التبيين عن مذاهب النحويين

العكبري، أبو البقاء

بسْم اللهِ الرّحمن الرّحيمُ قالَ الشيخُ الإسلام وحُجّة الأَنام، العَلاَّمة، نَسيجُ وَحده، تُرجُمان الأَدَب واللِّسان، أبو البقاء عبد الله بن الحُسين العُكَبرِيُّ، أدامَ الله تأييدَه وتسديدَه.

1 - مسألة: [الكلام والكلمة]

1 - مسألة: [الكلام والكلمة] الكلامُ عبارةُ عن الجُملة المُفيدة فائدةً تامةً، كقولك: ((زيدُ منطلقُ))، و ((إن تأتني أكرِمْك))، و ((قُمْ))، و ((صَهْ))،وما كان نحو ذلك. فأمَّا اللّفظةُ المفردة نحو ((زَيد)) وحده و ((مَن)) ونحو ذلك فلا يُسمَى كلامًا بل كلمةً، هذا قولُ الجُمهور. وذهبَتْ شِرْذِمَةُ من النّحويين إلى أنّ الكلامَ يُطلق على المُفيد

وغيرِ المُفيد إطلاقًا حَقيقيًّا. والدّليلُ على القولِ الأَوَّلِ: أنَّه لفظُ يُعبَّر بإطلاقه من الجُملة المُفيدةِ، فكان حَقيقةً فيها، كالشَّرطِ وجوابِهِ، والدّليلُ على أنَّه يعبر به عنها لا إشكال فيه، إذ هو مُتَّفَقُ عليه، وإنَّما الخلاف في تَخصيصه بذلك دونَ غَيره، وبيان اختصاصه بها من ستّة أوجه: أحدها: أنه يطلق بإزائها فيُقال: هذه الجُملة كلامُ، والأصلُ في الإطلاقِ الحقيقةُ. الثاني: أنَّ الكلامَ تؤكّدُ به الجُملة كقولك: تَكلّمتُ كلامًا، وكلمتُهُ كلامًا والمصدَرُ المؤكَّدُ به نائبُ عن إعادةِ الجُملة، ألا تَرى أنَّ قولَكَ: قمتُ قيامًا وتكلّمتُ، تقديره: قمتُ قمتُ؛ لأنَّ الأصلَ في التَّوكيد إعادة الجُملة بعينِها، ولكنّهم آثروا أَلا يُعيدوا الجُملة بعينها، فجاءوا بمفردٍ في معناها، والنائبُ عن الشيءِ يؤدّي عن معناه. والثالث: أنَّ قولَك كلمتُه عبارة عن أنَّك أفهمتَهُ معنى بلفظٍ، والمعنى المُستفادُ بالإِفهامِ تامُّ فكانت العبارة عنه موضوعه له، لا منبئة عنه، والكلامُ هو معنى كلمتُهُ. والرابع: أن مصدَرَ تكلَّمتُ التَّكَلُّم، وهو مشدّد العَين في الفعلِ

والمصدَرِ، والتَّشديدُ للتَّكثير، وأَدنى التَّكثير الجُملةُ المفيدةُ. وأمَّا كلَّمتُ فمشدَّدُ أيضاً، وهو دليلُ الكثرةِ، ومصدَرُهُ التَّكليم، التاء والياء فيه عوض عن التَّشديد. والخامس: أنَّ الأحكامَ المُتَعَلّقة بالكلام لا تَتَحقّق إلاّ بالجملة المُفيدة، فمن ذلك قوله تعالى: {وإِنْ أَحَدُ من المُشرِكِيْنَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللَهِ}. ومعلومُ أنَّ الاستجارة لا تَحصُلُ إلاّ بعدَ سماعِ الكلامِ التامِّ المَعنى، والكلمةُ الواحدةُ لا يَحصُلُ بها ذلك. وكذلك قولُه تَعالَى: {يُرِيدُون أَنْ يُبَدِّلُوا كلامَ اللَهِ} والتَّبديلُ صرفُ مايَدُل عليه اللّفظ إلى غيرِ معناه، ولا يَحصُلُ ذلك بتَبديلِ الكلمةِ الواحدةِ، لأنَّ الكلمةَ الواحدةَ إذا بُدّلت بغيرها كان ذلك لغةٍ إلى لغةٍ أُخرى وقالَ تَعالى: {وَقَدْ كَانَ فَرِيْقُ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلاَمَ اللَهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوْهُ}،وإنَّما عَقلوا المَعنى التَّامّ ثُمَّ حرَّفوه عن جهته، ومثله قوله تعالى: {يُحرِّفُونَ الكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ}، ومن ذلك تعليقُ اليَمِينِ بسَمَاعِ الكلامِ، فإنَّه لو قال: والله لا سمعتُ كلامَك فَنَطَقَ بلفظةٍ واحدةٍ ليس فيهَا معنى تَامُّ لم يَحنَث.

السادس: أن العربَ قد تَتَجَوَّزُ بالقول عن العجماوات كقول الشاعر: امْتَلَأ الحَوْضُ وقالَ قَطْنِيْ ... سَلا رُويْدًا قَدْ مَلَاتَ بَطْنِي وهو كثيرُ في استعمالهم، ولا يُنسب الكلامُ إلى مثل ذلك، فلا يقالُ تكلَّم الحَوْضُ ولا الحائطُ، ولا سبَبَ لذلك إلاّ أن الكلامَ حقيقةُ في الفَائِدةِ التَّامةِ، والقولُ لا يُشترطُ فيه ذلك. ((وإذا ثَبَتَ ما ذكرناه بانَ أنه حقيقةُ في الدِّلالة على الجُملة التّامة المعنى. فإن قيل يتَوجّه عليه أسئلةُ: أحدها: أنَّ إطلاقَ اللّفظِ على الشيءِ لا يلزمُ منه الحقيقةُ، فإنَّ المجازَ يطلقُ على الشيءِ كما يُقالُ للعالم بَحْرُ، وللشّجاع أسدُ، وقال تعالى: {جدارًا يريدُ أنْ يَنْقَضَّ}، {واسأل القرية}، وكلُّ مجازُ، وقد أُطلق

على هذا المعنى، فلا يلزمُ من الإطلاقِ على ما ذكرتُم الحقيقةُ. والسؤال الثاني: أنَّ الإطلاقَ يَكونُ حَقيقةً مشتركةً، أو جِنْسًا تحتَه مفردات، فالمشتركُ كلفظ العين والجنسُ مثل الحيوان، فإنَّ الحيوانَ حقيقةُ في الجنس، والواحدُ منه حقيقة أيضًا، فَلِمَ لا يكونُ الكلام والكلمة من هاتين الحقيقتين؟. والسؤال الثالث: أنَّ الكلامَ مشتقُ من الكَلْمِ وهو الجَرْحُ، والجامع بينهما التّأثيروالكلمةُ كذلك، لأنَّ الحروفَ الأصولَ موجودةُ فيها، وهي مؤثرة أيضًا إذ كانت تدلُّ على معنى، وهي جزءُ الجُملةِ التَّامة الفائدة، والجزءُ شارك الكلَّ في حقيقةِ وَضْعِهِ، أَلا تَرى أنَّ الحقَّ يثبتُ بشاهدين مثلاً، وكلُّ واحد منهما شاهدُ حقيقة، وإثبات الحقِّ بهما لا ينفي كونَ كلِّ واحدٍ منهما شاهدًا، كذلك ها هنا، ألا ترى أنَّ قولَكَ قامَ زيدُ يشتملُ على جزئين كلّ واحدٍ منهما يُسمى كلمةً، لدلالته على معنى، وتوقُّف الفائدة التَّامَّة على حكمِ يترتَّبُ على المجموع، ولا يَنفي ذلك اشتراك الجُزئين في الحقيقةِ، وعلى هذا ترتب التَّبديل والتحريف إذ كان ذلك كلُّه حكمًا يُستفاد

بالجُملة، ولا يَنفي حقيقة الوَضع، ثمّ ما ذكرتُمُوه معارضُ بقوله تعالى: {كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ}، وبقوله: {كَلِمَةُ الَّذِيْنَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ هِيَ الْعُلْيَا}، و {تَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلاً} ومعلومُ أنه أَرَادَ بالكلمةِ المُفيدة. وإذا وَقَعَت الكلمةُ على الجُملةِ، جازَ أن يقعَ الكلامُ على المُفردِ. فالجواب: أمَّا الإطلاقُ فدليلُ الحقيقةِ؛ إذ كان المجازُ على خلافِ الأصلِ، وإنَّما يُصارُ إليه بقرينة صارفة عن الأصلِ، والأصلُ عدمُ القرائن، ثم إنّ البحثَ عن الكلامِ الدّال على الجملة المفيدةِ لا توجد له قرينة، بل يسارع إلى هذا المعنى من غيرِ توقُّفٍ على وجودِ قرينةٍ، وهذا مثلُ لفظِ العُموم إذا أُطلق حُمل على العُموم من غيرِ يَحتاج إلى قرينةٍ تصرفُهُ إليه، بل إن وُجِدَ تخصيص إلى قرينةٍ. أمَّا السُّؤال الثّاني، فلا يَصِحُّ على الوَجهين المَذكورين، أمَّا الاشتراكُ فعنه جوابان: أحدهما: أنّه على خِلافِ الأصلِ؛ إذْ كان يُخِلّ بالتَّفاهُمِ، أَلا تَرى أنّه إذا أُطلق لَفظة (العين) لم يُفهم منه ما يَصحُّ بِناء الحُكم عليه، والكلامُ إنما وُضع للتَّفاهُمِ، وإنّما عَرَضَ الإِشتراك من اختلاف اللُّغات.

والثاني: أنّ الاشتراكَ هُنا لا يَتَحَقَّقُ؛ لأنَّ الكلامَ والكلامةَ من حقيقةٍ واحدةٍ، ولكنَّ الكلامَ مجموع شيئين فصاعدًا، اللّفظةُ المفردةُ ولا اشتراكَ بَينهما، وإنما الكلامُ مُستفادُ بالأوصافِ والاجتماعِ، وليس كذلك المشتركُ بلْ كلُّ من ألفاظه كالأخرى في كونِها مفردَةً. وأمّا الجنس فغيرُ موجودٍ هُنا؛ لأنَّ الجنسَ يفرَّق بين واحدة وبينه بتاء التَّأنيث نحو: تَمرةٍ وتَمْرٍ، وهذا غيرُ موجودٍ في الكلامِ والكلمةِ بل جنس الكلمةِ كَلِمُ وليس واحدُ الكلامِ كلامةُ، فبانَ أنَّه ليس بجنسٍ. وأما السؤال الثالث: فخارجُ عمّا نَحنُ فيه، وبيانه: أنَّ اشتقاقَ الكلمةِ من الكَلْم، وهو التَّأثير، والكلامُ تأثيرُ مخصوصً، لا مطلقُ التأثير، والخاصُّ غيرُ المُطلق، يَدُلُّ عليه أنَّ الكَلْمَ الذي هو الجَرْحُ مؤثرُ في النَّفس معنى تامّاً وهو الأَلَمُ مثلاً، والكلامُ أشبَه بذلك؛ ولأنَّه يؤثِّرُ تأثيرًا تامّاً، وأمَّا الكلمةُ المفردةُ فتأثيرها قاصرُ، لا يتمُّ منه معنى إلاّ بانضمامِ تأثيرٍ آخرَ إليه، فهما مشتركان في أصلِ التأثير، لا في مِقداره. وأمَّا المُعارضةُ بقوله تعالى: {كَبُرَتْ كَلِمَةً} فلا تتوجهُ؛ لأنَّ أكثرَ ما فيه أنَّه عَبَّرَ بالجُزء عن الكلِّ، وهذا مَجازُ ظاهرُ؛ إذ كان الواحدُ ليس بجمعٍ ولا جنسٍ، بل يعبَّر به عن الجَمعِ والجِنسِ مَجازًا ووجهُ المَجَاز أن الجُملةَ يتألَّفُ بعضُ أجزائِها إلى بعضٍ، كما تَتَأَلَّف حروفُ الكلمةِ المفردةِ بعضُها إلى بعضٍ، فلمّا اشتركا في ذلك جازَ المَجَازُ، وليس كذلك التَّعبيرُ عن الكلمةِ؛ لأنَّ ذلك نقضُ معناها، ودليلُ المجازِ في الكلمةِ ظاهرُ، وهو قوله: {تَخْرُجُ من أَفْواهِهِمْ إنْ يَقُوْلُونَ إلاّ كَذِبًا}

والكذبُ لا يتحقّقُ في الكلمةِ المفردةِ، وإنّما يُتَصَوَّرُ فيما هو خبرُ، والخبرُ لا يكونُ مفردًا في المعنى. واحتَجَّ الآخرون بأنّ الاشتقاقَ موجودُ في الكلمةِ والكلامِ بمعنى واحدٍ، وهو التّأثيرُ، فكان اللّفظ شاملاً لهما، يَدُلُّ عليه أنّكَ تقولُ: تكلّم كلمةً وما تكلمَّ بكلمةٍ فيؤكّد باللّفظةِ المفردةِ الفعلُ كما يؤكّد بالكلامِ فيلزمُ من ذلك إطلاق العِبارتين على شَيءٍ واحدٍ. والجوابُ عن هذا ما تقدّم في جوابِ السُّؤال. والله أعلمُ بالصَّواب.

2 - مسألة: [حد الاسم]

2 - مسألة: [حد الاسم] اختلفت عبارات النحويين في حدّ الاسم، وسيبويه لم يصرح له بحدِّ. فقالَ بعضُهم: الاسم ما استحقّ الإعراب في أول وضعه. وقالَ آخرون: ما استحقَّ التنوين في أصلِ وضعه.

وقالَ آخرون: حدّ الاسم ما سَما بِمُسَمَّاةُ، فأوضحه وكشف معناه. وقالَ آخرون: الاسمُ كلُّ لفظٍ دلّ على معنى مُفرد في نَفسِهِ. وقالَ آخرون: هو كلُّ لفظٍ دلّ على معنى في نَفْسِهِ ولم يدل على زمان ذلك المعنى. وقالَ ابنُ السّراج: هو كلّ لفظٍ دلَّ على معنى في نفسِه غير مقترنٍ بزمانٍ مُحصّل، وزادَ بعضهُم في هذا الحدِّ دلالةَ الوضعِ. وقبل الخوض في الصّحيح في هذه العبارات نُبيّن حدَّ الحدّ،

والعبارات الصحيحة فيه مُختلفة الألفاظ مُتفقة المعاني. فمنها اللَّفظُ على كمالِ ماهيَّة الشَّيءِ، وهذا حدُّ صَحيحُ؛ لأنَّ الحدَّ هو الكاشفُ عن حَقيقةِ المَحدودِ، ويُرادُ بالماهية ما يُقالُ في جوابِ ما هو؟ واحتَرزوا بقولهم: ((كمالُ الماهِيّة)) من أنّ بعضَ ما يدلُّ على الحقيقة قد يَحصلُ من طريقِ الملازمةِ لا من طريقِ المطابقة، مثالُه: أن تَقولَ: حدُّ الإنسان هو الناطقُ فلفظُ الحدّ يكشف عن حقيقة النُّطق، ولا يَدُلّ على جنس المحدود، وإن كان لا ناطق إلاّ الإنسان، ولكن ذلك معلوم من جهة الملازمة، لا من جهة دلالة اللَّفظ، ومثالُه من النَّحو قولهم: المَصدرُ يدلُّ على زمانٍ مَجهولٍ، ولَيس كذلك، فإن لفظَ المَصدَرِ لا يَدُلُّ على زمانٍ البَتَّة وإنَّما الزّمان من ملازماته، فلا يَدخلُ في حدّه، ولو دَخَل ذلك في الحدّ لوجَب أن يُقالَ: الرَّجل والفَرسُ يدلان على الزَّمان والمكان، إذْ يُتَصَوَّر انفكاكه عنهما. ولكنْ لمّا لم يَكُن اللَّفظُ دالاً عليهما يَدخلا في حدّه، وقالَ قومّ: حدُّ الحدّ: هو عبارةُ عن جُملة ما فرّقه التَّفصيلُ.

وقالَ آخرون: حدُّ الحدِّ: ((ما اطّرد وانعكس))، وهذا صحيحُ؛ لأنَّ الحدَّ كاشفُ عن حقيقة الشَّيءِ فاطّرادُهُ يُثبِتُ حقيقتَه أينما وُجِدَتْ وانعكاسُهُ يَنفيها حَيثُما فُقِدت وهذا هو التَّحقيقُ، بخلاف العلامة، فإِنّ العلامة تَطّردُ ولا تنعكسُ، ألا تَرى أنّ كلَّ اسمٍ دخلَ عليه حرفُ الجرّ والتَّنوين وما أشبههما أَنَّى وُجِدَ حُكِمَ بكون اللّفظ اسمًا، ولا ينفي كونه اسمًا بامتناع حرف الجرّ، ولا بامتناع التَّنوين ونحوهما؛ وإذْ قد بانت حقيقةُ الحدّ فنشرعُ في تحقيق ما ذكر من الحُدود وإفساد الفاسد منها. أما قولهم: الاسمُ كلُّ لفظٍ دلَّ على معنى مفردٍ في نفسه، فحدُّ صحيح إذ الحدُّ ما جمع الجنس والفصل واستوعبه جنسُ المحدود، وهو كذلك هاهُنا، ألا ترى أنّ الفعل يدلُّ على معنيين حدث وزمان، ((وأمس)) وما أشبهه يدلُّ على الزَّمان وحده، فكان الأول فعلاً والثاني اسمًا، والحرفُ لا يدلُّ على معنى في نفسِهِ، فقد تَحقّق فيما ذكرناه الجنس، والفصل، والاستيعاب، وأمَّا قولُ ابنِ السّراج فصحيحُ أيضًا، فإنّ الاسم يدل على معنى في نفسِهِ، فيفه احترازُ من الحرف وقوله ((غير مقترن بزمانٍ محصّل)) يخرج منه الفعل فإنه يدلُّ على الزمان المقترن به، وأما المَصادر فلا دلالة لها على الزمان، المَجهول ولا المُعَيّن على ما ذكرنا، ومن قالَ منهم: يدلُّ على الزَّمان المجهول فقد احترز عنه بقوله ((مُحَصّل)) فإن

المصدر لا يدلُّ على زمان معيّنٍ، وأمَّا من زاد فيه ((دلالة الوضع)) فإنّه قَصَدَ بذلك دفع النَّقض بقولهم: ((أتيتكُ مَقدم الحاجّ)) و ((خفوق النَّجم)) وأتت الناقة على منتَجِها فإن هذه مَصادر، وقد دلَّت على زمانٍ محصّلٍ، فعندَ ذلك تخرج عن الحدِّ، وإذا قالَ دلالة الوَضع لم يَنتقض الحدّ بها، لأنها دالةُ على الزَّمان لا من طريقِ الوضعِ، وذلك أن مَقدم الحاجّ يتفقُ في أزمنَةٍ معلومة بينَ النّاس، لا أنّها معلومةُ من لفظِ المَقدم، والدّليلُ على ذلك أنّك لو قلتَ: أتيتُكَ وقت مقدم الحاج صحّ الكلامُ، وظهرَ فيه ما كان مقدّرًا قبله، والتّحقيقُ فيه أن الحُدود تكشف عن حقيقة الشيء الموضوع أولاً، فإذا جاء منها شيءُ على خلاف ذلك لعارضٍ لم ينتقص الحد به وسَيَاتي نظائر ذلك فيما يمر بك من المسائل. فأمَّا من قال: هو ما استحق الإعرابُ في أولِ وضعِهِ، أو ما استحقَّ التَّنوين، فكلامُ ساقطُ جدّاً وذلك أنّ استحقاق الشيءٍ لحكمٍ ينبغي أن يَسبِقَ العلم بحقيقته، حتى يرتب عليه الحُكْمُ، ألا ترى أنّه لو قالَ في لفظة ((ضَرَبَ)) هذا الاسم لأنه يستحق الإعراب في أولِ وضعه لاحتَجتَ أن تُبيّنَ أنه ليس باسمٍ، ولا يُعترض في ذلك بالإعرابِ وعدمه، ولو قال قائلُ: أنا أعربه أو أحكم باستحقاقه الإعراب؟ لقيلَ له: ما الدَّليلُ على ذلك؟ فقال: لأنّه اسمُ فيقال له: ما الدّليل على أنه اسم؟ فإن قال بعدَ ذلك: لأنّه

يستحق الإعراب أدى إلى الدَّور؛ لأنه لا يثبتُ كونه اسمًا إلا باستحقاق الإِعراب، ولا يَستحق الإِعراب إلا بكونِهِ اسمًا، وهكذا سبيلُ التّنوين وغيره. وأمَّا قول الآخر ((ما سَما بِسُمّاه)) فحدُّ مدخولُ أيضًا؛ وذلك أنَّه أرادَ ما سمّي مُسَمَّاه، ولهذا قال: فأوضحه، فجعلَ في الحدِّ لفظَ المَحدودِ، وإذا كُنَّا لا نَعلمُ معنى الاسم فكيفَ يُجعل فيما يُوضحه لفظًا مشتَقًا منه؟ وذلك أنّ الاشتقاق يَستدعي فهم المُشتق منه أولاً، ثم يؤخذ منه لفظ آخر يدلُ على معنى زائد، قالَ عبدُ القاهر: في ((شرح جملة)): حدّ الاسم: ما جازَ الإخبارُ عنه قال: والدّليلُ على ذلك من وجهين: أحدهما: أنه مُطّرد ومُنعكس، وهذا إمارة صحّة الحد. والثاني: أنّ الفعلَ لا يصحُّ الإخبار عنه، والحرفُ لا حظَّ له في

الإخبار، فعنى أن يكون الاسمُ هو المخبر عنه، إذ لا يجوز أن تخلو الكلمة من إسنادِ الخبرِ إليها، [كان] الفعلُ والحرفُ والاسمُ لا يُسند إليه خبر ارتفعَ الأخبارُ عن جملةِ الكلامِ، والدَّليلُ على أنه ليس بحدٍّ وإنّما هو علامةُ، وقد اختارَ ذلك عبد القاهر في ((شرح الإِيضاح)) أنَّ هذا اللّفظ يطرد ولا ينعكس. والدَّليل عليه قولك ((إذ)) و ((إذا)) و ((أيّان)) و ((أَين)) وغير ذلك، وأنها أسماء ولا يصحّ الإخبار عنها، فعندَ ذلك يَبطل كونها حدّاً. والوَجهُ الثّالِثُ: أنَّ قولَكَ: ما جازَ الإخبار عنه لا يُنبئ عن حَقيقةِ وَضعه، وإنّما هو من أحكامِه، ولذلك لو ادَّعى مُدَّعٍ أنّ لفظةُ ((ضَرَبَ)) يصحُّ الإخبار عنها بأن يقول: ضَرَبَ اشتدّ كما تقول: الضَّربُ مشتدّ، لم يصح معارضته بالمنع المُجرَّدِ حتّى يُبيّن وجه الامتناع، والحدُّ لا يَحتاجُ إلى دليلٍ يُقام عليه، لأنَّه لفظُ موضوعُ على المَعنى، ودلالةُ الأَلفاظِ على المَعاني لا تَثُبتُ بالمناسبة والقياس. فإن قيلَ: ((إذ)) و ((إذا)) ونحوهما يَصحُّ الإخبارُ عنهما من حيثُ إِنَّهما أوقاتُ وأمكنةُ وكلاهما يَصحُ الإخبار عنه وإنما عَرض لها أنّها لا تَقَعُ إلا ظُروفًا فمن حيثُ هي ظروفُ لا يخبرُ عنها، ومن حيثُ هي أوقاتُ وأمكنةُ يصح الإخبار عنها، ألا ترى أنَّك لو قلتَ: طابَ وقتُنا، واتّسع مكانُنا كان خبراً صحيحًا.

فالجواب: أن كونها ظروفًا أو صفات انضمّت إلى كونها وقتًا أو مكانًا لم تستعمل إلا بهذه الصفة، فهي كالخصوص من العُموم والخُصوص، لا يحدُّ بحدِّ العُموم، ألا ترى أن الإنسان حيوان مخصوص، ولا يحدُّ بحدٍّ الحيوان العام؛ لأنَّ ذلك يسقط الفصل الذي يميّز به من بقيّة أنواع الحيوان والحدُّ ما جَمَعَ الجنسَ والفصلَ، فالوقت الذي يدلُ عليه إذاً هو الجنس، وكونه ظرفًا بمنزلة الفصل، كالنطق في الإنسان وبهذا يحصل جواب قوله يطّرد وينعكس، لأنا قد بيّنا أنه لا ينعكس والله أعلم بالصواب.

3 - مسألة: [اسمية كيف]

3 - مسألة: [اسميّة كيف] كيف اسم بلا خلافٍ، وإنَّما ذكرناها هنا لخفاء الدَّليل على كونها اسمًا، والدَّليل على كونِها اسمًا من خمسة أشياء: أحدها: أنَّها داخلةُ تحت حدِّ الاسمِ، وذلك أنّها تدلُ على معنى

في نفسها ولا تَدُلُّ على زمانِ ذلك المعنى. والثاني: أنَّها تجابُ بالاسم والجوابُ على وفق السُّؤال وذلك قولهم: كيفَ زيدُ؟ فيقالُ: صحيحُ أو مريضُ أو غنيُ أو فقيرُ، وذلك أنها سؤالُ عن الحالِ، فجاوابها ما يكون حالاً. والثالث: أنك تُبدل منها الاسمَ فتقول: كيفَ زيدُ؟ أصحيحُ أم مريضُ، والبدل ها هنا مع همزة الاستفهام نائب عن قولك أصحيح زيدُ أم مريضُ؟، والبدلُ يساوي المبدل منه في جنسه. والرابع: أنّ من العرب من يدخلُ عليها حرف الجَرُ، قالوا: على كيفَ تبيعُ الأحمرين؟ وقالَ بعضهم: أنظر إلى كيفَ يصنع؟ وهذا

شاذ في الاستعمال، ولكنّه يدلُّ على الاسمية. والخامس: أنّ دليلَ السّبْرِ والتَّقسيم أوجَبَ كونها اسمًا، وذلك أن يقال: لا تخلو ((كيف)) من أن تكون اسمًا أو فعلاً أو حرفًا، فكونها حرفًا باطلُ؛ لأنها تفيد مع الاسمِ الواحدِ فائدةً تامة كقولك: ((كيفَ زيدُ)). والحرفُ لا تنعقد به الاسم جملة مفيدة، فأما ((يا)) في النّداء ففيها كلامُ يذكر في موضعه، وكونها فعلاً باطلُ أيضًا لوجهين: أحدُهما: أنها لا تدلُّ على حدثٍ وزمان ولا على الزَّمان وحدَه. والثاني: أنَّ الفعلَ يليها بلا فَصل كقولك: كيفَ صَنَعتَ، ولا يكون ذلك في الأفعالِ إلاّ أن يكونَ في الفعلِ الأولِ ضميرُ كقولك: أقبلَ يسرعُ: أي أقبلَ زيدُ أو رَجُلُ، وإِذا بَطَلَ القسمان ثَبت كونها اسمًا؛ لأنَّ الأسماءَ هي الأصولُ، وإذا بطلت الفُروعُ حُكِمَ بالأصلِ، والله أعلمُ بالصَّواب.

4 - مسألة [اشتقاق الاسم]

4 - مسألة [اشتقاق الاسم] الاسم المشتق من السموّ عندنا، وقال الكوفيون هو من الوَسمِ،

فالمحذوفُ عندنا لامهُ وعندهم فاؤُهُ. لنا فيه ثلاثةُ مسالِكٍ: المعتمد منها أنّ المحذوفَ يعودُ في التَّصريف إلى موضع اللاّم، فكانَ المحذوفُ هو اللام، كالمحذوفِ من ((أينَ))، والدَّليلُ على عوده إلى موضِع اللاّم أنَّك تقولُ سمَّيتُ وأَسميت، وفي التّصغير ((سُمَيُّ)) وفي الجمع أسماءُ وأسامٍ وفي فَعيل منه سَمِيُّ أي: اسمك مثلُ اسمه، ولو كان المحذوف من أوّله لعادَ في التَّصريف إلى أوله، فكانَ يُقال: أَوَسَمْتُ، وَوَسَمْتُ، وَوَسِيْمُ، وأَوسام، وهذا التَّصريفُ قاطعُ على أنَّ المحذوفَ هو اللاَّمُ. فإن قيل: هذا لِثبات اللُّغة بالقياس، وهي لا تَثُبتُ به. والثَّاني أنّ عودةَ المحذوف إلى الأخير، لا يلزم منه أن يكون المَحذوف من الأخير، بل يَجوز أن يكونَ مقلوبًا، وقد جاءَ القلبُ عنهم كثيرًا كما قالوا: ((لَهي أبوك)) فأخَّروا العَين إلى موضع اللام، وقالوا: ((الجاه))

وأصله الوجه، وقالوا: ((أَيْنُقُ)) وأصله أَنْوُقُ، وقالوا: ((قِسِيُّ)) وأصله قُووس، وقالُوا في ((الفُوق: فُقيً)) والأَصلُ فوقُ وإذا كَثُر ذلك في كلامِهم جازَ أن يُحمَلَ ما نحنُ فيه عليه. فالجوابُ: أمَّا الأوّلُ فغيرُ صَحيحٍ، فإنَّا لا نُثبت اللُّغة بالقياس، بل يُستَدَلُ بالظَّاهِرِ على الخَفِيّ خُصوصًا في الاشتقاق، فإنّ ثبوت الأَصلِ والزّائد والمَحذوف لا طريقَ له على التَّحقيق إلاّ الاشتقاق، ويَدُلُّ عليه لفظةُ ((ابن)) فإنَّهم لمّا قالوا بني وأَبناء وتبنّيت والبنوّة، علم أنَّ المحذوفَ لامُهُ، وأمّا دعوى القلب فلا سبيلَ إليه؛ لأن القَلبَ مخالفُ للأصل، فلا يُصار إليه ما وجدت عنه مَندُوحة، ولا ضَرورَة هُنا تدعو إلى دَعوى القَلب. ويدلُّ

على ذلك أنَّ القلبَ لا يَطَّردُ هذا الاطّراد، ألا تَرى أنَّ جميع ما ذكر من المقلوب يجوزُ إخراجُه على الأصل. المسلك الثاني: أنَّا أجمعنا على أنَّ المحذوفَ قد عُوّض منه في أوّله، فوجب أن يكونَ المحذوفُ من آخره كما ذكرنا في ((ابن)) وإنّما قُلنا ذلك لوجهين: أحدهما: أنّا عرّفنا من طريقةِ العربِ أنَّهم إذا حذفوا من الأَوّلِ، عوَّضُوا أخيرًا مثل عِدة وزِنَة، وإذا حذفوا من آخره عوّضوا أوَّله مثل ابن، وهُنا قد عوَّضوا في أوله فكان المَحذوف من آخره. والثاني: أنّ العوضَ مخالفُ للبَدَلِ، فبدل الشيءِ يكونُ في موضعه والعِوَضُ يكون في غيرِ المعوضِ منه، فلو كانت الهمزةُ عوضًا من الواو في أوّلِهِ لكانت بَدَلاً من الواو، ولا يجوز ذلك إذ لو كانت كذلك لكانت هَمزةً مقطوعةَ، ولمّا كانت ألفّ وصلٍ حكم بأنّها عوض، فإن قيل:

التَّعويضُ موضعُ لا يوثق بأن المعوَّض عنه في غيره لأنَّ القصد منه تَكميلُ الكلمةِ فأين كَمُلَتْ حَصَلَ غرضُ التَّعويض، أَلا ترى أنَّ همزة الوصل في ((اضرب)) وبابه عوضُ من حركةِ أوَّل الكَلِمَةِ وقد وَقَعَتْ في موضعِ الحَركة. فالجوابُ: إنّ التَّعويضَ على ما ذكرنا يغلبُ على الظَنُ أنّ موضعَه مخالفُ لموضعِ المعوَّضِ منه، لِمَا ذكرنا من الوَجهين قولُهم الغرضُ تكميلُ الكلمةِ، ليسَ كذلك، وإنّما الغرض العدول عن أصلٍ ما هو أخفُّ منه، والخفّةُ تحصلُ لمخالفة الموضعِ. فأمّا تعويضُه في موضع محذوف فلا تحصل منه خفة، لأنّ الحرف قد يثقل بموضعه فإذا أزيل عنه حصل التخفيف. المسلك الثالث: أنّ اشتقاق الاسم من السمو مطابق للمعنى فكان المحذوف الواو كسائر المواضع، وبيانه أنّ الاسم أحد أقسام الكلم وهو أعلى من صاحبيه، إذ كان يخبر به وعنه، وليس كذلك صاحباه فقد سما

عليهما، ولأنّ الاسم ينوّه بلمسمّى ويرفعه للأذهان بعد خفائه وهذا معنى السموّ. فإن قيل هذا معارض باشتقاقه من الوسم فإنّ المعنى فيه صحيح كما أنّ المعنى فيما ذكرتموه صحيح فبماذا يثبت الترجيح؟. قيل: الترجيح معنا لوجهين: أحدهما: أنّ تسمية هذا اللّفظ اسمًا اصطلاحُ من أرباب هذه الصناعة، وقد ثَبَتَ من صناعتهم علوّ هذا اللّفظ على الآخَرَين ومثل هذا لا يُوجد في اشتقاقه من الوسم. والثاني: أنّه يترجّح بما ذكرناه من المسالك المتقدّمة. أمّا حجتهم فقد قالوا: الاسم علامة على المسمّى، والعلامة تؤذن بأنّه من الوسم وهو العلامة، فيجب أن يكون مشتقّاَ منها. والجواب عنه ما تقدّم من الأوجه الثلاثة على أنّ اتّفاق الأصلين في المعنى وهو العلامة، لا يوجب أن يكون أحدهما مُشتقّاً من الآخر، ألا ترى

أنّ ((دمث)) و ((دمثر)) سواء في معنى، وليس أحدُهما مشتقّاً من الآخر، وكذلك سَبَطَ وسَبْطَرَ وأبعد من ذلك الأَسد واللَّيثُ بمعنى واحد ولا يجمعهما الاشتقاق والله أعلم بالصواب.

5 - مسألة [حد الفعل]

5 - مسألة [حدّ الفعل] اختلفت عباراتُ النحويين في حدّ الفعل. فقال ابن السّراج وغيره: حَدّه كلُّ لفظٍ دلّ على معنى في نفسه مقترن بزمانٍ محصّل. وهذا هو حدّ الاسم، إلاّ أنّهم أضافوا إليه لفظة ((غير)) ليدخلَ فيه المصدر، وإذا حذفتَ ((غير)) لم يدخل فيه المصدر؛ لأنّ الفعل يدلُّ على زمانٍ محصّلٍ، ولأنّ المصدر لا يدلّ على تعيين الزّمان. وإن شئت أضفت إلى ذلك دلالة الوضع، كما قيّدت حدّ الاسم بذلك،

وإنّما زادوا هذه الزيادة لئلاّ ينتقض ب ((ليس)) و ((كان)) الناقصة. وقال أبو على: الفعل ما أسند إلى غيره ولم يسند غيره إليه. وهذا يقرب من قولهم في حدّ الاسم: ما جاز الإخبار عنه؛ لأنّ الإسنادَ والإخبارَ متقاربان في هذا المعنى، وهذا الحدُّ رسميُّ؛ إذْ هو علامةُ، وليس بحقيقي؛ لأنّه غيرُ كاشفٍ عن مدلول الفعل لفظًا، وإنّما هو تمييز له بحكمٍ من أحكامه، والذي قال سيبويه في الباب الأول: وأمّا الفعل فأمثلهُ أُخذت من لفظِ أحداثِ الأسماء، وبُنيت لما مضى ولما سيكونُ وما هو كائنُ لم يَنقطع. وقد أتى في هذا بالغاية؛ لأنّه جَمع فيه قوله: ((أمثلة))، والأمثلة بالأفعال أحقُّ منها بالأسماء والحروف، وبيّن أنّها مشتقّة من المصادِر، وقوله: ((من لَفظ أحداث الأسماء)) ربّما أُخذ عليه أنّه أضافَ الأحداثَ إلى الأسماءِ، والأحداثُ للمُسمّيات لا للأسماءِ، وهذا الأخذُ غيرُ واردٍ عليه لوجهين: أحدُهما: أنّ المراد بأحداث الأسماء ما كان منها عبارةُ عن

الحدث وهو المَصدر؛ لأنّه من بين الأسماء عبارةُ عن الحَدَثِ، وهو من بابِ إضافةِ النوعِ إلى الجِنسِ. والثاني: أنَّه أراد بالأسماء المُسمّيات، كما قالَ تعالى: {ما تَعبدون من دُونه إلاّ أسماءً سمّيتموها أنتم وآباؤُكم} والأسماء ليست معبودةً، وإنّما المعبودُ مُسمَّياتها. وقوله ((بُنيت لما مضى)) الفَصل إشارةُ إلى دلالتها على أقسام الزَّمان، الماضي والحاضِر والمستقبل. فإن قيل: يَرِدُ على الحُدودِ كلِّها ((لَيس)) و ((كانَ)) النَّاقصة وأَخواتها فإنّها أفعالُ، ولا تَدلّ على الحدثِ، وينعكسُ بأسماء الفعل نحو ((صه)) و ((مه)) ونزال فإنّها وقد دلّت على الزمان. فالجواب: أمّا ((ليس)) فقد ذهب قومُ إلى أنَّها حرف، وذلك ظاهرُ فيها؛ لأنّها تنفي ما في الحال، مثل ((ما)) النافية، ولا تدلُّ على حدثٍ ولا زمانٍ، ولا تدخل عليها ((قد)) ولا يكون منها مُستقبل. وقال الأكثرون: هي فعلُ لفظيُّ، بدليل اتّصال علامات الأفعال بها كتاء التأنيث نحو ليست، وضمائر المرفوع نحو ليسا وليسوا ولسنَ ولستُ ولستَ، وإنّما اقتُصر بها على بناءٍ واحدٍ؛ لأنّها تنفي ما في الحال لا غير

فهي كفعل التَّعجّب ((وحبّذا)). وأمّا ((كان)) الناقص فأصلها التمام كقولك: قد كانَ الأَمرُ، أي قد حَدَثَ، ولكنَّهم خلعوا دِلالتها على الحَدث وبقيت دِلالتها على الزّمان، وهذا أمرُ عارضُ لا تُنقَضُ به الحُدود العامّة، وأمّا ((صَهْ)) وأخواتها فواقعةُ موقعَ الجُملِ ف ((صه)) نائبُ عن اسكت، و ((مه)) عن اكفف، و ((نَزالِ)) عن انزل، وغيرُ ممتنعٍ أن يوضَع الاسمُ أو الحرفُ موضعَ غيرِه، ألا تَرى أنّ قولَك ((بَلى)) و ((نَعم)) و ((لاَ)) حروف موضوعة موضع الجمل، ألا ترى أنّك إذا قلتَ: ما قام زيدُ كان ذلك جملةً، وإذا قال المُجيب: بَلى، كانَ حرفًا نائبًا عن إعادة الجُملة فكأنّه قالَ قامَ زَيدُ والله أعلمُ بالصواب.

6 - مسألة [أصل الاشتقاق]

6 - مسألة [أصلُ الاشتقاق] الفعلُ مشتقُّ من المَصدر. وقالَ الكوفِيُّون المصدرُ مشتقُّ من الفعل. ولمّا كان الخِلافُ واقعًا في اشتقاقِ أحدِهما من الآخرِ لزمَ في ذلك بيانُ شيئين: أحدُهما: حدُّ الاشتقاق. والثاني: أنَّ المُشتقَّ فرعُ على المشتقّ منه.

أمّا الحدُّ: فأقربُ عبارةٍ فيه ما ذكره الرُّماني وهو قوله: الاشتقاق: اقتطاع فرع من أصلٍ يدور في تصاريفه [على] الأَصل، فقد تضمَّن هذا الحدّ معنى الاشتقاق، ولزمَ منه التَّعرّض للفرع والأصل. وأمّا الفرعُ والأصلُ: فهما في هذه الصِّناعة غيرُهما في صناعةِ الأَقِيسَةِ الفِقْهِيّةِ، فالأصل هاهُنا يُراد به الحُروف المَوضوعة على المَعنى وَضْعًا أوّليًا، والفَرعُ لَفظُ توجدُ فيه تِلكَ الحُروف مع نوعِ تغييرٍ ينظمُّ إليه مَعنى زائدٌ على الأصلِ، والمثالُ في ذلك ((الضَّربُ)) مثلاً فَإنّه اسم موضوعٌ على الحَركةِ المَعلومة المُسمّاة ضَربًا، ولا يَدلُّ لَفظُ الضَّرب على أكثرِ من ذلك، فأمَّا ضَرَبَ، ويضرب، وضارب، ومضروب ففيها حروف الأصل وهي الضاد والراء والباء، وزيادات لفظيّة لزم من مجموعها الدّلالةُ على معنى الضرب ومعنى آخر، وإذا تقرّر هذا المعنى جئنا إلى مسألة المصدر. وقد نصّ سيبويه على اشتقاق الفعل من المصدر، وهو قوله في الباب الأول: وأمّا الأفعال أُخذت من لفظ أحداث الأسماء وبنيت لما

مضى ولما هو كائن لم ينقطع ولما سيكون. وأخذت بمعنى اشتقّت وأحداث الأسماء ما كان منها عبارة عن الحدث وهو المصدر، والدليل على أنّ الفعل مشتق من المصدر طرق منها: وجود حدّ الاشتقاق في الفعل، وذلك أنّ الفعل يدلُّ على حدث وزمان مخصوص فكان مشتقّاً وفرعاً على المصدر، كلفظ ضارب ومضروب، وتحقيق هذه الطَّريقة أنّ الاشتقاق يراد لتكثير المعاني، وهذا المعنى لا يتحقّق إلاّ في الفرع الذي هو الفعل، وذاك أنّ المصدر له معنى واحد وهو دلالته على الحدث فقط، ولا يدلّ على الزَّمان بلفظه، والفعل يدلّ على الحدث والزمان المخصوص، فهو بمنزلة اللفظ المركّب، فإنّه يدلّ عليه المفرد، ولا تركيبَ إلاّ بعدَ الإِفرادِ، كما أنّه لا دِلالةَ وعلى الحَدثِ والزَّمان المَخصوص إلاّ بعدَ الدِّلالةِ على الحَدَثِ وَحده، وقد مُثّل ذلك بالنَّقرة من الفِضّة، فإنَّها كالمادّة المُجرّدة عن الصُّورة، فالفِضّة من حيث هي فضّة لا صورةَ لها، فإذا صِيغ منها جامٌ، أو مِرآةٌ أو قارورةٌ كانت تِلك الصُّورة مادةً مخصوصةً،

فهي فَرعٌ على المّادةِ المُجرّدة، كذلك الفعل هو دليلُ الحَدث وغيره، والمَصدر دليلُ الحَدث وحدَه، فبهذا يَتَحَقّق كونُ الفعلِ فرعًا لهذا الأَصلِ. طريقةٌ أخرى: هي أنّا نقولُ: الفعلُ يشتمِلُ لفظُهُ على حروفٍ زائدةٍ على حروفِ المَصدَرِ، تدلُّ تِلك الزّيادةُ على معانٍ زائدةٍ، على معنى المَصدر فكانَ مشتقّاً من المصدَر كاسمِ الفاعلِ والمفعولِ والمكانِ والزّمانِ، كضاربٍ وضَرْبٍ ومَضروبٍ، وبيانه: أنَّك تَقولُ في الفعلِ ضَرَبَ فتحرّك الراء فيختلفُ معنى المَصدر، ثمّ تقول استضْرَب فتدلّ هذه الصّيغة على معنى آخر، ثمّ تقول اِضرب ونَضرب وتَضرب ويَضرِب، فتأتي هذه الزّوائد على حروفِ الأصلِ وهي الضّاد والرّاء والباء مع وجودها في تلك الأمثِلة، ومعلومٌ أنَّ ما لا زيادةَ فيه أَصلٌ لما فيه الزّيادة. طريقةُ أُخرى: هي أنَّ المصدَر لو كان مُشتقّاً من الفعلِ لأدَّى ذلك إلى نَقضِ المعاني الأُوَل، وذلك يخلّ بالأصول، بيانه: أنّ لفظَ الفعل يَشتملُ على حروفٍ زائدةٍ ومعانٍ زائدةٍ وهي دِلالته على الزَّمان المَخصوص، وعلى الفاعل الواحدِ، والجماعةِ والمؤنّثِ والحاضرِ والغائبِ، والمصدَرِ يذهبُ ذلك كلُّه، إلاّ الدّلالة على الحَدث، وهذا نقضٌ للأَوضاعِ الأُوَل، والاشتقاقُ يَنبغي أن يُفيد تَشييدَ الأصولِ وتَوسعة المَعاني، وهذا عَكسُ اشتقاقِ المَصدر من الفِعل.

واحتجَّ الآخرون من ثَلاثةِ أوجهٍ: أحدُها: أنَّ المصدَرَ مفْعَل وبابه أن يكون صادِرًا عن غيرِه، وأمَّا أن يَصدُرَ عنه غيرُه فكلاّ. والثاني: أنّ المصدَرَ يعتلّ لاعتلالِ الفعلِ، والاعتلالُ حكمٌ تسبقه علّته، فإذا كان الاعتلالُ في الفعلِ أولاً وجبَ أن يكون أصلاً، ومثالُ ذلك قولُكَ صامَ صِيامًا، وقامَ قِيامًا، فالواو في قام: أصلٌ اعتُلّت في الفِعل فاعتُلّت في القِيام، وأنتَ لا تقولُ اعتُلّ ((قامَ)) لاعتلالِ القيامِ. والوجهُ الثالث: أنّ الفعلَ يَعملُ في المَصدرِ كقولك: ((ضَربته ضربًا)). ف ((ضربًا)) منصوب ب ((ضربت))، والعاملُ مؤثِّرٌ في المَعْمُولِ، والمُؤَثِّرُ أَقوى من المُؤَثَّرِ فيه، والقُوّةُ تَجْعَلُ القَوِيَّ أصلاً لِغيره. والجواب: أمّا الوجهُ الأول فليس بشيء؛ وذلك أنّ المصدرَ مشتقٌّ من صدرت عن الشيء إذا وليتَه صدرَكَ وجعلتَه وراءَك ومن ذلك قولهم: ((المَورِد والمَصدَرُ)) يشارُ به إلى الماء الذي ترد عليه الإبل ثمّ تَصدر عنه ولا معنى لهذا إلاّ أنّ الإِبل تتولّى عن الماء، وتصرِفُ عنه صدورَها فيقالُ قد

صَدَرَتْ عن الماءِ وقد شاعَ في الكلام قولُ القائل: فلانٌ موفّقٌ فيما يُورده ويُصدره، وفي مَوارده ومَصادره، وكلٌّ ذلك بالمعنى الذي ذَكرناه، وبهذا يتحقّق كون الفعل مُشتقّاً من المَصدر؛ لأنّه بمنزلةِ المكانِ الذي يَصدُرُ عنه. أمّا الوجهُ الثّاني: فغير دالٍّ على دَعواهم؛ وذلك أنّ الاعتلالَ شيءُ يُوجبه التَّصريفُ وثِقَلُ الحُروف، وبابُ ذلك الأَفعال؛ لأنّ صيغَها تَختلف لاختلاف معانيها، فقامَ مثلاً أصله قَوَمَ، فأُبدلت الواوُ ألفًا، لتحرُّكها، فإذا ذَكرت المَصدر من ذلك كانَت العِلّةُ المُوجبة للتغييرِ قائمةً في المَصدَرِ وهو الثِّقَل. وجواب آخر: وهو أنّ المصدرَ الأصليَّ هو ((قَوْم)) كقولك ((صَوْم)) ثمّ اشتَققت منه فعلاً وأعللته لما ذكرنا، فعدلت عن قومٍ إلى قيام؛ لتناسب بين اللّفظين للمعنيين المشتركين في الأصل، يَدلّ على ذلك أنَّ المصدرَ قد يأتي صَحيحًا معتلٌّ، والفعلُ يجبُ فيه الإعلال، مثل الصّوم والقّول والبَيع، فإذا اشتققتَ منها أفعالاً أعلَلْتَها فقلت: صامَ وقامَ وباعَ. فقد رأيتَ كيفَ جاءَ الإعلالُ في الفعلِ دونَ المصدَرِ؟ فاختلَّت الثّقةُ بما عُلّل به. وأمَّا الوجهُ الثالثُ فهو في غايةِ السُّقوط، وبيانُه من أوجهٍ ثلاثة:

أحدُها: أنَّ العاملَ والمَعمولَ من قبيلِ الأَلفاظِ، والاشتقاقَ من قبيلِ المَعاني، ولا يدلُّ أحدُهما على الآخرِ اشتقاقاً. والثاني: أنَّ المصادِرَ قد تَعمل عَمَلَ الفِعلِ كقولك: يُعجِبني ضربُ زيدٍ عمرًا، ولا يدلُّ ذلك على أنّه أَصلٌ. والثالث: أنّ الحُروفَ تَعملُ في الأسماءِ والأفعالِ ولا يَدُلُّ ذلك على أنَّها مشتقّةٌ أصلاً، فضلاً على أن تكونَ مُشتقّةً عن أن تكونَ مُشتقّةَ من الأسماءِ والأفعال: والله أعلمُ بالصواب.

7 - [مسألة المضاف إلى ياء المتكلم]

باب المعرب 7 - [مسألة المضاف إلى ياء المتكلّم] ليس في الكلام كلمة لا معرفة ولا مبنيّة، وذهبَ قومٌ إلى ذلك، فقالوا: في المُضافِ إلى ياءِ المْتكلّم نحو: غُلامي ودَاري هو لا معربٌ ولا مبنيُّ. وحجّة الأولين: أنّ القِسمةَ العَقليّة تقضي بانحصارِ هذا المعنى في القِسمين المَذكورين، المُعرب والمَبني؛ لأنّ المعربَ هو الذي يَختلف آخره لاختلافِ العاملِ فيه لفظًا أو تقديرًا، والمبني ما لَزِمَ آخره حركة أو سكونًا، وهذان ضِدّان لا واسطةَ بينهما ؛ لأنَ الاختِلافَ وعدمَ الاختلافِ يقتسمان قسمي النّفي والإثبات، وليس بينهما ما ليس بُمثبتٍ، ولا

مَنفيَّ، يدلُّ عليه أنَّ الأضدادَ قد تكثر مثل البَياض والحُمرة والسّواد لكن لكلِّ واحدٍ منها حقيقةٌ في نفسه، والنَّفيُ والإِثبات ليس بينهما واسطةُ هي ضدُّ ينبئُ عن حقيقةٍ كالحركة والسكون. واحتجَّ الآخرون: بأنَّ المضافَ إلى ياءِ المُتكلِّمِ ليس بمعربٍ، إذ لو كان مُعربًا لظهرت فيه حركةُ الإعراب، لأنّه يقبلُ الحركة، وليس بمبنيٍّ، إذ لا عِلّة للبناءِ هُنا، فلزمَ أن ينتَفي الوصفان عنه، ويَجِبُ أن يعرفَ باسمٍ يَخصُّهُ، وتَلقيبه بالخَصيّ موافقٌ لمعناه؛ لأنّ الخصيَّ معدومُ فائدةِ الذُّكوريّة، ولم يثبت له صفةُ الأنوثيّة، فهو في المعنى كالمضافِ إلى الياءِ المتكلّمِ، فإنّه كان قبلَ الإِضافةِ معربًا، فلمّا عَرَضَتْ له الإِضافة زالَ عنه الإِعرابُ، ولم يَثُبت له صِفة البِناء، كما أنَّ السَّليم الذَّكر والخِصيتين عرضَ له إزالتُها ولم يَصر بذلِكَ أنثى والجواب عمّا ذَكروه من وَجهين: أحدُهما: أنّا نقولُ هو معربُ تارةً لكنّ ظهورَ الحركةِ فيه مستثقلةٌ كما تُستَثْقَلُ على الياءِ في المنقوص، وكما تمتنع على الألف ولم يمنع ذلك من كونه مُعربًا، وتارةً نقول: هو مبني، وعلَّة بنائه أنّ حركتَه صارت تابعةً للياءِ، فتعذَّر أن تكونَ دالّة على الإِعراب ولذلك أشبه الحَرف، لأنّه أصلُ قبلَ الإِضافةِ، وصارَ بعدَ الإِضافةِ تابعًا للمُضمر الذي هو فَرع، كما أنّك تُحرِّك الساكنَ لالتقاء الساكنين، وحركةُ التقاءِ الساكنين

حركةُ بناءٍ، ولذلك إذا وَجَدت في المُعرب كانت بناءً كقولك: ((لَم يسدَّ)) ولم يَصرْ هذا الفعلُ معربًا، وضمُّه، أو فَتحُهُ، أو كسرُهُ بناءٌ. والوجه الثاني: أنّ تَسمية خَصِيّاً خَطأٌ؛ لأنّ الخَصي ذكرُ على التَّحقيق، وإنَّما زالَ عنه بعض أَعضائه، وحقيقةُ الذُّكوريّة وحُكمها باقيان ولا يَجوز أن يقالَ ليس بذكرٍ ولا أُنثى، (وإنَّما الأَشبه بما أرادوه أن يُسمّى خُنثى مُشكِلاً، لأنَّ الخُنثى لَيس بذكرٍ ولا أُنثى. والله أعلم بالصواب.

8 - مسألة [الإعراب أصل في الأسماء]

8 - مسألة [الإعراب أصل في الأسماء] المعربُ بحقّ الأَصل هو الاسمُ. والفعلُ المضارعُ محمولُ عليه. وقالَ بعضُ الكوفيين: المضارعُ أصلٌ في الإعراب أيضًا. وحجّة الأولين: أنّ الإِعرابَ أُتِيَ به لمعنى لا يَصحّ إلاّ في الاسمِ،

فاختُصّ بالاسم كالتّصغير وغيره من خَواص الاسمِ، والدَّلِيلُ على ذلك أنّ الأَصلَ عدمُ الإِعراب؛ لأنَّ الأصلَ دلالةُ الكلمةِ على المعنى اللازِمِ لها، والزّيادةُ على ذلك خارجةٌ عن هذه الدِّلالة وإنّما يؤتى بها لِتَدُلَّ على معنى عارضٍ، يكون تارةً ويفقد تارةً والمعنى الذي يدلُّ عليه الإِعرابُ كونُ الاسم فاعلاً، أو مفعولاً، أو مضافًا إليه، لأنّه يفرِّق بين هذه المعاني، وهذه المعاني وهذه المعاني تَصِحٌ في الأسماء ولا تَصحُّ في الأفعال، فعُلم أنّها ليست أصلاً، بل هي فرعُ محمول على الأسماءِ في ذلك. واحتجَّ الآخرون بأنّ إعرابَ الفعلِ يفرِّق بين المعاني فكانَ أصلاً كإعراب الأسماء؛ وبيانه قولك: ((أُريد أن أَزوركَ فيمنعني البَوّابُ)) إذا رَفَعتَ كان له معنى، وإذا نَصَبْتَ كان له معنى آخر وكذلك [قولك]: لا يسعني شيءٌ ويَعجَزُ عنك ((إذا نَصَبْتَ كان له معنى وإذا رَفَعْتَ كان له معنى آخر، وكذلك باب الجَواب بالفاءِ والواو نحو ((لاَ تَاكُلِ السَّمكَ وتَشْرب اللَّبن)) وهو في ذلك كالاسمِ إذا رفعت كان له معنى إذا نصبتَ أو جَزمت كان له معنى آخر، والجوابُ: أمّا إعرابُ الفعلِ فلا يتوقَّف عليه فهم المعنى، بل المعنى يُدرَك بالقرائن المُختصّة به، والإِشكال يحصُلُ فيه بالحَركة التي لا يقتضيها المعنى، لا بعدَمِ الحَركة، ألا تَرى أنّ قوله: ((أُريد أن أَزورك فيمنعني البوابُ)) لو سَكَّنْتَ العين لفهم المعنى وإنَّما يُشكل إِذا نَصَبْتَها، وإنّما جاءَ الإِشكالُ من جهةِ العطفِ لا بالنظرِ إلى نفسِ الفِعلِ، إذ لا فرقَ بين قولِكَ: يضرب زيدُ في الضَمّ والفَتح والكَسر

والسُّكون فإنّه في كلِّ حالٍ يَدلُّ على الحدثِ والزَّمان وكذلك إذا قلت: لم يَضرب ولن يضرب فإنّ الفعل مَنفيُّ ضَمَمْتَ أو فتحت أو سكّنت، وكذلك لا يسعني شيء ويَعجز عنك، إذا فتحت أردت الجواب، وإذا ضممت عطفت، ولو أهملت لَفَهمْتَ المعنى، وكذلك لا تأكل السّمكَ وتشرب اللَّبن، والحاصِلُ من ذَلِكَ كلِّه [أنه] أمرٌ عَرَضَ بالعَطفِ وحرفُ العَطفِ يقعُ على معانٍ فلا بدَّ من تَخْلِيص بعضِها من بعضٍ فبالحركة يفرّق بين معاني حرف العَطف ولا يفرّق بين معنى الفعلِ ومعنى له آخر، والله أعلمُ بالصوابِ.

