأزمان عكسًا بجامع نفي إيهام العموم في المجمل (¬3). فإن قيل: حكم الخطاب معلوم الانقطاع بالموت واحتمال النسخ لا يمنع العمل في الحال، وقد عدما في التخصيص. قلنا: قوله صل كل يوم جمعة عام في الدوام فسقوط التكليف بالموت لا ينفي عمومه فيما قبله. وأيضًا لما كان عامًا في الدوام لغة، مع أنه يقيد بالحياة والمكنة جاز مثله في العموم. ولقائلٍ (¬4) أن يضعف هذا بأن جوازه في العموم معلوم لكن شرطه ¬
وجود المخصص والمخصص العقلي معلوم في الأزمان دون الأعيان. قوله: احتمال التخصيص يمنع العمل في الحال، قلنا: لا يمنع منه وقت الحاجة ولا يضر المنع قبله. دليل آخر في المسألة (¬1): أجمعنا على جواز موت كل مكلفٍ بالخطاب العام قبل وقت الفعل وموته، حينئذٍ يخصصه من الخطاب ولم يتقدم بيان. احتج أبو الحسين على المنع من تأخير بيان ما استعمل في غير ظاهره بوجهين: أ- العموم خطاب لنا: فإن قصد إفهامنا (¬2) بظاهره، فقد أراد الجهل منا أو بغير ظاهره، فقد أراد منا ما لا سبيل إليه. وإن لم يقصد إفهامنا انتقض كونه خطابًا لنا. إذ الخطاب معناه قصد الِإفهام ولكان ذلك إغراءً لنا بالجهل. إذ ظاهره يفيد أنه قصد إفهامنا. ولكن ذلك (¬3) عبثًا إذ لا فائدة للخطاب إلا قصد الِإفهام ولجاز خطاب العربي بالزنجي والنائم واليقظان بالتصويت والتصفيق، ثم يبيته بعد (¬4) مدة ولا يفرق بأن العربي يفهم الأمر بشيء في قوله تعالى: {أَقِيمُوا الصَّلَاةَ} لأنه يجوز (¬5) أن يكون المراد من الأمر غيره ثم يبينه فاستويا. بل خطاب الزنجي بالعربي أولى بالجواز، إذ لا يدعوه ظاهره إلى اعتقاد غير المراد. ب - لو جاز ذلك لتعذر معرفة وقت العمل، لجواز أن يقوِل: صلوا غدًا ويريد بعد غد وبعد بعده وهلم جرًا، إذ يسمى الكل غدًا مجازًا. ولو بينِ في الغد صفة الفعل ثم قال: افعل الآن، جاز أن يريد به زمانًا متراخيًا. ¬
والجواب عن (¬1) "أ" بوجهين: أ - أنه ينتقض (¬2) بعدم جواز اعتقاد العموم من العام وقت طلب الأدلة العقلية والسمعية. فإن فرق بأن علم المكلف بكثرة السنن والأدلة كالِإشعار بالتخصيص. قلنا: يجوز وجدان المخصص فيما معه من الأدلة في ثاني الحال، كتجويز حدوث مخصص في ثاني الحال، فمنع أحدهما من اعتقاد العموم في الحالِ كمنع الآخر منه. وينتقض بزمان البيان بكلامٍ طويل وفعل طويل، وبتأخيره بزمانٍ قصير، وبتأخير بيان الجمل (¬3) المعطوف عليها إلِى الفراغ من المعطوف، لِإتيان التقسيم المذكور فيه وإن لم يعد تأخيرًا، وتجويز ورود شرط على الكلام فيما بعد. إن منع الحمل على الظاهر منع تجويز ورود المخصص بعده منه. ولقائلٍ أن يقول: الاحتمالان المذكوران في الصورتين راجحان على الاحتمال المذكور في صورة النزاع، فمنع الراجح من الحمل على الظاهر لا يستلزم منع المرجوح منه. وينتقض أيضًا بجواز موت كل مخاطب قبل الفعل، وينتقض على غير أبي الحسين من المعتزلة بتأخير بيان النسخ إجمالًا وتفصيلًا، حيث اقتضى اللفظ الدوام. ب - أن الغرض الِإفهام بمعنىِ إفادة الظن بالظاهر لا اليقين. وحينئذٍ لا يكون ناقضًا للخطاب ولا مُغريًا بالجهل ولا عابثًا وبهذا يخرج خطاب الزنجي بالعربي فإنه لا يفيد ظنه بشيء، ويمتنع أن يكون الغرض الِإفهام المفيد اليقين إذ الأدلة (¬4) اللفظية لا تفيده لما سبق. وظن الظاهر لا يمنع ورود ¬
المخصص عليه كما أن ظن نزول المطرِ من الغيم الرطب شتاءً، لا يمنع تخلف المطر عنه وإلا كان الظن يقينًا (¬1). جواب آخر: إن اللفظ مع المخصص يفيد الخاص، ومع عدمه العام واحتمالها سواء، فصار كالمجمل والمتواطئ وليس هذا عدولًا إلى القول بالاشتراك، إذ اللفظ وحده يفيد العموم إلا أن شرطه عدم المخصص والشك في الشرط يوجب الشك في المشروط. ولقائلٍ أن يقول (¬2): الِإفهام بمعنى إفادة ظن (¬3) الظاهر إرادة ظن الكاذب وأنه ممتنع. وأما تسوية الاحتمالين (¬4) ممنوع لا كالمجمل والمتواطئ. ب (¬5) - أن اللفظ (¬6) المعيِّن للوقت (¬7) يفيد اليقين بقرائن. فإن لم يوجد قرينة وحصر الوقت المدلول عليه باللفظ غلب على الظن إفادة اللفظ الوجوب فيه، والظن يكفي في وجوب العمل، وظن عدم المخصص لا يكفي في القطع بالعموم. ¬
المسألة الثانية
ويدل على جواز التأخير في المشترك. أنه (¬1) وإن كان مجملًا من حيث إفادته لمعنى من المعنيين، لكنه ظاهر من حيث إفادته لأحدهما، وهذا القدر يصلح أن يراد تعريفه. إذ قد يقول الرجل لغيره: لي إليك حاجة مهمة أوصيك بها. وقد يقول: رأيت رجلًا في موضع (¬2) كذا. وغرضه الِإعلام بهذه الجملة لكراهته وقوف غيره عليه. ثم يبين بعد ذلك. وقد يقول الملك لغيره: وليتك البلد الفلاني. فاخرج إليه وأنا أكتب إليك تفاصيل ما تعمل. ويقول أحدنا لغلامه: إني آمرك أن تبع غلامًا أبينه لك غدًا، لهذا وضعت في اللغة ألفاظ مبهمة، وتأخير بيان المجمل مثله (¬3). فإن قلتَ: الغرض من الأمر الفعل. والِإبهام يخل بالغرض من التمكن وأما الاعتقاد فتابع قلت: الغرض هو الفعل وقت الحاجة والعلم قبله. احتجوا: بأنه لو جاز ذلك لجاز خطاب العربي بالزنجي ولا يفرق بأن العربي لا يفهم من الزنجي شيئًا، لأنه إن اعتبر في حسن الخطاب الوقوف على كمال المراد حصل المطلوب وإن كُفي الوقوف عليه من بعض الوجوه فالعربي يعلم أن المراد إما الأمر أو النهي أو غيرهما. والجواب المعتبر: إفادة الخطاب فهم ما وضع له في الجملة مع التمكن من معرفة ما هو المراد منه، وهذا غير حاصل في النقض (¬4). " المسألة الثانية" يجوز للنبي عليه السلام تأخير ما يوحِى إليه إلى وقت الحاجة، إذ تقديم الإِعلام في الشاهد قد يكون قبيحًا. وقد يكون تركه قبيحًا وقد يستويان. وكذلك قد يعلم الله تعالى اختلاف مصلحة المكلف في التقديم والتأخير، فلا يجب التقديم مطلقًا. ¬
احتجوا. بقوله تعالى: {بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ} (¬1). والجواب: لا نسلم أن الأمر للفور. سلمنا. لكن المراد القرآن. إذ هو (¬2) المفهوم من المُنَزَّل. ¬
الفصل الرابع في المبين
" الفصل الرابع" في المبيَّن له وفيه مسائل " المسألة الأولى" يجب البيان لمن أُريد إفهامه لئلا (¬1) يلام التكليف بما لا سبيل إلى معرفته. ولا يجب لمن لم يرد إفهامه. إذ لا تعلق له بالخطاب. ثم كل منهما قد يراد منه العمل بمقتضى الخطاب وقد لا يراد منه ذلك. والأول والثاني كالعلماء بالنسبة للخطاب المتعلق بأفعالهم والمتعلق بأحكام الحيض. والثالث كأمتنا بالنسبة إلى الكتب الماضية. والرابع كالنساء بالنسبة إلى الخطاب المتعلق بأحكام الحيض. " المسألة الثانية" يجوز إسماع العام المخصوص بالعقل من غير التنبيه على ذلك المخصص وفاقًا، وكذا إسماع المخصوص بالسمع بدون إسماع (¬2) ذلك المخصص، وهو قول النظام (¬3) وأبي هاشم خلافًا لأبي الهذيل (¬4) والجبائي. ¬
لنا: أ (¬1) - أن كثيرًا من الصحابة سمعوا آيةَ الوصية (¬2) ولم يسمعوا قوله عليه السلام: "نحن معاشر الأنبياء لا نورث" (¬3). وسمعوا آية قتل المشركين ولم يسمعوا قوله عليه السلام: "سُنوا بهم سنة أهل الكتاب" (¬4) إلى زمان عمر رضي الله عنه والواحد منا كثيرًا ما يسمع عمومات مخصوصة دون سماع مخصصاتها وإنكاره مكابرة. ب - القياس على المخصوص بدليل العقل بجامع التمكن من معرفة المراد. احتجوا: بأن ذلك إغراء بالجهل ويستلزم جواز خطاب العربي بالزنجي، وقد سبق جوابهما. وبأن دلالة العام مشروِطة بعدم المخصص وتجويز ذلك يفضي إلى أنه لا يجوز التمسك بالعام إلَّا بعد الطواف (¬5) في الدنيا للسؤال (¬6) عن المخصص. وجوابه: أن العموم مظنون والظن حجة في العمليات. ¬
الكلام في الأفعال
الكَلاَم في الأَفعَال (¬1) وفيه مسائل " المسألة الأولى" قيل: (لا يجوز على الأنبياء عليهم السلام ذنبٌ ما بوجهٍ ما وهو قول الشيعة) (¬2). وقيل: يجوز. ثم اختلفوا في الذنب الاعتقادي الذي لا يكون كفرًا. واتفقوا على أنه لا يجوز منهم الكفر خلافًا للفضيلية (¬3) من الخوارج، إذ ¬
المسألة الثانية
قالوا (¬1) وقعت منهم ذنوب وكل ذنب عندهم كفر. وأجازت الشيعة اظهار الكفر تقيةً. ولا تغيير (¬2) ما أنزل اليهم وإلَّا زال الوثوق بقولهم ولا الخطأ في الفتوى. وقيل بجوازهما سهوًا. أما الذنب الفعلي. فقيل يجوز عليهم الكبيرة والحشوية (¬3) منهم قالوا بوقوعها. ومنع القاضي أبو بكر من وقوعها سمعًا. وقيل: لا تجوز عليهم كبيرة ولا صغيرة عمدًا ويجوز مؤولًا وقيل: ولا مؤولًا بل سهوًا، ويعاتبون به لاختصاصهم بزيادة المعرفة والتحفظ. قيل: لا تجوز عليهم كبيرة وتجوز صغيرة عمدًا وخطًا ومؤولًا، إلا ما ينفر كالكذب والتطفيف، وهو قول أكثر المعتزلة. وعندنا أنه لا يقع منهم ذنب قصدًا وأما سهوًا، فقد يقع بشرط أن يتذكروه في الحال ويُنبهوا على كونه سهوًا. المسألة الثانية مجرد فعله عليه السلام يدل على الوجوب عند ابن سريج (¬4) والإصطخري (¬5) وابن خيران (¬6) وعلى الندب عند قوم وينسب إلى الشافعي. ¬
وعلى الإباحة عند مالك. وبتوقف في الكل عند الصيرفي وأكثر المعتزلة وهو المختار. لنا: أنه (¬1) يجوز كون ذلك الفعل ذنبًا - إن جوَّزنا الذنب عليه - ومباحًا ومندوبًا وواجبًا عامًا وواجبًا مختصًا به فامتنع الجزم. احتجوا على الوجوب بوجوه: أ - قوله تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ} (¬2). والأمر هو الفعل وحرمة المخالفة توجب الموافقة. وقوله تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} (¬3) الآية، وهو وعيد على ترك التأسي به، وهو فعل مثل فعله وقوله (¬4) تعالى: {فَاتَّبِعُوهُ} وقوله تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي} (¬5) والمتابعة فعل مثل فعل الخير. وقوله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ} (¬6). وما فعله أتاناه. وقوله تعالى: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} (¬7) وفاعلٍ مثل فعل الخير (¬8) طائع له. وقوله تعالى: {فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا} (¬9) الآية. بيَّن أنه إنما زوجها منه ليكون حكم أمته مساويًا لحكمه فيه. ¬
ب - رجعت الصحابة إلى فعله "في التقاء الختانين" (¬1) لما اختلفوا فيه. و"واصلوا لما واصل" (¬2) وخلعوا نعالهم في الصلاة لما خلع (¬3). وأمرهم بالتحلل بالحلق عام الحديبية فتوقفوا فشكا إلى أم سلمة (¬4) فقالت: اخرج إليهم فاحلق واذبح ففعل فحلقوا وذبحوا مسارعين (¬5). وخلع خاتمه فخلعوا (¬6) وكان عمر رضي الله عنه يقبل الحجر الأسود ويقول: (إني أعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع ولولا أني رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقبلك ما قبلتك) (¬7) وقال عليه السلام لأم سلمة حين سألت عن قبلة الصائم: (ألا أخبرتيه أني أقبل وأنا صائم) (¬8) وهذا يدل على تقرير (¬9) وجوب العود إلى أفعاله عندهم. ¬
جـ - أن حمل فعله على الوجوب أحوط فوجب المصير إليه. د- تعظيمه (¬1) عليه السلام واجب وفعل مثل فعله تعظيم له كما في العرف فيجب قياسًا عليه (¬2). والجواب عن الآية الأولى: أن الأمر حقيقة في القول فقط. سلمنا كونه حقيقة فيهما لكن حمله على القول أولى لقرينة ذكر الدعاء. سلمنا: لكنه أريد به القول إجماعًا، والمشترك لا يحمل على معنييه. سلمنا. لكن الهاء ضمير الله تعالى، لكونه أقرب وإن قال ورودها للحث على الرجوع إلىِ أقواله وأفعاله عليه السلام قرينة عود الضمير إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وأيضًا لا امتناع في عوده إليهما. قلنا: العود إلى الله أيضًا مؤكد لذلك الحث وضمير الواحد لا يجوز عوده إليهما. قلنا: العود إلى الله أيضًا مؤكد لذلك الحث وضمير الواحد لا يجوز عوده إلى اثنين. سلمنا عود الضمير إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم -. لكن لا نسلم أن عدم فعل مثل فعله مخالفة له. فإن المخالفة لغة وإن كانت عدم فعل مثل فعل الغير لمضادتها الموافقة، وهي فعل مثل فعل الغير ولعدم قيام كل واحد من فعل مثل فعل الغير وعدمه مقام الآخر بوجه أصلًا، لكن الشرع زاد عليه وجوب الفعل المتروك، حتى لا يسمى ترك الحائض الصلاة مخالفة للمسلمين. وحينئذٍ بيان الوجوب بالمخالفة دورٌ وهو جواب آية التأسي. وعن آيتي (¬3) المتابعة: منع العموم فإنه يوجب وجوب الفعل علينا واعتقاد عدم وجوبه بتقدير (¬4) أنه لا يكون واجبًا عليه وأنه متناقض. وعن آية الإيتاء (¬5): أن المراد الأمر لقوله تعالى: {وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} (¬6). لأنا بحفظ الأمر وامتثاله نصير كالأخذين له وهو كالمعطي. ¬
وعن آية الطاعة (¬1): أنها موافقة الأمر أو الإرادة (¬2) وإثباتهما (¬3) بالفعل وعن آية زيد: أنها تنفي الحرج عن فعل مثل فعله ولا يلزم منه الوجوب. ب - أنه خبر واحد ولا يفيد العلم ولهم اثبات الظن به ثم الوجوب بالظن سيأتي في القياس، ولأن أكثر هذه الأخبار ورد في الصلاة والحج، فلعله عليه السلام كان يُبيِّن لهم مساواته اياهم فيها. قال عليه السلام: "صلوا كما رأيتموني أصلي"، "خذوا عني مناسككم" (¬4). ومسألة التقاء الختانين وتقبيل الحجر منه. وأما الوصال فلما قصدوا به إتيان الواجب كما في الصوم أنكر عليهم، ولا يعلم أنهم خلعوا نعالهم وجوبًا. وأيضًا يحتمل أنهم اعتقدوا وجوب الخلع عليهم (¬5) لتقدم قوله تعالى: {خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} (¬6) اذ لا يترك مأمور به إلَّا لأمرٍ. كيف؟ وقد أنكر عليهم. ولما عللوا بفعله قال: أن جبريل أخبرني أن فيها أذى وذلك ينفي وجوب اتباعه ما لم يعرفوا وجه وقوعه. جـ - منع الاحتياط باحتمال حرمة الفعل على الأمة. د - أن ترك مثل فعل الملك قد يكون تعظيمًا له. احتجوا على الندب بوجوه: أ - آية الأسوة فإن قوله: (لكم) ينفي الوجوب. وقوله: (أسوة حسنة) ينفي الإباحة. ¬
المسألة الثالثة
ب - تطابق الناس على التأسي به في أفعاله. جـ - أن فعله راجح الوجود اذ فعل راجح العدم ذنب. وفعلَ مساويه عبث، وهو ممنوع منهما لقوله تعالى: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا} (¬1). الآية. ثم عدم الوجوب ثابت بالأصل فيثبت الندب. والجواب عن: أ - ما سبق من تفسير التأسي. ب - أن ذلك للقرائن مع الفعل. جـ - أن فعل المباح لغرض عاجل لا يكون عبثًا. واحتجوا على الإباحة: أن فعله إما واجب أو مندوب أو مباح، إذ لا يوجد منه ذنب والمشترك رفع الحرج عن الفعل. والأصل عدم الرجحان. وهذا يقتضي إباحة كل أفعاله، إلّا ما علم أو ندبيته وإباحته في حقه إباحة في حقنا بآية التأسي، إلّا فيما اختص به. والجواب: منع ذلك في حقنا. وآية التأسي نجيب عنها. " المسألة الثالثة" قال جماهير الفقهاء والمعتزلة: يجب التأسي به. أي: إذا علمنا أنه فعل فعلًا على وجهٍ تعبدنا بفعله على ذلك الوجه. وقال أبو علي (¬2) بن خلاد يجب التأسي به في العبادات فقط. وقيل بمنعه مطلقًا. احتج أبو الحسين بآية الأسوة وآيتي الإتباع. فإن التأسي والإتباع (¬3) فعل ¬
مثل فعل الغير على وجه فعله وبرجوع الصحابة إلى أزواجه في قبلة الصائم (¬1) وإصباحه جنبًا (¬2) وتزويجه ميمونة (¬3) وهو حلال أو (¬4) حرام. والاعتراض على الأول: أنه لا يفيد العموم كقوله: لك في الدار ثوب حسن والتأسي به في الجملة واجب حيث قال عليه السلام: "صلوا كما رأيتموني أصلي". و"خذوا عني مناسككم" (¬5). كيف؟ والآية وردت بصيغة الماضي. ولا يقال. لا يقال (¬6) فلان أسوة فلان ما لم يقتد به في كل شيء إلَّا ما خصه الدليل لأنا نمنع ذلك. فإن من تعلم نوعًا من العلم من إنسان يقال له في فلان أسوة حسنة. ويقال فلان أسوة فلان في كل شيء أو في بعض الأشياء. وعلى الثاني: أن الأمر بالماهية لا يفيد العموم والتمسك بأشعار ترتب (¬7) على الاسم منقوض بقول السيد لعبده (¬8): اسقني، وقم، وغيره من النقوض الكثيرة وعلى الِإجماع (¬9) ما مر. ¬
التفريع: إذا وجب التأسي به عليه السلام وجب معرفة وجه فعله من الإباحة والندب والوجوب. وذلك إما بمعرفة أنه عليه السلام نص أنه فعله على ذلك الوجه. أو أنه مخَّير بينه وبين ما ثبت كونه على ذلك الوجه، إذ التخيير بين مختلفي الجنس لا يجوز، أو بمعرفة وروده امتثالًا أو بيانًا لآية دالة على ذلك الوجه أو بمعرفة نفي القسمين الباقيين. فيعرف (¬1) نفي الوجوب (¬2) والندب بالاستصحاب، ونفي الإباحة بقصد القربة. ويختص الندب والوجوب بمعرفة وقوع الفعل قضاء واجبٍ أو مندوب. والندب بمعرفة إدامة الفعل والإخلال به بلا نسخ. والوجوب بمعرفة وقوعه بأمارة الوجوب، كالصلاة بأذانٍ وإقامة ووقوعه جزاء لشرط موجب كالنذر. وأنه لو لم يجب لم يجز كركوعين في صلاة الخسوف، ثم الفعل إذا عارضه قول وعلم تقدم أحدهما، فإن تراخي المتأخر عن المتقدم نسخ حكمي المتقدم في حق من تناوله القول. اختص به عليه السلام أو بأمته أو عمهما. وإن تعقب القول الفعل وعم القول له ولأمته أسقط حكم الفعل عن الكل. وإن اختص بأحدهما خصصه عن عموم حكم الفعل وإن تعقب الفعل القول (¬3) وعم القول له ولأمته خصصه عن عموم القول. وإن إختص بالأمة ترجح القول على الفعل. إذ ترجيح (¬4) الفعل يلغي القول ولا ينعكس. وإن اختص به جاز إن جوَّز نسخ الشيء قبل حضور وقته وإلا فلا. وإن لم يعلم تقدم واحد رجح القول لاستغناء دلالته عن الفعل من غير عكسٍ وليقين (¬5) تناوله إيانا إذ الفعل بتقدير تقدمه لا يتناولنا. ¬
المسألة الرابعة
" فرع" نهى عليه السلام عن استقبال القبلة واستدبارها في قضاء الحاجة ثم استقبل بيت المقدس فيه في البنيان (¬1) فالشافعي خصص عموم النهي بفعله في البنيان، ليجوز استقبال القبلة في البنيان للكل. إذ فعله مع دليل وجوب التأسي أخص من عموم النهي. والكرخي جعل فعله من خواصه. والقاضي عبد الجبار توقف فيه. وإن عارضه فعل آخر بأن يقر عليه السلام شخصًا على فعل ضده فيعلم خروجه عنه. أو يفعل عليه السلام ضده في وقت يعلم لزوم مثله له فيه ما لم يرد ناسخ فيعلم نسخه عنه ثم النسخ والتخصيص بالحقيقة، إنَّما يلحق دليل وجوب التأسي به ودليل لزوم فعله عليه السلام له في المستقبل. " المسألة الرابعة" قيل: إنه (¬2) عليه السلام لم يكن قبل نبوته متعبدًا بشرع (¬3) من قبله. إذ لم يشتهر رجوعه إلى علماء شريعة ولا افتخار أهل شريعة به. ولا يعارض بأنه لم يشتهر عدم كونه على شريعةٍ، فإنَّ قومه لما لم يكن على شريعة لم يكن عدم كونه على شريعة بدعًا (¬4) بخلاف العكس. وقيل: كان على شريعة لعموم الشرائع المتقدمة، ولأنه أَكلَ اللحم وركَب البهيمة وطاف بالبيت. والجواب (¬5) عن: أ - منع عموم تلك الشرائع. ثم علمه أو ظنه بها وهو المراد من زمان الفترة. ب - أن ركوب البهيمة حسن عقلًا، لأن طريق حفظًا ونفعها بالعلف وأكل ¬
اللحم حسنٌ عقلًا إذ لا يضر حيوانًا. والطواف لا يحرم من غيرِ شرع، وتوقف فيه قوم. وأما بعد نبوته فقال جمهور المعتزلة وكثير من الفقهاء بنفيه. وقال قوم من الفقهاء كان متعبدًا بشرع من قبله إلا ما نسخه الدليل. ثم قيل كان ذلك شرع إبراهيم وقيل شرع موسى وقيل شرع عيسى عليهم السلام. واعلم بأنه إن أريد بتعبده بشرع من قبله أن الله تعالى يوحي إليه بمثل (¬1) أحكام ذلك الشرع كُلًا فهو باطل لمخالفة شرعنا شرع من قبلنا (2) في أحكام كثيرة. أو بعضًا وأنه لا يقتضي إطلاق القول بأنه متعبد بشرع من قبلنا (¬2)، لإيهامه التبعية مع أصالة شرعه. وإن أريد أنه تعالى أمره باقتباس الأحكام من كتبهم فهو أيضا باطلٌ لوجوه: أ- لو كان كذلك لرجع إلى كتبهم ولو في واقعة ولما توقف إلى نزول الوحي، فإنه لم يعلم خلو تلك الشريعة عن حكم الواقعة، لتوقفه على البحث والطلب الشديد وعدم اشتهارها منه. ولم يرجع، لأنه لم يشتهر، ولأنه غضب حين طالع عمر رضي الله عنه ورقة من التوراة وقال عليه السلام: "لو كان موسى حيًا لما وسعه إلَّا اتباعي" (¬3). ورجوعه إلى التوراة في الرجم لم يكن لإثبات الشرع، لأنه لم يرجع في غيره إليها ولأنها محرفة عنده، ولأن قول من أخبره بوجود الرجم فيها لم يفد العلم بل كان لتقريره (¬4) عليهم لما حكموه فيه. ¬
لا يقال: الملازمة ممنوعة فإن (¬1) نقل تلك الأحكام تواترًا يغني عن الرجوع إلى كتبهم، ونقلها آحادًا يمنع قبولها لكفر النقلة. لأنا نقول: جاز أن (¬2) ينقل بالتواتر متن الدلائل، لكن الاستدلال (¬3) به يتوقف على نظر دقيق، فكان يجب أن يشتهر عنه ذلك للنظر والبحث. ب - لو تعبد بشرع قوم لوجب على علماء الأعصار الرجوع إلى كتبهم لوجوب التآسي به، وعدمه منهم ينفي وجوبه، ولكان حفظها علينا فرض كفاية كالقرآن والأخبار. جـ - أنه عليه السلام صوب معاذًا في الحكم بالاجتهاد عند عدم الكتاب والسنة، وتعبده بشرع من قبله يوجب الرجوع إلى كتبهم قبل الاجتهاد، إذ لفظ الكتاب المذكور في الحديث ينصرف إلى القرآن لسبق الفهم إليه. فإن قلت في القرآن آيات دالة على الرجوع إليها، فلم نحتج إلى ذكره كالِإجماع. قلت: عدم تعلم معاذ التوراة والِإنجيل وتمييز المحرف منهما عن غيره ينفي ذلك احتجوا: بقوله تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ} (¬4). وقوله تعالى: {فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} (¬5). وقوله تعالى: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ} (¬6). وقوله تعالى: {أنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ} (¬7) وقوله تعالى: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا} (¬8). ¬
والجواب عن: أ (¬1) - أن كل النبيين لم يحكموا بكل التوراة، فالمراد أن كلهم حكموا ببعض ما فيها أو بعضهم حكموا بكل ما فيها. وأنه لا يضرنا. ب - أن المراد هدى كلهم، وهو ما اتفقوا عليه، وهو الأصول. جـ - أنه يقتضي تشبيهه الوحي بالوحي لا (¬2) تشبيه الموحى به بالموحى به. د - أن الملة هي الأصول. يقال (¬3) الشافعي وأبو حنيفة على ملةٍ واحدة ويدل عليه قوله تعالى: {وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} واندراس شريعة إبراهيم عليه السلام. هـ - أنه يقتضي أنه تعالى أمر محمدًا ونوحًا بإقامة الدين وأمرهما بإقامة الدين لا يقتضي اتحاد دينهما، كما أن أمر الاثنين بأداء الحقوق، لا يقتضي اتحاد حقوقهما - كيف؟ والآية تدل على أنه عليه السلام تعبد بما وصى به نوحًا بأمر مبتدئ. ¬
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الكلام في النسخ
الكَلامُ في النَّسْخ وفيه فصول " الفصل الأول" في حقيقة النسخ وفيه مسائل
المسألة الأولى
" المسألة الأولى" النسخ في اللغة: الإبطال. يقال نسخت الريح آثار القدم. ونسخت الشمس الظل، والأصل الحقيقة الواحدة. وقال الفقهاء: هو النقل والاستعمال المذكور مجاز إذ الناسخ هو الله تعالى. ومعارض باستعماله في النقل. يقال: نسخت الكتاب ومنه تناسخ (¬1) الأرواح والقرون والمواريث، والأصل الحقيقة الواحدة. والجواب عن: أ (¬2) - أن الناسخ هو الله تعالى بمعنى أنه مؤثر المؤثر. وأيضاً تمسكناً بإطلاق اسم النسخ على الإزالة، لا بإسناد النسخ الى الريح والشمس. ب- أن الإزالة أعم منٍ النقل، فإنه إزالة عن موضع ثم وضع في آخر، وجعل اللفظ حقيقة في العام أولى. وأما في اصطلاح العلماء: فقال القاضي أبو بكر واختاره (¬3) الغزالي (أنه خطاب دال على ارتفاع حكم ثابتٍ بخطابٍ متقدم على وجه لولاه لكان ثابتاً مع تراخيه عنه). وقولنا بخطاب متقدم احتراز عن رفع حكم العقل بالإيجاب ابتداء. ¬
المسألة الثانية
وإنما قلنا على وجه لولاه لكان ثابتاً إذ به تحقق الرفع. وقولنا: مع تراخيه احتراز عن المتصل. وهذا فاسد، لأنه حد للناسخ لا للنسخ، ولأنا نبطل تفسير النسخ بالرفع، ولأن الناسخ والمنسوخ قد يكونا فِعلاً حيث يعلم أن الغرض منه إزالة حكم كان ثابتاً بفعل أو غيره، وإن لم يوجد خطاب يدل على وجوب متابعته عليه السلام، ولأن الإجماع يرفع جواز الأخذ بكلا القولين ولا يجوز النسخ به. وقد يجاب عنه أنا نحد النسخ لا النسخ الجائز. والأولى أن يقال: (الناسخ طريق شرعي يدل على أن مثل الحكمٍ الثابت بطريق شرعي لا يوجد بعده متراخياً عنه بحيث لولاه لكان ثابتا) ونريد بالطريق الشرعي (¬1) المشترك بين قول الله ورسوله وفعله (¬2). والإجماع والعقل والعجز ليست طرقاً شرعيةً بهذا التفسير والتقييد بالشرط والصفة والاستثناء متصل (¬3). ولو أمَر بفعل واحد ثم نهى عنه متراخياً لا يثبت حكم الأمر لولا النهي فخرج الكل. " المسألة الثانية" (¬4) قال القاضي: النسخ رفعٌ: أي الحكم المتأخر يزيل المتقدم. وقال الأستاذ أبو إسحاق: إنه بيان، أي انتهى الأول ثم حصل بعده الثاني. وهذا يشبه الخلاف في بقاء الأعراض. فإن من قال ببقائها. قال الباقي يبقى (¬5) إلى طريان ضده ثم يزول به ومن قال بعدم بقائها. قال الحاصل ينعدم بذاته ثم يحصل ضده بعده وتلك الدلائل نفياً وإثباتاً آتية ههنا. ¬
احتج من أنكر الرفع بوجوه: أ- أنه ليس ارتفاع الحاصل بحدوث الحادث أولى من اندفاع الحادث بحصول الحاصل، وليس الحادث لحدوثه أقوى، إذ عدم الباقي حال بقائه ممتنع كعدم الحادث حال حدوثه، ولأن الباقي إن حدث له ما لم يكن حال حدوثه فذلك لحدوثه مساوٍ للحادث فلم يترجح الحادث على الباقي لذلك الأمر، وإن لم يحدث استوى الباقي لحدوثه للحادث. وإذ لا أولوية لأحدهما، لم يحصل أحدهما. ب- حصول الثاني مشروط بزوال الأول فتعليله به دور. ب- الحادث إن وجد حال وجود الأول لم ينافه وإن وجد حال عدمه لم يعدمه لامتناع إعدام المعدوم. وليس كالكسر مع الانكسار، الذي هو زوال تأليفات هي أعراض غير باقية، فلا يؤثر الكسر في إزالتها. د- المرفوع ليس خطاب الله تعالى لقدمه ولا تعلقه، لأنه عدمي أو قديم وإلا لكان الباري تعالى محلاً للحوادث وهذه الوجوه على القاضي ألزم، لتعويله عليها في امتناع إعدام الضد بالضد. احتج إمام الحرمين: بأن علم الله تعالى إن (¬1) تعلق باستمرار الحكم الأول أبدا، أو إلى وقت معين فامتنع (¬2) زواله أبداً، لوجب (¬3) في ذلك الوقت، وإلا انقلب العلم جهلاً، وإثبات الواجب والممتنع محال. وهذا ضعيف لجواز تعلقه بزواله في ذلك الوقت بالحادث، وذلك لا يمنع زواله به. كما لم يمنع (¬4) تعلق علمه بحدوث العالم في وقتٍ معين بالمؤثر من حدوثه فيه وبه. ¬
المسألة الثالثة
ولقائل أن يقول على: أ- لا نسلم أنه لا أولوية، إذ العلة التامة لعدم الشيء تنافي وجوده وبالعكس ولولا الأولوية، لامتنع حدوث العلة التامة لعدم ولا لوجود (¬1). ب- لا نسلم أنه مشروط به ولا يلزم من منافاة الشيء لغيره كون وجوده مشروطاً بزواله، كالعلة مع عدم المعلول. ب- أن إثبات العدم ليس إعدام المعدوم، كما أن إثبات الوجود ليس إيجاد الموجود. د- أن حدوث التعلق لا يوجب كون الباري محلاً للحوادث. احتج من أثبته بوجهين: أ- النسخ في اللغة الإزالة، وكذا في الشرع إذ الأصل عدم التغيير ولما سبق في نفي الألفاظ الشرعية. ب- تعلق الخطاب بالفعل يمتنع أن يكون عدمه لذاته، وإلا لم يوجد بل لمزيل وهو الناسخ. والجواب عن: أ- أن الظني لا يعارض اليقيني. ب- أنه تعلق به إلى ذلك الوقت فلا يفتقر عدمه بعده إلى معدم. " المسألة الثالثة" النسخ واقع ومنعه بعض اليهود (¬2) عقلاً وبعضهم سمعاً وأنكره بعض المسلمين أيضاً. ¬
احتج بعض المثبتين: بإجماع الأمة. وبأن نبوته عليه السلام لا تصح إلا مع النسخ وقد صحت. وبأنه جاء في التوراة أنه تعالى قال لنوح عند خروجه من الفلك: (إني قد جعلت كل دابةٍ مأكلاً لك ولذريتك وأطَّلقتُ ذلك لكم كنبات العشب ما خلا الدم فلا تأكلوه) ثم حرم كثيراً من الحيوان على موسى وبني إسرائيل. وكان آدم يزوج الأختَ من الأخ، ثم حرمه الله تعالى على موسى. والأول ضعيف، إذ لا إجماع مع الخلاف، وكذلك الثاني لجواز تأقيت الشريعة المتقدمة إلى وقت ورود المتأخرة، وذلك لا يكون نسخاً، كما أن إباحة الإفطار بالليل لا يكون نسخاً لإيجاب الصوم إلى الليل، وهذا ما عوَّل عليه من أنكر النسخ من المسلمين إذ قال: ثبت في القرآن أن موسى وعيسى بشرا بشرع محمدٍ عليه السلام، وأوجبا الرجوع إليه عند ظهوره وكذا يقول في الإلزامين. والمعتمد قوله تعالى: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} (¬1). ووجه الاستدلال: أن صحة التمسك بالقرآن إن توقفت على صحة النسخ وقد صح لصحة نبوته عليه السلام فيصح النسخ، وإن لم يتوقف تمسكنا بالآية المذكورة. ولقائلٍ أن يقول (¬2): ملزومية الشيء لغيره لا تقتضي وقوعه ولا صحة وقوعه. احتج منكروه عقلاً: بأن الفعل إن كان حسناً قبح النهي عنه، وإن كان قبيحاً قبح الأمر به. ¬
ومنكروه شرعاً بوجهين: أ- ثبت بالتواتر قول موسى عليه السلام: (تمسكوا بالسبت ما دامت السموات والأرض). ب- نص الشارع على شرع موسى فإن لم ينص على دوامه استحال نسخه، لأن الأمر المطلق لا يقتضي التكرار، وإن نص عليه، ولم ينص على أنه ينسخه امتنع نسخه، وإلا لزم التلبيس وأن لا يعرف دوام شرعنا وأن لا يوثق بوعده ووعيده، ولا يمكن معرفته بالإجماع، لأنه فرع الآية والخبر وعدم الوثوق بهما حينئذٍ ولا بالمتواتر، لأنه لم (¬1) ينقل بالتواتر إلا اللفظ فلعل المراد غير ظاهره. وإن نص أيضاً على أنه ينسخه لزم الجمع بين كلامين متناقضين، وأن ينقلا بالتواتر وإلا لجاز مثله في شرعنا، ولأنهما من الوقائع العظيمة، وحيئنذٍ يمتنع إنكار الجمع العظيم للنسخ. والجواب عن: أ (¬2) - أن الفعل قد يكون مصلحةً في وقت الأمر، ومفسدةً في وقت النهي. ب (¬3) - منع التواتر فإنه لم يبق (¬4) من اليهود عدد التواتر في زمان بختنصر (¬5) وأيضا لفظ التأبيد جاء في التوراة للمبالغة في العبد أنه يستخدم ست سنين ثم يعتق في السابعة. فإن أبى العتق فإنه تثقب أذنه ويستخدم ¬
المسألة الرابعة
أبداً. وفي البقرة التي امروا بذبحها (يكون ذلك سنةً أبداً) ثم انقطع ذلك عندهم. وفي قصة دم الفصح (أمروا بأن يذبحوا الجمل ويأكلوا لحمه ملهوجاً (¬1) ولا يكسروا منه عظماً ويكون لهم هذا سنة أبداً). ثم زال ذلك التعبد. وفي السفر الثاني: (قربوا إليَّ كل يوم خروفين خروفاً غدوة وخروفاً عشية قرباناً دائماً لاحقاً بكم) فكذلك ههنًا. جـ- أنه نص على دوامه وأنه ينسخه في الجملة. وهو قول أبي الحسين في وجوب البيان الِإجمالي. قوله وجب أن تنقلا بالتواتر. قلنا: نعم لو بقي من الناقلين عدد التواتر، لكن بختنصر لم يُبق من اليهود عدد التواتر. أو نقول نص على الأول دون الثاني، وهو قول الجماهير من المعتزلة، ومن أصحابنا فى جواز تأخير البيان عن وقت الخطاب. قوله: يلزم التلبيس. قلنا: سبق الجواب عنه في مسألة تأخير البيان عن الخطاب. " المسألة الرابعة" يجوز نسخ القرآن خلافاً لأبي مسلم الأصفهاني (¬2) ¬
لنا وجوه: أ- نسخت آية عدة الوفاة حولًا بأربعة أشهر وعشراً واعتداد الحامل بالحمل، لا بالحول ليكون ذلك تخصيصاً (¬1). ب- نسخت آية الأمر (¬2) بتقديم صدقة بين يدي نجوى الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وذلك الأمر لم يكن ليمتاز المنافق عن غيره، حتىٍ إذا حصل هذا الغرض لا يبقى (¬3) الأمر وإلا لكان من لم يتصدق منافقا، لكنه روي أنه لم يتصدق غير علي (¬4) رضي الله عنه، ويدل عليه قوله تعالى: {فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ} (¬5). جـ- نسخت آية الأمر بثبات الواحد للعشرة (¬6). ¬
المسألة الخامسة
د- قوله تعالى: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ} (¬1) الآية ولم يرد إزالتها عن اللوح المحفوظ إذ لا تختص ببعض القرآن. هـ- نسخت آية التوجه إلى بيت المقدس، وليس التوجه إليه عند الِإشكال والعذر، لنفس بيت المقدس لمساواة غيره إياه فيه. و- قوله تعالى: {وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ} (¬2) والتبديل رفع الشيء وإثبات غيره مكانه، فيلزم رفع تلاوة الآية أو حكمها وأنه نسخ ولم يرد إنزال إحدى الآيتين بدلا عن الأخرى، إذ لا يجوز جعل المعدوم مبدلًا. احتج أبو مسلم بقوله تعالى: {لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ} (¬3). والنسخ إبطال. والجواب: أنه أراد أنه لم يسبقه كتاب يبطله (¬4) ولا يسبق به. " المسألة الخامسة" يجوز نسخ الشيء قبل وقت فعله خلافاً للمعتزلة وكثير من الفقهاء. لنا: أنه تعالى أمر إبراهيم بذبح إسماعيل (¬5) عليهما السلام وقد نسخه قبل فعله، لأنه لو أمره بمجرد المقدمات، وقد أتى بها أو ذبحه (¬6) كما قيل بأنه كلما قطع من الحلق موضعاً وتعداه إلى غيره وصله الله تعالى، لكان قد أتى بالمأمور به فلم يحتج إلى الفداء. ¬
فإن قيل: أمر بالمقدمات فقط لقوله تعالى: {قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا} (¬1) ولو أمر بالذبح لصدق بعض الرؤيا. ولئن عارض بقوله تعالى: {افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ} (¬2). فإنه يجب عوده إلى شيء والذبح مذكور سابقاً فعاد إليه. وبقوله تعالى: {إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ} (¬3). والمقدمات ليست كذلك. قلنا: قوله: {مَا تُؤْمَرُ} مضارع فلا يعود إلى ما مضى في المنام والمقدمات مع الظن الغالب بأنه مأمور بالذبح بلاء عظيم. ثم ما ذكرتم يقتضي كون الشخص الواحد مأموراً ومنهياً عن فعل واحدٍ في وقتٍ واحدٍ من وجه واحد. إذ الكلام فيه وأنه باطل لأن ذلك الفعل في ذلك الوقت (¬4) إن كان حسناً قبح النهي عنه. وإن كان قبيحاً قبح الأمر به. والجواب عن: أ- أن تصديق الرؤيا لا يدل على أنه أتى بكل المأمور به. ب- أنا لا نقول بالحسن والقبح. سلمنا: لكن جاز كون الفعل حسناً، إلا أن الأمر به لم يبق حسنا فحسن رفعه. وقد يحسن الأمر لا لمصلحة تحصل (¬5) من الفعل، كما يقول السيد لعبده: اذهب إلى القرية غداً راجلًا، وغرضه رياضة العبد وتوطئة (¬6) نفسه على الامتثال، مع علمه بأنه سيرفعه عنه غداً. ¬
المسألة السادسة
" المسألة السادسة" يجوز (¬1) نسخ الحكم لا إلى بدل، كما (¬2) نسخت آية تقديم الصدقة (¬3) لا إلى بدل ومنع منه قوم محتجين (¬4) بقوله تعالى: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ} (¬5) الآية وجوابه: أن الآية تتناول اللفظ. سلمنا أنها تتناول الحكم، لكن إسقاط الحكم قد يكون خيراً. " المسألة السابعة" يجوز نسخ الحكم إلى ما هو أثقل. نُسخ التخيير بين الصوم والفدية بتعيين الصوم والحبس في البيوت إلى الجلد والرجم. وأمر الصحابة بترك القتال إلى نصبه، وثبات الواحد للعشرة، وإطلاق الخمر ونكاح المتعة إلى تحريمهما. وجواز تأخير الصلاة عند الخوف إلى إيجابها في القتال. وصوم يوم عاشوراء بصوم رمضان. وكانت الصلاة ركعتين فنسخت بأربع في الحضر. وخالف بعض أهل الظاهر محتجاً بقوله تعالى: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ} (¬6) وبقوله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْر} (¬7). ¬
المسألة الثامنة
والجواب عن: أ (¬1) - أن الخير ما هو أجزل ثواباً وأصلحَ في المعاد. ب (¬2) - أنه أراد به اليسر في الأخرة، دفعاً لتخصيصات غير محصورة. " المسألة الثامنة" يجوز نسخ التلاوة دون الحكم وبالعكس، لأنهما عبادتان منفصلتان، فجاز عقلاً صيرورة إحداهما مفسدة دون الأخرى، وفائدة بقاء التلاوة تحصيل (¬3) العلم بأنه تعالى أزال مثل هذا الحكم عن العباد تفضلاً ورحمة. وقد نسخ الحكم دون التلاوة لما تقدم. والتلاوة دون الحكم فيما روي من قوله تعالى: (الشيخ والشيخة إذا (¬4) زنيا فارجموهما ألبتة نكالًا من الله) (¬5). وعن ابن عباس رضي الله عنه: (نزل في قتلى بئر معونة: بلغوا إخواننا أننا لقينا ربنا فرضي عنا وأرضانا) (¬6) وعن أبي بكر رضي الله عنه: (كنا نقرأ لا ترغبوا عن آبائكم فإنه كفر بكم) (¬7). ¬
المسألة التاسعة
والحكم والتلاوة معاً فيما روي عن عائشة (¬1) (فيما أنزل عشر رضعات يحرمن فنسخن بخمس) (¬2). وروي أن سورة الأحزاب كانت تعدل سورة البقرة (¬3). " المسألة التاسعة" يجوز نسخ الخبر عما يجوز تغيره ماضياً كان أو مستقبلاً وعداً أو وعيداً أو خبراً عن حكم، خلافاً لأبي (¬4) علي وأبي هاشم وأكثر المتقدمين. لنا: أن قوله: عمرتُ نوحاً ألف سنة، ولأعذبن الزاني أبداً، وأوجبت الحج أبداً في التناول للأوقات كالأمر، فجاز نسخه. احتجوا: بأن نسخ الخبر يوهم الكذب ويستلزم جواز قوله: أهلكت عاداً ما أهلكتهم. والجواب عن: أ (¬5) - أن نسخ الأمر أيضاً يوهم البداء. فإن قلتَ: النهي دل على أن الأمر لم يتناول ذلك الوقت. قلت: فالناسخ أيضاً دل على أن الخبر لم يتناول تلك الصورة. ¬
المسألة العاشرة
ب- أن إهلاكهم لم يتكرر. فإن أراد بإهلاكهم ثانياً (¬1)، إهلاك بعضهم كان ذلك تخصيصاً. " المسألة العاشرة" إذا قال افعلوا هذا الفعل أبداً جاز نسخه، لأنه تأكيد لتناول الأزمان فهو كالكل المؤكد لتناول الأعيان، ولأن شرط النسخ وروده على ما يدل على الدوام، فالدال على الدوام لا ينافيه. وخالف قوم محتجين (¬2): (بأن لفظ الدوام يفيد ما يفيده ذكر وقت وقت فلم يجز نسخه كذلك، وبأنه لو جاز ذلك لم يبق لنا طريق إلى العلم بالدوام). والجواب عن: أ (¬3) - أنه يمنع من جواز النسخ أصلًا وينتقض بتخصيص قوله: جاءني القوم كلهم. ب- أن اليقين لا يحصل إلا من القرائن. ¬
الفصل الثاني في الناسخ والمنسوخ
" الفصل الثاني" في الناسخ والمنسوخ وفيه مسائل " المسألة الأولى" يجوز نسخ الكتاب بالكتاب عند الأكثرين، لما سبق على أبي مسلم الأصفهاني. ويجوز نسخ السنة المتواترة بمثلها، والأحاد بمثلها وبالكتاب وبالسنة المتواترة وفاقاً. وأما نسخهما بالأحاد فجائز عقلًا غير واقع سمعاً، خلافاً لبعض أهل الظاهر. لنا: رد الصحابة خبر الواحد الرافع لحكم الكتاب والسنة. قال عمر: (لا ندع كتاب ربنا وسنة نبينا لقول امرأة، لا نعلم أصدقت أم كذبت) (¬1) وهذا ضعيف لا يدل على ردهم كل خبر ناسخ. احتجوا (¬2) بوجوه: أ- القياس على التخصيص بجامع دفع الضرر المظنون. ب- القياس على سائر الأدلة في تقديم (¬3) المتأخر على المتقدم. ¬
جـ - قوله تعالى: {قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا} (¬1) نسخ بنهيه عليه السلام: "عن أكل كل ذي ناب من السباع" (¬2). د - قوله تعالى: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} (¬3). نسخ بقوله عليه السلام: "لا تنكح المرأة على عمتها ولا على خالتها" (¬4). هـ- آية الوصية للوالدين والأقربين نسخت بقوله عليه السلام: "ألا لا وصية لوارث" (¬5). و- أهل قباء قبلوا نسخ القبلة (¬6) بخبر الواحد، ولم ينكر عليهم الرسول عليه السلام. ز- أنه عليه السلام كان ينفذ آحاد الولاة الى الأطراف ويبلغون الناسخ والمنسوخ. ¬
المسألة الثانية
والجواب عن: أ- أن الصحابة فرقت بينهما. وللخصم منعه. ب- أن المتواتر مقطوع المتن دون الآحاد. جـ- أنه يتناول الوحي إلى تلك الغاية، فلا ينسخه نهي بعده. د- أنه مخصوص بذلك الحديث، لتلقي الأمة إياه بالقبول. هـ- أن المتواتر قد يضعف نقله (¬1) استغناءً بالإجماع الحاصل منه. و- لعله عليه السلام أخبرهم به أو علموه بالقرائن، نحو ارتفاع الضجة لكون المسجد قريباً منه عليه السلام. ز- ما سيأتي من ضعفه في باب خبر الواحد. " المسألة الثانية" نسخ السنة بالكتاب واقع، فإن وجوب التوجه إلى بيت المقدس وتحريم المباشرة ليسا في الكتاب ونسخا به. وآية صلاة الخوف نسخت ما أثبتته السنة من جواز التأخير إلى انجلاء القتال حيث قال يوم الخندق: (حشا الله قبورهم ناراً بحبسهم له عن الصلاة) (¬2). وقوله تعالى: {فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ} (¬3) نسخ ما قرره النبي عليه السلام من الصلح والعهد: وهذا ضعيف لجواز ثبوت تلك الأحكام بآيات نسخت تلاوتها. ولجواز نسخها بسنن تقدمت على الآيات. ¬
المسألة الثالثة
ولم يجوزه الشافعي لقوله تعالى: {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} (¬1). فإنه يفيد كون كلامه بياناً للقرآن. فلو كان القرآن ناسخاً للسنة كان بياناً لها، فيكون كل منهما بياناً للآخر. والجواب: أنه لا يقتضي كون كل (¬2) كلامه بياناً. وأيضاً المراد بالبيان الإبلاغ احترازاً عن الإجمال والتخصيص. " المسألة الثالثة" نسخ الكتاب بالسنة المتواترة واقع. وقال الشافعي لم يقع. احتجوا بوجهين: أ- آية الحبس (¬3) نسخت بآية الجلد، ثم هي بالرجم (¬4). فإن قلت: بل- نسخت بقوله تعالى: (الشيخ والشيخة). قلت: لم يكن ذلك قرآناً لقول عمر: (لولا أن يقول الناس زاد عمر في الكتاب لألحقتُ ذلك بالمصحف). وهذا ضعيف، لأن نسخ تلاوته تكفي في صحة قول عمر. ب- نسخت آية الوصية للوالدين (¬5) والأقربين بقوله. عليه السلام: "ألا لا ¬
وصية لوارث" (¬1). لأن آية الميراث لا تمنع الوصية لإِمكان الجمع بينهما، وهذا ضعيف، لأن كون الميراث حقاً للوارث يمنع صرفه إلى الوصية، وأيضاً الخبر خبر واحد، وإلا لبقي متواتراً، لأنه في واقعةٍ مهمة فتتوفر الدواعي على نقله. احتج الشافعي بوجوه: أ- قوله تعالى: {نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} (¬2). وأنه يفيد أن الثاني من جنس الأول. كقوله: "ما آخذه من ثوب آتيك بخيرٍ منه" ويفيد أن الباري منفرد بالإِتيان به ويؤكده قوله تعالى: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (¬3) ويفيد أن الثاني خير من الأول. ب- قوله تعالى: {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} (¬4). والرفع ضد البيان. جـ- قوله تعالى: {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ} (¬5) وَرَدَ لِإزالة التهمة، حين قال المشركون عند تبديل الآية بالآية: {إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ} (¬6) فما لا ينزله روح القدس، لا يزيل التهمة. د- قوله تعالى: {قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ} (¬7) الآية. هـ- إن ذلك يوجب النفرة. ¬
والجواب عن: أ- أن قوله تعالى: {نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا}. لا يفيد أن ذلك الخير ناسخ، لأنه رتبه على نسخ الآية فامتنع ترتب نسخ الآية عليه، وأيضاً المثال المذكور معارضٌ بمثالٍ آخر. وهو قول القائل: (من لقيني بحمد (¬1) لقيته بخيرٍ منه) وإن كان ذلك منحةً وعطاء. ولا نسلم أنه يفيد أن المنفرد بالِإتيان هو الله تعالى، أو نقول المراد بالِإتيان شرع الحكم، والسنة فيه كالكتاب والمنفرد بالرفع هو الله تعالى وإن ظهر بالسنة، والسنة (¬2) قد تكون خيراً إن أريد بالخير الأصلح في التكليف والأنفع في الثواب. ب- النسخ لا ينافي البيان كالتخصيص. جـ- أن من يتهم الرسول يشك في نبوته، فلا يزول اتهامه إياه بنسخ الكتاب بالكتاب أو بالسنة بل بالمعجزات. د- أن المبدِّل بالحقيقة هو الله تعالى، وإن كان الناسخ خبراً، وقوله تعالى: {إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ} (¬3) يدل على أنه لا ينسخ إلا بوحي، وأنه قد لا يكون قرآناً بل خبراً. هـ- أن النفرة زائلة بما يدل على أنه: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى. إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} (¬4). ¬
المسألة الرابعة
" المسألة الرابعة" الإجماع لا ينسخ الكتاب والسنة وإلا لكان خطأ لمخالفة النص ولا ينسخ بهما، لامتناع تراخيهما عنه، إذ لا ينعقد دليلاً في زمانه عليه السلام إذ لا بد فيه (¬1) من قوله. وقوله مستقلٌ بالِإفادة. ولا يَنسخُ إجماعاً آخر إذ المتأخر لا عن دليل خطأ، وعن دليل يوجب خطأ المتقدم، ولأن المتقدم إن أفاد الحكم مطلقاً كان أحدهما خطأ، وإن أفاد مؤقتاً إلى وقت ورود المتأخر لم يكن المتأخر ناسخاً له. وأما الاجماع بعد الخلاف، فإنه لا يرفع حكم الِإجماع على جواز الأخذ بكلا القولين، لأن ذلك الِإجماع يفيد حكمه إلى وقت ورود الإجماع الثاني. ولا يَنسخُ قياساً ولا يُنسخ به إذ شرط صحته (¬2) عدمه، وجوز عيسى بن أبان كون الإجماع ناسخاً. والقياس في زمانه عليه السلام ينسخ بالنص على خلاف حكمه في الفرع، وبالقياس بأن ينص على خلاف ذلك الحكم في صورة يكون القياس عليه (¬3) أقوى. وبعد وفاته ينسخ (¬4) بالنص والِإجماع والقياس معنى بأن يقيس المجتهد حيث لم يجد شيئاً منها ثم وجده، وصوبنا كل مجتهد لكنه لا يسمى نسخاً، وإن صوبنا واحداً فقط لم يكن القياس الأول معتداً به، فلم يكن منسوخاً. ولا يُنسخ النص والِإجماع بالقياس وفاقاً، إذ شرط صحته عدمهما. ¬
ولقائلٍ أن يقول (¬1): في هذه الأقسام نظر ما فليتأمله الناظر. فرع: يجوز نسخ الفحوى تبعاً لنسخ الأصل. ومنع أبو الحسين من نسخه مع بقاء الأصل، كما إذا حرم التأفيف تعظيماً للأبوين ثم أباح الضرب فإنه ينقض الغرض. ويجوز النسخ (¬2) به وفاقاً لفظية كانت دلالته أو عقلية (¬3). ¬
الفصل الثالث فيما يظن أنه ناسخ
" الفصل الثالث" فيما يظن أنه ناسخ وفيه مسائل " المسألة الأولى" ليست زيادة عبادة على العبادات ولا زيادة صلاة على الصلوات نسخاً وفاقاً، وإنما جعل أهل العراق زيادة صلاة على الخمس نسخاً لقوله تعالى: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى} (¬1) فإنها تزيل وجوب المحافظة على الوسطى، فإنها تجعلها غيرَ وسطى. ونقض (¬2) ذلك بزيادة عبادة على العبادة الأخيرة فإنها تجعلها غير أخيرة، وتغير عدد العبادات وما ليست (¬3) كذلك ليست نسخاً أيضاً، عند الشافعي وأبي علي وأبي هاشم خلافاً للحنفية. وقيل: إن نفت الزيادة ما دلَّ عليه النص (¬4) بدليل الخطاب أو الشرط، كانت نسخاً وإلا فلا. وقيل: إن غيَّرت الزيادة تغييراً شديداً بحيث لا يجزئ الأصل بعد الزيادة وحده، كزيادة ركعةٍ على ركعتين كانت نسخاً وإلا فلا. ¬
والأحسن طريقة أبي الحسين البصري، وهي أن الزيادة تزيل شيئاً وأقله عدمها، فتلك الإزالة تسمى نسخاً إن كان الزائل حكماً شرعياً، والزيادة متراخية وإلا فلا، ولا يجوز إثبات الزيادة بخبر الواحد، والقياس حيث تكون الإزالة نسخاً. " فروع" لهذا الأصل الأول: زيادة التغريب (¬1) على جلد ثمانين إنما يزيل نفي وجوب الزائد عليها، وذلك حكم العقل (¬2) إذ إيجاب الثمانين أعم من إيجابها مع الزائد ومع عدمه، ولفظ العام لا يدل على الخاص، وكونها وحدها مجزئة ومتعلق رد الشهادة وكمال الحد يتبع (¬3) نفي وجوب الزائد الذي هو عقلي، ككون الصلوات الخمس مخرجة من عهدة الصلوات ومتعلق قبول الشهادة وغيرهما. نعم لو صرح بنفي (¬4) هذه الأشياء أو كان إيجاب الثمانين ينفي وجوب الزائد على سبيل المفهوم، لقلنا بكونها نسخاً. الثاني: تقييد الرقبة بالإيمان يزيل إجزاء الكافرة، فهو نسخ إن تأخر وإلا فلا. الثالث: إباحة قطع يد السارق في الثالثة يزيل خطره المعلوم بالعقل فلم يكن نسخا. الرابع: التخيير بين الواجب وغيره يزيل خطر تركه المعلوم بالعقل (¬5)، لأن ¬
إيجاب الفعل يقتضي استحقاق الذم على الترك، وذلك لا ينفي قيام واجب آخر مقامه وإنما علم عدم وجوب غيره بالعقل، إذ الواجب بالشرع ما يدل عليه دليل شرعي، فلا يكون ذلك نسخاً. وكذلك لو (¬1) خُيِّر بين أمريْن ثم خُيِّر بينهما وبين ثالث. ومن قال الحكم بالشاهد واليمين نسخ لقوله تعالى: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ (¬2) فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ} (¬3) يلزمه أن يكون الوضوء بالنبيذ نسخاً لقوله تعالى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} (¬4). ولقائل أن يقول (¬5): حظر ترك الواجب معلوم من لفظ الأمر، لما سبق أن الأمر يقتضي المنع من الترك. ¬
