التبيين لدعوات المرضى والمصابين

عبد الرزاق بن عبد المحسن البدر

ما يرقى به المريض

ما يرقى به المرِيض ... التبيين لدعوات المرضى والمصابين إعداد: عبد الرزاق بن عبد المحسن البدر بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، والصلاة والسلام على إمام المرسلين نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وآله وصحبه أجمعين. أمَّا بعد: فهذه بعضُ الموضوعات التي تختصُّ بالمرضى والمصابين وما يدعون به، والرقية الشرعية، وما يُقال عند عيادتهم، انتقيتُها من كتابي: فقه الأدعية والأذكار، حيث رغب بعضُ الأفاضل إفرادها في كتيِّب بغية تعميم نفعها وتوسيع مجال فائدتها، وسمَّيته: التبيين لدعوات المرضى والمصابين. وأسأل الله أن يتقبَّله بقبول حسن وأن يكتب له القبول، وأن يُعظم فيه النفع، وأن يجزي كلَّ من ساهم في طبعه ونشره أعظم الجزاء، وأوفره، إنَّه سميع الدعاء، وصلَّى الله وسلم على نبيِّنا محمد وآله وصحبه.

مَا يُرْقَى بهِ المَرِيضُ لقد جاء في السُّنَّة المطهرة أنواعٌ من الأذكار والأدعية يُشرعُ أن يرقى بها المريضُ، وقد جعلها اللهُ سبباً للشِّفاء والعافية، وسأتناول طائفةً مباركةً من هذه الأذكار والأدعية، وإنَّ أعظمَ ما يُرقى به المريضُ فاتحةُ الكتاب أمُّ القرآن، فإنَّها كافيةٌ شافيةٌ، ففي الصحيحين عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: "أَنَّ رَهْطاً مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم انْطَلَقُوا فِي سَفْرَةٍ سَافَرُوهَا، حَتَّى نَزَلُوا بحَيٍّ مِنْ أَحْيَاءِ العَرَبِ فَاسْتَضَافُوهُمْ، فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمْ، فَلُدِغَ سَيِّدُ ذَلِكَ الحَيِّ، فَسَعَوْا لَهُ بكُلِّ شَيْءٍ لاَ يَنْفَعُهُ شَيْءٌ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَوْ أَتَيْتُمْ هَؤُلاَءِ الرَّهْطِ الَّذِينَ قَدْ نَزَلُوا بكُمْ لَعَلَّهُ أَنْ يَكُونَ عِنْدَ بَعْضِهِمْ شَيْءٌ، فَأَتَوْهُمْ فَقَالُوا: يَا

أَيُّهَا الرَّهْطُ، إِنَّ سَيِّدَنَا لُدِغَ، فَسَعَيْنَا لَهُ بكُلِّ شَيْءٍ لاَ يَنْفَعُهُ شَيْءٌ، فَهَلْ عِنْدَ أَحَدٍ مِنْكُمْ شَيْءٌ؟ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: نَعَمْ وَاللهِ، إِنِّي لَرَاقٍ، وَلَكِنْ وَاللهِ لَقَدْ اسْتَضَفْنَاكُمْ فَلَمْ تُضَيِّفُونَا، فَمَا أَنَا برَاقٍ لَكُمْ حَتَّى تَجْعَلُوا لَنَا جُعْلاً، فَصَالَحُوهُمْ عَلَى قَطِيعٍ مِنَ الغَنَمِ، فَانْطَلَقَ فَجَعَلَ يَتْفُلُ وَيَقْرَأُ {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} ، حَتَّى لَكَأَنَّمَا نَشِطَ مِنْ عِقَالٍ، فَانْطَلَقَ يَمْشِي مَا بهِ قَلَبَةٌ [أي: ألَمٌ وعلَّة] ، قَالَ: فَأَوْفَوْهُمْ جُعْلَهُم الَّذِي صَالَحُوهُمْ عَلَيْهِ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: اقْسِمُوا، فَقَالَ الَّذِي رَقَى: لاَ تَفْعَلُوا حَتَّى نَأْتِي رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَنَذْكُرُ لَهُ الَّذِي كَانَ فَنَنْظُرُ مَا يَأَمُرُنَا، فَقَدِمُوا عَلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَذَكَرُوا لَهُ، فَقَالَ: وَمَا يُدْرِيكَ أَنَّهَا رُقْيَةٌ؟ أَصَبْتُمْ، اقْسِمُوا وَاضْرِبُوا لِي مَعَكُمْ بسَهْمٍ"1.

_ 1 صحيح البخاري (رقم:5749) ، وصحيح مسلم (رقم:2201) .

فدلَّ هذا الحديثُ على عِظم شأن هذه السورة، وأنَّ لها تأثيراً عظيماً في شفاء المريض وزوال علَّته بإذن الله. قال ابن القيم رحمه الله في التعليق على هذا الحديث: "فقد أثَّرَ هذا الدواءُ في هذا الداء وأزالَه، حتى كأنَّه لَم يكن، وهو أسهلُ دواء وأيسرُه، ولو أحسنَ العبدُ التداوي بالفاتحة لرأى لَها تأثيراً عجيباً في الشِّفاء، ومكثتُ بمكَّةَ مدة يعترينِي أدواءٌ ولا أجدُ طبيباً ولا دواءً، فكنتُ أعالج نفسي بالفاتحة، فأَرَى لها تأثيراً عجيباً، فكنتُ أصفُ ذلكَ لِمَن يشتكي ألَماً، فكان كثيرٌ منهم يبْرأُ سريعاً"1 اهـ. ومِمَّا يُرقَى به المريض المعوِّذات {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} ، و {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} ، و {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} ، ففي الصحيحين عن عائشة رضي الله

_ 1 الجواب الكافي (ص:5) .

عنها: "أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ إِذا اشْتَكَى يَقْرَأُ عَلَى نَفْسِهِ بالمُعَوِّذَاتِ وَيَنْفُثُ، فَلَمَّا اشْتَدَّ وَجَعُهُ كُنْتُ أَقْرَأُ عَلَيْهِ وَأَمْسَحُ بيَدِهِ رَجَاءَ بَرَكَتِهَا"1. وفي صحيح مسلم عنها رضي الله عنها قالت: "كان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إذا مَرِض أحدٌ مِن أهله نفث عليه بالمعَوِّذات"2. وقولها: "بالمعَوِّذات" أي: الإخلاص والفلق والناس، ودخلتْ سورةُ الإخلاص معهما تغليباً لِمَا اشتملتْ عليه مِِن صفةِ الرَّبِّ وإن لَم يُصرّح فيها بلفظ التعويذ3. وقد دلَّ الحديثُ على عِظَم شأن هذه السُوَر الثلاثة وأنَّها رُقيةٌ وشفاءٌ للوجع بإذن الله، وقد ورد

_ 1 صحيح البخاري (رقم:5016) ، وصحيح مسلم (رقم:2192) . 2 صحيح مسلم (رقم:2192) . 3 انظر: فتح الباري لابن حجر (9/62) .

في شأن هذه السُوَر أحاديثُ كثيرةٌ تدلُّ على عِظم شأنها، وسُورَتَا المعوذتين لهما تأثيرٌ عظيمٌ لا سِيَما إن كان المرضُ ناشئاً عن سحرٍ أو عَيْنٍ أو نحو ذلك. قال ابنُ القيم رحمه الله في مقدمة تفسيره للمعوذتين: "والمقصودُ الكلامُ على هاتين السورتين وبيانُ عظيم منفعتهما وشدة الحاجة بل الضرورة إليهما، وأنَّه لا يستغني عنهما أحدٌ قطُّ، وأنَّ لهما تأثيرًا خاصاًّ في دفع السِّحر والعيْن وسائرِ الشّرور وأنَّ حاجةَ العبد إلى الاستعاذة بهاتين السورتين أعظمُ مِن حاجته إلى النَّفَس والطّعام والشّراب واللِّباس"1، ثمَّ بسط الكلامَ عليهما بسطاً عظيمَ النفع والفائدة. وِمِمَّا يرقى به المريضُ ما ثبت في صحيح مسلم عن عثمان بن أبي العاص أنَّه شكا إلى رسول الله

_ 1 انظر: بدائع الفوائد لابن القيم (2/199) .

