التبيان في أيمان القرآن ط عالم الفوائد
ابن القيم
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
راجَعَ هَذا الجزْء مُحَمَّدْ أَجْمَل الإصْلَاحِي عَبد الرحمن بن معَاضة الشهْري
مؤسسة سليمان بن عبد العزيز الراجحي الخيرية SULAIMAN BIN ABDUL AZIZ AL RAJHI CHARITABLE FOUNDATION حقوق الطبع والنشر محفوظة لمؤسسة سليمان بن عبد العزيز الراجحي الخيرية الطبعه الأولى 1429 هـ دَار عَالم الفوَائد للنشر والتَّوزيْع مكة المكرمة ص. ب: 2928 - هاتف: 5505305 - فاكس: 5542309 الصف وَالإخراج دار عالم الفوائد للنشر وَالتوزيع
مقدمة التحقيق
مقدمة التحقيق الحمد لله الذي أنزل الفرقان، وجعل فيه التبيان، وضمَّنَه الأقسامَ والأيمان، نحمده على جزيل الإحسان، وعظيم الامتنان، وهو المستحقُّ لكلِّ حمدٍ في كل آن. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا. أما بعد: فهذا كتابٌ عظيمُ النَّفْع، طيِّبُ الوَقْع، سال فيه قلم ابن القيم -رحمه الله- بالفوائد المحرَّرة، والفرائد المبتكرة، حتَّى فاض واديه فبلغَ الروابي، وملأ الخوابي، قصدَ فيه جمعَ ما ورد في القرآن الكريم من الأيمان الربَّانية وما يتبعها من أجوبتها وغاياتها وأسرارها، فبَرعَ وتفنَّن، ثُمَّ قعَّد وقَنَّن، ولا غَرْوَ في ذلك فإنَّه "شمس الدِّين". وقد اعتنى أهل العلم بالأيمان والأقسام من قديم، فأفردوها بالتصنيف على قلَّةٍ في ذلك، إلا أنَّ أغراضهم ومقاصدهم تنوَّعت من تآليفهم؛ فمن ذلك: أنَّ جماعةً من علماء العربية صنَّفوا فيما ورد عن العرب من الأيمان والأقسام، كما فعل أبو العباس أحمد بن يحيى المعروف بثعلب (291 هـ) فصنَّف "كتاب الأيمان" (¬1)، وكذلك صنَعَ: عَسل بن ذكْوَان العسكري النحوي -في طبقة المبرِّد- كتابَ "أقسام العربية" (¬2)، وجمَعَ ¬
أبو إسحاق النَّجِيرَمي (423 هـ) في كتابِ لطيفٍ "أيمان العرب" (¬1). ورامَ جماعةٌ من الأئمة جمع ما ورد في الأيمان من الرواية والدراية كما فعل الإمام أبو عبيد القاسم بن سلَّام (223 هـ) في كتابه "الأيمان والنذور" (¬2). وألَّف الحافظ عبد الغني بن عبد الواحد بن سرور المقدسي (600 هـ) جزءًا سمَّاه: "الأقسام التي أقسم بها النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - " (¬3). وأفردَ الإمام أبو الحسينِ محمد بن القاضي أبي يعلى (526 هـ) جزءًا لطيفًا في المسائل التي حَلَف عليها الإمام أحمد (¬4). و"أقسام القرآن" من ذيَّاك القبيل، وقد عدَّه السيوطي في "الإتقان" (2/ 1048) نوعًا من أنواع علوم القرآن، وتبعه طاش كبري زاده في "مفتاح السعادة" (2/ 540) حيث جعله فرعًا من فروع التفسير (¬5)، فعِلْمٌ هذا شأنه لا يستغرب بعد ذلك أن يحتفي به العلماء ويخصُّوه بعناية زائدة ويفردوه بمصنفاتٍ خاصَّة. وهذا الكتاب المبارك بدأته بمقدِّمة دراسية تتعلق بالكتاب وموضوعه، وجعلتها على قسمين: ¬
القسم الأوَّل: فصولٌ في القَسَم، وذكرتُ فيه: - منزلة القَسَم عند العرب. - الأقسام في القرآن. - أشتاتٌ من الفوائد. - المصنَّفات في أقسام القرآن. والقسم الثاني: التعريف بالكتاب، وذكرتُ فيه: - عنوان الكتاب. - نسبة الكتاب إلى مؤلِّفه. - تأريخ تأليف الكتاب. - موضوع الكتاب. - منهج المؤلِّف في الكتاب. - موارد المؤلِّف في الكتاب. - أهمية الكتاب وأثره فيمن بعده. - طبعات الكتاب. - نسخ الكتاب. - عملي في التحقيق. والله أسأل أن ينفع بهذا العمل، وأن يقينا فيه الزَّلل والخطَل، ويديم علينا نعمته، ويسبغ علينا عافيته؛ إنَّه جوادٌ كريم، مجيبٌ قدير، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
القسم الأول: فصول في القسم
القسم الأوَّل: فصول في القَسَم - منزلة القَسَم عند العرب - الأقسام في القرآن - أشتاتٌ من الفوائد - المصنَّفات في أقسام القرآن
منزلة القسم عند العرب
منزلة القَسَم عند العرب: للعرب طريقتهم في الكلام، وأسلوبهم في التخاطب، وقواعدهم في الحديث، أرشدتهم إليها فطرتهم القويمة، وطبيعتهم المستقيمة، فجرى بها لسانهم عفوًا من غير اعتمال، وسليقةً من دون افتعال. وقد كان العرب أهل صدق وذمَّة، يتنزَّهون عن الكذب أيًّا ما كان الخبر، ويَعَافُون حكايته، ويستقبحون فعلته، ويعيِّرون فاعله ذمًّا وشنَاءةً، فالكذب عندهم عار اللسان كما أنَّ الزِّنا عار العِرْض. لأجل ذلك كانوا يَصْدُقُون على الدوام، فيكون سامعهم على ثقةٍ من كلامهم، فإذا تردَّد السامع في صدق خبرهم أو شكَّ في ثبوته أكَّدوه له بما يناسب المقام من المؤكِّدات اللفظية وغيرها، حتى يستروح إلى أمانتهم في الحكاية، وصدقهم في القيل. "والقَسَم" نوعٌ من أنواع التوكيد عند العرب، بل هو أجلُّها وأعظمها؛ لأنَّه غاية ما يبذله المتكلِّم من الجَهْد لتقوية كلامه وتثبيته في نفس سامعه، وليس في المؤكِّدات ما يوازيه أو يقوم مقامه فهو أقواها على الإطلاق، ولهذا كثرت ألفاظهم وتنوَّعت عباراتهم في أداء القَسَم؛ شأنهم في كل الأمور الجليلة والخطيرة، فمن ذلك قولهم: "لا وفالق الإصباح، وباعث الأرواح"، "لا والذي شقَّ الجبال للسيل، والرجال للخيل"، "لا والذي نادى الحجيج له"، وغير ذلك من ألفاظ القَسَم (¬1). زد على ذلك تعظيم القَسَم في نفوسهم فقد كان لهم فيه اعتقاد، ¬
لماذا جاء القسم في القرآن؟
حيث كانوا يعتقدون أنَّ اليمين الكاذبة تدع الديار بلاقع، ولا تترك شيخًا ولا يافع، الأمر الذي جعلهم يتحفَّظون في أيمانهم، ولا يطرحونها إلا في مواطن الجِدِّ والحزم والصرامة. وقد نزل القرآن بلغة العرب وعلى أسلوب كلامهم، ومناحي خطابهم، فجاء في أسلوب بيانه من القَسَم ما كان معهودًا عندهم، وخُصَّ بالأمور الجليلة العظمى، وقضايا الإيمان الكبرى. فإن قيل: إنَّ المتكلِّم إنِّما يحلف ويُقْسِم لحاجته إلى القَسَم واليمين في تأكيد أمرٍ أو تثبيت خبرٍ عند سامعه، أمَّا الله -جلَّ جلاله- فإنَّه غير محتاجٍ إلى ذلك؛ لأنَّه -سبحانه- أحسن حديثًا وأصدق قيلًا. هذا من جهة المتكلِّم بالقَسَم؛ أمَّا المُلْقَى إليه القَسَم فإنَّه إمَّا أن يكون مؤمنًا؛ فهذا يحمله إيمانه على التصديق بكلام الله -عزَّ وجلَّ- فلا يتوقَّف إيمانه على اليمين لأنَّه قد سلَّم وأيقنَ بما في القرآن. وإمَّا أن يكون كافرًا؛ فهذا لم ينتفع بالحجج والبراهين فكيف ينتفع بالقَسَم واليمين! فآلَ الأمرُ إلى عدم الحاجة إلى الأيمان، ومالا حاجة إليه لا فائدة من وروده! (¬1) والجواب من خمسة أوجه: الأوَّل: ما سبق تقريره من أنَّ هذا جارِ على سَنَن لغة العرب ومألوف لسانها، فليس في وروده في القرآن إغرابٌ في اللغة ولا بمدخولٍ عليها ¬
ما لا يعرفه أهلها، بل هو ممَّا اعتادوه في مجريات كلامهم بغضِّ النظر عمَّن أُلقي إليه القَسَم. الثاني: أنَّ وجود القَسَم في القرآن من أبلغ الحجج وأوضحها على صدق النبىِّ - صلى الله عليه وسلم - وصحة رسالته، إذ لو كان كاذبًا في هذه الأيمان لأصابه خراب الديار، وانقلاب الحال، وسوء المآل؛ على ما كانوا يعتقدونه في الأيمان الكاذبة، أمَا والأمرُ بعكس ذلك فإنَّ يمينه برَّةٌ، وكلامه صدقٌ، ورسالته حقٌّ. الثالث: أنَّنا لا نسلِّم بانتفاء فائدته، بل الفائدة حاصلة حتمًا، وذلك أنَّ النَّاس ثلاثة أصناف: مؤمن، ومرتاب، وجاحد. فأمَّا المؤمن فإنَّ توكيد الكلام بالقَسَم يزيده طمأنينةً واستيقانًا، وينزل الكلام من نفسه المنزل الأسنى. وأمَّا المرتاب فإنَّ القَسَم يزيل ريبته، ويطرح الشكَّ الذي في نفسه، فلا يبقى عنده تردُّدٌ في ثبوت الخبر أو عدمه. وأمَّا الجاحد فإنَّ القَسَم زيادةٌ في تحقيق البيِّنَة وإقامة الحجة عليه، فلا حُجَّة له بَعْدُ أن يقول: إنَّ ما سمعتُه كان خبرًا من جملة ما نسمعه من الأخبار التي تطرق مسامعنا على الدوام، ولم يؤكَد لي هذا الخبر أو ذاك بيمينٍ أو قَسَمٍ أحترمُه وأعظِّمُه. فورود القَسَم دفعٌ لهذه الحُجَّة الداحضة. الرابع: أنَّ ما ذُكر في الإشكال إنَّما يستقيم إذا حصرنا فائدة القَسَم فيما قالوه فقط؛ والأمر ليس كذلك، إذ قد يرد القَسَم ويراد به تعظيم المقسَم به أو المقسَم عليه لا غير كما ذهب إليه بعض أهل العلم منهم
ابن القيم رحمه الله. الخامس: ما ذكره أبو القاسم القشيري -رحمه الله- حيث قال: "إنَّ الله ذكر القَسَم في القرآن لكمال الحجة وتأكيدها، وذلك أنَّ الحُكْمَ يُفْصَل باثنين: إمَّا بالشهادة، وإمَّا بالقَسَم. فذكر الله -تعالى- في كتابه النوعين حتى لا يبقى لهم حُجَّة، فقال: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ} [آل عمران: 18]، وقال: {قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ} [يونس: 53] " (¬1). * * * ¬
الأقسام في القرآن
الأقسام في القرآن: جاءت الأقسام في القرآن الكريم على ضربين: الضرب الأوَّل: الأقسام الصادرة من الخلق وذكرها الله -عزَّ وجلَّ- عنهمِ، كقوله تعالى عن إبراهيم عليه السلام: {وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ (57)} [الأنبياء: 57]، وكقوله تعالى عن المشركين: {وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ (23)} [الأنعام: 23]، وقوله: {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ} [فاطر: 42]، وغير ذلك كثير. الضرب الثاني: ما أقسم الله -عزَّ وجلَّ- به، وهذا على نوعين: الأوَّل: القَسَم المُضْمَر؛ وهو القَسم المحذوف منه فعل القَسَم والمقسَم به، لكن يدل عليه أحد أمرين: 1/ إمَّا جوابه المقرون باللام، كقوله تعالى: {لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا} [آل عمران: 186]، تقديره: واللَّهِ لتبلونَّ ولتسمعنَّ. 2/ وإمَّا المعنى والسياق، كقوله تعالى: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا} [مريم: 71] , أي: والله ما من كافرٍ إلا واردٌ النَّار، بدلالة المعنى والسياق الذي جاءت فيه هذه الآية فإنها جاءت بعد آياتِ مؤكَّداتٍ بالقَسَم الملفوظ وهو قوله سبحانه: {فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَاطِينَ ...} [مريم: 68 - 70]. الثاني: القَسَم الظاهر الملفوظ، وهذا على ثلاثة أضرب:
أوَّلًا: إقسامُه -سبحانه- بذاته القدسيَّة، وورد ذلك في عشر آياتٍ مباركاتٍ (¬1)، منها آيتان مدنيتان، والثماني الباقيات مكيَّةٌ، وهي: 1 - {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} [النساء: 65]. 2 - {وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ} [يونس: 53]. 3 - {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (92)} [الحجر: 92]. 4 - {تَاللَّهِ لَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ} [النحل: 56]. 5 - {تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ} [النحل: 63]. 6 - {فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَاطِينَ} [مريم: 68]. 7 - {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ} [سبأ: 3]. 8 - {فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ} [الذاريات: 23]. 9 - {زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ} [التغابن: 7]. 10 - {فَلَا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ إِنَّا لَقَادِرُونَ (40)} [المعارج: 40]. ¬
ثانيًا: إقسامه -سبحانه- بأفعاله وصفاته العليَّة، كقوله تعالى: {وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا (5) وَالْأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا (6) وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا} [الشمس: 5 - 7] على اعتبار "ما" مصدريَّة، أي: والسماء وبنائها. ثالثًا: إقسامُه -سبحانه- بمخلوقاته، وهو -سبحانه- لا يقسم إلا بالأشياء العظيمة الدالَّة على قدرته وكمال صُنعه، أو بالأشياء المباركة في نفعها أو فضلها. قال ابن القيم رحمه الله: "وإنما يُقْسِم -سبحانه- من كل جنْسٍ بأعلاه، كما أنَّه لمَّا أقسَمَ بالنُّفُوس أقسَمَ بأعلاها؛ وهي: النَّفْس الإنسانيَّة. ولمَّا أقسَمَ بكلامه أقسَمَ بأشرفه وأجلِّه؛ وهو: القرآن. ولمَّا أقسَمَ بالعُلْويَّات أقسَمَ بأشرفها؛ وهي: السماء، وشمسها، وقمرها، ونجومها. ولمَّا أقسَمَ بالزَّمان أقسَمَ بأشرفه؛ وهو: الليالي العَشْر. وإذا أراد -سبحانه- أن يُقْسِمَ بغير ذلك أدرجه في العموم كقوله عزَّ وجلَّ: {فَلَا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ (38) وَمَا لَا تُبْصِرُونَ (39)} [الحاقة: 38، 39]، وقوله: {الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى (3)} [الليل: 3]، في قراءة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ونحو ذلك" (¬1). وقد نُقل عن الضحَّاك إنكاره لهذا النوع من القَسَم فقال: "إنَّ الله لا يقسم بشيءٍ من خلقه، ولكنه استفتاح يستفتح به كلامه" (¬2)! ¬
إشكال وجوابه
وهذا لا يثبت عنه؛ لأنَّه من رواية جويبر عنه، وجويبر متروك. ثُمَّ لو صح لكان مطَّرَحًا لمخالفته صريح القرآن، قال ابن كثير: "وهذا القول ضعيف، والذي عليه الجمهور أنَّه قَسَمٌ من الله -عزَّ وجلَّ- يُقسِمُ بما شاء من خلقه، وهو دليلٌ على عظمته" (¬1). وههنا سؤال يكثر إيراده في باب القَسَم وهو: أنَّه قد ورد النهي عن الحلف بغير الله -عزَّ وجلَّ-، فكيف جاء في القرآن القَسَم بالمخلوقات؟ وللعلماء أجوبةٌ كثيرةٌ عن هذا السؤال، وعن الأجوبة اعتراضات عند بعضهم، والكلام فيها يطول، لكنَّ أصح هذه الأجوبة وأحسنها -وهو المنقول عن السلف- أنَّ الله -عزَّ وجلَّ- يقسِمُ بما شاء من خلقه، وليس للخلق أن يُقسمُوا إلا به سبحانه، كما قال -عزَّ وجلَّ-: {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ (23)} [الأنبياء: 23]. * * * ¬
أشتات من الفوائد حول القسم
أشتاتٌ من الفوائد: وقفتُ -أثناء قراءتي ومطالعتي- على فوائد مبثوثة هنا وهناك تتعلق بالقَسَم ولا ينتظمها أمرٌ واحد، فأحببتُ أن أثبتها ههنا تتميمًا للفائدة: * حكى القرافي (684 هـ) الإجماعَ على أن القَسَم من أقسام الإنشاء لا الخبر (¬1). * قال ابن خالويه (370 هـ): "واعلم أنَّ القَسَم يحتاج إلى سبعة أشياء: أحرف القَسَم، والمقسِم، والمقسَم به، والمقسَم عليه، والمقسَم عنده، وزمان، ومكان" (¬2). * أوَّلُ قَسَمٍ في القرآن بحسب ترتيب النزول جاء في سورة "القَلَم": {ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ (1)} (¬3). * قال الثعلبي (427 هـ) (¬4): "وجوابات القَسَم سبعةٌ: 1 - "إنَّ" الشديدة، كقوله: {إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ (14)} [الفجر: 14]. 2 - و"ما" النفي، كقوله: {وَاَلضُّحُى (1) ... مَا وَدَّعَكَ} [الضحى: 1 - 3]. ¬
3 - و"اللام" المفتوحة، كقوله: {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (92)} [الحجر: 92]. 4 - و"إنْ" الخفيفة، كقوله: {تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ...} [الشعراء: 97]. 5 - و"لا"، كقوله: {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ ...} [النحل: 38]. 6 - و"قد"، كقوله: {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا (1) ... قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9)} [الشمس: 1 - 9]. 7 - و" بل"، كقوله: {ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ (1) بَلْ عَجِبُوا} [ق: 1 - 2]. * جاء الاستفتاح بالقَسَم في خمس عشرة سورة من القرآن، كلها مبدوءة بحرف "الواو"، وكلها سورٌ مكيَّةٌ، وهي: (¬1) 1 - والصافات. 2 - والذاريات. 3 - والطور. 4 - والنجم. 5 - والمرسلات. 6 - والنازعات. 7 - والسماء ذات البروج. ¬
8 - والسماء والطارق. 9 - والفجر. 10 - والشمس. 11 - والليل. 12 - والضحى. 13 - والتين. 14 - والعاديات. 15 - والعصر. * أطول موضع في القرآن الكريم تتابع فيه القَسَم جاء في سورة "الشمس"، حيث تتابعَتْ سبع آياتٍ متوالياتٍ يطَّرد فيها القَسَم بحرف "الواو" في صدر كل آية (¬1). * لم تأتِ سورة مدنيَّةٌ مبدوءةٌ بحرف القَسَم "الواو" (¬2). * صيغة القَسَم "تالله" لم ترد إلا في الآيات المكيَّة فقط (¬3). ¬
* أكثر ما أقسم الله به من المخلوقات هو "الليل"، حيث جاء القَسَم به في ستِّ آياتٍ مباركات؛ وهي: 1 - في سورة [المدثر: 33]: {وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ (33)}. 2 - في سورة [الانشقاق: 17]: {وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ (17)}. 3 - في سورة [التكوير: 17]: {وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ (17)}. 4 - في سورة [الفجر: 4]: {وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ (4)}. 5 - في سورة [الشمس: 4]: {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا (4)}. 6 - في سورة [الليل: 1]: {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى (1)}. * ورد المقسَم به مسبوقًا بأداة النفي "لا" في ثمانية مواضع من القرآن الكريم (¬1)، وهي: أ/ مقسَم به تقدمته أداة النفي مقترنة بـ "الفاء"، وذلك في ستة مواضع من القرآن الكريم، وكلها في ثنايا السور، وهي: 1 - قوله تعالى: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} [النساء: 65]. 2 - وقوله تعالى: {فَلَا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ (38) وَمَا لَا تُبْصِرُونَ (39)} [الحاقة: 38 - 39]. ¬
3 - وقوله تعالى: {فَلَا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ إِنَّا لَقَادِرُونَ (40)} [المعارج: 40] 4 - وقوله تعالى: {فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ (75)} [الواقعة: 75] 5 - وقوله تعالى: {فَلَا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ (15) الْجَوَارِ الْكُنَّسِ (16)} [التكوير: 15 - 16]. 6 - وقوله تعالى: {فَلَا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ (16)} [الإنشقاق: 16]. ب/ ومقسَمٌ به مسبوق بأداة النفي "لا" غير مقترنة بـ "الفاء" وذلك في موضعين: 1 - قوله تعالى: {لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ (1) وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ (2)} [القيامة: 1 - 2]. 2 - وقوله تعالى: {لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ (1)} [البلد: 1]. * ورد القَسَم بالقرآن الكريم في خمسة مواضع، كلها مسبوقة بالحروف المقطَّعة التي افتتحت بها السور (¬1)؛ وهي: 1 - قوله تعالى: {يس (1) وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ (2)} [يس: 1 - 2]. 2 - وقوله تعالى: {ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ (1)} [ص: 1]. 3 و 4 - وقوله تعالى: {حم (1) وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ (2)} [سورتا الزخرف والدخان]. ¬
5 - وقوله تعالى: {ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ (1)} [ق: 1]. * قال ابن القيم -رحمه الله- عند قوله تعالى: {فَلَا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ (38) وَمَا لَا تُبْصِرُونَ (39)} [الحاقة: 38 - 39]: "وهذا أعمُّ قَسَمٍ وقع في القرآن، فإنَّه يَعُمُّ العلويَّات والسُفْليَّات، والدنيا والآخرة، وما يُرى وما لا يُرى، ويدخل في ذلك الملائكة كلهم، والجنُّ، والإنسُ، والعرشُ، والكرسيُّ، وكلُّ مخلوق" (¬1). * وقال أيضًا: "ثُمَّ أقسَم -سبحانه- أعظمَ قَسَمٍ، بأعظم مقسَمٍ به، على أجلِّ مقسَمٍ عليه، وأكَّد الإخبار به بهذا القَسَم، ثُمَّ أكَّده -سبحانه- بشبْهِه بالأمر المحقَّق الذي لا يشكُّ فيه ذو حاسَّةٍ سليمةٍ، قال تعالى: {فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ (23)} [الذاريات: 23] " (¬2). * * * ¬
المصنفات في أقسام القرآن
المصنَّفات في أقسام القرآن: من عادة السيوطي -رحمه الله- في "الإتقان" أنَّه إذا ذكر نوعًا من علوم القرآن يصدِّره بذكر مَنْ أفرده بالتأليف وينقل منه بعض نصوصه، فلما ذكر أقسام القرآن لم يذكر إلا كتاب "التبيان" فقط (¬1)، ومن جاء بعده تبعوه في ذلك. ولأجل ذلك جزم جماعة من أهل العلم بأنَّه لم يُفْرِد أقسام القرآن بمصنَّف إلا ابنُ القيم -رحمه الله- في كتابه "التبيان"، وأنَّه "أوَّل كتابٍ مفصَّلٍ علمي مؤسَّسٍ على الدراسة العميقة، والتدبر في القرآن، واستعراضٍ لأنواع الأقسام والمقسم بها ومواردها في القرآن" (¬2). لكن كلام الشيخ محمد أبو شهبة يشعر بوجود مصنفاتٍ أخرى في هذ الفنِّ حيث قال: "وقد ألَّف العلماء في أقسام القرآن كتبًا مستقلة، ولعلَّ أحفلها وأجلَّها -فيما أعلم- "التبيان في أقسام القرآن" لابن القيم" (¬3). فكلام أبو شهبة -رحمه الله- يفيد بوجود وفرةٍ في مؤلَّفات أقسام القرآن، وأنَّ هناك من سبق ابن القيم ولحقه في إفرادها بالتأليف؛ إلا أنَّه لم يذكر لنا ما وقف عليه من تلك الكتب ولو كانت مخطوطةً لم تطبع بَعْدُ. ¬
والأمر ليس كما أفاد؛ فأمَّا قبل عصر ابن القيم فإنِّي لم أقف بعد البحث في كتب الطبقات والسير على مؤلَّفاتٍ في أقسام القرآن إلا على كتابٍ واحدٍ لأبي عمرو الدمشقي عبدالله بن أحمد بن بشير -ويقال: بشر- بن ذكْوَان (242 هـ) أحد مشاهير القرَّاء الشاميين، سمَّاه: "أقسام القرآن وجوابها" (¬1)، ولا أعرف من خبره شيئًا. وأمَّا بعد عصر ابن القيم فلا يكاد الباحث يقف إلا على تلخيص ابن طولون لكتاب "التبيان" حيث سمَّاه: "خلاصة التبيان في أيمان القرآن"، وليس بعد ذلك إلا دراسات المتأخرين والمعاصرين في أبحاثهم ومقالاتهم وبعض كتبهم. ويبقى كتاب "التبيان" متفردًا في بابه (¬2)، قد خاض العلماء في عُبَابه، وحَطُّوا رحالهم على أعتابه، فوجدوا فيه جواهر مكنونة، ومعادن مخزونة، فاستفادوا منه، ولم يرغبوا عنه، ولم يتجاسروا على مجاراته، حتى غدا عَلَمًا على هذا الفن. ¬
القسم الثاني: التعريف بالكتاب ومباحثه
القسم الثاني: التعريف بالكتاب ومباحثه - عنوان الكتاب - نسبة الكتاب إلى مؤلِّفه - تاريخ تأليف الكتاب - موضوع الكتاب - منهج المؤلِّف في الكتاب - موارد المؤلِّف في الكتاب - أهمية الكتاب وأثره فيمن بعده - طبعات الكتاب - نسخ الكتاب - عملي في التحقيق
عنوان الكتاب: اشتهر هذا الكتاب -منذ طبعته الأُولى- بين النَّاس بـ "التبيان في أقسام القرآن"، وبه تتابعت سائر الطبعات، وكذا تناولته أقلامِ الباحثين في الإحالات والدراسات، وصار هذا العنوان هو الاسم العَلمي لهذا الكتاب، ولهذا أسبابُه ... فمنها: 1) أنَّ بعض من ترجم للمؤلِّف سمَّاه بهذا الاسم؛ كما في "كشف الظنون" (1/ 341)، و"هدية العارفين" (2/ 158)، و "الأعلام" (6/ 56). 2) أنَّ لفظ "القَسَم" هو الوارد في القرآن الكريم في أقسام الله- عزَّ وجلَّ- دون لفظ "اليمين" أو "الحَلِف" ونحو ذلك، فاشتُقَّ اسم الكتاب من لفظ "القَسَم" دون غيره لأنه موافق لمضمونه، مقاربٌ لمرسومه. 3) أنَّ المؤلِّف -رحمه الله- خصَّ كتابه للكلام عن القَسَم فقط، ولهذا يبدأ غالب فصول الكتاب بقوله: "ومن ذلك قَسَمُه سبحانه بـ ... "، فانتزعوا اسم الكتاب من تصرفات المؤلِّف في ثناياه. 4) أنَّ مقدِّمة المؤلِّف -رحمه الله- قد خلت منها جميع الطبعات! فإنَّ الناشر الأوَّل لعله اعتمد على نسخةٍ سقطت منها هذه المقدِّمة، فاجتهد في تسمية الكتاب، فكان ما تراه من اسم الشهرة، ثُمَّ تابعه عليه من جاء بعده. 5) أنَّ هذا الاسم جاء في صفحة العنوان للنسخة (ز). وجاء في صفحة العنوان للنسختين (ح) و (م) اسم الكتاب هكذا: (كتاب أقسام القرآن والكلام على ذلك).
وذكره عبد اللطيف بن محمد المعروف بـ "رياضي زاده" في كتابه "أسماء الكتب" (80) فسمَّاه: "التبيان في معرفة أحكام القرآن"! وقد تفرَّد بذلك، وهو سهوٌ. وكل ما مضى يتهاوى أمام تسمية المؤلِّف لكتابه في المقدِّمة، والتصريح بذلك، ويجعلنا نجزم أنَّ تلك التسميات كانت من قبيل الاجتهاد بالمعنى لا غير، فإنَّ الاسم العَلَمي الصحيح للكتاب هو: "التبيان في أيمان القرآن"، وإليك الأسباب: أوَّلًا: أنَّ المؤلِّف -رحمه الله- قد ذكر هذا العنوان صراحةً وسمَّاه به في خطبة الكتاب حيث قال: "فهذا كتابٌ صغير الحجم، كبير النفع، فيما وقع في القرآن العزيز من الأيمان والأقسام، والكلام عليها يمينًا، وارتباطها بالمقسَم عليه، وذكر أجوبة القَسَم المذكورة والمقدَّرة، وأسرار هذه الأقسام، فإنَّ لها شأنًا عظيمًا يعرفه الواقف عليه في هذا الكتاب، وسمَّيته: "كتاب التبيان في أيمان القرآن"". ثانيًا: أنَّ المؤلّف -رحمه الله- قد أحال على هذا الكتاب باسم "أيمان القرآن" في موضعين من كتابه المعروف "الداء والدواء" (¬1). ثالثًا: أنَّ أكثر من ترجم للمؤلِّف -خاصةً المتقدمين منهم- يذكرونه باسم "أيمان القرآن"، وفي مقدمتهم تلميذه ابن رجب الحنبلي في "ذيل طبقات الحنابلة" (5/ 176)، وكذا قاله: الداودي في "طبقات المفسِّرين" (2/ 93)، والعليمي في "المنهج الأحمد" (5/ 95)، وفي "الدر المنضَّد" (2/ 522)، وابن العماد في "شذرات الذهب" (8/ 291)، ¬
وابن ضويان في "رفع النقاب" (325)، والبغدادي في "هدية العارفين" (2/ 158). رابعًا: أنَّ هذا الاسم جاء على صفحة العنوان في بعض النسخ المخطوطة للكتاب كما في النسخة (ن)، والنسخة (ط)، ونسخة مكتبة وحيد باشا في كتاهية بتركيا رقم (3) وقد كتبت في القرن التاسع (¬1). خامسًا: أنَّ العلَّامة شمس الدين ابن طولون الحنفي (953 هـ) قد لخَّص الكتاب وسمَّاه بالخلاصة مع المحافظة على عنوان الكتاب فقال: "خلاصة التبيان في أيمان القرآن" (¬2). ¬
نسبة الكتاب إلى المؤلف
نسبة الكتاب إلى المؤلِّف: الأصل أنَّ الأمر المتيقَّن لا يحتاج إلى إثبات؛ لأنَّ "الثابت ثابت"، فتعداد أدلَّة ثبوته تحصيل حاصل كما هو الحال ههنا في كتاب "التبيان". لكنَّ أهل التحقيق درجوا في مقدِّماتهم على بيان نسبة الكتاب إلى مؤلِّفه؛ استيثاقًا للبحث، وطمأنةً للقاريء، وإجهازًا منهم على فلول الشك والاحتمال، وطلبًا لإثبات الكتاب إلى مؤلِّفه على وجه الكمال. وعليه فأقول: لا شكَّ في نسبة كتاب "التبيان" إلى ابن القيم؛ لأمور: أوَّلًا: أنَّ المؤلِّف -رحمه الله- ذكره لنفسه في بعض كتبه الأخرى، وأحال عليه في مواطن، كما جاء في كتابه المعروف "الداء والدواء" في موضعين: أوَّلهما: عند قوله: "وقد ذكرنا وجه الاستدلال بذلك في كتاب "أيمان القرآن" عند قوله: {فَلَا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ (38) وَمَا لَا تُبْصِرُونَ (39)} [الحاقة: 38، 39]، وذكرنا طرفًا من ذلك عند قوله: {وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ (21)} [الذاريات: 21]، وأنَّ الإنسان دليلٌ على وجود خالقه وتوحيده، وصدق رسله، وإثبات صفات كماله" (¬1). وثانيهما: عندما بيَّن إقسامَ الله -سبحانه- بطوائف من الملائكة المنفِّذين لأمره في الخليقة، ثُمَّ قال: "وقد ذكرنا معنى ذلك وسرَّ ¬
الإقسام به في كتاب "أيمان القرآن"" (¬1). ثانيًا: أنَّ المؤلِّف -رحمه الله- أحال في هذا الكتاب أثناء بحثه لبعض مسائل القياس على كتابه العَلَم "إعلام الموقعين" (¬2)، وستأتي عبارته قريبًا إن شاء الله. ثالثًا: أنَّه ذكر شيخه المبجَّل شيخ الإسلام ابن تيمية في مواضع عدَّة، وانتصر لاختياراته، وغالب هذه المواضع يصرِّح به (¬3)، وأحيانًا ينقل كلامه بلا تصريح ولا عَزْو؛ لكنه يصرِّح بذلك في كتبه الأخرى، فهو يترك التصريح به فيما قد عُرف عنه أنَّه ينقله عن شيخه، واشتُهر ذلك في كتبه، وهذا من عظيم احتفائه بشيخه، وحفظه لحقه عليه، رحم الله الجميع. رابعًا: كل من ترجم له ينسب الكتاب إليه، المتقدمون منهم والمتأخرون، ولا يُعرف عن أحدٍ منهم أنَّه شكَّك في نسبته إليه. خامسًا: أنَّ جماعةً من أهل العلم -ممَّن جاء بعد عصر المؤلِّف- استفادوا من الكتاب ونقلوا منه بعض قضاياه ومسائله، وسيأتينا -إن شاء الله- النقل عنهم، كلهم يعزُون ذلك إلى ابن القيم في كتابه "التبيان". سادسًا: الكتاب بيِّنٌ بنَفَسه، وشاهدٌ على نَفْسِه؛ أنَّه صنيعةُ ابن القيم وممَّا خطَّته أنامله، وكلُّ من أَلَف طريقته وأُسلوبه ميَّز بين ما هو له وما هو لغيره بمجرد الاطلاع والنظر، فبسطُه للمسائل، وإحاطتُه بأقوال ¬
السلف، وتحريره للنقول، وإقامته للحُجَّة، وحشدُه للأدلَّة، ودفعه للاعتراض، ورعايته للمقاصد، ودرايته بالحِكَم = منهجٌ لكتبه معروف، ومسلكٌ لمصنفاته مألوف. سابعًا: جميع صفحات العنوان في المخطوطات أُثبت عليها نسبة الكتاب لابن القيم رحمه الله.
تأريخ تأليف الكتاب
تأريخ تأليف الكتاب: لم يذكر ابن القيم -رحمه الله- تأريخ تأليفه لكتابه، ولم ينقل عنه أحدٌ من تلاميذه خبرًا في ذلك؛ إلا أنَّنا يمكن أنَّ نستفيد من إشارتين اثنتين لبيان تأريخ تأليفه على وجه التقريب لا التحديد: أولاهما: أنَّه أحال في ثنايا الكتاب على كتابه الآخر "إعلام الموقعين"، فقال: "وقد بيَّنا في كتابنا "المعالم" بطلان التحليل وغيره من الحيل الربويَّة" (¬1). فهذا النقل يفيدنا أنَّه ألَّف كتاب "التبيان" بعد كتابه "إعلام الموقعين". وثانيهما: أنَّه في كتابه "الداء والدواء" قد أحال على كتاب "التبيان" في موضعين (¬2)، ممَّا يفيدنا أنَّه ألَّفه قبل كتاب "الداء والدواء". وعليه فيكون تأليفه لكتاب "التبيان" منحصرًا بين سنة تأليفه لكتاب "إعلام الموقعين"، وسنة تأليفه لكتاب "الداء والدواء"، إلَّا أنَّ الإشكال قائمٌ من حيث إنَّنا لا نعلم -تحديدًا- سنة تأليفه لهذين الكتابين! لكن هذا غاية ما توصلنا إليه. وثَمَّ أمرٌ يُستأنس به ههنا؛ وهو أنَّ ابن القيم -رحمه الله- تمنَّى أنَّ يؤلِّف تفسيرًا للقرآن على نهجٍ سار عليه في تفسير "سورة الكافرون" في ¬
كتابه "بدائع الفوائد" (¬1)، ثُمَّ قال: "وقد كتبتُ على مواضع متفرقة من القرآن بحسب ما يسنح من هذا النَّمَط وقتَ مقامي بمكة وبالبيت المقدَّس، والله المرجو إتمام نعمته"، فهل يكون من تلك المواضع المتفرقة التي كتبها اعتناؤه باقسام القرآن، واستيفاؤه الكلام عليها، وإفرادها بكتابه "التبيان"، في تلك المدة، وذاك التأريخ؟ ... احتمال. ¬
موضوع الكتاب
موضوع الكتاب: أنشأ ابن القيم -رحمه الله- هذا الكتاب للكلام عن الأيمان، وخصَّه بالأيمان والأقسام الواردة في القرآن الكريم، وتكلَّم عمَّا يلحق هذه الأيمان من لواحق وتوابع، وأفصح عن ذلك كلِّه في مقدِّمة كتابه حيث قال: "فهذا كتابٌ صغير الحجم، كبير النفع، فيما وقع في القرآن العزيز من الأيمان والأقسام، والكلام عليها يمينًا، وارتباطها بالمقسَم عليه، وذكر أجوبة القَسَم المذكورة والمقدَّرة، وأسرار هذه الأقسام، فإنَّ لها شأنًا عظيمًا يعرفه الواقف عليه في هذا الكتاب" (¬1). فتبيَّن من خطبة المؤلِّف هذه غرضه من تأليفه، وموضوعه الذي سيدور حوله ويتحدَّث عنه، وهو عدة أمور: أوَّلها: الأيمان والأقسام الواردة في القرآن الكريم خاصةً. وثانيها: تحقيق كون هذه الأيمان والأقسام كذلك. وثالثها: ارتباط هذه الأيمان بالمقسَم عليه، وبيان التناسب بينها. ورابعها: ذكر أجوبة القَسَم سواء كانت مذكورة أو مقدَّرة. وخامسها: ما يتعلق بهذه الأيمان من الأسرار والحِكَم والغايات. فأمَّا الأمور الأربعة الأخيرة فاستوفاها إلى الغاية بل وأربى، وأتى فيها بكل ما يُستملح بل وأحلى، فأفاد وأجاد. ¬
وأمَّا الأمر الأوَّل منها فالحقُّ أنَّه لم يتتبع كل ما في القرآن من الأيمان والأقسام، بل ترك الكلام عن الأيمان التي حكاها الله -عزَّ وجلَّ- في القرآن عن خلقه، وترك -أيضًا- الأيمان المقدَّرة، مع أنَّ هذا الكتاب مظنَّةٌ لدراستها، والمعروف عن ابن القيم -رحمه الله- أنَّه يتتبع القضايا والمسائل التي تتعلَّق بموضوع الكتاب الذي يصنِّفُه، ولا أدري سببًا لتفويت هذا الشمول والاستيعاب، الأمر الذي فسح لبعضهم مدخلًا لتعقُّبه في ذلك (¬1)! إذن موضوع الكتاب يتعلَّق -فقط- بالأيمان الربَّانية الصريحة الظاهرة في القرآن الكريم، والكلام على ما يتعلق بها ممَّا أوضحه في المقدِّمة وسبق بيانه، إلا أنَّه فاته -أيضًا- شيءٌ يسير من هذه الأيمان الربَّانية تُعرف بتتبعها في القرآن الكريم. ¬
منهج المؤلف في الكتاب
منهج المؤلِّف في الكتاب: لابن القيم -رحمه الله- في جميع كتبه منهج عامٌّ وخاصٌّ. فأمَّا المنهج العامُّ فطريقته التي سلكها في تآليفه حتَّى غَدَت واضحة المعالم، بيِّنة الملامح؛ من اعتماده على نصوص الكتاب والسُّنَّة الصحيحة، وتقديمه لأقوال الصحابة، واحتفائه بأقوال السلف، وقوَّةٍ في الحُجَّة، وطول نَفَسٍ في تقرير المسائل، مع مراعاة المقاصد والحِكَم، واطِّراح الشاذ والضعيف والمنكر من الآراء والأقوال والمذاهب؛ كل ذلك بأسلوبه الممتع الجذَّاب. وأمَّا المنهج الخاصُّ فهو ما سلكه من طريقةٍ في كل كتابٍ بما يناسبه ويلائمه، فإنَّه -رحمه الله- قد كتب في غالب الفنون الشرعية، وكلُّ فنٍّ لمسائله ذوقها، ولأهله لغتهم. وكتابنا "التبيان" يمكننا أنَّ نقسمه إلى قسمين: قسمٍ نظري تأصيلي، وقسمٍ تطبيقي. القسم النظري التأصيلي: عمد ابنُ القيم -رحمه الله- في أوَّل كتابه "التبيان" إلى تقرير قواعد وأصول هذا الفنِّ وهو أيمان القرآن، وخطَّ له خطوطًا عريضةً سار عليها في باقي كتابه. وقد أحسن في ذلك أيَّما إحسان؛ لأنَّه بنى سائر كتابه على هذه الأصول والقواعد، وصار يُرجِعُ مسائله إليها، وردَّ إليها ما أشكل من تفسير آيات القَسَم، الأمرَ الذي أبعده عن الاضطراب والتذبذب الذي وقع فيه غيره. بدأ المؤلِّف -رحمه الله- ببيان وجود القَسَم في القرآن وأنَّه واردٌ في
كلام الله -عزَّ وجلَّ-، وأنَّ الله -سبحانه- يُقسم بأمرين اثنين: الأوَّل: بنفسه المقدَّسة الموصوفة بصفاته العليا. والثاني: بآياته المستلزمة لذاته وصفاته (¬1). وقرَّر بأنَّ القَسَم ببعض المخلوقات دليلٌ على أنَّها من آياته، وأنَّ في ذلك إشادةً بها وتنويهًا، وإذا كان الأمر كذلك فلابد أن يتعلق بها أمران: الأوَّل: أن تكون هذه الآيات من الأمور المشهودة الظاهرة، فإنَّ "آيات الرَّبِّ التي يُقسِم بها لا تكون إلا ظاهرةً جليَّةً يشترك في معرفتها الخلائق" (¬2). والثاني: أنَّ هذه الآيات الظاهرة الجلية لا تأتي إلا مقسَمًا بها ولا تكون مقسَمًا عليها. ثُمَّ بيَّن أنَّ للقَسَم إحدى فائدتين: 1 - إمَّا تحقيق القَسَم. 2 - وإمَّا تحقيق المقسَم عليه وتوكيده. وقرَّر -أيضًا- أنَّ هذا المقسَم عليه لابد أنَّ يكون من الأمور الغائبة التي يطالَب العبدُ بالإيمان بها (¬3). وأمَّا جواب القَسَم فلا يخلو من حالتين: ¬
1) إمَّا أنَّ يذكر جواب القَسَم، وهو الغالب. 2) وإمَّا أن يحذف، ويكون حذفه من أحسن الكلام حينئذٍ، وفي هذه الحال لا يخلو من أحد غرضين (¬1): أ/ إمَّا أنَّه لا يُراد ذكره أصلًا بل المراد من القَسَم تعظيم المقسَم به. ب/ وإمَّا أنَّه مرادٌ، فيُعرف حينئذٍ بدلالة الحال أو السياق عليه. ثُمَّ بيَّن -رحمه الله- أنَّ القَسَم لمَّا كان يكثر في الكلام؛ احتيج إلى اختصاره طلبًا لخفَّة اللسان وسهولة الاستعمال، فصار يُحذَف فعل القَسَم ويكتفى بـ "الباء"، ثُمَّ عُوِّض عن "الباء": 1 - "الواو" في الأسماء الظاهرة. 2 - و "التاء" في اسم الله خاصة. وأمَّا المقسَم عليه فقعَّد له قاعدةً كليَّةَ فيما يُقسِم الله عليه، وأنَّه -سبحانه- إنَّما يُقسِم على أصول الإيمان التي يجب على جميع الخلق معرفتها والإيمان بها: فتارةً يُقسِم على التوحيد. وتارةً يُقسِم على أنَّ القرآن حقٌّ. وتارةً يُقسِم على أنَّ الرسول حقٌّ. وتارةً يُقسِم على حال الإنسان وصفته وعاقبته. ¬
وذكر أنَّ السبب في إقسامه -تعالى- على هذه القضايا والأصول هو حاجة النفوس إلى معرفتها، وشدَّة فاقتها إلى الإيمان بها. القسم التطبيقي: لمَّا فرغ ابنُ القيم -رحمه الله- من تأصيل مسائل القَسَم في القرآن الكريم؛ أخذ بتطبيق ما أصَّله على آيات القَسَم التي فسَّرها على النحو التالي (¬1): * بيان الآية من جهة اللغة العربية، وهذا حَدَاهُ إلى: أ/ الكشف عن معاني الكلمات، وما فيها من دقائق وأسرار حتى يتمَّ الفهم الصحيح للمعنى المراد منها في الآية، كما فعل في: - تفسير "الطَّحْو" (ص/28). - وتفسير "الكَبَد" (ص/ 51). - وتفسير "الكَنُود" (ص/ 125). - وتفسير "الدافق" (ص/ 160). - وتفسير "الخُنَّس والكُنَّس" (ص/ 184). - وتفسير "المَوْر" (ص/ 411). - وتفسير "الحُبُك" (ص/ 434). ب/ وهذا البيان لمعاني الكلمات حمله على توضيح الفرق بين ¬
كلمةٍ وأخرى، التماسًا منه -رحمه الله- لحكمة استعمال هذه اللفظة دون تلك، فمن ذلك: - الفرق بين لفظ "السعي" و"العمل" (ص/ 11 - 12). - والفرق بين "النسيان" و"السهو" (ص/ 438). - والفرق بين قولك: "سبقته إليه" و"سبقته عليه" (ص/ 290). - والفرق بين "رَبْط الشيء" و"الرَّبْط على الشيء" (ص/ 281). ج/ كلامه على بعض وجوه الإعراب للآية إذا كان اختلاف الإعراب ينبني عليه تغاير المعنى، وانظر على سبيل المثال (ص/27، 174، 319، 314). * إذا كان في الآية قراءات متعدِّدة فإنَّه يذكرها، ويوجِّه معناها، وربما رجَّح بعضها على بعض من جهة دلالتها على المعنى المراد، كما فعل في (¬1): - قراءة: "فامضوا إلى ذكر الله" (ص/ 11). - وقراءة: "فكَّ رقبةً" (ص/ 65). - وقراءة: "ذو العرشِ المجيدِ" بالكسر (ص/ 148). * جمعه للنظائر والأشباه في مكانٍ واحدٍ، والتوفيق بين معانيها إذا كان ظاهرها التعارض، أو كان الفرق بينها لا يتجلَّى إلا بالإيضاح والبيان، وانظر على سبيل المثال: (ص/ 48، 106، 131، 190، 200، ¬
218، 241، 245، 251، 274، 280، 297، 288، 343، 328). * وأمَّا الأقوال في تفسير الآية فإنَّه يقوم بالتالي: 1 - يستوفي نقلها في الغالب، حتى إنَّه ربما نقل الأقوال الضعيفة في تفسيرها طلبًا للاستيفاء، ويندر جدًّا أنَّ يفوته قولٌ مشهورٌ في تفسير الآية كما حصل معه في سورة البلد (ص/ 59). 2 - يَعْزُو هذه الأقوال إلى أصحابها؛ بدءًا بالصحابة -رضي الله عنهم- ثُمَّ بمن يليهم، هذا هو الأعمُّ الأغلب؛ لكن ربما ترك العَزْوَ أحيانًا كما في (ص/ 57، 237، 288، 330، 348، 372، 400، 438، 528، 637). 3 - ينقل نصوص أقوالهم بحروفها كما جاءت عنهم في التفاسير المسندة. 4 - إذا كانت في ظاهرها متعارضة وأمكن الجمع بينها فإنَّه يجمع بينها ويدفع تعارضها كما فعل في (ص/91، 70، 157، 123، 227، 207). 5 - وربما كانت هذه الأقوال كثيرةً ومتباينةً في باديء النظر لكنها عند التأمُّل تؤول في حقيقتها إلى قولين أو ثلاثة مثلًا؛ فيردُّها إلى ذلك كما في (ص/48، 141، 223، 172، 232). 6 - يذكر أدلَّة كل قول، ويرجِّح بينها، ويبرز جوانب القوَّة فيما يختاره من الأقوال، وهذا كثير في الكتاب كما في (ص/ 15، 35، 40، 68, 74, 77, 80, 105, 115, 116, 123, 133, 146, 163, 166، 175، 184، 191, 208, 211، 235، 276، 292،
363، 331، 399، 441). 7 - ينبِّه على الأقوال الضعيفة أو الساقطة أو البعيدة والمتكلَّفة كما في (ص / 213، 216، 225، 296، 314، 320، 360). * ثُمَّ بعد ذلك له -رحمه الله- تنقيبٌ عجيبٌ في خبايا الآيات، وتفتيشٌ مذهلٌ في كنوزها التي لا تنتهي، فيستنبط منها ما هو من حاجات القاريء وإن لم يكن من حاجة المفسِّر، ولربما أرخى القلم بما هو من عَرَض الكتابة وإن لم يكن من أغراض التفسير، وهذا بحرٌ يحبُّ ابن القيم السباحة فيه ويُحسن الغَوص في أعماقه، فمن ذلك: - مناقشته لطائفة من النظَّار والمتكلمين (ص/245، 27، 10) وغيرها. - ردُّه على الطبائعيين والفلاسفة والدهرية والملاحدة (ص/ 28، 253، 409، 497). - جوابه عن شُبَه القدريَّة والجبريَّة (ص/ 99، 152، 203) وغيرها. - مناقشته للأطباء في قضايا الخلق والتكوين (ص/492، 499، 503، 538) وغيرها. - بيان ما في الآية من مواعظ وآداب وتوجيهات. - عنايته بذكر اللطائف والنُّكَت والفوائد العلمية (ص/219، 322، 439) وغيرها. هذا قليلٌ من كثير من إبداعاته وإفاداته، ولعلَّ نظرةً إلى فهرس الفوائد العلمية يحيطك بشيء من ذلك.
وثَمَّ أمور تبرز لقارئ الكتاب؛ عدَّها بعضهم من المؤاخذات وهي في الحقيقة من الملحوظات (¬1) التي لا تخلو من توجيهٍ حسنٍ للمنصف القادح، أو نظرةٍ سديدةٍ للمستحسن المادح، وهذا أو ذاك لا يستطيع إخفاء حاجته إلى صيد ابن القيم رحمه الله، وإلا ما قصد إلى قراءة كتابه، ومن تلك الملحوظات: 1 - أنَّ ابن القيم -رحمه الله- لم يبيِّن لنا سبب تسميته لكتابه بـ "أيمان القرآن" وعدوله عن التسمية بأقسام القرآن، مع أنَّه يفتتح كلامه عن آيات القَسَم -غالبًا- بقوله: ومن ذلك قَسَمُه سبحانه بكذا ... ثُمَّ يذكره. وأيضًا؛ لم يرد في القرآن الكريم لفظ "اليمين" بالنسبة لله -عزَّ وجلَّ-، وإنَّما ورد لفظ "القَسَم" كما تراه في هذا الكتاب مشروحًا، أمَّا "اليمين" في القرآن الكريم فقد جاءت في حق الخلق واستعمالهم كما في قوله تعالى: {وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ} [البقرة: 224]، وقوله: {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ} [البقرة: 225] , وقوله: {وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ} [المائدة: 89] , وقوله: {بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ} [المائدة: 89]، إلى غير ذلك من الآيات. وقد يستطيع المتأمِّل الجواب عنه بما يظهر له من مليح الاستنباط، إلا أنِّنا كنَّا في شوقٍ لجواب ابن القيم نفسه لما عُرف عنه من الدقَّة، ¬
وصاحب الدار أدرى بما فيه. 2 - إذا تكلَّم في تفسير آيات القَسَم فإنَّه يُتمُّ تفسير السورة بأكملها وإن لم يكن لها تعلُّق بالأيمان والأقسام، وهذا كثيرٌ في الكتاب إلا في آخره فإنَّه اقتصر فيه على محلِّ القَسَم وما يتبعه. 3 - استطراده -رحمه الله- في بعض المواطن بأمور خارجةٍ تمامًا عن التفسير وملحقاته، فمن ذلك: - ذكره لمنافع التين والزيتون (ص/ 69 - 70). - كلامه عن الليل والنَّهار (ص/ 255 - 260). - ذكره لأنواع الأقلام (ص/ 303 - 310). - كلامه عن الاعتراض بين الجُمَل وفوائده (ص/ 323 - 328). - وأيضًا كلامه عن الاستطراد ومحاسنه (ص/ 397 - 398). - كلامه عمَّا يُستملح من خِلْقة المرأة (ص/ 419). - كلامه عن الرِّياح (ص/ 426 - 429). - كلامه عن الأرض (ص/ 447 - 457). - كلامه عن خَلْق الإنسان والتفصيل في تكوينه وما في ذلك من الآيات الباهرات (ص/ 457 - 626) (¬1). ¬
وهذه الملحوظة والتي قبلها ممَّا تعنَّى له ابنُ القيم -رحمه الله- وكان يستحسنه ويرتضيه وينوِّه به، وهو ممَّا يَزِينُه ولا يَشِينُه، ويُمدح به ولا يُعاب عليه، فإنَّه من جُود العلم وكَرَم العالم، يبذله متى رامَ نفع النَّاس وإفادتهم، ومن محاسن الملاقاة ما جاء عَرَضًا لا قصدًا، وابن القيم -رحمه الله- خبيرٌ بنوادر العلم وفوائت العلماء، باذِلٌ لقارئيه أطيبه وأنفعه، فهو -رحمه الله- كيفما كتب بَرَع، كالغَيْث أينما وقعَ نَفَع، فلا لوم إذنْ. وإنَّما تصلحِ المؤاخذة لمن يَحْشُو الكتاب بما لا يفيد، ويسوِّد الصفحات بما ضرُّه أقرب من نفعه وعلى أحسن أحواله لا نفع فيه ولا ضرر، فهذا ممجوجٌ ومطَّرحٌ، كحال بعض مؤلِّفي زماننا -أصلح اللهُ أقلامهم- ممن يُحبِّرون الصُّحُف بنَادِّ اللفظ، ومستوحش المعاني، فتقل فائدتها عند العامة وتُعدَمُ لدى الخاصة، وهذا مَتْنُ الكلام وقائمه فكيف بموقوذه ومتردِّيه! اللهم صَفْحًا. وحاشا ابن القيم أن يكون استطراده كذلك، بل فيه من الفوائد والشوارد ما لو قرأته لتمنَّيتَ أن يكون كتابه كله على هذا المنوال لعظيم عائدتها، ولربما صَلُح بعضها لإفرادها بمصنَّف مستقِلٍّ لجودتها، وحسن بسطه فيها. وخُذْ مثلًا على ذلك كلامه عن خَلْق الإنسان وتكوينه فإنَّه أبدع فيه إلى الغاية، وأشرف فيه على النهاية، وإنني لأَجزم -وأنا على ثِقَل قدمٍ- بأنَّ قارئه متى بدأه لن يملَّه، ويمضي في قراءته حتى يتمَّه، فإنَّ له لذَّةً ومتعةً تأخذ بالألباب، وهو في أثناء ذلك لن يخلو من تعجُّبٍ وفكرة، أو من حكمةٍ وعِبرةٍ، أو من موعظةٍ وذكرى، ونحو ذلك ممَّا يهذِّب
النفوس، ويصلح الأحوال، فاللهم زِدْهُ نعيمًا كما زادنا تفهيمًا. 4 - كلامه في تفسير الآيات كان متَّسِقًا على نظامٍ واحدٍ في أكثر الكتاب وأغلبه، حتى جاء إلى قُبيل آخره -وتحديدًا من (ص/ 637) فما بعدها- فصار يختصر الكلام على الآيات على غير المعهود عنه، بل ربما جمع الكلام على عدَّة آياتٍ مختلفاتٍ في موضعٍ واحدٍ! وهذا طبيعة أواخر الأشياء وتاليها.
موارد المؤلف في الكتاب
موارد المؤلِّف في الكتاب: تنوَّعت موارد المؤلِّف في كتابه شأنه في سائر كتبه، ويمكن تقسيم هذه الموارد إلى قسمين: قسمٍ سماعيٍّ، وقسمٍ كتابي مدوَّن. القسم السماعي: ونعني به ما تلقَّاه ابن القيم من مشايخه مشافهةً وإملاءً، فكان يصرِّح بسماعه لتلك الفائدة من فلانٍ شيخه، وربما ترك التصريح بالسماع واكتفى بعَزْوِ الفائدة إليه. ولا شكَّ أنَّ شيخَه المبجَّل شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- قد حظي بالاهتمام الأوحد من هذا النقل في كتابنا هذا كما في (ص/ 24، 37 - 38، 338، 425). وهذه المواطن عند مقابلتها بكتب شيخ الإسلام ابن تيمية تبيَّن أنها من صياغة ابن القيم وتلقيه لها، ومعناها موجود في كتب شيخه ومشهور عنه. القسم الكتابي المدوَّن: ونعني به ما نقله ابنُ القيم من كتب الأئمة ومدوَّناتهم (¬1)، وينقسم إلى ثلاثة أقسام: القسم الأوَّل: الكتب التي صرَّحَ بأسمائها؛ سواء ذكر أسماء مؤلِّفيها أم لا، وسواء أعاد ذكرها أم اكتفى بذكر اسم المؤلِّف بعد ذلك، وهذه الموارد هي: ¬
1 - "جامع الترمذي" 404، 424، 427، 428، 436, 494 2 - "رأي أبقراط وأفلاطون" لجالينوس 497 3 - "الزهد" لعبد الله بن الإمام أحمد 399 4 - "سنن أبي داود" 42، 303, 403 5 - "السنن" لسعيد بن منصور 336 6 - "الشفاء" لابن سينا 510 7 - "الصحاح" للجوهري 411، 573، 584, 597 8 - "الصحيح" (¬1) للبخاري 41، 42، 146، 340، 378، 420, 428، 513، 499, 544 9 - "الصحيح" لابن حبَّان 340 10 - "الصحيح" لمسلم 304, 360, 378, 380, 500, 504, 511، 517، 519، 544, 597 11 - "الطبُّ الكبير" لأبي بكر الرازي 507 12 - "القانون" لابن سينا 539 13 - "مسائل حرب الكرماني" 337 14 - "المسند" للإمام أحمد 428، 409، 285، 44, 516 ¬
15 - "الموطأ" لمالك 340 16 - "نظم القرآن" للجرجاني 17، 20، 119، 216، 352 القسم الثاني: ما صرَّح فيه باسم المؤلِّف دون ذكر اسم الكتاب الذي ينقل منه، وهذا على نوعين: الأوَّل: ما عرفناه تحديدًا بعد مطابقة المادة العلمية للكتاب المطبوع للمؤلِّف، وهؤلاء الذين ينقل عنهم هم: 1 - الأزهري "تهذيب اللغة" 329، 417 2 - الأصمعي "خلق الإنسان" 573 3 - ابن الجوزي "زاد المسير" 292 4 - الحاكم "معرفة علوم الحديث" 336 5 - الزجَّاج "معاني القرآن" 26، 104، 116، 118، 157، 171، 186، 175، 200، 213، 225، 234، 296، 333، 353، 639 6 - الزمخشري "الكشاف" 292، 315، 649 7 - الشافعي "الأم" 366، 532 و"إبطال الاستحسان" 367 8 - الطبري "جامع البيان" 20 9 - ابن عبد البر "التمهيد" و"الاستذكار" 339
10 - أبو عبيدة معمر بن المثنَّى "مجاز القرآن" 118، 67، 55، 182، 198، 209، 319، 321، 416، 420، 434 11 - عثمان بن سعيد الدارمي "نقض عثمان بن سعيد على بشْر المريسي" 383، 195 12 - أبو علي الفارسي "الحُجَّة للقرَّاء السبعة" 160، 197، 376 13 - أبو عمرو بن الحاجب "أماليه" 314 14 - الفرَّاء "معاني القرآن" 20، 21، 23، 83، 82، 95، 97، 105، 114، 118 , 157، 171، 175، 176، 185، 197، 211، 213، 296، 352، 358، 406، 407، 639، 435 15 - ابن قتيبة "تأويل مشكل القرآن" 30، 234، 274، 275 و"غريب القرآن" 422 16 - المبرِّد "الكامل" 434 17 - مقاتل بن سليمان "تفسيره" 23، 32، 67، 77، 95، 96، 104، 114، 116، 177، 185، 212، 213، 214، 226، 276، 264، 321،
329، 333، 357، 355، 400، 418 18 - النحَّاس "القطع والائتناف" 19 و"معاني القرآن" 20 19 - الواحدي "الوسيط" 97، 182، 292، 584 الثاني: ما لم نعرفه من مصادر المؤلِّف التي ينقل منها ابن القيم، وسببه كونها غير مطبوعة حتى الساعة، فاجتهدنا في محاولة معرفتها على وجه التقريب بناءً على ما ذكر في ترجمة العَلَم من مؤلفاته، وهؤلاء هم: 1 - الأخفش الأوسط, لعله من كتابه "إعراب القرآن" 18, 19, 209، 320 2 - أرسطو 539 3 - الأصمعي، لعله من كتابه "غريب القرآن" 359 4 - ابن الأعرابي، لعله من كتابه "النوادر" 359، 420 5 - جالينوس 503, 510 6 - أبو حاتم السجستاني، لعله من كتابه "إعراب القرآن" 18 7 - ابن حزم، لعله من كتابه "الأسماء الحسنى" 360 8 - أبو حمزة الثُّمالي، لعله من "تفسيره" 362 9 - أبو زيد سعيد بن أوس الأنصاري 358، 408
10 - أبو العباس ثعلب أحمد بن يحيى، لعله من كتابه "معاني القرآن" 31 11 - عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، لعله من "تفسيره" 47 12 - أبو عبيد القاسم بن سلاَّم، لعله من كتابه "معاني القرآن" 376 13 - أبو عثمان المازني، لعله من كتابه "في القرآن" 318 14 - عطية بن الحارث (أبو رَوْق الهمداني الكوفي)، لعله من "تفسيره" 212 15 - أبو العلاء الهَمَذاني الحافظ 304 16 - أبو القاسم الزجَّاجي 18 17 - الكسائي، لعله من كتابه "معاني القرآن" 85 18 - الليث بن المظفَّر (¬1) 56 , 175، 359، 406، 573 19 - المبرِّد، لعله من كتابه "معاني القرآن" 55، 157، 374، 376، 406، 420 20 - محمد بن أبي جعفر المنذري الخراساني (¬2) 52 ¬
21 - المهدوي أحمد بن عمَّار، لعله من كتابه "التفصيل الجامع لعلوم التنزيل" 291 22 - الواحدي، لعله من "البسيط" 19، 106، 187، 217، 211 23 - يونس بن حبيب الضَّبِّي، لعله من كتابه "معاني القرآن" 416 القسم الثالث: ما لم يصرِّح باسم المصدر ولا مؤلِّفه وعرفناه بتطابق المادة العلمية في الموارد الأخرى، وهذه الموارد هي: 1) "الوسيط" للواحدي، نقل منه مواطن في (ص/ 33، 32، 275). 2) "زاد المسير" لابن الجوزي، نقل منه موضعًا في (ص/ 160). 3) "المحرَّر الوجيز" لابن عطية، نقل منه موضعًا في (ص/ 231). 4) "البحر المحيط" لأبي حيَّان الأندلسي، نقل منه موضعين في (ص/ 315، 443).
أهمية الكتاب وأثره فيمن بعده
أهمية الكتاب وأثره فيمن بعده: كتاب "التبيان" جمع عدَّة صفاتٍ جعلت له الريادة في بابه، فمنها: 1 - تفرُّد الكتاب بأقسام القرآن تحليلًا وتفسيرًا. 2 - شمول الكتاب واستيعابه لموضوعه. 3 - قوَّة مادته العلمية وثراؤها. 4 - جلالة مؤلِّفه وشهرته بين العلماء، فهو مِلْءُ السمع والبصر. ولأجل ذلك احتفى به العلماء والأئمة، واستفادوا منه بما يناسب حاجتهم، وتناولوه -من عصر المؤلِّف إلى يومنا هذا- بطرقٍ شتى؛ فمن ذلك: * أنَّ منهم من اختصره وهذَّبه كما فعل شمس الدين محمد بن علي بن محمد بن طولون الدمشقي الحنفي الصالحي (953 هـ)، حيث اختصر الكتاب مع الحفاظ على ألفاظ المؤلِّف وعباراته، وحذف استطراداته، وسمَّاه: "خلاصة التبيان في أيمان القرآن". وأيضًا قام العلامة أحمد بن محمد القسطلاني (923 هـ) بتلخيص ما يتعلق برسالة الرسول - صلى الله عليه وسلم - ونبوَّته من الأقسام القرآنية في النوع الخامس من كتابه "المواهب اللَّدُنية" (3/ 187 - 216)، حيث قال: "وهذا النوع -أعزَّك الله- لخَّصتُ أكثره من كتاب "أقسام القرآن" للعلامة ابن القيم، مع زيادات من فرائد الفوائد". * ومنهم من اقتبس منه مواضع، ونقل مقاطع متفرقة؛ رصَّع كتابه بها إفادةً وإشادةً، كما فعل ذلك:
1 - الحافظ ابن حجر في "الفتح" (11/ 490) وموطن النقل في (ص/ 505 - 507). 2 - ابن أبي العزِّ الحنفي في "شرح العقيدة الطحاوية" (2/ 344 - 346) وموطن النقل في (ص/ 303 - 306). 3 - السيوطي في "الإتقان" (2/ 1051)، وفي "معترك الأقران" (1/ 453 - 455) بنفس ما في "الإتقان"، وموطن النقل في (ص/ 5 - 8، 7، 6 - 10 باختصار وحذف، 14 - 15، 40، 110). 4 - جمال الدين القاسمي في "محاسن التأويل" (4/ 493 - 494) وموطن النقل في (ص/ 649 - 651). * ومنهم من ناقشه في بعض قضايا القَسَم كما فعل العلامة عبد الحميد الفراهي (1349 هـ) في كتابه "إمعان في أقسام القرآن". * ومنهم من انتقده واعترض عليه في بعض المسائل الفرعية كما نقله العلامة محمد بن عبد الباقي الزرقاني (1122 هـ) عن بعضهم في "شرح المواهب" (6/ 213) وموطن النقل في (ص/ 111 - 112). * ومنهم -وهم غالب المتأخرين والمعاصرين- من تناوله بالتحليل والدراسة، وبيان منهجه وأسلوبه وتوضيح طريقته، ونحو ذلك ممَّا هو منثور في المقالات والدراسات القرآنية.
طبعات الكتاب
طبعات الكتاب: لشهرة الكتاب ومؤلِّفه، وعظيم نفعه، وغزارة فوائده، وجليل عوائده، وأهمية موضوعه = اعتنى به الطابعون من قديمٍ، حيث ظهرت طبعته الأولى قبل أكثر من قرن، ثُمَّ تتابعت طبعاته خاصة في الوقت القريب، وهاك ما وقفت عليه: 1 - المطبعة الميرية بمكة المكرمة، سنة (1321 هـ)، في (157) صفحة من القطع الكبير، قام بتصحيحها: عبد الحميد الفردوسي المكي الأفغاني. 2 - مطبعة محمد أفندي حجازي - مصر، بتصحيح: محمد حامد الفقي، سنة (1352 هـ - 1933 م). 3 - دار الطباعة المحمدية بالأزهر، بتصحيح فضيلة الشيخ: طه يوسف شاهين من علماء الأزهر، سنة (1388 هـ)، ثم صورت في دار الكتب العلمية، 4 - المؤسسة السعيدية بالرياض، حققه وضبطه ونسقه وصححه وعلق عليه: محمد زهري النجار، سنة (1979 م)، في مجلدين. 5 - دار إحياء العلوم - بيروت، قدم له وحققه وعلق عليه: محمد شريف سُكَّر، سنة (1409 هـ - 1988 م). 6 - مؤسسة الرسالة - بيروت، حققه وضبط نصه وفهرسه: عصام فارس الحرستاني، وخرج أحاديثه: محمد إبراهيم الزغلي، سنة (1414 هـ - 1994 م).
7 - دار الكتاب العربي - بيروت، علق عليه وصححه: فواز أحمد زمرلي، سنة (1415 هـ - 1994 م). 8 - دار الإيمان للطباعة والنشر والتوزيع - الإسكندرية، حققه وخرج أحاديثه: أبو عبد الرحمن عادل بن أحمد حامد محمد، سنة (2002 م). 9 - المكتبة العصرية - صيدا، اعتنى به وراجعه: محمد حسين عرب، سنة (1424 هـ - 2003 م). 10 - بيت الأفكار الدولية - لبنان، اعتنى به: أبو صهيب الكرمي، سنة (2004 م). ¬
نسخ الكتاب الخطية
نسخ الكتاب الخطية: يسَّر الله -عزَّ وجلَّ- الوقوفَ على ستِّ نسخٍ من الكتاب، وبيانها كالتالي: 1) النسخة (ز): وهي أقدم النسخ الكاملة، محفوظة في المكتبة الأزهرية ضمن مجموع يحمل رقم [182 مجاميع] 4485، كتبت سنة (766 هـ) بخط معتاد قديم قليل النقط، في بعض أوراقها آثار بلل، وعدد أوراق المجموع (176) ورقة (¬1)، يبدأ "كتاب التبيان" من 1 - 154، والناسخ هو: أحمد بن عيسى بن أبي القاسم المقدسي الحنبلي، الشهير بالدمشقي، وجاء في أثناء المخطوط في بعض أوراقه بالخط العريض عبارة: "وقف بخزانة الدمنهوري بالأزهر". 2) النسخة (ك): وهي نسخة عتيقة محفوظة في المكتبة الأزهرية (¬2) كتبت في نهار الاثنين السابع عشر من شوال سنة (798 هـ) كما جاء في آخرها، وخطها معتاد قديم جيد، ولم يذكر فيها اسم الناسخ، وقد سقط منها ورقة العنوان وقطعة من الربع الأول للكتاب وهو ما يقابل في المطبوع ¬
(ص/ 136 - 193)، وعددها (130) ورقة بترقيمي، وسبب ذلك أنَّ أوراق المخطوط تبعثرت فجاء جامعها وضمَّ بعضها إلى بعض اعتباطًا دون أن يرتب أوراق الكتاب! ثُمَّ رقَّمها ترقيمًا حديثًا متسلسلاً، فسقطت منه خمس صفحات تقريبًا من أماكن متفرقة في وسط الكتاب، فقمت بإعادة ترتيبها من جديد ثُمَّ رقمتها آخذًا في الاعتبار ما سقط من الصفحات، والله المستعان. 3) النسخة (ح): وهي نسخة المكتبة المحمودية برقم (88)، كتبت بخط معتاد واضح، ومشكولة في كثير من كلماتها، ولم يذكر اسم الناسخ ولا تاريخ النسخ، لكن نقدر نسخها تقريبًا في أواخر القرن الثامن أو أوائل القرن التاسع لشبْهه بخطوط أهل تلك الفترة، وقد حذف منها مقدمة المؤلّف، ولا أدري ما سبب ذلك؟ وفي صفحة العنوان عدَّة تملكات ووقفيات. 4) النسخة (ن): وهي نسخة جامعة برنستون - مجموعة جاريت (يهودا) رقم [(4579) 116]، وعنها صورة في مكتبة الملك فهد الوطنية بالرياض، وعدد أوراقها (94) ورقة، بها سقط كبير في الثلث الأخير من الكتاب، ولم يذكر اسم الناسخ ولا تاريخ النسخ، إلا أنَّنا نقدر نسخها في أواخر القرن الثامن أو أوائل القرن التاسح لشبه الخط بخطوط أهل تلك الفترة، وخطها قديم واضح، إلا أن الأوراق الأخيرة منها كتبت بخط مغاير. 5) النسخة (ط): وهي نسخة المكتبة البريطانية - قسم المجموعات الشرقية رقم (9062 OR)،
عدد أوراقها (166) ورقة، كتبت صبيحة نهار الثلاثاء الواقع ثاني شهر رجب المحرم سنة (1311 هـ) كما جاء في آخرها، بخط النسخ، والناسخ هو: محمد بن الشيخ عبد القادر المجذوب. وهي نسخة كثيرة التصحيف والبياض، أمَّا التصحيف فعيبه راجع إلى قلم الناسخ بلا شك، وأمَّا كثرة البياض في النسخة فقد جاء في آخر ورقة من المخطوط ما يبرره حيث كتبت هذه العبارة: "استنسخه: طاهر بن صالح الجزائري من نسخة مُحِيَت بعض سطورها لطول العهد، ولم توجد نسخة أخرى لتكميل النقص". وفي ورقة مستقلة تسبق ورقة العنوان جاءت عبارة وقفية للكتاب، ونصها: "بسم الله الرحمن الرحيم؛ يُعلم به من يراه بأنَّ هذا الكتاب وهو "أقسام القرآن" وما يليه من النسخ وهي "الأمثال" و"السياسة" و"الحسبة"؛ قد وقَفَهنَّ الرجل المكلَّف الأمثل الرشيد: سالم بن حمود آل عبيد ابن رشيد لوجه الله تعالى، وجعل النظر فيه ليعقوب بن محمد مدَّة حياته، ثُمَّ بعده على طلبة العلم من المسلمين، أشهدَ على ذلك أخيه ماجد، وسليمان بن ليلى، سنة (1307 هـ) ". 6 - النسخة (م): وهي نسخة محفوظة في مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية بالرياض برقم (2820 - 5 - ف) ضمن مجموع مُهدىً إلى المركز، وعدد أوراقه (170) ورقة، كتبت في نهار التاسع من ذي القعدة سنة (1346 هـ) كما جاء في آخرها، بخط النسخ المضبوط أحيانًا،
والناسخ هو: عبد العزيز بن حمد بن عيبان. وقد سقط من أولها مقدمة المؤلف للكتاب، وثَمَّ أماكن بها سقط يسير خاصة في أول النسخة، وفي هامشها تصحيحات وتصويبات بقلم الناسخ، وقد ظهر لي بالمقابلَة أنَّها منسوخة عن النسخة (ح). ولا يفوتنا هنا أن نتقدم بالشكر لكلٍّ من مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية، ومكتبة الملك فهد الوطنية -خاصة قسم المخطوطات فيهما- على تفضلهم بتصوير بعض النسخ الخطية التي اعتمدنا عليها، فلهم يد سابغة على العلم وأهله. ومن الجدير بالذكر أن للكتاب نسخًا أخرى ذكرها أصحاب الفهارس (¬1)، لكن ظهر لنا أن في بعضها أوهامًا، وبعضها الآخر متأخر يغني عنه ما ذكرناه، وبعضها طلبناه من محله فلم نعثر عليه! فاكتفينا بهذه النسخ السِّت وحصل الغنَاء بها، ولله الحمد والمنة. ¬
عملي في التحقيق
عملي في التحقيق: قمتُ في تحقيقي للكتاب بالخطوات التالية: - قارنتُ بين النسخ الخطية الستة، لكني جعلتُ النسخ (ز) و (ك) و (ح) و (ن) كالأصول في المقارنة، وأمَّا النسختان (م) و (ط) فمن باب النسخ المساندة، وهي تبعٌ للنسخ الأخرى. - سرتُ على طريقة النص المختار، فما غلب على ظنِّي أنه الصواب قدمته. - لم ألتفت إلى الفوارق غير المؤثِّرة، ولا إلى الأخطاء الإملائية أو النحوية. - إذا كانت الكلمة مصحَّفة أو محرَّفة فإني أُثبتُ الصواب من كتب اللغة وأُنبِّه على التصحيف والتحريف، فإذا احتاج النصُّ إلى إضافة لتقويمه أضفتُه وجعلتُه بين معكوفين []. - وكذا إذا كان في بعض النسخ إتمام للآية وبعضها يرمز إلى آخرها فإني قد أتمها وقد أترك ذلك بما يناسب المقام دون الإشارة إليه، وكذا ألفاظ التقديس والتعظيم كـ (تعالى، وسبحانه، و-عزَّ وجلَّ-)، أو ألفاظ التكريم والتبجيل كالترضِّي والترحُّم والإمامة، وكذا كتابة (فصلٌ) أثناء الكتاب فإني أثبته دون الإشارة إليه لكثرته؛ وخاصة أن بعض النسخ قد تركت محله بياضًا أو لم يظهر في التصوير. - خرَّجتُ الأحاديث والآثار؛ فإن كان الحديث في الصحيحين أو أحدهما اكتفيتُ بالعزو إليهما، وإن كان في غيرهما خرَّجته من كتب السنَّة وبيَّنتُ درجته بحسب المنقول عن أئمة هذا الشأن.
- عزوتُ الأقوال إلى أصحابها بقدر جهدي، ثم وثَّقتُ هذه النصوص من مصادرها. - ترجمتُ لبعض الأعلام ممن رأيتُ أنَّ القاريء يحتاج إلى الكشف عنه، ولهذا لم أترجم للصحابة لشهرتهم، ولا للمعروفين من الأعلام. - بيَّنتُ غريب اللغة وكشفتُ عن معانيها. - وعزوتُ الشعر إلى دواوين شعرائه أو إلى من ينقل عنه إن لم يكن له ديوان. - علَّقتُ على ما أراهُ يحتاج إلى تعليق أو استدراك أو تنبيه. - راعيتُ في ذلك كله قواعد الإملاء، وعلامات الترقيم، مع تفقير الجُمَل والعبارات. - كتبتُ مقدِّمةً للتحقيق بينتُ فيها منزلة القَسَم عند العرب، وأنواع أقسام القرآن الكريم، وما في ذلك من مصنفات، مع أشتاتٍ من النكت والفوائد المتعلِّقة بالقَسَم، ثم تكلمت عن الكتاب في مباحث متعددة. - وأخيرًا ختمتُ التحقيق بفهارس لفظية وعلمية تفتح للقارئ فوائد الكتاب وتقرِّب شوارده. اللهم صلِّ وسلِّم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
الصفحة الأولى من (ح)
الصفحة الأخيرة من (ح)
الصفحة الأولى من (ن)
الصفحة الأخيرة من (ن)
الصفحة الأخيرة من (ك)
الصفحة الأولى من (م)
الصفحة الأخيرة من (م)
الصفحة الأولى من (ز)
الصفحة الأخيرة من (ز)
الصفحة الأولى من (ط)
الصفحة الأخيرة من (ط)
مقدمة المؤلف
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (¬1) الحمد لله ربِّ العالمين، والعاقبة للمتقين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ربُّ العالمين، وقيُّومُ السمواتِ والأرضين. وأشهد أنَّ محمدًا عبدُه ورسولُه، المبعوثُ بالكتاب المبين، الفارق بين الغَيِّ والرَّشَادِ، والهُدَى والضلالِ، والشَّكِّ واليقينِ، صلَّى الله عليه وعلى آله الطَّيِّبِين الطَّاهِرين، صلاةً دائمةً بدوام السموات والأرضين. وبعد: فهذا كتابٌ صغير الحجم، كبير النفع، فيما وقع في القرآن العزيز من الأيْمَانِ والأقْسَام، والكلام عليها يَمِينًا (¬2)، وارتباطها بالمُقْسَمِ عليه، وذكر أجوبة القَسَم المذكورة [و] (¬3) المقدَّرة، وأسرار هذه الأقْسَام، فإنَّ لها شأنًا عظيمًا يعرفه الواقف عليه في هذا الكتاب، وسَمَّيتُه: "كتابَ التِّبْيانِ في أيْمَانِ القرآنِ". واللهُ المسؤولُ أن ينفع به من قرأه وكتبه ونظر فيه، وأن يجعله خالصًا لوجهه الكريم (¬4)، سببًا لمغفرته. فما كان فيه من صوابٍ فمِنَ الله فَضلاً ومِنَّةً، وما كان فيه من خطأ فَمِنِّي ومن الشيطان (¬5)، والله ورسوله بريئان منه. ¬
فيا أيُّها القارئُ؛ لك غُنْمُه، وعلى مؤلِّفه غُرْمُه، ولم يَأْلُ في معرفة المراد (¬1)، والله وليُّ التوفيق والسَّدَاد، وهو حسبنا ونعم الوكيل. ¬
يقسم سبحانه بنفسه المقدسة أو آياته
اعلم أنَّ الله (¬1) -سبحانه- يُقْسِمُ بأمورٍ على أمورٍ، وإنَّما يُقْسِم بنفسِهِ [المُقَدَّسَةِ] (¬2) الموصُوفَةِ بصفاتِه، أو آياتِه المستلزِمة لِذَاتِه وصفاتِه، وإقْسَامُه ببعض المخلوقات دليلٌ على أنَّه من عظيم آياته. فالقَسَمُ: إمَّا على جملةٍ خبريةٍ -وهو الغالب- كقوله تعالى: {فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ} [الذاريات/ 23]. وإمَّا على جملةٍ طلبيةٍ، كقوله -عزَّ وجلَّ-: {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (92) عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (93)} [الحجر/ 92 - 93]. مع أنَّ هذا القَسَمَ قد يُرَادُ به تحقيقُ المُقْسَم عليه، فيكون من باب الخبر، وقد يراد به تحقيق القَسَم. والمُقْسَمُ عليه يُرَاد بالقَسَم توكيدُهُ وتحقيقُهُ، فلا بدَّ أن يكون ممَّا يَحْسُن فيه ذلك، كالأمور الغائبةِ والخَفِيَّة إذا أُقْسِمَ على ثبوتها. فأمَّا الأمور المشهودة (¬3) الظاهرة كالشمس، والقمرِ، واللَّيلِ، والنَّهارِ، والسماءِ، والأرضِ، فهذه يُقْسَمُ بها ولا يُقْسَمُ عليها. وما أقْسَمَ عليه الرَّبُّ -سبحانه- فهو من آياته، فيجوزُ أن يكون مُقْسَمًا به، ولا ينعكس. ¬
تارة يذكر جواب القسم وتارة يحذف
فهو -سبحانه- يذكر جوابَ القَسَم تارةً -وهو الغالب-، وتارةً يحذفه، كما يحذف جواب "لو" كثيرًا، كقوله تعالى: {كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ (5)} [التكاثر/ 5] وقوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى} [الرعد/ 31]، {وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلَائِكَةُ} [الأنفال/ 50]، {وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُوا فَلَا فَوْتَ} [سبأ/ 51]، {وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى رَبِّهِمْ} [الأنعام/ 30]. ومثل هذا حذفه من أحسن الكلام؛ لأنَّ المراد: "أنَّك لو رأيتَ ذلك لرأيت (¬1) هَولاً عظيمًا"، فليس في ذكر الجواب زيادةٌ على ما دلَّ (¬2) عليه الشَّرطُ. وهذه (¬3) عادةُ النَّاس في كلامهم، إذا رَأَوا أمورًا عجيبةً وأرادوا أن يُخبروا بها لغائبٍ عنها؛ يقول أحدُهم: لو رأيتَ ما جرى يوم كذا (¬4) بموضع كذا. ومنه قوله تعالى: {وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ (165)} [البقرة/ 165]، فالمعنى -في أظهر الوجهين-: لو يَرى الذين ظلموا في الدنيا إذ يرون العذاب في الآخرة، والجواب محذوف (¬5). ثُمَّ قال بعد ذلك: {أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا}. كما ¬
قد يتكرر القسم دون إعادة المقسم عليه
قال تعالى: {وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُوا فَلَا فَوْتَ} [سبأ/ 51]، {وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلَائِكَةُ} [الأنفال/ 50]، أي: لو تَرى ذلك الوقت وما فيه. وأمَّا المُقْسَمُ [عليه] (¬1)، فإنَّ الحالِفَ قد يحلف على الشيء ثُمَّ يكرِّرُ القَسَمَ ولا يعيد المُقْسَم عليه، لأنَّه قد عُرِفَ ما يحلف عليه، فيقول: واللهِ إنَّ لي عليه ألفَ درهمٍ، ثُمَّ يقول: ورَبِّ السماءِ والأرضِ، والذي نفسي بيده، وحَقِّ القرآنِ العظيمِ، ولا يعيدُ المُقْسَمَ عليه، لأنَّه قد عُرِفَ المُرادُ. والقَسَمُ لمَّا كان يكثر في الكلام اختُصِرَ، فصارَ فِعْلُ القَسَم يُحذَف ويكتفى بـ"الباء"، ثُمَّ عُوِّض من "الباءِ": "الواوُ" في الأسماء الظاهرة، وبـ"التاء" في اسم الله كقوله تعالى: {وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ} [الأنبياء/ 57]، وقد نُقِل: "تَرَبِّ الكعبةِ" (¬2)، وأمَّا "الواو" فكثيرٌ. ¬
فصل: قسمه سبحانه إنما يكون على أصول الإيمان
فصل إذا عُرِف هذا؛ فهو -سبحانه- يُقْسِمُ على أصول الإيمان، التي يجب على الخلق معرفتُها: تارةً يُقْسِمُ على (¬1) التوحيد، وتارةً يُقْسِمُ على أنَّ القرآنَ حقٌّ، وتارة على أنَّ الرسولَ حقٌّ، وتارةً على الجزاء والوعد والوعيد، وتارةً على حال الإنسان. فالأوَّل: كقوله تعالى: {وَالصَّافَّاتِ صَفًّا (1) فَالزَّاجِرَاتِ زَجْرًا (2) فَالتَّالِيَاتِ ذِكْرًا (3) إِنَّ إِلَهَكُمْ لَوَاحِدٌ (4)} [الصافات/ 1 - 4]. والثاني: كقوله تعالى (¬2): {فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ (75) وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ (76) إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (77)} [الواقعة/ 75 - 77]. وقوله: {حم (1) وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ} [الدخان/ 1 - 3]. و {إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا} [الزخرف/ 3] إذا جُعِل ذلك جواب القسم كما هو الظاهر. وإن قيل: بل الجوابُ محذوفٌ؛ كان كقوله: {ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ (1)} [ص/ 1]، فإنه هنا حذفَ الجواب (¬3). ومن قال: إنَّ الجواب هو قوله: {إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ (64)} [ص/ 64]؛ فقد أَبْعَدَ النُّجْعَةَ (¬4). ¬
جاء القسم على الجزاء والمعاد في ثلاث آيات
والقَسَمُ على الرسول - صلى الله عليه وسلم -؛ كقوله: {يس (1) وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ (2) إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (3) عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (4)} [يس/ 1 - 4] إذا قيل هو الجواب. وإن قيل: الجوابُ محذوفٌ؛ كان كما ذُكِر. ومنه قوله تعالى: {ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ (1) مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ (2)} [القلم/ 1 - 2]. ومنه: {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى (1) مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى (2)} [النجم/ 1 - 2] إلى آخر القصة. ومنه قوله تعالى: {فَلَا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ (38) وَمَا لَا تُبْصِرُونَ (39) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (40) وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ} الآية [الحاقة/ 38 - 41]. وأمَّا القَسَم على الجزاء والوعد والوعيد؛ ففي مثل قوله تعالى: {وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا (1)} [الذاريات/ 1] إلى آخر القَسَم، ثُمَّ ذَكَر تفصيل الجزاء، وذَكَر الجنَّة والنَّار، وذكر أنَّ في السماء رزقكم وما توعدون، ثمَّ قال: {فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ (23)} [الذاريات/ 23]. ومثل قوله تعالى: {وَالْمُرْسَلَاتِ عُرْفًا (1)} إلى قوله: {إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَوَاقِعٌ (7)} [المرسلات/ 1 - 7]. ومثل: {وَالطُّورِ (1) وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ (2)} إلى قوله: {إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ (7) مَا لَهُ مِنْ دَافِعٍ (8)} [الطور/ 1 - 8]. وقد أمر نبيَّه أن يُقْسِمَ على الجزاء والمَعَاد في ثلاث آيات: 1 - فقال تعالى: {زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ} الآية [التغابن/ 7].
2 - وقال تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ} [سبأ/ 3]. 3 - وقال تعالى: {وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ} [يونس/ 53]. وهذا لأنَّ المَعَادَ إنَّما يعلَمُه عامَّة النَّاس بإخبار الأنبياء، وإن كان من النَّاس من قد يعلمه بالنَّظَر. وقد تنازع النُّظَارُ في ذلك؛ فقالت طائفةٌ: إنَّه لا يمكن عِلْمُه إلا بالسَّمْع -وهو الخبر-؛ وهو قول من لا يرى تعليل الأفعال، ويقول: لا ندريَ ما يفعل اللهُ إلا بعَادَةٍ أو خَبَرٍ، كما يقول جَهْمٌ ومن اتبعه، والأشعريُّ وأتباعه، وكثيرٌ من أهل الكلام والفقه والحديث من أتباع الأئمة الأربعة. بخلاف العلم بالصَّانِعٍ -سبحانه- فإنَّ النَّاسَ متفقون على أنَّه يُعْلَمُ بالعقل، وإن كان ذلك ممَّا نبَّهَتْ عليه الرُّسُلُ. وصفاتُه قد تُعْلَمُ بالعقل، وتُعْلَم بالسَّمْع -أيضًا- كما قد بُسِطَ في موضعٍ آخر (¬1). وأمَّا القَسَم على أحوال الإنسان؛ فكقوله تعالى: {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى (1)} إلى قوله: {إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى (4)} [الليل/ 1 - 4] الى آخر السورة. ¬
ولفظ "السَّعيِ" هو: العمل، لكن يراد به العمل الذي يهتمُّ (¬1) به صاحبُه، ويجتهد فيه [ن/ 2] بحسب الإمكان؛ فإن كان يفتقر إلى عَدْوِ بَدَنِهِ عَدَا، وإن كان يفتقر إلى جمْع أعوانٍ جَمَع، وإن كان يفتقر إلى تفرُّغٍ له وتَرْكِ غيرِه؛ فَعَل ذلك. فلفظ "السَّعْي" في القرآن جاء بهذا الاعتبار، ليس هو مُرادِفًا للفظ العمل كما ظنَّهُ طائفةٌ، بل هو عملٌ مخصوصٌ يهتَمُّ به (¬2) صاحبه، ويجتهد فيه، ولهذا قال في الجُمُعَة: {فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الجمعة/ 9]، وهذه أحسن من قراءة من قرأ: {فامْضُوا إلى ذكر الله} (¬3). وقد ثبت في "الصحيح" عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنَّه قال: "إذا أُقِيمَت الصَّلاَةُ فلا تأتوها (¬4) تَسْعَون، وأْتُوها تمشُون، وعليكم السَّكِينةُ، فما أدركتُم فصَلُّوا، وما فَاتكُم فأتِمُوا" (¬5)، فلم ينْهَ عن السَّعْي إلى الصلاة؛ فإنَّ الله -تعالى- أمرَ بالسَّعْي إليها، بل نَهَاهُم أن يأتوها يَسْعَون، فنَهَاهُم عن الإتيان المُتَّصِفِ بسعي صاحبه، والإتيانُ فِعْلُ البَدَن، وسَعْيُهُ عَدْوُ البدن، وهذا منهيٌّ عنه. ¬
وأمَّا السَّعْيُ المأمورُ به في الآية فهو الذهابُ إليها على وجهِ الاهتمامِ بها، والتفرُّغِ لها عن الأعمال الشاغلة، من بيعٍ وغيره، والإقبال بالقلب على السعي إليها (¬1). وكذلك قوله -عزَّ وجلَّ- في قصة فرعون لمَّا قال له موسى: {هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى} إلى قوله -عزَّ وجلَّ-: {ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَى (22) فَحَشَرَ فَنَادَى} [النازعات/ 18 - 23]، فهذا اهتمامٌ واجتهادٌ في حَشْدِ (¬2) رعيته، ومناداته فيهم. وكذلك قوله: {وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا} [البقرة/ 205] هو عَمَلٌ بهِمَّةٍ واجتهادٍ. ومنه سُمِّيَ السَّاعي على الصدقة، والسَّاعي على الأرْملةِ واليتيم. ومنه قوله تعالى: {إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى (4)} [الليل/ 4]؛ وهو العمل الذي يقصده صاحبه ويعتني به، لِيَتَرَتَّبَ (¬3) عليه ثوابٌ أو عقابٌ، بخلاف المباحات المعتادة، فإنَّها لم تدخل في هذا السَّعْي، قال تعالى: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى (6)} [الليل/ 5 - 6] الآية وما بعدها. ومنه قوله تعالى: {وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ} [الإسراء/ 19]. وقوله -عزَّ وجلَّ-: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا} [المائدة/ 33]. ¬
فصل: قسمه سبحانه على عاقبة الإنسان هو قسم على الجزاء
فصل وأقْسَمَ على صفة الإنسان بقوله سبحانه [ن/2]: {وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا (1)} إلى قوله: {إِنَّ الْإِنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ (6)} [العاديات/ 1 - 6]. وأقسم على عاقبته، وهو قَسَمٌ على الجزاء؛ في قوله: {وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2)} [العصر/ 1 - 2] إلى آخر السورة. وفي قوله تعالى: {وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ (1)} إلى قوله: {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ (4) ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ (5) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [التين/ 1 - 6]. وحَذَفَ جوابَ القَسَم؛ لأنَّه قد عُلِم أنَّه يُقْسِمُ على هذه الأمور، وهي متلازمة، فمتى ثبت أنَّ الرسول حق ثبت القرآنُ والمَعَادُ، ومتى ثبت أنَّ القرآن حقٌّ ثبت صدق الرسول الذي جاء به (¬1)، ومتى ثبت أنَّ الوعد والوعيد حقٌّ ثبت صدقُه وصدقُ الكتاب الذي جاء به. والجوابُ يُحذَف تارةً ولا يُراد ذِكْرُه، بل يراد تعظيمُ المُقْسَمِ به، وأنَّه ممَّا يُحلَفُ به، كقول النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: "من كان حالفًا فَلْيَحلِفْ باللهِ أو لِيَصْمُتْ" (¬2). لكن هذا في الغالب يُذْكَرُ معه الفعلُ دون مجرَّدِ حرف القَسَم، كقولك: فلانٌ يَحْلِفُ باللهِ وحده، وأنا أحلفُ بالخالق لا بالمخلوق، ونحوِ ذلك -فالنصرانيُّ يحلفُ بالصليب والمسيح-، وفلانٌ أكذَبُ ما ¬
وقد يحذف وهو مراد لكنه عرف بدلالة الحال أو السياق
يكون إذا حلف بالله. وقد يكون هذا النَّوع (¬1) بحرف القَسَم مجرَّدًا، كما في الحديث: كانت أكثرُ يمينِ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - "لا، ومُقَلِّب القُلُوبِ" (¬2). وكان بعض السلف إذا اجتهد في يمينه قال: "واللهِ الذي لَا إله إلَا هو". وتارةً يُحذَفُ الجوابُ وهو مرادٌ؛ إمَّا لكونه قد ظَهَر وعُرِف: إمَّا بدلالة الحال -كمن قيل له: كُلْ، فقال: لا؛ واللهِ الذي لا إله إلا هو-، أو بدلالة السياق. وأكثر ما يكون هذا إذا كان في نفس المُقْسَمِ به ما يَدُلُّ على المُقْسَم عليه، وهي طريقة القرآن، فإنَّ المقصود يحصل بذكر المقسَم به (¬3)، فيكون حَذْفُ المُقْسَم عليه أبلغَ وأوجزَ؛ كمن أراد أن يُقْسِمَ على أن الرسولَ حقٌّ، فقال: والذي أرسلَ محمدًا - صلى الله عليه وسلم - بالهدى ودين الحقِّ، وأيَّدَهُ بالآياتِ البينات، وأظهرَ دعوته، وأَعْلَى كلمته، ونحو ذلك؛ فلا يحتاج إلى ذكر الجواب، استغناءً عنه بما في القَسَم من الدلالة عليه. وكَمَن أراد أن يُقسِم على التوحيدِ، وصفاتِ الرَّبِّ ونعوتِ جلاله، فقال: واللهِ الذي لا إله إلا هو، عالمِ الغيب والشهادةِ، الرحمنِ الرحيمِ، الأوَّلِ الآخِرِ، الظاهرِ الباطنِ. وكمن أراد أن يقسم على علُوّه فوق عرشه، فقال: والذي استوى ¬
جواب القسم في "ص" محذوف، هذا قول أكثر المفسرين
على عرشه فوق سمواته، يصعد إليه الكَلِمُ الطَّيِّبُ، وتُرفَعُ إليه الأيدي، وتَعْرُجُ الملائكةُ والرُّوحُ إليه، ونحو ذلك (¬1). وكذلك من حَلَفَ لشخصِ أنَّه يُحِبُّهُ ويُعَطمُه، فقال: والذي ملأ قلبي من محبتِكَ وإجلالِكَ ومَهَابتِكَ ... ؛ ونظائر ذلك = لم يحتج إلى ذكر الجواب، وكان في المُقْسَم به ما يدلُّ على المُقْسَمِ عليه. فمن هذا قوله [ز/ 4] تعالى: {ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ (1)} [ص/ 1]، فإنَّ في المُقْسَم به من تعظيم القرآن، ووَصْفِه بأنَّه ذُو الذِّكر -المتضمِّن لتذكير العباد ما يحتاجون إليه-، وللشَّرَفِ، والقَدْر = ما يدلُّ على المُقْسَم عليه، وهو كونه حقًّا من عند الله، غير مفترىً كما يقوله الكافرون. هذا معنى قول كثير من المفسِّرين -متقدِّميهمِ ومتأخِّريهم-: إنَّ الجوابَ محذوفٌ، تقديرُه: إنَّ القرآن لَحَقٌّ. وهذا مطَّرد في كلِّ ما شابَهَ ذلك. وأمَّا قول بعضهم (¬2): إنَّ الجوابَ قوله تعالى: {كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ} [ص/ 3] فاعتَرَضَ بين القَسَم وجوابه بقوله: {بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ (2)} [ص/ 2] = فبعيدٌ؛ لأنَّ "كَمْ" لا يُتَلَقَّى بها القَسَم، فلا تقول: واللهِ كم أنفقتُ مالاً، وباللهِ كم أعتقتُ عبدًا. وهؤلاء لمَّا لم يخْفَ عليهم ذلك احتاجوا إلى أن يقدِّروا "لامًا" ¬
يُتَلقَّى (¬1) بها الجواب، أي: لَكَمْ أهلكنا. وأبعد من هذا قول من قال (¬2): الجواب في قوله: {إِنْ كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ} [ص/ 14]. وأبعد منه قول من قال: [ح/4] الجواب: {إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِنْ نَفَادٍ (54)} [ص/ 54]. وأبعد منه قول من قال (¬3): الجواب قوله: {إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ (64)} [ص/ 64]. وأقرب ما قيل في الجواب لفظًا (¬4)، وإن كان بعيدًا معنىً ما ذكر عن قتادة وغيره: إنَّه في قوله تعالى: {بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ (2)} (¬5) ¬
[ص/ 2]، كما قال تعالى: {ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ (1) بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ [ن/3] مُنْذِرٌ مِنْهُمْ} [ق/ 1 - 2]. وشرح صاحب "النَّظْم" (¬1) هذا القول (¬2)، فقال: "معنى "بل" توكيد الخبر الذي بعده، فصار كـ"إنَّ" الشديدة في تثبيت ما بعدها. فـ"بَلْ" ههنا بمنزلة "إنَّ"؛ لأنَّه يؤكِّد ما بعده من الخبر، وإن كان له معنىً سواه في نفي خبرٍ متقدِّمٍ، فكأنَّه -عزَّ وجلَّ- قال: "ص والقرآن ذي الذِّكْر، إنَّ الذين كفروا في عِزَّةٍ وشقاقٍ"، كما تقول: والله إنَّ زيدًا لَقَائمٌ". ¬
قال: "واحتجَّ صاحبُ هذا القول بأنَّ هذا النَّظْمَ وإن لم يكن للعرب فيه أصلٌ، ولا لها فيه رسمٌ، فيحتمل أن يكون نظمًا أحدثه الله -عزَّ وجلَّ-، لما بينَّا من احتمال "بل" بمعنى "إنَّ"" انتهى (¬1). وقال أبو القاسم الزجَّاجيُّ (¬2): "قال النحويون: إنَّ "بَلْ" تقع في جواب القَسَم، كما تقع "إنَّ"؛ لأنَّ المراد بها توكيد الخبر" (¬3). وهذا القول اختيار أبي حاتم (¬4)، وحكاه الأخفش (¬5) عن الكوفيين. ¬
وقرَّرَهُ بعضُهم بأن قال: "أصل الكلام: "بل الذين كفروا في عزَّةٍ وشقاقٍ، والقرآن ذي الذِّكْر"، فلمَّا قُدِّم القسَمُ تُرِك على حاله". قال الأخفش: "وهذا يقوله الكوفيون، وليس بجيدٍ في العربية، لو قلتَ: واللهِ قام، وأنتَ تريد: قام واللهِ، لم يَحْسُن". وقال النحَّاس (¬1): "هذا خطأ على مذهب النحويين؛ لأنَّه إذا ابتدأ بالقَسَم وكان الكلام معتمِدًا عليه؛ لم يكن بُدٌّ من الجواب، وأجمعوا أنَّه لا يجوز "واللهِ قام عمروٌ"، بمعنى "قام عمروٌ واللهِ"، لأنَّ الكلام يعتمد على القَسَم" (¬2). وذكر الأخفشُ وجهًا آخر في جواب القَسَم، فقال: "يجوز أن يكون لـ"ص" معنىً يقع عليه القَسَم، لا ندري نحن ما هو، كأنَّه يقول: الحقُ واللهِ". قال أبو الحسن الواحديُّ (¬3): "وهذا الذي قاله الأخفش صحيح ¬
المعنى على قول من يقول: {ص} الصادق الله، أو صَدَقَ محمد - صلى الله عليه وسلم - ". وذكر الفرَّاء (¬1) هذا الوجه -أيضًا- فقال: " {ص} جواب القَسَم". وقال: "هو كقولك: وجَبَ واللهِ، ونَزَلَ واللهِ، فهي جوابٌ لقوله: {وَالْقُرْآنِ} " (¬2). وذكر النحَّاسُ وغيرُه وجهًا آخر في الجواب، وهو أنَّه محذوفٌ تقديره: والقرآن (¬3) ذي الذِّكْر، ما الأمرُ كما يقوله هؤلاء الكفار. ودلَّ على المحذوف قوله تعالى: {بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا} (¬4). وهذا اختيار ابن جرير (¬5)، وهو مخرَّجٌ من قول قتادة، وشَرَحه الجُرْجَانيُّ (¬6)، فقال: ""بَلْ" رافِعٌ لخبرٍ قبله، ومثبتٌ لخبرٍ بعدَه، فقد ظهر ما بعده، وأُضْمِرَ ما قبله، وما بعده دليلٌ على ما قبله، فالظاهر يدلُّ على الباطن، فإذا كان كذلك وجَبَ أن يكون قوله: {بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ (2)} مخالفًا لهذا المُضْمَر، فكأنَّهُ قيل: والقرآن ذي الذِّكْر إنَّ ¬
جواب القسم في "ق" كالقول في جواب "ص"
الذين كفروا يزعمون أنَّهم على الحق، أو كلامًا في هذا المعنى". فهذه ستة [ز/ 5] أوجهٍ سوى ما بدأنا به في جواب القَسَم (¬1)، والله أعلم. ونظير هذا قوله تعالى: {ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ (1) بَلْ عَجِبُوا} [ق/1 - 2]. وقيل: جواب القسم {قَدْ عَلِمْنَا}. وقال الفرَّاء: "محذوفٌ، دلَّ عليه {أَإِذَا مِتْنَا} أي: لتُبْعَثُنّ" (¬2). وقيل: هو {بَلْ عَجِبُوا}، كما تقدَّم بيانُه. ¬
فصل: القسم في سورة القيامة
فصل ومن ذلك قوله تعالى: {لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ (1) وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ (2)} [القيامة/ 1 - 2]، فقد تضمَّن هذا الإقسام ثبوتَ الجزاء، ومستَحَقَّ الجزاء (¬1)، وذلك يتضمَّن إثبات: الرِّسَالةِ، والقرآنِ، والمَعَادِ. وهو -سبحانه- يُقْسِم على هذه الأمور الثلاثة، ويقرِّرُها أبلغ التقرير، لحاجة النفوس إلى معرفتها، والإيمان بها، وأمر رسوله - صلى الله عليه وسلم - أن يُقْسِم عليها، كما: 1 - قال تعالى: {وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ} [يونس/ 53]. 2 - وقال تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ} [سبأ/3]. 3 - وقال تعالى: {زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (7)} [التغابن/ 7]. وقد تقدَّم (¬2) إقسامُه عليها في ثلاثة مواضعَ من كتابه لا رابع لها (¬3)، يأمر رسوله - صلى الله عليه وسلم - أن يُقْسِم على ما أقْسَمَ عليه هو -سبحانه- من: النُّبوَّةِ، والقرآنِ، والمَعَادِ. فأقسم -سبحانه- لعباده، وأمَرَ أَصْدَق خَلْقِه أن يُقْسِم [ح/ 5] لهم، ¬
وأقام البراهين القطعيَّةَ على ثبوت ما أقسم عليه، فأبى الظالمون إلا جحودًا وتكذيبًا. واختُلِفَ في "النَّفْسِ" المُقْسَم بها ههنا، هل هي خاصَّةٌ أو عامَّة؟ على قولين [ن/ 4]، بناءً على الأقوال الثلاثة في "اللوَّامة": فقال ابن عباس: "كلُّ نفسٍ تَلُومُ نفسَها يوم القيامة؛ يَلُومُ المُحْسِنُ نفسه (¬1) أن لا يكون ازداد إحسانًا، ويَلومُ المُسِيء نفسه أن لا يكون رجع عن إساءته". واختاره الفرَّاء؛ قال: "ليس من نفسٍ، بَرَّةٍ ولا فاجرةٍ، إلا وهي تلوم نفسها، إن كانت عملت خيرًا قالت: هَلاَّ ازددتُ؟ وإن كانت عملت سوءًا، قالت: ليتني لم أفعل" (¬2). والقول الثاني: أنَّها خاصَّةٌ. قال الحسن: "هي النَّفْسُ [ك/ 5] المؤمنة، فإنَّ المؤمن -واللهِ- لا تَرَاهُ إلا يَلُوم نفسه على كلِّ حالِهِ، لأنَّه يَسْتَقْصرُها في كلِّ ما تفعل، فيندمُ ويلومُ نفسَهُ، وإنَّ الفاجر يمضي قُدُمًا، لا يعاتبُ نفسَهُ" (¬3). والقول الثالث: أنَّها النَّفْس الكافرة وحدها، قاله: قتادة، ومقاتل (¬4)؛ هي النَّفْس الكافرة تلوم نفسها في الآخرة على ما فرَّطَت في ¬
أمر (¬1) الله. قال شيخنا (¬2): "والأظهر أنَّ المرادَ نفسُ الإنسانِ مطلقًا، فإنَّ نفسَ كلِّ إنسانٍ لوَّامَةٌ، كما أقسم بجنس "النَّفْس" في قوله: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8)} [الشمس/ 7 - 8]، فإنَّه لا بدَّ لكلِّ إنسانٍ أن يلوم نفسَه أو غيرَه على أمرٍ. ثُمَّ هذا اللَّومُ قد يكون محمودًا، وقد يكون مذمومًا، كما قال تعالى: {فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَلَاوَمُونَ (30) قَالُوا يَاوَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ (31)} [القلم/ 30 - 31]، وقال تعالى: {يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ} [المائدة/ 54]، فهذا اللَّومُ غير محمود. وفي "الصحيحين" (¬3) في قصة احتجاج آدم وموسى: "أَتَلُومني على أمرٍ قدَّرَهُ اللهُ عليَّ قبل أن أُخْلَق؟ " قال: فحَجَّ آدمُ موسى (¬4) ... الحديث. فهو -سبحانه- يُقْسمُ على صفة "النَّفْس اللوَّامة" كقوله: {إِنَّ الْإِنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ (6)} [العاديات/6]، وعلى جزائها كقوله: ¬
{فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (92) عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (93)} [الحجر: 92، 93] , وعلى تباين عملها كقوله: {إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى (4)} [الليل: 4]. وكلُّ نفسٍ لوَّامةٌ، فالنَّفْسُ السعيدة (¬1) تلوم على فعلِ الشَّرِّ، وتركِ الخير، فتبادر إلى التوبة، والنَّفْسُ الشَّقِيَّةُ بالضدِّ من ذلك. وجمع -سبحانه- في القَسَمَ بين: مَحَلِّ الجَزَاءِ وهو يوم القيامة، ومَحَلِّ الكَسْبِ وهو "النَّفْس اللوَّامة". ونبَّهَ -سبحانه- بكونها "لوَّامَةً" على شِدَة حاجتها وفاقتها وضرورتها إلى من يُعَرِّفُها الخيرَ والشَّرِّ، ويَدُلُها عليه، ويرشدُها إليه، ويُلْهمُها إيَّاه؛ فيجعلَها مريدةً للخير، مُؤثِرةً له، كارهةً للشَّرِّ، مُجَانبةً له، لتَخْلُصَ من اللَّوم، أو من سوء عاقبة ما تلوم عليه. ولأنَّها متلوِّمةٌ متردِّدةٌ لا تَثبُتُ على حالٍ وِاحدةٍ؛ فهي محتاجةٌ إلى من يُعَرِّفُها ما هو أنفع لها في مَعَاشِها ومَعَادِها فتُؤثِرُهُ، وتَلُومُ نفسَها عليه إذا فاتها، فَتَتُوبُ منه إن كانت سعيدةً، ولتقوم عليها حُجَّةُ عَدْلِهِ، فيكون لَوْمُها في القيامة لنفسها عليه لَوْمًا بِحَقٍّ، قد أعذَر اللهُ خالقُها وفاطرُها إليها فيه. ففي صفة "اللَّوْم" تنبيهٌ على ضرورتها إلى التصديق بالرِّسَالة والقرآن، وأنَّها لا غنى لها عن ذلك، ولا صلاح ولا فلاح بدونه أَلْبَتَّةَ. ولمَّا كان يومُ مَعَادِها هو مَحَلُّ ظهور هذا اللَّوْم، وترتُّبِ أثره عليه = قَرَنَ بينهما في الذِّكْرِ. ¬
فصل: القسم في سورة الشمس
فصل ومن ذلك (¬1) قوله تعالى: {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا (1) وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا (2)} إلى قوله: {فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8)} [الشمس/ 1 - 2، 8]. قال الزجَّاج (¬2) وغيرُه: "جواب القسم: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9)}، ولمَّا طالَ الكلامُ حَسُن حذف "اللَّام" من الجواب" (¬3). وقد تضمَّن هذا القَسَمُ الإقسامَ بالخلاق والمخلوقِ، فأقسم بالسماءِ وبانيها، والأرضِ وَطَاحِيها، والنَّفْسِ ومُسَوِّيها (¬4). ¬
وقد قيل: إنَّ "ما" مصدريَّة (¬1)، فيكون الإقسامُ بنفس فعله تعالى، فيكون قد أقسم بالمصنوع الدَّالِّ عليه سبحانه، وبصنعته الدَّالَّةِ على كمال علمه، وقدرته، وحكمته، وتوحيده. ولمَّا كانت حركة الشمس والقمر، والليل والنَّهار؛ أمرًا يشْهَدُ النَّاسُ حُدُوثَهُ شيئًا فشيئًا، ويعلمون أنَّ الحادث لابدَّ له من مُحْدِث = كان العلم بذلك منزَلاً منزلة ذكر المُحْدِثِ له لفظًا، فلم يذكر الفاعل في الأقسام الأربعة الأُوَل. ولهذا يسلُكُ طائفةٌ من النُّظَار الاستدلالَ بالزَّمان على الصانع، وهو استدلالٌ صحيحٌ؛ قد نبَّهَ عليه القرآنُ في غير موضع، كقوله تعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ (190)} [آل عمران: 190]. ولمَّا كانت السماءُ والأرضُ ثابتتين -حتَّى ظَنَّ من ظَنَّ أنَّهما قديمتان (¬2) - ذكر مع الإقسام بهما بانيهما ومبدعهما، وكذلك "النَّفْس"؛ فإنَّ حدوثَها غيرُ مشهودٍ، حتَّى ظنَّ بعضُهم قِدَمَها، فذَكَرَ مع الإقسام بها مُسَوِّيها وفاطِرَها، هذا مع ما في ذكر بناءِ السماء، وطَحْوِ الأرض، وتسوية "النَّفْس"؛ من الدلالة على الرحمة والحكمة والعناية بالخلق، فإنَّ بناء السماء يدلُّ على أنَّها كالقُبَّةِ العالية على الأرض، وجعلها سقفًا لهذا العالم. ¬
و"الطَّحْو": هو مَدُّ الأرض وبسطُها (¬1)، وتوسيعُها ليستقرَّ عليها (¬2) الأنامُ والحيوانُ، ويمكن فيها البِنَاء (¬3) والغِرَاس والزرع، وهو متضمِّنٌ لِنُضُوب الماء عنها، وهو مِمَّا حيَّرَ عقولِ الطبائعيين، حيث كان مقتضى الطبيعة أن تَغْمُرَها كثرةُ الماء، فبُروزُ جانب منها عن الماءِ على خلاف مقتضى الطبيعة، وكَوْنُه هذا الجانب المعيَّن دون غيره، مع استواء الجوانب في الشكل الكُري؛ يقتضي تخصيصًا، فلم يجدوا بُدًّا من أن يقولوا: عِنَايةُ الصانع اقتضت (¬4) ذلك. قلنا: فنَعَمْ إذًا, ولكن عناية من لا مشيئةَ له، ولا إرادةَ، ولا اختيارَ، ولا علمًا بمعيَّن أصلًا -كما تقولونه فيه-: محالٌ، فعنايته تقتضي ثبوت صفاتِ كماله، ونعوتِ جلاله، وأنَّه الفعَّال يفعل باختياره ما يريد. وكذلك "النفسُ"؛ أقسمَ بها وبمن سوَّاها، وألهمها فجورها وتقواها، فإنَّ من النَّاس من يقول: هي قديمةٌ لا مبدع لها. ومنهم من يقول: بل هي التي تبدع فجورها وتقواها (¬5)، فذكر -سبحانه- أنَّه هو الذي سوَّاها وأبدعَها، وأنَّه هو الذي ألهمها الفجور والتقوى. فأعلمنا أنَّه خالق نفوسنا وأعمالها، وذكر لفظ "التسوية" -كما ذكره في قوله تعالى: {مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ (6) الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ ¬
الصحيح أن الضمير المرفوع في "زكاها" عائد على "من"، وله نظائر
{فَعَدَلَكَ (7)} [الانفطار: 6 - 7] , وفي قوله -عزَّ وجلَّ-: {فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي} [الحجر: 29]- إيذانًا بدخول البدن في لفظ "النَّفْس"، كقوله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ} [الأعراف: 189] وقوله تعالى: {فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ} [النور: 61]. {وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} [النساء: 29] , {لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا} [النور: 12] , ونظائره، وباجتماع "الرُّوح" مع البدن تفسير "النَّفْس" فاجرةً أو تقيةً، وإلا فـ "الرُّوح" بدون البدن لا فجور لها. وقوله تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9)} [الشمس: 9]؛ الضمير المرفوع في {زَكَّاهَا (9)} عائدٌ على (¬1) "مَنْ"، وكذلك هو في {دَسَّاهَا (10)}، والمعنى قد أفلح من زكَّى نفسه، وقد خاب من دَسَّاها. هذا هو القول الصحيح (¬2)، وهو نظير قوله: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى (14)} [الأعلى: 14] , وهو -سبحانه- إذا ذكر الفلاح علَّقَهُ بفعل المُفْلح، كقوله: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ (2)} [المؤمنون: 1 - 2] إلى آخر الآيات، وقوله: {أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5)} [البقرة: 5] بعد قوله: {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ} [البقرة: 3] , وقوله: {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (51)} [النور: 51] ونظائره. قال الحسن: "قد أفلح من زكَّى نفسه وحملها على طاعة الله، وقد ¬
خاب من أهلكها وحَمَلَها على معصية الله"، وقاله: قتادة (¬1). وقال ابن قتيبة: "يريد: أفلح من زكَّى نفسه أي: أَنْماها وأَعْلاَها بالطاعةِ، والبِرِّ، والصدقةِ، والكفِّ عن المعاصي، والتنافُسِ في الدرجات (¬2)، واصطناع المعروف، وقد خاب من دسَّاها أي: نقصها وأخفاها بترك عمل ذلكَ البِرِّ، وركوب المعاصي. والفاجرُ -أبدًا- خفيُّ المكانِ، زَمِرُ (¬3) المُرُوءَةِ، غامضُ الشَّخْصِ، ناَكِسُ الرأسِ، فكأنَّ النَّطِفَ (¬4) بارتكاب الفواحِشِ دَسَّ نفسَهُ وقمَعَها، ومُصْطَنِعَ المعروفِ شَهَر نفسَهُ ورفَعَها. وكانت أجوادُ العرب تنزل الرُّبَا ويَفَاع (¬5) الأرض لِتَشْهَرَ بها أنفسَها للمُعْتَفِين (¬6)، وتوقدُ النيران في الليل للطارقين. وكانت اللئام تنزلُ ¬
الأوْلاَجَ، والأطرافَ، والأهضام (¬1) لتُخْفِي أنفسَها وأماكنَها على الطالبين، فأولئك أعلَوا أنفُسَهم وزكَّوها، وهؤلاء أخفَوا أنفسَهم ودَسَّوها. وأنشد في ذلك: وبَوَّأْتَ بيتكَ في مَعْلَمٍ ... رَحيبِ المَباءَةِ والمَسْرَحِ كَفَيْتَ العُفَاةَ طِلاَبَ القِرَى ... ونَبْحَ الكِلاَبِ لِمُسْتنبِحِ" (¬2) وقال أبو العباس (¬3): سألتُ ابنَ الأعرابي (¬4) عن قوله: {وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا (10)} فقال: "دسَّ" معناه: دسَّ نفسَه مع الصالحين وليس ¬
ذهبت طائفة من السلف إلى أن الضمير يرجع إلى الله سبحانه، والجواب عنه
منهم" (¬1). وعلى هذا فالمعنى (¬2): أخفى نفسه في الصالحين، يُرِي النَّاسَ أنَّه منهم وهو مُنْطَوٍ على غير ما ينطوي عليه الصالحون (¬3). وقال طائفةٌ أخرى: الضمير يرجع إلى الله سبحانه وتعالى. قال ابن عباس -في رواية عطاء-: "قد أفلَحَت نَفْسٌ زكَّاها اللهُ، فأصلَحَها" (¬4). وهذا قول: مجاهد، وعكرمة، والكلبي، وسعيد بن جبير، ومقاتل (¬5)، قالوا: سَعِدَتْ نَفْسٌ وأفلَحَت نفسٌ أصلحها الله، وطهَّرها، ووفَّقَها للطاعة، حتَّى عملت (¬6) بها، وخابَتْ وخَسِرَتْ نَفْسٌ أضلَّها اللهُ، ¬
وأغواها، وأبطلَها، وأهلكَها (¬1). قال أرباب هذا القول: قد أقسم الله -تعالى- بهذه الأشياء التي ذكرها؛ لأنَّها تدلُ على وحدانيته، وعلى فلاح مَنْ طَهَّره، وخسارة من خَذَلَهُ، حتَّى لا يظُن أحدٌ أنَّه هو الذي يتولَّى تطهيرَ نفسه، وإهلاكَها بالمعصية؛ من غير قَدَرٍ سابقٍ، وقضاءٍ متقدِّمٍ (¬2). قالوا: وهذا أبلغ في التوحيد الذي سيقت له هذه السورة. قالوا: ويدلُّ عليه قوله: {فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8)} [الشمس: 8]. قالوا: ويشهد له حديث نافع بن عمر (¬3)، عن ابن أبي مُلَيكة، عن عائشة -رضي الله عنها- أنَّها قالت: انتبهتُ ليلة؟ فوجدتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم -وهو يقول: "ربِّ؛ أعْطِ نفسي تقواها، وزكِّها أنتَ خير من زكَّاها، أنت وَليُّها ومولاها" (¬4). ¬
قالوا: فهذا الدعاء هو تأويل الآية، بدليل الحديث الآخر: أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - كان إذا قرأ: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9)} وقَفَ، ثُمَّ قال: "اللَّهُمَّ؛ آتِ نفسي تقواها، أنت وليُّها ومولاها، وزكِّها أنت خير من زكَّاها" (¬1). قالوا: وفي هذا ما يبيِّنُ أنَّ الأمر كلَّه له سبحانه، فإنَّه هو (¬2) خالق ¬
"النَّفْس"، وهو مُلْهِمُها الفجورَ والتقوى، وهو مُزَكِّيها ومُدَسِّيها، فليس للعبد في الأمر شيءٌ، ولا هو مالكٌ من أمر (¬1) نفسه شيئًا. قال أرباب القول الأوَّل: هذا القول، وإن كان جائزًا في العربية، حملًا للضمير المنصوب على معنى "مَنْ"، وإن كان لفظها (¬2) مذكَّرًا؛ كما في قوله عزَ وجل: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ} [يونس: 42] , جَمَعَ الضمير وإن كان لفظ "مَنْ" مفردًا، حَمْلًا على معناها (¬3) = فهذا إنَّما يحسن حيث لا يقع لَبْسٌ في مفسَّر الضمائر، وها هنا قد تقدَّم لفظ "مَنْ"، والضمير المرفوع في {زَكَّاهَا (9)} يستحقُّه لفظًا ومعنىً، فهو أَولى به، ثُمَّ يعود الضمير المنصوب على "النَّفْس" التي هي أولى به لفظًا ومعنًى، فهذا هو النظم الطبيعي الذي يقتضيه سياق الكلام ووضعه. وأمَّا عَوْدُ الضمير الذي يلي "مَنْ" على الموصول السابق وهو قوله: {وَمَا سَوَّاهَا (7)}، وإخلاءُ جاره الملاصق له -وهو "مَنْ" (¬4) - مِن عَوده إليه، ثُمَّ عَوْدُ الضمير المنصوب -وهو مؤنَّثٌ- على "مَنْ"، ولفظه يُذكَر دون "النَّفْس" المؤنثة = فهذا يجوز لو لم يكن للكلام محمَلٌ غيره أحسن منه، فأما إذا كان سياقُ الكلام ونظمُه يقتضي خلافه، ولم تَدْعُ الضرورة إليه؛ فالحَمْلُ عليه ممتنعٌ. قالوا: والقول الذي ذكرناه أرجح من جهة المعنى لوجوه: ¬
أحدها؛ أنَّ فيه إشارة إلى ما تقدَّم من تعليق الفلاح على فعل العبد واختياره كما هي طريقة القرآن، الثاني: أنَّ فيه زيادة فائدة؛ وهي إثبات فعل العبد وكسبه، وما يثاب ويعاقب عليه، وفي قوله: {فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8)} إثبات القضاء والقدر السابق. فتضمَّنَت الآيتان هذين الأصلين العظيمين، وهما كثيرًا ما يقترنان في القرآن كقوله: {إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ (54) فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ (55) وَمَا يَذْكُرُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [المدثر: 54 - 56] وقوله: {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ (28) وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (29)} [التكوير: 28، 29]، فتضمَّنت الآيتان الردِّ على "القَدَرِيَّة" و"الجَبْرِيَّة". الثالث: أنَّ قولنا يستلزم قولكم، دون العكس؛ فإنَّ العبد إذا زكَّى نفسه ودسَّاها: فإنِّما يزكّيها بعد تزكية الله لها بتوفيقه وإعانته، وإنَّما يُدَسِّيها بعد تَدْسِيَة الله لها بخذلانه، والتخلية بينه وبين نفسه. بخلاف ما إذا كان المعنى على القَدَرِ المحض، لم يبق للكسب وفعل العبد ها هنا ذكرٌ أَلْبَتَّةَ.
فصل: الحكمة في ذكر ثمود دون غيرهم من الأمم في سورة الشمس
فصل وذكر في هذه السورة ثمودَ دون غيرهم من الأمَم المكذِّبة؛ قال شيخنا: "هذا -والله أعلم- من باب التنبيه بالأدنى على الأعلى، فإنَّه لم يكن في الأُمَم المكذِّبة أخفُّ ذنبًا وعذابًا منهم، إذ لم يُذْكَر عنهم من الذنوب ما ذُكِر عن عاد، ومدين، وقوم لوط، وغيرهم. ولهذا لمَّا ذكرهم وعادًا قال: {فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ (15) ... وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى} [فصلت: 15 - 17]. وكذلك إذا ذكرهم مع الأمم المكذِّبة لم يذْكُر عنهم ما يذْكُر عن أولئك من التجبُّر والتكبُّرِ، والأعمالِ السيئة، كاللِّوَاط، وبَخْسِ المكيال والميزان, والفسادِ في الأرض، كما في "سورة هود" و"الشعراء" وغيرهما. فكان في قوم لوط -مع الشرك- إتيان الفواحش التي لم يُسْبَقُوا إليها. وفي عاد -مع الشرك- التجبُّر, والتكبُّرُ، والتوسُّعُ في الدنيا، وشدَّةُ البَطْش، وقولهم: {مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً}. وفي أصحاب مدين- مع الشرك- الظلمُ في الأموال. وفي قوم فرعون الفسادُ في الأرض، والعلُوُّ. وكان عذابُ كلِّ أُمَّةٍ بحسب ذنوبهم وجرائمهم؛ فعذَّبَ عادًا بالرِّيح الشديدة العَاتِيَةِ، التي لا يقوم لها شيءٌ.