المسألة الثانية
الخامس: زيادة ركعة على ركعتين قبل التشهد نسخ لوجوبه (¬1) عقيبهما وليس نسخاً لهما، لبقاء وجوبهما وإجزائهما، إلا أنهما الآن يجزئان مع الركعة الزائدة، وذلك تابع لنفي وجوبها المعلوم بالعقل. وكذلك زيادة شرط في الصلاة ليست نسخاً لوجوبها، ولا لِإجزائها (¬2)، ولا لشرطية شرط سابق عليه. تنبيه: لو علم عدم وجوب هذه الأشياء بالضرورة من دين محمد - صلى الله عليه وسلم - لم يرفعه بخبر (¬3) الواحد والقياس. السادس: إيجاب الصوم إلى غيبوبة الشفق يزيل كون أول الليل طرفاً وغاية للصوم وقوله تعالى: {إِلَى اللَّيْلِ} يثبته. فكان نسخا بخلاف ما لو قال صوموا النهار، فإن نفي وجوب صوم أول الليل بالعقل لقصور اللفظ عنه. " المسألة الثانية" نقصان العبادة نسخ لما سقط. ونقصان ما لا يتوقف عليه صحة العبادة لا يكون نسخاً لها. والمختار أن نقصان ما يتوقف عليه صحة العبادة ليس نسخا لها وهو قول الكرخي. وخالفنا القاضي عبد الجبار في نقصان الجزء دون الشرط. لنا: أن دليل (¬4) الكل يتناول الجزأين. فخروج أحدهما لا يخرج الأخر كأدلة التخصيص. ¬
احتج (¬1): بأن نقصان الركعة يرفع وجوب تأخير التشهد وإجزاء الصلاة مع الركعة المنسوخة. والجواب: أن هذه أحكام الركعة الباقية، وأنها مغايرة لذاتها، فنسخها غير نسخ ذاتها، وأما نقصان الشرط المنفصل، لا يكون نسخاً للعبادة، لأنهما عبادتان منفصلتان. فعلى هذا نسخ الوضوء لا يكون نسخاً للصلاة، إذ الزائل نفي الإجزاء بدون الطهارة فإن أريد بنسخ الصلاة هذا صح لكنه موهم، لأنه يفهم من نسخ الصلاة خروجها عن الوجوب أو العبادة. ¬
الفصل الرابع فيما يعرف به الناسخية والمنسوخية
" الفصل الرابع" فيما يعرف به الناسخية والمنسوخية وذلك بأن يقول: هذا ينسخ هذا أو ينص على نقيض الحكم الأول أو ضده (¬1). ثم يعلم التاريخ بأن يقول: هذا قبل ذلك أو هذا في سنة كذا وذلك في سنة كذا، وهذا في غزوة كذا وذلك في غزوة كذا، وهذا قبل الهجرة وذلك بعدها، وبأن يروي أحدهما متقدم الصحبة، والآخر متأخر لها بعد انقطاع الأول. " فرعان" الأول: قال القاضي عبد الجبار: قول الصحابي في الخبرين المتواترين هذا قبل ذلك مقبول. وإن لم يقبل قوله في نسخ المعلوم. كما تقبل شهادته في الإحصان، وإن لم تقبل في الرجم وتقبل شهادة النساء في الولادة، وإن لم تقبل في النسب. قال أبو الحسين: هذا يقتضي الجواز العقلي ولا يقتضي الوقوع ما لم يتبين لزوم أحد الحكمين من الأخر. الثاني: قول الصحابي كان هذا الحكم ثم نسخ لا يقبل لجواز أنه قاله اجتهاداً وقال الكرخي: إن قال هذا نسخ ذلك لم يقبل. وإن قال: هذا منسوخ قبل، لأنه لولا ظهور ذلك ما أطلق القول، وهذا ضعيف فلعله قاله لقوة ظنه الخطأ والله أعلم. ¬
الكلام في الإجماع
الكلام في الإجَماع وفيه فصول "الفصل الأول" في ماهيته وكونه حجة وفيه مسائل
المسألة الأولى
" المسألة الأولى" الإجماع هو العزم لغة قال الله تعالى: {فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ} (¬1). وقال عليه السلام: "لا صيام لمن لم يُجمع الصيامَ من الليل" (¬2)، والاتفاق أيضا. يقال: أجمع إذا صار ذا جمع كما يقال أَلبن وأتمر إذا صار إذا لبن وتمرٍ. وعند العلماء: "هو اتفاق (¬3) المسلمين المجتهدين في أحكام الشرع على أمر ما من اعتقاد (¬4) أوقول أو فعل ثم قيل: يستحيل اتفاقهم على ما لا يعلم بالضرورة كاتفاقهم على مأكولٍ واحد وكلمةٍ واحدة في ساعةٍ واحدة (¬5). والجواب: أن ذلك فيما يتساوى فيه الاحتمال دون ما يظهر فيه الرجحان، كاتفاق الشافعية والحنفية على قوليهما الصادرين عن الأمارة. وقيل: يجوز ويمتنع العلم به، لأن ما ليس بضروري ولا وجداني فطريق معرفته الحس أو الخبر أو النظر العقلي ولا مجال للثالث في العلم بحصول الإجماع، ولا يمكن الإحساس بكلام الغير ولا الإخبار عنه بدون معرفته لكن ذلك متعذر، لتفرق العلماء شرقاً وغرباً ومن أنصف عَلِمَ أن أهل الشرق لا يعلمون علماء الغرب. وكيف؟ تفاصيل مذاهبهم وبعد العلم بهم ¬
كيف يعلم عقائدهم؟. بل غايته سماع الفتوى منهم. وقد يفتىِ أحدهم خوفاً وتقية وبعد العلم بعقائدهم، كيف يعلم اجتماعها في وقت واحد، فلعل المثبت أثبت زمان نفي النافي (¬1) فلما أثبت النافي نفى المثبت. بل لو جمعهم السلطان في زمان ومكان واحد مع امتناعه ورفعوا أصواتهم بالفتوى، فلعل بعضهم صوت بالنفي فخفي صوته، أو صوت بالإثبات خوفاً من الملك أو الناس. ولا نبطل ذلك بأنا نعلم بالضرورة اتفاق المسلمين على نبوته عليه السلام، وعلى وجوب الصلوات الخمس، لأنك إن عنيت بالمسلم المعترف بنبوته عليه السلام، فيكون معنى الكلام أن المعترف بنبوته عليه السلام معترف بها (¬2). وإن عنيتَ به غير هذا منعنا حصول العلم باتفاقهم على ذلك ويدل عليه أن الإنسان في أول الوهلة يعتقد جزماً أن المسلمين يعترفون بأن ما بين الدفتين كلام الله تعالى. ثم إذا فتش عن المقالات الغريبة وجد فيه اختلافاً كثيراً، حتى روي عن ابن مسعود (¬3) إنكار كون الفاتحة والمعوذتين من القرآن. وعن الخوارج (¬4) إنكار كون سورة يوسف منه. وعن كثير من الفقهاء الروافض (¬5) إنكار كون ما عندنا من القرآن ما أنزل بل غيَر وبدل وزيدَ فيه ¬
المسألة الثانية
ونقصَ عنه. ولا يبطل أيضاً بالعلم باستيلاء بعض المذاهب والملل على بعض البلاد، لأن ذلك بخبر التواتر في أكثر أهل تلك البلاد، بناء على رؤية شعار الإسلام أو التبصر (¬1) في المحال وغيرها. أما في الكل فممتنع، والِإنصاف أنه لا يعلم حصول الِإجماع إلا في زمان الصحابة، حيث كانوا قليلين يمكن معرفتهم مفصلاً. " المسألة الثانية" إجماع المسلمين حجة، خلافاً للنظام والشيعة (¬2) والخوارج. لنا وجوه (¬3): أ- قوله تعالى: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ} (¬4) الآية. جمع بين مشاقة الرسول واتباع غير سبيل المؤمنين في الوعيد. ولا يجوز (¬5) الجمع بين المحرم وغيره وما يختاره الِإنسان لنفسه قولًا وعملًا يسمى سبيلا له فحمل (¬6) عليه. وإذا حَرُمَ غير سبيل المؤمنين وجب اتباع سبيلهم. ¬
فإن قيل: حرمة اتباع غير سبيلهم مشروطة بالمشاقة، ولم يلزم منه وجوب اتباع سبيلهم عند المشاقة. إذ عدم الاتباع واسطة بينهما. وإن لزم ذلك فليس بممتنع إذ ليست مشاقة الرسول الكفر به، لأنها مشتقة من كون أحد الخصميْن (¬1) في شقٍ والآخر في آخر ويكفي فيه أصل المخالفة. وإن سلمنا فالكفر المنافي للعلم بالإجماع هو الجهل بصدقه دون ما عداه، وإن سلمنا فالتكليف بالمحال واقع. ثم نقول حرمته مشروطة بتبين الهدى، لأن حكم المعطوف حكم المعطوف عليه واللام للاستغراق. ودليل أهل الإجماع هدى. فسقط اعتبار الإجماع. ثم لفظ الغير والسبيل مفرد فلا يعم ولئن عمَّ ولم يُفِد. اذ حرمة الكل لا تستلزم حرمة البعض. ونحن نُحرِّم اتباع بعض ما يُغايِر بعض سبيلهم وهو ما صاروا به غير (¬2) مؤمنين، وهو الكفر ويدل عليه فهمنا (¬3) من قوله: لا تتبع غير سبيل الصالحين ما صاروا به صالحين ونزول الآية في رجل ارتد. ثم السبيل: ما يُمشى فيه وهو غير مراد وليس بعض المجازات أولى. كيف؟ ولا مناسبة بين الحقيقة والإجماع وبينهما وبين دليل أهل الإجماع مشابهة الإفضاء (¬4) إلى المطلوب فحمله عليه أولى. سلمنا حرمة اتباع غير سبيلهم فلم (¬5) يجب اتباع سبيلهم اذ لفظ غير للصفة في الأصل. وإن استعمل للاستثناء فعدم الاتباع إذاً واسطة بين الاتباعين. وليس ترك اتباع سبيلهم اتباعاً لغير سبيلهم اذ الاتباع فعل مثل فعل الغير، لأن ذلك الغير فعله. سلمنا وجوب اتباعهم لكن لا في كل أمرٍ وإلا لزم وجوب الفعل، وعدم وجوبه فيما فعلوه معتقدين إباحته وجواز الاجتهاد وعدم جَوازه، حيث ¬
أجمعوا بعد الخلاف ولا يشرط في الِإجماع الأول عدم الإجماع بعده، وإلاَّ لشرط في الإجماع الثاني والثالث ولزم أيضا وجوب إثبات الحكم بدليل أهل الإجماع وعدم وجوبه، ونحن نوجب اتباعهم في البعض وهو الِإيمان ويتأكد بأنه يفهم من سبيل الصالحين الصلاح. كيف؟ والإيمان حاصل في الحال والإجماع يحصل بعد وفاته عليه السلام، والحمل على الحاصل أولى وبأن يفهم من قول السلطان: من يشاقق وزيري ويتبع غير سبيل فلان يريد به المتظاهر بطاعة الوزير عاقبته. سبيله في طاعة الوزير. ثم المراد كل المؤمنين وهم الموجودون إلى قيام الساعة وأهل العصر بعضهم. ولو قيل: المؤمن هو المصدق وهو الموجود، ولزم أن لا يكون إجماع أهل العصر الأول حجة في الثاني، إذ ليسوا مؤمنين فيه وأن تختص الآية بالموجودين وقت نزولها. لكن إنما يفيد الإجماع بعد وفاته عليه السلام، وقد مات بعضهم قبله، سلمنا أن المراد مؤمنو كل عصر لكن لا كلهم لخروج العوام والأطفال والمجانين، بل بعضهم وهو الإمام المعصوم. ثم الإيمان أمر باطن فلا يمكن معرفة المؤمنين (¬1) فكيف يجب اتباعهم؟. ولا يحمل المؤمن على المصدق باللسان كما في قوله تعالى: {حَتَّى يُؤْمِنَّ} لأنه مجاز ليس الحمل عليه أولى من حمل السبيل على ما من شأنه أن يكون سبيل المؤمنين، ثم دلالة الآية (¬2) ظنية والمسألة علمية وفاقاً. والعجب أن الفقهاء أثبتوا الإجماع بالعمومات ولم يكفروا ولم يفسقوا منكر مدلول العموم، لتأويل ثم كفروا وفسقوا منكر الحكم المجمع (¬3) عليه. ثم ما ذكرتم معارض بما في الكتاب من منع الأمة (¬4) عن القول والفعل الباطلين (¬5) بقوله: {وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} (¬6) {وَلَا تَأْكُلُوا ¬
أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} (¬1). والنهي عن الممتنع ممتنع. وبما في السنة من حديث معاذ (¬2) حيث ترك الإجماع مع الحاجة. ومن قوله عليه السلام: "لا تقوم الساعة إلا على شرار الناس" (¬3) وقوله عليه السلام: "لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض" (¬4) وقوله عليه السلام: "إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من العباد ولكن يقبض العلم بقبض العلماء حتى إذا لم يبقَ عالم اتخذ الناس رؤساءَ جهالاً فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا" (¬5) وقوله عليه- السلام: "تعلموا الفرائض وعلموها الناس فإنها أول ما ينسى" (¬6). وقوله عليه السلام: "من أشراط الساعة أن يرتفع العلم ويكثر الجهل" (¬7). فإنها تدل على خلو الزمان عمن يقوم بالواجبات. وبوجهين من المعقول: أ- أنه يجوز الخطأ على كل واحدٍ فكذا على الكل فإن كلَّ واحدٍ من الزنج لما كان أسوداً كان الكل كذلك. ¬
ب- إن الإجماع لا لدلالة وأمارة خطأ بالإجماع. وامتنع أن يكون لدلالة، وإلا لوجب اشتهارها لكونها واقعة عظيمة وأن (¬1) يكون لإمارة لإمتناع اتفاق الخلق العظيم لما يختلف مقتضاه. والجواب عن: أ (¬2) - أن المعلق بالشرط إن لم يكن عدماً عند عدمه، حصل الغرض وإن كان لم يكن حرمة اتباع غير سبيل المؤمنين مشروطة بمشاقة الرسول لئلا يجوز اتباع كل ما هو غير سبيل المؤمنين عند عدم المشاقة. ولقائل أن يقول: لا يلزم حصول الغرض من القسم الأول لجواز أن (¬3) يكون المعلق بالشرط عدماً عند عدمه، ويكون حرمة اتباع غير سبيل المؤمنين عدماً عند عدم مشاقة الرسول. وإن ردد (¬4) في عدم هذه الحرمة عند عدم المشاقة لم يلزم جواز مخالفة الإجماع في جميع الصور عند عدم المشاقة، وإن كانت الحرمة عدماً عنده، إذ انتفاء حرمة كل اتباع لغير سبيل المؤمنين، لا يوجب جواز كل اتباع لغير سبيلهم. ثم إثبات القسم الثاني من الترديد الأول يحصل (¬5) غرضه. وأيضاً لم يرد المعترض بذلك تعليق الحرمة بالمشاقة، بل ترتيب الوعيد علي المشاقة والإتباع المذكورين مجموعاً، ولا يلزم منه ترتبه على كل واحدٍ (¬6) منهما منفرداً وما ذكره ليس جواباً عنه. ¬
ب- لا نسلم اقتضاء العطف الاشتراك في الاشتراط. سلمنا لكن المشروط في المشاقة دلائل التوحيد والنبوة كيف؟ وخروج الآية مخرج مدح المؤمنين ينفي ما ذكرتم، إذ لا منقبة لليهود والنصارى في الأخذ بما عرف كونه هدى (¬1) من أقاويلهم، على أن المتمسك بالدليل لا يكون متبعاً. اذ لا نعد متبعين لأحد في اثبات الصانع ونبوة الرسول. - أنه يفهم من قوله من دخل غير داري ضربته العموم، ولأن الحمل على العموم أكثر فائدةً لما في الحمل على واحدٍ مع أنه غير مذكور في الإجمال، ولأن ترتب الحكم على الوصف يشعر بالعلية. قوله: حمله على العموم لا يفيد. قلنا: ذلك إذا حمل على الكل لا على كل واحدٍ، والمفهوم من الاستعمال الثاني. ولو حمل على ما به صاروا غير (¬2) مؤمنين مع ارادته من (¬3) المشاقة لزم التكرار. ثم العبرة بعموم اللفظ دون خصوص السبب. د- لا نسلم أن السبيل ما يُمشي (¬4) فيه لقوله تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي} (¬5). وقوله تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ} (¬6). سلمنا لكن الحمل على دليل أهل (¬7) الإجماع يقتضي حقية كل ما أجمعوا عليه كيف؟ والمستدل لا يكون متبعاً. هـ- أنه يفهم من قولهم (¬8): ولا تتبع غير سبيل الصالحين، الأمر باتباع سبيلهم حتى يستقبح مع ذلك قولهم: ولا تتبع سبيلهم ولا يفهم ذلك لو ¬
قال: لا تتبع سبيل غير الصالحين حتى لا يستقبح مع ذلك قوله ولا تتبع سبيلهم. أن المراد اتباعهم في كل أمر لصحة الاستثناء، ولما ثبت من حرمة اتباع كل ما هو غير سبيل المؤمنين إلا ما خصه الدليل، ووجوب اتباعهم في فعل المباح خصه ما ذكرتم، وجواز الاختلاف مشروط بعدم الإجماع بعده، وهذا الشرط حذفه أهل الإجماع في الإجماع (¬1) الثاني. ولقائل أن يقول: هذا جواب عن المقدمة بإثبات الحكم. وأما إثبات الحكم بدليل أهل الإجماع فالخصم يسلم أنه مخصوص. ولقائل أن يقول: الخصم لا يسلم أن إثبات الحكم بغير الإجماع مخصوص فله أن يلزم ذلك. قوله: يفهم من قولهم: اتبع سبيل الصالحين ما صاروا به صالحين. قلنا: لا نسلم: إذ الصلاح جزء الصالح وسبيله خارج (¬2) عنه سلمنا لكن الإتباع في الإيمان ممتنع إذ لا يحصل تقليداً، وإذا امتنع حمله عليه حمل على الإجماع تسمية للشيء باسم ما يؤول إليه. وفي مثال قول السلطان قرينة عرفية والدلالة اللفظية راجحة عليها. أن المؤمن هو المصدق وهو الموجود والموجود في العصر كل المؤمن، فإذا اتفقوا على حكم، لم يجز لأحدٍ في عصرٍ ما مخالفتهم فيه، لكونه حقاً في ذلك العصر، وكون الحق في عصر حقاً في غيره. كيف؟ وورود الآية زجراً (¬3) عن مخالفتهم، وترغيباً في الأخذ بقولهم يمنع إرادة المؤمن إلى قيام الساعة. قوله: وجب أن تختص الآية بالموجودين وقت نزولها. ¬
قلنا: لما (¬1) امتنعت إرادتهم، لأن قولهم: إن طابق قول الرسول فالحجة في قوله دونهم وإن لم يطابق لغى قولهم- وجبت (¬2) إرادة الموجودين في أي عصر كان. ح- أن المراد كل مؤمني العصر إلا ما خصه الدليل، ولا يحمل على الِإمام المعصوم، لأنه لفظ جمع. ط- أن المؤمن هو المصدق باللسان لغة. ويدل عليه إيجاب اتباعهم المقتضي للمكنة من معرفتهم، وحمل السبيل على ما من شأنه أن يكون سبيلاً عدول عن الظاهر بلا ضرورة. ي- أن المسألة ظنية، والِإجماع على القطع ممنوع، ولا نكفر (¬3) مخالف الإجماع ولا نفسقه. وعن الآيات: أنها خطاب مع كل واحد والمدعي عصمة الكل. ثم النهي لا يقتضي إمكان المنهي عنه، فإنه تعالى نهى المؤمن عن الكفر مع علمه بأنه لا يكفر وخلاف علمه محال. وعن حديث معاذ، أن الإجماع لم يكن حجة إذ ذاك فترك. وعن باقي الأحاديث. لا تدل على شرية الكل بل على شرية البعض. وقوله: "لا ترجعوا بعدي (¬4) كفاراً" ممنوع الصحة (¬5). ثم لعله خطاب مع معينين. وقوله: يجوز الخطأ على كلِّ واحدٍ، فكذا على الكل ممنوع والمثال ¬
الواحد لا يدل عليه. سلمنا لكنه تعالى أخبر عن عدم وقوعه فعلم عدمه. وعن الأخير: أن الدلالة إنما لم تنقل اكتفاء بالإجماع. " الوجه الثاني" قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} (¬1). ووسط كل شيء خياره وإتيانهم بالمحرم ينفيه. فإن قيل: ظاهر الآية عدالة كل أحد، وهو متروك. فحمل على البعض وهو الإمام المعصوم. ثم لا نسلم أن سوط الشيء خياره. إذ العدالة فعل العبد وكونه وسطاً فعل الله، فهو غير العدالة، ولأن وسط ما يتوسط شيئين فجعله حقيقة في العدالة توجب الاشتراك، سلمنا لكنه ينفي إتيانهم بالكبيرة دون الصغيرة، كما في عدول القضاة والخطأ صغيرة. سلمنا: لكنه عذلهم للشهادة على الناس في الآخرة فيكفي عدالتهم فيها، ثم الآية مختصة بالموجودين عند نزولها ولم يعلم بقاؤهم بعد (¬2) الرسول. والجواب (¬3) عن: أ- أنه يحمل على امتناع خلو الأمة عن العدول وحمل الجمع على الِإمام المعصوم خلاف الظاهر. ب- قوله تعالى: {قَالَ أَوْسَطُهُمْ} (¬4). أي أعدلهم. وقوله عليه السلام: "خير الأمور أوسطها" (¬5). أي أعدلها. ¬
وقيل كان عليه السلام أوسط قريش نسباً. قال الشاعر: (هم وسطٌ يرضى الأنام بحكمهم) (¬1) وقال الجوهري (¬2) في الصحاح (¬3): {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} (¬4). أي عدولًا، ولأن الوسط هو البعد عن الطرفين، فالبعد عن طرفي الإفراط والتفريط المذمومين (¬5) وسط. فهو فاضل. ولهذا سمي الفاضل في كل شيء وسطاً. قوله: عدالة العبد فعله. قلنا: بل فعل الله تعالى عندنا. جـ- أنه قيل: لا صغيرة إلا بالنسبة ومن سلمها قال: الله تعالى يعلم الظاهر والباطن فحكمه بالعدالة يقتضي المطابقة، بخلاف شهود الحاكم إذ لا يعلم الباطن. ¬
د- أنه جزم بعد التهم في الحال، ولأن الأمم عدول في الأخرة، فلا فائدة لتخصيص هذه الأمة. هـ- ما سبق في الوجه الأول. " الوجه الثالث" قوله تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ} (¬1) الآية. واللام للعموم. وإجماعهم على الخطأ، يقتضي أمرهم بمنكر. فإن قيل: ظاهر الآية متروك فحمل على الإمام. ثم المفرد لا يعم. ولفظ كنتم يتناول الماضي، ومفهومه ينفي الحصول على الحال. فإن قلت: إنه مدح لهم (¬2) في الحال. قلنا: لا نسلم، بل إخبار. سلمنا لكن جاز أن يمدح الإنسان بما (¬3) في الماضي ويذم بما في الحال على ما علم من مذهبنا في مسألة الاحتياط (¬4). كيف؟ والمدح في الحال بصفة لا يقتضي الاتصاف بها في المستقبل، فربما لم يبقوا (¬5) عليها فيه. ثم الخطاب مع الموجودين وقد سبق بجوابه. والجواب عن: أ- أن المراد الكل لا كل واحد. فالواحد إنما يُسمى أمةً مجازاً كقوله تعالى: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً} (¬6) ولأن كلِّ واحدٍ لو كان أمة، لكان خيراً من صاحبه وهو محال (¬7)، ولأنه المفهوم من قول السلطان. كنتم خيرَ عسكرٍ تفتحون القلاع وتكسرون الجيوش. ¬
ب- أنه لو لم يحمل على العموم بل على الماهية لكفى في العمل به أمرهم بمعروفٍ واحدٍ، ونهيهم عن منكرٍ واحدٍ وسائر الأمم تساويهم فيه فلم يفد خيريتهم بالنسبة إليها، مع أن الآية سيقت لذلك. ب- أن لفظ "تأمرون وتنهون" يتناول الحال والاستقبال. ولفظ "كنتم وإن" يتناول الماضي، لا ينفي الحصول فيهما. د- أن لفظ المضارع كالعام بالنسبة إلى الحال والاستقبال. " الوجه الرابع" قوله عليه السلام: "لا تجتمع أمتي على خطأ". قيل: معنى هذا متواتر بالضرورة، إذ نقل بألفاظ مختلفة بلغت التواتر: أ- "ما رآه المسلمون حسناً فهو عند الله حسن" (¬1). ب- "لا تجتمع أمتي على ضلالة". وروي "ولا على خطأ" (¬2). جـ- "سألت ربي أن لا تجتمع أمتي على ضلالة فأعطانيها". د- "يد الله على الجماعة". هـ- "لم يكن الله ليجمع أمتي على ضلالة ولا على خطأ". و- "عليكم بالسواد الأعظم" (¬3). ¬
ز- "يد الله على الجماعة ولا تبالِ بشذوذ من شذ" (¬1). ح- "من خرج من الجماعة قيد شبر فقد خلع ربقةَ الِإسلام من عنقه" (¬2). ط- "من خرج في طاعةٍ (¬3) وفارق الجماعة مات ميتةً جاهلية". ي- "لا تزال طائفةٌ من أمتي على الحق لا يضرهم من خالفهم" (¬4). يا- "لا تزال طائفة من أمتي على الحق حتى يخرج الدجال". يب- "لا تزال طائفة من أمتي على الحق حتى يأتي أمر الله". يج- "ثلاث لا يغل عليهن قلب المؤمن إخلاص العمل لله، والنصح لأئمة المسلمين، ولزوم الجماعة فإن دعوتهم تحيط من ورائهم" (¬5). يد- "من سره بحبوحة الجنة فليلزم الجماعة فإن الشيطان مع الواحد وهو من الِإثنين أبعد". يه- "لن تزال طائفة من أمتي على الحق لا يضرهم من ناوأهم إلى يوم ¬
القيامة". وروي "لا يضرهم من خالفهم حتى يأتي أمر اللُه". يو- "ستفترق أمتي كذا وكذا فرقة كلها في النار إلا فرقةً واحدة قيل ومن تلك الفرقة؟ قال: هي الجماعة" (¬1). ومنهم من استدل على تواتر لفظه بأن الدواعي متوفرة على البحث عن هذه الأخبار تصحيحاً وتضعيفاً، إذ ثبت بها أصل عظيم مقدم على غيره فاستحال ذهولهم عن خلل فيه، فلو كان لاشتهر. وبأن التابعين أجمعوا على موجبها مستدلين بها. وقد عُلمَ أن أمتنا (¬2) لا يجمعون على موجب خبرٍ ما لم يقطعوا بصحته. والأول ضعيف فإنا نمنع تواتر هذه الألفاظ، والقطع بصحة واحدٍ منها إنما يفيد إن كان الكل قاطع الدلالة وأنتم تستدلون بعد الصحة بواحد، ولم يشترك الكل في كون الإجماع حجة، وإلا لكان معلوماً بالتواتر كغزوة بدر وأحد، وامتنع (¬3) وقوع الخلاف فيه، واستدلالكم عليها بعد صحة المتن ينفيه. وبه تخالف الأخبار الدالة على شجاعة علي وسخاوة حاتم فإنها تستغني عن الاستدلال عليها واشتراك الكل فيما يلزم منه حجية الإجماع، يقتضي وجوب بيانه وبيان إفادته كون الإجماع حجة. فإن قلت: هو تعظيم الأمة وبعدها عن الخطأ. قلتُ: مطلق التعظيم لا يفيد (¬4) والتعظيم المنافي للخطأ، ككون الإجماع حجة وقد بطل تواتره. وأما ¬
الثاني فضعيف، فإنه طعنُ في الأحاديث بأنها آحاد. فإن قيل: بأنها متواترة عند التابعين. قلنا: لما لم يثبت ذلك التواتر عندنا بالتواتر لم يكن تواتراً. والطعن فيها تفصيلاً إنما يجب لو عرف فسادها وقد لا يعرفوه (¬1). وأما الثالث: فالمقدمات الثلاث منه ممنوعة، والصحيح جعلها آحاداً والتمسك بها أو بأحدها كقوله عليه السلام: "لا تجتمع أمتي على خطأ" (¬2) فإن قيل المراد بالأمة من يؤمن إلى يوم القيامة من وقت نزول الخبر (¬3). فلم يفد كون الإجماع حجة لما سبق سلمنا إرادة أهل (¬4) كل عصر. لكن قوله: "لا تجتمع" جاز أن يكون مسكوتاً (¬5) فأشتبه على الراوي فرواه مرفوعاً. سلمنا كونه خبراً، لكن الخطأ يحمل على السهو أو الكفر لقوله عليه السلام: "لا تجتمع أمتي على ضلالة". سلمنا: إصابتهم في كل أمرٍ. لكن المصيب قد يجوز مخالفته. والجواب عن: أ- أنه مدفوع بقوله عليه السلام: "لا تزال طائفة من أمتي على الحق" (¬6) ونحوه. ب- أن عدالة الراوي تنفيه (¬7) وكذا سائر الأحاديث. جـ- اجتماع الجمع العظيم على السهو ممتنع. فلا يكون (¬8) نفيه تعظيماً. وليس في تخصيص الأمة (¬9) به فضيلة. والضلالة لا تقتضي الكفر لقوله ¬
المسألة الثالثة
تعالى: {وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى} (¬1) وقوله تعالى: {قَالَ فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ} (¬2). د - أن الأمة اجتمعت على أن الِإجماع ليس حجة يجوز مخالفتها. فلو جاز ذلك لأجمعوا على الخطأ والحديث ينفيه. " الوجه الخامس" ما عوَّل عليه إمام الحرمين (¬3): أن الِإجماع إن صدر عن الدلالة كشف عنها فلا يجوز مخالفتها، وإن كان لامارة والتابعون أجمعوا على المنع من مخالفته قاطعين به، وذلك كاشف عن دلالة مانعة من مخالفته، وهذا ضعيف. إذ الاجماع قد يكون لشبهةٍ كإِجماع المبطلين مع كثرتهم. سلمنا: لكن لمَّا جاز صدور الِإجماع عن الامارة جاز صدور إجماع التابعين على المنع من مخالفته عنها. " المسألة الثالثة" قالت الشيعة: لا يخلو زمان عن إمام معصوم، فكان الِإجماع حجةً لكشفه عن قوله. بيان الأول: أن الِإمام لطف للعلم، فإن الخلق إذا كان لهم رئيس قاهر يمنعهم عن القبائح ويحثهم على الواجبات، كان حالهم فيها أحسن. واللطف واجب، لأنه كالتمكين (¬4) في إزاحة العذر والتمكين واجب. فإن من دعا غيره إلى طعامه مريداً نفعه، وعلم أنه لو لم يتواضع له لا يتناوله عد تركه للتواضع كرد الباب عليه، ولأنه لو لم يجب فعل اللطف، لم يقبح فعل المفسدة إذ لا فرق في العقل بينهما. وعصمة الِإمام واجبةٌ دفعا للتسلسل. ¬
قالوا: فظهر بهذا أن العلم بكون الِإجماع حجةً لا يتوقف على العلم بالنبوة، وأن إجماع كل أمةٍ حجة. والاعتراض أن تفاوت حال الخلق بوجود الِإمام وعدمه، إنما يُعلم لو جرب حالهم عند عدمه وعندكم ما خلا زمان عنه. بل المجرب ظهور هذه المفاسد عند خوف الِإمام وتقيته وتستره. سلمنا: لكن التفاوت إنما يظهر بوجود الإمام القاهر دون الذي لا يعرف وأنتم لا توجبونه. وما توجبونه وهو أصل الِإمام ليس بلطف (¬1). سلمنا: لكن إنما يجب نصبه إذا خلا عن جهات المفسدة إذ يكفي في قبح الفعل اشتماله على جهة مفسدة. فإن قلت: لو قدح هذا في كون الِإمام لطفاً، لقدح في كون معرفة الله تعالى لطفاً ولتعذر القطع بوجوب شيءٍ على الله تعالى. كيف؟ ولم يشتمل نصب الِإمام على جهةِ قبح إذ لا دليل عليها، ولأن جهاته محصورة في الكذب والظلم والجهل وغيرها، وأنها منتفية فيه. قلت: أما الأول فساقط إن حصل بين الموضعين فرق، وإلا وجب الجوِاب فيهما ثم المعرفة لطف يجب علينا. فقام الظن فيه مقام العلم (¬2). والإمام لطف يجب على الله تعالى، وأنه عالم بجميع الأشياء، فمتى علم جهة قبح فعل لم يجب عليه. وأما الثاني: فلا نقول في فعل معين أنه لطف، بل نقول: ما هو لطف في نفسه يجب على الله فعله. وأما الثالث: فلا يلزم من انتفاء الدليل انتفاء المدلول، ولا من عدم وجدان الدليل عدم وجوده. وأما الرابع: فمنقوض بقبح صوم يوم العيد مع انتفاء الجهات المذكورة، ثم الحجة التقسيم المنحصر. سلمنا أن القادح في كونه لطفاً تعيين مفسدة لكنه يشتمل على مفسدة ترك المكلف الفعل القبيح لا لقبحه. بل لخوف الإمام وترتب العقاب على الفعل. وإن اشتمل عليها لكن جاز الفرق بينهما. كيف؟ وترتب (¬3) العقاب إنما يعرف من الشرع. فورود الشرع به يعرفنا عراه عنها ¬
فإنه لا يرد بالمفسدة، ولو قيل كذلك في نصب الِإمام لزم كونه شرعياً، وكذلك يشتمل على نفي زيادة المشقة في فعل الطاعة وترك المعصية المقتضية لزيادة الثواب. سلمنا أنه لطف لكن لا في كل زمان إذ رب زمانٍ يستنكف الناس فيه عن طاعة الرئيس. ويعلم الله منهم أن فعلهم الطاعة وتركهم المعصية عند عدم الِإمام أكثر، وهذا وإن كان نادراً لكنه يحتمل في كل زمانٍ، فلم يجب القطع بوجوب نصب (¬1) الإمام في زمان ما. فإن قلتَ: إنما يقع الاستنكاف عن (¬2) معين. قلتُ: وقد يقع عن مطلق الِإمام. كيف؟ وعندكم إنما يقع المطلق في قوم معينين، فقد يقع (¬3) الاستنكاف عن طاعتهم. سلمنا أنه لطف، فلمَ لا يجوز أن يكون له بدل فإن الإِمام معصوم عندكم وليس عصمته لِإمام آخر فله لطف غير الِإمام. فجاز مثله في الأمة. سلمنا أنه لطف عيناً. لكن في المصالح الدنيوية أو الدينية الشرعية، كإقامة الصلاة وأداء الزكاة وتحصيل الأصلح في الدنيا غير واجب على الله تعالىِ، فما هو لطف فيه أولى، وكذلك ما هو لطف في الشرعيات لا يجب عقلاً. فإن قلتُ: إنه لطف في الدينية العقلية، لأنه إذا حثهم (¬4) على فعل الواجب وترك القبيح العقليين تمرنت نفوسهم عليها فأتوا بذلك لوجه الوجوب والقبح. قلتُ: لا نسلم تفاوت حال الخلق بوجود الِإمام فيه. إذ ربما يبغضونه ويعاندونه فيأتوا بذلك لمجرد الخوف. سلمنا: لكن لا نسلم أن كل لطف واجب. قوله أولاً أنه كالتمكين (¬5). قلتُ: القياس لا يفيد اليقين. ثم ترك ¬
التواضع عند إرادة المضيف (¬1) تناول الضيف الطعام، إنما يقدح (¬2) فيها إذا بلغت الغاية والله تعالى ربما لم يرد منا فعل الطاعة إرادة في الغاية (¬3). إذ المتفضل لا يجب عليه التفضل في الغاية. قوله ثانياً: إنه كفعل المفسدة. قلتُ: الفرق أنَّه فعل المفسدة إضرار، وترك اللطف ترك الِإنفاع (¬4). والأول أشد. ثم إنَّما يجب لطف محصل فإن المضيف إنَّما يجب عليه التواضع إذا علم أو ظن أنَّه يأكل عنده إذ لو علم أنَّه لا يأكل لو تواضع لقبح منه. والِإمام لطف (¬5) مقرب إذ الذي يعلم كون الِإنسان عند وجوب الإِمام أقرب إلى الطاعة وأبعد عن المعصية. سلمنا: لكنَّه إنَّما يجب لو كان مقدوراً كمسألة الضيف (¬6). فرب زمانٍ علم الله تعالى كفر كل من يخلقه فيه أو فسقه. فلم يمكن خلق الإمام فيه. ثم إنه مبني على التحسين والتقبيح العقليين، والوجوب على الله تعالى وقد أبطلا في علم الكلام ثم ما ذكرتم منقوض بعدم عصمة القضاة والأمراء والجيوش، وبعدم الِإمام في كل بلدةٍ، وبعدم (¬7) كونه عالمًا بالغيوب، وقادراً على الاختفاء عن العيون والطيران في الهواء. فإن قلتَ: لعله تعالى علم فيها مفسدةً لا نعلمها أو علم خلوها عنها، لكن لم يجب عليه تعالى (¬8). قلتُ: جاز (¬9) مثله في الإمامة. ثم لا نسلم وجوب عصمة الإمام، فقد تكون الأمة لطفاً له وهو لطف لهم، ولا يكفي في القدح فيه القدح في ¬
أدلة الِإجماع. ثم لا نسلم أن الإجماع يشتمل على قوله، وأن قوله صواب إذ يجوز عندهم (¬1) فتوى الإمام بالكفر والفسق خوفاً وتقية، فلعله خاف مخالفة الخلق فأفتى بالباطل. ثم الخطأ لعله صغيرة فلم يقدح في العصمة. فإن قلتَ: الصغيرة منفرة. قلت: العجز الشديد والفتوى بالكفر والفسق مع الإيمان المغلظة، أكثر تنفيراً مع تجويزكم إياه. ¬
الفصل الثاني فيما من الإجماع وقد أخرج عنه
" الفصل الثَّاني" فيما من الِإجماع وقد أخرج عنه وفيه مسائل " المسألة الأولى" إذا اختلف العصر الأول على قولين في مسألة، فالأكثرون منعوا من القول الثالث. وجوزه الظاهريون والحقُّ أنَّه إن لزم خلاف ما أجمعوا عليه لم يجز كما إذا قال بعضهم في الجد مع الإخوة: المال كله للجد. وقال الباقون: له وللإخوة. فصرف الكل إلى الِإخوة يخالف إجماعهم على أن للجد شيئًا منه. وإن لم يلزم جاز إذ المحذور ذلك. احتجوا: بأن تجويز القول الثالث يبطل ما أجمعوا عليه من وجوب (¬1) الأخذ بأحد القولين، ويستلزم بطلانهما المستلزم لِإجماعهم على الخطأ. والجواب عن: أ - بأنه مشروط بأن لا يظهر وجه ثالث (¬2) وهذا الشرط حذفوه في سائر الإجماعات. ب- أنَّا لو قلنا: المصيب واحد لا يلزم من تجويز القول به حقيته إذ الاجتهاد الخطأ قد يعمل به. وإن قلنا: كل مجتهد مصيب لم يلزم من حقيته بطلانها. " المسألة الثَّانية" إذا لم يفصلوا بين مسألتين، فإن نصوا على عدم الفصل بينهما في كل حكمٍ أو في معين فمتى دلنا دليل على ثبوته في إحداهما، وجب مثله في ¬
الأخرى وإن لم ينصوا عليه وعلم اتحادهما في المأخذ كما قيل. من وَرَّثَ العمة أو الخالة ورث الأخرى، ومن منع لاتحادهما في أنهما من ذوي الأرحام فكذلك، لكنَّه أضعف الإجماعات (¬1). وإن لم يعلم جاز الفصل بينهما إذ ليس فيه مخالفة الإجماع لا في الحكم ولا في علته. ولأنه لو امتنع (¬2) ذلك (¬3)، لوجب على من وافق الشَّافعي في مسألة لدليل موافقته في الكل. وللمانعين مطلقًا: أن ذلك خلاف ما أجمعوا عليه من عدم الفصل ووجوب الأخذ بقول أي طائفة كانت. والجواب عن: أ - لا نسلم أن ذلك إِجماع على عدم الفصل. ب- ما سبق. وللمجوزين مطلقًا: أن ابن سيرين (¬4) عمل في زوج وأبوين بقول عامة الصّحابة فقال: للأم ثلث ما يبقى. وفي زوجة وأبوين يقول ابن عباس: للأم ثلث المال. وقول الثوري (¬5) الجماع ناسياً يفطر دون الأكل ناسياً (¬6) مع اتحادهما في الطريقة. ¬
المسألة الثالثة
" المسألة الثالثة" يجوز حصول الإجماع بعد الخلاف، خلافًا للصيرفي. لنا: إجماع الصّحابة على إمامة أبي بكر بعد خلافهم واجماع التّابعين على منع بيع أم الولد بعد خلاف. وله (¬1): ما مضى بجوابه. " المسألة الرابعة" اتفاق أهل العصر الثَّاني على أحد قولي أهل العصر الأول حجة، خلافًا لكثير من المتكلمين وفقهاء الشَّافعية والحنفية. لنا: الآيات السابقة والقياس على الإجماع بعد التردد والفكر. احتجوا بوجوه: أ- قوله تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} (¬2). والاتفاق الحادث لا ينفي التنازع السابق فوجب الرد. ب- قوله عليه السَّلام: "أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم" (¬3). جـ- لو كان حجةً لكان قول إحدى الطائفتين إذا ماتت الأخرى حجة فكان قولهم حجةً بالموت. ¬
المسألة الخامسة
د- ولكان ذلك على دليل لا يخفى على أهل العصر الأول. هـ- ذلك إحداث لقول ثالث، وقد سبق بطلانه. و- موتهم وحياتهم سواء. إذ تحفظ أقوالهم ويحتج بها وعليها ولا إجماع مع تلك الأقوال حال حياتهم. ز- لو كان حجة لنقض القضاء بخلافه. وأهل العصر الأول أجمعوا على عدمه. والجواب عن: أ - أن التعلق بالإِجماع رَدَّ إلى الله والرسول وأن أهل العصر الثَّاني لم يتنازعوا، فلم يجب عليهم الرد، إذ المعلق بالشّرط عدم عند عدمه. ب (¬1) - أنَّه خص عنه (¬2) الاقتداء بهم في التوقف حال الاستدلال، فكذا محل النزاع. جـ- أن قولهم: إنَّما يكون حجة لا بالموت بل بالاندراج تحت الآيات. د- أنَّه يجوز خفاء (¬3) ذلك الدليل على بعضهم. هـ- أنَّه مشروط بعدم القطع بعده، كما أن (¬4) قطعهم بجواز التوقف حال الاستدلال مشروط بعدم القطع بعده. و- أن بقاء أقوالهم على وجه يمنع من الإجماع بعدهم ممنوع، وبمعنى آخر لا يضر. ز- أن لا ننقض الحكم المصادر في زمانهم بل المصادر في زمان حصول الإجماع. " المسألة الخامسة" إذا انقسمت الأمة قسمين، ثم مات أحدهما أو كفر كان قول الثَّاني ¬
المسألة السادسة
حجة لاندراجه تحت أدلة الِإجماع. ولو رجع أحدهما إلى قول الآخر كان حجةً عند من يقول بالإجماع في المسألتينِ السالفتين، بل أولى لكون هذا القول قولًا لكل أمة. وكون الأول مرجوعاً عنه ههنا دون ثمة. ومن لم يقل به فمن اعتبر في الإجماع انقراض العصر منهم من جوَّزه، ومنهم من لم يعتبر فمنهم من أحاله ومنهم من جوَّزه ومنع حجيته. والمختار أنَّه حجة للاندراج تحت أدلة الِإجماع، واتفاق الصّحابة في الإمامة بعد خلافهم فيها. " المسألة السادسة" انقراض العصر (¬1) غير معتبر في الإجماع خلافًا لبعض الفقهاء والمتكلمين. منهم ابن فورك. لنا: أدلة الِإجماع، وأنه لو اعتبر ذلك لم ينعقد إجماع، إذ حدث من التّابعين مجتهدون في زمان الصّحابة فجاز لهم مخالفتهم وكذا حدث في عصر التّابعين وغيرهم. فإن اعتبر انقراض عصر المجتهدين (¬2) عند حدوث الحادثة. قلنا: يجوز حدوث التّابعين عند حدوث الحادثة، فيجوز لهم المخالفة وكذا في كل عصر فلم يعلم إجماع. احتجوا (¬3) بوجوه: أ - لما سئل علي رضي الله عنه عن بيع أمهات الأولاد قال: كان رأيي ورأي عمر أن لا يبعن فرأيت بيعهن (¬4) فقال عبيدة (¬5) السلماني (¬6): رأيك في ¬
الجماعة أحب إلينا من رأيك وحدك (¬1). فدلً على أن علياً خالف الإجماع. ب- الصدِّيق كان يرى التسوية في القسم ولم يخالفه أحد، ثم خالفه عمر بعد ذلك (¬2). جـ- الِإنسان ما دام حيًا يتفحص فلا يستقر إجماع. د- ذلك يقتضي كونهم شهداء على أنفسهم وقال تعالى: {لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} (¬3). هـ- القياس على قول النَّبيُّ عليه السَّلام فإنهْ لا يستقر كونه حجةً في حياته. والجواب عن: أ - أنَّه أراد بالجماعة علياً وعمر لا كل الأمة. ب- أنَّه روى منازعة عمر إياه. جـ- أنَّه أراد بعدم (¬4) الاستقرار عدم حصول الإجماع فهو باطل. وإن أراد (¬5) عدم كونه حجة فهو ممنوع. د- أن الشهادتين لا تتنافيان. هـ- منع الجامع (¬6). ¬
المسألة السابعة
" فرع" كثير ممن لم يعتبر الانقراض في الِإجماع القولي اعتبره في السكوتي، لاحتمال أن السكوت للفكر فإذا مات تبينا رضاه. وهو ضعيف، لأنَّ السكوت (¬1) إذا دل على الرضا دل في الموضعين وإلا فلا. " المسألة السابعة" الإجماع المروي بالآحاد حجةْ خلافًا للأكثرين. لنا: أنَّه ظن وجوب العمل به فوجب. ولأن الِإجماع حجة فجاز التمسك بمظنونه كغيره. ولأن أصل (¬2) الِإجماع ظني لما بينا فكيف فرعه. ¬
الفصل الثالث فيما ليس من الإجماع وأدخل فيه
" الفصل الثالث" فيما ليس من الِإجماع وأدخل فيه "وفيه مسائل" " المسألة الأولى" قول بعضهم وسكوت الباقين ليس بإجماعٍ ولا حجةً وهو مذهب (¬1) الشَّافعي. وقال الجبائي: بأنه إجماع وحجة بعد انقراض العصر. وقال أبو هاشم: ليس بإجماع ولكنه حجةً وقال ابن أبي هريرة: إن كان القول من حاكم لم يكن إجماعاً ولا حجةً، وإلا كان إجماعًا وحجةً. لنا: أن السكوت يحتمل صدوره من الراضي والساخط (¬2). والمجتهد إن كان لا يرى الِإنكار فرضًا. أو يرى تركه صغيرة أو قيام غيره مقامه فيه، أو ينتهز فرصة المكنة منه أو أنَّه في الفكر بعد. فلا يدل على الرضا وهو معنى قول الشَّافعي لا ينسب إلى ساكتٍ قول. احتج الجبائي: بأن من اعتقد خلاف ما انتشر أظهر إذ لا تقية، ولو كان هناك تقية لانتشر. وجوابه: ما سبق من احتمالات السكوت. احتج أبو هاشم: بأن النَّاس يحتجون بقول الصّحابة ما لم يعرف مخالف. وجوابه المنع. ¬
المسألة الثانية
احتج ابن أبي هريرة: بأن أحدنا قد يحضر مجلس الحاكم، ولا ينكر عليه إذا حكم بخلاف مذهبه. وجوابه: إن ذلك بعد تقرر المذاهب، وأمَّا عند الطلب فلا فرق عند الخصم. " فرع" من قال: إنه إجماع وحجة اختلفوا (¬1) حيث انتشر (¬2) القول من البعض ولم يعرف مخالف. والحقُّ أنَّه إن كان فيما يعم به البلوى كان كالِإجماع السكوتي إذ لا بد لمن انتشر فيهم من قول، لكنَّه لم يظهر وإلا لم يكن إجماعًا ولا حجةً، لاحتمال ذهول البعض عنه. " المسألة الثَّانية" إذا تمسك أهل العصر بدليل أو ذكروا (¬3) تأويلاً. وأهل العصر (¬4) الثَّاني تمسكوا بآخر وذكر أو تأويلاً آخر لم يجز إبطال الأول وفاقاً، وإلا فقد أجمعوا على الباطل. والجديد إن أبطل القديم كاللفظ المشترك، إذا حمله الأول على معنى، والثاني على آخر، فإن لا يجوز حمله عليهما لم يصح وإلا صح إذ أهل كل عصر يستخرجوا أدلة وتأويلاتٍ جديدة ولا ينكر فكان إجماعًا. وللمانع وجوه: أ - قوله تعالى: {وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ} (¬5). ¬
المسألة الثالثة
ب- قوله تعالى: {تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ} (¬1). يقتضي أمر الأولين بكلِّ معروفٍ فما لم يؤمروا به لا يكون معروفاً بل منكرًا. جـ- لو صح الجديد لما ذهل الأولون عنه. والجواب عن: أ- أن ما لم يتعرض له المؤمنون نفياً وإثباتاً لا يقال فيه اتباع لغير سبيلهم كيف؟ والحكم بفساد الجديد ليس سبيلاً لهم فكان باطلاً. ب- أنَّه قوله: {وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} يقتضي نهيهم عن كل منكرٍ. فما لم ينهون عنه لا يكون منكرًا بل معروفاً. جـ- أن الواحد يغني عن غيره فلم يطلبوه (¬2). " المسألة الثالثة" قال مالك: إجماع أهل المدينة، حجة خلافًا للباقين. له: قوله عليه السَّلام: "إن المدينة لتنفي خبثها كما ينفي الكير خبث الحديد" (¬3). وإنَّما ينتفي أصل الخبث بانتفاء كل أفراده، فانتفى (¬4) الخطأ فإنَّه خبث. فإن قيل: ظاهره يقتضي أن من خرج منها كان خبثاً وهو باطل. إذ خرج منها علي وعبد الله (¬5) بل قيل: ثلاثمائة ونيف من الصّحابة، انتقلوا منها ¬
إلى العراق أمثل ممن بقي كأبي هريرة (¬1). ثم هو محمول على من كره المقام بها إذ كراهة ذلك مع جوار الرسول عليه السَّلام ومسجده، وما ورد من الثناء على المقيم بها (¬2) يدل على ضعف الدين. ثم هو (¬3) مخصوص بزمان الرسول عليه السَّلام والمراد الكفار. ثم إنه معارض بوجوه: أ- أدلة (¬4) الإجماع لا تفضل بين بلدةٍ وبلدة. ب- المكان لا يؤثر في كون القول حجة. جـ- قولهم لو كان (¬5) حجةً فيها، لكان حجةً إذا خرجوا منها، كقول الرسول - صلى الله عليه وسلم -. والجواب عن: أ (¬6) - أن ظاهره أن ما هو خبث يخرج منها لا ما ذكرتم. ب- جـ (¬7) - أن التّقييد والتخصيص خلاف الأصل. ¬
المسألة الرابعة
د (¬1) - أن أدلة الإجماع كما لا تُثبت لا تنفي. هـ- أنَّه لا يبعد تخصيص أهل بلدة بالعصمة كتخصيص أهل زمانٍ بها. و- أنَّه قياس طردي في مقابلة النص. " المسألة الرابعة" إجماع العترة ليس بحجة خلافًا للزيدية والإمامية. لنا: أن علياً خالف الصحابة كثيرًا، ولم يقل لأحدٍ: إن قولي حجة. احتجوا بوجوه: أ - قوله تعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ} (¬2). الآية والخطأ (¬3) رجس. ب- قوله عليه السَّلام: "إنِّي تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا كتاب الله وعترتي" (¬4). جـ- أنهم مهبط الوحي والنبي منهم وفيهم والخطأ عليهم أبعد. والجواب عن: أ - أنَّه أراد أزواجه لسياق الآية. وسياقها والتذكير لا ينفي إرادتهن، بل حصرها فيهن وما روي أنَّه عليه السَّلام لما نزلت الآية لف كساء على ¬
علي (¬1) وفاطمة (¬2) والحسن (¬3) والحسين (¬4). وقال عليه السَّلام هؤلاء أهل بيتي. معارض بما روي أن أم سلمة قالت: قلت لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ألست من أهل البيت؟ فقال: "بلى إن شاء الله" (¬5). فإن قلتَ: ظاهره يدل على حصر إرادة إزالة الرجس في أهل البيت وهو غير مراد فيحمل على زوال الرجس حملاً (¬6) للسبب على ¬
المسألة الخامسة
المسبب، وإذا زال كل رجس عنهم لزم عصمتهم ومن قال به قال المراد علي (¬1) وفاطمة والحسنان. قلت المفرد المعرف لا يعم. ب- أنَّه لا يجوز العمل بالآحاد عند الإمامية. وقبول بعض الأمة للاستدلال على إجماع العترة، والباقي الاستدلال على فضيلتهم لا يفيد القطع. ثم إنه يفيد وجوب التمسك بالكتاب والعترة. لا بالعترة وحدهم. جـ- أنَّه منقوض بأزواجه عليه السَّلام. " المسألة الخامسة" إجماع الأئمة (¬2) الأربعة ليس حجة خلافًا لأبي خازم (¬3). وقيل اجتماع الشيخين حجة. لأبي خازم: قوله عليه السَّلام: "عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي عَضوا عليها بالنواجذ" (¬4). وللآخرين: قوله عليه السَّلام: "اقتدوا باللذيْن من بعدي أبي بكرٍ وعمر" (¬5). إنَّما يمكن الاقتداء بهما عند اتفاقهما. ¬
المسألة السادسة
وجوابهما: أنهما كقوله عليه السَّلام: "أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم" (¬1). وهو لا يفيد أن قولَ كلِّ واحدٍ حجةٌ. " المسألة السادسة" إجماع الصّحابة مع مخالفة من لحقهم من التّابعين ليس بحجة خلافًا لبعضهم. لنا: أن الصّحابة رجعوا إلى قول (¬2) التّابعين. سئل ابن عمر (¬3) عن فريضة فقال: سلوها سعيد بن جبيرِ (¬4) فإنَّه أعلم بها. وربما سئل أنس (¬5) عن شيء فقال: سلوا مولانا الحسن (¬6) فإنَّه سمع وسمعنا وحفظ ونسينا. وسئل ¬
ابن عباس عن المنذر بذبح الولد فأشار إلى مسروق (¬1) ثم أتاه السائل بجوابه فتابعه. والباطل لا يرجع إليه. احتجوا بوجوه: أ - قوله تعالى: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ} (¬2). والمُقْدِم على المحرَّم لا يرضى عنه. ب- قوله عليه السَّلام: "لو أنفق غيرهم ملء الأرض ذهباً ما بلغ (¬3) مد أحدهم" (¬4). جـ- إنكار عائشة على أبي سلمة (¬5) بن عبد الرحمن مخالفة ابن عباس (¬6) في عدة المتوفى عنها زوجها (¬7). والجواب عن: أ - أن الآية تختص بأهل بيعة الرضوان ولم يختصوا بالِإجماع. ¬
المسألة السابعة
ب- أنَّه لو أريد منه (¬1) ما ذكرتم لكان قول الواحد المخالف للتابعي حجة. جـ- أنه ربما أنكرت (¬2)؛ لأنَّه خالف بعد الإجماع. أو في مقطوع به أو قبل أن صار مجتهداً أو لِإساءته الأدب في المناظرة، ثم قول عائشة ليس بحجة. " المسألة السابعة" اختلفوا في الِإجماع مع مخالفة المخطئ في الأصول، والحقُّ أنا إن لم نكفرهم، اعتبرنا قولهم، لأنهم مؤمنون، وإن كفرناهم، فلا. ثم لا يمكن إثبات كفرهم بإجماعنا لأنهم إنَّما يخرجون عن الِإجماع بكفرهم. فإثبات كفرهم به دور. وقول العصاة يعتبر لبقاء اسم الإيمان عندنا. " المسألة الثامنة" لا إجماع (¬3) مع مخالفة الواحد والإثنين خلافًا لأبي الحسين الخياط (¬4) من المعتزلة ومحمد بن جرير الطبري (¬5) وأبي بكر الرازي. لنا: أن أبا بكر خالف وحده جميع الصّحابة في قتال مانعي الزكاة. ¬
وابن عباس وابن مسعود خالفاً الكل في مسائل (¬1) الفرائض. ولم يقل أحد أن خلافهم غير معتبر. احتجوا بوجوه: أ - أن لفظ المؤمنين والأمة يتناولهم تناول السوداء للبقرة التي (¬2) فيها شعرات بيض. والأسود للزنجي مع بياض حدقتيه وأسنانه. ب- قوله عليه السَّلام. "عليكم بالسواد الأعظم" (¬3). جـ- قوله عليه السَّلام: "الشَّيطان مع الواحد" (¬4). د- الإجماع حجة على المخالف وأنه يستدعي مخالفًا. هـ- إنكار الصّحابة على ابن عباس خلافه للباقين في الصرف. و- اعتمدوا في خلافة أبي بكر على الإجماع مع مخالفة سعد وعلي. ز- القياس على ترجيح الخبر بكثرة العدد. ح- سبيل المجمعين سبيل المؤمنين قطعًا، لأنهم أخبروا عن كونهم مؤمنين، ويستحيل اتفاق الجمع العظيم على الكذب دون الواحد والإثنين. ط- اعتبار ذلك لا يمنع انعقاد (¬5) اجماع ما لاحتماله مخالفة الواحد والإثنين في الكل. والجواب عن: أ - أنَّه مجاز (¬6) لصحة النفي عنهم وصحة استثناء الباقي. ¬
ب (¬1) - أن الكل أعظم، وهو المراد وإلَّا تناول النصف الزائد بواحد. جـ - أنَّه ليس المراد كل واحد وإلا لم يكن قوله عليه السَّلام وحده حجة. د - أنَّه حجة على مخالف يوجد بعده. هـ - أن الإنكار لمخالفته (¬2) خبر أبي سعيد (¬3). و- أن (¬4) البيعة كافية في الإمامة. ز - أن الإجماع لا يحصل بقول كلِّ بعضٍ بخلاف الخبر. ح - أن المقطوع به كونهم مؤمنين، لا كونهم كل المؤمنين. ط - أنا نتمسك بالإجماع حيث يعلم كما في زمان الصّحابة. وأعلم أن المجتهد الخامل يعتبر قوله إذ من عداه بعض المؤمنين. ¬
الفصل الرابع فيما يصدر عنه الإجماع
" الفصل الرابع" فيما يصدر عنه الِإجماع "وفيه مسألتان" " المسألة الأولى" لا يجوز صدور الإجماع عن شبهةٍ (¬1) خلافًا لقوم. لنا: أن القول لا لدلالة وأمارة خطأ والإجماع على الخطأ يقدح في الإجماع. احتجوا بوجهين (¬2): أ - أن ما ذكرتم ينفي فائدة الإجماع. ب- وقع (¬3) ذلك في بيع المراضاة وأجرة الحمام. ¬
المسألة الثانية
والجواب عن: أ - أنَّه ينفي انعقاد الِإجماع عن دلالة أو أمارة وأن فائدة الِإجماع الكشف عن دليل (¬1) من غير حاجة إِلى معرفة عينه. ب- أنَّه (¬2) عن دليل لم ينقل استغناءً بالِإجماع عنه. " المسألة الثَّانية" يجوز صدوره عن الإمارة، وابن جرير (¬3) منع إمكانه، وبعضهم منع وقوعه، وبعضهم جوَّز وقوعه في الجليًة فقط. لنا: أنَّه وقع. شاور عمر الصّحابة في حد الشارب فقال علي: (إنه إذا سكر هذى وإذا هذى افترى وحد المفتري ثمانون) (¬4). وقال عبد الرحمن بن عوف: (هذا حدّ وأقل الحد ثمانون) (¬5). نصوا على الاجتهاد فلا يكون الِإجماع لنص استغنى به عنه، وأجمعوا على إمامة أبي بكر الصِّديق، بالقياس على تقديم النَّبيُّ إياه في الصَّلاة. احتجوا بوجوه: أ - الإمارة خفية. فامتنع أن يجمع الخلق العظيم المختلف الدواعي كجمعهم لطعام واحد وكلام واحد في ساعةٍ واحدةٍ، بخلاف الدلالة ¬