صلى الله عليه وسلم وَجَعاً في جسده منذ أسلَم، فقال له رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "ضَعْ يَدَكَ عَلَى الَّذِي تَأَلَّمَ مِنْ جَسَدِكَ، وَقُلْ باسْمِ اللهِ ثَلاَثاً، وَقُلْ سَبْعَ مَرَّاتٍ: أَعُوذ باللهِ وَقُدْرَتِهِ مِنْ شَرِّ مَا أَجِدُ وَأُحَاذِرُ" 1. وقوله: "مِنْ شَرِّ مَا أَجِدُ وَأُحَاذِرُ" أي: مِن شرِّ ما أجدُ مِن وجَعٍ وألمَ، ومِن شرِّ ما أحاذرُ مِن ذلك، أي: ما أخافُ وأَحْذر. وهذا فيه التعوُّذ مِن الوجع الذي هو فيه، والتعوُّذ مِن الوجع الذي يَخاف حصولَه أو يتوقَّعُ حصولَه في المستقبل، ومِن ذلك تفاقمُ المرض الذي هو فيه وتزايُدُه، وهذا يحصل للإنسان كثيراً عند ما يصاب بمرضٍ فإنَّه قد ينتابُه شيءٌ مِن القلق تخوُّفاً مِن تزايُد المرضِ وتفاقمِه، وفي هذا الدعاء العظيم تعوُّذ بالله من ذلك.

_ 1 صحيح مسلم (رقم:2202) .

وثبت في صحيح مسلم عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخدري رضي الله عنه: "أَنَّ جِبْرِيلَ أَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يا مُحَمَّد، اشْتَكَيْتَ؟ فَقَالَ: نَعَمْ. قَالَ: باسْمِ اللهِ أَرْقِيكَ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ يُؤْذِيكَ، مِنْ شَرِّ كُلِّ نَفْسٍ أَوْ عَيْنِ حَاسِدٍ. اللهُ يَشْفِيكَ، باسْمِ اللهِ أَرْقِيكَ"1. وثبت في الصحيحين عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا: "أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُعَوِّذ بَعْضَ أَهْلِهِ، يَمْسَحُ بيَدِه اليُمْنَى وَيَقُول: اللَّهمَّ رَبَّ النَّاسِ أَذْهِبِ البَاسَ، وَاشْفِهِ وَأَنْتَ الشَّافِي، لاَ شِفَاءَ إِلاَّ شِفَاؤُكَ، شِفَاءً لاَ يُغَادِرُ سَقَماً"2، وفي رواية عنها قالت: "كان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إذا اشتكى منَّا إنسانٌ مسحه بيمينه ثم قال: وذكرتِ الدعاءَ3، وفي روايةٍ قالت:

_ 1 صحيح مسلم (رقم:2186) . 2 صحيح البخاري (رقم:5743) ، وصحيح مسلم (رقم:2191) . 3 صحيح مسلم (رقم:2191) .

إنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم كان يَرقي بهذه الرُّقية وذكرته"1. وفي صحيح البخاري عن عبد العزيز بن صُهيب قال: "دخلتُ أنا وثابتٌ على أنس بن مالك فقال ثابتٌ: يا أبا حمزة اشتكيتُ، فقال أنس: ألا أَرقيك برُقية رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: بلى، قال: اللَّهمَّ ربَّ النَّاس، مُذهبَ الباسَ، اشف أنتَ الشافي، لا شافِيَ إلاَّ أنتَ، شفاءً لا يُغادرُ سَقَماً"2. قوله: "اللَّهمَّ ربَّ النَّاس" فيه التوسُّلُ إلى الله بربوبيَّته للنَّاس أجمعين، بخلقِهم وتدبيرِ شؤونهم وتصريفِ أمورهم، فبيده سبحانه الحياةُ والموتُ، والصحة والسَّقم، والغنى والفقر، والقوَّة والضعف. وقوله: "أَذْهِب الباسَ" والبأسُ هو التَّعبُ والشدَّةُ والمرضُ، وهو هنا بغير هَمزة مراعاة

_ 1 صحيح مسلم (رقم:2191) . 2 صحيح البخاري (رقم:5742) .

للازدواج والمؤاخاة. وجاء في حديث أنس: "اللَّهمَّ ربَّ الناسِ، مُذهب الباس" وفي هذا التوسُّلُ إلى الله سبحانه بأنَّه وحده المذهبُ للبأس، فلا ذهابَ للبأس عن العبد إلاَّ بإذنه ومشيئته سبحانه. وقوله: "واشفه وأنت الشافي" فيه سؤالُ الله الشفاء وهو العافيةُ والسلامةُ من المرض، وقوله: "وأنت الشافي" توسُّلٌ إلى الله سبحانه بأنَّه الشافي الذي بيده الشفاء، كما في قوله تعالى: {وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} 1. وقوله: "لا شفاء إلاَّ شفاؤك" فيه تأكيدٌ لِمَا سبق، وإقرارٌ بأنَّ العلاجَ والتداوي إن لَم يوافق إذناً من الله بالعافية والشِّفاء، فإنَّه لا ينفع ولا يُجدي.

_ 1 سورة: الشعراء، الآية (80) .

وقوله: "شفاءً لا يغادر سَقَماً" أي: لا يتركُ مرَضاً ولا يخلف علَّةً، والفائدةُ من هذا أنَّ الشفاءَ من المرض قد يَحصل، ولكن قد يَخلُفُه مرضٌ آخرُ يَتَوَلَّد منه وينشأُ بسببه، فسأل اللهَ أن يكون شفاؤُه من المرض شفاءً تامًّا لا يبقى معه أثرٌ، ولا يخلف في المريض أيَّ علَّة، وهذا من تَمام الدعوات النبوية وكمالها ووفائها.

التعوذ من السحر والعين والحسد

التعوُّذ من السِّحر والعين والحسد إنَّ من الأدواء الفتَّاكة والشرِّ العظيم ما يكون في الإنسان من مرَضٍ بسبب السِّحر أو العين أو الحسَد، والسِّحرُ له تأثيرٌ بالغٌ في المسحور، فقد يُمرضُ وقد يَقتل، وهكذا الشأنُ في عين الحاسد إذا تكيَّفت نفسُه بالخبث، واستجمع في قلبه الشَّرُّ، فإنَّه يَضُرُّ بالمحسود، فربَّما أمرضَه وربَّما قتله، فالسِّحرُ له حقيقةٌ وتأثير، والحَسَدُ له حقيقةٌ وتأثير. وإنَّ من نعمة الله على عبده المؤمن أن هَيَّأَ له أسباباً مباركةً وأموراً نافعةً، يندفع بها عنه شَرُّ هؤلاء، ويزول بها عنه ضُرُّهم والبلاءُ النازلُ به بسببهم، وقد أجْمَلَ العلاَّمة ابنُ القيم رحمه الله ذلك في عشرة أسباب عظيمة إذا قام بها العبد وطبَّقَها زال

عنه شَرُّ الحاسد والعائن والسَّاحر. السَّبب الأول: التعوُّذ بالله من شَرِّه والتَّحصُّنُ به واللَّجأ إليه، كما قال تعالى: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ} . والله تعالى سميعٌ لِمَن استعاذ به، عليمٌ بما يستعيذ منه، قادرٌ على كلِّ شيء، وهو وحده المستعاذ به، لا يُستعاذ بأحد من خلقه، ولا يُلجأُ إلى أحد سواه، بل هو الذي يعيذ المستعيذين ويَعصمُهم ويَحميهم مِن شَرِّ ما استعاذوا من شَرِّه. وحقيقةُ الاستعاذة الهروبُ من شيء تَخافُه إلى من يَعصمُك ويَحميك منه، ولا حافظَ للعبد ولا معيذَ له إلاَّ الله، وهو سبحانه حَسْبُ من توكَّلَ عليه، وكافي من لَجأَ إليه، وهو الذي يؤمِّنُ خوفَ

الخائف ويُجيرُ المستجير، وهو نعم المولى ونعم النصير. السبب الثاني: تقوى الله وحفظُه عند أمره ونَهيه، فمَن اتَّقى اللهَ توَلَّى حفظَه ولَم يَكلْه إلى غيره، قال تعالى: {وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} 1 وقال النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن عباس رضي الله عنهما: "احفظِ اللهَ يَحفظْكَ، احفظ الله تَجده تجاهَك" فمَن حفظ اللهَ حفظه الله، ووجدَه أمامَه أينما توجَّه، ومَن كان اللهُ حافظَه وأمامَه فمِمَّن يخاف ومِمَّن يحذر؟ السبب الثالث: الصَّبرُ على عدوِّه وأن لا يقاتلَه ولا يشكوه ولا يحدث نفسه بأذاه أصلاً، فما نُصرَ على حاسده وعدوِّه بمثل الصَّبر عليه، وكلَّما زاد

_ 1 سورة: آل عمران، الآية (120) .