وعذَّبَ قومَ لوط بأنواع من العذاب لم يعذب بها أُمَّةً غيرهم؛ فجمع لهم بين الهلاكِ، والرَّجمِ بالحجارة من السماء، وطَمْسِ الأبصار، وقَلْب ديارهم عليهم بأنْ جعل عاليها سافلها، والخَسْفِ بهم إلى أسفل سافلين. وعذبَ قومَ شعيب بالنَّار التي أحرقتهم وأحرقت تلك الأموال التي اكتسبوها (¬1) بالظلم والعدوان. وأمَّا ثمود فأَهلكَهم بالصيحة، فماتوا في الحال. فإذا كان هذا عذابَهُ لهؤلاء، وذنبهم مع الشرك عَقْرُ ناقةٍ واحدةٍ جعلها اللهُ آيةَ لهم؛ فمن انتَهَكَ محارمَ اللهِ، واستخفَّ بأوامره ونواهيه، وعَقَر عباده، وسفك دماءهم = كان أشدَّ عذابًا. ومن اعتبر أحوال العالم (¬2) قديمَا وحديثًا، وما يُعَاقَبُ به من سَعَى في الأرض بالفساد، وسَفَكَ الدماء بغير حقٍّ، وأقامَ الفتن، واستهانَ بحرمات الله = عَلِم أنَّ النَّجَاة في الدنيا والآخرة للذين آمنوا وكانوا يتقون" (¬3). قلتُ: وقد يظهر في تخصيص ثمود بالذِّكر ها هنا -دون غيرهم- معنىً آخر، وهو أنَّهم رَدُّوا الهُدَى بعد ما تيقَّنُوه وكانوا مستبصرين به، قد ثَلِجَتْ له صدورُهم، واستيقنَتْهُ أنفسُهم، فاختاروا عليه العمَى ¬
والضلالة، كما قال -تعالى- في وَصْفِهم (¬1): {وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى} [فصلت: 17] وقال تعالى: {وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً} [الإسراء: 59] أي: مُوجبَةً لهم التبصُّر واليقين، وإن كان جميع الأمَم المُهْلَكَةِ هذا شأنهم؛ فإن الله لم يُهْلِك أُمَّةً إلا بعد قيام الحُجَّةِ عليها, لكن خُصَّت ثمود من ذلك الهُدَى والبصيرة بمزيد، ولهذا لمَّا قَرَنَهم بـ "عادٍ" قال: {فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ} الآية [فصلت/ 15] , ثُمَّ قال: {وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى} [فصلت: 17]. ولهذا أَمْكَنَ عادًا المُكابَرَةُ، وأن يقولوا لنبيِّهم: {مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ} [هود: 53] , ولم يمكن ذلك ثمودًا، وقد رأَوا البيِّنَةَ عِيَانًا، وصارت لهم بمنزلة رؤية الشمس والقمر، فرَدُّوا الهُدَى بعد تيقُّنهِ والبصيرةِ التامَّةِ به، فكان في تخصيصهم بالذِّكر تحذيرٌ لكلِّ من عرف الحقَّ ولم يتَّبعْهُ، وهذا داء أكثر الهالكين، وهو أَعَمُّ الأدواء وأغلبُها على أهل الأرض، والله سبحانه وتعالى أعلم. ¬
فصل: القسم في سورة الفجر
فصل ومن ذلك قوله تعالى: {وَالْفَجْرِ (1) وَلَيَالٍ عَشْرٍ (2) وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ (3) وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ (4) هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ (5)} [الفجر: 1 - 5]. قيل (¬1): جوابه قوله تعالى: {إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ (14)} [الفجر: 14]. وهذا ضعيفٌ لوجهين: أحدهما: طولُ الكلام والفصل بين القَسَم وجوابه بِجُمَلٍ كثيرةٍ. والثاني: أنَّ قوله: {إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ (14)} ذُكِر تقريرًا لعقوبةِ اللهِ الأُمَمَ المذكورةَ وهي: عادٌ، وثمودُ، وفرعونُ. فذكر عقوبتهم ثُمَّ قال مقرّرًا ومحذِّرًا: {إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ (14)}، أفلا (¬2) ترى تعلُّقَهُ بذلك دون القَسَم؟! وأحسن من هذا أن يقال: إنَّ "الفجرَ" و"اللياليَ العشر" زمنٌ يتضمَّنُ أفعالاً معظَّمَةً، و"العشر" هو عشر ذي الحِجَّة وهو يتضمَّنُ أفعالاً معظَّمَةً (¬3) من المناسك، وأمكنةً معظَّمَةً، وهي مَحَلُّها، وذلك من شعائر الله المتضمِّنَةِ خضوع العبد لربِّه، فإنَّ الحجَّ والنُّسُكَ عبوديةٌ محضةٌ لله، وذُلٌّ وخضوعٌ لعظمته. وذلك ضدُّ ما وصف به عادًا، وثمودًا، وفرعونَ؛ من العُتُوِّ والتكبُّر والتجبُّرِ؛ فإنَّ النُّسُكَ يتضمَّنُ غاية الخضوع لله، وهؤلاء ¬
المراد بالفجر في السورة
الأُمَم عَتَوا وتكبَّرُوا عن أمر ربِّهم. وفي "صحيح البخاري" عن ابن عباس -رضي الله عنهما- عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "ما مِنْ أيامٍ العَمَلُ الصالحُ فيهنَّ أحبُّ إلى الله من هذه الأيام العَشْرِ" قيل: يا رسول الله؛ ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: "ولا الجهاَدُ في سبيلِ اللهِ، إلَّا رجلٌ خَرَجَ بنفسِه ومالِه ثُمَّ لم (¬1) يرجع من ذلك بشيء" (¬2). فالزَّمَانُ المتضمِّنُ لمثل هذه الأعمال أهلٌ أن يُقْسِمَ الرَّبُّ -عزَّ وجلَّ- به. {وَالْفَجْرِ (1)}: - إن أُريد به جِنس "الفجر" -كما هو ظاهر اللفظ- فإنَّه يتضمَّنُ وقت صلاة الصبح، التي هي أوَّل الصلوات. فافتتح القَسَم بما يتضمَّنُ أوَّل الصلوات، وختمه بقوله: {وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ (4)} المتضمِّن لآخر الصلوات. وإن أُريد بـ "الفجر" فجر مخصوصٌ، فهو فجرُ يوم النَّحْرِ وليلته، التي هي ليلة عرفة، فتلك الليلة من أفضل ليالي العام، وما رُئي الشيطانُ في ليلة أَدْحَر، ولا أَحْقَر، ولا أَغْيَظ منه فيها (¬3). وذلك "الفجر": فجر ¬
يوم النَّحْر، الذي هو أفضل الأيام عند الله، كما ثبت عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنَّه قال: "أفضلُ الأيامِ عندَ اللهِ يومُ النَّحْر" (¬1) رواه أبو داود بإسنادٍ صحيح. وهو آخر أيام العشر، وهو يوم "الحجِّ الأكبر"، كما ثبت في "صحيح البخاري" وغيره (¬2)، وهو اليوم الذي أذَّنَ فيه مؤذِّنُ رسولِ الله ¬
- صلى الله عليه وسلم -: "إنَّ اللهَ بريءٌ من المشركين ورسولُهُ، وأنْ لا يَحُجَّ بعدَ العام مُشْركٌ، ولا يطوفَ بالبيتِ عُرْيَان" (¬1). ولا خلاف أنَّ المؤذِّنَ أذَّنَ بذلك في يوم النَّحْر، لا في يوم عرفة، وذلك بأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، امتثالاً وتأويلاً للقرآن. وعلى هذا قد تضمَّنَ القَسَمُ: المناسِكَ، والصلوات، وهما المختصَّان بعبادة الله، والخضوع له، والتواضع لعظمته، ولهذا قال الخليل عليه السلام: {إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162)} [الأنعام: 162] , وقيل لخاتم الرُّسُل - صلى الله عليه وسلم -: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ (2)} [الكوثر: 2] , بخلاف حال المشركين المتكبِّرين الذين لا يعبدون الله وحده، بل يشركون به، ويستكبرون عن عبادته، كحال من ذُكِر في هذه السورة من قوم عاد، وثمود، وفرعون. وذكر -سبحانه- من جملة هذه الأقسام: الشَفْع، والوتر؛ إذ هذه الشعائرُ المعظَّمَةُ منها شَفْعٌ، ومنها وِتْرٌ؛ في: الأمكنةِ، والأزمنةِ، والأعمالِ. فـ "الصَّفَا" و"المَرْوَة" شَفْعٌ، و"البيت" وترٌ، و"الجمرت" وترٌ، و"مِنَى" و"من دلفة" شَفْعٌ، و"عرفة" وترٌ. ¬
وأمَّا الأعمال: فالطواف وترٌ، وركعتاه شَفْعٌ (¬1)، والطواف بين "الصَّفَا" و"المَرْوَة" وترٌ، ورمي " الجمَار" وترٌ, كلُّ ذلك سَبْعٌ سَبْعٌ، وهو الأصل، فـ "إنَّ اللهَ وِتْرٌ، يحَبُّ الوِتْرَ" (¬2). والصلوات منها شَفْعٌ، ومنها وِتْرٌ، والوتر يُويرُ الشَفْع، فتكون كلُّها وترًا، كما قال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "المغربُ وِتْرُ النَّهَارِ، فأَوترُوا صلاةَ الليل" رواه الإمامُ أحمد (¬3). وفي "الصحيح" عنه - صلى الله عليه وسلم - قال: "صلاةُ الليل مَثْنَى مَثْنَى، فإذا خشيتَ الصُّبْحَ فأَوتِرْ بواحدةٍ، تُوتِرُ لك ما قد صلَّيتَ" (¬4). وأمَّا الزَّمان: فإنَّ يومَ عرفة وترٌ، ويومَ النَّحْر شَفْعٌ، وهذا ¬
اختلاف السلف في المراد بالشفع والوتر
قول أكثر المفسِّرين (¬1). وروى مجاهد، عن ابن عباس: "الوتر: آدم، وشُفِعَ بزوجته حوَّاء". وقال في رواية أخرى: "الشَّفْع: آدم وحوَّاء، والوتر: الله وحده". وعنه روايةٌ ثالثةٌ: "الشَّفْع: يوم النَّحْر، والوتر: ثلاثة أيام بعده". وقال ابن الزبير: "الشَّفْع: يومان بعد يوم النَّحْر، والوتر: اليوم الثالث". وقال عمران بن حصين، وقتادة: "الشَّفْع والوتر هي الصلاة"، ورُوي فيه حديثٌ مرفوع (¬2). ¬
وقال عطيَّة العَوفي (¬1): "الشَّفْع: الخَلْق، قال الله تعالى: {وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجًا (8)} [النبأ: 8] والوتر: هو الله". وهذا قول الحَكَم (¬2)، قال: "كلُّ شيءٍ شَفْعٌ، واللهُ وترٌ". وقال أبو صالح (¬3): "خلق الله من كلِّ شيءٍ زوجين اثنين، واللهُ ¬
وترٌ (¬1) واحدٌ". وهذا قول مجاهد، ومسروق. وقال الحسن: "الشَّفْع والوتر: العددُ كلُه منه شَفْعٌ ووترٌ". وقال ابن زيد (¬2): "الشَّفْع والوتر: الخلقُ كلُّه، منه شَفْعٌ، ومنه (¬3) وترٌ" (¬4). وقال مقاتل (¬5): "الشَّفْع: الأيام والليالي، والوتر: اليوم الذي لا ليلة بعده، وهو يوم القيامة". وذُكِرَتْ أقوالٌ أُخَر، هذه أصولها، ومدارُها كلُّها على قولين: أحدهما: أنَّ "الشَّفْع" و"الوتر" نوعَا المخلوقات، والمأمورات (¬6). والثاني: أنَّ "الوترَ" الخالقُ، و"الشَّفْعَ" المخلوقُ. وعلى هذا القول فيكون قد جمع في القَسَم بين الخالق ¬
والمخلوق، فهو نظير ما تقدَّم في قوله تعالى: {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا (1)} [الشمس: 1] , وفي قوله: {وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ (3)} [البروج: 3] , وفي قوله: {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى (1) وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى (2) وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى (3)} [الليل: 1 - 3]. وقال ها هنا: {وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ (4)} [الفجر: 4] , وفي "سورة المدثر" أقسَمَ بالليل إذا أدبر، وفي "سورة التكوير" أقسَمَ بالليل إذا عَسْعَس (¬1)، وقد فُسِّر بـ "أَقْبَل"، وفُسِّر بـ "أَدْبَر"؛ فإن كان المراد إقباله فقد أقسَمَ بأحوال الليل الثلاثة، وهي: حالةُ إقباله، وحالةُ امتدادِه وسريانه، وحالةُ إدباره، وهي من آياته الدالَّةِ عليه سبحانه. وعرَّفَ "الفجر" باللَّام إذ كلُّ أحدٍ يعرفه، ونكَّرَ الليالي العشر؟ لأنَّها إنَّما تُعرف بالعلم. وأيضًا؛ فإنَّ في التنكير تعظيمًا لها، فإنَّ التنكير يكون للتعظيم. وفي تعريف "الفجر" ما يدلُّ على شهرته، وأنَّه "الفجر" الذي يعرفه كلُّ أحدٍ ولا يجهله. فلمَّا تضمَّن هذا القَسَمُ تعظيمَ ما جاء به إبراهيم ومحمد - صلَّى الله عليهما وسلم - كان في ذلك ما دلَّ على المُقْسَمِ عليه، ولهذا عقَّبَ القَسَم بقوله تعالى: {هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ (5)} [الفجر: 5] فإنَّ عظمة هذا المُقْسَم به يُعرف بالنُّبوَّة، وذلك يحتاج إلى حِجْرٍ يَحْجُرُ صاحبَه عن الغفلة واتباع الهوَى، ويحمله على اتباع الرُّسُل، لئلا يصيبه ما أصاب من كذَّب الرُّسُل بـ: عاد، وفرعون، وثمود. ¬
ولمَّا تضمَّن ذلك مَدْحَ الخاضعين والمتواضعين؛ ذكرَ بعد ذلك حال المتكبِّرين المتجبِّرين الطاغين، ثُمَّ أخبر أنَّه صبَّ عليهم سَوْط عذاب؛ أي: سوطًا من عذاب. ونكَره: إمَّا للتعظيم؛ وإمَّا لأنَّ يسيرًا من عذابه استأصلهم وأهلكهم، ولم يكن لهم معه بقاءٌ ولا ثباتٌ. ثُمَّ ذكر حال المُوَسَّع عليهم في الدنيا والمُقَتَّرِ عليهم، وأخبر أنْ توسعته على من وَسَّع عليهَ -وإن كان إكرامًا له في الدنيا- فليس ذلك إكرامًا على الحقيقة، ولا يدلُ على أنَّه كريمٌ عنده، ولا هو (¬1) من أهل كرامته ومحبته، وأنَّ تقتيره على من قتر عليه لا يدلُّ على إهانته له، وسقوط منزلته عنده، بل يوسِّع ابتلاءً وامتحانًا، ويقتِّر ابتلاءً وامتحانًا، فيبتلي بالنِّعَم كما يبتلي بالمصائب، وهو -سبحانه- يبتلي عبدَهُ بنعمةٍ تجلب له أُخرى، وبنعمةٍ تجلب له نِقْمةً، وبنقْمةٍ تجلب له أخرى، وبنقمةٍ تجلب له نعمةٍ (¬2)، فهذا شأنُ نِعَمِهِ ونقَمِهِ سبحانه. وتضمَّنَت هذه السورة ذَمَّ من اغترَّ بقوّته، وسلطانِه، ومالِه، وهم هؤلاء الأُمَم الثلاثة: "قوم عاد": اغترُّوا بقوَّتهم. و"ثمود": اغترُّوا بجِنَانهم، وعيونهم، وزروعهم، وبساتينهم. و"قوم فرعون": اغترُّوا بالمال والرِّيَاسَة. ¬
فصارت عاقبتهم إلى (¬1) ما قصَّ الله علينا، وهذا شأنه -دائمًا- مع كلِّ من اغترَّ بشيءٍ من ذلك، لابدَّ أن يُفْسِدَهُ عليه، ويسْلُبَهُ إيَّاه. ثُمَّ ذكر -سبحانه- حالَ الإنسان في معاملته لمن هو أضعفُ منه؛ كاليتيم والمسكين، فلا يُكْرِمُ هذا, ولا يَحُضُّ على إطعام هذا. ثُمَّ ذكر حرصَ الإنسان على جمع المال وأكله، وحُبِّه له، وذلك هو الذي أوجب له (¬2) عدمَ رحمته لليتيم والمسكين. ثُمَّ ختم السورة بمدح "النَّفْس" المطمئنَّة، وهي الخاشعة المتواضعة لربِّها، وما تؤول إليه من كرامته ورحمته، كما ذكر قبلَها حالَ "النَّفْسِ" الأمَّارة، وما تؤول إليه من شدَّةِ عذابه وَوَثَاقِهِ. ¬
فصل: القسم في سورة البلد
فصل وأمَّا سورة {لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ (1)} فذُكِرَ فيها جوابُ القَسَم، وهو قوله: {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ (4)} [البلد: 4]. وفُسِّر "الكَبَدُ": بالاستواء وانتصاب القَامَة. قال ابن عباس -في رواية مِقْسَم (¬1) عنه-: "مستقيمٌ منتصِبٌ على قدميه" (¬2). وهذا قول: أبي صالح، والضحَّاك، وإبراهيم (¬3)، وعكرمة، وعبد الله ¬
ابن شدَّاد (¬1). قال المنذري (¬2): "سمعت أبا طالب (¬3) يقول: "الكَبَد": الاستواء والاستقامة" (¬4). وفُسِّر بالنَّصَب. هذا قول: مجاهد، وسعيد بن جبير، والحسن. ورواية عن: علي، وابن عباس. قال الحسن: "لم يخلق الله خليقةً تكابد ما يكابد ابن ¬
آدم" (¬1). وقال سعيد بن أبي الحسن (¬2): "يكابد مصائب الدنيا، وشدائد الآخرة" (¬3). وقال قتادة: "يكابد أمر الدنيا والآخرة، فلا تلقاهُ إلا في مشقَّةٍ". وروى ابن جُريج، عن عطاء، عن ابن عباس قال: "يعني: حَمْلَهُ، وولادتَهُ، ورضاعَهُ، وفِصَالَهُ، ونَبْتَ أسنانه، وحياتَهُ، ومعاشَهُ، وموتَهُ؛ كل ذلك شِدَّة" (¬4). قال مجاهد: "حملته أُمُّه كُرْهًا، ووضعته كُرْهًا، ومعيشته في ¬
شِدَّة، فهو يكابد ذلك". وعلى هذا: "الكَبَدُ": من مكابدة الأمر، وهي معاناة شدَّته ومشقَّته. والرجلُ يكابدُ الليل: إذا قاسى هَوْلَه وصعوبته. و"الكَبدُ": شِدَّة الأمر، ومنه تكبَّد اللَّبَنُ: إذا غَلُظَ واشتدَّ. ومنه "الكَبِد"؛ لأنِّها دَمٌ يَغْلُظ ويَشْتدُّ. وانتصابُ القامة والاستواء من ذلك، لأنِّه إنَّما يكون عن قوَّة وشدَّةٍ. فالإنسان مخلوقٌ في شِدَّةٍ، بكونه (¬1) في "الرَّحِم"، ثُمَّ في القِمَاط (¬2) والرِّبَاط، ثُمَّ هو على خطر عظيم عند بلوغه حال التكليف، ومكابدة المعيشة، والأمر والنهي، ثُمَّ مكابدة الموت وما بعده في البرزخ، وموقف القيامة، ثُمَّ مكابدة العذاب والنَّار، ولا راحة له إلا في الجنَّة. وفُسِّر "الكَبَدُ" بشدَّةِ الخَلْق، وإحكَامه، وقوَّته، ومنه قول لبيد (¬3): يا عينُ (¬4) هَلا بَكَيْتِ أَرْبَدَ، إذْ ... قُمْنَا وقامَ الخُصُومُ في كَبَدِ؟ أي: في شِدَّةٍ وعَنَاءٍ (¬5). ¬
تفسير "الأسر"
وهذا يشبه قوله تعالى: {نَحْنُ خَلَقْنَاهُمْ وَشَدَدْنَا أَسْرَهُمْ} [الإنسان: 28] , قال ابن عباس: "أي: خَلْقَهُم" (¬1). وقال أبو عبيدة (¬2): "الأسْر": شِدَّةُ الخَلْق، يقال: فَرَسٌ شديدُ الأسْر". قال: "وكُلُّ شيءٍ شَدَدْتَهُ من قَتَبٍ أو غَبِيطٍ (¬3) فهو مأْسُور" (¬4). وقال المُبرِّد (¬5): ""الأسْر": القُوَى كلُّها" (¬6). ¬
وقال الليث (¬1): "الأَسْر": قوَّةُ المفاصِل والأوصال، وشدَّ اللهُ أَسْر فلان، أي: قوَّى (¬2) خلْقَه، وكلُّ شَيئَيْن جُمِعَ طَرَفَاهُما فشُدَّ أحدُهُما بالآخَر فقد أَسِرَ" (¬3). وقال الحسن: "شدَدْنا أوصالهم بعضَها إلى بعضٍ بالعُرُوقِ والعَصَبِ" (¬4). وقال مجاهد: "هو الشَّرْجُ (¬5)؛ يعني: موضع [مَصَرَّتَي] (¬6) البول ¬
اختلاف المفسرين في قوله تعالى: {وأنت حل بهذا البلد}
والغائط، إذا خرج الأذَى تَقَبَّضَتَا" (¬1). والمقصود أنَّه -سبحانه- أقسَمَ في "سورة البلد" على حال الإنسان، وأقسَمَ -سبحانه- بالبلد الأمين وهو "مكة" أمُّ القُرَى، ثُمَّ أقسَمَ بالوالد وما ولد، وهو آدمُ وذريته في قول جمهور المفسِّرين. وعلى هذا فقد تضمَّن القَسَمُ: أصلَ المكان، وأصلَ السكَّان؛ فمرجع البلاد إلى "مكة", ومرجع العباد إلى آدم. وقوله: {وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ (2)} فيه قولان: أحدهما: أنَّه من الاحلال، وهو ضِدُّ الإحرام (¬2). والثاني: أنَّه من الحُلُول، وهو ضِدُّ الظَّعْن (¬3). ¬
فإن أريد به المعنى الأوَّل فهو حالُ ساكِنِ البلد، بخلاف المحرم الذي يحجُّ ويعتمر ويرجع. ولأنَّ أَمْنَهُ إنَّما تظهر به النِّعمة عند الحِلِّ (¬1) من الإحرام، وإلا ففي حال الإحرام هم في أَمَانٍ، والحُرْمةُ هناك للفعل لا للمكان. والمقصود إنَّما هو ذكر حُرْمة المكان، وهي إنَّما تظهر بحال الحَلاَل الذي لم يتلبَّس بما يقتضي أَمْنَهُ، ولكن على هذا ففيه تنبيهٌ؛ فإنَّه إذا أقسَمَ به، وفيه الحلال، فإذا كان فيه الحرام فهو أَوْلَى بالأمْنِ والتعظيم. وكذلك إذا أُرِيد المعنى الثاني وهو الحلول، فهو متضمِّنٌ لهذا ¬
التعظيم، مع تضمُّنِه لأمرٍ آخر وهو: إقسامُهُ ببلده المشتمِل على رسوله وعبده، فهو خير البِقاع وقد اشتمل على خير العباد. فجَعَلَ بيتَهُ هدىً للناس، ونبيَّهُ إماما وهاديًا لهم، وذلك من أعظم نِعَمِه وإحسانِه إلى خلقه، كما هو من أعظم آياته ودلائل وحدانيتِه وربوبيتِه، فمن اعتبر حالَ بيتِهِ وحالَ نبيِّهِ وجد ذلك من أظهر أدلَّة التوحيد والربوبية. وفي الآية قولٌ ثالثٌ (¬1)؛ وهو أنَّ المعنى: وأنتَ مُسْتَحَلٌّ قَتْلُكَ ¬
وإخراجُك من هذا البلد الأمين؛ الذي يأْمَنُ فيه الطير والوحش والجاني، وقد استَحَلَّ قومُكَ فيه حُرْمتكَ، وهم لا يَعْضدُون به شجرةً، ولا يُنفِّرون به صيدًا. وهذا مروي عن شرحبيل بن سعد (¬1). وعلى كلِّ حالٍ فهي جملة اعتراضٍ في أثناء القَسَم، موقعها من أحسن موقعٍ وأَلْطَفه. فهذا القَسَمُ متضمِّنٌ لتعظيم بيته ورسوله. ثُمَّ أنكر -سبحانه- على الإنسان ظنَّه وحُسْبَانه أن لن يقدر عليه أحدٌ من خلقه في هذا الكَبَدِ والشدَّةِ والقوَّةِ التي يكابد بها الأمور، فإنَّ الذي خلقه كذلك (¬2) أَوْلَى بالقدرة منه وأحقُّ، وكيف يُقْدِرُ غيرَهُ من لم يكن قادرًا في نفسه؟! فهذا برهانٌ مستقِل بنفسه، مع أنَّه متضمِّنٌ للجزاء ¬
بيان معنى قوله تعالى: {يقول أهلكت مالا}
الذي مناطُهُ: القدرةُ والعلمُ، فنبَّه على ذلك بقوله: {أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ (5)}، وبقوله: {أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ (7)} فيُحْصِي عليه ما عَمِلَ من خيرٍ وشرٍّ، ولا يقدر عليه فيجازيه بما يستحقه؟ ثُمَّ أنكر -سبحانه- على الإنسان قوله: {أَهْلَكْتُ مَالًا لُبَدًا (6)}، وهو الكثير الذي يُلَبَّدُ بعضُه فوق بعضٍ، فافْتَخَر هذا الإنسان بإهلاكه وهو: إنفاقُهُ في غير وجهه، إذ لو أنفقه في وجُوهِهِ التي أُمِرَ بإنفاقه فيها، وَوَضْعِهِ مواضعه؛ لم يكن ذلك إهلاكًا له، بل تقرُّبًا به إلى الله -عزَّ وجلَّ- وتوصُّلاً به إلى رِضَاهُ وثوابِهِ، وذلك ليس بإهلاكٍ له. فأنكر -سبحانه- افتخارَه وتبجُّحَهُ بإنفاق المال في شهواته وأغراضه التي إنفاقُه فيها إهلاكٌ له. ثُمَّ وبَّخَهُ -سبحانه- بقوله: {أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ (7)}، وأتى ها هنا بـ "لم" الدالَّة على المُضِيِّ (¬1)، في مقابلة قوله؛ {أَهْلَكْتُ مَالًا لُبَدًا (6)}؛ فإنَّ ذلك في الماضي، أَفَيَحْسَبُ أن لم يَرَهُ أحدٌ فيما أنفقه وفيما أهلكه؟! ثُمَّ ذكر -سبحانه- برهانًا مقرِّرًا أنه أحقُّ بالرؤية وأَوْلَى من هذا العبد الذي له عينان يبصر بهما، فكيف يعطيه البصر من لا يراه؟ وكيف يعطيه آلة البيان -من الشفتين واللَّسَان، فينطقُ، ويبين عمَّا في نفسه، ويأمر وينهى- من لا يتكلَّم، ولا يُكَلِّمُ، ولا يخاطِب، ولا يأمر، ولا ينهى؟! وهل كمال المخلوق مستفادٌ إلا من خالقه؟ ومن جعل غيره عالمًا بنجْدَيْ الخيرِ والشرِّ -وهما طريقاهما- أَوْلَى وأحقُّ بالعلم منه. ¬
ومن هداهُ إلى هذين الطريقين، كيف يليق به أن يتركه سُدَى، لا يعرِّفُه ما يضرُّهُ وما ينفعُه في معاشِهِ ومعادِهِ؟ وهل النُّبوَّةُ والرِّسَالةُ إلا لتكميل هدايته النَّجْدَين؟! فدلَّ هذا كلُّه على إثبات الخالق، وصفات كماله، وصدق رسله، ووعده، ووعيده (¬1). وهذه أصول الإيمان التي اتفقت عليها جميع الرُّسُلِ من أوَّلهم إلى آخرهم، إذا تأمَّلَ الإنسانُ حالَهُ وخَلْقَهُ وجَدَهُ من أعظم الأدلَّة على صحتها وثبوتها، فتكفي الإنسانَ فكرتُهُ في نفسه وخَلْقه. والرُّسُلُ بُعِثُوا مذكِّرين بما في الفِطَرِ والعقول، مُكَفَلين له؛ لتقوم على العبد حُجَّةُ الله بفطرته ورسالته. ومع هذا (¬2) فقامت عليه حُجَّتُه، ولم يقتحم العقبة التي بينه وبين ربِّه، التي لا يصل إليه حتَّى يقتحمَها: 1 - بالإحسان إلى خلقه بفَكِّ الرقبة، وهو تخليصها من الرِّقِّ، ليخلِّصَهُ الله من رِقِّ نفسه، ورِقِّ عدوِّه. 2 - وإطعامِ المسكينِ واليتيمِ في يوم المجاعة. 3 - وبالإخلاص له -سبحانه- بالإيمان الذي هو خالصُ حقِّه عليه، وهو تصديقُ خَبَره، وطاعةُ أمره ابتغاءَ وجهِهِ. 4 - وبنصيحة غيره؛ بأنْ يوصيه بالصبر والمرحمة، ويقبَل وصيةَ من أوصاه بهما، فيكون صابرًا رحيمًا في نفسه، معينًا لغيره على الصبر ¬
والرحمة، دالاً لغيره عليهما (¬1). فمن لم يقتحم هذه "العقبة"؛ وهلك دونها: هلَكَ منقطِعًا عن ربِّه، غيرَ واصلٍ إليه، بل محجوبًا عنه. والنَّاس قسمان: 1 - ناجٍ؛ وهو (¬2) من قطع "العقبة"، وصار وراءها. 2 - وهالك؛ وهو من دون "العقبة"، وهم أكثر الخلق. ولا يقتحم هذه "العقبة" إلا المُضَمِّرُون (¬3)، فإنَّها عقبةٌ كَؤُودٌ شافَةٌ، لا يقطعها إلا خفيفُ الظَّهْر، وهم "أصحاب الميمنة". والهالكون (¬4) دون "العقبة" الذين لم يُصَدِّقُوا الخبر، ولم يطيعوا الأمر، وهم، أصحاب المَشْأمة" = {عَلَيْهِمْ نَارٌ مُؤْصَدَةٌ (20)} قد أَطْبَقَت عليهم؛ فلا يستطيعون الخروج منها؛ كما أَطْبَقَت عليهم أعمالُ الغَيِّ، ¬
والاعتقاداتُ الباطلةُ المُنَافيةُ لما أخبرت به الرُّسُل، فلم تَخْرُج قلوبُهم منها، كذلك أطبقت عليهم (¬1) هذه النَّار، فلم تستطع أجسامُهم الخروجَ منها. فتأمَّلْ هذه السورة على اختصارها، وما اشتملت عليه من مطالب العلم والإيمان" وبالله التوفيق. وأيضًا فإنَّ طريقةَ القرآن: يذكر العلمَ والقدرةَ، تهديدًا وتخويفًا، لِيُرتِّبَ (¬2) الجزاءَ عليهما، كما قال تعالى: {قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا} [الأنعام: 65] وقال تعالى: {أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى (9) عَبْدًا إِذَا صَلَّى (10)} إلى قوله: {أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى (14)} [العلق: 9 - 10، 14" وقال تعالى: {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ} [التوبة: 105] , وقال تعالى: {أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ (80)} [الزخرف: 80] وهذا كثيرٌ جدًّا في القرآن. وليس المراد به مجرَّد الإخبار بالقدرة والعلم، لكنَّ الإخبارَ -مع ذلك- بما يترتَّبُ عليهما من الجزاء بالعدل، فإنَّه إذا كان قادرًا أمكن مجازاته، وإذا كان عالمًا أمكن ذلك بالقسط والعدل، ومن لم يكن قادرًا لم يمكن مجازاته. وإن كان قادرًا لكنه غير عالمٍ بتفاصيل الأعمال ومقادير جزائها؛ لم يُجَازِ بالعدل. والرَّبُّ -سبحانه وتعالى- موصوفٌ بكمالِ القدرة، وكمالِ العلم، فالجزاء منه موقوفٌ على مجرَّدِ مشيئَتِهِ وإرادته، فحينئذٍ يجب على ¬
أسباب عدم تكرار "لا " في قوله تعالى: {فلا اقتحم العقبة} وما بعده
العاقل طلب النَّجَاة منه بالإخلاص والإحسان" وهو اقتحام "العقبة" المتضمِّن للتوبة إلى الله تعالى، والإحسان إلى خلقه. وقال تعالى: {فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ (11)}، وهو فعلٌ ماضٍ، ولم يكرِّر معه "لا": إمَّا استعمالاً لأداة "لا" كاستعمال "ما". وإمَّا إجراءً لهذا الفعل مجرى الدعاء، نحو: فلا سَلِمَ ولا عَاشَ، ونحو ذلك. وإمَّا لأنَّ "العقبةَ" قد فُسِّرت بمجموع أمورٍ؛ فاقتحامها فِعْلُ كُلِّ واحدٍ منها، فأغنى ذلك عن تكريرها، فكأنَّه قال: فلا فَكَّ رَقَبةً، ولا أَطْعَمَ، ولا كان من الذين آمنوا. وقراءة من قرأ: {فَكَّ رَقَبَةً} -بالفعل (¬1) - كأنَّها أرجحُ من قراءة من قرأها بالمصدر؛ لأنَّ قوله: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ (12)} على حدِّ قوله: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ (3)} [الحاقة: 3] , {وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ (17)} [الانفطار: 17] , {وَمَا أَدْرَاكَ مَاهِيَهْ (10) نَارٌ حَامِيَةٌ (11)} [القارعة: 10، 11] ونظائره، تعظيمًا لشأن "العقبة" وتفخيمًا لأمرها. وهي جملة اعتراض بين المفسِّر والمفسَّر، فإنَّ قوله: {فَكُّ ¬
رَقَبَةٍ (13) أَوْ إِطْعَامٌ} إلى قوله: {ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا} [البلد: 13 - 17] تفسيرٌ لاقتحام "العقبة"، وليس هو تفسيرًا لنفس "العقبة"، فإنَّ "العقبةَ" مكانٌ شاقٌ كَؤُودٌ، يَقْتَحِمُه النَّاسُ حتَّى يَصِلُوا إلى الجنَّة، واقتحامه بفعل هذه الأمور، فمن فعلها فقد اقتحم "العقبة". ويدلُّ على ذلك (¬1) قوله تعالى: {ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا}، وهذا عطفٌ على قوله: {فَكُّ رَقَبَةٍ (13)}، والأحسن تناسب هذه الجُمل المعطوفة التي هي تفسير لما ذُكِر أوَّلًا. وأيضًا؛ فإنَّ من قرأها بالمصدر المضاف فلابدَّ له من تقديرٍ، وهو: ما أدراك ما اقتحامُ "العقبة"؟ أو: اقتحامُها فكُّ رقبةٍ. وأيضًا؛ فمن قرأ بالفعل فقد طابق بين المفسَّر وجميع ما فسَّره، ومن قرأها بالمصدر فقد طابق بين المفسَّر (¬2) وبعض ما فسَّره، فإنَّ التفسير: إنْ كان لقوله: {اقْتَحَمَ} طابَقَهُ بقوله: {ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا} وما بعده؛ دون {فَكُّ رَقَبَةٍ (13)} وما يليه. وإنْ كان لقوله: {الْعَقَبَةُ (12)} طابَقَهُ: {فَكُّ رَقَبَةٍ (13) أَوْ إِطْعَامٌ} دون قوله: {ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا} وما بعده. وإنْ كانت المطابقة حاصلةً معنىً، فحصولها لفظًا ومعنىً أتمُّ وأحسن. ¬
واختُلِفَ في هذه "العقبةُ"، هل هي في الدنيا أو في الآخرة (¬1)؟ فقالت طائفةٌ: "العقبة" ها هنا مَثَلاً ضربَهُ اللهُ -تعالى- لمجاهدة النَّفْس والشيطان في أعمال البِرِّ. وحَكَوا ذلك عن: الحسن، ومقاتل. قال الحسن: "عقبةٌ -واللهِ- شديدةٌ: مجاهدة الإنسان نفسَهُ، وهواهُ، وعدوَّهُ، والشيطانَ". وقال مقاتل: "هذا مَثَلٌ ضربه الله" (¬2)؟ يريد أنْ المعتِقَ رقبةً، والمُطْعِمَ اليتيمَ والمسكينَ، يُقَاحِمُ نفسَهُ وشيطانَهُ، مثل مَنْ يتكلَّف صعود العقبة، فشبَّهَ المعتِق رقبةً في شدَّته عليه بالمكلَّفِ صعودَ العقبة. وهذا قول أبي عبيدة (¬3). وقالت طائفةٌ: بل هي عقبةٌ حقيقةً، يصعدها النَّاس (¬4). قال عطاء: "هي عقبة جهنَّم". وقال الكلبي: "هي عقبةٌ بين الجنَّة والنار". وهذا لعلَّه قول مقاتل (¬5): "إنَّها عقبة جهنَّم". وقال مجاهد، والضحَّاك: "هي "الصِّرَاطُ"، يُضْرَبُ على جهنَّم". ¬
وهذا لعلَّه قول الكلبي. وقولُ هؤلاء أصحُّ نظرًا، وأثرًا, ولغةً. قال قتادة: "إنَّها عقبةٌ شديدةٌ، فاقتحِمُوها بطاعة الله". وفي أثرٍ معروفٍ: "إنَّ بين أيديكم عقبةً كؤودًا لا يَقْتحِمُها إلَّا المُخِفُّون" (¬1)، أو نحو هذا، فإنَّ اللهَ -تعالى- سمَّى (¬2) الإيمانَ به، وفعلَ ما أَمَرَ، وتركَ ما نَهَى: عقبةً. وكثيرًا ما يقع في كلام السلف الوصية بالتضمُّر لاقتحام "العقبة"، وقال بعضُ الصحابة وقد حضره الموتُ، فجعل يبكي، ويقول: "ما لي لا أبكي وبين يديَّ عقبةٌ، أَهبِطُ منها إمَّا إلى جنَّةٍ، وإمَّا إلى نارٍ". فهذا القول أقرب إلى الحقيقةِ (¬3)، والآثار السلفيةِ، والمألوفِ من عادةِ القرآن في استعماله هو {وَمَا أَدْرَاكَ} في الأمَور الغائبة العظيمة كما تقدَّم. والله أعلم. ¬
فصل: القسم في سورة التين
فصل ومن ذلك إقسامُ الله -سبحانه وتعالى- بالتِّين {وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ (1) وَطُورِ سِينِينَ (2) وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ (3)} [التين/ 1 - 3] فأَقْسَم -سبحانه- بهذه الأمكنة الثلاثة العظيمة التي هي مظاهر أنبيائه ورسله أصحابِ الشرائع العِظَام، والأُمَمِ الكثيرة. فـ "التِّينُ" و"الزيتونُ": المراد به نفس الشجرتين المعروفتين، ومنبتهما, وهو أرض بيت المقدس، فإنَّها أكثر البقاع زيتونًا وتينًا. وقد قال جماعة من المفسِّرين: إنَّه -سبحانه- أقسَمَ بهذين النَّوعَين من الثمار لمكان العبرة فيهما، فإنَّ "التِّينَ" فاكهةٌ مُخَلَّصةٌ من شوائب التنغيص، لا عَجَمَ (¬1) له، وهو على مقدار اللُّقْمَة، وهو: فاكهةٌ، وقوتٌ، وغذاءٌ، وأَدَمٌ. ويدخل في الأدوية، ومزاجه من أعدل الأمزجة، وطبعه طبع الحياة: الحرارة، والرطوبة. وشكله من أحسن الأشكال، ويدخل أكلُهُ والنظرُ إليه في باب "المفرِّحات" (¬2). وله لَذةٌ يمتاز بها عن سائر الفواكه، ويزيد في القوَّة، ويوافق البَاءَةَ، وينفع من "البَوَاسِير" (¬3) ¬
و"النِّقرِس" (¬1)، ويؤكل رَطْبًا ويابسًا. وأمَّا "الزيتون" ففيه من الآيات ما هو ظاهرٌ لمن اعتبر، فإنَّ عُودَه يُخرِجُ ثمرًا، يُعصَر منه هذا الدُّهن الذي هو مادَّةُ النُّور، وصبْغٌ للآكلين، وطِيْبٌ، ودَوَاءٌ، وفيه من مصالح الخلق ما لا يخفى، وشَجَرُهُ باقٍ على ممرِّ السِّنين المتطاولة، وورقُهُ لا يسقط (¬2). وهذا الذي قالوه حقٌّ، ولا ينافي أن يكون مَنْبَتُهُ مرادًا (¬3)، ¬
فإنَّ مَنْبَتَ هاتين الشجرتين حقيقٌ بأن يكون من جملة البقاع الفاضلة الشريفة، فيكون الإقسامُ قد تناول الشجرتين ومنبتَهُما، وهو مَظْهَر عبدِ اللهِ ورسوله وكلمتِه وروحِه: عيسى بن مريم، كما أنَّ "طُور سينين" مَظْهَرُ عبدِهِ ورسولهِ وكليمِهِ: موسى، فإنَّه الجبلُ الذي كلَّمَهُ عليه وناجاه، وأرسله إلى فرعون وقومه. ثُمَّ أقسبم بـ "البلد الأمين" -وهو مكة- مَظْهَرِ خاتم أنبيائِه ورسلِه، وسيِّدِ ولدِ آدم. وترقَّى في هذا القَسَم من الفاضل إلى الأفضل، فبدأ بموضع مَظْهَر المسيح، ثُمَّ ثنَّى بموضع مَظْهَر الكليم، ثُمَّ ختم بموضع مظهر عبده ورسوله، وأكرم الخلق عليه. ¬
ونظير هذا بعينه في التوراة التي أنزلها الله على كليمه (¬1) موسى: "جاءَ اللهُ من طُور سيناء، وأَشْرَقَ من سَاعِير، واسْتَعْلَنَ من جبالِ فَارَان" (¬2). فمجيئه من "طور سيناء" بَعْثُهُ لموسى بن عِمْرَان، وبدأ به على حكم الترتيب الواقع. ثُمَّ ثنَّى بنبوَّة المسيح، ثُمَّ ختم بنبوَّة محمد - صلى الله عليه وسلم -. وجعل نبوَّةَ موسى بمنزلة مجيء الصُّبْح، ونبوَّةَ المسيح بعده بمنزلة طلوع الشمس وإشراقها، ونبوَّةَ محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - بعدهما (¬3) بمنزلة استعلائها وظهورها للعالَم. ولمَّا كان الغالب علي بني إسرائيل حكم الحِسِّ؛ ذكَرَ ذلك مطابقًا للواقع (¬4)، ولمَّا كان الغالب على الأُمَّةِ الكاملة حُكْم العقل؛ ذكرها على الترتيب العقلي، وأقسَمَ بها على بداية الإنسان ونهايته؛ فقال: {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ (4)} [التين: 4]؛ أي: في أحسن صورةٍ وشَكْلٍ واعتدالٍ، مُعْتَدِلَ القامة، مستويَ الخِلْقة (¬5)، كاملَ الصورة، أحسنَ من كل حيوانٍ سواه. والتقويم: تصيير الشيء على ما ينبغي أن يكون في التأليف ¬
الصحيح أن "أسفل سافلين" هي النار
والتعديل، وذلك صنعتُه -تبارك وتعالى- في قبضةٍ من ترابٍ، وصُنْعُهُ بالمشاهدة في نطفةٍ من ماءٍ. وذلك من أعظم الآيات الدالَّة على وجوده (¬1)، وقدرته، وحكمته، وعلمه، وصفات كماله، ولهذا يكررها كثيرًا في القرآن (¬2) لمكان العبرة بها، والاستدلال بأقرب الطرق على وحدانيته، وعلى المبدأ والمَعَاد. وتضمَّنَ إقسامُهُ بتلك الأمكنة الثلاثة الدالة عليه، وعلى علمه وحكمته = عنايته (¬3) بخلقه؛ بأن أرسل منها رسلاً أنزل عليهم كتبه، ويُعرِّفون العباد بربِّهم، وحقوقه عليهمْ، وينذرونهم بأْسَهُ ونقمته، ويدعونهم إلى كرامته وثوابه. ثُم لمَّا كان النَّاس في إجابة هذه الدعوة فريقين: منهم من أجابَ، ومنهم من أَبي = ذكر حال الفريقين، فذكر حال الأكثرين، وهم المردودون إلى أسفل سافلين. والصحيح أنَّه النَّار، قاله: مجاهد، والحسن، وأبو العالية. قال علي بن أبي طالب -رضي الله عنه-: "هي النَّار بعضها أسفل من بعض" (¬4). وقالت طائفةٌ منهم: قتادة، وعكرمة، وعطاء، والكلبي، ¬
القول بأن المراد به أرذل العمر ضعيف من وجوه عشرة
وإبراهيم: إنَّه أرذل العمر، وهو مروي عن ابن عباس (¬1). والصواب القول الأوَّل لوجوه: أحدها (¬2): أنَّ أرذل العمر لا يسمَّى: أسفل سافلين، لا في لغةٍ، ولا عرفٍ، وإنَّما "أسفل سافلين" و"سِجِّين" الذي هو مكان الفُجَّار، كما أنَّ "عِلِّيين" مكان الأبرار (¬3). الثاني: أنَّ المردودين إلى أرذلِ العمر بالنسبة إلى نوع الإنسان قليلٌ جدًّا، فأكثرهم يموت ولا يُرَدُّ إلى أرذل العمر. الثالث: أنَّ الذين آمنوا وعملوا الصالحات يستوون هم وغيرهم في رَدِّ مَنْ طَالَ عُمُره إلى أرذل العمر، فليس ذلك مختصًّا بالكفار حتَّى يستثني منهم المؤمنين. الرابع: أنَّ الله -سبحانه- لمَّا أراد ذلك (¬4) لم يَخُصَّهُ بالكفار، بل جعله لجنس بني آدم، فقال تعالى: {وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ} [الحج: 5] فجعلهم قسمين: قسمًا يتوفَّى قبل الكِبَر، وقسمًا مردودًا إلى أرذل العمر، ولم يسمِّه "أسفل سافلين". الخامس: أنَّه لا تَحْسُنُ المقابلة بين أرذل العمر وبين أجر ¬
المؤمنين، وهو -سبحانه- قابَلَ بين جزاء هؤلاء وجزاء أهل الإيمان، فجعل جزاءَ الكفار أسفل سافلين، وجزاءَ المؤمنين أجرًا غير ممنون. السادس: أنَّ قول من فسَّره بأرذل العمر يستلزم [ن/ 13]: - 1 - خُلُوَّ الآية عن جزاءِ الكفار، وعاقبةِ أمرهم. 2 - وتفسيرها بأمرٍ محسوسٍ. فيكون قد ترك الإخبار عن المقصود والأهَمِّ، وأخبر بأمرٍ يُعْرَفُ بالحِسِّ والمشاهدةِ، وفي ذلك هضْمٌ لمعنى الآية، وتقصيرٌ (¬1) بها عن المعنى اللائق بها. السابع: أنَّه -سبحانه- ذكر حال الإنسان في مبدئه ومَعَادِه، فمبدؤه خلْقُه في أحسن تقويم، ومعادُهُ رَدُّهُ إلى أسفل سافلين، أو إلى أجرِ غير ممنونٍ. وهذا موافق لطريقة القرآن وعادته في ذكر مبدأ العبد ومَعَاده، فما لأرْذَلِ العمر وهذا المعنى المطلوب المقصود إثباته والاستدلال عليه؟ الثامن: أنَّ أرباب القول الأوَّل (¬2) مضطَرُّون إلى مخالفة الحِسِّ، أو إخراج الكلام عن ظاهره، والتكلُّف البعيد له (¬3). فإنَّهم إن قالوا: إنَّ الذي يُرَدُّ إلى أرذل العمر هم (¬4) الكفار دون المؤمنين؛ كابروا الحِسَّ. وإن قالوا: إنَّ من النَّوعين من يردُّ إلى أرذل العمر؛ احتاجوا إلى التكلُّف ¬
لصحة الاستثناء. فمنهم من قدَّرَ ذلك بأنَّ الذين اَمنوا وعملوا الصالحات لا تبطل أعمالهم إذا رُدُّوا إلى أرذل العمر، بل تجري عليهم أعمالهم التي كانوا يعملونها في الصحة. وهذا -وإن كان حقًّا- فإنَّ الاستثناء إنَّما وقع من الردِّ، لا من الأجر والعمل. ولمَّا علم أرباب هذا القول ما فيه من التكلُّف خَصَّ بعضُهم "الذين آمنوا [ز/16] وعملوا الصالحات" بقُرَّاء القرآن خاصَّةً، فقالوا: من قرأ القرآن لا يُرَدُّ إلى أرذل العمر. وهذا ضعيفٌ من وجهين: أحدهما: أنَّ الاستثناءَ عامٌّ في المؤمنين، [ك/ 15] قارئهم وأُمِّيهم. الثاني: أنَّه لا دليل لهم على ما ادَّعَوه، وهذا لا يُعْلَم بالحِسِّ، ولا خَبَرَ يجب التسليم له (¬1) يقتضيه، والله أعلم. التاسع: أنَّه -سبحانه- ذكر نعمته على الإنسان بخلقه في أحسن تقويم، وهذه النِّعمة تُوجب عليه أن يشكرها بالإيمان به، وعبادته وحده لا شريك له، فينقله -حينئذٍ (¬2) - من هذه الدار إلى أَعْلَى عِلِّيين، فإذا لم يؤمن بربِّه، وأشرك به، وعصى رسله؛ نقله منها إلى أسفل سافلين، وبدَّلَهُ بعد هذه الصورة التي هي في أحسن تقويم صورةً من أقبح الصور في أسفل سافلين. فتلك نعمتُهُ عليه، وهذا عَدْلُهُ فيه، وعقوبَتُهُ على ¬
الصواب في تفسير قوله تعالى: {غير ممنون}
كفران نعمته. العاشر: أنَّ نظير هذه الآية قوله تعالى: {فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (24) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (25)} [الانشقاق/ 24 - 25]، فالعذاب الأليم هو "أسفل سافلين "، والمُسْتَثنَون هنا هم المُسْتَثنَون هناك، والأجر غير الممنون هنا هو المذكور هناك، والله أعلم. وقوله: {غَيْرُ مَمْنُونٍ (6)} أي (¬1): غير مقطوعٍ، ولا منقوصٍ، ولا مكدَّرٍ عليهم. هذا هو الصواب (¬2). وقالت طائفةٌ: غير ممنونٍ به عليهم، بل هو جزاء أعمالهم. ويذكر هذا عن: عكرمة، ومقاتل، وهو قول كثيرٍ من القَدَرِيَّة (¬3). قال هؤلاء: لأنَّ المِنَّةَ تكدِّرُ النِّعمة، فتمام النِّعمة بأن تكون غير ممنونٍ بها على المنعَم عليه. وهذا القول خطأٌ قطعًا، أُتِيَ أربابُهُ من تشبيه نعمة الله على عبده بإنعام المخلوق على المخلوق، وهذا من أبطل الباطل؛ فإنَّ المِنَّة التي تكدِّرُ النِّعمة هي مِنَّةُ المخلوق على المخلوق، وأمَّا مِنَّةُ الخالق على المخلوق فبها تمامُ النِّعمة، ولذَّتُها، وطِيبُها، فإنَّها مِنَّةٌ حقيقيةٌ، قال ¬
تعالى: {يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (17)} [الحجرات/ 17]، وقال تعالى: {وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ (114) وَنَجَّيْنَاهُمَا وَقَوْمَهُمَا مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (115)} [الصافات/ 114 - 115]، فكيف (¬1) تكون مِنَّتُهُ عليهما بنعمة الدنيا دون نعمة الآخرة؟ وقال -تعالى- لموسى: {وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَى (37)} [طه/ 37]. وقال أهلُ الجنَّة: {فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ (27)} [الطور/ 27]. وقال تعالى: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ} [آل عمران/ 164] الآية. وقال تعالى: {وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ} [القصص/ 5]. وفي "الصحيح " أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال -لمَّا قال للأنصار-: "أَلَمْ أجِدْكُم ضُلَّالًا فَهَدَاكُم اللهُ بي؟ ألَم أَجِدْكُم عَالَةً فأَغْناكُم اللهُ بي؟ "؛ وجعلوا يقولون له (¬2): "الله ورسوله أمَنُّ" (¬3). فهذا جواب العارفين بالله ورسوله، وهل المِنَّةُ -كلُّ المِنَّةِ (¬4) - إلا لله المَانِّ (¬5) بفضله الذي جميع الخلق في مِنَّتِهِ؟ ¬
وإنَّما قَبُحَت مِنَّةُ المخلوق لأنَّها مِنَّةٌ بما ليس منه، وهي مِنَّةٌ يتأذَّى بها الممنون عليه. وأمَّا مِنَّةُ المَانِّ (¬1) بفضله التي ما طاب العيش إلا بمِنَّته، وكلُّ نعمةٍ منه في الدنيا والآخرة فهي مِنَّةٌ يَمُنُّ بها على من أنعم عليه = فتلك لا يجوز نفيها. وكيف يجوز أن يقال: إنَّه لا مِنَّةَ لله على "الذين آمنوا وعملوا الصالحات" في دخول الجنَّة؟! وهل هذا إلا من أبطل الباطل؟! فإن قيل: هذا القَدْر لا يخفى على من قال هذا القول من العلماء، وليس مرادهم ما ذُكِر، وإنَّما مرادُهم أنَّه لا يَمُنُّ عليهم به، وإن كانت لله فيه المِنَّة عليهم، فإنَّه لا يَمُنُّ عليهم به، بل يقال لهم: هذا جزاء أعمالكم التي عملتموها في الدنيا، وهذا أجركم، فأنتم تستوفون أجور أعمالكم، ولا نَمُنُّ عليكم بما أعطيناكم. قيل: وهذا -أيضًا (¬2) - هو الباطل بعينه، فإنَّ ذلك الأجرَ ليست الأعمالُ ثمنًا له، ولا معاوضةً عنه، وقد قال أعلم الخلق بالله - صلى الله عليه وسلم -: "لن يدخُلَ أحدٌ منكُم الجنَّةَ بعمله" قالوا: ولا أنتَ يا رسول الله؟ قال "ولا أنا؛ إلَّا أن يتغمَّدني اللهُ برحْمَةٍ منهُ وفَضْلٍ" (¬3)، فأخبر أنَّ دخولَ الجنَّة برحمة الله وفضله، وذلك محض مِنَّته عليه وعلى سائر عباده، وكما أنَّه -سبحانه- المَانُّ بإرسال رسله، وبالتوفيق لطاعتهم، وبالإعانة عليها = فهو المَانُّ بإعطاء الجزاء، وذلك كلُّه محض مِنَّته وفضله وجوده، لا حَقَّ لأحدٍ عليه، بحيث إذا وفَّاهُ إيَّاهُ لم يكن له عليه مِنَّةٌ، فإن ¬
أصح القولين في تفسير قوله تعالى: {فما يكذبك بعد بالدين}
كان في الدنيا باطلٌ فهذا منه. فإن قيل: كيف تقولون هذا وقد أخبر رسولُه عنه بأنَّ حقَّ العباد عليه إذا عَبَدُوه وحدَهُ (¬1) [ز/ 17] أن لا يعذِّبهم (¬2)، وقد أخبر عن نفسه أنَّ حقًّا عليه نصرُ المؤمنين (¬3)؟ قيل: لَعَمْرُ اللهِ؛ وهذا من أعظم مِنَّته على عباده، أن جعل على نفسه حقًّا بحكم وعده الصادق: أن يثيبهم ولا يعذِّبهم إذا عبدوه وحده، فهذا من تمام مِنَّته، فإنَّه لو عذَّبَ أهلَ سمواته وأرضه لعذَّبهم وهو غير ظالمٍ لهم، ولكن مِنَّته اقتضت أنْ أَحَقَّ على نفسه ثوابَ عابديه، وإجابةَ سائليه. ما للعبادِ عليهِ حقٌّ واجبٌ ... كلَّا، ولا سَعْيٌ لديهِ ضائعُ إن عُذبُوا فبعَدْلِه، أو نُعِّمُوا ... فبفَضْلِه، وهو الكريمُ الواسعُ (¬4) وقوله سبحانه: {فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ} [التين: 7]، أصحُّ القولين: ¬
أنَّ هذا خطابٌ للإنسان (¬1)، أي: فما يكذِّبُك بالجزاء والمَعَاد بعد هذا البيان، وهذا البرهان؛ فتقول: إنَّك لا تُبعث، ولا تُحاسب؟! ولو تفكَّرت في مبدأ خَلْقِك، وصورتك، لعلمتَ أنَ الذي خَلَقَك أقدر على إعادتك بعد موتك، ونشأتك خَلْقًا جديدًا من خَلْقِك الأوَّل (¬2)، وأنَّ ذلك لو أَعْيَاهُ وأَعْجَزَهُ لأعْيَاهُ وأَعْجَزَه خَلْقُك الأوَّل. وأيضًا؛ فإنَّ الذي كَمَّلَ خَلْقَك في أحسن تقويمٍ بعد (¬3) أن كنت نطفةً من ماءٍ مهينٍ، كيف يليق به أن يتركَكَ سُدَىً، لا يكمِّلُ ذاتَكَ بالأمر والنهي، وبيانِ ما ينفعُكَ ويضرُّك، ولا يبعثُكَ لدارٍ هي أكمل من هذه الدار، ويجعل هذه الدار طريقًا لك إليها، فحِكْمَةُ أحكمِ [ح/18] الحاكمين تأبَى ذلك، وتقتضي خلافه. قال منصور (¬4): قلت لمجاهد: {فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ (7)} عَنَى به محمدًا؟ فقال: "معاذَ اللهِ؛ إنَّما عَنَى به الإنسان" (¬5). ¬
توجيه القول بأن الخطاب للنبي - صلى الله عليه وسلم - وشرحه وبيانه
وقال قتادة: "الضمير للنبيِّ - صلى الله عليه وسلم - " (¬1). واختاره الفرَّاء (¬2). وهذا موضعٌ يحتاج إلى شرحٍ وبيانٍ: يقال: كَذَبَ الرجلُ، إذا قال الكَذِب. وكذَّبْتَهُ: إذا نَسَبْته إلى الكَذِب، ولو اعتقدتَ صدْقَهُ. وكَذَبْتَهُ: إذا اعتقدتَ كَذِبَه، وإن كان صادقًا. قال تعالى: {وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ} [فاطر/ 4]، وقال تعالى: {فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ} [الأنعام/ 33]. فالأوَّل بمعنى: وإنْ ينسبُوك إلى الكذب. والثاني بمعنى: لا يعتقدون أنَّك كاذِبٌ، ولكنَّهم يعاندون، ويدفعون الحقَّ بعد معرفته؛ جحودًا وعنادًا. هذا أصل هذه اللفظة. ويتعدَّى الفعل إلى المُخْبِر (¬3) بنفسه، وإلى خبره بـ "الباء"، أو بـ "في". فيقال: كذَّبْتُه بكذا، وكذَّبْتُه فيه، والأوَّل أكثر استعمالًا، ومنه قوله تعالى: {بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ} [ق/ 5]، وقوله: ¬
{وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا} [الروم/: 16]. إذا عُرِفَ هذا، فقوله: {فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ} اختُلف في "ما"؛ هل هي بمعنى: أيُّ شيءٍ يكذِّبُك، أو بمعنى: مَن الذي يكذِّبُك؟ فمن جعلها بمعنى: أيُّ شيءٍ، تعيَّنَ على قوله أن يكون الخطاب للإنسان، أي: فأيُّ شيءٍ يجعلك بعد هذا البيان مكذِّبًا بالدِّين، وقد وَضَحَتْ لك دلائل الصدق والتصديق؟! ومن جعلها بمعنى: فمن الذي يكذِّبك؛ جعل الخطاب للنبي - صلى الله عليه وسلم -. قال الفرَّاء: "كأنَّه يقول: من يقدر على تكذيبك بالثواب والعقاب، بعدما تبيَّن له من خَلْق الإنسان ما وصفناه؟ " (¬1). وقال قتادة: "فمَنْ يكذِّبُك أيُّها الرسول بعد هذا بالدِّين؟ " (¬2). وعلى قول قتادة والفرَّاء إشكالٌ من وجهين: أحدهما: إقامة "ما" مقام "مَنْ"، وأمره سهلٌ. والثاني: أنَّ الجارَّ والمجرور يستدعي متعلَّقًا، وهو: يكذبك، أي: فمَنْ يكذِّبك بالدِّين؟ فلا يخلو: إمَّا أن يكون المعنى: فمَنْ يجعلك كاذبًا بالدِّين، أو: مكذِّبًا به، أو: مكذَّبًا به (¬3)؛ ولا يصحُّ واحدٌ منهما. أمَّا الثاني والثالث: فظاهرٌ؛ فإنَّ "كذَّبْتُه" ليس معناه (¬4): جعلتُهُ ¬
مكذِّبًا أو مكذَّبًا، وإنَّما معناه نسبتُهُ إلى الكذب، فالمعنى على هذا: فمَنْ يجعلك بَعْدُ (¬1) كاذبًا بالدِّين (¬2). وهذا إنِّما يتَعدَّى إليه بـ "الباء" الفعلُ المُضَاعَفُ لا الثلاثي، فلا يقال: كَذَبَ بكذا، وإنَّما يقال: كذَّبَ به. وجواب هذا الإشكال أنَّ قوله: كذَّبَ بكذا؛ معناه: كذَّبَ المُخْبَر به، ثُمَّ حذفوا المفعول لظهور العلم به، حتَى كأنَّه نِسْيٌ مَنْسِيٌّ، وعَدَّوا الفعل (¬3) إلى المُخْبِر به (¬4)، فإذا قيل: مَنْ يكذِّبك بكذا؟ فهو بمعنى: كذَّبُوك بكذا -سواء-، أي (¬5): نسبوك إلى الكذب في الإخبار به. بل الإشكال في قول مجاهد والجمهور، فإنَّ الخطاب إذا كان للإنسان، وهو المكذِّب -أي: فاعل التكذيب- فكيف يقال له: ما يكذِّبك؟ أي: يجعلك مكذِّبًا، والمعروفُ "كذَّبَهُ": إذا جعله كاذبًا لا مكذِّبًا، مثل "فسَّقَه ": إذا جعله فاسقًا، لا مفسِّقًا لغيره. وجواب هذا الإشكال: أنَّ "صدَّقَ" و"كذَّبَ" -بالتشديد- يراد به معنيان: أحدهما: النِّسبة؛ وهي إنَّما تكون للمفعول كما ذكرتم. والثاني: الداعي والحامل على ذلك، وهو يكون للفاعل. ¬
قال الكِسَائي (¬1): "يقال: ما صدَّقَكَ بكذا، أو ما كذَّبَكَ بكذا؛ أي: ما حملك على التصديق والتكذيب". قلت: وهو نظير: ما جَرَّأَكَ على هذا، أي: ما حَمَلَكَ على الاجتراء عليه. وما قَدَّمَك، وما أَخَّرَك، أي: ما دَعَاكَ وحمَلَك على التقدُّمِ والتأخُّرِ، وهذا استعمالٌ سائغٌ في العربية (¬2)، وبالله التوفيق. ثُمَّ ختم السورة بقوله تعالى: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ (8)} [التين/ 8]، وهذا تقريرٌ لمضمون السورة من إثبات النُّبوَّة، والتوحيد، والمَعَاد [ح/19]، وحُكْمُه يتضمَّن نَصْرَهُ لرسوله على من كذبَهُ وجحد ما جاء به بالحُجَّة والقدرة والظهور عليه، وحُكْمَه بين عباده في الدنيا بشرعه وأمره، وحُكْمَه بينهم في الآخرة بثوابه وعقابه، وأنَّ أحكم الحاكمين لا يليق به تعطيل هذه الأحكام بعدما ظهرت حكمته في خلق الإنسان في أحسن تقويم، ونَقْلِه (¬3) في أطوار التخليق حالًا بعد حالٍ إلى أكمل أحواله. فكيف يليق بأحكم الحاكمين أن لا يجازي المُحْسِنَ بإحسانه، والمُسِيءَ بإساءته؟ وهل ذلك إلا قَدْحٌ في حُكْمِهِ وحِكْمَتِهِ؟ فَلِلَّهِ ما أخصرَ لفظَ هذه السورة، وأعظم شأنها، وأتمَّ معناها، والله أعلم. ¬
فصل: القسم في سورة الليل
فصل ومن ذلك قَسَمُهُ -سبحانه وتعالى- بالليل {إِذَا يَغْشَى (1) وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى (2)} [الليل/ 1 - 2] الآيات، وقد تقدَّم (¬1) ذكر المُقْسَم عليه وأنَّه سعيُ الإنسان في الدنيا، وجزاؤه في العُقْبَى. فهو -سبحانه- يُقْسِمُ بـ "الليل" في جميع أحواله، إذ هو من آياته الدالَّة عليه. فأقسم به (¬2) وقت غشيانه، وأتى به بصيغة المضارع لأنَّه يغشى شيئًا بعد شيء، وأمَّا "النَّهار" فإنَّه إذا طلعت الشمس ظهر وتجلَّى وَهْلَةً واحدةً، ولهذا قال في سورة "الشمس وضحاها": {وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا (3) وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا (4)} [الشمس/ 2 - 4]. وأقسَمَ به وقت سريانه كما تقدَّم (¬3)، وأقسَمَ به وقت إدباره، وأقسَمَ به إذا عَسْعَس. فقيل: معناه أدبر (¬4)، فيكون معناه مطابقًا لقوله: {وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ (33) وَالصُّبْحِ إِذَا أَسْفَرَ (34)} [المدثر/ 33 - 34]. ¬
قسمه سبحانه بالذكر والأنثى يتضمن الإقسام بالحيوان كله
وقيل: معناه أقبل (¬1)، فيكون كقوله: {وَاللَّيْلِ (¬2) إِذَا يَغْشَى (1) وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى (2)} [الليل / 1 - 2]. فيكون قد أقسَمَ بإقبال الليل والنَّهار، وعلى الأوَّل يكون القَسَم واقعًا على انصرام الليل، ومجيء الصُّبْح عقيبه، وكلاهما من آيات ربوبيته. ثُمَّ أقسَمَ بخلق الذَّكَر والأنثى، وذلك يتضمَّنُ الإقسامَ بالحيوان كلِّه على اختلاف أصنافه، ذَكَرِهِ وأُنْثَاه، وقابَلَ بين الذكَر والأنثى كما قابَلَ بين الليل والنَّهار، وكلُّ ذلك من آيات ربوبيته، فإنَّ إخراج الليل والنَّهار بواسطة الأجرام العُلْويَّة، كإخراج الذَّكَر والأنثى بواسطة الأجرام السُّفْلية، فأخرج من الأرض ذكورَ الحيوان وإناثَه على اختلاف أنواعه، كما أخرج من السماء الليلَ والنَّهارَ بواسطة الشمس فيها (¬3). ¬
التيسير لليسرى له ثلاثة أسباب
وأقسَمَ -سبحانه- بزمان السعي وهو (¬1) الليل والنَّهار، وبالساعي وهو الذَّكَر والأنثى؛ على اختلاف السعي، كما اختلف الليلُ والنَّهارُ، والذَّكَرُ والأنثى. وسعيُه وزمانُه مختلِفٌ (¬2)؛ وذلك دليلٌ على اختلاف جزائه وثوابه، وأنَّه -سبحانه- لا يسوِّي بين من اختلف سعيه (¬3) في الجزاء، كما لم يسوِّ بين الليل والنَّهار، والذَّكَر والأنثى. ثُمَّ أخبر عن تفريقه بين عاقبة سعي المحسن وعاقبة سعي (¬4) المسيء فقال تعالى: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى (6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى (7) وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى (8) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى (9) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى (10)} [الليل/ 5 - 10]، فتضمَّنت الآيتان (¬5) ذِكْرَ شَرْعِه وقَدَرِه، وذِكْرَ الأعمالِ وجزائها، وحكمةَ القَدَرِ في تيسير هذا لليُسْرَى، وهذا للعُسْرَى، وأنَّ العبد ميسَّرٌ بأعماله لغاياتها، ولا يظلم ربُّك أحدًا. وذَكَر للتيسير لليسرى ثلاثةَ أسباب: أحدها: إعطاء العبد، وحذَفَ مفعول الفعل إرادةً للإطلاق (¬6) والتعميم، أي: أعطى ما أُمِرَ به، وسَمَحَتْ به طبيعته، وطاوَعَتْهُ ¬
نفسُه (¬1)، وذلك يتناول إعطاءَهُ من نفسه الإيمانَ، والطاعةَ، والإخلاصَ، والتوبةَ، والشكرَ؛ وإعطاءَهُ الإحسانَ، والنفعَ بمالهِ، ولسانِه، وبدنِه، ونيَّتِه، وقَصْدِه، فتكون نفسه نفسًا مُطيعَة باذلةً، لا لئيمةً مانعةً. فالنَّفْسُ المُعْطِيةُ (¬2) هي النفَّاعَةُ المحسِنة، التي طَبْعُها الإحسانُ وإعطاءُ الخير اللَّازم والمتعدِّي، فتعطي خيرَها لنفسها ولغيرها، فهي بمنزلة "العَين " التي ينتفع النَّاس بشُرْبهم منها، وسقي دوابِّهم وأنعامِهم، [ح/ 20] وزروعهم، فهم ينتفعون بها كيف شاءُوا، فهي ميسَّرةٌ لذلك، وهكذا الرجل المُبَارَكُ ميسَّرٌ للنفع حيث حَلَّ، فجزاء هذا أن ييسِّره اللهُ لليُسرَى [ك/18] كما كانت نفسُه ميسَّرةً للعطاء. السبب الثاني: التقوى، وهي اجتناب ما نَهَى اللهُ عنه، وهذا من أعظم أسباب التيسير، وضدُّه من أسباب التعسير. فالمتَّقِي ميسَّرٌ عليه أمور دنياه وآخرته، وتارك التقوى وإن يُسِّرَتْ عليه بعضُ أمور دنياه تعسَّرَ عليه من أمور آخرته بحسب ما تركه من التقوى. وأمَّا تيسير ما تيسَّر عليه من أمور الدنيا؛ فلو اتَّقَى اللَّهَ -تعالى- لكان تيسيرها عليه أَتَمُّ، ولو قُدِّر أنَّها لم تُيَسَّر له فقد يُيَسِّر اللهُ له من الدنيا ما هو أنفع له ممَّا ناله بغير التقوى، فإنَّ طِيْبَ العيش، ونعيمَ القلب، ولذَّةَ الرُّوح وفرحَها وابتهاجَها من أعظم نعيم الدنيا، وهو أجَلُّ من نعيم أرباب الدنيا بالشهوات واللذَّات، ونعيم أهل التقوى بالطاعات ¬
والقربات أعظم وأَجَلُّ. وقال تعالى: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2)} [الطلاق/ 2] إلى قوله (¬1): {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا (4)} [الطلاق/ 4]، فأخبر أنَّه يُيَسِّر على المُتَّقِي ما لا يُيَسِّر على غيره. وقال تعالى: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (¬2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ} [الطلاق/ 2 - 3] وهذا -أيضًا- تيسيرٌ عليه بتقواه. وقال تعالى: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا} (¬3) [الطلاق/ 5]، وهذا تيسيرٌ عليه بإزالة ما يخشاه، وإعطائه ما يحبُّه ويرضاه. وقال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (29)} [الأنفال/ 29]، وهذا تيسيرٌ بالفرقان المتضمِّن للنَّجاةِ، والنَّصرِ، والعلمِ، والنُّورِ الفارق بين الحقِّ والباطل، وتكفير السيئات، ومغفرة الذنوب، وذلك غاية التيسير. وقال تعالى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (130)} [آل عمران/ 130]، والفلاح غاية اليُسْر، كما أنَّ الشَّقَاءَ غايةُ العسر. ¬
تفسير "اليسرى" وإعرابها
وقال تعالى؛ {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ} [الحديد/ 28]، فضَمِنَ لهم -سبحانه- بالتقوى ثلاثةَ أمور: أعطاهم نَصِيبيَن من رحمته؛ نصيبًا في الدنيا، ونصيبًا في الآخرة، وقد يُضَاعِفُ لهم نصيبَ الآخرة فيصير نصيبين. الثاني: أعطاهم نورًا يمشون به في الظلمات. الثالث: مغفرة ذنوبهم. وهذا غاية التيسير، فقد جعل -سبحانه- التقوى سببًا لكل يُسْرٍ، وتَرْكَ التقوى سببًا لكلِّ عُسْرٍ. السبب الثالث: التصديق بالحُسْنَى، وفُسِّرَت بـ "لا إله إلا الله"، وفُسِّرت بالجنَّة، وفُسِّرت بالخَلَف، وهي أقوال السلف (¬1). و"اليُسْرَى": صفةٌ لموصوفٍ محذوفٍ، أي: الحالة والخَلَّة اليُسْرَى، وهي "فُعْلَى" من اليُسْرِ. والأقوال الثلاثة ترجع إلى أفضل الأعمال، وأفضل الجزاء: فمن فسَّرها بـ "لا إله إلا الله"؛ فقد فسَّرها بمفردٍ يأتي بكلِّ جمعٍ، فإنَّ التصديقَ الحقيقي بـ "لا إله إلا الله" يستلزم التصديقَ بشُعَبِها وفروعِها ¬
كلِّها. وجميعُ الدِّين -أصولُه وفروعُه- من شُعَب هذه الكلمة. فلا يكون العبد مصدِّقًا بها حقيقة التصديق حتَّى يؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، ولقائه. ولا يكون مؤمنًا بأنَّ اللهَ إلهُ العالمين حتَّى يؤمن بصفات جلاله، ونعوت كماله. ولا يكون مؤمنًا بأنَّه (¬1) "لا إله إلا هو" حتَّى يَسْلُبَ خصائصَ الإلهيَّة عن كلِّ موجودٍ سواه، ويسلبَها عن اعتقاده وإرادته، كما هي مَنْفِيَّةٌ في الحقيقة والخارج. ولا يكون مصدِّقًا بها مَنْ نَفَى الصفات العُلَى، ولا مَنْ نَفَى كلامه وتكليمه، ولا من نَفَى استواءه على عرشه، وأنَّه يصعد (¬2) إليه الكَلِمُ الطيِّبُ والعملُ الصالح، وأنَّه رفَعَ المسيحَ إليه، وأسرى برسوله - صلى الله عليه وسلم - إليه، وأنَّه يُدَبِّرُ الأمرَ من السماء إلى الأرض ثُمَّ يَعْرُج إليه، إلى سائر ما وصفَ به نفسه، ووَصَفَهُ به رسولُه - صلى الله عليه وسلم -. ولا يكون مؤمنًا بهذه الكلمة مصدِّقًا بها على الحقيقة مَنْ نَفَى عمومَ خَلْقِهِ لكل شيءِ، وقدرتهِ على كلِّ شيءِ، وعِلْمِهِ بكلِّ شيءٍ، وبَعْثَهُ للأجسادِ من القبور ليوم النُّشور. ولا يكون مصدِّقًا بها من زعم أنَّه يترك خَلْقَهُ سُدىً، لم يأمرهم ولم يَنْهَهُم على أَلْسِنَةِ رُسُلِه. ¬
وكذلك التصديق بها يقتضي الإذْعَانَ والإقرارَ بحقوقها، وهي شرائع الإسلام التي هي تفصيل هذه الكلمة. فالتصديقُ بجميع أخباره، وامتثالُ أوامره، واجتنابُ نواهيه، هو تفصيل "لا إله إلا الله"، فالمصدِّق بها على الحقيقة الذي يأتي بذلك كلِّه، وكذلك لم تحصل عصمة المال والدَّم -على الإطلاق- إلا بها، وبالقيام بحقِّها، وكذلك لا تحصل النَّجاة من العذاب -على الإطلاق- إلا بها وبحَقِّها، فالعقوبة في الدنيا [ك/19] والآخرة على تركها، أو ترك حَقِّها. ومن فَسَّر "الحُسْنَى" بالجنَّة؛ فسَّرها بأَعْلَى أنواع الجزاء وكماله. ومن فسَّرها بالخَلَف؛ ذكر نوعًا من الجزاء، فهذا جزاءٌ دنيويٌّ، والجنَّة الجزاء في الآخرة. فرجع التصديق بـ "الحُسْنَى" إلى التصديق بالإيمان وجزائه. والتحقيقُ أنَّها تتناول الأمرين. وتأمَّلْ ما اشتملت عليه هذه الكلمات الثلاث -وهي: الإعطاءُ، والتقوى، والتصديقُ بالحُسْنَى- من العلم والعمل، وتضمَّنته من الهُدَى ودين الحق، فإنَّ "النَّفْسَ" لها ثلاثُ قوى: 1 - قوَّةُ البذل والإعطاء. 2 - وقوَّةُ الكَفِّ والامتناع (¬1). ¬
3 - وقوَّةُ الفَهْم والإدراك. ففيها: قوَّة العلم والشعور؛ وتَتبعها: قوَّةُ الحُبِّ والإرادة، وقوَّةُ البُغْضِ والنُّفْرة [ن/ 17]. فهذه القُوى الثلاثة عليها مدارُ صلاحِها وسعادتها، وبفسادها يكون فسادُها وشقاوتُها. ففساد قوَّة العلم والشعور يوجب له التكذيب بالحُسْنَى. وفساد قوَّة الحبِّ والإرادة يوجب له (¬1) تَرْكَ الإعطاءِ، والمنعَ (¬2). وفساد قوَّة البُغْضِ والنُّفْرة يوجب له تركَ الاتِّقاء. فإذا كمَّلَ قوَّةَ حُبِّهِ وإرادته بإعطائه ما أُمِرَ به، وقوَّةَ بُغْضه ونُفْرَتِه باتقائه ما نُهِيَ عنه، وقوَّةَ علمه وشعوره بتصديقه بكلمة الإسلام وحقوقها وجزائها = فقد زكَّى نفسَهُ، وأعَدَّها لكلِّ حالةٍ يُسْرَى، فصارت "النَّفْسُ" بذلك ميسَّرةً لليُسْرَى. ولمَّا كان الدِّين يدور على ثلاثِ قواعد: فعلِ المأمور، وتركِ المحظور، وتصديقِ الخبر -وإنْ شئتَ قلتَ: الدِّين: طلبٌ، وخبرٌ. والطلبُ نوعان: طلبُ فعلٍ، وطلبُ تركٍ-؛ تضمَّنَت هذه الكلماتُ الثلاثُ مراتبَ الدِّين أجمعَها؛ فالإعطاء: فعل المأمور، والتقوى: ترك المحظور؛ والتصديق بالحُسْنَى: تصديق الخبر = فانتظم ذلك الدِّينَ كلَّه. ¬
بيان حقيقة التيسير لليسرى
وأكملُ النَّاس من كملت له هذه القُوى (¬1) الثلاث، ودخول النَّقْص بحسب نقصانها أو بعضِها (¬2)، فمن النَّاس من تكون قوَّة إعطائه وبذله أتمَّ من قوَّة انكفافه وتركه، فقوَّةُ التَرْكِ فيه أضعفُ من قوَّةِ الإعطاء، ومن النَّاس من تكون قوَّةُ التَرْكِ والانكفافِ فيه أتمَّ من قوَّة الإعطاء، ومن النَّاس من تكون قوَّةُ التصديق فيه أتمَّ من قوَّة الإعطاء والمنع، فقوَّتُه العلميَّة الشعوريَّة أتمُّ من قوَّته الإراديَّة، وبالعكس، فيدخل النَّقْص بحسب ما نقص (¬3) من قوَّة هذه القُوى الثلاث، ويفوته من التيسير لليُسْرَى بحسب ما فاته منها، ومن كملت له هذه القُوى يُسِّرَ لكلِّ يُسْرَى. قال ابن عباس {فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى (7)}: "نُهَيِّئُه لعمل الخير، ونيسِّرها عليه" (¬4). وقال مقاتل، والكلبي، والفرَّاء: "نُيَسِّرُه للعَود إلى العمل الصالح" (¬5). وحقيقة "اليُسْرَى" أنَّها الخَلَّةُ [ح/22] والحالَةُ السَّهْلَةُ النافعةُ الواقعة (¬6) له، وهي ضِدُّ العُسْرَى، وذلك يتضمَّنُ تيسيره للخير وأسبابه، فيُجْرِي الخيرَ ويُيَسِّرُه على قلبِه، ونيتِه (¬7)، ولسانِه، وجوارحِه. فتصير ¬
المراد بالتيسير للعسرى
خصالُ الخير وأسبابُه ميسَّرةً عليه، مذلَّلةً له، مُنْقَادَةً لا تستعصي عليه، ولا تستصعب؛ لأنَّه مُهَيأٌ لها، ميسَّرٌ لفعلها، يسلك سُبُلَها ذُلُلاً، وتنقادُ له علمًا وعملًا، فإذا خالطتهُ قلتَ: هذا هو الذي قيل فيه: مُبارَكُ الطَّلْعَةِ مَيْمُونُها ... يَصْلُحُ للدنيا وللدِّينِ (¬1) {وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ} فعطَل قوَّةَ الإرادة والإعطاء عن فعل ما أُمِرَ به، {وَاسْتَغْنَى (8)} بترك التقوِى عن ربِّه، فعطَّل قوَّةَ الانكفافِ والتَّرْكِ عن فعل ما نُهِيَ عنه، {وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى (9)} فعطَّل قوَّةَ العلم والشعور عن التصديق بالإيمان وجزائه = {فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى (10)}. قال [ز/21] عطاء: "سوف أَحُولُ بين قلبه وبين الإيمان بي وبرسولي" (¬2). وقال مقاتل: "يُعَسَّرُ عليه أن يُعْطَى خيرًا" (¬3). وقال عكرمة، عن ابن عباس: "نُيَسِّرُه للشَّرِّ" (¬4). ¬
التيسير للعسرى يكون بأمرين
قال الواحديُّ: "وهذا هو القول، لأنَّ الشَرَّ يؤدِّي إلى العذاب، فهو الخَلَّة العُسْرَى، والخيرَ يؤدِّي إلى اليُسْرِ والراحةِ في الجنَّة، فهو الخَلَّةُ اليُسْرَى، يقول: سَنُهَيِّئُه للشَّرِّ، بأن نُجْرِيه على يديه" (¬1). قال الفرَّاء: "والعربُ تقوِل: قد يَسَّرَتْ غنمُ فلان، إذا تَهَيَّأَتْ للوِلادة، وكذلك إذا ولدت وغزُرَتْ ألبانُها، أي: يَسَّرَتْ ذلك على أصحابها" انتهى (¬2). والتيسير للعُسْرَى يكون بأمرين: أحدهما: أن يحول بينه وبين أسباب الخير، فيجري الشَّرُّ على قلبه، ونيته، ولسانه، وجوارحه [ك / 20]. والثاني: أن يحول بينه وبين الجزاء الأيسر، كما حال بينه وبين أسبابه. فإن قيل: كيف قَابلَ "اتَّقَى" بـ "استغنى"؟ وهل يمكنُ العبدَ أن يستغنيَ عن ربِّه طَرْفَةَ عَينٍ؟ قيل: هذا من أحسن المقابلة (¬3)، فإنَّ المتَّقِي لمَّا استشعر فَقْرَهُ وفَاقَتَهُ، وشدَّةَ حاجته إلى ربِّه = اتَّقَاهُ، ولم يتعرَّض لسخَطِه وغضبه ومَقْته، بارتكاب ما نهاه عنه. فإنَّ من كان فقيرًا شديدَ الحاجةِ والضرورةِ إلى شخصِ فإنَّه يَتَّقي غضَبَهُ وسخطَهُ عليه غاية الاتِّقَاء، ويجانب ما يكرهُهُ غايةَ المجانبة، ويعتمدُ فعلَ ما يحبُّهُ ويُؤثِرُهُ. ¬
فقابَلَ التقوى بالاستغناء تشنيعًا لحال تارك التقوى، ومبالغةً في ذمِّه؛ بأن فَعَلَ فِعْلَ المستغني عن ربِّه، لا فِعْلَ الفقيرِ المضطرِّ إليه الذي (¬1) لا ملجأ له منه إلا إليه، ولا غنى له عن فضله وجُودِهِ وبِرِّهِ طَرْفَةَ عينٍ. فَلِلَّهِ (¬2) ما أَحْلَى هذه المقابلة، وما أجمع هاتين الآيتين للخيرات كلِّها وأسبابِها، وللشرورِ كلِّها وأسبابِها. فَسُبْحَانَ من تعرَّفَ إلى خواصِّ عباده بكلامه، وتجلَّى لهم فيه، فهم لا يطلبون أثرًا بعد عَينٍ، ولا يستبدلون الحقَّ بالباطل، والصدق بالمَيْنِ. وقد تضمَّنت هاتان الآيتان فَصْلَ الخطاب في مسألة القَدَر، وإزالة كلِّ لَبْسٍ وإشكالٍ فيها، وذلك بَيِّنٌ -بحمد الله- لمن وُفِّقَ لفهمه. ولهذا أجاب بهما (¬3) النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - لمن أورد عليه السؤالَ الذي لا يزال النَّاس يَلْهَجُون به في القَدَر، فأجاب بِفَصْل الخطاب، وأزال الإشكال. ففي "الصحيحين" من حديث علي بن أبي طالب [ن/ 18]-رضي الله عنه- عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنَّه قال: "ما منكم من أحدٍ إلَّا وقد عُلِمَ مَقْعَدُهُ من الجنَّةِ والنَّارِ" قيل: يا رسول الله، أفلا نَدَعُ العَمَلَ، ونتَّكِلُ على كتابنا (¬4)؟ قال: "اعمَلُوا، فكُلٌّ ميسَّر لمَا خُلِقَ له" ثُمَّ قرأ: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى (5) ¬
وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى (6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى (7)} إلى قوله: {لِلْعُسْرَى (10)} (¬1) [الليل/ 5 - 10]. فقد تضمَّنَ هذا الحديث الردَّ على "القَدَريَّة" و"الجَبْرِيَّة"، وإثباتَ القَدَر والشرع، وإثباتَ الكتاب الأوَّل المتضمِّنِ [ح/23] لعلم الله -سبحانه- الأشياءَ قبل كونها، واثباتَ خلق الفعل الجزائي. وهو يبطل أصول "القَدَريَّة" الذين يمنعون خَلْقَ الفعل مطلقًا، ومن أقرَّ منهم بخَلْق الفعل الجزائي دون الابتدائي = هَدَمَ أصلَهُ، ونقضَ قاعدته. والنبيُّ - صلى الله عليه وسلم - أخبر بمثل ما أخبر به الرَّبُّ -تعالى-: أنَّ العبد ميسَّرٌ لمَا خُلِق له (¬2)؛ لا مَجْبُورٌ، فالجَبْر لفظٌ بدعيٌّ، والتيسير لفظ القرآن والسُّنَّة. وفي الحديث دلالةٌ على أنَّ الصحابة كانوا أعلم النَّاس بأصول الدِّين، فإنَّهم تلقَّوها عن أعلم الخلق بالله -عزَّ وجلَّ- على الإطلاق، وكانوا إذا استشكلوا شيئًا سألوه عنه، وكان يجيبُهم بما يُزيل الإشكال، ويبيِّنُ الصوابَ. فهم العارفون بأصول الدِّين حقًا، لا أهلُ البدع والأهواء من المتكلِّمين ومن سلك سبيلهم. وفي الحديث استدلالُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - على مسائل أصول الدِّين بالقرآن، ¬
وإرشادُهُ الصحابةَ إلى استنباطِها منه، خلافًا لمن زعم أنَّ كلامَ الله ورسوله لا يفيد العلم بشيءٍ من أصول الدِّين، ولا يجوز أن تستفاد معرفة الله وأسمائه وصفاته وأفعاله منه، وعبَّرَ عن ذلك بقوله: [ز/ 22] "الأدلَّة اللفظية لا تفيد اليقين" (¬1). وفي الحديث بيان أنَّ من النَّاس من خُلِقَ للسَّعادة، ومنهم من خُلِق للشَّقَاوة، خلافًا لمن زعم أنَّهم كلُّهم خُلِقُوا للسَّعَادة، ولكن اختاروا الشَّقَاوة، ولم يُخْلَقُوا لها. وفيه إثباتُ الأسباب، وأنَّ العبد ميسَّرٌ للأسباب الموصِلة له (¬2) إلى ما خُلِق له. وفيه دليلٌ على اشتقاق السُّنَّةِ من الكتاب، ومطابقتها له. فتأمَّلْ قوله - صلى الله عليه وسلم -: "اعمَلُوا فكلٌّ ميسَّرٌ لما خُلق له" ومطابقته لقوله تعالى: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى (5)} إلى آخر الآيتين، كيف انتظم الشَّرْعَ والقَدَرَ، والسببَ والمسبَّب؟ وهذا الذي أرشد إليه النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - هو الذي فَطَر اللهُ عليه عباده، بل الحيوانَ البهيمَ، بل مصالحَ الدنيا وعمارتها بذلك، فلو قال كلُّ أحدٍ: إنْ كان قُدِّر لي كذا وكذا فلابدَّ أن أنَالَهُ، وإن لم يقدَّر لي فلا سبيل إلى نَيلِهِ، فلا أَسْعَى ولا أتَحَرَّكُ؛ لَعُدَّ من السفهاءِ الجُهَّالِ، ولم يمكنه طَرْدُ ذلك أبدًا، وإن أتى به في أمرٍ مُعَيَّنٍ، فهل يمكنه أن يَطْرُدَهُ في مصالحه ¬
جميعها، من طعامه، وشرابه، ولباسه، ومسكنه، ومَنْكَحِهِ، وهُرُوبِهِ ممَّا يُضَاد بقاءه، وينافي مصالحه، أم يجد نفسه غير منفكَّةٍ أَلْبتَّةَ عن قول النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: "اعمَلُوا فكُلٌّ ميسَّرٌ لمَا خُلِقَ له "؟! فإذا كان هذا في مصالحِ الدنيا، وأسباب منافعها، فما المُوجبُ لتعطيله في مصالح الآخرة، وأسبابِ السَّعَادةَ والفلاح؛ ورَبُّ الدنيا والآخرة واحدٌ؟! فكيف يُعطَّلُ ذلك في شرع الرَّبِّ وأمرِه ونهيه، ويُستَعْمَلُ في إرادةِ العبد، وأغراضِه، وشهواته؟ وهَل هذا إلا مَحْضُ الظلم والجهل، والإنسان ظلومٌ جَهُولٌ، ظلومٌ لنفسه، جهولٌ بربِّه. فهذا الذي أرشد إليه النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -، وتلا عنده هاتين الآيتين، موافق لما جعله اللهُ في عقول العقلاء، وركَّب عليه فِطَرَ الخلائق حتَّى الحيوان البهيم، وأرسل به جميع رسله، وأنزل به جميع (¬1) كتبه. ولو اتَّكَلَ العبدُ على القَدَر ولم يعمل لتعطَّلت الشرائع، وتعطَّلت مصالح العالم، وفسد أمر الدنيا والدَّين، وإئَما يَسْتَرْوِحُ إلى ذلك مُعَطِّلُو الشرائع، ومن خَلَعَ رِبْقَةَ (¬2) الأوامر والنواهي من عنقه، وذلك ميراثٌ من إخوانهم المشركين الذين دفعوا أمرَ اللهِ ونَهْيَهُ، وعارَضوا شرعَهُ بقضائه وقَدَرِهِ، كما حكى اللهُ -سبحانه- ذلك عنهم في غير موضع من كتابه؛ كقوله تعالى: {سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ} الآية وما بعدها [الأنعام/ 148] [ح/ 24]. وقال تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ ¬
شَيْءٍ نَحْنُ وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ} [النحل/ 35]، وقال تعالى: {وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ} الآية [الزخرف/ 20]. وقال تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ} الآية [يس/ 47]. فإن قيل: فالإعطاء، والتقوى، والتصديق بالحُسْنَى (¬1)، هي من اليُسْرَى -بل هي أصل اليُسْرَى- من يسَّرَها للعبد أوَّلًا؟ وكذلك أضدادها؟ قيل: الله -سبحانه- هو الذي يسَّر للعبد أسباب الخير والشَّرِّ، وخَلَقَ خَلْقَهُ قسمين: 1 - أهلَ سَعَادةٍ، فيسَّرهم لليُسْرَى. 2 - وأهلَ شَقَاوةٍ، فيسَّرهم للعُسْرَى. واستعمل هؤلاء في الأسباب التي خُلِقُوا لغَايَاتها، لا يَصْلُحُون لِسِوَاها، وهؤلاء في الأسباب التي خُلِقُوا لغَايَاتها لا يَصْلُحُون لِسوَاها، وحكمتُهُ الباهِرةُ تأْبَى أن يضع عقوبته في موضعٍ لا تصلُح له، كما تَأْبَى أن يَضَع كرامته وثوابه في مَحَلٍّ لا يصلح له ولا يليق به، بل (¬2) حكمةُ آحادِ خلقه تَأْبَى ذلك، ومَنْ [ز/23] جعل مَحَلَّ المِسْكِ والرَّجِيعِ واحدًا فهو من (¬3) أسفه السفهاء. ¬
فإن قيل: فَلِمَ جعل هذا لا يليق به إلا الكَرَامة، وهذا لا يليق به إلا الإهَانة؟ قيل: هذا سؤال جاهلٍ، لا يستحقُّ الجواب، كأنَّه يقول: لِمَ خَلَقَ اللهُ كذا وكذا؟ فإن قيل: [ن/19] وعلى هذا، فهل لهذا الجاهل من جوابٍ، لعلَّهُ يَشْفَى من جهله؟ قيل: نعم؛ شأنُ الربوبية خَلْقُ الأشياءِ وأضدادِها، وخَلْقُ المَلْزُومات ولوازِمِها، وذلك هو مَحْضُ الكَمَال. فالعُلُوُّ لازِمٌ وملزومٌ للسُّفْلِ، والليلُ لازمٌ وملزومٌ للنَّهار، وكمالُ هذا الوجود بالحَرِّ والبَرْدِ، والصَّحْوِ والغَيْم. ومن لوازم الطبيعة الحيوانية: الصحَّةُ، والمَرَضُ، واختلافُ الإرادات، والمُرَادَات. ووجودُ المَلْزُومِ بدون لازِمِه ممتنعٌ (¬1)، ولولا خَلْقُ المُضَادَّاتِ (¬2) لَمَا عُرِفَ كمالُ القدرة والمشيئة والحكمة، ولَمَا ظهرت أحكامُ الأسماء والصفات، وظهورُ أحكامِها وآثارِها لابدَّ منه، إذ هو مقتضى الكمالِ المقدَّسِ، والمُلْكِ التامِّ. وإذا أعطيتَ اسمَ "المَلِك" حقَّه -ولن تستطيع- علمتَ أنَّ الخلقَ والأمرَ، والثوابَ والعقابَ، والعَطَاءَ (¬3) والحرمانَ = أمرٌ لازِمٌ لصفة المُلْكِ، وأنَّ صفة المُلْكِ تقتضي ذلك ولابدَّ، وأنَّ تَعَطُلَ هذه الصفة أمرٌ ¬
فصل: تفسير قوله تعالى: {إن علينا للهدى (12) وإن لنا للآخرة والأولى}
ممتنعٌ. فالمُلْكُ الحقُّ يقتضي إرسالَ الرُّسُل، وإنزالَ الكتب، وأمرَ العباد، ونَهْيَهم، وثوابَهم، وعقابَهم، وإكرامَ من يستحقُّ الإكرام، وإهانةَ من يستحقُ الإهانة. كما يستلزِمُ حياةَ "المَلِكِ"، وعلمَهُ، وإرادتَهُ، وقدرتَهُ، وسمعَهُ، وبصرَهُ، وكلامَهُ، ورحمتَهُ، ورضاهُ، وغضبَهُ، واستواءَهُ على سرير مُلْكِه، يدبِّرُ أمرَ عباده. وهذه الإشارة تكفي اللبيبَ في مثل هذا الموضع، ويَطَّلِعُ منها على رياضٍ مُونِقَةٍ، وكنوزٍ من المعرفة، وبالله التوفيق. فصل ثُمَّ قال تعالى: {إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى (12) وَإِنَّ لَنَا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولَى} [الليل/ 12 - 13]؛ قيل: معناه: إن علينا أن نُبيِّنَ طريقَ الهُدَى من طريق الضلال. قال قتادة: "على الله البيانُ؛ بيانُ حلاله وحرامه، وطاعته ومعصيته" (¬1). اختاره أبو إسحاق (¬2)، وهو قول مقاتل (¬3)، وجماعة. ¬
وهذا المعنى حقٌّ، ولكنَّ مرادَ الآية شيءٌ آخر. وقيل: المعنى: إنَّ علينا للهُدَى والإضْلاَل. قال ابن عباس [ك/ 22]-رضي الله عنهما- في رواية عطاء: "يريد: أُرْشِدُ أوليائي إلى العمل بطاعتي، [ح/ 25] وأَحُولُ بين أعدائي وبين أن يعملوا بطاعتي". قال الفرَّاء: "فَتَرَكَ ذكر الإضْلاَل، كما قال: {سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ} [النحل/81]، أي: والبرد" (¬1). وهذا أضعف من القول الأوَّل، وإن كان معناه صحيحًا، فليس هو معنى الآية. وقيل: المعنى: من سَلَكَ الهُدَى فعَلَى الله سبيلُه، كقوله تعالى: {وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ} [النحل/ 9]، وهذا قول مجاهد (¬2)، وهو أصحُّ ¬
الأقوال في الآية. قال الواحديُّ: "علينا الهُدَى، أي: إنَّ الهُدَى يُوصِلُ صاحبه إلى الله، وإلى ثوابه وجنَّته" (¬1). وهذا المعنى في القرآن في ثلاثة مواضع: ههنا، وفي "النَّحْل" في قوله تعالى: {وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ} [النحل/ 9]، وفي "الحِجْر" قال: {هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ (41)} [الحجر/ 41]. وهو معنىً شريفٌ جليلٌ، يدلُّ على أنَّ سالك طريق الهُدَى يُوصِلُه طريقُهُ (¬2) إلى الله -عزَّ وجلَّ- ولابدَّ، والهُدَى هو الصراط المستقيم (¬3) فمن سلكه أوصله إلى الله تعالى، فذَكَرَ الطريق والغاية، فالطريقُ: الهُدَى، والغايةُ: الوصولُ إلى الله -عزَّ وجلَّ-، فهذه أشرفُ الوسائل، وغايتُها أَعْلَى الغايات. ولمَّا كان مطلوبُ السالك إلى الله تحصيلَ مصالح دنياه وآخرته لم يتمَّ له هذا المطلوب إلا بتوحيد طلبهِ، والمطلوب منه. فأَعْلَمَهُ -سبحانه- أنَّ سواه لا يملك من الدنيا والآخرة شيئًا، وأَنَّ الدنيا والآخرة جميعًا له وحده، فإذا تيقَّنَ العبدُ ذلك اجتمع طَلَبُهُ ومطلُوبُهُ على مَنْ يملك الدنيا والآخرة وحده [ز/ 24]. ¬
تضمنت الآيتان أربعة أمور هي المطالب العالية
فتضمَّنَتْ الآيتان أربعةَ أمورٍ، هي المطالب العالية: 1 - ذكرَ أَعْلَى الغايات؛ وهو الوصول إلى الله سبحانه. 2 - وأقربَ الطُّرُقِ والوسائلِ إليه، وهي طريقة الهُدَى. 3 - وتوحيدَ الطريقِ؛ فلا يُعدَلُ عنها إلى غيرها. 4 - وتوحيدَ المطلوبِ، وهو الحقُّ، فلا يُعدَل عنه إلى غيره. فاقْتَبسْ هذه الأمور من مشكاةِ هذه الكلمات، فإنَّ هذا غاية العلم والفهم، وَبالله التوفيق. والهُدَى التَّامُّ يتضمَّنُ: توحيدَ المطلُوبِ، وتوحيدَ (¬1) الطَّلَبِ، وتوحيدَ الطريقِ المُوصِلة. والانقطاعُ وتخلُّفُ الوصولِ يقع من (¬2) الشركة في هذه الأمور، أو في بعضها: فالشركة في المطلوب تنافي التوحيد والإخلاص، والشركة في الطلب تنافي الصِّدْقَ والعزيمة، والشركة في الطريق تنافي اتِّبَاعَ الأمر. فالأوَّل: يوقع في الشِّرْكِ، والرِّيَاء. والثاني: يوقع في المعصيةِ، والبَطَالَةِ. والثالث: يوقع في البدعةِ، ومُفَارَقَةِ السُّنَّةِ، فتأمَّلْهُ. ¬
فـ "توحيدُ المطلوب" يعصِمُ من الشِّرْك، و"توحيدُ الطلب" يعصِمُ من المعصية، و"توحيدُ الطريق" يعصِمُ من البدعةِ، والشيطانُ إنَّما يَنْصِبُ فَخَّهُ بهذه الطرق الثلاثة. ولمَّا أقام -سبحانه- الدليلَ، وأنارَ السبيل، وأوضحَ الحُجَّةَ، وبيَّنَ المَحَجَّةَ = أنذرَ عبادَه عذابَه الذي أعدَّهُ لمن كذَّبَ خَبَرَهُ، وتولَّى عن طاعته. وجعلَ هذا الصِّنْفَ من النَّاس هم أشقاهم، كما جعل أَسْعَدَهم أهلَ التقوى والإحسان والإخلاص، فهذا الصِّنْفُ هو الذي يُجَنَّبُ (¬1) عذابه، كما قال تعالى: {وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى (17) الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى (18)} [الليل/ 17 - 18]، فهذا المتَّقِي المُحْسِنُ، ولا يفعلُ ذلك إلا ابتغاءَ وجه ربِّه، فهو مُخْلِصٌ في تقواه وإحسانه. وفي الآية إرشادٌ إلى أنَّ صاحب التقوى لا ينبغي له أن يتحمَّلَ مِنَنَ الخَلْق [ن/ 20] ويعَمَهُم، وإن حَمَلَ منها شيئًا بادَرَ إلى جزائهم عليه؛ لئلَّا يبقى لأحدٍ من الخَلْقِ عليه نعمةٌ تُجْزَى، فيكون بعد ذلك عمله كلُّه لله وحده، ليس جزاءً للمخلوق على نعمته. ونبَّه بقوله: {تُجْزَى (19)} على أنَّ نعمة الإسلام التي لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - على هذا الأتقى لا تُجْزَى، فإنَّ كلَّ ذي نعمةٍ يمكن جزاءُ نعمته إلا نعمة الإسلام، فإنَّها لا يمكن جزاؤها من المُنْعَمِ بها عليه (¬2)، وهذا يدلُّ على أنَّ الصدِّيقَ -رضي الله عنه- أوَّلُ وأَوْلَى من ذُكِرَ في هذه الآية (¬3)، وأنَّه ¬
أحقُّ الأُمَّة بها، فإنَّ عليًّا [ح/26]-رضي الله عنه- تربَّى في بيت النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، فَلِرَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - عنده نعمةٌ غير نعمةِ الإسلام، يمكن أن تُجْزَى. ونبَّهَ -سبحانه- بقوله: {إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى (20)} على أنَّ من ليس لمخلوقٍ عليه نعمةٌ تُجْزَى لا يفعل ما يفعله إلا ابتغاءَ وجهِ ربِّهِ الأعلى، بخلاف من تطوَّقَ بنِعَم المخلوقين ومِنَنِهِم، فإنَّه مُضطَرٌّ إلى أن يفعل لأجلهم، ويترك لأجلهم. ولهذا كان من كمال الإخلاص أن لا يجعل العبدُ عليه مِنَّةً لأحدٍ من النَّاس، [ك/23] لتكون معاملته كلها لله إبتغاء وجهه، وطلب مرضاته. وكما أنَّ هذه الغايةَ أعلى الغايات، وهذا المطلوبَ أشرفُ المطالب؛ فهذه الطريقُ أقْصَدُ الطرق إليه، وأقربُها، وأقومُها، وبالله التوفيق. ¬
فصل: القسم في سورة الضحى
فصل ومن ذلك إقسامُهُ -سبحانه- بالضُّحَى {وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى (2)} [الضحى/ 2] على إنعامه على رسوله - صلى الله عليه وسلم -، وإكرامه له، وإعطائه ما يرضيه، وذلك متضمِّنٌ لتصديقه له، فهو يُقْسِم (¬1) على صحَّةِ نُبَوَّته، وعلى جزائه في الآخرة، فهو قَسَمٌ على النُّبوَّة والمَعَاد. وأقسم بآيتين عظيمتين من آياته؛ دالَّتَين على ربوبيته، وحكمته، ورحمته، وهما الليل والنَّهار. فتأمَّلْ مطابقةَ هذا القَسَم -وهو نورُ الضُّحَى الذي يوافي بعد ظلام الليل- للمُقْسَم عليه؛ وهو نورُ الوحي الذي وَافَاهُ بعد احتباسِهِ عنه، حتَّى قال أعداؤُه: "وَدَّع محمدًا ربُّهُ" (¬2). فأقسَمَ بضوء النَّهار بعد ظلمة الليل على ضوء الوحي ونوره، بعد ظلمة احتباسه (¬3) واحتجابه. ¬
الرضا الذي يعطاه نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - عام
وأيضًا؛ فإنَّ الذي فَلَقَ ظلمةَ الليل عن ضوءِ النَّهار؛ هو الذي فَلَقَ ظلمة الجهل والشرك بنور الوحي والنُّبوَّة، فهذان للحِسِّ، وهذان للعقل. وأيضًا؛ فإنَّ الذي اقتضت رحمتُهُ أن لا يترك عبادَهُ في ظلمة الليل سرمدًا، [ز/25] بل هداهم بضوء النَّهار إلى مصالحهم ومعايشهم = لا يليق به أن يتركهم في ظلمة الجهل والغَيِّ، بل يهديهم بنور الوحي والنُّبوَّة إلى مصالحهم في دنياهم وآخرتهم. فتأمَّلْ حُسْنَ ارتباطِ المُقْسَم به بالمُقْسَم عليه، وتأمَّلْ هذه الجزالةَ والرَّوْنَقَ الذي على هذه الألفاظ، والجلالةَ التي على معانيها. ونفَى -سبحانه- أن يكون ودَّعَ نبيَّهُ أو قَلاَهُ، فالتوديع: التَّرْكُ، والقِلَى: البُغْضُ، فما تَرَكَهُ منذ اعتنى به وأكرمه، ولا أبغَضَهُ منذ أحبَّهُ. وأطلق -سبحانه- أنَّ الآخرة خيرٌ له من الأُولَى، وهذا يَعُمُّ كلَّ أحواله، وأنَّ كلَّ حالةٍ يُرقّيه إليها هي خيرٌ له ممَّا قبلها، كما أنَّ الدارَ الآخرة خيرٌ له ممَّا قبلها. ثُمَّ وِعَدَهُ بما تَقَرُّ به عَيْنُهُ؛ وتفرَحُ به نفسُهُ، وينشرحُ به صدرُهُ، وهو أن يعطيه فيُرضِيه (¬1)؛ وهذا يَعُمُّ ما يعطيه من القرآنِ، والهُدَى، والنَّصْرِ، وكثرةِ الأتْبَاع، ورَفْع ذِكْرِهِ، وإعلاءِ كلمتِه، وما يعطيه بعد مماته، وما يعطيه في موقف القياَمة، وما يعطيه في الجَنَّة. وأمَّا ما يغترُّ به الجُهَّالُ، من أنَّه لا يرضَى وواحدٌ من أُمَّته في النَّار، ¬
أو لا يرضَى أن يدخل أحدٌ من أُمَّته النَّار = فهذا منِ غرور الشيطان لهم، ولَعِبهِ بهم، فإنَّه -صلوات الله وسلامه عليه- يرضى بما يرضَى به ربُّهُ تباركَ وتعالى، وهو -سبحانه- يُدخِل النَّارَ من يستحقُّها من الكفار، والعُصَاة، والمنافقين من هذه الأُمَّة وغيرها (¬1)، ثُمَّ يَحُدُّ لرسوله حَدًّا يشفع فيهم، ورسولُهُ أَعْرَفُ به وبحقِّهِ من أن يقول: لا أرضى أن تُدخِلَ أحدًا من أُمَّتي النَّار، أو تَدَعَهُ فيها، بل رَبُّهُ -تبارك وتعالى- يأذن له، فيشفع فيمن شاء اللهُ أن يشفع فيه، ولا يشفع في غير من أذِنَ له، ورضيَهُ تعالى (¬2). ¬
ثُمَّ ذكَرهُ -سبحانه- بنعَمِهِ عليه؛ من إيوائه بعد يُتْمِهِ، وهدايتِهِ بعد الضلالة (¬1)، وإغنائه [ح/27] بعد الفقر، فكان محتاجًا إلى من يُؤْوِيهِ، ويَهْدِيهِ، ويُغْنِيهِ، فآواه ربُّهُ وهدَاهُ وأغناه. فأمَرهُ -سبحانه- أن يقابل هذه النِّعَمَ الثلاثةَ بما يليق بها من الشُّكْر؛ فنهَاهُ أن يقْهَرَ اليتيمَ، وأن يَنْهَرَ السائلَ، وأن يكتم النِّعْمةَ، بل ¬
اختلاف المفسرين في "السائل"
يحدِّث بها. فأوصاه -سبحانه- باليتامى، والفقراء، والمتعلِّمين. قال مجاهد، ومقاتل: "لا تحقر اليتيمَ، فقد كنتَ يتيمًا" (¬1). وقال الفرَّاء: "لا تقهَرْهُ على ماله، فتذهب [ن/21] بحَقِّهِ لِضَعْفِهِ" (¬2). وكذلك كانت العرب تفعل في أمر اليتامى، تأخذ أموالهم وتظلمهم (¬3)، فغَلَّظَ الخطابَ فى أمر اليتيم، وكذلك من لا ناصر له يُغلَّظ في أمره، وهو نهيٌ لجميع المكلُّفِين. {وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ (10)}؛ قال (¬4) أكثر المفسِّرين: هو سائل المعروف والصدقة؛ لا تنهره إذا سأَلكَ، فقد كنتَ فقيرًا؛ فإمَّا أن تُطعِمه، وإمَّا أن تردَّهُ ردًّا لينًا. وقال الحسن: "أَمَا إنَّه ليس بالسائل الذي يأتيك، ولكن طالب العلم". وهذا قول يحيى بن آدم (¬5)، قال: "إذا جاءك طالبُ العلم فلا ¬
بيان النعمة التي أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يتحدث بها
تنهره" (¬1). والتحقيق: أنَّ الآية تتناول النَّوعَين. وقوله تعالى: {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ (11)}؛ قال مجاهد: "بالقرآن" (¬2). قال الكلبي: "يعني: أَظْهِرْها، والقرآن أعظَمُ ما أنعم الله به عليه، فأمره أن يُقْرِئَهُ ويعلِّمَهُ" (¬3). وروى أبو بِشْر (¬4)، عن مجاهد: "حَدِّثْ بالنُّبوَّة التي أعطاك ¬
الله" (¬1). وقال الزجَّاجُ: "وبلّغْ ما أُرسلْتَ به، وحدِّث بالنُّبوَّة التي آتاك، وهي أجلُّ النِّعَم" (¬2). - وقال مقاتل: "اشكُرْ هذه النِّعَمَ التي ذُكِرَتْ [ك/24] في هذه السورة" (¬3). والتحقيق: أنَّ النِّعَم تعُمُّ هذا كلَّه، فأُمِر أن لا ينهر سائلَ المعروفِ والعلمِ، وأن يحدِّثَ بِنعَم الله عليه في الدنيا والدِّين. ¬
فصل: القسم في سورة العاديات
فصل ومن ذلك إقسامُهُ -سبحانه- بـ {وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا} [العاديات/ 1] الآية وما بعدها. وقد اختلف الصحابة ومن بعدهم في ذلك: فقال علي بن أبي طالب، وعبد الله بن مسعود -رضي الله عنهما-: "هي إبلُ الحاجِّ (¬1)، تَعْدُو من عَرَفَة إلى مزدلفة، ومن مزدلفة إلى مِنَى". وهذا اختيار: محمد بن كعب (¬2)، وأبي صالح، وجماعةٍ من المفسِّرين (¬3). وقال عبد الله بن عباس: "هي خيل الغُزَاة". وهذا قول: أصحاب ابن عباس، والحسن، وجماعة (¬4). ¬
بيان معنى "الضبح" في الناقة
واختاره: الفرَّاء (¬1)، والزجَّاج (¬2). قال أصحاب قول "الإبل": السورة مكِّيةٌ، ولم يكن ثَمَّ جهادٌ، ولا خيلٌ تجاهد، وإنَّما أقسَمَ بما يعرفونه ويَأْلفُونَه، وهي إبل الحاجِّ إذا عَدَتْ من عرفة إلى مزدلفة، فهي "عَادِيَات". و"الضَّبْحُ" و"الضَّبْعُ": مدُّ النَّاقة ضَبْعَها في السَّيْر (¬3)، يقال: ضَبَحَتْ، وضبَعَتْ؛ بمعنىً (¬4). وأنشَدَ أبو عبيدة -وقد اختار [ز/ 26] هذا القول (¬5) -: فكانَ لكُمْ أَجْرِي جميعًا وأَصبَحَت (¬6) ... بي البَازِلُ الوَجْنَاءُ في الأَلِّ تَضْبَعُ (¬7) ¬
قالوا: فهي تعدو ضَبْحًا، فَتُوري بأخفافها النَّارَ من حَكِّ الأحجار بعضها ببعضٍ، فتثير النَّقْعَ -وهو الغُبار- بِعَدْوِها، فتتوسَّط (¬1) جَمْعًا وهو المزدلفة. قال أصحاب قول "الخيل": المعروف في اللغة أنَّ "الضَّبْحَ" أصواتُ أنفاس الخيل إذا عَدَوْنَ (¬2)، والمعنى: والعادياتِ تضبح ضبحًا، أو: والعادياتِ ضابحةً، فتكون "ضَبْحًا" مصدرًا على الأوَّل، وحالًا على الثاني. قالوا: والخيل هي التي تَضْبَحُ في عَدْوِها ضَبْحًا، وهو صوتٌ يُسْمَعُ من أَجْوَافِها، ليس بالصَّهِيل ولا الحَمْحَمَةِ، ولكنه صوت أنفاسها في أجْوَافِها (¬3) من شدَّة العَدْوِ. قال الجُرْجَانيُّ (¬4): "كلا القولين قد جاء في التفسير، إلا أنَّ ¬
السياق يدلُّ على أنَّها الخيل، وهو قوله تعالى: {فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا (2)}، و"الإيرَاءُ" لا يكون إلا للحَافِرِ لصلابته، وأمَّا الخُفُّ ففيه لِينٌ واسترخاءٌ" انتهى. قالوا: و"الضَّبْحُ" في الخيلِ أظهرُ منه في الإبل (¬1)، و"الإيرَاءُ" لسَنَابِكِ الخيل أَبْيَنُ منه لأخفاف الإبل. قالوا: و"النَّقْعُ" هو الغُبار، وإثارة الخيل بعَدْوِها له أظهر من إثارة أخفاف الإبل؛ لأنَّها لصلابة حَوَافِرها وسنابكها تثير من الغُبار بعَدْوِها ما لا تثيره أخفاف الإبل. والضمير في "به" عائدٌ [ح/28] على المكَان الذي تعدو فيه. قالوا: وأعظم ما يَثُورُ الغُبارُ عند الإغَارَة إذا توسَّطَت الخيلُ جَمْعَ العَدُوِّ، لكثرةِ حركتها واضطرابها في ذلك المكان. وأمَّا حمل الآية على إثارة الغُبار في وادي "مُحَسِّر" عند الإغارة = فليس بالبيِّنِ، ولا يثُور هناك غُبارٌ في الغالب؛ لصلابة المكان. قالوا: وأمَّا قولكم إنَّه لم يكن بمكَّة حين نزول الآية جهادٌ ولا خيلُ مجاهدين، فهذا لا يلزِم؛ لأنَّه -سبحانه- أقسَمَ بما يعرفونه من شأن الخيل إذا كانت في غزْوٍ، فأَغَارَتْ فأَثَارَت النَّقْعَ، وتوسَّطَت جَمْعَ العَدُوِّ، وهذا أمرٌ معروفٌ. وذِكْرُ خيلِ المجاهدين أحقُّ ما دخل في هذا الوصف، فذِكْرُهُ على وجهِ التمثيل لا الاختصاص، فإنَّ هذا شأنُ خيل المقاتِلة، وأشرف أنواع ¬
الحكمة في تخصيص الإغارة بالضبح
هذا الخيل: خيلُ المجاهدين (¬1). والقَسَمُ إنَّما وقع بما تضمَّنه شأن هذه "العاديات" من الآيات البيِّنات من خلق هذا الحيوان الذي هو من أكرم الحيوان البهيم وأشرفه، وهو الذي يحصل به الغَزْوُ (¬2) والظَّفَر، والنَّصْرُ على الأعداء، فتَعْدُو طالبةً للعَدُوِّ وهاربةً منه، فيُثيرُ عَدْوُها الغُبارَ لشدَّتِهِ، وتُورِي حَوَافِرُها وسَنَابِكُها النَّارَ من الأحجار؛ لشدَّة عَدْوِها، فَتُدْرِكُ الغَارَة التي طَلَبَتْها حتَّى تتوسَّط جَمْعَ الأعداء، فهذه من أعظم آيات الرَّبِّ -تعالى-[ن/ 22] وأدلَّةِ قدرته وحكمته. فذكَّرَهم بِنعَمِه عليهم في خلق هذا الحيوان الذي ينتصرون به على أعدائهم، ويُدْرِكُون به ثأْرَهم. كما ذكَّرهم -سبحانه- بِنعَمِه (¬3) عليهم في خلق الإبل التي تحمل (¬4) أثقالهم من بلدٍ إلى بلدٍ، فالإبلُ أَخَصُّ بحَمْلِ الأثقال، والخيلُ أخصُّ بنُصْرَةِ الرجال، فذكَّرَهم بنعَمِه بهذا وهذا. وخصَّ الإغارة بالصُّبْح؛ لأنَّ العَدُوَّ لم ينتشروا إذ ذاك، ولم يفارقوا مَحَلَّهم (¬5)، وأصحاب الإغارة جامُّون مستريحون، يبصرون مواقع الغَارَة، والعَدُوُّ لم يأخذوا أُهْبَتَهم، بل هم في غِرَّتِهم وغَفْلَتِهم، ولهذا كان النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - إذا أرادَ الغَارَة صبر حتَّى يطلع الفجر، فإن سمع ¬
من قال إنها "الإبل" تأولوا الآية على وجوه بعيدة
[ك/ 25] مُؤَذِّنًا أَمْسَكَ، وإلا أَغَارَ (¬1). ولمَّا علم أصحاب الأبل أنَّ أَخْفَافَها أَبْعَدُ شيءٍ من وَرْي النَّارِ؛ تأوَّلُوا الآيةَ على وجوةٍ بعيدة. فقال محمد بن كعب القُرَظي: "هُمُ الحاجُّ إذا أوقدوا نيرانَهم ليلةَ المزدلفة" (¬2). وعلى هذا فيكون (¬3) التقدير: فالجماعات المُورِيَات. وهذا خلاف الظاهر؛ وإنَّما "المُورِيات" هي: العَادِيَات، وهي: المُغِيرات. روى سعيد بن جبير، عن ابن عباس: "هم الذين يغيرون، فَيُورُون بالليل نيرانهم لطعامهم وحاجتهم" (¬4). كأنَّه أخَذَهُ من قوله تعالى: {أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ (71)} [الواقعة/ 71]. وهذا إن أُريد به التمثيل، وأنَّ الآية تدلُّ عليه = فصحيحٌ. وإن أُريد به اختصاص "الموريات" به فليس كذلك؛ لأنَّ "الموريات" هي ¬
العاديات بعينها، ولهذا عطفها عليها بـ "الفاء" التي للتسبيب (¬1)، فإنَّها [ز/ 27] عَدَتْ فأَوْرَتْ. وقال قتادة: "الموريات" هي الخيلُ؛ تُورِي نارَ العداوة بين المُقْتَتِلين" (¬2). وهذا ليس بشيء، وهو بعيدٌ من معنى الآية وسياقها. وأضعف منه قول عكرمة: "هي الألسنةُ؛ تُورِي نارَ العداوة بِعِظَم ما تتكلَّم به" (¬3). وأضعف منه ما ذكر عن مجاهد: "هي أفكار الرجال؛ تُورِي نارَ المكر والخديعة في الحرب" (¬4). وهذه الأقوال إن أُريد بها أنَّ اللفظَ دلَّ عليها وأنَّها هي المراد = فَغَلَطٌ، وإن أُريد أنَّها أُخِذت من طريق الإشارة والقياس؛ فأمرها قريبٌ (¬5). ¬
وتفسير النَّاس يدور على ثلاثة أصول: 1 - تفسيرٌ على اللفظ؛ وهو الذي ينحو إليه المتأخرون. 2 - وتفسيرٌ على المعنى، وهو الذي يذكره السلف. 3 - وتفسيرٌ على الإشارة والقياس؛ وهو الذي ينحو إليه كثيرٌ من الصوفية وغيرهم. وهذا لا بأس به بأربعة شرائط: 1 - أن لا يناقض معنى الآية. 2 - وأن يكون معنىً صحيحًا في نفسه. 3 - وأن يكون في اللفظ إشعارٌ به. 4 - وأن يكون بينه وبين معنى الآية ارتباطٌ وتلازُمٌ [ح/ 29]. فإذا اجتمعت هذه الأمور الأربعة كان استنباطًا حسنًا. وأضعفُ من ذلك كلِّه قولُ ابنِ جُريج: " {فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا (2)} يعني: فالمُنْجِحَات أَمْرًا، يريد البالغين نُجْحَهُم فيما طلبوه" (¬1). وعطف قوله: {فَأَثَرْنَ} و {فَوَسَطْنَ} -وهما فِعْلَان- على: ¬
فصل: بيان معنى "الكنود" في اللغة
العاديات، والموريات؛ لما فيه من معنى الفعل، وكان ذكرُ (¬1) الفعل في "أثَرْنَ" و"وَسَطْنَ" أحسنَ من ذكر الاسم؛ لأنَّه -سبحانه- قَسَّمَ أفعالهنَّ إلى قسمين: وسيلةٍ، وغايةٍ. فالوسيلة هي العَدْوُ وما يتبعه من الإيْرَاءِ والإغَارَةِ. والغاية هي توسُّط الجَمْعِ وما يتبعه من إثارة النَّقْع. فهُنَّ عادياتٌ، مورياتٌ، مُغِيراتٌ، حتَّى يتوَسَّطْنَ الجَمْعَ، ويُثِرنَ النَّقْعَ. فالأوَّلُ: شَأنُهُنَّ الذي أُعْدِدْنَ له. والثاني: فعلُهُنَّ الذي انْتَهَين إليه، والله أعلم. فصل (¬2) فهذا شأن القَسَم، وأمَّا شأن المُقْسَم عليه فهو حال الإنسان، وهو كونُ الإنسان كَنُودًا -بشهادته على نفسه، أو شهادة ربِّه عليه-، وكونُه بخيلاً لحُبِّه المال. و"الكَنُود": الكَفُور للنِّعمة، وفعله: كنَدَ يَكْنُدُ كُنُودًا، مثل: كَفَرَ يَكْفُرُ كُفُورًا. والأرض الكَنُود: التى لا تنبت شيئًا، وامرأةٌ كُنُدٌ أي: كَفُورٌ للمعاشرة (¬3). وأصل اللفظة: مَنْعُ الحقِّ والخير، ورجلٌ كَنُودٌ: إذا كان مانعًا لما ¬
عليه من الحقِّ. وعبارات المفسِّرين تدور على هذا المعنى. قال ابن عباس -رضي الله عنهما- وأصحابُه: "هو الكَفُور" (¬1). وقيل: هو البخيل الذي يمنع رِفْدَهُ، ويُجيع عبدَهُ، ولا يعطي في النَّائبة (¬2). ¬
توجيه الأقوال في تفسير قوله تعالى: {وإنه على ذلك لشهيد}
وقال الحسن: "هو اللوَّامُ لربِّهِ، يَعُدُّ المصائبَ، ويَنْسَى النِّعَمَ" (¬1). قال محمود الورَّاق (¬2) في ذلك: يا أيُّها الظالمُ في فعله ... والظلمُ مردودٌ على مَنْ ظلَمْ إلى متَى أنتَ، وحتَّى متى ... تَشْكُو المُصِيبَاتِ، وتنسَى النِّعَمْ (¬3). وأمَّا قوله تعالى: {وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ (7)}؛ فقال ابن عباس: ¬
"يريد: وإنَّ ربَّهُ على ذلك لشهيد" (¬1). وقيل: وإنَّ الإنسان لشهيدٌ على ذلك، إن أنكره بلسانه شَهِد به عليه (¬2) حاله (¬3). ويؤيِّد هذا القول اتِّسَاقُ الضمائر، فإنَّ قوله: {وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ (8)} للإنسان، فافتتحَ الخبرَ عن الإنسان بكونه كَنُودًا، ثُمَّ ثنَّاهُ بكونه (¬4) شهيدًا على ذلك، ثُمَّ ختمَهُ بكونه بخيلاً بماله لحُبِّهِ إيَّاهُ. ويؤيِّدُ قولَ ابن عباس -رضي الله عنهما- أنَّه أتى بـ"على" فقال: {وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ (7)} أي: مطَّلِعٌ عالمٌ به، كقوله تعالى: {ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ (46)} [يونس: 46]، ولو أُريد شهادةُ الإنسان لأَتَى بـ"الباء"، فقيل: وإنَّه بذلك لشهيدٌ؛ كما قال تعالى: {مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ} [التوبة: 17]، فلو أراد شهادةَ الإنسان لقال: وإنَّه على نفسه لشهيد، فإنَّ كُنُودَه هو المشهودُ به، ونفسه هي المشهودُ عليها. ¬
تفسير قوله تعالى: {وإنه لحب الخير لشديد}
ثُمَّ قال تعالى: {وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ (8)}، و"الخَير" هاهنا: المالُ باتفاق المفسِّرين (¬1). و"الشَّدِيد": البخيل، والمعنى: وإنَّه لبخيلٌ من أَجْل حُبِّ المال، فحُبُّ المال هو الذي حمله على البُخْل، هذا قول الأكثرين (¬2). وقال ابن قتيبة: "بل المعنى: إنَّه شديدُ الحُبِّ للخير، فتكون "اللاَّمُ " في قوله {لِحُبِّ الْخَيْرِ} متعلِّقةً بقوله: {لَشَدِيدٌ (8)} على حدِّ تعلُّقِ قولك: إنَّهُ لِزَيْدٍ لَضَارِبٌ" (¬3). ¬
ومَنَعَت طائفةٌ من النُّحَاة أن يعمل ما بعد "اللاَّم" فيما قبلها، وهذه الآيات حُجَّةٌ على الجواز، فإنَّ قوله: {لِرَبِّهِ} معمول {لَكَنُودٌ (6)}، وقوله: {عَلَى ذَلِكَ} معمول {لَشَهِيدٌ (7)}، ولا وجه للتكلُّف البارد في تقدير عامِلٍ مقدَّمٍ محذوفٍ يفسِّرُه هذا المذكور، فالحقُّ جوازُ: إنِّي لِزَيْدٍ لَضَارِبٌ. فوصف - سبحانه - الإنسانَ بكفران نِعَمِ ربِّهِ، وبُخْلِهِ بما آتاه من الخير، فلا هو شكورٌ لِنعَمِ الله، ولا محسِنٌ إلى خلق الله، بل بخيلٌ بشكر الله، بخيل بمال الله، وهذا ضِدُّ المؤمن الكريم، فإنَّه مخلِصٌ لربِّهِ، محسِنٌ إلى خلقه (¬1)، فالمؤمن له الإخلاص والإحسان، والفاجر له الكفر والبخل. وقد ذَمَّ الله - سبحانه - هذين الخُلُقَين المُهْلِكَين في غير موضعٍ من كتابه، كقوله تعالى: {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ (4) الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ (5) الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ (6) وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ (7)} [الماعون: 4 - 7]، فلا إخلاص ولا إحسان. وكذلك قوله تعالى: {وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ (23) الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ} الآية [الحديد: 23 - 24]، فِاختيال الإنسان وفَخْرُهُ من كُفْره وكُنُودِه، وهذا ضدُّ قوله تعالى: {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3)} [البقرة: 3]، وقوله تعالى: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} الآية (¬2) [النساء: 36]. ¬
وكذلك ذَكَرَ الخُلُقَين الذمِيمَين في قوله عزَ وجَلَّ: {وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ} [النساء: 38] إلى قوله (¬1): {وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ} [النساء: 39]. ونظيره ما تقدَّمَ (¬2) في سورة "الليل" من ذَمَّ المستغني البخيل، ومَدْحِ المعطي المُصَدِّق بالحُسْنَى. ونظيره ذَمُّ الهُمَزَةِ اللُّمَزَة (¬3) {الَّذِي جَمَعَ مَالًا وَعَدَّدَهُ (2)} [الهمزة: 2]، فإنَّ "الهَمْزَ" و"اللَّمْزَ" من الفَخْر والكِبْر، وجمْعَ المال وتعديدَهُ من البُخْل، وذلك مُنَافٍ لِسِرِّ الصلاة والزكاة ومقصودِهما. ثُمَّ خوَّفَ -سبحانه- الإنسانَ الذي هذا وَصْفُه حين يُبَعْثَرُ ما في القبور؛ أي: يُثَارُ ويُخرَجُ، ويُحصَّلُ ما في الصدور؛ أي: مُيِّزَ، وجُمِعَ، وبُيِّنَ، وأُظهِرَ، ونحو ذلك. وجمع -سبحانه- بين القبور والصدور، كما جمع بينهما النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - في قوله: "مَلأَ اللهُ أَجْوَافَهم وقُبُورَهم نارًا" (¬4)، فإنَّ الإنسانَ يواري صدرُهُ ¬
ما فيه من الخير والشرِّ، ويواري قبرُهُ جسمَهُ، فيُخرِجُ الرَّبُّ جسمَهُ من قبره، وسِرَّهُ من صدره، فيصير جسمُهُ بارزًا على الأرض، وسِرُّهُ باديًا على وجهه، كما قال تعالى: {يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ} [الرحمن: 41]، وقال تعالى: {سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ (16)} [القلم: 16]. ومفعول العلم: "إنَّ" وما عَمِلَت فيه، وكُسِرَتْ لمكان "اللاَّم". وقيَّدَ -سبحانه- كونه خبيرًا بهم ذلك اليوم -وهو خبيرٌ بهم في كلِّ وقتٍ- إيذانًا بالجزاء، وأنَّه يجازيهم في ذلك اليوم بما يعلمه منهم، فذكر العلم والمرادُ لازِمُهُ، والله أعلم. ¬
فصل: القسم في سورة العصر
فصل ومن ذلك إقسامُهُ -سبحانه- بـ"العَصْر" على حال الإنسان في الآخرة، وهذه السورة على غاية اختصارها لها شأنٌ عظيمٌ، حتَّى قال الشافعىُّ رحمه الله: "لو فكَّرَ النَّاسُ كلُّهم فيها لَكَفَتْهُم" (¬1). و"العَصْر" المُقْسَمُ به: قيل: هو الوقت الذي يلي المغرب من النَّهار (¬2). وقيل: هو آخر ساعة من (¬3) ساعاته. وقيل: المراد صلاة العَصْر (¬4). وأكثر المفسِّرين على أنَّه الدَّهْر (¬5)، وهذا هو الراجح. وتسميةُ "الدَّهْرِ" عَصْرًا أمرٌ معروفٌ في لغتهم، قال: ولن يَلْبَثَ (¬6) العَصْرَانِ: يومٌ وليلةٌ ... إذا طَلَبَا أَنْ يُدْرِكَا ما تَيَمَّمَا (¬7) ¬
و"يومٌ وليلةٌ" بدلٌ من: العَصْرَان. فأقسَمَ -سبحانه- بـ"العَصْر" لمكان العبرة والآية فيه، فإنَّ مرورَ الليل والنَّهار على تقديرٍ قدَّرَهُ العزيزُ العليمُ، منتظِمٍ لمصالح العالم على أكمل ترتيب ونظام، وتعاقبِهما واعتدالِهما تارةً، وأخذِ أحدهما من صاحبه تارةً، واختلافِهما في الضوء، والظلام، والحرِّ، والبرد، وانتشارِ الحيوان وسُكُونِه، وانقسامِ "العَصْر" إلى: القُرُون، والسنين، والأشهر، والأيام، والساعات وما دونها = آيةٌ من آيات الرَّبِّ -تعالى- وبرهانٌ من براهين قدرته وحكمته. فأقسَمَ بـ"العَصْر" الذي هو زمانُ أفعال الإنسان ومَحَلُّها على عاقبة تلك الأفعال وجزائها، ونبَّهَ بالمَبْدَأ وهو خَلْقُ الزَّمَان والفاعلين وأفعالهم على المَعَاد، وأنَّ قدرته كما لم تقصر عن المبدأ لم تقصر عن المَعَاد، وأنَّ حكمته التي اقتضت خَلْقَ الزَّمان وخَلْقَ الفاعلين وأفعالهم -وجعلها قسمين: خيرًا وشرًّا- تأْبَى أن يُسَوِّي بينهم، وأن لا يُجَازِي المُحسِنَ بإحسانه، والمسيءَ بإساءته، وأن يجعل النَّوعَين رابحِين أو خاسرين، بل الإنسان من حيث هو إنسانٌ: خاسرٌ، إلا من رحِمه اللهُ، فهَدَاهُ ووفَّقه للإيمان والعمل الصالح في نفسه، وأمَرَ غيرَهُ به. وهذا نظير ردِّه الإنسانَ إلى أسفل سافلين، واستثنائِهِ الذين آمنوا وعملوا الصالحات من هؤلاء المردودين. وتأمَّلْ حكمة القرآن لمَّا قال: {إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2)} ضيَّقَ الاستثناءَ وخصَّصَهُ، فقال: {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ (3)}. ولمَّا قال: {ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ (5)} وسَّعَ الاستثناءَ وعمَّمَهُ، فقال: {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} ولم يقل:
المراد بالتواصي بالحق وبالصبر
{وَتَوَاصَوْا}؛ فإنَّ التَّوَاصي هو أَمْرُ الغَير بالإيمان والعمل الصالح، وهو قدرٌ زائدٌ على مجرَّدِ فعله، فمن لم يكن كذلك فقد خَسِر هذا الربح، فصار في خُسْرٍ، ولا يلزم أن يكون في أسفل سافلين، فإنَّ الإنسان قد يقوم بما يجب عليه ولا يأمر غيره به (¬1)، فإنَّ الأمرَ بالمعروف والنهيَ عن المنكر مرتبةٌ زائدةٌ؛ وقد يكون فرضًا على الأعيان، وقد يكون فرضًا على الكفاية، وقد يكون مستحبًّا. و"التواصي بالحقِّ" يدخل فيه: الحق الذي يجب، والحقُّ الذي يستحب. و"الصبر" يدخل فيه: الصبر الذي يجب، والصبر الذي يستحب. فهؤلاء إذا تواصوا بالحقّ وتواصوا بالصبر حصل لهم من الربح ما خسره أولئك الذين قاموا بما يجب عليهم في (¬2) أنفسهم ولم يأمروا غيرهم به، وإن كان أولئك لم يكونوا من الذين خسروا أنفسهم وأهليهم. فمُطْلَقُ الخَسَار شيءٌ, والخَسَارُ المطلقُ شيءٌ، وهو -سبحانه- إنَّما قال: {إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2)}، ومن ربح في سلعةٍ وخسر في غيرها قد يطلق عليه أنَّه: في خُسْرٍ، وأنَّه: ذو خُسْرٍ، كما قال عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما-: "لقد فرَّطْنا في قَرَارِيطَ كثيرةٍ" (¬3) [ك/ 28 أ] (¬4)، فهذا ¬
الإنسان له قوتان، وحالتان
نوعُ تفريطٍ، وهو نوعُ خُسْرٍ بالنسبة إلى من حصَّلَ ربح ذلك. ولمَّا قال في سورة "والتين": {ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ (5)} قال: {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ}، فقسَّمَ النَّاسَ في هذين القسمين فقط. ولمَّا كان الإنسان له قُوَّتان: قوَّةُ العلم، وقوَّةُ العمل. وله حالتان: حالةٌ يأتمر فيها بأمر غيره، وحالةٌ يأمر فيها غيره = استثنى -سبحانه- من كمَّلَ قوَّته العلميَّة بالإيمان، وقوَّته العَمَليَّة بالعمل الصالح، وانقاد لأمر غيره له بذلك، وأمَرَ غيرَه به (¬1)؛ من الإنسان الذي هو في خُسْرٍ. فإنَّ العبد له حالتان: حالةُ كمالٍ في نفسه، وحالةُ تكميلٍ لغيره. وكماله وتكميله موقوفٌ على أمرين: علمٌ بالحق، وصبرٌ عليه. [فـ] (¬2) ـانتظمت هذه الآية جميع مراتب الكمال الإنساني، من العلم النافع، والعمل الصالح، والإحسان إلى نفسه بذلك، وإلى أخيه به، وانقياده وقبوله لمن يأمره بذلك. وقوله تعالى: {وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ (3)} إرشادٌ إلى منصب الإمامة في الدِّين، كقوله تعالى: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ (24)} [السجدة: 24]، فبالصبر واليقين تُنَالُ الإمامةُ في الدِّين. و"الصبر" نوعان: نوعٌ بالمقدور (¬3)، كالمصائب. ¬
ونوعٌ بالمشروع. وهذا النَّوع -أيضًا- نوعان: 1 - صبرٌ على الأوامر. 2 - وصبرٌ عن المناهي (¬1). فذاك صبرٌ على الإرادة والفعل، وهذا صبرٌ عن الإرادة والفعل. فأمَّا النَّوع الأوَّل (¬2) من "الصبر" فمشتركٌ بين المؤمن والكافر، والبَرِّ والفاجر، ولا يثاب عليه لمجرَّدِهِ إن لم يقترن به إيمانٌ واحتسابٌ، كما قال النبىُّ - صلى الله عليه وسلم - في حقِّ ابنته: "مُرْهَا فلْتَصْبر ولْتَحْتَسِبْ" (¬3)، وقال تعالى: {إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (11)} [هود: 11]، وقال تعالى: {بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا} [آل عمران: 125]، وقال تعالى: {وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا} [آل عمران: 120]. فالصبر بدون الايمان والتقوى بمنزلة قوَّة البدن الخالي عن الإيمان والتقوى، وعلى حسب اليقين بالمشروع يكون الصبر على المقدور. وقال تعالى: {فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ (60)} [الروم: 60]، فأمره أن يصبر ولا يتشبه بالذين لا يقين عندهم في عدم الصبر؛ فإنَّهم لعدم يقينهم عُدِمَ صبرهم، وخَفُّوا ¬
واستَخَفُّوا قومَهم، ولو حصل لهم اليقين (¬1) لَمَا خَفُّوا، ولَمَا استَخَفُّوا. فمن قَلَّ يقينُه قل صَبْرُه، ومن قَلَّ صبره خَفَّ واستخفَّ. فالمُوقِنُ (¬2) الصابرُ رَزِينٌ ملآنُ، ذو لُبٍّ وعقلٍ، ومَنْ لا يقين له ولا صبر خفيفٌ طائشٌ، تلعب به الأهواء والشهوات، كما تلعب الرِّياح بالشيء الخفيف. والله المستعان. ¬
فصل: القسم في سورة البروج
فصل ومن ذلك إقسامُهُ -سبحانه- بالسماء {ذَاتِ الْبُرُوجِ (1) وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ (2) وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ (3)} [البروج: 1 - 3]. وقد فُسِّرت "البروجُ ": بالبروجِ التي تنزلها الشمسُ والقمرُ والسيَّارةُ. وفُسِّرَت: بالنُّجُوم، أو نوع منها. وفُسِّرت: بالقُصور العِظَام (¬1). وكلُّ ذلك من آيات قدرته، وشواهد وحدانيته، وأدلَّة ربوبيته؛ فإنَّ السماء كُرَةٌ متشابهة الأجزاء، والشَّكْل الكُرِي لا يتميَّز منه جانبٌ عن جانبٍ بطولٍ، ولا قِصَرٍ، ولا وضعٍ، بل هو متساوي الجوانب. فجَعْلُ هذه "البروج " في هذه الكرة على اختلاف صورها وأشكالها ومقاديرها يستحيل أن توجد بغير فاعلٍ، ويستحيل أن يكون فاعله غير قادرٍ، ولا عالمٍ، ولا مُريدٍ، ولا حيٍّ، ولا حكيمٍ، ولا مباينٍ للمفعول. وهذا ونحوه ممَّا هدم قواعد الطبائعية، والملاحدة، والفلاسفة الذين لا يثبتون للعالم ربًّا مباينًا له، قادرًا فاعلاً بالاختيار، عالمًا بتفاصيله، حكيمًا مُدَبِّرًا له. فبروج السماء -وهي منازلها، أو منازل السيَّارة التي فيها- من أعظم آياته سبحانه، فلهذا أقسَمَ بها مع السماء، ثُمَّ أقسَمَ بـ"اليوم ¬
اليوم الموعود المقسم به في السورة هو يوم القيامة
الموعود" وهو يوم القيامة (¬1)، وهو المُقْسَمُ به وعليه، كما أنَّ القرآن يُقْسَمُ به وعليه. ودلَّ على وقوع اليوم الموعود باتفاق الرُّسُل عليه، وبما عرَّفَ عبادَهُ من حكمته وعزَّتِه التي تأْبَى أن يتركهم سُدَىً، ويخلقهم عبثًا. وبغير ذلك من الآيات والبراهين التي يستدِلُّ بها -سبحانه- على إمكانه تارةً، وعلى وقوعه تارةً، وعلى تنزيهه عمَّا يقول أعداؤه من أنَّه لا يأتي به تارةً. فالإقسام به عند من آمن بالله كالإقسام بالسماء وغيرها من الموجودات المُشَاهَدَةِ بالعِيَان. ثُمَّ أقسَمَ -سبحانه- بـ"الشاهد" و"المشهود"، مُطْلَقَين غير مُعَيَّنَين، وأَعَمُّ المعاني فيه أنَّه: المُدْرِك والمُدْرَك، والعالِم والمعلوم، والرائي والمرئي؛ وهذا أليق المعاني به (¬2)، وما عداه من الأقوال ذُكِرت على وجه التمثيل، لا على وجه التخصيص (¬3). ¬
فإن قيل: فما وجه الارتباط بين هذه الثلاثة المُقْسَم بها؟ قيل: هي -بحمد الله- في غاية الارتباط، والإقسامُ بها متناوِلٌ لكلِّ موجودٍ في الدنيا والآخرة، وكلٌّ منها آيةٌ مستقلَّةٌ دالَّةٌ على ربوبيته وإلهيَّته. فأقسَمَ بالعالم العُلْويِّ، وهو السماء وما فيها من البروج، التي هي أعظم الأمكنة وأوسعها. ثُمَّ أقسَمَ بأعظم الأيام وأَجَلِّها قدرًا، الذي هو مَظْهَرُ مُلْكِهِ، وأمره، ونهيه، وثوابه، وعقابه، ومجْمَعُ أوليائه وأعدائه، والحكم بينهم بعلمه وعدله. ثُمَّ أقسَمَ بما هو أعمُّ (¬1) من ذلك كلِّه (¬2)، وهو "الشاهد" و"المشهود". وناسَبَ هذا القَسَم ذِكْرَ أصحاب الأخدود الذين عَذَّبُوا أولياءَهُ، وهم شهودٌ على ما يفعلون بهم، والملائكةُ شهودٌ عليهم بذلك، والأنبياءُ، وجوارحُهم تشهد به عليهم. وأيضًا؛ فـ"الشاهد" هو: المُطَّلِعُ، والرقيبُ، والمخبِرُ. و"المشهود" هو: المُطَّلَعُ عليه، المخبَرُ به، المُشَاهَدُ. فمن نوَّعَ الخليقةَ إلى شاهدٍ ومشهودٍ وهو أقدر القادرين، كما ¬