فإنها قوية والشبهة كالدلالة عند من يثبت بها، والدواعي إلى الجمع والأعياد (¬1) ظافرة. ب - من يعتقد بطلان الحكم بالأمارة لا يحكم بها. جـ - مخالف ما صدر عن الاجتهاد لا يفسق ولا يمنع منه. والمجمع عليه بخلافه فتنافيا (¬2). والجواب عن: أ - النقض باتفاق الشَّافعية والحنفية على قولي إماميهما. ب- أن الخلاف في صحة القياس حادث، وأن الإمارة قد تشتبه بالدلالة، وأنه ينتقض لصدوره عن العموم وخبر الواحد. جـ - أن تلك الأحكام ثابتة، ما لم تصر المسألة إجماعية. فرع: موافقة الإجماع لخبر لا يدل على أنَّه لأجله، لجواز قيام الدليلين على مدلول، خلافًا لأبي عبد الله البصري. ¬
الفصل الخامس في المجمعين
" الفصل الخامس" في المجمعين "وفيه مسألتان" " المسألة الأولى" إنَّما امتنع الخطأ على أمتنا للدلالة السمعية، وهي واردة بلفظ المؤمنين والأمة وهو عام يتناول الكل، وخروج البعض (¬1) لدليل منفصل، فلا عبرة بقول الخارج من الملة (¬2)، إذ لا يتناوله لفظ المؤمنين والأمة (¬3) في عرف شرعنا. ولا يعتبر قول الكل إلى يوم القيامة (¬4)، إذ لا يمكن الاستدلال به، لأنَّ ما دل على الإجماع، دل على وجوب التمسك به، ولا يمكن التمسك بقول (¬5) الكل لا قبل يوم القيامة ولا بعده. ولا يعتبر قول العوام خلافًا للقاضي أبي بكر. لنا وجوه: أ - قول العامي خطأ لأنه حكم بغير دلالة وأمارة، فلو كان حكم المجتهد خطأً أيضاً لأجمعت (¬6) الأمة عليه. ب - المعصوم (¬7) من الخطأ من يتصور منه الإصابة. ¬
المسألة الثانية
جـ - خواص الصّحابة وعوامهم أجمعوا على أنَّه لا عبرة بقول العوام. د - القياس على الصبي والمجنون. احتج (¬1): بأن دليل الإجماع يوجب متابعة الكل. وجوابه: أنَّه لا ينفي وجوب متابعة العلماء. وقد بيَّنا وجوبها ولا يعتبر كل فنٍ قول من ليس مجتهداً فيه؛ لأنَّه كالعامي بالنسبة إليه. والحقُّ أن الأصولي المتمكن من الاجتهاد إذا لم يحفظ الأحكام يعتبر قوله فيها، خلافًا لقوم فإنَّه مميز بين الحق والباطل بخلاف الحافظ للأحكام فقط. ولو بقي من المجتهدين - نعوذ بالله- واحد كان قوله حجةً، لاندراجه تحت أدلة الِإجماع. نعم: من قال الإجماع حجة لكشفه عن الدليل، اعتبر في المجمعين حد التواتر. " المسألة الثَّانية" إجماع غير الصّحابة حجة خلافًا لأهل الظاهر. لنا: أدلة الإجماع. احتجوا بوجوه: أ - أدلة الإجماع لا تتناول غير الصّحابة لما سبق، فلا يكون إجماع غيرهم حجة إذ لا طريق إلَّا تلك الأدلة. ب - إجماع غيرهم لا يجوز أن يكون لقياس لما مر (¬2) من قبل ولا لنصٍ إذ لا يصل إليهم إلَّا من الصّحابة. فكانوا أولى بالإجماع. جـ - الإجماع لا يعرف إلَّا من قوم محصورين كالصحابة دون غيرهم لتفرقهم شرقاً وغرباً. ¬
د- الصّحابة أجمعت على أن ما لا يكون مجمعًا عليه بينهم يكون فيه مجال (¬1) للاجتهاد. هـ - قول الصحابي لا يهجر (¬2) لما تقدم فلعل واحدًا منهم قال بخلاف قول التّابعين، فلا يكون قولهم حجةً، إذ الشَّك في الشرط يوجب الشَّك في المشروط، وليس كاحتمال التخصيص والنسخ في الظواهر (¬3)، فإنهما يزيلان حكم الظواهر (¬4) والأصل عدمهما. والجواب عن: أ - أنَّه يقتضي أن لا يكون قول الباقين حجةً إذا مات واحد من الصّحابة الحاضرين. ب- لعل تلك الواقعة ما وقعت في زمان الصّحابة، فلم يتفحصوا عن دلالة ما معهم من النصوص. جـ - أن تعذر العلم به مسلم. والكلام في كونه حجة لو وقع. د- ما سبق غير مرَّة (¬5). هـ- أنَّه ينفي كون إجماع الصّحابة حجة لاحتمال وفاة أحدهم قبل وفاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. ¬
الفصل السادس فيما ينعقد الإجماع عليه
" الفصل السادس" فيما ينعقد الِإجماع عليه "وفيه مسائل" كل ما يتوقف العلم يكون الإجماع حجة على العلم به كإثبات الصانع وعلمه بالجزئيات، وإثبات النبوة لا يمكن إثباته بالإجماع. وما لا يتوقف عليه (¬1) يمكن كإثبات الوحدانية وحدوث الأجسام. " المسألة الأولى" الإجماع في الآراء والحروب حجة إذ أدلة الإجماع مطلقة، ومنهم من أنكر (¬2)، ومنهم من جعله حجة بعد استقرار الرأي. " المسألة الثَّانية" منع الأكثرون من خطأ شطر الأمة في مسألة، وخطأ الشطر الآخر في أخرى لئلا يلزم خطأ الكل. وجوَّز الأقلون إذ المخطئ في كل مسألة بعض الأمة. " المسألة الثالثة" لا يجوز إجماع الكل على الكفر، لأنَّ إيجاب أتباع سبيل المؤمنين مشروط بوجود سبيلهم، وذلك ينفي إجماعهم على الكفر. ¬
المسألة الرابعة
وجوَّزه قوم (¬1) إذ لا يكون سبيلهم إذا كفروا سبيل المؤمنين (¬2) ولا قولهم قول الأمة. " المسألة الرابعة" يجوز إجماعهم على عدم العلم بما لم يكلفوا به، إذ لا يلزم (¬3) منه محذور. وللمخالف: أنَّه لو وقع لكان ذلك سبيلهم فلزم حرمة تحصيل العلم. ¬
الفصل السابع في حكم الإجماع
" الفصل السابع" في حكم الإِجماع " المسألة الأولى" جاحد المجمع عليه لا يكفر خلافًا لبعض الفقهاء. لنا: أن أصل الإجماع مظنون لما سبق فكذا هو، ومنكر المظنون لا يكفَّر إجماعاً. ولأن العلم بالإجماع خارج عن ماهية الإسلام لحكمه عليه السَّلام بإسلام الكفار من غير معرفتهم يكون الإجماع حجة، فكذلك العلم (¬1) بتفاريعه. " المسألة الثَّانية" الإجماع المصادر عن الاجتهاد حجة خلافًا للحاكم صاحب المختصر (¬2). لنا: أدلة الإجماع. ¬
المسألة الثالثة
احتج بوجهين: أ - من سبيلهم إثباته بالاجتهاد. ب- من سبيلهم جواز القول بخلافه. والجواب عن: أ (¬1) - أن سبيلهم إثباته بطريق كيف كان وتعيينه غير معتبر بالإجماع. ب- أن (¬2) تجويز القول بخلافه مشروط بعدم الاتفاق. " المسألة الثالثة" منع الأكثرون من جواز الإجماع بعد الإجماع لإِفضائه إلى خطأ الأمة. وقال أبو عبد الله البصري: يجوز إذ لا امتناع في أن يكون الإجماع مشروطاً بعدم آخر. لكن لما أجمعوا على أن كل ما أجمعوا عليه في عصر وجب في كل عصر أمنا وقوع هذا وهو الأولى. " المسألة الرابعة" لا يجوز أن يعارض الإجماع قول الرسول عليه الصَّلاة والسلام. وقد علم إرادة كل واحد منهما ظاهر كلامه للتناقض. ثم أن علم إرادة أحدهما للظاهر قدم وإلا فإن أمكن (¬3) تخصيص أحدهما بالأخر، خصص به وإلا تعارضا. ¬
الكلام في الأخبار
الكلام في الأخبَار وفيه فصول " الفصل الأول" في المقدمات
المقدمة الأولى
" المقدمة الأولى" الخبر حقيقة في القول المخصوص لسبق الفهم إليه عند الِإطلاق ومجاز في غيره كقوله: (تخبرني العينان ما القلب كاتم). وقول المعري (¬1): نبيٌّ من الغربان ليس على شرع (¬2) ... يخبرنا أن الشعوب إلى (¬3) صدع ويقال أخبر الغراب بكذا. " المقدمة الثَّانية" قيل في حده: إنه (الذي يدخله الصدق أو الكذب) وإنه (الذي يحتمل التصديق والتكذيب). وهما باطلان، لأنَّ الصدق والكذب نوعا الخبر ¬
والتصديق والتكذيب إخباران عن الصدق والكذب، فتعريفه بهما يوجب الدور (¬1). واعترض على الأول بوجوه: أ - "أو" للترديد المنافى للتعريف (¬2) وإسقاطه يوجب كون الخبر الواحد صدقاً وكذباً. ب- خبر الله تعالى لا يكون كذباً. ب- قولنا: محمدُ ومسيلمة كاذبان خبر ليس بصدقٍ ولا كذب. والجواب عن: أ، ب- أن المراد دخول أحدهما. ب- أنَّه خبران أحدهما: صادق. والآخر: كاذب. أو خبر واحد كاذب. وقال أبو الحسين البصري: (إنه كلام واحد (¬3) يفيد بنفسه إضافة أمرٍ الى أمرٍ بنفي أو إثبات). وقولنا: (بنفسه) احتراز عن إفادة الأمر وجوب الفعل، فإنها تابعة لاستدعاء الفعل، وهذا باطل إذ عنده وجود الشيء عين ماهيته. فقولنا السواد موجود خبر مع عدم إضافة أمرٍ الى أمرٍ آخر. وأنه إن لم يقل آخر لكن الإضافة تشعر به. وأيضًا قولنا: الحيوان الناطق يفيد إضافة أمرٍ الى آخر وليس خبراً. ولو زيد فيه بحيث يتم الكلام معه. قلنا: إن عني بتمام الكلام إفادته لمفهومه، فالنعت كذلك. وإن عني به إفادته لتمام الخبر لزم الدور. ولقائلٍ أن يقول (¬4): نعني بتمام الكلام صحّة السكوت عليه. ¬
المقدمة الثالثة
وأيضاً النفى والِإثبات نوعا الخبر. فتعريفه بهما دور والحقُّ أن تصور ماهية الخبر غني عن التعريف، إذ كل أحد يعلم بالضرورة أنَّه موجود وأنه ليس بمعدوم. وأنه خبر خاص ومتى استغنى الكل عن الاكتساب استغنى الجزء عنه. وأيضًا كل أحدٍ يميز بالضرورة بين معنى الخبر والأمر وبين موضعي (¬1) حسن الخبر وحسن الأمر، ولا ذلك إلَّا ببداهية تصور الخبر. فإن قلتَ: الخبر لفظ فكيف يكون تصوره (¬2) بديهياً. قلتُ: إذا كان المعنى بديهي التصور، كان مطلق اللفظ الدال عليه بديهي التصور. " المقدمة الثالثة" قيل: لا بد في الخبر من الإرادة لصدوره (¬3) خبرًا، وقال أبو علي وأبو هاشم، كون اللفظ خبراً صفة معللة بتلك الإرادة، وقد مضى هذا بإبطاله في الأمر. " المقدمة الرابعة" مدلول الخبر الحكم بالنسبة لا ثبوتها، وإلا لم يكن الخبر كذباً. ثم الحكم الذهني ليس هو الاعتقاد، إذ قد يحكم بالنسبة من لا يعتقدها. ولا الإرادة إذ قد يخبر عن الواجب والممتنع مع امتناع تعلق الإرادة بهما، فهو كلام النَّفس ولم يقل به إلَّا أصحابنا. ¬
المقدمة الخامسة
" المقدمة الخامسة" الأكثرون على أن الخبر إما صدق أو كذب، خلافًا للجاحظ (¬1) والمسألة لفظية؛ لأنَّه إن أريد بالصدق والكذب المطابقة وعدمها فلا واسطة. وإن أريد بهما المطابقة وعدمها مع العلم بهما، فعدم العلم بهما (¬2) واسطة بين الصدق والكذب. احتج الجاحظ بوجوه: أ - قوله تعالى: {أَفْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَمْ بِهِ جِنَّةٌ} (¬3). جعلوا إخباره عن نبوته حال جنونه في مقابلة الكذب، فلا يكونَ كذباً وقد اعتقدوا عدم مطابقته لِمَا أن الإخبار حال الجنون لا يكون عن اعتقاد. ب - من أخبر عن شيء ظاناً ثبوته لا يقال: إنه كذب إذا ظهر خلافه. جـ - أكثر العمومات مخصوصة ومقيدة وليست كاذبة. احتجوا: باتفاق الكل على تكذيب اليهود والنصارى في عقائدهم، مع عدم علم بعضهم بفسادها. والجواب: أن أدلة الِإسلام لما كانت جلية كان ذلك كالِإخبار مع العلم. ¬
الفصل الثاني في أقسامه إنه إما مقطوع بصدقه أو بكذبه أو لا يقطع بواحد منهما
" الفصل الثَّاني" في أقسامه إنه إما مقطوع بصدقه أو بكذبه أو لا يقطع بواحدٍ منهما " القسم الأول" ما يقطع بصدقه (¬1) وطريقه التواتر أو غيره. والتواتر لغة: (مجيء واحدٍ بعد واحدٍ بفترة). قال الله تعالى: {ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَى} (¬2) أي رسولاً بعد رسول بفترة ويراد بالتواتر في المخبرين مجيؤهم على غير اتصال. وفي اصطلاح العلماء: (خبر قوم يحصل العلم بقولهم لكثرتهم). " المسألة الأولى" التواتر يفيد العلم عند الأكثرين. وقالت السمنية (¬3) يفيد الظن القوي. وقيل يفيد العلم في الأمور المحاضرة دون الماضية. ¬
لنا: أن كلَّ واحدٍ منا يجزم بوجود البلدان والأشخاص الغائبة كجزمه بوجود المشاهدات. احتجوا (¬1): بأن جزمنا بوجود جالينوس (¬2) ليس كجزمنا بأن الواحد نصف الإثنين فدل على احتمال نقيضه المانع من اليقين، وليس أقوى من جزمنا بأن زيداً الذي رأيته الآن هو الذي رأيته بالأمس، وأنه ليس بيقيني لاحتمال وجود مثله إما للفاعل على المختار أو للشكل الغريب. فإن قلتَ البرهان يمنع هذا الاحتمال لافضائه إلى الشَّك في المشاهدات ووجود التلبيس من الله تعالى. قلتُ المشاهَد هو زيد لا كونه هو المرئي بالأمس. ولو كان الجزم بناءً على هذا البرهان لما حصل لمن لا يعرفه. والجواب: أن التشكيل في الضروريات لا يستحق الجواب. ولقائل أن يقول (¬3): هذا ليس بجواب بل جواب الأول أن اليقينين قد يتفاوتان. وجواب الثَّاني: أن ذلك الاحتمال يقيِنِي الارتفاع. ¬
المسألة الثانية
" المسألة الثَّانية" حصول العلم عقيب التواتر ضروري. وقال أبو الحسين والكعبي وإمام الحرمين والغزالي (¬1) نظري وتوقف المرتضى فيه. لنا: حصول هذا العلم لمن لا نظر له كالعامة والصبيان والبله. فإن قيل: النظر فيه هو ترتب علوم بأحوال المخبرين، وهو سهل الحصول فلعله حصل لهم. ثم إنَّه معارض بوجوه: أ - أنا لا نعلم وجود المخبر عنه بالتواتر ما لم نعلم أنَّه لا داعي للمخبرين (¬2) من الكذب، ولا ليس في المخبر عنه، ومتى كان كذلك امتنع كون الخبر كذباً فهو صدق (¬3). ب - لو كان ضرورياً لعلمنا بالضرورة كوننا عالمين به. جـ - لو جاز أن يعلم غير المحسوس بالضرورة، لجاز أن يعلم المحسوس بالاستدلال. والجواب عن: أ (¬4) - أنا نبين غموض هذا الاستدلال. ب (¬5) - أن أصل الشيء قد يعلم ضرورةً دون كيفيته. جـ (¬6) - منع الجامع. ¬
واستدل أبو الحسين على صدقه بأن أهل التواتر لا تكذب مع علمهم بكذبهم لا لغرض إذ الكذب جهة قبح مانعة من الفعل. ويمتنع الفعل مع المانع إلَّا لغرض أقوى، ولأنه يُترجح الممكن لا لمرجح ولا لغرض (¬1) هو كونه كذباً لأنَّه مانع لا داعي، ولا لغرض (¬2) غيره، إذ داعي ذلك إما رغبة وإما رهبة دينية أو دنيوية اتفق غرض الكل أو اختلف. ولا رغبة دينية للكل، لأنَّ قبح الكذب صادف ديني وفاقاً، ولا دنيوية لأنها رجاء لعوض أو إسماع غريب وكثير منهم لا يرضى بالكذب لهما، ولا رهبة دينية لما تقدم، ولا دنيوية فإنَّها تكون من السلطان وهو لعجزه عن جمعهم للكذب، فإنَّه قد يخوفهم عن حديث ثم يشتهر ولم تختلف أغراضهم، لامتناع تساوي أحوال جماعة عظيمة أبعاضها جماعات عظيمة في قوة هذه الدواعي ولا يكذبون لا مع علمهم بكذبهم، لأنَّ ذلك إنَّما يمكن (¬3) فيما يشتبه بغيره، والتواتر إخبارٌ عما علم وجوده بالضرورة، إذ شرطه استواء الطرفين والواسطة، ويعلم ذلك بإخبار كل لاحق من أهلية السابق للتواتر، أو بأن كل ما ظهر بعد خفاء أو قوي بعد ضعفٍ يجب اشتهار حدوثه ووقت حدوثه، كمقالات الجهمية (¬4) والكرامية (¬5)، وهذا ضعيفٌ إذ تقسيماته غير منحصرة. ولا قاطع بنفي كل قسم. ¬
قوله: لا بد (¬1) لكذبهم من غرض. قلنا: لو كان كل فعل لغرض لزم الحبير لما سبق في أول الكتاب، وأنت (¬2) لا تقول به وإلَّا بطل قولك. وقوله: ذلك الغرض لا يكون كونه كذباً ممنوع، فإنا نرى جمعاً عظيماً يعتادون الكذب حتَّى لا يصبروا عنه، وإن علموا أنَّه يضرهم عاجلاً وآجلًا. وجوازه من البعض مع أن حكم الشيء وحكم مثله يقتضي (¬3) جوازه من الكل. كيف؟ ونحن نمنع القطع. وقوله: لا رغبة دينية إذ الكذب صارفٌ ديني وفاقاً. قلنا (¬4): مطلقًا ممنوع، إذ كثير منهم يعتقد جواز الكذب المفضي إلى المصلحة، حتَّى يضعون (¬5) أحاديث في فضائل الأوقات والعبادات للترغيب فيها. وقوله: الجمع العظيم لا يكذب إلَّا لعوض وإسماع الغريب. قلنا (¬6): يقينًا ممنوع فجوازه من العشرة والمائة يوجب جوازه منهم، ويؤكده أنَّه يجوز أن يكذب أهل بلد فيه وباب إذا علموا أن غيرهم لو سمعوا به لم يذهبوا إليه، واختلت معيشتهم وإن كثروا جداً. وقوله: السلطان لا يمكنه إسكات الكل يقينًا ممنوع إذ جواز إسكات الألف والألفين يوجب جوازه في الكل. فإن قلتَ: أجد العلم الضروري بذلك. قلتُ هذا أضعف من العلم بوجود محمد وعيسى عليهما السَّلام فهو بالضروري أولى. وقوله: لم تختلف أغراضهم ممنوع إذ ليس من شرط أهل التواتر كون كل بعضٍ (¬7) منهم أهل التواتر وإلا تسلسل. ¬
وقوله: الاشتباه في المحسوس ممتنع ممنوع، فإن (¬1) الحيوانات تتشابه بحيث يعسر التمييز، وهذا في الإنسان وإن كان نادرًا لكنه جائز، وأيضًا غلط (¬2) الناظر مشهور والمسيح اشتبه بغيره قبل الصلب وإلاَّ لم يصلب. ومن اشتبه عليهم كانوا قريبين منه والنصارى يروون بالتواتر أنَّه بقي بعد الصلب وقبل الموت مدة طويلة، رآه جمع عظيم في النهار ونزل جبريل عليه السَّلام في صورة دحية الكلبي (¬3). فإن قلتَ: إنخراق العادةِ زمان النبوة جائز. قلت: أبو الحسين يجوِّز الكرامات بعده، وبتقدير امتناعها إنَّما يعرف بالبرهان، والعلم بخبر التواتر موقوف عليه، فوجب أن لا يعلم الخبر المتواتر من لم يعلمه ويؤكد احتمال الاشتباه تصور الإنسان عند شدة الخوف صوراً (4) لا وجود لها في الخارج. سلمنا ذلك في الأمور المحاضرة (¬4) لكن تمنع في الماضية. وقوله: كل لاحقٍ يخبر من أهلية السابق للتواتر بُهت (¬5) صريح، فإن أكثر الفقهاء والنحاة لا يتصورون هذه الدعوى، فكيف العوام؟ فامتنع أن يعلموا ذلك (¬6) ضرورة بل غايتهم سماعهم من قومٍ كثيرين. قوله: ما ظهر بعد خفاء وقوي بعد ضعف، يجب اشتهار حدوثه ووقت حدوثه (¬7) منقوض باشتهار الأراجيف وبوقائع الأنبياء عليهم السَّلام مع كونها من الأمور (¬8) العظيمة. ¬
فإن قلتَ: ذلك لتطاول الزمان وعدم الدواعي. قلتُ: هذا يقدح في التواتر في الأمور الماضية، إذ شرطه استواء الطرفين والواسطة، وقد تقل (¬1) الرواة ولا يثبت ذلك، إلّا بأنه لو كان موضوعًا لاشتهر الوضع وزمانه، وذلك غير واجبٍ بعد طول المدة. ثم ما ذكرتم معارض بوجوه: أ - ما يفيده التواتر ليس علماً ضرورياً لما سلمتم، ولا نظرياً لحصوله لمن لا نظر له. ب - أن ذلك يتوقف على عدم اشتباه محسوس وقد بيَّنا اشتباهه. جـ - أنَّه إن حصل العلم مع جواز أن لا يحصل امتنع القطع بإفادته العلم، وإن حصل العلم (¬2) مع الوجوب فالمؤثر فيه لا يجوز أن يكون قولَ كلٍ واحد، إذ قول الواحد لا يفيد العلم، ولأنه إن حصل قول الكل دفعة اجتمع على الأثر الواحد مؤثرات مستقلة، وإن حصل على التعاقب لزم تحصيل الحاصل، أو اجتماع المثلين. ولا يجوز أن يكون قول المجموع؛ لأنَّه لو لم يحدث عند الاجتماع ما لم يكن عند الانفراد لم يكن المجموع مؤثراً. وإن حدث عاد الكلام فيه وتسلسل، ولأن المؤثريَّة صفة وجودية لأنها نقيض اللامؤثرية (¬3). فاتصاف المجموع بها يوجب حلول الصفة الواحدة في محال كثيرة، ولأن التواتر غالبًا يكون بوجود خبر بعد خبر. فلم يكن للمجموع وجود فلم يكن مؤثراً، ولأن كل واحد من الزنج لما لم يكن أبيض امتنع كون الكل أبيض كذلك ههنا. د - أن المؤثر إما آحاد الحروف أو المجموع وهما باطلان. أو الحرف الأخير بشرط وجود الباقي قبله، وأنه يوجب حصول المشروط عند عدم الشرط، أو هو بشرط مسبوقيته بالباقي، والمسبوقية عدمية وإلَّا كانت حادثة مسبوقة، وتسلسل والعدمي لا يكون جزء العلة ولا شرطها. ¬
هـ - حجة من منع إفادته العلم في الأمور الماضية أن التواتر حصل في أمورٍ ماضية، كنقلِ اليهود والنصارى والمجوس (¬1) والمانوية (¬2) مع كثرتهم وتفرقهم شرقاً وغرباً أخبارًا من أمورٍ باطلةٍ عندنا قطعاً. فإن قلتَ استواء الطرفين والواسطة مفقود فيهم (¬3) إذ قلَّ عدد اليهود في زمان بختنصر (¬4)، والنصارى كانوا قليلين ابتداءً. وكذا القول في البواقي قلتُ: طريق العلم إلى الاستواء: إما نقل كل لاحق أهلية السابق للتواتر، وهم يدعون ذلك (¬5) ادعاء المسلمين وتكذيب أحدهما تكذيب الآخر. وأمَّا الخبر لو كان موضوعًا لَعُرِفَ وقد عرف (¬6) ضعفه وتصحيح جميع الفرق تواترهم به (¬7). قوله لم يبقَ من اليهود عدد التواتر ممنوع، إذ فناء الأمة العظيمة المتفرقة شرقاً وغرباً إلى هذا الحد ممتنع. قوله: النصارى كانوا قليلين ابتداءً ممنوع، وإلا لم يبقَ شرع عيسى عليه السَّلام حجة إلى ظهور شرعنا، واتفق المسلمون على بطلانه. وأعلم أن فساد بعض هذه الأسئلة والمعارضات أظهر من صحته، لكنا ذكرنا لبيان غموض هذا الاستدلال وخفائه بالنسبة إلى وجود محمد عليه السَّلام ومكة وأنه بناء (¬8) الواضح على الخفي وأن الحق مذهبنا. ¬
المسألة الثالثة
" المسألة الثالثة" في شرائط التواتر ولا حاجة إلى اعتبار حال المخبرين، بل السامع يعتبر حال نفسه، فإن أفاده الخبر يقينًا عَلِمَ أنَّه متواتر، وشرطه أن لا يعلم السامع المخبر به ضرورة. قال المرتضى: وأن لا يعتقد نقيضه لشبهة أو تقليد، إذ الخبر عن نص إمامة علي عنده متواتر، ولم يفد العلم لبعضهم لاعتقاده نفيه لشبهة. واحتج عليه: بأن إفادة المتواتر العلم بالعادة، فجاز أن يختلف باختلاف الاعتقاد بخلاف الأخبار عن البلدان والحوادث العظيمة، إذ لا شبهة في نفيها ولا داعي يدعو العقلاء إلى اعتقاد نفيها، وشرطه (¬1) أن يكون المخبر به ضرورياً، إذ يجوز الالتباس في غير الضروري وأن يكون المخبرون عددًا. ثم قال القاضي أبو بكر: قول الأربعة لا يفيد العلم وتوقف في الخمسة. واحتج: بأن قول أربعة صادقين لو أفاد العلم لأفاده قول (¬2) كل أربعة صادقين، إذ حكم الشيء حكم مثله، فلزم استغناء القاضي عن التزكية إذا شهد أربعة على الزنا؛ لأنَّه إن علم الزنا بقولهم قطع بصدقهم وإلا قطع بكذبهم فإن قيل: حصول العلم بالمخبر به فعل الله تعالى، فجاز اختلاف عادته في قول الأربعة مع أطرادها في قول الجمع العظيم كما اطردت في التكرار على البيت الواحد ألف مرَّة واختلفت فيه مرةً أو مرتين. ثم نقول عادته قد تطرد في لفظ الخبر دون لفظ الشهادة. كيف؟ وشرط الشهادة اجتماع المخبرين عند الأداء، وأنه يوهم الاتفاق على الكذب بخلاف الرّواية. ثم ما ذكرتم آتٍ في الخمسة وفي عدد أهل القسامة (¬3)، فليقطع ¬
بالإفادة في الثَّانية (¬1) وعدمها في الأولى. والجواب: الأسئلة الثلاثة لا جواب عنها، والفرق بين الأربعة والخمسة: أن الحاكم إذا لم يعلم الزنا بقولهم، لا يقطع بانتفاء الحجة لجواز كون الأربعة شاهدين للزنا دون الخامس، فوجب البحث بخلاف الأربعة. وأما أهل القسامة فتحلف عند أهل العراق خمسون من المدَّعى عليهم أنَّه ما قتل ولا عرف قاتلاً. وعند الشَّافعي رضي الله عنه يحلف خمسون من المدعين، كل منهم بحسب ظنه، فمخبر كل منهم غير مخبر الآخر، والحقُّ أن ذلك العدد غير معلوم، إذ لا عدد إلَّا ولا يبعد عقلًا صدور الكذب عنه ولا يتميز (¬2) عن الزائد والناقص بواحدٍ فيه. والمعتبرون ذكروا وجوهاً: أ - إثنا عشر عدد نقباء موسى عليه السَّلام. ب - عشرون وهو قول أبي الهذيل لقوله تعالى: {إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ} (¬3). وإنَّما خصهم بالجهاد، لأنَّ خبرهم يفيد العلم. جـ - أربعون لقوله تعالى: وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} (¬4) وكانوا أربعين. د - سبعون لقوله تعالى: {وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا لِمِيقَاتِنَا} (¬5). هـ - ثلاثمائة وبضع عشر عدد أهل بدر (¬6). و- عدد بيعة الرضوان ولا تعلق لشيء بالمسألة. فإن قيل: لو عرف كمال العدد بالعلم، تعذر الاستدلال به على العلم (¬7). ¬
المسألة الرابعة
قلنا: لا نستدل به على العلم بل المرجع فيه الوجدان. ثم كل (¬1) ما يشترط في المشاهدين يشترط في الناقلين عنهم، ويعبر عنه باستواء الطرفين والواسطة، وقيل يعتبر في المخبرين أن لا يحصرهم عدد ولا يحويهم بلد وهو باطل. إذ خبر أهل الجامع عن سقوط المؤذن من المنارة يفيد العلم. واعتبر اليهود اختلاف دينهم. وقيل يعتبر اختلاف نسبهم وهما باطلان، إذ التهمة لو حصلت لم يحصل العلم مطلقًا، وإلا حصل العلم مطلقًا (¬2). وشرط ابن الراوندي (¬3) وجود المعصوم سيهم، وهو باطل، إذ المفيد قول المعصوم لا خبر التواتر. " المسألة الرابعة" في التواتر المعنوي كما إذا اشتركت الأخبار الجزئية الكثيرة في كل واحدٍ كالسخاوة مثلًا، فيصير ذلك الكلي مروياً بالتواتر إذ راوي الجزئي بالمطابقة روى الكلي بالتضمن. ¬
" الطَّريق الثَّاني" من طرق صدق الخبر غير المتواتر أ - معلومية المخبر عنه ضرورةً أو نظرًا. ب - صدوره من الله تعالى باتفاق المسلمين واختلفوا في أن الدال عليه عقلي أو نقلي. قال الغزالي: يدل عليه وجهان: الأول: إخبار الرسول - صلى الله عليه وسلم - عن امتناع الكذب عليه. الثَّاني: أن كلامه قائم بذاته، ويمتنع الكذب في كلام النَّفس على من يمتنع عليه الجهل. والاعتراض على الأول أن صدق الرسول موقوف على تصديقه تعالى إياه بالمعجزة، فمعرفة صدقه تعالى من صدق الرسول دور. فإن قلتَ: تصديق الله تعالى إياه بالمعجزة كقوله: أنت رسولي وهو إنشاء لا يحتمل التصديق والتكذيب يقول الرجل لغيره: أنت وكيلي. قلت (¬1): لا يلزم من كونه إنشاءً صدق الرسول في كل ما يقول. بل من تصديقه إياه فيه ولزم الدور. وعلى الثَّاني: أن الكلام في أصول الفقه ليس في كلام النَّفس، وأيضًا كبرى الدليل غير بديهية في البرهان. وقالت المعتزلة: يدل عليه أن الكذب قبيح، وهو على الله تعالى محال. ¬
والاعتراض: أنَّه لا خبر يخالف المخبر عنه في الظاهر، إلَّا ويصح بإضمار أو تغيير، ومثله لا يقبح من الله تعالى إذ أكثر العمومات كذلك. فإن قلتَ: حيث لم يرد الظاهر يجب بيانه احترازًا عن التلبيس والعبث. قلتُ: إنما يكون تلبيسًا لو لم يحتمل غير الظاهر، ولما تقرر (¬1) في العقول احتمال المطلق مثلًا للمقيد بقيد غير مذكور، كان قطع المكلف بالإطلاق تقصيرًا منه لا تلبيسًا من الله تعالى، كما في المتشابهات وإنما يكون عبثًا لو لم يكن (¬2) له غرض غير الظاهر، وقد يكون غرضه غيره كما في المتشابهات. فإن قلتَ: إنزال المتشابهة مشروط بإقامة الدليل على امتناع ظاهر اللفظ. قلتُ: نعم لكن لا يشترط علم (¬3) سامع المتشابهة بذلك الدليل، فكذلك ههنا قد يوجد (¬4) دليل ولا يعلمه سامع الظاهر، فدل (¬5) على امتناع إرادته، إذ لا يلزم من عدم العلم بالشيء العلم بعدمه. وحينئذ ارتفع الوثوق عن الظاهر، فالصحيح أنَّه يدل عليه أن الصادق أكمل من الكاذب قطعًا. فلو كذب الله لكان الواحد منا عند صدقه أكمل منه من هذا الوجه. جـ- صدوره من الرسول عليه السلام. قال الغزالي (¬6): دليل صدقه المعجزة، إذ يمتنع ظهورها على يد الكاذب، وإلا عجز الله تعالى عن تصديق رسله، والاعتراض أن تصديق الرسل على ذلك التقدير إن ¬
أمكن (¬1) لم يلزم، وإن لم يمكن لم يوصف الله بالعجز كما في خلق نفسه. وإن كان عجزًا، فامتناع إظهار المعجزة على يد الكاذب عجز. وأيضًا إذا كانت قدرته على تصديق الرسل فرع عدم قدرته على إظهار المعجزة على يد الكاذب، لم يصح الاستدلال بالأول على الثاني، ثم إظهار المعجزة لما كان ممكنًا في نفسه كان ممكنًا عند دعوى الكاذب، وإلا انقلب الممكن لذاته ممتنعًا. ثم المعجزة إنما تدل على صدقه فيما ادعاه (¬2). فلم قلتَ: إنه ادعى صدقه في كل الأمور؟ ولقائل أن يقول (¬3): نقيض كل لازم يستدل به على نقيض ملزومه مع الفرعية المذكورة، والممكن في نفسه قد يمتنع عند وجود غيره. د- صدوره من كل الأمة. هـ- صدوره من الجمع العظيم في الوجدانيات. و- صدور أخبار مختلفة من أهل التواتر يدل على صدق أحدها. ز- القرائن وهو مذهب إمام الحرمين والغزالي والنظَّام. احتج المنكر بوجوه: أ- القرائن قد تكذب كما إذا حضرت الجنازة وكفن المريض مع البكاء والصراخ، ثم تبيَّن أنَّه مسبوت (¬4) أو مغمى عليه، أو أظهر ذلك لئلا يقتله السلطان. ب- لو جاز ذلك في خبر الواحد لجاز في المتواتر. ¬
ب- ولا طرد كخبر التواتر. والجواب عن: أ- أن القدح في واحدٍ لا يقدح في كل واحد. ب- أن القرائن قد تفيد وغيرها قد يفيد كيف؟ والنظَّام يقول به في التواتر وتلك القرائن، العلم بأنه ما جمعهم جامع رغبةً أو رهبةً أو التباس. جـ- أن الاطراد في الخبر مع القرائن لازم كيف؟ وحصول العلم بالعادة وأنها قد تختلف في بعض الصور دون البعض. ح- ترك الرسول تكذيب المخبر عن أمر ديني لم يتقدمه بيان أمِنَا (¬1) تغيره، أو عن أمر دنيوي (¬2) استشهد به وادعى علمه بالمخبر عنه، أو علم الحاضرون علمه (¬3) به، ويدل عليه أن السكوت يوهم التصديق، وإيهام تصديق الكاذب لا يجوز وقيل سكوته تصديق مطلقًا. ط- قيل: سكوت جماعة عظيمة عن تكذيب الخبر (¬4) يدل على صدقه، لامتناع السكوت مع عدم علمهم بكذبه، إذ يبعد أن لا يعلمه واحدٌ مع علمهم (¬5) به لقيام الداعي، فإن من استُشْهِدَ على خبر يعلم كذبه وجد في الصبر عنه مشقة، وزوال الصارف، إذ لا يجمعهم رغبةً ولا رهبةً على كتمان (¬6) المعلوم، ولهذا لا يجتمعون على كتمان الرخص والغلاء وهذا لا يفيد إلَّا الظن (¬7) لما عرفت. ي- زعم أبو هاشم والكرخي وأبو عبد الله البصري: أن الإِجماع على موجب الخبر يدل على صدقه، وهو باطل إذ قد يعمل بالخبر المظنون، ولأن الإِجماع قد يكون لدليلٍ آخر. ¬
احتجوا: بأن نعلم من عادتهم أنهم لا يجمعون لما لم يقطعوا بصحته. وجوابه: منع العادة إذ أجمعوا لخبر عبد الرحمن (¬1). يا- قال بعض الزيدية (¬2): بقاء النقل مع توفر الدواعي على إبطاله يدل على صحته، كخبر الغدير (¬3) والمنزلة (¬4)، فإنه سلم نقلهما في زمان بني أمية وهو باطل، إذ الأحاد قد تشتهر بحيث يعجز العدو عن إخفائها، ولأن صوارف بني أمية عارضتها دواعي الشيعة كيف؛ والممنوع يشتد داعيه بالمنع. يب- قال كثير من الفقهاء والمتكلمين: تمسك بعض الأمة بالخبر وتأويل الباقي اتفاق على قبوله وصدقه وهو ضعيف. إذ خبر الواحد مقبول. فإن قلتَ: ذلك في العمليات والمسألة علمية (¬5). قلتُ: مَن أوَّلَ طعن فيه بأنه من الآحاد كيف؟ وعدم الطعن لا يفيد الصحة. ¬
القسم الثاني من الخبر ما يقطع بكذبه
" القسم الثاني من الخبر" ما يقطع بكذبه أ - ما علم عدم المخبر عنه ضرورةً أو نظرًا ومنه قول من لم يكذب قط "أنا كاذب " إذ المخبر عنه بكذبه ليس هذا الخبر، وإلا تأخر الشيء عن نفسه رتبة (¬1). بل ما قبله وهو صادق فيه فكذب في هذا. ولقائلٍ أن يقول (¬2): لِم لا يجوز اتحاد الخبر والمخبر عنه بكذبه، فإن قول منَ لم يتكلم في يومٍ قط "أنا كاذب" في هذا اليوم خبر اتحد مع المخبر عنه بكذبه. ثم الغرض يأتي في الصدق أيضًا. نعم قوله: كل إخباراتي كاذبة كاذب، لأنه إن صدق خبرٌ منها كذب هذا وإلا كذب هذا أيضًا (¬3). وإذا نقل عنه عليه السلام خبر علم أنَّه غير مطابق، فإن احتمل تأويلًا قريبًا حمل عليه، وإلَّا قطع بكذب النقل أو بأنه كان معه ما يصح به ولم ينقل. ب - ما لم ينقل متواترًا مما لو وجد لتوفرت الدواعي على نقله متواترًا، لتعلق الدين به كأصول الشريعة، أو لغرابته كسقوط المؤذن من المنارة، أولهما ¬
كالمعجزات وجوزت الشيعة في مثله أن لا يظهر لخوف وتقية. لنا: لو جاز هذا لجاز وجود بلدةٍ بين البصرة وبغداد أكبر منهما، ولم ينقل، وأن الواجب عشر صلوات والمنقول خمس. فإن قيل: العلم بعدم تلك البلدة إن توقف على تلك المقدمة (¬1) لم يكن ضروريًا. وإن لم يتوقف لم يلزم من عدم النقل العدم. ثم المثال لا يفيد الكلي والقياس عليه لا يفيد اليقين. ثم إنه منقوض بكيفية الإِقامة وهيئات الصلاة ومفردات المعجزات مع كونها أمورًا عظيمةً ظاهرة. ونقل القرآن لا يغني عن نقلها، لأن إعجازه نظري، فلا يقوم مقام الضروري، ولو جاز أن يكون اشتهاره لكونه دليلًا قاطعًا موجبًا، لفتور نقل غيره جاز أن يكون دلالة قوله تعالى: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ} (¬2). الآية ودلالة خبر الغدير والمنزلة (¬3) على إمامة علي موجهة لفتور نقل النص الجلي على إمامته، ومنقوض بقصص الأنبياء والملوك المتقدمين. والجواب عن: أ (¬4): أنَّه متوقف عليها. فإن من سُئل عن كيفية علمه بها يقول: لو كانت لنقلت كبغداد. والمثال للتنبيه لا للاستدلال. وعن النقض الإقامة وهيئات الصلاة. أنَّه لعله لاختلاف فعل المؤذن في التثنية والإفراد، واختلاف فعله عليه السلام في الجهر بالتسمية ورفع اليدين، أو لعلمهم بأن تركه لا يوجب كفرًا وبدعة تساهلوا في النقل واشتغالهم بالقتال أنساهم. ب: وعن المعجزات: أنها ربما لم يشاهدها عدد التواتر، وقصص المتقدمين لا يتعلق بها فرض أصلي في الدين، بخلاف النص الجلي في إمامة علي رضي الله عنه. ¬
جـ- ما نقل بعد استقرار الأخبار، ثم فتش فلم يوجد في صدور الرواة وكتبهم. د- بعض ما روي عنه عليه السلام آحادًا يقطع بكذبه إذ روي أنَّه قال: (سيكذب عليَّ). فهذا إن كذب فذاك (¬1) وإلا فغيره. ولأنه روي عنه ما لا يصح ولا يقبل التأويل. وقال شعبة (¬2) نصف الحديث كذب. ¬
" خاتمة" سبب الكذب من السلف ليس تعمدهم له، لنزاهتهم عنه بل تبديل لفظ بآخر يعتقده في معناه، أو نسيان ما يصح به الخبر، أو اعتقاد السامع أن حديث المتكلم حديث النبي - صلى الله عليه وسلم -، أو ترك ذكر (¬1) سببٍ للحديث يوهم تركه للخطأ (¬2) كقوله عليه السلام: "التاجر فاجر" (¬3) قالت عائشة: قال عليه السلام في تاجر دلَّس أو اشتباه المحدث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بالمحدث عن غيره، وسببه (¬4) من الخلف تنفير العقلاء عنه عليه السلام، كما فعلت الملاحدة واعتقاد جواز الكذب لصلاح الأمة كمذهب الكرامية، من جواز وضع الأخبار على المذهب، إذ صح لترويج الحق واعتقاد أن كلام المتكلم كلام النبي عليه السلام (5). فإن الإمامية يسندون كل ما صح عندهم عن بعض أئمتهم إلى النبي عليه السلام (¬5). قالوا: لأن جعفر بن محمد (¬6). قال: حديثي حديث أبي وحديث أبي ¬
حديث جدي وحديث جدي حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فلا حرج عليكم إذا سمعتم مني حديثًا أن تقولوا: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. والترغيب كما وضعت في مبدأ دولة بني العباس أخبارٌ في النص على إمامة العباس (¬1) وولده. واعلم أن الأصل عندنا في الصحابة العدالة. لقوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} (¬2) وقوله تعالى: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ} (¬3) وقوله تعالى: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ} (¬4). وقوله عليه السلام: "أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم" (¬5) وقوله عليه السلام: "لو أنفق غيرهم ملء الأرض ذهبًا ما بلغ مُدَّ أحدهم ولا نُصيفه" (¬6) وقوله عليه السلام: "خير الناس قرني" (¬7). وبالغ إبراهيم النظَّام في الطعن فيهم بتكذيب بعضهم بعضًا، ¬
وقدح الخوارج فيهم بمثله، وبقبولهم (¬1) خبر الواحد على خلاف الكتاب، وعملهم (¬2) به وبأنهم لم يكتبوا ما سمعوا ولم يدرسوه. ثم أنهم نقلوه بعد تطاول الزمان ومثله يقطع بأنه ليس عين (¬3) ما سمع. والجواب عن المطاعن، أنها مروية بالآحاد فلا تعارض الكتاب، وعن قبولهم خبر الواحد ما سبق من جواز تخصيص الكتاب به (¬4). وعن الأخير: أن ظاهر حال الراوي يورث ظن أنَّه كلام الرسول والظن حجة. ¬
القسم الثالث ما لا يقطع بصدقه وكذبه
" القسم الثالث " ما لا يقطع بصدقه وكذبه وهو حجة في الأمور الدنيويَّة كالفتوى والشهادة وفاقًا. وكذا في الشرعية عندنا ودل عليه السمع. وقال القفال وابن سريج منا وأبو الحسين من المعتزلة: دل عليه العقل أيضًا. وقال الباقون منا وأبو جعفر الطوسي (¬1) من الإِمامية وأبو علي وأبو هاشم والقاضي عبد الجبار من المعتزلة لم يدل (¬2) عليه العقل. وقيل: ليس بحجة إذ لم يوجد ما يدل عليه. وقيل: منع منه السمع. وقيل: العقل. لنا وجوه: الأول- قوله تعالى: {فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ ¬
لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ} (¬1). الآية. أوجب الحذر بإنذار الطائفة، لأن "لعل" للترجي وهو على الله محال فيحمل على الطلب لأنه لازم له. والطلب من الله أمر فيقتضي وجوب الحذر. أو نقول قوله: "لعلهم يحذرون" يقتضي حسن الحذر أو إمكانه. والحذر هو التوقي من المضرة. والفعل الَّذي منع منه الخبر قد لا يضر في الدنيا، فيحمل على المضرة في الآخرة وهي العقاب، والإنذار إخبار مخوف. والطائفة دون الثلاثة وكل ثلاثة فرقة. لأنها "فِعْلَة" من فرق، فكل ما فرق فهو فرقة، يقال: فرق الخشبةَ إذا شقها، لكن (¬2) المراد من الآية الثلاثة ليمكن خروج الطائفة منها. فإذا روى الراوي ما يقتضي المنع من فعل وجب تركه، وإذا وجب العمل بخبر الواحد أو الإِثنين ههنا وجب مطلقًا، إذ لا قائل بالفرق. فإن قيل: المراد من الإنذار الفتوى لقوله: "وليتفقهوا" والحمل عليه وإن خصص لفظ القوم (¬3) بغير المجتهد، فالحمل على الرواية تخصصه بالمجتهد. كيف؟ وتخصيصنا أولى (¬4) إذ المجتهد أقل من غيره. ولو حمل على المشترك بينهما كفى في العمل به ثبوته في صورة وهي الفتوى. ثم لو كان كل ثلاثةٍ فرقة لكانت الشافعية فرقًا، ولوجب على كل ثلاثةٍ أن يخرج منها طائفة للآية (¬5). ثم المراد ليس كل طائفةٍ إذ ضمير الجمع لا يصلح للواحد والإثنين بل مجموع طوائف، فلعلهم عدد التواتر ثم وجوب الترك قد لا يكون للعمل بالخبر بل للاحتياط إلى حصول الفتوى أو الاجتهاد. ¬
والجواب عن: أ (¬1) - أن الخبر قد يروى لغير المجتهد، ليزجره عن الفعل ويدعوه إلى الاستفتاء أو البحث عن معناه. ولو حمل على المشترك كان وجوب الحذر مرتبًا على مسمى الإنذار، فكان علة (¬2) له فلزم عموم الحكم لعموم علته. وأيضًا الأمر بقبول الفتوى إن وجد قبل ورود الآية حمل الإنذار على الرواية دفعًا للتكرار، وإلَّا حمل عليهما دفعًا للإِجمال. ب- أن الشافعية فرقةٌ واحدة بحسب المذهب وفرق بحسب الأشخاص، وقد ترك العمل بالآية في وجوب خروج الطائفة من كل فرقةٍ فعمل بها في الباقي. جـ- أنَّه إنما يقال: رجع إلى القوم إذا كان فيهم أولًا. وضمير الجمع لا يضر، لأنه قابل الكل بالكل فتوزع البعض على البعض. د- أن العامي إنما يجوز له الفعل إذا علم جوازه بالفتوى، وذلك يغنيه عن الاستفتاء ثانيًا وخبر الواحد لو لم يكن دليلًا، لم يجب على المجتهد التوقف لأجله. أ (¬3) - الوجه الثاني: قوله تعالى: {إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا} (¬4) أمر بالتبيُّن وعلل بمجيء الفاسق بالخبر إذ ترتيب الحكم على الوصف المناسب يشعر بعليته، ولو كان كون الخبر خبر واحدٍ مانعًا من القبول، لما علل به إذ علية الوصف اللازم تمنع عليَّة العرضي. ب- إنه علق الأمر بالتبيُّن بمجيء الفاسق بالخبر والمعلق بالشرط عدمٌ عند عدم الشرط، وعدم التبين بالرد باطل إجماعًا فهو بالقبول. ¬
الوجه الثالث (¬1): روي بالتواتر أنَّه عليه السلام كان يبعث رسله إلى القبائل آحادًا ليعلمهم (¬2) الأحكام، قال أبو الحسين: كان ذلك للفتوى اذ العوام فيها أكثر. الوجه الرابع (¬3): أن بعض الصحابة عمل به لما روى بالتواتر، أن يوم السقيفة لما احتج أبو بكر رضي الله عنه على الأنصار بقوله عليه السلام: "الأئمة من قريش" (¬4) مع أنَّه مخصوص بقوله تعالى: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} (¬5) قبلوه من غير (¬6) إنكارٍ عليه، ولأنهم عملوا على وفق خبر الواحد إذ رجعوا إلى خبر الصديق في قوله: (الأنبياء يدفنون حيث يموتون) (¬7) وقوله عليه السلام: "الأئمة من قريش". وقوله عليه السلام: "نحن معاشر الأنبياء لا نورث" (¬8). وإلى كتابه في نصب الزكاة. ورجع هو في توريث الجدة إلى خبر المغيرة (¬9). وقضى بقضيةٍ ثم أخبره بلال (¬10) أنَّه عليه السلام قضى فيها بخلافه فنقضه. ¬
ورجع عمر عن تفصيل الأصابع في الدية بكتاب عمرو بن حزم (¬1) أنَّه في كل أصبعٍ عشرة، وقال لما سمع قول حمل (¬2) بن مالك (¬3)، أنَّه عليه السلام قضى في الجنين بغرة: لو لم نسمع هذا لقضينا فيه بغيره، ورجع إلى توريث المرأة من دية زوجها بقول الضحاك (¬4): إنه عليه السلام كتب إليه أن يورث امرأة أشيم (¬5) الضبابي (¬6) من دية زوجها. وفزع في أمر المجوس إلى ¬
خبر عبد الرحمن بن عوف (¬1)، وأخذ عثمان برواية فريعة بنت مالك (¬2) حين قالت: جئت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أستأذنه بعد وفاة زوجي في موضع العدة. فقال: "امكثي في بيتك حتَّى (¬3) تنقضي عدتك" (¬4). ولم ينكر الخروجِ للاستفتاء في أن المتوفى عنها زوجها تعتد في منزل الزوج، ولا تخرج ليلًا وتخرج نهارًا إذا لم تجد من يقوم بها. وعلي قبل رواية المقداد بن الأسود (¬5) في حكم المذي (¬6). ورجع الجمهور إلى قول عائشة في وجوب الغسل بالتقاء الختانين (¬7). وفي الربا إلى خبر أبي سعيد (¬8). وقال ابن عمر: كنا نخابر أربعين سنة ولا نرى به بأسًا حتَّى روى لنا ¬
رافع بن خديج (¬1) نهيه عليه السلام عن المخابرة (¬2). وقال أنسِ: (كنت أسقي أبا عبيدة (¬3) وأبا طلحة (¬4) وأبي بن كعب (¬5) شرابًا إذا بلال أذَّن فقال: حُرمت الخمر فقال أبو طلحة: قم يا أنس إلى هذه الجرار فاكسرها فقمتُ فكسرتها) (¬6). ¬
وقبل أهلُ قباء في التحويل خبر الواحد (¬1) ولا حصر لأمثال هذه فصار المشترك بين الكل متواترًا. وإنما عملوا على وفق الأخبار بها إذ لو عملوا بغيرها، لوجب إظهاره إذ العادة تمنع من إخفاء ما يزيل اللبس فيما اشتد اهتمام الناس فيه، والدين أيضًا يمنع منه لإِيهام ذلك العمل بتلك الأخبار وعدم جواز إيهام الباطل كيف؟ وقد صرح في بعض ما روينا بالعمل بخبر الواحد فثبت أن بعضهم عمل به ولم ينكر أحد. فكان إجماعًا لما نثبته (¬2) في القياس. فإن قيل: منع المرتضى دعوى الضرورة لإنكار المخالف العلم والظن بالعمل المذكور والاستدلال ضعيف، إذ الروايات المذكورة لم تبلغ حد التواتر. ثم العمل لعله بدليل آخر والاحتمال يقدح في المسألة القطعيَّة. ثم لا نسلم عدم الإنكار فقد توقف عليه السلام في قول ذي اليدين (¬3)، حتَّى شهد له أبو بكر (¬4) وعمر ورد أبو بكر خبر المغيرة (¬5) حتَّى أخبره به محمد بن مسلمة (¬6) (¬7). ورد أبو بكر وعمر خبر عثمان فيما رواه من إذنه عليه السلام في ¬
رد الحكم (¬1) بن أبي العاص (¬2) حتَّى طالباه بمن شهد معه، ورد عمر (¬3) خبر أبي موسى الأشعري (¬4) حتَّى شهد له أبو سعيد الخدري (¬5). وردَّ عمر خبر ¬
فاطمة بنت قيس (¬1) وردَّ علي خبر أبي (¬2) سنان الأشجعي (¬3) في قصة بروع (¬4) بنت واشق (¬5) وكان يحلف الرواة، وردت عائشة خبر ابن عمر في تعذيب (¬6) الميت ببكاء أهله عليه (¬7)، ومنع عمر أبا هريرة من الرواية ثم السكوت يحتمل غير الرضا لما سبق. سلمنا إجماعهم على قبول نوع، لكن جاز في كل خبر أن لا يكون منه. ولو علم لم يلزم من جواز عمل الصحابة به جواز عملنا (¬8) به فإنهم شاهدوا الرسول والرواة وعرفوا أحوالهم، فظنهم بصدق الخبر أقوى. فإن قلت: من قبل نوعًا في وقت قبل الكل في كل (¬9) وقت. قلت: هذا لا يعلم في زماننا لتفرق المسلمين شرقًا وغربًا. ¬
والجواب عن: أ (¬1) - أن المخالف (¬2) لا ينكر العلم، إذ النظَّام يسلم إجماع الصحابة لكنه قال ليس بحجة، وكذا (¬3) شيوخ المعتزلة والإِخباريون من الإمامية، مع أن كثرة الشيعة منهم يعولون في أصولهم وفروعهم على أخبار (¬4) مرويَّة عن أئمتهم، وأما الأصوليون منهم فأبو جعفر الطوسي موافق لنا، فلم يبق منكر لهذا العلم إلَّا المرتضى وقليل من أتباعه، ولا يبعد مكابرة جمع قليل للضروريات. ب- أن العادة والدين يوجبان القطع بإظهار ما يزيل اللبس عند شدة الاهتمام. جـ- أنهم وإن ردوا خبر الواحد، فقد قبلوا خبر الإثنين والثلاثة. ثم التوفيق أن قبول خبر الواحد مشروط بشرائط، فيحمل القبول على صور (¬5) وجودها والعدم على صور عدمها. الوجه الخامس (¬6): القياس على الفتوى والشهادة بجامع تحصيل المصلحة أو دفع المفسدة المظنونتين وبل أولى، إذ الفتوى تحتاج إلى الرواية ولا ينعكس. فإن قيل (¬7): القياس لا يفيد اليقين. ثم قبول خبر الواحد يوجب شرعًا ¬
عامًا دونهما، وهما ضروريان لتميز الحق عن الباطل، وامتناع تكليف كل واحدٍ بالاجتهاد دونه لإمكان الرجوع إلى البراءة الأصلية. والجواب (¬1) عن: أ- أنا ندعي الظن. ب- أن شرع أصل الفتوى شرع عام. جـ- أن البراءة الأصلية مشتركة. الوجه السادس (¬2): أن العمل به يدفع الضرر المظنون إذ رواية العدل الأمر بالفعل يوجب ظن العقاب بتقدير الترك، فوجب العمل به لما سيأتي في القياس. احتج: المعوِّل على العقل، بأنه لو جاز أن يرتب الله تعالى إيجاب العمل بالظن على الرواية، لجاز أن يرتبه على دعوى النبوة. وبقياس الفروع على الأصول كمعرفة الله تعالى. وبأن الشرعيات مصالح ولا (¬3) يعول فيها على الظن لئلا يلزم الإِذن (¬4) في فعل ما لا يجوز، ولا يقال فعل المظنون مصلحة، لأن الظن لا يُصيِّر ما ليس بمصلحةٍ مصلحةً، والا لجاز أن ياذن الله تعالى في الحكم مهما ظن بلا دليل وإمارة. واحتج المعوِّلون (¬5) على النقل بما سيأتي بجوابه في القياس. ¬
والجواب (¬1): النقض بالفتوى والشهادة والأمور الدنيويَّة إذ لا يجوز تناول طعام أخبره من يظن صدقه أنَّه مسموم، وبعمل أهل العلم بالظن في الأغذية والأشربة والعلاجات والأرباح كيف؟ وهم مطالبون بالجامع اليقيني وانتفاء اللازم يقينًا. ¬
الفصل الثالث في شرط العمل به وهو إما في المخبر أو المخبر عنه أو الخبر
" الفصل الثالث " في شرط العمل به وهو إما في المخبر أو المخبر عنه أو الخبر " الأول " في المخبر ويجب ترجح صدقه على كذبه، وذلك لاجتماع أمور خمسة: الأول: الضبط: فالمختل والمجنون والصبي غير المميز لا يضبط (¬1)، فلو قدر العاقل على ضبط القصير (¬2) دون الطويل قبل منه ما يقدر على ضبطه. الثاني: التكليف: فلا يقبل رواية الصبي المميز كالفاسق، وبل أولى إذ الفاسق يخاف الله تعالى، ولأن الظن لا يحصل بقوله فلم يجز العمل به كالخبر في الأمور الدنيويَّة. ولأنه يعلم أنَّه غير مكلف فلا يحترز عن الكذب، وإنما يعتمد على قوله في (¬3) كونه متطهرًا حتَّى يجوز الاقتداء به، لأنه لا تتوقف صحة صلاة المأموم على صحة صلاة الإِمام. نعم، لو تحمل وهو صبي ثم روى وهو بالغ قبلت لوجوه: ¬
أ- قبلت الصحابة رواية ابن عباس (¬1) وابن الزبير (¬2) ونعمان بن البشير (¬3)، ولم يفرقوا بين ما تحملوه قبل البلوغ أو بعده. ب- أجمع الكل على إحضار الصبيان مجالس الرواة. جـ- روايته في الكبر تدل على ضبطه في الصغر. د- القياس على الشهادة. الثالث: الإسلام: فلا تقبل رواية كافرٍ ليس من أهل القبلة وفاقًا. ومن هو من أهلها كالمجسم إذا كفرناه إذا كان مذهبه جواز الكذب لم تقبل روايته، وإلا قبلت وهو مذهب أبي الحسين البصري خلافًا للقاضيين أبي بكرٍ وعبد الجبار. لنا: أن اعتقاده بحرمة الكذب يزجره عنه فيحصل ظن صدقه. واحتج أبو الحسين بأن كثيرًا من المحدثين قبلوا خبر الحسن وقتادة (¬4) وعمرو (¬5) بن عبيد مع علمهم بمذهبهم وتكفير الصائر إليه. ¬
احتجوا: أ- بقوله تعالى: {إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا} (¬1). ب- القياس على من ليس من أهل القبلة بجامع المنع من تنفيذ قول الكافر على المسلم ومن إكرام المستحق للإذلال (¬2)، وجهله بكفره لا يعذره لأنه ضمَّ جهلًا إلى كفرٍ. والجواب عن: أ- أن الفاسق في عرف الشرع هو المسلم المقدم على الكبيرة. ب- أن ذلك الكفر أغلظ. والشرع فرق بينهما في أمور كثيرة. الرابع (¬3): رجحان الذكر على السهو والنسيان إذ العدالة لا تمنع الكذب سهوًا أو نسيانًا. الخامس: العدالة: (وهي هيئة راسخة في النفس تحمل على ملازمة التقوى والمروءة). فكل ما لا يؤمن معه الجرأة على الكذب من كبيرة أو صغيرة كسرقة باقة بقل أو مباح، يقدح في المروءة كالأكل في الطريق ترد به الرواية وما لا فلا. فالمقدم على فسق يعلم كونه فسقًا لا تقبل روايته وفاقًا، ومن لا يعلم كونه فسقًا قبلت روايته إن كان كونه فسقًا مظنونًا. قال الشافعي: أقبل شهادة الحنفي وأحده إذا شرب النبيذ، وكذا إن كان مقطوعًا (¬4) به خلافًا للقاضي أبي ¬