9 - مسألة [علة الإعراب]

بابُ الإِعراب 9 - مسألة [علّة الإِعراب] الإِعراب دخل الكلام ليفرّق بين المعاني، من الفاعليّة والمفعوليّة والإِضافة ونحو ذلك. وقال قُطرب-واسمه محمّد بن المُستنير-: لم يَدخل لعلّه وإنَّما دخلَ تخفيفًا على اللّسان. وحجّةُ الأوّلين: أنَّ الكلامَ لو لم يُعرب لالتَبست المعاني، ألا تَرى

أنّك إذا قلتَ: ضربَ زَيدْ عَمْرُو، كلَّم أَخوك أَبوك، لم يُعلم الفاعل من المفعول، وكذلك قولهم، ما أَحسن زيد لو أهملته عن حركةٍ مخصوصةٍ لم يُعلم معناه؛ لأنَّ الصيغةَ تَحتَمِلُ التّعجّبَ والاستفهامَ والنّفيَ، والفارقُ بينهما هو الحركات، فإن قيلَ: الفرقُ يحصلُ بلزومِ الرُّتبةِ، وهو تقديمُ الفاعلِ على المفعولِ، ثمُّ هو باطلٌ فإنّ كثيراٌ من المواضع لا يَلتبس ومع هذا أُلزم الإِعراب كقولك: قامَ زيدُ، ولم يقم عمرُو، وركبَ زيدُ الحمارَ، فإنّ مثلَ هذا لا يَلتَبِسُ وكذلك كَسَرَ موسى العَصا. فالجوابُ: أمّا لُزوم الرُّتبة فلا يَصِحُّ لثلاثةِ أوجهٍ: أحدهما: أنّ في ذلك تَضيّقًا على المُتكلّم: وإخلالاً بمقصودِ النَّظمِ والسَّجعِ مع مَسيسِ الحاجَةِ إليه، والإِعراب لا يلزم فيه ذلك فإنّ أمرَ الحركةِ لا يختلفُ بالتّقديمِ والتأخيرِ. والثاني: أنّ التقديم والتأخير قد لا يصحّ في كثيرٍ من المواضع، ألا ترى أنّك لو قلت: ضربَ غلامُه زيدًا لم يصحُ تقديم الفاعل هنا، لئلاّ يلزم منه الإضمار قبل الذّكر لفظًا وتقديراً، فتدعو الحاجة إلى تقديم المفعول، وكذلك قولك: ما أحسن زيدًا، و ((ما)) في الأصلِ فاعلُ، ولا يصحّ تقديمُ الفعلِ عليه، فأمًا ما لا يَلتَبِسُ فإنّه بالنّسبة إلى ما يلتبس قليلٌ جدّاً، فحمل على الأصلِ المعلّل ليطّرد الباب، كما طردوا الحذف في

أعدّ ونعدّ وتعدّ، حملاً على يعدّ، وله نظائر كثيرة؛ ولأنّ الذي لا يلتبس في موضع قد يلتبس بعينه في موضع آخر، فإذا جعلت الحركة فارقة طردت في الملتبس وغيره. والوجه الثالث: أنَّ غايةَ ما ذكروا أنّ الفرق يَحصُلُ بطريق آخر غير الإِعرابِ، وهذا لا يمنع أن يحصُل الفرق بالإِعرابِ، وتعيّن الطرق لا سبيلَ إليه، بل إذا وُجِدَ عن العربِ طريقٌ معلّل وجبَ إثباتُه، وإن صّحُ أن يحصلَ المعنى بغيرهِ، ومثل ذلك قد وَقع في الأسماءِ المختلفةِ الألفاظِ والمعانيِ، فإنّ كلَّ واحدٍ منها وُضع على معنى يَخصّه ليُفهَمَ المعنى على التَّعيين، ولا يقال هلاّ وضعوا له اسماً واحداً على معانٍ متعدّدة، ويَقِفُ الفرقُ على قرينةٍ أخرى كما وقعَ في الأسماء المشتركة، بل قيلَ إنَّ الاشتراك على خِلافِ الأصلِ. ومثل ذلك قد وقع في الشَّريعة، فإنَّ الأخ من الأبوين يسقط الأخ من الأب وهو أحد المعاني التي يحتملها هذا الفصل وذلك أنّ القياس لا يمنع أن يشترك الجميع في الميراث، من غير تخصيص لاشتراكهما في الانتساب إلى الأب والانتساب إلى الأمّ في هذا المعنى ساقط ويجوزُ أن يكون للأخِ من الأبوين الثُّلثان وللأخِ من الأبِ الثُّلث عملاً بالقرابتين، ويجوزُ إسقاط الأخ من الأب بالأخِ من الأبوين لرُجحان النّسب إلى الأبِ والأمِّ، وهذا الذي تقرّر في الشّرع وهو عمل

بأحد المعاني كذلك ها هنا. واحتجَّ الآخرون من وجهين: أحدهما: أنّ الفعل المضارع معربٌ ولا يحصل بإعرابه فرقُ فكذلك الأسماء. والثاني: أنّ الفاعليّة والمفعوليّةَ تدركُ بالمعنى ألا تَرى أنّ الأسماءَ المقصورةَ لا يظهرُ فيها إعرابٌ، ومعانيها مدركةٌ، وإنّما أَعربت العرب الكلامَ لما يلزم المتكلّم من ثِقَل السُّكون، لأنّ الحرفَ يقطعُ عن جريانِه فيشقُّ على اللّسان، قالوا ويدلُّ على صحّة ما ذكرناه أنّ الإعراب يتّفق مع اختلاف المعنى، ويختلف مع اتّفاقِ المعنى، ألا ترَى أنّ قولَك هل زيدٌ قائمٌ؟ مثل قولك زيدٌ قائمٌ في اللّفظ مع اختلافِ المعنى، وقولك زيدٌ قائمٌ، مثل قولك إنَّ زيدًا قائمٌ، في المعنى، إذ كلاهما إثباتٌ والإعرابُ مختلفٌ. والجوابُ: أمّا إعرابُ الفعلِ المضارعِ فعَنهُ جوابان: أَحَدُهُمَا: أنّ إعرابه يفرق بينَ المعاني أيضاً كما ذكرنا في المسألة قبلها. والثاني: أنّ إعراب الفعل استحسانٌ لشبهه بالأسماء على ما ذكرناه

هناك، وأمّا اختلافُ الإِعرابِ واتّفاقُ المعنى وعكس ذلك فلا يَلزم، لأنَّ هذه الأشياء فُروعٌ عارضةٌ على الأُصول المعلّلة لضرب من الشّبه، وذلك لا يَمْنَعُ ثُبوت الإِعرابِ لمعنى، قولهم: إِنّهم أَعربوا لما يلزم من ثقلَ السُّكون لا يصحُّ لوجهين: أحدهما: أنّ السكون أَخفُّ من الحركة هذا ممّا لا ريبَ فيه ولذلك كان المَبني والمَجزوم ساكنين. والوجه الثاني: لو كان ذلك من أجلِ الثِّقل لفوّض زِمام الخبرة إلى المُتكلّم يسكّن إذا شاء ويحرّك إذا شاء، فلمّا اتّفقوا على أنّ تَسكين المُتحرّك وتحريكَ السّاكن بأيّ حركة شاء المُتكلّم لَحْنٌ، دلَّ على فسادِ ما ذَهبوا إليه. والله أعلمُ بالصَّواب.

10 - مسألة [علة جعل الإعراب آخر الكلمة]

10 - مسألة [علّة جعل الإِعراب آخر الكلمة] اختلفوا في علّةِ جملِ [؟ جعل] الإِعرابِ في آخرِ الكلمةِ، فقالَ بعضهم: إنّما كانَ لأنّ الإِعرابَ دالٌّ على معنى عارض في الكلمة فيجبُ أن يستوفي الصّيغة الموضوعة لمعناها للازم، ثمّ يؤتي بعد ذلك بالعارض كتاء التأنيثِ وحرفِ النّسبِ. وقال آخرون: إنّما جُعل أخيراً لأنّ الإِعرابَ يثبت في الوصلِ دونَ الوقفِ، فكان في موضعٍ يتأتّى الوقفُ عليه، وهو الأَخير. وقالَ قُطرب: إنّما جعل أخيراً لتعذّر جعله وسطاً، إذ لو كان وسطاً لاختلطت الأبنية، وربّما أَفضى إلى الجَمع بين ساكنين، أو الابتداء بالسَّاكن وكلُّ ذلك خطأُ لا يوجد مثله فيما إذا جعل أخيراً. قال قُطرب: والمَذهب الأوّل لأنَّ كثيراً من المعاني العارضة تَدخل

في أوّل الكلمة ووسطها قبلَ استيفاءِ الصّيغة نحو الجمع والتّصغير وهو معنى عارض. والجوابُ: أنّ العِلَلَ المذكورة كلّها صحيحة. وأمتنها عند النَّظر الصَّحيح هو الأوّل، وأمّا ما نُقض به من التّصغير والجمعِ فلا يَصحّ لوجهين: أحدُهما: أنّ التصغيرَ والجمعَ معنيان يحدثان في نفسِ المسمّى وهو التّكثيرُ والتّحقيرُ، فلذلك كانت علامتهما في نفسِ الكلمةِ، لأنَّ التكثيرَ معناه ضمُّ اسمٍ إلى اسمٍ هو مساوٍ له في الدّلالة على المَعنى، فكان الدّالّ على الكثرة داخلاً في الصّيغة، كما أنّ إضافة أحدهما إلى الآخر داخلٌ في المعنى، وليس كذلك المعنى الذي يدلُّ عليه الإِعراب، فإنّ كونَه فاعلاً لا يُحدث في المسمّى معنى في ذاتِه، بل هو معنى عارضٌ أوجبه عاملٌ عارضٌ. والوجه الثاني: أنّ التّصغيرَ والجمعَ من قبيلِ المعاني التي يُقصد إثباتها في نفس السّامِع فيجب أن يبدأ بها، أو تُقرن بالصّيغة ليثبت في نفس السّامع معناها قبل تمامِ المعنى الأَصلي بدونها، وهذا كما جُعل الاستفهامُ والنَّفيُ في أوّل الكلامِ، ليستقرّ معناه في النّفس، ولو أُخّر

لثبتَ في النَّفس معنى ثمَّ أُزيل، وليس كذلك الإِعرابُ، لأنَّ الصِيغةَ المجرّدةَ عن الإِعراب لا تَنفي كونِ المسمّى فاعِلاً ولا مفعولاً، حتّى إذا جاءَ الإِعرابُ بعد ذلك أَزال المعنى الأول، وكذلك الألف واللام جعلت أولاً ليثبت التّخصيص في المسمّى، ولا يُؤتى بها أخيراً لئلاّ يحدث التّخصيص بعد الشياع. واحتجّ من قالَ إنّ الإِعرابَ لا ينبغي أن يكون موضعه أخيراً، لأنه دالُّ على معنى في الكلمة فوجبَ أن يكون في أَصلها، كالتَّصغير والجَمع والتَّعريف والنَّفي والاستفهام وغير ذلك، وإنّما عُدِلَ إلى الأخير لما ذكرناه من اختلاطِ الأبنيةِ، والجوابُ عن هذا قد سبق. والله أعلمُ بالصّواب.

11 - مسألة [حقيقة الصرف]

11 - مسألة [حقيقة الصرف] الصّرفُ: هو التّنوينُ وحدَه. وقال آخرون: هو التّنوينُ والجرُّ. وحجّة الأوّلين من ثلاثةِ أوجهٍ: أحدُها: أنّه معنى يُنبأ عنه الاشتقاق فلم يَدخل فيه ما يَدلّ عليه الاشتقاق كسائر أمثاله، وبيانه أنّ الصّرفَ في اللّغةِ هو الصّوتُ الضّعيفُ كقوله: ((صَرَفَ نابُ البَعير))، و ((صَرَفت البَكرةُ))،ومن ((صَريف القلم))، والنُّون الساكنة في آخر الكلمة صوتُ ضَعيف فيه غُنّة كغُنّة الأَشياء التي ذكرنا، وأمّا الجرُّ فليس صوته مشبهًا لما ذكرنا؛ لأنّه حركةٌ، فلم يكن صرفًا كسائر الحركات أَلا تَرى أنّ الضَّمّةَ والفتحةَ في آخر الكلمةِ حركةُ، ولا تُسمّى صرفًا.

والوجهُ الثاني: أنَّ الشاعرَ إذا اضطُرّ إلى صرفِ ما لا ينصرف جَرّه في موضع الجرّ، ولو كان الجرّ من الصّرف لما أُتيَ به من غيرِ ضرورةٍ إليه، وذلك أنَّ التَّنوين دعت الضّرورة إليه لإِقامة الوزن، والوزن يقوم به سواء كَسر ما قبله، أو فَتحه، فلّما كَسر حين نوّن عُلم أنَّه لَيس من الصَّرفِ؛ لأنَّ المانع من الصَّرف، قائمٌ، وموضع المخالف لهذا المانع الحاجةُ إلى إقامةِ الوزنِ، فيجب أن يختص به. والوجهُ الثالثُ: أنّ ما فيه الألف واللاّم أو أُضيف يكسر في موضع الجرّ مع وجود المانع من الصّرف، وذلك يَدلُّ على أنَّ الجرَّ يَسقُطُ تبعاً لسقوط التَّنوين، بسبب مُشابهة الاسمِ للفعلِ، والتَّنوينُ سَقَطَ هنا لعلّة أُخرى، فينبغي أن يظهرَ الكسر الذي هو تبعٌ لزوال ما كانَ سقوطه تابعاً له. واحتجَّ الآخرون من وجهين: أحدُهما: أنّ الصّرف من التَّصَرُّفِ، وهو التَّقَلُّب في الجهات وبالجرِّ يزداد تَقَلُّب الاسم في الإِعراب، فكانَ من الصَّرْفِ. والثاني: أنّه اشتهر في عرف النّحويين أنّ غير المنصرف ما لا يدخله الجرّ مع التّنوين، وبهذا حدُّ فيجب أن يكون الحدّ داخلاً في المحدود. والجوابُ عن الأوّل من وجهين:

أحدُهما: أنّ اشتقاقَ الصَّرف ممّا ذكرنا لا ممّا ذكروا، وهو أقربُ إلى الاشتقاقِ. والثّاني: أنّ تقلُّبَ الكلمةِ في الإِعرابِ لو كان من الصَّرف لوجب أن يكون الرَّفعُ والنَّصبُ صرفًا، وكذلك تقلّب الفعل بالاشتقاق والإِعراب لا يُسمّى صرفًا، وإنّما تصرُّفًا وتَصريفًا. وأمّا ما اشتُهِرَ في عُرفِ النّحويين فليس بتحديدِ للصّرفِ، بل هو حكمُ ما لا ينصرف، فأمّا ما هو حقيقةُ الصّرفِ فغيرُ ذلك، ثمّ هو باطلٌ بالمضاف، وما فيه الألفِ والّلام فإنّ تقلّبه أكثر، ولا يسمّى مُنصرفًا. والله أعلمُ بالصّواب.

12 - مسألة [حقيقة الإعراب]

12 - مسألة [حقيقة الإِعراب] ذهبَ أكثرُ النحويين إلى أنّ الإِعرابَ معنى يدلُّ اللّفظ عليه، وقالَ آخرون هو لفظُ دالٌ على الفاعل والمفعول مثلاً، وهذا هو المُختار عندي. واحتجّ الأوّلون من أوجه: أحدُهما: أنَّ الإِعرابَ اختلافُ آخرِ الكلمةِ لاختلافِ العاملِ فيها، والاختلافُ معنى لا لفظٌ كمخالفةِ الأحمر للأبيض. والثاني: أنّ الإِعرابَ يدلُّ عليه تارة الحركة، وتارةً الحرف، كحروف المدِّ في الأسماءِ الستّة والتّثنية والجمع، وما هذا سبيله لا يكونُ معنى واحدًا، بل هو دليلُ على المعنى، والدّليلُ قد يتعدّد والمدلول عليه واحد.

الثالث: أنّ الحركات تضاف إلى الإِعراب فيقالُ: حركات الإِعراب وهذه ضمّة إعراب، وإضافة الشيء إلى نفسه ممتنعة، وكذلك الحركات توجد في المثنّى وليست إعرابًا. واحتجّ الآخرون: بأنّ الأصلَ في الإِعرابِ الحركةُ؛ لأنَّها ناشئةٌ عن العامِلِ كقولك قامَ زَيدٌ، فالضمّة حادثة عن الفعل، والفعلُ عاملٌ، والعملُ نتيجة العملِ، والعمل هو الحركة، فأمّا كون الاسم فاعلاً أو مفعولاً فهو معنى مجرّدٌ عن علامةٍ لفظيّةِ يجوزُ أن تُدرك بغير لفظٍ، كما يُدرك الفرق بين المبنيّات بالمعنى مع حكمِ بالبناء، كقولك: ضَرَبَ هذا هذا، وكذلك [قولُك] في المعرب نحو كلّم موسى عيسى، فعلم أنّ الإٍعراب هو الحركة المخصوصة، وهذا هو حجّة هؤلاء. والّذي أُحرره هنا أن أقول: الإِعراب فارقٌ بين المعاني العارضة، كالفاعليّة، والمفعوليّة والتَّعجّب والنّفي والاستفهام، نحو ما أحسن زيدًا، وما أحسن زيدٌ وما أحسن زيدٍ، نفس الحركات هنا فارقٌ بين المعاني، وإذا ثبتت أنّ الإِعراب فارق بين المعاني فالفرق الحاصل عن الفارق يعرف تارةً بالعقلِ، كالمعرفة أنّ الاثنين أكثر من الواحد، وأقلّ من الثلاثة، هذا معلوم بالعقل من غير لفظٍ يدلُّ عليه، وتارةً يعرف بالحسّ من السَّمعِ والبصرِ واللّمسِ والذوقِ، والشمِّ، فأنت تفرق بين زيدٍ وعمروٍ بالتّسميَة بما تَسمعه

من اللّفظين، وتفرّقُ بين الأَحمر والأبيض بحاسَّة البصرِ، وبين الحارِّ والباردِ والناعمِ والخشنِ باللّمسِ، وبين الحلوِ والمرِّ بالذَّوق، وبين الريحة الطَّيبةِ والخَبِيثةِ بالشمِّ، والإِعرابُ من قبيلِ ما يعرفُ بحاسّة السَّمع، ألا تَرى أنّك إذا قلت لإِنسان: افرقْ لي بين الفاعلِ والمفعولِ والمضافِ إليه في نحو قولك: ((ضربَ زيدٌ غلامَ عمروٍ)) فإنّه إذا ضمّ واحدًا وفتحَ ثانيًا وكسرَ ثالثًا حصلَ لك الفَرقُ بألفاظه، لا من طريق المعنى، فإنّك أنت قد تُدرك هذا المعنى بغيرِ لفظٍ، فدلّ أنّ الإِعرابَ هو لفظُ الحركة. وأمّا ما أُعرب بالحروفِ فهو حاصل من اللّفظ أيضًا، لأنّ الحرفَ لفظٌ، كما أنّ الحركةَ لفظٌ. وأمّا كونُ الحركةِ في المبنى فلا يمنع أن يكون إعرابًا في المُعرب، ويكون الفَرقُ بينهما أنَّ حركةَ الإِعراب ناشئةٌ عن عامل فهي حركةٌ مخصوصةٌ وحركةُ المبني ليست مخصوصة بعامل، وأمّا إضافة الحركة إلى الإِعراب فلا يدلّ على أنَّهما غَيْرَانِ، بل هو من قبيلِ إضافة النّوع إلى الجنس وهذا كما تقول رفعُ الإِعراب ونصبه وجرّه، فتضيف الرفع إلى الإِعراب وهو نوع منه يدلّ على ذلك أنّ الرّفع إعراب بلا خلاف، وكذلك النّصب والجرّ، معلوم أنّ حقيقةَ الرَّفعِ هو الضَّمَّةُ الناشئةُ عن عامل قد لزم أن يكون الإِعراب لفظًا. والله أعلم بالصوّاب.

13 - مسألة [أيهما أسبق حركات الإعراب أم حركات البناء؟]

13 - مسألة [أيّهما أسبق حركات الإِعراب أم حركات البناء؟] اختلفوا في حركاتِ الإِعرابِ هل هي سابقة على حركات البناءِ أو بالعكس؟ أو هما مُتطبقان من غير ترتيبٍ. فذهبَ قومٌ إلى الأوّل وهو الأقوى، والدّليل عليه من وجهين: أحدُهما: أنّ الإِعرابَ تابعٌ لفائدة الكلامِ، والكلامُ موضوعٌ للتفاهم، فيجب أن يكون مقارنًا للكلامِ كمقارنة المفردِ لمعناه، وبيان ذلك أنّ المفرد في نحو قولك فرسٌ وغلامٌ وجبلٌ، متى ذكر واحد من هذه الأَلفاظ كان معناه مصاحباً له، فإذا انتهى اللَّفظ فهم معناه عند انتهائه، وكذلك الكلام المقصود منه ما يحصّل من الفائدة عن التَّخاطب، والتَّخاطب لا يكونُ إلاّ بالمرّكب، فالمفرداتُ تُصوّر المعاني، والمُركّبات تفيدُ التَّصديقَ، وهو

المَقصود الكلّي من وضع الكلام، وإذا كان الإِعراب مقارنًا للكلامِ فُهم معنى المركّب عند انتهاء أَلفاظه، كقولك: أعطى زيدٌ عمراً درهماً، فإنَّك لا تُدرك معنى هذه الجُملة إلاّ أن تعلم الفاعِلَ والمفعولَ، حتّى يَسْتقرّ عندك معنى ما قُصد بالجملة، فأمَّا حركاتُ البناءِ فلا تُفيد معنى في المرّكب، وإنّما هي شيءُ أَوجبه شبهُ الحرفِ الذي لم يُوضع لتُفيد حركته معنى. والوجهُ الثاني: أنّ واضعَ اللّغةِ حكيمٌ، ومن حكمتِه أن يضعَ الكلامَ للتفاهمِ، ولا يتمُّ التَّفاهم إلاّ بالإِعرابِ، أن يكونَ مقارنًا للكلام لتَحصلَ فائدة الوضع. وأمّا البناءُ فلا يعرف المعنى فيه من اللَّفظ، وإنّما يعرف بجهة أُخرى، ألا ترى أنّك إذا قُلتَ ضَرَبَ موسى عيسى لم يفهم من اللّفظ الفاعل من المفعول، وإنّما ميّزوا بينهما بأن ألزموا الفاعل التقديم، وهذا أمر خارج عن اللّفظ والإِعراب، إِمَّا هو اللّفظ، أو مدلول اللّفظ، ولو قال: كسر موسى العصا فهم الفاعل من المفعول من المعنى، إذ قد ثبت أنّ المراد بموسى الكاسر وبالعصا المكسور، وهذا أيضًا خارج عن أدلّة الأَلفاظ، إلاّ أنّه مع خروجه عن دليل اللَّفظ يقدّر الإِعرابُ عليه تقديراً، والتقديرُ إعطاء المَعدومِ حكمَ المَوجودِ، وإنّما كان كذلك لقيامِ الدّليلِ على أنّ هذه الأسماء غيرُ مَبنيّة، فلزم أن تكون مُعربة. واحتجّ من قالَ حركات البناء أصلٌ: بأنّ حركة البناء لازمة وحركة

الإِعراب مُنتقلة، والَّلازمُ أصلٌ للمنتقلِ، وسابقٌ عليه. واحتجّ من قال: ((لا يسبق بعضها على بعضٍ))، أنّ واضعَ اللّغةِ حَكِيمٌ في فيُعلم من الابتِداء ما يحرَّكُ للإعراب، وما يُحرَّك لغيره، فيَجب أن تَتَساوق ولا تَتَسابق. والجوابُ عن شبهة المذهب الثاني: أنّ الأصلَ والفرعَ لا يُؤْخَذُ من اللّزومِ والانتقالِ، بل يُؤخَذُ من جهةِ إفادةِ المعانِي، وقد ثبتَ أنّ الأسماء هي التي يقع فيها اللَّبس، وأنّها محالّ الفاعليّة والمفعوليّة، فكان الإِعراب مقارنًا لها، لئلاّ يقع اللّبس، ثمّ يحتاج إلى إزالته بعد وُقوعه، والبناء أجنبي عن ذلك. والجوابُ عن شبهة المذهب الثالث: أنّا لا نريد بالسّبقِ هنا السَّبق بالزّمان، بل السَّبق بالرتبة، ولا شكّ أنّ الإِعراب سابق بالرّتبة. وأمّا البناءُ فيجوز أن يكون متأخّراً عن الإِعراب، وأن يكون مقارناً له في الوضع. والله أعلم بالصوّاب.

14 - مسألة [علة زيادة تنوين الصرف]

14 - مسألة [علّة زيادة تنوين الصّرف] العلّة في زيادةِ تَنوين الصّرف على الاسم أنّه أُريد بذلك بيانٌ خِفّة الاسم وثِقل الفعلِ. وقال الفرّاءُ: المرادُ به الفرقُ بينَ المُنصرف وغير المنصرفِ. وقال آخرون: المرادُ بع الفَرق بين الاسمِ والفعلِ. وقال قومٌ: المرادُ به الفرقُ بينَ المفردِ والمضافِ. والدّلالة على المذهب الأوّل: أنّ في الكلمات ما هو خفيفٌ وما هو ثقيلٌ، والخِفّة والثِقل تعرفان من طريق المعنى لا من طريق اللَّفظ

فالخفيفُ ما قلَّت مدلولاته ولوازِمُه، والثَّقل ما كثُر ذلك فيه. فخفّة الاسم أنّه يدلّ على مُسمّى واحدٍ، ولا يلزمه غيره في تحقّق معناه، كلفظة رجل فإنّ معناها ومُسمّاها الذّكر من بني آدم، والفَرس هو الحَيوان الصَهّال، ولا يقترن بذلك زمانٌ ولا غيره، ومعنى ثقل الفعل أنّ مدلولاته ولوازمه كثيرة، فمدلولاته الحَدث والزَّمان، ولوازمه الفاعل والمفعول والتَّصرُّف وغير ذلك. وإذا تقرّر هذا فالفرق بينهما غير معلوم من لفظهما، فوجب أن يكون على ذلك دليلٌ من جهة اللّفظ والتّنوين صالحٌ لذلك، لأنّه زيادةٌ على اللّفظ والزّيادة ثِقَلٌ في المزيد عليه والاسمُ يَحتمل الثّقل؛ لأنّه في نفسه خَفيف في نَفسه ثقيلٌ، فلا يحتمل التَّثقيل، وهذا معنى ظاهرٌ فكان هو الحكمة في الزيادة. وقولُ الفرّاء إن حُمل على معنى صَحيحٍ فمراده ما ذكرناه ولكنّ العبارة رَكيكةٌ، وإن حمل على ظاهر اللّفظ كانت تعليلَ الشّيءِ بنفسه؛ لأنّه يَصيرُ إلى قولك التَّنوين يفرق به بين ما ينوّن وبين ما لا ينوّن وذا تعليل الشيء بنفسه. وأمّا مَن قالَ: فرق به بين الاسم والفعل فلا يصحّ لأوجه:

أحدهما: أنّ الفرق بينهما من طَريق المعنى وذلك أنّ الاسمَ يدلُّ على معنى واحدٍ والفعل على معنيين وقد ذكرنا في حَدّيهما. والثاني: أنّ العلامات المفرّقة اللَّفظية بينهما كثيرةٌ مثل ((قد))، و ((السين)) و ((سوف))، ((التَّصرف)) مثل كونه ماضيًا ومستقبلاً وأمراً، والاسمُ يعرّف بالأَلف واللاّم وغيرهما. والثالثُ: أنّ الاسمَ الذي لا ينصرف لا تنوين فيه، وهو مباينٌ للفعل، وأمّا مَن قالَ يفرّق بين المُفرد والمُضاف، فقوله باطلٌ أيضًا من جهةِ أنّ المفردَ مطلقٌ يصحُّ السُّكوتُ عليه، والمضافُ مخصوصٌ مُحتاجٌ إلى ما بَعده، وأنَّ الاسمَ الذي يَنصرف قَد يُضافُ وإضافتُهُ غيرُ لازمةٍ فيكون مفردًا مع أنّه لا ينوّن، فلو كان المُفرد لا يفصل بينه وبين المُضاف إلاّ بالتَّنوين لزم ألاّ يكون المفردُ إلاّ منصرفًا، والله أعلَمُ بالصَّواب.

15 - مسألة [فعل الأمر بين البناء والإعراب]

15 - مسألة [فعل الأمر بين البناء والإِعراب] فعل الأمر للمواجه مبينيٌّ نحو ((قم)) و ((اضرب)). وقالَ الكوفيون: هو معرب بالجزم. لنا أنّه لفظ لا يفرَّق بإعرابه بين معنى ومعنى وقد يشبه الاسم فلم يكن معرباً كالحرف، والدّليل على هذه الجملة أنّ الإِعراب معنى زائد على

الكلمة فلا ينبغي أن يُثبت إذا دَل على معنى، وفعلُ الأمر لا يحتمل معاني يفرّق الإِعراب بينها، فلم يحتج إلى الإِعراب، وقد ذكرنا ذلك في إعراب الفعل هل هو استحسان أم أَصلٌ؟ فيما تقدّم، ولأنّ الإِعراب إمّا أن يثبت أصلاً، أو استحساناً، وكلاهما معدوم. أمّا الأصلُ فلأنّه لا يحتمل معانيَ يفرق الإِعراب بينهما، وأمّا الاستحسان فهو أنّ فعلَ الأمرِ لا يُشابه الاسم حتّى يحمل عليه في الإِعراب، بخلاف المضارع فإنّه يشبه الاسم بوجود حرفِ المضارعة، وليس في لفظ الأمر هنا حرفُ مضارعةٍ يشبّه به الاسم، فعند ذلك يجب أن يكونَ مَبنيّاً. واحتجّ الكوفيون بأنّه فعلُ أمرٍ، فكان معرباً بالجزمِ، كما لو كان في حرف المضارعة كقولك: لتضرب يا زيد، وليضرب عمرو، ولا إشكال في أنّ كلَّ واحدٍ منهما أمر، فإذا كان أحد الأمرين معرباً، كان الآخر كذلك، قالوا: فإن قيلَ هناك حرف المضارعة وهو المقتضي للشّبه، قيل: فعلُ الأمر للمواجه إن لم يكن فيه حرفُ المضارعةِ لَفظاً فهو مقدَّرٌ مرادٌ، وحُذِفَ لفظاً للعلم به، فالتَّقدير في قولك قُم، لتقم ويَدُلُّ على ذلك أنّ حذف اللام قد جاء صريحاً كقول الشاعر:

مُحمّد تَفْدِ نَفْسَكَ كلُّ نَفْسٍ ... إِذَا مَا خِفْتَ مِنْ شَيْءٍ تَبَالاَ أي لِتَفْدِ. وقالَ الآخر:

على مِثْلِ أَصْحَابِ البَعُوضَةِ فاخْمُشِيْ ... لَكِ الوَيْلُ حُرَّ الوَجْهِ أَو يَبْكِ مَنْ بَكَا أي وليَبْكِ؟. فالجوابُ أنّ هذا الفعل لم يوجد فيه علّة الإِعراب؛ لأنّ علّة إعرابه إمّا أصلٌ، أو شبه، وكلاهما لم يوجد على ما تقدّم، وكونه أمراً لم يوجب إعرابه بل الموجب لإِعراب الفعل الشّبه بالاسم، والشّبه بالاسم كان بحرف المضارعة والفعل بنفسه هناك ليس بأمرٍ، بل الأمرُ حاصلٌ بالّلام، وفي ((قُم)) و ((بع))، هو أمر بنفسه، فالحاصلُ أنّا مَنعنا علّة الأصل، وهو أنّ قولك لِيَضرب زيدٌ لم يُعرب لكونِ الفعلِ أمراً، وفي ((خُذْ)) و ((كُلْ)) الفِعلُ أمرٌ فلا جامع إذاً بينهما، قولهم إنّ حرفَ المضارعة محذوفٌ، كلامٌ في غايةِ السُّقُوط وذلك أنّ الحذفَ لا يُوجِبُ تَغيير الصِّيغة بل يُحذف ما يحذف، ويَبقى ما يبقى على حاله، كقولك: ((ارمِ)) فإنّ الأصلَ الياء، ولمّا حُذفت بقي ما كان على ما كانَ عليه، وليس كذلك ها هُنا، فإنّك إذا قلتَ: ((يَضرب زيد)) وحذفت الياء لم تقل ضَرب زيدٌ، بل تأتي بصيغةٍ أُخرى وهي اضرب، ولأنّ الجزم هناك باللام، وإذا حذف الجازم لا يبقى

عمله، كما إذا حذف الجار لا يبقى الجرّ وكذلك ها هنا، لو حَذفت اللام لم يبقَ عملها، هذا لو كان الحذفُ للاّم وحدَها فكيف إذا حذفت اللاَّم وحرفَ المضارعة وتغيَّرت الصيغة؟. وأمّا الشّعر فهو على الخَبر لا على الأمر، إلاّ أنّه حذف الياء من آخر الفعل ضرورةً، والأصل ((تَفدي)) و ((يَبكي)). وجوابُ آخر: وهو أنّه حذفَ اللاّم وبقي حرف المضارعة ولم تتغيّر صيغةُ الفعل بخلاف مسألتنا. والله أعلم بالصّواب.

16 - مسألة [حد الاسم الصحيح]

16 - مسألة [حدّ الاسم الصحيح] حدُّ الاسمِ الصّحيحِ: ما تعاقبَ على حرفِ إعرابه حركاتُ الإِعرابِ. وقال بعضهم: حدّه: ما لم يكن حرفُ إعرابه ألفًا، ولا ياءً قبلها كسرة. وجه القول الأول: أنّ الحدَّ ما أنبأ عن حقيقةِ المَحدودِ، وحقيقتُهُ أمرٌ وجودي، وهذا اللّفظ ينبئُ عن أمر وجودي، فكان حدّاً له، ولأنّه يطَّرد ويَنعكس، فاطِّرادُهُ ظاهرٌ، والعَكسُ أنَّه ما لم تَتَعَاقبْ عليه حركاتُ الإِعراب، فليس بصحيحٍ. فإن قيلَ: يتوجّه عليه إشكالان: أحدُهما: الاسمُ الذي قبل يائِه أو واوِه ساكنٌ نحو ((ظَبي))، و ((غَزو)) فإنّه تَتَعاقبُ عليه حركات الإِعراب وليس بصحيح. والثاني: الاسمُ الذي لا يَنصرف فإِنَّ حركات الإِعرابِ لا تتعاقبُ عليه كلُّها وهو صحيحٌ.

فالجوابُ: أمّا النَّقضُ فعنه جوابان: أحدُهما: أنّ ((ظبياً))، و ((غزواً)) صحيح في حكم النّحوِ معتلُّ في حكمِ التَّصريف، وبينهما فرقٌ، ألا تَرى أنّ المُعتلّ في حكم التّصريف يكون فاءً وعيناً، ولاماً نحو: ((وعد)) و ((يُسر)) و ((ثَوب)) و ((بَيع)) و ((غَزو)) و ((رَمى)) وهو في النَّحو غيرُ ذلك. والثّاني: أنَّ هذه الأسماء وإن لم تكن صَحيحة من جهة الحرف، ولكنّ حكمها حكم الصَّحيح في الإِعراب، والحدّ يجمع الحقيقةَ، وما كان حكمه حكمَ الحقيقة، وأمّا الذي لا ينصرف فالحدُّ موجودٌ فيه ألا تَرى أنّك إذا أدخلتَ عليه الألف واللاّم أو أضفته تعاقبت عليه حركات الإِعراب الثّلاث، فأمّا إذا تجرَّد عن الإِضافة، والألَف واللاَّم، فإنّ حركتين منها تَظهر لفظاً، و [في] الثالثة وجهان: أحدُهما: أنّ الفتحةَ قد نابت عنها فهي من جهةِ المعنى كسرةٌ، ومن جهة اللّفظ فتحةٌ، وغير ممتنع أن يكون للشّيءِ جِهتان مُختلفتان في التَّقديرِ وإن اتّفقنا في اللَّفظِ، مثل الألف في العَصا، فإنّ اللّفظَ في الأَلف واحدٌ في كلِّ حالٍ، والتّقدير مختلفٌ. والوجهُ الثَّاني: أنَّ الكسرة مستحقَّةً، ولكن منع ظهورها مانع، فهي في حكم الملفوظ به. أمّا الحدُّ الذي ذكروه فهو نفيٌ محضٌ، والنّفيُ لا يدلّ على الحقيقة، وإنّما يحصل العلمُ به من طريقِ الملازمةِ، كقولك في الأَعمى ما ليس ببصيرٍ أو هو غيرُ البّصير وهذا ليس بحدٍّ إجماعاً. والله أعلم بالصّواب.

17 - مسألة [إعراب الاسم المنقوص]

17 - مسألة [إعراب الاسم المنقوص] الاسمُ المنقوصُ في حالِ الرّفعِ والجرِّ إعرابه مقدّرٌ. وقال بعضُ النّحويين: ليس بمقدّرٍ، بل سكون اليّاء رفعٌ أو جرُّ. ووجهُ القول الأوّل: أنّ الإِعرابَ والحركات الحادثة عن العامل والسُّكون في الأسماءِ غيرُ حادثٍ عن عامل، فلم يكن إعراباً وإنّما الإِعرابُ الحركةُ، ولكن منع من ظهورها مانع، وهو ثِقَلُ اللَّفظِ بها على الواو والياءِ بعد الكسرةِ، لما كان حذفُها لمانعٍ وَجَبَ أن تقدَّرَ كما في ألفِ المقصورِ. فإن قيل: الفرقُ بينهما أنّ ضمّةَ الواوِ وكسرتهما بعدَ الضمّةِ والكسرةِ ممكنٌ، وحركةُ الألفِ في العَصا مُستحيلٌ، والممكنُ لا يقدَّرُ تقديرَ المستحيلِ، فعندَ ذلك يُجعَلُ سكونُه في الممكن كحقيقةِ الحركةِ، إذ كانت الحركةُ ممكنةٌ بخلافِ الألفِ، فإنَّ حركتَها في اللّفظِ مستحيلةٌ، فلا تُجعَلُ نفسُها قائمة مقامَ الحركةِ. قيل: لا فرقَ بينَ الموضعين، لأنَّ ما يُستثقلُ عندهم في حكمِ المُستحيل، والله أعلم بالصَّواب.

18 - مسألة [الوقف على المنقوص]

18 - مسألة [الوقف على المنقوص] اختلف العربُ في الوقفِ على المنقوصِ رفعاً وجرّاً، هل يوقفُ عليه بالياءِ أو بحذفِها؟ ولهم فيه مذهبان: أحدُهما الحذفُ والآخرُ: الإِثباتُ. ووجهُ الحذفِ أنّ الياء قد وجبَ حذفها في الوصلِ من أجلِ التَّنوين، وإذا حذفت في الوصل، وجب أن تحذف في الوقف، لأنّ الوقف عارض، والعارض لا يغّير حكمَ الأصلِ، ألا تَرى أنَّ قولَك: ((قم)) و ((خف)) و (([بع])) ألفاتُها محذوفةٌ، لسكونِها، وسكونِ ما بعدها، ولو حرّكت السّاكن الثاني لم تَعدِ الألف، كقولك: ((قمِ اللّيلَ)) و ((خفِ الله)) و ((بع الثّوبَ))، لمّا كانت حركتُه عارضةً، كذلك ها هنا، على هذا تقول:

هذا قاضٍ، ومررت بقاضٍ كما تقول: هذا زيدٌ، ومررت يدلُّ عليه أنَّ الحذفَ في الوقفِ يُنبّه على الحذفِ في الوصلِ، والوصلُ أصلٌ يُحتاجُ إلى التنبيهِ عليه. واحتجَّ الآخرون بأنَّ الموجِبَ للحذفِ قد زالَ فيزولُ حكمه، وبيانهُ أنَّ الموجبَ للحذفِ التقاءُ الياء مع التَّنوين، وهما ساكنان فَحُذِفَ الأوّل لئلاَّ يجتمعَ ساكنان، وهذا قد أُمن في الوقف، فتعودُ الياءُ إلى حقِّها، كما أنَّ الجازمَ إذا دخلَ حذفَ الألفَ من ((يخَافُ، يقَومُ، ويَبيعُ)) فلو فقد الجازم ثبتت هذه الحروف، لزوالِ موجبِ حَذفها. والجوابُ عن هذا ما تقدّم من أنَّ الوقفَ عارضٌ، والعارضُ لا يغيِّرُ حكمَ الأصلِ. والله أعلم بالصّواب.

19 - مسألة [الوقف على المقصور المنون]

19 - مسألة [الوقف على المقصور المنوّن] إذا وقفتَ على المقصورِ وقفتَ بالألفِ إجماعاً كقولك هذه العصا، ورأيت عصا، ومررت بعصا، واختلفوا في أصلِ هذه الألف على ثلاثةِ مذاهبٍ: فمذهبُ سيبويهِ: أنّ الألفَ في الرّفعِ والجرِّ لامُ الكلمة، لا بَدَلٌ، وفي النَّصبِ هي بَدَلٌ من التَّنوينِ. والمذهب الثاني: أنّ الألفَ في الأحوالِ الثلاثِ لامُ الكلمةِ، لا بدلٌ، وهو قولُ السيّرافي وجماعة.

والمذهبُ الثالثُ: هي في الأحوالِ الثلاثةِ بدلٌ [من] التَّنوين وهو قولُ المازِنِيِّ، والمُختارُ مذهبُ سيبويهِ. ووجهُهُ أنّ الألفَ لامُ الكلمةِ فكان الوقف عليها في الجرِّ والرّفعِ كالاسم الصّحيح، وهي في النّصب بَدَلٌ من التَّنوين كالاسم الصَّحيحِ أيضاً، وبيانهُ: أنّ المذهبَ المشهورَ في الاسم الصّحيحِ أن تقولَ في الرّفع والجرِّ هذا زيدٌ ومررتُ بزيدٍ، فتقف على الدَّالِ من غير إبدالٍ، فكذلك المُعتَلّ، وذلك أنّ الصحيحَ هو الأصلُ المعلومُ، والمقصورُ مجهولٌ من جهةِ اللّفظِ فيجبُ أن يحملَ على المعلومِ الظَّاهِرِ، إذ حكم المجهولات أن تردّ إلى المعلومات، والمقدّرُ محمولٌ على المُحقّق. فإن قيلَ: الاسمُ الصّحيحُ يَبِيْنُ فيه الفرقُ بين الرّفعِ والجرِّ وبينَ النّصبِ، وفي المعتلّ لا يَبينُ، فينبغي أن لا يُحمل على الصَّحيحِ، وعلى هذا الدَّليلِ اعتراضاتٌ أُخر هي من قبيلِ المُعارضة وسنذكرها في شُبَهِ المُخالفين.

فالجوابُ عن الفرقِ من وجهين: أحدُهما: أنَّ الفرقَ غيرُ محصورٍ في جهةِ اللّفظ بل هو مقصودٌ في أحكامٍ أُخر، وذلك موجود هنا. وبيانه أنّا إذا جَعلنا الألفَ في الرّفَعِ والجَرِّ لام الكلمةِ كُتب ما أَصله الياء بالياء، وما أصله الواو بالألف، فالواو نحو ((عَصا)) و ((عَلا))، والياء نحو ((رحَى)) و ((هُدى))، والكنايةُ ضربٌ من أقسام الموجودات ويستدلُّ بها على الأصولِ فالفرق فيها نافعٌ، ومن الفروق إمالة اللاَّمِ في موضعٍ تجوزُ [فيه] الإِمالة نحو هذه رحىً وانتفعت بُهدَى، وهذا فرقُ لفظيُّ وكذلك وقوعها رويّاً على ما نذكره من بعده. والوجه الثاني: أنّ الحكمَ إذا ثبت لعلّةٍ اطّرد حكمها في الموضعِ الذي امتنع فيه وجودُ العلّةِ، ألا تَرى أنّك ترفعُ الفاعلَ، وتنصِبُ المفعولَ في موضعٍ يُقطَعُ بالفرق بينهما من طَريقِ المعنى لو قلتَ: ((ضربَ الله مثلاً)) فإنّكَ ترفعُ وتَنصبُ مع أنَّ الفاعلَ والمفعولَ معقولٌ قَطعاً ونظيرُه من المَشروع أنَّ الرَّمل في الطَّواف شُرِعَ في الابتداء لإِظهارِ الجَلَدِ ثُمَّ زَالت العِلَّة وبقيَ الحكمُ، وهذا ينزعُ إلى معنى صَحيحٍ، وهو أنَّ الأصلَ أنّ الحكمَ لا يُعلَّلُ بعلّتين، فإذا ثَبَتَ الحكمُ في الابتداءِ بعلَّةٍ ثمّ زالت العلّة وزوال حكمها كان كالتعليلِ الحكمِ بعلّتينَ، ومثلُ ذلك العُدَّة عن النِّكاحِ تُعلّل ببراءَة الرَّحمِ، ثمّ يثَبت في موضعٍ يستحيلُ فيه شَغلُ الرّحمِ، وسببُ

ذلك أنّ النُّفوس تأنس بثبوتِ الحكمِ لِعلّةٍ فلا يَنبغي أن يَزول ذلك الأُنس، ونظيرهُ في التَّصريفِ أنّ الواوَ في مستقبلِ وَعَدَ ووَزَنَ حُذفت منه لوقوعها بين ياءٍ وكسرةٍ نحو يَعِد، ثمّ حذفت مع بقيّة حروف المضارعة مع عدمِ العِلَّةِ ليكون البابُ على سَننٍ وله نَظائر أُخر. واحتجَّ من قالَ: ((هي بدلٌ في الأحوالِ الثلاث)) أنّ العلَّة في إبدال التَّنوين ألفاً في النَّصب فتحةُ ما قبلها نحو رأيتُ زيداً وتنوين المقصورِ قبله فتحة فيجبُ أن تُقلب ألفاً، وهو في المقصور آكدُ؛ لأنَّ فتحةَ ما قبلَ التَّنوين لازمةٌ والفَتحةُ في الاسم الصَّحيحِ غيرُ لازمةٍ. واحتجَّ من قالَ: ((هي لامُ الكلمةِ في كلِّ حالٍ)) أنّ أحكامَ الأصالةِ ثابتةٌ، وحكمُ الإبدالِ منتفٍ، فوجبَ أن يُحكمَ بالأصالةِ كبقيّةِ الأَحكام، وبيانهُ أنّ حكمَ اللاّمِ أَن تَقَعَ رويّاً في الشّعرِ، والأَلفُ في المَقصورِ المَنصوبِ قد وَقَعَتْ رويّاً كقول الشاعرِ: إِنَّكَ يا بنَ جَعْفَرٍ خيرُ فَتى ثمّ قال: ورُبَّ ضَيْفٍ طَرَقَ الحَيَّ سُرى ... صادَفَ زَادًا وَحَدِيْثاً مَا اشْتَهى إِنَّ الحَدِيْثَ طَرَفٌ مِنَ القِرى

فالألف في ((سُرى)) رويُّ وهي بأزاءِ الألفِ في ((فتَى)) و ((اشتَهى)) و ((القِرى)) وكما أنَّ تلك الألفات رويٌّ كذلك ألف ((سُرى))، يدلُّ عليه أنها لو كانت بدلاً من التنوين لم تكن رويّاً، ألا ترى أنَّ الألف في قولك: ((رأيتُ زيداً)) لا تكون آخر بيتٍ مع أنّ عمراً في بيتٍ آخرَ من القَصيدة، لأنّ ما قبل الأَلف مختلف والرَّويُّ لا يختلف، ومن أحَكامِ الأُصول أنَّك لا تُميل الأَلف المُبدلة من التَّنوين وها هُنا تُمال وقد قرأَ بعضُ القرّاءِ: {أَوْ أَجِدُ على النَّار هُدى}. وليس في الكلمةِ إمالةٌ تتبعها هذه الإِمالة، ومن الأحكام كتابة ((هذا)) بالياء وفي المصاحف {أَو أَجِدُ عَلى النَّارِ هُدَىْ} بالياء، فبانَ بما ذكرناه أنّ الألفَ في الأحوالِ الثَّلاثِ لامُ الكلمةِ. والجوابُ عن شُبه المَازِنِيِّ: أنَّ الفَتحة في الاسمِ الصَّحيح قبلَ حركةُ إعرابٍ غير لازمةٍ، فجاز أن يُبدلَ لها التَّنوين، والفتحةُ في ((العَصا)) و ((الهُدى)) لَيستْ فتحةَ إعرابٍ فبطلَ القياسُ، ولهذا يقدَّرُ في يقدَّرُ في المَنصوبِ المُنوّن أنّ لامَ الكلمةِ مَحذوفٌ نحو رأيتُ عَصاً.

وأمّا الجوابُ عن المذهب الأخير فيتحقّق ببيان فسادِ ما استدلَّ به فمن ذلك وقوعها رَوِيّاً، وعنه ثلاثة أجوبة: أحدُها: أنَّه من غلظِ طَبع الشَّاعر، ألا تَرى أنّ باب الإِقواءِ جائزٌ في الشّعرِ مثل أن يجعل النون رويّاً في بيت بعده كقولِ الشَّاعر: بُنيّ إِنَّ البِرَّ شيءُ هَيِّنٌ ... المَنْطِقُ الطَّيبُ والطُّعَيِّمُ والجوابُ الثاني: أنّ ذلك جاء على لغة من لم يُبدل من التّنوين ألفاً في النَّصبِ كقول الأعشى: وآخُذُ مِنْ كلِّ حيِّ عُصُمْ والأصلُ عُصُماٌ. والجوابُ الثالث: أنّ الألفَ المُبدلة تُشبه الألف التي هي لامُ والشَّبه بينَ الشَّيئين قد يَجذِبُ أحدُهما إلى الآخر، كقولهم: مررتُ بزيدٍ الضَّاربِ الرجلِ بالجرِّ حَملاً على قولك: مررتُ بالرّجلِ الحَسن الوجه، وهذا اتّفاق

شَبَهِيٌّ مع أنّ الفرقَ بينهما ظاهرٌ، وذلك أنَّ الرجلَ هنا مفعول، وحكمه أن يَنتصب، وأنّ الرجلَ ليس للمضافِ إليه، بخلاف الحَسَنِ الوجه لأنّ الحُسْنَ للوجه ومع هذا قد حُمِلَ أحدُهما على الآخرِ، وأجازوا مررتُ بالرَّجل الحَسَنِ الوَجهِ، حملاً على قولهم: مررتُ بالضاربِ الرّجلِ، وكلُّ ذلك للشَّبه اللَّفِظِيِّ. وأمّا الإِمالةُ فبعيدةٌ في ألفِ التَّنوين، ومن أبدلها شبَّهها بلامِ الكلمةِ لما ذكرناه من الشَّبه اللّفظيّ، وهذا هو الشّبهة فيمن كَتبها بالياءِ. واللهُ أَعلم بالصَّواب. آخُرها والحَمدُ لله وَحْدَهُ.

20 - مسألة [إعراب الأسماء الستة]

20 - مسألة [إعراب الأسماء الستّة] اختلفوا في الأسماء الستّة وهي أَبوك وأَخوك وحَموك وفُوك وذُو مالٍ على سبعةِ مذاهبٍ: الأوّلُ: قولُ سيبويهِ وهي أنّ حروفَ المدِّ فيها حروفُ إعرابٍ، والإِعرابُ مقدَّرٌ عليها. والثَّاني: قولُ أبي الحَسن الأَخفش أنَّ حروفَ المدِّ دوالٌّ على الإِعرابِ فَقط.

والثَّالثُ: قولُ الجَرميّ أنَّ قبلها إِعرابٌ. والمذهبُ الرابعُ قولُ قُطْربٍ وأبي إسحاق الزِّيادِيّ: أنّ هذه الحُروف إعرابٌ. والخامس: قولُ المازِنِيِّ: أنّ هذه الحُروف ناشئةٌ عن إشباعِ الحركاتِ، والإعرابُ قبلها. والسادسُ: قولُ أبي علي وأَصحابهِ: أنَّ هذه الحُروفَ هي حروفُ الإِعرابِ ودَوَالُّ على الإِعرابِ، وليسَ فيها إعراب مُقَدَّرٌ. والسابعُ قولُ الفرّاء: وهي أنَّها مُعرَبَةٌ من مكانين، حُروف المَدّ وحَركات ما قَبلها.

فنبدأ بمذهبِ سيبويهِ وندلّ عليه بطرقٍ أربعة: الأوّل: أنَّها أسماءٌ معربةٌ، فكان لها حرفُ إعرابٍ، كسائر الأسماءِ المُعربة، وإنّما قلنا ذلك لأنّ الإِعراب إِمَّا معنى، وإِمَّا حركةٌ، وكلاهُما يَفتقر إلى مَحَلٍّ به كسائرِ الأعراضِ المَعقولة، ومحلّه حرفه كالدّال من زيدٍ ونحوه، يدلّ عليه أنّ المُعتَلَّ مقيسٌ على الصَّحيح كما ذكرناه في مسألة الوقف علَى المقصور وكما أنَّ الاسمَ الصّحيحَ لا يَعْرَى عن حرفِ إعرابٍ كذلك المُعَتلَّ، ولذلك حكمنا على الياء في المَنقوص، والأَلف في المقصورِ، على أنَّهما حرفا إعرابٍ. والطّريق الثاني: أنّ هذه الأسماء لها حروفُ إعراب قبل الإِضافة، فكان لها حروف إعراب بعد الإِضافة كسائر الأسماء، وبيانه أن، قولَك هذا أبٌ ورأيت أباً ومررتُ بأبٍ حرف إعرابه الباء، وكان يجبُ أن تكونَ حروف المدّ بعدَ الإِضافة، لأنَّها صارت آخرَ الكلمةِ، كما أنَّ الباءَ قبلَ الإضافةِ آخرَ الكلمةِ، والإضافةُ لا تَسلِبُ الكلمةَ حرفَ إعرابِها نحو غلامك وغلامه. والتَّحرير أنّه لا فارقَ بين حالها مضافةً وغير مضافةٍ إلاّ الإِضافة، ولا أثرَ لها لهذا الفارِقِ في سلب حروفِ الإِعراب، بدليل الصَّحيح والمُعتلّ والمَنقوص والمَقصور. الطّريقُ الثالثُ: أنّ هذه الأسماء لو خرجت على أصلها كان حرفُ المدِّ فيها حرفَ إِعرابٍ، كذلك لمّا حذفت ثمّ ردّت، وبيانه: أنّها لمّا ردّت

عادت إلى كمالها ولكن غُيّرت لمعنى لا يُؤَثِّر في إِزالةِ حرفِ الإِعرابِ. الرّابع: أنّ هذه الحروفَ موجودةٌ في الإِضافة طرفاً، ولا تَخلو من أن تكون زائدةً أو إِعراباً أو حروفَ إعرابٍ، لا وجه إلى الأوّل، لأنَّ حكمَ الزائدِ أنّه إذا حُذِفَ لم يَخْتَلَّ به معنى، وثُبوت هذه الحروف على اللُّغة المشهورة إذا حُذِفَتْ لم يبقَ معناها ولا وجهَ إلى الثَّاني، لأنَّ الإِعرابَ إمّا حركةً وإمّا مَعنى تَدُلُّ عليه الحَرَكَةُ وكلاهُما إذا حُذِفَتْ لا يَبْطُلُ معنى الكَلِمَةِ، وإنَّما يَبْطُلُ المعنى الذي يدلّ عليه الإِعراب، وإذا بطلَ القسمان ثبتَ كونُها حروفَ إعرابٍ، والدَّلالة على أنّ الإِعرابَ مقدَّرٌ فيها أنّ حرفَ الإِعرابِ في الأسماءِ لا يَعرّى من الإِعرابِ لفظاً أو تقديراً، لأنّه دالٌ على معنى فوجبَ أن يثبتَ لِيَحصلَ مدلولُه، فإذا لم يَكُن في اللَّفظِ ظاهراً كان مُقدّراً كالأسماءِ المقصورةِ، والمانع من ظهورِه قائمٌ. فإِن قيلَ: لا يستقيمُ هنا تقدير الإِعرابِ وذلك أنّ الواو في حالِ الرّفع ساكنةٌ ولم تُقلب حتّى يقدّر الإِعراب على ما تَنْقَلِبُ إليه، وفي النَّصبِ والجَرِّ تحرَّك الحرفُ بحركةِ الإِعرابِ، فانقلب ألفاً أو ياءً، فالموجبُ للانقلابِ حركةُ الإِعراب، فكيفَ تقدّر بعدَ وجودِ عَمَلِها؟. فالجوابُ أنّ الحركةَ على أصلِ هذه الحروف حركةٌ مطلقةٌ غيرُ معيّنةٍ، فكان الانقلابُ بكونها مُطلقةً، ولمّا انقلبت قدَّرنا عليه الحركات المُعيّنة، فالمقدَّرُ غير الذي أوجبَ الانقلابَ، وهذا يبيّن لك في المقصور نحو العَصا والرَّحى فإنَّ الانقلاب فيهما كانَ بالحركةِ من حيثُ هي مطلق الحركة لا بكونها ضمَّة وأُختيها، إِلاَّ أنَّها في الرَّفع يقدَّر على الواو السّاكنة ضمّة، كما يقدّر على الواو في ((يعَزو)) وكما يقدّر على الألف في ((العَصَا))؛ لأنَّ المانع من ظُهورِ الضَمَّة ثقلها على الواو، وهذا المعنى مَوجودٌ في

قولِكَ: ((هذا أَبوك)) والمانعُ من الألَفِ استحالةُ حركتِها، ومع الياء ثِقلها. وأمَّا مَذهبُ الأخفش فيُحتجّ له بأنَّ هذه الحُروف يلزمُ منها الحُكُم بالرّفعِ والنَّصبِ والجَرِّ، فيلزم أن تكونَ قائمةً مقام الحَركات الإِعرابيّة، ولا يكون لهذه الكلمات حروفُ إعرابٍ كالأمثلة الخمسة. والجوابُ عنه من ثلاثةِ أوجهٍ: أحدُها: أنّ دِلالةَ الشّيءِ على الإِعرابِ يَحتاج إلى مَحلٍّ فإذا لم يكن له حرفُ إعرابٍ بقي الإِعراب عرضاً قائماً بنفسه، والعَرض لا يقومُ بنفسه. له حرفُ إعرابٍ بقي الإِعراب عرضاً قائماً بنفسه، والعَرض لا يقومُ بنفسه. والثّاني: أنَّ الدّليلَ يَفتَقِرُ إلى مَدْلُولٍ عليه، فالمَدلول عليه هُنا الرَّفعُ والنَّصبُ والجَرُّ، فإن كانت هذه المعاني هي المدلول عليها، وهي نَفْسُ هذه الحروف، أفَضى إلى أن يكونَ الدَّليلُ هو المدلول عليه، وإن كان المدلول عليه غيرها احتاج إلى محلّ يقوم به ويعود الكلام الأوّل. والثالثُ: أنّ ذلك يُفضي إلى مُحالٍ في بعضِ الأَسماء وذلِكَ، أنَّ فُوك وذُو مالٍ إذا كان حرفُ المَدِّ دليل الإِعراب يَبقى الاسمُ على حرفٍ واحدٍ وهو اسمٌ ظاهرٌ معربٌ، وهذا لا نَظيرَ لَهُ. وأمَّا مذَهبُ الجَرميّ: فحُجّته أن الواوَ في الرّفع هي الأصل فتكون حرفَ الإِعراب والإِعراب مقدّر عليها ولم تظهر لثقلها مع الواو، فأمَّا في النّصبِ والجرِّ فالموجب لقلبها فيهما حركة الإِعراب، فالألف من جنسِ الفتحة، والياءُ من جنسِ الكسرةِ، فقد نابَ الحَرفان عن الحَرَكَتين والنائبُ عن الشيءِ يقوم مقامه.