نوَّعَها إلى مرئيٍّ لنا وغير مرئيٍّ، كما قال تعالى: {فَلَا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ (38) وَمَا لَا تُبْصِرُونَ (39)} [الحاقة: 38 - 39]، وكما نوَّعَها إلى أرضٍ وسماءٍ، وليلٍ ونهارٍ، وذكرٍ وأُنثَى، وهذا التنويع والاختلاف من آياته سبحانه = كذلك نوَّعَها إلى شاهدٍ ومشهودٍ. وفيه سِرٌّ آخر؛ وهو أنَّ من المخلوقات ما هو مشهودٌ، ومنها ما هو شاهدٌ عليه، ولا يتمُّ نظام العالم إلا بذلك، فكيف يكون المخلوق شاهدًا رقيبًا حفيظًا على غيره، ولا يكون الخالق -تبارك وتعالى- شاهدًا على عباده، مطَّلِعًا عليهم رقيبًا؟! وأيضًا؛ فإنَّ ذلك يتضمَّنُ القَسَمَ بملائكته وأنبيائه ورسله، فإنَّهم شاهدون على العباد، فيكون من باب اتحاد (¬1) المقسَم به والمقسَم عليه، كما أقسم باليوم الموعود، وهو المقسَم به وعليه. وأيضًا؛ فيوم القيامة مشهودٌ، كما قال تعالى: {ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ (103)} [هود: 103] يشهده الله، وملائكته، والإنس، والجنُّ، والوحش، فالشاهد من آياته، والمشهود من آياته. وأيضًا؛ فكلامه مشهودٌ كما قال تعالى: {وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا (78)} [الإسراء: 78]، تشهده ملائكة الليل، وملائكة النَّهار؛ فالمشهود من أعظم آياته، وكذلك الشاهد. فكُلُّ ما وقع عليه اسم "شاهدٍ" و"مشهودٍ" فهو داخلٌ في هذا القَسَم، فلا وجه لتخصيصه ببعض الأنواع أو الأعيان إلا على سبيل ¬
اختيار المؤلف بأن القسم مستغن عن الجواب، وتوجيه ذلك
التمثيل. وأيضًا؛ فكتاب الأبرار في عِلِّيين يشهده المقرَّبُون، فالكتاب مشهودٌ، والمقرَّبُون شاهدون. والأحسن أن يكون هذا القَسَمُ مستغنيًا عن الجواب (¬1)؛ لأنَّ القَصْدَ التنبيهُ على المُقْسَم به، وأنَّه من آيات الرَّبِّ العظيمة. ويَبْعُدُ أن يكون الجوابُ: {قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ (4)}؛ لأنَّ ذلك دعاءٌ وطلبٌ، ولكنه -سبحانه- ذكر حال أعدائه وأوليائه، فذكر أصحابَ الأخدود الذين فتنوا أولياءه، وعذَّبوهم بالنَّار ذات الوقود (¬2). ثُمَّ وصف حالَهم القبيحةَ بأنَّهم قعدوا على جانب الأخدود، شاهدين على ما يجري على عباد الله وأوليائه عِيَانًا، ولا تأخذهم بهم رأفةٌ ولا رحمةٌ، ولم يعيبوا عليهم ذنبًا سِوَى إيمانهم بالله العزيز الحميد الذي له ملك السماوات والأرض، وهذا الوصف يقتضي إكرامَهُم وتعظيمَهُم ومَحَبَّتَهُم، فعَامَلُوهم بضدِّ ما يقتضي أن يُعامَلُوا به. وهذا شأن أعداء الله دائمًا، ينقمون على أوليائه ما ينبغي أن يُحَبُّوا ويُكْرَمُوا لأجله، كما قال تعالى: {قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ (59)} [المائدة: 59]. ¬
وكذلك اللُّوطِيَّةُ نَقَمُوا من عباد الله تنزُّهَهُم عن مثل فعلهم، فقالوا: {أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ (82)} [الأعراف: 82]. وكذلك أهل الإشراك ينقمون من الموحِّدِين تجريدَهُم التوحيدَ، وإخلاصَ الدعوةِ والعبوديةِ لله وحده. وكذلك أهلُ البدع ينقمون من أهل السُّنَّة تجريدَ متابعتِها، وتركَ ما خالفها. وكذلك المعطِّلةُ ينقمون من أهل الإثبات إثباتَهم لله صفاتِ كماله، ونعوتَ جلاله، وعلوَّهُ على مخلوقاته، ويعادونهم على ذلك، ويرمونهم لأجله بالعظائم. وكذلك الرافضةُ ينقمون على أهل السُّنَّة محبَّتَهم للصحابة جميعِهم (¬1)، وترضيهم عنهم، وولايتَهم إيَّاهُم، وتقديمَ من قدَّمَهُ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - منهم، وتنزيلهم منازلهم التي أنزلهم الله ورسوله بها. وكذلك أهلُ الرأي المُحْدَث ينقمون على أهلِ الحديث وحِزْبِ الرسول أخذَهم بحديثه، وتركَهم ما خالفه (¬2). وكلُّ هؤلاء لهم نصيبٌ من هذه الآية (¬3)، وفيهم شَبَهٌ من أصحاب الأخدود، وبينهم نسبٌ قريبٌ أو بعيدٌ. ¬
تفسير معنى "الودود"
ثُمَّ أخبر -سبحانه- أنَّما أعدَّ لهم عذابَ جهنَّم وعذابَ الحريق حيث لم يتوبوا، وأنَّهم لو تابوا بعد أن فتنوا المؤمنين (¬1) وعذَّبُوهم بالنَّار لَغَفَرَ لهم ولم يعذِّبهم، وهذا غاية الكرم والجود. قال الحسن: "انظروا إلى هذا الكرم والجود، يقتلون أولياءه، ويفتنونهم، وهو يدعوهم إلى التوبة والمغفرة". انظروا إلى كرم الرَّبِّ تعالى، يدعوهم إلى التوبة وقد فتنوا أولياءه، وحرَّقوهم بالنَّار، فلا ييأس العبدُ من مغفرتهِ وعَفْوِهِ، ولو كان منه ما كان، فلا عداوَةَ لله أعظم من هذه العداوة، ولا أكفَرَ ممَّن حرَّقَ بالنَّار من آمن به، وعَبَدَهُ (¬2) وحدَه، ومع هذا فلو تابوا لم يعذِّبهم، وألحَقَهم بأوليائه. ثُمَّ ذكر -سبحانه- جزاء أوليائه المؤمنين، ثُمَّ ذكر شِدَّة بَطْشِهِ (¬3) وأنَّه لا يعجزه شيءٌ، فإنَّه هو المبدئ المعيد، ومن كان كذلك فلا أشدَّ من بطشه، وهو مع ذلك الغفور الودود، يغفر لمن تاب إليه ويَوَدُّهُ ويحبُّهُ، فهو -سبحانه- الموصوفُ بشدَّةِ البَطْشِ، وهو مع ذلك الغفور الودود. و"الوَدُودُ": المتودِّدُ إلى عباده بِنعَمِه، الذي يَوَدُّ من تاب إليه وأَقْبلَ عليه. ¬
إضافة العرش إلى الرب سبحانه يدل على معان شريفة
وهو "الودود" (¬1) -أيضًا (¬2) - أي: المحبوب. قال البخاري في "صحيحه": "الودود (¬3): الحبيب" (¬4). والتحقيقُ: أنَّ اللفظ يدلُّ على الأمرين؛ على كونه وادًّا لأوليائه، مودُودًا لهم، فأحدهما بالوَضْع، والآخر باللزوم. فهو الحبيبُ المُحِبُّ لأوليائه، يحبُّهم ويحبُّونه. قال شعيب عليه السلام: {إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ (90)} [هود: 90]. وما ألطف اقتران اسم "الودود" بـ"الرحيم" وبـ"الغفور"، فإنَّ الرجل قد يغفر لمن أساء إليه (¬5) ولا يحبُّه، وكذلك قد يرحم من لا يحبُّه. والرَّبُّ -تعالى- يغفر لعبده إذا تاب إليه، ويرحمه، ويحبُّه مع ذلك، فإنَّه يحبُّ التوَّابين، وإذا تاب إليه عبدُهُ أحبَّهُ ولو كان منه ما كان. ثُمَّ قال تعالى: {ذُو الْعَرْشِ}، فأضاف "العرش" إلى نفسه، كما تُضَاف إليه الأشياء العظيمة الشريفة. ¬
تفسير معنى "المجيد " وما يلزمه
وهذا يدلُّ على عظمةِ "العرش"، وقُرْبِهِ منه سبحانه، واختصاصه به، بل يدلُّ على غاية القُرْب والاختصاص، كما يضيف إلى نفسه بـ"ذو" صفاته القائمة به كقوله تعالى: {ذُو الْقُوَّةِ} [الذاريات: 58]، و {ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ (27)} [الرحمن: 27]، ويقال: ذو العِزَّة، وذو المُلْك، وذو الرحمة، ونظائرُ ذلك. فلو كان حَظُّ "العرش" منه حظَّ الأرض السابعة لكان لا فرق بين أن يقال: ذو العرش، وذو الأرض. ثُمَّ وصف نفسه بـ"المجيد"، وهو المتضمِّنُ لكثرةِ صفاتِ كماله وسعتها، وعدمِ إحصاءِ الخَلْقِ لها، وسَعَةِ أفعاله وكثرةِ خيرهِ ودوامه. وأمَّا من ليس له صفاتُ كمالٍ ولا أفعالٌ حميدةٌ فليس له من المَجْد شيءٌ. والمخلوق إنَّما يصير مجيدًا بأوصافه وأفعاله، فكيف يكون الرَّبُّ -تبارك وتعالى- مجيدًا، وهو معطَلٌ عن الأوصاف والأفعال؟! تعالى اللهُ عمَّا يقول المعطِّلون (¬1) علوًّا كبيرًا، بل هو (¬2) المجيدُ الفعَّالُ لما يريد. و"المَجْدُ" في لغة العرب: كثرة أوصاف الكمال، وكثرة أفعال الخير (¬3). وأحسن ما قُرِنَ اسم "المجيد" إلى "الحميد"، كما قالت الملائكة لبيت الخليل عليه السلام: {رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ (73)} [هود: 73]، وكما شُرِعَ لنا في آخر الصلاة بأن نُثْنِي على ¬
الرَّبِّ -تعالى- بأنَّه حميدٌ مجيدٌ (¬1)، وشُرع في آخر الركعة عند الاعتدال أن نقول بعد "ربنا ولك الحمد": "أهل الثناء والمجد" (¬2). فـ"الحَمْدُ" و"المجد" -على الإطلاق- لله الحميد المجيد، فـ"المجيد" (¬3): الحبيبُ المستحِقُّ لجميع صفات الكمال. و"الحميد": العظيمُ الواسعُ القادِرُ الغنىُّ ذو الجلال والإكرام (¬4). ومن قرأ {الْمَجِيدُ} - بالكسر (¬5) - فهو صفة لعرشه سبحانه، وإذا كان عرشُه مجيدًا فهو -سبحانه- أحقُّ بالمجد. وقد استشكل هذه القراءة بعض النَّاس، وقال: لم نسمع في ¬
صفات الخلق "مجيد" (¬1). ثُمَّ خرَّجها على أحد وجهين: إمَّا على الجِوَار (¬2). وإمَّا أن يكون صفةً لـ"ربِّك" (¬3). وهذا من قلة بضاعة هذا القائل، فإنَّ الله -سبحانه- وصف عرشه بالكَرَم (¬4)، وهو نظير المجد. ووصَفَهُ بالعَظَمة (¬5). فوصْفُه بالمجد (¬6) مطابقٌ لوصفه بالعظمةِ والكَرَم، بل هو أحقُّ المخلوقات أن يوصف بذلك، لسَعَتِه، وحُسْنِه، وبهاءِ مَنْظَرِهِ، فإنَّه ¬
أوسعُ شيءٍ في المخلوقات (¬1)، وأجملُهُ، وأجمعُهُ لصفاتِ الحُسْن، وبهاءِ المَنْظَر، وعُلُوِّ القَدْرِ والرُّتْبةِ والذَّاتِ، ولا يقدر قَدْر عظمته، وحسنه، وبهاء منظره إلا الله تعالى. ومَجْدُهُ مستفادٌ من مجد خالقه ومبدعه، والسماواتُ السبع والأرَضُون السبع في الكرسيِّ -الذي بين يديه- كحَلْقةٍ مُلْقَاةٍ في أرضٍ (¬2) فَلاَةٍ، والكرسيُّ فيه -كذلك (¬3) - كتلك الحَلْقة في الفلاة (¬4). قال ابن عباس: "السماوات السَّبْعُ في العرش كسبعة دراهم ¬
قوله تعالى: {فعال لما يريد} يدل على ستة أمور
جُعِلْنَ في تُرْسٍ" (¬1). فكيف لا يكون مجيدًا وهذا شأنه؟ فهو عظيمٌ، كريمٌ، مجيدٌ. وأمَّا تكلُّفُ هذا المتكلِّفِ جَرَّهُ على الجِوَار (¬2)، أو أنَّه صفةٌ لـ"ربِّك" = فتكلُّفٌ شديدٌ، وخروجٌ عن المألوف في اللغة من غير حاجةٍ إلى ذلك. وقوله تعالى: {فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ (16)} دليلٌ على أمورٍ: أحدها: أنَّه -سبحانه- يفعل بإرادته ومشيئته. الثاني: أنَّه لم يزل كذلك؛ لأنَّه ساق ذلك في (¬3) معرض المدح والثناء على نفسه، وأنَّ ذلك من كماله سُبحانه، فلا يجوز أن يكون عادمًا لهذا الكمال في وقتٍ من الأوقات، وقد قال تعالى: {أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (17)} [النحل: 17]، وما كان من أوصاف كماله ونعوت جلاله لم يكن حادثًا بعد أن لم يكن. الثالث: أنَّه إذا أراد شيئًا فَعَلَه، فإنَّ "ما" موصولة عامةٌ، أي: يفعل كلَّ ما يريد أن يفعله، وهذا في إرادته المتعلِّقة بفعله. ¬
وأمَّا إرادته المتعلِّقة بفعل (¬1) العبد فتلك لها شأنٌ آخر؛ فإن أراد فعل العبد ولم يرد من نفسه أن يعينه عليه ويجعله فاعلاً لم يوجد الفعل وإن أراده، حتَّى يريده من نفسه أن يجعله فاعلاً. وهذه هي النكتة التي خفيت على "القَدَريَّة" و"الجَبْريَّة"، وخبطوا في مسألة القَدَر لغفلتهم عنها، فإن هنا إرادتان: إرادةُ أن يفعل العبد، وإرادةُ أن يجعله الرَّبُّ فاعلاً. وليستا متلازمتين (¬2)، وإن لزم من الثانية الأُولَى من غير عكسٍ، فمتى أراد من نفسه أن يعين عبده، وأن يخلق له أسباب الفعل فقد أراد فعله. وقد يريد فعله ولا يريد (¬3) من نفسه أن يخلق له أسبابَ الفعل، فلا يوجد الفعل. فإن اعْتَاصَ عليك فَهْمُ هذا الموضع وأشكلَ عليك فانظر إلى قولِ النبىِّ - صلى الله عليه وسلم -، حاكيًا عن ربِّه قولَه للعبد يوم القيامة: "قد أردتُ منكَ أهونَ من هذا وأنتَ في صُلْبِ آدم (¬4): أن لا تُشْرِكَ بِي شيئًا، فأبيتَ إلا الشرك" (¬5). فأخبر- سبحَانه- أنَّه أراد من المشرك ألا يشرك به شيئًا، ولم يقع هذا المراد؛ لأنَّه لم يُرِد من نفسه إعانَتَهُ عليه، وتوفيقَهُ له. الرابع: أنَّ فعله -سبحانه- وإرادته متلازمان (¬6)، فما أراد أن يفعله ¬
ما اشتملت عليه السورة من قضايا التوحيد
فَعَلَه، وما فَعَلَهُ فقد أراده. بخلاف المخلوق، فإنَّه يريد ما لا يفعل، وقد يفعل ما لا يريد، فما ثَمَّ فغَالٌ لما يريد إلا اللهُ وحده. الخامس: إثبات إراداتٍ متعدِّدةٍ بحسب الأفعال، وأنَّ كلَّ فعلٍ له إرادةٌ تخصُّه. وهذا هو المعقول في الفِطَر، وهو الذي يعقله النَّاس من الإرادة، فشأنه -تعالى- أنْ يريد على الدوام، ويفعل ما يريد. السادس: أنَّ كل ما صحَّ أن تتعلق به إرادته جازَ فِعْلُه؛ فإذا أراد أن ينزل كل ليلةٍ إلى سماء الدنيا، وأن يجيء يوم القيامة لفصل القضاء، وأن يُرِيَ نفسَهُ لعباده، وأن يتجلَّى لهم كيف شاء، وأن يخاطبهم، ويضحك إليهم، وغيرَ ذلك ممَّا يريد سبحانه = لم يمتنع عليه فعلُهُ، فإنَّه فعَّالٌ لما يريد. وإنَّما يتوقَّفُ صحَّةُ ذلك على إخبار الصادق به، فإذا أخبر به وجَبَ التصديقُ به، وكان رَدُّهُ ردًّا لكماله الذي أخبر به عن نفسه، وهذا عين الباطل. وكذلك إذا أمكن إرادته -سبحانه- مَحْوَ ما شاء، وإثباتَ ما شاء = أمكَنَ فِعْلُه، وكانت تلك الإرادة والفعل من مقتضيات كماله المقدَّس. وقد اشتملت هذه السورة -على اختصارها- من التوحيد على: وَصفِه -سبحانه- بـ"العِزَّة"؛ المتضمِّنة للقُدرةِ والقوَّةِ، وعَدَمِ النَّظِير. و"الحمدِ" المتضمِّن لصفات الكمال، والتنزيه عن أضدادها، مع محبَّته وإلهيَّته. ومُلْكِه السماوات والأرض؛ المتضمِّن لكمال غِنَاهُ، وسَعَةِ ملكه. وشهادتِهِ على كلِّ شيءٍ؛ المتضمِّن لعموم اطِّلاَعه على ظواهر
الأمور وبواطنها، وإحاطة بَصَرِه بمرئياتها، وسَمْعِه بمسموعاتها، وعِلْمِه بمعلوماتها. وَوَصْفِه بشدَّةِ البَطْش؛ المتضمِّن لكمال القُدْرَةِ والقوَّةِ والعِزَّةِ. وتفرُّده بالإبْدَاءِ والإعَادَةِ؛ المتضمِّن لتوحيد ربوبيته وتصرُّفِه في المخلوقات بالإبداء والإعادة، وانقيادها لقدرته، فلا يَسْتَعْصِي عليه منها شيءٌ. وَوَصْفِه بـ"المغفرة"؛ المتضمِّن لكمال جوده، وإحسانه، وغِنَاهُ، ورحمته. وَوَصْفِه بـ"الودود"؛ المتضمِّن لكونه حبيبًا إلى عباده، مُحِبًّا لهم. وَوَصْفِه بأنَّه "ذو العرش"؛ الذي لا يقدر قَدْرَه سواه، وأنَّه عرشُهُ المختصُّ به؛ الذي لا يليق بغيره أن يستوي عليه. وَوَصْفِه بـ"المَجْد"؛ المتضمِّن لسعة العلم، والقدرة، والملك، والغنى، والجود، والإحسان، والكرم. وكونِه فعَّالاً لما يريد؛ المتضمِّن لحياته، وعلمه، وقدرته، ومشيئته، وحكمته. وغير ذلك من أوصاف كماله. فهذه السورة كتابٌ مستقلٌّ في أصول الدِّين، تكفي من فَهِمَها. فـ {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ} [الكهف: 1]، و {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ} [الفرقان: 1]. ثُمَّ خَتَمَها بذِكْرِ فعله وعقوبته بمن أشركَ به، وكذَّبَ رُسُلَه؛ تحذيرًا
تفسير قوله تعالى: {فى لوح محفوظ}
لعباده من سلوك سبيلهم، وأنَّ من فعل فعلهم فُعِلَ به كما فُعِلَ بهم. ثُمَّ أخبر عن أعدائه بأنَّهم مكذِّبون بتوحيده ورسالاته مع كونهم في قبضته، وهو محيطٌ بهم، ولا أسوأَ حالاً ممَّن (¬1) عادَى من هو في قبضته، ومن هو قادرٌ عليه (¬2) من كلِّ وجهٍ، وبكل اعتبارٍ، فقال تعالى: {بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ (19) وَاللَّهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ (20)} [البروج: 19 - 20]، فهل أعجَبُ ممَّن كَفَرَ بمن هو محيطٌ به، آخِذٌ بناصيته، قادِرٌ عليه؟! ثُمَّ وصَفَ كلامَهُ بأنَّه "مجيدٌ"، وهو أحقُّ بالمجد من كلِّ كلام، كما أنَّ المتكلِّم به له المجد كلُّه، فهو "المجيد"، وكلامُه مجيدٌ، وعرشه مجيدٌ. قال ابن عباس -رضي الله عنهما-: "قرآنٌ مجيدٌ: كريم" (¬3)؛ لأنَّ كلامَ الرَّبِّ ليس هو كما يقول الكافرون: شعرٌ، وكهانةٌ، وسحرٌ. وقد تقدَّمَ أنَّ "المجدَ": السَّعَةُ، وكثرةُ الخير (¬4)؛ وكثرةُ خير القرآن لا يعلمها إلا من تكلَّم به. وقوله: {فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ (22)} [البروج: 22]؛ أكثر القُرَّاء على الجرِّ، ¬
صفةً لـ"لَوْح" (¬1)، وفيه إشارةٌ إلى أنَّ الشياطين لا يمكنهم التنزُّلُ به؛ لأنَّ مَحَلَّهُ محفوظٌ أن يصلوا إليه، وهو في نفسه محفوظٌ أن تقدر الشياطين على الزيادة فيه أو النقصان. فوصَفَهُ -سبحانه- بأنَّه محفوظٌ في قوله: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (9)} [الحجر: 9]، ووصف مَحَلَّهُ بالحفظ في هذه السورة. فالله -سبحانه- حفظ مَحَلَّهُ، وحفظه من الزيادة والنقصان والتبديل، وحَفِظَ معانيه من التحريف كما حفظ ألفاظَهُ من التبديل، وأقام له من يحفظ حُرُوفَهُ من الزيادة والنقصان، ومعانيه من التحريف والتغيير. ¬
فصل: القسم في سورة الطارق
فصل ومن ذلك إقسامُه -سبحانه- بـ {وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ (1)} [الطارق: 1]، وقد فسَّره بأنَّه {النَّجْمُ الثَّاقِبُ (3)} الذي يثقُب (¬1) ضَوؤُه. والمراد به الجنس لا نجمٌ معيَّنٌ، ومن عيَّنَهُ بأنَّه "الثريَّا"، أو "زُحَل": فإن أراد التمثيل فصحيحٌ، وإن أراد التخصيص فلا دليل عليه (¬2). والمقصود أنَّه -سبحانه- أقسَمَ بالسماءِ ونُجُومِها المضيئة، وكلٌّ منها (¬3) آية من آياته الدَّالَّةِ على وحدانيته. وسمَّى "النَّجمَ": طارقًا؛ لأنَّه يظهر بالليل بعد اختفائه بضوء الشمس، فشُبِّهَ بالطارق الذي يطرق النَّاسَ أو أهلَهُ ليلاً. قال الفرَّاء: "ما أتاك ليلاً فهو طارق" (¬4). وقال الزجَّاج، والمبرِّد: "لا يكون الطارق نهارًا" (¬5). ولهذا تستعمل العرب الطُّرُوق في صفة الخَيَال كثيرًا، كما قال ذو الرُّمَّة (¬6): ¬
المقسم عليه في السورة هو النفس الإنسانية
ألاَ طَرَقَتْ مَيٌّ هَيُومًا بِذِكْرِها ... وأَيدِي الثريَّا جُنَّحٌ في المَغَارِبِ (¬1) وقال جرير (¬2): طرَقَتْكَ صَائِدَةُ القُلُوبِ وَلَيس ذا ... وقْتَ الزِّيَارةِ، فارجِعِي بِسَلاَمِ ولهذا قيل: أوَّلُ من رَدَّ "الطَّيفَ" جريرٌ (¬3)، ولم يزل النَّاس على قبوله وإكرامه كالضَّيف، فـ"الطَّيفُ" والضَّيفُ كلاهما لا يُرَدُّ. وقال الآخر (¬4): أَلاَ طَرَقَتْ مِنْ آخِرِ اللَّيلِ زَينبُ ... عليكِ سَلاَمٌ، هل لِما فَاتَ مَطْلَبُ؟ والمقسَمُ عليه -هاهنا- حالُ النَّفْس الإنسانية، والاعتناءُ بها، وإقامةُ الحَفَظَةِ عليها، وأنَّها لم تُتْرَك سُدىً، بل قد أُرْصِدَ عليها من يحفظ عليها أعمالها ويحصيها، فأقسَمَ -سبحانه- أنَّه ما من نفسٍ إلا عليها حافظٌ من الملائكة (¬5)، يحفظ عملَها وقولَها، ويحصي ما تكسب من ¬
اختلاف القراء في "لما"
خيرٍ أو شرٍّ. واختَلَف القُرَّاء (¬1) في "لَما": فشدَّدَها بعضُهم، وخفَّفها بعضهم. فمن قرأها بالتشديد جعلها بمعنى "إلَّا" (¬2)، وهي تكون بمعنى "إلَّا" في موضعين (¬3): أحدهما: بعد "إنْ" (¬4) "المخفَّفَة مثل هذا الموضع، أو المثقَّلة مثل قوله: {وَإِنَّ كُلًّا لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمَالَهُمْ} [هود: 111]. ¬
بيان معنى "الدفق" في اللغة
والثاني: في باب القَسَم، نحو: سألتُكَ بالله لمَّا فَعَلْتَ. قال أبو علي الفارسيُّ (¬1): "من خفَّفَ كانت "إنْ" عنده هي المخفَّفة من الثقيلة، و"اللاَّمُ" في خبرها هي الفارقة بين "إنْ" النَّافية والمخَفَّفَة (¬2). و"ما" زائدة، و"إنْ" هي التي يُتَلقَّى بها القَسَمُ، كما يُتَلَقَّى بالمثقَّلة. ومن قرأها مشدَّدةً كانت "إنْ" عنده نافية بمعنى "ما"، و"لمَّا" في معنى "إلَّا". قال سيبويه، عن الخليل -في قولهم: نشدتُكَ باللهِ لَمَّا فَعَلْتَ- قال المعنى: إلَّا فَعَلْتَ" (¬3). ثُمَّ نبَّهَ -سبحانه- الإنسانَ على دليل المَعَاد بما يشاهده من حال مبدئه، على طريقة القرآن في الاستدلال على المعاد بالمبدأ، فقال: {فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ (5)} [الطارق: 5] أي: "فلينظر نظر الفكر والاستدلال ليعلم أنَّ الذي ابتدأ خَلْقَهُ من نُطفةٍ قادرٌ على إعادته" (¬4). ثُمَّ أخبر -سبحانه- أنَّه خُلِقَ من ماءٍ دافِقٍ. و"الدَّفْقُ": صَبُّ الماءِ، يقال: دَفَقْتُ الماءَ فهو مَدْفُوقٌ، ودَافِقٌ، ¬
ومُنْدَفِقٌ. فالمَدْفُوق: الذي وقع عليه فِعْلُكَ كـ: المكسور، والمضروب. والمُنْدَفِق: المُطَاوع لِفِعْلِ الفاعل؛ تقول: دَفَقْتُهُ فَانْدَفَقَ، كما تقول: كَسَرْتُهُ فانْكَسَر. و"الدَّافِقُ"؛ قيل: إنَّه فاعلٌ بمعنى مفعول؛ كقولهم: سِرٌّ كَاتِمٌ، وعِيشَةٌ راضِيَةٌ. وقيل: هو على النَّسَبِ؛ لا على الفعل، أي: ذي دَفْق، وذات رضىً (¬1). ولم يُرِد الجريان عَلى الفعل. وقيل: -وهو الصواب- إنَّه اسم فاعلٍ على بابه؛ ولا يلزم من ذلك أن يكون هو فاعل الدَّفْق، فإنَّ اسمَ الفاعل هو من قام به الفعل؛ سواء فَعَلَهُ هو أو غيرُه؛ كما يقال: ماءٌ جَارٍ، ورجلٌ مَيْتٌ وإن لم يفعل الموت، بل لمَّا قام به الموت نُسِب إليه على جهة الفعل (¬2). وهذا غير مُنْكَرٍ في لُغةِ أُمَّةٍ من الأُمَم، فضلاً عن أوسع اللُّغات وأفصحِها. وأمَّا "العيشة الراضية" فالوصفُ بها أحسنُ من الوصف بالمرضيَّةِ، فإنَّها اللاَّئقة بهم، فشبَّهَ ذلك برِضَاها بهم كما رَضُوا بها، كأنَّها رَضِيَت بهم ورَضُوا بها، وهذا أبلغ من مجرَّدِ كونها مرضيَّةً فقط؛ فتأَمَّلْه. ¬
خلافهم في المراد بالصلب والترائب
وإذا كانوا يقولون: الوقت الحاضر، والساعة الراهنة -وإن لم يَفْعَلاَ ذلك- فكيف يمتنع أن يقولوا: ماءٌ دافِقٌ، وعيشَةٌ راضيةٌ؟! ونَبَّه -سبحانه- بكونه دافقًا على أنَّه ضعيفٌ غير متماسك. ثُمَّ ذَكَرَ مَحَلَّهُ الذي يخرج منه، وهو بين الصُّلْب والترائب. قال ابن عباس: "يريدُ صُلْبَ الرَّجُل، وترائبَ المرأة -وهو موضع القِلاَدة من صدرها-؛ والولدُ يُخْلَقُ من المائين جميعًا" (¬1). وقيل: صُلْبُ الرجل وتَرَائِبُهُ وهي صدره (¬2)، فيخرج من صُلْبهِ ¬
المعنى الصحيح لقوله تعالى: {إنه على رجعه لقادر}
وصَدْرِهِ (¬1). وهذه الآية الدَّالَّةُ على قدرة الخالق -سبحانه- نظير إخراجه اللَّبَنَ الخالِصَ من بين الفَرْثِ والدَّمِ. ثُمَّ ذكر -سبحانه- الأمرَ المستَدَلَّ عليه وهو المَعَاد بقوله {إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ (8)}؛ أي: على رجعه إليه يوم القيامة، كما هو قادرٌ على خلقه من ماءٍ هذا شأنه. هذا هو الصحيح في معنى الآية، وفيها قولان ضعيفان: أحدهما: قول مجاهد: "إنَّه على ردِّ الماءِ في الإِحْلِيلِ لَقَادِرٌ" (¬2). والثاني: قول عكرمة والضحَّاك: "إنَّه على ردِّ الماءِ في الصُّلْبِ لَقَادِرٌ" (¬3). ¬
وفيها قولٌ ثالثٌ؛ قال مقاتلٌ (¬1): "إنْ شِئْتُ رددتُه من الكِبَرِ إلى الشباب، ومن الشباب إلى الصِّبَا، ومن الصِّبَا إلى النُّطْفَة". والقول (¬2) هو الأوَّل (¬3)؛ لوجوه: ¬
أحدها: أنَّه هو المعهود من طريقة القرآن من الاستدلال بالمبدأ على المَعَاد. الثاني: أنَّ ذلك أَدَلُّ على المطلوب من القدرة على رَدِّ الماءِ في الإحْلِيل. الثالث: أنَّه لم يأت في القرآن لهذا المعنى نظيرٌ في موضعٍ واحد، ولا أنكره أحدٌ حتَّى يقيم -سبحانه- الدليلَ عليه. الرابع: أنَّه قيَّدَ الفعلَ بالظَّرْفِ وهو قوله: {يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ (9)} وهو يوم القيامة؛ أي: أنَّ الله قادرٌ على رجعه إليه حيًّا في ذلك اليوم. الخامس: أنَّ الضمير في {رَجْعِهِ} هو الضمير في قوله: {فَمَا لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلَا نَاصِرٍ (10)} وهذا للإنسان -قطعًا- لا للماء. السادس: أنَّه لا ذِكْرَ للإحْلِيل حتَّى يتعيَّنَ كَوْنُ الرَّجْع (¬1) إليه، فلو قال قائلٌ: على رَجْعِه إلى الفَرْج الذي صُبَّ فيه؛ لم يكن فرقٌ بينه وبين هذا القول، ولم يكن أَوْلَى منه. السابع: أنَّ رَدَّ الماءِ إلى الإحْلِيل أو الصُّلْب بعد خروجه منه غير معروفٍ، ولا هو أمرٌ معتادٌ جَرَتْ به القُدْرَةُ؛ وإن كان مقدورًا للرَّبِّ تعالى، ولكن هو لم يُخْبِر به، ولم تَجْرِ به العادةُ، ولا هو ممَّا تكلَّمَ النَّاسُ فيه نفيًا أو إثباتًا. ومثل هذا لا يقرِّرُهُ الرَّبُّ -تعالى- ولا يَسْتَدِلُّ ¬
عليه (¬1) على مُنْكِرِيه، وهو -سبحانه- إنَّما يستدلُّ على أمرٍ واقعٍ ولابُدَّ، إمَّا قد وَقَعَ وَوُجِدَ، أو سيقع، فإن قيل: فقد قال تعالى: {أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ (3) بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ (4)} [القيامة: 3 - 4]، أي: نجعلها كَخُفِّ البعير؟ قيل: هذه -أيضًا- فيها قولان: أحدهما: هذا (¬2). والثاني: -وهو الأرجح- أنَّ تسوية بَنَانه إعادتُها كما كانت بعدما فرَّقَها البِلَى في التراب (¬3). الثامن: أنَّه -سبحانه- دعا الإنسانَ إلى النظر فيما خُلِقَ منه؛ لِيَرُدَّهُ نَظَرُهُ عن تكذيبه بما أُخْبِرَ به، وهو لم يُخْبَر بقدرة خالقه على رَدِّ الماءِ في إحْلِيله بعد مفارقته له، حتَّى يدعوه إلى النظر فيما خُلِق منه، ليستنتج منه صِحَّةَ إمكانِ ردِّ الماء. التاسع: أنَّه لا ارتباط بين النظر في مبدأ خلقه وردِّ الماء في ¬
تفسير قوله تعالى: {يوم تبلى السرائر}
الإحْلِيل بعد خروجه، ولا تلازم بينهما، حتَى يُجْعَلَ أحدُهما دليلاً على إمكان الآخر، بخلاف الارتباط الذي بين المبدأ والمعاد، والخَلْقِ الأوَّلِ والخَلْقِ الثاني، والنَّشْأَةِ الأُولي والنَّشْأةِ الثانية؛ فإنَّه ارتباطٌ من وجوهٍ عديدةٍ، ويلزم من إمكانِ أحدِهما إمكانُ الآخر، ومن وقوعِه صحةُ وقوعِ الآخر، فَحَسُن الاستدلال بأحدهما على الآخر. العاشر: أنَّه -سبحانه- نَبَّهَ بقوله: {إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ (4)} على أنَّه قد وكَّلَ به من يحفظ عليه عَمَلَهُ ويحصيه، فلا يضيع منه شيءٌ. ثُمَّ نبّهَ بقوله -عزَّ وجلَّ- {إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ (8)} على بعثه لجزائه على العمل الذي حُفِظَ وأُحْصِيَ عليه. فذكر شأنَ مبدأ عملِه ونهايتِه، فمبدَؤُهُ محفوظٌ عليه، ونهايته الجزاء عليه، ونبَّهَ على هذا بقوله: {يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ (9)} أي: تختبر السرائر (¬1). وقال مقاتل: "تظهر وتبدو" (¬2). وبَلَوْتَ الشيءَ: إذا اختبرتَهُ ليظهر لك باطِنُه، وما خَفِيَ منه. و"السرائر": جمع سَرِيرة، وهي سرائر الله التي بينه وبين عبده في ظاهره وباطنه. فالإيمان من السرائر، وشرائعه من السرائر، فتُخْتَبر ذلك ¬
اليوم حتَّى يظهر خيرُها من شرِّها، ومُؤَدِّيها من مضيِّعِها، وما كان لله ممَّا لم يكن له. قال عبدالله بن عمر -رضي الله عنهما-: "يُبْدِي اللهُ يومَ القيامة كلَّ سِرٍّ، فيكون زَينًا في الوجوه، وشَينًا فيها" (¬1). والمعنى: تختبر السرائر بإظهارِها، وإظهارِ مقتضياتها من الثوابِ والعقابِ، والحَمْدِ والذَّمِّ. وفي التعبير عن الأعمال بـ"السِّرِّ" لطيفةٌ، وهي أنَّ الأعمال نتائج السرائر الباطنة، فمن كانت سريرته صالحةً كان عمله صالحًا، فتبدو سريرتُه على وجهه نورًا وإشراقًا وحُسْنًا، ومن كانت سريرته فاسدةً كان عمله تابعًا لسريرته -لا اعتبارَ بصورته- فتبدو سريرته على وجهه سوادًا وظلمةً وشَينًا. وإن كان الذي يبدو عليه في الدنيا إنَّما هو عملُه لا سريرتُه، فيوم القيامة تبدو عليه سريرته، ويكون الحكم والظهور لها، وفي الحديث: "أنْقُوا (¬2) هذه السرائر؛ فإنَّه ما أسَرَّ امْرُؤٌ سريرةً إلَّا ألْبسَهُ اللهُ رِدَاءَ سريرته" (¬3). ¬
وفيما كتب (¬1) بعض السلف إلى بعضٍ: "مَنْ أَصلَحَ سريرتَهُ أصلَحَ اللهُ علانيته". ¬
وقال بعضهم: "من كانت سريرته خيرًا من علانيته فهو الفَضْلُ، ومن استَوَت سريرته وعلانيته فهو العَدْل، ومن كانت علانيته خيرًا من سريرته فهو الجَوْرُ". ومن دعاء ابن عمر: "اللهُمَّ اجعل سريرتي خيرًا من علانيتي، واجعل علانيتي صالحةً" (¬1). ومن دعاء علي بن الحسين: "اللهُمَّ إنِّي أعوذ بك أن تُحسِّنَ في لوامع العيون علانيتي، وتُقَبِّحَ في خَفِيَّات العيون سريرتي" (¬2). قال الشاعر (¬3): سَتَبْقَى (¬4) لَها في مُضْمَر القَلْبِ والحَشَا ... سَرِيرَةُ حُبٍّ (¬5) يومَ تُبْلَى السَّرَائِرُ ثُمَّ أخبر -سبحانه- عن حال الإنسان في يوم القيامة أنَّه غير مُمْتَنِع ¬
التحقيق في المراد برجع السماء
من عذاب الله؛ لا بقوَّةٍ منه، ولا بقوَّةٍ من خارجٍ -وهو "النَّاصر"-، فإنَّ العبد إذا وقع في شدَّةٍ: فإمَّا أن يَدْفَعَها بقوَّتِه، أو بقوَّةِ من يَنْصُرُه، وكلاهما معدومٌ في حَقِّهِ، ونظيره قوله سبحانه: {لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ وَلَا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ (43)} [الأنبياء: 43]. ثُمَّ أقسَمَ -سبحانه- بـ {وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الرَّجْعِ (11) وَالْأَرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ (12)}، فأقسم بالسماءِ وَرَجْعِها بالمَطَر، والأرض وَصَدْعِها بالنَّبَات. قال الفَرَّاء: "تُبْدِي بالمطر ثُمَّ تَرْجِعُ به في كُلِّ عامٍ" (¬1). وقال أبو إسحاق: "الرَّجْعُ: المطر؛ لأنَّه يجيءُ (¬2) ويرجع ويتكرَّر" (¬3). وكذا قال ابن عباس -رضي الله عنهما-: "تُبْدِي بالمطر ثُمَّ ترجع به في كلِّ عام" (¬4). والتحقيقُ: أنَّ هذا على وجه التمثيل، ورَجْعُ السماء: هو إعطاءُ الخير الذي يكون من جِهَتِها حالاً بعد حالٍ، على مرور الأزمان. تَرْجِعُهُ ¬
بيان معنى "القول الفصل"
رَجْعًا، أي: تُعْطِيه مَرَّةً بعد مرَّةٍ. والخيرُ كلُّهُ من قِبَل السماءِ يجيءُ، ولمَّا كان أظْهَرَ الخيرِ المشهودِ بالعِيَانِ المَطَرُ فُسِّرَ "الرَّجْعُ" به، وحَسَّنَ تفسيرَهُ به مقابلتُه بصَدْع الأرض عن النَّبَات، وفُسِّرَ "الصَّدْع" بالنَّبَات؛ لأنَّه يَصْدَعُ الأرضَ (¬1) أي: يَشُقُّها. فأقسَمَ -سبحانه- بالسماء ذات المطر، والأرض ذات النَّبَات، وكلٌّ من ذلك آيةٌ من آياتِ الله -تعالى- الدَّالَّةِ على ربوبيته. وأَقْسَمَ على كَونِ القرآنِ حقًّا وصدقًا، فقال تعالى: {إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ (13) وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ (14)} [الطارق: 13 - 14]، كما أقسم في أوَّل السورة على حال الإنسان في مبدئه ومَعَاده. و"القولُ الفَصْلُ": هو الذي يَفْصِلُ (¬2) بين الحقِّ والباطل، فيميِّزُ هذا من هذا، ويَفْصِلُ بين النَّاس فيما اختلفوا فيه. ومُصِيبُ الفَصْل الذي يتفصَّل (¬3) عنده المراد ويتميَّزُ من غيره، كما يقال: أصاب الفَصْلَ، وأصاب المَحَزَّ؛ إذا أصاب بكلامه نفس المعنى المراد (¬4)، ومنه: فَصْلُ الخطاب. وأيضًا؛ فالقولُ الفَصْلُ: الفَصْلُ ببيان المعنى، ضِدُّ الإجمال. ¬
معنى "رويدا" وما قيل في إعرابه
فَكَونُ القرآنِ "فَصْلاً" يتضمَّنُ هذه المعاني كلَّها، ويتضمَّنُ كونه "حقًّا" ليس بالباطل، و "جِدًّا" ليس بالهَزْل. ولمَّا كان الهَزْل هو الذي لا حقيقة له -وهو الباطل واللَّعِب- قابَلَ بين الفَصْلِ والهَزْلِ، وإنَّما يكيد المكذِّبون ويتحيَّلُون، ويخادِعون لِرَدِّه ولا يردُّونَه بِحُجَّةٍ، واللهُ يكيدُهم كما يكيدون دينَهُ ورسولَهُ وعبادَهُ، وكَيدُه -سبحانه- استدراجُهم من حيث لا يعلمون، والإملاءُ لهم حتَّى يأخُذَهم على غِرَّةٍ، كما قال تعالى: {وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (183)} [الأعراف: 183]، فالإنسان إذا أراد أن يكيد غيره يُظْهِر له إكرامه وإحسانه إليه حتَّى يطمئنَّ إليه؛ فيأخذه، كما يفعل الملوك. فإذا فعل أعداءُ الله ذلك بأوليائِه ودينه كان كيدُ اللهِ لهم حَسَنًا لا قُبْحَ فيه، فيُعْطِيهم ويُعَافِيهم وهو يستدرجهم، حتى إذا فَرِحُوا بما أُوتوا أخذهم بغتةً. ثُمَّ قال سبحانه وتعالى: {فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا (17)}؛ أي: أَنظِرْهُم قليلاً ولا تستعجل لهم. والرَّبُّ -تعالى- هو الذي يُمْهِلُهم، وإنَّما خَرَجَ الخِطابُ للرسول - صلى الله عليه وسلم - على جهة التهديد والوعيد لهم، أو على معنى: انْتَظِرْ بِهِم قليلاً. و"رُوَيْدًا" في كلامهم: يكون اسم فِعْلٍ، فيُنْصَبُ بها الاسم نحو: رُويدًا زيدًا، أي: خَلِّه، وأَمهِلْهُ، وارفُقْ به. الثاني: أن يكون مصدرًا مُضافًا إلى المفعول، نحو: رُوَيْدَ زيدٍ، أي: إمْهَالَ زيدٍ، نحو: "ضَرْبَ الرِّقَابِ". الثالث: أن يكون نعتًا منصوبًا، نحو قولك: سَارُوا رويدًا، تقول
العرب: ضعه رويدًا، أي: وَضْعًا رويدًا. وفي حديث عائشة في خروج النبي - صلى الله عليه وسلم - بالليل من عندها إلى البقيع: "فخرج رويدًا، وأَجَافَ الباب رويدًا" (¬1). ويجوز في هذا الوجه وجهان: أحدهما: أن يكون حالاً. والثاني: أن يكون (¬2) نعتًا لمصدرٍ محذوفٍ. فإن أظهرتَ المنعوتَ تعيَّنَ الوجهُ الثاني. و"رويدًا" في الآية هو من هذا النَّوع الثالث، والله أعلم. ¬
فصل: القسم في سورة الانشقاق
فصل ومن ذلك إقسامُهُ -تعالى- {بِالشَّفَقِ (16) وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ (17) وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ (18)} [الانشقاق: 16 - 18]، فأقسم بثلاثة أشياء (¬1) متعلِّقةٍ بالليل: أحدها: "الشَّفَقُ"؛ وهو في اللغة: الحُمْرَة بعد غروب الشمس إلى وقت صَلاَة العِشَاء الآخرة (¬2)، وكذلك هو في الشرع. قال الفرَّاءُ، واللَّيثُ، والزجَّاجُ، وغيرهم: "الشَّفَقُ"؛ الحُمْرَةُ في السماء (¬3). وأَصْلُ موضُوع (¬4) الحَرْفِ لِرِقَّة الشَّيءِ، ومنه قولُهم (¬5): شيءٌ شَفِقٌ: لا تَمَاسُكَ له لَرِقَّتِه، ومنه "الشَّفَقَة" وهي: الرِّقَّة، وأشْفقَ عليه: إذا رَقَّ له، وأهل اللغة يقولون: "الشَّفَقُ " بقيَّةُ ضَوءِ الشَّمْسِ وحُمْرتها (¬6). ولهذا كان الصحيح أنَّ "الشَّفَق" الذي يدخل وقتُ العشاءِ الآخِرة ¬
بغيبوبته هو الحُمْرَةُ، فإنَّ الحُمْرَةَ لمَّا كانت بقيَّةَ ضَوءِ الشمس جُعِلَ بقاؤُها حدًّا لوقت المغرب، فإذا ذهبت الحُمْرة بَعُدَت الشمس عن الأُفُقِ فدخل وقت العشاء. وأمَّا البَيَاض فإنَّه يمتدُّ وقته، ويَطُول لُبْثُه، ويكون حاصلاً مع بُعْد الشمس عن الأُفُق. ولهذا صَحَّ عن ابن عمر -رضي الله عنهما- أنَّه قال: "الشَّفَقُ: الحُمْرَةُ" (¬1). والعرب تقول: ثوبٌ مصبوغٌ كأنَّه الشَّفَقُ، إذا (¬2) احْمَرَّ، حكاه الفرَّاءُ (¬3). وكذلك (¬4) قال الكلبي: "الشَّفَقُ: الحُمْرَةُ التي تكون في المغرب". ¬
معنى قسمه سبحانه بالليل وما وسق
وكذلك قال مقاتل: "هو الذي يكون بعد غروب الشمس في الأُفُق قبل الظُّلْمة" (¬1). وقال عكرمة: "هو بَقِيَّةُ النَّهَار" (¬2)؛ وهذا يحتمل أن يريد به أنَّ تلك الحُمْرَة بقية ضوء الشمس التي هي آية النَّهار. وقال مجاهد: "هو النَّهار كلُّه" (¬3). وهذا ضعيفٌ جدًّا (¬4)، وكأنَّه لمَّا رآهُ قَابَلَهُ بـ"الليل وما وسق"، ظنَّ أنَّه النَّهار، وهذا ليس بلازِمٍ. الثاني: قَسَمُهُ بالليل وما وَسَقَ، أي: وما ضَمَّ، وحَوَى، وجَمَع. والليل آيةٌ، وما ضَمَّهُ وحَوَاهُ آيةٌ أخرى. والقَمَرُ آيةٌ، واتساقُهُ آيةٌ أخرى. و"الشَّفَقُ" يتضمَّنُ إدبارَ النَّهار، وهو آيةٌ، وإقبالَ الليل، وهو آيةٌ أخرى، فإنَّ هذا إذا أدبر خَلَفَهُ الآخَرُ، يتعاقبان لمصالح الخَلْقِ، فإدبارُ النَّهار آيةٌ، وإقبالُ الليل آيةٌ، وتَعَقُّبُ أحدِهِما للآخَرِ آيةٌ (¬5)، والشَّفَقُ الذي هو متضمِّنٌ للأمرين آيةٌ. ¬
والليل آيةٌ، وما حَوَاهُ آيةٌ، والهلاَلُ آيةٌ، وتزايده كلَّ ليلةٍ آيةٌ، واتِّساقُهُ -وهو امْتِلاَؤُه نُورًا- آيةٌ، ثُمَّ أَخْذُهُ في النقص آيةٌ. وهذه وأمثالُها آياتٌ دالَّةٌ على ربوبيته، مستلزِمَةٌ للعلم بصفات كماله. ولهذا شُرِعَ عند إقبال الليل وإدبار النَّهار ذِكْرُ الرَّبِّ -تعالى- بصلاة المغرب، وفي الحديث: "اللهُمَّ هذا إقْبالُ لَيْلِكَ، وإدبارُ نَهَارِكَ، وأصْوَاتُ دُعَاتِك، وحضورُ صَلَوَاتِك" (¬1). كما شُرِعَ ذكر الله بصلاة الفجر عند إدبار الليل وإقبال النَّهار. ولهذا يُقْسِمُ -سبحانه- بهذين الوقتين كقوله -عزَّ وجلَّ-: {وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ (33) وَالصُّبْحِ إِذَا أَسْفَرَ (34)} [المدثر: 33 - 34]، وهو يقابل إقْسَامه بـ"الشَّفَق"، ونظير إقْسَامِه بالليل {إِذَا عَسْعَسَ (17) وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ (18)} [التكوير: 17 - 18]. ولمَّا كان الرَّبُّ -تبارك وتعالى- يُحْدِثُ عند كل واحدٍ من طَرَفَي إقبال الليل والنَّهار وإدبارِهِما ما يُحْدِثُهُ، ويَبُثُّ من خلقه ما شاء، فينشر ¬
فصل: تفسير قوله تعالى: {لتركبن طبقا عن طبق}
الأرواح الشيطانية عند إقبال الليل (¬1)، وينشر الأرواح الإنسانية عند إقبال النَّهار، فيُحْدِثُ هذا الانتشارُ في العالَم أثَرَهُ = شرَعَ -سبحانه- في هذين الوقتين هاتين الصلاتين العظيمتين، مع ما في ذلك من ذكره عند هاتين الآيتين المتعاقبتين، وعند انصرام إحداهما واتصال الأخرى بها، مع ما بينهما من التضادِّ والاختلاف، وانتقال الحيوان عند ذلك من حالٍ إلى حالٍ، ومن حكمٍ إلى حكمٍ، وذلك مبدأٌ ومَعَادٌ يومىٌّ، مشهودٌ للخَلِيقَةِ كُلَّ يومٍ وليلةٍ، فالحيوان والنَّبَات في مبدأ ومَعَادٍ، وزمانُ العالَم في مبدأ (¬2) ومَعَادٍ، {أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (19)} [العنكبوت: 19]. فصل وقوله تعالى: {لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ (19)} [الانشقاق: 19]؛ الظاهر أنَّه جوابُ القَسَم، ويجوز أن يكون من القَسَمِ المحذوفِ جوابُهُ، و"لتركَبُنَّ" وما بعده مُسْتأْنَفٌ. وقُرِئَ "لَتَرْكَبُنَّ" بضم "الباء" للجَمْع، و "لَتَرْكَبَنَّ" بفتحها (¬3). فمن فَتَحَها؛ فالخطاب عنده للإنسان، أي: لتركَبَنَّ أيُّها الإنسانُ. ¬
من قال: إن الخطاب للنبي - صلى الله عليه وسلم - فله ثلاثة معان
وقيل: هو للنبيِّ (¬1) - صلى الله عليه وسلم - خاصَّةً (¬2). وقيل: ليست "الباء" للخِطَاب، ولكنها للغَيْبَةِ، أي: لَتَرْكَبَنَّ السماءُ طبقًا بعد طبق. ومن ضَمَّها؛ فالخطاب للجماعة ليس إلَّا. فمن جعل الكناية للسماء قال: المعنى: لَتَرْكَبَنَّ السماءُ حالاً بعد حالٍ من حالاتها التي وصفَها اللهُ -تعالى- من الانشقاقِ، والانفطارِ، والطَّيِّ، وكونِها كالمُهْلِ مرَّةً، وكالدِّهَانِ مرَّةً، ومَوَرَانِها، وتَفَتُّحِها، وغير ذلك من حالاتها، وهذا قول عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- (¬3). ودلَّ على السماءِ ذِكْرُ الشَّفَقِ والقمر، وعلى هذا فيكون قَسَمًا على المَعَادِ، وتغيُّرِ العالم. ومن قال: الخطاب للنبيِّ - صلى الله عليه وسلم -؛ فله ثلاثةُ معانٍ: لَتَرْكَبَنَّ سماءً بعد سماءٍ، حتَّى تنتهي إلى حيث يُصْعِدُكَ اللَّهُ. هذا ¬
توجيه المعنى في قول من قال: إن الخطاب للإنسان أو لجملة الناس
قول ابن عباس (¬1) -في رواية مجاهد-، وقول مسروق، والشعبي؛ قالوا: والسماءُ طَبَقٌ، ولهذا يقال للسماوات: السَّبْعُ الطِّبَاقُ. والمعنى الثاني: لَتَصْعَدَنَّ درجةً بعد درجةٍ، ومنزلةً بعد منزلةٍ، ورتبةً بعد رتبةٍ، حتّى تنتهي إلى مَحَلِّ القُرْبِ والزُّلْفَى من الله تعالى. والمعنى الثالث: لَتَرْكَبَنَّ حالاً بعد حالٍ من الأحوالِ المختلفةِ التي نَقَلَ اللهُ فيها رسولَهُ - صلى الله عليه وسلم -، من الهجرةِ، والجهادِ، ونَصْرِهِ على عدوِّهِ، وإدالةِ العدوِّ عليه تارةً، وغناه وفقرِه، وغيرِ ذلك من حالاته التي تنقَّلَ فيها إلى أن بَلَغَ ما بَلَّغَهُ اللهُ إيَّاهُ. ومن قال: الخطابُ للإنسانِ أو لِجُمْلَةِ الناسِ، فالمعنى واحدٌ، وهو تنقُّلُ الإنسانِ حالاً بعد حالٍ، من حين كونه نطفةً إلى مستقرِّه من الجنَّة أو النَّار، فكم بين هذين (¬2) من الأطباق والأحوال للإنسان. وأقوالُ المفسِّرين كلُّها تدور على هذا (¬3)؛ قال ابن عباس -رضي الله عنهما-: "لَتَصِيرَنَّ الأمورُ حالاً بعد حالٍ". وقيل: لَتَرْكَبَنَّ أيُّها الإنسانُ حالاً بعد حال، من النُّطْفَةِ إلى العَلَقةِ، إلى المُضْغَةِ، إلى كونه حيًّا، إلى خروجه إلى هذه الدار، ثُمَّ ركوبه طَبَقَ ¬
التمييز بين ما ينفعه ويضرُّهُ، ثُمَّ ركوبه بعد ذلك طبقًا آخر وهو طبق البلوغ، ثُمَّ ركوبه طَبَقَ الأَشُدِّ، ثُمَّ طَبَقَ الشيخوخة، ثُمَّ طبق الهَرَمِ، ثُمَّ ركوبه طبق الموتِ وشأنِهِ، ثُمَّ ركوبه طبق (¬1) ما بعده في البرزخ، وركوبه في أثناء هذه الأحوال أطباقًا عديدةً، لا يزال يتنقَّلُ فيها حالاً بعد حالٍ إلى دار القرار، فذلك (¬2) آخِرُ أطباقه التي يعلمها العباد، ثُمَّ يفعل الله -سبحانه- بعد ذلك ما يشاء. واختار أبو عبيد (¬3) قراءةَ الضَّمِّ (¬4)، وقال: "المعنى بالنَّاس أَشْبَهُ منه بالنبى - صلى الله عليه وسلم -؛ فإنَّه ذكر قبل الآية من يُؤتَى كتابه بيمينه وشماله، ثُمَّ ذكر بعدها قوله: {فَمَا لَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (20)}، فذكر كونهم طبقًا بعد طبق". قال الواحديُّ: "وهذا قول أكثر المفسِّرين، قالوا: لتركَبُنَّ حالاً بعد حالٍ، ومنزلاً بعد منزلٍ، وأمرًا بعد أمرٍ" (¬5). قال سعيد بن جبير، وابن زيد: "لتكونُنَّ في الآخرة بعد الأُولَى، ولَتَصِيرُنَّ أغنياءَ بعد الفقر، وفقراءَ بعد الغِنى". وقال عطاء: "شِدَّةً بعد شِدَّةٍ". وقال أبو عبيدة: "لتركَبُنَّ سُنَّةَ من كان قبلكم في التكذيب ¬
والاختلاف على الرُّسُل" (¬1). وأنتَ إذا تأمَّلْتَ هذا المُقْسَمَ به والمُقْسَمَ عليه وجدتَّه من أعظم الآيات الدَّالَّةِ على الربوبية، وتغييرِ الله -سبحانه- العالَم، وتصريفِهِ له كيف أراد، ونقلِهِ إيَّاهُ من حالٍ إلى حالٍ، وهذا محالٌ أن يكون بنفسه من غير فاعِلٍ مدبِّرٍ له، ومحالٌ أن يكون فاعله غير قادرٍ، ولا حَيٍّ، ولا مريدٍ (¬2)، ولا حكيمٍ، ولا عليمٍ، فكلاهما في الامتناع سواء. فالمقسَمُ به وعليه من أعظم الأدلَّة على ربوبيته، وتوحيدِهِ، وصفاتِ كماله، وصِدْقِه، وصِدْقِ رُسُلِهِ، وعلى المَعَادِ، ولهذا عقَّبَ ذلك بقوله: {فَمَا لَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (20)}؛ إنكارًا على من لم يؤمن بعد ظهور هذه الآيات المستلزِمة لمدلولها أتَمَّ استلزامٍ. وأنكر عليهم عدم خضوعِهم وسجودِهم للقرآن المشتمِلِ على ذلك بأفصح عبارةٍ، وأبْيَنِها، وأجْزَلها، وأوجَزِها. فالمعنى أشرف معنىً، والعبارةُ أشرفُ عبارةٍ، غايةُ الحقِّ بغايةِ البيانِ والفصاحةِ. {بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ (22)} ولا يصدِّقُون بالحق جحودًا وعنادًا، والله أعلم بما يُضْمِرُون في صدورهم ويكتمونه، وما يسرُّونه من أعمالهم وما يجمعونه، فيجازيهم عليه بعلمه وعدله، {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (25)}. ¬
فصل: القسم في سورة التكوير
فصل ومن ذلك إقسامُهُ -سبحانه- {بِالْخُنَّسِ (15) (¬1) الْجَوَارِ الْكُنَّسِ (16) وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ (17) وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ (18)} [التكوير: 15 - 18]. أقْسَمَ -سبحانه- بالنُّجوم في أحوالها الثلاثة؛ في (¬2): طلوعها، وجريانها، وغروبها. هذا قول: علي، وابن عباس، وعامة المفسِّرين (¬3)، وهو الصواب. و"الخُنَّس": جمع خَانِس، والخُنُوسُ: الانقباضُ والاختفاءُ، ومنه سُمِّيَ الشيطانُ "خَنَّاسًا" لانقباضه وانكماشه حين يذكر العبدُ ربَّه. ومنه قول أبي هريرة: "فانْخَنَسْتُ منه" (¬4). و"الكُنَّس": جمع كَانِس، وهو الداخل في كِنَاسِهِ، أي: في بيته. ومنه: تكَنَّسَت المرأةُ؛ إذا دَخَلَت فى هَوْدَجها. ومنه: كَنَسَت الظباءُ؛ إذا أَوَتْ إلى أَكْنَاسِها. ¬
و"الجَوَاري": جمع جارية، كـ"غاشية" وغَوَاشٍ، قال علي بن أبي طالب -رضي الله عنه-: "النُّجُومُ تَخْنِسُ بالنَّهارِ، وتظهر بالليل" (¬1). وهذا قول: مقاتل (¬2)، وعطاء، وقتادة، وغيرهم (¬3). قالوا: الكواكب تَخْنِسُ بالنَّهار، فتختفي ولا تُرَى، وتَكْنِسُ في وقت غروبها. ومعنى "تَخْنِس" -على هذا القول-: تتأَخر عن البصر، وتَتَوَارَى عنه بإخفاء النَّهار لها. وفيه قولٌ آخر؛ وهو أنَّ خنوسَها رجوعُها، وهي حركتها المشرقية (¬4)، فإنَّ لها حركتين: حركةً بفَلَكِها، وحركةً بنفسها، فخُنُوسُها: حركتُها بنفسها (¬5) راجعةً، وعلى هذا فهو قَسَمٌ بنوعٍ من الكواكب، وهي "السيَّارة"، وهذا قول الفرَّاء (¬6). ¬
من فسرها بالظباء وبقر الوحش فقوله ضعيف من عشرة أوجه
وفيه قولٌ ثالثٌ؛ وهو أنَّ خُنُوسَها وكنوسَها: اختفاؤُها (¬1) وقتَ مغيبها، فتغيب في مواضعها التي تغيب فيها (¬2)، وهذا قول الزجَّاج (¬3). ولمَّا كان للنُّجُوم حال (¬4) ظهورٍ، وحال (¬5) اختفاءٍ، وحال جريانٍ، وحال غروب -أقسَمَ -سبحانه- بها في أحوالها كلِّها، ونبَّه بخُنُوسِها على حال ظهورها؛ لأنَّ "الخُنُوس" هو الاختفاء بعد الظهور، ولا يقال لِمَا لم يزل مختفيًا: أنَّه قد خَنَس. فذكر -سبحانه- جريانَها وغروبَها صريحًا، وخنوسَها وظهورَها، واكتفى من ذِكْرِ طُلُوعِها بجريانها الذي مبدؤُهُ الطُّلُوع، فالطُّلُوع أوَّلُ جريانها. فتضمَّنَ القَسَمُ: طُلُوعَها، وغروبَها، وظهورَها، واختفاءَها، وذلك من آياته ودلائل ربوبيته. وليس قول من فسَّرَها بـ"الظِّبَاء"، و"بَقَر الوحش" (¬6) بالظاهر؛ لوجوه: أحدها: أنَّ هذه الأحوال في الكواكب السيَّارة أعظمُ آيةً وعبرةً. ¬
الثاني: أنَّ اشتراك أهل الأرض في معرفتها بالمُشَاهَدةِ والعِيَانِ. الثالث: أنَّ "البقر" و"الظِّبَاء" ليست لها حالة تختفي فيها عن العِيَان مطلقًا، بل لا تزال ظاهرةً في الفَلَوَاتِ. الرابع: أنَّ الذين فسَّرُوا الآيةَ بذلك قالوا: ليس خُنُوسها من الاختفاء. قال الواحديُّ: "هو من الخَنَس في الأنْفِ، وهو تأخُّرُ الأرْنَبة، وقِصَرُ القَصَبة، والبقر والظِّبَاء أنوفُهُنَّ خُنْسٌ، والبقرة خَنْسَاء، والظَّبْيُ أَخْنَس" (¬1). ومنه سُمِّيت "الخَنْسَاء" (¬2)؛ لِخَنَس أَنْفِها. ومعلومٌ أنَّ هذا أمرٌ خَفِىٌّ يحتاجُ إلى تأمُّلٍ، وأكثرُ النَّاس لا يعرفونه، وآياتُ الرَّبِّ التي يُقْسِمُ بها لا تكون إلا ظاهرةً جليَّةً يشترك في معرفتها الخلائق، وليس الخَنَسُ في أنف البقر والظِّبَاء بأعظم من الاستواء والاعتدال في أنف ابن آدم، فالآية فيه أظهر. الخامس: أنَّ كنوسَها في أَكِنَّتها ليس بأعظم من دخول الطير وسائر الحيوان في أَكِنَّتِهِ التي يأوي فيها (¬3)، ولا أظهر منه حتَّى يعيَّن للقَسَم. ¬
السادس: أنَّه لو كان جمعًا للظِّباء لقال: الخُنْس -بالتسكين-؛ لأنَّه جمع: أَخْنَس، فهو كَأَحمَر وحُمْر، ولو أُريد به جمع (بقرةٍ خَنْسَاء) لكان على وزن "فُعْل" -أيضًا- كَحَمْرَاء وحُمْر، فلمَّا جاءَ جمعُه على "فُعَّل"- بالتشديد- استحال أن يكون جمع الواحد من الظِّبَاء والبقر؛ وتعيَّن أن يكون جمعًا لـ"خَانِس"، كَشَاهِدٍ وشُهَّد، وصَائِمٍ وصُوَّم، وقَائِمٍ وقُوَّم، ونظائرها. السابع: أنَّه ليس بالبيِّنِ إقسامُ الرَّبِّ -تعالى- بالبقر والغزلان، وليس هذا عُرْف القرآن ولا عادته، وإنَّما يُقْسِم -سبحانه- من كلِّ جنْسٍ بأعلاه، كما أنَّه لمَّا أقسَمَ بالنُّفُوس أقسَمَ بأعلاها، وهي النَّفْس الإنسانية. ولمَّا أقْسَمَ بكلامه أقْسَمَ بأشرفه وأجلِّه؛ وهو: القرآن. ولمَّا أقْسَمَ بالعُلْويَّات أقسَمَ بأشرفها وهي (¬1): السماءُ، وشمسُها، وقمرُها، ونجومُها. ولمَّا أقسَمَ بالزَّمان أقسَمَ بأشرفه، وهو: الليالي العشر. وإذا أراد -سبحانه- أن يُقْسِمَ بغير ذلك أدرجه في العموم، كقوله عزَّ وجل: {فَلَا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ (38) {وَمَا لَا تُبْصِرُونَ (39)} [الحاقة: 38 - 39]، وقوله: {الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى (3)} [الليل: 3] في قراءة (¬2) ¬
رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ونحو ذلك. الثامن: أنَّ اقترانَ القَسَمِ بالليلِ والصُّبْحِ يدلُّ على أنَّها النُّجُوم، وإلاَّ فليس باللاَّئق اقتران البقر والغزلان والليل والصُّبْح في قَسَمٍ واحدٍ. وبهذا احتج أبو إسحاق (¬1) على أنَّها النُّجُوم فقال: "هذا أَلْيَقُ بذكر النُّجُوم منه بذكر الوحش". التاسع: أنَّه لو أراد ذلك -سبحانه- لَبيَّنه (¬2)، وذَكَرَ ما يدلُّ عليه، كما أنَّه لمَّا أراد بالجَوَاري: السُّفُنَ؛ قال: {وَمِنْ آيَاتِهِ الْجَوَارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ (32)} [الشورى: 32]، وهنا ليس في اللفظ ولا في السياق ما يدلُّ على أنَّها البقر والظِّبَاء، وفيه ما يدلُّ على أنَّها النُّجُوم من الوجوه التي ذكرناها وغيرها. العاشر: أنَّ الارتباط الذي بين النُّجُوم التي هي هدايةٌ للسالكين، وزينةٌ للسماء، ورُجُومٌ للشياطين، وبين المُقْسَمِ عليه وهو القرآن، الذي هو هُدَىً للعالمين، وزينةٌ للقلوب، وداحضٌ لشبهات الشيطان = أعظمُ من الارتباط الذي بين البقر والظِّبَاء والقرآن (¬3)، والله ¬
فصل: اختلافهم في عسعسة الليل، وتوجيه أقوالهم
أعلم. فصل واختُلِفَ في عَسْعَسَةِ الليل، هل هي إقْبَالُهُ أم إدْبَارُهُ؟ فالأكثرون على أنَّ "عَسْعَسَ" بمعنى: ولَّى، وذَهَب، وأدبر (¬1). هذا قول: علي، وابن عباس وأصحابه (¬2). وقال الحسن: "أَقْبَلَ بظلامه"، وهو إحدى الروايتين عن مجاهد (¬3). فمن رجَّحَ الإقبال قال: أَقْسَمَ الله -سبحانه وتعالى- بإقبال الليل، وإقبال النَّهار، فقوله -عزَّ وجلَّ-: {وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ (18)} [التكوير: 18] مقابِلٌ لـ"الليل إذا عَسْعَس". قالوا: ولهذا أَقْسَمَ -تعالى- بالليل {إِذَا يَغْشَى (1) وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى (2)} [الليل: 1 - 2]، وبالضُّحَى. قالوا: فَغَشَيَان الليل نظيرُ عَسْعَسَتِهِ، وتَجَلَّي النَّهار نظيرُ تنفُّس الصُّبْحِ، إذ هو مبدؤُه وأوَّله. ¬
فصل: المقسم عليه ههنا هو: القرآن
ومن رجَّحَ أنَّه إدبارُه احتجَّ بقوله تعالى: {كَلَّا وَالْقَمَرِ (32) وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ (33) وَالصُّبْحِ إِذَا أَسْفَرَ (34)} [المدثر: 32 - 34] فأقسَمَ -سبحانه- بإدبار الليل، وإسفار الصُّبْح؛ وذلك نظير عَسْعَسَة الليل، وتنفُّس الصُّبْح. قالوا: والأحسن أن يكون القَسَمُ بانصرام الليل، وإقبال النَّهار (¬1) عقيبه من غير فَصْل، فهذا أعظم في الدلالة والعبرة، بخلاف إقبال الليل وإقبال النَّهار، فإنَّه لم يُعرف القَسَمُ في القرآن بهما، ولأنَّ بينهما زمنٌ طويلٌ، فالآيةُ في انصرام هذا ومجيء الآخر عقيبه بغير فَصْلٍ أبلغ. فذكر -سبحانه- حالةَ ضَعْفِ هذا وإدباره، وحالةَ قوَّةِ هذا وتنفُّسِهِ وإقباله؛ يطردُ ظلمةَ الليل بتنفُّسِهِ، فكُلَّمَا تنفَّسَ هَرَبَ الليلُ وأدبر بين يديه، وهذا هو القول. والله أعلم. فصل ثُمَّ ذكر -سبحانه- المقسَم عليه وهو "القرآن"، وأخبر أنَّه قولُ رسولٍ كريمٍ، وهو -هاهنا-: جبريل- قطعًا-؛ لأنَّه ذكَرَ صفتَهُ بعد ذلك بما يُعيِّنُه به. وأمَّا "الرسول الكريم" في "الحاقَّة" فهو محمدٌ - صلى الله عليه وسلم - لأنَّه نفى بعده أن يكون قول من زعم أعداؤه أنَّه قولُه؛ فقال تعالى: {وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ (41) وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ (42)} [الحاقة: 41 - 42]. فأضَافَهُ إلى الرسول المَلَكِي تارةً، وإلى البَشَرِيِّ تارةً، وإضافتُهُ إلى كل واحدٍ من الرسولَين إضافةُ تبليغٍ لا إضافة إنشاءٍ من عنده، وإلا ¬
للرسول الملكي خمس صفات ذكرت في هذه السورة
تناقضت النِّسْبَتَان. ولفظ "الرسول" يدلُّ على ذلك، فإنَّ "الرسولَ" هو الذي يبلِّغ كلامَ من أرسله، وهذا صريحٌ في أنَّه كلام من أرسل جبريلَ ومحمدًا- صلى الله عليهما وسلم-، وأنَّ كلاًّ منهما بلَّغه عن الله، فهو قولُه مبلِّغًا، وقولُ الله الذي تكلَّم به حقًّا. فلا راحة لمن أنكر أن يكون الله -تعالى- متكلِّمًا بالقرآن -وهو كلامه حقًّا- في هاتين الآيتين، بل هما من أظهر الأدلَّة على كونه كلام الرَّبِّ تعالى، وأنَّه ليس للرسولَين الكريمَين منه إلا التبليغ، فجبريلُ سمعه من الله، ومحمدٌ - صلى الله عليه وسلم - سمعه من جبريل. وَوَصَفَ رسولَهُ المَلَكيَّ في هذه السورة بأنَّه: كريمٌ، قويٌّ، مكينٌ عند الرَّبِّ تعالى، مطاعٌ في السماوات، أمينٌ. فهذه خمسُ صفاتٍ تتضمَّن تزكية سَنَدِ القرآن، وأنَّه سماعُ محمدٍ من جبريلَ، وسماعُ جبريلَ من ربِّ العالمين. فَنَاهِيك بهذا السَّنَدِ عُلُوًّا وجلالةً؛ تولَّى (¬1) اللهُ -سبحانه- بنفسه تزكيتَهُ: الصفة الأُولَى: كَوْنُ الرسولِ الذي جاء به إلى محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -: كريمًا، ليس كما يقول أعداؤه: إنَّ الذي جاء به شيطان، فإنَّ الشيطانَ خبيثٌ مخبِثٌ، لئيمٌ، قبيحُ المنظر، عديمُ الخير، باطِنُهُ أقبحُ من ظاهره، وظاَهرُهُ أشْنَعُ من باطنه، وليس فيه ولا عنده خيرٌ، فهو أبعد شيءٍ عن الكرم. والرسولُ الذي ألقَى القرآنَ إلى محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -: كريمٌ، جميلُ المنظر، بَهِيُّ الصورة، كثيرُ الخير، طَيِّبٌ مُطَيَّبٌ، معلِّمُ الطَّيِّبِين. وكلُّ خيرٍ في الأرض من هُدَىً، وعلمٍ، ومعرفةٍ، وإيمانٍ، وبِرٍّ، فهو ممَّا ¬
أجراه ربُّه على يده، وهذا غايةُ الكَرَم الصُّوري والمعنوي. الوصف الثاني: أنَّه "ذُو قوَّةٍ"، كما قال في موضعٍ آخر: {عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى (5)} [النجم: 5]، وفي ذلك تنبيه على أمورٍ: أحدها: أنَّه بقوَّته يمنع الشياطين أن تدنو منه، وأن ينالوا منه شيئًا، وأن يزيدوا فيه أو يَنقُصُوا منه، بل إذا رآه الشيطانُ هَرَبَ منه ولم يَقْرَبْهُ. الثاني: أنَّه مُوَالٍ لهذا الرسول الذي كذَّبتموه، ومُعَاضِدٌ له، ومُوَادِدٌ له، وناصِرٌ، كما قال تعالى: {وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ (4)} [التحريم: 4]، ومن كان هذا القويُّ وليَّهُ، ومن أنصاره، وأعوانه، ومعلِّمَهُ = فهو المَهْدِيُّ المنصورُ، واللهُ هاديه وناصره. الثالث: أنَّ من عادَى هذا الرسولَ فقد عادَى صاحبَهُ ووليَّهُ جبريلَ، ومن عادَى ذا القوَّةِ والشدَّةِ فهو عُرْضَةٌ للهَلاَك. الرابع: أنَّه قادِرٌ على تنفيذ ما أُمِر به لقوَّتِه، فلا يعجز عن ذلك، مُؤَدٍّ له كما أُمِر به لأمانته، فهو القويُّ الأمينُ على فعله، وأحدُكُم إذا انتدَبَ غيرَهُ في أمرٍ من الأمور لرسالةٍ، أو ولايةٍ، أو وكالةٍ، أو غيرِها فإنَّما ينتدِبُ لها القويَّ عليه، الأمينَ على فعله (¬1)، وإن كان ذلك الأمر من أهمِّ الأمور عنده انتدب له قويًّا أمينًا معظَّمًا ذا مكانةٍ عنده، مطاعًا في النَّاس، كما وصفَ اللهُ عبدَهُ جبريلَ بهذه الصفات. وهذا يدلُّ على عظمة شأنِ المرسِلِ، والرسولِ، والرسالةِ، ¬
والمرسَلِ إليه، حيث انتدَبَ له الكريمَ، القويَّ، المكينَ عنده، المطاعَ في الملأ الأعلَى، الأمينَ حقَّ الأمين، فإنَّ الملوك لا تُرسل في مُهِمَّاتها إلا الأشراف، ذوي الأقدارِ والرُّتَبِ العالية. وقوله -عزَّ وجلَّ- (¬1): {عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ (20)} [التكوير: 20] أي: له مكانةٌ ووَجَاهَةٌ عنده، وهو أقرب الملائكة إليه. وفي قوله: {عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ} (¬2) إشارةٌ إلى عُلُوِّ منزلة جبريل، إذ كان قريبًا من ذي العرش سبحانه. وفي قوله (¬3): {مُطَاعٍ ثَمَّ} إشارةٌ إلى أنَّ جنودَهُ وأعوانَهُ يطيعونه إذا نَدَبَهم لنصر صاحبه وخليله محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -. وفيه إشارةٌ -أيضًا- إلى أنَّ هذا الذي تكذِّبونه وتعادُونه سيصير مُطاعًا في الأرض، كما أنَّ جبريلَ مطاعٌ في السماء، وأنَّ كلاًّ من الرسولَين (¬4) مطاعٌ في مَحَلِّهِ وقومِهِ. وفيه تعظيمٌ له بأنَّه بمنزلة الملوك المُطَاعين في قومهم، فلم ينتدب لهذا الأمر العظيم إلا مثل هذا المَلَكِ المُطَاع. وفي وصفه بـ"الأمانة" (¬5): إشارةٌ إلى حِفْظِهِ ما حُمِّلَهُ، وأدائِهِ له على وجهه. ¬
ثُمَّ نزَّه رسولَهُ البَشَريَّ وزكَّاه عمَّا يقول فيه أعداؤه، فقال تعالى: {وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ (22)} [التكوير: 22]، وهذا أمرٌ يعلمونه ولا يشكُّون فيه، وإن قالوا بألسنتهم خلافه، فهم يعلمون أنَّهم كاذبون. ثُمَّ أخبر عن رؤيته - صلى الله عليه وسلم - لجبريل، وهذا يتضمَّنُ أنَّه مَلَكٌ موجودٌ في الخارج، يُرَى بالعِيَان، ويُدْرِكُهُ البَصَرُ، لا كما يقول المتفلسفة ومن قلَّدهم: إنَّه العقل الفعَّال، وإنَّه ليس ممَّا يُدْرَك بالبَصَر، وحقيقته عندهم أنَّه خَيَالٌ موجودٌ في الأذهان لا في الأعيان! (¬1) وهذا ممَّا خالفوا به جميع الرُّسُل وأتباعِهم، وخرجوا به عن جميع المِلَل. ولهذا كان تقريرُ رؤية النبي - صلى الله عليه وسلم - لجبريل أهمَّ من تقرير رؤيته لربِّه تعالى، فإنَّ رؤيته لجبريل هي أصلُ الإيمان الذي لا يتمُّ إلا باعتقادها، ومن أنكرها كَفَر قطعًا. وأمَّا رؤيته لربِّه -تعالى- فغايتُها أن تكون مسألةَ نزاعٍ لا يكفر جاحدُها بالاتفاق، وقد صرَّحَ جماعةٌ من الصحابة بأنَّه لم يَرَهُ، وحكى عثمان بن سعيد الدارمي (¬2) اتفاقَ الصحابة على ذلك (¬3). فنحن إلى تقرير رؤيته لجبريل أحوجُ مِنَّا إلى تقرير رؤيته لربِّه ¬
توجيه القراءة في "ضنين" بالضاد، و"ظنين" بالظاء
تعالى، وإن كانت رؤيةُ الرَّبِّ -تعالى- أعظمَ من رؤية جبريل ومَنْ دُونه، فإنَّ النُّبوَّة لا يتوقف (¬1) ثبوتها عليها أَلْبتَّة. ثُمَّ نزَّهَ رسولَيه كليهما -أحدَهُما بطريق النُّطْق، والثاني بطريق اللُّزُوم- عمَّا يضادُّ مقصودَ الرسالة من الكتمانِ الذي هو الضِّنَّةُ والبخلُ، والتبديلِ والتغييرِ الذي يوجب التهمة، فقال: {وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ (24)} [التكوير: 24]، فإنَّ الرسالة لا يتمُّ مقصودُها إلا بأمرين: 1 - أدائها من غير كتمان. 2 - وأدائها على وجهها من غير زيادةٍ ولا نقصانٍ. والقراءتان كالآيتين، فتضمَّنت إحداهما -وهي قراءة الضَّاد (¬2) - تنزيهه عن البخل، فإنَّ "الضَّنِين": البخيل، يقال: ضَنِنْتُ به أَضَنُّ، بوزن (بَخِلْتُ به أَبْخَلُ) ومعناه (¬3). ومنه قول جميل بن مَعْمَر (¬4): ¬
أَجُودُ بمَضْنُونِ التِّلاَدِ وإنَّنِي ... بِسِرِّكِ عمَّنْ سَألَنِي لَضَنِينُ قال ابنُ عباس -رضي الله عنهما-: "ليس ببخيلٍ بما أنزل الله عزَّ وجلَّ". وقال مجاهدُ: "لا يَضِنُّ عليهم بما يُعَلِّم" (¬1). وأجمع المفسِّرون على أنَّ الغيبَ -هاهنا-: القرآنُ، والوحيُ. وقال الفرَّاء: "يقول تعالى: يأتيه غيب السماء وهو منفوسٌ فيه، فلا يَضِنُّ به عليكم" (¬2). وهذا معنىً حسنٌ جدًّا، فإنَّ عادةَ النُّفوسِ الشحُّ بالشيء النَّفيس، ولاسيَّما عمَّن لا يعرف قَدْرَه، ويذمُّهُ ويذمُّ من هو عنده، ومع هذا فهذا الرسول لا يبخل عليكم بالوحي الذي هو أنفسُ شيءٍ وأجلُّه. وقال أبو علي الفارسىُّ: "المعنى: يأتيه الغيب فيبيِّنُه، ويخبر به، ويظهره، ولا يكتمه كما يكتم الكاهن ما عنده ويخفيه حتَّى يأخذ عليه حُلْوَانًا" (¬3). ¬
وفيه معنىً آخر؛ وهو أنَّه على ثقةٍ من الغيب الذي يخبر به فلا يخاف أن ينتقض ويظهَرَ الأمرُ بخلاف ما أخبر به، كما يقع للكُهَّان وغيرهم ممَّن يخبر بالغيب، فإنَّ كَذِبَهم أضعافُ صِدْقِهم، وإذا أخبر أحدُهم بخبرٍ لم يكن على ثقةٍ منه، بل هو خائفٌ من ظهور كذبه، فإقدامُ هذا الرسول على الإخبار بهذا الغيب العظيم الذي هو أعظم الغيب؛ واثقًا به، مقيمًا عليه، مبديًا له -في كلِّ مَجْمَع- ومعيدًا، مناديًا به على صدقه، مستجلبًا به لأعدائه = من أعظم الأدلَّة على صدقه. وأمَّا قراءةُ من قرأ "بظَنين" -بالظَّاء (¬1) - فمعناه: المُتَّهَم، يقال: ظَنَنْتُ زيدًا، بمعنى: اتهمتُه، وليس من "الظَّنِّ" الذي هو الشعور والإدراك، فإنَّ ذلك يتعدَّى إلى مفعولين، ومنه ما أنشَدَ أبو عبيدة: أَمَا وكتابِ اللهِ لا عن شَنَاءَةٍ ... هُجِرْتُ، ولكنَّ المُحِبَّ ظَنِينُ (¬2) والمعنى: وما هذا الرسول على القرآن بمُتَّهَمٍ، بل هو أمينٌ لا يزيد فيه ولا ينقص؛ وهذا يدلُّ على أنَّ الضمير يرجع إلى محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -؛ ¬
لأنَّه قد تقدَّمَ وصْفُ الرسول المَلَكِي بالأمانة، ثُمَّ قال: {وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ (22)}، ثُمَّ قال: {وَمَا هُوَ} أي: وما صاحبكم بمُتَّهَمٍ ولا بخيلٍ. واختار أبو عبيد (¬1) قراءة "الظَّاء"؛ لمعنيين: أحدهما: أنَّ الكفَّارَ لم يُبَخِّلُوه، وإنَّما اتَّهَموه، فنفْيُ التُّهْمَةِ أَولى من نَفْي البخل. الثانى: أنَّه قال: {عَلَى الْغَيْبِ} ولو كان المراد البخل لقال: بالغيب؛ لأنَّه يقال: فلانٌ ضنِينٌ بكذا، وقَلَّما يقال: على كذا. قلت: ويرجِّحُه أنَّه وَصَفَهُ بما وصف به رسولَهُ المَلَكِيَّ من الأمانة، فنَفَى عنه التُّهْمَةَ كما وصفَ جبريلَ بأنَّه أمينٌ. ويرجِّحُه -أيضًا- أنَّه -سبحانه- نفَى أقسام الكذب كلِّها عمَّا جاء به من الغيب، فإنَّ ذلك لو كان كذبًا: فإمَّا أن يكون منه، أو ممَّن علَّمه. وإن كان منه: فإمَّا أن يكون تعمَّدَهُ، أو لم يتعمَّدْهُ. فإن كان من معلِّمه فليس هو بشيطانٍ رجيمٍ، وإن كان منه مع التعمد فهو المتَّهَمُ -ضد الأمين-، وإن كان عن غير تعمُّدٍ فهو المجنون. فنفَى -سبحانه- عن رسوله ذلك كلَّهُ، وزكَّى سَنَدَ القرآن أعظم التزكية، فلهذا قال سبحانه: {وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ (25)} أي: ليس بتعليم الشيطان، ولا يقدر عليه، ولا يَحْسُنُ منه كما قال تعالى: {وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ (210) وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ (211)} [الشعراء: 210 - 211]، فنَفَى ¬
تفسير قوله تعالى: {فأين تذهبون}
فعلَهم، وانبِغاءَهُ (¬1) منهم، وقدرتهم عليه. وكُلُّ من له أدنى خبرةٍ بأحوال الشياطين والمجانين والمُتَّهمين، وأحوال الرُّسُل؛ يعلَمُ علمًا لا يُمَاري فيه ولا يشُكُّ -بل علمًا ضروريًّا، كسائر الضروريَّات- منافَاةَ أحدهما للآخر، ومضادَّته له، كمنافاة أحد الضِّدَّين لصاحبه، بل ظهورُ المنافاة بين الأمرين للعقل أَبْيَنُ من ظهورُ المنافاة بين النُّور والظُّلْمة للبصر. ولهذا وَبَّخَ -سبحانه- من كَفَر بعد ظهور هذا الفرق المبين بين دعوة الرُّسُل (¬2) ودعوة الشياطين (¬3)، فقال تعالى: {فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ (26)}، قال أبو إسحاق: "المعنى: فأَيَّ طريقٍ تسلكون أَبْيَنَ من هذه الطريقة التي بَيَّنْتُ لكم؟ " (¬4). قلت: هذا من أحسن الإلزام (¬5) وأَبْيَنه، أن تُبيِّنَ للسامع الحقَّ ثُمَّ تقول له: أَيْشٍ تقول خلاف هذا؟ وأين تذهب خلاف هذا؟! قال تعالى: {فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ (50)} [المرسلات: 50]، وقال تعالى: {فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ (6)} [الجاثية: 6]، فالأمر منحصِرٌ في الحق والباطل، والهُدَى والضلال، فإذا عدلتم عن الهُدَى والحقِّ، فأين العدل، وأين المذهب؟! ونظير هذا قوله سبحانه: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي ¬
فصل: المواضع التي وصف الله عز وجل القرآن بأنه ذكر، وما فيها من المعاني
الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ (22)} [محمد: 22]، أي: إنْ أعرضتم عن الإيمان بالقرآن والرسول وطاعته فليس إلا الفساد في الأرض بالشِّرْكِ، والمعاصي، وقطيعةِ الرَّحم. ونظيره قوله تعالى: {بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ (5)} [ق: 5]، لمَّا تركوا الحق وعدلوا عنه مَرَجَ عليهم أمرُهم والْتَبسَ، فلا يدرون ما يقولون وما يفعلون، بل لا يقولون شيئًا إلا كان باطلاً، ولا يفعلون شيئًا إلا كان ضائعًا غير نافع لهم، وهذا شأن كلِّ من خرج عن الطريق المستقيم في قوله وفعله، وهو بمنزلة من خرج عن الطريق المُوصِل إلى (¬1) المقصود. ونظيره قوله تعالى: {فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ} [القصص: 50]، وقد كشف هذا المعنى كلَّ الكشف بقوله عزَّ وجلّ: {فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ} [يونس: 32]. فصل ثُمَّ أخبر -تعالى- عن "القرآن" بأنَّه ذِكْرٌ للعالَمين، وفي موضعٍ آخر: تذكرةٌ للمتقين (¬2)، وفي موضعٍ آخر: لرسوله - صلى الله عليه وسلم - ولقومه (¬3)، وفي ¬
موضعٍ آخر: ذِكْرٌ مطلقٌ (¬1)، وفي موضعٍ آخر: ذِكْرٌ مبارَكٌ (¬2)، وفي موضعٍ آخر وصَفَهُ بأنَّه ذو الذِّكْر (¬3). وبجمع هذه المواضع يتبيَّنُ (¬4) المرادُ من كونه ذِكْرًا عامًّا وخاصًّا، وكونه ذا ذِكْرٍ، فإنَّه: يذكِّرُ العبادَ بمصالحهم في مَعَاشِهم ومَعَادِهم. ويذكِّرُهُم بالمبدأ والمَعَاد. ويذكِّرُهُم بالرَّبِّ -تعالى- وأسمائه، وصفاته، وأفعاله، وحقوقِه على عباده. ويذكِّرُهُم بالخير لِيَقْصِدُوه، وبالشَّرِّ ليجتنبوه. ويذكِّرُهُم بنفوسهم، وأحوالها، وآفاتها، وما تكمل به. ويذكِّرُهُم بعدُوِّهم وما يريد منهم، وبماذا يحترزون من كيده، ومن أيِّ الأبواب والطرق يأتي إليهم. ويذكِّرُهُم بفاقتهم وحاجتهم إلى ربِّهم، وأنَّهم مضطرُّون إليه لا يستغنون عنه نَفَسًا واحدًا. ويذكِّرُهُم بِنِعَمِه عليهم، ويدعوهم بها إلى نِعَمٍ أخرى أكبر منها. ¬
تفسير قوله تعالى: {لمن شاء منكم أن يستقيم}
ويذكِّرُهُم بأسَهُ، وشدَّةَ بَطْشِه، وانتقامَهُ ممَّن عصَى أمرَهُ، وكذَّبَ رُسُلَهُ. ويذكِّرُهُم بثوابه وعقابه. ولهذا يأمر -سبحانه- عبادَهُ أن يذكروا ما في كتابه، كما قال تعالى: {خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (63)} [البقرة: 63]، وإذا كان كذلك فأحَقُّ وأَوْلَى وأوَّلُ من كان ذكرًا له من أُنْزِلَ عليه، ثُمَّ لقومه، ثُمَّ لجميع العالمين، وحيث خصَّ به المتقين فلأنهم الذين انتفعوا بذكره. وأمَّا وَصْفُه بأنَّه "ذو الذِّكْر"؛ فلأنَّه مشتمِلٌ على الذِّكْر، فهو صاحب الذِّكْرِ، وفيه الذِّكْرُ، فهو ذِكْرٌ وفيه الذِّكْرُ، كما أنَّه هُدَىً وفيه الهُدَى، وشفاءٌ وفيه الشفاء، ورحمةٌ وفيه الرحمة. وقوله سبحانه: {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ (28)} [التكوير: 28] بَدَلٌ من "العالَمين"، وهو بَدَلُ بعضٍ من كُلٍّ. وهذا من أحسن ما يُستدلُّ به على أنَّ البَدَلَ في قوَّة ذكر عاملين مقصودين، فإنَّ جهةَ كونه ذِكْرًا للعالمين كلِّهم غيرُ جهة كونه ذِكْرًا لأهل الاستقامة، فإنَّه ذِكْرٌ للعموم بالصَّلاَحية والقوَّة، وذِكْرٌ لأهل الاستقامة بالحصول والنفع، فكما أنَّ البَدَلَ أخَصُّ من المُبْدَلِ منه فالعامِلُ المقدَّرُ فيه أخَصُّ من العامل الملفوظ في المُبْدَلِ منه، ولابدَّ من هذا؛ فتأمَّلْهُ. وقوله تعالى: {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ (28)} رَدٌّ على "الجَبْرِيَّة" القائلين بأنَّ العبدَ لا مشيئة له، و (¬1) أنَّ مشيئته مجرَّد علامةٍ على حصول ¬
في قوله تعالى: {وما تشاءون إلا أن يشاء الله} رد على القدرية
الفعل لا ارتباط بينها وبينه إلا مجرَّد اقترانٍ عادِي (¬1) من غير أن يكون سببًا فيه. وقوله -عزَّ وجلَّ-: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [التكوير: 29] ردٌّ على "القَدَرِيَّة" القائلين بأنَّ مشيئة العبد مستقِلَّةٌ بإيجاد الفعل من غير توقُّفٍ على مشيئة الله -عزَّ وجلَّ-، بل متى شاءَ العبدُ الفعلَ وُجِدَ، ويستحيلُ عندهم تعلُّقُ مشيئة الله -عزَّ وجلَّ- بفعل العبد، بل هو يفعله بدون مشيئة الله تعالى. فالآيتان مُبْطِلَتَان لقول الطائفتين. فإنْ قال الجَبرْيُّ: هو -سبحانه- لم يقل إنَّ الفعل واقعٌ بمشيئة العبد، بل أخبر أنَّ الاستقامة تحصل عند المشيئة، ونحن قائلون بذلك. وقال القَدَريُّ: قوله -عزَّ وجلَّ-: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} المشيئةُ مختلِفة، فمشيئةُ العبد هي المُوجِبَةُ للفعل التي بها يقع، ومشيئة الله لفعله هو أمره له به، ونحن لا ننكر ذلك. فالجواب: أنَّ هذا من تحريف الطائفتين: - أمَّا الجَبرْيُّ فيقال له: اقتران الفعل عندك بمشيئة العبد بمنزلة اقترانه بلَوْنِه (¬2)، وشكْلِه، وسائر أعراضِهِ التي لا تأثير لها في الفعل، فإنَّ نسبةَ جَميع أعراضه إلى الفعل في عدم التأثير نسبةُ إرادته (¬3) عندك، والاقتران حاصلٌ بجميع أعراضه، فما الذي أوجب تخصيص المشيئة؟ ¬
وهل سَوَّىَ الله -سبحانه- في فِطَر النَّاس، أو عقولهم، أو شرائعهم، بين نسبة المشيئة والإرادة إلى الفعل، ونسبة سائر أعراض الحَيِّ إذ كان -عندك (¬1) - إلَّا مجرَّدَ الاقتران عادةً؟ والاقترانُ العادِيُّ حاصِلٌ مع الجميع. وأمَّا القَدَرِىُّ فتحريفه أشَدُّ؛ لأنَّه حَمَلَ المشيئةَ على الأمر وقال: المعنى: وما تشاؤون إلا أنْ يأمر الله! وهذا باطلٌ قطعًا، فإنَّ المشيئة في القرآن لم تُستعمل في ذلك, وإنَّما استُعمِلت في مشيئة التكوين كقوله تعالى: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ} [الأنعام: 112]، وقوله: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا} [البقرة: 253]، وقوله: {وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا} [السجدة: 13]، وقوله: {أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعًا} [الرعد: 31]، ونظائر ذلك؛ ممَّا لا يصحُّ فيه حمل المشيئة على الأمر أَلْبَتَّة. والذي دلَّت عليه الآية مع سائر أدلَّة التوحيد، وأدلَّة العقل الصريح؛ أنَّ مشيئة العباد من جملة الكائنات التي لا توجد إلا بمشيئة الله سبحانه وتعالى، فما لم يشأ لم يكُن أَلْبَتَّةَ، كما أنَّ ما شاء كان ولابدَّ. ولكن هاهنا أمرٌ يجب التنبيه عليه؛ وهو أنَّ مشيئة الله -سبحانه- تارةً تتعلَّق بفعله، وتارةً تتعلَّق بفعل العبد. فتعلُّقها بفعله -سبحانه- هو أن يشاء من نفسه إعانةَ عبده، وتوفيقَهُ، وتهيئتَهُ للفعل، فهذه المشيئة تستلزم فعل العبد ومشيئته، ولا يكفي في وقوع الفعل مشيئةُ الله لمشيئة عبده، دون أن يشاء فعله، فإنَّه- ¬
سبحانه- قد يشاء من عبده المشيئةَ وحدَها، فيشاء العبدُ الفعلَ ويريده ولا يفعله؛ لأنَّه لم يشأ من نفسه -سبحانه- إعانتَهُ عليه، وتوفيقَهُ له. وقد دلَّ على هذا وهذا قوله تعالى: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (29)} [التكوير: 29]، وقوله تعالى: {وَمَا يَذْكُرُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [المدثر: 56]. وهاتان الآيتان متضمِّنَتَان إثباتَ: الشرعِ والقَدَرِ، والأسبابِ والمسبِّباتِ، وفعلِ العبد واستنادِه إلى فعل الرَّبِّ. ولكلٍّ منهما عبوديةٌ تختَصُّ بها: فعبودية الآية الأُولَى: الاجتهادُ، واستفراغُ الوسع، والاختيارُ، والسَّعْي. وعبودية الثانية: الاستعانةُ بالله، والتوكُّلُ عليه، واللَّجأُ إليه، واستنزالُ التوفيقِ والعَوْنِ منه، والعلمُ بأن العبد لا يمكنه أن يشاءَ ولا يفعلَ حتَّى يجعله الله كذلك. وقوله: {رَبُّ الْعَالَمِينَ (29)} ينتظمُ ذلك كلَّه ويتَضَمَّنُه، فمن عطَّلَ أحد الأمرين فقد جحد كمال الربوبية وعطلَّها، وبالله التوفيق.
فصل: القسم في سورة النازعات
فصل ومن ذلك قوله تعالى: {وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا (1) وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطًا (2) وَالسَّابِحَاتِ سَبْحًا (3) فَالسَّابِقَاتِ سَبْقًا (4) فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا (5)} [النازعات: 1 - 5]، فهذه خمسة أمور، وهي صفات الملائكة. فأَقْسَمَ -سبحانه- بالملائكة الفاعلة لهذه الأفعال؛ إذ ذلك من أعظم آياته، وحَذفَ مفعول النَّزْع والنَّشْطِ لأنَّه لو ذَكرَ ما تنزِعُ وتنشِطُ لأوْهَمَ التقييدَ به (¬1)؛ ولأنَّ القَسَمَ على نفس الأفعال الصادرة من هؤلاء الفاعلين، فلم يتعلَّق الغَرَضُ بذكر المفعول كقوله تعالى: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى (5)} [الليل: 5] ونظائره، فكان نفسُ النَّزْع هو المقصود لا عَيْنُ المنزوع. وأكثر المفسِّرين على أنَّها الملائكة (¬2) التي تنزع أرواح بني آدم من أجسامهم، وهم جماعةٌ؛ كقوله تعالى: {تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا} [الأنعام: 61]، وقوله: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ} [النساء: 97]. وأمَّا قوله -عزَّ وجلَّ-: {قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ} [السجدة: 11]: فإمَّا أن يكون واحدًا، وله أَعْوَانٌ. وإمَّا أن يكون المراد الجنس لا الوَحْدَة؛ كقوله تعالى: {وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ} [التحريم: 12]، وقوله تعالى: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ ¬
تفسير "النزع" و"الغرق"
اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا} [النحل: 18]. و"النَّزعُ": هو اجْتِذَابُ الشيء بقوَّةٍ، والإغراق في النَّزْع أن يجتذبه إلى آخره، ومنه إغراق النَّزْع في جَذْبِ القَوس: أن يبلغ بَها غاية (¬1) المَدِّ، فيقال: أغرق في النَّزْعِ، ثُمَّ صار مثَلاً لكلِّ من بالغ في فعلٍ حتَّى وصل إلى آخره. و"الغَرْقُ": اسم مصدَرٍ أُقيم مَقَامَه، كالعطاء والكلام أُقيم مقام الإعطاء والتكليم. واختلفَ النَّاسُ (¬2): هل (¬3) "النَّازِعَات" متعدٍّ أو لازِمٌ؟ (¬4) فَعَلَى القول الذي حكيناه يكون متعدِّيًا، وهذا قول: علي، ومسروق، ومقاتل، وأبي صالح، وعطية عن ابن عباس. وقال ابن مسعود: "هي أنفس الكفار"، وهو قول: قتادة، والسُّدِّي، وعطاء عن ابن عباس. وعلى هذا فهو فعلٌ لازمٌ، و"غَرْقًا" على هذا معناه: نزعًا شديدًا أَبْلَغَ ما يكون وأَشَدَّهُ. وفي هذا القول ضعفٌ من وجوه: أحدها: أنَّ عطْفَ ما بعدَهُ عليه يدلُّ على أنَّها الملائكة، فهي: ¬
السابحاتُ، والمدبِّراتُ، والنَّازِعاتُ. الثاني: أنَّ الإقسامَ بنفوس الكفار خاصَّةً ليس بالبَيِّنِ، ولا في اللفظ ما يدلُّ عليه. الثالث: أنَّ النَّزْعَ مشتَركٌ بين نفوس بني آدم، والإغْرَاقُ لا يختصُّ بالكافر. وقال الحسن: ""النَّازِعَات" هي: النُّجُوم، تنزع من المشرق إلى المغرب، و"غَرْقًا" هو غروبها"، قال: "تنزع من هاهنا وتغرق هاهنا". واختاره: الأخفش، وأبو عبيدة (¬1). وقال مجاهد: "هي شدائدُ الموت وأهوالُه التي تنزع الأرواح نزعًا شديدًا". وقال عطاء، وعكرمة: "هي القِسِيُّ". و"النَّازِعَات" على هذا القول بمعنى: النَّشَب، أي: ذوات النَّزْع التي ينزع بها الرامي، فهو النَّازع. قلت: "النَّازِعَات": اسمُ فاعلٍ من نزَعَ، ويقال: نزعَ كذا، إذا اجْتَذَبَهُ بقوَّة. ونَزَعَ عنه: إذا خَلاَّه (¬2) وتَرَكَه بعد ملابسته. ونزع إليه: إذا ذهبَ إليه ومالَ إليه (¬3)، وهذا إنَّما تُوصَف به النُّفُوس التي لها حركةٌ إراديةٌ للمَيْل إلى الشيء أو المَيْل عنه، وأحقُّ ما صدق عليه هذا ¬
الوصف: الملائكةُ؛ لأنَّ هذه القوَّة فيها أكملُ، وموضع الآية (¬1) فيها أعظم، فهي التي تُغرق في النَّزْع إذا طلبت ما تنزعه أو تنزع إليه، و"النَّفْس الإنسانية" -أيضًا- لها هذه القوَّة، والنُّجُوم -أيضًا- تنزع من أُفُقٍ إلى أُفُقٍ. فالنَّزعُ: حركةٌ شديدةٌ، سواء كانت من مَلَكِ، أو نفسٍ إنسانيةٍ، أو نجمٍ. والنُّفُوسُ تَنزِعُ إلى أوطانها، وإلى مَألَفِها، وعند الموت تَنزِعُ إلى ربِّها، والمنايا تَنزِعُ النُّفُوسَ، والقِسِيُّ تَنزِعُ بالسِّهَام، والملائكةُ تَنزِعُ من مكانٍ إلى مكانٍ، وتَنزِعُ ما وُكِّلَت بنَزْعِه، والخيلُ تَنزِعُ في أَعِنَّتِها نزعًا تغرق فيه الأعِنَّة لطول أعناقها. فالصفةُ واقعةٌ على كلِّ من له هذه الحركة التي هي آيةٌ من آيات الرَّبِّ تعالى؛ فإنَّه هو الذي خلقها وخلق مَحَلَّها، وخلق القوَّة والنَّفْس التي بها تتحرَّك، ومن ذكر صورةً من هذه الصور فإنَّما أراد التمثيل، وإن كانت الملائكةُ أحقَّ من تناوله هذا الوصف. فأَقْسَمَ بطوائف الملائكة وأصنافهم: "النَّازِعَات": التي تنزع الأرواح من الأجساد. و"النَّاشِطَات": التي تنشطها، أي: تُخرجها بسرعةٍ وخِفَّة، من قولهم: نَشَطَ الدَّلْوَ من البئر؛ إذا أخرجها، وأنا أَنْشَطُ لكذا أي: أَخَفُّ له وأسرع. ¬
اختيار المؤلف في تفسير "السابحات" و "السابقات" و"المدبرات"
و"السَّابِحَات": التي تسبح في الهواء في طريق مَمَرِّها إلى ما أُمِرَتْ به، كما تسبح الطير في الهواء. فـ"السَّابِقَات": التي تسبق وتُسرع إلى ما أُمِرَتْ به، لا تبطئ عنه ولا تتأخر. فـ"المُدبّرات": التي تدبِّرُ أُمورَ العباد التي أمرها ربَّها بتدبيرها، وهذا أَوْلى الأقوال. وقد روي عن ابن عباس: "أنَّ "النَّازِعَات" الملائكةُ تنزع نفوس الكفار بشدَّةٍ وعُنْفٍ، و"النَّاشِطَات": الملائكةُ التي تَنشِطُ أرواحَ المؤمنين بِيُسْرٍ وسُهُولةٍ" (¬1). واختار الفرَّاء هذا القول (¬2)، فقال: "هي الملائكة تَنشِطُ نفسَ المؤمن فتقبضها، وتَنزِعُ نفسَ الكافر". قال الواحديُّ: "إنَّما اختار ذلك، لمَا بين "النَّشْط" و"النَّزْع" من الفرق في الشِّدَّة واللِّين، فالنَّزْعُ: الجَذْبُ بشدَّةٍ، والنَّشْطُ: الجَذْبُ برفقٍ ولين؛ ولأنَّ "النَّاشِطَات" هي النُّفُوس التي تَنشَطُ لما أُمِرَت به، والملائكة أحَقُّ الخلق بذلك، ونفوس المؤمنين ناشِطَةٌ لما أُمِرَتْ به". وقيل "السَّابحَات": هي النُّجُوم تسبح في الفَلَكِ، كما قال تعالى: {وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (40)} [يس: 40]. ¬
ما نقل عن السلف في المراد بالسابقات
وقيل: هي السُّفُن تسبح في الماء. وقيل: هي نفوس المؤمنين تسبح بعد المفارقة صاعدةً إلى ربِّها. قلت: والصحيح أنَّها الملائكة، والسياق يدلُّ عليه، وأمَّا السُّفُن والنُّجُوم فإنَّما تسمَّى: جاريةً وجَوَارٍ، كما قال تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ الْجَوَارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ (32)} [الشورى: 32]، وقال تعالى: {حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ (11)} [الحاقة: 11]، وقال تعالى: {الْجَوَارِ الْكُنَّسِ (16)} [التكوير: 16]؛ ولم يُسَمِّها "سابحات"، وإن أطلق عليها فعل السباحة، كقوله تعالى: {وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (40)} [يس: 40]. ويدلُّ عليه ذِكْرُهُ "السَّابقات" بعدها و"المدبِّرات" بـ"الفاء"، وِذِكْرُهُ الثلاثةَ الأُوَلَ بـ"الواو"؛ ولأنَّ السَّبْقَ والتدبيرَ مسبَّبٌ عن المذكور قبله، فإنَّها نَزَعَتْ، ونَشِطَتْ، وسَبَحَتْ، فَسَبقَتْ إلى ما أُمرت به فَدَبَّرَتْهُ، ولو كانت "السَّابحات" هي السُّفُن أو النُّجُوم أو النُّفُوس الآدميَّة لَمَا عَطَفَ عليها فعل الَسَّبْقِ والتدبير بـ"الفاء"، فتأمَّلْهُ. قال مسروق، ومقاتل (¬1)، والكلبي: {فَالسَّابِقَاتِ سَبْقًا (4)}: هم الملائكة". قال مجاهد، وأبو رَوْق (¬2): "سبقت ابنَ آدم بالخير، والعمل الصالح، والإيمان، والتصديق". ¬
وقال مقاتل: "تسبِقُ بأرواح المؤمنين إلى الجنَّة" (¬1). وقال الفرَّاء، والزجَّاج: "هي الملائكة تسبق الشياطين بالوحي إلى الأنبياء إذ كانت الشياطين تسترق السمع" (¬2). وهذا القول خطأ لا يخفَى فسادُه، إذ يقتضي الاشتراك بين الملائكة والشياطين في إلقائهم الوحي، وأنَّ الملائكة تسبقهم به إلى الأنبياء، وهذا ليس بصحيح. فإنَّ الوحي (¬3) الذي تأتي به الملائكة إلى الأنبياء لا تسترقه الشياطين، وهم معزولون عن سماعه وإن استرقوا بعض ما يسمعونه من ملائكة السماء الدنيا من أمور الحوادث، فالله -سبحانه- صَانَ وَحْيَهُ إلى أنبيائه أن تسترق الشياطينُ شيئًا منه، وَعَزَلَهم عن سمعه. ولو أنَّ قائل هذا القول فسَّر "السَّابقات" بالملائكة التي تسبق الشياطين بالرَّجْم بالشُّهُب قبل إلقائه الكلمة التي استرقها لكان له وجهٌ، فإنَّ الشيطان يُدْبِرُ (¬4) مسرعًا لإلقاء (¬5) ما استرقه إلى وَليِّه، فتسبقه الملائكة في نزوله بالشُهُب الثَّوَاقب فتُهْلِكُهُ، وربما ألقى الكلمةَ قبل إدراك الشِّهَاب له. وفُسِّرت "السَّابقات سبقًا" بالأنْفُس السابقات إلى طاعة الله -تعالى- ومرضاته. ¬
أجمعو اعلى أن "المدبرات أمرا" هي الملائكة
وأمَّا "المدبِّرات أمرًا" فأجمعوا على أنَّها الملائكة (¬1)، ثُمَّ قال مقاتل: "هم جبريل، وميكائيل، وإسرافيل، ومَلَكُ الموت: يدبِّرُون أمر الله -تعالى- في الأرض، وهم "المقسِّمات أمرًا" " (¬2). قال عبد الرحمن بن سابط (¬3): "جبريل موكَّلٌ بالرِّياح وبالجنود (¬4)، وميكائيل موكَّلٌ بالقَطْر والنَّبَات، ومَلَكُ الموت موكَّلٌ بقبض الأنفس، وإسرافيل ينزل بالأمر عليهم" (¬5). وقال ابن عباس: "هم الملائكة، وكَّلَهم الله -تعالى- بأمورٍ عَرَّفَهم العملَ بها والوقوفَ عليها، بعضهم لبني آدم يحفظون ويكتبون، ¬
وبعضهم وُكِّلُوا بالأمطار، والنَّبَات، والخَسْف، والمَسْخ، والرِّياح، والسَّحاب" (¬1) انتهى. وقد أخبر النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - أنَّ للجبال مَلَكٌ يختصُّ بشأنها (¬2)، وأخبر أنَّ الله -تعالى- وكَّل بالرَّحِم مَلَكًا (¬3)، وللرؤيا مَلَكٌ موكَّلٌ بها (¬4)، وللجنَّة ملائكةٌ موكَّلُون بعمارتها، وعَمَلِ آلتها، وأوانيها، وغِرَاسها، وفرشها، ونمارقها، وأرائكها، وللنَّار ملائكةٌ موكَّلُون (¬5) بعمل ما فيها وإيقادها، وغير ذلك. فالدنيا وما فيها، والجنَّةُ، والنَّارُ، والموتُ وأحكام البرزخ (¬6)؛ قد ¬
وكَّل اللهُ بذلك كلِّه ملائكةً يدبِّرون ما شاء الله من ذلك، ولهذا كان الإيمان بالملائكة أحد أركان الإيمان الذي لا يتمُّ إلا به. وأمَّا من قال إنَّها النُّجُوم (¬1)؛ فليس هذا من أقوال أهل الإسلام، ولم يجعل الله -تعالى- للنُّجُوم تدبيرَ شيءٍ من الخلق، بل هي مُدَبَّرَةٌ مسخَّرَةٌ، كما قال تعالى: {وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ} [النحل: 12]، فالله -سبحانه- هو المدبِّرُ بملائكته لأمر العالم العُلْويِّ والسُّفْليِّ. قال الجُرْجَانيُّ (¬2): "وذكر "السَّابقَات" و" المُدَبِّرَات" بـ"الفاء"، وما قبلها بـ"الواو"؛ لأنَّ ما قبلها أَقْسَامٌ مَستأنَفَةٌ، وهذان القَسَمَان مُنْشَآن عن الذي قبلهما (¬3)، كأنَّه قال: فاللاتي سَبَّحْنَ فسَبَقْنَ، كما تقول: قام ¬
جواب القسم محذوف يدل عليه السياق، ورأي المؤلف فيه
فذهب، أوجَبَ "الفاء" أنَّ القيام كان سببًا للذهاب، ولو قلت: قام وذهب؛ لم تجعل القيام سببًا للذهاب". واعترض عليه الواحديُّ، فقال: "هذا غير مطَّرِدٍ في هذه الآية؛ لأنَّه يبعد أن يجعل السَّبْق سببًا للتدبير، مع أنَّ "السَّابِقات" ليست الملائكة في قول المفسِّرين" (¬1). قلت: الملائكة داخلون في "السَّابقَات" قطعًا؛ وأمَّا اختصاص "السَّابِقَات" بالملائكة فهذا محتمل. وأمَّا قوله: "يبعد أن يكون السَّبْق سببًا للتدبير" فليس كما زعم، بل "السَّبْقُ" المبادرةُ إلى تنفيذ ما يؤمر به المَلَك، فهو سببٌ للفعل الذي أُمِر به، وهو التدبير، مع أنَّ "الفاء" دالَّةٌ على التعقيب، وأنَّ التدبيرَ يتعقَّبُ السَّبْقَ بلا تَرَاخٍ، بخلاف الأقسام الثلاثة الأُوَل (¬2)، والله أعلم. وسيأتي مزيد بيانٍ لهذا قريبًا إن شاء الله تعالى. وجوابُ القَسَم محذوفٌ -يدلُّ عليه السياق -وهو البعثُ (¬3) المستلزِمُ لصدقِ الرسول وثبوتِ القرآن، أو أنَّه من القَسَم الذي أُريد به التنبيه على الدلالة والعبرة بالمُقْسَم به، دون أن يُرادَ به مقسَمٌ عليه بعينه، وهذا القَسَم يتضمَّن الجوابَ المقسَمَ عليه وإن لم يُذْكَر لفظًا، ولعل هذا مراد من قال: إنَّه محذوفٌ للعلم به. ¬
توجيه المؤلف لمن قال بأن القسم بالمخلوقات إنما هو قسم برئها
لكنْ هذا الوجه أَلْطَفُ مسلكًا؛ فإنَّ المُقْسَمَ به إذا كان دالاًّ على المُقْسَمِ عليه مستلزِمًا له (¬1) استغني عن ذِكْرِه بذِكرِه، وهذا غير كونه محذوفًا لدلالة ما بعده عليه؛ فتأمَّلْهُ. ولعلَّ هذا قول من قال: إنَّه إنَّما أقسَمَ بِرَبِّ هذه الأشياء، وحَذَفَ المُضَاف، فإنَّ هذا معناه صحيحٌ لكن على غير الوجه الذي قَدَّرُوه، فإنَّ إقْسَامَهُ -سبحانه- بهذه الأشياء لظهور دلالتها على ربوبيته، ووحدانيته، وعلمه، وقدرته، وحكمته، فالإقسامُ بها -في الحقيقة- إقسامٌ بربوبيته وصفات كماله، فتأمَّلْهُ. ثُمَّ قرَّرَ (¬2) -سبحانه- بعد (¬3) هذا القَسَم أَمْرَ المَعَاد، ونُبوَّةَ موسى - صلى الله عليه وسلم - المستلزِمة لنُبوَّة محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -، إذ من المُحَال أن يكون موسى نبيًّا ومحمدٌ ليس نبيًّا، مع أنَّ كل ما يُثْبِت نُبوَّة موسى فَلِمحمدٍ نظيره أو أعظم منه. وقَرَّر (¬4) -سبحانه- تكليمَهُ لموسى بندائه له بنفسه فقال تعالى: {إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ} [النازعات: 16] فأثبت النِّدَاءَ (¬5) المستلزِم للكلام والتكليم، وفي موضعٍ آخر (¬6) أثبت "النِّجَاءَ" (¬7)، و"النِّدَاءُ" و"النِّجَاءُ" (¬8) نوعَا ¬
التكليم؛ ومحالٌ ثبوت النَّوع بدون الجنس. ثُمَّ أمره أن يخاطبه بأليَن خطاب فيقول له: {هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى (18) وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى (19)} [النازعات: 18 - 19]؛ ففي هذا من لُطْفِ الخطاب وَلِيْنهِ وجوهٌ: أحدها: إخراجُ الكلام مُخْرَجَ العَرْض، ولم يُخْرِجْهُ مُخْرَجَ الأمر والإلزام؛ وهو ألطف. ونظيره قول، إبراهيم- عليه السلام- لضيفه المُكْرَمين: {أَلَا تَأْكُلُونَ (27)} [الذاريات: 27]، ولم يقل: كُلُوا. الثاني: قوله: {إِلَى أَنْ تَزَكَّى (18)}؛ والتَّزَكَي: النَّمَاء، والطهارة (¬1)، والبركة، والزيادة. فعَرَضَ عليه أمرًا يقبله كلُّ عاقل، ولا يردُّه إلا كلُّ أحمقٍ جاهلٍ. الثالث: قوله: {تَزَكَّى (18)} ولم يقل: أُزكِّيكَ، فأضاف التزكية إلى نفسه، وعلى هذا يخاطَبُ الملوك. الرابع: قوله: {وَأَهْدِيَكَ} أي: أكون دليلاً لك، وهاديًا بين يديك. فنسب الهداية إليه، والتزكِّي إلى المخاطَب. أي: أكون دليلاً لك وهاديًا فَتَتَزَكَّى أنتَ، كما تقول للرجل: هل لك أنْ أَدُلَّكَ على كنزٍ تأخذ منه ما شئتَ؟ وهذا أحسن من قوله: أُعطِيكَ. الخامس: قوله: {إِلَى رَبِّكَ} فإنَّ في هذا ما يوجب قبول ما دلَّه (¬2) ¬
عليه، وهو أنَّه يدعوه ويوصله إلى ربِّه فاطِرِه وخالِقِه الذي أوجده، وربَّاهُ بنعَمِهِ: جَنِينًا، وصغيرًا، وكبيرًا، وآتاه المُلْك. وهذا نوعٌ من خطاب الاستعطاف والإلزامِ، كما تقول لمن خرج عن طاعة سيِّدِه: أَلاَ تطيع سَيِّدَكَ ومولاكَ ومالِككَ؟ وتقول للولد: أَلاَ تطيع أباكَ (¬1) الذي ربَّاكَ. السادس: قوله: {فَتَخْشَى (19)} أي: إذا اهتديتَ إليه وعرفتَهُ خشيته؛ لأنَّ من عَرَفَ اللهَ خافَهُ، ومن لم يعرفه لم يَخَفْه. فخشيته -تعالى- مقرونةٌ بمعرفته، وعلى قدر المعرفة تكون الخشية. السابع: أنَّ في قوله: {هَلْ لَكَ} فائدةٌ لطيفةٌ؛ وهي أنَّ المعنى: هل لك في ذلك حاجةٌ أو أَرَبٌ؟ ومعلومٌ أنَّ كلَّ عاقِلٍ يبادر إلى قبولِ ذلك؛ لأنَّ الداعي إنَّما يدعوه إلى حاجته ومصلحته، لا إلى حاجة الداعي، فكأنَّه يقول: الحاجة لك، وأنتَ المُتَزكِّي، وأنا الدليل لك، والمُرْشِدُ لك إلى أعظم مصالحك. فَقَابَلَ هذا بغاية الكفر والعِنَاد، وادَّعَى أنَّه ربُّ العباد، هذا وهو يعلم أنَّه ليس بالذي خَلَقَ فسَوَّى، ولا قدَّرَ فَهَدَى، فكذَّبَ الخَبَر، وعصَى الأمر، ثُمَّ أدبر يسعى بالخديعة والمكر، فحَشَرَ جنوده فأجابوه، ثُمَّ نادى فيهم بأنَّه ربُّهم الأعلى، واستخفَّهم فأطاعوه، فبطش به جبَّارُ السماوات والأرض بطْشَةَ عزيزٍ مقتدِرٍ، وأخذهُ نكَالَ الآخرة والأُولَى، ليعتبر بذلك من يعتبر، فاعتَبرَ بذلك من خَشِيَ ربَّهُ من المؤمنين، وحقَّ القولُ على الكافرين. ثُمَّ أقام -سبحانه- حُجَّته على العالمين بخلق ما هو أشدُّ منهم ¬
وأكبر، وأعظم، وأعلى، وأرفع؛ وهو خلْقُ السماء وبناؤها، ورفْعُ سَمْكِها وتسويتُها، وإظْلاَمُ ليلِها، وإخراجُ ضُحَاها. وخَلَقَ الأرض، ومدَّها، وبَسَطَها، وهَيَّأَها لما يُراد منها، فأخرج منها شراب الحيوان وأقواتهم، وأَرْسَى الجبالَ فجعلها رواسي (¬1) للأرض، لئلا تميد بأهلها، وأودَعَها من المنافعِ ما يتمُّ به مصالح الحيوان الناطق والبهيم، فمن قدر على ذلك كله كيف يعجز عن إعادتكم خلقًا جديدًا؟! فتأمَّلْ دلالةَ المُقْسَم به المذكور في أوَّل السورة على المَعَاد، والتوحيد، وصِدْقِ الرُّسُل؛ كدلالة هذا الدليل (¬2) المذكور، وإذا كان هذا هو المقصود لم يكن محتاجًا إلى جواب، والله -تعالى- أعلم. ¬
فصل: القسم في سورة المرسلات
فصل ومن ذلك قوله تعالى: {وَالْمُرْسَلَاتِ عُرْفًا (1) فَالْعَاصِفَاتِ عَصْفًا (2) وَالنَّاشِرَاتِ نَشْرًا (3) فَالْفَارِقَاتِ فَرْقًا (4) فَالْمُلْقِيَاتِ ذِكْرًا (5) عُذْرًا أَوْ نُذْرًا (6) إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَوَاقِعٌ (7)} [المرسلات: 1 - 7]. فُسِّرت "المرسلات" بالملائكة، وهو قول: أبي هريرة (¬1)، وابن عباس في رواية مقاتل، وجماعة (¬2). وفُسِّرت بالرِّياح، وهو قول: ابن مسعود (¬3)، وإحدى الروايتين عن ابن عباس، وقول قتادة (¬4). ¬
وفُسِّرت بالسَّحَاب (¬1)، وهو قول الحسن (¬2). وفُسِّرت بالأنبياء، وهو رواية عطاءٍ عن ابن عباس (¬3). قلت: الله -سبحانه- يرسل الملائكةَ، ويرسل الأنبياءَ، ويرسل الرِّياحَ، ويرسل السَّحَابَ فيسوقه حيث يشاء، ويرسل الصواعقَ فيصيب بها من يشاء. فإرساله واقعٌ على ذلك كلِّه، وهو نوعان: 1 - إرسالُ دِينٍ يحبُّه ويرضاه، كإرسال رسله وأنبيائه. 2 - وإرسالُ كَوْنٍ؛ وهو نوعان: نوعٌ يحبُّه ويرضاه، كإرسال ملائكته في تدبير أمر خلقه. ونوعٌ لا يحبُّه، بل يسخطه ويبغضه، كإرسال الشياطين على الكفار. فالإرسالُ المقسَمُ به هاهنا مُقَيَّدٌ بـ"العُرْف": 1 - فإمَّا أن يكون ضد المنكر, فهو إرسال رسله من الملائكة، ولا ¬
يدخل في ذلك إرسال الرِّياح، ولا الصواعق، ولا الشياطين. وأمَّا إرسال الأنبياء فلو أُريد لقال: والمرسلين، وليس بالفصيح تسمية الأنبياء "مرسلات"، وتكلُّف: (الجماعات المرسلات) (¬1) خلاف المعهود من استعمال اللفظ، فلم يطلق في القرآن جمعُ ذلك إلا جمعَ تذكيرٍ لا جمع تأنيثٍ. وأيضًا؛ فاقتران اللفظة بما بعدها من الأقسام لا يناسب تفسيرها بالأنبياء. وأيضًا؛ فإنَّ الرُّسُلَ مُقْسَمٌ عليهم في القرآن لا مقسَمٌ بهم كقوله تعالى: {تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ} [النحل: 63]، وقوله تعالى: {وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (252)} [البقرة: 252]، وقوله -عزَّ وجلَّ-: {يس (1) وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ (2) إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (3)} (¬2) [يس: 1 - 3]. 2 - وإن كان "العُرْف" من: التَتَابع، كـ"عُرْف الفَرَس" و"عُرْف الدِّيْك"، والنَّاس إلى فلانٍ عُرْفٌ واحد، أي: سابقون في قصده والتوجه إليه = جاز أن تكون "المرسلات": الرِّياح، ويؤيده عَطْف "العاصِفات" عليه و"النَّاشِرات". وجاز أن تكون: الملائكة، وجاز أن يَعُمَّ النَّوعين؛ لِوَقْعِ ¬
بيان المراد ب "العاصفات"
الإرسال- عُرْفًا- عليهما (¬1). ويؤيِّده أنَّ "الرِّياح" موكَّلٌ بها ملائكةٌ (¬2) تسوقها وتُصَرِّفُها. ويؤيِّد كونها "الرِّياح" عطف "العَاصِفات" عليها بـ"فاء" التعقيب والتسبيب، فكأنَّها أُرسِلت، فَعَصَفَتْ. ومن جعل "المرسلات": الملائكة قال: هي تعصف في مُضِيِّها مُسرِعَةً كما تعصف "الرِّياح". والأكثرون على أنَّها "الرِّياح". وفيها قولٌ ثالثٌ: أنَّها تعصف بروح الكافر، يقال: عَصَفَ بالشيء؛ إذا أَبَادَهُ وأَهْلَكَهُ، قال الأعشى (¬3): * تَعْصِفُ بالدَّارعِ والحَاسِرِ* حكاه أبو إسحاق (¬4). وهو قولٌ متكلِّفٌ، فإنَّ المقسَم به لابدَّ أن يكون آيةً ظاهرةً تدلُّ على الربوبية، وأمَّا الأمور الغائبة التي يُومَنُ بها فإنَّما يُقْسَمُ عليها. وإنَّما يُقْسِمُ -سبحانه- بملائكته، وكتابه؛ لظهور شأنهما، ولقيام الأدلَّة والأعلام الظاهرة الدالَّة على ثبوتهما (¬5). ¬
تفسير "الناشرات نشرا" واختلاف السلف فيه
وأمَّا "النَّاشرات نشرًا"؛ فهو استئنافُ قَسَمٍ آخر، ولهذا أتى به بـ"الواو"، وما قبله معطوفٌ على القَسَم الأوَّل بـ"الفاء". قال ابن مسعود، والحسن، ومجاهد، وقتادة: "هي الرِّياح تأتي بالمطر" (¬1). ويدلُّ على صِحَّة قولهم قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ} (¬2) [الأعراف: 57]؛ يعني أنَّها تنشُرُ السَّحَابَ نَشْرًا، وهو ضدُّ الطَّيِّ. وقال مقاتل (¬3): "هي الملائكةُ تنشر كتبَ بني آدم وصحائف أعمالهم"، وقاله: مسروق، وعطاء عن ابن عباس. وقالت طائفةٌ: هي الملائكةُ تنشر أجنحَتَها في الجَوِّ عند صعودها ونزولها. وقيل: تنشر أوامر الله في السماء والأرض. وقيل: تنشر النُّفُوس، فَتُحْييها بالإيمان. ¬
الأكثرون على أن "الفارقات": الملائكة
وقال أبو صالح: "هي الأمطار تنشر الأرض، أي: تحييها" (¬1). قلت: ويجوز أن تكون "النَّاشِرات" لازمًا لا مفعول له، ولا يكون المراد أنَّهنَّ يَنشُرنَ كذا، فإنَّه يقال: نَشَرَ الميتُ، أي: حَيِىَ، وأَنْشَرَهُ الله: إذا أحياه، فيكون المرادُ بها: الأنفسَ التي حَييَتْ بالعُرْفِ الذي أرسلت به "المُرْسَلاَت" (¬2)، أو (¬3) الأشباحَ والأرواحَ والبقاعَ التي حَيِيَتْ (¬4) بالرِّياح المرسلات، فإنَّ "الرِّياحَ" سببٌ لنشور الأبدان والنَّبَات، والوحيَ سببٌ لنشور الأرواح وحياتها. لكنْ هنا أمرٌ ينبغي التفطُّن له، وهو أنَّه -سبحانه- جعل الإقسام في هذه السورة نوعين، وفَصَل أحدهما من الآخر، وجعل "العَاصِفَات" معطوفًا على "المرسلات" بـ"فاء" التعقيب، فصارا كأنَّهما نوعٌ واحدٌ، ثُمَّ جعل "النَّاشرات" كأنَّه قَسَمٌ مبتَدَأٌ فأتى فيه بـ"الواو"، ثُمَّ عطف عليه "الفَارِقات" و "المُلْقِيَات" بـ"الفاء"، فأوهم هذا أنَّ "الفارقات" و"المُلقيات" (¬5) مرتبطٌ بـ"النَّاشرات"، وأنَّ "العَاصِفَات" مرتبطٌ بـ"المُرْسَلاَت" (¬6). وقد اختلف في "الفَارقات"؛ والأكثرون على أنَّها الملائكة، ويدلُّ عليه عطْفُ "المُلْقِياتِ ذِكْرًا" عليها بـ"الفاء"، وهي ¬
الملائكة بالاتفاق (¬1). وعلى هذا فيكون القَسَم بالملائكة التي نَشَرَتْ أجنحتها عند النزول، ففرَّقَت بين الحق والباطل، فألقَت الذِّكْرَ على الرُّسُلِ إعذارًا وإنذارًا. ومن جعل "النَّاشِرات": الرِّياح جعل "الفَارِقَات" صفةً لها، وقال: هي تفرِّقُ السَّحَابَ هاهنا وهاهنا، ولكن يأبى ذلك عطْفُ "المُلْقِيَات" بـ"الفاء" عليها. ومن قال: "الفَارِقَات": آيُ القرآنِ؛ تُفرِّقُ بين الحقِّ والباطل، فقوله يلتئم مع كون "النَّاشِرَات" الملائكة أكثر من التئامه إذا قيل: إنَّها "الرِّياح". ومن قال: هي جماعات الرُّسُل؛ فإنْ أراد الرُّسُلَ من الملائكة فظاهِرٌ، وإنْ أراد الرُّسُلَ من البشر فقد تقدَّمَ (¬2) بيان ضعف هذا القول. ويظهر -والله أعلم بما أراد من كلامه - أنَّ القَسَم في هذه السورة وقع على النَّوعين: الرِّياحِ، والملائكةِ. ووجه المناسبة: أنَّ حياةَ الأرض والنَّبَات وأبدان الحيوان بالرِّياح، فإنَّها من رَوْح الله، وقد جعلها الله -تعالى- نُشُورًا، وحياةَ القلوب والأرواح بالملائكة. فبهذين النَّوعين يحصل نوعَا الحياة، ولهذا -والله أعلم- فَصَلَ ¬
فائدة تكرار {فويل يومئذ للمكذبين}
أَحَدَ النَّوعين من الآخر (¬1) بـ"الواو"، وجعل ما هو تابعٌ لكلِّ نوعٍ بعده بـ"الفاء". وتأمَّلْ كيف وقع القَسَمُ في هذه السورة على المَعَاد، والحياة الدائمة الباقية، وحالِ السعداء والأشقياء فيها، وقرَّرَها بالحياة الأُولَى في قوله تعالى: {أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ (20)} [المرسلات: 20]، فذكر فيها المبدأ والمَعَاد، وأخلَصَ السورةَ لذلك، فَحَسُنَ الإقسامُ بما يحصل به نوعَا الحياة المشاهَدة، وهو: الرِّياح، والملائكة. فكان في القَسَم بذلك أَبْيَنُ دليلٍ، وأَظْهَرُ آيةٍ على صحة ما أقسَمَ عليه وتضمَّنته السورة. ولهذا كان المكذِّبُ بعد ذلك في غاية الجحود والعناد والكفر والتكذيب، فاستحقَّ الويلَ بعد الويلِ، فتَضَاعَفَ عليه الويلُ، كما تضاعف منه الكفر والتكذيب. فلا أحسنَ من هذا التَّكْرَار في هذا الموضع، ولا أعظم موقعًا، فإنَّه تكرَّرَ عشر مراتٍ (¬2)، ولم يذكر إلا في أَثَرِ دليل أو مدلولٍ عليه؛ عَقِيبَ ما يوجب التصديقَ، وما يجب التصديقُ به؛ فتأمَّلْهُ. ¬
فصل: القسم في سورة القيامة
فصل ومن ذلك قوله تعالى: {لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ (1) وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ (2)} [القيامة: 1 - 2]، وقد تقدَّمَ ذِكْرُ هذين القَسَمَين (¬1)، ومناسبةِ الجمع بينهما في الذِّكْر، وكونِ الجواب غير مذكورٍ، وأنَّه يجوز أن يكون ممَّا حُذِف لدلالة السياق عليه والعلم به، ويجوز أن يكون من القَسَم المقصود به التنبيه على دلالة المُقْسَم به، وكونه آيةً، ولم يقصد به (¬2) مُقْسَمًا عليه معيَّنًا، فكأنَّه يقول: اذْكر يومَ القيامة، والنَّفْسَ اللوَّامة، مُقْسَمًا بهما، لكونهما (¬3) من آياتنا، وأدلَّة ربوبيتنا. ثُمَّ أنكر على الإنسان بعد هذه الآية حُسْبَانَهُ وظَنَّهُ أن الله لا يجمع عظامه بعدما فرَّقَها البِلَى. ثُمَّ أخبر -سبحانه- عن قدرته على جمع بَنَانِهِ وهي العظام الصِّغَار، ونَبَّهَ -بقدرته على جمع هذه العظام مع صِغَرها ودِقَّتها- على قدرته على جمع غيرها من عظامه. وعلى هذا فيكون -سبحانه- قد احتجَّ على فعله لما أنكره أعداؤه بقدرته عليه، فأخبر عن فعله، فإنَّه لا يلزم من القُدْرة وقوع المقدور، والمعنى: بل نجمعها قادرين على تسوية بنانه. ودلَّ على هذا الفعل المحذوف قوله: {بَلَى} , فإنَّها حرف إيجابٍ لما تقدَّمَ من النَّفْي، فلهذا استغنى عن ذكر الفعل بذكر الحرف الدالِّ ¬
خلاف المفسرين في معنى تسوية البنان في الآية على قولين
عليه. فدلَّت الآية على الفعل، وذُكِرت القُدْرَةُ لإبطال قول المكذِّبين. وفي ذكر "البَنَان" لطيفةٌ أخرى، وهي أنَّها أطرافُه، وآخر ما يَتِمُّ به خَلْقُه، فمن قَدَرَ على جمع أطرافه وآخر ما يَتِمُّ به خَلْقُه -مع دِقَّتها وصِغَرِها ولطافتها- فهو على ما دون ذلك أقدر، فالقوم لمَّا استبعدوا جمع العظام بعد الفناء والإرمام قيل: إنَّا نجمعُ ونسوِّى أكثر منها تفرُّقًا، وأَدَقَّها أجزاءً، وأجزاءَ أطراف البدن، وهي عظام (¬1) الأنامل ومفاصلها (¬2). وقالت طائفةٌ: المعنى: نحن قادرون على أن نُسوِّيَ أصابع يديه ورجليه، ونجعلها مستويةً شيئًا واحدًا كَخُفِّ البعير، وحافِرِ الحمار، لا نفرِّقُ بينها (¬3)، ولا يمكنه أن يعمل بها (¬4) شيئًا ممَّا يعمل بأصابعه المفرَّقَة ذات المفاصل والأنامل من فنون الأعمال، والبَسْط، والقبض، والتأتِّى لما يريد من الحوائج. وهذا قول ابن عباس (¬5)، وكثيرٍ من المفسِّرين (¬6). ¬
والمعنى على هذا القول: إنَّا في الدنيا قادرون على أن نجعل عظام بَنَانِهِ مجموعةً دون تفرُّقٍ، فكيف لا نقدر على جمعها بعد تفرقتها (¬1). فهذا وجهٌ من الاستدلال غير الأوَّل، وهو استدلالٌ بقدرته -سبحانه- على جمع العظام التي فرَّقَها ولم يجمعها، والأوَّل استدلالٌ بقدرته -سبحانه- على جمع عظامه بعد تفريقها، وهما وجهان حَسَنَان، وكلٌّ منهما له الترجيحُ من وجهٍ: فيرجِّحُ الأوَّل أنَّه هو المقصود، وهو الذي أنكره الكفار، وهو أُجرِيَ على نسق الكلام واطَّرَد؛ ولأنَّ الكلام لم يُسَقْ لجمع العظام وتفريقها في الدنيا، وإنَّما سِيق لجمعها في الآخرة بعد تفرُّقها بالموت (¬2). ويرجِّحُ القولَ الثاني-ولعلَّه قول جمهور المفسِّرين، حتَّى إنَّ (¬3) فيهم من لم يذكر غيره (¬4) - أنَّه استدلالٌ بآيةٍ ظاهرةٍ مشهودةٍ، وهي تفريق البَنَان مع انتظامها في كَفٍّ واحدٍ، وارتباط بعضها ببعضٍ، فهي متفرِّقة في عُضْوٍ واحِدٍ، يقبض منها واحدةً ويبسط أخرى، ويحرِّك واحدةً ¬
توضيح المراد باستبعاد الفاجر ليوم القيامة
والأخرى ساكنةٌ، ويعمل بواحدةٍ والأخرى مُعَطَّلَةٌ، وكلُّها في كَفٍّ واحدٍ، قد جمعها ساعِدٌ واحِدٌ، فلو شاء -سبحانه- لسوَّاها فجعلها صفحةً واحدةً كَبَاطِن الكَفِّ، ففاتت هذه المنافع والمصالح التي حصلت بتفريقها، ففي هذا أَعظم الأدلَّة على قدرته -سبحانه- على جمع عظامه بعد الموت. ثُمَّ أخبر -سبحانه- عن سوء حال الإنسان وإصراره على المعصية والفجور (¬1)، وأنَّه لا يَرْعَوِي ولا يخاف يومًا يجمع الله فيه عظامه ويبعثه حيًّا، بل هو مريدٌ للفجور ما عاش، فيفجر في الحال، ويريد الفجور في غَدٍ وما بعده، وهذا ضِدُّ الذي يخاف الله والدار الآخرة. فهذا لا يندم على ما مضى منه، ولا يُقْلِعُ في الحال، ولا يعزم في المستقبل على التَّرْك، بل هو عازمٌ على الاستمرار، وهذا ضدُّ حال التائب المنيب. ثُمَّ نبَّهَ -سبحانه- على الحامل له على ذلك، وهو استبعاده ليوم القيامة، وليس هذا استبعادًا لزمنه مع إقراره بوقوعه، بل هو استبعادٌ لوقوعه كما حكى عنه في موضع آخر قوله: {ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ (3)} [ق: 3] أي: بعيدٌ وقوعُهُ، وليس المراد أنَّه واقعٌ بعيدٌ زَمَنُه؛ هذا قول جماعةٍ من المفسِّرين، منهم ابن عباس وأصحابه. قال ابن عباس: "يُقَدِّمُ الذَّنْبَ، ويُؤَخِّرُ التوبة" (¬2). وقال قتادة، وعكرمة: "قُدُمًا قُدُمًا في معاصي الله، لا يَنْزِعُ عن ¬
ترجيح المؤلف بأن الآية ذم للمكذب بالبعث من وجوه
فُجُورِه " (¬1). وفي الآية قولٌ آخر، وهو أنَّ المعنى: بل يريد الإنسان ليكذِّب بما أمامه من البعثِ ويوم القيامة. وهذا قول ابن زيد (¬2)، واختيار: ابن قتيبه (¬3)، وأبى إسحاق (¬4). قال هؤلاء: ودليل ذلك قوله تعالى: {يَسْأَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ (6)} [القيامة: 6]. ويرجِّح هذا القول لفظةُ "بَلْ"؛ فإنَّها تعطي أنَّ الإنسانَ لم يؤمن بيوم القيامة مع هذا البيان والحُجَّة، بل هو مريدٌ للتكذيب به. ويرجِّحُه -أيضًا- أنَّ السياق كلَّه في ذَمِّ المكذِّب بيوم القيامة لا في ذَمِّ العاصي والفاجر. وأيضًا؛ فإنَّ ما قبل الآية وما بعدها يدلُّ على المراد؛ فإنَّه -تعالى- قال: {أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ (3) بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ (4)}، فأنكر -سبحانه- عليه حُسْبَانَهُ أنَّ الله لا يجمع عظامه، ثُمَّ قرَّرَ قدرته على ذلك، ثُمَّ أنكر عليه إرادته التكذيبَ بيوم القيامة. فالأوَّل (¬5): حُسْبَانٌ منه أنَّ الله لا يُحْييه بعد موته. ¬
والثاني: تكذيبٌ منه بيوم القيامة، وأنَّه يريد أن يكذِّب بما وَضَحَ وبانَ دليلُ وقوعه وثبوته، فهو مريدٌ للتكذيب به، ثُمَّ أخبر عن تصريحه بالتكذيب فقال -عزَّ وجلَّ-: {يَسْأَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ (6)} [القيامة: 6]. فالأوَّل: إرادةٌ للتكذيب. والثاني: نطقٌ (¬1) بالتكذيب وتكلُّمٌ به. وهذا قول قوىٌّ كما ترى، لكن ينبغي إفراغ هذه الألفاظ في قوالب هذا المعنى، فإنَّ لفظة "يَفْجُر" إنَّما تدلُّ على عمل الفجور لا على التكذيب، وحَذْفُ الموصول مع ما جَرَّهُ وإبقاءُ الصِّلَة خلاف الأصل، فإنَّ أصحاب هذا القول قالوا: تقديره: ليكفر بما أمامه. وهذا المعنى صحيحٌ، لكن دلالة هذا اللفظ عليه ليست بالبيِّنَةِ. والجواب: أنَّ الأمر كذلك، لكن (¬2) الفعل إذا ضُمِّنَ معنى فعلٍ (¬3) آخر لم يلزم إعطاؤهُ حكمَهُ من جميع الوجوه، بل من جلالة هذه اللغة العظيمة الشأن وجزالتها أن يذكر المتكلم فعلاً، ويُضِمِّنَه معنى فعلٍ آخر، ويجري على المُضَمَّنِ (¬4) أحكامَهُ لفظًا، وأحكامَ الفعل الآخر معنىً، فيكون في قوَّة ذِكْرِ الفِعْلَين مع غاية الاختصار، ومن تدبَّرَ هذا وجَدَهُ كثيرًا في كلام الله تعالى. فلفظة "يَفْجُر" اقتضت "أمَامَهُ" بلا واسطة حرفٍ ولا اسمٍ موصول، ¬
المراد بالجمع بين الساق والساق
فأعطيت ما اقتضته لفظًا، واقتضى ما تضمَّنته من الفعل ذكر الحرف والموصول، فأعطيته معنىً. فهذا وجه هذا القول لفظًا ومعنىً، والله أعلم. ثُمَّ أخبر -سبحانه- عن حال هذا الإنسان إذا شاهد اليوم الذي كذَّبَ به، فقال تعالى: {فَإِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ (7) وَخَسَفَ الْقَمَرُ (8) وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ (9) يَقُولُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ (10)} [القيامة: 7 - 10]، فيبرق بصره، أي: يَشْخَص لما يشاهده من العجائب التي كان يكذِّب بها. و"خَسَفَ القمر": ذهب ضوؤه وانْمَحَى، وجُمِعَ الشمسُ والقمرُ ولم يجتمعا قبل ذلك، بل يجمعهما الذي يجمع عظام الإنسان بعدما فرَّقَها البلَى ومزَّقَها، ويَجْمَعُ للإنسان يومئذٍ جميع عمله الذي قدَّمه وأخَّره من خَيرٍ أو شرٍّ. ويَجْمَعُ ذلك من جَمَعَ القرآنَ في صدر رسوله - صلى الله عليه وسلم -، ويجمع المؤمنين في دار الكرامة، فيكرِمُ وجوهَهم بالنظر إليه، ويجمع المكذِّبين في دار الهَوَان، وهو قادِرٌ على ذلك كلِّه؛ كما جمع خلق الإنسان من نطفةٍ من مَنِيٍّ يُمْنَى، ثُمَّ جعله عَلَقَةً مجتمعة الأجزاء بعدما كانت نطفةً متفرِّقةً في جميع بدن الإنسان، وكما يجمع بين الإنسان ومَلَك الموت، ويجمع بين السَّاق والسَّاق؛ إمَّا سَاقَا الميت، وإمَّا سَاقَا من يُجهِّزُ بدنه من البشر، ومن يُجهِّزُ روحه من الملائكة، أو يجمع عليه شدائد الدنيا والآخرة. فكيف ينكر هذا الإنسانُ أن يُجْمَعَ بينه وبين عمله وجزائه، وأن يُجْمَعَ مع بني جنسه ليوم الجَمْع، وأن يُجْمَعَ عليه بين أمر الله ونهيه وعبوديته، فلا يترك سُدَىً مُهْمَلاً مُعَطَّلاً، لا يُومَرُ ولا يُنْهَى، ولا يُثاب ولا يُعَاقَب، فلا يُجْمَعُ عليه ذلك؟!