بكر. قال الشافعي: أقبل شهادة (¬1) أهل الأهواء إلَّا الخطابية (¬2) من الرافضة، لأنهم يرون الشهادة بالزور لموافقيهم. لنا: أن المقتضي لصدقه موجود والمعارض معدوم. احتج: بأن منصب الرواية لا يليق بالفاسق، وجهله بفسقه ضمُّ جهلٍ إلى فسقٍ فهو أولى بالمنع. والجواب: أن العلم بكونه فسقًا يدل على اجترائه على المعصية، والمخالف الَّذي لا نكفره إن ظهر عناده لم تقبل روايته، إذ العناد كذب مع العلم بكونه كذبًا. ولا تقبل رواية المجهول خلافًا لأبي حنيفة وأصحابه. لنا وجوه (¬3): أ - أن النافي للعمل بخبر الواحد موجود لقوله تعالى: {إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا} (¬4) ولأن عدم الفسق شرط للقبول بالآية. والجهل بالشرط يوجب الجهل بالمشروط ترك العمل به في ظاهر العدالة، إذ الظن ثَمَّ (¬5) أقوى. ب- القياس على اشتراط ظن (¬6) عدم الصبي والرق والكفر وكونه محدودًا في القذف في الشهادة، بجامع دفع المفسدة المحتملة. ¬
جـ- رد عمر خبر فاطمة بنت قيس وقال: (كيف نقبل خبر امرأة لا ندري أصدقت أم كذبت) (¬1)؟. ورد على قول الأشجعي في المفوضة (¬2). وكان يحلف الراوي ولم ينكر أحد عليهما فكان إجماعًا. احتجوا بوجوه (¬3): أ- القياس على قبول قول المسلم في ذكاة اللحم وطهارة الماء ورق الجارية المبيعة وعدم كونها مزوجة ومعتدة، وكونه متوضئًا إذا أمَّ وإخباره للأعمى عن القبلة. ب- قبلت الصحابة قول العبيد والنسوان بمجرد علمهم بإسلامهم. جـ- قبل عليه السلام شهادة الأعرابي على رؤية الهلال مع أنَّه لم يظهر منه إلَّا الإِسلام (¬4). د- آية التبين (¬5): إذ المعلق بالشرط عدم عند عدمه. والجواب عن: أ - أن منصب الرواية أعلى، فإن ألغوا هذا الفرق بإيماء قوله عليه السلام: ¬
(نحن نحكم بالظاهر) (¬1). قلنا: ترك العمل (¬2) به في الحرية والإِسلام فكذا ههنا. ب، جـ- منع عدم علمهم بغير الإِسلام. د - أنَّه لما وجب التوقف عند الفسق وجب معرفته ليعرف وجوب التوقف. (تذنيب: في أحكام الجرح والتعديل) أ - الأظهر أنَّه يشترط العدد في الجارح والمزكي للشهادة دون الرواية، إذ شرط الشيء لا يزيد عليه، فالإحصان يثبت (¬3) بقول اثنين دون الزنا، وقال بعض المحدثين يشترط فيهما. وقال القاضي: لا يشترط فيهما وكذا القول في الحرية والذكورة. ب - قال الشافعي: يجب ذكر سبب الجرح لاختلاف المذاهب فيه دون التعديل وقيل بالعكس. إذ مطلق الجرح يبطل الثقة ومطلق التعديل لا يحصلها وقيل يجب (¬4) فيهما. وقال القاضي أبو بكر لا يجب فيهما، لأنه لا معنى لسؤال البصير بهذا الشأن وغير البصير لا يصلح للتزكية (¬5). والحق أنَّه لا يجب فيهما إن علم كونه (¬6) عالمًا بأسباب الجرح والتعديل، وإلا وجب فيهما. جـ-الجرح يقدم على التعديل، لاطلاع الجارح على زيادة لم ينفها المعدل، فلو نفاها بطلت عدالته إذ النفي لا يعلم. نعم: لو جرح بقتل مسلم فقال: رأيته حيًا تعارضا. ¬
وقيل: إذا زاد عدد (¬1) المعدل قُدَّم وهو ضعيف، إذ سبب تقديم الجرح لا ينتفي بكثرة العدد. د- الحكم بشهادته تعديل، واختلفوا في الرواية عنه، والحق أنها تعديل إن عرف من عادته أو صريح قوله: إنه لا يروى إلَّا عن عدل وإلا فلا، إذ كثير منهم يروي عمن لو سئل عنه لسكت، وليس يوجب العمل على غيره بل ينقل ويكل البحث عن العدالة إلى من يريد القبول. والعمل بالخبر تعديل والعمل على وفقه احتياطًا أو لأمرٍ آخر (¬2) لا. وترك الحكم بشهادته ليس بجرح، إذ يشترط في الشهادة ما لا يشترط في الرواية. خاتمة: مهما علم أنَّه قرأه على شيخه أو حدثه به جاز له روايته والأخذ به تَذَكَّر ألفاظ (¬3) قراءته ووقته أو (¬4) لا. وإن لم يعلم ذلك ولا يظنه فلا. وإن ظنه بناء على خطه جاز عند الشافعي وأبي يوسف ومحمد خلافًا لأبي حنيفة لإجماع الصحابة إذ كانت تعتمد على كتب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وإن لم تعلم رواية راوٍ لها، ولأن الظن حاصل فوجب العمل به. احتج بأنه لا يؤمن كذبه. وجوابه: أن الظن كافٍ. واعلم أن من الناس من اعتبر في قبول الرواية أمورًا لا تعتبر. أ - قال الجبائي لا يقبل خبر الواحد ما لم يعضده ظاهر أو عمل به بعض الصحابة أو اجتهاد أو انتشار، ويقبل خبر الإثنين وعن القاضي عبد الجبار أنَّه لا يقبل في الزنا إِلَّا خبر أربعة. لنا: إجماع الصحابة: عمل أبو بكر على خبر بلال (¬5)، وعمر ¬
وعلي (¬1) على خبر حمل بن مالك (¬2) وخبر عبد الرحمن بن عوف (¬3). وعلي على خبر المقداد (¬4) والصحابة على خبر أبي سعيد في الربا؟ (¬5)، وعلى خبر رافع بن خديج في المخابرة (¬6)، وخبر عائشة في التقاء الختانين (¬7)، وكان علي يقبل خبر أبي بكر رضي الله عنهما. وتركوا اجتهادهم لهذه الأخبار، وأما ردهم خبر الواحد كما تقدم فمحمول على التهمة. ب- المعقول المتقدم. احتجوا (¬8) بوجوه: أ - رد عليه السلام خبر ذي اليدين (¬9) حتَّى شهد له أبو بكر وعمر. ب- القياس على الشهادة. ب- قوله تعالى: {إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا} (¬10) ترك في الإِثنين لزيادة الظن. والجواب عن: أ - أنَّه كان في محفلٍ عظيم، فانفراده (¬11) أوجب تهمته. ب- الفرق (¬12) والنقض. ¬
جـ- أنا لما علمنا أنَّه تعالى أمرنا بالتمسك بخبر الواحد، كان التمسك معلومًا. ب (¬1) - زعم (¬2) أكثر الحنفية أن راوي الأصل إذا لم يقبل الحديث قدح في رواية الفرع والمختار أن الفرع إن جزم بالرواية فإن جزم الأصل بعدمها لم يُقبل وإلَّا قُبل. وإن قال الفرع أظن الرواية فإن عارضه جزم الأصل أو ظنه بعدمها لم يقبل وإلا قبل. احتجوا: بما (¬3) مضى بجوابه. جـ- قال أبو حنيفة: لا تقبل رواية غير الفقيه فيما يخالف القياس. لنا: آية التبين (¬4): وقوله عليه السلام: "نضَّر الله امرءًا سمع مقالتي إلى قوله: فرب حامل فقهٍ ليس بفقيه" (¬5). والمعقول المتقدم. احتجوا (¬6) بوجوه: أ- ما مضى بجوابه (¬7). ب- الأصل صدق الخبر وعدم وروده على خلاف القياس، فإذا تعارضا تساقطا. جـ (¬8) - غير الفقيه لا يفرق بين لام الاستغراق والعهد. ¬
والجواب: أن في التعارض تسليم صحة الخبر، وذلك الفرق لا يتوقف على الفقه، بل على مجرد الفطنة (¬1) على أنَّه منقوضٌ بخبر التواتر. د- المتساهل في غير حديث الرسول المحتاط جدًا في حديثه تقبل روايته على الأظهر. هـ- تقبل رواية من لم يعلم معنى الخبر إذ الحجة في لفظه، ولا تعتبر الحرية والذكورة والبصر وفاقًا. ولا تقبل رواية من أكثر الرواية مع قلة مخالطة المحدثين إذا لم يمكن تحصيل ذلك القدر في ذلك الزمان، وتقبل رواية من لم يعرف نسبه ومن له إسمان بأحدهما أشهر، وإن تساويا وهو بأحدهما مجروح وبالآخر معدل فلا. ¬
القسم الثاني في المخبر عنه
" القسم الثاني" في المخبر عنه وشرطه أن لا يعارضه قاطع عقلي، فإن وجد وأمكن تأويل خبر الواحد أُوَّل وإلَّا رُدَّ، ولا قاطع سمعي من كتاب وسنة متواترة وإجماع، فإن الثلاثة أقوى متنًا من خبر الواحد والأقوى راجح وفاقًا. وأمَّا تخصيص الكتاب والسنة المتواترة بخبر الواحد فقد تقدم. " خبر الواحد فيما يخالف القياس" وإن (¬1) عارضه قياس فإن ثبت أصله (¬2) به ترجح عليه، وإلا فإن علم حكم (¬3) أصل القياس وكونه معللًا بوصف ووجوده في الفرع ترجح القياس، وإن ظن الكل ترجح الخبر (¬4)، إذ الظن فيه أقل وإن علم البعض، ومنه ما يعلم الحكم ويظن الباقيان، فالشافعي يرجح الخبر، ومالك القياس وعيسى ابن أبان يرجح خبر الراوي العالم الضابط، وفي غيره يوجب الاجتهاد، وأبو ¬
الحسين البصري يوجب الاجتهاد مطلقًا في ترجيح إمارة القياس أو العدالة ومنهم من توقف فيه. لنا: ترك الصحابة الاجتهاد لخبر الواحد لما تقدم وأما قول ابن عباس ما نصنع بمهراسنا؟ لمَّا سمع عن أبي هريرة قوله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا استيقظ أحدكم من منامه" (¬1). فليس برَدٍ بل وصفٌ للعمل بموجبه بالمشقة لعظم المهراس، ولو سلمنا أنَّه ترك الخبر لكن إنما ترك، لأنه لا يمكن قلب المهراس وذلك ليس قياسًا مظنونًا، وليس (¬2) في الأصول ما يقتضي القياس عليه غسل اليد من إناء آخر، ليكون رد الخبر من أجله. ب- خبر معاذ (¬3). جـ- الظن في الخبر أقل إذ التمسك به يتوقف على ثبوته ودلالته ووجوب العمل به، والأول (¬4) ظني والباقيان علميان والتمسك بالقياس يتوقف على ثبوت حكم الأصل، وكونه معللًا بعلة وحصولها في الفرع وعدم المانع (¬5) منه عند من يجوِّز تخصيص العلة ووجوب العمل به. والأول والأخير علميان والبواقي ظنية. فإن قلت: قد تكون أمارة الظني في القياس أقوى من أمارة الظني في الخبر، بحيث تتعادل الكمية والكيفية، فوجب الترجيح بالاجتهاد. قلت الدليلان الأولان (¬6) منعا من هذا الممكن. أما إذا اقتضى القياس تخصيص الخبر خصص به، وإن اقتضى الخبر ¬
تخصيص القياس، فإن لم يجز تخصيص العلة فهو كالتعارض وإلا فكالقسم الثاني. وأما إذا عمل عليه السلام بخلاف الخبر. فإن لم يوجد ما يدل على مساواة (¬1) حكمنا له فيه. أو وجد وأمكن تخصيص (¬2) أحدهما بالآخر فعل ولم يرد الخبر، وإلا فإن كان أحدهما متواترًا ترجح وإلَّا طلب ترجيح آخر. ولا يرد بعمل أكثر الأئمة بخلافه، إذ الحجة فعل كل الأمة والحفاظ إذا خالفوا الراوي في بعض ما روى قبل ما لم يخالفوه فيه وفاقًا. والأولى أن لا يقبل ما خالفوه فيه. إذ الظاهر أنهم حفظوا وسها إذ السهو على الواحد أجوز. ومهما تكاملت شروط صحة خبر الواحد، قال الشافعي لا يجب عرضه على الكتاب، إذ لا يتكامل شروطه إلَّا وهو غير مخالف للكتاب. وقال عيسى ابن أبان؛ يجب لقوله عليه السلام: "إذا روي لكم عني حديث فاعرضوه على كتاب الله فإن وافق فاقبلوه وإلا فردوه" (¬3) ثم إن علم أن خبر الواحد غير مقارن للكتاب لم يقبل، إذ لا يجوز نسخ الكتاب بخبر الواحد، وإن (¬4) شك فيه قال القاضي عبد الجبار يقبل لرفع الصحابة بعض أحكام القرآن بأخبار الآحاد من غير سؤال عن المقارنة. وإذا خالف الراوي روايته. قال الكرخي: ظاهر الخبر أولى. وقال بعض الحنفية راوي العام إذا خصه رُجع إليه، لأنه أعرف بمقاصده عليه السلام لذلك حملوا خبر أبي هريرة في ولوغ الكلب (¬5) على الندب (¬6)، ولأنه كان يقتصر على الثلاث وقيل: إن كان اللفظ ظاهرًا فهو أولى من تأويل الراوي بخلافه، وإن حمل على أحد معني اللفظ رُجع إليه وهو ظاهر مذهب الشافعي، وقال القاضي عبد الجبار: إن علم أن الراوي علم قصد النبي عليه السلام صير إلى ما صار إليه، وإلَّا وجب النظر فإن اقتضى ما ذهب إليه صير ¬
حجية خبر الواحد فيما تعم به البلوى
إليه وإلا فلا. وإن بين المجمل كان بيانه أولى. حجة الشافعي: أن ظاهر اللفظ مقتضي والمخالفة لا تعارضه، لجواز أنها لما يظنه دليلًا، ودينه لا يمنعه من الخطأ سهوًا وغلطًا ولم يعلم أنَّه بحيث لا يعرض له ذلك الخطأ. ولو اقتضى خبر الواحد علمًا، وفي الأدلة القاطعة ما يدل عليه جاز لاحتمال أنَّه قال لآحاد الناس، واقتصر لغيرهم على الدليل الآخر. وإن لم يكن فيها ذلك رُدَّ إذ التكليف بالعلم مع أنَّه لا يفيده تكليف ما لا يطاق. " حجية خبر الواحد فيما تعم به البلوى" وإن اقتضى عملًا تعم به البلوى لم يُرد، خلافًا للحنفية. لنا: الآية (¬1) والمعقول المتقدمان. ورجوع الصحابة إلى خبر عائشة في التقاء الختانين. وقبلت الحنفية خبر الواحد في أحكام القيء والرعاف والقهقهة في الصلاة، ووجوب الوتر ونقل الوتر بالتواتر في غير نقل وجوبه به. احتجوا بوجهين: أ - إجماع الصحابة: رد أبو بكر خبر المغيرة في الجدة (¬2)، ورد عمر خبر أبي موسى الأشعري في الاستئذان (¬3). ب- لو صح لأشاعه عليه السلام وأوجب نقله بالتواتر، مخافة أن لا يصل إلى من كُلف به. والجواب عن: أ - أنَّه إنما ينفع (¬4) لو لم يقبلوا إلَّا خبر التواتر. ب- أن شرط التكليف بالعمل به بلوغه إليه، كما فيما لم يعم به البلوى. ¬
القسم الثالث في الإخبار
" القسم الثالث" في الإِخبار " المسألة الأولى" في مراتب نقل الصحابي الخبر (¬1). أ- قوله سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول كذا، أو أخبرني أو .. شافهني أو حدثني. ب- قوله: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وظاهره من الصحابي النقل عنه، وليس (¬2) نصًا فيه وليس بظاهر من غير الصحابي. جـ- قوله أمر الرسول بكذا أو نهى عن كذا، وفيه (¬3) الاحتمال الأول واحتمال اختلاف الناس في صيغ الأوامر والنواهي، فالأكثرون على أنَّه حجة إذ الظاهر أن الراوي لا يطلق هذا اللفظ إلَّا إذا تبين مراده عليه السلام، ويمكن أن يقال يكفي فيه الظن. فإن قلتَ: هذه الصيغة حجة فإطلاق الراوي إياها مع تجويز خلافة إيجاب ما يجوز أن لا يجب. قلتُ: هذا بناءٌ على كون هذه الصيغة حجة، وأنتم أثبتم (¬4) كونها حجة بهذا فيلزم الدور. وفي المسألة احتمال ثالث وهو أنَّه لم يذكر أنَّه ¬
أمر الكل أو البعض دائمًا أو غير دائم، فلا يتم الاستدلال به إلَّا مع قوله عليه السلام: "حكمي على الواحد حكمي على الجماعة" (¬1). د- قوله: أمرنا بكذا أو نهانا عن كذا وأوجب كذا وأباح كذا. قال الشافعي: تفيد أن الأمر هو الرسول خلافًا للكرخي. لنا: أنَّه يفهم من قول من التزم طاعة ملك. أمرنا بكذا أمر ذلك الملك وأيضًا غرض الصحابي تعليم الشرع فيحمل على من يصدر عنه الشرع، ولا يحمل على أمر الله تعالى، لأنه لا يستفاد من قوله (¬2) لظهوره، ولا على أمر الأمة فإنه منهم فلا يأمر نفسه. هـ- قوله من السنة كذا يفهم منه سنة الرسول للوجهين. وقوله عليه السلام: "من سن سنة حسنة" (¬3). واشتقاق السنة من الاستنان لا ينفيه (¬4)، لأنه بحسب اللغة وما ذكرناه بحسب عرف الشرع. و- قوله: عن النبي عليه السلام. قيل يحتمل أنَّه أخبره غيره. وقيل: الأظهر سماعه منه عليه السلام. ز- قوله: كنا نفعل كذا، فالظاهر أنَّه يعلمنا الشرع، وذلك يفيد أنهم كانوا (¬5) يفعلونه مع علمه عليه السلام به وعدم إنكاره عليهم. ح (¬6) - إذا قال قولًا لا مجال فيه للاجتهاد فالظاهر أنَّه قاله عن طريق، وإذ ليس للاجتهاد فهو السماع عنه عليه السلام. ¬
المسألة الثانية
" المسألة الثانية" في مراتب نقل غير (¬1) الصحابي أ - قوله أخبرني أو حدثني أو سمعتُ فلانًا، فالسامع يلزمه العمل به وله أن يقول حدثني وأخبرني إن قصد الراوي إسماعه أو إسماع جمع هو منهم، وإلا لم يقل إلا سمعته يحدث عن فلان. ب - قوله للراوي: هل سمعت هذا الحديث؟ فيقول نعم. (أو يُقرأ عليه كتاب) فيقول: الأمر كما قرئ عليَّ فيلزم السامع العمل به، وله أن يقول أخبرني وحدثني وسمعت. جـ- أن يكتب إلى غيره سمعت كذا من فلان، فللمكتوب إليه العمل به إذا ظن أنَّه كتابه. ثم لا يقول حدثني أو سمعت بل يقول أخبرني. د- قوله له: هل سمعتَ هذا (¬2)؟ فيشير برأسه أو أصبعه فيجب عليه العمل ولا يقول حدثني أو أخبرني أو سمعت. هـ- قوله له: حدثك فلان فلم ينكر ولم يقر بإشارة وعبارة، فإن غلب على ظنه أنَّه إنما سكت، لأن الأمر كما قرئ عليه لزمه العمل. وجوز الرواية عامة الفقهاء والمحدثين وأنكره المتكلمون، قال بعض المحدثين لا يقول إلَّا أخبرني قراءة عليه وكذا الخلاف لو قرأه عليه وقال: أرويه عنك؟ فيقول: "نعم". حجة الفقهاء: إن الإخبار ما يفيد الخبر والعلم وهذا كذلك أو يقول هذا يشبه الإخبار في إفادة العلم. فلما استقر عرف المحدثين عليه صار منقولًا أو مجازًا راجحًا، فجاز استعمال لفظ الإِخبار فيه. حجة المتكلمين: أنَّه لم يسمع شيئًا فقوله: حدثني أو أخبرني أو سمعت كذب. وجوابها: لا نسلم أنَّه كذب بعد النقل العرفي. و- المناولة: وهي قول الشيخ سمعت ما في هذا الكتاب وهو يعلم ما فيه فهو محدث له به، ولو قال: حدث عني ما في هذا الجزء ولم يقل ¬
المسألة الثالثة
سمعت لمِ يكن محدثًا له. وإذا سمع الشيخ كتابًا مشهورًا ليس له أن يقول مشيرًا إلى نسخة أخرى منه سمعت هذا ما لم يعلم اتفاقهما. ز- الإِجازة: وهي قول الشيخ أجزت لك أن تروي عني ما صح عني من الأحاديث، وهي في العرف كقوله: اروعني ما صحَّ عندك أني (¬1) سمعته. " المسألة الثالثة" قال الشافعي: المرسل (¬2) لا يقبل خلافًا لأبي حنيفة ومالك وجمهور المعتزلة. لنا: أن عدالة الأصل لم تعلم (¬3) إذ العدل قد يروي عمن لو سئل عنه لجرحه أو سكت عنه، وعمن لو ذكره لجرحناه. وقبول الرواية يوجب شرعًا عامًا في حق المكلفين (¬4) من غير رضاهم، وأنه ضرر ترك العمل به حيث علمت عدالته لزيادة الظن. فإن قيل (¬5) روايته عن العدل أرجح إذ عدالته تمنع من قوله: (قال رسول الله ما لم يعلم أو يظن أنَّه قوله، ولا ذلك إلا بعلمه أو ظنه عدالة الأصل، ولأنها تمنعه من إيجاب شيء على غيره (¬6) ما لم يعلم أنَّه عليه السلام أوجبه أو يظن) (¬7). ¬
ثم أنَّه معارض بآيتي التبين والإِنذار وبالإِجماع، قال البراء بن عازب (¬1): (ليس كل ما حدثناكم به عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سمعناه منه غير (¬2) أنا لا نكذب). وروى أبو هريرة عنه عليه السلام أنَّه قال: (من أصبح جنبًا فلا صوم (¬3) له). ثم ذكر أنَّه أخبره به الفضل بن عباس (¬4) وروى ابن عباس قوله عليه السلام: "لا ربا إِلَّا في النسيئة" (¬5) ثم أسنده إلى أسامة وروى عنه عليه السلام: "ما زال يلبي حتَّى رمى جمرة العقبة" (¬6). ثم أسنده إلى الفضل بن عباس وبأنه لو لم يقبل لما قبل ما جاز كونه مرسلًا كقوله عن فلان. والجواب (¬7) عن: أ - أن قوله: قال رسول الله ظاهره الجزم بأنه قوله عليه السلام وأنه غير مراد، لجواز نقيضه وليس حمله على قوله. أظن أنَّه قال عليه السلام أولى من حمله على قوله: سمعت أنَّه قال عليه السلام: وقوله لا يوجب على غيره شيئًا ما لم يظن وجوبه إنما يصح لو ثبتت عدالة الراوي، وإثبات عدالته به دور، على أنهما ينتقضان بعدم قبول شهادة الفرع، إذا ¬
لم يذكر الأصل. والشهادة وإن أوجبت تهمةً لكونها على معين. فالرواية توجب شرعًا عامًا، فالاحتياط فيها أولى وليس (¬1) تضمين الأصل بالرجوع لازمًا في كل صورةٍ ليجب تعينه لأجله. وعن الآيتين: أن الرواية مخصوصة عنهما كالشهادة بجامع الاحتياط. وعن الإجماع: أن المسألة اجتهادية. ثم أنهم إنما قبلوا بعد ذكر الإِسناد على أَن من أطال صحبة شخصٍ إذا قال عن فلان فهم منه سماعه عنه وهو الجواب عن الأخير. " فروع" الأول: قال الشافعي: لا أقبل المرسل إِلَّا إذا أسنده المرسِل أو غيره، وهذا إذا لم تقم الحجة بإسناده. أو أرسله راوٍ آخر يعلم أن رجال أحدهما غير رجال الآخر. أو عضده قول صحابي أو فتوى أكثر أهل العلم أو يعلم أنَّه لو نص لنص على من يقبل خبره. قال: وأقبل مراسيل سعيد بن المسيب (¬2) لأني اعتبرتها، فوجدتها بهذه الشرائط والغرض من هذا كله تقوية المرسل، ليقوى الظن فيجب العمل به دفعًا للضرر المظنون لقوله عليه السلام: "اقض بالظاهر" (¬3). الثاني: إِذا أسند الحديث قبل وإن أرسله غيره، إذ المرسِل ربما سمع مرسلًا أو مسندًا لكن نسي شيخه وكذا لو أرسله المسند. الثالث: إذا ألحق الحديث بالنبي عليه السلام، ووقفه غيره على الصحابي ¬
المسألة الرابعة
غير متصل، لجواز أن الصحابي روى عن النبي عليه السلام مرةً وذكر عن نفسه أخرى أو اعتقد الواقف أنَّه يذكر عن نفسه وهو يروي. وكذا لو وقفه الملحق إِلَّا إذا أرسل أو وقف زمانًا طويلًا، ثم أسند أو وصل (¬1) بعد ذلك إذ يبعد (¬2) أن ينسى ذلك الزمان الطويل، إِلَّا أن يكون له كتاب يرجع إليه فيذكر ما نسيه الزمان الطويل. الرابع: من يرسل الأخبار إذا أسند خبرًا قبله كثير ممن لم يقبل المرسل. ورد الباقون لأن إرساله دليل ضعف الراوي فستره له خيانة. الخامس: من يقبل حديث المرسل إذا أسند كيف يقبل؟ قال الشافعي: إنما يقبل ما قال فيه حدثني أو سمعت ولا يقبل ما فيه لفظ موهم. وقيل: إنما يقبل إذا قال: سمعت. وهؤلاء يجعلون حدثني للمشافهة، وأخبرني مترددًا بينهما وبين الإِجازة والكتابة. " المسألة الرابعة" إذا روى عن رجل يعرف باسم وذكره باسم لا يعرف به. فإن (¬3) فعل لأن المروي عنه ليس بأهل، فقد غشَّ فلا يقبل حديثه، وإن لم يذكر اسمه لصغر سنه فمن يكتفي بظاهر الإِسلام أو يقبل المرسل ينبغي أن يقبله ومن لا فلا. " المسألة الخامسة" يجوز نقل الخبر بالمعنى، وهو مذهب الحسن البصري وأبي حنيفة والشافعي (¬4)، خلافًا لابن سيرين وبعض المحدثين، وشرطه مساواة الترجمة للأصل في إفادة المعنى، وفي الجلاء إذ الخطاب يقع بالمتشابه وبالمحكم. ¬
لنا وجوه (¬1): أ - نقل الصحابة القصة الواحدة المذكورة في مجلس واحدٍ بألفاظ مختلفة. ب- القياس على شرح الشرع للعجم بلسانهم. وبل أولى لقلة التفاوت بين عربيين. جـ- قوله عليه السلام: "إن أصبتم المعنى فلا بأس " (¬2). د- كان ابن مسعود إذا حدَّث يقول: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كذا أو نحوه. هـ- أنا نعلم بالضرورة أن الصحابة ما كانوا يكتبون الأحاديث ولا يروونها (¬3) إلَّا بعد الأعصار، ولا ذلك إلَّا بالمعنى. احتجوا بوجوه: أ - قوله عليه السلام: "رحم الله امرءًا سمع مقالتي فوعاها ثم أداها كما سمعها" (¬4). ب- المتأخر قد يتنبه لفوائد الحديث ما لم يتنبه له المتقدم فلو جوَّز النقل بالمعنى ربما أدى إلى تفاوت عظيم. جـ- لو جاز ذلك لجاز للراوي الثاني والثالث تبديله بلفظه، فيفضي إلى أن لا يبقى بين اللفظ الأول والأخير مناسبة (¬5). ¬
المسألة السادسة
والجواب عن: أ - أن من أدى تمام المعنى فقد أدى كما سمع. يقال: أدى كما سمع للشاهد وللمترجم وإن اختلف اللفظ وعن الباقي ما تقدم (¬1). " المسألة السادسة" زيادة إحدى (¬2) الروايتين مقبولة إن اختلف المجلس لاحتمال ذكرها في مجلس دون آخر. وإلَّا (¬3) فإن كان السكوت من عدد (¬4) لا يجوز ذهولهم عما يضبطه الواحد لم يقبل، وحمل على أن الراوي سمعها من غير النبي - صلى الله عليه وسلم - فظن سماعها منه. وإن جاز فإن لم تُغيِّر الزيادة إعراب الباقي قبلت خلافًا لبعض المحدثين، لأن احتمال ذهول الإنسان عما سمعه غيره أرجح من احتمال توهمه سماع ما لم يسمعه. نعم: لو كان الساكت أضبط أو صرحٍ بنفي الزيادة بأن قال وقف عليه السلام على قوله كذا، ولم يذكر بعده كلامًا مع انتظاري له لم تقبل للتعارض. وإن غَيَّرت إعراب الباقي لم تقبل للتعارض، إذ أحد الإعرابين ينافيٍ الآخر، وقال أبو عبد الله البصري: تقبل وأما إذا روى الواحد مرةً بالزيادة ومرةً بدونها فإن اختلف المجلس قُبلت، وإن اتحد (¬5)، فإن غيَّرت إعراب الباقي تعارضا. وإن لم تغيره فإن كانت مرات روايته للزيادة أقل لم تقبل، لأن حمل الأقل على السهو أولى، إلَّا أن يقول: سهوت في تلك المرات وذكرت في هذه، وإن لم تكن أقل قبلت، إذ حمل السهو على نسيان ما يسمع أولى من حمله على توهم سماع ما لم يسمع. ¬
الكلام في القياس
الكَلامُ في القِيَاس وفيه فصول " الفصل الأول" في ماهيته وما يتعلق بها
المسألة الأولى
" المسألة الأولى" (¬1) ذكر القاضي في حده واختاره المحققون. "أنَّه حمل معلوم على معلوم في إثبات حكمٍ لهما أو نفيه عنهما بجامع حكمٍ أو صفةٍ أو نفيهما" (¬2). فالمعلوم (¬3) يتناول الموجود والمعدوم دون الشيء عندنا، والفرع يوهم اختصاص (¬4) ذلك بالموجود. والمعلوم الثاني لا بد منه، إذ القياس نسبة تستدعي منتسبين، ولأن إثبات الحكم بدون الأصل تحكم. والاعتراض (¬5): أ (¬6) - إن أردت بالحمل إثبات الحكم فقولك في إثبات حكمٍ تكرار، وإن ¬
أردت غيره فبين كيف، وذلك الغير يكون خارجًا عن القياس، لأنه يتم بإثبات مثل حكم معلوم لآخر بجامع. ب- قوله: في إثبات حكمٍ لهما يشعر بإثبات حكم الأصل بالقياس. جـ- الصفة تثبت أيضًا بالقياس كقولنا: الله عالم فله علم كما في الشاهد، فإن أُدرجت (¬1) الصفة في الحكم، تكرر قوله بجامع حكمٍ أو صفةٍ وإلَّا نقص التعريف. د- المعتبر في القياس الجامع دون أقسامه، ولو وجب ذكر أقسامه لوجب ذكر أقسام الحكم. هـ- القياس الفاسد خارج عنه، لأن الجامع متى حصل صح القياس. وقال أبو الحسين (¬2) البصري: (هو تحصيل مثل حكم الأصل في الفرع، لاشتباههما في علة الحكم فيِ ظن المجتهد). وهو قريب. وأقرب منه: (إثبات مثل حكمِ (¬3) معلوم لأخر، لاشتباههما في علة الحكم عند المثبت)، ونعني بالإثبات ما يتناول العلم والظن والاعتقاد، وبالمعلوم متعلق الثلاثة، والمثل تصوره بديهي إذ كل أحدٍ يعلم بالضرورة أن الحار مثل الحار. وقولنا: عند المثبت يتناول القياس الفاسد ولا يخرج عن هذا قياس العكس، كقولنا: لو لم يكن الصوم شرطًا لصحة الاعتكاف، لم يصر شرطًا له بالنذر كالصلاة. إذ المثبت بالقياس الملازمة، ولا ينتقص بالتلازم والمقدمتين والنتيجة، إذ نمنع كونهما قياسًا، ولا يكفي تسوية النتيجة للمقدمتين في المعلومية (¬4) لتسميتهما (¬5) قياسًا، وإلَّا لكان إثبات الحكم ¬
المسألة الثانية
بالنص قياسًا، فإن رمنا تعريف القياس بما يندرج في هذه الصورة. قلنا: (هو قول مؤلف من أقوال متى سُلِّمَتْ لزم عنها لذاتها قول آخر) (¬1). " المسألة الثَّانية" قال الفقهاء: الأصل في قياس الذرة على البر هو البر، وهو ضعيف، لأنه لا يتفرع حكم الذرة عليه ما لم يثبت الحكم فيه. وقال المتكلمون: هو النص الدال على الحكم وهو ضعيف. لأنه (¬2) لو علم الحكم في البر بالعقل مثلًا أمكن تفريع حكم الذرة عليه، ولو لم يدل النص على الحكم في صورةٍ خاصة لم يمكن تفريعه عليه قياسًا، بل الأصل الحكم أو علته، فنقول: الحكم أصل في محل الوفاق والعلة (¬3) فرع, لأنا إنما نعلل الحكم بعد معرفته، وفي محل الخلاف بالعكس, لأنا نعرف العلة فيه ثم يفرع الحكم عليها، وإنما سمى الفقهاء محل الحكم أصلًا, لأنه (¬4) أصله. وأصل الأصل أصل وكذا تسمية المتكلمين النص أصلًا. ثم تسمية العلة في محل الخلاف أصلًا أولى من تسمية محل الحكم في محل الوفاق أصلًا, لأن العلة مؤثرة دون المحل. والفرع عندنا: الحكم المطلوب بالقياس، وعند الفقهاء: محله ثم تسمية محل الوفاق بالأصل أولى من تسمية محل الخلاف بالفرع, لأنه أصل الأصل، وهذا أصل الفرع، ولنساعد الفقهاء في تسمية محل الوفاق بالأصل ومحل الخلاف بالفرع. ¬
المسألة الثالثة
" المسألة الثالثة" إذا علم علية الوصف (¬1) في الأصل وحصوله في الفرع فهو حجةٌ وفاقًا. وإن ظُنا أو أحدهما فهو حجة في الأمور الدنيويَّة وفاقًا. وفي الشرعية خلاف ونعني بكونه حجةً، وجوب العمل به والفتوى لغيره. والجمع بين الأصل والفرع بإلغاء الفارق يسميه الغزالي -رحمه الله- تنقيح المناط وباستخراج الجامع تخريج المناط (¬2). ¬
الفصل الثاني في إثبات كونه حجة في الشرعيات
" الفصل الثاني" "في إثبات كونه حجة في الشرعيات" قيل: العقل يقتضي جواز التعبد به. وقيل: بل المنع منه. ومن الأولين من قال (¬1): وقع ذلك متفقين على أن السمع دل عليه. ثم قال القفال وأبو الحسين البَصْرِيّ: دل العقل عليه أَيضًا، وأنكره الباقون منا ومن المعتزلة، ثم زعم أبو الحسين: أن دلالة السمع عليه ظنية، والباقون أنها قطعية. ثم قال القاشاني (¬2) والنهرواني (¬3): لا يعمل (¬4) إلَّا بقياس هو كقياس تحريم الضرب على تحريم التأفف، أو نص على علته تصريحًا، أو لإيماء (¬5)، ومنهم من قال: لم يقع لأنه ليس في السمع ما يدل عليه (¬6). وقيل: بل لأن الكتاب والسنة والإجماع دلت على عدمه. ¬
ومن الآخرين من قال (¬1) خص المنع بشرعنا, لأن مبناه على الجمع بين المختلفات (¬2)، والفرق بين المتماثلات وهو قول النظَّام. ومنهم من عم المنع زاعمًا أنَّه لا يفيد علمًا ولا ظنًا. وقيل يفيد الظن، لكنه لا يجوز العمل به لأنه قد يخطئ. وقيل (¬3) يجوز العمل بالظن، لكن حيث يتعذر النص كالقيم والأروش (¬4) والفتوى والشهادات إذ لا نهاية لها, ولا يتعذر النص على هذه الأحكام، فالاكتفاء بالقياس اقتصار على الأدنى مع القدرة على الأعلى. والمختار وهو قول جمهور علماء الصَّحَابَة والتابعين أنَّه حجة. لنا وجوه: الأول. قوله تعالى: {فَاعْتَبِرُوا} (¬5) والاعتبار من العبور، يقال عَبَرتُ عليه وعَبَرَ النهر والمعبر لما يعبر عليه، والمعبر ما يعبر فيه (¬6)، والعَبْرة: الدمعة، وعبَّر الرؤيا: أي جاوز عنها إلى ما يلازمها. والقياس عبور من حكم الأصل إلى حكم الفرع. فإن قيل: الاعتبار: الاتعاظ إذ لا يقال لمن استعمل القياس العقلي (¬7) معتبر، ويقال لمن استعمل القياس الشرعي ولم يتفكر في أمر معاده أنَّه غير معتبر. وقال تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً} (¬8) وقال تعالى: {وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً} (¬9). ويقال: (السعيد من اعتبر بغيره). والترجيح معنا لأنه أسبق (¬10) إلى ¬
الفهم، ثم وجد ما يمنع من العمل على الحقيقة لركاكة قوله: {يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا} (¬1) فقيسوا الذرة على البر. ثم المجاوزة مشتركة بين القياس الشرعي والدليل العقلي والنص والبراءة الأصلية، والدال على العام لا يدل على الخاص لا بلفظه (¬2) ولا بمعناه. فإن قلتَ: لا بد له من نوع وليس البعض أولى فيجب الكل. قلتُ: ليس المأمور به هو القياس الشرعي فقط للركاكة المذكورة، بل يجب اعتبار (¬3) آخر وهو الاتعاظ مثلًا (¬4)، وفي إيجابه إعمال اللفظ فلا حاجة إلى غيره. ثم هنا اعتبار واجب وهو قياس تحريم الضرب على تحريم التأفيف، وما نص على علة الحكم فيه والأقيسة العقلية. وفي الأمور الدنيوية وتشبيه الفرع بالأصل في أنَّه لا يستفاد حكمه إلَّا من النص والاتعاظ بالقصص والأمثال، ثم الحمل على العموم يقتضي الأمر بالتسوية بين الأصل والفرع في الحكم. وفي أن لا يستفاد حكمه إلا (¬5) من النص، وليس إخراج أحدهما أولى، بل إبقاء ما ذكرنا أولى (¬6) عملًا بالاحتياط واحترازًا من الظن. ثم أنَّه مخصوص إذ لا يجب القياس عند تعادل الإِمارات وتعارض الأقيسة، وفيما لا دليل عليه كمقادير الثواب وأجزاء الأرض، وما عرف مرة بالقياس أو النص وفيما لو قال: أعتق غانمًا لسواده، والعام المخصوص ليس بحجة، ثم أنَّه حجة ظنية لأنه تمسك بالاشتقاق، والمسألة يقينية، ثم أنَّه أمر فلا يفيد التكرار وهو خطاب مشافهة فاختص بالحاضرين. ¬
والجواب عن: أ (¬1) - إن جعله حقيقةً في المجاوزة أولى إذ يقال: اعتبر فاتعظ، وتعليل الشيء بنفسه لا يجوز ولأنها حاصلة في الاتعاظ وغيره، فجعله حقيقةً فيها (¬2) يدفع الاشتراك والمجاز. قوله: لا يقال لمن استعمل القياس العقلي أنَّه معتبر ممنوع. إذ يقال: فلان يعتبر الأشياء العقلية بغيرها. نعم من قاس مرة لا يقال له: إنه معتبر مطلقًا، كما لا يقال له: قائس مطلقًا إذ لا يستعملان مطلقًا إلَّا في المستكثر. وقوله: يقال لمن لم يتفكر أنَّه غير معتبر. قلنا: نعم لكن مجازًا لما أنَّه لم يأت بالمقصود الأعظم، فالآيتان محمولتان على المجاوزة. ب- منع المانع والركة المذكورة إنما جاءت لأنه لا مناسبة بين خصوص الصورة والمذكور قبل. فإن من سئل عن مسألة فأجاب بما يتناول تلك وغيرها كان حسنًا. جـ- أنَّه عام لصحة الاستثناء وترتيب الحكم على المسمى. ولقائل أن يقول (¬3): الثاني إثبات القياس بالقياس. د- أن التسوية في الحكم أسبق إلى الفهم، إذ يفهم من قول السيد- إذا ضرب عبدًا على ذنب- لغيره اعتبر به. الأمر بالتسوية في الحكم فهو ¬
أولى بالاعتبار (¬1)، ولأنه لا مناسبة بين سياق الآية والتسوية الثَّانية. هـ، و- ما سبق (¬2). ز- أنَّه يتناول كل الأوقات لتناوله كل الأقيسة. هـ - أنَّه لا فرق بين الصحابي وغيره فيه بالإجماع. الثاني (¬3): خبر معاذ (¬4) وهو مشهور، ولو كان مرسلًا لكن الأمة تلقته بالقبول، وروي أنَّه عليه السلام أنفذ معاذًا وأبا موسى الأَشْعريّ إلى اليمن، فقال عليه السلام: بم تقضيان؟ فقالا: إذا لم نجد الحكم في السنة، نقيس الأمر بالأمر فما كان إلى الحق أقرب عملنا به، فقال عليه السلام: "أصبتما" وقال عليه السلام لابن مسعود: "اقصر بالكتاب والسنة إذا وجدتهما فإن لم تجد الحكم فيهما فاجتهد برأيك" فإن قيل: لا نسلم صحة الحديث، فإن قوله فإن لم تجد في كتاب الله يناقض قوله تعالى: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} (¬5) وقوله تعالى: {وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} (¬6) ولأن الحديث يفيد جواز الاجتهاد في زمًان النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم -. وسؤاله عما به يقضي بعد نصبه للقضاء، ومنع تخصيص الكتاب والسنة بالقياس. ولأنه روي أنَّه لما قال: أجتهد برأي قال عليه السلام: "أكتب إلى أكتب إليك" والجمع بينهما ممتنع, لأنهما في واقعةٍ واحدة، ولأنه ورد فيما يعم به البلوى وشرطه ¬
الاشتهار. ثم قوله: أجتهد برأي محمول على بذل الجهد في طلب الحكم من النصوص الخفية، وقوله: (فإن لم تجد). لا ينفي النص الخفي والجلي إذ يصح أن يقال: يعني به عدم الوجدان في صرائحه أو مطلقًا. ثم العموم غير مراد. إذ العمل بالقياس عندكم معلوم من الكتاب والسنة، أو يقول: هو محمول على التمسك بالبراءة الأصلية، أو بأن الأصل في الأفعال الإباحة أو الحظر أو بالمصالح المرسلة أو طريقة الاحتياط في تنزيل اللفظ على أقل مفهوماته أو أكثرها، أو على قياس نصٍ على علته. أو هو كقياس تحريم الضرب على تحريم التأفيف. ثم أنَّه يدل على جواز القياس في زمان النَّبِيّ عليه السلام. وما بعده ليس في معناه لقوله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} (¬1) والتكميل بالتنصيص على كليات الأحكام في الكتاب والسنة، والقياس مشروط بعدم الوجدان فيهما. والجواب عن (¬2): أ- أن المراد من الآية اشتمال الكتاب على كل الأمور ابتداءً أو بواسطة، والكتاب يدل على الحكم المطلوب بالقياس بواسطة (¬3) الدلالة على قبول قول الرسول الدال على صحة القياس (¬4) الدال على الحكم. والاجتهاد في زمان النَّبِيّ عليه السلام جائز فيما لا يمكن تأخيره إلى استعلام النَّبِيّ عليه السلام، والمراد من قوله لما بعث معاذًا. لما عزم على بعثه وتخصيص الكتاب والسنة بالقياس منعه كثيرون ورواية الزيادة ¬
غير مشهورة (¬1). وأيضًا (¬2) تقتضي التأخير فيما لا يحتمله، ويمكن الجمع يحمل الزيادة على ما يقبل التأخير ووروده (¬3) فيما يعم به البلوى سبق جوابه. ب- أن قوله فإن لم تجد عام لصحة الاستثناء. وقول معاذ: (أحكم بكتاب الله). أراد ما دل عليه الكتاب بنفسه لا بواسطة، وإلَّا لكان قوله إذا لم يوجد في الكتاب حكمت بالسنة خطأ. ب- أن البراءة الأصلية ودليل (¬4) العقل معلوم لكل أحد من غير اجتهاد، والقياسان الباقيان لا يفيان بمعرفة جميع الأحكام، وإنما سكت النَّبِيّ عليه السلام عند قوله (أجتهد رأيي). لعلمه أن الاجتهاد وافٍ بها، وإذا تعذر الحمل على هذه الأشياء حمل على القياس الشرعي للإجماع على الحصر. د- ما سبق (¬5). الثالث: قوله عليه السلام لعمر لما سأله عن قبلة الصائم: "أرأيت لم تمضمضتَ بماء ثم مججته أكنت شاربه" (¬6) استعمل القياس إذ المفهوم منه أنَّه عليه السلام حكم بأن القبلة بدون الإِنزال لا تفسد الصوم، كما أن المضمضة بدون الِإزدراد لا تفسده، بجامع عدم حصول المطلوب من المقدمتين فكان حجةً لوجوب التأسي به، ولأن قوله أرأيتَ؟ يخرج مخرج التقدير، وإنما يصح ذلك لو تمهد عند عمر كون القياس حجةً. إذ لا يقال لمن لا يعتقد كون الكتاب حجة إذا سئل عن حكم. أليس قال الله تعالى كذا ¬
وكذا؟ وكذلك قوله عليه السلام للخثعمية (¬1): "أرأيت إن كان على أبيك دين فقضيتيه أكان يجزئ؟ فقالت: نعم. قال: فدين الله أحق بالقضاء" (¬2). الرابع (¬3): معتمد الجمهور وهو أن بعض الصَّحَابَة عمل بالقياس. كتب عمر إلى أبي موسى: (اعرف الأشباه والنظائر وقس الأمور برأيك) (¬4). ¬
قال ابن عباس: (ألا يتقي الله زيد بن ثابت) (¬1) يجعل ابن الابن إبنًا ولا يجعل أَبا الأب أبًا. وليس مراده التسمية لعلمه بأنه لا يسمى أبًا حقيقةً بل جعله كالأب في حجب الأخوة. وجعل ابن الابن كالابن فيه. وشبه علي وزيد الأخ والجد بغصني شجرة وجدولي ونهر وشركا بينهما في الميراث. ب- الصَّحَابَة اختلفت في مسائل لا يمكن أن يكون قول الكل فيها عن نصٍ كمسألة الحرام (¬2). قال علي وزيد وابن عمر هو ثلاث طلقات. وقال ابن مسعود طلقة واحدة. وقال أبو بكر وعمر وعائشة رضي الله عنهم يمين. وقال ابن عباس ظهار. وقال مسروق (¬3) ليس بشيء (¬4). وكمسألة الجد والأخوة فبعضهم جعل له خير الأمرين من المقاسمة والثلث لا ينقص حقه عن حق الأم، إذ له مع الولادة تعصيب وبعضهم جعل له خير الأمرين (¬5) من المقاسمة والسدس لا ينقص حقه عن حق (¬6) الجدة. وبعضهم لم يورث الأخوة معه. وكمسألة المشتركة (¬7). إذ شرَّك عمر بين الإخوة من الأب والأم ¬
وبين الإخوة من الأم وغيره أسقط إخوة الأب والأم. وكمسألة الخلع قال عثمان رضي الله عنه في إحدى الروايتين، أنَّه طلاق، وفي الثَّانية أنَّه ليس بطلاقٍ وبه قال ابن عباس. وأمثالها كثيرة فلو كانت تلك الأقوال لنصٍ لأظهروه إذ يعلم بالضرورة من عادتهم استعظام النصوص ومخالفتها والتفحص عنها والحث على نقلها، حتَّى نقلوا ما لا يتعلق به حكم كقوله عليه السلام: "نِعم الِإدام النحل" (¬1). ومن حكم بحكم غريب يخالفه فيه جمع يوافقونه في تعظيم شخصٍ ووجد من كلامه ما يدل عليه فإنَّه يبادر إلى ذكره، ولو أظهروه لاشتهر ولو وصلَ إلينا بعد الطلب والبحث الشديد. ويمتنع أن يكون للعقل إذ طريقه البراءة الأصلية فثبت أنها لأجل القياس (¬2). جـ - قالوا بالرأي، قال أبو بكر في الكلالة: (أقول فيها برأي) (¬3) وروي أن عمر قضى في الجدِّ برأيه (¬4). وقال في الجنين لما سمع الحديث: (لولا هذا لقضينا برأينا) (¬5) وقال عثمان لعمر في بعض الأحكام إن اتبعت رأيك فرأيك رشيد (¬6)، وإن اتبعت رأي (¬7) من قبلك فنعم الرأي كان. وقال علي: اجتمع رأي ورأي عمر في أم الولد أن لا تباع، وقد رأيت ¬
الآن بيعها (¬1). وقال ابن مسعود في قصة بروع (¬2): أقول فيها برأيي (¬3) والرأي هو القياس يقال. أقلتَ هذا برأيك أم بالنص؟ فدلت مقابلته بالنص على أنَّه للاستدلال، فثبت أن بعضهم قال بالقياس، ولم يوجد إنكار من أحدٍ إذ لو وجد لاشتهر, لأنه أصلٌ عظيم في الشرع نفيًا وإثباتًا، فيكون ذلك إجماعًا إذ سكوتهمِ ليس عن خوف, لأنا نعلم شدة انقيادهم للحق سيما ولا رغبةَ ولا رهبَ عاجلًا. كيف وقد اختلفوا في كثير من المسائل، وذلك ينفي الخوف المانع من الخلاف (¬4) فهو عن الرضا. فإن قيل هذه الروايات لا تبلغ التواتر والاستدلال بقبول البعض وتأويل البعض عرف ضعفه. ثم قول عشر: (اعرف الأشباه) معناه: أي لا تخرج من الجنس ما هو منه ولا تدخل فيه ما ليس منه. وقوله: (قس) أي سوِّ بيْن المقدمات. والمطلوب في المعلومية والمظنونيَّة، إذ الرأي هو الروية، أو سوِّ بيْن الأصل والفرع في أن لا يثبت حكم إلَّا بالنص، وتشبيه ابن عباس في التسمية أي سمى النافلة إبنًا مجازًا واكتفى به في الاندراج تحت قوله تعالى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ} (¬5) فيسمى الجد أبًا مجازًا، ويكتفى به في الاندراج تحت قوله تعالى: {وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ} (¬6) لهذا نسبه إلى مفارقة التقوى وتارك القياس لا ينسب إليها، وقولهم في تلك المسائل، لو كان لنصٍ فإنما يجب إظهاره مع شدة تعظيمهم عند حاجة (¬7) المناظرة وما اعتادوا الاجتماع لها، ومع الحاجة لا ينفعه إظهاره إذ خبر الواحد ليس بحجة، وما هو حجة إنما يظهره المستدل (¬8) لو كان قويًا ظاهرًا ثم إنه لو كان لقياس لأظهروه. ¬
ولا يقال: النص يجب على العالم اتباعه دون القياس, لأن القياس الجلي الظاهر يجب عليه اتباعه. لأجله حسنت المناظرة بين القائسين. ثم لا نسلم أنَّهم لو أظهروه لاشتهر، ونقل إذ ليس من الأمور العظيمة التي تتوفر الدواعي على نقلها. ثم إنه منقوض بالمعجزات والإقامة (¬1)، ثم لا نسلم أنا لم نعرفه فإن في مسألة الحرام مثلًا من جعله يمينًا تمسك بقوله تعالى: {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} (¬2). نزلت لما حرَّم النَّبِيّ عليه السلام على نفسه (¬3) مارية القبطية (¬4). ومن جعله طلقة أو ثلاث طلقات جعله كناية عن الطلاق (¬5)، ونزله على أعظم أحواله أو أقلها وأدرجه تحت آية الطلاق، ومن جعله ظهارًا جعله كناية عنه وأدرجه تحت آية الظهار. وجعل الشيء كناية ليس بقياس. ثم بين النص والقياس بواسطة وهي تنزيل اللفظ على أقل المفهومات أو الأكثر (¬6)، واستصحاب الحال والمصالح المرسلة والاستقراء واعتقاد أن قوله حجة، استدلالًا بقوله تعالى: {كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ} (¬7) ثم بقوله عليه السلام: "علماء أمتي كأنبياء بني إسرائيل" (¬8). والإجماع وإن لم يتصور ثبوته في محل الخلاف فهو واسطة ثم الرأي مرادف للرؤية، وإنها ليست بقياس لغة والنقل ¬
خلاف الأصل. وقولنا: فلان يرى (¬1) ليس معناه يقيس (¬2). وقال أبو بكر في الكلالة: (أقول فيها برأي) (¬3). وتفسير اللفظة اللغوية لا يكون قياسًا. وذكره في مقابلة النص لا يفيد كونه قياسًا إذ النص لفظ جلي الدلالة. ثم الإنكار (¬4) وجد إذ روي عن أبي بكرٍ: (أي سماءٍ تظلني وأي أرض تقلني إذا قلت في كتاب الله برأيي) (¬5). وعن عمر (¬6): (إياكم وأصحاب الرأي فإنهم أعداء السنن) (¬7). وعنه: (إياكم والمكايلة) وفسرها بالمقايسة. وعن شريح (¬8): (كتب عمر: اقض بما في كتاب الله، فإن جاءك ما ليس فيه فاقض بما في سنة رسول الله، فإن جاءك ما ليس فيها فاقض بما اجتمع عليه ¬
أهل العلم، فإن لم تجد فما عليك أن لا تقضي) (¬1). وعن علي: (لو كان الدين يؤخذ قياسًا لكان باطن الخف أولى بالمسح) (¬2). وعنه وعن عمر (¬3): (من أراد أن يقتحم جراثيم جهنم فليقل في الجد برأيه) (¬4). وعن ابن عباس: (يذهب قراؤكم وصلحاكم ويتخذ النَّاس رؤساء جهالًا يقيسون الأمور برأيهم) (¬5). وقال: (إذا قلتم في دينكم بالرأي فقد أحللتم كثيرًا مما حرَّم الله وحرَّمتم كثيرًا مما حلل الله) (¬6). وقال: (إن الله قال لنبيه: {وَأَنِ احْكُمْ (¬7) بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} ولم يقل بما رأيتَ، ولو جعل الله لأحدكم أن يحكم برأيه لجعل لرسوله) وقال: (إياكم والمقاييس فإنما عُبدت الشَّمس والقمر بالمقاييس) (¬8). وعن ابن عمر: (السنة ¬
ما سنه رسول الله لا تجعلوا الرأي سنة المسلمين). وعن مسروق: (لا أقيس شيئًا بشيء أخاف أن تزلَّ قدم بعد ثبوتها) (¬1). وكان ابن سيرين يذم القياس ويقول: (أول من قاس إبليس). وقال الشعبي (¬2) لرجلٍ: (لعلك من القياسيين). وقال: (إن أخذتم بالقياس أحللتم الحرام وحرمتم الحلال) (¬3). لا يقال: هؤلاء القائلون بالقياس فنوفق برد (¬4) هذا إلى قياس لم توجد فيه الشرائط, لأن قولهم بالرد صريح وبالقياس استدلال فترجح. ثم هنا توفيق آخر وهو قول بعضهم بالقياس حين قال الآخر بالرد، ثم انقلاب المنكر مقرًا وبالعكس ثم السكوت (¬5) للخوف. قال النظَّام: (العامل بالقياس عمر وعثمان وعلي وابن مسعود وأُبي وزيد بن ثابت ومعاذ بن جبل وأبو الدَّرداء (¬6) وأبو ¬
موسى الأَشْعريّ وقليل من أصاغر الصَّحَابَة (¬1)، وعمر وعثمان وعلي سلاطين الصَّحَابَة معهم الرغبة والرهبة، وإنما سكت الباقون خوفًا وتُقية حتَّى قال ابن عباس: (هبتُه وكان والله مهيبًا). وأيضًا إبطال مذهب الرجل العظيم يشق عليه ويصير سببًا للعداوة، وليس الخلاف في القياس كالخلاف في مسألة الحرام، فإنَّه أصل عظيم في الشرع نفيًا وإثباتًا، فالمخالفة فيه أصعب). سلمنا أنَّه لا خوف، لكنهم سكتوا للتوقف أو اعتقاد أن الخطأ صغيرة، أو أن غيره أولى بالإنكار، ثم رضاهم دفعةً غير معلوم وأنه شرط للإجماع (¬2). سلمنا إجماعهم على نوع فلعله غير المتنازع (¬3) فيه، ولم يتفق القائمون على قياس معين ليقال إذا ثبت حجية قياس فلو لم يكن ذلك المعين حجة (¬4) لزم خلاف الإجماع، إذ القياس المناسب مختلف فيه وغير المناسب رده الأكثرون. سلمنا اتفاقهم على معين لكنه قياس تحريم الضرب على تحريم التأفيف أو ما نص على علته. سلمنا إجماع الصَّحَابَة فلم يجز القياس في زماننا والفرق ما سبق في خبر الواحد. والجواب عن: أ- قال الأصحاب: الروايات الكثيرة عن النَّبِيّ عليه السلام وأصحابه بلغت حد التواتر، فمن خالط أهل الأخبار والفقه وطالع كتبهم جزم بصحة شيء منها، وكل واحدٍ يفيد المطلوب والأولى جعل المسألة ظنيَّة والظن كافٍ في وجوب العمل. ¬
ب- أن سباق الكلام ولحاقه ينفيه (¬1)، إذ قال: (الفهم الفهم عندما يختلج في صدرك ما لم يبلغك في كتاب الله ولا سنة رسول الله، اعرف الأشباه والنظائر، وقس الأمور برأيك، ثم اعمد إلى أحبها إلى الله وأشبهها بالحق فيما ترى). جـ (¬2) - إنَّ حسن المجاز في موضع والقطع به في موضع (¬3) لا يوجب مثله في آخر، فلا وجه للإنكار (¬4) إلَّا في القياس، ونسبته إلى مفارقة التقوى، لاعتقاده، أن القياس جلي والخطأ فيه عظيم على أنَّه محمول على المبالغة. د- أن الحاجة حاصلة إذ المتمسك بالنص يعلم أن مخالفة خالفه لا لطريق أو لطريق مرجوح أو مساوٍ أو راجحٍ، وبالتقديرين الأولين كان (¬5) مخالفة مخالفًا للنص، وبالتقدير الثالث فرضهما التوقف ففتواهما مخالفة للنص. وبالتقدير الرابع كان هو مخالفًا للنص، وشدة إنكارهم لمخالفة النص يمنعهم منها (¬6)، ولا ذلك إلَّا بذكر النص وإن كان خفيًا. هـ- أن مخالفة النص أشد ولا يستقل العقل بمعرفته ويجب اتباعه، وحسن المناظرة لا يوجب اتباع القياس. إذ ما لا يجب قد يحسن ويمكن الإشارة إلى النص دون الأمارة حتَّى أن المقوّم (¬7) قد لا يمكنه التعبير عمًا أفاده ظن القيمة. وإشارة المتأخرين إلى العلل القياسية إنما ¬
أمكنت, لأنها تلخصت بعد أن لم تكن، ثم أنَّهم أظهروا قياساتهم بالتنبيه على الأصول من الظهار والطلاق واليمين. ورجَّح كل منهم أصله بمرجح. و- أن هذه المسائل يكثر وقوعها، فاشتدت الحاجة إلى معرفة حكمها بالدليل (¬1)، وأنها حاملة (¬2) على النقل ظاهرًا. ز- أن قوله تعالى: {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} (¬3). لا يدل على أن تحريمه عليه السلام كان بقوله: "أنتِ عليَّ حرام" بل على أنَّه كان بلفظ اليمين وإلَّا لكان ذلك نصًا في الباب. فلم يختلفوا فيه وباقي التشبيهات (¬4) لابد فيها من القياس إذ ليس متفقًا عليها. وقول مسروق للتشبيه بقصعةٍ من ثريدٍ قال: إلَّا فرق عندي بينه وبين قصعةٍ من ثريدٍ). وإن قاله للبراءة الأصلية، لكنه تابعي فإن عاصرهم (¬5) حالة المخالفة قد تركوا البراءة الأصلية للقياس، وإلاَّ كان إجماعهم حجة عليه (¬6). ح- أن كل من قال بأنهم لم يقولوا فيها بالنص والبراءة الأصلية قال: إنهم قالوا فيها بالقياس. ط- أن الدليل دلَّ على النقل، إذ روى الخصم أقوالًا كثيرةً في ذم الرأي وسلم أن المراد هو القياس فعلم أنَّه في الشرع اسم له. ي- التوفيق المذكور وصريح الرد (¬7) يعارضه صريح الدلالة، والتوفيق الآخر ممنوع، إذ لو وقع لاشتهر لأنه أمر عجيب. ¬