والجوابُ عنه من ثلاثةِ أوجهٍ: أحدُها: أنّ الرّفعَ لا انقلاب فيه وهو مُعربٌ، وما ذكره يُفضي إلى أن تكونَ الكلمَةُ الواحدةُ ليس فيها علامةُ إعرابٍ في حالٍ، ولها علامةُ إعرابٍ في حالٍ آخر، وذا نظيرَ له، ولا نظيرَ له، ولا يَقتضيه قياسٌ. والثاني: أنّ الانقلابَ لو كان إعراباً لكان واحداً، كما في منصوبِ التَّثنية والجَمع وجرّهما، وهنا انقلابان على حَسب الموجبِ للقلبِ وما كان كذلك لا يكونُ إعراباً. والثالثُ: أنّ الانقلابَ في المقصورِ ليسَ بإعرابٍ، بل الإِعرابُ مقدَّر، والمنقلبُ حرفُ إعرابٍ. وأمَّا مذهبُ قُطْرُبٍ فشُبهَتُه أنّ الإعرابَ ما يختَلفُ باختلافِ العاملِ، وهذه الحُروف بهذه الصِّيغةِ فكانت إعراباً. والجَوابُ أنَّ هذه الحروف لم تَحدث عن عاملٍ وإنّما الحَركات المُوجبة لقلبِها هي الإِعراب الحادث عن عاملٍ، وقد دَللنا على ذلك. وأمّا مذهبُ المَازِنيِّ فشبهتُهُ أنّ الضّمّةَ والفتحةَ والكسرةَ قبلَ حروفِ المدِّ ناشئةٌ عن عاملٍ؛ لأنّها تَخَتلِفُ بحسبِ اختلافه فكانت هي الإِعراب، ولكن لمّا أُريد تمكينها أُشبعت فنَشأت عنها هذه الحروف. والجوابُ عنه من أربعةِ أوجهٍ:

أحدُها: أنّ حدوثَ الحرفِ عن الإِشباعِ خلافُ القياس وهو شاذٌّ وبابه الشّعر للضّرورة. والثاني: أن، ما كان من أجل الإِشباع غير لازم، بل إن شاء أتى به وإن شاء لم يأتِ، وها هنا ذكر هذه الحروف لازمٌ، فلم يكن عن الإشباع. والثالثُ: أنّ ذلك يُفضي في بعض الأَسماء أن يكون الاسمُ الظاهر على حرفٍ واحد وهو فوك وذو مال وهو من أبعد الأشياء. والرابعُ: أنّها لو كانت للإِشباع لخالَفت بقيّةَ المحذوفات نحو: ((دَمٍ)) و ((يَدٍ)) فإنَّها لا تَختلفُ مع أنّ الحركات موجودةٌ فيها والأصلُ عدمِ الاختلاف. وأمّا مذهبُ أبي عليّ فهو أقربُ المذاهبِ؛ وذاكَ أنّه وَجَدَ هذه الحروفَ لاماتِ الكلمةِ فمن هاهنا هي حروفُ إعراب، ووجدها دالّة على الإعراب فقضى بها حكماً للدّليل، وغير ممتنع أن يكون الشيء الواحد دالاً على أشياء، أَلا تَرى أنَّ التاءَ أنَّ التاءَ في قولك: ((هي تقومُ)) حرفُ المضارعة ودليلُ التأنيث وفي قولِكَ: ((أنتَ تقومُ)) هي حرفُ المضارعةِ ودَليلُ الخِطابِ. ولأَصحابِ سِيبويهِ أن يَقولوا إنّه ليس كلُّ مقدّرٍ عليه دَلِيلٌ من اللّفَظِ بدليلِ المَقْصُورِ فإِنَّ الإعرابَ فيه مُقدَّرٌ وليس له لفظٌ يَدُلُّ عليه، كذلك هَاهُنا.

وأمّا مذهبُ الفَرّاء فحجّته أنّه وَجَدَ الحركات قبل هذه الحروف، وهذه الحروف تَختلفُ باختلافِ العاملِ، فكانا جميعاً إعراباً. وهذا فاسدٌ لثلاثةِ أوجهٍ: أحدُها: أنّ الإِعرابَ حاصلٌ عن عاملٍ، والعاملُ الواحدُ لا يعملُ عملين في موضع واحدٍ. والثاني: أن، الإِعرابَ يفرّق بينَ المعاني، والفَرق يحصل بعملٍ واحدٍ، فلا حاجةَ إلى آخر. والثالثُ: أنّه يُفضي إلى أن تكون الكلمةُ كلُّها علامات الإِعرابِ وهو قولك: ((فُوك)) و ((ذُو مالٍ)) فإِنَّ ضَمَّة الفاء والذَّال والواو بعدهما هو كلّ الكلمة، فإذا كان ذلك إعراباً فأين المعرب؟ ولا يصح قياسه على قولهم هذا أمرؤٌ ورأيت امرأً ومررت بامريءٍ، فإنَّ الرّاء والهمزةَ تختلفُ حركتهما، لأنّا نقول حركة الراء تابعة لحركة الهمزة، وليست إعراباً، كما أنّ الحركةَ قبلَ حروفِ المدِّ تابعةُ لها وليست إعراباً، والله أعلمُ بالصَّوابِ.

21 - مسألة [المثنى وجمع المذكر السالم معربان]

مسائل التثنية 21 - مسألة [المثنىّ وجمع المذكّر السالم معربان] الإِسمُ المثنّى والمَجموعُ جمع السَّلامةِ مُعربان. وحُكِيَ عن الزجّاج أنَّهما مبنيّان. وجهُ القولِ الأوّلِ: أنَّ المعرَبَ هو ما اختلفَ آخره لاختِلافِ العامِلِ، وهذان الضَّربان كذلك فكانا مُعربين.

وبيانه: أنَّهما في الرَّفع بحرفٍ، وفي الجرِّ والنَّصب بحرفٍ آخر، وهذا الاختلاف مَنسوبٌ إلى اختلاف العامل؛ لأنَّه يحدثُ عنه حدوثاً مُطَّرِداً، والاطِّرادُ دليلُ العلَّةِ، فإذا قلتَ: ((قامَ الزَّيدان، والزَّيدون)) و ((رأيتُ الزَّيدَين والزَّيدِين)) ورأيتُ الاختلافِ العامل. فإن قيل: فقد حَصَلَ هُنا اختلافان، حركةُ ما قبلَ حروفِ المَدِّ وحروف المّدِّ، واختلافُ الحركةِ فيما قَبل حَرْفِ المَدِّ ليس بِإعرابٍ، فكذلك حرفُ المَدِّ لا يكونُ اختلافُهُ إعراباً. فالجوابُ أنَّ الذي اختلفَ بحكمِ الأصلِ هو حرفُ المَدِّ، وهو الأَلفُ في الرَّفع، والياء في النَّصبِ والجّرِّ، وهكذا في جمعِ السَّلامة وحركةُ ما قبلَ هذه الحروف تابعٌ لها، أو ثابتٌ للفرقِ بينها، وليس بحادثٍ للعامل فثبتَ أنَّ اختلافَ هذه الحُروف منسوبٌ إلى العاملِ قَصداً، فكان إعراباً. واحتجَّ للمُخالف أنَّ المثنَّى والمَجموع يتضمَّن معنى واو العطف فكان الاسمُ به مبنيّاً كخمسة عشر ونحوه. والجوابُ: أنَّ هذين الاسمين غير مركبين، لأنَّ التركيبَ يبقى معه لفظُ كلِّ واحدٍ من الاسمين كخمسةَ عشرَ، والمثنّى صيغة أُخرى غير صيغة الإِسمين المفرَدين، ويطّرد لوضح القياس أن تقولَ: ((زيدٌ زيدٌ))، فأمَّا الزَّيدان والزَّيدِين فلم يَبْقَ فيه غير لفظ الواحد، ثمَّ زيد عليه الحروف للمعاني فبطلَ بذلك أن يكونَ متضمِّناً واو العطف، وإنَّما المثنَّى يُغني عن عَطفِ الاسمِ الثَّاني على الأوَّل، لا أنَّ لفظ المعطوفِ والمعطوفِ عليه باقٍ، يدلّ عليه اختلاف آخرهما بحسَبِ اختلافِ العامِلِ، وليس كذلك ما يَتَضَمَّن معنى الواو. واللَّهُ أعلمُ بالصَّواب.

22 - مسألة [حقيقة حروف التثنية والجمع]

22 - مسألة [حقيقة حروف التَّثنية والجمع] حروفُ المَدِّ في التَّثنيةِ والجَمْعِ حُرُوفُ إعرابٍ عندَ سيبويه. واختلف أَصحابُه في الإِعرابِ. فقالَ بَعضُهم: هو مُقدَّرٌ عليها كما يُقدَّرُ على المقصورِ. وقالَ آخرون لا يقدَّرُ عليها إعرابٌ.

وقالَ الأخفشُ والمازنيُّ والمبرِّدُ: ليست حروفَ إعرابٍ على ما ذكرنا في الأَسماءِ السِّتَّةِ. وقال الجرميُّ: انقلابُ الألفِ إلى الياءِ هو الإعراب، وقالَ قُطْرُبُ والفرَّاءُ أنفسُهما إعرابٌ. وحجَّة الأولين من ستة وجه: الأول: أنَّه اسمٌ معربٌ، فكان له حرفُ إعرابٍ كسائر الأسماءِ، والوجهُ فيه أنَّ المعربَ هو الذي يقومُ به الإِعراب، مثل المكرم هو الذي قام به الإِكرام، فالإعراب غيرُ المُعرب، لأنَّ محلَّ الشيءِ غيرُ ذلك الشيءِ كمُغايرة الأسود للسَّوادِ.

والوجهُ الثَّاني: أنَّ هذه الحروفَ حادثةٌ لمعنى في الاسمِ، فكانت حروفَ إعرابٍ، كتاء التأنيث وأَلفه، وياء النَّسب، وإنَّما كانَ كذلك، لأنَّ الحَرف الحادِثَ لمعنى يَصيرُ من جُملة الكلمةِ وطرفًا لها والأطراف حروفُ الإِعراب. والوجهُ الثَّالثُ: أنَّ حرفَ الإِعرابِ هو الحَرفُ الأخيرُ الذي إذا أُسقِطَ يختلّ به المعنى، وحروفُ المَدِّ هنا كذلِكَ، إنَّها إذا أُسقطت اختلَّ معنى التَّثْنِيَةِ والجَمع، فتصيرُ كالدَّالِ من زيدٍ. والرابعُ: أنَّ هذه الأَسماء لها حرفُ إعرابٍ قبلَ التَّثنية فكان لها حرفُ إعرابٍ بعدها، كالاسمِ المؤنث، وذلك أنَّ المعنى الحادثَ لا يَسلِبُ الاسم معنى وإنَّما يزيده معنى، فلو حذف حرفُ الإِعراب لكانَ ذلك نقضاً لحكمِ الاسمِ. والخامس: أنَّك إذا سميت رجلاً ((مسلمان)) أو ((زَيدون)) ثمَّ رَخَّمته حذفتَ الألفَ والنُّون، والنون ليست حرفُ إعرابٍ اتفاقاً، وجب أن تكونَ الألفُ حرفَ الإعرابِ، لأنَّ حكمَ التَّرخيمِ أن يَحذِفَ حرفَ الإِعرابِ كما تَحذف الثَّاء من ((حارث)). والسادس: أنَّ العربَ قالوا: ((جَاءَ يَنْفُضُ مَذْرَوَيْه)) و ((عَقَدْتُهُ

بِثِنَايَيْنِ)) فأثبتوا الواو والياء كما يثبتونهما قبل تاء التأنيث نحو ((شقاوة)) و ((عباية))، وقد ثبتَ أنَّ الثّابتَ قبل تاءِ التأنيثِ من جملةِ، وأنَّه ليس بإعرابٍ، فثبت بذلك أنَّه حرفُ إعرابٍ. واحتجَّ الآخرون من وجهين: أحدُهما: أنَّ هذه الحروف تدلّ على الإِعرابِ، وحرفُ الإِعراب لا يَدُلُّ عليه، كالدال من زيدٍ، فثبت بذلك ليست حروف إعراب. والثاني: أنَّها لو كانت حروفَ إعرابٍ لبانَ فيها إعرابٌ، ولا يَصِحُّ تقدير ذلك لِوَجْهَيْنِ: أحدهُما: أنها تَدُلُّ على الإِعراب، فلو كان فيها إعرابٌ لكان عليه دَليلان. والثاني: أنَّ حرفَ الإِعرابِ يلزمُ طريقةً واحدةً فلمَّا كان الرَّفع بحرفٍ. والجرّ والنصب بحرفٍ آخر، لم يكن حرفَ إعرابٍ، بل كانَ دليلَ الإِعرابِ. واحتجَّ الجَرمي بهذه الشّبهة، وهو أنَّه لمَّا احتيج في الجَرِّ والنَّصبِ إلى حرف آخر غير ألف، علم أنَّ الانقلاب هو الإِعراب. واحتجَّ الفرَّاء: بأنّ الإِعراب ما دلَّ على الفاعِل والمفعولِ، وكان حادثاً عن عامل، وهذه الحروف بهذه المنزلة، فكانت إعراباً كالحركة. والجَوابُ عن شبهةِ المازني ما ذكرناه في الأَسماء السِّتَّة، من أنَّها لو

كانت دليلَ الإِعرابِ لكان الإِعرابُ إمَّا فيها أو في غيرِها وكلاهما باطلٌ على ما تقدَّم. فأمَّا معرفة الإِعراب من هذه الحروف ففيه وجهان: أحدُهما: أنَّ الإِعرابَ مقدَّرٌ عليها، ولا دليلَ عليه كما في المقصورِ، وإنَّما اكتَفوا بوضعِ الألِف في الرَّفعِ، والياءِ في الجرِّ والنَّصبِ، عن دليلِ الإِعرابِ، ألا تَرى أنَّ ((نحن وأَنت)) بوضعِهِ يدلُّ على الرفعِ، و ((إيَّاك وبابه)) يدلُّ على النَّصبِ، كذلك الحُروف هُنا هي حروفُ إعراب، ووضعها يُغني عن ظهور الإِعرابِ، وإذا كانت الكلمةُ بأسرها تُغني عن الإِعراب فبأنْ يَدُلُّ آخر الكلمة أولى. والجوابُ عن شبهة الجرمي أنَّ الانقلاب لو كان إعراباً لم يكن في المثنّى والمجموع رفعٌ؛ لأنَّ الألفَ والواوَ غيرُ منقلبتين عن شيءٍ. وجواب آخر: وهو أنَّ الياءَ في التَّثنية والجَمعِ ليستْ منقلبةً عن

حرفِ، بل هو حرفٌ موضوع ابتداء، فلا انقلاب، بخلاف الأسماء الستَّة، فإنْ أراد بالانقلاب تَنَقُّل الحرفِ من حالٍ إلى حالٍ، لا الانقلاب التَّصريفي، قيلَ هذا لا يمنعُ من جَعلِ هذه الحُروفِ حُروفَ إعرابٍ، لقيامِ الدَّليلِ عليه، ويكون الانتقالُ مبنيّاً على الإِعرابِ المقدَّرِ. وأمَّا مَذهبُ الفرَّاء: فالجوابُ عنه أنَّها لو كانت إعراباً لم تَدُلّ على معنى غير الإِعراب، ولَيست كذلك، بل هي دَالَّةٌ على معانٍ غير ما يدلّ عليه الإِعراب، فهي كتاءِ التأنيث، وياءِ النسب، وقد احتجَّ بعضُهم لغيرِ مذهبِ سيبويه بِأنَّ تاء التَّأنيث ثبتَتْ قبلَ هذه الحروف، نحو ((مُسلمتان)) و ((جارِيتان)) وحرفُ التأنيثِ لا يكونُ حَشواً. والجوابُ: أن الدَّليلَ على كونِها حروفَ إعرابٍ ما تقدَّم. وأمَّا ثبوتُ التَّاءِ قبلَها، فوجهه أنَّ هذه الحروفَ حروفُ إعرابٍ، وتَدُلُّ على الإِعرابِ، فمن حيثُ هي دالَّةٌ على الإِعرابِ وقعتْ تاء التأنيث قَبلها، ولم تَكُنْ حشواً في هذا الحكمِ، وأمَّا من الجهةِ الأُخرى فلا تَنفي كونها حرفَ إعرابٍ، وكان السَّبَبُ في ذلك أنَّ التأنيث معنى يُفتَقَرُ إلى الدِّلالة عليه، فلو حذف في التَّثنية والجمع لبطل ذلك، فوجب أن يُحافَظَ على المَعنيين جميعاً. واللَّه أعلمُ بالصَّواب.

23 - مسألة: [تقدير الإعراب على حروف التثنية والجمع]

23 - مسألة: [تقدير الإِعراب على حروفِ التَّثنية والجمع] إذا ثبتَ أنَّها حروفُ إعرابٍ فالإِعرابُ مقدَّرٌ عليها، خُرِّجَ ذلك على مذهبِ سيبويهِ في الأَسْماءِ السِّتَّة، وقد ذَكرنا الحُجَّة في ذلِكَ وما يرد عليها من الشَّبه، وأجبنا عنه، ومثله ها هنا، ومن أصحابِ سيبويهِ من قالَ لا يقدَّرُ عليها، إعرابٌ، وفرَّق بينها وبينَ الأسماءِ السِّتَّةِ، ووجه الفرق أنَّ هذه الحُروف أَفادت مَعنى غير الإِعرابِ، وهو التَّثنية والجَمع، فأفادَت الإِعراب بخلافِ حُروف المَدَّ من الأسماءِ السِّتَّةِ، فإنَّها لَم تَعُدْ زيادةً على كونِها

حرفَ إعرابٍ فاحتيجَ إلى تقدير الإِعرابِ وفيه فرقٌ آخر، وذلك أنَّ حرفَ الإِعراب في الأسماءِ الستَّة لامُ الكلمةِ، ولامُ الكلمةِ تُحرّك بحركة الإِعرابِ، فإذا تَعَذَّرت لَفظاً قُدِّرت، والحروف في التَّثنيةِ والجَمعِ لا تَستحقّ حركةً فعند ذلك لم تَتَعذَّر لفظاً حتَّى تُقَدَّر، بل زيدت حروف إعرابٍ ودالَّة على الإِعراب، ومع قيام الدَّليلِ على الشَّيءِ لا يُقدّرُ واللَّهُ أعلمُ بالصَّواب.

24 - مسألة [النون في التثنية والجمع عوض من الحركة]

24 - مسألة [النون في التَّثنية والجَمع عوض من الحركة] النون في التَّثنية والجمع عوض من الحركة والتنوين اللذين كانا في والواحد. وقال بعض البصريين: هي عوض من الحركة في موضع، وهو مع الألف واللاّم، وفيما لا ينصرف، ومن التّنوين وحدَه نحو فَتىً وَرَحىً. وقال آخرون: هي بدلٌ من الحركة وحدها. وقال آخرون: من التَّنوين وحده. وقال الفَّراءُ فرَّق بها بينَ ألفِ التّثنية وبين أَلفِ النَّصب في الواحِدِ.

وحُجَّة الأولين من وَجهين: أحدُهما: أنَّ الاسمَ مُستَحِقُّ للحركةِ والتَّنوين وقد تَعَذَّرا في التَّثنيةِ والجَمعِ والنُّونُ صالحةُ أن تكونَ عوضاً منهما، ووجدنا العربَ قد زادُوها فيها فيغلبُ على الظَنّ أنَّها زيدت لذلك. ودليلُ ذلك زيادتُها في الأمثلةِ الخَمسة عوضاً من الضَّمَّةِ، و44444444444444 على صحَّةِ تعويضها من الحركةِ، ودليلُ صحَّةِ تعويضها من التَّنوين، أنَّ النَّونَ والتَّنوين لفظُهما سواءٌ. الوجهُ الثاني: لمَّا وَجدنا النُّون في موضع يستَحِقُّ الحركة والتَّنوين، وحذفت في موضع يحذف فيه التَّنوين وهو الإِضافة، فدَلّ ذلك على ما قلنا، لكن ثبوتُ الشيءِ في موضعٍ وحذفُه في موضعٍ آخر ليس بِعَبَثٍ، بل لِعِلَّةٍ اقتضت الفَرقَ، ولَيس إلاَّ ما ذكرنا. فإن قيلَ يَفْسُدُ ما ذكرتُمُوه من أوجهٍ: أحدُها: أنَّ حروفَ المدِّ هُنا غير مُستحقَّةٍ للحركةِ لقيامها مقامَ الحركةِ في الدِّلالِة على وجوهِ الإِعراب، فلم يبق ما يعوّض منه. والثَّاني: أنّ النُّون تثبتُ في موضعٍ لا يَستحق الحركة مثل ((العَصا)) و ((الرَّحى)). والثالثُ: أنَّها تثبت مع الألف واللام وهذا لا ينوَّن. والرابعُ: أنَّها تثبت في ((ما لا ينصرف)) نحو: أحمد، والخامسُ: أنَّ النُّونَ ثابتةٌ في ((هذان)) و ((اللَّذان)) ولا يَستحق ذلك حركةً ولا تنويناً. فالجوابُ عن الأولِ من ثلاثةِ أوجهٍ:

أحدُها: أنَّ الحركة مقدَّرة على هذه الحروف ولكنْ حركةٌ لا تظهر بخلاف ألف المقصور فجعل النون عوضاً من ظُهورِ الحركةِ المقدَّرةِ إذ كانت لا تظهرُ في موضعٍ مَّا ولكن الدَّليلَ يَقْتَضِي تَقديرَها، إذ كانت هذه حروفَ إعرابٍ، وحروفُ الإِعرابِ لا تعرى عن الإِعراب لفظاً أو تقديراً. والوجهُ الثاني: أنَّ هذه الحروف مستحقّة للحركة وإن لم تقدَّر، فالنون عوضٌ من استحقاق لفظ الحركة، وبين استحقاق الحركة ولفظها فرقٌ ظاهرٌ، ألا تَرى أنَّ قولَك: ((دارٌ)) و ((مالً)) الألف مستحقّة للفتحة لأنَّ وزنَ الكلمةِ ((فعل)) تعذَّرت حركتها ولمّا صارت إلى السكون ثبت لها حكم. الساكن ولم يُنظر إلى استِحقاقها الحركة حتَّى لو سَمَّيتَ امرأةً ب ((دار)) جوَّزت صَرفَهُ كما يجوزُ صرفُ ((هند)) ولو كان استحقاقُ الحركةِ بمنزلةِ لفظِ الحركةِ لَم تَصْرِفْهُ. والثَّالثُ: أنَّ الأَلف تَدُلُّ على التَّثنية وعلى الإِعرابِ، وهي حرفه فقد ضَعُفت دِلالتها على كلِّ واحدٍ من هذين، فَجُعلت النون مقوِّيةً لها. أمَّا المقصورُ فتظهرُ حركته في التَّثنية فيعودُ إلى الأصل كالصَّحيحِ. وأمَّا ثبوتُها مع الألفِ واللاَّمِ فجوابُه من وَجهين: أحدهما: أنَّها إذا كانت عوضاً منهما وتعذَّر دلالتها على أَحدِهما لزواله، بَقِيَتْ دالَّةً على الآخرِ، ألا تَرَى أنَّ الواو في ((الزَّيدون)) تدلُّ على الجَمع وعلى العَلَمِ والعَلَمِيَّة ثمَّ ثَبتت في ((سُنون)) و ((قُلون)) و ((ثُبون)) فالواو هُنا تدلُّ على الجمع ولا تدلُّ على المعاني الأُخر، وهذا ك ((كان)) وأخواتها فإنَّها في الأصلِ دالَّةٌ على الحَدثِ والزَّمانِ، ثمَّ خُلعت دلالتها على الحَدث وبَقيت دِلالتها على الزَّمان.

والثاني: أنَّها عوضٌ من الحركةِ وحدَها، وأمَّا ما لا يَنصرف فالوجهان المَذكوران جوابٌ عنه، وجوابٌ آخرُ: وهو أنَّ ما لا يَنصرف نَحو أَحمد إذا ثُنّي تَنَكَّر فاستَحَقَّ الصَّرفَ، وأمَّا الصِّفةُ مثل ((أَحمر)) فإذا ثُنّي خَرج عن شبهِ الفعلِ فجازَ أن يُنوّن، وأمَّا ثُبوتُها في ((هذان)) فلأنَّ هذا اللَّفظ ليس تثنية صناعيَّة بل تَثْبُتُ فيه لوجهين: أحدُهما: أنَّها صِيغةٌ وُضعت على هذا اللَّفظِ، لا أنَّ الكلمةَ معربةٌ والدَّليلُ على ذلك أنَّ التَّثنية الصِّناعيَّة تُوجب التَّنكير مثل ((الزيدان)) و ((هذان)) ليس بنكرة بل هو في ابتداء وضع الصِّيغة للتَّثنية مثل ((أنتما)). والوجهُ الثَّاني: أنَّ النُّون عوضٌ من الألفِ المَحذوفة، لأنَّ ((ذا)) في الواحِدِ ألفٌ والتَّثنية تَحتاجُ إلى ألفٍ، وقد حُذفت إحداهما فكانت النُّون عوضاً من المَحذوف، وهذا هو الجوابُ عن ((اللَّذان)). وأمَّا مذهبُ الفرَّاء: فمذهبُ طَريفُ وذلك أنَّ النُّون تَثبتُ بعد الياءِ وبعدَ الألِف ولا لبس مع الياء ثمَّ أنَّ النون تثبت مع الألف واللاَّم ولا تثبت الألف في المنصوبِ مع الألفِ واللاَّمِ ثمَّ أنَّ الفرقَ قد حصل بأمور أُخَر فلا حاجةَ إلى الفرقِ بالنون [واللَّه أعلم بالصَّواب].

25 - مسألة [تنوين المقابلة]

مسائل الجمع 25 - مسألة [تنوينُ المقابلة] التَّنوينُ في ((مسلمات)) وبابه ليس بتنوينِ الصَّرف، بل هو تنوينُ المقابلةِ، ومعنى ذلك أنَّ التنوين هنا نظير النُّون في مسلمون. وقالَ الرَّبعيُّ: هو تنوينُ الصَّرف. وحُجَّةُ القولِ الأَوَّلِ: أنَّ هذا التَّنوين يَثبُتُ في المعرفةِ المؤنَّثة، فلم يكن تَنوين الصرف، كالنون في ((خِلَفْنَةَ)) و ((عِرَفْنَةَ))،والدَّليلُ على أنَّها

تَثبت في المعرفةِ المؤنَّثة قوله تعالى: {فإذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ} فأثبت التَّنوين مع التَّعريف والتأنيث، وكذلك قولهم: ((هذه عرفاتٌ مُباركاً فيها))، فنَصبوا عنها الحال، وهي لا تَنتصبُ عن النكرةِ، وتأنيثها ظاهرٌ، وأمَّا تعريفها فظاهرٌ أيضاً، فإنّ الألفَ واللاَّمَ لا يدخلان عليها، فلا يُقال: ((العرفاتُ))، وإذا ثَبَتَ هذان الوَصفان لم يكن التَّنوينُ دلالة الصّرف، لأنَّه إنَّما يكون كذلك في النَّكرة. فإن قيل: لا يصحُّ القياس على ((خِلَفْنَةٍ)) لأنَّ النُّون هنا في حَشو الكلمةِ، وأنَّها تَثبتُ في كلِّ حالٍ، والتَّنوينُ في ((مسلمات)) لَيستْ كذلك، وأمَّا ثُبوتها في ((عرفاتٍ)) ونَحوها، فهي زائدةٌ لا للصَّرف، ولا للمُقابلة، كما زيدت في قول الشاعر: سَلاَمُ اللَّهِ يَا مَطَرٌ عَلَيْهَا ... وَلَيْسَ عَلَيْكَ يَا مَطَرُ اَلْسَّلاَمُ

فالتنوين هنا زائدٌ، والكلمةُ مبنيَّةٌ على الضمِّ، وعلى هذا يُخَرَّجُ نَصبُ الحالِ عنها، لأنَّها معرفةُ، والتَّنوين زائدٌ. فالجوابُ: أنَّ قياسَ التنوين هنا على نون ((خِلَفْنَةٍ)) صحيحٌ، وذلك أنَّ التنوين نون، وقد ثبت ها هنا لا للصرف، فكذلك التَّنوين في ((مُسلمات))، وقولهم: ((هي زائدةٌ لا للصرف هاهنا)) فلا يستقيم؛ لأنَّ التنوينَ مطّردٌ في هذا الجمعِ، وزيادةُ التَّنوين في ((يا مَطَرٌ)) غير مطّرد، لأنَّ ((مَطَرٌ)) مبنيّ على الضمُ، والمبني لا يُنوّن وإنَّما اضطرّ الشاعر إلى الزِّيادة، وهذا من مواضعِ الشِّعر، على أنَّ يونسَ نَصَبَ ((يا مَطَراً))، على الأصلِ وجعله تَنوين الصَّرفِ. واحتجَّ الآخرون: بأنَّه تنوين يسقط بالألف واللاَّم وبالوقف، فكان ثبوته علامة للصّرف، كالاسم المفرد، وبهذا يبطل كونُه مقابلاً للنّون في ((مسلمون))، فإنّ تِلك النَّون لا تسقطُ في الألفِ واللاَّم، ولا في الوَقْفِ. والجوابُ: أنَّ التَّنوين هنا رَسيلُ النُّون في ((مسلمون))، لما ذكرنا من الدَّلِيلِ عليه، من ثبوتِها في المَعرفة المؤنَّثة، والمقابل لشيء مُشَبّه به ولا يلزمُ في المُشَبّه بالشيءِ أن تَجري أحكامُ المشبّه به على المشبّه بل

قد يفارقه في أَحكامٍ أُخَر ألا ترى أنَّ ما لا ينصرف مشبّه بالفعل [ب] وصف يجمع بينهما، ولا يلزم من ذلك ثُبوت أحكام الفعل كلّها في ما لا يَنصرف، بل هو مخصوصٌ بحكمٍ يقومُ الدَّليلُ عليه، فمن ها هُنا [حُذِفَ] التَّنوين بالألف واللاَّم والوَقف هُنا، ولم يُحذف بِهما [في] ((مسلمون))، وكانَ الوجهُ في ذلك أنَّ المؤنَّثَ فرعٌ على المُذَكَّر، وقد ثَبَتَتْ فيه المُساواة في أَنَّ لَفظ الجَرِّ والنَّصبِ، واحدٌ، كما في قولِكَ: ((رأيتُ المسلمين)) و ((مررتُ بالمسلمين)) فلمَّا كان محمولاً عليه في التَّسوية بين النَّصب والجرِّ كان محمولاً عليه في النُّون. وقد قيلَ: إنَّ التَّنوين في ((مسلماتٍ)) عوضٌ من الفَتحةِ فإنَّ هذا الاسمَ كان يستحقُّ الحركة بالفتحِ في النَّصبِ، فلمَّا تَعَذَّر ذلك لما ذكرنا من إلحاقه بمُسلمين، عُوِّضَ من الحركة التنوين، والتَّنوينُ يجوزُ أن يكونَ عِوَضاً من الحركةِ، كما في التَّثنية والجَمع، ومن ها هُنَا حُذِفَ بالألف واللاَّم والوَقف؛ لأنَّ تعويضَه من حركةٍ واحدةٍ خفيفة لا يَقتضي له ثُبوته بكلِّ [حالٍ] والله أعلمُ بالصَّواب.

26 - مسألة [جمع المذكر الذي فيه تاء التأنيث]

26 - مسألة [جمع المذكّر الذي فيه تاء التأنيث] إذا جَمَعتَ الاسمَ المؤنَّث بالتاء الموضوع للمذكَّر نحو رجل سُمّي طلحةَ جمعته بالألف والتاء، كحالة قبل التَّسمية، ولا يجوز أن يجمع بالواو والنون. وقالَ الكوفيُّون: يجوزُ ذلك، وزادَ ابنُ كَيْسان فقال تُفتحُ عَينُه أيضاً

نحو طَلَحون، وحجّة الأولين من ثلاثة أوجه: أحدُها: أنَّه لم يُسمع من العَرب ذلك، ولو كانَ جائزاً لسُمِعَ ولو على الشُّذوذِ والنُّدرَةِ. والثَّاني: أنَّ تاءَ التَّأنيثِ من حكم الألفاظِ، والواو والنُّون من علاماتِ [الألفاظ] أيضًا، فلو جُمع بالواو والنُّون لتَناقض، لأنَّ تذكيرَ اللَّفظ ضِدُّ تأنيثه. والثَّالِثُ: أنَّهم أَجازوا جَمعَه بالألف والتَّاءِ وقالوا: ............ طَلْحَةَ الطَّلَحَاتِ ولو جازَ بالواو والنُّون لوجبَ ولم يجزْ غيرُه اعتباراً بالمعنى وهو

التَّذكير، واحتجَّ الآخرون بأنّه لفظٌ فيه علامةُ تأنيثٍ سُمِّي به مذكَّراً يَعقلُ فجمعَ بالواوِ والنُّون، كالَّذي آخره أَلف التَّأنيث نحو مُوسى وعِيسى فإنَّك تقولُ في جَمعه مُوْسَونَ وعِيْسَونَ فكانَتْ العِلَّةٌ في ذلك أنَّ العِبرَةَ فيه بالمَعْنى، والمَعنى على التَّذكير، فَوَجَبَ أن يذكّر بعلامة التذكير وهو الواو والنُّون كما في الألف ويتأيّد بشيئين: أحدُهما: أنَّ الألفَ أدلُّ على التأنيثِ وألزمُ من [التاء]، أَلا ترى أنَّ التاء تدخل لا لتأنيث المعنى بل للمبالغة نحو رواية ونسّابة والأَلفُ لا تدخل إلاَّ للتأنيث، فإذا جَازَ إبطال [دلالتها] على التأنيث في الجمع كانت التاء أولى بذلك. والثاني: أنَّ تاء التأنيث قد يُقَدَّرُ إسقاطها ويكسَّر الاسم على حكم المذكَّر كقولهم: وعُقبَةُ الأَعقابِ في الشَّهْرِ الأَصَمّ

والأعقاب ليس بتكسير العقبة، ولكنَّه حذف التَّاء فصار عُقْباً [كقفلٍ] كما حذفت في جمع التأنيث نحو طلحات. أمَّا ابن كيسان: فقال: تفتح عين الكلمة تنبيهاً على أنَّ الاسم مغيَّر، منقول إلى المذكَّر، كما غيَّروا في أرضون. والجوابُ: أمَّا قولُهم: ((العِبرةُ في هذا البابِ بالمعنى، فيجبُ أن يُؤتي بعلامةِ التَّذكيرِ))، قُلنا: ليس كذلك، بل العِبرة فيه باللَّفظ، أَلا ترى أنَّهم جَمعوا طَلحة على طَلَحات، والعِلَّةُ في ذلك أنَّ الواوَ والتاء لفظان فَيَجِبُ أن يكونا لما هو لَفظٌ، ولفظُ طلحة مؤنَّثٌ، فلا تُجعل علامته الواو التي هي من علاماتِ المذكَّر، ألا تَرى أنَّك لو سمّيت امرأةً ب ((جَعْفَرٍ)) لم تَجمعها بالواوِ والنون، بل بالألفِ والتاءِ، اعتباراً بالمعنى، لمَّا لم تَكُن هُناك علامةُ التأنيثِ، فإذا كانت فيه علامةٌ وَجَبَ أن تُراعي فلا تُبدّل بعلامةٍ أُخرى، وأمَّا موسى وعيسى فإِنَّما جَازَ جَمعه بالواوِ والنُّون لِوَجْهَيْنِ: أحدُهما: أنَّ الألفَ لازمةٌ موضوعةٌ مع الاسم من أوَّل وضعه، فجرتْ مَجرى بقيَّةِ حروفه. الثاني: أنَّها لا تبقى على لفظها في جمع المؤنَّث، بل تبدّل نحو

صحراوات فإذا كانت كذلك جاز ألاَّ يعتبر بدلالتها على التَّأنيث، بل يَغلِبُ فيها حُكم اللاَّزم، بخلافِ تاء التأنيث فإنَّها غيرُ لازمةٍ، فغَلب فيها حكمُ العلامة. وأمَّا ((عُقبة الأَعقاب))، فلا يعرَّجُ عليه، لأنَّه من الشُّذوذِ، ولأنَّ جمعَ التَّكسيرِ كثيرُ الاختلافِ وهو غير مُنضبطٍ، بخلافِ التَّصحيحِ، لأنَّه مضبوطٌ. وأمَّا أَرضون وبابه فالواوُ فيه ليستْ علامةَ للتَّذكيرِ، بل زيدت تعويضاً من المحذوفِ وهو تاءُ التأنيث، أو عوضاً من حذفِ لامِ الكلمةِ جَبْراً للوَهن الحاصِل بالحذفِ، والواوُ والنُّون في مسألتنا علامة مَحضةٌ فلا تَثبت فيما علامتُه التَّاءُ آخرها [واللَّه أعلمُ بالصَّوابِ].

27 - مسألة [رافع المبتدأ]

27 - مسألة [رافع المبتدأ] المُبتدأُ يرتفعُ بالابتداءِ، والابتداءُ كونه أوَّلاً مقتضياً ثانياً. وقالَ بعضُهم يرتفعُ بتعريتِهِ من العَوامِلِ اللَّفظيَّة.

وقال آخرون: يرتفعُ بما في النَّفس من معنى الإِخبار. وقالَ آخرون: يرتفعُ بإسنادِ الخَبر إليه. وللكوفيين مَذهبان: أحدهما: يَرتفع المبتدأ بالخبرِ والخبرُ بالمبتدأ ويُسمّونهما المترافعين. والمذهب الثاني: أنَّه يرتفع بالعائدِ من الخبرِ. والدَّليلُ على المذهبِ الأولِ من ثلاثةِ أوجهٍ: أحدُها: أنَّ الابتداء معنى يختصُّ بالاسم فكان عاملاً كالفعل بيان أنَّه معنى، أنَّ الابتداء ما ذكرنا من كونه أولاً مقتضياً ثانياً- وهذا وصف وجودي- واللَّفظ إنَّما عَمِلَ لاختصاصِه فيجبُ أن يعملَ المعنى لاختِصاصه أيضاً.

والوجهُ الثاني: أنّ كونَ الاسمِ أولاً مسنداً إليه، أصلٌ في الجملة فوجبَ أن يكون مرفوعاً بذلك، كالفاعل، فإنَّه ارتَفَعَ بالفعلِ لهذين الوصفين. الوجهُ الثالثُ: أنَّ المبتدأ معمولٌ وكلُّ معمولٍ [له] من عاملٍ والعاملُ لا يخلو من أن يكونَ الابتداء كما ذكرنا أو واحداً ممَّا ذُكِرَ من المذاهب، وكلُّها ما عدا الأوَّل باطِلٌ. أمَّا ما في النَّفسِ من مَعنى الإِسنادِ فهو مَعنى الابتداء كما ذَكرنا، وأمَّا نفسُ إسنادِ الخبرِ فغيرُ عاملٍ، لأنَّ حكم العامِل أن يكونَ قبلَ المعمولِ، وحكم أن يكونَ بعدَ المبتدأ، فهما يَتَنافيان. وأمَّا التَّعرِّي من العوامِلِ فإنَّه غيرُ عاملٍ، لأنَّ ذلك عَدَمٌ، والعدمُ لا يَعمَلُ. فإن قالوا: نحن لا نَجعله عاملاً، بل هو إمارةٌ على العامِل، قيلَ: يلزمُ من ذلك أن يكونَ العاملُ موجوداً مدلولاً عليه، فإن أرادوا بذلك أن تَعرِّيه من العوامل إمارةٌ على الابتداء فهو ما ذكرناه، فإنَّه لا يَتَعَرَّى منها إلاَّ وهو أوَّلٌ مُقتضٍ لثانٍ، فالتَّعرِّي شَرطٌ يُحقِّق الابتداء الذي هو العامِلُ، كالحَياةِ فإنَّها شَرطٌ لِتُحقّق العِلم، ولَيست العلَّةَ في وُجودِ العِلْمِ. وأمَّا رَفعُ كلِّ واحدٍ منهما بالآخرِ، فلا يَصحُّ لوَجهين:

أحدُهما: أنَّ كلَّ واحدٍ منهما قد يكون جامداً والجامدُ لا يعملُ إذ لا معنى فيه يَتَأَثَّرُ به المعمول. والثَّاني: أنّ المُبتدأ لو كانَ مرفوعاً بالخبرِ لَوَجَبَ أن يكونَ فاعلاً، إذا كان الخبرُ فعلاً، والفاعلُ لا يكونُ قَبلَ الفعلِ، وأمَّا ارتفاعه بالعائِد فلا يَصِحُّ لثلاثة أوجه: أحدُها: أنَّ العائدَ لا يعملُ في الظَّرف ولا في الحالِ، مع أنَّ العامِلَ فيهما قد يكونُ معنى ضعيفاً، فألاَّ يعملُ هنا أَولى. والثاني: أنَّه يُفضي إلى عَملِ ما في الصِّلةِ قبلَ الموصولِ، وذلك باطلٌ ألا تَرى أنَّ الفِعل لو كان في ذلك المَوضع لم يَعمل فالضَّميرُ أولى. والثالثُ: أنَّ العائدَ لو رُفع للزمَ الرَّفعُ في قولك: ((زيداً ضَربته)) ولمَّا جازَ أن يعملَ فيه المحذوف ويلغي العائد، دلَّ على أنَّه ليس بعاملٍ، وإذا بَطلت هذه المَذاهبُ، تعيَّن ما ذهبنا إليه. فإن قيلَ: لو كانَ الابتداءُ عاملاً لطُرِدَ في كلِّ اسمٍ مبدوء به ليس كذلك ألا ترَى أنَّك لو قلتَ زيداً ضربتُ لم يرتفع بالابتداء، قلنا: ليس هذا معنى الابتداء الذي ذَكرنا، بل معناهُ الابتداء المقتَضي ما يُسند إليه، ولو كان معنى الابتداء ما ذكروا لَوجب أن يكونَ الفِعلُ والحرفُ المبدوءُ بهما مرفوعين، وليسَ كذلك، لأنَّ ذلك لا يَقتضي ما [يسند] إلى المبدوء به بخلاف الابتداء على ما ذكرنا. أمَّا حُجَّة الكوفيين فقد قالوا: إنَّ كلَّ واحدٍ من الابتداءِ والخبرِ لا يَستغني عن صاحِبه، فوجبَ أن يكونَ عامِلاً فيه لتأثُّره به في المعنى، لأنَّ المُؤثِّرَ في المعنى يؤثِّرُ في اللَّفظِ، وَيَدُلُّ على ذلك أدواتُ الشَّرط فإنَّها

تَجْزُم الفعلَ وذلك الفِعل يَنصبها كقولِهِ تعالى: {أيّاً ما تَدْعوا فَلَهُ الأَسْمَاءُ} ف ((أيّاً)) منصوبٌ بتدعو وتَدعو مجزومٌ بأيٍّ وكذلك قَوله: {فأَينما تُولُّوا فثمَّ وَجْهُ اللَّه} و {أَيْنَما تَكُونوا يُدْرِكْكُمْ المَوْتُ} ولا يَلزمُ على ما ذكرنا الفِعل والفَاعل، فإنّ كلَّ واحدٍ منهما لا يَستغني عن الآخرِ، ومع هذا فالفعلُ لا يرتفعُ بالاسمِ لأنَّا نَقولُ: الفِعلُ غيرُ عاملٍ لعمل الاسم فيه، بخلافِ المُبتدأ والخبرِ. فالجوابُ عمَّا ذكروه: أنَّ عملَ كلِّ واحدٍ منهما في صاحبه تأثيرٌ فيه والمؤثِّرُ يجبُ أن يكونَ أقوى من المؤثِّر فيه وذلك مستحيلٌ هنا لأنَّ اشتراكهما في التأثير يدلُّ على استوائهما في القُوَّة فيمتنع تأثير أحدِها في الآخر، وليست الجُملةُ مُختلفةً حتَّى تكونَ من باب الجِهتين، وخرَّج على هذا أدواتُ الشَّرط فإِنّ الجهةَ هُناك مختلفةٌ وبَيانُه من وجهين: أحدهما: أنَّ ((أيّاً)) وأخواتها نائبةٌ عن حرفِ الشَّرطِ فهي تَعمل بِحكمِ النِّيابةِ ويُعملُ فيها بحكمِ الأصالةِ. الثاني: أنَّ عملَ الفعلِ في أداةِ الشَّرط النَّصبُ وعملَ الأداةِ فيه الجَزمُ وهما مُختلفان فالنَّصبُ حكمُ المفعولِ والجزمُ هو حكمُ الفعلِ، فالمعمولُ والعاملُ والعملُ مختلفات، بخلافِ المبتدأ والخبرِ فإنَّهما اسمان مَرفوعان لا وَجه فيهما سِوى ذلك. واللَّه أعلمُ بالصَّوابِ.

28 - مسألة [رافع الخبر]

28 - مسألة [رافع الخبر] خبرُ المبتدأ يرتفعُ بالابتداء عندَ ابن السرّاجِ وجماعة. وقالَ أَبو علي وابنُ جنّي يرتفعُ بالمبتدأ.

وقالَ آخرون: يرتفعُ بالابتداءِ والمبتدأ. وقالَ الفرَّاءُ: يرتفعُ بالمبتدأ وقد تَقَدَّمَ ذكره. وحجَّةُ الأولين: أنَّ الابتداء يَقتضي اسمين وقد عَمِلَ في أحدِهما فيعملُ في الآخرِ، ك ((كان)) و [إنَّ] فإِن قيلَ الابتداءُ مَعنى ضَعيفٌ فلم يقوَ على العمل في شَيئين أَلا تَرى أنَّ ((لا)) تَعملُ في الاسمِ ولا تعملُ في الخبرِ وكذلك ((إنَّ)) في قولِ الفرَّاء، فكذلك ها هُنا. والجوابُ أنَّ الابتداءَ عاملٌ يضعفُ عن العاملِ اللَّفظيّ، وهذا لا يَمنع من العملِ في اسمين، لأنَّ عِلَّة العملِ هو الاقتضاءُ، والاقتضاءُ في الابتداء كاقتضاءِ ((كانَ)) و ((إنَّ)) يَدُلُّ عليه أنَّ ((كانَ)) و ((إنَّ)) أَضعفُ من الفِعل المُتعدّي وقد عَملا في اسمين كما عَمِلَ ((ضَرَبَ)) في الفاعِلِ والمَفعول. فإن قيل لو جرى المعنى مجرى اللَّفظِ لعملَ في الظُّروفِ والأحَوالِ كما يعملُ اللَّفظُ وأنت لو قلتَ: ((زيدٌ قائمٌ خلفكَ)) لم يعمل الابتداء في الظَّرف، قيلَ عنه جوابان: أحدُهما: أن العاملَ في الظَّرف هناك أَقوى من الابتداءِ، وهو اسمُ الفاعلِ أو الفعلِ، فلا حاجةَ إلى عمل الابتداء. والثَّاني: أنَّ الابتداء لا يَقتضي الظَّرف والحالُ مخصوصةٌ، فإنَّ جميع الأفعالِ وما يشتَقُّ منها يَقتضي الظُّروف، فلا اختصاصّ بالابتداءِ، بخلافِ

الخَبرِ فإنَّ له اختِصاصًا بالابتداء، إذْ لا ابتداءَ إلاَّ وله مبتدأ، ولا مبتدأ إلاَّ وله خبرٌ مخصوصٌ. وجوابٌ آخر: وهو أنَّ الابتداء أَضعفُ اللَّفظِ فيفارق اللَّفظ فيما ذَكروا ويُوافقه في العمل في الاسمين ك ((كان)) و ((إنَّ)) فإنَّهما يَعملان في الاسمين ولا يَعملان في الظُّروف. واحتجَّ القائلون بأنَّ المُبتدأ هو العامِلُ من وجهين: أحدُهما: أنَّ المبتدأ لفظٌ هو أحدُ جزأي الجُملة، فعَمِلَ فيما يُلازِمُهُ كالفعلِ مع الفاعِلِ، وإنَّما قُلنا ذلك لأنَّ اللَّفظَ أقوَى من المَعنى، ولأنَّ الابتداء، يَقتضي المُبتدأ، والمُبتدأُ يَقتضي الخَبر، فأضيفَ العملُ إلى أَقرب المُقتضيين وأقواهما. والوَجْهُ الثَّاني: أنَّ معنى الابتداء يَبطلُ بدخول العامِلِ على المبتدأ، والمُبتدأُ لا يبطلُ معناه بذلك، ألا تَرى أنَّ قولَكَ كانَ زيدٌ قائمًا قد بَطَلَ فيه معنى الابتداء ب ((كان)) وكذلك ((إنَّ)) ومعنى المبتدأ لا يبطلُ لأنَّ المبتدأ هو المُخبر عنه وما لا يَبطل أَولى بالعملِ. واحتَجَّ الآخرون بأنَّ الابتداءَ ضَعيفٌ وكذلك المُبتدأ فإذا اجتمعاَ صارَ العامِلُ قويّاً، كما أنَّ ((إِنَّ)) الشَّرطيَّة تَعمل في فعل الشَّرط ثُمّ يَعملان في الجَزاء. والجوابُ أمَّا عن عملِ المبتدأ فلا يَصحّ لوجهين:

أحدُهما: أنَّ المبتدأ اسمٌ جامدٌ ليس فيه معنى الفعل، والجوامدُ لا تعملُ بخلاف الابتداء فإنَّا قد ذكرنا شبهه بالفعلِ، وقولهم: هو أحدُ جزأي الجُملة لا يَقتضي العَمل، فإِنَّ الفاعلَ أحدُ جزأي الجُملة ولا يَعملُ في الجزءِ الآخر. الوجهُ الثاني: أنَّ المبتدأ لو كانَ عاملاً لم يَبطل عَمله لدخولِ عاملٍ آخر عليه، ومن المَعلوم البَيِّن أنَّ ((كانَ)) و ((إنَّ)) يعملان في الخَبر عند أبي عَلِيٍّ مع اشتراك الجَميع في اللَّفظِ، قوله: ((المبتدأ يَقتضي الخَبر)) قلنا: إنَّما اقتضاه بواسطةِ اقتضاءِ الابتداء لَهما، فالأصلُ هو الابتداء الذي أَحدثَ للمبتدأ اقتضاء الخَبر ومثاله في الحِسِّيات أنَّ النارَ تُوصل الحَرارة إلى ما في القدرِ ولكن بواسطةِ القدرِ لا أنَّ القدرَ هي المنضجةُ. كقولهم: ((معنى المبتدأ يبقَى بعد بطلانِ الابتداء))، ليس كذلك لأنَّ معنى الابتداء هو اقتضاءُ الاسم للخبر وهذا باقٍ بعدَ ((كان)) و ((إنَّ)) وإنَّما لم يَعمل لوجود ما هو أقوى منه، ثُمَّ ولو قدَّرنا بطلانَ معنى الابتداءِ للزمَ منه بُطلان معنى المبتدأ؛ لأنَّ المبتدأ لم يكنْ مبتدأً إلاَّ لوجودِ معنى الابتداء، وإِذا زالَ المُوجِبُ، زالَ الموجَبُ. وأمَّا قولُ الآخرين: ((إنَّه قَويَ أحدُهما بالآخرِ)) فليس كذلك، لأنَّ المبتدأ لا يصلُحُ للعملِ فلا يَصلُحُ أن يقوّي به العامِلُ وأمَّا ((إنْ)) الشَّرطيَّة فيأتي الكلامُ عليها في موضِعها إن شاء الله تَعالى واللَّه أعلمُ بالصَّوابِ.

29 - مسألة [العامل في الاسم المرفوع بعد الظرف والجار والمجرور]

29 - مسألة [العاملُ في الاسمِ المَرفوع بعدَ الظَّرف والجارِ والمَجرور] إذا لم يَعتمد الظرفُ وحرفُ الجَرِّ على شيءٍ قبلَه لم يَعمل في الاسمِ الذي بعدَه، بل يكونُ الاسمُ مبتدأ والظَّرفُ خبراً مُقدماً، وفيه ضَمير كما لو كانَ مؤخراً في اللفظ. وقالَ أبو الحَسن الأخفش والكُوفيُّون: يرتفعُ الاسم بهما كما يرتفع بالفعل ويخلوان عن ضميرٍ لعملهما في الظَّاهر. وحجَّة الأولين من ستة أوجه: أحدُهما: أنَّ الظَّرف جامدٌ فلم يَعملْ كسائرِ الجَوامد. والثّاني: أنَّه لو كان عاملاً عملَ الفعل لما عَمِلَ فيه عاملٌ آخر وتخطَّاه

إلى الاسم، وأَنت تقولُ: إنَّ خلفك زيداً وكان خلفك زيدٌ، ورأيت خلفك زيداً فيعمل الفعل في الاسم، ولا يعمل الظَّرف، ولو جرى الظرف مجرى الفعل لما دخلت عليه هذه العوامل، لأنَّ من حكمها ألاَّ تدخلَ على الفعل. والوجهُ الثالثُ: أنَّ الظَّرف لو كان عاملاً لم يتصل به ضمير الاسم إذا تقدَّم، وقد جاز ذلك إجماعاً، كقولك: في دارة زيد وفي بيته يؤتي الحكم ولو كان هو العامل لكان إضماراً قبلَ الذِّكرِ لفظاً وتقديراً. والوجهُ الرَّابع: أنَّهم اتَّفقوا على قولِكَ: في الدَّارِ زيدٌ قائمٌ أنَّ زيداً مُبتدأ وقائمٌ خَبره، والخَبرُ عندنا مَرفوعٌ بالابتداء وعندَهم بالمبتدأ فحينئذٍ قد بطلَ عملُ الظَّرفِ وتَعَلَّق بقائمٍ الذي هو الخَبر، ولو جَرى مَجرى الفِعل لم يكن كذلك. والوجه الخامسُ: أنَّ الظَّرف لو عَمِلَ في الاسمِ من حيثُ هو قائم مَقام الفِعلِ لجازَ قولك: اليومُ زيدٌ، إذْ التقدير اليومَ زيدٌ، ولمَّا لم يجز لكون الاسم جثَّةً والظرف زماناً بأن لم يعمل لما ذكروا. والوجهُ السادسُ: أنَّ الظَّرف لو عَمل لوجَبَ ألاَّ يجوزَ قولك: مأخودٌ وفيكَ زَيدٌ راغِبٌ، ف ((زيدٌ)) في المَوضعين مبتدأ وما بعده الخَبر، ولو جرى مجرى الفعلِ لفسد الكلام. فإن قيلَ: إنَّما لم يجز ذلك لنقصان الظَّرف هنا، إذ لو اقتصرت على قولك: بكَ زيدٌ عَمروُ لم يكن كلاماً؟ قُلنا: نُقصانه لا يمنع من

عمله، ألا ترى أنَّ قولَك صار زيد وكان عمرو ناقصان ويعملان عمل ((قام)) و ((صار)) وهما تامان. واحتجَّ الآخرون من وجهين: أحدُهما: أنَّ الظَّرفَ لا بدَّ له من عاملٍ وهو الفعلُ، فإذا تقدَّم على الاسم وجَب أن يكونَ عامله قَبله وهو الفِعل، وإذا كان قَبله وقد أُقيم الظَّرف مَقامه وجبَ أن يعملَ كما يعملُ الفعلُ في الاسم إذا كان قَبله. والوجهُ الثَّاني: أنَّ الظَّرفَ إذا اعتَمدَ على شيءٍ قَبله كالمُبتدأ، وذي الحالِ وغيرهما يَعمل، ومن المَعلوم البَيّن أنَّ العَملَ غيرَ مضافٍ إلى ما اعتَمَد عليه، فَوَجَبَ أن يكونَ مَنسوباً إليه. والجوابُ: أمَّا تعلُّق الظَّرف بالفعل فلا يُوجب أن يكونَ الفعل قبله، لأنَّ الغرض يحصل بأن يكون الفِعلُ بعد الاسمِ، وواقعاً في التَّقدير قبلَ الظَّرف كما ذكرناه في الدَّارِ زيدٌ قائمٌ وبك زيدٌ مأخودٌ فإنَّ ما يتعلق به الظَّرف بعد الإِسم ولم يُخل ذلك بمعنى الكلامِ، كذلك ها هُنا، وأمَّا إذا اعتمدَ الظَّرف فإنَّما جوزوا أعماله لأنَّه باعتماده أشبه بالفعل، لأنَّ الفعلَ لا يستقلُّ بدونِ الإِسم وإذا اعتمد الظَّرف صار كغيرِ المستقلِّ، ولأنَّ الأشياءَ التي يعتمدُ الظَّرفُ عليها يقتَضي الفعلَ، فجُعل الظَّرفُ كالفعلِ، لاقتضاء ذلك الشيءِ الفِعْلَ بخلاف ما إذا لم يعتمد. والله أعلم بالصواب.

30 - مسألة [الخبر الجامد لا يحتمل ضميرا]

30 - مسألة [الخبر الجامد لا يحتمل ضميراً] خبرُ المُبتدأ إذا كانَ اسمَ فاعلٍ أو صفةً مشبهةً به ولم يَعمل في الظَّاهر كانَ فيه ضميرٌ إجماعاً، فإن كانَ جامِداً مثل: غلامٌ، وأبٌ، وأمٌّ، لم يَكُنْ فيه ضَميرٌ. وقالَ الرُّماني والكُوفيون: فيه ضميرٌ. وحجةُ الأولين أنَّ الضميرَ إنَّما يُحتاجَ إليه لأجلِ شَيئين:

أحدُهما: أن يكونَ رابطةً بين الخَبر والمبتدأ، وهذا يكونُ في الخَبرِ المُفرد، لأنَّ الجُملة لَيست هي المُبتدأ، فاحتيجَ إلى ضَميرٍ يَربِطُها به، وأمَّا المُفردُ فهو المُبتدأ في المَعنى، وهما مُرتبطان فلا حاجةَ إلى رابطةٍ أُخرى. والثاني: أنَّ الأصلَ في الضَّميرِ الفِعل، إذ كان عاملاً فيما بَعده، وأنَّه لا يخلو عن العَمل، واسمُ الفاعلِ والصَّفة يعملان عَمَلَهُ في الظَّاهِر، فإذا لم يكنْ هناكَ ظاهرٌ كان فيه ضميرٌ يكون فاعلاً، فالحاجةُ هنا إلى الضَّمير لم تكن لكونه خَبراً، بل لكونِهِ عامِلاً، والاسمُ الجَامدُ لا يَعمَلُ في الظَّاهِرِ، فلا يَعملُ في المُضمرِ، أَلا تَرى أنَّ ضميرَ المَصدَرِ لا يَعملُ عَمَلَ المَصدَرِ لمَّا لَم يَكُنْ مُشتَقّاً وإِن كانَ كنايةً عن العاملِ المُشتقِّ. واحتجَّ الآخرون من وَجهين: أحدُهُما: أنَّ الخبرَ غيرُ المبتدأ فيحتاجُ إلى رابطةٍ بينهما كالجملة. والوجهُ الثَّانِي: أنَّ الجامدَ في معنى المُشتقِّ هنا، ألا تَرى أنَّ غلامَكَ بمعنى خادِمُك وأخاكَ بمعنى قريبُك، وكما يفتقرُ ذلك إلى ضميرٍ كذلك ما هو في معناه. والجوابُ: أمَّا الربطُ فقد حصلَ لكون الثَّاني هو الأولُ في المعنى،

وأمَّا كونُ الجامد في معنى المشتقِّ فلا يوجبُ تَحَمُّلُ الضَّمير، ألا تَرى أنَّه لا يعمل في الظَّاهر، وكذلك الضَّمير لا يعملُ وإن كان في مَعنى ما يعملُ، وسبب ذلك أنَّ القريبَ والخادمَ مشتقان يَعملانِ في الظاهرِ فلزمهما الضَّمير وليس كذلك الجامدُ واللَّه أعلم بالصواب.