اختلاف المفسرين في المراد بقوله تعالى: {من راق}
فما أجمع هذه السورة لِمَعَاني الجمع والضَّمِّ، وقد افتُتِحَت بالقَسَم بـ"يوم القيامة" الذي يجمع الله فيه بين الأوَّلين والآخرين، وبـ"النَّفْس اللوَّامة" التي اجتمع فيها هُمُومُها، وعُزُومُها، وإراداتُها (¬1)، واعتقاداتُها. وتضمَّنَت ذكر المبدأ، والمَعَادِ، والقيامةِ الصُّغرى والكُبرى، وأحوالِ النَّاس في المَعَاد، وانقسام وجوهِهِم إلى ناضرة مُنَعَّمَةٍ، وباسِرةٍ معذَّبةٍ. وتضمَّنَت وصف "الرُّوْح" بأنَّها جسمٌ ينتقل من مكانٍ إلى مكانٍ، فتُجْمَعُ من تَفَاريق البدن حئى تبلغ التَّرَاقي، ويقول الحاضرون: {مَنْ رَاقٍ (27)} , أي: من يَرْقي من هذه العلّة التي أَعْيَت على الحاضرين، أي: التمسُوا له من يرقيه، والرُّقْيَةُ آخر الطِّبِّ (¬2). أو قيل: مَنْ يَرْقَى بها ويصعد، أملائكةُ الرحمة أم ملائكةُ العذاب؟ (¬3) فعَلَى الأوَّل؛ تكون مِن: رَقَى يَرْقِي، كـ: رَمَى يَرْمِي. وعلى الثاني؛ مِن: رَقِيَ يَرْقَى، كـ: شَقِيَ يَشْقَى. ومصدره ¬
استظهر المؤلف أن المراد الرقية من العلة، ورجحه من عشرة أوجه
"الرُّقِيُّ"، ومصدر الأوَّل "الرُّقْيَة". والقول الأوَّل أظهر لوجوه: أحدها: أنَّه ليس كل ميتٍ يقول حاضروه: من يرقى بروحه؟ وهذا إنَّما يقوله من يؤمن برُقِيِّ الملائكة بروح الميت، وأنَّهم ملائكة رحمة وملائكة عذاب، بخلاف التِمَاسِ الرقية -وهي الدعاء- فإنَّه قلَّ ما يخلو منه المحتضَر. الثاني: أنَّ "الرُّوح" إنَّما يرقى بها المَلَكُ بعد مفارقتها، وحينئذٍ يقال: مَنْ يَرْقَى بها؟ وأمَّا قبل المفارقة فطلب الرُّقْيَة للمريض من الحاضرين أنْسَب من طَلَبِ عِلْمِ من يَرْقَى بها إلى الله -عزَّ وجلَّ-. الثالث: أنَّ فاعل الرُّقْيَة يمكن العلم به، فيحسُنُ السؤالُ عنه، ويفيد السامع، وأمَّا الراقي إلى الله -تعالى- فلا يمكن العلم بتعيينه حتَّى يسأل عنه، و"مَنْ" إنَّما يُسأَلُ بها عن تعيين ما يمكن السائل أن يصل إلى العلم بتعيينه. الرابع: أنَّ مثلَ هذا السؤال إنَّما يراد به تَحْضِيضُ وإثارةُ هِمَمِهِم إلى فعل ما يقع بعد "مَنْ"، كقوله تعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا} [البقرة: 245]، أو يراد به إنكارُ فعلٍ ما يُذْكَرُ بعدها كقوله تعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} [البقرة: 255]، وفعل الراقي إلى الله لا يحسن فيه واحدٌ من الأمرين هنا، بخلاف فاعل الرُّقْيَة فإنَّه يحسن فيه (¬1) الأوَّل. الخامس: أنَّ هذا خرج على عادة العرب وغيرهم في طلب الرُّقْيَة ¬
لمن وصل إلى مثلِ تلك الحال، فحكى الله -سبحانه- ما جَرَتْ به عادتُهم بقوله، وحذَفَ فاعل القول؛ لأنَّه ليس الغرض متعلِّقًا بالقائل بل بالقول، ولم تجر عادة المخاطبين بأن يقولوا: مَنْ يرقى بروحه، فكان حمل الكلام على ما أُلِفَ وجَرَت العادةُ بقوله أَولَى، إذ هو تذكيرٌ لهم بما يشاهدونه ويسمعونه. السادس: أنَّه لو أريد (¬1) هذا المعنى لكان وجه الكلام أن يقال: مَنْ هو الراقي؟ ومَن الراقي؟ لا وجه للكلام غير ذلك، كما يقال: مَنْ هو القائل منكما كذا وكذا، وفي الحديث: "مَن القائلُ كلمةَ كذا؟ " (¬2). السابع: أنَّ كلمة "مَنْ" إنَّما يُسأل بها عن التعيين كما يقال: مَن ذا الذي فعل كذا، ومَنْ ذا (¬3) الذي قاله. فَيَعْلَمُ أنَّ فاعلاً وقائلاً فَعَلَ وقَالَ، ولا يعلم تعيينه، فيسأل عن تعيينه بـ"مَنْ" تارةً، وبـ"أَىّ" تارةً، وهم لم يسألوا عن تعيين المَلَك الراقي بالرُّوْح إلى الله. فإن قيل: بل علموا أنَّ مَلَكَ الرحمة أو العذاب صاعدٌ بروحه، ولم يعلموا تعيينه فَسَأَلوا عن تعيين أحدهما؟ قيل: هم يعلمون أنَّ تعيينه غير ممكن، فكيف يسألون عن تعيين ما لا سبيل للسامع إلى تعيينه، ولا إلى الكَلَمَةِ (¬4) بالعلم به. ¬
الثامن: أنَّ الآية إنَّما سيقت لبيان يأسه من نفسه، ويأس الحاضرين معه، وتحقق أسباب الموت، وأنَّه قد حضر ولم يبق شيءٌ يَنْجَعُ فيه، ولا يُخَلِّص (¬1) منه، بل هو قد ظنَّ أنَّه مُفَارِقٌ (¬2) لا محالة، والحاضرون قد علموا أنَّه لم يبق لأسباب الحياة المعتادة تأثيرٌ في بقائه، فطلبوا أسبابًا خارجةً عن المقدور تُسْتَجْلَبُ [بـ] (¬3) ـالرُّقَى والدَّعَوَات، فقالوا: مَنْ رَاقٍ؟ أي: مَنْ يَرْقِي هذا العليل مِن أسباب الهلاك. والرُّقْيَة عندهم كانت مستعملةً حيث لا يُجْدِي الدواء. التاسع: أنَّ مثل هذا إنَّما يراد به النَّفْي والاستبعاد، وهو أحد التقديرين في الآية، أي: لا أحد يَرْقي من هذه العلَّة بعدما وصل صاحبها إلى هذه الحال، فهو استبعادٌ لنفع الرُّقْيَة؛ لا طلبٌ لوجود الراقي، كقوله تعالى: {قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (78)} [يس: 78] أي: لا أحد يُحْييها وقد صارت إلى هذه الحال. فإن أريد بها هذا المعنى استحال أن يكون من "الرُّقِيِّ" (¬4)، وإن أريد بها الطلب استحال -أيضًا- أن يكون منه، وقد بينَّا أنَّها في مثل هذا إنَّما تُستعمل للطلب أو للإنكار، وحينئذٍ فنقول في: الوجه العاشر: إنَّها إمَّا أن (¬5) يراد بها الطلب، أو الاستبعاد. والطَّلَبُ: إمَّا أن يراد به طلب الفعل، أو طلب التعيين. ولا سبيل إلى ¬
فصل: الجمع بين الظاهر والباطن جاء تقريره في آيات كثيرة
حَمْلِ واحدٍ من هذه المعاني على "الرُّقِيِّ" لما بَيّنَّاهُ، والله أعلم. فصل ومن أسرار هذه السورة أنَّه -سبحانه- جمع فيها لأوليائه بين جمال الظاهر والباطن؛ فَزَيَّنَ وجوهَهُم بالنَّضْرَة، وبواطنَهم بالنَّظَر إليه، فلا أَجْمَلَ لبواطنهم، ولا أنعم، ولا أحلى؛ من النَّظَر إليه. ولا أجمل لظواهرهم من نَضْرَةِ الوجه، وهي إشراقه وتحسينه وبهجته، وهذا كما قال في موضع آخر (¬1): {وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا (11)} [الإنسان: 11]. ونظيره قوله تعالى: {يَابَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا} [الأعراف: 26]؛ فهذا جمال الظاهر وزينَتُهُ، ثُمَّ قال: {وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ}؛ فهذا جمال الباطن وزينَتُهُ (¬2). ونظيره قوله -عزَّ وجلَّ-: {إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ (6)} [الصافات: 6]؛ فهذا جمال ظاهرها، ثُمَّ قال: {وَحِفْظًا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مَارِدٍ (7)} [الصافات: 7]؛ فهذا جمال باطنها. ونظيره قوله عن امرأة العزيز بعد أن قالت ليوسف: {اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ (31) قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ}؛ فهذا جمال الظاهر (¬3)، ثُمَّ وصَفَتْهُ بجمال باطنه وعِفَّتِه فقالت: {وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ} [يوسف: 31 - 32] ¬
فَذِكْرُها لهذا (¬1) هو من (¬2) تمام وصفها لمحاسنه، وأنَّه في غاية المحاسن ظاهرًا وباطنًا. وينظر إلى هذا المعنى ويناسبه قوله تعالى: {إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى (118) وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى (119)} [طه: 118 - 119]، فقابَلَ بين الجوع والعُرِيِّ؛ لأنَّ الجوعَ ذُلُّ الباطن، والعُرِيَّ (¬3) ذُلُّ الظاهر. وقابَلَ بين الظمأ وهو حَرُّ الباطن، والضُّحَى وهو حرُّ الظاهر بالبروز للشمس. وقريبٌ من هذا قوله -عزَّ وجلَّ-: {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى} [البقرة: 197]؛ ذَكَرَ الزادَ الظاهر الحِسِّيَّ (¬4)، والزادَ الباطن المعنويَّ، فهذا زاد سفر الدنيا، وهذا زاد سفر الآخرة. ويُلِمُّ به قول هود: {وَيَاقَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ} [هود: 52]؛ فالأوَّل: القوَّة الظاهرة (¬5) المنفصلة عنهم، والثاني: الباطنة المتصلة بهم. ويشبهه قوله تعالى: {فَمَا لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلَا نَاصِرٍ} [الطارق: 10]، فنفى عنه (¬6) الدَّافِعَيْن: الدافع من نفسه وقُوَاهُ (¬7)، والدافع من خارجٍ، وهو النَّاصر. ¬
فصل: من أسرار سورة القيامة أنها تضمنت إثبات قدرة الرب تعالى على ما علم أنه لا يفعله، ونظائر ذلك في القرآن
فصل ومن أسرارها أنَّها تضمَّنَتْ إثبات قدرة الرَّبّ -تعالى- على ما عَلِمَ أنَّه لا يكون ولا يفعله، وهذا على أحد القولين في قوله تعالى: {بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ (4)} [القيامة: 4]، فأخبر أنَّه تعالى قادرٌ عليه ولم يفعله ولم يُرِدْهُ. وأصرحُ من هذا قوله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ (18)} [المؤمنون: 18]، وهذا -أيضًا- على أحد القولين، أي: تَغُورُ العُيون في الأرض فلا يُقْدَرُ على الماء (¬1). وقال ابن عباس: "يريد أنَّه سيغيض (¬2) فيذهب"، فلا يكون من هذا الباب، بل يكون من باب القدرة على ما سيفعله. وأصرح من هذين الموضعين قوله تعالى: {قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ} [الأنعام: 65]، وقد ثبت عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنَّه قال عند نزول هذه الآية: "أعُوذُ بِوَجْهِك" (¬3)، ولكن قد ثبت عنه ¬
توجيه أحاديث الخسف والقذف الواقعان في الأمة
- صلى الله عليه وسلم - أنَّه لابدَّ أن يقع في أُمَّته خَسْفٌ (¬1)، ولكن لا يكون عامًّا، وهذا عذابٌ من تحت الأرجل، ورُوي عنه أنَّه كائنٌ في الأُمَّة قَذْفٌ (¬2) أيضًا، وهذا عذابٌ من فوق، فيكون هذا من باب الإخبار بقدرته على ما سيفعله. وإن أُريد به القدرة على عذاب الاستئصال، فهو من القدرة على ما لا يريده. وقد صَرَّحَ -سبحانه- بأنَّه لو شاء لفعل ما لم يفعله في غير موضع من كتابه كقوله تعالى: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا} [يونس: 99]، وقال تعالى: {وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا} [السجدة: 13] ونظائره. ¬
فصل: وجوب التأني في تلقي العلم، قد ذكر في ثلاثة مواضع من القرآن
وهذا ممَّا لا خفاء فيه بين أهل السُّنَّة، وبه يتبيَّنُ فساد قولِ من قال: إنَّ القدرة لا تكون إلا مع الفعل لا قبله، وأنَّ الصواب التفصيل بين القدرة الموجِبة والمصحِّحَة، فَنَفْيُ القدرة عن الفاعل قبل الملابسة -مطلقًا- خطأٌ، والله أعلم. فصل ومن أسرارها أنَّها تضمَّنَت التَّأَنِّى والتثبُّتَ في تلقِّي العلم، وأن لا يحمل السامعَ شدَّةُ محبته وحرصه وطلبه على مبادرة المعلِّم بالأخذ قبل فراغه من كلامه، بل من آداب الرَّبِّ التي أدَّبَ بها نبيَّهُ - صلى الله عليه وسلم - أَمْرُهُ بترك الاستعجال على تلقِّي الوحي، بل يصبر إلى أن يفرغ جبريل من قراءته، ثُمَّ يقرأه بعد فراغه عليه. فهكذا ينبغي لطالب العلم ولسامعه أن يصبر على معلِّمه حتَّى يقضي كلامه، ثُمَّ يعيده عليه، أو يسأله عمَّا أشكَلَ عليه منه، ولا يبادره قبل فراغه. وقد ذكر الله -تعالى- هذا المعنى في ثلاثة مواضع من كتابه؛ هذا أحدها. والثاني: قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا (113) فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا} [طه: 113 - 114]. والثالث: قوله تعالى: {سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى (6) إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى (7)} [الأعلى: 6 - 7]، فضَمِنَ لرسوله أنَّه لا ينسى ما أَقْرَأَهُ إيَّاهُ، وهذا يتناول حال القراءة وما بعدها. وقد ذَمَّ الله -سبحانه- في هذه السورة من يُؤْثر العاجلة على
وجوه ذم الاستعجال في هذه السورة
الآجلة، وهذا لاستعجاله بالتمتُّعُ بما يَفْنَى، وإيثاره على ما يَبْقَى، ورتَّبَ كلَّ ذَمٍّ ووعيدٍ في هذه السورة على هذا الاستعجال، ومحبَّةِ العاجلة على الآجلة (¬1)، فإرادتُهُ أن يَفْجُرَ أمَامَهُ هو من استعجاله وحُبِّ العاجلة، وتكذيبُهُ بيوم القيامة من فَرْطِ حُبِّ العاجلة، وإيثاره لها، واستعجاله بنصيبه، وتمتُّعه به قبل أَوَانِه، ولولا حُبُّ العاجلة وطلب الاستعجال لتمتَّعَ به في الآجلة أكمل ما يكون. وكذلك تكذيبُه، وتَوَلِّيه، وتركُهُ الصلاةَ هو من استعجاله ومحبته العاجلة. والرَّبُّ -سبحانه- وصف نفسه بضدِّ ذلك، فلم يَعْجَل على عبده، بل أمهله إلى أن بلغت "الرُّوْح" التراقي، وأيقن بالموت، وهو إلى هذه الحال مستمِرٌّ على التكذيب والتولِّي، والرَّبُّ -تعالى- لا يعاجله (¬2)؛ بل يُمْهِلُه، ويُحْدِثُ له الذِّكْرَ شيئًا بعد شيءٍ، ويُصَرِّفُ له الآياتِ، ويضربُ له الأمثالَ، ويُنَبِّهه على مبدئه: من كونه نطفةً من مَنيٍّ يُمْنَى، ثُمَّ علقةً، ثُمَّ خلقًا سويًّا، فلم يَعْجَلْ عليه بالخلق وَهْلَةً واحدةً، ولا بالعقوبة إذ كذَّبَ خَبَرَهُ، وعصى أمرَهُ؛ بل كان خَلْقُهُ وأمرُهُ وجزاؤُهُ بعد تَمَهُّلٍ، وتدريجٍ، وأناةٍ، ولهذا ذَمَّ الإنسانَ بالعجلة بقوله تعالى: {وَكَانَ الْإِنْسَانُ عَجُولًا (11)} [الإسراء: 11]، وقال تعالى: {خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آيَاتِي فَلَا تَسْتَعْجِلُونِ (37)} [الأنبياء: 37]. ¬
فصل ومن أسرارها أنَّ (¬1) إثباتَ النُبوَّةِ والمَعَاد يُعْلَمُ بالعقل، وهذا أحد القولين لأصحابنا وغيرهم، وهو الصواب؛ فإنَّ الله -سبحانه- أنكر على مَنْ حَسِبَ أنَّه يُتْرَكُ سُدَىً: فلا يُؤمَر، ولا يُنْهَى، ولا يُثاب، ولا يُعَاقَب. ولم يَنْفِ -سبحانه- ذلك بطريق الخبر المجرَّدِ، بل نفاه نَفْيَ ما لا يليق نسبته إليه، ونَفْيَ مُنْكِرٍ على من حكم به وظنَّه. ثُمَّ استدلَّ -سبحانه- على فساد ذلك، وبيَّن أن خَلْقَهُ الإنسانَ في هذه الأطوار، وتنفُّلَه فيها طَوْرًا بعد طَوْرٍ حتَّى بلغ نهايته؛ يأبى أن يتركه سُدَىً، وأنَّه تنَزَّهَ عن ذلك كما تنَزَّهَ عن العَبَثِ، والعَيْبِ، والنَّقْصِ. وهذه طريقة القرآن في غير موضع كما قال تعالى: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ (115) فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ} [المؤمنون: 115 - 116]، فجَعَلَ كمَالَ مُلْكه، وكونَهُ -سبحانه- الحقَّ، وكونَهُ لا إله إلا هو، وكونَهُ ربَّ العرش المستلزِم لربوبيته لكلِّ ما دونه = مبطِلاً لذلك الظَّنِّ الباطل، والحكم (¬2) الكاذب. وإنكارُ هذا الحُسْبَان عليهم مثلُ إنكاره عليهم حُسْبَانَهم أنَّه لا يسمع سِرَّهم ونجواهم، وحُسْبَانَ أنَّه لا يراهم ولا يقدر عليهم، وحُسْبَانَ أنَّه يُسَوِّي بين أوليائه وبين أعدائه في محياهم ومماتهم، وغير ذلك ممَّا هو منزَّهٌ عنه تنزُّهَه (¬3) عن سائر العيوب والنقائص، وأنَّ نسبة ¬
فصل: إثبات النبوة والمعاد يعلم بالعقل، وتقرير ذلك
ذلك إليه كنسبة ما يَتَعَالى عنه ممَّا لا يليق به من اتخاذ الولد والشريك ونحو ذلك ممَّا ينكره -سبحانه- على مَنْ حَسِبَهُ أشدَّ الإنكار، فدلَّ على أنَّ ذلك قبيحٌ، مُمْتَنِعٌ نسبته إليه، كما يمتنع أَن يُنْسَب إليه سائر ما ينافي كماله المقدَّس. ولو كان نَفْيُ تَرْكِهِ سُدَىً إنَّما يُعْلَم بالسمع المجرَّد لم يقل بعد ذلك {أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً} [القيامة: 37] إلى آخره، ممَّا يدلُّ على أنَّ تعطيل أسمائه وصفاته ممتنعٌ، وكذلك تعطيل مُوجِبِها ومقتضاها، فإنَّ مُلْكَهُ الحقَّ يستلزم: أمرَهُ، ونهيَهُ، وثوابَهُ، وعقابَهُ. وكذلك يستلزم إرسالَ رُسُله، وإنزالَ كتبه، وبعثَ العباد ليومٍ يُجْزَى فيه المُحْسِنُ بإحسانه، والمُسيءُ بإساءته، فمن أنكر ذلك فقد أنكر حقيقةَ مُلْكِهِ ولم يُثبِت له المُلْكَ الحقَّ، ولذلك كان مُنْكِر البعث (¬1) كافرًا بربِّه، وإن زعمَ أنَّه يُقِرُّ بصَانِع العالَم (¬2)، فلم يُومِن بالمَلِكِ الحقِّ الموصوفِ بصفات الجلال، المستحقِّ لنعوتِ الكمال. كما أنَّ المعطِّل لكلامه، وعلوِّه على خلقه (¬3) لم يُؤمِن به سبحانه، فإنَّه آمن بربٍّ لا يتكلَّم، ولا يأمر، ولا ينهى، ولا يصعد إليه قولٌ، ولا عملٌ، ولا ينزل من عنده مَلَكٌ، ولا أمرٌ (¬4)، ولا نهيٌ، ولا تُرفع إليه الأيدي. ومعلومٌ أنَّ هذا الذي أقَرَّ به رَبٌّ مقدَّر في ذهنه، ليس هو رَبَّ العالمين، وإلهَ المرسلين. ¬
ما يقتضيه اسمه "الحي" و"القيوم"
وكذلك إذا اعتبرتَ (¬1) اسمه "الحَيَّ" وجدته مقتضيًا لصفات كماله من علمه، وسمعه، وبصره، وقدرته، وإرادته، ورحمته، وفعله ما يشاء. واسمه "القَيُّوم" مُقْتَضٍ لتدبيره أمر العالَم العُلْويِّ والسُّفْليِّ، وقيامه بمصالحه، وحفظه له. فمن أنكر صفات كماله لم يؤمن بأنَّه "الحَيُّ القيُّومُ"، وإنْ أقرَّ بذلك أَلْحَدَ في أسمائه، وعطَّلَ حقائقها، حيث لم يمكنه تعطيل ألفاظها، وبالله التوفيق. ¬
فصل: القسم في سورة المدثر
فصل ومن ذلك قوله تعالى: {كَلَّا وَالْقَمَرِ (32) وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ (33) وَالصُّبْحِ إِذَا أَسْفَرَ (34) إِنَّهَا لَإِحْدَى الْكُبَرِ (35) نَذِيرًا لِلْبَشَرِ (36) لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ (37)} [المدثر: 32 - 37]. أقْسَمَ -سبحانه- بالقمر الذي هو آيةُ الليل، وفيه من الآيات الباهرة الدالَّة على ربوبية خالقه وبارئه، وحكمته، وعلمه، وعنايته بخلقه = ما هو معلومٌ بالمشاهدة. وهو -سبحانه- أقسَمَ بالسماء وما فيها ممَّا لا نَرَاهُ من الملائكة، وما فيها ممَّا نَرَاهُ من الشمس، والقمر، والنُّجُوم، وما يحدث بسبب حركات الشمس والقمر من الليل والنَّهار، وكلُّ (¬1) ذلك آيةٌ من آياته، ودلالةٌ من دلائل ربوبيته (¬2). ومن تدبَّرَ أمرَ هذين النيِّرَيْن العظيمين وجدهما من أعظم الآيات في خَلْقِهما، وجِرْمِهما، ونُورِهما، وحركتهما على نهجٍ واحدٍ، لا يَنِيَانِ (¬3)، ولا يَفْتُرَان، دَائِبَيْن، ولا يقع في حركاتهما اختلافٌ بالبُطْءِ، والسرعةِ، والرجوعِ، والاستقامةِ، والانخفاضِ، والارتفاعِ، ولا يجري أحدُهما في فَلَكِ صَاحبه، ولا يدخل عليه في سلطانه، ولا تدرك الشمسُ القمرَ، ولا يجيء الليلُ قبل انقضاء النَّهار، بل لكلٍّ حركةٌ مقدَّرَةٌ، ونهجٌ معيَّنٌ لا يَشْركه فيه الآخر، كما أنَّ له تأثيرًا ومنفعةً لا يَشركه فيها ¬
ذكر فوائد الأهلة في ثلاث آيات من القرآن
الآخر. وذلك ممَّا يدلُّ مَنْ له أدنى عقلٍ على أنَّه بتسخير مسخِّرٍ، وأَمْرِ آمِرٍ، وتدبير مدبِّرٍ، بَهَرَتْ حكمتُه العقولَ، وأحاطَ علمُه بكلِّ دقيقٍ وجليلٍ، وفوق ما علمه النَّاس من الحِكَمِ التي (¬1) في خَلْقِهما ما لا تصل إليه عقولهم، ولا تنتهي إلى مبادئها أوهامهم، فغايتنا الاعتراف بجلال خالقِهما، وكمال حكمته، ولطف تدبيره، وأن نقول ما قاله أولو الألباب قبلنا: {رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (191)} [آل عمران: 191]. ولو أنَّ العبدَ وُصِفَ له جرْمٌ أسودُ مستديرٌ، عظيمُ الخَلْقِ، يبدو فيه النُّور كخيطٍ مُتَسَخِّنٍ، ثُمَّ يتزايد كلَّ ليلةٍ حتَّى يتكَامَلَ نورُه، فيصير أضوأَ شيءٍ (¬2)، وأحسنَه، وأجملَه، ثُمَّ يأخذ في النقصان حتَّى يعود إلى حاله الأوَّل، فيحصل بسبب ذلك معرفةُ الأشهر والسنين، وحسابُ آجال العالم من مواقيت حَجِّهم، وصلاتهم، ومواقيت إجَاراتهم، ومُدَايَنَاتهم، ومُعَامَلاتهم التي لا تقوم مصالحهم إلا بها، فمصالح الدنيا والدّين متعلِّقةٌ بالأهِلَّة. وقد ذكر -سبحانه- ذلك في ثلاث آياتٍ من كتابه: أحدها (¬3): قوله -عزَّ وجلَّ-: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} [البقرة: 189]. ¬
والثانية: قوله -عزَّ وجلَّ-: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ} الآية [يونس: 5]. والثالثة: قوله تعالى: {وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ} الآية [الإسراء: 12]. فلولا ما يُحْدِثُه الله -سبحانه- في آية الليل من زيادة ضوئها ونقصانه؛ لم يُعْلم ميقات الحجِّ، والصوم، والعِدَدِ، ومُدَّةِ الرَّضَاعِ، ومدَّةِ الحمْلِ، ومُدَّةِ (¬1) الإجارة، ومُدَّةِ آجال المعاملات. فإن قيل: كان يمكن عِلْمُ هذا بحركة الشمس، وبالأيام التي تُحْفَظُ بطلوع الشمس وغروبها، كما يعرف أهل الكتابين مواقيت صيامهم وأعيادهم بحساب الشمس. قيل: هذا وإن كان ممكنًا إلا أنَّه يَعْسُرُ ضَبْطُه، ولا يقف عليه إلا الآحاد من النَّاس، ولا ريب أنَّ معرفةَ أوائل الشهور وأوساطِها وأواخِرِها بالقمر أمرٌ يشترك فيه النَّاس، وهو أسهل من معرفة ذلك بحساب الشمس، وأقل اضطرابًا واختلافًا، ولا يحتاج إلى تكلُّفِ حسابٍ، وتقليدِ (¬2) من لا يعرفه من النَّاس لمن يعرفه، فالحكمةُ الباهرةُ التي في تقدير السنين والشهور بسير القمر أظهرُ، وأنفعُ، وأصلحُ، وأقلُّ اختلافًا من تقديرها بسير الشمس. فالرَّبُّ -جل جلاله- دبَّر الأهِلَّةَ بهذا التدبير العجيب لمنافع خلقه ¬
دلالة القمر على وحدانية الله عز وجل
في مصالح دينهم ودنياهم، مع ما يتَّصل بذلك من الاستدلال به على وَحْدَانِيَّته، وكمال حكمته، وعلمه، وتدبيره. فشهادةُ الحق (¬1) بتغيُّر (¬2) الأجرام الفلكية، وقيامُ أدلَّة الحدوث والخَلْق عليها. فهي آياتٌ ناطِقةٌ بلسان الحال على تكذيب الدهريَّةِ، وزنادقةِ الفلاسفة، والملاحدة؛ القائلين: بأنَّها أَزليَّةٌ أبَدِيَّةٌ لا يتطرَّقُ إليها التغيير، ولا يمكن عَدَمُها. فإذا تأمَّلَ البصيرُ "القَمَرَ" مثلاً، وافتقَارَهُ إلى مَحَلٍّ يقوم به، وسيرَهُ دائبًا (¬3) لا يتغيَّر، مُسَيَّرٌ، مسخَّرٌ، مدبَّرٌ (¬4)، وهبوطَهُ تارةً، وارتفاعَهُ تارةً، وأُفولَهُ تارةً، وظهورَهُ تارةً، وذهابَ نوره شيئًا فشيئًا، ثُمَّ عَوْدَهُ إليه كذلك، وذهابَ ضوئه جملةً واحدةً حتَّى يعود قطعةً مظلمةً بالكُسُوف = عَلِمَ -قطعًا- أنَّه مخلوقٌ مربوبٌ، مسخَّرٌ تحت أمر خالقٍ قاهرٍ مسخِّرٍ له كما يشاء، وعَلِمَ أنَّ الرَّبَّ -سبحانه- لم يخلق هذا باطلاً، وأنَّ هذه الحركة فيه لابدَّ أن تنتهي إلى الانقطاع والسكون، وأنَّ هذا الضوءَ والنُّورَ لابدَّ أن ينتهي إلى ضِدَّه، وأنَّ هذا السلطان لابدَّ أن ينتهي إلى العَزْل، وسيجمع بينهما جامع المتفرِّقَات بعد أن لم (¬5) يكونا مجتمعَين (¬6)، ويذهب بهما حيث شاء، ويُرِي المشركين من عَبَدَتِهما حالَ آلهتهم التي عبدوها من دونه، كما يُرِي عُبَّادَ ¬
الكواكب انتثارَها، وعُبَّادَ السماءِ انفطارها، وعُبَّادَ الشمسِ تكويرها، وعُبَّادَ الَأصنام إهانتها وإلقاءها في النَّار أحقرَ شيءٍ وأذلَّه وأصغَرَهُ، كما أَرَى عُبَّادَ العِجْل في الدنيا حالَه، ومَبَارِدُ عِبَادِهِ تَسْحَقُهُ وتَمْحَقُهُ، والرِّيحُ تمزِّقُه وتَذْرُوه وتَنسِفُه في اليَمِّ، وكما أَرَى عُبَّادَ الأصنام في الدنيا صُوَرَها مكسَّرَةً مُخَرْدَلَةً مُلقاةً بالأمكنة القَذرة، ومعاوِلُ الموحِّدِين قد هشَّمَت منها تلك الوجوه، وكسَّرَت تلك (¬1) الرؤوس، وقطَّعت تلك الأيدي والأرجل التي كانت لا يُوصَلُ إليها بغير التقبيل والاستلام. وهذه سُنَّتُهُ التي لا تُبدَّل، وعادته التي لا تُحَوَّل: أنَّه يُرِي عابِد غيره حالَ معبوده في الدنيا والآخرة، وإن كان المعبودُ غير راضٍ بعبادته (¬2) أَرَاهُ تَبَرِّيهِ منه، ومعاداته له؛ أحوجَ ما يكون إليه، {لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ} [الأنفال: 42]، ويعلم الذين كفروا أنَّهم كانوا كاذبين. تأمَّلْ سُطُورَ الكائنَاتِ فإنَّها ... من المَلِكِ الأعلَى إليكَ رَسَائِلُ وقد خُطَّ فيها لو تأمَّلْتَ خَطَّها ... "أَلاَ كُلُّ شيءٍ ماخَلاَ اللهَ باطِلُ" (¬3) ¬
فصل: ما في القسم بإدبار الليل من الدلالات
ولو شاء -تعالى- لأبْقَى "القَمَرَ" على حالةٍ واحدةٍ لا يتغيَّر، وجعل التغيُّرَ في "الشمس"، ولو شاء لَغَيَّرَهُما معًا، ولو شاء لأبقاهما معًا على حالةٍ واحدةٍ، ولكنْ يُرِي عبادَه آياته في أنواع تصاريفها لِيَدُلَّهُم على أنَّه اللهُ الذي لا إله إلا هو المَلِكُ الحقُّ المُبِينُ، الفعَّالُ لما يريد {أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (54)} [الأعراف: 54]. وأمَّا تأثير "القَمَرِ" في ترطيب أبدان الحيوان والنَّبات، وفي المياه، وجَزْرِ البحر ومَدِّهِ، وبُحْرَانات (¬1) الأمراض، وتنقلِها من حالٍ إلى حالٍ، وغير ذلك من المنافع = فأمرٌ ظاهِرٌ. فصل وأمَّا إقسامُه -سبحانه- بـ"الليل إذ أدبر" فَلِمَا في إدباره وإقبال النَّهار من أَبْيَنِ الدلالات الظاهرة على المبدأ والمَعَاد، فإنَّه مبدأٌ ومَعَادٌ يوميٌّ مشهودٌ بالعِيَان، بَيْنا الحيوان في سكون الليل وقد هدأت حركاتهم، وسكنت أصواتهم، ونامت عيونهم، وصاروا إخوان الأموات، إذ أقبل من (¬2) النَّهار دَاعِيه، وأسمعَ الخلائقَ مُنَادِيه، فانتشرت منهم الحركات، وارتفعت منهم الأصوات، حتَّى كأنَّهم قاموا ¬
ما في طلوع الشمس وغروبها من الآيات
أحياءً من القبور، يقول قائلهم: "الحَمْدُ للهِ الذي أحيَانَا بعدَمَا أمَاتَنَا وإليه النُّشُور" (¬1)، فهو مَعَادٌ جديدٌ، أَبْدَأَهُ وأَعَادَهُ الذي يُبْدِئُ ويُعِيدُ، فمَنْ ذَهَب بالليل وجاء بالنَّهار سوى الواحد القهَّار؟ فمن تأمَّلَ حال الليلِ إذا عَسْعَسَ وأَدْبَرَ، والصُّبْحِ إذا تنفَّسَ وأَسْفَرَ، فهزمَ جيوشَ الظلام بنَفَسِهِ، وأضاءَ أُفُقَ العالَم بِقَبَسِه، وفَلَّ كتائبَ المواكب بعساكره، وأضحكَ نواحي الأرض بتباشِيره وبشائره، فيالَهُما آيتان شاهدتان بوحدانية مُنْشِئِهما، وكمالِ ربوبيته، وعظيم قدرته وحكمته. فتبارَك الذي جعل طلوعَ الشمس وغروبَها مقيمًا لسلطان الليل والنَّهار، فلولا طلوعها لبَطَلَ أمرُ العالَم كلِّه، فكيف كان النَّاس يَسْعَون في معايشهم، ويتصرَّفُون في أمورهم؛ والدنيا مظلمةٌ عليهم؟! وكيف كانت تَهْنِيهم الحياة مع فقْد لذَّة النُّورِ وروحه؟! وأىُّ ثمارٍ ونباتٍ وحيوانٍ كان يوجد؟! وكيف كانت تتمُّ مصالح أبدان الحيوان والنَّبَات؟! ولولا غروبُها لم يكن للنَّاس هُدُوءٌ ولا قَرَارٌ (¬2)، مع عِظَمِ حاجتهم إلى الهُدُوءِ؛ لراحة أبدانهم، وجُمُومِ حواسِّهم (¬3). فلولا جُثُوم هذا الليل ¬
عليهم بظلمته لَمَا هَدَأُوا، ولا قَرُّوا، ولا سكنوا، بل جعله أحكم الحاكمين سَكَنًا ولباسًا، كما جعل النَّهار ضياءً ومعاشًا. ولولا الليل وبَرْدُه لاحترقت أبدان النَّبَات والحيوان من دوام (¬1) شُرُوق الشمس عليها، وكان يحترق ما عليها من نباتٍ وحيوانٍ، فاقتضت حكمة أحكم الحاكمين أن جعلها سراجًا يطلع على العالم في وقت حاجتهم إليه، ويغيب في وقت استغنائهم عنه. فطُلُوعُه لمصلحتهم، وغيبته لمصلحتهم، وصار النُّور والظُّلْمة -على تضادِّهِما- متعاوِنَين مُتظَاهِرَيْن على مصلحة هذا العالَم وقِوَامه. فلو جعل الله -سبحانه- النَّهار سرمدًا إلى يوم القيامة، أو الليل سرمدًا إلى يوم القيامة؛ لفاتت مصالح العالم، واشتدت الضرورة إلى تغيير ذلك وإزالته بضدِّه. وتأمَّلْ حكمته -سبحانه- في ارتفاع الشمس وانخفاضها لإقامة هذه الأزمنة (¬2) الأربعة من السَّنَة، وما في ذلك من مصالح الخلق: ففي الشتاء تَغُور الحرارة في الشجر والنَّبَات، فيتولَّدُ منها موادُّ الثِّمار، ويَكثُفُ (¬3) الهواءُ، فينشأُ منه السَّحاب، وينعقد (¬4)، فيحدث المطر الذي به حياةُ الأرض، ونَمَاءُ أبدان الحيوان والنَّبَات، وحصولُ ¬
الأفعال والقُوَى، وحركاتُ الطبائع. وفي الصيف يَحْتَدِمُ (¬1) الهواءُ، فَتنضُج الثمارُ، وتشتدُّ الحُبُوبُ، ويَجِفُّ وجهُ الأرض، فيتهيَّأ للعمل. وفي الخريف يَصْفُو الهواءُ، وتبرد الحرارة، ويمتدُّ الليل، وتستريح الأرض والشجر للحملِ والنَّبَاتِ مرةً ثانيةً، بمنزلة راحة الحامل بين الحَمْلَين. ففي هذه الأزمنة (¬2) مَبْدَأٌ ومَعَادٌ مشهودٌ، وشاهِدٌ بالمبدأ والمَعَاد الغَيبِيِّ. والمقصود أنَّ بحركة هذين النَّيرَيْن تتمُّ مصالح العالم، وبذلك يظهرُ الزَّمَانُ، فإنَّ الزَّمَانَ مقدارُ الحركة. فـ"السَّنةُ الشَّمْسيَّةُ" مقدارُ سير الشمس من نقطة "الحَمَل" (¬3) إلى ¬
مثلها، و"السَّنةُ القَمَريَّةُ" مُقَدَّرَةٌ بسير القَمَر، وهو أقرب إلى الضبطِ، واشتراكِ النَّاس في العلم به. وقَدَّرَ أحكمُ الحاكمين تنقلَهُما في منازلهما لمَا في ذلك من تمام الحكمة، ولُطْفِ التدبير؛ فإنَّ الشمس لو كانت تطلع وتغرب في موضعٍ واحدٍ لا تتعدَّاهُ لما وصل ضوءُها وشُعَاعُها إلى كثير من الجهات، فكان نَفْعُها يُفْقَدُ هناك، فجعل الله -سبحانه- طلوعَها دُوَلاً بين الأرض؛ لينال نفعُها وتأثيرُها البقاعَ، فلا يبقى موضعٌ (¬1) من المواضع التي يمكن أن تطلع عليها إلا أخذ بقسطه من نفعها. واقتضى هذا التدبيرُ المُحْكَمُ أن وقع مقدار الليل والنَّهار على أربع وعشرين ساعةً، ويأخذ كل منهما (¬2) من صاحبه، ومنتهى كل منهما إذا امتدَّ خمس عَشْرَةَ ساعةً، فلو زاد مقدار النَّهار (¬3) على ذلك إلى خمسين ساعة- مثلاً- أو أكثر لاختلَّ نظام العالم، وفسَدَ أكثر الحيوان والنَّبَات، ولو نقص مقداره عن ذلك لاختَلَّ النِّظَام -أيضًا- وتعطَّلَت المصالح، ولو استويا دائمًا لما اختلفت فصول السَّنَة التي باختلافها مصالح العباد (¬4) والحيوان، فكان في هذا التقدير والتدبير المحكَم من الآيات والمصالح والمنافع ما يشهد بأنَّ ذلك من تقدير العزيز العليم. ولهذا يذكر -سبحانه- هذا التقدير ويُضِيفُه إلى عِزَّته وعلمه، كما قال تعالى: {وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ (37) وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (38)} [يس: 37 - 38]. ¬
فصل: جواب القسم في هذه السورة هو المعاد
وقال تعالى: {قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ (9) وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ (10) ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ (11) فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (12)} (¬1) [فصلت: 9 - 12]. وقال تعالى: {فَالِقُ الْإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (96)} [الأنعام: 96]. فهذه ثلاثةُ مواضع يذكرُ فيها أنَّ تقدير حركات الشمس والقمر والأجرام العُلْوِيَّةِ وما نشأ عنها كان من مقتضى عِزَّته وعلمه، وأنَّه قدَّرَهُ بهاتين الصفتين، وفي هذا تكذيبٌ لأعداء الله الملاحدة الذين يَنْفُون قدرته، واختياره، وعلمه بالمُغَيَّبَات. فصل وأقسَمَ -سبحانه- بهذه الأشياءِ الثلاثةِ -وهي: القمر، والليل إذا أدبر، والصبح إذا أسفر- على المَعَاد؛ لِمَا في المُقْسَم به من الدلالة على ثبوت المُقْسَم عليه، فإنَّه يتضمَّنُ كمال قدرته، وحكمته، وعنايته بخلقه، وإبداء الخَلْقِ وإعادته، كما هو مشهودٌ في إبداء النَّهار والليل وإعادتهما، وفي إبداء النُّور وإعادته في القمر، وفي إبداء الزَّمَان وإعادته الذي هو حاصِلٌ بسير الشمس والقمر، وإبداء الحيوان والنَّبَات وإعادتهما، وإبداء فصول السَّنَة وإعادتها، وإبداء ما يحدث في تلك ¬
أربع صفات للهالكين ذكرت في السورة
الفصول وإعادته؛ فكلُّ ذلك دليلٌ ظاهرٌ على المبدأ والمَعَاد الذي أخبرت به رُسُلُه كلُّهم عنه. فصرَّفَ -سبحانه- الآياتِ الدَّالَّةَ على صِدْقِهِ وصِدْقِ رُسُله، ونوَّعَها، وجعلها للفِطَر تارةً، وللعقول تارةً، وللسمع تارةً، وللمشاهَدَةِ تارةً، فجعلها آفاقِيَّةً، ونفسيَّةً، ومنقولةً، ومعقولةً، ومشهودةً بالعِيَان، ومذكُورَةً بالجَنَان، فأبى الظالمون إلا كفورًا، {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَلَا يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلَا حَيَاةً وَلَا نُشُورًا (3)} [الفرقان: 3]. ولمَّا أقامَ الحُجَّةَ وبيَّنَ المحجَّةَ ارتهن كلَّ نفسٍ بكَسْبِها، وآخَذَها بذنبها، واستثنى من أولئك مَنْ قَبِلَ هُدَاهُ، واتَّبعَ رضاه، وهم أصحاب اليمين الذين آمنوا بالله، وصدَّقُوا المرسلين، وسلكوا غير سبيل المجرمين، الذين ليسوا من المصلِّين، ولا مِنْ مُطْعِمِي المساكين، وهم من أهل الخَوْضِ مع الخائضين، المكذِّبين بيوم الدِّين. فهذه أربع صفاتٍ أخرجتهم من زُمْرة المفلحين، وأدخلتهم في جملة الهالكين: الأُولَى: تَرْكُ الصلاة، وهي عمود الإخلاص للمعبود. الثانية: تَرْكُ إطعام المسكين الذي هو أَهَمُّ مراتب الإحسان للعبيد، فلا إخلاصَ للخالق، ولا إحسانَ للمخلوق، كما قال تعالى: {الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ (6) وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ (7)} [الماعون: 6 - 7]، وقال تعالى: {وَلَا يَأْتُونَ الصَّلَاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَى وَلَا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ (54)} [التوبة: 54]، وهذا ضدُّ ما وصَفَ به أصحاب اليمين بقوله
المراد بقوله تعالى: {فما تنفعهم شفاعة الشافعين}
-عزَّ وجلَّ-: {الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3)} [الأنفال: 3]، وقال تعالى: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (16)} [السجدة: 16]. وقَرَنَ -سبحانه- بين هذين الأصلين في غير موضع من كتابه؛ فأمر بهما تارةً، وأثنى على فاعلهما تارةً، وتوعَّدَ بالوَيْل والعقابِ تاركَهما تارةً، فإنَّ مدارَ النَّجَاة عليهما، ولا فلاح لمن أَخَلَّ بهما. الصفة الثالثة، والرابعة: الخَوْضُ بالباطل، والتكذيبُ بالحقِّ. فاجتمع لهم: عدمُ الإخلاصِ والإحسانِ، والخوضُ بالباطل، والتكذيبُ بالحقِّ. واجتمع لأصحاب اليمين: الإخلاصُ، والإحسانُ، والتصديقُ بالحقِّ، والتكلُّمُ به، فاستقام إخلاصُهم، وإحسانُهم، ويقينُهم، وكلامُهم. واستبدل أصحابُ الشِّمال بالإخلاص شركًا، وبالإحسانِ إساءةً، وباليقينِ شَكًّا وتكذيبًا، وبالكلام النافع خوضًا في الباطل. فلذلك لم تنفعهم شفاعة الشافعين، أي: لم يكن لهم (¬1) من يشفع فيهم، لا أنَّ شَفَاعةً تقع فيهم ولا تنفع، وهذا لمَّا أعرضوا عن التذكرة ولم يرفعوا بها رأسًا، وجَفَلُوا عن سماعها كما تَجْفُلُ حُمُرُ الوَحْشِ من الأُسْدِ أو الرُّمَاةِ. ثُمَّ خَتَمَ السورة بأَنَّه جَمَعَ فيها بين شرعِهِ وقَدَرِهِ، وإقامةِ الحُجَّةِ عليهم بإثباتِ المشيئةِ لهم، وبيانِ مقتضى التوحيد والربوبية أنَّ ذلك إليه ¬
لا إليهم. فالأوَّل: عدْلُهُ، والثاني: فضْلُهُ. فالأوَّلُ: يوجب السعيَ، والطَّلَبَ، والحرصَ على ما يُنْجِيهم، كما يفعلون ذلك في مصالح دنياهم، بل أشدُّ. والثاني: يوجب الاستعانة، والتوكُّل، والتفويض، والرغبة إلى مَنْ ذلك بيده لِيُسَهِّلَه، ويوفِّقَهم له. والله المستعان، وعليه التكلان.
فصل: القسم في سورة الحاقة
فصل ومن ذلك قوله تعالى: {فَلَا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ (38) وَمَا لَا تُبْصِرُونَ (39) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (40)} [الحاقة: 38 - 40] إلى آخرها. قال مقاتل: "بما تبصرون (¬1) من الخلق، وما لا تبصرون منه " (¬2). وقال قتادة: "أَقْسَمَ بالأشياءِ كلِّها؛ ما يُبْصَرُ منها، وما لا يُبْصَر". وقال الكلبي: "ما تبصرون من شيءٍ، وما لا تبصرون من شئٍ" (¬3). وهذا أَعَمُّ قَسَمٍ وقع في القرآن، فإنَّه يَعُمُّ العُلْوِيَّات والسُّفْلِيَّات، والدنيا والآخرة، وما يُرَى وما لا يُرَى، ويدخل في ذلك الملائكةُ كلُّهم، والجِنُّ، والإنسُ، والعرشُ، والكرسيُّ، وكلُّ مخلوقٍ، وذلك كلُّه من آيات قدرته وربوبيته، وهو -سبحانه- يصرِّفُ الأقسام كما يصرِّفُ الآيات. ففي ضمن هذا القَسَم أنَّ كلَّ ما يُرَى وما لا يُرَى آيةٌ ودليلٌ على صدق رسوله، وأنَّ ما جاء به هو من عند الله، وهو كلامُهُ، لا كلامُ شاعرٍ، ولا مجنونٍ، ولا كاهنٍ. ومن تأمَّلَ المخلوقاتِ، ما يراه منها وما لا يراه، واعتبر ما جاء به الرسول بها، ونَفَّلَ فكرته في مجاري الخلق والأمر = ظَهَرَ له أنَّ ¬
هذا القرآنَ من عند الله، وأنَّه كلامه (¬1)، وهو أصدق الكلام، وأنَّه حقٌّ ثابتٌ، كما أنَّ سائر الموجودات (¬2) -ما يُرَى منها وما لا يُرَى- حقٌّ، كما قالَ تعالى: {فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ (23)} [الذاريات: 23]، أي: إنْ كان نُطْقُكُم حقيقةً، وهو أمرٌ موجودٌ لا تُمَارُون فيه ولا تشكُّون؛ فهكذا ما أخبرتكم به من التوحيد، والمَعَاد، والنُّبوَّة: حَقٌّ، كما في الحديث: "إنَّهُ لَحَقٌّ مثلَ ما (¬3) أنَّكَ هاهُنا" (¬4). فكأنَّه -سبحانه- يقول: إنَّ القرآنَ حقٌّ كما أنَّ ما شاهدوه من الخلق وما لا يشاهدونه حقٌّ موجودٌ، بل لو فكَّرتُم فيما تبصرون وفيما لا تبصرون لدلَّكم ذلك على أنَّ القرآنَ حقٌّ، ويكفي الإنسانَ من جميع ما يبصره وما لا يبصره نفسُهُ، ومبدأُ خَلْقِه ونشأته، وما يشاهده من أحواله ظاهرًا وباطنًا، ففي ذلك أَبْيَنُ دلالةٍ على وحدانية الرَّبِّ، وثبوت صفاته، ¬
بيان المقسم عليه في السورة
وصدق ما أخبر به رسوله - صلى الله عليه وسلم -، ومَنْ لم يباشر قلبُهُ ذلك حقيقةً لم تخالط بشاشة الإيمان قلبَهُ. ثُمَّ ذكر -سبحانه- المُقْسَمَ عليه فقال: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (40)} [الحاقة: 40]، وهذا رسوله البَشَرىُّ محمدٌ - صلى الله عليه وسلم -، وفي إضافته إليه باسم الرسالة أَبْيَنُ دَلاَلَةٍ (¬1) أنَّه كلام المُرْسِل له حقيقةً، وكلام رسوله تبليغًا؛ إذ حقيقة الرسول مَنْ يُبلِّغ كلام المرسِل، فمن أنكر أن يكون اللهُ قد تكلَّم بالقرآن فقد أنكر حقيقة الرسالة. ولو كانت إضافته إليه إضافةَ إنشاءٍ وابتداءٍ لم يكن رسولاً، ولَنَاقَضَ ذلك إضافته إلى رسوله المَلَكي في "سورة التكوير". ثُمَّ بيَّن -سبحانه- كَذِبَ أعدائه وبَهْتَهم في نسبة كلامه -تعالى (¬2) - إلى غيره، وأنَّه لم يتكلَّم به، بل قاله من تلقاء نفسه، كما بيَّنَ كذِبَ من قال: {إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ (25)} [المدثر: 25]، فمن زعم أنَّه قول البشر فقد كفر، وسيصليه الله سقر. ثُمَّ أخبر -سبحانه- أنَّه تنزيلٌ من ربِّ العالمين، وذلك يتضمَّن أمورًا: أحدها: أنَّه -تعالى- فوق خلقه كلِّهم، وأنَّ القرآن نَزَلَ من عنده. والثاني: أنَّه كلامه (¬3) تكلَّمَ به حقيقةً، لقوله: {مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (80)} [الواقعة: 80]، ولو كان غيره هو المتكلِّمُ به لكان من ذلك ¬
الغير. ونظير هذا قوله تعالى: {وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي} [السجدة: 13]، ونظيره قوله: {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ} [النحل: 102]، ونظيره قوله تعالى: {تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (1)} [الزمر: 1]، وقوله: {تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ (42)} [فصلت: 42]؛ وما كان من الله فليس بمخلوقٍ. ولا ينتقضُ هذا بأنَّ الرِّزْقَ والمطر وما في السماوات والأرض جميعًا منه، وهو مخلوقٌ؛ لأنَّ ذلك كلَّه أعيانٌ قائمةٌ بأنفسها، وصفاتٌ وأفعالٌ لتلك الأعيان، فإضافتها إلى الله -سبحانه- وأنَّها منه إضافةَ خَلْقٍ، كإضافة بيته، وعبده، وناقته، وروحه، وبابه إليه، بخلاف كلامه فإنَّه لابدَّ أن يقوم بمتكلِّم؛ إذ كلامٌ من غير متكلِّمٍ كَسَمْعٍ من غير سامعٍ، وبصرٍ من غير مُبْصِرٍ، وذلك عينُ المُحَال، فإذا أُضِيف إلى الرَّبِّ كان بمنزلة إضافة سمعه، وبصره، وحياته، وقدرته، وعلمه، ومشيئته إليه. ومن زعم أنَّ هذه إضافة مخلوقٍ إلى خالقٍ فقد زعم أنَّ الله -تعالى- لا سمعَ له، ولا بصرَ، ولا حياةَ، ولا قُدْرةَ، ولا مشيئة تقوم به، وهذا هو التعطيل الذي هو شرٌّ من الإشراك. وإن زعم أنَّ إضافةَ السمع، والبصرِ، والعلم، والحياةِ، والقدرةِ إضافةُ صفةٍ إلى موصوف، وإضافَةَ الكلام إليه إضافةُ مخلوقٍ إلى خالق = فقد تناقض وخَرَج عن مُوجب العقل، والفطرة، والشرع، ولغات الأُمم، وفَرَّقَ (¬1) بين متماثلين حقيقَةً، وعقلاً، وشرعًا، وفطرةً، ولغةً. وتأمَّلْ كيف أضافه -سبحانه- إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - بلفظ "القول"، ¬
فصل: الأمر الثالث مما تضمنه قوله تعالى: {تنزيل من رب العالمين}
وأضافه إلى نفسه (¬1) بلفظ "الكلام" في قوله -عزَّ وجلَّ-: {حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ} [التوبة: 6]، فإنَّ الرسول يقول للمُرْسَلِ إليه ما أُمِرَ بقوله، فيقول: قلتُ له كذا وكذا، وقلتُ له ما أمرتني أن أقوله، كما قال المسيح: {مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ} [المائدة: 117]، والمُرْسِلُ يقول للرسول: قُلْ لهم كذا وكذا، كما قال سبحانه وتعالى: {قُلْ لِعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلَاةَ} [إبراهيم: 31]، {وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [الإسراء: 53]، {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ} [النور: 30]، ونظائره. فإذا بلَّغَ الرسولُ ذلك صحَّ أن يقال: قال الرسول كذا وكذا، وهذا قول الرسول- أي: قاله مبلِّغًا-، وهذا قوله مبلِّغًا عن مُرْسِلِهِ. ولم يجئ في شيءٍ من ذلك: (تَكلَّمْ لهم بكذا وكذا)، ولا (تكلَّمَ الرسولُ بكذا وكذا)، ولا (إنَّه لكَلاَمُ رسولٍ كريمٍ)، ولا في موضعٍ واحدٍ، بل قيل للصدِّيق -وقد تَلاَ آيةً-: هذا كلامُك وكلامُ صاحِبِك، فقال: "ليس بكلامي، ولا كلام صاحبي؛ هذا كلام الله" (¬2). فصل الأمر الثالث- ممَّا تضمَّنَهُ قولُه: {تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (80)} [الواقعة: 80]-: أنَّ ربوبيته الكاملة لخلقه تأبى أن يتركهم سُدَىً: لا يأمرهم، ولا ينهاهم، ولا يرشدهم إلى ما ينفعهم، ويحذِّرُهم ممَّا ¬
تحليل المؤلف للبرهان القاطع الدال على صدق الرسول - صلى الله عليه وسلم -
يضرُّهم، بل يتركهم هَمَلاً بمنزلة الأنعام السائمة. فمن زعم ذلك فلم يَقْدر ربَّ العالمين حَقَّ قدره، ونَسَبَهُ إلى ما لا يليق به؛ {فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ (116)} [المؤمنون: 116]. ثُم أقام -سبحانه- البرهانَ القاطِعَ على صدق رسوله - صلى الله عليه وسلم -، وأنَّه لم يتقوَّلْ عليه فيما قاله، وأنَّه لو تقوَّلَ عليه لَمَا أقرَّهُ، ولَعَاجَلَهُ بالإهلاك، فإنَّ كمال علمه وقدرته وحكمته تأبى أن يُقِرَّ من تقوَّلَ عليه، وافترى عليه، وأضلَّ عبادَهُ، واستباحَ دماءَ من كذَّبَهُ، وحريمَهم وأموالَهم، وأظهرَ في الأرض الفسادَ والجَوْرَ والكذبَ وخلافَ الحقِّ، فكيف يليق بأحكم الحاكمين وأرحم الراحمين وأقدر القادرين أن يُقِرَّهُ على ذلك؟ بل كيف يليق به أنْ يؤيِّدَهُ، ويَنْصُرَهُ، ويُعْلِيَهُ، ويُظْهِرَهُ، ويُظْفِرَهُ بأهل الحقِّ: يسفك دماءهم، ويستبيح أموالَهم وأولادَهم ونساءَهم، قائلاً: إنَّ اللهَ أمرني بذلك وأباحَهُ لي؟! بل كيف يليق به أن يُصَدِّقَهُ بأنواع التصديق كلِّها، فَيُصَدِّقَهُ بإقراره، وبالآياتِ المستلزِمة لصدقه التي دلالتها على التصديق كدلالة التصديق بالقول أو أظهر، ثُمَّ يُصَدِّقَهُ بأنواعها كلِّها على اختلافها، فكلُّ آيةٍ على انفرادها مصدِّقةٌ له، ثُمَّ يحصلُ باجتماع تلك الآيات تصديقٌ فوقَ تصديقِ كلِّ آيةٍ بمفردها، ثُمَّ يُعْجِزُ الخَلْقَ عن معارضته، ثُمَّ يصدِّقُه بكلامه وقوله، ثُمَّ يقيمُ الدلالة القاطعة على أنَّ هذا قوله وكلامه، فيشهد له بإقراره وفعله وقوله. فمن أعظم المُحَال، وأبطل الباطل، وأَبْيَنِ البهتان؛ أن يُجَوَّزَ على أحكم الحاكمين وربِّ العالمين أن يفعل ذلك بالكاذب المفتري عليه، الذي هو شرُّ الخلق على الإطلاق، فمن جوَّزَ على الله أن يفعل هذا بِشَرِّ
مناظرة المؤلف مع بعض علماء اليهود
خلقه وأكذبهم على الإطلاق (¬1)؛ فما آمن بالله قَطُّ (¬2)، ولا عَرَفَ اللهَ، ولا عَلِمَ أنَّه (¬3) ربُّ العالمين، ولا تحسن (¬4) نِسْبَةُ ذلك إلى من له مُسْكَةٌ من عقلٍ، وحكمةٍ، وحِجىً، ومن فعل ذلك فقد أَزْرَى بنفسه، ونادى على جهله. وأذكر في هذا مناظرةً جَرَتْ لي مع بعض علماء اليهود (¬5)، قلت له - بعد أن أَفَضْنَا (¬6) في نبوَّة النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - إلى أن قلت له: إنكارُ نبوَّتهِ يتضمَّنُ القَدْحَ في ربِّ العالمين، وتنقُّصَهُ بأقبح التنقُّصِ، فكان الكلام معكم في الرسول، والكلام الآن في تنزيه الرَّبِّ تعالى! فقال: كيف يقول مثلُك هذا الكلام؟ فقلتُ له: بيانُه عليَّ، فاسمع الآن: أنتم تزعمون أنَّه لم يكن رسولاً وإنَّما كان مَلِكًا قاهرًا، قَهَر النَّاسَ بسيفه حتَّى دَانُوا له، ومكث ثلاثًا وعشرين سنةً يكذب على الله ويقول: أُوحي إلىَّ (¬7) ولم يُوحَ إليه شيءٌ (¬8)، وأمرني ولم يَأْمُرْه بشيءٍ (¬9)، ونَهَاني ¬
ولم يَنْهَهُ، وقال الله كذا ولم يقل ذلك، وأحلَّ كذا، وحرَّمَ كذا، وأوجب كذا، وكره كذا، ولم يُحِلَّ ذلك، ولا حرَّمه، ولا أوجبه، بل هو (¬1) فعل ذلك من تلقاء نفسه كاذبًا مفتريًا على الله، وعلى أنبيائه، وعلى رسله، وعلى (¬2) ملائكته، ثُمَّ مكث من ذلك ثلاثَ عشرة سنةً يَسْتَعْرِضُ عبادَهُ: يسفك دماءهم، ويأخذ أموالَهم، ويسترقُّ نساءَهم وأبناءهم، ولا ذنب لهم إلا الردُّ عليه ومخالفَتُهُ، وهو في ذلك كلِّه يقول: الله أمرني بذلك، ولم يأمره، ومع ذلك فهو سَاعٍ في تبديلِ أديان الرسُل، ونَسْخِ شرائعهم، وحَلِّ نواميسهم. فهذه حاله عندكم، فلا يخلو: إمَّا أن يكون الرَّبُّ -تعالى- عالمًا بذلك مطَّلِعًا عليه من حاله، يراه ويشاهده، أم لا. فإن قلتم: إنَّ ذلك جميعه غائبٌ عن الله لم يعلم به = قَدَحْتُم في الرَّبِّ تعالى، ونسبتموه إلى الجهل المفرِط، إذ لم (¬3) يطَّلع على هذا الحادث العظيم، ولا عَلِمَهُ (¬4)، ولا رآه. وإن قلتم: بل كان ذلك كلُّه (¬5) بعلمه واطِّلاَعه ومشاهدته، قيل لكم: فهل كان قادرًا على أن يُغَيِّر ذلك، ويأخُذَ على يده، ويَحُولَ بينه وبينه أم لا؟ فإن قلتم: ليس قادرًا على ذلك؛ نسبتموه إلى العجز المنافي للربوبية، وكان هذا الإنسان هو وأتباعه أقدر منه على تنفيذ إراداتهم. ¬
وإن قلتم: بل كان قادرًا، ولكن مكَّنَهُ، ونَصَرَهُ، وسلَّطَهُ على الخلق، ولم ينصر أولياءه وأتباع رُسُلِه = نسبتموه إلى أعظم السَّفَهِ والظلم، والإخلال بالحكمة؛ هذا لو كان مُخْلِيًا بينه وبين ما فعله، فكيف وهو في ذلك كلِّه ناصِرُهُ ومُؤَيدُهُ، ومجيبُ دعواته، ومهلِكُ مَنْ خالفه وكذَّبه، ومصدِّقُهُ بأنواع التصديق، ومُظْهِرُ الآيات على يديه؛ التي لو اجتمع أهل الأرض كلُّهم على أن يأتوا بواحدةٍ منها لما أمكنهم، ولعجزوا عن ذلك، وكلُّ وقتٍ من الأوقات يُحْدِثُ له من أسباب النصر، والتمكين، والظهور، والعُلُوِّ، وكثرة الأتباع أمرًا خارجًا عن العادة. فظهر أنَّ من أنكر كونه رسولاً نبيًّا فقد سبَّ اللهَ -تعالى- وقَدَح فيه، ونسبه إلى الجهل، أو العجز، أو السَّفَه (¬1). قلت له: ولا ينتقِضُ هذا بالملوك الظَّلَمة الذين مكَّنهم في الأرض وقتًا ما، ثُمَّ قطَعَ دابرهم، وأبطلَ سُنَّتَهم، ومحا آثارهم وجَوْرَهم، فإنَّ أولئك لم يُبْدُوا شيئًا من ذلك ولم يُعيدوا (¬2)، ولا أُيِّدُوا ونُصِرُوا (¬3)، ولا (¬4) ظهرت على أيديهم الآيات، ولا صدَّقَهم الرَّبُّ -تعالى- بإقراره، ولا بفعله، ولا بقوله، بل أَمْرُهُم كان بالضدِّ من أمر الرسول، كـ: فرعونَ، ونَمْرُودَ وأضرابِهما. ولا ينتقض هذا بمن ادَّعى النُّبوَّة من الكذَّابين؛ فإنَّ حالَهُ كانت (¬5) ضِدُّ ¬
وجود الكذابين من أظهر الأدلة على صدق الرسول - صلى الله عليه وسلم -
حال الرسول من كلِّ وجهٍ، بل حالهم من أظهر الأدلَّة على صدق الرسول. ومن حكمة الله -سبحانه- أن أخرج مثل هؤلاء إلى الوجود لِيُعْلَم حالُ الكذَّابين وحالُ الصادقين، وكان ظهورهم من أَبْيَنِ الأدلَّة على صدقِ الرُّسُل، والفرقِ بين هؤلاء وبينهم، "فبضِدِّها تَتَبيَّنُ الأشياءُ" (¬1)، "والضدُّ يُظْهِرُ حُسْنَهُ الضدُّ" (¬2)، فمعرفة أدلَّةِ البَاطل وشُبَهِهِ من أنواع أدلَّة الحقِّ وبراهينه. فلمَّا سمع ذلك قال: معاذَ الله؛ لا نقول إنَّه مَلِكٌ ظالِمٌ، بل نبيٌّ كريمٌ، من اتَّبعه فهو من السعداء، وكذلك من اتَّبع موسى فهو كمن اتَّبع محمدًا! قلتُ له: بَطَلَ كلُّ ما تُمَوِّهُون به بعد هذا (¬3)؛ فإنكم إذا أقررتُم أنَّه نبىٌّ صادِقٌ؛ فلابدَّ من تصديقه في جميع ما أخبر به، وقد عَلِمَ أتباعُهُ وأعداؤُهُ -بالضرورة- أنَّه دعا النَّاس كلَّهم إلى الإيمان به، وأخبر أنَّ مَنْ لم يؤمن به فهو كافرٌ مخلَّدٌ في النَّار، وقاتَلَ من لم يؤمن به من أهل الكتاب، وأَسْجَلَ (¬4) عليهم بالكفر، واستباح أموالهم ودماءهم ونساءهم ¬
وأبناءهم. فإن كان ذلك عُدْوانًا منه وجَوْرًا لم يكن نبيًّا، وعاد الأمر إلى القَدْحِ في الرَّبِّ تعالى، وإن كان ذلك بأمر الله ووحيه لم تَسَعْ مخالفتُه، وتَرْكُ اتِّباعه، ولَزِمَ تصديقُه فيما أخبر به، وطاعتُه فيما أمر. وقد أرشد -سبحانه- إلى هذا المَسْلَك في غير موضعٍ من كتابه: فقال (¬1) تعالى: {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ (44) لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (45) ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ (46) فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ (47)} [الحاقة: 44 - 47]، يقول سبحانه: لو تقوَّلَ علينا قولاً واحدًا من تلقاء نفسه لم نَقُلْهُ، ولم نُوحِهِ إليه؛ لَمَا أقررناه، وَلأخَذْنا بيمينه، ثُمَّ أهلكناه. هذا أحد القولين. قال ابن قتيبة: "في هذا قولان: أحدهما: أنَّ "اليمينَ" هاهنا: القوَّةُ والقدرةُ، وأقام "اليمين" مقام القوَّة؛ لأنَّ قوَّة كلِّ شيءٍ في ميامنه". قلتُ: وعلى هذا تكون "اليمين" من صفة الآخِذِ. قال: "وهذا قول ابن عباس في اليمين". قال: "ولأهل اللغة في هذا مذهبٌ آخر، وهو أنَّ الكلامَ وَرَدَ على ما اعتاده النَّاسُ من الأخذ بيد من يُعَاقَب، وهو قولهم إذا أرادوا عقوبةَ رَجُلٍ: "خُذْ بيده"، وأكثر ما يقوله السلطان والحاكم بعد وجوب الحكم: خُذْ بيده، واسْفَعْ بيده (¬2). فكأنَّهُ قال: لو كَذَبَ علينا في شيءٍ ¬
تفسير قوله تعالى: {ثم لقطعنا منه الوتين}
ممَّا يُلْقِيه إليكم عَنَّا؛ لأخَذْنا بيده، ثُمَّ عاقبناه بقطع "الوتين"، وإلى هذا المعنى ذهب الحسن" (¬1) انتهى. فقد أخبر -سبحانه- أنَّه لو تقوَّلَ عليه شيئًا من الأقاويل لما أقرَّهُ، وَلَعَاجَله بالأخْذِ والعقوبة، فإنَّ كَذِبًا على الله ليس كَكَذِبٍ على غيره، ولا يليق به أن يُقِرَّ الكاذب عليه، فضلاً عن أن ينصرَهُ ويؤيدَهُ ويصدِّقَهُ. وقوله تعالى: {ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ (46)} [الحاقة: 46]؛ ""الوَتيْنُ": نِيَاطُ القلب؛ وهو عِرْقٌ يجري في الظَّهْر حتَّى يتصل بالقلب، إذا انقطع بَطَلَت القُوَى، ومات صاحبه" (¬2). هذا قول جميع أهل اللغة (¬3). قال ابن قتيبة: "ولم يُرِدْ أنَّا نقطع ذلك العرقَ بعينه، ولكنه أراد لو كذب علينا لأمتناه أو قتلناه، فكان كمن قُطِعَ وَتينُهُ. قال: ومثله قول - صلى الله عليه وسلم -: "ما زالت أكلةُ خيبر تُعَادُّني، وهذا أوَانُ انقطاع (¬4) أبْهَري" (¬5). ¬
اختلاف المفسرين في المراد بقوله تعالى: {فإن يشاء الله يختم على قلبك}
و"الأَبْهَر": عِرْقٌ يتصل بالقلب فإذا انقطع مات صاحبه (¬1)، فكأنَّه قال: فهذا أَوَانُ قَتَلَني السَّمُّ، فكنتُ كَمَنْ انقطع أبْهَرُهُ" (¬2). ثُمَّ قال سبحانه: {فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ (47)} [الحاقة: 47] أي: لا يحجزه منِّي أحدٌ، ولا يمنعه منِّي. الموضع الثاني: قوله تعالى: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَإِنْ يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (24)} [الشورى: 24] وفي معنى الآية للنَّاس قولان: أحدهما: قول مجاهد ومقاتل (¬3): "إن يشأ الله يربط على قلبك بالصبر على أذاهم، حتَّى لا يشقَّ عليك" (¬4). والثاني: قول قتادة: "إنْ يشأ الله يُنْسيكَ القرآنَ، ويقطع عنك الوحي" (¬5). وهذا هو القولُ، دون الأوَّل؛ لوجوه: أحدها: أنَّ هذا خرج جوابًا لهم، وتكذيبًا لقولهم: إنَّ محمدًا ¬
كَذَب على الله، وافترى عليه هذا القرآن، فأجابهم بأحسن جوابٍ، وهو أنَّ الله -سبحانه- قادرٌ لا يعجزه شيءٌ، فلو كان كما تقولون لختم على قلبه، فلا يمكنه أن يأتي بشيءٍ منه، بل يصير القلب كالشيء المختوم عليه فلا يُوصَل إلى ما فيه، فيعود المعنى إلى أنَّه: لو افتراهُ عليَّ لم أُمَكِّنْهُ، ولم أُقِرَّه. ومعلومٌ أنَّ مثل هذا الكلام لا يصدر من قلبٍ مختومٍ عليه؛ فإنَّ فيه من علوم الأوَّلين والآخرين، وعلمِ المبدأ والمعَاد، والدنيا والآخرة، والعلمِ الَّذي لا يعلمه إلا الله، والبيانِ التامِّ (¬1)، والجَزَالةِ، والفصاحةِ، والجلالةِ، والإخبارِ بالغيوب = ما لا يمكن مَنْ خُتِمَ على قلبه أن يأتي بمثله (¬2) ولا ببعضه، فلولا أنِّي أنزلتُهُ على قلبه، ويَشَرْتُه بلسانه؛ لَمَا أَمْكَنَهُ أن يأتيكم بشيءٍ منه. فأين هذا (¬3) المعنى إلى المعنى الذي ذكره الآخرون؟! وكيف يلتئم معنى حكاية قولهم؟! وكيف يتضمَّنُ الردَّ عليهم؟! الوجه الثاني: أنَّ مجرَّدَ الرَّبْطِ على قلبه بالصبر على أذاهم يصدر من المُحِقِّ والمُبْطِل، فلا يدلُّ ذلك على التمييز بينهما، ولا يكون فيه رَدٌّ لقولهم، فإنَّ الصبر على أذى المكذِّب لا يدلُّ بمجرده على صِدْقِ المُخْبِرِ. الثالث: أن الرَّبْطَ على قلب العبد بالصبر لا يقال له: خُتِمَ على قلبه، ولا يعرف هذا في عُرْفِ المخاطب، ولا لغة العرب، ولا هو ¬
المعهود في القرآن، بل المعهود استعمال الختم على القلب في شأن الكفار في جميع موارد اللفظة في القرآن كقوله تعالى: {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ} (¬1) [البقرة: 7]، وقوله تعالى: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً} [الجاثية: 23] ونظائره. وأمَّا ربطه على قلب العبد بالصبر فكقوله تعالى: {وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [الكهف: 14]، وقوله تعالى: {وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلَا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا} [القصص: 10]، والإنسان يَسُوغُ له في الدعاء أن يقول: اللهم اربِطْ على قلبي، ولا يحسن أن يقول: اللهم اختِمْ على قلبي. الرابع: أنَّه -سبحانه- حيث يحكي قولهم "أنَّه افتراه" لا يجيبهم على هذا الجواب، بل يجيبهم بأنَّه لو افتراه لم يملكوا له من الله شيئًا، بل كان يأخذه ولا يقدرون على تخليصه منه (¬2)، كقوله تعالى: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلَا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئًا} [الأحقاف: 8]، وتارة يجيبهم بالمطالبة بمعارضته بمثله أو شيءٍ منه، وتارة بإقامة الأدلَّة القاطعة على أنَّه الحقُّ، وأنَّهم هم الكاذبون المفترون، وهذا هو الذي يحسن في جواب هذا (¬3) السؤال لا مجرَّدُ الصبر. الخامس: أنَّ هذه الآية نظيرُ ما نحن فيه، وأنَّه لو شاء لما أَقَرَّهُ ولا مَكَّنَهُ، وتفسير القرآن بالقرآن من أبلغ التفاسير. ¬
السادس: أنَّه لا دلالة في سياق الآية على الصبر بوجهٍ ما: لا بالمطابقة؛ ولا التضمُّنِ، ولا اللُّزُومِ. فمن أين يُعْلَم أنَّه أراد ذلك، ولم يتم (¬1) هذا المعنى في غير هذا الموضع فيحمل عليه، بخلاف كونه يحولُ بينه وبينه، ولا يُمَكِّنُهُ من الافتراء عليه، فقد ذكره في مواضع. السابع: أنَّه -سبحانه- أخبر أنَّه لو شاء لما تَلاَهُ عليهم، ولا أدراهم به، وأنَّ ذلك إنَّما هو بمشيئته وإذنه وعلمه؛ كما قال تعالى: {قُلْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلَا أَدْرَاكُمْ بِهِ} [يونس: 16]، وهذا من أبلغ الحجج وأظهرها، أي: هذا الكلام ليس من قِبَلِي، ولا من عندي، ولا أقدر أن أفتريه على الله، ولو كان ذلك مقدورًا لي لكان مقدورًا لمن هو من أهل العلم، والكتابة، ومخالطة النَّاس، والتعلُّم منهم (¬2)، ولكنَّ الله بعثني به، ولو شاء -سبحانه- لم يُنْزِله ولم ييسِّرْهُ بلساني، فلم يَدَعْني أتلوه عليكم، ولا أُعْلِمُكم به أَلْبَتَّةَ؛ لا على لساني، ولا على لسان غيري، ولكنه أَوْحَاهُ إليَّ وأذِنَ لي في تلاوته عليكم، وأدراكم به بعد أن لم تكونوا دَارِينَ به، فلو كان كذبًا وافتراءً على الله -كما تقولون- لأمكن غيري أن يتلوه عليكم وتَدْرُون به من جهته؛ لأنَّ الكذب لا يعجز عنه البشر، وأنتم لم تَدْرُوا بهذا ولم تسمعوه إلا منِّى، ولم تسمعوه من بشرٍ غيري. ثُمَّ أجاب عن سؤالٍ مقدَّرٍ (¬3) -وهو أنَّه تعلَّمَهُ من غيره أو افتراه من تلقاء نفسه- فقال: {فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ} [يونس: 16] ¬
تعلمون حالي، ولا يخفى عليكم سَيري، ومدخلي، ومخرجي، وصِدْقي، وأمانتي. ومِنْ هذا لم أتمكَّنْ من قول شيءٍ منه أَلْبَتَّةَ، ولا كان لي عِلْمٌ به، ولا ببعضه، ثُمَّ أتيتُكُم به وَهْلَةً (¬1) من غير تَعَمُّلٍ، ولا تعلُّمٍ، ولا معاناةٍ للأسباب التي أتمكَّنُ بها منه، ولا من بعضه. وهذا من أظهر الأدلَّة وأَبْيَن البراهين أنَّه من عند الله، أَوْحَاهُ إلىَّ وأنزله عليَّ. فلو شاء ما فعل، فلم يُمَكِّنِّي من تلاوته، ولا مَكَّنَكُم من العلم به، بل مكَّنَنِي من تلاوته، ومكَّنَكُم من العلم به (¬2)، فلم تكونوا عالمين به ولا ببعضه، ولم أَكُن قَبْلَ أن يُوحَى إليَّ تاليًا له، ولا لبعضه. فتأمَّلْ صحَّةَ هذا الدليل، وحُسْنَ تأليفه، وظهورَ دلالته. ومن هذا قوله سبحانه: {وَلَئِنْ شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنَا وَكِيلًا (86)} [الإسراء: 86]، وهذا هو المناسب لقوله تعالى: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَإِنْ يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ} [الشورى: 24]، ولقوله تعالى: {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ (44) لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (45)} [الحاقة: 44 - 45]، فهو برهانٌ مستقِلٌّ مذكورٌ في القرآن على وجوهٍ متعدِّدةٍ، والله أعلم. الثامن: أنَّ مثل هذا التركيب إنَّما جاء في القرآن للنَّفْي لا للإثبات، كقوله تعالى: {وَلَئِنْ شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ} [الإسراء: 86]، ¬
وقوله -عزَّ وجلَّ-: {إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ} [النساء: 133]، وقوله تعالى: {إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ} [الشورى: 33]، وقوله تعالى: {إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ} [سبأ: 9] ونظائره؛ لم يأْتِ إلا فيما كان ما بعد فعل المشيئة مَنْفِيًّا. التاسع: أنَّ الخَتْمَ على القلب لا يستلزم الصبر، بل قد يَخْتِمُ على قلب العبد ويَسْلُبُه صَبْرَهُ، بل إذا خَتَم على القلب زال الصبر وضَعُفَ، بخلاف الرَّبْطِ على القلب فإنَّه يستلزم الصبر، كما قال تعالى: {وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدَامَ (11)} [الأنفال: 11]. ومعنى "الرَّبْط" في اللغة: الشَدُّ. ولهذا يقال لكلِّ من صبر على أمرٍ: رَبَطَ قَلْبَهُ، كأنَّه حَبَسَ قلبه عن (¬1) الاضطراب. ومنه يقال: هو رابط الجَأْش (¬2). وقد ظنَّ الواحديُّ (¬3) أنَّ "على" زائدةٌ، والمعنى: يربط قلوبكم! وليس كما ظَنَّ؛ بل بين ربط الشيء والربط عليه فرقٌ ظاهرٌ، فإنَّه يقال: رَبَطَ الفَرَسَ والدَّابَّةَ، ولا يقال: رَبَطَ عليها. فإذا أحاط الرباطُ بالشيء وعَمَّهُ كُلَّه (¬4) قيل: رَبَطَ عليه؛ كأنَّه أحاط عليه بالرباطِ، فلهذا قيل: رَبَطَ على قلبه، وكان أحسن من أن يقال: رَبَطَ قلبه. ¬
معنى أن القرآن تذكرة للمتقين
والمقصود أنَّ هذا الرَّبْطَ معه يكون الصبر أشدَّ وأثبتَ، بخلاف الخَتْم. العاشر: أنَّ "الخَتْمَ" هو: شَدُّ القلب حتَّى لا يشعر ولا يفهم، فهو مانعٌ يمنع العلم والتصديق، والنبىُّ - صلى الله عليه وسلم - كان يعلم قول أعدائه: إنَّه افترى القرآن، ويشعر به، فلم يجعل الله على قلبه مانعًا من شعوره بذلك، وعلمه به. فإنْ قيل: الأمرُ كذلك، ولكن جعل الله على قلبه مانعًا من التّأَذِّي بقولهم. قيل: هذا أَوْلَى أن لا يسمَّى خَتْمًا، وقد كان (¬1) يُؤذِيه قولُهم ويُحزِنُه، كما قال تعالى: {قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ} [الأنعام: 33]، وكان وصول هذا الأذى إليه من كرامة الله له، فإنَّه لم يُؤذَ نبيٌّ ما أُوذِيَ. فالقول في الآية هو قول قتادة. والله أعلم. ثُمَّ أخبر -سبحانه- أنَّ القرآنَ تذكرةٌ للمتقين؛ يتذكَّرُ به المتَّقي، فيُبصِرُ ما ينفعه فيأتيه (¬2)، وما يَضُرُّه فيجتنبه، ويتذكَّرُ به أسماء الرَّبِّ -تعالى- وصفاتِه وأفعالَه فيُؤمِنُ، ويتذكَّرُ به ثوابَهُ، وعقابَهُ، ووعْدَهُ (¬3)، ووعيدَهُ، وأمره، ونهيه، وآياته في أوليائه وأعدائه ونفسه، وما يُزَكِّيها ويُطَهِّرها ويُعْلِيها، وما يُدَسِّيها ويُخْفِيها ويُحَقِّرها. ويتذكَّرُ به علم ¬
المبدأ (¬1) والمَعَاد، والجنَّة والنَّار، وعلم الخير والشَرِّ. فهو التذكرة على الحقيقة، تذكرةُ حُجَّةٍ للعالمين، ومنفعةٍ وهدايةٍ للمتعلِّمين. ثُمَّ قال سبحانه: {وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنْكُمْ مُكَذِّبِينَ (49)} [الحاقة: 49] لا يَخْفَون علينا، فَسَنُجَازِيهم (¬2) بتكذيبهم. ثُمَّ أخبر -سبحانه- أنَّ رسولَهُ وكَلاَمَهُ حسرةٌ على الكافرين، إذا عَايَنُوا حقيقة ما أَخْبَرَ به (¬3) كان تكذيبهم عليهم من أعظم الحسرات حين لا ينفعهم التحسُّرُ. وهكذا كلُّ من كذَّبَ بحقٍّ، وصدَّقَ بباطلٍ فإنَّه إذا انكشف له حقيقة ما كذَّبَ به، وصدَّقَ به؛ كان تكذيبه وتصديقه حسرةً عليه، كمن فرَّطَ فيما ينفعه وقتَ تحصيله، حتَّى إذا اشتدَّتْ حاجته إليه، وعايَنَ فوز المحصِّلين (¬4)؛ صار تفريطه حسرةً عليه. ثُمَّ أخبر -سبحانه- أنَّ القرآنَ والرسولَ "حقُّ اليقين"، فقيل: هو من باب إضافة الموصوف إلى صفته، أي: الحقُّ اليقينُ، نحو: مسجد (¬5) الجامع، وصلاة الأُولي (¬6). وهذا موضعٌ يحتاج إلى تحقيقٍ، ¬
الكلام عن مراتب اليقين الثلاثة
فنقول وبالله التوفيق: ذكر الله -سبحانه- في كتابه مراتب اليقين، وهى ثلاثةٌ: حقُّ اليقين، وعلمُ اليقين، وعينُ اليقين، كما قال تعالى: {كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ (5) لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ (6) ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ (7)} [التكاثر: 5 - 7]، فهذه ثلاث مراتب لليقين: أوَّلُها: عِلْمُهُ؛ وهو التصديقُ التامُّ به، بحيث لا يعرض له شَكٌّ ولا شبهةٌ تقدح في تصديقه، كعلم اليقين بالجَنَّة مثلاً، وتَيَقُّنِهم أنَّها دارُ المتقين ومَقَرُّ المؤمنين. فهذه مرتبة العلم؛ لِتيقُّنِهم (¬1) أنَّ الرُّسُل أخبروا (¬2) بها عن الله، وتَيَقُّنِهم صِدْق المُخْبِر. المرتبة الثانية: "عين اليقين"؛ وهي مرتبة الرؤية والمشاهدة، كما قال تعالى: {ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ (7)} [التكاثر: 7]. ¬
وبين هذه المرتبة والتي قبلها فَرْقُ ما بين العلم والمشاهدة؛ فـ"علم (¬1) اليقين" للسمع، و"عين اليقين" للبصر، وفي "المسند" للإمام أحمد مرفوعًا: "ليس الخَبر كالمُعَايَنة" (¬2). وهذه المرتبة هي التي سألها إبراهيمُ الخليلُ -عليه السلام- أنْ يُرِيَهُ اللهُ كيف يحيي الموتى؛ ليحصل له مع "علم اليقين": "عين اليقين"، فكان سؤاله زيادةً لنفسه، وطمأنينةً لقلبه، فَيَسْكُنُ القلبُ عند المعاينة، ويطمئنُّ لقطع المسافة التي بين الخبر والعِيَان. وعلى هذه المسافة أطلق النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - لفظ الشكِّ حيث قال: "نحنُ أحَقُّ بالشَكِّ من إبراهيم" (¬3)، ومعاذَ الله أن يكون هناك شكٌّ منه، ولا من ¬
إبراهيم عليهما السلام، وإنَّما هو عينٌ بعد علمٍ، وشُهُودٌ بعد خبرٍ، ومعاينةٌ بعد سماعٍ. المرتبة الثالثة: مرتبةُ "حَقِّ اليقين"؛ وهي مباشرة الشيء بالإحساس به، كما إذا دخلوا الجنَّةَ وتمتَّعُوا بما فيها. فَهُمْ في الدنيا في مرتبة "علم اليقين"، وفي الموقف حين تُزْلَفُ وتَقْرُبُ منهم حتَّى يُعَاينُوها في مرتبة "عين اليقين"، وإذا دخلوها وباشروا نعيمَها في مرتبة "حقِّ اليقين". ومباشرةُ المعلوم تارةً تكون بالحواسِّ الظاهرة، وتارةً تكون بالقلب، فلهذا قال: {وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ (51)} [الحاقة: 51]، فإنَّ القلبَ يباشِرُ الإيمانُ به ويخالِطُهُ (¬1) كما يُبَاشِرُ بالحواسِّ ما يتعلَّق بها، فحينئذٍ يُخَالِط بشاشته القلوب، ويبقى لها "حقُّ اليقين"، وهذه أعلى مراتب الإيمان وهي "الصدِّيقيَّة" التي تتفاوت (¬2) فيها مراتب المؤمنين. وقد ضرب بعض العلماء للمراتب الثلاثِ مثالاً؛ فقال: إذا قال لك مَنْ تَجْزِمُ بصِدْقِه: عندي عَسَلٌ أُرِيد أن أُطْعِمَك منه، فصدَّقْتَهُ؛ كان ذلك "علم اليقين"، فإذا أحضره بين يديك صار ذلك "عين اليقين"، فإذا ذُقْتَهُ صار ذلك "حقَّ اليقين". وعلى هذا فليست هذه الإضافة من باب إضافة الموصوف إلى ¬
نكتة نفيسة في ختمه سبحانه السورة بقوله: {فسبح باسم ربك العظيم}
صفته، بل من باب (¬1) إضافة الجنْس إلى نوعه، فإنَّ "العلمَ" و"العينَ" و"الحقَّ" أعمُّ من كونها يقينًا، فأُضيف العامُّ إلى الخاصِّ، مثل: بعض المتاع، وكُلِّ الدراهم. ولما كان المضاف والمضاف إليه في هذا الباب يَصْدُقَانِ على ذَاتٍ واحدةٍ -بخلاف قولك: دار عمروٍ، وثوب زيدٍ- ظَنَّ مَنْ ظَنَّ أنَّها من إضافة الموصوف إلى صفته؛ وليس كذلك، بل هي من باب إضافة الجنْس إلى نوعه، كـ: ثوب خَزٍّ، وخاتَمِ فضَّةٍ. فالمضاف إليه قد يكون مغَايرًا للمضاف، لا يَصْدُقانِ على ذاتٍ واحدةٍ، وقد يُجَانسه فَيَصْدُقَانِ على مسمَّىً واحدٍ، والله أعلم. ثُمَّ ختم السورة بقوله تعالى: {فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (52)} [الحاقة: 52]، وهي جديرةٌ بهذه الخاتمة، لما تضمَّنَتْهُ من الإخبار عن عظمةِ الرَّبِّ -تعالى- وجلالِهِ، وذكرِ عظمةِ مُلْكِه، وجريان حكمه بالعدل على عباده في الدنيا والآخرة، وذكر عظمته -تعالى- في إرسالِ رسوله، وإنزالِ كتابه، وأنَّه -تعالى- أعظمُ وأجَلُّ وأكبرُ عند أهل سماواته والمؤمنين من عباده من أنْ يُقِرَّ كذَّابًا مُتَقوَّلاً عليه، مفتريًا عليه، يُبدِّلُ دينَهُ، وينسخُ شرائعه، ويقتلُ عباده، ويخبِرُ عنه بما لا حقيقة له، وهو -سبحانه- مع ذلك يُؤَيِّدُه، وينصره، ويُجِيبُ دعواته، ويأخذُ أعداءه، ويرفعُ قَدْرَهُ، ويُعْلِي ذِكْرَهُ، فهو -سبحانه- العظيمُ الذي تأْبَى عظمتُهُ أنْ يفعل ذلك بمن أتى بأقبح أنواع الكذب والظلم، فسبحان ربِّنا العظيم، وتعالى عمَّا يَنْسُبُهُ إليه الجاهلون علوًّا كبيرًا. ¬
فصل: القسم في سورة المعارج
فصل ومن ذلك قوله -عزَّ وجلَّ-: {فَلَا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ إِنَّا لَقَادِرُونَ (40) عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْرًا مِنْهُمْ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (41)} [المعارج: 40 - 41]، أقسَمَ -سبحانه- بـ"رَبِّ المَشَارِقِ والمَغَارِبِ"، وهي: إمَّا مشارقُ النُّجُوم ومغارِبُها، أو مشارقُ الشمس ومغاربُها، أَو أنَّ (¬1) كُلَّ موضعٍ من الجهة مشرقٌ ومغربٌ" (¬2). فلذلك جَمَعَ في موضعٍ، وأَفْرَدَ في موضعٍ، وثنَّى في موضعٍ آخر (¬3)، فقال تعالى: {رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ (17)} [الرحمن: 17]، فقيل: هما مَشْرِقَا الصيف والشتاء (¬4). وجاء في كلِّ موضع ما يناسبه، فجاء في "سورة الرحمن": {رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ (17)}؛ لأنَّها سورةٌ ذُكِرَتْ فيها المُزْدَوِجَات، فذُكِرَ فيها الخلقُ والتعليمُ، والشمسُ والقمرُ، والنَّجْمُ والشجرُ، والسماءُ والأرضُ، والحَبُّ والثَّمَرُ، والجنُّ والإنسُ، ومادةُ أبي البشر، ومادةُ (¬5) ¬
أبي الجنِّ، والبحرين، والجنَّةُ والنَّارُ، وقسَمَ الجنَّةَ إلى: جَنَّتَين عاليتين، وجَنَّتَين دونهما، وأخبرَ أنَّ في كلِّ جنَّةٍ عَيْنَين؛ فناسب كلَّ المناسبة أن يذكر المشرقين والمغربين. وأمَّا سورة {سَأَلَ سَائِلٌ} فإنَّه أقسَمَ -سبحانه- على عمومِ قُدرته وكمالِها، وصحةِ تعلُّقِها بإعادتهم بعد العَدَم، فذكَرَ "المشارقَ" و"المغارِبَ" بلفظ الجمع؛ إذ هو أدلُّ على المُقْسَم عليه، سواءٌ أُرِيدَ مشارقُ النُّجُومِ ومغاربُها، أو مشارقُ الشمس ومغاربُها، أو كلُّ جزءٍ من جهَتَي المشرق والمغرب. فكُلُّ ذلك آيةٌ ودلالةٌ على قدرته -تعالى- عَلى أن يبدِّل أمثال هؤلاء المكذِّبين، ويُنْشِئَهم فيما لا يعلمون، فيأتي بهم في نشأةٍ أخرى، كما تأتي الشمسُ كُلَّ يومٍ من مَطْلَعٍ، وتذهبُ في مَغْرِبٍ. وأمَّا في "سورة المزَّمِّل" فذَكَرَ المشرق والمغرب بلفظ الإفراد لَمَّا كان المقصود ذكر ربوبيته ووحدانيته (¬1)، وأنَّهُ كما تفرَّدَ بربوبية المشرق والمغرب وحده فكذلك يجب أن يُفْرَدَ بالربوبيةِ والتوكُّلِ عليه وحده. فليس للمشرق والمغرب رَبٌّ سواه، فكذلك (¬2) ينبغي أن لا يُتَّخَذَ إلهٌ ولا وكيلٌ سواه، ولذلك قال موسى لفرعون حين سأله: {وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ (23)} [الشعراء: 23] فقال: {رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (28)} [الشعراء: 28]. وفي ربوبيته -سبحانه- للمشارق والمغارب تنبيهٌ على ربوبيته ¬
تفسير قوله تعالى: {على أن نبدل خيرا منهم وما نحن بمسبوقين}
السماوات وما حوته من الشمس والقمر والنُّجُوم، وربوبيته (¬1) ما بين الجهتين، وربوبيته الليلَ والنَّهارَ وما تضمَّنَاهُ. ثُمَّ قال: {إِنَّا لَقَادِرُونَ (40) عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْرًا مِنْهُمْ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (41)} [المعارج: 40 - 41]، أي: لَقَادرون على أن نذهب بهم، ونأتي بأطوَعَ لنا منهم، وخير منهم، كما قال تعالى: {إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ قَدِيرًا (133)} [النساء: 133]. وقوله تعالى: {وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (41)} , أي: لا يفوتني ذلك إذا أردتُه، ولا يمتنع منِّي. وعَبَّر عن هذا المعنى بقوله: {وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (41)}؛ لأنَّ المغلوبَ يسبقه الغالبُ إلى ما يريده فيفوت عليه، ولهذا عَدَّى بـ"على" دون "إلى"، كما في قوله: {وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (60) عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ} [الواقعة: 60 - 61]، فإنَّه لمَّا ضمَّنَهُ معنى: مغلوبين ومقهورين؛ عَدَّاهُ بـ"على"، بخلاف: سَبَقْتُه إليه، فإنَّه فَرْقٌ بين (سَبَقْتُه عليه) و (سَبَقْتُه إليه)؛ فالأوَّل بمعنى: غَلَبْتُه وقَهَرْتُه عليه، والثاني بمعنى: وصَلْتُ إليه قبله. فصل وقد وقع الإخبارُ عن قدرته -سبحانه- على تبديل غيرهم في مواضع من القرآن؛ ففي بعضها (¬2) قدرتُه على تبديلهم بخيرٍ منهم، وفي بعضها تبديل أمثالهم، وفي بعضها استبداله قومًا غيرهم ثُمَّ لا يكونوا ¬
أمثالهم. فهذه ثلاثة أمور يجب معرفة ما بينها من الجَمْع والفَرْق: فحيث وقع التبديلُ بخيرٍ منهم فهو إخبارٌ عن قدرته على أن يذهب بهم، ويأتي بأَطْوَعَ وأتقى له منهم في الدنيا. وكذلك قوله: {وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ (38)} [محمد: 38]، يعني (¬1): بل يكونوا خيرًا منكم. قال مجاهد: "يستبدل بهم من شاء من عباده فيجعَلَهُم خيرًا من هؤلاء، فلم يتولَّوا بحمد الله، ولم يستبدل بهم" (¬2). وأمَّا ذِكْرُهُ تبديلَ أمثالهم، ففي "سورة الواقعة" و"سورة الإنسان"، فقال في "سورة الواقعة": {نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (60) عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لَا تَعْلَمُونَ (61)} [الواقعة: 60 - 61]، وقال في "سُورة الإنسان": {نَحْنُ خَلَقْنَاهُمْ وَشَدَدْنَا أَسْرَهُمْ وَإِذَا شِئْنَا بَدَّلْنَا أَمْثَالَهُمْ تَبْدِيلًا (28)} [الإنسان: 28]، قال كثيرٌ من المفسِّرين: المعنى: أنَّا إذا أَرَدْنا أن نخلق خلقًا (¬3) غيركم لم يَسْبقْنَا سَابِقٌ، ولم يَفُتْنا ذلك. وفي قوله: {وَإِذَا شِئْنَا بَدَّلْنَا أَمْثَالَهُمْ تَبْدِيلًا (28)} إذا شئنا أهلكناهم، وأتيْنَا بأشباههم، فجعلناهم بَدَلاً منهم. قال المَهْدَوِيُّ (¬4): "قومًا موافقين لهم في الخَلْقِ، مخالفين لهم في ¬
العمل"، ولم يذكر الواحديُّ ولا ابنُ الجوزي (¬1) غير هذا القول. وعلى هذا فتكون هذه الآبات نظير قوله تعالى: {إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ} [النساء: 133]، فيكون استدلالُهُ (¬2) بقدرته على إذهابهم، والإتيان بأمثالهم = على إتيانه بهم أنفسِهم إذا ماتوا. ثُمَّ استدلَّ -سبحانه- بالنَّشْأَة الأُولَى، فذكَّرَهُم بها فقال تعالى: {وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولَى فَلَوْلَا تَذَكَّرُونَ (62)} [الواقعة: 62]، فَنَبَّهَهُم بما عَلِمُوه وعاينُوهُ على صدق ما أَخْبَرَتْهُم به رُسُلُه من النَّشْأَة الثانية. والذي عندي في معنى هاتين الآيتين -وهما آية "الواقعة" و"الإنسان"-؛ أنَّ المراد بتبديل أمثالهم: الخَلْقُ الجديدُ والنَّشْأةُ الآخرة التي وُعِدُوا بها (¬3). وقد وُفِّقَ الزمخشريُّ لفهم هذا من "سورة الإنسان"، فقال: "وبدَّلْنا أمثالهم في شِدَّة الأسْرِ، يعني: النَّشْأَة الأُخْرَى"، ثُمَّ قال: "وقيل: بدَّلْنا غيرَهُم ممَّن يُطِيع، وحقه أن يأتي بـ"إنْ" لا بـ"إذا"، كقوله: {وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ} (¬4). ¬
قلت: وإتيانه بـ"إذا" التي لا تكون إلا للمُحَقَّقِ الوقوعِ يدلُّ على تحققِ وقوع هذا التبديل وأنَّه واقعٌ لا محالة، وذلك هو "النَّشْأةُ الأُخْرَى" التي استدَلَّ على إمكانها بقوله: {وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولَى} , واستدلَّ على المِثْل بالمثل، وعلى ما أنكروه بما عاينوه وشاهدوه. وكونهم "أمثالهم" هو إنشاؤُهم خلقًا جديدًا بعينه، فَهُمْ هُم بأعيانهم، وهم أمثالُهم، فَهُم أنفسُهم يُعَادُون. فإذا قلتَ للمُعَادِ: هذا هو الأوَّلُ بعينه؛ صَدَقْتَ، وإن قلتَ: هو مثله؛ صَدَقْتَ. فهُو هُو (¬1) مُعَادًا، وهو مثل الأوَّل. وقد أوضح هذا -سبحانه- بقوله: {بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ (15)} [ق: 15]، فهذا الخَلْقُ الجديد هو المتضمَّنُ لكونهم أمثالهم. وقد سمَّاهُ الله -سبحانه وتعالى-: إعادةً، والمُعَاد (¬2) مثل المُبْتَدَأ، وسمَّاهُ "نَشْأَةً أخرى" وهي مثل الأُولى، وسمَّاهُ "خَلْقًا جديدًا" وهو مثل الخَلق الأوَّل كما قال تعالى: {أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ (15)} [ق: 15]، وسمَّاهُم (¬3) "أمثالاً" وَهُمْ هُمْ. فتطابقت ألفاظ القرآن، وصدَّقَ بعضُها بعضًا، وبيَّنَ بعضُها بعضًا. وبهذا تزول إشكالاتٌ أوردها من لم يفهم المَعَاد الذى أخبرت به الرُّسُل عن الله -عزَّ وجلَّ-. ولا يُفْهَمُ من هذا القول ما قاله بعض المتأخرين أنَّهم غيرُهم من كلِّ وجهٍ، فهذا خطأٌ قطعًا -مَعَاذَ اللهِ من اعتقاده-، بل هُمْ أمثالُهم، وهُمْ أعيانُهم. وإذا فُهِمَت الحقائقُ فلا يُنَاقِشُ ¬
يكثر في القرآن اقتران النشأتين تذكيرا بإحداهما على الأخرى
في العبارة إلا ضَيِّقُ العَطَنِ، صغيرُ العقل، ضعيفُ العلم. وتأمَّلْ قولَهُ -عزَّ وجلَّ- في "الواقعة": {أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ (58) أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ (59) نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ} [الواقعة: 58 - 60]، كيف ذكر مَبْدَأَ النَّشْأَةِ وآخِرَها؛ مستدِلاًّ بها على النَّشْأَة الثانية (¬1) بقوله: {وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (60) عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لَا تَعْلَمُونَ} [الواقعة: 60 - 61]، فإنكم إنَّما علمتم "النَّشْأَةَ الأُولى" في بطون أمهاتكم ومبدؤها ممَّا تُمْنُون، ولن نُغْلَب على أن نُنشِئكم نشأةً ثانيةً فيما لا تعلمونه، فإذا أنتم (¬2) أمثال ما كنتم في الدنيا في صوركم وهيئاتكم. وهذا من كمال قدرة الرَّبِّ -تبارك وتعالى- ومشيئته، لو تذكرتم أحوال "النَّشْأَة الأُولَى" لَدَلَّكُم ذلك على قدرة مُنْشِئِها على النَّشْأَة التي كَذَّبْتُم بها. فأَيُّ استدلالٍ وإرشادٍ أحسنُ من هذا، وأقربُ إلى العقل والفهم، وأبعدُ من كلِّ شبهةٍ وشَكٍّ؟ وليس بعد هذا البيان والاستدلال إلا الكفر بالله وما جاءت به رسله أو الإيمان. وقال -تعالى- فى "سورة الإنسان": {نَحْنُ خَلَقْنَاهُمْ وَشَدَدْنَا أَسْرَهُمْ} [الإنسان: 28] فهذه النَّشأة الأُولى، ثُمَّ قال: {وَإِذَا شِئْنَا بَدَّلْنَا أَمْثَالَهُمْ تَبْدِيلًا (28)} فهذه النَّشْأةُ الأُخْرَى. ونظير هذا: {وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى (45) مِنْ نُطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى (46) وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرَى (47)} [النجم: 45 - 47]، وهذا في القرآن كثيرٌ جدًا، يَقْرِنُ بين النَّشْأتين مُذكِّرًا للفِطَرِ والعقولِ بإحداهما على الأخرى. والله أعلم. ¬
فصل: الفرق بين الخوض بالباطل واللعب
فصل فلمَّا أقام عليهم الحُجَّة وقطع المعذرة قال تعالى: {فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (42)} [المعارج: 42]، وهذا تهديدٌ شديدٌ يتضمَّنُ: اتْرُكْ هؤلاء الذين قامت عليهم حُجَّتِي فلم يقبلوها، ولم يخافوا بَأْسِي، ولا صَدَّقُوا رسالاتي في خوضهم بالباطل ولعبهم، فالخوضُ بالباطل (¬1) ضِدُّ التكلُّمِ بالحقِّ، واللَّعِبُ ضِدُّ السَّعْي الذي يعود نَفْعُهُ على ساعيه. فالأوَّلُ ضدُّ العلمِ النَّافع، والثاني ضِدُّ العملِ الصالح؛ فلا تَكَلَّمَ بالحقِّ، ولا عَمَلَ بالصواب. وهذا شأنُ كلِّ من أعرض عمَّا جاء به الرسولُ، لابدَّ له من هذين الأمرين. ثُمَّ ذكر -سبحانه- حالهم عند خروجهم من القبور، فقال: {يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ سِرَاعًا كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ (43)} [المعارج: 43]، أي: يُسْرِعُون. و"النُّصُب": العَلَمُ والغَايَةُ التي تُنصَبُ فَيَؤُمُّونَها (¬2). وهذا من أَلْطَفِ التشبيه، وأَبْلَغِهِ (¬3)، وأبينه (¬4)، وأحسنه؛ فإنَّ النَّاس يقومون من قبورهم مُهْطِعِين إلى الداعي، يَؤُمُّونَ الصوت، لا يُعرِّجُون عنه يَمْنةً ولا يَسْرَةً كما قال تعالى: {يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لَا عِوَجَ لَهُ} [طه: 108] أي (¬5): يُقْبِلُونَ من كُلِّ أَوْبٍ إلى صوته وناحيته، لا ¬
لماذا قال تعالى: {لا عوج له}، ولم يقل: "لا عوج عنه"
يُعَرِّجُون عنه. قال الفرَّاء: "وهذا كما تقول: دعوتني دعوةً لا عِوَج لك عنها" (¬1). وقال الزجَّاج: "المعنى: لا عِوَجَ لهم عن دعائه، أي: لا يقدرون إلا على اتباعه وقَصْدِهِ" (¬2). فإنْ قلتَ: إذا كان المعنى (لا عوج لهم عن دعوته)، فكيف قال: {لَا عِوَجَ لَهُ}؟ قيل: قالت طائفةٌ: "اللاَّم" بمعنى "عن" (¬3)، أي: لا عِوَجَ عنه. وقالت طائفةٌ: المعنى: لا عِوَج لهم عن دعائه، كما قال الزجَّاجُ. وفي القولين تكلُّفٌ ظاهرٌ. ولمَّا كانت الدعوة تُسْمِعُ الجميعَ لا تَعْوَجُّ عنهم، وكلُّهم يَؤُمُّ صوتَ الدَّاعي ويتبعه لا يَعْوَجُّ عنه؛ كان مجيء "اللاَّم" منتظِمًا للمعنيين ودالاًّ عليهما، والمعنى: لا عِوَجَ لدعائه؛ لا في إسماعهم إيَّاهُ، ولا في إجابتهم له. ثُمَّ قال تعالى: {خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ} [المعارج: 44]، فوَصَفَهم بذُلِّ الظاهر، وهو خشوع الأبصار، وذُلِّ الباطن، وهو ما يرهقهم من الذُلِّ (¬4) الذي خشعت عنه أبصارهم. ¬
وقريبٌ من هذا قوله -عزَّ وجلَّ-: {وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ (24) تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ (25)} [القيامة: 24 - 25]، ونظيره قوله تعالى: {وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ مَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعًا مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِمًا} [يونس: 27]. وضِدُّ هذا قوله تعالى: {إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى (118)} [طه: 118]، فنفى عنه الجوعَ الذي هو ذُلُّ الباطن، والعُرِيَّ الذي هو ذُلُّ الظاهر. وضدُّه -أيضًا- قوله تعالى: {وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا (11)} [الإنسان: 11]، فالنَّضْرَةُ عِزُّ (¬1) الظاهر وجمالُه، والسرور عِزُّ الباطن وجماله. ومثله -أيضًا- قوله تعالى: {عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُنْدُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا (21)} [الإنسان: 21]، فجمع بين زينة الظاهر والباطن. ومثله قوله تعالى: {يَابَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ} [الأعراف: 26]، فجمع بين زينة الظاهر والباطن. ومثله -أيضًا- قوله تعالى: {إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ (6) وَحِفْظًا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مَارِدٍ (7)} [الصافات: 6 - 7]، فزيَّنَ ظاهِرَها بالنُّجُوم، وباطِنَها بالحِفْظِ من كل شيطانٍ رجيمٍ. ومثله -أيضًا- قوله تعالى: {وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ} [غافر: 64]. ¬
وقريبٌ منه قوله تعالى: {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى} [البقرة: 197]، فجَمَع لهم بين الزَّادَين. ومنه قوله: {فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (106) وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (107)} [آل عمران: 106 - 107]، فجمع لهؤلاء بين جمال الظاهر والباطن، ولأولئك بين تسويد الظاهر والباطن. ومنه قول امرأة العزيز: {فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ} [يوسف: 32]، فَوَصَفَتْ ظاهِرَهُ بالجَمَال، وباطِنَه بالعِفَّة، فوصفته بجمال الظاهر والباطن، فكأنَّها قالت: هذا ظاهره، وباطنه أحسن من ظاهره. وهذا كلُّه يدلُّكَ على ارتباط الظاهر بالباطن قَدَرًا وشَرْعًا. والله أعلم بالصواب.