بغيُ الحاسد كان بغيُه جنداً وقوةً للمبغي عليه، يقاتل بها الباغي نفسه وهو لا يشعر، فبغيُه سهمٌ يرميها من نفسه إلى نفسه {وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلاَّ بِأَهْلِهِ} 1 فإذا صبَرَ المحسودُ ولم يستطل الأمرَ نال حُسنَ العاقبة بإذن الله. السبب الرابع: التوكُّل على الله، فمَن يتَوكَّل على الله فهو حَسبه، والتوكُّلُ من أقوى الأسباب التي يدفع بها العبدُ ما لا يطيقُ من أذى الخَلْق وظُلمهم وعدوانهم، ومَن كان الله كافيه فلا مطمَعَ فيه لعدوٍّ، ولو توكَّل العبدُ على الله حقَّ توكُّله، وكادته السموات والأرضُ ومَن فيهنَّ لَجعلَ له مخرجاً من ذلك وكفاه ونَصرَه. السبب الخامس: فراغُ القلب من الاشتغال به والفكر فيه، وأن يقصدَ أن يَمحوه من باله كلَّما

_ 1 سورة: فاطر، الآية (43) .

خَطر له، فلا يلتفتُ إليه، ولا يخافُه، ولا يملأ قلبَه بالفكر فيه، وهذا من أنفع الأدوية وأقوى الأسباب المعِينة على اندفاع شرِّه، فإنَّ هذا بمنْزلة من يَطلبه عدوُّه ليمسكَه ويؤذيه، فإذا لَم يتعرَّض له ولا تَماسَك هو وإياه، بل انعزل عنه لَم يقدر عليه، فإذا تَماسكَا وتعلَّق كلٌّ منهما بصاحبه حصل الشَّرُّ، وهكذا الأرواحُ سواء، فإذا تعلَّقت كلُّ روح منهما بالأخرى عُدِمَ القرارُ ودام الشَّرُّ حتى يهلك أحدُهما، فإذا جبذ روحَه عنه وصانَها عن الفكر فيه والتعلُّق به، وأخذ يشغل بالَه بما هو أنفعُ له بقي الحاسدُ الباغي يأكلُ بعضُه بعضاً، فإنَّ الحسدَ كالنار، إذا لَم تَجد ما تأكله أكلَ بعضُها بعضاً. السبب السادس: الإقبالُ على الله والإخلاصُ له وجعلُ محبته ونيلِ رضاه والإنابةِ إليه في كلِّ خواطر نفسه وأمانيها، تدب فيها دبيب تلك

الخواطر شيئاً فشيئاً حتى يقهرَها ويغمرها ويذهبها بالكلية، فتبقى خواطرُه وهواجسه وأمانيه كلُّها في محابِّ الرَّب والتقرُّب إليه وذكره والثناء عليه، قال تعالى عن عدوه إبليس أنَّه قال: {قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} 1، فالمخلص بمثابة مَن آوى إلى حصن حصين، لا خوفَ على مَن تَحصَّن به، ولا ضَيعَة على مَن آوى إليه، ولا مَطمَعَ للعدوِّ في الدُّنُوِّ منه. السبب السابع: تَجريدُ التوبة إلى الله من الذنوب التِي سلطت عليه أعداءه، فإنَّ الله تعالى يقول: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} 2 فما سُلِّطَ على العبد مَن يؤذيه إلاَّ بذنب، يَعلمه أو لا يعلمه، وما لا يعلمه العبدُ من

_ 1 سورة: ص، الآيتان (82 ـ 83) . 2 سورة: الشورى، الآية (30) .

ذنوبه أضعاف ما يعلمه منها، وما ينساه مِمَّا عَلِمَه وعَمله أضعاف ما يذكره، وفي الدعاء المشهور: "اللَّهمَّ إنِّي أعوذ بك أن أُشركَ بكَ وأنا أعْلَمُ وأستغفرِكُ لِمَا لا أعْلَم"1، فما يحتاج العبدُ إلى الاستغفار منه مِمَّا لا يعلمه أضعاف أضعاف ما يَعلمه، فما سُلِّطَ عليه مُؤْذ إلاَّ بذنب، وليس في الوجود شَرٌّ إلاَّ الذنوب وموجباتها، فإذا عُوفِي من الذنوب عُوفِي من موجباتها، فليس للعبد إذا بُغي عليه وأوذي وتسلط عليه خصومُه شيءٌ أنفعَ له من التوبة النصوح من الذنوب التي كانت سبباً لتسلُّط عدوِّه عليه. السبب الثامن: الصَّدقة والإحسان ما أمكنه؛ فإنَّ لذلك تأثيراً عجيباً في دفع البلاء ودفع العين

_ 1 رواه البخاري في الأدب المفرد (رقم:719) من حديث معقل بن يسار، وصحَّحه الألباني رحمه الله في صحيح الأدب (رقم:551) .

وشَرِّ الحاسد، فما يكاد العينُ والحسدُ والأذى يتسلَّط على محسن مُتصدِّق، وإن أصابه شيءٌ من ذلك كان معامَلاً فيه باللُّطف والمعونة والتأييد، وكانت له فيه العاقبةُ الحميدة، والصدقة والإحسانُ من شكر النعمة، والشُّكرُ حارسُ النعمة من كلِّ ما يكون سبباً لزوالها. السبب التاسع: أن يطفئَ نارَ الحاسد والباغي والمؤذي بالإحسان إليه، فكلَّما ازداد أذى وشرًّا وبغياً وحسداً ازددتَ إليه إحساناً وله نصيحةً وعليه شفقةً، قال الله تعالى: {وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيم} 1، وتأمَّل في ذلك حالَ النَّبِيِّ عليه السلام الذي حكى عنه نبينا صلى الله عليه وسلم

_ 1 سورة: فصلت، الآيتان (34 ـ 35) .

أنَّه ضربه قومُه حتى أدموه فجعل يسلت الدَّم عنه ويقول: "اللَّهمَّ اغفر لقومي فإنَّهم لا يعملون"1. السبب العاشر: تجريدُ التوحيد والترحل بالفكر في الأسباب إلى المسبِّب العزيز الحكيم، والعلم بأنَّ كلَّ شيء لا يَضُرُّ ولا ينفع إلاَّ بإذن الله، قال الله تعالى: {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ} 2، وقال النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن عباس رضي الله عنهما: "واعْلم أنَّ الأمَّةَ لو اجتمعوا على أن ينفعوك لَم ينفعوك إلاَّ بشيء كتبه الله لَكَ، ولو اجتمعوا على أن يَضُرُّوك لَم يَضُرُّوك إلاَّ بشيء كتبه الله عليك" 3، فإذا جرَّد العبدُ التوحيدَ فقد خَرَجَ من

_ 1 صحيح البخاري (رقم:3477) ، وصحيح مسلم (رقم:1792) . 2 سورة: يونس، الآية (107) . 3 سنن الترمذي (رقم:2516) ، وصحَّحه الألباني رحمه الله في صحيح الجامع (رقم:7957) .

قلبه خوفُ ما سواه، وكان عدوُّه أهونَ عليه من أن يَخافه مع الله، بل يُفرِدُ اللهَ بالمخافة، ويَرى أنَّ إعمالَه فكره في أمر عدوِّه وخوفه منه واشتغاله به من نقص توحيده، وإلا فلو جَرَّد توحيدَه لكان له فيه شغل شاغل، والله يتولَّى حفظَه والدفعَ عنه، فإنَّ الله يدافعُ عن الذين آمنوا، فإن كان مؤمناً فالله يدافع عنه ولا بدَّ، وبحسب إيمانه يكون دفاعُ الله عنه، فإن كمُلَ إيمانُه كان دفاعُ الله عنه أتَمَّ دفع، وإن مزج مزج له، وإن كان مرَّة ومرة فالله له مرَّة ومرَّة، كما قال بعض السلف: "مَن أقبلَ على الله بكليَّتِه أقبلَ الله عليه جُملة، ومَن أعرَضَ عن الله بكليَّته أعرض الله عنه جملة، ومن كان مرَّة ومرَّة فالله له مرَّة مرة". فالتوحيدُ حصنُ الله الأعظم الذي مَن دخلَه كان من الآمنين، قال بعض السلف: "مَن خاف

اللهَ خافه كلُّ شيء، ومن لَم يَخَفِ الله أخافه اللهُ من كلِّ شيء". فهذه عشرةُ أسباب عظيمة يندفعُ بها شَرُّ الحاسد والعائن والسَّاحر1، ونسأل الله الكريم أن يقيَنا والمسلمين من الشُّرور كلِّها إنَّه سميع مجيب.

_ 1 انظر بدائع الفوائد لابن القيم (2/238 ـ 246) .