31 - مسألة [الاسم الواقع بعد لولا]

31 - مسألة [الاسم الواقع بعد لولا] الاسمُ الواقعُ بعد ((لولا)) التي يَمْتَنِعُ بها الشَّيءُ لوجودِ غيرهِ يرتفعُ بالابتداءِ وقالَ الكوفيون فيه قولين: أحدُهما: يَرتفع بنفسِ ((لولا)) كارتِفاعِ الفَاعِلِ بالفِعْلِ. والثَّاني: يَرتَفِعُ بِفِعْلٍ مَحذوفٍ. وحجةُ الأولين من أَربعةِ أوجهٍ:

الوجه [الأوَّل]: أنَّ ((لو)) ((ولا)) قبلَ التَّركيب لا يَعملان في الاسم الرفعَ فكذلك بعدَ التركيب، لأنَّ الأصلَ عدمُ التَّغَيُّير والتَّغْيِير. والوجهُ الثاني: أنَّ الأصلَ في العملِ للأفعالِ، وإنَّما يقامُ الحرفُ مقامها إذا كانَ فيه مَعنى الفعلِ أو شبهه، و ((لولا)) ليستْ كذلك. والوجهُ الثَّالثُ: أنَّ الاسمَ لو ارتفعَ بها لكانَ معه منصوبٌ، إذ كلُّ حرفٍ ينصبُ، مثل ((ما))، و ((لاتَ)) وهذا لا منصوبَ له فلا يصحُّ قياسه ولا هو مسموعٌ من العربِ فدعوى ارتفاعه به مَحضُ تَحكُّمٍ. والوجهُ الرَّابعُ: أنَّك لو وضعت مكانه فعلاً في معناه لم يَكُنْ للجملةِ مَعنى، أَلاَ تَرى أنَّك لو قُلتَ: ((امتنعَ زيدٌ أو وُجد زيدٌ فهلكَ عَمرو)) كان الكلامُ فاسداً وضدَّ المعنى، لأنَّ المعنى وجد زيد هلاك عَمروٍ، وإذا لم يصح أن يوضعَ مكانَه فعلٌ يعملُ لم يَعْمَلْ هو نيابةً عنه. فإن قيلَ أمَّا عملُها قبلَ التَّركيبِ فلا يلزمُ مثله بعدَ التركيبِ [لأنَّ] التركيبَ يُغيِّر معنى الحروف، كما قالَ الخليلُ في قوله لَن يضربَ زيدٌ أصله لا أن يضربَ زيدٌ ولما رُكِّبت تغيّر المعنى والحكم كذلك ها هنا. قيلَ: يُلغي في التَّغيير المعنى، أمَّا تَغييرُ اللَّفظ والإِعرابِ فلا دليلَ يدلُّ عليه و ((لن)) فيها كلامٌ يذكر في موضعه.

واحتجَّ الآخرون من ثلاثةِ أوجهٍ: أحدُها: أن ((لولا)) هذه حرفٌ يختصُّ بالاسمِ فكانَ عاملاً فيه كسائرِ الحُروفِ المُختصَّةِ، وإنَّما عَمل الرَّفع ولم [يعمل] النَّصب والجرَّ، لأنَّه يستقلُّ بالاسم فأشبه الفعل و [الفاعل] وأمَّا ما يأتي بعدَ ذلك فجوابٌ للحرف وليسَ هو من تمامِ الاسمِ [وأما] ((لَن)) فإنَّها تقتضي اسمين. [و] الوجهُ الثاني: أن ((لولا)) معناه معنى الفِعل فكانت عاملةً ك ((إنَّ)) وأخواتها وبيان ذلك أن قولَك: لولا زيدٌ لأتيتك معناه زيدٌ من إتيانك و [الحرفُ] يعملُ إذا كان معناه معنى الفِعل ك ((إنَّ)) وأخواتها. والوجه الثالث: أن ((أن)) تفتح بعد لولا كقوله تعالى: {فلولا أنَّه كانَ من المُسَبَّحيْنَ} والمَفتوحةُ وما عملتْ فيه لا يكونُ مبتدأ بل يكونُ معمولاً لما قَبله وهذا يفسد القول بكونه مبتدأ. والجوابُ عن الأول من وجهين: أحدُهما: لا نُسلِّمٌ أنَّها مختصةٌ بالاسمِ، بل قد يَقع الفِعل بَعدها. قال الشَّاعرُ الهُذلي:

أَلاَ زَعَمَتْ أَسماءُ ألاَّ أُحِبُّها ... فَقُلْتُ بَلَى لَوْلاَ يُنَازِعُنِي شُغْلِي أي لولا ذلك لظهرَ لها حُبِّي، وقال آخر: قالَت أُميمة لما جئتُ زائِرُها ... هلاَّ رَمَيْتَ بِبَعْضِ الأَسْهِمِ السُّودِ لا درّ درّكِ إني قد رَمَيْتُهُمُ ... لولاَ حُدِدتُ ولا عُذرَى لِمَحْدُودِ

الوَجْهُ الثاني: نُسلّم أنَّها مختصةٌ، ولكن ليس كل مختصٍّ عاملاً، ألاَ تَرَى أنَّ الألفَ واللاَّمَ مختصةٌ بالاسم ولا تَعمل وإنَّما العاملُ يفتقرُ إلى معنىً غيرِ الاختصاص وهو قوةُ شَبهه بالفعل، و ((لولا)) لَيْسَتْ كذلك، لأنَّ معناها يَرتبط بالجوابِ، فهي ك ((لو)) تَخْتَصُّ بالأفعالِ ولا يعملُ فيها والسِين وسوفَ كذلك، وإذا وقع الاسمُ بعد ((لو)) قدر له فعل بعد ((لو)) يعملُ في الاسمِ ولا يصحُّ مثل ذلك في قولهم أن ((لولا)) معناها مَنَعَنِيْ، لا يَصِحُّ لِوَجْهَيْنِ: أَوَّلهُمَا: أنَّ هذا التَّقدير يُبْطِلُ معنى ((لَولا))، لأنَّ معناها تَعليقُ شيءٍ بشيءٍ فلها جوابٌ والفعلُ لا يعلّق ولا جوابَ له. والثَّاني أنَّ الحروفَ لو عملتْ بمعناها لعملتْ ((ما)) النَّافية النَّصبَ وكذلك حروف الاستفهام، لأنَّ معناها أَنفى واستفهم وليسَ الأمرُ على ذلكَ وكان السببُ فيه أنَّ الحُروف وُضِعَتْ للاختصار، فلو عملتْ عمل الأفعالِ لبطلَ هذا المعنى، ولأنَّ الإِجماع منعقدٌ على أنَّ معنى [الحرف] في غيرهِ لا في نَفسِهِ، والفِعلُ معناه في نَفس، فلم تكن له قوَّةٌ العملِ في غَيره كعملِ ما له معنى في نَفسِهِ ووجب أن يُقتَصَر به على إثباتِ المَعنى في غيرهِ. وأمَّا وقوعُ أنَّ المَفتوحة بعد ((لَولا)) فلا يمنعُ من كونِها مبتدأ، وإنَّما كان كذلك، لأنَّ إن وما عملت فيه يصح الإِخبار عنه بالفعل الواقع قبلها وكلُّ ما صحَّ الإِخبارُ عنه بما قَبله وجبَ أن يصحَّ الإِخبارُ عنه بما بعده؛ لأنَّ صحةَ الإِخبار لا تَختلف بالتَّقديمِ والتَّأخيرِ، وإنَّما امتنعَ كونُ المفتوحةِ مبتدأ في موضِع يصحُّ دخول ((إنَّ)) المكسورة عليها كقولك: إنَّ زيداً منطلقٌ

يُعجبني فإنَّك لو أدخلتَ إنَّ المكسورة عليها ها هنا صَحَّ، فامتنَع من ذلك لئلاَّ يتوالي حرفَا توكيدٍ، ففي المَوضع الذي لا يَصِحُّ دخولُ المكسورةِ عَليها يصحُّ أن يكونَ مبتدأ يدلُّ على ذلك قوله تعالى: {إنَّ لَكَ ألاَّ تَجُوْعَ فِيْهَا وَلاَ تَعْرَى وَأَنَّك لاَ تَظْمَؤُ} فأجازوا في ((أنَّ)) الثانية الفتحَ والكسرَ بلا خلافٍ، وإنَّما جازَ الفتحُ، لأنَّ ((إنّ)) المكسورة لا تدخلُ عليها ها هنا، وهي في موضع الابتداء لأنَّ ((إنَّ)) الأولى قد ولِيَها الجار، و {ألاَّ تَجُوْعَ} في موضع نصب ب ((أن))، فعطفت المفتوحة على موضع {ألا تجوعَ} ونقول على هذا إنَّ لك أنَّك مكرمٌ، لأنَّك حُلتَ بين المفتوحة والمكسورة بالجارِّ فكذلك المَفتوحة بعدَ ((لولاَ)) لا يصحُّ أن تدخل عليها ((إن)) المكسورة فجاز أن يكونَ مبتدأً والذي يَدُلُّ على أنَّ ((لولا)) لا تعمل أنَّك لو عَطَفْتَ على اسمها اسماً لم تُؤكِّده ب ((لا)) النَّافية كقولك: لَولاَ زيدٌ وعمروُ لأَتيْتُكَ، ولا تقولُ: لولاَ زيدٌ ولا عمرو، وهم إنَّما حملوا الكلام على ((لم)) كأنَّه قالَ: لو لم يمنعني زيدٌ أَتيتك فجعلوا ((لا)) موضع لم كقولِه تَعالى: {فَلاَ اقْتَحَمَ العَقَبَةَ} أي لم يَقْتَحِمْ، ولو كانَ الأمرُ كما ذكرنا لجازَ توكيدُ المعطوفِ بلا، كما تقول: لَم يَقُمْ زَيدٌ ولا عَمْرو. واللَّه أعلمُ بالصَّوابِ.

32 - مسألة [تقديم خبر المبتدأ]

32 - مسألة [تقديم خبرِ المُبتدأ] يجوزُ تقديمُ خبرِ المُبتدأ عليه مفرداً كان أو جُملةً، ويكونُ فيه ضميرُ كما لو تَأَخَّر. وقالَ الكُوفيون: لا يجوزُ. وحجةُ الأولين السَّماعُ والاستدلالُ. أمَّا السَّماعُ فقولُ الشاعرِ:

فَتًى ما ابنُ الأغرِّ إذا شَتَوْنَا ... وحُبَّ الزَّادُ في شَهْرَيْ قُمَاحِ والتَّقديرُ ابنُ الأغرِّ فَتًّى، وقالَ آخر: بَنُونا بنو أَبنائِنا وبنَاتُنا ... بنوهُنَّ أبناءُ الرِّجالِ الأَباعِدِ والتَّقديرُ: بنو أبنائنا مثل أبنائِنا، ولا يجوزُ أن يكونَ بنونا مبتدأ، وبنو أبنائنا الخبرُ، ولا الفاعلُ، لأنَّ أبناءَنا ليسوا بني أبنائِنا، ولا في أَبنائنا معنى يعملُ عمل الفعلِ. ومن السَّماع قولهم ((تَميميُّ أنا)) و ((مشنوءُ من يشنؤُك)). والخبرُ مقدّمٌ لا محالةَ، وأمَّا الاستدلال فمن وَجهين: أحدُهما: تقديمُ خبرِ كان على اسمِها كقولِكَ: كان قائِماً زَيدٌ فزيدٌ مرفوعُ ب ((كان)) لا بقائمٍ، وهما في الأصلِ مبتدأٌ وخبرٌ، وقد جازَ تقديمُهُ. والوجهُ الثاني: أن تقديمَ معمولِ الخبرِ على المبتدأ جائزٌ، ودليل ذلك القرآن والشَّعر، وأمَّا القرآن فقوله تعالى: {أَلا يومَ يأتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفًا عَنْهم} فيومَ منصوبٌ بمصروفٍ، وكذلك قوله تعالى: {أَهَاؤُلاَءِ

إيَّاكُمْ كانُوا يَعْبُدُون} ((فإيّاكم)) منصوب بيعبدون وقد ثبتَ أنَّ المعمول تبع للعامل، وأنَّ التبع لا يقعُ في موضعٍ يَمتنعُ فيه وقوعُ العامِل. وأمَّا الشعرُ فمنه قول الشماخ: كلا يَومي طُوالَة وصلُ أَروى ... ظَنون أن مُطَّرح الظَنُون ف ((وصلُ)) مبتدأ، و ((ظَنون)) خبرٌ، و ((كلا)) ظرفُ لظنون وقد تقدَّم على المبتدأ. ومن الاستدلالِ أنَّ التَّقديمَ والتأخيرَ في الكلامِ جائزٌ للتوسع في الكلام، ولا يمنع ذلك من وقوع الشيءِ في غيرِ موضعه، ألا تَرى أنَّهم قدَّموا المفعولَ على الفاعلِ مع أنَّ رُتبتهُ متأخرةٌ.

واحتجَّ الآخَرون بأن تقديمَ الخبرِ يلزمُ منه الإِضمارُ قبلَ الذِّكر، فيمتنعُ كما امتَنَعَ قولهم: ضَرَبَ غلامُه زيداً إذا جعلتَ الغلام فاعلاً، وليس لذلك إذا جعلته مفعولاً لأنَّ الإِضمارَ قبلَ الذِّكر هنا في اللفظ، والتَّقديم من التأخير. والجوابُ: أنَّ الأضمارَ قبلَ الذِّكرِ لفظاً جائزٌ إذا كان في تقديرِ التَّأخير، وهو كذلك ها هُنا. ومما أُضمِرَ قبلَ الذِّكر على هذا النحو قولُه تعالى: {فَأَوْجَسَ في نَفْسِهِ خِيْفَةً مُوسَى}، وقالَ الشَّاعر: من يأتِ يوماً على علاتِهِ هَرِماً ... يلقَ السَّماحةَ منه والنَّدى خُلُقا وقالوا: (في أَكفانه لُفَّ المَيِّتُ)) و ((في بَيتِهِ يُؤتي الحَكَمُ)) ومنه قولُ المُثقّب العَبدي: مثلاً يضربُهُ حُكَّامُنا قَولهم: في بَيتِهِ يُؤتَى الحَكَمْ واللَّهُ أعلمُ بالصَّواب.

33 - مسألة [متعلق الظرف الواقع خبرا]

33 - مسألة [متعلّق الظَّرفِ الواقعِ خَبَراً] الظرفُ إذا وقع خبراً عن المبتدأ مقدَّرٌ بالجملة عند الجُمهور. وقال بعضُهم: بالمفردِ. وحجَّة الأولين من وَجهين: أحدُهما: أنَّ الظَّرفَ إذا وقعَ صلة ل ((الَّذي)) كانَ جملةً فكذلكَ إذا وَقَع خَبراً، لأنَّ كونَه جُملةً غيرَ مستفادٍ من الموصولِ، إذ لو كانَ في نفسِه كالمفردِ للزمَ أن يُضمَّ إليه جزءٌ آخر كما في الصِّلة بالمبتدأ والخبر، وإذا

كان جُملةً فاعتبار نفسه لم يفترق الحال فيه بين الخَبر والصِّلة. والوجهُ الثَّاني: أنَّ الظَّرف هنا ليس هو المبتدأ في المعنى، وإنَّما هو نائبٌ عمَّا هو الخَبر، وذلك الخَبر يجبُ أن يكونَ الفعل؛ لأنَّ الظرفَ معمولٌ اللَّفظ، ولا بدَّ لنصبه من ناصبٍ، وأصلُ العملِ للأفعالِ. واحتجَّ الآخرون من وجهين: أحدهما: أنَّ الخبرَ في الأصلِ للاسم المُفردِ إذا كان هو المُبتدأ في المَعنى فإذا ناب الظرف عنه نُزِّلَ منزلته. والثاني: أنَّ الظرفَ إذا تقدَّم على المبتدأ ولم يَعتمد لم يَعمل ويَبقى الابتداء، وإن كان جاريًا مَجرى الفِعل لم يَبطل عملُه ويدلُّ عليه أنَّك ترفعُ بالظرفِ ما [.......] بعدَه كقولك: زيدٌ خلفَك أَبوه ولو كان كالجُملةِ لم يَعمل، لأنَّ الجُملة لا تَعملُ. والجوابُ: أنَّ الخبر هو الحديثُ عن المُبتدأ سواءٌ كانَ مُفرداً أو جُملةً، وليس المُفردُ أَصلاً فيه وإنَّما تُقدَّرُ الجملةُ بالمفردِ ليبين لفظُ الإِعراب، لا ليصحّ كونُه خبراً، وأمَّا إذا تقدَّم الظَّرف فإنَّما لم يَبطل المبتدأ لأنَّه ليس في

الحقيقةِ فعلاً، وإنَّما يَنوبُ عن الفعلِ، ولا يَقوى عن غَيره قوةَ الأصلِ ألا تَرى أنَّ اسمَ الفاعلِ إذا اعتمدَ عَمِلَ، وإذا لم يَعتَمِدْ لم يَعملْ، بل يبقى الابتداء كما كانَ، كقولك: ((ضاربٌ زيدٌ)) ولو تأخَّر جازَ أن يعملَ فيما بعدَه مضمراً كان أو مظهراً، وليس من ضرورةِ الخَبرِ المفردِ أن يعملَ وقد بيَّنَّا ذلك فيما تقدَّم. واللَّه أعلمُ بالصَّوابِ ..

34 - مسألة [التنازع في العمل]

34 - مسألة [التَّنازع في العمل] إذا كان معكَ فعلان والمعمولُ فيه لَفظٌ واحدٌ وصحَّ، عَمَلُ كلُّ واحدٍ منهما فيه فأولاهما بالعَمل الثَّاني. وقالَ الكوفيون: أَولاهما الأول وذلك مثلُ قولِكَ: ضَربني وضَربتُ زيداً فالوجه عندنا نصب زيد بضربت، وعندهم رفعه بضربني. وقالَ الكسائي: إن كَانَ للفعل الأول فاعلٌ حُذف ولم يجعل مكانه ضمير. لنا في المسألة السّماعُ والقياسُ، فمن السّماعِ قَوله تَعالى:

{يَستَفتُونَكَ قُل اللَّه يُفتِيْكُم في الكَلاَلَةِ} ف ((في)) تعلق ب ((يُفتِيْكُمْ)) إذ لو كان مُتعلقاً ((بيستفتونك)) لقالَ يفتيكُم فيها لتقدُّمها تقديراً، وكذلك قوله تَعالى: {آتُوْنِيْ أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً} أعمل الثَّاني ولو أَعمل الأوَّل لقالَ: أُفرغه، وقالَ تعالى: {هاؤُم اقرَؤُوا كِتَابِيَهْ} ف ((كتابي)) منصوب باقرؤوا لا ب ((هاؤم))، إذ لو كان ب ((هاؤُم)) لقالَ اقرؤوه فإن قيلَ: حُذف المفعول جائزٌ. قيلَ: ولكن الأَولى أن لا يُحذفَ، لا سيَّما ها هُنا، لأنَّ المفعولَ إذا كان متقدِّماً ذكراً وجبَ أن يعودَ عليه الضَّميرُ، ليتَعَيَّن أن الفعلَ الثاني هو الأَوَّل في المعنى، ولو لم يأتِ بالضمير لجاز أن يتوهَّم أنَّ المفعولَ غيرُ الأولِ، ومما جاءَ في الشِّعرِ قولُ طُفيلٍ الغَنَوِيّ: وكُمْتاً مدمّاة كأنَّ متونَها ... جَرى فوقَها واستَشعَرَتْ لونَ مُذهبِ

فنصبَ ((لونَ))، ولو كان الأول هو العامل لرفعه ب ((جرَى)) وقال الفَرَزدَق: ولكنَّ نصفاً لو سَببتُ وسبَّني ... بنو عَبدِ شَمْسٍ من مَنَافٍ وَهَاشِمِ ولو أعمل الأول لقال: ((وسبُّوني بني عَبدِ شَمسٍ. وأمَّا القياسُ فمن ثلاثةِ أوجهٍ: أحدها: أنَّ الفعل الثاني أقرب إلى المعمول من الأول، وقربه منه يقتضي له أن لا يلغي عنه، يدل عليه أنَّ المجاورة توجب كثيراً من أحكامِ الثَّاني للأوَّل، والأوَّل للثاني، ألا تَرَى إلى قولهم: الشمسُ طلعت، وأنَّه لا يجوز فيه حذفُ التَّاء لما جَاوَرَ الضَّمير الفعل، وكذلك قامت هندٌ لا يجوز فيه حذف التاء، فلو فَصلت بينهما جازَ حذفها، وما كان ذاك إلاَّ لأجلِ المجاورة. والوجهُ الثَّاني: أنَّ العربَ تقول: خَشَّنتُ بَصدره وصَدرِ زيدٍ فَيجرون المَعطوف ويحمِلونه على المَجرورِ، مع أنَّ حرفَ الجرِّ أَضعفُ من الفعلِ،

ولو كان الأوَّل أَولى لَنصبوا المعطوف لا غيرُ، لقوّته بالتَّقدم وبكونه فِعلاً. والوجه الثَّالث: أنَّ العاملَ مع المعمولِ كالعلةِ العَقليةِ مع المَعلولِ والعلةُ لا يفصلُ بينها وبينَ معلولها، فيجبُ أن يكونَ العاملُ مع المعمولِ كذلك، إلاّ في مواضعَ قد استثنيت على خلافِ الدَّليلِ، لدليلٍ راجعٍ عليه ويلزم من إعمال الأول الفَصل بالجملةِ الثَّانية. واحتجَّ الآخرون بالسماع والقياس: فمن السَّماع قولُ الشاعرِ: ولمَّا أن تَحمّل آل لَيلى ... سَمِعْنَا بَيْنَهُمْ نَعَب الغَرابَا وقالَ آخر: فردّ على الفُؤادِ هَوَيً عَميداً ... وسُوئلٍ لَو يُرَدّ لَنا سُؤالا وَقَدْ نُعنَى بها وَنَرى عُصُوراً ... بِهَا يَقْتَدْنَنَا الخُردَ الخِدَالا فنصب ((الخُرد)) ب ((نَرى)) لا ب ((يَقتدن))، وقالَ عمر بنُ أبي رَبيعة: إذا هيَ لم تَستَكْ بعُودِ أَرَاكَةٍ ... تُنُخِّلَ فاستَاكَتْ به عودُ أَسحِل

فرفع ((عوداً)) ب ((تُنُخّل)) ب ((استاكَت))، وقالَ امروءُ القَيس: فَلو أَنَّما أَسْعَى لَأدنى مَعِيشَةٍ ... كَفانِي وَلَمْ أَطلُبْ قَليلٌ من المالِ فرفع قليلاً ب ((كفاني)). وأمَّا القياسُ، فهو أنَّ الفعلَ الأول أَولى لتقدُّمه، ومتى لم يظهر عمله لَزِمَ منه أمران: أحدهما: الإِضمار قبلَ الذِّكر لَفظاً وتَقديراً، وليس بجائز كما لا يجوز ضرب غلامُه زيداً، ومن الثَّاني إلغاء العامل المبدوءُ به مع اقتضائِه له، وليس كذلك إلغاء الثَّاني، لأنَّ الأولَ إذا عمل صار معموله كالمتقدم في الذِّكر، فلا يَضعف حذف معمول الثاني، ويدلُّ على ذلك أنَّ قولهم: ((خَشّنتُ بصدره وبصدرِ زيدٍ)) بإعادة حرفِ الجرِّ أجودُ، وإذا كان كذلك وكان إعمال الأولى أولى لما ذكرنا، ولم ينقض معنى وجبَ أن يكونَ هو المختارُ.

والجوابُ: أمَّا الشِّعرُ فعنهُ جوابان: أحدُهما: أنَّه لا حجةَ فيه، لأنَّ الخلافَ بيننا في الأَولية لا في عَدَمِ الجَواز، ونحن نقولُ: هو جائزٌ، ولا يَدُلُّ الشِّعرُ على أكثَر من الجوازِ. والثاني: أنَّ قولَه ((الخرد)) إنَّما أُعمل فيه الأَول، لأنَّ القوافي منصوبة فترجح عنده إعمال الأول لحفظ القافية، وكذلك ((نَعَبَ الغُرابا)) وأمَّا بيتُ امرئِ القَيس فإنَّ النَّصب فيه يفسد المعنى، وذلك أنَّ غرضه تعظيم شأنه، وأنَّه لو كان يسعى لأمر ناقص لكان يَكفيه القليلُ من المالِ، ولو نصب لانعكس هذا المعنى ولذلك قال بعده: ولكنَّما أَسعى لمجدٍ مؤثِّل وإنَّما يجوزُ الأمران فيما لا يُحيل المعنى، قولهم: ((يُفضي إلى الإِضمار قبلَ الذِّكر))، قلنا: ذلك جائزٌ إذا كان في الكلام ما يُفسره كقوله تعالى: {حتَّى تَوارَتْ بالحِجاب} يعني الشَّمسَ، ولم يَجْرِ لها ذكرٌ وكذلك {كل من عليها فان} وها هنا يفسر المضمر ما بعده، وكذلك أيضًا جازَ نعم رجلاً زيدٌ فإنَّ الفاعلَ مضمرُ لمَّا كان في الكلامِ ما يفسِّرُه. وأمَّا تقدمُ العامل فإنَّه يَقتضي المَعمول لا مَحالةَ ولكنْ اقتضاءُ الثاني لمعموله أشدُّ لمجاورتِه إياه وقُربه منه، وقد أَجرت العربُ كثيراً من أحكام المجاور على المجاور له حتى في أشياءَ يُخالف فيها الثاني الأول في المعنى كقولهم: ((حِجْرُ ضبٍّ خربٍ)) وكقولهم: ((إني لآتية بالغَدايا

والعَشايا))، والغَداةُ لا تُجمع على غدايا، ولكن جازَ من أجلِ العَشايا وهو كثير، وقولهم: ((خَشَّنتُ بصدره وبصدرِ زيدٍ)) ليس مما نحن فيه لأنَّ الفعلَ الذي هو خشنت لا يتعدّى بنفسه في أكثرِ الاستعمال، ولما عدَّاهُ بالباء كان الأولى أن يُعيده، وعلى أنَّ هذه الرواية معارضة بالرِّواية الأولى وهي التي ذكرناها في حجتنا. وأمَّا مذهبُ الكسائي فبعيدٌ، لأنَّه يلزمُ منه أن يكونَ الفعلُ بلا فاعلٍ وهذا بعيدٌ في الاستعمالِ والقياسِ. واللَّه أعلمُ بالصَّواب ..

35 - مسألة [إبراز الضمير في اسم الفاعل والصفة المشبهة]

35 - مسألة [إبراز الضّمير في اسم الفاعل والصفة المشبهة] اسمُ الفاعلِ والصّفةُ المشبهة به إذا جَريا على غيرِ من همالة وَجَبَ إبرازُ الضميرِ فيهما. وقالَ الكوفيون لا يجبُ ذلك. وصورتُهُ قولك: ((هندٌ زيدٌ ضاربتهُ هِيَ)) لابدّ من ((هِيَ)) عندنا، وعندهم لا يلزمُ.

لنا فيه طريقان: أحدُهما: أن اسمَ الفاعلِ والصّفة المشبهَة به فَرعان على الفعلِ في العملِ وَتَحمُّلِ الضَّميرِ، وقد انضمّ إلى ذلك هُنا جريانُه على غيرِ من هو له فقد انضمّ فرعٌ إلى فرعٍ، والفرعُ يقصرُ عن الأصلِ، فيجبُ أن يبرزَ الضَّميرُ ليظهرَ أثَر القُصور، ويمتاز الفرعُ عن الأصلِ. والطريقُ الثَّاني: أن تركَ إبرازِ الضَّميرِ يُفضي إلى اللَّبس في بعضِ المَواضع واللَّبسُ يزولُ بإِبْراز الضَّميرِ، فيجبُ أن يبرزَ نفياً لِلّبس، ثم يطردُ البابُ فيما لا يلبس كما فعلوا ذلك في كثير من المواضع نحو نعد وتعد، وأعد فإنهم حذفوا منها الواو كما حذفوها في يَعد، وكذلك يُكرم وتُكرم، ونُكرم محمول على أَكرم، ومثال ذلك قولك: ((زيدٌ أخوه ضاربه)) فإن ((ضاربه)) يجوزُ ان يكونَ للأخِ فيكون جارياً على من هو له، لأنَّ ((أخوه)) مبتدأ، ((ضاربُه)) خبره، والضَّربُ لزيدٍ ولا يحصلُ الفصل بينهما إلا بإبراز الضمير. واحتج الكوفيون بالسماع والقياس، فمن السماع قراءةُ بعضهم {إِلَيْ

طَعَامٍ غَيرِ نَاظِرِيْنَ إِنَاه} بالجر في غير، وهو جار على طعام ولم يقل ناظرين أنتم، ومن السَّماع قولُ الشَّاعِرِ: تَرى أَرباقَهم مُتَقَلّديْهَا ... كما صَدِيَ الحَديدُ على الكُماةِ وقال آخر: وإنَّ امرءاً أفَضَى إليكَ ودونَه ... من الأرضَ موماةٌ وبَيداءَ سَمْلَقُ لَمحقوقةٌ أن تَستَجِيْبي دَعاءَة ... وأن تَعلمي أنّ المعانَ المُوفَّقُ ولم يقل: مُتقلديها هم، ولا محقوقة أَنت. ومن القياس أن اسمَ الفاعلِ والصفةَ يعملان عملَ الفعلِ، والفعلُ لا يجب فيه إبراز الضمير، كذلك ما يعمل عمله، وكذلك إذا جرى على من هو له يبرز ضميره، كذلك ها هنا. والجوابُ: أمَّا الآيةُ فالقراءةُ المذكورةُ فيها بعيدةٌ [عن] الصّحة، وإنّما جوَّزها من هو على مذهبهم في ذلك، فلا تكونُ حُجَّةً على مُخالِفيهم.

وأما الشّعرُ فليس على حكم مسألتنا بل فيه حذف مضاف تقديره: ترى أصحاب أَرباقها فحذَف المُضاف وأَبقى المُضاف إليه وشَواهده كثيرةٌ. وأمَّا البيتُ الآخرُ فلا حُجَّة لهم فيه أيضاً؛ لأنَّ قولَه: ((أنَ تَستَجِيْبي)) هو الفاعِلُ والتقدير: لمحقوقه استجابته، والهاء في ((دعاءَه)) عائدةٌ عليه. أمَّا القياسُ على الفعلِ فغيرُ مستقيمٍ لوجهين: أحدُهما: أنَّ الفعلَ هو الأصل في العمل وفي استحقاق الفاعل واسم الفاعل ليس كذلك. والثاني: أن الضمائرَ في اسم الفاعل والمَفعول غيرُ مستحكمة ولذلك لا يظهر الضمير فيها لفظاً، بل هي على صورةٍ واحدةٍ في كلِّ حالٍ وإنّما يُقْضَى بالضمائر فيها حُكماً بخلافِ الفعلِ فإن ضميرَ التَّثنيةِ والجمعِ والتأنيثِ يظهرُ فيها لفظاً نحو ضربا وضربوا وضربن، فعندَ ذلك يُستغنى عن إظهارها في مسألتنا. والله أعلمُ بالصَّواب ..

36 - مسألة [الفعل هو العامل في الفاعل والمفعول]

36 - مسألة [الفعلُ هو العاملُ في الفاعلِ والمفعولِ] العاملُ في الفاعلِ والمفعولِ الفعلُ. وقالَ بعضُ الكوفيين العاملُ في المفعولِ الفعلُ والفاعلُ معاً. ومنهم من قالَ: الفعلُ عاملٌ في الفاعلِ، والفاعِلُ عاملٌ في المفعولِ. ومنهم من قالَ: كلُّ واحدٍ منهما معمولُ معناه. وحجَّة الأولين: أنَّ الفعلَ مؤثِّرٌ في الفاعِل والمفعولِ جميعاً؛ لأن به يتغيرُ حالُ الاسمِ، فينتقل من المبتدأ إلى الفاعل، ومن الفاعلِ إلى المفعولِ وذلك على حَسَبِ تأثيره فيهما، وبهذا الاعتبار اشتُقَّ لما يسند إليه

الفعلُ فاعل وكذلك اشتُقَّ منه المَفعول، وتصرُّف الاسمين منه دليلٌ ظاهرٌ على تأثيرِه فيهما وإذا أَثَّر فيهما في المَعنى أثَّر فيهما إعراباً، لأنَّ الإِعرابَ تابعٌ للمعنى. واحتجَّ الآخرون أنّ الفعلَ والفاعلَ كالشيءِ الواحدِ يدلُّ على ذلك اثنا عشر وَجْهاً قد استوفيتها في ((اللُّباب)) و ((شرح اللُّمع))، وإذا كانا كذلك كانا عاملين في المفعول، فالعامل هنا مجتمعٌ من شيئين جاريين مجرى شيءٍ واحدٍ، وصارا كما قالوا في الخبر: يرتفع بالابتداء والمبتدأ وفي جوابِ الشَّرطِ: ينجزمُ بأنْ والفعل. وقال بعضُهم: لو كان الفعلُ وحده عاملاً في المفعول لم يَجُز الفصل بينهما، وقد جاز ذلك فإن الفاعل يفصل بينهما. والجوابُ: أمَّا جعلُ الفعلِ والفاعلِ كالشيءِ الواحدِ فلا يوجبُ ذلك أن يكونا كشيءٍ واحدٍ في كلِّ وجه، أَلا تَرى أنَّ المفعولَ يجوزُ أن يقعَ بين الفعلِ والفاعلِ نحو ضرب زيداً عمروُ، ولو كانا شيئاً واحداً لم يَجُزْ وكذلك الفصل بينهما بالظرف، وإذا كانا كالشّيءِ الواحد في بعض الأحكام لم يمنع ذلك من عملِ الفعلِ في المفعول، ويدلُّ على فسادِ ما ذهبوا إليه أنَّ الفعلَ يعملُ في الفاعلِ، ولو كان كجزءٍ منه من كل وجهٍ لم يَعْمَلْ فيه؛ لأنَّ بعض الكلمةِ لا يعملُ في بعضها.

أمَّا مَنْ ذَهب إلى أن العاملَ فيهما المعنى فحاصِلُه راجعٌ إلى مَذهب البَصريين، لأنَّ معنى الفَاعل والمفعول حاصلُ من الفعلِ، فإن أراد ذلك فقد حصلَ الوِفاق، وإن أرادوا معنى آخر فهو فاسدٌ لوجهين: أحدهما: أنَّ ذلك يُفضي إلى عملِ الشيءِ في نفسه، وذلك أنَّ الاسمَ لا يكون فاعلاً ولا مفعولاً إلى بنسبة الفعل إليه، فيلزم منه معناه، ولا يجوز أن يكون معنى الشيءِ عاملاً فيه، إذ لو كان كذلك لكان العملُ في جميعِ الأَسماء واحداً، لأن معناه لا يَختلف، ولأنَّ ذلك يُفضي إلى أنَّه لا حاجة إلى موجب الإِعراب، إذ الإِعراب قائمٌ بالمعرب، وإذا كان المعرب هو الموجب للمعنى القائم به لم يحتج إلى أمر آخر وذلك لا قائل به. والوَجهُ الثاني: أنَّك تَرفع قولك: ((ماتَ زيدٌ)) ب ((مات))، وزيدٌ في المعنى مفعولٌ وكذلك: جُرب زيدٌ، ولو كان معنى المفعول هو العامل لوجب أن تنصب الجميع، ويدل على فسادِ مذهبهم أنَّك تفصل بأن مع الفصل بينهما، وبين اسمها بالظرف نحو: ((إنَّ في الدّار زيداً)) ودلالة هذا من وجهين: أحدهما: أنَّكَ نصبتَ بها مع الفصل. والثاني: أنَّك نصبتَ بأن وحدها، لا بها وبالظرف، وإذا كان العامل الحرف وحده - مع ضعف الحروف عن الأفعال- فكيفَ لا يعملُ الفعلُ الذي هو الأصل القوي وحده؟. والله أعلم بالصَّواب ..

37 - مسألة [الاشتغال]

37 - مسألة [الاشتغال] قولك: زيداً ضربته على رأي من نصب زيداً، النصب فيه بفعل مقدر دل عليه المذكور. وقال بعض الكوفيين: هو منصوب بنفس ضربته. وحجة الأولين: أن ضربت يتعدى إلى مفعول واحد وقد استوفاه وهو الهاء، فلم يبق له سبيل على نصب زيد، فوجب أن يقدر له ما ينصبه وأولى ما كان ذلك المقدر ما دل عليه المذكور، يدل على ذلك أنك لو

رفعت زيداً في هذه المسألة جاز، وكان هو الأقوى، ومن المعلوم أن ذلك لم يجز إلا لتمام الكلام بقولك ضربتُه، وإذا كان في نفسه تامّاً لم يكن له عمل فيما قبله. واحتجَّ الآخرون بأن الهاء هي زيد في المعنى، وإنما ذكرت للبيان وإلا فهو في المعنى كقولك: ((زيدٌ ضربتُ)) ولو قالَ ذلك لم يكن فيه خلاف أن النصب بضربت فكذلك إذا أَتى بالهاء، على جهةِ البَيان والتَّوكيد ويدل على ما ذكرنا أن النصب في قولك: ((ضربت أباك زيداً)) هو بضربت لما كان زيدٌ هو الأَبُ في المعنى. والجوابُ: أنَّ الهاء وإن كانت هي زيداً في المعنى فهو اسم له موضع في الإِعراب، وذلك يوجب أن يكون لها عامل، ولا عامل إلا ضربت هذه، فلا يبقى لها معمول آخر، بخلاف قولك: ضربتُ أباك زيداً، لأن زيداً بدل من الأب، والبدلُ لا يصحُّ في مسألتنا، ثم يَبطل مذهبهم بأنَّك تنصب في موضع لا يتصور نصبه بالمذكور كقولك: زيدٌ ضربتُ أَخاه، لأن الضَّربَ لم يقع بزيدٍ فيضطر ها هنا إلى تقدير ناصب آخر، كأنك قلت أهنت زيداً ضربت أخاه فالمانعُ هنا كالمانعِ في مسأَلتنا؛ لأنَّ المانعَ ثَمَّ امتناع تَعدّى الفعل إلى المُظهر معاً، والمانعُ هنا امتناعُ تَعدى ضَربتُ إلى زيدٍ إذا لم يكنْ واقعاً به، بَلْ بشيءٍ من سَبَبِهِ وكذلك الهاء في ضربته هي من سبب زَيْدٍ، ويَدلُّ عليه أنك تقول زيداً لست مثله فتنصب زيداً ومحال أن ينتصب بلست، وإنّما ينتصبُ بمحذوفٍ تقديرهُ خالفتُ زيداً فهذا كلُّه ما ذكرنا. والله أعلم بالصواب.

38 - مسألة [نيابة غير المفعول به عن الفاعل]

مسائل ما لم يسم فاعله 38 - مسألة [نيابة غير المفعول به عن الفاعل] إذا اجتَمع في الكلامِ مفعولٌ به صحيحٌ وظرفٌ وحرفُ جرٍّ فالقائم مقام الفاعل هو المفعول الصحيح. وقال الكوفيون: يجوز أن يقامَ الظرف وحرف الجر مقامه. لنا أن المفعول الصحيح أشبه بالفاعل فأقيم مقامه لا غير، ويبان أنه أشبه به من أربعة أوجه: أحدها: أن الفعلَ يصلُ إليه بنفسه، ولا دلالةَ في الفعلِ عليه، بخلاف الظَّرف وحرف الجر، والمصدر. والثاني: أنَّ المفعولَ به شريكُ الفاعلِ في تحقُّق الفعلِ، لأنَّ

الفاعل يُوجِدُ الفعل، والمفعول به يحفظُهُ من حيثُ كان محلاًّ له. والثالث: أن المفعول قد جُعل فاعلاً في اللّفظ كقولك: مات زيدٌ وطلعت الشّمس ورخص السِّعرُ، وليس كذلك بقيّة الفضلات. والرابع: أن من الأفعالِ ما اقتصر فيه على المَفعول ولم يُذكر الفاعل كقولك: ((عُنيت بحاجتك))، و ((نُفِست المرأة))، و ((جُنَّ الرجل))، وليس كذلك بقية الفضلات. واحتجَّ الآخرون بأنَّ الظّرفَ وحرفَ الجَرِّ يعملُ فيهما الفِعل ويجعلان مفعولاً بهما على السَّعة، فصارا كالمفعول به، وكما جازَ أن يُجعل المفعول به قائماً مقامَ الفاعل كذلك هذه الأشياء. والجوابُ: أنا قد بينا أن المفعولَ به من أشبهَ بالفاعلِ وإذا دعت الحاجةُ إلى نيابة شيء يقامُ مقامَ غيره فأولى ما كان النائب ما هو أشبه بالمنوب عنه. فإن قيل: يبطل ما ذكرتموه بقولك أعطيت زيداً درهماً، فإذا لم تسم الفاعل جاز أن تقيم الدرهم مقامه، ولا شبهة أن زيداً أشبه بالفاعل إذ كان فاعلاً للأخذ، والدرهم ليس إلا مفعولاً به. قيلَ: هما في هذه الحالِ متساويان في المفعوليّة، والفِعلُ واصلٌ إليهما على حدٍّ سواء، وقوّةُ المفعول الأَول من طَريقِ المعنى لا من جهةِ اللَّفظِ، ومع هذا فرفع الدِّرهمِ ضَعيفٌ سوّغه أَمن اللّبْسِ. والله أعلمُ بالصَّواب.

39 - مسألة [إقامة المصدر مقام الفعل]

39 - مسألة [إقامة المَصدر مقامَ الفعل] لا يجوزُ أن يقامَ المصدرُ مقامَ الفاعلِ مع وجودِ المفعول به الصَّحيحِ في الاختِيار، وإنّما بابه الشّعر. ومن البَصريين من قالَ يجوزُ. وحجّة الأوليين: أن المصدرَ يدلُّ على أكثرِ مما دلَّ عليه الفعلُ ولا فائدةَ فيه أكثرَ من التَّوكيد، والفاعلُ غيرُ الفِعل من كلِّ وجهٍ، وهو واجبُ الذّكرِ لفظاً أو تقديراً، فلا يقومُ مقامَه إلا ما شابَهَهُ. واحتجَّ الآخرون بالسّماعِ والقياسِ.

أمَّا السماعُ: [فـ] قوله تعالى: {وكذلك نُجي المؤمنين} قراءة حَفصٍ عن عاصمٍ بتشديد الجِيم فلا وجهَ له إلا نُجّي النَّجاء. وقرأَ أبو جَعفرٍ: {ليُجزي قوماً} على ما لم يُسم فاعله، أي

يُجزى الجَزاء قوماً، ومن السَّماع قولُ جَريرٍ: فَلو ولدت قُفَيرةُ جروَ كلبٍ ... لَسُبَّ بذلِكَ الكَلْبَ الكِلاَبا أي سُبَّ السَبُّ. أمَّا القياسُ فهو أن المَصدر اسم يصلُ الفِعلُ إليه بِنَفْسِهِ فجازَت إقامَتُهُ مقامَ الفاعِل كالمَفعول به الصَّحيح. والجوابُ: أمَّا قراءةُ حفصٍ فعنها ثلاثةُ أَجوبةٍ:

أحدُهما: أنّها ضعيفةٌ لا يَنبغي أن يُؤخذ بها، يدلُّ عليه أن فيها أَمرين يُضَعِّفانِها: أَحدُهما: إقامةُ المصدَرِ مقامَ الفاعل مع المَفعول الصَّحيح مع أن المَعنى ليس عليه، لأنَّ المعنى أن المؤمنين هم الذين يَنجون ونسبةُ النَّجاء إلى النجاء بَعيدٌ جدّاً. والثاني: أنّه سكن الياء وهي آخر الفعل الماضي، وهو من بابِ الضَّرورةِ أيضاً، وما هذا لا يُجعلُ أصلاً يقاسُ عليه. والثالثُ: أن أَصله من نُنْجي بنونين فقلب الثَّانية جيماً، وأُدغم وعلى هذا هو مستقبل لم يسكن آخره للضرورة. أمَّا قوله: ((ليُجزي)) فتقديره ليُجزي الخَيرَ فالخيْر مفعولٌ ثانٍ كأنَّك تقولُ: جَزيت زيداً خيراً، وهذا إقامةُ مفعولٍ به صحيحٌ مقامَ الفاعل. أمَّا البيتُ فقد قيلَ: هو من ضَرورة الشّعرِ، وقيلَ: إن التَّقديرَ يا جروَ كلبٍ أي لو ولدت قُفيرة الكلابِ، فالكلابُ مفعولٌ وَلَدَتْ ويا جروَ كَلْبٍ نِداءٌ، معتَرِضٌ، وأفردَ الضَّمير في ((سُبّ)) لأنه يعودُ إلى جِنْسِ الكِلاب. قولُهم: ((يصلُ الفعلُ إليه بنفسِهِ)). قُلنا: هو مع ذلِكَ فَضْلَةٌ مُستَغنىً عنها كما ذَكرنا. والله أعلمُ بالصَّواب.

40 - مسألة [نعم وبئس فعلان ماضيان]

40 - مسألة [نِعم وبِئس فعلان ماضيان] نِعم وبِئس فعلان ماضِيان غير متصرِّفين. وقال الكوفيون: هما اسمان، وهما في الأصلِ صفة لموصوفٍ مَحذوفٍ كأنَّك إذا قلتَ: نعم الرجل زيد فتقديره: الرّجلُ نعمَ الرّجلُ، ولمَّا حذفت الموصوف وهو اسم فكما كان الرجل اسماً فكذلك ما قام مقامه، والرجل مرفوع بنعم كما يرتفع الفاعل باسم الفاعل. وحجة الأولين من أوجهٍ أحدُهما: اتصالُ ضميرِ المَرفوع بها كما حكى الكِسائي: ((نَعِموا رجالاً الزَّيدون))، وإذا لم يَظهر كان مستتراً وأضمر شريطة التَّفسير، كما ذلك في قَولهم: ((ربه رجلاً)) وهذا لا يكون في الأسماء.

والوجهُ الثَّاني: أن تاءَ التّأنيث الساكنة تَتّصل بنعمَ كقولِكَ: نعمت المرأةُ هندٌ لا يكونُ في الأَسماء. فإن قيل: التاءُ قد تَتّصل بالحروف نحو: ((رُبّت))، و ((ثُمّت)) و ((لات))، فلا يدل اتصالهما بنعمَ على أنّها فعلٌ. قيلَ: اتصالُها ساكنةً ب ((نعمَ)) دليلٌ على أنَّها فعلٌ، وليس كذلك، ثم وربّ لأنها مُتحركة، ويدلُّ على الفَرق بينهما أنَّ التاءَ في ((نِعمت)) تدلُّ على تأنيثِ الفاعلِ، كدلالة التّاء في قامت، والتاء في ((ثُمت)) و ((رُبت)) تدلُّ على تأنيثِ الكَلمة في نَفْسِها، لا على التأنيث في غيرها. أمَّا ((لات)) فقد قيلَ إن التاءَ مُتصلة بما بعدها لأنهم قالوا: ((تالآن)) و ((تَحين)) وليس قبلها ((لا)) ومنهم من قالَ: هي متصلةٌ بلا ولكن حكمها حكم رُبت ولذلك وقف عليها قوم بالهاء فقالوا: ((لاه)) ولم يَقف أحدٌ على نِعمت بالهاء. فإن قيل: لحوق التاء بنعم غير لازم بل يجوز أن تقول نعم المرأة هند قيل: دخولها أحسن وأما حذفها فلأنَّ المرأةَ في معنى الجنس فكان التذكير لذلك على أن الحجة في جواز دخولهما لا في وجوبه. والوَجهُ الثَّالثُ: السَّبرُ والتَّقسيمُ وذلك أن ((نِعم)) ليس حرفاً بالإِجماع، وقد دَلّ الدليلُ على أنّها ليست اسماً لوجهين:

أحدُهما: أنّها مبنيةٌ على الفتحِ، أمّا البناء فلا سببَ له مع كونِها اسماً، لأنَّ الاسمَ يُبنى إذا شابَه الحرف، ولا مشابهةَ بين ((نِعم)) والحَرف، فلو كانت اسماً لأعربت. والثاني: أنَّها لو كانت اسماً لكانت إمّا جامداً أو وَصفاً ولا سبيل إلى اعتقاد الجُمود فيها، لأنَّ وجهَ الاشتقاقِ فيها ظاهرٌ، ولأنها مِنْ نَعِمَ الرَّجلُ إذا أصاب نعمةً، والمُنعم عليه يُمدحُ ولا يجوزُ أن تكونَ وصفاً، إذ لو كانت كذلك لظهرَ الموصوف معها، ولأنَّ الصفةَ ليست على هذا البناء، وإذا بطلَ كونُها حرفاً وكونها اسماً ثبتَ أنَّها فعلٌ. واحتجَّ الكوفيون من سِتَّةِ أوجهٍ: أحدُها: دخولُ حرفِ النداءِ عليها كقولك: ((يا نِعم المَولى ويا نِعم النَّصير)) وحرف النداء مختص بالأسماء. والوَجه الثّاني: دخولُ حرفِ الجرِّ عليها كقولهم: ((نِعم السَّير على بِئس العَير))، وقيلَ لأعرابيٍّ وقد وُلدت له ابنة: نِعم المولودة ابنتك)) قالَ: ((والله ما هي بِنعم المَولودة نَصرها صُراخٌ وبِرُّها سَرقة)) فأجراها مجرى قولك: ما زيدٌ بِنِعم الرّجل. والوجهُ الثالثُ: أنَّه لو كان فعلاً لدلَّ على حدثٍ وزمانٍ، إذ هذا حدُّ الفِعل والزَّمانُ لا يقترنُ به. والوجهُ الرَّابعُ: أنّه لو كانَ فِعلاً لتصرّف تَصرُّف الأفعال فكان منه مستقبل وأمر ومصدر واسم فاعل. والوجَهُ الخامسُ: أنّ اللامَ تدخلُ عليه إذا وقعَ خبراً لأنَّ كقولك: إنّ

زيداً لنعمَ الرّجلن ومعلومٌ أن هذه اللام لا تدخلُ إلا على الاسم أو على الفِعل المضارع، ونعمَ ليست فعلاً مضارعاً والماضي لا تدخلُ عليه فثَبت أنها اسمٌ: والوجهُ السادسُ: قولهم نَعِيْمَ الرجل وهذا البناءُ ليس من أبينة الفِعل، فثبت أنه اسم. والجوابُ عن فَصل النداء، من وجهين: أحدُهما: أنه غيرُ دليلٍ على ما ادّعوا؛ لأنّ حكمَ حرفِ النداءِ أن يدخلَ على المفردِ أو المضافِ أو ما شابهه، وأما على الجُمل فلا. ونِعمَ الرَّجل عندهم جملةٌ ألا ترى أنك لا تقولُ يا زيدٌ منطلقٌ.

والوجهُ الثّاني: أن دخولَ ((يا)) على هذا الفِعل لها تأويلان: أحدُهما: أن تكونَ دخلت ((يا)) للتّنبيه، ولا يحتاجَ إلى مُنادى كما أن ((ها)) تدخلُ كذلك كقولك ها أن زيداً قايمٌ، وكقول النَّابغة: ها إنّ تاغُذرة إن لم تَكن نَفَعَتْ ... فإنّ صاحبَها قد تَاه في البَلَدِ وإذا دَخلت على الحروف وعلى الأفعال للتّنبيه لم تَحتج إلى تقديرِ مُنادى ودخولها على فعل الأمر كقول الشاعر: أَلا يا سلمى ذاتَ الدَّمالِيْجِ والعِقْدِ وقالَ آخر: ألا يَا سْلمِيْ ثُمَّ اسلَمِى ثُمَّتَ اسْلَمِي ... ثَلاث تَحِيَّاتٍ وإن لَمْ تُكَلَّمِيْ والتأويلُ الثّاني: أن يكونَ حذفَ المُنادى وهو يُريده كما قال الشَّاعر: يا لَعنةُ اللَّهِ والأَقوامِ كلِّهِمُ ... والصَّالِحين على سِمْعانَ مِنْ جارِ

يريدُ يا قومُ، ويدلّ على ذلك وقوع الجملة بعدها، وقال تعالى: {يا لَيْتَنِي كنتُ مَعَهُمْ}، {يا لَيْتَني لم أَتَّخذْ فُلاناً خَلِيلاً}، و {يا لَيْتَ قَومي يَعلمون} كل ذلك متأول على ما ذكرنا، فإن أحداً لا يَدّعى أن ((لَيتَ)) اسمٌ وأمَّا فَصْلُ دخول الجارِ فليس بمحكم الدّلالةِ على الاسمية لأن تقديرَ الحكايةِ فيه مُمكنٌ وهو أن كونَ التَّقديرِ في قولِه: ((ليستْ بنعمَ المَولودة)) أي لَيْسَتْ بمقُولٍ فيها نعمَ المَولودة فحذفَ القول لظهورِ معناه وهو كثيرٌ في القرآنِ وكلامِ العربِ قالَ تعالى: {والملائكةُ باسطوا أَيْدِيَهُمْ أَخرجوا} أي يقولون: أَخرجوا، وقالَ تَعالى: {والملائكةُ يَدخلون عَلَيْهِمْ من كلّ بابٍ سَلامٌ عَلَيْكُمْ} وقالَ الشّاعر: واللهِ ما لَيلى بنَامَ صاحِبُه ... ولا مُخالطَ اللَّيانَ جَانِبُه أي بمقول فيه نامَ وهو كقول الآخر: مالَكَ عِندي غيرَ سَهْمٍ وحَجرْ ... وغَيرَ كَبداء شَديدةُ الوَترْ تَرمي بِكَفَّي كانَ مِنْ أَرمَى البَشَرْ

أي بكفّي رجلٍ كان. قولهم: لا يحَسنُ اقترانُ الزَّمان به، قُلنا: إنّما يَقرن بالفِعل الزمان ليصبح المرادُ به، ويُفصل بالزّمان بينَ الماضي والمُستقبل وهذا مستغنًى عنه هاهنا، لأنَّ نعمَ وبئسَ يَستوفيان غايةَ المَدحِ والذّمِ، وهذا لا يكونُ إلاّ بما هو موجودٌ، لأنّه المُتَيَقِّن، فَلَمّا اختُصَّ بهذا المعنى علم زَمانها ولهذا لم يتَصرفا، ويدلُّ على فسادِ ما قالوه أنّ ((عسى)) فعلٌ عندَ الجميعِ ولا يقترِنُ بها زمانٌ ولا تتصرّفُ للعلةِ التي ذَكرنا من دِلالتها على مَعنى القُرب، وبهذا أَشبهت هذه الأفعال الحروفَ حتى جَمُدَتْ، لأنّها دَلّت على مَعنى زائدٍ على الحدثِ والزَّمان وهذا هو بابُ الحروفِ. وأمّا دخولُ اللاّم عليها فلا يدلُّ على أنّها اسمٌ، ألا تَرى أن اللامَ قد دخلتْ على الحرفِ في مثلِ قولهِ تَعالى: {وَلسوف يُعطيك ربُّك فَتَرْضى} وإنما حَسُنَ ذلك، لأنَّها لما جَمَدَتْ أشبَهت الأسماء، فدخلَ عليها ما يَدخُلُ على الأَسماء من حروفِ التَّوكيد وقد أَدخلوا اللاّم على الفِعل الماضي المَخض، كقولِ الشَّاعر: إذاً لقامَ بنصري معشرٌ خُشُنٌ ... عندَ الحَفيظة إن ذُو لَوثة لاَنا وكقولِ امرئ القَيس:

لَناموا فَما إن من حَدِيث ولا صَالِي وأما نَعِيْم الرّجل فهي حكاية شاذَّة، والوجه فيها أن أصلَ ((نعم)) نَعِمَ بكسر العَين فأشبع الكسرة فنشأت الياءُ، وله نظائر كقولهم: ((الدّراهيم)) و ((والصّياريف)) و ((مُنتزاح)) و ((أدنوا فأنظروا)). أي منتزح وأنظر، والله أعلم بالصّواب.

41 - مسألة [(ما) التعجبية]

41 - مسألة [(ما) التعجبية] ((ما)) في التَّعجب اسم تامٌّ غيرُ موصولٍ ولا موصوفٍ وقال أَبو الحسن: هي بمعنى الذي، والخبرُ محذوفٌ أي الذي أَحسن زيداً شيءُ. وحجةُ الأولين من وجهين:

أحدُهما: أن مبني التَّعجبِ على الإِبهام، ولذلك عدَلوا فيه إلى ((ما)) لأنَّها أشدُّ إبهاماً من غيرها، والذي تتَّضح بِصلتها، وذلك يناقِضُ موضوعَ التَّعجب. والثاني: أن الخبرَ لابدّ له منه، ومن شَرطه أن يكونَ مفيداً والخبرُ هنا محذوفٌ على قوله، والذي يقدّره نكرة غير مفيدة، ومن المَعلوم البَيّن أن الذي أَحسنه شيءٌ، فيعرى هذا التّقدير عن فائدة كما يَعرى قولك: رجل قائمٌ عن فائدة. فإن قيلَ: يلزمكم مثل ذلك، لأنّك إذا قدّرت ((ما)) بشيءٍ كان التَّقدير شيءٌ أحسنَ زيداً وهذا معلومٌ أيضاً. قيل: جعل المبتدأ نكرة قد جازَ في مواضعَ كقولهم: ((شرُّ أهرّ ذا نابٍ)) و {سلامٌ عليكم} و {ويلٌ للمطففين} وغير ذلك، وليس الخبرُ كذلك، وأنتَ لو قلتَ: جاءَني رجلٌ أو رجلٌ جاءني لكانَ مفيداً بخلاف الخبرِ المحض.