فصل: القسم في سورة القلم
فصل ومن ذلك قوله تعالى: {ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ (1) مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ (2)} [القلم: 1 - 2]. الصحيح أنَّ "ن" و"ق" و"ص" من حروف الهجاء التي يفتتح الرَّبُّ -سبحانه- بها بعض السور، وهي: أُحادية، وثُنائية، وثُلاثية، ورُباعية، وخماسية، ولم تُجَاوِز الخمسة، ولم تُذكر -قَطُّ- في أوَّل سورةٍ إلا وَعَقِبَها يُذْكَرُ القرآنُ؛ إمَّا مُقْسَمًا به، وإمَّا مُخْبَرًا عنه، ما خلا سورتين: سورة "كهيعص"، و"ن". كقوله تعالى: {الم (1) ذَلِكَ الْكِتَابُ} [البقرة: 1 - 2] , {الم (1) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ (2) نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ} [آل عمران: 1 - 3]، {المص (1) كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ} [الأعراف: 1 - 2] , {المر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ} [الرعد: 1]، وهكذا إلى آخرها. ففي هذا تنبيهٌ على شَرَفِ هذه الحروف، وعِظَمِ قَدْرِها، وجلالتها؛ إذ هي مباني كلامه، وكُتُبه التي تكلَّم -سبحانه- بها، وأَنزلها على رسله، وهَدَى بها عباده، وعَرَّفَهُم بواسطتها (¬1) نفسَهُ، وأسماءه، وصفاته، وأفعاله، وأمره، ونهيه، ووَعْدَهُ، ووَعِيدَهُ، وعرَّفَهم بها الخيرَ والشَّرَّ، والحَسَنَ والقبيحَ، وأقدرهم (¬2) على التكلُّم بها، بحيث يبلغون بها أقصى ما في أنفسِهِم، بأسهل طريقٍ، وأَقَلِّهِ (¬3) كُلْفَةً ومشقَّةً، وأَوْصَلِهِ إلى المقصود، وأَدَلِّهِ عليه، وهذا من أعظم نعمه عليهم، ¬
كما هو من أعظم آياته. ولهذا عاب -سبحانه- على من عبد إلهًا لا يتكلَّمُ، وامتَنَّ على عباده بأن أقدرهم على البيان بها بالكلام (¬1). فكان في ذكر هذه الحروف التنبيه على كمال ربوبيته، وكمال إحسانه وإنعامه، فهي أَوْلَى أنْ يُقْسَمَ بها من الليل والنَّهار، والشمس والقمر، والسماء والنُّجُوم، وغيرِها من المخلوقات، فهي دالَّةٌ -أظْهَرَ دلالةٍ- على وحدانيته، وقدرته، وحكمته، وكماله، وكلامه، وصِدْقِ رُسُله. وقد جمع -سبحانه- بين الأمرين -أعني: القرآنَ، ونُطْقَ الإنسان- وجعل تعليمهما من تمام نعمته وامتنانه، كما قال تعالى: {الرَّحْمَنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (2) خَلَقَ الْإِنْسَانَ (3) عَلَّمَهُ الْبَيَانَ (4)} [الرحمن: 1 - 4]، فبهذه الحروف علَّم القرآن، وبها علَّم البيان، وبها فضَّلَ الإنسانَ على سائر أنواع الحيوان، وبها أنزل كتبه، وبها أرسل رُسُله، وبها جُمِعَت العلوم وحُفِظَت، وبها انتَظَمَتْ مصالح العباد في المَعَاش والمَعَاد، وبها تَمَيَّزَ الحقُّ من الباطل، والصحيحُ من الفاسد، وبها جُمِعَت أشتات (¬2) العلوم، وبها أمكن تنَقلُها في الأذهان؛ وكم جُلِبَ بها من نعمةٍ، ودُفِعَ بها من نقمةٍ، وأُقِيلت بها من عثرةٍ (¬3)، وأقُيمت بها من حُرْمَةٍ، وهُدِيَ بها من ضلالٍ، وأُقِيم بها من حقٍّ، وهُدِمَ بها من باطلٍ! فآياته -سبحانه- في تعليم البيان كآياته في خلق الإنسان، و: ¬
لولا عجائِبُ صُنْعِ اللهِ ما ثَبَتَتْ ... تلك الفَضَائِلُ في لَحْمٍ ولا عَصَبِ (¬1) فسبحانَ من هذا صُنْعُهُ في هواءٍ يخرج من قَصَبة "الرِّئة"، فَيَنْضَمُّ في "الحُلْقُوم"، ثُمَّ يَنْفَرِشُ في أقصى "الحَلْق"، ووسطه، وآخره، وأعلاه، وأسفله، وعلى وسط "اللِّسَان"، وأطرافه، وبين "الثَّنَايا"، وفي "الشَّفَتين"، و"الخَيْشُوم"، فَيُسْمَعُ له عند كل مَقْطَعٍ من تلك المقاطع صوتٌ غير صوت المقطع المجاور له؛ فإذا هو: "حُرُوفٌ". فألهَم -سبحانه- الإنسانَ نَظْمَ (¬2) بعضِها إلى بعضٍ، فإذا هي كلماتٌ قائمةٌ بأنفسها، ثُمَّ أَلْهَمَهُم تأليف تلك الكلمات بعضها إلى بعضٍ فإذا هي (¬3) كلامٌ دالٌّ على أنواع المعاني: أمرًا، ونهيًا، وخبرًا، واستخبارًا، ونفيًا، وإثباتًا، وإقرارًا، وإنكارًا، وتصديقًا (¬4)، وتكذيبًا، وإيجابًا (¬5)، واستحبابًا، وسؤالاً، وجوابًا، إلى غير ذلك من أنواع الخِطَابِ: نَظْمِهِ، ونَثْرِهِ، ووجيزه، ومُطَوَّلِهِ، على اختلاف لُغَاتِ الخلائق. كلُّ ذلك صَنْعتُه -تبارك وتعالى- في هواءٍ مُجَرَّدٍ خارجٍ من باطن الإنسان إلى ظاهره، جَارٍ في مَجَارٍ قد هُيِّئَتْ وأُعِدَّت لتقطيعه وتفصيله، ثُمَّ لِتأْلِيفِهِ وتوصيله، فتبارك الله ربُّ العالمين، وأحسنُ الخالقين، فهذا شأن الحرف المخلوق. ¬
فصل: الثناء على "القلم"
وأمَّا الحرف الذي تُكَوَّنُ به المخلوقاتُ فشأنُهُ أعلى وأجلُّ، وإذا كان هذا (¬1) شأنُ الحروف فحقيقٌ أن تُفْتَتَحَ بها السُّوَرُ كما افتُتِحَت بالأقسام؛ لما فيها من آياتِ الربوبية، وأدلَّةِ الوحدانية. فهي دالَّةٌ على كمال قدرته سبحانه، وكمال علمه، وكمال حكمته، وكمال رحمته، وعنايته بخلقه، ولُطْفه، وإحسانه. وإذا أَعْطَيتَ الاستدلالَ بها حقَّهُ استَدْلَلْتَ بها على المبدأ، والمَعَاد، والخَلْق، والأمر، والتوحيد، والرِّسالة؛ فهي من أظهر أدلَّة (¬2) شهادة "أن لا إله إلا الله وأنَّ محمدًا عبده ورسوله"، وأنَّ القرآنَ كلامُ الله، تكلَّمَ به حقًّا، وأنزله على رسوله وحيًا، وبلَّغَهُ كما أُوحيَ إليه صدقًا. ولا تُهْمِل الفِكْرَةَ في كلِّ سورةٍ افتُتِحَتْ بهذه الحروف، واشتمالها على آيات هذه المطالب وتقريرها. وبالله التوفيق. فصل ثُمَّ أقسَمَ -سبحانه- بـ"القلم وما يسطرون"، فأقسم بالكتاب وآلته وهو "القلم" الذي هو إحدى آياته، وأوَّلُ مخلوقاته الذي جَرَى به قَدَرُهُ وشَرْعُه، وكُتِبَ به الوحيُ، وقُيِّدَ به الدِّينُ، وأُثبِتَتْ به الشريعة، وحُفِظَتْ به العلوم، وقامت به مصالح العباد في المَعَاَش والمَعَاد؛ فَوُطِّدَتْ به الممالك، وأُمِّنَتْ به السُّبُلُ والمسالك، وأقام في النَّاس أبلغَ خطيبٍ وأفصحَهُ، وأنفعَهُ لهم وأنصحَهُ، وواعظًا تشفي مواعظُه القلوب من السَّقَم، وطبيبًا يُبْرِيءُ -بإذْنِ بارئه- من أنواع الألم، يكسر العساكر ¬
فصل: تفاوت الأقلام في الرتب
العظيمة على أنَّه الضعيف الوحيد، ويَخَافُ سَطْوَتَهُ وبأسَهُ ذو البأس الشديد، وبالأقلام تُدَبَّرُ الأقاليمُ، وتُسَاسُ الممالك. و"القَلَمُ" لسانُ الضمير، يناجيه بما استتر عن الأسماع، فيَنْسِجُ حُلَلَ المعاني في الطرفين فتعود أحسنَ من (¬1) الوَشْي المرقوم، ويُودِعُها (¬2) حِكَمَهُ فتصير موارد الفهوم، والأقلام نظامًا للأفهام. وكما أنَّ "اللِّسَان" بريد "القلب" فـ"القَلَمُ" بريد "اللِّسَان"، وتولُّدُ الحروف المسموعة عن "اللِّسان" كتولُّدِ الحروف المكتوبة عن "القَلَمِ"، و"القَلَمُ" بريدُ "القلب"، ورسولُه، وترجمانُه، ولسانُه الصامت. فصل والأقلامُ متفاوِتةٌ في الرُّتَب، فأعلاها وأجلُّها قَدْرًا: قَلَمُ القَدَرِ السابِقِ؛ الذي كتب الله به مقادير الخلائق، كما في "سنن أبي داود" عن عبادة بن الصامت قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "إنَّ أوَّلَ ما خلق اللهُ القَلَمَ، فقال له: اكتُبْ، قال: يا رَبِّ؛ وما أكتُبُ؟ قال: اكتُبْ مقادير كلِّ شيءٍ حتَّى تقومَ الساعةُ" (¬3). ¬
اختلاف العلماء في أول المخلوقات، والصحيح أنه العرش
واختلف العلماء: هل "القَلَمُ" أوَّلُ المخلوقات أو "العَرْشُ"؟ على قولين، ذكرهما الحافظ أبو العلاء الهَمَذَاني (¬1)، أصحُّهُما أنَّ "العرشَ" قبل "القلم" (¬2)؛ لما ثبت في "الصحيح" (¬3) من حديث عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "قدَّرَ اللهُ مقادِيرَ الخَلاَئِقِ قبلَ أن يخلُقَ السماواتِ والأرضَ بخمسينَ ألْفَ سَنةٍ، وعَرْشُهُ على الماءِ". فهذا صريحٌ في أنَّ التقدير وقع بعد (¬4) خَلْق "العَرْشِ"، والتقدير وقع عند أوَّلِ خَلقِ القَلَمِ لحديث عبادة هذا. ولا يخلو قوله: "إنَّ أوَّلَ ما خلَقَ اللهُ القَلَمَ" ... إلى آخره؛ إمَّا أن يكون جملةً أو جملتين: ¬
فصل: القلم الثاني: قلم الوحي
فإن كان جملةً -وهو الصحيحُ- كان معناه: أنَّه عندَ أوَّلِ خَلْقِهِ قال له: "اكتُبْ"، كما في اللفظ [الآخَر] (¬1): "أوَّلَ ما خلقَ اللهُ القَلَمَ قال له: اكتُبْ" بنَصْبِ "أوَّلَ"، و "القَلَمَ". وإن كان جملتين -وهو مرويٌّ بِرَفْع "أَوَّلُ" و"القَلَمُ"- فيتعيَّنُ حَمْلُهُ على أنَّه أوَّلُ [الـ] (¬2) ـمخلوقاتِ من هذا (¬3) العالم، لِيَتَّفِقَ الحديثان؛ إذ حديث عبد الله بن عمرو صريحٌ في أنَّ "العَرْشَ" سابقٌ على التقدير، والتقديرُ مقارِنٌ لخَلْقِ القَلَمِ، وفي اللفظ الآخر: "لمَّا خَلَقَ اللهُ القَلَمَ قال له: اكتُبْ". فهذا "القَلَمُ" أوَّلُ الأقلام، وأفضلُها، وأجلُّها. وقد قال غير واحدٍ من أهل التفسير إنَّه "القَلَمُ" الذي أقسَمَ الله -تعالى- به. فصل القلم الثاني: قَلَمُ الوحي، وهو الذي يكتب به وحي الله -عزَّ وجلَّ- إلى أنبيائه ورسله. وأصحاب هذا "القَلَم" هم الحكَّامُ على العالَم، والعالَمُ خَدَمٌ لهم، وإليهم الحَلُّ والعَقْدُ، والأقلامُ كلُّها خَدَمٌ لأقلامهم. وقد رُفِعَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - ليلةَ أُسْرِيَ به إلى مُسْتَوىً يَسْمَعُ فيه صَرِيفَ الأقلام (¬4). فهذه الأقلامُ هي التي تكتُبُ ما يُوحيه الله -تبارك وتعالى- ¬
فصل: القلم الثالث: قلم التوقيع عن الله ورسوله، وهو قلم الفقهاء والمفتين
من الأمور التي يُدَبِّرُ بها أمر العالَمِ العُلْويِّ والسُّفْلِيِّ (¬1). فصل والقلم الثالث: قَلَمُ التوقيع عن الله ورسوله، وهو قَلَمُ الفقهاء والمُفْتين. وهذا "القَلَمُ" -أيضًا- حاكمٌ غيرُ محكومٍ عليه، فإليه التحاكم في الدماء، والأموال، والفُرُوج، والحقوق. وأصحابُهُ مُخْبِرُون عن الله بحكمه الذي حكم به بين عباده، وأصحابه حُكَّامٌ وملوكٌ على أرباب الأقلام، وأقلامُ العالمِ خَدَمٌ لهذا "القَلَم". فصل القلم الرابع: قَلَمُ طِبِّ الأبْدَانِ التي تُحفَظُ بها صحَّتُها الموجودة، وتُرَدُّ إليها به صحَّتُها المفقودة، وتُدْفَعُ به عنها آفاتُها وعوارضُها المضادَّةُ لصحَّتها. وهذا القَلَمُ أنفعُ الأقلام بعد قَلَم طِبِّ الأديان، وحاجة النَّاس إلى أهله تلتحق بالضرورة. ¬
فصل: القلم الخامس: قلم التوقيع عن الملوك ونوابهم
فصل القلم الخامس: قَلَمُ التوقيع عن الملوك ونُوَّابِهم، وبه تُسَاسُ الممالك (¬1)، ولهذا كان أصحابُهُ أعزَّ أصحاب الأقلام، المشاركون للملوك في تدبيرِ الدُّوَل، فإن صَلُحَتْ أقلامهم صَلُحَت (¬2) المملكة، وإن فَسَدَت أقلامهم فسَدَت المملكة، وهم وسائط بين الملوكِ ورعاياهم. فصل القَلَمُ السادس: قَلَمُ الحساب، وهو "القَلَمُ" الذي تُضْبَطُ به الأموال، مُسْتَخْرَجُها، ومصرُوفُها، ومقادِيرُها، وهو قَلَمُ الأرزاق، وهو قَلَمُ الكَمِّ المتَّصِلِ والمُنْفَصِلِ، الذي تُضْبَطُ به المقادير وما بينها (¬3) من التفاوت والتناسب. ومبناه على الصدق والعدل، فإذا كَذَبَ هذا "القَلَمُ" وظَلَمَ فَسَدَ أَمْرُ المملكة. فصل القلم السابع: قَلَمُ الحكم الذي تثبت به الحقوق، وتُنفَّذُ به القضايا، وتُرَاقُ به الدماء، وتُؤخَذُ به الأموالُ والحقوقُ من اليد العَادِيَةِ، فتُرَدُّ إلى اليد المُحِقَّةِ، وتُثبتُ به الأنساب، وتنقطع به الخصومات. وبين هذا "القَلَم" وقَلَمِ التوقيع عن الله عمومٌ وخصوصٌ، فهذا له النُّفُوذُ واللُّزُومُ، وذاكَ له العمومُ والشمولُ، وهو قَلمٌ قائمٌ بالصِّدْقِ فيما ¬
فصل: القلم الثامن: قلم الشهادة
يُثبِتُه، وبالعدل فيما يُمْضِيه ويُنفِذُه. فصل القلم الثامن: قَلَمُ الشَّهَادة، وهو "القَلَمُ" الذي تُحْفَظُ به الحقوق، وتُصَانُ عن الإضَاعَةِ، وتَحُولُ بين الفاجر وإنكاره، ويُصَدَّقُ الصادِق، ويُكذَّبُ الكاذِب، ويُشْهَدُ للمُحِقِّ بحقِّهِ، وعلى المُبْطِلِ بباطله. وهو الأمين على الدماء، والفروج، والأموال، والأنساب، والحقوق، ومتى خَانَ هذا القَلَم فَسَدَ أَمْرُ العالَمِ أعظَمَ فَسَادٍ، وباستقامته يَسْتَقيمُ أمرُ العالَمِ، ومَبْنَاهُ على العلمِ وعَدَمِ الكتمان. فصل القلم التاسع: قَلَمُ التعبير، وهو كاتِبُ وَحْي المَنَامِ، وتفسيرِهِ، وتعبيرِهِ، وما أُرِيدَ به. وهو قَلَمٌ شريفٌ جليلٌ، مترجِمٌ للوحي المنامي، كاشِفٌ له. وهو من الأقلام التي تصلح للدنيا والدِّين، وهو يعتمد طهارةَ صاحبه ونزاهَتَهُ، وأمانَتَهُ، وتحرِّيه للصدق، وللطرائق الحميدة، والمناهج السديدة، مع علمٍ راسِخٍ، وصفاءِ باطِنٍ، وحِسٍّ (¬1) مُؤَيَّدٍ بالنُّور الإلهي، ومعرفةٍ بأحوالِ الخَلْقِ، وهيئاتِهم، وسِيَرهِم. وهو من أَلْطَفِ الأقلام، وأعَمِّها جَوَلاَنًا، وأوسعِها تصرُّفًا، وأشدِّها (¬2) تَشَبُّثًا بسائر الموجودات: عُلْوِيِّها وسُفْلِيِّها، وبالماضي والحال والمستقبل. ¬
فصل: القلم العاشر: قلم تواريخ العالم ووقائعه
فتصرُّفُ هذا "القَلَم" في المنام هو مَحَلُّ ولايته، وكُرسيُّ مملكته وسلطانه. فصل القلم العاشر: قَلَمُ تواريخِ العالَم ووقائعه. وهو "القَلَمُ" الذي تُضْبَطُ به الحوادِثُ، وتُنقَلُ من أمَّةٍ إلى أُمَّةٍ، ومن قَرْنٍ إلى قَرْنٍ، فَيَحْصُرُ ما مَضَى من العالَم وحوادثه في الخيال، ويَنْقُشُهُ في النَّفْسِ، حتَّى كأنَّ السامِعَ يرى ذلك ويَشْهَدُه، فهو قَلَمُ المَعَادِ الرُّوحاني. وهذا "القَلَم" قَلَمُ العجائب؛ فإنَّه يُعيد لك العالَمَ في صورة الخيال، فتراه بقلبك، وتُشَاهِدُهُ ببصيرتك. فصل القلم الحادي عشر: قَلَمُ اللُّغَة وتفاصيلها من شرح معاني ألفاظِها المُفْرَدَة، ونَحْوِها، وتَصْرِيفِها، وأسرارِ تراكيبِها، وما يتبع ذلك من أحوالها ووجوهِها، وأنواعِ دلالاتها على المعاني، وكيفية الدلالة. وهو قَلَمُ التعبير عن المعاني باختيار (¬1) أحسن الألفاظ، وأعذبها، وأسهلها، وأوضحها. وهذا "القَلَم" واسعُ التصرُّفِ جدًّا بحسب سَعَةِ الألفاظ وكثرةِ مجاريها وتنوُّعِها. ¬
فصل: القلم الثاني عشر: القلم الجامع وهو قلم الرد على المبطلين
فصل القلم الثاني عشر: القلَمُ الجامع، وهو قَلَمُ الرَّدِّ على المُبْطِلِين، ورَفْعِ سُنَّةِ المُحِقِّين، وكشْفِ أباطيل المُبْطِلِين على اختلاف أنواعها وأجناسهَا، وبيانِ تناقُضِهم، وتهافُتِهم، وخروجِهم عن الحقِّ، ودخولهم في الباطل. وهذا "القَلَمُ" في الأقلام نظير الملوك في الأنام (¬1)، وأصحابُه أهلُ الحُجَّةِ النَّاصِرُون لما جاءت به الرُّسُل، المحاربون لأعدائهم، وهم الداعون إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة، المجادلون لمن خرج عن سبيله بأنواع الجدال. وأصحاب هذا "القلم" حربٌ لكلِّ مُبْطِل، عَدُوٌّ لكلِّ مخالفٍ للرُّسُل. فَهُمْ في شأنٍ، وغيرُهم من أصحاب الأقلام في شأنٍ. فهذه الأقلام التي بها انتظامُ مصالح العالم. ويكفي في جلالة "القَلَم" أنَّه لم تُكتَبْ كُتُبُ اللهِ إلا به، وأنَّ الله -سبحانه- أقسَمَ به في كتابه، وتَعَرَّفَ إلى غيره بأنْ علَّمَ بالقَلَم، وإنَّما وصل إلينا ما بُعِثَ به نبيُّنا - صلى الله عليه وسلم - بواسطة "القَلَم". ولقد أبدع أبو تمَّام (¬2) إذ يقول في وصفه: لَكَ القَلَمُ المَاضِي (¬3) الذي بِشَبَاتِهِ ... تُصَابُ من الأمْرِ الكُلَى والمَفَاصِلُ ¬
لَهُ رِيقَةٌ طَلٌّ، ولكنَّ وَقْعَها ... بآثَارِهِ في الغَرْبِ والشَّرْقِ (¬1) وَابِلُ لُعَابُ الأفَاعِي القَاتِلاتِ لُعَابُهُ ... وَأَرْيُ (¬2) الجَنَى اشْتَارَتهُ أَيْدٍ عَوَاسِلُ لَهُ الخَلَوَاتُ اللاَّءِ لولا نَجِيُّها ... لَمَا احتَفَلَتْ (¬3) للمُلْكِ تِلكَ المَحَافِلُ فَصِيحٌ إذا استنطَقْتَهُ وهْوَ رَاكِبٌ ... وأَعْجَمُ إنْ خاطَبْتَهُ وهْو رَاجِلُ إذا ما امتَطَى الخَمْسَ اللِّطَافَ وأُفْرِغَتْ ... عليه شِعَابُ الفِكْرِ وهْيَ حَوَافِلُ أَطَاعَتْهُ أطْرَافُ القَنَا (¬4)، وتَقَوَّضَتْ ... لِنَجْوَاهُ تَقْوِيضَ الخِيَامِ الجَحَافِلُ إذا اسْتَغْزَرَ الذِّهْنَ الذَّكِيَّ وأَقْبَلَتْ ... أَعَالِيهِ في القِرْطَاسِ وهْيَ أَسَافِلُ وقَدْ رَفَدَتْهُ الخِنْصَرانِ وشَدَّدَتْ (¬5) ... ثَلاثَ نَوَاحِيهِ الثَّلاثُ الأنَامِلُ ¬
فصل: بيان المقسم عليه في هذه السورة
رأَيتَ جليلاً شَأْنُهُ وهْوَ مُرْهَفٌ (¬1) ... ضَنَىً، وسمِينًا خَطْبُهُ وهْوَ هازِلُ (¬2) فصل والمُقْسَمُ عليه بالقَلَم والكتابة في هذه السورة تنزيهُ نبيِّه ورسولِهِ - صلى الله عليه وسلم - عمَّا يَقول فيه أعداؤه، وهو قوله تعالى: {مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ (2)} [القلم: 2]. وأنتَ إذا طابَقْتَ بين هذا القَسَم والمُقْسَم به وجدتَه دالاًّ عليه أظْهَرَ دلالةٍ وأَبْيَنَها، فإنَّ ما سطَّر الكاتِبُ (¬3) بالقَلَمِ من أنواع العلوم التي يتلقَّاها البشر بعضهم عن بعضٍ لا تَصْدُرُ من مجنونٍ، ولا تصدر إلا ممَّن (¬4) له عقْلٌ وافِرٌ، فكيف يصْدُرُ ما جاء به الرسولُ من هذا الكتاب الذي هو في أعلى درجات العلوم! بل العلوم التي تضمَّنَها ليس في قُوَى البَشَر الإتيانُ بها، ولاَسِيَّما من أُمِّيٍّ لا يقرأ كتابًا، ولا يَخُطُّهُ بيمينه، مع كونه في أعلى أنواع الفصاحة، سليمًا من الاختلاف، بريًّا من التناقض، يستحيل من العقلاء كلِّهم لو اجتمعوا في صعيدٍ واحدٍ أن يأتوا بمثله، ولو كانوا على عقْلِ رجلٍ واحدٍ منهم، فكيف يَتَأتَّى (¬5) ذلك من مجنونٍ لا عقْلَ له يُمَيِّزُ به ما عسى كثيرٌ من الحيوان أن يُمَيِّزَهُ، وهل هذا إلا من أقبح البهتان (¬6)، وأظهر الإفك. ¬
فتأمَّلْ شهادَةَ هذا المُقْسَم به للمُقْسَم به عليه، ودلالته عليه أتمُّ دلالة. ولو أنَّ رجلاً أنشأ رسالةً واحدةً بديعةً، منتظِمة الأوَّل والآخر، متساوية الأجزاء، يُصَدِّقُ بعضُها بعضًا، أو قال قصيدةً كذلك، أو صنَّفَ كتابًا كذلك؛ لَشَهِدَ له العقلاءُ بالعقل، ولَمَا استجازَ أحدٌ رَمْيَهُ بالجنون، مع إمكانِ -بَلْ (¬1) وقوعِ- مُعَارَضَتِها، ومُشَاكَلَتِها، والإتيانِ بمثلها أو أحسن منها، فكيف يُرْمَى بالجنون من أتى بما عَجَزَت العقلاء كلُّهم -قاطبةً- عن معارضته ومماثلته، وعرَّفَهم من الحقِّ ما لا تهتدي إليه عقولُهم، بحيث أذْعَنَتْ له عقولُ العقلاء، وخضَعَتْ له ألْبَابُ الألِبَّاءِ، وتَلاَشَتْ في جَنْب ما جاء به، بحيث لم يَسَعْها إلا التسليمُ له والانقيادُ والإذعانُ طائعةً مختارةً، وهي ترى عقولَها أشدَّ فقرًا وحاجةً إلى ما جاء به، ولا كمال لها إلا بما جاء به؟! فهو الذي كمَّلَ عقولَها كما يُكَمَّلُ الطفلُ برضاع الثَّدْي. ولهذا أتباعُهُ أَعْقَلُ الخَلْقِ على الإطلاق، وهذه مؤلَّفاتُهم وكتبهم في جميع الفنون إذا وازَنْتَ (¬2) بينها وبين مؤلَّفات مخالفيه ظهر لك التفاوت بينها. ويكفي في عقولهم أنَّهم عَمَرُوا الدنيا بالعلم والعدل، والقلوبَ بالإيمان والتقوى. فكيف يكون مَتْبُوعُهُم مجنونًا وهذا حالُ كتابه، وهَدْيهِ، وسيرتهِ، وحالُ أتباعِهِ؟! وهذا إنَّما حصل له ولأتباعه بنعمة الله عليه وعليهم، فنَفَى عنه ¬
اختلاف أهل اللغة في تقدير الآية: {ما أنت بنعمة ربك بمجنون}
الجنونَ بنعمته عليه. وقد اختُلِفَ في تقدير (¬1) الآية (¬2): فقالت فرقةٌ: "الباء" في {بِنِعْمَةِ رَبِّكَ} بَاءُ القَسَم، فهو قَسَمٌ آخَرُ اعتَرضَ بين المحكُومِ به والمحكوم عليه، كما تقول: ما أنتَ باللهِ بكاذِبٍ. وهذا التقدير ضعيفٌ جدًّا؛ لأنَّه قد تقدَّمَ القَسَمُ الأوَّلُ، فكيف يقع القَسَمُ الثاني في جوابه؟! ولا يحسُنُ أن تقول: واللهِ ما أنتَ باللهِ بقائمٍ، وليس هذا من فصيح الكلام، ولا عُهِدَ به في كلامهم. وقالت فرقةٌ: العامل في {بِنِعْمَةِ رَبِّكَ} أداةُ معنى النفْي، أو معنى: انْتَفَى (¬3) عنكَ الجنونُ بنعمة ربِّك. ورَدَّ أبو عمرو بن الحاجب (¬4) وغيرُه هذا القولَ بأنَّ الحروفَ لا تَعْمَلُ معانيها، وإنَّما تَعْمَلُ ألفاظُها (¬5). ¬
وقال الزمخشريُّ: "يتعلَّق بـ"مجنون" (¬1) مَنْفِيًّا، كما يتعلَّق بعاقِلٍ مُثبتًا في قولك: أنتَ بنعمةِ اللهِ عاقِلٌ، مُسْتَوِيًا (¬2) في ذلك الإثبات والنَّفْي استواءَهما في قولك: ضَرَبَ زيدٌ عَمْرًا، وما ضَرَبَ زيدٌ عَمْرًا (¬3)، تُعْمِلُ الفعلَ مُثبَتًا ومَنْفِيًّا إعمالاً واحدًا، ومَحَلُّهُ النَّصْبُ على الحال، أي: ما أنت بمجنون مُنْعَمًا عليك بذلك. ولم تَمْنَع "الباءُ" أنْ يَعْمَلَ (مجنون) فيما قبله؛ لأنَّها زائدةٌ لتأكيد النَّفْي" (¬4). واعتُرِض عليه (¬5) بأنَّ النَّفْيَ (¬6) إذا تسلَّط على محكومٍ به، وله معمولٌ، فإنَّه يجوز فيه وجهان: ¬
تفسير قوله تعالى: {وإن لك لأجرا غير ممنون}
أحدهما: نَفْيُ ذلك المعمول فقط، نحو قولك: ما زيدٌ بذاهبٍ مُسْرِعًا، فإنَّه ينتفي الإسراعُ دون القيام، ولا يمتنع أن يثبت له ذهابٌ في غير إسراعٍ. والثاني: نَفْيُ المحكوم به، فينتفي معموله بانتفائه، فينتفي "الذهاب" في هذا الحال، فينتفي الإسراع بانتفائه. فإذا جعل {بِنِعْمَةِ رَبِّكَ} معمولاً لـ"مجنون" لَزِمَ أَحَدُ الأمرين، وكلاهما مُنْتَفٍ جزمًا. وهذا الاعتراض -هُنا- فاسِدٌ؛ لأنَّ المعنى إذا جُعِل (¬1) "ما أنت بمجنونٍ مُنْعَمًا عليك" لزِمَ من صِدْق هذا الخبر نَفْيُهُما (¬2) قطعًا، ولا يصحُّ نفي المعمول وثبوت العامل في هذا الكلام، ولا يَفْهَمُه منه من له آلةُ الفهم، وإنَّما يَفْهَمُ الآدميُّ من هذا الكلام أنَّ الجنون انتفى عنك بنعمة الله عليك، وانتفى عنَّا ما فهمه هذا المعترِضُ بنعمة الله علينا. ثُمَّ أخبر -سبحانه- عن كمال حالتي نبيِّه - صلى الله عليه وسلم - في دنياه وأُخْرَاه فقال تعالى: {وَإِنَّ لَكَ لَأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ (3)} [القلم: 3]، أي: غير مقطوعٍ، بل هو دائمٌ مستمرٌّ. ونَكَّرَ الأجْرَ تنكير تعظيم، كما قال تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً} [النور: 44] , و {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً} [البقرة: 248]، و {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى} [الزمر: 21]، و {إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا (31)} [النبأ: 31]، و {وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ (25)} [ص: 25]، وهو كثيرٌ، وإنَّما كان التنكير ¬
تفسير قوله تعالى: {وإنك لعلى خلق عظيم}
للتعظيم؛ لأنَّه (¬1) صُوِّرَ للسامع بمنزلة أمرٍ عظيمٍ لا يدركه الوصف، ولا يناله التعبير (¬2). ثُمَّ قال تعالى: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ (4)} [القلم: 4]، وهذه من أعظم آيات نبوَّتِهِ ورسالته، لمن مَنَحَهُ اللهُ فهمها (¬3). ولقد سُئلَتْ أمُّ المؤمنين عن خُلُقه - صلى الله عليه وسلم -، فأجابت بما شَفَى وكَفَى، فقالت: "كان خُلُقُه القرآنُ" (¬4)، فهَمَّ سائِلُها أن يقوم ولا يسألها شيئًا بعد ذلك. وقال ابن عباس وغيرُه: "أي: على دينٍ عظيمٍ" (¬5). وسمِّى "الدِّين" خُلُقًا؛ لأنَّ الخُلُق هيئةٌ مركَّبَةٌ من علومٍ صادقةٍ، وإراداتٍ زاكيةٍ، وأعمالٍ - ظاهرةٍ وباطنةٍ - موافقةٍ للعدل والحكمة والمصلحة، وأقوالٍ مطابقةٍ (¬6) للحقِّ، تصدر تلك الأقوال والأعمال عن تلك العلوم والإرادات، فتكتسب النفسُ بها أخلاقًا هي أزكى الأخلاقِ وأشرفها وأفضلها. فهذه كانت أخلاق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المقتبسة من مشكاة القرآن، فكان كلامه مطابقًا للقرآن؛ تفصيلاً له وتبيينًا، وعلومُهُ علوم القرآن، وإراداتُهُ (¬7) وأعمالُهُ ما أوجبَهُ ونَدَبَ إليه القرآنُ، وإعراضُهُ وتَرْكُه لما مَنَعَ ¬
اختلافهم في تقدير قوله تعالى: {بأيكم المفتون}
منه القرآنُ، ورَغْبَتُهُ فيما رغَّبَ فيه، وزُهْدُه فيما زهَّدَ فيه، وكراهته لما كَرِهَهُ، ومحبته لما أحبَّهُ، وسَعْيُهُ في تنفيذ أوامره، وتبليغِهِ، والجهادِ في إقامته. فترجَمَتْ أُمُّ المؤمنين -لكمال معرفتها بالقرآن وبالرسول - صلى الله عليه وسلم -، وحسن تعبيرها- عن هذا كلِّه بقولها: "كان خُلُقُهُ القرآنُ"، وفَهِمَ السائلُ عنها هذا المعنى، فاكتفى به واشتفى. وإذا كانت أخلاقُ العباد، وعلومُهم، وإراداتُهم (¬1)، وأعمالُهم مستفادةً من "القَلَمِ" وما يسطرون، وكان في خَلْقِ "القَلَم" والكتابة إنعامًا عليهم، وإحسانًا إليهم، إذ وَصَلُوا به إلى ذلك، فكيف ينكرون إنعامه وإحسانه على عبده ورسوله الذي أعطاه أعلى الأخلاقِ، وأفضلَ العلومِ، والأعمالِ، والإراداتِ، التي لا تهتدي العقول إلى تفاصيلها من غير قلمٍ ولا كتابةٍ؟! فهل هذا إلا من أعظم آيات نبوَّته، وشواهدِ صِدْقِ رسالته؟! وسيعلم أعداؤه المكذِّبون له أيُّهُم المفتون، هو أَمْ هم؟ وقد علموا -هُمْ والعُقَلاء- ذلك في الدنيا، ويزداد علمهم به في البَرْزخ، وينكشِفُ ويظهَرُ كلَّ الظهور في الآخرة، بحيث تتساوى أقدام الخلائق في العلم به. وقد اختُلِفَ في تقدير قوله: {بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ (6)}: فقال أبو عثمان المازني (¬2): هو كلامٌ مُسْتَأْنَفٌ، و"المَفْتُون" عنده ¬
مصدرٌ، أي: بأيِّكم الفِتنة. والاستفهامُ عن أمرٍ دائِرٍ بين اثنين قد عُلِمَ انتفاؤه عن أحدهما قطعًا، فتعيَّنَ حصولُه للآخر (¬1). والجمهور على خلاف هذا التقدير، وهو عندهم متَّصِلٌ بما قبله، ثُمَّ لهم فيه أربعةُ أوجهٍ: أحدها: أنَّ "الباء" زائدةٌ، والمعنى: أَيُّكُم المَفْتُون. وزيدت في المبتدأ كما زيدت في قولك: بِحَسْبِكَ (¬2) أن تفعل. قاله أبو عبيدة (¬3). الثاني: أنَّ "المَفْتُون" بمعنى: الفتنة (¬4)، أي: سَتُبصِرُ ويُبْصِرُون ¬
بأيِّكُم الفتنة، و"الباء" على هذا ليست بزائدة. قاله الأخفش (¬1). الثالث: أنَّ "المَفْتُون" مفعولٌ على بابه، ولكن هنا مضافٌ محذوفٌ تقديره: بأيِّكُم فُتُون المَفْتُون، وليست "الباء" زائدةً. قاله الأخفش (¬2) أيضًا. الرابع: أنَّ "الباء" بمعنى "في"، والتقدير: في أَيِّ فريقٍ منكم النَّوع المفتون، و"الباء" على هذا ظرفية (¬3). وهذه الأقوال كلُّها تكلُّفٌ ظاهِرٌ لا حاجة إلى شيءٍ منه، و {فَسَتُبْصِرُ} مضمَّنٌ (¬4) معنى: تَشْعُرُ وتَعْلَمُ، فعُدِّيَ بـ"الباء"، كما تقول: ستشعر بكذا، وتَعْلَمُ به. قال تعالى: {أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى (14)} [العلق: 14]، وإذا دعاك اللفظ إلى (¬5) المعنى من مكانٍ قريبٍ فلا تُجِبْ من دعاك إليه من مكانٍ بعيدٍ. ¬
فصل: القسم في سورة الواقعة
فصل ومن ذلك قوله تعالى: {فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ (75) وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ (76) إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (77) فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ (78) لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ (79) تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (80)} [الواقعة: 75 - 80]. ذكر -سبحانه- هذا القَسَمَ عقيب ذكر القيامة الكبرى، وأقسام الخَلْقِ فيها، ثُم ذكر الأدلَّةَ القاطعةَ على قدرته على المَعَاد بالنَّشْأة الأولَى، وإخراجِ النَّبَاتِ من الأرض، وإنزالِ الماء من السماء، وخَلْقِ النَّار. ثُمَّ ذكر بعد ذلك أحوال النَّاس فى القيامة الصغرى عند مفارقة "الرُّوح" للبدن. وأقسَمَ بمواقع النُّجُوم على ثبوت القرآن, وأنَّه تنزيله. وقد اختُلِفَ في النُّجُوم التي أقسَم بمواقعها: فقيل: هي آيات القرآن، ومواقعها: نزولها شيئًا بعد شيء. هذا قول ابن عباس -رضي الله عنهما- في رواية عطاء، وقولُ: سعيد بن جبير، والكلبي، ومقاتل (¬1)، وقتادة. وقيل: النُّجُوم (¬2) هي الكواكب، ومواقِعُها: مساقِطُها عند غروبها. هذا قول أبي عبيدة (¬3) وغيره. ¬
وجوه المناسبة بين ذكر النجوم في القسم وبين المقسم عليه وهو القرآن
وقيل: مواقعها انْتِثَارُها وانكدَارُها يوم القيامة، وهذا قول الحسن. ومن حُجَّةِ هذا القول أنَّ لفظ "مواقع" يقتضيه، فإنَّه (مَفَاعِل) من الوقوع وهو السقوط، فَلِكُلِّ نجمٍ مَوْقعٌ، وجَمْعُها: مَوَاقع. ومن حُجَّةِ قول من قال: هي مَسَاقِطُها عند الغروب؛ أنَّ الرَّبَّ -تعالى- يُقْسِمُ بالنُّجُوم وطلوعها وجريانها وغروبها، إذ فيها وفي أحوالها الثلاث آيةٌ وعبرةٌ ودلالةٌ كما تقدم في قوله تعالى: {فَلَا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ (15) الْجَوَارِ الْكُنَّسِ (16)} [التكوير: 15 - 16]، وقال تعالى: {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى (1)} [النجم: 1]، وقال تعالى: {فَلَا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ} [المعارج: 40]. ويرجِّحُ هذا القول -أيضًا- أنَّ النُّجُوم حيث وقعت في القرآن فالمراد منها: الكواكب، كقوله تعالى: {وَإِدْبَارَ النُّجُومِ (49)} [الطور: 49]، وقوله تعالى: {وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ} [الأعراف: 54]. وعلى هذا فتكون المناسبة بين ذكر النُّجُوم في القَسَم، وبين المُقْسَم عليه -وهو القرآن- من وجوه: أحدها: أنَّ النُّجُوم جعلها الله يُهتَدَى بها في ظلمات البَرِّ والبحر، وآياتُ القرآن يُهتَدَى بها في ظلمات (¬1) الجهل والغَيِّ. فتلك هدايةٌ في الظلمات الحِسِّيَّة، وآياتُ القرآن هدايةٌ في الظلمات المعنويَّة، فجَمَعَ بين ¬
توجيه قراءة الإفراد: "بموقع النجوم"
الهدايتين. مَعَ ما في النُّجُوم من الزينة الظاهرة للعالم، وفي إنزال القرآن من الزينة الباطنة. ومَعَ ما في النُّجُوم من الرجوم للشياطين، وفي آيات القرآن من رجوم شياطين الإنس والجنِّ. والنُّجُومُ آياته المشهودة العِيَانِيَّة، والقرآنُ آياتُهُ المَتْلُوَّةُ السمعيَّةُ. مَعَ ما في مواقعها عند الغروب من العبرة والدلالة على آياته القرآنية ومواقعها عند النزول. ومن قَرَأَ "بموقع النُّجُوم" (¬1) على الإفراد، فَلِدلالة الواحد المضاف إلى الجَمْع على التعدُّد، و"الموقع": اسمُ جنْس، والمصادر إذا اختلفت جُمِعَت، وإذا كان النَّوع واحدًا أفرِدَتْ، قالَ الله تعالى: {إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ (19)} [لقمان: 19]، فجَمَعَ الأصوات لتعدُّدِ النَّوع، وأَفرَدَ "صوت الحمير" لوحدته. فإفراد "موقع النُّجُوْم" لوحدة المضاف إليه، وتعدُّد المواقع لتعدُّده، إذ لكلِّ نجمٍ موقع. فصل والمُقْسَم عليه قوله تعالى: {إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (77)}، ووقع الاعتراض بين القَسَم وجوابه بقوله: {وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ (76)}، ووقع الاعتراض بين الصفة والموصوف في جملة هذا الاعتراض بقوله ¬
مثال من سورة الأعراف لاعتراض الاحتراز
تعالى: {لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ (76)}، فجاء هذا الاعتراض في ضمن هذا الاعتراض، ألْطَفَ شيءٍ وأحسَنَهُ موقعًا. وأحسن ما يقع هذا الاعتراض إذا تضمَّنَ تأكيدًا أو تنبيهًا أو احترازًا، كقوله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (42)} [الأعراف: 42]، فاعترض بين المبتدأ والخبر بقوله: {لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} لما تضمَّنَهُ ذلك من الاحتراز الرافع (¬1) لِتَوَهُّمِ مُتَوَهِّمٍ: أنَّ الوعد إنَّما يستحقه من أتى بجميع الصالحات، فرفع ذلك بقوله: {لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا}. وهذا أحسن مِنْ قول مَنْ قال: "إنَّه أَخْبَرَ عن الذين آمنوا، ثُمَّ أخبر عنهم بخبرٍ آخر، فهما خبران عن مُخْبَرٍ واحدٍ"، فإنَّ عدم التكليف فوق الوسْع لا يَخْتَصُّ [بِـ] (¬2) الذين آمنوا، بل هو حكمٌ شامِلٌ لجميع الخلق، مَعَ ما في هذا التقدير من إخلاء جملة الخبر عن الرابط، وتقدير صفةٍ محذوفةٍ -أي: نَفْسًا منهم-، وتعطيل هذه الفائدة الجليلة. ومن أَلْطَفِ الاعتراضِ وأحسَنِهِ قوله تعالى: {وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ} [النحل: 57]، فاعترض بقوله: {سُبْحَانَهُ} بين الجَعْلَين. وفوائد الاعتراض تختلف بحسب قَصْدِ المتكلِّم، وسياق الكلام، من قَصْدِ الاعتناء، والتقرير، والتوكيد، وتعظيم المُقْسَم به، والمخبر ¬
عنه، ورفع تَوَهُّمِ خلاف المراد، والجواب عن سؤال مقدَّرٍ، وغير ذلك. فمن الاعتراض الذي يُقْصَدُ به التقرير والتوكيد قول الشاعر (¬1): لو اْنَ البَاخِلِينَ -وأنتِ مِنْهُمْ- ... رَأَوكِ تعلَّمُوا (¬2) مِنْكِ المِطَالا ومما يقصد به الجواب عن سُؤَالٍ مقدرٍ قول الآخر (¬3): فلا هَجْرُهُ يبدُو -وفي اليأْسِ رَاحَةٌ- ... ولا وَصْلُهُ يَصْفُو لنا فنكَارِمُه (¬4) فقوله: "وفي الياس راحةٌ" جوابٌ لتقدير سؤالِ سائلٍ: وما يُغْنِي عنكَ هجره؟ [ح/83] فقال: وفي اليأس راحةٌ، أي: المطلوب أحد أمرين: إمَّا يأسٌ مريحٌ، أو وِصَالٌ صَافٍ. ومن اعتراض (¬5) الاحتراز قول الجعدي (¬6): أَلاَ زَعَمَتْ بَنُو جَعْدٍ بأنِّيَ ... -وقد كَذَبُوا- كبيرُ السِّنِّ فَانِي ومنه قول نُصَيْبٍ (¬7): ¬
فكِدْتُ -ولم أُخْلَقْ مِن الطَّيْرِ- إنْ بَدَا ... سَنَا بَارِقٍ نحْوَ الحِجَازِ أَطِيرُ فقوله: "ولم أُخْلَق منِ الطير" لرفع استفهام يتوجهُ عليه على سبيل الإنكار لو قال: فكدتُ أَطِيرُ، فيقال له: وهل خُلِقْتَ من الطير؟ فاحترز بهذا الاعتراض. وعندي أنَّ هذا الاعتراضَ يُفِيدُ غيرَ هذا، وهو قوَّةُ شَوقِهِ ونُزُوعِهِ إلى أرض الحجاز، فأَخْبَر أنَّه كاد يطير على أنَّه أَبْعَدُ شيءٍ من الطيران، فإنَّه لم يُخْلَق من الطير، ولا عَجَبَ طيرانُ من خُلِق من الطير، وإنَّما العَجَبُ طيرانُ من لم يُخْلَق من الطير، لشدَّةِ نُزُوعه وشوقه إلى جهة محبوبه، فتَأمَّلْه. ومن مواقع الاعتراض: الاعتراضُ بالدعاء، كقول الشاعر (¬1): قد كنتُ أَبْكِي وأنتِ رَاضِيَةٌ ... حِذَارَ هذا الصُّدُودِ والغَضَبِ إنْ تَمَّ ذَا الهَجْرُ يا ظَلُومُ -ولا ... تَمَّ- فَمَا لِي في العَيْشِ من أَرَبِ وكقول الآخر (¬2): إنَ سُلَيْمَى -واللهُ يَكْلَؤُها- ... ضَنَّتْ بشيءٍ ما كَانَ يَرْزَؤُها وكقول الآخر (¬3): ¬
الاعتراض بين الشرط وجوابه بقوله تعالى: {ةالله أعلم بما ينزل} أفاد أمورا
إنَ الثمانَينَ -وَبُلِّغْتَها- ... قد أَحْوَجَتْ سَمْعِي إلى تَرْجُمَانْ ومنه الاعتراضُ بالقَسَم، كقوله (¬1): ذَاكَ الذي -وأبيكَ- يَعْرِفُ مالكًا ... والحقُّ يَدْفَعُ تُرَّهَاتِ البَاطِلِ ومن الاعتراض: الاستعطافُ؛ كقوله (¬2): فَمَنْ لِيَ بِالعَينِ التي كُنْتَ مرةً ... إليَّ بها -نَفْسِي فِدَاؤُكَ- تَنْظُرُ فاعترضَ بقوله: "نفسي فِدَاؤُك" استعطافًا. فتأملْ حُسْنَ الاعتراض وجزالته في قول الرب تبارك وتعالى: {وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ} [النحل: 101]، فقوله: {وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ} اعتراضٌ بين الشرط وجوابِه أفاد أمورًا: 1 - منها الجواب عن سؤالِ سائلٍ: ما حكمة هذا التبديل، وما فائدته؟ 2 - ومنها أنَّ الذي بُدِّلَ وأُتِي [ن/ 65] بغيره مُنَزَّلٌ مُحْكَمٌ نزولُه قبل الإخبار بقولهم. ¬
فصل: تفسير قوله تعالى: {إنه لقرآن كريم}
3 - ومنها أنَّ مصدر الأمرين عن علمه تبارك وتعالى، وأنَّ كلاًّ منهما مُنَزَّلٌ فيجب التسليم والإيمان بالأوَّلِ والثاني. ومن الاعتراض الذي هو فى أعلى درجات الحُسْن قوله تعالى: {وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ} [لقمان: 14]، فاعترض بذكر شأن حَمْلِهِ وَوَضْعِهِ بين الوصية والمُوصَى به، توكيدًا لأمر الوصية بالوالدة التي هذا شانها، وتذكيرًا (¬1) لولدها بحقَها، وما قاسَتْهُ من حَمْلِهِ وَوَضْعِهِ ممَّا لم يتكلَّفْهُ الأَبُ. ومنه قوله تعالى: {وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (72) فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا} [لبقرة/ 72 - 73]، فاعترض بقوله: {وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ} (¬2) بين الجُمَل المعطوف بعضها على بعض، إعلامًا بأنَّ تَدَارُؤَهم وتَدَافُعَهم في شان القتيل ليس نافعًا لهم في كتمانه، فإنَّ الله يُظْهِرُهُ ولابُدَّ. ولا تَسْتَطِلْ هذا الفَصْلَ وأمثالَهُ؛ فإئَه يعطيك ميزانًا، وينهج لك طريقًا يعينك على فَهْمِ الكتاب، والله المستعان. فصل ثُمَّ قال تعالى: {إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (77)} [الواقعة: 77]، فوَصَفَه بما يقتضي حُسْنَهُ، وكَثرةَ خَيرِهِ [ك/ 62] ومنافِعِهِ، وجَلاَلَتَهُ؛ فإنَّ "الكريم" هو: البَهِيُّ، الكثيرُ الخيرِ، العظيمُ النفعِ، وهو من كلِّ شيءٍ أحسنُهُ ¬
الأمور التي وصفها الله بالكرم
وأفضلُه (¬1). والله -سبحانه- وصف نفسَهُ بـ "الكَرَم"، ووصف به كلامه، ووصف به عرشه، ووصف به ما كَثُرَ خيره، وحَسُنَ مَنْظَرُه من النَّبَات وغيره (¬2). وكذلك فسَّرَ السلفُ "الكريم" بـ: الحَسَن، [ح/ 84] قال الكلبي: {إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ} أي: حَسَنٌ كريمٌ على الله". وقال مقاتل: "كرَّمَهُ اللهُ وأعزَّهُ؛ لأنَّهْ كلامه" (¬3). وقال الأزهري (¬4): "الكريم: اسمٌ جامعٌ لما يُحْمَدُ، والله كريمٌ حميدُ الفِعَال. وإنَّه لقرآنٌ كريمٌ يُحْمَد، لما فيه من الهُدَى والبيان والعلم ¬
فصل: تفسير قوله تعالى: {في كتاب مكنون}
والحكمة" (¬1). وبالجملة ف "الكريمُ" الذي (¬2) مِنْ شَأْنِهِ أن يُعْطِي الخير الكثير بسهولةِ ويُسْرِ، وضده "اللئيم" الذي لا يُسْتَخرج خيرُهُ النَّزْرُ إلا بِعُسْرِ وصعوبةِ. وكذلك الكريم في النَّاس واللئيم. فصل ثُمَّ قال تعالى: {فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ (78)} [الواقعة: 78]، اختلف المفسِّرون في هذا (¬3)، فقيل: هو اللوح المحفوظ (¬4). والصحيح أنَّه الكتاب الذي بأيدي الملائكة (¬5)، وهو المذكور في قوله تعالى: {فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ (13) مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ (14) بِأَيْدِي سَفَرَةٍ (15) كِرَامٍ بَرَرَةٍ (16)} (¬6) [عبس: 13 - 16]. ¬
بيان المراد بقوله تعالى: {لا يمسه إلا المطهرون}
قال مالك: "أحسن ما سمعت (¬1) في هذه الآية (¬2) -يعني قوله: {لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ (79)} - أنها مثل التي في "عَبَسَ": {فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ (13) مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ (14) بِأَيْدِي سَفَرَةٍ (15) كِرَامٍ بَرَرَةٍ (16)} (¬3). ويدلُّ على أنَّه الكتاب الذي بأيدي الملائكة قوله: {لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ (79)}، فهذا يدلُّ على أنَّه (¬4) بأيديهم يَمَسُّونَهُ. وهذا هو الصحيح في معنى الآية. ومن المفسِّرين من قال: إنَ المراد به أنَّ المصحف لا يَمَسُّه إلا طاهرٌ (¬5). والأوَّلُ أرْجَحُ لوجوهٍ (¬6): أحدها: أنَّ الآية سيقت تنزيها للقرآن أنْ تنزِلَ به الشياطين، وأنَّ مَحَلهُ لا يصل إليه فيمسَّهُ إلا المطهَرون، فيستحيل على أَخَابِثِ خلق الله - وأنجسهم أن يصلوا إليه أو يَمَسُّوه، كما قال تعالى: {وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ (210) وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ} [الشعراء: 210 - 211]، فنفَى ¬
الفعلَ وتأَتِّيه منهم، وقدرتَهم عليه، فما فعلوا ذلك ولا يليق بهم، ولا يقدرون عليه. فإنَّ الفعلَ قد ينتفي عمَّنْ يَحْسُنُ منه، وقد يليق بمن لا يقدر عليه، فنَفَى عنهم الأمور الثلاثة. وكذلك قوله -تعالى- في سورة "عبس": {فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ (13) مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ (14) بِأَيْدِي سَفَرَةٍ (15) كِرَامٍ بَرَرَةٍ (16)} [عبس: 13 - 16]، فوصَفَ مَحَلَّهُ بهذه الصفات بيانًا أن الشيطان لا يمكنه أن يتنزَّلَ به. وتقرير هذا المعنى أهمُّ وأجلُّ وأنفعُ من بيان كون المصحف لا يمسُّه إلا طاهرٌ. الوجه الثاني: أنَّ السورةَ مكَيَّةٌ، والاعتناء في [ز/ 80] السُّوَرِ (¬1) المكَيَّةِ إنَّما هو بأصول الدِّين، من تقرير التوحيد، والمَعَاد، والنُّبوَّة. وأمَّا تقرير الأحكام والشرائع فمظِنَّتُهُ السُّوَرُ المدنيَّةُ. الثالث: أنَّ القرآنَ لم يكن في مُصْحَف عند نزول هذه الآية، ولا في حياة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وإنَّما جُمِعَ في المصحف في خلافة أبي بكر. وهذا وإنْ جازَ أن يكون باعتبار ما يأتي؛ فالظاهر أنَّه إخبارٌ بالواقع حال الإخبار، يوضِّحُهُ: الوجه الرابع: وهو قوله: {فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ (78)}، و"المَكْنُون": المَصُون المَسْتُور (¬2) عن الأعين الذي لا تناله إيدي (¬3) البَشَر، كما قال تعالى: {كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ (49)} [الصافات: 49]، وهكذا قال السلف. ¬
قال الكلبي: "مَكْنُونٌ من الشياطين". وقال مقاتل: "مَسْتُور" (¬1). وقال مجاهد: "لا يصيبه ترابٌ ولا غُبَارٌ" (¬2). وقال أبو إسحاق (¬3): "مَصُونٌ في السماء" (¬4)، يوضِّحُهُ: الوجه الخامس: أنَّ وَصْفَهُ بكونه "مكنونًا" (¬5) نظير وَصْفه بكونه "محفوظًا"، فقوله (¬6) عزَّ وجلَّ: {إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (77) فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ (78)} كقوله: {بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ (21) فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ (22)} [البروج: 21 - 22]، يوضِّحُهُ: الوجه السادس: أنَّ هذا أبلغُ في الردِّ على المكذِّبين، وأبلغُ في تعظيم القرآن [ن/66] من كون المصحف لا يمسُّهُ مُحْدِثٌ. الوجه السابع: قوله: {لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ (79)} بالرَّفْع (¬7)، ¬
فهذا خبرٌ لفظًا ومعنىً، ولو كان نهيًا لكان مفتوحًا. ومن حَمَلَ الآية على النَّهْي احتاج إلى صرف الخبر عن ظاهره إلى معنى النَّهْي، والأصل في الخبر والئهْي حَمْلُ كُلٍّ منهما على حقيقته، وليس ههنا مُوجِبٌ يُوجِبُ صَرْف الكلام عن الخبر إلى النَّهْي. الوجه الثامن: أنَّه قال: {إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ (79)} ولم يقل: إلا المتطهِّرون. ولو أراد به مَنْعَ المُحْدِثِ من مَسِّهِ لَقَال: إلا المتطهِّرون، كما قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ (222)} [البقرة: 222]، وفي الحديث: "اللهُمَّ اجعَلْني [ح/85] من التوَّابين، واجعلني من المُتَطَهِّرين" (¬1)، ف "المُتَطَهِّر" فاعِلُ التطهير، و"المُطَهَّر" ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
الذي طهَّرَهُ غيرُهُ، فالمتوضِّئُ [ك/ 63] متطهِّرٌ، والملائكةُ مطهَّرون. الوجه التاسع: أنَّه لو أُريد به المصحف الذي بأيدينا لم يكن في الإخبار عن كونه مَكْنُونًا كبيرُ (¬1) فائدةٍ، إذ مجرَّدُ كَونِ الكلام مكنونًا في كتابٍ لا يستلزم ثبوته، فكيف يُمدَح القرآن بكونه مكنونًا في كتابٍ؟ وهذا أمرٌ مشتركٌ، والآيةُ إنَّما سِيقت لبيان مدحه وتشريفه (¬2)، وما اختصَّ به من الخصائص التي تدلُّ على أنَّه منزَلٌ من عند الله، وأنَّه محفوظٌ مَصُونٌ لا يصل إليه شيطانٌ بوجهٍ ما، ولا يَمسُّ مَحَلَّهُ إلا المطهَّرون، وهم السَّفَرَةُ الكِرَامُ البَرَرَةُ. الوجه العاشر: ما رواه سعيد بن منصور في "سننه": حدثنا أبو الأحْوَص، حدثنا عاصم الأحول، عن أنس بن مالك في قوله تعالى: {لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ (79)} قال: "المطهَّرون: الملائكة" (¬3). وهذا -عند طائفةٍ من أهل الحديث- في حكم المرفوع. قال الحاكم (¬4): "تفسير الصحابة -عندنا- في حكم ¬
المرفوع" (¬1)، ومن لم يجعله مرفوعًا فلا ريب أنَّه عنده أصحُّ من تفسير مَنْ بَعد الصحابة، والصحابةُ أعلم الأمَّة بتفسير القرآن، ويجب الرجوع إلى تفسيرهم. وقال حرب (¬2) في "مسائله": "سمعت إسحاق في قوله: {لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} قال: النُّسْخَةُ التي في السماء لا يمسُّها إلا ¬
المطهَّرون. قال: الملائكة" (¬1). وسمعتُ شيخ الإسلام يقرِّرُ الاستدلالَ بالآية على أنَّ المصحف لا يمشُه المُحْدِثُ بوجهٍ آخر (¬2)، فقال: هذا من باب التنبيه والإشارة، وإذا كانت الصحف التي في السماء لا يمسُّها إلا المطهَّرون، فكذلك الصحف التي بأيدينا من القرآن لا ينبغي أن يمسَّها إلا طاهِرٌ، والحديث مشتَقٌّ من هذه الآية، وهو قوله: "لا تَمسَّ القرآنَ إلا وأنتَ طاهِرٌ" (رواه أهل "السنن " من حديث: الزهري، عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، عن أبيه، عن جَدِّه: أنَّ في الكتاب الذي كتبه (¬3) النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - إلى أهل اليمن في السُّنَنِ، والفرائضِ، والدَّيَاتِ: "أن لا يمسَّ القرآن إلا طاهر" (¬4). ¬
قال أحمد: "أرجو أن يكون صحيحًا" (¬1). وقال أيضًا: "لا أَشُكُّ أنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - كَتبَهُ". وقال أبو عمر (¬2): "هو كتاب مشهور عند أهل السِّيَر، معروفٌ عند أهل العلم معرفةً يُسْتَغنى بشهرتها عن الإسناد؛ لأنَّه أشبه التواتر في مجيئه، لتلقِّي الناس له [ز/ 81] بالقبول والمعرفة". ثُمَّ قال: "وهو كتابٌ معروفٌ عند العلماء، وما فيه فَمُتَّفَقٌ عليه إلا ¬
فصل: ما دلت عليه الآية من لطيف الإشارات والتنبيهات
قليلاً" (¬1). وقد رواه ابن حِبَّان في "صحيحه" (¬2)، ومالك في "موطئه" (¬3) وفي المسألة آثارٌ أُخَرُ مذكورةٌ في غير هذا الموضع. فصل ودلَّت الآيةُ -بإشارتها وإيمائها- على أنَّه لا يُدْرِك معانيه ولا يفهمه إلا القلوب الطاهرة، وحرامٌ على القلب المتلوِّث بنجاسة الباع والمخالفات أن ينال معانيه، وأن يفهمه كما ينبغي. قال البخاري في "صحيحه" (¬4) في هذه الآية: "لا يجد طعمه إلا مَنْ آمَنَ به". وهذا -أيضًا- من إشارة الآية وتنبيهها، وهو أنَّه لا يَلْتَذُ به وبقراءته وفهمه وتدئرِه إلا مَنْ شَهِدَ أنَّه كلام الله، تكلم به حقًّا، وأنزله على رسوله وحيًا، ولا ينال معانيه إلا من لم يكن في قلبه حَرَجٌ منه بوجهٍ من ¬
الوجوه. فمن لم يؤمن بأنَّه حقٌ من عند الله ففي قلبه منه أعظمُ (¬1) حرجِ. ومن لم يؤمن بأنَّ الله -سبحانه- تكلَّم به حقًّا، وليس مخلوقًا من جملة مخلوقاته؛ ففي قلبه منه حَرَجٌ (¬2). ومن قال: إنَّ (¬3) له باطنًا يخالف ظاهره، وإنَّ له تأويلاً يخالف ما يُفْهَمُ منه؛ ففي قلبه منه حَرَجٌ (¬4). ومن قال: إنَّ له تأويلا لا نفهمه، ولا نعلمه، وإنَّما نتلوه مُتَعبِّدِين بألفاظه؛ ففي قلبه حَرَجٌ منه (¬5). ومن سلَّط عليه آراء الآرائيين، وهذيان المتكلِّمين، وسَفْسَطَة المتسَفْسِطِين، [ح/ 86] وخيالات المُتَصوِّفين؛ ففي قلبه منه حَرَجٌ. ومن جعله تابعًا لنِحْلَتِهِ ومذهبه، وقول من قلَّده دينه، ينزِّلُه على أقواله، ويتكلَّفُ حمله عليها؛ ففي قلبه منه حَرَجٌ. ومن لم يُحَكِّمْهُ ظاهرا وباطنا في أصول الدِّين وفروعه، ويُسَلِّمْ وينقاد (¬6) لحُكْمه أين كان؛ ففي قلبه منه حَرَجٌ (¬7). ¬
فصل: ما أفاده قوله تعالى: {تنزيل من رب العالمين} من مطالب الدين
ومن لم يأْتَمِرْ [ن/67] بأوامره، ويَنْزَجِرْ عن زواجره، ويُصَدِّقْ جميع أخباره، ويُحَكَمْ أَمْرَهُ ونَهْيَهُ وخَبَرَهُ، ويَرُدَّ له كلِّ أمرٍ ونَهْيٍ وخبرِ خالَفَهُ؛ ففي قلبه منه حَرَجٌ. وكلُّ هؤلاء لا تَمس قلوبَهم معانيه، ولا يفهمونه كما ينبغي أن يُفْهَم، ولا يجدون من لذةِ حلاوته وطعمه ما وَجَدَهُ الصحابةُ ومن تَبِعَهُم (¬1). وأنتَ إذا تأمَّلْتَ قوله تعالى: {لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ (79)} [الواقعة: 79]، وأعطيت الآية حقَّها من دلالة اللفظ، وإيمائه، وإشارته، وتنبيهه، وقياس الشيء على نظيره، واعتباره بمُشَاكِلِه، وتأمَّلْتَ المشابهة التي عَقَدَها الله -سبحانه- وربطها بين الظاهَر والباطن = فَهِمْتَ هذه المعانىِ كلَّها من الآية، [ك/ 64] وبالله التوفيق. فصل ثُمَّ أكَّدَ ذلك وقرَّرَهُ وأطَّدَهُ بقوله عزَّ وجلَّ: {تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (80)} [الواقعة: 80]، وهذا كما أنه لازِمٌ لكونه قرآنًا كريمًا فىِ كتابٍ مكنونِ؛ فهو ملْزُومٌ له. فهو دليلٌ عليه، ومدلولٌ له. وأفاد كونه تنزيلاً من رب العالمين مطلوبَين (¬2) عظيمَين هما أَجَلُّ مَطَالب الدِّين: ¬
إثبات الربوبية يستلزم إثبات الرسالة للنبي - صلى الله عليه وسلم -
أحدهما: أنَّه المتكلِّم به، وأئَه منه نَزَل، ومنه بَدَأ، وهو الذي تكلَّم به. ومن هنا قال السلف: "منه بدأ". ونظيره قوله تعالى: {وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي} [السجدة: 13]، وقوله تعالى: {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ} [النحل: 102]. والثاني: عُلُوُّ اللهِ -سبحانه- فوق خَلْقه، فإنَّ "النُّزُول" و"التنزيل" -الذي تعقله العقول وتعرفه الفِطَر- هو وصول الشيء من أَعْلَى إلى أسفل، والرَّب -تعالى- إنَّما يخاطب عباده بما تعرفه فِطَرُهم، وتشهد به عقولهم. وذَكَر "التنزيل" مضافًا إلى ربوبيته للعالَمين المستلزِمة لملكه لهم، وتَصَرُّفِهِ فيهم، وحكمِهِ عليهم، وإحسانِهِ وإنعامِهِ عليهم، وأن مَنْ هذا شَاْنُهُ مع الخَلْق كيف يليق به مع ربوبيته التافَةِ أن يتركَهم سدىً، ويَدَعَهُم هَمَلاً، ويخلقَهم عبثًا، لا يأمرهم ولا ينهاهم، ولا يثيبهم ولا يعاقبهم. فمن أقر بأنَّه رب العالَمين؛ أقرَّ بأنَّ القرآن تنزيله على رسوله. واستَدَلَّ بكونه ربَّ العالَمين على ثبوتِ رسالة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، وصحةِ ما جاء به. وهذا الاستدلال أقوى وأشرف من الاستدلال بالمعجزات والخوارق، وإن كانت دلالتها أقرب إلى أذهان عموم النَّاس، وتلك إنَّما تكون [ز/ 82] لخواصِّ العقلاء. وقد أشار -سبحانه- إلى الطريقين في غير موضع من كتابه، كقوله تعالى: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ} [فصلت: 53]، فهذا استدلالٌ بالآيات المُعَايَنَة المخلوقة، ثُمَّ قال: {أَوَلَمْ
يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (53)}، فهذا استدلالٌ (¬1) بكمال ربوبيته، وكمال أوصافه؛ على صدق رسوله فيما جاء به. وهذه الطريق أخصُّ، وأقوى، وأكمل، وأَعْلَى. والأُولَى (¬2) أعمُّ وأشمل، وقد تقدَّم بيانها عند قوله تعالى: {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ (44)} [الحاقة: 44] (¬3). وأين الاستدلال بأوصاف الرَّبِّ -تعالى- وكماله المقدَّس على ثبوت النَّبِيِّ (¬4) وبعثه، من الاستدلال عليه ببعض مخلوقاته؟ وتأمَّلْ فَرْقَ ما بين استدلال (¬5) سيدة نساء العالَمين خديجة -رضي الله عنها- بصفات الرَّبِّ تعالى، وصفات محمد - صلى الله عليه وسلم -، واستنتاجها (¬6) من بين هذين الأمرين صحة نبوَّته (¬7)، وأنَّه رسول الله حقًّا، وأنَّ من كانت هذه صفاته فصفات ربِّهِ وخالقه تَأْبَى أن يُخْزِيَهُ، وأنَّه لابُدَّ أن يؤيِّدَه، ويُعْلِيَهُ، ويُتِمَّ نعمته عليه (¬8). وأنتَ إذا تأمَّلْتَ هذه الطريقةَ وهذا الاستدلالَ وجدتَ بينها وبين ¬
طريقة المتكلِّمين من الفَرْق ما لا يخفى. وإذا حصل للعبد الفقه في الأسماء والصفات انتفع به في باب معرفة الحق والباطل من الأقوال، والطرائق، والمذاهب، والعقائد = أعظمَ انتفاعٍ وأتمَّهُ. وقد بينَّا في كتابنا (¬1) "المَعَالم" (¬2) بطلان [ح/87] التحليل وغيره من الحِيَل الربويَّة باسماء الربِّ وصفاته، وأنِّه يستحيل على الحكيم أن يُحَرِّمَ الشيء ويتوعَّدَ (¬3) على فعله بأعظم أنواع العقوبات، ثُمَّ يُبِيح التوصُّل إليه بنفسه بأنواع (¬4) التحيُّلات. فأين ذلك الوعيد الشديد، وجواز التوصُّل إليه بالطريق البعيد؟! إذ ليست حكمة الرَّبِّ -تعالى- وكمال علمه وأسمائه وصفاته؛ تنتقض (¬5) بإحالة ذلك وامتناعه عليه (¬6). فهذا استدلالٌ بالفقه الأكبر في الأسماء والصفات (¬7) على الفقه ¬
فصل: توبيخه سبحانه لمن داهن في القرآن، وتوضيح ذلك
العَمَليِّ في باب الأمر والنَّهْي. وهذا بابٌ حرامٌ على الجَهْميِّ المُعَطِّلِ أن يَلِجَهُ، وجَنَّةٌ حرامٌ عليه رِيحُها، وإنَّ ريحَها ليوجد من مسيرة خمسين ألف سنة. والله العزيز الوهَّاب، لا مانع لما أعطى، ولا معطي لما منع، وبه التوفيق. فصل ثُمَّ وبَّخَهُم -سبحانه- على وَضْعِهم الإذهَانَ (¬1) في غير موضعه، وأنهم يُدَاهِنُون بما حَقُّه أن يُصْدَعَ به، ويُفَرَّقَ به، ويُعَضَّ عليه بالنَّواجذ، وتُثْنى عليه الخَنَاصِر، [ن/ 68] وتُعْقَدَ (¬2) عليه القلوبُ والأفئدة، ويُحَارَبَ ويُسَالَمَ لأجله، ولا يُلْتَوَى عنه يَمْنَةً ولا يَسْرَةً، ولا يكون للقلب التفاتٌ إلى غيره، ولا محاكمةٌ إلا إليه، ولا مخاصمةٌ إلا به، ولا اهتداءٌ في طُرُق [ك/65 ب] المطالب العالية إلا بنُوره، ولا شفاءٌ إلا به، فهو روحُ الوجود، وحياة العالم، ومدار السعادة، وقائدُ الفلاح، وطريقُ النجاة، وسبيلُ الرَّشاد، ونورُ البصائر، فكيف تُطْلَبُ المُدَاهَنَةُ بما هذا شأنه، ولم ينزل للمُدَاهَنة؟ وإنَّما أُنزل بالحقِّ وللحقِّ. والمُدَاهَنة إنَّما تكون في باطِل قَوِيٍّ لا يمكن إزالته، أو في حَقٍّ ضعيفٍ لا يمكن إقامته، فيحتاج المداهِنُ إلى أنْ يترك بعض الحقِّ، ويلتزم بعض الباطل، فأمَّا الحقُّ الذي قام به كلُّ حَق فكيف يُدَاهن به؟ ثُمَّ قال سبحانه: {وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ (82)} [الواقعة: 82]، ¬
قوام كل أحد يقوم على رزق البدن ورزق القلب، والحكمة منهما
لمَّا كانَ قِوَام كلِّ واحدٍ من البدن والقلب إنِّما هو بالرِّزْق -فَرِزْقُ البدنِ: الطعامُ، والشرابُ. ورزْقُ القلب: الإيمانُ، والمعرفةُ بربِّه وفاطره، ومحبتُه، والشوقُ إليه، والأُنْسُ بقُرْبه، والابتهاجُ بذكره-، وكان لا حياة له إلا بذلك، كما أنَّ البدن لا حياة له إلا بالطعام والشراب = أَنْعَم الله - على عباده بهذين النَّوعَين من الرِّزْق، وجعل قيام أبدانهم وقلوبهم بهما. ثُمَّ فَاوَتَ -سبحانه- بينهم في قِسْمَة هذين الرِّزْقَين، بحسب ما اقتضاه علمه وحكمته؛ فمنهم من وُفِّرَ حظُّه [ز/83] من الرِّزْقَين، ووُسِّعَ عليه فيهما، ومنهم من قُتِّرَ عليه في الرِّزْقَين، ومنهم من وُسِّعَ عليه رزقُ البدن، وقُتِّرَ عليه رزقُ القلب، وبالعكس. وهذا الرِّزْق إنِّما يَتِمُّ ويَكْمُلُ بالشُّكْر. و"الشُّكْر" مادَّةُ زيادته، وسبب حفظه وبقائه، وترك الشُّكْر سبب زواله وانقطاعه عن العبد، فإنَّ الله -تعالى- تاذَّنَ أنَّه لابُدَّ أن يزيد الشَّكُور من نعمه، ولابُدَّ أنْ يَسْلُبَها مَنْ لم يشكرها. فلمَّا وضعوا الكفر والتكذيبَ موضع الشُّكْرِ والإيمان؛ جعلوا رزقَهم -نَفْسَهُ- تكذيبًا، فإنَّ التصديقَ والشُّكْرَ لمَّا كانا سبب زيادة الزَزْق -وهما (¬1) رِزْقُ القلب حقيقةً-، فهؤلاء جعلوا مكانَ هذا الرِّزْق التكذيبَ والكفْرَ، فجعلوا رزقَهم التكذيب. وهذا المعنى هو الذي حَامَ حوله من قال: التقدير: وتجعلون شُكْرَ ¬
رزقكم أنكم تكذِّبون (¬1). وقال آخرون (¬2): التقدير: وتجعلون بَدَلَ شُكْرِ رزقكم أنكم تكذِّبون، فحَذَفَ مُضَافَين معًا. وهؤلاء أطالوا اللفظ، وقصَّروا بالمعنى. ومن بعض معنى الآية قولهم: "مُطِرْنَا بِنَوْءِ كذا وكذا" (¬3)، فهذا ¬
فصل: ختمت سورة الواقعة بوصف حال الناص عند الموت وأنهم ثلاثة
يصلح أن تدلَّ عليه الآية ويراد بها (¬1)، وإلا فمعناها أوسعُ منه وأعمُّ وأعلى. والله أعلم. فصل ثُمَّ خَتَم السورةَ بأحوالهم عند القيامة الصغرى، كما ذكر في أوَّلها أحوالَهم في القيامة الكبرى، وقسَّمَهم إلى ثلاثة أقسامٍ كما قسَّمهم هناك إلى ثلاثة أقسام. وذكر بين يدي هذا التقسيم الاستدلال على صحته وثبوته، بأنَّهم مَرْبُوبُون مُدَبَّرُون مملُوكُون، [ح/ 88] فوقهم ربٌّ قاهِرٌ مالِكٌ يتصرَّف فيهم ¬
معنى قوله تعالى: {فلولا إذا بلغت الحلقوم}
بحسب مشيئته وإرادته، وقرَّرهم (¬1) على ذلك بما لا سبيل لهم إلى دفعه ولا إنكاره فقال تعالى: {فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ (83)} [الواقعة: 83]، أي: وصلت "الرُّوح" إلى هذا الموضع، بحيث فارَقَتْ ولم تُفَارِق، فهي في برزخٍ بين الموت والحياة، كما أنَّها إذا فارَقَتْ صارت في برزخٍ بين الدنيا والاَخرة، وملائكةُ الرَّبِّ -تبارك وتعالى- أقربُ إلى المُحْتَضَرِ من حاضريه من الإنس، ولكنَّهم لا يبصرونهم، فلولا تردُّونها إلى مكانها من البدن أيُّها الحاضرون، إنْ كان الأمر كما تزعمون أنكم غيرُ مَجْزِيِّين ولا مَدِينين، ولا مبعوثين (¬2) ليوم الحساب. فإن قيل: أيُّ ارتباطٍ بين هذين الأمرين حتَّى يُلازِمَ بينهما؟ قيل: هذا من أحسن الاستدلال وأَبْلَغِهِ، فإنَّهم إمَّا أنْ يُقِرُّوا بأنَّهم مملوكون مَرْبُوبُون عبيدٌ لمالكٍ، قادِرٍ، مُتَصرِّفٍ فيهم، قاهرٍ، آمِرٍ لهم، نَاهٍ؛ أو لا يُقِرُّون بذلك. فإنْ أقرُّوا به لزِمَهُم القيامُ بحقِّه عليهم، وشُكْرِه، وتعظيمِهِ، وإجلاله، وأن لا يجعلوا له نِدًّا، ولا شريكًا، وهذا هو الذي جاءهم به رسولُه (¬3)، ونزل عليهم به كتابُه. وإنْ أنكروا ذلك وقالوا: إنَّهم ليسوا بعبيدٍ، ولا مملوكين، ولا مَرْبُوبين، وإنَّ الأمر إليهم؛ فَهَلا يردُّون الأرواحَ إلى مقارِّها (¬4) إذا بلغت ¬
ما في الآية من تركيب بليغ يسجد العقل والسمع لمعناه ولفظه
الحلقوم؟ فإنَّ المتصرِّفَ في نفسه، الحاكِمَ على روحه؛ لا يمتنع منه ذلك، بخلاف المحكومِ عليه، المتصرِّفِ فيه غيرُه، المُدَبِّرِ له سواهُ، الذي هو عبدٌ مملوكٌ من جميع الجهات. وهذا الاستدلال لا محيدَ عنه، ولا مَدْفَعَ له، [ن/69] ومن أعطاه حقَّهُ من التقرير والبيان [ك/66] انتفع به غاية النَّفْع، وانقاد لأجله للعبودية وأَذْعَنَ، ولم يَسَعْهُ غير التسليم للربوبية والألهية، والإقرار بالعبودية. وللهِ ما أحسن جَزَالةَ هذه الألفاظ وفصاحَتَها، وبلوغَها أقصى مراتب البلاغة والفصاحة، مع الاختصار التامِّ، وندائها إلى معناها من أقرب مكان، واشتمالها على التوبيخ والتقرير والإلزام، ودلائلِ الربوبية، والتوحيد، والبعث، وفصْلِ النزاع في معرفة "الرُّوح" وأنَّها تَصْعَدُ، وتنزِلُ، وتنتقلُ من مكانِ إلى مكانٍ. وما [ز/ 84] أحسن إعادة "لولا" ثانيَا قبل ذكر الفعل الذي يقتضيه الأول، وجَعْلِ الحرفين يقتضيانه اقتضاءَ واحدًا، وذِكْرِ الشرط بين "لولا" الثانية وما تقتضيه من الفعل، ثُمَّ الموالاة بين الشرط الأوَّل والثاني، مع الفَصْل بينهما بكلمةٍ واحدةٍ هي الرابطة بين "لولا" الأُولَى والثانية، والشرط الأوَّل والثاني، وهذا تركيبٌ يَسْجُدُ العقل والسمع لمعناه ولفظه. فتضمَّنت الآيتان تقريرًا، وتوبيخًا، واستدلالاً على أصول الإيمان: من وجودِ الخالق -سبحانه- وكمالِ قدرته، ونُفُوذِ (¬1) مشيئته، وربوبيته، وتصرُّفِهِ في أرواح عباده، حيث لا يقدرون على التصرُّفِ فيها ¬
بشيءٍ، وأنَّ أرواحَهم بيده، يذهبُ بها إذا شاء، ويردها إليهم إذا شاء، ويُخْلِي أبدانهم منها تارةً، ويجمع بينها وبينها تارةً، وإثباتِ المَعَاد، وصدقِ رسوله فيما أخبر به عنه، وإثباتِ ملائكته (¬1)، وتقريرِ عبودية الخلق. وأتى بهذا في صورة تَحْضِيضَين، وتَوْبِيخَين، وتَقْرِيرَين، وجَوَابَين، وشَرْطَين، وجَزَاءَين، منتظِمَةً أحسن الانتظام، ومتداخلةً أحسن التداخل، متعلِّقًا بعضُها ببعض. وهذا كلامٌ لا يقدر البشر على مثل نظمه ومعناه. قال الفرَّاء: "وأُجيبَتْ {فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ} و {فَلَوْلَا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ (86)} بجواب وَاحدٍ وهو: {تَرْجِعُونَهَا} "، قال: "ومثله قوله تعالى: {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (38)} [البقرة: 38]، أُجيبا بجوابٍ واحدٍ، وهما شرطان (¬2) " (¬3). وقال الجُرْجَانيُّ: "قوله تعالى: {تَرْجِعُونَهَا} جوابٌ لقوله: {فَلَوْلَا} المتقدِّمة والمتأخِّرة، على تأويل: فلولا إذا بلغت النَّفْسُ الحلقومَ [ح/89] تردُّونها إلى موضعها إن كنتم غير محاسبين ولا مجزيين كما تزعمون؟ يقول تعالى: إن كان الأمر كما تزعمون أنَّه لا بعثَ، ولا حسابَ، ولا جزاءَ، ولا إلهَ، ولا ربَّ يقوم بذلك، فهلاَّ تردُّون نَفْسَ من يَعِزُ عليكم إذا بلغت الحلقوم؟ فإذ لم يُمْكِنْكُم في ذلك حِيلة بوجهٍ من الوجوه، فهلَّا دلَكُم ذلك على أنَّ الأمر إلى مليكٍ، قادرٍ، قاهرٍ، متصرِّفٍ ¬
ونظيرها في الدلالة ما جاء في سورة الإسراء: {قل كونوا حجارة أو حديدا}
فيكم، وهو الله الذي لا إله إلا هو؟ " (¬1). وقال أبو إسحاق: "معناه: فهلَّا تَرجِعُون "الرُّوح" إن كنتم غير مملوكين مدبرين؛ فهلَّا إن كان الأمر كما زعمتم فيما يقول قائلكم: {لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا} [آل عمران: 168]، و {لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا} [آل عمران: 156]، أي: إنْ كنتم تقدرون أن تُؤَخِّروا أَجَلاً؛ فهلَّا تَرجِعُون "الرُّوح" إذا بلغت الحلقوم؟ وهلأَ تَدْرَؤُون عن أنفسكم الموت" (¬2). قلتُ: وكأنَّ هذا يلتفت إلى قوله تعالى: {قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا (50) أَوْ خَلْقًا مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ} [الأسراء: 50 - 51]؛ أي: إنْ كنتم كما تزعمون لا تُبعَثُون بعد الموت خَلْقًا جديدًا، فكونوا خلقًا لا يفنى ولا يَبْلَى، إمَّا من حجارةٍ، أو من حديدٍ، أو أكبر من ذلك. ووجه الملازَمة ما (¬3) تقدمَ ذكره، وهو إمَّا أنْ تُقِروا بأنَ لكم ربا متصرفًا فيكم، مالكًا لكم، تنفُذُ فيكم مشيئَتُهُ، وبقدرتهِ يميتكم إذا شاء، ويُحييكم إذا شاء، فكيف تنكرون قدرته على إعادتكم خلقًا جديدًا (¬4) بعدما أماتكم؟ وإمَّا أن تنكِرُوا أن يكون لكم ربٌّ قادرٌ، قاهرٌ، مالكٌ، نافِذُ المشيئة والقدرة فيكم؛ فكونوا خَلْقًا لا يقبل الفناء والموت، فإذا لم تستطيعوا أن تكونوا كذلك فما تنكرون مِن قدرة مَنْ جَعَلَكُم خلقًا يموتُ ويحيا؛ أن يُحييكم بعدما أماتكم؟ ¬
فصل: طبقات الناس الثلاثة عند الحشر الأول
فهذا استدلالٌ يُعجِزُهم عن كونهم خَلْقًا لا يموت، والذي في "الواقعة" استدلالٌ يُعجزُهم عن رَدِّ "الرُّوح" إلى مكانها إذا قاربت الموت، وليس بعد هَذا الاستدلال إلا الإذعان والانقياد، أو الكفر والعناد. فصل فلفَا قام الدليل، ووضح السبيل، وتَمَّ البرهان على أنَّهم مملوكُون، مَرْبُوبُون، مجزيُّون، محاسبون = [ك/ 67] ذكر طبقاتهم [ز/ 85] عند الحشر الأوَّل، والقيامة الصغرى. وهي ثلاثةٌ: 1 - طبقةُ المُقَرَّبين. 2 - وطبقةُ أصحاب اليمين. 3 - وطبقةُ المكذِّبين [ن/ 70]. فجعل تحيَّة المقرَّبين عند الموافاة: الرَّوْحَ، والريحانَ، والجنَّةَ. وهذه الكرامات الثلاث التي يُعْطَونها بعد الموت نظير الثلاثة التي يُعْطَونَها يوم القيامة. ف "الرَّوْحُ": الفَرَحُ، والسرورُ، والابتهاجُ، ولذَّة الرُّوحِ، فهي كلمةٌ جامعةٌ لنعيم "الرُّوحِ" ولذَّتِها، وذلك وقُوَّتُها وغذاؤها. و"الرَّيْحَانُ": الرِّزْقُ، وهو الأكلُ والشرب. و"الجنَّةُ": المَسْكَنُ الجامعُ لذلك كلِّه. فَيُعطَون هذه الثلاثةَ في البرزخ، وفي المَعَاد الثاني.
بيان معنى "السلام" الذي يكون لأصحاب اليمين
ثُمَّ ذكر الطبقة الثانية، وهم طبقة أصحاب اليمين. ولمَّا كانوا دون المقربين في المرتبة جعلَ تحيَّتَهم عند القُدُوم عليه السلامةَ من الآفات والشرور التي تحصل للمكذِّبين الضَّالِّين فقال تعالى: {وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ (90) فَسَلَامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ (91)} [الواقعة: 90 - 91]. و"السَّلاَم": مصدر من سَلِمَ، أي: فَلَكَ السلامةُ. والخطاب له نفسه، أي يُقَالُ له (¬1): لَكَ السلامة، كما يقال للقادم: لَكَ الهَنَاءُ، ولَكَ السَّلاَمة (¬2)، ولَكَ البُشْرَى، ونحوَ ذلك من الألفاظ. كما يقولون: خير مَقْدَمِ، ونحوَ ذلك، فهذه تحيَّتُه عند اللقاء. قال مقاتل: "يُسَلِّمُ اللهُ لهم (¬3) أمرَهم، بِتَجَاوزِه عن سيئاتهم، وتقَبُّلهِ حسناتهم" (¬4). وقال الكلبي: "يُسَلِّمُ عَليه أهلُ الجنَّة، ويقولون: السلامةُ لَكَ" (¬5). وعلى هذا فقوله: {مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ (91)}، أي: هذه التحية حاصلةٌ لك من إخوانك أصحاب اليمين، فإنَّه إذا قَدِمَ عليهم حَيوْهُ [ح/ 90] بهذه التحيَّة، وقالوا: السلامةُ لك. ¬
تفسير قوله تعالى: {إن هذا لهو حق اليقين}
وفي الآية أقوالٌ أُخَر، فيها تكفُفٌ وتعسُّفٌ، فلا حاجة إلى ذكرها (¬1). ثُمَّ ذكر الطبقة الثالثة، وهي طبقةُ الضالِّ في نفسه، المكذِّبِ لأهل الحقِّ، وإنَّ له عند الموافاة (¬2) نُزُل الحميم، وسُكْنَى الجحيم. ثُمَّ أكَّدَ هذا الخبر بما جعله كأنَّه رأي العين لمن آمن بالله ورسوله فقال -عزَّ وجلَّ-: {إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ (95)} [الواقعة: 95]، فرفَعَ شَأْنَهُ عن درجة الظَّنِّ إلى العلم، وعن درجة العلم (¬3) إلى اليقين، وعن درجة اليقين إلى حَقِّهِ (¬4). ثُمَّ أمره أن يُنَزِّهَ اسمَهُ -تبارك وتعالى- عما لا يليق به، وتنزيه الاسم متضمِّنٌ لتنزيه المُسَمى عمَّا يقوله الكاذبون والجاحدون. ¬
فصل: القسم في سورة النجم
فصل ومن ذلك قوله تعالى: {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى (1) مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى (2) وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3)} [النجم: 1 - 3]. أقسَمَ -سبحانه- بالنَّجْم عند هُوِيهِ على تنزيه رسوله، وبراءته ممَّا نسبه إليه أعداؤه من الضلالِ والغَيِّ. واختلف النَّاس في المراد بـ "النَّجْم": فقال الكلبي، عن ابن عباس: "أقسَمَ بالقرآن إذا نزل مُنَجَّمًا (¬1) على رسوله: أربع آياتٍ، وثلاث آياتٍ (¬2)، والسورة، وكان بين أوَّله وآخره عشرون سنة". وكذلك روى عطاء عنه، وهو قول: مقاتل (¬3)، والضحَّاك، ومجاهد (¬4). ¬
تفسير معنى "هوى" عند أئمة اللغة
واختاره الفرَّاء (¬1). وعلى هذا فَسُمِّيَ القرآنُ "نَجْما"؛ لتفرُّقِهِ في النزول، والعرب تُسمِّي التفرُّقَ: تنَجُّمًا، والمفرَّقَ: مُنَجَّمَا. ونُجُوم الكتابَةِ: أَقْسَاطُها، وتقول: جعلتُ مالي على فلانٍ نجوفا منجَّمَة كلَّ نجمٍ كذا وكذا. وأصل هذا أنَّ العرب كانت تجعل مطالعَ منازل القمر ومساقطَها مواقيتَ لِحُلُول دُيُونها وآجالها، فيقولون: إذا طلع النَّجمُ -يريدون (¬2) "الثُّرَيَّا"- حَل عليك الدَّينُ. ومنه قول زهير (¬3) في ديةٍ جُعِلَت نجومًا على العاقلة: يُنَجِّمُها قَومٌ لِقَومٍ غَرَامَةً ... ولم يُهَرِيقُو ابَينَهُمْ مِلْءَ مِحْجَمِ - ثُمَّ جُعِلَ كلُّ تنجُّيم (¬4) تفريقًا؛ وإن لم يكن موقَّتًا بطلوع نجم. وقوله تعالى: {هَوَى (1)} -على هذا القول- أي: نَزَلَ من عُلُوٍّ إلى سُفْل. قال أبو زيد (¬5): "هَوَتِ العُقَابُ تَهْوِي هَوِيًّا -بفتح الهاء-: إذا ¬
انقضَّتْ على صيدٍ أو غيره" (¬1). وكذلك قال ابن الأعرابي، وفرَّقَ بين "الهَوِيّ" و"الهُوِيّ" -بفتح الهاء وضمِّها-، وقال: "الفتحُ في السريع إلى أسفل، والضمُّ: في السريع إلى فوق" (¬2)، ثُمَّ أنشد شاهدًا لقوله: والدلْوُ في إصْعَادِها (¬3) عَجْلَى الهُوِيّ وقال الليث: "العامَّةُ تقول: الهُوِيّ -بالضمِّ- في مصدر: هَوَى يَهْوِي" (¬4). وكذلك قال [ز/ 86] الأصمعي: "هَوَى يهْوِي هَويًّا -بفتح الهاء-: إذا سقط إلى أسفل"، قال: "وكذلك الهَوِيُّ في السَّيْرِ: إذا ¬
مَضَى" (¬1) وههنا أمرٌ يجب التنبيه عليه غَلِطَ فيه أبو محمد بن حزم أقبحَ غَلَطٍ، فذكر في أسماء الرب -تعالى-: الهَوِي (¬2) -بفتح الهاء-، واحتجَّ بما في "الصحيح" من حديث [ك/68] عائشة: "أنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - كان يقول في سجوده: "سُبْحَانَ ربِّي الأَعْلَى" الهَوِيّ" (¬3). فظنَّ أبو محمد أنَّ ¬
"الهَوِيَ" صفةٌ للرَّبِّ؛ وهذا من غلطه رحمه الله، وإنَّما "الهَوِيّ" على وزن "فَعِيل": اسمٌ لقطعةٍ من الليل. يقال: مَضَى (¬1) هَويٌ من الليل - على وزن "فَعِيل"-، ومَضَى هَزِيعٌ منه؛ أي: طَرَفٌ وجانبٌ (¬2). فكان يقول: "سُبْحَانَ ربَيّ الأعْلَى" في قطعةٍ من الليل وجانبٍ منه. وقد صرَّحَتْ بذلك في اللفظ الآخر، فقالت: "كان يقول: "سُبْحَانَ رَبَي الأعْلَى" الهَوِيَّ من الليل" (¬3). عُدْنَا [ن/ 71] إلى قوله: {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى (1)}: وقال ابن عباس -في رواية علي بن أبي طلحة، وعطية-: "يعني: "الثُّرَيَّا لما إذا سقَطَتْ وغَابَتْ". وهو الرواية الأخرى عن مجاهد (¬4). والعرب إذا أطلقت "النَّجْم" تعني به: "الثُرَيَّا" (¬5)، ¬
قال (¬1): فباتَتْ تَعُدُّ النَّجْمَ ... (¬2) وقال أبو حمزة الثُّمَالي (¬3): "يعني: النُّجُوم إذا انْتَثَرَتْ يوم القيامة" (¬4). وقال ابن عباس -في رواية عكرمة-: "يعني: النُّجُوم التي تُرْمَى بها الشياطينُ إذا سقطت في آثارها عند استراق السمع". ¬
أظهر الأقوال هو بأن المراد النجوم التي ترمى بها الشياطين
وهذا قول الحسن (¬1)، وهو أظهر الأقوال. ويكون -سبحانه- قد أقسَمَ [ح/ 91] بهذه الآية الظاهرة المشاهَدَة، التي نَصَبَها الله -سبحانه- آية، وحِفْطا للوحي من استراق الشياطين له؛ على أنَّ ما أتى به رسولُه حقٌّ وصِدْقٌ، لا سبيل للشيطان ولا طريقَ له إليه، بل قد حُرِسَ بـ"النجْم" إذا هَوَى؛ رَصْدًا بين يدي الوحي، وحرسًا له. وعلى هذا فالارتباط بين المُقْسَمِ به والمُقْسَمِ عليه في غاية الظهور، وفي المُقْسَمِ به دليلٌ على المُقْسَمِ عليه. وليس بالبَيِّن تسمية القرآن عند نزوله بـ: النَّجْم إذا هَوَى، ولا تسمية نزوله: هويًّا، ولا عُهِد في القرآن بذلك فيُحْمَل هذا اللفظ عليه. وليس بالبَيِّن -أيضًا- تخصيصُ هذا القَسَم بـ "الثريا" وحدها إذا غَابَتْ .. وليس بالبَيِّنِ -أيضًا- القَسَمُ بالنُّجُوم (¬2) عند انتثارها يوم القيامة، بل هذا ممَّا يُقْسِمُ الرَّبُّ عليه، ويدلُّ عليه بآياته، فلا يجعله نفسَهُ دليلاً، لعدم ظهوره للمخاطَبين، ولاسيما منكرو البعث، فإنَّه -سبحانه- إنَّما يستدِلُّ بما لا يمكنَ جَحْدُه، ولا المكابرة فيه. فأظهر الأقوال قول الحسن. والله أعلم. ¬
بعض وظائف النجوم
وبين المُقْسَم به والمُقْسَم عليه من التناسب ما لا يخفى؛ فإنَّ الئجُومَ التي تُرمَى بها الشياطين آياتٌ من (¬1) آياتِ الله، يَحْفَظُ بها دينَهُ، ووحيَهُ، وآياته المنزَّلة على رسوله، فَبِها ظهر دينُهُ، وشرعُهُ، وأسماؤُهُ، وصفاتُهُ، وجُعِلَتْ هذه الئجُومُ المشاهَدة خَدَمًا وحرسًا لهذه النُّجُوم الهادية. ونَفَى -سبحانه- عن رسوله الضلالَ المنافي للهُدَى، والغَيَّ المنافي للرَّشَاد. ففي ضمن هذا الئفْي الشهادة له بأنَّه على الهُدَى والرشْد، فالهُدَى في عِلْمِهِ، والرُّشْد في عَمَلِهِ. وهذان الأصلان هما غاية كمال العبد، وبهما سعادته وفلاحه. وبهما وصَفَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - خلفاءَهُ؛ فقال: "عليكم بِسُنَّتَي وسُنَّة الخُلَفَاءِ الرَّاشِدين المَهْدِيِّين مِنْ بعدي" (¬2). فالرَّاشِد ضِدُّ الغاوي، والمَهْديُّ ضِدُّ الضَّالِّ، وهو الذي زكَتْ نَفْسُا بالعلم النَّافع والعمل الصالح، وهو صاحب الهُدَى ودينِ الحقِّ، ¬
لماذا قال: {ما ضل صاحبكم}، ولم يقل: ما ضل محمد؟
ولا يشتبه الرَّاشدُ المَهْديُّ بالضال الغاوي إلا على أجهل خلق الله، وأعماهم قلبًا، وأَبْعَدِهم من حقيقة الإنسانية. ولله درُّ القائل: وما انْتِفَاعُ أَخِي الدُّنْيا بِنَاظِرِهِ ... إذا اسْتَوَتْ عندَهُ الأنْوَارُ والظُّلَمُ (¬1) فالنَّاسُ أربعة أقسام: ضالٌّ في علمه، غاوٍ في قصده وعمله. وهؤلاء شرار [ز/87] الخلق، وهم مخالفو الرُّسُل. الثاني:. مُهْتَدٍ في علمه، غاوٍ في قصده وعمله. وهؤلاء هم الأُمَّةُ الغَضَبِيَّةُ (¬2) ومن تشبَّهَ بهم، وهو حال كلِّ من عرف الحقَّ ولم يعمل به. الثالث: ضالٌّ في علمه، ولكن قصده الخير، وهو لا يشعر. الرابع: مُهْتَدٍ في علمه، راشِد في قصده. وهؤلاء ورثة الأنبياء، وهم وان كانوا الأقلِّين عددًا فهم الأكثرون عند الله قَدْرًا، وهم صفوةُ الله من عباده، وحِزْبُهُ (¬3) من خلقه. وتأمَّلْ كيف قال سبحانه: {مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ}، ولم يقل: ما ضَلَّ محمدٌ؛ تأكيدًا لإقامة الحُجَّة عليهم، بأنه صاحبهم، وهم أعلم الخلق به وبحاله، وأقواله، وأعماله، وأنَّهم لا يعرفونه بكذبٍ، ولا غَيٍّ، ولا ضلالٍ، ولا يَنْقِمُون عليه أمرًا واحدًا قَطُّ. وقد نبَّهَ على هذا المعنى بقوله: {أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ} [المؤمنون: 69]، وبقوله: {وَمَا صَاحِبُكُمْ ¬
فصل: تفسير قوله تعالى: {وما ينطق عن الهوى}
بِمَجْنُونٍ (22)} [التكوير: 22]. فصل ثُمَّ قال سبحانه [ك/69]: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (4)} [النجم: 3 - 4]، يُنَزِّهُ -تعالى- نُطْقَ رسولهِ أن يَصْدُرَ عن هَوَىً، وبهذا الكمال هُدَاهُ ورُشْدُهُ. وقال تعالى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3)}، ولم يقل: وما ينطق بالهَوَى؛ لأنَّ نَفْيَ نُطْقِهِ عن الهَوَى أبلغ، فإنَّهُ يتضمَّنُ أنَّ نُطْقَهُ لا يصدر عن هَوَىً، وإذا لم يَصْدُر عن هَوَى فكيف ينطق به؟ فتضمَّنَ نَفْيَ الأمرين: نَفْيَ الهَوَى عن مصدر النُّطْق، ونَفْيَهُ عن النُّطْقِ نَفْسِهِ. فَنُطْقُه بالحقِّ، ومصدَرُهُ الهُدَى والرَّشَاد، لا الغَيُّ والضلالُ. ثُمَّ قال: {إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (4)}؛ فأعاد الضمير على المصدر المفهوم من الفعل، أي: ما نُطْقُهُ إلا وَحْيٌ يُوحَى. وهذا أحسنُ من قول من جعل [ن/72] [ح/92] الضمير عائدًا إلى القرآن، فإنَّهُ يَعُمُّ نُطْقَهُ بالقرآن والسُّنَّةِ، وإنَّ كليهما وحيٌ يُوحَى. وقد احتجَّ الشافعيُّ لذلك فقال (¬1): "لعلَّ من حُجَّةِ من قال بهذا قوله تعالى: {وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} [النساء: 113] ". قال: "ولعلَّ من حُجَّته أن يقول: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأبي الزَّاني بامرأةِ الرجلِ الذي صالَحَهُ على الغنم والخادم: "والذي نفسي بيده لأقْضِيَنَّ بينكما بكتاب الله: الغنمُ والخَادِمُ رَدٌّ عليك ... " (¬2) الحديث. ¬
وفي "الصحيحين" أنَّ يَعْلَى بن أُميَّة كان يقول لعُمَر: ليتني أَرَى رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - حين ينزل عليه الوحي، فلمَّا كان بالجِعِرانَة (¬1) سأله رجلٌ، فقال: كيف ترى في رجلٍ أحرم بعمرةٍ في جُبَّةٍ، بعدما تَضَمَّخَ بالخَلُوق (¬2)؛ فنظر إليه النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - ساعةً، ثُمَّ سكت، فجاءَهُ الوحيُ، فأشار عمرُ بيده إلى يَعْلَى، فجاء، فادخَلَ رأسَهُ، فإذا النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - مُحْمَر يَغِطُّ (¬3)، ثُمَّ سُرِّيَ عنه، فقال: "أين السائل آنفا؟ " فجِيءَ به، فقال: "انْزِعْ عنكَ الجُبةَ، واغسِلْ أثَر الطِّيبِ، واصْنع في عُمْرَتك ما تصنعُ في حَجِّكَ" (¬4). ¬
وقال الشافعي: أخبرنا مسلم، عن ابن جُرَيج، عن ابن طاووس، عن أبيه: "أنَّ عندَهُ كتابًا نزل به الوحي، وما فرض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من صدقة، وعُقُولٍ (¬1)؛ فإنِّما نزل به الوحي (¬2) " (¬3). وذَكَر الأوزاعيُّ، عن حَسَّان بن عطيَّة (¬4) قال: "كان جبريلُ ينزل على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالسُّنَّة كما ينزل عليه (¬5) بالقرآن، يُعَلِّمُه إيَّاها" (¬6). ¬
وذكر الأوزاعيُّ -أيضًا-: عن أبي عبيد (¬1) -صاحب سليمان-، أخبرني القاسم بن مُخَيْمِرَة (¬2)، حدثني ابن نَضْلَة (¬3) قال: قيل لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - سَعِّرْ لَنَا، قال: "لا يسْألنِي الله (¬4) عن سُنَّة أحدَثْتُها فيكم، لم يَأمُرْني بها، ولكِنْ سَلُوا اللهَ من فضله (¬5) " (¬6). ¬
و"ابنُ نَضْلَة" هذا يُسَمَّى: طَلْحَة (¬1). وقد صحَّ عنه أنَّه قال: "ألاَ إنِّي أوبيتُ الكتابَ ومثلَهُ مَعَهُ" (¬2)، ¬
فصل: تفسير قوله تعالى: {علمه شديد القوى}
وهذا هو "السُّنَّةُ" بلا شك، وقد قال تعالى: {وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} [النساء: 113]؛ وهما القرآن والسُّنَّة. وبالله التوفيق. فصل ثُمَّ أخبر -تعالى- عن وَصْفِ من علَّمَهُ الوحيَ والقرآنَ، بما يُعْلَم أنِّه مضَادٌّ لأوصاف الشيطان مُعَلِّم الضَّلاَل والغواية، فقال: {عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى (5)}، وهذا نظير قوله تعالى: {ذِي [ز/88] قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ (20)} [التكوير: 20]، وذكرنا هناك السِّرَّ في وصفه بالقوَّةِ (¬1) .. وقوله تعالى: {ذُو مِرَّةٍ} أي: جميلُ المَنْظَر، حَسَنُ الصورة، ذو جلالةٍ، ليس شيطانًا -أقبَحَ خلق الله، وأشوهَهم صورةً- بل هو من أجمل الخلق، وأقواهم، وأعظمِهم أمانةً ومكانةً عند الله -عزَّ وجلَّ-. وهذا تعديلٌ لِسَنَدِ الوحي والنُّبوَّة، وتزكيةٌ له كما تقدَّمَ نظيرُهُ في "سورة التكوير" (¬2). فوَصَفَهُ بالعلم، والقوَّةِ، وجمالِ المَنْظَرِ، وجلالته. وهذه كانت أوصاف الرسول البَشَرِيِّ والمَلَكِيِّ؛ فكان رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - أشجعَ النَّاس، وأعلمَهم، وأجمَلهم، وأَجَلَّهم. والشياطين وتلامذتهم بالضِّدِّ من ذلك كلِّه، فهم أقبح الخلق ¬
"أو" ليست للشك بل لتحقيق المسافة في قوله: {أو أدنى}
صورةً ومعنىً، وأجهلُ الخَلْق وأضعفُهم هِمَمًا ونفوسًا. ثُمَّ ذكر استواءَ هذا المعلِّم بالأنفُق الأعْلَى، ودُنُوَّهُ، وتَدَلِّيَهُ، وقُرْبَهُ من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وإيحاءَهُ إليه ما أَوْحَى. فصوَّرَ -سبحانه- لأهل الإيمان صورة الحال من نزول جبريل من عنده إلى أن استوى بالأفُق، ثُمَّ دَنَى فَتَدلَّى، وقَرُبَ من رسوله، فأوحى إليه ما أمره الله بإيحائه، حتَّى كأنَّهم يشاهدون صورة الحال ويُعَاينُونَهُ هابطًا من السماء إلى أن صار بالأفُق الأعْلَى مستويًا عليه، ثُمَّ نَزَلَ وقَرُبَ من محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - وخاطبه بما أمره الله به، قائلاً: ربُّكَ يقول لك كذا وكذا. وأخبر -سبحانه-[ك/ 70] عن مسافة هذا القُرْب، بأئَه قَدْرُ قوسين أو أدنى من ذلك، وليس هذا على وجه الشَّكِّ، بل تحقيقٌ لِقَدْرِ المسافة، وأنَّها لا تزيد على قوسين أَلْبَتَّةَ؛ كما قال تعالى: {وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ (147)} [الصافات: 147] تحقيقًا لهذا العدد، وأنَّهم لا ينقصون عن مائةِ ألفٍ رَجُلاً واحدًا. ونظيره قوله تعالى: {ثُمَّ [ح/93] قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً} [البقرة: 74]؛ أي: لا تنقُصُ قَسْوتها عن قسوة الحجارة، بل إنْ لم تَزِدْ على قسوة الحجارة لم تكن دونها. وهذا المعنى أحسنُ وألطفُ وأدق مِنْ قول من جعل "أو" في هذه المواضع بمعنى (¬1) "بل"، ومِنْ قول من جعلها للشكِّ بالنسبة إلى الرائي (¬2)، وقول من جعلها بمعنى "الواو"، فتأمَّلْهُ. ¬
فصل: تفسير قوله تعالى: {ما كذب الفؤاد ما رأى}
فصل ثُمَّ أخبر -تعالى- عن تصديق فؤادِهِ لِمَا رأَتْهُ عينَاهُ، وأنَّ القلبَ صَدَّقَ العينَ، وليس كمن رأى شيئا على خلاف ما هو به، فكذَّبَ فُؤَادُهُ بَصَرَهُ، بل ما رآه بِبَصَرِهِ صدَّقَهُ الفؤادُ، وعَلِمَ أنَّه كذلك. وفيها قراءتان (¬1): إحد اهما: بتخفيف "كَذَبَ". والثانية: بتشديدها. يقال: كَذَبَتْهُ عينُه، وكَذَبَهُ قلبُه، وكَذَبَهُ حَدْسُهُ (¬2)؛ إذا أخلف [ن/73] ما ظَنَّهُ وحَدَسَهُ. قال الشاعر (¬3): كَذَبَتْكَ عينُكَ، أَمْ رأَيتَ بِوَاسِط ... غَلَسَ الظَّلاَمِ من الرَّبَابِ خَيَالا أي: أَرتْكَ ما لا حقيقةَ له. فنفَى هذا عن رسوله - صلى الله عليه وسلم -، وأخبره أنَّ فُؤَادَهُ لم يكذِّبْ ما رآه. و"ما" (¬4): إمَّا أن تكون مصدريَّة؛ فيكون المعنى: ما كَذَبَ فؤادُهُ رؤيتَهُ. ¬
وإمَّا أن تكون موصولة؛ فيكون المعنى: ما كَذَّبَ الفؤادُ الذي (¬1) رآه بعينه. وعلى التقديرين؛ فهو إخبارٌ عن تطابقِ رؤية القلب لرؤية البصر وتوافُقِهما، وتصديقِ كل منهما لصاحبه. وهذا ظاهرٌ جدًّا في قراءة التشديد. وقد استشكلها طائفةٌ منهم المُبَرِّد، وقال: "في هذه القراءة بُعْدٌ"، قال: "لأنَّه (¬2) إذا رأى بقلبه فقد عَلِمَهُ -أيضًا- بقلبه، وإذا وَقَعَ العِلْمُ فلا كذب معه؛ فإنَّه إذا كان الشيء في القلب معلومًا، فكيف يكون معه تكذيب؟ " (¬3). قلتُ: [ز/ 89] وجواب هذا من وجهين: أحدهما: أنَّ الرجلَ قد يتخيَّلُ الشيءَ على خلاف ما هو به فَيَكْذِبُهُ قَلْبُهُ، إذ يُريه صورةَ المعلوم على خلاف ما هي عليه، كما تكذِبُهُ عَيْنُهُ، فيقال: كَذَبَهُ قَلْبُهُ، وكَذَبَهُ ظَنهُ، وكَذَبَتْهُ عَيْنُهُ. فنَفَى -سبحانه- ذلك عن رسوله، وأخبر أنَّ ما رآه الفؤادُ فهو كما رآه، كَمَنْ رأى الشيءَ على حقيقة ما هو به، فإنَّه يصحُّ أن يقال: لم تكذِبْهُ عَينُهُ. الثاني: أن يكون الضمير في {رَأَى (11)} عائدًا إلى ¬
قوله تعالى: {أفتمارونه} فيها قراءتان
الرائي (¬1) لا إلى الفؤاد، ويكون المعنى: ما كذَّبَ الفؤادُ ما رآهُ البَصَرُ. وهذا- بحمد الله- لا إشكال فيه، والمعنى: ما كذَّبَ الفؤادُ ما رآهُ البَصَرُ (¬2)، بل صدَّقَهُ. وعلى القراءتين فالمعنى: ما أَوْهَمَهُ الفؤادُ أنَّه رأى ولم يَرَ، ولا اتَّهَمَ بصَرَهُ. ثُمَّ أنكر -سبحانه- عليهم مُكَابَرَتَهُم وجَحْدَهُم له على ما رآه، كما يُنْكَرُ على الجاهل مُكَابَرَتُهُ للعالِم، ومُمَاراتُهُ له على ما عَلِمَهُ. وفيها قراءتان: "أَفَتُمَارُونَهُ"، و"أَفَتَمْرُونَهُ" (¬3). وهذه المادَّةُ أصلها من: الجَحْدِ والدَّفْعِ، تقول: مَرَيْتُ الرجلَ حقَّه؛ إذا (¬4) جَحَدْتَهُ. كما قال الشاعر (¬5): ¬
لَئِنْ هَجَرْتَ أَخَا صِدْقٍ وَمَكْرُمَةٍ ... لقد مَرَيتَ أخًا ما كانَ يَمْرِيكَا ومنه: المُمَارَاةُ، وهي: المُجَادَلَة، والمُكَابَرة. ولهذا عُدِّيَ هذا الفعلُ بـ "على" وهي على بابها. وليست بمعنى "عن" كما قاله المُبرِّد (¬1)، بل الفعل متضمِّنٌ معنى المكابرة، وهذا في قراءة الألف أظهر. ورجَّح أبو عُبَيد قراءة من قرأ "أَفَتَمْرُونَهُ"، قال: "وذلك أنَّ المشركين إنَّما كان شأنُهم الجُحُود لِمَا كان يأتيهم من الوحي، وهذا كان أكثر من المُمَارَاة منهم" (¬2). يعني (¬3): أنَّ من قرأ "أَفتَمُرُونَهُ" فمعناه: أَفَتُجَادِلُونه؟ ومن قرأ "أَفَتَمْرُونهُ" معناه: أَفَتَجْحَدُونه؟ وجحودهم لِمَا جاء به كان هو شأنُهم، وكان أكثرَ من مجادلتهم له. وخالفه أبو عليٍّ وغيرُه، واختاروا قراءة {أَفَتُمَارُونَهُ}. قال أبو عليٍّ: "من قرأ "أَفَتُمَارُونَه" فمعناه: أفتجادلونه جِدالاً تَرُومُون به دفعه عمَّا عَلِمَهُ وشاهَدَهُ؟ ويُقَوِّي هذا الوجه قوله تعالى: {يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ مَا تَبَيَّنَ} [الأنفال/ 6]. ومن قرأ "أَفَتَمْرُونَهم" كان المعنى: أَفَتَجْحَدُونه؟ ". قال: "والمُجَادَلة كأنَّها أشبه في هذا؛ لأنَّ الجُحُود كان منهم في هذا وفي غيره، وقد جادله المشركون في الإسراء" (¬4). ¬
فصل: رؤية النبي - صلى الله عليه وسلم - لجبريل عليه السلام؟ وصفها وعدد مراتها
قلتُ: القومُ جمعوا بين الجدالِ، والدَّفْعِ، والإنكارِ. فكان جدالُهم جدالَ جحودٍ ودفعٍ؛ لا جدالَ استرشادٍ وتَبَيُّنٍ (¬1) للحقِّ. وإثبات [ك/71] "الأَلِف" يدلُّ على المُجَادَلة، والإتيان بـ "على" [ح/94] يدلُّ على المُكَابَرة؛ فكانت قراءة "الألف" منتظِمةً للمعنيين جميعًا، فهي أَوْلَى. وبالله التوفيق. فصل ثمَّ أخبر -سبحانه- عن رؤيته لجبريل مرَّةً (¬2) أخرى، عند سِدْرَة المُنْتَهى؛ فالمرَّةُ الأُولَى كانت دون السماء بالأفُقِ الأعْلَى، والثانية كانت فوق السماء عند سدرة المُنْتَهى. وقد صحَّ عنه - صلى الله عليه وسلم - أنَّه -يعني (¬3) جبريل عليه الصلاة والسلام- رآهُ على صورته التي خُلِقَ عليها مزَتين، كما في "الصحيحين" عن زِرِّ بن حُبَيش أنَّه سئل عن قوله تعالى: {فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى} قال: أخبرني ابن مسعود أنَّ النبى - صلى الله عليه وسلم - رأى جبريل له ستمائة جناح (¬4). وفي "الصحيحين" -أيضًا- عن عبد الله بن مسعود {مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ ¬
مَا رَأَى (11)} (¬1) قال: "رأى (¬2) جبريل (¬3) في صورته؛ له ستمائة جناح" (¬4). وقال البخارفيُ عنه: "رأى رَفْرَفًا أخضر، سَدَّ الأُفُق" (¬5). وفي "صحيح مسلم" عن أبي هريرة {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى (13)} قال: "رأى جبريل عليه السلام" (¬6). وفي "صحيحه" -أيضًا- عن مسروق قال: كنتُ مُتَّكِئًا عند عائشة فقالت: ثلاثٌ مَنْ تكلَّمَ بواحدةِ منهُنَّ [ز/ 90] فقد أعظَمَ على الله الفِرْيَة، قلتُ: ما هُنَّ؟ قالت: من زَعَم أنَّ محمدًا رأى ربَّهُ؛ فقد أعظم على الله الفِرْيَة (¬7). قال: وكنتُ متكئًا فجلستُ، فقلت: يا أُمَّ المؤمنين؛ أَنْظِريني ولا تَعْجَلِيني؛ ألمْ يَقُلِ اللهُ عزَّ وجلَّ: {وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ (23)} [التكوير: 23]، {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى (13)} [النجم/ 13]؟ فقالت: أنا أوَّلُ هذه الأُمَّة سأل عن ذلك رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: "إنَّما هو جبريل، لم أَرَهُ على صورته التي خُلِقَ عليها غير هاتين المَرَّتين، رأيتُهُ مُنْهَبِطًا من السماء، سادًّا عِظَمُ خَلقِهِ ما بين السماء والأرض"، فقالت: أَوَ لم تسمع ¬
أنَّ الله -عزَّ وجلَّ- يقول: {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (103)} [الأنعام/ 103]، [ن/74]، أَوَ لم تسمع أنَّ الله -عزَّ وجلَّ- يقول: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ (51)} [الشورى: 51]، قالت: ومن زعم أنَّ محمدًا - صلى الله عليه وسلم - كَتَمَ شيئًا من كتاب الله؛ فقد أعظم على الله- عزَّ وجل- الفِرْيَة والله -عزَّ وجلَّ- يقول: {يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} [المائدة/ 67]. قالت: ومن زَعَم أنَّهُ يُخْبِرُ بما يكون في غَدٍ؛ فقد أعظم على الله الفِرْيَة، والله -عزَّ وجلَّ- يقول: {قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ} [النمل/ 65]. ولو كان محمدٌ كاتمًا شيئًا ممَّا أُنزل عليه لَكَتَم هذه الآية: {وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ} [الأحزاب: 37] " (¬1). وفي "الصحيحين" عن مسروق -أيضًا- قال: سألتُ عائشة -رضي الله عنها-: هل رأى محمدٌ ربَّه؟ فقالت: "سبحان الله! لقد قَفَّ (¬2) شعري ممَّا قلتَ" (¬3). ¬
التفسير الصحيح لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "حجابه النور"
وفيهما -أيضًا- قال: قلت لعائشة: فأين قوله -عزَّ وجلَّ-: {ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى (8) فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى (9)}؟ قالت: "إنَّما ذاك جبريل؛ كان يأتيه في صورة الرجال، وإنَّه أتاه في هذه المَرَّة في صورته التي هي صورته، فَسَدَّ الأفق" (¬1). وفي "صحيح مسلم" أنَّ أبا ذَرٍّ سأله - صلى الله عليه وسلم -: هل رأيتَ ربَّكَ؟ فقال: "نورٌ أنَّى أرَاهُ" (¬2). وفي "صحيحه" -أيضًا- من حديث أبي موسى الأشعري قال: قام فِينَا رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - بخمس كلماتٍ، فقال: "إنَّ اللهَ لا ينامُ، ولا ينبغي له أن يَنَامَ، يَخفِضُ القِسْطَ ويرفَعُه، يُرْفَعُ إليه عَمَلُ الليل قبل النَّهار، وعَمَلُ النَّهار قبل الليل، حِجَابُه النُّور، لو كشَفَهُ لأحرقت سُبُحَاتُ وجهِهِ ما انتهى إليه بَصَرُهُ من خَلْقِهِ" (¬3). وهذا الحديث ساقه مسلمٌ بعد حديث أبي ذَرٍّ المتقدِّم عَقِيبه، وهو كالتفسير له. ولا [ح/95] ينافي هذا قوله في الحديث الصحيح - حديث الرؤية يوم القيامة-: "فيكْشِفُ الحِجَابَ، فينظرون إليه" (¬4)، فإنَّ النُّورَ الذي هو ¬
توجيه كلام ابن عباس رضي الله عنه
حجاب الرَّبِّ -تعالى- يُرَادُ به الحجاب الأدنى إليه، وهو لو كَشَفَهُ لم يَقُمْ له شيءٌ، كما قال ابن عباس في قوله -عزَّ وجلَّ-: {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ} قال: "ذاكَ نُورُه الذي هو نُورُه، إذا تجلَّى به لم يَقُمْ له شيءٌ" (¬1). وهذا الذي ذكره ابن عباس يقتضي أنَّ قوله: {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ} على عمومه وإطلاقه في الدنيا والآخرة، ولا يلزم من ذلك أن لا يُرَى؛ بل يُرَى في الآخرة بالأبصار من غير إدراك. وإذا كانت أبصارنُا لا تقوم لإدراك الشمس على ما هي عليه -وإنْ رأَتْها- مع [ك/ 72] القُرْب الذي بين المخلوق والمخلوق = فالتفاوت الذي بين أبصار الخلائق وذات الرَّبِّ - جلَّ جلاله- أعظَمُ وأعظَمُ. ¬
ولهذا لمَّا حَصَلَ للجبل أدنى شيءٍ من تَجَلِّي الرَّبِّ تَسَافَى (¬1) الجَبَلُ، وانْدَكَّ لسُبُحَات ذلك القَدْر من التجلِّي. وفي الحديث الصحيح المرفوع: "جنّتَان من ذهب؛ آنِيَتُهما، وحِليَتُهما، وما فيهما، وجنَّتَان من فضَّةٍ؛ آنِيَتُهما، وحِليَتُهما، وما فيهما، وما بين القوم وبين أن ينظرو إلى ربِّهم إلا رداء الكبرياء على وجهه، في جنَّةِ عَدْنٍ" (¬2). فهذا يدلُّ على أنَّ رداء الكبرياء على وجهه (¬3) -تبارك وتعالى- هو المانع من رؤية الذات، ولا يمنِع من أصل الرؤية، فإنَّ الكبرياء والعظمة أمرٌ لازمٌ لذاته تعالى. فإذا تجلَّى -سبحانه وتعالى- لعباده يوم القيامة، وكشف الحجاب بينهم وبينه، فهو الحجاب المخلوق [ز/ 91]. وأمَّا نُورُ الذَّات الذي يَحْجُبُ عن إدراكها؛ فذاك صفةٌ للذَّاتِ، لا تفارق ذاتَ الرَّبِّ جلَّ جلاله، ولو كَشَفَ ذلك الحجاب لأحرقت سُبُحَات وجهه ما أدركه بصَرُه من خلقه. وتكفي هذه الإشارة في هذا المقام للمُصَدِّق المُوقن، وأمَّا ¬
إشكال في قول ابن عباس رضي الله عنه، والجواب عنه
المُعَطِّلُ الجَهْمِيُّ فكلُّ هذا عنده باطِلٌ ومُحَالٌ. والمقصود أنَّ المُخْبَر عنه بالرؤية في سورة "النَّجْم" هو: جبريلُ. وأمَّا قولُ ابن عباس: "رأَى محمدٌ ربَّه بفؤاده مرَّتين" (¬1)؛ فالظاهر أنَّ مُسْتنَدَهُ هذه الآية، وقد تبيَّنَ أنَّ المرئيَّ فيها جبريلُ، فلا دلالة فيها على ما قاله ابن عباس. وقد حكى عثمانُ بن سعيد الدَّارمي الإجماعَ على ما قالته عائشة -رضي الله عنها-، فقال- في نَقْضِهِ على المَرِيسي، في الكلام على حديث ثوبانَ، ومعاذِ: أنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "رأَيتُ ربِّي البَارِحَةَ في أحسَنِ صُورَةٍ" (¬2) فحكى تأويل المَرِيسِي الباطل له- ثمَّ قال: "وَيْلَكَ؛ إنَّ تأويل هذا الحديث على غير ما ذهبتَ إليه، لما (¬3) أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال في حديث أبي ذَرٍّ: "إنَّه لم يَرَ ربَّهُ" (¬4)، وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لن تَرَوا ¬
ربَّكُم حتَّى تَمُوتُوا" (¬1)، وقالت عائشة -رضي الله عنها-: "من زَعَم أنَّ محمدًا رأى ربَّهُ فقد أعظم على الله الفِرْيَة" (¬2). وأجمع المسلمون على ذلك؛ مع قول الله تعالى: {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ} هو يَعْنُون (¬3) أبصارَ أهل الدنيا. وإنَّما هذه الرؤية كانت في المنام، [وفي المنام] (¬4) يمكن رؤية الله على [ن/75] كل حالٍ. كذلك روى معاذ بن جبل، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنَّه قال: "صليتُ ما شاء الله من الليل، ثُمَّ وَضَعْتُ جَنْبِي، فأتاني ربِّي في أحسَنِ صُورةٍ" (¬5)، فهذا ¬
حكى القاضي أبو يعلى عن الإمام أحمد ثلاث روايات في الباب
تأويل هذا الحديث عند أهل العلم" (¬1). وقد ظنَّ القاضي أبو يعلى أنَّ الرواية اختلفت عن الإمام أحمد: هل رأى رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - ربَّهُ في ليلة الإسراء أم لا؟ على ثلاث روايات: إحداها: أنَّه رآه. قال المَرُّوذِي: قلت لأبي عبد الله: يقولون إنَّ عائشة قالت: "من زعم أنَّ محمدًا رأى ربَّه فقد أعظم على الله الفِرْيَة"، فَبأيًّ شيءٍ تَدْفَعُ قولَ عائشة؟ فقال: بقول النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: "رأيتُ رَبِّي"، قولُ الَنبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أكبرُ من قولها. قال: وذكر [ح/ 96] المَرُّوذِي في موضع آخر أنَّه قال لأبي عبد الله: ههنا رجلٌ يقول: إن الله يُرَى في الآخرة، ولا أقولُ إنَّ محمدًا رأى ربَّهُ في الدنيا. فغضِبَ؛ وقال: هذا أهلٌ أن يُجْفَى، يُسلِّم الخبر كما جاء. قال: فظاهر هذا أنَّه أثبت رؤية عين. ونقل حَنْبل (¬2) قال: قلت لأبي عبد الله: النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - رأى ربَّهُ؟ قال: رؤيا حلم بقلبه (¬3). قال: فظاهر هذا نفي الرؤية. وكذلك نقل الأثرم وقد سأله عن حديث عبد الرحمن بن عائش (¬4) ¬
عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: "رأيتُ ربِّي في أحسنِ صورةٍ" (¬1)، فقال: مضطَرِبٌ؛ ¬
لأنَّ (¬1) مَعْمَرًا رواه عن أيّوب، عن أبي معبد (¬2)، عن عبد الرحمن بن عائش (¬3)، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - (¬4). ¬
ورواه حمَّاد، عن قتادة، عن عكرمة، عن ابن عباس (¬1). ¬
ورواه يوسف بن عطية، عن قتادة، عن أنس (¬1). ¬
ورواه عبد الرحمن بن يزيد بن (¬1) جابر، عن خالد بن اللَّجْلاَج (¬2) عن عبد الرحمن بن عائش (¬3)، عن رجل من أصحاب النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - (¬4). ¬
ورواه يحيى بن أبي كثير فقال: عن ابن عائش (¬1)، [عن مالك بن يخامر] (¬2)، عن معاذ، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - (¬3). وأصل الحديث واحد. قال الأثرم: فقلت لأبي عبد الله: فإلى أيِّ شيءٍ تذهب؟ فقال: قال الأعمش، عن زياد بن الحُصَين، عن أبي العالية، عن ابن عباس قال: ¬
"رأى محمدٌ ربَّهُ بقلبه" (¬1). ونقل الأثرم (¬2) أنَّ رجلاً قال لأحمد عن الحسن (¬3) الأشْيَبْ أنَّه قال: لم يَرَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - ربَّهُ تعالى، فأنكره عليه [ك/73] إنسانٌ وقال: لِمَ [لا] (¬4) تقول: رآه، ولا تقول: بعينه ولا بقلبه؟ كما جاء في (¬5) الحديث. فاستحسن ذلك الأَشْيَب، فقال أبو عبد الله: حَسَنٌ. قال: وظاهر هذا إثبات رؤيةٍ لا يُعقَلُ معناها، هل كانت بعينه أم بقلبه؟ (¬6). ¬
توجيه المؤلف لكلام أحمد بما يدفع كلام القاضي أبي يعلى
فهذه نصوص أحمد، وقد جعلها القاضي مختلفةً، وجعل المسألة على ثلاث روايات، ثُمَّ احتجَّ للرواية الأُولَى بحديث أُمِّ [ز/ 92] الطُّفَيل (¬1)، وحديث عبد الرحمن بن عائش (¬2) الحضرمي، ولا دلالة فيهما؛ لأنَّها رؤية (¬3) منامٍ قطعًا. واحتجَّ لها بما لا يَرْضَى أحمدُ أنْ يحتجَّ به، وهو حديثٌ لا يصحُّ عن أبي عبيدة بن الجرَّاح مرفوعًا: "لمَّا كانت ليلةَ أسْريَ بي؛ رأيتُ ربِّي في أحسن صورةٍ، فقال: فِيْمَ يختصمُ المَلأُ الأعلى؟ " (¬4) وذكر الحديث. ¬
التنبيه على غلط في بعض روايات الحديث
وهذا غَلَطٌ قطعًا؛ فإنَّ القصَّةَ إنَّما كانت بالمدينة كما قال معاذُ بن جبل: احتبَسَ عنَّا رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - في صلاة الصبح حتَّى كِدْنا نَتَراءَى عينَ الشمس، ثُمَّ خرجَ فصلَّى بنا، ثُمَّ قال: "رأيتُ ربِّي البارحة في أحسن صورةٍ، فقال: يا محمد؛ فيمَ يختصم الملأ الأَعْلَى؟ " وذكر الحديث (¬1). فهذا كان بالمدينة، والإسراءُ كان بمكة (¬2). وليس عن الإمام أحمد؛ ولا عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - نصٌّ أنَّه رآه بعينه يَقَظَةً (¬3)، وإنَّما حمَّلَ القاضي كلامَ أحمد ما لا يحتمله، واحتجَّ لما فَهِمَ ¬
توجيه المؤلف رد أحمد لكلام عائشة رضي الله عنها في الرؤية
منه بما لا يدلُّ عليه، وكلام أحمد يصدِّقُ بعضُه بعضًا، والمسألة رواية واحدة عنه، فإنَّه لم يقل: بعينه، وإنَّما قال: رآه، واتَّبعَ في ذلك قول ابن عباس: "رأى محمدٌ ربَّه"، ولفظ الحديث: "رأيتُ ربِّي"؛ وهو مُطْلَقٌ، وقد جاء بيانه في الحديث الآخر. ولكن في (¬1) رَدِّ أحمد قولَ عائشة ومعارضته بقول النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - إشعارٌ بأنَّه أثبت الرؤية التي أنكرتها عائشة، وهي لم تُنكر رؤية المنام، ولم تَقُل: إنَّ من زَعَم أنَّ محمدًا رأى ربَّه في المنام فقد أعظم على الله الفِرْية. وهذا يدلُّ على أحد أمرين: 1 - إمَّا أن يكون الإمام أحمد أنكر قولَ من أطلق نفي الرؤية إذ هو مخالفةٌ للحديث. 2 - وإمَّا أن يكون روايةً عنه بإثبات الرؤية. وقد صرَّحَ بأنَّه رآه رؤيا حُلم بقلبه، وهذا تقييدٌ منه للرؤية. وأطلق أنَّه رآه، وأنكر قولَ من نَفَى مطلق الرؤية، واستحسن قولَ من قال: رآه؛ ولا يقول: بعينه ولا بقلبه. وهذه النصوص عنه متَّفِقةٌ لا مختلفة، وكيف [ح/97] يقول أحمد: رآه بعينَي رأسه يقظةً! ولم يجئ ذلك في حديثٍ قطُّ. فأحمد إنَّما اتبع ألفاظ الأحاديث كما جاءت، وإنكاره قول [ن/ 76] من قال: "لم يَرَهُ أصلاً"؛ لا يدلُّ على إثبات رؤية اليقظة بعينيه. والله ¬
فصل: تفسير قوله تعالى: {ما زاغ البصر وما طغى}
أعلم. فصل وقوله تعالى: {مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى (17)} [النجم/ 17]؛ قال ابن عباس: "ما زَاغَ البصر يمينًا ولا شمالاً، ولا جاوز ما أُمر به" (¬1). وعلى هذا المفسِّرون. فنَفَى عن نبيِّهِ ما يعرض للرائي (¬2) الذي لا أدب له بين يدي الملوك (¬3) والعظماء، من التفاته يمينًا وشمالاً، ومجاوزة بصره لما بين يديه. وأخبر عنه بكمال الأدب في ذلك المقام، وفي تلك الحضرة إذ لم يلتفت جانبًا، ولم يَمُدَّ بصرَهُ إلى غير ما أُرِي من الآيات، وما هناك من العجائب، بل قام مقام العبد الذي أوجب أدبُهُ إطراقَه وإقبالَه على ما أُريه، دون التفاته إلى غيره، ودون تطلُّعه إلى ما لم يَرَهُ، مع ما في ذلك من ثبات الجأش، وسكون القلب وطمأنينته، وهذا غاية الكمال. فزيغ البصر: التفَاتُه جانبًا، وطغيانُه: مَدَّهُ أمامه (¬4) إلى حيث ينتهي. فنزَّهَ في هذه السورة علمَهُ عن الضَّلاَل، وقَصْدَهُ وعمَلَهُ عن الغَيِّ، ¬
فصل: الاستطراد أسلوب لطيف جدا، وجاء في القرآن على نوعين
ونُطْقَه عن الهوى، وفُؤَادَه عن تكذيب بصرِه، وبَصَرَهُ عن الزَّيغِ والطغيان، وهكذا يكون المدح. تلكَ المَكَارِمُ لا قَعْبَانِ من لَبَنٍ ... شِيبَا بماءٍ فَعَادَا بعدُ أبوالا (¬1) فصل ولمَّا ذكر -سبحانه- رؤيته لجبريل عند "سِدْرع المُنْتَهى" استطرد منها، وذكر أنَّ جَنَّةَ المأوى عندها، وأنَّها يغشاها من أمره وخلقه ما يغشى. وهذا من أحسن الاستطراد، وهو أسلوبٌ لطيفٌ جدًّا في القرآن، وهو نوعان [ز/93]: أحدهما: أن يستطرد من الشيء إلى لازمه، مثل هذا، ومثل قوله تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (9)} [الزخرف/ 9]، ثُمَّ استطرد من جوابهم إلى قوله: {الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا وَجَعَلَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (10) وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَنْشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ تُخْرَجُونَ (11) وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ (12) لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ} [الزخرف/ 10 - 13]، وهذا ليس من جوابهم ولكن تقريرًا له، وإقامةً للحُجَّةِ عليهم. ومثله قوله تعالى: {قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَامُوسَى (49) قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ ¬
شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى (50) قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى (51) قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى (52)} [طه/ 49 - 52] فهذا جواب موسى، ثُمَّ استطرد - سبحانه- منه إلى قوله: {الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى (53) كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى (54) مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى (55)} [طه/ 53 - 55]، ثُمَّ عاد إلى الكلام الذي استطردَهُ منه. والنَّوع الثاني: أن يستطرد من الشخص إلى النَّوع؛ كقوله تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ (12) ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ (13)} [المؤمنون/ 12 - 13] إلى آخره، فالأوَّلُ: آدمُ، والثاني: بَنُوه. ومثله قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفًا فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحًا لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (189) فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحًا جَعَلَا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (190)} [الأعراف/ 189 - 190] إلى آخر الآيات، فاستطرد من ذِكْر الأَبَوين إلى ذِكْر المشركين من أولادهما. والله أعلم.