ما يقال للمريض

ما يُقال للمَريض لقد جاء الإسلامُ بالحثِّ على مراعاة حقِّ المريض وتعاهدِه بالزيارة، والدعاء له بالشِّفاء والعافية، وبيان أنواع من الأدعية يَحسُن أن تُقال عند زيارةِ المريض، وكلُّ هذه الرعاية والتعاهد والدعاء ينطلقُ من كون المؤمنين حالُهم كالنفس الواحدة، فما يُفرِحُ الواحد منهم يُفرحُ الجميعَ، وما يُؤلِمُ الواحد يُؤلِمُ الجميعَ، ففي الصحيحين عن النُّعمان بن بشير رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَثَلُ المؤمنين في تَوادِّهم وتَراحُمِهم وتعاطفِهم مَثَل الجسد، إذا اشتَكَى منه عُضْوٌ تَداعَى له سائرُ الجسَد بالسَّهر والحُمَّى" 1، وفي رواية

_ 1 صحيح البخاري (رقم:6011) ، وصحيح مسلم (رقم:2586) .

لمسلم: "المسلمون كرجل واحدٍ، إن اشتَكى عينُه اشتكى كلُّه، وإن اشتَكى رأسُه اشتكى كلُّه"1. ولهذا شُرعت عيادةُ المرضى لمواساتِهم وتَهوين الأمر عليهم، وجُعِلَ ذلك حقًّا من حقوقهم، ففي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه: أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قال: "حَقُّ المسلم على المسلم ستٌّ: إذا لَقيتَه فسَلِّم عليه، وإذا دعاك فأَجبْه، وإذا استَنْصَحَك فانصحْ له، وإذا عَطِسَ فحَمدَ اللهَ فشَمِّته، وإذا مَرضَ فعُدْه، وإذا مات فاتَّبِعْه" 2، وجاء في نصوص كثيرة بيانُ فضل مَن يَزور المرضَى وعِظم ثوابه عند الله. روى مسلم في صحيحه عن ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " عائِدُ المريض في

_ 1 صحيح مسلم (رقم:2586) . 2 صحيح مسلم (رقم:2162) .

مَخْرفَة الجنة حتى يَرجع"، وفي رواية قال: "مَن عاد مريضاً لَم يَزل في خُرْفَة الجنة. قيل يا رسول الله! وما خُرْفة الجنة قال: جناها" 1، أي: أنَّه في بساتين الجنة يَختَرفُ منها ما يشاء ويَجْتَنِي منها ما يريد. وروى الترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَن عادَ مريضاً أو زارَ أخاً له في الله ناداه مُنادٍ: أن طِبْتَ وطابَ مَمشَاك، وتَبَوَّأتَ من الجنة مَنْزلاً" 2، والأحاديثُ في هذا الباب كثيرة. ويُستحَب للمسلم إذا عاد مريضاً أن يُطَمْئنَه ويُهوِّنَ الأمرَ عليه ويُذكِّرَه بثواب الله، وأنَّ في

_ 1 صحيح مسلم (رقم:2568) . 2 سنن الترمذي (رقم:1931) ، وحسَّنه الألباني رحمه الله في صحيح الترغيب (رقم:3474) .

المرض تكفيراً له وتطهيراً. ففي صحيح البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما: "أَنَّ النَبيَّ صلى الله عليه وسلم دَخَلَ عَلَى أَعْرَابِيٍّ يَعُودُهُ، قَالَ: وَكَانَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم إِذا دَخَلَ عَلَى مَرِيضٍ يَعُودُهُ قَالَ: لاَ بَأْسَ طَهُورٌ إِنْ شَاءَ اللهُ، قَالَ: قُلْتَ: طَهُورٌ! كَلاَّ، بَلْ هِيَ حُمَّى تَفُورُ ـ أَوْ تَثُورُ ـ عَلَى شَيْخٍ كَبيرِ تُزِيرُهُ القُبُورَ. فَقَالَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم: فَنَعَمْ إِذًا"1. وقوله: "طَهور إن شاء الله" هو خبَر مبتدأ محذوف أي: هو طهور لك من ذنوبك أي مُطَهِّر لك منها. وفي السنن للإمام أبي داود عن أمِّ العلاء رضي الله عنها قالت: عادني رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وأنا مريضةٌ، فقال: "أَبْشري يا أمَّ العلاء، فإنَّ مرضَ المسلم

_ 1 صحيح البخاري (رقم:5656) .

يُذهبُ اللهُ به خطاياه كما تُذهبُ النَّارُ خَبَثَ الذَّهب والفضة" 1. وفي صحيح مسلم عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما: أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم دخل على أمِّ السائب أو أمِّ المسيّب رضي الله عنها، فقال: "مالك يا أمَّ السَّائب أو أمَّ المسيب تُزَفْزِفِين (أي: تَرعدين) قالت: الحمَّى لا باركَ اللهُ فيها، فقال: لا تَسُبِّي الحُمَّى، فإنَّها تُذهبُ خطايَا بَنِي آدم كما يُذهبُ الكِيرُ خَبَثَ الحديد"2. وروى البخاري في الأدب المفرد عن سعيد بن وهب قال: "كنتُ مع سَلمان ـ وعاد مريضاً في كِنْدَة ـ فلمَّا دخل عليه قال: أَبشِر، فإنَّ مرضَ

_ 1 سنن أبي داود (رقم:2688) ، وصحَّحه الألباني رحمه الله في صحيح الترغيب (رقم:3438) . 2 صحيح مسلم (رقم:2575) .

المؤمن يَجعلُه الله له كفارةً ومستعتبًا، وإنَّ مرضَ الفاجر كالبعير عَقله أهلُه ثمَّ أرسلوه، فلا يدري لَم عُقل ولِم أُرسِل"1. فبَشَّرَه، وذكَّره بأنَّ المصائبَ التي تُصيبُ المؤمنَ في بدنه كلَّها كفارات لخطاياه، كما في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، عن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: "ما يصيبُ المسلمَ من نَصب ولا وَصَب ولا هَمٍّ ولا حزن ولا أَذًى ولا غَمٍّ، حتى الشَّوكة يُشاكُها إلاَّ كَفَّرَ اللهُ بها من خطاياه" 2. وقوله: "ومستعتباً" أي: أنَّه في مرضه يَتَهيَّأ له من استذكار ذنوبه ومعرفة خَطئه وتقصيره ما لا يتهيَّأ له حالَ صحَّته وعافيته، وحينئذ يكون مرضُه

_ 1 الأدب المفرد (رقم:493) ، وصحَّحه الألباني رحمه الله في صحيح الأدب (رقم:379) . 2 صحيح البخاري (رقم:5642) ، وصحيح مسلم (رقم:2573) .

سبباً لمعاتبة نفسه على التقصير، ودافعاً للرجوع عن الإساءة وطلب الرضا، هذا بالنسبة للمؤمن، أمَّا الفاجر فشأنُه عند ما يَمرض كشأن البعير الذي قيَّده أهلُه بالعقال ثم أطلقوه، فهو لا يدري لِمَ قُيِّد ولِمَ أُطلِق، فهو مستَمرٌّ في غيِّه متَمَادٍ في فُجوره، لا يكونُ له في مرضه عِبرةٌ، ولا يحصل له بسببه عظةٌ. وينبغي على مَن أراد عيادةَ مريض أن يَتخيَّر الوقتَ المناسبَ لعيادته؛ لأنَّ مقصودَ العيادة إراحةُ المريض وتطييبُ قلبه، لا إدخالُ المشقَّة عليه، ولهذا أيضاً عليه أن لا يُطيلَ المُكثَ والجلوسَ عنده، إلاَّ إن أحَبَّ المريضُ ذلك وكان في الجلوس فائدةٌ ومصلحة. ومن السُّنَّة للعائد أن يَجلسَ عند رأس المريض، ففي الأدب المفرد للبخاري رحمه الله عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "كان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إذا

عادَ المريضَ جَلَسَ عند رأسه، ثمَّ قال سَبعَ مرار: أسألُ اللهَ العظيمَ رَبَّ العرش العظيم أن يَشفيَك، فإن كان في أجله تأخيرٌ عُوفي من وَجَعه"1. ومن السُّنَّة أن يَضَعَ العائدُ يدَه على جسد المريض عند ما يريد الدعاء له، ففي الصحيحين لَمَّا عاد النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم سعد بنَ أبي وقاص رضي الله عنه وَضَعَ يدَه على جَبهتِه، ثمَّ مَسَحَ يدَه على وجهه وبَطنه، ثم قال: "اللهمَّ اشْفِ سَعْداً"2، وفي وَضْع اليد على المريض تأنيسٌ له، وتعرف على مرضه شدَّة وضعفاً، وتلطف به. ثمَّ ينبغي للعائد أن يَنصَحَ للمريض بالدعاء، وأن لا يقولَ عنده إلاَّ خيراً ففي صحيح مسلم عن أمِّ سلمة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله

_ 1 الأدب المفرد (رقم:536) ، وصحَّحه الألباني رحمه الله في صحيح الأدب (رقم:416) . 2 صحيح البخاري (رقم:5659) ، وصحيح مسلم (رقم:1628) .