يا - أن شدة انقيادهم للحق ينفيه ظاهرًا، وقدح النظَّام فيهم (¬1) سبق جوابه في الأخبار. يب (¬2) - أن الظاهر عدم التوقف في آخر الأمر وأولوية (¬3) إنكار واحد. يج- أن الأصل بقاؤه (¬4). يد- أن الإجماع حاصل ظاهرًا على أن القياس المناسب حجة. الأخير- أن الإجماع ظاهر على عدم الفرق بين الزمانين (¬5). تقرير: للإجماع من وجهٍ آخر أن قولهم فيما اختلفوا فيه لطريق، وإلَّا فقد أجمعوا على الخطأ، وذلك ليس دليل العقل, لأن مقتضاه البراءة الأصلية بل دليل شرعي، وليس هو النص؛ لأن مخالفة يستحق العقاب لقوله تعالى: {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا} (¬6) الآية ونعلم بالضرورة أن كل واحدٍ منهم لَمْ يعتقد في صاحبه كونه مستحقًا له، فهو القياس لانعقاد الإجماع على انحصار طرقهم في الثلاثة، وتمامه ما تقدم وهذا أوجز مما تقدم. الخامس: القياس (¬7) يفيد ظن الضرر. فإن من ظنَّ أن حكم الأصل معلل بوصف موجود في الفرع، ظن أن حكمه كحكمه، وهو يعلم أن مخالفة حكم الله تعالى توجب العقاب، فيظن أن مخالفة هذا توجب العقاب، فوجب العمل به, لأن ترجيح الراجح على المرجوح متعين في بداية العقول. ¬
فإن قيل: هذا ينتقض بظن صدق الشاهد قبل استكمال (¬1) العدد، وبظهور المصالح المرسلة وبظن صدق مدعي النبوة، وبظن اليهودي قبح الأعمال الشرعية ولو امتنع الظن فيها (¬2) لدلالة شرعية على فساد تلك (¬3) المظان، لصار عدم الدلالة على فساد المظنة جزءًا من المقتضى للظن، فلا يفيد القياس الظن، إلَّا إذا تبيَّن انتفاء الدلالة على فساده، ثم إنما يجب الاحتراز عن الضرر المظنون إذا لم يمكن تحصيل علم أو ظن أقوى به، فلمَ قلتم إنه لا يمكن تحصيل العلم أو الظن الأقوى بالأحكام (¬4) لا من الكتاب والسنة ولا من الإمام المعصوم. ثم ما ذكرتم معارضٌ بقوله تعالى: {لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} (¬5). وقوله تعالى: {وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} (¬6). وقوله تعالى: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} (¬7). وقوله تعالى: {وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} (¬8). وقوله تعالى: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} (¬9) والأقوى (¬10) قوله تعالى: {إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا} (¬11) وقوله عليه السلام: "تعمل هذه الأمة (¬12) برهةً بالكتاب وبرهةً بالسنة وبرهةً بالقياس، فإذا فعلوا ذلك فقد ضلوا" (¬13) وقوله عليه ¬
السلام: "ستفترق أمتي على بضع وسبعين فرقة، أعظمهم فتنة قوم يقيسون الأمور برأيهم فيحرمون الحلال ويحلون الحرام" (¬1). الخبر يفيد ظن الضرر في التمسك بالقياس فيجب الاحتراز عنه لما ذكرتم. وبإجماع الصَّحَابَة إذ ذم بعضهم القياس ولم ينكر أحد، وبإجماع العترة، وبأن العمل (¬2) بالقياس يوجب الاختلاف, لأنه تمسك بالأمارات، وهو منهي عنه بقوله تعالى: {وَلَا تَنَازَعُوا} (¬3) وبأن الرَّجل لو قال: أعتقت غانمًا لسواده فقيسوا عليه لم يعتق سائر عبيدة السود. واحتج النظَّام على مذهبه بأن مدار شرعنا على الجمع بَيْن المختلفات والفرق بين المتماثلات، فإنَّه فرق بين الأزمنة وبين الأمكنة في الشرف مع الاستواء في الحقيقة، وجمع بين الماء والتراب في الطهورية مع الاختلاف في الغسل والتنظيف وفرض الغسل من المني والرجيع أنتن (¬4). ونهى عن إرسال السبع على مثله وأقوى منه، وأباحه على البهيمة الضعيفة، وجوَّز للمسافر قصر الأربع دون الاثنتين (¬5)، وأوجب قضاء الصوم على الحائض والصلاة أعظم قدرًا، وجعل الحرة الشوهاء تحصن ويحرم النظر إليها دون الجواري الحسان، وقطع سارق القليل دون غاصب الكثير، وجلد من قذف بالزنا دون من قذف بالكفر، وقبل شاهدين في القتل والكفر دون الزنا، وجلد قاذف الحر الفاجر دون العبد العفيف، وفرق بين الموت والطلاق في العدة وبين الحرة والأمة في الاستبراء، وأوجب بخروج الريح غسل غير ذلك المخرج (¬6)، إذا ثبت هذا وجب أن لا يصح القياس, لأن مبناه على أن الصورتين لما اشتركتا في الحكمة وجب اشتراكهما في الحكم وهو باطل. ¬
واحتج من عمَّ المنع وزعم أنَّه لا يفيد الظن: بأن البراءة الأصلية معلومة، فالقياس إن وافقها فلا فائدة فيه، وإن خالفها كان الظني معارضًا لليقيني. وبأن القياس يتوقف على استصحاب ما كان، فالحكم المثبت بالقياس إن كان نفيًا كفى فيه الاستصحاب الذي هو أصل القياس. وإن كان إثباتًا كان الاستصحاب نافيًا (¬1) له. وأنه أصل القياس فترجح عليه، وبأنه متوقف على تعليل أحكام الله تعالى وسيأتي بطلانه. واحتج من منع اتباع الظن بأنه قد يخطئ، فالأمر به آمر بما يجوز كونه خطأ. واحتج من منع اتباع الظن هنا (¬2)، بأن القدرة على التنصيص على قواعد الأحكام الكلية حاصلة، ولا يجوز الاختصار على أدنى البيانين مع القدرة على أعلاهما إزاحة لعذر المكلف في حمل عدم اليقين (¬3) على صعوبة البيان دون تقصيره، فإنَّه كاللطف خرج على هذا (¬4) الشهادة والفتوى والقيم والأروش وأمارات القبلة والأمراض والأرباح والأمور الدنيوية، إذ لا نهاية لها لاختلافها بالأحوال والأشخاص والأوقات والأمكنة. والجواب (¬5) عن: أ- أن عدم المانع لا يصير جزءًا من المقتضي، وإلَّا لكان عدم المانع من نزول الثقيل جزءًا للمقتضي له (¬6)، والعدم لا يكون جزءًا من علة الوجود. ب (¬7) - أنَّه قبل التمكن من تحصيل العلم لا بد له من ترجيح طرف. ¬
الآيات (¬1) - ما سبق قيل. الأحاديث- المعارضة بأحاديث العمل بالقياس والتوفيق المتقدم (¬2). الإجماع- ما سبق. وأما إجماع العترة: فروايات الإمامية معارضة لروايات الزيدية عن الأئمة في جواز العمل بالقياس. أ (¬3) - من المعقول: النقض بالأدلة الشرعية (¬4). ب (¬5) - أن العبد لو أمر بالقياس لم يتعد (¬6) الحكم بخلاف الشرع وفاقًا، وسببه أن حقوق العباد مبنية على الشح والضنة، لكثرة حوائجهم- ورجوعهم عن دواعيهم وصوارفهم. جـ (¬7) - أن الغالب رعاية المصالح المعلومة في أحكام الشرع. وتلك (¬8) الصور القليلة (¬9) لا تقدح في ظن تحصيل ظن القبلة (¬10). د، هـ (¬11) - النقض بالشهادة والفتوى والتقويم والأروش وغيرها. ز- ما سبق (¬12) من الكلام على اللطف (¬13). ¬
الفرع الأول
" فروع" الفرع الأول النص على علة الحكم ليس أمرًا بالقياس خلافًا للنظَّام وأبي الحسين البَصْرِيّ وجماعة من الفقهاء. وخلافًا لأبي عبد الله البَصْرِيّ في الترك. لنا: أن قوله: حرمت الخمر, لأنها مسكر يجوز أن تكون العلة إسكار الخمر فلابد من أمرٍ (¬1) آخر بالقياس. فإن قيل: لو جاز هذا لجاز أن يقال الحركة إنما اقتضت المتحركيَّة لقيامها بهذا المحل. ثم العرف أسقط اعتبار هذا الجائز (¬2) إذ يفهم من قول الأب لابنه: لا تأكل هذه الحشيشة, لأنها سم منعه من أكل كل حشيشة هي سم، وأيضًا الغالب على الظن سقوطه, لأن منشأ المفسدة هو الإسكار لا هذا الإسكار. ثم هذا الاحتمال مندفع لو قال علة حرمة الخمر الإسكار. ثم أنَّه رتب الحرمة على الإسكار فيشعر (¬3) بحليته، وقال أبو عبد الله البَصْرِيّ من ترك أكل رمانةٍ لحموضتها لزمه ترك أكل كل رمانةٍ حامضةٍ (¬4)، ولو أكلها لحموضتها لا يلزمه أكل كلِّ رمانةٍ حامضةٍ. والجواب عن: أ- أنَّه إن عُني بالحركة ما يقتضي المتحركية امتنع فرضها بدونها، وإن عُني بها شيء آخر، بحيث يبقى (¬5) فيه الاحتمال لا بد في إبطاله من منفصل. ¬
الفرع الثاني
ب (¬1) - أن ذاك لقرينة الشفقة. جـ- أنَّه بعد الظن بعلية (¬2) الإسكار إنما يجب الحكم في الفرع، لما ذكرنا من الدليل على وجوب دفع الضرر المظنون لا للتنصيص. د- أنَّه لو قال ذلك لم يكن قياسًا، إذ العلم بالعلة يوجب العلم بالمعلول فلم يتميز الأصل عن الفرع. هـ - أنَّه رتَّب حرمة (¬3) الخمر على إسكارها. و- أن الداعي إلى ترك معين قد تكون حموضته ثم (¬4) لا فرق بينه وبين (¬5) الفعل. لكن إنما لا يجب أكل كل رمانةٍ حامضةٍ, لأنه مشروط بالاشتهاء وخلو المعدة وعدم العلم (¬6) بالتضرر به. " الفرع الثاني" القياس قد يكون جليًا كقياس تحريم الضرب على تحريم التأفيف. وقيل: المنع من التأفيف منقول في العرف إلى المنع من أنواع الأذى. لنا: أن اللفظ لم يدل عليه لغةً فكذا عرفًا. إذ النقل خلاف الأصل، ولأنه يحسن من الملك المستولي على عدوه منع الجلاد من صفعه دون قتله، وإذ ليس مستفادًا من اللفظ فهو من القياس. احتجوا بوجوه: أ- تعميم المتع معلوم لمن لم يقل بالقياس وبتقدير منع الشرع من القياس. ¬
الفرع الثالث
ب- قولهم: فلان (¬1) لا يملك حبةً وقولهم: لا يملك نقيرًا ولا قطميرًا، وقولهم: فلأن مؤتمن على قنطارٍ، إنما نقله العرف إلى العموم لتسارع الفهم وأنه موجود هنا. والجواب عن: أ- أن القياس يقيني (¬2) فيه فلم يقدح فيه منع الظني. ب- إن نفي الحبة ينفي الأكثر لوجودها فيه دون الأقل، والاتمان على القنطار يفيد الاتمان فيما دونه لوجوده فيه دون ما فوقه. وإنما نقل النقير (¬3) والقطمير (¬4) للضرورة. " الفرع الثالث" (¬5) الحكم في الأصل إن كان يقينيًا لم يكن الحكم في الفرع أقوى. وإن لم يكن فقد يكون أقوى كتحريم الضرب، وقد يكون مساويًا كالمنع من البول في الكوز ثم صبه في الماء الراكد، مقيسًا على المنع من البول فيه ويسمى بالقياس في معنى (¬6) الأصل، وقد يكون أضعف كسائر الأقيسة ثم مراتب التفاوت بحسب مراتب الظنون. ¬
الفصل الثالث فيما يعرف به كون الوصف علة
" الفصل الثالث" فيما يعرف به كون الوصف علة قال نفاة القياس: تفسر العلة بالمؤثر أو الداعي أو المعرِّف أو برابع. والأول: باطل, لأن الحكم خطاب الله القديم لما سبق، فلا يؤثر فيه الحادث، ولأن استحقاق العقاب وجودي ويعلل بترك الواجب وهو عدمي. فإن قلتَ: لابد للقادر من فعل الشيء أو فعل ضده. قلتُ: نمنعه على رأي أبي الحسين وأبي هاشم ولو سلم، فالمستلزم للعقاب بالذات هو أن لا يفعل الواجب، إذ لو فرض دون فعل الضد استلزمه، وفعل الضد يستلزمه لاستلزامه إياه، ولأن العلل الشرعية تجتمع على معلول واحد كمن زنا وقتل وارتد، إذ الحكم واحد وهو وجوب القتل، ولو تعدد لم تكن إضافة البعض إلى البعض أولى من العكس فيعلل الكل بالكل، واجتماع المؤثرات على أثرٍ واحدٍ محال. ولأن وجوب القصاص يعلل بالقتل العمد العدوان، والعدوانية مفسرة بعدم الاستحقاق، فيكون العدم جزء علة الوجود، ولو جعل شرطًا للعلية دارت العلية معه. فإذا حدثت عند حدوثه افتقرت إلى سبب، ولا سبب سوى الشرط فيكون العدم سببًا للوجود. قال الغزالي (¬1): العلة مؤثرة بجعل الشارع وقد عرفت بطلانه (¬2). ¬
والثاني (¬1): باطل إذ هو ما يصير القادر لأجله فاعلًا للفعل أو الترك، وهو في حق الله تعالى محال، إذ الفاعل لغرضٍ مستكمل به، إذ الغرض ما يكون حصوله له أولى، وتلك الأولوَّية متعلقة بفعل الغرض فأمكن زوالها وذلك نقض. فإن قلتَ: هو أولى بالنسبة إلى العبد. قلتُ: فعله لغرض العبد أولى بالنسبة إليه (¬2) أولًا. ويعود الإشكال (¬3)، ولأن الغرض إما جلب نفع أو دفع ضررٍ أو ما يتوسل به إليهما، ومطلوبية الوسائل بالغرض والله تعالى قادر على تحصيلهما (¬4) ابتداءً بدون وساطة الأحكام، فلا تكون فاعليته لها لأجلهما. إذ يلزم من انتفاء العلة وما يقوم مقامها انتفاء المعلول. والثالث: باطل إذ حكم الأصل يعرف بالنص، ثم تعرف علية الوصف بعده. والرابع: لابد من بيانه. والجواب: أنا نعني بها المعرف، والوصف إنما يعرف الحكم في الفرع دون الأصل. إذا عرفت هذا فنقول ما يعرف (¬5) به عليَّة الوصف عشرة (¬6): ¬
الأول: النص
" الأول: النص" وذلك إما بالتصريح بالعلية كقوله: لعلة كذا أو من أَجل كذا، أو إدخال لفظ يفيد العلية وهو "اللام وإن والباء" قال الله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} (¬1). وقال عليه السلام: "إنها من الطوافين" (¬2). وقال تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ} (¬3) وبحصول الإِلصاق بين العلة والمعلول حسن استعمال الباء فيه. فإن قلتَ: اللام ليس للعلية لدخولها على العلة. ولقوله تعالى: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ} (¬4) وليست جهنم غرضًا (¬5)، وقال الشاعرِ: لدوا للموت وابنوا للخراب (¬6). ويقال: أصلي لله وليس ذات الله غرضًا. قلت: صرح أهل اللغة بأنها للعلية فالاستعمالات المذكورة مجازات. ¬
الثاني: الإيماء وهو أنواع
" الثاني: الإيماء" وهو أنواع: أ- تعليق الحكم بالوصف (¬1). فإن كان بالفاء فقد يدخل على الوصف المتأخر، كقوله عليه السلام: "لا تقربوه طيبًا فإنَّه يبعث (¬2) يوم القيامة ملبيًا" (¬3). وقد تدخل على الحكم المتأخر إما في كلام الشارع كقوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} (¬4). وإما في كلام الراوي كقوله: (سهى رسول الله-صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فسجد) (¬5)، والثاني أقوى الكل إذ إشعار العلة بالمعلول أقوى من العكس، والثالث أضعفه. ثم ترتب الحكم على الوصف يشعر بعليته خلافًا لقوم في غير المناسب (¬6). لنا: أ- أنَّه يقبح أن يقال: أكرم الجاهل وأهن العالم، والموجود إما نفي أمره بإكرام الجاهل، أو هو مانعيَّة الجهل منه أو مع جعل الجهل علة له. والجاهل قد يحسن إكرامه لنسبٍ أو شجاعةٍ أو غيرهما، فلم يقبح الأول ولم يوجد الثاني فتعين الثالث. وإذا ثبت في هذه الصورة فكذا في غيرها دفعًا للاشتراك عن التركيب. ب- الحكم لا بد له من (¬7) علة، إذ الفعل بدون الداعي عبث ولم يوجد غير هذا الوصف بالأصل. ¬
ب- أن يحكم على السائل بعد سماع وصف منه. كما إذا قال: أفطرت فقال: عليك الكفارة وهو يشعر بالعلية, لأنه يصلح جوابًا له فيفيد ظن عوده إليه والسؤال معاد في الجواب. فصار كقوله: أفطرت فكفِّر. وما يذكر عقيب السؤال (¬1) قد يكون جوابًا عن سؤالٍ آخر (¬2)، وقد يكون زجرًا عن السؤال كقول السيد لعبده: اشتغل بشغلك. عقيب قوله: أيدخل زيد الدار؟ لكنه نادر لا يخرم الظن فكذا القول فيما يزعمه الراوي جوابًا, لأن كون الكلام جوابًا أمر ظاهر يعرف عند المشاهدة بالضرورة. جـ- أن يُذكر في الحكم وصف لو لم يكن علةً لم يفد ذكره (¬3). كقوله عليه السلام: "إنها ليست بنجسة إنها من الطوافين" (¬4). وقوله: "ثمرة طيبة وماء طهور" (¬5) وقوله عليه السلام: "أينقصُ الرِطب إذا جفَّ؟ فقالوا: نعم، قال: فلا إذن" (¬6) وقوله عليه السلام: "أرأيت لو ¬
تمضمضت بماء" (¬1). الحديث أشعر بالتشبيه بعلية المشترك، وهو عدم حصول المطلوب. د- أن يفرق بين الشيئين في الحكم (¬2) بذكر الوصف عند (¬3) ذكر حكمهما في خطابين. كقوله عليه السلام: "القاتل لا يرث" (¬4). أو في خطاب. وقد يفرق بلفظ الشرط كقوله عليه السلام: "فإذا اختلف الجنسان" (¬5). وبالغاية كقوله تعالى: {حَتَّى يَطْهُرْنَ} (¬6). وبالاستثناء كقوله تعالى: {إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ} (¬7). أو بالاستدراك كقوله: {وَلَكِنْ} (¬8) أو باستئناف صفة للثاني مما يجوز أن يؤثر كقوله عليه السلام: "للراجل سهم وللفارس سهمان" (¬9). ودليله أنَّه لا بد للتفرقة من سببٍ ولذكر الوصف من فائدةٍ وجعل الوصف سببًا للتفرقة فائدة. ¬
الثالث: المناسبة
هـ - المنع (¬1) من فعل ما يمنع الواجب، وهو يشعر بأن علة المنع كونه مانعًا من الواجب كقوله تعالى: {فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ} (¬2). تنبيه: ظاهر الإيماء (¬3) قد يترك لمانع كما في قوله عليه السلام: "لا يقضي القاضي وهو غضبان" (¬4). فإنا لما علمنا أن الغضب اليسير لا يشوش الفكر ولا يمنع القضاء والجوع المبرح يشوش الفكر ويمنع القضاء، علمنا أنْ العلة ليست الغضب بل المشوش للفكر. لكن أطلق لفظ الغضب لإرادة التشويش إطلاقًا لاسم السبب على المسبب. " الثالث: المناسبة" عرفها من لم يعلل أحكام الله بالمصالح (بالملاءمة لأفعال العقلاء في العادات) يقال: هذه اللؤلؤة تناسب هذه، وهذه الجبة تناسب هذه العمامة، ومن يعللها يعرفها: (بجلب المنفعة ودفع المضرة). إذ المنفعة اللذة أو طريقها، والمضرة الألم أو طريقه، وتصور اللذة والألم بديهي, لأنهما من أظهر ما يجد الحي من نفسه، ويفرق بالضرورة بينهما وبين كل واحدٍ منهما وبين غيرهما، وفيه مسائل: ¬
المسألة الأولى
" المسألة الأولى" (في تقاسيم المناسب) التقسيم الأول: المناسب إما حقيقي أو إقناعي، والحقيقي إما لمصلحةٍ دنيوية أو دينية، والدنيوية إما في محل الضرورة أو الحاجة أو لا في أحدهما. والأول: حفظ النفس والمال والنسب والدين والعقل، فالنفس (¬1) حفظت بشرع القصاص، والمال بشرع الضمان والحد، والنسب بشرع الزاجر عن الزنا لئلا تختلط الأنساب فيضيع الولد، والدين حفظ بشرع الزاجر عن الردة وقتال أهل الحرب، والعقل بتحريم المسكر. والثاني: كتزويج الصغيرة لحاجة تقييد الكفء. والثالث: كالتحسينات والحث على مكارم الأخلاق، وهذا منه ما لا يعارض قاعدة معتبرة، كتحريم القاذورات ومنه ما (¬2) يعارضها كشرعية الكتابة والمصلحة الدينية كرياضة النفس وتهذيب الأخلاق. ثم كل مرتبةٍ من كل قسم قد يظهر كونها من ذلك القسم، كشرعية القصاص بالقتل بالمثقل يظهر كونها من قسم الضرورة، إذ ليس في المحدَّد (¬3) زيادة مئنة ليست في المثقل (¬4)، ومنه ما لا يظهر فيه (¬5) ذلك، كإيجاب قطع الأيدي باليد الواحدة، ويحتمل (¬6) كونه من قسم الضرورة لئلا يتخذ التعاون ذريعة لدفع القصاص، ولم يظهر كونه منه إذ الاستعانة بالغير (¬7) ¬
تتوقف على مساعدة الغير وقد لا يساعده بخلاف المنفرد (¬1). والإقناعي: ما يظن (¬2) في أول الوهلة مناسبته. ثم إذا حقق (¬3) ظهر كونه غير مناسب، كمناسبة النجاسة لحرمة البيع, لأنها مناسبة للإذلال وتجويز البيع يناسب الإعزاز وبينهما تناقض. لكن معنى النجاسة كونه لا تجوز الصلاة معه ولا مناسبة بينه وبين المنع من البيع. التقسيم (¬4) الثاني: المناسب إما أن يعلم أن الشارع اعتبره (¬5) أو ألغاه أو لا يعلم واحد منهما (¬6). والمعتبر إما نوعه أو جنسه في نوع الحكم أو جنسه. والأول: كإثبات تحريم النبيذ بالمسكر لاعتباره (¬7) في تحريم الخمر. والثاني: كإثبات تقديم الأخ من الأبوين في ولاية النكاح بالأخوة من الأبوين لاعتبارها في ولاية الميراث، والأول أظهر لقلة الاختلاف. والثالث: كإثبات سقوط قضاء الصلاة عن الحائض بالمشقة، لاعتبارها في سقوط قضاء الركعتين في السفر. والرابع: كإثبات إيجاب مثل حد القاذف على الشارب، بإتامة مظنة الشيء مقامه لاعتبار إقامة الخلوة بالمرأة مقام وطئها في الحرمة. ثم قد عرفت أقسام الحكم والوصف، ولا يخفى عليك أقسام الأقسام فكلما كان الوصف والحكم أخص كان ظن (¬8) اعتباره فيه آكدًا. ¬
المسألة الثانية
والمناسب الملغى (¬1) غير معتبر، وما لا يعلم حالة إنما يكون بحسب وصف أخص من كونه مصلحة. لأنه معلوم الاعتبار ويسمى بالمصالح المرسلة، وإذا ضربنا أقسام هذا التقسيم في أقسام التقسيم الأول يحصل أقسام كثيرة يقع (¬2) بينها التراجح. التقسيم الثالث: المناسب: إما ملائم وهو (ما وقع حكمه على وفق حكمٍ آخر). وإما غير ملائم، وعلى التقديرين فإما أن يشهد له أصل معين أو لا. والأول مقبول وفاقًا كالقتل للقصاص، فإنَّه اعتبر خصوصه في خصوصه وعمومه وهو جنس الجناية في عمومه وهو جنس العقوبة. والرابع (¬3): مردود وفاقًا، كحرمان الميراث بالقتل معارضة له بنقيض قصده لو فرض أن لا نص فيه، والثاني (¬4): كتحريم المسكر صيانةً للعقل. والثالث (¬5): كالمصالح المرسلة. " المسألة الثَّانية" المناسبة لا تبطل بالمعارضة, لأن المناسبتين إن تساوتا امتنع بطلان أحداهما بالأخرى، وإلا فلو بطلت إحداهما بالأخرى لتنافيتا، والمساوي إذا لم ينف (¬6) المساوى فالمرجوح أولى أن لا ينفي (¬7) الراجح. ¬
المسألة الثالثة
أ- أنَّه لا بد وأن يبقى (¬1) من الراجح ما لا يقابل المرجوح، فالمقدار المساوي للمرجوح من الراجح يمتنع ارتفاع أحدهما بالآخر. وأيضًا ليس ارتفاع بعض أجزاء الراجح بالمرجوح أولى من البعض. ب- أن إثبات الشرع الأحكام المختلفة، كترتيب الثواب والعقاب على الصلاة في الدار المغصوبة، لكونها صلاة وغصبًا يفيد المطلوب، إذ المصلحة والمفسدة إن تساوتا اندفعتا، فلم يحصل ذم ولا مدح وإلاَّ اندفعت المرجوحة فلم يحصل الذم أو (¬2) المدح. " المسألة الثالثة" المناسبة تفيد ظن العلية لأنه تعالى شرع الأحكام لمصالح العباد، وهذه مصلحة فيحصل ظن شرعه لها. أما الأول (¬3) فلوجوه: أ- تخصيص الواقعة بالحكم المعين بمرجح عائدٍ إلى العبد، وإلَّا لزم الترجيح بلا مرجح أو خلاف الإجماع، وليس مفسدةً ولا لا مفسدة (¬4) ولا مصلحةً بالاتفاق فهو مصلحة. ب- أنَّه تعالى حكيم، والحكيم من يفعل لمصلحةٍ إذ الفعل لا لمصلحة عبث والله تعالى ليس بعابث بالإجماع. ولقوله تعالى: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا} (¬5). وقال تعالى: {رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا} (¬6). وقوله ¬
تعالى: {مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ} (¬1). ولأن السفه نقصٌ وهو على الله تعالى محال. جـ- أنَّه خلق الآدمي مكرمًا للآية (¬2)، والسعي في تحصيل مطلوب المكرم ملائم، فيحصل ظن أنَّه لا يشرع إلَّا ما هو مصلحة له. أنَّه تعالى خلقه للعبادة للآية، والحكيم إذا أمر عبده بشيء يحصل مصلحته ليفرغ باله ويتمكن من الإِتيان به. هـ- أنَّه تعالى رؤوف رحيم، وليس شرعه ما لا مصلحة فيه للعبد رأفةً ورحمةً وتتأيد الوجوه بمثل قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} (¬3). وبقوله تعالى: {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} (¬4). وقوله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ} (¬5). وبقوله تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} (¬6). وقوله عليه السلام: "بُعثت بالحنفية السهلة السمحة" (¬7). وبقوله عليه السلام: "لا ضرر ولا إضرار في الإِسلام" (¬8). ثم المعتزلة صرحوا (¬9) بالغرض، وصرح الفقهاء بأنه تعالى شرع الحكم لكذا. ولو سمعوا لفظ الغرض لكفروا قائله، مع أنَّه ¬
لا معنى له إلا ذلك وقالوا أَيضًا: الله تعالى لا يفعل إلَّا ما فيه مصلحة العبد تفضلًا لا وجوبًا. وأما الثاني (¬1) فظاهر، وأما الثالث (¬2) فلوجهين: أ- أن غير هذه المصلحة ليس مقتضيًا لهذا الحكم, لأنه لم يكن مقتضيًا له (¬3) في الأزل وإلَّا لكان الحكم ثابتًا في الأزل، والأصل استمراره فالمقتضي هذه المصلحة. ولقائلٍ أن (¬4) يعارض هذا بمثله ودفعه سهل يعرف بالتأمل. ب- أن الملك إذا علم أنَّه لا يفعل إلا لمصلحة. ثم أعطى الفقير درهمًا وعلم مناسبة فقره، ولم يعلم جهة أخرى غلب على الظن أنَّه إنما أعطاه لفقره، فدار الظن بالعلية مع الأمور الثلاثة، والدوران يفيد ظن العلية فيحصل ظن أنَّه تعالى إنما شرع هذا الحكم لهذه المصلحة. الثاني: لبيان أن المناسبة تفيد ظن العلية، وإن لم نعلل أحكام الله تعالى بالأغراض إنَّا لما تأملنا رأينا الأحكام والمصالح متقارنتين فالعلم بأحدهما يقتضي ظن حصول الآخر، فإن تكرير الشيء مرارًا كثيرةً على وجه يقتضي ظن أنَّه متى وقع وقع علىٍ ذلك الوجه. فإن دوران الفلك وطلوع الكواكب وغروبها لما تكررت مرارًا كثيرةً على نسقٍ واحد ظننا وقوعها عليه في الغد، وكذلك في حصول الشبع عقيب الأكل والاحتراق عند مماسة النَّار. ¬
فإن قيل: لا نسلم أنه تعالى شرع الأحكام لمصالح العباد. قوله: تخصيص الواقعة بالحكم لمرجحٍ عائدٍ إلى العبد. قلنا: التخصيص إذ لم يتوقف على مرجحٍ بطل الدليل، وإن توقف وكان فعل العبد واقعًا بالله كان الله تعالى فاعلًا للكفر والمعصية فلا يجب أن يفعل ما فيه مصلحة العباد. وإن كان واقعًا بالعبد ولم يتمكن من الترك، والقدرة والداعية مخلوقتان لله تعالى وهما تستلزمان المعصية، عاد المحذور، وإن تمكن منه توقف ترجيح أحدهما على الآخر على مرجح مخلوق لله تعالى دفعًا للتسلسل، ويكون ذلك مستلزمًا للمعصية، فيعود المحذور، وتمام تقريره في مسألة تكليف ما لا يطاق. ثم ما ذكرتم معارض بوجوه تكليف ما لا يطاق (¬1) وغيرها. أ- أن فعل العبد واقع بالله تعالى، إذ لو وقع (¬2) به لعلم تفاصيله فإنَّه واقع على كيفيَّةٍ وكميةٍ مخصوصة مع جواز وقوعه على خلافها، فله مخصص (¬3) وإلا استغنى حدوث العالم (¬4) في وقتٍ معين عن (¬5) مخصص، والتخصيص هو القصد إلى إيقاعه على ذلك الوجه، فهو مشروط بالعلم بذلك الوجه واللازم منتفٍ, لأن النائم بل اليقظان يفعل من غير علم بكيفية فعله، إذ الفاعل للحركة البطيئة فاعل للسكون معها أو لغرض آخر قائم بها. ولم يشعر بشيء منهما (¬6) ولأنه مقدورٌ لله تعالى إذ مصحح المقدوريَّة الإمكان. فلو قدر عليه العبد لقدر على كل ممكن. ولكان إذا أراد إيجاده لتوارد عليه مؤثران مستقلان، أو أراد أحدهما تحريك محل والآخر تسكينه لتمانع المؤثران ويجتمع الضدان ¬
فكل كفرٍ ومعصية بفعل الله تعالى، فلم يجب أن يفعل لمصالح العباد. فإن قلتَ: الله تعالى أجرى عادته بخلق الكفر والإيمان عند اختيارهما فمنشأ المفسدة اختيار المكلف. قلت اختيار المكلف من فعله تعالى لكونه فاعلًا لكل أفعال العباد وعاد المحذور. ولقائلٍ أن يقول (¬1): إنه يشعر بذلك عند الإيجاد لكنه لا يبقى ولا نسلم أن الإمكان علَّة المقدوريَّة بل هو شرطها. ثم تعلق إرادة أحد القادرين بالمقدور مشروطة بعدم تعلق إرادة الآخر به (¬2). ب- تخصيص إيجاد العالم بوقت معين وتقدير الكواكب والسموات والأرضين بمقادير مخصوصة ليس لمصلحة العباد. فإن الزيادة والنقصان جزء لا يتجزأ لا تغير مصالحهم. جـ- خلق الكافر الفقير الذي لم يزل في المحنة إلى زمان الموت ليس لمصلحته. د- خلق الخلق وركب فيهم الشهوة والغضب حتَّى يقتل بعضهم بعضًا، مع قدرته على خلقهم ابتداء في الجنة واغنائهم بالمشتهيات الحسنة عن القبيحة. ¬
ولا يقال: إنما فعل ذلك ليعوضه (¬1) في الآخرة ويكون لطفًا لمكلفٍ آخر. لأن إعطاء ذلك ابتداءً أولى ولا يحسن إيلام حيوان لطفًا لآخر. ثم لا نسلم أنَّه يغلب على ظننا أن شرع هذا الحكم لهذه المصلحة. وأما الاستصحاب والدوران فسنتكلم (¬2) عليهما وأيضًا الدوران إنما يفيد الظن لو سلم عن المزاحم. والمزاحم أن العبد يميل بطبعه إلى جلب (¬3) المصلحة ودفع المضرة والله تعالى منزه عنه. ولأن المعتبر دفع الحاجة الخاصة، والملك يراعي النوع، والله تعالى عادته مختلفة في رعاية المصالح جنسًا ونوعًا، ولذلك قد يَحْسُنُ شيء عند الله تعالى ويقبحُ عندنا وبالعكس ولذلك تستقبح الشرائع المتقدمة. ثم ما ذكرتم معارض بوجوه: أ- حكم الشرع لو كان لدفع الحاجة لدفعَ الحاجات كلها, لأنها مشتركة في نفس الحاجة ومتمايزة بخصوصياتها. فما به يمتاز كل حاجةٍ عن غيرها لا يكون حاجةً فلا يعتبر (¬4). ب- تعليل حكم الله تعالى بالمصلحة يستلزم خلاف الأصل, لأن عبادات الشرائع المتقدمة قبيحة الآن، فذلك لشرطٍ لم يوجد أو لمانعٍ وجد، وتوقيف المقتضى على شرط وتخلف حكمه عنه لمانع (¬5) خلاف الأصل. جـ- تعليل الحكم بالحكمة لا يجوز لخفائها وعدم ضبطها, ولا بالوصف لأن التعليل بالوصف لاشتماله على الحكمة (¬6) فهي العلة (¬7). ¬
الرابع: المؤثر
والجواب عن المعارضات: أنها تنفي التكليف (¬1)، والقول بالقياس تفريع عليه، وإنما يرد الفرقان (¬2) على من يوجب تعليل (¬3) أحكام الله تعالى بالمصالح، ونحن نقول بأنه تعالى يفعل على وجه مصلحة العبد تفضلًا. وعن المعارضات الأخيرة: النقض بتعليل أفعالنا بالأغراض. " الرابع (¬4): المؤثر" وهو كون هذا الوصف مؤثرًا في جنس (¬5) الحكم دون غيره، وذلك يفيد كونه أولى بالعلية كالبلوغ فإنَّه يؤثر في رفع الحجر عن المال، فيؤثر في رفع الحجر عن النكاح دون الثيابة (¬6)، فإنَّها لا تؤثر في جنس هذا الحكم وهو رفع الحجر. وكقولهم الأخ من الأبوين مقدم في الميراث، فيقدم في النكاح واعلم أن ذلك إنما يتم بالمناسبة أو السير. " الخامس (¬7): الشبه" قال القاضي: (الوصف المناسب للحكم لذاته هو المناسب (¬8) ومستلزم المناسبة الشبه وغيرهما الطرد). وقال غيره: (للوصف إذا لم يناسب الحكم، ¬
لكن عرف بالنص. تأثير جنسه القريب في جنس الحكم القريب فهو الشبه، لأنه من حيث إنه غير مناسب يظن أنَّه لا يعتبر، ومن حيث إنه عرف تأثير المذكور دون سائر الأوصاف يظن أنَّه أولى بالاعتبار). والشافعي يسمي هذا القياس قياس غلبة (¬1) الأشباه لوقوع الفرع بين أصلين مشابهته لأحدهما أقوى. وعن الشَّافعيّ (¬2) اعتبار الشبه في الحكم، وعن ابن عُليَّة (¬3) اعتباره في الصورة (¬4). والحق أنَّه مهما حصلت المشابهة فيما يظن أنَّه علة للحكم أو مستلزم لعلته، صح القياس ثم قياس الشبه حجة خلافًا للقاضي. ¬
السادس: الدوران
لنا: أن ظن كون الوصف مستلزمًا للعلة يفيد ظن الاشتراك فى العلة عند (¬1) الاشتراك فيه. وعلى التفسير الآخر أنَّه لما ثبت أن الحكم لا بد له من علةٍ، ورأينا تأثير جنس هذا في جنس الحكم دون غيره، كان ظن إسناد الحكم إليه أقوى والظن حجةٌ للنص والمعقول المتقدمين (¬2). احتج (¬3) بأن الوصف إن كان مناسبًا فهو مقبول، وإلا هو الطرد المردود. وجوابه: أن غير المناسب ينقسم إلى الطرد والشبه، والشبه مقبول عندنا (¬4). " السادس (¬5): الدوران (¬6) " وهو: (ثبوت الحكم عند ثبوت الوصف وانتفاؤه عند انتفائه). وقد يكون ذلك في صورةٍ كدوران حرمة المعتصر من العنب مع كونه مسكرًا. وقد يكون في صورتين وهو يفيد ظن العليَّة. وقيل (¬7): يفيد اليقين. وقيل لا يفيد شيئًا. لنا (¬8): ¬
أ- أن الحكم له علة وليست غير هذا الوصف, لأنه لم يوجد قبل الحكم، وإلَّا لزم التخلف والأصل بقاؤه. فإن قيل: كما دار الحكم مع الوصف دار مع تعينه وحصوله في ذلك المحل، قلنا: التعين والحصول في المحل عدميان، وإلَّا لزم التسلسل في الأمور الوجوديَّة والعدم لا يكون علةً ولا جزؤها. أما الأول: فلأن اللاعليَّة (¬1) المحمولة على العدم عدمي، فنقيضه وهو العلية (¬2) ثبوتي فلا تكون وصفًا للعدم. وأما الثاني: فلأن العلية لا تحصل بدون هذا الجزء، ولو فرض غيره فتحصل عنده فلها علة وليست غيره، فهو علة لعليَّة العلة وعاد المحذور. ولقائلٍ أن يقول (¬3): البرهان إنما قام على بطلان تسلسل العلل ثم العلة الشرعية مفسَّرة (¬4) بالمعرِّف، والعدم يجوز كونه معرفًا وجزءًا منه. ب (¬5) - بعض الدورانات تفيد ظن العلية فإن من دعي باسم فغضب. ثم لم يُدع به فلم يغضب حتَّى تكرر ذلك حصل ظن عليَّة دعائه بذلك الاسم لغضبه وهذا الظن إنما حصل من ذلك الدوران، فإنهم لو سئلوا عنه لعللوا به فكذا كل دوران لقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ} (¬6). والعدل (¬7) التسوية. ¬
السابع: السبر والتقسيم
احتج (¬1) بوجهين: أ (¬2) - بعض الدورانات لا يفيد ظن العلية لدوران العلة مع المعلول، والحكم مع جزء العلة وشرطه واحد المعلولين أو أحد المضافين مع الآخر. والحوادث بعضها مع البعض، والعلم مع المعلوم وغير ذلك، فكذلك كل دورانٍ لما ذكرتم، ولأن الدوران من حيث هو دوران مشترك بين الدورانات فلو كان هو المفيد للظن، لحصل في الكل. ب- أن الطرد غير معتبرٍ وفاقًا. والعكس غير مفيدٍ شرعًا. فكذا المجموع المركب. والجواب عن: أ- أنا ندعي إفادة ظن العلية في دوران لم يقم عليه دليل عدم العلية فسقط ما ذكرتم. ب- أن المجموع قد يخالف الآحاد في الحكم (¬3). " السابع (¬4): السبر والتقسيم (¬5) " السير والتقسيم المنحصر يعتبر في العقليات والشرعيات وفاقًا، كقوله: علة حرمة الربا إما الطعم أو الكيل بالإجماع. والكيل ليس بعلةٍ فتعين الطعم. والمنتشر- كما إذا لم يدع الإجماع- يفيد ظن العليَّة. فإن قيل: لا نسلم الحصر وفساد ذلك القسم (¬6). ثم الطعم (¬7) قد ينقسم إلى قسمين والعلة أحدهما. ¬
الثامن: الطرد
والجواب عن: أ- أن المجتهد إذا بحث ولم يطلع على غيرهما، ثم اطلع على فساد أحدهما تعيَّن عليه العمل والمناظر تلوه. فكفاه هذا القدر على أنا نقول غيرهما لم يكن موجودًا بوصف كونه علة والأصل بقاؤه. ب- التمسك بالنقض وغيره. نعم لا يتمسك بعدم المناسبة, لأنه يحوجه إلى بيان انتفائه فيما يدعي أنَّه علةٌ، وذلك ببيان مناسبته المغني عن السبر. جـ- أنَّه منتفٍ إجماعًا. " الثامن (¬1): الطرد" الوصف الذي لا يناسب الحكم ولا يستلزم ما يناسبه إذا قارنه الحكم (¬2) في جميع الصور المغايرة لمحل النزاع وهو المسمى بالاطراد. وقيل: يكفي فيه مقارنته له في صورة. واحتجوا على التفسير الأول بإلحاق النادر بالغالب، وبأن إذا رأينا فرس القاضي على باب الأمير. ظننا كون القاضي في داره وما ذاك إلَّا للاطراد. احتج المخالف بأن الحد مع المحدود والجوهر مع العرض وذات الله تعالى مع صفاته ولا عليَّة. وجوابه: أن ذلك لا يقدح في العلية ظاهرًا: كما في الغيم الرطب. والمناسبة والدوران والإيماء، فإن (¬3) كلَّ واحدٍ منهما دليل مع التخلف فلا يقدح التخلف في كونه دليلًا. واحتجوا على التفسير الثاني: بأن العلم (¬4) بأن الحكم له علة، ¬
والعلم (¬1) بحصول هذا الوصف وعدم الشعور بغيره يفيد ظن عليته، لأنه لو لم يحصل ظن عليته لما أسند (¬2) إلى علةٍ وهو باطل (¬3) أو أسند إلى غيره، وأنه يقتضي الشعور بغيره (¬4). ولقائل أن يقول (¬5): الإسناد إلى الغير (¬6) يقتضي الشعور به جملة، والمقدر عدم الشعور به تفصيلاً (¬7)، بل دليله ما سبق مِراراً. خرج بهذا قولهم: مائع لا يبنى القنطرة على مثله، فلا تزال النجاسة به كالدهن وأمثاله، إذ ثم حصل الشعور بوصف آخر أولى بالاعتبار وهو كون الدهن لزجاً. احتج المخالف: بأن تعينِ هذا الوصف للعلية دون غيره، قول بالتشهي فيبطل لقوله تعالى: {وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ} (¬8). وجوابه: أن ما ذكرنا لما أفاد ظن العليَّة لم يكن قولاً بالتشهي. تنبيه: المتمسك بمثله لا يلزمه نفي سائر الأوصاف، إذ نفي المعارض ليس على المستدل، ولو أبدى المعترض وصفاً آخر قاصراً ترجح جانب المستدل بالأمر بالقياس. وإن كان متعدياً إلى الفرع لم يضره، لجواز اجتماع المعرفين على معرف واحد (¬9). وإن كان متعدياً إلى فرع آخر فعلى المعلل الترجيح. ¬
التاسع: تنقيح المناط
" التاسع (¬1): تنقيح المناط" وهو (إلغاء الفارق) (¬2) وتسميه الحنفية (بالاستدلال) وإيراده من وجهين: أ - الحكم له علة وهو إما المشترك أو المختص، والثاني باطل فتعين الأول. ب - الحكم له محل وهو المفطر، فذلك إما المفطر بالوقاع أو المشترك بينه وبين المفطر بالأكل، والأول باطل فتعين الثاني وهو ضعيف، إذ لا يلزم من عموم المحل عموم الحكم إذ يصدق قولنا: (الرجل طويل) لصدق قولنا: (هذا الرجل طويل) ولا يصدق قولنا: (كل رجل طويل). " خاتمة" أبعد من قال هذا الوصف علة لعجز الخصم عن إفساده، لأنه ليس أولى من جعل العجز عن التصحيح دليلاً على الفساد، بل هذا أولى إذ لا يلزم منه إثبات ما لا نهاية له. وكذا من قال: هذا عبور من حكم الأصل إلى حكم الفرع. فاندرج تحت قوله تعالى: {فَاعْتَبِرُوا} وتسوية بينهما فاندرج تحت قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ} (¬3). لإجماع السلف على تخصيصهما لاعتبارهم الدلالة على تعيين (¬4) الوصف وعليته وللخصم منع الإجماع. ¬
الفصل الرابع فيما يعرف به عدم علية الوصف
" الفصل الرابع (¬1) " فيما يُعْرَفُ به عدم علية الوصف (¬2) الأول: النقض وهو (تخلف الحكم عن الوصف). " وفيه مسائل" "المسألة الأولى" النقض يقدح في العلية. وقال الأكثرون: لا يقدح إذا ثبتت عليته بالنص. وقيل: لا يقدح وإن ثبتت بالمناسبة. لكن إذا تخلف لمانع، والتخلف لا لمانع يقدح عند الأكثرين. وقيل: لا. لنا وجوه: أ - العلة لا يتوقف اقتضاؤها على عدم المعارض، وإلا فالحاصل جزؤها فهي مقتضية مطلقاً. فإن قيل: ما يتوقف عليه اقتضاء العلة للحكم قد لا يكون جزءاً. أما في الموجب فإن الثقل (¬3) يوجب الهَوْي بشرط عدم المانع، وأما في ¬
القادر فإن تأثيره في الفعل (¬1) يتوقف على عدم تأثير قادر آخر. وأما في الداعي فلأن من أعطى فقيراً درهماً لفقره فقيل: أعط هذا الفقير الآخر فقال: لا لأنه يهودي صح فتوقف الإعطاء على عدم كونه يهودياً، ولم يخطر بباله، وأما في المعرف فلأن العام حجة، وعدم المخصص ليس جزءاً من العلة (¬2) وإلَّا لوجب ذكره في المناظرة. ب - عدم المعارض معتبر في اقتضاء العلة للحكم، فلم يبق الخلاف إلَّا في تسميته جزء العلة أو شرطها (¬3). والجواب عن: أ - أنا نستدل في غير المعرف بحصول ذلك العدم على حدوث أمر وجودي به تمت العلة، ففي المعرف يجعل العدم جزءاً منه، وعدم وجوب ذكره في المناظرة بالاصطلاح. ب - بأنا إن فسرنا العلة بالموجب أو الداعي جعلنا عدم المعارض (¬4) كاشفاً عن وجود ما به تتم العلة، وإن فسرناها بالمعرِّف جوَّزنا كون العدم جزءاً لكنا نوجب البحث عن مناسبة ذلك العدم، والخصم لا يقول بهما (¬5). ولقائلٍ أن يقول (¬6): ما الدليل على أن الحاصل قبل المعارض لا يكون تمام العلة؟. أ - أن بَيْنَ اقتضاء العلة بالفعل ومنع المانع بالفعل منافاة. وشرط أحد الضدين عدم الآخر، فشرط كون المانع مانعاً (¬7) أن لا تكون العلة ¬
مقتضية، فلو كان عدم كونها مقتضية لكون المانع مانعاً، لزم الدور فعدم اقتضاء الشيء لذاته وما يكون كذلك لا يصلح للعلية وفاقاً. ولقائلٍ أن يقول (¬1): إن عنيت بالشرط معنى يقتضي تقدمه على المشروط. فليس شرط أحد المتنافيين انتفاء الآخر، وإلَّا كان كل واحدٍ من النقيضين مشروطاً بنفيه ضرورةً. إذ انتفاء كل واحدٍ منهما عين (¬2) ثبوت الآخر، وإن عنيت بالشرط ما ينعدم المشروط عند عدمه لم يلزم الدور. ب- أن الوصف الحاصل في الفرع حصل مع الحكم في الأصل ومع عدمه في موضع النقض، والثاني يقتضي القطع بعدم العلية، فلو كان إلحاقه بأحدهما أولى لكان إلحاقه بالثاني أولى، واذا تعارضا فالأصل عدم العلية، والأصل في المناسبة مع الاقتران، وإن كان هو العليَّة لكن الأصل في العلة ترتب الحكم عليها. فإن قيل: لو عمل بأصلكم ترك أصلنا من كل وجهٍ ولا ينعكس. فأصلنا أولى بالعمل، ولأن أصلكم يعارضه أن الأصل استناد انتفاء الحكم إلى المانع الموجود في صورة النقض للمناسبة والاقتران دون عدم المقتضى. قلنا: إذن لا نسلم أن المناسبة مع الاقتران دليل العليَّة بل هو مع الاطراد. ولا نسلم إمكان استناد انتفاء الحكم إلى ذلك المانع فإن المتقدم (¬3) لا يضاف إلى المتأخر. فإن قيل: يجوز تعريف المتقدم بالمتأخر، ثم المانع علة المنع من ¬
الدخول في الوجود بعد كونه بعرضيته وأنه لم يتقدم. قلنا: لو أريد بالعلة المعرَّف لم يمنع إسناد انتفاء الحكم إليه من إسناده إلى عدم المقتضي. والمانع لا يؤثر في إعدام شيء لاستدعائه سبق الوجود بل في العدم السابق. احتجوا (¬1) بوجوه: أ- القياس على العام المخصوص (¬2). ب- المذكور أولًا (¬3) في بيان كون هذا العام حجة. ب- الإِنسان إنما يلبس الثوبَ مثلًا لدفع البرد. ثم يترك هذا المقتضى عند الخوف من الظلم دون الأمن، وإذا حَسُنَ عرفاً حَسُنَ شرعاً للحديث (¬4). د (¬5) - المناسب المخصوص يفيد ظن الحكم فإنا إذا علمنا كون الإِنسان مشرقاً مطلوب البقاء ظننا حرمة قتله، وإن لم يخطر ببالنا عدم الجناية. ثم عدم الجناية ليس جزءاً من المقتضى لهذا الظن. فالمقتضى هو الأول فيحصل الظن حيث حصل. هـ- العلة الشرعية أمارة. وتخلف الحكم عن الأمارة لا يخل بها كما في الغيم الرطب. و- بعض الصحابة قال بتخصيص العلة. عن ابن مسعود: أنه كان يقول: (هذا حكم معدول به عن القياس). وعن ابن عباس مثله ولم ينقل إنكار أحدٍ فكان إجماعاً. ¬
والجواب عن: أ - منع الجامع. ثم الفرق أن عدم المخصص يجوز أن يكون جزءاً من دليل الحكم، وعدم المعارض لا يجوز كونه جزءاً للعلة. وإن جوَّزنا ذلك بتفسيرنا للعلة بالمعرَّف نشترط كون ذلك العدم مناسباً، فيجب ذكره ليعرف مناسبته بخلاف عدم المخصص. ب - أن العلة إن فُسَّرت بالموجب أو الداعي كانت مقتضية للحكم لذاتها، فلم تختلف باختلاف المحال. ج، د - أنا ندعي انعطاف قيد على العلة من الفرق بين الأصل وصورة النقض، وما ذكرتم لا ينفيه. هـ - أن الأمارة إنما تفيد ظن الحكم، إذا غلب على الظن انتفاء ما يلازمه انتفاء الحكم. وذلك لا ينفي قولنا. و- أنهم لم يقولوا التمسك بهذا القياس جائز أم لا. " فرعان" (¬1) الأول من جوز تخصيص العلة قال: التخلف لا لمانع لا يفسدها إذ الاستلزام الظاهر لا ينتفي به. والحق أنه يفسدها، لأن ذات العلة إذا كانت مستلزمة للحكم بقيت كذلك، إلى أن يوجد مزيل وهو المانع. الثاني قيل: لا يجب ذكر نفي المانع إذ المؤثر (¬2) هو الوصف فقط ولا يطالب ¬
المسألة الثانية
المستدل إلاَّ بذكر المؤثر. وقيل: يجب إذ المعرف الوصف مع عدم المانع، ترك هذا الدليل في نفي كل مانعٍ للمشقة. فبقيَ (¬1) في المانع المتفق عليه. " المسألة الثانية" "في دفع النقض" وهو بمنع الوصف في صورة النقض أو منع عدم (¬2) الحكم فيها. أما الأول: فإذا منع المعترض وجوده فيها فليس له إقامة الدليل عليه، لأنه انتقالٌ إلى مسألةٍ أخرى. فلئن قال دليلك على وِجوده في الفرع يقتضي وجوده فيها. فهذا لو صحَّ كان نقضاً على دليل الوصف وانتقالاً إلى سؤالٍ آخر، ثم منع وجوده فيها بوجود قيدٍ في الوصف معناه واحد ظاهر أو خفي أو متعدد بالتواطؤ والاشتراك. والأول كقولنا: طهارةُ حدثٍ فتفتقر إلى النية كالتيمم ونقضه بإزالة النجاسة (¬3). والثاني كقولنا: في السلم عَقد معاوضةٍ فيجوز حالاً كالبيع ونقضه بالكتابة. والثالث: كقولنا في الصوم عبادة متكررة فتفتقر إلى تعيين النية كالصلاة ونقضه بالحج، فإنه متكرر بالأشخاص دون الأزمان والمراد الثاني. والرابع كقولنا: جمع الثلاث في قرءٍ واحدٍ فلم يحرم كما لو خلل الرجعة بينهما. ونقضه بالجمع في الحيض ودفعه أن المراد هو الطهر ويجوز دفع النقض ¬
المسالة الثالثة
بالقيد الطردي (¬1) عند الطاردين وبعض المانعينٍ أيضاً جوزه وهو باطل، لأن جزء العلة إذا لم يؤثر لم يكن المجموع مؤثراً، ولأن تجويزه يجوَّز التقييد بنعيق الغراب وأمثاله. وأما الثاني: فانتفاء الحكم إن كان مذهب الخصمين أو المستدل توجه النقض وإلَّا فلا. ثم منع عدم الحكم قد يكون خفياً كقولنا: عقد (¬2) معاوضة فلا نشترط فيه الأجل ونقضه بالإجارة ودفعه بأن الأجل ليس بشرط بل تعيين المعقود عليه، وكقولنا عقد معاوضة فلا يبطل بالموت كالبيع ونقضه بالنكاح، ودفعه بأن النكاح لا يبطل بالموت بل ينتهي به. ثم إثبات الحكم إن كان في صورةٍ معينة فهو الإِثبات المفصَّل، وإلَّا فالمجمل ونفيه عن كل صورةٍ (¬3) صورةٍ نفي مجملٍ وعن بعضها مفصَّلٍ. وأنت تعرف أن أي الأربعة يناقض أيها. " فرع" الحكم التقديري هل يدفع النقض كما إذا قال: ملكُ الأم علةٌ لرقِ الولدِ. ثم نقض بولد المغرور (¬4) فأجاب بأن ملك الولد حاصل تقديراً بدليل وجوب الغرم. " المسالة الثالثة" (¬5) ورود النقض على سبيل الاستثناء لا يُفسد العلة المعلومة، كعلمنا أن البريء عن الجناية لا يؤخذ بضمانها مع انتقاضه بوجوب الدية على العاقلة ولا المظنونة كالتعليل بالطعم ونقضه بمسألة العرايا. لأنه لما ورد على كل ¬
المسألة الرابعة
مذهب كان مجامعاً لما هو علة (¬1) ثم في وجوب (¬2) الاحتراز عنه لفظاً (¬3) خلاف. " المسألة الرابعة" الكسر (¬4) نقض المعنى كما يقال في صلاة الخوف صلاة يجب قضاؤها فيجب أداؤها كصلاة الأمن. فيظن أن لا تأثير للصلاة فينتقض بصوم الحائض (¬5). فإذا لم يبين إلغاء القيد الذي به احترز عن النقض لم يرد هذا (¬6) النقض على الباقي. " الثاني" (¬7) عدم التأثير (¬8) وهو تخلف الوصف عن الحكم ابتداً ودواماً يفسد (¬9) العلة إن فسرناها بالمؤثر، إذ المستغنى عنه لا يكون علةً. وإن فَسَّرناها بالمعرَّف فلا. ¬
الثالث القلب
والعكس (¬1) وهو وجود الحكم لعلةٍ أخرى، لا يفسدها وهو قول (¬2) المعتزلة، خلافاً لأصحابنا في العلل العقلية (¬3). لنا: أن المخالفة من لوازم المتخالفين، ويدل عليه في الشرعيات ما نبين من جواز تعليل الأحكام المتساوية بالعلل المختلفة. " الثالث" (¬4) القلب وهو تعليق نقيض الحكم المذكور بالوصف المذكور بالرد إلى الأصل المذكور، وإنما اعتبر هذا (¬5) لأنه لو رد إلى أصل آخر فحكم ذلك الآخر إن وجد في المذكور (¬6) فالرد إليه أولى، إذ لا يمكن للمعترض (¬7) منع الوصف ¬
فيه وإلَّا كان نقضاً (¬1) على الوصف. وإنما يمكن (¬2) القلب عند اشتمال الأصل على حكمين امتنع اجتماعهما في الفرع، ليلزم من رد كل واحدٍ منهما إلى الأصل انتفاء الآخر عن الفرع، وفيما تكون مناسبته لأحد الحكمين إقناعية لامتناع مناسبته (¬3) للمتنافيين. وإنما يفارق المعارضة في عدم إمكان الزيادة وعدم إمكان منع وجود العلة في الفرع، فيبطل بما تبطل به المعارضة حتى بالقلب إذا لم يناقض الحكم. وقد يثبت القالب بالقلب مذهبه، كقول الحنفي في أن الصوم شرط لصحة الاعتكاف لبث مخصوص، فاعتبرت العبادة في كونه قربةً، كالوقوف (¬4) فيقول القالب فلا يعتبر فيه الصوم كالوقوف. وقد يبطل به مذهب الخصم صريحاً، كقوله في المسح ركن من الوضوء فلا يكفي أقل ما يقع عليه الاسم كالوجه. فيقول القالب فلا يتقدر بالربع كالوجه وتنافي هذين الحكمين في الفرع لاتفاق الإمامين. وقد يبطله ضمناً بأن يبطل لازماً له، كقوله في بيع الغائب عقد معاوضة فينعقد مع الجهل بالعوض كالنكاح، فيقول القالب فلا يثبت فيه خيار الرؤية كالنكاح، ويلزم من فساد خيار الرؤية فساد البيع. وقيل: هذا لا يقبل، لأن دلالته بواسطة ودلالة الأصل بغير واسطة. ومن القلب نوع يسمى قلب التسوية كقوله في طلاق المكره. مكلف مالك للطلاق فيقع طلاقه كالمختار، فيقول القالب فيستوي إيقاعه وإقراره كالمختار. وقدح فيه بأن الثابت في الأصل اعتبارهما (¬5)، والمثبت في الفرع ¬
الرابع القول: بالموجب
عدم اعتبارهما، وجوابه أن عدم الاختلاف حاصل فيهما وهو المراد بالاستواء. " الرابع" (¬1) القول: بالموجب وهو: (تسليم موجب العلة مع بقاء الخلاف). وذلك في النفي (¬2) ببيان كون (¬3) اللازم عدم موجبية الشيء المعين للحكم، فيسلمه ويمنع الحكم ولو بَيَّنَ الحكم بعده كان منقطعاً لأنه ظهر أنه ما ذكر الدليل. وفي الإِثبات (¬4) بأن كون اللازم العام والنزاع في الخاص. " الخامس" الفرق (¬5) وهو فرع امتناع تعليل الحكم الواحد بعلتين. ¬
المسألة الأولى
" المسألة الأولى" (¬1) يجوز تعليل الحكم الواحد بعلتين منصوصتين خلافاً لبعضهم. لنا: أن حل الدم حكم واحد. وكل واحد من الردة والقتل من حيث هو رِدَّة وقتل علةً له وفاقاً. فإذا اجتمعا دفعةً واحدةً علل بهما. وإنما قلنا إنه حكم (¬2) واحد، لأن إبطال حياة الواحد واحد. والإذن في الواحد واحد بالضرورة والزائل بالإسلام استناده إلى الردة، وبالعفو استناده إلى القتل. فإن قيل: ما ذكرتم يفضي إلى نقض العلة، فإنه إذا وجد أحدهما وجد (¬3) الحكم، فإذا وجد الثاني لم يوجد ذلك الحكم ولا مثله فحصل النقض. وإلى اجتماع مؤثرين على أثرٍ واحدٍ، إذ العلة ما يجعله الشارع مؤثراً في الحكم وإلى مناسبة الشيء الواحد لمختلفين، إذ العلة يجب مناسبتها للحكم. والجواب عن (¬4): أ- أن العلة عندنا مفسرة بالمعرًّف، ولا امتناع في مثل هذا النقض في المعرف. ب - جعل ما ليس بمؤثر مؤثراً ممتنع. ب- أن الواحد قد يناسب المختلفين بجهة مشتركة بينهما. واعلم أنه يسقط كثير من هذه الأسئلة بفرض الكلام فيما إذا جمعت ¬
المسألة الثانية