فصل: القسم في سورة الطور
فصل ومن ذلك قوله تعالى: {وَالطُّورِ (1) وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ (2) فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ (3) وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ (4) وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ (5) وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ (6) إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ (7) مَا لَهُ مِنْ دَافِعٍ (8)} [الطور/ 1 - 8]؛ تضمَّنَ هذا القَسَمُ خمسةَ أشياء، وهي مظاهر آياته، وقدرته، وحكمته الدالَّة على ربوبيته ووحدانيته. فـ "الطُّور": هو الجبل الذي كلَّم اللهُ عليه نبيَّهُ وكليمَهُ موسى بن عِمْران، عند جمهور المفسِّرين من السَّلف والخَلَف. وعرَّفَهُ هاهنا بـ "اللاَّم"، وعرَّفَهُ في موضعٍ آخر بالإضافة [ح/98]؛ فقال تعالى: {وَطُورِ سِينِينَ (2)} [التين: 2]. وهذا الجبل مَظْهَر بركة الدنيا والآخرة، وهو الجبل الذي اختاره الله لتكليم موسى عليه. قال عبد الله بن أحمد في كتاب "الزُّهْد" لأبيه: حدثني محمد بن عُبيد بن حِسَاب (¬1)، قال: حدثنا جعفر بن سليمان، حدثنا أبو عِمْران الجَوْنيُّ، عن نَوْف البكَاليِّ قال: "أَوْحَى اللهُ -عزَّ وجلَّ- إلى الجبال: إنّي نازِلٌ على جبلٍ منكم. قال: فشَمَخَت الجبالُ كلُّها إلَّا جبل الطُور، فإنَّه تواضع، وقال: أرضَى بما قَسَمَ اللهُ لي، فكان الأمرُ عليه" (¬2). ¬
وجبلٌ هذا شأنه حقيقٌ أن يُقْسِمَ اللهُ به، وإنَّهُ لسيِّدُ الجبال. الثاني: "الكتاب المسطور" في الرَّقِّ المنشور، واختُلف في هذا الكتاب (¬1): فقيل: هو اللوح المحفوظ. وهذا غلطٌ؛ فإنَّه ليس بـ "رَقٍّ". وقيل: هو الكتاب الذي تضمَّن أعمالَ بني آدم. قال مقاتل: "تُخْرَجُ إليهم أعمالُهم يومَ القيامة [ن/ 77] في رَقٍّ منشور" (¬2). وهذا وإن كان أقوى وأصحَّ من القول الأوَّل، واختاره جماعةٌ من المفسِّرين ومنهم من لم يذكر غيره؛ فالظاهر أنَّ المراد به الكتاب المنزَّل من عند الله، وأقسَمَ اللَّهُ به لعظمته وجلالته، وما تضمَّنَهُ من آيات ربوبيته، وأدلَّةِ توحيده، وهدايةِ خلقه. ثمَّ قيل: هو التوراة التي أنزلها الله على موسى. وكأنَّ صاحب هذا القول رأى اقتران هذا الكتاب بالطُّور، فقال: هو التوراة، ولكن التوراةَ إنَّما أُنزلت في ألواحٍ لا في رَقٍّ، إلَّا أن يقال: هي في رَقٍّ في السماء وأنزلت في ألواح. ¬
وقيل: هو القرآن؛ ولعلَّ هذا أرجح الأقوال؛ لأنَّه -سبحانه- وصَفَ القرآن بأنَّهُ {فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ (13) مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ (14) بِأَيْدِي سَفَرَةٍ (15) كِرَامٍ بَرَرَةٍ (16)} [عبس/ 13 - 16]، فالصُّحُفُ هي " الرَّقُّ"، وكونه بأيدي السَّفَرَة هو كونه منشورًا. وعلى هذا فيكون قد أقسَمَ بسيِّدِ الجبال، وسيِّدِ الكتب. ويكون ذلك متضمِّنًا للنُّبوَّتَين [ز/94] العظيمتَين (¬1): نُبُوَّةِ موسى، ونُبُوَّةِ محمدٍ صلَّى الله عليهما وسلَّم. وكثيرًا ما يُقْرَنُ بينهما، وبين مَحَلِّهما كما في سورة " والتِّين والزيتون". ثمَّ أَقْسَمَ بسيِّدِ البيوت، وهو "البيت المعمور" (¬2). وفي وَصْفِه للكتاب بأنَّه مسطورٌ تحقيقٌ لكونه مكتوبًا مفروغًا منه. وفي وَصْفِه بأنَّه منشورٌ إيذانٌ بالاعتناء به، وأنَّه بأيدي الملائكة منشورٌ غيرُ مهجورٍ. وأمَّا "البيت المعمور"؛ فالمشهور أنَّه "الضُّرَاح" (¬3) الذي في ¬
السماء الذي رُفع للنبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ليلةَ الإسراء، يدخله كُلَّ يومٍ سبعون ألف مَلَكٍ، ثُمَّ لا يعودون إليه آخر ما عليهم (¬1). وهو بحيال البيت المعمور في الأرض. وقيل: هو البيت الحرام. ولا ريب أنَّ كلًّا منهما بيتٌ معمورٌ: فهذا معمورٌ بالملائكة وعبادتهم، وهذا [ك/ 75] معمورٌ بالطائفين والقائمين والرُّكَّعِ السجود. وعلى كلا القولين فكلٌّ منهما سيِّد البيوت. ثُمَّ أقسَمَ -سبحانه- بمخلوقَين عظيمَين من بعض مخلوقاته، وهما مظهر آياته، وعجائب صنعته، وهما: السَّقْفُ المرفوعُ (¬2)؛ وهو السماء، فإنَّها من أعظم آياته قدرًا، وارتفاعًا، وسَعةً، وسُمْكًا، ولونًا، وإشراقًا. وهى مَحَلُّ ملائكته، وهي سَقْفُ العالَم، وبها انتظامه، وهي مَحَلُّ النَّيِّرَين اللُّذَين بهما قوامُ الليل، ¬
والنَّهارِ، والسِّنين، والشهورِ، والأيامِ، والصَّيفِ، والشِّتاءِ، والرَّبيع، والخريفِ. ومنها تنزل البركاتُ، وإليها تصعد الأرواح وأعمالُها وكلماتُها الطَّيِّبةُ. والثاني: البحر المَسْجُور (¬1)؛ وهو آيةٌ عظيمةٌ من آياته، وعجائبُهُ لا يحصيها إلا الله. واختُلف في هذا البحر، هل هو البحر الذي فوق السموات، أو البحر الذي نشاهده؟ على قولين: فقالت طائفةٌ: هو البحر الذي عليه العرش، وبين أعلاه وأسفله مسيرة خمسمائة عامٍ، كما في الحديث الذي رواه أبو داود، من حديث سِمَاك، عن عبد الله بن عَمِيرة (¬2)، عن الأَحْنَف بن قيس، أنَّ العبَّاس بن عبدالمطلب قال: كنتُ بالبَطْحَاء في عصابةٍ (¬3) فيهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فمرَّتْ بهم سحابةٌ، فنظر إليها فقال: "ما تُسَمُّونَ هذه؟ " قالوا: السَّحَاب، قال: "والمُزْنَ" قالوا: والمُزْنَ، قال: "والعَنَان"، قالوا: والعَنَان [ح/ 199] قال: "هل تدرون بُعْدَ ما بين السماء والأرض؟ " قالوا: لا ندري، قال: "إنَّ بُعْد ما بينهما إمَّا واحدةٌ، أو اثنتان، أو ثلاثٌ وسبعون سنة، ثمَّ السماء فوقها كذلك، حتَّى عَدَّ سبعَ سمواتٍ، ثُمَّ فوق السابعة بحرٌ بين أسفله وأعلاه مثل ما بين سماءٍ إلى سماءً، ثُمَّ فوق ذلك ثمانية أَوْعَالٍ، بين أظْلاَفهم ورُكبِهم مثل ما بين سماءٍ إلى سماءٍ، ثُمَّ على ظهورهم العَرْش، ما بين أسفله وأعلاه مثل ما بين سماءٍ إلى سماءً، ثُمَّ ¬
الله -تعالى- فوقَ ذلك" (¬1). وهذا لا يناقِض ما في "جامع الترمذي": "إنَّ بين كلِّ سَمَائيَن مسيرةَ خمسمائة عامٍ" (¬2)؛ إذ المسافات تختلف مقاديرها باختلاف ¬
اختلافهم في معنى "المسجور"
المقدَّر به، فالخمسمائة مقدَّرَةٌ بسير الإبل، والسبعون بسير البريد، وهو يقطع بقدر (¬1) ما تقطعه الإبل سبعة أضعاف (¬2). وهذا القول في البحر -أنَّه الذي تحت العرش- محكيٌّ عن: عليِّ بن أبي طالب -رضي الله عنه-. والثاني: أنَّه بحر الأرض. واختُلف في "المَسْجُور": ¬
فقيل: المَمْلُوء، هذا قول جميع أهل اللغة. قال الفَرَّاء: "المسجور في كلام العرب: المَمْلُوء" (¬1). يقال: سَجَرْتُ الإناءَ إذا مَلأته، قال لبيد (¬2): فَتَوَسَّطَا عُرْضَ السَّرِيِّ وَصَدَّعَا ... مَسْجُورةً مُتَجَاوِزًا قُلاَّمُها وقال المُبرِّد: "المسجور: المَمْلُوء عند العرب"؛ وأنشد للنَّمِرِ بن تَوْلَب: إذا شَاءَ طَالَعَ مَسْجُورةً (¬3) يريد عَيْنًا مملوءةً ماءً. وكذا قال ابن عباس: "المسجور: المُمْتَلئ". وقال مجاهد (¬4): " المسجورُ: المُوْقَدُ" [ن/ 78]. قال الليث: "السَّجْرُ: إيقادُك في التنُّور، تَسْجُره سَجْرًا، والسَّجُور (¬5): اسم الحطب" (¬6). ¬
وهذا قول: الضحَّاك، وكعب، وغيرِهما. قال: "البحر يُسْجَر فيُزَادُ في جهنَّم" (¬1). وحُكِيَ هذا القول [ز/95] عن علي بن أبي طالب -رضي الله عنه-، قال: "مسجُور بالنَّارِ". قالَـ[ـهُ] (¬2) الفرَّاء (¬3). ¬
وهذا يرجع إلى القول الأوَّل؛ لأنَّكَ تقول: سَجَرْتُ التنُّورَ؛ إذا ملأْتَهُ حَطَبًا. وروى ذُو الرُّمَّةِ الشاعر عن ابن عباس أنَّ المسجور: "اليابس الذي قد نَضَب ماؤُه وذهب" (¬1). وليس لِذِي الرُّمَّةِ رواية عن ابن عباس غير هذا الحرف (¬2). وهذا القول اختيار أبي العالية. قال أبو زيد: "المسجور: المَمْلُوء، والمسجور (¬3): الذي ليس فيه شيء" (¬4)، جعله من الأضداد. وقد رُوي عن ابن عباس أنَّ المسجور (¬5): المحبوس، ومنه: سَاجُور الكلب، وهو القِلاَدة من عُودٍ أو حديدٍ يُمْسِكُه. ¬
بعض الحكم في كيفية وجود البحر وطريقة توزيعه
والمعنى على هذا أنَّه محبوسٌ بقدرة الله أن يَفِيضَ على الأرض فيُغْرِقَها، فإنَّ ذلك مقتضى الطبيعة أن يكون الماء غامرًا للأرض فوقها، كما أنَّ الهواء فوق الماء، ولكن أَمْسَكَهُ الذي يُمْسِكُ السموات والأرض أنْ تَزُولا، وفي هذا المعنى حديثٌ ذكره الإمامُ أحمد مرفوعًا: "ما من يومٍ إلَّا والبحرُ يستأذِنُ ربَّهُ أنْ يُغرق بني آدم" (¬1). وهذا الموضع ممَّا هَدَمَ أصول الملاحدة والدهريَّة، فإنَّه ليس في الطبيعة ما يقتضي حَبْسَ الماء عن بعض جوانب الأرض، مع كون كرة الماء [ك/76] عالية على كرة (¬2) الأرض بالذَّات، ولو فُرِضَ أنَّ في الطبيعة ما يقتضي بروز بعض جوانبها لم يكن فيها ما يقتضي تخصيص هذا الجانب بالبروز دون غيره. وما ذكره الطبائعيُّون والمُتَفَلْسِفة أنَّ العناية الإلهية اقْتَضَتْ ذلك لمصلحة العالَم: فَنَعَم؛ هو كما ذكروا، ولكنَّ عناية من يفعل بقدرته ¬
ومشيئته، وهو بكلِّ شيءٍ عليمٌ، وعلى كلِّ شيءٍ قديرٌ، وهو أحكم الحاكمين = غير معقولة؟! فالعناية الإلهية تقتضي حياتَهُ، وقدرتَهُ، ومشيئته، وعلمَهُ، وحكمتَهُ، ورحمتَهُ، وإحسانَهُ إلى خلقه، وقيامَ الأفعال به، فإثبات العناية الإلهية مع نفي هذه الأمور ممتنعٌ. وبالله التوفيق. وأقوى الأقوال في "المَسْجُور" أنَّه المُوْقَد (¬1) - وهذا هو المعروف في اللغة- من: السَّجْر، ويدلُّ عليه قوله تعالى: {وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ (6)} [التكوير/ 6]، قال عليُّ بن أبي طالب، وابنُ عباس: "أُوقِدَتْ فَصَارَتْ نارًا". ومن قال: "يَبسَت وذَهَب ماؤها"؛ فلا يُناقض كونها نارًا مُوقَدَةً. وكذا من قال: "مُلئت"؛ فإنَّها تُمْلأُ نارًا. وإذا اعتبرتَ أسلوبَ القرآن ونَظْمَهُ ومفرداته رأيتَ اللفظة [ح/ 100] تدلُّ على ذلك كلِّه، فإنَّ البحر محبوسٌ بقدرة الله -عزَّ وجلَّ-، ومملوءٌ ماءً، ويذهب ماؤُه يوم القيامة ويصير نارًا. فكلٌّ من المفسِّرين أخذ معنىً من هذه المعاني. والله أعلم. ¬
فصل: جواب القسم في السورة: ({إن عذاب ربك لواقع}
فصل وأقسَمَ -سبحانه- بهذه الأمور على المَعَاد والجزاء، فقال تعالى: {إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ (7)} [الطور/ 7]. ولمَّا كان الذي يقع قد يُمْكِنُ دَفْعُهُ أخبَر -سبحانه- أنَّه لا دافع له. وهذا يتناول أمرين: أحدهما: أنَّهُ لا دافع لوقوعه. والثاني: أنَّه لا دافع له إذا وقع. ثمَّ ذكر -سبحانه- وقتَ وقوعه فقال: {يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْرًا (9) وَتَسِيرُ الْجِبَالُ سَيْرًا (10)} [الطور/ 9 - 10]. و"المَوْرُ": قد فُسِّر بالحركة، وفُسِّر بالدَّوَران، وفُسِّر بالتموُّج والاضطراب. والتحقيقُ؛ أنَّه حركةٌ في تموجٍ، وتكفُّؤٍ، وذهابٍ، ومجيءٍ. ولهذا فرَّق بين حركة السماء وحركة الجبال، فقال: {وَتَسِيرُ الْجِبَالُ سَيْرًا (10)}، وقال تعالى: {وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ (3)} [التكوير/ 3]، فالجبالُ تسير من مكانٍ إلى مكانٍ، وأمَّا السماء فإنَّها تتكفَّأُ، وتتموَّجُ، وتذهبُ، وتجيءُ. قال الجوهري (¬1): "مَارَ الشيءُ يَمُورُ مَوْرًا: تَرَهْيَأَ؛ أي: تحرَّك، ¬
بيان معنى "دعا"، وتفسير الآيات بعدها
وجاء، وذهبَ، كما تكفَّاُ النَّخْلَةُ العَيْدَانة -أي: الطويلة-، ومنه قوله تعالى: {يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْرًا (9)}، قال الضحَّاكُ: تَمُوجُ مَوْجًا. وقال أبو عبيدة، والأخفش: تكفَّأُ. وأنشد للأعشى (¬1): كَأَنَّ مِشْيَتَها من بَيْتِ جَارتِها ... مَوْرُ السَّحَابة، لا رَيْثٌ ولا عَجَلُ" (¬2) ثُمَّ ذَكَر وعيدَ المكذّبين بالمَعَادِ والنُّبُوَّةِ، وذكر أعمالَهم وعلومَهم التي كانوا عليها، وهي "الخَوْضُ" الذي هو كلامٌ باطلٌ، و"اللَّعِبُ" الذي هو سَعْيٌ ضَائعٌ. فلا علمٌ نافعٌ، ولا [ز/96] عملٌ صالحٌ؛ بل علومُهم خَوْضٌ بالباطل، وأعمالُهم لَعِبٌ. ولمَّا (¬3) كانت هذه العلومُ والأعمالُ مُسْتَلزِمةً لدفع الحقِّ بعُنْفٍ وقَهْرٍ؛ أُدخِلُوا جهنَّم وهم يُدَغُونَ إليها دعًّا، أي: يُدفَعُون (¬4) في أَقفِيَتهم وأكتافهم، دَفْعًا بعد دَفْع، فإذا وَقَفُوا عليها وعَايَنُوها وُقِّفُوا، وقيل لهم: {هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ (14)}، وتقولون لا حقيقة لها، ولا مَنْ أخبر بها صادِقٌ. ثمَّ يُقَال لهم: {أَفَسِحْرٌ هَذَا} الآن كما كنتم تقولون للحقِّ الذي جاءتكم به الرُّسُل: إنَّه سِحْرٌ، وإنَّهم سَحَرَةٌ؛ فهذا -الآن- ¬
سِحْرٌ لا حقيقةَ له كما قلتم، أَمْ على [ن/79] أبصاركم غِشَاوةٌ فلا تبصرونها، كما كان عليها غِشَاوَةٌ في الدنيا فلا تُبْصِر الحقَّ؟ أفعَمِيَتْ أبصارُكم اليومَ عن رؤية هذا الحقِّ، كما عَمِيَتْ في الدنيا؟ ثُمَّ سُلِبَ عنهم نَفْعُ الصَّبْرِ (¬1) الذي كانوا في الدنيا إذا دَهَمَتْهم الشدائدُ وأحاطت بهم لجأوا إليه، وتعلَّلُوا بانقضاء البليَّةِ (¬2) لانقضاء أمدها (¬3). فقيل لهم يومئذٍ: {فَاصْبِرُوا أَوْ لَا تَصْبِرُوا} [الطور/ 16] كلاهما سواءٌ عليكم لا يُجْدي عليكم الصبر ولا الجَزَع، فلا الصبر يُخَفِّفُ عنكم حِمْلَ هذا العذاب، ولا الجَزَعُ يعطِفُ عليكم قلوبَ الخَزَنَةِ، ولا يستنزل لكم الرحمة. ثُمَّ أُعْلِمُوا بأنَّ الرَّبَّ -تعالى- لم يظلمهم (¬4) بذلك، وإنَّما هو نَفْسُ أعمالهم صارت عذابًا، فلم يجدوا من اقترانهم به بُدًّا؛ بل صارت عذابًا لازمًا لهم، كما كانت إراداتهم وعقائدُهم الباطلةُ وأعمالُهم القبيحةُ لازِمةً لهم، ولزوم العذاب لأهله في النَّار بحسب لزوم تلك الإراداتِ الفاسدة، والعقائد الباطلة، وما يترتَّبُ عليها من الأعمال لهم في الدنيا. فإنْ زال ذلك اللزوم في وقتٍ ما بضدِّه، وبالتوبة النَّصُوح زوالاً كُلَيًّا لم يُعَذَّبُوا عليه في الآخرة [ك/77]؛ لأنَّ أثره قد زال من قلوبهم وألسنتهم وجوارحهم، ولم يبق له أثرٌ يترتَّبُ عليه، فالتائبُ من الذنب كمن لا ذنب له، والمادَّةُ الفاسدةُ إذا زالت من البَدَنِ بالكُلِّية لم يَبْقَ هناك ¬
فصل: تفسير قوله تعالى: {فاكهين بما آتاهم ربهم ووقاهم ربهم}
ألمٌ يَنْشَأُ عنها. وإنْ لم تزُلْ تلك الإرادات والأعمال ولكن عارَضَها مُعَارِضٌ أقوى منها كان التأثير للمعارِضِ، وغَلَبَ الأقوى الأضعفَ. وإنْ تَسَاوى الأمران تَدَافَعَا وقَاوَمَ كلٌّ منهما الآخر، وكان مَحَلُّ صاحبه "جبالُ الأعْرَافِ" بين الجنَّةِ والنَّارِ. فهذا حكمُ الله وحكمتُه في خلقه، وأمره، ونهيه، وعقابه، ولا يظلم ربُّك أحدًا. فصل ثمَّ ذَكَر -سبحانه- أربابَ العلومِ النَّافعة، والأعمالِ [ح/ 101] الصالحة، والاعتقاداتِ الصحيحة؛ وهم المُتَّقُون، فذكر مساكنَهم وهي الجِنَان، وحالَهم في المساكن وهو النَّعيم. وذكر نعيم قلوبهم وراحتهم بكونهم {فَاكِهِينَ بِمَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ} [الطور/ 18]، و" الفَاكِهُ ": المُعْجَبُ بالشيء، المسرورُ المُغْتَبطُ به. وفعله: فَكِهَ -بالكسر-، يَفْكَهُ، فهو فَكِهٌ وفَاكِهٌ إذا كان طيِّبَ النَّفْسَ. والفَاكِهُ: المَازِح (¬1)، ومنه "المُفَاكَهَةُ" (¬2) وهي: المِزَاح (¬3) الذي ينشأ عن طِيبِ النَّفْس (¬4). وتَفَكَّهْتُ بالشيء: إذا تمتَّعْتُ به، ومنه "الفَاكِهَةُ" التي يتَمتَّعُّ بها (¬5). ¬
معنى قوله تعالى: {فظلتم تفكهون}
ومنه قوله تعالى: {فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ (65)} [الواقعة/ 65]؛ قيل: معناهُ: تَنْدَمُون. وهذا تفسيرٌ بلازمِ المعنى، وإنَّما الحقيقة: تُزِيلُون عنكم التَّفكُّه، وإذا زال التَّفَكُّهُ خَلفَهُ ضِدُّه، يقال: تَحَنَّث؛ إذا زال الحِنْث عنه، وتَحَزَجَ، وتَحَوَّبَ، وتأثَّمَ، ومنه: تَفكَّه. وهذا البناء يُقَال للداخل في الشيء كـ: تَعَلَّم، وتَحَلَّم (¬1)، وللخارج منه (¬2) كـ: تحرَّج، وتأثَّمَ. والمقصودُ أنَّه -سبحانه- جمَعَ لهم بين النَّعِيمَين: نعيمِ القلب بالتفكُّهِ، ونعيمِ البَدَن بالأكل والشُّرب والنكاح. ووَقَاهُم عذاب الجحيم؛ فَوَقَاهُم ممَّا يكرهون، وأعطاهم ما يحبُّون جزاءً وِفاقًا؛ لأنَّهم تَوَفَوا ما يكرهُ، وأَتَوا بما يحبُّ، فكان جزاؤهم مُطابِقًا لأعمالهم. ثمَّ أخبرَ عن دَوَام ذلك لهم بما أَفْهَمَهُ قولُه: {هَنِيئًا}؛ إذ (¬3) لو عَلِمُوا زَوَالَهُ وانقطاعَه لَنغَّصَ عليهم ذلك نعيمَهم، ولم يكن هنيئًا لهم. ثُمَّ ذكَرَ مجالسَهم، وهيئَاتِهم فيها؛ فقال: {مُتَّكِئِينَ عَلَى سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ} [الطور/ 20]، وفي ذِكْرِ اصْطِفَافِها تنبيهٌ على كمال النِّعمة عليهم بقُرْب بعضهم من بعضٍ، ومقابلةِ بعضهم بعضًا، كما قال [ز/97] تعالى: {مُتَّكِئِينَ عَلَيْهَا مُتَقَابِلِينَ (16)} [الواقعة/ 16]، فإنَّ من تمام اللذَّةِ والنَّعيم أن يكون مع الإنسان في بستانه ومنزله من يحبُّ معاشرتَهُ، ويُؤْثرُ قُرْبَهُ، ¬
تكرر في القرآن وصف أزواجهم بأنهن "الحور العين"
ولا يكون بعيدًا منه قد حِيلَ بينه وبينه، بل سريرُه إلى جانب سريرِ من يحبُّه، ومقابِلُه سريرُ من يحبُّه. وذكر أزواجَهم وأنَّهم "الحُورُ العِينُ". وقد تكرَّرَ وصْفُهُنَّ في القرآن بهاتين الصِّفَتين، قال أبو عبيدة: "جعلناهم أزواجًا كما تزوَّجُ النَّعْلُ بالنَّعْلِ، جعلناهم اثْنَين اثْنَين" (¬1). وقال يونس (¬2): "قَرَنَّاهُم بِهِنَّ، وليس من عقد التزويج" (¬3). واحتجَّ على ذلك بأنَّ العرب لا تقول: تزوَّجْتُ بها، وإنَّما تقول (¬4): تزوجتُها. قال تعالى: {فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا} [الأحزاب/ 37]، وفي الحديث: "زوَّجْتُكَها بما مَعَكَ من القرآن" (¬5). وقال غيره (¬6): " العرب تقول: تزوَّجتُ امرأةً، وتزوَّجْتُ بامرأةٍ". ¬
وقال الأزهري: "العرب تقول: زَوَّجْتُه امرأةً، وتزوَّجْتُ امرأةً، وليس في كلامهم: تزوَّجْتُ بامرأةٍ. وقوله تعالى: {وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ (20)} [الطور/20]؛ أي: قَرَنَّاهُم" (¬1). وعلى هذا "فزوَّجْنَاهُم" عند هؤلاء من الاقتران والشَّفْع، أي: شَفَعْنَاهُم، وقرنَّاهُم بِهِنَّ. وقالت طائفةٌ -منهم مجاهد (¬2) -: زوَّجْنَاهم بِهِن، أي: أَنكحْنَاهُم إيَّاهُنَّ. قلتُ: وعلى هذا فَتَلْوِيحُ فِعْل التزويج قد دلَّ على النكاح، وتعديته بـ "الباء" المُتَضمِّنة [ن/ 80] معنى الاقترانِ والضَّمِّ، فالقولان واحدٌ. والله أعلم. وأمَّا "الحُورُ العِينُ"؛ فقال مجاهد: "التي يَحَارُ فيها الطَّرْفُ، باديًا مُخُّ سُوقهنَّ من وراء ثيابهنَّ، ويَرَى النَّاظِرُ وجهَهُ في كَبِدِ إحداهُنَّ كالمِرآة من رِقَّة الجِلْدِ، وصفاءِ اللَّون" (¬3). ¬
وصف الله نساء الجنة بأحسن الصفات، وتفصيل ذلك
وقال قتادة: "بِـ " حُور" أي: بِيض" (¬1). وكذلك قال ابن عباس (¬2). وقال مقاتل: ""الحُور": البِيضُ الوجوه، "العِين": الحِسَانُ الأَعْين" (¬3). وعَيْنٌ حَوْرَاء (¬4): شديدةُ السَّوَاد، نَقِيَّةُ البياض، طويلةُ الأهداب معِ سوادها، كاملة الحُسْن. ولا تسمَّى المرأة "حَوْرَاء" حتَّى تكون مع حوَر عينها بيضاءَ لون الجسد. فَوَصَفَهُنَّ بالبياضِ والحُسْنِ والمَلاَحَةِ، كما قال تعالى: {خَيْرَاتٌ حِسَانٌ (70)} [الرحمن/ 70]، فالبياضُ في ألوانهنَّ، والحُسْن في وجوههنَّ (¬5)، والمَلاَحَة في عيونهنَّ. وقد وصف الله -سبحانه- نساءَ الجنَّةِ بأحسن [ك/78] الصفات، ودلَّ بما وصف على ما سكت عنه. ¬
ذكر ما يستحب من صفات المرأة على التفصيل
فإن شئتَ التفصيل؛ فالذي يُحْمَدُ ويستحبُّ [ح/102] من وجه المرأة، وبدنها، وأخلاقها: "البيَاضُ" في أربعةِ أشياء: اللَّون، وبياضِ العَين، والفَرْق، والثَّغْر (¬1). و"السَّوَادُ" في أربعةٍ: سوادِ العين، وسوادِ شَعْرِ الرأسِ، وسوادِ شَعْر الجَفْنِ، وسوادِ شَعْر (¬2) الحاجِبين. و"الحُمْرَةُ" في أربعةٍ: اللِّسانِ، والشَّفَتين، والوَجْنَتين، وحُمْرةٍ تَشُوبُ "البَيَاضَ" فتُحَسِّنُه وتزيِّنُه. ومن "التدوير" أربعةُ أشياء: الوجهُ، والرأسُ، والكَعْبُ، والمَقْعدُ. ومن "الطُول" أربعة: القَامَةُ، والعُنُقُ، والشَّعْرُ، والحاجِبُ. ومن "السَّعَةِ" في أربعةٍ: الجَبْهَةِ، والعَينِ، والوجهِ، والصَّدْرِ. ومن "الصِّغَرِ" في أربعةٍ: الثَّدْي، والفَم، والكفِّ، والقَدَمِ (¬3). ومن "الطِّيبِ" في أربعةٍ: الفَم، والأنفِ، والفَرْق، والفَرْج. ومن "الضِّيقِ" في موضعٍ واحدِ. ومن "الأخلاق" كما قال اللهُ تعالى: {عُرُبًا أَتْرَابًا (37)} [الواقعة/ 37]، ¬
معنى "العرب" عند أهل اللغة
فـ "العُرُب" جمع: عَرُوبٍ، وهي المرأة المتحبِّبَةَ (¬1) إلى زوجها بأخلاقها، ولطافتها، وشمائلها. قال ابن الأعرابي: "العَرُوبُ من النِّساء: المطيعةُ لزوجها، المتحبِّبةُ إليه" (¬2). وقال أبو عبيدة: "هي الحَسَنَةُ التَّبَعُّل" (¬3). قال المبرِّد: "هي العاشقة لزوجها" (¬4). وقال البخاري في "صحيحه" (¬5): "هي الغَنِجَةُ، ويقال: الشَّكِلَةُ". فهذا وَصْفُ أخلاقهن، وذاك وصف خَلْقِهنَّ. وأنت (¬6) إذا تأمَّلتَ الصفات التي وصفهنَّ اللهُ بها رأيتها مستلزمةً لهذه الصفات وَلِمَا وراءَها. والله المستعان. ¬
فصل: من كمال نعيم أهل الجنة إلحاق ذرياتهم بهم، لكنه خاص
فصل ثمَّ أخبر -سبحانه- عن تكميل نعيمهم بإلحاق ذُرِّياتهم بهم في الدرجة -وإنْ لم يعملوا أعمالهم- لِتَقَرَّ أعينُهم بهم، ويَتِمَّ سرورُهم وفرحُهم. وأخبر -سبحانه- أنَّه لم ينقُص الآباءَ من عملهم من شيءٍ بهذا [ز/98] الإلحاق، فينزلهم من الدرجة العُلْيا إلى السُّفْلَى، بل أَلْحَقَ الأبناء بالآباء، ووفَّر على الآباء أجورَهم ودرجاتهم. ثمَّ أخبر -سبحانه- أنَّ هذا إنَّما هو فعله في أهل الفضل، وأمَّا أهل العدل فلا يفعل بهم ذلك، بل {كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ (21)} [الطور/ 21]، ففي هذا رفْعٌ لتوهُّم التسوية بين الفريقين في هذا الإلحاق، كما في قوله: {وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ} [الطور/ 21] رفْعٌ لتوهُّم حَطِّ الآباء إلى درجة الأبناء، وقسمةِ أجور الآباء بينهم وبين الأبناء فينتقص (¬1) أجر أعمالهم، فرفع هذا التوهُّمَ بقوله: {وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ} أي: ما نَقَصْنَاهم. ثُمَّ ذكر إمدادَهم باللَّحم، والفاكهة، والشَّراب، وأنَّهم يتعاطَون كؤوس الشَّرَاب بينهم، يشرب أحدُهم ويناول صاحبه ليتمَّ بذلك فرحهم وسرورهم. ثمَّ نزَّه ذلك الشَّراب عن الآفات من اللَّغْو من أهله عليه، ولُحُوق الإثم لهم؛ فقال: {لَا لَغْوٌ فِيهَا وَلَا تَأْثِيمٌ (23)} [الطور/23]، فنفَى بـ "اللَّغْوِ": السِّبَابَ، والتخاصُمَ، والهُجْرَ (¬2)، والفُحْشَ في المقال، ¬
لماذا قال الله: {ولا تأثيم}، ولم يقل: ولا إثم؟
والعَرْبَدَةَ. ونَفَى بـ "التأثيم" جميع الصفات المذمومة التي أثَّمَتْ شارب الخمر. وقال سبحانه: {وَلَا تَأْثِيمٌ (23)} ولم يَقُل: ولا إثْم، أي: ليس فيها ما يحملهم على الإثم، ولا يُؤَثِّم بعضُهم بعضًا بشربها، ولا يُؤَثِّمُهم اللهُ بذلك، ولا الملائكةُ، فلا يَلْغُون، ولا يأثمون. قال ابن قتيبة: "لا تذهب بعقولهم فيلغُوا، ولم يقع منهم ما يُؤَثِّمُهم" (¬1). ثُمَّ وصَفَ خدمَهم الطائفين عليهم بأنَّهم كاللؤلؤ في بياضهم. و"المكْنُون": المَصُون الذي لا تدنَسُه الأيدي، فلم تُذْهِب الخدمةُ تلك المحاسِنَ، وذلك اللَّونَ والصفاءَ والبهجةَ، بل مع انتصابهم لخدمتهم كأنَّهم لؤلؤٌ مكنونٌ. ووصفهم في موضعٍ آخر (¬2) بأنَّ رائيهم يحسبهم لؤلؤًا منثورًا؛ ففي ذكره "المنثورَ" إشارةٌ إلى تفرُّقِهم في حوائج ساداتهم، وخدمتهمِ، وذهابهم، ومجيئهم، وسَعَة المكان، بحيث لا يحتاجون أن يَنْضَمَّ بعضُهم إلى بعضٍ فيه لضيقه. ثُمَّ ذكر -سبحانه- ما يتحدَّثون به هناك، وأنَّهم يقولون: {إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ (26)} [الطور/ 26] [ح/103] أي: كُنَّا خائفين في مَحَلِّ الأمن (¬3) بين الأهل والأقارب والعشائر، فأوصلنا ذلك الخوف ¬
والإشفاق إلى أنْ مَنَّ اللهُ علينا، [ن/ 81] فأمَّنَنَا ممَّا نخاف {وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ (27)} [الطور/ 27]، وهذا ضدُّ حال الشقيِّ الذي كان (¬1) في أهله مسرورًا. فهذا كان مسرورًا مع إساءته، وهؤلاء كانوا مُشْفِقِين مع إحسانهم، فبدَّلَ الله -سبحانه- إشفاقَهم بأعظم الأمن، وبدَّلَ أمن أولئك [ك/ 79] بأعظم المخاوِف. فبالله المستعان. ثمَّ أخبر -تعالى- عن حالهم في الدنيا، وأنَّهم كانوا يعبدون الله فيها، فأوصَلَتْهُم عبادتُه وحدَهُ إلى قُرْبِه وجوَارِه، ومَحَلِّ كرامته، والذي جمع لهم ذلك كلَّه بِرَّهُ ورحمتُه؟ فإنَّه هو "اَلبَرُّ الرَّحيمُ". فهذا هو المُقْسَمُ عليه بتلك الأقسام الخمسة في أوَّل السورة. والله أعلم. ¬
فصل: القسم في سورة الذاريات
فصل ومن ذلك قوله تعالى: {وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا (1) فَالْحَامِلَاتِ وِقْرًا (2) فَالْجَارِيَاتِ يُسْرًا (3) فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْرًا (4)} [الذاريات/ 1 - 4]، أقْسَم بـ "الذَّاريات" وهي: الرِّياح؛ تَذْرُو المطرَ، وتَذْرُو الترابَ، وتَذْرُو النَّباتَ إذا تَهَشَّم، كما قال تعالى: {فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ} [الكهف/ 45]؛ أي: تفرِّقُه وتَنْشُرُه. ثُمَّ أقسَمَ (¬1) بما فوقها وهي: السَّحَاب الحاملات وِقْرًا، أي: ثِقْلاً من الماء، وهي رَوَايَا (¬2) الأرض، يسوقها الله -سبحانه- على مُتُون الرِّياح؛ كما في "جامع الترمذي" (¬3) من حديث الحسن عن أبي هريرة قال: بينما نبيُّ الله - صلى الله عليه وسلم - جالسٌ وأصحابُه إذ أتى عليهم سَحَابٌ، فقال نبيُّ الله - صلى الله عليه وسلم -: "هل تَدْرُون ما هذا؟ " قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: "هذا العَنَانُ، هذه رَوَايَا الأرض، يَسُوقُها اللَّهُ -تبارك وتعالى- إلى قومٍ لا يشكرونه، ولا يَدْعُونه". ثُمَّ أقسَمَ -سبحانه- بما فوق ذلك، وهي "الجاريات يُسْرًا"؛ وهي: النُّجُوم التي من فوق الغَمَام، و"يُسْرًا" أي: مُسَخَّرةً مُذَلَّلةً مُنْقَادَةً. وقال جماعة من المفسِّرين (¬4): إنَّها السُّفُن تجري مُيَسَّرَةً في الماء ¬
رخح المؤلف أن "المقسمات أمرا" لا تختص بأربعة ملائكة
جريًا سهلاً، ومنهم من لم يذكر غيره (¬1). واختار شيخنا -رحمه الله- القول الأول (¬2)، [ز/ 99] وقال: هو أحسن في الترتيب والانتقال من السافل إلى العالي؛ فإنه بدأ بالرِّياح، وفوقها السَّحاب، وفوقه النُّجُوم، وفوقها (¬3) الملائكة المقسِّمَات أَمْرَ اللهِ الذي أُمِرَتْ به بين خلقه. والصحيح أنَّ "المقسمات أمرًا" لا تختصُّ بأربعةٍ. وقيل (¬4): هُمْ: "جبريل"؛ يقسم الوحيَ، والعذابَ، وأنواعَ العقوبة على من خالف الرُّسُل. و"ميكائيل"؛ على القَطْر، والبَرَدِ، والثَّلْج، والنَّبَات، يقسمها بأمر الله. ¬
عجائب الخلق في الرياح وأنواعها وصفاتها ووظائفها
و"ملك الموت"؛ يقسم المَنَايا بين الخلق بأمر الله تعالى. و"إسرافيل"؛ يقسم الأرواحَ على أبدانها عند النَّفْخ في الصُّور. وهم "المُدبِّرَاتُ أمرًا". وليس في اللفظ ما يدلُّ على الاختصاص بهم. والله أعلم. وأقسَمَ -سبحانه- بهذه الأمور (¬1) الأربعة لمكان العبرة والآية، والدلالة الباهرة على ربوبيته ووحدانيته، وعِظَم قدرته. ففي "الرِّياح" من العِبَر: هُبُوبُها، وسُكُونُها، ولينُها، وشدَّتُها، واختلافُ طبائِعها وصفاتها ومَهَابها، وتصريفها، وتنوُّعُ منافعها، وشدَّةُ الحاجة إليها. فللمطر خمس رياح: ريحٌ تنشر سحابَهُ، وريحٌ تؤلِّفُ بينه، وريحٌ تلقِّحُه، وريحٌ تسوقه حيث يريد الله، وريحٌ تَذْرُو ماءَهُ وتفرِّقُه (¬2). وللنَّبَات ريحٌ، وللسُّفُن ريحٌ (¬3)، وللرحمة ريحٌ، وللعذاب ريحٌ، إلى غير ذلك من أنواع الرِّياح. وذلك يقضي بوجود خالقٍ مصرِّفٍ لها، مُدَبِّرٍ لها، ويصرِّفُها كيف يشاء، ويجعلها رُخَاءً تارةً، وعاصفةً تارةً، ورحمةً تارةً، وعذابًا تارة. فتارةً يحيى بها الزروع والثمار، وتارةً يقطعُها بها، وتارةً يُنْجي بها السُّفُن، وتارةً يهلكُها بها؛ وتارة ترطِّبُ الأبدان، وتارةً تذيبُها، وتارةً ¬
عقيمًا، وتارةً لاقِحَةً، وتارةً جَنُوبًا، وتارة دَبُورًا، وتارةً صَبًا، وتارةً شَمَالاً، وتارةً بين ذلك، وتارةً حارَّةً، وتارةً باردةً (¬1). وهي (¬2) -مع غاية قوتها- ألْطَفُ شيءٍ، وأقْبَلُ المخلوقات لكلِّ كيفية، سريعةُ التأثر والتأثير، لطيفة [ح/ 104] المَسَارِب (¬3)، بَحْرٌ بين (¬4) السماء والأرض، إذا قُطع عن الحيوان الذي على وجه الأرض هلَكَ، كبحر الماء الذي إذا فارقَهُ حيوان الماء هلك. يحبسها الله -سبحانه- إذا شاء، ويرسلُها إذا شاء. تحمل الأصواتَ إلى الآذان، والرائحةَ إلى الأنف، والسَّحابَ إلى الأرض الجُرُز (¬5). وهي من رَوْح الله تأتي بالرحمة، ومن عقوبته تأتي بالعذاب. وهي أقوى خَلْقِ الله كما رواه الترمذي في "جامعه" من حديث أنس بن مالك، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "لما خلقَ اللهُ الأرضَ جَعَلَتْ تَمِيدُ، فخلق الجبالَ، فقال بها عليها، فاستَقَرَّتْ، فَعَجِبَت الملائكةُ من شدَّةِ ¬
الجبالِ، وقالوا: يا رَبُّ؛ هل مِنْ خَلْقِكَ شيءٌ أشدُّ من الجبال؟ قال: نعم، الحديد. قالوا: يا رَب؛ فهل مِنْ خَلْقِكَ شيءٌ أشدُّ من الحديد؟ قال: نعم، النَّار. قالوا: يا ربُّ؛ فهل مِنْ خَلْقِكَ شيءٌ أشدُّ من النَّار؟ [ك/ 80] قال: نعم، الماء. قالوا: يا رَبُّ؛ فهل مِنْ خَلْقِكَ شيءٌ أشدُّ من الماء؟ قال: نعم، الريح. قالوا: يا رَبُّ فهل مِنْ خَلْقِكَ شيءٌ أشدُّ من الريح؟ قال: نعم، ابنُ آدم، تصدقَ [ن/ 82] بصدقه بيمينه يُخفِيها مِنْ شِمَاله"؛ ورواه الإمام أحمد في "مسنده" (¬1). وفي الترمذي (¬2) في حديث قصة عاب أنه لم يرسل عليهم من الرِّيح إلا قَدْر حَلْقَةِ الخَاتَم، فلم تَذَرْ من شيءٍ أَتَتْ عليه إلا جَعَلَتْه كالرَّمِيم. وقد وَصَفَها اللهُ -سبحانه- بأنها عاتيةٌ؛ قال البخاري في "صحيحه" (¬3): "عَتَتْ على الخَزَنَة"، فلم يستطيعوا أنْ يردُّوها. ¬
فصل: عجائب الخلق في السحاب؛ تكوينه ووظائفه
والمقصود أنَّ الرِّياح من أعظم آيات الربِّ، الدَّالة على عظمته، وربوبيته، وقدرته. فصل ثُمَّ أقسَمَ -سبحانه- بـ"السَّحَاب"، وهو من أعظم آياته، بُخَارٌ يُنْشِئه الله (¬1) فيْ الجَوِّ في غاية الخِفَّة، ثُمَّ يحمل الماءَ والبَرَدَ، فيصير أثقلَ شيءٍ، فيأمر الرِّياح، فتحمله على مُتُونها، وتسير به حيث أُمِرَت، فهِو مُسَخَّرٌ بين السماء والأرض، حامِلٌ لأرزاق العباد والحيوان، فإذا أَفْرَغه حيث أُمِر به اضْمَحَل وتَلاَشَى بقدرة الله، فإنه لو بَقِيَ لأضَرَّ بالنَّبَات والحيوان. فأنشأَهُ -سبحانه- في زمنٍ يصلح إنشاؤه فيه، وحمَّلَهُ من الماء ما تحمَّلَه، وساقَهُ إلى بلدٍ [ز/ 100] شديدِ الحاجةِ إليه. فَسَلِ "السَّحَاب": مَنْ أنشأه بعد عَدَمِهِ؟ ومَنْ حمَّلَهُ الماءَ والثَّلْجَ والبَرَدَ؟ ومَنْ حَمَلَهُ على ظهور الرِّياح؟ ومَنَ أمسكه بين السماء والأرض بغير عماد؟ ومَنْ أغاثَ بقَطْرِهِ العبادَ، وأحيا به البلادَ، وصرَّفَهُ بين خلقه كما أراد؟ وأخرج ذلك القطر بقَدْرٍ معلومٍ، وأنزله منه، وأَفْنَاهُ بعد الاستغناء عنه، ولو شاء لأدَامَهُ عليهم فلم يستطيعوا إلى دفعه سبيلاً، ولو شاء لأمْسَكَهُ عنهم فلا يجدون إليه وصولاً، فإنْ لم (¬2) يُجبْكَ حِوَارًا؛ أجابك اعتبارًا. ¬
عظيم منة الله على عباده بتسخير السفن، وما فيه من الآيات
وَسَلِ "الرِّياح": مَنْ أنشأها بقدرته؟ وصرفها بحكمته، وسخَّرها بمشيئته، وأرسلها بُشْرًا (¬1) بين يدي رحمته، وجعلها سببًا لتمام نعمته، وسلطها على من شاء بعقوبته؟ ومَنْ جعلها رُخَاءً، وذَارِيَةً، ولاقِحَةً، ومثيرةً، ومؤلِّفَةً، ومغذِّيةً لأبدان الحيوان، والشجرِ، والنَّبَاتِ؟ وجعلها قاصِفًا، وعاصِفًا، ومُهْلِكَةً، وعاتيةً؟ إلى غير ذلك من صفاتها. فهل ذلك لها من نفسها وذاتها أم بتدبير مُدَبِّرٍ شَهِدَت الموجوداتُ بربوبيته، وأقرَّت المصنوعاتُ بوحدانيته، بيده النَّفْعُ والضُّر، وله الخَلْق والأمر، تبارك الله ربُّ العالمين. وَسَلِ "الجَارِيات يُسْرًا" مِنَ السُّفُن مَنْ (¬2) أَمْسَكَها على وجه الماء؟ ومَنْ سخَّرَ لها البحر؟ ومَنْ أرسل لها الرِّياح التي تَسُوقها في الماء سَوقَ السَّحَاب على مُتُون الرِّياِح؟ ومَنْ حَفِظَها في مَجْرَاها ومُرْسَاها مِنْ طغيان الماء وطَغيان الرِّيح؟ فمَنِ الذي جعل الريح لها بقَدْرٍ لو زَادَ عليها لأغرقها؛ ولو نقص عنه لَعَاقَها؟ ومَنِ الذي أجرى لها ريحًا واحدةً تسير بها، ولم يسلطْ على تلك الرِّيح ما يُصَادِمها ويُقَاوِمها، فَتَتَموَّج في البحر يمينًا وشمالاً تتلاعب بها الرِّياح؟ ومَنِ الذي علَّمَ الخَلْقَ الضعيفَ صَنْعَةَ هذا [ح/105] البيت العظيم الذي يمشي على الماء (¬3)، فيقطع المسافة البعيدة، ويعود إلى بلده، يَشُقُّ الماءَ ويَمْخُرُه، مُقْبِلاً ومُدْبِرًا بريحٍ واحدةٍ، تجري في موجٍ ¬
عجائب الخلق في الكواكب
كالجبال؛ {وَمِنْ آيَاتِهِ الْجَوَارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ (32) إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (33) أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُوا وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ (34)} [الشورى: 32 - 34]. ومَنِ الذي حَمَلَ في هذا البيت نبيَّهُ وأولياءَهُ خاصةً، وأغرقَ جميعَ أهل الأرض سواهم؟ وَسَلِ "الجاريات يُسْرًا" من الكواكب، والشمس، والقمر: مَنِ الذي خَلَقها، وأحسن خَلْقها، ورفع مكانها، وزيَّنَ بها قُبَّةَ العالَم؟ وفَاوَتَ بين أشكالها، ومقاديرها، وألوانها، وحركاتها، وأماكنها من السماء، فمنها الكبير، ومنها الصغير، والمتوسِّط، والأبيض، والأحمر، والزُّجَاجيُّ اللَّون، والدُّرِّيُّ اللَّون؟ والمتوسِّطُ في قُبَّةِ الفُلْك، والمتطرِّفُ في جوانبها، وبين ذلك؟ ومنها ما يقطع الفُلْك في شهرٍ، ومنها ما يقطعه في عامٍ، ومنها ما يقطعه في ثلاثين عامًا، ومنها ما يقطعه في أضعاف ذلك. ومنها ما لا يزال ظاهرًا لا يغيب بحال، فهو أَبَدِيُّ الطهور، ومنها أَبَدِيُّ الخَفَاء، ومنها ما له حالتان: ظهورٌ، واختفاء. ومنها ما له حركتان: 1 - حركةٌ عَرَضِيةٌ من المشرق إلى المغرب. 2 - وحركةٌ ذاتيةٌ من المغرب إلى المشرق. فَحَالَ ما يأخذ الكوكب في الغروب فإذا كوكبٌ آخر في مقابلته، وكوكبٌ آخر قد طَلَع، وهو آخِذٌ [ك/ 81] في الارتفاع والتصاعد، وكوكبٌ
فصل: ما تقسمه الملائكة على خلق الله من أمره
آخر (¬1) في الرُّبْع الشَّرْقيِّ، وكوكبٌ آخر في وسط السماء، وكوكبٌ آخر قد مَالَ عن الوسَط، وآخر قد دَنَا من الغروب، وكأنَّ رَقِيبَهُ ينتظر بطلوعه غَيبته. وأنتَ إذا تأمَّلتَ أحوال هذه الكواكب وجدتها تدلُّ على المَعَاد كما تدلُّ على المبدأ، وتدلُّ على وجود الخالق، وصفات كماله، [ن/83] وربوبيته، وحكمته، ووحدانيته = أعظمَ دلالة. وكلُّ ما دَلَّ على صفات جلاله ونعوت كماله دلَّ على صِدْق رُسُله، فكما جعل اللهُ -تعالى- النجُومَ هدايةً في طُرق البَرِّ والبحر، فهي هدايةٌ في طُرُق العلم بالخالق -سبحانه- وقدرته، وعلمه، وحكمته، [ز/ 101] والمبدأ، والمَعَاد، والنُّبوَّة. ودلالتها على هذه المطالب لا تَقْصر عن دلالتها على طُرُق البرِّ والبحر، بل دلالتها للعقول على ذلك أظهرُ من دلالتها على الطُرُقِ الحِسِّيَّةِ، فهي هدايةٌ في هذا وهذا. فصل وأمَّا دلالةُ "المُقَسِّماتِ أمرًا" وهم الملائكة؛ فَلأَنَّ ما يُشَاهَد من تدبير العالَم العُلْوِيِّ والسُّفْلِيِّ وما لا تشَاهَد إنَّما هو على أيدي الملائكة، فالرَّبُّ -تعالى- يدبِّرُ بهم أمر العالَم، وقد وكَّل بكلِّ عملٍ من الأعمال طائفةً منهم: فوكَّل بالشمس، والقمر، والأفلاك (¬2)، والنُّجُوم طائفةً منهم، ووكَّل بالقَطْر والسَّحاب طائفةً، ووكَّل بالنَّبَات طائفةً، ووكَّل ¬
بعض صفات الملائكة الخلقية
بالأجنَّةِ والحيوان طائفةً، ووكَّل بالموت طائفةً، وبِحِفْظِ بني آدم طائفةً، وبإحَصاء أعمالهم وكتابتها طائفةً (¬1)، وبالوحي طائفةً، وبالجبال طائفةً (¬2)، وبكلِّ شأنٍ من شؤون العالم طائفةً. هذا مع ما في خَلْقِ الملائكة من البهاء والحُسْن، وما فيهم من القوةِ والشدَّةِ، ولطافةِ الجسم، وحُسْن الخِلْقَة، وكمال الانقياد لأمره، والقيام في خدمته، وتنفيذ أوامره في أقطار العالَم. ثُمَّ أقسَمَ -سبحانه- بهذه الأمور على صِدْقِ وَعْده، ووقوع جزائه بالثواب والعقاب فقال: {إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ (5)} [الذاريات: 5]؛ أي: ما توعدون من أمر الساعة والثواب والعقاب لَحَقٌّ كائنٌ، وهو وَعْدُ صدقٍ لا كذب، {وَإِنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌ (6)} [الذاريات: 6] أي: إنَ الجزاء لَكَائنٌ لا محالة. ويجوز أن تكون "ما" موصولةً، والعائد محذوف، والمعنى: إنَّ الذي توعدونه لَصَادِقٌ، أي: كائنٌ وثابتٌ. وأن تكون مصدريَّةً، أي: إنَ وَعْدَكم لَحَقٌّ وصِدْقٌ (¬3). وَوَصفُ الوَعْدِ بكونه "صادقًا" أبلغ من وصْفِه بكونه "صِدْقًا"، ولا حاجة إلى تكلُّفِ (¬4) جعله بمعنى: مصدوقًا فيه، بل هو صادِقٌ نفسُه (¬5)؛ ¬
بيان معنى "الحبك" في اللغة وعند المفسرين
كما يوصف المتكلِّم بأنَّه صادِقٌ في كلامه، يُوصف كلامه بأنَّه: صادِقٌ (¬1). وهذا مثل قولهم: [ح/106] سرٌّ كاتم، وليلٌ قائمٌ، ونهارٌ صائمٌ، وماءٌ دافقٌ، ومنه: {فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ (21)} [الحاقة: 21]، وليس ذلك بمَجَاني، ولا مخالفٍ لمقتضى التركيب. وإذا تأمَّلتَ هذا التناسُبَ والارتباطَ بين المُقْسَم به والمُقْسَم عليه؛ وجدته دالاً عليه، مرشدًا إليه. ثُمَّ أقسَمَ -سبحانه- بـ"السماء ذات الحُبُك". أصل "الحَبك" في اللغة: إجَادَةُ النَّسْج. يقال: حَبَكَ الثوبَ؛ إذا أجاد نَسْجَه. وحَبْلٌ محبوكٌ؛ إذا كان شديد الفَتْل. وفَرَسٌ مَحْبُوكُ الكَفَلِ، أي: مُدْمَجُه. وقال شَمِرُ (¬2): "المَحْبُوكُ في اللغة: ما أُجيد عمله" (¬3)، "ودابَّةٌ مَحْبُوكَةٌ: إذا كانت مُدْمَجَة الخَلْق". وقال أبو عبيدة، والمبرِّد: "الحُبُكُ: الطرائقُ، واحدها: حِبَاك. وحِبَاكُ الحَمَام: طرائق على جَنَاحَيه. وحُبُك الماء: طرائقه" (¬4). ¬
وقال الفَراء: "الحُبُك: تَكَسُّرُ (¬1) كلِّ شيء، كالرَّمْلِ إذا مرَّتْ به الرِّيح، والماءِ الدائم إذا مَرَّتْ به الرِّيح. وتَجَعُّدُ الشَّعْر حُبُكٌ أيضًا، واحدها: حَبِيكة؛ مثل: طَرِيقة وطُرُق. وحِبَاك؛ مثل: مِثَال ومُثُل" (¬2). والمقصود بهذا كله ما أفصح به ابن عباس، فقال: "يريد الخَلْقَ الحَسَنَ" (¬3). وروى سعيد بن جبير عنه قال: "الحُبُكُ: حُسْنُها واستواؤُها" (¬4). وقال قتادة: "ذات الخَلْق الشديد" (¬5). وقال مجاهد: "مُتْقَنَةُ البُنْيَان". وقال أيضا: "ذات الطرائق ولكنها بعيدةٌ من العباد فلا يرونها، ¬
كحُبُكِ الماء إذا ضربته الرِّيح، وكحُبُكِ الرمْل، وحُبُكِ الشَّعْر" (¬1). وقال عكرمة: "بُنْيَانُها كالبُرْدِ المُسَلْسَل" (¬2). قلتُ: وفي الحديث في صفة الدجَّال: "رأسُهُ حُبُكٌ" (¬3)؛ أي: جَعْد الشَّعْر. ومن أحسن ما قيل في تفسير "الحُبُك"؛ ما ذكره الترمذي في تفسير "الجامع" (¬4) من حديث الحسن، عن أبي هريرة، أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ¬
فصل: بيان المقسم عليه في السورة
قال: "هل تَدْرُون ما فوقكم؟ " قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: "فإنَّها الرقيعُ: سَقْفٌ محفوظٌ، ومَوْجٌ مَكْفُوفٌ"، وذكر الحديث. فصل ثُمَّ ذكر المُقْسَم عليه فقال: {إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ (8) يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ (9)} [الذاريات: 8 - 9]، فالقول المُخْتَلِف: أقوالُهم في القرآن، وفي النبى - صلى الله عليه وسلم -، وهو خَرْصٌ كلُّه. فإنهم لمَّا كذَّبوا بالحقِّ اختلفت [ك/82] مذاهبُهم، وآراؤهم، وطرائقُهم، وأقوالُهم. فإنَّ الحق شيءٌ واحدٌ، وطريقٌ مستقيمٌ، فمن خالفه اختلفت به الطرق والمذاهب، كما قال تعالى: {بَلْ كَذَّبُوا [ز/102] بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ (5)} [ق: 5]، أي: مُخْتَلِطٍ مُلْتَبِسٍ. وفي ضمن هذا الجواب: أنكم في أقوالِ باطلةٍ متناقضةٍ، يكذِّبُ بعضُها بعضًا، بسبب تكذيبهم بالحقِّ. ثُمَّ أخبر -سبحانه- أنَّه يَصْرِفُ بسبب ذلك "القول المُخْتَلِفِ" مَنْ صَرَفَ. فـ"عَنْ" ههنا فيها طَرَفٌ من معنى: التَّسْبِيب، كقوله تعالى: {وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ} [هود: 53]، أي: بسبب قولك (¬1). وقوله: {مَنْ أُفِكَ (9)}؛ أي: من سَبَقَ في علم الله أنه يُضَل [ن/ 84] ويُؤفَكُ، كقوله: {فَإِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ (161) مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ (162) إِلَّا مَنْ هُوَ صَالِ ¬
الْجَحِيمِ (163)} الصافات/ 161 - 163]. وقالت طائفةٌ: الضمير يرجع إلى القرآن. وقيل: إلى الإيمان. وقيل: الرسول. والمعنى: يَصْرِفُ عنه من صَرَفَ حتَّى يكذِّبَ به. ولمَّا كان هذا "القول المُخْتَلِف" خَرْصًا وباطلاً قال: {قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ (10)}؛ أي: الكذابون، {الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ} وجَهَالةٍ قد (¬1) غَمَرَ قلوبهم- أي: غَطَاها، وغشَاها، كغَمْرَة الماء، وغَمْرَة الموت؛ فَغَمَراب - ما غطَاها من جهلٍ، أو هَوَي، أو سُكْرٍ، أو غَفْلةٍ، أو حُبٍّ، أو بُغْضٍ، أو خوفٍ، أو هَمٍّ وغمٍّ، ونحوِ ذلك. قال تعالى: {بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هَذَا} [المؤمنون: 63] أي: غَفْلَة، وقيل: جهالة. ثُمَّ وصفهم بأنَّهم ساهون في غَمْرتهم، و"السَّهْو": الغَفْلَةُ عن الشيء، وذهابُ القلب عنه. والفرق بينه وبين "النِّسْيَان": أنَّ "النِّسْيَانَ" الغفلةُ بعد الذكْر والمعرفة، و"السَّهْو" لا يستلزم ذلك (¬2). ثُمَّ قال: {يَسْأَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ (12)} استبعادًا لوقوعه وجَحْدًا، فأخبر -تعالى- أنَّ ذلك {يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ (13)}. ¬
المعنى الصحيح لقوله تعالى: {يوم هم على النار يفنتون}
والمشهور في تفسير هذا الحرف أنَّه بمعنى: يُحْرَقُون (¬1)، ولكن لفظة "على" تعطي معنىً زائدًا على ما ذكروه، ولو [ح/107] كان المراد نفس الحريق لقيل: يوم هم في النَّار يفتنون (¬2). ولهذا لمَّا عَلِمَ هؤلاء ذلك قال كثيرٌ منهم: "على" بمعنى "في"، كما تكون "في" بمعنى "على". والظاهر أنَّ فتنتهم على النَّار قبلَ فتنتهم فيها، فَلَهُم عند عرضهم عليها ووقوفهم عليها فتنةٌ، وعند دخولها والتعذيب بها فتنةٌ أشدُّ منها. فَهُمِ ومَنْ جعل "الفتنةَ" ههنا من: الحريق؛ أخذه من قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا} [البروج: 10]، واستشهد على ذلك -أيضًا- بهذه اللفظة التي في "الذَّاريات". وحقيقة الأمر أنَّ "الفتنة" تطلق على العذاب وسببه، ولهذا سمى اللهُ الكفر: فتنةً، فهم لمَّا أَتَوا بالفتنة -التى هي أسباب العذاب- في الدنيا سمى جزاءهم: فتنةً، ولهذا قال: {ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ}، وكان وقوفُهم على النَّار وعرضُهم عليها من أعظم فتنتهم، وآخر هذه الفتنة دخولُ النَّار، والتعذيبُ بها. فَفُتِنُوا أوَّلاً بأسباب الدنيا وزينتها، ثُمَّ فُتِنُوا بإرسال الرُّسُل إليهم، ثُمَّ فُتِنُوا بمخالفتهم وتكذيبهم، ثُمَّ فُتِنُوا بعذاب الدنيا، ثُمَّ فُتِنُوا بما بعد ¬
فصل: أخذ أهل الجنة ما آتاهم ربهم من الخير والكرامة دليل على أمور
الموت، ثُمَّ يُفْتَنُون (¬1) في موقف القيامة، ثُمَّ إذا حُشِرُوا إلى النَّار ووُقِفُوا عليها، وعُرِضُوا عليها، وذلك من أعظم فتنتهم، ثُمَّ الفتنة الكبرى التي أنستهم جميع الفتن قبلها. فصل ثُمَّ ذكر -سبحانه- جزاء من خَلَصَ من هذه الفتن بالتقوى، وهو: الجَنَّاتُ والعيون، وألَّهم آخذون ما آتاهم ربُّهم من الخير والكرامة. وفي ذلك دليلٌ على أمورٍ: منها: قبولهم له. ومنها: رضاهم به. ومنها: وصولهم إليه بلا مُمَانع ولا مُعَاوِق. ومنها: أنَّ جزاءهم من جنس أعمالهم؛ فكما أخذوا ما أمرهم به في الدنيا، وقابَلُوه بالرِّضَا والتسليم وانشراحِ الصَّدْر = أخذوا ما آتاهم من الجزاء كذلك. ثُمَّ ذكر السبب الذي أوصلهم إلى ذلك، وهو إحسانُهم المتضمِّنُ لعبادته وحده لا شريك له، والقيامِ بحقوقِه وحقوقِ عباده. ثُمَّ ذكر لَيْلَهم، وأنهم قليلٌ هُجُوعُهم منه. وقد قيل (¬2): إنَّ "ما" نافية، والمعنى: ما يهجعون قليلاً من الليل، ¬
القول بأنها نافية ضعيف من تسعة أوجه
فكيف بالكثير؟ وهذا ضعيفٌ لوجوه: أحدها: أن هذا ليس بلازمِ لوصف المتقين الذين يستحقون هذا الجزاء. الثاني: أنَّ قيامَ من نام من الليل نِصْفَه أحبُّ إلى الله مِنْ قيام مَنْ قامَهُ كلُّه. الثالث: أنهُ لو كان المراد بذلك إحياء الليل جميعِه لكان أَوْلَى النَّاس بهذا رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -، وما قام ليلةَ حتَّى الصَّبَاح. الرابع: أنَّ الله -سبحانه- إنما أمر رسوله أنْ يتهجَّدَ بالقرآن من الليل؛ لا في الليل كلِّه، فقال تعالى: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ [ز/103] بِهِ} [الإسراء: 79]. الخامس: أنه -سبحانه- لمَّا أمره بقيام الليل في سورة "المُزَّمل" إنَّما أَمَرَهُ بقيام النِّصْفِ، أو النقصانِ منه، أو الزيادةِ عليه، فذكر له هذه (¬1) المراتبَ الثلاثة، ولم يذكر قيامه كلَّه. السادس: أنَّه - صلى الله عليه وسلم - لمَّا بَلَغَهُ عن عثمان بن مَظْعُون [ك/83] أنه لا ينام من الليل، بعث إليه فجاءهُ، فقال: "يا عثمان أرَغِبْتَ عن سُنَّتي؟ " قال: لا والله يا رسول الله، ولكن سُنَّتك أطلب، قال: "فإنِّي أنامُ وأصلِّي، وأصُوم وأفطر، وأنكحُ النساء، فاتَّقِ الله يا عثمان، فإنَّ لأهْلِكَ عليكَ حقًّا، وإن لِضَيفك عليك حقًا، وإنَّ لِنَفْسِك عليك حقًا، فَصُمْ وأفْطِرْ، ¬
وَصَلِّ وَنَمْ" (¬1). ولمَّا بَلَغَهُ عن زينب بنت جَحْش أنَّها تصلِّي الليلَ كلَّه، حتَّى جعلت حَبْلاً بين ساريتين، إذا فَتَرَت تعلَّقَتْ به = أنكر ذلك، وأمر بَحَلِّه (¬2). السابع: أنَّ الله -تعالى- أَثنى عليهم بأنهم كانت {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ} [السجدة: 16]، وهذه المضاجع إنما هي مضاجع النَّوم، فكانت جُنُوبُهم تتجافى وتقلق عنها حتَّى يقوموا إلى الصلاة، ولهذا [ن/ 85] جازاهم عن هذا التجافي -الذي سببه قَلَقُ القلب واضطرابُه حتَّى يقوموا إلى الصلاة- بِقُرَّةِ الأعْيُنِ. الثامن: أنَّ الصحابة -الذين هم أوَّلُ وأَوْلَى من دخل في هذه الآية- لم يفهموا منها عدم نومهم بالليل أصلاً. فروى يحيى بن سعيد (¬3)، عن سعيد، [ح/108] عن قتادة، عن أنس في قوله تعالى: {كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ (17)} قال: "كانوا يُصَلُّون فيما بين المغرب والعشاء" (¬4). ¬
التاسع: أنَّ في هذا التقدير تفكيكًا للكلام، وتقديمًا لمعْمُولِ العامِلِ المنفيِّ عليه؛ لأنَّك تجعل "قليلاً" مفعولَ "يهجعون"، وهو منفيٌّ، والبصريُّون لا يجيزون ذلك، وإن أجازه الكوفيون. وفصَّلَ بعضُهم، فأجازه في الظَّرْف، ولم يُجِزْهُ في غيره (¬1). وقيل (¬2): "ما" زائدةٌ، وخَبَرُ "كان": "يهجعون"، و"قليلاً" منصوبٌ: 1 - إمَّا على المصدريَّة، أي: هُجُوعًا قليلاً. 2 - وإمَّا على الظَّرْف، أي: زمنًا قليلاً. واستُشْكِل هذا بأنَّ نومَ نصف الليل وقيامَ ثُلُثِه، ثُمَّ نومَ سُدُسه؛ أحبُّ القيام إلى الله عزَّ وجلَّ، فيكون وقت الهجوع أكثر من وقت القيام، فكيف يُثني عليهم بما الأفضل خلافه؟ وأُجيب عن ذلك: بأنَ مَنْ قامَ هذا القيام فَزَمَنُ هُجُوعه أقلُّ من زمن يقظته قطعًا، فإنَّه مستيقِظٌ من المغرب إلى العشاء، ومن الفجر إلى ¬
طلوع الشمس، فيبقى ما بين العشاء إلى طلوع الفجر، فيقومون نصف ذلك الوقت؛ فيكون زمنُ الهُجُوع أقلَّ من زمن الاستيقاظ. وقيل (¬1): "ما" مَصْدَرِيَّةٌ، وهي في موضع رَفْعٍ بـ"قليل" (¬2)، أي: كانوا قليلاً هُجُوعُهم. وهو قولٌ حَسَنٌ (¬3). وقيل (¬4): إنَّ "ما" موصولةٌ بمعنى "الذي"، والعائد محذوفٌ، أي: قليلٌ من الليل الوقت الذي يهجعونه. وفيه تكلُّفٌ. وقيل (¬5): "ما يهجعون" بَدَل اشتمال من اسم "كان"، والتقدير: كان هجوعهم من الليل قليلاً. ويَرِدُ عليه أنَّ "مِنَ الليل" متعلّقٌ بـ"يهجعون"، ومعمول المصدر لا يتقدَّمُ عليه. وأجيب عنه: أنَّه منصوبٌ على التفسير، ومعناه أن يُقَدَّرَ له فعلٌ محذوفٌ ينصبُه، يُفَسِّرُهُ هذا المذكور. ¬
ختم العبادات بالاستغفار هو أحسن ما ختمت به الأعمال
وقيل (¬1): " قليلاً" خبر "كان"، وتَمَّ الكلامُ بذلك، والمعنى: كانوا صِنْفًا أو جِنْسًا قليلاً، ثُمَّ قال: {مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ (17)} (¬2). وأصحاب هذا القول يجعلون "ما" نافيةً، فيعود الكلام إلى نَفْي هجوعهم شيئًا من الليل، وقد تقدَّم ما فيه (¬3). ثُمَّ أخبر عنهم بأنَّهم مع صلاتهم بالليل كانوا يستغفرون الله عند السَّحَر، فخَتَمُوا صلاتهم بالاستغفار والتوبة، فباتوا لربِّهم سُجَّدًا وقيامًا، ثُمَّ تابوا إليه واستغفروه عقيب ذلك. وكان النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - إذا سلَّم من صلاته استغفر ثلاثًا (¬4). وأمره الله- سبحانه- أن يختم عمره بالاستغفار (¬5). وأمر عباده أن يختموا إفاضتهم ¬
تفسير قوله تعالى: {للسائل والمحروم}
من عرفات بالاستغفار (¬1). وشَرَعَ - صلى الله عليه وسلم - للمتوضِّئ أن يختم وضوءَهُ بالتوبة (¬2). فأحسنُ ما خُتِمَتْ به الأعمالُ: التوبةُ والاستغفارُ. ثُمَّ أخبر -سبحانه- عن إحسانهم إلى الخَلْق مع إخلاصهمِ لربِّهم، [ز/ 104] فَجَمَع لهم بين الإخلاص والإحسان، ضِدُّ حال {الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ (6)} وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ (7)} [الماعون: 6 - 7]. وأكَّدَ إخلاصَهم في هذا الإحسان بأنَّ مَصْرِفَهُ {لِلسَّائِلِ (¬3) وَالْمَحْرُومِ (19)}، الذي لا يُقْصَدُ بعطائه الجزاءُ منه ولا الشكورُ. و"المحروم": المتعفِّفُ الذي لا يسأل. وتأمَّلْ حكمة الرَّبِّ -تعالى- في كونه حَرَمَهُ بقضائه، وشَرَعَ لأصحاب الجدَةِ إعطاءَهُ، وهو -سبحانه- أغنى الأغنياء، وأجود الأجودين. فلَم يجمع عليه بين الحِرْمَان بالقَدَر وبالشرع، بل (¬4) شرع عَطَاءَهُ بأمره، وحَرَمَهُ بِقَدَرِهِ، فلم يجمع عليه حِرْمَانَين. فصل ثُمَّ ذكَّرَهُم -سبحانه- بآياته الأفُقِيَّة والنَّفْسيَّة، فقال تعالى: {وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ (20) وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ (21)} [الذاريات: 20 - 21]. ¬
عجائب الخلق في الأرض
فآياتُ الأرض أنواعٌ كثيرة: منها خَلْقُها، وحُدُوثها بعد عَدَمِها، [ك/84] وشواهد الحدوث والافتقار إلى الصانع عليها لا تُجْحَد، فإنَّها شواهدُ قائمةٌ بها. ومنها بُرُوز هذا الجانب منها عن الماء، مع كون مقتضى الطبيعة أن يكون مغمورًا به. ومنها [ح/ 109] سَعَتُها، وكِبَرُ خَلْقِها. ومنها تَسْطِيحُها، كما قال تعالى: {وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ (20)} [الغاشية: 20]، ولا ينافي ذلك كونها كُرَةً. فهي كُرَةٌ في الحقيقة، لها سَطْحٌ يستقرُّ عليه الحيوان. ومنها أنَّه جعلها فراشًا لتكون مَقَرًا للحيوان ومساكنه، وجعلها قرارًا. وجعلها مهادًا، وجَعَلَها ذَلُولاً تُوطَأُ بالأقدام، وتُضْرَبُ بالمَعَاوِل والفُؤوس، وتَحْمِلُ على ظهرها الأبنيةَ الثِّقَالَ. فهي ذَلُولٌ مُسَخَّرَةٌ لما يريد العبدُ منها. وجعلها بِسَاطًا، وجعلها كِفَاتًا للأحياء تَضُمهم على ظهرها، وللأمواتِ تضمُّهم في بَطْنها. وطَحَاها؛ فَمَدَّها، وبَسَطَها، وَوَسَّعَها، ودَحَاها، فهيَّأَها لما يُرَادُ منها بأن أخرج منها ماءها ومَرْعَاها، وشقَّ فيها الأنهار، وجعل فيها السُّبُلَ [ن/ 86] والفِجَاجَ. ونبَّهَ بِجَعْلِها مِهَادًا وفِرَاشًا على حكمةِ جعلها ساكنةً، وذلك آيةٌ
أخرى إذ لا دِعَامَة تحتها تُمْسِكُها، ولا عِلاَقَة فوقها، ولكنَّها لمَّا كانت على وجه الماء كانت تَتكفَّأُ فيه تكفُّؤَ السفينةِ، فاقْتَضَت العنايةُ الأزليَّةُ والحكمةُ الإلهيةُ أنْ وضَعَ عليها رواسي يُثَبِّتُها بها؛ لئلا تميدَ، وليستقرَّ عليها الأنامُ. ودلَّ جعلُها ذلولاً على الحكمة في أن لم تكن في غاية الصَّلاَبة والشدَّة كالحديد، فيمتنع حَفْرُها وشَقُّها، والبناءُ فيها، والغَرْسُ، والزَّرْعُ، ويصعبُ النَّوم عليها، والمشي فيها. ونَبَّهَ بكونها قَرَارًا على الحكمة في أنها لم تُخْلَق في غاية اللِّين والرَّخَاوَة والدَّمَاثة، فلا تُمْسِكُ بناءً، ولا يستقرُّ عليها الحيوان، ولا الأجسامُ الثقيلة، بل جعلها بين الصَّلاَبة والدَّمَاثة (¬1). وأشرف الجواهر عند الإنسان: الذهبُ، والفضَّةُ، والياقوتُ، والزُّمرُّدُ. فلو كانت الأرض من هذه الجواهر لفاتت مصالح العباد والحيوان منها، وتعطَّلت المنافع المقصودة منها (¬2). وبهذا يُعلم أنَّ جوهر التراب أشرفُ من هذه الجواهر، وأنفعُ وأَبْرَكُ، وإنْ كانت تلك أغلى وأعزَّ، فغلاؤُها وعزَّتُها لِقِلتِها، وإلا فالتراب أنفع منها، وأبرك، وأنفس. وكذلك لم يجعلها شفَّافةً، فإنَّ الجسم الشفَّافَ لا يستقرُّ عليه النُّور، وما كان كذلك لم يقبل السُّخُونة، فيبقى في غاية البَرْد، فلا يستقرُّ ¬
فصل: من آيات الله في الأرض اختلاف أجناسها وصفاتها ومنافعها
عليه الحيوانُ، ولا يتأتَّى منه (¬1) النَّبَاتُ. وكذلك لم يجعلها صَقِيلَةً بَراقَةً؛ لئلا يحترق ما عليها بسبب انعكاس أشعَّةِ الشمس، كما يُشَاهَدُ من احتراق القُطْن ونحوه عند انعكاس شُعاع الجسم (¬2) الصقيل الشفاف. فاقتضت حكمته -سبحانه- أن جعلها كثيفةً غَبْرَاء، فَصَلُحَتْ أن تكون مستقرًّا للحيوان، والأنام، والنَّبَات. ولمَّا كان الحيوان الهوائي لا يمكنه أن يعيش في الماء كالحيوان المائي أبْرَزَ له جانبها -كما تقدم- وجعله على أَوْفَق الهيئات لمصالحه، وأنشأهُ منها، وأنشأ منها طعامَهُ وقُوتَهُ. وكذلك خلق منها النَّوْعَ الإنسانيَّ، وأعادَهُ إليها، ويخرجه منها. فصل ومن آياته (¬3) أنْ جعلها مختلفةَ الأجناسِ، والصفاتِ، والمنافعِ، مع أنَّها قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ، متلاصِقةٌ: فهذه سَهْلَةٌ، وهذه حَزْنَة (¬4) تُجَاوِرُها وتلاصِقُها. وهذه طَيِّبةٌ تُنبِتُ، وتلاصِقُها أرضٌ [ز/ 105] لا تُنْبِت. وهذه ثَرِيَّةٌ (¬5)، وتلاصقُها رمال. ¬
وهذه صُلْبَةٌ، وتلاصقها وتليها رِخْوَةٌ (¬1). وهذه سوداء، وتليها أرضٌ بيضاء. وهذه حصى كلُّها، وتجاورها أرضٌ لا يوجد فيها حجر. وهذه تصلح لنبات كذا وكذا، وهذه لا تصلح له بل تصلح لغيره. وهذه سَبِخَةٌ (¬2) مالحة، وهذه بضدِّها. وهذه ليس فيها جَبَلٌ، ولا مَعْلَمٌ، وهذه مُسَجَّرة (¬3) بالجبال. وهذه لا تصلح إلا على المطر، وهذه لا ينفعها المطر، بل لا تصلح إلا على سَقْي الأنهار، فيُمْطِرُ الله -سبحانه- الأرضَ البعيدةَ، ويسوق الماءَ [ح/ 110] إليها على وجه الأرض. فلو سَأَلْتَها: مَنْ نوَّعها هذا التنويعَ؟! ¬
ومَنْ فرَّقَ بين أجزائها هذا التفريق؟ ومَنْ خصَّصَ كُلَّ قطعةٍ منها بما خصَّها به؟ ومَنْ ألقى عليها رواسيها، وفتح فيها السُّبُلَ، وأخرج منها الماءَ والمرعى؟ ومَنْ أمسكها عن الزَّوَال؟ ومَنْ بارك فيها، وقدَّرَ فيها أقواتها، وأنشأ منها حيوانها ونباتها؟ ومَنْ وضع فيها معادنَها، وجواهرَها، ومنافعَها؟ ومَنْ هيَّأها مَسْكنًا ومُسْتَقرًّا للأنام؟ ومَنْ يُبدِئُ منها الخَلْقَ، ثُمَّ يعيدُه إليها، ثُمَّ يُخرِجُهُ منها؟ ومَنْ جعلها ذَلُولاً غير مُسْتَصْعَبَةٍ [ك/85] ولا مُمْتَنِعَةٍ؟ ومَنْ وَطَّأ مناكِبَها، وذلَّل مَسَالكها، ووسَّعَ فِجَاجَها، وشقَّ أنهارها، وأنبت أشجارها، وأخرج ثمارها؟ ومَنْ صَدَعَها (¬1) عن النَّبَات، وأَوْدَعَ فيها جميع الأقوات؟ ومَنْ بَسَطَها، وفَرَشَها، ومَهدَها، وذلَّلَها، وطَحَاها، ودَحَاها، وجعل ما عليها زينةً لها؟ ومَن الذي يُمْسكُها أن تتحرك فتتزلزل فيَسْقُط ما عليها من بناءٍ ¬
ومَعْلَمٍ، أو يَخْسِفَها بمن عليها فإذا هي تَمُورُ؟ ومَن الذي أنشأ منها النَّوْعَ الإنسانيَّ الذي هو أبدعُ المخلوقات، وأحسنُ المصنوعات، بل أنشأ منها: آدمَ، ونوحًا، وإبراهيمَ، وموسى، وعيسى، ومحمدًا - صلى الله عليه وسلم وعليهم أجمعين-. وأنشأ منها أولياءَهُ، وأحبابَهُ، وعبادَهُ الصالحين؟ ومَنْ جعلها حافِظَةً لما استُودع فيها من المياه، والأرزاق، والمعادن، والحيوان؟ ومَنْ جعل بينها وبين الشمس والقمر هذا القَدْرَ من المسافة، فلو زادت على ذلك لَضَعُفَ تأثرها بحرارة الشمس ونور القمر؛ فتعطَّلَت المنفعةُ الواصِلةُ إلى الحيوان والنَّبَات بسبب ذلك. ولو زادت في القُرْب لاشتدَّت الحرارةُ والسُّخُونَةُ -كما نُشَاهده في الصيف- فاحترقت أبدانُ الحيوان والنَّبَات. وبالجُمْلَة؛ فكانت تَفُوتُ هذه الحكمة التي بها انتظامُ العالَم. ومَن الذي جعل فيها الجَنَّات، والحدائقَ، والعيونَ؟ [ن/ 87]. ومَن الذي جعل باطِنَها بيوتًا للأموات، وظاهرَها بيوتًا للأحياء؟ ومَن الذي يُحْييها بعد موتها، فيُنْزِلُ عليها الماء من السماء، ثُمَّ يُرْسِلُ عليها الرِّياحَ، ويُطْلِعُ عليها الشمسَ، فتأخذ في الحَبَل، فإذا كان وقت الولادة مَخَضت للوضع، واهتزَّتْ ورَبَتْ (¬1)، وأنبتت من كلِّ زوجٍ بهيجٍ. ¬
فسبحانَ من جَعَلَ السماءَ كالأب، والأرضَ كالأمَ، والقَطْرَ كالماءِ الذي ينعقد منه الولد، فإذا حَصَل الَحَبُّ في الأرض، ووقع عليه (¬1) الماءُ؛ أثَّرَتْ نَدَاوَةُ الطِّين فيه، وأعانتها السُّخُونةُ المختفيةُ في باطن الأرض، فوَصَلَت النَّدَاوَةُ والحرارةُ إلى باطِن الحَبَّةِ، فاتَّسَعَت (¬2) الحَبَّةُ ورَبَتْ، وانْتَفَخَتْ، وانْفَلَقَتْ عن ساقَين: 1 - ساقٍ (¬3) من فوقها، وهو: الشَّجَرَةُ. 2 - وساقٍ من تحتها، وهو: العِرْقُ. ثُمَّ عَظُمَ ذلك الولدُ حتى لم يَبْقَ لأبيه نسبةٌ إليه، ثُمَّ وضَعَ من الأولاد بعَدَدِ أبيه آلافًا مؤلَّفَةً، كلُّ ذلك صُنْع الرَّبِّ الحكيم في حَبَّةٍ واحدةٍ لعلها تبلغ في الصِّغَر إلى الغاية، وذلك من البركة التي وضعها الله -سبحانه- في هذه الأُمِّ. فَيَا لَها من آيةٍ تكفي وحدَها في الدلالة على وجود الخالق، وصفات كماله، وأفعاله، وعلى صدْق رُسُلِه فيما أخبروا به عنه مِن إخراج مَنْ في القبور ليوم البعث والنُّشور. فتأمَّلْ اجتماعَ هذه العناصر الأربعة (¬4)، وتجاورهما، وامتزاجَها، وحاجةَ بعضها إلى بعضٍ، وانفعالَ بعضها عن بعض، وتأثيرَهُ فيه، وتأثرَه به، بحيث لا يمكنه الامتناع من التأثرِ والانفعالِ، ولا يَسْتَقِلُّ الآخَرُ ¬
العلاقة بين الماء والأرض
بالتأثير، ولا يستغني عن صاحبه. وفي ذلك أظهر دلالة على أنها مخلوقةٌ، مصنوعةٌ، مربُوبةٌ، مُدَبَّرَةٌ، حادِثةٌ بعد عَدَمِها، فقيرةٌ إلى مُوجِدٍ غنيٍّ عنها، مُؤَثِّرٍ غير متأثِّرٍ، قديمٍ غير حادِثٍ، تنقاد المخلوقاتُ [ح/111] كلُّها لقدرته، [ز/106] وتجيب داعي مشيئته، وتُلَبي داعي وحدانيته وربوبيته، وتشهَدُ بعلمه وحكمته، وتدعو عبادَهُ إلى ذِكْرِه، وشكره، وطاعته، وعبوديته، ومحبَّته، وتحذِّرُهم من بَأْسِهِ، ونقْمَتِه، وتحثُّهم على المبادرة إلى رضوانه وجنَّتِه. فانظر -الآن- إلى الماء والأرض، كيف لما أراد الرَّبُّ -تبارك وتعالى- امتزاجَهُما وازدِوَاجَهُما أنشأ الرِّياح، فحرَّكَتِ الماءَ، وساقَتْهُ إلى أنْ قَذَفَتْهُ في عُمْقِ الأرض، ثُمَّ أنشأ لها حرارةً لطيفةً سماوِيَّةً حصَلَ بها الإنْبات، ثُم أنشأ لها حرارةً أخرى أقوى منها حصل بها الإنْضاج، وكانت حالته الأُولى تَضْعُفُ عن الحرارة الثانية، فادُّخِرَت إلى وقت قوَّته وصلابته. فحرارة الربيع للإخراج، وحرارة الصيف للإنْضاج. هذا وإنَّ الأمَّ واحدةٌ، والأبَ واحدٌ، واللِّقَاحَ واحدٌ، والأولاد في غاية التباين والتنوُّع، كما قال تعالى: {وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (4)} [الرعد: 4]؛ فهذا بعض آيات الأرض. ومن الآيات التي فيها وَقَائعُهُ -سبحانه- التي أَوْقَعَها بالأمم المكذبين لرسله، المخالفين لأمره، وأبقى آثارهم دالَّةً عليهم كما قال تعالى: {وَعَادًا وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَسَاكِنِهِمْ}
[العنكبوت/ 38]. وقال -تعالى- في قوم لوط: {وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ (137) وَبِاللَّيْلِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (138)} الصافات: 137 - 138]، وقال تعالى: {فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ (73) فَجَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ (74) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ (75) وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ (76)} [الحجر: 73 - 76] أي: بطريق ثابت لا يزول عن حاله، {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ (77)} (¬1) [الحجر/ 77]. وقال تعالى: {وَإِنْ كَانَ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ لَظَالِمِينَ (78) فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ وَإِنَّهُمَا لَبِإِمَامٍ مُبِينٍ (79)} [لحجر/ 78 - 79]؛ أي: دِيَارُ هاتَين الأُمَّتَين لبِطريقٍ واضحٍ يَمُرُّ به السَّالِكُون. وقال تعالى: {وَسَكَنْتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَ كُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الْأَمْثَالَ (45)} [إبراهيم: 45]. وقال عن قوم عاد: {فَأَصْبَحُوا لَا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ} [الأحقاف: 25]. وقال تعالى: {أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ} [السجدة: 26]. فأيُّ دلالة أعظمُ وأظهرُ من دلالةِ رجلٍ يخرج وحده، لا عُدَّةَ له، ولا عَدَد، ولا مال، فيدعو الأمَّةَ العظيمة إلى توحيد الله تعالى، والإيمانِ به وطاعته، ويحذِّرهم منِ بأسه ونقْمَته، فتَتَّفِقُ كلمتهم -أو أكثرهم- على تكذيبه ومعاداته، فتُدرِكُهم أنواعُ العقوبات الخارجة عن قدرة البشر، فيُغْرِقُ المكذبين كلَّهم تارةً، ويَخْسِفُ بغيرهم الأرضَ تارةً، ¬
ويُهْلِكُ آخرين بالرِّيح، وآخرين بالصَّيحَةِ، وآخرين بالمَسْخِ، وآخرين بالحجارة، وآخرين بظُلةٍ من النَّار من فوقهم، وآخرين بالصواعق، وآخرين [ن/88] بأنواع أُخَر من العقوبات، وينْجُو دَاعِيهم وَمَنْ معه، والهالكون أضعافُ (¬1) أضعافهم عَدَدًا وقوةً ومَنَعَةً وأموالاً. فَيَا لَكِ مِنْ آياتِ حَقٍّ لو اهتَدَى ... بِهِنَّ مُرِيدُ الحَقِّ؛ كُنَّ هَوَادِيا ولكنْ على تلك القلوب أَكِنَّة ... فليسَتْ -وإنْ أَصْغَتْ- تُجِيبُ المُنَادِيا فَهَلاَّ امتَنَعُوا -إنْ كانوا على الحقِّ، وهُمْ أكثرُ عَدَدًا، وأقوى شَوْكَةً- بقوَّتهم وعدَدِهم مِن بَأسِ اللهِ وسلطانه، وهَلاَّ اعتصمُوا من عقوبته، كما اعتصم مَنْ هو أضعفُ منهم من أتباع الرُّسُلِ؟ ومن الآيات التي في الأرضِ ما يُحْدِثُه فيها كلَّ وقتٍ ممَّا يُصَدِّق رُسُلَهُ فيما أخبرَتْ (¬2) به، فلا تزال آياتُ الرسُلِ، وأعلامُ صِدْقِهم، وأدلَّةُ نُبوَّتهم يُحدِثُها الله -سبحانه وتعالى- في الأرض، إقامةً للحُجَّةِ على مَنْ لم يُشَاهِد تلك الآيات التي قارَبَت عَصْرَ الرسول، حتَّى كأنَّ أهلَ كلِّ قَرْنٍ يشاهدون ما يشاهده الأوَّلُون أو نظيره (¬3)، كما قال تعالى: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ} [فصلت: 53]. وهذه الإرَاءَةُ لا تختصُّ بقَرْنٍ [ح/112] دون قَرْنٍ، بل لابدَّ ما يُري اللهُ -سبحانه- أهلَ كُلِّ قَرْنٍ من الآيات ما يبيِّنُ لهم أنَّه اللهُ الذي لا إله ¬
فصل: تفسير قوله تعالى: {وفي أنفسكم أفلا تبصرون}
إلا هو، وأنَّ رُسُلَهُ صادقون. وآياتُ الأرض أعظمُ ممَّا ذُكر وأكثر، فنبَّه (¬1) باليسير منها على الكثير. فصل ثُمَّ قال تعالى: {وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ (21)} [الذاريات: 21]، لمَّا كان أقربُ الأشياء إلى الإنسان نفسَهُ؛ دعاهُ خالقُه وبارئه ومصوِّرُه وفاطِرُه (¬2) من قَطْرة ماءٍ إلى التبصُّرِ والتفكُّرِ في نفسه. فإذا تفكَّرَ الإنسانُ [ز/107] في نفسه استَنَارَتْ له آياتُ الربوبية، وسَطَعَتْ له أنوارُ اليقين، واضمحلَّتْ عنه غَمَراتُ الشكِّ والرَّيْب، وانْقَشَعَتْ عنه ظلماتُ الجهل. فإنَّه إذا نظر إلى نفسه وجد آثارَ التدبير فيه قائمةً، وأدلَّةَ التوحيد على ربِّه ناطِقةً شاهِدةً لمُدَبِّرِه، دالةً عيه، مرشِدَةً إليه؛ إذ يَجدُهُ مُكَوِّنًا من قطرة ماءٍ: لحومًا مُنَضَّدَةً، وعظامًا مركَّبَةً، وأوصا لاً متعدِّدةً، مَأْسُورَةً مشدُودَةً بحبال العُرُوق والأعصاب، قد قُمِطَتْ وشُدَّتْ، وجُمِعَتْ بجلدٍ متينٍ، مشتملٍ على ثلاثمائةٍ وستين مَفْصِلاً، ما بين كبيرٍ وصغيرٍ، وثَخِينٍ ودقيقٍ، ومستطيلٍ ومستديرٍ، ومستقيمِ ومُنْحَنٍ، وشُدَّت [ن/ 89 أ] (¬3) هذه الأوصال بثلاثمائة وستين عِرْقًا، للاتصالِ والانفصالِ، والقَبْضِ والبَسْطِ، والمَدِّ والضَّمِّ، والصنائع والكتابة. ¬
عجائب الخلق في العين
وجعل فيه تسعةَ أبواب: فبابان للسَّمع، وبابان للبصر، وبابان للشَّمِّ، وبابٌ للكلام والطعام والشراب والنَّفَسِ (¬1)، وبابان لخروج الفَضَلات التي يُؤْذِي احتباسُها. وجعل داخل بَابَي السَّمع مُرًّا قاتِلاً؛ لئلا تَلجَ فيهما (¬2) دابةٌ تَخْلُصُ إلى "الدِّمَاغ" فتؤذيه. وجعل داخل بابي البصر مالحًا؛ لئلاً تُذِيبَ الحرارةُ الدائمةُ ما هناك من الشَّحْم. وجعل داخل باب الطعام والشراب حُلْوًا؛ ليُسِيغَ به [ك/87] ما يأكله ويشربه، فلا يتنغَّصُ به لو كان مُرًّا أو مالحًا. وجعل له مِصْبَاحَين من نورٍ كالسرَاجَين المُضِيئَين، مركَّبَين في أعلى مكانٍ منه، وفي أشرف عُضْوٍ من أعضائه، طليعةً له. وركَّب هذا النُّور في جُزْءٍ صغيرٍ جدًا يُبصِرُ به السماء والأرض وما بينهما، وغَشَّاهُ بسَبْع طبقاتٍ، وثلاثِ رطوباتٍ، بعضُها فوق بعض؛ كلُّها (¬3) حمايةً له وصيَانةً وحراسةً. وجعل على مَحَلِّه غَلْقًا بمِصْرَاعَين أعلَى وأسفل، وركَبَ في ذَينِكَ (¬4) المِصْرَاعَين "أهْدَابًا" من الشَّعْر؛ وِقَايَة "للعَينَين"، وزينةً وجمالاً. ¬
وجعل فوق ذلك كلِّه "حاجِبيَن" من الشَّعْر، يَحْجُبَان "العين" من العَرَقِ النَّازل من فَوق، ويَتَلَقَّيَانِ (¬1) عنها ما ينصَبُّ من هناك. وجعل -سبحانه- لكلِّ طبقةٍ من طبقات "العين" شُغْلاً مخصوصًا، ولكلِّ واحدٍ من الرُّطُوبات مقدارًا مخصوصًا، لو زاد على ذلك أو نقص منه لاختلَّت المنافع والمصالح المطلوبة. وجعل هذا النُّور الباصِرَ في قَدْرِ عَدَسَةٍ، ثُمَّ أظهر في تلك العَدَسَةِ صورة السماءِ، والأرض، والشمس، والقمر، والنُّجُوم، والجبال، والعالم العُلْويِّ والسُّفْليِّ، مع اتِّسَاع أطرافه، وتباعد أقطاره. واقتضت حكمته -سبحانه- أن جعل فيها بياضًا وسوادًا، وجعل القوَّةَ الباصِرَةَ في السَّواد، وجعل البياضَ مستقرًّا لها ومسكنًا، وزيَّنَ كلًّا منهما بالآخر. وجعل "الحَدَقَةَ" مَصُونَةً بـ"الأجفانِ" و"الحَوَاجِبِ" -كما تقدَّم-، و"الحَوَاجِبَ" بـ"الأهداب"، وجعلها سوداء؛ إذ لو كانت بيضاء (¬2) لتفرَّقَ النورُ الباصِرُ، فضَعُفَ الإدراك، فإنَّ السَّوادَ يجمع البصرَ، ويمنع من تفرُّقِ النُّور الباصر. وخلق -سبحانه- لتحريك "الحَدَقَةِ" وتقليبها أربعًا وعشرين عَضَلَةً، لو نقصت عَضَلةٌ واحدةٌ لاختلَّ أمر "العين". ولمَّا كانت "العين" كالمرآة، التي إنَّما تنطبع فيها الصُّوَر إذا كانت ¬
فصل: العين مرآة للقلب فيستدل على أحواله بها
في غاية الصقَالَة والصَّفَاء = جعل -سبحانه- هذه "الأجفان" متحرِّكَةً -جدًّا- بالطَّبْع إلى الانطباق، من غير تكلُّفٍ، لتبقى هذه [ح/113] المرآة نقيَّةً صافية من جميع الكُدْرَات (¬1). ولهذا لما لم يخلق لعين الذُّبَابة أجفانًا؛ لا تزال تراها تنظِّفُ عينَها بيدها من آثار الغبار والكُدْرَات (¬2). فصل وكما جعل -سبحانه- "العَينيَن" مؤذَيتين "للقلب" ما تَرَيانه، فتُوصِلانه إليه كما رَأَتَاهُ = جعلهما مرآتين "للقلب"، يظهر فيهما ما هو مُودَعٌ فيه من الحُبّ والبُغْضِ، والخيرِ والشَّرِّ، والبَلاَدَةِ والفِطْنَةِ، والزَّيغ والاستقامة. فيُستَدَلُّ بأحوال "العين" على أحوال "القلب"، وهو أحد أنواع الفِرَاسَة الثلاثة، وهي: فراسة "العين"، وفراسة "الأُذُن"، وفراسة "القلب". فـ"العين" مرآةٌ "للقلب"، وطليعةٌ ورسولٌ. ومن عجيب أمرها أنَّها من ألطف الأعضاء، وأبعدها تأثرًا بالحرِّ والبَرْدِ، على أنَّ "الأُذُن" (¬3) على صلابَتِها وغِلَظِها لَتَتَأَثَّرُ بهما أكثر من تأثر "العين" على لطافتها. وليس ذلك بسبب الغطاء الذي [ز/108] عليها من "الأجفان"، فإنَّها ولو كانت مُنْفَتِحَةً لم تتأثَّر بذلك تأثَّرَ الأعضاء الكثيفَةِ. ¬
فصل: عجائب الخلق في الأذن
فصل ومن ذلك: "الأذُنَان". شَقَّهُما -تبارك وتعالى- في جانبي الوجه، وأَوْدَعَهما من الرطوبة ما يكون مُعينًا على إدراك السمعِ، وأَوْدَعَهما القوَّةَ السَّامعة، وأحاط على هذه القوَّةِ صَدَفَةً مستديرةً مجوَّفةً تَحْتَوِشُ الصوتَ وتجمعه، وتؤدِّيه إلى "الصِّمَاخ" فيؤديه إلى القوَّة السَّامعة. وجعل -سبحانه- في هذه الصَّدَفَةِ انحرافاتٍ واعوِجَاجَاتٍ، لتطول المسافة قليلاً، فلا يصل الهواء إلى داخل "الأُذُن" إلَّا بعد انكسار حِدَّته، فلا يصدمها وَهْلَةً واحدةً فيؤذيها. وأيضًا؛ فَلِئلاَّ يَفْجَأَها الداخلُ إليها من الدبيب والحشرات، بل إذا دخل إلى عَوْجَةٍ (¬1) من تلك الانعطافات وقَفَ هناك، فسهُلَ إخراجه. وأيضًا؛ فتُمسك ما يصل إليها من الغبار والوسخ، فيَنْحجِبُ هناك عن الوصول، فيسهُلُ إخراجه. وكانت "العَينان" في وسط الوجه و"الأذُنَان" في جانبيه؛ لأن "العَينيَن" مَحَلُّ المَلاَحة والزِّينة والجَمَال، وهما بمنزلة النُّور الذي يمشي به بين يدي الإنسان. و [أمَّا] (¬2) "الأُذُنَان" (¬3) فكان جَعْلُهما في الجانبين لكون إدراكهما لما خلف الإنسان، وأمامه، وعن يمينه، وعن شماله = سواءً، فتأتي ¬
فصل: عجائب الخلق في الأنف
المسموعات إليهما على نسبةٍ واحدةٍ. وخُلقت "العَينان" بغِطَاءٍ، و"الأذُنان" بغير غطاءٍ. وهذا في غاية الحكمة؛ إذ لو كان للأذنين غطاءٌ لَمَنع الغطاء إدراك الصوت، فلا يحصل إلا بعد ارتفاع الغطاء، والصوتُ [ك/88] عَرَضٌ لا ثبات له، فكان يزول قبل كشْفِ الغطاء، بخلاف ما تراه "العين"، فإنه أجسامٌ وأعراضٌ ثابِتةٌ؛ فلا تزول فيما بين كشف الغطاء وفتح "العين". وجعل -سبحانه- "الأذُن" عضوًا غُضْرُوفيًّا ليس بلحمٍ مُسْتَرْخٍ، ولا عَظْمٍ صُلْبٍ، بل هي بين الصَّلاَبة واللِّين، فتُقْبِلُ بلِينها، وتُحفظ بصلابتها، ولا تنصدع انصداع العظام، ولا تتأثرُ بالحرِّ وَالبرد والشمسِ والسَّمُومِ تأثر اللَّحْمِ؛ إذ المصلحة في بُرُوزِها دائمًا لتتلقَّى ما يَرِدُ عليها من الأصوات والأخبار. فصل ومن ذلك: "الأنفُ"؛ نَصَبَهُ اللَّهُ -سبحانه وتعالى- في وَسْط الوجه قائمًا معتدلاً، في أحسن شَكْلٍ وأَوْفَقِهِ (¬1) للمنفعة، وأَوْدَعَهُ حاسَّةَ الشَّمِّ، التي يُدْرِكُ بها الأرًايح وأنواعها، وكيفياتها، ومنافعَها، ومضارَّها. ويستدلُّ بها على مَضَارِّ الأغذية والأدوية ومنافعِها. وأيضًا؛ فإنَّه يستنشِقُ بـ"المِنْخَرَين" الهواءَ الباردَ الرَّطْبَ، فيؤدِّيه إلى "القلب"، فيتروَّحُ به، فيستغني بذلك عن فتح "الفَمِ" أبدًا. وجعل تجويفه بقَدْر الحاجة، فلم يوسِّعْهُ عن ذلك، فيَدْخُلَه هواءٌ ¬
كثيرٌ، ولم يضيِّقهُ فلا يَدْخُلَه من الهواء ما يكفيه. وجعل ذلك التجويفَ مستطيلاً؛ لينحصر فيه الهواء، وينكسر فيه (¬1) بَرْدُه وحِدَّته قبل أن يصل [ح/114] إلى "الدِّمَاغ"، فلولا ذلك لَصَدَمه بِحِدَّتِه وقوَّتِه. والهواء الذي يَسْتنشِقُه "الأنفُ" ينقسم شَطْرين: شطرًا يصعد إلى "الدِّمَاغ"، وشطرًا ينزل إلى "الرئة". وهو (¬2) من آلات النُّطْق، فإنَّ له إعانةً على تقطيع الحروف. وكما أنَّ تجويفَهُ جُعِلَ لاستنشاق الهواء، فإنَّه جُعل مَصَبًا لفَضَلات "الدِّمَاغ"، تنحَدِرُ منه في تلك القَصَبَة، فتخرج، فيستريح "الدِّمَاغ". ولذلك جَعَلَ عليها (¬3) سِتْرًا ولم يجعلها بارِزةً فتستَقْبِحَها العيونُ. وجُعل فيه تجويفَانِ، فإنَّه قد يَنْسَد أحدُهما أو تَعْرِضُ له آفةٌ تمنَعُه من الإدراكِ والاستنشاقِ، فيبقى التجويف الثاني نائبًا عنه، يعمل عمله، كما اقتضت الحكمة مثل ذلك في "العَينيَن" و"الأذُنين". ثُمَّ تأمَّلْ الهواءَ الذي يستنشِقُه "الأنفُ"؛ كيف يدخل أوَّلاً من "المِنْخَرَين"، وينكسر بَرْدُه هناك، ثُمَّ يصل إلى "الحَلْق"، فيعتدل مِزَاجُه هناك، ثُمَّ يصل إلى "الرئة" أَلْطَفَ ما يكون، ثُمَّ تبعثُه "الرئةُ" إلى "القلب"، فيروِّحُ عن الحرارة الغَرِيزيَّة التي فيه، ثُمَّ يَنْفُذُ من "القلب" إلى ¬
فصل: عجائب الخلق في الفم
العُرُوق المتحرِّكة، ويبلغ إلى أقاصي أطراف البدن، ثُمَّ إذا سَخُنَ في الباطن وخَرَجَ عن حَدِّ الانتفاع به؛ عَادَ عن تلك الأقاصي إلى البدن، ثُمَّ إلى "الرئة"، ثُمَّ إلى "الحُلْقوم"، ثُمَّ إلى "المِنْخَرَين" خارجًا، فيخرج منهما، ويعود عِوَضه [ز/109] هواءً باردًا نافعًا. والنَّفَسُ الواحدُ من أنفاسِ العبد إنَّما يتمُّ بمجموع هذه الأمور والقوى والأفعال. وهو في اليوم والليلة: أربعةٌ وعشرون ألفَ نَفَسٍ، لله في كلِّ نَفَسٍ عِدَّةُ نِعَمٍ، قد وقَفْتَ على القليل منها، فما ظنُّكَ بما وراء النَّفَسِ من الأعضاء، والقوى، ومنافِعها، وتمامِ النعمة بها؟ فصل. وأمَّا "الفَمُ" فمَحَل العجائب، وباب الطعام والشَّراب والنَّفَس والكلام، ومسْكَنُ اللِّسان النَّاطقِ الذي هو (¬1) آلةُ العلوم، وتَرْجَمَانُ "القلب" ورسولُه المؤدِّي عنه. ولمَّا كان "القلبُ" مَلِكَ البَدَن، ومَعْدِنًا للحرارة الغريزيَّةِ، فإذا دخل الهواءُ الباردُ وَصَلَ إليه، فاعتدَلَتْ حرارتُه، وبَقيَ هنالك ساعةً، فسَخُنَ واحتَرَقَ، فاحتاج "القلبُ" إلى دَفْعِه وإخراجه، فجعل أحكمُ الحاكمين إخراجَهُ سببًا لحدوث الصوت. ثُمَّ جَعَلَ (¬2) في "الحَنْجَرَة"، و"الحَنَك"، و"اللِّسَان"، و"الشَّفَتين"، و"الأسنان" مقاطِعَ (¬3) ومخارِجَ مختلفةً، بسبب اختلافها ¬
سبب اختلاف الأصوات، والحكمة في ذلك
تميزَتِ الحروفُ بعضُها عن (¬1) بعضٍ، ثُمَّ أَلْهَمَ العبدَ تركيبَ تلك الحروف ليؤدِّي بها عن "القلب" ما يأمر به. فتأمَّلْ هذه الحكمةَ الباهِرَةَ؛ حيث لم يُضِعْ -سبحانه- ذلك النَّفَسَ المُسْتَغْنَى عنه (¬2) المُحْتَاجَ إلى دَفْعه وإخراجه، بل جَعَلَ فيه -إذا استُغْنِي عنه- منفعةً ومصلحةً هي من أكمل المنافع والمصالح. فإنَّ المقصود الأصليَّ من النَّفَس هو إيصالُ (¬3) النَّسِيمِ البارِدِ إلى "القلب". فأمَّا إخراجُ النفَس فهو جارٍ مَجْرَى دَفْع الفَضْلَةِ الفاسدةِ، فصَرَفَ ذلك -سبحانه- إلى رعايةٍ تُصْلِحُهُ، ومنفعةٍ أخرى، فجعله سببًا للأصوات والحروف والكلام. ثُمَّ إنَّه -سبحانه- جعل "الحَنَاجِر" مختلفة الأشكال في الضِّيقِ، والسَّعَة، والخُشُونة، والمَلاَسَة؛ لتختلف الأصواتُ باختلافها، فلا يتشابه صوتان، كما لا تتشابه صورتان. وهذا من أظهر الأدلَّة؛ فإنَّ هذا الاختلاف -الذي بين الصُّوَر والأصوات على كثرتها [ك/89] وتعدُّدها، فَقَلَّما يشتبه صوتان أو صورتان -ليس في الطبيعة ما (¬4) يقتضيه، وإنَّما هو صُنْعُ الله الذي أتقنَ كلَّ شيءٍ، وأحسن كلَّ شيءٍ خَلَقه، فتبارك الله ربُّ العالمين، وأحسن الخالقين. فميَّزَ -سبحانه- بين الأشخاص بما يُدْرِكُه السَّمع والبصر. ¬
فصل: عجائب الخلق في اللسان
فصل وأَوْدعً "اللِّسانَ" من المنافع: منفعةَ الكلام -وهي أعظمها-، ومنفعةَ الذَّوْق والإدراك. وجعله دليلاً على اعتدال مزاج "القلب" وانحرافه، كما جعله [ح/115] دليلاً على استقامته واعوِجَاجه. فتَرَى الطبيبَ يستدلُّ بما يبدو للبصر (¬1) على "اللِّسان" من الخشونة، والمَلاَسَة، والبياضِ، والحُمْرةِ، والتشققِ وغيره؛ على حال "القلب" والمَزَاج. وهو دليلٌ قويٌّ على أحوال "المعدة" و"الأمعاء"، كما يستدلُّ السامعُ بما يبدو عليه من الكلام على ما في "القلب"، فيبدو عليه صحة "القلب" (¬2) وفساده معنىً وصورةً. فصل وجعل -سبحانه- "اللِّسانَ" عُضْوًا لحميًّا، لا عَظْمَ فيه ولا عَصَب؛ لتسهُلَ حركته. ولهذا لا تجد في الأعضاء مَنْ لا يكْتَرِثُ بكثرة الحركة سواه، فإنَّ (¬3) أيَّ عُضْوٍ من الأعضاء [إذا] (¬4) حَرَّكْتَهُ كما تحرِّكُ "اللِّسان" لم يُطِعْكَ لذلك، ولم يلْبَثْ أنْ يَكِلَّ ويَخْلُدَ إلى السُّكُون، إلا "اللِّسان". وأيضًا، فإنَّه من أعدل الأعضاء وألْطَفِها، وهو في ¬
فصل: الحكمة في أنه جعل على اللسان غلقين
الأعضاء (¬1) بمنزلة رسول المَلِكِ ونائبه، فمِزَاجُه من أعدل أمزِجَة البدن. ويحتاج إلى قَبْضِ وبَسْطِ، وحركةِ (¬2) في أقاصي "الفم" وجوانبه، فلو كان فيه عَظْمٌ (¬3) لم يتهيَّأ منه ذلك، ولم يتهيَّأ منه الكلامُ التامُّ، ولا الذَّوقُ التامُّ. فكونه لحمًا اقتضَاهُ السبب الفاعِليُّ والغائيُّ (¬4). والله أعلم. فصل وجعل -سبحانه- على "اللِّسان" غَلَقَين: أحدهما: "الأسنان". والثاني: "الفَم". وجعل حركته اختياريَّةَ. وجعل (¬5) على "العين" غطاءً واحدًا، ولم يجعل على "الأذُن" غطاءً؛ وذلك لخطر "اللِّسَان" وشَرَفه، وخطر حركاته، وكونه في "الفَمِ" بمنزلة "القلب" في الصَّدْر. وفي ذلك من اللَّطَائف: أنَّ آفةَ الكلام أكثرُ من آفة النَّظَر، وآفةَ النَّظَر أكثرُ من آفة السمع. فجعل للأكثر آفاتٍ طبقتين، وللمتوسِّط طبقًا، وجعل الأقلَّ آفةً بلا طبق. ¬
فصل: عاد المؤلف للكلام عن عجائب الخلق في الفم
فصل وجعل -سبحانه- "الفَمَ" أكثرَ الأعضاء رُطُوبةً، والرِّيقُ (¬1) يتحلَّلُ إليه دائمًا لا يُفَارِقُه [ز/ 110]. وجعله حُلْوًا لا مالحًا كماء "العين"، ولا مُرًّا كالذي في "الأُذُن"، ولا عَفِنًا (¬2) كالذي في "الأنف"، بل هو أعذَبُ مياه البدن وأحلاها، حكمةٌ بالغةٌ؛ فإن الطعام والشراب يخالطه، بل هو الذي يُحِيلُ الطعامَ، ويمتزجُ به امتزاجَ العجين بالماء، فلولا أنه حُلْو لما الْتَذَّ الإنسانُ -بل ولا الحيوان- بطعامٍ ولا شرابٍ، ولا سَاغَهُ إلا على كُرْهٍ وتنغيصٍ. ولما كان كثيرٌ من الطعام لا يمكن جَبْذُهُ (¬3) إلا بعد طَحْنِهِ (¬4)؛ جعل الرَّب -تعالى- له آلةً للتقطيع والتفصيل، وآلةً للطَّحْن. فجعل آلةَ القَطْع -وهي "الثَّنَايا" وما يليها- حادةَ الرؤوس ليسهُلَ بها القَطْع. وجعل "النَّوَاجِذَ" وما يليها من "الأضرَاس" مُسَطَّحَةَ الرؤوس (¬5)، عريضةً، ليتأتَّى بها الطَّحْنُ. ونَظَمَها أحسنَ نظام كاللؤلؤ المنظُوم في سلْكٍ، وجعلها من الجانب الأعلى والأسفل؛ ليتأتَّى بها القطعَ والطَّحْن. وجعلها من الجانب الأيمن والأيسر، إذ ربَّما كَلَّتْ إحدى الآلتين، أو ¬
لماذا عظام البدن مكتسية باللحم دون الأسنان؟
تعطَّلَت، أو عَرَضَ لها عارضٌ، فيُنْتَقَلُ إلى الآلة الأخرى. وأيضًا لو كان العمل على جانبٍ واحدٍ دائمًا لأوْشَكَ أن يتعطَّلَ أو يَضْعُفَ. وتأمَّلْ كيف أَنبَتَها -سبحانه- من نفس اللَّحم، وتخرج من خلاله نابتةً كما ينبت الزرع في الأرض، ولم يَكْسُها -سبحانه- لحمًا كما كَسَا سائر العظام سواها، إذ لو كَسَاها اللحمَ لتعطلَت المنفعة المقصودة بها. ولَما كانت العظامُ محتاجةً إلى لحمٍ يكسوها ويحفظها، ويتلقَّى (¬1) عنها الحَرَّ والبردَ، ويحفَظَ عليها رطوبتها = لم تكمل مصلحة الحيوان إلا بهذه الكسوة. ولما كانت عظامُ "الأسنان" محتاجةً (¬2) إلى ذلك من وجهٍ، مستغنيةً عنه من وجهٍ = جَعَلَ كسوتها منفصلةً عنها، وجُعِلَتْ هي المُكْتَسية العارية؛ لتمام المنفعة بذلك. ولمَّا كانت آلة القطع والكسر والطحْن لم (¬3) تنشأ مع الطِّفْل من أوَّل نشأته كسائر عظامه؛ لعدم حاجته إليها؛ فهو معطَّلٌ (¬4) عنها وقت استغنائه عنها [ح/ 116] بالرَّضَاع، وأُعطِيَها وقتَ الحاجه إليها. وفيه حكمةٌ أخرى، وهي أنَّه لو نشأت معه من حين يُولد لأضَرَّ ذلك [ك/ 90] بحَلَمَة الثَّدْي؛ إذ لا عقل له يحجُزُهُ عن عَضِّها، فكانت الأُمُّ تمتنع من رضاعه. ومن عجيب أمرها الاتفاقُ والمُوَالاَةُ التي بينها وبين "المعدة"، ¬
فصل: عجائب الخلق في الشعر
فإئَه يُسَلَّمُ إليها الشيء اليابسُ والصُّلْبُ فتطْحَنه، ثُمَّ تُسَلِّمه إلى "اللِّسان" فيعجنُه، ثُمَّ يسلِّمه إلى "الحَلْق" فيوصله إلى "المعدة" فتُنْضِجُه وتطبَخه، ثُمَّ يُرسَلُ إليها منه معلومُها المقدَّرُ (¬1) لها، فإذا عجَزت عن قَطْع شيءٍ وطحنه عجَزَت "المعدة" عن إنضاجه وطبخه، وإذا كَلَّتْ كَلَّتِ "المعدة"، وإذا ضَعُفَت ضَعُفَت. وهي تصحب الإنسانَ وتخدمه ما لم يرها، فإذا وقعت عينُه عليها فارقته فُرْقَةَ الأبد. وهي سلاحٌ، ومنشارٌ، وسكِّينٌ، ورَحىً، وزينةٌ، وفيها منافع ومصالح غير هذه. فصل ثُمَّ تأمَّلْ حال "الشَّعْر"، ومَنْبَته، وسببه، وغايته. فإنَّ البدن لمَّا كان حارًّا رَطْبًا، والحرارةُ إذا عملت في الرُّطُوبة فلابد أنْ تُثير بُخَارًا، وتلك الأبْخِرَة تتصاعد من عمق البدن إلى سطحه، وتريد الانفصال من هناك، فلابدَّ أنْ تُحدث مَسَامَّ ومنافذَ في ظاهر الجلد. وتلك الأبْخِرَةُ: 1 - إمَّا أن تكون رَطْبةً لطيفةً، فحينئذٍ تنفصل من المَسَامَ ولا تُحدث شيئًا. ¬
كيفية تكون الشعر في أنواع الجلد الثلاثة
2 - وإمَّا أن تكون دُخَانيةً يابسةً غليظةً، فالجلد حينئذٍ: 1 - إمَّا أن يكون في نهاية النُّعُومة والنَّضَارة، كجلد الصبيان. 2 - أو في غاية اليُبْسِ والقَشَف. 3 - أو يكون معتدلاً. فإذ (¬1) ذاك لا يتولَّدُ فيه "الشَّعْر"؛ لأنَّ البُخَار إذا شق سطح الجلد وانفصل عاد الجلدُ في الحال إلى اتِّصاله الأوَّل، بسبب كثرة رطوبته ونعومته. مثاله: السَّمَكُ إذا رفع رأسه من الماءِ انشقَّ له الماءُ، فإذا عاد إلى الماءِ عاد الماءُ إلى اتِّصاله الأوَّل. وكذلك نشاهد الأشياء الرَّطْبة -كالنَّشَاء مثلاً- إذا أُغْلِيَ فخرج البُخَارُ من موضع الغَلَيان عادت الرُّطُوبة إلى الموضع الذي خرج منه ذلك البُخَار فَسَدَّتْهُ. فإنْ كان الجلد في غاية اليُبْسِ لم يتولَّد "الشَّعْر" منه (¬2)؛ لأنَّ الجلد اليابس إذا انْثَقَبَ بقيت تلك الثُّقَبُ مفتوحةً ليُبْسِ الجلد، فتُفرِّقُ أجزاءَ البُخَارِ، ولا يجتمع بعضُه إلى بعضٍ. وإن كان الجلدُ متوسِّطًا بين النعُومة والكثافة، فإنَّه تنفتح فيه المَسَامُّ بسبب تلك الأبْخِرَة، ولا تعود تنسَدُّ بعد خروج [ز/ 111] البُخَار، ولكن لا تبقى المَسَامُّ شديدة الانفتاح، فحينئذٍ يبقى ذلك البُخَار الدُّخَانيُّ ¬
الغاية من وجود الشعر في البدن
في تلك الثُّقُوب، ثُمَّ لا يزال مدَّةً إلى أن يَنْشَأَ (¬1) بُخَارٌ آخر يدفعه أوَّلاً فأوَّلاً إلى خارج، من غير أن يَنْقَلِعَ (¬2) أصله، فيبقى بعضُه مركوزًا في الجلد -منزلته منزلة أصل النَّبَات-، وبعضُه يظهر (¬3) إلى خارج -منزلته منزلة ساق النَّبَات-، وذلك هو "الشَّعْر". فمادةُ "الشَّعْر" هو البُخَار الدُّخَاني الحارُّ اليابسُ، وسببه هو الحرارةُ الطبيعيةُ المحرِقةُ لذلك البُخَار، والآلة التي بها يتَمُّ أمرُه هي المَسَامُّ التي ارتكَبَ (¬4) فيها البُخَارُ، فتلبَّدَ هناك فصار "شَعْرًا" بإذن الله تعالى. والغاية التي وُجِدَ لأجلها وُجِدَ لها سببان: أحدهما عامٌّ: وهو تنقية البدن من الفضول الدُّخَانِيَّة الغليظة. والآخر خاصٌّ: وهو إمَّا للزينة، وإمَّا للوقاية. وإذا بَانَ بأنَّ "الشَّعْر" إنما يتولد مع الحرارةِ واليُبْسِ المعتدل؛ بَقِيَتْ ثلاثةُ أقسام: أحدها: حرارة غالبةٌ على اليُبْس، كالصبيان. الثاني: عكسه، وهو يُبْسٌ غالبٌ (¬5) على الحرارة، كالمشايخ. ¬
منافع شعر الرأس
الثالث: حرارةٌ ضعيفةٌ ويُبْسٌ ضعيفٌ، كأبدان النِّساء. ففي هذه الأقسام يقلُّ "الشَّعْر"، وأمَّا الشَّباب فإنَّ حرارةَ أبدانهم ويُبْسَها [ح/ 117] معتدِلٌ، فيقوى تولُّد "الشَّعْر" فيهم. وفي"شَعْر الرأس" منافع ومصالح: 1 - منها وقايته عن الحر والبرد والمرض. 2 - ومنها الزِّينة والحُسْن. والسبب الذي صار به "شَعْر الرأس" أكثر من "شَعْر البَدَن" أنَّ البُخَار شأنُه أن يصعد من جميع البدن إلى "الدِّماغ "، ومن "الدِّماغ" إلى فوق، فلذلك (¬1) كان هذا (¬2) "الشَّعْر" ناميًا على الدوام؛ لأنَّ البُخَار يتصاعد إلى "الرأس" أبدًا، وهو مادَّةٌ "للشَّعْر". فَبِنَمَاء "الشَّعْر" ينمو البُخَار، وكان فيه تخليصٌ للبدن من تلك المواد، وتكثيرٌ لوقايته وغطائه. فصل وأمَّا شَعْر "الحاجِبَين" ففيه -مع الحُسْن والزِّينة والجَمَال- وِقايةُ "العَينيَن" ممَّا ينحدر من "الرأس". وجُعِلَ على هذا المقدار، فلو نقص عنه لزالت منفعة الجَمَال والوقاية، ولو زاد عليه لغَطَّى "العينَ"، وأضرَّ بها، وحالَ بينها وبين ما تدركه. ¬
فصل: منافع شعر اللحية
وقد ذكرنا منفعة [ك/ 91] شَعْر "الهُدْب" (¬1). ولمَّا كان الأصلح والأنفع أن يكون شَعْر "الهُدْب" قائمًا منتصِبًا، وأن يكون باقيًا على حالٍ واحدٍ في مقدارٍ واحدٍ = جُعِلَ مَنْبَتُ هذا "الشَّعْر" في جِرْمٍ صُلْبٍ شبيهٍ بالغُضْرُوف، يمتدُّ في طُول "الجَفْن" لئلَّا يطول وينمو. وهذا كما نشاهد النَّبَات الذي ينبت في الأرض الرِّخْوَة اللَّيِّنَةِ كيف يطول ويزداد، والذي ينبت في الأرض الصخريَّة الصُّلْبة لا ينمو إلا نُمُوًا يسيرَا. فكذلك (¬2) "الشَّعْر" النَّابِتُ في الأعضاء اللَّيِّنَةِ الرَّطْبَة، فإلَّنه سريعُ النُّمو كشَعْر "الرأس" و"العَانَة". فصل وأمَّا شَعْر "اللِّحْية" ففيه منافع: 1 - منها الزِّينة، والجمال (¬3)، والوقار، والهَيْبَة. ولهذا لا يُرَى على الصبيان والنِّساء والسِّنَاطِ (¬4) من الهَيْبَة والوقار ما يُرَى على ذوي اللِّحَى. 2 - ومنها التمييز بين الرجال والنِّساء. فإن قيل: لو كان شَعْر "اللِّحْية" زينةً لكان النِّساء أولى به من الرجال، لحاجتِهنَّ إلى الزِّينة، وكان التمييزُ يحصل بخُلُوِّ الرجال منه، ¬
ولَكَان أهل الجنَّة أولى به، وقد ثبت أنَّهم جُرْدٌ مُرْدٌ (¬1)؟ قيل: الجوابُ أنَّ النِّساء لمَّا كُنَّ مَحَلَّ الاستمتاع والتقبيل، كان الأحسن والأوْلى خُلُوهُنَّ عن "اللِّحى"، فإنَّ مَحَلَّ الاستمتاع إذا خلا عن "الشَّعْر" كان أتمَّ. ولهذا المعنى -والله أعلم- كان أهل الجنَّة مُرْدًا؛ ليكمُلَ استمتاعُ نسائهم بهم (¬2)، كما يكمُلُ استمتاعُهم بهنَّ. ¬
فصل: شعر العانة والإبط والأنف
وأيضًا؛ فإنَّه أكشف لمحاسن الوجوه، فإنَّ "الشَّعْر" يستُرُ ما تحته من المحاسِن، فصَانَ الله محاسنَ (¬1) وجوهِهِم عمَّا يسترها. وأيضًا؛ ليكمل استمتاعهم بنسائهم؛ فإنَّ "الشَّعْر" يمنع ما تحته من البَشَرَةِ أن يَمَسَّ بَشَرَةَ المرأة. والله أعلم بحكمته في خلقه. فصل وأمَّا شَعْر "العَانَة" و"الإبط" و"الأنف"؛ فمنفعته تنقية البدن عن الفَضْلَة، ولهذا إذا أُزِيلَ من هذهَ المواضعِ وجَدَ البدنُ خِفَّةً ونشاطًا، وإذا وَفَرَ وتُرِكَ (¬2) وجد البدنُ (¬3) ثِقَلًا وكَسَلًا وغمًّا. ولهذا جاءت الشريعة بحَلْق "العَانَة"، ونَتْفِ "الإبِط". وكان حَلْقُ "العَانَة" أولى من نَتْفِها لصَلَابة "الشَّعْر"، وتَأذِّي صاحبه بنتفه. وكان نَتْفُ "الإبط" أولى من حَلْقه لضَعْف "الشَّعْر" هناك، وشدَّته وتَفَحُّلِهِ (¬4) بالحَلْق [ز/ 112]. فجاءت الشريعة بالأنفع في هذا وهذا. فصل وتأمَّلْ حكمة الرَّبِّ -تعالى- في كونه أخلَى "الكَفَّين" و"الجَبْهَة" و"الأَخمَصَين" (¬5) من "الشَّعْر". فإنَّ "الكَفين" خُلِقا حاكمين على ¬
الملموسات، فلو جُعِل "الشَّعْر" فيهما لأخَلَّ ذلك بالحكمة التي خُلِقا لها (¬1). وخُلِقا للقبض، وإلصاقُ اللَّحَم على المقبوض أعْوَنُ على جودته من التصاق "الشَّعْر" به. وأيضًا؛ فإنَّهما آلة الأخذ، والعطاء، والأكل، ووجود "الشَّعْر" فيهما يُخِلُّ بتَمَامِ هذه المنفعة. وأمَّا "الأخْمَصَان" فلو نبَتَ فيهما "الشَّعْر" لأضرَّ ذلك بالماشي [ح/118]، ولأعَاقَهُ في المشي كثيرًا ممَّا كان يَعْلَقُ بشَعْره ممَّا على الأرض، ويتعلَّقُ شَعْرُه بما عليها أيضًا. هذا مع أنَّ كثرةَ الأوتار والأغشية في "الكفين" مانعٌ من نفوذ الأبْخِرَة فيها. وأمَّا في "الأخْمَصَين" فإنَّ الأبْخِرَة تتصاعد إلى عُلُوٍّ، وكلَّما تصاعدت كان "الشَّعْر" فيه أكثر. وأيضًا؛ فإنَّ في كثرة وَطْءِ الأرض بـ "الأَخمَصَين" تصليبهما، ويجعل سطحهما أمْلَسَ لا ينبت شيئًا، كما أنَّ الأرض التي توطأ كثيرًا لا تنبت شيئًا. وأمَّا "الجَبْهَة" فلو نبت "الشَّعْر" عليها لسَتَر محاسِنَها، واظلم الوجه، وتدلَّى إلى "العَينيَن"، فكان يحتاج إلى حَلْقه دائمًا، ومَنَعَ "العَينيَن" من كمال الإدراك. ¬
الموجب لنبات اللحية والعانة
والسبب المؤدِّي لذلك أنَّ الذي تحت عَظْم "الجَبْهَة" هو مُقَدَّمُ "الدِّمَاغ"، وهو باردٌ رَطْبٌ، والبُخَارُ لا يتحرَّك منحرِفًا إلى "الجبهة"، بل صاعدًا إلى فوق. فإن قيل: فَلِمَ نبَتَ شَعْر الصبيِّ على رأسه وحاجبيه وأجفانه معه في الصِّغَر دون سائر الشُّعُور؟ قيل: لشدَّةِ الحاجة إلى هذه الشُّعُور الثلاثة أوجَدَها الله -سبحانه- معه وهو جنينٌ في بطن أُمِّه، فإنَّ شَعْر "الرأس" كالغِطَاءِ الواقي له من الآفات، و"الأهدابَ" و"الأجفانَ" وِقايةٌ "للعين". فإن قيل: فَلِمَ لَمْ تنبت له "اللِّحْيَةُ" إلا بعد بلوغه؟ قيل: لأنَّه عند البلوغ تجتمع الحرارة في بدنه، وتكون أقوى ما هي. ولهذا يَعْرِضُ له فى هذا الطَّوْر: "البَثَرَات" (¬1)، و"الدَّمَاميل" (¬2)، وكثرة الاحتلام. وإذا قويت الحرارة كثُرَت [ك/ 92] الأبْخِرَةُ بسبب التحلُّل، وزادت على القَدْر المحتاج إليه في شَعْر "الرأس"، فَصَرَفَها أحكمُ الحاكمين إلى نبات " اللِّحْيَة" و"العَانَة". وأيضًا، فإنَّ بين أوعية "المَنِيِّ" وبين "اللِّحْيَة" ارتباطًا؛ إذ العُرُوق ¬
سبب الضلع والكوسج
والمجاري مُتَّصلةٌ بينهما، فإذا تعطلت أوعية "المَنِيِّ" ويَبسَتْ تعطَّل شَعْر "اللِّحْيَة"، وإذا قَلَّت الرُّطُوبة والحرارة هناك قَلَّ شَعْرُ "اللِّحْيَة"؛ ولهذا فإنَّ الخِصْيَان (¬1) لا ينبت لهم "لحَىً" (¬2). فإن قيل: فما العِلَّةُ في "الكَوْسَج" (¬3)؟ قيل: بَرْدُ مِزَاجِهِ، ونُقصَانُ حَرَارته. فإن قيل: فما السبب في "الصَّلَع" (¬4)؟ قيل: عدم احتباس الأبْخِرَة في موضع الصَّلَع. فإن قيل: فَلِمَ كان في مُقَدَّم "الرأس" دون جوانبه ومُؤَخَّرِهِ؟ قيل: لأنَّ الجُزْءَ المقدَّمَ من "الرأس" بسبب رُطُوبة "الدِّمَاغ" يكون أكثر لِينًا وتحلُّلًا، فتَتَحَلَّلُ الفَضَلَاتُ التي يكون منها "الشَّعْر" (¬5)، فلا يبقى "للشَّعْر" مادَّة هناك. فإن قيل: فَلِم لَمْ يحدث في "الأصْدَاغ " (¬6)؟ ¬
الحكمة في أن النساء لا يلحقهن الصلع إلا نادرا جدا