صلى الله عليه وسلم: "إذا حَضرتُم المريضَ أو الميِّتَ فقولوا خيراً، فإنَّ الملائكةَ يُؤمِّنون على ما تقولون" 1. وعليه أن يتخيَّرَ من الدعاء أجمعَه، وأن يَحرصَ على الدعوات المأثورة عن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم، فإنَّها دعواتٌ مباركةٌ جامعةٌ للخير، معصومةٌ من الخطأ والزَّلَل كأن يقول: "اللَّهمَّ اشف فلاناً"، أو يقول: "طَهورٌ، إن شاء الله"، أو يقول: "أسألُ اللهَ العظيمَ رَبَّ العرش العظيم أن يَشفيَك"، أو يقول: "اللَّهمَّ رَبَّ الناس أذهب الباسَ، واشفه وأنت الشافي، لا شفاءَ إلاَّ شفاؤك، شفاءً لا يُغادر سَقَماً" وقد مَضت معنا الأحاديثُ في ذلك، أو أن يرقِيَهُ بفاتحة الكتاب والمعوِّذات، وقد مضى حديثُ أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، وحديث عائشة رضي الله عنها في ذلك، أو أن يرقيه بقوله: "باسم الله

_ 1 صحيح مسلم (رقم:919) .

أَرْقيك مِن كلِّ شيء يُؤذِيكَ، مِن شَرِّ كلِّ نفس أو عَين حاسد اللهُ يشفيكَ، باسم الله أَرْقيك"، وهي الرُّقيةُ التي رَقَى بها جبريلُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمَّا اشتكى، أو أن يَقولَ ما ثبت في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها: "أَنَّ النَبيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَقُولُ لِلْمَرِيضِ: بسْمِ اللهِ تُرْبَةُ أَرْضِنَا، برِيقَةِ بَعْضِنَا، يُشْفَى سَقِيمُنَا، بإِذْنِ رَبِّنَا"1. وعلى المعافَى عند رؤية المرضَى أن يَتَّعظَ ويعتَبِرَ، وأن يحمدَ اللهَ على نعمة الصِّحة والعافية، وأن يسأله سبحانه المعافاة، وأن يدعو لإخوانه المرضى بالشفاء والعافية. ونسأل الله الكريم أن يَشفيَ مرضَانا ومرضَى المسلمين, وأن يَكتبَ للجميع الصِّحةَ والسلامة والعافية، إنَّه سَميعٌ مجيب.

_ 1 صحيح البخاري (رقم:5745) ، وصحيح مسلم (رقم:2194) .

أذكار الكرب

أَذكَارُ الكَرْبِ لقد ثبت في السُّنَّة أحاديثُ عديدة عن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم في علاج ما قد يصيب الإنسانَ من الكَرْب، وهو الشدَّة والألَم الذي قد يجده الإنسانُ في نفسه بسبب ما يَحلُّ به من مصائب ونوازل، تدهو الإنسان فتغمه وتحزنه وتؤرقه. ومن الأحاديث الواردة في علاج ذلك ما رواه البخاري ومسلم عن ابن عباس رضي الله عنهما: "أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَقُولُ عِنْدَ الكَرْبِ: لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ العَظِيمُ الحَلِيمُ، لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ رَبُّ العَرْشِ العَظِيمِ، لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَرَبُّ الأَرْضِ وَرَبُّ العَرْشِ الكَرِيمِ"1.

_ 1 صحيح البخاري (رقم:6346) وصحيح مسلم (رقم:2703) .

وروى أبو داود وابن ماجه وغيرُهما عن أسماء بنت عُمَيس رضي الله عنها قالت قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ألاَ أُعَلِّمُكِ كَلِمَاتٍ تَقُولِينَهُنَّ عِنْدَ الكَرْبِ ـ أَوْ فِي الكَرْبِ ـ: اللهُ اللهُ رَبِّي، لاَ أُشْرِكُ بهِ شَيْئاً" 1. وروى أبو داود في سننه عن أبي بكرة رضي الله عنه، عن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: "دَعَوَاتُ المَكْرُوبِ: اللَّهُمَّ رَحْمَتَكَ أَرْجُو، فَلاَ تَكِلْنِي إِلَى نَفْسِي طَرْفَةَ عَيْنٍ وَأَصْلِحْ لِي شَأْنِي كُلَّهُ، لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ" 2. وروى الترمذي عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "دَعْوَةُ ذِي النُّونِ إِذْ دَعَا وَهُوَ فِي بَطْنِ الحُوتِ: لاَ إله إِلاَّ أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي

_ 1 سنن أبي داود (رقم:1525) ، وسنن ابن ماجه (رقم:3882) ، وصحَّحه الألباني رحمه الله في صحيح الترغيب (رقم:1824) . 2 سنن أبي داود (رقم:5090) ، وحسَّنه الألباني رحمه الله في صحيح الجامع (رقم:3388) .

كُنْتُ مِنَ الظَالِمِينَ، فَإِنَّهُ لَمْ يَدْعُ بهَا رَجُلٌ مُسْلِمٌ فِي شَيْءٍ قَطُّ إِلاَّ اسْتَجَابَ اللهُ لَهُ" 1. وجميعُ هذه الكلمات الواردة في هذه الأحاديث كلماتُ إيمان وتوحيد وإخلاص لله عز وجل، وبُعد عن الشِّرك كلِّه كبيره وصغيره، وفي هذا أبيَنُ دلالة على أنَّ أعظمَ علاج للكرب هو تجديدُ الإيمان وترديدُ كلمة التوحيد لا إله إلاَّ الله، فإنَّه ما زالَت عن العبد شدَّةٌ، ولا ارتفع عنه هَمٌّ وكَرْبٌ بمثل توحيد الله وإخلاص الدِّين له، وتحقيقِ العبادة التي خُلق العبدُ لأجلها وأُوجِدَ لتحقيقها؛ فإنَّ القلبَ عندما يُعمَرُ بالتوحيد والإخلاص، ويُشغَل بهذا الأمر العظيم الذي هو أعظم الأمور وأجلُّها على الإطلاق، تذهبُ عنه الكُرُبات، وتزولُ عنه الشدائدُ

_ 1 سنن الترمذي (رقم:3505) ، وصحَّحه الألباني رحمه الله في صحيح الجامع (رقم:3383) .

والغمومُ، ويَسعَدُ غايةَ السعادة. قال ابن القيم رحمه الله: "التوحيدُ مفزَعُ أعدائه وأوليائه، فأمَّا أعداؤه فيُنجيهم من كُرَب الدنيا وشدائدها {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ} 1، وأمَّا أولياؤه فيُنجيهم من كربات الدنيا والآخرة وشدائدها، ولذلك فزع إليه يونس عليه السلام فنجّاه اللهُ من تلك الظلمات، وفزع إليه أتباعُ الرُّسل فنجوا به ممَّا عُذِّب به المشركون في الدنيا وما أُعدَّ لهم في الآخرة، ولمَّا فزع إليه فرعون عند مُعاينة الهلاك وإدراك الغرق لَم ينفعه؛ لأنَّ الإيمانَ عند المعاينة لا يُقبل، هذه سُنَّة الله في عباده، فما دُفعت شدائدُ الدنيا بمثل التوحيد، ولذلك كان دعاءُ الكرب بالتوحيد، ودعوةُ ذي النون التي ما

_ 1 سورة: العنكبوت، الآية (65) .

دعا بها مكروب إلاَّ فَرَّجَ الله كُرَبَه بالتوحيد، فلا يُلقي في الكرب العظام إلاَّ الشِّركُ، ولا ينجي منها إلاَّ التوحيد، فهو مَفزَعُ الخليقة ومَلجَؤُها وحِصنُها وغايتُها، وبالله التوفيق"1 اهـ. وقد مر معنا أحاديثُ دالَّة على هذا المعنى، أوَّلُها: حديث ابن عباس رضي الله عنهما وكلُّه توحيدٌ وتمجيدٌ لله عز وجل، وترديدٌ لكلمة التوحيد لا إله إلاَّ الله، مقرونة بما يدلُّ على عظمة الله وجلاله وكماله وربوبيَّته للسَّموات والأرض وللعرش العظيم، فقد انتظمت هؤلاء الكلمات أنواعَ التوحيد الثلاثة: توحيد الربويبية، وتوحيد الألوهية، وتوحيد الأسماء والصفات، فإذا قالها المسلم مُتَأَمِّلاً لمعانيها متفَكِّراً في دلالاتها سكن قلبُه، واطمأنت نفسُه، وزال عنه كَرْبُه وشدَّتُه،

_ 1 الفوائد (ص:95 ـ 96) .