واحتج الآخرون: بأن ((ما)) لو كانت بمعنى شيءٍ لكانتْ تامةً في نفسها، وذلك غير جائز، لأنّها في غايةِ الإِبهامِ، والإِبهامُ يقتضي الإِيضاح، فأمَّا أن يكونَ تاماً مُستَغْنِياً عن بَيانٍ فلا. والجوابُ عنه من وجهين: أحدُهما: أن ((ما)) قد جاءَت تامةً من ذلك قوله تعالى: {فنعما هي} أي فنعمَ شيئاً هي. وقالَ أَبو الحَسَن في قوله تعالى: {فيما نقضهم ميثاقهم} أن ((ما)) بمعنى شيء، ونَقضهم بدلٌ منه، فإذا جاءَت في موضعٍ تامةً لم يستنكر كونها في هذا الموضع. والوجهُ الثاني: أن جعلها بمعنى ((الذي)) لا يحَصلُ لها إيضاحاً بالعِلّة، لأنّك تُفسر ((الذي)) بقولك: شيءٌ، ولا فرقَ أن يقولَ: شيءُ أحسنَ زيداً، وبين قولك: الذي أحسَنَ زيداً شيءٌ في حقيقةِ الإِبهامِ بل هذا أَوضح، لأنّك بدأتَ بالشّيءِ الواضحِ ثم أَتيت بما يُبْهمُه. والله أعلمُ بالصَّواب.

42 - مسألة [فعلية أفعل في التعجب]

42 - مسألة [فعلية أفعل في التعجب] ((أَفعل)) في التَّعجّب فعلٌ ماضٍ. وقالَ الكوفيون: هو اسمٌ.

وحجّةُ الأولين من أوجهٍ ثلاثةِ: أحدُهما: أن نون الوقايةِ تَلحق هذا البناء كقولك: ما أَعلمني وهذه النُّون لا تلحقُ الأسماءَ، إذ لا يُستنكر كَسر آخرَ الاسمِ وإنّما يُستنكَرُ كسر آخر الفعل أو الحرف، فأتى بالنون لتقع الكسرة عليها، ويبقى آخر الفعل على ما كان عليه. ونُحرّر من هذا عبارة فنقولُ: لفظٌ تلزمه نون الِوقاية عندَ الإِضافة إلى الياءِ، فلم يكن اسماً كما لو جاء في غير التعجب، ولا يلزمُ عليه الحرف نحو مني وعني، لأنَّ الخلافَ ما وقع في كونِ هذا اللفظ اسماً أو فعلاً فلم يكن له هُنا مدخل فلا يناقض به. وإن شئت ذكرت دليلَ التَّقسيم فقلتَ ليس بحرفٍ بالاتفاق، ولا يجوزُ أن يكونَ اسماً، لأنّ الاسمَ لا تَلحقه نونُ الوقاية فلا تقولُ فلانٌ ضاربني، وهذه النُّون تَلحق لفظَ التَّعجُّب كقولك: ما أعلمني، وهي من خَصائص الأفعال فثَبت أنَّه فعلٌ. فإن قيل: قد دخلت هذه النُّون على الاسمِ في نحو قول الشاعر: وليسَ حامِلُني إلا ابنُ حَمّالِ وقالوا: قَطني، وقَدني وهما اسمان. قيلَ: أمّا ((حامِلُني)) فمن الشَّاذِّ الذي لا يُعرّجُ عليه، وكأنّه حملَ اسمَ الفاعلِ على الفعلِ المضارع لما بَينهما من الشَّبه، ومثل ذلك يُحتمل في ضَرورة الشّعر. وأمَّا ((قَدني)) و ((قَطني)) فقد يقال: ((قَدِي)) و ((قَطِي)) ولا يجوزُ مثلُ ذلك في فعلِ التَّعجب.

وأمّا مَنْ قال: ((قَدني)) فالوجه فيه عنده أن ((قَد)) بمعنى اكفُفْ فلما أشبَه فِعلَ الأمرِ لحقَه حكمٌ من أَحكامه، كما قالَ: حسبُك يَنَمِ النّاس، بجزمِ الجَواب، لأنه حَمله على اكفُف ينمِ النّاس. والوَجْهُ الثَّاني: أن هذا البِناء ينصبُ المعرفة والنّكرة وأفعل الذي هو اسم لا يعَمل ذلك وإنما هو يختصُّ بالنكرات. فإن قيلَ: فقد عمل في المعارفِ كقولِ العَبّاس بن مِرداس: وأضربُ مِنّا بالسُّيوف القَوَانِسا فنَصب القَوانِسَ بأضرب، وقالَ النَّابغة: فإن يَهلك أَبو قابوس يَهلك ... رَبيْعُ النّاسِ والشَّهرِ الحَرامِ ونَأخذ بعدهم بِذِنابِ عَيْشٍ ... أَجبَّ الظَّهرَ لَيس لَه سَنامِ فنصَب الظّهر بأحبّ، وقالَ آخر: ولقد أغتدي وما صَقَعَ الدّيْ ... ـــــك على أدهمٍ أجشّ الصَهِيلا فنصب بأفعل.

فالجوابُ: أن هذه المواضعَ مَخرجها غيرُ ما ادعوا، وذلك أن مَنْ نصب ما بعدها إمّا يكون فعل محذوف يفسره أَفعل كما قال تعالى: {إنّ ربَّك هو أعلمُ بمَنْ ضَلَّ عن سَبِيْلِهِ} وقال تعالى: {الله أعلمُ حَيْثُ يَجعل رِسالاَته} ف ((حيثُ)) و ((مَنْ)) لا يجوز أن يكونا مَجرورين بالإِضافة، لأنَّ أفعلَ تُضاف إلى ما هي بعض له وذلك محالٌ هنا، وأمَّا ((أجبَّ الظَّهر)) فروي بالإٍضافة، ولا حُجّة فيه على هذا، وقد رُوي بالرّفع على تَقديرِ أجبّ الظهرَ منه، أمَّا النَّصب فعلى التَّشبيه بالمفعول به كباب الحَسن الوجه، وقيل الأَلف واللاّمُ زائِدتان كما قالَ الآخر: خلّص أمّ العَمرو من أَسيرها ... حُرّاسُ أبوابٍ على قُصُورها وعلى مذهبهم يجوزُ أن يكونَ بدلاً من الضَّمير، وعلى كل حال لا يبقى لهم فيه حجة وكذلك القول في ((أجشَّ الصهيلا)). والوجه الثالث: أن هذا البناء مبنيّ على الفتح ولو كان اسماً لم يكن مبنياً، إذ لا علة للبناء خصوصاً على الفتح، فإِنْ قيل: علة بنائه شيئان: أحدُهما: تَضَمُّن معنى هَمزة الاستفهامِ، لأنَّ قولَك: ما أَحسن زيداً أي شيءٌ أوجبَ ذلك؟.

والثاني: تَضَمُّنهُ حرفُ التَّعجب، لأنّ التَّعجُّب معنى، والأصلُ في كلِّ معنى أن يوضعَ له حرفٌ فيُعتَقَد ذلك وإن لم يُنطق به، كما في بناءِ هذا وهؤلاء. والجوابُ أمّا الاستفهامُ فعنه جوابان: أحدهما: أنَّ التّعجُّب خبرٌ يَحتمل الصّدقَ والكَذِبَ وبين الخبرِ والاستفهامِ بونٌ بَعيدٌ. والثاني: أنَّ الاستفهامَ لو كان لكانت ((ما)) هي المُتضمنة له لا الفعل الذي بعدها. وأمّا حرفُ التَّعجب فلا حاجةَ إلى تقديره، لأنَّ الصيغَة دالةٌ على التَّعجب فلم يَحتج معها إلى حرفٍ، كما أنَّ ((نعم)) و ((بئس)) موضوعتان على المَدح والذّم ولم تحتَج مع ذلِكَ إلى تقديرِ حرفٍ يدلُّ عليهما وكذلك عسى وحبذا. والوجهُ الرابعُ: أن أحكامَ الفِعلية موجودةٌ فيه منها لحقوق نون الوقاية به على تقدّم، ومنها أنّك إذا أتيت بفعلٍ آخر والمفعول واحد أَجريته مجرى أكل وشرب مثاله قولك ما أَحسن زيداً وأجملَ. وأما حُجَّةُ الكوفيين: فإنهم احتجوا بثلاثةِ أشياء: أحدُها: أنه يصغر، يقال ما أُحَيْسِنَهُ قال الشَّاعرُ:

يا ما أُمَيْلِحَ غزلاناً شَدَنَّ لنا ... من هَؤليائِكُنَّ الضَّالِ والسّمرِ والتَّصغيرُ من خَصائص الأسماء. والوجهُ الثاني: أن عينَ هذه الكلمةِ تَصِحُّ إذا كانت واواً أو ياءً نحو ما أَخوف زيداً وما أَسيره ولو كان فِعلاً لاعتُلت لأن الاعتلال من خَصائص الأفعالِ. والثَّالثُ: أنّه جامدٌ لا يَتَصَرّف فلا يكونُ منه مُستقبل ولو كان فِعْلاً لتَصَرّف، ويدلُّ على أنَّه ليس بفعلٍ أنَّك تَقولُ ما أَعظمَ الله قالَ الشاعرُ: ما أَقَدَرَ الله أن يَدني على شَحَطٍ ... مَن دارُهُ الحَزن ممن دارُه صُولُ ولو كان فِعلاً لكان التّقدير شيئاً عظُّمَ اللَّهَ، وعظمةُ اللَّهِ من صفاتِ الذّات لا تَحصل بجعلِ جاعلٍ. والجوابُ: أما التَّصغيرُ فإنّه يتناول لفظ الفعلِ هنا والمراد تَصغير مَصدره وكأنَّه قالَ فيه حُسنٌ قليل، وهذا كما يضاف إلى الفعل في نَحو قوله: {هذا يومُ ينفعُ الصَّادقين صِدْقُهُم} وهو كثيرٌ، والمعنى إضافة الزّمان إلى مصدر الفعل، وحسن ذلك في فعل التَّعجب أنه لجمودِهِ أشبهَ الاسمَ، ومن هاهُنا صحّت فيه الياءُ، والواو نحو ما أَقَومه وما أَخَوفه، لأنَّه

لما لَزِمَ طريقةً واحدةً كان كالاسم وهذا هو الجَواب عن الوَجه الثَّاني على أن صِحّة الواو لا يقَطع بها على الاسم أَلا تراهم قالوا: ((استَحْوَذَ))، و ((استَنْوَقَ الجَمَلُ)) و ((استَتْيَسَتِ الشّاة)) ونحو ذلك. أمّا عدمُ تصَرفه فلا يدلُّ على كونه اسماً ألا تَرى أن ((نعم)) و ((بئس)) و ((عسى)) أفعال ولا تتصّرف وكان السّببُ في ذلك أنّ فعلَ التّعجب ماضٍ أبداً؛ إذ لا يُتَعَجَّبُ إلا من أمرٍ متحقق، موجودٍ كما أن نِعم وبِئس كذلك. فإن قيلَ فأنتَ تقولُ: ما أطولَ ما يخرج هذا الصّبي فتحكم على المعنى المستقبل قيل: التَّعجب هنا لأماراتٍ دالة على وجود الأمر في المستقبل، فكأنَّ ذلك موجود الآن، وهذا مثل قوله تَعالى {رُبَّما يَوَدُّ الذين كَفروا} و ((رُبّ)) إنما تَدخل على المَاضِي ولكنْ لما كان خَبرُ الله حَقاً وصِدْقاً جَرى مَجرى المَوجود وأمَّا قولهم: ما أعظمَ الله فالمُراد به شيءٌ عظم الله عندي: ولم يوجب له في نفسه سبحانه تعظيماً لم يكن: وإنما هو دالُّ على أمر ظهرَ للمَخلوق ثمّ إن هذا لازمٌ لهم، كما يَلزمنا فإنّ المَعنى لا يَختلفُ بينَ أن يكونَ اللّفظُ فعلاً أو اسماً ... والله أعلمُ بالصّواب ...

43 - مسألة [التعجب من الألوان]

43 - مسألة [التعجب من الألوان] لا يُبنى فعل التَّعجب من الألوان. وقال الكوفيون: يُبنى من البَياض والسَّواد فقط. وحجةُ الأولين أنّه فعلُ مأخوذٌ من اللَّون فلم يُبن منه فعل التَّعجب كالحُمرة وغيرها، وإنما كان كذلك لوجهين: أحدهما: أن الأصل في فعل اللون أفعل نحو أبيض وأحمر، وفعل التعجب لا يبنى إلا من الثلاثي. والثاني: أن الألوان للزومها المحل تجري مجرى العيوب الظاهرة والأعضاء ولذلك لا يبنى منها فعل التعجب، فلا يقال في العظيم الرجل ما أرجله ولا في عور العين ما أعوره كذلك الألوان.

واحتج الآخرون بالسماع والقياس. فمن السماع قول الشاعر: جارِيةٌ في دِرعِها الفِضفاضِ ... تُقطّعُ الحَديثَ بالإِيماضِ أبيضُ من أُختِ بني أَباضِ وكذلك قولُ الآخر: إذا الرجالُ شَتَوا واشتَدّ أزمُهُمُ ... فأنتَ أَبيَضُهُم سِربال طَبَّاخِ وأَفعل في حكمِ فعلِ التَّعجبِ فيما يجوزُ ويمتنعُ. وأمَّا القياسُ فهو أن البَياض والسَّواد أصلان لكلِّ لونٍ، إذ كانَ بقيّةُ الألوانِ يتركب منها، وأحكامُ الأصولِ أعمُّ من أحكامِ الفروع وأقوى. والجوابُ عن الشّعر من وَجهين: أحدُها أن أفعلَ فيه ليس للمبالغةِ وإنّما هو اسمٌ بمنزلة قولك شيءٌ أسود وأبيض أي مبيضّ ومسودٌ، والخلافُ فيما يراد به المبالغة. والثّاني: أن هذا من الشُّذوذ الذي لا تناقض به الأصول قولهم: ((إن البياض والسواد أصلان للألوان)) جوابه من وجهين:

أحدُهما: ليس كذلك بل كل لونٍ أصل بنفسه وليس بمركب ولو قدر أنّه مركب، ولكن هذا لا يمنعُ من أن يكونَ أصلاً؛ لأن حقيقتَه واسمه تغيرا فهو، بمثابة الأدوية المركبة فإن طَبائعها وأسماءَها تُخالف أحكامَ مفرداتها وكذلك ما رُكب من الكلمات نحو ((لولا)) و ((لن)) على قول الخليل. والجوابُ الثاني: نُقدر أنهما أصلان ولكن لم يُجَوِّزْ ذلك بناءَها على هذه الصّيغة، وبيانُه من وجهين: أحدُهما: أن العلةَ في امتناعِ بناءِ فعل التّعجب من غيرهما موجودةٌ فيهما وهو كونه على أكثر من أربعةِ أحرفٍ والأصلُ ألاَّ يُخالِفَ مقتضى العِلّة. والثاني: أن الأصولَ أولى بمراعاةِ أحكامِها، وأبعد من التّغيير بخلافِ الفروع، فإن الفرعَ مغيرٌ عن الأصلِ والتَّغيير يُؤنس بالتَّغيير، ألا تَرى أن النَّسب إلى حَنيفة وإلى ثَقيف ثَقيفي ولم يكن الفَرق بينهما إلا أن حنيفةَ حُذفت منها التّاء، فحُذفت منها الياء أيضاً وثقيف لم يُحذف منه شيءٌ فلم تُحذف منه الياء، والله أعلمُ بالصّواب ..

44 - مسألة [المنصوب بكان]

مسائل باب كان وأخواتها 44 - مسألة [المنصوب بكان] المنصوب بكانَ لا ينتصب على الحالِ. وقالَ الكُوفيُّون هو منصوبٌ على الحالِ. والمسألة تبنى على حرفٍ وهو أن الحال له أحكام لا تتحقق في المنصوب هاهنا، وانتفاء الحكم يدل على انتفاء المحكوم عليه، فنحرر من هذا دليلاً فنقول: أحكامُ الحالِ منتفيةٌ عن منصوب هنا فينتفي كونه حالاً، وبيانه: أنَّ أحكامَ الحالِ كثيرةٌ. أحدها: أن يجوزَ حذفُها ويبقى الكلامُ تاماً، وليس المنصوبُ هاهنا

ومنها: أن الحالَ وصفُ هيئةِ الفاعلِ والمفعولِ به وقتَ وقوعِ الفعلِ منه أو به كما ذكرناه من قولك: جاءَ زيدٌ راكباً، فالركوب هيئةَ الفاعل، ولا هيئة للمرفوع بكان؛ لأنَّها لا تدلُّ على فعل يكون لفاعله هيئة. الثالث: أنَّ الحالَ لا يكونُ إلا نكرةً هذا هو الأصل؛ إذ لو كان معرفةً لكان تابعاً لصاحبِ الحالِ، إمّا صفةً، وإما بدلاً، وإما توكيداً، والمنصوب في كان ليس كذلك بل يكون معرفة ونكرة، ولا يصح فيه البَدَلُ ولا الوَصْفُ ولا التَّوْكِيْدُ. الرابعُ: أن الحالَ صفةٌ في الأَصل، ومن حكمِ الصّفة أن تكونَ مُشتَقّةً، ولا يشترط ذلك في المنصوب بكان، ألا ترى أنك تقول كان زيدٌ أباك و [كانت] أمُّك هنداً، وليس هذا من المُشتَقِّ في شيءٍ. الخامِسُ: أن المنصوبَ بكان يتقدَّمُ على اسمها وعليها أيضاً والحال لا يتقدم على صاحب الحال، ولا على العاملِ فيها عندهم وهذا يُبطل مَذهبهم في خبر كان. فإن قيل: أمَّا جواز حذف الحال فغير ثابت في كل موضع ألا تَرى أن قولَك: مررتُ بكلٍّ قائماً وبكلٍّ قاعداً منصوبٌ فيه حال ولا يجوز الاقتصار على قولك: مررت بكل، لأن معنى الكلام على ذكر الحال. قولهم: إنّها صفةُ هيئةِ الفاعل أو المفعول به قلنا: المنصوب بكان يؤول إلى معنى الصفة، ألا ترى أن قولك كان زيد أباك معناه كان زيد والدك أو الذي ولدك

وأما كون الحال نكرة فقد جاءت معرفة في بعض المواضع كقولهم: ((أرسلها العراك)) أي معتركة و ((افعله جهدك وطاقتك)) أي مجتهداً، و ((كلمته فاه إلى في)) أي [مشافهاً]، وكل ذلك معرفة. أمَّا كونُ الحال مُشتقة فغيرُ لازمٍ أن قولَهم: ((جَهدُك وطاقَتُك)) ليس بمشتقٍّ عندكم وهو الحال فكذلك قولهم: ((مررتُ بالحيَّةِ ذِراعاً وطولها)) ومنه قولُه تَعالى: {ولقد صرفنا في هذا القرآن من كل مثل لعلهم يتقون، قرآناً عربياً} ف ((قُرآناً)) حال، وليس بمشتق، وتقول: مررت بزيد رجلاً صالحاً ((فرجلاً)) حال وليس بمشتق. وأمَّا تقديمُ الحالِ فجائزٌ عندكم، وأمَّا عندنا فلا يَجوزُ لمانعٍ وهو الإِضمارُ قبلَ الذكرِ ولم يُوجد المانع في المنصوب بكان. والجوابُ: أمَّا حذف الحال فجائزٌ في كلِّ موضعٍ ثم الكلام على ما قبلها، فأما قولهم: مررت بكل قائماً فإنما لم يسغ حذفها فيه لأن صاحب الحال ـــ على التحقيق ـــ محذوفٌ؛ لأن التقدير مررت بكل رجل أو بكل القوم فصاحبُ الحال هو المضاف إليه، ومنه قوله تعالى: {ولكلِّ درجاتٌ مما عَمِلُوا} أي لكل فريق أو واحد فلما حذف جعل حاله دليلاً عليه، وكذلك

قولهم: ضربي زيداً قائماً أي ضربني زيداً إذا كان قائماً ف ((قائماً)) حال من الضمير في كان المقدرة، وذكر الحال دالٌّ على المحذوف، وليس كذلك خبر كان، وقد بيّنا أن الحال صفة الهيئة. قولهم: خبر كان يؤول إلى الصفة. جوابه من ثلاثة أوجهٍ: أَحدُها: أنَّ المرادَ بالصّفة هاهُنا ما كان تابعاً للموصوف قائِماً بغيرِه وليس كذلك خبر ((كان))؛ ألا ترى أن قولَك: كان زيدٌ أخاك إن أخاك ليس بتابع لما قبله، ولا هو هيئة قائمة بغيره، ولذلك لا يعدُّ في باب التوابع. والثاني: أن الخبر ليس بواقع موقع الصفة، ألا ترى أن هنداً أمّ عمرو مبتدأ وخبر، وأم عمرو غير واقع موقع الصفة، ولذلك لا يعمل عمل الصفة في الإعراب، وليس كذلك الحال؛ فإن الحال تعمل فيما بعدها كقولك: جاء زيد راكباً أبوه فرساً، وكذلك الجملة في قولهم: ((جاء زيدٌ تقادُ الجنائب بين يديه)). والثَّالثُ: أن العاملَ في الخَبر غيرُ العاملِ في الحالِ عندهم؛ لأن عندهم الخبر يرتفع بالمبتدأ، والمبتدأ بالخبر، وليس كذلك الحال فإنَّ العامل فيها هو العامل في صاحبها، قد بيّنا أن الحكمَ الحالِ أن تكونَ نكرةً وما ذكروه من المسائل فليس المنصوب فيه حالاً بل هو نائب عن الحال، فقولهم: ((أرسلها العراك)) تقديره أرسلها معتركة، ثم أقام الفعل مقام الاسم لمناسبته له، أي أرسلها تعترك، ثم حذف الفعل وجعل المصدر دالاًّ عليه، وهكذا: افعله مجتهداً، ثم تجتهد، ثم جهدك، ويدل على ما ذكرناه أن الحال مشتقة و ((جهدك)) قد سبق جوابه و ((ذراعاً)) في معنى المشتق؛ إذ

معناه مررت بالحيّة مذروعة أو طويلة، وغير المشتق قد يقع موقع المشتق ومنه قولهم: ((مررتُ بقاعٍ عرفج كلُّه)) أي خشن كلّه، وأمَّا ((قرآناً)) فبمعنى مقروءٌ، ومقروءٌ مشتق، وقال النحويون: هي حال موطئة، ومعنى ذلك أن ((عربياً)) هو الحال، و ((قرآناً)) وطأ للحال، فصار الحال في اللفظ وصفاً وكسى للموصوف اسم الحال، وقد بيّنا أن الحال عندهم لا يجوز تقديمها. قولهم: ذلك من أجل تقدُّم الضمير على الظّاهر قلنا: فمثله في خبر كان إذا قلت كان قائماً زيدٌ فإن في ((قائماً)) ضميراً؛ لأنه اسم فاعل، ومع ذلك فقد جاز تقديمه وسيأتي ذلك في مسائل الحال. واحتجّ الآخرون بأن خبرَ كان منصوبٌ ولا بد له من وصف ينتصبُ عليه وقد انحصرت المذاهب فيه على قولين: أحدهما: هو مشبهه بالمفعول على قولكم. والثاني: على الحال على قولنا. والمذهب الأول باطل من أوجه: أحدها: أن تشبيهَه بالمفعول لا يصحُّ؛ لأن المفعول غير الفاعل وخبر كان هو اسمها في المعنى. والثّاني: أن المفعولَ يكونُ منفصلاً ومتّصلاً، وخبر كان الجيّدُ أن يكون منفصلاً. والثالث: أن المفعول يصح أن يقال فعلتُ به، وخبر كان لا يصحُّ فيه ذلك.

كذلك، ألا ترى أنك لو قلت في قولك: كان زيد قائما كان قائم لم يجز كما لا يجوز في الحال. والخامس: أن معمول خبر المبتدأ يجوز أن يتقدم عليه كقولك: زيداً عمرو ضرب ف ((زيداً)) منصوب بضرب، وخبر كان لا يجوز فيه ذلك، فلو قلت زيدٌ قائماً زيدٌ كان لم يجز. والجواب: على ما ذكروه من وجهين جملةً وتفصيلاً: أمَّا الجملة فإن جميع ما ذكروه من الفروق يدل على أنه ليس بمفعول به حقيقة، ونحن نقول به، فأما التشبيه بالمفعول به فممكن، والفروق المذكورة لا تقدح فيه، ووجه ذلك أن خبرَ كان واقعٌ بعد الفاعل وليس بأحد التوابع، ولا حالاً، ولا استثناءً، ولا تمييزاً، فلم يبق له إلا التشبيه بالمفعول به وهذا غير ممتنع، ألا ترى أن التمييز في نحو قولك: عندي عشرون درهماً مشبه بالمفعول وليس بحال عند الجميع، وكذلك قولهم: مررت بالرجل الحسن الوجه. والجواب الثاني: وهو التَّفصيل، فأمَّا كونه منفصلاً ومتصلاً فإِنَّ كلا الأمرين جائز؛ ألا ترى أن قولك: كنته وكنت إياه جائزان ومنه قول أبي الأسود: دع الخمرَ يشربها الغواة فإنني ... رأيتُ أخاها مغنياً بمكانها

فإلاّ يكنها أو تكنه فإنه ... أخوها غَذته أمه بلبانها يعني الزّبيب، فجعل خبرَ كان متصلاً، والحال ليست كذلك، وقولهم: فعلت به فقد سبق جوابه. أما قيامه مقام الفاعل فلا يجوز لما يلزم فيه من حذف الخبر؛ لأن كان لا بد لها من خبر، وقيام خبرها مقام الفاعل يحيل ذلك، ومثله الحال فإنها لا تقام مقام الفاعل، فقد فزعوا إلى غير مفزع، وأمَّا مسألة التقديم فعنها جوابان: أحدهما: أنّها جائزة؛ لأن خبر كان يجوز أن يتقدم عليها وعلى اسمها، كما أن المفعول به كذلك. والثاني: نسلم أنه لا يجوز ولكنّ وجه المنع أن عمراً هنا مبتدأ، وكان غير عامله فيه، فلو قدمت خبر كان على المبتدأ لفصلت بين العامل والمعمول بالأجنبي، وهذا ممتنع، ألا ترى أن قولك: كانت زيداً الحُمى تأخذ إذا نصبت زيداً بتأخذ وجعلت الحمى اسم كان وتأخذ الخبر لم يجزْ لما ذكرنا من الفصل ولكن إن جعلت في كان ضميرَ الشأن جازت المسألة؛ لأن اسم كان قد تقدم على معمول الخبر فلا فصل بأجنبي .. والله أعلم بالصواب.

45 - مسألة [تقديم خبر ما زال وأخواتها على (ما)]

45 - مسألة [تقديم خبر ما زال وأخواتها على (ما)] لا يجوز تقديم خبر ((ما زال)) وأخواتها مما في أوله ((ما)) على ((ما)) كقولك: قائماً ما زالَ زيدٌ. ووافق الكوفيون على امتناع ذلك في ((ما دام)). ووافق الفراء في الجميع. وقال بقية الكوفيين: يجوز التَّقديم فيما منعه البصريون. وحجة الأولين: أن ((ما)) حرف يجب تصدره على الفعل لمعنى يحدثه فيه، فلم يجز تقديم ما في خبره عليه، قياساً على ((ما دام))، وعلى حروف الاستفهام.

وبيان ذلك أن ((ما)) للنفي، وهو معنى تحدثه ((ما زال)) وحروف المعاني لها صدر الكلام، فإذا تقدم عليها ما في خبرها بطل استحقاقها للتَّصدُّر، ومن هاهنا لم يجز التَّقديم في ((ما دام)) ولا في أدوات الاستفهام. فإن قيل: الاعتراض عليه من وجهين: أحدهما: أن ((ما)) مع ما بعدها صارتا كالكلمة الواحدة ولهذا عُدَّ هذا الكلام إثباتاً لا نفياً، على ما نبينه في حجتنا. وأمَّا ((ما دام)) ف ((ما)) فيها مصدرية، والفعلُ صلة لها فلذلك لا يجوز تقديم المنصوب عليها لما في ذلك من تقديم الصلة على الموصول. والثاني: أنَّ ما ذكرتموه ينتقض ب ((لا)) و ((لن)) فإنه يجوز تقديم أخبار هذه الأفعال عليها، وهي مشاركةٌ ل ((ما)) فيما ذكرتم. فالجواب: أما كون الكلام إثباتاً في المعنى فسيأتي جوابه وأما ((ما دام)) فما ذكروه فيها صحيح، ولكن الجامع بينهما وبين ((ما زال)) اشتركهما في أن كلِّ واحدةٍ منهما يجب تصدرها وتأثيرها فيما بعدها فيمتنع التقديم لهذه العِلّة، وإن اختلفا في جهة على المنع، ولكن الجنس يجمعهما. وأمَّا النقض فسيأتي الجواب عنه فيما بعد. وأما حجة الكوفيين: فقد احتجوا بالسماع والقياس. فمن السماع قول الشاعر: ورج الفتى للخير ما إن رأيته ... على السن خَيْراً لا يزالُ يَزيدُ

كـ ((كان)) وبيان ذلك من وجهين: أحدهما: أن قولك: ما زالَ زيدٌ كريماً معناه هو على كل حال، ومن ها هُنا لم يجز الاستثناء منه، فلا تَقول: ما زالَ زيدٌ إِلا كريماً، كما لا يجوز كان زيدٌ إلا كريماً. والثاني: أن ((زال)) معناه فارق، وفارق في معنى النفي و ((ما)) للنفي، وإذا دخل النفي على النفي صار إيجاباً وتصير المعاملة مع الإِيجاب، إذ كان التَّركيب ضد المعنى الإِفراد قالوا: فإن قلتم فكيفَ جاء الاستثناء في بيتِ ذي الرّمة وهو قوله: حَراجيج ما تَنْفَكُّ إِلا مُناخَةً ... على الخَسف أو نَرمي به بلداً قَفْرا قلنا في البيت عدة أوجه: أحدها: أن الرواية: ((آلاً مُناخة)) و ((الآلُ)) الشَّخصُ الخَفِيُّ فكأنه

قال: ما تنفك مهزولة من السَّيرِ فلا يكون في البيت على هذا استثناء. والوجه الثاني: أنهم حكوا فيه الرفع على أنه ليس بخير فيجوز أن تكون ((إلا)) غير، وتكون بدلاً من الضمير في ((تنفك)) أو على تقدير إلا هي مناخة. والثالث: أن ((إلا)) زائدة كذا قال المازني وقد جاء زيادة ((إلا)) في مواضع كثيرة من الشعر، وقد أنشد سيبويه منه شيئاً. والرَّابع: أن تكون ((مناخة)) حال والخبر ((على الخسف)) ومعناه لا تنفك على الخسف إلا في حالة إناختها، أي لا تزال مُذَلّةً بالسير متعبة إلا إذا أنيخت. والخامس: أن تكون ((تنفك)) تامة فلا تحتاج إلى خبر وهذا الوجه فيه نظر وبعد، وذلك أنك إذا جعلت ((تنفك)) تامة كان ما تنفصل ولا تفارق السَّير أو الإِعياء إلا مناخة، فيكون ((على الخسف)) إمّا متعلقاً

بـ ((مناخةً)) أو حالاً من الضمير فيه فيكون المعنى أنّها لا تزال على الخسف حتى في حال الإِناخة، وليس المعنى على ذلك، وهذا البيت يحتاج إلى تأويله أهل البلدين جميعاً؛ لأنهم لا يجوزون الفصل بين خبر هذه الأفعال وبين اسمها في الاستثناء، ولا يجوزون أيضاً أن يكون الاستثناء خبراً لها، وعلى قولهم يجوز ذلك وليس المعنى عليه، وذلك أن قولَه: (ما تنفك إلا مناخة)) ليس بكلام تام، وإنما الخبر على الخسف، وقد كان الأصمعي لا يحتج بشعر ذي الرُّمة، ويقول فيه أشياء خارجة عن طريقة العرب، كما كان يقول في الكميت. والجواب: أمَّا البيتُ فعنه ثلاثة أجوبة: أحدهما: أنَّ ((خيراً)) منصوب بفعل محذوف لا ب ((يزيد)) هذه، بل هذه مفسرة للناصب، كما يكون ذلك في باب المصادر والموصولات مثل قول الشاعر: أَبَعْلِيَ هذه بالرَّحى المُتَقَاعِسِ والتقدير يزداد على السنّ خيراً.

والثاني: أن الذي في البيت ((لا)) و ((لا)) ليست أصلاً في هذا الباب، وكذلك لم، وقد جوزوا تقديم الخبر فيها بخلاف ((ما)) فإنها الأصل في النفي، وهي أمُّ بابه، فالنفي فيها آكد. والثالث: أن ذلك من أحكام الشعر، لا أحكام الاختيار قولهم إن معنى ((ما زال)) الإِثبات، قلنا: لا نظر إلى ما يحصل من معنى المركب، بل الاعتبار بوجود الحرف الذي يصدر به الكلام، ألا ترى أن الاستفهام إذا دخل على النفي صار معناه الإِيجاب، والتقرير، ومع هذا يكون الجواب فيه بالغاً، والحكم للفظ، لا لما آل المعنى إليه كقوله تعالى: {ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها} {فتهاجروا} منصوب على جواب النفي، والاستفهام ولو كان هذا على محض الإِيجاب لم يجز النَّصب. وأمَّا امتناع دخول ((إلا)) فهو من قبيل المعنى؛ لأن الاستثناء مخالف للمستثنى منه، ولا شكَّ أن معنى ما زال الإِثبات، وأن النَّفي نقضٌ له، وهذا على خلاف الإِعراب، والتقديم والتأخير؛ لأن ذلك من مكملات اللَّفظ، ألا ترى أن قولك: قائماً ما زيدٌ، وما قائماً زيدٌ مثل ما زيدٌ قائماً في المعنى وهو غير جائز في الإِعراب هاهنا والله أعلم بالصواب.

46 - مسألة [(ليس) بين الفعلية والحرفية]

46 - مسألة [(ليس) بين الفعلية والحرفية] ((ليس)) فعل. وقال بعضهم هي حرف. والدليل على الأول أنه لفظ يتحمل الضمائر، وتتصل به تاء التأنيث

الساكنة على حسب اتصال ذلك بالأفعال المتصرفة فكان فعلاً قياساً على ((عسى))، وبيان وصف أنك تقول: لستُ، ولستَ، ولستِ، وليسا، وليسوا، ولسنَ، كما تقول: قلتُ، وقلتَ، وقلتِ، وقالا، وقالوا، وقلنَ، وكذلك عسيتُ وما يتصل بها من الضَّمائر وإذا ثبت هذا حُكِمَ بأنَّها فعلٌ لما تقرر أن الحروف لا تتصل بها هذه العلامات وكذلك الأسماء، وإذا اختصت هذه العلامات بهذا اللفظ حكم بكونه فعلاً؛ لبطلان كونه من القسمين الآخرين. فإن قيلَ: ما ذكرتموه منقوض ومعارضٌ، أما النَّقضُ فب ((هاؤم)) في أسماء الفعل لفاعلين في نحو قولك: ها أقرأ: بمعنى خذ الكتاب فاقرأ، فإنّه يقال فيه: هاءَ، وهاءِ، وهاءُ، وكذلك أنت وأنتها، وأنتم، وأنتن، وليست هذه أفعالاً. وأما المعارضة فهو أن علامات الفِعل ((قد))، والتصرف، وبناؤه على صيغة الفعل، فإن قوله ((ليس)) على غيرِ بناءِ الأفعالِ؛ لأنَّها تبني على فَعِلَ وفَعَلَ، وفَعُلَ، وليس هذا اللَّفظُ واحدٌ منها، إذ لو كان كذلك لانقلبت الياء ألفاً، أو لكان معتلّ العَين بالياء على فَعُلَ وليس بموجودٍ، وإذا دلت هذه على أنه ليس بفعلٍ حصلت المعارضة فمن أينَ يثبت كونه فِعْلاً؟. فلئن قلتم فمن أين يثبت كونه حرفاً؟ قلنا: لما نذكره من الترجيح في حجتنا.

فالجواب: أمَّا النَّقضُ فغير لازم وذلك أن هذه العلامات لا تتصل بالحروف والأسماء على حسب اتصالها ب ((ليس)) وبيانه أمَّا الحرفُ في أنتَ وأنتُما، وأنتُمْ فإن الاسمَ فيه أن وهي الموجودة في قولك: أنا قلت فزِيْدَت التَّاءُ عليه، علامةً للخطَابِ، ثم كُسرت في المُؤنَّث للفَرقِ بينَه وبينَ المُذَكَّرِ، فإذا أردت التثنية والجمع زدت على التاء ميماً وألفاً، ميماً وتاءً فقلتَ: أنتما وأنتُم، وهذه حُروف تدلُّ على الخِطاب والكَمِيَّة، وليس كذلك في لسنا، ولستم، أمَّا لسنا فالضمير فيه ((نا)) مثل قمنا، ولستُما، ولستُم فالضمير فيه التاء وما بعدها علامةٌ لمجاوزة الواحد، و ((ليس)) قائمةً بنفسها، وليست اسماً بالاتفاق و ((أن)) في أنت هو اسم ولذلك تقول في المُثنى وفي الجَمعِ نحن و ((ليس)) لا يتغير لفظها و ((إنْ)) تتغير العلامات المتصلة بها وأما ((هاء)) في اسم الفعل فلا ينقض به؛ فإنها اسم بالاتفاق و ((ليس)) ليست اسماً عند أحدٍ، وإنما جاءت العلامات في هاء وهاء وهاء على جهة التشبيه بالفعل، هذا في بعض اللغات، وفيها لغاتٌ لا تدلُّ العلامةُ فيها على مثل ما تدلُّ العلامةُ في الفعلِ كقولهم: ((هاؤم)) فإنه زاد الميم والمراد به الأَمر، ليس في أفعال الأمر ما هو كذلك كقولك خُذ وخُذُوا، فإنَّه لا ميم فيه، وإذا بَعُدَ هذا اللَّفظ من فعلِ الأمرِ ومن بَقِيَّة الأفعالِ وكان اسماً لم يناقض به في باب ((ليس)). وأما المعارضة فسيأتي جوابها. واحتج الآخرون بالسَّماعِ والقياسِ. وأما السَّماع فما حكى سيبويهِ من قولِ العَربِ: ((ليسَ الطِّيْبُ إلاَّ

المِسْكُ)) فرفعَ المسكَ والطيبَ جميعاً وأعرى ليس من مرفوع ومنصوب لوجود ((إلا)) الناقضة للنَّفْي، كما أن حكم ((ما)) كذلك. وأما القياسُ فمن أوجهٍ: أحدُها: أن الفعل موضوعٌ على الإِثباتِ، الحدث والزمان و ((ليس)) لا تدل على واحد منهما، وإِنَّما تنفيهما فهي في ذلك كما النافية. ومنها: أنَّها لو كانت فعلاً ثلاثياً لكانت على أَحد أمثلةِ الفِعلِ وهي فَعُل وفَعَلَ وفَعِلَ ولا يجوز أن تكون على واحدٍ منها، أما الضم فليس في الأفعال ما عَينه ياءٌ مضمومةٌ، وأما الفتحُ والكسرُ فكان يجب أن تنقلبَ ألفاً، لتحركها وانفتاحِ ما قَبلها مثلُ خافَ وهابَ. ومنها: أن ((ليسَ)) لا يصحُّ أن تكونَ صلةً ل ((ما)) المصدرية كقولك: ما أحسن ما ليس زيد قائماً، ولو كانت فعلاً لصحَّ أن تكون صلة ل ((ما)). ومنها: أن ((ليس)) ينتصب جوابها كما ينتصب جواب ((ما)) النافية كقولك: ليس زيدٌ بزائرك فتكرمه، وقولك: ما زَيْدٌ بزائِرك فتكرمه. ومنها: أنّها غيرُ مُتَصَرّفةٍ، وأنَّها لا تدخلُ عليها ((قد)) وهذا من أدل علامات الأفعال. والجوابُ أمَّا الحكاية عن العرب، فالجواب عنها من ثلاثة أوجه: أحدها: أنها شاذةٌ شذوذاً لا يثبت بمثله أصل، كما أن الجر

ب ((لعل))، وفتح لام كي لا يُجعل أصلاً يُستدل به وكذلك قولهم: ((لدن غدوة)) والشذوذ المطرح كثير. والوجه الثاني: أن في ((ليس)) ضمير الشأن، والتقدير ليس الشأن، والقصة الطيبُ إلا المسك، كما قالوا: ((ليس خلق الله إلا مثله)). فإن قيل: هذا لا يصح لأنّه يلزم منه دخول ((إلا)) بين المبتدأ والخبر وليس حكم ((إلا)) كذلك. قيل: أما في الشِّعرِ والشُّذوذِ فيحتمل ذلك ومنه قوله تعالى: {إن نظنُّ إلاَّ ظَنًّا} أي إن نحن إلا نظنُّ ظناً.

والوجه الثالث: أنا نقدر تجرد ((ليس)) عن ضمير ولكن هذا لا يخرجها عن أن تكون فعلاً لفظياً، ألا ترى أن كان وأخواتها أصلها أن تكون دالة على الحدث ثم خلعت دلالتها عليه وبقيت دلالتها على الزمان، وقد يأتي لفظ ((كان)) زائداً فلا يدل حدث ولا على زمان، فغير ممتنع أن يأتي لفظٌ ((ليس)) وهي فعلٌ لفظاً، وقد زال حكمها في الإِعراب دون دلالتها على النفي؛ لأنه إذا جاز أن تزاد ((كان))، ولا علة له في اللفظ، ولا دلالة على حدث ولا زمان كان ذلك في ليس أولى؛ لأنها وإن ألغيت عن العمل فنفيها باقٍ. قولهم: الفعل موضوع للإثبات، جوابه من وجهين: أحدهما: لا نسلم ذلك مطلقاً، فإن منها ما يدلُّ على النفي فقط، مثل أمسك عن الفعل، وكف عنه، وترك، وصام، فإنَّ ذلك كله يدل على النفي، وهي أفعال بلا خلاف. والثاني: نُسلم ذلك ولكن نقول: نحن لا نثبتها فعلاً حقيقياً بل هي فعلٌ لفظيٌّ يَجري عليه حكم الحقيقي في العمل، قولهم: لو كان فعلاً لكانت على أحد الأمثلة قلنا: هي في الأصل على مثال ((فَعِلَ)) بالكسر ولكن سكنت كما كان ذلك في قولهم: ((صَيْد البعير)) وأصله

صَيِدَ إذا أصابه داء في عنقه يسمى ((الصيد)) ولزم هذا التسكين في ((ليس)) لما شبهت بالحروف وصارت في اللفظ مثل ((ليت)). وأما امتناعُ كونِها صلةً ل ((ما)) المصدرية، فلأنَّها وضعت على النَّفي كالحرفِ فلا يكونُ منها مصدرٌ، ونحن نقول: إنها فعلٌ لفظيٌّ حقيقيٌّ. وأما عدمُ تصرفها فلا ينفي كونها فعلاً، فإن فعلَ التَّعجب لا يتصرف وكذلك ((عسى)) و ((حبذا)) وأما بقية العلامات نحو ((قد)) فلا ينفي كونها فعلاً فإن ((عسى)) و ((حبذا)) وفعلَ التَّعجب لا تدخل عليها ((قد)) وهي أفعال ... والله أعلم بالصواب.

47 - مسألة [تقديم خبر (ليس) عليها]

47 - مسألة [تقديم خبر (ليس) عليها] يجوزُ تقديمُ خبرِ ((لَيس)) عليها عند جمهور البصريين. وقال الكوفيون، وبعض البصريين: لا يجوز.

وحجة الأولين من أوجه: أحدها: قوله تعالى: {ولئن أخرنا عنهم العذابَ إلى أمةٍ معدودةٍ ليقولن ما يَحْبِسُهُ}، ثم قال: {أَلاَ يَوْمَ يَاتِيهمْ لَيْسَ مَصْرُوفًا عَنْهُم} فنصب ((يومَ)) ب ((مصروف)) و ((مصروف)) خبر ((ليس)) وتقديم معمول الخبرِ كتقديم الخبرِ نفسِهِ؛ لأن المعمولَ تابعٌ للعامِلِ ولا يقعُ التابعُ في موضعٍ لا يقعُ فيه المتبوع. فإن قيل: في الآية وجوه خيرٌ مما ذكرتم. أحدها: أن ((يومَ)) في موضع رفع وبني على الفتحِ لإضافته إلى الفعل كما قرأ نافعٌ: {هذا يومَ ينفع الصادقين صدقهم} بفتح الميم وعلى هذا لا يَبقى لكم فيه حُجَّة. والثاني: نقدر أنه منصوب ولكن لا ب ((مصروف))، بل بفعل دل الكلام عليه تقديره: يلازمُهُم يومَ يأتيهم، أو يَهجِمُ عليهم ومثلُ ذلك لا ب ((مَصْروف)) كقولك: زيداً ضربته، هو منصوب بفعل محذوف.

والثالث: سلّمنا أنه منصوب ب ((مصروف)) ولكن هو ظرف له والظروف يُتساهل في نَصبها فلا يَلزمُ من ذلك جوازُ النَّصبِ في غيرها. والجواب: أما الأول فجوابه من وجهين: أحدُهما: أنه لو كان من هذا الموضع لكان مبتدأ والجملة بعده خبر عنه فيلزم من ذلك أن يكونَ فيه ضمير يعود على المبتدأ فيكون الأصل ليس مصروفاً عنهم فيه، وحذفُ العائدِ على المبتدأ من مواضِعِ الضَّرورة. والثاني: أن ((يومَ)) مضافٌ إلى فعل معرب، والجيد في مثل ذلك إعراب المضاف، ولم يقرأ أحدٌ من القراء ((يومٌ)) _بالرفع_ بخلافِ قوله: {يومُ ينفع الصادقين} على أن ((يوم ينفع)) معرب بالنّصب وهو ظرفٌ لما دل عليه هذا؛ أي هذا واقعٌ في يوم نفع الصادقين. وأمَّا نصبُهُ بفعلٍ مُضمَرٍ فلا حاجةَ إليه مع صحَّة عمل مصروفٍ فيه؛ لأن الإضمار على خلاف القياس. أمَّا كونُه ظرفاً فليس بعلّةٍ لجوازِ إعمال الخبرِ المتأخرِ فيه فإنَّ أحداً لم يفرق بين عمل خبرِ ((ليس)) فيما تقدم عليها بين الظرف وغيره. والدليل الثاني: أنه فعلٌ جازَ تقديمُ منصوبِهِ على مرفوعِهِ فجازَ تقديمُه عليه ك ((كان)) وأخواتها مثالُ ذلك أن تقولَ: ليس قائماً زيدٌ فتنصب قائماً ب ((ليس)) وهو مقدّم على المرفوع فكذلك إذا تقدّم المنصوب عليها، والجامع بينهما أنَّ تقديمَ المنصوبِ على المرفوع تصرُّفٌ، والتَّصرُّفُ للأفعالِ بحقِّ الأَصلِ، ألا ترى أن ((ما)) الحجازِيَّة لما لم تَكن متصرّفَةً أو

لما كانت حرفاً لم يتقدَّم منصوبُها على مرفوعِها لعدمِ الفِعْلِيّة، بخلافِ ((ليس)). فإن قيلَ الجوابُ عنه من وجهين: أحدُهما: لا نُسلّم أنها فعلٌ، بل هي حرفٌ على ما ذُكر في المسألة قَبلها. والثاني: نُسلّمُ أنَّها فعلٌ ولكن غيرُ متصرّفٍ ولا حَقيقي بل هو أشبَهُ بالحرفِ، وقد ذكرناه في المسألة السابقة، ثمَّ هو منقوض في المعنى ب ((نعم)) و ((بئس)) و ((عسى)) وفعل التعجب فإنَّ تقديمَ المَنصوبِ فيها غيرُ حائزٍ فلو قلتَ: رجلاً نعمَ زيدٌ لم يَجز، وما زيداً أحسنُ لم يَجز، وعسى أن يقومَ زيدٌ على أن تَجعلَ أن يقومَ في موضعِ نَصْبٍ لم يَجز، وخرج على ما ذكرناه ((كان)) فإنّها متصرفة تكون للماضي والحال والاستقبال بخلاف ((لَيْسَ)). فالجوابُ: أما الأول فلا يصح لوجهين: أحدهما: أنه ليس مذهباً لهم. والثاني: ما سَبق من الدّلالةِ على كونها فعلاً. قولهم: هي غير متصرّفة عنه جوابان: أحدُهما: لا نُسلم، فإن وجوهَ التَّصرُّفِ اختلافُ الضَّمائرِ المتصلة بالفعل و ((ليس)) قد اتَّصلتْ بها الضَّمائِر على ما ذكرناه من ضمائِرِ التَّثْنِيَةِ والجَمع والتاء ومن تاءِ التأنيث.

والثاني: نُسلّم أنها غير مُتصرّفة ولكن هي فعل لما ذكرناه في موضعه والفعل بحق الأصل عامل قوي وإن ضعف في بعض المواضع لم يَسلبه عمله الأَصلي، وعمل الفعل يَقتضي أن يكونَ معمولُهُ متأخراً ومتوسطاً ومتقدّماً، وقد ظهرَ أثرُ ذلك في ((ليس))، وهو تقدّم مَنصوبِها على مَرفوعِها ومخالَفَتِها في ذلك ((ما)) لمّا لم تكن متصرفةً، ولم تَكنْ فعلاً، فكذلك يجوزُ تقديمُ منصوبِها عَلَيْها إذ لا فرق في التقديم بين القَريب والبَعيد يدل عليه أن منصوبها إذا تقدم على مرفوعها كانت ليس إلى جنبه وإذا تقدم عليها كانت إلى جنبه أيضًا، ولا فرق بين أن تليَه أو يليَها. أما النقض بالمسائِل التي ذكروها فلا يَردُ؛ لأن كلِّ واحدٍ منها اقترن به ما يمنع من التقديم، والمانع قد يرجّح على المُقتضى، و ((ليس)) مقتضية ولم يقترن بها مانع من التقديم بخلاف تلك المسائِل فإن المانِعَ مقترنٌ بها. وبيانه: أمَّا نعَمَ رجلاً ((زيدٌ)) فالمانع فيه من التقديم شيئان: أحدهما: أن رجلاً هاهنا فاعل في الأصل، إذ التقدير نعم الرّجل، ثم نُكّر وجعل تمييزاً للمبالغة، وهو مثل قولهم: ((طبتُ به نفساً)) أي طابت نفسي به وإذا كان واقعاً موقع الفاعل لم يجز تقديمه لأن الفاعل لا يتقدم على الفعل. والوجه الثاني: أن فاعل نعم مضمر فيها على شريطة التفسير وهو ((رجلاً)) مفسر للضمير فلو قُدّم لقدم المفسَّر على المفسِّر، وهذا خلاف الأصل، والمميَّز على المميِّز ونظير ذلك قولك: عندي عشرون درهماً، ولو قلت عندي درهماً عشرون لم يجز. أمَّا ((عسى)) فالجواب عنها من خمسةِ أوجهٍ:

أحدُها: أنّ وُضعت لتقريب الخَبر من الحالِ، وتضمَّنت معنى التَّقريب فجمُدت لذلك، فالمانعُ جمودها وإفادتها لمعنى مستقبل وهو وقوع الخبر. والوجه الثاني: أن خبرَ ((عسى)) أن والفعل، و ((أن)) موصولة وما في حيز الصلة لا يتقدم على ما يعمل فيه. الوجه الثالث: أن خبر ((عسى)) يجوز أن يقع بدلاً من اسمها كقولك: عسى زيدٌ أن يقوم أي عسى زيدٌ قيامه فعند ذلك هو في حكم الفاعل، والفاعل لا يتقدمُ على الفعلِ. والرَّابع: أن في خَبر ((عسى)) ضميراً يرجعُ إلى اسمها والمُضمر لا يتقدَّم على المُظهر هذا هو الأَصل، وإنما يتقدم إذا كان في نيَّة التأخير ولو صحّ التقديم لما جازَ غيره؛ لأنه هو المقصود في حكم ((عسى)). والخامس: أنَّ فيه إضماراً قبلَ العاملِ والمَعمول فيه، وليس كذلك باب ((ليس)). وأمَّا فعلُ التَّعجب فالجوابُ عنه من وجهين: أحدُهما: أنَّ المانعَ من جوازِ تقديمِ المنصوبِ أنَّ المنصوبَ هو فاعِلٌ في الأصلِ، ألا تَرى أن قولَك: ((ما أحسنَ زيداً)) في معنى حَسن زيدٌ جدّاً، وإنَّما أخّر ليسبق معنى التعجب على المتعجب منه، فهو كسبق أداة الاستفهام على المستفهم عنه. والوجه الثاني: أن فعل التعجب مع ((ما)) بمنزلة الموصول والصلة وقد

ذهب الأخفش إلى أنه موصول حقيقة، وتقديم الصلة على الموصول لا يجوز. أما حُجَّة الآخرين فقد تمسَّكوا بأشياءَ: أحدُها: أنّها لَفظٌ يَنفي الخبرَ فلم يَجُزْ تقديمُ مَنصوبه عليه ك ((ما)) وبيانه: أن قولَك: ليسَ زيدٌ قائماً ينفي قيامه في الحال كما أن قولك: ما زيد قائماً كذلك، وإذا أشبهت ((ما)) في النَّفي وَجَبَ أن تُحمل عليها في منع التَّقديم، ألا تَرى أنَّها لما أشْبَهَت ((لَيس)) أعملها أهلُ الحجازِ عملَ ((ليسَ)) فكذلك إذا أشبهتها في النفي مُنعت من التّقديم وهذا أَولى وذلك أن ((لَيس)) القياسُ ألاَّ تعمل كما أن القِياس في ((ما)) كذلك فإذا مُنِعت من التقديم كانت حملاً على الأصلِ، وكان تَأخُّر المنصوبِ عنها جارياً على خلافِ القِيَاس. والوجهُ الثاني: أن ((لَيس)) قد تَوَهَّنت ونَقَصَتْ عن الفعلِ الحَقِيْقِيّ من وجوه. أحدُها: أنَّ بعضَ النَّحويين جَعَلَها حرفاً مَحْضاً، ولَيس كذلك كانَ وأَخواتها. والثاني: ما حَكى سيبويه: عن بَعضهم أنّه أَلغاها عن العَمَلِ فقالَ: ليسَ زيدٌ قائمٌ. والثالث: أن بعضَ العَرَبِ أَدخل عَليها ياءَ المُتَكَلّمِ من غيرِ نونِ الوقايةِ فقالَ: عليه رجل ليسي، ولو كانت فعلاً حقيقةً لقالَ: لَيْسَنِي. والرابعُ: أن بعضَ العربِ لم يُحَمِّلْها ضَميراً فقالَ: ليس الطيبُ إلا المِسْكُ.

والخامسُ: أنَّه لا يكون منها مُستقبلٌ ولا أَمرٌ فخالَفت بذلك بَقِيّةَ أَخواتها. والسادسُ: أنَّ ضميرَ المُخاطبِ والمُتكلِّم إذا اتّصلَ بها لا يُكسر أَولها ولَيس كذلك باعَ، لأنَّك تقول فيه بِعْتُ، ولا تقول هنا لِست. وكلّ هذه الوُجوه تدلُّ على انحطاط رُتْبتها عن رُتْبَةِ ((كان)) وشبهها ب ((ما)) فتكونُ فرعاً عليها، والفروعُ عن الأُصولِ ولا يَبين أثرُ النُّقصان إلا بمنعِ التَّقديمِ. والجوابُ: قولُهم: إنّه لفظٌ ينفي ما في الحالِ. قُلنا: كونها لفظاً، اللّفظ العامُّ الذي هو الجِنْسُ، وذلك يَدْخُلُ الاسم والفعل والحرف والعملُ لا يَنْتَسْبُ إليها بكونِها لَفظاً، بل بكونِها فعلاً، وهو وَضعها الخَاصُّ، وبذلك تَنْفَصِلُ عن ((ما)) فَيَنقَطِعُ إلحاقُها بها، بل هي أصلٌ ل ((ما)) والأَصلُ لا ينعَكِسُ ويَصِيْرُ فرعاً لِفَرْعِهِ. قولُهم: القياسُ في ((لَيس)) ألاَّ تَعمَلَ لا نُسلم بل القِياسُ أن تعملَ؛ لأنَّ ((ليسَ)) فعلٌ تَتّصِلُ به الضَّمائِرُ المَرفُوعَةُ والمَنْصُوبَةُ فهي في ذلك ك ((كانَ))، ويلزمُ من ذلِكَ جوازُ التَّقدِيْم. قَولهم: إِنَّها قُصُرَتْ عن ((كانَ)) قُلْنا: لا نُسَلِّمُ قُصُورها عنها في العملِ؛ لأنَّ عَمَلَهَا منسوبٌ إلى كَونها فِعلاً فهي في ذلك ك ((كان))، وإنّما لم تَتَصَرّف لما أرادوا بها نَفْي ما في الحالِ فَجُمودها كَجُمودِ ((نِعْم)) و ((بِئْس)) وفِعْلِ التَّعجُّب، و ((عَسى)) وأما كونُها حرفًا فقد أبطَلناه فيما سَلَف، وأما إلغاؤُها فلا يصحّ والحكايةُ محمولةٌ على أنَّه جَعل فيها ضميرَ الشأنِ، فلذلك رفع الجملةَ بعدها، وكذلك قولهم: ((ليسَ الطيبُ إلا المِسْكُ)) وقد سبق ذكره، وقولهم في الحكاية ((ليسي)) فمن الشُّذوذِ الذي لا يُعَوَّلُ عليه، كما أنّه جَعَلَ الإِغراءَ للغائبِ في قوله: ((علَيه)) وبابُ ذلك أن تقولَ: عليَّ كذا أو عَلَيْكَ.

وأمّا عدمُ تصرُّفها في الزّمان فلأنَّهم وَضَعُوها على مَعنى واحدٍ وهو نَفْيُ ما في الحالِ كما أن نِعم وعَسى وفِعل التَّعجب كذلك، وأما قَولهم: لست _ بفتح اللام_ على خِلافِ بِعْتُ فالوجه فيه أن أَصلها ((لَيسَ)) _ بكسر الياء _ كما قالوا: صَيدَ البَعير: إذا أَصابُه الصَّيدُ وهو داءُ وتقولُ بعدَ التَّسكين صَيْد البَعير بفتح الصّاد وسكون الياءِ تَنْبِيْهاً على الأَصلِ فكذلك ((لَيس)) في أن أَصلها ((لَيِسَ)) ثم سكنت ولما اتّصل بها السَّاكِنُ حُذفَ الساكن الأَوَّلُ وبَقِيَ الأَوَّلُ على فَتْحِهِ تَنْبِيْهاً على الأَصْلِ .... والله أعلمُ بالصَّوابِ.