قيل: لأنَّ الرُّطُوبةَ في الأسافل أكثر منها في الأعالي. وشاهِدُهُ في الأرض العالية والمُنْخَفِضَة. فإن قيل: فَلِمَ لَمْ تَصْلَع المرأة إلا نادرًا، وكان الصَّلَع (¬1) في الرجال أكثر؟ قيل: لأنَّ الصَّلَعَ (¬2) يحدُثُ من يُبْسٍ في الجلد، بمنزلة احتراقه، وذلك لقوَّة الحرارة. و [أمَّا] (¬3) النِّساء فالرُّطُوبة والبُرُودَة أغلب عليهنَّ؛ ولهذا جُلُودهُنَّ أَرْطَبُ من جلود الرجال، فلا تَجِفُّ جلود رؤوسهنَّ، فلا يعرض لَهُنَّ الصَّلَع. ولهذا لا يعرض للضَبْيَان، ولا الخِصْيَان (¬4). وإن عَرَضَ للمرأة صَلعٌ فذلك في سِن يأسِها، وبلوغها من الكِبَرِ عِتِيًّا. فمان قيل: فما السبب في شِذَةِ سَوَاد "الشَّعْر"؟ قيل: شذَة البُخَارَات الخارجة من البدن واعتدالُها، وصِحَّةُ مادَّتها كَخُضْرَةِ الزَّرْع. فإن قيل: فما سبب "الصُّهُوبَة" (¬5)؟ قيل: بَرْدُ المِزَاج، فَتَضْعُفُ الحرارة عن صَبْغ "الشَّعْر" ¬
السبب في بياض الشعر وشقرته وحمرته، وفيه فوائد
وتسويده (¬1) فإن قيل: فما سبب (¬2) الشُّقْرَةِ والحُمْرَةِ؟ قيل: زيادةُ الحرارة، فتَصْبَغُ "الشَّعْر"، ولهذا تجد الأشْقَر أشدَّ حرارةً، وأكثر حركةً وهِمَّةً. فإن قيل: فما سبب البياض في "الشَّعْر" (¬3)؟ قيل: البياضُ نوعان: أحدهما: طبيعيٌّ، وهو الشَّيْبُ [ز/113]. والثاني: خارجٌ عن الطَّبيعة، وهو ما يوجد في أواخر الأمراض المُجَفَّفَة (¬4) بسبب تحلُّل (¬5) الرُّطُوبات، كما يعرض للنَّبَات عند الجَفَاف. فإن قيل: فما سببُ [ح/119] الطَّبيعي؟ قيل: اختُلِفَ في ذلك: فقالت طائفةٌ: سببه الاستحالةُ إلى لون "البَلْغَم"، بسبب ضعف الحرارة في أبدان الشيوخ. وقالت طائفةٌ: سببه أن الغذاء الصائر إلى "الشَّعْر" يصير باردًا، ¬
الحكمة في أن الشيب مختص بالإنسان دون الحيوان
بسبب نقصان الحرارة، ويكون بطيء الحركة مُدَّةَ نُفُوذه إلى المَسَامِّ. وأصلحت طائفةٌ بين القولين، وقالوا: العِلَّةُ في الأمرين واحدةٌ، وسببهما نقصان الحرارة. فإن قيل: فَلِمَ اختصَّ الشَّيْبُ بالإنسان من بين سائر الحيوان؟ قيل: لَحْمُ الإنسان وجلْدُه رِخْوٌ لَيْنٌ، وجلودُ الحيوانات ولحومُها أقوى وأَصْلَبُ، فلمَّا غَلُظَتَ مادَّةُ "الشَّعْر" فيها لم يعرض لها ما يعرض "لشَعْر" الإنسان. ولهذا يكون شَعْرها كلُّها معها من حين ولادتها، بخلاف الإنسان. وأيضًا؛ فإنَّ الإنسان يستعمل المَطَاعِمَ المركَّبة المتنوِّعَة، وكذا المَشَارِبَ، ويتناول أكثرَ من حاجته، فتجتمع فيه فَضَلاتٌ كثيرةٌ، فتدفعها الطبيعة إلى ظاهر البدن، فما دامت الحرارة قوية فإنَّها تَقْوَى على إحراق تلك الفضلات، فيتولَّدُ من إحراقها: "الشَّعْر" الأسود. فإذا بلغ الشيخوخة ضعفت الحرارة، وعجزت عن إحراق تلك الفضلات، فتعمل فيها عملًا ضعيفًا. وأمَّا سائر الحيوانات فلا (¬1) تتناول الأغذية المركَّبة، وتتناول منها على قدر الحاجة، فلا يَشِيبُ شَعْرها كما يشيب شَعْر الإنسان. وأيضًا؛ فإنَّ في زَمَن الشيخوخة يكون الإنسان (¬2) أقلَّ حرارةً، وأكثَر رطوبةً فيتولَّد الخِلْط، و [أمَّا] (¬3) الحيوانات فاليُبْسُ غالبٌ عليها. ¬
لم يسرع الشيب في شعور الخصيان والنساء؟
فإن قيل: فَلِمَ كان (¬1) شَيْبُ "الأَصْدَاغ" في الأكثر مُتَقدِّمًا على غيره؟ قيل: لقُرْب هذا الموضع من مُقَدَّم "الدِّماغ"، والرُّطُوبة في مُقَدَّم "الدِّماغ" كثيرةٌ، لأَنَّ الموضعَ مَفْصِلٌ، والمَفْصِلُ تجتمع فيه الفَضْلَةُ الكثيرةُ، فيكثر البَرْدُ هناك، فيسرع الشَّيْبُ. فإن قيل: فَلِمَ أسرع الشَّيْبُ في شُعُور الخِصْيَان والنِّساء؟ قيل: أَمَّا النِّساءُ فَلِبَرْدِ مِزَاجهنَّ في الأصل، واجتماع الفضلات الكثيرة فيهنَّ. وأَمَّا الخِصْيَان فلِتَوَفُّر "المَنِيِّ" على أبدانهم يصير دَمُهُم غليظًا بَلْغَمِيًّا، ولهذا لا يحدث لهم الصَّلَع. فإن قيل: فَلِمَ كان شَعْر "الإبِط" لا يَبْيَضُّ؟ قيل: لقوَّة حرارة هذا الموضع؛ بسبب قربه من "القلب"، ومَسَامُّه كثيرةٌ فلا يبقى فيه كثرةٌ بَلْغَمِيَّةٌ؛ لأَنَّها (¬2) تتحلَّل بالعَرَق الدائم. فإن قيل: فَلِمَ أَبْطَأ بياضُ شَعْر "العَانَة"؟ قيل: لأنَّ حركة الجماع تُحَلِّلُ "البَلْغَم" الذي في مَسَامِّه. فإن قيل: فَلِمَ كانت الحيوانات تتبدَّلُ شُعُورُها كُلَّ سَنَةٍ، بخلاف الإنسان؟ قيل: لضعف شُعُورها عن الدوام والبقاء، بخلاف شَعْر الآدَمِيِّ. ¬
سبب الجعودة والسبوطة
فإن قيل: فما سبب الجُعُودَة والسُّبُوطَة (¬1)؟ قيل: أمَّا الجُعُودة فمن شِدَّة الحرارة، أو من التِوَاءِ المَسَامِّ، فالذي من شدَّة الحرارة فإنَّه تعرض منه الجُعُودة كما تعرض "للشَّعْر" عند عرضه علىِ النَّار. وأمَّا الذي لالتِوَاءِ المَسَامِّ فَلأنَّ البُخَار لِضَعْفه (¬2) لا يقدر أنْ ينفُذ على الاستقامة فَيَلْتَوِي في المنافذ، فتحدث الجُعُودَة. فإن قيل: فما السبب في طول شَعْر الميت وأظفاره بعد موته إذا بَقِي مدَّةً؟ قيل: عنه جوابان: أحدهما: أنَّها لا تطول، ولكن لمَّا قُبِضَ (¬3) ما حولها يُظَنُّ أنَّها طالت (¬4) وزادت. الثاني -وهو أصوب -: أنَّ ذلك الطُول من الفضلات البُخَاريَّةِ التي تتحلَّل وَهْلَةً من جنس (¬5) جسد الميت، فيمتدُّ معها "الشَّعْر" و"الظُّفُر". فإن قيل: فَلِمَ كان المريضُ -وخاصَّةً المَحْمُوم- ينقص لحمه، ويزيد شَعْره وظفره؟ ¬
العلة في انتصاب شعر الخائف والمقرور
قيل: إنَّ في المَرَض تكثر الفضلات، فتتكوَّن "الشُّعُور" و"الأظفار" فيها، ويَقِلُّ الغذاءُ فيذوب اللَّحم. وأمَّا في الصحَّة فتقلُّ الفَضَلاتُ فلا تحتاج الطبيعة إلى الغذاء وهَضْمِها له، وإذا قلَّت الفَضْلةُ نفدت مادَّةُ، "الشَّعْر"، فيبطئ عن السرعة في النَّبَات (¬1). فإن قيل: فما العِلَّة في انتصاب شَعْر الخائف والمَقْرُور (¬2)، حتَّى يبقى كشَعْر القُنْفُذ؟ قيل: العلَّةُ فيه أنَّ الجلد ينقبض وتجتمع المَسَامُّ على "الشَّعْر" وتتضايق عليه فينتصب. فإن قيل: فَلِمَ انتصب شَعْر البدن و"اللِّحْية" دون شَعْر "الرأس"؟ قيل: لأنَّ جلدةَ "الرأس" كثيفة أكْثَفَ من جلدة البدن فلا تنقبض انقباض جلدة البدن، على أنَّ شَعْر "الرأس" -أيضًا- يَنْتَصِب كذلك، وإن كان دون انتصاب شَعْر البدن و"اللِّحْية". فإن قيل: فَلِمَ كان كثرةُ الجماع تزيد في شَعْر "اللِّحْية" والجسد، وتنقص من شَعْر "الرأس" و"الأجفان"؟ قيل: لأنَّ "الشعْر" فيه ما يكون طبيعيَّا من أَوَّل الخلْقة -كـ "اللِّحية" وسائر شَعْر البدن- (¬3). ¬
ظهر الإنسان أقل شعرا من مقدمه بعكس الحيوانات
والأَوَّل: يكون من قوَّة الحرارة الأصليَّة، والثاني: من قوَّة الحرارة الخارجيَّة، فلا جَرَمَ نقصت بسببه "الشُّعُور" الأصليَّة، وقويت "الشُّعُور" (¬1) العَرَضِيَّة. فإن قيل: فَلِمَ كان "الشَّعْر" في الإنسان في الجُزْءِ المقدَّم أكثر منه في الجُزْءِ (¬2) المُؤَخَّر، وباقي الحيوانات بالعكس؟ قيل: لأنَّ "الشَّعْر" إنَّما يكون حيث تكون الحرارةُ قويَّةً، ويكون تَحَلْحُل الجلد أكثر، وهذا في الإنسان في ناحية "الصَّدْرِ" و"البَطْنِ"، وأمَّا جلدة "الظَّهْر" فمتكاثفة. وأمَّا ذوات (¬3) الأربع ففي الخَلْف شعورها أكثر؛ لأنَّ البُخَارَ فيها يَرْقَى إلى الخَلْفِ، وأنَّ تلك المواضع هي التي تَلَقَّى الحَرَّ والبردَ، فتحتاج إلى وِقَاءٍ أكثر. فإن قيل: فَلِمَ كان "الرأسُ" بـ "الشَّعْر" أحقَّ الأعضاء، ونبَاتُه عليه أكثر؟ قيل: لأنَّ البُخَار يتصاعد، ويطلب جهة العُلُوِّ إلى فَوْق (¬4)؛ وهو ¬
"الرأس". ولا تَسْتَطِلْ هذا الفصل؛ فإنَّ أمر "الشَّعْر" من السَّمِّيَّات (¬1) والفَضَلات وهذا شأنه، فما الظَّنُّ بغيره من الأجزاء الأصليَّة؟ فإذا كانت هذه قليلًا من كثيرٍ (¬2) من حكمة الرَّبِّ -تعالى- في "الشُّعُور"، ومواضعها، ومنافعها؛ فكيف بحكمته في: "الرأس"، و"القلب"، و"الكبد"، و"الصَّدْر"، وغيرها؟ ولا تَضْجَر من ذلك، فإنَّ الخَلْقَ فيه من الفقه والحِكَمِ نظيرُ ما في الأمر، فالرَّبِّ -تعالى- حكيمٌ في خَلْقه وأمره، ويُحِبُّ من يَفْقَهُ عند ذلك، ويستدلَّ به عليه (¬3) وعلى كمال حكمته، وعلمه، ولُطْفِه، وتدبيره، فإذا كان الرَّبُّ -تعالى- لم يَضَعْ هذه الفضلات في الإنسان سُدَىً فما الظنُّ بغيرها؟ ونحن نذكر فصلًا مختصرًا في حال الإنسان من مبدئه إلى نهايته؛ لنجعله مرآةً له ينظر فيها قولَ خالقه وبارئه ومُصَوِّره: {وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ (21)} [الذاريات: 21]. ¬
فصل: مبدأ خلق الإنسان
فصل لمَّا اقتضى كمال الرَّبِّ -جَلَّ جلاله- وقدرتُه التامَّة، وعلمه المحيط، ومشيئته النافذة، وحكمته البالغة، تنويعَ (¬1) خلقه من المَوَادِّ المتباينة، وإنشَاءَهُم في الصُّوَر المختلفة، والتبايُنَ العظيم بينهم في المَوَاد، والصُّوَر، والصِّفَات، والهيئات، والأشكال، والطبائع، والقوى = اقتضت حكمتُه أن أخذ من الأرض قبضةً من ترابٍ (¬2)، ثُمَّ ألقى عليها الماء، فصارت مثل (¬3) "الحَمَأ المَسْنُون" (¬4)، ثُمَّ أرسل ¬
عليها الريح فجَفَّفَها، حتَّى صارت صَلْصَالًا (¬1) كالفَخَّار، ثُمَّ قَدَّرَ لها الأعضاء، والمنافذ، والأوصال، والرِّبَاطَات (¬2)، وصوَّرها فأبدع في تصويرها، وأظهرها في أحسن الأشكال، وفصَّلَها أحسن تفصيل، مع اتصال أجزائها، وهَيَّأَ كُلَّ جزءٍ منها لما يُراد منه، وقدَّرَهُ لما خُلِقَ له على أبلغ الوجوه، ففصَّلَها في توصُّلِها، وأبدع في تصويرها وتشكيلها، والملائكةُ تراها ولا تعرف ما يُراد منها، وإبليس يُطِيفُ بها (¬3)، ويقول: لأمْرٍ ما خُلِقَتْ! فلمَّا تكامل تصويرُها وتشكيلُها، وتقديرُ أعضائها وأوصالها، وصار جسدًا مصوَّرًا مُشَكَّلًا كأنَّه ينطق، إلا أَنَّه لا رُوحَ فيه ولا حياة = أرسلَ إليه رُوحَه، فنفخ فيه نفخةً، فانقَلَبَ ذلك الطينُ اليابِسُ (¬4): لحمًا، ودمًا، وعظامًا، وعروقًا، وسمعًا، وبصرًا، وشَمًّا، ولَمْسًا، وحركةً، وكلامًا. فأَوَّلُ شيءٍ بدأ به أن قال: "الحمدُ لله ربِّ العالمين"، فقال له خالقُه وبارئه ومصوِّرُهُ: "يرحمك ربُّكَ يا آدم" (¬5). فاستوى جالسًا أجملَ ¬
شيءٍ وأحسنَهُ منظرًا، وأتمَّهُ خَلْقًا، وأبدَعَهُ صورةً. فقال الرَّبُّ -تعالى- لجميع ملائكته: "اسجُدوا له"، فبادروا بالسجود؛ طاعةً لأمر الواحد المعبود، وتعظيمًا له. ثُمَّ قيل لهم: لَنَا في هذه القبضة من التراب سِرٌّ أبدَع ممَّا تَرَون، وجمالُ باطِنٍ أحسنُ ممَّا تُبصرون. فَلَنُزَيِّنَنَّ باطِنَهُ باحسنَ من زينة ظاهره، ولنَجْعَلنَّهُ من أعظم آياتنا، نُعَلِّمُه أسماءَ كُلِّ شيءٍ ممَّا (¬1) لم تحسنه الملائكة. فكان التعليمُ زينةَ الباطن وجماله، وذلك التصويرُ زينة الظاهر، فجاءَ أكمَلَ شيءٍ وأجمَلَهُ صورةً ومعنىً، وذلك كلُّه صُنْعُه -تبارك وتعالى- في قبضةٍ من تراب. ثُمَّ اشتقَّ منه صورةً هي مثله في الحُسْن والجمال، ليَسْكُن إليها، وتَقَرَّ نفسُه بها، وليُخْرِجَ من بينهما من لا يُحصَى عدَدُهُ من الرجال ¬
فصل: الحكمة في تقدير الجماع بين الذكر والأنثى، وعجائب ذلك
والنِّساء سواه. فصل ثُمَّ (¬1) لمَّا أراد الله - سبحانه - أن يَذْرَأَ نسلهما (¬2) في الأرض ويُكَثِّرَهُ؛ وضَعَ فيهما حرارة الشهوة ونار الشوق والطلب، وأَلْهَمَ كلًّا منهما اجتماعه بصاحبه، فاجتمعا على أمرٍ قد قُدِر. فاسمع الآن عجائب ما هنالك: لمَّا شاء الرَّبُّ -تعالى- أن يُخرج نسخةَ هذا الإنسان منه؛ أودع جسده حرارةً، وسلَّطَ عليه هَيَجَانها، فصارت شهوةً غالبةً، فإذا هاجت حرارةُ الجسد تحلَّلت الرُّطُوبات من جميع أجزاء الجسد، وابتدأتْ نازِلَةً من خلف "الدِّمَاغ"، في عروقٍ خلف "الأُذُنين" إلى فَقَارِ "الظَّهْر"، ثُمَّ تخرج إلى "الكُلْيَتين"، ثُم تُجمع (¬3) في أوعية "المَنِيِّ"، بعد أن طبختها نار الشهوة وعَقَدَتْها حتَّى صار لها قَوَامٌ وغِلَظٌ، وقصَرَتها حتَّى ابيضَّت، وقدَّر لها مجاريَ وطرقًا تنفذ فيها. ثُمَّ اقتضت حكمته -سبحانه- أن قدَّر لخروجها (¬4) أقوى الأسباب المستفرِغة لها من خارجٍ ومن داخلٍ، فقيَّضَ لها صورةً حسَّنَها في عين الناظر، وشوَّقَهُ إليها، وساق أحدهما إلى الآخر بسلسلة الشهوة والمحبة، فَحَنَّ كلٌّ منهما إلى امتزاجه بصاحبه، واختلاطه به، ليقضي ¬
الله أمرًا كان مفعولا. وجعل هذا مَحَلَّ الحَرْث، وهذا مَحَلَّ البَذْر، وقال القضاء والقدر: ليشتمل كلٌّ منكما على صاحبه؛ ليلتقي الماءان (¬1) على أمر قد قُدِر. وقَدَّر بينهما تلك الحركات لتعمل الحرارة في تلك الرُّطُوبة والفَضْلة عملها، واستخرجَها (¬2) من تحت "الشَّعْر" و"البشَر" و"الظُّفُر"؛ لتوافق النسخةُ الأصلَ، ويكون الداعي إلى التناسل في غاية القوَّة، فلا ينقطع النَّسْل. ولهذا لا تجد في مَنِيِّ الاحتلام من القوَّة ما في مَنِيِّ الجِماع، وإنَّما هو من فَضْلةِ حرارةٍ تذيب الرُّطُوبة، فتقذِفُها (¬3) الطبيعة إلى خارج، وذلك (¬4) من نوع تصوُّرِ خيالٍ بواسطة الشيطان، كما ثبت في "الصحيح" عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنَّه قال: "الرؤيا الصالحة من الله، والحلم من الشيطان" (¬5). فإن قيل: فهذا اختيارٌ منكم لقول من قال: إنَّ "المَنِيَّ" يخرج من جميع أجزاء البدن، وهذا وإن كان قد قاله كثيرٌ من النَّاس فقد خالفهم آخرون، وزعموا أنَّه فَضْلَةٌ تتولَّدُ من الطعام والشراب (¬6)، وهي من أعدل الفَضَلات، ولهذا صَلُحَت أن تكون مبدأ الإنسان، وهو جسمٌ متشابه ¬
يتكون المني من جميع أجزاء البدن، هذا هو الصواب لوجوه
الأجزاء في نفسه؟ قيل: القول الأَوَّل هو الصواب، ويدلُّ عليه وجوه: منها عموم اللذَّة بجميع أجزاء البدن. ومنها مشاكلة أعضاء المولود لأعضاء الوالدين. ومنها المشابهة الكُلِّية؛ فدلَّ على أنَّ البدن كلَّه أرسل "المَنِيَّ"، ولولا ذلك لكانت المشابهة بحسب مَحَلٍّ واحدٍ. فدلَّ على أنَّ كلَّ عُضْوٍ قد أرسل (¬1) قِسْطَهُ ونصيبه، فلمَّا انعقد وصَلُبَ ظهرت محاكاته ومشابهته له. ومنها أنَّ الأمر لو كان كما زعمه أصحاب المقالة الثانية، من أنَّ "المَنِيَّ" جسمٌ واحدٌ متشابهٌ في نفسه لم يتولَّد منه الأعضاء المختلِفَة المتشكِّلة بالأشكال المختلفة؛ لأنَّ القوَّةَ الواحدةَ لا تفعل في المادَّةِ الواحدة إلا فعلًا واحدًا، فدلَّ على أن المادَّةَ في نفسها ليست متشابهة الأجزاء. ومنها أن "المَنِيَّ" فَضْل الهَضْم الآخر، وذلك إنَّما يكون عند نضج (¬2) "الدَّم" في العُرُوق، وصيرورته مستعدًّ استعدادًا تامًّا لأن يصير من جوهر الأعضاء. وكذلك يحصل عقيب استفراغه من الضَّعْف أكثر ممَّا يحصل من استفْراغ أمثاله من "الدَّم"، ولذلك يورث الضَّعْف في جوهر ¬
بيان المراد بـ "سلالة من ماء"، و"سلالة من طين"
الأعضاء الأصليَّة. فدلَّ على أنَّه مركَّبٌ من أجزاء كُلٍّ منهما، قريبُ الاستعداد لأن يصير جزءًا من عضوٍ مخصوصٍ. ولذلك سمَّاه اللهُ تعالى: "سُلَالَةً من ماءٍ" (¬1)، و"السُّلَالَة": فُعَالَة من السَّلِّ، وهو ما يُسَلُّ (¬2) من البدن، كـ: النُّخَالَة، والنُّجَارَة (¬3). كما سمَّى أصلَهُ: "سُلَالَةً من طينٍ" (¬4)، لأنَّه استلَّها من جميع الأرض، كما في "جامع الترمذي" عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّ اللهَ خلق آدمَ من قَبْضَةٍ قَبَضَها من جميع الأرض" (¬5). قال أصحاب القول الآخر -وهم جمهور الأطبَّاء وغيرهم-: لو كان الأمر كما زعمتم، وأنَّ "المَنِيَّ" يُسْتَلُّ من جميع الأعضاء، لكان إذا حصل مَنِيُّ الذَّكَر ومَنِيُّ الأنثى في "الرَّحِم" تشكَّلَ المولود بشَكْلِهما معًا، ولَكَانَ الرجلُ لا يَلِدُ إِلَّا ذكورًا دائمًا، لأنَّ "المَنِيَّ" قد اسَتُلَّ -عندكم- من جميع أجزائه، فإذا انعقد وَجَبَ أن يكون مثله. وأيضًا، فإنَّ المرأة تضع من وَطْءِ الرَّجُل في "البطن" الواحد ذكرًا ¬
وأنثى، ولا يمكن أنَّ يقال إنَّ ذلك بسبب اختلاف (¬1) أجزاء "المَنِيِّ". قالوا: ولا نُسلِّم عمومَ اللَّذة؛ لأَنَّها إنَّما حصلت حال الاندِفَاق (¬2)، بسبب سيلان تلك المادَّة الحارَّة (¬3) على تلك المجاري اللَّحْميَّة التي لحمتها رِخْوَة (¬4)، شبيهة باللَّحم القريب العهد بالانْدِمَالِ (¬5)، إذا سال عليه [شيءٌ] (¬6) وهو معتدل السُّخُونة. و [لو] (¬7) كانت اللذَّة إنَّما حصلت بسبب سيلان (¬8) تلك المادَّة لحصلت قبل الاندِفَاق (¬9). قالوا: وأمَّا احتجاجُكم بالتشابه المذكور بين الوالد والمولود؛ فالمشابهة قد تقع في "الظُّفُر" و"الشَّعْر"، وليس يخرج منهما شيء. وأيضًا؛ فالمولود قد يشبه جَدًّا بعيدًا من أجداده، كما ثبت في "الصحيح" عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: أنَّ رجلًا سأله، فقال: إنَّ امرأتي ولدت غلامًا أسود! قال: "هل لك من إبل؟ " قال: نعم، قال "فما ألوانها؟ " قال: ¬
حُمْرٌ (¬1)، قال: "هل فيها من أَوْرَق؟ " قال: نعم، قال: "فأنَّى له ذلك؟ " قال: عسى أن يكون نزعَهُ عِرْقٌ، قال: "وهذا عسى أن يكون نَزَعَهُ عِرْقٌ" (¬2). قالوا: ولو كان في "المَنِيِّ" من كلِّ عُضْوٍ جُزْءٌ، فلا تخلو تلك الأجزاء: إمَّا أن تكون موضوعةً في "المَنِيِّ" وضعها الواجب، أو لا تكون كذلك؛ فإن كانت موضوعةً وضعها الواسط كان "المَنِيُّ" حيوانًا صغيرًا، وإن لم تكن كذلك استحالت المشابهة. قالوا: وأيضًا؛ فـ "المَنِيُّ" إمَّا أن يكون مركَبًا على تركيب هذه الأعضاء وترتيبها، أو لا يكون كذلك. فالأَوَّلُ باطلٌ قطعًا؛ لأن "المَنِيَّ" رطوبةٌ سَيَّالَةٌ فلا تحفظ الوضع (¬3) والترتيب. وإن كانت ثقيلةً؛ فتعيَّنَ الثاني. ولابدَّ -قطعًا- أن يُحَالَ ذلك الترتيب والتصوير والتشكيل على سببٍ آخر سوى القوَّة التي في المادَّة، فإنَّها قوَّةٌ بسيطةٌ لا شعور لها ولا إدراك، ولا تهتدي لهذه التفاصيل التي في الصورة الإنسانية، بل هذا التصوير والتشكيل مَرْجعُهُ إلى خالقٍ عظيمٍ عليمٍ حكيمٍ؛ قد بَهَرَتْ حكمتُه العقولَ، ودلَّت آثارُ صنعته على كمال أسمائه وصفاته وتوحيده. ¬
وقد اعترف بذلك فاضِلا الأطبَّاءِ، وهما: "بُقْرَاط" (¬1)، و"أفلاطون" (¬2). فَأَقَرَّا بأنَّ ذلك مستنَدُهُ إلى حكمة الصانع وعنايته، وأنَّه لم يصدر إلَّا عن خالقٍ حكيمٍ عليمٍ قديرٍ، ذكره "جالينوس" (¬3) عنهما في كتاب "رأي أبقراط وأفلاطون" (¬4)، فأَبَى جهلَةُ الأطبَّاءِ وزنادقةُ المتفَلْسِفةِ والطبائعيين إلا كفورًا. ¬
جواب المؤلف عما أوردوه
وقد ثبت في "الصحيح " عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - من حديث حذيفة بن أَسِيد: "إنَّ اللهَ وكَّلَ بالرَّحِم مَلَكًا يقول: يا رَبِّ نُطْفَةٌ، يا رَبِّ عَلَقَةٌ، يا رَبِّ مُضْغَةٌ. فما الرزقُ؟ فما الأجلُ؟ فما العملُ؟ فيقضي الله ما شاء، ويكتب المَلَكُ" (¬1)، وفي لفظ: "يقول المَلَكُ الذي يَخلُقُها" (¬2) أي: يُصَوِّرُها (¬3) بإذن الله، أي: يُصوِّرُ خَلْقَهُ في "الأرحام" أح/123، كيف يشاء الله، لا إله إلا هو العزيز الحكيم. قال أصحاب القول الأوَّل: نحن أحقُّ بهذا التنزيه والتوحيد، ومعرفة حِكْمَةِ الخلاَّق العظيم وقدرته وعلمه، وأسعد به منكم. ومن أَحَال من سفهائنا وزنادقتنا هذا التخليقَ على القوَّة المصوِّرة والأسباب الطبيعية، ولم يسندها إلى فاعلٍ مختارٍ عالمٍ بكلِّ شيءٍ، قادر على كلِّ شيءٍ، لا يكون شيءٌ إلا بإذنه ومشيئته، والقوَّةُ والطبيعة خَلْق مُسَخَّرٌ من خلقه، وعبدٌ من جملة عبيده، ليس لها تصرُّفٌ، ولا حركة، ¬
ولا فعلٌ إلا بإذن بارئها وخالقها = فذلك الذي جَهِلَ نفسَه وربَّه، وعادَى الطبيعة والشريعة. والرَّبُّ -تعالى- يخلق ما يشاء ويختار، ويُصوِّرُ خَلْقَهُ في "الأرحام" كيف يشاء، بأسباب قَدَّرَها، وحِكَمٍ دَبَّرَها، وإذا شاء أن يَسْنُبَ تلك الأسباب قوَاها سَلَبَها، وَإِذا شاء أن يقطعِ أسبَابَها قطَعَها، وَإِذا شاء أن يُهَيِّءَ لها أسبابًا أخرى تقاومها وتعارضها فعَلَ؛ فإنَّه الفعَّالُ لما يريد. وليس في كون "المَنِيِّ" مُسْتَلًّا (¬1) من جميع أجزاء البدن ما يُخْرِجُهُ عن الحوالة على قدرته ومشيئته وحكمته، بل ذلك أبلغ في الحكمة والقدرة. وأمَّا قولكم: لو كان "المَنِيُّ" مُسْتَلاًّ (¬2) من جميع الأعضاء لكان الولد يتشكَّلُ بشكلهما معًا، فقد أجاب النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - عمَّنْ سأله عن ذلك بما شَفَى وكَفَى. ففي "صحيح البخاري" (¬3) من حديث أنس -رضي الله عنه- قال: بَلغَ عبدَ الله بن سَلَام مَقْدَمُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المدينة، وهو في أرضٍ يَخْتَرِفُ، فأتَاهُ، وقال: إني سائلُك عن ثلاثٍ لا يعلمهنَ إلا نبيٌّ: ما أَوَّلُ أشراط الساعة؟ وما أَوَّلُ طعامٍ يأكله أهلُ الجنَّة؟ ومن أيِّ شيءٍ يَنْزِعُ الولد إلى أبيه، ومن أيِّ شيءٍ يَنْزِعُ إلى أخواله؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أخبرني بهِنَّ آنفًا جبريل"، فقال عبدُ الله: ذاك عَدُوُّ اليهود من الملائكة، "أمَّا أَوَّلُ ¬
كيف يتكون الخنثى؟
أشراط الساعة فَنَارٌ تحشُر النَّاسَ من المشرق إلى المغرب، وأمَّا أَوَّلُ طعام يأكله أهل الجنَّة فزِيَادَةٌ كَبدِ الحُوت، وأمَّا الشَّبَهُ في الولد فإنَّ الرَّجُل إذا غَشِيَ المرأةَ فَسَبَقَها ماؤُهُ كان الشَّبَهُ له، وإذا سَبَقَتْ كان الشَّبَهُ لها"، فقال: أشهد أَنَّكَ رسولُ الله. فهذا جواب جبريل أمين ربِّ العالمين، لا "جبريل" الطبيب (¬1). وفي "صحيح مسلم" (¬2) من حديث ثوبان عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: "إذا عَلَا ماءُ الرَّجُلِ ماءَ المرأةِ أَذْكَرَا بإذن الله، وإذا عَلَا ماءُ المرأةِ ماءَ الرَّجُلِ آنَثَا بإذن الله". وقد يَتَّفِقُ استواءُ (¬3) المائين في الإنِزال والقَدْر وذلك من أندر الأشياء، فَيُخْلَقُ للولد ذَكَرٌ كَذَكَرِ الرَّجُل، وفرْجٌ كَفَرْجِ المرأة. هذا (¬4)؛ وإنْ شاء اللهُ أن يُغَلِّب سلالةَ ماء الرَّجُل على ماء المرأة، أو سُلالتها على سُلَالته؛ أمر مَلَكَ الأرحام (¬5) بتصويره كذلك. فإنَّ ذلك لا يُخِلُّ بحكمةٍ، ولا يخرق عادةً، ولو خَرَقَها لم يُخِلَّ بحكمةِ أحكم ¬
الحكمة في الأمر بالأغتسال بعد الجماع
الحاكمين. وأمَّا منعكم عموم اللذَّة للبدن فشبيهٌ بالمكابرة، والمُجَامعُ يجد عند الإنزال شيئًا قد اسْتُلَّ من جميع بدنه وسمعه وبصره وقُواه، وأُفْرِغَ في قالَب "الرَّحِمِ"، فيُحِسُّ كأَنَّه قد خلع قميصًا كان مشتملًا به. ولهذا اقتضت حكمة ربِّ العالمين في شرعه وقدره أنْ أَمَرَهُ بالاغتسال عقيب ذلك، لِيُخْلِف عليه الماءُ ما تحلَّل من بدنه المخلوق من ماءٍ، وإذا اغتسل وجد نشاطًا وقوَّةً، وكأَنَّه لم ينقص منه شيءٌ؛ فإنَّ رطوبة الماء تُخْلِفُ على البدن ما حلَّلَتْهُ تلك الحركة من رطوباته، وتعمل فيها الحرارة الأصليَّة (¬1) عملها، فتَمُدُّ بها القوى التي ضعُفَت بالإنزال. وأمَّا التشابه الواقع بين "الظُّفُر" و"الشَّعْر" في الوالد والمولود، ولم ينفصل منهما (¬2) شيءٌ = فما أبردها من شبهةٍ؛ فإنَّ "الظُّفُرَ" و"الشَّعْرَ" تابعان للأعضاءِ والمِزَاجِ (¬3) الذي وقع فيه التشابه، فاسْتَتبع تَشَابُهُ الأصلِ تَشَابُهَ التَّبَع. وأمَّا شبه المولود بالجَدِّ البعيد من أجداده فهو من (¬4) أقوى الأدلَّة لنا في المسألة؛ لأنَّ ذلك الشَّبَه البعيد لم يَزَلْ يُنْقَلُ في الأَصْلاب حتَّى استقرَّ في صورة الولد، وبها حصل الشَّبَهُ. ¬
فصل: ثبوت المني للمرأة خلافا لبعض الأطباء
وأمَّا قولكم: إنَّ تلك الأجزاء لا تخلو: إمَّا أن تكون موضوعةً في "المَنِيِّ" وضْعَها الواجب أَوْ لا ... إلى آخره، فجوابه: أنكم إنْ عَنَيتُم أنَّها موضوعةٌ بالفعل فليس كذلك، وإنْ أردتم أنَّها موضوعة بالقوَّة فنَعم. وما (¬1) المانع منه! ويكون "المَنِيُّ" حيوانًا صغيرًا بل كبيرًا بالقوَّة؟ وبهذا ظهر الجواب عن قولكم: إنَّ "المَنِيَّ" رطوبةٌ سيَّالَةٌ لا تحفظ الوضع (¬2) والترتيب. فغاية ما يقَدَّر أنَّ ذلك جزءٌ من أجزاء السبب الذي يخلق الله به الولد، وجزء السبب لا يستقلُّ بالحكم. فالمسْتَقِلُّ بالإيجاد مشيئةُ الله وحده، والأسبابُ مَحَالُّ لظهور أثر المشيئة (¬3). فصل فإن قيل: هذا تصريحٌ منكم بأنَّ المرأة لها "مَنِيٌّ"، وأنَّ منها أحد الجزئين اللَّذَين يخلق الله منهما الولد. وقد ظنَّ طائفةٌ من الأطبَّاء أنَّ المرأة لا "مَنِيَّ" لها! قيل: هذا هو السؤال الذي أوردته أُمُّ المؤمنين عائشة -رضي الله عنها -، وأُمُّ سلمة -رضي الله عنها- على النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، وأجابهما عنه بإثبات "مَنِيِّ" المرأة. ففي "الصحيح" أنَّ أُمَّ سُلَيم -رضي الله عنها- قالت: يا رسول الله إنَّ الله لا يستَحْيي من الحقِّ، هل على المرأة من غُسْلٍ إذا هي احتَلَمت؟ ¬
قال: "نعم، إذا رأَت الماءَ"، فقالت أُمُّ سَلَمة (¬1): أوَ تَحْتَلِمُ المرأةُ؟ فقال: "تَرِبَتْ يَدَاكِ، فَبِمَ يُشْبِهُها ولدُها؟ " (¬2). وفيهما عن عائشة -رضي الله عنها- أنَّ أُمَّ سُلَيم -رضي الله عنها- سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن المرأة ترى في منامها ما يرى الرَّجُل: هل عليها من غُسْلٍ؟ قال: "نعم، إذا رأت الماءَ"، قالت: فقلت لها: أُفٍّ [لكِ] (¬3)، أَترَى المرأةُ ذلك؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "وهل يكون الشَّبَهُ إلَّا من ذلك؟ إذا عَلَا ماؤها ماءَ الرجل أَشْبَهَ الولدُ أخْوَالَه، وإذا عَلَا ماءُ الرَّجُلِ ماءَها أشبه أَعْمَامَهُ" (¬4) لفظ مسلم. وقد أكثَر "جالينوس" التشنيعَ على "أرسطاطاليس" (¬5)، حيث ¬
قال: إنَّ المرأة لا "مَنِيَّ" لها! فَلْنُحرِّرْ هذه (¬1) المسألة طبعًا كما حُرِّرَت شرعًا؛ فنقول: "مَنِيُّ" الذَّكَر من جملة الرُّطُوبات والفضلات التي في البدن، وهذا أمرٌ مُشتركٌ بين الذَّكَر والأنثى، وبواسطته يُخْلَق الولد، وبواسطته يكون الشَّبَه. ولو لم يكن للمرأة "مَنِيٌّ" لمَا أشْبَهَها ولدُها. ولا يقال: إنَّ الشَّبَه بسبب دَم الطَّمْث، فإنَّه لا ينعقد مع "مَنِيِّ" الرَّجُل، ولا يَتحِدُ به، وقد أجرىَ الله -سبحانه- العادة بأنَّ التَّوَلُّدَ والتَّوَالُدَ لا يكون إلا بين أصلين يتولَّد من بينهما ثالثٌ. و"مَنِيُّ" الرَّجُل وحده لا يتولَّدُ منه الولد ما لم تمازِجْهُ مادَّةٌ أخرى من الأنثى. وقد اعترف أرباب القول الآخر بذلك، وقالوا: لابدَّ من وجود مادَّةٍ بيضاء لَزِجَةٍ للمرأة تصير مادَّةً لبدن الجَنين. ولكن نازعوا: هل فيها قوَّة عاقِدة، كما في "مَنِيِّ" الرَّجُل؟ وقد فَصَّلَ (¬2) النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - هذه المسألة في الحديث الصحيح الذي رواه مسلم في "صحيحه" (¬3)، من حديث ثوبان مولاه، حيث سأله ¬
مراحل تكون الجنين بالتفصيل على الأيام
اليهوديُّ عن الولد، فقال: "ماءُ الرَّجُلِ أبيضُ، وماءُ المرأة أصفر، فإذا اجتمعا؛ فَعَلَا مَنِيُّ الرَّجُلِ مَنِي المرأةِ أذْكَرَا بإذن الله، وإذا عَلَا مَنِيُّ المرأةِ مَنِي الرَّجُلِ آنَثَا بإذن الله". نعم؛ لِـ "مَنِيِّ" الرَّجُلِ خاضَةُ الغِلَظِ والبياضِ، والخروجِ بدَفْقٍ ودَفْعٍ؛ فإن أراد مَنْ نَفَى "مَنِيَّ" المرأة انتفاءَ ذلك عنها أصاب. ولِـ "مَنِيِّ" المرأة خاصَّةُ الرِّقَّةِ، والصُّفْرَةِ، والسَّيَلَان بغير دَفْعٍ؛ فإنْ نَفَى ذلك عنها أخطأ. وفي كُلٍّ من الماءَين قوَّةٌ، فإذا انضَمَّ أحدُهما إلى الآخر اكتسَبَا قوَّةً ثالثةً هي من أسباب تكوُّن الجنين. واقتضت حكمةُ الخلَّاق العظيم -سبحانه- أن جعل داخل "الرَّحِم" خَشِنًا كالإسفنجِ، وجعل فيه طلبًا "للمَنِيِّ" وقبولًا له، كطلب الأرض الشديدة العطش للماء وقبولها له، فجعله طالبًا حافظًا مشتاقًا إليه بالطَّبْع؛ فلذلك إذا ظَفِر به أَمْسَكَهُ ولم يُضَيِّعْهُ ويَزْلقْهُ (¬1)، بل (¬2) يشتمِلُ عليه أَتَمَّ اشتمالٍ، ويَنْضَمُّ عليه أعظم انضمامٍ، لئلَّا يفسده الهواءُ، فتتولَّى القوَّةُ والحرارةُ التي هناك وبإذن الله لمَلَكِ "الرَّحِم": عَقْدَهُ، وطَبخَهُ أربعين يومًا كما يشاء، وفي تلك الأربعين يُجمَعُ خَلْقُه؛ فإنَّ "الرَّحِم" (¬3) إذا اشتمل على "المَنِيِّ" ولم يقذِفْهُ إلى خارجٍ استدار "المَنِيُّ" ¬
على نفسه وصار كالكُرة، وأخذ في الشدَّةِ إلى تمام ستة أيام. فإذا اشتدَّ نُقِطَ فيه نقطةٌ في الوسط، وهو موضع "القلب"، ونقطةٌ في أعلاه، وهي نقطة "الدِّمَاغ"، ونقطةٌ عن اليمين، وهي نقطة "الكبد". ثُمَّ تتباعد تلك النُّقَطُ ويظهر فيما بينها خطوطٌ حُمْرٌ (¬1)، إلى تمام ثلاثة أيام أُخَر. ثُمَّ تنفذ الدَّمويَّة (¬2) في الجميع بعد ستة (¬3) أيامٍ أُخَر، فيصير ذلك خمسة عشر يومًا، فتتميزُ الأعضاء الثلاثة -وهي: "القلب"، و"الدِّمَاغ"، و"الكبد"-، وتمتدُّ رطوبة "النُّخَاع"، وذلك يتمُّ باثني عَشَر يومًا، ويصير المجموع سبعةً وعشرين يومًا. ثُمَّ ينفصل "الرأس" عن "المَنكِبيَن"، والأطراف عن "الضُّلُوع"، و"البطن" عن الجَنْبَين، وذلك في تسعة أيامٍ أُخَر، فيصير ستةً وثلاثين يومًا. ثُمَّ يَتِمُّ هذا التمييز بحيث يظهر للحِسِّ ظهورًا بيِّنًا في تمام أربعة أيام، فيصير المجموع أربعين يومًا؛ فيها يُجمَعُ خَلْقُه. وهذا مطابقٌ لقول النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - في الحديث المتفق على صحته-: "إِنَّ أحدَكُم يُجْمَعُ خَلْقُه في بَطْنِ أُمِّهِ أربعين يومًا" (¬4). ¬
ولقد كَفَى النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بهذا الإجمال عن هذا التفصيل، وهذا يقتضي أنَّ اجتمِاع خَلْقه وقع في الأربعين الأُولَى، ولا ينافي هذا قوله: "ثُمَّ يكون عَلقَةً مثل ذلك"، فإنَّه يكون "عَلَقةً" -وهي القطعة من "الدَّم"- قد جُمع فيها خلقُها جمعَا حَفِيًّا (¬1)، وذلك الخَلْق في ظهور خَفِيٍّ على التدريج، ثُمَّ يكون "مُضْغَةً" أربعين يومًا أخرى، وذلك التخليق يتزايد شيئًا فشيئًا إلى أن يظهر للحِسِّ ظهورًا لا خفاء به كلِّه، و"الرُّوح" لم تتعلَّق به بعد، فإنَّها إنَّما تتعلَّق به في الأربعين الرابعة بعد مائةٍ وعشرين يومًا، كما أخبر به الصادق المصدوق، وذلك ممَّا لا سبيل إلى معرفته إلا بالوحي، إذ ليس في الطبيعة ما يقتضيه، فلذلك حَارَ فُضَلاءُ الأطبَّاء وأذكياءُ الفلاسفة في ذلك، وقالوا: إنَّ هذا ممَّا لا سبيل إلى معرفته إلا بحسب الظنِّ البعيد (¬2). قال مَنْ وقَفَ على نهايات كلامهم في ذلك، ودَأَبَ فيه حتَّى مَلَّ (¬3) وكَلَّ، وهو صاحب "الطِّبِّ الكبير" (¬4)، فذكر مناسباتِ خياليةٍ ثُمَّ قال: "وحقيقة العلم فيه عند الله تعالى، لا مطمع لأحدٍ من الخلق في الوقوف ¬
فصل: بعض الأطباء ابتكر طريقة لحساب زمن الولادة، وتضعيف المؤلف لها
عليه". قلت: قد أوقفَنا عليه الصادقُ المصدوق - صلى الله عليه وسلم - الذي لا ينطق عن الهَوَى بما ثبت في "الصحيحين": "إنَّ خَلْقَ أحدِكُم يُجْمَعُ في بطْن أُمِّهِ أربعين يومًا (¬1)، ثُمَّ يكونُ عَلَقَةً مثل ذلك، ثُمَّ يكون مُضْغَةً مثل ذلك، ثُمَّ يُبْعَثُ إليه المَلَكُ، فينفُخُ فيه الرُّوحَ، ويُؤْمَرُ بأربعِ كلماتٍ (¬2): بكَتْبِ رِزْقِهِ، وأجلِه، وعملِه، وشقيٍّ أو سعيدٍ" (¬3). فصل ورأيت لبعض الأطبَّاء كلامًا ذكر فيه سبب تفاوت زمن الولادة، فأذْكُرُه وأذْكُرُ ما فيه. قال: إذا تَمَّ خَلْقُ الجَنين مدَّةً مُعيَّنَةَ فإنَّها إذا زادت عليها مثلُها تحرَّك الجَنين، فإذا انْضَافَ إلى المجموع مثلاه انفصل الجَنين. قال: فإذا تَمَّ خَلْقُه في ثلاثين يومًا، فإنَّه إذا صار له ستون يومًا تحرَّك، فإذا انضاف إلى الستين مثلاها، صارت مائةً وثمانين يومًا (¬4)، وهي ستةُ أشهر، وهي أقلُّ (¬5) مُدَّةٍ ينفصل لها الحَمْلُ (¬6). ¬
فصل: تقرير أقل مدة الحمل شرعا وطبعا
وإذا تَمَّ خَلْقُه في خمسةٍ وثلاثين يومًا تحرَّك لسبعين، وانفصل لسبعة أشهر. وإذا تَمَّ خَلْقُه لأربعين يومًا تحرَّك لثمانين يومًا، وانفصل لثمانية أشهر. وإذا تَمَّ لخمسةٍ وأربعين تحرَّك لتسعين، وانفصل لتسعة أشهرٍ، وعلى هذا الحساب أبدًا. وهذا الذي ذكره هذا القائل يقتضي حركة الجَنين قبل الأربعين (¬1)، وهذا خطأ قطعًا؛ فإنَّ "الرُّوحَ" إنَّما تتعلَّق به بعد الأربعين الثالثة، وحينئذٍ يتحرَّك، فلا تثبت له حركةٌ قبل مائةٍ وعشرين يومًا، وما يُقَدَّرُ من حركةٍ له قبل ذلك فليست حركةً ذاتيةً اختياريةً، بل لعلها حركةٌ عارِضةٌ بسبب الأغشية والرُّطُوبات. وما ذكره من الحساب لا يقوم عليه دليلٌ ولا تجربةٌ مطَرِدَةٌ، فَرُبَّما زاد على ذلك أو نقص منه، ولكن الذي نقطع به أنَّ "الرُّوحَ" لا تتعلَّق به إلا بعد الأربعين الثالثة، وما يُقَدَّرُ من حركةٍ قبل ذلك -إنْ صَحَّت- لم تكن بسبب "الرُّوح"، والله أعلم. فصل وأمَّا أَقَلُّ مُذَةِ الحَمْل فقد تظاهرت الشريعة والطبيعة على أنَّها ستة أشهر، قال تعالى: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا} [الأحقاف/ 15] وقال تعالى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ ¬
بيان أكثر مدة الحمل نقلا عن ابن سينا
كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ} [البقرة: 233]. قال "جالينوس": "كنتُ شديد الفحص عن مقادير أزمنة الحَمْل، فرأيتُ امرأة واحدةً ولدت في مائةٍ وأربعٍ وثمانين ليلة". وزعم صاحب "الشِّفَاء" (¬1) أنَّه شاهد ذلك. وأَمَّا أكثره فقال في "الشِّفَاء": "بلغني من حيث وَثِقْتُ كُلَّ الثِّقَةِ أنَّ امرأةً وضعَت بعد الرابع من سِنِّ الحَمْل ولدَّا قد نبتت أسنانه، وعاش". فصل فإن قيل: فما سبب الإذْكَارِ والإِينَاثِ؟ قيل: الذي نختاره أنَّهُ إنَّما سببه مشيئةُ الرَّبِّ الفاعِل باختياره، وِليس له سببٌ طبيعيٌّ، وكل ما ذَكَرَهُ أصحابُ الطبائع من الأسباب فمُنْتَقِضٌ؛ مثل: حرارة الرَّجُل ورطوبته. قالوا: وفساد المِزَاج -أيضًا- يوجِبُ إيلَادَ الإناث، واستقامته تُوجِبُ الإذْكَار. وكُلُّ هذا تخليطٌ وهذيانٌ؛ فليس للإذْكَار والإينَاث إلا قول الله لِمَلَكِ الأرحام -وقد استأذنَهُ-: "يا ربِّ ذَكَرٌ، يا ربِّ أنثَى، يا ربِّ شقيٌّ أم سعيدٌ، فما الرزقُ؟ فما الأجلُ؟ " (¬2). فالإذْكَارُ والإينَاثُ قُرَانَى (¬3) ¬
السَّعادة، والشَّقاوة، والرِّزْق، والأجل. فإن قيل: فتلك أيضًا بأسباب؟ قلنا: نعم، ولكن بأسبابٍ بعد الولادة، ولا سبب للإذْكَار والإينَاث قبل الولادة. فإن قيل: فما تصنعون بحديث ثوبان الذي رواه مسلم في "صحيحه" (¬1): أنَّ يهوديًّا سأل النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - عن الولد، فقال: "ماءُ الرَّجُل أبيض، وماءُ المرأة أصفر، فإذا اجتمعا، فعَلَا منيُّ الرَّجُلِ منيَّ المرأةِ أذْكَرَا بإذن الله، وإذا علا منيُّ المرأة منيَّ الرَّجُل آنَثَا بإذن الله"، فقال اليهوديُّ: صدقتَ، وإنَّك لنبيٌّ. قيل: هذا الحديث تفرَّدَ به مسلم في "صحيحه"، وقد تكلَّم فيه بعضهم (¬2)، وقال: الظاهر أنَّ الحديث وَهِمَ فيه بعضُ الرواة، وإنَّما كان (¬3) السؤال عن الشَّبَهِ، وهو الذي سأله عنه (¬4) عبدُ الله بن سَلَام في الحديث المتفق على صحته فأجابه بَسَبْقِ الماء، وأنَّ الشَّبَهَ يكون للسابق. فلعلَّ بعض الرواة انقلب عليه شَبَهُ الولد بالمرأة بكونه أنثى، ¬
حديث ثوبان وابن سلام، والجمع بينهما
وشَبَهُهُ بالوالد (¬1) - بكونه (¬2) ذكرًا، لا سيَّما والشَّبَهُ التَّامُّ إنَّما هو بذلك. وقالت طائفة: بل الحديثُ صحيحٌ لا مَطْعَنَ في سنده، ولا منافاة بينه وبين حديث عبد الله بن سَلَام، وليست الواقعة واحدة، بل هما قضيَّتان، ورواية كُلٍّ منهما غير رواية الأخرى، وفي حديث ثوبان قِصَّةٌ ضُبِطَت وحُفِظَت. قال ثوبان: كنتُ قائمًا عند النبيِّ، فجاء حَبْرٌ من أحبار اليهود، فقال: السلام، عليك يا محمد. فَدَفَعْتُه دَفْعَة كادَ يُصْرَعُ منها. فقال لي: لِمَ تدفعني؟ فقلت: ألا تقول يا رسول الله؟ فقال اليهوديُّ: إنَّما ندعوه باسمه الذي سمَّاهُ به أهله. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّ اسمي "محمدٌ" الذي سَمَّاني به أهلي"، فقال اليهوديُّ: جئتُ أسألك. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أيَنْفَعُكَ شيءٌ إنْ حَدَّثْتُكَ؟ " قال: أسمع بأُذُني. فنَكَتَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - بِعُودٍ معه؛ فقال: سَلْ، فقال اليهوديُّ: أين يكون النَّاس يوم تُبْدَّلُ الأرضُ غير الأرض والسمَّوات؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "هم (¬3) في الظُّلْمَةِ دونَ الجِسْر"، قال: فمَنْ أَوَّلُ النَّاس إجازةً؟ قال: "فقراء المهاجرين"، قال اليهوديُّ: فما تُحْفَتُهم حين يدخلون الجنَّة؟ قال: "زِيَادَةٌ كَبدِ النُّون"، قال: فما غَدَاؤُهم على إثْرِها؟ قال: "يُنْحَرُ لهم ثور الجنَّة الذَي يأكل (¬4) من أطرافها"، قال: فما شرابهم عليه؟ قال: "من عَيْنٍ فيها تُسمَّى سَلْسَبيلا"، قال: صدقتَ. قال: وجئتُ أسألك عن شيء ¬
لا يعلمه أحدٌ إلا نبيٌّ أو رجلٌ أو رجلان، قال: "ينفعُكَ إنْ حدَّثْتُك؟ " قال: أسمع بِأُذُني. قال: جئت أسألك عن الولد؟ قال: "ماءُ الرَّجُل أبيضُ، وماءُ المرأة أصفر. فإذا اجتمعا، فَعَلَا مَنيُّ الرَّجُل مَنيَّ المرأة أذْكَرَا بإذن الله، وإذا عَلا منيُّ المرأة مَنيَّ الرَّجُل آنَثَا بإذن الله، قال اليهوديُّ: لقد صدقتَ، وإنَّك لنبيٌّ. ثُمَّ انصرف، فذهب، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لقد سألني هذا عن (¬1) الذي سألني عنه، وما لي علمٌ به، حتَّى أتاني (¬2) اللهُ به" (¬3). وأمَّا حديث عبد الله بن سَلَام -رضي الله عنه- ففي "صحيح البخاري" عن أنس -رضي الله عنه- قال: بَلَغَ عبدَ الله بنَ سَلَام مَقْدَمُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المدينة، فأتاه، فقال: إنِّي سائلك عن ثلاثٍ لا يعلمُهُنَّ إلا نبيٌّ: ما أَوَّلُ أشراط الساعة؟ وما أوَّلُ طعامٍ يأكله أهل الجنَّة؟ ومن أيِّ شيءٍ يَنْزِعُ الولدُ إلى أبيه، ومن أيِّ شيءٍ يَنزِعُ (¬4) إلى أخواله؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "خَبَّرنِي بِهِنَّ آنفًا جبريلُ" فقال عبد الله: ذاك عَدُوُّ اليهودِ من الملائكة! فقال: "أَمّا أَوَّلُ أشراط الساعة فَنَارٌّ تحشُرُ النَّاسَ من المشرق إلى المغرب. وأمَّا أوَّلُ طعامٍ يأكله (¬5) أهل الجنَّة فزيادة كبد حوت. وأمَّا الشَّبَهُ في الولد فإنَّ الرَّجُل إذا غَشِيَ المرأةَ فسبَقَها ماؤه كان الشَّبَهُ له، وإذا سَبقَتْ كان الشَّبَهُ لها" قال: أشهد أنَّك رسول الله، وذكر ¬
الحديث (¬1). فتضمَّن الحديثان أمرين ترتَّب عليهما أَثَران: سَبْقُ الماءِ، وعلوُّهُ. فتأثير السَّبْقِ في الشَّبَه، وثأثير العُلُوِّ في الإذْكَار والإينَاث، فإن اجتمع الأمران ترتَّبَ عليهما (¬2) الأثران معًا، وأيُّهما انفرد ترتَّبَ عليه أثره: فإذا سَبَقَ ماءُ الرَّجُل وعَلَا: أذْكَر، وكان الشَّبَهُ له. وإنْ سَبَقَ ماءُ المرأة وعَلَا: آنَثَتْ، وكان الشَّبَهُ لها. وإنْ سَبَقَ ماءُ المرأة؛ وعَلَا ماءُ الرَّجُل: أذْكَرَ، وكان الشَّبَهُ لها. وإنْ سَبَقَ ماءُ الرَّجُل؛ وعَلَا ماءُ المرأةِ: آنَثَتْ، وكان الشَّبَهُ له (¬3). ومع هذا كلِّه فهذا جُزْءُ سببٍ ليس بمُوجِب، والسبب المُوجِب مشيئة الله تعالى. قال: فقد يُسَبِّبُ سَبَبِيَّةَ السبب، وقد يرتِّبُ عليه (¬4) ضِدَّ مقتضاه، ولا يكون في ذلك مخالفة لحكمته، كما لا يكون تعجيزًا لقدرته. ¬
وقد أشار في الحديث إلى هذا بقوله: "أَذْكَرَا وآنَثَا بإذن الله"، وقد قال تعالى: {لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ (49) أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (50)} [الشورى/ 49 - 50]، فأخبر سبحانه أنَّ ذلك عائدٌ إلى مشيئته، وأَنّه قد يَهَبُ الذكور فقط، والإناث فقط، وقد يجمع للوالِدَيْن بين النَّوعَين معًا، وقد يُخْلِيهِما عنهما معًا، وأنَّ ذلك كما هو راجعٌ إلى مشيئته فهو متعلِّقٌ بعلمه وقدرته. وقد وهَبَ اللهُ آدمَ الذكورَ والإناثَ، وإسرائيلَ الذكورَ دون الإناث، ومحمدًا - صلى الله عليه وسلم - الإناثَ دون الذكور، سوى ولده إبراهيم (¬1). وقال سليمان عليه السلام: "لأَطُوفَنَّ الليلة (¬2) على سبعين امرأةً، ¬
مقدار التناسب بين ماء الأب وماء الأم في الجنين
تأتي كلُّ امرأةٍ منهُنَّ بغلامٍ يقاتل في سبيل الله، فقال له صاحبه: قل إنْ شاء الله، فلم يقُلْ (¬1)، فطاف عليهنَّ فلم تلد منهنَّ (¬2) إلا امرأةٌ واحدةٌ، جاءت بشِق ولدٍ". قال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "والذي نفسي، بيده لو قال: إنْ شاءَ الله؛ لجاهدوا في سبيل الله فرسانًا أجمعون" (¬3)، فدلَّ على أنَّ مجرَّدَ الوَطْءِ ليس بسببٍ تامٍّ وإن كان له مَدْخَلٌ في السببيَّة، وإنَّما السبب التالم مشيئة الله وحده، فهو رَبُّ الأسباب؛ المتصرِّفُ فيها كيف شاء، بإعطائها السببيَّة إذا شاء، ومنعِها إيَّاها إذا شاء، وترتيبِ ضدِّ (¬4) مقتضاها عليها إذا شاء. والأسباب هي مجاري الشرع والقدر، فعليها يجري أمر الله الكونيُّ والدينيُّ. فإن قيل: فقد ظهر أنَّ الولد مخلوقٌ من الماءين جميعًا، فهل يُخْلَقُ منهما على حَدٍّ سواء، أم يكون بعضُ الولد من ماء الأب، وبعضُه من ماء الأُمِّ؟ قيل: قد بيَّنَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - هذه المسألة بأوضح البيان، فقال الإمام أحمد (¬5) في "مسنده": ¬
فصل: إشكال في تقدير مدة نفخ الروح في حديث ابن مسعود فقد جاء ما يعارضه
حدثنا حسين بن الحسن، حدثنا أَبو كُدَيْنَة (¬1)، عن عطاء بن السائب، عن القاسم بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن عبد الله قال: مرَّ يهوديٌّ برسول الله - صلى الله عليه وسلم -وهو يحدِّثُ أصحابه، فقالت قريشٌ: يا يهوديُّ؛ إنَّ هذا يزعم أنَّه نبيٌّ، فقال: لأَسألتَّهُ عن شيءٍ لا يعلمه إلا نبيٌّ، فجاء حتَّى جلس، ثُمَّ قال: يا محمد؛ مِمَّ يُخْلَقُ الإنسان؟ فقال: "مِنْ كُلٍّ يُخْلَق: من نطفة الرَّجُل، ومن نطفة المرأة. فأَمَّا نطفة الرَّجُل فنطفةٌ غليظةٌ، منها العَظْمُ والعَصَبُ. وأمَّا نطفة المرأة فنطفةٌ رقيقةٌ، منها اللحم والدَّم"، فقام اليهوديُّ فقال: هكذا كان يقول من قَبْلَك (¬2). فصل فإن قيل: قد ذكرتم أنَّ تعلُّقَ "الرُّوح" بالجَنين إنَّما يكون بعد الأربعين الثالثة، وأنَّ خَلْق الجَنين يُجْمَعُ في بطن أُمِّه أربعين يومًا، ثُمَّ يكون "عَلَقةً" مثل ذلك، ثُمَّ يكون "مُضْغَةً" مثل ذلك. وبَيَّنتُم أنَّ كلامَ الأطبَّاء لا يناقض ما صَرَّحَ به الوحي من ذلك. فما تصنعون بحديث حذيفة بن أَسِيدٍ الذي رواه مسلم في "صحيحه" (¬3) عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "يَدْخُلُ المَلَكُ على النُّطْفَة بعدما تستقرُّ في الرَّحِم بأربعين، أو ¬
دفع التعارض بين حديث ابن مسعود وحديث حذيفة
خمسٍ وأربعين ليلة، فيقول: أَي رَبِّ أشقيٌّ أم سعيدٌ؟ فيكتبان، فيقول: أي رَبِّ، أَذَكَرٌ أو أنثى؟ فيكتبان، ويكْتَبُ عملُه، وأَثَرُه، وأَجَلُه، ورزْقُه، ثُمَّ تُطْوَى الصحيفة، فلا يُزَادُ فيها ولا يُنْقَصُ"؟ قيل: نتلقَّاهُ بالقبول والتصديق، وترك التحريف، ولا ينافى شيئًا ممَّا ذكرناه، إذ غاية ما فيه أنَّ هذا التقدير وقع بعد الأربعين الأُولَى، وحديث ابن مسعود يدلُّ على أَنَّه وقع بعد الأربعين الثالثة، وكلاهما حقٌّ؛ فإنَّ هذا تقديرٌ بعد تقدير: فالأوَّل: تقديرٌ (¬1) عند انتقال "النُّطْفَة" إلى أوَّل أطوار التخليق التي هي أوَّل مراتب الإنسان، وما قبل ذلك فلم يتعلَّق بها التخليق (¬2). والتقدير الثاني: تقديرٌ عند كمال خلقه ونفخ "الرُّوح". فذاك تقديرٌ عند أوَّل خَلْقه وتصويره، وهذا تقديرٌ عند تمام خَلْقه وتَصَوُّرِه. وهذا أحسن من جواب من قال: إنَّ المراد بهذه الأربعين -التي في حديث حذيفة- الأربعينُ الثالثة! وهذا بعيدٌ جدًّا من لفظ الحديث، ولفظه يَأْبَاهُ كلَّ الإباء، فتأمَّلْهُ (¬3). ¬
إشكال آخر حول حديث ابن مسعود بألفاظ أخرى، والجواب عنه
فإن قيل: فما تصنعون بحديثه الآخر الذي في "صحيح مسلم" (¬1) -أيضًا- عن عامر بن واثلة، أنَّه سمع عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- يقول: "الشَّقِيُّ من شَقِيَ في بطن أُمِّه، والسعيدُ من وُعِظَ بغيره"، فأتى رجلًا من أصحاب النبيِّ يقال له حذيفة بن أَسِيدٍ الغِفَاري، فحدَّثه بذلك من قول ابن مسعود، فقال: وكيف يَشْقَى رجلٌ بغير عملٍ؟ فقال له الرَّجُل: أتعجب من ذلك؟ فإنِّي سمعتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "إذا مَرَّ بالنطفة ثِنْتَان وأربعون ليلة بَعَثَ اللهُ إليها ملكًا فصوَّرَها، وخَلَقَ سمعَها، وبَصَرَها، وجلْدَها، ولَحْمَها، وعظَامَها، ثُمَّ قال: يا رَبِّ أَذَكَرٌ أم أنثى؟ فيقضي ربُّك ما شاء، ويكتب المَلَكُ، ثُمَّ يخرج المَلَكُ بالصحيفة في يده، فلا يزيد على ما أُمِرَ ولا يُنْقِص". وفي لفظ آخر في "الصحيح" (¬2) -أيضًا-: سمعتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأُذُنَيَّ هاتين يقول: "إِنَّ النطفةَ تقعُ في الرَّحِم أربعين ليلةً، ثُمَّ يَتَسَوَّرُ عليها المَلَكُ الذي يَخلُقُها (¬3)، فيقول: يا رَبِّ أَذَكَرٌ أو أنثى؟ ثُمَّ يقول: يا رَبِّ أَسَوِيٌّ أو غيرُ سَوِيِّ؟ فيجعله الله سَوِيًّا أو غيرَ سَوِيٍّ، ثُمَّ يقول: يا رَبِّ ما رزقه؟ وما أجله؟ وما خلقه؟ ثُمَّ يجعله الله -عزَّ وَجلَّ- شقيًّا أو سعيدًا". وفي لفظ آخر في "الصحيح" (¬4) -أيضًا-: "أنَّ مَلَكًا موكَّلًا بالرَّحِم ¬
الكلام عن حديث حذيفة من حيث الدلالة اللغوية
إذا أراد اللهُ أنْ يَخلُقَ شيئًا بإذن الله لبِضْعً وأربعين ليلةً" ثُمَّ ذكر نحوه. قيل: نتلقاه -أيضًا- بالتصديق والقبول، وترك التحريف. وهذا يوافق ما أجمع عليه الأطبَّاء أن مبدأ التخليق والتصوير بعد الأربعين. فإن قيل: فكيف التوفيق بين هذا وبين حديث ابن مسعود، وهو صريحٌ في أنَّ "النُّطْفَةَ" أربعين يومًا نطفةٌ، ثُمَّ أربعين يومًا "عَلَقةٌ"، ثُمَّ أربعين "مُضْغَةٌ"، ومعلومٌ أنَّ "العَلَقَةَ" و"المُضْغَةَ" لا صورة فيهما (¬1)، ولا جلد، ولا لحم، ولا عظم. وليس بنا حاجةٌ إلى التوفيق بين حديثه هذا وبين قول الأطبَّاء؛ فإنَّ قولَ النبيِّ معصومٌ، وقولُهم عُرْضَةُ الخطأ، ولكنَّ الحاجة إلى التوفيق بين حديثه وحديث حذيفة المتقدِّم؟ قيل: لا تنافي بين الحديثين بحمد الله، وكلاهما خارجٌ من مشكاةٍ صادقةٍ معصومةٍ. وقد ظنَّ طائفةٌ أنَّ التصوير في حديث حذيفة إنَّما هو بعد الأربعين الثالثة، قالوا: وأكثر ما فيه التعقيب بـ "الفاء"، وتعقيب كلِّ شيءٍ بحَسَبه، وقد قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً} [الحج/ 63]، بل قد قال تعالى: {ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا} [المؤمنون/ 14]، وهذا تعقيبٌ بحسب ما يصلح له المَحَلُّ، ولا يلزم أن يكون الثاني عقيب الأوَّل تعقيب اتصال. وظنَّت طائفةٌ أخرى أنَّ التصويرَ والتخليقَ الذي في حديث ¬
وجه الجمع بين أحاديث تصوير الجنين
حذيفة هو في التقدير والعلم، والذي في حديث ابن مسعود في الوجود الخارجي. والصواب (¬1) ما دلَّ عليه الحديث؛ من أنَّ ذلك في أوَّل (¬2) الأربعين الثانية. ولكن هاهنا تصويران (¬3): أحدهما: تصويرٌ خفيٌّ لا يظهر للبشر، وهو تصويرٌ تقديريٌّ، كما يُصَوِّر من يُفَضِّلُ الثوبَ أو يَنْجُرُ البابَ مواضعَ القطع والتفصيل، فَيُعَلِّمُ عليها، ويصنع (¬4) مواضع الفصل والوصل. وكذلك كلُّ (¬5) من يصنع صورةً في مادَّةٍ، لاسيِّما مثل هذه الصورة التي ينشأ فيها التصوير والتخليق على التدريج شيئًا بعد شيءٍ، لا وَهْلَةً واحدةً، كما يشاهَدُ بالعِيَان في تخليق الطائر (¬6) في البيضة. فهاهنا أربع مراتب: أحدها: تصويرٌ وتخليقٌ علميٌّ، لم يخرج إلى الخارج. الثانية: مبدأ تصويرٍ خفيٍّ، يعجز الحِسُّ عن إدراكه. الثالثة: تصويرٌ يناله الحِسُّ ولكنه لم يَتِمَّ بعد. ¬
الرابعة: تمام التصوير الذي ليس بعده إلا نفخ "الرُّوح". فالمرتبة الالولَى علميَّةٌ، والثلاث الأُخَر خارجيَّةٌ عينيَّةٌ. وهذا التصويرُ بعد التصوير نظيرُ التقديرِ بعد التقدير: فإنَّ (¬1) الرَّبَّ -تعالى- قدَّرَ مقادير الخلائق تقديرًا عامًّا قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألفَ سنةٍ (¬2)، وهناك كُتبت السعادةُ، والشقاوةُ، والأعمالُ، والأرزاقُ، والآجالُ. الثاني: تقديرٌ بعد هذا وهو أخصُّ منه، وهو التقدير الواقع عند القَبْضَتين، حين قَبَضَ -تبارك وتعالى- أهلَ السعادة بيمينه وقال: "هؤلاء للجَنَّة، وبعمل أهل الجَنَّة يعملون"، وقَبَضَ أهلَ الشقاوة باليد الأخرى وقال: "هؤلاء للنَّار، وبعمل أهل النَّار يعملون" (¬3). ¬
الثالث: تقديرٌ بعد هذا، وهو أخصُّ منه عندما يقضي (¬1) به، ¬
[كما] (¬1) في حديث حذيفة بن أَسِيد المذكور. الرابع: تقديرٌ آخر بعد هذا، وهو عندما يتمُّ خَلْقُه ويُنفَخُ فيه "الرُّوح"، كما صرَّح به [الحديث] (¬2) الذي قبله. وهذا يدلُّ على سعة علم الرَّبِّ تبارك وتعالى، وإحاطته بالكُلِّيَّات والجزئيَّات. وكذلك التصوير الثاني مطابقٌ للتصوير العلمي، والثالث مطابقٌ للثاني، والرابع مطابقٌ للثالث؛ وهذا ممَّا يدلُّ على كمال قدرة الرَّبِّ سبحانه وتعالى، ومطابقة مقدوره لمعلومه، فتبارك الله رَبُّ العالمين، وأحسنُ الخالقين. ونظير هذا التقدير الكتابةُ العامَّة قبل المخلوقات، ثُمَّ كتابة ما يكون من العام إلى العام في ليلة القدر، وكلُّ مرتبةٍ من هذه المراتب تفصيلٌ لما (¬3) قبلها وتنويعٌ (¬4). وكلام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصدِّقُ بعضُه بعضًا، ويفسِّرُ بعضُه بعضًا، ويطابق الواقع في الوجود ولا يخالفه. وإنَّما يُخبر بما لا يستقلُّ الحِسُّ ولا العقل بإدراكه، لا بما يخالف الحِسَّ والعقل. وأمَّا ما يعرفه النَّاس ويستقلُّون بإدراكه على أمرٍ عينيٍّ يتعلَّق به الإيمان، أو على حكمٍ شرعيٍّ يتعلَّق به التكليف (¬5)، والله أعلم. ¬
فصل: اختلافهم في أول ما يتخلق من الأعضاء، وأدلة كل قول
فصل فإن قيل: أيُّ عُضْوٍ يتخلَّقُ أوَّلاً قبل سائر الأعضاء؟ قيل: قد اختُلِف في ذلك على أربعة أقوال: أحدها: أنَّه "القلب"، وهذا قول الأكثرين. والثاني: أنَّه "الدِّماغ" و"العَينَان"، وهو قول "بقراط". والثالث: أنَّه "الكبد"، وهو قول: محمد بن زكريا (¬1). والرابع: أنَّه "السُّرَّة"، وهو قول جماعةٍ من الأطبَّاء. قال أصحاب "القلب": لا نشكُّ أنَّ في "المَنِيِّ" قوَّةً رُوحِيَّةً، وبسبب تلك القوَّة يستعد (¬2) أن يكون إنسانًا، وحاجته إلى "الرُّوح" الذي هو مادَّة القوى أشدُّ، فلابدَّ أن يكون لذلك "الرُّوح" مَجْمَعٌ خاصٌّ، منه ينبعث إلى سائر الأعضاء. فالجوهر الروحيُّ أوَّلُ شيءٍ يَنْهَزُ (¬3) من ¬
"المَنِيِّ"، ويجتمع في موضعٍ واحدٍ، ويحيط به ما يتصل إليه ذلك الجوهر الروحيُّ من جميع الجوانب، فيجب أن يكون مجمعها (¬1) هو الوَسْط، وسائر الأجزاء تحيطُ به، وذلك الكَبِدُ (¬2) هو "القلب". قالوا: ولأنَّ تمامَ البدن موقوفٌ على الحرارة الغريزيَّة، والعضو الذي هو مَنْبع [ز/ 124] الحرارة الغريزيَّة التي (¬3) بها قِوَام (¬4) البدن لابدَّ أن يكون متقدِّمًا (¬5) على العضو الذي هو مَنْبع القوَّة الغَاذِيَة التي بها ينمو وهو "القلب" (¬6). قالوا: ولأنَّ أفعالَ القوى إنَّما تتمُّ بـ"الرُّوح"، وهي لابدَّ لها من متعلَّقٍ تتعلَّقُ به، ولابدَّ أن يتقدَّمَ متعلَّقُها عليها؛ وهو "القلب". قالوا: وهذا هو الأَنْسَبُ والأَلْيَقُ بحكمة الرَّبِّ تعالى، فإنَّ "القلب" مَلِكُ سائر الأعضاء، وهي جنودٌ له (¬7) وخَدَمٌ، فإذا صَلَح "القلب" صَلَحت جنوده، وإذا فَسَدَ فَسَدَت، وقد أشار النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - في ¬
الحديث الصحيح إلى ما يرشد إلى ذلك فقال: "إنَّ في الجسد مُضْغَةً إذا صلَحَت صَلَح الجسدُ كلُّه، وإذا فَسَدَت فَسَدَ الجسدُ كلُّه، ألا وهي القلب" (¬1). فما أَوْلَى هذه المُضْغَة أن تكون متقدِّمةً في وجودها على سائر الأعضاء، وسائرها تبعٌ لها في الوجود، كما هي تبعٌ لها في الصلاح [ك/ 103] والفساد. قالوا: وقد شاهد (¬2) أصحاب التشريح في "المَنِيِّ" عند انعقاده نقطةً (¬3) سوداء في وَسْطه. قال أصحاب "الدِّماغ": شاهدنا "الفِرَاخَ" في البيض (¬4) أوَّل ما يتكوَّن منها رؤوسُها، وسُنَّةُ الله في تكوُّن (¬5) الأجِنَّة في "الأرحام" كذلك. قالوا: ولأنَّ "الدِّماغ" مجمعُ الحواسِّ، ورئيس البدن، وأشرفه. قالوا: وهذه سُنَّةُ الله في بروز الجَنين، أوَّل ما يبدو منه إلى الوجود رأسُهُ. قال أصحاب "الكبد": لما كان "المَنِيُّ" محتاجًا إلى قوَّةٍ غَاذِيةٍ ¬
فصل: حركة الجنين قبل نفخ الروح
تزيد في جوهره حتَّى يصير بحيث يمكن أن تُكَوَّنَ الأعضاءُ فيه؛ كان أوَّلَ الأعضاء وأسبَقَها إليه هو مَحَلُّ القوَّة الغَاذِية؛ وهو "الكبد". قال أصحاب "السُّرَّة": حاجة الجَنِين إلى جَذْب الغذاء أشدُّ من حاجته إلى آلات قِوَاه وإدراكه، ومن "السُّرَّة" يَثِجُّ (¬1) الغذاء. وأَوْلَى هذه الأقوال [ح/ 131] القولُ الأوَّل. ومرتبةُ (¬2) "القلب" وشَرَفُهُ ومنزلتُه ومَحَلُّه الذي وضَعَهُ الله به يقتضي أنَّه المبدوءُ به قبل سائر الأعضاء، المتقدِّمُ عليها بالوجود. والله أعلم (¬3). فصل فإن قيل الجَنِينُ قبل نفخ "الرُّوح" فيه، هل كان فيه حركةٌ وإحساسٌ أم لا؟ قيل: كان فيه حركة النُّمُوِّ والاغتذاء كالنَّبات، ولم تكن له حركة الحِسِّ (¬4) والإرادة، فلمَّا نُفِخَت فيه "الرُّوح" انضمَّت حركة حِسِّهِ وإرادته إلى حركة نُموِّه واغتذائه. فإن قيل: قد ثبت أنَّ الولد يتخلَّقُ من ماء الأبوين، فهل يتمازجا ¬
علاقة ماء الأب بماء الأم موضع خلاف بينهم، وذكر الصواب في ذلك
ويختلطا (¬1) حتَّى يصيرا ماءً واحدًا، أو يكون أحدهما هو المادَّة والآخر بمنزلة "الإِنْفَحَة" (¬2) التي تعقده؟ قيل: هو موضعٌ اختلف فيه أرباب الطبيعة: فقالت طائفةٌ منهم: "مَنِيُّ" الأب لا يكون جزءًا من الجَنين، وإنَّما هو مادَّة "الرُّوح" الساري في الأعضاء، وأجزاءُ البدن كلُّها من "مَنِيِّ" الأُمِّ. ومنهم من قال: بل هو ينعقد من "مَنِيِّ" الأُمِّ (¬3)، ثُمَّ يتحلَّلُ ويفسد. قالوا: ولهذا كان الولدُ جزءًا من أُمِّه، ولهذا جاءت الشريعة بتَبَعِيَّتِه لها في الحُرِّيَّةِ والرِّقِّ. قالوا: ولهذا (¬4) لو نَزَا فَحْلُ رَجُلٍ على حِجْرَةِ (¬5) آخر فأَوْلَدَها؛ فالولدُ لمالك الأُمِّ دون مالك الفَحْل؛ لأنَّه تكوَّنَ من أجزائها وأحشائها ولحمها ودمها، وماءُ الأب بمنزلة الماء الذي يسقي الأرض. ¬
سبب التفريق بين الأب والأم فيما يلحقهما من الولد
قالوا: والحِسُّ يشهدُ أنَّ الأجزاء التي في المولود من أُمِّه أضعافُ أضعافِ الأجزاء التي فيه من أبيه. فثبت أن تكوينه من "مَنِيِّ" الأُمِّ، ودَمِ الطَّمْثِ، و"مَنِيُّ" الأب عاقدٌ له كالإنْفَحَة. ونازعهم الجمهور وقالوا: إنَّه يتكوَّنُ من "مَنِيِّ" الرَّجُل والأُنثى، ثُمَّ لهم قولان: أحدهما: أنَّه يتكوَّنُ من "مَنِيِّ" الذَّكَر أعضاؤه وأجزاؤه؛ ومن "مَنِيِّ" الأُنثى صورته. والثاني: أنَّ الأعضاءَ والأجزاءَ والصورةَ تكوَّنت من مجموع الماءَين، وأنَّهما امتزَجَا واختلَطَا وصارَا ماءً واحدًا. وهذا هو الصواب (¬1)؛ لأنَّا نجد الصورة والتشكيل تارةً إلى الأب، وتارةً إلى الأُمِّ. والله أعلم. وقد دلَّ على هذا قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى} [الحجرات: 13]. والأصل هو الذَّكَر، فمنه البَذْر، ومنه السَّقْي. والأُنثى وعاءٌ ومستودَعٌ لولده، تُرَبِّيه في بطنها كما تُرَبِّيه في حَجْرها. ولهذا كان الولدُ للأبِ حكمًا ونسبًا [ز/125]. وأمَّا تبعيته للأُمِّ في الحُرِّيَّة والرِّقِّ فلأَنَّهُ إنَّما تكوَّنَ وصار ولدًا في ¬
بطنها، وغذَّتْهُ لبانها، مع الجُزْء الذي فيه منها. وكان الأبُ أحقَّ بنَسَبِه وتعصيبه؛ لأنَّه أصله، ومادَّته، ونسخته (¬1). وكان أشرفهما دينًا أَوْلَى به؛ تغليبًا لدين الله وشرعه. فإن قيل (¬2): فهَلَّا طردَّتم هذا وقلتم: لو سَقَطَ بَذْرُ رَجُلٍ في أرض رَجُلٍ (¬3) آخر، يكون الزَّرْع لصاحب الأرض دون مالك البَذْر؟ قيل: الفرق بينهما أنَّ البَذْر مالٌ مُتَقَوَّمٌ نَبَتَ (¬4) في أرض آخر، فهو لمالكه، وعليه أجرة الأرض، أو هو بينهما. بخلاف "المَنِيِّ"؛ فإنَّه ليس بمالٍ، ولهذا نَهَى الشارعُ عن المعاوضة عليه (¬5). واتفق الفقهاء على أنَّ الفَحْلَ لو نَزَا على رَمَكَةٍ (¬6) لكان الولد لصاحب الرَّمَكَة (¬7). ¬
فصل: هل يتكون الجنين من ماءين وواطئين؟
فصل فإن قيل: فهل يتكوَّنُ الجَنِينُ من ماءَين وَوَاطِئَين؟ قيل: هذه المسألةُ شرعيَّةٌ كونيَّةٌ، والشَّرْعُ فيها تابعٌ للتكوين. وقد اختُلِف فيها شَرْعًا وقَدَرًا: فمنعت ذلك طائفةٌ وأَبَتْهُ كلَّ الإباء، وقالت: الماء إذا استقرَّ في "الرَّحِم" اشتملَ عليه، وانضمَّ غاية الانضمام، بحيث لا يبقى فيه [ك/ 104] مقدار رَسْم رأس إبرة إلَّا انْسَدَّ (¬1)، فلا يمكن انفتاحه بعد ذلك لماءٍ ثانٍ، لا من الواطئ، ولا من غيره. قالوا: وبهذا أجرى اللهُ العادةَ؛ أنَّ الولد لا يكون إلَّا لأبٍ واحدٍ، كما لا يكون إلَّا لأُمٍّ واحدةٍ. وهذا هو مذهب الشافعي (¬2). ¬
وقالت طائفةٌ: بل يتخلَّقُ من ماءَين فأكثر. قالوا: وانضمامُ "الرَّحِم" واشتمالُه على الماء لا يمنع قبوله الماءَ الثاني، فإنَّ "الرَّحِمَ" أَشْوَقُ (¬1) شيءٍ وأَقْبَلُه [ح/ 132] "للمَنِيِّ". قالوا: ومثال ذلك مثال "المعدة"، فإنَّ الطعام إذا استقرَّ فيها انضمَّت عليه غاية الانضمام، فإذا ورد عليها طعامٌ فوقه انفتحت له، لشوقها (¬2) إليه. قالوا: وقد شَهِدَ بهذا القائفُ بين يدي أمير المؤمنين عمر بن الخطَّاب -رضي الله عنه- في ولدٍ ادَّعاهُ اثنان، فنظر إليهما وإليه، وقال: "ما أراهما إلا اشتركا فيه". فوافقه عمر -رضي الله عنه- وألحقه بهما (¬3). ¬
ووافقه على ذلك الإمام أحمد (¬1)، ومالك (¬2) -رضي الله عنهما-. ¬
قالوا: والحِسُّ، يشهدُ بذلك، كما نرى في جِرَاءِ (¬1) الكلبةِ والسِّنَّوْرِ، تأتي بها مختلفة الألوان لتعدُّدِ آبائها. وقد قال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "من كان يؤمنُ بالله واليوم الآخر فلا يسقي ماءَهُ زَرْعَ غيرِهِ" (¬2)، يريد وَطْءَ الحامل من غير الواطئ. قال الإمام أحمد: "الوَطْءُ يزيد في سمع الولد ¬
اختلاف الفقهاء فيمن أحبل أمة غيره ثم ملكها؛ فما الحكم؟
وبصره" (¬1). هذا بعد انعقاده؛ وعلى هذا مسألةٌ فقهيَّةٌ، وهي: لو أَحْبَلَ أَمَةَ غيره بنكاحٍ أو زنىً، ثُمَّ مَلَكَها؛ هل تصير أُمَّ ولدٍ له؟ فيها أربعة أقوالٍ للفقهاء (¬2)، وهي روايات عن الإمام أحمد (¬3): أحدها: لا تصير أُمَّ ولدٍ؛ لأنَّها لم تَعْلَق بالولد في ملكه. والثاني: تصير أُمَّ ولدٍ؛ لأنَّها وضعت في ملكه. والثالث: إن وضعت في ملكه صارت أُمَّ ولدٍ، وإن وضعت قبل أن يملكها لم تصر (¬4)؛ لأنَّ الوضع والإحبال كان في غير ملكه. والرابع: أنَّهُ إنْ (¬5) وطئها بعد (¬6) أن ملكها صارت أُمَّ ولدٍ، وإلا فلا؛ لأنَّ الوطء يزيد في خِلْقَة الولد، كما قال الإمام أحمد: "الوطء يزيد في سمع الولد وبصره". وهذا أرجح الأقوال. ¬
وقد ثبت عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنَّه مَرَّ بامرأةٍ مُجِحٍّ على باب فُسطاطٍ، فقال: "لعلَّ سيِّدَها يريد أنْ يُلِمَّ بها، لقد هَمَمْتُ أن أَلْعَنَهُ لعنًا يدخل معه قبره، كيف يُورِّثُه وهو لا يَحِلُّ له (¬1)؟ كيف يستعبدُه (¬2) وهو لا يَحِلُّ له (¬3)؟! " (¬4). و"المُجِحُّ": الحاملُ المُقْرِبُ. وقوله: "كيف يُورِّثه" (¬5)، أي: يجعل (¬6) الولد تركةً مورَّثةً عنه كأنَّه (¬7) عبدُه، ولا يحلُّ له ذلك؛ لأنَّه قد صار فيه جزءٌ من أجزائه بوطئه، وكيف يجعله عبدَهُ، وهو لا يحلُّ له ذلك (¬8)؟ ¬
أسباب حدوث التوأم
فهذا دليلٌ على أنَّ وَطْء الحامل يزيد في الأجزاء، وقد دلَّت المشاهدةُ على أنَّ الحامل إذا وُطِئت كثيرًا جاء الولد عَبْلًا (¬1) ممتلئًا، وإذا هُجِر وطؤها جاء الولد ضئيلًا ضعيفًا. فهذه أسرارٌ شرعيَّةٌ موافقةٌ للأسرار الطبيعيَّة، مبنيَّةٌ عليها. والله أعلم. فإن قيل: فهل يمكن أن يُخْلَقَ من الماء الواحد (¬2) ولَدَان في بطنٍ واحدٍ؟ قيل: هذه مسألة "التَّوْأَم"، وهو ممكن، بل قد وقع، وله أسباب: أحدها: كثرة "المَنِيِّ"، فيفيضُ (¬3) إلى بطن "الرَّحِم" دُفُعَاتٍ، و "الرَّحِمُ" يعرض له عند الحركة الجاذبة (¬4) "للمَنِيِّ" حركاتٌ [ز/ 126] اختلاجيَّةٌ مختلفةٌ، فَرُبَّما اتَّفَق أنْ كان الجاذب (¬5) للدفعة الأولى من "المَنِيِّ" أحد جانبيه، وللثانية الجانب الآخر. ومنها: أنَّ بيت الأولاد في "الرَّحِم" فيه تجاويف، فيكون "المَنِيُّ" كثيرًا، فيَفْضُل عن أحدها فَضْلَةٌ يشتمل عليها التجويف الثاني، وهكذا الثالث. ¬
فصل: هل الحامل تحيض أولا؟
قال أرسطو: "وقد يعيش للمرأة خمسةُ أولادٍ في بطنٍ واحدٍ". وحَكَى عن امرأةٍ أنَّها وضعت في أربع بطونٍ عشرين ولدًا. قال صاحب "القانون" (¬1): "سمعت بـ"جُرْجَان" أنَّ امرأةً أسقطت كيسًا فيه سبعون صورةً، كلُّ صورةٍ (¬2) صغيرةٌ جدًّا". قال أرسطو: "وإذا أَتْأَمَتْ بذكرٍ وأُنثى فقلَّما تَسْلَمُ الوالدةُ والمولود، وإذا أَتْأَمَتْ بذكرين أو أُنثيين فتَسْلَمُ كثيرًا". قال: "والمرأة قد تَحْبَلُ على الحَبَلِ، ولكن يهلك الأوَّل في الأكثر، فقد أسقطت امرأةٌ واحدةٌ اثني عشر جنينًا، حَمْلًا على حَمْلٍ. وأمَّا إذا كان الحَمْلُ واحدًا، أو بعد وضع الأوَّل: فقد يعيشان". والله أعلم. فصل فإن قيل: فما السبب المانع للحامل من الحيض غالبًا. قال الإمام أحمد وأبو حنيفة: إنَّ ما تراه من "الدَّم" يكون دم فسادٍ لا حيض. والشافعيُّ وإنْ قال إنَّه دمُ حيضٍ -وهو إحدى الروايتين عن عائشة- فلا ريب أنَّه نادرٌ بالإضافة إلى الأغلب؟ ¬
دم الطمث ينقسم إلى ثلاثة أقسام
قيل: دم الطَّمْثِ [ك/ 105] ينقسم إلى ثلاثة أقسام: 1 - قسمٌ ينصرف إلى غذاء الجَنين [ح/ 133]. 2 - وقسمٌ يصعد إلى البدن. 3 - وقسمٌ يَحْتَبِسُ إلى وقت الوَضْع، فيخرج مع الولد، وهو "دَمُ النِّفَاس". ورُبَّما كانت مادَّةُ "الدَّم" قويَّةً -وهو كثيرٌ - فيخرج بعضُه؛ لقوَّته وكثرته. والراجح من الدليل أنَّه حيضٌ، حكمُهُ حكمُهُ، إذ ليس هناك دليلٌ عقليٌّ ولا شرعيٌّ يمنع من كونه حيضًا، واستيفاء الأدلَّة من الجانبين قد ذكرناه في موضعٍ آخر (¬1). والله أعلم. فإن قيل: فما السبب في أنَّ النِّساءَ الحُبَالَى يَشْتَقْنَ في الشهر الثاني والثالث إلى تناول الأشياء الغريبة التي لم تَعتَد بها طباعُهُنَّ؟ قيل: لأنَّ دم الطَّمْثِ لمَّا احتُبِسَ فيهنَّ بحكمةٍ قدَّرها الله -سبحانه- وهي صَرْفُه غذاءً للولد، ومقدار ما يحتاج إليه يسير، فتدفعه الطبيعة الصحيحة إلى فم "المَعِدَة"، فتحدث لهنَّ شهوة تلك الأشياء الغريبة. ¬
وضعية الجنين في بطن أمه، وما فيه من الحكم
فإن قيل: فكيف وَضْعُ الجَنين في بطن أُمِّهِ: أقائمًا، أم قاعدًا، أم مضطجِعًا؟ قيل: هو معتمِدٌ بوجهه على رجليه، وبراحتيه على ركبتيه، ورجلاه مضمومةٌ إلى قُدَّامه (¬1)، ووجهه إلى ظهر أُمِّه. وهذا من العناية الإلهيَّة به؛ أن أَجْلَسَهُ هذه الجِلْسَة في هذا المكان الضيِّق، فهو في "الرَّحِم" على الشكل الطبيعي. وأيضًا؛ فلو كان رأسُهُ إلى أسفل لوقع ثِقَلُ الأعضاء الخسيسة على الأعضاء الشريفة، وأدَّى ذلك إلى تَلَفِهِ. ولأنَّه عند محاولة الخروج إذا انقلب أعَانَهُ ثِقَلُه على الخروج، فإنَّه إذا خرَجَ أوَّلَ ما يخرُجُ منه رأسُهُ؛ لأنَّ "الرأس" إذا خرج أوَّلاً كان خروج سائر الأعضاء بعده سهلًا، ولو خرج على غير هذا الوجه لكان فيه تَعْوِيقٌ وعُسْرٌ. فإنَّ "الرجْلَين" لو خَرَجَتَا أوَّلاً انْعَاقَ خروج الباقي؛ فإنَّهُ إنْ خرجت "الرِّجْلُ" الواحدة أوَّلاً انْعَاقَ عند الثانية، وإن خرجتا معًا انعاق عند "اليدين"، وإن خرجت "اليدان" و"الرجْلاَن" انعاق عند "الرأس"، فكان يلتوي إلى خلف وتلتوي "السُّرَّةُ" إلى"العُنُق" فيألم "الرَّحِم"، ويصعب (¬2) الخروج، ويؤدِّي إلى مَرَضِهِ أو تَلَفِهِ. فإن قيل: فما سبب الإجْهَاض -الذي يسمُّونه "الطَّرْح"- قبل كمال الولد؟ قيل: الجَنين في "البَطْن" بمنزلة الثمرة في الشجرة، وكلٌّ منهما له ¬
الانفتاح العظيم لفم الرحم حال الولادة له حكم
اتصالٌ قويٌّ بالأُمِّ، ولهذا يصعب قطع الثمرة قبل كمالها من الشجرة وتحتاج إلى قوَّة، فإذا بلغت الثمرة نهايتها سَهُلَ قَطْعُها، ورُبَّما سقطت بنفسها؛ وذلك لأنَّ تلك الرِّبَاطَات والعُرُوق التي كانت تُمِدُّها من الشجرة كانت في غاية القوَّة، فتوفر (¬1) لغذاء آخر، رجع ذلك [ز/ 127] الغذاء إلى الشجرة فَضَعُفَت تلك الرِّبَاطات (¬2) والمجاري، وساعدها ثِقَلُ الثمرة، فسَهُلَ أخذها. وكذا الأمر في الجَنين، فإنَّه ما دام في "البَطْن" قبل كماله واستحكامه، فإنَّ رطوباته وأغشيته ورباطاته (¬3) تكون مانعةً (¬4) له من السقوط، فإذا تمَّ وكَمُلَ ضَعُفَت تلك الرِّبَاطات (¬5)، وانْهَتَكَت الأغشيةُ، واجتمعت تلك الرُّطُوبات المُزْلِقَة؛ فسقط الجَنين. هذا الأمر الطبيعي الجاري على استقامة الطبيعة وسلامتها. وأمَّا السقوط قبل ذلك فلفسادٍ في الجَنين، أو لفسادٍ في طبيعة الأُمِّ، أو لِضَعْف الطبيعة. كما تسقط الثمرة قبل إدراكها لفسادٍ يعرض لها، أو لِضَعْف الأصل، أو لفساد يعرض من خارج. فإسقاط الجَنين لسببٍ من هذه الأسباب الثلاثة، فالآفات التي تصيب الأَجِنَّة بمنزلة الآفات التي تصيب الثمار. فإن قيل: فكيف فَمُ (¬6) "الرَّحِم" مع ضِيقه يتَّسع ¬
بكاء الطفل بعد الولادة له سبب ظاهر وسبب باطن
لخروج (¬1) ما هو أكبر منه بأضعافٍ مضاعفةٍ؟ قيل: هذا من أعظم الأدلَّة على عناية الرَّبِّ -تعالى- وقدرته ومشيئته، فإنَّ "الرَّحِم" لابدَّ أن ينفتح الانفتاحَ العظيمَ جدًّا. قال غير واحدٍ من العقلاء: ولابدَّ من انفصالٍ يعرض للمفاصل العظيمة، ثُمَّ تلتئم بسرعةٍ (¬2) أسرع من لَمْح البصر. وقد اعترف فضلاءُ الأطبَّاء وحُذَّاقُهم بذلك، وقالوا: لا يكون ذلك إلا بعنايةٍ إلهيَّةٍ، وتدبيرٍ تعجز العقول عن إدراكه، وتُقِرُّ للخلَّاق العليم بكمال الربوبيَّة [ح/ 134] والقدرة. فإن قيل: فما السبب في بكاء الصبيِّ حال خروجه إلى هذه الدار؟ قيل: هاهنا سببان: سببٌ باطنٌ أخبر به (¬3) الصادق المصدوق، لا يعرفه الأطبَّاء. وسبب ظاهرٌ. فأمَّا السبب الباطن؛ فإنَّ الله -سبحانه- اقتضت [ك/ 106] حكمته أن وكَّلَ بكلِّ واحدٍ من أولاد آدم شيطانًا، فشيطان هذا المولود قد حُبِس (¬4) ينتظر خروجه ليقارنه ويتوكَّلَ به، فإذا انفصل استقبله الشيطان وطعنه في خاصرته، تحرُّقًا عليه وتغيُّظًا، واستقبالًا له بالعداوة التي كانت بين الأبوين قديمًا، فيبكي المولود من تلك الطعنة. ولو آمن زنادقةُ الأطبَّاء والطبائعيين بالله ورسوله لم يجدوا عندهم ما يبطل ذلك ولا يردُّه. ¬
وقد ثبت في "صحيح مسلم" (¬1) عن أبي هرِيرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "صياحُ المولود حين يقع نَزْغَةٌ من الشيطان". وفي "الصحيحين" من حديثه -أيضًا- قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ما من مولودٍ يولد إلا نَخَسَهُ الشيطانُ، فيستهِلُّ صارخًا من نَخْسَة (¬2) الشيطان، إلا ابنَ مريمَ وأُمَّه" (¬3). وفي لفظ آخر: "يمسُّهُ حين يولد، فيستَهِلُّ صارِخًا من مَسِّ الشيطان إيَّاهُ" (¬4). وفي لفظٍ آخر: "كلُّ بني آدم يمسُّهُ الشيطانُ يوم ولدته أُمُّه، إلا مريمَ وابنَها" (¬5). وفي لفظٍ للبخاري (¬6): "كلُّ بني آدم يَطْعَنُ الشيطانُ في جَنْبه (¬7) بإصْبَعِه حين يولد، غير عيسى ابن مريم، ذهب يطعن فَطَعَنَ في الحِجَاب". ¬
لأرباب الإشارة إفادات حول السبب الظاهر، وفيه فوائد
والسبب الظاهر -الذي لا يُخْبِر الرُّسُل بأمثاله لِرُخْصِهِ (¬1) عند النَّاس، ومعرفتهم له من غيرهم- هو مفارقته للمَأْلَفِ (¬2) والعادةِ التي كان فيها إلى أمرٍ غريبٍ، فإنَّه ينتقل من جسمٍ حارٍّ إلى هواءٍ باردٍ، ومكانٍ لم يَأْلَفْهُ، فيستوحش من مفارقته وَطَنَهُ ومَأْلَفَهُ. وعند أرباب الإشارات أنَّ بكاءَهُ إرهاصٌ (¬3) بين يدي ما يلاقيه من الشدائد والآلام والمخاوف، وأنشدوا في ذلك: ويَبْكِي بها المولودُ حتَّى كأنَّهُ ... بكُلِّ الذي يلْقَاهُ فيها يُهَدَّدُ وإلَّا؛ فما يُبْكِيهِ فيها، وإنَّها ... لأَوْسَعُ مِمَّا كانَ فيهِ وأَرْغَدُ؟ (¬4) ولهم نظير هذه الإشارة في قبض كَفِّهِ عند خروجه إلى الدنيا، وفي فتحها عند خروجه منها، وهو الإشارة إلى أنَّهُ خرج إليها مركَّبًا على الحِرْصِ والجَمْع (¬5)، وفَارَقَها صِفْر اليدين منها، وأنشدوا في ذلك: ¬
وفي قَبْضِ كَفِّ الطِّفْل عند وِلاَدِهِ ... دليلٌ على الحِرْصِ الذي هو مالكُهْ [ز/ 128] وفي فَتْحِها عندَ المَمَاتِ إشارةٌ ... إلى فُرْقَةِ المالِ الذي هو تاركُهْ (¬1) ولهم نظير هذه الإشارة في بكاء الطفل عند خروجه، وضَحِكِ مَنْ حوله، وأنَّ الأمر سيُبَدَّلُ ويصير إلى ما يُبْكي مَنْ حوله عند موته، كما ضحكوا عند ولادته، وأنشدوا في ذلك: أَنَسِيتَ إذْ وَلَدَتْكَ أُمُّكَ باكيًا (¬2) ... والنَّاسُ حولَكَ يضحكونَ سُرورَا فَاعْمَلْ لَعَلَّكَ أنْ تكونَ إذا بَكَوا ... في يومِ مَوْتِكَ ضاحِكًا مسرورَا (¬3) ونظير هذه الإشارة -أيضًا- قولهم: إنَّ المولود حين ينفصل يَمُدُّ يَدَهُ إلى فِيهِ، إشارةً إلى تعجيل نُزُلِهِ (¬4) عند القدوم بأنَّه ضيفٌ (¬5)، ومن تمام إكرامه تعجيل قِرَاهُ (¬6)، فأشارَ بِلِسَان الحال إلى ترك التأخير، ورُبَّما ¬
مَصَّ إصْبَعَهُ إشارةً إلى نهاية فَقْرِهِ، وأنَّه بلَغَ منه إلى مَصِّ الأصابع، ومنه قول النَّاس لِمَنْ بلَغَ به الفقرُ غايته: "هو يَمُصُّ أصابِعَهُ". ويَهْوِي إلى فِيهِ يَمُصُّ بَنَانَهُ ... يُطَالِبُ بالتعجيلِ خَوفَ التشَاغُلِ ويُعْلِمُهُم: إنِّي فقيرٌ وليس لي ... من القُوتِ شيءٌ غيرُ مَصِّ أَنَامِلي ونظير هذه الإشارة أنَّه يُحْدِثُ حالَ ولادته، يقول بلسان الحال: لا تُنْكِرُوا إحدَاثَ من استفتح بالحَدَثِ في دار الحَدَث (¬1)، كذلك كنتم من قبل، وليس العَجَبُ ممَّن أحدَثَ؛ بل العجَبُ ممن يُطَهَّرُ من الحَدَث. ويُحْدِثُ بين الحاضِرين إشارةً ... إلى أنَّهُ من حادِثٍ ليس يُعْصَمُ [ح/ 135] يقول: وعندِي بعدَ ذِي أخواتُها ... وما منكُمُ إلَّا وذُو العَرْشِ أَرْحَمُ ونظير هذه الإشارة أنَّه يضحك بعد الأربعين، وذلك عندما يتعقَّلُ نَفْسَهُ الناطِقَةَ ويدركُها، وفي ذلك قِصَاصٌ من البكاء الذي أصابه عند ولادته. وتأخَّرَ بعده؛ لئلَّا يَيْأَس (¬2) العبدُ إذا أصابته شدَّةٌ، فالفَرَجُ كامِنٌ بِطَيِّهَا في آثارها. ويَضْحَكُ بعدَ الأربعين إشارةً ... إلى فَرَجٍ وَافَاهُ بعدَ الشَّدَائدِ يقولُ: هي الدنيا، فَتُبْكِيكَ مرَّةً ... وتُضْحِكُ أخرى، فاصْطَبِرْ للعوائِدِ ¬
فصل: إكمال مسيرة تكوين الأعضاء في النطفة بعد الأربعين
قالوا: ويرى المنامات بعد ستين يومًا من ولادته، ولكن ينساها لِضَعْف القوَّةِ الحافظة، وكثرة الرُّطُوبات. وفي ذلك لُطْفٌ به -أيضًا- لضَعْفِ (¬1) قلبه عن التفكر فيما (¬2) يراه. ويرى بعَيْنِ القلبِ -إذ تأتي له ... ستون يومًا- رؤيةَ الأحلامِ [ك/ 107] لكنَّهُ ينْسَاهُ بَعْدُ لضَعْفِهِ ... عن ضَبْطِهِ في يَقْظَةٍ ومَنَامِ فصل ولمَّا تكامَلَ "للنُّطْفة" أربعون يومًا فاستَحْكَمَ نُضْجُها، وعقَدَتْها حرارةُ "الرَّحِم"؛ استعدَّت لحالةٍ هي أكملُ من الأُولَى، وهي الدمُ الجامد (¬3) الذي يشبه "العَلَقَة"، ويَقْبَلُ الصورةَ ويحفظُها بانعقادها وتماسُكِ أجزائها. فإذا تَمَّ لها أربعون استعدَّت لحالةٍ هي أكمل من الحالتين قبلها، وهي صيرورتها لحمًا أَصْلَبَ من "العَلَقَة"، وأقوى وأحفظ "للمُخِّ" (¬4) المُودَعِ فيها، واللحمِ الذي هو كِسْوَتُها، والرِّبَاطَاتِ (¬5) التي تُمسك أجزاءه، وتشدُّ بعضَها إلى بعضٍ، و"الكبدِ" الذي يأخذ صَفْوَ الغذاء فيرسله إلى سائر الأعضاء، وإلى "الشَّعْر" و"الظُّفُر". و"الأمعاءِ" التي هي ¬
الوظائف الكبرى للأعضاء الشريفة
مجاري وصول الطعام والشراب إلى "المَعِدَة"، و"العُرُوقِ" التي هي مجاري تَنْفِيذِه وإيصالِه إلى سائر أجزاء البدن، و"المَعِدَةِ" التي هي خِزَانةُ الطعام والشراب، وحافظته لمستحقِّيه. و"القَلْبِ" الذي هو منبع الحرارة، ومعدِن الحياة، والمستولي على مملكة البدن. و"الرئةِ" التي هي (¬1) تُرَوِّحُ عن البدن، وتفيده الهواء البارد الذي به حياته، و"اللِّسَانِ" الذي هو بريدُ "القلبِ" وترجمانُه ورسولُه، و"السَّمْع" الذي هو (¬2) صاحب أخباره، و"البصر" الذي هو طليعته ورائده، والكاشِفُ له عمَّا يريد كَشْفه. و"الأعضاءِ" التي هي خَدَمُهُ وخَوَلُهُ (¬3): فـ "الرِّجْلانِ" تسعى في مصالحه، و"اليَدانِ" تبطشُ في حوائجه، و"الأسنانُ" تُفَضِّل قُوْتَه وتقطِّعُه، و"الأَضْرَاسُ" تطحنُه، و"الرِّيقُ" يعجِنُه، والحرارةُ تُنْضِجُه، و"المَعِدَةُ" تُجَزِّئُه، و"الكبدُ" تَجْذِبُه (¬4)، و"العُرُوقُ" تُوصِلُه إلى أربابه، و"الذَّكَرُ" آلةُ نَسْلِه، و"الأُنْثَيانِ" خزانةُ مادَّةِ النَّسْل. فـ "الكبدُ" للغذاء [ز/ 129] وقِسْمَتِه، وهي في الحيوان بمنزلة شِرْش (¬5) الشجر والنَّبَات، تجذب الغذاء. وترسله إلى جميع الأجزاء، وآلاتُ الغذاء خَدَمٌ لها. و"القلب" للأرواح التي بها حياة الحيوان، وآلات التَّنَفُّسِ خَدَمٌ ¬
فصل: آلات الغذاء في الجسد ثلاثة
له. و"الدِّمَاغ" مَعْدِنُ الحِسِّ والتصوُّرِ، والحَوَاسُّ خَدَمٌ له (¬1). و"الأُنْثَيان" مَعْدِنٌ للتناسل، و"الذَّكَرُ" خادِمٌ لهما. وهذه الأعضاء هي رأس أعضاء البدن. فصل وأمَّا آلاتُ الغذاء فثلاثةُ أقسام: 1 - آلةٌ تَقْبَلُ الغذاء وتُصْلِحُه، وتَقْذِفُه (¬2) وتفرِّقُه، وتُرْسِلُه إلى جميع البدن. 2 - وآلةٌ تقبل فَضَلاته. 3 - وآلةٌ تُعِينُ في إخراج ثُفْلِه (¬3)، وما لا منفعة في بقائه. فأمَّا الآلات القابلة (¬4) للغذاء (¬5) فهي: "الفَمُ"، و"المَرِيءُ"، و"البطنُ"، و"الكبِدُ"، و"العُرُوقُ" الموصِلةُ إلى "الكبد"، و"العُرُوقُ" الموصِلةُ منها إلى البدن. ¬
فصل: الآلات القابلة للفضلات: المرارة، والطحال، والكلى، والمثانة
فصل وأمَّا الآلات القابلة (¬1) للفضلات: فـ "المَرَارَةُ" تقبل ما لَطُفَ منها (¬2). و"الطِّحَالُ" يقبل كثيفها (¬3). و"الكُلَى" و"المَثَانةُ" تقبلان المتوسِّطَ. و"الكبدُ" موضوعةٌ في الجانب الأيمن، وتأخذ يسيرًا إلى الجانب الأيسر. وهذا لحكمةٍ بديعةٍ؛ وهي أنَّ "القلبَ" إلى الجانب الأيسر أقرب، وهو مَعْدِنُ الحَارِّ الغريزيِّ، فَنُحِّيَتْ (¬4) عنه "الكبدُ" قليلًا، لئلَّا يتأذَّى بحرارتها. وجُعِلَ في أوعية الغذاء قوىً خادمةٌ له؛ فـ "الفَمُ" مع كونه يقطع الغذاء ويطْحَنُه: يُحِيلُهُ ويُغَيِّرُهُ، و"المريءُ" مع كونه مَنْفَذًا إلى "المعدة": يغيِّرُهُ تغييرًا ثانيًا، و"المعدةُ" مع كونها خزانةً حافظةً [ح/ 136] له: تُنْضِجُهُ وتطبخُهُ، فتغيِّرُه تغييرًا ثالثًا، وتَهْضِمُه، وتُبقي منه ما لا يصلح منه، فتخرِجُه، وتدفَعُهُ إلى مَخْرَج الثُّقْلِ، فإنَّ الطعام إذا استقرَّ في "المعدة" اشتَمَلَت عليه (¬5)، وانضمَّتْ غاية الانضمام، ثُمَّ أَنْضَجَتْهُ بحرارتها، ثُمَّ تتولَّاهُ "الكبد" وتشتمل عليه، وتقلِبُهُ دمًا خالصًا، ثُمَّ تَقْسِمُه على جميع ¬
الأعضاء قِسْمَةَ عَدْلٍ لا جَورَ فيها ولا حَيفَ. ولمَّا كانت "المعدةُ" حوضَ البدن الذي تَردُهُ أجزاءُ البدن من كلِّ ناحيةٍ؛ اقتضت الحكمةُ الإلهيَّةُ جَعْلَها مُفَرْطَحَةً (¬1) في وَسْطِهِ. وخالص الغذاء (¬2) يتأدَّى إلى "الكبد" من شُعَبٍ كثيرةٍ، ويجتمع في موضعٍ واحدٍ واسع يُسمَّى: "باب الكبد". وجميع "العُرُوق" التي تتصل بـ"المعدة" و"الأمعاء" و"الطِّحَال" تجتمع وترتقي (¬3) إلى "باب الكبد". وفي "المعدة" قوَّةُ بُخَارٍ (¬4) تَجْذِبُ الموافق، وتَنْفِي (¬5) المخالف المُنَافي الذي عَجزت قُوَّةُ "المعدة" عنه. ثُمَّ إنَّ "الكبد" تصفِّيه وتُنَقِّيه بعد اجتذابه مرةً أخرى، وتنفي عنه غير الموافق. وقد أعدَّ الصانعُ الحكيمُ -سبحانه- لتنقية "الدَّمِ" من "الكبد" ثلاثة خُدَّامٍ فارِهِين (¬6)، قائمين بالمرصاد بلا كَسَلٍ ولا فُتُورٍ، وقد وضعَ كُلَّ واحدٍ منها في المكان الأَلْيَقِ (¬7) به، ونَصَبَهُ نصبةً (¬8) بها يكون أمكن من ¬
أنواع الفضلات الثلاثة، والأعضاء المختصة بها
عمله. ولمَّا استقرَّ الغذاءُ في "المعدة" وطَبَخَتْهُ وأَنْضَجَتْهُ صارت فضلاتُه ثلاثة: 1 - فَضْلَةٌ [ك/ 108] كالدُّرْدِيِّ (¬1) الرَّاسِبِ. 2 - وفَضْلَةٌ كالرَّغْوَةِ والزَّبَدِ الطافي. 3 - وفَضْلَةٌ مائية. فجعل كلَّ خادِمٍ من هذه الخُدَّامِ (¬2) الثلاثةِ على فَضْلَةٍ لا يتعدَّاها إلى الأخرى، ليجذبها من مجرى خادِمِ الفَضْلة الخفيفة الطافية؛ وهي "الصُّفْرَة" و"المَرارةُ". ونَصَبَها الرَّبُّ -تعالى- فوق "الكبد"؛ لأنَّ المُجْتَذَبَ هو الفَضْلة الطافية، ومكانها فوق مكان الدُّرْدِيِّ الرَّاسِب. وخادم الفَضْلة التي هي كالدُّرْدِيِّ الرَّاسِب: "الطِّحَال"، ونَصَبَهُ الخلَّاقُ العليمُ أسفل من "باب الكبد"، حيث كان ما يجتذبه من أسفل. ولم يكن في الجانب الأيمن؛ لأنَّ "المعدة" قد شَغَلَتْ ذلك الجانب، وكان الجانب الأيسر خاليًا فلم تَعْدُه. فإذا نُقِّيَ (¬3) "الدَّمُ" من هاتين الفَضْلتين خَدَمَهُ الخادِمُ الثالث وهو ¬
فصل: ما يفعله القلب في الدم بعد صفائه ونقائه
"الكبد"، وقد بقي أحمر، نَقِيَّ اللَّونِ، مُشْرِقًا نورانيًّا. ويصل إليها من عِرْقٍ عظيمٍ يسمَّى: "الأَجْوَف"، ثُمَّ يُوزَّعُ من هناك على جهتي البدن: العليا، والسُّفْلى؛ في رواضِعَ كثيرة العَدَد، ما بين كبيرٍ، وصغيرٍ، ومتوسِّطٍ، كلها تتصل بالعرق "الأَجْوَف" وتَمْتَارُ (¬1) منه، وما دام "الدَّمُ" في هذا العِرْق ففيه مائيةٌ غير محتاجٍ إليها؛ لأنَّها كانت مَرْكَب الغذاء، فلمَّا أوصلته إلى مستقرِّه [ز/ 130] استغنى عنها، فاحتاج - ولابدَّ - إلى إخراجِها ودفعِها، ولو لم يبادر إلى ذلك أضرَّتْ به، فخلق الله -سبحانه- "الكُلْيَتين" تمتصَّان هذه الفَضْلَة بعُنُقَين طويلين كالأنبوبين، ويفرغانها في "المَثانة" بِعِرْقَين آخَرَين، ووضَعَهما -سبحانه- أسفل من "الكبد" قليلًا، حيث يكون أمكن لتخليص المائية كما تُرَوَّقُ (¬2) العُصَارات. وأمَّا "المَرَارَةُ" فوَضَعَها اللهُ -سبحانه- فوق "الكبد"؛ لأنَّها بمنزلة السِّفِنْجَة أو القُطْنَة التي يُقْطَف (¬3) بها الدُّهْن عن وجه الرُّطُوبات. وأمَّا "الطِّحَال" فوَضَعَها أميل إلى أسفل؛ لأنَّه بمنزلة ما يجتذِبُ الأشياءَ المَصُونةَ إذا رَسَبَت. فصل إذا انْتُقِيَ (¬4) "الدَّمُ" من هذه الفُضُولِ كلِّها، وعَمِلَتْ فيه ¬
فصل: في المعدة أربم قوى، ولها خاصية ليست في سائر الأعضاء
هذه (¬1) الخَدَمُ بِقُوَاها التي أودعها [الله] (¬2) فيها هذا العمل، وأَصْلَحَتْهُ هذا الإصلاح = عَمِلَ مَلِكُ الأعضاء والجوارح -وهو "القلب"- فيه عملًا آخر، فقَصَدَهُ (¬3) بحرارةٍ أخرى هي أقوى من حرارة "الكبد". فصل وجعل -سبحانه- في "المعدة" أربعَ قُوىً: 1 - قوَّةٌ جاذِبةٌ للملائم. 2 - وقوَّةٌ مُنْضِجَةٌ له. 3 - وقوَّةٌ مُمْسِكَةٌ له. 4 - وقوَّةٌ دافِعةٌ للفَضْلة المستغنَى عنها منه. ورئيس هذه القُوى هي: القوَّةُ المُنْضِجَةُ، وسائرها خَدَمٌ لها. وخُصَّت "المعدةُ" عن سائر الأعضاء بأن أُودع فيها قوَّةٌ تحسُّ بالعَوَزِ والنُّقصان، وخاصيَّةُ فَمِها تنبيه (¬4) الحيوان على تناول الغذاء عند الحاجة. وأمَّا سائر الأعضاء فإنَّها [ح/ 137] تتغذَّى بالبَتَات (¬5) باجتذاب ¬
تطويل المسافة بين الفم والمعدة فيها منافع كثيرة
الملائم إليها. ولمَّا احتاجت "المعدة" إلى قوَّةِ حِسٍّ بالعَوَز، ولم يكن ذلك إلا من معدن الحواسِّ -وهو "الدِّماغ"- أتاها "روح العَصَبِ" وهو عظيمٌ، فأنبَتَ أكثَره في فَمِها وما يليه، ومن باقيه مستقيمًا حتَّى بلغ قَعْرها. فإن قيل: فما الحكمة في أنْ باعَدَ -سبحانه- بين "المعدة" وبين "الفم"، وجعل بينهما مجْرَىً طويلًا وهو "المَرِيء"، وهلَّا اتَّصَلَت "المعدة" بـ"الفَمِ"، واستَغْنَت عن "المَرِيء"؟ قيل: هذا من تمام حكمة الخالق، وفيه منافع كثيرة: 1 - منها أن يحصل للغذاء تغيُّرٌ ما في طُول (¬1) المَجْرَى، فَيَلْطُفَ قبل وصوله إليها. 2 - ومنها بُعْدُه عن آلة التنفُّس، لئلَّا تعوقه وتعوق الصوت والكلام. 3 - ومنها أن لا تنقلب "المعدة" إلى خارجٍ عند شدَّةِ الجوع، كما يعْرِض ذلك للحيوان الشَّرِهِ إذا كان قصير العُنُقِ. فإن قيل: فَلِمَ كانت إلى الجانب الأيسر أميل منها إلى الجانب الأيمن؟ قيل: ليتَّسِعَ المكان على "الكبد" ولا ينحصر. فإن قيل: فهلَّا كانت مستقيمةً في وَضْعِها (¬2)، بل مَالَ أسفلُها إلى ¬
مدخل المعدة يسمى: المريء، ومخرجها يسمى: البواب
الجانب الأيمن؟ قيل: ليتَّسِعَ المكان على "الطِّحَال"، حيث كان أخفض موضعًا من "الكبد". فإن قيل: فلِمَ جُعِلَت مستطيلةً مدوَّرَةً، وجُعِلَت ممَّا يلي الصُّلْب مسطَّحةً؟ قيل: لمَّا وضعَها اللهُ -سبحانه- بين "الكبد" و"الطِّحَال" جعلها مستطيلةً، وكانت مستديرةً لِيَتَّسِعَ الموضع (¬1) للطعام وللشراب، وكان أسفلُها أوسعَ من أعلاها لذلك، وجعل لها مدخلًا وهو "المَرِيء"، ومخرجًا يسمَّى: "البوَّاب". وجعل "البوَّاب" أضيق من "المَرِيء"؛ لأنَّ ما تبتلعه يكون أصْلَب وأخْشَن ممَّا تُخْرِجُه، فجعل مَدْخَلَ الداخل أوسع من مَخْرَج الخارج لانطباخه في "المعدة" وَلِيِنه. ولِحِكَمٍ أُخرى: 1 - منها أن لا يَزِلَّ الطعام والشراب [ك/ 109] منه قبل نُضْجِه وانطباخِه (¬2). 2 - ولتقوى "المعدة" على حَبْسِه. 3 - وليخرج أوَّلاً فأوَّلاً، لا دَفْعةً واحدةً. و"المريءُ" يتَّسع بالتدريج حتَّى يبلغ "المعدة"، ولذلك يُظَنُّ أنَّه جزءٌ منها. وأمَّا "البوَّاب" فإنَّ الجزء الضيق منه يتَّصِلُ بأسفلها الذي هو أوسعها، ثُمَّ يتَّسع على التدريج ليسهُلَ (¬3) خروجُ الفَضْلة. ¬
فصل: ما يحيط بالمعدة من الأعضاء
فصل و"الكبد" مُنْطَبِقَةٌ على "المعدة"، مَكْبُوبةٌ (¬1) عليها بزوائدها لِتُسْخِنَها، و"الطِّحَالُ" يُسْخِنُها من الجانب الأيسر، و"الصُّلْبُ" يُسْخِنُها من خَلْف، و"الترائبُ" من قُدَّامِها. و"الترائبُ" مؤلَّفَةٌ من طبقتين رقيقتين، تنطبق إحداهما على الأخرى بشحمٍ كثيرٍ، وهو غِشاءُ "الأمعاء" كلِّها ولباسُها، ثُمَّ غُشِّيَ "البطنُ" كلُّه بغشاءٍ واحدٍ يقي "الأحشاء"، ويمنع من انتفاخ (¬2) "المعدة" و"الأمعاء" بالرِّيَاح، ويربط جملة آلات الغذاء. ولم يُجْعَل في "الكبد" تجويفٌ كتجويفي "القلب"؛ لتحتوي على الدم احتواءً مُمَكَّنًا، وتُحِيلَه إحالةً بليغةً [ز/ 131]. و"للكبد" ثلاثُ شبكاتٍ (¬3) من "العُرُوق": 1 - شبكةٍ بينها وبين "المعدة" و"الأمعاء". 2 - وشبكةٍ في مَفْرَغِها. 3 - وشبكةٍ في مَجْذَبِها. فالشبكة الأُولى تجذب الغذاء وتُحِيلُه بعد الإحالة. وفي الشبكة الثانية يصير "دمًا". وفي الشبكة الثالثة يزداد صفاءً وترويقًا. ¬
وجه الجمع والفرق بين الأنفس الثلاثة، وبيان محلها
و"للكبد" بـ"القلب" و"الدِّمَاغ" اتصالٌ بِشَطَنَةٍ (¬1) من العَصَب خَفِيَّةٍ، كنسيج العنكبوت. ولمَّا كانت النَّفْسُ المُغَذِّيَةُ (¬2) بمنزلة حيوانٍ عافٍ (¬3) وَحْشيٍّ -وكلُّ جسم يموتُ فلابدَّ أن تتصل به هذه النَّفْس وتَغْذُوه-، بخلاف النَّفْس المُفَكِّرة التي مَحَلُّها "الدِّمَاغ"، وبخلاف النَّفْسِ الغَضَبِيَّةِ التي مَحَلُّها "القلب"، فالنَّفْسُ المُفَكِّرةُ تستعين بالنَّفْسِ الغَضَبِيَّةِ على تلك النَّفْس الحَيَوانيةِ العافيةِ (¬4) الوحشيَّةِ = اقتضت حكمةُ الخالِقِ -سبحانه وتعالى- أن وَصَلَ بين مَحَالِّ هذه الأنفس الثلاثة وشُعَبِها؛ ليُذْعِنَ بعضُها لبعض. ولا تُنْكِر تسميةَ هذه القُوى: نُفُوسًا، فليس الشأنُ في التسمية، فأنت تجد فيك نفسًا حيوانيَّةً تطلب الطعام والشراب، ونفسًا مُفَكِّرةً سلطانُها على التصوُّرِ والعلم والشُّعُور، ونفسًا غَضَبِيَّةً [ح/ 138] سلطانُها على الغضب والإرادة، وتَصَرُّفَ (¬5) كلِّ واحدةٍ منها فيما جُعِلَت إليه، ¬
فصل: الحكمة في جعل صفاقات عروق الكبد أرق من صفاقات سائر العروق
وبعضها عَونٌ لبعض. فمَحَلُّ النَّفْس الحيوانيَّة: "الكبد"، ومَحَلُّ النَّفْس المفكِّرة: "الدِّمَاغ"، ومَحَلُّ الغضبيَّة: "القلب". فصل وتأمَّل الحكمةَ في أنْ جُعِلَت صِفَاقَاتُ (¬1) عروق "الكبد" أَرَقَّ من صِفَاقَات سائر عروق البدن، لتَنفُذَ إلى "الكبد"؛ فَيَروُقُ جوهر "الدَّم" بسرعة، وهي مع ذلك غير محتاجةٍ إلى الوقاية؛ لأنَّ "الكبد" تَحُوزُها بلحمها، وإنَّما وُضِعَت مجاري "المِرَّةِ الضَفْراء" بعد "العُرُوق" التي تصعد بالغذاء من "المعدة"، وقبل "العُرُوق" التي تأخذ "الدَّم" منها (¬2)؛ لأنَّ هذا الموضع هو بين موضع كمال الطبخ وبين انتقاله إلى "العِرْق الأَجْوَف"، وحينئذٍ يمكن انفصال "المِرَّةِ" عن"الدَّم". وجُمعت "العُرُوقُ" كلُّها إلى عِرْقٍ واحدٍ "الباب"، ثُمَّ عادت فتقَسَّمَت في مَقْعَر (¬3) "الكبد"، ثُمَّ عادت فجُمِعَت في مَجْذِبِها إلى عِرْقٍ واحدٍ وهو "الأَجْوَف"؛ لتجيد بقسمتها إنْضَاجَ ما تحتوي عليه، ولئلَّا يَنْفُذَ بسرعةٍ، وكذلك كلُّ موضعٍ احتيج فيه إلى طول مُكْثِ المادَّةِ هُيِّءَ (¬4) ¬
الفرق بين العروق الجواذب والعروق الضوارب
بقاؤها فيه بطُولِ مَسْلَكِها، وكثرة تَعَاوِيجه (¬1)، كما فُعِل في مجاري "المَنِيِّ"، وشبكة "الدِّمَاغ". وهذا شأن "العُرُوق الجَوَاذِب". وأمَّا شأنُ "العُرُوق الضَّوَارِب" فبالعكس من ذلك، فإنَّها جُمِعَت في مَقْعَر "الكبد" دون مَجْذِبِها؛ لأنَّه موضع "الدَّم"، وحاجته إلى التغذية بالحرارة ماسَّةٌ. قال "جالينوس": "ولا تُقَسَّم "العُرُوق الضَّوَارب" في مَجْذِبٍ يعلم الخالقُ -سبحانه- أنَّ جَذْبَةَ "الكبد" تتحرَّكُ دائمًا بمجاورة "الحِجَاب" (¬2)، فيقوم لها ذلك مقام حركة "العُرُوق الضَّوَارب". وجُعلت هذه "العُرُوق الضَّوَارب" دِقَاقًا (¬3)؛ لأنَّها إنَّما وُضِعَت لترويح "الكبد" لا لتغذيتها، ولا لإيصال "رُوحٍ" إليها، إذ ليس بـ"الكبد" حاجةٌ إلى قبول "رُوحٍ" حيوانيٍّ كبيرٍ، ولا يحتاج لحمُها [إلَّا] (¬4) إلى غذاءٍ لطيفٍ بخاريٍّ". فصل وأَحْرَزَ الصانعُ -سبحانه- موضعَ "الكبد" ووَضْعَها، بأن رَبَطَها ¬
وضعية "الحجاب" بين الأعضاء
بـ"المعدة" و"الأمعاء" كلِّها بـ"العُرُوق"، وبالغِشَاء الممدود على "البطن" الذي يَشُدُّ جميعها. وَوصَل بها رِبَاطَاتٍ من جميع النواحي، وغشاؤها الرابط لها يتصل بـ"الحِجَاب" برباطٍ قويٍّ. ورباط "الكبد" بـ"الحِجَاب" ثخينٌ (¬1) صُلْبٌ وثيقٌ؛ لأنَّ "الكبد" مُعَلَّقةٌ به، وهو أَصْلَبُ من غشاء "الكبد" لشدَّة الحاجة إلى صلابته؛ لأنَّه يَحْرِزُ "الكبدَ" و"العِرْقَ الأَجْوَفَ" الذي متى نالته آفةٌ مات الحيوان، كما تهلك أغصان الشجرة إذا [ك/ 110] أصاب ساقَها آفةٌ. وجعل أَدَقَّ هذا الرِّبَاط (¬2) من خَلْف؛ لشَدِّهِ بـ"العظام"، وأغلظَهُ من قُدَّام حيث لا "عظام" هناك تقيه. وهذا من شِدَّة "الأَسْر" الذي قال الله -تعالى- فيها: {نَحْنُ خَلَقْنَاهُمْ وَشَدَدْنَا أَسْرَهُمْ} [الإنسان: 28]، أي: شَدَّ أوصالَهم بالرِّبَاطات المُحْكَمة، وجَمَعَ خَلْقَهم بعضه إلى [ز/ 132] بعض. ولمَّا كان "الحِجَابُ" آلةً شريفةً للنَّفَس؛ بُوعِدَ عن العُضْوَين المُجَاوِرَين له -وهما "المعدة" و"الكبد"- بمقدار حاجته، لئلَّا يَزْحَمَاهُ ويَعُوقَاهُ عن فعله، فَبُوعِدَت "المعدةُ" عنه بطُول مجراها. فصل وأمَّا "الطِّحَال"؛ فبعضهم يقول: إنَّه لا نفع فيه، وإنَّما شُغِلَ المكان به لئلَّا يبقى فارغًا، فيميل أَحَدُ شِقَّي البدن بِثِقَل "الكبد"، فجُعِلَ موازنًا "للكبد". ¬
قلت: وهذا غلطٌ من وجه، وصوابٌ من وجه: فأمَّا الصواب؛ فمن الحِكَم العجيبة جَعْلُ "الطِّحَال" في الجانب الأيسر على موازنة "الكبد"؛ لئلَّا يميل الشِّقُّ الأيمن بها. ولا يمكن أن تقوم "المعدةُ" بموازنة "الكبد"؛ لأنَّها (¬1) -دائمًا- تمتلئ (¬2) وتخلو، فتارةً تكون أخفَّ من "الكبد"، وتارةً أرجحَ منها، فيصير البدنُ مترجِّحًا، أو يميل إلى شِقِّ "الكبد" وقتًا، وإلى شِقِّ "المعدة" وقتًا آخر. فجعل الخالق -سبحانه-[ح/ 139] "الطِّحَال" يوازن "الكبد"، وجعل "المعدة" بينهما في الوَسْط؛ لئلَّا يَبِلَّ (¬3) جانبٌ ويَشِفَّ (¬4) آخر عند امتلائها وخُلُوِّها، فلما جُعِلَت وَسْطًا لم يختلف وضْعُ البدن باختلافها. وأمَّا الغلط؛ فهو قوله: "إنَّه (¬5) لا منفعة فيه، وإنَّما يشغل المكان لئلَّا يبقى فارغًا"؛ فإنَّه لو لم يعلم فيه منفعة لم يكن له أن ينفيها، فإنَّ عدم العلم بالمنفعة لا يكون علمًا بِعَدَمِها، كيف ولا شيء في البدن خالٍ عن المنفعة أَلْبَتَّة؟ ¬
منافع الطحال
وفي "الطِّحَال" من المنافع: أنَّه يجذب الفَضْلَةَ الغليظةَ العَكَرِيّةَ (¬1) السوداءَ من "الكبد" -نوعًا من جنس "العُرُوق" كالعنق (¬2) له-، فإذا حُصِّلَتْ تلك الفَضْلَة عنده أَنْضَجَها وأَحَالَها. وهو يُنْضِجُ غليظَ "الدَّم" وعَكِرَهُ، كما يُنْضِجُ "القُولُون" (¬3) غليظَ الغذاء ويابِسَهُ. ويستعمل في فعله "العُرُوق الضَّوَارب" الكثيرة الكبيرة المبثوثة فيه كلِّه، فما نضج واستحال إلى طبيعته صار غذاءً له، وما لم يمكن أن ينقلب إلى "الدَّم" الموافق له قَذَفَهُ إلى "المعدة" بِعُنُقٍ آخر من جنس "العُرُوق". وإنَّما أمكنه جَذْبُ الفَضْل الأسود بقوَّة لحمه؛ لأنَّه رِخْوٌ مُتَحَلْحِلٌ نحيفٌ كالإسفَنْج. وإنَّما اتصلت به "العُرُوق الضَّوَارب" الكثيرة ليستعين بها على (¬4) إنضاج الفُضُول السُّود، وليبقى لحمه خفيفًا مُتَحَلْحِلًا؛ لأنَّ دم "الشرايين" رقيقٌ لطيفٌ، قريبٌ [من] (¬5) طبيعة البخار. فما اغتذى به كان نحيفًا كـ"الرِّئة"، ولكنَّ "الرِّئة" تتغذَّى بما صَفَا ورَقَّ وأَشْرَقَ، وكان أحمر ¬
ما يتغذى عليه الطحال والكبد والرئة
ناريًّا. ولذلك كانت "الرِّئة" أخفَّ وزنًا منه، وأَسْخَفَ (¬1) جِرْمًا، ومُمَالةً (¬2) إلى البياض. وأمَّا "الطِّحَال" فتتغذَّى بما لَطُف [و] (¬3) صفَا من الخِلْط الأسود، وانْطَبَخَ في (¬4) "الشرايين"، فيستريح منه البدن، ويغتذي به "الطِّحَال". فـ"الطِّحَال" يغتذي بغذاءٍ ألطف من غذاء "الكبد"؛ لأنَّه يرشح إليه من "الشرايين" التي صِفَاقَاتها ثَخِينَةٌ جدًّا. ولأجل سواد تلك الفَضْلَة وكونها عَكِرَة في الأصل، لم يكن لون "الطِّحَال" أحمر ولا مُشْرِقًا. وأمَّا "الكبد" فتغتذي بدمٍ غليظٍ فاضلٍ، يرشح إليها من "العُرُوق" غير الضَّوَارب، فلجودة غذائها كان لونها أحمر، ولِغِلَظِه كانت كثيفة. فـ"الكبد" تتغذَّى بدمٍ أحمر غليظٍ، و"الطِّحَال" بدمٍ أسود لطيفٍ، و"الرِّئة" بدمٍ صافٍ مشرِقٍ، في غاية النُّضْجِ، قريبٍ من طبيعة "الرُّوح". فجوهر كلِّ عضوٍ على ما هو عليه صُيِّرَ غذاؤه ملائمًا له، فالغَاذِي شبيهٌ بالمغتذي في طبعه وفعله. وهذا كما أنَّه حكمة الله -سبحانه- في خلقه فيه جَرَت حكمته في شرعه وأمره، حيث حرَّمَ الأغذية الخبيثة على عباده؛ لأنَّهم إذا اغتذوا ¬
الحكمة من تحريم الأغذية الخبيثة على المكلفين
بها صارت جزءًا منهم، فصارت أجزاؤهم مشابهة لأغذيتهم، إذ الغاذي شبيهٌ بالمغتذي، بل يستحيل إلى جوهره. ولهذا كان نوعُ الإنسان أعدلَ أنواع الحيوان مزاجًا، لاعتدال غذائه. وكان الاغتذاء بالدَّم ولحوم السِّبَاع يُورِث المغتذي بها قوَّةً شيطانيَّةً سَبُعِيَّةً عادِيَةً على النَّاس. فمن محاسن الشريعة تحريم هذه الأغذية وأشباهها، إلا إذا عارضها مصلحةٌ أرجح منها، كحال [ز/ 133] الضرورة. ولهذا أكلت النَّصارى لحوم الخنازير، فأورثها نوعًا من الغِلْظَة والقَسْوة، وكذلك من أكل لحوم السِّبَاع [ك/ 111] والكلاب صار فيهم قوَّة (¬1) منها. ولمَّا كانت القوَّةُ الشيطانيَّة السَّبُعيَّةُ (¬2) ثابتةً لازمةً لذوات الأنياب من السِّبَاع حرَّمَها الشارع (¬3). ولمَّا كانت القوَّةُ الشيطانيَّةُ عارضةً في الإبل أمر بكسرها بالوضوء لمن أكل منها (¬4). ¬