وهُديَ إلى صراط مستقيم. وثانيها: حديث أسماء بنت عُميس رضي الله عنها، حيث أرشدها النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أن تَفزَع في الكَرْب أو عند الكرب إلى التوحيد، الذي ما دُفعت عن العبد الشدائد ولا زالت عنه الكُرُبات بمثله، وقد شدَّ صلوات الله وسلامه عليه انتباهها لهذا الأمر وشَوَقَّها إلى معرفته، وهيَّأ نفسَها لتَلَقِّيه؛ بأن طَرَح عليها استفهاماً مُشَوِّقاً "ألاَ أعلِّمُكِ كلمات تقولينَهنَّ عند الكَرب أو في الكرب"، وما من ريب أنَّ نفسَها قد تاقت لمعرفة هؤلاء الكلمات، فأرشدها صلى الله عليه وسلم أن تقول: "اللهُ اللهُ ربِّي لا أُشرك به شيئاً"، وهي كلمةُ إخلاص وتوحيد. وقوله: "اللهُ اللهُ" هو بالرَّفع فيهما، على أنَّ الأوَّلَ مبتدأ والثاني تأكيد لفظي له، إشارةً إلى عِظَم المقام وأهمية الأمر، وخبر المبتدأ هو قوله: "ربِّي

"، والمعنى أنَّ إلَهي الذي أعبدُه وأخصُّه بجميع أنواع العبادة من خوف ورجاء وذلٍّ وخضوع وخشوع وانكسار وغير ذلك، هو ربِّي الذي ربَّانِي بنعمته، وأوجدنِي من العدَم، وتفضَّل علي بصنوف العطايا والمنَن. وقوله: "لا أشركُ به شيئاً" أي لا أتَّخذ معه شريكاً في العبادة كائناً مَن كان، فقوله: "شيئاً" نكرَةٌ في سياق النفي تفيدُ العموم. وعلى كلٍّ فهذه الكلمة العظيمة اشتملت على تحقيق التوحيد برُكنَيْه النفي والإثبات؛ نفيُ العبودية عن كلِّ مَن سوى الله، وإثباتها له وحده، وفي الحديث دليلٌ على أنَّ التوحيدَ هو المفزَع في الكرب، وأعظمُ أسباب زوال الهموم وذهاب الغُمُوم. وثالثها: حديث أبي بَكرة عن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم:

"دعواتُ المكروب اللَّهمَّ رحمتَك أرجو، فلا تَكلْنِي إلى نفسي طَرْفَة عَين، وأصلح لي شأني كلَّه لا إله إلاَّ أنت" وهو كلُّه توحيد لله، والتجاءٌ إليه واعتصامٌ به. وقوله: "اللَّهمَّ رحمتَك أرجو" في تأخير الفعل دَلالةٌ على الاختصاص، أي: نخصُّك برجاء الرحمة منك، فلا نرجوها من أحد سواك. وقوله: "فلا تَكلْنِي إلى نفسي طرفة عين، وأصلح لي شأني كلَّه" فيه شدَّةُ افتقار العبد إلى الله، وأنَّه لا غنى له عن ربِّه ومولاه طرفة عين في كلِّ شأن من شؤونه، ولهذا قال: "وأصلح لي شأني كلَّه" أي: في كلِّ جزئية من جزئياته وكلِّ جانب من جوانبه، ثم ختم هذ الدعاءَ المبارك بكلمة التوحيد لا إله إلاَّ الله. ورابعها: حديث سَعْد بن أبي وقاص، وفيه ذكرُ

دعوة ذي النُّون عليه السلام وهو في بطن الحوت: "لا إله إلاَّ أنت سبحانك إنِّي كنت من الظالمين" وعن هذه الدعوة يقول ابن القيم رحمه الله: "فإنَّ فيها من كمال التوحيد والتَّنْزيه للرَّبِّ تعالى واعتراف العبد بظلمه وذنبه ما هو من أبلغ أدوية الكرب والهمِّ والغمِّ، وأبلغِ الوسائل إلى الله سبحانه في قضاء الحوائج، فإنَّ التوحيدَ والتَّنْزيهَ يتضمَّنان إثباتَ كلِّ كمال لله، وسَلبَ كلِّ نقصٍ وعَيب وتمثيل عنه، والاعترافَ بالظلم يتضمَّن إيمانَ العبد بالشَّرع والثواب والعقاب، ويوجب انكسارَه ورجوعه إلى الله، واستقالته عثرته، والاعتراف بعبوديته وافتقاره إلى ربِّه، فها هنا أربعةُ أمور قد وقع التوسُّل بها: التوحيد والتَّنْزيه والعبوديةُ والاعتراف"1 اهـ.

_ 1 زاد المعاد (2/208) .

دعاء الغم والهم والحزن

دعاءُ الغَمِّ وَالهَمِّ وَالحُزْنِ إنَّ العبدَ في هذه الحياة قد يُصاب بآلام متنوِّعَة، وقد يَرِدُ على قلبه واردَاتٌ متَعدِّدةُ تؤْرِق قلبَه وتُؤْلِمُ نفسَه، وتَجلبُ له الكدَرَ والضِّيقَ، فإن كان هذا الألَمُ الذي يُصيبُ القلبَ متعلِّقاً بأمور ماضية فهو حُزنٌ، وإن كان متعلِّقاً بأمور مستقبَلَة فهو هَمٌّ، وإن كان متعلِّقاً بواقع الإنسان وحاضره فهو غَمٌّ، وهذه الأمور الثلاثة الحزنُ والهمُّ والغَمُّ إنَّما تزول عن القلب وتَنْجَلي عن الفؤاد بالعودة الصادقة إلى الله، وتَمام الانكسار بين يديه، والتَّذَلُّل له سبحانه، والخضوع له والاستسلام لأمره والإيمان بقضائه وقدره ومعرفته سبحانه، ومعرفةِ أسمائه وصفاته،

والإيمانِِ بكتابه، والعناية بقراءته وتدبره والعمل بما فيه، فبذلك لا بغيره تزولُ هذه الأمور، وينشرح الصَّدرُ، وتتحقَّق السَّعادة. جاء في المسند للإمام أحمد وصحيح ابن حبان وغيرهما عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم قال: "مَا قَالَ عَبْدٌ قَطُّ إِذا أَصَابَهُ هَمٌّ أَوْ حُزْنٌ: اللَّهُمَّ إِنِّي عَبْدُكَ وَابْنُ عَبْدُكَ وابْنُ أَمَتِكَ، نَاصِيَتِي بيَدِكِ، مَاضٍ فِيَّ حُكْمُكَ، عَدْلٌ فِيَّ قَضَاؤُكَ، أَسْأَلُكَ بكُلِّ اسْمٍ هُوَ لَكَ، سَمَّيْتَ بهِ نَفْسَكَ، أَوْ أَنْزَلْتَهُ فِي كِتَابِكَ، أَوْ عَلَّمْتَهُ أَحَداً مِنْ خَلْقِكَ، أَوْ اسْتَأْثَرْتَ بهِ فِي عِلْمِ الغَيْبِ عِنْدَكَ، أَنْ تَجْعَلَ القُرْآنَ رَبِيعَ قَلْبِي، وَنُورَ صَدْرِي، وَجَلاَءَ حُزْنِي، وَذَهَابَ هَمِّي، إِلاَّ أَذْهَبَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ هَمَّهُ، وَأَبْدَلَهُ مَكَانَ حُزْنِهِ فَرَحاً. قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَتَعَلَّمَ هَؤُلاَءِ الكَلِمَاتِ. قَالَ: أَجَلْ، يَنْبَغِي لِمَنْ

سَمِعَهُنَّ أَنْ يَتَعَلَّمَهُنَّ" 1. فهذه كلماتٌ عظيمةٌ ينبغي على المسلم أن يتعلَّمها، وأن يحرصَ على قولها عندما يُصاب بالحزن أو الهمِّ أو الغمِّ، وليعلم كذلك أنَّ هؤلاء الكلمات إنَّما تكون نافعةً له إذا فَهم مدلولَها وحقَّق مقصودَها وعمل بما دلَّت عليه، أمَّا الإتيانُ بالأدعية المأثورة والأذكار المشروعية دون فهم لمعانيها ودون تحقيق لمقاصدها فإنَّ هذا قليلُ التأثير عديمُ الفائدة. وإذا تأمَّلنا هذا الدعاءَ نجدُ أنَّه يتضمن أربعة أصول عظيمة، لا سبيل للعبد إلى نيل السعادة وزوال الهم والغم والحزن إلاَّ بالإتيان بها وتحقيقها.

_ 1 مسند أحمد (1/391) ، وصحَّحه الألباني رحمه الله في السلسلة الصحيحة (رقم:199) ، وانظر في شرح هذا الحديث الفوائد لابن القيم (ص:44) .