38 - مسألة [خبر (ما) الحجازية منصوب بها]

38 - مسألة [خبر (ما) الحجازية منصوب بها] خبر ((ما)) في اللغة الحجازية يَنْتَصِبُ بها. وقال الكوفيون: بحذف حرفِ الجرِّ. وحجة الأولين من وجهين: الأول: أن ((ما)) مشبهة ب ((ليس)) لمشاركتها إيَّاها في أربعةِ أشياء وهي: النَّفيُ، ونفيُ ما في الحال، ودخولُها على المبتدأ والخبرِ، ودخول الباءِ في خبرها. والشَّبه من وَجهين يَكفي في إلحاقِ المُشَبَّهِ بالمُشَبَّهِ به،

فكيفَ إذا زَادَ عَلَيْهما؟ ودليلُ ذلك إعرابُ الفِعْلٍ لِشَبَهِهِ بالاسمِ، ومنعِ التَّنوين والجَرّ مما لا يَنْصَرِف. وباعتبارِ هذا الشَّبه رَفَعَتْ ((ما)) المُبتدأ وعملتْ فيه، وكلُّ ما اقتضى اسمين وعَمِلَ في أَحَدِهِما عَمِلَ في الآخَرِ. والوَجه [الثاني]: أنَّ خبرَ ((ما)) وجدناه منصوباً، ولا بدَّ له من ناصبٍ، ولا يجوزُ أن يكونَ النَّاصِبُ حذفَ حرفِ الجَرِّ لِوَجْهين: أحدُهما: أن حرفَ الجَرِّ هُنا ليس بأصلٍ، بل هو زائدٌ دَخَلَ فَضْلَةً مؤكِّدَةً، وما هذا سَبِيلُهُ لا يُجْعَلُ مقدّماً في الرُّتبةِ حتى يُقال لما حُذِفَ انتَصَب، بل النَّصْبُ هُنا قبلَ الجَرِّ. والثاني: أن الحذفَ عَدمٌ، والعَدمُ غيرُ صالحٍ للعملِ، ويدلُّ على ذلِكَ أنا وَجَدْنا حَرْفَ الجَرِّ يُحْذَفُ في كثيرٍ من المَواضعِ، ولا ينتصبُ ما يُحذَفُ عنه كقولك: بِحَسْبِكَ قول السّوءِ. فلو حَذَفْت لقُلْتَ: حَسْبُكَ بالرَّفعِ، وكذلك {كَفى باللهِ شَهِيْداً} وما جاءني من أَحَدٍ، وله نَظائرُ كثيرةٌ. واحتجَّ الآخرون بأن ((ما)) حرفٌ يدخلُ في الأسماءِ فلا اختِصاص له وما هذا شأنه لا يَنبغي أن يَعملَ، فأحسنُ أحوالِهِ أن يعمل في الاسمِ الواحدِ، ويكونُ العملُ في الاسمِ الآخرِ لحرفِ الجرِّ في قولِكَ: ما زيدٌ بقائمٍ، إلاّ أنه حُذِفَ تَخْفِيْفاً فانتصبَ الاسمُ بعده؛ لأنَّ شأنَ حرفِ الجرِّ شأنُ الظُّروفِ، والظُّروفُ مَنصوبةٌ، فيكونُ الجارُّ والمَجرورُ كالظرفِ، فإذا

حُذِفَ الحَرْفُ خَلَفَهُ الاسْمُ في الاِنْتِصَابِ يدلُّ عَلَيْهِ أنَّها إذا نُقِضَ نَفيها بألاّ أو لكن أو تقدم الخَبَرِ على الاسم بَطَلَ عَمَلُها، ولو كانَت عامِلَةً في الخبرِ لم يَبْطُلْ في التَّقديمِ كما في كانَ وأَخواتِها. والجَوابُ من وَجْهَيْنِ: أحدُهما: أن هذا يَقْتَضِي تَقْدِيْمَ رُتْبَةِ الجارِ ولَيس كذلك بَل الرُّتبةُ الأُولى تَعَرّى الاسم من الحرف. والثَّاني: أن حرفَ الجَرِّ إنما يكُون له مَوْضِعُ غيره، والنَّظر في ذلِكَ الغيرِ ولا غَيرهما إلاّ النَّصْبُ فدلَّ أن المَنصوبَ هو الأصلُ، وأن حرفَ الجَرِّ داخل عليه، أمَّا بُطْلانُ عملِها بالنَّقْضِ، والتّقديمِ فلأجلِ أنّها عَمِلَت لشبَهِهَا ب ((لَيس)) وبهذين السَّببين تنقطعُ عن ((ليس))، لأنَّ النّفي يزولُ بإلاّ، ودخول حرف الجَرِّ يبطلُ بالتَّقديم، فلم يبقَ الشَّبه المُلْحِقُ لها ب ((لَيس)). والله أعلمُ بالصَّوابِ.

49 - مسألة: [تقديم معمول خبر (ما) عليها]

49 - مسألة: [تقديم معمول خبر (ما) عليها] تَقولُ: طعامك ما زيدٌ آكلاً إيّاه، أو آكِله نصبت الخَبر أو رَفعته فإن نصبت الطعام بآكل لم يجر. وقالَ الكوفيون: يَجوزُ. وفرَّق ثَعْلَبٌ فقالَ: إنْ كان ذلِكَ في القَسَمِ لَم يَجُزْ، وإن كانَ في خَبَرٍ محضٍ جازَ. وحُجَّةُ الأولين أن المانِعَ من النَّصب موجودٌ فيمتنعُ النَّصب، وبيانُ المانِع أنَّك لَو نَصَيْتَ الطَّعام لَنَصَبْتَه بآكلٍ، وآكلٌ في حيّز النفي ب ((ما))، والنَّفيُ له صَدْرُ الكلامِ، ألا تَرى أنَّك لَو قُلْتَ: زيداً ما ضربَ عَمْروُ لم يَجُزْ كما أنَّ الاستفهامَ لا يَعْمَلُ فيما قَبْلَهُ كذلِكَ النَّفي والجامِعُ بَيْنَهما أنَّ كلَّ واحدٍ منهما لَه صدرُ الكَلامِ، وتقديمُ معمولِ المُتأخّر على الاسمِ ممتنعٌ كذلِكَ هاهنا. فإِنْ قِيلَ: لا نُسَلّمُ وجودَ المانِعِ، قولكم: إنّ النَّفيَ مانعٌ. لا نسلّمُ أنّ مُطلقَ النَّفي مانعٌ ألا تَرى أنَّه لو كانَ في موضعِ ((ما)) ((لَم)) أو ((لَن)) أو ((لاَ)) لم يَمتنع التَّقديمُ، و ((ما)) في هذا المَعنى كهذه الحُروف.

فالجوابُ أنَّ وجهَ المَنعِ ما ذكرنا وهو معنى مُتَّفَقٌ عليه في الاستفهام فيلزمُ مثله في النَّفي، وأما بقيةُ حروفِ النَّفيِ فسنُجيبُ عنها في جوابِ شُبهتِهِمْ. واحتجَّ الآخرون بأن المُقتضى للنفي موجودٌ والمانع مفقودٌ فلم يبقَ من النَّصب مانعٌ، أما المُقتضى فقوله آكل كما تقولُ: يأكلُ وأما ((ما)) فغيرُ مانعةٍ لما ذكرنا من أن ((لَمْ)) و ((لَنْ)) و ((لا)) لا يَمتَنِعُ مع مشاركتها ((ما)) في النَّفي. والجوابُ: أمَّا المقتضي فمسلّمٌ وجودُه، ولكن المانع موجودٌ وهو أرجحُ من المُقْتَضِي، ألا تَرى لو قلتَ: زيداً أَتضربُ؟ لم يَجزْ مع أنَّ ((تَضْرِب)) مُقْتَضٍ للنَّصب، ولكن حرفَ الاستفهامِ منعَ من ذلِكَ؛ لأنَّ له صدرَ الكَلامِ ولذلك لَو قُلت: أَزيداً تَضْرِبُ؟ جازَ النَّصبُ لما تَقَدّمَ الاستِفهامُ فبانَ أنّه هو المانِعُ، و ((ما)) في ذلِك كهمزة الاستفهامِ. فأما ((لَم))، و ((لَن)) فالفرق بينهما، وبين ((ما)) أنَّهما مُختصَّانِ بالفعلِ والمُختَصُّ بالشّيء كالجزءِ منه، ولما جازَ تقديمُ معمولِ عليه جازَ تَقديمه على ما هُو كالجُزْءِ منه، وليسَ كذلك ((ما))؛ لأنَّها لا تختصُّ بالفعلِ بلْ تَدخُلُ على الأسماءِ والأفعالِ فكانت قائمةً بنفسِها، لا كالجزءِ مما بعدَها كالاستفهامِ. وأمَّا ((لا)) فإنَّها وإن دَخلت على الأسماءِ والأفعالِ فهي مُختصَّةٌ بنفي ما في الحالِ، هذا هو الأَصلُ فيها، ودخولُها لغير ذلك مجازٌ وتَوَسُّعٌ، ويدلُّ على ذلك أنَّ ((لا)) تَقَعُ على مَعَانٍ كالنَّهِي، والنَّفْيِ والعَطْفِ كقولِكَ:

قامَ زيدٌ لا عمرُّو، ولو قلتَ: قامَ زيدٌ ما عمرو لم يَجز، ومنها أنَّك تُلغِيْها في العَمَلِ وتُعدّى العامِلَ فتقولُ: ((جئتُ بلا شيءٍ))، ولو قلتَ جئت بما شيءِ لم يجز، وهذا يُجريها الجُزءِ مما دَخَلَتْ عليه فبانَ الفَرقُ بينهما. وأمَّا تفريقُ ثَعْلبٍ بينَ القسمِ والخبرِ، ففرقٌ لا طائلَ تحته، بل المانعُ إذا ثَبَتَ في القَسَمِ كان في الخبرِ؛ لأنّ القَسَمَ خبرٌ أيضاً؛ ولأنَّ النفيَ فيهما لا يَخْتَلِفُ والله أعلمُ بالصَّواب.

50 - مسألة [ما طعامك أكل إلا زيد]

50 - مسألةُ [ما طعامَك أكلَ إلاّ زيدٌ] تقول: ما طعامَك أكلَ إلاّ زيدٌ، فنتصب طعامك ب ((أكل)). وقال الكوفيون: لا يجوزُ. وحجة القول الأول: أن المقتضي للنَّصبِ موجودٌ، والمانع منتفٍ، فجازَ النَّصب، أما المقتضي فهو الفِعلُ الذي هو أَكَلَ، والفِعْلُ مُتَصَرِّفٌ يعملُ فيما قَبله، وفيما بَعده، وأمَّا المانِعُ فمنتفٍ فإنَّ المَنصوبَ هُنا لم يُقدّم على ما لَه صَدْرُ الكلامِن و ((ما)) النّافية قبلَ الطعام، فقد تَصَدّر ما له الصّدرُ. واحتجَّ الآخرون بأنَّ المانِعَ موجودٌ فيمتنع النَّصبُ، وبيانه أن قولَكَ: ما طعامَك أكل إلاّ زيدٌ في معنى ما أكلَ أحدٌ طعامَك إلاّ زيدٌ، فلو قدّمته لقدّمتَ ما في حيّزِ النَّفي عليه، وللكلامِ تعلّقٌ بالاستثناء والاستثناءُ لا يتقدّم ما بعده علَيه، ويدلُّ على أنّ التَّقديرَ ما أكلَ أحدٌ أن الاستثناء إخراجُ ما

دخلَ في الكلامِ الأولِ، ولولا أن هناك فاعلاً مقدراً يُستَثنى منه لم يصح الكلام، ولذلك جازَ ألاّ يأتي بحرف التأنيث كقولك: ((ما خَرجَ إلاّ هِنْدٌ)) ولولا ذلك التّاء، وإذا تَحقق المانِع من النَّصب امتنعَ. والجوابُ: أما المقتضي فموجودٌ لا محالةَ، وأما المانِعُ فغيرُ مُسَلّمٍ، قولهم: إنّ الفاعلَ مقدّرٌ قلنا جوابه من وَجهين: أحدهما: ليس كذلك فإنّ المقدرَ في اللفظِ يبقَى حكمه عندَ الحَذْفِ وهنا لم يبقَ حكمُ أحدٍ، أَلا ترى أنَّك ترفعُ زيداً بأكلَ كما تَرفعه عند عدمِ ((إلاّ)) كقولك: ما قام إلاّ زيدٌ فزيدٌ فاعلٌ كما أنَّ قولَكَ: ما قامَ زيدٌ كذلك، وأمَّا المستثنى منه فذاك قُدِّرَ من طريقِ المَعنى، وما كان كذلك لا يَبقى له حكمُ من أحكامِ اللَّفظِ أَلا تَرى أنّ قولَك: تَصَبَّبَ زيدٌ عرقاً، وطبْتُ به نَفْساً تَمييزٌ وهو في المَعنى فاعِل، وقَد عامَلته في التَّمييزِ مُعاملةَ الفَضَلاَتِ، لا مُعاملةَ الفاعِلِ. والوجه الثاني: نُسلّم أن التقدير: ما أكلَ أحدٌ ولكن مثلُ هذا لا يَمنع من التَّقديم فإِنّ قولك: ما طعامك أكل أحدٌ إلاّ زيدٌ جائزٌ للعلةِ التي ذكرنا. أما قولهم: ما خَرَجَ إلاّ هندٌ فإثباتُ التاء فيه أحسنُ وحذفُ التاءِ محمولٌ على المَعنى، وذلِكَ لا يَمنع من كونِ هندٍ فاعلاً وإنّما هو شيءٌ يَتَعَلَّقُ بالمعنى لا بالإِعرابِ، ويدلُّ على ذلك أنَّك قد فَصَلْتَ بينَ الفِعْلِ والفاعِلِ، ب ((إلا)) والفَصْل بَينهما يَجوَّزُ حذفَ العلامةِ كما تقولُ: حضَر القاضيَ اليومَ امرأةٌ مع أنَّ التَّأنيثَ حقيقيُّ مع أنّ الفَصل جوّز ذلك ونظيرُ

هذا العَطفُ على الضمير المرفوع فإِذا فصَل بينهما ب ((لا)) لم يلزمْ تَوْكِيْدَهُ كقولِهِ تَعالى: {ما أشركنا ولا آباؤُنا} ف ((لا)) في هذا المعنى ك ((لا)) والله أعلُم بالصَّوابِ.

51 - مسألة [العامل في خبر (إن)]

51 - مسألة [العامل في خبر (إن)] خبرُ ((إنّ)) مرفوعٌ بها، كما أنّ اسمَها منصوبٌ بها. وقالَ الكُوفِيُّون: لا تَعْمَلُ في الخبرِ. وجهُ القولِ الأولِ، لنا فيه مَسْلَكانِ: أحدُهما نتَعرض فيه لوجودِ المُقتضى للعملِ ونفيِ المانعِ. والمَسْلَكُ الثَّانِي: نتعرضُ فيه لإِبطالِ مَذهبهم. أمَّا المَسْلَكُ الأَوَّلُ: [فـ] أنَّ إنَّ وأَخواتها تقتضي اسمين مع اختِصاصها بالاسمِ، فوجَب أن تعملَ فيهما، كالفِعل نَفْسِهِ، وبَيانه أنَّ إنَّ تَدْخُلُ على مُبتدأ وخَبَرٍ، والمُبتدأ يَقتضي الخَبر، والخَبرُ يَقتضي المُبتدأ، وإنَّ تَقْتَضِيْهِما جَميعاً، فإذا عَمِلَتْ

في الاسمِ الأولِ لاقتضائِها إياهُ، عَملت في الثَّاني كذلِكَ، بل في آكدُ، وذاكَ أن تأثيرَ إنَّ وأَخواتها في الخَبرِ دونَ المُبتدأ، فإذا عَمِلَتْ فيمَا لا تأثيرَ لها فيهِ لِتَعَلُّقها بما لَها فيه تَاثِيرٌ فعَمَلُها فيما فِيه تأثيرٌ أولىَ وصارَ كما قُلنا المُتَعَدّي نحوَ ضربَ زيدٌ عمراً، وهذه عَمِلَتْ لِشَبَهِهَا بالفِعْلِ وشَبَهَهَا به من أوجهٍ: أحدُهما: أنَّها اختصت بالاسم كما اختَص الفعلُ به، وأنَّها مبنيةٌ على الفتحِ كما أنَّ الفِعلَ الماضي كذلك، وأنَّ نونَ الوقايةِ تَدخُلُ عليها نحو إنني كما تَقُول: ضَرَبَنِي، وأنَّها تُخففُ بحذفِ إحدى النُّونين نحو ((إنْ)) كما يَجوز ذلك في لم يَكُ، وأنَّ معانِيها معاني الأَفعال، فـ ((إنّ)) بمعنى أُؤكِّدُ وكأنَّ أُشبه، وإذا ثَبَتَ شبَهها بالفعلِ من هذه الوجوهِ عَمِلَتْ عَمَلَهُ. وأمَّا المانِعُ من عَمَلِها فلمْ يُوجد، فإنَّ أحداً لم يَذْهب إلى أن اسمَها منصوبٌ وخبرها مرفوعٌ، ولو كانَ هناك مانعٌ لمنعَ عَمَلَها في الاسمِ، كسائرِ المَوانِع.

المَسلَكُ الثَّاني: هو أن خبرَ إنَّ مرفوعٌ، ولا رافعَ إلا أنَّ فكان الرَّفعُ منسوباً إليه، وبيانهُ أن الرَّفع لا يخلو، إما أن يكونَ بما كانَ مرفوعاً به قبلَ إن أو بـ ((إن)) والأول باطلٌ، أما عندنا فإنَّ الخبرَ مرفوعٌ إما بالابتداءِ، أو بالمُبتدأ، أو بهما وقد بَطل ذلك لدخولِ إن، فأمَّا عندهم فالخَبرُ مرفوعٌ بالمبتدأ والمبتدأ بالخبرِ وقد بيَّنا ذلك في مسألةِ العامِلِ في المُبتدأ والخبرِ، وإذا بَطَلَ ذلك تَعَيَّن العَمَلُ ل ((إنّ))؛ إذ العَمَلُ لابدَّ له من عاملٍ. فإن قيل: أما المَسلَكُ الأَوَّلُ فاعتِمادكم فيه على الاقتِضَاءِ، والاقتِضَاءُ على حَسَبِ المُقْتَضِي، والمُقْتَضِي هُنا حُروفٌ، والأَصلُ في الحُرُوفِ ألاّ تَعْمَلَ وإنَّما أُعملت لضربٍ من الشَبهِ، والمُشابِهُ للشيءِ لا يَعمل عَمَلَهُ من كلِّ وَجْهٍ إذ كانَ فرعاً، والفروعُ عن الأُصولِ، فاقتِضَاؤُها ضَعِيْفٌ يُناسِبُهُ عَمَلٌ واحدٌ، فأما العَمَلانِ فلا يَثْبُتُ إلاّ بعاملٍ قَوِيٍّ. وأمَّا المَسْلَكُ الثَّاني: فنقولُ: العاملُ في الخبرِ معنى الابتداءِ فإنَّه باقٍ بعدَ دُخُولِ هذه الحُرُوفِ، والمَعنى جازَ أن يَعْمَلَ ألا تَرى أنَّك إذا عَطَفْتَ على اسمِ كأنَّ ولَعل كان لَك أن تَنْصِبَ حملاً على الاسمِ ولا ترفع حملاً على نفسِ الابتداءِ، ولكن ترفعُ على عاملٍ آخر، كذلك هاهنا.

فالجوابُ عن السؤالِ الأول من وَجهين: أحدُهما: لا نسلّمُ ضَعف الاقتضاءِ والمُقتضى بل هما في غايةِ القوّةِ وذلك أن الخبرَ في باب ((إنّ)) وأخواتها لا يسوغُ حَذفه إلاّ أنْ يكونَ في الكلامِ دليلٌ عليه، والمفعولُ الصحيحُ يَسوغُ حَذفه كقولِكَ: ((ضُربَ زيدٌ)) و ((ظُنَّ عمرو)) وذلك يدل في ((إنَّ)) على قوّةِ الاقتضاءِ كما أن الجازِمَ لا يَحذِفُ المَجزوم به. والوجهُ الثاني: نُسلّم أن اقتضاءَ الفعلِ أَقوى من اقتضاءِ ((أنّ)) ولكن لا يَمنع من العملِ فيما يقتَضيه، ألا تَرى أن اسمَ الفاعلِ والمفعولِ وأسماءَ الفعل الفعل تعملُ لشبهها بالفعلِ، ومع ذلك تَعمل النَّصب والرّفع كقولك: ((زيدٌ ضاربٌ أَبوه عمراً))، ومُعطي غُلامه دِرْهَماً، وتراكِ زيداً فكذلك هذا. قولهم: يَرتفع الخَبرُ بمعنى الابتِداء قلنا: معنى الابتداء قد زالَ، وبيانهُ من وَجهين: أحدُهما: أنَّ المبتدأ ما يسندُ إليه الخبر، والخبرُ غيرُ مسندٍ إلى الاسمِ، ولا إلى الحرفِ والاسمِ. والثَّاني: أنَّ معنى الابتداء قد زالَ في كأنَّ، وليتَ، ولعلَّ، وإذا زالَ المعنى لم يبقَ للرفعِ عاملٌ. أما شُبهة القول الثاني: [فـ] أنَّ إنَّ فرعٌ في العمل فَوَجَبَ أن تَقْصِرَ عن العاملِ الأَصليّ وهو الفِعلُ؛ إذ من شأن الفُروعِ أن تَنْحَطَّ عن الأُصولِ، ويدُلُّ على ذلك مَسائلُ:

إحدَاها: أنّ خبرَ ((إن)) قد يكونُ فِعلاً يَنْتَصَبُ بغيرِها كقول الشاعر: لا تَتْرُكَنّي فِيْهُمُ شَطِيْراً ... إِنّى إذاً أهلَكَ أو أُطِيْرَا فنصَب ((أهلك)) بـ ((إذاً))، ولو كان الفِعل خبراً لم يعمل فيه ((إذاً)) كما لو قُلتَ: أنا إذاً أُكرمك. والمسألةُ الثانيةُ: قولهم: ((إنَّ بكَ مأخوذُ)) فألغاها وأَدخلها على حرفِ الجرِّ ولم يَنْصِبْ بها زيداً وكذلك قَولهم: إن فيك راغب زيدٌ وإن بك يكفل عَمرو وإذا أُلغيت ولم يُلغَ الفِعْلُ بانَ ضَعْفُها في العملِ، ويَدُلُّ على ذلِكَ تقديمُ مَنصوبها على المَرفوع إيجاباً بخلافِ الفِعْلِ. والجوابُ: أمّا كونُها فرعاً في العملِ فَمُسلّمٌ، ولكن لا نُسلم أنَّ أثرَ الفَرعِيّة أبطلَ عَمَلَها في الخَبَرِ، وذلك أن عملَها مَبْنِيّ على الاقتضاءِ وقد بَيَّنا أنَّ الاقتضاءَ تامٌ، فأمَّا الضَّعْفِ فيظهَرُ في أشياءَ منها تقديمُ المَنصوبِ على المرفوعِ إيجاباً وذلك أَثَرُ الضَّعفِ، وكذلك في أَحْكامٍ أُخَر، ألا تَرى أنَّ ضَعْفَها لم يَسْلِبْ عَمَلَها النَّصبَ ولا يُقال: يَنْبَغي ألاَّ تَعمل لَيَظْهَرَ أَثَرُ الضَّعف، بل يُقال: أثرُ الضَّعْفِ إذا ثبتَ في مواضعَ أُخر كفى، ألا تَرى أن المصدرَ يعملُ عملَ الفعلِ، ولا يجوزُ تقديمُ معمولِهِ عليه، وكانَ ذلك كافياً في ضَعْفِهِ ويدلُّ عليه أنَّ أسماءِ الفعلِ نحو ((نَزَالِ)) و ((تَرَاكِ)) أَضعفُ

من نفسِ الفِعْلِ، ومع ذلِكَ امتَنَعَ تقديمُ مَنْصُوبِها عَلَيْها عندنا، ولم يَمْتَنِعْ تقديمُهُ عليها عندَهم، بل سوَّوا بينَها وبينَ الفعلِ؛ لأنّ الضَّعفَ قَد ظَهَرَ في أشياءَ أُخر مِنها أنَّ الضَّمِيْرَ فيها لا يكونُ إلاّ مُسْتَتِراً مُفْرداً وأنَّها لا تَتَصَرَّفُ. أما الشِّعْرُ فجوابُه من ثلاثةِ أَوجهٍ: أحدُها: لا نُسَلّمُ أنَّه خَبَرُ ((إن)) بل خَبَرُ ((إن)) محذوفٌ تقديره: إني أُذلّ إذاً أَهْلَكُ. وحُذِفَ لِدلالةِ ما بَعده وهذاَ كقولِ الشَّاعِرِ: نَحنُ بما عِندَنا وأنتَ بِما ... عِنْدَكَ راضٍ والرَّأيُ مُخْتَلِفُ أي نحنُ راضون فحذفَ الخبرَ الأَوّلَ لدلالةِ ما بَعده عليه، وكذلك إذا تقدّم معنى الشَّرط عليه كقولك: ((أنا آتيك إن أَتيتني)). والثاني: نقدّرُ أنه الخبرُ ولكن وَقَعَتْ ((إذا)) موقعَ الخبرِ وأشبَهت ((لَنْ)) كما تقولُ: إنَّ زيداً لن يَضْرِبْ كذلك قُلتَ هاهُنا. والثالث: إنّ ذلك شاذٌّ لا تُناقض به الأُصول، ولا يَثْبُتُ به أَصلٌ. وأمّا بقية المَسائِل فكلّها لم تُلغَ فيها إنّ، بل اسمُها مَحذوف وما بَعدها

جُملة في موضعِ الخَبَرِ، والتَّقديرِ: إنه بك زيدٌ مأخوذٌ وذلك كثيرٌ في الشّعر والكلامِ فمنه قَولُ عَدِيٍّ: فليتَ دَفَعْتَ الهَمَّ عَنّيَ ساعةً ... فبِتْنا على ما خَيّلَتْ ناعِمَي بالِ وكذلك قول الآخر: أَليْتَ كَفافاً كانَ خَيْرُكَ كلّه وكقول الأعشى: إنّ من لامَ في بَنِي بنتِ حَسّانَ

وكقول الفرزدق: ولكنَّ زنجيٍّ عظيمُ المَشافِرِ والله أعلمُ بالصَّواب.

52 - مسألة [العطف على اسم إن قبل الخبر]

52 - مسألة [العطف على اسم إنَّ قبل الخبر] إذا عَطَفْتَ على اسمِ ((إنَّ)) قبلَ الخبرِ لم يجزْ فيه إلاّ النَّصبُ. وقال الكسائِيُّ: يجوزُ ذلك مُطلقاً ظهرَ في المَعطوف الإِعرابُ أو لَمْ يَظْهَرْ. وقالَ الفراءُ: إذا لم يَظهرْ فيه الإِعرابُ كقولِكَ: إنَّ زيداً ونحنُ قائمون.

لَنَا فيه الرَّفْعِ في المَعْطُوف لابدّ لَه من رافعٍ ولا رافِعَ فلا رَفْعَ، والدَّليلُ على الأَوَّلِ: أنَّ الرفعَ عَمَلٌ أو حكمُ وأيُّهما كانَ فلا بدَّ له من علَّةٍ أو عاملٍ. وبيانُ الثاني أن الرفعَ لو كانَ لكان إما المعطوف على ((إنَّ)) واسمها، أو على أنَّ مبتدأ وما بعده خبر والأول باطلٌ؛ لأنَّ ((إنَّ)) واسمها لا موضعَ لهما ولا يجوزُ أن يكون مبتدأ لأن المبتدأ يقتضي خبراً وقولك ((ذاهبان)) لا يجوز أن يكونَ خبراً عن عمرٍو لوجهين: أحدُهما: أن عمراً مفردٌ، وذاهبان مُثنى، والخبر يجبُ أن يكونَ عدّتُه على عدّةِ المبتدأ؛ لأنه هو في المعنى. والثاني: أنَّ ذلك يُبْطِلُ عمل إنّ في الخَبر ويَنفي تَرتيب مقتضاها

عليها؛ لأنّ ((إنَّ)) تقتضي اسماً وخبراً فإذا كان الخبرُ عن غيرها مَنعتها مُقتضاها مع أنَّها قد عَمِلَتْ في أَحدِ مُقتضيها، وإذا بطلَ ذلك ثَبَتَ أن الوجهَ هو النَّصبُ عطفاً على اسم إنّ، فعلى هذا يَصِحُّ أن يكونَ الخبرُ عن المعطوفِ والمَعطوفِ عَلَيْهِ. فإن قيل: العامِلُ في المُبتدأ هو الخَبرُ والخَبرُ هنا موجودٌ، قيلَ عنه جَوابان: أحدُهما: لَيس كذلك بل الخبرُ معمولُ ((إنّ)) والمعطوفُ نَيّف عليه وقد سَبَق ذلك. والثاني: أن هذا المعنى فاسدٌ هنا، وهو ما ذكرنا من أنَّ الخبرَ هو المبتدأ في المعنى وأن عدته كعدته، وأن ذاهبان إذا ثبت في المعنى أنَّه للمعطوف والمعطوف عليه بطلَ أن يكونَ المعطوفُ مُسْتأنفاً. واحتجَّ الآخرون بالسَّماعِ والقِياسِ. أما السَّماع فقوله تعالى: {إنَّ الذينَ آمَنُوا والّذينَ هادُوا

والصَّابِئُونَ} ثم قال: {فلا خَوفٌ عَلَيْهِمْ} فجعل الأَخيرَ خَبَراً عن الجَمِيْعِ والصَّابِئُون مرفوعٌ، وقالَ تَعالى: {إنَّ اللَّهَ ومَلاَئِكَتَهُ يُصَلُّونَ على النَّبِيّ} قُرِئَ برفعِ الملائكةِ ولا وجهَ له إلاّ ما ذَكرنا. أما القِياسُ فمن وَجهين أحدُهما: أنَّ المعطوفَ لو تأخَّر لجازَ رَفْعُهُ فكذلِكَ إذَا تقدَّمَ، إذْ المعنى فيهما واحِدٌ. والثاني: أنَّ المعطوفَ على اسمِ ((لا)) يَجوز فيه الرَّفعُ كذلك اسم ((إنّ)) كقوله تعالى: {لا بَيْعٌ فيه ولا خُلّةٌ} و {لا رَفَثَ ولا فُسُوقَ}، والجامعُ بينهما أنَّ كلَّ واحدٍ منهما لها اسمٌ وخبرٌ. والجوابُ عن الآيةِ من أَوجهٍ: أحدها: أنَّ ((الصابئون)) معطوفٌ على الضَّمير في ((آمنوا)) و ((هادوا)) والجيّدُ أن يكونَ عطفاً على الضَّميرِ في آمنوا ويكونُ ((الّذين هادوا)) قائماً مقامَ التَّوكيدِ.

والتقديرُ إنَّ الذين آمنوا هُم والصَّابِئُون، والّذين هَادُوا هُم والصَّابِئون وسدَّ العَطْفُ مسدَّ التوكيدِ. والوجهُ الثاني: أن {الصَّابِئُون} في نِيَّةِ التَّأخيرِ ((ولا يَحْزَنُونَ)) خبرٌ لما قَبله، أي لا يَحزنون وكذلِكَ الصَّابِئُون، وهذا قولُ سيبويهِ، ومثلُهُ قولُ الشَّاعِر: وإلاّ فاعلموا أنّا وأَنْتُمْ ... بُغاةُ ما بَقِيْنا في شِقَاقِ أي اعلَموا أنَّا بُغاةٌ وأَنتم كذلك وإن شئتَ جَعَلْتَ {لا خَوْفَ عَلَيْهِمْ} خبراً للصَّابئين. وخبرُ ما قبله محذوفٌ ويَشْهَدُ لذلِكَ قولُ الشَّاعِرِ: نحنُ بما عِندنا وأنتَ بما ... عِنْدَكَ راضٍ والرَّايُ مُخْتَلِفُ والتقدير: نَحنُ راضُون، ولو وَقَعَ في النَّثْرِ مثلُ ذلِكَ جَازَ، حتّى لو قُلْتَ إنَّ زيداً وعَمرٌو قائمٌ جازَ ويكون ((قائم)) خبرُ إنَّ، وخبرُ عَمرٍو ومحذوفٌ لدلالةِ خَبَرِ الأَوَّلِ عَلَيْهِ، وإن شئت عَكَسْتَ، وأمَّا العَطْفُ في بابِ ((لا)) فجوابه من وَجْهَينِ:

أحدُهما: أنَّ ((لا)) تَعمَلُ في الاسمِ دونَ الخَبَرِ فيكونَ المَعْطُوف كالمُسْتَانَفِ بخلافِ ((إنَّ)). والثاني: أنَّ ((لا)) واسمها رُكّبا فجُعلا كالشيءِ الواحدِ فهما في موضعِ رفعٍ فيُحمل المَعطوف على موضِعهما كما تُحمل الصِّفَةُ على ذلك وشاهدُهُ قول الشَّاعِرِ: ولا كريمَ من الوِلْدَانِ مصبوح آخِرُها والله أعلَمُ بالصَّواب.

53 - مسألة [عمل (إن) المخففة]

53 - مسألة [عمل (إنَّ) المخففة]: إذا خُفّفت ((إنَّ)) الثَّقيلة جازَ أن تَعملَ في الاسمِ النَّصبَ. وقالَ الكوفيون: لا تَعملُ. وحُجّةُ الأولين السَّماعُ والقياسُ، أما السَّماعُ فمنه قولُه تَعالى:

{وإنْ كلاً لَما ليُوَفِينَهُمْ} قرأ جماعةٌ بتخفيفِ النّونِ ونَصبِ ((كلّ))، وذلك مسموعٌ منقولٌ. فإن قيلَ: النَّصبُ هنا بغيرِ ((إنّ))، وذلك العامل قوله: ليوفِيَنَّهم، أي لَيُوَفِيَنَّ كُلاً، ويُمكن أن يكونَ العامِلُ ((لمَّ)) على قراءَةِ من نوَّن وشدَّد أي ويَجمَعُ ((كلاً)). قُلنا: كلاهما خطأٌ أما ((يوفي)) فهو جوابُ القَسمِ، وجوابُ القَسمِ لا يَعمَلُ فيما قبلَه، وإن جعلته مُفسراً للعاملِ؛ لأنَّ التقديرَ على هذا: وإنْ كلاً لما ليوفينَّ بغير هاء، و {ليوفينّهم} تفسيرّ له، ومَوضعُ هذا الفعلِ على كلِّ تقديرٍ بعدَ الاسمِ، وهو جوابُ القَسمِ، وهو لا يَعملُ فيما قَبله، وأمَّا إعمالُ ((لَمّا)) فلا سبيلَ إليه على أيِّ تَفْسِيْرٍ فُسرت، وقد فُسّرت على معنى ((إلا))، و ((إلاَّ)) لا يَعمل ما بَعدها فيما قَبلها، وإن فُسّرت بلامِ التَّوكيدِ فهي أَبعدُ من العملِ، وإن فُسرت بـ ((لَمّا)) التي للجَمْعِ فهو بعيد؛ لأن

موضِعَها بعدَ ((إن))، والفِعل لا يقعُ بعدَ هذه إلاّ ومعه عوضٌ، ولا عوضّ هنا، ومن المَسموعِ قولُ الشاعرِ: وَصَدْرٍ مُشْرِقِ النَّحْرِ ... كأَنْ ثَديَيْهِ حُقَّانِ فَنَصَبَ بكأنْ مُخَفَّفةً، وقالَ آخر: كأن وَرِيْدَيْه رِشَادٌ خُلْبِ وقالَ آخر: وَلَوْ أَنْكِ في يَوْمِ الرَّخاءِ سَأَلْتِنِيْ ... فِرَاقَكِ لَمْ أَبْخَلْ وأَنْتِ صَدِيْقُ وقال آخر: وقد عَلِمَ الصِّبْيَةُ المُرْمِلُوْنَ ... إذا اغْبَرَّ أفقٌ وَهَبَّتْ شَمَالاَ

بأنْكَ الرَّبِيْعُ وغيثٌ مُرِيْعٌ ... وقِدْماً هُناك يَكُونُ الثِّمَالاَ فَنَصَبَ بها الضَّمِيْرَ. وأمَّا القِياسُ: فهو أنَّ ((إنَّ)) مشبهة بالفِعل في لَفْظِها. واختِصاصها بالأسماءِ والمُخففة من الثّقيلة مُخْتَصَّةٌ بالاسمِ، ولم يَبْقَ إلاّ التَّخفيف في الحذفِ ومثلُ ذلك لا يَمْنَعُ من العَمَلِ للفِعْلِ كقولِكَ: لم يَكُ ولم أُبلَ ولا أدرِ فالحرفُ المُشبَّهُ بها كذلك. يدلُّ عليه أنّ ((لعلَّ)) تَعْمَلُ وإذا حُذِفَ منه أو أُبدلتِ اللاّم فيها نوناً بَقِيَ عملها مثل علّك وعنّك، هذا مع أنَّ أصلَ التَّصرفِ للأفعالِ، وقد دَخَلَ الحَرفُ هُنا للتَّصرف ولم يَمْنَعِ العَمَلَ. فإن قيلَ: إذا خُفّفت ضَعُفت ولذلك يلزمُ فيها التَّعويض نحو:

{عَلِمَ أنْ سَيَكُونَ مِنْكُمْ مَرْضَى}. قيلَ: إنّما احتاجَتْ إلى التَّعويض؛ لأنَّ الاسمَ مَحذوفٌ، وحكمها أنْ تَلِيَها الأسماءُ، فإذا حُذفت وخُففت وَلِيَها الفِعْلُ عوضٌ من الاسمِ المَحذوفِ السِّين وسَوف و ((لا)) في النّفي، وهاهُنا قد وليها الاسم فَعَمِلَتْ من غيرِ تَعْوِيضٍ. وشُبهة الكوفيين من وجهين: أحدُهما: أن الأَصلَ في الحُروف ألاَّ تَعمل، وإنّما أُعمل منها ما أُعمل لشبههِ الفعل وإِنْ المخففة لا تشبه الفعل؛ لأن أقلّ أبنية الفعل الثُّلاثية، و ((إنْ)) الخَفيفة على حرفين فلم تُشبه الفِعل خرج على هذا ((إِنَّ)) المشددة؛ لأنّها ثلاثةُ أحرفٍ كما أنَّ الفعلَ كذلك، وبناؤها كبناءِ الفعلِ. فإنَّ كقيل، وأنَّ كشَدَّ، وإذا انقطع شَبهها بالفعلِ عادَت [إلى] الأَصلِ. والوجه الثاني: أنَّ لفظَ المُخففة كلفظِ الخَفِيفة العاملة في الفِعل، فتُشبهها، وعوامِلُ الأَفعالِ لا تَعمَلُ في الأسماءِ، فما يُشبهها كذلك، يَدُلّ عليه أنَّ ((أنْ)) عملت بالشَّبهِ وشَبَهُهَا بالفعلِ المَحذُوفِ كشَبَهِهَا بالعامِلَةِ في

الفعلِ، وليس أحدُ الشَّبهين أَولى بها من الآخَرِ، فعندَ ذلِكَ يَتَعارَضُ الشَّبهان فيَتَساقطان، وتَرجعُ إلى الأصل وهو إلغاؤها عن العَمَلِ. والجوابُ: عن الأولِ من وَجهين: أحدُهما: أن شبهَها بالفعل باقٍ، وذلك أنَّها مُختصّةٌ بالفعلِ مؤكِّدةٌ للمَعنى، وما دخلها من الحذفِ مثله في الفعلِ على ما ذكرناه في حُجَّتِنَا. والثاني: أنَّ ما ذَكَرُوه باطلٌ بـ ((أنْ)) النَّاصبة للفعلِ فإنَّها مُشبهة بأنْ النَّاصبة في كونِها مَصْدَرِيّة مع مُخالفتها إيَّاها في عدّةِ الحُروف ولكنْ كَفى في عَمَلِها كَونُها مَصدرية مُختصة كذلك هاهُنا. أمَّا الشُّبْهَةُ الثَّانية فبعيدةٌ وذلك أنَّ ((أنْ)) المُخففة تُشبِهُ أنْ النَّاصِبة للفِعل في صورةِ الحروفِ وهي مُخالفة لَها في أنَّ المُخففةَ مُختَصَّةٌ بالأسماءِ، مؤكدةٌ للمعنى وهذا كافٍ في إعمالِهَا في الاسمِ، بخلافِ ((إنْ)) النَّاصبة للفعلِ، وبهذا يَتَبَيَّنُ أن شَبَههَا بعواملِ الأَسماءِ أَقوى والحُكْمُ لأَقوى الشَّبَهَيْنِ آخرها والله أعلمُ بالصَّواب.

54 - مسألة [دخول لام التوكيد في خبر لكن]

54 - مسألة [دخول لامِ التَّوكيد في خَبَرِ لكنَّ] لا يجوزُ دخولُ لامِ التَّوكيد على خبرِ لكنَّ. وقالَ الكُوفيُّون: هو جائزٌ. ودليلُ المَذهَبِ الأَوَّلِ من وَجْهَينِ: أحدُهُما: أنَّ ذلك لَو كان جائزاً لكثُرَ ذلكَ في القرآنِ، والشّعرِ،

والكلامِ، ومعلومُ أنّ ذلك لَم يَشْتَهِرْ عَنهم. والوجهُ الثاني: أنَّ اللامَ في هذا البابِ للتَّوكيدِ غيرُ مرادٍ هُنا. وبَيَانُه: أن ((لكنَّ)) للاستدراك ولا تعرُّضَ فيها للتَّوكيد فلا يَجوز أن تَدخل، وذلك؛ لأنّ الحرفَ زائدٌ، والأصلُ ألاّ يُزادَ شيءٌ إلاّ لمعنىً، والمعنَى في لامِ ((إنَّ)) توكيدُ الخَبَرِ، وإذا تَجَرَّدَ الحَرْفُ عن مَعْنًى لم يَجُز ذِكْرُهُ ومثالُ ذلك قولُك: ((ما قامَ زيدٌ لكن جَعْفَراً قائمٌ)) فالغَرَضُ الكُلّي إثباتُ القِيامِ لجعفرٍ ونَفْيِهِ عن زَيْدٍ، فإن قِيْلَ: أمّا الوَجه الأَوَّلُ فغيرُ مُسَلّمٍ فقد جاءَ في الشِّعْرِ قالَ الشَّاعِرُ: ولكنّني من حُبِّها لَكَمِيْدُ وعلى أن الشَّيءَ قد يكونُ جائزاً ولا يكثر، ألا تَرى أنَّهم أَبدلوا الهاءَ

في إن وزادوا عليها اللاَّم في قولِ الشَّاعر: لهنَّكِ من عَبْسِيَّةٍ لَوَسِيْمَةٌ ... على هَنَوَاتٍ كاذِبٌ مَنْ يَقُولُها وهذا جائز وإن لم يكثر. وأمَّا الوجهُ الثاني فيَنبني على أصلِ ((لكن)) وأَصلُها ((إنَّ)) زيدت عليها الكافُ واللامُ، على ما نُبينه، فاللاَّم إذاً تدخلُ على خبرِ إنّ في الأَصلِ. والجوابُ: أمَّا البيتُ فعنه جوابان: أحدُهما: أنه ليس مما نحن فيه وإنَّما أَصله: ولكن إنَّني، ثم حذفت الهَمزة والتَقَت النونان نون لكن إنني فأُدغمت النُّون في النُّون، فاللامُ إذاً داخلةٌ على خبرِ إنَّني، والحذفُ من الحرفِ قد جاءَ وقد أُبدل منه أيضاً فمن الحَذْفِ قوله: ولكِ اسقِنِي إنْ كانَ ماؤُكَ ذا فَضْلِ

ومنه أيضاً ((إنْ)) في المخففة من الثَّقيلة، واللاَّم في ((عَلّ)) والإِبدال مثلُ ((لِهَنَّك)) في ((إنك)) وهو كثيرٌ. والوَجْهُ الثاني: نُقدّر إنَّ الأمر كما ذَكروه في البيتِ ولكن زيدت اللاَّم فيه لضَرورةِ الشّعر كما يزيدُ الشّاعر لإِقامة الوزنِ، ويَنقضُ لذلك أيضاً، وكما جاء في قولِه تَعالى: {قُلْ عَسى أَن يكونَ رَدِفَ لَكُمْ} أي رَدِفُكم، وأمَّا الكلامُ على الوجهِ الثَّاني فسياتِي جَوَابُهُ. وأما شُبهةُ الكوفيين فمن وَجهين: أحدُهما: ما تقدَّم من الشّعر.

والثاني: أن أصلَ ((لكن)) ((إنَّ)) زيدت عليها الكافُ وحذف الهمزة، والكاف عوض عن المحذوف، و ((لا)) للنَّفي، والمعنى ((ما قامَ زيدٌ لا إنَّ جَعفراً منطلقٌ)) وصارَ لها في التَّركيبِ حكمٌ آخر كما أنَّ أصل ((لَنْ)) ((لا)) ((أَن)) ثم حُذف وغُير وصار لها حكمٌ آخر. فاللام إذاً دخلت في خبرِ ((لكن)) من حيثُ إنَّ أصلها ((إنَّ)). وقد احتجوا أيضاً بأنها تُساوي ((إنّ)) في العَطف بعدَ الخبرِ كقولك: ((إنَّ زيداً قائمٌ وعمراً وعمروُ)) وكذلك ((لكِنَّ)) وليس كبقية أخواتها. والجوابُ: أما البَيْتُ فقد سَبق جَوابه، وأما دَعوى التّركيب فبَعِيْدٌ جدًّا؛ وذلك أنَّ لكن لا تَوْكِيدَ فيها، و ((أن)) للتَّوكيد، والمركّب وإن تغيّر حُكمه فلا بدَّ من بقاءِ المَعنى فيه كما ذَكرنا في ((لَولا زيدٌ لأتيتك))، وأما ((لن)) فغيرُ مركّبةٍ ولو قدّر أنها مركبة، ولكن معنى النَّفي باقٍ والتَّوكيد هنا غيرُ باقٍ. والوجهُ الثَّاني: في فَسادِ دعوى التَّركيب: أنَّ الكافَ زائدَةٌ على

قولِهِمْ، والهَمزةُ مَحذوفةٌ، و ((لا)) باقيةٌ على النَّفي، وكلُّ ذلك لا يهتدي لما زيادته القياس، وكونُ الكلمةِ موضوعة على هذا اللَّفظ ممكنٌ فلا يُعدل عنه لما لا يُعلم إِلاّ بوحي أو تَوقيف. وأما العَطفُ فإنما شاركت فيه ((إنّ))؛ لأنَّ الابتداءَ لم يَبطُلْ وإنما بَطَلَ التَّوكيدُ فاستواؤُهما في العَطْفِ كان لاستوائِهِما في الابتداءِ ومخالَفَتُها لها في التَّوكيدِ يَنفي جوازَ دخولِ اللاَّمِ على ما بَيّنا والله أعلمُ بالصَّوابِ.

55 - مسألة [زيادة اللام الأولى في (لعل)]

55 - مسألة [زيادة اللام الأولى في (لعل)] اللاَّمُ الأولى في ((لَعلَّ)) زائدةٌ في ظاهرِ قولِ البَصريين. وقالَ الكُوفيُّون: هي أصلٌ. ووجهُ قولِ الأَوليين من ثلاثةِ أوجهٍ: أحدُها: أنَّها قد استُعملت بغيرِ لامٍ في الشّعر كثيراً، والأصلُ عَدَمُ حذفِ الأَصلِ، والزّيادةُ أقربُ، لا سيَّما إذا أُريدَ تَقْوِيَةَ الحَرفِ أو قُوَّة معناه. والثاني: أنَّ ((علَّ)) ثلاثةُ أَحرفٍ وأصلُ البابِ ((إنَّ)) و ((أنَّ)) وهما على ثلاثةِ أحرفٍ وهذا بكون ((علّ)) ثُلاثيّة فأمَّا ((كأن)) فأصلها ((إنّ)) زيدت عليها كافُ التَّشبيهِ، حرصاً على سبقِ المَعنى، وذاك أنَّ الأَصلَ في قولِكَ:

كأنَّ زيداً الأَسَدُ إنَّ زيداً كالأَسدِ ثم اهتموا بتقديمِ مَعنى التَّشبيه فأدخلوا الكاف على ((إنَّ)) وفتحوا الهَمزة، كما تُفتح بعد حروفِ الجَر. وأمَّا ((لكنَّ)) فعدتُها أكثرُ عندَ البَصريين لمَّا دخلها معنى الاستِدراك، وعندهم هي مركبةٌ، وهذا يُؤنس بأنَّ الأصلَ ((علّ)) كسائِر أَخواتها. والوجهُ الثالثُ: أنَّ هذه الحروف مشبهةٌ بالفعلِ في العملِ والفعلُ تلحقه الزوائد، فجاز أن تكونَ اللاَّمَ زائدةٌ، كما تُزاد في الفِعلِ كقولك: إنّ زيداً لَيَقوم، وكقولك: والله لقامَ زيدٌ. وشبهة الآخرين: أنَّ الحذفَ تَصَرُّفٌ، والحُرُوف لا تَتَصَرَّفُ، ولهذا حكمنا على الألفِ في ((ما)) و ((لا)) بأنَّها أصلٌ، وليست في الأسماءِ والأفعالِ أصلٌ بحالٍ، بل إمَّا زائدةٌ أو منقلبةٌ، ويقوي ذلك أنَّ نونَ الوقايةِ لا تَكَادُ تَجِيْءُ مع ((لَعَلَّ)) بل تقولُ: ((لَعلّي)) و ((لَعلّني))، قَليلٌ جدّاً، [و] ما كانَ ذلك إلاّ لأنَّ اللامَ الأولى أصلٌ وبعدَ العين لامان، والنون تُشبه اللام فكانت على هذا تَجتمع في التقدير أربعُ لاماتٍ فَتُحُومِيَ ذلك فِراراً من اجتماع الأَمثال. والجوابُ عما ذَكَرُوه أنَّ الحروفَ قد وقعَ فيها حذفٌ، والحذفُ تَصَرُّفٌ، كما أن الزّيادةَ تَصرُّفٌ، بل التَّصرفُ بالحذفِ أَقوى وبالزّيادة أَضعفُ، فإذا جَوَّزوا الحذفَ مع قُوَّته فالزّيادةُ أَولى. وأمَّا نونُ الوِقاية فدُخولها لما ذَكَرُوا ولكنْ لا يلزمُ منه الحُكمَ بأَصالتها وبيانُه من وَجهين:

أحدُهُما: أن اجتماعَ ثلاث لاماتٍ مستثقلٌ لتماثلها. ألا تَرى أنَّ النون لما تكررت في فعلِ الأمرِ كقولِكَ في جَماعة المؤَنَّث: اضرِبْنَانِ فصلتَ فيه بالألفِ لئلا تَتولى ثَلاثةُ أمثالٍ، وإذا قُلنا: اللاّمُ زائدةٌ فقد اجتَمَعَ ثلاثةُ أَمْثالٍ، وذلك في التَّحرُّزِ منها ويَكفي في التَّحرُّزِ منها ويَزدادُ ثُقلاً بزيادَةِ اللاَّمِ الأُولى. والصَّحيحُ عِندي أنَّ ((لَعلَّ)) و ((عَلَّ)) لُغتان لا يُحكم في إحداهما بالزيادة ولا في الأُخرى بالحَذف كما أنَّ قولَهم: نَصحتُ لَكَ وشَكرتُ لَكَ وبابه، اللاَّم فيه مُعدية للفعلِ في لُغة وهي مَحذوفة في اللُّغةِ الأُخرى، ولا يقالُ هي في أَحدِهما زائدةٌ، بل كلُّ مِنهما أَصلٌ في لُغةٍ، وهذا المَذهب أَسلمُ، وله يَشهدُ بصحَّته، ويدلُّ على ذلك تَعَدُّدُ اللُّغاتِ في ((لَعل)) فقد قَالوا: ((لَعلّ)) و ((عَلّ))، و ((عَنَّ))،و ((غَنَّ))،و ((لَعَنَّ))، و ((لَغَنَّ)) وكلُّ منها لغةٌ غيرَ الأُخرى، ولا يُقال أن الغَين بدلٌ من العَين كذلِكَ هاهُنا والله أعلمُ بالصَّواب.

56 - مسألة: [بناء اسم (لا) النافية للجنس]

56 - مسألة: [بناء اسم (لا) النافية للجنس] ((لا)) إذا دخلت على المُفرد لنفي الجنس كان الاسمُ بعدها مبنياً في ظاهرِ قولِ البَصريين. ومنهم من قالَ هو معربٌ، وبه قالَ الكُوفُّيون. وجهُ القولِ الأولِ من أوجهٍ:

أحدُها: أنَّ ((لا)) مركبةٌ مع الاسم، والتَّركيبُ يُوجب البِناء كخمسةَ عشرَ؛ وبيانُ مركبةٌ مع الاسمِ، أنَّها إذا فُصِلَ بينهما أُعربَ كقولهِ تَعالى: {لا فِيْها غَوْلٌ} وإذا لَزِمَ الفَتحُ مع الوصل، وزالَ مع الفَصلِ دلَّ أنَّه حادِثٌ للتَّركيبِ، والتَّركيبُ يُوجِبُ البِناء؛ لأنَّه يُجعلُ فيه الشَّيئان كالشيء الواحدِ على وجهٍ يلزمُ فيه الاتّصال، ويَجري مَجرى الحَرفِ، إذ لا يَستغني عن الحرفِ. والوجهُ الثاني: أنَّ الكلامَ تَضَمَّنَ معنى الحَرفِ فكانَ مبيناٌ ك ((أينَ)) و ((كيفَ))، وبيانُ ذلِكَ أن قولك: لا رجلَ في الدار تقديره: لا من رجلٍ، وإنما قُدّرَ ذلك؛ لأنَّ ((من)) موضوعة لبيان الجنس، والنفي هاهُنا للجنسِ كلِّه و ((لا)) بنفسها لا تَنفي الجنس، فقد ثَبَتَ في اللَّفظِ مَعنى لا يَثْبُتُ إلاّ بالحرفِ، وإذا تَضَمَّنَ الاسمُ معنى الحَرف بُني؛ لأنَّه أَدَّى ما يُؤَدّيه الحرفُ لفظاً، فتَعدّى إليه حكمُهُ وصارَ هذا كخمسةِ عشرَ، في أنَّ التّقدير: خمسة وعشرة، ويدلُّ على أن ((من)) هي التي تفيد نفي الجنسِ هُنا أنَّك لو قلتَ: لا من رجلٍ في الدارِ لم يَجزْ أن يكونَ فيها اثنان، ولا أكثرَ، ولو قلتَ: لا رجلُ في الدَّارِ جاز أن يكون فيها اثنان أو أكثر، فإذا قدرت ((من)) كان حكمُها هذا الحكم. والوجهُ الثالثُ: أن ((رجُل)) هاهنا لو كان معرباً لكان منوّناً؛ لأن التَّنوينَ تابعٌ للإِعرابِ، وإِنّما يمتنع بالألفِ واللامِ وعدمِ الصَّرفِ والإِضافةِ، وكلُّ ذلك غيرُ موجودٍ، فَتَعيَّن أن يضافَ عدمُ التَّنوين إلى البناء. والوجهُ الرابعُ: أنه لو كانَ مُعرباً لكانَ بفعلٍ محذوفٍ، وكان التَّقديرُ

لا أَجِدُ أو لا أَرى، ونحو ذلك، وهذا بعيدُ التقديرِ؛ لأنَّك تقولُ: ((لا إله إلا الله)) فلو كان معناه لا أَجدُ لكان النَّفي منسوباً إلى وِجْدانك، وليس المعنى عليه، وإنما المَعنى أنَّ عدمَ الآلهة غيرُ الله لمعنى في نَفْسِ المَنفي، وهو عدم تصوره لا عدم وجدانك. والوجهُ الخامِسُ: أنّه لو كانَ مُعرباً لجازَ نصبه مع الفَصل؛ لأنّ كلَّ مُعْرَبٍ يجوزُ أن يفصلَ بينَه وبينَ العامِل فيه بالظرف خُصوصاً، كـ ((إنَّ)) فإنَّك تقول: ((إن في الدَّار زيداً)) فتُعمِلُها مع الفَصلِ بالظَّرفِ. فإن قيل: ((لا)) فرعٌ على ((إنَّ)) و ((إنَّ)) فرع على ((كانَ)) والفروعُ تَنْقُصُ عن الأُصول. قيلَ: لِمَ قلتم إن النُّقصان مَحصورٌ في اتصالِ ((لا)) بما بعده؟ مع أن [لها] أحكاماً تُخالف فيها ((لا)) باب ((إنَّ)) ويكفي ذلك فارِقاً بين الأصول والفُروع. واحتجَّ الآخرون على أنَّ اسمها معربٌ بأشياء: أحدُها: أنه يجوزُ فيما بعدها النَّصبُ والتَّنوين، والرَّفع والتَّنوين هذا إذا كان مفرداً، وإذا كان مضافاً كان معرباً بلا خلاف، وهذا يدلُّ على أن البناءَ لا علّة له هنا، إذ لو كانت له عِلّةٌ كانت لازمةٌ؛ لأن معناه لا يختلفُ، وإذا انتفت علةُ البِناء ثبتَ كونُه معرباً.