ولمَّا كانت الطبيعة الحِمَاريَّةُ لازمةً للحِمَار حرَّمَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - لحوم الحُمُر الأهليَّة (¬1). ولمَّا كان "الدَّمُ" مَرْكَبَ الشيطان ومَجْرَاهُ حرَّمَهُ الله -تعالى- تحريمًا لازمًا. فمن تأمَّلَ حكمة الله -سبحانه- في خلقه وأمره، وطابق بين هذا وهذا = فَتَحَا له بابًا عظيمًا من معرفة الرَّبِّ -سبحانه- وأسمائه وصفاته. وهذا هو الذي حَرَّكَنا لبَسْط النَّفَس في هذا المقام الذي لا [ح/ 140] يكاد أنْ يُرَى فيه إلا أحد طريقين: طريقةِ طبيبٍ مُعْرِضٍ عن الوحي، مقلِّد "لبُقْرَاط" وطائفته (¬2)، قد اغْبَرَّت (¬3) واعْوَرَّت (¬4) وعَمِيَت [و] (¬5). . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
عَمِشَت (¬1) عينُهُ عن الرُّسُل وما جاءوا به، وهو ممَّن قال الله -تعالى- فيه: {فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} [غافر: 83]. وطريقةِ مَنْ يجحد ذلك كلَّه، ويكذِّب قائله، ويظنُّ منافاته للشريعة، فيجحد حكمة الله -تعالى- في خلقه، وإبداعه في صُنْعه؛ جهلاً منه. وكلا الطريقين مذمومٌ، وسالكه من الوصول إلى الغاية محرومٌ. فلا نكذِّب بشرع الله، ولا نجحد حكمة الله. وأكثرُ ما أفسد النَّاسَ أنَّهم لم يَرَوا إلا طبائعيًّا زنديقًا مُنْحَلًّا عن الشرائع، أو مُتَسَنِّنًا (¬2) قادحًا فيما جرت به حكمة الله -تعالى- ومشيئته في خلقه، منكرًا للقُوى، والطبائع، والأسباب، والحِكَم، والتعليل. فإذا أراد الأوَّلُ أن يدخل في الإسلام جَبَذَهُ (¬3) إلى زندقته (¬4) جهلُ هؤلاء، ومكابرتهم للمعقول والحِسِّ. وإذا أراد الثاني (¬5) أن يدخل في معرفة الحِكَم والغايات، وما أودع ¬
اللهُ في مخلوقاته من المنافع والحِكَم والقوى والأسباب؛ جَبَذَهُ إلى جهله (¬1) زندقةُ هؤلاء وكفرهم، وإعراضُهم عمَّا جاءت به الرُّسُل، وفَرَحُهم (¬2) بما عندهم من العلم، فيختارُ دينَهُ على عقله، ويختارُ ذلك عقلَه وما استقر عنده -ممَّا لا يكابر فيه حِسُّهُ ولا عقلُه- على الدِّين (¬3). وهذا قد بُلي به أكثر (¬4) الخَلْق، فما قَرَّرهُ أئمَّةُ (¬5) الأطبَّاء والطبائعيين أحد أنواع أدلَّة التوحيد، والمَعَاد، وصفات الخالق، وما أخبرت به الرُّسُل (¬6)، بل هو من أظهر أدلَّته، فلا يزداد الباطن فيه إلا إيمانًا. وما أخبرت به الرُّسُل لا يناقض ما جرت به عادة الله -تعالى- وحكمته (¬7) في خلقه: من نَصْب الأسباب، وترتيب مسبَّباتها عليها بعلمه ¬
فصل: القلب بمنزلة التنور للأعضاء
وحكمته (¬1). فمصدر خَلْقِهِ (¬2) وأمرِهِ علْمُهُ -تعالى- وحكمتُه. وأدلَّةُ (¬3) الرَّبِّ -تعالى- وآياتُه لا تتعارض ولا تتناقض، ولا يُبطل بعضها بعضًا. والله أعلم. فصل و"الكبد" و"الطِّحَال" متقابلان، و"المعدة" بينهما، و"العُرُوق الضَّوَارب" تتصل بها (¬4) "المعدة". و"القلب" بمنزلة التَّنُّور، أو بمنزلة أَتُون الحَمَّام يُسَخِّن ماءَهُ، وله إلى كلِّ بيتٍ مَنْفَذٌ ينفذ فيه وَهَجُ النَّار إليه. وكذلك الحارُّ الغريزيُّ الذي منبعه من "القلب" ينفذ في مسالك ومنافذ إلى جميع الأعضاء فيسخِّنُها (¬5). فصل وجُعلت الأعضاء مسلكًا مؤدِّيًا، و"المعدة" هي الآلة لهضم (¬6) الغذاء واستمرائه، و"الأمعاء" تؤدِّي ذلك إلى "الكبد". ولمَّا كانت "الأمعاء" آلة الأداء والاتصال كَثُرت لفائفها وطولها، وكانت "العُرُوق" التي تأتيها من "الكبد" لا تحصى كثرةً، لينفذ فيها ¬
الفرق بين العروق الضاربة والعروق غير الضاربة بالنسبة للغذاء
الغذاء أوَّلًا فأوَّلًا، وتستقضيه يسيرًا يسيرًا. فلولا تطويل لفائف "الأمعاء" لكان الغذاءُ يخرج قبل أخذ خاصيَّته، وكانت تعرض لهم شهوةُ الأكل دائمًا، وكان الإنسان يعدم التفرغ لمصالحه وسائر أعماله، وكان -دائمًا- مُكِبًّا على الغذاء. ولهذا صار الحيوان الذي ليس (¬1) لأمعائه استدارات بل له مِعىً واحدٌ مستقيمٌ مكبًّا على الغذاء (¬2)، عديم الصبر عنه [ز/ 134] كالمسكِر (¬3). وأمَّا ما لأمعائه استدارات فإنَّه إذا فَاتَهُ الغذاءُ أو بعضُه في الاستدارة الأُولَى صادفه في الثانية، فإن فاته في الثانية صادفه في الثالثة، والرابعة والخامسة كذلك، فيمكن صبره عن الغذاء؛ حكمةٌ بالغةٌ. وتنفذ إلى "الأمعاء" شُعَبٌ (¬4) من "العُرُوق الضاربة"، تأخذ من الغذاء جزءًا يسيرًا لطيفًا. وأمَّا "العُرُوق غير الضاربة" -هي مجاري الغذاء بالحقيقة- فأخذت أكثره. وأمَّا "العُرُوق الضاربة" فجُعِلت مسلكًا للأرواح المنبعثة من "القلب"، فاستغْنَت بقليل الغذاء، وجعل "للقلب" وَصْلَةٌ بـ"الأمعاء" ليُسَخِّنَها أوَّلاً، ويَمُدَّها بقوَّة الحياة (¬5) بإذن خالقه، ثُمَّ يأخذ منها الجزء الملائم من الغذاء المستغني عن فعل "الكبد"؛ للطافة جوهره، فإنَّ هذا ¬
الحكمة في إحاطة الأمعاء بطبقتين
الجزء لو حصل في "الكبد" لم يُؤْمَن احتراقُهُ (¬1) وفساده، فلا ينتفع به "القلب" [ح/ 141]، ثُمَّ يأخذ [ك/ 112] منها عند شدَّة الحاجة وصدق المجاعة، فيتعجَّل ذلك من أدنى المواضع. وكذلك يُشَاهد من أكل مِن مَسْغَبةٍ شديدةٍ يحسُّ بزيادةٍ ونماءٍ في كلِّ أعضائه، حتَّى ما يمرُّ الطعامُ بـ"المعدة" إلا وقد أخذت الأعضاءُ حاجتها منه (¬2) قبل استقراره فيها؛ فسبحان مَنْ أتقنَ ما صَنَع. ولمَّا كانت "المعدةُ" آلةَ هَضْم الغذاء، و"الأمعاءُ" آلةَ دفعه: جُعل "للأمعاء" طبقتان (¬3)، ليقوَى دفعُها بهما جميعًا، وليكون ذلك حرزًا لها وحفظًا. وكذلك مَنْ تعرض له قُرْحَةٌ في "الأمعاء" بانجرادٍ (¬4) في أحد الصِّفَاقَين يبقى الآخر سليمًا. وجعلت "الأمعاء" الغِلاَظُ لقذف الثُّفْلِ، والدِّقَاقُ لتأدية الغذاء. والسبب في أن صار (¬5) الإنسان لا يحتاج إلى تناول الغذاء دائمًا: كثرة لفائف أمعائه. والسبب المانع من قذف الفُضُول دائمًا: سَعَة "الأمعاء" الغِلاَظ التي تقوم له مقام وعاءٍ آخر، شبيهٍ بـ"المعدة" في السَّعَة، كما أنَّ "المثانة" وعاءٌ للبول كذلك. ¬
فصل: فيه اختصار لما مضى ولم شتاته بإيضاح وإيجاز
فصل ونحن نذكر فصلاً مختصرًا في هذا الباب، نجمع لك شتاته بإيضاحٍ وإيجازٍ -إن شاء الله تعالى، وبه الحَولُ والقوَّة-؛ فنقول: "المريء" موضوعٌ خلف "الحُلْقُوم" ممَّا يلي فَقَار "الظَّهْر"، وينتهي في ذهابه إلى "الحِجَاب"، وهو مشدودٌ برباطاتٍ. فإذا بَعُدَ "الحِجَاب" مال إلى الجانب الأيسر واتَّسَعَ، وذلك المُتَّسِعُ هو "المعدة"، وأسفلها يعود مائلاً إلى اليمين. و"المعدة" مُفَرْطَحَةٌ، وفَمُها هو المُسْتَدِق منها، ويسمُّونه: "الفؤاد"، وهذا من غلطهم -إلَّا أن يكون ذلك اصطلاحًا خاصًّا منهم- فإنَّ "الفؤاد" عند أهل اللغة هو: "القلب". قال الجوهري: "الفؤادُ: القلبُ" (¬1). وقال الأصمعي: "وفي الجَوْف الفؤاد، وهو القلب" (¬2). وقد فرَّق بعض أهل اللغة بين "القلب" و"الفؤاد"، فقال الليث: "القلب: مُضْغَةٌ من الفؤاد، معلَّقةٌ بالنِّيَاط" (¬3). وقالت طائفةٌ: " [الفؤاد:] (¬4) مُسْتَدِق (¬5) القلب". ¬
وقد قال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "جاءكم أهل اليمن؛ [هم] أَرَقُّ قلوبًا، وأَلْيَنُ أفئدَةً" (¬1)؛ ففرَّق بينهما؛ ووصف "القلب" بالرقَّة، و"الأفئدة" باللِّين. وأمَّا كون فَمِ "المعدة" هو"الفؤاد" فهذا لا نعلم أحدًا من أهل اللغة قاله. وتأمَّلْ وصْفَ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - "القلب" بالرقَّة التي هي ضدُّ القَسَاوَة والغلظة، و"الفؤاد" باللِّين الذي هو ضدُّ اليُبْس والقسوة. فإذا اجتمع لِينُ "الفؤاد" إلى رِقَّة "القلب" حصل من ذلك الرحمة، والشفقة، والإحسان، ومعرفة الحقِّ وقبوله. فإنَّ اللِّينَ موجِبٌ (¬2) للقبول والفهم، والرقَّةَ تقتضي الرحمة (¬3) والشفقة. وهذا هو العلم والرحمة، وبهما كمال الإنسان، وربُّنا وَسِعَ كلَّ شيءٍ رحمةً وعلمًا. فلنرجع إلى ما نحن بصدده فنقول: "المعدة" مع "المريء" ذات طبقتين لطيفتين. واللَّحْم في الطبقة الداخلة أقلُّ، ولهذا يغلب عليها البياض، وهي عصبيَّةٌ حسَّاسَةٌ. وهو في الطبقة الخارجة أكثر، ولهذا تغلب عليها الحُمْرة، وهي مربوطةٌ مع (¬4) ¬
الفَقَار [ز/135] برباطاتٍ وثيقةٍ، وتنتهي من جهة قَعْرِها إلى منفذٍ هو: "باب المعدة"، وبابُها يغلق عند اشتماله على الغذاء مدَّة هضمه. ويقال لباطن جِرْم (¬1) "المعدة": "خَمْل المعدة". "والأمعاء": المَصَارِين، وهو جمع: مُصْرَان -بضمِّ الميم-، وهو جمع: مَصِير. وسُمِّي "مصيرًا" لمصير الغذاء إليه، والسُّفْلى يقال لها: "الأقْتَاب"، ومنه قوله - صلى الله عليه وسلم -: "فتندَلِقُ أقتاب بطنه" (¬2). والعليا أدق من السُّفْلى، لما تقدَّم من الحكمة. فأعلى الدِّقَاق يسمَّى: "الاثني عشر"؛ لأنَّ مساحته اثنا عشر إصْبَعًا. ويليه: المسمَّى بـ"الصائم"؛ لقلَّة لُبْث الغذاء فيه، لا لأنَّه (¬3) يوجد أبدًا خاليًا كما ظنَّه بعضُهم، فإنَّ هذا باطلٌ حسًّا وشرعًا كما سنذكره. والثالث: المسمَّى بـ"الدقيق" و"اللفائف"، وهو أطولُ " الأمعاءِ" وأكثرُها تلافيف، ولُبْث الغذاء فيه أطول، و"العُرُوق" التي تأتيه من "الكبد" أقلُّ. وأمَّا اللذان قبله فمنتصبان في طول البدن، قصيران (¬4)، ويقلُّ لُبْث الغذاء فيهما، وهو في "الصائم" أقلُّ لبثاً. ¬
وهذه [ح/ 142] الثلاثة تسمَّى: "الأمعاء العليا" و"الأمعاء الدِّقَاق"، وهي كلُّها في سعة "البوَّاب". وأمَّا الرابع (¬1) -وهو الأوَّل من الثلاثة السُّفْلَى الغِلاَظ- فيسمَّى: "الأعور"؛ لأنَّه لا منفذ له، بل هو كالكيس يخرج منه ما دخل من حيث دخل. وحكمته أنَّه يَتِمُّ فيه ما يَعْسُر هَضْمُه من الأشياء الصُّلْبة، كما يتمُّ ذلك في قَوَانِص الطيور. ووضعه في الجانب الأيمن. والخامس: المسمَّى: بـ"قُولُون"، يبتدئ من الجانب الأيمن، ويأخذ عرضًا إلى الأيسر، ويُحْتبَسُ فيه الثُّفْلُ ريثما يستقصي ما فيه [ك/113]. والسادس: هو الآخِر، وهو: "المِعَى المستقيم"؟؛ لأنُّه مستقيم (¬2) الوضع في طول البدن، وهو واسعٌ جدًّا، يجتمع فيه الثُّفْل كما يجتمع البول في "المثانة"، وعليه الفَضْلة المانعة لخروج الثُّفْل بدون الإرادة. وقد صحَّ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم- أنَّه قال: "المؤمن يأكل في مِعَىً واحدٍ، والكافر يأكل في سبعة أمعاء" (¬3)، فأطلق على "المعدة" اسم "المِعَى" تغليبًا، ولمشابهتها بـ "الأمعاء"؛ لكون كل واحدٍ من "الأمعاء" و"المعدة" ¬
مَحَلًّا للغذاء -وهذا لغة العرب، كما يقولون: القَمَران، والعُمَران، والرُّكْنَان اليمانيَّان، والشامِيَّان، والعراقِيَّان (¬1)، ونظائر ذلك-، ولا سيَّما فإنَّ تركيب "الأمعاء" كتركيب "المعدة"، إذ هي مركَبةٌ من طبقتين: لَحْميَّةٍ خارجةٍ (¬2)، وعصبيةٍ داخلةٍ. والطبقة الدَّاخلة فيها (¬3) لزوجَاتٌ متصلةٌ بها؛ لتقيها من تراكم (¬4) البَرَاز، ورداءة كثيفهِ ولَفيفِه (¬5)، فلا تمسكه ولا يتعلَّق بها شيءٌ منه. ولمَّا كان الكافر ليس في قلبه شيءٌ من الإيمان والخير يغتذي به؛ ¬
انصرفت قُواه ونَهْمَتُه كلُّها إلى الغذاء الحيوانيِّ البهيمي، لمَّا فَقَدَ الغذاءَ الروحى القلبيَّ، فتوفرت أمعاؤه وقُواه على هذا الغذاء، واستفْرَغَتْ أمعاؤه هذا (¬1) الغذاء وامتلأت به بحسب استعدادها وقبولها، كما امتلأت به " العُرُوق" و"المعدة". وأمَّا المؤمن فإنَّه إنَّما يأكل العُلْقَة (¬2) ليتقوَّى بها على ما أُمِرَ به، فهِمَّتُه وقُوَاه مصروفةٌ إلى أُمورٍ (¬3) وراء الأكل. فإذا أخَذَ ما يُغَذيه ويقيمُ صُلْبَه استغنى قلبُه ونفسُه وروحُه بالغذاء الإيماني عن الاستكثار من الغذاء الحيوانيِّ، فاشتغل مِعَاهُ الواحد -وهو "قُولُون"- بالغذاء، فأمسكه حتَّى أخذت منه الأعضاءُ والقُوى مقدارَ الحاجة، فلم يحتج إلى امْتِلاَءِ (¬4) أمعائه كلِّها من الطعام، وهذا أمرٌ معلومٌ بالتجربة. وإذا قويت موادُّ الإيمان، ومعرفةِ الله وأسمائه وصفاته، ومحبتِه، ورجائه، والشوقِ إلى لقائه في "القلب" = استغنى بها العبدُ عن كثيرٍ من الغذاء، ووجد لها قوَّة تزيد على قوَّة الغذاء الحيوانيِّ. فإن كَثُفت طِبَاعُك عن هذا، وكنتَ عنه بمعزلٍ؛ لاشتغالك بالغذاء الحيوانيِّ وامتلائك به (¬5)، فتأمَّلْ حال الفَرِح المسرور بتجدُّدِ نعمةٍ عظيمةٍ، واستغنائه مدَّة عن الطعام والشراب مع وفور قوَّته، وظهور ¬
الدَّمَوِيَّة (¬1) على بَشَرَته، وتَغَذِّيه بالسرور والفرح. ولا نسبة لذلك إلى فرح "القلب" ونعيمه، وابتهاج " الرُّوح " بقُرْب الرَّبِّ -تعالى- ومحبته ومعرفته، كما قيل (¬2): لها أحادِيثُ من ذِكْرَاكَ تَشْغَلُها ... عن الشَرَابِ، وتُلْهِيها عن الزَّادِ [ز/136] وقد قال - صلى الله عليه وسلم - في الحديث المتفق على صحته: "إنِّي أظَلُّ عند رَبِّي يُطْعِمُني ويَسْقِيني" (¬3). وصدق الصادق المصدوق صلوات الله وسلامه عليه؛ فإن المقصودَ من الطعام والشراب التغذيةُ المُمْسِكَةُ، فإذا حصل له أعلى الغذاءين وأشرفُهما وأنفعُهما فكيف لا يُغْنيه ذلك عن الغذاء المشْتَرَك. وإذا كنَّا نشاهد أنَّ الغذاء الحيوانيَّ يَغْلِب على الغذاء القلبيِّ الروحي حتَّى يصير الحكم له، ويَضْمَحِل غذاء "القلب" و"الرُّوح" (¬4) بالكُليَّة، فكيف لا يضمحِلُّ غذاء البدن عن استيلاء غذاء "القلب" و"الرُّوح" ويصير الحكم له؟ ¬
وقد كان النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يمكث الأيامَ لا يَطْعَمُ شيئًا (¬1)، وله قوَّة ثلاثين رجلاً، ويطوف -مع ذلك- على نسائه [ح/143] كلِّهنَّ في ليلةٍ واحدةِ، وهُنَّ تسع نسوة (¬2). وهذا المسيح ابن مريم - صلى الله عليه وسلم - لمخيم حئ لم يَمُتْ، وغذاؤه من جنس غذاء الملائكة (¬3). ¬
فصل: الكلام عن الكبد؟ مادته ووظائفه
وأنت تشاهد المريضَ يمكث الأيام العديدة لا يأكل ولا يشرب، لاشتغال نفسه بمجاذَبَةِ المرض ومدافعته، واكتفاء الطبيعة ببقية الغذاء الذي في "الأمعاء" و"المعدة" مع شِدَّة (¬1) الحرب، فإذا وضعت الحرب أوزارها رأيتَ شدَّةَ طلبه للغذاء. فالخائفُ، والمحبُّ، والفَرِحُ، والحزينُ، والمستولي عليه الفِكْرُ لا تطالبه نفسه من الغذاء بما تُطالب (¬2) به الخالي من ذلك. فصل و"الكبد" عضوٌ لحمِيٌّ تتخلَّهُ عروقٌ دِقاقٌ وغِلاَظٌ، وعلى "الكبد" غشاءٌ عصبي حسَّاسٌ يحيط بها، وينتهي إلى عِلاَقة. و"الكبد" هي الأصل في الغذاء، وآلاتُ الغذاء خَدَمٌ لها ومُعِيناتٌ. فإنَّ الإنسان لمَّا كان كالشجرة المنتقِلَةِ جُعِلَ له ما يقوم مقام النهر الجاري في أصول الشجر يسقيها وهو "الأمعاء"، و"المعدة" بمنزلة العين، وتجري منها [العروق مجرى] (¬3) السَّوَاقي. وعروق "الكبد" المتصلة بـ "الأمعاء". بمنزلة عروق الشجرة ¬
المتصلة بأرض السَّاقية، تمتصُّ الماءَ منها وتؤدَّيه إلى الشجرةِ، وأغصانِها، وورقِها، وثمارِها. [ك/ 114] وهذه العروق تمصُّ الماءَ من الطِّين والثَّرَى. وكذلك عروق "الكبد" تمتصُّ صَفْوَ الماءِ وخالصَه من كَيْلُوسِهِ (¬1)، وتحيله إلى طبيعة الأعضاء، كما تفعل عروق الشجرة، وشكل "الكبد" شَكْلٌ (¬2) هلاليٌّ، مُحَدَّبٌ من ظاهره، مُقَعَّرٌ من باطنه، وهي تحت "الأضلاع" الخمس، ولها خمس شُعَب يقال لها: "الزوائد"، تحتوي على "المعدة" كما تحتوي "الكَفُّ" بأصابعها على الشيء المقبوض. ويقال للشُّعْبة الصغيرة منها خاصة (¬3): "زائدة الكبد"، وفي "الصحيح" عن النبى - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّ سبعين ألفًا من أهل الجنَّة يأكلون من زيادة كبد الحوت، الذي هو أوَّلُ طعامهم" (¬4)، وهذا يدلُّ على عِظَمِ قَدْرِ هذه الزيادة، فما الظَّنُ بـ"الكبد" التي هي زيادته؟ فكيف بالحُوت الذي حواها؟ ¬
فصل: العرق الخارج من الكبد يسمى: "الأجوف"؛ وينقسم إلى قسمين
[و] (¬1) مقْعَرُها يسمَّى: " المُورِد"؛ لأنَّه (¬2) يُورِد الغذاء من "المعدة" و"الأمعاء"، ويسمَّى: "باب الكبد". ثُمَّ تتشعَّبُ هذه "العُرُوق" من جانبيه بشُعَب (¬3) تتَّصِلُ بـ "الأمعاء"، وتسمَّى: "الجداول"؛ لشَبَهها بالسَّوَاقيَ الصِّغَار، تؤدِّي إلى مَقَرَّةٍ عظيمةٍ. ولهذه "الجداول" أَغشيةٌ من فوقها ومن تحتها، فتستدير مع "الأمعاء" ومع "العُرُوق" المتصلة بها، وتسمَّى هذه الأغشية وما تحويه: "المَرَابِط". فصل والعرق الثاني ينقسم في مجاذبها إلى عُرُوقِ صِغَارِ، وأصغر منها، حتَّى تبلغ غاية الدِّقَّة، ثُمَّ تعود تجتمع أوَّلاً فأوَّلاً على قياس ما تفرَّقت، فتأخذ من كثرةٍ إلى وَحْدَةٍ، ومن دِقَّةٍ إلى غِلَظٍ، حتَّى يجتمع منها العرق الخارج من "الكبد" المسمَّى بـ "الأجوف"، ومنه يتأدَّى "الدَّم " إلى البدن كلِّه. وحين يخرج ينقسم قسمين: فياخذ أحدهما نافذًا في "الحِجَاب" نحو "القلب"، ويسمَّى: "الوتين". قال أهل اللغة: "الوتين" (¬4) عرقٌ يسقي "القلب". قال في ¬
الفرق بينه وبين "الأبهر"
"الصِّحَاح" (¬1): ""الوتين": عرقٌ في "القلب"، إذا انقطع [ز/ 137] مات صاحبه، ووتنتُه: أَصَبْتُ وَتينَهُ"، فهو موتون. وقال الواحديُّ (¬2): ""الوتين": نياط "القلب"، وهو عِرْقٌ يجري في "الظَّهْر" حتَى يتصل بـ "القلب"، إذا انقطع بَطَلَت القُوى، ومات صاحبه ". وهذا قول جميع أهل اللغة، وأنشدوا للشمَّاخ (¬3): إذا بَلَّغْتِني وحَمَلْتِ رَحْلِي ... عَرَابَةَ فَاشْرَقي بِدَمِ الوتينِ وقال ابن عباس وجمهور المفسِّرين: هو حَبْلُ "القلب" ونيَاطُه. وأمَّا "الأَبْهَر"- الذي قال فيه النبي - صلى الله عليه وسلم -: "هذا أوَانُ انقطَاع أبْهَرِي" (¬4) - فقال الجوهري: ""الأبْهَر": عِرْقٌ إذا انقطع مات صاحبه، وهما "أبْهَرَان" يخرجان من "القلب"، ثُمَّ يتشعَّبُ منهما سائر "الشرايين". وأنشد الأصمعي (¬5): وللفُؤَادِ وَجِيبٌ تحتَ أَبْهَرِهِ ... لَدْمَ الغُلاَمِ ورَاءَ الغَيبِ بالحَجَرِ" (¬6). ¬
فصل: الكلام عن المرارة وموضعها
فصل و"المَرَارَةُ " موضوعةٌ على "الكبد"، ولها مجريان: أحدهما: متصِلٌ بتقعير "الكبد"، [ح/ 144] يجتذب "المِرَّةَ الصفراءَ". والآخر: متصِلٌ بـ "الأمعاء العليا"، يَصُبُّ "المِرَّةَ"؛ ليغسلها ويَجْلُوها، ويتصل منه السَّيْر (¬1) بأسفل "المعدة" لتمتزِجَ بالغذاء، فيكون فيه معونةٌ على هضمه. فصل والقوَّةُ التي وكَّلَها اللهُ -سبحانه وتعالى- بتدبير البدن من أعظم آياته الدَّالَّةِ عليه، فإنَّها تفعل في الطعام والشراب الوارِدَينِ عليه أفعالاً متنوِّعةً من تقطيعٍ، وتفصيلٍ، وتَمْزِيجٍ، وتحليلٍ، وتركيبٍ. فمبدأ ذلك في "الفَم"، وهو تقطيعُه بـ "الأسنان"، ومَضْغُه، واختلاطُه بالرُّطُوبات التي فيه، وانهضَامُه فيه انهضامًا تامًّا. ثُمَّ بعد ذلك عند وروده إلى "المعدة"، فإنَّ "المعدة" (¬2) تهضِمُهُ هَضْمًا آخر، ويسمَّى: "الهَضْم الأوَّل". ويعينها على هضمه ما يُجَاوِرُها من الأعضاء؛ فـ "الكبد" عن يمينها، و"الطِّحَال" عن يسارها، و"القلب" من فوقها، و"الثَّرْبُ" (¬3) ¬
كيف تتكون الصفراء والسوداء والبلغم؟
أمامها، و"الأمعاء": الشُبُل الموصِلَةُ إليها، و"العُرُوق": الطرق المؤدِّيةُ منها، والحرارةُ: النَّارُ الطابخة للطعام فيها، والقُوَى الهاضِمةُ والجاذبةُ والغاذِيةُ والدافِعةُ خَدَمٌ لها. فإذا انْهَضَمَ الطعامُ فيها صار كَيْلُوسًا (¬1)، شبيهًا بماء الكَشْكِ (¬2) الثَّخِين، ثُمَّ تنهَزُ صَفْوَهُ ولَطِيفَهُ، فتقذفه (¬3) في "العُرُوق" الدِّقَاق الشَّعْرِيَّةِ التي هي بدِقَّة "الشَّعْر"، ويَنْجَذِبُ إلى "الكبد"، فإذا ورد هذا اللَّطِيفُ إلى "الكبد" اشتملت عليه بجملته؛ فطَبَخَتْهُ، وهضَمَتْهُ، وأحَالَتْهُ إلى جوهرها، وصَيَّرَتْهُ دَمًا، ويسمَّى هذا: "الهضم الثاني". ولمَّا كان هذا الإنْضَاجُ والطبخُ يشبه طبخ القِدْرِ؛ عَلاَهُ شيءٌ كالرَّغْوَة والزَّبَد، وهو: "الصَّفْرَاء". ورَسَب منه شيءٌ مثل العَكَر، وهو: "السوداء". وتَخَلَّفَ عن (¬4) تمام النُّضْج شيءٌ بَقِيَ على فُجُوجَتِهِ (¬5) وهو: "البلْغَم". والشيء الذي يُصَفَّى ويبقى من ذلك كلِّه هو: "الدَّم". فاندفع من ¬
فصل: الكلام عن الدم، وهو نوعان: لطيف وغليظ
"الكبد" في العرق الأعظم المعروف (¬1) بـ "الأجوف"، بعد أن تَصَفَّت (¬2) عنه المائية إلى آلة البَول، فيسلك هذا "الدَّم" في "الأوْرِدَةِ" المُتَشَغَبة من "الأجْوَف"، ثُمَّ في جَدَاوِلَ مُتَشَعِّبة (¬3) من "الأوْرِدَةِ"، ثُمَّ في سَوَاقٍ مُتَشَعِّبة من الجداول، ثُمَّ في رَوَاضِعَ مُتَشَعِّبة من (¬4) السَّوَاقي، ثُمَّ في عُرُوقٍ دِقَاقٍ (¬5) شَعْرِيَّةٍ، ثُمَّ يَرْشَحُ من أفواهها في الأعضاء لتغتذي به، فتُحِيلُهُ الأعضاء، وتسيرُ به بجواهرها، فيصيو في "اللَّحْم" لحمًا، وفي "العَظْم" عَظْمًا، وفي "العَصَب" عَصَبًا، وفي "الظُّفُر" ظُفُرًا، وفي "الشَّعْر" شَعْرًا، وفي السَّمْع والبصر وآلةِ الحِسنَ كذلك. فتبارك من هذا صُنْعُهُ في قَطْرةٍ من ماءٍ مهينٍ. فصل و"الدَّمُ " هو الخِلْطُ الأصليُّ، والغذاءُ الحقيقيُّ للبدن، والمُخْلَفُ عليه بَدَل ما ينقص ويتحلَّلُ منه، والأخلاط الأُخَر كالأَبَازِير والتَّوَابِل. وهو صنفان: 1 - لطيفٌ؛ وهو دم "القلب". 2 - وغليظٌ؛ وهو دم "الكبد". ¬
فصل: الكلام عن البلغم؟ منافعه وفوائده
ومَثلُه مَثلُ السلطان إذا كان وقورًا، حليمًا، ساكنًا؛ عاشَتْ به رعيته، وإذا غضب واحتَدَّ قَتَلَ. فصل وأمَّا "البلْغَم": فخِلْطٌ فِجٌّ مُسْتَعْدٍ لَيِّنٌ، يستكمل نُضْجَه عند عَوَز الغذاء إذا ما تولَّتْهُ الحرارة الغريزيَّة، فهَضَمَتْهُ وصَيَّرَتْهُ دمًا، [ز/138] فيتكوَّنُ في "المعدة" و"الأمعاء"، وفي "الكبد" عند قصور الهضم. وفيه من المنفعة أنَّه يرطِّبُ البدنَ، وَيَبُلُّ المفاصلَ، لِيُسْلِسَ (¬1) حركاتها، ويخالِطُ "الدَّم" في تغذية الأعضاء البلغميَّة المِزَاج كـ: "الدِّماغ". فإن قيل: ما الحكمة أنَّه لم يجعل "للبلغَم" عضوًا (¬2) مخصوصًا ينصبُّ إليه كـ" الرئتين"؟ (¬3) قيل: لمَّا كانت الأعضاءُ محتاجةً أن يكون قريبًا منها لترطيبها؛ لم يُجْعَل له عضوٌ يختصُّ به، لا سيَّما والأعضاء تغتذي به إذا أَعْوَزَها الغذاءُ. فصل وأمَّا "الصَّفْراء": فخِلْطٌ لطيفٌ حادٌّ. ¬
فصل: الكلام عن المرة السوداء ومنافعها
وحاجة البدن إليها في أن تخالط "الدَّم"، وتُرِقَّهُ (¬1) بلُطْفِها، وتنفِذَه في المسالك الضيِّقة، ولتعينه في تغذية الأعضاءِ الحارَّةِ اليابسة. وما ينفصِلُ (¬2) عنها ممَّا يُسْتَغْنَى عنه يتصفَّى إلى "المَرَارة" لتأخذ نصيبها منه، وما تستغني عنه "المَرَارة" تَصُبُّهُ إلى "الأمعاء" لتغسلها عن لَطْخَة الأثْفَال ولُزُوجَتِها، وَلِتَدْعُوَ عَضَلَ "المَقْعَدة" فتحسَّ بالحاجة [ح/ 145] إلى التبرُّزِ. فصل وأمَّا "المِرَّةُ السوداءُ": فخِلْطٌ باردٌ يابِسٌ. وفيه من المنافع أنَّه يَنْفُذُ مع "الدَّم" في "العُرُوق" ليشدَّهُ (¬3)، ويقويه، ويكفِتَهُ (¬4)، ويمسكه، ويمنعه من سهولة الحرمة (¬5) عند الحاجة إلى ذلك، وتعينه في تغذية الأعضاء المحتاجة إلى (¬6) أن يكون في غذائها شيءٌ من "السوداء" (¬7) كـ"العِظَام". وما انفَصَلَ (¬8) منه واستغنى عنه يُصَفَّى إلى "الطحَال"، فيصفِّيه "الطِّحَالُ" جدًّا، ويتغذى به، ثُمَّ يُجْلَبُ ما يَسْتَغنِي عنه "الطِّحَال" إلى فَم ¬
فصل: الأعضاء عموما تنقسم إلى قسمين
"المعدة"، فَيُدَغْدِغُهُ بالحُمُوضَة التي فيه، فتتحرك الشهوةُ، وتحسنُّ بالجوع، فتطلب الأعضاء القصوى معلُومَها ورَاتِبَها من الأعضاء التي تليها، وتطلبه الأعضاء التي تليها من التي تجاورها، وهكذا حتَّى ينتهي الطلب إلى "المعدة". فالجوعُ: طَلَبُ الأعضاءِ (¬1) القُصْوَى معلومَها من الأعضاءِ (¬2) الدنيا. فصل ولمَّا اقتضت حكمة الرَّبِّ -جلَّ جلاله، وتقدَّسَت أسماؤه، ولا إله غيره- حيث كان بدنُ الإنسان مشبهًا في أحواله بالمدينة = أن يوجد فيه (¬3) أعضاء رئيسة تقوم بمصالحه -كما يقوم رؤساء المدينة بمصالحها- تكون له (¬4) بمنزلة الولاة والأمراء. وأعضاء تكون خادمةً لهذه الأعضاء الرئيسة؛ فإنَّ الرئيس لا يكون رئيسًا إلا بمرؤوس، وهي بمنزلة: الشُّرَط، والجَلاَوِزَة (¬5)، والنُّقَبَاء (¬6). وأن يوجد فيه أعضاء كالرعيَّةِ؛ وهي قسمان: 1 - ماله اتصالٌ بالرؤساء، وإن لم يكن اتِّصالُهُ (¬7) اتِّصَالَ خدمةٍ. ¬
فصل: الكلام عن الأعضاء الرئيسة؟ القلب، والكبد، والدماغ، والأنثيين
2 - وما لا اتِّصال له بهم، بل هو مستقلٌّ بنفسه. فالأعضاء إذًا بهذا التقسيم أربعة: أحدها: الأعضاء الرئيسة المخدومة. الثاني: الأعضاء المرؤوسة الخادمة. الثالث: الأعضاء المرؤوسة بلا خدمة. الرابع: الأعضاء التي ليست رئيسة ولا مرؤوسة. فصل والأعضاء الرئيسة إنَّما استحقَّت الرياسة لشَرَفِها، إذ كانت هي الأصولُ والمعادنُ والمبادئُ للقُوى الأوليَّهِ في البدن، المضطرُّ إليها في بقاء الشَّخْص والنَّوع. وهي بحسب بقاء الشَّخْصِ ثلاثةٌ: "القلب"، و"الكبد"، و"الدِّماغ". وبحسب بقاء النَّوع أربعةٌ: الثلاثةُ المذكورةُ، و"الأُنْثيَان". وأمَّا "القلب"؛ فهو العُضْو الذي جعله الخَلَّاقُ العليمُ قائمًا بأمر البدن كقيام الملك (¬1) بأمر الرعيَّة، وهو أوَّلُ عُضْوٍ يتحرَّكُ في البدن، وآخرُ عُضْوٍ يَسْكُنُ منه، وهو مبدأ جميع القُوى، وما يلحقه من صلاحٍ أو فسادٍ يتأذَّى منه إلى غيره من الأعضاء. وأمَّا "الكبد"؛ فهو العضو الذي يقوم بحِفْظِ الحياة، إذ كانت هي التي [ك/116] تملأُ الأعضاء بالغذاء؛ ليبقى البدن محفوظًا ما أمكن بقاؤه. ¬
فصل: الكلام عن الأعضاء الخادمة
وأمَّا "الدِّمَاغ"؛ فهو العضو القائم بأمر الحِسِّ والإدراك وتكميل الحياة، إذ فيه آلاتُ الإحساس التي بها يُعرف النافعُ من الضَّارِّ، والملائمُ من المُنَافِرِ، وبواسطته (¬1) صارت الحياة نافعةً (¬2) صالحةً، متجاوِزَةً لرتبة (¬3) حياة النَّبَات. وأمَّا "الأُنْثَيَان"؛ فهما اللَّذَان يقومان بحِفْظِ [ز/ 139] بقاء النَّوع. فصل وأمَّا الأعضاء الخادمة: فـ "الرِّئة"، و"الشرايين" الحاملة المؤدِّية من "القلب" الحرارةَ الغريزيَّة والقُوى والأرواحَ الحيوانية التي بها قِوَام البدن. فهذان خادِمان "للقلب". و"المعدة" و"الأَوْرِدَة" خادمان "للكبد". و"الأَوْرِدَة" تُنفِذُ "الدَّمَ" الغاذِي، والأرواح، والقُوى إلى جميع البدن. و"الكبد" خادِمةٌ "للدِّمَاغ"، وكذلك "الأعصاب" التي بها يحصل الحِسُّ والحركة. و"الأنْثَيَان" يخدِمُهما الأعضاء المولِّدة "للمَنِيِّ"، والمجاري المؤدِّية عنهما إلى موضع التَّوَالُدِ. ¬
فصل: الكلام عن الأعضاء المرؤوسة بلا خدمة
فصل وأمَّا الأعضاء المرؤوسة بلا خدمة؛ فهي أعضاءٌ مختصَّةٌ بقُوىً لها طبيعيَّه، بها يتمُّ تدبيرها، ويستقيم أمرها. ولابدَّ مع ذلك من أن (¬1) يفيضَ (¬2) عليها من الأعضاء الرئيسة قُوىً تمدُّها بإذن الله -تعالى- كـ: "الأُذن"، و"العين"، و"الأنف". فإنَّ كلَّ واحدٍ منها يقوم بأمر نفسه بما فيه من القوَّةِ الطبيعيَّةِ التي أعطاها إيَّاهُ الخالقُ (¬3) سبحانه، ولا يتمُّ ذلك لها إلا بأن تأتيها قوَّةٌ حسَّاسَةٌ تنزل عليها من [ح/ 146] "الدِّمَاغ" بإذن الرَّبِّ تعالى. فصل وأمَّا الأعضاء التي ليست برئيسة ولا مرؤوسة؛ فهي التي اختصَّت بقُوىً غريزيَّة فيها من أصل الخِلْقَة في أوَّل التكوين، ليتمَّ بها قَوَامُ أمرها، وتدبيرُها في اجتلاب المنافع ودفع المضارِّ، كـ: "العظام"، و"الغَضَاريف". وسائر الأعضاء المتشابهة الأجزاء- مثل: "الرِّبَاطات"، و"الأعصاب"، و"الأوتارِ"، و"الشرايين"، و"الأَوْرِدَةِ"، و"الأغْشِيَةِ"، و"اللَّحْمِ"، و"العظَامِ" -كالأساس والاسطوانات لبناء هيكل (¬4) البدن. فإن قيل: هل في "العظام" قوَّةُ الإحساس وحياته أم لا؟ ¬
قيل: هذا موضعٌ اختلف فيه أرباب الشريعة فيما بينهم، وأرباب الطبيعة فيما بينهم: فقالت طائفة: لا حياة في "العظام" وإن كان فيها قوَّة النُّمُو والاغتذاء. قالوا: لأنَّ الحياةَ إنَّما هي بالرُّوح الحيوانيِّ، ولاَ حَظَّ "للعظام" فيه. قالوا: ولأنَّ مَرْكَبَ الحياةِ (¬1) إنَّما هو "الدَّمُ" المُنْبَثُّ في "العُرُوق" و"الأعصاب" و"اللَّحم". ولهذا لم يكن "للشَعْر" ولا "للظُّفُر" نصيبٌ من ذلك، ولهذا لم يأْلَم الحيوانُ بأَخْذِهِ. قالوا: فحياةُ "العظام" و"الشَّعْر" حياةُ نُمُوٍّ واغتذاءٍ، وحياةُ أعضاء البدن حياةُ نُمُوٍّ وإحساسٍ. قالوا: ولهذا قلنا إنَّ "العظام" لا تَنْجَس بالموت؛ لأنَّها لم يكن فيها حياةٌ تزول بالموت. قالوا: وزوالُ النُّمُوِّ لا يُوجب نجاسة ما فَارَقَهُ، بدليل يُبْسِ الزَّرعْ والشَّجر. قال آخرون: الدليلُ على أنَّ "العظام" تَحُلُّ فيها الحياةُ قوله تعالى: {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (78) قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ} [يس: 78 - 79]. ¬
والحِسُّ يدلُّ على ذلك أيضًا، فإنَّ "العَظْم" يألَم، ويَضْرِبُ (¬1)، ويَسْكُن، وذلك نفس إحساسه. قالوا: ولا يمكن إنكارُ كون "العظام" فيها قوَّةٌ حسَّاسَةٌ تحسُّ بالبارد والحَارِّ. قال الآخرون: الإحساس والألم ليس "للعظم" في نفسه، وإنَّما هو لما جاوره من "اللَّحْم". قال المنازعون لهم: هذا مكابَرَةٌ ظاهرةٌ؛ فإنَّ "العظْمَ" نفسَه يَألَمُ، ولا سيَّما إذا انْصَدَع. ثُمَّ إنَّ "الأسنانَ" و"الأضراسَ" تحسُّ بالألم والحارِّ والبارد بأنفسها، لا بِمُجَاوِرِها من "اللَّحم". ولهذا توسَّطت. طائفةٌ ثالثةٌ، وقالت: عظامُ "الأسنان" خاصةً لها الإحساس، بخلاف سائر "العظام". وهؤلاء قد (¬2) سلَّمُوا المسألة من مكانٍ قريب، فإن الذي دلَّ على إحساس "الأسنان" وحياتها هو الدَّالُّ على حياة سائر "العظام"، والشبهة التي ذكروها لو صحَّت لمَنَعَت من إحساس "الأسنان". وأمَّا حديث الطهارة والنَّجَاسة فذاكَ لأمرٍ آخر وراءَ الحياة. ¬
فصل: عدد عظام البدن حسب إحصاء المشرحين
ومَنْ نَجَّسَها بالموت سَوَّى بينها وبين "اللَّحم"، ومن لم يُنَجِّسْها -وهو الراجح في الدليل- فذاك لعدم عِلَّة التنجيس فيها، فإنَّ الموت ليس بِعلَّةِ النَّجَاسة، وإنِّما هو دليلُ العلَّة وسبَبُها. والعِلَّةُ هي احتقانُ الفَضَلات في "اللَّحْمِ"، و"العَظْمُ" بريءٌ من ذلك. والدليل على هذا؛ أنَّ الشارعَ لم يحكم بنجاسة الحيوان التَّامِّ الذي (¬1) لا نَفْسَ له سائلةٌ؛ لعدم احتقان الفَضَلات فيه، فَلأَنْ لا يُحكم بنجاسة "العَظْم" أَولى وأحرى. فإنَّ الرُّطُوباتِ التي في "الذُّبَاب" و"العقرب" [ز/ 140] [ك/117] و"الخنفساء" أكثرُ من الرُّطُوباتِ التي في "العظام"، فهي أَولى بعدم التنجيس من تلك الحيوانات. والله أعلم (¬2). فصل والذي أحصاه المُشَرِّحُون من "العظام" في البدن: مائتان وثمانيةٌ وأربعون عظمًا، سِوَى الصِّغَار السُّمْسُمَانيَّات (¬3) التي أُحْكِمت (¬4) بها مفاصل: "الأصابع"، والتي في "الحَنْجَرَة". ¬
ما ورد في الأثر يخالف ذلك، والجواب عنه
وقد أخبر النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - أنَّ الإنسانَ خُلق من ثلاثمائةٍ وستين مَفْصِلاً (¬1): فإن كانت "المفاصل" هي "العظام": فقد اعترف "جالينوس" وغيره بأنَّ في البدن عظامًا صغارًا لم تدخل تحت ضبطهم وإحصائهم. وإن كان المراد بـ"المفاصل": المواضع التي تنفصل بها الأعضاء بعضها من بعضٍ -كما قال الجوهريُّ (¬2) وغيره: "المَفْصِل: واحد مفاصل الأعضاء"- فتلك أعمُّ من "العظام"، فتأمَّلْهُ. وإنَّ "السُّلاَمَيَاتِ" المذكورةَ في الحديث الذي رواه مسلم في "صحيحه" (¬3) من حديث أبي ذَرٍّ: "يُصْبحُ على كُلِّ سُلامَى من أحدكِم صدقةٌ، فكلُّ [ح/147] تسبيحةٍ صدقةٌ، وكلُّ تحميدةِ صدقةٌ، وكلُّ تَهْلِيلةِ صدقةٌ، وكلُّ تكبيرةِ صدقةٌ" الحديث، فـ "السُّلاَمَى": العُضْو (¬4)، ¬
الحكمة في كون العظام صلبة
وجمعه: سُلاَميَات. فهنا ثلاثة أمور: أعضاء، وعظام، ومفاصل. وجعل الله -سبحانه- "العظام " أَصْلَبَ شيءٍ في البدن، لتكون أساسًا وعمدةً في البدن، إذ كانت الأعضاءُ كلُّها موضوعةَ على "العظام"، حتَّى "القلب"، كما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى. وهي حاملةٌ للأعضاء، والحاملُ أقوى من المحمول. ولتكون وقايةَ وجُنَّةً -أيضًا- كـ"القِحْفِ" (¬1) فإنَّه وقايةٌ "للدِّمَاغ"، و"عظام الصَّدرِ" وقايةٌ له. وجعلت "العظامُ " كثيرةً لفوائدَ ومنافعَ عديدة: منها: الحركة؛ فإنَّ الإنسانَ قد يحتاجُ إلى حركة بعض أجزائه دون بعضِ، وقد يحتاج إلى حركة جزءٍ من عُضْوٍ. ومنها: أنَّه لو كان على عظمٍ واحدِ لكَانَ إذا أراد أن يتحرَّكَ تحرَّكَ بجملته. ومنها: أنَّه (¬2) كان يتعذَّر عليه الصنائع، والحَلُّ، والرَّبْطُ. ومنها: أنَّه (¬3) كان إذا أصابته آفةٌ عمَّتْ جميع البدن، فجُعِلَت "العظامُ" كثيرةَ ليكون متى نالَ بعضَها آفةٌ لم تَسْرِ إلى غيره، وقام غيره من ¬
"العظام" مقامه في تحصيل تلك المنفعة. ومنها: تعدُّدُ (¬1) المنافع التي حصلت بسبب تعدُّدِ "العظام"، ولولا كثرتها وتعدُّدها لفاتت تلك المنافع. ومنها: أنَّ من "العظام" ما يحتاجُ البدنُ إلى كَبيرِهِ، ومنها ما يحتاجُ إلى صغِيرِهِ، ومنها ما يحتاج إلى مستطيلِهِ، وَمنها ما يحتاجُ إلى مستدِيرِه، ومنها ما يحتاج إلى عريضِهِ، ومنها ما يحتاج إلى مُصْمَتِهِ (¬2)، ومنها ما يحتاج إلى مُجَوَّفِهِ، ومنها ما يحتاج إلى مُنْحَنِيهِ، ومنها ما يحتاج إلى (¬3) مستقيمه؛ ولا يحصل ذلك إلا بتعدُّدِ "العظام". ومنها: بديع الصَّنْعة، وحسن التأليف والتركيب. وغير ذلك من الفوائد. ثُمَّ شَدَّ الخالقُ -سبحانه- بعضَها إلى بعضٍ بالرِّبَاطَاتِ والأسْرِ المُحْكَم، ثُمَّ كَسَاها لحمًا؛ حفظًا لها ووقاية، ثُمَّ كَسَا اللَّحمَ جلدًا؛ صُوَانًا (¬4) له. ولمَّا كانت الفَضَلاتُ تنقسم إلى: لطيفةٍ، وغليظةٍ؛ جعل الله -سبحانه- للغليظة منها مجاري تنجذب فيها إلى أسفل، وتخرُجُ منها خروجًا ظاهرًا للحِسِّ. ¬
يشتمل الرأس بجملته على تسعة وخمسين عظما
وأمَّا اللطيفة فهي الفَضَلات البُخَاريَّة، فإنَّ من شأنها أن تصعدَ إلى فوق، وتخرج عن البدن بالتحليل، بأنْ (¬1) جَعَلَ في "العظام" العليا منافذ يتحلَّلُ منها البُخَار المتصاعد. ولم تكن تلك المنافذ محسوسة، لئلاَّ يَضْعُف صُوَانُ "الدِّماغ" (¬2) -وهو "القِحْفُ"- بوصول الأجسام المؤذية إليه. فجَعَلَ "الدِّماغ" مركَبًا عن عظامٍ كثيرةٍ، وَوَصَلَ بعضَها ببعضٍ بوُصَلٍ يقال لها: "الشُّؤون"، ومنه قولهم: فلان لم تُجْمَعْ شؤونُ رأسه (¬3). ويشتمل "الرأس" بجملة أجزائه على تسعةٍ وخمسين عظمًا، وجُعل "القِحْفُ" مستديرًا بائنًا (¬4) في مُقَدَّمِهِ ومُؤَخَّرِهِ وجانبيه، بمنزلة غِطَاء القِدْر. وعظامُه ستةٌ، وهي: عظم "اليَأفُوخ" (¬5)، وعظم "الجَبْهَة"، وعظم [ز/ 141] مؤخر "الرأس"، والعظمان اللذان فيهما ثُقْبَا (¬6) السَّمْع، وفي كل واحدٍ من "الصُدْغَين" (¬7) عظمان مُصْمَتَان. ¬
عدد عظام اللحي الأعلى والأسفل، ووصفها
وعظام "اللَّحْي الأعلى" أربعةَ عشر عظمًا: ستةٌ منها في مَحَاجر (¬1) "العَينَين"، واثنان " للأنف"، واثنان تحت "الأنف" وهما المثقوبان (¬2) إلى "الفم"، واثنان في "الوَجْنتَين" (¬3)، واثنان تحت "الشَّفَة العليا". وأمَّا العظم الشبيه بالويد فهو واحدٌ، وهو كالقاعدة "للرأس". وعظام "اللَّحْي الأسفل" اثنان؛ وهما مُتَّصِلان في وَسْط "الذَّقَن" (¬4)، وبينهما "الأسنان" (¬5)، ويتصلان من فوق بـ "اللَّحْي الأعلى" اتصالاً مَفْصِليًّا. و"الأسنان": اثنان وثلاثون، في كل "لَحْي" ستة عشر: "ثَنِيَّتَان" [ك/ 118]، وتليهما "الرَّباعِيتان" (¬6)، وتليهما "النَّابان" (¬7)، وتليهما "الأضرَاس": خمسةٌ من هاهنا، وخمسةٌ من هاهنا. و"النَّاجذُ" أوَّلُ "الأضرَاس"، وهما "ناجِذَان"، في كلِّ ناحيةٍ "ناجِذٌ"، ورُبَّما نقصت "النواجِذُ" في بعض الأفراد، وكان في كلِّ جانبٍ ¬
فصل: الكلام عن الرأس
أربعة "أضرَاس". وقد سَلَّمَ اللهُ -سبحانه- غذاءَ الإنسان إلى يده، فتأخُذُه فتسلِّمُهُ إلى "شَفَتَيه"، فتسلِّمُهُ "الشَّفَتان" (¬1) إلى [ح/ 148] "الأنْيَاب" و"الثَّنايا" فتُفصِّلُهُ، ثُمَّ تسلِّمُه إلى "الأضراس" فتطحَنُه (¬2)، ثُمَّ تسلِّمُه إلى "اللِّسَان" و"الفم" فَيَعْجنُهُ، ثُمَّ يسلِّمُه إلى "الحُلْقُوم" و"المَرِيء" فَيَتَسَلَّمُهُ ويُوصِلُه إلى "المعدة"، فتطبَخُهُ وتُنضِجُهُ، وتُصْلِحُهُ كما ينبغي، ثُمَّ تُسلِّمُهُ إلى "الكبد"، فَيتسلَّمُهُ منها، ثُمَّ يُرسِلُ به إلى كلِّ عُضوِ راتِبَهُ ومعلُومَهُ، ثمَّ يَصُبُّ "مِرَّتَهُ (¬3) الصَّفْراءَ" في "المَرَارة"، و"السَّوْدَاءَ" في "الطِّحَالِ"، والثُّفْلَ يخرجه عنها كما تقدَّم بيانه. فصل و"الرأس" يقال بالعموم على ما يُقِلُّهُ "العُنُق" بجملته، ويقال بالخصوص على: 1 - " الفَرْوَةِ"؛ وهي جلدةْ "الرأس" حيث مَنْبَت "الشَّعْر". 2 - و"الجُمْجُمَةِ": العظمِ الذي يحوي "الدِّماغ"، وهي مؤلَّفَةٌ من سبع قطع متقابِلةِ تسمَّى: "القَبائل". وتسمَّى مواضع التأليف: "شؤونًا". ووَسْط "الجُمْجُمَة" يسمَّى: "الهَامَة". وحَدُّ "الهَامَة" من الجانبين قَرْنَا "الرأس"، وحَدُّ "الهَامَة" من ¬
المُقَدَّم: "اليَأفُوخ"، ومن المُؤَخَّر: "القَمَحْدُوَة" (¬1)، وهي ما تصيب الأرض من رأس (¬2) المُسْتَلْقِي على ظهره. ولها ثلاثة حدود: "نُقْرَةُ القَفَا"، و"القَذَالاَن" (¬3). فـ "نُقْرَأ القَفَا" حدُّها من آخر الوسط. و"القَذَالاَن" جانبا "النُّقْرَة". وقد تقدَّمَ تفصيل (¬4) "القَبائل" السَّبْع. ويَسْتَظْهِر "الجُمْجُمَةَ" غِشَاءٌ (¬5) يحيطُ بها يسمَّى: "السِّمْحَاق"، ويَسْتبطِنُها (¬6) غِشَاءَان (¬7): أحدُهما: يلي "الجُمْجُمَة"، وهو أَثْخَنُهما وأَصْلَبُهما. والآخر: يكتنف (¬8) "الدِّمَاغ"، ويحيط به، ويخالطه (¬9). ويقال لكلٍّ منهما: "أمُّ الدِّمَاغ"، وتُسَمَّيَان: "الأمَّان"، ومنه: ¬
الكلام عن الدماغ
"الآمَّة"، و"المَأمُومَة" التي فيها ثُلُث الدِّية، وهي الجراحة التي تبلغ "أُمَّ الدِّمَاغ". ويقال لكل (¬1) تجويفٍ في "الدِّمَاغ": بَطْنٌ، وهي ثلاث بُطُون. وبين بَطْنَي "الدِّماغ" اللَّذَين في مؤخرِهِ ووَسْطِه مَجْرَى، وفيه قطعةٌ من "الدِّمَاغ" مستطيلةٌ؛ شبيهةٌ بالدُّودَة، يَنْسَدُّ ذلك المَجْرَى وينفتح بها. وتحت "الدِّماغ" شبكَةٌ مبسوطَةٌ مؤلَّفَةٌ من "عُرُوقٍ ضَوَارِب"، يتولَّد فيها روحٌ نفسانيٌّ، ومنها ينفُذُ إلى البَطْنَين اللَّذَين في مُقَدَّم "الدِّمَاغ". وفي "الدِّمَاغ": البِرْكَةُ، والحَوضُ، والقِمْعُ، والدُّودةُ، والبُطُونُ، والأغشيةُ، ومبادئُ الأعصاب. ويحتوي "الدِّمَاغ" على ثلاث خزائن؛ نافِذٍ بعضُها إلى بعضٍ، وتسمَّى: "بطونًا": فالأُولَى: في مُقَدَّمِه وتنقسم إلى بَطْنَين. والثانية: في وَسْطه. والثالثة: في مُؤَخَّرِهِ. وجوهر "الدِّماغ": مُخِّيٌّ مُتزرِّدُ الشَّكْل، كأنَّه زَرَددٌ (¬2) مجموع. والرُّوحُ النفسانيُّ مُثبُتٌ (¬3) في خلل الزَّرَد. ¬
و"الدِّمَاغ" مقسومٌ في طوله بنصفين (¬1) مُتَضَامَّين، والتَّنْصِيف في مُقَدَّمِهِ أظهر. و"الغِشَاءَان" يدخلان في فصول "الدِّمَاغ" وتَزْرِيدِه، والصُّلْبُ منهما يدخل بُطُونًا بين جُزْئَي البَطْن المقدَّم (¬2) فيحجزُ بينهما، وتحته مَصْفىً (¬3) كالبِرْكَة تسمَّى: "المَعْصَرَة"، تَصُبُّ فيَ العُرُوق "الدَّم" المنطَبِخ، وتنبعث في جداول تسقي البطنَ المُقَدَّمَ، وتجتمع إلى عرقين كبيرين يحملان "الدَّم" إلى البطنِ الأوسطِ والمُؤَخَّرِ. والبطنُ الأوسطُ [ز/142] كدِهْلِيز (¬4) ومنفذٍ بين (¬5) المقدَّم والمؤخر، وسقفه معقودٌ كالأزجَ (¬6). و"الدِّمَاغ" موضوعٌ طولاً على زائدتين الفخذين (¬7) متقاربان، فَيَمْتَازَانِ (¬8) ويتباعدان (¬9) إلى الانفراج، فينفتح الدِّهْلِيز، ويَتَراءى البَطْنَان: المقدَّم والمؤخَّر. ¬
الحكمة في إحاطة الدماغ بالعظام
والجزء المؤخَّر أخفى (¬1) تَزْرِيدًا من المقدَّم، وأصغر وأَعْجَفُ (¬2) زَرَدَا، وهو كُريٌّ إلى الاستطالة، ويَسْتَدِق على التدريج، حتَى يسيل منه "النُّخَاع" كالجدول من العين. وفي "الدِّمَاغ" جدولان يجريان (¬3): أحدهما في آخر المقدَّم، والآخر في الأوسط لدفع فضوله. ويجتمعان عند منفذٍ واحدٍ عميقٍ: أوَّله في الغشاء الرقيق، والآخر في الغشاء الصُّلْب، يأخذ إلى مضيق كالقِمْع. ولمَّا كان "الدِّمَاغُ" مبدأ حركات البدن إلى إرادته لم يكن به حاجةٌ إلى الحركة القويَّة، فحُوِّطَ عليه بسُورٍ من "عظام"، بخلاف "المعدة" و"الكبد" و"الرَّحِم"، وسائر آلات الغذاء، فإنِّها لمَّا احتاجت [ح/149] إلى أن تتسع وتمتلئ بالغذاء والحَمْلِ مرةً بعد أخرى، وأن تعصر على (¬4) الفضول فتخرجَها -والعَظْم يمنع من ذلك- ويكفي فيه العَضَلُ (¬5) وحده = فأحيط عليه بسورٍ من عَضَلٍ (¬6). ¬
وأمَّا "الصَّدْرُ" فإنَّه لمَّا احتاج [ك/ 119] إلى الوقاية (¬1) بـ "العظام"، وإلى الحركة بالعَضل = أُلِّفَ "الصَّدْرُ" منهما. وكان "البطن" أوسع من "الصَّدْر"، لما يَحْوِيه (¬2) من آلات الغذاءِ، والتنفُّسِ، و"الطِّحَالِ"، و"المريء" وغيرها. ¬
فصل: التفكر والأعتبار لاستخلاص العبرة من خلق الإنسان
فصل فاستقبل الآن النظر في نفسك من رأسِ، وانظر إلى المبدأ الأوَّل وهو "النُّطْفَة"؛ التي هي قطرةٌ مهينةٌ ضعيفةٌ، لو تُرِكَت ساعة لبَطَلَت وفَسَدَت، كيف أخرجها رَبُّ الأرباب من بين الصُّلْب والترائب؟! وكيف أوقع المحبة والإلْفَ بين الذَّكَر والأنثى، ثُمَّ قادهما بسلسلة المحبة والشهوة إلى الاجتماع، ثُمَّ استخرج "النُّطْفَة" من الذَّكَر بحركة الوِقَاع من أعماق "العُرُوق "، وجمَعَها في "الرَّحِم " في قرارِ مكينِ، لا تناله يدٌ، ولا تطلع عليه شمسٌ، ولا يصيبه هواءٌ، ثُمَّ صرَّف تلك "النُّطْفَة" طَوْرًا بعد طَوْرِ، وطَبَقًا بعد طَبَقِ، وغَذَّاها بدم (¬1) الحيض. وكيف جعل -سبحانه- "النُّطفَةَ" -وهي بيضاء مشرقة- عَلَقَةً حمراء، ثُمَّ جعلها مُضْغَةَ، ثُمَّ قسَّمَ أجزاء "المُضْغَة" إلى: "العظامِ"، و"الأعصابِ"، و"العُرُوقِ"، و"الأوتارِ"، و"اللَّحْمِ" في داخل "الرَّحِم" في الظلمات الثلاث. ولو كُشِفَ لك الغطاء لرأيت التخطيطَ والتصويرَ يظهر في "النُّطْفة" شيئًا بعد شيء، من غير أن ترى المُصَوِّرَ، ولا آلته، ولا قَلَمَهُ. فهل رأيتَ مُصَوِّرًا لا تمسُّ آلتُه الصورَةَ (¬2) ولا تُلاَقِيها؟ ثُمَّ تأمَّلْ هذه القُبَّةَ العظيمةَ التي قد رُكِّبَت على "المَنكِبين"، وما أُودع فيها من العجائب، وما رُكِّبَ فيها من الخزائن، وما أُودِعَ في تلك الخزائن من المنافع، وما اشتملت عليه هذه القُبَّة من "العظام" المختلفة ¬
الأشكال والصفات والمنافع؛ ومن الرُّطُوبات، و"الأعصاب"، والطرق، والمجاري، و" الدِّماغ"، والمنافذ، والقُوى الباطنة من الذكْرِ، والفِكْرِ، والتخييل، وقوَّةِ الحفظ. ففيه القوَّة المفكرة، والمذكرة (¬1)، والمخيِّلة، والمحافظة (¬2). وهذه القُوى مُودَعَةٌ في خزائن هذه القبَّة (¬3)، مسخَرَةٌ لمصالحه، يستعملها ويستخدمها كيف أراد. فتأمَّلْ كيف دَوَّرَ -سبحانه- "الرأسَ"، وشقَّ سمعَهُ، وبصَرَهُ، وأنفَهُ، وفمَه؟ وكيف ركَّب كُرِيَّهُ (¬4) في بطن الأمِّ من ثلاثةٍ وعشرين عظمًا، وخلق تلك "العظام" على كيفيَّاتٍ مختلفةٍ. وتأمَّلْ كيف انقلبت تلك "النُّطْفَة" اللَّينَة الضعيفة إلى "العظام" الصُّلْبة الشديدة؟ ثُمَّ تأمَّلْ كيف قدَّرَ -سبحانه- كل واحدٍ من تلك "العظام" بشكلٍ مخصوص، لو وُضِع بخلافِ ذلك (¬5) لبطلت المنفعة، وفاتَ الغَرَض. ثُمَّ ركَّبَ بعضَها مع بعضٍ؛ بحيث حصل من مجموعها "كُرَةُ الرأس" على هذه الخِلْقَة المخصوصة. ولمَّا كان "الرأسُ" أشرفَ الأعضاء [ز/ 143] الإنسانية، وأجمَعَها ¬
ينقسم الدماغ طولا إلى ثلاثة أقسام
للقُوى والمنافع والآلات والخزائن = اقتضت العناية الإلهيَّة بأن صِينَ بأنواعٍ من الصيانات. وذلك أنَّ "الدِّمَاغ" يحيط به غشاءٌ رقيقٌ، وفوق ذلك الغشاء غشاءٌ آخر، يقال له: "السِّمْحَاق" (¬1). ثُمَّ فوق ذلك الغشاء طبقةٌ لَحْمِيَّةٌ، وفوق تلك الطبقة اللَّحْمية الجلدُ، ثُمَّ فوق الجلد "الشَّعْرُ". فخلق -سبحانه- فوق دِمَاغِك سَبْعَ طبقاب، كما خلق فوق الأرض سبعَ سمواتٍ طباقًا. والمقصود من تخليقها الاحتفال (¬2) في صَونِ "الدِّمَاغ" من الآفات. و"الدِّمَاغ" من "الرأس" بمنزلة "القلب" من البدن. وهو -سبحانه- قَسَّمَهُ في طوله ثلاثةَ أقسام، وجعل: 1 - القسمَ المقدَّمَ مَحَلَّ الحفظ والتخيُّل. 2 - والبطنَ الأوسطَ مَحَلَّ التأمُّلِ والتفكُّرِ. 3 - والبطنَ الأخيرَ مَحَلَّ التذكُّرِ والاسترجاع لمَا كان قد نَسِيَهُ. ¬
الكلام عن القوة الحافظة
وكلُّ واحدٍ من هذه الأمور الثلاثة أمرٌ مهمٌّ للإنسان [ح/ 150] لابدَّ له منه، فإنَّه (¬1) محتاجٌ إلى التفهُّم والتفهيم، ولو لم يكن حافظًا المعاني المتصوَّرَات (¬2) وصُوَرَها بعد غيبتها؛ لكَانَ إذا سمع كلمةً وفهمَها شَذَّت عنه عند مجيء الأخرى، فلم يحصل المقصود من التفهُّم (¬3) والإفهام، فجَعَلَ له ربُّهُ وفاطره -سبحانه- خزانةً تحفظُ له صُوَرَ المعلومات، حتَّى تجتمع له، وتسمَّى القوَّة التي فيها: "القوَّة الحافظة". ولا تتمُّ مصلحةُ الإنسان إلا بها، فإنَّه إذا رأى شيئًا، ثُمَّ غاب عنه، ثُمَّ رآه مرةً أخرى عَرَفَ أنَّ هذا الذي رآه الآن هو الذي رآه قبل ذلك؛ لأنَّه في المَرَّة الأولى ثبتت صورته في الحافظة (¬4)، ثُمَّ تَوَارَى عنه بالحجاب، فلمَّا رآه مرةً ثانيةً صارت هذه الصورة المحسوسة ثانيًا مطابقة للصورة المعنويَّة (¬5) التي في الذِّهْن، فحصَل (¬6) الجَزْمُ بأنَّ هذا ذاك، ولولا "القوَّة الحافظة" لما حصل [ك/ 120] ذلك، ولما عَرَفَ أحدٌ أحدًا بعد غيبته عنه. ولذلك إذا طالَت الغيبةُ جدًّا، وانْمَحَت تلك الصورة الأُولى من الذِّهْن بالكُليَّة؛ لم يحصل له العلم بأنَّ هذا هو الذي رآه أوَّلاً، إلا بعد تفكُّرِ وتأمُّلِ. وقد قال قومٌ: إنَّ مَحَلَّ هذه الصُّوَر: "النَّفسُ". ¬
اختلف الفقهاء هل العقل في القلب أو في الدماغ؟
وقال قومٌ: مَحَلُّها "القلب". وقال قومٌ: مَحَلُّها "العقل". ولكلِّ فريقٍ منهم حُجَجٌ وأدلَّةٌ، وكلٌّ منهم أدرك شيئًا وغابت عنه أشياء. إذ الإدراك المذكور مفتقِرٌ إلى مجموع ذلك، لا يتمُّ إلا به. والتحقيقُ: أنَّ منشأَ ذلك ومبدأَهُ من "القلب"، ونهايَتَهُ ومستقَرَّهُ في "الرأس". وهي المسألة التي اختلف فيها الفقهاء: هل العقل في "القلب" أو في "الدِّماغ"؟ على قولين؛ حُكِيا روايتين عن الإمام أحمد (¬1). والتحقيق: أنَّ أصلَهُ ومادَّتَهُ من "القلب"، وينتهي إلى "الدِّمَاغ". قال تعالى: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا} [الحج/46]، فجعل العقل (¬2) بـ "القلب"، كما جعل السَّمْعَ بـ "الأذُن"، والبَصَرَ بـ "العين". وقال تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ (37)} [ق/ 37]، قال غيرُ واحدٍ من السلف: "لمن كان له عقلٌ". واحتجَّ الآخَرون: بأنَّ الرَّجُلَ يُضْرَبُ في رأسه فيزول عقله، ولولا أنَّ العقل في "الرأس" لما زال. فإنَّ السمعَ والبصرَ لا يزولان بضرب اليدِ، ولا الرِّجْلِ، ولا غيرِهما من الأعضاء لعدم تعلقهما بها. ¬
الكلام عن القوة العاقلة
وأجاب أرباب "القلب" عن هذا: بأنَّه (¬1) لا يمتنع زواله بفساد "الدِّماغ" وإن كان في "القلب"؛ لما بين "القلب" و"الرأس" من الارتباط. وهذا كما (¬2) يمتنع نباتُ شعر "اللِّحْيَة" بقطع "الأُنْثَيَين"، ففساد القوَّة بفساد العضو قد يكون؛ لأنَّه مَحَلُّها، وارتباطه بها. والله أعلم. وعلى كلِّ تقدير فذلك من أعظم آيات الله، وأدلَّته، وقدرته، وحكمته، كيف تَرْتَسِمُ (¬3) صورة السموات، والأرض، والبحار، والشمس، والقمر، والأقاليم، والممالك، والأمم؛ في هذا المَحَلِّ الصغير؟ والإنسانُ [ز/ 144] يحفظ كتبًا كثيرةً جدًّا، وعلومًا شتَّى متعددة، وصنائع مختلفة، فترتَسِمُ كلُّها في هذا الجزء الصغير، من غير أن تختلط (¬4) بعض هذه الصور ببعض، بل كلُّ صورةٍ منهُنَّ بنفسها مُحَصَّلَةٌ في هذا المَحَلِّ. وأنت لو ذهبتَ تنقُشُ صورًا وأشكالاً كثيرةً في مَحَلٍّ صغيرٍ لاختلط بعضُها ببعضٍ، وطَمَسَ بعضُها بعضًا. وهذا الجزء الصغير تنتقش فيه الصور الكثيرة المختلفة، والمتضادَّة (¬5)، لا تُبطل منها صورةٌ صورةً. ومن أعجب الأشياء أنَّ هذه "القوَّة العاقلة" تقبل ما تُؤَدِّيه إليها الحَوَاسُّ، فتجتمع فيها، ثُمَّ تُفيد كلَّ حاسَّةٍ منها فائدةَ الحاسَّةِ الأُخرى. ¬
الكلام عن القوة المفكرة
مثاله: أنَّك ترى الشخص فتعلم أنَّه فلان، وتسمع صوته فتعلم أنَّه هو، وتلمسُ الشيءَ فتعرفه، وتشمُّه فتعرفَ أنَّه هو، ثُمَّ تستدلُّ بما تسمعه من صوته على أنَّه هو الذي رأيته، فيغنيك سماع صوته عن (¬1) رؤيته، ويقوم لك مقام مشاهدته. ولهذا جَوَّزَ أكثرُ الفقهاء شهادةَ الأعمى، وبيعَهُ وشراءَهُ. وأجمعوا على جواز وَطْئِه امرأتَهُ، وهو لم يَرَها قَطُّ، اعتمادًا منه على الصوت، بل لو كانت خرساء -أيضًا- أو هو [ح/ 151] أطرش؛ جاز له الوطء. وقد جعل الله -سبحانه- بين السمع والبصر والفؤاد علاقةً وارتباطًا ونفوذًا يقوم به بعضها مقام بعض. ولهذا يَقْرنُ -سبحانه- بينها كثيرًا في كتابه كقوله: {إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا (36)} [الإسراء/ 36]، وقوله تعالى: {وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً} [الأحقاف/ 26]، وقوله: {لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا} [الأعراف/ 179]، وهذا من عناية الخالق -سبحانه- بكمال هذه الصورة البشريَّة، لتقوم كلُّ حاسَّةٍ منها مقام الحاسَّةِ الأخرى، وتفيد فائدتها في الجملة، لا في كلِّ شيء. ثُمَّ أودع -سبحانه- قوَّةَ التفكُّر فيه، وأَمَرَهُ باستعمالها فيما يجدي عليه النفع في الدنيا والآخرة، فركَّبَ "القوَّةَ المُفَكِّرة" [من] (¬2) شيئين من الأشياء الحاضرة عند "القوَّة الحافظة" تركيبًا خاصًّا، فيتولَّدُ من بين ذَيْنك الشيئين شيءٌ ثالثٌ جديدٌ لم يكن للعقل شُعُورٌ به، وكانت موادُّهُ عنده ¬
الكلام عن القوة الإرادية العملية
لكن بسبب التركيب حصل له الأمر الثالث، ومن هاهنا حصل استخراج الصنائع، والحِرَفِ، والعلوم، وبناء المُدُنِ والمساكِنِ، وأمورِ الزراعة والفلاحة، وغير ذلك. فلمَّا استخرجت "القوَّةُ المفكِّرةُ" ذلك، واستحسنته؛ سَلَّمته إلى "القوَّة [ك/ 121] الإراديَّه العمليَّة (¬1) "، فنقلته من ديوان الأذهان إلى ديوان الأعيان، فكان أمرًا ذهنيًّا ثُمَّ صار وجوديًّا خارجيًّا، ولولا الفِكْر لمَا اهتدَى الإنسانُ إلى تحصيل المصالح ودفِع المفاسد، وذلك من أعظم النِّعَم، وتمام العناية الإلهيَّة، ولهذا لمَّا فقَدَ البهائم والمجانين ونحوهم هذه القوَّة لم يتمكَّنُوا ممَّا تمكَّنَ منه أربابُ الفِكْر. ولمَّا كان استخراج المطلوب بهذه الطريق يتضمَّن تَفَكُّرًا وتقديرًا، فتفكَّرُ في استخراج المادَّة أوَّلاً، ثُمَّ تقدِّرُها وتفضَلُها ثانيًا -كما يصنع الخيَّاط؛ يُحَصِّل الثوبَ، ثُمَّ يقدِّره ويفصِّلُه ثانيًا-؛ قال -تعالى- عن الوحيد (¬2): {إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ (18) فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (19) ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (20)} [المدثر/ 18 - 20]، فكرَّرَ -سبحانه- التقدير دون التفكُّر، وذمَّهُ عليه دونه. وهذا مُنَزَّلٌ على مقتضَى الحال سواء، فإنَّه بالفِكْر طالِبٌ لاستخراج المجهول، وذلك غير مذموم. فلمَّا استخرجه قدَّرَ له تقديرين: تقديرًا كليًّا، وتقديرًا (¬3) جزئيًّا. 1 - فالتقدير الكلي: أنَّ الساحر هو الذي يفرِّقُ بين المرء وزَوجه. ¬
فصل: عجائب الخلق في العين
2 - والتقدير الجزئي: الذي يفرِّق بين المرء وزوجه. فههنا تقديرٌ بعد تقدير، فلهذا كرَّرَهُ -سبحانه- وذَمَّهُ عليه، بخلاف التفكُّر (¬1)؛ فإنَّ المُفكَّر (¬2) طالبٌ لمعرفة الشيء، فلا يُذَمُّ، بخلاف من قَدَّرَ بعد تفكيره ما يُوصِله إلى تحقيق الباطل، وإبطال الحقِّ؛ فتأمَّلْهُ. فصل ثُمَّ انزِلْ إلى [ز/145] "العَينَين"، وتأمَّلْ عجائبَها، وشَكْلَها، وخَلْقَها، وإيداعَ (¬3) النُّورِ البَاصِرِ فيها، وتركيبَها من عشر طبقاتٍ، وثلاث رطوبات. ولكلِّ واحدة من هذه الطبقات والرُّطُوبات شكلٌ مخصوصٌ، ومقدارٌ مخصوصٌ، لو لم يكن عليه لاختلَّت (¬4) المصلحة المقصودة. وجعل -سبحانه- موضع الإبصار في قَدْر "العَدَسة"، ثُمَّ أظهر في تلك " العَدَسة " قدر السماء، والأرض، والجبال، والبحار، والشمس، والقمر. فكيف اتسعت تلك "العَدَسة" أن يُرسَمَ فيها ما لا نسبة لها إليه أَلْبَتَّة؟ وجعل تلك القوَّة الباصِرة في جزءٍ أسود، فتأمَّلْ كيف قام هذا ¬
منافع الأجفان
النُّور (¬1) الباصر بهذا الجزء الأسود؟ وجعل -سبحانه- "الحَدَقَةَ" مَصُونةً بـ "الأجفان"؛ لتسترها، وتحفظها، وتَصْقُلَها، وتدفع الأقذاءَ عنها. وجعل شعر "الأجفان" أسود؛ ليكونَ سواده سببًا لاجتماع النُّورِ الذي به الابصار، ويكونَ مانعًا من تفرُّقِهِ، ويكونَ أبلغَ في الحُسْنِ والجمال. وخلق -سبحانه- لتحريك "الحَدَقَةِ" أربعًا وعشرين عَضَلةً، لو نقصت واحدةٌ منهُن لاختلَّ أمر "العين". ولمَّا كانت "العينُ" شبيهةً بالمِرآة التي إنَّما يُنتفعِ بها إذا كانت في غاية الصَّقَالَةِ والصَّفَاءِ؛ جعل -سبحانه- "الأجفان" متحرِّكَةً إلى الانطباق (¬2) والانفتاح (¬3) أبدًا، باختيار الإنسان [ح/ 152] وغير اختياره، لتبقى "الحَدَقَةُ" نقيَّةً صافيةً عن جميع الكُدُورات. وجعل "العَينيَن" بمنزلة المِرآتين الصَّقيلتين اللَّتين تنطبع فيهما صور الأشياء الخارجيَّة، فيتأثر "القلب" بذلك، ثُمَّ يظهر ما فيه عليهما فتتأثران به. فهما مرآةٌ لما في "القلب" يظهر فيهما، ومرآةٌ لما في الخارج تنطبع صورته فيهما، فـ "العينان" على "القلب" كالزجاجتين الموضوعتين. ولذلك يُستَدلُّ باحوال "العين" على أحوال "القلب" من رضاه، ¬
كماء العين لا وما فيه من الأسرار
وغضبِهِ، وحُبِّهِ، وبُغْضِهِ، ونُفْرَته، وقُرْبِه (¬1). ومن أعجب الأشياء أنَّ "ماء العين" من ألطف أعضاء البدن، وهي لا تتأثر بالحرِّ والبرد كتأثرِ غيرِها من الأعضاء الكثيفة، ولو كان الأمر عائدًا إلى مجرد الطبيعة لكان ينبغي أن يكون الأمر بالعكس؛ لأنَّ الألْطَفَ أسرعُ تأثرًا (¬2)، فعُلِم أنَّ حصول هذه المصالح ليس هو بمجرَّدِ الطَّبْعِ. فصل ثُمَّ اعدِلْ إلى "الأُذُنَين"؛ وتأمَّلْ شَقَّهُما، وخَلْقَهما، وإيداعَ الرُّطُوبة فيهما، ليكون ذلك عونًا على إدراك السمع، وجَعَلَ ماءَهُما مُرًّا (¬3) لتمتنع الهَوَامُّ عن الدخول في "الأذن" (¬4). وحَوَّطَهما (¬5) -سبحانه- بصَدَفَتين يجمعان الصوت، ويؤدِّيَانه إلى "الصِّمَاخ". وجعل في الصَّدَفتين تعويجات؛ لِتَطُول المسافة فتنكسر حِدَّةُ الصوت؛ ولا تَلجَ الهَوَامُّ دَفْعَةً، بل تكثر حركاتها فَتَنتَبِهُ لها، فتُخرجَها. وجعلَ " العَينيَن" مُقَدَّمَتَين، و"الأُذُنَين" مُؤَخَّرَتَين؛ لأنَّ "العَينَين" بمنزلة الطليعة والكاشِف والرائد الذي يتقدَّمُ القومَ ليكشف لهم، وبمنزلة ¬
لماذا للعينين غطاء وليس للأذنين غطاء؟
السِّرَاج الذي يضيءُ للسَّالِكِ (¬1) ما أمامه. وأمَّا "الأُذُنان" فتدركان المعاني الغائبة التي تَرِدُ على العبد من أمامه، ومن (¬2) خلفه، وعن جانبيه. فكان جَعْلُهما في الجانبين [ك/ 122] أعدل الأمور. فسبحان من بَهَرَتْ حكمتُه العقولَ. وجعل "للعَينيَن" غطاءً، ولم يجعل "للأذُنَين" غطاءً (¬3)؛ لأنَّ مُدْرَك "الأُذُن" الأصوات، ولا بقاء لها، فلو جُعِلَ عليهما غطاءٌ لزَالَ الصوتُ قبل ارتفاع الغطاء (¬4)، فزالت المنفعة المقصودة. وأمَّا مُدْرَك "العين" فأمرٌ ثابتٌ. و"العينُ" محتاجةٌ إلى غطاءٍ يقيها، وحصول الغطاء لا يؤثِّر في بعض الإدراك. وقال بعض أهل العلم: "عَيْنَا" الإنسان هاديان، و"أذناهُ" رسولان إلى قلبه، و"لسانُه" ترجمان، و"يَدَاهُ" حاجِبَان (¬5)، و"رِجْلاَهُ" بريدان، و"القلب" ملكٌ؛ فإذا طاب الملك طابت جنوده، وإذا خَبُثَ خَبُثَتْ جنودُه. فصل ثُمَّ انزِلْ إلى "الأَنْفِ"؛ وتأمَّلْ شَكْلَه وخِلْقَته، وكيف وَضَعَهُ (¬6) ¬
-سبحانه- في وَسْط "الوجه" بأحسن شَكْلٍ، وفتح فيه (¬1) بابين، وأودع فيهما حاسَّةَ الشَمِّ، وجعله آلةً لاستنشاق [ز/ 146] الهواء، وإدراكِ الروائح على اختلافها، فيستنشق بهما الهواءَ الباردَ الطَّيِّبَ. فيستغني بـ "المِنْخَرَين" عن فتح "الفَم" أبدًا، ولولاهما لاحتاج إلى فتح "فَمِهِ" دائمًا. وجعل-سبحانه- تجويفه واسعًا لينحصر فيه الهواء، وينكسر بَرْدُهُ قبل الوصول إلى "الدِّماغ"، فإنَّ الهواءَ المُسْتنشَقَ ينقسم قسمين: شطرًا منه -وهو أكثره- ينفذ إلى "الرِّئة"، وشطرًا ينفذ إلى "الدِّمَاغ". ولذلك يَضُرُّ المَزْكُومَ استنشاقُ الهواء البارد. وجعل في "الأنف" -أيضًا- إعانةً على تقطيع الحروف. وجعل بين "المِنْخَرَين" حاجزًا، وذلك أبلغ (¬2) في حصول المنفعة المقصودة، حتَى كأنَّهما "أَنْفَان" (¬3)؛ بمنزلة "العَينيَن" و"الأُذُنين" و"اليدين" و"الرِّجْلين". وقد يصيب أحد "المِنْخَرَين" آفةٌ، فيبقى الآخر سالمًا. وجَعَلَ تجويفَهُ نازلاً إلى أسفل؛ ليكون مَصَبًّا للفضلات النازلة من "الدِّمَاغ". وسَتَرَهُ بساتِرٍ (¬4) أَبَدِيٍّ (¬5)، لئلَّا تبدو تلك الفضلات في عين الرائي. ¬
كيف تتم عملية التنفس؟
وتأمَّلْ منفعة النَّفَس الذي لو قُطع عن الإنسان لَهَلَكَ، وهو أربعةٌ وعشرون ألف نَفَسٍ في اليوم والليلة، قِسطُ كلِّ ساعةٍ ألفُ نَفَسٍ. وتأمَّلْ كيف يدخل الهواء في "المِنْخَرَين" فينكسر بَرْدُهُ هناك، ثُمَّ يصل إلى "الحُلْقُوم"، فيعتدل مِزَاجُهُ هناك، ثُمَّ يصل إلى "الرِّئة"، فيتصَفَّى فيها من الغِلَظِ والكُدْرة، ثُمَّ يصل إلى "القلب" أصفَى ما كان وأعدَلَ، فيُرَوِّحُ عنه، [ح/153] ثُمَّ ينفذ منه إلى "العُرُوق" المتحرِّكة، ويتقدَّم إلى أقاصي أطراف البدن، ثُمَّ إذا سَخُنَ جدًّا وخرج عن حَدِّ الانتفاع؛ عابَ عن تلك الأقاصي إلى البدن، ثُمَّ إلى "الرئة" (¬1)، ثُمَّ إلى "الحُلْقُوم"، ثُمَّ إلى "المِنْخَرَين"، ثُمَّ يخرج، ويعودُ مثلُه ... هكذا أبدَا، فمجموع ذلك هو النَّفَسُ الواحد. وقد أحصى الرَّبُّ -عزَّ وجلَّ- عدَدَ هذه الأنْفَاسِ، وجعل مقابل كلِّ نَفَسِ منها ما شاء الله من الأحقاب في الجحيم، أو في (¬2) النَّعيم. فما أَسْفَهَ من أضاعَ ما هذا قيمتُه في غير شيء. فصل وهو -سبحانه- جعل "القلب" أميرَ البدن، ومعدِنًا للحرارة الغريزيَّة، فإذا اسْتُنشِقَ الهواءُ الباردُ وصَلَ إلى "القلب" واعتَدَلَتْ حرارته، فيبقى هناك مدَّةَ، [فإذا] (¬3) سخُنَ واحتدَّ (¬4)، واحتاجَ إلى ¬
كيف يحدث الصوت والكلام؟
إخراجه ودَفْعِهِ معه، لم (¬1) يُضَيِّعْ أحكمُ الحاكمين ذلك النَّفَس ويخرجه بغير فائدة، بل جعل إخراجه سببًا لحدوث الصوت. ثُمَّ جعل-سبحانه- (¬2) "الحَنْجَرَةَ" و"اللَّسَانَ" و"الحَنَكَ" (¬3) آلاتِ وأسبابًا، مختلفة الأشكال (¬4)، فباختلافها يكون الصوت (¬5)، فيحدث الحَرْف، ثُمَّ أَلْهَمَ الإنسانَ أن رَكَّبَ ذلك الحَرْفَ إلى مثله ونظيره، فتحدث الكلمة، ثُمَّ أَلْهَمَهُ تركيب تلك الكلمة إلى مثلها، فيحدث الكلام. فتأمَّلْ هذه الحِكْمَةَ الباهرة في إيصال النَّفَس إلى "القلب" لحفظ حياته، ثُمَّ عند الحاجة إلى إخراجه والاستغناء عنه جعله سببًا لهذه المنفعة العظيمة. فتبارك الله أحسن الخالقين. وخلق-سبحانه- هذه المقاطع والحَنَاجر مختلفةَ الأشكال، والضِّيق، والسَّعَة، والخُشُونة، والمَلاَسَة = لتختلف الأصوات باختلافها، فكما لا تتشابه صورتان من كلِّ وجهِ، فلا يتشابه صوتان (¬6)، بل كما يحصل الامتياز بين الأشخاص بالقوَّةِ البَاصِرَةِ، فكذلك يحصل بالقوَّةِ السَّامِعَةِ، فيحصل الامتياز للأعمى والبصير. ¬
فصل: عجائب الخلق في الصدر
فصل ثُمَّ انزِلْ إلى "الصَّدْرِ"؛ تَرَى معدنَ العلم، والحِلْم، والوقار، والسكينة، والبِرِّ، وأضدادِها. فتجد صدور العِلْيَة (¬1) تغلي بالبرِّ، والخير، والعلم، والإحسان، وصدورَ السَّفِلَةِ (¬2) تغلي بالفجورِ، والشَّرِّ، والاساءةِ، والحَسَدِ، والمَكْرِ. ثُمَّ انفُذْ [ك/123] من ساحة "الصَّدْر" إلى مشاهدة "القلب"؛ تجد مَلِكًا عظيمًا جالسًا على سرير مملكته، يأمر وينهى، ويولِّي ويعزِل. وقد حَفَّ به الأمراءُ (¬3) والوزراء والجُند وكلُّهم في خدمته، إن استقامَ استقاموا، وإن زَاغَ زاغُوا، وإن صحَّ صَحُّوا، وإن فسد فسدوا، فعليه المُعَوَّلُ. وهو مَحَلُّ نظر الرَّبِّ تعالى، ومَحَلُّ معرفته، ومحبَّته، وخشيته، والتوكُّلِ عليه، والإنابةِ إليه، والرِّضَى به [ز/ 147] وعنه. والعبوديةُ عليه أوَّلاً؛ وعلى رعيَّته وجنده تبعًا. فأشرفُ ما في الإنسان "قلبُه"، فهو العالِمُ بالله، العامِلُ له، السَّاعي إليه، المُحِبُّ له، فهو مَحَلُّ الايمان والعرفان. وهو المخاطَبُ المبعوثُ إليه الرُّسُلُ، المخصوصُ بأشرف العطايا، وهو الإيمان والعقل. ¬
وإنَّما الجوارح أتباعٌ، وتُبَّعٌ "للقلب" يستخدمها استخدام الملوك للعبيد، والراعي للرعيَّة. والذي يسري إلى الجوارح من الطاعات والمعاصي إنَّما هي آثاره، فإنْ أظْلَمَ أظْلَمَت الجوارح، وإن اسْتَنارَ استنارت، ومع هذا فهو بين إصبعين من أصابع الرحمن -عزَّ وجلَّ- (¬1). فسبحان مُقَلِّب القلوب، ومُودِعِها ما يشاء من أسرار الغيوب، الذي يحول بين المرء وقلبه، ويعلم ما ينطوي عليه من طاعته وذنبه (¬2)، مُصَرِّفِ القلوب كيف أراد، وحيث أراد. أوحى إلى قلوب أوليائه: أنْ أَقْبِلِي إليَّ، فبَادَرَتْ، وبَاتَتْ (¬3) وقَالَتْ (¬4) بين يَدَي رَبِّ العالمين. وكَرِه -عزَّ وجَلَّ- انبعاثَ آخرين فَثبَّطَهُم، وقيل: اقعُدُوا مع القاعدين. كانت أكثر يمين رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا، ومُقَلِّبِ القلوب" (¬5). وكان من دعائه: "اللهُمَّ يا مُقَلِّبَ القُلُوب ثَبِّتْ قُلُوبنَا على طاعتك" (¬6). ¬
قال بعض السلف: "لَلْقَلْبُ أشدُّ تقلُّبًا من القِدْرِ إذا استجمعت غليانًا" (¬1). وقال آخر: "القلبُ أشدُّ تقلُّبًا (¬2) من الريشة بأرضٍ فَلاَةٍ في يومِ ريحٍ عاصِفٍ" (¬3). ¬
يطلق القلب على معنيين
ويطلق "القلب" على معنيين: أحدهما: أمرٌ حِسِّيٌّ؛ وهو العضو اللَّحْميُّ الصَّنَوبَرِيُّ الشَّكْل، المُودعُ في الجانب الأيسر من "الصَّدْر"، وفي باطنه تجويفٌ، وفي التجويف دَمٌ أسود، وهو منبع "الرُّوح". والثاني: أمرٌ معنويٌّ؛ وهو لطيفةٌ ربَّانيةٌ رحمانيةٌ، روحانيَّةٌ، لها بهذا العضو تعلُّقُ اختصاصٍ. وتلك اللطيفة [ح/154] هي حقيقة الإنسانيَّة. و"للقلب" جُنْدَان: جندٌ يُرَى بالأبصار، وجندٌ يُرَى بالبصائر. فأمَّا جندُهُ المشاهَدَةُ: فالأعضاءُ الظاهرة والباطنة، وخُلِقَت خادِمةً له لا تستطيع له خلافًا. فإذا أَمَرَ "العينَ" بالانفتاح انفتحت، وإذا أمرَ "اللِّسَانَ" بالكلام تكلَّم، وإذا أمرَ "اليدَ" بالبطش (¬1) بطَشَت، وإذا أمرَ "الرِّجْلَ" بالسعي (¬2) سَعَت، وكذا جميع الأعضاء ذُلِّلَتْ له تذليلًا (¬3). ¬
جعل الزب سبحانه للقلب منافذ من الحلال لصرف رغباته
ولمَّا خُلِقَ "القلبُ" للسفر إلى الله -تعالى- والدار الآخرة، وجُعِلَ في هذا العالَم ليتزوَّدَ منه = افتقر إلى المَرْكب والزَّادِ لسفره الذي خلق لأجله، فأُعِينَ بالأعضاء والقُوَى، وسُخِّرَتَ له، وأُقِيمَت في خدمته؛ لتجلب له ما يوافقه من الغذاء والمنافع، ويدفع عنه ما يضرُّهُ ويهلكه، فافتقر إلى جُنْدَين: 1 - باطنٍ؛ وهو الإرادة، والشهوة (¬1)، والقُوى. 2 - وظاهرٍ؛ وهو الأعضاء. فخلق في "القلب" من الإرادات والشهوات ما احتاج إليه، وخُلِقَت له الأعضاءُ التي هي آلةُ الإرادة، واحتاج لِدَفْع المَضَارِّ إلى جندين (¬2): 1 - باطنٍ؛ وهو الغضب الذي يدفع المُهْلِكَات، وينتقم من الأعداء. 2 - وظاهرٍ؛ وهو الأعضاء التي يُنْفِذُ بها غَضَبَهُ، كالأسلحة للمقاتل. ولا يتمُّ له ذلك إلا بمعرفته ما يَجْلِبُ وما يَدْفَعُ، فأُعِينَ بجُنْدٍ من العلم يكشف له حقائق ما ينفعه وما يضرُّه. ولمَّا سُلِّطَت عليه الشهوةُ، والغضبُ، والشيطانُ؛ أُعِين بجندٍ من الملائكة، وجَعَلَ له مَحَلًّا من الحلال يُنْفِذُ فيه شهواتِه، وجَعَلَ بإزائه ¬
أعداءً له يُنْفِذُ فيهم غَضَبَهُ، فما ابتُلِيَ بصفةٍ من الصفات إلا وجُعِلَ له مَصْرِفٌ ومَحَلٌّ يُنْفِذُها فيه. فجُعِلَ لقوَّة الحَسَدِ (¬1) فيه مَصْرِفُ المنافسة في فِعْلِ الخير، والغِبْطَةِ عليه، والمسابقةِ إليه. ولقوَّة الكِبْرِ التكبُّرُ على أعداء الله -تعالى- وإهانتهم، وقد قال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - لمن رآه يختال (¬2) بين الصَّفَّين في الحرب: "إنَّهَا لمِشْيَةٌ يبغِضُها اللهُ إلا في هذا المَوطِنِ" (¬3). وقد أمر الله -سبحانه- بالغِلْظَة على أعدائه. وجَعَلَ لقوَّة الحِرْصِ مَصْرِفًا، وهو الحرصُ على ما ينفع، كما قال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "احرص على ما ينفعك" (¬4). ¬
ولقوَّة الشهوة مَصْرِفًا، وهو التزوُّجُ بأربع، والتَّسَرِّي بما شاء. ولقوَّة حُبِّ [ك/124] المال مَصْرِفًا، وهو إنفاقُه في مرضاته، والتزوُّدُ منه لمَعَاده. فمحبَّة المال [ز/147] على هذا الوجه لا تُذَمُّ. ولمحبَّة الجَاهِ مَصْرِفًا، وهو استعماله في تنفيذِ أوامره، وإقامةِ دينه، ونَصْرِ المظلوم، وإغاثةِ الملهوف، وإعانةِ الضعيف، وقَمْعِ أعداء الله. فمحبَّةُ الرياسة والجاه على هذا الوجه عبادةٌ. وجَعَلَ لقوَّة اللعب واللهو مَصْرِفًا، وهو لَهْوُهُ مع امرأته، أو بقوسِهِ وسَهْمِهِ، أو تأديبُهُ فَرَسَهُ. وكلُّ ما أعانَ على الحقِّ فهو من الحقِّ، وكلُّ ما أعانَ على الباطل فهو من الباطل والضلال (¬1). وجَعَلَ لقوَّة التحيُّلِ (¬2) والمَكْرِ فيه مَصْرِفًا، وهو التحيُّلُ على عدوِّهِ وعدوِّ الله -تعالى- بأنواع التحيُّلِ (¬3)، حتَّى يُرَاغِمَهُ ويردَّهُ خاسئًا، ويستعملَ معه من أنواع المَكْر ما يستعمله عدوُّهُ معه. وهكذا جميع القُوى التي رُكِّبَت فيه، فإنَّها لا تزول، ولا يُطْلَبُ (¬4) إعْدَامُها؛ وقد ركَبَها اللهُ فيه لمصالح اقتضتها حكمته، فلا يُطْلَبُ تعطيلها، وإنَّما تُصْرَفُ مجاريها من مَحَلٍّ إلى مَحَلٍّ، ومن موضع إلى موضعٍ. ومن تأمَّلَ هذا الموضع وتفقَّه فيه؛ عَلِمَ شدَّةَ الحاجة إليه، ¬
فصل: أصول مجامع طرق الشر والخير للقلب أربعة
وعظم الانتفاع به. فصل وجِمَاعُ الطرقِ والأبواب التي يُصابُ منها "القلب" وجنودُه: أربعةٌ، فمن ضَبَطها، وعَدَّلَها، وأصلح مجارِيَها، وصرَّفَها في مَحَالِّها اللائقة بها = ضُبِطَتْ وحُفِظَتْ (¬1) جوارحُه، ولم يشْمَتْ به عدؤُه، وهي: الحِرْصُ، والشهوةُ، والغَضَبُ، والحَسَدُ. فهذه الأربعة هي أصول مجامع طرق الشَّرِّ والخير، وكما هي طرقٌ إلى العذاب السَّرْمَدِيِّ، فهي طرقٌ إلى النَّعيم الأَبَديِّ. فـ "آدم "-أبو البشر - صلى الله عليه وسلم - أُخْرِجَ من الجنَّة بالحرص، ثُمَّ أُدخل إليها بالحرص، ولكن فرقٌ بين حرصه الأوَّل، وحرصه الثاني. و"أبو الجنِّ" أُخرج منها بالحَسَد، ثُمَّ لم يُوَفَّق لمنافسةٍ وحَسَدٍ يُعِيدُهُ إليها، وقَد قال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -[ح/ 155]: "لا حسدَ إلا في اثنتين: رجلٍ آتاهُ اللهُ مالًا، وسلَّطَهُ على هَلَكَتِهِ في الحقِّ. ورجلٍ آتاهُ اللهُ القرآنَ، فهو يقومُ به آناءَ الليلِ وأطرافَ النَّهار" (¬2). وأمَّا الغَضَب فهو غُولُ (¬3) العَقْلِ، يغتاله كما يغتال الذئبُ الشاةَ، ¬
فصل: حال القلب مع الملك والشيطان
وأعظم ما يفترسه الشيطانُ عند غضبه وشهوته. فإذا كان حِرْصُهُ على ما ينفعه، وحَسَدُهُ منافسةً في الخير، وغضَبُهُ لله وعلى أعدائه، وشهوتُهُ مُستعمَلَةً فيما أبيح له = كان ذلك (¬1) عونًا له على ما أُمِر به، ولم تضرَّهُ هذه الأربعة؛ بل ينتفع بها أعظم الانتفاع. فصل وإذا تأمَّلْتَ حال "القلب" مع المَلَكِ والشيطانِ رأيتَ أعجب العجائب، فهذا يُلِمُّ به مرَّةً، وهذا يُلِمُّ به مرَّةً، فإذا أَلَمَّ به المَلَكُ حدَثَ من لَمَّتِه الانفساحُ، والانشراحُ، والنُّورُ، والرَّحمةُ، والإخلاصُ، والإنابةُ، ومحبَّةُ الله، وإيثارُه على ما سواه، وقِصَرُ الأمَلِ، والتَّجَافِي عن دار البلاء والامتحان والغرور، فلو دامت له تلك الحالة لكان في أَهْنَأ عَيشٍ وأَلَذِّهِ وأَطْيَبِهِ. ولكن تأتيه لَمَّةُ الشيطان، فتُحْدِثُ له من الضِّيقِ، والظُّلْمةِ، والهَمِّ، والغَمِّ، والخوفِ، والسَّخَطِ على المقدور، والشَّكِّ (¬2) في الحقِّ، والحرص على الدنيا وعاجلِها، والغفلةِ عن الله = ما هو من أعظم عذاب "القلب" (¬3). ¬
مراتب الناس بين لمة الملك ولمة الشيطان
ثُمَّ للنَّاس في هذه المحنة (¬1) مراتب لا يحصيها إلا الله -عزَّ وجلَّ-: فمنهم من تكون لَمَّةُ المَلَك أغلب عليه من لَمَّةِ الشيطان وأقوى، فإذا أَلَمَّ به الشيطانُ وجَدَ من الألَم، والضِّيق، والحَصْر، وسوء الحال بحسب ما عنده من حياة "القلب"، فيُبَادِرُ إلى مَحْوِ تلك اللَّمَّة، ولا يَدَعها تستحكِمُ فيصعب تداركها. فهو دائمٌ بين اللَّمَّتَين، يُدَالُ له مرَّةً، ويُدَالُ عليه مرَّةً أخرى، والعاقبة للتقوى. ومنهم من تكون لَمَّةُ الشيطان أغلب عليه من لَمَّةِ المَلَك وأقوى، فلا تزال تغلبُ لَمَّةَ المَلَك حتَّى تستحكم ويصير الحكم لها، فيموت ¬
فصل: جواذب الشيطان في القلب نوعان
"القلب"، فلا يُحِسُّ بما ناله (¬1) الشيطان، مع أنَّه في غاية العذاب، والألَم، والضِّيق، والحَصْر، ولكنَّ سُكْرَ الشهوة والغفلة حَجَبَ عنه الإحساس بذلك المُؤْلِم. فإذا كُشِفَ عنه بعض غطائه أدركَ سُوءَ حاله، وعَلِمَ ما هو فيه، فإن استمرَّ له كَشْفُ [ز/149] الغطاء أمكَنَهُ (¬2) تدارُكُ هذا الدَّاءِ وحَسْمُهُ، وإن عادَ الغطاءُ عادَ الأمر كما كان، حتَّى يُكْشَفَ عنه وقت المُفَارَقَة، فتظهر حينئذٍ تلك الآلامُ، والهُمومُ، والغمومُ، والأحزانُ، وهي لم تتجدَّدْ له، وإنَّما كانت كامنةً فيه، تُوَارِيها الشَّوَاغِلُ، فلمَّا زالت الشَّوَاغل ظهر ما كان كامنًا، وتجدَّدَ له أضعافُه. فصل والشيطانُ يُلِمُّ بـ "القلب" لِمَا له هناك من جَوَاذِب تجذبه، وهي نوعان: صفات، وإرادات. فإذا كانت الجَوَاذِبُ صفاتٍ [ك/125] قَويَ سُلْطَانُه هناك، واسْتفْحَلَ أمرُهُ، ووجَدَ موطِنًا ومَقَرًّا، فتبقى (¬3) الأذكارُ والدَّعواتُ والتعوُّذَاتُ التي يأتي بها الإنسانُ (¬4) حديثَ نفسٍ، لا تدفعُ سلطانَ الشيطان؛ لأنَّ مَرْكبَهُ صفةٌ لازِمةٌ. ¬
فإذا قلع العبدُ تلك الصفاتِ من قلبه (¬1)، وعَمِلَ على التَّطهُّرِ منها والاغتسال، بَقِيَ للشيطان بـ "القلب" خَطَرَاتٌ، ووَسَاوِسُ، ولَمَّاتٌ من غير استقرار، وذلك يُضْعِفُه، ويقوِّي لَمَّةَ المَلَك، فتأتي الأذكارُ، والدَّعواتُ، والتعوُّذَاتُ؛ فتدفعه بأسهل شيء. وإذا أردت لذلك مثالًا مطابقًا: فَمَثلُه مَثَلُ كلبٍ جائعٍ، شديدِ الجوع، وبينك وبينه لحمٌ أو خبزٌ، وهو يتأمَّلك، فيراك لا تقاوِمُه وهو قد اقتربَ منك، فأنت تَزْجُرُه، وتصيح عليه، وهو يأبَى إلا الهجوم (¬2) عليك، والغَارَة على ما بين يديك. فالأذكارُ بمنزلة الصِّيَاح عليه، والزَّجْرِ له، ولكنَّ مَعْلُومَه ومُرَادَهُ عندك، وقد قَوَّيتَهُ (¬3) عليك، فإذا لم يكنِ بين يديك شيءٌ يصلح له -وقد تأمَّلَكَ فرآكَ أقوى منه- فإنَّك تزجُره فيَنْزَجِر، وتصيحُ عليه فيذهب. وكذلك "القلبُ" الخالي عن قُوت الشيطان يَنْزَجِرُ بمجرَّدِ الذِّكْرِ. وأمَّا "القلب" الذي فيه تلك الصفات التي هي مَرْكبه وموطنه، فيقع الذِّكْرُ في حواشيها وجوانبها، ولا يقوى على إخراج العدوِّ. ومصداق ذلك تجاة في الصلاة، فتأمَّل الحالَ، وانظر: هل تخْرِج الصلاة وأذكارُها وقراءَتها الشيطانَ من قلبك، وتفرغه كلَّهُ لله تعالى، وتُقِيمُه بين يديه مقبلًا بكُلِّيَّتِهِ عليه، يصلي [ح/156] لله -تعالى- كأنَّه يَرَاهُ، قد اجتمع هَمُّهُ كلُّهُ على الله، وصار ذِكْره، ومراقَبته، ومحبَّتُه، ¬
ههنا نكتة مهمة فإن القلوب ممتلئة بالأخلاط الرديئة
والأُنْسُ به؛ في مَحَلِّ الخواطر والوساوس؛ أم لا؟ فالله المستعان. وهاهنا نكتةٌ ينبغي التفطُّنُ لها، وهي أنَّ القلوبَ ممتلئةٌ بالأخلاط الرديئة. والعباداتُ والأذكارُ والتعوُّذَاتُ أدويةٌ لتلك الأخلاط، كما يثير الدواءُ أخلاطَ البدن، فإن كان قبل الدواء وبعده حِمْيَةٌ نَفَعَ ذلك الدواء، وقَلَعَ الدَّاءَ أو أكثَرَهُ، وإنْ لم يكن قبله ولا بعده حِمْيَةٌ (¬1) لم يزد الدواء على إثارته، وإن أزال منه شيئًا ما. فمدار الأمر على شيئين: الحِمْيَةِ، واستعمالِ الأدوية. فصل وأوَّلُ ما يطرق "القلبَ": الخَطْرَةُ. فإن دَفَعَها استراحَ ممَّا بعدها، وإن لم يدفَعْها قَوِيَت، فصارت: وَسْوَسَةً، فكان دفْعُها أصعب. فإن بادَرَ ودَفَعها، وإلا قويت، فصارت: شَهْوَةً. فإن عالَجَها، وإلا صارت: إرَادَةً. فإن عالَجَها، وإلا صارت: عَزِيمَةً. ومتى وصَلَتْ إلى هذه الحال لم يمكنه دَفْعُها، واقترنَ بها الفعلُ ولابدَّ، وما يقدر عليه من مقدِّمَاتِه. وحينئذٍ ينتقل العلاجُ من مقدِّماته (¬2) إلى أقوى الأدوية، وهو الاستفراغُ التَّامُّ بالتوبة النَّصُوحِ. ولا ريب أنَّ دفْعَ مبادِئ هذا الدَّاءِ أوَّلًا أسهلُ بكثير من طلب الدواء، وإذا وازَنَ العبدُ بين دَفْع هذا الداءِ (¬3) من أوَّله، وبين استفراغه بعد حصوله -وساعَدَ القَدَرُ، وأعَانَ التوفيقُ- رأى أنَّ الدَّفْعَ أَوْلَى به. ¬
وإنْ تألَّمَت النَّفْسُ بمفارقة المحبوب، فَلْيُوازِنْ بين فَوَاتِ هذا المحبوب الأخَسِّ المنقطِعِ النَّكِدِ، المَشُوب بالآلام والهموم، وبين فوات المحبوب الأعظم الدائم الذي لا نسبةَ لَهذا المحبوب إليه أَلْبَتَّةَ؛ لا في قَدْرِهِ، ولا في دَوَامِهِ (¬1) وبقائه. وَلْيُوازِنْ بين ألَم فَوتِه، وبين أَلَم فَوتِ المحبوبِ الأخَسِّ [ز/ 150]. وَلْيُوازِنْ بين لذَّةِ الإنابةِ والإقبالِ على الله تعالى، والتنعُّمِ بحُبِّهِ، وذِكْرِهِ، وطاعتِه؛ ولذَّةِ الإقبال على الرذائل، والأنْتَانِ، والقبائح. وَلْيُوازِنْ بين لذَّةِ الظَّفَر بالذَّنْب، ولذَّة الظَّفَر بالعَدُوِّ؛ وبين لذَّةِ الذنب، ولذَّةِ العِفَّةِ؛ ولذَّةِ الذنب، ولذَّةِ القوَّة وقَهْر الهَوَى؛ وبين لذَّةِ الذنب، ولذَّةِ إرغام عدوِّهِ وردِّهِ خاسئًا ذليلًا؛ وبين لذَّةِ الذنب، ولذَّةِ الطاعة التي تَحُولُ بينه وبينَه؛ وبين مرارة فَوته، ومَرَارةِ فَوتِ (¬2) ثناء الله -تعالى- وملائكته عليه، وفَوتِ حُسْنِ جزائه، وجزيلِ ثوابه؛ وبين فرحةِ إدراكِه، وفرحة تركه لله -تعالى- عاجلًا، وفرحةِ ما يُثيِبُهُ عليه في دنياه وآخرته، والله المستعان. وهذا فصلٌ جَرَّهُ الكلام في قوله تعالى: {وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ} [الذاريات: 21]، أشرنا إليه إشارة (¬3)، لو استقصيناه لاستدعَى عِدَّةَ أسفارٍ، ولكن فيما ذكرناه تنبيه على ما تركناه. وبالله التوفيق. ¬
فصل: تفسير قوله تعالى: {وفي السماء رزقكم وما توعدون}
فصل ولنرجع إلى المقصود: ثُمَّ قال الله تعالى: {وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ (22)} [الذاريات: 22]. أمَّا "الرِّزْقُ": ففُسِّر بالمطر (¬1)، وفُسِّر بالجنَّة (¬2). فَفُسِّر برزق الدنيا والآخرة، ولا ريب أنَّ المطر من الرَّحمة، وأنَّ الجنَّةَ مستقَرُّ الرَّحمة. فَرِزْقُ الدَّارَين في السماء [ك/126] التي هي في العُلُوِّ. وقوله تعالى: {وَمَا تُوعَدُونَ (22)}، قال عطاء (¬3): "من الثواب والعقاب". وقال الكلبي: "من الخير والشَّرِّ". ¬
فصل: أعظم قسم في القرآن: {فورب السماء والأرض}
وقال مجاهد: "الجنَّة والنَّار". وقال ابن سيرين: "من أمر الساعة" (¬1). قلت: كَوْنُ الجنَّة والخير في السماء فلا إشكال فيه. وكَوْنُ النَّار في السماء وما يُوعَدُونَ به أهلُها يحتاجُ إلى تبيين: فإذا نظرت إلى أسباب الخير والشَّرِّ، وأسباب دخول الجنَّة والنَّار، وافتراق النَّاس وانقسامهم إلى شقيٍّ وسعيدٍ = وجدتَ ذلك كلَّه بقضاءِ الله وقَدَرِهِ النَّازل من السماء. وذلك كله مُثبتٌ في السماء في صحف الملائكة، وفي اللَّوح المحفوظ، قبل العمل وبعده. فالأمر كلُّه من السماء. وقول من قال: "من أمر السَّاعة" يكشف عن هذا المعنى؛ فإن أمر السَّاعة يأتي من السماء، وهو الموعود بها، والجنَّةُ والنَّارُ الغايةُ التي لأجلها قامت السَّاعة. فصحَّ كلُّ ما قال السلف في ذلك. والله أعلم. فصل ثُمَّ أقسم -سبحانه- أعظمَ قسمٍ، بأعظم مُقْسَمٍ به، على أَجَل مُقْسَمٍ عليه، وأكَّدَ الإخبار به بهذا القَسَم، ثُمَّ أكَّدَهُ -سبحانه- بشِبْهِه بالأمر المُحَقَّق الذي لا يشكُّ فيه ذو حاسَّةٍ سليمةٍ، قال تعالى: {فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ (23)} [الذاريات: 23] [ح/ 157]. قال ابن عباس -رضي الله عنهما-: "يريدُ إنَّه لَحَقٌّ واقعٌ، كما أنكم ¬
تنطقون". وقال الفرَّاء: "إنَّه لَحَقٌّ كما أنَّ الآدميَّ ناطِقٌ" (¬1). وقال الزجَّاجُ: "هذا كما تقول في الكلام: إنَّ هذا لحقٌّ كما أنَّك هاهنا" (¬2). قلت: وفي الحديث "إنَّه لَحَقٌّ كما أنَّكَ هاهنا" (¬3). فشَبَّهَ -سبحانه- تحقيقَ ما أخبر به بتحقيق نطق الآدمي ووجوده. والواحدُ منَّا يعرف أنَّه ناطقٌ ضرورةً، ولا يحتاج نُطْقُهُ إلى استدلالٍ على وجوده، ولا يُخَالِجُه شَكٌّ في أنَّه ناطِقٌ. فكذلك ما أخبر الله -سبحانه- عنه من أمر التوحيد، والنبوَّة، والمَعَاد، وأسمائه، وصفاته؛ حقٌّ ثابتٌ في نفس الأمر، يُشْبِهُ ثُبوت نطقكم ووجوده. وهذا بابٌ يعرفه النَّاس في كلامهم، يقول أحدُهم: هذا حقٌّ مثل الشمس. وأفصح الشاعر (¬4) عن هذا بقوله: وليس يَصِحُّ في الأذْهَانِ شيءٌ ... إذا احتاجَ النَّهَارُ إلى دليل وهاهنا أمرٌ ينبغي التفطُّنُ له؛ وهو أنَّ الرَّبَّ -تعالى- شَهِدَ بصحة ما أخبر به، وهو أصدق الصادقين، وأقسم عليه، وهو أبَرُّ المُقْسِمِين، [ن/89] وأكَّدَهُ بتشبيهه بالواقع الذي لا يقبل الشكَّ بوجهٍ، ¬
وأقام عليه من الأدلَّة العِيَانيَّةِ والبُرْهَانيَّة ما جعله [ز/ 151] مُعَايَنًا مُشَاهَدًا بالبصائر، وإن لم يُعَايَنْ بالأبصار = ومع ذلك فأكثر النُّفوس في غفلةٍ عنه لا تستعِدُّ له، ولا تأخذ له أُهْبَتَهُ. والمستعِدُّ له، الآخذُ له أُهْبَتَهُ، لا يعطيه حقَّه منهم إلا الفَرْد بعد الفَرْد، فأكثر هذا الخلق لا ينظرون في المراد من إيجادهم وإخراجهم إلى هذه الدار، ولا يتفكرون في قِلَّةِ مَقَامِهم في دار الغرور، ولا في رحيلهم وانتقالهم عنها، ولا إلى أين يرحلون؟ وأين يستقرُّون؟ قد مَلَكَهُم الحِسُّ، وقلَّ نصيبُهم من العقل، وشملتهم الغفلة، وغرَّتهم الأمانيُّ التي هي كالسَّرَاب، وخَدَعَهم طُولُ الأمل، فكأنَّ المقيمَ لا يَرْحَل، وكأنَّ أحدَهم لا يُبْعَث ولا يُسْأل، وكأنَّ مع كل مقيمٍ توقيعٌ من الله لفلانِ ابن فلانٍ بالأَمَانِ من عذابه، والفوزِ بجزيل ثوابه. فأمَّا هِمَّتُهُم (¬1) ففي اللذَّات الحِسِّية، والشهوات النفسيَّة، كيفَمَا حصلت حَصَّلُوها، ومن أيِّ وجهٍ لاَحَتْ أخذوها، غافلين عن المطالبة، آمنين من المُعَاقبة (¬2). يَسْعَون لما لا يُدْرِكُون، ويتركون ما هم به مُطَالَبون، ويَعْمُرُون ما هم عنه منتقلون، ويُخرِّبون ما هم إليه صائرون، {يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ (7)} [الروم: 7]. ألسنتُهم لا تنطق (¬3) إلا بشهواتِ نفوسهم، فلا ينظرون في مصالحها (¬4)، ولا يأخذون في جمع زادها في سفرها: {نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ ¬
هُمُ الْفَاسِقُونَ (19)} [الحشر: 19]. والعجبُ كلُّ العجب من غفلةِ من تُعَدُّ لحظاته، وتحصى عليه أَنْفَاسُهُ، ومطايا الليل والنَّهار تُسْرِع به، ولا يتفكر إلى أين يُحْمَلُ؟ ولا إلى أيِّ منزلٍ يُنْقَل؟ وكيفَ تنَامُ العَينُ وهي قَرِيرَةٌ ... ولم تَدْرِ في أَيِّ المَحَلَّينِ تَنْزِلُ؟ (¬1) وإذا نزل بأحدهم الموتُ قَلِقَ لِخَرَابِ ذاته، وذهابِ لَذَّاتِه، لا لما سَبَقَ من جناياته، ولا لسُوء منقلبه بعد مماته، فإن خطرت على قلب أحدهم خَطْرةٌ من ذلك اعتمد على العفو والرَّحمة، كأنَّهُ يتيقَّنُ أنَّ ذلك نصيبه ولابدَّ. فلو أنَّ العاقلَ أحضَرَ ذهنه [ك/127] واستحضَرَ عقله، وسار بفكره، وأَنْعَم (¬2) النَّظرَ، وتأمَّلَ الآيات = لَفَهِمَ المرادَ من إيجادِه، ولَنَظَرَتْ عينُ الراحِل إلى الطريق، ولأخَذَ المسافرُ في التزوُّدِ، والمريضُ في التداوي. والحازِمُ يُعِدُّ [لـ] (¬3) ـما يجوز أن يأتي؛ فما الظنُّ بأمر متيقَّنٍ! كما أنَّه لصِدْقِ إيمانهم، وقوَّةِ إيقانهم، وكأنَّهم يُعَاينُون الأمر، فأَضْحَت ربوعُ الإيمان من أهلها خالية، ومعالِمُهُ على عروشها خاوية. ¬
قال ابن وهبِ: أخبرني مَسْلَمَةُ بن عُلَيٍّ (¬1)، عن الأوزاعي، قال: "كان السلفُ إذا صَدَعَ الفجر أو قبله كأنَّما على رؤوسهم الطَّيْرُ، مُقْبِلين على أنفسهم، حتَّى لو أنَّ حبيبًا لأحدهم غاب عنه حينًا ثُمَّ قَدِمَ؛ لَمَا التفتَ إليه. فلا يزالون كذلك إلى طلوعِ الشمس، ثُمَّ يقوم بعضهم إلى بعفبى فَيَتَحلَّقُونَ، فأوَّلُ ما يُفِيضُون فيه أمرُ مَعَادِهم، وما هم صائرون [ح/ 158] إليه، ثُمَّ (¬2) يأخذون في الفقه" (¬3). ¬
فصل: القسم في سورة "ق"
فصل ومن ذلك قوله تعالى: {ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ (1) بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ (2)} [ق: 1 - 2]. الصحيحُ أنَّ: "ق"، و"ن"، و"ص"؛ بمنزلة "حم"، و"ألم"، و"طس"؛ تلك حروفٌ مُفْرَدَةٌ (¬1)، وهذه متعدِّدَةٌ، وقد تقدَّمت الإشارة إلى بعض ما قيل فيها (¬2). وهاهنا قد اتَّحَدَ المُقْسَمُ (¬3) به، والمُقْسَمُ عليه؛ وهو: القرآن. فأقسَمَ بالقرآنِ على ثبوته وصدقه، وأنَّه حقٌّ من عنده. ولذلك حذف الجوابَ ولم يُصَرِّح به؛ لمَا في القَسَم من الدلالة عليه، ولأنَّ المقصود نفس المُقْسَم (¬4) به كما تقدَّم بيانه. ثُمَّ أخذ -سبحانه- في بيان عَجَب الكفَّار من غير عَجَبٍ، بل بما لا ينبغي أن يقع سواهُ، كما قال سبحَانه: {الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ (1) أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ} [يونس: 1 - 2]، فأيُّ عَجَبٍ من هذا حتَّى يقول الكافرون: {إِنَّ هَذَا لَسِحْرٌ مُبِينٌ (76)}؟ وكيف يُتَعَجَّبُ من رحمةِ الخالقِ عبادَهُ، وهدايتِه، وإنعامِه عليهم بتعريفهم على لسان رسوله - صلى الله عليه وسلم - بطريق الخير والشَّرِّ، [ز/ 152] وما هم صائرون إليه بعد الموت، وأمرِهِم ¬
ونَهْيهِم = حتَى يُقَابَلَ ذلك بالتعجُّب، ونسبةِ مَنْ جاء به [ن/90] إلى السِّحْر، لولا غاية الجهل والظلم، بل العَجَبُ كلُّ العَجَب (¬1) قولُهم وتكذيبُهم؛ كما قال تعالى: {وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ} [الرعد: 5]. ¬
فصل: القسم في أوائل سورة الزخرف و"ص" و"يس"
فصل ومن ذلك قوله تعالى: {حم (1) وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ (2)} [الزخرف: 1 - 2]، وقوله تعالى: {ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ (1)} [ص: 1]، وقوله تعالى: {يس (1) وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ (2) إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (3)} [يس: 1 - 3]. والصحيح أنَّ "يس" بمنزلة "حم"، و"ألم"؛ ليست اسمًا (¬1) من أسماء النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - وأقسم -سبحانه- بكتابه على صدق رسوله، وصحَّة نبوَّته ورسالته، فتأمَّلْ قَدْرَ المُقْسِم (¬2)، والمُقْسَمِ به، والمُقْسَمِ عليه. وقوله تعالى: {عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (4)} جُوِّزَ فيه ثلاثة أوجهٍ: 1 - أن يكون خبرًا بعد خبر، فأخبر عنه بانَّه رسولٌ، وأنَّه على صراطٍ مستقيمٍ. 2 - وأن يكون حالًا من الضمير في الخبر، أي: من المرسلين كائنًا على صراطٍ مستقيم (¬3). 3 - وأن يكون متعلقًا بالخبر نفسه. تعلُّقَ المعمول بعامله، أي: أُرسِلْتَ على صراطٍ. وهذا يحتاج إلى بيانٍ وتقديره: المَجْعُولين على صراطٍ مستقيمٍ. وكونه من المرسلين مستلزِمٍ لذلك؛ فاستغنى عن ذكره. ¬
فصل: القسم في سورة الصافات
فصل ومن ذلك قوله -عزَّ وجلَّ-: {وَالصَّافَّاتِ صَفًّا (1)} [الصافات: 1]. أقسم -سبحانه- بملائكته الصَّافَّات للعبوديَّة بين يديه، كما قال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - لأصحابه: "ألا تَصُفُّونَ كما تَصُفُّ الملائكةُ عند رَبِّها؟ يُتِمُّون الأوَّلَ فالأوَّل، ويَتَراصُّونَ في الصفِّ" (¬1)، وكما قالوا عن أنفسهم: {وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ (165)} [الصافات: 165]. والملائكة "الصَّافَّات": [التي تَصُفُّ]، (¬2) أجنحَتَها في الهواء. و"الزَّاجِرَاتُ ": الملائكة التي تزجُرُ السَّحَاب وغيرَه بأمر الله، فـ "التاليات": التي تتلو كلام الله. وقيل: "الصَّافَّات" الطير، كما قال تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ} [الملك: 19]، وقال تعالى: {وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ} [النور: 41]، و"الزَّاجِرَات": الآيات والكلمات الزاجرات عن معاصي الله، و"التاليات": الجماعات (¬3) التاليات (¬4) كتابَ الله -عزَّ وجلَّ-. وقيل: "الصَّافَّات" للقتال في سبيل الله، فـ "الزَّاجِرات" الخيلَ للحمل على أعدائه، فـ "التاليات" الذاكرين له عند مُلاَقَاةِ عدوِّهم. ¬
وقيل: ["الصَّافَّات"] (¬1): الجماعاتُ (¬2) الصَّافَّاتُ أبدانها في الصلاة، "الزَّاجِرات" أنفسها عن معاصي الله، فـ "التاليات" آياتِ اللهِ. واللفظ يحتمل ذلك كلَّه، وان كان أحقَّ من دخل فيه وأَوْلَى الملائكةُ (¬3)، فإنَّ الإقسام كالدليلِ والآيةِ [ك/128] على صحَّةِ ما أقسم عليه من التوحيد، وما ذُكِر غير الملائكة فهو من آثار الملائكة، وبواسطتها كان. وأقسم -سبحانه- بذلك على توحيد ربوبيَّتِه وإلهيَّته، وقرَّر توحيدَ إلهيَّتِه بتوحيد ربوبيَّتِه، فقال: {إِنَّ إِلَهَكُمْ لَوَاحِدٌ (4) رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَرَبُّ الْمَشَارِقِ (5)} [الصافات: 4، 5]، [وهذا] (¬4) من أعظم ¬
الحكمة في تخصيص المشارق ههنا بالذكر
الأدلَّة على أنَّه إلهٌ واحدٌ، ولو كان معه إلهٌ آخر لكان الإله مشاركًا له في ربوبيَّتِه، كما شاركه في إلهيَّتِه. تعالى الله عن ذلك علوًّا كبيرًا. وهذه قاعدة القرآن؛ يقرِّرُ توحيد الإلهية بتوحيد الربوبية، فيقرِّرُ كونه معبودًا وحدَهُ بكونه خالقًا [ح/ 159] رازقًا وحده. وخَصَّ "المشارِقَ" هاهنا بالذِّكْرِ: 1 - إمَّا لدلالتها على "المغارب"، إذ الأَمْرَانِ المُتَضَايفَانِ كلٌّ منهما يستلزم الآخر. 2 - وإمَّا لكون "المشارق" مطالعَ الكواكب، ومظاهرَ الأنوار. 3 - وإمَّا توطِئَةً لما ذُكِرَ بعدها من تزيين السماء بزينة الكواكب، وجَعْلِها حفظًا من كلِّ شيطانٍ مارِدٍ. فَذِكْرُ [ن/ 91] "المشارِقِ" أنسبُ (¬1) بهذا المعنى وأَلْيَقُ. والله تعالى أعلم. ¬
فصل: تفسير قوله تعالى: {لعمرك إنهم لفي سكرتهم يعمهون}
فصل (¬1) ومن ذلك قوله -تعالى- في قصة لوط عليه السلام، ومراجعة قومه له: {قَالُوا أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعَالَمِينَ (70) قَالَ هَؤُلَاءِ بَنَاتِي إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ (71) لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ (72)} [الحجر: 70 - 72]. أكثر المفسِّرين من السَّلَفِ والخَلَف -بل لا يُعْرَفُ عن (¬2) السلف فيه نزاعٌ- أنَّ هذا قَسَم من الله بحياة رسوله - صلى الله عليه وسلم - (¬3). وهذا من أعظم فضائله؛ أنْ يُقْسِم الرَّبُّ -عزَّ وجلَّ- بحياتِه، وهذه مزيَّةٌ لا تُعْرَفُ لغيره. ولم يُوَفَّق الزمخشريُّ [ز/153] لذلك، فصَرَفَ القَسَمَ إلى أنَّه بحياةِ لوطِ عليه السلام، وأنَّه من قول الملائكة له، فقال: "هو على إرادة القول، أي: قالت الملائكة للوط- عليه الصلاة والسلام-: لَعَمْرُك إنَّهم لَفِي سكرتهم يعمهون" (¬4). ¬
الفرق بين العمر والعمر
وليس في اللفظ ما يدلُّ على واحدٍ من الأمرين، بل ظاهرُ اللفظِ وسياقُه إنَّما يدلُّ على ما فهمه السلف الطيِّبُ لا أهلُ التعطيل والاعتزال. قال ابن عباس -رضي الله عنهما-: ""لَعَمْرُك" أي: وحياتِك". قال: "وما أقسم الله -تعالى- بحياة نبيٍّ غيره" (¬1). و"العَمْرُ" و"العُمْرُ": واحدٌ، إلا أنَّهم خَصُّوا القَسَم بالمفتوح ¬
معنى"يعمهون"
لإثبات الأخفِّ، لكثرة دَوَرَان (¬1) الحَلِفِ على ألسنتهم (¬2). وأيضًا: فإنَّ "العَمْرَ" حياتُه خُصُوصةً (¬3)، فهو عُمْرٌ شريفٌ عظيمٌ، أَهْلٌ أنْ يُقْسَمَ به، لمزيَّته على كلِّ عُمْرٍ من أعمار بني آدم. ولا ريب أنَّ عُمْرَهُ - صلى الله عليه وسلم - له مَزيَّةٌ على عُمْر كلِّ من سواه، والآياتُ التي كانت في عُمْرِه وحياتِهِ من أعظم الآيات، بل عُمْرُهُ وحياتُهُ من أعظم النِّعَمِ والآياتِ، فهو أهلٌ أنْ يُقْسَمَ به، والقَسَمُ به أَوْلَى من القَسَم بغيره من المخلوقات. وقوله تعالى: {يَعْمَهُونَ (72)}؛ أي: يَتَحَيَّرُون. وإنَّما وصف الله -سبحانه- اللُّوطِيَّةَ بالسَّكْرة؛ لأنَّ العِشْقَ له (¬4) سَكْرةٌ مثلُ سَكْرَةِ الخَمْرِ وأشدُّ (¬5)، كما قال القائل (¬6): سُكْرَان: سُكْرُ هَوَىً، وسُكْرُ مُدَامَةٍ ... ومتى إفَاقَةُ مَنْ به سُكْرَانِ؟ ¬
فصل: تفسير قوله تعالى: {فلا وربك لا يؤمنون}
فصل ومن ذلك قوله تعالى: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (65)} [النساء: 65]. أقسم -سبحانه- بنفسِهِ المُقَدَّسَةِ، قَسَمًا مؤكَدًا بالنفي قبله؛ على عدم إيمان الخَلْق [ن/92] حتَّى يحكِّموا رسوله في كلِّ ما شَجَر بينهم من الأصولِ، والفروع، وأحكامِ الشَّرْع، وأحكامِ المَعَادِ، ومسائِلِ الصِّفَاتِ وغيرِها. ولم يُثبِتْ لهم الإيمانَ بمُجَرَّدِ هذا التحكيم حتَّى ينتفي عنهم الحَرَجُ، وهو ضيقُ الصَّدْر، فتنشرح صدورُهم لحُكمِه كلَّ الانشراح، وتَنْفَسِحَ له كلَّ الانْفِسَاح، وتقبَلَهُ كلَّ القبول. ولم يُثبِتْ لهم الإيمانَ بذلك -أيضًا- حتَّى يَنْضَافَ إليه مُقَابَلَةُ حكمه بالرِّضَى والتسليمِ، وعدمِ المُنَازَعةِ، وانتفاءِ المعارضةِ والاعتراض. فههنا ثلاثةُ أمورٍ: التحكيم، وانتفاء الحرج، والتسليم. فلا يلزم من التحكيم انتفاء الحَرَج؛ إذ (¬1) قد يحكِّم الرجلُ غيرَهُ وعنده حَرَجٌ من حكمه. ولا يلزم من انتفاءِ الحَرَج الرِّضا والتسليمُ والانقيادُ؛ إذ قد يحكمُه وينتفي الحَرَجُ عنه في تحكيمه، ولكن لا ينقَادُ قلبُه، ولا يرضى كلَّ ¬
إنما تظهر هذه الأمور الثلاثة عند الامتحان
الرِّضى بحكمه. فالتسليمُ أخَصُّ من انتفاءِ الحَرَجِ. فالحَرَجُ مانعٌ، والتسليمُ أمرٌ وجوديٌّ، ولا يلزم من انتفاءِ الحَرَجِ حصولُه بمجرَّدِ انتفائه، إذ قد ينتفي الحَرَجُ ويبقى "القلبُ" فارغًا منه، ومن الرِّضى والتسليمِ، فتأمَّلْهُ [ك/ 129]: وعند هذا تعلَمُ أنَّ الرَّبَّ -تبارك وتعالى- أقسَمَ على انتفاء إيمان أكثر الخلق، وعند الامتحان تُعْلَمُ مثل هذه الأمور الثلاثة؛ هل هي (¬1) موجودةٌ في قلب أكثر من يدَّعي الإسلام أم لا؟ والله -سبحانه- المستعان، وعليه التكلان، ولا حول ولا قوَّة إلا بالله العلي العظيم (¬2)، وحسبنا الله ونعم الوكيل. آخِره؛ والحمد لله ربِّ العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد، وآله وصحبه، وسلَّمَ تسليمًا كثيرًا دائمًا إلى يوم الدين. * * * ¬