أمَّا الأصل الأول: فهو تحقيقُ العبادة لله وتَمام الانكسار بين يديه، والخضوع له واعترافه بأنَّه مخلوق لله مَملوكٌ له هو وآباؤه وأمهاتُه، ابتداء من أبويه القريبين وانتهاء إلى آدم وحواء، ولهذا قال: "اللَّهمَّ إنِّي عبدُك وابنُ عبدك وابنُ أَمَتِك" فالكلُّ مماليك لله، وهو خالقُهم وربُّهم وسيِّدُهم ومدَبِّر شؤونهم، الذي لا غنى لهم عنه طرفة عين، وليس لهم من يعوذون به ويلوذون به سواه، ومن تحقيق ذلك التزام العبد عبوديته سبحانه من الذُّلِّ والخضوع والانكسار والإنابة وامتثال الأوامر واجتناب النواهي ودوام الافتقار إليه واللَّجأ إليه والاستعانة به والتوكل عليه والاستعاذة به، وأن لا يتعلَّق القلبُ بغيره محبَّةً وخوفاً ورجاءً. وأمَّا الأصل الثاني: فهو أن يؤمن العبدُ بقضاء الله وقَدَره، وأنَّ ما شاء الله كان وما لَم يشأ لَم

يكن، وأنَّه سبحانه لا مُعَقِّبَ لحُكمه ولا رادَّ لقضائه {مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ} 1، ولهذا قال في هذا الدعاء "ناصيَتِي بيدك، ماضٍ فِيَّ حُكمُك، عَدلٌ فِيَّ قضاؤك"، فناصيةُ العبد وهي مُقدَّمَةُ رأسه بيد الله، يتصرَّف فيه كيف يشاء ويَحكم فيه بما يريد، لا مُعَقِّبَ لحُكمه ولا رادَّ لقضائه، فحياةُ العبد وموتُه وسعادتُه وشقاوتُه وعافيتُه وبلاؤه، كلُّ ذلك إليه سبحانه ليس إلى العبد منه شيء، وإذا آمن العبدُ بأنَّ ناصيتَه ونواصي العباد كلَّها بيد الله وحده يصرفهم كيف شاء، لَم يخف بعد ذلك منهم ولم يَرجُهم ولَم يُنْزلْهم مَنْزِلَة المالكين، ولم يعلِّق أملَه ورجاءَه بهم، وحينئذ يستقيمُ له توحيدُه وتوكُّلُه وعبوديتُه، ولهذا قال هود عليه السلام لقومه: {إِنِّي

_ 1 سورة: فاطر، الآية (2) .

تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلاَّ هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} 1. وقوله: "ماض في حُكمك" يتناول الحكمين: الحكم الديني الشرعي، والحكم القدري الكوني، فكلاهما ماضيان في العبد شاء أم أبَى، لكن الحكم الكوني القدري لا يمكن مخالفتُه، وأمَّا الحكمَ الدينِيَّ الشرعي فقد يخالفُه العبدُ، ويكون متعرِّضاً للعقوبة بحسب ما وقع فيه من مخالفة. وقوله: "عَدلٌ فِيَّ قضاؤك" يتناول جميعَ أقضيته سبحانه في عبده من كلِّ الوجوه، من صحة وسُقم، وغنًى وفقر، ولَذَّة وألَم، وحياة وموت، وعقوبةٍ وتجاوز وغير ذلك، فكلُّ ما يقضي على العبد فهو عَدلٌ فيه {وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ} 2.

_ 1 سورة: هود، الآية (56) . 2 سورة: فصلت، الآية (46) .

والأصلُ الثالث: أن يؤمنَ العبدُ بأسماء الله الحسنى وصفاته العظيمة الواردة في الكتاب والسُّنَّة، ويتوسَّلَ إلى الله بها، كما قال تعالى: {وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} 1، وقال تعالى: {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيّاً مَا تَدْعُوا فَلَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} 2، والعبدُ كلَّما كان عظيمَ المعرفة بالله وأسمائه وصفاته زادت خشيتُه له، وعَظُمت مراقبتُه له، وازدادَ بُعْداً عن معصيته والوقوع فيما يسخطه، كما قال بعض السلفُ: "من كان بالله أعرفَ كان منه أخوف"، ولهذا فإنَّ أعظمَ ما يَطرُدُ الهمَّ والحزنَ والغمَّ أن يعرفَ العبدُ ربَّه، وأن يَعمُرَ قلبَه بمعرفته سبحانه، وأن يتوسَّلَ إليه بأسمائه

_ 1 سورة: الأعراف، الآية (180) . 2 سورة: الإسراء، الآية (110) .

وصفاته، ولهذا قال: "أسألُك بكلِّ اسم هو لكَ سَمَّيتَ به نفسَك، أو أنزلتَه في كتابك، أو علَّمته أحداً من خلقك، أو استأثرتَ به في علم الغيب عندك"، فهذا توسُّلٌ إلى الله بأسمائه كلِّها ما عَلَمَ العبدُ منها وما لَم يعلم، وهذا أحبُّ الوسائل إلى الله سبحانه. والأصلُ الرابع: هو العنايةُ بالقرآن الكريم، كلام الله عز وجل الذي لا يأتيه الباطلُ من بين يديه ولا من خلفه، المشتمل على الهداية والشفاء والكفاية والعافية، والعبدُ كلَّما كان عظيمَ العناية بالقرآن تلاوةً وحفظاً ومذاكرةً وتدبُّراً، وعملاً وتطبيقاً نال من السعادة والطمأنينة وراحةِ الصَّدر وزوال الهمِّ والغَمِّ والحزن بحسب ذلك، ولهذا قال في هذا الدعاء: "أن تَجعلَ القرآنَ ربيعَ قلبي ونورَ صدري وجلاءَ حزني وذهاب هَمِّي".

فهذه أربعةُ أصول عظيمة مستفادة من هذا الدعاء المبارك، ينبغي علينا أن نتأمَّلَها ونَسعَى في تحقيقها؛ لننالَ هذا الموعودَ الكريمَ والفضلَ العظيم وهو قوله صلى الله عليه وسلم: "إلاَّ أذهبَ اللهُ هَمَّه وأبدلَه مكان حزنه فرحاً" وفي رواية "فَرَجاً"، ومن الله وحده نطلب العونَ والتوفيق.

ما يقول إذا أصابته مصيبة

ما يَقُولُ إِذا أَصَابَتْهُ مُصِيبَةٌ الحديثُ هنا عمَّا يُشرَعُ للمسلم أن يقوله عندما يُصاب بمصيبة في نفسه أو وَلَده أو ماله أو نحو ذلك، وليعلم أوَّلاً أنَّ سُنَّة الله ماضيةٌ في عباده بأن يَبتليَهم في هذه الحياة الدنيا بأنواعٍ من البلايا وألوانٍٍ من المحن والرَّزايا، فيبتليهم بالفقر تارةً وبالغني تارة أخرى، وبالصِّحة تارة وبالمرض تارة أخرى، وبالسَّرَّاء حيناً وبالضَّرَّاء حيناً آخر، وليس في النَّاس إلاَّ مَن هو مُبتَلى، إمَّا بفوات محبوب أو حصول مكروه أو زوال مرغوب، فسرور الدنيا أحلامُ نوم أو كظِلٍّ زائل، إن أَضحَكت قليلاً أبكت كثيراً، وإن سَرَّت يوماً أحزَنت دهراً، وإن مَتَّعت قليلاً مَنَعت طويلاً، وما مَلأت داراً حبرة إلاَّ مَلأتها عبرة، كما

قال ابن مسعود رضي الله عنه: "لكلِّ فَرحة تَرحة، وما مُلئَ بيتٌ فَرَحاً إلاَّ مُلئَ تَرَحاً"، إلاَّ أنَّ عبدَ الله المسلم صائرٌ إلى خير في كلِّ أحواله، كما قال صلى الله عليه وسلم: "عَجَباً لأمر المؤمن إنَّ أمرَه كلَّه خيرٌ، وليس ذلك لأحد إلاَّ للمؤمن، إن أصابَته سَرَّاءُ شَكَرَ فكان خيراً له، وإن أصابته ضَرَّاءُ صَبَرَ فكان خيراً له" رواه مسلم1. وقد أرشد الله عبادَه إلى الحال التي ينبغي أن يكونوا عليها عند المصيبة، وإلى الذِّكر الذي ينبغي أن يقولَه المُصابُ، يقول الله تعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الأَمْوَالِ وَالأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} 2.

_ 1 صحيح مسلم (رقم:2999) . 2 سورة: البقرة، الآيات (155 ـ 157) .