لبن زوجة أخيك ولبن أختك (¬1)، وأوجرت المرتضعة دفعةً فإنها تحرم عليك لأنك خالها وعمها. " المسألة الثانية" لا يجوز تعليل الحكم الواحد بعلتين مستنبطتين. لأن قولنا: أعطاه لفقره ينافي أن يكون الداعي له إلى الإِعطاء (¬2) فقهه أو مجموعهما. ثم إن تساوت الاحتمالات امتنع الظن، وإن ترجح البعض كان ذلك لا للمناسبة والاقتران لاشتراك الكل فيه، فيكون الراجح هو العلة (¬3)، ولأن بعض (¬4) الصحابة قبل الفرق. شافه (¬5) عمرٌ عبد الرحمن في قصة المجهضة، فقال إنك مؤدب ولا أرى عليك شيئاً. فقال علي رضي الله عنه: إن لم يجتهد فقد غشك وإن اجتهد فقد أخطأ، أرى عليك غرة (¬6) شبهه عبدالرحمن بالتأديب (¬7)، وفرق علي رضي الله عنه بأن التأديب التعزيري لا يجوز المبالغة فيه (¬8) إلى حد الإتلاف ولم ينكر أحدٌ فكان إجماعاً. ¬
الفصل الخامس فيما يظن أنه يفسد العلة
" الفصل الخامس" (¬1) فيما يظن أنه يفسد (¬2) العلة ولنقدم تقاسيم العلل التقسيم الأول (¬3): علة الحكم محله أو جزء من ماهيته أو أمر خارجٌ عنه عقلي أو شرعي أو عرفي أو لغوي. والعقلي إما حقيقي كقولنا: مطعوم أو إضافي كقولنا: مكيل. أو سلبي كقولنا: لم يرض الطلاق أو حقيقي وإضافي، كقولنا: بيع صدر من الأهل في المحل أو حقيقي وسلبي كقولنا: قتل بغير حقٍ أو إضافي وسلبي أو حقيقي وإضافي وسلبي، كقولنا: قتل عمدٍ عدوان. والشرعي كقولنا: يجوز بيعه. والعرفي كقولنا: بيع مشتمل على جهالة مجتنبة عرفاً، واللغوي كقولنا: مسمى بالخمر فيحرم. والتعليل بجزء المحل في العلة القاصرة بالمختص، وفي العلة المتعدية بالمشترك. التقسيم الثاني: الحكم وعلته وجوديان أو عدميان (¬4) أو مختلفان فيهما. ¬
المسألة الأولى
التقسيم الثالث: العلة إما فعل المكلف كالقتل، أو لا كالبكارة (¬1). التقسيم الرابع: الوصف المجعول علةً إما لازم للموصوف ككون البر مطعوماً، أو عارض ضرورة بحسب العادة كانقلاب العصير خمراً، أو باختيار أهل العرف ككون البر مكيلاً أو باختيار الواحد كالقتل. التقسيم الخامس: العلة إما ذاتُ (¬2) أوصافٍ كقولنا: قَتْلُ عمدٍ عدوان أو لا كقولنا مطعوم. التقسيم السادس: العلة إما وجه المصلحة ككون الصلاة ناهية عن الفحشاء أو أمارتها كجهالة المبيع، فإن فساد البيع بالحقيقة معلل بتعذر التسليم (¬3). التقسيم السابع: الوصف قد يعلم وجوده ضرورة ككون الخمر مسكراً. أو نظراً (¬4) يعلم بالضرورة كونه من الدين ككون الوقاع في نهار (¬5) رمضان يفسد الصوم، وقد لا يكون كذلك. " المسألة الأولى" اختلفوا في جواز التعليل بمحل الحكم، والحق جوازه في العلة القاصرة إذ لا يبعد قول الشارع حرمت الربا في البر لكونه براً. أو تعرف مناسبته لها. ولا يجوز في المتعدية، لأن خصوص مورد النص يمتنع وجوده في غيره. فإن قيل: أ- لو كان محل الحكم علة له لكان الشيء الواحد فاعلاً وقابلاً، وهما ¬
المسألة الثانية
مفهومان متغايران. فإن كانا أو أحدهما داخلين فيه كان مركباً، وكان ملحوق الفاعلية غير ملحوق القابلية، ولأن الفاعلية والقابلية (¬1) نسبة بين الماهية وغيرها، والنسبة خارجية وإن كانا خارجين عنه كانا معلولين له ويعود الكلام. ب - أن نسبة القابلية بالإمكان ونسبة الفاعلية بالوجوب، والنسبة الواحدة لا تكون بهما معاً. قلنا: بينا في الكتب العقلية (¬2) أنهما مغالطتان. " المسألة الثانية" الوصف الحقيقي إن كان مضبوطاً جاز التعليل به (¬3). وإن لم يكن كذلك كالحاجة إلى تحصيل المصلحة ودفع المفسدة، وهو الذي تسميه الفقهاء بالحكمة ويجوز التعليل به (¬4) خلافاً لقوم. لنا: أن ظن كون الحكمة علةً وظن حصولها في الفرع يوجبان ظن الحكم فيه، وحصولهما ممكن بالمناسبة، فإنا نستدل (¬5) على كون الوصف علةً باشتماله على المصلحة لا مطلق المصلحة، والاَّ فكل وصفٍ (¬6) مشتمل على المصلحة علة لهذا الحكم بل مصلحة معينة، والاستدلال بالشيء يتوقف على العلم به. فإن قيل: هذا معارض بوجوه: أ- لو جاز التعليل بالحكمة (¬7) لما جاز بالوصف. إذ عليه (¬8) الوصف ¬
لاشتماله على الحكمة فهي الأصل في العليَّة. والعدول عن الأصل مع إمكانه تكثير للغلط. إذ القادح في الأصل قادح في الفرع من غير عكس. ب (¬1) - لو وجب طلب الحكمة لتوقف القياس على وجدان العلة الموقوف على الطلب وكون الأمر بالشيء أمراً بما هو من ضرورياته. ولا يجب طلبها لعسر الاطلاع (¬2) على الحاجات ومقاديرها وقد قال تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} (¬3). جـ - استقراء الشريعة يدل على تعليل الأحكام بالأوصاف دون الحكم، وذلك يفيد ظاهراً امتناعه. د- النافي (¬4) للقياس قائم، ترك العمل به في الوصف لظهوره. والجواب عن: أ - أن الحكمة وإن ترجحت لأصالتها، فالوصف ترجح لظهوره. ب- أن عليَّة الحكمة لعلة الوصف إن اقتضت وجوب طلبها ثبت التالي (¬5)، وإلاَّ بطلت الشرطية. جـ - أن التعليل بالحكمة كثير في الشرع، كالتوسط في الحد بين المهلك وغيره (¬6)، والفرق بين العمل القليل والكثير. د- أن الحكمة أصل في عليَّة الوصف، فالتعليل بها أولى، وهذا يصلح دليلًا في المسألة. تنبيه: من المعللين بالحكمة من إذا قيل له التفاوت بين الحاجات ¬
المسألة الثالثة
غالب، فلم قلتم: إن الموجود في الأصل موجود في الفرع؟ أجاب بأنا نعلل بالقدر المشترك بينهما. فإذا نقض ذلك بحاجة غير معتبرة في ذلك الحكم قال: لا نسلم وجود القدر المشترك في تلك الصورة، وهذا ضعيف إذ الأصل والفرع قد لا يشتركان إلَّا في مسمى الحاجة وحينئذٍ يلزم النقص. ولقائلٍ أن يضعف هذا التضعيف بأن هذا وإن كان جائزاً لكنه غير لازمٍ (¬1). " المسألة الثالثة" يجوز التعليل بالعدم خلافاً لبعض الفقهاء. لنا: أن الدوران قد يفيد ظن عليته. احتجوا بوجوه: أ - العلة ثبوتية لما تقدم فلا تقوم بالعدم (¬2). ب - العلية (¬3) نسبة والنسبة ثبوتية. ج - العلة متميزة عن غيرها (¬4)، والمتميز يختص في نفسه بما ليس في غيره ولا يعقل ذلك في العدم (¬5). د - يجب على المجتهد سبْر كل ما يمكن كونه علةً، ولا يجب عليه سبر (¬6) الإعدام لعدم نهايتها. ¬
المسألة الرابعة
هـ - العدم ليس من سعي الِإنسان فلا يترتب عليه حكم لقوله تعالى: {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} (¬1). والامتناع وإن ترتب عليه حكم لكنه فعل يترتب عليه العدم. والجواب عن: أ، ب - المعارضة بأنهما لو كانتا ثبوتيتين لزم التسلسل. جـ - أن العدم قد يتميز عن غيره، فإن عدم اللازم يقتضي عدم الملزوم ولا ينعكس. د - أن (¬2) الأوصاف العدمية متناهية، ثم لا نسلم المقدمة الأولى. هـ- أنا قد نكلف بالامتناع، ولو كْان فعلاً لكان الممتنع عن الفعل فاعلًا. " فرع" من يمنع التعليل بالعدم له أن يمنع التعليل بالوصف الإضافي، محتجاً بأنه مركب من الإِضافة والخصوصية، وهما عدميتان دفعاً للتسلسل فهو عدمي (¬3). " المسألة الرابعة" يجوز تعليل الحكم الشرعي بالحكم الشرعي (¬4) خلافاً لبعضهم. لنا: ماسبق (¬5). ¬
المسألة الخامسة
احتجوا بوجوه: أ - أن الحكم المجعول علةً إن تقدم على الآخر أو تأخر عنه لم يكن علةً وإن قارنه فكذلك (¬1). إذ النادر من التقديرات الثلاث يلحق بالغالب. ب - أن الحكم لا يكون علةً بمعنى الداعي والمؤثر وفاقاً (¬2)، ولا بمعنى المعرف إذ معرف حكم الأصل النص. جـ - شرط العلة تقدمها على المعلول وهو مجهول هنا (¬3). د- أن عليَّة أحدهما للآخر ليس أولى من العكس. والجواب: أنا لما فسرنا العلة بالمعرف سقط ما ذكرتم (¬4)، وربما يحتاج فيه إلى الاستعانة (¬5) ببعض ما تقدم. " فرع" إن جاز ذلك، فهل يجوز تعليل الحكم الحقيقي بالشرعي كما نقول في الشعر يحرم بالطلاق ويحل بالنكاح فيكون حياً؟ والحق جوازه، لأنا فسرنا العلة بالمعرَّف. " المسألة الخامسة" يجوز التعليل بالوصف العرفي كالشرف والخسة، والكمال والنقص بشرط كونه مضبوطاً مطرداً، ليعلم حصوله في زمان النبي عليه السلام. ¬
المسألة السادسة
" المسألة السادسة" يجوز التعليل بالوصف المركب خلافاً لقومٍ. لنا: ماسبق (¬1). احتجوا بوجوه: أ - أنه يفضي إلى نقض العلة العقلية، لأن عدم كل واحدٍ من أجزاء العلة المركبة علة لعدم عليتها، لامتناع عليتها بعد عدمها، فإذا عُدم جزء ثم عُدم آخر حصل النقض. فإن قلتَ: هذا ينفي الماهية المركبة. قلتُ الماهية مجموع الأجزاء فلم يكن عدم أحد الأجزاء علةً لشيء (¬2)، والعلية أمر زائد (¬3) عدمها معلل بعدم الأجزاء. ب - أن العلية إن قامت بكل جزءٍ لزم كون كل جزءٍ علةً، وقيام الواحد بمحال كثيرة، وإن قام بكل جزء جزء انقسمت العلية فيكون لها نصف وثلث. جـ - أن كلَّ واحدٍ من الأجزاء ليس علةً عند الانفراد، فإن لم يحدث عند الاجتماع زائد لم يكن علة. وإن حدث عاد الكلام في المقتضي له وتسلسل. والجواب عن: أ- أنه بناءً على كون العدم علةً وهو ممنوع. ب - أن العليَّة ليست صفةً ثبوتية، دفعاً للتسلسل فلا يصح التقسيم المذكور. ولقائلٍ أن يقول (¬4): في هذين الجوابين نظرٌ نبه عليه قبل. ¬
جـ (¬1) - النقض بحصول الماهية المركبة. " فرعان" الأول: عن بعضهم (¬2) أنه لا يجوز أن تزيد الأوصاف على سبعة ولا وجه له. الثاني: في الفرق بين جزء العلة ومحلها (¬3)، وشرط ذات العلة وشرط عليتها. قيل: الشرط: (ما يلزم من عدمه عدم الحكم ولا يكون جزءاً لعلة) وقيل: (ما يلزم من عدمه مفسدة دافعة لوجود الحكم)، ثم المثبتون للطرد والمنكرون لتخصيص العلة أنكروا الفرق، لأن العلة الشرعية هي المعرفة والمعرَّف للحكم مجموع القيود فكل واحدٍ جزء المعرف، نعم: قد يكون جزء أقوى من جزء. فإن القتل أقوى من كونه (¬4) مضافاً إلى القاتل والمقتول، ولا فائدة لهذا البحث إلا إضافة الفعل إلى من صدر منه العلة دون الشرط، وأنها حاصلة وإن سمينا الكل بالجزء، وبإضافة الفعل إلى من صدر منه الجزء الأقوى. ومن فرَّق قال: إن عُرفت العلية بالنص، فالعلة ما دل النص على كونه ¬
المسألة السابعة
مناطاً وما عرف اعتباره بمنفصل شرط. وإن عرفت بالمناسبة فالقدر المناسب هو العلة، وما يحتاج إليه في تحقيق المناسبة ولا يكون كافياً فيها جزء العلة، والباقي هو الشرط. " المسألة السابعة" لا يجوز التعليل بالاسم، كتعليل تحريم الخمر (¬1) بأن العرب تسميه بالخمر لأنا نعلم ضرورة أنه لا تأثير لهذا. نعم لو عني به التعليل بالمسمى من كونه مخامراً للعقل كان تعليلاً بالوصف. " المسألة الثامنة" جوز الشافعي- رحمه الله - التعليل بالعلة القاصرة، وهو قول أكثر المتكلمين خلافاً للحنفية (¬2) في العلة المستنبطة. لنا: أن صحة التعدية موقوفة على صحتها، فلو توقفت صحتها على صحة التعدية لزم الدور. فإن قيل: لا يلزم من عدم توقف صحتها على صحة (¬3) التعدية صحتها بدون صحة التعدية، لجواز توقف صحتها على وجودها في الفرع. ثم معارض بوجوه: أ - فائدة التعليل التوسل إلى معرفة الحكم والقاصرة لا تعرف حكم الأصل، لأنه معرف بالنص ولا حكم غيره لعدم وجودها فيه وما لا فائدة فيه عبث. ¬
ب (¬1) - الدليل ينفي القول بالعلة المظنونة. تُركَ في المتعدية للفائدة المذكورة. جـ - العلة كاشفة عن شيء، لأنها أمارة والقاصرة لا تكشف عن شيء. والجواب عن: أ - أن الموجود في غير الأصل لا يكون عين الموجود فيه بل مثله. وكل ما له من الصفات بتقدير وجود (¬2) مثله في غير الأصل ممكن له بتقدير عدم مثله في غير الأصل، لأن حكم الشيء حكم مثله فيكون علةً حينئذٍ إذ عليتها باعتبار تلك الصفات. ولقائلٍ أن يقول (¬3): لا نسلم أن عليتها باعتبار تلك الصفات بل بها وبوجودها في غيَر الأصل، فإن لم تعتبر هذا عُدتَ إلى أول المسألة. ب (¬4) - أن نفس العلم بالعلية ومعرفة مطابقة الحكم للحكمة فائدة إذ قبول النفس للحكم المطابق للحكمة أكثر. ثم القاصرة تفيد معرفة عدم الحكم في غير الأصل، لأنها تفيد امتناع القياس إن وجدت في الأصل علة متعدية لمعارضتها إياها. ولو لم يجز التعليل بها بقيت المتعدية سالمةً عن المعارضة. ثم لم لا يجوز أن تكون مؤثرة في الحكم، وإن ¬
المسألة التاسعة
لم ينتفع بها الطالب، ثم يجوز أن لا يعلم أنها قاصرة لا فائدة فيها (¬1) إلَّا بعد الوقوف عليها والتعليل بها، ثم إنه منقوض بالمنصوصة. والجواب عن الباقيين (¬2) يعرف مما تقدم هنا وقبل. " فرع" قالت الحنفية: الحكم في مورد النص ثابت لا بالعلة، لأن الحكم معلوم فلا يثبت بالمظنون وجوَّزه أصحابنا. والخلاف لفظي لأنا نعني بالعلة أمراً مناسباً، يغلب على الظن أن الشرع أثبت الحكم لأجله ولا سبيل إلى إنكاره أصلاً. " المسألة التاسعة" لا يجوز التعليل بالصفات المقدرة خلافاً لبعض فقهاء العصر كقولهم: الملك الحادث يستدعي سبباً حادثاً وذلك قوله: (بعت واشتريت). وهذان اللفظان لا وجود لهما لتركبهما من الحروف المتوالية، لكن الشرع قدر وجودهما لوجوب وجود السبب عند وجود المسبب، وربما يذكر التقدير في جانب الأثر فيقال: الدين مقدر في ذمة المديون وهذا ركيك، لأن الوجوب إما مفسر بتعليق خطاب الشرع كما هو مذهبنا، أو يكون الفعل متصفاً بصفةٍ لأجلها يستحق الذم تاركه. والأول لا حاجة به إلى سبب محدث، إذ القديم لا يحتاج إليه ولا الثاني، إذ المؤثر في الحكم جهة المصلحة أو المفسدة. وأيضاً التقدير يجب كونه على وفق الواقع، وتلك الحروف لو وجدت دفعةً لم ¬
المسألة العاشرة
يكن كلاماً ولا معنى لتقدير المال في الذمة، بل معنى الدين في الذمة تمكين الشارع للدائن من المطالبة حالاً أو استقبالاً. ولقائلٍ أن يقول (¬1): لما فسرت الوجوب بتعلق الخطاب، وقد اعترفتَ في أول الكتاب بحدوثه افتقر إلى سبب حادث. وكون الحكمة مؤثرة في الحكم لا ينافي كون الوصف مؤثراً لما تقدم، وكون التقدير- على وفق الواقع ليس معناه أن المقدر يعطي حكمه لو كان موجوداً، بل معناه أنه يعطى حكم (¬2) مؤثرٍ موجود. " المسألة العاشرة" أ - العلة قد تقتضي أحكاماً كثيرةً إما متماثلة. وإنما يمكن ذلك في ذاتين (¬3) لامتناع اجتماع المثلين، كالقتل الصادر من شخصين فإنه يوجب القصاص عليهما. وإما مختلفة غير متضادة، كاقتضاء الحيض تحريم الإِحرام والصوم والصلاة. وإما متضادة، وإنما يمكن ذلك إذا توقف اقتضاؤها لها على شروط متضادة بحسب الأحكام لامتناع اجتماع الضدين. ب - شرط العلة اختصاصها بمن له الحكم، وقد يتوقف اقتضاؤها على شرط كالزنا لا يوجب الرجم إلَّا بشرط الإِحصان، وقد لا يكون، وقد تثبت ¬
المسألة الحادية عشرة
الحكم ابتدءً كالعدة في منع النكاح. وقد تثبته (¬1) ابتداءً ودواماً كالرضاع في إبطال النكاح، وقد تقوى على الدفع دون الرفع كالعدة ترفع النكاح ولا ترفعه وقد تقوى عليهما. " المسألة الحادية عشرة" قد يستدل بذات العلة كقوله: قتل عمدٍ عدوان فيوجب القصاص وهو صحيح، وقد يستدل بعليتها كقوله: (القتل العمد العدوان سبب لوجوب القصاص، وقد وجد فيجب القصاص وهو فاسد، لأن العليةَ أمر إضافي يتوقف ثبوتها على ثبوت المضافين فيتوقف على ثبوت الحكم فإثبات الحكم بها دور). ولقائلٍ أن يقول (¬2): صدق قولنا القتل سبب لوجوب القصاص لا يتوقف على وجود القتل ولا على وجوب (¬3) القصاص. سلمنا لكن لما فُسَرَت العلة بالمعرف انقطع الدور. " المسألة الثانية عشرة" تعليل الحكم العدمي بالوجودي، وهذا الذي يسمى (تعليل بالمانع) لا يتوقف على وجود المقتضي وإن جوزنا تخصيص العلة، لأن المناسبة أو ¬
الدوران إذا وجد في الأمر الوجودي عند عدم المقتضي أفاد ظن عليته. ولأن المقتضي معارض والمعارض لا يقوى بل يضعف (¬1). احتجوا بوجوه: أ- المعلل بالمانع ليس العدم المستمر، لما عرفت ولأنه ليس حكم الشرع لحصوله قبله بل المتجدد، وهو الامتناع من الحصول بعد أن صار بعرضيته، وذلك يستدعي قيام المقتضي. ب- إسناد انتفاء الحكم إلى انتفاء المقتضي أظهر عند العقل منه إلى المانع، فإن ترجح ظن انتفاءه على ظن وجود المانع أو ساواه لم يعلل بالمانع، فإذا علل به كان ظن انتفاء المقتضي مرجوحا، فكان ظن وجوده راجحاً. جـ - التعليل بالمانع يتوقف في العرف على وجود المقتضي. فإن قولنا: (الطير لا يطير لأن القفص يمنعه) إنما يصح إذا علم كون الطير حياً قادراً، فكذا في الشرع لقوله عليه السلام: "ما رآه المسلمون حسناً" (¬2) الحديث. د - عدم المقتضي يقتضي عدم الحكم، فلا يسند إلى المانع عند عدم المقتضي، لأن تحصيل الحاصل محال بل عند وجوده. والجواب عن: أ - أن المتأخر قد يعرف المتقدم ونعني بكون العدم حكم الشرع أنه لا يعرف إلاَّ منه. ب - أن نفس ظن المانع كافٍ في التعليل بدون الأقسام الثلاثة. ب (¬3) - منع التوقف في العرف وإن ظن كون السبع في الطريق كافٍ في أن لا يحضر زيد، وإن لم يخطر ببالنا سلامة أعضائه ونجعل هذا دليلاً ابتداءً ونتمسك بالحديث المذكور. د - أنه يجوز توارد المعرفات على معرفٍ واحد. ¬
فرع: إن قلنا: يتوقف (¬1) عليه لم يجب بيان وجوده، بل يكفي أن نقول إن لم يوجد المقتضي في الفرع انتفى الحكم عنه. وإن وجد كان ذلك لمصلحة كذا وأنها موجودة في الأصل، فيكون عدم الحكم فيه معللاً بالمانع. قيل (¬2): وجود الوصف المقتضي للحكم في الأصل يجب أن يكون متفقاً عليه، وهو ضعيف لأنه إذا ثبت وجوده ولو بدليل كفى. ¬
الفصل السادس في البحث عن الحكم والأصل والفرع
" الفصل السادس" (¬1) في البحث عن الحكم والأصل والفرع القسم الأول الحكم " المسألة الأولى" أكثر المتكلمين على صحة القياس في العقليات ومنه قياس الغائب على الشاهد. وقالوا لابد من جامعٍ وهو إمَّا العلة، كقولنا: العلم شاهداً علة العالمية فكذا غائباً، أو الحد كقولنا: حد العَالِمُ شاهداً من له العلم أو الشرط كقولنا: العلم شرطه الحياة شاهداً. أو الدليل كقولنا الأحكام شاهداً دليل العلم. والجمع بالعلة أقوى فيقول فيه إنه متى علم أن حكم الأصل معلل بعلة، وعلم وجودها بتمامها في الفرع أي مستجمعة لما لا بد منه في المؤثرية (¬2)، حصل علمٌ بثبوت ذلك الحكم فيه، لأنها لَمَّا حصلت (¬3) أثرت في الحكم في الأصل، فلو لم تؤثر في الفرع لزم الترجيح من غير مرجحٍ، ولا معنى لكون القياس العقلي حجةً إلَّا ذلك. نعم تحصيل العلمين (¬4) صعب، فإنه لا بد من امتياز ما في الأصل عما في الفرع، فلعل ما به الامتياز جزء (¬5) العلة أو شرطها أو مانع من الحكم. ¬
المسألة الثانية
ولهم في تعين العلة طرق: أ- التقسيم المنتشر ويستدلون على نفي قسم آخر بعدم الوجدان بعد الطلب الشديد، كالمبصر إذا نظر بالنهار في جميع جوانب الدار فلم يبصر شيئاً، فإنه يجزم بعدمه وهو ضعيف إذ ربَّ موجودٍ لم يجده. والقياس على المبصر لو كان له جامع إثبات القياس بالقياس. ب - الدوران: أما الخارجي فلا يفيد العلم وأما الذهني كقولنا: متى عرفنا كون الخطاب أمراً بالمحال عرفنا قبحه، ومتى لم يعرف كونه أمراً بالمحال لم يعرف قبحه .. وذلك يفيد الجزم بالعلية فضعيف لأنهم مطالبون بالبرهان على المقدمتين، ولم نر المتكلمين فعلوه. ثم إنه منقوض بأنا متى عرفنا كون هذا أباً لذلك عرفنا كون ذلك إبناً لهذا وبالعكس ومتى لا فلا. مع أن أحدهما ليس علةً للآخر لأن المضافين معاً. وأيضاً لا نسلم أنا متى لم نعرف كونه أمراً بالمحال لم نعرف قبحه فلعل له صفة أخرى لو عرفناها لعرفنا قبحه. واعلم أن هذا (¬1) الكلام مأخوذ من الفلاسفة، فإنهم يقولون العلم بالعلة علة للعلم بالمعلول، ولا يلزم العلم بالمعلول إلَّا من العلم بعلته وقد بُيِّنَ ضعفهما في الكتب العقلية. " المسألة الثانية" يجوز القياس في اللغات وهو قول ابن سريج، ونقل (¬2) ابن جني في كتابه الخصائص (¬3) أنه قول أكثر علماء العربية كالمازني (¬4) وأبي علي ¬
الفارسي (¬1)، خلافاً لأكثر أصحابنا وجمهور الحنفية. لنا: أن دوران تسمية المعتصر من العنب بالخمر مع الشدة المطربة تفيد ظن عليتها لها. فالعلم بوجودها في النبيذ يفيد ظن كونه مسمى بالخمر (¬2)، وأنه يفيد ظن اندراجه تحت ما يحرم الخمر. فإن قيل: لا مناسبة بين الاسم والمسمى، فامتنع (¬3) كونه داعياً إلى الوضع ثم ما يجعل العبدُ علة لا يترتب عليه الحكم أينما وجد فلعل الواضع هو العبد. والجواب (¬4) عن: أ - أن العلة هي (¬5) المعرف. ب - أن اللغات توقيفية. ¬
ولقائلٍ أن يقول (¬1): أنت اخترت التوقف فبطل هذا الجواب. ب - ما اعتمد عليه المازني والفارسي، وهو اتفاق أهل اللغة أن كل فاعلٍ رفع وكل مفعول نصب إلَّا لمانع. وإنما عرف ذلك لأنهم رفعوا بعض الفاعلين واستمروا عليه فعرف أن كونه فاعلاً علة لارتفاعه. جـ - اتفقوا على أن ما لم يسم فاعله إنما ارتفع لشبهه بالفاعل في إسناد الحكم إليه، وأجمعوا على تعليل الأحكام الاعرابية بالتشبيهات وإجماع أهل اللغة فيها حجة. د - آية الاعتبار. احتجوا (¬2) بوجوه: أ - اللغات بأسرها توقيفية فامتنع فيها (¬3) القياس. ب - أهل اللغة لو أمروا بالقياس لم يجز القياس (¬4) لما بيَّنا ولم ينقل ذلك (¬5) عنهم. ب - ما بينا من عدم المناسبة وتوقف القياس عليها. د - سموا الفرس الأسود أدهم والأبيض أشهب دون الحمار والقارورة إنما سميت بهذا الاسم، لاستقرار الشيء فيها ولم يسم الحوض به. والجواب عن: أ - أن التوقف لا يمنع القياس. ب - أنه ثبت بالتواتر إجماعهم على جواز القياس، حتى ملؤوا الكتب بالقياسات وأجمعت الأمة على وجوب الأخذ بتلك الأقيسة. ¬
المسألة الثالثة
ب - ما سبق (¬1). د - أن عدم إِجراء القياس في بعض الصور لا يمنع جواز القياس كالقياس الشرعي. " المسألة الثالثة" المشهور منع القياس في الأسباب، لأنه يوجب تعليل موجبية الأصل بالمشترك فيكون هو الموجب للحكم فلا حاجة إِلى الواسطة. " المسالة الرابعة" المطلوب بالقياس إِما النفي الأصلي أو الثبوت المعلوم أو المظنون. والأول اختلفوا في إِمكان القياس فيه. والحق أنه يمكن فيه قياس الدلالة. وهو الاستدلال بعدم الخواص واللوازم دون قياس العلة إذ السابق لا يعلل باللاحق. ويقال (¬2) عليه بأن ذلك لا يمتنع (¬3) في المعرف (¬4). وكذا في الثاني (¬5) ولا ينبغي أن يكون الخلاف في الجواز الشرعي، إِذ عِلمنا بأن هذا علة الحكم في الأصل وبوجوده في الفرع يستلزم العلم بحصول الحكم فيه. بل في إمكان تحصيل العلم بهما في الأحكام الشرعية والثالث يجوز فيه القياس. ¬
المسألة الخامسة
" المسألة الخامسة" يجوز اثبات أصول العبادات بالقياس خلافاً للجبائي والكرخي. لنا: النص (¬1) والمعقول المتقدمان. وبنى الكرخي عليه أنه لا يجوز اثبات الِإيماء في الصلاة بالقياس، ويمكن حمل الخلاف على أنه يجب فيه اليقين ببيان الشرع والنقل المتواتر إلينا. وعلى أنه وإن كفى فيه الظن لكن لا يجوز فيه القياس. والأول منقوض (¬2) بالوتر. فإن قلتَ: إذا جاز هذا جاز وجوب صوم شوال مع أنه لم ينقل إلينا. قلتُ: المعتمد في نفيه الِإجماع. والثاني (¬3) محكم إذ لا مانع من جواز القياس فيما يكفي فيه الظن. " المسألة السادسة" يجوز اثبات التقديرات والحدود والكفارات والرخص بالقياس خلافاً للحنفية (¬4). وحاصل الخلاف أنه هل في الشريعة جملة من المسائل لا يجري القياس فيها. لنا: ماسبق (¬5). فإن ادعوا امتناع الوقوف فيها على العلة، فذلك إنما يظهر إذا بحث ¬
عن مسألةٍ مسألة، فإذا وجد فيها العلة صح القياس وإلَّا فلا. لكن كل مسألةٍ بهذه المثابة. والشافعي ذكر مناقضتهم في هذا الباب فإنهم قاسوا في الحدود وتعدوا إلى الاستحسان. فأوجبوا الرجم بشهود الزوايا بالاستحسان (¬1) مع مخالفته للعقل، وقاسوا الإفطار بالأكل على الإفطار بالوقاع (¬2). وقتل الصيد ناسياً على قتله عامداً مع تقييد النص بالعمد. فإن قلتَ: إنما أثبتنا بالاستدلال: قلت: فالاستدلال قياس إذ يجب فيه أن يقال حكم الأصل إمَّا ليس بمعلل أو معلل بالفارق أو المشترك. والأولان باطلان وهذا هو القياس واستخراج العلة بالتقسيم. وأثبتوا تقديرات الدلو والبئر بالقياس وقاسوا في الرخص حتى انتهوا في الاستنجاء إلى نفي استعمال الأحجار، وحكموا بذلك في كل النجاسات. وقاسوا العاصي بسفره على المطيع (¬3) مع أن القياس ينفي الرخصة إذ الرخصة إعانة والمعصية لا تناسبها. احتجوا في الحدود بقوله عليه السلام: "ادرؤوا الحدود بالشبهات" (¬4)، ¬
المسألة السابعة
والقياس لا يفيد القطع فتحصل الشبهة، وفي المقدرتان بأن العقول لا تهتدي إليها وفي الرخص بأنها منح من الله تعالى فلا يعدل بها عن مواضعها. وفي الكفارات بأنها خلاف الأصل لاشتمالها على الضرر. والجواب عن الكل النقض بما تقدم (¬1) وتخصيص القياس عنه بالقياس على تخصيص خبر الواحد عنه. " المسألة السابعة" قال الشيخ أبو اسحاق الشيرازي (¬2): ما طريقه العادة والخلقة كقدر الحيض لا يجوز إثباته بالقياس، لأن أسبابها لا معلومة ولا مظنونة. " المسألة الثامنة" ما لا يتعلق به عمل كقِران النبي - صلى الله عليه وسلم - وإفراده ودخوله مكة صلحاً أو عنوة لا يجوز إثباته بالقياس، إذ المطلوب العلم لا العمل. " المسألة التاسعة" القياس اذا خالف النص المتواتر رد إن نسخه، وإن خصه ففيه خلاف تقدم (¬3) وإن خالف الآحاد فقد سبق ذكر حاله (¬4). " المسألة العاشرة" التعبد بالنص في كل الشرع ممكن بالتنصيص على كليات يدخل (¬5) فيها الجزئيات، وبالقياس لا لأنه يستدير ثبوت الحكم في الأصل. والعقل ¬
القسم الثاني الأصل
إنما يدل على البراءة الأصلية، فالأصل الذي لا يوافق حكمه حكمه (¬1) لو أثبت حكمه (¬2) بالقياس لزم الدور. " القسم الثاني" الأصل حكم الأصل إن كان على وفق قياس الأصول يجب فيه أمور: أ - ثبوت الحكم في الأصل. ب - معرفته بطريق شرعي، وعلَّلَ من يثبت الحكم بالعقل بأنه لو كان عقلياً لكان معرفة حكم الفرع عقلية، فكان القياس عقلياً وهو ضعيف إذ طريق معرفة عليَّة الوصف وحصوله في الفرع قد يكون سمعياً، والمبني على السمعي سمعي. جـ - أن لا يكون ذلك الطريق قياساً، لأنه إنما يتوصل إلى حكم الأصل القريب بالعلة الموجودة في البعيد. فإن وجدت في الفرع أمكن رده إليه فلغى توسط القريب، وإلاَّ امتنع تعليل الحكم في القريب بالموجودة في الفرع، لكونه معللًا بالموجودة في البعيد. د - أن لا يكون ذلك بعينه دليلاً على حكم الفرع (¬3). هـ - أن يظهر كون حكم الأصل معللاً بوصف معين. و- أن لا يكون حكم الأصل متأخراً عن حكم الفرع. هكذا قيل وهو حق إن لم يكن للفرع دليل إلَّا القياس. وإلَّا لزم ثبوت الحكم بلا دليل وإن كان له دليل آخر، جاز لجواز توارد الأدلة على مدلولٍ واحد، وإن كان حكم الأصل على خلاف قياس الأصول. فقوم من الحنفية والشافعية جوزوا القياس عليه مطلقاً، ولم يجوز ¬
الكرخي الَّا إذا كانت العلة منصوصة، أو اجتمعت الأمة على تعليل حكم الأصل أو يكون القياس عليه موافقاً للقياس على أصولٍ أخرى. والحق أن دليل ما ورد بخلاف قياس الأصول إن كان مقطوعاً به جاز القياس عليه كالقياس على غيره، ثم يرجح المجتهد أحد القياسين ويؤيده أن العموم لا يمنع من قياس يخصصه، فالقياس عليه أولى بعدم المنع. فإن قيل: الخبر يخرج من القياس ما ورد فيه فيبقى الباقي. قلنا: إذا عُرف علة إخراجه خرج ما يشاركه وليس شبهه لأصل أولى من شبهه لآخر إلَّا لمنفصل، وإن كان دليله غير مقطوع به، فإن لم تكن علته منصوصة ترجح القياس على الأصول إذ طريق حكمها معلوم. وإن كانت منصوصة استويا إذ العلم بطريق الحكم يعارضه العلم بطريق العلة. " خاتمة" زعم عثمان البتي (¬1) أنه لا يقاس على أصل، حتى يقوم دليل على جواز القياس عليه، وزعم المريسي (¬2): أن شرط الأصل (¬3) النص على عين العلة أو الإجماع على كون حكمه معللاً. وقيل: لا يجوز القياس على العدد المحصور. كقوله عليه السلام: ¬
القسم الثالث الفرع
"خمس من الفواسق (¬1) تقتل في الحل (¬2) والحرم" (¬3). إذ التخصيص بالذكر ينفي الحكم عما عداه. ولأن القياس عليه يبطل الحصر. وجوابه: النقض بالأشياء الستة المذكورة في الربا، ويدل على عدم اشتراط هذه الأمور النص والمعقول (¬4) المذكوران (¬5) واستعمال الصحابة القياس بدونها. " القسم الثالث" الفرع وشرطه أن يوجد فيه علة (¬6) مثل علة حكم الأصل في الماهية والقدر، ولا يشترط العلم بوجوده فيه تمسكاً بأدلة القياس، خلافاً لقوم، ويؤيدها وجوب القضاء على القاضي بالشهادة في الحدود. وقال أبو هاشم: يجب ثبوت الحكم في الفرع جملةً، حتى يفصله القياس ولولا شرعية ميراث الجد ما قيس توريثه مع الإخوة وأدلة القياس تنفيه. وقيل: لو كان حكم الفرع منصوصاً عليه لم يستعمل فيه القياس بقصة معاذ، ولأن النافي للعمل بالظن قائم. ترك حيث لا نص للضرورة والأكثرون جوزوه لجواز توارد (¬7) الأدلة على مدلولٍ واحد. وقصة معاذ (¬8) لا تنفي الجواز عند النص. ¬
والثاني (¬1) تقدم جوابه. ولقائل أن يقول (¬2): قصة معاذ تنفي ذلك، لأن جواز القياس فيها تعلق بعدم وجدان النص بكلمة "إن" والمعلق بالشرط بكلمة "إن" عدم عند عدمه. " خاتمة" المشهور في زماننا بقياس التلازم يمكن استعماله بوجهٍ آخر، وهو أنه لو ثبت الحكم في الفرع فإن عُلل بالوصف المشترك بينه وبين الأصل، لزم نقض العلة لعدم الحكم في الأصل، وإن لم يعلل به لزم الترك بالمناسبة مع الاقتران. ¬
الكلام في التعادل والترجيح
" الكَلامُ في التعَادل وَالترجيح" وفيه فصول " الفصل الأول" في التعادل (¬1) ¬
المسألة الأولى
" المسألة الأولى" منع الكرخي من تعادل الأمارتين وجوزه غيره. وحكمه عند القاضي أبي بكر وأبي علي وأبي هاشم التخيير. وعند بعض الفقهاء التساقط. والحق أنه في الحكمين المتنافيين في فعلٍ واحد جائز عقلاً (¬1). كعدلين يخبر أحدهما عن وجود شيء، والأخر عن عدمه غير واقع في الشرع، لأن العمل بهما وتركهما ممتنع. والعمل (¬2) بأحدهما عيناً ترجيح بلا مرجح، وغير عينٍ تخيير بين أمارتين: الإباحة والحرمة، وأنه إذن في الفعل والترك، وأنه إباحة وترجيح لأمارتها عيناً. فإن قيل: التخيير بين أمارتين إباحة في حال الأخذ بأمارتها وتحريم في حال الأخذ بأمارته كركعتي المسافر فإنهما فرض إن أتم وغيره إن قَصَر. ثم ما ذكرتم لا يتناول أمارتي الوجوب والتحريم. ثم لم لا يجوز وضع ما لا يمكن العمل به. فإن قلتَ: لأنه عبث. قلتُ: لعل فيه حكمةٌ لا تعلم وأيضاً لتعادل الذهني جائز فكذا الخارجي. والجواب عن: أ - أن الأمارتين تناولتا فعلًا واحداً من وجهٍ واحدٍ، فالحجر ترجيِح لأمارة الحرمة عيناً ورفعه ترجيح لأمارة الإباحة عيناً. وأيضاً إن عنيت بالأخذ ¬
اعتقاد الرجحان فهو باطل وإن عنيت به العزم على الإتيان (¬1) فإن كان ذلك جازماً وجب الفعل ولا إذن ولا منع، وإلَّا جاز الرجوع (¬2) عنه فسقط ما ذكرتم. ب - أنه لا قائل بالفرق وأيضاً إثبات الإباحة عند تعارض أمارتي الوجوب والحظر إسقاط لهما، وإثبات حكمٍ بلا دليل يدل عليه. جـ - أن المقصود من نصب الأمارة التوسل إلى الحكم. والعبث فعل ما يمتنع حصول المقصود منه. والتعادل الذهني لقصورنا لا يوجب امتناع التوسل إلى المقصود. أما تعادل الأمارتين في الفعلين المتنافيين والحكم واحد جائز. فإن من ملك مائتين من الإبل مخير، فإن أخرج خمس بنات لبون عمل بقوله عليه السلام: "في كل أربعين بنت لبون" (¬3). وإن أخرج أربع حقاق عمل بقوله عليه السلام: "في كل خمسين حقة". وليس أحدهما أولى من الآخر. ومثله تخير المصلي داخل الكعبة. والولي إذا وجد لبناً يسد رمق أحد الطفلين ولو قسم عليهما ماتا. ولأن إيجاب الفعلين المتنافيين يقتضي إيجابهما على البدل. فإن قيل: التخيير إسقاط لأمارتين. قلنا: لا نسلم إذ المنع من الترك موقوف على عدم الدليل على قيام العزم (¬4) مقام الواجب. " فرع" هذا التعادل إن حصل للمجتهد تخير في نفسه، وإن استفْتِيَ خيَّر، وإن استحكم عَيَّنَ ليقطع الخصومة. وإذا حكم بإحدى الأمارتين مرةً لم يمتنع ¬
المسألة الثانية
عقلاً أن يحكم بالأخرى أخرى، كمن يجوز لمن استوى عنده جهتا القبلة أن يصلي (¬1) مرةً إلى جهةٍ وأخرى إلى أخرى، لكن قوله عليه السلام لأبي بكرة (¬2): "لا تقض في شيءٍ واحدٍ بحكمين مختلفين" (¬3) يمنع منه. وقول عمر في مسألة الحمَارية: (ذلك على ما قضينا وهذا على ما نقضي) (¬4). يجوز أن يكون قضى (¬5) أولاً بأمارة ظنها راجحةً ثم ظن رجحان الثانية. " المسألة الثانية" إذا نقل عن المجتهد قولان في كتابين. فإن علم التاريخ كان الثاني رجوعاً عن الأول ظاهراً، وإلَّا وجب نقل القولين دون الترجيح. وإن كان في كتاب واحد في موضع واحدٍ فإن ذكر ما يدل على رجحان أحدهما كتفريعهً عليه أو قوله هذا أولىً أو أشبه فهو قوله، وإن أطلق فقيل: مقتضاه التخيير وهو باطل لما بيَّنا، ولأنه يكون له فيه قول واحد وهو التخيير. بل الحق أنه يدل على توقفه ولا قول للمتوقف. وأكثر قول الشافعي من القسم الأول والثاني. قال الشيخ أبو حامد ¬
الاسفرائيني لم يصح عن الشافعي قولان على الوجه الثالث إلا في سبعَ عشرةَ مسألة، والأول يدل على رجحان علمه لدلالته على اشتغاله أبداً بالبحث والطلب. وعلى رجحان دينه لدلالته على طلب الحق والرجوع إليه وترك التعصب لمذهبه. والقسم (¬1) الثالث: يحتمل أن يكون القولان لغيره وإنما ذكر (¬2) ليعرف الناظر أنه محل الاجتهاد، ويحتمل أن يكون مراده بالقولين احتمالهما كما يقال للخمر في الدن يسكر، وإنما يقول ذلك حيث ظهر بطلان غيرهما ولم يترجح أحدهما .. أو رأى المسألة واقعةً بين أصلين لم يترجح اشتباههما بأحدهما. وهذا يدل على غزارة فضله فإن من كان أدق نظراً وأكثر تحقيقاً كانت الإشكالات عنده أتم. إذ المصر على وجهٍ واحدٍ مدى عمره لا يكون إلا جامد الطبع قليل الفطنة وعلى كمال دينه، لأنه اعترف بالعجم حيث عجز ولم يشتغل بالترجيح والمداهنة. "فرع" إذا لم يعرف للمجتهد في المسألة قول وعرف قوله في نظيرها، فإن كان بينهما فرق يجوز أن يذهب إليه ذاهب لم يكن قوله فيها قوله في الأخرى، وإلا فالظاهر أن قوله فيها قوله في الأخرى. ¬
الفصل الثاني في مقدمات الترجيح
" الفصل الثاني" في مقدمات الترجيح " المقدمة الأولى" الترجيح تقوية طريق على آخر ليعلم الأقوى فيعمل به ويطرح الآخر. والأكثرون على أنَّه يجوز التمسك به. وقيل: عند التعارض يجب التخيير أو التوقف. لنا وجوه: أ - قدمت الصحابة خبر عائشة: "في التقاء الختانين" (¬1). على قول من روى: "الماء من الماء" (¬2)، وخبر من روى من أزواجه: "أنَّه كان يصبح جنبًا" (¬3)، على خبر أبي هريرة، "من أصبح جنبًا فلا صوم له"، وقوَّى علي خبر أبي بكر حيث لم يحلفه وحلف غيره، وقوَّى أبو بكرٍ خبر المغيرة (¬4) في ميراث الجدة لموافقته لمحمد بن مسلمة (¬5)، وقوَّى عمر خبر أبي موسى في الاستئذان (¬6) لموافقته خبر أبي سعيد الخدري. ¬
المقدمة الثانية
ب - أن ترجيح الراجح من الظنيين متعين عرفًا فكذا شرعًا للحديث (¬1). ج - أن ترك العمل بالراجح يستلزم العمل بالمرجوح وأنه ممتنع عقلًا. احتجوا: أ - بأنه لو جاز هنا لجاز ترجيحًا للأظهر على الظاهر وأنه موجود في البينات. ب - قوله تعالى: {فَاعْتَبِرُواْ} وقوله عليه السلام: "نحن نحكم بالظاهر" (¬2)، يلغي زيادة الظن. والجواب: الدليل الظني لا يعارض القطعي. " المقدمة الثانية" الترجيح لا يجري في الأدلة اليقينية لاستحالة تعارض المفيدين لليقين، ولأن اليقين لا يقبل التقوية لأن احتمال النقيض (¬3) ينفي اليقين وعدمه ينفي التقوية. ولقائل أن يقول (¬4): الثاني فيه نظر فقد يكون أحد اليقينين راجحًا. " المقدمة الثالثة" المشهور أن العقليات لا يجري الترجيح فيها. والحق أنا إن جوَّزنا للعوام التقليد فيها لم يمتنع ذلك. ¬
المقدمة الرابعة
" المقدمة الرابعة" جوَّز الشافعي الترجيح بكثرة الأدلة خلافًا لبعضهم. لنا وجهان: الأول: أن الظن بقول الأكثر أقوى لوجوه: أ - التواتر يفيد العلم فالعدد الأقرب إليه أقوى إفادة للظن. ب - قول كل واحدٍ منهم يفيد قدرًا من الظن، فعند الاجتماع يفيد الزيادة لئلا يجتمع على الأثر الواحد مؤثران مستقلان. ج - الغلط والنسيان (¬1) وتعمد الكذب على الأكثر أبعد. د - احتراز العاقل عن كذب يعرفه غيره أكثر. هـ - المجموع أعظم من كل واحدٍ منهما فهو أعظم من ذلك الواحد. و- الصحابة رجحت بقول الأكثر لما سبق (¬2)، والأقوى يجب العمل به كالترجيح بالقوة، ولا أثر لاجتماع المزيد مع المزيد عليه في محلٍ واحد بالضرورة. الثاني: مخالفة الدليل محذور والزائد لا معارض له فلا يجوز مخالفته. احتجوا بوجوه: أ - قوله عليه السلام: "نحن نحكم بالظاهر" (¬3). فإن إيماءه (¬4) يلغي الزيادة، وترك العمل به في الترجيح بالقوة لاجتماع المزيد مع المزيد عليه وإفادته قوة الظن. ¬
المقدمة الخامسة
ب - القياس على الفتوى والشهادة. ج - الخبر الواحد مقدم على القياسات (¬1). والجواب عن: أ - أن (¬2) اجتماعهما يفيد قوة الظن، فإن قول الواحد يفيد قدرًا من الظن، والثاني (¬3) يفيد قدرًا آخر وهكذا حتَّى يحصل العلم. ب - أن حكم الأصل ممنوع عندنا في الفتوى وعند مالك (¬4) فيهما. ونحن (¬5) إنما لم نعتبر الزيادة في الشهادة قطعًا للخصومات. ج - أن أصول القياسات إن اختلفت رجحناها على الخبر الواحد، وإن اتحدت فإنما لم ترجح لأن الكل في الحقيقة قياس واحد. إذ تعليل الحكم الواحد بعلتين مستنبطتين لا يجوز. " المقدمة الخامسة" إذا تعارض دليلان فالعمل بهما من وجه أولى، إذ دلالة الدليل على بعض مدلوله تابعة لدلالته على كله وترك التبع (¬6) أولى من ترك الأصل. ثم العمل بهما من وجه بالتوزيع أو بإثبات بعض الأحكام دون البعض، أو بإعادة أحدهما إلى شيء والآخر إلى غيره، كإعادة قوله عليه السلام: "ألا أخبركم بخير الشهداء". قيل: بلى يا رسول الله. فقال "أن يشهد الرجل قبل أن يستشهد" (¬7). إلى حقوق الله تعالى، وإعادة قوله عليه السلام: "ثم يفشو الكذب حتَّى يشهد الرجل قبل أن يستشهد" (¬8). إلى حقوق الآدميين. ¬
المقدمة السادسة
" المقدمة السادسة" إذا تعارض دليلان عامان أو خاصان فإن كانا معلومين وعلم التاريخ قدم المتأخر إن قبل المتقدم النسخ، وإلَّا تساقطا ويرجع إلى غيرهما، والشافعي (¬1) وإن لم يقل بوقوع (¬2) نسخ الخبر المتواتر بالكتاب ولا بالعكس، ولكنه يقول (¬3) لو تعارضا وأحدهما متقدم نسخه (¬4) المتأخر وتعيَّن التخيير (¬5) في المتقارنين إن أمكن. ولا يترجح بالقوة إذ لا ترجيح (¬6) في المعلوم، ولا بكون حكم أحدهما شرعيًّا أو حظرًا إذ لا يجوز إسقاط المعلوم، وإن لم يعلم التاريخ رجع إلى غيرهما لاحتمال نسخ كل واحدٍ بدلًا عن الآخر. وإن كانا مظنونين فحكمهما ما سبق إلَّا في الترجيح. وإن كان أحدهما معلومًا فقط، فإن علم تراخي المعلوم نسخ المظنون وإلا ترجح المعلوم. وإذا تعارض عامان من وجهٍ دون وجهٍ كقوله تعالى: {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ} (¬7). مع قوله تعالى: {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانِكُمْ} (¬8). وكقوله عليه ¬
السلام: "فليصلها إذا ذكرها (¬1) مع نهيه عن الصلاة في الأوقات المكروهة" (¬2) فإن عُلِمَ تقدم أحدهما وليس المتقدم (¬3) معلومًا والمتأخر مظنونًا نسخ المتأخر المتقدم عند من يقول بأن العام المتأخر (¬4) ينسخ الخاص المتقدم (¬5) بل ههنا أولى لأنه (¬6) لا يتخلص الخصوص. وإن كان المتقدم معلومًا دون المتأخر فلا ينسخ ورجع إلى الترجيح، وأما من لا يقول بهذا فيليق بمذهبه عدم النسخ في هذه الأقسام والرجوع إلى الترجيح، إذ لا يتخلص عموم المتقدم ليخرج عنه المتأخر شيئًا. وإن لم يُعلم تقدم أحدهما لم يترجح أحد المعلومين بقوة الإسناد بل بكون حكم أحدهما شرعيًّا أو محظورًا، إذ ليس فيه طرح أحدهما بخلاف المتعارضين من كل وجه. ويترجح أحد المظنونين بقوة الإسناد أيضًا، ويترجح المعلوم على المظنون بكونه معلومًا. فإن ترجَّح المظنون عليه بما يتضمنه الحكم (¬7) من إثبات حكمٍ شرعي وغيره فقد يحصل التعارض وحيث لا ترجيح فالحكم التخيير. وإذا تعارض عام وخاص معلومان أو مظنونان نسخ الخاص المتأخر العام المتقدم والعام المتأخر ينسخ الخاص المتقدم عند الحنفية ويبنى عليه عندنا. وإن تقارنا خص الخاص العام وفاقًا، وإن جهل التاريخ يبنى العام على الخاص، ويتوقف فيه عند الحنفية ويقدم المعلوم على المظنون، إلَّا إذا كان المظنون خاصًا ورد مع العام ففيه اختلاف سبق في العموم. ¬
الفصل الثالث في ترجيح الأخبار
" الفصل الثالث" (¬1) في ترجيح الأخبار يرجح أحد الخبرين من وجوه: (1) بكثرة الرواة. (2) بعلو الإسناد: إذ بقلة الوسائط يكثر الظن (¬2) وعلو الإسناد قد يكون مرجوحًا بندوره. (3) بفقه الراوي: إذ الفقيه إذا سمع ما لا يجوز إجراؤه على ظاهره بحث عنه وسأل عن سبب نزوله فيطلع على ما يزيل الإشكال. وقيل: لا ترجيح به فيما يُروى باللفظ بل بالمعنى. (4) وبزيادة فقهه. (5) وبعلمه بالعربية لتمكنه من التحفظ في مواضع الغلط ويمكن أن يقال: العالم يعتمد على لسانه فلا يبالغ في الحفظ. (6) وبزيادة العلم بها. (7) وبكونه صاحب الواقعة. (8) وبزيادة مجالسة المحدثين. (9) وبكون طريق روايته أظهر كمشاهدة زيد بالبصرة وقت الظهر بالنسبة إلى مشاهدته ببغداد وقت السحر. (10) وبظهور عدالته. (11) وبمعرفة عدالته بالاختبار. ¬
(12) وبتزكية من هو أكثر بحثًا عن أحوال الناس أو ما هو أكثر عددًا أو علمًا أو ورعًا. (13) وبذكر معدله أسباب العدالة أو عمله (¬1) بخبره. (14) وبكون الراوي غير مبتدع. (15) وبزيادة التيقظ (¬2) وقلة النسيان. (16) وبزيادة الضبط وقلة النسيان (¬3)، فإنْ كان الأشد ضبطًا أكثر نسيانًا فالأقرب التعارض. (17) وبزيادة حفظ لفظ الرسول عليه السلام. (18) وبجزمه فيما يرويه. (19) وبسلامة عقله دائمًا. (20) وبتعويله على الحفظ دون المكتوب وفيه احتمال. (21) وبكونه من أكابر الصحابة إذ منصبه العالي يمنعه من الكذب أيضًا. (22) وبكونه غير مدلس. (23) وبكونه غير ذي اسمين. (24) وبكونه غير ذي رجال يلتبس أسماؤهم بأسماء قوم ضعفاء يصعب تمييزهم عنهم (¬4). (25) وبكونه مشهور النسب. (26) وبكونه غير راوٍ في الصبا. (27) وبكونه غير متحمل فيه. (28) وبكون رفعه إلى النبي عليه السلام متفقًا عليه. (29) وبنسبته للحديث إلى النبي عليه السلام قولًا لا اجتهادًا كما يقال وقع بين يديه عليه السلام فلم ينكر. (30) وبذكره سبب النزول. ¬
(31) وبروايته الخبر بلفظه. (32) وبروايته حديثًا آخر يعاضده. (33) وبعدم إنكار راوي الأصل. (34) وبإسناده الخبر. وقال عيسى بن أبان المرسل مقدم. وقال القاضي عبد الجبار يستويان. لنا: ما سبق من دليل عدم قبول المرسل، فإنه إن لم يمنع القبول فلا أقل من تضعيفه. احتج عيسى (¬1) بوجهين: أ - الثقة لا يقول قال النبي عليه السلام فيحكم (¬2) بالحل والحرمة إلَّا إذا قطع بأنه قوله، والمسند لا يقطع به. ب - قال الحسن رضي الله عنه إذا حدثني أربعة نفرٍ من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بحديثٍ تركتهم وقلت قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. والجواب عنهما: أن قوله: قال رسول الله ظاهره الجزم ولا جزم ههنا فيحمل على ظنه أنَّه قال وهذا الظن يحصل فيه فقط إذ عدالة الباقي غير معلومة، والظن في المسند يحصل في جميع الرواة ثم رجحان المرسل إنما يصح لو قال الراوي قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. فإذا قال عن رسول الله فالأظهر أنَّه مرجوح لأنه في معنى قوله روى عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. (35) رجح قوم بالحرية والمذكورية كالشهادة وفيه احتمال. (36) وبكون الخبر مدنيًا إذ الغالب في المديني التأخر عن المكي. (37) وبوروده عند قوة الرسول عليه السلام فإنها كانت في آخر عمره، لكن إذا دلَّ الثاني على وروده حال الضعف. (38) وبتأخير إسلام الراوي فيما علم سماعه حال إسلامه. لكن إذا علم موت المتقدم قبل إسلام المتأخر. أو علم أن أكثر روايته قبل إسلام المتأخر. ¬
(39) وبعلمنا بسماع أحد المتقارنين في الإسلام بعد إسلامه. (40) وبرواية الخبر بتاريخ مضيق أو بوقت معين. (41) وبورود خبر التخفيف في حادثةٍ كان عليه الصلاة والسلام يغلظ فيها زجرًا لهم عن العادات لأنه أظهر تأخرًا. ويحتمل أن يرجح المغلظ لأنه عليه السلام ما كان يغلظ إلَّا بعد قوته فهو أظهر تأخرًا. (42) وبورود أحد العامين على سبب، فإنه وإن لم يختص بالسبب فيفيده الترجيح. (43) وبفصاحة لفظ الخبر إن قُبِلَ اللفظُ الركيك (¬1)، ولا يقدم بزيادة الفصاحة إذ الفصيح يتفاوت كلامه في الفصاحة وقيل يُقَدَّم. (44) وبخصوصه. (45) وباستعماله في الحقيقة لظهور دلالته، وهذا ضعيف إذ المجاز الغالب أظهر دلالة من الحقيقة المغلوبة (¬2). والمستعار أظهر دلالة من الحقيقة (¬3). فإن قولك فلان بحر أدل على السخاوة (¬4) من قولك سخي. (46) وبظهور إحدى الحقيقتين في المعنى، لكثرة ناقليه أو لقوة إتقانهم (¬5) ويعود الترجيح بحال الراوي. (47) وبالاتفاق على كون لفظه موضوعًا (¬6) لمسماه. (48) وباستغنائه عن الإضمار. (49) وبإفادته بالوضع الشرعي أو العرفي، لكن إذا كان للفظ الثاني دلالة شرعية أو عرفية طارئة، وإلَّا فالثاني أولى لأن دلالته شرعية وعرفية ولغوية والنقل خلاف الأصل. ¬
(50) وبكون أحد المجازين أشبه بالحقيقة، أو متعينًا للعمل باللفظ لقلة مخالفة الأصل. (51) وبعدم دخول التخصيص في أحد العامين (¬1). (52) وبكثرة طرق دلالة اللفظ على المراد. (53) وبذكر حكم الخبر مع علته صريحًا أو إيماءً. (54) وبالتنصيص على الحكم واعتباره بمحل آخر، لأنه إشارة إلى وجود علة جامعة كقوله عليه الصلاة والسلام: "أيما إهابٍ دبغ فقد طهر" (¬2) كالخمر يتخلل فتحل. فترجح في المشبه على قوله عليه السلام: "لا تنتفعوا من الميتة بإهاب ولا عصب" (¬3) وفي المشبه به في تخليل الخمر على قوله عليه السلام: "أرقها" (¬4). (55) وبتأكيد دلالته كقوله عليه الصلاة والسلام: "باطل باطل" (¬5). (56) وبالتنصيص على الحكم وذكر المقتضي لضده فإنه (¬6) يدل على ترجيحه على ضده، ولأن تقديمه يقتضي النسخ مرتين كقوله عليه الصلاة والسلام: "كنت نهيتكم عن زيارة القبور ألا فزوروها" (¬7). ¬
(57) وباقتران أحدهما بالتهديد أو بزيادة التهديد. (58) وبدلالته على الحكم بمنطوقه أو بغير واسطة. (59) وبكونه مُقَرِرًا لحكم الأصل. وقال (¬1) جمهور الأصوليين يقدم الناقل. لنا: أن المقرر لو تقدم على الناقل، لكان وروده حيث استقل العقل بمعرفة حكمه. ولو تأخر عنه لورد في محل الحاجة فكان أولى. فإن قيل: الناقل يستفاد منه ما لا يعلم من غيره، وتقدمه على المقرر يقتضي النسخ مرتين وتأخره يقتضي مرةً واحدة فهو أولى. والجواب عن: أ - ما سبق في الدليل. ب - أن دلالة الأصل مشروطة بعدم دلالة السمع فلا يكون الناقل ناسخًا له. ثم أنَّه معارض بأن المقرر لو تقدم لكان المنسوخ حكمًا ثبت بدليلين، ولو تأخر لكان المنسوخ حكمًا ثبت بدليل واحد. ثم قال القاضي عبد الجبار: هذا ليس من باب الترجيح، لأنا نعمل بالناقل على أنَّه ناسخ، ولأنه لو كان ترجيحًا لوجب العمل بالمقرر عند عدم الناقل والعمل (¬2) بالأصل عند عدمه. والجواب عن: أ - أنا لا نقطع بالتأخر ليكون نسخًا. ب - أن العمل بموجب الخبر عند عدم الناقل (¬3) متى جعلنا حكمه شرعيًّا، لا يصح رفعه إلَّا بما يصح به النسخ. ¬