والوَجهُ الثَّاني: أن الكلامَ متضمنٌ معنى الفِعل، وكانَ هو العامِلُ وبيانُه أنَّ قولَكَ: لا رجلَ في الدَّارِ تقديرُهُ: لا أعلمُ ولا أَجِدُ والمَعنى على هذا مُستقيمٌ، وحذفُ الفعلِ وإبقاءُ عملِهِ جائزٌ بلا خلاف، فمن ذلك قوله: {وإن أحدٌ من المُشْرِكين استَجَارَكَ}، و {إذا السَّماءُ انشَقَّتْ} والاسمُ معمولٌ لفعلٍ مَحذوفٍ، كذلك هو هاهُنا، والأصلُ في العَملِ للأفعالِ، فإذا صحَّ تقديرها نُسب العملُ إليها. والوجهُ الثَّالث: أن ((لا)) بمعنى ((غَير)) وغيرُ هنا بمعنى ((لَيس))، ألا تَرى أنَّك تقولُ: ((زيدٌ لا عاقلٌ ولا جاهلٌ)) أي: غيرُ عاقلٍ، وتقولُ: ((قامَ القومُ ليسَ زيداً)) وهو في المعنى قامَ القوم غيرُ زيدٍ، فلمَّا اشتبهت الكلمات الثَّلاث ((لا)) و ((لَيس)) و ((غَير)) وكانت ((غيرُ)) تَجُر، و ((لَيس)) تنصبُ كان حملها على ((ليس)) أَولى؛ لأنَّها غير جارّة وهي مِثلها في النَّفي فَحُمِلَتْ عَلَيْها في النَّصبِ. ونظيرُ ذلك حَمْلُ ((ما)) على ((لَيس)) في لغةِ أهلِ الحِجاز، و ((لا)) تُشاركها في أنَّ لها اسماً وخبراً كما لـ ((ليس)) كذلك، إلاّ أنهم لما قدموها ولزمت فيها النَّكرة بدأوا بالمنصوبِ كما يبدؤون بحرفِ الجَرّ إذا كان المُبتدأ نكرة. والرَّابع: أنَّ ((لا)) محمولةٌ على ((إنَّ)) لأنَّها تُشبهها في دُخولها على

المبتدأ والخبرِ، وأنَّه لا يعمَلُ ما قَبلها فيما بعدَها، وأنَّها لتوكيدِ النَّفي كما أنَّ ((إنَّ)) لتوكيدِ الإِثباتِ، وكما أنّ ((إنّ)) تنصب كذلك ((لا)). والجوابُ عن الوجهِ الأولِ من وَجهين: أحدُهما: أن الكلامَ فيما إذا كانت النَّكرةُ بعدَها مفتوحةً غيرَ منوّنةٍ، وأنَّ تلك الفَتحة هل هي بناءٌ أو إعرابٌ؟ وهذا لا يُوجِبُ أن تكونَ معربةً في كلِّ موضعٍ، ألا تَرى أنَّها في هذا المَوضِع مفتوحةٌ غيرُ منوّنةٍ، وفي المواضع الأُخر تُفتح وتُنَوَّن، وتَضَمُّ وتنون، وفي مواضع تُنصب وتُنون لا غيرَ، وكلُّ ذلك على حسبِ التّقديرِ، فالفتحُ فيها بغيرِ تنوينٍ بناءٌ، إذ لو كانَ إعراباً لنُوِّنَ كما يُنوّن في بقيةِ المَواضع. والوجهُ الثاني: أن النَّكرةَ هاهنا تُقدّر معها ((من)) وذلِكَ يُوجب البِناء، وإذاَ نُوّنت لم تُقَدَّر معها ((مِن)) فَتنتفي عِلَّة البِنَاءِ. قولهم: ((مُتَضَمِّنٌ معنى الفعلِ)) لا يَستقيم؛ لأنَّ الفعلَ لو كان مراداً لكانَ الاسم مفعولاً، ولم يَنسب إلى ((لاَ))، ولا يجوزُ أن يكونَ الفعلُ ما دلَّت عليه ((لا)) لِوَجهين: أحدُهما: أنَّ ((لا)) لا يدلُّ على فعلٍ مُعيّنٍ، وقد ذكرنا ذلك. والثاني: أنَّ الحروفَ لا تَعملُ بمعنى الفعلِ الذي تدلُّ عليه، ألا تَرى أن حُرُوفَ الاستفهام لا تَعملُ بما فيها من مَعنى الفعل، ويَدلُّ عليه أنّ الفِعل لو كانَ هو العامِلُ لكانَ الاسمُ منوّناً، إذ لا مُسقط للتَّنوين وقولهم

ثالثاً. لا بِمَعنى ((غيرُ)) و ((غيرُ)) بمعنى ((ليس)) فكلامٌ لا حاصِلَ له؛ لأنَّ ((لا)) لو كانت كذلك لم يَنْتَصِب الاسمُ بعدها ووقع ((ليس)) في الاستثناء بمعنى ((غيرِ)) له مَعنى، لأنَّ التَّقدير هناك: لَيس بعضُهُم زيداً، فهي باقيةٌ على بابها، وأما حملُ ((لا)) على ((إنَّ)) فهو صَحيحٌ ولكن لا في الإِعراب، إذ لو كانت كذلك لنُوّن اسمها كما نُوِّن اسم ((إن)) وإنَّما هي محمولةٌ في موضعِ إعرابِ الاسمِ على ((إن))، ولولا علّة الإِعرابِ لكانَ الاسمُ منصوباً منوّناً كما جاءَ في المُضاف والمُشابه لَه، والله أعلمُ بالصَّواب.

57 - مسألة: [رافع خبر (لا) النافية للجنس]

57 - مسألة: [رافعُ خبرِ (لا) النافية للجنس] خبرُ ((لا)) في قولِكَ: ((لا رجلَ أفضلُ منك)) مرفوعٌ على موضعِ ((لا رجل)). وقالَ الأَخفشُ: هو معمولُ ((لا)) كخبرِ ((إنّ)). وجهُ القول الأَول شيئان: أحدُهما: أنّ ((لا)) واسمها رُكّبا فصارَا كاسم واحدٍ، ولذلك بُني فجرت مجرى خَمْسَةَ عَشَرَ، ومعلومٌ أنَّ خَمْسَةَ عَشَرَ في موضعِ اسم واحدٍ، كذلك ((لا رَجُلَ)) فعندَ ذلِكَ يُحكم مَوْضِعِهما بالرَّفعِ على

الابتداء، والمُبتدأ يَحتاج إلى خبرٍ، وأفضلُ هو الخبرُ، و ((لا)) على هذا كجزءِ من الكلمةِ فلا تكونُ عاملةً في الخبرِ. فإن قيلَ: إذا جازَ أن تعملَ لا في اسمها مع أنَّها في حكمِ الجزءِ جازَ أن تعملَ في الخبرِ. قيلَ في الاسمِ من حيثُ هي حرفٌ مشبّهٌ بغيرِهِ من الحروفِ، فأمَّا موضعها مع اسمها فرفعٌ؛ لوقُوعهما موقعَ الاسمِ المفردِ، والخَبرُ واقعٌ عنهما، وهذا مَعنًى غيرُ الإِعرابِ، ألا تَرى أن قولَكَ: ((ما جاءني من رجلٍ)) الإِعرابُ فيه على غيرِ المَوضِعِ فـ ((رَجُلٍ)) مجرورٌ و ((من رَجُلٍ)) في موضعِ الفاعلِ ولذلك جازَ في الصّفةِ الجرّ على اللّفظ والرَّفع على الموضعِ كقولهِ تَعالى: {ما لَكُمْ من إلهٍ غَيْرِهِ} و ((غيرُهُ)) بخلافِ ((إنّ)) لا موضعَ لها ولاسمها حتى يُحملَ الخَبَرُ عليه. والوجهُ الثاني: أنَّ ((لا)) عاملٌ ضعيفٌ إذا كان فرعَ فرع فرع ولَيس عمله بلازمٍ، ولا هو أَصْلاً بنفسه، فعندَ ذلك لا يَقوى على العملِ في الخبر. ونظيرُ ذلك ((إنْ)) الشَّرطِيَّة فإنَّها لا تَعملُ في الجوابِ عندَ جُمهورِ النَّحويين، وكذلك قالَ بعضُ البَصريين في خبرِ المُبتدأ يعملُ فيه الابتداء والمُبتدأ لما كانَ الابتداءُ ضَعِيْفاً. وشبهة أَبي الحَسَنِ: أن ((لا)) تَقتضي اسمين وقد عَمِلت في أحدِهما فتعمَلُ في الآخر كـ ((إنّ)). والجوابُ عنه ما ذكرناه من الوَجهين المُتقدمين. والله أعلمُ بالصَّواب.

58 - مسألة: [(لا) إذا دخلت على المثنى هل يكون معربا أم مبنيا]

58 - مسألة: [(لا) إذا دخلت على المثنّى هل يكون معربًا أم مبنيا] إذا دَخَلَتْ ((لا)) على الاسمِ المُثَنّى كانَ مَبْنِيًّا. وقال المُبرّدُ: هو مُعربٌ. وجهُ القولِ الأَول: أن عِلَّةَ البِناءِ في المُفردِ مَوجودةٌ بعدَ التَّثنية فكانَ مَبْنِيّاً كالمُثَنَّى في النّداءِ، وبيانُه: وهو أنَّه بُني في الإِفرادِ لما رُكّب وتَضَمّن معنى ((مِنْ)) وهذا موجودٌ هُنا، أَلا تَرى أنَّ التقديرَ في قولِكَ: ((لا غلامين لَكَ)) أي لا من غُلامين إذا مُيّز الغُلمان اثنين اثنين، ثم حُذفت ((من)) وتَضمّن الكلامُ معناها أنَّ قولَهم: ((نعمَ الرَّجلان الزَّيدان)) أي إذا مُيّز الجِنس رَجلين رَجلين، وكذلك قُلت في النّداء: ((يا زَيدان أَقبلا)) كما قُلت: ((يا زيدُ أقبل)).

واحتجَّ الآخرون من وَجهين: أحدُهما: أنَّ اللَّفظ هنا مُركّب والاسمُ الثاني مما لا يُثنى ولا يُجمع كقولك: ((خَمْسَةَ عَشَرَ)) فإنّك لا تُثنّي عَشَرَ ولا تَجمعه. والوَجه الثّاني: أن المُثنى في تقديرِ المعطوفِ ألا تَرى أنّ قولَكَ: ((قامَ الزّيدان)) تقديرُهُ قام زيدٌ وزيدٌ، ولو ظهرَ العطفُ لم يكن البناءُ كذلك إذا كانَ مُقَدّراً. والجوابُ عن الأولِ: أنه باطلٌ بما إذا سَمَّيتَ رجلاً بـ ((حضرموت)) فإنَّك تقولُ في ثَنّيت حضرموتان وحضرموتون فأمّا خمسةَ عشرَ فإن التَّثنية في الاسم الثّاني امتنع تثنيته لعلَّةٍ أُخرى، وذلك أنَّ خمسةَ عشرَ عبارةٌ عن خمسةٍ وعشرةٍ فإذا تَثنّيت عشراً بقيت الخَمسةُ على حالِها فلم تَصِحّ تثنية، لأنّه بعضُ الكميّة، بخلافِ مسألتنا فإنَّ الكميةَ في اسمٍ دونَ ((لا)). وأمّا تقديرُ العطفِ، فذلك أمرٌ يتعلقُ بالمعنى، واللَّفظ على خلافهِ، وذلك أنَّ الاسمَ المَعطوفَ حُذِفَ هو وحرفُ العَطْفِ، ووضعَتْ مكانَهُما صيغةٌ أُخرى، فكان حكمُها حكمَ المُفردِ غيرِ المَعطوفِ كما كان ذلك في النِّداءِ أَلا تَرى أنّك إذا نادَيْتَ اسماً فيه حرف العطفِ نَصَبْتَ البتَّةَ كقولك: يا زيداً وعمراً أقبل، ولو ثَنَّيت لقلتَ: يا زيدان فَبَنَيْتَ.

فإنْ قيلَ: فالياءُ في ((لا غلامين)) حرفُ الإِعرابِ، وعلامةُ النَّصبِ، وذلك دليلٌ على أنَّ الاسمَ منصوبٌ. قيلَ: الياءُ هنا حرفُ الإِعرابِ، وتدلُّ على الحركةِ التي هي الفَتْح لا على فَتْحَةِ الإِعرابِ، كما أنَّ قولَكَ: ((يا زيدان)) الأَلفُ فيه حرفُ الإِعرابِ وعلامةُ الضَّمِ، كذلك هاهُنا، والله أعلمُ بالصَّوابِ.

59 - مسألة: [تقديم معمول ألفاظ الإغراء عليها]

59 - مسألة: [تقديم معمول ألفاظ الإغراء عليها] لا يجوزُ تقديمُ معمولِ أَلفاظِ الإِغراءِ عليها نَحو ((دُونك)) و ((عَلَيْكَ)) وقالَ الكُوفُّيون يجوزُ. لنا أنّها أسماء جامدةٌ أُعملت بالمعنى، فلم يَجُزْ تقديمُ مَعمولِه عَليها كالمَصدَرِ. وبيانهُ أن ((عليكَ)) و ((دُونك)) حروفٌ في الأصلِ وظُروفٌ، وإنّما

استُعيرتْ هاهنا فعَمِلَت عملَ الفِعلِ تَوَسُّعاً، وما كانَ كذلك اقتُصِرَ به في العَمَلِ على وُقُوعِهِ في موضِعهُ، ولا يجوزُ فيه التَّقديمُ؛ لأنَّ ذلك تصرُّف وهذه الأسماء لا تَصَرُّفَ لها، فتُجرى في ذلك مُجرى الحُروف نحوَ ((ما)) النافية، و ((لاتَ)) مع الحين، وكالمصدر فإنَّه لا يتقدم معموله عليه، مع أن حروفَ الفعلِ فيه مَوجودةٌ فمَنعُ التَّقديمِ هُنا أَولى. واحتجَّ الآخَرُون بالسّماعِ والقياسِ. أمّا السَّماعُ فقولُه تَعالى: {كتابَ الله عليكم} أي عَلَيكم كتابَ الله وقالَ الشَّاعِرُ: يا أيُّها الماتِحُ دَلوي دُونَكا ... إنّي رأيتُ القومَ يَحْمَدُونَكَا وأراد: دونك دلوي فاملأه. وأمَّا القياسُ فمن وَجهين: أحدُهما: أنَّها نائبةٌ عن الفعلِ، والفعلُ يجوزُ تقديمُ مَعمولِهِ عَلَيْهِ،

وكذلك ما نابَ عنه، ألاَ ترى أنَّ اسمَ الفاعلِ والمَفعولِ لما ناباَ عن الفعلِ جازَ تقديمُ معمولَيهما عَلَيهما. والثَّاني: أنَّها واقعةٌ موقعَ الأمرِ، ومعمولُ الأمرِ لا يَتَقَدّمُ عليه كذلك هاهُنا فقولك عليكَ زيداً في معنى الزمْ زيداً، ولو قلتَ زيداً الزم جازَ كذلك عليك. والجوابُ: أمَّا الآيةُ فمنصوبةٌ على المَصْدَرِ، والعاملُ فيها ما تَقَدَّمَ من قَولِهِ: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أمهاتُكُم} أي كُتِبَ ذلك عليكم كِتاباً، ثم أَضافه إلى اسمِ الله، وهو إضافةُ المصدرِ إلى الفاعِل، و {عَلَيْكُم} يَتَعَلَّق بذلك الفعلِ كما قالَ: {كُتب عَلَيْكُم الصِيَامُ}. أمَّا الشّعرُ فمعناه الخَبَر لا الأَمر، وذلك أنه نبّهه على أنَّ دَلوَهُ قريبٌ منه ليَعتَنِيَ بملئِهِ، قولهم: إنّ هذه الألفاظ تنوبُ عن الفعلِ قلنا: نِيَابتها عنه لا تُستفادُ من التَّصرف، ألا تَرى أن ((ما))، و ((لاتَ))، و ((هذا)) والظرف تنوبُ عن الأَفعالِ في مواضِعَ مَخصوصةٍ، ولم يلزمْ من ذلك جوازُ تقديمِ المَنصوبِ بها عَلَيها على ما سَبَق والله أعلمُ بالصَّواب.

60 - [مسألة: ناصب الظرف الواقع خبرا]

60 - [مسألة: ناصب الظرف الواقع خبراً] إذا وَقَع الظَّرفُ خبراً عن المبتدأ كان لَفظهُ منصوباً، وموضِعُه رفعٌ لوقُوعه موقعَ الخبرِ. واختلفوا في التَّقديرِ. فقالَ معظمُ البَصريين هو منصوبٌ ب ((استقر))، وهو فعلٌ. ومنهم من قالَ: المُقَدَّرُ ((مُسْتَقِرٌ)) وهو اسمُ الفاعِلِ. وقالَ الكُوفِيُّون هو منصوبٌ على الخلافِ، ومعناهُ إنَّ قولَكَ: ((زيدٌ خَلْفَكَ)) فـ ((خَلْفَكَ)) ظرفٌ في الأصل يقدر بفي عُدِلّ عن ذلِكَ ونُصِبَ، فكانَ نَصْبُهُ لِمُخالَفَتِهِ الأَصلَ، وأنَّه ليس بالمبتدأ في المعنى.

وقالَ ثَعلبٌ: النّاصبُ له فعلُ أي زيدٌ حلَّ خَلْفَكَ. وجهُ القولِ الأَولِ: أنَّ الأصلَ عملُ الفعلِ في الظَّرفِ وغيره، ولفظ النّصب باقٍ وهو عمل، ولابدَّ للعملِ من عاملٍ، والعامِلُ في الأَصلِ هو الفَصل، وقد صحَّ معناه هاهُنا فوجَبَ أن يكونَ هو العامِلُ. فإن قيلَ: لو كانَ الفِعلُ هو العامِلُ لوجَبَ أن يكونَ هناكَ ضميرٌ فاعِلٌ وكانَ يوجِبُ ألا يتعَيَّنَ، بل أيُّ فعلٍ كانَ وَجَبَ أن يقدَّرَ، وعلى هذا كان يجبُ ألاّ يكونَ موضعُ الظّرفِ رفعاً، لأنَّ الفاعلَ مضمرٌ. والجوابُ: أمَّا لفظُ الظّرف فمَنصوبٌ بـ ((استَقَرَّ))، وهو أَولى من تقديرِ فعلٍ آخرَ لوجهين: أحدُهما: أنّ الاستقرارَ هو الحُصُوْلُ المُطلق، وغيرُه فعلٌ مُعَيَّنٌ، ولا دلالة في اللَّفظِ على نوعٍ مخصوصٍ من الأفعالِ، بخلافِ الحُصُولِ المُطْلَقِ، فإنَّه مُحتملٌ لجميعِ أنواعِ الفعلِ، وكونُهُ ظَرْفاً يدلُّ على الحُصولِ المُطْلَقِ، أمَّا كونُه مرفوعُ الموضعِ فلوقوعِهِ موقعَ الخبرِ، وهذا من بابِ الجِهَتَيْنِ، وذلك أنَّ انتصابَه لفظاً خلافُ ارتفاعهِ مَوْضِعاً، وكلُّ واحدٍ منهما يقدَّرُ تَقديراً غير تقديرِ الآخرِ، فارتفاعُه لوقوعِهِ موقعَ الخبرِ المرفوعِ، وانتصابُ لفظِهِ بالفعلِ المُقَدَّرِ، فالفعلُ مقدَّرٌ من وجهٍ، وغيرُ مقدَّرٍ من وجهٍ. قولهم: لو كان المُقَدَّرُ هنا فعلاً لكان هُنا فاعِلٌ. قلنا: وكذلِكَ نقول فإنّ في الظَّرفِ ضميراً هو فاعلُ استقرَّ انتقل إلى

الظرفِ ولهذا يرتَفِعُ الظَّاهرُ به كقولِكَ: زيدٌ خَلْفَكَ أَبوه، إلاَّ أن عامِلَ الظَّرفِ هُنا لا يَظْهَرُ البَتّةَ؛ لأنَّه نابَ عن الخبرِ المرفوعِ، والخبرُ لا يظهرُ معهُ الفِعْلُ، كذلك هاهُنا. ومن قالَ: إنَّ التقديرَ مستقرٌ فحُجَّته أن الاسمَ هو الأصلُ وقد قَوِيَ هاهُنا بأنَّ الظرفَ في تقديرِ المُفردِ، ولو كانَ المُقدَّرُ فِعلاً لكانَ جُملةً. والجوابُ: أن تقديرَ أَولى لِوَجهين: أحدهما: أنّه الأصل في العمل. والثاني: أنه مقدَّرٌ في الصّلَةِ بالفعلِ كقولِكَ: الذي خَلْفَكَ زيدٌ، ولو كانَ الاسمُ هو المقدَّر لكانَ مُفرداً، لا تَتِمُّ به الصّلة، أَلا تَرى أنَّك لو قلتَ: زيدٌ الذي مُستَقِرٌّ خلفَكَ لم يَجُزْ؛ لأنَّ الصِّلَةَ مفردةٌ والضَّرورةُ تَدعو إلى أن الصِّلةَ جُمْلةٌ، وذلِكَ يَتَحَقَّقُ بالفِعْلِ لا بالاسمِ. أمَّا الكوفيّون فشبهتهم أن كلَّ شيئين مُختلفين فالثّاني منهما مَنْصُوبٌ وأَصلُهُ مخالَفَةُ المَفْعُولِ للفاعِلِ، وقد ذَكرنا نحو ذلِكَ في خَبَرِ ((ما)). ويدلُّ على فسادِ ما ذَهَبُوا إليه أنَّ الخلافَ لو أَوجب النَّصب لجازَ نصبُ المبتدأ؛ لأنَّه مخالفٌ للخبرِ، وهذا لا سبيلَ إليه والله أَعلم بالصَّوابِ.

61 - مسألة: [عامل النصب في المفعول معه]

61 - مسألةُ: [عامِل النَّصب في المَفعول مَعَهُ] المُنتصب في المفعولِ معه ينتصبُ بالفعلِ الذي قَبله بواسطةِ الواوِ. وقالَ الأخفشُ: ينتصبُ انتصاب الظَّرفِ. كما يَنْتَصِبُ ((مع)). وقالَ الزَّجاجُ ينتَصِبُ بفعلٍ محذوفٍ تقديره: استَوى الماءَ، ولابَسَ الخَشَبَةَ. وقالَ الكوفِيُّون: ينتَصِبُ على الخِلافِ.

وحجَّةُ القولِ الأوّل: أنّ الواو صَحّحَتْ وصولَ الفعلِ إلى ما بعدَها، فكان الفعل هو العامل، كـ ((إلا)) في باب الاستثناء، وبيانُه أنَّ قولَكَ: ((استَوى الماءُ والخَشَبَة)) لا يصحّ معناه إلا بالواوِ، ولو قلتَ استوى الماءُ الخَشَبَةَ لم يصحّ، فإذا فسدَ عندَ عدمِ الواوِ، وصحّ عندَ وجودِها، وجبَ أن يُنسبَ العملُ إلى الفعلِ [و] إذا كانت الواو لا تَعملُ بنفسِها لم يَبْقَ إِلاّ أنَّ الفعلَ عَمِلَ بتوسُّط الواو، ونَظير ذلك ((إلاّ)) في الاستثناء،

ألا تَرى أنَّك لو قلتَ: قامَ القومُ زيداً لم يَستَقِمْ، ولو قلتَ: قامَ القوم إلا زيداً صحَّ المعنَى، وصارَ المُستثنى والمستثنى منه عُلقةً، فكانَ الفعلُ هو العاملُ، وكذلك البَاءُ في مررتُ بزيدٍ، والهَمزةُ وتَضْعِيْف العَيْنِ كقولِكَ: فرَّحت زَيْداً، أَفْرَحْتُ زَيْداً. ووجهُ قولِ الأخفش أنَّ الواوَ قامت مقامَ ((مع)) ولم يكنْ إثباتُ الإعراب فيها كانَ إعرابُ ((مع)) فيما بعدَ الواوِ كما كانَ ذلِكَ في ((غَير)) في الاستثناء. واحتجَّ الزَّجاجُ بأنّ الفعلَ لازمٌ والواوُ معدّيةٍ، بل مَعنى العَطفِ باقٍ فيها، بدليلِ قولِكَ: وزيداً قُمتُ على تَقديمِ الواوِ على الفعلِ فإنّه لا يَجوزُ كما لا يجوزُ المَعطوفِ على المعطوفِ عليه، فعندَ ذَلكَ يكون النَّصبُ بفعلٍ مَحذوفٍ كما في قَولهم: ((ما شانُك وزيداً)) أي وتُلابِسُ. وأمَّا الكُوفيون فقالوا: إنَّ الثاني مخالفٌ للأولِ، وذلك أنَّ الاستواءَ مَنسوبٌ إلى الماءِ غيرُ منسوبٍ إلى الخَشَبَةِ فصارَ معناه: ساوَى الماءُ الخَشَبَةَ، والخلافُ يَنْصِبُ كما ذكرناه في مسأَلة الظَّرفِ وخبرِ ((ما)). والجوابُ عن قولِ الأَخفش: أن ((مع)) تَنْصب على الظَّرف، ومعنى الظَّرفية فيها مَوجودٌ، ولا معنى للظَّرفِيّة في الواو ولا فيما بعدَها

فيمتنع وأكثرُ ما في هذا القَولِ أنَّ الواوَ بمعنى ((مع))، والحروفُ لا تَعمل بالمَعاني كما في حروفِ الاستفهام والنّفيِ، ولم يبقَ في الواوِ معنى العَطف، ألا تَرى أنك إذا قلت: ((قُم أنتَ وزيدٌ)) كان المَعنى أنّك آمرٌ لهما، وإذا قلتَ: قم أَنت وزيداً كنتَ آمراً للمُخاطَب دونَ زيدٍ، وإنّما أَمرته بِمُتَابَعَةِ زيدٍ حتى لو لَم يَقُمْ زيدٌ لم يَلْزَم المُخاطَبُ القِيَامَ. وأما التّقديمُ فممتنعٌ لعدمِ التَّصرف؛ لأنَّ الفِعْلَ صارَ مع الواوِ كفعلٍ آخر ــــــ فكأنَّهما أَحد جُزأي الفِعل فهو كقولك: إلاَّ زيداً قامَ القَوْمُ، فإنَّه امتنع لِمَا ذكرنا. وأمَّا الكُوفِيُّون فجوابُ كلامِهم إبطالُ النَّصب بالخلاف، وقد أبطَلْناه في مواضِعَ ويدلُّ عليه هاهُنا أن الخلافَ لا يوجبُ النَّصبَ كقولِكَ: ما قامَ زيدٌ لكنَّ عمرُو، وما مررتُ بأحدٍ لكن عمرُو فالخِلافُ هنا مَوجودٌ ولا نَصب، وكذا قولِكَ: قامَ زيدٌ لا عمروُ فإن الخِلافَ موجودٌ والنَّصْبَ غيرُ جائزٍ، ويدلُّ عليه أنَّ الخلافَ معنى والمَعاني لا تعملُ في المَفعولاتِ. واللهُ أعلمُ بالصّواب.

62 - مسألة: [تقديم الحال على العامل فيها]

62 - مسألة: [تقديم الحال على العامل فيها] يجوزُ تقديمُ الحالِ على العامل فيها إذا كان فِعلاً، أو ما قامَ مقدامَه وقالَ الكوفيون: لا يجوزُ إذا كان صاحبُ الحال اسماً ظاهراً، وإن كان مضمراً كقولك: راكباً جئتُ. وجهُ القَولِ الأَوَّلِ: السّماعُ والقياسُ: أمَّا السّماعُ فقولُ العربِ: ((شتّى تؤوبُ الحَلَبَة))، أي تؤوب الحَلَبَةُ مُخْتَلِفَةٌ. وأمَّا القياسُ: (فإن العامِلَ متصرفٌ جازَ تقديمُ الحالِ عليه، كما

لو كان صاحبُها مُضمراً، وبيانه: أنَّ تصرُّفَ العامل بالتَّنقل في الأزمنةِ يدلُّ على قوتِه في نفسِهن والمعمولُ حكم العامل، وهو مُسبَّبٌ عنه، والحكمُ يَقوى بقوّةِ سَبَبِهِ، وتَقديْمُها تَصَرُّفٌ، والتَّصرفُ حكمُ العامِلِ المتصرّف، ومن هاهُنا جازَ تقديمُ المفعولِ على الفعلِ، ولا يلزمُ عليه تقديمُ الحالِ على هذا، ولا على الظَّرفِ، ولا تقديمُ المُمَيَّز على التَمييز؛ لأنَّ هذه العَوامل ضعيفةٌ بِجُمُودِها. فإن قيلَ: ما ذكرتمُوه مقتضٍ للتَّقديمِ، ولكن يعارضُهُ مانعٌ، وهو ما يَلْزَمُ من تَقْدِيمِ المُضمَرِ على المُظْهَرِ على ما نُبَيِّنُهُ، وليسَ كذلكَ تقديمُ المَفعولِ على الفعلِ، إذ لا يَلزَمُ فيه ذلك. وأمّا تقديمُ الحالِ على العاملِ إذا كانَ صاحبُها مضمراً، فالجوابُ عنه من وَجهين: أحدهما: أنّ المضمَرة يعودُ عليه ضميرٌ فلا يكونُ تقديمُ مضمرٍ على مظهرٍ. والثاني: أنّ الضميرَ في راكبٍ هو الضَّميرُ في جِئْتُ بخلافِ الظاهر فإنّهما غَيرانِ في اللَّفظِ. فالجوابُ: أما تقديمُ المُضمرِ على المُظهَرِ فسيأتي جَوابه، قولُهم: المانِعُ موجودٌ. لا نُسلّمُ أن هناكَ مانعاً وسنُبَيّنُ ذلك، قولُهم في المُضمر: جازَ لما

ذُكر فليس بشيءٍ، وذلك أن الحالَ لا تخلو، إما أن يلزمها الضمير، أو لا يلزمها، فإن لزمها وجبَ أن يعودَ على مذكورٍ، والمذكورُ يكونُ مظهراً ومضمراً، وأيُّهما كانَ فليسَ بمانعٍ، وإنْ لم يكنْ لازِماً فقولوا ليس في ((راكباً)) إذا تقدَّم ضَمِيرٌ. واحتجَّ الآخرون: بأنَّ الحالَ صفةُ في الأصلِ، فيلزمُها الضَّمير، فَتَقْدِيْمُها يُفضي إلى تَقْدِيْمِ المُضْمَرِ على المُظْهَرِ، وتقدِيْمِ الصّفةِ على المَوْصُوفِ وكلاهما يَمتنع، كما يَمْتَنِعُ ضَرَبَ غُلامُهُ زَيْداً. والجَوابُ: أمَّا تقديمُ المُضمرِ على المُظهرِ فجائزٌ إذا كانَت النِيّة به التَّأخير كما قالَ تَعالى: {فأَوجسَ في نفسِهِ خيفةً مُوسى} وكما قالَ زهيرُ: مَنْ يَلْقَ يَوْماً عَلَى عِلاَّتِهِ هَرِماً ... يَلْقَ السَّماحَةَ مِنْهُ والنَّدَى خُلُقَا وكما قالوا: ((في أكفانه لُفَّ المَيّتُ))، و ((في بَيْتِهِ يُؤْتَى الحَكَمُ)) وأمَّا تقديمُ الصّفةِ على الموصوفِ فإنَّما يَمْتَنْعُ في الصّفةِ التَّابِعَةِ للمَوْصُوفِ في الإِعرابِ مِثلُ: جاءَني زيدٌ الظَّريفُ، ولو قلت جاءني الظريفُ زيدٌ على الوَصف لم يَجُزْ، والحالُ صفةٌ في المعنى، لا في اللَّفظِ، ولذلك يَجوزُ تقديمُ صفةِ النَّكرةِ عَلَيها فتَصِيرُ حالاً. والله أعلمُ بالصَّوابِ.

63 - مسألة: [وقوع الفعل الماضي حالا]

63 - مسألة: [وقوع الفعل الماضي حالاً] لا يجوزُ أن يقعَ الفِعلُ الماضِي حالاً إلاَّ أن تكونَ معه ((قَدْ)) ظاهرةً أو مقدرةً. وقالَ الكوفيُّون: يجوزُ ذَلِكَ من غيرِ تقدير. وحُجَّة الأولين: أنَّ الحالَ من الأسماءِ والأفعالِ ما كانَ موجوداً وقتَ الأخبارِ، أو مَحْكِيَّةً كقولك: هَذا زيدٌ قائماً، أي في هذه الحال، والحكاية كقولك: جاء زيد راكباً، فالمجيءُ ماضٍ و ((راكباً)) حكايةُ حالِه وقتَ المَجيء، والماضي هنا قد انقَضَى وما كانَ قد انقَضَى وانْقَطَعَ لا يكونُ هَيئةً للاسمِ وقتَ وقوعِ الاسمِ منه أو بِه، وذاكَ أنَّ الحالَ: وصفُ هَيْئَةِ الفاعِلِ أو المفعولِ به وما كانَ غيرُ موجودٍ يَصِحُّ أن يكونَ هَيْئَةً؟. فإن قيلَ: يلزمُ على ما ذَكَرْتُمُوه شَيْئانِ:

أحدُهما: أنَّكم جَوَّزتُمْ وقوعَ الماضِي مع ((قَدْ)) حالاً وبـ ((قَدْ)) لا يَصيرُ هَيْئَةً في الحالِ. والثَّاني: أنَّكم أَجزتُمْ وقوعَ المُسْتَقْبَلِ حالاً، والمُسْتَقْبَلُ معدومٌ في الحالِ، كما أنَّ الماضي كذلِكَ. فالجواب: أمَّا ((قد)) فإِنَّها تقربُ الماضي من الحالِ، والقَريبُ من الشَّيءِ مجاورٌ له، والمجاوَرُ يُعطي حكم المجاوِرُ، وهذا مشهورٌ كثيرٌ في أبوابِ النَّحو، فإذا تجرَّد عن ((قد)) لفظاً أو تقديراً تمحَّض بعيداً منقطعاً فيبعد أن يُجري مُجرى الحالِ، ويدلُّ عليه ما ذكر في الفَرق بين ((لَم))، و ((لَمّا)) وذلك أنَّك إذا قلت: كنتُ عندَ زيدٍ ولم يَركب، لم يَجز أن تقتصرَ على ((لَم)) ولو قُلت و ((لمَّا)) لجازَ أن تَقْتَصِرَ عليها، ولا سَبَبَ لذلك إلاَّ القُربَ الذي ذَكرنا وذلِكَ أن قولَكَ: خَرَجْتُ من عندِ زيدٍ ولم يَرْكب، أي لم يَتَهَيَّأ للرُّكوبِ، وإذا قلتَ: ((ولمَّا)) أيْ: وَقَدْ تَهَيَّأ للرُّكوبِ ولم يَرْكَبْ، والتَّهَيُّؤُ للشَّيءِ تَقَرُّبٌ من فعله. وأمَّا وقوعُ المُستقبلِ حالاً وإن كان معدوماً في الحالِ ولكن المستقبل مارٌّ إلى الوجودِ منتظرٌ الوقوع، فكان لقربِ وقوعِهِ كالواقعِ في الحالِ، يدلُّ على ذلِكَ أنَّك توقِعُ اسمَ الفاعلِ مَوقَع الفعلِ المُضارعِ حتَّى تَعْطِفَ عليه المضارعَ كقولِهم: الطَّائِرُ الذُّباب فَيَغْضَبُ زيدٌ. فعطف ((يغضبُ)) على ((الطائرِ)) لما كان أَصله ((يَطيرُ))، وليس كذلِك الماضي؛ إذ لا يُنتظر عودُ عَينه. وأمَّا الكوفيون فاحتجُّوا بالسَّماع والقِياس.

أما السَّماعُ فمنه قوله تعالى: {أوَ جاؤُوكم حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ} ((فحصرت)) فعلٌ ماضٍ، وقد وقعَ حالاً، وقد وَقَعَ مَوْقَعَ ((حَصِرَةً)) كما قَرَأَ يَعقوبُ. وأمَّا القياسُ فمن وَجهين: أحدُهما: أن الماضي يقعُ صفةً للنكرةِ، فجازَ أن يقعَ حالاً من المعرفةِ كالفعلِ المضارعِ ومثالُه قولُكَ: مررتُ برجلٍ كَتب أي كاتبٌ كما تَقول مررت برجلٍ يكتبُ، وتقديرُهُ أنَّ الحالَ صفةٌ في الأَصْلِ وإذا كان الماضي يَصلُحُ أن يكونَ صفةً فقد صَلح لأَصلِ الحالِ.

والوجهُ الثّاني: أنّ الماضيَ يقعُ موضعَ المستقبلِ كقوله تعالى: {ويوم يُنفَخُ في الصُّور ففزعَ من في السَّمواتِ} ويقعُ المُستقبل بمَعنى الماضي كقوله تعالى: {فَوَجَدَ فيها رَجُلين يَقْتَتِلان} وإذا وَقَع كلُّ منهما موقعَ الآخرِ وجازَت الحالُ من أحدِهما كانَ الآخرُ كذلكَ. والجوابُ: أمَّا الآيةُ فالجوابُ عنها من أوجه: أحدُها: أنَّ الآية يرادُ بها الدُّعاء كما تقولُ: جاءَ زيدٌ ــــ قبحه الله ــــ وعلى هذا لا حُجَّةَ فيها. والثَّاني: نُقَدِّرُ أنَّه وَصفٌ، ولكنّ الموصوفَ محذوفٌ تقديرهُ أو جاؤُوكم قومًا حَصِرَتْ، فـ ((قوماً)) هو الحالُ، و ((حَصِرَتْ)) نعتٌ لها. والثالثُ: أن ((قَد)) معه مقدّرة أي قد حَصِرَتْ، ونحنُ نجوِّزُ ذلك. والرَّابعُ: أن حَصَرَ صُدُورِهِمْ كانَ مَوجوداً وقتَ مَجِيْئِهِم، فالفِعْلُ هُنا لم يَنْقَطِعْ بخلافِ مسألتنا فإنَّ قولَك: مررتُ برجلٍ ضَرَبَ أمسِ قَد انْقَطَعَ الضَّربُ منه في الحالِ، وبَينَ المَسألتينِ بَونٌ بَعيدٌ. وأمَّا وقوعُ الماضي صفةً فلا يلزمُ منه وقوعُهُ حالاً؛ لأنَّ الماضي يوصفُ به على وجهٍ تَزول الصّفة في الحالِ، ويكونُ الوصفُ بها ماضياً بخلافِ الحالِ فإن بابَها أن تكونَ مقارنةً للفِعل، ويُقوِّي ذلكَ أمران: أحدُهما: أنَّ الحالَ تقدّر بالظرفِ كقولك: جاء زيدٌ راكبًا، أي في حال ركوبه، والعامِلُ في الظَّرف جاءَ، والظَّرف مقارنٌ للمظروفِ، كذلك الحالُ.

والثَّاني: أنَّ الحالَ تُشبِهُ التَّمييزَ، والتَّمييزُ لا يَسبِقُ المُمَيَّز. وأمَّا وقوعُ الماضِي بمعنى المُستقبل فأمرٌ خارجٌ عما نحنُ فيه، وذلِكَ: أن وضعَ اللَّفظِ موضعَ غيرِه من قَبيلِ المَجازِ المُخالف للأَصلِ، فلا يُعدَّى إلى غَيره ثم إنَّ هذا إثبات اللُّغة بالقياسِ، والدَّليلُ يَنفي ذلك، إذْ كانَ فيه تَحْويلٌ لمدولولِ اللّفظِ إلى خِلافه، وذلك: أنَّ ((ضَرَبَ)) مثلاً إذا كان مَوضوعاً عن الزَّمان الماضِي كانَ وقوعُه بمعنى المُستَقبلِ نقضاً للدِلاَلَةِ، ويمكن أن يحملَ على أنّه حكى الماضِي حتّى كأنه مشاهدٌ، كما يُحكى بفعلِ المُضارع المُضِيّ، وعلى أن إلحاق الماضي بالمُستقبلِ جائزٌ، لاشتراكِهِما في الفِعليَّةِ، وباب الحالِ أن يكونَ اسماً، وإيقاعُ الفعلِ موقعَ الاسمِ أبعدُ من وقوعِ الفعلِ موقعَ الفعلِ، والله أعلمُ بالصَّوابِ.

64 - مسألة: [إعراب الظرف الواقع خبرا إذا تكرر بعد اسم الفاعل]

64 - مسألة: [إعراب الظرف الواقع خبراً إذا تكرر بعد اسم الفاعل] إذا كانَ الظَّرفُ خبراً لمبتدأ وكررتَه بعدَ اسمِ الفاعلِ جازَ فيه النَّصبُ والرَّفعُ كقولك: زيدٌ في الدَّارِ قائماً فيها، يجوزُ في قائمٍ الرَّفع والنَّصب. وقالَ الكُوفِيُّون: لا يجوزُ في قائمٍ إلا النَّصبَ. وجهُ القولِ الأَولِ: أنَّ قائماً صالحٌ أن يكونَ خَبَرَ المُبتدأ، والظَّرف فيَجوز أن يَتَكرّر تَوكيداً كما لَو قُلتَ: زيدٌ في الدَّارِ في الدَّارِ أو زيدٌ في الدَّارِ زيدٌ في الدَّارِ. ويَدلُّ أنّك إذا نَصبت قائماً كانت ((في)) توكيداً أيضاً، إذا لو اقتصرتَ فقلتَ: زيدٌ في الدَّارِ قائماً جازَ وكانَ الحالُ من الظّرف، فتكونُ ((في)) توكيداً، وعلى ذلك جاء قوله تعالى: {وأما الّذين سُعِدوا ففي الجَنّة خالِدِينَ فِيْهَا}.

وحجةُ الآخرين أنَّه لم يأتِ في القرآنِ الرّفع من هذا القبيلِ بل جاءَ بالنَّصب، كالآيةِ التي ذكرناها، وكقوله تَعالى: {فكان عاقِبَتُهُمَا أنَّهما في النّارِ خَالِدَيْنِ فيها} ولما لَم يكنْ في الكَلامِ ظرفٌ آخرُ جاء الرَّفع والنَّصب فالرفعُ قوله تعالى: {إنّ المُجرمين في عذابِ جَهَنَّمَ خالِدُون} والنَّصبُ قوله: {إن المُتَّقِيْنَ في جَنَّاتٍ وَعُيُون. آخِذِيْنَ} قالُوا: والقِياس يَقْتَضي ما قُلنا، وذلك أنّا إذا رَفَعْنا الخَبَرَ تَعَلَّقَ الظَّرفُ الأَوَّلُ به، فلا يَبْقَى للظَّرفِ الثَّاني ما يَتَعَلَّقُ به، بَلْ يكونُ مُنْقَطِعاً. والجوابُ: أمَّا الآيةُ فلا حجةَ فيها؛ فإن النَّصبَ عندنا جائزٌ، وليسَ فيها منعٌ من الرّفعِ، بل هو مَسْكُوتٌ عنه، على أَنَّ الآيةَ الثانيةَ قد قُرِئَتْ بالرَّفع وهي قوله: {فكانَ عاقبتهما أنَّهما في النارِ خالِدَان فيها} قولَهم إذا رَفعتَ الخبر لم يبقَ للظَّرف الثاني ما يَتَعَلَّقُ به قلنا: بَلَى يتعلَّق الظرفان بقائمٍ، ويكونُ الثاني مُكرراً للتوكيد، كما تقولُ: جاءَني زيدٌ جاءني زيدٌ، ومررت بزيدٍ، بزيدٍ، ولا فرقَ في التّكريرِ للتوكيد من أن تتكرر الجُملة بأسرها وبين أن يَتَكَرّر الجُزءُ منها، وإِذا جازَ أن يُؤكَّد الكلامُ بما ليس مِنَ الجُملَةِ فبأنْ يتأكَّد بجُزءٍ منها أَولى كقوله تَعالى: {فَبِها رَحْمَةٍ مِنَ الله}، {فَبِما نَقْضِهِم مِيثاقَهُمْ}.

وبِقَولهم: فما إنْ طِبُّنا جُبْنٌ ولَكِنْ والله أعلمُ بالصَّواب.

65 - مسألة: [تقديم التمييز على العامل فيه]

65 - مسألة: [تقديمُ التَّمييز على العامِلِ فيه] لا يجوزُ تقديمُ المُمَيّز على العامِل فيه مُتَصَرّفاً كان أو غيرَ متصرفٍ، فالمُتَصَرِّفُ نَحو طابَ زيدٌ نفساً، وغيرُ المُتَصَرِّفِ نحو عِشرون دِرهماً. وقالَ الكوفيُّون: يَجوزُ تَقْدِيْمُهُ عليه إذا كانَ مُتصرّفاً، وإليه ذهبَ بعضُ البَصريين. وجهُ القولِ الأَولِ: من طَريقين: أحدُهما: أنَّه لفظُ مُميز فلم يجز تقديمه على العامِل فيه، كما لو

كان غيرَ متصرّفٍ، ألا تَرى أنّك لو قُلتَ: عندي درهماً عشرون لم يَجُزْ، فكذلك إذا قلتَ: نَفْساً طابَ زيدٌ. فإن قيلَ: الفرقُ بينهما أنَّ العاملَ في الأوّلِ غيرُ متصرفٍ، والتقديم تَصَرُّفٌ فلا يوجبُه غيرُ المتصرّف، بخلافِ قولكَ: طابَ زيدٌ فإِنّه مُتصرّفٌ فجازَ تقديمُه على العامِلِ فيه كالمفعولِ. قُلنا: هما ــــ وإن افترقا فيما ذكرتم ــــ فهما مُشتركان في كونِ كلِّ واحدٍ منهما مميّزٌ منسوبٌ إلى عاملٍ، وإذا اشترك الشَّيئان في وصفٍ خاصٍّ كَفَى ذلك للإحاق، ولم الفَرقُ قاطِعاً للإِلحاقِ. الطريقُ الثاني: أن المُمَيّز هاهُنا فاعلٌ في المَعنى، وتقديمُ الفاعِلِ على الفِعلِ غيرُ جائزٍ؛ بيانُهُ أن قولَك: طابَ زيدٌ نَفساً تقديره طابَتْ نفسُ زَيدٍ، ثم أُزيل الفاعل عن موضِعه ونُسب الفعلُ إلى زيدٍ وهو فعلُ الفاعلِ في الأصلِ، وتطرَّق إليه الاحتمالُ فجُعلت النفسُ مميزةً قاطعةً للاحتمالِ، وإذا كان كذلك امتنعَ التقديمُ لوجهين: أحدُهما: ما تقدّم من كونِ النَّفسِ فاعِلاً. والثاني: أن تقديمَ النفسِ يُخرجُ هذا الباب عن حقيقةِ التّمييز لأنّ قولكَ: نفساً طابَ زيدٌ يمنعُ من الاحتمالِ فلا يبقَى عليه اسم التّمييز، بخلاف ما إذا تأخَّر فإن الاحتمالَ يكونُ موجوداً فيحاوَلُ بالتَّمييز رَفعُهُ بعدَ وقوعِهِ. واحتجَّ الآخَرون بالسَّماعِ والقِيَاسِ:

أمَّا السّماعُ فمنه قولُ الشاعرِ: أَتَهْجُرُ سَلمى للفِراقِ حَبِيبَها ... وما كانَ نَفْساً بالفراقِ تَطِيبُ فقدَّم نفساً على العاملِ فيه. وأمَّا القياسُ: فهو أنَّ العامِلَ هنا متصرّفٌ إذ كان فعلاً متصرفاً فهو كالمفعولِ يجوزُ تقديمُه على الفعلِ كقولك: زيداً ضربَ عمروُ، وباعتبار هذا قد جوزتُم تقديمَ الحالِ على العاملِ المتصرّفِ، وهو القياسُ، ونحن مَنعنا تقديمَ الحالِ لِوجودِ مانعٍ، وهو الإِضمارُ قبلَ الذّكرِ، لا لعدمِ المقتضى والجوابُ: أما البيتُ فعنه جوابان: أحدُهما: أن الصَّحيحَ في الرِّواية: وما كانَ نَفْسِيْ بالفِرَاقِ تَطِيْبُ فـ ((نَفْسِي)) اسمُ كانَ.

والثاني: نُسلم أنَّ الروايةَ كما ذَكروا ولكنْ مخرجةٌ من وجهين: أحدُهما: هو مَنصوبٌ بإضمارِ ((أعني)) فهو مفعولٌ لا تَمييزٌ. والثاني: هو تَمييزٌ، ولكنَّ هذا من ضَرورة الشّعر الشَّاذِّ عن القياسِ والاستعمالِ، مثلُ ذلكَ لا يُجعل أصلاً؛ ألا تَرى أنَّ قولَ الشَّاعر: قَدْ بَلَغَتْ سَوْءَاتُهُمْ هَجَرُ وقولَ الآخرِ: تُوَاهِقُ رِجلاها يَدَاهَا لا يقاسُ عليه، كذلِكَ هاهُنا.

أمَّا القياسُ على المفعولِ فلا يصحُّ، فإِنَّ معنى المفعولية لا يختلف بالتَّقديم والتَّأخير، والفعلُ هناكَ مُتَعَدٍّ، بخلافِ مسأَلتنا فإِنَّ الفعلَ غيرُ متعدٍّ، والفاعلية قد تَغَيَّرَ معناها، وانتقلَ إلى غَيْرِها، ويدلُّ عليه امتناعُ تقديمِ الحالِ على أَصلِهم فإِنَّهم مَنعوا من التَّقديمِ بسببِ الإِضمارِ قبلَ الذّكرِ، ومثلُ هذا مَوْجودٌ هُنا، فإِنَّ تقديمَ المنصوبِ هنا يمنَحُ من كونِ الفاعلِ مُحتاجاً إلى التَّمييزِ، والله أعلمُ بالصَّواب.

66 - مسألة: [العامل في الاستثناء]

66 - مسألة: [العامل في الاستثناء] المنصوبُ بعد ((إلاَّ)) في الاستثناء منصوبٌ بالفعلِ المتقدّم بواسطةِ ((إلاَّ)). وقالَ المبرٍّدُ والزَّجاجُ: هو منصوبٌ بمعنى استَثنى.

وقالَ الفَراءُ: ((إلاَّ)) مركبة من ((إِنْ)) و ((لا)) فإِذا نَصبتَ نصبتَ بـ ((إِنْ))، وإذا رفعتَ كانت ((لا)) للعطفِ. وقالَ الكسائيُّ: مَنصوبٌ على التَّشبيهِ بالمفعولِ كالتَّمييزِ. وجه القول الأول: أن النَّصب عملٌ، ولا بدَّ للعملِ من عاملٍ، والعاملُ هنا لا يخلو؛ إمَّا أن يكونَ لفظاً أو معنى، واللَّفظُ إمّا أن يكونَ مفرداً أو مركباً، ولا وجهَ لوكنِهِ مَعنوياً؛ لأنَّ الحروفَ لا تَعملُ بمعناها ألا تَرى أنَّ حرفَ النَّفي والاستفهامِ والتَّبعيضِ لا تَعمل بمعانِيها، فكذلك ((إِلاَّ))، لا تَعمل بمعناها، وهو ((أستَثنى ((ويدلُّ على فَسادِ ذلِكَ أربعةٌ أَشياء: أحدُها: أن غَيراً تُنصب، فلا يخلو؛ إما أن تنصبَ نفسَها، أو يَنصبُها استثنى، والأَوّلُ باطِلٌ؛ فإنَّ الشيءَ لا يَعملُ في نفسِه، والثاني باطلٌ أيضاً؛ لأنَّه يؤدّي إلى عَكْسِ المَعنى، ألا تَرى أنَّك إذا قلتَ: قامَ القومُ استثْنى

غيرَ زيدٍ. كانَ زيدٌ داخلاً في القيامِ، وغيرُه غيرُ داخلٍ فيه، والمَعنى عكسُ ذلِكَ. والثَّاني: أن المُستثنى قد يكونُ مرفوعاً مع وجود هذا المعنى. والثَّالثُ: أنه ليسَ تقديرَ ((استثنى)) أَولى من تقديرِ ((تَخَلَّفَ)) فيرتفعُ المستثنى أبداً. والرَّابعُ: أنَّه إذا قُدِّر العامِلُ هنا ((استَثنى)) كان جُملتين، وقد أَمكن أن يُجعَلَ جُملةً فهو أولى. ولا يجوزُ أن يكونَ العامِلُ مُركباً من ((إن)) و ((لا)) لثلاثةِ أوجهٍ: أحدُها: أن التَّركيبَ خلافُ الأصلِ، فلا يَثْبُتُ إلا بدَليلٍ ظاهرٍ. والثَّاني: أنه لم يبقَ من المركَّبِ حكمٌ؛ لأنَّ ((إنْ)) لا تنصبُ وبعدَها حرفُ نفيٍ، لو قلتَ: إنْ لا زيدٌ لم يَجُزْ. و ((لا)) لا تُعطَفُ على هذا المعنى؛ لأنَّها إذا دَخلت على مَعرفةِ لم تَعملْ فيها ولزمَ تكريرُ تلكِ المعرفةِ. وإن جُعلتْ حرفَ عطفٍ فَسَدَ المعنى؛ لأنّ حرفَ العطفِ يُشرِّك بين الشَّيئين في الإِعراب، و ((إلا)) لَيست كذلك. والثالثُ: أن التَّركيبَ يُغيِّرُ معنى المُفردَين، مثلُ ((كأنَّ)) في التشبيهِ و ((لولا)) التي يَمتنع بها الشَّيءُ لوجودِ غيره. وأمَّا قولُ الكِسائيّ فإِنّه يَرجعُ إلى معنى قولِ البَصريين. فإن قيلَ: قد أَبطلتُم هذه الأَقوالَ فما طريقُ صحّةِ قولكم؟. قُلنا: إنَّ قولَكَ: قامَ القومُ زيداً غيرُ صحيحٍ في المعنى، وقولكم: قامَ القومُ إلاّ زيداً صحيحٌ في المعنى، والصّحةُ حادثةٌ مع حدوثِ ((إِلاَّ))؛ فوجَب أن يُنسبَ ذلك إليها، وأنَّها هي التي عَلَّقت زيداً بقامَ فتَجري مَجرى

واو ((مَع))، وحروفُ الجرِّ، والفِعْلُ في هذه المواضعِ هو الذي يَعمل ولكنْ بواسطةِ الحَرف كذلك هاهُنا. فإن قيلَ: هذا المعنى لا يصحُّ في قولِكَ: القومُ إخوانُك إلاَّ زيداً فإنه لا فِعلَ هُنا فيقوّي بإلاّ. قلنا عنه جوابان: أحدُهما: أنَّ معنى الفعلِ موجودٌ وهو أن المَعنى القومُ يناسبونَك إِلاَّ زيداً. والثاني: أنَّ الحكمَ إذا ثَبَتَ بعلّةٍ ثبتَ في مواضع وإِن لم تَكُن العلةُ موجودةً، طرداً للباب في قولهم: أَعِدُ ونَعِدُ وتَعِدُ؛ حملاً على يَعِدُ، وكذلك نُكرمُ وتُكرمُ ويُكرم؛ حَملاً على أَكرام. والله أعلم بالصواب.

67 - مسألة: [وقوع (إلا) بمعنى الواو]

67 - مسألة: [وقوع (إلا) بمعنى الواو] لا تكونُ ((إلا)) بمعنى الواو. وقالَ الكوفيُّون تكونُ بمعنى الواوِ. وجهُ القولِ الأَول من وَجهين: أحدُهما: أنَّ الأصلَ أن ينفردَ كلُّ حرفٍ بمعنى، ولا يقعُ حرفٌ بمعنيين؛ لِمَا في ذلك من الاشتراكِ المُلبِس، وما صَحَّ منه عن العربِ يُقتَصرُ عليه، ولا يُقاس. والوجهُ الثاني: أنَّ ((إلاّ)) بمعنى الواو من قَبيلِ الأَضدادِ؛ لأنَّ موضوعَ ((إلا)) مخالفةُ ما بعدها لما قَبلها، والواو تَشْركُ ما بعدَها بما قَبلها، هذا حقيقةُ التَّضادّ، والأصلُ عدمه. واحتجَّ الآخرون: بأنَّ ((إلا)) قد وَقَعَتْ بمعنى الواوِ، وبمعنى ((مع))

فمن ذلك قَوله تَعالى: {لِئَلاَّ يَكُوْنَ لِلنَّاسِ عَلَيكُم حُجَّةٌ إلاّ الّذينَ ظَلَمُوا} أي: ولا الّذين ظَلموا، وقولُه تعالى: {لا يُحِبُّ اللَّهُ الجَهْرَ بالسُّوءِ مِنَ القَولِ إلاّ مَنْ ظُلِمَ}. وقد جاءَ في هذا المَعنى ((إلاَّ)) بمعنى ((مَع)) وهو معنى الواو كقوله تَعالى: {وأَيديَكُم إِلى المَرَافِقِ} و {مَنْ أَنْصَارِيْ إلى الله} وهو كثيرٌ في الشعر. والجواب: أنَّه لا دلالة فيما ذكروا على أنَّ ((إلاَّ)) بمعنى الواو أمَّا قَولُهُ تَعالى: {إلاَّ الّذينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ} فهو استثناءٌ منقطعٌ بمعنى ((لكنْ)) والمعنى لكنْ الذين ظَلموا يَحْتَجُّون عليكم بِغَيرِ حُجّة، وهكذا في جميع ما

ذكروه وأمثالِه، وأمَّا وقوعُها بمعنى ((مَع)) فغيرُ مُسلّمٍ، وأمَّا قوله: ((إلى المَرافِقِ)) فهي حدٌّ يَنتهي الغَسْلُ إليه، والحدُّ هنا يَدخل في المَحدود؛ لأنَّ المِرفَقَ جزءٌ من اليَدِ، وإِذا وقعَ التّحديدُ بجزءٍ من الشّيءِ دخلَ في المَحدود، هكذا قال أهلُ اللُّغة. وقوله: ((مَنْ أَنصاري إلى الله)) فإِلاّ فيه على بابها، والتَّقدير مَنْ أنصاري مُضافين إلى الله، ويدلُّ على صِحَّةِ ذلكَ أنَّ ((إلى)) في الأصْلِ لا تكونُ بمعنى ((مع)) كقوله تَعالى: {ثم أَتِمُّوا الصِّيامَ إلى اللَّيْلِ} و ((مع)) هنا مُحال، وكذلك ((جئتُ إلى زيدٍ))، وكانَ الأصل فيه أن ((إلى)) لانتِهاء الغَاية، والواوُ، و ((مع)) يلزمُ منهما المُصاحَبَةُ والمُصاحبةُ تُنافي الانتهاء، فإنْ جاءَ شيءٌ من ذلِكَ فهو مَحْمُولٌ على ((لاَ)) في أنّه مُسْتَفَادٌ بالحَرْفِ الموضوعِ لَه. والله أعلمُ بالصَّواب.

68 - مسألة: [تقديم المستثنى مع (إلا)]

68 - مسألة: [تقديم المستثنى مع (إلا)] لا يجوز تقديم حرف الاستثناء على المُستثنى منه كقولك: إلاَّ زيداً قامَ القومُ. ولا إلا زيداً ما قامَ القومُ. وقالَ بعضُ الكوفيين يجوزُ ذلكَ. وجهُ القَولِ الأَوَّلِ: من ثلاثةِ أَوجهٍ: أحدُها: أنَّ حرفَ الاستثناءِ أُتي به وَصلةً للفعلِ، وتَقْوِيَةً له، فلا يَجُوزُ تقديمُه على ما يُوصله كواوِ ((مع)) فإِنَّك لو قلتَ: وَزَيْداً قُمْتُ لَم يَجُزْ. والوجهُ الثاني: أنَّ المُستثنى يكونُ بَدَلاً من المُستثنى منه، والبَدَلُ لا يتقدم على المبدل منه، كذلك هاهُنا.