فأخبر سبحانه في هذه الآية الكريمة أنَّه يبتلي عبادَه بالمحن؛ ليَتَبَيَّنَ الصادقُ من الكاذب، والجازع من الصابر، والموقنُ من المرتاب، وذَكَرَ أنواعاً مِمَّا يبتليهم به، فهو يبتليهم بشيء من الخوف، أي: من الأعداء، والجوع، أي: بنقص الطعام والغذاء، ونقصٍ من الأموال، وهو يشمَلُ جميعَ أنواع النقص المعتري للأموال، سواء بالجوائح السماوية أو الغرق أو الضَّيَاع أو السَّلب أو غير ذلك، ويبتليهم كذلك بنقص الأنفسِ بذهاب الأحباب من الأولاد والأقارب والأصحاب، ويَدخُلُ تحت هذا ما يُصيب البدن من أنواع الأمراض والأسقام، ويبتليهم كذلك بنقص الثَّمَرات من الحبوب وثمار النخيل والأشجار، وهي أمورٌ لا بدَّ وأن تقع؛ لأنَّ العليمَ الخبيرَ أخبَرَ بوقوعها، وحظُّ الإنسان من المصيبة هو ما تُحدث له من أثر، فمَن رضيَ فله الرِّضا، ومن

سَخط فله السخط، ولهذا لا بدَّ أن يعلمَ المصابُ أنَّ الذي ابتلاه بمصيبته هو أحكمُ الحاكمين وأرحمُ الراحمين، وأنَّه سبحانه لَم يُرسل بلاءَه عليه ليهلكَه ولا ليعذِّبَه، وإنَّما ابتلاه ليمتحنَ صبرَه ورضاه وإيمانَه، وليسمع تَضرُّعَه وابتهالَه ودعاءَه، وليَرَهُ طريحاً ببابه، لائذاً بجَنَابه، مكسورَ القلب بين يديه، رافعاً يدي الضَّرَاعة إليه، يشكو بَثَّه وحُزنَه إليه؛ فينالَ بذلك عظيمَ موعود الله وجزيلَ عطائه ووافرَ آلائه ونعمائه، {وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} 1، فما أوسَعَه من فضل وما أكرمَه من عطاء، يقول عمر بنُ الخطاب رضي الله عنه: "نعم العدلان ونعمت العلاوة".

_ 1 سورة: البقرة، الآيات (155 ـ 157) .

لقد جعل اللهُ هذه الكلمةَ كلمةَ الاسترجاع وهي قول المُصاب: "إنَّا لله وإنَّا إليه راجعون" ملجأً وملاذاً لذوي المصائب، وعِِصمةً للممتَحَنين، فإذا لَجأَ المُصابُ إلى هذه الكلمة الجامعة لمعاني الخير والبركة سكن قلبُه، واطمأنت نفسُه، وهدأ بالُه، وعوَّضَه اللهُ في مصيبته خيراً. روى مسلم في صحيحه عن أم سلمة رضي الله عنها أنَّها قالت: سمعتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقول: "مَا مِنْ عَبْدٍ تُصِيبُهُ مُصِيبَةٌ فَيَقُولَ: إِنَّا للهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ، اللَّهُمَّ أْجُرْنِي فِي مُصِيبَتِي وَأَخْلِفْ لِي خَيْراً مِنْهَا، إِلاَّ آجَرَهُ اللهُ فِي مُصِيبَتِهِ وَأَخْلَفَ لَهُ خَيْراً مِنْهَا. قَالَتْ: فَلَمَّا تُوُفِيَّ أَبُو سَلَمَةَ قُلْتُ كَمَا أَمَرَنِي رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَأَخْلَفَ اللهُ لِي خَيْراً مِنْهُ؛ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم" 1. أي: أنَّ اللهَ أكرَمَها فتزوَّجت

_ 1 صحيح مسلم (رقم:918) .

رسولَ الله صلى الله عليه وسلم. ومَن يتأمَّل هذه الكلمةَ العظيمةَ كلمةَ الاسترجاع، يجدُ أنَّها مشتملةٌ على علاج عظيم لذوي المصائب، بل فيها لهم أبلغ علاج وأنفعه في الحال والمآل، وكم لهذه الكلمة من الآثارِ الحميدة والعواقبِ الرشيدة والنتائج العظيمة في الدنيا والآخرة، ويكفي في هذا قول الله تعالى: {أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} 1، لكن مع قولها لا بدَّ من فهم مدلولها وتحقيق مقصودها؛ ليَحظَى العبدُ بهذا الموعود الكريم والثواب العظيم، وقد تضمَّنت هذه الكلمة أصلين عظيمين، إذا حقَّقَهما العبدُ علماً وعملاً تَسَلَّى عن مصيبته، ونال عظيمَ الثواب وجميل المآب.

_ 1 سورة: البقرة، الآية (157) .

أمَّا الأصل الأول: فهو أن يتحقَّق العبدُ أنَّ نفسَه وأهلَه ومالَه وولَده مِلكٌ لله عز وجل، فهو الذي أوْجَدَهم من العدَم، ويتصرَّف فيهم بما شاء، ويحكم فيهم بما يريد، لا مُعقِّب لحُكمه، ولا رادَّ لقضائه، وهذا مستفادٌ من قوله "إنَّا لله" أي: نحن مَماليك له، وتحت تصرفه وتدبيره، هو ربُّنا ونحن عبيدُه، وكلُّ شيء واقعٌ علينا فبقضائه وقدره، {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} 1. والأصل الثاني: أن يعلمَ العبدُ أنَّ مصيرَه ومرجعَه إلى الله، كما قال الله تعالى: {وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى} 2، وقال تعالى: {إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى} 3،

_ 1 سورة: الحديد، الآية (22) . 2 سورة: النجم، الآية (42) . 3 سورة: العلق، الآية (8) .

فلا بدَّ للعبد أن يخلفَ الدنيا وراءَ ظهره، ويأتي ربَّه يوم القيامة فرداً كما خلقَه أوَّلَ مرَّة، بلا أهل ولا مال ولا عشيرة، وإنَّما يأتيه بالحسنات والسيِّئات، وهذا مستفادٌ من قوله: "وإنَّا إليه راجعون"، وهو إقرارٌ من العبد بأنَّه راجعٌ إلى الله، وأنَّه سبحانه سيُجازيه على ما قدَّم في هذه الحياة، وعندئذ يتَّجه إلى شَغْلِ نفسه بما ينفعه عند لقاء الله، فإذا قالَها المصابُ على هذا الوصف مستحضِراً لمعناها محقِّقاً لمدلوها ومقتضاها هُدي إلى صراط مستقيم. روى أبو نعيم في الحلية عن الحسن بن علي العابد قال: "قال الفضيل ابن عياض لرجل: كم أتَت عليك؟ قال ستُّون سنة، قال: فأنت منذ ستين سنة تسيرُ إلى ربِّك توشك أن تبلغ، فقال الرَّجل: يا أبا علي، إنَّا لله وإنَّا إليه راجعون، قال له الفضيل: تعلمُ ما تقول؟ فقال الرجل: قلت: إنَّا لله وإنَّا إليه

راجعون، قال الفضيل: تعلَمُ ما تفسيرُه؟ قال الرَّجل: فسِّره لنا يا أبا علي، قال: قولُك إنَّا لله، تقول: أنا لله عبدٌ وأنا إلى الله راجعٌ، فمَن عَلِمَ أنَّه عبد الله وأنَّه إليه راجع، فليعلَم بأنَّه موقوفٌ، ومَن عَلم بأنَّه موقوفٌ فليعلم بأنَّه مسئولٌ، ومَن علم أنَّه مسؤولٌ، فليُعِدَّ للسؤال جواباً، فقال الرجل: فما الحيلة؟ قال: يسيرة، قال: ما هي؟ قال: تُحسنُ فيما بقيَ، يُغفَر لك ما مضى، فإنَّك إن أسأتَ فيما بقي أُخِذتَ بما مضى وما بقي"1. وفي هذا دلالةٌ على عظم اهتمام السَّلف رحمهم الله بمعاني الأذكار ومعرفة دلالاتها وتحقيق مقاصدها وغاياتها، وتأكيدهم على هذا الأمر العظيم؛ لتتحقق للعبد ثمارُها، وتظهر فيه آثارُها، وتتوافر له خيراتُها وبركاتها.

_ 1 حلية الأولياء (8/113) .

فختاماً فهذا ما تَمَّ انتقاؤه مِمَّا يتعلَّق بدعوات المرضى والمصابين، ونسأل الله الكريم أن يشفي مرضانا ومرضى المسلمين، وأن يفرج هَمَّ المهمومين من المسلمين، وأن ينفِّس كرب المكروبين، إنَّ ربِّي سميعُ الدعاء، وهو أهل الرجاء، وهو حسبنا ونعم الوكيل، وصلى الله وسلم على نبيِّنا محمد وآله وصحبه

§1/1