(60) قال القاضي عبد الجبار: إذا كان حكم أحد الخبرين نفيًا وحكم (¬1) الأخر إثباتًا وهما شرعيان فلا ترجيح، كما إذا اقتضيا الوجوب والإباحة حيث يقتضي العقل الحظر أو الحظر والإباحة حيث اقتضى العقل الوجوب، أو الوجوب والحظر حيث يقتضي العقل الإباحة، وهذا مستقيم على مذهبنا دون مذهب المعتزلة، إذ العقل عندهم يفيد الأحكام. فإذا (¬2) اقتضى العقل الحظر كان المقتضي للوجوب ناقلًا من وجهين، والمقتضي للإباحة مقررًا من وجه. وإذا اقتضى العقل الوجوب كان المقتضي للحظر ناقلًا من وجهين، والمقتضي للإباحة مقررًا من وجه، فإن رجحنا الناقل ترجح المقتضي للوجوب والحظر على المقتضي للإباحة، وإن رجحنا المقرر ترجح هو عليهما. وإن اقتضى العقل الإباحة كان كل واحدٍ من المقتضي للوجوب، والمقتضي للحظر ناقلًا من وجه ومقررًا من وجهٍ فيتساويان. (61) قال الكرخي وطائفة من الفقهاء: خبر الحظر راجح على خبر الإباحة، وقال أبو هاشم وعيسى بن أبان هما سيان. احتجوا بقوله عليه الصلاة والسلام: "ما اجتمع الحلال والحرام إلَّا وغلب الحرامُ الحلالَ" (¬3). وقوله عليه الصلاة والسلام: "دع ما يريبك إلى ما ¬
لا يريبك" (¬1) وقال عثمان (¬2) في الأختين المملوكتين: (أحلتهما آية وحرمتهما آية) (¬3). فالتحريم أولى ولأن من طلق إحدى نسائه أو أعتق إحدى إمائه ونسي عينها حرم عليه الكل، ولأن ترك المباح أولى من فعل الحرام فالحكم بالتحريم أحوط. وأما الخطأ في الاعتقاد فهو مشترك. (62) قال الكرخي: المثبت للطلاق والعتاق مقدم على النافي لهما، وقال قوم سيان. له: إن ملك اليمين والنِّكَاح على خلاف الأصل فزوالهما على وفق الأصل فمزيلهما أولى. (63) قال بعض الفقهاء: النافي للحد مقدم على المثبت (¬4) له خلافًا للمتكلمين. له: أن الحد ضرر فشرعيته على خلاف الأصل فالنافي له أولى، ولأن خبر النفي يورث شبهةً فيسقط الحد لقوله عليه الصلاة والسلام: "ادرؤوا الحدود بالشبهات" (¬5). ولأن تعارض البينتين يسقط الحد فتعارض الخبرين أولى ولم يتقدم له ثبوت. (64) ترك بعض أئمة (¬6) الصحابة العمل به، أو عمله بخلافه يوجب نسخه أو رده عند قوم، وعند الشافعي يوجب رجحان ما لا يكون كذلك عليه. (65) عمل أكثر السلف ممن لا يجب تقليدهم به يوجب ترجيحه عند عيسى ابن أبان لأن قول الأكثر أوفق للصواب خلافًا لقوم. (66) ورود خبر الواحد فيما تعم به البلوى إن لم يوجب الرد يوجب المرجوحيَّة. تنبيه: الترجيح بالكمية قد يعارض الترجيح بالكيفية، فعلى المجتهد النظر في ترجيح إحداهما على الأخرى. ¬
الفصل الرابع في ترجيح الأقيسة
" الفصل الرابع" (¬1) في ترجيح الأقيسة يرجح أحد القياسين من وجوه: (1) بتعليل أصله بالوصف الحقيقي، لأنه متفق عليه فتقل فيه المقدمات الظنية. (2) وبتعليله بالحكمة. أما بالنسبة إلى التعليل بالعدم، فلأن العلم بالعدم لا يدعو إلى الحكم ما لم يعلم اشتماله على الحكمة والمصلحة، وقضية هذا رجحانه على التعليل بالوصف، ولكن (¬2) ترجح ذلك عليه لكونه أضبط. والعدم في نفسه غير مضبوطٍ إذ لا يتقيد (¬3) ما لم يضف إلى الوجود وأما بالنسبة إلى التعليل بالوصف الإضافي، فلأن (¬4) الإضافة ليست أمرًا وجوديًا. أما بالنسبة إلى التعليل بالحكم الشرعي والوصف التقديري، لأنه تعليل بنفس المؤثر، ترك العمل به في الوصف الحقيقي بالإجماع ولكونه أشبه بالعلل العقلية. (3) التعليل بالعدم أولى من التعليل بالحكم الشرعي، لكونه أشبه بالأمور الحقيقية ويحتمل أن يقال: الحكم الشرعي أولى لكونه أشبه بالموجود. (4) التعليل بالعدم أولى من التعليل بالوصف التقديري، لأن محذور (¬5) العدم حاصل فيه مع محذور آخر. وهو إعطاء المعدوم حكم الموجود. ¬
(5) تعليل الوجودي بالوصف الوجودي أولى من تعليل العدمي بالعدمي، والوجودي بالعدمي والعدمي بالوجودي إذ العلية والمعلولية ثبوتيتان لا يمكن قيامهما بالعدم إلَّا إذا قدر موجودًا، وتعليل العدمي بالعدمي أولى من الباقيين للمشابهة وفي الباقين نظر. (6) التعليل بالحكم الشرعي أولى من التعليل بالوصف المقدر، إذ التقدير خلاف الأصل. (7) التعليل بالمفرد أولى من التعليل بالمركب، إذ المركب يتوقف وجوده على وجود الأجزاء (¬1) فيكثر فيه (¬2) الاحتمال. (8) إذا عُلم وجود وصفي القياسين (¬3) في الفرع فلا ترجيح بكون أحدهما بديهيًا، وكون الأخر نظريًا إذ القطعيات لا تقبل الترجيح. وكلام أبي الحسين يدل على أنها تقبله، وإن كان أحدهما ظنيًا ترجح المعلوم. وإن كانا ظنيين فلما كانت المقدمات المفيدة للظن أقل كان أولى (¬4)، وينبغي أن تقابل كمية المقدمات بكيفية إفادتها للظن. إذا ثبت هذا فنقول: دليل وجود العلة إما النص أو الإجماع، إذ القياس ينتهي إليهما، وقد عرفت ترجيح النص، والإجماعان إن كانا قطعيين لا يقبلان الترجيح. وإن كانا ظنيين فإن كانا مختلفًا فيهما عند المجتهدين كالإجماع السكوتي والمنقول آحادًا قبِلا الترجيح، وإن كان أحد الإجماعين متفقًا عليه والآخر مختلفًا فيه ترجح الأول (¬5) لتقدم المعلوم (¬6) على المظنون. ¬
(9) ما يثبت عليته بالتنصيص بلفظ لا يحتمل غير العليَّة، كقولنا لعلة كذا أو لسبب (¬1) كذا، أو منِ أجل أنَّه كذا مقدم على غيره. ثم ما يثبت عليته بلفظ ظاهر كاللام وإنَّ والباء. واللام مقدم لأنه ظاهر في التعليل و"أن" قد يكون للتأكيد والباء للإلصاق، كقوله كتبتُ بالقلم ولكونه محكومًا به كقوله: "أنا أقضي بالظاهر" (¬2). وحيث لا يكون لهما فهو كاللام إذ لا فرق بين قولنا قتلته بجنايته (¬3) أو لجنايته وفي إنَّ والباء احتمال. (10) ما ثبت عليته بإيماء النص، وهو مناسب مقدم على غير المناسب، وإيماء (¬4) الدلالة اليقينية مقدم، وإن ثبتت عليَّة الوصف بخبر الواحد عادت التراجيح المذكورة في الخبر، ثم اتفقوا على أن دلالة الإِيماء على العلية راجحة على دلالة الوجوه العقلية من المناسبة والدوران والسبر. وفيه نظر، إذ الإيماء لا يدل بلفظه على العليَّة بل بواسطة أحد الوجوه والأصل راجح. ثم النظر في ترجيح أقسام الإِيماءات وأقسام أقسامها موكولة إلى الناظر. (11) ما ثبت عليته بالمناسبة راجح على ما ثبت عليته بالدوران، وقد يعبر عنه بالمطرد المنعكس وقال قوم: المطرد المنعكس أولى. لنا: أن تأثير الوصف في الحكم لمناسبته، فهي علة لعليَّة العلة لا لدورانه معه. إذ العليَّة قد توجد بدون الدوران إذا كانت العلة أخص من المعلول، ويوجد الدوران بدون العليَّة كما تقدم. احتجوا: بأن المطرد المنعكس أشبه بالعلل العقلية وصحته مجمع عليها. ¬
والجواب عن: أ - لا نسلم وجوب العكس (¬1) في العلل العقلية. ولا نسلم أن الأشبه بها أولى. ب - أن ذلك في (¬2) مطرد منعكس مناسب، والكلام في مناسب غير مطرد منعكس ومطرد منعكس غير مناسب. (12) دلالة المناسبة راجحةٌ على دلالة التأثير إذ لا يلزم من كون الوصف مؤثرًا في شيء كونه مؤثرًا فيما يشاركه في جنسه، وكون الوصف مناسبًا هو الَّذي لأجله يصير الوصف مؤثرًا في الحكم. (13) السبر إن كان قاطعًا في مقدماته تعين العمل به، وإن كان مظنونًا في مقدماته كانت المناسبة راجحة عليه، إذ دليل تلك المقدمات (¬3) لا يكون نصًا وإلا كانت يقينيَّة، فهو إما إيماء (¬4) والمناسبة راجحة عليه أو مناسبة، والمناسبة المستقلة راجحة على غير المستقلة، وأما غير المناسبة والمناسبة راجحة على غيرها لما تقدم، وإن كان (¬5) قاطعًا في بعض مقدماته عاد الترجيح المذكور في المقدمة الظنية. (14) المناسبة أقوى من الشبه والطرد. (15) المناسبة من باب الضرورة راجحة على التي من باب الحاجة وهي على التي من باب الزينة. ثم الوصف المناسب نوعه لنوع الحكم راجحٌ على المناسب نوعه لجنس الحكم وجنسه لنوع الحكم وجنسه لجنس الحكم، والثاني والثالث متقاربان وراجحان على الرابع، والجنس الأقرب أقدم، ثم المناسب الجلي وهو ما يلتفت الذهن إليه في أول الوهلة كقوله عليه السلام: "لا يقضي القاضي وهو غضبان" (¬6). إذ ¬
الذهن يلتفت عند سماع هذا إلى أن الغضب إنما يمنع لمنعه من استيفاء الفكر راجح على الخفي. (16) المناسبة المؤيدة بغيرها راجحة، والخالية عن المعارضة راجحة والمناسب من وجهين مقدم. ثم عليك باعتبار الجهات المرجحة. (17) الدوران في صورةٍ واحدة راجحة على الدوران في صورتين، لأن العصير لما لم يكن مسكرًا لم يكن حرامًا، فلما صار مسكرًا صار حرامًا، فلما زالت المسكرية عادت حلالًا، قطعنا بأن الصفات الحاصلة في الأحوال الثلاثة لا تصلح للعليَّة، وإلَّا لزم وجود العلة بدون الحكم وهذا القدح (¬1) لا يحصل في الدوران في الصورتين. (18) الشبه في الصفة أولى من الشبه في الحكم الشرعي، لأنه أشبه بالعلل العقلية. (19) دليل الحكمْ في الأصلين إن كانا قطعيين فلا ترجيح، وإن كان أحدهما قطعيًا تعين وإن كانا ظنيين، فقالوا الإجماع أقوى (¬2) من الدليل اللفظي، لأنه لا يقبل التخصيص والتأويل. وفيه نظر. إذ الدليل اللفظي أصل الإجماع فهو أقوى. (20) ما ثبت حكم أصله بالنص راجح على ما ثبت حكم أصله بالقياس إن جوزناه، لأن النص أصل القياس، وإلا تسلسل والأصل راجح. (21) الدليل اللفظي إما قاطع في المتن أو الدلالة أو فيهما أو في واحدٍ منهما، ولا يخفى عليك تعيين البعض وترجيح البعض على البعض بالاستعانة بما سلف. (22) القياس المثبت للحكم الشرعي راجح على المثبت للحكم العقلي، إذ حكم الدليل الشرعي يجب كونه شرعيًّا، ولأن تقديم العلة المثبتة للحكم الشرعي يوجب النسخ مرتين. ويمكن استخراج علة شرعية من أصل عقلي إذا لم ينقلنا الشرع عنه. أما إذا كان أحد الحكمين نفيًا ¬
والأخر إثباتًا وهما شرعيان، فقيل هما سِيَّان وقد عرفت ما فيه في ترجيح الأخبار. (23) المثبت للحظر الشرعي راجح على المثبت للإباحة الشرعيَّة لما عرفت ثمة، فإن كان الحظر عقليًا فكونه حظرًا جهة الرجحان وكونه عقليًا جهة المرجوحية، وقد عرفت كيفية النقل عن حكم العقل ثمة. (24) المثبت للعتق والطلاق راجح على النافي لهما، والنافي للحد راجح على المثبت له. فإن قلتَ: النافي يثبت حكمًا عقليًا، قلتُ الشرع لمَّا ورد بالنفي صار حكمًا شرعيًّا، إذ لا يجوز نسخه إلَّا بما ينسخ به الحكم الشرعي. (25) المثبت لزيادة الحكم راجح على غيره (¬1)، كالمثبت للندب بالنسبة للمثبت للإِباحة إذا كانت الزيادة شرعية. (26) القياس على الحكم الوارد على وفق قياس الأصول (¬2) راجح، لأنه مجمع عليه ولأنه خالٍ عن المعارض. (27) القياس على أصل أجمعوا على تعليل حكمه راجح. (28) القياس الكثير الأصول راجح، والمعاضد بقول الصحابي أو بقياس آخر راجح. (29) ما لا يلزم منه محذور كتخصيص عام، وترك ظاهر وترجيح مجاز على الحقيقة راجح. (30) العلة المطردة راجحة على المخصوصة. (31) العلة المتعدية أولى من القاصرة عند الأكثرين، لأنها متفق عليها وأكثر فائدة وأنكر بعض الشافعية، لأن التعدية فرع الصحة والفرع لا يقوي الأصل. وجوابه أنَّه يدل على قوته. (32) أعم العلتين أولى إذ تكثر أحكام الشرع بكثرة الفروع وأنكره بعضهم قياسًا على أعم الخطابين، والفرق أن العمل بأعم الخطابين يسقط ¬
الأخص من غير عكسٍ، والعمل بكلِّ واحدٍ من القياسين يسقط الآخر. فإسقاط ما تقل فائدته أولى. (33) العلة التي تعم أفراد الفرع أولى لما عرفت. ولأن دلالته على كل فردٍ كالدلالة على الكل ضرورة عدم القائل بالفصل (¬1) فهي كالأدلة الكثيرة. (34) ما يرد الفرع إلى جنسه راجحٌ على ما يرده إلى غير جنسه، كقياس الحلي على التبر بالنسبة إلى قياسه على الثياب (¬2). ¬
الكلام في الإجتهاد
الكَلام في الإجتهَاد
المسألة الأولى
الاجتهاد (¬1) في اللغة: استفراغ الوسع في الفعل. وعند الفقهاء: (استفراغ الوسع في النظر فيما لا يلحقه لوم مع استفراغ الوسع فيه) (¬2)، ولهذا تسمى مسائل الفروع مسائل الاجتهاد دون مسائل الأصول. " المسألة الأولى" قال الشافعي وأبو يوسف - رحمهما الله - يجوز فيِ أحكام الرسول - صلى الله عليه وسلم - ما صدر عن اجتهاده. ومنع منه أبو هاشم وأبو علي مطلقًا. وجوَّز بعضهم في الآراء والحروب دون أحكام الدين. لنا وجوه: أ - قوله تعالى: {فَاعْتَبِرُواْ} وتناول الآية له أولى لاختصاصه بقوة البصيرة (¬3)، والاطلاع (¬4) على شرائط القياس. ب - دليل العقل المتقدم في القياس. جـ - العمل بالاجتهاد أشق منه بالوحي، والأشق أكثر فضيلة ولأنه يظهر فيه أثر ¬
دقة النظر وجودة الخاطر، فلا يجوز خلوه عن هذه الفضيلة وإلا ترجحت عليه أمته فيها واختصاصه بمنصب الوحي لا يمنع من مشاركته في منصب آخر. د - قوله عليه الصلاة والسلام: "العلماء ورثة الأنبياء" (¬1). وإنما يرثوا منه الاجتهاد لو كان مجتهدًا وتقييده بأركان الشرع خلاف الأصل. هـ - بعض الأحكام مضاف إليه وذلك يشعر بكونه من اجتهاده، إذ لا يقال مذهب الشافعي وجوب الصلوات الخمس. وأما في الحروب والآراء فقد اجتهد في أخذ الفداء عن أسارى بدر، وكان يراجعهم فيه ولا ذلك إلَّا بالاجتهاد. احتجوا بوجوه: أ - قوله تعالى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى} (¬2). ب - راجعه بعض (¬3) الصحابة في منزل نزله وقال: إن كان هذا وحيًا فالسمع والطاعة وإلَّا فليس بمنزل مكيدة، وأنه يدل على جواز مراجعته في اجتهاده ولا يجوز مراجعته في أحكام الشرع (¬4) فليس فيها ما هو باجتهاده. ج - أنَّه قادر على تلقي الحكم من الوحي ولا يجوز العمل بالظن مع القدرة على العلم. د - مخالف حكم النبي عليه الصلاة والسلام يكفر لقوله تعالى: {فَلَا وَرَبُّكَ ¬
لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} (¬1). ومخالف المجتهد لا يكفر إذ المجتهد المخطئ له أجر واحد بالنص. هـ - لو جاز له الاجتهاد لما توقف في شيء من أحكام الشرع إلى نزول الوحي، لعلمه بحكم العقل وطرق القياس وقد توقف في حكم الظهار واللعان. و- لو جاز له لجاز لجبريل عليه السلام، وحينئذٍ لا نعرف أن ما نزل به نص الله تعالى أو اجتهاده. والجواب عن: أ - أنَّه لما دل الوحي على العمل بالقياس كان العمل به عملًا بالوحي. ب - أن ذلك كان في الآراء والحروب. ج - أنَّه إنما يجتهد حيث لا يجد نصًا. د - أنَّه يجوز أن يصير الحكم المظنون مقطوعًا به بفتواه كما في الإجماع الصادر عن الاجتهاد. هـ- أنَّه كان يتوقف بمقدار ما يعرف (¬2) أنَّه لا ينزل فيه وحي. و- أن ذلك الاحتمال مدفوع بالإجماع. " فرع" إذا جوزنا له الاجتهاد فلا يجوز أن يخطئ فيه وجوزه قوم بشرط أن لا يقر عليه. لنا: أنا مأمورون باتباعه في الحكم لقوله تعالى: {فَلَا وَرَبُّك لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ} (¬3). الآية، وذلك ينافي كونه خطأ. احتجوا بقوله تعالى: {عَفَا اللهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ} (¬4) وقوله تعالى في ¬
المسألة الثانية
أسارى بدر: {لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} (¬1) وقوله عليه الصلاة والسلام: "لو نزل عذاب من الله لما نجا إلَّا عمر بن الخطاب" (¬2) وهذا يدل على خطئه في أخذ الفداء، وقوله عليه الصلاة والسلام: "إنكم لتختصمون لديَّ" (¬3) الحديث. وهذا يدل على جواز قضائه لأحد بغير حقه. وقوله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ} (¬4). ولأنه يجوز غلطه في فعله فكذا في قوله كغيره (¬5)، والجواب مذكور في كتاب عصمة الأنبياء (¬6) عليهم السلام. " المسألة الثانية" يجوز الاجتهاد في زمان الرسول عليه السلام عند غيبته، والأكثرون على وقوعه لحديث معاذ (¬7)، ويجوز بحضرته عقلًا إذ لا امتناع في نزول الوحي في أنَّه مأمور بالاجتهاد والعمل على وفق ظنه. ومنهم من منعه إذ الاجتهاد لا يؤمن فيه الغلط وسلوك الطريق المخوف ¬
مع القدرة على الأمن قبح عقلًا. وجوابه أن الشرع لما أمره بالاجتهاد والعمل بظنه (¬1) أمن الغلط. ومنع أبو علي وأبو هاشم وقوعه شرعًا. وجوزه بعضهم بشرط الإِذن وتوقف الأكثرون فيه. احتجا: بأنهم لو اجتهدوا في عصره لنقل كاجتهادهم بعده، ولأنهم كانوا يفزعون في الحوادث إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - دون الاجتهاد. واحتج المجوزون بأنه عليه السلام حَكَّمَ سعد بن معاذ (¬2) في بني قريظة. وأمر عمرو بن العاص وعقبة (¬3) بن عامر الجهني أن يحكما بين خصمين، ولأنه عليه السلام كان مأمورًا بالمشاورة (¬4). ولا فائدة لها إلَّا الأخذ باجتهادهم. ¬
المسألة الثالثة
والجواب عن: أ (¬1) - أنَّه لعله لم ينقل لقلته على أنَّه نقل اجتهاد سعد وعمرو. ب - لعلهم إنما فزعوا إليه حيث تعذر الاجتهاد أو صعب. ج - أن خبر الواحد لا يجوز التمسك به فيما لا يتعلق به عمل. د - أن ذلك في الحروب ومصالح الدنيا. " المسألة الثالثة" شرط الاجتهاد المكنة من الاستدلال بالأدلة الشرعية على الأحكام وهي بمعرفة أمور: أ - بمعرفة معنى اللفظ ومقتضاه لغة وعرفًا وشرعًا. ب - معرفة أن المخاطب يعني باللفظ ظاهرُه عند التجرد، وما يقتضيه مع القرينة عندها. قالت المعتزلة: يعرف ذلك بالعلم (¬2) بحكمة المتكلم وبعصمته، والحكم (¬3) بحكمته تعالى أنَّه مبني على العلم بأنه عالم بقبح القبيح وغني عنه. وقال أصحابنا: قد يقطع في جائز الوقوع بأنه لم يقع كانقلاب جيجون (¬4) دمًا، ونحن وإن جوَّزنا منه تعالى كل شيء لكنه تعالى خلق ¬
فينا علمًا ضروريًا، بأنه لا يعني بهذه الألفاظ إلَّا ظاهرها فأمنا (¬1) من وقوع اللبس. ج - معرفة تجرد اللفظ وكونه مع قرينة، والقرينة العقلية تبين ما يجوز أن يراد باللفظ مما لا يجوز، والسمعية تبين تخصيص العام بالأشخاص والأزمان أو تعميم الخاص وهو القياس. ثم الدليل السمعي غائب عنا إلَّا بنقل متواتر أو آحاد، فتجب معرفة (¬2) شرائط هذه الأمور مع جهات الترجيح. ثم قال الغزالي (¬3): مدارك الأحكام أربعة الكتاب والسنة والإِجماع والعقل. وإنما يشترط من الكتاب والسنة معرفة ما يتعلق بالأحكام (¬4). والعلم بمواقعه ليطلب منها عند الحاجة ويجب العلم بمواقع الإِجماع لئلا يفتي بخلافه. وطريقه أن لا يفتي إلَّا بما يوافق قول أحد العلماء المتقدمين أو يغلب على ظنه عدم خوض أهل الإِجماع في الواقعة. والعقل هو البراءة الأصلية فيعرفها ويعرف أنا مكلفون بالتمسك بها ما لم يصرفنا صارف على شرط الصحة. ويجب معرفة شرائط الحد والبرهان ومعرفة اللغة والنحو والتصريف. ثم الناسخ والمنسوخ والجرح والتعديل وأحوال الرجال، ولما تعذر ذلك في زماننا لطول المدة وكثرة الوسائط اكتفي بتعديل الأئمة الذين اتفق الخلق على عدالتهم. كالبخاري (¬5) ................................................. ¬
المسألة الرابعة
.. ومسلم (¬1). وظهر أنَّه يشترط علم أصول الفقه دون الكلام. إذ المقلد فيه قد يتمكن من الاجتهاد دون تفاريع الفقه لأنها متأخرة عن الاجتهاد. ثم صفة (¬2) الاجتهاد قد تحصل في فنٍ دون آخر ومسألة دون أخرى خلافًا لقوم، إذ الغالب كون أصول الفرائض في الفرائض دون المناسك. فإذا عرف ما ورد فيها تمكن من الاجتهاد فيها. " المسألة الرابعة" المجتهد فيه حكم شرعي لا قاطع فيه، ليخرج عنه الحكم العقلي ووجوب أركان الشرع وما اتفق عليه من جلياته. وقال أبو الحسين: هو ما اختلف فيه المجتهدون من الأحكام الشرعية، وهو ضعيف إذ جواز الاجتهاد فيه مشروط بكونه مجتهدًا فيه فتعريفه به دور. ¬
المسألة الخامسة
" المسألة الخامسة" قال الجاحظ وعبيد (¬1) الله بن الحسن العنبري (¬2)، كل مجتهد في الأصول مصيب لا بمعنى مطابقة الاعتقاد بل بمعنى نفي الإِثم والخروج عن عهدة التكليف. وأنكره (¬3) الباقون لوجوه: أ - أنَّه تعالى نصب على هذه المطالب أدلةً قاطعةً، ومكَّن العقلاء من معرفتها فلا يخرجون عن العهدة إلَّا بالعلم. ب - أنا نعلم قطعًا أنَّه عليه السلام أمر الكفار بالإيمان به وذمهم على إصرارهم على عقائدهم وقاتلهم، وكان يكشف عن مؤتزرهم (¬4) ويقتل من بلغ منهم مع القطع بأن العارف المعاند فيهم نادرٌ جدًّا. ب - ما في الكتاب (¬5) والسنة من ذم الكفار. فإن (¬6) قيل: لا نسلم نصب القاطع وتمكين العقلاء من معرفته، فإن ¬
المسألة السادسة
من نظر في أدلة المخالفين وأنصف لهم لم يجد فيها قاطعًا. ثم إنما أمروا بالظن الغالب، فإن العلم إنما يحصل من تركيب مقدمات ضرورية تركيبًا ضروري الصحة. وأنه لا يحصل إلَّا لأحاد الناس. فتكليف الكل به حرج تام. ولأنا نعلم ضرورة أن الصحابة ما عرفوا هذه الأدلة والدقائق. والجواب (¬1) عن شبهات الفلاسفة مع صحة إيمانهم. ثم لا نسلم أن المخطئ فيهم آثم، ولا يمكن دعوى الإجماع فيه، لأنه مختلف فيه وإنما (¬2) قتل عليه السلام الكفار لإصرارهم على ترك التعلم بعد مبالغته في الإرشاد إلى الحق. وما ورد من ذم الكفار. فالكفر هو الستر وانما يتحقق الستر من المعاند دون العاجز عن الوصول إلى الحق بعد البحث التام. ثم كونه (¬3) تعالى رؤوفًا رحيمًا ينفي التشديد المذكور ويؤيده استقراء أحكام الشرع. والجواب: أن الجمهور ادعوا الإجماع على مذهبهم قبل حدوث هذا الخلاف. " المسألة السادسة" قال جمهور المتكلمين (¬4) منا كالأشعري والقاضي أبي بكر، ومن المعتزلة كأبي هذيل وأبي هاشم وأبي علي وأتباعهم كل مجتهدٍ في الأحكام الشرعية مصيب، أي ليس لله تعالى في الواقعة حكم معين قبل الاجتهاد، ثم منهم من يقول وجد فيها ما لو حكم اللُه فيها لما حكم إلَّا به، وهو القول بالأشبه. ¬
قال بعض الفقهاء والمتكلمين: لله تعالى (¬1) في كلِّ واقعةٍ حكم معين، لكن ليس عليه إمارة ولا دلالة، والطالب يعثر عليه اتفاقًا فله أجران وللخائب أجرٌ واحد لتحمل المشقة. وقال كافة الفقهاء (¬2): عليه أمارة فقط ولكن لم يكلف المجتهد بإصابتها لخفائها، فكان المخطئ معذورًا مأجورًا وينسب إلى الشافعي وأبي حنيفة. وقيل: مكلف بإصابته ولكن عند الخطأ تغير التكليف، فيكلف (¬3) بالعمل بظنه ويسقط الإثم تحقيقًا. وقيل: بل عليه دلالة والمجتهد مأمور بطلبها. ثم قال بشر المريسي من المعتزلة: المخطئ مأثوم وأنكره الباقون. وقال (¬4) الأصم (¬5): قضاؤه منقوض وأنكره الباقون. والمختار أن لله تعالى في الواقعة حكمًا معينًا عليه أمارة فقط، والمخطئ معذور وقضاؤه لا ينقض. لنا وجوه: أ - إذا جزم كل من المجتهدين برجحان أمارته في نفس الأمر على أمارة خصمه، كان اعتقادهما أو اعتقاد أحدهما خطأ، بمعنى عدم المطابقة وهو من صور الخلاف ولأن الاعتقاد غير المطابق جهل. وأنه غير مأمور به وفاقًا فلا يكون آتيًا بما أمر به. ب - المجتهد مكلف بالحكم بناءً على طريق، إذ الحكم بالتشهي باطل وفاقًا ¬
وذلك الطريق إن خلا عن المعارض تعين العمل به، وإلَّا فبالراجح إِن ترجح أحدهما وإلَّا تعين التخيير أو التساقط والرجوع إِلى غيرهما، وعلى كل تقدير يعين الحكم فمخالفه مخطئ. فإن قيل: لم يوجد في المجتهد فيه طريق وإلَّا فتاركه تارك للمأمور به فيستحق العقاب، وأنه خلاف الإِجماع فلا يكلف بالحكم بناءً عليه. ثم إنما يجب (¬1) العمل بالراجح لو علم رجحانه، وقد يعتقد المكلف تعين المرجوح أو رجحانه. والجواب (¬2) عن: أ - أن إِجماع الأمة على الترجيح بأمور حقيقية المستدعي لأصل الطريق. ب - أن مقدار الرجحان ممكن الاطلاع عليه. وإلَّا لم يكلف إلَّا بالقدر المشترك بين الأمارات. وحينئذ لا رجحان بالنسبة إِلى المكلف. هذا خلف ثم إنَّ لم يكلف بالوصول (¬3) إِليه إلى أقصى الإِمكان لم تكن التخطئة (¬4) عند بعض المراتب أولى. فكل من عمل بالظن ولو مع ألف تقصير مصيب. هذا خلف فهو مكلف به. فإذا لم يصل إليه كان مخطئًا. ج - المجتهد مستدل والاستدلال بالدليل على المدلول متوقف على وجودهما والظن الحاصل منه متأخر عنه فهو متأخر عن المدلول فامتنع حصول المدلول بعده. د - المجتهد طالب (¬5) فله مطلوب والمطلوب متقدم الوجود على الطلب. فإن قلتَ المطلوب الظن لا الحكم قلت: ليس المطلوب ظن لا تقتضيه الأمارة وفاقًا، وما تقتضيه الأمارة متوقف على وجود الأمارة المتوقف على وجود المدلول. ¬
احتجوا (¬1) بأمور: أ - لو كان في الواقعة حكم وليس عليه دليل أو أمارة لزم تكليف ما لا يطاق، وإن كان تمكن المكلف من تحصيل العلم أو الظن به فالحاكم بغيره يكون حاكمًا بغير ما أنزل الله فكان كافرًا، لقوله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} (¬2). وفاسقًا لقوله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} (¬3). ومستحقًا للعقاب لكونه تاركًا للمأمور به. ولو خصت هذه الأدلة بالنافي للحرج (¬4) هنا لخصت في المسائل الكلامية، لأن أدلتها أكثر غموضًا والخطأ فيها كفر. ب - ولكان (¬5) عليه دليل قاطع إذ لا بد من دليل، فإن أمكن وجوده بدون المدلول فاستلزامه له في صورة دون أخرى، إن لم يتوقف على أمرٍ آخر (¬6) لزم الترجيح بدون المرجح، وإن توقف كان المستلزم ذلك المجموع لا المفروض دليلًا، وأيضًا ذلك المجموع إن أمكن وجوده بدون المدلول (¬7) عاد الكلام وينتهي إلى حيث. لا يمكن وجوده بدون المدلول، وهو المعنى من القاطع. فإن قلتَ: الدليل الظاهر مستلزم أولوية وجود (¬8) المدلول بغير (¬9) وجوبه، قلتُ الأولوية إن منعت العدم لزم الوجوب وإلَّا عاد الكلام. ج - ولكان ما عداه باطلًا فلم يجز للصحابي تولية من يخالفه في المذهب، ولا التمكين من الفتوى لحرمة التمكين من ترويج الباطل، ولفسَّقوا ¬
مخالفيهم في الدماء والفروج إذ لا فرق بين القتل والفتوى به، والقتل كبيرة ولنقضوا أحكامهم بل أحكام أنفسهم واللوازم باطلة. فإن قيل: لعل ذلك لأن الخطأ صغيرة أو كبيرة (¬1) والشبه سبب العذر، والفرق بيبن القتل والفتوى به أن التمسك بالشبهة (¬2) قد يكون سببًا للعفو ثم هو معارض بوجهين: 1 - تصريح الصحابة بالتخطئة. قال أبو بكر رضي الله عنه في الكلالة: (وإن كان خطأ فمني) (¬3). وحكم عمر رضي الله عنه بحكم فقال رجل: (هو والله الحق). فقال عمر: (إن عمر لا يعلم أنَّه أصاب الحق لكنه لا يألو جهدًا). وقال علي لعمر في المجهضة: (وإن اجتهدوا فقد أخطؤوا) (¬4). وقال ابن مسعود في المفوضة: (وإن كان خطأ فمني). ب - أخطات الأنصار في طلب (¬5) الإمامة لمخالفتهم قوله عليه السلام: "الأئمة من قريش" (¬6) وبعض الصحابة أخطأ في المنع من قتال مانعي الزكاة لمخالفتهم النص (¬7). وقضى عمر في الحامل المقرة بالزنا بالرجم على خلاف النص ولم يفسقوا. قلنا الجواب عن: أ - أن تركه ترك المأمور به فيستحق به النار فيكون الخطأ (¬8) كبيرة لا سيما في الدم، لقوله عليه السلام: "من سعى في دم مسلم ولو بشطر كلمة جاء يوم القيامة مكتوبًا بين عينيه آيس من رحمة الله" (¬9). وغيره من الأحاديث. ¬
ب - أن الشبه وغموض الأدلة في العقليات أكثر مع أن الخطأ فيها كفر وفسق. ج - أن ترك التفسيق والتمكين من الفتوى والعمل (¬1) منقول عمن صرحوا بالتخطئة، إذ لا يمكن التوفيق بجعل الخطأ صغيرةً لما بيَّنا، بل تحمل التخطئة على صورة وجود القاطع وترك استقصاء المجتهد. وقوله إن يكن صوابًا أي استقصيت وإن يكن خطأ أي قصرت. د - أن المخالفين ما كانوا سمعوا ذلك النص وههنا كل واحدٍ عرف حجة صاحبه فكان مصرًا على الخطأ. د - ولما قطع بكون خطئه مغفورًا، لأنه يجوز إخلاله بنظر زائد واجب وإلَّا لم يكن مخطئًا، ولا نعلم أنَّه يغفر له ذلك الإخلال لأنه لو اقتصر على أول المراتب لم يغفر له ما بعده، ولا مرتبة إلَّا ويجوز أن لا يغفر ما بعدها، ولا تتميز المراتب المغفورة له عن غيرها لكن الإجماع المستمر إلى زماننا يفيد القطع بأنه مغفور له. هـ - قوله عليه السلام: "أصحابي كالنجوم" (¬2). الحديث ولو كان بعضهم مخطئًا لكان عليه السلام حث على الخطأ. و- أنَّه صوب حكم معاذ بالاجتهاد بلا فصل. والجواب عن: أ، ب، جـ - أن عندنا يتغير التكليف عند الخطأ، فيكون حاكمًا بما أنزل الله فلا يلزم شيء مما ذكرتم. د - أن المرتبة المغفورة له أن يأتي بالمقدور بلا تقصير. هـ - المعارضة بقوله عليه السلام: "من اجتهد وأخطأ فله أجر واحد" (¬3). ثم خبر الواحد لا يعارض القاطع وهو الجواب عن "و". ¬
المسألة السابعة
" المسألة السابعة" من قال لا حكم في الواقعة: اختلفوا في الأشبه والحق عدمه لأن ذلك الأشبه ليس مفسدة المكلف وفاقًا، فإن كان مصلحته ووجب على اللُه تعالى رعاية المصالح، وجب أن ينص عليه تمكينًا للمكلف من استيفاء المصلحة، وإن لم يجب عليه رعايتها جاز أن ينص على غيره، وإن لم يكن لا مصلحة ولا مفسدة لم يجب عليه تعالى رعاية المصلحة ولزم المطلوب. احتجوا: بتخطئة النبي - صلى الله عليه وسلم - للمجتهد وإذ ليست بمخالفة حكم واقع فهي لمقدر، وبأن المجتهد طالب وليس مطلوبه معينًا وقوعًا فهو معين تقديرًا. والجواب: أنَّه لما لم ينص على ذلك ولم تقم عليه دلالة أو أمارة امتنع كونه مخطئًا. " المسألة الثامنة" من قال المصيب واحد قال: تصويب الكل يفضي إلى منازعة لا يمكن قطعها، كما إذا قال المجتهد لامرأته المجتهدة: (أنت بائن)، ثم راجعها والزوج يرى الرجعة بالكنايات دون المرأة، فإنهما يتنازعان في الوطء تنازعًا لا يمكن قطعه. فقال المصوبون (¬1) المحققون منكم (¬2) ساعدونا على أن المجتهد يجب عليه العمل بظنه الخطأ إذا لم يعلم خطأه وعاد المحذور، ونحن نقول لا منازعة في الحادثة، فإنها إن نزلت لمجتهدٍ أو مقلدٍ واختصت به عمل باجتهاده أو فتوى المفتي. فإن استوت الأمارات أو المفتون في العلم والورع تخيَّر، وإن تعلقت بغيره وأمكن الصلح فيه كالمال اصطلحا، أو رجعا إلى حاكم أو حكم والاَّ فالرجوع إلى حاكم أو حكم. ¬
المسألة التاسعة
" المسألة التاسعة" إذا أدى اجتهاده إلى أن الخلع فسخ (¬1)، فتزوج بمن خالعها ثلاثًا، ثم تغير اجتهاده فإن قضى القاضي بصحة هذا النِّكَاح استمر، وإلَّا لزمه تسريحها (¬2)، وإذا تزوج العامي بمن خالعها ثلاثًا بفتوى المفتي، ثم تغير اجتهاده فالصحيح وجوب تسريحها، كما يجب التحول إذا تغير اجتهاد المتبوع في القبلة بخلاف قضاء القاضي فإنه مقرر، ثم القضاء إنما لا ينقض إذا لم يخالف قاطعًا. ¬
الكلام في المفتي والمستفتي
الكَلامُ في المُفتي وَالمُسْتَفتي وفيه فصول " الفصل الأول" في المفتي
المسألة الأولى
" المسألة الأولى" إذا أفتى مرةً في واقعةٍ بعد الاجتهاد، ثم سئل عنها أخرى وهو ذاكر لطريق اجتهاده أفتى وإلَّا استأنف الاجتهاد، فإن أدى اجتهاده إلى خلافه أفتى بموجبه، والأحسن إعلام المستفتي أولًا بذلك، كما فعله ابن مسعود (¬1) لئلا يبقى عملهم بغير موجب، وربما قيل: إنه إذا ظن أن الطريق الأول كان قويًا لم يجب الاستئناف، إذ العمل بالظن واجب. " المسألة الثانية" اختلفوا في فتوى غير المجتهد بحكاية قول الغير. فنقول: ذلك الغير إن كان ميتًا لم يجز الأخذ بقوله إذ لا قول لبيتٍ لانعقاد الإجماع على خلافه، وإنما صنفت كتب الفقه لمعرفة المتفق والمختلف واستفادة طرق الاجتهاد من تصرفهم. وربما قيل: إذا كان المجتهد ثقةً عالمًا والحاكي ثقةً فاهمًا معنى كلامه حصل للعامي ظن أن حكم الله ما حكاه والظن حجة، وأيضًا انعقد الإجماع في زماننا على هذا (¬2)، إذ لا مجتهد فيه وإن كان حيًا وسمع منه مشافهةً فله العمل به ولغيره بقوله، إذ يجوز للمرأة أن تعمل في حيضها ينقل زوجها عن المفتي، ورجع علي (¬3) إلى حكاية المقداد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في شأن المذي (¬4)، وإن رجع إلى كتابٍ موثوقٍ به جاز أيضًا. ¬
الفصل الثاني في المستفتي
" الفصل الثاني " في المستفتي مسألة يجوز للعامي تقليد المجتهد في فروع الشرع خلافًا لمعتزلة بغداد، وفرق الجبائي بين مسائل الاجتهاد (¬1) وغيرها. لنا وجهان: أ- الإجماع قبل حدوث المخالف، فإن العلماء في كلِّ عصرٍ لا ينكرون على العامة الاقتصار على أقاويلهم. ب - العامي إذا حدث له حادثة مأمور بشيء إجماعًا، وليس هو التمسك بالبراءة الأصلية إجماعًا. ولا الاستدلال بأدلة سمعية لأنه لا يلزم تحصيلها حين بلوغه، إذ الصحابة لم يلزموا أحدًا بها وتحصيلها يمنعهم من الاشتغال بمعايشهم ولا حين حدوث الواقعة، إذ اكتساب صفة الاجتهاد في ذلك الوقت غير مقدورٍ فهو التقليد. واعلم أن المانعين من التقليد يمنعون الإجماع وخبر الواحد والقياس والتمسك بالظواهر ويقولون: حكم العقل في المنافع الإباحة وفي المضار الحظر، وإنما يترك هذا الأصل لنص قاطع المتن والدلالة والعامي إن كان ذكيًا عرفَ حكم العقل (¬2) وإلَّا نبه المفتي عليه (¬3). ¬
ثم إن وجد في الواقعة نص قاطع على المتن والدلالة يخالف حكمه حكم العقل نبهه المفتي عليه. ولا يقال: معرفة ذلك يمنعه من المعاش (¬1)، ثم الوجهان منقوضان بالتكليف بمعرفة أدلة الأصول، ولا يجاب بأن الواجب معرفة أدلة النبوة والتوحيد جملة، وأنها سهلة وفي الفروع يحتاج إلى علومٍ كثيرة وتبحرٍ (¬2) شديد، لأنه لا فرق بين المباحث الإجمالية والتفصيلية، لأنَّه إن علم جميع مقدمات الدليل حصل العلم النظري، وإن لم يعلم بعضها بل قبله تقليدًا كان (¬3) مقلدًا في النتيجة، مثلًا دليل أن للعالم صانعًا مختارًا مركب من أن للحوادث مؤثرًا، وليس هو الموجب فهو المختار، والأول يعلمه العوام دون الثاني، فقطعه أن للعالم صانعًا مختارًا تقليدٌ. وكذا في دليل النبوة، ثم تحصيل تلك الأدلة تفصيلًا صعب فإن جاز التقليد في أحدهما جاز في الآخر وإلَّا فلا. احتجوا (¬4) بوجوه: أ - قوله تعالى: {وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} (¬5). ب - ذم التقليد بقوله: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ} (¬6). ج - قوله عليه الصلاة والسلام: "طلب العلم فريضةٌ على كل مسلم" (¬7). د - جواز التقليد يفضي إلى عدمه، لأنه يقتضي جواز التقليد في المنع منه. ¬
هـ - قوله عليه الصلاة والسلام: "اجتهدوا فكل ميسر لما خلق له" (¬1). و- المستفتي لا يأمن جهل المفتي فيقع في المفسدة. ز- لو جاز هنا (¬2) لجاز في الأصول بجامع العمل بالظن. والجواب عن الأخير الفرق المذكور. وعن غيره: النقوض (¬3) بالعمل بالظن في أمور الدنيا والقيم والأروش وخبر الواحد والقياس إن سلما. والدليل على الجبائي: أن الفرق يوجب تحصيل درجة الاجتهاد، إذ لا تمييز بينهما سوى المجتهد. احتج (¬4): بأن الحق في غير المجتهد فيه واحد، فالتقليد فيه يوقعه في غير الحق. وجوابه: إنه في المجتَهد فيه واحد لأنه (¬5) لا نامن أن يقصِّر المفتي في الاجتهاد أو يفتيه بخلاف اجتهاده. ¬
الفصل الثالث في الاستفتاء
" الفصل الثالث" في الاستفتاء " المسألة الأولى" لا يجوز الاستفتاء إلَّا ممن يغلب على ظنه كونه مجتهدًا ورعًا وفاقًا، ويعلم ذلك بانتصابه للفتوى واجتماع المسلمين على سؤاله، فإن أفتاه إثنان بشيء واحد تعيَّن عليه، وإلَّا فقيل: يجب الاجتهاد في أعلمهم وأورعهم لأنه في أماراتهما كالمجتهد في أمارات الحكم، وقيل: لا، إذ علماء الأعصار لم ينكروا على العوام ترك ذلك. ثم إذا اجتهد فإن ظن الرجحان مطلقًا تعيَّن العمل به، وإن ظن الاستواء مطلقًا فإما أن يقال: لا يجوز وقوعه كاستواء أمارتي الحل والحرمة، أو إن وقع يسقط التكليف ويكون مخيرًا وإن ظن الاستواء في الدين دون العلم وجب تقليد الأعلم، وقيل: يتخير وإن ظن العكس وجب تقليد الأدين وإن ظن أحدهما أدين والآخر أعلم، فالأقرب ترجيح الأعلم لأنه مفيد الحكم علمه. " المسألة الثانية" الأقرب جواز الاستفتاء لعالمٍ غير مجتهد، والمجتهد إذا اجتهد وغلب على ظنه حكم لم يجز له تقليد مخالفة وفاقًا، وان لم يجتهد لم يجز له التقليد عند أكثر أصحابنا وجوزه أحمد (¬1) ............................... ¬
............... وإسحاق بن راهويه (¬1) وسفيان (¬2) مطلقًا. وقيل يجوز لغير الصحابة تقليدهم دون غيرهم وهو القول القديم (¬3). وقيل: يجوز للعالم تقليد الأعلم فقط وهو قول محمد بن الحسن. وقيل: يجوز فيما يخصه دون ما يفتي به. وقيل: يجوز فيما يخصه إذا كان الوقت يفوت (¬4) بالاجتهاد وهو قول ابن سريج (¬5). لنا وجهان: أ - قوله تعالى: {فَاعْتَبِرُواْ} ترك العمل به في العامي لعجزه. ب - القياس على التقليد في الأصول بجامع القدرة على الاحتراز عن الضرر المحتمل، ولا يفرق بأن المطلوب في الفروع الظن وأنه يحصل بالتقليد، لأن المطلوب الظن الأقوى وهو قادر عليه فلا يجوز تركه. فإن قيل: ما ذكرتم ينتقض بقضاء القاضي فإنه لا يجوز خلافه، ويجوز السؤال عن خبر الرسول - صلى الله عليه وسلم - للقادر على سؤاله. قلنا: لما دلَّ الدليل على أن ¬
قضاء القاضي لا ينقض، كان الإذعان له عملًا بذلك الدليل لا تقليداً والنقض الثاني (¬1) ممنوع. احتجوا (¬2) بوجوه: 1 - قوله تعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} (¬3). ب- قوله تعالى: {أَطِيعُوا} (¬4) الآية والعلماء أولوا الأمر لنفاذ أمرهم على الولاة. جـ- قوله تعالى: {فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ} (¬5) الآية. د- قال (¬6) عبد الرحمن بن عوف لعثمان بمشهد من الصحابة رضي الله عنهم: (أبايعك على كتاب الله وسنة رسوله وسيرة الشيخين فقال: نعم ولم ينكر أحد). وعلي رضي الله عنه لم ينكر جوازه بل لم يقبله (¬7) ونحن لا نقول بوجوبه. هـ- القياس على العامي بجامع العمل بالظن. و- القياس على قبول خبر الواحد. بل أولى لأنه أخبر بعد استفراغ وسعه. ز- الفتوى توجب الظن فجاز العمل به. والجواب عن: أ - النقض بما بعد الاجتهاد فإنه غير عالم أيضاً، ثم ما عنه السؤال غير مذكور فيحمل على السؤال عن وجه الدليل، ويؤيده عدم وجوب السؤال عن الحكم. ¬
المسألة الثالثة
ب- أنه لا يعم كل طاعة فيحمل على الطاعة في الأقضية، ويؤيده عدم وجوب الطاعة في الحكم. جـ- أنه لا يعم كل إنذار فيحمل على الرواية. د- أن المراد طريقتهما في العدل والإنصاف. هـ- الفرق (¬1) بأن العامي عاجز (¬2). و- أن الاحتمال في التمسك بالخبر ابتداءً أقل. ز- أن ما ذكرنا من دليل السمع منع العمل به. " المسألة الثالثة" لا يجوز التقليد في أصول الدين خلافاً لبعض الفقهاء. لنا: أن تحصيل العلم فيها واجب على الرسول - صلى الله عليه وسلم - لقوله تعالى: {فَاعْلَمْ} (¬3) فكذا علينا لقوله تعالى: {فَاتَّبِعُوهُ} (¬4). فإن قيل: يمتنع إيجاب العلم بالله تعالى لما تقدم في تكليف ما لا يطاق، ثم إنه معارض بأنه عليه الصلاة والسلام كان يحكم بالإسلام بكلمتي الشهادة، وما كان يسأل عن حدوث الأجسام وأن الصانع تعالى موجب أو مختار. وفي هذه المسألة أبحاث دقيقة مذكورة في الكلام. ومنهم من استدل بأن الواجب تقليد الحق، ولا يعرف حقيقته إلاَّ بالدليل وبعد معرفة الدليل لا يبقى التقليد، وهو منقوض بالتقليد في الفروع إذ لا يجوز التقليد إلاَّ في فتوى مبنية على دليل شرعي، ومتى عرفه انتفى التقليد. والأولى أن يقال: دل القرآن على ذم التقليد في الشرعيات، ولما جاز التقليد في الفروع انصرف إلى الأصول. ¬
الكلام في أدلة مختلف فيها
الكلام في أدلة مختلف فيها
المسألة الأولى
" المسألة الأولى" الأصل في المنافع الإذن لوجوه: أ- قوله تعالى: {خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا} (¬1) واللام للاختصاص بجهة الانتفاع. وقال تعالى: {لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} (¬2). وقال عليه الصلاة والسلام: "النظرة الأولى لك والثانية عليك" (¬3). وقال عليه الصلاة والسلام: "له غنمه وعليه (¬4) غرمه" (¬5). ويقال هذا الكلام لك وهذا عليك. فإن قيل: إنه مستعمل في غير الاختصاص النافع. قال الله تعالى: {وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا} (¬6) وقال تعالى: {لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ} (¬7) ولأن النحاة قالوا: إنَّه للتمليك ثم إنَّه لا يعم كل نفع (¬8)، فيحمل على الانتفاع بالاستدلال به على الصانع، وإن عم فإنما يعمُ النفع بالخلق (¬9) لأنه دخل ¬
عليه، ثم إنّه قابل الجمع بالجمع فيقتضي مقابلة الفرد بالفرد، ثم إنَّ "في" للظرفية فيختص بالمعادن والركاز، وإن عمَّ ما على الأرض لكنه يتناوله حال الخلق ولا يمكن استصحاب الاختصاص لأنه عرض فلا يبقى. ثم أنه خطاب مشافهة فاختص بالحاضرين. ثم أنه معارض بقوله تعالى: {لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ}. والجواب (¬1) عن: أ- أنا لو جعلناه حقيقة في الاختصاص (¬2) النافع أمكن جعله مجازاً في الاختصاص ولا ينعكس فهو أولى. ب- أنهم (¬3) أرادوا بالملك الاختصاص النافع كقولهم: الجل للفرس. جـ- أن ذلك يحصل بالاستدلال بنفسه، فالحمل على غيره أولى. د- أن الخلق هو المخلوق لقوله تعالى: {هَذَا خَلْقُ اللَّهِ} (¬4). على أنه لا نفع (¬5) للمخلوق في صفة الله. هـ- أنه كقولهم: الدار لزيد وعمرو، وذلك (¬6) لا يقتضي اختصاص كل واحدٍ بجزءٍ معيَّن. و- أنه يتناول ما على الأرض لقوله تعالى: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} (¬7). ز- أن الإباحة حكم الله تعالى وأنه واجب الدوام. ح- أنه عليه الصلاة والسلام حاكم بما حكم الله به وقال عليه السلام: ¬
"حكمي على الواحد حكمي على الجماعة" (¬1). ب- قوله تعالى: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ} (¬2) أنكر حرمة زينة الله فوجب أن لا تكون حراماً (¬3)، ويلزم من انتفائها ثبوت الِإباحة. جـ - قوله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ} (¬4). د- أنه انتفاع لا ضرر فيه على المالك قطعاً لأنه هو الله تعالى، إذ ملك العبد لم يكن فيبقى على العلم. ولا على المنتفع ظاهراً فيباح (¬5) كالاستضاءة بسراج الغير والاستظلال بحائط خرج عنه المنهيات، لاشتمالها على ضرر المنتفع ظاهراً أما عندنا فمن العقاب وأما عندهم فمن نفس الفعل. فإن قيل: منع المالك من الاستضاءة قبحٌ ولا يقبح منع الله تعالى (¬6). قلنا: إنما يجب المساواة بين الأصل والفرع من الوجه المقصود. هـ- الله تعالى خلق الأعيان لمصلحة لقوله تعالى: {وَمَا خَلَقْنَا (¬7) السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ} (¬8). ولأن العبث لا يليق بالحكيم، وتلك المصلحة يعود نفعها إلى العبد المحتاج لاستحالة عودها إلى الله تعالى. وإذا كان المقصود نفع المحتاج، فلو منع إنما يمنع لاستلزامه ضرر محتاج آخر حالاً أو مالا وأنه خلاف الأصل. ¬
المسألة الثانية
" المسألة الثانية" الأصل في المضار الحرمة، والضرر هو تألم القلب. يقال: أضرَّ به إِذا ضربه وشتمه وفوت منفعته، فيجعل حقيقة في مشترك دفعاً للاشتراك والمجاز، وهذا (¬1) مشترك فيجعل حقيقة فيه. إذ الأصل عدم مشترك سواه، ونعني (¬2) بتألم القلب حالة تحصل عند الغم والحزن، فإنهما إذا حصلا انعصر دم القب في الباطن بانعصار القب وانعصار العضو مؤلم. فإن قيل: تفويت المنفعة مشترك أيضاً وجعله حقيقةً فيه أولى، لأنه يقابل بالنفع ثم من خرق (¬3) إنسانٍ يقال أضر به كان لم (¬4) يشعر به وألم القلب موقوف على الشعور، ولأنه تعالى أخبر أن عبادة الأصنام لا تضرهم بقوله: {قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ (¬5) اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا} (¬6). مع أنها تؤلم قلوبهم (¬7) يوم القيامة. والجواب (¬8) عن: أ- أنه لا يمكن (¬9) جعله حقيقة في تفويت (¬10) المنفعة لحصوله في البيع والهبة، ومقابلته بالنفع لا تضرنا فإن النفع هو اللذة أو ما هو وسيلة إِليها والضرر هو الألم أو ما يكون وسيلةً إِليه. ¬
المسألة الثالثة
ب (¬1) - إنه إنما يقال ذلك لأنه إنما أوجد ما لو علمه لتألم قلبه. ب- أن المراد نفي المضرة في الدنيا. إذا عرفت هذا فالمعتمد في تحريم الضرر (¬2) قوله عليه السلام: "لا ضرر ولا إضرار في الِإسلام" (¬3) وتمامه سؤالاً وجواباً في الخلاف. " المسألة الثالثة" استصحاب الحال (¬4) حجة. وهو قول المزني وأبي بكر الصيرفي خلافاً للحنفية والمتكلمين. لنا: أن العلم بتحقق أمرٍ في الحال يقتضي ظن بقائه، لأن الحادث مفتقر إلى المؤثر وفاقاً والباقي مستغنى عنه. وإلاَّ فأثره إن كان موجوداً لزم تحصيل الحاصل، بمعنى أن (¬5) الحاصل قيل يصدق عليه أنه حصل الآن، وإلًا لزم كونه مؤثراً في الحادث والمستغني عن المؤثر راجح، لأنه يجب كون الوجود أولى به وإلاَّ افتقر إلى المؤثر والمفتقر (¬6) ليس كذلك، وإلاَّ لم يكن مفتقراً (¬7)، ولأن عدم المستغني لمانع وعدم المفتفر له ولعدم المقتضي وما يعدم بطريقٍ واحدٍ راجح الوجود والعمل بالظن واجب. فإن قيل: إن عنيتم باستغناء الباقي عن المؤثرات فناء بقائه عنه بطل (¬8) ¬
افتقار الحادث إلى المؤثر، لأنه لم يكن حال حدوثه ثم وجد بعده فهو حادث، وإن عنيت به غيره فبيَّن. ثم يقول: أثر المبقي هو البقاء وهو الحصول في زمان بعد حصوله قبله وأنه حادث. قوله يلزم أن يكون مؤثراً في الحادث لا في الباقي (¬1)، قلنا: بعد تحقق المعنى لا تضرنا العبارة ثم الباقي ممكن، إذ الإمكان من لوازم الماهية الممكنة وهو المحوج إلى المؤثر، لأن الحدوث كيفية الوجود فيتأخر عن الوجود المتأخر عن تأثير المؤثر فيه المتأخر عن الاحتياج إلى المؤثر المتأخر عن علته. فلو كان الحدوث علة أو جزءاً أو شرطاً لزمِ الدور، ثم إن عنيتَ بأولوية الوجود امتناع العلم فهو باطل جزماً، وإن عنيت به أمراً متوسطاً بين الإمكان والضرورة فهو باطل، لأن تلك الأولويَّة إذا صح معها الوجود والعدم فترجح أحدهما على الآخر إن لم يتوقف على شيء آخر ترجح الممكن لا لمرجح وإن توقف لم تكن تلك الأولوية كافية (¬2) في الرجحان. ثم لا نسلم أن تعدد طرق العلم يوجب رجحان الوجود، ثم نعارضه بأن الحصول في الزمان الثاني حادث والبقاء (¬3) يتوقف عليه فامتنع رجحان الباقي على الحادث، ثم نقول لا نعرف رجحان الوجود ما لم نعرف البقاء. فالاستدلال برجحان الوجود على البقاء دور، ثم ما ذكرتم معارض بالتسوية بين الوقتين في الحكم، لاشتراكهما في العلة قياس وبدونه تسوية بلا دليل. والجواب عن: أ- أن الذات الحاصلة في الزمانين واحدة، فإن حصل معها في الزمان الثاني ما لم يكن معها في الأول، كان الباقي هو الذات لا المتجدد فلا يقدح افتقار المتجدد إلى المؤثر في استغناء الباقي عنه، وإن لم يحصل معها ذلك لم يكن كونه باقياً حادثاً. ¬
ب- أن البقاء لو كان زائداً على الذات وكان باقياً (¬1)، لزم التسلسل ولو كان حادثاً كان تأثير المؤثر في الحادث لا في الباقي. جـ- أن شرط الافتقار كونه بحيث لو وقع بالمؤثر لكان حادثاً، وهذه الحيثية سابقة. د- أن ترجح أحد المتساويين بلا مرجح، إنما يمتنع بشرط الحدوث. هـ- أن عدم الحادث أكثر من عدم الباقي، لأنه يصدق على ما لا نهاية له أنه لم يحدث، وعدم الباقي متوقف على الوجود المتناهي والكثرة توجب الظن وهذا يمكن التمسك به ابتداء. و- أن البقاء ليس أمراً زائداً، سلمنا لكن الحادث (¬2) مرجوح من حيث الوجود وكون حصول الوجود في الزمان الأول، والباقي مرجوح من حيث حصول الوجود في الزمان الثاني. ز- أنا نعرف رجحان الوجود في الزمان الثاني بمجرد العلم بوجوده في الحال. ح- أن التسوية بينهما لما ذكرنا من الدليل. واعلم أن الاستصحاب ضروري في أصل الشرع لتوقف إثبات النبوة على خرق العادة التي معناها: أن العلم بوقوع شيء على وجهٍ في الحال يقتضي ظن (¬3) أنه لو وقع لوقع على ذلك الوجه، وفي فروعه لتوقفها على عدم النسخِ الموقوف على الاستصحاب دفعاً للتسلسل، ولاتفاق الفقهاء على أنه (¬4) من تيَقن شيئاً وشك في عدمه أخذ باليقين، وفي العرف فإن من ترك عياله في داره (¬5) على حالة ترجح عنده بقاؤهم عليها بل أكثر مصالح العالم مبنية (¬6) عليه. ¬