والثالثُ: أنه يلزمُ من التَّقديمِ عَمَلُ ما بعد إِلاّ فيما قَبْلَها، وذلك غيرُ جائزٍ، كما أن عملَ ما في حَيّر ((ما)) النَّافية فيما قَبلها لا يَجُوزُ، يدلُّ على أن الاستثناءَ إخراجُ بعضِ الجُملةِ، كما أنَّ النَّفْيَ كذلك، وكما لا يجوزُ في النَّفي كذلك لا يَجوزُ فيما هو في مَعناه. واحتجَّ الآخرون بالسَّماعِ والقياسِ: أما السَّماعُ فمنه قولُ الشَّاعرِ: وبَلْدَةٍ لَيسَ بِهَا طُوِريُّ ... ولا خَلا الجِنَّ بِهَا إنْسِيُّ تقديرُه: ولا بها إنسيُّ خلا الجِنَّ، وقال أَبو زُبَيْدٍ: خَلا أَنَّ العِتَاقَ مِنَ المَطَايا ... حَسَيْنَ به فَهُنَّ إليه شُوْسُ

وأمَّا القياسُ: فهو أن تقديمَ المُستثنى على المُستثني مِنْه جائز، كقولك: ما لي إلا أباكَ صَدِيقٌ؛ أي مالِي صَدِيْقٌ إلا أبَاك، فكذلك يَجوزُ تَقديمه على العامل فيه، ألا تَرى أنَّ قولك: ما مَرَرْتُ إلا بزيدٍ جائز، وكذلك بزيد مررت، ولأنَّ العاملَ في الاستثناءِ فعلٌ، وتَقْدِيمُ المَفْعُولِ على الفعلِ جائز. والجوابُ: أما البيت فمحمولٌ على اسمِ لَيس، تقديره: ليسَ بها إنسيٌّ إلا الجِنَّ، والاستثناء من غيرِ الجِنْسِ، وعلى هذا لا يَدخُلُ البيتُ فيما نحن فيه. أما البيت الثاني فمن جنس هذا، والدَّلِيْلُ عليه البيتُ الذي قبلَه، والبيتُ قولُهُ: إلى أنْ عَرّسُوا وأغبَّ منهم ... قَرِيباً ما يُحَسُّ له حَسِيسُ والتقديرُ: ما يحس له جنس حسيسٌ إلاَّ أصواتَ الخَيلِ. قولهم: ((الاستثناءُ يشبه البَدَلَ)) لا يصحُّ لوجهين:

أحدُهما: أنَّ تقديمَ المُستثنى على المُستثنى منه واقعٌ بعدَ العاملِ، أَلا ترى أنَّ قولَك: ما قامَ إلا زيداً أحدٌ ((إلا زيداً)) هو بعدَ العاملِ وهو قامَ، وليس كذلك هاهُنا، فإنه واقعٌ قبلَ العامِلِ، والفرقُ بينهما ظاهرٌ، أَلا تَرى أنَّ قولك: كانت زيداً الحُمَّى إذا لَم تقدّر في ((كان)) ضميرُ الشَّأنِ لا يَجُوز، لِوُقُوعِ الفَصل بَيْنَ العامِلِ والمعمولِ بالأَجنَبِيِّ، فإذا لَم يجزْ الفصلُ فالتَّقديمُ أَولى ألاَّ يجوزَ. والثاني: أنَّ ((إلا)) مع ما بعدَها لا تُجرى مُجرى المفعولِ؛ لأنه حَدثَ فيه معنى بـ ((إلا))، بخلافِ قولِكَ: قامَ القومُ إلاّ زيداً؛ فإنَّ: ((إلاَّ)) وزيداً يشتملُ على معنيين، يفترقان إلى ما يكونُ معناه سابقاً عليهما، وصارَ هذا كما في حَرفِ العَطفِ فإنَّه لما تَقَدَّمَ عليه ما يَتَعَلَّقُ به معناه لَم يجز تقديمُهُ، كقولِكَ: قامَ زيدٌ وعمرٌو ولو قلتَ: وعمروٌ قامَ زيدٌ لم يَجُز، يدلُّ عليه أن من مَذهبهم أنَّ ((إِلاَّ)) مركبة من ((أن))، و ((لا)) وتقديمُ هذا المَعنى على الاستثناء خطأٌ، والله أعلمُ بالصَّواب.

69 - مسألة: [(حاشا) بين الفعلية والحرفية]

69 - مسألة: [(حاشا) بين الفعلية والحرفية] حاشا في الاستثناء حرفُ جرٍ. ومن البَصريين من قالَ: تكونُ حرفاً، وتكونُ فعلاً. وقالَ الكوفيُّون: هي فِعْلٌ. وَجْهُ القولِ الأوّلِ السَّماعُ، والقِياسُ. أمَّا السَّماعُ فقولُ الشاعرِ: حاشَى أَبي ثَوبان إنَّ أبا ... ثَوبانَ لَيسَ بِبُكْمَةٍ فَدْمِ

عَمرُو بنُ عبدِ الله إنَّ بِه ... ضَنّاً على المِلْحَاةِ والشَّتمِ فجرَّبها، وليسَ ((أَبي)) مضافاً إلى ياء المُتكلم؛ لأنَّ اسمَه: أَبو ثَوبان بدليل قوله: ((إن أبا ثوبان)) وقالَ آخر: فَلا أَهلَ إلاَّ دُونَ أَهلِكَ عِندَنا ... ومالَكِ حاشاَ بَيتِ مَكّةَ من عَدْلِ أمَّا القياسُ فمن أوجهٍ: أحدُها: أنَّك تقولُ: حاشايَ. ولا تقولُ: ((حاشانِي))، ولو كانَ فِعْلاً لقتُهُ كما تقولُ: رامانِي وعاطانِي. والثاني: أنه لا يجوزُ أن يكونَ صِلَةَ ((ما)) المَصْدَرِيَّة فلا تقولُ: قامَ القومُ حاشاَ زيداً، كما تقولُ: قاموا ما خَلاَ زَيْداً، وهذا يَدُلُّ على أنه حَرْفٌ، إذ لم يَجُز أن يُجْعَلَ صِلَةَ ((ما)). والثالثُ: أنَّه لو كان فعلاً لكانَ له فاعِلٌ، وليس له فاعِلٌ. بيانُه أنَّك تقول: حاشاكَ من كذا فتَصِلُ به الكافَ، وحاشايَ ويَدخل على اليَاء، وليس هناك فاعِلٌ.

فإن قيلَ: لو كان حرفَ جرٍ لكانَ معدّياً للفعل؟ قيل: هو معدّياً كما أن ((إلا)) كذلك، ألا تَراكَ تقولُ: قامَ القومُ حاشَى زَيْدٍ فتُعَدَّى قامَ بـ ((حَاشَا)). واحتجَّ الآخَرُونَ: بِأَشْيَاءَ: أحدُها: أنَّه قد صُرّفَ فيقال: حاشَيتُهُ، وأُحاشيه ومنه قولُ النَّابغة:

ولا أُحاشِي من الأَقوامِ مِنْ أَحَدِ وهذا حكمُ الفِعْلِ. والثاني: أنّه يُعدى باللاَّمِ، كقولهِ تَعالى: {حاشَى لِلَّهِ} ولو كان حرفَ جرٍ، لدخلَ على حرفِ جَرٍ، وليسَ كذلك حُكمُ الحروفِ. والثَّالثُ: أنَّه دخله التَّخفيفُ بالحذفِ يقالُ: حاشى الله، وحَشَا الله. والجوابُ: أمَّا التَّصرفُ فغيرُ دَليلٍ على الفِعليّة، فإن الحرفَ تصرَّف منه فعل كقولك: سأَلته حاجة فلَولا: أي قال: لو كان كذا، ويُقال: بسمل، إذا قال: بسم الله، وهَلَّلَ إذا قال: لا إلَه إلاَّ الله، وهو كثير. قولهم: يُوصلُ بحرفِ الجَرّ، ليس كذلك، والدَّليلُ عليه حاشى زيدٍ، وحاشايَ، ولو كان حرفُ الجَرّ فَصلاً لما جازَ حذَفُهُ فعُلِمَ أنَّ اللاّمَ زائدةٌ وزيادةُ الحروفِ كثيرٌ، منها قولُه تعالى: {عَسى أَن يَكُوْنَ رَدِفَ لَكُمْ} أي رَدِفَكُم، وأَلْقَى بِيَدِه، وقالَ الشاعر: نضربُ بالسَّيف ونَرجو بالفَرَجْ

وقالوا: رُبَ، في ((رُبَّ))، وكل هذه حذوفٌ وزيادةٌ في الحُرُوفِ قولَهم: ((قد حذفت منه الألف)) جوابُه من وَجهين: أحدُهما: لَيس كذلك فإنَّ أبا عمروٍ إمامُ القراءِ أَنْكرَ هذه القراءة. والثاني: أن الحروفَ قد دَخلها الحذفُ كما في ((رُبَّ)) وغيرها. فإن قيلَ: استعمالُها في الاستثناءِ خاصةً يدلُّ على كونِها فعلاً. قيلَ: تكونُ استثناءً في مواضعَ، وغيرَ استثناءٍ في مواضعَ؛ ألا تراكَ

تقولُ مبتدأ حاشى زيداً أَنْ يَسْرِقَ، ولَيس هنا ما يُستثنى منه، بل هو بمعنى قولِكَ: زيدٌ بعيدٌ من السَّرْقِ، ثم لو لَزِمَت الاستثناءَ لم يدُلَّ ذلك على كونِهِ فعلاً، ألا تَرى أن ((إلا)) يلزمها الاستثناء، وهي حَرفٌ بلا خلافٍ. والله أعلمُ بالصواب.

70 - مسألة: (غير) بين الإعراب والبناء

70 - مسألة: (غير) بين الإِعراب والبناء إذا أضيفت ((غيرُ)) إلى مُتمكنٍ لم يجز بناؤُها، وإن أُضيفت إلى غيرِ مُتَمَكّنٍ جازَ بناؤُها وإعرابُها. وقالَ الكوفيُّون يَجوزُ بناؤُها مُطلقاً. لَنا أنّها اسمٌ معربٌ قبلَ الإِضافةِ، فبقيتْ على إعرابِها بعدَ الإِضافةِ كسائر الأسماءِ المُعربةِ، بيانُه أنَّك إذا قُلتَ: جاءَني غيرُ زيدٍ، ومررتُ بغيرِ زيدٍ فـ ((غيرُ)) هُنا مُعربةٌ بلا خلافٍ، فلو جازَ البناء لكانَ لعلةِ الإِضافةِ، والإِضافةُ هُنا موجودةٌ، ولم يجزِ البناءُ فدَلَّ على إبطالِ التَّعليلِ بالإِضافةِ ويتأيد هذا من ثلاثةِ أوجهٍ:

أحدهما: أنَّ غيراً لا تتعرفُ بالإِضافةِ، بل نكرةً، والنَّكراتُ معرَباتٌ. والثاني: أن غيراً لا معنى لها إلا بالإِضافة، فلو كانت الإِضافةُ علّةَ البناءِ لوجبَ ألاّ تعربَ في موضع. والثالثُ: أنا وجدنا من المبنيات ما يُعرب إذا أُضيف وهذا يدلُّ على أن الإِضافةَ علّةٌ لازمةٌ للبِنَاءِ، تكون علةَ البناء؟. ولا يلزمُ على ما ذكرناهُ إذا أَضيفتَ إلى غيرِ متمكنٍ؛ لأنَّ المضافَ يَكتَسي كَثيراً من أَحكامِ المُضافِ إليه، والمُبهم هُنا مبنيٌّ، والمُضاف إليه كالشَّيءِ الواحدِ، فجازَ أن يَتَعَدَّى البناءُ إليه، ومن ذلِكَ قوله تَعالى: {وهم من فَزَعِ يَومَئذ} بفتح الميم، وقوله تَعالى: {من خِزْي يَومَئذٍ}، وقوله: {إنّه لحقٌّ مثلَ ما أنَّكم تَنطِقُون} وكلُّ ذلك يَجوز فيه الإِعراب، والبِنَاءُ فيه جَائِزٌ. وأمَّا إضافتُهُ إلى المُتمكن فليس فيه ما يَحسن البناء. أمَّا الكوفيُّون فاحتَجُّوا بأن ((غَيراً)) هنا وَقعت موقع ((إلاّ)) و ((إلاّ)) حَرفٌ،

والحَرفُ مبنيٌّ، فإذا وقع الاسمُ موقعَ المبنيّ وجبَ أن يُبنى فكيفَ إذا وقعَ موقعَ الحرفِ؟ ألا تَرى أنَّ المنادى المُفرد مبنيُّ لوقوعِهِ موقعَ المضمرِ أو الخطابِ، وقد شَهِدَ لصحَّةِ ذلكَ قولُ الشاعر: لم يَمنع الشُّربَ منها غَيْرَ أَن نَطَقَتْ ... حَمَامَةٌ في غُصُونٍ ذَاتِ أَوقالِ ففتحَ الرَّاء، ولا سَبَبَ له إِلاّ ما ذكرنا. والجوابُ عنه من وَجهين: أحدُهما: أنَّ المضافَ إلى غَيرِ المُتمكن يَجوزُ بناؤُه وليسَ معناه ((إلا)) كقولِهِ: {وهُم من فزع يومئذٍ}، وكذلك الآي الأُخَر، فَبَطَلَ التَّعليلُ بوقوعه موقعَ ((إلا)). والثاني: أن وقوعَ الاسمِ موضعَ الحرفِ لا يُوجبُ البناء، أَلا تَرى أن قولَك أخذتُ بعضَ المالِ. معربٌ، ولو قلتَ: أخذتُ من المالِ صحَّ المعنى وقد وبعدَت بَعضُ موضع من، وتقول: زيدٌ مثلُ عمروٍ فترفعُ مع جوازِ أن تكونَ في موضعِ الكاف. أمَّا قولُه: ((غيرَ أنْ نَطَقَتْ)) فلمْ يَكُنْ بناؤُها لِمَا ذَكَرُوا، بل لإِضافَتِها إلى غيرِ متمكنٍ على ما ذكرنا، والله أعلمُ بالصّواب.

71 - مسألة: (سوى) لا تقع إلا ظرفا

71 - مسألة: (سوى) لا تقع إلا ظرفاً الأصلُ ألا تقع ((سَواء)) و ((سِوى)) إلا ظرفاً. وقالَ الكوفيون: تقع ظرفاً وغيرَ ظرفٍ. وجهُ القولِ الأوَّلِ من ثلاثةِ أوجهٍ: أحدُها: الاستِقراءُ، فإنَّ كلَّ مَوضعٍ استُعملت فيه ((سِوي)) كانت ظَرفاً، وفي المَوضع الذي وَقَعَتْ غيرَ ظرفٍ فهي فيه مُتَأَوَّلةٌ. والثاني: أَنَّها وَقَعَتْ ظَرْفاً بلا خِلافٍ، فأمَّا أن يكونَ ذلك وضَعُها،

واستِعْمالُها في غيرِه مَجازاً، أو بالعَكْسِ، أو هي في كلِّ ذلك حَقيقةً، لا وجهَ إلى الثَّاني؛ إذْ لا قائِلَ به. ولا وَجْهَ إلى الثَّالث؛ لأنَّه يُؤَدّي إلى الاشتِراكِ، والأَصلُ عَدَمُهُ، فتعيَّن الأولُ. والثالثُ: أن ((سِوى)) معناها: وَسَطُ الشَّيءِ، وهو ظرف، فكانت هي كذلك، ووقوعها في غيرِه بمعنى ((غير))، ووجهُ التَّأويل فيها ظاهرٌ كما أن ((خلفَكَ))، و ((قدّامَكَ)) ظروفٌ لا محالةَ، وقد وقعت في موضعٍ غيرَ ظرفٍ. واحتجَّ الآخرون بما جاء في الشّعرِ من وقوعها غير ظرفٍ كقولِ الأعشى: تَجانَفُ عن أَهلِ اليَمامةِ ناقَتي ... وما قَصَدَتْ من أَهلِها لِسِوَائِكَا

وكذلك قولُ الآخرِ: ولا يَنطِقُ الفَحشاءَ مَنْ كانَ مِنهُمُ ... إِذا جَلَسُوا مِنّا ولا من سِوَائِنَا ومنه قوله تعالى: {فقد ضَلَّ سواءَ السَّبيل}، وقوله تعالى: [{فاطّلع فرآه في سَواءِ الجَحيمِ}،] وكثرةُ استعمالها غير ظرفٍ يدلُّ على أن موضوعَها على ذلك، ولأن ((سواء)) بمعنى مكان، وكما أن مكاناً يكونُ ظرفاً وغيرَ ظرفٍ، كذلك ((سواء)) يدلُّ عليه أنَّها قد وقعت فاعلاً في قولِ الشَّاعر: ولم يبقَ سِوى العُدوان ... دِنّاهُم كما دَانُوا

والجوابُ: أمَّا المواضعُ التي جاءَت فيها غير ظرفٍ فلا يدلُّ على أن أصلَها غيرُ الظَّرفيّةِ، ألا تَرى أن عنداً ظرفٌ، وقد خَرجت عن الظَّرفية بـ ((من)) في مثلِ قولِه تَعالى: {حتى إذا خَرجوا من عندِك} وكذا: ((لسوائِكا)) أي لمكانٍ غير مكانك وقد استُعملت بمعنى ((غير))، وليس ذلك أَصلُها، كما أنّ ((إلاَّ)) حرفٌ وقد وقعت بمعنى ((غير)) قال تعالى: {لو كانَ فيهما آلهةٌ إلاّ الله} أي غيرُ الله، ومع هذا لم تخرج عن كونها حرفَ استثناءٍ. وقولهم: (قامَ القومُ سِوى زيد) أي مكانَ زيدٍ، والمعنى بدلَ زيدٍ، وهذا كله لا ينفي أن يكون أصلها الظَّرف كما أن الأصل في غيرٍ أن تكون صفةً وقد استعملت في الاستثناء والأصلُ في ((إلا)) الاستثناء وقد استعملت وَصْفاً. والله أعلم.

72 - [مسألة: كم مفردة أو مركبة]

72 - [مسألة: كم مفردة أو مركبة] كم في العَدَدِ مفردةٌ. وقالَ الكُوفيُّون: هي مركبةٌ من الكاف، و ((ما))، ثم حذفت منها الألف. وجهُ القولِ الأولِ: تحقيقُ مذهَبِها، وفيه مسلكٌ آخر: إبطالُ مذهبِ المخالفِ. أما الأولُ: فهو أن الأصل عدمُ التركيبِ، لا سيما في كلمةٍ لا يصحُّ أن تُجعل كلمتين، و ((كم)) هاهنا كذلك، فإن كم حرفان، ولا يمكن أن يكون كلُّ واحدٍ منهما، ولا أحدهما كلمةٌ تامةٌ فعلى هذا يَمتنع التَّركيبُ؛ لأنّه إنّما يكونُ بينَ كلمتين.

أمَّا إبطالُ مذهبِ المُخالف فهو: أنَّهم زعموا أنّ ((ما)) هي الألف وهي استفهامٌ عن العَدَدِ، ثم أُدخلت عليها الكاف، وحُذفت الأَلف كما حُذفت من لَم في الاستفهام، وفيمَ، وعلامَ. ومعنى قولنا: كم مالك؟ أي ما عَدَدُهُ، وزيادة الكاف كثيرٌ، من ذلك ((كأيّن))، {ليس كمثله شيء} وغيرُ ذلك، وهذه الدّعوى باطلةٌ، أمَّا قوله: ما مالك؟ فليس معناه كم مالك؛ لأنَّ ((ما)) سؤال عن الحَقيقة فما مالك معناه أيُّ جنسٍ هو؟ وليس هذا معنى العَدد، فإذاً لا معنى لـ ((ما)) هاهُنا، ثم إنَّ الحذفَ على خلافِ الأصلِ فما الدّاعي إلى دَعواه؟. ويدلُّ عليه أنَّك إذا أَثبتَّ الألف لم يكن معناه السؤال عن العَدد، بل يصيرُ إلى معنى آخر، يدلُّ عليه أن ((كم)) تكونُ خبراً للتَّكثير كقولك: كم عَبْدٍ ملكتُ؟ ولو قلتَ: ما عَبدٍ ملكتُ؟ أو كم ما عبدٍ ملكت لم يجز، ولم يكن معناه كم عبدٍ ملكت. ويدل عليه أن ((مِنْ)) تدخلُ عليها ((كم)) كقولك: كم من عَبْدٍ، ولو قلت: ما من عبدٍ كان نفياً. واحتج الآخرون: بأنَّ المعنى على ((ما)) والكاف كاللام كما قالوا: لمَ فعلتَ قالوا: كَم فعلت وقالوا أيضاً كأيٍّ في معنى كم، وكما أن كأيٍّ مركبة كذلك ((كم)) وكذلك قولهم: له على كذا، وهما في معنى العدد. والجوابُ عنه من وجهين:

أحدهما: ما تقدّم من فسادِ دَعوى التَّركيبِ. والثاني: أنَّ أكثرَ ما فيه أنَّهم أَرونا كلمات فيها تَركيب، وهذا لا يُوجب أن يُجعل كلُّ شيءٍ هكذا. والله أعلمُ بالصَّواب.

73 - مسألة: [كم الخبرية تجر ما بعدها]

73 - مسألة: [كم الخبرية تجر ما بعدها] ((كم)) الخبرية تجرُّ ما بعدها بإضافتها إليه. وقالَ بعضُهم ينجرُّ بـ ((مِنْ)) مقدرة. وجهُ القولِ الأول: أن ((كَم)) اسمٌ لعددٍ كثيرٍ، فكان كنفسِ ذلك العَدد؛ بيانه: أن ((كم)) هاهُنا في تقديرِ مائةٍ أو ألفٍ، وكما ينجرُّ المَعدود بالعددِ هنا، كذلك ((كم)).

طريقةٌ أُخرى: وهو أن المَعدودَ هنا مجرورٌ، والجرُّ عملٌ، ولابدّ له من عاملٍ، وعامله لا يخلو إما أن يكون لفظاً، أو مقدراً، لا وجه إلى الثاني لأنَّ الذي يقدَّرُ حرفُ الجرِّ، وحروفُ الجرِّ لا يَبقى عملها بعدَ حذفِها؛ لأنَّها وصلةٌ لغيرِها، فتعيّن أن يكونَ اللَّفظُ الظَّاهرُ هو العامِلُ. فإن قيل عليه إشكالان: أحدُهما: جوازُ ظُهور ((من)) كقولك: كم من عبدٍ ملكت ولو قُلتَ عندي مائة من عبدٍ لم يَجُز. والثاني: أنَّ الجرَّ لو كان بالإِضافةِ لكانت ((كم)) معربةً كما تُعرب ((قبلُ)) و ((بَعدُ)) إذا أُضيفت. والجوابُ: أمَّا ظهورُ ((مِن)) فلا يَمنع عمل الاسم، كما لو قلتَ: عندي ثَوبٌ من خزٍّ، فإن الجر هنا بـ ((من)) ولو قلت: عندي ثوب خز كان العمل للثوب، وأما الإِعراب بعد الإِضافة فغير لازم ألا ترى أن ((لَدُن)) تضافُ كقولِهِ تَعالى: {من لَدُن حَكيمٍ} فإنّها مبينة بعدَ الإِضافَةِ؛ لأنَّ علةَ البناءِ موجودةٌ في الحالين، فكذلك كم. واحتجَّ الآخرون بأن ((من)) تَظهرُ بعد ((كَم))، ولَيس ((من)) زائدة بل هو استعمالٌ على الأَصل، وإذا كان كذلك كان العملُ لـ ((من)).

والجوابُ: أن ظهورَ ((من)) لا يَمنع من الجَرّ بالإِضافةِ كما ذكرنا. [والله أعلم بالصواب].

74 - مسألة: [الفصل بين (كم) وتمييزها]

74 - مسألة: [الفصل بين (كم) وتمييزها] إذا فصلت بين ((كم)) الخَبرية وبين ما يبيَّنُ به نَصبته كقولِكَ: كم عِندي دِرهَماً ولا يجوزُ الجَرُّ في الاختيار. وأجازَه الكوفيون. وجهُ القَولِ الأولِ: مبنيٌّ على الجار هل هو كم أو من مقدّرةٌ. والصحيح هو الأولُ، وبالفَصل تَبطُلُ الإِضافة، فيجبُ أن يخرج المُمَيَّزُ على الأَصلِ وهو النَّصبُ كما إذا نُون العَدَد نحو قول الشاعر: إذا عاشَ الفتَى مائَتينِ عاماً ... فَقَدْ ذَهَبَ اللّذَاذَةُ والفَتَاءُ

ومنه قولُ الشَّاعرِ: كَم نالَنِي مِنهُمْ فَضْلاً على عَدَمٍ ... إذا لا أَكادُ من الأَقتارِ أحتَمِلُ فنصبَ لمّا فَصَلَ. واحتجَّ الآخرون بقول الشّاعرِ: كم بجودٍ مُقرفٌ نالَ العُلى ... وكريمٍ بخُله قد وَضَعَهْ فجرَّ مع الفصلِ.

والجوابُ عن البيت من الوجهين: أحدُهما: أنَّ الروايةَ الصَّحيحةَ الرّفعُ، أو النّصبُ، وكلاهما قد روي، فالرفعُ على أنه خبرٌ عن ((كم)) والنَّصبُ على التَّمييز، وروايةُ الجرِّ شاذةٌ فلا تُجعل أصلاً. والثاني: هو من ضَرورة الشّعر والعلةُ فيه من وجهين: أحدُهما: أن الجَرَّ بـ ((كم)) ولا يَبقى مع الفصل. والثاني: أن الجَرَّ بـ ((من)) وتقدير ((من)) هنا غيرُ سائغٍ؛ لأنها حذفت بعد ((كم)) لما نابت عنها، فإذا فُصل بينهما بَطلت النّيابة آخرها. والله أعلمُ بالصوابِ.

75 - مسألة: [إضافة نيف العشرة إليها]

75 - مسألة: [إضافةُ نَيّفِ العَشَرَةِ إليها] لا يجوز إضافة نَيّف العَشرة إليها كقولك: خَمسة عشر. وأَجازه الكُوفيُّون. وجه القولِ الأولِ: أنَّ النَيّفَ وما بعدَه عبارةٌ عن عَدَدٍ واحدٍ والمضافُ غيرُ المضافِ إليه: فلو أضفتَ خمسةَ إلى عشرة فقلت: ((قبضتُ خمسةُ عشر لم تكن العَشر مقبوضةً، وهذا يُنافي الوَضع هاهُنا وفيه وَجهٌ آخر، وهو أن المضاف يتخصص بالمضاف إليه كقولك: غلامُ زيدٍ، والخمسةُ غيرُ متخصصةٍ بعشرة؛ إذ لا تُراد حقيقة الخمسة على انفرادها، والفَصل المَنسوب إلى المضافِ غيرُ منسوبٍ إلى المُضاف إليه، كقولك: جاءَني غلامُ زيدٍ فالمجيءُ منسوبٌ إلى الغُلام لا إلى زيدٍ، والأمر في العَدد على خلافِ ذلك.

واحتجَّ الآخرون بقولِ الشّاعرِ: كُلّفَ مِن عَنائه وشِقْوَتِهْ ... بنتَ ثماني عشرةٍ من حِجَّتِهْ فأضافَ ثماني، إلى عشرٍ، ولأنَّ اسمَ الأَوّلَ غيرُ الثَّاني؛ لأنّ معنى خمسة عشر خمسةٌ وعشرةٌ وما هذا سبيله يجوز أن يُضاف. والجوابُ عن البيت: أنه لا يُعرف قائله. والثاني أنَّا لا نُسلّم أنَّه مضافٌ وإِنّما نزله منزلةَ اسمٍ واحدٍ، وجعلَ الإِعرابَ في آخرهِ وذلك للضَّرورة وسوّغ ذلك أنَّه أضافَ البنتَ إلى العَدَدِ فعرَّفها بالجملة. وأمَّا قياسُ هذا على بقيّةِ الأسماءِ فخطأٌ؛ لأنَّ الإِضافةَ لها معنى وليس كلُّ الأسماءِ يصحُّ فيها ذلك المَعنى، ألا تَرى أنَّ المُضمرات أسماءٌ ولا يصحُّ إضافَتُها، وكذا هاهُنا لا يصح إضافة النَيّفَ إلى العَشر كما ذكرنا. والله أعلم [بالصّواب].

76 - مسألة: [تعريف العدد المركب]

76 - مسألة: [تعريف العدد المركب] تقول: قبضتُ الخمسةَ عشرَ، تدخل الألف واللام في الاسمِ الأولِ دونَ الثّاني والثّالث. وقالَ الكُوفيُّون: يجوز إدخالها في الثّاني والثّالث أيضاً. وجهُ القولِ الأولِ: أن الاسمَ المركبَ في حُكمِ الاسمِ الواحدِ، والاسمُ الواحدُ لا تدخلُ الألفُ واللامُ في نِصْفِهِ؛ لأنَّ الألفَ واللامَ تدلُّ على تَعريفِ ما دخلتا عليه، والتَّعريفُ في الاسم الثاني لا معنى له، وإذا عُرّف الأول تعرّف الجَميع، وكون الألفِ واللامِ زائدةً خلافُ الأصلِ، والحاصلُ أنَّ الألفَ واللامَ في الاسمِ الثاني لا تَخلو إما أن تفيدَ معناها وهو التَّعريفُ، أو تكون زيادةً محضةً، وكلاهما هنا باطلٌ، ولذلك لم يصحّ عنه في ذلك رواية. واحتجَّ الآخرون: أن الألفَ واللامَ قد جاءَت زائدةً في مواضعَ كثيرة كالحارثِ والعَبّاسِ، وكقوله: خَلَّصَ أمُّ العَمرو عن أَسِيرِهَا

وكالنَّسر في قولِ الشَّاعر: على قُنّةِ العُزّى وبالنَّسر عَنْدَمَا أراد: نسراً، وهو في قوله تعالى: {ولا يَغوثَ ويَعوقَ ونَسْرَاً}، ولأن عشراً اسمُ نكرة فجازَ دخول الألفِ واللاّمِ عليها كسائرِ الأَسماءِ. والجوابُ: أما ما يُنشد من الأَشعار على هذا الوَصف فكلها شاذٌّ لا يقاسُ عليه، وقد دخلت الألفُ واللامُ على الفِعل نحو: اليُجدع واليتقصَّعُ ولم يسوّغ ذلك دخولهما على فعلٍ آخر كذلك هاهُنا. وأما دخولُ الألفِ واللامِ على الدّرهم فبعيدٌ جداً لما يذكر في باب التَّمييزِ. والله أعلمُ بالصواب.

77 - مسألة: [إضافة العدد المركب إلى مثله]

77 - مسألة: [إضافة العدد المركب إلى مثله] يجوزُ أن تقولَ: هذا ثالثُ عشرَ ثلاثةَ عَشرَ؟ وهذا ثالثُ ثلاثةَ عشرةَ؟. وقال الكُوفيُّون: لا يجوزُ ذلك. وحجَّة البَصريين أنه قد سُمع، والقياسُ يجوّزُ استعمالَ ما وردَ به السَّماع، واحتجَّ الآخرون: بأن ثالثاً اسمُ فاعلٍ، واسمُ الفاعلِ مشتقٌّ هنا من ثلاثةٍ كما تقولُ: هذا ثالثُ ثلاثةٍ، وثالثُ اثنين، ولا يمكن أن يشتقَّ من المُركَّبِ؛ لأنَّه ليس فيه حروفهما. والجوابُ: أنه يُكتفي في الاشتقاق أن نَشتَقَّ من أحدِ الاسمين، مثل أن نشتق

ثالثاً من ثلاثة ثم تُضيف إلى الاسم المُشتق اللَّفظ الثّاني التبيين: فقولك: ثالثُ من ثلاثة عشر أي من الاسمِ الأولِ ثم تُضيف إلى عشر ليبين أنّ المَعنِي أحد ثلاثة عشر. والله أعلم بالصواب.

78 - مسألة: [المنادى المفرد المعرفة بين البناء والإعراب]

78 - مسألة: [المنادى المفرد المعرفة بين البناء والإِعراب] المنادى المفردُ المعرفةُ مبنيُّ على الضَمِّ. وقالَ بعضُ الكوفيين: هو معربٌ مرفوعٌ بغيرِ تنوينٍ. وجهُ القولِ الأول: أنَّ الاسمَ معربٌ مُنوَّنٌ قبلَ النِّداءِ، غيرُ منوّنٍ بعدَ النداءِ فسقوط التَّنوين حكمٌ حادثٌ، والحكمُ الحادثُ لا بدَّ له من سَبَبٍ حادثٍ ولا حادثَ إلا حرف النّداء، فَوَجَبَ أن يُضاف الحكمُ إليه. فإن قيل: أكثرُ ما في أيديكم أنه غيرُ منوّنٍ فمن أين يدلُّ على أنّه مبنيٌّ؟ وهلا يقال: إن التَّنوينَ سقطَ للفَرق بين ما هو معربٌ بغيرِ عاملٍ وبين ما هو معربٌ بعاملٍ. قُلنا: جوابهُ من وَجهين: أحدُهما: أنه لا معربَ إلا وله عاملٌ، فالمبتدأ عامله معنويُّ كما ذكر

في مسائِل الابتداء والفاعل ونحوه مرفوعٌ بعاملٍ ظاهرٍ لفظيٍّ. والجوابُ الثاني: أن كونَه معرباً يدلُّ على تَمكُّنِهِ، ومفارَقته للفِعْلِ والتَّنوين دخلَ لذلِك، فالتَّنوين أيضاً له علة تابعة لكونه معرباً، وعلى ما ذهبوا إليه لا يكون لسقوط التَّنوين علّة. واحتجَّ الآخرون: بأنه اسمٌ معربٌ قبلَ النِّداء ولم يحدُث بالنداء ما يُوجب البِناء، ألا تَرى أنَّ المضافَ والمُشابه له مُعربان مع وجودِ حرفِ النّداءِ، فكذلك غير المُضاف، وإِنَّما رُفع؛ لأنَّ الأصلَ هو الرَّفعُ، ولم يحدث ما يغيره عن الأصل. وسقط التنوين لما ذكرنا. والجَوابُ: أنَّ النداءَ علةٌ صالحةٌ للبناءِ على ما نَذكره في المسألة الآتِيَةِ، ولا يصحُّ كونه مرفوعاً بغيرِ رافعٍ، لما في ذلك من ثُبُوت الحُكمِ بغيرِ علّةٍ والله أعلمُ [بالصَّواب].

79 - مسألة: [المنادى المفرد مبني لوقوعه موقع المبني]

79 - مسألة: [المُنادى المُفردُ مبنيٌّ لوقوعِه موقعَ المبنيّ] المُنادى المفردُ مبنيٌّ؛ لوقوعه موقعَ المبنيّ. وقالَ الفَرّاءُ: بُني لأنَّ أَصلَ يا زيدُ يا زيدَاه، وما قبلَ الألفِ هاهُنا مفتوحٌ أبداً، فلّما حذفت الألفَ ضُمّ، كما أنَّ المُضاف إِليه في ((قبلُ)) و ((بعدُ)) لما حُذِفَ ضمّ، فقيلَ: من قبلُ ومن بعدُ. والحاصِلُ: أنَّ حركةَ الدّالِ وَقَعَتْ بينَ صَوتين هُما: ((يا)) والألف فلما حُذفت الأَلفُ ضُمَّت الدّال، لشَبهِ الاسم بقبلُ وبعدُ. وجهُ القَولِ الأَولِ: أنَّ البناءَ هاهُنا حادِثٌ، ولابُدَّ من سَبَبٍ، والذي يتلخّص أن سَبَبَ وقوعِه موقعَ المَبنِيّ، والمبنيُّ الذي يقعُ هذا مَوقِعَهُ أما الكافُ، التي هي حرفُ الخِطاب أو الاسمُ المُضمَر المُخاطَب، وأَيُّهما كانَ فهو مُوجِبٌ لِلبناء.

بيانه: أَنَّ قولَك: يا زيدُ زيدُ هو مخاطَبٌ مواجَهٌ، والخطابُ معنى، والأصلُ في المعاني الحروف، وذلك الحرف هو الكاف في نحو: ((ذَلك)) و ((أُولئك))، و ((إيّاك))، و ((رأَيتُكَ))، وإذا وَقعَ الاسمُ موقِعَ الحَرفِ بُني، وإن كانَ واقعًا موقعَ الاسمِ المُضمَرِ فهو علّة أيضاً. ألا تَرى أنَّ التَّقدِيرَ في قولك: يا زَيْدُ يا أَنْتَ كما قالَ الشّاعِر: يا أبجر بن مُرّةٍ يا أَنتا ... أنتَ الذي طَلَّقْتَ عامَ جِعْتا واحتجّ الفَراءُ بأنّه إذا جازَ أن يُبنى الاسمُ لوقوعِه موقِعَ المُضمر فبناؤُه من أَجل الصَّوتين المكتنِفَين له بطريقِ الأَولى، وبعدَ حذفِ الأَلفِ صارَ بمنزلةِ قبلُ في حذفِ ما الأصلُ ثبوُته. والجوابُ: أمَّا علةُ البناءِ فموجودٌ على ما ذكرنا قولهم: (أن البناء كان لشبه المنادى بـ ((قبل))، وبعد ومن حيث بنينا بني) وأكثر ما فيه أن ما ذكروه يصلح للبناء، ولا ينفي صلاحية ما ذكرنا على أن ما ذكروه باطل بالمنادى المضافن وبأن المندوب بني قبل لحوق الألف، وإنما فتح من أجل الألف، فإذا لم تكن بقي على ما كان عليه. والله أعلم [بالصواب].

80 - مسألة: [العامل في المنادى]

80 - مسألة: [العامل في المنادى] المنادى المبني، مبني لما ذكرناه وموضعه نصب. وقال بعض النحويين: هو مرفوع بنفس ((ما)).

وقالَ آخرون: نصبُ موضعه بفعلٍ محذوفٍ لا يُذكر لنيابة ((يا)) عنه. وجهُ القولِ الأولِ: أنَّ موضعَه نصبٌ بـ ((يا)) نفسِها، لوقوعها موقِعَ الفِعل الذي هو: أَدعو وأُنادي. والدَّليلُ على ذلك أنَّ ((يا)) تُشبه الفِعل لأَربعةِ أوجهٍ: أحدُها: أنَّ الكلامَ يتمُّ بها وبالاسمِ، وليس هذا شأنُ الحُروف، ولولا وُقوعُها موقعَ الفعلِ لم تكن كذلك. والثاني: أنَّهم أَمالوها، والإِمالةُ من أَحكامِ الفعلِ. والثالث: أنّهم علقوا بها حرف الجرّ في قولك: يا لَزيدٍ وهذا حكمُ الفعلِ. والرَّابعُ: أنهم نَصبوا بها الحالَ فقالوا: يا زيدُ راكباً. ولما أشبهت الفعل من هذه الوجوه نَصبت، ولذلك تُنصب النكرة غير المقصودة، والمُضاف، والمُشابه له. وأمّا مَنْ قال: العاملُ فيه فعلٌ محذوفٌ، فاحتج بأنَّ الأصل في العَمل للأفعالِ، والحرفُ ينبّه على ذلك الفِعل، لا أنَّه يعمَلُ، ألا ترى أن أدوات الشَّرط إذا حُذف عنها الفِعل أعربت بفعل محذوف دل عليه الحَرف، كذا هاهُنا، إلاّ أن الفرق بينهما أنَّ العامِلَ هُنا لا يَظهرُ؛ لأنه لو ظهر لصارَ خبراً، والمقصود هنا التَّنبيه لا الإِخبار. والجَوابُ: أن ((يا)) فيها معنى الفِعل وزيادة، وهو التنبيه فصارت كالفعل والزّيادة، فعند ذلك لا يقدّرُ بعدها فعلٌ؛ لأنَّه يصيرُ إلى التَّكرارِ والله أعلمُ بالصواب.

81 - مسألة: [نداء المحلى بأل]

81 - مسألة: [نداء المحلى بأل] لا يجوزُ دخولُ ((يا)) على ما فيه الأَلف واللاّم في الاختِيار. وأَجازه الكوفيون. وجهُ القول الأول: أن الألفَ واللامَ، لتعريفِ المَعهودِ و ((يا)) تعرِّفُ بالقَصد والخِطاب، ولا يَجتَمِعُ على اسمٍ واحدٍ تَعريفان؛ لأنَّ الغَرض من التّعريف التَّخصيص، وإزالةِ [الاشتراكِ] وهذا يَحصُلُ بواحدٍ فلا يَجوزُ أنْ ينضمّ إليه آخر، كما لا يَجمع بين حرفي استفهامٍ، أو نفي، أو حرفَي جرٍّ. فإن قيلَ: دَعوى المنعِ باطلةٌ بأمرين: أَحدُهما: قولك: مررتُ بالرجلِ الحَسنِ الوجهِ، فقد جمع هاهنا بين الأَلفِ واللاّمِ والإِضافةِ وهما للتَّعريفِ.

والثاني: نداء العلم كقولك: يا زيدُ فإن زيداً علم معرفة و ((يا)) للتَّعريف. والجواب: أما الحسن الوجه فكلامٌ معدولٌ عن أصلِهِن والتقديرُ: مررتُ بزيدٍ الحسن وجهه، فلما حذفَ الضّمير عرّفه بالأَلف واللام، ولم يسقطهما من الحسن؛ لأن الإِضافةَ هنا غيرُ محضةٍن فأدخلت اللاّم لتعرّف الحسن، وبقيت صورة الإِضافة، وجَرت الألف واللام هنا مجرى الذي، ويجوز أن تَجمع بينها وبين الإِضافة، إذا كان بمعنى الذي، كقولك: أنا الضاربه أي الذي ضربه. وأمَّا نداءُ العلمِ نحو يا زيدُ فعنه جوابان: أحدُهما: أنه ينكّر قُبيل النِّداء حتى تَدخلَ ((يا)) على نكرةٍ فتعرّفها ولا يمكن مثلُ ذلك في الألف واللاّم، لأنّها لفظٌ موضوع للتَّعريف، وبعد وجودِ اللّفظ لا يمكن تَقدير عدمه. والجوابُ الثاني: أنه يَبقى على تَعريفِهِ، ودخول ((يا)) عليه تنزيل الاشتراك في العلمِ، وذلك أن قولَك: جاءَني زيدٌ يتفق فيه اشتراك ولذلك وصفَته فيما يزيل عنه الاشتراك، لا أَصلَ التّعريف. واحتج الآخرون بالسَّماعِ والقِياس: أما السماع فمنه قول الشاعر: بحبِّكِ يالّتي تَيّمتِ قَلبي ... وأَنتِ بَخيلةٌ بالودّ عَنّي

وقالَ الآخر: فيا الغُلامان اللّذانِ فَرّا ... إيّاكُما أن تُكساناَ شَرّا وأما القياسُ فمن ثلاثةِ أوجهٍ: أحدُها: أن الألفَ واللامَ للتعريفِ فجازَ دخولُ ((يا)) عليه كقولهم يا الله. والثاني: أنّ ((يا)) تدخلُ على المُضاف إلى معرفةٍ، مع أنّ الاسمَ الأولَ معرفةٌ بالإِضافةِ، فكذلك الأَلفُ واللاّمُ. والثالث: أن التَّعريفَ بحرفِ النّداء غير حاصل به ألا تَرى أنَّك تقول: (يا رجلاً كلمني) فتُناديه وهو نكرةٌ وتنصبه، ولو كانت ((يا)) للتَّعريف لم يَجُز ذلك، وإِنّما يتعرف بالقَصدِ، فالألفُ واللاّمُ تُجرى مُجرى القَصد فكما يجتمع في قولك: يا رجلُ ((يا)) والقصد، يجتمع هاهنا الألف واللاّمُ و ((يا)). والجواب: أما الشِّعرُ فهو شاذٌّ في شعرٍ لا يُحتَجُّ به لا الأُصول الممهدة، بل يكون ذلك من ضَرورة الشّعر، ويجوزُ أن يكونَ أشارَ إلى شَخصين معرفين

باللاّم فهما بمنزلة العَلمين، كما يَجوز أن يُسمى بما فيه الأَلف واللاّم نحو: ((العَباس)) فجرت الألف واللام مَجرى التّعريف بالعَلمية، وقد قيل التقدير: يا أيُّها الغلامان، وهذا ليس بشيءٍ، إذ يَجوزُ أن يقدّر مثل ذلك في يا الرّجل ولم يَقل أحدٌ به. وأما القِياسُ على قولهم: يا الله فلا يصحُّ لثلاثة أوجه: أحدُها: أن الألفَ واللامَ ليست للتَّعريفِ؛ لأنّ اسمَ اللهِ تَعالى معرفةٌ بنفسهِ، لانفراده سبحانه، والألفُ واللاَّمُ زائدةٌ. والثاني: أنّها عوضٌ من همزةِ إله؛ لأنَّ الأصلَ الإله ثم حذفت الهمزةُ، وجُعِلت اللامُ عوضاً منها وكما يجوز يا إله يجوز ((يا الله)). والوجه الثالث: أن ذلك من خصائصِ اسم الله؛ ولذلك جازَ قطعُ الهمزةِ ووصلها، وخصائصه كثيرة، منها هذا، ومنها زيادةُ الميمِ في آخره كقولك: اللهم ولا يجوزُ في غيره، ومنها دخولُ ((تاء)) القسم عليه كقولك: تا الله، ومنها التَّفخيمُ، ومنها الإِبدالُ كقولك: (ها الله)، و (فالله) فجازَ ذلك لكثرةِ الاستعمالِ كذلك هاهُنا. وأمَّا دخولها على المضاف؛ فلأن تعريفَ الإِضافةِ غيرُ تعريفِ الخطابِ فجازَ أن يَجتمعا، قولهم: (التَّعريفُ بالقَصد لا بِـ ((يا))) جوابُه من وجهين: أحدهما: أن ((يا)) والقصدَ متلازمان في المنادى المبني فـ ((يا)) أحد جزءي أداة التعريف، وهذا إنما يُحتاج إليه فيما لم يتعين والألف واللاّم تعين.

والثاني: نُسلّم ذلك ولكن إنما تَدخل ((يا)) للتّخصيص، ودخولها على النّكرة المبهمة تَخصيصٌ ولكل واحد من الجِنس مَجهول، وهاهُنا لا جهالةَ؛ لأنَّ الألفَ واللامَ تَخصصٌ وتَعينٌ، فلا حاجة إلى مخصص آخر، والله أعلم بالصَّواب.

82 - مسألة: [اللهم]

82 - مسألة: [اللهم] الميم المشدّدة في قولك: ((اللهم)) عوضٌ من ((يا)) في أول الاسم. وقالَ الكوفيون: أصلُ الكلمةِ: يا لله أُمّنا بخيرٍ فحذف الكلام بعد المنادى وبقي منه الميم المشدّدة، ووصلت بالاسم المنادى. وجهُ القولِ الأول: من أوجهٍ: أحدُها: أنه لا يجمع بين ((يا)) والميم في الاختيار، وهو في الشعر نادر، وهذه إمارة العِوَضِيّة.

والثاني: أنه لو جازَ في اسمِ الله لجازَ في غيره، وليس بجائزٍ فعُلم أن ذلك من خصائِص هذا الاسم. والثّالثُ: أنه يجوز أن تقول: (اللَّهم أُمنا بخير)، ولو كان كما قالوا لم يَجز ولما جازَ دلّ على ما قلناه. والرّابع: يجوزُ أن تقولَ: (اللَّهم العَن فلاناً، واخزِه) وغير ذلك وهذا مناقضٌ لما قَدَّروه. والخامس: أنّهم خَصُّوا ذلك بالنّداءِ إجماعاً، حتى أنّهم لا يقولون: ((غفر اللَّهم لفلان))، واختصاصه به دليل على أنّهم أقاموا الميمَ مقام ((يا))، حتى كأنَّهم قد صَرّحوا بها. فإن قيلَ: فما وجه المناسبة بين الميم و ((يا)) حتى تقامَ مقامها. قيل: لما كانت ((يا)) من حروفِ المَدّ، والميمُ فيها غُنَّةٌ تشبه حرف المدّ، وكانت كل واحدة منهما حَرفين، جازَ أن يَنوب أَحدُهما عن الآخَرِ ويدلّ على أنَّها عوضٌ أيضاً، أنّها في موضعِ غيرِ المُعَوّضِ منه، وهذا شأنُ العوض. واحتجَّ الآخرون: بالسّماع والقياس: أما السّماعُ فمنه قول الشاعر: إني إذا ما حَدَثٌ ألمَّا ... أقولُ يا للهمَ يا للهمَّا

وقال آخر: وما عليكِ أن تَقولي كُلَّما ... سَبّحتِ واستَرجعتِ يا للهمّمَا أردِدْ عَلينا شَيْخَنا مُسلّما والأصلُ أن لا يُجمع العِوَضُ والمعوّضُ. وأما القياسُ: فهو أن حملَه على ما ذكرنا صحيحٌ، والمعنى لا ينافيه، والنّداء موضعُ تغييرٍ فلم يبقَ مانعٌ مما ذَكرنا، ولأنّ في قولك: يا الله أمنا بخير زيادة معنى، وتصريح بما هو المقصود من النّداء، فكانَ المَصير إليه أَولى. قالوا: ولا يُقال: إنّ فيما أدّعيتموه حذفاً وتغييراً، وهو في خلافِ الأصلِ. لأنَّا نقول: أما الحَذفُ فكثيرٌ فمنه قول الشّاعر: دَرَسَ المَنَا بِمَتَالِعٍ فَأَبَانِ أراد: درس المنازِل، وقالوا: ((ويلمّه))، و ((أَيشٍ)) أي ويلُ أمّه، وأيُّ شيءٍ وكذلك ((هلّم)) فيمن جَعلها اسماً للفعل.

والجواب: أما الشّعر فلا يُعرف قائله فلا يحتج به. والثاني: أنه من مواضعِ الضَّرورة، والدّليلُ قوله: ((اللهمّما)) فزاد على الكلمة شيئًا آخر، وكل ذلك ضرورة. قولهم: (هو صحيحٌ في المعنى) جوابه من وجهين: أحدُهما: ليس كذلك لما ذكرنا أنه يَجوزُ أن يتبع بقوله: ((لعنه الله)). والثاني: أنه ليس كل ما صح المعنى فيه جعل مكانه، ألا ترى أن قولك: ((ما قام زيد)) هو نفيٌ، ولا يصحّ أن تُقيمه مقامَ قولك: أَنفي قيامَ زيدٍ، وكذلك أَدوات الاستفهام لا تقوم مقامَ الأفعالِ، ولا الأفعالُ تقومُ مقامّها. وأمَّا الحذف فلا نُنكر أنَّه قد جاء ولكنه على خلاف الأصل، ثم إن في ذلك دعوى التَّحليل في المركب، والتَّركيب خلافُ الأصل، فكذلك التَّحليل؛ لأن كل واحد منهما خلاف الأصل. والله أعلم بالصواب.

83 - مسألة: [ترخيم المضاف]

83 - مسألة: [ترخيم المضاف] لا يجوزُ ترخيمُ الاسم المضَافِ. وقالَ الكوفيون: هو جائزٌ. لَنا أنَّ الترخيمَ من أحكامِ أواخرِ الاسمِ، ولذلك لم يجزْ ترخيمُ المضاف في نحو قولِكَ: يا غلامَ زيدٍ كما لا يجوزُ ذلك في أوَّلِ الاسمِ، وإنَّما ساغَ في الاسمِ الواحدِ لاستقلالِهِ بنفسِهِ، ودلالة ما بَقي ما سَقط، يدلُّ عليه أنَّ المضافَ إليه في حكمِ عَجُرِ الاسمِ، والتَّرخيمٌ لا يكونُ في وسطِ الكَلِمَةِ. وأمَّا المضافُ إليه فليس بمنادى، والتَّرخيمُ مخصوصٌ بالمنادى: لأنَّ ما أُبقي يدلُّ على ما أُلقي.

واحتجَّ الآخرون بالسَّماعِ والقياسِ، فمن السماعِ قولُ الشاعرِ: حُذو حظَّكم يا آل عِكرمَ واحفظوا ... أَوَاصرنا والرَّحِمُ بالغيبِ يُذكَرُ فحذف الهاءَ من المضافِ إليه، وقالَ آخرُ: أيا عروَ لا تَبعُد فكلُّ ابنِ حرّةٍ ... سَيَدعُوه داعِي مِيْتَةٍ فيُجِيْبُ وقال آخر: وهذا رِدائي عندَه يَسْتَعِيرُهُ ... ليسلُبني ثَوبي أعامُ بن حَنَظلِ وأراد: حنظلة. وأمَّا القياسُ: فهو أن المضافَ إليه كزيادةٍ في المضافِ، وحذفِ الزيادةِ من المُفرد جائزٌ، فكذلك هُنا، ألا تَرى أنّ قولَك في تَرخيمِ زيدون يا

زيدُ أقبل فتحذفَ الزّيادتين، وكذلك يا طائِفي وأَنت تُريد طائِفيه، يدلُّ عليه أن المضافَ إليه بمنزلةِ التَّنوين وكما يُحذف التّنوين في النّداءِ، كذلك المُضاف إليه، والجوابُ: أما الشّعرُ فمن الضَّرورة، وقد يجوزُ التّرخيم في غيرِ النّداءِ ضرورةً، وأمَّا المضافُ إليه فلا يَتَعَدّى إليه حُكم النّداءِ، ولذلك لا يُبنى بل هو باقٍ على الإِعرابِ، ولو تَعدى إليه لبُني، والله أعلمُ بالصَّواب.

84 - مسألة: [ترخيم الثلاثي]

84 - مسألة: [ترخيم الثلاثي] لا يجوزُ أن يرخم الثلاثي مطلقاً. وقالَ الكوفيُّون: يجوزُ. وقالَ بعضُهم: يجو إذا كان الحرفُ الثاني متحركاً. وجهُ القولِ الأولِ: أنَّ الترخيمَ تخفيفٌ، ولا أخفَّ من الاسمِ الثُّلاثي، وهذه العِدّة أقلّ الأُصولِ، فالحذفُ منها يُجحفُ بها، ويتأيَّد ذلك بأن الثاني لو كان ساكِناً لم يَجز التَّرخيم، فكذلك إذا كان متحركاً. فإن قيلَ: حركةُ الأوسطِ بمنزلةِ الحرفِ الزائدِ، ألا تَرى أنَّك تَصرف هنداً ولا تَصرف سقر كما لا تَصرف الرُّباعي. قيلَ: حركةُ الأَوسط لا تُؤثّر في المُذكَّر حتى لَو سميت رجلاً بـ ((قدم)) لم يمتنع صرفه البَتّةَ، بخلافِ ما إذا سَمَّيتَ به مؤنثاً، فإنَّك تَمنعه

فإن الحركةَ غيرُ مستقلةٍ بالمنعِ، بل بضميمةِ تأنيثِ المُسمى فالحركةُ وحدها غيرُ مانعةٍ، وهاهُنا الحركة مُطلقة. واحتجَّ الآخرون: بأنَّ الترخيمَ دَخَلَ الكلامَ تخفيفاً، فينبغي أن يَجوز في الجميعِ، ولا فَرق في ذلك بين الثُّلاثي والرُّباعين ألا تَرى أن المَنقوصَ يجوزُ حذفُ يائِهِ في الوقفِ، ثلاثياً أو أكثر، نحو عمٍ، (شجٍ) و (قاضٍ) وليس كذلك إذا سَكَنَ ما قبلَ الياءِ نحو ظبي فإنَّ الياءَ لا تُحذف في الوَقْفِ، لما سكن ما قبلها. والجوابُ: أنَّا قد بَيَّنا أن التَّخفيف فيما كان مستثقلا، والثلاثي لا ثُقلَ فيه، فلا حاجةَ إلى التَّخفيف، فتخفيفه يَلحقه بالحُرُوفِ، وذلك تأباهُ أَصالةُ الاسمِ، ولا يقالُ: إنّ في الأسماءِ المعربة ما هو على حَرفين نحو: يَدٍ ودَمٍ ودَدٍ، لأنَّا نقول: ما هو على حرفَين ليس بأصلٍ، بل قد حُذف منه ما يُكَمّله، أصلاً، فالأصلُ في يدٍ: يدو، وفي دد: ددن، فإذا حُذِفَ منه فقد دخله الوهن، فلا يبقى أصلاً يقاس عليه. وأمَّا حذفُ الياءِ من المنقوصِ فذاك شيءٌ أوجبَه الثّقل، وذلك أن قبلَ الياءِ كسرةً، والياءُ مستثقلةٌ، وحركتُها تستثقل، ولكثرةِ المُستثقلات هنا ساغَ الحذفُ في الوقفِ، وليس كذلك في نحو: عمر ورجل، فإنه لم يجتمع فيه وجوه من الثقل حتى يخفّف آخرها. والله أعلم بالصواب.

85 - مسألة: [ترخيم الرباعي]

85 - مسألة: [ترخيم الرباعي] يجوزُ حذفُ الحرفِ الرابعِ من الاسمِ الرُّباعي في التَّرخيم مطلقاً. وقالَ الكُوفيون: إذا كان قبلَ الطَّرفِ ساكناً حُذِفَ الثُّالث والرَّابع نحو قمطر، وبرثن يبقى: قِمَ، بُرْ. وجهُ القولِ الأولِ: أنَّ الرباعي زائدُ على الأصلِ الأوّلِ فجازَ تَرخيمه بحذفِ حرف واحدٍ، كما لو كان الثَّالث متحركاً. وبيانُه: [أنَّك] إذا حذفتَ الرَّاء من قِمطر والنون من بُرثن كان الثاني

مساوياً للأولِ في الأصولِ، فحذفُ حرف يُبقيه على غيرِ أصلٍ، فيمتَنِعُ كالمسأَلة التي قبلها. واحتجَّ الآخرون: بأنَّ الحرفَ الرابعَ إذا حُذِفَ وحدَه كان الباقي (ساكناً) وذلك حكمُ الحروفِ ولا نَظير لَه في الأسماءِ المُعربة، وإنما يَبقى مثلُ ((مَن)) و ((كم))، وذلك انتهاك للأُصول، وإذا حذف (الثالث) بقي الثاني متحركاً والحركة من أحكام الأسماء. والجوابُ عنه ما تقدّم، وأمَّا بقاؤُه ساكناً فليس بمانعٍ؛ لأن كونه آخراً بعدَ التَّرخيمِ لا يُشبه حالَه قبله، ألا تَرى أن ترخيمَ (حارث) يصيره إلى بناءٍ لا نظيرَ له فـ ((حار)) فاع، ولا نظيرَ له في الأُصولِ، ومع ذلكَ جازَ أن يَبقى على هذا المِثال؛ لأنَّ التَّرخيم عارضٌ فلا اعتدادَ به في هذا المعنى، وأمَّا إذا رُخّم جازَ أن يُحرك فتقول: (يا قِمَطُ) وعند ذلك يَخرج من شبهِ الأَدواتِ. والله أعلمُ بالصَّوابِ.

§1/1