المسألة الرابعة
" فرع" من قال النافي (¬1) لا دليل عليه إن أراد أن العلم بعدمه الأصلي (¬2) يوجب ظن دوامه، فهو ما قلنا وإن أراد به (¬3) أنه يعلم أو يظن بلا سبب فهو باطل. " المسألة الرابعة" (¬4) حد الكرخي الاستحسان (¬5): (بالعدول عن حكم في مسألةٍ بمثل حكمه في نظائرها إلى خلافه لوجهٍ أقوى). وهذا يوجب كون العدول عن العموم إلى الخصوص والمنسوخ إلى الناسخ استحساناً. وحده أبو الحسين بترك وجه من وجوه الاجتهاد لا يشمل شمول الألفاظ لوجهٍ أقوى، وهو كالطارئ على الأول (خرج بالأول التخصيص والنسخ، وبالثاني الحكم بأقوى القياسين، فإنه ليس في حكم الطارئ ولو كان في حكمه لكان استحساناً). لا يقال قال محمد بن الحسن (¬6): تركت الاستحسان للقياس كما لو قرأ آية سجدة في آخر سورة، فالقياس الاكتفاء بالركوع والاستحسان أن يسجد ثم يركع، لأنه إنما سماه استحساناً، لأن الاستحسان وحده وإن كان أقوى من القياس لكن انضم إلى القياس شيء آخر وترجح المجموع عليه. فإنه تعالى أقام الركوع مقام السجود في قوله تعالى: {وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ} (¬7) ¬
المسألة الخامسة
وهذا يقتضي أن كون (¬1) جميع الشريعة استحساناً فوجب أن يزاد (¬2) فيه مغايرة ذلك الوجه للبراءة الأصلية (¬3). ثم إن أصحابنا أنكروا الاستحسان على الحنفية، والخلاف ليس في اللفظ لورود لفظ (¬4) الاستحسان في قوله تعالى: {وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا} (¬5). وقوله تعالى: {فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ} (¬6). وفي قوله عليه الصلاة والسلام: "ما رآه المسلمون حسناً" (¬7). وفي قول الشافعي في المتعة. (استحسن أن يكون ثلاثين درهماً). وفي الشفعة (استحسن أن يثبت للشفيع الشفعة إلى ثلاثة أيام). وفي المكاتَب (استحسن أن يترك عليه شيء) بِل في المعنى وهو أن القياس إذا كان قائماً في سورة الاستحسان متروكاً فيها ومعمولاً به في غيرها، لزم تخصيص العلة (¬8) وهو عندنا وعند (¬9) جمهور المحققين باطل فبطل الاستحسان. " المسألة الخامسة" قول الصحابي وحده ليس بحجة، وقيل: إنه حجة، وقيل: إن خالف القياس فهو حجة، وقيل: قول الشيخين حجة فقط، وقيل: قول الخلفاء الأربعة فقط. لنا: دلاثل منع التقليد وإجماع الصحابة على جواز مخالفة كل واحد، ولم ينكر الشيخان على مخالفهما ولا كل منهما على صاحبه. ¬
احتجوا (¬1) بوجوه: أ - قوله عليه السلام: "أصحابي كالنجوم" (¬2). ب- قوله عليه الصلاة والسلام: "اقتدوا بالذين من بعدي أبي بكر وعمر" (¬3). وولى عبد الرحمن عثمان بشرط سيرة الشيخين فقبل بمحضر (¬4) أكابر الصحابة ولم ينكر عليه فكان إجماعاً. جـ- قوله عليه الصلاة والسلام: "عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي" (¬5). د- أن الصحابة لا تخالف القياس إلاَّ للخبر. والجواب عن: أ- أن ذلك الخطاب لعله مع العوام (¬6). ب- أنا نقول بموجبه لتجويزهما لغيرهما مخالفتهما بموجب الاجتهاد، وأيضاً لو اختلفا فأيهما يتبع وقبول (¬7) عثمان معارض برد علي. جـ- أن السنة الطريقة وهي المواظب عليه لا المأتي به مرة واحدة. د- أنه لعله خالف لخبر ظنه دليلاً، نعآلو تعارض قياسان والصحابي مع أحدهما ترجح به. ¬
" فرعان" الفرع الأول قال الشافعي في القديم يجوز تقليد الصحابي إذا انتشر قوله، ولم يخالف قوله (¬1) وقال في موضع: يقلد وإن لم ينتشر ومنع في الجديد مطلقا وهو الحق لما سبق، وثناء الله تعالى عليهم بقوله تعالى: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ} (¬2). وقال تعالى: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ} إلى قوله: {رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ} (¬3). وثناء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقوله: "خير القرون قرني" (¬4). فيوجب حسن الاعتقاد فيهم دون وجوب تقليدهم، لأنه ورد مثله في آحاد الصحابة مع إجماع الصحابة على جواز مخالفتهم. وقال عليه الصلاة والسلام: "لو وزن إيمان أبي بكر بإيمان العالمين لرجح" (¬5). وقال - صلى الله عليه وسلم -: "إن ضرب بالحق على لسان عمر" (¬6). وقال عليه الصلاة والسلام: "والله ما سلكت فَجاً إلَاَّ وسلك الشيطان فجاً غير فجك" (¬7). وقال: "اللهم أدر الحق مع علي حيثما دار" (¬8). ¬
وقال عليه الصلاة والسلام: "رضيت لأمتي ما رضى لها ابن أم عبد" (¬1). وقال عليه الصلاة والسلام لأبي بكر وعمر: "لو اجتمعتما على شيء ما خالفتكما" (¬2). " الفرع الثاني" في تفاريع القديم وهي سبعة (¬3) أ- روي عن علي أنه صلى في ليلة ست ركعات في كل ركعة ست سجدات، فقال الشافعي (¬4): لو ثبت ذلك عنه لقلت به إذ لا مجال للقياس فيه فالظاهر فعله توقيفاً. ب- قال (¬5) في موضع قول الصحابي إذا انتشر ولم يُخالَف حجة، فضعفه الغزالي (¬6) بأن السكوت ليس بقول فلا فرق. والعجب أنه أثبت القطع بخبر الواحد والقياس بمثل هذا الِإجماع. جـ- نص أن الصحابة إذا اختلفت فقول الأربعة (¬7)، فإن اختلفوا فقول الشيخين. د- نص أنه يجب الترجيح بقول الأعلم والأكثر قياساً. ¬
المسألة السادسة
هـ- إذا اختلف الحكم والفتوى رجّح مرةً الحكم، إذ الاعتناء به أشد وأخرى الفتوى إذ السكوت عن الحكم يحمل على الطاعة. و- في ترجيح أحد القياسين يقول الصحابي نظر، إذ ربما ظن المجتهد يقول الصحابي. ز- إذا حمل الصحابي الخبر على أحد معنييه قبل ترجيحه، وقال القاضي أبو بكر: (إن لم (¬1) يقل عرفت من قصده عليه السلام بقرينة لم يكن ترجيحاً). " المسألة السادسة" قطع مويس بن عمران (¬2) بجواز قول الله تعالى: أحكم فإنك لا تحكم إلاَّ بالحق. وقطع المعتزلة بامتناعه وتوقف فيه الشافعي وهو المختار. احتج المانعون على امتناعه بوجوه: أ- لو جاز هذا التكليف فإن تمت المصلحة باختيار المكلف، لم يكن ذلك تكليفاً بل إباحة إذ يصير معناه، إن اخترته فأفعل وإلاَّ فلا، أو يكون تكليفاً بما لا يمكنه الانفكاك عنه وهو الفعل أو الترك، وإن كان الفعل مصلحة قبل اختيار المكلف لكان مكلفاً بالِإصابة الاتفاقية في أشياء كثيرة، إذ لا فرق بين القليل والكثير وفاقاً وهوِ محال. وإلًا لجاز أن يقال للأمي: اكتب المصحف فإنك لا تكتب إلَا على ترتيب القرآن. وأن يقال: أخبر فإنك لا تخبر إلاَّ صدقاً. ¬
ب- ولكان مكلفاً بالفعل قبل العلم بحسنه وهو محال، إذ قصد الفعل إنما يحسن إذا علم حسنه، وقوله: افعل فإنك لا تفعل إلَاَ الحسن يقتضي أن يكون المميز بين الحسن والقبيح فعله وبعد الفعل يسقط التكليف. جـ- ولجاز ذلك في تصديق الأنبياء وتكذيب المتنبئين، وفي الأخبار ومسائل الأصول وتبليغ الأحكام بلا وحي. واحتجوا على عدم وقوعه بوجهين: أ- لو أمر عليه الصلاة والسلام بذلك لما نهى- عن اتباع هواه، إذ لا معنى له إلا الحكم على وفق إرادته. ولا يقال: لما أمر عليه الصلاة والسلام بذلك لم يكن الحكم على وفق إرادته اتباعاً للهوى، لأنه حينئذٍ يمتنع اتباعه للهوى وذلك يمنع نهيه عنه. ب- ولما قيل له مثلاً: {لِمَ أَذِنْتَ} (¬1). واحتج مويس على وقوعه في حقه عليه الصلاة والسلام بأمور: أ- نادى مناديه يوم فتح مكة أن اقتلوا مقيس (¬2) بن حبابة وابن أبي سرح (¬3)، ¬
وإن وجدتموهما متعلقين بأستار الكعبة، ثم عفى عن ابن أبي سرح بشفاعة عثمان (¬1). ب- قال يوم الفتح: إنَ الله حرِم مكة يوم خلق السموات والأرض لا يختلى خلاها. فقال: العباس إلاَّ الأذخر. فقال: إلاَّ الأذخر (¬2) (ولم يكونا بالوحي لعدم ظهور علامته). ب- نادى مناديه: (لا هجرة بعد الفتح حتى استفاض، فأقبل "جاشع بن مسعود (¬3) بالعباس شفيعاً) (¬4) لجعله مهاجراً بعد الفتح، فقال: (اشفَع عمي ولا هجرة بعد الفتح). ¬
د- لما قتل النضر (¬1) بن الحارث أنشدت إبنته: أمحمد ولأنت ضنو نجية ... من (¬2) قومها والفحل فحل معرق ما كان (¬3) ضرك لو مننت وربما ... من الفتى وهو المغيظ المحنق فقال عليه الصلاة والسلام: أما أني لو سمعت شعرها ما قتلته. هـ- قوله عليه الصلاة والسلام: "عفوت (¬4) لكم عن الخيل والرقيق" (¬5). و- قال عليه الصلاة والسلام: يا أيها الناس: كتب عليكم الحج فحجوا (¬6) ¬
فقال الأقرع (¬1) بن حابس: أكل عام يا رسول الله؟ فسكت حتى قالها ثلاثاً (¬2)، فلما أعاد قال: "والذي نفسي بيده لو قلتُ نعم لوجبت ولو وجبت لما استطعتم (¬3) دعوني ما ودعتكم" (¬4). ز- أخر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - العشاء ذات ليلة فخرج ورأسه يقطر فقال: "لولا أن أشق على أمتي لجعلت وقت هذه الصلاة هذا الحين" (¬5). ح- قال عليه الصلاة والسلام: "إني عسيت إن شاء الله أن أنهى أمتي أن (¬6) يسموا نافعاً وأفلح وبركة" (¬7). ط- لما قيل له - صلى الله عليه وسلم - إن ماعزاً (¬8) رجم قال: "لو تركتموه حتى أنظر في أمره" (¬9). ¬
ي- قوله عليه الصلاة والسلام: "كنت" (¬1) نهيتكم عن زيارة القبور ألا فزوروها" (¬2). واحتج على وقوعه في حق غيره بقوله تعالى: {كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ} (¬3). واحتج على الجواز (¬4) فقط بوجوه: أ- الواجب في خصال الكفارة واحدة، وقد فوضها إلى اختيار المكلف لما علم أنه لا يختار إلاَّ الواجب. ب- الواجب في التكليف تمكن المكلف الخروج عن العهدة، وأنه حاصل في هذا التكليف. جـ- لا فرق بين المتنازع وبين قوله: خذ بقول أي المفتيين (¬5) شئت. فإنك لا تفعل إلاَّ بالصواب إذا أفتى أحدهما بالحظر والآخر بالإباحة. والجواب عن أدلة الإمتناع: أنها مبنية على رعاية المصلحة، ونحن نمنعها وبعد تقدير (¬6) التسليم فالجواب عن: أ- منع امتناع القسم الأول فإن معنى هذا التكليف أنك إن اخترت الفعل فأحكم على الأمة بالفعل، وإن اخترت الترك فبالترك وذلك (¬7) ليس إباحة ولا تكليفاً بما لا يمكنه الانفكاك عنه. ثم إنه يُشْكِلُ بما إذا أفتى أحد المفتيَيْن المتساوَييْن بالحظر والآخر بالإباحة. ¬
ثم بمنع امتناع القسم الثاني وجواز الإصابة مرةً يفيد جوازها مراراً إذ حكم الشيء حكم مثله، والأمثلة المذكورة إن لم يكن بينها وبين المتنازع فرق منعنا الحكم فيها، وإن كان امتنع القياس على أن القياس لا يفيد اليقين، سلمنا أن الاتفاق بجميع جهاته لا يتكرر. لكن (¬1) ههنا اتفاق من حيث المصلحة ومعلوم السبب من حيث إنه جعل بحيث (¬2) لا يتأتى إلاَّ بالمصلحة، ثم الِإجماع على عدم الفرق بين القليل والكثير ممنوع. ب- بتفسير هذا التكليف (¬3) والنقض (¬4) المذكورين، وبأنه إنما (¬5) يجب تقدم التمييز بين الحُسنِ والقُبحِ أمناً لنا من فعل القبيح وأنه آمن دونه. جـ- منع امتناع اللوازم. وعن: وجهي عدم الوقوع: أن النهي عن اتباع الهوى لعله تقدم على هذا القول. وعن (¬6): الوجوه العشرة أنه (¬7) ربما تقدم وحي شرطي كقوله: إن استثنى أحدٌ شيئاً فاستثنِ ذلك أو كان ذلك بالاجتهاد. وعن (¬8): قوله: {إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ} (¬9) إنه قد يجوز التحريم بالنذر في شرعهم فحرم به أو بالاجتهاد. وعن: أول وجوه الجواز: منع أن الواجب واحدة متعينة. وعن (¬10) الباقيين: أن القياس لا يفيد اليقين. ¬
المسألة السابعة
" المسألة السابعة" مذهب الشافعي جواز الأخذ بأقل ما قيل إذا كان قولًا لكل الأمة، ولم يوجد دليل سمعي على الأكثر، وهو تمسك بالإجماع على وجوب الأقل وبالبراءة الأصلية على نفي الزائد خرج بالقيد الأول ما إذا أوجب مثلًا بعضهم في اليهودي، مثل دية المسلم وبعضهمِ نصفها وبعضهم ربعها والباقون لا يوجبون شيئاً، فإن وجوب الربع ليس قولًا لكل الأمة. وبالثاني: قول بعضهم بوجوب غسل ولوغ الكلب سبعاً، وقول (¬1) الباقين ثلاثاً لوجود دليل سمعي على الأكثر. فإن قيل: لما اشتغلت الذمة بشيء لم تحصل (¬2) البراءة يقيناً إلًا بالأكثر فوجب. قلنا: لا تشغل الذمة بالزائد إلا بدليل سمعي، وإلاَّ لزم تكليف ما لا يطاق ولم يوجد، وأيضاً لما تعبدنا بالبراءة الأصلية عند عدم السمع عرفنا البراءة عن الزيادة. " المسألة الثامنة" قيل: يجب الأخذ بأخف القولين بالنافي للعسر والحرج والضرر، ولأن الله تعالى غني كريم والعبد محتاج فالتحامل عليه أولى، وهذا يرجع إلى أن الأصل في المنفعة الإذن وفي المضرة المنع وقد تقدم. ولو (¬3) قيل: الأخذ بالأخف أخذ بالأقل. قلنا: الأخذ بالأقل شرط تقدم. وقيل: يجب الأخذ بالأثقل لقوله عليه الصلاة والسلام: "الحق ثقيل مرئ والباطل خفيف وبيء" (¬4). ¬
المسألة التاسعة
وجوابه: إن المهملة لا تفيد الكلية. تنبيه: طريقة الاحتياط إما الأخذ بأقل ما قيل أو بأكثره فلا يفرد بالذكر. " المسألة التاسعة" الاستقراء (¬1) الناقص لا يفيد اليقين لجواز أن يكون حكم نوع من جنس مخالفاً لغيره، والأظهر أنه لا يفيد الظن إلاَّ لمنفصل. وحيث يفيده فهو حجة لقوله عليه السلام: "اقض (¬2) بالظاهر" (¬3). " المسألة العاشرة" المصلحة إن شهد الشارع باعتبارها فهي (¬4) القياس، أو ببطلانها كما يقال للملك المفطر في نهار رمضان صم لكون الصوم عليه أشق من العتق، وهذا لا يجوز لأنه عدول عن حكم الله تعالى وتسقط الثقة عن فتوى العلماء، أو لا يشهد بواحدٍ منها ويسمى بالمصالح المرسلة. ثم قال الغزالي (¬5): الواقعة في محل الحاجة والتتمة لا يجوز التمسك بها، والواقعة في محل الضرورة لا يبعد جواز التمسك بها، إذا كانت قطعيةً ¬
كليةً كما إذا تترس الكفار بالمسلمين، ولو كففنا عن الترس لاستولوا على المسلمين فقتلوهم وقتلوا الترس. خرج بالقيد الأول ما إذا لم يقطع بتسلط الكفار لو لم يقصد الترس (¬1)، وقطع المضطر قطعةً من فخذه. وبالثاني: إذا تترسوا في قلعة. وطرح (¬2) واحدٍ من السفينة المشرفة على الهلاك. وقال مالك: يجوز التمسك بالمصلحة المرسلة محتجاً بأن الحكم إن اشتمل على المصلحة الخالصة (¬3) أو الراجحة وجب شرعيته، لأن ترك الخير الكثير لأجل الشر القليل شر كثير، وإن اشتمل على المفسدة الخالصة أو الراجحة لم يكن مشروعاً، إذ يجب بالضرورة دفع المفسدة الراجحة، وإن اشتمل على المصلحة المساوية (¬4) أو لم يشتمل على مصلحةٍ ولا مفسدةٍ فكذلك لكونه عبثاً (¬5). وكل حكم داخل تحت هذه الأقسام فثبت أن كل ¬
المسألة الحادية عشرة
مناسبة يشهد الشرع باعتبارها بحسب جنسها البعيد. فليكن حجته المنقول (¬1) والمعقول المذكورين في القياس، ولأنا نعلم بالضرورة أن الصحابة ما كانوا يلتفتون إلى الشرائط التي يعتبرها فقهاء الزمان بل كانوا يراعون (¬2) المصلحة. " المسألة الحادية عشرة" من الفقهاء من يستدل على عدم (¬3) الحكم بأن الحكم الشرعي لا بد له من دليل، وإلا لزم تكليف ما لا يطاق والدليل إما نص أو إجماع أو قياس لقصة معاذ. خولف في الِإجماع لمنفصل ولأن الأصل عدم ما سواها، ولأن ما سواها في الأمور العظام لوجوب الرجوع عنه شرعاً دائماً نفياً وإثباتاً، وشهرة مثله واجبة ولا نص لأنا لم نجده بعد البحث وهذا يكفي للمجتهد والمناظر تلوه، ولأنه لو وجد لعرفه الخصم ظاهرًا أو لما حَكَمَ بخلافه ظاهراً ولا إجماع (¬4) مع وجود الخلاف، ولا قياس لقيام الفرق بين الأصل الفلاني وبين الفرع. ولا أصل (¬5) سواه لعدم الوجدان بعد الطلب (¬6) وبالأصل، وهذا التقرير (¬7) يتوقف على أن عدم الوجدان بعد الطلب (¬8) يدل على العلم وعلى التمسك (¬9) بالأصل. ولو صح هذان لكفى أن يقال: الحكم لا بد له من دليل ولا دليل لهذين الوجهين فهو إذن أولى. ¬
فإن قيل: لو كان ما ذكرتم دليلًا لبطل حصر الأدلة الثلاثة، لا يقال: ما ذكرنا دليل على عدم الصحة وأنه ليس بالشرع لحصوله قبله. وأيضاً دليل عدم الصحة الِإجماع على أنه متى لم يوجد أحد الثلاثة لم يوجد الحكم، لأنه يلزم من عدم الصحة البطلان وأنه حكم شرعي، والِإجماع لا يدل على عدم الصحة بل على دلالة عدم الثلاثة عليه (¬1). ب- لو كان عدم دليل الوجود دليلاً لعدمه، لكان عدم دليل العدم دليل الوجود، لاستواء النسبتين وأنه يبطل الحصر ويقتضي أن لا يلزم انتفاء الوجود، إلا ببيان انتفاء عدم دليل العدم. وعدم العدم وجود فلا يلزم انتفاء الوجود، إلاَّ بوجود دليل العدم وذلك يغني عما ذكرته. جـ- اقتصرت في نفي النص على عدم الوِجدان دون القياس والخصم، كما يعتقد قياساً معينا دليلاً فقد يعتقد نصا معيناً دليلاً. د- قيام (¬2) الفارق لا ينفي القياس لجواز تعليل الحكم الواحد بعلتين. هـ- أنه مقلوب أبداً فإنه كما ينفي صحة البيع ينفي حرمة أخذ المبيع من البائع والثمن من المشتري. والجواب عن: أ- أن المدعى حصر المغير عن مقتضى الأصل، وما ذكرته مقرر والأولى في التحرير أن يقال: الأصل بقاء ما كان (¬3) على ما كان إلاَّ لدلالة شرعيةٍ مغيرة ولا مغير سوى الثلاثة، ولم يوجد واحد منها وإنما لم نكتف بذكر الأصل، لأن المجتهد لا يجوز له التمسك به إلاَّ بعد البحث وعدم وجدان المغيِّر. والمناظر تلوه إذ لا معنى للمناظرة إلاَّ بيان وجه الاجتهاد. ب- أن الاستدلال بعدم المنافي يلزمه إثبات (¬4) ما لا نهاية له، وأنه ممتنع ¬
المسألة الثانية عشرة
وإعدام ما لا نهاية له ممكن، ولأن عدم ظهور المعجز دليل عدم النبوة، وليس عدم دليل عدم (¬1) النبوة دليلِ النبوة، ولأنه يصح أن يقال: لم يأذن لي في التصرف. فأكون ممنوعاً. ولا يصح أن يقال: ما نهاني عن التصرف فأكون مأذوناً، ولأن دليل كل شيء ما يليق به فدليل العدم العدم، ودليل الوجود الوجود، ولئن سلمنا التساوي لكن الأصل يعضد عدم دليل الوجود. جـ- أنه متعلق بالاصطلاح. د- أنه ممنوع في المستنبطتين (¬2). هـ- أن الأصل لا يجب (¬3) كونه مشتركاً بين الدعوتين (¬4). " المسألة الثانية عشرة" الحكم العدمي يمكن إثباته بوجوه: أ- هذا الحكم لم يكن إذ الحكم بدون المحكوم عليه عبث، والمعنى من الحكم كون الشخص مقولاً له، إن لم تفعل في هذه الساعة عاقبتك والأصل بقاؤه على العدم. ب- لو ثبت الحكم لثبت لدلالةٍ أو أمارةٍ والأول باطل إجماعاً، وكذا الثاني بالنافي (¬5) لاتباع الظن. جـ- لو ثبت الحكم لثبت لمصلحةٍ عائدةٍ إلى العبد لامتناع العبث وعود النفع إلى الله تعالى، والله تعالى قادر على إيصال جميع المنافع إلى العبد ابتداءً فتوسط (¬6) الحكم عبث، تُرِكَ العمل به في المتفق فبقي في المختلف. ¬
د - أن هذه الصِورة تفارق الصورة الفلانية في أمرٍ مناسب، فتفارقها في الحكم، وإلَا فإن أضيف الحكم فيهما إلى المشترك لزم إلغاء الفارق المناسب، وإلا لزم إسناد الحكمين المتماثلين إلى مختلفين (¬1)، وأنه باطل لأن إسناد (¬2) أحدهما إلى علته (¬3) إن كان لذاته أو للوازمها (¬4) لزم ذلك في الآخرة، وإلا امتنع إسناده (¬5) إليها لكونه مستغنياً في ذاته عنها. هـ- لو ثبت هنا (¬6) لثبت في كذا. و- الحكم كان منتفياً في أوقات مقدرة غير متناهية، وغير المتناهي أكثر من المتناهي والكثرة مظنة الظن. ز- إن هذا الحكم يفضي إلى الضرر، لأنه إذا دعاه الداعي إلى خلافه فإن تبع الداعي لزم العقاب، وإلا لزم ترك المراد فوجب أن لا يكون للنافي (¬7) للضرر. ح - إثبات الحكم بلا دليل تكليف ما لا يطاق، ولا دليل إذ يجب كونه حادثاً، وإلَا فإنْ كان الحكم قديماً لزم العبث وإلاَّ لزم النقض، والأصل بقاء الحادث على العدم ولأن كونه دليلاً (¬8) يتوقف على حدوث ذاته وحدوث وصف كونه دليلاً، والموقوف على أمرين مرجوح بالنسبة إلى الموقوف على واحد. وأما الحكم الوجودي فيمكن إثباته بوجوه: أ- قال به مجتهد فلاني فيكون حقاً لقوله عليه الصلاة والسلام: "ظن ¬
المؤمن لا يخطئ" (¬1). ترك العمل به في العامي، إذ لا يستند ظنه (¬2) إلى وجهٍ صحيح ولا يعارض قول النافي (¬3)، لأن المثبت راجح على النافي لما بينا في التراجيح، ولأن قول النافي قد يكون لعدم ظن الوجود وظن (¬4) المثبت إنما يكون لظن الوجود. ب- ثبت الحكم في كذا فيثبت هنا لقوله تعالى: {فَاعْتَبِرُوا} (¬5) وقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ} (¬6). ولأنه عليه الصلاة والسلام: "شبه (¬7) القبلة بالمضمضة" (¬8). فيجب علينا تشبيه الحكم بالحكم لقوله تعالى: {فَاتَّبِعُوهُ} (¬9). ¬
ولأن أبا بكر شبّه العقد بالعهد. وعمر أمر أبا موسى (¬1) بالقياس فيجب الاقتداء بهما لقوله عليه الصلاة والسلام: "اقتدوا باللذيْن من بعدي أبي بكرٍ وعمر" (¬2). ولأن الحكم إنما يثبت لمصلحة موجودة هنا. جـ- حكم (¬3) ما ثبت لمصلحة، وهذا الحكم يحصل مصلحة فيعلل بالقدر المشترك. د- هذا الحكم يتضمن مصلحة المكلف (¬4) وأنه داعي إلى شرعه والداعي لا يخرج عن كونه داعياً إلا لمعارض والأصل عدمه (¬5). وإنما جمعت هذه الوجوه لكثرة دورانها على ألسن المتناظرين في هذا الزمان. وإذ وفينا بالمقصود ختمنا الكتاب حامدين لله تعالى، ومصلين على نبيه محمد وآله أجمعين وسلم تسليماً كثيراً (¬6)، (¬7). ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
فهرس مراجع التحقيق
فهرس مراجع التحقيق (أ) القرآن وعلومه أسباب النزول: للواحدي أبي الحسن علي بن أحمد، المتوفى سنة 468 هـ الطبعة الثانية سنة 1378 هـ طبع مصطفى البابي الحلبي. تفسير الرازي: المسمى بمفاتيح الغيب للِإمام محمد بن عمر الرازي، المتوفى 606 هـ الطبعة الأولى بالمطبعة الخيرية بالقاهرة سنة 1307 هـ وبهامشه تفسير أبي السعود. تفسير ابن كثير: المتوفى سنة 774 هـ، طبع دار الشعب سنة 1390 هـ. تفسير الطبري: تأليف محمد بن جرير الطبري، طبع مصطفى البابي الحلبي الطبعة الثالثة سنة 1388 هـ. تفسير القرطبي: المسمى بالجامع لأحكام القرآن لأبي عبد الله محمد بن أحمد الأنصاري القرطبي، المتوفى سنة 671 هـ الطبعة الثالثة عن طبعة دار الكتب المصرية طبع دار الكتاب العربي سنة 1387 هـ. الدر المنثور: في التفسير المأثور لجلال الدين السيوطي، المتوفى سنة 911 هـ طبع المطبعة الإِسلامية بطهران سنة 1377 هـ في ستة أجزاء. فتح القدير: الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير لمحمد بن علي الشوكاني المتوفى سنة 1250 هـ، طبع مصطفى البابي الحلبي سنة 1351 هـ في خمسة مجلدات.
(ب) الحديث وعلومه
الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل: تأليف جار الله محمود بن عمر الزمخشري المتوفى سنة 538 هـ، طبع مصطفى البابي الحلبي سنة 1385 هـ في أربعة مجلدات. المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم: لجنة من مجمع اللغة العربية، طبع الهيئة المصرية العامة للكتاب سنة 1973 م. (ب) الحديث وعلومه أسنى المطالب في أحاديث مختلفة المراتب: للحوت البيروتي الطبعة الأولى سنة 1355 هـ، طبع المكتبة التجارية الكبرى. بلوغ المرام: لابن حجر العسقلاني المتوفى سنة 852 هـ، طبع المكتبة التجارية بالقاهرة سنة 1928 تحقيق محمد حامد الفقي. التلخيص الحبير في تخريج أحاديث الرافعي الكبير: لابن حجر العسقلاني، طبع شركة الطباعة الفنية المتحدة بالقاهرة. تميز الطيب من الخبيث فيما يدور على ألسنة الناس من الحديث: لابن الديبع الشيباني، طبع محمد علي صبيح سنة 1382 هـ. تيسير الوصول إلى جامع الأصول: لابن الديبع الشيباني مصطفى الحلبي. جامع الأصول: للِإمام أبي السعادات مبارك بن محمد ابن الأثير الجزري المتوفى سنة 606 هـ، الطبعة الأولى مطبعة السنة المحمدية سنة 1368 هـ. سنن الترمذي المسمى بالجامع الصحيح: لأبي عيسى محمد بن عيسى المتوفى سنة 279 هـ، تحقيق أحمد شاكر طبع مصطفى البابي الحلبي سنة 1356 هـ. سنن الدارمي: طبع شركة الطباعة الفنية المتحدة القاهرة سنة 1386 هـ، بتحقيق عبد الله هاشم اليماني. سنن أبي داود السجستاني: تحقيق وتعليق أحمد سعد علي الطبعة الأولى، طبع مصطفى البابي الحلبي سنة 1371 هـ.
سنن البيهقي الكبرى: للِإمام أحمد بن الحسين المتوفى سنة 458 هـ، وفي ذيله الجوهر النقي لعلاء الدين بن التركماني المتوفى سنة 745 هـ، الطبعة الأولى بدائرة المعارف النظامية بالهند سنة 1344 هـ. سنن الدارقطني: للإمام علي بن عمر الدارقطني المتوفى سنة 385 هـ، تحقيق عبد الله هاشم يماني شركة الطباعة الفنية المتحدة بمصر سنة 1386 هـ. سنن ابن ماجة القزويني: المتوفى سنة 275 هـ، تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي طبع عيسى البابي الحلبي سنة 1972 م. سنن النسائي: ومعه شرح زهر الربا طبع المطبعة النظامية سنة 1296 هـ. شرح النووي على مسلم: تحقيق عبد الله أحمد أبو زينة طبع دار الشعب. صحيح البخاري: طبع دار الشعب. صحيح مسلم: طبع محمد علي صبيح بالأزهر. فتح الباري شرح صحيح البخاري: للِإمام أحمد بن علي بن حجر العسقلاني المتوفى سنة 852 هـ، طبع السلفية بالقاهرة سنة 1380 هـ. الفتح الكبير في ضم الزيادة إلى الجامع الصغير: لجلال الدين السيوطي، طبع دار الكتب العربية الكبرى سنة 1350 هـ لصاحبها مصطفى البابي الحلبي في ثلاثة أجزاء. الفوائد المجموعة في الأحاديث الموضوعة: لمحمد بن علي الشوكاني المتوفى سنة 1250 هـ، تحقيق عبد الرحمن المعلمي اليماني الطبعة الأولى بمطبعة السنة المحمدية سنة 1380 هـ. فيض القدير شرح الجامع الصغير: للعلامة المناوي الطبعة الأولى، طبع مطبعة مصطفى محمد صاحب المكتبة التجارية الكبرى بمصر سنة 1356 هـ.
كشف الخفا ومزيل الِإلباس عما اشتهر من الأحاديث على ألسنة الناس: للشيخ إسماعيل بن محمد العجلوني المتوفى سنة 1162 هـ، طبع مكتبة القدسي سنة 1351 هـ في جزءين. مجمع الزوائد ومنبع الفوائد: للحافظ نور الدين علي بن أبي بكر الهيثمي المتوفي سنة 807 هـ، طبع مطبعة القدسي بالقاهرة سنة 1353 هـ مرعاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح: للعلامة عبيد الله المباركفوري المطبعة السلفية ببنارس الهند الطبعة الثانية سنة 1394 هـ. مشكاة المصابيح: تأليف ولي الدين محمد بن عبد الله الخطيب التبريزي، تحقيق محمد ناصر الدين الألباني منشورات المكتب الِإسلامي الطبعة الأولى سنة 1380 هـ. مسند أحمد بن حنبل: طبع دار المصادر للطباعة والنشر ببيروت. مسند ابن الجارود: المتوفى سنة 307 هـ تحقيق عبد الله هاشم اليماني، طبع مطبعة الفجالة الجديدة سنة 1382 هـ. مسند الطيالسي أبي داود: المتوفى سنة 304 هـ، الطبعة الأولى سنة 1372 هـ. بالمطبعة المنيرية بالأزهر. المستدرك على الصحيحين: للحاكم النيسابوري محمد بن عبد الله المتوفى سنة 405 هـ، طبع مطابع النصر الحديثة بالرياض. المعجم المفهرس لألفاظ الحديث النبوي: نشر الدكتور ونسنك طبع مكتبة بريل في مدينة ليدن سنة 1936 م. منتقى الأخبار: تأليف مجد الدين عبد السلام بن عبد الله بن تيمية المتوفى سنة 652 هـ طبع المطبعة السلفية. موطأ مالك بن أنس: تعليق محمد فؤاد عبد الباقي، طبع عيسى البابي الحلبي سنة 1370 هـ.
(جـ) الفقه وأصوله
المقاصد الحسنة في بيان كثير من الأحاديث المشتهرة على الألسنة: للحافظ السخاوي المتوفى سنة 902 هـ، طبع دار الأدب العربي للطباعة سنة 1375 هـ. نصب الراية لأحاديث الهداية: للعلامة جمال الدين عبد الله يوسف الزيلعي الحنفي، المتوفى سنة 762 هـ مع حاشية بغية الألمعي نشر المكتبة الإسلامية الطبعة الثانية سنة 1393 هـ. نيل الأوطار شرح منتقى الأخبار: تأليف محمد بن علي الشوكاني المتوفى سنة 1250 هـ، طبع مصطفى البابي الحلبي الطبعة الثالثة سنة 1380 هـ. هداية الباري إلى ترتيب أحاديث البخاري: للشيخ عبد الرحيم عنبر الطهطاوي، مطبعة الاستقامة الطبعة الأولى سنة 1353 هـ في جزءين. (جـ) الفقه وأصوله الإحكام في أصول الفقه: للعلامة سيف الدين، المتوفى سنة 635 هـ طبع محمد علي صبيح سنة 1387 هـ. إرشاد الفصول إلى تحقيق الحق من علم الأصول: تأليف محمد بن علي الشوكاني المتوفى سنة 1250 هـ الطبعة الأولى، طبع مصطفى البابي الحلبي سنة 1356 هـ. الأشباه والنظائر في قواعد وفروع الشافعية: للإمام جلال الدين السيوطي، مطبعة البابي الحلبي سنة 1378 هـ. الأشباه والنظائر على مذهب أبي حنيفة النعمان: للإمام زين العابدين بن نجم، سجل العرب القاهرة سنة 1387 هـ. تيسير التحرير على كتاب التحرير: للبخاري، طبع مصطفى البابي الحلبي سنة 1350 هـ.
جمع الجوامع: لتاج الدين عبد الوهاب السبكي، طبع عيسى البابي الحلبي. حاشية التفتزاني: على شرح العضد على مختصر ابن الحاجب، بمراجعة شعبان محمد إسماعيل الفجالة الجديدة سنة 1393 هـ. حل عقد التحصيل: لبدر الدين محمد بن أسعد التستري، مخطوطة بدار الكتب بالقاهرة برقم 14 م أصول الفقه. شفاء الغليل لحجة الإسلام الغزالي: تحقيق الدكتور حمد الكبيسي مطبعة الإرشاد بغداد سنة 1390 هـ. المجموع شرح المهذب: لمحيي الدين النووي والسبكي طبع مطبعة العاصمة. المحصول: لفخر الدين محمد بن عمر الرازي، مخطوطة من مكتبة البودليانسا بجامعة أكسفورد بلندن. المستصفى من علم الأصول: لحجة الإسلام أبي حامد الغزالي، طبع شركة الطباعة الفنية المتحدة سنة 1391 هـ والطبعة الأولى بالأميرية سنة 1322 هـ. المعتمد: لأبي الحسين البصري المتوفى سنة 436 هـ، طبع الكاثوليكية ببيروت سنة 1951 م. مغني المحتاج إلى معرفة معاني ألفاظ المنهاج: للشيخ الشربيني الخطيب، طبع مصطفى البابي الحلبي بمصر سنة 1377 هـ. المغني: لابن قدامة الحنبلي المتوفى سنة 620 هـ، طبع دار الكتاب العربي ببيروت سنة 1392 هـ. ملخص إبطال القياس والرأي والاستحسان والتقليد والتعليل: للِإمام الحافظ ابن حزم الأندلسي مطبعة جامعة دمشق سنة 1379 هـ جزء واحد.
(د) كتب اللغة
شرح تنقيح الفصول: لشهاب الدين أبي العباس أحمد بن إدريس القرافي المتوفى سنة 684 هـ، تحقيق طه عبد الرؤوف سعد الطبعة الأولى الفنية المتحدة سنة 1393 هـ. المنخول من تعليقات الأصول: لحجة الإسلام أبي حامد الغزالي المتوفى سنة 505 هـ، حققه محمد حسن هيتو. منهاج الوصول في علم الأصول: تأليف القاضي البيضاوي المتوفى سنة 685 هـ، طبع محمدعلي صبيح سنة 1389 هـ. نهاية السول: للإمام جمال الدين عبد الرحيم الأسنوي المتوفى سنة 772 هـ، طبع محمد علي صبيح في ثلاثة أجزاء. الهداية مع شرحها فتح القدير: تاليف المرغيناني المتوفى سنة 593 هـ، وفتح القدير لابن الهمام طبع مصطفى البابي الحلبي الطبعة الأولى سنة 1389 هـ. (د) كتب اللغة إنباه الرواة على أنباء النحاة: لجمال الدين علي بن يوسف القفطي، تحقيق محمد أبي الفضل إبراهيم طبع دار الكتب المصرية سنة 1369 هـ. الأغاني: تأليف أبي الفرج الأصبهاني المتوفى سنة 976 هـ، مصور عن طبعة دار الكتب سنة 1383 هـ. أوضح المسالك إلى ألفية ابن مالك: إلى ابن هشام المتوفى سنة 761 هـ، طبع الحلبي سنة 1950 م. تاج العروس: للزبيدي طبع دار صادر بيروت سنة 1386 هـ. تاريخ آداب اللغة العربية: لجرجي زيدان، طبع مطبعة الهلال بالفجالة سنة 1911 م.
تهذيب اللغة: للأزهري أبي منصور محمد بن أحمد الأزهري المتوفى سنة 370 هـ، تحقيق عبد السلام محمد هارون طبع دار القومية العربية للطباعة والنشر سنة 1384 هـ. جواهر الأدب في صناعة إنشاء العرب: لأحمد الهاشمي، طبع مطبعة النيل سنة 1319 هـ. جمهرة أشعار العرب في الجاهلية والإسلام: تأليف محمد بن أبي الخطاب القرشي، تحقيق محمد البجاوي الطبعة الأولى طبع مطبعة لجنة البيان العربي. حاشية الخضري: للشافعي المتوفى سنة 1213 هـ، على ألفية ابن مالك على شرح ابن عقيل طبع مطبعة الحلبي سنة 1940 م. خزانة الأدب: للشيخ عبد القادر بن عمر البغدادي المتوفى سنة 1093 هـ، الطبعة الأولى بالمطبعة الميرية ببولاق. الخصائص: تأليف أبي الفتح عثمان بن جني تحقيق محمد علي النجار، طبع دار الهدى للطباعة والنشر بيروت الطبعة الثانية. ديوان امرئ القيس: المتوفى 80 قبل الهجرة، الطبعة الثانية دار المعارف بالقاهرة سنة 1964 م. سقط الزند: لأبي العلاء المعري وشروحه، نشر الدار القومية للطباعة والنشر سنة 1383 هـ. شذى العرف في فن الصرف: طبع البابي الحلبي سنة 1957 م. الشعر والشعراء: لابن قتيبة تحقيق أحمد محمد شاكر، طبع دار المعارف بمصر سنة 1966 م. شواهد المغني: للِإمام جلال الدين السيوطي المتوفى سنة 911 هـ، طبع محمد أفندي مصطفى بالغورية سنة 1322 هـ. صحيح الأعشى في صناعة الإنشا: تأليف أبي العباس القلقشندي المتوفى سنة 821 هـ، مصورة عن الطبعة الأميرية طبع المؤسسة المصرية العامة.
(هـ) كتب التراجم والتاريخ
الكتاب: لسيبويه تحقيق عبد السلام محمد هارون، طبع الهيئة المصرية العامة بمصر سنة 1977 م. مراتب النحويين: لأبي الطيب اللغوي، تحقيق أبي الفضل ابراهيم القاهرة سنة 1955 م. معاهد التنصيص على شواهد التلخيص: للشيخ عبد الرحيم بن أحمد العباسي المتوفى سنة 963 هـ، تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد طبع مطبعة السعادة 1947 م. مجمع الأمثال: لأبي الفضل أحمد بن محمد النيسابوري الميداني المتوفى سنة 518 هـ، طبع المطبعة البهية سنة 1342 هـ. مصدر الدراسة الأدبية: ليوسف أسعد داغر، المطبعة المخلصية لبنان 1961 م. معجم الشعراء: لمحمد بن عمران بن موسى المرزباني، طبع عيسى البابي الحلبي سنة 1379 هـ. معجم شواهد العربية: تأليف عبد السلام هارون طبع مؤسسة الخانجي بالقاهرة. المغني: لابن هشام الأنصاري الطبعة الأولى بالمطبعة الأزهرية سنة 1317 هـ. نهاية الأرب في فنون الأدب: تأليف أحمد بن عبد الوهاب النويري المتوفى سنة 733 هـ، تحقيق علي محمد البجاوي طبع الهيئة المصرية العامة للكتاب سنة 1396 هـ. (هـ) كتب التراجم والتاريخ إرشاد الأديب إلى معرفة الأديب: لياقوت الحموي المتوفى سنة 626 هـ، مطبعة هندية سنة 1927 م. الأعلام: تأليف خير الدين الزركلي، الطبعة الثالثة بمدينة ليدن سنة 1934 م.
الأنساب: تأليف عبد الكريم السمعاني المتوفى سنة 562 هـ، طبع مكتبة المثنى سنة 1970 م. أخبار أصفهان: لأبي نعيم أحمد بن عبد الله الأصبهاني المتوفى سنة 430 هـ، طبع مطبعة بريل. الاستيعاب: لابن عبد البر النمري، طبع نهضة مصر تحقيق علي محمد البجاوي. الإصابة في تمييز الصحابة: لابن حجر العسقلاني طبع المطبعة الشرقية 1325 هـ، ما عدا الجزء الأول والثاني طبع السعادة سنة 1323 هـ. أعلام النساء في عالمي العرب والِإسلام: تأليف عمر رضا كحالة، طبع المطبعة الهاشمية بدمشق. إعجام الأعلام: تأليف الأستاذ محمود مصطفى، طبع المطبعة الرحمانية بمصر سنة 1354 هـ. أسد الغابة في معرفة الصحابة: تأليف ابن الأثير الجزري المتوفى سنة 630 هـ، طبع دار الشعب. أمالي المرتضى: (غرر الفرائد ودرر القلائد) لعلي بن الحسين الموسوي العلوي، تحقيق أبي الفضل إبراهيم طبع عيسى البابي الحلبي الطبعة الأولى سنة 1373 هـ. بغية الوعاة في طبقات اللغويين والنحاة: للحافظ جلال الدين السيوطي المتوفى سنة 911 هـ، تحقيق محمد أبي الفضل إبراهيم الطبعة الأولى بمطبعة عيسى البابي الحلبي سنة 1384 هـ. البداية والنهاية: لأبي الفداء الحافظ ابن كثير المتوفى سنة 774 هـ، الطبعة الأولى سنة 1966 م. تاريخ اليعقوبي: أحمد بن أبي يعقوب العباسي، طبع دار صادر بيروت سنة 1379 هـ.
التاج المكلل من جواهر مآثر الطراز الأخر والأول: لصديق حسن القتوجي المتوفى سنة 1307 هـ، تعليق عبد الحكيم شرف الدين طبع المطبعة الهندية العربية سنة 1383 هـ. تاريخ الِإسلام وطبقات المشاهير والأعلام: للحافظ الذهبي نشر مكتبة القدسي. تاريخ الحكماء: لعلي بن يوسف القفطي طبع ليبسك سنة 1320 هـ. تقريب التهذيب: لابن حجر العسقلاني، طبع دار الكتاب العربي بالقاهرة سنة 1380 هـ، تحقيق عبد اللطيف عبد الوهاب. تاريخ الطبري تاريخ الرسل والملوك: لأبي جعفر الطبري المتوفى سنة 310 هـ، تحقيق محمد أبي الفضل إبراهيم طبع دار المعارف الطبعة الثانية. تاريخ الخميس في أحوال أنفس نفيس: تأليف الشيخ حسين الديار بكري، طبع مؤسسة شعبان بيروت. تذكرة الحفاظ: للذهبي المتوفى سنة 748 هـ، نشر دار إحياء التراث العربي بيروت. تهذيب التهذيب: لابن حجر العسقلاني، طبع دار صادر بيروت مصورة عن طبعة مجلس دائرة المعارف النظامية بالهند سنة 1326 هـ. دول الإسلام: للذهبي شمس الدين المتوفى في سنة 748 هـ، طبع مطابع الهيئة المصرية العامة للكتاب سنة 1974 م تحقيق فهيم محمد شلتوت. تاريخ بغداد: للحافظ أبي بكر أحمد بن علي الخطيب البغدادي المتوفى سنة 463 هـ، نشر دار الكتاب العربي بيروت. تاريخ التشريع: للخضري مطبعة دار إحياء الكتب العربية القاهرة سنة 1926 م. تبين كذب المفترى على الإمام الأشعري: للحافظ ابن عساكر طبعة القدسي بدمشق.
تبصير المنتبه بتحرير المشتبه: تأليف ابن حجر العسقلاني المتوفى سنة 852 هـ، تحقيق محمد علي النجار طبع مطبعة دار القومية العربية للطباعة سنة 1967 م. تاريخ ابن عساكر: تحقيق محمد أحمد دهمان، طبع المجمع العلمي العربي بدمشق. التحفة البهية في طبقات الشافعية: تاليف عبد الله حجازي الشهير بالشرقاوي. الجواهر المضيئة في طبقات الحنفية: في الدين عبد القادر بن محمد القرشي المتوفى سنة 775 هـ، تحقيق عبد المفتاح الحلو طبع عيسى البابي الحلبي سنة 1398 هـ. حلية الأولياء وطبقات الأصفياء: للحافظ أبي نعيم الأصبهاني المتوفى سنة 430 هـ، طبع دار الكتاب العربي بيروت الطبعة الثانية سنة 1387 هـ. الحوادث الجامعة: لكمال الدين أبي الفضل عبد الرزاق بن الفوطي، طبع المكتبة العربية بغداد سنة 1351 هـ. حسن المحاضرة في مصر والقاهرة: للحافظ جلال الدين السيوطي المتوفى سنة 911 هـ، تحقيق محمد أبي الفضل إبراهيم طبع عيسى البابي الحلبي الطبعة الأولى سنة 1387 هـ. الديباج المذهب في معرفة أعيان علماء المذهب: للِإمام بن فرحون المدني، الطبعة الأولى سنة 1351 هـ بمطبعة المعاهد في الجمالية. دائرة المعارف: للبستاني، طبع بيروت سنة 1876 م. دائرة المعارف الإسلامية: لجماعة من المستشرقين طبع دار الشعب. رجال الطوسي: أبي جعفر محمد بن الحسن المتوفى سنة 460 هـ، الطبعة الأولى طبع المطبعة الحيدرية في النجف سنة 1381 هـ.
الروض الأنف في تفسير السيرة النبوية: لابن هشام لعبد الرحمن بن عبد الله السهيلي المتوفى سنة 581 هـ، طبع الفنية المتحدة بالعباسية سنة 1972 م. الرياض النضرة في مناقب العشرة: تأليف أبي جعفر الطبري الطبعة الثانية سنة 1372 هـ، طبع مطبعة دار التأليف. روضات الجنان في أحوال العلماء والسادات: تاليف العلامة الخوانساري تحقيق أسد الله إسماعيليان، طبع الحيدرية طهران سنة 1390 هـ. سير أعلام النبلاء: تأليف شمس الدين الذهبي المتوفى سنة 748 هـ، تحقيق الدكتور صلاح الدين المنجد، طبع دار المعارف سنة 1962. سيرة ابن هشام 9 المتوفى سنة 218 هـ الطبعة الثانية بمطبعة مصطفى البابي الحلبي سنة 1375 هـ. شذرات الذهب في أخبار من ذهب: للمؤرخ ابن العماد الحنبلي المتوفى سنة 1089 هـ، طبع دار المكتب التجاري ببيروت. صفة الصفوة: تأليف جمال الدين أبي الفرج بن الجوزي، المتوفى سنة 597 هـ، طبع مطبعة الأصيل حلب الطبعة الأولى سنة 1389 هـ. طبقات الأصوليين: المسمى بالفتح المبين، تأليف عبد الله مصطفى المراغي الطبعة الثانية سنة 1394 هـ، نشر محمد أمين دمج. طبقات ابن السبكي: المتوفى سنة 771 هـ، تحقيق عبد المفتاح الحلو ومحمود الطناحي الطبعة الأولى عيسى البابي الحلبي سنة 1383 هـ. طبقات الأسنوي: المتوفى سنة 772 هـ، تحقيق عبد الله الجبوري مطبعة الِإرشاد ببغداد الطبعة الأولى سنة 1392 هـ.
طبقات المعتزلة: تأليف القاضي عبد الجبار بن أحمد الهمذاني المعتزلي المتوفى سنة 415 هـ، تحقيق وتعليق علي سامي النشار طبع دار المطبوعات الجامعية سنة 1972 م. طبقات النحاة واللغويين: تأليف تقي الدين ابن قاضي شهبة الأسدي المتوفى سنة 851 هـ، تحقيق محسن غياض بمطبعة النعمان بالنجف الأشرف سنة 1974 م. طبقات ابن سعد: الواقدي، طبع دار التحرير بالقاهرة سنة 1388 هـ. طبقات القراء: لشمس الدين الذهبي المتوفى سنة 748 هـ، تحقيق محمد سيد جاد- الطبعة الأولى بمطبعة دار التأليف سنة 1969 م. طبقات الشافعية: لأبي بكر بن هداية الله الحسيني المتوفى سنة 1014 هـ، حققه عادل نويهض طبع دار الآفاق الجديدة بيروت الطبعة الأولى سنة 1972 م مجلد واحد. طبقات الحفاظ: للسيوطي المتوفى سنة 911 هـ، تحقيق علي محمد عمر، الطبعة الأولى سنة 1393 هـ، مطبعة الاستقلال الكبرى. طبقات الحنابلة: للقاضي أبي الحسين محمد بن أبي يعلى، تصحيح محمد حامد الفقي، طبع مطبعة السنة المحمدية بالقاهرة سنة 1371 هـ. عيون الأنباء في طبقات الأطباء: تأليف ابن أبي أصيبعة المتوفى سنة 668 هـ. تحقيق الدكتور نزار رضا، طبع مكتبة الحياة بيروت سنة 1965 م. العبر في خبر من غبر: للحافظ الذهبي المتوفى سنة 748 هـ، تحقيق الدكتور صلاح الدين المنجد طبع الكويت سنة 1960 م. الفهرست: لابن النديم طبع المطبعة الرحمانية بمصر.
فوات الصفيات: تأليف محمد بن شاكر بن أحمد الكتبي المتوفى عام 764 هـ، تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد طبع مكتبة النهضة المصرية. الفلاكة والمفلوكين: تأليف أحمد بن علي الدلجي، طبع مطبعة الشعب سنة 1322 هـ. الفوائد البهية في تراجم الحنفية: تأليف محمد عبد الحي الكنوي طبع دار المعرفة بيروت سنة 1324 هـ. القاموس الإسلامي: لأحمد عطية الله، طبع النهضة المصرية سنة 1383 هـ. القاموس المحيط: لمجد الدين الفيروزآبادي، الطبعة الرابعة طبع مطبعة دار المأمون سنة 1357 هـ. كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون: تأليف مصطفى بن عبد الله الشهير بحاجي خليفة، الطبعة الثالثة بالمطبعة الإسلامية بطهران سنة 1387 هـ. الكامل: لابن الأثير الجزري وبهامشه تاريخ الجبرتي، الطبعة الأولى بالمطبعة الأزهرية سنة 1301 هـ. لسان الميزان: لابن حجر العسقلاني طبع شركة علاء الدين بيروت، الطبعة الثانية سنة 1390 هـ. اللباب في تهذيب الأنساب: لابن الأثير المتوفى سنة 630 هـ، طبع مكتبة حسام الدين القدسي سنة 1386 هـ. معجم المطبوعات العربية والمعربة: جمعه يوسف إليان سركيس، طبع مطبعة سركيس سنة 1346 هـ. ميزان الاعتدال في نقد الرجال: تأليف محمد بن أحمد الذهبي المتوفى سنة 748 هـ، تحقيق علي محمد البجاوي الطبعة الأولى بمطبعة عيسى البابي الحلبي سنة 1382 هـ.
المحبر: للعلامة الإخباري النسابة محمد بن حبيب بن أمية الهاشمي البغدادي المتوفى سنة 245 هـ، برواية أبي سعيد الحسن بن الحسين السكري طبع دائرة المعارف النعمانية حيدر أباد الدكن سنة 1361 هـ. معجم ما استعجم من أسماء البلاد والمواضع: تأليف عبد الله بن عبد العزيز البكري الأندلسي المتوفى سنة 487 هـ، الطبعة الأولى سنة 1364 هـ، مطبعة لجنة التأليف والترجمة. مرآة الجنان وعبرة اليقظان في معرفة ما يعتبر من حوادث الزمان: تأليف اليافعي المتوفى سنة 768 هـ، الطبعة الثانية سنة 1390 هـ عن طبعة دائرة المعارف النظامية بالهند سنة 1337 هـ. معجم المؤلفين: تأليف عمر رضا كحالة، طبع دار إحياء التراث العربي بيروت سنة 1376 هـ. معجم الأدباء: لياقوت الحموي سنة 626 هـ، طبع عيسى البابي الحلبي بمصر. مفتاح السعادة ومصباح السيادة في موضوعات العلوم: تأليف أحمد بن مصطفى الشهير بطاش كبري زادة المتوفى سنة 968 هـ، طبع مطبعة الاستقلال الكبرى. مروج الذهب ومعادن الجوهر: للمسعوي، المتوفى سنة 346 هـ، تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد طبع شركة الإعلانات الشرقية سنة 1386 هـ. المنتظم: لابن الجوزي في تاريخ الملوك والأمم المتوفى 597 هـ، طبع حيدر أباد الدكن بدائرة المعارف العثمانية سنة 1357 هـ. النجوم الزاهرة في مصر والقاهرة: تأليف جمال الدين يوسف بن تغرى بردى الأتابكي المتوفى سنة 874 هـ، طبع المؤسسة المصرية العامة سنة 1383 هـ.
(و) كتب عربية أخرى
نزهة الألبا: للأنباري المتوفى سنة 577 هـ، بتحقيق الدكتور إبراهيم السامرائي، طبع المعارف بغداد سنة 1959 م. هداية العارفين في أسماء المؤلفين وآثار المصنفين: تأليف إسماعيل باشا البغدادي طبع وكالة المعارف بإستانبول سنة 1951 م. وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان: شمس الدين بن خلكان المتوفى سنة 681 هـ، تحقيق الدكتور إحسان عباس طبع دار صادر بيروت سنة 1971 م. الوافي بالوفيات: تأليف صلاح الدين الصفدي المتوفى سنة 764 هـ، طبع دار صادر بيروت سنة 1393 هـ. (و) كتب عربية أخرى إحياء علوم الدين: للإمام الغزالي طبع عيسى البابي الحلبي. إتحاف السادة المتقين شرح أسرار إحياء علوم الدين: للسيد محمد بن محمد الحسيني الزبيدي الشهير بمرتضى طبع إحياء التراث العربي بلبنان. تعريفات الجرجاني: تأليف السيد الشريف علي بن محمد الجرجاني الحنفي المتوفى سنة 816 هـ، طبع مصطفى البابي الحلبي سنة 1357 هـ. تلبيسى إبليس: للحافظ جمال الدين أبي الفرج بن الجوزي البغدادي المتوفى سنة 597 هـ، طبع مطبعة النهضة بمصر سنة 1437 هـ التذكرة التيمورية: بقلم أحمد تيمور باشا الطبعة الأولى سنة 1953 م، طبع مطابع دار الكتاب العربي بمصر. الجبائيان أبو علي وأبو هاشم: تأليف علي فهمي خشيم الطبعة الأولى سنة 1968 م، نشر دار مكتبة الفكر طرابلس ليبيا.
جامع بيان العلم وفضله وما ينبغي في روايته وحمله: للمحدث أبي عمر ابن عبد البر النمري، طبع المنيرية الطبعة الأولى بدون تاريخ. الحور العين: تأليف نشوان بن سعيد الحميري اليمني المتوفى سنة 573 هـ، تحقيق كمال مصطفى طبع مكتبة الخانجي القاهرة 1948 م. الخطط للمقريزي المسمى بالمواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار: لتقي الدين أحمد بن علي بن عبد القادر المقريزي، المتوفى سنة 845 هـ طبع الحلبي. الرد على الدهريين: للأفغاني نقلها من الفارسية للعربية الشيخ محمد عبده، طبع مكتبة الخانجي سنة 1955 م. ضحى الإسلام: تأليف أحمد أمين الطبعة الثامنة طبع الفنية المتحدة. الفرق بين الفرق: لعبد القاهر البغدادي، طبع مؤسسة نشر الثقافة الِإسلامية بالقاهرة سنة 1948 م. فضل الاعتزال وطبقاته: تأليف أبي القاسم البلخي المتوفى سنة 319 هـ، تحقيق فؤاد سيد طبع الدار التونسية للنشر سنة 1393 هـ. محصل أفكار المتقدمين: لفخر الدين الرازي مع تعليق نصير الدين الطوسي، طبع المطبعة الحسينية سنة 1323 هـ. مراصد الاطلاع على أسماء الأمكنة والبقاع: لعبد المؤمن بن عبد الحق البغدادي المتوفى سنة 739 هـ، تحقيق البجاوي طبع عيسى البابي الحلبي الطبعة الأولى سنة 1373 هـ. معجم البلدان: لياقوت الحموي الرومي طبع دار صادر بيروت. مقالات الِإسلامييِن: لأبي الحسن الأشعري، تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد، طبع مكتبة النهضة المصرية الطبعة الأولى سنة 1369 هـ.
الملل والنحل: للشهرستاني تأليف أبي الفتح محمد عبد الكريم بن أبي بكر الشهرستاني، تحقيق الأستاذ عبد العزيز الوكيل طبع دار الاتحاد العربي بالقاهرة سنة 1387 هـ، في ثلاثة أجزاء. الملل والنحل: لابن حزم الظاهري المتوفى سنة 456 هـ، الطبعة الأولى بالمطبعة الأدبية بمصر سنة 1317 هـ. المواقف وشرحه: لعضد الدين الإيبجي، طبع القسطنطينية سنة 1928 م.